تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري

الطبري، أبو جعفر

الجزء الأول

الجزء الأول بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الأول قبل كل أول، والآخر بعد كل آخر، والدائم بلا زوال، والقائم على كل شيء بغير انتقال، والخالق خلقه من غير اصل ولا مثال، فهو الفرد الواحد من غير عدد، وهو الباقي بعد كل أحد، إلى غير نهاية ولا أمد له الكبرياء والعظمه، والبهاء والعزه، والسلطان والقدرة، تعالى عن أن يكون له شريك في سلطانه او في وحدانيته نديد، أو في تدبيره معين أو ظهير، أو أن يكون له ولد، أو صاحبه او كفء أحد، لا تحيط به الأوهام، ولا تحويه الأقطار، ولا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير. أحمده على آلائه، وأشكره على نعمائه، حمد من أفرده بالحمد، وشكر من رجا بالشكر منه المزيد، وأستهديه من القول والعمل لما يقربني منه ويرضيه، وأومن به إيمان مخلص له التوحيد، ومفرد له التمجيد. وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده النجيب، ورسوله الأمين، اصطفاه لرسالته، وابتعثه بوحيه، داعيا خلقه إلى عبادته، فصدع بأمره، وجاهد في سبيله، ونصح لأمته، وعبده حتى أتاه اليقين من عنده، غير مقصر في بلاغ، ولا وان في جهاد، صلى الله عليه أفضل صلاة وأزكاها، وسلم

أما بعد، فإن الله جل جلاله، وتقدست أسماؤه، خلق خلقه من غير ضرورة كانت به إلى خلقهم، وأنشأهم من غير حاجة كانت به إلى إنشائهم، بل خلق من خصه منهم بامره ونهيه، وامتحنه بعبادته، ليعبدوه فيجود عليهم بنعمه، وليحمدوه على نعمه فيزيدهم من فضله ومننه، ويسبغ عليهم فضله وطوله، كما قال عز وجل: «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» . فلم يزده خلقه إياهم- إذ خلقهم- في سلطانه على ما لم يزل قبل خلقه إياهم مثقال ذرة، ولا هو إن أفناهم واعدمهم ينقصه افناؤه إياهم ميزان شعره، لأنه لا تغيره الأحوال، ولا يدخله الملال، ولا ينقص سلطانه الأيام والليال، لأنه خالق الدهور والأزمان، فعم جميعهم في العاجل فضله وجوده، وشملهم كرمه وطوله، فجعل لهم أسماعا وأبصارا وأفئدة، وخصهم بعقول يصلون بها الى التمييز بين الحق والباطل، ويعرفون بها المنافع والمضار، وجعل لهم الأرض بساطا ليسلكوا منها سبلا فجاجا، والسماء سقفا محفوظا، وبناء مسموكا، وأنزل لهم منها الغيث بالإدرار، والأرزاق بالمقدار، واجرى لهم فيها قمر الليل وشمس النهار يتعاقبان بمصالحهم دائبين، فجعل لهم الليل لباسا، والنهار معاشا، وخالف- منًّا مِنْه عليهم وتطولا- بين قمر الليل وشمس النهار، فمحا آية الليل وجعل آية النهار مبصرة، كما قال جل جلاله وتقدست أسماؤه: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا

مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا» . وليصلوا بذلك إلى العلم بأوقات فروضهم التي فرضها عليهم في ساعات الليل والنهار والشهور والسنين، من الصلوات والزكوات والحج والصيام وغير ذلك من فروضهم، وحين حل ديونهم وحقوقهم، كما قال عز وجل: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ» ، وقال: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ» . إنعاما منه بكل ذلك على خلقه، وتفضلا منه به عليهم وتطولا، فشَكَره على نعمه التي أنعمها عليهم من خلقه خَلْق عظيم، فزاد كثيرا منهم من آلائه وأياديه، على ما ابتدأهم به من فضله وطوله، كما وعدهم جل جلاله بقوله: «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ» ، وجمع لهم الى الزيادة التي زادهم في عاجل دنياهم، الفوز بالنعيم المقيم، والخلود في جنات النعيم، في آجل آخرتهم وأخر لكثير منهم الزيادة التي وعدهم فمدهم الى حين مصيرهم اليه ووقت قدومهم عليه، توفيرا منه كرامته عليهم يوم تبلى السرائر وكفر نعمه خلق منهم عظيم، فجحدوا آلاءه وعبدوا سواه، فسلب كثيرا منهم ما ابتدأهم به من الفضل والإحسان، وأحل

بهم النقمة المهلكة في العاجل، وذخر لهم العقوبة المخزية في الآجل، ومتع كثيرا منهم بنعمه ايام حياتهم استدراجا منه لهم، وتوقيرا منه عليهم أوزارهم، ليستحقوا من عقوبته في الآجل ما قد أعد لهم. نعوذ بالله من عمل يقرب من سخطه، ونسأله التوفيق لما يدني من رضاه ومحبته. قال أبو جعفر: وأنا ذاكر في كتابي هذا من ملوك كل زمان، من لدن ابتدأ ربنا جل جلاله خلق خلقه إلى حال فنائهم، من انتهى إلينا خبره ممن ابتدأه الله تعالى بآلائه ونعمه فشكر نعمه، من رسول له مرسل، أو ملك مسلط، أو خليفة مستخلف، فزاده إلى ما ابتدأه به من نعمه في العاجل نعما، وإلى ما تفضل به عليه فضلا، ومن أخر ذلك له منهم، وجعله له عنده ذخرا ومن كفر منهم نعمه فسلبه ما ابتدأه به من نعمه، وعجل له نقمه ومن كفر منهم نعمه فمتعه بما أنعم به عليه إلى حين وفاته وهلاكه، مقرونا ذكر كل من أنا ذاكره منهم في كتابي هذا بذكر زمانه، وجمل ما كان من حوادث الأمور في عصره وأيامه، إذ كان الاستقصاء في ذلك يقصر عنه العمر، وتطول به الكتب، مع ذكري مع ذلك مبلغ مدة أكله، وحين أجله، بعد تقديمي أمام ذلك ما تقديمه بنا أولى، والابتداء به قبله أحجى، من البيان عن الزمان: ما هو؟ وكم قدر جميعه، وابتداء أوله، وانتهاء آخره؟ وهل كان قبل خلق الله تعالى إياه شيء غيره؟ وهل هو فان؟ وهل بعد فنائه شيء غير وجه المسبح الخلاق، تعالى ذكره؟ وما الذي كان قبل خلق الله إياه؟ وما هو كائن بعد فنائه وانقضائه؟ وكيف

كان ابتداء خلق الله تعالى إياه؟ وكيف يكون فناؤه؟ والدلالة على أن لا قديم إلا الله الواحد القهار، الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى بوجيز من الدلالة غير طويل، إذ لم نقصد بكتابنا هذا قصد الاحتجاج لذلك، بل لما ذكرنا من تاريخ الملوك الماضين وجمل من أخبارهم، وأزمان الرسل والأنبياء ومقادير أعمارهم، وأيام الخلفاء السالفين وبعض سيرهم، ومبالغ ولاياتهم، والكائن الذي كان من الأحداث في أعصارهم ثم أنا متبع آخر ذلك كله- إن شاء الله وأيد منه بعون وقوة- ذكر صحابه نبينا محمد ص وأسمائهم وكناهم ومبالغ أنسابهم ومبالغ أعمارهم، ووقت وفاة كل إنسان منهم، والموضع الذي كانت به وفاته ثم متبعهم ذكر من كان بعدهم من التابعين لهم بإحسان، على نحو ما شرطنا من ذكرهم ثم ملحق بهم ذكر من كان بعدهم من الخلف لهم كذلك، وزائد في أمورهم للإبانة عمن حمدت منهم روايته، وتقبلت أخباره، ومن رفضت منهم روايته ونبذت أخباره، ومن وهن منهم نقله، وضعف خبره وما السبب الذي من أجله نبذ من نبذ منهم خبره، والعلة التي من أجلها وهن من وهن منهم نقله. وإلى الله عز وجل أنا راغب في العون على ما أقصده وأنويه، والتوفيق لما ألتمسه وأبغيه، فإنه ولي الحول والقوة، وصلى الله على محمد نبيه وآله وسلم تسليما. وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره فيه مما شرطت أني راسمه فيه، إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه، والآثار التي أنا مسندها إلى رواتها فيه، دون ما أدرك بحجج العقول، واستنبط

بفكر النفوس، إلا اليسير القليل منه، إذ كان العلم بما كان من أخبار الماضين، وما هو كائن من أنباء الحادثين، غير واصل إلى من لم يشاهدهم ولم يدرك زمانهم، إلا بأخبار المخبرين، ونقل الناقلين، دون الاستخراج بالعقول، والاستنباط بفكر النفوس فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم انه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أتى من قبل بعض ناقليه إلينا، وإنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا

القول في الزمان ما هو

القول في الزمان ما هو قال ابو جعفر: فالزمان هو ساعات الليل والنهار، وقد يقال ذلك للطويل من المدة والقصير منها، والعرب تقول: أتيتك زمان الحجاج أمير، وزمن الحجاج أمير- تعني به: إذ الحجاج أمير وتقول: اتيتك زمان الصرام وزمن الصرام- تعني به وقت الصرام ويقولون أيضا: أتيتك أزمان الحجاج أمير، فيجمعون الزمان، يريدون بذلك أن يجعلوا كل وقت من أوقات إمارته زمانا من الأزمنة، كما قال الراجز: جاء الشتاء وقميصي أخلاق ... شراذم يضحك منه التواق فجعل القميص أخلاقا، يريد بذلك وصف كل قطعة منه بالإخلاق، كما يقولون: أرض سباسب، ونحو ذلك. ومن قولهم للزمان: زمن قول أعشى بني قيس بن ثعلبة: وكنت امرا زمنا بالعراق ... عفيف المناخ طويل التغن يريد بقوله: زمنا زمانا، فالزمان اسم لما ذكرت من ساعات الليل والنهار على ما قد بينت ووصفت

القول في كم قدر جميع الزمان من ابتدائه إلى انتهائه واوله إلى آخره

القول في كم قدر جميع الزمان من ابتدائه إلى انتهائه وأوله إلى آخره اختلف السلف قبلنا من أهل العلم في ذلك، فقال بعضهم: قدر جميع ذلك سبعة آلاف سنة. ذكر من قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة، سبعة آلاف سنه، فقد مضى سته آلاف سنه ومائتا سَنَةٍ، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهَا مِئُونَ مِنْ سِنِينَ، لَيْسَ عَلَيْهَا مُوَحِّدٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: قَدْرُ جَمِيعِ ذَلِكَ سِتَّةُ آلافِ سَنَةٍ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ: قَالَ كَعْبٌ: الدُّنْيَا سِتَّةُ آلافِ سَنَةٍ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ، قال: حدثنا اسمعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهبا يقول: قد خلا من الدنيا خمسه آلاف سنه وستمائه سنه، وانى لأَعْرِفُ كُلَّ زَمَانٍ مِنْهَا، مَا كَانَ فِيهِ من الملوك والأنبياء قلت لِوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: كَمِ الدُّنْيَا؟ قَالَ: سِتَّةُ آلاف سنه

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذَلِكَ مَا دَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ الْخَبَرُ الْوَارِدُ عن رسول الله ص، وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَعَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالا: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: [سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص يَقُولُ: أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، مِنْ صَلاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ] . حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عمر، قال: [سمعت النبي ص يَقُولُ: أَلا إِنَّمَا أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ خَلا مِنَ الأُمَمِ، كَمَا بَيْنَ صَلاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ] . حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمَّارُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ابْنُ أُخْتِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، أَبُو الْيَقْظَانِ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُغِيرَةَ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: [قَالَ رَسُولُ الله ص: مَا بَقِيَ لأُمَّتِي مِنَ الدُّنْيَا إِلا كَمِقْدَارِ الشَّمْسِ إِذَا صُلِّيَتِ الْعَصْرُ] . حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، قَالَ: سَمِعْتُ سَلَمَةَ بْنَ كُهَيْلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: [كُنَّا جُلُوسًا عند النبي ص وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ عَلَى قُعَيْقِعَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَقَالَ: مَا أَعْمَارُكُمْ فِي أَعْمَارِ مَنْ مَضَى إِلا كَمَا بَقِيَ مِنْ هَذَا النَّهَارِ فِيمَا مَضَى مِنْهُ] . حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى- قال ابن بشار: حدثنى خلف ابن مُوسَى، وَقَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ مُوسَى- قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص خَطَبَ أَصْحَابَهُ يَوْمًا- وَقَدْ كَادَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَغِيبَ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلا شِقٌّ يَسِيرٌ-[فقال: والذى

نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا بَقِيَ مِنْ دُنْيَاكُمْ فِيمَا مَضَى مِنْهَا إِلا كَمَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا فِيمَا مَضَى مِنْهُ، وَمَا تَرَوْنَ مِنَ الشَّمْسِ إِلا الْيَسِيرَ] . حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قال: [قال النبي ص عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ: إِنَّمَا مَثَلُ مَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا فِيمَا مَضَى مِنْهَا كَبَقِيَّةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِيمَا مَضَى مِنْهُ] . حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ وَأَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ، قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: [قَالَ رسول الله ص: بعثت انا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ- وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى] . حَدَّثَنَا أَبُو كريب، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ ابى هريرة، عن النبي بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْوَالِبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: [قَالَ رسول الله ص: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ] . حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَثَّامُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْوَالِبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، [قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى إِصْبَعَيْ رَسُولِ الله ص- وَأَشَارَ بِالْمُسَبِّحَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا- وَهُوَ يَقُولُ: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَذِهِ مِنْ هَذِهِ] . حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: حدثنا فطر، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْوَالِبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سمره، قال: [قال رسول الله ص: بُعِثْتُ مِنَ السَّاعَةِ كَهَاتَيْنِ]- وَجَمَعَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السبابة والوسطى

حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: [قال رسول الله ص: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ] قَالَ شُعْبَةُ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يَقُولُ فِي قَصَصِهِ: كَفَضْلِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى، قَالَ: لا أَدْرِي أَذَكَرَهُ عَنْ أَنَسٍ أَوْ قَالَهُ قَتَادَةُ. حَدَّثَنَا خَلادُ بْنُ أَسْلَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مالك، قال: [قال رسول الله ص: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ] . حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النبي ص مِثْلَهُ، وَزَادَ فِي حَدِيثِهِ: وَأَشَارَ بِالْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُوَيْدٍ، عَنِ الأوزاعي، قال: حدثنا اسمعيل بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَدِمَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَقَالَ له الوليد: ماذا سمعت رسول الله ص يَذْكُرُ بِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَ: [سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص يَقُولُ: أَنْتُمْ وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ،] وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ. حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: حدثنا الأوزاعي، قال: حدثنى اسمعيل بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَدِمَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْوَلِيدُ: مَاذَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص يَذْكُرُ بِهِ السَّاعَةَ؟ [قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص يقول: أنتم والساعة كتين] . حَدَّثَنِي ابْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْبَرْقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ،

عن الأوزاعي، قال: حدثنى اسمعيل بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَدِمَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَعْبَدٌ، حَدَّثَ أَنَسٌ، [عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ص أَنَّهُ قَالَ: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ،] وَقَالَ بِإِصْبَعَيْهِ: هَكَذَا. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: [قَالَ رَسُولُ الله ص: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ:] السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى قَالَ أَبُو مُوسَى: وَأَشَارَ وَهْبٌ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ وَقَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: [قَالَ رسول الله ص: بعثت انا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ،] وَقَرَنَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الفضيل بن سليمان، حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ سعد، قال: [رايت رسول الله ص قَالَ بِإِصْبَعَيْهِ هَكَذَا، الْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ] . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الأَدَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ [سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ ان رسول الله ص قَالَ: بُعِثْتُ وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ- وَضَمَّ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ الْوُسْطَى، وَالَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ- وَقَالَ: مَا مَثَلِي وَمَثَلُ السَّاعَةِ إِلا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، ثُمَّ قَالَ: مَا مَثَلِي وَمَثَلُ السَّاعَةِ إِلا كَمَثَلِ رَجُلٍ بَعَثَهُ قَوْمٌ طَلِيعَةً، فَلَمَّا خَشِيَ أَنْ يُسْبَقُ أَلاحَ بِثَوْبِهِ: أُتِيتُمْ، أُتِيتُمْ، أَنَا ذَاكَ أَنَا ذَاكَ] . حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: [قَالَ رَسُولُ الله ص: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ،] وَجَمَعَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلالٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: [قَالَ رسول الله ص: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ هَكَذَا،] وَقَرَنَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ: الْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ. حَدَّثَنِي ابْنُ عَبْدِ الرحيم البرقي، عن سهل بن سعد، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: [قَالَ رَسُولُ الله ص: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ،] وَجَمَعَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: [سَمِعْتُ رسول الله ص يَقُولُ: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ جَمِيعًا، إِنْ كَادَتْ لِتَسْبِقَنِي] . حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ هَيَّاجٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدَةُ بْنُ الأَسْوَدِ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شداد الفهري، [عن النبي ص أَنَّهُ قَالَ: بُعِثْتُ فِي نَفْسِ السَّاعَةِ، سَبَقْتُهَا كَمَا سَبَقَتْ هَذِهِ هَذِهِ،] لإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَوَصَفَ لَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَجَمَعَهُمَا. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي جبيرة، قال: [قال رسول الله ص: بُعِثْتُ مَعَ السَّاعَةِ كَهَاتَيْنِ، - وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ- كَفَضْلِ هَذِهِ عَلَى هَذِهِ] . حَدَّثَنَا تَمِيمُ بْنُ الْمُنْتَصِرِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ شُبَيْلِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي جُبَيْرَةَ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنَ الأَنْصَارِ، قَالُوا:

[سمعنا رسول الله ص يَقُولُ: جِئْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ هَكَذَا]- قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَأَرَانَا تَمِيمٌ، وَضَمَّ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى وَقَالَ لَنَا: أَشَارَ يَزِيدُ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَضَمَّهُمَا-[وَقَالَ: سَبَقْتُهَا كَمَا سَبَقَتْ هَذِهِ هَذِهِ فِي نَفْسِ من الساعة، او في نَفْسَ السَّاعَةِ] . فمعلوم إذ كان اليوم أوله طلوع الفجر وآخره غروب الشمس، وكان صحيحا عن نبينا ص، ما رويناه عنه قبل، أنه قال بعد ما صلى العصر: ما بقي من الدنيا فِيمَا مَضَى مِنْهَا إِلا كَمَا بَقِيَ مِنْ يومكم هذا فيما مضى منه. وأنه قال لأصحابه: بعثت أنا والساعة كهاتين- وجمع بين السبابة والوسطى- سبقتها بقدر هذه من هذه، يعني الوسطى من السبابة وكان قدر ما بين اوسط اوقات صلاه العصر- وذلك إذا صار ظل كل شيء مثليه- على التحري إنما يكون قدر نصف سبع اليوم، يزيد قليلا أو ينقص قليلا، وكذلك فضل ما بين الوسطى والسبابة، إنما يكون نحوا من ذلك وقريبا منه. وكان صحيحا مع ذلك عن رسول الله ص ما حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا ثعلبه الخشني صاحب النبي ص يقول: [ان رسول الله ص قَالَ: لَنْ يُعْجِزَ اللَّهُ هَذِهِ الأُمَّةَ مِنْ نصف يوم،] وكان معنى قول النبي ذلك أن لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم الذي مقداره ألف سنة- كان بينا أن أولى القولين- اللذين ذكرت في مبلغ قدر مدة جميع الزمان، اللذين أحدهما عن ابن عباس، والآخر منهما عن كعب- بالصواب، وأشبههما بما دلت عليه الأخبار الوارده عن رسول الله ص قول ابن عباس، الذي روينا عنه أنه قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنه

وإذ كان ذلك كذلك، وكان الخبر عن رسول الله ص صحيحا أنه أخبر عن الباقي من ذلك في حياته انه نصف يوم، وذلك خمسمائة عام، إذ كان ذلك نصف يوم من الأيام التي قدر اليوم الواحد منها ألف عام- كان معلوما أن الماضي من الدنيا الى وقت قول النبي ص ما رويناه عن أبي ثعلبة الخشني عنه، كان قدر سته آلاف سنه وخمسمائة سنة، أو نحوا من ذلك وقريبا منه والله أعلم. فهذا الذي قلنا- في قدر مدة أزمان الدنيا، من مبدأ أولها إلى منتهى آخرها- من أثبت ما قيل في ذلك عندنا من القول، للشواهد الدالة التي بيناها على صحة ذلك. وقد روي عن رسول الله ص خبر يدل على صحة قول من قال: إن الدنيا كلها ستة آلاف سنة، لو كان صحيحا سنده لم نعد القول به إلى غيره، وذلك ما حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ ابن عبد الوارث، حدثنا زبان، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هريرة، ان [رسول الله ص قَالَ: الْحُقْبُ ثَمَانُونَ عَامًا، الْيَوْمُ مِنْهَا سُدُسُ الدُّنْيَا] . فبين في هذا الخبر أن الدنيا كلها ستة آلاف سنة، وذلك أن اليوم الذي هو من أيام الآخرة إذا كان مقداره ألف سنة من سني الدنيا، وكان اليوم الواحد من ذلك سدس الدنيا، كان معلوما بذلك أن جميعها ستة أيام من أيام الآخرة، وذلك ستة آلاف سنة. وقد زعم اليهود أن جميع ما ثبت عندهم- على ما في التوراة مما هو فيها من لدن خلق الله آدم إلى وقت الهجرة، وذلك في التوراة التي هي في ايديهم اليوم- اربعه آلاف سنه وستمائه سنة واثنتان وأربعون سنة، وقد ذكروا تفصيل ذلك بولادة رجل رجل، ونبي نبي، وموته من عهد آدم إلى هجرة نبينا محمد ص

وسأذكر تفصيلهم ذلك إن شاء الله، وتفصيل غيرهم ممن فصله من علماء أهل الكتب وغيرهم من أهل العلم بالسير وأخبار الناس إذا انتهيت إليه إن شاء الله. وأما اليونانية من النصارى فإنها تزعم أن الذي ادعته اليهود من ذلك باطل، وأن الصحيح من القول في قدر مدة أيام الدنيا- من لدن خلق الله آدم إلى وقت هجره نبينا محمد ص على سياق ما عندهم في التوراة التي هي في ايديهم- خمسه آلاف سنه وتسعمائة سنة واثنتان وتسعون سنة وأشهر وذكروا تفصيل ما ادعوه من ذلك بولادة نبي نبي، وملك ملك، ووفاته من عهد آدم إلى وقت هجره رسول الله ص، وزعموا أن اليهود إنما نقصوا ما نقصوا من عدد سني ما بين تاريخهم وتاريخ النصارى دفعا منهم لنبوه عيسى بن مريم ع إذ كانت صفته ووقت مبعثه مثبتة في التوراة وقالوا: لم يأت الوقت الذي وقت لنا في التوراة أن الذي صفته صفة عيسى يكون فيه، وهم ينتظرون- بزعمهم- خروجه ووقته. واحسب أن الذي ينتظرونه ويدعون أن صفته في التوراة مثبتة، هو الدجال الذي وصفه رسول الله ص لأمته، وذكر لهم أن عامة أتباعه اليهود، فإن كان ذلك هو عبد الله بن صياد، فهو من نسل اليهود. وأما المجوس فإنهم يزعمون أن قدر مدة الزمان من لدن ملك جيومرت إلى وقت هجرة نبينا ص ثلاثة آلاف سنة ومائة سنة وتسع وثلاثون سنة، وهم لا يذكرون مع ذلك نسبا يعرف فوق جيومرت، ويزعمون أنه آدم أبو البشر، ص وعلى جميع أنبياء الله ورسله. ثم أهل الأخبار بعد في أمره مختلفون، فمن قائل منهم فيه مثل قول المجوس، ومن قائل منهم إنه تسمى بآدم بعد أن ملك الأقاليم السبعة، وأنه إنما هو جامر بن يافث ابن نوح، كان بنوح ع برا ولخدمته ملازما، وعليه حدبا شفيقا، فدعا الله له ولذريته نوح- لذلك من بره به وخدمته له- بطول العمر، والتمكين في

البلاد، والنصر على من ناوأه وإياهم، واتصال الملك له ولذريته، ودوامه له ولهم، فاستجيب له فيه، فأعطى جيومرت ذلك وولده، فهو ابو الفراس، ولم يزل الملك فيه وفي ولده إلى أن زال عنهم بدخول المسلمين مدائن كسرى، وغلبة أهل الإسلام إياهم على ملكهم. ومن قائل غير ذلك، وسنذكر إن شاء الله ما انتهى إلينا من القول فيه إذا انتهينا إلى ذكرنا تاريخ الملوك ومبالغ أعمارهم، وأنسابهم وأسباب ملكهم

القول في الدلالة على حدوث الأوقات والأزمان والليل والنهار

القول في الدلالة على حدوث الأوقات والأزمان والليل والنهار قد قلنا قبل إن الزمان إنما هو اسم لساعات الليل والنهار، وساعات الليل والنهار إنما هي مقادير من جري الشمس والقمر في الفلك، كما قال الله عز وجل: «وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» . فإذا كان الزمان ما ذكرنا من ساعات الليل والنهار، وكانت ساعات الليل والنهار إنما هي قطع الشمس والقمر درجات الفلك، كان بيقين معلوما أن الزمان محدث والليل والنهار محدثان، وان محدث ذلك الله الذي تفرد بإحداث جميع خلقه، كما قال: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» . ومن جهل حدوث ذلك من خلق الله فإنه لن يجهل اختلاف أحوال الليل والنهار، بأن أحدهما يرد على الخلق- وهو الليل- بسواد وظلمة، وأن الآخر منهما يرد عليهم بنور وضياء، ونسخ لسواد الليل وظلمته، وهو النهار. فإذا كان ذلك كذلك، وكان من المحال اجتماعهما مع اختلاف أحوالهما في وقت واحد في جزء واحد- كان معلوما يقينا أنه لا بد من أن يكون أحدهما كان قبل الآخر منهما، وأيهما كان منهما قبل صاحبه فإن الآخر منهما كان

لا شك بعده، وذلك إبانة ودليل على حدوثهما، وأنهما خلقان لخالقهما. ومن الدلالة أيضا على حدوث الأيام والليالي أنه لا يوم إلا وهو بعد يوم كان قبله، وقبل يوم كائن بعده، فمعلوم أن ما لم يكن ثم كان، أنه محدث مخلوق، وأن له خالقا ومحدثا. واخرى، أن الأيام والليالي معدودة، وما عد من الأشياء فغير خارج من أحد العددين: شفع أو وتر، فإن يكن شفعا فإن أولها اثنان، وذلك تصحيح القول بأن لها ابتداء وأولا، وإن كان وترا فإن أولها واحد، وذلك دليل على أن لها ابتداء وأولا، وما كان له ابتداء فإنه لا بد له من مبتدئ، هو خالقه

القول في هل كان الله عز وجل خلق قبل خلقه الزمان والليل والنهار شيئا غير ذلك من الخلق قد قلنا قبل: إن الزمان إنما هو ساعات الليل والنهار، وإن الساعات إنما هي قطع الشمس والقمر درجات الفلك. فإذا كان ذلك كذلك، وكان صحيحا عن رسول الله ص ما حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي سَعْدٍ الْبَقَّالِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- قَالَ هناد: وقرات سائر الحديث على ابى بكر- ان اليهود أتت النبي ص فَسَأَلَتْهُ عَنْ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَقَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الأَرْضَ يَوْمَ الأَحَدِ وَالاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْجِبَالَ يَوْمَ الثُّلاثَاءِ وَمَا فِيهِنَّ مِنْ مَنَافِعَ، وَخَلَقَ يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب، فهذه اربعه، ثم قال: «قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ» ، لِمَنْ سَأَلَ قَالَ: وَخَلَقَ يَوْمَ الْخَمِيسِ السَّمَاءَ، وَخَلَقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ النُّجُومَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْمَلائِكَةَ، إِلَى ثَلاثِ سَاعَاتٍ بَقِيَتْ مِنْهُ، فَخَلَقَ فِي أَوَّلِ سَاعَةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلاثِ السَّاعَاتِ الآجَالَ مَنْ يَحْيَا وَمَنْ يَمُوتُ، وَفِي الثَّانِيَةِ أَلْقَى الآفَةَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ، وَفِي الثَّالِثَةِ آدَمَ وَأَسْكَنَهُ الْجَنَّةَ، وَأَمَرَ إِبْلِيسَ بِالسُّجُودِ لَهُ

وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا فِي آخِرِ سَاعَةٍ ثُمَّ قَالَتِ الْيَهُودُ: ثُمَّ مَاذَا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، قَالُوا: قَدْ أَصَبْتَ لَوْ اتممت: قالوا: ثم استراح، فغضب النبي ص غضبا شديدا، فنزل: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ» . حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ بِشْرِ بْنِ مَعْرُوفٍ وَالْحُسَيْنُ بن علي الصدائي، قالا: حدثنا حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة قال: [أخذ رسول الله ص بِيَدِي فَقَالَ: خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ يَوْمَ الأَحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلاثَاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، آخِرَ خَلْقٍ خُلِقَ، فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ، فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ] . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بزيع، قال: حدثنا الفضيل بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ سَلامٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، فذكرا عن النبي ص السَّاعَةَ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَذَكَرَا أَنَّهُ قَالَهَا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ: أَنَا أَعْلَمُ أَيَّ سَاعَةٍ هِيَ، بَدَأَ اللَّهُ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَوْمَ الأَحَدِ، وَفَرَغَ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَهِيَ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قال: حدثنا الحجاج، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عكرمه: [ان اليهود قالوا للنبي ص: ما يوم الأحد؟ فقال رسول

الله ص: خلق الله فيه الارض وبسطها، قالوا: فالاثنين؟ قال: خلق الله فِيهِ آدَمَ، قَالُوا: فَالثُّلاثَاءِ؟ قَالَ: خَلَقَ فِيهِ الْجِبَالَ وَالْمَاءَ وَكَذَا وَكَذَا وَمَا شَاءَ اللَّهُ، قَالُوا: فَيَوْمُ الأَرْبِعَاءِ؟ قَالَ: الأَقْوَاتَ، قَالُوا: فَيَوْمُ الْخَمِيسِ؟ قَالَ: خَلَقَ السَّمَوَاتِ، قَالُوا: فَيَوْمُ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ فِي سَاعَتَيْنِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، ثُمَّ قَالُوا: السَّبْتَ- وَذَكَرُوا الرَّاحَةَ- قَالَ: سُبْحَانَ الله! فانزل الله: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ] » . فقد بين هذان الخبران اللذان رويناهما عن رسول الله ص أن الشمس والقمر خلقا بعد خلق الله أشياء كثيرة من خلقه، وذلك أن حديث ابن عباس عن رسول الله ص ورد بأن الله خلق الشمس والقمر يوم الجمعة فإن كان ذلك كذلك، فقد كانت الأرض والسماء وما فيهما- سوى الملائكة وآدم- مخلوقة قبل خلق الله الشمس والقمر، وكان ذلك كله ولا ليل ولا نهار، إذ كان الليل والنهار إنما هو اسم لساعات معلومة من قطع الشمس والقمر درج الفلك. وإذا كان صحيحا أن الأرض والسماء وما فيهما، سوى ما ذكرنا، قد كانت ولا شمس ولا قمر- كان معلوما أن ذلك كله كان ولا ليل ولا نهار. وكذلك حديث ابى هريرة عن [رسول الله ص، لأنه أخبر عنه أنه قال: خلق الله النور يوم الأربعاء،] يعني بالنور الشمس إن شاء الله. فإن قال لنا قائل: قد زعمت أن اليوم إنما هو اسم لميقات ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ثم زعمت الآن أن الله خلق الشمس والقمر بعد أيام من أول ابتدائه خلق الأشياء التي خلقها، فأثبت مواقيت، وسميتها بالأيام، ولا شمس ولا قمر، وهذا إن لم تأت ببرهان على صحته، فهو كلام ينقض بعضه بعضا!

قيل: إن الله سمى ما ذكرته أياما، فسميته بالاسم الذي سماه به، وكان وجه تسميه ذلك أياما، ولا شمس ولا قمر، نظير قوله عز وجل: «وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا» ولا بكرة ولا عشي هنالك، إذ كان لا ليل في الآخرة ولا شمس ولا قمر، كما قال جل وعز: «وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ» . فسمى تعالى ذكره يوم القيامة يوما عقيما، إذ كان يوما لا ليل بعد مجيئه، وإنما أريد بتسمية ما سمي أياما قبل خلق الشمس والقمر قدر مدة ألف عام من أعوام الدنيا، التي العام منها اثنا عشر شهرا من شهور أهل الدنيا، التي تعد ساعاتها وأيامها بقطع الشمس والقمر درج الفلك، كما سمي بكرة وعشيا لما يرزقه أهل الجنة في قدر المدة التي كانوا يعرفون ذلك من الزمان في الدنيا بالشمس ومجراها في الفلك، ولا شمس عندهم ولا ليل وبنحو الذي قلنا في ذلك قال السلف من أهل العلم. ذكر بعض من حضرنا ذكره ممن قال ذلك: حَدَّثَنِي القاسم، قال: حَدَّثَنَا الحسين، قال: حَدَّثَنِي الحجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد أنه قال: يقضي الله عز وجل أمر كل شيء ألف سنة إلى الملائكة، ثم كذلك حتى يمضي ألف سنة، ثم يقضي أمر كل شيء ألفا، ثم كذلك أبدا، قال: «فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ» قال: اليوم أن يقول لما يقضي إلى الملائكة ألف سنة: كن فيكون، ولكن سماه يوما، سماه كما شاء كل ذلك

عن مجاهد، قال: وقوله تعالى: «وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» قال: هو هو سواء. وبنحو الذي ورد عن رسول الله ص من الخبر، بأن الله جل جلاله خلق الشمس والقمر بعد خلقه السموات والأرض وأشياء غير ذلك، ورد الخبر عن جماعة من السلف أنهم قالوه. ذكر الخبر عمن قال ذلك منهم: حدثنا ابو هشام الرفاعى، حدثنا ابن يمان، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» . قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلسَّمَوَاتِ: أَطْلِعِي شمسى وقمرى، واطلعى نجومى. وَقَالَ لِلأَرْضِ: شَقِّقِي أَنْهَارَكِ، وَأَخْرِجِي ثِمَارَكِ، فَقَالَتَا: أَتَيْنَا طَائِعِينَ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ،: قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: «وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها» ، خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وصلاحها. فقد بينت هذه الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله ص وعمن ذكرناها عنه أن الله عز وجل خلق السموات والأرض قبل خلقه الزمان والأيام والليالي، وقبل الشمس والقمر والله أعلم

القول في الإبانة عن فناء الزمان والليل والنهار وان لا شيء يبقى غير الله تعالى ذكره

القول في الإبانة عن فناء الزمان والليل والنهار وأن لا شيء يبقى غير الله تعالى ذكره والدلالة على صحة ذلك قول الله تعالى ذكره: «كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ» ، وقوله تعالى: «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» فإن كان كل شيء هالك غير وجهه- كما قال جل وعز- وكان الليل والنهار ظلمة أو نورا خلقهما لمصالح خلقه، فلا شك انهما فانيان هالكان، كما اخبر، وكما قال: «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» يعني بذلك أنها عميت فذهب ضوءها، وذلك عند قيام الساعة، وهذا ما لا يحتاج إلى الإكثار فيه، إذ كان مما يدين بالإقرار به جميع أهل التوحيد من أهل الإسلام وأهل التوراة والإنجيل والمجوس، وإنما ينكره قوم من غير أهل التوحيد، لم نقصد بهذا الكتاب قصد الإبانة عن خطإ قولهم فكل الذين ذكرنا عنهم أنهم مقرون بفناء جميع العالم حتى لا يبقى غير القديم الواحد، مقرون بأن الله عز وجل محييهم بعد فنائهم، وباعثهم بعد هلاكهم، خلا قوم من عبدة الأوثان، فإنهم يقرون بالفناء، وينكرون البعث

القول في الدلالة على أن الله عز وجل القديم الأول قبل شيء وأنه هو المحدث كل شيء بقدرته تعالى ذكره فمن الدلالة على ذلك أنه لا شيء في العالم مشاهد إلا جسم أو قائم بجسم، وأنه لا جسم إلا مفترق أو مجتمع، وأنه لا مفترق منه إلا وهو موهوم فيه الائتلاف إلى غيره من أشكاله، ولا مجتمع منه إلا وهو موهوم فيه الافتراق، وأنه متى عدم أحدهما عدم الآخر معه، وأنه إذا اجتمع الجزءان منه بعد الافتراق، فمعلوم أن اجتماعهما حادث فيهما بعد أن لم يكن، وأن الافتراق إذا حدث فيهما بعد الاجتماع، فمعلوم أن الافتراق فيهما حادث بعد أن لم يكن. وإذا كان الأمر فيما في العالم من شيء كذلك، وكان حكم ما لم يشاهد وما هو من جنس ما شاهدنا في معنى جسم أو قائم بجسم، وكان ما لم يخل من الحدث لا شك أنه محدث بتأليف مؤلف له إن كان مجتمعا، وتفريق مفرق له إن كان مفترقا وكان معلوما بذلك أن جامع ذلك إن كان مجتمعا، ومفرقه إن كان مفترقا من لا يشبهه، ومن لا يجوز عليه الاجتماع والافتراق، وهو الواحد القادر الجامع بين المختلفات، الذي لا يشبهه شيء، وهو على كل شيء قدير- فبين بما وصفنا أن بارئ الأشياء ومحدثها كان قبل كل شيء، وأن الليل والنهار والزمان والساعات محدثات، وأن محدثها الذي يدبرها ويصرفها قبلها، إذ كان من المحال أن يكون شيء يحدث شيئا إلا ومحدثه قبله، وأن في قوله تعالى ذكره: «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ» ، لابلغ الحجج،

وأدل الدلائل- لمن فكر بعقل، واعتبر بفهم- على قدم بارئها، وحدوث كل ما جانسها، وأن لها خالقا لا يشبهها. وذلك أن كل ما ذكر ربنا تبارك وتعالى في هذه الآية من الجبال والأرض والإبل فإن ابن آدم يعالجه ويدبره بتحويل وتصريف وحفر ونحت وهدم، غير ممتنع عليه شيء من ذلك ثم إن ابن آدم مع ذلك غير قادر على إيجاد شيء من ذلك من غير أصل، فمعلوم أن العاجز عن إيجاد ذلك لم يحدث نفسه، وأن الذي هو غير ممتنع ممن أراد تصريفه وتقليبه لم يوجده من هو مثله، ولا هو أوجد نفسه، وأن الذي أنشأه وأوجد عينه هو الذي لا يعجزه شيء أراده، ولا يمتنع عليه إحداث شيء شاء إحداثه، وهُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ. فإن قال قائل: فما تنكر أن تكون الأشياء التي ذكرت من فعل قديمين؟ قيل: أنكرنا ذلك لوجودنا اتصال التدبير وتمام الخلق، فقلنا: لو كان المدبر اثنين، لم يخلوا من اتفاق أو اختلاف، فإن كانا متفقين فمعناهما واحد، وإنما جعل الواحد اثنين من قال بالاثنين وإن كانا مختلفين كان محالا وجود الخلق على التمام والتدبير على الاتصال، لأن المختلفين، فعل كل واحد منهما خلاف فعل صاحبه، بأن أحدهما إذا أحيا أمات الآخر، وإذا أوجد أحدهما أفنى الآخر، فكان محالا وجود شيء من الخلق على ما وجد عليه من التمام والاتصال. وفي قول الله عز وجل ذكره: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ» ، وقوله عز وجل: «مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ»

أبلغ حجة، وأوجز بيان، وأدل دليل على بطول ما قاله المبطلون من أهل الشرك بالله، وذلك أن السموات والأرض لو كان فيهما إله غير الله، لم يخل أمرهما مما وصفت من اتفاق واختلاف وفي القول باتفاقهما فساد القول بالتثنية، وإقرار بالتوحيد، وإحالة في الكلام بأن قائله سمى الواحد اثنين وفي القول باختلافهما، القول بفساد السموات والأرض، كما قال ربنا جل وعز: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» لأن أحدهما كان إذا أحدث شيئا وخلقه كان من شأن الآخر إعدامه وإبطاله، وذلك أن كل مختلفين فأفعالهما مختلفة، كالنار التي تسخن، والثلج الذي يبرد ما أسخنته النار وأخرى، أن ذلك لو كان كما قاله المشركون بالله لم يخل كل واحد من الاثنين اللذين أثبتوهما قديمين من أن يكونا قويين او عاجزين، فان كانا عاجزين فالعاجز مقهور وغير كائن إلها وإن كانا قويين فإن كل واحد منهما بعجزه عن صاحبه عاجز، والعاجز لا يكون إلها وإن كان كل واحد منهما قويا على صاحبه عاجز، والعاجز لا يكون إلها وإن كان كل واحد منهما قويا على صاحبه، فهو بقوة صاحبه عليه عاجز، تعالى ذكره عما يشرك المشركون! فتبين إذا أن القديم بارئ الأشياء وصانعها هو الواحد الذي كان قبل كل شيء، وهو الكائن بعد كل شيء، والأول قبل كل شيء، والآخر بعد كل شيء، وأنه كان ولا وقت ولا زمان، ولا ليل ولا نهار، ولا ظلمة ولا نور إلا نور وجهه الكريم ولا سماء ولا أرض، ولا شمس ولا قمر ولا نجوم، وأن كل شيء سواه محدث مدبر مصنوع، انفرد بخلق جميعه بغير شريك ولا معين ولا ظهير، سبحانه من قادر قاهر! وقد حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ الرَّمْلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَبِي الزَّرْقَاءِ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الأَصَمِّ، عَنْ أَبِي هريرة، [ان النبي ص قال:

إِنَّكُمْ تَسْأَلُونَ بَعْدِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى يَقُولُ الْقَائِلُ: هَذَا اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فمن ذا خلقه!] . حدثنى على، حَدَّثَنَا زَيْدٌ، عَنْ جَعْفَرٍ، قَالَ: قَالَ يَزِيدُ بْنُ الأَصَمِّ: حَدَّثَنِي نَجَبَةُ بْنُ صَبِيغٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ فَسَأَلُوهُ عَنْ هَذَا فَكَبَّرَ وَقَالَ: مَا حَدَّثَنِي خَلِيلِي بِشَيْءٍ إِلا قَدْ رَأَيْتُهُ- أَوْ أَنَا أَنْتَظِرُهُ قَالَ جَعْفَرٌ: فَبَلَغَنِي أَنَّهُ قَالَ: إِذَا سَأَلَكُمُ النَّاسُ عَنْ هذا فقولوا: الله خالق كل شيء، والله كَانَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَاللَّهُ كَائِنٌ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ. فَإِذَا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ خَالِقَ الأَشْيَاءِ وَبَارِئَهَا كَانَ وَلا شَيْءَ غَيْرَهُ، وَأَنَّهُ أَحْدَثَ الأَشْيَاءَ فَدَبَّرَهَا، وَأَنَّهُ قَدْ خَلَقَ صُنُوفًا مِنْ خَلْقِهِ قَبْلَ خَلْقِ الأَزْمِنَةِ وَالأَوْقَاتِ، وَقَبْلَ خَلْقِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ اللَّذَيْنِ يُجْرِيهِمَا فِي أَفْلاكِهِمَا، وَبِهِمَا عُرِفَتِ الأَوْقَاتِ وَالسَّاعَاتِ، وَأُرِّخَتِ التَّأْرِيخَاتِ، وَفُصِلَ بين الليل والنهار، فلنقل: فيم ذَلِكَ الْخَلْقُ الَّذِي خُلِقَ قَبْلَ ذَلِكَ؟ وَمَا كان اوله؟

القول في ابتداء الخلق ما كان اوله

القول في ابتداء الخلق ما كان أوله صح الخبر عن رسول الله ص بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ- وحدثني عُبَيْدُ بْنُ آدَمَ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ الْعَسْقَلانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ- عَنْ أَيُّوبَ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَادَةُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: قَالَ أَبِي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: [يَا بُنَيَّ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص يَقُولُ: إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، فَجَرَى فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ] . حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا رَبَاحُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَبِيبٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ [ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ كُلَّ شَيْءٍ] . حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ سَهْلٍ الرَّمْلِيُّ، حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا رَبَاحُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَبِيبٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عن رسول الله ص بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الأَنْمَاطِيُّ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ سُلَيْمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً، قَالَ: سَأَلْتُ الْوَلِيدَ بْنَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: كَيْفَ كَانَتْ وَصِيَّةُ أَبِيكَ حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ؟ قَالَ: دَعَانِي فَقَالَ:

أَيْ بُنَيَّ، اتَّقِ اللَّهَ وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَنْ تَتَّقِيَ اللَّهَ، وَلَنْ تَبْلُغَ الْعِلْمَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، [إِنِّي سَمِعْتُ رسول الله ص يَقُولُ: إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ الْقَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، قَالَ: يَا رَبِّ وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبِ الْقَدَرَ، قَالَ: فَجَرَى الْقَلَمُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا كَانَ وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى الأَبَدِ] . وقد اختلف اهل السلف قبلنا في ذلك، فنذكر أقوالهم، ثم نتبع البيان عن ذلك إن شاء الله تعالى. فقال بعضهم في ذلك بنحو الذي روى عن رسول الله ص فيه. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الأَسَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ الْقَلَمُ فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، فَقَالَ: وَمَا أَكْتُبُ يَا رَبِّ؟ قَالَ: اكْتُبِ الْقَدَرَ، قَالَ: فَجَرَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، ثُمَّ رَفَعَ بُخَارَ الْمَاءِ فَفَتَقَ مِنْهُ السَّمَوَاتِ. حَدَّثَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ الْقَلَمُ، فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ. حَدَّثَنَا تَمِيمُ بْنُ الْمُنْتَصِرِ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ- أَوْ مُجَاهِدٌ-، عَنِ ابْنِ عباس بنحوه

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ أَنَّ ابن عباس قال: إن أول شيء خلق الْقَلَمُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عطاء، عن ابى الضحا مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ القلم، فقال له: اكتب، فكتب ما هو كَائِنٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أَوَّلُ شَيْءٍ خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ خَلْقِهِ النُّورُ وَالظُّلْمَةُ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ النُّورُ وَالظُّلْمَةُ، ثُمَّ مَيَّزَ بَيْنَهُمَا، فَجَعَلَ الظُّلْمَةَ لَيْلا أَسْوَدَ مُظْلِمًا، وَجَعَلَ النُّورَ نَهَارًا مُضِيئًا مُبْصِرًا. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عِنْدِي بِالصَّوَابِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِلْخَبَرِ الَّذِي ذكرت عن [رسول الله ص قبل، أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ شَيْءٍ خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ] . فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: فَإِنَّكَ قُلْتَ: أَوْلَى الْقَوْلَيْنِ- اللَّذَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ الْقَلَمَ، وَالآخَرُ أَنَّهُ النُّورُ وَالظُّلْمَةُ- قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ الْقَلَمَ، فَمَا وَجْهُ الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّتِي حَدَّثَكُمُوهَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَاسًا يُكَذِّبُونَ بِالْقَدَرِ، فَقَالَ: إِنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ، لآخُذَنَّ بِشَعْرِ أَحَدِهِمْ فَلأَنْفُضَنَّ بِهِ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَهُ كَانَ عَلَى عَرْشِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا، فَكَانَ أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ،

وَإِنَّمَا يَجْرِي النَّاسُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ؟. وعن ابن إسحاق، التي حدثكموها ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: يقول الله عز وجل: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ» ، فكان كما وصف نفسه عز وجل، إذ ليس إلا الماء عليه العرش، وعلى العرش ذو الجلال والإكرام، فكان أول ما خلق الله النور والظلمة؟ قيل: أما قول ابن عباس: إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء قبل أن يخلق شيئا، فكان أول ما خلق الله القلم- إن كان صحيحا عنه أنه قاله- فهو خبر منه أن الله خلق القلم بعد خلقه عرشه، وقد روى عن أبي هاشم هذا الخبر شعبة، ولم يقل فيه ما قال سفيان، من أن الله عز وجل كان على عرشه، فكان أول ما خلق القلم، بل روى ذلك كالذي رواه سائر من ذكرنا من الرواة عن ابن عباس أنه قال: أول ما خلق الله عز وجل القلم. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هَاشِمٍ، سَمِعَ مُجَاهِدًا قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ- لا يَدْرِي ابْنَ عُمَرَ أَوِ ابْنَ عَبَّاسٍ- قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ فَقَالَ لَهُ: اجْرِ، فَجَرَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ فِيمَا قَدْ فُرِغَ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ بَعْدَ خَلْقِهِ عَرْشَهُ، وَالْمَاءَ الَّذِي عَلَيْهِ عَرْشُهُ وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ ص الَّذِي رَوَيْنَاهُ عَنْهُ أَوْلَى قَوْلٍ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، لأَنَّهُ كَانَ أَعْلَمَ قَائِلٍ فِي ذَلِكَ قولا بحقيقته وصحته، [وقد روينا عنه ع أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْقَلَمُ] مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ مِنْهُ شَيْئًا مِنَ الأَشْيَاءِ أَنَهُّ تَقَدَّمَ خَلْقَ اللَّهِ إِيَّاهُ خلق القلم، بل عم [بقوله ص: ان أول شيء خلقه الله القلم،] كل

شَيْءٍ، وَأَنَّ الْقَلَمَ مَخْلُوقٌ قَبْلَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَائِهِ مِنْ ذَلِكَ عَرْشًا وَلا مَاءً وَلا شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ. فالرواية التي رويناها عن ابى ظبيان وابى الضحا، عن ابن عباس، أولى بالصحة عن ابن عباس من خبر مجاهد عنه الذي رواه عنه أبو هاشم، إذ كان أبو هاشم قد اختلف في رواية ذلك عنه شعبة وسفيان، على ما قد ذكرت من اختلافهما فيها. وأما ابن إسحاق فإنه لم يسند قوله الذي قاله في ذلك إلى أحد، وذلك من الأمور التي لا يدرك علمها إلا بخبر من الله عز وجل، أو خبر من رسول الله ص، وقد ذكرت الرواية فيه عن رسول الله ص

القول في الذى ثنى خلق القلم

القول في الذي ثنى خلق القلم ثم إن الله جل جلاله خلق بعد القلم- وبعد أن أمره فكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة- سحابا رقيقا، وهو الغمام الذي ذكره جل وعز ذكره في محكم كتابه فقال: «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ» ، وذلك قبل أن يخلق عرشه، وبذلك ورد الخبر عن رسول الله ص. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الْقَطَّانُ، قَالا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، [عَنْ وَكِيعِ بْنِ حُدُسٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي رَزِينٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ؟ قَالَ: كَانَ في عماء، ما تحته هواء، وما فوقه هَوَاءٌ، ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ] حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ وَكِيعِ بْنِ حُدُسٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي رَزِينٍ العقيلي، قال:

[قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ؟ قَالَ: فِي عَمَاءٍ، فَوْقَهُ هَوَاءٌ، وَتَحْتَهُ هَوَاءٌ، ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ] . حَدَّثَنَا خَلادُ بْنُ أَسْلَمَ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ، أَخْبَرَنَا جَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، [عَنِ ابْنِ حُصَيْنٍ- وَكَانَ من اصحاب رسول الله ص- قال: اتى قوم رسول الله ص فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَجَعَلَ يُبَشِّرُهُمْ وَيَقُولُونَ: أَعْطِنَا، حَتَّى ساء ذلك رسول الله ص، ثُمَّ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ وَجَاءَ قَوْمٌ آخَرُونَ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا: جِئْنَا نُسَلِّمُ عَلَى رَسُولِ الله ص، وَنَتَفَقَّهُ فِي الدِّينِ، وَنَسْأَلُهُ عَنْ بَدْءِ هَذَا الأَمْرِ، قَالَ: فَاقْبَلُوا الْبُشْرَى إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ خَرَجُوا، قَالُوا: قَبِلْنَا، فَقَالَ رَسُولُ الله ص: كان الله لا شَيْءَ غَيْرُهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ] ثُمَّ أَتَانِي آتٍ فَقَالَ: تِلْكَ نَاقَتُكَ قَدْ ذَهَبَتْ، فَخَرَجْتُ يَنْقَطِعُ دُونَهَا السَّرَابُ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي تَرَكْتُهَا. حَدَّثَنِي أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ جَامِعِ ابن شَدَّادٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، عَنْ عِمْرَانَ بن الحصين، قال: [قال رسول الله ص: اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالُوا: قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا فَقَالَ: اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ، فَقَالُوا: قَدْ قَبِلْنَا، فَأَخْبِرْنَا عَنْ هَذَا الأمر كيف كان؟ فقال رسول الله ص: كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْعَرْشِ، وَكَانَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَكَتَبَ فِي اللَّوْحِ كُلَّ شَيْءٍ يَكُونُ] قَالَ: فَأَتَانِي آتٍ فَقَالَ: يَا عِمْرَانُ، هَذِهِ نَاقَتُكَ قَدْ حَلَّتْ عِقَالَهَا، فَقُمْتُ، فَإِذَا السَّرَابُ يَنْقَطِعُ بَيْنِي وَبَيْنَهَا، فَلا أَدْرِي مَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ

ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي الَّذِي خَلَقَ تَعَالَى ذِكْرُهُ بَعْدَ الْعَمَاءِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: خَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ عَرْشَهُ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حيان ابن عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، قَالَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ الْعَرْشَ أَوَّلَ مَا خَلَقَ، فَاسْتَوَى عَلَيْهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمَاءَ قَبْلَ الْعَرْشِ، ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ فَوَضَعَهُ عَلَى الْمَاءِ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود- وعن ناس من اصحاب رسول الله ص- قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَلَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا غَيْرَ مَا خَلَقَ قَبْلَ الْمَاءِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، قال: سمعت وهب بن منبه يقول: إن العرش كان قبل ان يخلق السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ عَلَى الْمَاءِ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ قَبَضَ مِنْ صَفَاةِ الْمَاءِ قَبْضَةً، ثُمَّ فَتَحَ الْقَبْضَةَ فَارْتَفَعَتْ دُخَانًا، ثُمَّ قَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ، وَدَحَا الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، وَفَرَغَ مِنَ الْخَلْقِ الْيَوْمَ السَّابِعَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الَّذِي خَلَقَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ بَعْدَ الْقَلَمِ الْكُرْسِيَّ، ثُمَّ خَلَقَ بَعْدَ الْكُرْسِيِّ الْعَرْشَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ خَلَقَ الْهَوَاءَ وَالظُّلُمَاتِ، ثُمَّ خَلَقَ الْمَاءَ، فَوَضَعَ عَرْشَهُ عَلَيْهِ

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: إن الله تبارك وتعالى خلق الماء قبل العرش، لصحة الخبر الذي ذكرت قبل عن أبي رزين العقيلي عن [رسول الله ص أنه قال حين سئل: أين كان ربنا عز وجل قبل أن يخلق خلقه؟ قال: كان في عماء، ما تحته هواء، وما فوقه هواء، ثم خلق عرشه على الماء،] فاخبر ص أن الله خلق عرشه على الماء ومحال إذ كان خلقه على الماء أن يكون خلقه عليه، والذي خلقه عليه غير موجود، إما قبله أو معه، فإذا كان ذلك كذلك، فالعرش لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون خلق بعد خلق الله الماء، وإما أن يكون خلق هو والماء معا فأما أن يكون خلقه قبل خلق الماء، فذلك غير جائز صحته على ما روى عن ابى رزين، عن النبي ص. وقد قيل: إن الماء كان على متن الريح حين خلق عرشه عليه، فإن كان ذلك كذلك، فقد كان الماء والريح خلقا قبل العرش. ذكر من قال: كان الماء على متن الريح: حَدَّثَنِي ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنِ المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وجل: «وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ» : عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كَانَ الْمَاءُ؟ قَالَ: عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَكَانَ عرشه على الماء» : عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كَانَ الْمَاءُ؟ قَالَ: عَلَى متن الريح

حدثنا القاسم بن الحسن، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. قَالَ: وَالسَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَكُلُّ مَا فِيهِنَّ مِنْ شَيْءٍ يُحِيطُ بِهَا الْبِحَارُ، وَيُحِيطُ بِذَلِكَ كُلِّهِ الْهَيْكَلُ، وَيُحِيطُ بِالْهَيْكَلِ- فِيمَا قِيلَ- الْكُرْسِيُّ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سهل بن عسكر، حَدَّثَنَا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد أنه سمع وهبا يقول- وذكر من عظمته- فقال: إن السموات والأرض والبحار لفي الهيكل، وإن الهيكل لفي الكرسي، وإن قدميه عز وجل لعلى الكرسي، وهو يحمل الكرسي، وقد عاد الكرسي كالنعل في قدميه. وسئل وهب: ما الهيكل؟ قال: شيء من أطراف السموات محدق بالأرضين والبحار كأطناب الفسطاط. وسئل وهب عن الأرضين: كيف هي؟ قال: هي سبع أرضين ممهدة جزائر، بين كل أرضين بحر، والبحر محيط بذلك كله، والهيكل من وراء البحر وقد قيل: إنه كان بين خلقه القلم وخلقه سائر خلقه ألف عام. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا القاسم بن الحسن، قال: حَدَّثَنَا الحسين بن داود، قال: حَدَّثَنَا مبشر الحلبي، عن أرطاة بن المنذر، قال: سمعت ضمرة يقول: إن الله خلق القلم، فكتب به ما هو خالق وما هو كائن من خلقه، ثم إن ذلك الكتاب سبح الله ومجده ألف عام قبل أن يخلق شيئا من الخلق، فلما أراد جل جلاله خلق السموات والأرض خلق- فيما ذكر- أياما ستة، فسمى كل يوم منهن باسم غير الذي سمى به الآخر

وقيل: إن اسم أحد تلك الأيام الستة أبجد، واسم الآخر منهن هوز، واسم الثالث منهن حطي، واسم الرابع منهن كلمن، واسم الخامس منهن سعفص، واسم السادس منهن قرشت. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الحضرمي، قال: حَدَّثَنَا مصرف بن عمرو اليامى، حدثنا حفص ابن غياث، عن العلاء بن المسيب، عن رجل من كنده، قال: سمعت الضحاك ابن مزاحم يقول: خلق الله السموات والأرض في ستة أيام، ليس منها يوم إلا له اسم: أبجد، هوز، حطي، كلمن، سعفص، قرشت وقد حدث به عن حفص غير مصرف وقال: عنه، عن العلاء بن المسيب، قال: حَدَّثَنِي شيخ من كندة قال: لقيت الضحاك بن مزاحم فحدثني قال: سمعت زيد بن أرقم قال: إن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام، لكل يوم منها اسم: أبجد، هوز، حطي، كلمن، سعفص، قرشت. وقال آخرون: بل خلق الله واحدا فسماه الأحد، وخلق ثانيا فسماه الاثنين، وخلق ثالثا فسماه الثلاثاء، ورابعا فسماه الأربعاء، وخامسا فسماه الخميس. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا تَمِيمُ بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عَنْ غَالِبِ بْنِ غَلابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ يَوْمًا وَاحِدًا فَسَمَّاهُ الأَحَدَ، ثُمَّ خَلَقَ ثَانِيًا فَسَمَّاهُ الاثْنَيْنَ، ثُمَّ خَلَقَ ثَالِثًا فَسَمَّاهُ الثُّلاثَاءَ، ثُمَّ خَلَقَ رَابِعًا فَسَمَّاهُ الأَرْبِعَاءَ، ثُمَّ خَلَقَ خَامِسًا فَسَمَّاهُ الْخَمِيسَ

وَهَذَانِ الْقَوْلانِ غَيْرُ مُخْتَلِفَيْنِ، إِذْ كَانَ جَائِزًا ان تكون أَسْمَاءُ ذَلِكَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى مَا قَالَهُ عَطَاءٌ، وَبِلِسَانِ آخَرِينَ، عَلَى مَا قَالَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الأَيَّامَ سَبْعَةٌ لا سِتَّةٌ ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سهل بن عسكر، حَدَّثَنَا إسماعيل بن عبد الكريم، حَدَّثَنِي عبد الصمد بن معقل، قال: سمعت وهب بن منبه: يقول: الأيام سبعة. وكلا القولين- اللذين روينا أحدهما عن الضحاك وعطاء، من أن الله خلق الأيام الستة، والآخر منهما عن وهب بن منبه من أن الأيام سبعة- صحيح مؤتلف غير مختلف، وذلك أن معنى قول عطاء والضحاك في ذلك كان أن الأيام التي خلق الله فيهن الخلق من حين ابتدائه في خلق السماء والأرض وما فيهن إلى أن فرغ من جميعه ستة أيام، كما قال جل ثناؤه: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» ، وأن معنى قول وهب بن منبه في ذلك كان أن عدد الأيام التي هي أيام الجمعة سبعة أيام لا ستة. واختلف السلف في اليوم الذي ابتدأ الله عز وجل فيه في خلق السموات والأرض، فقال بعضهم: ابتدأ في ذلك يوم الأحد. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ شَاهِينَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَخِيهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ابْتَدَأَ الْخَلْقَ، فَخَلَقَ الأَرْضَ يَوْمَ الأَحَدِ وَيَوْمَ الاثْنَيْنِ

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَدَأَ الْخَلْقَ يَوْمَ الأَحَدِ، فَخَلَقَ الأَرَضِينَ فِي الأَحَدِ وَالاثْنَيْنِ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن كعب، قال: بدأ الله خلق السموات والأرض يوم الأحد والاثنين. حَدَّثَنِي محمد بن أبي منصور الآملي، حَدَّثَنَا علي بن الهيثم، عن المسيب بن شريك، عن أبي روق، عن الضحاك في قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» قال: من أيام الآخرة، كل يوم مقداره الف سنه، ابتدأ الخلق يوم الأجد. حَدَّثَنِي المثنى، حَدَّثَنَا الحجاج، حَدَّثَنَا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن مجاهد، قال: بدأ الخلق يوم الأحد وقال آخرون: اليوم الذي ابتدأ الله فيه في ذلك يوم السبت. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: حَدَّثَنِي محمد ابن أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: يَقُولُ أَهْلُ التَّوْرَاةِ: ابْتَدَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ يَوْمَ الأَحَدِ: وَقَالَ أَهْلُ: الإِنْجِيلِ: ابْتَدَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَنَقُولُ نَحْنُ الْمُسْلِمُونَ فِيمَا انْتَهَى إِلَيْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص: ابْتَدَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ يَوْمَ السَّبْتِ. وَقَدْ رُوِيَ عن رسول الله ص الَّذِي قَالَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ قَالَ أَحَدُهُمَا: ابْتَدَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ فِي يَوْمِ الأَحَدِ، وَقَالَ الآخَرُ مِنْهُمَا: ابْتَدَأَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ، وَقَدْ مَضَى ذِكْرُنَا الْخَبَرَيْنِ، غَيْرَ أَنَّا نُعِيدُ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذَا

الْمَوْضِعِ بَعْضَ مَا فِيهِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمَا. فأما الخبر عنه بتحقيق ما قال القائلون: كان ابتداء الخلق يوم الأحد، فما حَدَّثَنَا بِهِ هَنَّادُ بن السري، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ أبي سعد البقال، عن عكرمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- قَالَ هَنَّادٌ: وَقَرَأْتُ سَائِرَ الحديث- ان اليهود أتت النبي ص فَسَأَلَتْهُ عَنْ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَقَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الأَرْضَ يَوْمَ الأَحَدِ وَالاثْنَيْنِ. وأما الخبر عنه بتحقيق ما قاله القائلون من أن ابتداء الخلق كان يوم السبت، فما حَدَّثَنِي القاسم بن بشر بن معروف والحسين بن علي الصدائي، قالا: حدثنا حجاج، قال ابن جريج: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: [أخذ رسول الله ص بِيَدِي، فَقَالَ: خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ الْجِبَالَ يَوْمَ الأَحَدِ] . وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: اليوم الذي ابتدأ الله تعالى ذكره فيه خلق السموات والأرض يوم الأحد، لإجماع السلف من أهل العلم على ذلك. فأما ما قال ابن إسحاق في ذلك، فإنه إنما استدل- بزعمه- على أن ذلك كذلك، لأن الله عز ذكره فرغ من خلق جميع خلقه يوم الجمعة، وذلك اليوم السابع، وفيه استوى على العرش، وجعل ذلك اليوم عيدا للمسلمين، ودليله على ما زعم أنه استدل به على صحه قوله فيما حكينا عنه من ذلك هو الدليل على خطئه فيه، وذلك ان الله تبارك وتعالى أخبر عباده في غير موضع من محكم تنزيله، أنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، فقال: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ

السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ» وقال تعالى ذكره: «قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» . ولا خلاف بين جميع أهل العلم أن اليومين اللذين ذكرهما الله تبارك وتعالى في قوله: «فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ» داخلان في الأيام الستة اللاتي ذكرهن قبل ذلك، فمعلوم إذ كان الله عز وجل إنما خلق السموات والأرضين وما فيهن في ستة أيام، وكانت الأخبار مع ذلك متظاهرة عن رسول الله ص بان آخر ما خلق الله من خلقه آدم، وأن خلقه إياه كان في يوم الجمعة- إن يوم الجمعة الذي فرغ فيه من خلق خلقه داخل في الأيام الستة التي أخبر الله تعالى ذكره أنه خلق خلقه فيهن، لأن ذلك لو لم يكن داخلا في الأيام الستة كان إنما خلق خلقه في سبعة أيام، لا في ستة، وذلك خلاف ما جاء به التنزيل، فتبين إذا- إذ كان الأمر كالذي وصفنا في ذلك- أن أول الأيام التي ابتدأ الله فيها خلق السموات والارض وما فيهن من خلقه يوم الأحد، إذ كان الآخر يوم الجمعة، وذلك ستة أيام، كما قال ربنا جل جلاله. فأما الأخبار الواردة عن رسول الله ص وعن أصحابه بأن الفراغ من الخلق كان يوم الجمعة، فسنذكرها في مواضعها إن شاء الله تعالى

القول فيما خلق الله في كل يوم من الأيام السته التي ذكر الله في كتابه انه خلق فيهن السموات والارض وما بينهما

القول فيما خلق الله في كل يوم من الأيام السته التي ذكر الله في كتابه أنه خلق فيهن السموات والأرض وما بينهما اختلف السلف من أهل العلم في ذلك: فقال بعضهم ما حَدَّثَنِي به المثنى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ بَدَأَ الْخَلْقَ يَوْمَ الأَحَدِ، فَخَلَقَ الأَرَضِينَ فِي الأَحَدِ وَالاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الأَقْوَاتَ وَالرَّوَاسِي فِي الثُّلاثَاءِ وَالأَرْبِعَاءِ، وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ فِي الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ، وَفَرَغَ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَخَلَقَ فِيهَا آدَمَ عَلَى عَجَلٍ، فَتِلْكَ السَّاعَةُ الَّتِي تَقُومُ فِيهَا السَّاعَةُ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بن حماد، حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود- وعن ناس من أصحاب النبي ص قَالُوا: جَعَلَ- يَعْنُونَ رَبَّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى- سَبْعَ أَرَضِينَ فِي يَوْمَيْنِ: الأَحَدِ وَالاثْنَيْنِ، وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ، وَخَلَقَ الْجِبَالَ فِيهَا وأقوات أهلها، وشجرها وما ينبغي لها في يَوْمَيْنِ: فِي الثُّلاثَاءِ وَالأَرْبِعَاءِ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَجَعَلَهَا سَمَاءً وَاحِدَةً، ثُمَّ فَتَقَهَا فَجَعَلَهَا سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ: الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ. حَدَّثَنَا تَمِيمُ بْنُ الْمُنْتَصِرِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إسحاق، عن شريك، عن غالب ابن غَلابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ الأَحَدِ وَالاثْنَيْنِ. ففي قول هؤلاء خلقت الأرض قبل السماء، لأنها خلقت عندهم في الأحد والاثنين

وقال آخرون: خلق الله عز وجل الأرض قبل السماء بأقواتها من غير أن يدحوها، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، ثم دحا الأرض بعد ذلك. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ حَيْثُ ذَكَرَ خَلَقَ الأَرْضَ قَبْلَ السَّمَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ السَّمَاءَ قَبْلَ الأَرْضِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الأَرْضَ بِأَقْوَاتِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْحُوَهَا قَبْلَ السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَوَى إلى السماء فسواهن سبع سموات، ثم دحا الأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها» . حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَالْجِبالَ أَرْساها» ، يَعْنِي أَنَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ السَّمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ أَقْوَاتَ الأَرْضِ بَثَّ أَقْوَاتَ الأَرْضِ فِيهَا بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ، وارسى الجبال- يعنى بذلك دحوها- وَلَمْ تَكُنْ تَصْلُحْ أَقْوَاتُ الأَرْضِ وَنَبَاتُهَا إِلا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها» ، أَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّهُ قَالَ: «أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها» ؟ قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا ما قاله الذين قالوا: إن الله خلق الأرض يوم الأحد، وخلق السماء يوم الخميس، وخلق النجوم والشمس والقمر يوم الجمعة لصحة الخبر الذي ذكرنا قبل عن ابن عباس، عن رسول الله ص بذلك وغير مستحيل ما روينا في ذلك عن ابن عباس من القول، وهو أن يكون الله تعالى ذكره خلق الأرض ولم يدحها، ثم خلق السموات فسواهن، ثم دحا الأرض بعد ذلك، فأخرج منها ماءها

ومرعاها، والجبال أرساها، بل ذلك عندي هو الصواب من القول في ذلك، وذلك أن معنى الدحو غير معنى الخلق، وقد قال الله عز وجل: «أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها. وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَالْجِبالَ أَرْساها» . فإن قال قائل: فإنك قد علمت أن جماعة من أهل التأويل قد وجهت قول الله: «وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها» إلى معنى مع ذلك دحاها، فما برهانك على صحة ما قلت، من أن ذلك بمعنى بعد التي هي خلاف قبل؟ قيل: المعروف من معنى بعد في كلام العرب هو الذي قلنا من أنها بخلاف معنى قبل لا بمعنى مع، وإنما توجه معاني الكلام إلى الأغلب عليه من معانيه المعروفة في أهله، لا إلى غير ذلك. وقد قيل: إن الله خلق البيت العتيق على الماء على أربعة أركان، قبل أن يخلق الدنيا بألفي عام، ثم دحيت الأرض من تحته. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَضَعَ الْبَيْتَ على الماء على أربعة أركان، قبل أن يخلق الدنيا بألفي عام، ثم دحيت الأرض مِنْ تَحْتِ الْبَيْتِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَخْنَسِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الْبَيْتَ قَبْلَ الأَرْضِ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ، وَمِنْهُ دُحِيَتِ الأَرْضُ. وَإِذَا كَانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ خَلْقُ الأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ، وَدَحْوِ

الأَرْضِ وَهُوَ بَسْطُهَا بِأَقْوَاتِهَا وَمَرَاعِيهَا وَنَبَاتِهَا، بَعْدَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ، كَمَا ذَكَرْنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَدْ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مِهْرَانُ، عن ابن سِنَانٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، [قَالَ: جَاءَ الْيَهُودُ الى النبي ص فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنَا: مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الْخَلْقِ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ السِّتَّةِ؟ فَقَالَ: خَلَقَ الأَرْضَ يَوْمَ الأَحَدِ وَالاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْجِبَالَ يَوْمَ الثُّلاثَاءِ، وَخَلَقَ الْمَدَائِنَ وَالأَقْوَاتَ وَالأَنْهَارَ وَعُمْرَانَهَا وَخَرَابَهَا يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ، وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْمَلائِكَةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، إِلَى ثَلاثِ سَاعَاتٍ بَقِينَ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَخَلَقَ فِي أَوَّلِ الثَّلاثِ سَاعَاتٍ الآجَالَ، وَفِي الثَّانِيَةِ الآفَةَ، وَفِي الثَّالِثَةِ آدَمَ قَالُوا: صدقت ان اتممت، فعرف النبي ص مَا يُرِيدُونَ، فَغَضِبَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: «وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ] » . فإن قال قائل: فإن كان الأمر كما وصفت من أن الله تعالى خلق الأرض قبل السماء، فما معنى قول ابن عباس الذى حدثكموه واصل ابن عَبْدِ الأَعْلَى الأَسَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ شَيْءٍ الْقَلَمُ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، فَقَالَ: وَمَا أَكْتُبُ يَا رَبِّ؟ قَالَ: اكْتُبِ الْقَدَرَ، قَالَ: فَجَرَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، ثُمَّ رَفَعَ بُخَارَ الْمَاءِ فَفَتَقَ مِنْهُ السَّمَوَاتِ، ثُمَّ خَلَقَ النُّونَ، فَدُحِيَتِ الأَرْضُ عَلَى ظَهْرِهِ، فَاضْطَرَبَ النُّونُ، فَمَادَتِ الأَرْضُ فَأُثْبِتَتْ بِالْجِبَالِ، فَإِنَّهَا لَتَفْخَرُ عَلَى الارض

حَدَّثَنِي وَاصِلٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَلَمَ فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ، ثُمَّ رَفَعَ بُخَارَ الْمَاءِ، فَخُلِقَتْ مِنْهُ السَّمَوَاتُ، ثُمَّ خَلَقَ النُّونَ، فَبُسِطَتِ الأَرْضُ عَلَى ظهر النون، فتحرك النون، فمادت الارض فاثبت بالجبال، فان الْجِبَالَ لَتَفْخَرُ عَلَى الأَرْضِ قَالَ: وَقَرَأَ: «ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ» . حدثني تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عَنْ شَرِيكٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ- او مُجَاهِدٍ- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِنَحْوِهِ، إِلا أَنَّهُ قَالَ: فَفُتِقَتْ مِنْهُ السَّمَوَاتُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَلَمُ فَقَالَ: اكْتُبْ، فَقَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبِ الْقَدَرَ، قَالَ: فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ ثُمَّ خَلَقَ النُّونَ، وَرَفَعَ بُخَارَ الْمَاءِ فَفُتِقَتْ مِنْهُ السَّمَاءُ، وَبُسِطَتِ الأَرْضُ عَلَى ظَهْرِ النُّونِ، فَاضْطَرَبَ النُّونُ، فَمَادَتِ الأَرْضُ فَأُثْبِتَتْ بِالْجِبَالِ، قَالَ: فَإِنَّهَا لَتَفْخَرُ عَلَى الأَرْضِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوَّلُ شَيْءٍ خَلَقَ

اللَّهُ تَعَالَى الْقَلَمُ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، فَكَتَبَ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، ثُمَّ خَلَقَ النُّونَ فَوْقَ الْمَاءِ، ثُمَّ كَبَسَ الأَرْضَ عَلَيْهِ. قيل: ذلك صحيح على ما روي عنه وعن غيره من معنى ذلك مشروحا مفسرا غير مخالف شيئا مما رويناه عنه في ذلك. فإن قال: وما الذي روي عنه وعن غيره من شرح ذلك الدال على صحة كل ما رويت لنا في هذا المعنى عنه؟ قيل له: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْهَمْدَانِيُّ وَغَيْرُهُ، قَالُوا: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود- وعن ناس من اصحاب رسول الله ص «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ» قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَلَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا غَيْرَ مَا خَلَقَ قَبْلَ الْمَاءِ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ أَخْرَجَ مِنَ الْمَاءِ دُخَانًا فَارْتَفَعَ فَوْقَ الْمَاءِ، فَسَمَا عَلَيْهِ، فَسَمَّاهُ سَمَاءً، ثُمَّ أَيْبَسَ الْمَاءَ، فَجَعَلَهُ أَرْضًا وَاحِدَةً، ثُمَّ فَتَقَهَا فَجَعَلَهَا سَبْعَ أَرَضِينَ فِي يَوْمَيْنِ، فِي الأَحَدِ وَالاثْنَيْنِ، فَخَلَقَ الأَرْضَ عَلَى حُوتٍ- وَالْحُوتُ هُوَ النُّونُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقُرْآنِ: «ن وَالْقَلَمِ» - وَالْحُوتُ فِي الْمَاءِ، وَالْمَاءُ عَلَى ظَهْرِ صَفَاةٍ، وَالصَّفَاةُ عَلَى ظَهْرِ مَلَكٍ، وَالْمَلَكُ عَلَى صَخْرَةٍ، والصخرة على الرِّيحِ- وَهِيَ الصَّخْرَةُ الَّتِي ذَكَرَ لُقْمَانُ- لَيْسَتْ فِي السَّمَاءِ وَلا فِي الأَرْضِ، فَتَحَرَّكَ الْحُوتُ فَاضْطَرَبَ، فَتَزَلْزَلَتِ الأَرْضُ، فَأَرْسَى عَلَيْهَا الْجِبَالُ فَقَرَّتْ، فالجبال

تَفْخَرُ عَلَى الأَرْضِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ*» . قال أبو جعفر: فقد أنبأ قول هؤلاء الذين ذكرت: إن الله تعالى أخرج من الماء دخانا حين أراد أن يخلق السموات والأرض، فسما عليه- يعنون بقولهم: فسما عليه علا على الماء، وكل شيء كان فوق شيء عاليا عليه فهو له سماء- ثم أيبس بعد ذلك الماء، فجعله أرضا واحدة- إن الله خلق السماء غير مسواة قبل الأرض، ثم خلق الأرض. وإن كان الأمر كما قال هؤلاء، فغير محال أن يكون الله تعالى أثار من الماء دخانا فعلاه على الماء، فكان له سماء، ثم ايبس الماء فصار الدخان الذي سما عليه أرضا، ولم يدحها، ولم يقدر فيها أقواتها، ولم يخرج منها ماءها ومرعاها، حتى استوى إلى السماء، التي هي الدخان الثائر من الماء العالي عليه، فسواهن سبع سموات، ثم دحا الأرض التي كانت ماء فيبسه ففتقه، فجعلها سبع أرضين، وقدر فيها أقواتها، و «أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَالْجِبالَ أَرْساها» ، كما قال عز وجل فيكون كل الذي روي عن ابن عباس في ذلك- على ما رويناه- صحيحا معناه. وأما يوم الاثنين فقد ذكرنا اختلاف العلماء فيما خلق فيه، وما روي في ذلك عن رسول الله ص قبل. وأما ما خلق في يوم الثلاثاء والأربعاء، فقد ذكرنا أيضا بعض ما روي فيه، ونذكر في هذا الموضع بعض ما لم نذكر منه قبل. فالذي صح عندنا أنه خلق فيهما ما حَدَّثَنِي به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره

عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني، عن عبد الله بن مسعود- وعن ناس من أصحاب رسول الله ص: وخلق الجبال فيها- يعني في الأرض- وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين: في الثلاثاء والأربعاء، وذلك حين يقول الله عز وجل: «قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ» ، يقول: من سأل فهكذا الأمر، ثم استوى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ، وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس، فجعلها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين في الخميس والجمعة. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الأَقْوَاتَ وَالرَّوَاسِيَ فِي الثُّلاثَاءِ وَالأَرْبِعَاءِ. حَدَّثَنِي تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عن شَرِيكٍ، عَنْ غَالِبِ بْنِ غَلابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْجِبَالَ يَوْمَ الثُّلاثَاءِ فَذَلِكَ قَوْلُ النَّاسِ: هُوَ يَوْمٌ ثَقِيلٌ. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، ما رويناه [عن النبي ص، قال: إن الله تعالى خلق يوم الثلاثاء الجبال وما فيهن من المنافع، وخلق يوم الأربعاء الشجر، والماء، والمدائن، والعمران، والخراب] حَدَّثَنَا بِذَلِكَ هَنَّادٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ أبي سعد البقال، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي ص. وقد روى عن النبي ص أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْجِبَالَ يَوْمَ الأَحَدِ، وَالشَّجَرَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلاثَاءِ، وَالنُّورَ يوم الأربعاء،

حَدَّثَنِي به القاسم بن بشر بن معروف، والحسين بن علي الصدائي، قالا: حدثنا حجاج، قال ابن جريج: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي ص. والخبر الأول أصح مخرجا، وأولى بالحق، لأنه قول أكثر السلف. وأما يوم الخميس فإنه خلق فيه السموات، ففتقت بعد أن كانت رتقا، كما حَدَّثَنِي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود- وعن ناس من اصحاب النبي ص: «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ» ، وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس وجعلها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين، في الخميس والجمعة. وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض «وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها» قال: خلق في كل سماء خلقها من الملائكة، والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد وما لم يعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب، فجعلها زينة وحفظا، تحفظ من الشياطين، فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش فذلك حين يقول: «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ*» ، ويقول: «كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما» . حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ السَّمَوَاتِ فِي الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ، وَفَرَغَ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ،

فَخَلَقَ فِيهَا آدَمَ عَلَى عَجَلٍ، فَتِلْكَ السَّاعَةُ التي تقوم فيها الساعة. حدثني تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ غَالِبِ بْنِ غَلابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ مَوَاضِعَ الأَنْهَارِ والشجر يوم الأربعاء، وخلق الطير والوحوش وَالْهَوَامَّ وَالسِّبَاعَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ الإِنْسَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَفَرَغَ مِنْ خَلْقِ كُلِّ شَيْءٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وهذا الذي قاله من ذكرنا قوله، من أن الله عز وجل خلق السموات والملائكة وآدم في يوم الخميس والجمعة، هو الصحيح عندنا، للخبر الذي حَدَّثَنَا بِهِ هَنَّادُ بن السري قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ أبي سعد البقال، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي ص- قَالَ: هَنَّادٌ، وَقَرَأْتُ سَائِرَ الْحَدِيثِ- قَالَ: وَخَلَقَ يَوْمَ الْخَمِيسِ السَّمَاءَ، وَخَلَقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ النُّجُومَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْمَلائِكَةَ إِلَى ثَلاثِ سَاعَاتٍ بَقِيَتْ مِنْهُ، فَخَلَقَ فِي أَوَّلِ سَاعَةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلاثِ سَاعَاتِ الآجَالَ، مَنْ يَحْيَا وَمَنْ يَمُوتُ، وَفِي الثَّانِيَةِ أَلْقَى الآفَةَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ، وَفِي الثَّالِثَةِ آدَمَ وَأَسْكَنَهُ الْجَنَّةَ، وَأَمَرَ إِبْلِيسَ بِالسُّجُودِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا فِي آخِرِ سَاعَةٍ. حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ بِشْرِ بن معروف، والحسين بن علي الصدائي، قالا: حدثنا حجاج، قال ابن جريج: أخبرني إسماعيل بن اميه، عن أيوب ابن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: [أَخَذَ رسول الله ص بِيَدِي فَقَالَ: وَبَثَّ فِيهَا- يَعْنِي فِي الأَرْضِ- الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ آخِرَ خَلْقٍ فِي آخِرِ سَاعَةٍ، مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ الى الليل] . فإذا كان الله تعالى ذكره خلق الخلق من لدن ابتداء خلق السموات والأرض إلى حين فراغه من خلق جميعهم في ستة أيام، وكان كل يوم من

الأيام الستة التي خلقهم فيها مقداره ألف سنة من أيام الدنيا، وكان بين ابتدائه في خلق ذلك وخلق القلم الذي أمره بكتابه كل ما هو كائن إلى قيام الساعة ألف عام، وذلك يوم من أيام الآخرة التي قدر اليوم الواحد منها ألف عام من أيام الدنيا- كان معلوما أن قدر مدة ما بين أول ابتداء ربنا عز وجل في خلق ما خلق من خلقه إلى الفراغ من آخرهم سبعة آلاف عام يزيد إن شاء الله شيئا أو ينقص شيئا، على ما قد روينا من الآثار والأخبار التي ذكرناها، وتركنا ذكر كثير منها كراهة إطالة الكتاب بذكرها. وإذا كان ذلك كذلك، وكان صحيحا أن مدة ما بين فراغ ربنا تعالى ذكره- من خلق جميع خلقه إلى وقت فناء جميعهم بما قد دللنا قبل، واستشهدنا من الشواهد، وبما سنشرح فيما بعد- سبعة آلاف سنة، تزيد قليلا أو تنقص قليلا- كان معلوما بذلك أن مدة ما بين أول خلق خلقه الله تعالى إلى قيام الساعة وفناء جميع العالم، أربعة عشر ألف عام من أعوام الدنيا، وذلك أربعة عشر يوما من أيام الآخرة، سبعة أيام من ذلك- وهي سبعة آلاف عام من أعوام الدنيا- مدة ما بين أول ابتداء الله جل وتقدس في خلق أول خلقه إلى فراغه من خلق آخرهم- وهو آدم ابو البشر ص، وسبعة أيام أخر، وهي سبعة آلاف عام من أعوام الدنيا، من ذلك مدة ما بين فراغه جل ثناؤه من خلق آخر خلقه- وهو آدم- إلى فناء آخرهم وقيام الساعة، وعود الأمر إلى ما كان عليه قبل أن يكون شيء غير القديم البارئ الذي له الخلق والأمر الذي كان قبل كل شيء، فلا شيء كان قبله، والكائن بعد كل شيء فلا شيء يبقى غير وجهه الكريم. فإن قال قائل: وما دليلك على أن الأيام الستة التي خلق الله فيهن خلقه كان قدر كل يوم منهن قدر ألف عام من أعوام الدنيا دون أن يكون ذلك

كأيام أهل الدنيا التي يتعارفونها بينهم، وإنما قال الله عز وجل في كتابه: «الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ*» ، فلم يعلمنا أن ذلك كما ذكرت، بل أخبرنا أنه خلق ذلك في ستة أيام، والأيام المعروفة عند المخاطبين بهذه المخاطبة هي أيامهم التي أول اليوم منها طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ومن قولك: إن خطاب الله عباده بما خاطبهم به في تنزيله إنما هو موجه إلى الأشهر والأغلب عليه من معانيه، وقد وجهت خبر الله في كتابه عن خلقه السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام إلى غير المعروف من معاني الأيام، وأمر الله عز وجل إذا أراد شيئا أن يكونه أنفذ وأمضى من أن يوصف بأنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، مقدارهن ستة آلاف عام من أعوام الدنيا، وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له: كن فيكون، وذلك كما قال ربنا تبارك وتعالى: «وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» ؟ قيل له: قد قلنا فيما تقدم من كتابنا هذا إنا إنما نعتمد في معظم ما نرسمه في كتابنا هذا على الآثار والاخبار عن نبينا ص وعن السلف الصالحين قبلنا دون الاستخراج بالعقول والفكر، إذ أكثره خبر عما مضى من الأمور، وعما هو كائن من الأحداث، وذلك غير مدرك علمه بالاستنباط الاستخراج بالعقول: فإن قال: فهل من حجة على صحة ذلك من جهة الخبر؟ قيل: ذلك ما لا نعلم قائلا من أئمة الدين قال خلافه. فإن قال: فهل من رواية عن أحد منهم بذلك؟ قيل: علم ذلك عند أهل العلم من السلف كان أشهر من أن يحتاج فيه إلى رواية منسوبة إلى شخص منهم بعينه، وقد روي ذلك عن جماعة منهم مسمين بأعيانهم

فإن قال: فاذكرهم لنا. قيل: حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا حكام: عن عنبسة، عن سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خلق الله السموات والأرض في ستة أيام، فَكُلُّ يَوْمٍ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ أَنْتُمْ حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» . قَالَ: السِّتَّةُ الأَيَّامُ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ. حَدَّثَنَا عبدة، حَدَّثَنِي الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: «فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» : يعني هذا اليوم من الأيام الستة التي خلق الله فيهن السموات والأرض وما بينهما. حَدَّثَنِي المثنى، حَدَّثَنَا علي، عن المسيب بن شريك، عن أبي روق، عن الضحاك: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» . قال: من ايام الآخرة، كل يوم كان مقداره ألف سنة، ابتدأ في الخلق يوم الأحد، واجتمع الخلق يوم الجمعة. حَدَّثَنَا ابن حميد قَالَ: حَدَّثَنَا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح: عن كعب، قال: بدأ الله خلق السموات والأرض يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وفرغ منها يوم الجمعة، قال: فجعل مكان كل يوم ألف سنة

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ، حَدَّثَنَا أَبُو عوانة، عن أبي بشر، عن مجاهد، قال: يَوْمٌ مِنَ السِّتَّةِ الأَيَّامِ، كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ. فهذا هذا وبعد، فلا وجه لقول قائل: وكيف يوصف الله تعالى ذكره بأنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام قدر مدتها من أيام الدنيا ستة آلاف سنة، وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له: كن فيكون، لأنه لا شيء يتوهمه متوهم في قول قائل ذلك إلا وهو موجود في قول قائل: خلق ذلك كله في ستة أيام مدتها مدة ستة أيام من أيام الدنيا، لأن أمره جل جلاله إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون

القول في الليل والنهار أيهما خلق قبل صاحبه

القول في الليل والنهار أيهما خلق قبل صاحبه وفي بدء خلق الشمس والقمر وصفتهما إذ كانت الأزمنة بهما تعرف قد قلنا في خلق الله عز ذكره ما خلق من الأشياء قبل خلقه الأوقات والأزمنة، وبيَّنَّا أن الأوقات والأزمنة إنما هي ساعات الليل والنهار، وأن ذلك إنما هو قطع الشمس والقمر درجات الفلك، فلنقل الآن: بأي ذلك كان الابتداء، بالليل أم بالنهار؟ إذ كان الاختلاف في ذلك موجودا بين ذوي النظر فيه، بأن بعضهم يقول فيه: خلق الله الليل قبل النهار، ويستشهد على حقيقة قوله ذلك بأن الشمس إذا غابت وذهب ضوءها الذي هو نهار هجم الليل بظلامه، فكان معلوما بذلك أن الضياء هو المتورد على الليل، وأن الليل إن لم يبطله النهار المتورد عليه هو الثابت، فكان بذلك من أمرهما دلالة على أن الليل هو الأول خلقا، وأن الشمس هو الآخر منهما خلقا، وهذا قول يروى عن ابن عباس. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سُئِلَ: هَلِ اللَّيْلُ كَانَ قَبْلَ النَّهَارِ؟. قَالَ: أَرَأَيْتُمْ حِينَ كَانَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ رَتْقًا، هَلْ كَانَ بَيْنَهُمَا إِلا ظُلْمَةٌ! ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّيْلَ كَانَ قَبْلَ النَّهَارِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ اللَّيْلَ قَبْلَ النَّهَارِ، ثُمَّ قال: «كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما» . حَدَّثَنَا محمد بن بشار، قال: حَدَّثَنَا وهب بن جرير، حَدَّثَنَا أبي، قال: سمعت يحيى بن أيوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد

ابن عبد الله اليزني، قال: لم يكن عقبة بن عامر إذا رأى الهلال- هلال رمضان- يقوم تلك الليلة حتى يصوم يومها، ثم يقوم بعد ذلك فذكرت ذلك لابن حجيرة فقال: الليل قبل النهار أم النهار قبل الليل؟ وقال آخرون: كان النهار قبل الليل، واستشهدوا لصحة قولهم هذا بأن الله عز ذكره كان ولا ليل ولا نهار ولا شيء غيره، وأن نوره كان يضيء به كل شيء خلقه بعد ما خلقه حتى خلق الليل. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ بِلالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ الزُّبَيْرِ أَبِي عَبْدِ السَّلامِ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْفِهْرِيِّ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ عِنْدَهُ لَيْلٌ وَلا نَهَارٌ، نُورُ السَّمَوَاتِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ، وَإِنَّ مِقْدَارَ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِكُمْ هَذِهِ عِنْدَهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: كان الليل قبل النهار، لأن النهار هو ما ذكرت من ضوء الشمس، وإنما خلق الله الشمس وأجراها في الفلك بعد ما دحا الأرض فبسطها، كما قال عز وجل: «أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها» ، فإذا كانت الشمس خلقت بعد ما سمكت السماء، وأغطش ليلها، فمعلوم أنها كانت- قبل أن تخلق الشمس، وقبل أن يخرج الله من السماء ضحاها- مظلمة لا مضيئة. وبعد، فإن في مشاهدتنا من أمر الليل والنهار ما نشاهده دليلا بَيِّنًا

على أن النهار هو الهاجم على الليل لأن الشمس متى غابت فذهب ضوءها ليلا او نهارا أظلم الجو، فكان معلوما بذلك أن النهار هو الهاجم على الليل بضوئه ونوره والله أعلم. فأما القول في بدء خلقهما فإن الخبر عن رسول الله ص بوقت خلق الله الشمس والقمر مختلف. فأما ابْنِ عَبَّاسٍ فروي عنه أنه قال: خلق الله يوم الجمعة الشمس والقمر والنجوم والملائكة إلى ثلاث ساعات بقيت منه، حَدَّثَنَا بذلك هناد بن السري، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ أبي سعد البقال، عن عكرمه، عن ابن عباس، عن النبي ص. [وروى ابو هريرة عن النبي ص أنه قال: خلق الله النور يوم الأربعاء،] حَدَّثَنِي بِذَلِكَ الْقَاسِمُ بْنُ بِشْرٍ وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالا: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع، عن ابى هريرة، عن النبي ص. وأي ذلك كان، فقد خلق الله قبل خلقه إياهما خلقا كثيرا غيرهما، ثم خلقهما عز وجل لما هو أعلم به من مصلحة خلقه، فجعلهما دائبي الجري، ثم فصل بينهما، فجعل إحداهما آية الليل، والأخرى أية النهار، فمحا آية الليل، وجعل آية النهار مبصره وقد روى عن رسول الله ص في سبب اختلاف حالتي آية الليل وآية النهار أخبار أنا ذاكر منها بعض ما حضرني ذكره وعن جماعة من السلف أيضا نحو ذلك. فمما روى عن رسول الله ص في ذلك، ما حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ الآملي، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ وَاصِلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ

صُبْحٍ أَبُو نُعَيْمٍ الْبَلْخِيُّ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، قَالَ: كُنْتُ آخُذُ بِيَدِ رسول الله ص وَنَحْنُ نَتَمَاشَى جَمِيعًا نَحْوَ الْمَغْرِبِ، وَقَدْ طَفَلَتِ الشَّمْسُ، فَمَا زِلْنَا نَنْظُرُ إِلَيْهَا حَتَّى غَابَتْ، [قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ تَغْرُبُ؟ قَالَ: تَغْرُبُ فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ تُرْفَعُ مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ حَتَّى تُرْفَعَ إِلَى السَّمَاءِ السابعة العليا، حتى تكون تحت العرش، فتخر سَاجِدَةً، فَتَسْجُدُ مَعَهَا الْمَلائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِهَا، ثُمَّ تَقُولُ: يَا رَبِّ، مِنْ أَيْنَ تَأْمُرُنِي أَنْ أَطْلُعَ، أَمِنْ مَغْرِبِي أَمْ مِنْ مَطْلَعِي؟ قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها» حَيْثُ تُحْبَسُ تَحْتَ الْعَرْشِ، «ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» قال: يعنى ب ذَلِكَ صُنْعُ الرَّبِّ الْعَزِيزِ فِي مُلْكِهِ الْعَلِيمِ بخلقه قال: فيأتيها جبرئيل بحلة ضوء من نور العرش، على مقادير ساعات النهار، في طوله في الصيف، أو قصره في الشتاء، أو ما بين ذلك في الخريف والربيع قال: فتلبس تلك الحلة كما يلبس احدكم ثيابه، ثم تنطلق بها في جو السماء حتى تطلع من مطلعها، قال النبي ص: فكأنها قد حبست مقدار ثلاث ليال ثم لا تكسى ضوءا، وتؤمر أن تطلع من مغربها، فذلك قوله عز وجل: «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» . قال: والقمر كذلك في مطلعه ومجراه في أفق السماء ومغربه وارتفاعه إلى السماء السابعة العليا، ومحبسه تحت العرش وسجوده واستئذانه، ولكن جبرائيل ع يأتيه بالحلة من نور الكرسي قال: فذلك قوله عز وجل: «جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً] » قال أبو ذر: ثم عدلت مع رسول الله ص

فصلينا المغرب فهذا الخبر عن رسول الله ينبئ أن سبب اختلاف حالة الشمس والقمر إنما هو أن ضوء الشمس من كسوة كسيتها من ضوء العرش، وأن نور القمر من كسوة كسيها من نور الكرسي فأما الخبر الآخر الذي يدل على غير هذا المعنى، فما حدثنى محمد ابن أَبِي مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ وَاصِلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: بَيْنَا ابْنِ عَبَّاسٍ ذَاتَ يَوْمٍ جَالِسٌ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يا بن عَبَّاسٍ، سَمِعْتُ الْعَجَبَ مِنْ كَعْبٍ الْحَبْرِ يَذْكُرُ فِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ قَالَ: وَكَانَ مُتَّكِئًا فَاحْتَفَزَ ثُمَّ قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: زَعَمَ أَنَّهُ يُجَاءُ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا ثَوْرَانِ عَقِيرَانِ، فَيُقْذَفَانِ فِي جَهَنَّمَ قَالَ عِكْرِمَةُ: فَطَارَتْ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ شِقَّةٌ وَوَقَعَتْ أُخْرَى غَضَبًا، ثُمَّ قَالَ: كَذَبَ كَعْبٌ! كَذَبَ كَعْبٌ! كَذَبَ كَعْبٌ! ثَلاثَ مَرَّاتٍ، بَلْ هَذِهِ يَهُودِيَّةٌ يُرِيدُ إِدْخَالَهَا فِي الإِسْلامِ، اللَّهُ أَجَلُّ وَأَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُعَذِّبَ عَلَى طَاعَتِهِ، أَلَمْ تَسْمَعْ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتعَالَى: «وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ» ، إِنَّمَا يَعْنِي دءوبِهِمَا فِي الطَّاعَةِ، فَكَيْفَ يُعَذِّبُ عَبْدَيْنِ يُثْنِي عَلَيْهِمَا، أَنَّهُمَا دَائِبَانِ فِي طَاعَتِهِ! قَاتَلَ اللَّهُ هَذَا الْحَبْرَ وَقَبَّحَ حَبْرِيَّتَهُ! مَا أَجْرَأَهُ عَلَى اللَّهِ وَأَعْظَمَ فِرْيَتِهِ عَلَى هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ الْمُطِيعَيْنِ لِلَّهِ! قَالَ: ثُمَّ اسْتَرْجَعَ مِرَارًا، وَأَخَذَ عُوَيْدًا مِنَ الأَرْضِ، فَجَعَلَ يَنْكُتُهُ فِي الأَرْضِ، فَظَلَّ كَذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ انه رفع راسه، ورمى بالعويد [فقال: أَلا أُحَدِّثُكُمْ بِمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص، يَقُولُ فِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَبَدْءِ خَلْقِهِمَا وَمَصِيرُ أَمْرِهِمَا؟ فَقُلْنَا: بَلَى رَحِمَكَ اللَّهُ! فَقَالَ: إِنَّ رسول الله ص سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا أَبْرَمَ خَلْقَهُ إِحْكَامًا فَلَمْ يَبْقَ مِنْ خَلْقِهِ غَيْرُ آدَمَ خَلَقَ شَمْسَيْنِ مِنْ نُورِ عَرْشِهِ، فَأَمَّا مَا كَانَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ أَنَّهُ يَدَعُهَا شَمْسًا، فَإِنَّهُ خَلَقَهَا مِثْلَ الدُّنْيَا مَا بَيْنَ مَشَارِقِهَا وَمَغَارِبِهَا،

وَأَمَّا مَا كَانَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ أَنَّهُ يَطْمِسُهَا وَيُحَوِّلُهَا قَمَرًا، فَإِنَّهُ دُونَ الشَّمْسِ فِي الْعِظَمِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا يُرَى صِغَرُهُمَا مِنْ شِدَّةِ ارْتِفَاعِ السَّمَاءِ وَبُعْدِهَا مِنَ الأَرْضِ. قَالَ: فَلَوْ تَرَكَ اللَّهُ الشَّمْسَيْنِ كَمَا كَانَ خَلَقَهُمَا فِي بَدْءِ الأَمْرِ لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ اللَّيْلُ مِنَ النَّهَارِ، وَلا النَّهَارُ مِنَ اللَّيْلِ، وَكَانَ لا يَدْرِي الأَجِيرُ إِلَى مَتَى يَعْمَلُ، وَمَتَى يَأْخُذُ أَجْرَهُ وَلا يَدْرِي الصَّائِمُ إِلَى مَتَى يَصُومُ، وَلا تَدْرِي الْمَرْأَةُ كَيْفَ تَعْتَدُّ، وَلا يَدْرِي الْمُسْلِمُونَ مَتَى وَقْتُ الْحَجِّ، وَلا يَدْرِي الدُّيَّانُ مَتَى تَحِلُّ دُيُونُهُمْ، وَلا يَدْرِي النَّاسُ مَتَى يَنْصَرِفُونَ لِمَعَايِشِهِمْ، وَمَتَى يَسْكُنُونَ لِرَاحَةِ أَجْسَادِهِمْ. وَكَانَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ أَنْظَرَ لِعِبَادِهِ وَأَرْحَمَ بِهِمْ، فأرسل جبرئيل ع فَأَمَرَ جِنَاحه على وجه القمر- وهو يومئذ شمس- ثلاث مرات، فطمس عنه الضوء، وبقي فيه النور، فذلك قوله عز وجل: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً» قال: فالسواد الذي ترونه في القمر شبه الخطوط فيه فهو أثر المحو ثم خلق الله للشمس عجلة من ضوء نور العرش لها ثلاثمائة وستون عروه، ووكل بالشمس وعجلتها ثلاثمائة وستين ملكا من الملائكة من أهل السماء الدنيا، قد تعلق كل ملك منهم بعروة من تلك العرا، ووكل بالقمر وعجلته ثلاثمائة وستين ملكا من الملائكة من أهل السماء، قد تعلق بكل عروه من تلك العرا ملك منهم. ثم قال: وخلق الله لهما مشارق ومغارب في قطري الأرض وكنفي السماء ثمانين ومائة عين في المغرب، طينة سوداء، فذلك قوله عز وجل: «وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ» انما يعنى حماه سوداء من طين، وثمانين ومائة عين في

المشرق مثل ذلك طينة سوداء تفور غليا كغلي القدر إذا ما اشتد غليها قال: فكل يوم وكل ليله لها مطلع جديد ومغرب جديد، ما بين أولها مطلعا، وآخرها مغربا أطول ما يكون النهار في الصيف إلى آخرها مطلعا، وأولها مغربا أقصر ما يكون النهار في الشتاء، فذلك قوله تعالى: «رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ» يعنى آخرها هاهنا وآخرها ثم، وترك ما بين ذلك من المشارق والمغارب، ثم جمعهما فقال: «بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ» ، فذكر عدة تلك العيون كلها. قال: وخلق الله بحرا، فجرى دون السماء مقدار ثلاث فراسخ، وهو موج مكفوف قائم في الهواء بأمر الله عز وجل لا يقطر منه قطرة، والبحار كلها. ساكنة، وذلك البحر جار في سرعة السهم ثم انطلاقه في الهواء مستويا، كأنه حبل ممدود ما بين المشرق والمغرب، فتجري الشمس والقمر والخنس في لجة غمر ذلك البحر، فذلك قوله تعالى: «كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ*» ، والفلك دوران العجلة في لجة غمر ذلك البحر والذي نفس محمد بيده، لو بدت الشمس من ذلك البحر لأحرقت كل شيء في الأرض، حتى الصخور والحجارة، ولو بدا القمر من ذلك لافتتن أهل الأرض حتى يعبدوه من دون الله، إلا من شاء الله أن يعصم من أوليائه. قال ابْنُ عَبَّاسٍ: فقال عَلِيّ بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ذكرت مجرى الخنس مع الشمس والقمر، وقد أقسم الله بالخنس في القرآن إلى ما كان من ذكرك، فما الخنس؟ قال: يا علي، هن خمسة كواكب: البرجيس، وزحل، وعطارد، وبهرام، والزهرة،

فهذه الكواكب الخمسة الطالعات الجاريات، مثل الشمس والقمر، العاديات معهما، فأما سائر الكواكب فمعلقات من السماء كتعليق القناديل من المساجد، وهي تحوم مع السماء دورانا بالتسبيح والتقديس والصلاة لله، ثم قال النبي ص: فإن أحببتم أن تستبينوا ذلك، فانظروا إلى دوران الفلك مره هاهنا ومره هاهنا، فذلك دوران السماء، ودوران الكواكب معها كلها سوى هذه الخمسة، ودورانها اليوم كما ترون، وتلك صلاتها، ودورانها إلى يوم القيامة في سرعة دوران الرحا من أهوال يوم القيامة وزلازله، فذلك قوله عز وجل: «ْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً. فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» . قال: فإذا طلعت الشمس فإنها تطلع من بعض تلك العيون على عجلتها ومعها ثلاثمائة وستون ملكا ناشري أجنحتهم، يجرونها في الفلك بالتسبيح والتقديس والصلاة لله على قدر ساعات الليل وساعات النهار ليلا كان أو نهارا، فإذا أحب الله أن يبتلي الشمس والقمر فيري العباد آية من الآيات فيستعتبهم رجوعا عن معصيته وإقبالا على طاعته، خرت الشمس من العجلة فتقع في غمر ذلك البحر وهو الفلك، فإذا أحب الله أن يعظم الآية ويشدد تخويف العباد وقعت الشمس كلها فلا يبقى منها على العجلة شيء، فذلك حين يظلم النهار وتبدو النجوم، وهو المنتهى من كسوفها فإذا أراد أن يجعل آية دون آية وقع منها النصف أو الثلث أو الثلثان في الماء، ويبقى سائر ذلك على العجلة، فهو كسوف دون كسوف، وبلاء للشمس أو للقمر، وتخويف للعباد، واستعتاب من الرب عز وجل، فأي ذلك كان صارت الملائكة الموكلون بعجلتها فرقتين: فرقة منها يقبلون على الشمس فيجرونها نحو العجلة، والفرقة الأخرى

يقبلون على العجلة فيجرونها نحو الشمس، وهم في ذلك يقرونها في الفلك بالتسبيح والتقديس والصلاة لله على قدر ساعات النهار أو ساعات الليل، ليلا كان أو نهارا، في الصيف كان ذلك أو في الشتاء، أو ما بين ذلك في الخريف والربيع، لكيلا يزيد في طولهما شيء، ولكن قد ألهمهم الله علم ذلك، وجعل لهم تلك القوة، والذي ترون من خروج الشمس أو القمر بعد الكسوف قليلا قليلا، من غمر ذلك البحر الذي يعلوهما، فإذا أخرجوها كلها اجتمعت الملائكة كلهم، فاحتملوها حتى يضعوها على العجلة، فيحمدون الله على ما قواهم لذلك، ويتعلقون بعرا العجلة، ويجرونها في الفلك بالتسبيح والتقديس والصلاة لله حتى يبلغوا بها المغرب، فإذا بلغوا بها المغرب أدخلوها تلك العين، فتسقط من أفق السماء في العين. ثم قال النبي ص، وعجب من خلق الله: وللعجب من القدرة فيما لم نر أعجب من ذلك، وذلك قول جبرئيل ع لساره: «أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ» وذلك أن الله عز وجل خلق مدينتين: إحداهما بالمشرق والأخرى بالمغرب، أهل المدينة التي بالمشرق من بقايا عاد من نسل مؤمنيهم، وأهل التي بالمغرب من بقايا ثمود من نسل الذين آمنوا بصالح، اسم التي بالمشرق بالسريانية مرقيسيا وبالعربية جابلق واسم التي بالمغرب بالسريانية برجيسيا وبالعربية جابرس ولكل مدينة منهما عشرة آلاف باب، ما بين

كل بابين فرسخ، ينوب كل يوم على كل باب من أبواب هاتين المدينتين عشرة آلاف رجل من الحراسة، عليهم السلاح، لا تنوبهم الحراسة بعد ذلك إلى يوم ينفخ في الصور، فو الذى نفس محمد بيده، لولا كثرة هؤلاء القوم وضجيج أصواتهم لسمع الناس من جميع أهل الدنيا هدة وقعة الشمس حين تطلع وحين تغرب، ومن ورائهم ثلاث أمم: منسك، وتافيل، وتاريس، ومن دونهم يأجوج وماجوج. وان جبرئيل ع انطلق بي اليهم ليله اسرى بي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فدعوت يأجوج ومأجوج إلى عبادة الله عز وجل فأبوا أن يجيبوني، ثم انطلق بي إلى أهل المدينتين، فدعوتهم إلى دين الله عز وجل والى عبادته فأجابوا وأنابوا، فهم في الدين إخواننا، من أحسن منهم فهو مع محسنكم، ومن أساء منهم فأولئك مع المسيئين منكم ثم انطلق بي إلى الأمم الثلاث، فدعوتهم إلى دين الله وإلى عبادته فأنكروا ما دعوتهم إليه، فكفروا بالله عز وجل وكذبوا رسله، فهم مع يأجوج ومأجوج وسائر من عصى الله في النار، فإذا ما غربت الشمس رفع بها من سماء إلى سماء في سرعة طيران الملائكة، حتى يبلغ بها إلى السماء السابعة العليا، حتى تكون تحت العرش فتخر ساجده، وتسجد معها الملائكة الموكلون بها، فيحدر بها من سماء إلى سماء، فإذا وصلت إلى هذه السماء فذلك حين ينفجر الفجر، فإذا انحدرت من بعض تلك العيون، فذاك حين يضيء الصبح، فإذا وصلت إلى هذا الوجه من السماء فذاك حين يضيء النهار. قال: وجعل الله عند المشرق حجابا من الظلمة على البحر السابع، مقدار

عدة الليالي منذ يوم خلق الله الدنيا إلى يوم تصرم، فإذا كان عند الغروب أقبل ملك قد وكل بالليل فيقبض قبضة من ظلمة ذلك الحجاب، ثم يستقبل المغرب، فلا يزال يرسل من الظلمة من خلل اصابته قليلا قليلا وهو يراعي الشفق، فإذا غاب الشفق أرسل الظلمة كلها ثم ينشر جناحيه، فيبلغان قطري الأرض وكنفي السماء، ويجاوزان ما شاء الله عز وجل خارجا في الهواء، فيسوق ظلمة الليل بجناحيه بالتسبيح والتقديس والصلاة لله حتى يبلغ المغرب، فإذا بلغ المغرب انفجر الصبح من المشرق، فضم جناحيه، ثم يضم الظلمة بعضها إلى بعض بكفيه، ثم يقبض عليها بكف واحدة نحو قبضته إذا تناولها من الحجاب بالمشرق، فيضعها عند المغرب على البحر السابع من هناك ظلمة الليل فإذا ما نقل ذلك الحجاب من المشرق إلى المغرب نفخ في الصور، وانقضت الدنيا، فضوء النهار من قبل المشرق، وظلمة الليل من قبل ذلك الحجاب، فلا تزال الشمس والقمر كذلك من مطالعهما إلى مغاربهما إلى ارتفاعهما، إلى السماء السابعة العليا، إلى محبسهما تحت العرش، حتى يأتي الوقت الذي ضرب الله لتوبة العباد، فتكثر المعاصي في الأرض ويذهب المعروف، فلا يأمر به أحد، ويفشو المنكر فلا ينهى عنه أحد. فإذا كان ذلك حبست الشمس مقدار ليلة تحت العرش، فكلما سجدت واستأذنت: من أين تطلع؟ لم يحر إليها جواب، حتى يوافيها القمر ويسجد معها، ويستأذن: من أين يطلع؟ فلا يحار إليه جواب، حتى يحبسهما مقدار ثلاث ليال للشمس، وليلتين للقمر، فلا يعرف طول تلك الليلة إلا المتهجدون في الأرض، وهم حينئذ عصابة قليلة في كل بلدة من بلاد المسلمين، في هو ان من الناس وذلة من أنفسهم، فينام أحدهم تلك الليلة قدر ما كان ينام قبلها من الليالي، ثم يقوم فيتوضأ ويدخل مصلاه فيصلي ورده، كما كان يصلي

قبل ذلك، ثم يخرج فلا يرى الصبح، فينكر ذلك ويظن فيه الظنون من الشر ثم يقول: فلعلي خففت قراءتي، أو قصرت صلاتي، أو قمت قبل حيني!] [قال: ثم يعود أيضا فيصلي ورده كمثل ورده، الليلة الثانية، ثم يخرج فلا يرى الصبح، فيزيده ذلك إنكارا، ويخالطه الخوف، ويظن في ذلك الظنون من الشر، ثم يقول: فلعلي خففت قراءتي، أو قصرت صلاتي، أو قمت من أول الليل! ثم يعود أيضا الثالثة وهو وجل مشفق لما يتوقع من هول تلك الليلة، فيصلي أيضا مثل ورده، الليلة الثالثة، ثم يخرج فإذا هو بالليل مكانه والنجوم قد استدارت وصارت إلى مكانها من أول الليل فيشفق عند ذلك شفقة الخائف العارف بما كان يتوقع من هول تلك الليلة فيستلحمه الخوف، ويستخفه البكاء، ثم ينادي بعضهم بعضا، وقبل ذلك كانوا يتعارفون ويتواصلون، فيجتمع المتهجدون من أهل كل بلدة إلى مسجد من مساجدها، ويجأرون إلى الله عز وجل بالبكاء والصراخ بقية تلك الليلة، والغافلون في غفلتهم، حتى إذا ما تم لهما مقدار ثلاث ليال للشمس وللقمر ليلتين، أتاهما جبرئيل فيقول: ان الرب عز وجل يأمر كما أن ترجعا إلى مغاربكما فتطلعا منها، وأنه لا ضوء لكما عندنا ولا نور قال: فيبكيان عند ذلك بكاء يسمعه أهل سبع سموات من دونهما وأهل سرادقات العرش وحملة العرش من فوقهما، فيبكون لبكائهما مع ما يخالطهم من خوف الموت، وخوف يوم القيامة. قال: فبينا الناس ينتظرون طلوعهما من المشرق إذا هما قد طلعا خلف أقفيتهم من المغرب أسودين مكورين كالغرارتين، ولا ضوء للشمس ولا نور للقمر، مثلهما في كسوفهما قبل ذلك، فيتصايح أهل الدنيا وتذهل الأمهات عن أولادها، والأحبة عن ثمرة قلوبها، فتشتغل كل نفس بما أتاها قال: فأما الصالحون والأبرار فإنه ينفعهم بكاؤهم يومئذ، ويكتب ذلك لهم عبادة. وأما الفاسقون والفجار فإنه لا ينفعهم بكاؤهم يومئذ، ويكتب ذلك عليهم خسارة قال: فيرتفعان مثل البعيرين القرينين، ينازع كل واحد منهما

صاحبه استباقا، حتى إذا بلغا سرة السماء- وهو منصفها- أتاهما جبرئيل فأخذ بقرونهما ثم ردهما إلى المغرب، فلا يغربهما في مغاربهما من تلك العيون، ولكن يغربهما في باب التوبة. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنا وأهلي فداؤك يا رسول الله! فما باب التوبة؟ قال: يا عمر، خلق الله عز وجل بابا للتوبة خلف المغرب، مصراعين من ذهب، مكللا بالدر والجوهر، ما بين المصراع إلى المصراع الآخر مسيرة أربعين عاما للراكب المسرع، فذلك الباب مفتوح منذ خلق الله خلقه إلى صبيحة تلك الليلة عند طلوع الشمس والقمر من مغاربهما، ولم يتب عبد من عباد الله توبة نصوحا من لدن آدم إلى صبيحة تلك الليلة إلا ولجت تلك التوبة في ذلك الباب، ثم ترفع إلى الله عز وجل قال معاذ بن جبل: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! وما التوبة النصوح؟ قال: أن يندم المذنب على الذنب الذي أصابه فيعتذر إلى الله ثم لا يعود إليه، كما لا يعود اللبن إلى الضرع قال: فيرد جبرئيل بالمصراعين فيلأم بينهما ويصيرهما كأنه لم يكن فيما بينهما صدع قط، فإذا اغلق باب التوبة لم يقبل بعد ذلك توبة، ولم ينفع بعد ذلك حسنة يعملها في الإسلام إلا من كان قبل ذلك محسنا، فإنه يجري لهم وعليهم بعد ذلك ما كان يجري قبل ذلك، قال فذلك قوله عز وجل: «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً» . فقال أُبي بن كعب: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فكيف بالشمس والقمر بعد ذلك! وكيف بالناس والدنيا! فقال: يا أبي، إن الشمس والقمر

بعد ذلك يكسيان النور والضوء، ويطلعان على الناس ويغربان كما كانا قبل ذلك، وأما الناس فإنهم نظروا إلى ما نظروا إليه من فظاعة الآية، فيلحون على الدنيا حتى يجروا فيها الأنهار، ويغرسوا فيها الشجر، ويبنوا فيها البنيان وأما الدنيا فإنه لو أنتج رجل مهرا لم يركبه من لدن طلوع الشمس من مغربها إلى يوم ينفخ في الصور. فقال حذيفة بن اليمان: أنا وأهلي فداؤك يا رسول الله! فكيف هم عند النفخ في الصور! فقال: يا حذيفة، والذي نفس محمد بيده، لتقومن الساعة ولينفخن في الصور والرجل قد لط حوضه فلا يسقى منه، ولتقومن الساعة والثوب بين الرجلين فلا يطويانه، ولا يتبايعانه ولتقومن الساعة والرجل قد رفع لقمته إلى فيه فلا يطعمها، ولتقومن الساعة والرجل قد انصرف بلبن لقحته من تحتها فلا يشربه، ثم تلا رسول الله ص هذه الآية: «وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» . فإذا نفخ في الصور، وقامت الساعة، وميز الله بين أهل الجنة وأهل النار ولما يدخلوهما بعد، إذ يدعو الله عز وجل بالشمس والقمر، فيجاء بهما أسودين مكورين قد وقعا في زلزال وبلبال، ترعد فرائصهما من هول ذلك اليوم ومخافة الرحمن، حتى إذا كانا حيال العرش خرا لله ساجدين، فيقولان: إلهنا قد علمت طاعتنا ودءوبنا في عبادتك، وسرعتنا للمضي في أمرك أيام الدنيا، فلا تعذبنا بعبادة المشركين إيانا، فإنا لم ندع الى عبادتنا، ولم نذهل عن عبادتك! قال: فيقول الرب تبارك وتعالى: صدقتما، وإني قضيت على نفسي أن أبدئ وأعيد، وإني معيدكما فيما بدأتكما منه، فارجعا إلى ما خلقتما منه،

قالا: إلهنا، ومم خلقتنا؟ قال: خلقتكما من نور عرشي، فارجعا إليه قال: فيلتمع من كل واحد منهما برقة تكاد تخطف الأبصار نورا، فتختلط بنور العرش فذلك قوله عز وجل: «يُبْدِئُ وَيُعِيدُ] » . قال عكرمة: فقمت مع النفر الذين حدثوا به، حتى أتينا كعبا فأخبرناه بما كان من وجد ابن عباس من حديثه، وبما حدث عن رسول الله ص، فقام كعب معنا حتى أتينا ابْنَ عَبَّاسٍ، فقال: قد بلغني ما كان من وجدك من حديثي، وأستغفر الله وأتوب إليه، وإني إنما حدثت عن كتاب دارس قد تداولته الأيدي، ولا أدري ما كان فيه من تبديل اليهود، وإنك حدثت عن كتاب جديد حديث العهد بالرحمن عز وجل وعن سيد الأنبياء وخير النبيين، فأنا أحب أن تحدثني الحديث فأحفظه عنك، فإذا حدثت به كان مكان حديثي الأول. قال عكرمة: فأعاد عليه ابْنِ عَبَّاسٍ الحديث، وأنا أستقريه في قلبي بابا بابا، فما زاد شيئا ولا نقص، ولا قدم شيئا ولا أخر، فزادني ذلك في ابْنِ عَبَّاسٍ رغبة، وللحديث حفظا. ومما روي عن السلف في ذلك مَا حَدَّثَنَاهُ ابن حميد، قال: حدثنا جَرِيرٌ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: [قَالَ ابْنُ الْكَواءِ لِعَلِيٍّ ع: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا هَذِهِ اللَّطْخَةُ الَّتِي فِي الْقَمَرِ؟ فَقَالَ: وَيْحَكَ! أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ: «فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ» ! فهذه محوه]

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا طَلْقٌ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ، [قال: سال ابن الكواء عليا ع فَقَالَ: مَا هَذَا السَّوَادُ فِي الْقَمَرِ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: «فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً» ، هُوَ الْمَحْوُ] . حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: [كنت عند على ع، فَسَأَلَهُ ابْنُ الْكَوَاءِ عَنِ السَّوَادِ الَّذِي فِي الْقَمَرِ فَقَالَ: ذَاكَ آيَةُ اللَّيْلِ مُحِيَتْ] . حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ حُدَيْرٍ، عَنْ رفيع، ابى كثيره، قَالَ: [قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَلُوا عَمَّا شِئْتُمْ، فَقَامَ ابْنُ الْكَوَاءِ فَقَالَ: مَا السَّوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ؟ فَقَالَ: قَاتَلَكَ اللَّهُ! هَلا سَأَلْتَ عَنْ أَمْرِ دِينِكَ وَآخِرَتِكَ! ثُمَّ قَالَ: ذَاكَ مَحْوُ اللَّيْلِ] . حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبَانٍ الْمِصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُفَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ حُيَيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، [أَنَّ رَجُلا قَالَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا السَّوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً] » . حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: «وَجَعَلْنَا

اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ» ، قَالَ: هُوَ السَّوَادُ بِاللَّيْلِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الْقَمَرُ يُضِيءُ كَمَا تُضِيءُ الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ آيَةُ اللَّيْلِ، والشمس آيه النهار، «فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ» ، قال: السواد الذي في القمر، كذلك خلقه الله. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ» ، قَالَ: لَيْلا وَنَهَارًا كَذَلِكَ خَلَقَهُمَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ، قَالَ: «فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً» ، قَالَ: ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَسَدَفُ النَّهَارِ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ، قوله عز وجل: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ» ، كنا نحدث أن محو آية الليل سواد القمر الذي فيه، «وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً» ، منيرة، وخلق الشمس أنور من القمر وأعظم. حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ» ، قال: ليلا ونهارا، كذلك جعلهما الله عز وجل

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره خلق شمس النهار وقمر الليل آيتين، فجعل آية النهار التي هي الشمس مبصرة يبصر بها، ومحا آية الليل التي هي القمر بالسواد الذي فيه. وجائز أن يكون الله تعالى ذكره خلقهما شمسين من نور عرشه، ثم محا نور القمر بالليل على نحو ما قاله من ذكرنا قوله، فكان ذلك سبب اختلاف حالتيهما. وجائز أن يكون إضاءة الشمس للكسوة التي تكساها من ضوء العرش، ونور القمر من الكسوة التي يكساها من نور الكرسي. ولو صح سند أحد الخبرين اللذين ذكرتهما لقلنا به، ولكن في أسانيدهما نظرا، فلم نستجز قطع القول بتصحيح ما فيهما من الخبر عن سبب اختلاف حال الشمس والقمر، غير أنا بيقين نعلم أن الله عز وجل خالف بين صفتيهما في الإضاءة لما كان أعلم به من صلاح خلقه باختلاف أمريهما، فخالف بينهما، فجعل أحدهما مضيئا مبصرا به، والآخر ممحو الضوء. وإنما ذكرنا قدر ما ذكرنا من أمر الشمس والقمر في كتابنا هذا، وإن كنا قد أعرضنا عن ذكر كثير من أمرهما وأخبارهما، مع إعراضنا عن ذكر بدء خلق الله السموات والأرض وصفة ذلك، وسائر ما تركنا ذكره من جميع خلق الله في هذا الكتاب، لأن قصدنا في كتابنا هذا ذكر ما قدمنا الخبر عنه أنا ذاكروه فيه من ذكر الأزمنة وتاريخ الملوك والأنبياء والرسل، على ما قد شرطنا في أول هذا الكتاب، وكانت التأريخات والأزمنة إنما توقت بالليالي والأيام التي إنما هي مقادير ساعات جري الشمس والقمر في أفلاكهما على ما قد ذكرنا في الأخبار التي رويناها عن رسول الله ص، وكان ما كان قبل

خلق الله عز ذكره إياهما من خلقه في غير أوقات ولا ساعات ولا ليل ولا نهار. وإذ كنا قد بينا مقدار مدة ما بين أول ابتداء الله عز وجل في إنشاء ما أراد إنشاءه من خلقه إلى حين فراغه من إنشاء جميعهم من سني الدنيا ومدة أزمانها بالشواهد التي استشهدنا بها من الآثار والأخبار، وأتينا على القول في مدة ما بعد أن فرغ من خلق جميعه إلى فناء الجميع بالأدلة التي دللنا بها على صحة ذلك من الاخبار الوارده عن رسول الله ص وعن الصحابة وغيرهم من علماء الأمة، وكان الغرض في كتابنا هذا ذكر ما قد بينا أنا ذاكروه من تاريخ الملوك الجبابرة العاصية ربها عز وجل والمطيعة ربها منهم، وأزمان الرسل والأنبياء، وكنا قد أتينا على ذكر ما به تصح التأريخات وتعرف به الأوقات والساعات، وذلك الشمس والقمر اللذان بأحدهما تدرك معرفه ساعات الليل وأوقاته، وبالآخر تدرك علم ساعات النهار وأوقاته فلنقل الآن في أول من أعطاه الله ملكا، وأنعم عليه فكفر نعمته، وجحد ربوبيته، وعتا على ربه واستكبر، فسلبه الله نعمته، وأخزاه وأذله ثم نتبعه ذكر من استن في ذلك سنته، واقتفى فيه أثره، فأحل الله به نقمته وجعله من شيعته، وألحقه به في الخزي والذل ونذكر من كان بإزائه أو بعده من الملوك المطيعة ربها المحمودة آثارها، أو من الرسل والأنبياء إن شاء الله عز وجل. فأولهم وإمامهم في ذلك ورئيسهم وقائدهم فيه إبليس لعنه الله. وكان الله عز وجل قد احسن خلقه وشرفه وكرمه وملكه على سماء الدنيا والأرض فيما ذكر، وجعله مع ذلك من خزان الجنة، فاستكبر على ربه

وادعى الربوبية، ودعا من كان تحت يده فيما ذكر إلى عبادته، فمسخه الله تعالى شيطانا رجيما، وشوه خلقه، وسلبه ما كان حوله، ولعنه وطرده عن سمواته في العاجل، ثم جعل مسكنه ومسكن اتباعه وشيعته في الآخرة نار جهنم، نعوذ بالله من غضبه، ومن عمل يقرب من غضبه، ومن الحور بعد الكور. ونبدأ بذكر جمل من الأخبار الواردة عن السلف بما كان الله عز وجل أعطاه من الكرامة قبل استكباره عليه، وادعائه ما لم يكن له ادعاؤه، ثم نتبع ذلك ما كان من الأحداث في أيام سلطانه وملكه إلى حين زوال ذلك عنه، والسبب الذي به زال عنه ما كان فيه من نعمة الله عليه، وجميل آلائه، وغير ذلك من أموره، إن شاء الله مختصرا

ذكر الاخبار الوارده بان ابليس كان له ملك السماء الدنيا والارض وما بين ذلك

ذكر الأخبار الواردة بأن إبليس كان له ملك السماء الدنيا والأرض وما بين ذلك حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ إِبْلِيسُ مِنْ أَشْرَافِ الْمَلائِكَةِ وَأَكْرَمِهِمْ قَبِيلَةً، وَكَانَ خَازِنًا عَلَى الْجِنَانِ، وَكَانَ لَهُ سُلْطَانُ سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَكَانَ لَهُ سُلْطَانُ الأَرْضِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن صالح مولى التوءمه وَشَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ- أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ مِنَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلَةً مِنَ الْجِنِّ وَكَانَ إِبْلِيسُ مِنْهَا، وَكَانَ يَسُوسُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ. حَدَّثَنَا مُوسَى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي ص جعل ابليس على سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَكَانَ مِنْ قَبِيلَةٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ، وَإِنَّمَا سُمُّوا الْجِنَّ لأَنَّهُمْ خُزَّانُ الْجَنَّةِ، وَكَانَ إِبْلِيسُ مَعَ مُلْكِهِ خَازِنًا. حَدَّثَنِي عَبْدَانُ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الْفَضْلَ بْنَ خَالِدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سمعت الضحاك ابن مُزَاحِمٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: «فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ» ، قَالَ: كَانَ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ إِبْلِيسَ كان من اشرف الملائكة واكرمهم

قَبِيلَةً، وَكَانَ خَازِنًا عَلَى الْجِنَانِ، وَكَانَ لَهُ سُلْطَانُ سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَكَانَ لَهُ سُلْطَانُ الأَرْضِ. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ مُجَاهِدٍ أَبُو الأَزْهَرِ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْءَمَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ مِنَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلا يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ، فَكَانَ إِبْلِيسُ مِنْهُمْ، وَكَانَ يَسُوسُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَعَصَى، فَمَسَخَهُ اللَّهُ شَيْطَانًا رجيما

ذكر الخبر عن غمط عدو الله نعمه ربه واستكباره عليه وادعائه الربوبيه

ذكر الخبر عن غمط عدو الله نعمة ربه واستكباره عليه وادعائه الربوبية حَدَّثَنَا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج: «وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ» قال: قال، ابن جريج: من يقل من الملائكة إني إله من دونه، فلم يقله إلا إبليس، دعا إلى عباده نفسه، فنزلت هذه الآية في إبليس. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: «وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ» ، وإنما كانت هذه الآية خاصة لعدو الله إبليس لما قال ما قال، لعنه الله وجعله رجيما، فقال: «فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ» . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: «وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ» ، قال: هي خاصة لإبليس

القول في الاحداث التي كانت في ايام ملك ابليس وسلطانه والسبب الذى به هلك وادعى الربوبيه

القول في الأحداث التي كانت في أيام ملك ابليس وسلطانه والسبب الذي به هلك وادعى الربوبية فمن الأحداث التي كانت في ملك عدو الله- إذ كان لله مطيعا- ما ذكر لنا عن ابْنِ عَبَّاسٍ في الخبر الذي حَدَّثَنَاهُ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ إِبْلِيسُ مِنْ حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْمَلائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ: الْجِنُّ خُلِقُوا مِنْ نَارِ السَّمُومِ مِنْ بَيْنَ الْمَلائِكَةِ، قَالَ: وَكَانَ اسْمُهُ الْحَارِثَ، قَالَ: وَكَانَ خَازِنًا مِنْ خُزَّانِ الْجَنَّةِ، قَالَ: وَخُلِقَتِ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ مِنْ نُورٍ غَيْرَ هَذَا الْحَيِّ، قَالَ: وَخُلِقَتِ الْجِنُّ الَّذِينَ ذُكِرُوا في القرآن من مارج من نار، وَهُوَ لِسَانُ النَّارِ الَّذِي يَكُونُ فِي طَرْفِهَا إِذَا أُلْهِبَتْ، قَالَ: وَخُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ طِينٍ، فَأَوَّلُ مَنْ سَكَنَ الأَرْضَ الْجِنُّ فَأَفْسَدُوا فِيهَا وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ، وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، قَالَ: فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ إِبْلِيسَ فِي جُنْدٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ وهم هَذَا الْحَيُّ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ، فَقَتَلَهُمْ ابليس ومن معه حي أَلْحَقَهُمْ بِجَزَائِرِ الْبُحُورِ وَأَطْرَافِ الْجِبَالِ، فَلَمَّا فَعَلَ إِبْلِيسُ ذَلِكَ اغْتَرَّ فِي نَفْسِهِ، وَقَالَ: قَدْ صَنَعْتُ شَيْئًا لَمْ يَصْنَعْهُ أَحَدٌ، قَالَ: فَاطَّلَعَ الله على ذلك من قبله، وَلَمْ تَطَّلِعْ عَلَيْهِ الْمَلائِكَةُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ. حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْمَلائِكَةَ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ، وَخَلَقَ الْجِنَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، قَالَ: فَكَفَرَ قَوْمٌ مِنَ الْجِنِّ، فَكَانَتِ الْمَلائِكَةُ تهبط اليهم في الارض فتقتلهم فَكَانَتِ الدِّمَاءُ وَكَانَ الْفَسَادُ فِي الأَرْضِ

ذكر السبب الذى به هلك عدو الله وسولت له نفسه من اجله الاستكبار على ربه عز وجل

ذكر السبب الذي به هلك عدو الله وسولت له نفسه من أجله الاستكبار على ربه عز وجل اختلف السلف من الصحابة والتابعين في ذلك، وقد ذكرنا أحد الأقوال التي رويت في ذلك عن ابْنِ عَبَّاسٍ، وذلك ما ذكر الضحاك عنه، أنه لما قتل الجن الذين عصوا الله، وأفسدوا في الأرض وشردهم، أعجبته نفسه ورأى في نفسه أن له بذلك من الفضيلة ما ليس لغيره. والقول الثاني من الأقوال المروية في ذلك عن ابْنِ عَبَّاسٍ، أنه كان ملك سماء الدنيا وسائسها، وسائس ما بينها وبين الأرض، وخازن الجنة، مع اجتهاده في العبادة، فأعجب بنفسه، ورأى أن له بذلك الفضل، فاستكبر على ربه عز وجل. ذكر الرواية عنه بذلك: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْهَمْدَانِيُّ، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود- وعن ناس من اصحاب النبي ص، قال: لَمَّا فَرَغَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ خَلْقِ مَا أَحَبَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، فَجَعَلَ إِبْلِيسَ عَلَى مُلْكِ سَمَاءِ الدُّنْيَا وَكَانَ مِنْ قَبِيلَةٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ، وَإِنَّمَا سُمُّوا الْجِنَّ لأَنَّهُمْ خُزَّانُ الْجَنَّةِ، وَكَانَ إِبْلِيسُ مَعَ مُلْكِهِ خَازِنًا، فَوَقَعَ فِي صَدْرِهِ كِبْرٌ، وَقَالَ: مَا أَعْطَانِي اللَّهُ هَذَا إِلا لِمَزِيَّةٍ، هَكَذَا حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ

وحدثني بِهِ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حَمَّادٍ، قَالَ: لِمَزِيَّةٍ لِي عَلَى الْمَلائِكَةِ فَلَمَّا وَقَعَ ذَلِكَ الْكِبْرُ فِي نَفْسِهِ اطَّلَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُ، فَقَالَ اللَّهُ لِلْمَلائِكَةِ: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» . حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ خَلادِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ إِبْلِيسُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَبَ الْمَعْصِيَةَ مِنَ الْمَلائِكَةِ اسْمُهُ عَزَازِيلُ، وَكَانَ مِنْ سُكَّانِ الأَرْضِ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ الْمَلائِكَةِ اجْتِهَادًا، وَأَكْثَرِهِمْ عِلْمًا، فَذَلِكَ الَّذِي دَعَاهُ إِلَى الْكِبْرِ، وَكَانَ مِنْ حَيٍّ يُسَمُّونَ جِنًّا. وَحَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ مَرَّةً أُخْرَى، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ خَلادِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ طَاوُسٍ- أَوْ مُجَاهِدٍ أَبِي الْحَجَّاجِ- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ بِنَحْوِهِ، إِلا أَنَّهُ قَالَ: كَانَ مَلَكًا مِنَ الْمَلائِكَةِ اسْمُهُ عَزَازِيلُ، وَكَانَ مِنْ سُكَّانِ الأَرْضِ وَعُمَّارِهَا، وَكَانَ سُكَّانُ الأَرْضِ فِيهِمْ يُسَمُّونَ الْجِنَّ مِنْ بَيْنِ الْمَلائِكَةِ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قال: حدثنا شيبان، قال: حدثنا سلام ابن مِسْكِينٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: كَانَ إِبْلِيسُ رَئِيسَ مَلائِكَةِ سَمَاءِ الدُّنْيَا. والقول الثالث من الأقوال المروية عنه أنه كان يقول: السبب في ذلك أنه كان من بقايا خلق خلقهم الله عز وجل، فأمرهم بأمر فأبوا طاعته. ذكر الرواية عنه بذلك:

حدثني محمد بن سنان القزاز، قال: حدثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ شَبِيبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ خَلْقًا فَقَالَ: اسْجُدُوا لآدَمَ، فَقَالُوا: لا نَفْعَلُ، قَالَ: فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا تَحْرِقُهُمْ، ثُمَّ خَلَقَ خَلْقًا آخَرَ فَقَالَ: إِنِّي خَالِقُ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَاسْجُدُوا لآدَمَ، فَأَبَوْا، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا فَأَحْرَقَتْهُمْ، قَالَ: ثُمَّ خَلَقَ هَؤُلاءِ فَقَالَ: الا تسجدوا لادم! قالوا: نعم، قال: وَكَانَ إِبْلِيسُ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَبَوْا أَنْ يَسْجُدُوا لآدَمَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ بَقَايَا الْجِنِّ الَّذِينَ كَانُوا فِي الأَرْضِ، فَسَفَكُوا فِيهَا الدِّمَاءَ، وَأَفْسَدُوا فِيهَا، وَعَصَوْا رَبَّهُمْ، فَقَاتَلَتْهُمُ الْمَلائِكَةُ. ذِكْرُ مَنْ قال ذلك: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو سعيد اليحمدي إسماعيل بن إبراهيم، قال: حَدَّثَنِي سوار بن الجعد اليحمدي، عن شهر بن حوشب، قوله: «كانَ مِنَ الْجِنِّ» ، قال: كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة، فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء. حَدَّثَنِي علي بن الحسن، قال: حَدَّثَنِي أبو نصر أحمد بن محمد الخلال، قال: حَدَّثَنِي سنيد بن داود، قال: حَدَّثَنَا هشيم، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى، عن موسى بن نمير وعثمان بن سعيد بن كامل، عن سعد ابن مسعود، قال: كانت الملائكة تقاتل الجن فسبي إبليس، وكان صغيرا، وكان مع الملائكة يتعبد معهم، فلما أمروا أن يسجدوا لآدم سجدوا وأبى إبليس، فلذلك قال الله عز وجل: «إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ»

قال ابو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال كما قال الله عز وجل: «وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ» ، وجائز أن يكون فسوقه عن أمر ربه كان من أجل أنه كان من الجن، وجائز أن يكون من أجل إعجابه بنفسه لشدة اجتهاده كان في عبادة ربه، وكثرة علمه، وما كان أوتي من ملك السماء الدنيا والأرض وخزن الجنان وجائز أن يكون كان لغير ذلك من الأمور، ولا يدرك علم ذلك إلا بخبر تقوم به الحجة، ولا خبر في ذلك عندنا كذلك، والاختلاف في أمره على ما حكينا ورويناه. وقد قيل: إن سبب هلاكه كان من أجل أن الأرض كان فيها قبل آدم الجن، فبعث الله إبليس قاضيا يقضي بينهم، فلم يزل يقضي بينهم بالحق ألف سنة حتى سمي حكما، وسماه الله به، وأوحى إليه اسمه، فعند ذلك دخله الكبر، فتعظم وتكبر، وألقى بين الذين كان الله بعثه إليهم حكما البأس والعداوة والبغضاء، فاقتتلوا عند ذلك في الأرض ألفي سنة فيما زعموا، حتى إن خيولهم تخوض في دمائهم، قالوا: وذلك قول الله تبارك وتعالى: «أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ» ، وقول الملائكة: «أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ» ! فبعث الله تعالى عند ذلك نارا فأحرقتهم قالوا: فلما رأى إبليس ما نزل بقومه من العذاب عرج إلى السماء، فأقام عند الملائكة يعبد الله في السماء مجتهدا لم يعبده شيء من خلقه مثل عبادته، فلم يزل مجتهدا في العبادة حتى خلق الله آدم، فكان من امره ومعصيته ربه ما كان

القول في خلق آدم ع

القول في خلق آدم ع وكان مما حدث في أيام سلطانه وملكه خلق الله تعالى ذكره أبانا آدم أبا البشر، وذلك لما أراد جل جلاله أن يطلع ملائكته على ما قد علم من انطواء إبليس على الكبر ولم يعلمه الملائكة، وأراد إظهار أمره لهم حين دنا أمره للبوار، وملكه وسلطانه للزوال، فقال عز ذكره لما أراد ذلك للملائكة: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» ، فأجابوه بأن قالوا له: «أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ» ! فروي عن ابْنِ عَبَّاسٍ أن الملائكة قالت ذلك كذلك للذين قد كانوا عهدوا من أمر الجن الذين كانوا سكان الأرض قبل ذلك، فقالوا لربهم جل ثناؤه لما قال لهم: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» أتجعل فيها من يكون فيها مثل الجن الذين كانوا فيها، فكانوا يسفكون فيها الدماء ويفسدون فيها ويعصونك، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لك، فقال الرب تعالى ذكره لهم: «إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ» ، يقول: اعلم ما لا تعلمون من انطواء إبليس على التكبر، وعزمه على خلافه أمري، وتسويل نفسه له الباطل واغتراره، وأنا مبد ذلك لكم منه لتروا ذلك منه عيانا. وقيل أقوال كثيرة في ذلك، قد حكينا منها جملا في كتابنا المسمى: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، فكرهنا إطالة الكتاب بذكر ذلك في هذا الموضع. فلما أراد الله عز وجل أن يخلق آدم ع أمر بتربته أن تؤخذ من الأرض، كما حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا

بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ- يَعْنِي الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِتُرْبَةِ آدَمَ فَرُفِعَتْ، فخلق الله آدم من طين لا رب- وَاللازِبُ اللَّزِجُ الطَّيِّبُ- مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ، مُنْتِنٍ، قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ حَمَأً مَسْنُونًا بَعْدَ التُّرَابِ، قَالَ: فَخَلَقَ مِنْهُ آدَمَ بِيَدِهِ. حَدَّثَنِي مُوسَى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي- في خبر ذكره- عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود- وعن ناس من أصحاب النبي ص، قَالَ: قَالَتِ الْمَلائِكَةُ: «أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ» يعنى من شان ابليس، فبعث الله جبرئيل ع إِلَى الأَرْضِ لِيَأْتِيَهُ بِطِينٍ مِنْهَا، فَقَالَتِ الأَرْضُ: إِنِّي أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ أَنْ تُنْقِصَ مِنِّي شيئا وتشينى، فَرَجَعَ وَلَمْ يَأْخُذْ، وَقَالَ: يَا رَبِّ إِنَّهَا عَاذَتْ بِكَ فَأَعَذْتُهَا، فَبَعَثَ مِيكَائِيلَ فَعَاذَتْ مِنْهُ فاعاذها فرجع، فقال كما قال جبرئيل، فبعث ملك الموت فَعَاذَتْ مِنْهُ، فَأَعَاذَهَا فَرَجَعَ، فَقَالَ كَمَا قَالَ جبرئيل، فَبَعَثَ مَلَكُ الْمَوْتِ فَعَاذَتْ مِنْهُ، فَقَالَ: وَأَنَا أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَرْجِعَ، وَلَمْ أُنَفِّذْ أَمْرَهُ، فاخذ مِنْ وَجْهِ الأَرْضِ، وَخَلَطَ فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَأَخَذَ مِنْ تُرْبَةٍ حَمْرَاءَ وَبَيْضَاءَ وَسَوْدَاءَ، فَلِذَلِكَ خَرَجَ بَنُو آدَمَ مُخْتَلِفِينَ، فَصَعِدَ بِهِ فَبَلَّ التُّرَابَ حَتَّى عَادَ طِينًا لازِبًا- وَاللازِبُ هُوَ الَّذِي يَلْتَزِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ- ثُمَّ تُرِكَ حَتَّى تَغَيَّرَ وَأَنْتَنَ، وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: «مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ*» ، قَالَ: مُنْتِنٌ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَعَثَ رَبُّ الْعِزَّةِ عز وَجَلَّ إِبْلِيسَ، فَأَخَذَ مِنْ أَدِيمِ الأَرْضِ، مِنْ عَذْبِهَا وَمَلْحِهَا، فَخَلَقَ مِنْهُ آدَمَ،

وَمِنْ ثَمَّ سُمِّيَ آدَمَ، لأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ أَدِيمِ الأَرْضِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ إِبْلِيسُ: «أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً» ، أَيْ هَذِهِ الطِّينَةُ أَنَا جِئْتُ بِهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ آدَمَ لأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ أَدِيمِ الأَرْضِ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا مسعر، عن أبي حصين، عن سعيد بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: خُلِقَ آدَمُ مِنْ أَدِيمِ الأَرْضِ فَسُمِّيَ آدَمَ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، [عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنْ أَدِيمِ الأَرْضِ، فِيهِ الطَّيِّبُ وَالصَّالِحُ وَالرَّدِيءُ، فَكُلُّ ذَلِكَ أَنْتَ رَاءٍ فِي وَلَدِهِ الصَّالِحِ وَالرَّدِيءِ] . حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عَوْفٍ- وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَعُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ وَحَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا عَوْفٌ وحدثني مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ الأَسَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ، عَنْ عَوْفٍ الأَعْرَابِيِّ- عَنْ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، قَالَ: [قَالَ رسول الله ص: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الأَرْضِ، جَاءَ مِنْهُمُ الأَحْمَرُ، وَالأَسْوَدُ، وَالأَبْيَضُ، وَبَيْنَ ذَلِكَ وَالسَّهْلُ، وَالْحَزْنُ، وَالْخَبِيثُ، وَالطَّيِّبُ، ثُمَّ بُلَّتْ طِينَتُهُ حَتَّى صَارَتْ طِينًا لازِبًا، ثُمَّ تُرِكَتْ حَتَّى صَارَتْ حَمَأً مَسْنُونًا، ثُمَّ تُرِكَتْ حَتَّى صَارَتْ صَلْصَالا

كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ] » . وَحَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبُطَيْنِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قال: خُلِقَ آدَمُ مِنْ ثَلاثَةٍ: مِنْ صَلْصَالٍ، وَمِنْ حَمَإٍ، وَمِنْ طِينٍ لازِبٍ فَأَمَّا اللازِبُ فَالْجَيِّدُ، وَأَمَّا الْحَمَأُ فَالْحَمِئَةُ، وَأَمَّا الصَّلْصَالُ فَالتُّرَابُ الْمُدَقَّقُ، ويعنى تعالى ذكره بقوله: «مِنْ صَلْصالٍ*» ، مِنْ طِينٍ يَابِسٍ لَهُ صَلْصَلَةٌ، وَالصَّلْصَلَةُ: الصَّوْتُ. وَذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ تعالى ذَكَرَهُ لَمَّا خَمَّرَ طِينَةَ آدَمَ تَرَكَهَا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَقِيلَ أَرْبَعِينَ عَامًا جَسَدًا مُلْقًى. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِتُرْبَةِ آدَمَ فَرُفِعَتْ، فَخُلِقَ آدَمُ مِنْ طِينٍ لازِبٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ حَمَأً مَسْنُونًا بَعْدَ التُّرَابِ، قَالَ: فَخَلَقَ مِنْهُ آدَمَ بِيَدِهِ، قَالَ: فَمَكَثَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً جَسَدًا مُلْقًى، فَكَانَ إِبْلِيسُ يَأْتِيهِ فَيَضْرِبُهُ بِرِجْلِهِ، فَيُصَلْصِلُ فَيُصَوِّتُ، قَالَ: فَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ» ، يَقُولُ: كَالشَّيْءِ الْمُنْفَرِجِ الَّذِي لَيْسَ بِمُصْمَتٍ، قَالَ: ثُمَّ يَدْخُلُ فِي فِيهِ وَيَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ، وَيَدْخُلُ فِي دُبُرِهِ وَيَخْرُجُ مِنْ فِيهِ، ثُمَّ يَقُولُ: لَسْتَ شَيْئًا لِلصَّلْصَلَةِ، وَلِشَيْءٍ مَا خُلِقْتَ، وَلَئِنْ سُلِّطْتُ عَلَيْكَ لأُهْلِكَنَّكَ، وَلَئِنْ سُلِّطْتَ عَلَيَّ لاعصينك

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي- في خبر ذكره- عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود- وعن ناس من اصحاب رسول الله ص، قَالَ اللَّهُ لِلْمَلائِكَةِ: «إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ» ، فَخَلَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِيَدَيْهِ لِكَيْلا يَتَكَبَّرُ ابليس عنه ليقول حين يتكبر: تتكبر عَمَّا عَمِلْتُ بِيَدِي وَلَمْ أَتَكَبَّرْ أَنَا عَنْهُ! فَخَلَقَهُ بَشَرًا، فَكَانَ جَسَدًا مِنْ طِينٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ مِقْدَارِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَمَرَّتْ بِهِ الْمَلائِكَةُ فَفَزِعُوا مِنْهُ لَمَّا رَأَوْهُ، وَكَانَ أَشَدَّهُمْ فَزَعًا إِبْلِيسَ، فَكَانَ يَمُرُّ بِهِ فَيَضْرِبُهُ فَيُصَوِّتُ الْجَسَدُ كَمَا يُصَوِّتُ الْفَخَّارُ تَكُونُ لَهُ صَلْصَلَةٌ، فذلك حين يقول: «مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ» ، وَيَقُولُ: لأَمْرٍ مَا خُلِقْتَ وَدَخَلَ مِنْ فِيهِ وَخَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ، فَقَالَ لِلْمَلائِكَةِ: لا تَرْهَبُوا مِنْ هَذَا، فَإِنَّ رَبَّكُمْ صَمَدٌ وَهَذَا أَجْوَفُ، لَئِنْ سُلِّطْتُ عَلَيْهِ لأُهْلِكَنَّهُ. وَحَدَّثَنَا عَنِ الْحَسَنِ بن بلال، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، قَالَ: خَمَّرَ اللَّهُ تَعَالَى طينه آدم ع أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ جَمَعَهُ بِيَدَيْهِ، فَخَرَجَ طِيبُهُ بِيَمِينِهِ، وَخَبِيثُهُ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ مَسَحَ يَدَيْهِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى، فَخَلَطَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، فَمِنْ ثَمَّ يَخْرُجُ الطَّيِّبُ مِنَ الْخَبِيثِ، وَالْخَبِيثُ مِنَ الطَّيِّبِ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: يُقَالُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ: خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ، ثُمَّ وَضَعَهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا قَبْلَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ، حَتَّى عَادَ صَلْصَالا كَالْفَخَّارِ، وَلَمْ تَمَسَّهُ نَارٌ، قَالَ: فلما

مَضَى لَهُ مِنَ الْمُدَّةِ مَا مَضَى وَهُوَ طِينٌ صَلْصَالٌ كَالْفَخَّارِ، وَأَرَادَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ، تَقَدَّمَ إِلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ لَهُمْ: إِذَا نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ. فَلَمَّا نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ أَتَتْهُ الرُّوحُ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، فِيمَا ذُكِرَ عَنِ السَّلَفِ قَبْلِنَا أَنَّهُمْ قَالُوهُ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذلك: حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي- في خبر ذكره- عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود- وعن ناس من اصحاب النبي ص: فَلَمَّا بَلَغَ الْحِينَ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ قَالَ لِلْمَلائِكَةِ: إِذَا نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَاسْجُدُوا لَهُ، فَلَمَّا نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ فَدَخَلَ الرُّوحُ، فِي رَأْسِهِ عَطَسَ، فَقَالَتِ الْمَلائِكَةُ: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ: رَحِمَكَ رَبُّكَ فَلَمَّا دَخَلَ الرُّوحُ فِي عَيْنَيْهِ نَظَرَ إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا دَخَلَ فِي جَوْفِهِ اشْتَهَى الطَّعَامَ، فَوَثَبَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الرُّوحُ رِجْلَيْهِ عَجْلانَ إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: «خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ» ، «فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ» ، «أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ» ، فقال الله له: «ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ» لِمَا خَلَقْتُ بِيَدِي، قَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ، قَالَ اللَّهُ لَهُ: «فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ» - يَعْنِي مَا يَنْبَغِي لَكَ- «أَنْ تَتَكَبَّرَ

فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ» ، وَالصّغَارُ الذُّلُّ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: فَلَمَّا نَفَخَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ- يَعْنِي فِي آدَمَ- مِنْ رُوحِهِ أَتَتِ النَّفْخَةُ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، فَجَعَلَ لا يَجْرِي شَيْءٌ مِنْهَا فِي جَسَدِهِ إِلا صَارَ لَحْمًا وَدَمًا، فَلَمَّا انْتَهَتِ النَّفْخَةُ إِلَى سُرَّتِهِ نَظَرَ إِلَى جَسَدِهِ فَأَعْجَبَهُ مَا رَأَى مِنْ حُسْنِهِ، فَذَهَبَ لِيَنْهَضَ فَلَمْ يَقْدِرْ، فَهُوَ قَوْلُ الله عز وجل «خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ» ، قَالَ: ضَجِرًا لا صَبْرَ لَهُ عَلَى سَرَّاءٍ وَلا ضَرَّاءٍ، قَالَ: فَلَمَّا تَمَّتِ النَّفْخَةُ فِي جَسَدِهِ عَطَسَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، بِإِلْهَامِ اللَّهِ، فَقَالَ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ يَا آدَمُ، ثُمَّ قَالَ لِلْمَلائِكَةِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ إِبْلِيسَ خَاصَّةً دُونَ الْمَلائِكَةِ الَّذِينَ فِي السَّمَوَاتُ: اسْجُدُوا لآدَمَ، فَسَجَدُوا كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ، لِمَا كَانَ حَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ كبره واغتراره، فقال: لا اسجد، وَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ وَأَكْبَرُ سِنًّا، وَأَقْوَى خَلْقًا، «خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ*» ، يَقُولُ: إِنَّ النَّارَ أَقْوَى مِنَ الطِّينِ، قَالَ: فَلَمَّا أَبَى إِبْلِيسُ أَنْ يَسْجُدَ أَبْلَسَهُ اللَّهُ تعالى، أيأسه مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ، وَجَعَلَهُ شَيْطَانًا رَجِيمًا عُقُوبَةً لِمَعْصِيَتِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَيُقَالُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ-: إِنَّهُ لَمَّا انْتَهَى الرُّوحُ إِلَى رَأْسِهِ عَطَسَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: يَرْحَمُكَ رَبُّكَ، وَوَقَعَتِ الْمَلائِكَةُ حِينَ اسْتَوَى سُجُودًا لَهُ، حِفْظًا لِعَهْدِ اللَّهِ الَّذِي عَهِدَ إِلَيْهِمْ، وَطَاعَةً لأَمْرِهِ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ، وَقَامَ عدو الله ابليس من بينهم، فلم يسجد متكبرا متعظما بغيا وحسدا، فقال: «يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ» إِلَى قَوْلِهِ: «لَأَمْلَأَنَ

جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ» ، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ اللَّهُ تعالى مِنْ إِبْلِيسَ وَمُعَاتَبَتِهِ وَأَبَى إِلا الْمَعْصِيَةَ أَوْقَعَ اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ اللَّعْنَةَ، وَأَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ، ع قَالَ أَبُو خَالِدٍ: وحدثني الأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صالح، عن ابى هريرة، عن النبي ص قَالَ أَبُو خَالِدٍ: وحدثني دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النبي ص قَالَ أَبُو خَالِدٍ: وحدثني ابْنُ أَبِي ذُبَابٍ الدَّوْسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ، وَيَزِيدُ بْنُ هرمز عن ابى هريرة، [عن النبي ص أَنَّهُ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلأَ مِنَ الْمَلائِكَةِ فَسَجَدُوا لَهُ، فَجَلَسَ فَعَطَسَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: يَرْحَمُكَ رَبُّكَ، ايت أُولَئِكَ الْمَلأَ مِنَ الْمَلائِكَةِ فَقُلْ لَهُمُ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ فَأَتَاهُمْ فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا لَهُ: وَعَلَيْكَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ لَهُ: هَذِهِ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ بَيْنَهُمْ فَلَمَّا أَظْهَرَ إِبْلِيسُ مِنْ نَفْسِهِ مَا كَانَ لَهُ مَخْفِيًّا فِيهَا مِنَ الْكِبْرِ وَالْمَعْصِيَةِ لِرَبِّهِ، وَكَانَتِ الْمَلائِكَةُ قَدْ قَالَتْ لِرَبِّهَا عَزَّ وَجَلَّ حِينَ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي جاعل في الأرض خليفة: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ فَقَالَ لَهُمْ رَبُّهُمْ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ، تَبَيَّنَ لَهُمْ مَا كَانَ عَنْهُمْ مُسْتَتِرًا، وَعَلِمُوا أَنَّ فِيهِمْ مَنْ مِنْهُ الْمَعْصِيَةُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْخِلافُ لأَمْرِهِ] . ثُمَّ عَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَبْلَنَا فِي الأَسْمَاءِ الَّتِي عُلِّمَهَا آدَمُ: أَخَاصًّا مِنَ الأَسْمَاءِ علم، اما عَامًّا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُلِّمَ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ

ذكر من قال ذلك: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بشر ابن عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «عَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» ، وَهِيَ هَذِهِ الأَسْمَاءُ الَّتِي يَتَعَارَفُ بِهَا النَّاسُ: إِنْسَانٌ، وَدَابَّةٌ، وَأَرْضٌ، وَسَهْلٌ، وَبَحْرٌ، وَجَبَلٌ، وَحِمَارٌ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الأُمَمِ وَغَيْرِهَا. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الأَهْوَازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» ، قَالَ: عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى الْفَسْوَةِ وَالْفُسَيَّةِ. حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ الْجَرْمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» قَالَ: عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الْهَنَةِ وَالْهُنَيَّةِ، وَالْفَسْوَةِ وَالضَّرْطَةِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى ابن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» قَالَ: مَا خَلَقَ اللَّهُ تعالى كُلَّهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ سفيان، عَنْ خَصِيفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» قَالَ: عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ

حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ سَالِمٍ الأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى الْبَعِيرِ، وَالْبَقَرَةِ، وَالشَّاةِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» ، قَالَ: عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ: هَذَا جَبَلٌ، وَهَذَا بَحْرٌ، وَهَذَا كَذَا، وَهَذَا كَذَا، لِكُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ، فَقَالَ: «أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» . حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ عَزَّ وجل: و «عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» حَتَّى بَلَغَ «إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» ، قَالَ: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، فَأَنْبَأَ كُلَّ صِنْفٍ مِنَ الْخَلْقِ بِاسْمِهِ، وَأَلْجَأَهُ إِلَى جِنْسِهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حدثنا الحسين بن داود، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ ومبارك، عن الحسن وأبي بكر، عن الحسن وَقَتَادَةَ، قَالا: عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ، هَذِهِ الخيل، وهذه البغال، والإبل، والجن، والوحش، وجعل يسمي كل شيء برسمه. وقال آخرون: بل إنما علم اسما خاصا من الأسماء، قالوا: والذي علمه أسماء الملائكة. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذلك:

حَدَّثَنِي عَبْدَةُ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ تعالى: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» ، قَالَ: أَسْمَاءُ الْمَلائِكَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ مِثْلَ قَوْلِ هَؤُلاءِ فِي أَنَّ الَّذِي عُلِّمَ آدَمَ مِنَ الأَسْمَاءِ اسْمًا خَاصًّا مِنَ الأَشْيَاءِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا: الَّذِي عُلِّمَ مِنْ ذَلِكَ أَسْمَاءَ ذُرِّيَّتِهِ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» ، قَالَ: أَسْمَاءَ ذُرِّيَّتِهِ، فَلَمَّا «عَلَّمَ اللَّهُ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» عَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَهْلَ الأَسْمَاءِ عَلَى الْمَلائِكَةِ، فَقَالَ لَهُمْ: «أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ، وإنما قال ذلك عز وجل للملائكة- فيما ذكر- لقولهم إذ قال لهم: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» : «أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ» فعرض- بعد ان خلق آدم ع ونفخ فيه الروح، وعلمه أسماء كل شيء- مما خلق من الخلق- عليهم، فقال لهم: «أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» أني إن جعلت منكم خليفتي في الأرض أطعتموني وسبحتموني وقدستموني ولم تعصوني، وإن جعلته من غيركم أفسد فيها وسفك، فإنكم إن لم تعلموا ما أسماؤهم وأنتم مشاهدوهم ومعاينوهم، فأنتم بألا تعلموا ما يكون من أمركم- إن جعلت خليفتي في الأرض منكم، أو من غيركم إن جعلته من غيركم، فهم عن أبصاركم غُيَّبٌ لا ترونهم ولا تعاينونهم، ولم تخبروا بما هو كائن منكم ومنهم- أحرى

وهذا قول روي عن جماعة من السلف. ذكر بعض من روي ذلك عنه: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي- في خبر ذكره- عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني، عن عبد الله بن مسعود- وعن ناس من اصحاب النبي ص: «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» أَنَّ بَنِي آدَمَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لَمْ أَجْعَلْ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ جَلَّ جَلالَهُ قَالَ ذَلِكَ لِلْمَلائِكَةِ لأَنَّهُ جَلَّ جَلالَهُ لَمَّا ابْتَدَأَ فِي خَلْقِ آدَمَ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: لِيَخْلُقُ رَبُّنَا مَا شَاءَ أَنْ يَخْلُقَ، فَلَنْ يخلق خلقا إلا كنا أعلم منه، وأكرم عليه منه، فلما خلق آدم ع وَعَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلَّ شَيْءٍ عَرَضَ الأَشْيَاءَ الَّتِي علم آدم أسمائها عليهم، فقال لهم: «أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» فِي قِيلِكُمْ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقًا إِلا كُنْتُمْ أَعْلَمَ مِنْهُ، وَأَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْهُ. ذكر من قال ذلك: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: قوله: «وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، فاستشار الملائكة في خلق آدم ع ف قالُوا: «أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ» ، وقد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكره إلى الله عز وجل من سفك الدماء والفساد في الأرض،

«وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ» ، فَكان في علم الله عز وجل انه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة. قال: وذكر لنا أن ابْنِ عَبَّاسٍ كان يقول: إن الله تعالى لما أخذ في خلق آدم قالت الملائكة: ما الله تعالى بخالق خلقا أكرم عليه منا، ولا أعلم منا، فابتلوا بخلق آدم ع- وكل خلق مبتلى، كما ابتليت السموات والأرض بالطاعة- فقال الله تعالى: «ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» . حَدَّثَنَا القاسم، قال: حَدَّثَنَا الحسين بن داود، قال: حَدَّثَنِي حجاج، عن جرير بن حازم، ومبارك عن الحسن وأبي بكر عن الحسن وقتادة قالا: قال الله عز وجل للملائكة: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» قال لهم: إني فاعل، فعرضوا برأيهم، فعلمهم علما وطوى منهم علما علمه لا يعلمونه، فقالوا بالعلم الذي علمهم: «أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ» - وقد كانت الملائكة علمت من علم الله تعالى أنه لا ذنب عند الله تعالى أعظم من سفك الدِّمَاءَ- «وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ» ، فلما أخذ تعالى في خلق آدم ع همست الملائكة فيما بينهم، فقالوا: ليخلق ربنا عز وجل ما شاء أن يخلق، فلن يخلق خلقا إلا كنا أعلم منه، وأكرم عليه منه، فلما خلقه ونفخ فيه من روحه أمرهم أن يسجدوا له لما قالوا، ففضله عليهم، فعلموا أنهم ليسوا بخير منه، فقالوا: إن لم نكن خيرا منه، فنحن أعلم منه، لأنا كنا قبله، وخلقت الأمم قبله،

فلما أعجبوا بعلمهم ابتلوا، «فعلم آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» أني لم أخلق خلقا إلا كنتم أعلم منه، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالا: ففزع القوم إلى التوبة، وإليها يفزع كل مؤمن، فقالوا: «سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» لقولهم: ليخلق ربنا ما شاء، فلن يخلق خلقا أكرم عليه منا، ولا أعلم منا، قال: علمه اسم كل شيء: هذه الخيل، وهذه البغال، والإبل، والجن، والوحش، وجعل يسمي كل شيء باسمه، وعرضت عليه أمة أمة، قال: «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» ، قال: اما ما أبدوا فقولهم: «أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ» ، وأما ما كتموا فقولهم بعضهم لبعض: نحن خير منه وأعلم. حَدَّثَنَا عَمَّارُ بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أَنَسٍ: «ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» إِلَى قَوْلِهِ: «إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ » ، قَالَ: وَذَلِكَ حِينَ قَالُوا: «أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ» إِلَى قَوْلِهِ «وَنُقَدِّسُ لَكَ» قَالَ: فَلَمَّا عَرَفُوا أَنَّهُ جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا بَيْنَهُمْ: لَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تعالى خَلْقًا إِلا كُنَّا نَحْنُ أَعْلَمُ مِنْهُ وَأَكْرَمُ عَلَيْهِ، فَأَرَادَ اللَّهُ تعالى أَنْ يُخْبِرَهُمْ أَنَّهُ قَدْ فَضَّلَ عَلَيْهِمْ آدَمَ، وَعَلَّمَهُ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا، وَقَالَ

لِلْمَلائِكَةِ: «أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» إِلَى «وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» ، فَكَانَ الَّذِي أَبْدَوْا حِينَ قالُوا: «أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ» ، وَكَانَ الَّذِي كَتَمُوا بَيْنَهُمْ قَوْلُهُمْ: لَنْ يَخْلُقَ رَبُّنَا خَلْقًا إِلا كُنَّا نَحْنُ أَعْلَمُ مِنْهُ وَأَكْرَمُ، فَعَرَفُوا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَضَّلَ عَلَيْهِمْ آدَمَ فِي الْعِلْمِ وَالْكَرَمِ. فَلَمَّا ظَهَرَ لِلْمَلائِكَةِ مِنَ اسْتِكْبَارِ إِبْلِيسَ مَا ظَهَرَ، وَمِنْ خِلافِهِ أَمْرَ رَبِّهِ مَا كَانَ مُسْتَتِرًا عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ، عَاتَبَهُ رَبُّهُ عَلَى مَا أَظْهَرَ مِنْ مَعْصِيَتِهِ إِيَّاهُ بِتَرْكِهِ السُّجُودَ لآدَمَ، فَأَصَرَّ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، وَأَقَامَ عَلَى غَيِّهِ وَطُغْيَانِهِ- لَعَنَهُ اللَّهُ- فَأَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَطَرَدَهُ مِنْهَا، وَسَلَبَهُ مَا كَانَ آتَاهُ مِنْ مُلْكِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَالأَرْضِ، وَعَزَلَهُ عن خزن الجنه فقال له جَلَّ جَلالُهُ: «فَاخْرُجْ مِنْها» ، يَعْنِي مِنَ الْجَنَّةِ «فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ» ، وَهُوَ بَعْدُ فِي السَّمَاءِ لَمْ يَهْبِطْ إِلَى الارض. واسكن اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حِينَئِذٍ آدَمَ جَنَّتَهُ، كَمَا حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي- في خبر ذكره- عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود- وعن ناس من اصحاب رسول الله ص: فَأُخْرِجَ إِبْلِيسُ مِنَ الْجَنَّةِ حِينَ لُعِنَ وَأُسْكِنَ آدَمُ الْجَنَّةَ، فَكَانَ يَمْشِي فِيهَا وَحْشِيًّا لَيْسَ لَهُ زَوْجٌ يَسْكُنُ إِلَيْهَا، فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ، فَإِذَا عِنْدَ رَأْسِهِ امْرَأَةٌ قَاعِدَةٌ خَلَقَهَا اللَّهُ مِنْ ضِلْعِهِ، فَسَأَلَهَا: مَا أَنْتِ؟ قَالَتِ: امْرَأَةٌ، قَالَ: وَلِمَ خُلِقْتِ؟ قَالَتْ:

لِتَسْكُنَ إِلَيَّ، قَالَتْ لَهُ الْمَلائِكَةُ يَنْظُرُونَ مَا بَلَغَ عِلْمُهُ: مَا اسْمُهَا يَا آدَمُ؟ قَالَ: حَوَّاءُ، قَالُوا: لِمَ سُمِّيَتْ حَوَّاءَ؟ قَالَ: لأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ شَيْءٍ حَيٍّ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما» . حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما فرغ الله تعالى من معاتبه ابليس اقبل على آدم ع وقد علمه الأسماء كلها، فقال: «يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ» إِلَى «وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» ، قال: ثم ألقى السنة على آدم- فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم- عن عبد الله بن العباس وغيره، ثم أخذ ضلعا من أضلاعه من شقه الأيسر، ولأم مكانها لحما، وآدم ع نائم لم يهب من نومته، حتى خلق الله تعالى من ضلعه تلك زوجه حواء، فسواها امراه ليسكن إليها، فلما كشف عنه السنة وهب من نومته رآها إلى جنبه، فقال- فيما يزعمون والله أعلم: لحمي ودمي وزوجتي، فسكن إليها، فلما زوجه الله عز وجل وجعل له سكنا من نفسه، قال له قبلا: «يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ» . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَخَلَقَ مِنْها

زَوْجَها» قال: حواء من قصيرى آدم، وهو ناعم فَاسْتَيْقَظَ فَقَالَ: أثا بِالنَّبَطِيَّةِ، امْرَأَةٌ. حَدَّثَنَا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها» ، يَعْنِي حَوَّاءَ، خُلِقَتْ مِنْ آدَمَ مِنْ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلاعِهِ

القول في ذكر امتحان الله تعالى أبانا آدم ع

القول في ذكر امتحان الله تعالى أبانا آدم ع وابتلائه إياه بما امتحنه به من طاعته، وذكر ركوب آدم معصية ربه بعد الذي كان أعطاه من كرامته وشريف المنزلة عنده، ومكنه في جنته من رغد العيش وهنيئه، وما أزال ذلك عنه، فصار من نعيم الجنة ولذيذ رغد العيش إلى نكد عيش أهل الأرض وعلاج الحراثة والعمل بالمساحي والزراعة فيها. فلما أسكن الله عز وجل آدم ع وزوجه اطلق لهما ان يأكلا كل ما شاء أكله من كل ما فيها من ثمارها، غير ثمر شجرة واحدة ابتلاء منه لهما بذلك، وليمضي قضاء الله فيهما وفي ذريتهما، كما قال عز وجل: «وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ» ، فوسوس لهما الشيطان حتى زين لهما أكل ما نهاهما ربهما عن أكله من ثمر تلك الشجرة، وحسن لهما معصية الله في ذلك، حتى أكلا منها، فبدت لهما من سوآتهما ما كان موارى عنهما منها فكان وصول عدو الله إبليس إلى تزيين ذلك لهما ما ذكر في الخبر الذي حَدَّثَنِي موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي- في خبر ذكره- عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- وَعَنْ أُنَاسٍ مِنْ اصحاب النبي ص، قَالَ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لآدَمَ: «اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ» ، أَرَادَ إِبْلِيسُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِمَا الجنه

فمنعه الْخَزَنَةُ، فَأَتَى الْحَيَّةَ، وَهِيَ دَابَّةٌ لَهَا أَرْبَعُ قَوَائِمَ، كَأَنَّهَا الْبَعِيرُ، وَهِيَ كَأَحْسَنِ الدَّوَابِّ فَكَلَّمَهَا أَنْ تُدْخِلَهُ فِي فَمِهَا حَتَّى تَدْخُلَ بِهِ إِلَى آدَمَ، فَأَدْخَلَتْهُ فِي فَمِهَا، فَمَرَّتِ الْحَيَّةُ على الخزنه فدخلت وَهُمْ لا يَعْلَمُونَ، لِمَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الأَمْرِ، فَكَلَّمَهُ مِنْ فَمِهَا وَلَمْ يُبَالِ كَلامَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَقَالَ: «يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى» ، يَقُولُ: هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةٍ إِنْ أَكَلْتَ مِنْهَا كُنْتَ مَلِكًا مِثْلَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ فَلا تَمُوتَانِ أَبَدًا وَحَلَفَ لَهُمَا بِاللَّهِ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ يُبْدِيَ لَهُمَا مَا تَوَارَى عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا بِهَتْكِ لِبَاسِهِمَا، وَكَانَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ لَهُمَا سَوْءَةً لِمَا كَانَ يَقْرَأُ مِنْ كُتُبِ الْمَلائِكَةِ، وَلَمْ يَكُنْ آدَمُ يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَكَانَ لِبَاسُهُمَا الظُّفُرَ، فَأَبَى آدَمُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، فَتَقَدَّمَتْ حَوَّاءُ فَأَكَلَتْ، ثُمَّ قَالَتْ: يَا آدَمُ كُلْ، فَإِنِّي قَدْ أَكَلْتُ، فلم يضرني، فلما اكل بدت لَهُما سَوْآتُهُما، وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ» . حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن ليث ابن أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ طَاوُسٍ الْيَمَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ عَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى دَوَابِّ الأَرْضِ: أَيِّهَا تَحْمِلُهُ حَتَّى تدخل بِهِ الْجَنَّةَ حَتَّى يُكَلِّمَ آدَمَ وَزَوْجَهُ، فَكُلُّ الدَّوَابِّ أَبَى ذَلِكَ عَلَيْهِ، حَتَّى كَلَّمَ الْحَيَّةَ، فَقَالَ لَهَا: أَمْنَعُكِ مِنْ بَنِي آدَمَ، فَأَنْتِ فِي ذِمَّتِي إِنْ أَنْتِ أَدْخَلْتِنِي الْجَنَّةَ، فَجَعَلَتْهُ بَيْنَ نَابَيْنِ مِنْ أَنْيَابِهَا ثُمَّ دَخَلَتْ بِهِ، فَكَلَّمَهُمَا مِنْ فَمِهَا وَكَانَتْ كَاسِيَةً تَمْشِي عَلَى أَرْبَعِ قَوَائِمَ، فَأَعْرَاهَا اللَّهُ تَعَالَى وَجَعَلَهَا تَمْشِي عَلَى بَطْنِهَا، قَالَ: يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ: اقْتُلُوهَا حَيْثُ وَجَدْتُمُوهَا، وَاخْفِرُوا ذِمَّةَ عَدُوِّ اللَّهِ فِيهَا

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عمر بن عبد الرحمن بن مهرب، قال: سمعت وهب بن منبه يقول: لما أسكن الله تعالى آدم وزوجته الجنة، ونهاه عن الشجرة، وكانت شجرة غصونها متشعب بعضها في بعض، وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم، وهي الثمرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، فلما أراد إبليس أن يستزلهما دخل في جوف الحية، وكان للحية أربع قوائم، كأنها بختية من أحسن دابة خلقها الله تعالى، فلما دخلت الحيه الجنة خرج من جوفها إبليس، فأخذ من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، فجاء بها إلى حواء، فقال: انظري إلى هذه الشجرة، ما أطيب ريحها، وأطيب طعمها، وأحسن لونها! فأخذت حواء فأكلت منها، ثم ذهبت بها إلى آدم، فقالت: أنظر إلى هذه الشجرة ما أطيب ريحها، وأطيب طعمها، وأحسن لونها! فأكل منها آدم، فبدت لهما سوآتهما، فدخل آدم في جوف الشجرة، فناداه ربه: يا آدم، أين أنت؟ قال: أنا هذا يا رب، قال: ألا تخرج؟ قال: أستحي منك يا رب، قال: ملعونة الأرض التي خلقت منها لعنة حتى يتحول ثمارها شوكا! قال: ولم يكن في الجنة ولا في الأرض شجرة كانت أفضل من الطلح والسدر. ثم قال: يا حواء، أنت التي غررت عبدي، فإنك لا تحملين حملا إلا حملته كرها، فإذا أردت أن تضعي ما في بطنك أشرفت على الموت مرارا وقال للحية: أنت التي دخل الملعون في بطنك حتى غر عبدي، ملعونة أنت لعنة حتى تتحول قوائمك في بطنك، ولا يكن لك رزق إلا التراب، أنت عدوة بني آدم وهم أعداؤك، حيث لقيت أحدا منهم أخذت بعقبه، وحيث لقيك شدخ رأسك

قيل لوهب: وما كانت الملائكة تأكل؟ قال: يفعل الله ما يشاء. حَدَّثَنَا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس، قال: نهى الله تعالى آدم وحواء أن يأكلا من شجرة واحدة في الجنة، ويأكلا منها رغدا حيث شاءا، فجاء الشيطان فدخل في جوف الحية، فكلم حواء، ووسوس إلى آدم فقال: «مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ» قال: فقطعت حواء الشجرة فدميت الشجرة، وسقط عنهما رياشهما الذي كان عليهما، «وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ» لم أكلتها وقد نهيتك عنها؟ قال: يا رب أطعمتني حواء، قال لحواء: لم أطعمته؟ قالت: أمرتني الحية، قال للحية: لم أمرتها؟ قالت: أمرني إبليس، قال: ملعون مدحور! أما أنت يا حواء، فكما أدميت الشجرة تدمين في كل هلال، وأما أنت يا حية، فأقطع قوائمك فتمشين جريا على وجهك، وسيشدخ رأسك من لقيك بالحجر، اهبطوا بعضكم لبعض عدو. حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: حَدَّثَنِي محدث أن الشيطان دخل الجنة في صورة دابة ذات قوائم، فكان يرى أنه البعير، قال: فلعن فسقطت قوائمه فصار حية. حدثت عن عمار، قال: حَدَّثَنَا عبد الله بن أبي جعفر، عن

أبيه، عن الربيع قال: وحدثني أبو العالية، قال: إن من الإبل ما كان أولها من الجن قال: فأبيحت له الجنة كلها- يعنى آدم- الا الشجرة، وقيل لهما: «لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ» ، قال: فأتى الشيطان حواء فبدأ بها، فقال: نهيتما عن شيء؟ قالت: نعم، عن هذه الشجرة، فقال: «ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ» قال: فبدت حواء فأكلت منها، ثم أمرت آدم فأكل منها قال: وكانت شجرة، من أكل منها أحدث، قال: ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث، قال: «فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ» ، قال: فأخرج آدم من الجنة. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ العلم أن آدم ع حين دخل الجنة ورأى ما فيها من الكرامة، وما أعطاه الله منها، قال: لو أنا خلدنا! فاغتمز فيها منه الشيطان لما سمعها منه، فأتاه من قبل الخلد. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حدثت أن أول ما ابتدأهما به من كيده إياهما أنه ناح عليهما نياحة أحزنتهما حين سمعاها، فقالا له: ما يبكيك؟ قال: أبكي عليكما،

تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة والكرامة فوقع ذلك في أنفسهما، ثم أتاهما فوسوس إليهما، فقال: يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى؟ وقال: «ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ» ، أي تكونان ملكين أو تخلدان، أي إن لم تكونا ملكين في نعمة الجنة فلا تموتان يقول الله عز وجل: «فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ» . حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله سبحانه وتعالى: «فَوَسْوَسَ» : وسوس الشيطان إلى حواء في الشجرة حتى اتى بها إليها، ثم حسنتها في عين آدم، قال: فدعاها آدم لحاجته، قالت: لا: الا ان تأتي هاهنا، فلما أتى قالت: لا، إلا أن تأكل من هذه الشجرة، قال: فأكلا منها، فبدت لهما سوءاتهما قال: وذهب آدم هاربا في الجنة، فناداه ربه: يا آدم، أمني تفر؟ قال: لا يا رب، ولكن حياء منك، قال: يا آدم، انى اتيت؟ قال: من قبل حواء يا رب، فقال الله عز وجل: فإن لها علي أن أدميها في كل شهر مرة، كما أدمت هذه الشجرة، وأن أجعلها سفيهة، وقد كنت خلقتها حليمة، وأن أجعلها تحمل كرها وتضع كرها، وقد كنت جعلتها تحمل يسرا وتضع يسرا قال ابن زيد: ولولا البلية التي أصابت حواء لكان نساء أهل الدنيا لا يحضن، ولكن حليمات، ولكن يحملن يسرا،. ويضعن يسرا. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الله بن قسيط، عن سعيد بن المسيب، قال: سمعته يحلف بالله ما يستثني: ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل، ولكن حواء سقته

الخمر حتى إذا سكر قادته إليها، فأكل منها فلما واقع آدم وحواء الخطيئة، أخرجهما الله تعالى من الجنه وسلبهما ما كانا فيه من النعمة والكرامة، وأهبطهما وعدوهما إبليس والحية إلى الأرض، فقال لهم ربهم: اهبطوا بعضكم لبعض عدو. وكالذي قلنا في ذلك قال السلف من أهل العلم. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرحمن ابن مَهْدِيٍّ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: «اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» ، قَالَ: آدَمُ وَحَوَّاءُ وَإِبْلِيسُ وَالْحَيَّةُ. حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، وَمُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالا: حَدَّثَنَا عمرو ابن حَمَّادٍ، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ- فِي خَبَرٍ ذكره- عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني، عن ابْنِ مَسْعُودٍ- وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله ص: «اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» ، فَلَعَنَ الْحَيَّةَ فَقَطَعَ قَوَائِمَهَا، وَتَرَكَهَا تَمْشِي عَلَى بَطْنِهَا، وَجَعَلَ رِزْقَهَا مِنَ التُّرَابِ، وَأَهْبَطَ إِلَى الأَرْضِ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِبْلِيسَ وَالْحَيَّةَ. حَدَّثَنِي محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله عز وجل: «اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» ، قال: آدم وحواء وإبليس والحية

القول في قدر مكث آدم في الجنه ووقت خلق الله عز وجل اياه ووقت إهباطه اياه من السماء إلى الارض

القول في قدر مكث آدم في الجنة ووقت خلق الله عز وجل إياه ووقت إهباطه إياه من السماء إلى الأرض قد تظاهرت الاخبار عن رسول الله ص بان الله عز وجل خلق آدم ع يوم الجمعة، وأنه أخرجه فيه من الجنة، وأهبطه إلى الأرض فيه، وأنه فيه تاب عليه، وفيه قبضه. ذكر الأخبار عن رسول الله ص بذلك: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ، عن عمرو بن شرحبيل عن سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ سَعْدِ بن عباده، [عن رسول الله ص، قَالَ: إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ خَمْسَ خِلالٍ: فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُهْبِطَ إِلَى الأَرْضِ، وَفِيهِ تَوَفَّى اللَّهُ آدَمَ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لا يَسْأَلُ الْعَبْدُ فِيهَا رَبَّهُ شَيْئًا إِلا أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، مَا لَمْ يَسْأَلْ إِثْمًا أَوْ قَطِيعَةً، وَفِيهِ: تَقُومُ السَّاعَةُ، وَمَا مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلا سَمَاءٍ وَلا جَبَلٍ وَلا أَرْضٍ وَلا رِيحٍ، إِلا مُشْفِقٌ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ] . حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، [أَنَّ النَّبِيَّ ص قَالَ: سَيِّدُ الأَيَّامِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَأَعْظَمُهَا وَأَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ، وَفِيهِ خَمْسُ خِلالٍ: خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ آدَمَ، وَأَهْبَطَهُ فِيهِ إِلَى الأَرْضِ، وَفِيهِ تَوَفَّى اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لا يَسْأَلُ اللَّهَ الْعَبْدُ شَيْئًا إِلا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ مَا لَمْ يَكُنْ حَرَامًا وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، مَا مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلا سَمَاءٍ وَلا أَرْضٍ وَلا جِبَالٍ وَلا رِيَاحٍ وَلا بَحْرٍ إِلا وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، أَنْ تَقُومَ فِيهِ السَّاعَةُ] . وَاللَّفْظُ لِحَدِيثِ ابْنِ بَشَّارٍ

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عامر، قال: حدثنا زهير ابن مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، [أَنَّ رَجُلا اتى النبي ص، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنَا عَنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، مَاذَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ؟ فَقَالَ: فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُهْبِطَ آدَمُ، وَفِيهِ تَوَفَّى آدَمَ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لا يَسْأَلُ الْعَبْدُ فِيهَا شَيْئًا إِلا أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، مَا لَمْ يَسْأَلْ مَأْثَمًا أَوْ قَطِيعَةً، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، مَا مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلا سَمَاءٍ وَلا أَرْضٍ وَلا جِبَالٍ وَلا رِيحٍ إِلا هُنَّ يُشْفِقْنَ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ] . حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: [قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتِ الشَّمْسُ عَلَيْهِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةُ وَأُخْرِجَ مِنْهَا] . حَدَّثَنِي بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: [قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: سَيِّدُ الأَيَّامِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَلا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلا يَوْمَ الْجُمَعَةِ] . حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: [قَالَ رسول الله ص: لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ عَلَى يَوْمٍ مِثْلَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَفِيهِ أُعِيدَ فِيهَا] . حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ وَمُغِيرَةُ، عَنْ زِيَادِ بْنِ كُلَيْبٍ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْقَرْثَعِ الضَّبِّيِّ- وَكَانَ الْقَرْثَعُ

مِنَ الْقُرَّاءِ الأَوَّلِينَ- قَالَ: [قَالَ سَلْمَانُ: قَالَ لي رسول الله ص: يَا سَلْمَانُ، أَتَدْرِي مَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، يَقُولُهَا ثَلاثًا: يَا سَلْمَانُ، أَتَدْرِي مَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ؟ فِيهِ جُمِّعَ أَبُوكَ، أَوْ أَبُوكُمْ] . حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ الأَسَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ كَعْبًا يَقُولُ: خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يوم الجمعه، فيه خلق آدم ع، وَفِيهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ. حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ يَزِيدَ الآدَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا روح بن عبادة، قَالَ: حَدَّثَنَا زكرياء بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ شَمْسُهُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ أَفْضَلُ الأَيَّامِ: فِيهِ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ آدَمَ، خَلَقَهُ عَلَى مِثْلِ صُورَتِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ عَطَسَ آدَمُ فَأَلْقَى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ الْحَمْدَ، فَقَالَ اللَّهُ: يَرْحَمُكَ رَبُّكَ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي كُدَيْنَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ زِيَادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ الْقَرْثَعِ، [عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: قال رسول الله ص: أَتَدْرِي مَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ؟ هُوَ يَوْمٌ جُمِّعَ فيه ابوك، او أبوكم آدم ع] . حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: [قَالَ سَلْمَانُ قَالَ لي رسول الله ص: يَا سَلْمَانُ، أَتَدْرِي مَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ؟ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا، قَالَ: هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي جُمِّعَ فِيهِ أَبُوكُمْ آدَمُ، أَوْ جُمِّعَ فِيهِ أَبُوكُمْ] . حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَيْسٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الْقَرْثَعِ، [عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: قَالَ

رسول الله ص: اتدرى ما الْجُمُعَةِ؟ أَوْ قَالَ: كَذَا، فِيهَا جُمِّعَ أَبُوكُمْ آدَمُ] . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْقَرْثَعِ، [عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ الله ص: أَتَدْرِي مَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فِيهِ جُمِّعَ أَبُوكَ]

ذكر الوقت الذى فيه خلق آدم ع من يوم الجمعه والوقت الذى اهبط إلى الارض

ذكر الوقت الذى فيه خلق آدم ع من يوم الجمعة والوقت الذي أهبط إلى الأرض اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ وَغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: [قَالَ رَسُولُ الله ص: خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُسْكِنَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ اهبط، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعه- يقللها- لا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ تعالى فيها خيرا الا آتاه الله إِيَّاهُ،] فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ: قَدْ عَلِمْتُ أَيُّ سَاعَةٍ هِيَ، هِيَ آخِرُ سَاعَاتِ النَّهَارِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ» . حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ وَعَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَأَسَدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ ابى هريرة، عن النبي ص نَحْوَهُ، وَذَكَرَ فِيهِ كَلامَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله عز وجل: «خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ» ، قَالَ: قَوْلُ آدَمَ حِينَ خُلِقَ بَعْدَ كُلِّ شيء آخر النهار من يوم الجمعه، خُلِقَ الْخَلْقُ، فَلَمَّا أَحْيَا الرُّوحُ عَيْنَيْهِ وَلِسَانَهُ وَرَأْسَهُ وَلَمْ يَبْلُغْ أَسْفَلَهُ، قَالَ: يَا رَبِّ اسْتَعْجِلْ بِخَلْقِي قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ

حدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: «خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ» ، قَالَ: آدَمُ حِينَ خُلِقَ بعد كل شيء، ثم ذكره نحوه، غير أنه قال في حديثه: استعجل بخلقي، قد غربت الشمس. حَدَّثَنِي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: «خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ» ، قال: على عجل خلق آدم آخر ذلك اليوم من ذينك اليومين- يريد يوم الجمعة- وخلقه على عجلة وجعله عجولا. وقد زعم بعضهم أن الله عز وجل أسكن آدم وزوجته الفردوس لساعتين مضتا من نهار يوم الجمعة، وقيل لثلاث ساعات مضين منه، وأهبطه إلى الأرض لسبع ساعات مضين من ذلك اليوم، فكان مقدار مكثهما في الجنة خمس ساعات منه وقيل: كان ذلك ثلاث ساعات وقال بعضهم: اخرج آدم ع من الجنه الساعة التاسعة أو العاشرة ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: قال أبو جعفر: قرأت على عبدان بن محمد المروزي، قال: حَدَّثَنَا عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أنس عن أبي العالية، قال: أخرج آدم من الجنة للساعة التاسعة أو العاشرة، فقال لي: نعم، لخمسة أيام مضين من نيسان. فإن كان قائل هذا القول أراد الله أن تبارك وتعالى أسكن آدم وزوجته الفردوس لساعتين مضتا من نهار يوم الجمعة من أيام أهل الدنيا التي هي على

ما هي به اليوم، فلم يبعد قوله من الصواب في ذلك، لأن الأخبار إذا كانت واردة عن السلف من أهل العلم، بأن آدم خلق في آخر ساعة من اليوم السادس من الأيام التي مقدار اليوم الواحد منها ألف سنة من سنيننا فمعلوم أن الساعة الواحدة من ساعات ذلك اليوم ثلاثة وثمانون عاما من أعوامنا، وقد ذكرنا أن آدم بعد أن خمر ربنا عز وجل طينته بقي قبل أن ينفخ فيه الروح أربعين عاما، وذلك لا شك أنه عنى به من أعوامنا وسنيننا، ثم من بعد أن نفخ فيه الروح إلى أن تناهى أمره، وأسكن الفردوس، وأهبط إلى الأرض- غير مستنكر أن يكون كان مقداره من سنيننا قدر خمس وثلاثين سنة فإن كان أراد أنه أسكن الفردوس لساعتين مضتا من نهار يوم الجمعة من الأيام التي مقدار اليوم الواحد منها ألف سنة من سنيننا، فقد قال غير الحق، وذلك أن جميع من حفظ له قول في ذلك من أهل العلم، فإنه كان يقول إن آدم نفخ فيه الروح في آخر النهار من يوم الجمعة قبل غروب الشمس من ذلك اليوم ثم الاخبار عن رسول الله ص متظاهرة بأن الله تبارك وتعالى أسكنه الجنة فيه، وفيه أهبطه إلى الأرض فإن كان ذلك صحيحا، فمعلوم أن آخر ساعة من نهار يوم من أيام الآخرة ومن الأيام التي اليوم الواحد منها مقداره ألف سنة من سنيننا، إنما هي ساعة بعد مضي إحدى عشرة ساعة، وذلك ساعة من اثنتي عشرة ساعة، وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر من سنيننا، فآدم صلوات الله عليه إذ كان الأمر كذلك، إنما خلق لمضي إحدى عشرة ساعة من نهار يوم الجمعة من الأيام التي اليوم الواحد منها ألف سنة من سنيننا، فمكث جسدا ملقى لم ينفخ فيه الروح أربعين عاما من أعوامنا ثم نفخ فيه الروح فكان مكثه في السماء بعد ذلك ومقامه في الجنة، إلى أن أصاب الخطيئة وأهبط إلى الأرض ثلاثا وأربعين سنة من سنيننا وأربعة أشهر، وذلك ساعة من ساعات يوم من الأيام الستة التي خلق الله تعالى فيها الخلق

وَقَدْ حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَرَجَ آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ: صَلاةِ الظُّهْرِ وَصَلاةِ الْعَصْرِ، فَأُنْزِلَ إِلَى الأَرْضِ وَكَانَ مُكْثُهُ فِي الْجَنَّةِ نصف يوم يوم من ايام الآخرة، وهو خمسمائة سَنَةٍ، مِنْ يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَاعَةً، وَالْيَوْمُ أَلْفُ سَنَةٍ مِمَّا يَعُدُّ أَهْلُ الدُّنْيَا، وَهَذَا أَيْضًا قَوْلٌ خِلافُ مَا وَرَدَتْ به الاخبار عن رسول الله ص، وَعَنِ السَّلَفِ مِنْ عُلَمَائِنَا.

القول في الموضع الذى اهبط آدم وحواء اليه من الارض حين اهبطا إليها

القول في الموضع الذي أهبط آدم وحواء إليه من الأرض حين أهبطا إليها ثم إن الله عز وجل أهبط آدم قبل غروب الشمس من اليوم الذي خلقه فيه- وذلك يوم الجمعة- من السماء مع زوجته، وأنزل آدم- فيما قال علماء سلف أمة نبينا ص- بالهند. ذكر من حضرنا ذكره ممن قال ذلك منهم: 220- حَدَّثَنَا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: أهبط الله عز وجل آدم إلى الأرض، وكان مهبطه بأرض الهند. حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قال: إِنَّ أَوَّلَ مَا أَهْبَطَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ أهبطه بدهنا أَرْضِ الْهِنْدِ. حدثت عن عمار، قال: حَدَّثَنَا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، قال: أهبط آدم إلى الهند. حَدَّثَنِي ابْنُ سِنَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بن سلمة، عن عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: [قال على بن ابى طالب ع: أَطْيَبُ أَرْضٍ فِي الأَرْضِ رِيحًا أَرْضُ الْهِنْدِ، أُهْبِطَ بِهَا آدَمُ، فَعَلِقَ شَجَرُهَا مِنْ رِيحِ الْجَنَّةِ] . حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: أُهْبِطَ آدَمُ بِالْهِنْدِ، وَحَوَّاءُ بِجِدَّةَ، فَجَاءَ فِي طَلَبِهَا حَتَّى اجْتَمَعَا، فَازْدَلَفَتْ إِلَيْهِ حَوَّاءُ، فَلِذَلِكَ

سُمِّيَتِ الْمُزْدَلِفَةَ، وَتَعَارَفَا بِعَرَفَاتٍ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ عَرَفَاتٍ، وَاجْتَمَعَا بِجَمْعٍ فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ جَمْعًا قَالَ: وَأُهْبِطَ آدَمُ عَلَى جَبَلٍ بِالْهِنْدِ يُقَالُ لَهُ بُوذُ. حدثنا أبو همام، قال: حدثني أبي، قال: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي يَحْيَى بَائِعِ الْقَتِّ، قَالَ: قَالَ لِي مُجَاهِدٌ: لَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ آدَمَ نَزَلَ حِينَ نَزَلَ بِالْهِنْدِ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: وأما أهل التوراة فإنهم قالوا: أهبط آدم بالهند على جبل يقال له واسم، عند وإذ يقال له بهيل بين الدهنج والمندل: بلدين بأرض الهند قالوا: وأهبطت حواء بجدة من أرض مكة. وقال آخرون: بل أهبط آدم بسرنديب، على جبل يدعى بوذ، وحواء بجدة من أرض مكة، وإبليس بميسان، والحية بأصبهان وقد قيل: أهبطت الحية بالبرية، وإبليس بساحل بحر الأيلة. وهذا مما لا يوصل إلى علم صحته إلا بخبر يجيء مجيء الحجة، ولا يعلم خبر في ذلك ورد كذلك، غير ما ورد من خبر هبوط آدم بأرض الهند، فإن ذلك مما لا يدفع صحته علماء الإسلام وأهل التوراة والإنجيل، والحجة قد ثبتت بأخبار بعض هؤلاء وذكر أن الجبل الذي اهبط عليه آدم ع ذروته من أقرب ذرا جبال الأرض إلى السماء، وأن آدم حين أهبط عليه كانت رجلاه عليه ورأسه في السماء يسمع دعاء الملائكة وتسبيحهم، فكان آدم يأنس بذلك، وكانت

الملائكة تهابه، فنقص من طول آدم لذلك. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا هشام بن حسان، عن سوار ختن عطاء، عن عطاء بن أبي رباح، قال: لما أهبط الله عز وجل آدم من الجنة كان رجلاه في الأرض، ورأسه في السماء، يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم، يأنس إليهم، فهابته الملائكة حتى شكت إلى الله تعالى في دعائها وفي صلاتها، فخفضه الى الارض، فلما فقد ما كان يسمع منهم استوحش حتى شكا ذلك إلى الله عز وجل في دعائه وفي صلاته، فوجه إلى مكة فصار موضع قدمه قرية، وخطوته مفازة، حتى انتهى إلى مكة، وأنزل الله تعالى ياقوتة من ياقوت الجنة، فكانت على موضع البيت الآن، فلم يزل يطوف به حتى أنزل الله تعالى الطوفان، فرفعت تلك الياقوتة حتى بعث الله تعالى ابراهيم الخليل ع فبناه، فذلك قوله تعالى: «وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ» . حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: وضع الله تعالى البيت مع آدم، فكان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض، فكانت الملائكة تهابه، فنقص إلى ستين ذراعا، فحزن آدم إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم، فشكا ذلك إلى الله، فقال الله: يا آدم، إني أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي، وتصلي عنده كما يصلى عند عرشي فانطلق اليه آدم ع، فخرج ومد له في خطوه، فكان بين كل خطوة مفازة، فلم تزل تلك المفاوز بعد ذلك، فاتى آدم ع البيت، فطاف به ومن بعده من الأنبياء

حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: لما حط من طول آدم ع إِلَى سِتِّينَ ذِرَاعًا أَنْشَأَ يَقُولُ: رَبِّ، كُنْتُ جَارَكَ فِي دَارِكَ، لَيْسَ لِي رَبٌّ غَيْرُكَ، وَلا رَقِيبٌ دُونَكَ، آكُلُ فِيهَا رَغَدًا، وَأَسْكُنُ حَيْثُ أَحْبَبْتُ، فَأَهْبَطْتَنِي إِلَى هَذَا الْجَبَلِ الْمُقَدَّسِ، فَكُنْتُ أَسْمَعُ أَصْوَاتَ الْمَلائِكَةِ، وَأَرَاهُمْ كَيْفَ يَحُفُّونَ بِعَرْشِكَ، وَأَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ وَطِيبَهَا، ثُمَّ أَهْبَطْتَنِي إِلَى الأَرْضِ، وَحَطَطْتَنِي إِلَى سِتِّينَ ذِرَاعًا، فَقَدِ انْقَطَعَ عَنِّي الصَّوْتُ وَالنَّظَرُ، وَذَهَبَ عَنِّي رِيحَ الْجَنَّةِ فَأَجَابَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لِمَعْصِيَتِكَ يَا آدَمُ فَعَلْتُ ذَلِكَ بِكَ فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ تَعَالَى عُرْيَ آدَمَ وَحَوَّاءَ أَمَرَهُ أَنْ يَذْبَحَ كَبْشًا مِنَ الضَّأْنِ مِنَ الثَّمَانِيَةِ الأَزْوَاجِ الَّتِي أَنْزَلَ مِنَ الْجَنَّةِ، فَأَخَذَ كَبْشًا فَذَبَحَهُ، ثُمَّ أَخَذَ صُوفَهُ فَغَزَلَتْهُ حَوَّاءُ، وَنَسَجَهُ هُوَ وَحَوَّاءُ، فَنَسَجَ آدَمُ جُبَّةً لِنَفْسِهِ، وَجَعَلَ لِحَوَّاءَ دِرْعًا وخمارا، فلبسا ذلك، واوحى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى آدَمَ أَنْ لِي حَرَمًا بِحِيَالِ عَرْشِي، فَانْطَلِقْ فَابْنِ لِي فِيهِ بَيْتًا، ثم حف به كما رايت ملائكى يَحُفُّونَ بِعَرْشِي، فَهُنَالِكَ أَسْتَجِيبُ لَكَ وَلِوَلَدِكَ، مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي طَاعَتِي، فَقَالَ آدَمُ: أَيْ رَبِّ، فَكَيْفَ لِي بِذَلِكَ، لَسْتُ أَقْوَى عَلَيْهِ وَلا أَهْتَدِي لَهُ! فَقَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَلَكًا، فَانْطَلَقَ بِهِ نَحْوَ مَكَّةَ، فَكَانَ آدَمُ إِذَا مَرَّ بِرَوْضَةٍ وَمَكَانٍ يُعْجِبُهُ قَالَ لِلْمَلَكِ: انْزِلْ بنا هاهنا، فَيَقُولُ لَهُ الْمَلَكُ: مَكَانَكَ، حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَكَانَ كُلُّ مَكَانٍ نَزَلَ بِهِ صَارَ عُمْرَانًا، وَكُلُّ مَكَانٍ تَعَدَّاهُ صَارَ مَفَاوِزَ وَقِفَارًا، فَبَنَى الْبَيْتَ مِنْ خَمْسَةِ أَجْبُلٍ: مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ وَطُورِ زَيْتُونٍ وَلِبْنَانَ وَالْجُودِيِّ، وَبَنَى قَوَاعِدَهُ مِنْ حِرَاءَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَائِهِ خَرَجَ بِهِ الْمَلَكُ إِلَى عَرَفَاتٍ، فَأَرَاهُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا الَّتِي تَفْعَلُهَا النَّاسُ الْيَوْمَ، ثُمَّ قَدِمَ بِهِ مَكَّةَ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ أُسْبُوعًا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَرْضِ الْهِنْدِ، فَمَاتَ عَلَى بُوذَ

حدثنا أبو همام، قال: حدثني أبي، قال: حدثني زياد بن خيثمة، عن أبي يحيى بَائِعِ الْقَتِّ، قَالَ: قَالَ لِي مُجَاهِدٌ: لَقَدْ حدثنى عبد الله ابن عباس ان آدم ع نَزَلَ حِينَ نَزَلَ بِالْهِنْدِ، وَلَقَدْ حَجَّ مِنْهَا أَرْبَعِينَ حِجَّةً عَلَى رِجْلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا الْحَجَّاجِ، أَلا كَانَ يَرْكَبُ؟ قَالَ: فَأَيُّ شيء كان يحمله! فو الله إِنَّ خَطْوَهُ مَسِيرَةُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، وَإِنْ كَانَ رَأْسُهُ لَيَبْلُغُ السَّمَاءَ، فَاشْتَكَتِ الْمَلائِكَةُ نَفَسَهُ، فَهَمَزَهُ الرَّحْمَنُ هَمْزَةً، فَتَطَأْطَأَ مِقْدَارَ أَرْبَعِينَ سَنَةً. حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ حَرْبٍ أَبُو مَعْمَرٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ثُمَامَةُ بْنُ عُبَيْدَةَ السُّلَمِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، قَالَ: قَالَ نَافِعٌ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اوحى الى آدم ع وَهُوَ بِبِلادِ الْهِنْدِ: أَنْ حُجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَحَجَّ آدَمُ مِنْ بِلادِ الْهِنْدِ، فَكَانَ كُلَّمَا وَضَعَ قَدَمَهُ صَارَ قَرْيَةً، وَمَا بَيْنَ خُطْوَتَيْهِ مَفَازَةً، حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ، وَقَضَى الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، ثُمَّ أَرَادَ الرُّجُوعَ إِلَى بِلادِ الْهِنْدِ فَمَضَى، حَتَّى إِذَا كَانَ بِمَأْزِمَيْ عَرَفَاتٍ، تَلَقَّتْهُ الْمَلائِكَةُ، فَقَالُوا: بِرَّ حَجَّكَ يَا آدَمُ! فَدَخَلَهُ مِنْ ذَلِكَ عُجْبٌ، فَلَمَّا رَأَتِ الْمَلائِكَةُ ذَلِكَ مِنْهُ قَالُوا: يَا آدَمُ، إِنَّا قَدْ حَجَجْنَا هَذَا الْبَيْتَ قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ، قَالَ: فَتَقَاصَرَتْ إِلَى آدَمَ نَفْسُهُ. وذكر ان آدم ع أُهْبِطَ إِلَى الأَرْضِ، وَعَلَى رَأْسِهِ إِكْلِيلٌ مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا صَارَ إِلَى الأَرْضِ، وَيَبِسَ الإِكْلِيلُ، تَحَاتَّ وَرَقُهُ فَنَبَتَ مِنْهُ أَنْوَاعُ الطِّيبِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ كَانَ ذَلِكَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُمَا جَعَلا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا يَبِسَ ذَلِكَ الْوَرَقُ الَّذِي خَصَفَاهُ عَلَيْهِمَا تَحَاتَّ فَنَبَتَ مِنْ ذَلِكَ الْوَرَقِ انواع الطيب والله اعلم

وقال آخرون: بل لَمَّا عَلِمَ آدَمُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُهْبِطُهُ إِلَى الأَرْضِ، جَعَلَ لا يَمُرُّ بِشَجَرَةٍ مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ إِلَّا أَخَذَ غُصْنًا مِنْ أَغْصَانِهَا، فَهَبَطَ إِلَى الأَرْضِ وَتِلْكَ الأَغْصَانُ مَعَهُ، فَلَمَّا يَبِسَ وَرَقُهَا تَحَاتَّ، فَكَانَ ذَلِكَ أَصْلُ الطِّيبِ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: 232- حَدَّثَنَا أَبُو هَمَّامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بن خيثمة، عن أبي يحيى بائع القت قَالَ: قَالَ لِي مُجَاهِدٌ: لَقَدْ حَدَّثَنِي عَبْدُ الله ابن عَبَّاسٍ، أَنَّ آدَمَ حِينَ خَرَجَ مِنَ الْجَنَّةِ كَانَ لا يَمُرُّ بِشَيْءٍ إِلا عَبَثَ بِهِ، فَقِيلَ لِلْمَلائِكَةِ: دَعُوهُ فَلْيَتَزَوَّدْ مِنْهَا مَا شَاءَ، فَنَزَلَ حِينَ نَزَلَ بِالْهِنْدِ، وَإِنَّ هَذَا الطِّيبَ الَّذِي يُجَاءُ بِهِ مِنَ الْهِنْدِ مِمَّا خَرَجَ بِهِ آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ ذكر من قال: كان على راس آدم ع حين أهبط من الجنة إكليل من شجر الجنة: حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، قال: خرج آدم من الجنة، فخرج منها ومعه عصا من شجر الجنة، وعلى رأسه تاج أو إكليل من شجر الجنة، قال: فأهبط إلى الهند، ومنه كل طيب بالهند. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: هبط آدم عليه- يعني على الجبل الذي هبط عليه- ومعه ورق من ورق الجنة، فبثه في ذلك الجبل، فمنه كان أصل الطيب كله، وكل فاكهة لا توجد إلا بأرض الهند

وقال آخرون: بل زوده الله من ثمار الجنة، فثمارنا هذه من تلك الثمار ذِكْرُ من قال ذلك: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ وعبد الوهاب ومحمد بن جعفر، عن عوف، عن قسامة بن زهير، عن الأشعري، قال: إن الله تبارك وتعالى لما اخرج آدم من الجنة زوده من ثمار الجنة، وعلمه صنعة كل شيء، فثماركم هذه من ثمار الجنة، غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير. وقال آخرون: إنما علق بأشجار الهند طيب ريح آدم ع. ذكر من قال إنما صار الطيب بالهند لأن آدم حين أهبط إليها علق بأشجارها طيب ريحه: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ محمد، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: نزل آدم ع مَعَهُ رِيحُ الْجَنَّةِ، فَعَلِقَ بِشَجَرِهَا وَأَوْدِيَتِهَا وَامْتَلأَ ما هنالك طِيبًا، فَمِنْ ثَمَّ يُؤْتَى بِالطِّيبِ مِنْ رِيحِ الْجَنَّةِ. وَقَالُوا: أُنْزِلَ مَعَهُ مِنْ طِيبِ الْجَنَّةِ. وَقَالَ: أُنْزِلَ مَعَهُ الْحَجَرُ الأَسْوَدُ، وَكَانَ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ، وَعَصَا مُوسَى، وَكَانَتْ مِنْ آسِ الْجَنَّةِ، طُولُهَا عَشَرَةُ أَذْرُعٍ عَلَى طُولِ مُوسَى، ومر ولبان، ثُمَّ أُنْزِلَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ العَلاةُ وَالمِطْرَقَةُ وَالْكَلْبَتَانِ، فَنَظَرَ آدَمُ

حِينَ أُهْبِطَ عَلَى الْجَبَلِ إِلَى قَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ نَابِتٍ عَلَى الْجَبَلِ، فَقَالَ: هَذَا مِنْ هَذَا، فَجَعَلَ يَكْسِرُ أَشْجَارًا قَدْ عَتِقَتْ وَيَبِسَتْ بِالمِطْرَقَةِ، ثُمَّ أَوْقَدَ عَلَى ذَلِكَ الْغُصْنُ حَتَّى ذَابَ، فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ ضَرَبَهُ مُدْيَةً، فَكَانَ يَعْمَلُ بِهَا، ثُمَّ ضَرَبَ التَّنُّورَ، وَهُوَ الَّذِي وَرِثَهُ نُوحٌ، وَهُوَ الَّذِي فَارَ بِالْعَذَابِ بِالْهِنْدِ. وَكَانَ آدَمُ حِينَ هَبَطَ يَمْسَحُ رَأْسَهُ السَّمَاءُ، فَمِنْ ثَمَّ صَلِعَ، وَأَوْرَثَ وَلَدَهُ الصَّلَعَ وَنَفَرَتْ مِنْ طُولِهِ دَوَابُّ الْبَرِّ، فَصَارَتْ وَحْشًا مِنْ يومئذ، وكان آدم ع وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ الْجَبَلِ قَائِمٌ يَسْمَعُ أَصْوَاتَ الْمَلائِكَةِ، وَيَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ، فَحُطَّ مِنْ طُولِهِ ذَلِكَ إِلَى سِتِّينَ ذِرَاعًا، فَكَانَ ذَلِكَ طُولُهُ إِلَى أَنْ مَاتَ وَلَمْ يُجْمَعْ حُسْنُ آدَمَ ع لأحد من ولده الا ليوسف ع. وَقِيلَ: إِنَّ مِنَ الثِّمَارِ الَّتِي زَوَّدَ اللَّهُ عز وجل آدم ع حين اهبط إِلَى الأَرْضِ ثَلاثِينَ نَوْعًا، عَشَرَةً مِنْهَا فِي الْقُشُورِ وَعَشَرَةً لَهَا نَوَى، وَعَشَرَةً لا قُشُورَ لَهَا وَلا نَوَى فَأَمَّا الَّتِي فِي الْقُشُورِ مِنْهَا فَالْجَوْزُ، وَاللَّوْزُ، وَالْفُسْتُقُ، وَالْبُنْدُقُ، وَالْخَشْخَاشُ، وَالْبَلُّوطُ، والشاهبلوط، وَالرَّانِجُ، وَالرُّمَّانُ، وَالْمَوْزُ وَأَمَّا الَّتِي لَهَا نَوَى مِنْهَا فَالْخَوْخُ، وَالْمِشْمِشُ، وَالإِجَّاصُ، وَالرُّطَبُ، وَالْغُبَيْرَاءُ، وَالنَّبَقُ، وَالزُّعْرُورُ، وَالْعِنَّابُ، وَالْمُقْلُ، وَالشَّاهَلُوجُ وَأَمَّا الَّتِي لا قُشُورَ لَهَا وَلا نَوَى فَالتُّفَّاحُ، وَالسَّفَرْجَلُ، وَالْكُمَّثْرَى، وَالْعِنَبُ، وَالتُّوتُ، وَالتِّينُ، وَالأُتْرُجُّ، وَالْخُرْنُوبُ، وَالْخِيارُ، وَالْبِطِّيخُ. وَقِيلَ: كَانَ مِمَّا أَخْرَجَ آدَمُ مَعَهُ مِنَ الْجَنَّةِ صُرَّةٌ مِنْ حِنْطَةٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الْحِنْطَةَ انما جاءه بها جبرئيل ع بَعْدَ أَنْ جَاعَ آدَمُ، وَاسْتَطْعَمَ رَبَّهُ، فَبَعَثَ الله اليه مع جبرئيل ع بِسَبْعِ حَبَّاتٍ مِنْ حِنْطَةٍ، فَوَضَعَهَا فِي يَدِ آدم ع، فقال آدم لجبرئيل: ما هذا؟ فقال له جبرئيل: هَذَا الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَكَانَ وَزْنُ الحبه منها مائه الف درهم وثمانمائه دِرْهَمٍ، فَقَالَ آدَمُ: مَا أَصْنَعُ بِهَذَا؟ قَالَ: انْثُرْهُ فِي الأَرْضِ فَفَعَلَ، فَأَنْبَتَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ سَاعَتِهِ، فَجَرَتْ سُنَّةٌ فِي وَلَدِهِ الْبَذْرُ فِي الأَرْضِ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَحَصَدَهُ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَجَمَعَهُ وَفَرَكَهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يُذْرِيَهُ، ثُمَّ أَتَاهُ بِحَجَرَيْنِ فَوَضَعَ أَحَدَهُمَا عَلَى الآخر

فَطَحَنَهُ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَعْجِنَهُ، ثُمَّ أَمَرَهُ ان يخبزه مله، وجمع له جبرئيل ع الْحَجَرَ وَالْحَدِيدَ فَقَدَحَهُ، فَخَرَجَتْ مِنْهُ النَّارُ، فَهُوَ أول من خبز الملة. وهذا القول الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ، خِلافُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ عَنْ سَلَفِ أُمَّةِ نبينا ص، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُثَنَّى بْنَ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنِي أَنَّ إِسْحَاقَ حَدَّثَهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، وعن سعيد ابن جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَتِ الشَّجَرَةَ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا آدَمَ وَزَوْجَتَهُ السُّنْبُلَةُ، فَلَمَّا أَكَلا مِنْهَا بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا، وَكَانَ الَّذِي وَارَى عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا أَظْفَارُهُمَا، وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ، وَرَقِ التِّينِ يُلْصِقَانِ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، فَانْطَلَقَ آدَمُ مُوَلِّيًا فِي الْجَنَّةِ، فَأَخَذَتْ بِرَأْسِهِ شَجَرَةٌ مِنَ الْجَنَّةِ فَنَادَاهُ: يَا آدَمُ، أَمِنِّي تَفِرُّ؟ قَالَ: لا، ولكنى استحيتك يَا رَبِّ، قَالَ: أَمَا كَانَ لَكَ فِيمَا مَنَحْتُكَ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَبَحْتُكَ مِنْهَا مَنْدُوحَةٌ عَمَّا حَرَّمْتُ عَلَيْكَ! قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، وَلَكِنْ وَعِزَّتِكَ مَا حَسِبْتُ أَنَّ أَحَدًا يَحْلِفُ بِكَ كَاذِبًا، قَالَ- وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ» - قَالَ: فَبِعِزَّتِي لأُهْبِطَنَّكَ إِلَى الأَرْضِ، فَلا تَنَالُ الْعَيْشَ إِلا كَدًّا. قَالَ: فَأُهْبِطَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَكَانَا يَأْكُلانِ فِيهَا رَغَدًا، فَأُهْبِطَ إِلَى غَيْرِ رَغَدٍ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ، فَعُلِّمَ صَنْعَةَ الْحَدِيدِ، وَأُمِرَ بِالْحَرْثِ فَحَرَثَ وَزَرَعَ ثُمَّ سَقَى، حَتَّى إِذَا بَلَغَ حَصَدَهُ، ثُمَّ دَاسَهُ، ثُمَّ ذَرَاهُ، ثُمَّ طَحَنَهُ، ثُمَّ عَجَنَهُ، ثُمَّ خَبَزَهُ، ثُمَّ اكله، فلم يبلغه حَتَّى بَلَغَ مِنْهُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يبلغ

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: أهبط إلى آدم ثور احمر، فكان يحدث عليه، ويمسح العرق عن جبينه، فهو الذي قال الله عز وجل: «فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى» ، فكان ذلك شقاؤه. فهذا الذي قاله هؤلاء هو أولى بالصواب، وأشبه بما دل عليه كتاب ربنا عز وجل، وذلك أن الله عز ذكره لما تقدم إلى آدم وزوجته حواء بالنهي عن طاعة عدوهما، قال لآدم: «يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى. وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى» ، فكان معلوما أن الشقاء الذي أعلمه أنه يكون إن أطاع عدوه إبليس، هو مشقة الوصول إلى ما يزيل الجوع والعري عنه، وذلك هي الأسباب التي بها يصل أولاده إلى الغذاء، من حراثة وبذر وعلاج وسقي، وغير ذلك من الأسباب الشاقة المؤلمة ولو كان جبرئيل أتاه بالغذاء الذي يصل إليه ببذره دون سائر المؤن غيره، لم يكن هناك من الشقاء الذي توعده به ربه على طاعة الشيطان ومعصية الرحمن كبير خطب، ولكن الأمر كان- والله أعلم- على ما روينا عن ابْنِ عَبَّاسٍ وغيره. وقد قيل: إن آدم ع نزل معه السندان، والكلبتان، والميقعة، والمطرقة. ذِكْرُ من قال ذلك: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الحسين، عَنْ عَلْبَاءَ بْنِ أَحْمَرَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ثَلاثَةُ أَشْيَاءٍ نَزَلَتْ مَعَ آدم ع: السِّنْدَانُ، وَالْكَلْبَتَانِ، وَالْمِيقَعَةُ، وَالْمِطْرَقَةُ

ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ ذِكْرُهُ فِيمَا ذُكِرَ أَنْزَلَ آدَمَ مِنَ الْجَبَلِ الَّذِي أَهْبَطَهُ عَلَيْهِ إِلَى سَفْحِهِ، وَمَلَّكَهُ الأَرْضَ كُلَّهَا، وَجَمِيعَ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْجِنِّ وَالْبَهَائِمِ وَالدَّوَابِّ وَالْوَحْشِ وَالطَّيْرِ وغير ذلك، وان آدم ع لَمَّا نَزَلَ مِنْ رَأْسِ ذَلِكَ الْجَبَلِ، وَفَقَدَ كَلامَ أَهْلِ السَّمَاءِ، وَغَابَتْ عَنْهُ أَصْوَاتُ الْمَلائِكَةِ، وَنَظَرَ إِلَى سِعَةِ الأَرْضِ وَبَسْطَتِهَا، وَلَمْ يَرَ فِيهَا أَحَدًا غَيْرَهُ، اسْتَوْحَشَ فَقَالَ: يَا رَبِّ، أَمَا لأَرْضِكَ هَذِهِ عَامِرٌ يُسَبِّحُكَ غَيْرِي! فأجيب بما حَدَّثَنِي المثنى بن إبراهيم، قال: أخبرنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثنى عبد الصمد ابن معقل، أنه سمع وهبا يقول: إن آدم لما أهبط إلى الأرض فرأى سعتها ولم ير فيها أحدا غيره قال: يا رب، أما لأرضك هذه عامر يسبح بحمدك ويقدس لك غيري! قال الله: إني سأجعل فيها من ولدك من يسبح بحمدي ويقدسني، وسأجعل فيها بيوتا ترفع لذكري، ويسبح فيها خلقي، ويذكر فيها اسمي، وسأجعل من تلك البيوت بيتا أخصه بكرامتي، وأوثره باسمي، وأسميه بيتي، أنطقه بعظمتي، وعليه وضعت جلالي ثم أنا مع ذلك في كل شيء ومع كل شيء، أجعل ذلك البيت حرما آمنا يحرم بحرمته من حوله ومن تحته ومن فوقه، فمن حرمه بحرمتي استوجب بذلك كرامتي، ومن أخاف أهله فيه فقد أخفر ذمتي، وأباح حرمتي أجعله أول بيت وضع للناس ببطن مكة مباركا، يأتونه شعثا غبرا على كل ضامر، من كل فج عميق، يرجون بالتلبية رجيجا، ويثجون بالبكاء ثجيجا، ويعجون بالتكبير عجيجا، فمن اعتمده ولا يريد غيره فقد وفد إليَّ وزارني وضافني، وحق على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه، وأن يسعف كلا بحاجته تعمره يا آدم ما كنت حيا، ثم تعمره الأمم والقرون والأنبياء من ولدك أمة بعد أمة، وقرنا بعد قرن. ثم أمر آدم ع- فيما ذكر- أن يأتي البيت الحرام الذي اهبط

له إلى الأرض، فيطوف به كما كان يرى الملائكة تطوف حول عرش الله، وكان ذلك ياقوتة واحدة أو درة واحدة، كما حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أبان، أن البيت أهبط ياقوتة واحدة أو درة واحدة، حتى إذا أغرق الله قوم نوح رفعه وبقي أساسه، فبوأه الله عز وجل لإبراهيم فبناه، وقد ذكرت الأخبار الواردة بذلك فيما مضى قبل. فذكر ان آدم ع بكى واشتد بكاؤه على خطيئته، وندم عليها، وسأل الله عز وجل قبول توبته، وغفران خطيئته، فقال في مسألته إياه: ما سأل من ذلك، كما حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ» قَالَ: أَيْ رَبِّ، أَلَمْ تَخْلُقْنِي بِيَدِكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَيْ رَبِّ، أَلَمْ تَنْفُخْ فِيَّ مِنْ رُوحِكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَيْ رَبِّ، أَلَمْ تُسْكِنِّي جَنَّتَكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَيْ رَبِّ، أَلَمْ تَسْبِقْ رَحْمَتُكَ غَضَبَكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ تُبْتُ وَأَصْلَحْتُ أَرَاجِعِي أَنْتَ إِلَى الْجَنَّةِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَهُوَ قَوْلُهُ تعالى: «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ» . حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زريع، عن سعيد، عن قتادة، قوله تعالى «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ» ذكر لنا أنه قال: يا رب: أرأيت إن أنا تبت وأصلحت! قال: إذا أرجعك إلى الجنة، قال: وقال الحسن: إنهما قالا: «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» . حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حَدَّثَنَا سفيان وقيس، عن خصيف، عن مجاهد، في قوله عز وجل:

«فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ» قال: قوله: «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» . حَدَّثَنِي الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبِي، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَنْزَلَ آدَمُ مَعَهُ حِينَ أُهْبِطَ مِنَ الْجَنَّةِ الْحَجَرَ الأَسْوَدَ، وَكَانَ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ، وَبَكَى آدَمُ وَحَوَّاءُ عَلَى مَا فَاتَهُمَا- يَعْنِي مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ- مِائَتَيْ سَنَةٍ، وَلَمْ يَأْكُلا وَلَمْ يَشْرَبَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ أَكَلا وَشَرِبَا، وَهُمَا يَوْمَئِذٍ عَلَى بُوذَ، الْجَبَلِ الَّذِي أُهْبِطَ عَلَيْهِ آدَمُ وَلَمْ يَقْرَبْ حَوَّاءَ مِائَةَ سَنَةٍ. حَدَّثَنَا أبو همام، قال: حدثني أبي، قال: حدثني زياد بن خيثمة، عن أبي يحيى بائع القت، قال: قال لي مجاهد، ونحن جلوس في المسجد: هل ترى هذا؟ قلت: يا أبا الحجاج، الحجر؟ قال: كذلك تقول؟ قلت: او ليس حجرا! قال: فو الله لحدثني عبد الله بن عباس أنها ياقوتة بيضاء، خرج بها آدم من الجنة، كان يمسح بها دموعه، وأن آدم لم ترقأ دموعه منذ خرج من الجنة حتى رجع إليها ألفي سنة، وما قدر منه إبليس على شيء، فقلت له: يا أبا الحجاج، فمن أي شيء اسود؟ قال: كان الْحُيَّضُ يلمسنه في الجاهلية فخرج آدم ع من الهند يؤم البيت الذي أمره الله عز وجل بالمصير إليه، حتى أتاه، فطاف به، ونسك المناسك، فذكر أنه التقى هو وحواء بعرفات، فتعارفا بها، ثم ازدلف إليها بالمزدلفة، ثم رجع إلى الهند مع حواء، فاتخذا مغارة يأويان إليها في ليلهما ونهارهما، وأرسل الله إليهما ملكا يعلمهما ما يلبسانه ويستتران به، فزعموا أن ذلك كان من جلود الضأن والأنعام والسباع وقال بعضهم: إنما كان ذلك لباس أولادهما، فأما آدم وحواء فإن لباسهما كان ما كانا خصفا على أنفسهما من ورق الجنة ثم إن الله عز ذكره مسح ظهر آدم ع بنعمان من عرفة، وأخرج

ذريته، فنثرهم بين يديه كالذر، فأخذ مواثيقهم، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، كما قال عز وجل: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى» . وَقَدْ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطُّوسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ، عَنْ سعيد ابن جبير، عن ابن عباس، [عن النبي ص، قَالَ: أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنَعْمَانَ- يَعْنِي عَرَفَةَ- فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا، فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالذَّرِّ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قِبَلا، وَقَالَ: «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ» إِلَى قَوْلِهِ: «بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ] » . حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى الْقَزَّازُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا كُلْثُومُ بْنُ جَبْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى» ، قَالَ: مَسَحَ رَبُّنَا ظَهْرَ آدَمَ، فَخَرَجَتْ كُلُّ نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة بنعمان هَذِهِ- وَأَشَارَ بِيَدِهِ- فَأَخَذَ مَوَاثِيقَهُمْ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالا: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ عز وجل: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى» ، قَالَ: مَسَحَ ظَهْرَ آدَمَ فَخَرَجَ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِنَعْمَانَ، هَذَا الَّذِي وَرَاءَ عَرَفَةَ، وَأَخَذَ مِيثَاقَهُمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى شَهِدْنَا، وَاللَّفْظُ لِحَدِيثِ يَعْقُوبَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عن عطاء،

عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أُهْبِطَ آدَمُ حِينَ أُهْبِطَ فَمَسَحَ اللَّهُ ظَهْرَهُ، فَأَخْرَجَ مِنْهُ كُلَّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ قَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، ثُمَّ تَلَى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» ، فَجَفَّ الْقَلَمُ مِنْ يَوْمِئِذٍ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عيسى، عن الأعمش، عن حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» ، قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ ع أَخَذَ ذُرِّيَّتَهُ مِنْ ظَهْرِهِ مِثْلَ الذَّرِّ، فَقَبَضَ قَبْضَتَيْنِ، فَقَالَ لأَصْحَابِ الْيَمِينِ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلامٍ، وَقَالَ لِلآخَرِينَ: ادْخُلُوا النَّارَ وَلا أُبَالِي. حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ وَسَعْدُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ، [أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآية: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» ، فقال عمر: سمعت رسول الله ص قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ عَلَى ظَهْرِهِ بِيَمِينِهِ وَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ عَلَى ظَهْرِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتعالى إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ عَمَلِ أَهْلِ الجنه فيدخله الْجَنَّةِ، وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ عَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلُهُ النَّارَ] . وَقِيلَ: إِنَّهُ أخذ ذريه آدم ع من ظهره بدحنا

ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ مسح ظهره بدحنا فَأَخْرَجَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلَّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَيَرَوْنَ يَوْمَئِذٍ، جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَخْرَجَ اللَّهُ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ فِي السَّمَاءِ قَبْلَ أَنْ يُهْبِطَهُ إِلَى الأَرْضِ، وَبَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السدي: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى» ، قال: أخرج الله آدم من الجنة ولم يهبطه من السماء، ثم إنه مسح من آدم صفحة ظهره اليمنى، فأخرج منه ذرية كهيئة الذر بيضاء مثل اللؤلؤ، فقال لهم: ادخلوا الجنه برحمتي، ومسح صفحه ظهره اليسرى، فأخرج منه كهيئة الذر سودا، فقال: ادخلوا النار ولا أبالي فذلك حين يقول: أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ثم أخذ الميثاق فقال: ألست بربكم؟ قالوا بلى، فأعطاه طائفة طائعين، وطائفة على وجه التقية

ذكر الاحداث التي كانت في عهد آدم ع بعد ان اهبط إلى الارض

ذكر الأحداث التي كانت في عهد آدم ع بعد أن أهبط إلى الأرض فكان أول ذلك قتل قابيل بن آدم أخاه هابيل، وأهل العلم يختلفون في اسم قابيل، فيقول بعضهم: هو قين بن آدم، ويقول بعضهم: هو قايين ابن آدم ويقول بعضهم: هو قاين ويقول بعضهم: هو قابيل. واختلفوا أيضا في السبب الذي من أجله قتله: فقال بعضهم في ذلك مَا حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي- في خبر ذكره- عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود- وعن ناس من أصحاب رسول الله ص، قَالَ: كَانَ لا يُولَدُ لآدَمَ مَوْلُودٌ إِلا وُلِدَ مَعَهُ جَارِيَةٌ، فَكَانَ يُزَوِّجُ غُلامَ هَذَا البطن جاريه هذا البطن الآخر ويزوج جاريه هذا البطن غلام هَذَا الْبَطْنِ الآخَرِ، حَتَّى وُلِدَ لَهُ ابْنَانِ، يُقَالُ لَهُمَا قَابِيلُ وَهَابِيلُ، وَكَانَ قَابِيلُ صَاحِبَ زَرْعٍ، وَكَانَ هَابِيلُ صَاحِبَ ضَرْعٍ، وَكَانَ قَابِيلُ أَكْبَرَهُمَا، وَكَانَتْ لَهُ أُخْتٌ أَحْسَنَ مِنْ أُخْتِ هَابِيلَ، وَإِنَّ هَابِيلَ طَلَبَ أَنْ يَنْكِحَ أُخْتَ قَابِيلَ، فَأَبَى عَلَيْهِ وَقَالَ: هِيَ أُخْتِي وُلِدَتْ مَعِي، وَهِيَ أَحْسَنُ مِنْ أُخْتِكَ، وَأَنَا أَحَقُّ أَنْ أَتَزَوَّجَهَا، فَأَمَرَهُ أَبُوهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا هَابِيلَ، فَأَبَى وَإِنَّهُمَا قَرَّبَا قُرْبَانًا إِلَى اللَّهِ أَيُّهُمَا أَحَقُّ بِالْجَارِيَةِ، وَكَانَ

آدَمُ يَوْمَئِذٍ قَدْ غَابَ عَنْهُمَا وَأَتَى مَكَّةَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، قَالَ اللَّهُ لآدَمَ: يَا آدَمُ، هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ لِي بَيْتًا فِي الأَرْضِ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ لا، قَالَ: فَإِنَّ لِي بَيْتًا بِمَكَّةَ فَأْتِهِ، فَقَالَ آدَمُ لِلسَّمَاءِ: احْفَظِي وَلَدَيَّ بِالأَمَانَةِ، فَأَبَتْ، وَقَالَ لِلأَرْضِ فَأَبَتْ، وَقَالَ لِلْجِبَالِ: فَأَبَتْ، فَقَالَ لِقَابِيلَ، فَقَالَ: نَعَمْ، تَذْهَبُ وَتَرْجِعُ وَتَجِدُ أَهْلَكَ كَمَا يَسُرُّكَ فَلَمَّا انْطَلَقَ آدَمُ قَرَّبَا قُرْبَانًا، وَكَانَ قَابِيلُ يَفْخَرُ عَلَيْهِ فَيَقُولُ: أَنَا أَحَقُّ بِهَا مِنْكَ هِيَ أُخْتِي، وَأَنَا أَكْبَرُ مِنْكَ، وَأَنَا وَصِيُّ وَالِدِي، فَلَمَّا قَرَّبَا، قَرَّبَ هَابِيلُ جَذَعَةَ سَمِينَةً، وَقَرَّبَ قَابِيلُ حِزْمَةَ سُنْبُلٍ، فَوَجَدَ فِيهَا سُنْبُلَةً عَظِيمَةً فَفَرَكَهَا فَأَكَلَهَا، فَنَزَلَتِ النَّارُ فَأَكَلَتْ قُرْبَانَ هَابِيلَ، وَتَرَكَتْ قُرْبَانَ قَابِيلَ، فَغَضِبَ وَقَالَ: لأَقْتُلَنَّكَ حَتَّى لا تَنْكِحَ أُخْتِي، فَقَالَ هَابِيلُ: «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ» ، إِلَى قَوْلِهِ: «فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ» ، فَطَلَبَهُ لِيَقْتُلَهُ، فَرَاغَ الْغُلامُ مِنْهُ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ، فَأَتَاهُ يَوْمًا مِنَ الأَيَّامِ وَهُوَ يَرْعَى غَنَمَهُ فِي جَبَلٍ وَهُوَ نَائِمٌ، فَرَفَعَ صَخْرَةً فَشَدَخَ بِهَا رَأْسَهُ، فَمَاتَ وَتَرَكَهُ بِالْعَرَاءِ، لا يَعْلَمُ كَيْفَ يُدْفَنُ، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابَيْنِ أَخَوَيْنِ فَاقْتَتَلا، فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَحَفَرَ لَهُ ثُمَّ حثا عليه، فلما رآه قال: «يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي» ، فَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: «فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ» فَرَجَعَ آدَمُ فَوَجَدَ ابْنَهُ قَدْ قَتَلَ أَخَاهُ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ» - إِلَى آخِرِ الآيَةِ- «إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا » يَعْنِي قَابِيلَ حِينَ حَمَلَ أَمَانَةَ آدَمَ، ثُمَّ لَمْ يَحْفَظْ لَهُ أَهْلَهُ

وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ آدَمَ كَانَ يُولَدُ لَهُ مِنْ حَوَّاءَ فِي كُلِّ بَطْنٍ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَ الذَّكَرُ منهما زوج منه ولده الأُنْثَى الَّتِي وُلِدَتْ مَعَ أَخِيهِ الَّذِي وُلِدَ فِي الْبَطْنِ الآخَرِ، قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ. فَرَغِبَ قَابِيلُ بِتَوْءَمَتِهِ عَنْ هَابِيلَ. كَمَا حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، قَالَ: أَقْبَلْتُ مَعَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَرْمِي الْجَمْرَةَ، وَهُوَ متقنع متوكى عَلَى يَدِي، حَتَّى إِذَا وَازَيْنَا بِمَنْزِلِ سَمُرَةَ الصَّوَّافِ، وَقَفَ يُحَدِّثُنِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نُهِيَ أَنْ تَنْكِحَ الْمَرْأَةُ أَخَاهَا تَوْءَمَهَا، وَيَنْكِحُهَا غَيْرُهُ مِنْ إِخْوَتِهَا، وَكَانَ يُولَدُ فِي كُلِّ بَطْنٍ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ، فَوُلِدَتِ امْرَأَةٌ وَسِيمَةٌ وَوُلِدَتِ امْرَأَةٌ قَبِيحَةٌ، فَقَالَ أَخُو الدَّمِيمَةِ: أَنْكِحْنِي أُخْتَكَ وَأُنْكِحَكَ أُخْتِي، قَالَ: لا، أَنَا أَحَقُّ بِأُخْتِي، فَقَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ صَاحِبِ الْكَبْشِ، وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ صَاحِبِ الزَّرْعِ، فَقَتَلَهُ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ الْكَبْشُ مَحْبُوسًا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى أَخْرَجَهُ فِي فِدَاءِ إِسْحَاقَ، فَذَبَحَهُ عَلَى هَذَا الصَّفَا، فِي ثَبِيرٍ، عِنْدَ مَنْزِلِ سَمُرَةَ الصَّوَّافِ، وَهُوَ عَلَى يَمِينِكَ حِينَ تَرْمِي الْجِمَارَ. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ العلم من أهل الكتاب الأول، أن آدم ع كان يغشى حواء في الجنة قبل أن تصيب الخطيئة، فحملت له بقين بن آدم وتوءمته، فلم تجد عليهما وحما ولا وصبا، ولم تجد عليهما طلقا حين ولدتهما، ولم تر معهما دما لطهر الجنة، فلما أكلا من الشجرة وأصابا المعصية، وهبطا إلى الأرض واطمأنا بها تغشاها، فحملت بهابيل وتوءمته، فوجدت عليهما الوحم والوصب، ووجدت حين ولدتهما الطلق ورأت معهما الدم، وكانت حواء-

فيما يذكرون- لا تحمل إلا توءما ذكرا وأنثى، فولدت حواء لآدم أربعين ولدا لصلبه من ذكر وأنثى في عشرين بطنا، وكان الرجل منهم أي أخواته شاء تزوج إلا توءمته التي تولد معه، فإنها لا تحل له، وذلك أنه لم يكن نساء يومئذ إلا أخواتهم وأمهم حواء. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول أن آدم أمر ابنه قينا أن ينكح توءمته هابيل، وأمر هابيل أن ينكح أخته توءمته قينا، فسلم لذلك هابيل ورضي، وأبى ذلك قين وكره تكرما عن أخت هابيل، ورغب بأخته عن هابيل، وقال، نحن ولادة الجنة، وهما من ولادة الأرض، وأنا أحق بأختي- ويقول بعض أهل العلم من أهل الكتاب الأول: بل كانت أخت قين من أحسن الناس، فضن بها عن أخيه، وأرادها لنفسه- والله أعلم أي ذلك كان- فقال له أبوه: يا بني إنها لا تحل لك، فأبى قين أن يقبل ذلك من قول أبيه، فقال له أبوه: يا بني، فقرب قربانا، ويقرب أخوك هابيل قربانا، فأيكما قبل الله قربانه فهو أحق بها، وكان قين على بذر الأرض، وكان هابيل على رعاية الماشية، فقرب قين قمحا، وقرب هابيل أبكارا من أبكار غنمه- وبعضهم يقول: قرب بقره- فأرسل الله جل وعز نارا بيضاء، فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قين وبذلك كان يقبل القربان إذا قبله الله عز وجل، فلما قبل الله قربان هابيل- وكان في ذلك القضاء له بأخت قين- غضب قين، وغلب عليه الكبر واستحوذ عليه الشيطان، فاتبع أخاه هابيل، وهو في ماشيته فقتله، فهما اللذان قص الله خبرهما في القرآن على محمد ص، فقال: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ» يعني أهل الكتاب «نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً

فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما» إلى آخر القصة، قال: فلما قتله سقط في يديه، ولم يدر كيف يواريه، وذلك أنه كان- فيما يزعمون- أول قتيل من بني آدم: «فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي» . إلى قوله: «ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ» قال: ويزعم أهل التوراة أن قينا حين قتل أخاه هابيل، قال الله له: أين أخوك هابيل؟ قال: ما أدري، ما كنت عليه رقيبا، فقال الله له: إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض! الآن أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاها، فتلقت دم أخيك من يدك، فإذا أنت عملت في الأرض، فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتى تكون فزعا تائها في الأرض، فقال قين: عظمت خطيئتي من أن تغفرها، قد اخرجتنى اليوم عن وجه الارض واتوارى من قدامك، وأكون فزعا تائها في الأرض، وكل من لقيني، قتلني فقال الله عز وجل: ليس ذلك كذلك، فلا يكون كل من قتل قتيلا يجزى بواحد سبعة، ولكن من قتل قينا يجزي سبعة، وجعل الله في قين آية لئلا يقتله كل من وجده، وخرج قين من قدام الله عز وجل من شرقي عدن الجنة. وقال آخرون في ذلك: إنما كان قتل القاتل منهما أخاه أن الله عز وجل أمرهما بتقريب قربان، فتقبل قربان أحدهما، ولم يتقبل من الآخر، فبغاه الذي لم يتقبل قربانه فقتله. ذكر من قال ذلك: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جعفر، قال: حدثنا

عَوْفٌ، عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: إِنَّ ابْنَيْ آدَمَ اللَّذَيْنِ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّل مِنَ الآخَرِ كَانَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَ حَرْثٍ، وَالآخَرُ صَاحِبَ غَنَمٍ، وَأَنَّهُمَا أُمِرَا أَنْ يُقَرِّبَا قُرْبَانًا، وَأَنَّ صَاحِبَ الْغَنَمِ قَرَّبَ أَكْرَمَ غَنَمِهِ وَأَسْمَنَهَا وَأَحْسَنَهَا، طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ، وَأَنَّ صَاحِبَ الْحَرْثِ قرب، شر حرثه: الكوزر وَالزِّوَانَ، غَيْرَ طَيِّبَةٍ بِهَا نَفْسُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَقَبَّلَ قُرْبَانَ صَاحِبِ الْغَنَمِ، وَلَمْ يَتَقَبَّلْ قُرْبَانَ صَاحِبِ الْحَرْثِ، وَكَانَ مِنْ قِصَّتِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَقَالَ: أَيْمِ اللَّهِ، إِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ لأَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ، وَلَكِنْ مَنَعَهُ التَّحَرُّجُ أَنْ يَنْبَسِطَ إِلَى أَخِيهِ. وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِسْكِينٌ يُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْقُرْبَانُ يُقَرِّبُهُ الرَّجُلُ، فَبَيْنَا ابْنَا آدَمَ قَاعِدَانِ إِذْ قَالا: لَوْ قَرَّبْنَا قُرْبَانًا! وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا قَرَّبَ قُرْبَانًا فَرَضِيَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ نَارًا فَأَكَلَتْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَضِيَهُ اللَّهُ خَبَتِ النَّارُ، فَقَرَّبَا قُرْبَانًا، وَكَانَ أَحَدُهُمَا رَاعِيًا وَالآخَرُ حَرَّاثًا، وَإِنَّ صَاحِبَ الْغَنَمِ قَرَّبَ خَيْرَ غَنَمِهِ وَأَسْمَنَهَا، وَقَرْبَ الآخَرُ بَعْضَ زَرْعِهِ، فَجَاءَتِ النار فنزلت بينهما فَأَكَلَتِ الشَّاةَ وَتَرَكَتِ الزَّرْعَ، وَإِنَّ ابْنَ آدَمَ قَالَ لأَخِيهِ: أَتَمْشِي فِي النَّاسِ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّكَ قَرَّبْتَ قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْكَ وَرُدَّ عَلَيَّ قُرْبَانِي! فَلا وَاللَّهِ لا يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيَّ وَإِلَيْكَ وَأَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي، فَقَالَ: لأَقْتُلَنَّكَ، فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ: مَا ذَنْبِي! إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ تَكُنْ قِصَّةُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ فِي عَهْدِ آدَمَ، وَلا كَانَ القربان

فِي عَصْرِهِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا كَانَ هَذَانِ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَالُوا: إِنَّ أَوَّلَ مَيِّتٍ مات في الارض آدم ع، لَمْ يَمُتْ قَبْلَهُ أَحَدٌ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا سفيان بن وكيع، قال: حَدَّثَنَا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن، قال: كان الرجلان اللذان في القرآن قال الله عز وجل فيهما: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ» من بني إسرائيل، ولم يكونا ابني آدم لصلبه، وإنما كان القربان في بني إسرائيل، وكان آدم أول من مات. وقال بعضهم: إن آدم غشي حواء بعد مهبطهما إلى الأرض بمائة سنة، فولدت له قابيل وتوءمته قليما في بطن واحد، ثم هابيل وتوءمته في بطن واحد، فلما شبوا أراد آدم ع أن يزوج أخت قابيل التي ولدت معه في بطن واحد من هابيل، فامتنع من ذلك قابيل، وقربا بهذا السبب قربانا فتقبل قربان هابيل، ولم يتقبل قربان قابيل، فحسده قابيل، فقتله عند عقبه حرى ثم نزل قابيل من الجبل، آخذا بيد أخته قليما، فهرب بها إلى عدن من أرض اليمن. حَدَّثَنِي بِذَلِكَ الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي هِشَامٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قَالَ: لَمَّا قَتَلَ قَابِيلُ أَخَاهُ هَابِيلَ أَخَذَ بِيَدِ أُخْتِهِ ثُمَّ هَبَطَ بِهَا مِنْ جَبَلِ بُوذَ إِلَى الْحَضِيضِ، فَقَالَ آدَمُ لِقَابِيلَ: اذْهَبْ فَلا تَزَالُ مَرْعُوبًا لا تَأْمَنُ مَنْ تَرَاهُ، فَكَانَ لا يَمُرُّ بِهِ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِهِ إِلا رَمَاهُ، فَأَقْبَلَ ابْنٌ لِقَابِيلَ أَعْمَى، وَمَعَهُ ابْنٌ لَهُ، فَقَالَ لِلأَعْمَى ابْنُهُ: هَذَا أَبُوكَ قَابِيلُ، فَرَمَى الأَعْمَى أَبَاهُ قَابِيلَ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ ابْنُ الأَعْمَى: قَتَلْتَ

يَا أَبَتَاهُ أَبَاكَ، فَرَفَعَ الأَعْمَى يَدَهُ، فَلَطَمَ ابْنَهُ فَمَاتَ ابْنُهُ، فَقَالَ الأَعْمَى: وَيْلٌ لِي! قَتَلْتُ أَبِي بِرَمْيَتِي، وَقَتَلْتُ ابْنِي بِلَطْمَتِي! وَذُكِرَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ هَابِيلَ قُتِلَ وَلَهُ عِشْرُونَ سَنَةً، وَأَنَّ قَابِيلَ كَانَ لَهُ يَوْمَ قَتَلَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَالصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا أَنَّ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ قتل أخاه من ابنى آدم هو ابن آدَمَ لِصُلْبِهِ، لِنَقْلِ الْحُجَّةِ أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَأَنَّ هَنَّادَ بْنَ السَّرِيِّ حَدَّثَنَا، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَوَكِيعٌ جَمِيعًا عَنِ الأَعْمَشِ. - وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: [قَالَ النَّبِيُّ ص: مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا،] وَذَلِكَ لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ- وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي- جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عن النبي ص نَحْوَهُ. فَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ الله ص صِحَّةَ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّذَيْنِ قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ قِصَّتَهُمَا مِنَ ابْنَيْ آدَمَ كَانَا ابْنَيْهِ لِصُلْبِهِ، لأَنَّهُ لا شَكَّ أَنَّهُمَا لَوْ كَانَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ- كَمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ- لَمْ يَكُنِ الَّذِي وُصِفَ مِنْهُمَا بِأَنَّهُ قَتَلَ أَخَاهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ، إِذْ كَانَ الْقَتْلَ فِي بَنِي آدَمَ قَدْ كَانَ قَبْلَ إِسْرَائِيلَ وَوَلَدِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا بُرْهَانُكَ عَلَى أَنَّهُمَا وَلَدَا آدَمَ لِصُلْبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟

قِيلَ: لا خِلافَ بَيْنَ سَلَفِ عُلَمَاءِ أُمَّتِنَا في ذلك، إذا فَسَدَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: كَانَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَذُكِرَ أَنَّ قَابِيلَ لَمَّا قَتَلَ أَخَاهُ هابيل بكاه آدم ع فَقَالَ- فِيمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ غِيَاثِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ، قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: لَمَّا قَتَلَ ابْنُ آدَمَ أَخَاهُ بَكَاهُ آدَمُ، فَقَالَ: تَغَيَّرَتِ الْبِلادُ ومن عليها ... فوجه الأَرْضِ مُغْبَرٌّ قَبِيحُ تَغَيَّرَ كُلُّ ذِي طَعْمٍ وَلَوْنٍ ... وَقَلَّ بَشَاشَةُ الْوَجْهِ الْمَلِيحِ قَالَ: فَأُجِيبَ آدم ع: أَبَا هَابِيلَ قَدْ قُتِلا جَمِيعًا ... وَصَارَ الْحَيُّ كَالْمَيْتِ الذَّبِيحِ وَجَاءَ بِشِرَّةٍ قَدْ كَانَ مِنْهَا ... عَلَى خَوْفٍ فَجَاءَ بِهَا يَصِيحُ وَذُكِرَ أَنَّ حواء ولدت لادم ع عِشْرِينَ وَمِائَةَ بَطْنٍ، أَوَّلُهُمْ قَابِيلُ وَتَوْءَمَتُهُ قلِيمَا، وَآخِرُهُمْ عَبْدُ الْمُغِيثِ وَتَوْءَمَتُهُ أَمَةُ الْمُغِيثِ. وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ فَذُكِرَ عَنْهُ مَا قَدْ ذَكَرْتُ قَبْلُ، وَهُوَ أَنَّ جَمِيعَ مَا وَلَدَتْهُ حَوَّاءُ لآدَمَ لِصُلْبِهِ أَرْبَعُونَ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى فِي عِشْرِينَ بَطْنًا، وَقَالَ: قَدْ بَلَغَنَا أَسْمَاءُ بَعْضِهِمْ وَلَمْ يَبْلُغْنَا بَعْضٌ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: فكان من بلغنا اسمه خمسة عشر رجلا وأربع نسوة، منهم قين وتوءمته، وهابيل وليوذا وأشوث بنت آدم وتوءمها، وشيث وتوءمته، وحزورة وتوءمها، على

ثلاثين ومائه سنه من عمره ثم اباد بن آدم وتوءمته، ثم بالغ بن آدم وتوءمته، ثم أثاثي بن آدم وتوءمته، ثم توبه بن آدم وتوءمته، ثم بنان ابن آدم وتوءمته، ثم شبوبة بن آدم وتوءمته، ثم حيان بن آدم وتوءمته، ثم ضرابيس بن آدم وتوءمته، ثم هذر بن آدم وتوءمته، ثم يحود بن آدم وتوءمته، ثم سندل بن آدم وتوءمته، ثم بارق بن آدم وتوءمته، كل رجل منهم تولد معه امرأة في بطنه الذي يحمل به فيه. وقد زعم أكثر علماء الفرس أن جيومرت هو آدم، وزعم بعضهم أنه ابن آدم لصلبه من حواء. وقال فيه غيرهم أقوالا كثيرة، يطول بذكر أقوالهم الكتاب، وتركنا ذكر ذلك إذ كان قصدنا في كتابنا هذا ذكر الملوك وأيامهم، وما قد شرطنا في كتابنا هذا أنا ذاكروه فيه، ولم يكن ذكر اختلاف المختلفين في نسب ملك من جنس ما أنشأنا له صنعة الكتاب، فإن ذكرنا من ذلك شيئا فلتعريف من ذكرنا، ليعرفه من لم يكن به عارفا، فأما ذكر الاختلاف في نسبه فإنه غير المقصود به في كتابنا هذا. وقد خالف علماء الفرس فيما قالوا من ذلك آخرون من غيرهم ممن زعم أنه آدم، ووافق علماء الفرس على اسمه وخالفه في عينه وصفته، فزعم أن

جيومرت الذى زعمت الفرس انه آدم ع انما هو جامر بن يافث ابن نوح، وأنه كان معمرا سيدا، نزل جبل دنباوند من جبال طبرستان من أرض المشرق، وتملك بها وبفارس، ثم عظم أمره وأمر ولده، حتى ملكوا بابل، وملكوا في بعض الأوقات الأقاليم كلها، وأن جيومرت منع من البلاد ما صار إليه، وابتنى المدن والحصون وعمرها، وأعد السلاح، واتخذ الخيل، وأنه تجبر في آخر عمره، وتسمى بآدم، وقال: من سماني بغير هذا الاسم ضربت عنقه، وأنه تزوج ثلاثين امرأة، فكثر منهن نسله، وأن ماري ابنه وماريانة أخته، ممن كان ولد له في آخر عمره، فأعجب بهما وقدمهما، فصار الملوك بذلك السبب من نسلهما، وأن ملكه اتسع وعظم. وإنما ذكرت من أمر جيومرت في هذا الموضع ما ذكرت، لأنه لا تدافع بين علماء الأمم أن جيومرت هو أبو الفرس من العجم، وإنما اختلفوا فيه: هل هو آدم أبو البشر على ما قاله الذين ذكرنا قولهم أم هو غيره؟ ثم مع ذلك فلأن ملكه وملك أولاده لم يزل منتظما على سياق، متسقا بأرض المشرق وجبالها إلى أن قتل يزدجرد بن شهريار من ولد ولده بمرو- أبعده الله- أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه، فتأريخ ما مضى من سني العالم على أعمار ملوكهم أسهل بيانا، وأوضح منارا منه على أعمار ملوك غيرهم من الأمم، إذ لا تعلم أمة من الأمم الذين ينتسبون الى آدم ع دامت لها المملكة، واتصل لهم الملك، وكانت لهم ملوك تجمعهم، ورءوس تحامي عنهم من ناوأهم، وتغالب بهم من عازهم، وتدفع ظالمهم عن مظلومهم، وتحملهم من الأمور على ما فيه حظهم

على اتصال ودوام ونظام، يأخذ ذلك آخرهم عن أولهم، وغابرهم عن سالفهم- سواهم، فالتأريخ على أعمار ملوكهم أصح مخرجا، وأحسن وضوحا. وأنا ذاكر ما انتهى إلينا من القول في عمر آدم ع وأعمار من كان بعده من ولده الذين خلفوه في النبوة والملك، على قول من خالف قول الفرس الذين زعموا أنه جيومرت، وعلى قول من قال: إنه هو جيومرت أبو الفرس، وذاكر ما اختلفوا فيه من أمرهم إلى الحال التي اجتمعوا عليها، فاتفقوا على من ملك منهم في زمان بعينه أنه كان هو الملك في ذلك الزمان إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلا حول وَلا قوة إلا بالله، ثم سائق ذلك كذلك إلى زماننا هذا. ونرجع الآن إلى الزيادة في الإبانة عن خطإ قول من قال: إن أول ميت كان في أول الارض آدم، وإنكاره الذين قص الله نبأهما في قوله: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً» ، أن يكونا من صلب آدم من أجل ذلك. فَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، قال: حدثنا عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عن سمره بن جندب، [عن النبي ع قَالَ: كَانَتْ حَوَّاءُ لا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ، فَنَذَرَتْ لِئَنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ لَتُسَمِّيَنَّهُ عَبْدَ الْحَارِثِ، فَعَاشَ لَهَا وَلَدٌ فَسَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ، وانما كان ذلك عن وحى الشيطان] . وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَتْ حَوَّاءُ تَلِدُ لآدَمَ فَتُعَبِّدُهُمُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَتُسَمِّيهِمْ: عَبْدَ اللَّهِ، وَعُبَيْدَ اللَّهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ،

فيصيبهم الموت، فأتاها ابليس وآدم ع، فَقَالَ: إِنَّكُمَا لَوْ تُسَمِّيَانَهُ بِغَيْرِ الَّذِي تُسَمِّيَانَهُ بِهِ لَعَاشَ، فَوَلَدَتْ لَهُ ذَكَرًا، فَسَمَّيَاهُ عَبْدَ الْحَارِثِ، فَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» ، إِلَى قَوْلِهِ: «جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما» الى آخر الآية حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن فضيل، عن سالم بن أبي حفصة، عن سعيد بن جبير: «فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما» الى قوله: «فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» . قال: ولما حملت حواء في أول ولد ولدته حين أثقلت أتاها إبليس قبل أن تلد فقال: يا حواء، ما هذا في بطنك؟ فقالت: ما ادرى من؟ فقال: أين يخرج؟ من أنفك؟ أو من عينك؟ أو من أذنك؟ قالت: لا أدري، قال: أرأيت إن خرج سليما أمطيعتي أنت فيما آمرك به؟ قالت: نعم، قال: سميه عبد الحارث- وقد كان يسمى إبليس لعنه الله الحارث- فقالت: نعم، ثم قالت بعد ذلك لآدم: أتاني آت في النوم فقال لي: كذا وكذا، فقال: ان ذاك الشيطان فاحذريه، فإنه عدونا الذي أخرجنا من الجنة، ثم أتاها إبليس لعنه الله فأعاد عليها، فقالت: نعم، فلما وضعته أخرجه الله سليما فسمته عبد الحارث، فهو قوله: «جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما» الى قوله: «فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» . حَدَّثَنَا ابن وكيع، قال: حَدَّثَنَا جرير وابن فضيل، عن عبد الملك، عن سعيد بن جبير، قال: قيل له: أشرك آدم؟ قال: اعوذ بالله ان ازعم ان آدم ع أشرك! ولكن حواء لما أثقلت أتاها إبليس

فقال لها: من أين يخرج هذا؟ من أنفك، أو من عينك، أو من فيك؟ فقنطها، ثم قال: أرأيت إن خرج سويا- قال ابن وكيع: زاد ابن فضيل: لم يضرك ولم يقتلك- أتطيعينني؟ قالت: نعم، قال: فسميه عبد الحارث، ففعلت- زاد جرير: فإنما كان شركه في الاسم. حَدَّثَنَا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حَدَّثَنَا أسباط، عن السدي: فولدت- يعني حواء- غلاما، فأتاها إبليس فقال: سموه عبدي، وإلا قتلته، قال له آدم: قد أطعتك وأخرجتني من الجنة فأبى أن يطيعه، فسماه عبد الرحمن، فسلط عليه إبليس لعنه الله فقتله، فحملت بآخر فلما ولدته، قال: سميه عبدى والا قتلته، قال له آدم ع: قد أطعتك فأخرجتني من الجنة فأبى فسماه صالحا، فقتله، فلما كان الثالث قال لهما: فإذ غلبتموني فسموه عبد الحارث، وكان اسم إبليس الحارث، - وإنما سمى ابليس حين ابلس تحير- فذلك حين يقول الله عز وجل: «جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما» - يعني في الأسماء. فهؤلاء الذين ذكرت الرواية عنهم بما ذكرت، من أنه مات لآدم وحواء أولاد قبلهما، ومن لم نذكر أقوالهم ممن عددهم أكثر من عدد من ذكرت قوله والرواية عنه، قالوا خلاف قول الحسن الذي روي عنه أنه قال: أول من مات آدم ع. وكان آدم مع ما كان الله عز وجل قد أعطاه من ملك الأرض والسلطان فيها قد نبأه، وجعله رسولا إلى ولده، وأنزل عليه إحدى وعشرين صحيفة كتبها آدم ع بخطه، علمه إياها جبرئيل ع. وَقَدْ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي الْمَاضِي بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ

أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلانِيِّ، [عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، قال: دخلت المسجد فإذا رسول الله ص جالس وحده، فجلست اليه فقال لي: يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّ لِلْمَسْجِدِ تَحِيَّةً وَإِنَّ تَحِيَّتَهُ رَكْعَتَانِ، فَقُمْ فَارْكَعْهُمَا، فَلَمَّا رَكَعْتُهُمَا جَلَسْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ أَمَرْتَنِي بِالصَّلاةِ فَمَا الصَّلاةُ؟ قَالَ: خَيْرُ مَوْضُوعٍ، اسْتُكْثِرَ أَوِ اسْتُقِلَّ، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةً طَوِيلَةً قَالَ فِيهَا: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمِ الأَنْبِيَاءُ؟ قَالَ: مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمِ الْمُرْسَلُ مِنْ ذلك؟ قال: ثلاثمائة وَثَلاثَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا، يَعْنِي كَثِيرًا طَيِّبًا، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ كَانَ أَوَّلَهُمْ؟ قَالَ: آدَمُ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَآدَمُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ؟ قَالَ: نَعَمْ خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، ثُمَّ سَوَّاهُ قُبُلا] . حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثنى محمد ابن إِسْحَاقَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، [عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ، يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَنَبِيًّا كَانَ آدَمُ؟ قَالَ: نَعَمْ، كَانَ نَبِيًّا، كَلَّمَهُ اللَّهُ قُبُلا] . وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى آدَمَ تَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَحُرُوفُ الْمُعْجَمِ فِي إِحْدَى وعشرين ورقه

ذكر ولاده حواء شيثا

ذكر ولادة حواء شيثا ولما مضى لآدم ص من عمره مائة وثلاثون سنة، وذلك بعد قتل قابيل هابيل بخمس سنين، ولدت له حواء ابنه شيثا، فذكر أهل التوراة أن شيثا ولد فردا بغير توءم، وتفسير شيث عندهم هبة الله، ومعناه أنه خلف من هابيل. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قَالَ: وَلَدَتْ حَوَّاءُ لآدَمَ شِيثًا وَأُخْتَهُ عَزْوَرَا، فَسُمِّيَ هَبَةُ اللَّهِ، اشْتُقَّ لَهُ مِنْ هَابِيلَ، قال لها جبرئيل حِينَ وَلَدَتْهُ: هَذَا هِبَةُ اللَّهِ بَدَلُ هَابِيلَ، وهو بالعربية شث، وبالسريانية شَاثَ، وَبِالْعِبْرَانِيَّةِ شِيثُ، وَإِلَيْهِ أَوْصَى آدَمُ، وَكَانَ آدَمُ يَوْمَ وُلِدَ لَهُ شِيثُ ابْنُ ثَلاثِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ آدَمَ الْوَفَاةُ- فِيمَا يَذْكُرُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ- دَعَا ابْنَهُ شِيثًا فَعَهِدَ إِلَيْهِ عَهْدَهُ، وَعَلَّمَهُ سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَعْلَمَهُ عِبَادَةَ الْخَلْقِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ مِنْهُنَّ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ لِكُلِّ سَاعَةٍ صِنْفًا مِنَ الْخَلْقِ فِيهَا عِبَادَتُهُ وَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ إِنَّ الطُّوفَانَ سَيَكُونُ فِي الأَرْضِ يَلْبَثُ فِيهَا سَبْعَ سِنِينَ وَكَتَبَ وَصِيَّتَهُ، فَكَانَ شيث- فيما ذكر- وصى ابيه آدم ع، وَصَارَتِ الرِّيَاسَةُ مِنْ بَعْدِ وَفَاةِ آدَمَ لِشِيثٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ الله ص خَمْسِينَ صَحِيفَةً. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمَاضِي بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلانِيِّ، [عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمْ

كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ: مِائَةُ كتاب واربعه كتب، انزل الله على شيث خَمْسِينَ صَحِيفَةً] . وَإِلَى شِيثَ أَنْسَابُ بَنِي آدَمَ كُلِّهِمُ الْيَوْمَ، وَذَلِكَ أَنَّ نَسْلَ سَائِرِ وَلَدِ آدَمَ غَيْرَ نَسْلِ شِيثَ، انْقَرَضُوا وَبَادُوا فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَأَنْسَابُ النَّاسِ كُلِّهِمُ الْيَوْمَ الى شيث ع. وَأَمَّا الْفُرْسُ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ جِيُومِرْتَ هُوَ آدم، فإنهم قالوا: ولد لجيومرت ابنه ميشى، وتزوج ميشى اخته ميشانه فولدت له سيامك بن ميشى، وسيامى ابنه ميشى، فولد لسيامك بن ميشى بن جيومرت افرواك، وديس، وبراسب، واجوب، وأوراش بنو سيامك، وأفرى، ودذى، وبرى وأوراشى بنات سيامك، أمهم جميعا سيامى بنت ميشى، وَهِيَ أُخْتُ أَبِيهِمْ. وَذَكَرُوا أَنَّ الأَرْضَ كُلَّهَا سَبْعَةُ أَقَالِيمَ، فَأَرْضُ بَابِلَ وَمَا يوصلُ إِلَيْهِ مِمَّا يَأْتِيهِ النَّاسُ بَرًّا أَوْ بَحْرًا فَهُوَ إِقْلِيمٌ وَاحِدٌ، وَسُكَّانُهُ نَسْلُ وَلَدِ أفرواك بْنِ سيامكَ وَأَعْقَابُهُمْ، وَأَمَّا الأَقَالِيمُ السِّتَّةُ الْبَاقِيَةِ الَّتِي لا يوصلُ إِلَيْهَا الْيَوْمَ بَرًّا أَوْ بَحْرًا فَنَسْلُ سَائِرِ وَلَدِ سيامكَ، مِنْ بَنِيهِ وَبَنَاتِهِ. فَوُلِدَ لأفرواك بْنِ سيامك مِنْ أَفْرَى بِنْتِ سيامِكَ هُوشنكُ بيشدَاذَ الْمَلِكُ، وَهُوَ الَّذِي خَلَفَ جَدَّهُ جيومرتَ فِي الْمُلْكِ، وَأَوَّلُ مَنْ جُمِعَ لَهُ مُلْكُ الأَقَالِيمِ السَّبْعَةِ، وَسَنَذْكُرُ أَخْبَارَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ أوشهنجَ هَذَا، هُوَ ابْنُ آدَمَ لِصُلْبِهِ مِنْ حَوَّاءَ. وَأَمَّا هِشَامٌ الْكَلْبِيُّ فَإِنَّهُ فِيمَا حَدَّثْتُ عَنْهُ قَالَ: بَلَغَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَوَّلَ مَلِكٍ مَلَكَ الأَرْضَ أوشهنقُ بْنُ عَابرِ بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح قال:

وَالْفُرْسُ تَدَّعِيهِ وَتَزْعُمُ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ وَفَاةِ آدَمَ بِمِائَتَيْ سَنَةٍ، قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْمَلِكُ فِيمَا بَلَغَنَا بَعْدَ نُوحٍ بِمِائَتَيْ سَنَةٍ، فَصَيَّرَهُ أَهْلُ فَارِسَ بَعْدَ آدَمَ بِمِائَتَيْ سَنَةٍ، وَلَمْ يَعْرِفُوا مَا كَانَ قَبْلَ نُوحٍ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هِشَامٌ قَوْلٌ لا وَجْهَ لَهُ، لأَنَّ هوشهنكَ الْمِلكَ فِي أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِأَنْسَابِ الْفُرْسِ أَشْهَرُ مِنَ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ فِي أَهْلِ الإِسْلامِ، وَكُلُّ قَوْمٍ فَهُمْ بِآبَائِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ وَمَآثِرِهِمْ أَعْلَمُ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِي كُلِّ أَمْرٍ الْتَبَسَ إِلَى أَهْلِهِ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ نَسَّابَةُ الْفُرْسِ أَنَّ أوشهنجَ بيشداذَ الْمَلِكَ هَذَا هُوَ مهلائيلُ، وَأَنَّ أَبَاهُ فرواكَ هُوَ قينانُ أَبُو مهلائيلَ، وَأَنَّ سيامكَ هُوَ أنوشُ ابو قينان، وان ميشى هُوَ شيثَ أَبُو أنوشَ، وَأَنَّ جيومرتَ هُوَ آدم ص. فَإِنْ كَانَ الأَمْرُ كَمَا قَالَ، فَلا شَكَّ أَنَّ أوشهنجَ كَانَ فِي زَمَانِ آدَمَ رَجُلا، وذلك ان مهلائيل فيما ذكر في الكتاب الأُوَلِ كَانَتْ وِلادَةُ أُمِّهِ دينةَ ابنةِ براكيلَ ابن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم إِيَّاهُ بَعْدَ مَا مَضَى مِنْ عُمْرِ آدَمَ ص ثلاثمائة سَنَةٍ وَخَمْسٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً، فَقَدْ كَانَ لَهُ حين وفاه آدم ستمائه سنه وخمسين سِنِينَ، عَلَى حِسَابِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ الله ص فِي عُمْرِ آدَمَ أَنَّهُ كَانَ عُمْرُهُ أَلْفَ سَنَةٍ. وَقَدْ زَعَمَتْ عُلَمَاءُ الْفُرْسِ أَنَّ مَلِكَ أوشهنجَ هَذَا كَانَ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَإِنْ كَانَ الأَمْرُ فِي هَذَا الْمَلِكِ كَالَّذِي قَالَهُ النَّسَّابَةُ الَّذِي ذَكَرْتُ عَنْهُ مَا ذَكَرْتُ فَلَمْ يَبْعُدْ مَنْ قَالَ: إِنَّ مُلْكَهُ كَانَ بَعْدَ وَفَاةِ آدم ص بمائتي سنه

ذكر وفاه آدم ع

ذكر وفاه آدم ع اختلف في مدة عمره، وابن كم كان يوم قبضه الله عز وجل إليه. فأما الاخبار عن رسول الله ص فإنها واردة بما حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ الْعَسْقَلانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سلمه، عن ابى هريرة عن النبي ص- قَالَ أَبُو خَالِدٍ: وحدثني الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صالح عن ابى هريرة عن النبي ص قَالَ أَبُو خَالِدٍ: وحدثني دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النبي ص قَالَ أَبُو خَالِدٍ: وحدثني ابْنُ أَبِي ذُبَابٍ الدَّوْسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ وَيَزِيدُ بْنُ هرمز، عن ابى هريرة، [عن النبي ص- أَنَّهُ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلائِكَةَ فَسَجَدُوا لَهُ، فَجَلَسَ فَعَطَسَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالَ لَهُ ربه: يرحمك ربك، ايت أُولَئِكَ الْمَلأَ مِنَ الْمَلائِكَةِ فَقُلْ لَهُمُ: السَّلامُ عليكم، فأتاهم فقال لهم: السلام عليكم قالوا لَهُ: وَعَلَيْكَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ لَهُ: هَذِهِ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ قَبَضَ لَهُ يَدَيْهِ، فَقَالَ له: خُذْ وَاخْتَرْ، قَالَ: اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، فَفَتَحَهَا لَهُ، فَإِذَا فِيهَا صُورَةُ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ كُلِّهِمْ، فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ أَجَلُهُ، وَإِذَا آدَمُ قَدْ كُتِبَ لَهُ عُمْرُ أَلْفِ سَنَةٍ، وَإِذَا قَوْمٌ عَلَيْهِمِ النُّورُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، مَنْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ عَلَيْهِمِ النُّورُ، فَقَالَ: هَؤُلاءِ الأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ الَّذِينَ أُرْسِلُ إِلَى عِبَادِي، وَإِذَا فِيهِمْ رَجُلٌ هُوَ أَضْوَءُهُمْ نُورًا، وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنَ الْعُمْرِ إِلا اربعون سنه، فقال: يا رب، ما بال هذا، من اضوئهم نُورًا وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنَ الْعُمْرِ إِلا أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ فَقَالَ: ذَاكَ مَا كُتِبَ لَهُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، انْقُصْ لَهُ مِنْ عُمْرِي ستين سنه فقال رسول الله ص: فَلَمَّا أَسْكَنَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ ثُمَّ أُهْبِطَ إِلَى الأَرْضِ كَانَ يَعُدُّ

أَيَّامَهُ، فَلَمَّا أَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ لِيَقْبِضَهُ قَالَ لَهُ آدَمُ: عَجِلْتَ عَلَيَّ يَا مَلَكَ الْمَوْتِ! فَقَالَ: مَا فَعَلْتُ، فَقَالَ: قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمْرِي سِتُّونَ سَنَةً، فَقَالَ لَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ: مَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِكَ شَيْءٌ، قَدْ سَأَلْتَ رَبَّكَ أَنْ يَكْتُبَهُ لابْنِكَ دَاوُدَ، فَقَالَ: مَا فعلت فقال: رسول الله ص: فَنَسِيَ آدَمُ، فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَجَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، فَيَوْمَئِذٍ وَضَعَ اللَّهُ الْكِتَابَ، وَأَمَرَ بِالشُّهُودِ] . حَدَّثَنِي ابْنُ سِنَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: [لَمَّا نَزَلَتْ «آيَةُ الدين» قال رسول الله ص: ان أول من جحد آدم ع ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا خَلَقَهُ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَأَخْرَجَ مِنْهُ مَا هُوَ ذَارٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَجَعَلَ يَعْرِضُهُمْ عَلَى آدَمَ، فَرَأَى فِيهِمْ رَجُلا يَزْهَرُ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، أَيُّ نَبِيٍّ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا ابْنُكَ دَاوُدُ، قَالَ: أَيْ رَبِّ، كَمْ عُمْرُهُ؟ قَالَ: سِتُّونَ سَنَةً، قَالَ: أَيْ رَبِّ، زِدْهُ فِي عُمْرِهِ، قَالَ: لا، إِلا أَنْ تَزِيدَهُ أَنْتَ مِنْ عُمْرِكَ، وَكَانَ عُمْرُ آدَمَ أَلْفَ سَنَةٍ، فَوَهَبَ لَهُ مِنْ عُمْرِهِ أَرْبَعِينَ عَامًا، فَكَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ الْمَلائِكَةَ، فَلَمَّا احْتُضِرَ آدَمُ أَتَتْهُ الْمَلائِكَةُ لِتَقْبِضَ رُوحَهُ، قَالَ: إِنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً، قَالُوا: إِنَّكَ قَدْ وَهَبْتَهَا لابْنِكَ دَاوُدَ، قَالَ: مَا فَعَلْتُ وَلا وَهَبْتُ لَهُ شَيْئًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ الْمَلائِكَةَ شُهُودًا، فَأَكْمَلَ لآدَمَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَأَكْمَلَ لِدَاوُدَ مِائَةَ سَنَةٍ] . حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ عز وجل: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» إِلَى قَوْلِهِ: «قالُوا بَلى شَهِدْنا» ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ، وَأَخْرَجَ ذُرِّيَّتَهُ

كُلَّهُمْ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ، فَأَنْطَقَهُمْ فَتَكَلَّمُوا، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَجَعَلَ مَعَ بَعْضِهِمُ النُّورَ وَأَنَّهُ قَالَ لآدَمَ: هَؤُلاءِ ذُرِّيَّتُكَ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ: أَنِّي أَنَا رَبُّهُمْ لِئَلا يُشْرِكُوا بِي شَيْئًا، وَعَلَيَّ رِزْقُهُمْ قَالَ آدَمُ: فَمَنْ هَذَا الَّذِي مَعَهُ النُّورُ؟ قَالَ: هُوَ دَاوُدُ، قَالَ: يَا رَبِّ، كَمْ كَتَبْتَ لَهُ مِنَ الأَجَلِ؟ قَالَ: سِتِّينَ سَنَةً، قَالَ: كَمْ كَتَبْتَ لِي؟ قَالَ: أَلْفَ سَنَةٍ، وَقَدْ كَتَبْتُ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ: كَمْ يُعَمَّرُ، وَكَمْ يَلْبَثُ، قَالَ: يَا رَبِّ زِدْهُ، قَالَ: هَذَا الْكِتَابُ مَوْضُوعٌ فَأَعْطِهِ إِنْ شِئْتَ مِنْ عُمْرِكَ، قَالَ: نَعَمْ، وَقَدْ جَفَّ الْقَلَمُ عَنْ سَائِرِ بَنِي آدَمَ، فَكُتِبَ لَهُ مِنْ أَجَلِ آدَمَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَصَارَ أَجَلُهُ مِائَةَ سنه، فلما عمر تسعمائة سَنَةٍ وَسِتِّينَ سَنَةً جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَلَمَّا ان رآه آدم قال: ما لك؟ قَالَ لَهُ: قَدِ اسْتَوْفَيْتَ أَجَلَكَ، قَالَ لَهُ آدم: انما عمرت تسعمائة سنه وستين سنه، وبقي لي أَرْبَعُونَ سَنَةً، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ لِلْمَلَكِ، قَالَ الْمَلَكُ: قَدْ أَخْبَرَنِي بِهَا رَبِّي، قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ، فَرَجَعَ الْمَلَكُ إِلَى رَبِّهِ فقال: مَالَكَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ رَجَعْتُ إِلَيْكَ لِمَا كُنْتُ أَعْلَمُ مِنْ تَكْرِمَتِكَ إِيَّاهُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ارْجِعْ فَأَخْبِرْهُ، أَنَّهُ قَدْ أَعْطَى ابْنَهُ دَاوُدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ» ، قال: أخرجهم من ظهر آدم، وجعل لآدم عمر ألف سنة، قال: فعرضوا على آدم، فرأى رجلا من ذريته له نور، فأعجبه فسأله عنه فقال: هو داود، وقد جعل عمره ستين سنة، فجعل له من عمره اربعين سنه، فلما احتضر آدم ع جعل يخاصمهم في الأربعين السنه، فقيل له: إنك قد أعطيتها داود، قال: فجعل يخاصمهم

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، في قوله عز وجل: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» قال: أخرج ذريته من ظهره في صورة كهيئة الذر، فعرضهم على آدم بأسمائهم وأسماء آبائهم وآجالهم، قال: فعرض عليه روح داود في نور ساطع، فقال: من هذا؟ قال: هذا من ذريتك، نبي خلقته، قال: كم عمره؟ قال: ستون سنة، قال: زيدوه من عمرى اربعين سنه، قال: والأقلام رطبه تجرى، واثبتت لداود ع الأربعون، وكان عمر آدم ألف سنة، فلما استكملها إلا الأربعين سنة بعث إليه ملك الموت قال: يا آدم أمرت أن أقبضك، قال: ألم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: فرجع ملك الموت إلى ربه عز وجل فقال: إن آدم يدعي من عمره أربعين سنة، قال: أخبر آدم أنه جعلها لابنه داود والأقلام رطبه، واثبتت لداود الاربعون. حَدَّثَنَا ابن وكيع، قال: حَدَّثَنَا أبو داود، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، بنحوه وذكر ان آدم ع مرض قبل موته أحد عشر يوما، وأوصى الى ابنه شيث ع وكتب وصيته، ثم دفع كتاب وصيته إلى شيث، وأمره أن يخفيه من قابيل وولده، لأن قابيل قد كان قتل هابيل حسدا منه حين خصه آدم بالعلم، فاستخفى شيث وولده بما عندهم من العلم، ولم يكن عند قابيل وولده علم ينتفعون به ويزعم اهل التوراة ان عمر آدم ع كله كان تسعمائة سنة. وثلاثين سنة. حَدَّثَنَا الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أخبرني هشام ابن محمد، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ عُمْرُ آدَمَ تسعمائة سَنَةٍ وَسِتًّا وَثَلاثِينَ سَنَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ

والاخبار الوارده عن رسول الله ص والعلماء من سلفنا ما قد ذكرت، ورسول الله ص كان أعلم الخلق بذلك. وقد ذكرت الأخبار الواردة عنه أنه قال: كان عمره ألف سنة، وأنه بعد ما جعل لابنه داود من ذلك ما جعل له، أكمل الله له عدة ما كان أعطاه من العمر قبل أن يهب لداود ما وهب له من ذلك، ولعل ما كان جعل من ذلك آدم ع لداود ع لم يحسب في عمر آدم في التوراة، فقيل: كان عمره تسعمائة وثلاثين سنة. فإن قال قائل: فإن الأمر وإن كان كذلك، فإن آدم إنما كان جعل لابنه داود من عمره أربعين سنة، فكان ينبغى ان يكون في التوراة تسعمائة سنة وستون، ليوافق ذلك ما جاءت به الاخبار عن رسول الله ص. قيل: قد روينا عن رسول الله ص في ذلك أن الذي كان جعل آدم لابنه داود من عمره ستون سنة، وذلك في رواية لأبي هريرة عنه، وقد ذكرناها قبل فإن يكن ذلك كذلك، فالذي زعموا أنه في التوراة من الخبر عن مدة حياه آدم ع موافق لما روينا عن رسول الله ص في ذلك. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، أنه قال: لما كتب آدم الوصية مات صلوات الله عليه، واجتمعت عليه الملائكة من أجل أنه كان صفي الرحمن، فقبرته الملائكة، وشيث وإخوته في مشارق الفردوس، عند قرية هي أول قرية كانت في الأرض، وكسفت عليه الشمس والقمر سبعة أيام ولياليهن، فلما اجتمعت عليه الملائكة وجمع الوصية، جعلها في معراج، ومعها القرن الذي أخرج أبونا آدم من الفردوس، لكيلا يغفل عن ذكر الله عز وجل. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ، قال: سمعته يقول: بلغنى ان آدم ع حين

مَاتَ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ بِكَفَنِهِ وَحَنُوطِهِ مِنَ الْجَنَّةِ، ثُمَّ وَلِيَتِ الْمَلائِكَةُ قَبْرَهُ وَدَفْنَهُ حَتَّى غَيَّبُوهُ. حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ أَسْلَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ، [عَنِ النبي ص قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ آدَمُ غَسَّلَتْهُ الْمَلائِكَةُ بِالْمَاءِ وِتْرًا، وَأَلْحَدُوا لَهُ، وَقَالَتْ: هَذِهِ سُنَّةُ آدَمَ فِي وَلَدِهِ] . حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن ابن ذَكْوَانَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: [قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: إِنَّ أَبَاكُمْ آدَمَ كَانَ طُوَالا كَالنَّخْلَةِ السَّحُوقِ، سِتِّينَ ذِرَاعًا، كَثِيرَ الشَّعْرِ، مُوَارَى الْعَوْرَةِ، وَأَنَّهُ لَمَّا أَصَابَ الْخَطِيئَةَ بَدَتْ لَهُ سَوْءَتُهُ فَخَرَجَ هَارِبًا فِي الْجَنَّةِ فَتَلَقَّاهُ شَجَرَةٌ، فَأَخَذَتْ بِنَاصِيَتِهِ، وَنَادَاهُ رَبُّهُ: أَفِرَارًا مِنِّي يَا آدَمُ! قَالَ: لا وَاللَّهِ يَا رَبِّ وَلَكِنْ حَيَاءً مِنْكَ مما قد جَنَيْتُ، فَأَهْبَطَهُ اللَّهُ إِلَى الأَرْضِ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ بِحَنُوطِهِ وَكَفَنِهِ مِنَ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا رَأَتْ حَوَّاءُ الْمَلائِكَةَ ذَهَبَتْ لِتَدْخُلَ دونهم اليه، فقال: خلى عَنِّي وَعَنْ رُسُلِ رَبِّي، فَإِنِّي مَا لَقِيتُ مَا لَقِيتُ إِلا مِنْكِ، وَلا أَصَابَنِي مَا أَصَابَنِي إِلا فِيكِ فَلَمَّا قُبِضَ غَسَّلُوهُ بِالسِّدْرِ وَالْمَاءِ وِتْرًا، وَكَفَّنُوهُ فِي وِتْرٍ مِنَ الثِّيَابِ، ثُمَّ لَحَدُوا لَهُ فَدَفَنُوهُ،] ثُمَّ قَالُوا: هَذِهِ سُنَّةُ وَلَدِ آدَمَ مِنْ بَعْدِهِ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: قَالَ أَبِي: - وَزَعَمَ قَتَادَةُ عَنْ صَاحِبٍ لَهُ حَدَّثَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: [قال رسول الله ص: كَانَ آدَمُ رَجُلا طُوَّالا كَأَنَّهُ نَخْلَةٌ سَحُوقٌ] . حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال:

لما مات آدم ع قال شيث لجبرئيل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا: صَلِّ عَلَى آدَمَ، قَالَ: تَقَدَّمْ أَنْتَ فَصَلِّ عَلَى أَبِيكَ، وَكَبِّرْ عَلَيْهِ ثَلاثِينَ تَكْبِيرَةً، فَأَمَّا خَمْسٌ فَهِيَ الصَّلاةُ، وَأَمَّا خمس وعشرون فتفضيلا لادم ص. وقد اختلف في موضع قبر آدم ع، فَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ مَا قَدْ مَضَى ذِكْرُهُ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَإِنَّهُ قَالَ: دُفِنَ بِمَكَّةَ فِي غَارِ أَبِي قُبَيْسٍ، وَهُوَ غَارٌ يُقَالُ لَهُ غَارُ الْكَنْزِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذلك، مَا حَدَّثَنِي بِهِ الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قَالَ: لَمَّا خَرَجَ نُوحٌ مِنَ السَّفِينَةِ دَفَنَ آدم ع بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ مَضَى ذِكْرُنَا الرِّوَايَةَ بِذَلِكَ، فَكَرِهْنَا إِعَادَتَهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي هشام بن محمد، قال: أخبرني أبي، عن أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَاتَ آدم ع عَلَى بُوذَ- قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ يَعْنِي الْجَبَلَ الَّذِي أُهْبِطَ عَلَيْهِ- وَذَكَرَ أَنَّ حَوَّاءَ عَاشَتْ بَعْدَهُ سَنَةً ثُمَّ مَاتَتْ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، فَدُفِنَتْ مَعَ زَوْجِهَا فِي الْغَارِ الَّذِي ذَكَرْتُ، وَأَنَّهُمَا لَمْ يَزَالا مَدْفُونَيْنِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، حَتَّى كَانَ الطُّوفَانُ، فَاسْتَخْرَجَهُمَا نُوحٌ، وَجَعَلَهُمَا فِي تَابُوتٍ، ثُمَّ حَمَلَهُمَا مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ، فَلَمَّا غَاضَتِ الأَرْضُ الْمَاءَ رَدَّهُمَا إِلَى مَكَانِهِمَا الَّذِي كَانَا فِيهِ قَبْلَ الطُّوفَانِ، وَكَانَتْ حَوَّاءُ قَدْ غَزَلَتْ- فيما ذكر-

وَنَسَجَتْ وَعَجَنَتْ وَخَبَزَتْ، وَعَمِلَتْ أَعْمَالَ النِّسَاءِ كُلَّهَا. ونرجع الآن إلى قصة قابيل وخبره وأخبار ولده وأخبار شيث وخبر ولده- إذ كنا قد أتينا من ذكر آدم وعدوه إبليس وذكر أخبارهما، وما صنع الله بإبليس إذ تجبر وتعظم وطغى على ربه عز وجل فأشر وبطر نعمته التي أنعمها الله عليه، وتمادى في جهله وغيه، وسأل ربه النظرة، فأنظره إلى يوم الوقت المعلوم، وما صنع الله بآدم صلوات الله عليه إذ خطئ ونسي عهد الله من تعجيل عقوبته له على خطيئته، ثم تغمده إياه بفضله ورحمته، إذ تاب إليه من زلته فتاب عليه وهداه، وأنقذه من الضلالة والردى- حتى نأتي على ذكر من سلك سبيل كل واحد منهما، من تباع آدم ع على منهاجه وشيعة إبليس والمقتدين به في ضلالته، إن شاء الله، وما كان من صنع الله تبارك وتعالى بكل فريق منهم. فاما شيث ع فقد ذكرنا بعض أمره، وأنه كان وصي ابيه آدم ع في مخلفيه بعد مضيه لسبيله، وما أنزل الله عليه من الصحف. وقيل: إنه لم يزل مقيما بمكة يحج ويعتمر إلى أن مات، وإنه كان جمع ما أنزل الله عز وجل عليه من الصحف إلى صحف ابيه آدم ع، وعمل بما فيها، وإنه بنى الكعبة بالحجارة والطين. وأما السلف من علمائنا فإنهم قالوا: لم تزل القبة التي جعل الله لآدم في مكان البيت إلى أيام الطوفان، وإنما رفعها الله عز وجل حين أرسل الطوفان. وقيل: ان شيثا لما مرض أوصى ابنه أنوش ومات، فدفن مع أبويه في غار أبي قبيس، وكان مولده لمضي مائتي سنة وخمس وثلاثين سنة، من عمر آدم

ع وكانت وفاته وقد أتت له تسعمائة سنة واثنتا عشرة سنة. وولد لشيث أنوش، بعد ان مضى من عمره ستمائه سنه وخمس سنين، فيما يزعم أهل التوراة. وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عنه: نكح شيث بن آدم أخته حزورة ابنة آدم، فولدت له يانش بن شيث، ونعمة ابنة شيث، وشيث يومئذ ابن مائة سنة وخمس سنين، فعاش بعد ما ولد له يانش ثمانمائه سنة وسبع سنين. وقام أنوش بعد مضي أبيه شيث لسبيله بسياسة الملك، وتدبير من تحت يديه من رعيته مقام أبيه شيث، ولم يزل- فيما ذكر- على منهاج أبيه، لا يوقف منه على تغيير ولا تبديل وكان جميع عمر أنوش- فيما ذكر أهل التوراة- تسعمائة سنة وخمس سنين. حَدَّثَنِي الحارث، قال: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي هِشَامٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قَالَ: وَلَدَ شِيثٌ انُوشَ وَنَفَرًا كَثِيرًا، وَإِلَيْهِ أَوْصَى شِيثٌ، ثُمَّ وُلِدَ لأُنُوشَ بْنِ شِيثِ بْنِ آدَمَ ابْنُهُ قَيْنَانُ مِنْ أُخْتِهِ نِعْمَةَ ابْنَةِ شِيثٍ بَعْدَ مُضِيِّ تِسْعِينَ سَنَةً مِنْ عمر انوش، ومن عمر آدم ثلاثمائة سَنَةٍ وَخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ فَإِنَّهُ قَالَ فِيمَا حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق: نكح يانش بن شيث أخته نعمة ابنه شيث، فولدت له قينان، ويانش يومئذ ابن تسعين سنة، فعاش يانش بعد ما ولد له قينان ثمانمائه سنة وخمس عشرة سنة، وولد له بنون وبنات، فكان كل ما عاش يانش تسعمائة سنة وخمس سنين ثم نكح قينان بن يانش- وهو ابن

سبعين سنة- دينة ابنة براكيل بن محويل بن خنوح بن قين بن آدم. فولدت له مهلائيل بن قينان، فعاش قينان بعد ما ولد له مهلائيل ثمانمائه سنة وأربعين سنة، فكان كل ما عاش قينان تسعمائة سنة وعشر سنين. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي هِشَامٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قَالَ: وَلَدَ أَنُوشُ قِينَانَ، وَنَفَرًا كَثِيرًا، وَإِلَيْهِ الْوَصِيَّةُ، فَوَلَدَ قِينَانُ مَهْلائِيلَ وَنَفَرًا مَعَهُ، وَإِلَيْهِ الْوَصِيَّةُ، فَوَلَدَ مَهْلائِيلُ يردَ- وَهُوَ الْياردَ- وَنَفَرًا مَعَهُ، وَإِلَيْهِ الْوَصِيَّةُ، فَوَلَدَ يردُ أَخنوخَ وَهُوَ ادريس النبي ص ونفرا معه، فولد اخنوخ متوشلخَ وَنَفَرًا مَعَهُ وَإِلَيْهِ الْوَصِيَّةُ، فَوَلَدَ متوشلخُ لمكَ وَنَفَرًا مَعَهُ وَإِلَيْهِ الْوَصِيَّةُ. وَأَمَّا التَّوْرَاةُ فَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُ فِيهَا أَنَّ مَوْلِدَ مهلائيلَ بَعْدَ أَنْ مَضَتْ مِنْ عُمْرِ آدم ثلاثمائة سَنَةٍ وَخَمْسٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَمِنْ عُمْرِ قينانَ سبعون سنه. ونكح مهلائيل بْنُ قَينانَ- وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق- خالته سمعن ابنة براكيل ابن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم، فولدت له يرد بن مهلائيل، فعاش مهلائيل بعد ما ولد له يرد ثمانمائه سنة وثلاثين سنة، فولد له بنون وبنات، فكان كل ما عاش مهلائيل ثمانمائه سنة وخمسا وتسعين سنة، ثم مات. وأما في التوراة فإنه ذكر أن فيها أن يرد ولد لمهلائيل بعد ما مضى من عمر آدم أربعمائة سنة وستون سنة، وأنه كان على منهاج أبيه قينان، غير أن الأحداث بدت في زمانه

ذكر الاحداث التي كانت في ايام بنى آدم من لدن ملك شيث بن آدم إلى ايام يرد

ذكر الأحداث التي كانت في أيام بني آدم من لدن ملك شيث بن آدم إلى أيام يرد ذكر أن قابيل لما قتل هابيل، وهرب من أبيه آدم إلى اليمن، أتاه إبليس، فقال له: إن هابيل إنما قبل قربانه وأكلته النار، لأنه كان يخدم النار ويعبدها، فانصب أنت أيضا نارا تكون لك ولعقبك فبنى بيت نار، فهو أول من نصب النار وعبدها. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: إن قينا نكح أخته أشوث بنت آدم، فولدت له رجلا وامرأة: خنوخ بن قين، وعذب بنت قين، فنكح خنوخ بن قين أخته عذب بنت قين، فولدت له ثلاثة نفر وامرأة: عيرد بن خنوخ ومحويل بن خنوخ وأنوشيل بن خنوخ، وموليث بنت خنوخ، فنكح أنوشيل بن خنوخ موليث ابنة خنوخ، فولدت لانوشيل رجلا اسمه لامك، فنكح لامك امرأتين: اسم إحداهما عدى واسم الاخرى صلى، فولدت له عدى تولين بن لامك، فكان أول من سكن القباب، واقتنى المال، وتوبيش، وكان أول من ضرب بالونج والصنج، وولدت رجلا اسمه توبلقين، فكان أول من عمل النحاس والحديد، وكان أولادهم جبابرة وفراعنة، وكانوا قد أعطوا بسطة في الخلق، كان الرجل فيما يزعمون يكون ثلاثين ذراعا قال: ثم انقرض ولد قين، ولم يتركوا عقبا إلا قليلا، وذرية آدم كلهم جهلت أنسابهم وانقطع نسلهم، إلا ما كان من شيث بن آدم، فمنه كان النسل، وأنساب الناس اليوم كلهم إليه دون أبيه آدم، فهو أبو البشر، إلا ما كان من أبيه وإخوته ممن لم يترك عقبا

قال: ويقول أهل التوراة: بل نكح قين أشوث، فولدت له خنوخ، فولد لخنوخ عيرد، فولد عيرد محويل، فولد محويل انوشيل، فولد انوشيل، لامك، فنكح لامك عدى وصلى، فولدتا له من سميت والله أعلم. فلم يذكر ابن إسحاق من أمر قابيل وعقبه إلا ما حكيت. وأما غيره من أهل العلم بالتوراة فإنه ذكر أن الذي اتخذ الملاهي من ولد قايين رجل يقال له توبال، اتخذ في زمان مهلائيل بن قينان آلات اللهو من المزامير والطبول والعيدان والطنابير والمعازف، فانهمك ولد قايين في اللهو، وتناهى خبرهم إلى من بالجبل من نسل شيث، فهم منهم مائة رجل بالنزول إليهم، وبمخالفة ما أوصاهم به آباؤهم، وبلغ ذلك يارد، فوعظهم ونهاهم، فأبوا إلا تماديا، ونزلوا إلى ولد قايين، فأعجبوا بما رأوا منهم، فلما أرادوا الرجوع حيل بينهم وبين ذلك لدعوة سبقت من آبائهم، فلما أبطئوا بمواضعهم، ظن من كان في نفسه زيغ ممن كان بالجبل انهم أقاموا اعتباطا، فتساللوا ينزلون عن الجبل، ورأوا اللهو فأعجبهم، ووافقوا نساء من ولد قايين متسرعات إليهم، وصرن معهم، وانهمكوا في الطغيان، وفشت الفاحشة وشرب الخمر. قال أبو جعفر: وهذا القول غير بعيد من الحق، وذلك أنه قول قد روي عن جماعة من سلف علماء أمة نبينا ص نحو منه، وإن لم يكونوا بينوا زمان من حدث ذلك في ملكه، سوى ذكرهم أن ذلك كان فيما بين آدم ونوح ص. ذكر من روي ذلك عنه: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ- يَعْنِي ابْنَ أَبِي الْفُرَاتِ- قَالَ: حَدَّثَنَا عَلْبَاءُ بْنُ أَحْمَرَ، عَنْ عِكْرِمَةَ،

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: «وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى» . قَالَ: كَانَتْ فِيمَا بَيْنَ نُوحٍ وَإِدْرِيسَ، وَكَانَتْ أَلْفَ سَنَةٍ، وَإِنَّ بَطْنَيْنِ مِنْ وَلَدِ آدَمَ، كَانَ أَحَدُهُمَا يَسْكُنُ السَّهْلَ، وَالآخَرُ يَسْكُنُ الْجَبَلَ، وَكَانَ رِجَالُ الْجَبَلِ صِبَاحًا وَفِي النِّسَاءِ دَمَامَةٌ، وَكَانَ نِسَاءُ السَّهْلِ صِبَاحًا وَفِي الرِّجَالِ دَمَامَةٌ، وَإِنَّ إِبْلِيسَ أَتَى رَجُلا مِنْ أَهْلِ السَّهْلِ فِي صُورَةِ غُلامٍ فَآجَرَ نَفْسَهُ مِنْهُ، وَكَانَ يَخْدِمُهُ، وَاتَّخَذَ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ شَيْئًا مِثْلَ الَّذِي يَزْمِرُ فِيهِ الرِّعَاءُ، فَجَاءَ فِيهِ بِصَوْتٍ لَمْ يَسْمَعِ النَّاسُ مِثْلَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مَنْ حَوْلَهُمْ، فَانْتَابُوهُمْ يَسْمَعُونَ إِلَيْهِ، وَاتَّخَذُوا عِيدًا يَجْتَمِعُونَ إِلَيْهِ فِي السَّنَةِ، فَتَتَبَرَّجُ النِّسَاءُ لِلرِّجَالِ، قَالَ: وَيَنْزِلُ الرِّجَالُ لَهُنَّ وَإِنَّ رَجُلا مِنْ أَهْلِ الْجَبَلِ هَجَمَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي عِيدِهِمْ ذَلِكَ، فَرَأَى النِّسَاءَ وَصَبَاحَتَهُنَّ، فَأَتَى أَصْحَابَهُ فَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ، فتحولوا اليهن، فَنَزَلُوا عَلَيْهِنَّ، فَظَهَرَتِ الْفَاحِشَةُ فِيهِنَّ، فَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى» . حَدَّثَنَا ابن وكيع، قال: حَدَّثَنَا ابن أبي غنية، عن أبيه، عن الحكم: «وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى» ، قال: كان بين آدم ونوح ثمانمائه سنة، وكان نساؤهم أقبح ما يكون من النساء، ورجالهم حسان، فكانت المرأة تريد الرجل على نفسها، فأنزلت هذه الآية: «وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى» . حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرني هشام، قال: أخبرني أبي، عن أبي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمْ يَمُتْ آدَمُ حَتَّى بَلَغَ وَلَدُهُ وَوَلَدُ وَلَدِهِ أَرْبَعِينَ ألفا ببوذ

وَرَأَى آدَمُ فِيهِمُ الزِّنَا وَشُرْبَ الْخَمْرِ وَالْفَسَادَ، فَأَوْصَى أَلا يُنَاكِحُ بَنُو شِيثٍ بَنِي قَابِيلَ، فَجَعَلَ بَنُو شِيثٍ آدَمَ فِي مَغَارَةٍ، وَجَعَلُوا عَلَيْهِ حَافِظًا، لا يَقْرُبُهُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي قابيل، وَكَانَ الَّذِينَ يَأْتُونَهُ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ مِنْ بَنِي شِيثٍ، فَقَالَ مِائَةٌ مِنْ بَنِي شِيثٍ صَبَاحٍ: لَوْ نَظَرْنَا إِلَى مَا فَعَلَ بَنُو عَمِّنَا! يَعْنُونَ بَنِي قَابِيلَ. فَهَبَطَتِ الْمِائَةُ إِلَى نِسَاءِ صَبَاحٍ مِنْ بَنِي قَابِيلَ، فَاحْتَبَسَ النِّسَاءُ الرِّجَالَ، ثُمَّ مَكَثُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ مِائَةٌ آخَرُونَ: لَوْ نَظَرْنَا مَا فَعَلَ إِخْوَتُنَا! فَهَبَطُوا مِنَ الْجَبَلِ إِلَيْهِمْ، فَاحْتَبَسَهَمُ النِّسَاءُ ثُمَّ هَبَطَ بَنُو شِيثَ كُلُّهُمْ، فَجَاءَتِ الْمَعْصِيَةُ، وَتَنَاكَحُوا واختلطوا، وكثر بنو قابيل حتى ملئوا الأَرْضَ، وَهُمُ الَّذِينَ غَرَقُوا أَيَّامَ نُوحٍ. وَأَمَّا نَسَّابُو الْفُرْسِ فَقَدْ ذَكَرْتُ مَا قَالُوا فِي مهلائِيلَ بْنِ قينانَ، وَأَنَّهُ هُوَ أوشهنجَ الَّذِي مَلَكَ الأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ، وَبَيَّنْتُ قَوْلَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ نَسَّابِي الْعَرَبِ. فَإِنْ كَانَ الأَمْرُ فِيهِ كَالَّذِي قَالَهُ نَسَّابُو الْفُرْسِ، فَإِنَّيِ حدثت عن هشام ابن مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ، أَنَّهُ هُوَ أَوَّلُ مَنْ قَطَعَ الشَّجَرَ، وَبَنَى الْبِنَاءَ، وَأَوَّلُ مَنِ اسْتَخْرَجَ الْمَعَادِنَ وَفَطَنَ النَّاسُ لَهَا، وَأَمَرَ أَهْلَ زَمَانِهِ بِاتِّخَاذِ الْمَسَاجِدَ، وَبَنَى مَدِينَتَيْنِ كَانَتَا أَوَّلَ مَا بُنِيَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ مِنَ الْمَدَائِنِ، وَهُمَا مَدِينَةُ بَابِلَ الَّتِي بِسَوَادِ الْكُوفَةِ، وَمَدِينَةُ السُّوسِ وَكَانَ مُلْكُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَأَمَّا غَيْرُهُ فَإِنَّهُ قَالَ: هُوَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَنْبَطَ الْحَدِيدَ فِي مُلْكِهِ، فَاتَّخَذَ مِنْهُ الأَدَوَاتَ لِلصِّنَاعَاتِ، وَقَدَّرَ الْمِيَاهَ فِي مَوَاضِعِ الْمَنَاقِعِ، وَحَضَّ النَّاسَ عَلَى الْحِرَاثَةِ وَالزِّرَاعَة وَالْحَصَادِ وَاعْتِمَالِ الأَعْمَالِ، وَأَمَرَ بِقَتْلِ السِّبَاعِ الضَّارِيَةِ، وَاتِّخَاذِ الْمَلابِسِ

من جلودها والمفارش، وبذبح البقر والغنم والوحش وَالأَكْلِ مِنْ لُحُومِهَا، وَأَنَّ مُلْكَهُ كَانَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَنَّهُ بَنَى مَدِينَةَ الريِّ قَالُوا: وَهِيَ أَوَّلُ مَدِينَةٍ بُنِيَتْ بَعْدَ مَدِينَةِ جُيومرْتَ الَّتِي كَانَ يَسْكُنُهَا بِدَنبَاوَنْدَ مِنْ طَبَرِسْتَانَ. وَقَالَتِ الْفُرْسُ: إِنَّ أوشهنْجَ هَذَا وُلِدَ مَلِكًا، وَكَانَ فَاضِلا محمودا في سيرته وسياسه رَعِيَّتَهُ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الأَحْكَامَ وَالْحُدُودَ، وَكَانَ مُلَقَّبًا بِذَلِكَ، يُدْعَى فيشداذَ وَمَعْنَاهُ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوَّلُ مَنْ حَكَمَ بِالْعَدْلِ، وَذَلِكَ أَنَّ فَاشَ مَعْنَاهُ أَوَّلُ، وَأَنَّ دَاذَ عَدْلٌ وَقَضَاءٌ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ نَزَلَ الْهِنْدَ، وَتَنَقَّلَ فِي الْبِلادِ، فَلَمَّا اسْتَقَامَ أَمْرُهُ وَاسْتَوْثَقَ لَهُ الْمُلْكُ عَقَدَ عَلَى رَأْسِهِ تَاجًا، وَخَطَبَ خُطْبَةً، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّهُ وَرِثَ الْمُلْكَ عَنْ جَدِّهِ جيومرتَ، وَإِنَّهُ عَذَابٌ وَنَقْمَةٌ عَلَى مَرَدَةِ الإِنْسِ وَالشَّيَاطِينِ وَذَكَرُوا أَنَّهُ قَهَرَ إِبْلِيسَ وَجُنُودَهُ، وَمَنَعَهُمُ الاخْتِلاطَ بِالنَّاسِ، وَكَتَبَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا فِي طِرْسٍ أَبْيَضَ أخذ عليهم فيه المواثيق الا يَعْرِضُوا لأَحَدٍ مِنَ الإِنْسِ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَقَتَلَ مَرَدَتَهُمْ وَجَمَاعَةً مِنَ الْغِيلانِ، فَهَرَبُوا مِنْ خوفه الى المفاوز والجبال والأدوية، وَأَنَّهُ مَلَكَ الأَقَالِيمَ كُلَّهَا، وَأَنَّهُ كَانَ بَيْنَ مَوْتِ جيومرتَ إِلَى مَوْلِدِ أوشهنجَ وَمُلْكِهِ مِائتا سنه. وَثَلاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَذَكَرُوا أَنَّ إِبْلِيسَ وَجُنُودَهُ فَرِحُوا بِمَوْتِ أوشهنْجَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ دَخَلُوا بِمَوْتِهِ مَسَاكِنَ بَنِي آدَمَ، وَنَزَلُوا إِلَيْهِمْ مِنَ الْجِبَالِ وَالأَوْدِيَةِ. وَنَرْجِعُ الآنَ إِلَى ذِكْرِ يردَ- وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ هُوَ يَاردَ- فَوُلِدَ يردُ لمهلائِيلَ مِنْ خالته سمعن ابنة براكيل بن محويل بن خنوخَ بْنِ قينَ، بَعْدَ مَا مَضَى مِنْ عمر آدم أربعمائة وَسِتُّونَ سَنَةً، فَكَانَ وَصِيَّ أَبِيهِ وَخَلِيفَتِهِ فِيمَا كَانَ وَالِدُ مهلائِيلَ أَوْصَى إِلَى مهلائيلَ، وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَكَانَتْ وِلادَةُ أُمِّهِ إِيَّاهُ بَعْدَ مَا مَضَى مِنْ عُمْرِ أَبِيهِ مهلائيلَ- فِيمَا ذَكَرُوا- خَمْسٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، فَقَامَ مِنْ بَعْدِ مَهْلِكِ أَبِيهِ مِنْ وَصِيَّةِ أَجْدَادِهِ وَآبَائِهِ بِمَا كَانُوا يَقُومُونَ بِهِ أَيَّامَ حَيَاتِهِمْ. ثُمَّ نَكَحَ يَردُ- فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن

إسحاق، وهو ابن مائة سنة واثنتين وستين سنة- بركنا ابنة الدرمسيل بن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم فولدت له أخنوخ بن يرد- وأخنوخ إدريس النبي، وكان أول بني آدم أعطي النبوة- فيما زعم ابن إسحاق- وخط بالقلم، عاش يرد بعد ما ولد له اخنوخ ثمانمائه سنة، وولد له بنون وبنات، فكان كل ما عاش يرد تسعمائة سنة واثنتين وستين سنة ثم مات. وقال غيره من أهل التوراة: ولد ليرد أخنوخ- وهو إدريس- فنبأه الله عز وجل، وقد مضى من عمر آدم ستمائه سنة واثنتان وعشرون سنة، وأنزل عليه ثلاثون صحيفة وهو أول من خط بعد آدم وجاهد في سبيل الله، وقطع الثياب وخاطها، وأول من سبى من ولد قابيل، فاسترق منهم، وكان وصي والده يرد فيما كان آباؤه أوصوا به إليه، وفيما أوصى به بعضهم بعضا، وذلك كله من فعله في حياه آدم. قال: وتوفى آدم ع بعد ان مضى من عمر اخنوخ ثلاثمائة سنه وثماني سنين، تتمه تسعمائة وثلاثين سنة التي ذكرنا أنها عمر آدم قال: ودعا أخنوخ قومه ووعظهم، وأمرهم بطاعة الله عز وجل ومعصية الشيطان، وألا يلابسوا ولد قابيل، فلم يقبلوا منه، وكانت العصابة بعد العصابة من ولد شيث تنزل إلى ولد قايين. قال: وفي التوراة: إن الله تبارك وتعالى رفع ادريس بعد ثلاثمائة سنة وخمس وستين سنة مضت من عمره، وبعد خمسمائة سنة وسبع وعشرين سنة مضت من عمر ابيه، فعاش أبوه بعد ارتفاعه أربعمائة وخمسا وثلاثين سنه تمام تسعمائة واثنتين وستين سنه، وكان عمر يارد تسعمائة واثنتين وستين سنة، وولد أخنوخ وقد مضت من عمر يارد مائة واثنتان وستون سنة. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرني هشام، قال: أخبرني أبي، عن أبي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: فِي زَمَانِ يَرْدَ عُمِلَتِ الأَصْنَامُ، وَرَجَعَ مَنْ رَجَعَ عَنِ الإِسْلامِ. وَقَدْ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ:

حَدَّثَنِي الْمَاضِي بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلانِيِّ، [عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، قَالَ: قَالَ لي رسول الله ص: يَا أَبَا ذَرٍّ، أَرْبَعَةٌ- يَعْنِي مِنَ الرُّسُلِ- سريانيون: آدم، وشيث، ونوح، واخنوخ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَخْنُوخَ ثَلاثِينَ صَحِيفَةً] . وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ إِدْرِيسَ إِلَى جَمِيعِ أَهْلِ الأَرْضِ فِي زَمَانِهِ، وَجَمَعَ لَهُ عِلْمَ الْمَاضِينَ، وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ زَادَهُ مَعَ ذَلِكَ ثَلاثِينَ صَحِيفَةً، قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى» وَقَالَ: يَعْنِي بِالصُّحُفِ الأُولَى الصُّحُفَ الَّتِي أُنْزِلَتْ على ابن آدم هبه الله وادريس ع. وقال بعضهم: ملك بيوراسب في عهد إدريس، وقد كان وقع إليه كلام من كلام آدم صلوات الله عليه، فاتخذه في ذلك الزمان سحرا، وكان بيوراسب يعمل به، وكان إذا أراد شيئا من جميع مملكته أو أعجبته دابة أو امرأة نفخ بقصبة كانت له من ذهب، وكان يجيء إليه كل شيء يريده، فمن ثم تنفخ اليهود في الشبورات. وأما الفرس فإنهم قالوا: ملك بعد موت أوشهنج طهمورث بن ويونجهان ابن خبانداذ بن خيايذار بن اوشهنج. وقد اختلف في نسب طهمورث الى اوشهنج، فنسبه بعضهم النسبه التي ذكرت وقال بعض نسابه الفرس: هو طهمورث بن ايونكهان بن أنكهد ابن اسكهد بن اوشهنج

وقال هشام بن محمد الكلبي- فيما حدثت عنه: ذكر أهل العلم أن أول ملوك بابل طهمورث، قال: وبلغنا- والله أعلم- أن الله أعطاه من القوة ما خضع له إبليس وشياطينه، وأنه كان مطيعا لله، وكان ملكه أربعين سنه واما الفرس فإنها تزعم ان طهمورث ملك الأقاليم كلها، وعقد على رأسه تاجا، وقال يوم ملك: نحن دافعون بعون الله عن خليقته المردة الفسدة. وكان محمودا في ملكه، حدبا على رعيته، وأنه ابتنى سابور من فارس ونزلها، وتنقل في البلدان، وأنه وثب بإبليس حتى ركبه، فطاف عليه في أداني الأرض وأقاصيها، وأفزعه ومردة أصحابه حتى تطايروا وتفرقوا، وأنه أول من اتخذ الصوف والشعر للباس والفرش، وأول من اتخذ زينة الملوك من الخيل والبغال والحمير، وأمر باتخاذ الكلاب لحفظ المواشي وحراستها من السباع والجوارح للصيد، وكتب بالفارسيه، وان بيوراسب ظهر في أول سنة من ملكه، ودعا إلى ملة الصابئين. ثم رجعنا إلى ذكر اخنوخ، وهو ادريس ع. ثم نكح- فيما حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن ابن إسحاق: أخنوخ بن يرد هدانة- ويقال: أدانة- ابنة باويل ابن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم، وهو ابن خمس وستين سنة، فولدت له متوشلخ بن أخنوخ، فعاش بعد ما ولد له متوشلخ ثلاثمائة سنة، وولد له بنون وبنات، فكان كل ما عاش اخنوخ ثلاثمائة سنة وخمسا وستين سنة ثم مات. وأما غيره من أهل التوراة فإنه قال فيما ذكر عن التوراة: ولد لاخنوخ بعد ستمائه سنة وسبع وثمانين سنة خلت من عمر آدم متوشلخ، فاستخلفه

أخنوخ على أمر الله، وأوصاه وأهل بيته قبل أن يرفع، وأعلمهم أن الله عز وجل سيعذب ولد قايين ومن خالطهم ومال إليهم، ونهاهم عن مخالطتهم، وذكر أنه كان أول من ركب الخيل، لأنه اقتفى رسم أبيه في الجهاد، وسلك في أيامه في العمل بطاعة الله طريق آبائه وكان عمر اخنوخ الى ان رفع ثلاثمائة سنة وخمسا وستين سنة وولد له متوشلخ بعد ما مضى من عمره خمس وستون سنة. ثم نكح- فيما حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنْ ابن إسحاق- متوشلخ بن أخنوخ عربا ابنة عزرائيل بن أنوشيل بن خنوخ بن قين بن آدم، وهو ابن مائة سنة وسبع وثلاثين سنة فولدت له لمك بن متوشلخ، فعاش بعد ما ولد له لمك سبعمائة سنة، فولد له بنون وبنات، وكان كل ما عاش متوشلخ تسعمائة سنة وتسع عشرة سنة ثم مات ونكح لمك بن متوشلخ بن اخنوخ بتنوس ابنة براكيل بن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم ع، وهو ابن مائة سنة وسبع وثمانين سنة فولدت له نوحا النبي ص، فعاش لمك بعد ما ولد له نوح خمسمائة سنه وخمسا وتسعين سنة، وولد له بنون وبنات، فكان كل ما عاش سبعمائة سنة وثمانين سنة، ثم مات ونكح نوح ابن لمك عمذرة ابنة براكيل بن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم، وهو ابن خمسمائة سنه، فولدت له بينه: سام، وحام، ويافث، بني نوح وقال أهل التوراة: ولد لمتوشلخ بعد ثمانمائه سنة وأربع وسبعين سنة من عمر آدم لملك، فأقام على ما كان عليه آباؤه: من طاعة الله وحفظ عهوده. قالوا: فلما حضرت متوشلخ الوفاة استخلف لملك على أمره، وأوصاه بمثل ما كان آباؤه يوصون به قالوا: وكان لمك يعظ قومه، وينهاهم عن النزول إلى ولد قايين فلا يتعظون، حتى نزل جميع من كان في الجبل إلى ولد قايين

وقيل: إنه كان لمتوشلخ ابن آخر غير لمك، يقال له صابئ- وقيل: إن الصابئين به سموا صابئين- وكان عمر متوشلخ تسعمائة وستين سنة، وكان مولد لمك بعد أن مضى من عمر متوشلخ مائة وسبع وثمانون سنة. ثم ولد لمك نوحا بعد وفاة آدم بمائة سنة وست وعشرين سنة، وذلك لألف سنة وست وخمسين سنة مضت من يوم أهبط الله عز وجل آدم إلى مولد نوح ع، فلما أدرك نوح قال له لمك: قد علمت أنه لم يبق في هذا الموضع غيرنا، فلا تستوحش ولا تتبع الأمة الخاطئة، فكان نوح يدعو إلى ربه، ويعظ قومه فيستخفون به، فأوحى الله عز وجل إليه أنه قد أمهلهم، فأنظرهم ليراجعوا ويتوبوا مدة، فانقضت المدة قبل أن يتوبوا وينيبوا. وقال آخرون غير من ذكرت قوله: كان نوح في عهد بيوراسب، وكان قومه يعبدون الأصنام، فدعاهم الى الله جل وعز تسعمائة وستة وخمسين سنة، كلما مضى قرن تبعهم قرن، على ملة واحدة من الكفر، حتى أنزل الله عليهم العذاب فأفناهم. حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حدثني هشام، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَلَدَ متوشلخُ لمكَ وَنَفَرًا مَعَهُ، وَإِلَيْهِ الْوَصِيَّةُ، فَوَلَدَ لَمكُ نُوحًا، وَكَانَ لِلمكَ يَوْمَ وُلِدَ نُوحٌ اثْنَتَانِ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ الزَّمَانُ يَنْهَى عَنْ مُنْكَرٍ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ نُوحًا، وَهُوَ ابن أربعمائة سَنَةٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، ثُمَّ دَعَاهُمْ فِي نُبُوَّتِهِ مائه وعشرين سنه، ثم امره بصنعه السفينة فصنعها وركبها وهو ابن ستمائه سَنَةٍ، وَغَرِقَ مَنْ غَرِقَ، ثُمَّ مَكَثَ بَعْدَ السفينة ثلاثمائه سَنَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَأَمَّا عُلَمَاءُ الْفُرْسِ فَإِنَّهُمْ قالوا: ملك بعد طهمورث جم الشيذَ- وَالشِّيذُ مَعْنَاهُ عِنْدَهُمُ الشُّعَاعُ، لَقَّبُوهُ بِذَلِكَ فِيمَا زَعَمُوا لِجَمَالِهِ- وَهُوَ جمُ بْنُ ويونجهان، وهو أخو طهمورث وَقِيلَ إِنَّهُ مَلَكَ الأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ كُلَّهَا، وَسُخِّرَ لَهُ مَا فِيهَا مِنَ

الْجِنِّ وَالإِنْسِ، وَعُقِدَ عَلَى رَأْسِهِ التَّاجُ وَقَالَ حِينَ قَعَدَ فِي مُلْكِهِ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَكْمَلَ بَهَاءَنَا وَأَحْسَنَ تَأْيِيدَنَا، وَسَنُوسِعُ رَعِيَّتَنَا خَيْرًا وَإِنَّهُ ابْتَدَعَ صَنْعَةَ السُّيُوفِ وَالسِّلاحِ، وَدَلَّ عَلَى صَنْعَةِ الإِبْرِيسمِ وَالْقَزِّ وَغَيْرِهِ مِمَّا يغزل، وامر بِنَسْجِ الثِّيَابِ وَصَبْغِهَا، وَنَحْتِ السُّرُوجِ وَالأَكُفِّ وَتَذْلِيلِ الدَّوَابِّ بِهَا. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ تَوَارَى بَعْدَ ما مضى من ملكه ستمائه سَنَةٍ وَسِتُّ عَشَرَةَ سَنَةً وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَخَلَتِ الْبِلادُ مِنْهُ سَنَةً، وَأَنَّهُ أَمَرَ لِمُضِيِّ سَنَةٍ مِنْ مُلْكِهِ إِلَى سَنَةِ خَمْسٍ مِنْهُ بِصَنْعَةِ السُّيُوفِ وَالدُّرُوعِ وَالْبِيضِ وَسَائِرِ صُنُوفِ الأَسْلِحَةِ وَآلَةِ الصُّنَّاعِ مِنَ الْحَدِيدِ وَمِنْ سَنَةِ خَمْسِينَ مِنْ مُلْكِهِ إِلَى سَنَةِ مِائَةٍ بِغَزْلِ الإِبْرِيسمِ وَالْقَزِّ وَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَكُلِّ مَا يُسْتَطَاعُ غَزْلُهُ وَحِيَاكَةِ ذَلِكَ وَصِبْغَتِهِ أَلْوَانًا وَتَقْطِيعِهِ أَنْوَاعًا وَلُبْسِهِ وَمِنْ سَنَةِ مِائَةٍ إِلَى سَنَةِ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ صَنَّفَ النَّاسَ أَرْبَعَ طَبَقَاتٍ: طَبَقَةَ مُقَاتِلَةٍ، وَطَبَقَةُ فُقَهَاءٍ، وطبقه كتابا وَصُنَّاعًا وَحَرَّاثِينَ، وَاتَّخَذَ طَبَقَةً مِنْهُمْ خَدَمًا، وَأَمَرَ كُلَّ طَبَقَةٍ مِنْ تِلْكَ الطَّبَقَاتِ بِلُزُومِ الْعَمَلِ الَّذِي أَلْزَمَهَا إِيَّاهُ وَمِنْ سَنَةِ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ إِلَى سَنَةِ خَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ حَارَبَ الشَّيَاطِينَ وَالْجِنَّ وَأَثْخَنَهُمْ وَأَذَلَّهُمْ وَسُخِّرُوا لَهُ وَانْقَادُوا لأَمْرِهِ وَمِنْ سَنَةِ خَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ إِلَى سَنَةِ سِتِّ عَشْرَةَ وثلاثمائة وَكَّلَ الشَّيَاطِينَ بِقَطْعِ الْحِجَارَةَ وَالصُّخُورَ مِنَ الْجِبَالِ، وَعَمَلِ الرُّخَامِ وَالْجَصِّ وَالْكِلْسِ، وَالْبِنَاءِ بِذَلِكَ، وَبِالطِّينِ الْبنيَانِ وَالْحَمَّامَاتِ، وَصَنْعَةِ النُّورَةِ، وَالنَّقْلِ مِنَ الْبِحَارِ وَالْجِبَالِ وَالْمَعَادِنِ وَالْفلَوَاتِ كُلُّ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ، وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَسَائِرِ مَا يُذَابُ مِنَ الْجَوَاهِرِ، وَأَنْوَاعِ الطِّيبِ وَالأَدْوِيَةِ فَنَفَذُوا فِي كُلِّ ذَلِكَ لأَمْرِهِ ثُمَّ أَمَرَ فَصُنِعَتْ لَهُ عَجَلَةٌ مِنْ زُجَاجٍ، فَصَفَّدَ فِيهَا الشَّيَاطِينَ وَرَكِبَهَا، وَأَقْبَلَ عَلَيْهَا فِي الْهَوَاءِ مِنْ بَلَدِهِ، مِنْ دنباونْدَ إِلَى بَابِلَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ هرمز از فروردين ماه، فَاتَّخَذَ النَّاسُ لِلأُعْجُوبَةِ الَّتِي رَأَوْا مِنْ اجرائه ما اجرى على تلك الحال نوروز، وَأَمَرَهُمْ بِاتِّخَاذِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ بَعْدَهُ عِيدًا، وَالتَّنَعُّمِ وَالتَّلَذُّذِ فِيهَا، وَكَتَبَ إِلَى النَّاسِ اليوم السادس، وهو خرداذ روز يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ قَدْ سَارَ فِيهِمْ بِسِيرَةٍ ارْتَضَاهَا اللَّهُ، فَكَانَ مِنْ جَزَائِهِ

إِيَّاهُ عَلَيْهَا أَنْ جَنَّبَهُمُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ وَالأَسْقَامَ والهرم والحسد، فمكث الناس ثلاثمائة سنه بعد الثلثمائه وَالسِّتَّ عَشَرَةَ سَنَةً الَّتِي خَلَتْ مِنْ مُلْكِهِ، لا يُصِيبُهُمْ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ جل وعز جَنَّبَهُمْ إِيَّاهُ. ثُمَّ إِنَّ جما بَطَرَ بَعْدَ ذلك نعمه الله عنده، وجمع الانس والجن، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ وَلِيُّهُمْ وَمَالِكُهُمْ وَالدَّافِعُ بِقُوَّتِهِ عَنْهُمُ الأَسْقَامَ وَالْهَرَمَ وَالْمَوْتَ، وَجَحَدَ إِحْسَانَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ، وَتَمَادَى فِي غَيِّهِ فَلَمْ يَحْرِ أَحَدٌ مِمَّنْ حَضَرَهُ لَهُ جَوَابًا، وَفَقَدَ مَكَانَهُ بهاءه وعزه، وَتَخَلَّتْ عَنْهُ الْمَلائِكَةُ الَّذِينَ كَانَ اللَّهُ أَمَرَهُمْ بسياسة امره، فأحس بذلك بيوراسب الذى يسمى الضحاك فابتدر الى جم لينتهسه فهرب منه، ثم ظفر به بيوراسب بعد ذلك، فامتلخ امعاءه واسترطها، وَنَشَرَهُ بِمِنْشَارٍ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْفُرْسِ: إِنَّ جمًّا لَمْ يَزَلْ مَحْمُودَ السِّيرَةِ إِلَى أَنْ بَقِيَ مِنْ مُلْكِهِ مِائَةُ سَنَةٍ فَخَلَّطَ حِينَئِذٍ، وَادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ اضْطَرَبَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ، وَوَثَبَ عَلَيْهِ أَخُوهُ اسفتورُ وَطَلَبَهُ لِيَقْتُلَهُ، فَتَوَارَى عَنْهُ، وَكَانَ فِي تَوَارِيهِ مَلِكًا يَنْتَقِلُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِ بيوراسب فَغَلَبَهُ عَلَى مُلْكِهِ، وَنَشَرَهُ بِالْمِنْشَارِ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ ان ملك جم كان سبعمائة سَنَةٍ وَسِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وقد ذكرت عن وهب بن منبه، عن ملك من ملوك الماضين قصة شبيهة بقصة جم شاذ الملك، ولولا أن تاريخه خلاف تاريخ جم لقلت إنها قصة جم

وذلك ما حَدَّثَنِي محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه، أنه قال: إن رجلا ملك وهو فتى شاب، فقال: إني لأجد للملك لذة وطعما، فلا أدري: أكذلك كل الناس أم أنا وجدته من بينهم؟ فقيل له: بل الملك كذلك، فقال: ما الذي يقيمه لي؟ فقيل له: يقيمه لك أن تطيع الله فلا تعصيه فدعا ناسا من خيار من كان في ملكه فقال لهم: كونوا بحضرتي في مجلسي، فما رأيتم أنه طاعة لله عز وجل فأمروني أن أعمل به، وما رأيتم أنه معصية لله فازجروني عنه أنزجر، ففعل ذلك هو وهم، واستقام له ملكه بذلك أربعمائة سنة مطيعا لله عز وجل ثم إن إبليس انتبه لذلك فقال: تركت رجلا يعبد الله ملكا أربعمائة سنة! فجاء فدخل عليه فتمثل له برجل، ففزع منه الملك، فقال: من أنت؟ قال إبليس: لا ترع، ولكن أخبرني من أنت؟ قال الملك: أنا رجل من بني آدم، فقال له إبليس: لو كنت من بني آدم لقد مت كما يموت بنو آدم، ألم تر كم قد مات من الناس وذهب من القرون! لو كنت منهم لقد مت كما ماتوا، ولكنك إله، فادع الناس إلى عبادتك فدخل ذلك في قلبه ثم صعد المنبر، فخطب الناس فقال: أيها الناس، إني قد كنت أخفيت عنكم أمرا بان لي إظهاره، لكم تعلمون أني ملكتكم منذ أربعمائة سنة، ولو كنت من بني آدم لقد مت كما ماتوا، ولكني إله فاعبدوني فأرعش مكانه، وأوحى الله إلى بعض من كان معه فقال: أخبره أني قد استقمت له ما استقام لي، فإذا تحول عن طاعتي إلى معصيتي فلم يستقم لي، فبعزتي حلفت لأسلطن عليه بخت ناصر، فليضربن عنقه، وليأخذن ما في خزائنه وكان في ذلك الزمان لا يسخط الله على أحد إلا سلط عليه بخت ناصر، فلم يتحول الملك عن قوله، حتى سلط الله عليه بخت ناصر، فضرب عنقه، وأوقر من خزائنه سبعين سفينة ذهبا. قال أبو جعفر: ولكن بين بخت ناصر وجم دهر طويل، إلا أن يكون الضحاك كان يدعى في ذلك الزمان بخت ناصر

وأما هشام بن الكلبي فإني حدثت عنه انه قال: ملك بعد طهمورث جم، وكان أصبح أهل زمانه وجها، وأعظمهم جسما، قال: فذكروا انه غبر ستمائه سنة وتسع عشرة سنة مطيعا لله مستعليا أمره مستوثقة له البلاد ثم إنه طغى وبغى، فسلط الله عليه الضحاك، فسار إليه في مائتي ألف، فهرب جم منه مائة سنة، ثم إن الضحاك ظفر به فنشره بمنشار قال: فكان جميع ملك جم، منذ ملك الى ان قتل سبعمائة وتسع عشرة سنة. وقد روي عن جماعة من السلف أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على ملة الحق، وأن الكفر بالله إنما حدث في القرن الذين بعث اليهم نوح ع، وقالوا: إن أول نبي أرسله الله إلى قوم بالإنذار والدعاء الى توحيده نوح ع. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ بين نوح وآدم ع عَشَرَةُ قُرُونٍ، كُلُّهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ، فَاخْتَلَفُوا، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، قَالَ: وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا» حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: «كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً» ، قَالَ: كَانُوا عَلَى الْهُدَى جَمِيعًا فَاخْتَلَفُوا، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، فَكَانَ أَوَّلَ نَبِيٍّ بعث نوح ع

ذكر الاحداث التي كانت في عهد نوح ع

ذكر الأحداث التي كانت في عهد نوح ع قد ذكرنا اختلاف المختلفين في ديانة القوم الذين ارسل اليهم نوح ع، وأن منهم من يقول: كانوا قد أجمعوا على العمل بما يكرهه الله، من ركوب الفواحش وشرب الخمور والاشتغال بالملاهي عن طاعة الله عز وجل، وأن منهم من يقول: كانوا أهل طاعة بيوراسب، وكان بيوراسب أول من أظهر القول بقول الصابئين، وتبعه على ذلك الذين ارسل اليهم نوح ع، وسأذكر إن شاء الله خبر بيوراسب فيما بعد فأما كتاب الله فإنه ينبئ عنهم أنهم كانوا أهل أوثان، وذلك أن الله عز وجل يقول مخبرا عن نوح: «قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً، وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً» فبعث الله اليهم نوحا مخوفهم بأسه، ومخدرهم سطوته، وداعيا لهم إلى التوبة والمراجعة إلى الحق، والعمل بما أمر الله به رسله وأنزله في صحف آدم وشيث وأخنوخ ونوح يوم ابتعثه الله نبيا إليهم- فيما ذكر- ابن خمسين سنة. وقيل أيضا ما حَدَّثَنَا به نصر بن علي الجهضمي، قال: حَدَّثَنَا نوح بن قيس، قال: حَدَّثَنَا عون بن أبي شداد، قال: إن الله تبارك وتعالى أرسل نوحا إلى قومه وهو ابن خمسين وثلاثمائة سنة، فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاثمائة سنة. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَعَثَ الله نوحا اليهم وهو ابن أربعمائة سَنَةٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، ثُمَّ دَعَاهُمْ فِي نُبُوَّتِهِ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً،

وركب السفينة وهو ابن ستمائه سنه، ثم مكث بعد ذلك ثلاثمائة وَخَمْسِينَ سَنَةً. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ سِرًّا وَجَهْرًا، يَمْضِي قَرْنٌ بَعْدَ قَرْنٍ، فَلا يَسْتَجِيبُونَ لَهُ، حَتَّى مَضَى قُرُونٌ ثَلاثَةٌ عَلَى ذَلِكَ مِنْ حَالِهِ وَحَالِهِمْ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وجل اهلاكهم دعا عليهم نوح ع فَقَالَ: «رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً» ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالى ذِكْرُهُ أَنْ يَغْرِسَ شَجَرَةً فَغَرَسَهَا، فَعَظُمَتْ وَذَهَبَتْ كُلَّ مَذْهَبٍ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِقَطْعِهَا مِنْ بَعْدِ مَا غَرَسَهَا بِأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَيَتَّخِذَ مِنْهَا سَفِينَةً، كَمَا قَالَ اللَّهُ لَهُ: «وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا» ، فَقَطَعَهَا وَجَعَلَ يَعْمَلُهَا. وَحَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ مِسْمَارٍ الْمَرْوَزِيُّ وَالْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ، قال: حدثنى فائد مولى عبيد الله ابن عَلِيِّ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، أَخْبَرَهُ أَنَّ عائشة زوج النبي ص اخبرته [ان رسول الله ص قَالَ: لَوْ رَحِمَ اللَّهُ أَحَدًا مِنْ قَوْمِ نُوحٍ لَرَحِمَ أُمَّ الصَّبِيِّ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: كَانَ نُوحٌ مَكَثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا، يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى كَانَ آخِرَ زَمَانِهِ غَرَسَ شَجَرَةً فَعَظُمَتْ وَذَهَبَتْ كُلَّ مَذْهَبٍ ثُمَّ قَطَعَهَا، ثُمَّ جَعَلَ يَعْمَلُ سَفِينَةً فَيَمُرُّونَ فَيَسْأَلُونَهُ فَيَقُولُ: أَعْمَلُهَا سَفِينَةً، فَيَسْخَرُونَ مِنْهُ، وَيَقُولُونَ: تَعْمَلُ سَفِينَةً فِي الْبَرِّ فَكَيْفَ تَجْرِي! فَيَقُولُ: سَوْفَ تَعْلَمُونَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا وَفَارَ التَّنُّورُ وَكَثُرَ الْمَاءُ فِي السِّكَكِ خَشِيَتْ أُمُّ الصَّبِيِّ عَلَيْهِ- وَكَانَتْ تُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا- فَخَرَجَتْ إِلَى الْجَبَلِ حَتَّى بَلَغَتْ ثُلُثَهُ، فَلَمَّا بَلَغَهَا الْمَاءُ خَرَجَتْ حَتَّى بَلَغَتْ ثُلُثَيِ الْجَبَلِ، فَلَمَّا بَلَغَهَا الْمَاءُ خَرَجَتْ حَتَّى اسْتَوَتْ عَلَى الْجَبَلِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَاءُ رَقَبَتَهَا رَفَعَتْهُ بِيَدِهَا، حَتَّى ذَهَبَ بِهِ الْمَاءُ، فَلَوْ رَحِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ أَحَدًا لَرَحِمَ أُمَّ الصَّبِيِّ] . حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بن الهيثم، عن المسيب بن

شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ: قال سلمان الفارسي: عمل نوح السفينة أربعمائة سَنَةٍ، وَأَنْبَتَ السَّاجَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، حَتَّى كَانَ طوله ثلاثمائة ذِرَاعٍ، وَالذِّرَاعُ إِلَى الْمَنْكِبِ. فَعَمِلَ نُوحٌ بِوَحْيِ اللَّهِ إِلَيْهِ، وَتَعْلِيمِهِ إِيَّاهُ، عَمِلَهَا فَكَانَتْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ طول السفينة ثلاثمائة ذِرَاعٍ، وَعَرْضَهَا خَمْسُونَ ذِرَاعًا، وَطُولُهَا فِي السَّمَاءِ ثَلاثُونَ ذِرَاعًا، وَبَابُهَا فِي عَرْضِهَا حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا مبارك، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: كَانَ طُولُ سَفِينَةِ نُوحٍ الف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائه ذِرَاعٍ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ مُفَضَّلِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ الحواريون لعيسى بن مَرْيَمَ: لَوْ بَعَثْتَ لَنَا رَجُلا شَهِدَ السَّفِينَةَ فَحَدَّثَنَا عَنْهَا! فَانْطَلَقَ بِهِمْ حَتَّى انْتَهَى إِلَى كَثِيبٍ مِنْ تُرَابٍ، فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ بِكَفِّهِ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا هَذَا؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: هَذَا قَبْرُ حَامِ بْنِ نُوحٍ، قَالَ: فَضَرَبَ الْكَثِيبَ بِعَصَاهُ وَقَالَ: قُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ يَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْ رَأْسِهِ، وَقَدْ شَابَ، فَقَالَ لَهُ عيسى ع: هَكَذَا هَلَكْتَ؟ قَالَ: لا، وَلَكِنِّي مِتُّ وَأَنَا شَابٌّ، وَلَكِنِّي ظَنَنْتُ أَنَّهَا السَّاعَةُ، فَمِنْ ثَمَّ شِبْتُ قَالَ: حَدِّثْنَا عَنْ سَفِينَةِ نُوحٍ، قَالَ: كَانَ طُولُهَا أَلْفَ ذِرَاعٍ وَمِائَتَيْ ذِرَاعٍ وَعَرْضُهَا ستمائه ذِرَاعٍ، وَكَانَتْ ثَلاثَ طَبَقَاتٍ: فَطَبَقَةٌ فِيهَا الدَّوَابُّ وَالْوَحْشُ، وَطَبَقَةٌ فِيهَا الإِنْسُ، وَطَبَقَةٌ فِيهَا الطَّيْرُ، فَلَمَّا كَثُرَ أَرْوَاثُ الدَّوَابِّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى نُوحٍ أَنِ اغْمِزْ ذَنَبَ الْفِيلِ، فَغَمَزَ فَوَقَعَ منه خِنْزِيرٌ وَخِنْزِيرَةٌ، فَأَقْبَلا عَلَى الرَّوْثِ، فَلَمَّا وَقَعَ الْفَأْرُ بِخُرَزِ السَّفِينَةِ يَقْرِضُهُ، أَوْحَى اللَّهُ إِلَى نُوحٍ أَنِ اضْرِبْ بَيْنَ عَيْنَيِ الأَسَدِ، فَخَرَجَ مِنْ مَنْخَرِهِ سِنَّوْرٌ وَسِنَّوْرَةٌ، فَأَقْبَلا عَلَى الْفَأْرِ فَقَالَ لَهُ عِيسَى: كَيْفَ عَلِمَ نُوحٌ أَنَّ الْبِلادَ قَدْ غَرِقَتْ؟ قَالَ: بَعَثَ الْغُرَابَ يَأْتِيهِ بِالْخَبَرِ، فَوَجَدَ جِيفَةً فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَدَعَا عَلَيْهِ بِالْخَوْفِ، فَلِذَلِكَ لا يَأْلَفُ الْبُيُوتَ قَالَ: ثُمَّ بَعَثَ الْحَمَامَةَ، فَجَاءَتْ

بِوَرَقِ زَيْتُونٍ بِمِنْقَارِهَا وَطِينٍ بِرِجْلَيْهَا، فَعَلِمَ أَنَّ الْبِلادَ قَدْ غَرِقَتْ قَالَ: فَطَوَّقَهَا الْخُضْرَةَ الَّتِي في عنقها، دعا لَهَا أَنْ تَكُونَ فِي أَنَسٍ وَأَمَانٍ، فَمِنْ ثَمَّ تَأْلَفُ الْبُيُوتَ قَالَ: فَقَالَتِ الْحَوَارِيُّونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا نَنْطَلِقْ بِهِ إِلَى أَهْلِنَا، فَيَجْلِسَ مَعَنَا وَيُحَدِّثَنَا؟ قَالَ: كَيْفَ يَتْبَعُكُمْ مَنْ لا رِزْقَ لَهُ؟ قَالَ: فَقَالَ لَهُ: عُدْ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَعَادَ تُرَابًا. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي هِشَامٌ، قَالَ: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عَبَّاسٍ، قَالَ: نَجَرَ نُوحٌ السَّفِينَةَ بِجَبَلِ بُوذَ، من ثم تبدى الطوفان قال: وكان طول السفينة ثلاثمائة ذِرَاعٍ بِذِرَاعِ جَدِّ أَبِي نُوحٍ، وَعَرْضُهَا خَمْسِينَ ذِرَاعًا، وَطُولُهَا فِي السَّمَاءِ ثَلاثِينَ ذِرَاعًا، وَخَرَجَ مِنْهَا مِنَ الْمَاءِ سِتَّةُ أَذْرُعٍ، وَكَانَتْ مُطَبَّقَةً، وَجُعِلَ لَهَا ثَلاثَةُ أَبْوَابٍ، بَعْضُهَا أَسْفَلُ مِنْ بعض. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عمن لا يتهم، عن عبيد بن عمير الليثي، أنه كان يحدث أنه بلغه أنهم كانوا يبطشون به- يعني قوم نوح بنوح- فيخنقونه حتى يغشى عليه، فإذا أفاق قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. قال ابن إسحاق: حتى إذا تمادوا في المعصية، وعظمت في الأرض منهم الخطيئة، وتطاول عليه وعليهم الشأن، واشتد عليه منهم البلاء، وانتظر النجل بعد النجل، فلا يأتي قرن إلا كان أخبث من الذي قبله، حتى إن كان الآخر منهم ليقول: قد كان هذا مع آبائنا ومع أجدادنا، هكذا مجنونا! لا يقبلون منه شيئا، حتى شكا ذلك من أمرهم نوح إلى الله عز وجل، فقال كما قص الله عز وجل علينا في كتابه: «رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً» إلى آخر القصة، حتى قال: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» ، إلى آخر القصة فلما شكا ذلك منهم نوح إلى الله عز وجل

واستنصره عليهم اوحى الله اليه ان «اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ» فاقبل نوح على عمل الفلك، ولها عن قومه، وجعل يقطع الخشب ويضرب الحديد،، ويهيئ عدة الفلك من القار وغيره مما لا يصلحه إلا هو، وجعل قومه يمرون به، وهو في ذلك من عمله، فيسخرون منه، ويستهزئون به فيقول: «إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ» قال: ويقولون- فيما بلغني-: يا نوح قد صرت نجارا بعد النبوة! قال: وأعقم الله أرحام النساء فلا يولد لهم. قال: ويزعم أهل التوراة أن الله عز وجل أمره أن يصنع الفلك من خشب الساج، وأن يصنعه أزور، وأن يطليه بالقار من داخله وخارجه، وأن يجعل طوله ثمانين ذراعا وعرضه خمسين ذراعا، وطوله في السماء ثلاثين ذراعا، وأن يجعله ثلاثة أطباق: سفلا ووسطا وعلوا، وأن يجعل فيه كوا ففعل نوح كما امره الله عز وجل، حتى إذا فرغ منه وقد عهد الله إليه: «إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ» وقد جعل التنور آية فيما بينه وبينه، فقال: إذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين واركب فلما فار التنور حمل نوح في الفلك من أمره الله تعالى به- وكانوا قليلا كما قال- وحمل فيها من كل زوجين اثنين مما فيه الروح والشجر، ذكرا وأنثى فحمل فيه بنيه الثلاثة: سام وحام ويافث ونساءهم، وستة أناس ممن كان آمن به فكانوا عشرة نفر: نوح وبنوه وأزواجهم، ثم أدخل ما أمره الله به من الدواب، وتخلف عنه ابنه يام، وكان كافرا

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن ابن إسحاق، عن الحسن ابن دِينَارٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: كَانَ أَوَّلَ مَا حَمَلَ نُوحٌ فِي الْفُلْكِ مِنَ الدَّوَابِّ الذرة، وَآخِرَ مَا حَمَلَ الْحِمَارُ فَلَمَّا أَدْخَلَ الْحِمَارَ وَدَخَلَ صَدْرُهُ تَعَلَّقَ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ بِذَنَبِهِ فَلَمْ تَسْتَقِلَّ رِجْلاهُ، فَجَعَلَ نُوحٌ يَقُولُ: وَيْحَكَ! ادْخُلْ، فَيَنْهَضُ فَلا يَسْتَطِيعُ، حَتَّى قَالَ نُوحٌ، وَيْحَكَ! ادْخُلْ وَإِنْ كَانَ الشَّيْطَانُ مَعَكَ، قَالَ كَلِمَةٌ زَلَّتْ عَنْ لِسَانِهِ، فَلَمَّا قَالَهَا نُوحٌ خَلَّى الشَّيْطَانُ سَبِيلَهُ، فَدَخَلَ وَدَخَلَ الشَّيْطَانُ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ نُوحٌ: مَا أَدْخَلَكَ عَلَيَّ يَا عَدُوَّ اللَّهِ! قَالَ: أَلَمْ تَقُلِ: ادْخُلْ وَإِنْ كَانَ الشَّيْطَانُ مَعَكَ!، قَالَ: اخْرُجْ عَنِّي يَا عَدُوَّ اللَّهِ، فَقَالَ: مالك بُدٌّ مِنْ أَنْ تَحْمِلَنِي، فَكَانَ- فِيمَا يَزْعُمُونَ- فِي ظَهْرِ الْفُلْكِ، فَلَمَّا اطْمَأَنَّ نُوحٌ فِي الْفُلْكِ وَأَدْخَلَ فِيهِ كُلَّ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الشَّهْرِ مِنَ السَّنَةِ الَّتِي دخل فيها نوح بعد ستمائه سَنَةٍ مِنْ عُمْرِهِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنَ الشَّهْرِ، فَلَمَّا دَخَلَ وَحَمَلَ مَعَهُ مَنْ حمل، تحرك يَنَابِيعُ الْغَوْطِ الأَكْبَرِ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، كَمَا قال الله لنبيه ص: «فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ» فَدَخَلَ نُوحٌ وَمَنْ مَعَهُ الْفُلْكَ وَغَطَّاهُ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ مَعَهُ بِطَبَقَةٍ، فَكَانَ بَيْنَ أَنْ أَرْسَلَ اللَّهُ الْمَاءَ وَبَيْنَ أَنِ احْتَمَلَ الْمَاءُ الْفُلْكَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً ثُمَّ احْتَمَلَ الْمَاءُ كَمَا يَزْعُمُ أَهْلُ التَّوْرَاةِ، وَكَثُرَ وَاشْتَدَّ وَارْتَفَعَ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ص. «وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ» . وَالدُّسُرُ: الْمَسَامِيرُ، مَسَامِيرُ الْحَدِيدِ فَجَعَلَتِ الْفُلْكُ تَجْرِي بِهِ وَبِمَنْ مَعَهُ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ، وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ الَّذِي هَلَكَ فِيمَنْ هَلَكَ، وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ حِينَ رَأَى نُوحٌ مِنْ صِدْقِ مَوْعُودِ رَبِّهِ مَا رَأَى، فَقَالَ: «يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ» ، وَكَانَ شَقِيًّا قَدْ أُضْمِرَ كُفْرًا، «قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ» ، وَكَانَ عَهَدَ الْجِبَالَ وهي حرز

مِنَ الأَمْطَارِ إِذَا كَانَتْ، فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ كما كان يكون، قال نوح: «لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ» . وَكَثُرَ الْمَاءُ وَطَغَى، وَارْتَفَعَ فَوْقَ الْجِبَالِ- كما يزعم أَهْلُ التَّوْرَاةِ- خَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، فَبَادَ مَا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مِنَ الْخَلْقِ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فِيهِ الرُّوحُ أَوْ شَجَرٍ، فَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنَ الْخَلائِقِ إِلا نُوحٌ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ، وَإِلا عوجُ بْنُ عنقٍ- فِيمَا يَزْعُمُ أَهْلُ الْكِتَابِ- فَكَانَ بَيْنَ أَنْ أَرْسَلَ اللَّهُ الطُّوفَانَ وَبَيْنَ أَنْ غَاضَ الْمَاءُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرُ لَيَالٍ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي هِشَامٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قَالَ: أَرْسَلَ اللَّهُ الْمَطَرَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَأَقْبَلَتِ الْوُحُوشُ حِينَ أَصَابَهَا الْمَطَرُ وَالدَّوَابُّ وَالطَّيْرُ كُلُّهَا إِلَى نُوحٍ، وَسُخِّرَتْ لَهُ، فَحَمَلَ مِنْهَا كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ» ، وَحَمَلَ مَعَهُ جَسَدَ آدَمَ، فَجَعَلَهُ حَاجِزًا بَيْنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ، فَرَكِبُوا فِيهَا لِعَشْرِ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ رَجَبٍ، وَخَرَجُوا مِنْهَا يَوْمَ عَاشُورَاءَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، فَلِذَلِكَ صَامَ مَنْ صَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأُخْرِجَ الْمَاءُ نِصْفَيْنِ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ «فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ» ، يقول: منصب، «وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً» ، يَقُولُ: شَقَقْنَا الأَرْضَ، «فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ» فَصَارَ الْمَاءُ نِصْفَيْنِ: نِصْفٌ مِنَ السَّمَاءِ وَنِصْفٌ مِنَ الأَرْضِ، وَارْتَفَعَ الْمَاءُ عَلَى أَطْوَلِ جَبَلٍ فِي الأَرْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، فَسَارَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ، فَطَافَتْ بِهِمُ الأَرْضَ كُلَّهَا فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ لا تَسْتَقِرُّ عَلَى شَيْءٍ، حَتَّى أَتَتِ الْحَرَمَ فَلَمْ تَدْخُلْهُ، وَدَارَتْ بِالْحَرَمِ أُسْبُوعًا، وَرُفِعَ البيت الذى بناه آدم ع، رُفِعَ مِنَ الْغَرَقِ، - وَهُوَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ وَالْحَجَرُ الأَسْوَدُ- عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ، فَلَمَّا دَارَتْ بِالْحَرَمِ ذَهَبَتْ فِي الأَرْضِ تَسِيرُ بِهِمْ، حَتَّى انْتَهَتْ إِلَى الْجُودِيِّ- وَهُوَ جَبَلٌ بِالْحَضِيضِ مِنْ

أَرْضِ الْمَوْصِلِ- فَاسْتَقَرَّتْ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لِتَمَامِ السَّبْعِ، فَقِيلَ بَعْدَ السَّبْعَةِ الأَشْهُرِ: «بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ، فلما استقرت عَلَى الْجُودِيِّ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ» ، يَقُولُ: أَنْشِفِي مَاءَكِ الَّذِي خَرَجَ مِنْكِ، «وَيا سَماءُ أَقْلِعِي» ، يقول: احبسى ماءك، «وَغِيضَ الْماءُ» نَشَّفَتْهُ الأَرْضُ، فَصَارَ مَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ هَذِهِ الْبُحُورَ الَّتِي تَرَوْنَ فِي الأَرْضِ، فَآخِرُ مَا بَقِيَ مِنَ الطُّوفَانِ فِي الأَرْضِ مَاءٌ بِحَسْمَى بَقِيَ فِي الأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً بَعْدَ الطُّوفَانِ ثُمَّ ذَهَبَ. وَكَانَ التَّنُّورُ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ آيَةَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نُوحٍ فَوَرَانَ الْمَاءِ مِنْهُ تَنُّورًا كَانَ لِحَوَّاءَ من حِجَارَةً، وَصَارَ إِلَى نُوحٍ. حَدَّثَنِي يعقوب بن إبراهيم، قال: حَدَّثَنَا هشيم، عن أبي محمد، عن الحسن، قال: كان تنورا من حجارة، كان لحواء حتى صار إلى نوح، قال: فقيل له: إذا رأيت الماء يفور من التنور، فاركب أنت وأصحابك. وقد اختلف في المكان الذي كان به التنور الذي جعل الله فوران مائه آية، ما بينه وبين نوح، فقال بعضهم: كان بالهند. ذِكْرُ مَنْ قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عَبْدُ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ، عَنِ النَّضْرِ أَبِي عُمَرَ الْخَزَّازِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي: «وَفارَ التَّنُّورُ» قَالَ: فَارَ بِالْهِنْدِ. وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ ذَلِكَ بِنَاحِيَةِ الْكُوفَةِ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:

حدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: نَبَعَ الْمَاءُ فِي التَّنُّورِ، فَعَلِمَتْ بِهِ امْرَأَتُهُ فَأَخْبَرَتْهُ، قَالَ: وَكَانَ ذَلِكَ فِي نَاحِيَةِ الْكُوفَةِ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ، عَنِ السَّرِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّهُ كَانَ يَحْلِفُ بِاللَّهِ: مَا فَارَ التَّنُّورُ إِلا مِنْ نَاحِيَةِ الْكُوفَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي عَدَدِ مَنْ رَكِبَ الْفُلْكَ مِنْ بَنِي آدَمَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانُوا ثَمَانِينَ نَفْسًا. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، قَالَ: حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ الْخُرَاسَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نَهِيكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: كَانَ فِي سَفِينَةِ نُوحٍ ثَمَانُونَ رَجُلا، أَحَدُهُمْ جُرْهُمٌ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: حَمَلَ نُوحٌ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ ثَمَانِينَ إِنْسَانًا. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: قَالَ سُفْيَانُ: كَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: كَانُوا ثَمَانِينَ- يَعْنِي الْقَلِيلَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ» . حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرني هشام، قال: أخبرني أبي، عن أبي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: حَمَلَ نُوحٌ فِي السَّفِينَةِ بَنِيهِ: سَامَ، وَحَامَ، وَيَافِثَ وَكَنَائِنَهُ، نِسَاءَ بَنِيهِ هَؤُلاءِ، وَثَلاثَةَ وَسَبْعِينَ مِنْ بَنِي شِيثٍ، مِمَّنْ آمَنَ بِهِ، فَكَانُوا ثَمَانِينَ فِي السفينة

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ كَانُوا ثَمَانِيَةَ أَنْفُسٍ ذِكْرُ من قال ذلك: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قال: ذكر لنا أنه لَمْ يَتِمَّ فِي السَّفِينَةِ إِلا نُوحٌ وَامْرَأَتُهُ وَثَلاثَةٌ بَنِيهِ، وَنِسَاؤُهُمْ، فَجَمِيعُهُمْ ثَمَانِيَةٌ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ وَالْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، قَالا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بن عبد الملك ابن أبي غنية، عن أبيه، عن الحكم: «وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ» ، قَالَ: نُوحٌ، وَثَلاثَةُ بَنِيهِ، وَأَرْبَعُ كَنَائِنِهِ. حَدَّثَنَا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: حُدِّثْتُ أَنَّ نُوحًا حَمَلَ مَعَهُ بَنِيهِ الثَّلاثَةَ وَثَلاثَ نِسْوَةٍ لِبَنِيهِ، وَامْرَأَةَ نُوحٍ، فَهُمْ ثَمَانِيَةٌ بِأَزْوَاجِهِمْ، وَأَسْمَاءُ بَنِيهِ: يَافِثُ، وَحَامُ، وَسَامُ. فَأَصَابَ حَامُ امْرَأَتَهُ فِي السَّفِينَةِ، فَدَعَا نُوحٌ أَنْ تُغَيَّرَ نُطْفَتُهُ، فَجَاءَ بِالسُّودَانِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانُوا سَبْعَةَ أَنْفُسٍ. ذكر من قَالَ ذلك: حدثني الحارث، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الاعمش: «وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ» ، قَالَ: كَانُوا سَبْعَةً: نُوحٌ، وَثَلاثُ كَنَائِنَ، وَثَلاثَةُ بَنِينَ لَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: كَانُوا عَشَرَةً سِوَى نِسَائِهِمْ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:

حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حمل بنيه الثلاثة: سام، وحام، ويافث ونساءهم، وستة أناسي ممن كان آمن به، فكانوا عشرة نفر بنوح وبنيه وأزواجهم وأرسل الله تبارك وتعالى الطوفان لمضي ستمائه سنة من عمر نوح- فيما ذكره أهل العلم من أهل الكتاب وغيرهم- ولتتمة ألفي سنة ومائتي سنة وست وخمسين سنة من لدن اهبط آدم إلى الأرض. وقيل: إن الله عز وجل أرسل الطوفان لثلاث عشرة خلت من آب، وإن نوحا أقام في الفلك إلى أن غاض الماء، واستوت الفلك على جبل الجودي بقردى، في اليوم السابع عشر من الشهر السادس فلما خرج نوح منها اتخذ بناحية قردى من أرض الجزيرة موضعا، وابتنى هناك قرية سماها ثمانين، لأنه كان بنى فيها بيتا لكل إنسان ممن آمن معه وهم ثمانون، فهي إلى اليوم تسمى سوق ثمانين. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: هبط نوح ع إِلَى قَرْيَةٍ، فَبَنَى كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بَيْتًا، فَسُمِّيَتْ سُوقَ ثَمَانِينَ، فَغَرِقَ بَنُو قَابِيلَ كُلُّهُمْ، وَمَا بَيْنَ نُوحٍ إِلَى آدَمَ مِنَ الآبَاءِ كَانُوا عَلَى الإِسْلامِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَصَارَ هُوَ وَأَهْلُهُ فِيهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّهُ لا يُعِيدُ الطُّوفَانَ إِلَى الأَرْضِ أَبَدًا. وَقَدْ حَدَّثَنِي عَبَّادُ بْنُ يَعْقُوبَ الأَسَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا المحاربى، عن عثمان

ابن مَطَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الْغَفُورِ، عن ابيه، قال: [قال رسول الله ص: فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ رَكِبَ نُوحٌ السَّفِينَةَ، فَصَامَ هُوَ وَجَمِيعُ مَنْ مَعَهُ، وَجَرَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَانْتَهَى ذَلِكَ إِلَى الْمُحَرَّمِ، فَأَرْسَتِ السَّفِينَةُ عَلَى الْجُودِيِّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَصَامَ نُوحٌ، وَأَمَرَ جَمِيعَ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْوَحْشِ وَالدَّوَابِّ فَصَامُوا شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ] . حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: كَانَتِ السَّفِينَةُ أَعْلاهَا الطَّيْرُ، وَوَسَطُهَا النَّاسُ، وَأَسْفَلُهَا السِّبَاعُ. وَكَانَ طُولُهَا فِي السَّمَاءِ ثَلاثِينَ ذِرَاعًا، وَدُفِعَتْ مِنْ عَيْنِ وَرْدَةٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِعَشْرِ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ رَجَبٍ، وَأَرْسَتْ عَلَى الْجُودِيِّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَمَرَّتْ بِالْبَيْتِ، فَطَافَتْ بِهِ سَبْعًا، وَقَدْ رَفَعَهُ اللَّهُ مِنَ الْغَرَقِ، ثُمَّ جَاءَتِ الْيَمَنَ، ثُمَّ رَجَعَتْ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حدثنا حجاج، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: هَبَطَ نُوحٌ مِنَ السَّفِينَةِ يَوْمَ الْعَاشِرِ مِنَ الْمُحَرَّمِ، فَقَالَ لِمَنْ مَعَهُ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُفْطِرًا فَلْيَصُمْ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهَا- يَعْنِي الْفُلْكَ- اسْتَقَلَّتْ بِهِمْ فِي عَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ رَجَبٍ، فَكَانَتْ فِي الْمَاءِ خَمْسِينَ وَمِائَةَ يَوْمٍ، وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى الْجُودِيِّ شَهْرًا، وَأَهْبَطَ بِهِمْ فِي عَشْرٍ خَلَوْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ. حَدَّثَنَا القاسم، قال: حَدَّثَنَا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس، قال: ما كان زمان نوح شبر من الأرض إلا إنسان يدعيه

ثم عاش نوح بعد الطوفان فيما حَدَّثَنِي نصر بن علي الجهضمي، قال: أخبرنا نوح بن قيس، قال: حَدَّثَنَا عون بن أبي شداد، قال: عاش- يعني نوحا- بعد ذلك- يعني بعد الألف سنة إلا خمسين عاما التي لبثها في قومه- ثلاثمائة وخمسين سنة. وأما ابن إسحاق، فإن ابن حميد حَدَّثَنَا، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عنه، قال: وعمر نوح- فيما يزعم أهل التوراة- بعد ان اهبط من الفلك ثلاثمائة سنة وثمانيا وأربعين سنة، قال: فكان جميع عمر نوح ألف سنة إلا خمسين عاما، ثم قبضه الله عز وجل إليه. وقيل: إن ساما ولد لنوح قبل الطوفان بثمان وتسعين سنة وقال بعض أهل التوراة: لم يكن التناسل، ولا ولد لنوح ولد إلا بعد الطوفان، وبعد خروج نوح من الفلك. قالوا: إنما الذين كانوا معه في الفلك قوم كانوا آمنوا به واتبعوه، غير أنهم بادوا وهلكوا، فلم يبق لهم عقب، وإنما الذين هم اليوم في الدنيا من بني آدم ولد نوح وذريته دون سائر ولد آدم، كما قال الله عز وجل: «وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ» . وقيل: إنه كان لنوح قبل الطوفان ابنان هلكا جميعا، كان أحدهما يقال له كنعان، قالوا: وهو الذي غرق في الطوفان، والآخر منهما يقال له عابر، مات قبل الطوفان. حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أخبرني هشام، قال: أخبرني أبي، عن أبي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وُلِدَ لِنُوحٍ سَامُ، وَفِي وَلَدِهِ بَيَاضٌ وَأُدْمَةٌ، وَحَامُ وَفِي وَلَدِهِ سَوَادٌ وَبَيَاضٌ قَلِيلٌ، وَيَافثُ وَفِيهِمُ الشُّقْرَةُ وَالْحُمْرَةُ، وَكَنْعَانُ وَهُوَ الَّذِي غَرِقَ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّيهِ يَامَ، وَذَلِكَ قَوْلُ الْعَرَبِ: إِنَّمَا هام عَمُّنَا يَامُ، وَأُمُّ هَؤُلاءِ وَاحِدَةٌ

فَأَمَّا الْمَجُوسُ فَإِنَّهُمْ لا يَعْرِفُونَ الطُّوفَانَ، وَيَقُولُونَ: لَمْ يَزَلِ الْمُلْكُ فِينَا مِنْ عَهْدِ جُيومَرْتَ، وَقَالُوا: جُيومَرْتَ هُوَ آدَمُ يَتَوَارَثُهُ آخِرُ عَنْ أَوَّلَ إِلَى عَهْدِ فَيْرُوزَ بْنِ يَزْدجردَ بْنِ شَهْرَيَارَ، قَالُوا: وَلَوْ كَانَ لِذَلِكَ صِحَّةٌ كَانَ نَسَبُ الْقَوْمِ قَدِ انْقَطَعَ، وَمُلْكُ الْقَوْمِ قَدِ اضْمَحَلَّ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يُقِرُّ بِالطُّوفَانِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ كَانَ فِي إِقْلِيمِ بَابِلَ وَمَا قَرُبَ مِنْهُ، وَأَنَّ مَسَاكِنَ وَلَدِ جيومرتَ كَانَتْ بِالْمَشْرِقِ، فَلَمْ يَصِلْ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مِنَ الْخَبَرِ عَنِ الطُّوفَانِ بِخِلافِ مَا قَالُوا، فَقَالَ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ: «وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ. وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ. وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ» ، فَأَخْبَرَ عَزَّ ذِكْرُهُ أَنَّ ذُرِّيَّةَ نُوحٍ هُمُ الْبَاقُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرْتُ اخْتِلافَ النَّاسَ فِي جُيومَرْتَ وَمَنْ يُخَالِفُ الْفُرْسَ فِي عَيْنِهِ، ومن هو، ومن نسبه الى نوح ع. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَثْمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، [عَنِ النبي ص في قوله: «وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ» قَالَ: سَامُ وَحَامُ وَيَافِثُ] . حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد عن قتادة، في قوله: «وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ» ، قَالَ: فَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ. حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ» . يَقُولُ: لَمْ يَبْقَ إِلا ذُرِّيَّةَ نُوحٍ. وروي عن علي بن مجاهد، عن ابن إسحاق، عن الزهري. وعن محمد بن

صالح، عن الشعبي قالا: لما هبط آدم من الجنة، وانتشر ولده أرخ بنوه من هبوط آدم، فكان ذلك التاريخ حتى بعث الله نوحا فارخوا ببعث نوح، حتى كان الغرق، فهلك من هلك ممن كان على وجه الأرض. فلما هبط نوح وذريته وكل من كان في السفينة إلى الأرض قسم الأرض بين ولده أثلاثا: فجعل لسام وسطا من الأرض، ففيها بيت المقدس، والنيل، والفرات، ودجلة، وسيحان، وجيحان، وفيشون، وذلك ما بين فيشون إلى شرقي النيل، وما بين منخر ريح الجنوب إلى منخر الشمال. وجعل لجام قسمه غربي النيل، فما وراءه إلى منخر ريح الدبور. وجعل قسم يافث في فيشون فما وراءه إلى منخر ريح الصبا، فكان التاريخ من الطوفان إلى نار إبراهيم، ومن نار إبراهيم إلى مبعث يوسف، ومن مبعث يوسف إلى مبعث موسى، ومن مبعث موسى إلى ملك سليمان، ومن ملك سليمان إلى مبعث عيسى بن مريم، ومن مبعث عيسى بن مريم الى ان بعث رسول ص. وهذا الذي ذكر عن الشعبي من التاريخ ينبغي أن يكون على تاريخ اليهود، فأما أهل الإسلام فإنهم لم يؤرخوا إلا من الهجرة، ولم يكونوا يؤرخون بشيء من قبل ذلك، غير أن قريشا كانوا- فيما ذكر- يؤرخون قبل الإسلام بعام الفيل، وكان سائر العرب يؤرخون بأيامهم المذكورة، كتاريخهم بيوم جبلة، وبالكلاب الاول، والكلاب الثانى. وكانت النصارى تؤرخ بعهد الإسكندر ذي القرنين، وأحسبهم على ذلك من التاريخ إلى اليوم. وأما الفرس فإنهم كانوا يؤرخون بملوكهم، وهم اليوم فيما أعلم يؤرخون بعهد يزدجرد بن شهريار، لأنه كان آخر من كان من ملوكهم له ملك بابل والمشرق

ذكر بيوراسب، وهو الازدهاق

ذكر بيوراسب، وهو الازدهاق والعرب تسميه الضحاك، فتجعل الحرف الذي بين السين والزاي في الفارسية ضادا، والهاء حاء، والقاف كافا، وإياه عنى حبيب بن أوس بقوله: ما نال ما قد نال فرعون ولا ... هامان في الدنيا ولا قارون بل كان كالضحاك في سطواته ... بالعالمين، وأنت أفريدون وهو الذي افتخر بادعائه أنه منهم الحسن بن هانئ في قوله: وكان منا الضحاك يعبده ... الخابل والجن في مساربها قال: واليمن تدعيه. حُدِّثْتُ عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ- فيما ذكر من أمر الضحاك هذا- قال: والعجم تدعي الضحاك وتزعم أن جما كان زوج أخته من بعض أشراف أهل بيته، وملكه على اليمن، فولدت له الضحاك. قال: واليمن تدعيه، وتزعم أنه من أنفسها، وأنه الضحاك بن علوان بن عبيد بن عويج، وأنه ملك على مصر أخاه سنان بن علوان بن عبيد بن عويج، وهو أول الفراعنة، وأنه كان ملك مصر حين قدمها إبراهيم خليل الرحمن ع. وأما الفرس فإنها تنسب الازدهاق هذا غير النسبة التي ذكر هشام عن أهل اليمن، وتذكر أنه بيوراسب بن ارونداسب بن زينكاو بن ويروشك

ابن تاز بن فرواك بن سيامك بن مشا بن جيومرت. ومنهم من ينسبه هذه النسبة، غير أنه يخالف النطق بأسماء آبائه فيقول: هو الضحاك بن اندرماسب بن زنجدار بن وندريسج بن تاج بن فرياك بن ساهمك بن تاذي بن جيومرت. والمجوس تزعم ان تاج هذا هو أبو العرب، ويزعمون أن أم الضحاك كانت ودك بنت ويونجهان، وأنه قتل أباه تقربا بقتله إلى الشياطين، وأنه كان كثير المقام ببابل، وكان له ابنان يقال لأحدهما: سرهوار، وللآخر نفوار. وقد ذكر عن الشعبي أنه كان يقول: هو قرشت مسخه الله ازدهاق. ذكر الرواية عنه بِذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بن الفضل، عن يحيى بن العلاء، عن القاسم بن سلمان، عن الشعبي، قال: أبجد، وهوز، وحطي، وكلمن، وسعفص، وقرشت، كانوا ملوكا جبابرة، فتفكر قرشت يوما، فقال: تبارك الله أحسن الخالقين! فمسخه الله فجعله أجدهاق، وله سبعة

أرؤس، فهو الذي بدنباوند، وجميع أهل الأخبار من العرب والعجم تزعم أنه ملك الأقاليم كلها، وأنه كان ساحرا فاجرا. وحدثت عن هشام بن محمد، قال: ملك الضحاك بعد جم- فيما يزعمون، والله أعلم- ألف سنة، ونزل السواد في قرية يقال لها نرس في ناحية طريق الكوفة، وملك الأرض كلها، وسار بالجور والعسف، وبسط يده في القتل، وكان أول من سن الصلب والقطع، وأول من وضع العشور، وضرب الدراهم، وأول من تغنى وغني له، قال: ويقال إنه خرج في منكبه سلعتان فكانتا تضربان عليه، فيشتد عليه الوجع حتى يطليهما بدماغ إنسان، فكان يقتل لذلك في كل يوم رجلين ويطلي سلعتيه بدماغيهما، فإذا فعل ذلك سكن ما يجد، فخرج عليه رجل من أهل بابل فاعتقد لواء، واجتمع إليه بشر كثير، فلما بلغ الضحاك خبره راعه، فبعث إليه: ما أمرك؟ وما تريد؟ قال: ألست تزعم أنك ملك الدنيا، وأن الدنيا لك! قال: بلى، قال: فليكن كلبك على الدنيا، ولا يكونن علينا خاصة، فإنك إنما تقتلنا دون الناس فأجابه الضحاك إلى ذلك، وأمر بالرجلين اللذين كان يقتلهما في كل يوم أن يقسما على الناس جميعا، ولا يخص بهما مكان دون مكان قال: فبلغنا أن أهل أصبهان من ولد ذلك الرجل الذي رفع اللواء، وأن ذلك اللواء لم يزل محفوظا عند ملوك فارس في خزائنهم، وكان فيما بلغنا جلد أسد، فألبسه ملوك فارس الذهب والديباج تيمنا به. قال: وبلغنا أن الضحاك هو نمرود، وان ابراهيم خليل الرحمن ص

ولد في زمانه، وأنه صاحبه الذي أراد إحراقه. قال: وبلغنا أن أفريدون- هو من نسل جم الملك الذي كان من قبل الضحاك، ويزعمون أنه التاسع من ولده، وكان مولده بدنباوند، خرج حتى ورد منزل الضحاك وهو عنه غائب بالهند، فحوى على منزله وما فيه، فبلغ الضحاك ذلك، فأقبل وقد سلبه الله قوته، وذهبت دولته، فوثب به أفريدون فأوثقه وصيره بجبال دنباوند، فالعجم تزعم أنه إلى اليوم موثق في الحديد يعذب هناك. وذكر غير هشام أن الضحاك لم يكن غائبا عن مسكنه، ولكن افريدون ابن أثفيان جاء إلى مسكن له في حصن يدعى زرنج ماه. مهروز مهر، فنكح امرأتين له: تسمى إحداهما: أروناز والأخرى سنوار. فوهل بيوراسب لما عاين ذلك، وخر مدلها لا يعقل، فضرب أفريدون هامته بجرز له ملتوي الرأس، فزاده ذلك وهلا وعزوب عقل، ثم توجه به أفريدون إلى جبل دنباوند، وشده هنالك وثاقا، وامر الناس باتخاذ. مهر ماه مهر روز. - وهو المهرجان اليوم الذي أوثق فيه بيوراسب- عيدا، وعلا أفريدون سرير الملك. وذكر عن الضحاك أنه قال يوم ملك وعقد عليه التاج: نحن ملوك الدنيا، المالكون لما فيها. والفرس تزعم أن الملك لم يكن إلا للبطن الذى منه اوشهنج وجم وطهمورث، وان الضحاك كان غاصبا وأنه غصب أهل الأرض بسحره وخبثه، وهول عليهم بالحيتين اللتين كانتا على منكبيه، وأنه بنى بأرض بابل مدينة

سماها حوب، وجعل النبط أصحابه وبطانته، فلقي الناس منه كل جهد، وذبح الصبيان. ويقول كثير من أهل الكتب: إن الذي كان على منكبيه كان لحمتين طويلتين ناتئتين على منكبيه، كل واحدة منهما كرأس الثعبان، وأنه كان بخبثه ومكره يسترهما بالثياب ويذكر على طريق التهويل أنهما حيتان يقتضيانه الطعام، وكانتا تتحركان تحت ثوبه إذا جاع كما يتحرك العضو من الإنسان عند التهابه بالجوع والغضب ومن الناس من يقول: كان ذلك حيتين، وقد ذكرت ما روي عن الشعبي في ذلك، والله أعلم بحقيقته وصحته. وذكر بعض أهل العلم بأنساب الفرس وأمورهم أن الناس لم يزالوا من بيوراسب هذا في جهد شديد، حتى إذا أراد الله إهلاكه وثب به رجل من العامة من أهل أصبهان يقال له كابي، بسبب ابنين كانا له أخذهما رسل بيوراسب بسبب الحيتين اللتين كانتا على منكبيه. وقيل: إنه لما بلغ الجزع من كابي هذا على ولده أخذ عصا كانت بيده، فعلق بأطرافها جرابا كان معه، ثم نصب ذلك العلم، ودعا الناس إلى مجاهدة بيوراسب ومحاربته، فأسرع إلى إجابته خلق كثير، لما كانوا فيه معه من البلاء وفنون الجور، فلما غلب كابي تفاءل الناس بذلك العلم، فعظموا أمره، وزادوا فيه حتى صار عند ملوك العجم علمهم الأكبر الذي يتبركون به، وسموه درفش كابيان، فكانوا لا يسيرونه إلا في الأمور العظام، ولا يرفع إلا لأولاد الملوك إذا وجهوا في الأمور العظام. وكان من خبر كابي أنه شخص عن أصبهان بمن تبعه والتف إليه في طريقه، فلما قرب من الضحاك وأشرف عليه، قذف في قلب الضحاك

منه الرعب، فهرب عن منازله، وخلى مكانه، وانفتح للأعاجم فيه ما أرادوا، فاجتمعوا إلى كابي وتناظروا، فأعلمهم كابي أنه لا يتعرض للملك، لأنه ليس من أهله، وأمرهم أن يملكوا بعض ولد جم، لأنه ابن الملك الاكبر او شهنق بن فرواك الذي رسم الملك، وسبق إلى القيام به، وكان أفريدون بن أثفيان مستخفيا في بعض النواحي من الضحاك، فوافى كابي ومن كان معه، فاستبشر القوم بموافاته، وذلك أنه كان مرشحا للملك برواية كانت لهم في ذلك، فملكوه، وصار كابي والوجوه لأفريدون أعوانا على أمره، فلما ملك وأحكم ما احتاج إليه من أمر الملك، واحتوى على منازل الضحاك، أتبعه فأسره بدنباوند في جبالها. وبعض المجوس تزعم أنه جعله أسيرا حبيسا في تلك الجبال، موكلا به قوم من الجن. ومنهم من يقول: إنه قتله، وزعموا أنه لم يسمع من أمور الضحاك شيء يستحسن غير شيء واحد، وهو أن بليته لما اشتدت ودام جوره وطالت أيامه، عظم على الناس ما لقوا منه، فتراسل الوجوه في أمره، فأجمعوا على المصير إلى بابه، فوافى بابه الوجوه والعظماء من الكور والنواحي، فتناظروا في الدخول عليه والتظلم اليه، والتاتى لاستعطافه، فاتفقوا على أن يقدموا للخطاب عنهم كابي الأصبهاني، فلما صاروا إلى بابه أعلم بمكانهم، فأذن لهم، فدخلوا وكابي متقدم لهم، فمثل بين يديه، وأمسك عن السلام، ثم قال: أيها الملك، أي السلام أسلم عليك؟ أسلام من يملك هذه الأقاليم كلها، أم سلام من يملك هذا الإقليم الواحد؟ يعني بابل، فقال له الضحاك: بل سلام من يملك هذه الأقاليم كلها، لأني ملك الأرض. فقال له الأصبهاني: فإذا كنت تملك الأقاليم كلها، وكانت يدك تنالها أجمع، فما بالنا قد خصصنا بمؤنتك

وتحاملك وإساءتك من بين أهل الأقاليم! وكيف لم تقسم أمر كذا وكذا بيننا وبين الأقاليم؟ وعدد عليه أشياء كان يمكنه تخفيفها عنهم، وجرد له الصدق والقول في ذلك، فقدح في قلب الضحاك قوله، وعمل فيه حتى انخزل وأقر بالإساءة، وتألف القوم ووعدهم ما يحبون، وأمرهم بالانصراف لينزلوا ويتدعوا، ثم يعودوا ليقضي حوائجهم، ثم ينصرفوا إلى بلادهم. وزعموا أن أمه ودك كانت شرا منه وأردى، وأنها كانت في وقت معاتبة القوم إياه بالقرب منه تتعرف ما يقولونه، فتغتاظ وتنكره، فلما خرج القوم دخلت مستشيطة منكرة على الضحاك احتماله القوم، وقالت له: قد بلغني كل ما كان وجرأة هؤلاء القوم عليك حتى قرعوك بكذا، وأسمعوك كذا، أفلا دمرت عليهم ودمدمتهم، أو قطعت أيديهم! فلما أكثرت على الضحاك قال لها مع عتوه: يا هذه، إنك لم تفكري في شيء إلا وقد سبقت اليه، الا ان القوم بدهونى بالحق، وقرعونى به، فلما هممت بالسطوة بهم والوثوب عليهم تخيل الحق فمثل بيني وبينهم بمنزلة الجبل، فما أمكنني فيهم شيء ثم سكتها وأخرجها، ثم جلس لأهل النواحي بعد أيام، فوفى لهم بما وعدهم، وردهم وقد لان لهم، وقضى أكثر حوائجهم، ولا يعرف للضحاك- فيما ذكر- فعلة استحسنت منه غير هذه. وقد ذكر أن عمر الأجدهاق هذا كان ألف سنه، وان ملكه منها كان ستمائه سنة، وأنه كان في باقي عمره شبيها بالملك لقدرته ونفوذ أمره وقال

بعضهم: إنه ملك ألف سنة وكان عمره ألف سنة ومائة سنة، إلى أن خرج عليه أفريدون فقهره وقتله. وقال بعض علماء الفرس: لا نعلم أحدا كان أطول عمرا- ممن لم يذكر عمره في التوراة- من الضحاك هذا، ومن جامر بن يافث بن نوح أبي الفرس، فإنه ذكر أن عمره كان ألف سنة. وإنما ذكرنا خبر بيوراسب في هذا الموضع، لأن بعضهم زعم أن نوحا ع كان في زمانه، وأنه إنما كان أرسل إليه وإلى من كان في مملكته، ممن دان بطاعته واتبعه على ما كان عليه من العتو والتمرد على الله، فذكرنا إحسان الله وأياديه عند نوح ع بطاعته ربه وصبره على ما لقي منه من الأذى والمكروه في عاجل الدنيا، بأن نجاه ومن آمن معه واتبعه من قومه، وجعل ذريته هم الباقين في الدنيا، وأبقى له ذكره بالثناء الجميل، مع ما ذخر له عنده في الآجل من النعيم المقيم والعيش الهنيء، وإهلاكه الآخرين بمعصيتهم إياه وتمردهم عليه، وخلافهم أمره، فسلبهم ما كانوا فيه من النعيم، وجعلهم عبرة وعظة للغابرين، مع ما ذخر لهم عنده في الآجل من العذاب الأليم. ونرجع الآن إلى ذكر نوح ع والخبر عنه وعن ذريته، إذ كانوا هم الباقين اليوم كما أخبر الله عنهم، وكان الآخرون الذين بعث نوح إليهم خلا ولده ونسله قد بادوا وذريتهم، فلم يبق منهم ولا من أعقابهم أحد. [قد ذكرنا قبل عن رسول الله ص أنه قال في قول الله عز وجل: «وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ» : إنهم سام، وحام، ويافث] . حَدَّثَنِي محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حَدَّثَنَا عبد الصمد بن معقل، قال: سمعت وهب بن منبه، يقول: إن سام بن نوح أبو العرب وفارس والروم، وإن حام أبو السودان، وأن يافث ابو الترك وابو يأجوج وماجوج، وهو بنو عم الترك

وقيل: كانت زوجة يافث أربسيسة بنت مرازيل بن الدرمسيل بن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم ع، فولدت له سبعة نفر وامرأة. فممن ولدت له من الذكور جومر بن يافث وهو- فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق- أبو يأجوج ومأجوج، ومارح بن يافث ووائل بن يافث، وحوان بن يافث، وتوبيل بن يافث، وهوشل بن يافث، وترس بن يافث، وشبكة بنت يافث قال: فمن بني يافث كانت يأجوج ومأجوج والصقالبة والترك فيما يزعمون وكانت امرأة حام بن نوح نحلب بنت مارب بن الدرمسيل بن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم فولدت له ثلاثة نفر: كوش بن حام بن نوح، وقوط بن حام بن نوح، وكنعان بن حام فنكح كوش بن حام بن نوح قرنبيل ابنة بتاويل بن ترس بن يافث، فولدت له الحبشة والسند والهند فيما يزعمون ونكح قوط بن حام بن نوح بخت ابنه بتاويل ابن ترس بن يافث بن نوح، فولدت له القبط- قبط مصر- فيما يزعمون ونكح كنعان بن حام بن نوح ارتيل ابنة بتاويل بن ترس بن يافث بن نوح، فولدت له الأساود: نوبة، وفزان، والزنج، والزغاوة، وأجناس السودان كلها. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، في الحديث قال: ويزعم أهل التوراة أن ذلك لم يكن الا عن دعوة دعاها نوح على ابنه حام، وذلك أن نوحا نام فانكشف عن عورته، فرآها حام فلم يغطها، ورآها سام ويافث فألقيا عليها ثوبا فواريا عورته، فلما هب من نومته علم ما صنع حام وسام ويافث، فقال: ملعون كنعان بن حام، عبيدا يكونون لأخوته، وقال: يبارك الله ربي في سام، ويكون حام عبد أخويه، ويقرض الله يافث، ويحل في مساكن حام، ويكون كنعان عبدا لهم قال: وكانت امراه سام

ابن نوح صليب ابنه بتاويل بن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم، فولدت له نفرا: أرفخشد بن سام، وأشوذ بن سام، ولاوذ بن سام، وعويلم بن سام، وكان لسام إرم بن سام، قال: ولا أدري إرم لأم أرفخشد وإخوته أم لا؟ حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا ضَاقَتْ بِوَلَدِ نُوحٍ سُوقُ ثَمَانِينَ تَحَوَّلُوا إِلَى بَابِلَ فَبَنُوهَا، وَهِيَ بَيْنَ الْفُرَاتِ وَالصَّرَاةِ، وَكَانَتِ اثْنَيْ عَشْرَ فَرْسَخًا فِي اثْنَيْ عَشْرَ فَرْسَخًا، وَكَانَ بَابُهَا مَوْضِعَ دَوَرَانِ الْيَوْمِ، فَوْقَ جِسْرِ الْكُوفَةِ يُسْرَةً إِذَا عَبَرْتَ، فَكَثُرُوا بِهَا حَتَّى بَلَغُوا مِائَةَ أَلْفٍ، وَهُمْ عَلَى الإِسْلامِ. وَرَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَنَكَحَ لاوذُ بْنُ سَامَ بْنِ نُوحٍ شبكةَ ابْنَةَ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ فَارِسَ وَجُرْجَانَ وَأَجْنَاسَ فَارِسَ، وَوُلِدَ لِلاوِذَ مَعَ الْفُرْسِ طسمُ وَعِمْلِيقُ، وَلا أَدْرِي أَهُوَ لأُمِّ الْفُرْسِ أَمْ لا؟ فَعِمْلِيقُ أَبُو الْعَمَالِيقِ كُلِّهِمْ أُمَمٍ تَفَرَّقَتْ فِي الْبِلادِ، وَكَانَ أَهْلُ الْمَشْرِقِ وَأَهْلُ عُمَانَ وَأَهْلُ الْحِجَازِ وَأَهْلُ الشَّامِ وَأَهْلُ مِصْرَ مِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ كَانَتِ الْجَبَابِرَةُ بِالشَّامِ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمُ الْكَنْعَانِيُّونَ، وَمِنْهُمْ كَانَتِ الْفَرَاعِنَةُ بِمِصْرَ، وَكَانَ أَهْلُ الْبَحْرَيْنِ وَأَهْلُ عُمَانَ مِنْهُمْ أمه يسمون جاسم، وكان ساكنى الْمَدِينَةَ مِنْهُمْ، بَنُو هفٍّ وَسَعْدِ بْنِ هَزَّانَ، وَبَنُو مَطَرٍ، وَبَنُو الأَزْرَقِ وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْهُمْ بُدَيْلٌ وَرَاحِلٌ وَغِفَارٌ، وَأَهْلُ تَيْمَاءَ مِنْهُمْ وَكَانَ مَلِكُ الْحِجَازِ مِنْهُمْ بِتَيْمَاءَ اسْمُهُ الأَرْقَمُ، وَكَانُوا سَاكِنِي نَجْدٍ مَعَ ذَلِكَ وَكَانَ سَاكِنِي الطَّائِفِ بَنُو عَبْدِ بْنِ ضَخْمٍ، حَيٌّ مِنْ عَبْسٍ الأَوَّلُ. قَالَ: وَكَانَ بَنُو أُمَيْمِ بْنِ لاوِذَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ أَهْلَ وبار بِأَرْضِ الرمل،

رَمْلِ عَالِجٍ، وَكَانُوا قَدْ كَثُرُوا بِهَا وَرَبَلُوا، فَأَصَابَتْهُمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ نَقْمَةٌ مِنْ مَعْصِيَةٍ أَصَابُوهَا، فَهَلَكُوا وَبَقِيَتْ مِنْهُمْ بَقِيَّةٌ، وَهُمُ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمُ النَّسْنَاسُ. قَالَ: وَكَانَ طسمُ بْنُ لاوِذَ سَاكِنَ الْيَمَامَةِ وَمَا حَوْلَهَا، قَدْ كَثُرُوا بِهَا وَرَبَلُوا إِلَى الْبَحْرَيْنِ، فَكَانَتْ طسمُ وَالْعَمَالِيقُ وَأُمَيْمُ وَجَاسِمُ قَوْمًا عَرَبًا، لِسَانُهُمُ الَّذِي جُبِلُوا عَلَيْهِ لِسَانٌ عَرَبِيٌّ وَكَانَتْ فَارِسُ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ بِبِلادِ فَارِسَ، يَتَكَلَّمُونَ بِهَذَا اللِّسَانِ الْفَارِسِيِّ. قَالَ: وَوَلَدُ إرَمَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ عوصُ بْنُ إِرمَ، وَغَاثِرُ بْنُ إِرمَ، وَحويلُ بْنُ إرمَ فَوَلَدُ عوصِ بْنِ إرمَ غَاثِرُ بْنُ عوصٍ، وَعَادُ بْنُ عوصٍ، وَعُبَيْلُ ابن عوصٍ وَوَلَدُ غَاثِرِ بْنِ إرمَ ثَمُودُ بْنُ غَاثِرٍ، وَجُدَيْسُ بْنُ غَاثِرٍ وَكَانُوا قَوْمًا عَرَبًا يَتَكَلَّمُونَ بِهَذَا اللِّسَانِ الْمُضَرِيِّ، فَكَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ لِهَذِهِ الأُمَمِ: الْعَرَبُ الْعَارِبَةُ، لأَنَّهُ لِسَانُهُمُ الَّذِي جُبِلُوا عَلَيْهِ، وَيَقُولُونَ لِبَنِي إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ: الْعَرَبُ الْمُتَعَرِّبَةُ، لأَنَّهُمْ إِنَّمَا تَكَلَّمُوا بِلِسَانِ هَذِهِ الأُمَمِ حِينَ سَكَنُوا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ. فَعَادٌ وَثَمُودُ وَالْعَمَالِيقُ وَأُمَيْمٌ وَجَاسِمٌ وَجُدَيْسٌ وَطَسمٌ هُمُ الْعَرَبُ، فكانت عاد بهذه الرمل الى حضر موت وَالْيَمَنِ كُلِّهِ، وَكَانَتْ ثَمُودُ بِالْحَجَرِ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ إِلَى وَادِي الْقُرَى وَمَا حَوْلَهُ، وَلَحِقَتْ جُدَيْسٌ بِطسمٍ، فَكَانُوا مَعَهُمْ بِالْيَمَامَةِ وَمَا حَوْلَهَا إِلَى الْبَحْرَيْنِ، وَاسْمُ الْيَمَامَةِ إِذْ ذَاكَ جَوٌّ، وَسَكَنَتْ جَاسِمٌ عُمَانَ فَكَانُوا بِهَا. وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ إِسْحَاقَ: إِنَّ نُوحًا دَعَا لِسَامَ بِأَنْ يَكُونَ الأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ مِنْ وَلَدِهِ، وَدَعَا لِيَافِثَ بِأَنْ يَكُونَ الْمُلُوكُ مِنْ وَلَدِهِ، وَبَدَأَ بِالدُّعَاءِ لِيَافِثَ وَقَدَّمَهُ فِي ذَلِكَ عَلَى سَامَ، وَدَعَا عَلَى حَامَ بِأَنْ يَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَيَكُونُ وَلَدُهُ عَبِيدًا لِوَلَدِ سَامَ وَيَافِثَ. قَالَ: وَذُكِرَ فِي الْكُتُبِ أَنَّهُ رَقَّ عَلَى حَامَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَدَعَا لَهُ بِأَنْ يُرْزَقَ الرَّأْفَةَ مِنْ إِخْوَتِهِ، ودعا من ولد وَلَدِهِ لِكوشَ بْنِ حَامَ وَلِجَامِرِ بْنِ يَافِثَ بن نوح،

وَذَلِكَ أَنَّ عِدَّةً مِنْ وَلَدِ الْوَلَدِ لَحِقُوا نُوحًا فَخَدَمُوهُ، كَمَا خَدَمَهُ وَلَدُهُ لِصُلْبِهِ، فَدَعَا لِعِدَّةٍ مِنْهُمْ. قَالَ: فَوُلِدَ لِسَامَ عَابِرٌ وَعُلَيْمٌ وَأَشُوذُ وَأَرْفَخْشَدُ وَلاوِذُ وَإِرَمُ، وَكَانَ مَقَامُهُ بِمَكَّةَ. قَالَ: فَمِنْ وَلَدِ أَرْفَخْشَدَ الأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ وَخِيَارُ النَّاسِ، وَالْعَرَبُ كُلُّهَا، وَالْفَرَاعِنَةُ بِمِصْرَ وَمِنْ وَلَدِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ مُلُوكُ الأَعَاجِمِ كُلُّهَا مِنَ التُّرْكِ وَالْخُزْرِ وَغَيْرِهِمْ، وَالْفُرْسِ الَّذِينَ آخِرُ مَنْ ملك منهم يزدجرد بن شهريار ابن أبرويزَ، وَنَسَبُهُ يَنْتَهِي إِلَى جيومرتَ بْنِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ. قَالَ: وَيُقَالُ إِنَّ قَوْمًا مِنْ وَلَدِ لاوِذَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ وَغَيْرِهِ مِنْ إِخْوَتِهِ نَزَعُوا إِلَى جَامِرٍ هَذَا، فَأَدْخَلَهُمْ جَامِرٌ فِي نِعْمَتِهِ وَمُلْكِهِ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَاذِيَّ بْنَ يَافِثَ، وَهُوَ الَّذِي تُنْسَبُ السُّيُوفُ الْمَاذِيَّةُ إِلَيْهِ قَالَ: وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ إِنَّ كيرشَ الْمَاذَوِيَّ قَاتَلَ بلشصرَ بْنَ أولمرودخَ بْنِ بختنصرَ مِنْ وَلَدِهِ. قَالَ: وَمِنْ وَلَدِ حَامَ بْنِ نُوحٍ، النُّوبَةُ، وَالْحَبَشَةُ، وَفَزَّانُ، وَالْهِنْدُ، وَالسِّنْدُ، وَأَهْلُ السَّوَاحِلِ فِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. قَالَ: وَمِنْهُمْ نُمْرُودٌ، وَهُوَ نُمْرُودُ بْنُ كُوشَ بْنِ حَامَ. قَالَ: وَوُلِدَ لأَرْفَخْشَدَ بْنِ سَامَ ابْنُهُ قينَانُ، وَلا ذِكْرَ لَهُ فِي التَّوْرَاةِ، وَهُوَ الَّذِي قِيلَ إِنَّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ أَنْ يُذْكَرَ فِي الْكُتُبِ الْمُنْزَلَةِ، لأَنَّهُ كَانَ سَاحِرًا، وَسَمَّى نَفْسَهُ إِلَهًا، فَسِيقَتِ الْمَوَالِيدُ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى أَرْفَخْشَدَ بْنِ سَامَ ثُمَّ عَلَى شَالِخِ بْنِ قينانَ بْنِ أَرْفَخْشَدَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُذْكَرَ قينانُ فِي النَّسَبِ، لِمَا ذُكِرَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: وَقِيلَ فِي شَالِخٍ: إِنَّهُ شَالِخُ بْنُ أَرْفَخْشَدَ مِنْ وَلَدٍ لِقينانَ وَوُلِدَ لِشَالِخٍ عَابِرٌ وَوُلِدَ لِعَابِرٍ ابْنَانِ: أَحَدُهُمَا فَالِغٌ، وَمَعْنَاهُ بِالْعَرَبِيَّةِ قَاسِمٌ- وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لأَنَّ الأَرْضَ قُسِمَتْ وَالأَلْسُنَ تَبَلْبَلَتْ فِي أَيَّامِهِ- وَسُمِّيَ الآخَرُ قَحْطَانُ. فَوُلِدَ لِقَحْطَانَ يَعْرُبُ وَيَقْطَانُ ابْنَا قَحْطَانَ بْنِ عَابِرِ بْنِ شَالِخٍ، فَنَزَلا أَرْضَ الْيَمَنِ، وَكَانَ قَحْطَانُ أَوَّلَ مَنْ مَلَكَ الْيَمَنَ، وَأَوَّلَ مَنْ سُلِّمَ عَلَيْهِ ب أَبَيْتَ اللَّعْنَ، كَمَا كَانَ يُقَالُ لِلْمُلُوكِ وَوُلِدَ لِفَالِغِ بْنِ عَابِرٍ أَرْغُوا- وَوُلِدَ لأَرْغُوا سَارُوغُ، وَوُلِدَ لِسَارُوغَ نَاحُورَا، وَوُلِدَ لِنَاحُورَا تَارِخُ- وَاسْمُهُ بالعربية آزر- وولد لتارخ

ابراهيم ص وَوُلِدَ لأَرْفَخْشَدَ أَيْضًا نُمْرُودُ بْنُ أَرْفَخْشَدَ، وَكَانَ مَنْزِلُهُ بِنَاحِيَةِ الْحَجرِ وَوُلِدَ لِلاوِذَ بْنِ سَامَ طسمُ وَجُدَيْسٌ، وَكَانَ مَنْزِلُهُمَا الْيَمَامَةَ. وَوُلِدَ لِلاوِذَ أَيْضًا عِمْلِيقُ بْنُ لاوِذَ، وَكَانَ مَنْزِلُهُ الْحَرَمَ وَأَكْنَافَ مَكَّةَ، وَلَحِقَ بَعْضُ وَلَدِهِ بِالشَّامِ، فَمُنْهُمْ كَانَتِ الْعَمَالِيقُ، وَمِنَ الْعَمَالِيقِ الْفَرَاعِنَةُ بِمِصْرَ. وَوُلِدَ لِلاوِذَ أَيْضًا أُمَيْمُ بْنُ لاوِذَ بْنِ سَامَ، وَكَانَ كَثِيرَ الْوَلَدِ، فَنَزَعَ بَعْضُهُمْ إِلَى جَامِرِ بْنِ يَافِثَ بِالْمَشْرِقِ وَوُلِدَ لإرَمَ بْنِ سَامَ عوصُ بْنُ إِرَمَ، وَكَانَ مَنْزِلُهُ الأَحْقَافَ وَوُلِدَ لِعُوصٍ عَادُ بْنُ عُوصٍ. وَأَمَّا حَامُ بْنُ نُوحٍ، فَوُلِدَ لَهُ كوشُ وَمصرايمُ وَقُوطُ وَكَنْعَانُ، فَمِنْ وَلَدِ كوشَ نُمْرُودٌ الْمُتَجَبِّرُ الَّذِي كَانَ بِبَابِلَ، وَهُوَ نُمْرُودُ بْنُ كوشَ بْنِ حَامَ، وَصَارَتْ بَقِيَّةُ وَلَدِ حَامَ بِالسَّوَاحِلِ مِنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَالنُّوبَةِ وَالْحَبَشَةِ وَفَزَّانَ. قَالَ: وَيُقَالُ: إِنَّ مصرايمَ وَلَدُ الْقِبْطِ وَالْبَرْبَرِ، وَإِنَّ قُوطًا صَارَ الى ارض السند والهند فنزلها، وَإِنَّ أَهْلَهَا مِنْ وَلَدِهِ. وَأَمَّا يَافِثُ بْنُ نُوحٍ فَوُلِدَ لَهُ جَامِرٌ وَموعجٌ وَموادِي وَبَوانُ وثوبال وماشج وَتيرشُ وَمِنْ وَلَدِ جَامِرٍ مُلُوكُ فَارِسَ وَمِنْ وَلَدِ تيرشَ التُّرْكُ وَالْخُزرُ وَمِنْ وَلَدِ مَاشِجٍ الأَشْبَانُ وَمِنْ وَلَدِ موعجٍ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَهُمْ فِي شَرْقِيِّ أَرْضِ التُّرْكِ وَالْخُزْرِ وَمِنْ وَلَدِ بوان الصَّقَالِبَةُ وَبرْجَانُ وَالأَشْبَانُ، كَانُوا فِي الْقَدِيمِ بِأَرْضِ الرُّومِ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ بِهَا مَنْ وَقَعَ مِنْ وَلَدِ الْعيصِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَصَدَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ: سَامَ وَحَامَ وَيَافِثَ أَرْضًا، فَسَكَنُوهَا وَدَفَعُوا غَيْرَهُمْ عَنْهَا. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ محمد، قَالَ: حدثنا محمد بن سعد، قال: أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قال: اوحى الله الى موسى ع: إِنَّكَ يَا مُوسَى وَقَوْمَكَ وَأَهْلَ الْجَزِيرَةِ وَأَهْلَ الْعَالِ مِنْ وَلَدِ سَامِ بْنِ نُوحٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالْعَرَبُ وَالْفُرْسُ وَالنَّبْطُ وَالْهِنْدُ وَالسِّنْدُ مِنْ وَلَدِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. حَدَّثَنِي الحارث، قال: حدثنا مُحَمَّد بن سعد، قال: أخبرنا هشام بن

محمد، عن أبيه: قال: الهند والسند بنو توقير بن يقطن بن عابر بن شالخ ابن أرفخشد بن سام بن نوح ومكران بن البند، وجرهم، اسمه هذرم بن عابر بن سبأ بن يقطن بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح. وحضرموت بن يقطن بن عابر بن شالخ ويقطن هو قحطان بن عابر بن شالخ ابن أرفخشد بن سام بن نوح، في قول من نسبه إلى غير إسماعيل والفرس بنو فارس بن تيرش بن ناسور بن نوح والنبط بنو نبيط بن ماش ابن ارم بن سام بن نوح وأهل الجزيرة والعال من ولد ماش بن إرم بن سام ابن نوح وعمليق- وهو عريب- وطسم وأميم بنو لوذ بن سام بن نوح. وعمليق هو أبو العمالقة، ومنهم البربر وهم بنو ثميلا بن مارب بن فاران بن عمرو بن عمليق بن لوذ بن سام بن نوح، ما خلا صنهاجة وكتامة، فإنهما بنو فريقيش بن قيس بن صيفي بن سبأ. ويقال: إن عمليق أول من تكلم بالعربية حين ظعنوا من بابل، فكان يقال لهم ولجرهم: العرب العاربة وثمود وجديس ابنا عابر بن ارم بن سام ابن نوح، وعاد وعبيل ابنا عوص بن إرم بن سام بن نوح، والروم بنو لنطى ابن يونان بن يافث بن نوح ونمرود بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح. وهو صاحب بابل، وهو صاحب إبراهيم خليل الرحمن ص. قال: وكان يقال لعاد في دهرهم عاد إرم، فلما هلكت عاد قيل لثمود إرم، فلما هلكت ثمود قيل لسائر بني إرم: إرمان، فهم النبط، فكل هؤلاء كان على الإسلام وهم ببابل، حتى ملكهم نمرود بن كوش بن كنعان بن حام ابن نوح، فدعاهم إلى عبادة الأوثان ففعلوا، فأمسوا وكلامهم السريانية، ثم أصبحوا وقد بلبل الله ألسنتهم، فجعل لا يعرف بعضهم كلام بعض، فصار لبني سام ثمانية عشر لسانا، ولبني حام ثمانية عشر لسانا، ولبني يافث

ستة وثلاثون لسانا، ففهم الله العربية عادا وعبيل وثمود وجديس وعمليق وطسم وأميم وبني يقطن بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح. وكان الذي عقد لهم الألوية ببابل بوناظر بن نوح، وكان نوح فِيمَا حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي هِشَامٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنِ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي قَابِيلَ، فَوَلَدَتْ لَهُ غُلامًا، فَسَمَّاهُ بوناظرَ، فَوَلَدَهُ بِمَدِينَةٍ بِالْمَشْرِقِ يُقَالُ لَهَا معلونُ شَمْسًا، فَنَزَلَ بَنُو سَامَ الْمُجَدَّلُ سرةَ الأَرْضِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ سَاتِيدْمَا إِلَى الْبَحْرِ، وَمَا بَيْنَ الْيَمَنِ إِلَى الشَّامِ، وَجَعَلَ اللَّهُ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَالْجَمَالَ وَالأَدمَةَ وَالْبَيَاضَ فِيهِمْ. وَنَزَلَ بَنُو حَامَ مَجْرَى الْجَنُوبِ وَالدَّبُورِ، وَيُقَالُ لِتِلْكَ النَّاحِيَةِ الدَّارُومُ، وَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِمْ أُدْمَةً وَبَيَاضًا قَلِيلا، وَأَعْمَرَ بِلادَهُمْ وَسَمَاءَهُمْ، وَرَفَعَ عَنْهُمُ الطَّاعُونَ، وَجَعَلَ فِي أَرْضِهِمُ الأَثْلَ وَالأَرَاكَ وَالْعشرَ وَالْغَارَ وَالنَّخْلَ، وَجَرَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فِي سَمَائِهِمْ وَنَزَلَ بَنُو يَافِثَ الصِّفُونَ مَجْرَى الشَّمَالِ وَالصَّبَا، وَفِيهِمُ الْحُمْرَةُ وَالشُّقْرَةُ، وَأَخْلَى اللَّهُ أَرْضَهُمْ فَاشْتَدَّ بَرْدُهَا، وَأَخْلَى سَمَاءَهُمْ، فَلَيْسَ يَجْرِي فَوقَهُمْ شَيْءٌ مِنَ النُّجُومِ السَّبْعَةِ الْجَارِيَةِ، لأَنَّهُمْ صَارُوا تَحْتَ بَنَاتِ نَعْشٍ وَالْجَدي وَالْفَرْقَديْنِ، فَابْتُلُوا بِالطَّاعُونِ ثُمَّ لَحِقَتْ عَادٌ بِالشَّحرِ فَعَلَيْهِ هَلَكُوا بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ مُغِيثُ، فَلَحِقَتْهُمْ بَعْدَ مهْرَةَ بِالشَّحْرِ وَلَحِقَتْ عُبَيْلَ بِمَوْضِعِ يَثْرِبَ وَلَحِقَتِ الْعَمَالِيقُ بِصَنْعَاءَ قَبْلَ أَنْ تُسَمَّى صَنْعَاءَ، ثُمَّ انْحَدَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى يَثْرِبَ، فاخرجوا منها عبيل، فَنَزَلُوا مَوْضِعَ الْجُحْفَةِ، فَأَقْبَلَ السَّيْلُ فَاجْتَحَفَهُمْ فَذَهَبَ بِهِمْ فَسُمِّيَتِ الْجُحْفَةُ وَلَحِقَتْ ثَمُودُ بِالْحجْرِ وَمَا يَلِيهِ فَهَلَكُوا ثَمَّ، وَلَحِقَتْ طسمُ وَجُدَيْسٌ بِالْيَمَامَةِ فَهَلَكُوا وَلَحِقَتْ أُمَيْمٌ بِأَرْضِ أَبارٍ فَهَلَكُوا بِهَا، وَهِيَ بَيْنَ الْيَمَامَةِ وَالشَّحْرِ، وَلا يَصِلُ إِلَيْهَا الْيَوْمَ أَحَدٌ، غَلَبَتْ عَلَيْهَا الْجِنُّ وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ أَبَّارُ بِأَبَّارِ بْنِ أُمَيْمٍ

وَلَحِقَتْ بَنُو يَقْطُنَ بْنِ عَابِرٍ بِالْيَمَنِ، فَسُمِّيَتِ الْيَمَنُ حَيْثُ تَيَامَنُوا إِلَيْهَا، وَلَحِقَ قَوْمٌ مِنْ بَنِي كَنْعَانَ بِالشَّامِ فَسُمِّيَتِ الشَّامُ حَيْثُ تَشَاءَمُوا إِلَيْهَا، وَكَانَتِ الشَّامُ يُقَالُ لَهَا أَرْضُ بَنِي كَنْعَانَ، ثُمَّ جَاءَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَقَتَلُوهُمْ بِهَا، وَنَفَوْهُمْ عَنْهَا، فَكَانَتِ الشَّامُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ وَثَبَتِ الرُّومُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَتَلُوهُمْ، وَأَجْلَوْهُمْ إِلَى الْعِرَاقِ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ، ثُمَّ جَاءَتِ الْعَرَبُ فَغَلَبُوا عَلَى الشَّامِ، وَكَانَ فَالِغُ- وَهُوَ فَالِغُ بْنُ عَابِرِ بْنِ أَرْفَخْشَدَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ- هُوَ الَّذِي قَسَّمَ الأَرْضَ بَيْنَ بَنِي نُوحٍ كَمَا سَمَّيْنَا وَأَمَّا الأَخْبَارُ عَنْ رسول الله ص وَعَنْ عُلَمَاءِ سَلَفِنَا فِي أَنْسَابِ الأُمَمِ الَّتِي هِيَ فِي الأَرْضِ الْيَوْمَ، فَعَلَى مَا حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ بَشِيرِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْوَرَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، قال: [قال رسول الله ص: سَامُ أَبُو الْعَرَبِ، وَيَافِثُ أَبُو الرُّومِ، وَحَامُ أَبُو الْحَبَشِ] . حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ بِشْرِ بْنِ مَعْرُوفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عن سمره بن جندب، عن [النبي ص، قَالَ: وَلَدُ نُوحٍ ثَلاثَةٌ: سَامُ وَحَامُ وَيَافِثُ، فَسَامُ أَبُو الْعَرَبِ، وَحَامُ أَبُو الزِّنْجِ، وَيَافِثُ أَبُو الرُّومِ] . حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عن سمره، قال: [قال رسول الله ص: سَامُ أَبُو الْعَرَبِ، وَيَافِثُ أَبُو الرُّومِ، وَحَامُ أَبُو الْحَبَشِ] . حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي رَوْحٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عن سمره، [عن النبي ص، قَالَ: وَلَدُ نُوحٍ سَامُ وَحَامُ وَيَافِثُ] قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ رَوْحٌ: أَحْفَظُ يَافِثُ، وَسَمِعْتُ مره يافث. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، عن النبي ص

حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ الْكَلاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: وَلَدُ نُوحٍ ثَلاثَةُ، وَوَلَدٍ كُلُّ وَاحِدٍ ثَلاثَةٌ: سَامُ، وَحَامُ، وَيَافِثُ. فَوَلَدُ سَامَ الْعَرَبُ وَفَارِسُ وَالرُّومُ، وَفِي كُلِّ هَؤُلاءِ خَيْرٌ وَوَلَدُ يَافِثَ التُّرْكُ وَالصَّقَالِبَةُ وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلاءِ خَيْرٌ، وَوَلَدُ حَامَ الْقِبْطُ وَالسُّودَانُ وَالْبَرْبَرُ. وروي عن ضمرة بن ربيعة، عن ابن عطاء، عن أبيه، قال: ولد حام كل أسود جعد الشعر، وولد يافث كل عظيم الوجه صغير العينين، وولد سام كل حسن الوجه حسن الشعر قال: ودعا نوح على حام ألا يعدو شعر ولده آذانهم، وحيثما لقي ولده ولد سام استعبدوهم. وزعم أهل التوراة أن سام ولد لنوح بعد أن مضى من عمره خمسمائة سنة، ثم ولد لسام أرفخشد بعد أن مضى من عمر سام مائة سنة وسنتان، فكان جميع عمر سام- فيما زعموا- ستمائه سنة ثم ولد لأرفخشد قينان، وكان عمر ارفخشد أربعمائة سنة وثمانيا وثلاثين سنة وولد قينان لأرفخشد بعد أن مضى من عمره خمس وثلاثون سنة، ثم ولد لقينان شالخ بعد أن مضى من عمره تسع وثلاثون سنة، ولم يذكر مدة عمر قينان في الكتب فيما ذكر لما ذكرنا من أمره قبل. ثم ولد لشالخ عابر بعد أن مضى من عمره ثلاثون سنة، وكان عمر شالخ كله أربعمائة سنة وثلاثا وثلاثين سنة. ثم ولد لعابر فالغ وأخوه قحطان، وكان مولد فالغ بعد الطوفان بمائة وأربعين سنة، فلما كثر الناس بعد ذلك مع قرب عهدهم بالطوفان هموا ببناء مدينة تجمعهم فلا يتفرقون، أو صرح عال يحرزهم من الطوفان إن كان مرة أخرى فلا يغرقون، فأراد الله عز وجل أن يوهن أمرهم، ويخلف ظنهم ويعلمهم أن الحول والقوه له، فبدد شملهم، وشتت جمعهم، وفرق ألسنتهم وكان عمر عابر أربعمائة سنة وأربعا وسبعين سنة

ثم ولد لفالغ أرغوا، وكان عمر فالغ مائتين وتسعا وثلاثين سنة، وولد أرغوا لفالغ وقد مضى من عمره ثلاثون سنة، ثم ولد لأرغوا ساروغ، وكان عمر أرغوا مائتين وتسعا وثلاثين سنة، وولد له ساروغ بعد ما مضى من عمره اثنتان وثلاثون سنة ثم ولد لساروغ ناحور، وكان عمر ساروغ مائتين وثلاثين سنة وولد له ناحور، وقد مضى من عمره ثلاثون سنة. ثم ولد لناحور تارخ أبو إبراهيم، صلوات الله عليه، وكان هذا الاسم اسمه الذي سماه أبوه، فلما صار مع نمرود قيما على خزانة آلهته سماه آزر. وقد قيل: إن آزر ليس باسم أبيه، وإنما هو اسم صنم، فهذا قول يروى عن مجاهد وقد قيل إنه عيب عابه به بمعنى معوج، بعد ما مضى من عمر ناحور سبع وعشرون سنة، وكان عمر ناحور كله مائتين وثمانيا وأربعين سنة. وولد لتارخ إبراهيم، وكان بين الطوفان ومولد إبراهيم ألف سنة وتسع وسبعون سنة، وكان بعض أهل الكتاب يقول: كان بين الطوفان ومولد إبراهيم ألف سنة ومائتا سنة وثلاث وستون سنة، وذلك بعد خلق آدم بثلاثة آلاف وثلاثمائة سنة وسبع وثلاثين سنة. وولد لقحطان بن عابر يعرب، فولد يعرب يشجب بن يعرب، فولد يشجب سبأ بن يشجب، فولد سبأ حمير بن سبأ وكهلان بن سبأ وعمرو ابن سبأ، والأشعر بن سبأ وأنمار بن سبأ ومر بن سبأ وعاملة بن سبأ فولد عمرو ابن سبأ عدي بن عمرو، فولد عدي لخم بن عدي وجذام بن عدي. وقد زعم بعض نسابي الفرس أن نوحا هو أفريدون الذي قهر الازدهاق، وسلبه ملكه وزعم بعضهم أن أفريدون هو ذو القرنين صاحب إبراهيم ع الذي قضى له ببئر السبع، الذي ذكر الله في كتابه وقال بعضهم: هو سليمان بن داود. وإنما ذكرته في هذا الموضع لما ذكرت فيه من قول من قال: انه نوح،

وإن قصته شبيهة بقصة نوح في أولاد له ثلاثة، وعدله وحسن سيرته، وهلاك الضحاك على يده وأنه قيل إن هلاك الضحاك كان على يد نوح وأن نوحا إنما كان أرسل- في قول من ذكرت عنه أنه قال: كان هلاك الضحاك على يدي نوح- حين أرسل إلى قومه، وهم كانوا قوم الضحاك. فأما الفرس فإنهم ينسبونه النسبة التي أنا ذاكرها، وذلك أنهم يزعمون أن أفريدون من ولد جم شاذ الملك الذي قتله الازدهاق، على ما قد بينا من أمره قبل، وأن بينه وبين جم عشرة آباء. وقد حُدِّثْتُ عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ، قال: بلغنا أن أفريدون- وهو من نسل جم الملك الذي كان من قبل الضحاك، قال: ويزعمون أنه التاسع من ولده، وكان مولده بدنباوند- خرج حتى ورد منزل الضحاك، فأخذه وأوثقه، وملك مائتي سنة، ورد المظالم، وأمر الناس بعبادة الله والإنصاف والإحسان، ونظر إلى ما كان الضحاك غصب الناس من الأرضين وغيرها، فرد ذلك كله على أهله، إلا ما لم يجد له أهلا، فإنه وقفه على المساكين والعامة قال: ويقال إنه أول من سمى الصوافي، وأول من نظر في الطب والنجوم، وإنه كان له ثلاثة بنين: اسم الأكبر سلم، والثاني طوج، والثالث إيرج، وأن أفريدون تخوف ألا يتفق بنوه، وأن يبغي بعضهم على بعض، فقسم ملكه بينهم ثلاثا، وجعل ذلك في سهام كتب أسماءهم عليها، وأمر كل واحد منهم فأخذ سهما، فصارت الروم وناحية المغرب لسلم، وصارت الترك والصين لطوج، وصارت للثالث- وهو إيرج- العراق والهند، فدفع التاج والسرير إليه، ومات افريدون، فوثب بايرج اخواه فقتلاه، وملكا الارض بينهما ثلاثمائة سنة. قال: والفرس تزعم أن لأفريدون عشرة آباء، كلهم يسمى أثفيان باسم واحد قالوا: وإنما فعلوا ذلك خوفا من الضحاك على أولادهم، لرواية كانت عندهم، بأن بعضهم يغلب الضحاك على ملكه، ويدرك منه ثأر جم،

وكانوا يعرفون ويميزون بألقاب لقبوها، فكان يقال للواحد منهم: أثفيان صاحب البقر الحمر، وأثفيان صاحب البقر البلق، وأثفيان صاحب البقر الكدر وهو أفريدون بن أثفيان بوكاو- وتفسيره صاحب البقر الكثير- بن أثفيان نيككاو- وتفسيره صاحب البقر الجياد، بن أثفيان سيركاو- وتفسيره صاحب البقر السمان العظام- بن أثفيان بوركاو- وتفسيره صاحب البقر التي بلون حمير الوحش- بن أثفيان أخشين كاو- وتفسيره صاحب البقر الصفر- بن أثفيان سياه كاو- وتفسيره صاحب البقر السود- بن أثفيان اسبيذكاو- وتفسيره صاحب البقر البيض- بن أثفيان كيركاو- وتفسيره صاحب البقر الرمادية- بن أثفيان رمين- وتفسيره كل ضرب من الألوان والقطعان- بن أثفيان بنفروسن، بن جم الشاذ. وقيل: إن أفريدون أول من سمى بالكيية فقيل له: كي افريدون، وتفسير الكيية أنها بمعنى التنزيه، كما يقال: روحاني، يعنون به أن أمره أمر مخلص منزه يتصل بالروحانية وقيل إن معنى كي أي طالب الدخل، ويزعم بعضهم أن كي من البهاء، وأن البهاء تغشى أفريدون حين قتل الضحاك، وتذكر العجم من الفرس أنه كان رجلا جسيما وسيما بهيا مجربا، وأن أكثر قتاله كان بالجرز، وأن جرزه كان رأسه كرأس الثور، وأن ملك ابنه إيرج العراق ونواحيها كان في حياته، وأن أيام إيرج داخلة في ملك أفريدون، وأنه ملك الأقاليم كلها، وتنقل في البلدان، وأنه لما جلس على سريره يوم الملك قال: نحن القاهرون بعون الله وتأييده للضحاك، القامعون للشيطان وأحزابه، ثم وعظ الناس، فأمرهم بالتناصف وتعاطي الحق وبذل الخير بينهم، وحثهم على الشكر والتمسك به، ورتب سبعة من القوهياريين- وتفسير ذلك محولو الجبال سبع مراتب- وصير إلى كل واحد منهم ناحية من دنباوند وغيرها على شبيه بالتمليك قالوا: فلما ظفر بالضحاك قال له الضحاك: لا تقتلني بجدك

جم، فقال له أفريدون منكرا لقوله: لقد سمت بك همتك، وعظمت في نفسك حين قدرتها لهذا، وطمعت لها فيه! وأعلمه أن جده كان أعظم قدرا من أن يكون مثله كفئا له في القود، وأعلمه أنه يقتله بثور كان في دار جده. وقيل إن أفريدون أول من ذلل الفيلة وامتطاها، ونتج البغال، واتخذ الإوز والحمام، وعالج الدرياق، وقاتل الأعداء فقتلهم ونفاهم، وأنه قسم الأرض بين أولاده الثلاثة: طوج وسلم وإيرج، فملك طوجا ناحية الترك والخزر والصين، فكانوا يسمونها صين بغا، وجمع إليها النواحي التي اتصلت بها، وملك سلما ابنه الثاني الروم والصقالبة والبرجان وما في حدود ذلك، وجعل وسط الأرض وعامرها- وهو إقليم بابل، وكانوا يسمونها خنارث بعد أن جمع إلى ذلك ما اتصل به من السند والهند والحجاز وغيرها- لايرج وهو الاصغر من بينه الثلاثة، وكان أحبهم إليه وبهذا السبب سمي إقليم بابل إيرانشهر، وبه أيضا نشبت العداوة بين ولد أفريدون وأولادهم بعد، وصار ملوك خنارث والترك والروم إلى المحاربة ومطالبة بعضهم بعضا بالدماء والتراث. وقيل: إن طوجا وسلما لما علما أن أباهما قد خص إيرج وقدمه عليهما أظهرا له البغضاء، ولم يزل التحاسد ينمي بينهم إلى أن وثب طوج وسلم على أخيهما إيرج، فقتلاه متعاونين عليه، وأن طوجا رماه بوهق فخنقه، فمن أجل ذلك استعملت الترك الوهق، وكان لإيرج ابنان، يقال لهما وندان وأسطوبة، وابنة يقال لها خوزك، ويقال خوشك، فقتل سلم وطوج الابنين مع أبيهما، وبقيت الابنة. وقيل: إن اليوم الذي غلب فيه افريدون الضحاك كان روز مهر من مهر ماه، فاتخذ الناس ذلك اليوم عيدا لارتفاع بلية الضحاك عن الناس، وسماه المهرجان،

فقيل: إن أفريدون كان جبارا عادلا في ملكه، وكان طوله تسعة أرماح، كل رمح ثلاثة أبواع، وعرض حجرته ثلاثة أرماح، وعرض صدره أربعة أرماح، وأنه كان يتبع من كان بقي بالسودان من آل نمرود والنبط، وقصدهم حتى أتى على وجوههم، ومحا أعلامهم وآثارهم، وكان ملكه خمسمائة سنه

ذكر الاحداث التي كانت بين نوح وابراهيم خليل الرحمن ع

ذكر الأحداث التي كانت بين نوح وإبراهيم خليل الرحمن ع قد ذكرنا قبل ما كان من أمر نوح ع وأمر ولده واقتسامهم الأرض بعده، ومساكن كل فريق منهم، وأي ناحية سكن من البلاد وكان ممن طغا وعتا على الله عز وجل بعد نوح، فأرسل الله إليهم رسولا فكذبوه وتمادوا في غيهم، فأهلكهم الله هذان الحيان من إرم بن سام بن نوح: أحدهما عاد ابن عوص بن ارم ابن سام بن نوح، وهي عاد الأولى، والثاني ثمود بن جاثر بن إرم بن سام بن نوح، وهم كانوا العرب العاربة. فأما عاد فإن الله عز وجل أرسل إليهم هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود ابن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح ومن أهل الأنساب من يزعم أن هودا هو عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، وكانوا أهل أوثان ثلاثة يعبدونها، يقال لإحداها: صداء، وللآخر صمود، وللثالث الهباء فدعاهم إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة دون غيره، وترك ظلم الناس، فكذبوه وقالوا: من أشد منا قوة! فلم يؤمن بهود منهم إلا قليل، فوعظهم هود إذ تمادوا في طغيانهم، فقال لهم: «أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» فكان جوابهم له أن قالُوا:

«سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ» وقالوا له: «يَا هُودُ مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ» ، فحبس الله عنهم- فيما ذكر- القطر سنين ثلاثا، حتى جهدوا، فأوفدوا وفدا ليستسقوا لهم. فكان من قصتهم مَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ حَسَّانٍ الْبَكْرِيِّ، قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ الله ص: فَمَرَرْتُ بِامْرَأَةٍ بِالرَّبَذَةِ، فَقَالَتْ: هَلْ أَنْتَ حَامِلِي الى رسول الله ص؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَحَمَلْتُهَا حَتَّى قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَتِ المسجد، فإذا رسول الله ص عَلَى الْمِنْبَرِ، وَإِذَا بِلالٌ مُتَقَلِّدٌ السَّيْفَ، وَإِذَا رَايَاتٌ سُودٌ، قَالَ: قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ قَدِمَ مِنْ غَزْوَتِهِ، فَلَمَّا نزل رسول الله ص عَنْ مِنْبَرِهِ أَتَيْتُهُ فَاسْتَأْذَنْتُهُ، فَأَذِنَ لِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ بِالْبَابِ امْرَأَةً مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، قَدْ سَأَلَتْنِي أَنْ أَحْمِلَهَا إِلَيْكَ، قَالَ: يَا بِلالُ، ائْذَنْ لَهَا، قَالَ: فَدَخَلَتْ، فلما جلست قال لي رسول الله ص: هَلْ كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ تَمِيمٍ شَيْءٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَكَانَتِ الدَّبْرَةُ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَجْعَلَ الدَّهْنَاءَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَعَلْتُ، قَالَ: تَقُولُ الْمَرْأَةُ فَأَيْنَ تَضْطَرُّ مُضَرَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قال: قلت: مثلي مثل معزى حملت حتفا، قال: قلت: او حملتك تَكُونِينَ عَلَيَّ خَصْمًا! أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ كوفد عاد قال رسول الله ص: وَمَا وَفْدُ عَادٍ؟ قَالَ: قُلْتُ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ، إِنَّ عَادًا قَحَطَتْ، فَبَعَثَتْ مَنْ يَسْتَسْقِي لَهَا، فَمَرُّوا عَلَى بَكْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بِمَكَّةَ يَسْقِيهِمُ الْخَمْرَ، وَتُغَنِّيهِمِ الْجَرَادَتَانِ شَهْرًا، ثُمَّ بَعَثُوا رَجُلا مِنْ عِنْدِهِ، حَتَّى أَتَى جِبَالَ مَهَرَةَ، فَدَعَا، فَجَاءَتْ سَحَابَاتٌ، قَالَ: وَكُلَّمَا جَاءَتْ قَالَ:

اذْهَبِي إِلَى كَذَا، حَتَّى جَاءَتْ سَحَابَةٌ، فَنُودِيَ منها: خذها رمادا رمددا، لا تَدَعْ مَنْ عَادٍ أَحَدًا قَالَ: فَسَمِعَهُ وَكَتَمَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْعَذَابُ قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذَاكَ فِي حَدِيثِ عَادٍ، قَالَ: فَأَقْبَلَ الَّذِي أَتَاهُمْ، فَأَتَى جِبَالَ مَهَرَةَ فَصَعِدَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَمْ أَجِئْكَ لأَسِيرٍ فَأُفَادِيهِ، وَلا لِمَرِيضٍ أَشْفِيهِ، فَاسْقِ عَادًا مَا كنت مسقيه! قال: فرفعت له سحابات. قَالَ: فَنُودِيَ مِنْهَا: اخْتَرْ، فَجَعَلَ يَقُولُ: اذْهَبِي إِلَى بَنِي فُلانٍ اذْهَبِي إِلَى بَنِي فُلانٍ قَالَ: فَمَرَّتْ آخِرَهَا سَحَابَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَ: اذْهَبِي إِلَى عَادٍ. قَالَ: فَنُودِيَ مِنْهَا: خُذْهَا رَمَادًا رمددا، لا تَدَعْ مِنْ عَادٍ أَحَدًا قَالَ: وَكَتَمَهُمْ وَالْقَوْمُ عِنْدَ بَكْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ يَشْرَبُونَ قَالَ: وَكَرِهَ بَكْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُمْ فِي طَعَامِهِ قَالَ: فَأَخَذَ فِي الْغِنَاءِ وَذَكَّرَهُمْ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلامٌ أَبُو الْمُنْذِرِ النَّحْوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ الْبَكْرِيِّ، قَالَ: خَرَجْتُ لأَشْكُوَ الْعَلاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ الى رسول الله ص، فَمَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ، فَإِذَا عَجُوزٌ مُنْقَطِعٌ بِهَا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، إِنَّ لِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ حَاجَةً، فَهَلْ أَنْتَ مُبَلِّغِي إِلَيْهِ؟ قَالَ: فَحَمَلْتُهَا، فَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ- قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَظُنُّهُ أَنَا قَالَ: فَإِذَا رَايَاتٌ سُودٌ- قَالَ: قُلْتُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ قَالُوا: يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ بِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَجْهًا قَالَ: فَجَلَسْتُ حَتَّى فَرَغَ، قَالَ: فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ- أَوْ قَالَ رَحْلَهُ- فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لِي قَالَ: فَدَخَلْتُ فَقَعَدْتُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ص: هَلْ كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ تَمِيمٍ شَيْءٌ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، وَكَانَتِ الدَّبْرَةُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ مَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ، فَإِذَا عَجُوزٌ مِنْهُمْ مُنْقَطِعٌ بِهَا، فَسَأَلَتْنِي ان احملها إليك، وها هي بالباب، فاذن لها رسول الله ص فَدَخَلَتْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ تَمِيمٍ الدَّهْنَاءَ حَاجِزًا، فَحَمِيَتِ الْعَجُوزُ وَاسْتَوْفَزَتْ، وَقَالَتْ: فَأَيْنَ تَضْطَرُّ مُضَرَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قال:

قلت: انا كما قالوا: معزى حملت حتفا، حَمَلْتُ هَذِهِ وَلا أَشْعَرُ أَنَّهَا كَائِنَةٌ لِي خَصْمًا، أَعُوذُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ أَكُونَ كَوَافِدِ عَادٍ! قَالَ: وَمَا وَافِدُ عَادٍ؟ قُلْتُ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتُ، قَالَ: وَهُوَ يَسْتَطْعِمُنِي الْحَدِيثَ قُلْتُ: ان عادا قحطوا فَبَعَثُوا قَيْلا وَافِدًا، فَنَزَلَ عَلَى بْكَرٍ، فَسَقَاهُ الْخَمْرَ شَهْرًا، وَتُغَنِّيهِ جَارِيَتَانِ يُقَالُ لَهُمَا الْجَرَادَتَانِ، فَخَرَجَ إِلَى جِبَالِ مَهَرَةَ، فَنَادَى: إِنِّي لَمْ أجيء لِمَرِيضٍ فَأُدَاوِيهِ، وَلا لأَسِيرٍ فَأُفَادِيهِ، اللَّهُمَّ اسْقِ عَادًا مَا كُنْتَ تَسْقِيهِ! فَمَرَّتْ بِهِ سَحَابَاتٌ سُودٌ، فَنُودِيَ مِنْهَا: خُذْهَا رَمَادًا رِمْدَدًا، لا تُبْقِي مِنْ عَادٍ أَحَدًا. قَالَ: فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَقُولُ: لا تَكُنْ كَوَافِدِ عَادٍ، فَمَا بَلَغَنِي أَنَّهُ أُرْسِلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الرِّيحِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلا قَدْرَ مَا يَجْرِي فِي خَاتَمِي قَالَ أَبُو وَائِلٍ: وَكَذَلِكَ بَلَغَنِي. وَأَمَّا ابْنُ اسحق فَإِنَّهُ قَالَ كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة عنه: أن عادا لما أصابهم من القحط ما أصابهم قالوا: جهزوا منكم وفدا إلى مكة فيستسقوا لكم، فبعثوا قيل بن عتر ولقيم بن هزال بن هزيل بن عتيل ابن صد بن عاد الأكبر، ومرثد بن سعد بن عفير- وكان مسلما يكتم إسلامه- وجلهمة بن الخبيري، خال معاوية بن بكر أخا أمه، ثم بعثوا لقمان بن عاد بن فلان بن فلان بن صد بن عاد الأكبر، فانطلق كل رجل من هؤلاء القوم معه رهط من قومه، حتى بلغ عدة وفدهم سبعين رجلا، فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا من الحرم، فأنزلهم وأكرمهم، وكانوا أخواله وصهره وكانت هزيلة ابنة بكر أخت معاوية بن بكر لأبيه وأمه كلهدة ابنة الخيبري عند لقيم بن هزال بن عتيل بن صد ابن عاد الأكبر، فولدت له عبيد بن لقيم بن هزال وعمرو بن لقيم بن هزال وعامر بن لقيم بن هزال وعمير بن لقيم بن هزال، فكانوا في أخوالهم بمكة عند آل معاوية بن بكر، وهم عاد الأخيرة التي بقيت من عاد الأولى فلما نزل

وفد عاد على معاوية بن بكر أقاموا عنده شهرا يشربون الخمر، وتغنيهم الجرادتان- قينتان لمعاوية بن بكر- وكان مسيرهم شهرا، ومقامهم شهرا، فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم، وقد بعثهم قومهم يتغوثون بهم من البلاء الذي أصابهم، شق ذلك عليه فقال: هلك أخوالي وأصهاري وهؤلاء مقيمون عندي، وهم ضيفي نازلون علي، والله ما أدري: كيف أصنع بهم! أستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا إليه، فيظنوا أنه ضيق مني بمقامهم عندي، وقد هلك من وراءهم من قومهم جهدا وعطشا، أو كما قال. فشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين، فقالتا: قل شعرا نغنيهم به لا يدرون من قاله، لعل ذلك أن يحركهم! فقال معاوية بن بكر حين أشارتا عليه بذلك: ألا يا قيل، ويحك قم فهينم ... لعل الله يسقينا غماما فيسقي أرض عاد، إن عادا ... قد امسوا لا يبينون الكلاما من العطش الشديد، فليس نرجو ... به الشيخ الكبير ولا الغلاما وقد كانت نساؤهم بخير ... فقد أمست نساؤهم عيامى وإن الوحش تأتيهم جهارا ... ولا تخشى لعادي سهاما وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم ... نهاركم وليلكم التماما فقبح وفدكم من وفد قوم ... ولا لقوا التحية والسلاما! فلما قال معاوية ذلك الشعر، غنتهم به الجرادتان. فلما سمع القوم ما غنتا به، قال بعضهم لبعض: يا قوم إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من هذا البلاء الذي نزل بهم، وقد أبطأتم عليهم، فادخلوا هذا الحرم فاستسقوا لقومكم، فقال مرثد بن سعد بن عفير: إنكم والله لا تسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم

نبيكم، وأنبتم إليه سقيتم فأظهر إسلامه عند ذلك، فقال لهم لجلهمة بن الخيبري، خال معاوية بن بكر حين سمع قوله، وعرف أنه قد تبع دين هود وآمن به: أبا سعد فإنك من قبيل ... ذوي كرم وأمك من ثمود فإنا لن نطيعك ما بقينا ... ولسنا فاعلين لما تريد اتأمرنا لنترك آل رفد ... وزمل وآل صد والعبود ونترك دين آباء كرام ... ذوى راى ونتبع دين هود ورفد وزمل وصد قبائل من عاد، والعبود منهم ثم قال لمعاوية بن بكر وابيه بكر: احبسا عنا مرثد بن سعد فلا يقدمن معنا مكة، فإنه قد اتبع دين هود، وترك ديننا ثم خرجوا إلى مكة يستسقون بها لعاد، فلما ولو إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية، حتى أدركهم بها قبل أن يدعوا الله بشيء مما خرجوا له فلما انتهى إليهم قام يدعو الله، وبها وفد عاد قد اجتمعوا يدعون. فقال: اللهم أعطني سؤلي وحدي، ولا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفد عاد وكان قيل بن عتر رأس وفد عاد وقال وفد عاد: اللهم أعط قيلا ما سألك، واجعل سؤلنا مع سؤله وقد كان تخلف عن وفد عاد لقمان ابن عاد، وكان سيد عاد، حتى إذا فرغوا من دعوتهم قال: اللهم إني جئتك وحدي في حاجتي فأعطني سؤلي وقال قيل بن عتر حين دعا: يا إلهنا، إن كان هود صادقا فاسقنا فإنا قد هلكنا فأنشأ الله سحائب ثلاثا: بيضاء وحمراء، وسوداء، ثم ناداه مناد من السحاب: يا قيل، اختر لنفسك وقومك من هذا السحاب فقال: قد اخترت السحابة السوداء، فإنها أكثر السحاب ماء، فناداه مناد: اخترت رمادا رمددا، لا تبقي من عاد أحدا، لا والدا تترك ولا ولدا، إلا جعلته همدا، إلا بني اللوذية المهدى- وبنو اللوذية

بنو لقيم بن هزال بن هزيل بن هزيلة ابنة بكر، كانوا سكانا بمكة مع أخوالهم، لم يكونوا مع عاد بأرضهم، فهم عاد الآخرة، ومن كان من نسلهم الذين بقوا من عاد- وساق الله السحابة السوداء فيما يذكرون التي اختار قيل بن عتر بما فيها من النقمة إلى عاد، حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث ولما رأوها استبشروا بها، وقالوا: «هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا» ، يقول الله عز وجل: «بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها» ، أي كل شيء أمرت به فكان أول من أبصر ما فيها أنها ريح- فيما يذكرون- امرأة من عاد يقال لها مهدد، لما تبينت ما فيها صاحت ثم صعقت، فلما أفاقت قالوا: ماذا رأيت يا مهدد؟ قالت: رأيت ريحا فيها كشهب النار، أمامها رجال يقودونها فسخرها الله عليهم «سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً» ، كما قال الله: والحسوم: الدائمة، فلم تدع من عاد أحدا إلا هلك. فاعتزل هود- فيما ذكر- ومن معه من المؤمنين في حظيرة، ما يصيبه ومن معه منها إلا ما تلين عليه الجلود، وتلتذ الأنفس، وانها لتمر من عاد بالظعن ما بين السماء والأرض، وتدمغهم بالحجارة وخرج وفد عاد من مكة حتى مروا بمعاوية بن بكر وابيه، فنزلوا عليه، فبيناهم عنده، إذ أقبل رجل على ناقة له في ليله مقمره مسى ثالثة من مصاب عاد، فأخبرهم الخبر، فقالوا: فأين فارقت هودا وأصحابه؟ قال: فارقتهم بساحل البحر، فكأنهم شكوا فيما حدثهم، فقالت هزيلة ابنة بكر: صدق ورب مكة ومثوب بن يعفر بن أخي معاوية بن بكر معهم وقد كان قيل- فيما يزعمون والله أعلم- لمرثد بن سعد ولقمان بن عاد، وقيل بن عتر حين دعوا بمكة: قد أعطيتم مناكم فاختاروا لأنفسكم، إلا أنه لا سبيل إلى الخلد، فإنه لا بد من الموت، فقال مرثد بن سعد: يا رب، أعطني برا وصدقا، فأعطي ذلك، وقال

لقمان بن عاد: أعطني عمرا، فقيل له: اختر لنفسك، إلا إنه لا سبيل إلى الخلد: بقاء ايعار ضأن عفر، في جبل وعر، لا يلقي به إلا القطر، أم سبعة أنسر إذا مضى نسر حلوت إلى نسر؟ فاختار لقمان لنفسه النسور، فعمر- فيما يزعمون- عمر سبعة أنسر، يأخذ الفرخ حين يخرج من بيضته، فيأخذ الذكر منها لقوته، حتى إذا مات أخذ غيره، فلم يزل يفعل ذلك، حتى أتى على السابع وكان كل نسر فيما زعموا يعيش ثمانين سنة، فلما لم يبق غير السابع قال ابن أخ للقمان: أي عم، ما بقي من عمرك إلا عمر هذا النسر، فقال له لقمان: أي ابن أخي: هذا لبد- ولبد بلسانهم الدهر- فلما أدرك نسر لقمان، وانقضى عمره، طارت النسور غداة من رأس الجبل، ولم ينهض فيها لبد، وكانت نسور لقمان تلك لا تغيب عنه، إنما هي بعينه فلما لم ير لقمان لبدا نهض مع النسور، نهض إلى الجبل لينظر ما فعل لبد، فوجد لقمان في نفسه وهنا لم يكن يجده قبل ذلك، فلما انتهى إلى الجبل رأى نسره لبدا واقعا من بين النسور، فناداه: انهض لبد، فذهب لبد لينهض فلم يستطع، عريت قوادمه وقد سقطت، فماتا جميعا. وقيل لقيل بن عتر حين سمع ما قيل له في السحاب: اختر لنفسك كما اختار صاحباك، فقال: أختار أن يصيبني ما أصاب قومي، فقيل: إنه الهلاك، قال: لا أبالي، لا حاجة لي في البقاء بعدهم فأصابه ما أصاب عادا من العذاب فهلك، فقال مرثد بن سعد بن عفير حين سمع من قول الراكب الذي أخبر عن عاد بما أخبر من الهلاك: عصت عاد رسولهم فأمسوا ... عطاشا ما تبلهم السماء وسير وفدهم شهرا ليسقوا ... فأردفهم مع العطش العماء بكفرهم بربهم جهارا ... على آثار عادهم العفاء ألا نزع الإله حلوم عاد ... فإن قلوبهم قفر هواء

من الخبر المبين أن يعوه ... وما تغني النصيحة والشفاء فنفسي وابنتاي وأم ولدي ... لنفس نبينا هود فداء أتانا والقلوب مصمدات ... على ظلم، وقد ذهب الضياء لنا صنم يقال له صمود ... يقابله صداء والهباء فأبصره الذين له أنابوا ... وأدرك من يكذبه الشقاء فإني سوف ألحق آل هود ... وإخوته إذا جن المساء وقيل: إن رئيسهم وكبيرهم في ذلك الزمان الخلجان. حَدَّثَنِي العباس بن الوليد، قال: حَدَّثَنَا أبي، عن إسماعيل بن عياش، عن محمد بن إسحاق، قال: لما خرجت الريح على عاد من الوادي، قال سبعة رهط منهم، أحدهم الخلجان: تعالوا حتى نقوم على شفير الوادي فنردها، فجعلت الريح تدخل تحت الواحد منهم فتحمله، ثم ترمي به فتندق عنقه، فتتركهم كما قال الله عز وجل: «صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ» حتى لم يبق منهم إلا الخلجان، فمال إلى الجبل، فأخذ بجانب منه، فهزه فاهتز في يده، ثم أنشأ يقول: لم يبق الا الخلجان نفسه ... نالك من يوم دهاني أمسه بثابت الوطء شديد وطسه ... لو لم يجئني جئته أجسه فقال له هود: ويحك يا خلجان! أسلم تسلم، فقال له: وما لي عند ربك إن أسلمت؟ قال: الجنة، قال: فما هؤلاء الذين أراهم في هذا السحاب كأنهم البخت، قال هود: تلك ملائكة ربي، قال: فإن أسلمت أيعيذني ربك منهم؟ قال: ويلك! هل رأيت ملكا يعيذ من جنده! قال: لو فعل ما رضيت، قال: ثم جاءت الريح فألحقته بأصحابه، أو كلاما هذا معناه قال أبو جعفر: فأهلك الله الخلجان، وأفنى عادا خلا من بقي

منهم، ثم بادوا بعد، ونجى الله هودا ومن آمن به وقيل: كان عمر هود مائة سنة وخمسين سنة. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قال: «وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً. قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» ، إن عادا أتاهم هود، فوعظهم وذكرهم بما قص الله في القرآن، فكذبوه وكفروا، وسألوه أن يأتيهم العذاب فقال لهم: «إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ» ، وإن عادا أصابهم حين كفروا قحط من المطر، حتى جهدوا لذلك جهدا شديدا، وذلك أن هودا دعا عليهم، فبعث الله عليهم الريح العقيم، وهي الريح التي لا تلقح الشجر، فلما نظروا إليها قالوا: هذا عارض ممطرنا، فلما دنت منهم نظروا إلى الإبل والرجال، تطير بهم الريح بين السماء والأرض، فلما راوها تبادروا الى البيوت، حتى دخلوا البيوت دخلت عليهم فأهلكتهم فيها، ثم أخرجتهم من البيوت، فأصابتهم «فِي يَوْمِ نَحْسٍ» ، والنحس هو الشؤم «مُسْتَمِرٍّ» استمر عليهم بالعذاب «سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً» ، حسمت كل شيء مرت به، حتى أخرجتهم من البيوت، قال الله تبارك وتعالى: «تَنْزِعُ النَّاسَ» عن البيوت، «كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ» ، انقعر من أصوله «خاوِيَةٍ» خوت فسقطت، فلما أهلكهم الله أرسل عليهم طيرا سودا، فنقلتهم الى البحر،

فألقتهم فيه، فذلك قوله عز وجل: «فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ» . ولم تخرج الريح قط إلا بمكيال إلا يومئذ، فإنها عتت على الخزنة فغلبتهم، فلم يعلموا كم كان مكيالها؟ فذلك قوله: «فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ» . والصرصر: ذات الصوت الشديد. حَدَّثَنِي محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد، أنه سمع وهبا يقول: إن عادا لما عذبهم الله بالريح التي عذبوا بها، كانت تقلع الشجرة العظيمة بعروقها وتهدم عليهم بيوتهم، فمن لم يكن في بيت هبت به الريح حتى تقطعه بالجبال، فهلكوا بذلك كلهم وأما ثمود فإنهم عتوا على ربهم، وكفروا به، وأفسدوا في الأرض، فبعث الله إليهم صالح بن عبيد بن أسف بن ماسخ بن عبيد بن خادر بن ثمود ابن جاثر بن إرم بن سام بن نوح، رسولا يدعوهم إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة. وقيل: صالح، هو صالح بن أسف بن كماشج بن إرم بن ثمود بن جاثر ابن إرم بن سام بن نوح. فكان من جوابهم له ان قالوا له: «يَا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ» وكان الله عز وجل قد مدلهم في الأعمار، وكانوا يسكنون الحجر

إلى وادي القرى، بين الحجاز والشام، ولم يزل صالح يدعوهم إلى الله على تمردهم وطغيانهم، فلا يزيدهم دعاؤه إياهم إلى الله إلا مباعدة من الإجابة، فلما طال ذلك من أمرهم وأمر صالح قالوا له: إن كنت صادقا فأتنا بآية. فكان من أمرهم وأمره مَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: قَالَتْ ثَمُودُ لِصَالِحٍ: ائْتِنَا بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ صَالِحٌ: اخْرُجُوا إِلَى هَضَبَةٍ مِنَ الأَرْضِ، فَإِذَا هِيَ تَتَمَخَّضُ كَمَا تَتَمَخَّضُ الْحَامِلُ، ثُمَّ تَفَرَّجَتْ فَخَرَجَتْ من وسطها الناقه، فقال صالح ع: «هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» «لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» فَلَمَّا مَلُّوهَا عَقَرُوهَا، فَقَالَ لَهُمْ: «تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ» قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: وَحَدَّثَنِي رَجُلٌ آخَرُ أَنَّ صَالِحًا قَالَ لَهُمْ: إِنَّ آيَةَ الْعَذَابِ أَنْ تُصْبِحُوا غَدًا حُمْرًا، وَالْيَوْمَ الثَّانِي صُفْرًا، وَالْيَوْمَ الثَّالِثَ سُودًا، فَصَبَّحَهُمُ الْعَذَابُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ تَحَنَّطُوا وَاسْتَعَدُّوا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قال: حدثني حجاج، عن أبي بكر بن عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ، قَالَ: قُلْنَا لَهُ: حَدِّثْنَا حَدِيثَ ثَمُودَ، قَالَ: أُحَدِّثُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ص عَنْ ثَمُودَ. كَانَتْ ثَمُودُ قَوْمَ صَالِحٍ عَمَّرَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الدُّنْيَا، فَأَطَالَ أَعْمَارَهُمْ حَتَّى جَعَلَ أَحَدُهُمْ يَبْنِي الْمَسْكَنَ مِنَ الْمَدَرِ فَيَتَهَدَّمَ وَالرَّجُلُ مِنْهُمْ حَيٌّ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ اتَّخَذُوا مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَرِهِينَ، فَنَحَتُوهَا وَجَابُّوهَا وجوفوها،

وَكَانُوا فِي سَعَةٍ مِنْ مَعَايِشِهِمْ، فَقَالُوا: يَا صَالِحُ، ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا آيَةً نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ فَدَعَا صَالِحٌ رَبَّهُ، فَأَخْرَجَ لَهُمُ النَّاقَةَ فَكَانَ شِرْبُهَا يَوْمًا وَشِرْبُهُمْ يَوْمًا مَعْلُومًا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ شِرْبِهَا خَلَّوْا عنها وعن الماء، وحلبوها لبنا، ملئوا كُلَّ إِنَاءٍ وَوِعَاءٍ وَسِقَاءٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ شِرْبِهِمْ صَرَفُوهَا عَنِ الْمَاءِ وَلَمْ تَشْرَبْ مِنْهُ شَيْئًا، فَمَلَئُوا كُلَّ إِنَاءٍ وَوِعَاءٍ وَسِقَاءٍ، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى صَالِحٍ إِنَّ قَوْمَكَ سَيَعْقِرُونَ نَاقَتَكَ، فَقَالَ لَهُمْ، فَقَالُوا: مَا كُنَّا لِنَفْعَلَ، قَالَ: إِلا تَعْقِرُوهَا أَنْتُمْ أَوْشَكَ أَنْ يُولَدَ فِيكُمْ مَوْلُودٌ يَعْقِرُهَا، قَالُوا: مَا عَلامَةُ ذلك المولود؟ فو الله لا نَجِدُهُ إِلا قَتَلْنَاهُ، قَالَ: فَإِنَّهُ غُلامٌ أَشْقَرُ أَزْرَقُ أَصْهَبُ أَحْمَرُ، قَالَ: فَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ شَيْخَانِ عَزِيزَانِ مَنِيعَانِ، لأَحَدِهِمَا ابْنٌ يَرْغَبُ لَهُ عَنِ الْمَنَاكِحِ، وَلِلآخَرِ ابْنَةٌ لا يَجِدُ لها كفئا، فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا مَجْلِسٌ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُزَوِّجَ ابْنَكَ؟ قَالَ: لا أَجِدُ لَهُ كُفْئًا، قَالَ: فَإِنَّ ابْنَتِي كُفْءٌ لَهُ، وانا ازوجك، فزوجه فَوُلِدَ مِنْهُمَا ذَلِكَ الْمَوْلُودُ. وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ ثَمَانِيَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ، فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ صَالِحٌ: إِنَّمَا يَعْقِرُهَا مَوْلُودٌ فِيكُمْ، اخْتَارُوا ثَمَانِيَ نِسْوَةً قَوَابِلَ مِنَ الْقَرْيَةِ، وَجَعَلُوا مَعَهُنَّ شُرَطًا كَانُوا يَطُوفُونَ فِي الْقَرْيَةِ، فَإِذَا وَجَدُوا الْمَرْأَةَ تَمْخِضُ نَظَرُوا مَا وَلَدُهَا؟ فَإِنْ كَانَ غُلامًا قَتَلْنَهُ، وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً اعرضن عنها، فلما وجدوا ذلك المولود صرخ النِّسْوَةُ، وَقُلْنَ: هَذَا الَّذِي يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صالح، فاراد الشرط ان يأخذوها، فَحَالَ جَدَّاهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ وَقَالُوا: إِنْ أَرَادَ صَالِحٌ هَذَا قَتَلْنَاهُ، وَكَانَ شَرَّ مَوْلُودٍ، وَكَانَ يَشِبُّ فِي الْيَوْمِ شَبَابَ غَيْرِهِ فِي الْجُمُعَةِ، ويشب

فِي الْجُمُعَةِ شَبَابَ غَيْرِهِ فِي الشَّهْرِ، وَيَشِبُّ فِي الشَّهْرِ شَبَابَ غَيْرِهِ فِي السَّنَةِ، فَاجْتَمَعَ الثَّمَانِيَةُ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ، وَفِيهِمُ الشَّيْخَانِ، فَقَالُوا: اسْتَعْمِلْ عَلَيْنَا هَذَا الْغُلامَ لِمَنْزِلَتِهِ وَشَرَفِ جَدَّيْهِ، فَصَارُوا تِسْعَةً، وَكَانَ صَالِحٌ ع لا يَنَامُ مَعَهُمْ فِي الْقَرْيَةِ، بَلْ كَانَ فِي مَسْجِدٍ يُقَالُ لَهُ مَسْجِدُ صَالِحٍ، فِيهِ يَبِيتُ بِاللَّيْلِ، فَإِذَا أَصْبَحَ أَتَاهُمْ فَوَعَظَهُمْ وَذَكَّرَهُمْ، فَإِذَا أَمْسَى خَرَجَ إِلَى مَسْجِدِهِ فَبَاتَ فِيهِ. قَالَ حَجَّاجٌ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لَمَّا قَالَ لهم صالح ع: إِنَّهُ سَيُولَدُ غُلامٌ يَكُونُ هَلاكُهُمْ عَلَى يَدَيْهِ، قَالُوا: فَكَيْفَ تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: آمُرُكُمْ بِقَتْلِهِمْ، فَقَتَلُوهُمْ إِلا وَاحِدًا، قَالَ: فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمَوْلُودَ قَالُوا: لَوْ كُنَّا لَمْ نَقْتُلْ أَوْلادَنَا لَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا مِثْلُ هَذَا، هَذَا عَمَلُ صالح! فائتمروا بَيْنَهُمْ بِقَتْلِهِ، وَقَالُوا: نَخْرُجُ مُسَافِرِينَ وَالنَّاسُ يَرَوْنَنَا عَلانِيَةً، ثُمَّ نَرْجِعُ مِنْ لَيْلَةِ كَذَا وَكَذَا فَنَرْصُدُهُ عِنْدَ مُصَلاهُ فَنَقْتُلُهُ، فَلا يَحْسَبُ النَّاسُ إِلا أَنَّا مُسَافِرُونَ كَمَا نَحْنُ. فَأَقْبَلُوا حَتَّى دَخَلُوا تَحْتَ صَخْرَةٍ يَرْصُدُونَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمُ الصَّخْرَةَ فَرَضَخَتْهُمْ فَأَصْبَحُوا رَضْخًا، فَانْطَلَقَ رِجَالٌ مِمَّنْ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَإِذَا هُمْ رَضْخٌ، فَرَجَعُوا يَصِيحُونَ فِي الْقَرْيَةِ: أَيْ عِبَادَ اللَّهِ، أَمَا رَضِيَ صَالِحٌ أَنْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا أَوْلادَهُمْ حَتَّى قَتَلَهُمْ! فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ عَلَى عَقْرِ النَّاقَةِ أَجْمَعُونَ، فَأَحْجَمُوا عَنْهَا إِلا ذَلِكَ ابْنُ الْعَاشِرِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: ثُمَّ رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ رَسُولِ الله ص، قَالَ: فَأَرَادُوا أَنْ يَمْكُرُوا بِصَالِحٍ، فَمَشَوْا حَتَّى أَتَوْا عَلَى سَرَبٍ عَلَى طَرِيقِ صَالِحٍ، فَاخْتَبَأَ فيه ثمانية وقالوا: إِذَا خَرَجَ عَلَيْنَا قَتَلْنَاهُ وَأَتَيْنَا أَهْلَهُ فَبَيَّتْنَاهُمْ، فَأَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الأَرْضَ فَاسْتَوَتْ عَلَيْهِمْ، قَالَ: فَاجْتَمَعُوا وَمَشَوْا إِلَى النَّاقَةِ، وَهِيَ عَلَى حَوْضِهَا قَائِمَةٌ، فَقَالَ الشَّقِيُّ لأَحَدِهِمُ: ائْتِهَا فَاعْقِرْهَا، فَأَتَاهَا، فَتَعَاظَمَهُ ذَلِكَ، فَأَضْرَبَ عَنْ ذَلِكَ، فَبَعَثَ آخَرَ فَأَعْظَمَ ذَلِكَ، فَجَعَلَ لا يَبْعَثُ أَحَدًا إِلا تَعَاظَمَهُ أَمْرُهَا، حَتَّى مَشَى إِلَيْهَا وَتَطَاوَلَ

فَضَرَبَ عُرْقُوبَيْهَا، فَوَقَعَتْ تَرْكُضُ فَأَتَى رَجُلٌ مِنْهُمْ صَالِحًا فَقَالَ: أَدْرِكِ النَّاقَةَ فَقَدْ عُقِرَتْ فَأَقْبَلَ، فَخَرَجُوا يَتَلَقَّوْنَهُ وَيَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّمَا عَقَرَهَا فُلانٌ، إِنَّهُ لا ذَنْبَ لَنَا، قَالَ: انْظُرُوا هَلْ تُدْرِكُونَ فَصِيلَهَا! فَإِنْ أَدْرَكْتُمُوهُ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَ عَنْكُمُ الْعَذَابَ! فَخَرَجُوا يَطْلُبُونَهُ فَلَمَّا رَأَى الْفَصِيلُ أُمَّهُ تَضْطَرِبُ أَتَى جَبَلا- يُقَالُ لَهُ: الْقَارَةُ- قَصِيرًا فَصَعِدَهُ وَذَهَبُوا لِيَأْخُذُوهُ، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى الْجَبَلِ، فَطَالَ فِي السَّمَاءِ حَتَّى مَا تَنَالُهُ الطَّيْرُ، قَالَ: وَدَخَلَ صَالِحٌ الْقَرْيَةَ، فَلَمَّا رَآهُ الْفَصِيلُ بَكَى حَتَّى سَالَتْ دُمُوعُهُ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ صَالِحًا، فَرَغَا رَغْوَةً، ثُمَّ رَغَا أُخْرَى، ثُمَّ رَغَا أُخْرَى فَقَالَ صَالِحٌ: لِكُلِّ رَغْوَةٍ أَجَلُ يَوْمٍ، تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ، إِلا أَنَّ آيَةَ الْعَذَابِ أَنَّ الْيَوْمَ الأَوَّلَ تُصْبِحُ وُجُوهُكُمْ مُصْفَرَّةً، وَالْيَوْمَ الثَّانِيَ مُحْمَرَّةً، وَالْيَوْمَ الثَّالِثَ مُسْوَدَّةً، فَلَمَّا أَصْبَحُوا إِذَا وُجُوهُهُمْ كَأَنَّمَا طُلِيَتْ بِالْخَلُوقِ، صَغِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ، ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ، فَلَمَّا أَمْسَوْا صَاحُوا بِأَجْمَعِهِمْ: أَلا قَدْ مَضَى يَوْمٌ مِنَ الأَجَلِ وَحَضَرَكُمُ الْعَذَابُ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا الْيَوْمَ الثَّانِي إِذَا وُجُوهُهُمْ مُحْمَرَّةٌ، كَأَنَّمَا خُضِبَتْ بِالدِّمَاءِ، فَصَاحُوا وَضَجُّوا وَبَكَوْا وَعَرَفُوا أَنَّهُ الْعَذَابُ فَلَمَّا أَمْسَوْا صَاحُوا بِأَجْمَعِهِمْ: أَلا قَدْ مَضَى يَوْمَانِ مِنَ الأَجَلِ، وَحَضَرَكُمُ الْعَذَابُ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا الْيَوْمَ الثَّالِثَ فَإِذَا وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ كَأَنَّمَا طُلِيَتْ بِالْقَارِ، فَصَاحُوا جَمِيعًا: أَلا قَدْ حَضَرَكُمُ الْعَذَابُ، فَتَكَفَّنُوا وَتَحَنَّطُوا، وَكَانَ حُنُوطُهُمُ الصَّبْرَ وَالْمَقِرَ، وَكَانَتْ أَكْفَانُهُمُ الأَنْطَاعَ، ثُمَّ أَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ إِلَى الأَرْضِ، فَجَعَلُوا يُقَلِّبُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ مَرَّةً، وَإِلَى الأَرْضِ مَرَّةً، لا يَدْرُونَ مِنْ حَيْثُ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ، مِنْ فَوْقِهِمْ مِنَ السَّمَاءِ، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنَ الأَرْضِ خُشُعًا وَفُرُقًا، فَلَمَّا أَصْبَحُوا الْيَوْمَ الرَّابِعَ أَتَتْهُمْ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ فِيهَا صَوْتُ كُلِّ صَاعِقَةٍ وَصَوْتُ كُلِّ شَيْءٍ لَهُ صَوْتٌ فِي الأَرْضِ، فَتَقَطَّعَتْ قُلُوبُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: حُدِّثْتُ أَنَّهُ لَمَّا أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ أَهْلَكَ اللَّهُ مَنْ بَيْنَ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ مِنْهُمْ، إِلا رَجُلا وَاحِدًا كَانَ فِي حَرَمِ اللَّهِ، مَنَعَهُ حَرَمُ اللَّهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ قِيلَ: وَمَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ:؟ قَالَ: أَبُو رِغَالٍ، [وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص حِينَ أَتَى عَلَى قَرْيَةِ ثَمُودَ لأَصْحَابِهِ: لا يَدْخُلَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْقَرْيَةَ، وَلا تَشْرَبُوا مِنْ مَائِهِمْ،] وَأَرَاهُمْ مُرْتَقَى الْفَصِيلِ، حِينَ ارْتَقَى فِي الْقَارَةِ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنِي موسى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابن عمران، [ان النبي ص حِينَ أَتَى عَلَى قَرْيَةِ ثَمُودَ قَالَ: لا تَدْخُلَنَّ عَلَى هَؤُلاءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ] . قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: [إِنَّ النبي ص لَمَّا أَتَى عَلَى الْحِجْرِ، حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَلا تَسْأَلُوا رَسُولَكُمُ الآيَاتِ، هَؤُلاءُ قَوْمُ صَالِحٍ سَأَلُوا رَسُولَهُمُ الآيَةَ، فَبَعَثَ اللَّهُ لَهُمُ النَّاقَةَ، فَكَانَتْ تَرِدُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ وَتَصْدُرُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ، فَتَشْرَبُ مَاءَهُمْ يَوْمَ وِرْدِهَا] . حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ الأَشْجَعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ عبد الله بن عثمان بن خثيم، قال: حدثنا ابو الطفيل قال: [لما غزا رسول الله ص غَزَاةَ تَبُوكَ، نَزَلَ الْحِجْرَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ لا تَسْأَلُوا نَبِيَّكُمُ الآيَاتِ، هَؤُلاءِ قَوْمُ صَالِحٍ سَأَلُوا نَبِيَّهُمْ أَنْ يَبْعَثَ لَهُمْ آيَةً، فَبَعَثَ اللَّهُ تعالى ذِكْرُهُ لَهُمُ النَّاقَةَ آيَةً، فَكَانَتْ تَلِجُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ وِرْدِهَا مِنْ هَذَا الْفَجِّ فَتَشْرَبُ مَاءَهُمْ، وَيَوْمَ وِرْدِهِمْ كَانُوا يَتَزَوَّدُونَ مِنْهُ، ثُمَّ يَحْلِبُونَهَا مِثْلَ مَا كَانُوا يَتَزَوَّدُونَ مِنْ مَائِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ لَبَنًا، ثُمَّ تَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ الْفَجِّ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَعَقَرُوهَا، فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ الْعَذَابَ بَعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ،

وَكَانَ وَعْدًا مِنَ اللَّهِ غَيْرَ مَكْذُوبٍ، فَأَهْلَكَ اللَّهُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا إِلا رَجُلا وَاحِدًا كَانَ فِي حَرَمِ اللَّهِ، فَمَنَعَهُ حَرَمُ اللَّهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، قَالُوا: وَمَنْ ذَلِكَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَبُو رِغَالٍ] . فَأَمَّا أَهْلُ التَّوْرَاةِ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لا ذِكْرَ لِعَادٍ وَلا ثَمُودَ وَلا لِهُودٍ وَصَالِحٍ فِي التَّوْرَاةِ، وَأَمْرُهُمْ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي الشُّهْرَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالإِسْلامِ كَشُهْرَةِ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ. قَالَ: وَلَوْلا كَرَاهَةُ إِطَالَةِ الْكِتَابِ بِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ، لَذَكَرْتُ مِنْ شِعْرِ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِي قِيلَ فِي عَادٍ وَثَمُودَ وَأُمُورِهِمْ بَعْضَ مَا قِيلَ مَا يَعْلَمُ بِهِ مَنْ ظَنَّ خِلافَ مَا قُلْنَا فِي شُهْرَةِ أَمْرِهِمْ فِي الْعَرَبِ صِحَّةَ ذَلِكَ وَمِنْ أَهْلِ العلم من يزعم ان صالحا ع تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَأَنَّهُ أَقَامَ فِي قَوْمِهِ عِشْرِينَ سَنَةً. قال أبو جعفر: نرجع الآن إلى:

ذكر ابراهيم خليل الرحمن ع

ذكر ابراهيم خليل الرحمن ع وذكر من كان في عصره من ملوك العجم إذ كنا قد ذكرنا من بينه وبين نوح من الآباء وتأريخ السنين التي مضت قبل ذلك وهو ابراهيم بن تارخ بن ناحور بن ساروغ بن أرغوا بن فالغ بن عابر بن شالخ بن قينان بن ارفخشد بن سام بن نوح. واختلفوا في الموضع الذي كان منه، والموضع الذي ولد فيه، فقال بعضهم: كان مولده بالسوس من أرض الأهواز، وقال بعضهم: كان مولده ببابل من أرض السواد وقال بعضهم: كان بالسواد بناحية كوثى وقال بعضهم: كان مولده بالوركاء بناحية الزوابي وحدود كسكر، ثم نقله أبوه إلى الموضع الذي كان به نمرود من ناحية كوثى وقال بعضهم: كان مولده بحران، ولكن أباه تارخ نقله إلى أرض بابل وقال عامة السلف من أهل العلم: كان مولد ابراهيم ع في عهد نمرود بن كوش ويقول عامة أهل الأخبار: كان نمرود عاملا للإزدهاق الذي زعم بعض من زعم ان نوحا ع كان مبعوثا إليه على أرض بابل وما حولها وأما جماعة من سلف العلماء فإنهم يقولون: كان ملكا برأسه، واسمه الذي هو اسمه فيما قيل: زرهى بن طهماسلفان. وقد حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حَدَّثَنَا محمد بن إسحاق- فيما ذكر لنا والله أعلم- أن آزر كان رجلا من أهل كوثى، من قرية بالسواد سواد الكوفة، وكان إذ ذاك ملك المشرق لنمرود الخاطئ، وكان يقال له الهاصر، وكان ملكه- فيما يزعمون- قد أحاط بمشارق الأرض ومغاربها، وكان ببابل، قال: وكان ملكه وملك قومه بالمشرق قبل ملك فارس. قال: ويقال لم يجتمع ملك الأرض ولم يجتمع الناس على ملك واحد إلا

على ثلاثة ملوك: نمرود بن أرغوا، وذي القرنين، وسليمان بن داود. وقال بعضهم: نمرود هو الضحاك نفسه. حدثت عن هشام بن محمد، قال: بلغنا والله أعلم أن الضحاك هو نمرود، وأن إبراهيم خليل الرحمن ولد في زمانه، وأنه صاحبه الذي أراد إحراقه. حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ الهمداني عن ابن مسعود- وعن ناس من اصحاب النبي ص إِنَّ أَوَّلَ مَلِكٍ مَلَكَ فِي الأَرْضِ شَرْقَهَا وغربها نمرود بن كنعان ابن كُوشَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ، وَكَانَتِ الْمُلُوكُ الَّذِينَ مَلَكُوا الأَرْضَ كُلَّهَا أَرْبَعَةً: نَمْرُودُ، وَسُلَيْمَانُ بن داود، وذو القرنين، وبختنصر: مُؤْمِنَانِ وَكَافِرَانِ. وقال ابن إسحاق فيما حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ ابن إسحاق: فلما أراد الله عز وجل أن يبعث ابراهيم ع خليل الرحمن حجة على قومه ورسولا إلى عباده، ولم يكن فيما بين نوح وإبراهيم ع من نبي قبله إلا هود وصالح، فلما تقارب زمان إبراهيم الذي أراد الله تعالى ذكره ما أراد، أتى أصحاب النجوم نمرود، فقالوا له: تعلم أنا نجد في علمنا أن غلاما يولد في قريتك هذه يقال له إبراهيم، يفارق دينكم، ويكسر أوثانكم، في شهر كذا وكذا من سنة كذا وكذا فلما دخلت السنة التي وصف أصحاب النجوم لنمرود، بعث نمرود إلى كل امرأة حبلى بقريته، فحبسها عنده، إلا ما كان من أم إبراهيم امرأة آزر فإنه لم يعلم بحبلها، وذلك أنها كانت جارية- حدثه فيما يذكر- لم يعرف الحبل في بطنها، فجعل لا تلد امرأة غلاما في ذلك الشهر من تلك السنة إلا أمر به فذبح، فلما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلا إلى مغارة كانت قريبا منها، فولدت فيها ابراهيم ع، وأصلحت من شأنه ما يصنع بالمولود، ثم سدت عليه المغارة، ثم رجعت إلى بيتها، ثم كانت تطالعه في المغارة لتنظر ما فعل، فتجده حيا

يمص إبهامه يزعمون- والله أعلم- أن الله جعل رزق ابراهيم ع فيها ما يجيئه من مصه، وكان آزر فيما يزعمون قد سأل أم إبراهيم عن حملها ما فعل، فقالت: ولدت غلاما فمات فصدقها فسكت عنها، وكان اليوم- فيما يذكرون- على إبراهيم في الشباب كالشهر، والشهر كالسنة، ولم يمكث ابراهيم ع في المغارة إلا خمسة عشر شهرا، حتى قال لأمه: أخرجيني أنظر، فأخرجته عشاء، فنظر وتفكر في خلق السموات والأرض، وقال: إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لربي، ما لي إله غيره ثم نظر في السماء ورأى كوكبا، فقال: «هذا رَبِّي» ، ثم اتبعه ينظر إليه ببصره حتى غاب «فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ» ، ثم اطلع للقمر فرآه بازغا فقال: «هذا رَبِّي» ثم أتبعه ببصره حتى غاب «فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ» فلما دخل عليه النهار وطلعت الشمس رأى عظم الشمس ورأى شيئا هو أعظم نورا من كل شيء رآه قبل ذلك، فقال: «هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ، فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» . ثم رجع إبراهيم إلى أبيه آزر وقد استقامت وجهته، وعرف ربه وبريء من دين قومه إلا أنه لم يبادهم بذلك، فأخبره أنه ابنه، فأخبرته أم إبراهيم ع أنه ابنه، فأخبرته بما كانت صنعت في شأنه، فسر بذلك آزر وفرح فرحا شديدا، وكان آزر يصنع أصنام قومه التي يعبدون، ثم يعطيها إبراهيم يبيعها، فيذهب بها إبراهيم ع فيما يذكرون فيقول: من يشتري ما يضره ولا ينفعه! فلا يشتريها منه أحد، فإذا بارت عليه ذهب بها إلى نهر فصوب فيه رءوسها، وقال: اشربي- استهزاء بقومه، وبما هم عليه من الضلالة- حتى فشا عيبه إياها، واستهزاؤه بها في قومه وأهل قريته،

من غير أن يكون ذلك بلغ نمرود الملك ثم إنه لما بدا لإبراهيم أن يبادي قومه بخلاف ما هم عليه وبأمر الله والدعاء إليه «نظر نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ» ، يقول الله عز وجل: «فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ» ، وقوله: «إِنِّي سَقِيمٌ» اى طعين، او لسقم كانوا يهربون منه إذا سمعوا به، وإنما يريد إبراهيم أن يخرجوا عنه ليبلغ من أصنامهم الذي يريد فلما خرجوا عنه خالف إلى أصنامهم التي كانوا يعبدون من دون الله، فقرب لها طعاما، ثم قال: ألا تأكلون! ما لكم لا تنطقون! تعييرا في شأنها واستهزاء بها. وقال في ذلك غير ابن إسحاق، مَا حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره عن أَبِي صَالِحٍ، وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عباس- وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود- وعن اناس من اصحاب النبي ص: كان من شان ابراهيم ع أَنَّهُ طَلَعَ كَوْكَبٌ عَلَى نُمْرُودَ، فَذَهَبَ بِضَوْءِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، فَفَزِعَ مِنْ ذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا، فَدَعَا السَّحَرَةَ وَالْكَهَنَةَ وَالْقَافَّةَ وَالْحَازَّةَ، فَسَأَلَهُمْ عَنْهُ، فَقَالُوا: يَخْرُجُ مِنْ مُلْكِكَ رَجُلٌ يَكُونُ عَلَى وَجْهِهِ هَلاكُكَ وَهَلاكُ مُلْكِكَ- وَكَانَ مَسْكَنُهُ بِبَابِلَ الْكُوفَةَ- فَخَرَجَ مِنْ قَرْيَتِهِ إِلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى، فاخرج الرجال وترك النساء، وامر الا يُولَدَ مَوْلُودٌ ذَكَرٌ إِلا ذَبَحَهُ، فَذَبَحَ أَوْلادَهُمْ ثُمَّ إِنَّهُ بَدَتْ لَهُ حَاجَةٌ فِي الْمَدِينَةِ لَمْ يَأْمَنْ عَلَيْهَا إِلا آزَرَ أَبَا إِبْرَاهِيمَ، فَدَعَاهُ فَأَرْسَلَهُ. فَقَالَ لَهُ انْظُرْ لا تُوَاقِعْ أَهْلَكَ، فَقَالَ لَهُ آزَرُ: أَنَا أَضِنُّ بِدِينِي مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا دَخَلَ الْقَرْيَةَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِهِ فَلَمْ يَمْلِكْ نَفْسَهُ أَنْ وَقَعَ عَلَيْهَا، فَقَرَّبَهَا إِلَى قَرْيَةٍ بَيْنَ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، يُقَالُ لَهَا أُورُ، فَجَعَلَهَا فِي سَرَبٍ، فَكَانَ يَتَعَاهَدَهَا بالطعام

وَالشَّرَابِ وَمَا يُصْلِحُهَا وَإِنَّ الْمَلِكَ لَمَّا طَالَ عَلَيْهِ الأَمْرُ قَالَ: قَوْلُ سَحَرَةٍ كَذَّابِينَ. ارْجِعُوا إِلَى بَلَدِكُمْ، فَرَجَعَوا وَوُلِدَ إِبْرَاهِيمُ فَكَانَ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَمُرُّ كَأَنَّهُ جُمُعَةٌ، وَالْجُمُعَةُ كَالشَّهْرِ، وَالشَّهْرُ كَالسَّنَةِ مِنْ سُرْعَةِ شَبَابِهِ، وَنَسِيَ الْمَلِكُ ذلك، وكبر ابراهيم ولا يَرَى أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْخَلْقِ غَيْرَهُ وَغَيْرَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ لأَصْحَابِهِ: إِنَّ لِي ابْنًا قَدْ خَبَّأْتُهُ، أَفَتَخَافُونَ عَلَيْهِ الْمَلِكَ إِنْ أَنَا جِئْتُ بِهِ؟ قَالُوا: لا، فَأْتِ بِهِ فَانْطَلَقَ فَأَخْرَجَهُ، فَلَمَّا خَرَجَ الْغُلامُ مِنَ السَّرَبِ نَظَرَ إِلَى الدَّوَابِّ وَالْبَهَائِمِ وَالْخَلْقِ، فَجَعَلَ يَسْأَلُ أَبَاهُ: مَا هَذَا؟ فَيُخْبِرُهُ عَنِ الْبَعِيرِ أَنَّهُ بَعِيرٌ، وَعَنِ الْبَقَرَةِ أَنَّهَا بَقَرَةٌ، وَعَنِ الْفَرَسِ أَنَّهُ فَرَسٌ، وَعَنِ الشَّاةِ أَنَّهَا شَاةٌ، فَقَالَ: مَا لِهَؤُلاءِ الْخَلْقِ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ رَبٌّ، وَكَانَ خُرُوجُهُ حِينَ خَرَجَ مِنَ السَّرَبِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا هُوَ بِالْكَوْكَبِ وَهُوَ الْمُشْتَرى، فَقَالَ: «هَذَا رَبِّي» ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ غَابَ، فَقَالَ «لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ» ، أَيْ لا أُحِبُّ رَبًّا يَغِيبُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَخَرَجَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَرَ الْقَمَرَ قَبْلَ الْكَوَاكِبِ، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ رَأَى الْقَمَرَ بِازِغًا قَدْ طَلَعَ، فَقَالَ: «هَذَا رَبِّي، فَلَمَّا أَفَلَ» يَقُولُ: غَابَ، «قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ» ، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَرَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً، قالَ: «هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ» ، فَلَمَّا غَابَتْ قَالَ اللَّهُ لَهُ: أَسْلِمْ، قال: قد أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ثم اتى قَوْمَهُ فَدَعَاهُمْ فَقَالَ: «يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً» يَقُولُ مُخْلِصًا: فَجَعَلَ يَدْعُو قَوْمَهُ وَيُنْذِرُهُمْ. وَكَانَ أَبُوهُ يَصْنَعُ الأَصْنَامَ فَيُعْطِيهَا وَلَدَهُ فَيَبِيعُونَهَا، وَكَانَ يُعْطِيهِ فَيُنَادِي: مَنْ يَشْتَرِي مَا يَضُرُّهُ وَلا يَنْفَعُهُ؟ فَيَرْجِعُ إِخْوَتُهُ وَقَدْ بَاعُوا أَصْنَامَهُمْ، وَيَرْجِعُ إِبْرَاهِيمُ بِأَصْنَامِهِ كَمَا هِيَ، ثُمَّ دَعَا أَبَاهُ فَقَالَ: «يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً » قَالَ: «أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا» قال: ابدا ثم قَالَ لَهُ أَبُوهُ:

يَا إِبْرَاهِيمُ، إِنَّ لَنَا عِيدًا لَوْ قَدْ خَرَجْتَ مَعَنَا لأَعْجَبَكَ دِينُنَا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الْعِيدِ، فَخَرَجُوا إِلَيْهِ خَرَجَ مَعَهُمْ إِبْرَاهِيمُ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ أَلْقَى نَفْسَهُ وَقَالَ: «إِنِّي سَقِيمٌ» ، يَقُولُ: أَشْتَكِي رِجْلِي، فَتَوَطَّئُوا رِجْلَيْهِ، وَهُوَ صَرِيعٌ، فَلَمَّا مَضَوْا نَادَى فِي آخِرِهِمْ وَقَدْ بقي ضعفى الناس: «تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ» فَسَمِعُوهَا مِنْهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى بَيْتِ الآلِهَةِ، فَإِذَا هُوَ فِي بَهْوٍ عَظِيمٍ، مُسْتَقْبِلٌ بَابَ الْبَهْوِ صَنَمٌ عَظِيمٌ إِلَى جَنْبِهِ أَصْغَرُ مِنْهُ، بَعْضُهَا إِلَى جَنْبِ بَعْضٍ، كُلُّ صَنَمٍ يَلِيهِ أَصْغَرُ مِنْهُ، حَتَّى بَلَغُوا بَابَ الْبَهْوِ وَإِذَا هُمْ قَدْ صَنَعُوا طَعَامًا، فَوَضَعُوهُ بَيْنَ يَدَيِ الآلِهَةِ، قَالُوا: إِذَا كَانَ حِينَ نَرْجِعُ رَجَعْنَا، وَقَدْ بَارَكَتِ الآلِهَةُ فِي طَعَامِنَا فَأَكَلْنَا فلما نظر اليهم ابراهيم ع، وَإِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الطَّعَامِ قَالَ: أَلا تَأْكُلُونَ؟ فَلَمَّا لَمْ تُجِبْهُ قَالَ: مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ! فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ، فَأَخَذَ حَدِيدَةً فَبَقَرَ كُلَّ صَنَمٍ فِي حَافَّتَيْهِ، ثُمَّ عَلَّقَ الْفَأْسَ فِي عُنُقِ الصَّنَمِ الأَكْبَرِ، ثُمَّ خَرَجَ فَلَمَّا جَاءَ الْقَوْمُ إِلَى طَعَامِهِمْ، وَنَظَرُوا إِلَى آلِهَتِهِمْ، قَالُوا: «مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ» . قال أبو جعفر: رجع الحديث إلى حديث ابْنِ إِسْحَاقَ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ الله عز وجل: «ضَرْباً بِالْيَمِينِ» ثُمَّ جَعَلَ يَكْسِرُهُنَّ بِفَأْسٍ فِي يَدِهِ، حَتَّى إِذَا بَقِيَ أَعْظَمُ صَنَمٍ مِنْهَا رَبَطَ الْفَأْسَ بِيَدِهِ، ثُمَّ تَرَكَهُنَّ، فَلَمَّا رَجَعَ قَوْمُهُ رَأَوْا ما صنع بأصنامهم، فراغهم ذَلِكَ، فَأَعْظَمُوهُ وَقَالُوا: مَنْ فَعَلَ بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لمن الظالمين ثم ذكروا فقالوا: «قد سَمِعْنا فَتًى

يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ» - يَعْنُونَ فَتًى يَسُبُّهَا وَيُعِيبُهَا وَيَسْتَهْزِئُ بِهَا، لَمْ نَسْمَعْ أَحَدًا يَقُولُ ذَلِكَ غَيْرَهُ، وَهُوَ الَّذِي نَظُنُّ صَنَعَ هَذَا بِهَا وَبَلَغَ ذَلِكَ نُمْرُودَ وَأَشْرَافَ قَوْمِهِ، فَقَالُوا: «فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ» ، اى ما يصنع بِهِ. فَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، مِنْهُمْ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ يَقُولُونَ فِي ذَلِكَ: لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ، وَقَالُوا: كَرِهُوا أَنْ يَأْخُذُوهُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ: قَالَ: فَلَمَّا أُتِي بِهِ فَاجْتَمَعَ لَهُ قَوْمُهُ عِنْدَ مَلِكِهِمْ نُمْرُودَ، قَالُوا: «أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنا يَا إِبْراهِيمُ قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ» ، غَضِبَ مِنْ أَنْ يَعْبُدُوا مَعَهُ هَذِهِ الصِّغَارُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا، فَكَسَرَهُنَّ، فَارْعَوَوْا وَرَجَعُوا عَنْهُ فِيمَا ادَّعَوْا عَلَيْهِ مِنْ كَسْرِهِنَّ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَقَالُوا: لَقَدْ ظَلَمْنَاهُ وَمَا نَرَاهُ إِلا كَمَا قَالَ ثُمَّ قَالُوا وَعَرَفُوا أَنَّهَا لا تَضُرُّ وَلا تَنْفَعُ وَلا تَبْطُشُ: «لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ» ، أَيْ لا يَتَكَلَّمُونَ فَيُخْبِرُونَا: مَنْ صَنَعَ هَذَا بِهَا، وَمَا تَبْطُشُ بِالأَيْدِي فَنُصَدِّقُكَ، يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: «ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ» ، أَيْ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ فِي الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ لإِبْرَاهِيمَ حِينَ جَادَلَهُمْ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ حِينَ ظَهَرَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِمْ: «لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ» . قَالَ: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ عِنْدَ ذَلِكَ فِي اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يَسْتَوْصِفُونَهُ إِيَّاهُ وَيُخْبِرُونَهُ

أَنَّ آلِهَتَهُمْ خَيْرٌ مِمَّا يَعْبُدُ، فَقَالَ: «أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ» ، إِلَى قَوْلِهِ: «فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ، يَضْرِبُ لَهُمُ الأَمْثَالَ، وَيُصَرِّفُ لَهُمُ الْعِبَرَ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ أَحَقُّ أَنْ يُخَافَ وَيُعْبَدَ مِمَّا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: ثُمَّ إِنَّ نُمْرُودَ- فِيمَا يَذْكُرُونَ- قَالَ لإِبْرَاهِيمَ: أَرَأَيْتَ إِلَهَكَ هَذَا الَّذِي تَعْبُدَ وَتَدْعُو إِلَى عبادته، وتذكره مِنْ قُدْرَتِهِ الَّتِي تُعَظِّمُهُ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ مَا هُوَ؟ «قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ» ، فَقَالَ نُمْرُودُ: فَأَنَا «أُحْيِي وَأُمِيتُ» ، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: كَيْفَ تُحْيِي وَتُمِيتُ؟ قَالَ: آخُذُ الرَّجُلَيْنِ قَدِ اسْتَوْجَبَا الْقَتْلَ فِي حُكْمِي، فَأَقْتُلُ أَحَدَهُمَا فَأَكُونُ قَدْ أَمَتُّهُ، وَأَعْفُو عَنِ الآخَرِ فَأَتْرُكُهُ فَأَكُونُ قَدْ أَحْيَيْتُهُ، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ عِنْدَ ذَلِكَ: «فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ» ، فَعَرَفَ أَنَّهُ كَمَا يَقُولُ، فَبُهِتَ عِنْدَ ذَلِكَ نُمْرُودُ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ شَيْئًا، وَعَرَفَ أَنَّهُ لا يُطِيقُ ذَلِكَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ» ، يَعْنِي وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ نُمْرُودَ وَقَوْمَهُ أَجْمَعُوا فِي إِبْرَاهِيمَ فَقَالُوا: «حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ» . حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن الحسن بن دِينَارٍ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: تَلَوْتُ هَذِهِ الآيَةَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: أَتَدْرِي يَا مُجَاهِدُ، من الذى اشار بتحريق ابراهيم ع بِالنَّارِ؟ قَالَ: قُلْتُ: لا، قَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَعْرَابِ فَارِسٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهَلْ لِلْفُرْسِ أَعْرَابٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، الْكُرْدُ هُمْ أَعْرَابُ فَارِسَ، فَرَجُلٌ مِنْهُمْ هُوَ الَّذِي أَشَارَ بِتَحْرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بِالنَّارِ حَدَّثَنِي يعقوب، قال: حَدَّثَنَا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد في

قوله: «حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ» قال: قالها رجل من أعراب فارس- يعني الأكراد. وحدثنا القاسم، قال: حَدَّثَنَا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني وهب بن سليمان، عن شعيب الجبائي، قال: ان اسم الذى قال حرقوه هينون، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ثم رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: فامر نمرود، بجمع الحطب، فجمعوا له صلاب الحطب من أصناف الخشب، حتى إن كانت المرأة من قرية إبراهيم- فيما يذكر- لتنذر في بعض ما تطلب مما تحب ان تدرك: لئن أصابته لتحطبن في نار إبراهيم التي يحرق بها احتسابا في دينها، حتى إذا أرادوا أن يلقوه فيها قدموه وأشعلوا في كل ناحية من الحطب الذي جمعوا له، حتى إذا اشتعلت النار، واجتمعوا لقذفه فيها، صاحت السماء والأرض وما فيها من الخلق إلا الثقلين- فيما يذكرون- إلى الله عز وجل صيحة واحدة: أي ربنا! إبراهيم ليس في أرضك أحد يعبدك غيره، يحرق بالنار فيك! فأذن لنا في نصرته، فيذكرون- والله أعلم- أن الله عز وجل حين قالوا ذلك قال: إن استغاث بشيء منكم أو دعاه فلينصره، فقد أذنت له في ذلك، فإن لم يدع غيري فأنا وليه، فخلوا بيني وبينه، فأنا أمنعه، فلما ألقوه فيها قال: «يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ» ، فكانت كما قال الله عز وجل. وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي قال «قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ» ،

قَالَ: فَحَبَسُوهُ فِي بَيْتٍ، وَجَمَعُوا لَهُ حَطَبًا حَتَّى أَنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ لَتَمْرَضُ فَتَقُولُ: لَئِنْ عَافَانِي اللَّهُ لأَجْمَعَنَّ حَطَبًا لإِبْرَاهِيمَ، فَلَمَّا جَمَعُوا لَهُ وَأَكْثَرُوا مِنَ الْحَطَبِ حَتَّى إِنْ كَانَ الطَّيْرُ لَيَمُرُّ بِهَا فَيَحْتَرِقُ مِنْ شِدَّةِ وَهَجِهَا وحرها، فعمدوا إِلَيْهِ فَرَفَعُوهُ عَلَى رَأْسِ الْبُنْيَانِ، فَرَفَعَ إِبْرَاهِيمُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَتِ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَالْمَلائِكَةُ: رَبَّنَا! إِبْرَاهِيمُ يُحْرَقُ فِيكَ فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِهِ، فَإِنْ دَعَاكُمْ فَأَغِيثُوهُ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ الْوَاحِدُ فِي السَّمَاءِ وَأَنَا الْوَاحِدُ فِي الأَرْضِ، لَيْسَ فِي الأَرْضِ أَحَدٌ يَعْبُدُكَ غَيْرِي، حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ! فَقَذَفُوهُ فِي النَّارِ، فَنَادَاهَا فَقَالَ: «يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى ابراهيم» وكان جبرئيل هُوَ الَّذِي نَادَاهَا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ لَمْ يُتْبِعْ بَرْدَهَا سَلامًا لَمَاتَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بَرْدِهَا، فَلَمْ تَبْقَ يَوْمَئِذٍ نَارٌ فِي الأَرْضِ الا طفئت وظنت أَنَّهَا تُعْنَى فَلَمَّا طُفِئَتِ النَّارُ نَظَرُوا إِلَى ابراهيم فإذا هو ورجل آخَرُ مَعَهُ، وَإِذَا رَأْسُ إِبْرَاهِيمَ فِي حِجْرِهِ يَمْسَحُ عَنْ وَجْهِهِ الْعَرَقَ، وَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ الرجل مَلَكُ الظِّلِّ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ نَارًا وَانْتَفَعَ بِهَا بَنُو آدَمَ، فَأَخْرَجُوا إِبْرَاهِيمَ، فَأَدْخَلُوهُ عَلَى الْمَلِكِ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: وَبَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَلَكَ الظِّلِّ فِي صُورَةِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَعَدَ فِيهَا إِلَى جَنْبِهِ يُؤْنِسُهُ، فَمَكَثَ نُمْرُودُ أَيَّامًا لا يَشُكُّ إِلا أَنَّ النَّارَ قَدْ أَكَلَتْ إِبْرَاهِيمَ وَفَرَغَتْ مِنْهُ، ثُمَّ رَكِبَ فَمَرَّ بِهَا وَهِيَ تَحْرِقُ مَا جَمَعُوا لَهَا مِنَ الْحَطَبِ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَرَأَى إِبْرَاهِيمَ جَالِسًا فِيهَا إِلَى جَنْبِهِ رَجُلٌ مِثْلُهُ، فَرَجَعَ مِنْ مَرْكَبِهِ ذَلِكَ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لَقَدْ رَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ حَيًّا فِي النَّارِ، وَلَقَدْ شُبِّهَ عَلَيَّ، ابْنُوا لِي صَرْحًا يُشْرِفُ بِي عَلَى النَّارِ حَتَّى أَسْتَثْبِتُ، فَبَنَوْا لَهْ صَرْحًا، فَأَشْرَفَ عَلَيْهِ فَاطَّلَعَ مِنْهُ إِلَى النَّارِ، فَرَأَى إِبْرَاهِيمَ جَالِسًا فِيهَا، وَرَأَى الْمَلَكَ قَاعِدًا إِلَى جَنْبِهِ فِي مِثْلِ صُورَتِهِ، فَنَادَاهُ نُمْرُودُ: يَا إِبْرَاهِيمُ، كَبِيرٌ إِلَهُكَ الَّذِي بَلَغَتْ قُدْرَتُهُ وَعِزَّتُهُ أَنْ حَالَ بَيْنَ مَا أَرَى وَبَيْنَكَ، حَتَّى لَمْ تَضُرَّكَ يَا إِبْرَاهِيمُ، هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا؟

قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: هَلْ تَخْشَى إِنْ أَقَمْتَ فِيهَا أَنْ تَضُرَّكَ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَقُمْ وَاخْرُجْ مِنْهَا، فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ يَمْشِي فِيهَا حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا، فَلَمَّا خَرَجَ إِلَيْهِ قَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ، مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي رَأَيْتُ مَعَكَ فِي مِثْلِ صُورَتِكَ قَاعِدًا إِلَى جَنْبِكَ؟ قَالَ: ذَلِكَ مَلَكُ الظِّلِّ، أَرْسَلَهُ إِلَيَّ رَبِّي لِيَكُونَ مَعِي فِيهَا لِيُؤْنِسَنِي، وَجَعَلَهَا عَلَيَّ بَرْدًا وَسَلامًا فَقَالَ نُمْرُودُ- فِيمَا حُدِّثْتُ-: يَا إِبْرَاهِيمُ، إِنِّي مُقَرِّبٌ إِلَى إِلَهِكَ قُرْبَانًا لِمَا رَأَيْتُ مِنْ عِزَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَلِمَا صَنَعَ بِكَ حِينَ أَبَيْتَ إِلا عِبَادَتَهُ وَتَوْحِيدِهِ، إِنِّي ذَابِحٌ لَهُ أَرْبَعَةَ آلافِ بَقَرَةٍ فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: إِذًا لا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْكَ مَا كُنْتَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ دِينِكَ هَذَا حَتَّى تُفَارِقَهُ إِلَى دِينِي! فَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ، لا أَسْتَطِيعُ تَرْكَ مُلْكِي، وَلَكِنِّي سَوْفَ أَذْبَحُهَا لَهُ، فَذَبَحَهَا نُمْرُودُ، ثُمَّ كَفَّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَمَنَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا جرير، عن مُغِيرَةَ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: إِنَّ أَحْسَنَ شَيْءٍ قَالَهُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ لَمَّا رُفِعَ عَنْهُ الطَّبَقُ وَهُوَ فِي النَّارِ وَحْدَهُ يَرْشَحُ جَبِينُهُ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: نِعْمَ الرَّبُّ رَبُّكَ يَا إِبْرَاهِيمُ. حَدَّثَنَا القاسم، قال: حَدَّثَنَا الحسين، قال: حَدَّثَنَا معتمر بن سليمان التيمي، عن بعض أصحابه قال: جاء جبرئيل الى ابراهيم ع وهو يوثق ويقمط ليلقى في النار، قال: يا إبراهيم، ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا. حَدَّثَنِي أحمد بن المقدام، قال: حَدَّثَنِي المعتمر، قال: سمعت أبي قال: حَدَّثَنَا قتادة، عن أبي سليمان، قال: ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه. قال أبو جعفر: رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق، قال: واستجاب لإبراهيم ع رجال من قومه حين رأوا ما صنع الله به على خوف من نمرود

وملئهم، فآمن له لوط- وكان ابن أخيه- وهو لوط بن هاران بن تارخ، وهاران هو أخو إبراهيم، وكان لهما أخ ثالث يقال له ناحور بن تارخ، فهاران أبو لوط، وناحور أبو بتويل، وبتويل أبو لابان، وربقا ابنة بتويل امرأة إسحاق بن إبراهيم أم يعقوب، وليا وراحيل زوجتا يعقوب ابنتا لابان وآمنت به سارة وهي ابنة عمه، وهي سارة بنت هاران الأكبر عم إبراهيم، وكانت لها أخت يقال لها ملكا امرأة ناحور. وقد قيل: إن سارة كانت ابنة ملك حران. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: انطلق إبراهيم ولوط قبل الشام، فلقي إبراهيم سارة، وهي ابنة ملك حران، وقد طعنت على قومها في دينهم، فتزوجها على ألا يغيرها، ودعا إبراهيم أباه آزر إلى دينه، فقال له: يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا! فأبى أبوه الإجابة إلى ما دعاه إليه. ثم إن إبراهيم ومن كان معه من أصحابه الذين اتبعوا أمره أجمعوا لفراق قومهم، فقالوا: «إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ» ، أيها المعبودون من دون الله «وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً» ايها العابدون «حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ» ثم خرج إبراهيم مهاجرا إلى ربه وخرج معه لوط مهاجرا، وتزوج سارة ابنة عمه، فخرج بها معه يلتمس الفرار بدينه، والأمان على عبادة ربه حتى نزل حران، فمكث بها ما شاء الله أن يمكث، ثم خرج منها مهاجرا حتى قدم مصر، وبها فرعون من الفراعنة الأولى وكانت سارة من أحسن الناس فيما يقال، وكانت لا تعصي ابراهيم

شيئا، وبذلك أكرمها الله عز وجل، فلما وصفت لفرعون ووصف له حسنها وجمالها أرسل إلى إبراهيم، فقال: ما هذه المرأة التي معك؟ قال: هي أختي، وتخوف إبراهيم إن قال هي امرأتي أن يقتله عنها فقال لإبراهيم: زينها، ثم أرسلها إلي حتى أنظر إليها، فرجع إبراهيم إلى سارة وأمرها فتهيأت، ثم أرسلها إليه، فأقبلت حتى دخلت عليه، فلما قعدت إليه تناولها بيده، فيبست إلى صدره، فلما رأى ذلك فرعون أعظم أمرها، وقال: ادعى الله ان يطلق عنى، فو الله لا اريبك ولاحسنن إليك، فقالت: اللهم إن كان صادقا فأطلق يده، فأطلق الله يده، فردها إلى إبراهيم، ووهب لها هاجر، جارية كانت له قبطية. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي هِشَامٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، [أَنَّ رسول الله ص: قال: لم يكذب ابراهيم ع غَيْرَ ثَلاثٍ: ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، قَوْلُهُ: «إِنِّي سَقِيمٌ» ، وقوله: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا» وَبَيْنَا هُوَ يَسِيرُ فِي أَرْضِ جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، إِذْ نَزَلَ مَنْزِلا، فَأَتَى الْجَبَّارَ رَجُلٌ فقال: ان في أرضك- او قال: هاهنا- رَجُلا مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَجَاءَ فَقَالَ: مَا هَذِهِ الْمَرْأَةُ مِنْكَ؟ قَالَ: هِيَ أُخْتِي،] قَالَ: اذْهَبْ فَأَرْسِلْ بِهَا إِلَيَّ، فَانْطَلَقَ إِلَى سَارَّةَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ قَدْ سَأَلَنِي عَنْكِ فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ أُخْتِي فلا تكذبيني عنده، فإنك أختي في كتاب اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الأَرْضِ مُسْلِمٌ غَيْرِي وغيرك، قال: فانطلق بها وقام ابراهيم ع يُصَلِّي قَالَ: فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ فَرَآهَا أَهْوَى إليها وذهب يَتَنَاوَلُهَا، فَأُخِذَ أَخْذًا شَدِيدًا، فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ ولا أَضُرُّكِ، فَدَعَتْ لَهُ فَأُرْسِلَ فَأَهْوَى إِلَيْهَا فَذَهَبَ يتناولها، فاخذ أخذ شديدا، فقال: ادعى الله ولا أَضُرُّكِ، فَدَعَتْ لَهُ فَأُرْسِلَ، ثُمَّ

فَعَلَ ذَلِكَ الثَّالِثَةَ، فَأُخِذَ، فَذَكَرَ مِثْلَ الْمَرَّتَيْنِ فأرسل قال: فَدَعَا أَدْنَى حُجَّابِهِ فَقَالَ: إِنَّكَ لَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ، وَلَكِنَّكَ أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ، أَخْرِجْهَا وَأَعْطِهَا هَاجَرَ، فَأُخْرِجَتْ وَأُعْطِيَتْ هَاجَرَ، فَأَقْبَلَتْ بِهَا، فَلَمَّا أَحَسَّ إِبْرَاهِيمُ بِمَجِيئِهَا انْفَتَلَ مِنْ صَلاتِهِ، فَقَالَ: مَهْيَمْ! فَقَالَتْ: كَفَى اللَّهُ كَيْدَ الْفَاجِرِ الْكَافِرِ! وَأَخْدَمَ هَاجَرَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِذَا حَدَّثَ هَذَا الْحَدِيثَ يَقُولُ: فَتِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: [سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص يَقُولُ: لَمْ يَقُلْ إِبْرَاهِيمُ شَيْئًا قَطُّ لَمْ يكن الا ثلاثا: قوله «إِنِّي سَقِيمٌ» لم يَكُنْ بِهِ سَقَمٌ، وَقَوْلُهُ: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ» ، وَقَوْلُهُ لِفِرْعَوْنَ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ سَارَّةَ فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ مَعَكَ؟ قَالَ: أُخْتِي، قَالَ: فما قال ابراهيم ع شَيْئًا قَطُّ لَمْ يَكُنْ إِلا ذَلِكَ] . حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الأُمَوِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابن إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: [قال رسول الله ص: لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلا فِي ثَلاثٍ،] ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي هِشَامٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، [أَنَّ رسول الله ص قَالَ: لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ غَيْرَ ثَلاثٍ: ثِنْتَيْنِ في ذات الله قوله: «إِنِّي سَقِيمٌ» ، وقوله: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا» ، وَقَوْلُهُ فِي سَارَّةَ: هِيَ أُخْتِي]

حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هريرة قال: ما كذب ابراهيم ع غير ثلاث كذبات: قوله: «إِنِّي سَقِيمٌ» ، وقوله: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا» ، وَإِنَّمَا قَالَهُ مَوْعِظَةً، وَقَوْلُهُ حِينَ سَأَلَهُ الْمَلِكُ فقال: أختي- لساره- وكانت امراته حدثنى يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكْذِبْ إِلا ثَلاثَ كَذِبَاتٍ: ثِنْتَانِ فِي اللَّهِ، وَوَاحِدَةٌ فِي ذَاتِ نَفْسِهِ، وَأَمَّا الثِّنْتَانِ فَقَوْلُهُ: «إِنِّي سَقِيمٌ» ، وقوله: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا» وَقِصَّتُهُ فِي سَارَّةَ وَذَكَرَ قِصَّتَهَا وَقِصَّةَ الْمَلِكِ قال أبو جعفر: رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: وَكَانَتْ هَاجَرُ جَارِيَةً ذَاتَ هَيْئَةٍ، فَوَهَبَتْهَا سَارَّةُ لإِبْرَاهِيمَ، وَقَالَتْ: إِنِّي أَرَاهَا امْرَأَةً وَضِيئَةً فَخُذْهَا، لَعَلَّ اللَّهَ يَرْزُقُكَ مِنْهَا وَلَدًا، وَكَانَتْ سَارَّةُ قَدْ مُنِعَتِ الْوَلَدَ فَلا تَلِدُ لإِبْرَاهِيمَ حَتَّى أَسَنَّتْ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ قَدْ دَعَا اللَّهَ أَنْ يَهَبَ لَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَأُخِّرَتِ الدَّعْوَةُ حَتَّى كَبُرَ إِبْرَاهِيمُ وَعَقِمَتْ سَارَّةُ، ثُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وقع على هاجر، فولدت له اسماعيل ع. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مالك الأنصاري، قال: [قال رسول الله ص: إِذَا فَتَحْتُمْ مِصْرَ فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا] . حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: سألت الزهري: ما الرحم التي ذكر رسول الله ص لهم؟ قال: كانت هاجر أم إسماعيل منهم فيزعمون- والله أعلم- أن سارة حزنت عند ذلك على ما فاتها من الولد حزنا شديدا، وقد كان إبراهيم خرج من مصر إلى الشام، وهاب ذلك الملك الذي كان بها، وأشفق من شره حتى قدمها، فنزل السبع من أرض فلسطين، وهي برية الشام، ونزل لوط بالمؤتفكة، وهي من

السبع على مسيرة يوم وليلة وأقرب من ذلك، فبعثه الله عز وجل نبيا، وأقام إبراهيم فيما ذكر لي بالسبع، فاحتفر به بئرا واتخذ به مسجدا، فكان ماء تلك البئر معينا طاهرا، فكانت غنمه تردها ثم إن أهلها آذوه فيها ببعض الأذى، فخرج منها حتى نزل بناحية من أرض فلسطين بين الرملة وإيليا، ببلد يقال له قَط- أو قِط- فلما خرج من بين أظهرهم نضب الماء فذهب. واتبعه أهل السبع، حتى أدركوه وندموا على ما صنعوا، وقالوا: أخرجنا من بين أظهرنا رجلا صالحا، فسألوه أن يرجع إليهم، فقال: ما أنا براجع إلى بلد أخرجت منه، قالوا له: فإن الماء الذي كنت تشرب منه ونشرب معك منه قد نضب فذهب، فأعطاهم سبع أعنز من غنمه، فقال: اذهبوا بها معكم، فإنكم لو قد أوردتموها البئر، قد ظهر الماء، حتى يكون معينا طاهرا كما كان، فاشربوا منها، فلا تغترفن منها امرأة حائض، فخرجوا بالأعنز، فلما وقفت على البئر ظهر إليها الماء، فكانوا يشربون منها وهي على ذلك، حتى أتت امرأة طامث، فاغترفت منها، فنكص ماؤها إلى الذي هو عليه اليوم، ثم ثبت. قال: وكان إبراهيم يضيف من نزل به، وكان الله عز وجل قد أوسع عليه، وبسط له في الرزق والمال والخدم، فلما أراد الله عز وجل هلاك قوم لوط، بعث إليه رسله يأمرونه بالخروج من بين أظهرهم، وكانوا قد عملوا من الفاحشة ما لم يسبقهم به أحد من العالمين، مع تكذيبهم نبيهم، وردهم عليه ما جاءهم به من النصيحة من ربهم، وأمرت الرسل أن ينزلوا على إبراهيم، وأن يبشروه وسارة بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، فلما نزلوا على إبراهيم وكان الضيف قد حبس عنه خمس عشرة ليلة حتى شق ذلك عليه- فيما يذكرون- لا يضيفه أحد، ولا يأتيه، فلما رآهم سر بهم رأى ضيفا لم يضفه مثلهم حسنا وجمالا، فقال: لا يخدم هؤلاء القوم أحد إلا أنا بيدي، فخرج إلى أهله، فجاء كما قال الله عز وجل: «بِعِجْلٍ سَمِينٍ» قد حنذه- والحناذ: الإنضاج يقول الله جل ثناؤه: «جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ» فقربه إليهم، فأمسكوا أيديهم

عنه، «فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً» حين لم يأكلوا من طعامه، «قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ» ساره «قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ» لما عرفت من أمر الله عز وجل، ولما تعلم من قوم لوط، فبشروها «بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ» بابن، وبابن ابن، فقالت- وصكت وجهها، يقال: ضربت على جبينها: «يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ» إلى قوله: «إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» وكانت سارة يومئذ- فيما ذكر لي بعض أهل العلم- ابنة تسعين سنة، وإبراهيم ابن عشرين ومائة سنة، فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى بإسحاق ويعقوب ولد من صلب إسحاق وأمن ما كان يخاف، قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ» . حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني وهب بن سليمان، عن شعيب الجبائي، قال: ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست عشرة سنة، وذبح إسحاق وهو ابن سبع سنين، وولدته سارة وهي ابنة تسعين سنة، وكان مذبحه من بيت إيليا على ميلين، فلما علمت سارة بما أراد بإسحاق مرضت يومين، وماتت اليوم الثالث، وقيل: ماتت سارة وهي ابنة مائة وسبع وعشرين سنة. حَدَّثَنِي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا

أسباط، عن السدي، قال: بعث الله الملائكة لتهلك قوم لوط، فأقبلت تمشي في صورة رجال شباب، حتى نزلوا على إبراهيم، فتضيفوه، فلما رآهم إبراهيم أجلهم، فراغ إلى أهله، فجاء بعجل سمين فذبحه، ثم شواه في الرضف وهو الحنيذ حين شواه، وأتاهم فقعد معهم، وقامت سارة تخدمهم، فذلك حين يقول جل ثناؤه: «وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ وَهُوَ جَالِسٌ» في قراءة ابن مسعود، فلما قربه إليهم قال: ألا تأكلون! قالوا: يا إبراهيم، إنا لا نأكل طعاما إلا بثمن، قال: فإن لهذا ثمنا، قالوا: وما ثمنه؟ قال: تذكرون اسم الله على أوله وتحمدونه على آخره، فنظر جبرئيل إلى ميكائيل، فقال: حق لهذا أن يتخذه ربه خليلا، «فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ» يقول: لا يأكلون، «نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً» ، فلما نظرت إليه سارة أنه قد أكرمهم وقامت هي تخدمهم ضحكت وقالت: عجبا لأضيافنا! هؤلاء إنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم، وهم لا يأكلون طعامنا!

ذكر امر بناء البيت

ذكر أمر بناء البيت . قال: ثم إن الله عز وجل أمر إبراهيم بعد ما ولد له إسماعيل وإسحاق- فيما ذكر- ببناء بيت له يعبد فيه، ويذكر فلم يدر إبراهيم في أي موضع يبني، إذ لم يكن بين له ذلك، فضاق بذلك ذرعا، فقال بعض أهل العلم: بعث الله إليه السكينة لتدله على موضع البيت، فمضت به السكينة، ومع إبراهيم هاجر زوجته وابنه إسماعيل، وهو طفل صغير. وقال بعضهم: بل بعث الله اليه جبرئيل ع، حتى دله على موضعه، وبين له ما ينبغي أن يعمل. ذكر من قال: الذي بعثه الله إليه لذلك السكينة: حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عَرْعَرَةَ: [أَنَّ رَجُلا قَامَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: أَلا تُخْبِرُنِي عَنِ الْبَيْتِ، أَهُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ؟ فَقَالَ: لا، وَلَكِنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ فِي الْبركَةِ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، وَإِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ كَيْفَ بُنِيَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْحَى إِلَى إِبْرَاهِيمَ أَنِ ابْنِ لِي بَيْتًا فِي الأَرْضِ، فَضَاقَ إِبْرَاهِيمُ بِذَلِكَ ذَرْعًا، فَأَرْسَلَ عَزَّ وَجَلَّ السَّكِينَةَ، وَهِيَ رِيحٌ خَجُوجٌ وَلَهَا رَأْسَانِ، فَاتَّبَعَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ حَتَّى انْتَهَتْ إِلَى مَكَّةَ فَتَطَوَّتْ عَلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ كَتَطَوِّي الْحَيَّةِ، وَأَمَرَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَبْنِي حَيْثُ تَسْتَقِرُّ السَّكِينَةُ، فَبَنَى إِبْرَاهِيمُ وَبَقِيَ حَجَرٌ، فَذَهَبَ الْغُلامُ يَبْنِي شيئا، فقال ابراهيم: أَبْغِنِي حَجَرًا كَمَا آمُرُكَ، فَانْطَلَقَ الْغُلامُ يَلْتَمِسُ لَهُ حَجَرًا، فَأَتَاهُ بِهِ، فَوَجَدَهُ قَدْ رَكَّبَ الْحَجَرَ الأَسْوَدَ فِي مَكَانِهِ، فَقَالَ: يَا أَبَتِ، مَنْ أَتَاكَ بِهَذَا الْحَجَرِ؟ فَقَالَ: أَتَانِي بِهِ مَنْ لَمْ يَتَّكِلْ عَلَى بِنَائِكَ، أَتَانِي بِهِ جبرئيل مِنَ السَّمَاءِ فَأَتَمَّاهُ]

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ وَابْنُ الْمُثَنَّى، قَالا: حَدَّثَنَا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، [عن على ع قَالَ: لَمَّا أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ خَرَجَ مَعَهُ إِسْمَاعِيلُ وَهَاجَرُ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ رَأَى عَلَى رَأْسِهِ فِي مَوْضِعِ الْبَيْتِ مِثْلَ الْغَمَامَةِ فِيهِ مِثْلُ الرَّأْسِ، فَكَلَّمَهُ، وَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ، ابْنِ عَلَى ظِلِّي- أَوْ عَلَى قَدْرِي- وَلا تَزِدْ وَلا تَنْقُصْ، فَلَمَّا بَنَى خَرَجَ وَخَلَفَ إِسْمَاعِيلَ وَهَاجَرَ، فَقَالَتْ هَاجَرُ: يَا إِبْرَاهِيمُ، إِلَى مَنْ تَكِلُنَا؟ قَالَ: إِلَى اللَّهِ، قَالَتِ: انْطَلِقْ فَإِنَّهُ لا يُضَيِّعُنَا، قَالَ: فَعَطِشَ إِسْمَاعِيلُ عَطَشًا شديدا، فصعدت هاجر الصَّفَا، فَنَظَرَتْ فَلَمْ تَرَ شَيْئًا، ثُمَّ أَتَتِ الْمَرْوَةَ فَنَظَرَتْ فَلَمْ تَرَ شَيْئًا، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى الصَّفَا، فَنَظَرَتْ فَلَمْ تَرَ شَيْئًا، حَتَّى فَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَقَالَتْ: يَا إِسْمَاعِيلُ، مُتْ حَيْثُ لا أَرَاكَ فَأَتَتْهُ وَهُوَ يَفْحَصُ بِرِجْلِهِ مِنَ الْعَطَشِ، فَنَادَاهَا جَبْرَائِيلُ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتِ؟ قَالَتْ: أَنَا هَاجَرُ، أُمُّ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: إِلَى مَنْ وَكَلَكُمَا؟ قَالَتْ: وَكَلَنَا إِلَى اللَّهِ، قَالَ: وَكَلَكُمَا إِلَى كَافٍ، قَالَ: فَفَحَصَ الْغُلامُ الأَرْضَ بِإِصْبَعِهِ، فَنَبَعَتْ زَمْزَمُ، فَجَعَلَتْ تَحْبِسُ الْمَاءَ، فَقَالَ: دَعِيهِ، فَإِنَّهَا رِوَاءٌ] . حَدَّثَنِي مُوسَى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: لَمَّا عهد الله إلى إبراهيم وإسماعيل: أن طهرا بيتي للطائفين، انطلق إبراهيم حتى أتى مكة، فقام هو واسماعيل، وأخذ المعاول لا يدريان أين البيت، فبعث الله عز وجل ريحا يقال لها ريح الخجوج لها جناحان ورأس في صورة حية، فكنست لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول، واتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا الأساس، فذلك حين يقول عز وجل: «وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ»

وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حدثني محمد بن إسحاق، عن الحسن بن عُمَارَةَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ خَالِدِ بن عرعرة، [عن على ابن ابى طالب ع أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ بِعِمَارَةِ الْبَيْتِ وَالأَذَانِ بِالْحَجِّ فِي النَّاسِ خَرَجَ مِنَ الشَّامِ وَمَعَهُ ابْنُهُ إِسْمَاعِيلُ، وَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ هاجر، وبعث الله معه السكينة، وهي رِيحٌ لَهَا لِسَانٌ تَكَلَّمُ بِهِ، يَغْدُو مَعَهَا إِبْرَاهِيمُ إِذَا غَدَتْ، وَيَرُوحُ مَعَهَا إِذَا رَاحَتْ، حَتَّى انْتَهَتْ بِهِ إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا أَتَتْ مَوْضِعَ الْبَيْتِ اسْتَدَارَتْ بِهِ، ثُمَّ قَالَتْ لإِبْرَاهِيمَ: ابْنِ عَلَيَّ، ابْنِ عَلَيَّ، ابْنِ عَلَيَّ، فَوَضَعَ إِبْرَاهِيمُ الأَسَاسَ وَرَفَعَ الْبَيْتَ هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ، حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى مَوْضِعِ الرُّكْنِ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ لإِسْمَاعِيلَ: يَا بُنَيَّ، ابْغِ لِي حَجَرًا أَجْعَلُهُ عَلَمًا لِلنَّاسِ، فَجَاءَهُ بِحَجَرٍ، فَلَمْ يَرْضَهُ وَقَالَ: ابْغِنِي غَيْرَ هَذَا، فَذَهَبَ إِسْمَاعِيلُ لِيَلْتَمِسَ لَهُ حَجَرًا، فَجَاءَهُ وَقَدْ أُتِيَ بِالرُّكْنِ، فَوَضَعَهُ فِي مَوْضِعِهِ، فَقَالَ: يَا أَبَتِ، مَنْ جَاءَكَ بِهَذَا الْحَجَرِ؟ قَالَ: مَنْ لَمْ يَكِلْنِي إِلَيْكَ يَا بُنَيَّ] . وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ الَّذِي خَرَجَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ من الشام لدلالته على موضع البيت جبرئيل ع، وَقَالُوا: كَانَ إِخْرَاجُهُ هَاجَرَ وَإِسْمَاعِيلَ إِلَى مَكَّةَ لِمَا كَانَ مِنْ غَيْرَةِ سَارَّةَ بِسَبَبِ وِلادَةِ هَاجَرَ مِنْهُ إِسْمَاعِيلَ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي بالإسناد الذي قد ذكرناه أن سارة قالت لإبراهيم: تسر هاجر، فقد أذنت لك فوطئها، فحملت بإسماعيل، ثم إنه وقع على سارة فحملت بإسحاق، فلما ولدته وكبر اقتتل هو وإسماعيل، فغضبت سارة

على أم إسماعيل، وغارت عليها، فأخرجتها، ثم إنها دعتها فأدخلتها ثم غضبت أيضا فأخرجتها ثم أدخلتها، وحلفت لتقطعن منها بضعة، فقالت: أقطع أنفها، أقطع أذنها، فيشينها ذلك، ثم قالت: لا بل أخفضها، فقطعت ذلك منها، فاتخذت هاجر عند ذلك ذيلا تعفي به عن الدم، فلذلك خفضت النساء، واتخذت ذيولا، ثم قالت: لا تساكني في بلد وأوحى الله إلى إبراهيم أن يأتي مكة، وليس يومئذ بمكة بيت، فذهب بها إلى مكة وابنها فوضعهما، وقالت له هاجر: إلى من تركتنا هاهنا؟ ثم ذكر خبرها، وخبر ابنها. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حَدَّثَنَا عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد وغيره من أهل العلم أن الله عز وجل لما بوأ لإبراهيم مكان البيت ومعالم الحرم، فخرج وخرج معه جبرئيل، يقال: كان لا يمر بقرية إلا قال: بهذه امرت يا جبرئيل: فيقول: جبرئيل: امضه، حتى قدم به مكة، وهي إذ ذاك عصاه سلم وسمر، وبها أناس يقال لهم العماليق، خارج مكة وما حولها، والبيت يومئذ ربوة حمراء مدره، فقال ابراهيم لجبرئيل: اهاهنا أمرت أن أضعهما؟ قال: نعم، فعمد بهما إلى موضع الحجر، فأنزلهما فيه، وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشا فقال: «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ» إلى- «لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» ثم انصرف إلى أهله بالشام وتركهما عند البيت، قال: فظمئ إسماعيل ظمأ شديدا، فالتمست له أمه ماء فلم تجده، فاستسمعت: هل تسمع صوتا؟ لتلتمس له شرابا، فسمعت كالصوت عند الصفا، فأقبلت حتى قامت عليه فلم تر شيئا، ثم سمعت صوتا نحو المروة،

فأقبلت حتى قامت عليه فلم تر شيئا، ويقال: بل قامت على الصفا تدعو الله وتستغيثه لإسماعيل، ثم عمدت إلى المروة ففعلت ذلك ثم إنها سمعت أصوات سباع الوادي نحو إسماعيل حيث تركته، فأقبلت إليه تشتد، فوجدته يفحص الماء بيده من عين قد انفجرت من تحت يده، فشرب منها، وجاءتها أم إسماعيل فجعلتها حسيا، ثم استقت منها في قربتها تذخره لإسماعيل، فلولا الذي فعلت ما زالت زمزم معينا طاهرا ماؤها أبدا قال مجاهد: ولم نزل نسمع أن زمزم هزمه جبرئيل بعقبه لإسماعيل حين ظمئ حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ، قَالَ: نُبِّئْتُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ حَدَّثَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ، وَأَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَ مِنْ نِسَاءِ الْعَرَبِ جَرَّ الذُّيُولِ لَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: لَمَّا فَرَّتْ مِنْ سَارَةَ أَرْخَتْ ذَيْلَهَا لِتُعْفِيَ أَثَرَهَا، فَجَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَمَعَهَا إِسْمَاعِيلُ حَتَّى انْتَهَى بِهِمَا إِلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ، فَوَضَعَهُمَا ثُمَّ رَجَعَ، فَاتَّبَعَتْهُ فَقَالَتْ: إِلَى أَيِّ شَيْءٍ تَكِلُنَا؟ إِلَى طَعَامٍ تَكِلُنَا؟ إِلَى شَرَابٍ تَكِلُنَا؟ لا يَرُدُّ عَلَيْهَا شَيْئًا، فَقَالَتْ: آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِذًا لا يُضَيِّعُنَا، قَالَ: فَرَجَعَتْ وَمَضَى حَتَّى إِذَا اسْتَوَى عَلَى ثَنِيَّةِ كُدَاءٍ، أَقْبَلَ عَلَى الْوَادِي فَقَالَ: «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ» الآيَةَ قَالَ: وَمَعَ الإِنْسَانَةِ شَنَّةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَنَفِذَ الْمَاءُ، فَعَطِشَتْ فَانْقَطَعَ لَبَنُهَا، فَعَطِشَ الصَّبِيُّ فَنَظَرَتْ: أَيُّ الْجِبَالِ أَدْنَى إِلَى الأَرْضِ، فَصَعِدَتِ الصَّفَا فَتَسَمَّعَتْ: هَلْ تَسْمَعُ صَوْتًا، أَوْ تَرَى أَنِيسًا؟ فَلَمْ تَسْمَعْ شَيْئًا فَانْحَدَرَتْ، فَلَمَّا

أَتَتْ عَلَى الْوَادِي سَعَتْ- وَمَا تُرِيدُ السَّعْيَ- كَالإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ الَّذِي يَسْعَى وَمَا يُرِيدُ السَّعْيَ، فَنَظَرَتْ أَيُّ الْجِبَالِ أَدْنَى إِلَى الأَرْضِ، فَصَعِدَتِ الْمَرْوَةَ، فَتَسَمَّعَتْ: هَلْ تَسْمَعُ صَوْتًا أَوْ تَرَى أَنِيسًا؟ فَسَمِعَتْ صَوْتًا، فَقَالَتْ كَالإِنْسَانِ الَّذِي يُكَذِّبُ سَمِعَهُ: صَهٍ! حَتَّى اسْتَيْقَنَتْ، فَقَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَنِي صَوْتَكَ فَأَغِثْنِي، فَقَدْ هَلَكْتُ وَهَلَكَ مَنْ مَعِي، فَجَاءَ الْمَلَكُ بِهَا حَتَّى انْتَهَى بِهَا إِلَى مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَضَرَبَ بِقَدَمِهِ فَفَارَتْ عَيْنًا، فَعَجِلَتِ الإِنْسَانَةُ تُفْرِغُ فِي شَنَّتِهَا، [فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: رَحِمَ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْلا أَنَّهَا عَجَّلَتْ لَكَانَتْ زَمْزَمَ عَيْنًا مَعِينًا] . وَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ: لا تَخَافِي الظَّمَأَ عَلَى أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ، فإنها عين يشرب ضيفان الله منها، وَقَالَ: إِنَّ أَبَا هَذَا الْغُلامِ سَيَجِيءُ فَيَبْنِيَانِ لِلَّهِ بَيْتًا هَذَا مَوْضِعُهُ. قَالَ: وَمَرَّتْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمَ تُرِيدُ الشَّامَ، فَرَأَوُا الطَّيْرَ عَلَى الْجَبَلِ، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الطَّيْرَ لَعَائِفٌ عَلَى مَاءٍ، فَهَلْ عَلِمْتُمْ بِهَذَا الْوَادِي مِنْ مَاءٍ؟ فَقَالُوا: لا، فَأَشْرَفُوا فَإِذَا هُمْ بِالإِنْسَانَةِ، فَأَتَوْهَا فَطَلَبُوا إِلَيْهَا أَنْ يَنْزِلُوا مَعَهَا، فَأَذِنَتْ لَهُمْ، قَالَ: وَأَتَى عَلَيْهَا مَا يَأْتِي عَلَى هَؤُلاءِ النَّاسِ مِنَ الْمَوْتِ، فَمَاتَتْ وَتَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ امْرَأَةً مِنْهُمْ، فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ فَسَأَلَ عَنْ مَنْزِلِ إِسْمَاعِيلَ حَتَّى دُلَّ عَلَيْهِ فَلَمْ يَجِدْهُ، وَوَجَدَ امْرَأَةً لَهُ فَظَّةً غَلِيظَةً، فَقَالَ لَهَا: إِذَا جَاءَ زوجك فقولي له: جاء هاهنا شَيْخٌ مِنْ صِفَتِهِ كَذَا وَكَذَا، وَإِنَّهُ يَقُولُ لَكَ: إِنِّي لا أَرْضَى لَكَ عَتَبَةَ بَابِكَ فحولها، وانطلق فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ أَخْبَرَتْهُ فَقَالَ: ذَلِكَ أَبِي، وَأَنْتِ عَتَبَةُ بَابِي فَطَلَّقَهَا، وَتَزَوَّجَ امْرَأَةً أُخْرَى منهم، وجاء ابراهيم حتى

انْتَهَى إِلَى مَنْزِلِ إِسْمَاعِيلَ فَلَمْ يَجِدْهُ وَوَجَدَ امْرَأَةً لَهُ سَهْلَةً طَلِيقَةً فَقَالَ لَهَا: أَيْنَ انْطَلَقَ زَوْجُكِ؟ فَقَالَتِ: انْطَلَقَ إِلَى الصَّيْدِ، قَالَ: فَمَا طَعَامُكُمْ؟ قَالَتِ: اللَّحْمُ وَالْمَاءُ، قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي لَحْمِهِمْ وَمَائِهِمْ، ثَلاثًا وَقَالَ لها: إذا جاء زوجك فاخبريه، قولي له جاء هاهنا شَيْخٌ مِنْ صِفَتِهِ كَذَا وَكَذَا، وَإِنَّهُ يَقُولُ لَكَ: قَدْ رَضِيتُ لَكَ عَتَبَةَ بَابِكَ، فَأَثْبِتْهَا، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ أَخْبَرَتْهُ، قَالَ: ثُمَّ جَاءَ الثَّالِثَةَ، فَرَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بن السائب، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ إِبْرَاهِيمُ نَبِيُّ اللَّهِ بِإِسْمَاعِيلَ وَهَاجَرَ فَوَضَعَهُمَا بِمَكَّةَ فِي مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فلما مضى نادته هاجر: يا ابراهيم، انما أَسْأَلُكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ: مَنْ أَمَرَكَ أَنْ تَضَعَنِي بِأَرْضٍ لَيْسَ فِيهَا زَرْعٌ وَلا ضَرْعٌ وَلا أَنِيسٌ وَلا مَاءٌ وَلا زَادٌ؟ قَالَ: رَبِّي أَمَرَنِي، قَالَتْ: فَإِنَّهُ لَنْ يُضَيِّعَنَا، قَالَ: فَلَمَّا قَفَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ: «رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَما نُعْلِنُ» يَعْنِي مِنَ الْحُزْنِ «وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ» فَلَمَّا ظَمِئَ إِسْمَاعِيلُ جَعَلَ يَدْحَصُ الأَرْضَ بِعَقِبِهِ فَذَهَبَتْ هَاجَرُ حَتَّى عَلَتِ الصَّفَا، وَالْوَادِي يَوْمَئِذٍ لأخ- يعنى عمبق- فَصَعِدَتِ الصَّفَا، فَأَشْرَفَتْ لِتَنْظُرَ: هَلْ تَرَى شَيْئًا؟ فَلَمْ تَرَ شَيْئًا، فَانْحَدَرَتْ فَبَلَغَتِ الْوَادِي، فَسَعَتْ فِيهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْهُ، فَأَتَتِ الْمَرْوَةَ فَصَعِدَتْ فَاسْتَشْرَفَتْ: هَلْ تَرَى شَيْئًا؟ فَلَمْ تَرَ شَيْئًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ جَاءَتْ مِنَ الْمَرْوَةِ إِلَى إِسْمَاعِيلَ، وَهُوَ يَدْحَصُ الأَرْضَ بِعَقِبِهِ، وَقَدْ نَبَعَتِ الْعَيْنُ

وَهِيَ زَمْزَمُ، فَجَعَلَتْ تَفْحَصُ الأَرْضَ بِيَدِهَا عَنِ الْمَاءِ، وَكُلَّمَا اجْتَمَعَ مَاءٌ أَخَذَتْهُ بِقَدَحِهَا، فَأَفْرَغَتْهُ في سقائها، قال: [فقال النبي ص: يَرْحَمُهَا اللَّهُ! لَوْ تَرَكَتْهَا لَكَانَتْ عَيْنًا سَائِحَةً تَجْرِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ] . قَالَ: وَكَانَتْ جُرْهُمُ يَوْمَئِذٍ بِوَادٍ قَرِيبٍ مِنْ مَكَّةَ، قَالَ: وَلَزِمَتِ الطَّيْرُ الْوَادِي حِينَ رَأَتِ الْمَاءَ، فَلَمَّا رَأَتْ جُرْهُمُ الطَّيْرَ لَزِمَتِ الْوَادِي، قَالُوا مَا لَزِمَتْهُ إِلا وَفِيهِ مَاءٌ، فَجَاءُوا إِلَى هَاجَرَ، فَقَالُوا: لو شئت كنا معك وآنسناك والماء ماؤك، قَالَتْ: نَعَمْ! فَكَانُوا مَعَهَا حَتَّى شَبَّ إِسْمَاعِيلُ وَمَاتَتْ هَاجَرُ، فَتَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ امْرَأَةً مِنْ جُرْهُمَ، قَالَ: فَاسْتَأْذَنَ إِبْرَاهِيمُ سَارَّةَ أَنْ يَأْتِيَ هَاجَرَ، فأذنت له، وشرطت عليه الا يَنْزِلَ، وَقَدِمَ إِبْرَاهِيمُ- وَقَدْ مَاتَتْ هَاجَرُ- إِلَى بَيْتِ إِسْمَاعِيلَ، فَقَالَ لامْرَأَتِهِ: أَيْنَ صَاحِبُكِ؟ قَالَتْ: ليس هاهنا، ذَهَبَ يَتَصَيَّدُ، وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ يَخْرُجُ مِنَ الْحَرَمِ فَيَتَصَيَّدُ ثُمَّ يَرْجِعُ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: هَلْ عِنْدَكِ ضِيَافَةٌ؟ هَلْ عِنْدَكِ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ؟ قَالَتْ: لَيْسَ عِنْدِي وَمَا عِنْدِي أَحَدٌ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَأَقْرِئِيهِ السَّلامَ، وَقُولِي لَهُ: فَلْيُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ، وَذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ وَجَاءَ إِسْمَاعِيلُ، فَوَجَدَ رِيحَ أَبِيهِ فَقَالَ لامْرَأَتِهِ: هَلْ جَاءَكِ أَحَدٌ؟ قَالَتْ: جَاءَنِي شَيْخٌ صِفَتُهُ كَذَا- وَكَذَا كَالْمُسْتَخِفَّةِ بِشَأْنِهِ- قَالَ: فَمَا قَالَ لَكِ؟ قَالَتْ: قَالَ لِي: أَقْرِئِي زَوْجَكِ السَّلامَ، وَقُولِي لَهُ: فَلْيُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَطَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَ أُخْرَى، فَلَبِثَ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَلْبَثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ سَارَّةَ أَنْ يَزُورَ إِسْمَاعِيلَ، فَأَذِنَتْ لَهُ وَاشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ أَلا يَنْزِلَ، فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَابِ إِسْمَاعِيلَ، فَقَالَ لامْرَأَتِهِ: أَيْنَ صَاحِبُكِ؟ قَالَتْ: ذَهَبَ يَتَصَيَّدُ وَهُوَ يَجِيءُ الآنَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَانْزِلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ! قَالَ لَهَا: هَلْ عِنْدَكِ ضِيَافَةٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: هَلْ عِنْدَكِ خُبْزٌ أَوْ بُرٌّ أَوْ شَعِيرٌ أَوْ تَمْرٌ؟ قَالَ: فَجَاءَتْ بِاللَّبَنِ وَاللَّحْمِ، فَدَعَا لَهُمَا بِالْبَرَكَةِ، فَلَوْ جَاءَتْ يَوْمَئِذٍ بِخُبْزٍ

او بر او شعير او تمر لكانت اكثر ارض الله برا وشعيرا وتمرا، فَقَالَتِ: انْزِلْ حَتَّى أَغْسِلَ رَأْسَكَ، فَلَمْ يَنْزِلْ، فَجَاءَتْهُ بِالْمَقَامِ فَوَضَعَتْهُ عَنْ شِقِّهِ الأَيْمَنِ، فَوَضَعَ قَدَمَهُ عَلَيْهِ فَبَقِيَ أَثَرُ قَدَمِهِ عَلَيْهِ، فَغَسَلَتْ شِقَّ رَأْسِهِ الأَيْمَنَ، ثُمَّ حَوَّلَتِ الْمَقَامَ إِلَى شقه الأيسر، فغسلت شِقِّهِ الأَيْسَرِ، فَقَالَ لَهَا: إِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَأَقْرِئِيهِ السَّلامَ، وَقُولِي لَهُ: قَدِ اسْتَقَامَتْ عَتَبَةُ بَابِكَ فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ وَجَدَ رِيحَ أَبِيهِ، فَقَالَ لامْرَأَتِهِ: هَلْ جَاءَكِ أَحَدٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، شَيْخٌ أَحْسَنُ النَّاسِ وَجْهًا وَأَطْيَبَهُمْ رِيحًا، فَقَالَ لِي: كَذَا وَكَذَا، وَقُلْتُ لَهُ: كَذَا وَكَذَا، وَغَسَلْتُ رَأْسَهُ، وَهَذَا مَوْضِعُ قَدَمَيْهِ عَلَى الْمَقَامِ، قَالَ: وَمَا قَالَ لَكِ؟ قَالَتْ: قَالَ لِي: إِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَأَقْرِئِيهِ السَّلامَ، وَقُولِي لَهُ: قَدِ اسْتَقَامَتْ عَتَبَةُ بَابِكَ، قَالَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ، فَلَبِثَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَلْبَثَ وَأَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ، فَبَنَاهُ هُوَ واسماعيل، فلما بنياه قيل: «أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ» ، فجعل لا يمر بقوم الا قال: يا ايها النَّاسُ، إِنَّهُ قَدْ بُنِيَ لَكُمْ بَيْتٌ فَحُجُّوهُ، فَجَعَلَ لا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ، لا صَخْرَةٌ وَلا شَجَرَةٌ وَلا شَيْءٌ إِلا قَالَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لبيك قال: وَكَانَ بَيْنَ قَوْلِهِ: «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ» ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ» كَذَا وَكَذَا عَامًا، لَمْ يَحْفَظْ عَطَاءٌ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ أَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ: سَمِعْتُ كَثِيرَ بْنَ كَثِيرٍ يُحَدِّثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ- يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ- فَوَجَدَ إِسْمَاعِيلَ يُصْلِحُ نَبْلا لَهُ مِنْ وَرَاءِ زَمْزَمَ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: يَا إِسْمَاعِيلُ، إِنَّ رَبَّكَ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا، فَقَالَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ: فَأَطِعْ رَبَّكَ فِيمَا أَمَرَكَ، فَقَالَ ابراهيم:

قَدْ أَمَرَكَ أَنْ تُعِينَنِي عَلَيْهِ قَالَ: إِذًا أَفْعَلُ، قَالَ: فَقَامَ مَعَهُ، فَجَعَلَ إِبْرَاهِيمُ يَبْنِيهِ وَإِسمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَيَقُولانِ: «رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» ، فَلَمَّا ارْتَفَعَ الْبُنْيَانُ وَضَعُفَ الشَّيْخُ عَنْ رَفْعِ الْحِجَارَةِ قَامَ عَلَى حَجَرٍ، وَهُوَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، فَجَعَلَ يُنَاوِلُهُ وَيَقُولانِ: «تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» . فَلَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِبِنَائِهِ، أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ، فَقَالَ لَهُ: «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ- فِيمَا ذَكَرَ لَنَا- مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ، قِيلَ لَهُ: أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ، قَالَ: يَا رَبِّ، وَمَا يَبْلُغُ صَوْتِي؟ قال: اذن وعلى البلاغ، فنادى ابراهيم: يا ايها النَّاسُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، قَالَ: فَسَمِعَهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ: أَفَلا تَرَى النَّاسَ يَجِيئُونَ مِنْ أَقْصَى الأَرْضِ يُلَبُّونَ! حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ الضَّبِّيُّ، عَنْ عَطَاءِ بن السائب، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا بَنَى إِبْرَاهِيمُ الْبَيْتَ أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ: أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ، قَالَ: فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: أَلا إِنَّ رَبَّكُمْ قَدِ اتَّخَذَ بَيْتًا، وَأَمَرَكُمْ أَنْ تَحُجُّوهُ، فَاسْتَجَابَ لَهُ مَا سَمِعَهُ مِنْ شَيْءٍ، مِنْ حَجَرٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ أَكَمَةٍ أَوْ تُرَابٍ أَوْ شَيْءٍ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ! حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ واضح، قال: حدثنا الحسين ابن وَاقِدٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ» ، قال: قام ابراهيم ع خليل الله على الحجر فنادى:

يا ايها النَّاسُ، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَأَسْمَعَ مَنْ فِي أَصْلابِ الرِّجَالِ وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ، فَأَجَابَهُ مَنْ آمَنَ مِمَّنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنْ يَحُجَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ! حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سفيان، عن سلمة، عن مجاهد، قال: قيل لإبراهيم: أذن في الناس بالحج، فقال: يا رب، كيف أقول؟ قال: قل: لبيك اللهم لبيك، قال: فكانت أول التلبية. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عمر ابن عبد الله بن عروة، أن عبد الله بن الزبير قال لعبيد بن عمير الليثي: كيف بلغك أن إبراهيم دعا إلى الحج؟ قال: بلغني أنه لما رفع هو وإسماعيل قواعد البيت، وانتهى إلى ما أراد الله من ذلك، وحضر الحج استقبل اليمن، فدعا إلى الله وإلى حج بيته فأجيب: أن لبيك اللهم لبيك! ثم استقبل المشرق فدعا إلى الله وإلى حج بيته فأجيب: أن لبيك اللهم! ثم إلى المغرب فدعا إلى الله وإلى حج بيته، فأجيب: أن لبيك اللهم لبيك! ثم إلى الشام فدعا إلى الله عز وجل وإلى حج بيته فأجيب أن لبيك اللهم لبيك، ثم خرج بإسماعيل وهو معه يوم التروية، فنزل به منى ومن معه من المسلمين، فصلى بهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، ثم بات بهم حتى أصبح، فصلى بهم صلاة الفجر، ثم غدا بهم إلى عرفة، فقال بهم هنالك، حتى إذا مالت الشمس جمع بين الصلاتين: الظهر والعصر، ثم راح بهم إلى الموقف من عرفة، فوقف بهم على الأراك، وهو الموقف من عرفة الذي يقف عليه الإمام يريه ويعلمه، فلما غربت الشمس دفع به وبمن معه حتى أتى المزدلفة، فجمع فيها بين الصلاتين: المغرب والعشاء الآخرة، ثم بات بها وبمن معه، حتى إذا طلع الفجر صلى بهم صلاة الغداة، ثم وقف به على قزح من المزدلفة فيمن معه، وهو الموقف

الذي يقف به الإمام حتى إذا أسفر دفع به وبمن معه يريه ويعلمه كيف يصنع، حتى رمى الجمرة الكبرى، وأراه المنحر من منى، ثم نحر وحلق، ثم أفاض به من منى ليريه كيف يطوف، ثم عاد به إلى منى ليريه كيف يرمي الجمار، حتى فرغ له من الحج وأذن به في الناس. قال أبو جعفر: وقد روى عن رسول الله ص وعن بعض اصحابه ان جبرئيل هو الذي كان يري إبراهيم المناسك إذا حج ذكر الرواية بذلك عن رسول الله: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ موسى- وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الأَحْمَسِيُّ، قال: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى- قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي لَيْلَى، عَنِ ابْنِ أَبِي مليكة، عن عبد الله بن عمرو، [عن النبي ص قال: اتى جبرئيل إِبْرَاهِيمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَرَاحَ بِهِ إِلَى مِنًى، فَصَلَّى بِهِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ الآخِرَةَ وَالْفَجْرَ بِمِنًى، ثُمَّ غَدَا بِهِ إِلَى عَرَفَاتٍ، فَأَنْزَلَهُ الأَرَاكَ- أَوْ حَيْثُ يَنْزِلُ النَّاسُ- فَصَلَّى بِهِ الصَّلاتَيْنِ جَمِيعًا: الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، ثُمَّ وَقَفَ بِهِ حَتَّى إِذَا كَانَ كَأَعْجَلِ مَا يُصَلِّي أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ الْمَغْرِبَ، أَفَاضَ حَتَّى أَتَى بِهِ جَمْعًا، فَصَلَّى بِهِ الصَّلاتَيْنِ جَمِيعًا: الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، ثُمَّ أَقَامَ حَتَّى إِذَا كَانَ كَأَعْجَلِ مَا يُصَلِّي أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ الْفَجْرَ صَلَّى بِهِ، ثُمَّ وَقَفَ حَتَّى إِذَا كَانَ كَأَبْطَأ مَا يُصَلِّي أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْفَجْرَ أَفَاضَ بِهِ إِلَى مِنًى، فَرَمَى الْجَمْرَةَ، ثُمَّ ذَبَحَ وَحَلَقَ، ثُمَّ أَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ، ثُمَّ أَوْحَى الله عز وجل الى محمد ص: «أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ] » . حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ص نحوه

ثم إن الله تعالى ذكره ابتلى خليله ابراهيم ع بذبح ابنه. واختلف السلف من علماء أمة نبينا ص في الذي أمر إبراهيم بذبحه من ابنيه، فقال بعضهم: هو إسحاق بن إبراهيم، وقال بعضهم: هو إسماعيل بن إبراهيم، وقد روي عن رسول الله ص كلا القولين، لو كان فيهما صحيح لم نعده إلى غيره، غير أن الدليل من القرآن على صحة الرواية التي رويت عنه ص أنه قال: هو إسحاق أوضح وأبين منه على صحة الأخرى. والرواية التي رويت عنه أنه قال: هو إسحاق حَدَّثَنَا بِهَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، عَنِ الحسن بن دينار، عن علي بن زيد بْنِ جُدْعَانَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، عَنِ [النبي ص فِي حَدِيثٍ ذُكِرَ فِيهِ: «وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» قَالَ: هُوَ إِسْحَاقُ] . وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْخَبَرُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ أَصْلَحَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، غَيْرَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعَبَّاسِ غَيْرُ مرفوع الى رسول الله ص. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ مُبَارَكٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ بن عبد المطلب: «وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» قَالَ: هُوَ إِسْحَاقُ وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْهُ أَنَّهُ هُوَ إِسْمَاعِيلُ، فَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارٍ الرَّازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ أَبِي كَرِيمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْخَطَّابِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعُتْبِيِّ مِنْ وَلَدِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ الصُّنَابِحِيِّ، قَالَ: كُنَّا عند معاويه

ابن أَبِي سُفْيَانَ، فَذَكَرُوا الذَّبِيحَ: إِسْمَاعِيلَ أَوْ إِسْحَاقَ؟ فَقَالَ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتُمْ، كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ الله ص، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عُدَّ على مما أفاء الله عليك يا بن الذبيحين، فضحك رسول الله ص، فَقِيلَ لَهُ: [وَمَا الذَّبِيحَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ لَمَّا أَمَرَ بِحَفْرِ زَمْزَمَ نَذَرَ لِلَّهِ: لِئَنْ سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهَا لَيَذْبَحَنَّ أَحَدَ وَلَدِهِ، قَالَ: فَخَرَجَ السَّهْمُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَمَنَعَهُ أَخْوَالُهُ وَقَالُوا: افْدِ ابْنَكَ بِمِائَةٍ مِنَ الإِبِلِ، فَفَدَاهُ بِمِائَةٍ مِنَ الإِبِلِ وَإِسْمَاعِيلُ الثَّانِي] . وَنَذْكُرُ الآنَ مَنْ قَالَ مِنَ السَّلَفِ إِنَّهُ إِسْحَاقُ، وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ إِسْمَاعِيلُ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ هُوَ إِسْحَاقُ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ مُبَارَكٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: «وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عظيم» قَالَ: هُوَ إِسْحَاقُ. حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ يَزِيدَ الطَّحَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ دَاوُدَ ابن أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: الَّذِي أُمِرَ بِذَبْحِهِ إِبْرَاهِيمُ هُوَ إِسْحَاقُ. حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن دَاوُدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الذَّبِيحُ هُوَ إِسْحَاقُ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» قَالَ: هُوَ إِسْحَاقُ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جعفر، قال: حدثنا شعبة، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، قَالَ: افْتَخَرَ رَجُلٌ عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: أَنَا فُلانُ ابْنُ فُلانِ ابْنِ الأَشْيَاخِ الْكِرَامِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ذَاكَ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إسحاق، ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا إبراهيم بن المختار، قال: حدثنا محمد ابن إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ الْعَلاءِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ كَعْبٍ، فِي قَوْلِهِ: «وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» قَالَ: مِنَ ابْنِهِ إِسْحَاقَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الله بن أبي بكر، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْعَلاءِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيِّ، حَلِيفِ بَنِي زُهْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ كَعْبِ الأَحْبَارِ، أَنَّ الَّذِي أُمِرَ بِذَبْحِهِ إِبْرَاهِيمُ مِنَ ابْنَيْهِ إِسْحَاقَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ أُسَيْدِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيَّ، أَخْبَرَهُ أَنَّ كَعْبًا قَالَ لأَبِي هُرَيْرَةَ: أَلا أُخْبِرُكَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ النَّبِيِّ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: بَلَى، قَالَ كَعْبٌ: لَمَّا أُرِيَ إِبْرَاهِيمُ ذَبْحَ إِسْحَاقَ، قَالَ الشَّيْطَانُ: وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ أَفْتِنْ عِنْدَ هَذَا آلَ إِبْرَاهِيمَ لا أَفْتِنْ أَحَدًا مِنْهُمْ أَبَدًا، فَتَمَثَّلَ الشَّيْطَانُ لَهُمْ رَجُلا يَعْرِفُونَهُ، فَأَقْبَلَ حَتَّى إِذَا خَرَجَ إِبْرَاهِيمُ بِإِسْحَاقَ لِيَذْبَحَهُ دَخَلَ عَلَى سَارَّةَ امْرَأَةِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لَهَا: أَيْنَ أَصْبَحَ إِبْرَاهِيمُ غَادِيًا بِإِسْحَاقَ؟ قَالَتْ: غَدَا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لا وَاللَّهِ مَا لِذَلِكَ غَدَا بِهِ، قَالَتْ سَارَّةُ: فَلِمَ غَدَا بِهِ؟ قَالَ: غَدَا بِهِ لِيَذْبَحَهُ، قَالَتْ سَارَّةُ: لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، لَمْ يَكُنْ لِيَذْبَحَ ابْنَهُ، قَالَ الشَّيْطَانُ: بَلَى وَاللَّهِ، قَالَتْ سَارَّةُ: فَلِمَ يَذْبَحُهُ؟ قَالَ: زَعَمَ أَنَّ رَبَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، قَالَتْ ساره: فهذا حسن بِأَنْ يُطِيعَ رَبَّهُ إِنْ كَانَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ. فَخَرَجَ الشَّيْطَانُ مِنْ عِنْدِ سَارَّةَ حَتَّى أَدْرَكَ إِسْحَاقَ وَهُوَ يَمْشِي عَلَى أَثَرِ أَبِيهِ، فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ أَصْبَحَ أَبُوكَ غَادِيًا بِكَ؟ قَالَ: غَدَا بِي لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لا وَاللَّهِ، مَا غَدَا بِكَ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، وَلَكِنَّهُ غَدَا بِكَ لِيَذْبَحَكَ

قَالَ إِسْحَاقُ: مَا كَانَ أَبِي لِيَذْبَحَنِي، قَالَ: بَلَى، قَالَ: لِمَ؟ قَالَ: زَعَمَ أَنَّ رَبَّهُ امره بذلك، قال إسحاق: فو الله لِئَنْ أَمَرَهُ بِذَلِكَ لَيُطِيعَنَّهُ، فَتَرَكَهُ الشَّيْطَانُ وَأَسْرَعَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: أَيْنَ أَصْبَحْتَ غَادِيًا بِابْنِكَ؟ قَالَ: غَدَوْتُ بِهِ لِبَعْضِ حَاجَتِي، قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا غَدَوْتَ بِهِ إِلا لِتَذْبَحَهُ، قَالَ: لِمَ أَذْبَحُهُ؟ قَالَ: زَعَمْتَ أَنَّ رَبَّكَ أَمَرَكَ بذلك، قال: فو الله لِئَنْ كَانَ أَمَرَنِي رَبِّي لأَفْعَلَنَّ، قَالَ: فَلَمَّا أَخَذَ إِبْرَاهِيمُ إِسْحَاقَ لِيَذْبَحَهُ وَسَلَّمَ إِسْحَاقُ أَعْفَاهُ اللَّهُ، وَفَدَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لإِسْحَاقَ: قُمْ أَيْ بُنَيَّ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْفَاكَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى إِسْحَاقَ: إِنِّي أُعْطِيكَ دَعْوَةً أَسْتَجِيبُ لَكَ فِيهَا، قَالَ إِسْحَاقُ: اللَّهُمَّ فَإِنِّي أَدْعُوكَ أَنْ تَسْتَجِيبَ لِي: أَيُّمَا عَبْدٍ لَقِيَكَ من الأولين والآخرين لا يشرك بك شَيْئًا فَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ. حَدَّثَنِي عمرو بن علي، قال، حَدَّثَنَا أبو عاصم، قال: حَدَّثَنَا سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن أبيه، قال: [قال موسى: يا رب، يقولون يا إله ابراهيم وإسحاق ويعقوب، فيم قالوا ذلك؟ قال: إن إبراهيم لم يعدل بي شيئا قط إلا اختارني عليه، وإن إسحاق جاد لي بالذبح وهو بغير ذلك أجود، وإن يعقوب كلما زدته بلاء زادني حسن ظن] . حَدَّثَنَا ابن بشار، قال: حَدَّثَنَا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن زيد ابن أسلم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن أبيه قال: [قال موسى: أي رب بم أعطيت إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما أعطيتهم؟ فذكر نحوه] . حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ ابْنِ سَابِطٍ، قَالَ: هُوَ إِسْحَاقُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ، قَالَ: الذَّبِيحُ هُوَ إِسْحَاقُ. حَدَّثَنَا أبو كريب، قال: حَدَّثَنَا سفيان بن عقبة، عن حمزة الزيات، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، قال: قال يوسف للملك في وجهه ترغب

أن تأكل معي، وأنا والله يوسف بن يعقوب نبي الله بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله! حَدَّثَنَا أبو كريب، قال: حَدَّثَنَا وكيع، عن سفيان، عن أبي سنان، عن ابن أبي الهذيل، قال: قال يوسف للملك، فذكر نحوه. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود- وعن ناس من اصحاب النبي ص، ان ابراهيم ع أُرِيَ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهُ: أَوْفِ نَذْرَكَ الَّذِي نَذَرْتَ: إِنْ رَزَقَكَ اللَّهُ غُلامًا مِنْ سَارَّةَ أَنْ تَذْبَحَهُ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ وَشُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مَسْرُوقٍ فِي قَوْلِهِ: «وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» قَالَ: هُوَ إِسْحَاقُ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ هُوَ إِسْمَاعِيلُ: حَدَّثَنَا أبو كريب وإسحاق بن إِبْرَاهِيمَ بن حبيب بن الشهيد، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ ثُوَيْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ،، قَالَ: الذَّبِيحُ إِسْمَاعِيلُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَيَانٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» ، قَالَ: إِسْمَاعِيلُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَمْزَةَ مُحَمَّدُ بْنُ مَيْمُونٍ السُّكَّرِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ

قَالَ: إِنَّ الَّذِي أُمِرَ بِذَبْحِهِ إِبْرَاهِيمُ إِسْمَاعِيلُ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَمَّارٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، وَعَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ، يَعْنِي: «وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» . حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ. وحدثني بِهِ يَعْقُوبُ مَرَّةً أُخْرَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: سُئِلَ دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ: أَيُّ ابْنَيْ إِبْرَاهِيمَ أُمِرَ بِذَبْحِهِ؟ فَزَعَمَ أَنَّ الشَّعْبِيَّ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جعفر، قال: حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ بَيَانٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي الَّذِي، فَدَاهُ اللَّهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، قَالَ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ. حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: «وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» ، قَالَ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ. وحدثني يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ:، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: الْمُفَدَّى إِسْمَاعِيلُ، وَزَعَمَتِ الْيَهُودُ أَنَّهُ إِسْحَاقُ، وَكَذَبَتِ الْيَهُودُ. وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ مُبَارَكٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الَّذِي فَدَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ الْغَنَوِيِّ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ شَاهِينَ، قَالَ: حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: الَّذِي أَرَادَ إِبْرَاهِيمُ ذَبْحَهُ إِسْمَاعِيلُ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هذه الآية «وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» ، قَالَ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: وَكَانَ قَرْنَا الْكَبْشِ مَنُوطَيْنِ بِالْكَعْبَةِ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ جَابِرٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: الذَّبِيحُ إِسْمَاعِيلُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ قَرْنَيِ الْكَبْشِ فِي الْكَعْبَةِ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، قَالَ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قَالَ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هشم، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ: «وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» ، قَالَ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: سمعت محمد بن كعب القرظي وهو يقول: إن الذي أمر الله عز وجل إبراهيم بذبحه من ابنيه إسماعيل، وإنا لنجد ذلك في كتاب الله عز وجل في قصة الخبر عن إبراهيم وما أمر به من ذبح ابنه، أنه إسماعيل، وذلك أن الله عز وجل يقول حين فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم قال: «وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» ويقول: «فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ

يَعْقُوبَ» ، يقول: بابن وابن ابن، فلم يكن يأمره بذبح إسحاق، وله فيه من الله من الموعود ما وعده، وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثنا مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ سُفْيَانَ بن فروة الأسلمي، عن محمد بن كعب القرظي، أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز، وهو خليفة إذ كان معه بالشام، فقال له عمر: ان هذا لشيء ما كنت أنظر فيه، وإني لأراه كما قلت، ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهوديا فأسلم، فحسن إسلامه، وكان يرى أنه من علماء اليهود فسأله عمر بن عبد العزيز عن ذلك قال محمد بن كعب القرظي: وأنا عند عمر بن عبد العزيز، فقال له عمر: أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال: إسماعيل، والله يا أمير المؤمنين، إن يهود لتعلم بذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه، والفضل الذي ذكره الله منه لصبره على ما أمر به، فهم يجحدون ذلك، ويزعمون أنه إسحاق، لأن إسحاق أبوهم. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار وعمرو بن عبيد، عن الحسن بن أبي الحسن البصري، أنه كان لا يشك في ذلك أن الذي أمر بذبحه من ابني إبراهيم إسماعيل. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول ذلك كثيرا. وأما الدلالة من القرآن التي قلنا إنها على أن ذلك إسحاق أصح، فقوله تعالى مخبرا عن دعاء خليله إبراهيم حين فارق قومه مهاجرا إلى ربه الى الشام مع زوجته

ذكر الخبر عن صفه فعل ابراهيم وابنه الذى امر بذبحه فيما كان امر به من ذلك والسبب الذى من اجله امر ابراهيم بذبحه

ساره، فقال: «إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ. رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ» ، وذلك قبل أن يعرف هاجر، وقبل أن تصير له أم إسماعيل، ثم أتبع ذلك ربنا عز وجل الخبر عن إجابته دعاءه، وتبشيره إياه بغلام حليم، ثم عن رؤيا إبراهيم أنه يذبح ذلك الغلام حين بلغ معه السعى، ولا يعلم في كتاب ذكر لتبشير ابراهيم بولد ذكر إلا بإسحاق، وذلك قوله: «وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ» وقوله: «فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ. فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ» ثم ذلك كذلك في كل موضع ذكر فيه تبشير إبراهيم بغلام، فإنما ذكر تبشير الله إياه به من زوجته سارة، فالواجب أن يكون ذلك في قوله: «فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ» نظير ما في سائر سور القرآن من تبشيره اياه به من زوجته سارة. وأما اعتلال من اعتل بأن الله لم يكن يأمر إبراهيم بذبح إسحاق، وقد أتته البشارة من الله قبل ولادته بولادته وولادة يعقوب منه من بعده، فإنها علة غير موجبة صحة ما قال، وذلك أن الله إنما أمر إبراهيم بذبح إسحاق بعد إدراك إسحاق السعي وجائز أن يكون يعقوب ولد له قبل أن يؤمر أبوه بذبحه، وكذلك لا وجه لاعتلال من اعتل في ذلك بقرن الكبش أنه رآه معلقا في الكعبة، وذلك أنه غير مستحيل أن يكون حمل من الشام إلى الكعبة فعلق هنالك ذكر الخبر عن صفه فعل ابراهيم وابنه الذي أمر بذبحه فيما كان أمر به من ذلك والسبب الذي من أجله أمر إبراهيم بذبحه والسبب في أمر الله عز وجل ابراهيم بذبح ابنه الذي أمره بذبحه فيما ذكر أنه إذ فارق قومه هاربا بدينه مهاجرا إلى ربه متوجها إلى الشام من أرض العراق دعا الله أن يهب له ولدا ذكرا صالحا من سارة فقال: «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ» يعنى بذلك ولدا صالحا من الصالحين كما أخبر الله تعالى عنه فقال: «وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ. رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ» فلما نزل به أضيافه من الملائكة الذين كانوا أرسلوا إلى المؤتفكة قوم لوط بشروه بغلام حليم عن أمر الله تعالى إياهم بتبشيره، فقال إبراهيم إذ بشر به: هو إذا لله ذبيح فلما ولد الغلام وبلغ السعي قيل له: أوف بنذرك الذي نذرت لله. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني، عن عَبْدِ اللَّهِ- وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ جبرئيل ع لِسَارَّةَ: أَبْشِرِي بِوَلَدٍ اسْمُهُ إِسْحَاقَ، وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ، فَضَرَبَتْ جَبِينَهَا عَجَبًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: «فَصَكَّتْ وَجْهَها» وَقَالَتْ: «أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ. قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ

الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» قَالَتْ سَارَّةُ لِجَبْرَائِيلَ: مَا آيَةُ ذَلِكَ؟ فَأَخَذَ بِيَدِهِ عُودًا يَابِسًا فَلَوَاهُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَاهْتَزَّ أَخْضَرَ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: هُوَ إِذًا لِلَّهِ ذَبِيحٌ، فَلَمَّا كَبَرَ إِسْحَاقُ أُتِيَ إِبْرَاهِيمُ فِي النَّوْمِ فَقِيلَ لَهُ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ الَّذِي نَذَرْتَ، إِنْ رَزَقَكَ اللَّهُ غُلامًا مِنْ سَارَّةَ أَنْ تَذْبَحَهُ فَقَالَ لإِسْحَاقَ: انْطَلِقْ فَقَرَّبَ قُرْبَانًا إِلَى اللَّهِ وَأَخَذَ سِكِّينًا وَحَبْلا، ثُمَّ انْطَلَقَ مَعَهُ حَتَّى إِذَا ذَهَبَ بِهِ بَيْنَ الْجِبَالِ قَالَ لَهُ الْغُلامُ: يَا أَبَتِ، أَيْنَ قُرْبَانُكَ؟ قَالَ: يَا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ: يَا أَبَتِ افْعَلْ ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصَّابِرِينَ، قَالَ لَهُ إِسْحَاقُ: اشْدُدْ ربَاطِي حَتَّى لا أَضْطَرِبَ وَاكْفِفْ عَنْ ثِيَابِكَ حَتَّى لا يَنْتَضِحَ عَلَيْهَا مِنْ دَمِي شَيْءٌ فَتَرَاهُ سَارَّةُ فَتَحْزَنَ، وَأَسْرِعْ مَرَّ السِّكِّينِ عَلَى حَلْقِي لِيَكُونَ أَهْوَنَ لِلْمَوْتِ عَلَيَّ، وَإِذَا أَتَيْتَ سَارَّةَ فَاقْرَأْ عليها السلام فاقبل عليه ابراهيم ع يُقَبِّلُهُ وَقَدْ رَبَطَهُ وَهُوَ يَبْكِي، وَإِسْحَاقُ يَبْكِي، حَتَّى اسْتَنْقَعَ الدُّمُوعَ تَحْتَ خَدِّ إِسْحَاقَ، ثُمَّ إِنَّهُ جَرَّ السِّكِّينَ عَلَى حَلْقِهِ فَلَمْ يَحُكَّ السِّكِّينُ، وَضَرَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ صَفِيحَةً مِنْ نَحَاسٍ عَلَى حَلْقِ إِسْحَاقَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ ضَرَبَ بِهِ عَلَى جَبِينِهِ، وَحَزَّ فِي قَفَاهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: «فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ» يَقُولُ: سَلِّمَا لِلَّهِ الأَمْرَ، فَنُودِيَ: يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ الْتَفَتَ، فَإِذَا بِكَبْشٍ، فَأَخَذَهُ وَخَلَّى عَنِ ابْنِهِ، فَأَكَبَّ عَلَى ابْنِهِ يُقَبِّلُهُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا بُنَيَّ الْيَوْمَ وُهِبْتَ لِي، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» فَرَجَعَ إِلَى سَارَّةَ فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ، فَجَزِعَتْ سَارَّةُ وَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَرَدْتَ أَنْ تَذْبَحَ ابْنِي وَلا تُعْلِمْنِي! حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: كان إبراهيم فيما يقال إذا زارها- يعني هاجر- حمل على البراق يغدو من

الشام، فيقبل بمكة، ويروح من مكة، فيبيت عند أهله بالشام، حتى إذا بلغ معه السعي، وأخذ بنفسه ورجاه لما كان يأمل فيه من عبادة ربه وتعظيم حرماته أري في المنام أن يذبحه. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم أن إبراهيم حين أمر بذبح ابنه قال له: يا بني خذ الحبل والمدية، ثم انطلق بنا إلى هذا الشعب ليحطب أهلك منه، قبل أن يذكر له شيئا مما أمر به. فلما وجه إلى الشعب اعترضه عدو الله إبليس ليصده عن أمر الله في صورة رجل، فقال: أين تريد أيها الشيخ؟ قال: أريد هذا الشعب لحاجة لي فيه، فقال: والله إني لأرى الشيطان قد جاءك في منامك، فأمرك بذبح بنيك هذا، فأنت تريد ذبحه، فعرفه إبراهيم، فقال: إليك عني، أي عدو الله، فو الله لأمضين لأمر ربي فيه، فلما يئس عدو الله إبليس من إبراهيم اعترض إسماعيل وهو وراء إبراهيم يحمل الحبل والشفرة، فقال له: يا غلام هل تدري أين يذهب بك أبوك؟ قال: يحطب أهلنا من هذا الشعب، قال: والله ما يريد إلا أن يذبحك، قال: لم؟ قال: زعم أن ربه أمره بذلك، قال: فليفعل ما أمره به ربه، فسمعا وطاعة فلما امتنع منه الغلام ذهب إلى هاجر أم إسماعيل وهي في منزلها، فقال لها: يا أم إسماعيل، هل تدرين أين ذهب إبراهيم بإسماعيل؟ قالت: ذهب به يحطبنا من هذا الشعب، قال: ما ذهب به إلا ليذبحه، قالت: كلا هو أرحم به وأشد حبا له من ذلك، قال: إنه يزعم أن الله أمره بذلك، قالت: إن كان ربه أمره بذلك فتسليما لأمر الله فرجع عدو الله بغيظه لم يصب من آل ابراهيم شيئا مما اراد، وقد امتنع منه إبراهيم وآل إبراهيم بعون الله، وأجمعوا لأمر الله بالسمع والطاعة،

فلما خلا إبراهيم بابنه في- الشعب وهو فيما يزعمون شعب ثبير- قال له: «يا بُنَيَّ، إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ قالَ: يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» . قال ابن حميد: قال سلمة: قال محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم: إن إسماعيل قال له عند ذلك: يا أبت إن أردت ذبحي فاشدد رباطي لا يصبك مني شيء فينقص أجري، فإن الموت شديد، وإني لا آمن أن اضطرب عنده إذا وجدت مسه، واشحذ شفرتك حتى تجهز علي فتريحني، وإذا أنت أضجعتني لتذبحني فكبني لوجهي على جبيني ولا تضجعني لشقي، فإني أخشى إن أنت نظرت في وجهي أن تدركك رقة تحول بينك وبين أمر الله في، وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فإنه عسى أن يكون هذا أسلى لها عني، فافعل قال: يقول له إبراهيم: نعم العون أنت يا بني على أمر الله قال: فربطه كما أمره إسماعيل فأوثقه، ثم شحذ شفرته ثم تله للجبين واتقى النظر في وجهه، ثم أدخل الشفرة لحلقه فقلبها الله لقفاها في يده، ثم اجتذبها إليه ليفرغ منه، فنودي: أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، هذه ذبيحتك فداء لابنك فاذبحها دونه، يقول الله عز وجل، «فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ» ، وإنما تتل الذبائح على خدودها، فكان مما صدق عندنا هذا الحديث عن إسماعيل في إشارته على أبيه بما أشار إذ قال: كبني على وجهي قوله: «وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنادَيْناهُ أَنْ يَا إِبْراهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ. وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» . حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ قَتَادَةَ بْنِ دِعَامَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْهِ كَبْشٌ مِنَ الْجَنَّةِ قَدْ رَعَاهَا قَبْلَ ذَلِكَ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا، فَأَرْسَلَ إِبْرَاهِيمُ ابْنَهُ فَاتَّبَعَ الْكَبْشَ، فَأَخْرَجَهُ إِلَى الْجَمْرَةِ الأُولَى فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حصيات،

فَأَفْلَتَهُ عِنْدَهُ، فَجَاءَ الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى، فَأَخْرَجَهُ عِنْدَهَا، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، ثُمَّ أَفْلَتَهُ فَأَدْرَكَهُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، فَأَخْرَجَهُ عِنْدَهَا، ثُمَّ أَخَذَهُ فَأَتَى بِهِ الْمَنْحَرَ مِنْ مِنًى فذبحه، فو الذى نَفْسُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِيَدِهِ، لَقَدْ كَانَ أَوَّلَ الإِسْلامِ، وَإِنَّ رَأْسَ الْكَبْشِ لَمُعَلَّقٌ بِقَرْنَيْهِ فِي مِيزَابِ الْكَعْبَةِ، وَقَدْ وَخُشَ- يَعْنِي قَدْ يَبُسَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ الْغَنَوِيِّ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا أُمِرَ بِالْمَنَاسِكِ عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَسْعَى فَسَابَقَهُ، فَسَبَقَهُ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ ذهب به جبرئيل ع إِلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَعَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، حَتَّى ذَهَبَ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى ذَهَبَ، ثُمَّ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وَعَلَى إِسْمَاعِيلَ قَمِيصٌ أَبْيَضُ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَتِ إِنَّهُ لَيْسَ لِي ثَوْبٌ تُكَفِّنَنِي فِيهِ غَيْرَ هَذَا فَاخْلَعْهُ عنى، فاكفني فيه، فالتفت ابراهيم ع فَإِذَا هُوَ بِكَبْشٍ أَعْيَنَ أَبْيَضَ أَقْرَنَ فَذَبَحَهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا نَتْبَعُ هَذَا الضَّرْبَ مِنَ الْكِبَاشِ. حَدَّثَنِي محمد بن عمرو، قال: حَدَّثَنِي أبو عاصم، قال: حَدَّثَنَا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال، حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: «وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ» ، قال: وضع وجهه للأرض قال: لا تذبحني وأنت تنظر إلى وجهي عسى أن ترحمني، فلا تجهز علي، اربط يدي إلى رقبتي، ثم ضع وجهي للأرض. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي الطفيل، [عن على ع: «وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» ، قَالَ: كَبْشٌ أَبْيَضُ أَقْرَنُ أَعْيَنُ مَرْبُوطٌ بِسَمَرٍ في ثبير]

حدثني يونس، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» ، قَالَ: كَبْشٌ. قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: ذُبِحَ بِالْمَقَامِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ذُبِحَ بِمِنًى فِي الْمَنْحَرِ. حدثنا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قال: الكبش الذى ذبحه ابراهيم ع هُوَ الْكَبْشُ الَّذِي قَرَّبَهُ ابْنُ آدَمَ فَتُقُبِّلَ مِنْهُ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: «وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» ، قَالَ: كَانَ الْكَبْشُ الَّذِي ذَبَحَهُ إِبْرَاهِيمُ رُعِيَ فِي الْجَنَّةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ كَبْشًا أَمْلَحَ، صُوفُهُ مِثْلُ الْعِهْنِ الأَحْمَرِ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عباس: «وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» ، قَالَ: كَانَ وَعْلا. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمرو ابن عبيد، عن الحسن أنه كان يقول: ما فدي إسماعيل إلا بتيس كان من الأروى، أهبط عليه من ثبير، وما يقول الله: «وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» لذبيحته فقط، ولكنه الذبح على دينه، فتلك السنة إلى يوم القيامة، فاعلموا أن الذبيحة تدفع ميتة السوء، فضحوا عباد الله. وقد قال أمية بن أبي الصلت في السبب الذي من أجله أمر إبراهيم بذبح ابنه شعرا، ويحقق بقيله ما قال في ذلك الرواية التي رويناها عن السدي، وأن ذلك كان من إبراهيم عن نذر كان منه، فأمره الله بالوفاء به، فقال: ولإبراهيم الموفي بالنذر ... احتسابا وحامل الاجزال

ذكر ابتلاء الله ابراهيم بكلمات

بكره لم يكن ليصبر عنه ... أو يراه في معشر اقيال أي بني إني نذرتك ... لله شحيطا فاصبر فدى لك خالي واشدد الصفد لا أحيد عن السكين ... حيد الأسير ذي الأغلال وله مدية تخايل في اللحم ... جذام حنية كالهلال بينما يخلع السرابيل عنه ... فكه ربه بكبش جلال فخذن ذا فأرسل ابنك إني ... للذي قد فعلتما غير قال والد يتقي وآخر مولود ... فطارا منه بسمع فعال ربما تجزع النفوس من الأمر ... له فرجة كحل العقال حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ واضح، قال: حدثنا الحسين- يعني ابن واقد- عن زيد، عن عكرمه: قوله عز وجل: «فَلَمَّا أَسْلَما» : قال: أسلما جميعا لأمر الله، رضي الغلام بالذبح ورضي الأب بأن يذبحه. قال: يا أبت اقذفني للوجه كيلا تنظر إلي فترحمني، وأنظر أنا إلى الشفرة فأجزع، ولكن أدخل الشفرة من تحتي، وامض لأمر الله، فذلك قوله تعالى: «فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ» ، فلما فعل ذلك ناديناه «أَنْ يَا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» ذكر ابتلاء الله ابراهيم بكلمات وكان ممن امتحن الله به ابراهيم ع وابتلاه به- بعد ابتلائه إياه بما كان من أمره وأمر نمرود بن كوش، ومحاولته إحراقه بالنار وابتلائه بما كان من أمره إياه بذبح ابنه، بعد أن بلغ معه السعي ورجا نفعه ومعونته على ما يقربه من ربه عز وجل ورفعه القواعد من البيت، ونسكه المناسك- ابتلاؤه جل جلاله بالكلمات التي أخبر الله عنه أنه ابتلاه بهن فقال: «وَإِذِ ابْتَلى

إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ» وقد اختلف السلف من علماء الأمة في هذه الكلمات التي ابتلاه الله بهن فأتمهن، فقال بعضهم: ذلك ثلاثون سهما، وهي شرائع الإسلام ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله تعالى: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ» ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يُبْتَلَ أَحَدٌ بهذا الدين فأقامه الا ابراهيم ع، ابْتَلاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ، قَالَ: فَكَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ الْبَرَاءَةَ فَقَالَ: «وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى» : عَشْرٌ مِنْهَا فِي الأَحْزَابِ، وَعَشْرٌ مِنْهَا فِي بَرَاءَةَ، وَعَشْرٌ مِنْهَا فِي الْمُؤْمِنِينَ، وَسَأَلَ سَائِلٌ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا الإِسْلامَ ثَلاثُونَ سَهْمًا. حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ شَاهِينَ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ الطَّحَّانُ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَا ابْتُلِيَ أَحَدٌ بِهَذَا الدِّينِ فقام به كله غير ابراهيم ع، ابْتُلِيَ بِالإِسْلامِ فَأَتَمَّهُ، فَكَتَبَ اللَّهُ لَهُ الْبَرَاءَةَ فقال: «وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى» ، فَذَكَرَ عَشْرًا فِي بَرَاءَةَ «التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ» وعشرا في الأحزاب: «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ» وعشرا في سوره المؤمنين إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: «وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ» ، وَعَشْرًا فِي سَأَلَ سائِلٌ: «وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ»

وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: الإِسْلامُ ثَلاثُونَ سَهْمًا، وَمَا ابْتُلِيَ أَحَدٌ بِهَذَا الدِّينِ فَأَقَامَهُ إِلا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى» ، فَكَتَبَ اللَّهُ لَهُ بَرَاءَةً مِنَ النَّارِ. وَقَالَ آخَرُونَ: ذَلِكَ عَشْرُ خِصَالٍ مِنْ سُنَنِ الإِسْلامِ، خَمْسٌ مِنْهُنَّ فِي الرَّأْسِ، وَخَمْسٌ فِي الْجَسَدِ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ» ، قَالَ: ابْتَلاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالطَّهَارَةِ: خَمْسٍ فِي الرَّأْسِ وَخَمْسٍ فِي الْجَسَدِ، فِي الرَّأْسِ قَصُّ الشَّارِبِ، وَالْمَضْمَضَةُ، وَالاسْتِنْشَاقُ، وَالسِّوَاكُ، وَفَرْقُ الرَّأْسِ وَفِي الْجَسَدِ تَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَالْخِتَانُ، وَنَتْفُ الإِبِطِ، وَغَسْلُ أَثَرِ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ بِالْمَاءِ. حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَثَرَ الْبَوْلِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو هلال، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ في قوله تعالى: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ» ، قال: ابتلاه بالختان، وحلق العانة، وغسل القبل والدبر، والسواك، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط قال أبو هلال: ونسيت خصلة. حَدَّثَنِي عبدان المروزي، قال: حَدَّثَنَا عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن مطر، عن أبي الجلد، قال: ابتلى

ابراهيم ع بعشره أشياء هن في الإنسان سنة: المضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، والسواك، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وغسل البراجم، والختان، وحلق العانة، وغسل الدبر والفرج. وقال آخرون نحو قول هؤلاء، غير أنهم قالوا: ست من العشر في جسد الإنسان، وأربع منهن في المشاعر ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنِ ابْنِ هُبَيْرَةَ، عَنْ حَنَشٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ» ، قَالَ: سِتٌّ فِي الإِنْسَانِ وَأَرْبَعٌ فِي الْمَشَاعِرِ، فَالَّتِي فِي الإِنْسَانِ: حَلْقُ الْعَانَةِ، وَالْخِتَانُ، وَنَتْفُ الإِبِطِ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَالْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَرْبَعٌ فِي الْمَشَاعِرِ: الطَّوَافُ، وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصفاء والمروة، ورمى الجمار، والإفاضة. وقال آخرون: بل ذلك قوله: «إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً» ، وَمَنَاسِكُ الْحَجِّ. ذكر من قال ذلك: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قال: سمعت اسماعيل ابن أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ: قَوْلُهُ: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ» ، مِنْهُنَّ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً وَآيَاتُ النُّسُكِ حَدَّثَنِي أبو السائب، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ: سَمِعْتُ إِسْمَاعِيلَ بن أبي خالد، عن أبي صالح، مولى أم هانئ في قوله: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ» ، قال: منهن «إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً» ، ومنهن آيات النسك

«وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ» . حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عاصم، قال: حدثنى عيسى ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ» قال: قال الله لإبراهيم: إني مبتليك بأمر فما هو؟ قال: تجعلني للناس إماما، قال: نعم، «قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» ، قال: تجعل البيت مثابة للناس، قال: نعم، قال: وتجعل هذا البلد أمنا، قال: نعم، قال: وتجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، قال: نعم، قال: وترينا مناسكنا وتتوب علينا، قال: نعم، قال: وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم؟ قال: نعم. حَدَّثَنِي القاسم، قال: حَدَّثَنَا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد بنحوه قال ابن جريج: فاجتمع على هذا القول مجاهد وعكرمة. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ» ، قَالَ: ابْتُلِيَ بِالآيَاتِ الَّتِي بَعْدَهَا: «إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» . حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نَجِيحٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي بِهِ عِكْرِمَةُ، قَالَ: فَعَرَضْتُهُ عَلَى مُجَاهِدٍ فَلَمْ يُنْكِرْهُ. حَدَّثَنِي موسى بْنُ هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: الْكَلِمَاتُ الَّتِي ابْتُلِيَ بِهِنَّ إِبْرَاهِيمُ: «رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ

أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ» . حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ» قال: الكلمات: «إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً» ، وَقَوْلِهِ: «وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً» ، وقوله: «وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» وقوله: «وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ» الآيَةَ، وَقَوْلِهِ: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ» الآيَةَ قَالَ فَذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي ابْتُلِيَ بِهِنَّ إِبْرَاهِيمُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله تعالى: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ» ، قال: منهن «إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً» ، وَمِنْهُنَّ: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ» ، وَمِنْهُنَّ الآيَاتُ فِي شَأْنِ الْمَنْسَكِ وَالْمَقَامِ الَّذِي جُعِلَ لإِبْرَاهِيمَ، وَالرِّزْقُ الَّذِي رَزَقَ سَاكِنَ الْبَيْتِ، ومحمد ص بُعِثَ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ مَنَاسِكُ الْحَجِّ خَاصَّةً. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ نَبْهَانَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ» قَالَ: مَنَاسِكُ الْحَجِّ

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ» قَالَ: هِيَ الْمَنَاسِكُ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَلَغَنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْكَلِمَاتِ الَّتِي ابْتُلِيَ بِهِنَّ إِبْرَاهِيمُ هي المناسك. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الأَهْوَازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ التَّمِيمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قوله: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ» ، قَالَ: مَنَاسِكُ الْحَجِّ. حَدَّثَنِي ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحِمَّانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ التَّمِيمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ابْتَلاهُ بِالْمَنَاسِكِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ ابْتَلاهُ بِأُمُورٍ مِنْهُنَّ الْخِتَانُ. ذِكْرُ مَنْ قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ» ، قَالَ: مِنْهُنَّ الْخِتَانُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ ابن أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يَقُولُ فَذَكَرَ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابو احمد، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ- وَسَأَلَهُ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ قَوْلِهِ

عَزَّ وَجَلَّ: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ» - قَالَ: مِنْهُنَّ الْخِتَانُ يَا أَبَا إِسْحَاقَ. وَقَالَ آخَرُونَ: ذَلِكَ الْخِلالُ السِّتُّ: الْكَوْكَبُ، وَالْقَمَرُ، وَالشَّمْسُ، وَالنَّارُ، وَالْهَجْرَةُ، وَالْخِتَانُ، الَّتِي ابْتُلِيَ بِهِنَّ أَجْمَعُ فَصَبَرَ عَلَيْهِنَّ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ علية، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، قَالَ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ» ، قَالَ: ابْتَلاهُ بِالْكَوْكَبِ فَرَضِيَ عَنْهُ، وَابْتَلاهُ بِالْقَمَرِ فَرَضِيَ عَنْهُ، وَابْتَلاهُ بِالشَّمْسِ فَرَضِيَ عَنْهُ، وَابْتَلاهُ بِالنَّارِ فَرَضِيَ عَنْهُ، وَابْتَلاهُ بِالْهِجْرَةِ، وَابْتَلاهُ بِالْخِتَانِ. حدثنا بشر، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سعيد، عن قتادة، قال: كان الحسن يقول: إن الله ابتلاه بأمر فصبر عليه، ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر، فأحسن في ذلك، وعرف أن ربه دائم لا يزول، فوجه وجهه للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما كان من المشركين، وابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرا إلى الله تعالى، ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة فصبر على ذلك، وابتلاه بذبح ابنه وبالختان، فصبر على ذلك. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا مَعْمَرٌ، عَمَّنْ سَمِعَ الْحَسَنَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ» ، قال: ابتلاه بذبح ولده، وبالنار وبالكوكب، وَبِالشَّمْسِ، وَبِالْقَمَرِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هِلالٍ عَنِ الْحَسَنِ: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ» ، قَالَ: ابْتَلاهُ بِالْكَوْكَبِ، وَبِالشَّمْسِ وَبِالْقَمَرِ، فَوَجَدَهُ صَابِرًا

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ الْمُخْتَارِ، قَالَ: حَدَّثَنِي غَسَّانُ بْنُ الرَّبِيعِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ- وَهُوَ ابْنُ ثَوْبَانَ- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: [قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَ ثَمَانِينَ سنه بالقدوم] . وقد روى عن النبي ص في الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم خبران: أحدهما: ما حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي امامه، قال: [قال رسول الله ص: «وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى» قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا وَفَّى؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: وَفَّى عَمَلَ يَوْمِهِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي النَّهَارِ] . والآخر منهما ما حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَبَّانُ بْنُ فَائِدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: [كان النبي ص يَقُولُ: أَلا أُخْبِرُكُمْ لِمَ سَمَّى اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ «الَّذِي وَفَّى» ؟ لأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ كُلَّمَا أَصْبَحَ وَكُلَّمَا أَمْسَى: «فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ» حَتَّى خَتَمَ الآيَةَ] . فَلَمَّا عَرَفَ اللَّهُ تعالى مِنْ إِبْرَاهِيمَ الصَّبْرَ عَلَى كُلِّ مَا ابْتَلاهُ بِهِ، وَالْقِيَامَ بِكُلِّ مَا أَلْزَمَهُ مِنْ فَرَائِضِهِ، وَإِيثَارَهُ طَاعَتَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ سِوَاهَا، اتَّخَذَهُ خَلِيلا، وَجَعَلَهُ لِمَنْ بَعْدَهُ مِنْ خَلْقِهِ إِمَامًا، وَاصْطَفَاهُ إِلَى خَلْقِهِ رَسُولا، وَجَعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَالرِّسَالَةَ، وَخَصَّهُمْ بِالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَالْحِكَمِ الْبَالِغَةِ، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الأَعْلامَ وَالْقَادَةَ وَالرُّؤَسَاءَ وَالسَّادَةَ، كُلَّمَا مَضَى مِنْهُمْ نَجِيبٌ خَلَفَهُ سَيِّدٌ رَفِيعٌ، وَأَبْقَى لَهُمْ ذِكْرًا فِي الآخَرِينَ، فَالأُمَمُ كُلُّهَا تَتَوَلاهُ وَتُثْنِي عَلَيْهِ، وَتَقُولُ بِفَضْلِهِ إِكْرَامًا مِنَ اللَّهِ لَهُ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَمَا ادخر له في الآخرة من الكرامة

امر نمرود بن كوش بن كنعان

أجل وأعظم من أن يحيط به وصف واصف امر نمرود بن كوش بن كنعان ونرجع الآن إلى الخبر عن عدو الله وعدو إبراهيم الذي كذب بما جاء به من عند الله، ورد عليه النصيحة التي نصحها له جهلا منه، واغترارا بحلم الله تعالى عنه، نمرود بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح، وما آل إليه أمره في عاجل دنياه حين تمرد على ربه، مع إملاء الله إياه، وتركه تعجيل العذاب له على كفره به، ومحاولته إحراق خليله بالنار حين دعاه إلى توحيد الله والبراءة من الآلهة والأوثان، وأن نمرود لما تطاول عتوه وتمرده على ربه مع إملاء الله تعالى له- فيما ذكر- أربعمائة عام، لا تزيده حجج الله التي يحتج بها عليه، وعبره التي يريها إياه إلا تماديا في غيه، عذبه الله- فيما ذكر- في عاجل دنياه قدر إملائه إياه من المدة بأضعف خلقه، وذلك بعوضة سلطها عليه توغلت في خياشيمه فمكث أربعمائة سنه يعذب بها في حياته الدنيا. ذكر الأخبار الواردة عنه بما ذكرت من جهله وما أحل الله به من نقمته: حَدَّثَنِي الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن زيد بن أسلم، أن أول جبار كان في الأرض نمرود، وكان الناس يخرجون فيمتارون من عنده الطعام، فخرج إبراهيم يمتار مع من يمتار، فإذا مر به ناس قال: من ربكم؟ قالوا: أنت، حتى مر به إبراهيم، قال: من ربك؟ قال: «رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ

فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ» قال: فرده بغير طعام، قال: فرجع إبراهيم إلى أهله فمر على كثيب أعفر، فقال: هلا آخذ من هذا فآتي به أهلي فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم! فأخذ منه، فأتى أهله قال: فوضع متاعه ثم نام، فقامت امرأته إلى متاعه ففتحته فإذا هي بأجود طعام رآه أحد، فصنعت له منه، فقربته إليه- وكان عهد أهله ليس عندهم طعام- فقال: من أين هذا؟ قالت: من الطعام الذي جئت به، فعلم أن الله قد رزقه، فحمد الله. ثم بعث الله إلى الجبار ملكا: أن آمن بي وأتركك على ملكك، قال: فهل رب غيري؟ فجاءه الثانية فقال له ذلك، فأبى عليه، ثم أتاه الثالثة فأبى عليه، فقال له الملك: اجمع جموعك إلى ثلاثة أيام، فجمع الجبار جموعه. فأمر الله الملك، ففتح عليهم بابا من البعوض، فطلعت الشمس فلم يروها من كثرتها، فبعثها الله عليهم، فأكلت لحومهم وشربت دماءهم، فلم يبق إلا العظام، والملك كما هو لم يصبه من ذلك شيء، فبعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره، فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق، وأرحم الناس به من جمع يديه ثم ضرب بهما رأسه وكان جبارا أربعمائة عام، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه وأماته الله، وهو الذي بنى صرحا إلى السماء، فأتى الله بنيانه من القواعد، وهو الذي قال الله: «فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ» حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَمَرَ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ بِإِبْرَاهِيمَ، فَأُخْرِجَ- يَعْنِي مِنْ مَدِينَتِهِ- قَالَ: فَأُخْرِجَ فَلَقِيَ لُوطًا عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ- وَهُوَ ابْنُ أَخِيهِ- فَدَعَاهُ فَآمَنَ بِهِ، وَقَالَ: «إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي» ، وَحَلَفَ نُمْرُودُ أَنْ يَطْلُبَ إِلَهَ إِبْرَاهِيمَ، فَأَخَذَ أَرْبَعَةَ أَفْرُخٍ مِنْ فرَاخِ النُّسُورِ، فَرَبَّاهُنَّ بِاللَّحْمِ وَالْخَمْرِ، حَتَّى إِذَا كَبُرْنَ وَغَلُظْنَ وَاسْتَعْلَجْنَ، قَرَنَهُنَّ بِتَابُوتٍ، وَقَعَدَ فِي ذَلِكَ التَّابُوتِ، ثُمَّ رَفَعَ رِجْلا مِنْ لَحْمٍ لَهُنَّ، فَطِرْنَ بِهِ، حَتَّى إِذَا ذَهَبْنَ فِي السَّمَاءِ أَشْرَفَ يَنْظُرُ إِلَى الأَرْضِ، فَرَأَى الْجِبَالَ تَدُبُّ كَدَبِيبِ النَّمْلِ، ثُمَّ رَفَعَ لَهُنَّ اللَّحْمَ، ثُمَّ نَظَرَ فَرَأَى الأَرْضَ مُحِيطًا بِهَا بَحْرٌ كَأَنَّهَا فَلْكَةٌ فِي مَاءٍ، ثُمَّ رَفَعَ طَوِيلا فَوَقَعَ فِي ظُلْمَةٍ، فَلَمْ يَرَ مَا فَوْقَهُ وَلَمْ يَرَ مَا تَحْتَهُ، فَفَزِعَ فَأَلْقَى اللَّحْمَ فَاتَّبَعَتْهُ مُنْقَضَّاتٍ، فَلَمَّا نَظَرَتِ الْجِبَالُ إِلَيْهِنَّ وَقَدْ أَقْبَلْنَ مُنْقَضَّاتٍ وَسَمِعْنَ حَفِيفَهُنَّ فَزِعَتِ الْجِبَالُ، وَكَادَتْ أَنْ تَزُولَ مِنْ أَمْكِنَتِهَا وَلَمْ يَفْعَلْنَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ» ، وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «وَإِنْ كَادَ مَكْرُهُمْ» فَكَانَ طَيَرَانُهُنَّ بِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَوُقُوعُهُنَّ فِي جَبَلِ الدُّخَانِ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لا يُطِيقُ شَيْئًا أَخَذَ فِي بِنَاءِ الصَّرْحِ، فَبَنَى حَتَّى إِذَا أَسْنَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ ارْتَقَى فَوْقَهُ يَنْظُرَ- بِزَعْمِهِ- إِلَى إِلَهِ إِبْرَاهِيمَ، فَأَحْدَثَ وَلَمْ يَكُنْ يُحْدِثُ، وَأَخَذَ اللَّهُ بُنْيَانَهُ مِنَ الْقَوَاعِدِ: «فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ» ، يقول: مِنْ مَأْمَنِهِمْ، وَأَخَذَهُمْ مِنْ أَسَاسِ الصَّرْحِ، فَتَنَقَّضَ بهم ثم سقط فَتَبَلْبَلَتْ أَلْسُنُ النَّاسِ مِنْ يَوْمِئِذٍ مِنَ الْفَزَعِ، فَتَكَلَّمُوا بِثَلاثَةٍ وَسَبْعِينَ لِسَانًا، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ بَابِلَ، وَإِنَّمَا كَانَ لِسَانُ النَّاسِ قَبْلَ ذَلِكَ السِّرْيَانِيَّةَ

حَدَّثَنَا ابن وكيع، قال: حَدَّثَنَا أبو داود الحفري، عن يعقوب، عن حفص بن حميد- أو جعفر- عن سعيد بن جبير: «وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ» ، قال: نمرود صاحب النسور، أمر بتابوت فجعل وجعل معه رجلا ثم أمر بالنسور فاحتملته، فلما صعد قال لصاحبه: أي شيء ترى؟ قال: أرى الماء والجزيرة- يعني الدنيا- ثم صعد وقال لصاحبه: أي شيء ترى؟ قال: ما نزداد من السماء إلا بعدا، قال: اهبط، وقال غيره: نودي: أيها الطاغية، أين تريد؟ فسمعت الجبال حفيف النسور، وكانت ترى أنه أمر من السماء فكادت تزول، فهو قوله تعالى: «وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ» . حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ دَانِيلٍ، [ان عليا ع قَالَ فِي هَذِهِ الآيَةِ: «وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ» ، قَالَ: أَخَذَ ذَلِكَ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ نِسْرَيْنِ صَغِيرَيْنِ، فَرَبَّاهُمَا حَتَّى اسْتَغْلَظَا وَاسْتَعْلَجَا فَشَبَّا، قَالَ: فَأَوْثَقَ رِجْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِوَتَرٍ إِلَى تَابُوتٍ، وَجَوَّعَهُمَا وَقَعَدَ هُوَ وَرَجُلٌ آخَرَ فِي التَّابُوتِ، قَالَ: وَرَفَعَ فِي التَّابُوتِ عَصًا عَلَى رَأْسِهِ اللَّحْمُ، فَطَارَا، وَجَعَلَ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: انْظُرْ مَاذَا تَرَى؟ قَالَ: أَرَى كَذَا وَكَذَا، حَتَّى قَالَ: أَرَى الدُّنْيَا كَأَنَّهَا ذُبَابٌ، فَقَالَ: صَوِّبْ، فَصَوَّبَهَا، فَهَبِطَا قَالَ: فَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ» قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَلِذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: «وَإِنْ كَادَ مَكْرُهُمْ] » . فَهَذَا مَا ذُكِرَ مِنْ خَبَرِ نَمْرُودَ بْنِ كُوشِ بْنِ كَنْعَانَ وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ: إِنَّ نَمْرُودَ بْنَ كُوشِ بْنِ كَنْعَانَ هَذَا مَلَكَ مَشْرِقَ الأَرْضِ وَمَغْرِبِهَا، وَهَذَا قَوْلٌ يَدْفَعُهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِسِيَرِ الْمُلُوكِ وَأَخْبَارِ الْمَاضِينَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ

لا يَدْفَعُونَ وَلا يُنْكِرُونَ أَنَ مَوْلِدَ إِبْرَاهِيمَ كان في عهد الضحاك بن اندرماسب الذي قد ذكرنا بعض أخباره فيما مضى، وأن ملك شرق الأرض وغربها يومئذ كان الضحاك وقد قال بعض من أشكل عليه أمر نمرود ممن عرف زمان الضحاك وأسبابه فلم يدر كيف الأمر في ذلك مع سماعه ما انتهى إليه من الأخبار عمن روي عنه أنه قال: ملك الأرض كافران ومؤمنان، فأما الكافران فنمرود وبختنصر، وأما المؤمنان فسليمان بن داود وذو القرنين وقول القائلين من أهل الأخبار إن الضحاك كان هو ملك شرق الأرض وغربها في عهد إبراهيم نمرود: هو الضحاك وليس الأمر في ذلك عند أهل العلم بأخبار الأوائل، والمعرفة بالأمور السوالف، كالذي ظن، لأن نسب نمرود في النبط معروف، ونسب الضحاك في عجم الفرس مشهور، ولكن ذوي العلم بأخبار الماضين وأهل المعرفة بامور السافلين من الأمم ذكروا أن الضحاك كان ضم إلى نمرود السواد وما اتصل به يمنة ويسرة، وجعله وولده عماله على ذلك، وكان هو يتنقل في البلاد، وكان وطنه الذي هو وطنه ووطن أجداده دنباوند، من جبال طبرستان، وهنالك رمى به أفريدون حين ظفر به وقهره موثقا بالحديد وكذلك بختنصر كان أصبهبذ ما بين الأهواز إلى أرض الروم من غربي دجلة من قبل لهراسب، وذلك أن لهراسب كان مشتغلا بقتال الترك، مقيما بإزائهم ببلخ، وهو بناها- فيما قيل- لما تطاول مكثه هنالك لحرب الترك، فظن من لم يكن عالما بأمور القوم بتطاول مدة ولايتهم أمر الناحية لمن ولوا له أنهم كانوا هم الملوك ولم يدع أحد من أهل العلم بأمور الأوائل وأخبار الملوك الماضية وأيام الناس فيما نعلمه أن أحدا من النبط كان ملكا برأسه على شبر من الارض، فكيف يملك شرق الأرض وغربها! ولكن العلماء من أهل الكتاب وأهل المعرفة بأخبار الماضين ومن قد عانى النظر في كتب التأريخات، يزعمون أن ولاية نمرود إقليم بابل من قبل الازدهاق بيوراسب دامت أربعمائة سنة، ثم لرجل من نسله من بعد هلاك نمرود، يقال

ذكر لوط بن هاران وقومه

له نبط بن قعود مائة سنة، ثم لداوص بن نبط من بعد نبط ثمانين سنة، ثم من بعد داوص بن نبط لبالش بن داوص مائة وعشرين سنة، ثم لنمرود بن بالش من بعد بالش سنة وأشهرا فذلك سبعمائة سنة وسنة وأشهر، وذلك كله في أيام الضحاك، فلما ملك أفريدون وقهر الازدهاق قتل نمرود بن بالش وشرد النبط وطردهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، لما كان منهم من معاونتهم بيوراسب على أموره، وعمل نمرود وولده له. وقد زعم بعض أهل العلم أن بيوراسب قد كان قبل هلاكه تنكر لهم. وتغير عما كان لهم عليه . ذكر لوط بن هاران وقومه ونعود الآن إلى ذكر الخبر عن بقية الاحداث التي كانت في ايام ابراهيم ص. وكان من الكائن أيام حياته من ذلك ما كان من أمر لوط بن هاران ابن تارخ، ابن أخي ابراهيم ع وأمر قومه من سدوم وكان من أمره فيما ذكر أنه شخص من أرض بابل مع عمه إبراهيم خليل الرحمن، مؤمنا به، متبعا له على دينه، مهاجرا إلى الشام، ومعهما سارة بنت ناحور. وبعضهم يقول: هي ساره بنت هيبال بن ناحور وشخص معهم- فيما قيل- تارخ أبو إبراهيم مخالفا لإبراهيم في دينه، مقيما على كفره حتى صاروا إلى حران، فمات تارخ وهو آزر أبو إبراهيم بحران على كفره وشخص إبراهيم ولوط وسارة إلى الشام، ثم مضوا إلى مصر، فوجدوا بها فرعونا من فراعنتها، ذكر أنه كان سنان بن علوان بن عبيد بن عويج بن عملاق بن لاوذ ابن سام بن نوح وقد قيل إن فرعون مصر يومئذ كان أخا للضحاك، كان

الضحاك وجهه إليها عاملا عليها من قبله- وقد ذكرت بعض قصته مع إبراهيم فيما مضى قبل- ثم رجعوا عودا على بدئهم إلى الشام وذكر أن إبراهيم نزل فلسطين، وأنزل ابن أخيه لوطا الأردن، وأن الله تعالى أرسل لوطا إلى أهل سدوم، وكانوا أهل كفر بالله وركوب فاحشة، كما أخبر الله عن قوم لوط: «إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» . وكان قطعهم السبيل- فيما ذكر- إتيانهم الفاحشة إلى من ورد بلدهم. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله تعالى: «وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ» ، قال: السبيل طريق المسافر إذا مر بهم، وهو ابن السبيل قطعوا به وعملوا به ذلك العمل الخبيث. وأما إتيانهم ما كانوا يأتونه من المنكر في ناديهم، فإن أهل العلم اختلفوا فيه، فقال بعضهم: كانوا يحذفون من مر بهم. وقال بعضهم: كانوا يتضارطون في مجالسهم. وقال بعضهم: كان بعضهم ينكح بعضا فيها. ذكر من قال كانوا يحذفون من مر بهم: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ واضح، قال: حدثنا عمر ابن ابى زائده، قال: سمعت عكرمة يقول في قوله: «وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» ، قال: كانوا يؤذون أهل الطريق، يحذفون من مر بهم

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ عمر بن ابى زائده، قال: سمعت عكرمة، قال: الحذف. حَدَّثَنَا مُوسَى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني عن ابْنِ مَسْعُودٍ- وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله ص: «وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» ، قَالَ: كَانُوا كُلَّ مَنْ مَرَّ بِهِمْ حَذَفُوهُ، وَهُوَ الْمُنْكَرُ. ذَكَرَ مَنْ قَالَ: كَانُوا يَتَضَارَطُونَ فِي مَجَالِسِهِمْ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ الطُّفَاوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَبِيعَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ غُطَيْفٍ الثَّقَفِيُّ، عَنْ عَمْرِو بن مصعب، عن عروه ابن الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» ، قَالَتِ: الضُّرَاطُ ذِكْرُ مَنْ قَالَ كَانَ يَأْتِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي مَجَالِسِهِمْ: حَدَّثَنَا ابن وكيع وابن حميد، قالا: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: «وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» ، قَالَ: كَانَ بَعْضُهُمْ يَأْتِي بَعْضًا فِي مَجَالِسِهِمْ. حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ مُحَمَّدٍ اللَّيْثِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: «وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» ، قَالَ: كَانَ يُجَامِعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْمَجَالِسِ. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عَمْرٍو، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كَانُوا يُجَامِعُونَ الرِّجَالَ فِي مَجَالِسِهِمْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى. وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: «وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» ، قَالَ: الْمَجَالِسُ، وَالْمُنْكَرُ إِتْيَانُهُمُ الرِّجَالَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: «وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» ، قَالَ: كَانُوا يَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ فِي نَادِيهِمْ. حَدَّثَنِي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: «وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» قال: ناديهم المجالس، والمنكر عملهم الخبيث الذي كانوا يعملونه، كانوا يعترضون الراكب فيأخذونه فيركبونه، وقرأ: «أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ» وقرأ: «مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ» . وقد حَدَّثَنَا ابن وكيع، قال: حَدَّثَنَا إسماعيل بن علية، عن ابن أبي نجيح، عن عمرو بن دينار: قوله: «مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ» ، ما نزا ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي قول من قال: عنى بالمنكر الذي كانوا يأتونه في ناديهم في هذا الموضع حذفهم من مر بهم وسخريتهم منه، للخبر الوارد بذلك عن رسول الله ص، الَّذِي حَدَّثَنَاهُ أَبُو كُرَيْبٍ وَابْنُ وَكِيعٍ، قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ حَاتِمِ بْنِ أَبِي صَغِيرَةَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ، عَنْ أُمِّ هَانِئٍ

[عن رسول الله ص فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» ، قَالَ: كَانُوا يَحْذِفُونَ أَهْلَ الطَّرِيقِ وَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ، وَهُوَ الْمُنْكَرُ الَّذِي كَانُوا يَأْتُونَهُ] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو يُونُسَ الْقُشَيْرِيُّ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، [عَنْ أم هانئ، قالت: سالت النبي ص عن قوله: «وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» ، قَالَ: كَانُوا يَحْذِفُونَ أَهْلَ الطَّرِيقِ وَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ] حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ بَاذَامَ أَبِي صَالِحٍ، مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ، عَنْ أُمِّ هَانِئٍ، قالت: سالت النبي ص عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: «وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» ، فَقَالَ: كَانُوا يَجْلِسُونَ بِالطَّرِيقِ فَيَحْذِفُونَ أَبْنَاءَ السَّبِيلِ ويسخرون منهم، فكان لوط ع يَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَيَنْهَاهُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهُ عَنِ الأُمُورِ الَّتِي كَرِهَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ مِنْ قَطْعِ السَّبِيلِ وَرُكُوبِ الْفَوَاحِشِ وَإِتْيَانِ الذُّكُورِ فِي الأَدْبَارِ، وَيَتَوَعَّدُهُمْ- عَلَى إِصْرَارِهِمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مُقِيمِينَ مِنْ ذَلِكَ وَتَرَكِهِمُ التَّوْبَةَ مِنْهُ- الْعَذَابُ الأَلِيمُ فَلا يَزْجُرُهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَعِيدُهُ وَلا يَزِيدُهُمْ وَعْظُهُ إِلا تَمَادِيًا وعتوا واستعجالا لعذاب الله، إِنْكَارًا مِنْهُمْ وَعِيدَهُ، وَيَقُولُونَ لَهُ: «ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» ، حَتَّى سَأَلَ لُوطٌ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ النُّصْرَةَ عَلَيْهِمْ لَمَّا تَطَاوَلَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَأَمْرُهُمْ وَتَمَادِيهِمْ فِي غَيِّهِمْ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا أَرَادَ خِزْيَهُمْ وَهَلاكَهُمْ وَنُصْرَةَ رَسُولِهِ لُوطٍ عَلَيْهِمْ جبرئيل ع وَمَلَكَيْنِ آخَرَيْنِ مَعَهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمَلَكَيْنِ الآخَرَيْنِ كَانَ أَحَدُهُمَا مِيكَائِيلَ وَالآخَرُ إِسْرَافِيلَ

فَأَقْبَلُوا- فِيمَا ذُكِرَ- مُشَاةً فِي صُورَةِ رِجَالٍ شَبَابٍ. ذكر بعض من قال ذلك: حَدَّثَنَا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود- وعن ناس من أصحاب النبي ص: بعث الله الملائكة لتهلك قوم لوط، فأقبلت تمشي في صورة رجال شباب، حتى نزلوا عَلَى إِبْرَاهِيمَ فَتَضَيَّفُوهُ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ وَأَمْرِ إِبْرَاهِيمَ مَا قَدْ مَضَى ذِكْرُنَا إِيَّاهُ فِي خَبَرِ إِبْرَاهِيمَ وَسَارَّةَ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع جاءته البشرى، واطلعته الرُّسُلُ عَلَى مَا جَاءُوا لَهُ، وَأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُمْ لِهَلاكِ قَوْمِ لُوطٍ نَاظَرَهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَحَاجَّهُمْ في ذلك كما اخبر الله عنه فقال: «فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ» . وَكَانَ جِدَالُهُ إِيَّاهُمْ فِي ذَلِكَ- فِيمَا بَلَغَنا- مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يعقوب القمي، قال: حَدَّثَنَا جعفر، عن سعيد «يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ» قال: لما جاءه جبرئيل ومن معه، قالوا لإبراهيم: «إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ» قال لهم ابراهيم: اتهلكون قريه فيها أربعمائة مؤمن؟ قالوا: لا، قال: أفتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن؟ قالوا: لا، قال: أفتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن؟ قالوا: لا، قال: أفتهلكون قرية فيها مائة مؤمن؟ قالوا: لا، قال: أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنا؟ قالوا: لا، قال: أفتهلكون قرية فيها أربعة عشر مؤمنا؟ قالوا: لا، وكان ابراهيم يعدهم أربعة عشر بامرأة لوط، فسكت عنهم، واطمأنت نفسه

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحِمَّانِيُّ، عَنِ الأعمش، عن المنهال، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ الْمَلَكُ لإِبْرَاهِيمَ: إِنْ كَانَ فِيهَا خَمْسَةٌ يُصَلُّونَ رُفِعَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: «يجادلنا في قوم لوط» قال: بلغنا أنه قال لهم يومئذ: أرأيتم إن كان فيهم خمسون من المسلمين؟ قالوا: ان كان فيهم خمسون لن نعذبهم، قال: وأربعون؟ قالوا: وأربعون، قال: وثلاثون؟ قالوا: وثلاثون، حتى بلغ عشرة، قالوا: وإن كانوا عشرة؟ قال: ما من قوم لا يكون فيهم عشرة فيهم خير، فلما علم إبراهيم حال قوم لوط بخبر الرسل قال للرسل: «إِنَّ فِيها لُوطاً» إشفاقا منه عليه، فقالت الرسل: «نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ» . ثم مضت رسل الله نحو أهل سدوم، قرية قوم لوط، فلما انتهوا إليها ذكر أنهم لقوا لوطا في أرض له يعمل فيها، وقيل إنهم لقوا عند نهرها ابنة لوط تستقي الماء. ذكر من قال لقوا لوطا: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَتِ الرُّسُلُ لُوطًا أَتَوْهُ وَهُوَ فِي أَرْضٍ لَهُ يَعْمَلُ فِيهَا، وَقَدْ قِيلَ لَهُمْ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ: لا تُهْلِكُوهُمْ حَتَّى يشهد عليهم لوط، قال: فاتوه فقالوا: انا مضيفوك اللَّيْلَةَ فَانْطَلَقَ بِهِمْ فَلَمَّا مَشَى سَاعَةً الْتَفَتَ فَقَالَ: أَمَا تَعْلَمُونَ مَا يَعْمَلُ أَهْلُ هَذِهِ الْقَرْيَةِ؟ وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ عَلَى ظَهْرِ

ذكر من قال انما لقيت الرسل أول ما لقيت حين دنت من سدوم ابنه لوط دون لوط:

الأَرْضِ أُنَاسًا أَخْبَثَ مِنْهُمْ قَالَ: فَمَضَى مَعَهُمْ ثُمَّ قَالَ الثَّانِيَةَ مِثْلَ مَا قَالَ، فَانْطَلَقَ بِهِمْ، فَلَمَّا بَصُرَتْ بِهِمْ عَجُوزُ السُّوءِ امْرَأَتُهُ انْطَلَقَتْ فَأَنْذَرَتْهُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ بشير، قال: حدثنا عمرو ابن قيس الملائي، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، قال: أتت الملائكة لوطا وهو في مزرعة له، وقال الله تعالى للملائكة: إن شهد لوط عليهم أربع شهادات، فقد أذنت لكم في هلكتهم، فقالوا: يا لوط، إنا نريد أن نضيفك الليلة، قال: وما بلغكم أمرهم؟ قالوا: وما أمرهم؟ فقال: أشهد بالله إنها لشر قرية في الأرض عملا، يقول ذلك أربع مرات، فشهد عليهم لوط أربع شهادات، فدخلوا معه منزله . ذكر من قال إنما لقيت الرسل أول ما لقيت حين دنت من سدوم ابنة لوط دون لوط: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود- وعن ناس من اصحاب النبي ص، قَالَ: لَمَّا خَرَجَتِ الْمَلائِكَةُ مِنْ عِنْدِ إِبْرَاهِيمَ نَحْوَ قَرْيَةِ لُوطٍ، فَأَتَوْهَا نِصْفَ النَّهَارِ، فَلَمَّا بَلَغُوا نَهْرَ سَدُومَ لَقُوا ابْنَةَ لُوطٍ تَسْتَقِي مِنَ الْمَاءِ لأَهْلِهَا- وَكَانَتْ لَهُ ابْنَتَانِ: اسْمُ الْكُبْرَى رِيثَا وَاسْمُ الصُّغْرَى رعزِيَا- فَقَالُوا

لَهَا: يَا جَارِيَةُ، هَلْ مِنْ مَنْزِلٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَمَكَانَكُمْ لا تَدْخُلُوا حَتَّى آتِيكُمْ، فَرَقَّتْ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِهَا، فَأَتَتْ أَبَاهَا، فَقَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ، أَرَادَكَ فِتْيَانٌ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ، مَا رَأَيْتُ وُجُوهَ قَوْمٍ هِيَ أَحْسَنُ مِنْهُمْ، لا يَأْخُذُهُمْ قَوْمُكَ فَيَفْضَحُوهُمْ- وَقَدْ كَانَ قَوْمُهُ نَهَوْهُ أَنْ يُضَيِّفَ رَجُلا- فَقَالُوا لَهُ: خَلِّ عَنَّا فَلْنُضِفِ الرِّجَالَ، فَجَاءَ بِهِمْ فَلَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ إِلا أَهْلَ بَيْتِ لُوطٍ، فَخَرَجَتِ امْرَأَتُهُ فَأَخْبَرَتْ قَوْمَهَا فَقَالَتْ: إِنَّ فِي بَيْتِ لُوطٍ رِجَالا مَا رَأَيْتُ مِثْلَهُمْ وَمِثْلَ وُجُوهِهِمْ حُسْنًا قَطُّ، فجاءه قومه يهرعون اليه. قال ابو جعفر: فَلَمَّا أَتَوْهُ قَالَ لَهُمْ لُوطٌ: يَا قَوْمِ اتقوا الله «وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ» ، هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ مِمَّا تُرِيدُونَ. فَقَالُوا لَهُ: أَوَلَمْ نَنْهَكَ أَنْ تُضَيِّفَ الرِّجَالَ! لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ، وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ! فَلَمَّا لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ شَيْئًا مِمَّا عَرَضَهُ عَلَيْهِمْ قَالَ: «لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ» يقول ع: لَوْ أَنَّ لِي أَنْصَارًا يَنْصُرُونَنِي عَلَيْكُمْ أَوْ عَشِيرَةً تَمْنَعُنِي مِنْكُمْ، لَحُلْتُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مَا جِئْتُمْ تُرِيدُونَهُ مِنْ أَضْيَافِي! حَدَّثَنِي المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا إسماعيل ابن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهبا يقول: قال لوط لهم: «لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ» ، فوجد عليه الرسل وقالوا: إن ركنك لشديد فلما يئس لوط من إجابتهم إياه إلى شيء مما دعاهم إليه وضاق بهم ذرعا، قالت الرسل له حينئذ: «يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ

إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ» ، فذكر أن لوطا لما علم أن أضيافه رسل الله، وأنها أرسلت بهلاك قومه قال لهم: أهلكوهم الساعة. ذكر من روى ذلك عنه أنه قاله من أهل العلم: حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: مضت الرسل من عند إبراهيم إلى لوط، فلما أتوا لوطا وكان من امرهم ما ذكر الله قال جبرئيل للوط: يا لوط، إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ، إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ فقال لهم لوط: اهلكوهم الساعة، فقال جبرئيل ع: «إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ» فانزلت على لوط: «أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ» . قال: وأمره أن يسري بأهله بقطع من الليل ولا يلتفت منهم أحد إلا امرأته، قال: فسار فلما كانت الساعة التي أهلكوا فيها ادخل جبرئيل جناحه في أرضهم فقلعها ورفعها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة، ونباح الكلاب، فجعل عاليها سافلها، وأمطر عليهم حجارة من سجيل، قال: وسمعت امراه لوط الهده فقالت: وا قوماه! فأدركها حجر فقتلها. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية، قال: كان لوط أخذ على امرأته ألا تذيع شيئا من سر أضيافه، قال: فلما دخل عليه جبرئيل ومن معه ورأتهم في صورة لم تر مثلها قط انطلقت تسعى إلى قومها، فأتت النادي فقالت بيدها هكذا، فأقبلوا يهرعون مشيا بين الهرولة والجمز، فلما انتهوا إلى لوط قال لهم لوط ما قال الله تعالى في كتابه قال جبرئيل: يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ، قال: فقال بيده، فطمس أعينهم، قال: فجعلوا يطلبونهم، يلتمسون الحيطان وهم لا يبصرون

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: لَمَّا بَصُرَتْ بِهِمْ- يَعْنِي بِالرُّسُلِ- عَجُوزُ السُّوءِ، امْرَأَتُهُ، انْطَلَقَتْ فَأَنْذَرَتْهُمْ فَقَالَتْ: قَدْ تَضَيَّفَ لُوطًا قَوْمٌ مَا رَأَيْتُ قَوْمًا أَحْسَنَ مِنْهُمْ وُجُوهًا- قَالَ: وَلا أَعْلَمُهُ إِلا قَالَتْ: وَأَشَدَّ بَيَاضًا وَأَطْيَبَ رِيحًا مِنْهُمْ- قَالَ: فَأَتَوْهُ «يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ» ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَصْفَقَ لُوطٌ الْبَابَ. قَالَ: فَجَعَلُوا يُعَالِجُونَهُ، قَالَ: فَاسْتَأْذَنَ جبرئيل رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي عُقُوبَتِهِمْ، فَأَذِنَ لَهُ، فَصَفَقَهُمْ بِجَنَاحِهِ، فَتَرَكَهُمْ عُمْيَانًا يَتَرَدَّدُونَ فِي أَخْبَثِ لَيْلَةٍ أَتَتْ عَلَيْهِمْ قَطُّ، فَأَخْبَرُوهُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ، فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ، قَالَ: وَلَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ كَانَتْ مَعَ لُوطٍ حِينَ خَرَجَ مِنَ الْقَرْيَةِ امْرَأَتُهُ، ثُمَّ سَمِعَتِ الصَّوْتَ فَالْتَفَتَتْ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا حَجَرًا فَأَهْلَكَهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ بشير، قال: حدثنا عمرو ابن قيس الملائي، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، قال: انطلقت امرأته- يعني امرأة لوط- حين رأتهم- يعني حين رأت الرسل- إلى قومها فقالت: إنه قد ضافه الليلة قوم ما رأيت مثلهم قط أحسن وجوها، ولا أطيب ريحا. فجاءوا يهرعون إليه فبادرهم لوط إلى أن يزحمهم على الباب فقال: «هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ» ، فقالوا: «أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ» ، فدخلوا على الملائكة فتناولتهم الملائكة، فطمست أعينهم فقالوا: يا لوط جئتنا بقوم سحرة، سحرونا كما أنت حتى نصبح قال: فاحتمل جبرئيل قريات لوط الأربع، في كل قرية مائة ألف، فرفعهم على جناحه بين السماء والأرض حتى سمع أهل السماء الدنيا أصوات ديكتهم ثم قلبهم، فجعل الله عاليها سافلها

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، جَمِيعًا عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ حُذَيْفَةَ: لَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ ذَهَبَتْ عَجُوزُهُ، عَجُوزُ السُّوءِ، فَأَتَتْ قَوْمَهَا فَقَالَتْ: قَدْ تَضَيَّفَ لُوطًا اللَّيْلَةَ قَوْمٌ مَا رايت قوما قط احسن وجوها منهم، قال: فَجَاءُوا يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ، فَقَامَ مَلَكٌ فَلَزَّ الْبَابَ- يقول: فسده- فاستأذن جبرئيل في عقوبتهم، فاذن له، فضربهم جبرئيل بِجَنَاحِهِ، فَتَرَكَهُمْ عُمْيَانًا، فَبَاتُوا بِشَرِّ لَيْلَةٍ، ثُمَّ قَالُوا: إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ، فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ، قَالَ: فَبَلَغَنَا أَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتًا، فَالْتَفَتَتْ فَأَصَابَهَا حَجَرٌ وَهِيَ شَاذَّةٌ مِنَ الْقَوْمِ مَعْلُومٌ مَكَانُهَا. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود- وعن ناس من اصحاب النبي ص: لَمَّا قَالَ لُوطٌ: «لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ» ، بَسَطَ حينئذ جبرئيل جَنَاحَهُ فَفَقَأَ أَعْيُنَهُمْ، وَخَرَجُوا يَدُوسُ بَعْضُهُمْ فِي آثَارِ بَعْضٍ عُمْيَانًا، يَقُولُونَ: النَّجَاءَ النَّجَاءَ! فَإِنَّ فِي بَيْتِ لُوطٍ أَسْحَرَ قَوْمٍ فِي الأَرْضِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ» وَقَالُوا لِلُوطٍ: «إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ» ، يَقُولُ: سِرْ بِهِمْ فَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ، فَأَخْرَجَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الشَّامِ وَقَالَ لُوطٌ: أَهْلِكُوهُمُ السَّاعَةَ، فَقَالُوا: إِنَّا لَمْ نُؤْمَرْ إِلا بِالصُّبْحِ، أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ! فَلَمَّا أَنْ كَانَ السَّحَرُ خَرَجَ لُوطٌ وَأَهْلُهُ مَعَهُ إِلا امْرَأَتَهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: «إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ»

حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصَّمَدِ أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ: كَانَ أَهْلُ سَدُومَ الَّذِينَ فِيهِمْ لُوطٌ قَوْمَ سُوءٍ قَدِ اسْتَغْنَوْا عَنِ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ، فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ بَعَثَ الْمَلائِكَةَ لِيُعَذِّبُوهُمْ، فَأَتَوْا إِبْرَاهِيمَ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِهِمْ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، فَلَمَّا بَشَّرُوا سَارَّةَ بِالْوَلَدِ قَامُوا، وَقَامَ مَعَهُمْ إِبْرَاهِيمُ يَمْشِي، فَقَالَ: أَخْبِرُونِي لِمَ بُعِثْتُمْ؟ وَمَا خَطْبُكُمْ؟ قَالُوا: إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ سَدُومَ لِنُدَمِّرَهَا فَإِنَّهُمْ قَوْمُ سُوءٍ، قَدِ اسْتَغْنَوْا بِالرِّجَالِ عَنِ النِّسَاءِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ فِيهِمْ خَمْسُونَ رَجُلا صَالِحًا؟ قَالُوا: إِذًا لا نُعَذِّبُهُمْ، فَلَمْ يَزَلْ يَنْقُصُ حَتَّى قَالَ أَهْلُ الْبَيْتِ، قَالُوا: فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ بَيْتٌ صَالِحٌ، قَالَ: فَلُوطٌ وَأَهْلُ بَيْتِهِ، قَالُوا: إِنَّ امْرَأَتَهُ هَوَاهَا مَعَهُمْ، فَلَمَّا يَئِسَ إِبْرَاهِيمُ انْصَرَفَ وَمَضَوْا إِلَى أَهْلِ سَدُومَ فَدَخَلُوا عَلَى لُوطٍ، فَلَمَّا رَأَتْهُمُ امْرَأَتُهُ أَعْجَبَهَا حُسْنُهُمْ وَجَمَالُهُمْ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ أَنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِنَا قَوْمٌ لَمْ نَرَ قَوْمًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُمْ وَلا أَجْمَلَ، فَتَسَامَعُوا بِذَلِكَ، فَغَشَوْا دَارَ لُوطٍ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَتَسَوَّرُوا عَلَيْهِمُ الْجُدْرَانَ، فَلَقِيَهُمْ لُوطٌ فَقَالَ: يَا قوم لا تفضحون فِي ضَيْفِي وَأَنَا أُزَوِّجْكُمْ بَنَاتِي فَهُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ، فَقَالُوا: لَوْ كُنَّا نُرِيدُ بَنَاتِكَ لَقَدْ عَرَفْنَا مَكَانَهُنَّ، فَقَالَ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قوة أو آوي إلى ركن شديد فوجد عَلَيْهِ الرُّسُلُ فَقَالُوا: إِنَّ رُكْنَكَ لَشَدِيدٌ، وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ، فَمَسَحَ أَحَدُهُمْ أَعْيُنَهُمْ بجناحه، فَطَمَسَ أَبْصَارَهُمْ، فَقَالُوا: سُحِرْنَا، انْصَرِفُوا بِنَا حَتَّى نَرْجِعْ إِلَيْهِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا قَدْ قَصَّ اللَّهُ تعالى فِي الْقُرْآنِ، فَأَدْخَلَ مِيكَائِيلُ وهو صاحب العذاب جناحيه حَتَّى بَلَغَ أَسْفَلَ الأَرْضِينَ، فَقَلَبَهَا فَنَزَلَتْ حِجَارَةٌ من السماء، فتتبعت مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ فِي الْقَرْيَةِ حَيْثُ كَانُوا فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، وَنَجَّى لُوطًا وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ. حَدَّثَنَا أبو كريب، قال: حَدَّثَنَا جابر بن نوح، قال: حَدَّثَنَا الأعمش، عن مجاهد، قال: أخذ جبرئيل قوم لوط من سرحهم ودورهم، حملهم بمواشيهم وأمتعتهم، حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ثم كفاها

وحدثنا أبو كريب مرة أخرى، عن مجاهد، فقال: ادخل جبرئيل جناحيه تحت الأرض السفلى من قوم لوط، ثم أخذهم بالجناح الأيمن، وأخذهم من سرحهم ومواشيهم ثم رفعها. حَدَّثَنِي المثنى، قال: حَدَّثَنَا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: كان يقول: «فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها» ، قال: لما أصبحوا غدا جبرئيل على قريتهم ففتقها من أركانها ثم أدخل جناحيه، ثم حملها على خوافي جناحيه. حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حَدَّثَنَا شبل، قال: وحدثني هذا ابن أبي نجيح، عن إبراهيم بن أبي بكر، قال: ولم يسمعه ابن أبي نجيح من مجاهد قال: فحملها على خوافي جناحيه بما فيها، ثم صعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، ثم قلبها، فكان أول ما سقط منها شرافها، فذلك قوله تعالى: «فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ» حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: بلغنا ان جبرئيل ع أخذ بعروة القرية الوسطى ثم ألوى بها إلى السماء، حتى سمع أهل السماء ضواغي كلابهم، ثم دمر بعضها على بعض، فجعل عاليها سافلها، ثم أتبعتهم الحجارة قال قتادة: وبلغنا أنهم كانوا أربعة آلاف ألف. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قال: حَدَّثَنَا سعيد، عن

قتادة، قال: وذكر لنا ان جبرئيل أخذ بعروتها الوسطى، ثم ألوى بها إلى جو السماء حتى سمعت الملائكة ضواغي كلابهم ثم دمر بعضها على بعض، ثم أتبع شذان القوم صخرا، قال: وهي ثلاث قرى يقال لها سدوم، وهي بين المدينة والشام، قال: وذكر لنا أنه كان فيها أربعة آلاف ألف، قال: وذكر لنا إن إبراهيم كان يشرف ثم يقول: سدوم يوما هالك حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي بالإسناد الذي قد ذكرناه: لما أصبحوا- يعني قوم لوط- نزل جبرئيل ع واقتلع الأرض من سبع أرضين، فحملها حتى بلغ بها السماء الدنيا، حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم وأصوات ديوكهم، ثم قلبها فقتلهم، فذلك حين يقول: «والمؤتفكه اهوى» ، المنقلبه حين اهوى بها جبرئيل ع الارض فاقتلعها بجناحيه، فمن لم يمت حين اسقط الأرض أمطر الله تعالى عليه وهو تحت الأرض الحجارة، ومن كان منهم شاذا في الأرض، وهو قول الله تعالى: «فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ» ، ثم تتبعهم في القرى، فكان الرجل يتحدث فيأتيه الحجر فيقتله، فذلك قوله تعالى: «وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ» . حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي ابن إسحاق، قال: حَدَّثَنِي محمد بن كعب القرظي، قال: حدثت أن الله تعالى بعث جبرئيل إلى المؤتفكة قرية قوم لوط التي كان لوط فيهم، فاحتملها بجناحيه ثم اصعد بها حتى إن أهل السماء الدنيا ليسمعون نابحة كلابها وأصوات دجاجها، ثم كفأها على وجهها ثم أتبعها الله عز وجل بالحجارة، يقول الله تعالى:

«فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ» ، فأهلكها الله تعالى وما حولها من المؤتفكات، وكن خمس قريات: صبعة، وصعرة، وعمرة، ودوما، وسدوم هي القرية العظمى، ونجى الله تعالى لوطا ومن معه من أهله، إلا امرأته كانت فيمن هلك

ذكر وفاه ساره بنت هاران، وهاجر أم اسماعيل وذكر ازواج ابراهيم ع وولده

ذكر وفاة سارة بنت هاران، وهاجر أم اسماعيل وذكر ازواج ابراهيم ع وولده قد ذكرنا فيما مضى قبل ما قيل في مقدار عمر سارة أم إسحاق، فأما موضع وفاتها فإنه لا يدفع أهل العلم من العرب والعجم أنها كانت بالشام. وقيل: إنها ماتت بقرية الجبابرة من أرض كنعان في حبرون، فدفنت في مزرعة اشتراها إبراهيم وقيل إن هاجر عاشت بعد سارة مدة فأما الخبر فبغير ذلك ورد حَدَّثَنِي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حَدَّثَنَا أسباط، عن السدي، بالإسناد الذي قد ذكرناه قبل. ثم إن إبراهيم اشتاق إلى إسماعيل، فقال لسارة: ائذني لي أنطلق إلى ابني فأنظر إليه، فأخذت عليه عهدا ألا ينزل حتى يأتيها، فركب البراق، ثم أقبل وقد ماتت أم إسماعيل، وتزوج اسماعيل امراه من جرهم. وان ابراهيم ع كثر ماله ومواشيه وكان سبب ذلك فيما حَدَّثَنَا به موسى بن هارون، قال: حَدَّثَنَا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي بالإسناد الذي قد ذكرناه قبل، أن ابراهيم ع احتاج- وقد كان له صديق يعطيه ويأتيه- فقالت له ساره: لو اتيت خلتك فأصبت لنا منه طعاما! فركب حمارا له، ثم أتاه، فلما أتاه تغيب منه، واستحيا إبراهيم أن يرجع إلى أهله خائبا، فمر على بطحاء، فملأ منها خرجه، ثم أرسل الحمار إلى أهله، فأقبل الحمار وعليه حنطة جيده، ونام ابراهيم ع فاستيقظ، وجاء إلى أهله، فوجد سارة قد جعلت له طعاما، فقالت: ألا تأكل؟ فقال: وهل من شيء؟ فقالت: نعم من الحنطة التي جئت بها من عند خليلك، فقال: صدقت

من عند خليلي جئت بها، فزرعها فنبتت له، وزكا زرعه وهلكت زروع الناس، فكان أصل ماله منها، فكان الناس يأتونه فيسألونه فيقول: من قال: لا إله إلا الله فليدخل فليأخذ، فمنهم من قال فاخذ، ومنهم من أبى فرجع، وذلك قوله تعالى: «فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً» فلما كثر مال إبراهيم ومواشيه احتاج إلى السعة في المسكن والمرعى، وكان مسكنه ما بين قرية مدين- فيما قيل- والحجاز إلى أرض الشام، وكان ابن أخيه لوط نازلا معه، فقاسم ماله لوطا، فأعطى لوطا شطره فيما قيل، وخيره مسكنا يسكنه ومنزلا ينزله غير المنزل الذي هو به نازل، فاختار لوط ناحية الأردن فصار إليها، وأقام إبراهيم ع بمكانه، فصار ذلك فيما قيل سببا لآثاره بمكة وإسكانه إياها إسماعيل، وكان ربما دخل أمصار الشام. ولما ماتت سارة بنت هاران زوجة إبراهيم تزوج إبراهيم بعدها- فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق- قطورا بنت يقطن، امرأة من الكنعانيين، فولدت له ستة نفر: يقسان بن إبراهيم، وزمران بن إبراهيم، ومديان بن إبراهيم، ويسبق بن إبراهيم، وسوح بن إبراهيم، وبسر بن إبراهيم، فكان جميع بني إبراهيم ثمانية بإسماعيل وإسحاق، وكان اسماعيل يكره أكبر ولده قال: فنكح يقسان بن إبراهيم رعوة بنت زمر بن يقطن بن لوذان بن جرهم بن يقطن بن عابر، فولدت له البربر ولفها وولد زمران بن إبراهيم المزامير الذين لا يعقلون وولد لمديان أهل مدين قوم شعيب بن ميكائيل النبي، فهو وقومه من ولده بعثه الله عز وجل اليهم نبيا. حدثني الحارث بْن محمد، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا

هشام بن محمد بن السائب، عن أبيه، قال: كان أبو إبراهيم من أهل حران، فأصابته سنة من السنين، فأتى هرمز جرد بالاهواز، ومعه امراته أم ابراهيم، واسمها توتا بنت كرينا بن كوثى، من بني أرفخشد بن سام بن نوح. وحدثني الحارث، قال: حدثنا مُحَمَّد بن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر الأسلمي عن غير واحد من أهل العلم قال: اسمها أنموتا من ولد أفراهم بن أرغوا بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح وكان بعضهم يقول: اسمها انمتلي بنت يكفور. حَدَّثَنِي الحارث، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن سعد، قال: أخبرنا هشام بن محمد، عن أبيه، قال: نهر كوثى كراه كرينا جد إبراهيم من قبل أمه، وكان أبوه على أصنام الملك نمرود فولد إبراهيم بهرمزجرد، ثم انتفل إلى كوثى من أرض بابل، فلما بلغ إبراهيم وخالف قومه، دعاهم إلى عبادة الله، وبلغ ذلك الملك نمرود فحبسه في السجن سبع سنين، ثم بنى له الحير بجص، وأوقد له الحطب الجزل، وألقى إبراهيم فيه، فقال: حسبي الله ونعم الوكيل! فخرج منها سليما لم يكلم. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حدثنا مُحَمَّد بن سعد، قال: حدثنا هشام بن محمد، عن أبيه، عن أبي صالح، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا هَرَبَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ كُوثَى، وَخَرَجَ مِنَ النَّارِ وَلِسَانُهُ يَوْمَئِذٍ سِرْيَانِيٌّ، فَلَمَّا عَبَرَ الْفُرَاتَ مِنْ حَرَّانَ غَيَّرَ اللَّهُ لِسَانَهُ فَقِيلَ: عِبْرَانِيٌّ، أَيْ حَيْثُ عَبَرَ الْفُرَاتَ وَبَعَثَ نَمْرُودُ فِي أَثَرِهِ، وَقَالَ: لا تَدَعُوا أَحَدًا يَتَكَلَّمُ بِالسِّرْيَانِيَّةِ إِلا جِئْتُمُونِي بِهِ، فلقوا ابراهيم ع فَتَكَلَّمَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، فَتَرَكُوهُ وَلَمْ يَعْرِفُوا لُغَتَهُ. حَدَّثَنِي الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا هشام، عن ابيه قال: فهاجر إبراهيم من بابل إلى الشام فجاءته سارة، فوهبت له نفسها

فتزوجها، وخرجت معه وهو يومئذ ابن سبع وثلاثين سنة، فأتى حران، فأقام بها زمانا، ثم أتى الأردن فأقام بها زمانا، ثم خرج إلى مصر فأقام بها زمانا، ثم رجع إلى الشام فنزل السبع أرض بين إيليا وفلسطين واحتفر بئرا، وبنى مسجدا ثم إن بعض أهل البلد آذاه فتحول من عندهم، فنزل منزلا بين الرملة وإيليا، فاحتفر به بئرا اقام به، وكان قد وسع عليه في المال والخدم، وهو أول من أضاف الضيف، وأول من ثرد الثريد، وأول من رأى الشيب. قال: وولد لإبراهيم ع إسماعيل وهو أكبر ولده- وأمه هاجر وهي قبطية، وإسحاق، وكان ضرير البصر، وأمه سارة ابنة بتويل بن ناخور بن ساروع بن أرغوا بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح- ومدن، ومدين، ويقسان، وزمران، واسبق، وسوح، وأمهم قنطورا بنت مقطور من العرب العاربة فأما يقسان فلحق بنوه بمكة، وأقام مدن ومدين بأرض مدين، فسميت به، ومضى سائرهم في البلاد وقالوا لإبراهيم: يا أبانا أنزلت إسماعيل وإسحاق معك، وأمرتنا أن ننزل أرض الغربة والوحشة! فقال: بذلك أمرت، قال: فعلمهم اسما من أسماء الله تبارك وتعالى، فكانوا يستسقون به ويستنصرون، فمنهم من نزل خراسان، فجاءتهم الخزر فقالوا: ينبغي للذي علمكم هذا أن يكون خير أهل الأرض، أو ملك الأرض، قال: فسموا ملوكهم خاقان. قال أبو جعفر: ويقال في يسبق: يسباق، وفي سوح: ساح. وقال بعضهم: تزوج إبراهيم بعد سارة امرأتين من العرب، إحداهما قنطورا بنت يقطان، فولدت له ستة بنين، وهم الذين ذكرنا، والأخرى منهما حجور بنت أرهير، فولدت له خمسة بنين: كيسان، وشورخ، واميم، ولوطان، ونافس

ذكر وفاه ابراهيم ع

ذكر وفاه ابراهيم ع فلما أراد الله تبارك وتعالى قبض روح ابراهيم ص، أرسل إليه ملك الموت في صورة شيخ هرم. فحدثني موسى بن هارون، قال: حَدَّثَنَا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي بالإسناد الذي ذكرته قبل: كان إبراهيم كثير الطعام يطعم الناس، ويضيفهم، فبينا هو يطعم الناس إذا هو بشيخ كبير يمشي في الحره، فبعث إليه بحمار، فركبه حتى إذا أتاه أطعمه، فجعل الشيخ يأخذ اللقمة يريد أن يدخلها فاه، فيدخلها عينه وأذنه ثم يدخلها فاه، فإذا دخلت جوفه خرجت من دبره وكان إبراهيم قد سأل ربه عز وجل ألا يقبض روحه حتى يكون هو الذي يسأله الموت، فقال للشيخ حين رأى من حاله ما رأى: ما بالك يا شيخ تصنع هذا؟ قال: يا إبراهيم، الكبر، قال: ابن كم أنت؟ فزاد على عمر إبراهيم سنتين، فقال إبراهيم: إنما بيني وبينك سنتان، فإذا بلغت ذلك صرت مثلك! قال: نعم، قال إبراهيم: اللهم اقبضني إليك قبل ذلك، فقام الشيخ فقبض روحه، وكان ملك الموت. ولما مات ابراهيم ع- وكان موته وهو ابن مائتي سنة، وقيل ابن مائة وخمس وسبعين سنة- دفن عند قبر ساره في مزرعه حبرون. وكان مما أنزل الله تعالى على إبراهيم ع من الصحف فيما قيل عشر صحائف، كَذَلِكَ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْمَاضِي بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلانِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، قَالَ: قلت: [يا رسول الله، كم كتاب أنزله اللَّهُ؟ قَالَ: مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَ

كُتُبٍ: أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى آدَمَ ع عَشْرُ صَحَائِفَ، وَعَلَى شِيثٍ خَمْسِينَ صَحِيفَةٍ، وَأَنْزَلَ عَلَى أَخْنُوخَ ثَلاثِينَ صَحِيفَةً، وَأَنْزَلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَشْرَ صَحَائِفَ، وَأَنْزَلَ جَلَّ وَعَزَّ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْفُرْقَانَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا كَانَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: كَانَتْ أَمْثَالا كُلُّهَا] . أَيُّهَا الْمَلِكُ الْمُسَلَّطُ الْمُبْتَلَى الْمَغْرُورُ، إِنِّي لَمْ أَبْعَثُكَ لِتَجْمَعَ الدُّنْيَا بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، وَلَكِنْ بَعَثْتُكَ لِتَرُدَّ عَنِّي دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنِّي لا أَرُدُّهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ كَافِرٍ. وَكَانَتْ فِيهَا أَمْثَالٌ: وَعَلَى الْعَاقِلِ مَا لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَاعَاتٌ، سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٌ يُفَكِّرُ فِيهَا فِي صُنْعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ فِيمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ، وَسَاعَةٌ يَخْلُو فِيهَا لِحَاجَتِهِ مِنَ الْحَلالِ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَعَلَى الْعَاقِلِ أَلا يَكُونَ ظَاعِنًا إِلا فِي ثَلاثٍ: تَزَوُّدٍ لِمَعَادِهِ، وَمَرَمَّةٍ لِمَعَاشِهِ، وَلَذَّةٍ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِزَمَانِهِ، مُقْبِلا عَلَى شَأْنِهِ، حَافِظًا لِلِسَانِهِ وَمَنْ حَسِبَ كَلامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلامُهُ إِلا فِيمَا يَعْنِيهِ. وَكَانَ لإِبْرَاهِيمَ- فِيمَا ذُكِرَ- أَخَوَانِ يُقَالُ لأَحَدِهِمَا هَارَانَ- وَهُوَ أَبُو لُوطٍ، وَقِيلَ إِنَّ هَارَانَ هُوَ الَّذِي بَنَى مَدِينَةِ حَرَّانَ، وَإِلَيْهِ نسبت- وَالآخَرُ مِنْهُمَا نَاحورا وَهُوَ أَبُو بتويل وَبتويل هو ابو لابان وَرفقا ابْنَةُ بتويل، وَرفقا امْرَأَةُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أُمُّ يَعْقُوبَ ابْنَةُ بتويل، وَلِيَا وَرَاحِيلَ امرأتا يعقوب ابنتا لابان

ذكر خبر ولد اسماعيل بن ابراهيم خليل الرحمن ع

ذكر خبر ولد إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن ع قد مضى ذكرنا سبب مصير إبراهيم بابنه إسماعيل، وأمه هاجر إلى مكة وإسكانه إياهما بها ولما كبر إسماعيل تزوج امرأة من جرهم، فكان من أمرها ما قد تقدم ذكره، ثم طلقها بأمر أبيه إبراهيم بذلك، ثم تزوج أخرى يقال لها السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي، وهي التي قال لها إبراهيم إذ قدم مكة، وهي زوجة إسماعيل: قولي لزوجك إذا جاء: قد رضيت لك عتبة بابك. فحدثنا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ولد لإسماعيل ابن إبراهيم اثنا عشر رجلا، وأمهم السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي: نابت بن إسماعيل، وقيدر بن إسماعيل، وأدبيل بن إسماعيل، ومبشا بن إسماعيل، ومسمع بن إسماعيل، ودما بن إسماعيل، وماس بن إسماعيل، وأدد بن إسماعيل، ووطور بن إسماعيل، ونفيس بن إسماعيل، وطما بن إسماعيل، وقيدمان بن إسماعيل. قال: وكان عمر إسماعيل فيما يزعمون ثلاثين ومائة سنة، ومن نابت وقيدر نشر الله العرب، ونبأ الله عز وجل إسماعيل، فبعثه إلى العماليق- فيما قيل- وقبائل اليمن. وقد ينطق أسماء أولاد إسماعيل بغير الألفاظ التي ذكرت عن ابن إسحاق، فيقول بعضهم في قيدر:، قيدار، وفي ادبيل: ادبال، وفي مبشا: مبشام، وفي دما: ذوما ومسا، وحداد، وتيم، ويطور، ونافس، وقادمن وقيل: إن إسماعيل لما حضرته الوفاة أوصى إلى أخيه إسحاق وزوج ابنته من العيص بن إسحاق، وعاش إسماعيل فيما ذكر مائة وسبعا وثلاثين سنة، ودفن في الحجر عند قبر أمه هاجر

حَدَّثَنِي عبدة بن عبد الله الصفار، قال: حَدَّثَنَا خالد بن عبد الرحمن المخزومي، عن مبارك بن حسان صاحب الأنماط، عن عمر بن عبد العزيز، قال: شكا إسماعيل إلى ربه تبارك وتعالى حر مكة فأوحى الله تعالى إليه: إني فاتح لك بابا من الجنة يجري عليك روحها إلى يوم القيامة، وفي ذلك المكان تدفن. ونرجع الآن إلى:

ذكر إسحاق بن ابراهيم ع وذكر نسائه واولاده

ذكر إسحاق بن ابراهيم ع وذكر نسائه وأولاده إذ كان التأريخ غير متصل على سياق معروف لأمة بعد الفرس غيرهم، وذلك أن الفرس كان ملكهم متصلا دائما من عهد جيومرت الذي قد وصفت شأنه وخبره، إلى أن زال عنهم بخير أمه اخرجت للناس، أمه نبينا محمد ص وكانت النبوة والملك متصلين بالشام ونواحيها لولد إسرائيل بن إسحاق إلى أن زال ذلك عنهم بالفرس والروم بعد يحيى بن زكرياء وبعد عيسى بن مريم ع وسنذكر إذا نحن انتهينا إلى الخبر عن يحيى وعيسى ع سبب زوال ذلك عنهم إن شاء الله. فأما سائر الأمم غير الفرس، فإنه غير ممكن الوصول إلى علم التأريخ بهم، إذ لم يكن لهم ملك متصل في قديم الأيام وحديثه إلا ما لا يمكن معه سياق التأريخ عليه وعلى أعمار ملوكهم، إلا ما ذكرنا من ولد يعقوب إلى الوقت الذي ذكرت، فإن ذلك وإن كانت مدته انقطعت بزواله عنهم، فإن قدر مدة زواله عنهم إلى غايتنا هذه معلوم مبلغه وقد كان لليمن ملوك لهم ملك، غير أنه كان غير متصل، وإنما كان يكون منهم الواحد بعد الواحد، وبين الأول والآخر فترات طويلة، لا يقف على مبلغها العلماء، لقلة عنايتهم كانت بها، ومبلغ عمر الاول منهم والآخر، إذا لم يكن من الأمر الدائم، فإن دام منه شيء فإنما يدوم لمن دام له منهم بأنه عامل لغيره في الموضع الذي هو به لا يملكه بنفسه، وذلك كدوامه لآل نصر بن ربيعة بن الحارث بن مالك ابن عمرو بن نمارة بن لخم، فإنهم كانوا على فرج ثغر العرب للفرس من الحيرة إلى حد اليمن طولا وإلى حدود الشام وما اتصل بذلك عرضا، فلم يزل ذلك دائما لهم من عهد أردشير بابكان إلى أن قتل كسرى ابرويز بن هرمز بن انوشروان النعمان بن المنذر، فنقل عنهم ما كان إليهم من العمل على ثغر العرب إلى إياس بن قبيصة الطائي

فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: نكح إسحاق بن إبراهيم رفقا بنت بتويل بن إلياس، فولدت له عيص بن إسحاق، ويعقوب ابن إسحاق، يزعمون أنهما كانا توءمين وأن عيصا كان أكبرهما ثم نكح عيص بن إسحاق ابنه عمه بسمة ابنه إسماعيل بن إبراهيم، فولدت له الروم بن عيص، فكل بني الأصفر من ولده قال: وبعض الناس يزعم أن الأشبان من ولده، ولا أدري أمن ابنة إسماعيل أم لا. ونكح يعقوب بن إسحاق- وهو إسرائيل- ابنة خاله ليا ابنة لبان بن بتويل بن إلياس، فولدت له روبيل بن يعقوب، وكان اكبر ولده، وشمعون ابن يعقوب، ولاوى بن يعقوب، ويهوذا بن يعقوب، وزبالون بن يعقوب، ويسحر بن يعقوب، ودينة ابنه يعقوب وقد قيل في يسحر إن اسمه يشحر ثم توفيت ليا بنت لبان فخلف يعقوب على أختها راحيل بنت لبان بن بتويل بن إلياس، فولدت له يوسف بن يعقوب، وبنيامين بن يعقوب- وهو بالعربية شداد- وولد له من سريتين، اسم إحداهما زلفة، واسم الأخرى بلهة، أربعة نفر: دان بن يعقوب، ونفثالى بن يعقوب، وجاد بن يعقوب، وأشر بن يعقوب، فكان بنو يعقوب اثني عشر رجلا. وقد قال بعض أهل التوراة إن رفقا زوجة إسحاق هي ابنة ناهر بن آزر عم إسحاق، وإنها ولدت له ابنيه عيصا ويعقوب في بطن واحد، وإن إسحاق أمر ابنه يعقوب ألا ينكح امرأة من الكنعانيين، وأمره أن ينكح امرأة من بنات خاله لبان بن ناهر، وأن يعقوب لما أراد النكاح مضى إلى خاله لبان ابن ناهر خاطبا، فأدركه الليل في بعض الطريق، فبات متوسدا حجرا، فرأى فيما يرى النائم أن سلما منصوبا إلى باب من أبواب السماء عند رأسه، والملائكة تنزل وتعرج فيه، وأن يعقوب صار إلى خاله فخطب إليه ابنته راحيل، وكانت له ابنتان: ليا وهي الكبرى، وراحيل وهي الصغرى، فقال له: هل من مال أزوجك عليه؟ فقال يعقوب: لا، إلا أني أخدمك أجيرا حتى تستوفي صداق

ابنتك، قال: فإن صداقها أن تخدمني سبع حجج قال يعقوب: فزوجني راحيل وهي شرطي، ولها أخدمك، فقال له خاله: ذلك بيني وبينك، فرعى له يعقوب سبع سنين، فلما وفى له شرطه دفع إليه ابنته الكبرى ليا، وأدخلها عليه ليلا، فلما أصبح وجد غير ما شرط، فجاءه يعقوب وهو في نادي قومه فقال له: غررتني وخدعتني واستحللت عملي سبع سنين، ودلست علي غير امرأتي، فقال له خاله: يا بن أختي، أردت أن تدخل على خالك العار والسبة، وهو خالك ووالدك، ومتى رأيت الناس يزوجون الصغرى قبل الكبرى! فهلم فاخدمني سبع حجج أخرى، فأزوجك أختها- وكان الناس يومئذ يجمعون بين الأختين إلى أن بعث موسى ع وأنزل عليه التوراة- فرعى له سبعا، فدفع إليه راحيل، فولدت له ليا أربعة أسباط: روبيل، ويهوذا، وشمعان، ولاوي وولدت له راحيل يوسف وأخاه بنيامين وأخوات لهما، وكان لابان دفع إلى ابنتيه حين جهزهما إلى يعقوب أمتين فوهبتا الأمتين ليعقوب، فولدت كل واحدة منهما له ثلاثة رهط من الأسباط، وفارق يعقوب خاله، وعاد حتى نازل أخاه عيصا وقال بعضهم: ولد ليعقوب دان ونفثالي من زلفة جارية راحيل، وذلك أنها وهبتها له وسألته أن يطلب منها الولد حين تأخر الولد عنها وان ليا وهبت جاريتها بلهه ليعقوب منافسة لراحيل في جاريتها، وسألته أن يطلب منها الولد، فولدت له جاد، وأشير، ثم ولد له من راحيل بعد اليأس يوسف وبنيامين، فانصرف يعقوب بولده هؤلاء وامرأتيه المذكورتين إلى منزل أبيه من فلسطين على خوف شديد من أخيه العيص، فلم ير منه إلا خيرا، وكان العيص فيما ذكر لحق بعمه إسماعيل، فتزوج إليه ابنته بسمة وحملها إلى الشام، فولدت له عدة أولاد فكثروا حتى غلبوا الكنعانيين بالشام، وصاروا إلى البحر وناحية الإسكندرية ثم إلى الروم وكان العيص فيما ذكر يسمى آدم لأدمته قال: ولذلك سمي ولده

ولد الأصفر، وكانت ولادة رفقا بنت بتويل لإسحاق بن إبراهيم ابنيه العيص ويعقوب- بعد أن خلا من عمر إسحاق ستون سنة- توءمين في بطن واحد، والعيص المتقدم منهما خروجا من بطن أمه، فكان إسحاق فيما ذكر يختص العيص، وكانت رفقا أمهما تميل إلى يعقوب، فزعموا أن يعقوب ختل العيص في قربان قرباه بأمر أبيهما إسحاق بعد ما كبرت سن إسحاق، وضعف بصره، فصار أكثر دعاء إسحاق ليعقوب، وتوجهت البركة نحوه بدعاء أبيه إسحاق له، فغاظ ذلك العيص وتوعده بالقتل، فخرج يعقوب هاربا منه إلى خاله لابان ببابل، فوصله لابان وزوجه ابنتيه ليا وراحيل، وانصرف بهما وبجاريتيهما وأولاده الأسباط الاثني عشر وأختهم دينا إلى الشام إلى منزل آبائه، وتألف أخاه العيص حتى نزل له البلاد وتنقل في الشام، حتى صار إلى السواحل ثم عبر إلى الروم فأوطنها، وصار الملوك من ولده وهم اليونانية- فيما زعم هذا القائل. حَدَّثَنَا الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، قال: حَدَّثَنَا أبي، قال: أخبرنا أسباط، عن السدي، قال: تزوج إسحاق امرأة فحملت بغلامين في بطن، فلما أرادت أن تضعهما اقتتل الغلامان في بطنها، فأراد يعقوب أن يخرج قبل عيص، فقال عيص: والله لئن خرجت قبلي لأعترضن في بطن أمي ولأقتلنها، فتأخر يعقوب، وخرج عيص قبله، وأخذ يعقوب بعقب عيص، فخرج فسمي عيصا لأنه عصى، فخرج قبل يعقوب، وسمي يعقوب لأنه خرج آخذا بعقب عيص، وكان يعقوب أكبرهما في البطن، ولكن عيصا خرج قبله، وكبر الغلامان، فكان عيص أحبهما إلى أبيه، وكان يعقوب أحبهما إلى أمه، وكان عيص صاحب صيد، فلما كبر إسحاق

وعمي، قال لعيص: يا بني أطعمني لحم صيد واقترب مني أدع لك بدعاء دعا لي به أبي، وكان عيص رجلا أشعر، وكان يعقوب رجلا أجرد، فخرج عيص يطلب الصيد، وسمعت أمه الكلام فقالت ليعقوب: يا بني، اذهب إلى الغنم فاذبح منها شاة ثم اشوه، والبس جلده وقدمه إلى أبيك، وقل له: أنا ابنك عيص، ففعل ذلك يعقوب، فلما جاء قال: يا أبتاه كل، قال: من أنت؟ قال: أنا ابنك عيص، قال: فمسه، فقال: المس مس عيص، والريح ريح يعقوب، قالت أمه: هو ابنك عيص فادع له، قال: قدم طعامك، فقدمه فأكل منه، ثم قال: ادن مني، فدنا منه، فدعا له أن يجعل في ذريته الأنبياء والملوك، وقام يعقوب، وجاء عيص فقال: قد جئتك بالصيد الذي أمرتني به، فقال: يا بني قد سبقك أخوك يعقوب، فغضب عيص وقال: والله لأقتلنه، قال: يا بني قد بقيت لك دعوة، فهلم أدع لك بها، فدعا له فقال: تكون ذريتك عددا كثيرا كالتراب ولا يملكهم أحد غيرهم، وقالت أم يعقوب ليعقوب: الحق بخالك فكن عنده خشية أن يقتلك عيص، فانطلق إلى خاله، فكان يسري بالليل ويكمن بالنهار، ولذلك سمي إسرائيل، وهو سري الله، فأتى خاله وقال عيص: أما إذ غلبتني على الدعوى فلا تغلبني على القبر، أن أدفن عند آبائي: إبراهيم وإسحاق، فقال: لئن فعلت لتدفنن معه. ثم ان يعقوب ع هوى ابنة خاله- وكانت له ابنتان- فخطب إلى أبيهما الصغرى منهما، فأنكحها إياه على أن يرعى غنمه إلى أجل مسمى، فلما انقضى الأجل زف إليه أختها ليا، قال يعقوب: إنما أردت راحيل، فقال له خاله: إنا لا ينكح فينا الصغير قبل الكبير، ولكن ارع لنا أيضا وأنكحها، ففعل فلما انقضى الأجل زوجه راحيل أيضا، فجمع يعقوب بينهما، فذلك قول الله: «وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ» . يقول: جمع يعقوب بين ليا وراحيل، فحملت ليا فولدت يهوذا،

وروبيل، وشمعون وولدت راحيل يوسف، وبنيامين، وماتت راحيل في نفاسها ببنيامين، يقول: من وجع النفاس الذى ماتت فيه. وقطع خال يعقوب ليعقوب قطيعا من الغنم، فأراد الرجوع إلى بيت المقدس، فلما ارتحلوا لم يكن له نفقة، فقالت امرأة يعقوب ليوسف: خذ من أصنام أبي لعلنا نستنفق منه فأخذ، وكان الغلامان في حجر يعقوب، فأحبهما وعطف عليهما ليتمهما من أمهما، وكان أحب الخلق اليه يوسف ع، فلما قدموا أرض الشام، قال يعقوب لراع من الرعاة: إن أتاكم أحد يسألكم: من أنتم؟ فقولوا: نحن ليعقوب عبد عيص، فلقيهم عيص فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن ليعقوب عبد عيص، فكف عيص عن يعقوب، ونزل يعقوب بالشام، فكان همه يوسف وأخوه، فحسده إخوته لما رأوا من حب أبيه له، ورأى يوسف في المنام كأن أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رآهم ساجدين له، فحدث أباه بها فقال: «يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ»

ذكر أيوب ع

ذكر أيوب ع ومن ولده- فيما قيل- أيوب نبي الله، وهو فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ لا يَتَّهِمُ، عَنْ وهب بن منبه، أن أيوب كان رجلا من الروم، وهو أيوب بن موص بن رازح بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم. وأما غير ابن إسحاق فإنه يقول: هو أيوب بن موص بن رغويل بن العيص ابن إسحاق بن ابراهيم. وكان بعضهم يقول: هو أيوب بن موص بن رعويل ويقول: كان أبوه ممن آمن بابراهيم ع يوم احرقه نمرود، وكانت زوجته التي أمر بضربها بالضغث ابنة ليعقوب بن إسحاق، يقال: لها ليا، كان يعقوب زوجها منه. وحدثني الحسين بن عمرو بن محمد، قال: حدثنا أبي، قال: أخبرنا غياث بن إبراهيم، قال: ذكر- والله أعلم- أن عدو الله إبليس لقي امرأة أيوب- وذكر أنها كانت ليا بنت يعقوب- فقال: يا ليا ابنة الصديق وأخت الصديق. وكانت أم أيوب ابنة للوط بن هاران. وقيل: إن زوجته التي أمر بضربها بالضغث هي رحمه بنت افراييم بن يوسف بن يعقوب، وكانت لها البثنية من الشام كلها بما فيها، وكان- فيما ذكر- عن وهب بن منبه في الخبر الذي حدثنيه محمد بن سهل بن عسكر البخاري، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ابو هشام، قال: حدثنى عبد الصمد ابن معقل، قال: سمعت وهب بن منبه يقول: إن إبليس لعنه الله سمع تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب، وذلك حين ذكره الله تعالى وأثنى عليه، فأدركه

البغي والحسد، فسأل الله أن يسلطه عليه ليفتنه عن دينه، فسلطه الله على ماله دون جسده وعقله، وجمع إبليس عفاريت الشياطين وعظماءهم، وكان لأيوب البثنية من الشام كلها بما فيها بين شرقها وغربها، وكان بها الف شاه برعاتها، وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد، لكل عبد امرأة وولد ومال، ويحمل آلة كل فدان أتان، لكل أتان ولد، بين اثنين وثلاثة وأربعة وخمسة وفوق ذلك فلما جمعهم إبليس، قال: ماذا عندكم من القوة والمعرفة؟ فإني قد سلطت على مال أيوب، فهي المصيبة الفادحة والفتنة التي لا يصبر عليها الرجال فقال كل من عنده قوه على اهلاك شيء ما عنده فأرسلهم فأهلكوا ماله كله، وأيوب في كل ذلك يحمد الله ولا يثنيه شيء أصيب به من ماله عن الجد في عبادة الله تعالى والشكر له على ما أعطاه، والصبر على ما ابتلاه به فلما رأى ذلك من أمره إبليس لعنه الله سال الله تعالى ان يسلطه على ولده، فسلطه عليهم، ولم يجعل له سلطانا على جسده وقلبه وعقله، فأهلك ولده كلهم، ثم جاء إليه متمثلا بمعلمهم الذي كان يعلمهم الحكمة جريحا مشدوخا يرققه حتى رق أيوب فبكى، فقبض قبضة من تراب فوضعها على رأسه، فسر بذلك إبليس، واغتنمه من أيوب ع. ثم إن أيوب تاب واستغفر، فصعدت قرناؤه من الملائكة بتوبته فبدروا إبليس إلى الله عز وجل فلما لم يثن أيوب ع ما حل به من المصيبة في ماله وولده عن عبادة ربه، والجد في طاعته، والصبر على ما ناله، سأل الله عز وجل إبليس أن يسلطه على جسده، فسلطه على جسده خلا لسانه وقلبه وعقله، فإنه لم يجعل له على ذلك منه سلطانا، فجاءه وهو ساجد، فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده، فصار من جملة أمره إلى أن أنتن

جسده، فأخرجه أهل القرية من القرية إلى كناسة خارج القرية لا يقربه أحد إلا زوجته وقد ذكرت اختلاف الناس في اسمها ونسبها قبل ثم رجع الحديث إلى حديث وهب بن منبه: وكانت زوجته تختلف إليه بما يصلحه وتلزمه، وكان قد اتبعه ثلاثة نفر على دينه، فلما رأوا ما نزل به من البلاء رفضوه واتهموه من غير أن يتركوا دينه، يقال لأحدهم بلدد، وللآخر اليفز وللثالث صافر فانطلقوا إليه وهو في بلائه فبكتوه، فلما سمع أيوب ع كلامهم أقبل على ربه يستغيثه ويتضرع إليه، فرحمه ربه ورفع عنه البلاء، ورد عليه أهله وماله ومثلهم معهم، وقال له: «ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ» ، فاغتسل به فعاد كهيئته قبل البلاء في الحسن والجمال. فحدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: حَدَّثَنَا فضيل بن عياض، عن هشام، عن الحسن، قال: لقد مكث أيوب ع مطروحا على كناسة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهرا، ما يسأل الله عز وجل أن يكشف ما به، قال: فما على وجه الأرض أكرم على الله من أيوب، فيزعمون أن بعض الناس قال: لو كان لرب هذا فيه حاجة ما صنع به هذا! فعند ذلك دعا. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ علية، عن يونس، عن الحسن، قال: بقي أيوب ع على كناسة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهرا اختلف فيها الرواة. فهذه جملة من خبر أيوب ص، وإنما قدمنا ذكر خبره وقصته قبل خبر يوسف وقصته لما ذكر من أمره، وأنه كان نبيا في عهد يعقوب أبي يوسف ع. وذكر أن عمر أيوب كان ثلاثا وتسعين سنة، وأنه أوصى عند موته إلى

ذكر خبر شعيب ص

ابنه حومل، وأن الله عز وجل بعث بعده ابنه بشر بن أيوب نبيا، وسماه ذا الكفل وأمره بالدعاء إلى توحيده، وأنه كان مقيما بالشام عمره حتى مات، وكان عمره خمسا وسبعين سنة، وأن بشرا أوصى إلى ابنه عبدان، وأن الله عز وجل بعث بعده شعيب بن صيفون بن عيفا بن نابت بن مدين ابن إبراهيم إلى أهل مدين. وقد اختلف في نسب شعيب فنسبه أهل التوراة النسب الذي ذكرت. وكان ابن إسحاق يقول: هو شعيب بن ميكائيل من ولد مدين، حَدَّثَنِي بذلك ابن حميد، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق. وقال بعضهم: لم يكن شعيب من ولد إبراهيم، وإنما هو من ولد بعض من كان آمن بإبراهيم واتبعه على دينه، وهاجر معه إلى الشام، ولكنه ابن بنت لوط فجدة شعيب ابنه لوط . ذكر خبر شعيب ص وقيل ان اسم شعيب يزون، وقد ذكرت نسبه واختلاف أهل الأنساب في نسبه، وكان- فيما ذكر- ضرير البصر. حَدَّثَنِي عبد الأعلى بن واصل الأسدي، قال: حَدَّثَنَا أسيد بن زيد الجصاص، قال: أخبرنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير في قوله: «وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً» ، قال: كان أعمى

حَدَّثَنَا أحمد بن الوليد الرملي، قال: حَدَّثَنَا ابراهيم بن زياد وإسحاق ابن المنذر وعبد الملك بن يزيد، قالوا: حَدَّثَنَا شريك، عن سالم، عن سعيد، مثله. حَدَّثَنِي أحمد بن الوليد، قال: حَدَّثَنَا عمرو بن عون ومحمد بن الصباح، قالا: سمعنا شريكا يقول في قوله: «وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً» ، قال: أعمى. حَدَّثَنِي أحمد بن الوليد، قال: حَدَّثَنَا سعدويه، قال: حَدَّثَنَا عباد، عن شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير، مثله. حَدَّثَنِي المثنى، قال: حَدَّثَنَا الحماني، قال: حَدَّثَنَا عباد، عن شريك، عن سالم، عن سعيد: «وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً» ، قال: كان ضرير البصر. حَدَّثَنِي العباس بن أبي طالب، قال: حَدَّثَنَا إبراهيم بن مهدي المصيصي، قال: حَدَّثَنَا خلف بن خليفة، عن سفيان، عن سالم، عن سعيد بن جبير: «وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً» ، قال: كان ضعيف البصر حَدَّثَنِي المثنى، قال: حَدَّثَنَا أبو نعيم، قال: حَدَّثَنَا سفيان، قوله تعالى: «وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً» ، قال: كان ضعيف البصر قال سفيان: وكان يقال له خطيب الأنبياء، وإن الله تبارك وتعالى بعثه نبيا إلى أهل مدين، وهم أصحاب الأيكة- والأيكة الشجر الملتف- وكانوا أهل كفر بالله وبخس للناس في المكاييل والموازين وإفساد لأموالهم، وكان الله عز وجل وسع عليهم في الرزق، وبسط لهم في العيش استدراجا منه لهم، مع كفرهم به، فقال لهم شعيب ع: «يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ» . فكان من قول شعيب لقومه وجواب قومه له ما ذكره الله عز وجل في كتابه

فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: قال ابن إسحاق: فكان رسول الله ص- فِيمَا ذَكَرَ لِي يَعْقُوبُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ- إِذَا ذَكَرَهُ قَالَ: ذَاكَ خَطِيبُ الأَنْبِيَاءِ، لِحُسْنِ مُرَاجَعَتِهِ قَوْمَهُ فِيمَا يُرَادُّهُمْ بِهِ. فَلَمَّا طَالَ تَمَادِيهِمْ فِي غَيِّهِمْ وَضَلالِهِمْ، وَلَمْ يَرُدَّهُمْ تَذْكِيرُ شُعَيْبٍ إِيَّاهُمْ، وَتَحْذِيرُهُمْ عَذَابَ اللَّهِ لَهُمْ وَأَرَادَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتعَالَى هَلاكَهُمْ، سَلَّطَ عَلَيْهِمْ- فِيمَا حَدَّثَنِي الْحَارِثُ- قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى الأَشْيَبُ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ أَخُو حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: «فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: بَعَثَ اللَّهُ وبدة وَحَرًّا شَدِيدًا، فَأَخَذَ بِأَنْفَاسِهِمْ فَدَخَلُوا أَجْوَافَ الْبُيُوتِ، فدخل عليهم أَجْوَافَ الْبُيُوتِ فَأَخَذَ بِأَنْفَاسِهِمْ، فَخَرَجُوا مِنَ الْبُيُوتِ هِرَابًا إِلَى الْبَرِّيَّةِ فَبَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سَحَابَةً، فَأَظَلَّتْهُمْ مِنَ الشَّمْسِ، فَوَجَدُوا لَهَا بَرْدًا وَلَذَّةً، فَنَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى إِذَا اجْتَمَعُوا تَحْتَهَا أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا، قَالَ عَبْدُ الله ابن عَبَّاسٍ: فَذَاكَ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، «إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» . حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابن وهب، قال: حَدَّثَنِي جرير بن حازم أنه سمع قتادة يقول: بعث شعيب إلى أمتين: إلى قومه أهل مدين، وإلى أصحاب الأيكة، وكانت الأيكة من شجر ملتف، فلما أراد الله عز وجل أن يعذبهم بعث عليهم حرا شديدا، ورفع لهم العذاب كأنه سحابة، فلما دنت منهم خرجوا إليها رجاء بردها، فلما كانوا تحتها امطرت

عليهم نارا، قال: فذلك قوله تعالى: «فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ» . حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني أبو سفيان، عن معمر بن راشد، قال: حَدَّثَنِي رجل من أصحابنا عن بعض العلماء، قال: كانوا- يعني قوم شعيب- عطلوا حدا، فوسع الله عليهم في الرزق، ثم عطلوا حدا فوسع الله عليهم في الرزق، فجعلوا كلما عطلوا حدا وسع الله عليهم في الرزق، حتى إذا أراد الله هلاكهم سلط عليهم حرا لا يستطيعون أن يتقاروا، ولا ينفعهم ظل ولا ماء، حتى ذهب ذاهب منهم فاستظل تحت ظله فوجد روحا، فنادى أصحابه: هلموا إلى الروح، فذهبوا إليه سراعا، حتى إذا اجتمعوا ألهبها الله عليهم نارا، فذلك عذاب يوم الظلة. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن زيد بن معاوية في قوله تعالى: «فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ» ، قال: أصابهم حر قلقلهم في بيوتهم، فنشأت سحابة كهيئة الظلة فابتدروها، فلما ناموا تحتها أخذتهم الرجفة حَدَّثَنِي محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى. وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: «عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ» ، قال: ظلال العذاب. حَدَّثَنِي القاسم، قال: حَدَّثَنَا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله: «فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ» ، قال: أظل العذاب قوم شعيب قال ابن جريج: لما أنزل الله تعالى عليهم أول العذاب أخذهم منه حر شديد، فرفع الله لهم غمامة، فخرج إليها طائفة منهم ليستظلوا بها، فأصابهم منها برد وروح وريح طيبة، فصب الله عليهم من فوقهم من تلك الغمامة عذابا، فذلك قوله: «عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ»

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: «فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» ، قال: بعث الله عز وجل إليهم ظلة من سحاب، وبعث الله إلى الشمس فأحرقت ما على وجه الأرض، فخرجوا كلهم إلى تلك الظلة، حتى إذا اجتمعوا كلهم كشف الله عنهم الظلة، وأحمى عليهم الشمس، فاحترقوا كما يحترق الجراد في المقلى. حَدَّثَنَا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا ابو ثميله، عن أبي حمزة، عن جابر، عن عامر، عن ابن عباس، قال: من حدثك من العلماء، ما عذاب يوم الظلة، فكذبه. حدثنى محمود بن خداش، حَدَّثَنَا حماد بن خالد الخياط، قال، حَدَّثَنَا داود بن قيس، عن زيد بن أسلم في قوله عز وجل: «أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا» ، قال: كان مما ينهاهم عنه حذف الدراهم- أو قال: قطع الدراهم، الشك من حماد. حدثنا سهل بن موسى الرازي، قال: حدثنا ابن أبي فديك، عن أبي مودود قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: بلغني أن قوم شعيب عذبوا في قطع الدراهم، ثم وجدت ذلك في القرآن: «أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا» . حَدَّثَنَا ابن وكيع، قال: حَدَّثَنَا زيد بن حباب، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي، قال: عذب قوم شعيب في قطعهم الدراهم، فقالوا: «يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ ان نفعل في أموالنا ما نشاء» . ونرجع الآن إلى:

ذكر يعقوب واولاده

ذكر يعقوب وأولاده ذكروا والله أعلم أن إسحاق بن ابراهيم عاش بعد ما ولد له العيص ويعقوب مائة سنة، ثم توفي وله مائة وستون سنة فقبره ابناه: العيص ويعقوب عند قبر ابيه ابراهيم في مزرعه حبرون، وكان عمر يعقوب بن إسحاق كله مائة وسبعا وأربعين سنة، وكان ابنه يوسف قد قسم له ولأمه من الحسن ما لم يقسم لكثير من احد من الناس. وَقَدْ حَدَّثَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدُ بْنُ ثَابِتٍ الرَّازِيَّانِ، قَالا: حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: أخبرنا ثابت البناني عن انس [عن النبي ص، قَالَ: أُعْطِيَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ شَطْرَ الْحُسْنِ] . وَإِنَّ أُمَّهُ رَاحِيلَ لَمَّا وَلَدَتْهُ دَفَعَهُ زَوْجُهَا يَعْقُوبُ إِلَى أُخْتِهِ تَحْضُنُهُ، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِ وَشَأْنِ عَمَّتِهِ الَّتِي كَانَتْ تَحْضُنُهُ ما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: كان أول ما دخل على يوسف من البلاء فيما بلغني أن عمته ابنة إسحاق، وكانت أكبر ولد إسحاق، وكانت إليها صارت منطقة إسحاق، وكانوا يتوارثونها بالكبر، فكان من اختانها من وليها كان له سلما لا ينازع فيه، يصنع فيه ما شاء، وكان يعقوب حين ولد له يوسف قد كان حضنته عمته، فكان معها واليها، فلم يحب أحد شيئا من الأشياء حبها إياه، حتى إذا ترعرع

وبلغ سنوات، ووقعت نفس يعقوب عليه، أتاها فقال: يا أخيه سلمى الى يوسف، فو الله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة، قالت: والله ما انا بتاركته، قال: فو الله ما أنا بتاركه قالت: فدعه عندي أياما أنظر إليه وأسكن عنه، لعل ذلك يسليني عنه- أو كما قالت- فلما خرج من عندها يعقوب عمدت إلى منطقة إسحاق فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه، ثم قالت: لقد فقدت منطقة إسحاق، فانظروا من أخذها ومن أصابها، فالتمست ثم قالت: كشفوا أهل البيت، فكشفوهم فوجدوها مع يوسف، فقالت: والله إنه لي لسلم أصنع فيه ما شئت قال: وأتاها يعقوب فأخبرته الخبر، فقال لها: أنت وذاك، إن كان فعل ذلك فهو سلم لك، ما أستطيع غير ذلك فأمسكته، فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت قال: فهو الذي يقول إخوة يوسف حين صنع بأخيه ما صنع حين أخذه: «إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ» . قال أبو جعفر: فلما رأت إخوة يوسف شدة حب والدهم يعقوب إياه في صباه وطفولته وقلة صبره عنه حسدوه على مكانه منه وقال بعضهم لبعض: «لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ، يعنون بالعصبة الجماعة، وكانوا عشرة: إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» . ثم كان من أمره وأمر يعقوب ما قد قص الله تبارك وتعالى في كتابه من مسألتهم إياه إرساله إلى الصحراء معهم، ليسعى وينشط ويلعب، وضمانهم له حفظه، وإعلام يعقوب إياهم حزنه بمغيبه عنه، وخوفه عليه من الذئب، وخداعهم والدهم بالكذب من القول والزور عن يوسف، ثم إرساله معهم

وخروجهم به وعزمهم حين برزوا به إلى الصحراء على إلقائه في غيابة الجب، فكان من أمره حينئذ- فيما ذكر- ما حَدَّثَنَا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد العنقزى، عن اسباط، عن السدى قال: ارسله- يعني يعقوب يوسف- معهم، فأخرجوه وبه عليهم كرامة، فلما برزوا إلى البرية أظهروا له العداوة، وجعل أخوه يضربه فيستغيث بالآخر فيضربه، فجعل لا يرى منهم رحيما، فضربوه حتى كادوا يقتلونه، فجعل يصيح ويقول: يا أبتاه يا يعقوب! لو تعلم ما يصنع بابنك بنو الإماء! فلما كادوا يقتلونه، قال يهوذا: أليس قد أعطيتموني موثقا ألا تقتلوه! فانطلقوا به إلى الجب ليطرحوه، فجعلوا يدلونه في البئر فيتعلق بشفيرها، فربطوا يديه، ونزعوا قميصه، فقال: يا إخوتاه، ردوا علي قميصي أتوارى به في الجب! فقالوا: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا تؤنسك، قال: إني لم أر شيئا، فدلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت فكان في البئر ماء، فسقط فيه، ثم أوى إلى صخرة فيها، فقام عليها فلما ألقوه في الجب جعل يبكي، فنادوه، فظن أنها رحمة أدركتهم، فأجابهم، فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فيقتلوه، فقام يهوذا فمنعهم وقال: قد أعطيتموني موثقا ألا تقتلوه، وكان يهوذا يأتيه بالطعام. ثم خبره تبارك وتعالى عن وحيه الى يوسف ع وهو في الجب لينبئن إخوته الذين فعلوا به ما فعلوا بفعلهم ذلك وهم لا يشعرون بالوحي الذي أوحى إلى يوسف كذلك روي ذلك عن قتادة حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الصَّنْعَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ قتادة: «وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا، قال: أوحى إلى يوسف وهو في الجب أن ينبئهم بما صنعوا به وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» بذلك الوحي

حَدَّثَنِي المثنى، قال: حَدَّثَنَا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة بنحوه، إلا أنه قال: أن سينبئهم. وقيل معنى ذلك: وهم لا يشعرون أنه يوسف، وذلك قول يروى عن ابْنِ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا صَدَقَةُ بْنُ عُبَادَةَ الأَسَدِيُّ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ ذَاكَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ جُرَيْجٍ. ثُمَّ خَبَّرَهُ تَعَالَى عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ وَمَجِيئِهِمْ إِلَى أَبِيهِ عَشَاءً يَبْكُونَ، يَذْكُرُونَ لَهُ أَنَّ يُوسُفَ أَكَلَهُ الذِّئْبُ، وَقَوْلُ وَالِدِهِمْ: «بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ» . ثُمَّ خَبَّرَهُ جَلَّ جَلالُهُ عَنْ مَجِيءِ السَّيَّارَةِ، وَإِرْسَالِهِمْ وَارِدَهُمْ وَإِخْرَاجِ الْوَارِدِ يُوسُفَ وَإِعْلامِهِ أَصْحَابَهُ به بقوله: «يا بُشْرى هذا غُلامٌ» يبشرهم. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قال: حَدَّثَنَا سعيد، عن قتادة، قال: «يا بُشْرى هذا غُلامٌ» ، تباشروا به حين أخرجوه- وهي بئر بأرض بيت المقدس معلوم مكانها. وقد قيل: إنما نادى الذي أخرج يوسف من البئر صاحبا له يسمى بشرى، فناداه باسمه الذي هو اسمه كذلك ذكر عن السدي حَدَّثَنَا الحسن بن محمد، حَدَّثَنَا خلف بن هشام، قال: حَدَّثَنَا يحيى بن آدم، عن قيس بن الربيع، عن السدي في قوله: «يا بُشْرى» ، قال: كان اسم صاحبه بشرى

حَدَّثَنِي المثنى، قال: حَدَّثَنَا عبد الرحمن بن أبي حماد، قال: حَدَّثَنَا الحكم بن ظهير، عن السدى في قوله: «يا بُشْرى هذا غُلامٌ» ، قال: اسم الغلام بشرى، كما تقول: يا زيد. ثم خبره عز وجل عن السيارة وواردهم الذي استخرج يوسف من الجب إذ اشتروه من إخوته «بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ» ، على زهد فيه وإسرارهم إياه بضاعة، خيفة ممن معهم من التجار مسألتهم الشركة فيه، إن هم علموا أنهم اشتروه. كذلك قال في ذلك أهل التأويل: حَدَّثَنِي محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: «وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً» ، قال: صاحب الدلو ومن معه قالوا لأصحابهم: إنا استبضعناه خيفة أن يستشركوهم فيه إن علموا بثمنه، وتبعهم إخوته يقولون للمدلي وأصحابه: استوثقوا منه لا يأبق، حتى وقفوه بمصر فقال: من يبتاعني ويبشر! فاشتراه الملك، والملك مسلم. حَدَّثَنَا الحسن بن مُحَمَّد، قَالَ: حَدَّثَنَا شبابة، قَالَ: حَدَّثَنَا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه، غير أنه قَالَ: خيفة أن يستشركوهم إن علموا به، واتبعهم إخوته، يقولون للمدلي وأصحابه: استوثقوا منه لا يأبق حتى وقفوه بمصر. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قال، حدثنا عمرو بن حماد، عن أسباط، عَنِ السُّدِّيِّ: «وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً» ، قَالَ: لما اشتراه الرجلان فرقوا من الرفقة أن يقولوا: اشتريناه فيسالونهم الشركة فيه فقالوا: إن سألونا: ما هذا؟ قلنا: بضاعة، استبضعناه أهل الماء، فذلك قوله: «وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً»

فكان بيعهم إياه ممن باعوه منه بثمن بخس، وذلك الناقص القليل من الثمن الحرام. وقيل إنهم باعوه بعشرين درهما، ثم اقتسموها- وهم عشرة- درهمين درهمين، وأخذوا العشرين معدودة بغير وزن، لأن الدراهم حينئذ- فيما قيل- إذا كانت أقل من أوقية وزنها أربعون درهما لم تكن توزن، لأن أقل أوزانهم يومئذ كانت أوقية. وقد قيل: إنهم باعوه بأربعين درهما وقيل: باعوه باثنين وعشرين درهما. وذكر أن بائعه الذي باعه بمصر كان مالك بن دعر بن يوبب ابن عفقان بن مديان بن ابراهيم الخليل ع حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَمَّا الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهَا وَقَالَ: «لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ» ، فَإِنَّ اسْمَهُ- فِيمَا ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- قطفير حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ اسْمُ الَّذِي اشْتَرَاهُ قِطْفِيرَ. وَقِيلَ إِنَّ اسْمَهُ أَطْفِيرُ، بْنُ رُوحَيْبٍ، وَهُوَ الْعَزِيزُ، وَكَانَ عَلَى خَزَائِنِ مِصْرَ، وَالْمَلِكُ يَوْمَئِذٍ الرَّيَّانُ بْنُ الْوَلِيدِ، رَجُلٌ مِنَ الْعَمَالِيقِ، كَذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ. فَأَمَّا غَيْرُهُ فَإِنَّهُ قَالَ: كَانَ يَوْمَئِذٍ الْمَلِكُ بِمِصْرَ وَفِرْعُونُهَا الريان بن الوليد بن ثروان بن أراشة بن قاران بن عمرو بن عملاق بن لاوِذَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ

وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا الْمَلِكَ لَمْ يَمُتْ حَتَّى آمَنَ وَاتَّبَعَ يُوسُفَ عَلَى دِينِهِ، ثُمَّ مَاتَ وَيُوسُفُ بَعْدُ حَيٌّ، ثُمَّ مَلَكَ بعده قابوس بن مصعب بن معاوية بن نمير بن السلواس بن قاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَكَانَ كَافِرًا، فَدَعَاهُ يُوسُفَ إِلَى الإِسْلامِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ. وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ التَّوْرَاةِ أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ: إِنَّ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِ يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ وَالْمَصِيرِ بِهِ إِلَى مِصْرَ، وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً يَوْمَئِذٍ، وَإِنَّهُ أَقَامَ فِي مَنْزِلِ الْعَزِيزِ الَّذِي اشْتَرَاهُ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَإِنَّهُ لَمَّا تَمَّتْ لَهُ ثَلاثُونَ سَنَةً اسْتَوْزَرَهُ فِرْعَوْنُ مِصْرَ، الْوَلِيدُ بْنُ الرَّيَّانِ، وَإِنَّهُ مَاتَ يَوْمَ مَاتَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ وَعَشْرِ سِنِينَ وَأَوْصَى إِلَى أَخِيهِ يَهُوذَا، وَإِنَّهُ كَانَ بَيْنَ فِرَاقِهِ يَعْقُوبَ وَاجْتِمَاعِهِ مَعَهُ بِمِصْرَ اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَإِنَّ مَقَامَ يَعْقُوبَ مَعَهُ بِمِصْرَ بَعْدَ مُوَافَاتِهِ بِأَهْلِهِ سبع عشره سنه، وان يعقوب ص اوصى الى يوسف ع. وكان دخول يعقوب مصر في سبعين إنسانا مِنْ أَهْلِهِ، فَلَمَّا اشْتَرَى أطفيرُ يُوسُفَ، وَأَتَى بِهِ مَنْزِلَهُ، قَالَ لأَهْلِهِ وَاسْمُهَا- فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إِسْحَاقَ- راعيل: «أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا» فيكفينا إذا هو بلغ وفهم الأمور بعض ما نحن بسبيله من أمورنا: «أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً» ، وذلك أنه كان- فيما حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عن ابن إسحاق- رجلا لا يأتي النساء، وكانت امرأته راعيل حسناء ناعمة في ملك ودنيا، فلما خلا من عمر يوسف ع ثلاث وثلاثون سنة أعطاه الله عز وجل الحكم والعلم. حَدَّثَنِي المثنى، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: «آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً» : قَالَ: العقل والعلم قبل النبوة

«وَراوَدَتْهُ حين بلغ من السن أشده الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ- وهي راعيل امرأة العزيز أطفير- وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ» عليه وعليها للذي أرادت منه، وجعلت- فيما ذكر- تذكر ليوسف محاسنه تشوقه بذلك إلى نفسها. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد، عن أسباط، عن السدي: «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها» ، قَالَ: قالت له يا يوسف: ما أحسن شعرك! قَالَ: هو أول ما ينتثر من جسدي، قالت: يا يوسف ما أحسن عينيك! قَالَ: هي أول ما يسيل إلى الأرض من جسدي، قالت: يا يوسف ما أحسن وجهك! قَالَ: هو للتراب يأكله، فلم تزل حتى أطمعته فهمت به وهم بها، فدخلا البيت وغلقت الأبواب، وذهب ليحل سراويله فإذا هو بصورة يعقوب قائما في البيت قد عض على إصبعه يقول: يا يوسف لا تواقعها، فإنما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير في جو السماء لا يطاق، ومثلك إن واقعتها مثله إذا مات وقع في الأرض لا يستطيع أن يدفع عن نفسه. ومثلك ما لم تواقعها مثل الثور الصعب الذي لا يعمل عليه، ومثلك إن واقعتها مثل الثور حين يموت فيدخل النمل في أصل قرنيه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه فربط سراويله، وذهب ليخرج يشتد، فأدركته فأخذت بمؤخر قميصه من خلفه فخرقته حتى أخرجته منه، وسقط وطرحه يوسف، واشتد نحو الباب. وَقَدْ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَابْنُ وَكِيعٍ وَسَهْلُ بْنُ مُوسَى، قَالُوا: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: سُئِلَ عَنْ هَمِّ يُوسُفَ مَا بَلَغَ؟ قَالَ: حَلَّ الْهِمْيَانَ، وَجَلَسَ مِنْهَا مَجْلِسَ الْحَائِزِ

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: مَا بَلَغَ مِنْ هَمِّ يُوسُفَ؟ قَالَ: اسْتَلْقَتْ لَهُ وَجَلَسَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا يَنْزِعُ ثِيَابَهُ، فَصَرَفَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَا كَانَ هَمَّ بِهِ مِنَ السُّوءِ بِمَا رَأَى مِنَ الْبُرْهَانِ الَّذِي أَرَاهُ اللَّهُ، فَذَلِكَ- فِيمَا قَالَ بَعْضُهُمْ- صُورَةُ يَعْقُوبَ عَاضًّا عَلَى إِصْبَعِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُودِيَ مِنْ جَانِبِ الْبَيْتِ: أَتَزْنِي فَتَكُونُ كَالطَّيْرِ وَقَعَ رِيشُهُ، فَذَهَبَ يَطِيرُ وَلا رِيشَ لَهُ! وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَى فِي الْحَائِطِ مَكْتُوبًا: «وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا» فَقَامَ حِينَ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ هَارِبًا يُرِيدُ باب البيت، فرارا مما ارادته، وَاتَّبَعَتْهُ رَاعِيلُ فَأَدْرَكَتْهُ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنَ الْبَابِ، فَجَذَبَتْهُ بِقَمِيصِهِ مِنْ قِبَلِ ظَهْرِهِ، فَقَدَّتْ قَمِيصَهُ وَأَلْفَى يُوسُفُ وَرَاعِيلُ سَيِّدَهَا- وَهُوَ زَوْجُهَا أطفيرُ- جَالِسًا عِنْدَ الْبَابِ، مَعَ ابْنِ عَمٍّ لِرَاعِيلَ. كذلك حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عمرو بن مُحَمَّد، عن أسباط، عن السدي،: «وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ» قَالَ: كان جالسا عند الباب وابن عمها معه، فلما رأته قالت: «مَا جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ، إنه راودني عن نفسي، فدفعته عن نفسي فأبيت فشققت قميصه قال يوسف: بل هي راودتني عن نفسي، فأبيت وفررت منها، فأدركتني فشقت قميصي فقال ابن عمها: تبيان هذا في القميص، فإن كان القميص «قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ» ، وإن كان القميص قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ» ، فأتي بالقميص، فوجده قد من دبر، قَالَ: «إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَ

عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ» . حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا شيبان، عن أبي إسحاق، عن نوف الشامي، قَالَ: ما كان يوسف يريد أن يذكره حتى قالت: «مَا جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ، قَالَ: فغضب وقالَ: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي» . وقد اختلف في الشاهد الذي شهد من أهلها «إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ» ، فقال بعضهم: ما ذكرت عن السدي. وقال بعضهم: كان صبيا في المهد، وقد روي في ذلك عن رسول الله مَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَطَاءُ بن السائب، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عن [النبي ص، قَالَ: تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ وَهُمْ صِغَارٌ، فَذَكَرَ فِيهِمْ شَاهِدَ يُوسُفَ] حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَلاءُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ وَهُمْ صِغَارٌ: ابْنُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى بن مَرْيَمَ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الشَّاهِدَ كَانَ هُوَ الْقَمِيصُ وَقَدُّهُ مِنْ دُبُرِهِ. ذكر بعض من قَالَ ذلك: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن عمرو، قَالَ: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: «وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها»

قَالَ: قميصه مشقوق من دبره فتلك الشهادة، فلما رأى زوج المرأة قميص يوسف قد من دبر قَالَ لراعيل زوجته: «إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ» ، ثم قَالَ ليوسف: أَعْرِضْ عَنْ ذكر ما كان منها من مراودتها إياك عن نفسها فلا تذكره لأحد، ثم قَالَ لزوجته: «اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ» . وتحدث النساء بأمر يوسف وأمر امرأة العزيز بمصر ومراودتها إياه على نفسها فلم ينكتم، وقلن: «امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا» ، قد وصل حب يوسف إلى شغاف قلبها فدخل تحته حتى غلب على قلبها وشغاف القلب: غلافه وحجابه. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حدثنا عمرو بن محمد، عن أسباط، عن السدى: «قَدْ شَغَفَها حُبًّا» قال: والشغاف جلدة على القلب يقال لها لسان القلب، يقول: دخل الحب الجلد حتى أصاب القلب، فلما سمعت امرأة العزيز بمكرهن وتحدثهن بينهن بشأنها وشأن يوسف، وبلغها ذلك أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ يتكئن عليه إذا حضرنها من وسائد وحضرنها فقدمت إليهن طعاما وشرابا وأترجا، وأعطت كل واحدة منهن سكينا تقطع به الأترج. حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُدَيْنَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً» ، قَالَ: أَعْطَتْهُنَّ أُتْرُجًّا، وَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا. فَلَمَّا فَعَلَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ ذَلِكَ بِهِنَّ، وَقَدْ أَجْلَسَتْ يُوسُفَ فِي بَيْتٍ وَمَجْلِسٍ غَيْرِ الْمَجْلِسِ الَّذِي هُنَّ فِيهِ جُلُوسٌ، قَالَتْ لِيُوسُفَ: «اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ» ،

فَخَرَجَ يُوسُفُ عَلَيْهِنَّ، فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَجْلَلْنَهُ وَأَكْبَرْنَهُ وَأَعْظَمْنَهُ، وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ بِالسَّكَاكِينِ الَّتِي فِي أَيْدِيهِنَّ، وَهُنَّ يَحْسَبْنَ أَنَّهُنَّ يُقَطِّعْنَ بِهَا الأُتْرُجَّ، وَقُلْنَ: مَعَاذَ اللَّهِ مَا هَذَا إِنْسٌ، «إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ» فَلَمَّا حَلَّ بِهِنَّ مَا حَلَّ مِنْ قَطْعِ أَيْدِيهِنَّ مِنْ أَجْلِ نَظْرَةٍ نَظَرْنَهَا إِلَى يُوسُفَ وذهاب عقولهن، وعرفتهن خطا قيلهن: «امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ» ، وَإِنْكَارِهِنَّ مَا أَنْكَرْنَ مِنْ أَمْرِهَا أَقَرَّتْ عِنْدَ ذَلِكَ لَهُنَّ بِمَا كَانَ مِنْ مُرَاوَدَتِهَا إِيَّاهُ عَلَى نَفْسِهَا، فَقَالَتْ: «فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ» ، بَعْدَ مَا حَلَّ سَرَاوِيلَهُ. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن مُحَمَّد، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ: «قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ» ، تقول: بعد ما حل السراويل استعصم، لا أدري ما بدا له! ثم قالت لهن: «وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ» من إتيانها «لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ» ، فاختار السجن على الزنا ومعصية ربه، فقال: «رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ» . حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن مُحَمَّد، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ: «قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ» من الزنا، واستغاث بربه عز وجل فقال: «وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ» فأخبر الله عز وجل أنه استجاب له دعاءه، فصرف عنه كيدهن ونجاه من ركوب الفاحشة، ثم بدا للعزيز من بعد ما رأى من الآيات ما رأى من قد القميص من الدبر، وخمش في الوجه، وقطع النسوة أيديهن وعلمه

ببراءة يوسف مما قرف به في ترك يوسف مطلقا وقد قيل: إن السبب الذي من أجله بدا له في ذلك، ما حَدَّثَنَا به ابن وكيع، قَالَ: حَدَّثَنَا عمرو بن مُحَمَّد، عن أسباط عن السدي: «ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ» ، قَالَ: قالت المرأة لزوجها: إن هذا العبد العبراني قد فضحني في الناس يعتذر إليهم ويخبرهم أني راودته عن نفسه، ولست أطيق أن أعتذر بعذري، فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر، وإما أن تحبسه كما حبستني، فذلك قول الله عز وجل: «ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ» ، فذكر أنهم حبسوه سبع سنين. ذِكْرُ مَنْ قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا المحاربي، عن داود، عن عكرمة: «لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ» ، قَالَ: سبع سنين، فلما حبس يوسف في السجن صاحبه العزيز، أدخل معه السجن الذي حبس فيه فتيان من فتيان الملك صاحب مصر الأكبر، وهو الوليد بن الريان، أحدهما كان صاحب طعامه، والآخر كان صاحب شرابه. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: حبسه الملك، وغضب على خبازه، بلغه أنه يريد أن يسمه فحبسه، وحبس صاحب شرابه، ظن أنه مالأه على ذلك، فحبسهما جميعا، فذلك قول الله عز وجل: «وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ» . فلما دخل يوسف قَالَ فيما حَدَّثَنِي به ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: لما دخل يوسف السجن، قَالَ: إني أعبر الأحلام، فقال أحد الفتيين لصاحبه: هلم فلنجرب هذا العبد العبراني، فتراءيا له، فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئا، فقال الخباز: «إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ

فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ، وقال الآخر: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً، نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» فقيل: كان إحسانه ما حَدَّثَنَا به إسحاق بن أبي إسرائيل، قَالَ: حَدَّثَنَا خلف بن خليفة، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك قَالَ: سأل رجل الضحاك عن قوله: «إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» : ما كان إحسانه؟ قَالَ: كان إذا مرض إنسان في السجن قام عليه، وإذا احتاج جمع له، وإذا ضاق عليه المكان وسع له، فقال لهما يوسف: «لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ في يومكما هذا إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ» في اليقظة فكره صلى الله عليه أن يعبر لهما ما سألاه عنه، وأخذ في غير الذي سألا عنه لما في عبارة ما سألا عنه من المكروه على أحدهما فقال: «يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» . وكان اسم أحد الفتيين اللذين أدخلا السجن محلب- وهو الذي ذكر أنه رأى فوق رأسه خبرا- واسم الآخر نبو، وهو الذي ذكر أنه رأى كأنه يعصر خمرا، فلم يدعاه والعدول عن الجواب عما سألاه عنه حتى أخبرهما بتأويل ما سألاه عنه فقال: «أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً» - وهو الذي ذكر أنه رأى كأنه يعصر خمرا، وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ» . فلما عبر لهما ما سألاه تعبيره، قالا: ما رأينا شيئا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابن فضيل، عن عمارة- يعني ابن القعقاع- عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، في الفتيين اللذين أتيا يوسف

في الرؤيا إنما كانا تحالما ليختبراه، فلما أول رؤياهما قالا: انما كنا نلعب، فقال: «قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ» ثم قَالَ لنبو- وهو الذي ظن يوسف أنه ناج منهما: «اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ يعني عند الملك، واخبره أني محبوس ظلما، فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ» ، غفلة عرضت ليوسف من قبل الشيطان. فحَدَّثَنِي الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي، عن بسطام بن مسلم، عن مالك بن دينار، قَالَ: قَالَ يوسف للساقي: اذكرني عند ربك، قَالَ: قيل: يا يوسف، اتخذت من دوني وكيلا! لأطيلن حبسك قَالَ: فبكى يوسف وقال: يا رب أنسى قلبي كثرة البلوى فقلت كلمة، فويل لإخوتي! حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عباس، قال: [قال النبي ص: لَوْ لَمْ يَقُلْ يُوسُفُ- يَعْنِي الْكَلِمَةَ الَّتِي قَالَ- مَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ حَيْثُ يَبْتَغِي الْفَرَجَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ] . فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ، فيما حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قَالَ: أخبرنا عمران أبو الهذيل الصنعاني، قَالَ: سمعت وهبا يقول: أصاب أيوب البلاء سبع سنين وترك يوسف في السجن سبع سنين، وعذب بختنصر فحول في السباع سبع سنين. ثم إن ملك مصر رآى رؤيا هالته

فحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عمرو بن مُحَمَّد، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: إن الله عز وجل أرى الملك في منامه رؤيا هالته، فرأى: «سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ» ، فجمع السحرة، والكهنة والحازة والقافة، فقصها عليهم، فقالوا: «أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما من الفتيين وهو نبو، وَادَّكَرَ حاجة يوسف بَعْدَ أُمَّةٍ، يعني بعد نسيان: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ» ، يقول: فأطلقون فأرسلوه فأتى يوسف فقال: «أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ» ، فإن الملك رأى ذلك في نومه. فَحَدَّثَنَا ابن وكيع، قال، حدثنا عمرو، عن أسباط، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَكُنِ السِّجْنُ فِي الْمَدِينَةِ، فَانْطَلَقَ السَّاقِي إِلَى يُوسُفَ، فَقَالَ: «أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ» الآيَاتِ. فحَدَّثَنَا بشر بن معاذ، قَالَ: حَدَّثَنَا يزيد، قَالَ: حَدَّثَنَا سعيد، عن قتادة، «أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ» فالسمان المخاصيب، والبقرات العجاف هن السنون المحول الجدوب قوله: وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ» أما الخضر فهن السنون المخاصيب، وأما اليابسات فهن الجدوب المحول. فلما أخبر يوسف نبو بتأويل ذلك، أتى نبو الملك، فأخبره بما قَالَ له يوسف، فعلم الملك أن الذي قَالَ يوسف من ذلك حق، قَالَ: ائتوني به. فَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: لَمَّا أَتَى الْمَلِكَ رَسُولُهُ فَأَخْبَرَهُ، قَالَ: ائْتُونِي بِهِ، فَلَمَّا أَتَاهُ الرَّسُولُ وَدَعَاهُ إِلَى

الْمَلِكِ أَبَى يُوسُفُ الْخُرُوجَ مَعَهُ، وَقَالَ: «ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مَا بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ» . قَالَ السُّدِّيُّ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ خَرَجَ يُوسُفُ يَوْمَئِذٍ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ الْمَلِكُ بِشَأْنِهِ مَا زَالَتْ فِي نَفْسِ الْعَزِيزِ مِنْهُ حَاجَةٌ، يَقُولُ: هَذَا الَّذِي رَاوَدَ امْرَأَتِي فَلَمَّا رَجَعَ الرَّسُولُ إِلَى الْمَلِكِ مِنْ عِنْدِ يُوسُفَ جَمَعَ الْمَلِكُ أُولَئِكَ النِّسْوَةِ، فَقَالَ لَهُنَّ: مَا خَطْبُكُنَّ إذ راودتن يوسف عن نفسه! قلن- فيما حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عمرو، عن أسباط، عن السدي قال: لما قَالَ الْمَلِكُ لَهُنَّ: «مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ» ، ولكن امراه العزيز أخبرتنا انها راودته عن نفسه، ودخل معها البيت، ف قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ حينئذ: «الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ» فقال يوسف: ذلك هذا الفعل الذي فعلت من ترديدي رسول الملك بالرسالات التي أرسلت في شأن النسوة، ليعلم اطفير سيدي «أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ في زوجته راعيل، وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ» . فلما قال ذلك يوسف قال له جبرئيل: مَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا جَمَعَ الْمَلِكُ النِّسْوَةَ، فَسَأَلَهُنَّ: هَلْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ؟ «قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ يُوسُفُ: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ» قال: فقال له جبرئيل:

وَلا يَوْمَ هَمَمْتَ بِهَا؟ فَقَالَ: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ» . فَلَمَّا تَبَيَّنَ لِلْمَلِكِ عُذْرُ يُوسُفَ وَأَمَانَتُهُ قَالَ: «ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا اتى به كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ» فَقَالَ يُوسُفُ لِلْمَلِكِ: «اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ» . فحَدَّثَنِي يونس، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زيد في قوله: «اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ» قَالَ: كان لفرعون خزائن كثيرة غير الطعام، فسلم سلطانه كله إليه، وجعل القضاء إليه أمره، وقضاؤه نافذ. حَدَّثَنَا ابن حميد قَالَ: حَدَّثَنَا إبراهيم بن المختار، عن شيبة الضبي في قوله: «اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ» ، قَالَ: على حفظ الطعام «إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» يقول: إني حفيظ لما استودعتني، عليم بسني المجاعة، فولاه الملك ذلك. وقد حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قَالَ: لما قَالَ يوسف للملك: «اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» قَالَ الملك: قد فعلت، فولاه- فيما يذكرون- عمل إطفير، وعزل إطفير عما كان عليه، يقول الله تبارك وتعالى: «وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» قَالَ: فذكر لي- والله أعلم- أن إطفير هلك في تلك الليالي، وأن الملك الريان بن الوليد زوج يوسف امرأة إطفير راعيل، وأنها حين دخلت عليه قَالَ: أليس هذا خيرا مما كنت تريدين! قَالَ: فيزعمون أنها قالت: أيها الصديق لا تلمني، فإني كنت امرأة- كما ترى- حسناء جميلة ناعمة، في ملك ودنيا، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك، فغلبتني نفسي على ما رأيت فيزعمون أنه وجدها عذراء، وأصابها فولدت له رجلين: أفراييم بن يوسف ومنشا بن يوسف. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عمرو، عن أسباط، عن السدي:

«وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ» قَالَ: استعمله الملك على مصر، وكان صاحب أمرها، وكان يلي البيع والتجارة وأمرها كله، فذلك قوله: «وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ» . فلما ولي يوسف للملك خزائن أرضه واستقر به القرار في عمله، ومضت السنون السبع المخصبة التي كان يوسف أمر بترك ما في سنبل ما حصدوا من الزرع فيها فيه، ودخلت السنون المجدبة وقحط الناس، أجدبت بلاد فلسطين فيما أجدب من البلاد، ولحق مكروه ذلك آل يعقوب في موضعهم الذي كانوا فيه، فوجه يعقوب بنيه. فحَدَّثَنَا ابْنُ وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السُّدِّيِّ، قَالَ: أصاب الناس الجوع حتى أصاب بلاد يعقوب التي هو بها، فبعث بنيه إلى مصر، وأمسك أخا يوسف بنيامين، فلما دخلوا على يوسف عرفهم وهم له منكرون، فلما نظر إليهم قَالَ: أخبروني: ما أمركم؟ فإني أنكر شأنكم! قَالُوا: نحن قوم من أرض الشام، قَالَ: فما جاء بكم؟ قَالُوا: جئنا نمتار طعاما، قَالَ: كذبتم، أنتم عيون! كم أنتم؟ قَالُوا: عشرة، قَالَ: أنتم عشرة آلاف، كل رجل منكم امير ألف فأخبروني خبركم، قَالُوا: إنا إخوة، بنو رجل صديق، وإنا كنا اثني عشر، وكان أبونا يحب أخا لنا، وإنه ذهب معنا الى البرية فهلك فيها، وكان أحبنا إلى أبينا قَالَ: فإلى من سكن أبوكم بعده؟ قَالُوا: إلى أخ لنا أصغر منه قَالَ: فكيف تخبرونني أن أباكم صديق وهو يحب الصغير منكم دون الكبير! ائتوني بأخيكم هذا حتى أنظر إليه: «فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ»

قَالَ: فضعوا بعضكم رهينة حتى ترجعوا، فوضعوا شمعون وحَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: كان يوسف حين راى ما أصاب الناس من الجهد قد آسى بينهم، فكان لا يحمل للرجل الا بعيرا واحدا، ولا يحمل الواحد بعيرين تقسيطا بين الناس، وتوسيعا عليهم، فقدم عليه إخوته فيمن قدم عليه من الناس يلتمسون الميرة من مصر، فعرفهم وهم له منكرون لما أراد الله تعالى أن يبلغ بيوسف فيما أراد ثم أمر يوسف بان يوقر لكل رجل من إخوته بعيره، فقال لهم: ائتوني بأخيكم من أبيكم، لأحمل لكم بعيرا آخر، فتزدادوا به حمل بعير: «أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ» فلا ابخسه أحدا، «وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ» وأنا خير من أنزل ضيفا على نفسه من الناس بهذه البلدة، فأنا أضيفكم «فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي» بأخيكم من أبيكم فلا طعام لكم عندي أكيله، ولا تقربوا بلادي. وقال لفتيانه الذين يكيلون الطعام لهم: «اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ- وهي ثمن الطعام الذي اشتروه به- فِي رِحالِهِمْ» . حَدَّثَنَا بشر، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سعيد، عن قتادة: «اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ» ، أي ورقهم، فجعلوا ذلك في رحالهم وهم لا يعلمون. فلما رجع بنو يعقوب إلى أبيهم، قَالُوا: ما حَدَّثَنَا به ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي: فلما رجعوا إلى أبيهم قَالُوا: يا أبانا، إن ملك مصر أكرمنا كرامة، لو كان رجلا من ولد يعقوب ما أكرمنا كرامته، وإنه ارتهن شمعون وقال: ائتوني بأخيكم هذا الذي عطف عليه أبوكم بعد

أخيكم الذي هلك، فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربوا بلادي أبدا. قَالَ يعقوب: «هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» قَالَ: فقال لهم يعقوب: إذا أتيتم ملك مصر فأقرءوه مني السلام وقولوا له: إن أبانا يصلي عليك، ويدعو لك بما أوليتنا. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: خرجوا حتى إذا قدموا على أبيهم، وكان منزلهم- فيما ذكر لي بعض أهل العلم- بالعربات من أرض فلسطين بغور الشام وبعضهم يقول: بالأولاج من ناحية الشعب أسفل من حسمي فلسطين، وكان صاحب بادية، له إبل وشاء فلما رجع إخوة يوسف إلى والدهم يعقوب قَالُوا له: يا أبانا منع منا الكيل فوق حمل أبا عرنا، ولم يكل لكل واحد منا إلا كيل بعير، فأرسل معنا أخانا بنيامين يكتل لنفسه، وإنا له لحافظون، فقال لهم يعقوب: «هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» . ولما فتح ولد يعقوب الذين كانوا خرجوا إلى مصر للميرة متاعهم الذي قدموا به من مصر، وجدوا ثمن طعامهم الذي اشتروه به رد إليهم، فقالوا لوالدهم: «يَا أَبانا مَا نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ» آخر على أحمال إبلنا. وقد حَدَّثَنِي الحارث، قَالَ: حَدَّثَنَا القاسم، قَالَ: حَدَّثَنَا حجاج، عن

ابن جريج، «وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ» ، قَالَ: كان لكل رجل منهم حمل بعير، فقالوا: أرسل معنا أخانا نزدد حمل بعير قَالَ ابن جريج: قَالَ مجاهد: كيل بعير حمل حمار قَالَ: وهي لغة، قَالَ الحارث: قَالَ القاسم: يعني مجاهد أن الحمار يقال له في بعض اللغات بعير. فقال يعقوب: «لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ» يقول: إلا أن تهلكوا جميعا، فيكون حينئذ ذلك لكم عذرا عندي، فلما وثقوا له بالأيمان قَالَ يعقوب: «اللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ» . ثم أوصاهم بعد ما إذن لأخيهم من أبيهم بالرحيل معهم، ألا تدخلوا من باب واحد من أبواب المدينة خوفا عليهم من العين، وكانوا ذوي صورة حسنة، وجمال وهيئة، وأمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة، كما حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: «وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ» ، قَالَ: كانوا قد أوتوا صورة وجمالا، فخشي عليهم انفس الناس، فقال الله تبارك وتعالى: «وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها» ، وكانت الحاجة التي في نفس يعقوب فقضاها ما تخوف على أولاده أعين الناس لهيئتهم وجمالهم. ولما دخل إخوة يوسف على يوسف ضم إليه أخاه لأبيه وأمه، فحَدَّثَنَا ابْنُ وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السُّدِّيِّ: «وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخاهُ» ، قَالَ: عرف أخاه، وأنزلهم منزلا، وأجرى عليهم الطعام والشراب، فلما كان الليل جاءهم بمثل فقال: لينم كل أخوين

منكم على مثال، فلما بقي الغلام وحده قَالَ يوسف: هذا ينام معي على فراشي، فبات معه، فجعل يوسف يشم ريحه، ويضمه إليه حتى أصبح، وجعل روبيل يقول: ما رأينا مثل هذا إن نجونا منه. وأما ابن إسحاق فإنه قَالَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إِسْحَاقَ، قَالَ: لما دخلوا- يعني ولد يعقوب- على يوسف قَالُوا: هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به، قد جئناك به فذكر لي أنه قَالَ لهم: قد أحسنتم وأصبتم، وستجدون جزاء ذلك عندي، أو كما قَالَ. ثم قَالَ: إني أراكم رجالا، وقد أردت أن أكرمكم، فدعا صاحب ضيافته فقال: أنزل كل رجلين على حدة، ثم أكرمهما وأحسن ضيافتهما. ثم قَالَ: إني أرى هذا الرجل الذي جئتم به ليس معه ثان، فسأضمه إلي فيكون منزله معي، فأنزلهم رجلين رجلين في منازل شتى، وأنزل أخاه معه فآواه إليه، فلما خلا به قَالَ: إني أنا أخوك أنا يوسف فلا تبتئس بشيء فعلوه بنا فيما مضى، فإن الله قد أحسن إلينا فلا تعلمهم مما أعلمتك، يقول الله عز وجل: «وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» ، يقول له: «فَلا تَبْتَئِسْ» ، فلا تحزن. فلما حمل يوسف إبل إخوته ما حملها من الميرة وقضى حاجتهم ووفاهم كيلهم، جعل الإناء الذي كان يكيل به الطعام- وهو الصواع- في رحل أخيه بنيامين. - حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا عفان، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الواحد، عن يونس، عن الحسن أنه كان يقول: الصواع والسقاية سواء، هما الإناء الذي يشرب فيه، وجعل ذلك في رحل أخيه، والأخ لا يشعر فيما ذكر. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عمرو، عن أسباط، عن السدي: «فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ» ، والأخ لا يشعر، فلما ارتحلوا أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ قبل ان ترتحل العير: «إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ»

حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حمل لهم بعيرا بعيرا، وحمل لأخيه بنيامين بعيرا باسمه كما حمل لهم، ثم أمر بسقاية الملك- وهو الصواع- وزعموا أنها كانت من فضة، فجعلت في رحل أخيه بنيامين، ثم أمهلهم حتى إذا انطلقوا فأمعنوا من القرية، أمر بهم فأدركوا واحتبسوا، ثم نادى مناد: «أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ» ، قفوا وانتهى إليهم رسوله فقال لهم- فيما يذكرون-: ألم نكرم ضيافتكم، ونوفكم كيلكم، ونحسن منزلكم، ونفعل بكم ما لم نفعل بغيركم، وأدخلناكم علينا في بيوتنا، وصار لنا عليكم حرمة! أو كما قَالَ لهم قَالُوا: بلى، وما ذاك؟ قال: سقاية الملك فقدناها، ولا يتهموا عليها غيركم قَالُوا: «تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ» وكان مجاهد يقول كانت العير حميرا. حَدَّثَنِي بذلك الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حَدَّثَنَا سفيان، قَالَ: أخبرني رجل، عن مجاهد: وكان فيما نادى به منادي يوسف: من جاءَ بصواع الملك فله حِمْلُ بَعِيرٍ من الطعام، وَأَنَا بإيفائه ذلك زَعِيمٌ- يعني كفيل- وإنما قَالَ القوم: «لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ» ، لأنهم ردوا ثمن الطعام الذي كان كيل لهم المرة الأولى في رحالهم فردوه إلى يوسف، فقالوا: لو كنا سارقين لم نردد ذلك إليك- وقيل إنهم كانوا معروفين بأنهم لا يتناولون ما ليس لهم، فلذلك قَالُوا ذلك- فقيل لهم: فما جزاء من كان سرق ذلك؟ فقالوا: جزاؤه في حكمنا بأن يسلم لفعله ذلك إلى من سرقه حتى يسترقه. حَدَّثَنَا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: «قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ

فَهُوَ جَزاؤُهُ» تأخذونه، فهو لكم فبدأ يوسف بأوعية القوم قبل وعاء أخيه بنيامين، ففتشها ثم استخرجها من وعاء أخيه لأنه أخر تفتيشه. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قال: ذكر لنا أنه كان لا ينظر في وعاء إلا استغفر الله تأثما مما قرفهم به، حتى بقي أخوه- وكان أصغر القوم- قَالَ: ما أرى هذا أخذ شيئا قَالُوا: بلى فاستبرئه، ألا وقد علموا حيث وضعوا سقايتهم. «ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ» ، يعني في حكم الملك، ملك مصر، وقضائه لأنه لم يكن من حكم ذلك الملك وقضائه أن يسترق السارق بما سرق، ولكنه أخذه بكيد الله له حتى أسلمه رفقاؤه وإخوته بحكمهم عليه وطيب أنفسهم بالتسليم. حَدَّثَنَا الحسن بن مُحَمَّد، قَالَ: حَدَّثَنَا شبابة، قَالَ: حَدَّثَنَا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: قوله «مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ» إلا بعلة كادها الله له، فاعتل بها يوسف، فقال اخوه يوسف حينئذ: «إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ» - يعنون بذلك يوسف وقد قيل إن يوسف كان سرق صنما لجده أبي أمه، فكسره، فعيروه بذلك. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عمرو البصري، قَالَ: حَدَّثَنَا الفيض بن الفضل، قَالَ: حَدَّثَنَا مسعر، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير: «إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ» ، قَالَ: سرق يوسف صنما لجده أبي أمه فكسره وألقاه في الطريق، فكان إخوته يعيبونه بذلك

وقد حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: سمعت أبي قَالَ: كان بنو يعقوب على طعام، إذ نظر يوسف إلى عرق فخبأه فعيروه بذلك «إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ» ، فأسر في نفسه يوسف حين سمع ذلك منهم، فقال: «أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ» به أخا بنيامين من الكذب، ولم يبد ذلك لهم قولا. فحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي، قال: لما استخرجت السرقة من رحل الغلام انقطعت ظهورهم، وقالوا: يا بني راحيل، ما يزال لنا منكم بلاء! متى أخذت هذا الصواع؟ فقال بنيامين: بل بنو راحيل الذين لا يزال لهم منكم بلاء، ذهبتم بأخي فأهلكتموه في البرية، وضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم فقالوا: لا تذكر الدراهم فتؤخذ بها فلما دخلوا على يوسف دعا بالصواع، فنقر فيه ثم أدناه من أذنه، ثم قَالَ: إن صواعي هذا ليخبرني أنكم كنتم اثني عشر رجلا، وأنكم انطلقتم بأخ لكم فبعتموه فلما سمعها بنيامين قام فسجد ليوسف ثم قَالَ: أيها الملك، سل صواعك هذا عن أخي أين هو؟ فنقره، ثم قَالَ: هو حي، وسوف تراه قَالَ: فاصنع بي ما شئت، فإنه إن علم بي فسوف يستنقذني قَالَ: فدخل يوسف فبكى ثم توضأ، ثم خرج فقال بنيامين: ايها الملك، إني أريد أن تضرب صواعك هذا فيخبرك بالحق من الذي سرقه فجعله في رحلي فنقره، فقال: إن صواعي هذا غضبان، وهو يقول: كيف تسألني: من صاحبي؟ فقد رأيت مع من كنت! قَالُوا: وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا، فغضب روبيل وقال: أيها الملك، والله لتتركنا أو لأصيحن صيحة لا تبقي بمصر حامل إلا ألقت ما في بطنها، وقامت كل شعرة في جسد روبيل، فخرجت من ثيابه فقال يوسف لابنه: قم إلى جنب روبيل فمسه- وكان بنو يعقوب إذا غضب أحدهم فمسه الآخر ذهب غضبه- فقال روبيل: من

هذا؟ إن في هذا البلد لبزرا من بزر يعقوب، فقال يوسف: من يعقوب؟ فغضب روبيل وقال: أيها الملك، لا تذكر يعقوب فإنه إسرائيل الله بن ذبيح الله بن خليل الله قال يوسف: أنت اذن كنت صادقا. قَالَ: ولما احتبس يوسف أخاه بنيامين، فصار بحكم إخوته أولى به منهم، ورأوا أنه لا سبيل لهم إلى تخليصه صاروا إلى مسألته تخليته ببذل منهم يعطونه اياه، فقالوا: «يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» في أفعالك فقال لهم يوسف: «مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ» أن نأخذ بريئا بسقيم! فلما يئس إخوة يوسف من إجابة يوسف إياهم إلى ما سألوا من إطلاق أخيه بنيامين وأخذ بعضهم مكانه، خلصوا نجيا لا يفترق منهم أحد، ولا يختلط بهم غيرهم فقال كبيرهم: - وهو روبيل، وقد قيل إنه شمعون-: ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله أن نأتيه بأخينا بنيامين إلا أن يحاط بنا أجمعين! ومن قبل هذه المرة ما فرطتم في يوسف «فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ» التي أنا بها «حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي» في الخروج منها وترك أخي بنيامين بها «أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ» - وقد قيل معنى ذلك: أو يحكم الله لي بحرب من منعني من الانصراف بأخي- «ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ» ، فأسلمناه بجريرته، «وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا» ، لأن صواع الملك لم يوجد إلا في رحله، «وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ» ، يعنون بذلك أنا إنما ضمنا لك أن نحفظه مما لنا إلى حفظه

سبيل، ولم نكن نعلم أنه يسرق فيسترق بسرقته واسأل أهل القرية التي كنا فيها فسرق ابنك فيها، والقافلة التي كنا فيها مقبلة من مصر معنا عن خبر ابنك، فإنك تخبر بحقيقة ذلك. فلما رجعوا إلى أبيهم فأخبروه خبر بنيامين، وتخلف روبيل قَالَ لهم: بل سولت لكم انفسكم امرا أردتموه، فصبر جميل لا جزع فيه على ما نالني من فقد ولدي، عسى الله أن يأتيني بهم جميعا بيوسف وأخيه وروبيل. ثم أعرض عنهم يعقوب وقال: «يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ» يقول الله عز وجل: «وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ» ، مملوء من الحزن والغيظ. فقال له بنوه الذين انصرفوا إليه من مصر حين سمعوا قوله ذلك: تالله لا تزال تذكر يوسف فلا تفتر من حبه وذكره حتى تكون دنف الجسم، مخبول العقل من حبه وذكره، هرما باليا او تموت! فأجابهم يعقوب فقال: «َّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ لا إليكم» ، أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من صدق رؤيا يوسف، أن تأويلها كائن، وأني وأنتم سنسجد له. وَقَدْ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عِيسَى بْنُ يَزِيدَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قِيلَ: مَا بَلَغَ وَجْدُ يَعْقُوبَ عَلَى ابْنِهِ؟ قَالَ: وَجْدُ سَبْعِينَ ثَكْلَى، قَالَ: فَمَا كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ؟ قَالَ: أَجْرُ مِائَةِ شَهِيدٍ، قَالَ: وَمَا سَاءَ ظَنُّهُ بِاللَّهِ سَاعَةً قَطُّ مِنْ لَيْلٍ وَلا نَهَارٍ. وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ مَرَّةً أُخْرَى، قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ أَبِي مُعَاذٍ، عَنْ يُونُسَ، عن الحسن، عن النبي ص مثله. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن المبارك بن مجاهد، عن رجل من الأزد، عن طلحة بن مصرف اليامي، قَالَ: انبئت ان يعقوب ابن إسحاق دخل عليه جار له فقال: يا يعقوب، ما لي أراك قد انهشمت

وفنيت ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك؟ قَالَ: هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من هم يوسف وذكره فأوحى الله عز وجل إليه: يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي! قَالَ: يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي قَالَ: فإني قد غفرت لك، فكان بعد ذلك إذا سئل قال: «َّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ، وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ » حَدَّثَنَا عمرو بن عبد الحميد الآملي، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو أسامة، عن هشام عن الحسن، قَالَ: كان منذ خرج يوسف من عند يعقوب إلى أن رجع ثمانون سنة لم يفارق الحزن قلبه، ولم يزل يبكي حتى ذهب بصره قَالَ الحسن: والله ما على الأرض خليقة أكرم على الله من يعقوب. ثم أمر يعقوب بنيه الذين قدموا عليه من مصر بالرجوع إليها وتحسس الخبر عن يوسف وأخيه، فقال لهم: اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيئسوا من روح الله يفرج به عنا وعنكم الغم الذي نحن فيه فرجعوا إلى مصر فدخلوا على يوسف فقالوا له حين دخلوا عليه: «أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ » وكانت بضاعتهم المزجاة التي جاءوا بها معهم- فيما ذكر- دراهم ردية زيوفا لا تؤخذ إلا بوضيعة وكان بعضهم يقول: كانت حلق الغرارة والحبل ونحو ذلك وقال بعضهم: كانت سمنا وصوفا وقال بعضهم: كانت صنوبرا وحبة الخضراء وقال بعضهم: كانت قليلة دون ما كانوا يشترون به قبل، فسألوا يوسف أن يتجاوز لهم ويوفيهم بذلك من كيل الطعام مثل الذي كان يعطيهم في المرتين قبل ذلك، ولا ينقصهم فقالوا له: «فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ»

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن اسباط، عن السدى: «وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا» ، قَالَ: بفضل ما بين الجياد والردية وقد قيل: إن معنى ذلك: وتصدق علينا برد أخينا إلينا «إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ» . حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ذكر أنهم لما كلموه بهذا الكلام، غلبته نفسه فارفض دمعه باكيا، ثم باح لهم بالذي كان يكتم منهم، فقال: «هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ» ولم يعن بذكر أخيه ما صنعه هو فيه حين أخذه، ولكن التفريق بينه وبين أخيه إذ صنعوا بيوسف ما صنعوا فلما قَالَ لهم يوسف ذلك قَالُوا له: ها أنت يوسف! قَالَ: «أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بأن جمع بيننا بعد تفريقكم بيننا، إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» . حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا عمرو، عن أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: لما قَالَ لهم يوسف: «أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي اعتذروا وقالوا: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ» قَالَ لهم يوسف: «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» فلما عرفهم يوسف نفسه سألهم عَنْ أَبِيهِ. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن اسباط، عن السدى، قال: قال يوسف: ما فعل أبي بعدي؟ قَالُوا: لما فاته بنيامين عمي من الحزن فقال: «اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ» عير بني يعقوب، قَالَ يعقوب:

«إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ» . فحَدَّثَنِي يونس، قَالَ: أخبرنا ابن وهب، قَالَ: حَدَّثَنِي ابن شريح، عن أبي أيوب الهوزني، حدثه، قَالَ: استأذنت الريح بأن تأتي يعقوب بريح يوسف حين بعث بالقميص إلى أبيه قبل أن يأتيه البشير، ففعلت، فقال يعقوب: «إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ» . حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن إِسْرَائِيلَ، عَنِ ابْنِ سِنَانٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي «وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ قَالَ: هَاجَتْ رِيحٌ فَجَاءَتْ بِرِيحِ يُوسُفَ مِنْ مَسِيرَةِ ثَمَانِ لَيَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ» . حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ، عن الحسن، قَالَ: ذكر لنا أنه كان بينهما يومئذ ثمانون فرسخا، يوسف بأرض مصر ويعقوب بأرض كنعان، وقد أتى لذلك زمان طويل. حَدَّثَنَا القاسم، قَالَ: حَدَّثَنَا الحسين، قَالَ: حَدَّثَنَا حجاج، عن ابن جريج قوله: «إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ» قال: بلغنا أنه كان بينهم يومئذ ثمانون فرسخا، وقال: «إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ» وقد كان فارقه قبل ذلك سبعا وسبعين سنة ويعني بقوله: «لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ» لولا أن تسفهوني فتنسبوني إلى الهرم وذهاب العقل فقال له من حضره من ولده حينئذ: تَاللَّهِ إِنَّكَ من ذكر يوسف وحبه «لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ» - يعنون في خطئك القديم. «فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ» - يعني البريد الذي أبرده يوسف إلى يعقوب- يبشر بحياة يوسف وخبره، وذكر أن البشير كان يهوذا بن يعقوب. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي، قال:

قَالَ يوسف: «اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ» قَالَ يهوذا: أنا ذهبت بالقميص ملطخا بالدم إلى يعقوب فأخبرته أن يوسف أكله الذئب، وأنا أذهب اليوم بالقميص فأخبره بأنه حي، فأقر عينه كما أحزنته، فهو كان البشير. فلما أن جاء البشير يعقوب بقميص يوسف القاه على وجهه، فعاد بصيرا بعد العمى، فقال لأولاده: «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ» . وذلك أنه كان قد علم- من صدق تأويل رؤيا يوسف التي رآها أن الأحد عشر كوكبا والشمس والقمر ساجدون- ما لم يكونوا يعلمون فقالوا ليعقوب: «يَا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ فقال لهم يعقوب: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي» قيل: إنه أخر الدعاء لهم إلى السحر وقيل إنه أخر ذلك إلى ليلة الجمعة. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدِّمَشْقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابن عباس، قال: [قال رسول الله ص: قال يعقوب: «سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي» ، يَقُولُ: حَتَّى تَأْتِيَ لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ] . فَلَمَّا دَخَلَ يَعْقُوبُ وَوَلَدُهُ وَأَهَالِيهِمْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ، وَكَانَ دُخُولُهُمْ عَلَيْهِ قَبْلَ دُخُولِهِمْ مِصْرَ- فِيمَا قِيلَ- لأَنَّ يُوسُفَ تَلَقَّاهُمْ حَدَّثَنَا ابْنُ وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السُّدِّيِّ، قَالَ: حملوا إليه أهليهم وعيالهم، فلما بلغوا مصر كلم يوسف الملك الذي فوقه فخرج هو والملك يتلقونهم، فلما بلغوا مصر قَالَ: «ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ» . فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه

حدثني الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حَدَّثَنَا جعفر بن سليمان، عن فرقد السبخي، قَالَ: لما ألقي القميص على وجهه ارتد بصيرا، وقال: ائتوني بأهلكم أجمعين، فحمل يعقوب وإخوة يوسف، فلما دنا يعقوب أخبر يوسف أنه قد دنا منه، فخرج يتلقاه قَالَ: وركب معه أهل مصر- وكانوا يعظمونه- فلما دنا أحدهما من صاحبه- وكان يعقوب يمشي وهو يتوكأ على رجل من ولده، يقال له يهوذا- قَالَ: فنظر يعقوب إلى الخيل والناس، فقال: يا يهوذا، هذا فرعون مصر، فقال: لا، هذا ابنك يوسف، قَالَ: فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف يبدؤه بالسلام، فمنع ذلك، وكان يعقوب أحق بذلك منه وأفضل فقال: السلام عليك يا مذهب الأحزان، فلما أن دخلوا مصر رفع أبويه على السرير وأجلسهما عليه. وقد اختلف في اللذين رفعهما يوسف على العرش، وأجلسهما عليه، فقال بعضهم: كان أحدهما أبوه يعقوب، والآخر أمه راحيل وقال آخرون: بل كان الآخر خالته ليا وكانت أمه راحيل قد كانت ماتت قبل ذلك وخر له يعقوب وأمه وولد يعقوب سجدا. حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن عبد الأعلى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ قتادة: «وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً» قَالَ: كانت تحية الناس أن يسجد بعضهم لبعض، وقال يوسف لأبيه: «يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا» ، يعني بذلك: هذا السجود منكم، يدل على تأويل رؤياي التي رأيتها من قبل، صنع اخوتى بي ما صنعوا، وتلك الكواكب الأحد عشر والشمس والقمر «قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا» يقول: قد حقق الرؤيا بمجيء تأويلها. وقيل كان بين أن أري يوسف رؤياه هذه ومجيء تأويلها أربعون سنة. ذكر بعض من قال ذلك:

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، قَالَ: كَانَ بَيْنَ رُؤْيَا يُوسُفَ إِلَى أَنْ رَأَى تَأْوِيلَهَا أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ بَيْنَ ذَلِكَ ثَمَانُونَ سَنَةً. ذكر بعض من قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: كَانَ مُنْذُ فَارَقَ يُوسُفُ يَعْقُوبَ إِلَى أَنِ الْتَقَيَا ثَمَانُونَ سَنَةً، لَمْ يُفَارِقِ الْحُزْنُ قَلْبَهُ وَدُمُوعُهُ تَجْرِي عَلَى خَدَّيْهِ، وَمَا عَلَى الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ يَعْقُوبَ. حَدَّثَنَا الحسن بن مُحَمَّد، قَالَ: حَدَّثَنَا داود بن مهران، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الواحد بن زياد، عن يونس، عن الحسن، قَالَ: ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان بين ذلك وبين لقائه يعقوب ثمانون سنة، وعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة، ومات وهو ابن عشرين ومائة سنة. حدثني الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حَدَّثَنَا مبارك بن فضالة، عن الحسن، قَالَ: ألقي يوسف في الجب، وهو ابن سبع عشرة سنة، فغاب عَنْ أَبِيهِ ثمانين سنة، ثم عاش بعد ما جمع الله شمله، ورأى تأويل رؤياه ثلاثا وعشرين سنة، فمات وهو ابن عشرين ومائة سنة. وقال بعض أهل الكتاب: دخل يوسف مصر وله سبع عشرة سنة، فأقام في منزل العزيز ثلاث عشرة سنة، فلما تمت له ثلاثون سنة استوزره فرعون ملك مصر، واسمه الريان بن الوليد بن ثروان بن أراشة بن قاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، وأن هذا الملك آمن، ثم مات، ثم ملك بعده قابوس بن مصعب بن معاوية بن نمير بن السلواس بن قاران بن عمرو ابن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح وكان كافرا، فدعاه يوسف إلى الإيمان بالله فلم يستجب إليه، وأن يوسف أوصى إلى أخيه يهوذا، ومات وقد أتت له مائة وعشرون سنة، وأن فراق يعقوب إياه كان اثنتين وعشرين سنة، وأن

مقام يعقوب معه بمصر كان بعد موافاته بأهله سبع عشرة سنة، وأن يعقوب لما حضرته الوفاة أوصى إلى يوسف- وكان دخول يعقوب مصر في سبعين إنسانا من أهله وتقدم إلى يوسف عند وفاته أن يحمل جسده حتى يدفنه بجنب أبيه إسحاق، ففعل يوسف ذلك به ومضى به حتى دفنه بالشام، ثم انصرف إلى مصر، وأوصى يوسف أن يحمل جسده حتى يدفن إلى جنب آبائه، فحمل موسى تابوت جسده عند خروجه من مصر معه. وحَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ذكر لي- والله أعلم- أن غيبة يوسف عن يعقوب كانت ثماني عشرة سنة. قَالَ: وأهل الكتاب يزعمون أنها كانت أربعين سنة أو نحوها، وأن يعقوب بقي مع يوسف بعد أن قدم عليه مصر سبع عشرة سنة، ثم قبضه الله إليه قَالَ: وقبر يوسف- كما ذكر لي في- صندوق من مرمر في ناحية من النيل في جوف الماء. وقال بعضهم: عاش يوسف بعد موت أبيه ثلاثا وعشرين سنة، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة قَالَ: وفي التوراة أنه عاش مائة سنة وعشر سنين. وولد ليوسف أفراييم بن يوسف ومنشا بن يوسف، فولد لإفراييم نون، فولد لنون بن إفراييم يوشع بن نون وهو فتى موسى، وولد لمنشا موسى بن منشا. وقيل: ان موسى بن منشا نبى قبل موسى بن عمران. ويزعم أهل التوراة أنه الذي طلب الخضر

قصه الخضر وخبره وخبر موسى وفتاه يوشع ع

قصة الخضر وخبره وخبر موسى وفتاه يوشع ع قَالَ أبو جعفر: كان الخضر ممن كان في أيام أفريدون الملك بن أثفيان في قول عامة أهل الكتاب الأول، وقبل موسى بن عمران صلى الله عليه وسلم وقيل إنه كان على مقدمة ذي القرنين الأكبر، الذي كان أيام إبراهيم خليل الرحمن ص، وهو الذي قضى له ببئر السبع- وهي بئر كان إبراهيم احتفرها لماشيته في صحراء الأردن- وإن قوما من أهل الأردن ادعوا الأرض التي كان احتفر بها إبراهيم بئره، فحاكمهم إبراهيم إلى ذي القرنين الذي ذكر أن الخضر كان على مقدمته أيام سيره في البلاد، وأنه بلغ مع ذي القرنين نهر الحياة، فشرب من مائه وهو لا يعلم، ولا يعلم به ذو القرنين ومن معه، فخلد، فهو حي عندهم إلى الآن. وزعم بعضهم أنه من ولد من كان آمن بإبراهيم خليل الرحمن، واتبعه على دينه، وهاجر معه من أرض بابل حين هاجر إبراهيم منها وقال: اسمه بليا بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، قَالَ: وكان أبوه ملكا عظيما. وقال آخرون: ذو القرنين الذى كان على عهد ابراهيم ص هو أفريدون بن أثفيان، قَالَ: وعلى مقدمته كان الخضر. وقال عبد الله بن شوذب فيه، ما حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الحكم المصري قال: حدثنا مُحَمَّد بن المتوكل، قَالَ: حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الله بن شوذب، قَالَ: الخضر من ولد فارس، وإلياس من بني إسرائيل، يلتقيان في كل عام بالموسم. وقال ابن إسحاق فيه ما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قَالَ: بلغني أنه استخلف الله عز وجل في بني إسرائيل

رجلا منهم، يقال له ناشية بن أموص، فبعث الله عز وجل لهم الخضر نبيا. قَالَ: واسم الخضر- فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني إسرائيل- أورميا بن خلقيا، وكان من سبط هارون بن عمران وبين هذا الملك الذي ذكره ابن إسحاق وبين أفريدون أكثر من ألف عام. وقول الذي قَالَ: إن الخضر كان في أيام افريدون وذي القرنين الاكبر وقبل موسى بن عمران أشبه بالحق إلا أن يكون الأمر كما قاله من قَالَ إنه كان على مقدمة ذي القرنين صاحب إبراهيم، فشرب ماء الحياة، فلم يبعث في أيام ابراهيم ص نبيا، وبعث أيام ناشية بن أموص، وذلك أن ناشية بن أموص الذي ذكر ابن إسحاق أنه كان ملكا على بني إسرائيل، كان في عهد بشتاسب بن لهراسب، وبين بشتاسب وبين أفريدون من الدهور والأزمان ما لا يجهله ذو علم بأيام الناس وأخبارهم، وسأذكر مبلغ ذلك إذا انتهينا إلى خبر بشتاسب إن شاء الله تعالى. وإنما قلنا: قول من قَالَ: كان الخضر قبل موسى بن عمران ص أشبه بالحق من القول الذي قاله ابن إسحاق وحكاه عن وهب بن منبه، للخبر الذى روى عن رسول الله ص أبي بن كعب، أن صاحب موسى بن عمران- وهو العالم الذي أمره الله تبارك تعالى بطلبه إذ ظن أنه لا أحد في الأرض أعلم منه- هو الخضر، ورسول الله ص كان أعلم خلق الله بالكائن من الأمور الماضية، والكائن منها الذي لم يكن بعد. والذي روى أبي بن كعب في ذلك عنه ص مَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدٍ، قَالَ: قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا يَزْعُمُ أَنَّ الخضر ليس

بِصَاحِبِ مُوسَى، فَقَالَ: كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ، حَدَّثَنَا ابى بن كعب عن [رسول الله ص قال: ان موسى قَامَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ خَطِيبًا فَقِيلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ حِينَ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: بَلْ عَبْدٌ لِي عِنْدَ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ، فَقَالَ: يَا رب، كيف به؟ قال: تأخذ حوتا فتجعله في مكتل فحيث تفقده فَهُوَ هُنَاكَ قَالَ: فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ، ثُمَّ قَالَ لِفَتَاهُ: إِذَا فَقَدْتَ هَذَا الْحُوتَ فَأَخْبِرْنِي فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ حَتَّى أَتَيَا صَخْرَةً، فَرَقَدَ موسى فَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ، فَخَرَجَ فَوَقَعَ فِي الْبَحْرِ، فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُ جِرْيَةَ الْمَاءِ فَصَارَ مِثْلَ الطَّاقِ، فَصَارَ لِلْحُوتِ سَرَبًا، وَكَانَ لَهُمَا عَجَبًا ثُمَّ انْطَلَقَا، فَلَمَّا كَانَ حِينُ الْغَدَاءِ قَالَ موسى لِفَتَاهُ: «آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً» قَالَ: وَلَمْ يَجِدْ موسى النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَ حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ، قَالَ: فَقَالَ: «أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً» قَالَ: فَقَالَ: «ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً» قَالَ: يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا قَالَ: فَأَتَيَا الصَّخْرَةَ، فَإِذَا رَجُلٌ نَائِمٌ مُسَجًّى بِثَوْبِهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ موسى فَقَالَ: وَأَنَّى بِأَرْضِنَا السَّلامُ! قَالَ: أَنَا موسى، قال: موسى بنى إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: يَا موسى، إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ، عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لا تَعْلَمُهُ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لا أَعْلَمُهُ، قَالَ: فَإِنِّي أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا. «قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً» . فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ، فَإِذَا بِمَلاحٍ فِي سَفِينَةٍ، فَعَرَفَ الْخَضِرَ، فَحَمَلَهُ

بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِهَا فنقر- او فنقد- فِي الْمَاءِ، فَقَالَ الْخَضِرُ لِموسى: مَا يُنْقِصُ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلا مِقْدَارَ مَا نَقَرَ- أَوْ نَقَدَ- هَذَا الْعُصْفُورُ مِنَ الْبَحْرِ] . قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَنَا أَشُكُّ، وَهُوَ في كتابي هذا نقر قال: فبينما هُمْ فِي السَّفِينَةِ لَمْ يَفْجَأْ موسى إِلا وَهُوَ يَتِدُ وَتِدًا أَوْ يَنْزِعُ تَخْتًا مِنْهَا، فَقَالَ لَهُ موسى: حُمِلْنَا بِغَيْرِ نَوْلٍ وَتَخْرِقُهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا! «لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ» - قَالَ: فَكَانَتِ الأُولَى مِنْ موسى نِسْيَانًا- قَالَ: ثُمَّ خَرَجَا فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ، فَأَبْصَرَا غُلامًا يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ بِرَأْسِهِ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ لَهُ موسى: «أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً» . فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أهلها، فَلَمْ يَجِدَا أَحَدًا يُطْعِمُهُمْ وَلا يَسْقِيهِمْ، «فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ» بيده- قَالَ: مَسَحَهُ بِيَدِهِ- فَقَالَ لَهُ موسى: لَمْ يُضَيِّفُونَا وَلَمْ يُنْزِلُونَا، «لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً» . «قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ» قال: [فقال رسول الله ص: لَوَدِدْتُ أَنَّهُ كَانَ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ عَلَيْنَا قَصَصَهُمْ] . حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ،

قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْخَضِرُ، فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ موسى ع الَّذِي سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لِقَائِهِ، فَهَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟ قَالَ: [نَعَمْ إِنِّي سمعت رسول الله ص يقول: بينا موسى ع فِي مَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: تَعْلَمُ مَكَانَ أَحَدٍ أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ مُوسَى: لا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: بلى عَبْدُنَا الْخَضِرُ، فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لِقَائِهِ، فَجَعَلَ اللَّهُ الْحُوتَ آيَةً، وَقَالَ لَهُ: إِذَا افْتَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ، فَكَانَ مُوسَى يَتَّبِعُ أَثَرَ الْحُوتِ، فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ فَتَى مُوسَى لِمُوسَى: «أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ» ، قَالَ موسى: «ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً» ، فَوَجَدَا الْخَضِرَ، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ] . حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يُحَدِّثُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ عَنْ أَبِيهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: «وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ

لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ» الآية، قَالَ: لَمَّا ظَهَرَ مُوسَى وَقَوْمُهُ عَلَى مِصْرَ نَزَلَ قَوْمُهُ مِصْرَ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّتْ بِهِمُ الدَّارُ، أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ: أَنْ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ فَخَطَبَ قَوْمَهُ، فَذَكَرَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالنِّعْمَةِ، وَذَكَّرَهُمْ إِذْ أَنْجَاهُمُ اللَّهُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَذَكَّرَهُمْ هَلَاكَ عَدُوِّهِمْ، وَمَا اسْتَخْلَفَهُمُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ، فَقَالَ: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى نَبِيَّكُمْ تَكْلِيمًا، وَاصْطَفَانِي لِنَفْسِهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ مَحَبَّةً مِنْهُ، وَآتَاكُمُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ، فَنَبِيُّكُمْ أَفْضَلُ أَهْلِ الْأَرْضِ وَأَنْتُمْ تَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ فَلَمْ يَتْرُكْ نِعْمَةً أَنْعَمَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ إِلَّا ذَكَرَهَا وَعَرَّفَهَا إِيَّاهُمْ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: هُوَ كَذَلِكَ يا نبى الله، وقد عَرَفْنَا الَّذِي تَقُولُ، فَهَلْ عَلَى الْأَرْضِ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: لا، فبعث الله عز وجل جبرئيل ع الى موسى ع فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: وَمَا يُدْرِيكَ أَيْنَ أَضَعُ عِلْمِي؟ بَلَى إِنَّ عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ رَجُلًا أَعْلَمُ مِنْكَ- قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْخِضْرُ- فَسَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ إِيَّاهُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِ ائْتِ الْبَحْرَ، فَإِنَّكَ تَجِدُ عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ حُوتًا فَخُذْهُ فَادْفَعْهُ إِلَى فَتَاكَ ثُمَّ الْزَمْ شَطَّ الْبَحْرِ، فَإِذَا نَسِيتَ الْحُوتَ وَهَلَكَ مِنْكَ، فَثَمَّ تَجِدُ الْعَبْدَ الصَّالِحَ الَّذِي تَطْلُبُ. فَلَمَّا طَالَ سَفَرُ موسى نبى الله ص وَنَصِبَ فِيهَ، سَأَلَ فَتَاهُ عَنِ الْحُوتَ، فَقَالَ لَهُ فَتَاهُ وَهُو غُلَامُهُ: «أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ» لَكَ قَالَ الْفَتَى: لَقَدْ رَأَيْتُ الْحُوتَ حِينَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا فَأَعْجَبَ ذَلِكَ مُوسَى فَرَجَعَ حَتَّى أَتَى الصَّخْرَةَ فَوَجَدَ الْحُوتَ، فَجَعَلَ الْحُوتُ يَضْرِبُ فِي الْبَحْرِ وَيَتْبَعُهُ مُوسَى، وَجَعَلَ مُوسَى يُقَدِّمُ عَصَاهُ يُفْرِجُ بِهَا عَنْهُ الْمَاءَ، يَتْبَعُ الْحُوتَ، وَجَعَلَ الْحُوتُ لَا يَمَسُّ شَيْئًا مِنَ الْمَاءِ إِلَّا يَبِسَ حَتَّى يَكُونَ صخره، فجعل نبى الله ص يَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى انْتَهَى بِهِ الْحُوتُ إِلَى جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ، فَلَقِيَ الْخِضْرَ بها، فسلم

عَلَيْهِ، فَقَالَ الْخِضْرُ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ، وَأَنَّى يَكُونُ هَذَا السَّلَامُ بِهَذِهِ الْأَرْضِ! وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى، فَقَالَ لَهُ: الْخِضْرُ صَاحِبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَرَحَّبَ بِهِ وَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ؟ قَالَ: جِئْتُ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، قَالَ: «إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» ، يَقُولُ: لا تُطِيقُ ذَلِكَ، قَالَ مُوسَى: «سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً» . قَالَ: فَانْطَلَقَ بِهِ، وَقَالَ لَهُ: لَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ أَصْنَعُهُ حَتَّى أُبَيِّنَ لَكَ شَأْنَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: «حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً» فَرَكِبَا فِي السَّفِينَةِ يُرِيدَانِ أَنْ يَتَعَدَّيَا إِلَى الْبَرِّ، فَقَامَ الْخَضِرُ، فَخَرَقَ السَّفِينَةَ فَقَالَ لَهُ مُوسَى: «أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً» ثُمَّ ذَكَرَ بَقِيَّةَ الْقِصَّةِ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: [سال موسى ع رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، أَيُّ عِبَادِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الَّذِي يَذْكُرُنِي وَلا يَنْسَانِي، قَالَ: فَأَيُّ عِبَادِكَ أَقْضَى؟ قَالَ: الَّذِي يَقْضِي بِالْحَقِّ وَلا يَتَّبِعُ الْهَوَى، قَالَ أَيْ رَبِّ، أَيُّ عِبَادِكَ أَعْلَمُ؟ قَالَ: الَّذِي يَبْتَغِي عِلْمَ النَّاسِ إِلَى عِلْمِهِ، عَسَى أَنْ يُصِيبَ كَلِمَةً تَهْدِيهِ إِلَى هُدًى، أَوْ تَرُدُّهُ عَنْ رَدًى، قَالَ: رَبِّ فَهَلْ فِي الأَرْضِ أَحَدٌ- قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ أَظُنُّهُ قَالَ: أَعْلَمُ مِنِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: رَبِّ، فَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: الْخَضِرُ، قَالَ: وَأَيْنَ أَطْلُبُهُ؟ قَالَ: عَلَى السَّاحِلِ، عِنْدَ الصَّخْرَةِ الَّتِي يَنْفَلِتُ عِنْدَهَا الْحُوتُ،] قَالَ: فَخَرَجَ موسى يَطْلُبُهُ حَتَّى كَانَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَانْتَهَى موسى إِلَيْهِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ، فَسَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، فَقَالَ لَهُ موسى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَسْتَصْحِبَنِي، قَالَ: لَنْ تَطِيقَ

صُحْبَتِي، قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَإِنْ صَحِبْتَنِي «فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً. فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زاكية بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً» ، الى قوله: «لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً» . قَالَ: فَكَانَ قَوْلُ موسى فِي الْجِدَارِ لِنَفْسِهِ وَلِطَلَبِ شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَكَانَ قَوْلُهُ فِي السَّفِينَةِ وَفِي الْغُلامِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ «قالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» ، فاخبره بما قال الله: «أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ الآيَةَ، وَأَمَّا الْغُلامُ» الآيَةَ، «وَأَمَّا الْجِدارُ» الآيَةَ قَالَ: فَسَارَ بِهِ فِي الْبَحْرِ حَتَّى انْتَهَى بِهِ إِلَى مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ، وَلَيْسَ فِي الأَرْضِ مَكَانٌ أَكْثَرَ مَاءً مِنْهُ، قَالَ: وَبَعَثَ رَبُّكَ الْخُطَّافَ، فَجَعَلَ يَسْتَقِي مِنْهُ بِمِنْقَارِهِ، فَقَالَ لِموسى: كَمْ تَرَى هَذَا الْخُطَّافَ رَزَأَ مِنْ هَذَا الْمَاءِ؟ قَالَ: مَا أَقَلَّ مَا رَزَأَ! قَالَ: يَا موسى فَإِنَّ عِلْمِي وَعِلْمَكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ كَقَدْرِ مَا اسْتَقَى هَذَا الْخُطَّافُ مِنْ هذا الماء وكان موسى ع قَدْ حَدَّثَ نَفْسَهُ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَعْلَمَ مِنْهُ، أَوْ تَكَلَّمَ بِهِ، فَمِنْ ثَمَّ أُمِرَ أَنْ يَأْتِيَ الْخَضِرَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: جَلَسْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِنْدَهُ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَا أَبَا الْعَبَّاسِ إِنَّ نَوْفًا ابْنَ امْرَأَةِ كَعْبٍ، ذَكَرَ عَنْ كَعْبٍ ان موسى النبي ع

الَّذِي طَلَبَ الْعَالِمَ إِنَّمَا هُوَ مُوسَى بْنُ منشا قَالَ سَعِيدٌ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَوْفٌ يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ سَعِيدٌ: فَقُلْتُ لَهُ: نَعَمْ، أَنَا سَمِعْتُ نَوْفًا يَقُولُ ذَلِكَ، قَالَ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ يَا سَعِيدُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: كَذَبَ نَوْفٌ ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَدَّثَنِي أُبَيُّ بن كعب عن رسول الله ص ان موسى بنى إِسْرَائِيلَ سَأَلَ رَبَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، إِنْ كَانَ فِي عِبَادِكَ أَحَدٌ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي فَادْلُلْنِي عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: نَعَمْ فِي عِبَادِي مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، ثُمَّ نَعَتَ لَهُ مَكَانَهُ، وَأَذِنَ لَهُ فِي لِقَائِهِ، فخرج موسى ع وَمَعَهُ فَتَاهُ، وَمَعَهُ حُوتٌ مَلِيحٌ قَدْ قِيلَ لَهُ: إِذَا حَيِيَ هَذَا الْحُوتُ فِي مَكَانٍ فَصَاحِبُكَ هُنَالِكَ، وَقَدْ أَدْرَكْتَ حَاجَتَكَ فَخَرَجَ مُوسَى ومعه فتاه، ومعه ذلك الْحُوتُ يَحْمِلانِهِ، فَسَارَ حَتَّى جَهَدَهُ السَّيْرُ، وَانْتَهَى إِلَى الصَّخْرَةِ وَإِلَى ذَلِكَ الْمَاءِ وَذَلِكَ الْمَاءُ، مَاءُ الْحَيَاةِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ خُلِّدَ، وَلا يُقَارِبُهُ شَيْءٌ مَيِّتٌ إِلا أَدْرَكَتْهُ الْحَيَاةُ وَحَيِيَ فَلَمَّا نَزَلا مَنْزِلا وَمَسَّ الْحُوتُ الْمَاءَ حَيِيَ، فاتخذ سبيله في البحر سربا، فانطلق فلما جاوزا بِمِنْقَلَةٍ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: «آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً» قَالَ الْفَتَى وَذَكَرَ: «أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَظَهَرَ مُوسَى عَلَى الصَّخْرَةِ حتى انتهيا اليه، فإذا رجل متلفف فِي كِسَاءٍ لَهُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، فَرَدَّ ع، ثُمَّ قَالَ لَهُ: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا موسى ابن عِمْرَانَ، قَالَ: صَاحِبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ أَنَا ذَلِكَ، قَالَ: وَمَا جَاءَ بِكَ إِلَى هذه الارض، ان لك في قومك لشغل! قَالَ لَهُ مُوسَى: جِئْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، وَكَانَ رَجُلا يَعْمَلُ عَلَى الْغَيْبِ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ، فَقَالَ مُوسَى: بَلَى، قَالَ: «وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ

خُبْراً» ، أَيْ إِنَّمَا تَعْرِفُ ظَاهِرَ مَا تَرَى مِنَ الْعَدْلِ وَلَمْ تُحِطْ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ بِمَا أَعْلَمُ «قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً» وَإِنْ رَأَيْتُ مَا يُخَالِفُنِي. قَالَ: «فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً» ، أَيْ فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ وَإِنْ أَنْكَرْتَهُ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا، أَيْ خَبَرًا. فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ يَتَعَرَّضَانِ النَّاسَ، يَلْتَمِسَانِ مَنْ يَحْمِلُهُمَا حَتَّى مَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ جَدِيدَةٌ وَثِيقَةٌ، لَمْ يَمُرَّ بِهِمَا شَيْءٌ مِنَ السفن احسن ولا اجمل وَلا أَوْثَقُ مِنْهَا، فَسَأَلا أَهْلَهَا أَنْ يَحْمِلُوهُمَا، فَحَمَلُوهُمَا، فَلَمَّا اطْمَأَنَّا فِيهَا، وَلَجَّجَتْ بِهِمَا مَعَ أَهْلِهَا، أَخْرَجَ مِنْقَارًا لَهُ وَمِطْرَقَةً، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْهَا فَضَرَبَ فِيهَا بِالْمِنْقَارِ حَتَّى خَرَقَهَا، ثُمَّ أَخَذَ لَوْحًا فَطَبَّقَهُ عَلَيْهَا، ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهَا يُرَقِّعُهَا، قَالَ لَهُ مُوسَى: فَأَيُّ أَمْرٍ أَفْظَعُ مِنْ هَذَا! «أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً» ! حَمَلُونَا وَآوَوْنَا إِلَى سَفِينَتِهِمْ، وَلَيْسَ فِي الْبَحْرِ سَفِينَةٌ مِثْلُهَا، فَلِمَ خَرَقْتَهَا! قَالَ: «أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ» ، أَيْ بِمَا تَرَكْتُ مِنْ عَهْدِكَ «وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً» ثُمَّ خَرَجَا مِنَ السَّفِينَةِ، فَانْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ، فَإِذَا غِلْمَانٌ يَلْعَبُونَ، فِيهِمْ غُلامٌ لَيْسَ فِي الْغِلْمَانِ غُلامٌ أَظْرَفُ وَلا أَتْرَفُ وَلا أَوْضَأُ مِنْهُ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ، وَأَخَذَ حَجَرًا فَضَرَبَ بِهِ رَأْسَهُ حَتَّى دَمَغَهُ فَقَتَلَهُ قَالَ: فَرَأَى مُوسَى أَمْرًا فَظِيعًا لا صَبْرَ عَلَيْهِ، صبى صغير قَتَلَهُ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ وَلا ذَنْبٍ لَهُ! فَقَالَ: «أَقَتَلْتَ نَفْساً زاكية بِغَيْرِ نَفْسٍ» ، أَيْ صَغِيرَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ، «لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً. قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً. قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً» ، أَيْ قَدْ أُعْذِرْتَ فِي شَأْنِي «فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ» ، فَهَدَمَهُ ثُمَّ قَعَدَ يَبْنِيهِ،

فَضَجَرَ مُوسَى مِمَّا رَآهُ يَصْنَعُ مِنَ التَّكَلُّفِ لِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ صَبْرٌ، فَقَالَ: «لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً» أَيْ قَدِ اسْتَطْعَمْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا، وَاسْتَضَفْنَاهُمْ فَلَمْ يضيفونا، ثم قعدت تعمل في غير صنيعه، ولو شئت لأعطيت عليه اجرا في عمله «قالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً. أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ- وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ- غَصْباً» ، وَإِنَّمَا عِبْتُهَا لأَرُدَّهُ عَنْهَا، فَسَلِمَتْ مِنْهُ حِينَ رَأَى الْعَيْبَ الَّذِي صَنَعْتُ بِهَا «وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً. فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً» - الى- «ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» . فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: مَا كَانَ الْكَنْزُ إِلَّا عِلْمًا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: قِيلَ لابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ نَسْمَعْ لِفَتَى مُوسَى بِذِكْرٍ مِنْ حَدِيثٍ وَقَدْ كَانَ مَعَهُ! فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا يَذْكُرُ مِنْ حَدِيثِ الْفَتَى، قَالَ: شَرِبَ الْفَتَى مِنْ مَاءِ الْخُلْدِ فَخُلِّدَ، فَأَخَذَهُ الْعَالِمُ فَطَابَقَ بِهِ سَفِينَةً، ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّهَا لَتَمُوجُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهُ فَشَرِبَ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عن شعبة، عن قتادة، قوله: «فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما» ، ذكر لنا ان نبى الله موسى لما قطع البحر وأنجاه الله من آل فرعون، جمع بني إسرائيل فخطبهم فقال:

أنتم خير أهل الأرض وأعلمهم قد أهلك الله عدوكم، وأقطعكم البحر وأنزل عليكم التوراة، قال: فقيل له: ان هاهنا رجلا هو أعلم منك قَالَ: فانطلق هو وفتاه يوشع بن نون يطلبانه، فتزودا مملوحة في مكتل لهما، وقيل لهما: إذا نسيتما ما معكما لقيتما رجلا عالما يقال له الخضر، فلما أتيا ذلك المكان، رد الله إلى الحوت روحه فسرب له من الجد حتى أفضى إلى البحر، ثم سلك فجعل لا يسلك فيه طريقا إلا صار ماء جامدا، قَالَ: ومضى موسى وفتاه، يقول الله عز وجل: «فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَباً- الى قوله-: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً» ، فلقيا رجلا عالما يقال له الخضر، فذكر لنا ان نبى الله قَالَ: إنما سمي الخضر خضرا لأنه قعد على فروة بيضاء فاهتزت به خضراء. فهذه الاخبار التي ذكرناها عن رسول الله ص وعن السلف من أهل العلم تنبئ عن أن الخضر كان قبل موسى وفي أيامه، ويدل على خطإ قول من قَالَ: إنه أورميا بن خلقيا، لأن أورميا كان في ايام بختنصر، وبين عهدي موسى وبختنصر من المدة ما لا يشكل قدرها على أهل العلم بأيام الناس وأخبارهم، وإنما قدمنا ذكره وذكر خبره لأنه كان في عهد أفريدون فيما قيل، وإن كان قد أدرك على هذه الأخبار التي ذكرت من أمره وأمر موسى وفتاه أيام منوشهر وملكه، وذلك ان موسى انما نبئ في عهد منوشهر، وكان ملك منوشهر بعد ما ملك جده أفريدون، فكل ما ذكرنا من أخبار من ذكرنا أخباره من عهد ابراهيم الى الخبر عن الخضر ع، فإن ذلك كله- فيما ذكر- كان في ملك بيوراسب وأفريدون، وقد ذكرنا فيما مضى قبل أخبار أعمارهما ومبلغهما ومدة كل واحد منهما. ونرجع الآن إلى الخبر عن:

منوشهر وأسبابه والحوادث الكائنة في زمانه

منوشهر وأسبابه والحوادث الكائنة في زمانه ثم ملك بعد أفريدون بن أثفيان بركاو منوشهر، وهو من ولد إيرج بن أفريدون. وقد زعم بعضهم أن فارس سميت فارس بمنوشهر هذا، وهو منوشهر كيازيه- فيما يقول نسابة الفرس- بن منشخورنر بن منشخواربغ ابن ويرك بن سروشنك بن ابوك بن بتك بن فرزشك بن زشك ابن فركوزك بن كوزك بن إيرج بن أفريدون بن أثفيان بركاو. وقد ينطق بهذه الأسماء بخلاف هذه الألفاظ. وقد يزعم بعض المجوس ان افريدون وطيء ابنة لابنه إيرج، يقال لها كوشك، فولدت له جاريه يقال لها فركوشك، ثم وطيء فركوشك هذه فولدت له جارية يقال لها زوشك، ثم وطيء زوشك هذه، فولدت له جارية يقال لها فرزوشك، ثم وطيء فرزوشك هذه فولدت له جارية يقال لها بيتك،

ثم وطيء بيتك هذه فولدت له جارية يقال لها ايرك، ثم وطيء ايرك فولدت له ايزك، ثم وطيء ايزك فولدت له ويرك، ثم وطيء ويرك فولدت له منشخرفاغ. ويقول بعضهم: منشخواربغ وجاريه يقال لها: منشجرك، وان منشخرفاغ وطيء منشجرك فولدت له منشخرنر، وجاريه يقال لها منشراروك، وان منشخرنر وطيء منشراروك فولدت له منوشهر. فيقول بعضهم كان مولده بدنباوند. ويقول بعض: كان مولده بالري، وإن منشخرنر ومنشراروك لما ولد لهما منوشهر أسرا أمره خوفا من طوج وسلم عليه، وإن منوشهر لما كبر صار إلى جده أفريدون، فلما دخل عليه توسم فيه الخير، وجعل له ما كان جعل لجده إيرج من المملكة، وتوجه بتاجه. وقد زعم بعض أهل الأخبار أن منوشهر هذا هو منوشهر بن منشخرنر ابن أفريقيس بن إسحاق بن إبراهيم، وأنه انتقل إليه الملك بعد أفريدون وبعد أن مضى الف سنه وتسعمائة سنة واثنتان وعشرون سنة، من عهد جيومرت، واستشهد لحقيقة ذلك بأبيات لجرير بن عطية، وهو قوله. وأبناء إسحاق الليوث إذا ارتدوا ... حمائل موت لابسين السنورا إذا انتسبوا عدوا الصبهبذ منهم ... وكسرى وعدوا الهرمزان وقيصرا وكان كتاب فيهم ونبوة ... وكانوا بإصطخر الملوك وتسترا

فيجمعنا والغر أبناء فارس ... أب لا نبالي بعده من تأخرا أبونا خليل الله، والله ربنا ... رضينا بما أعطى الإله وقدرا وأما الفرس فإنها تنكر هذا النسب، ولا تعرف لها ملكا إلا في أولاد أفريدون، ولا تقر بالملك لغيرهم، وترى أن داخلا إن كان دخل عليهم في ذلك من غيرهم في قديم الأيام قبل الإسلام، فإنه دخل فيه بغير حق. وحدثت عن هشام ابن مُحَمَّد، قَالَ: ملك طوج وسلم الأرض بينهما بعد قتلهما اخاهما ايرج ثلاثمائة سنة، ثم ملك منوشهر بن إيرج بن أفريدون مائة وعشرين سنة، ثم إنه وثب به ابن لابن طوج التركى على راس ثمانين سنه فنفاه عن بلاد العراق ثنتي عشرة سنة، ثم أديل منه منوشهر، فنفاه عن بلاده، وعاد إلى ملكه، وملك بعد ذلك ثمانيا وعشرين سنة. قَالَ: وكان منوشهر يوصف بالعدل والإحسان، وهو أول من خندق الخنادق، وجمع آلة الحرب، وأول من وضع الدهقنة فجعل لكل قرية دهقانا، وجعل أهلها له خولا وعبيدا، وألبسهم لباس المذلة، وأمرهم بطاعته. قَالَ: ويقال ان موسى النبي ص ظهر في سنة ستين من ملكه. وذكر غير هشام أن منوشهر لما ملك توج بتاج الملك وقال يوم ملك: نحن مقوون مقاتلينا، ومعدوهم للانتقام لأسلافنا، ودفع العدو عن بلادنا. وأنه سار نحو بلاد الترك طالبا بدم جده إيرج بن أفريدون، فقتل طوج بن أفريدون وأخاه سلما، وأدرك ثأره وانصرف، وأن فراسياب بن فشنج ابن رستم بن ترك- الذي تنسب إليه الأتراك، بن شهراسب ويقال: ابن

إرشسب بن طوج بن أفريدون الملك وقد يقال لفشك فشنج بن زاشمين- حارب منوشهر، بعد أن مضى لقتله طوجا وسلما ستون سنه، وحاصره بطبرستان. ثم ان منوشهر وفراسياب اصطلحا على أن يجعلا حد ما بين مملكتيهما منتهى رمية سهم رجل من أصحاب منوشهر يدعى ارشباطير- وربما خفف اسمه بعضهم فيقول: إيرش- فحيث ما وقع سهمه من موضع رميته تلك مما يلي بلاد الترك فهو الحد بينهما لا يجاوز ذلك واحد منهما إلى الناحية الاخرى وان ارشباطير نزع بسهم في قوسه، ثم أرسله- وكان قد أعطي قوة وشدة- فبلغت رميته من طبرستان إلى نهر بلخ ووقع السهم هنالك، فصار نهر بلخ حد ما بين الترك وولد طوج وولد إيرج وعمل الفرس، فانقطع بذلك من رميه ارشباطير حروب ما بين فراسياب ومنوشهر. وذكروا أن منوشهر اشتق من الصراة ودجلة ونهر بلخ أنهارا عظاما. وقيل إنه هو الذي كرا الفرات الأكبر، وأمر الناس بحراثة الأرض وعمارتها، وزاد في مهنة المقاتلة الرمى، وجعل الرياسة في ذلك لارشباطير لرميته التي رماها وقالوا: إن منوشهر لما مضى من ملكه خمس وثلاثون سنة تناولت الترك من أطراف رعيته، فوبخ قومه وقال لهم: أيها الناس، إنكم لم تلدوا الناس كلهم، وإنما الناس ناس ما عقلوا من أنفسهم ودفعوا العدو عنهم، وقد نالت الترك من أطرافكم، وليس ذلك إلا من ترككم جهاد عدوكم، وقلة المبالاة، وإن الله تبارك وتعالى أعطانا هذا الملك ليبلونا أنشكر فيزيدنا، أم نكفر فيعاقبنا! ونحن اهل بيت عز ومعدن الملك لله، فإذا كان غدا فاحضروا، قَالُوا: نعم واعتذروا، فقال: انصرفوا، فلما كان من الغد أرسل إلى أهل المملكة وأشراف

الأساورة، فدعاهم وأدخل الرؤساء من الناس، ودعا موبذ موبذان، فأقعد على كرسي مقابل سريره، ثم قام على سريره، وقام أشراف أهل بيت المملكة وأشراف الأساورة على أرجلهم، فقال: اجلسوا فإني إنما قمت لأسمعكم كلامي فجلسوا فقال: أيها الناس، إنما الخلق للخالق، والشكر للمنعم، والتسليم للقادر، ولا بد مما هو كائن، وإنه لا أضعف من مخلوق طالبا كان أو مطلوبا، ولا أقوى من خالق، ولا أقدر ممن طلبته في يده، ولا أعجز ممن هو في يد طالبه، وإن التفكر نور، والغفلة ظلمة، والجهالة ضلالة، وقد ورد الأول ولا بد للآخر من اللحاق بالأول، وقد مضت قبلنا أصول نحن فروعها، فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله! وإن الله عز وجل أعطانا هذا الملك فله الحمد، ونسأله إلهام الرشد والصدق واليقين، وإن للملك على أهل مملكته حقا، ولأهل مملكته عليه حقا، فحق الملك على أهل المملكة أن يطيعوه ويناصحوه ويقاتلوا عدوه، وحقهم على الملك أن يعطيهم أرزاقهم في أوقاتها، إذ لا معتمد لهم على غيرها، وإنها تجارتهم وحق الرعية على الملك أن ينظر لهم، ويرفق بهم، ولا يحملهم على ما لا يطيقون، وإن أصابتهم مصيبه تنقص من ثمارهم من آفة من السماء أو الأرض أن يسقط عنهم خراج ما نقص، وإن اجتاحتهم مصيبة أن يعوضهم ما يقويهم على عماراتهم، ثم يأخذ منهم بعد ذلك على قدر ما لا يجحف بهم في سنة أو سنتين، وأمر الجند للملك بمنزلة جناحي الطائر، فهم أجنحة الملك متى قص من الجناح ريشة كان ذلك نقصانا منه، فكذلك الملك إنما هو بجناحه وريشه ألا وإن الملك ينبغي أن يكون فيه ثلاث خصال: أولها أن يكون صدوقا لا يكذب، وأن يكون سخيا لا يبخل، وأن يملك نفسه عند الغضب، فإنه مسلط ويده مبسوطة، والخراج يأتيه، فينبغي ألا يستأثر عن جنده ورعيته بما هم أهل له، وأن يكثر العفو، فإنه لا ملك أبقى من ملك فيه العفو، ولا أهلك من ملك فيه العقوبة ألا

وإن المرء إن يخطئ في العفو فيعفو، خير من أن يخطئ في العقوبة فينبغي للملك أن يتثبت في الأمر الذي فيه قتل النفس وبوارها وإذا رفع إليه من عامل من عماله ما يستوجب به العقوبة فلا ينبغي له أن يحابيه، وليجمع بينه وبين المتظلم، فإن صح عليه للمظلوم حق خرج اليه منه، وان عجز عنه أدى عنه الملك ورده إلى موضعه، وأخذه بإصلاح ما أفسد، فهذا لكم علينا. ألا ومن سفك دما بغير حق، أو قطع يدا بغير حق، فإني لا أعفو عن ذلك إلا أن يعفو عنه صاحبه فخذوا هذا عني وإن الترك قد طمعت فيكم فاكفونا، فإنما تكفون أنفسكم، وقد أمرت لكم بالسلاح والعدة وأنا شريككم في الرأي، وإنما لي من هذا الملك اسمه مع الطاعة منكم ألا وإن الملك ملك إذا أطيع، فإذا خولف فذلك مملوك ليس بملك ومهما بلغنا من الخلاف فإنا لا نقبله من المبلغ له حتى نتيقنه، فإذا صحت معرفة ذلك وإلا أنزلناه منزلة المخالف ألا وإن أكمل الأداة عند المصيبات الأخذ بالصبر والراحة إلى اليقين، فمن قتل في مجاهدة العدو رجوت له الفوز برضوان الله وأفضل الأمور التسليم لأمر الله والراحة إلى اليقين والرضا بقضائه، وأين المهرب مما هو كائن! وإنما يتقلب في كف الطالب، وإنما هذه الدنيا سفر لأهلها لا يحلون عقد الرحال إلا في غيرها، وإنما بلغتهم فيها بالعواري، فما أحسن الشكر للمنعم والتسليم لمن القضاء له! ومن أحق بالتسليم لمن فوقه ممن لا يجد مهربا إلا إليه، ولا معولا إلا عليه! فثقوا بالغلبة إذا كانت نياتكم أن النصر من الله، وكونوا على ثقة من درك الطلبة إذا صحت نياتكم واعلموا أن هذا الملك لا يقوم إلا بالاستقامة وحسن الطاعة وقمع العدو وسد الثغور والعدل للرعية وإنصاف المظلوم، فشفاؤكم عندكم، والدواء الذي لا داء فيه الاستقامة، والأمر بالخير والنهى عن الشر، ولا قوه الا بالله انظروا للرعية فإنها مطعمكم ومشربكم، ومتى عدلتم فيها رغبوا في العمارة، فزاد ذلك في خراجكم، وتبين في زيادة أرزاقكم، وإذا خفتم على الرعية زهدوا في العمارة، وعطلوا أكثر الأرض فنقص ذلك

من خراجكم، وتبين في نقص أرزاقكم، فتعاهدوا الرعية بالإنصاف، وما كان من الأنهار والبثوق مما نفقة ذلك من السلطان فأسرعوا فيه قبل أن يكثر، وما كان من ذلك على الرعية فعجزوا عنه فأقرضوهم من بيت مال الخراج، فإذا حان أوقات خراجهم، فخذوا من خراج غلاتهم على قدر ما لا يجحف ذلك بهم، ربع في كل سنة أو ثلث أو نصف، لكيلا يشق ذلك عليهم هذا قولي وامرى يا موبذ موبذان، الزم هذا القول، وخذ في هذا الذي سمعت في يومك، أسمعتم أيها الناس! فقالوا: نعم، قد قلت فأحسنت، ونحن فاعلون إن شاء الله: ثم أمر بالطعام فوضع فأكلوا وشربوا، ثم خرجوا وهم له شاكرون. وكان ملكه مائة وعشرين سنة. وقد زعم هشام بن الكلبى فيما حدثت عنه أن الرائش بن قيس بن صيفي ابن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان كان من ملوك اليمن بعد يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ وإخوته، وأن الرائش كان ملكه باليمن أيام ملك منوشهر، وأنه إنما سمي الرائش- واسمه الحارث بن ابى شدد- لغنيمة غنمها من قوم غزاهم فأدخلها اليمن، فسمي لذلك الرائش، وأنه غزا الهند فقتل بها وسبى وغنم الأموال، ورجع إلى اليمن ثم سار منها، فخرج على جبلي طيّئ ثم على الأنبار، ثم على الموصل، وأنه وجه منها خيله وعليها رجل من أصحابه، يقال له: شمر بن العطاف، فدخل على الترك أرض أذربيجان وهي في أيديهم يومئذ، فقتل المقاتلة وسبى الذرية، وزبر ما كان من مسيره في حجرين، فهما معروفان ببلاد أذربيجان قَالَ: وفي ذلك يقول امرؤ القيس: ألم يخبرك أن الدهر غول ... ختور العهد يلتقم الرجالا

أزال عن المصانع ذا رياش ... وقد ملك السهولة والجبالا وأنشب في المخالب ذا منار ... وللزراد قد نصب الحبالا قَالَ: وذو منار الذي ذكره الشاعر هو ذو منار بن رائش، الملك بعد أبيه، واسمه أبرهة بن الرائش، قَالَ: وإنما سمي ذا منار لأنه غزا بلاد المغرب فوغل فيها برا وبحرا، وخاف على جيشه الضلال عند قفوله، فبنى المنار ليهتدوا بها. قَالَ: ويزعم أهل اليمن أنه كان وجه ابنه العبد بن أبرهة في غزوته هذه إلى ناحية من أقاصي بلاد المغرب، فغنم وأصاب مالا وقدم عليه بنسناس لهم خلق وحشيه منكرة، فذعر الناس منهم، فسموه ذا الأذعار. قَالَ: فأبرهة أحد ملوكهم الذين توغلوا في الأرض، وإنما ذكرت من ذكرت من ملوك اليمن في هذا الموضع لما ذكرت من قول من زعم أن الرائش كان ملكا باليمن أيام منوشهر، وأن ملوك اليمن كانوا عمالا لملوك فارس بها، ومن قبلهم كانت ولايتهم بها

ذكر نسب موسى بن عمران واخباره

ذكر نسب موسى بن عمران وأخباره وما كان في عهده وعهد منوشهر بن منشخورنر الملك من الأحداث قد ذكرنا أولاد يعقوب إسرائيل الله وعددهم وموالدهم فحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الفضل، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّ لاوى بن يعقوب نكح نابتة ابنة ماري بن يشخر، فولدت له عرشون بن لاوى ومرزى بن لاوى ومردى بن لاوى وقاهث ابن لاوى فنكح قاهث بن لاوى فاهى ابنة مسين بن بتويل بن إلياس. فولدت له يصهر بن قاهث فتزوج يصهر شميث ابنه بناديت بن بركيا ابن يقسان بن إبراهيم فولدت له عمران بن يصهر، وقارون بن يصهر، فنكح عمران يحيب ابنة شمويل بن بركيا بن يقسان بن إبراهيم فولدت له هارون بن عمران وموسى بن عمران. وقال غير ابن إسحاق: كان عمر يعقوب بن إسحاق مائة وسبعا وأربعين سنة، وولد لاوي له، وقد مضى من عمره تسع وثمانون سنة، وولد للاوي قاهث بعد أن مضى من عمر لاوي ست وأربعون سنة، ثم ولد لقاهث يصهر، ثم ولد ليصهر عمرم- وهو عمران- وكان عمر يصهر مائة وسبعا وأربعين سنة، وولد له عمران بعد أن مضى من عمره ستون سنة، ثم ولد لعمران موسى، وكانت أمه يوخابد- وقيل: كان اسمها باختة- وامرأته صفورا ابنة يترون، وهو

شعيب النبي ص وولد موسى جرشون وإيليعازر، وخرج إلى مدين خائفا وله إحدى وأربعون سنة، وكان يدعو الى دين ابراهيم، وتراءى الله بطور سيناء، وله ثمانون سنة. وكان فرعون مصر في أيامه قابوس بن مصعب بن معاوية صاحب يوسف الثاني، وكانت امرأته آسية ابنة مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد، فرعون يوسف الأول فلما نودي موسى أعلم أن قابوس بن مصعب قد مات، وقام أخوه الوليد بن مصعب مكانه، وكان أعتى من قابوس وأكفر وأفجر، وأمر بأن يأتيه هو وأخوه هارون بالرسالة. قَالَ: ويقال إن الوليد تزوج آسية ابنة مزاحم بعد أخيه وكان عمر عمران مائة سنة وسبعا وثلاثين سنة، وولد موسى وقد مضى من عمر عمران سبعون سنة، ثم صار موسى إلى فرعون رسولا مع هارون، وكان من مولد موسى إلى أن خرج ببني إسرائيل عن مصر ثمانون سنة، ثم صار إلى التيه بعد أن عبر البحر، فكان مقامهم هنالك إلى أن خرجوا مع يوشع بن نون أربعين سنة، فكان ما بين مولد موسى إلى وفاته في التيه مائة وعشرين سنة. وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ فَإِنَّهُ قَالَ فِيمَا حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قَالَ: قبض الله يوسف، وهلك الملك الذي كان معه الريان بن الوليد، وتوارثت الفراعنة من العماليق ملك مصر، فنشر الله بها بني إسرائيل، وقبر يوسف حين قبض- كما ذكر لي- في صندوق من مرمر في ناحية من النيل في جوف الماء، فلم يزل بنو إسرائيل تحت أيدي الفراعنة وهم على بقايا من دينهم مما كان يوسف ويعقوب وإسحاق وإبراهيم شرعوا فيهم

من الإسلام، متمسكين، به حتى كان فرعون موسى الذي بعثه الله إليه، ولم يكن منهم فرعون أعتى منه على الله ولا أعظم قولا ولا أطول عمرا في ملكه منه. وكان اسمه- فيما ذكروا لي- الوليد بن مصعب، ولم يكن من الفراعنة فرعون أشد غلظة، ولا أقسى قلبا، ولا أسوأ ملكة لبني إسرائيل منه، يعذبهم فيجعلهم خدما وخولا، وصنفهم في أعماله، فصنف يبنون، وصنف يحرثون، وصنف يزرعون له، فهم في أعماله، ومن لم يكن منهم في صنعة له من عمله فعليه الجزية، فسامهم كما قَالَ الله: «سُوءَ الْعَذابِ*» ، وفيهم مع ذلك بقايا من أمر دينهم لا يريدون فراقه، وقد استنكح منهم امرأة يقال لها آسيه ابنه مزاحم، من خيار النساء المعدودات، فعمر فيهم وهم تحت يديه عمرا طويلا يسومهم سوء العذاب، فلما أراد الله أن يفرج عنهم وبلغ موسى الأشد أعطي الرسالة. قَالَ: وذكر لي أنه لما تقارب زمان موسى أتى منجمو فرعون وحزاته إليه، فقالوا: تعلم أنا نجد في علمنا أن مولودا من بني إسرائيل قد أظلك زمانه الذي يولد فيه، يسلبك ملكك، ويغلبك على سلطانك، ويخرجك من أرضك، ويبدل دينك فلما قَالُوا له ذلك أمر بقتل كل مولود يولد من بني إسرائيل من الغلمان وأمر بالنساء يستحيين، فجمع القوابل من نساء أهل مملكته فقال لهن: لا يسقطن على أيديكن غلام من بني إسرائيل إلا قتلتموه، فكن يفعلن ذلك، وكان يذبح من فوق ذلك من الغلمان، ويأمر بالحبالى فيعذبن حتى يطرحن ما في بطونهن. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، قَالَ: لقد ذكر لي أنه كان يأمر بالقصب فيشق حتى يجعل أمثال الشفار، ثم يصف بعضه إلى بعض، ثم يأتي بالحبالى من بني إسرائيل فيوقفهن عليه فيحز أقدامهن، حتى إن المرأة منهن لتمصع بولدها فيقع بين رجليها، فتظل تطؤه تتقي به حز القصب عن رجليها، لما بلغ من جهدها، حتى أسرف في ذلك، وكاد يفنيهم، فقيل له: أفنيت

الناس، وقطعت النسل، وإنهم خولك وعمالك فأمر أن يقتل الغلمان عاما ويستحيوا عاما، فولد هارون في السنة التي يستحيا فيها الغلمان، وولد موسى في السنة التي فيها يقتلون، فكان هارون أكبر منه بسنة وَأَمَّا السُّدِّيُّ فَإِنَّهُ قَالَ مَا حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني عن ابْنِ مَسْعُودٍ- وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله ص أَنَّهُ كَانَ مِنْ شَأْنِ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ رَأَى رُؤْيَا فِي مَنَامِهِ أَنَّ نَارًا أَقْبَلَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى اشْتَمَلَتْ عَلَى بُيُوتِ مِصْرَ، فَأَحْرَقَتِ الْقِبْطَ وَتَرَكَتْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَخْرَبَتْ بُيُوتَ مِصْرَ، فَدَعَا السَّحَرَةَ وَالْكَهَنَةَ وَالْقَافَةَ وَالْحَازَةَ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ رُؤْيَاهُ فَقَالُوا لَهُ: يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ الَّذِي جَاءَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْهُ- يَعْنُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ- رَجُلٌ يَكُونُ عَلَى وَجْهِهِ هَلاكُ مِصْرَ فَأَمَرَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلا يُولَدَ لَهُمْ غُلامٌ إِلا ذَبَحُوهُ، وَلا يُولَدَ لَهُمْ جَارِيَةٌ إِلا تُرِكَتْ وَقَالَ لِلْقِبْطِ: انْظُرُوا مَمْلُوكِيكُمُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ خَارِجًا فَأَدْخِلُوهُمْ وَاجْعَلُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ يَلُونَ تِلْكَ الأَعْمَالَ الْقَذِرَةَ فَجَعَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي أَعْمَالِ غِلْمَانِهِمْ وَأَدْخَلُوا غِلْمَانَهُمْ. فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ الله: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ» يَقُولُ: تَجَبَّرَ فِي الأَرْضِ، «وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً» - يَعْنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ جَعَلَهُمْ فِي الأَعْمَالِ القذره- «يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ» ، فَجَعَلَ لا يُولَدُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مَوْلُودٌ إِلا ذُبِحَ، فَلا يَكْبُرُ الصَّغِيرُ، وَقَذَفَ اللَّهُ فِي مَشْيَخَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمَوْتَ، فَأَسْرَعَ فِيهِمْ، فَدَخَلَ رُءُوسُ الْقِبْطِ عَلَى فِرْعَوْنَ فَكَلَّمُوهُ، فَقَالُوا: إِنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ قَدْ وَقَعَ فِيهِمُ الْمَوْتُ، فَيُوشِكُ أَنْ يَقَعَ الْعَمَلُ عَلَى غِلْمَانِنَا نُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ فلا يبلغ الصغار، ويفنى الْكِبَارَ، فَلَوْ أَنَّكَ تُبْقِي مِنْ أَوْلادِهِمْ! فَأَمَرَ أَنْ يُذْبَحُوا سَنَةً وَيُتْرَكُوا سَنَةً، فَلَمَّا كَانَ فِي السَّنَةِ الَّتِي لا يُذْبَحُونَ فِيهَا وُلِدَ هَارُونُ فَتُرِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي السَّنَةِ الَّتِي يُذْبَحُونَ فِيهَا حَمَلَتْ أُمُّ مُوسَى بِمُوسَى فَلَمَّا ارادت وضعه

حَزِنَتْ مِنْ شَأْنِهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهَا: «أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَهُوَ النِّيلُ، وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» فَلَمَّا وَضَعَتْهُ أَرْضَعَتْهُ، ثُمَّ دَعَتْ لَهُ نَجَّارًا فَجَعَلَ لَهُ تَابُوتًا، وَجَعَلَ مِفْتَاحَ التَّابُوتِ مِنْ دَاخِلٍ، وَجَعَلَتْهُ فِيهِ وَأَلْقَتْهُ فِي الْيَمِّ، «وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ» تَعْنِي قُصِّي أَثَرَهُ «فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» ، أَنَّهَا أُخْتُهُ فَأَقْبَلَ الْمَوْجُ بِالتَّابُوتِ يَرْفَعُهُ مَرَّةً، وَيَخْفِضُهُ أُخْرَى، حَتَّى أَدْخَلَهُ بَيْنَ أَشْجَارٍ عِنْدَ بَيْتِ فِرْعَوْنَ، فَخَرَجَ جَوَارِي آسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ يغتسلن، فوجدن التابوت فادخلنه الى آسيه، وظننن أَنَّ فِيهِ مَالا، فَلَمَّا نَظَرَتْ إِلَيْهِ آسِيَةُ وَقَعَتْ عَلَيْهِ رَحْمَتُهَا وَأَحَبَّتْهُ فَلَمَّا أَخْبَرَتْ بِهِ فِرْعَوْنَ أَرَادَ أَنْ يَذْبَحَهُ، فَلَمْ تَزَلْ آسِيَةُ تُكَلِّمُهُ حَتَّى تَرَكَهُ لَهَا، قَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنْ يَكُونَ هَذَا الَّذِي عَلَى يَدَيْهِ هَلاكُنَا، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: «فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً» فَأَرَادُوا لَهُ الْمُرْضِعَاتِ، فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ، وَجَعَلَ النِّسَاءُ يَطْلُبْنَ ذَلِكَ لِيَنْزِلْنَ عِنْدَ فِرْعَوْنَ فِي الرَّضَاعِ، فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: «وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ» أُخْتُهُ «هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ» ، فَأَخَذُوهَا، وَقَالُوا: إِنَّكِ قَدْ عَرَفْتِ هَذَا الْغُلامَ فَدُلِّينَا عَلَى أَهْلِهِ فَقَالَتْ: مَا أَعْرِفُهُ، وَلَكِنِّي إِنَّمَا قُلْتُ: هُمْ لِلْمَلِكِ نَاصِحُونَ. وَلَمَّا جَاءَتْ أُمُّهُ أَخَذَ مِنْهَا ثَدْيَهَا فَكَادَتْ أَنْ تَقُولَ: هُوَ ابْنِي! فَعَصَمَهَا

اللَّهُ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: «إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ موسى لأَنَّهُمْ وَجَدُوهُ فِي مَاءٍ وشجر، والماء بالقبطية مو والشجر شا فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ» فَاتَّخَذَهُ فِرْعَوْنُ وَلَدًا فَدُعِيَ ابْنَ فِرْعَوْنَ فَلَمَّا تَحَرَّكَ الْغُلامُ أَرَتْهُ أُمُّهُ آسِيَةُ صَبِيًّا، فَبَيْنَمَا هِيَ تُرَقِّصُهُ وَتَلْعَبُ بِهِ إِذْ نَاوَلَتْهُ فِرْعَوْنَ، وَقَالَتْ: خُذْهُ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ، قَالَ فِرْعَوْنُ: هُوَ قُرَّةُ عَيْنٍ لَكِ وَلا لِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ أَنَّهُ قَالَ: وَهُوَ لِي قُرَّةُ عَيْنٍ إِذًا لآمَنَ بِهِ، وَلَكِنَّهُ أَبَى، فَلَمَّا أَخَذَهُ إِلَيْهِ أَخَذَ موسى بِلِحْيَتِهِ فَنَتَفَهَا، فَقَالَ فِرْعَوْنُ: عَلَيَّ بِالذَّبَّاحِينَ، هَذَا هُوَ! قَالَتْ آسِيَةُ: «لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً» ، انما هُوَ صَبِيٌّ لا يَعْقِلُ، وَإِنَّمَا صَنَعَ هَذَا مِنْ صِبَاهُ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي أَهْلِ مِصْرَ امْرَأَةٌ أَحْلَى مِنِّي، أَنَا أَضَعُ له حليا مِنَ الْيَاقُوتِ، وَأَضَعُ لَهُ جَمْرًا، فَإِنْ أَخَذَ الْيَاقُوتَ فَهُوَ يَعْقِلُ فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَخَذَ الْجَمْرَ فَإِنَّمَا هُوَ صَبِيٌّ، فَأَخْرَجَتْ لَهُ يَاقُوتَهَا فَوَضَعَتْ له طستا من جمر، فجاء جبرئيل فَطَرَحَ فِي يَدِهِ جَمْرَةً فَطَرَحَهَا موسى فِي فِيهِ فَأَحْرَقَ لِسَانَهُ، فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي» فَزَالَتْ عَنْ مُوسَى مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَكَبُرَ مُوسَى فَكَانَ يَرْكَبُ مَرَاكِبَ فِرْعَوْنَ، وَيَلْبَسُ مِثْلَ ما يلبس، وكان انما يدعى موسى بن فِرْعَوْنَ ثَمَّ إِنَّ فِرْعَوْنَ رَكِبَ مَرْكَبًا وَلَيْسَ عِنْدَهُ مُوسَى، فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى قِيلَ لَهُ: إِنَّ فِرْعَوْنَ قَدْ رَكِبَ، فَرَكِبَ فِي أَثَرِهِ فَأَدْرَكَهُ الْمَقِيلُ بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا مَنْفُ، فَدَخَلَهَا نصف النهار،

وقد تعلقت أَسْوَاقُهَا وَلَيْسَ فِي طُرُقِهَا أَحَدٌ وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ يَقُولُ: هَذَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ يقول: من القبط فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ» خَائِفًا أَنْ يُؤْخَذَ، «فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ» يَقُولُ: يَسْتَغِيثُهُ «قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ» ثُمَّ أَقْبَلَ مُوسَى لِيَنْصُرَهُ فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى مُوسَى قَدْ أَقْبَلَ نَحْوَهُ لِيَبْطِشَ بِالرَّجُلِ الَّذِي يُقَاتِلُ الإِسْرَائِيلِيَّ، قَالَ الإِسْرَائِيلِيُّ- وَفَرَقَ مِنْ مُوسَى أَنْ يَبْطِشَ بِهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أَغْلَظَ الْكَلامَ- يَا مُوسَى «أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ» . فَتَرَكَهُ وَذَهَبَ الْقِبْطِيُّ، فَأَفْشَى عَلَيْهِ أَنَّ مُوسَى هُوَ الَّذِي قَتَلَ الرَّجُلَ، فَطَلَبَهُ فِرْعَوْنُ وَقَالَ: خُذُوهُ فَإِنَّهُ صَاحِبُنَا، وَقَالَ لِلَّذِينَ يَطْلُبُونَهُ: اطْلُبُوهُ فِي بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ، فَإِنَّ مُوسَى غُلامٌ لا يَهْتَدِي إِلَى الطَّرِيقِ، وَأَخَذَ مُوسَى فِي بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ وَجَاءَهُ الرَّجُلُ وَأَخْبَرَهُ «إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» فَلَمَّا أَخَذَ مُوسَى فِي بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ جَاءَهُ مَلَكٌ عَلَى فَرَسٍ بِيَدِهِ عَنَزَةٌ، فَلَمَّا رَآهُ مُوسَى سَجَدَ لَهُ مِنَ الْفَرَقِ، فَقَالَ: لا تَسْجُدْ لِي، وَلَكِنِ اتَّبِعْنِي، فَاتَّبَعَهُ فَهَدَاهُ نَحْوَ مَدْيَنَ، وَقَالَ مُوسَى وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ نَحْوَ مَدْيَنَ: «عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ» ، فَانْطَلَقَ بِهِ الْمَلَكُ حَتَّى انْتَهَى بِهِ إِلَى مدين

حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ زَيْدٍ الْجُهَنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ ابن جُبَيْرٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عن قول الله موسى: «وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً» ، فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْفُتُونِ مَا هِيَ؟ فَقَالَ لِي: استأنف النهار يا بن جُبَيْرٍ، فَإِنَّ لَهَا حَدِيثًا طَوِيلًا، قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ لأَنْتَجِزَ مِنْهُ ما وعدني قال: فقال ابْنُ عَبَّاسٍ: تَذَاكَرَ فِرْعَوْنُ وَجُلَسَاؤُهُ مَا وَعَدَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ أَنْبِيَاءَ وَمُلُوكًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَيَنْتَظِرُونَ ذَلِكَ مَا يَشُكُّونَ، وَلَقَدْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ، فَلَمَّا هَلَكَ قَالُوا: لَيْسَ هَكَذَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ فِرْعَوْنُ: فَكَيْفَ تَرَوْنَ؟ قَالَ: فَائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ، وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ رِجَالًا مَعَهُمُ الشِّفَارُ، يَطُوفُونَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَا يَجِدُونَ مَوْلُودًا ذَكَرًا إِلَّا ذَبَحُوهُ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْكِبَارَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَمُوتُونَ بِآجَالِهِمْ، وَأَنَّ الصِّغَارَ يُذْبَحُونَ قَالُوا: تُوشِكُونَ أَنْ تُفْنُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَتَصِيرُوا إِلَى أَنْ تُبَاشِرُوا مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْخِدْمَةِ الَّتِي كَانُوا يَكْفُونَكُمْ، فَاقْتُلُوا عَامًا كُلَّ مَوْلُودٍ ذَكَرٍ، فَيَقِلَّ أَبْنَاؤُهُمْ، وَدَعُوا عَامًا لَا تَقْتُلُوا مِنْهُمْ أَحَدًا، فَيَشِبَّ الصِّغَارُ مَكَانَ مَنْ يَمُوتُ مِنَ الْكِبَارِ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَكْثُرُوا بِمَنْ تَسْتَحْيُونَ مِنْهُمْ فَتَخَافُوا مُكَاثَرَتَهُمْ إِيَّاكُمْ، وَلَنْ يَقِلُّوا بِمَنْ تَقْتُلُونَ فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَحَمَلَتْ أُمُّ مُوسَى بِهَارُونَ فِي الْعَامِ الَّذِي لَا يُذْبَحُ فِيهِ الْغِلْمَانُ فَوَلَدَتْهُ عَلَانِيَةً آمِنَةً حَتَّى إِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَمَلَتْ بِمُوسَى فَوَقَعَ فِي قلبها الهم والحزن- وذلك من الفتون يا بن جُبَيْرٍ- مِمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ مما يراد به، فاوحى الله إليها: «الا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» وَأَمَرَهَا إِذَا وَلَدَتْهُ أَنْ تَجْعَلَهُ فِي تَابُوتٍ، ثُمَّ تُلْقِيَهُ فِي الْيَمِّ فَلَمَّا وَلَدَتْهُ فَعَلَتْ مَا أُمِرَتْ بِهِ، حَتَّى إِذَا تَوَارَى عَنْهَا ابْنُهَا أَتَاهَا إِبْلِيسُ، فَقَالَتْ فِي نَفْسِهَا: مَا صَنَعْتُ بِابْنِي؟ لَوْ ذُبِحَ عِنْدِي فَوَارَيْتُهُ وَكَفَّنْتُهُ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُلْقِيَهُ بِيَدِي الى حيتان

الْبَحْرِ ودَوَابِّهِ فَانْطَلَقَ بِهِ الْمَاءُ حَتَّى أَوْفَى بِهِ عِنْدَ فُرْضَةِ مُسْتَقَى جَوَارِي آلِ فِرْعَوْنَ، فَرَأَيْنَهُ فَأَخَذْنَهُ، فَهَمَمْنَ أَنْ يَفْتَحْنَ التَّابُوتَ، فَقَالَ بَعْضُهُنَّ لِبَعْضٍ: إِنَّ فِي هَذَا مَالًا، وَإِنَّا إِنْ فَتَحْنَاهُ لَمْ تُصَدِّقْنَا امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ بِمَا وَجَدْنَا فِيهِ، فَحَمَلْنَهُ كَهَيْئَتِهِ لَمْ يُحَرِّكْنَ مِنْهُ شيئا حتى دفعنه إليها، فلما فتحته رَأَتْ فِيهِ الْغُلَامَ، فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ مِنْهَا مَحَبَّةً لَمْ يُلْقَ مِثْلُهَا مِنْهَا عَلَى أَحَدٍ مِنَ الناس، «وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً» مِنْ ذِكْرِ كُلِّ شَيْءٍ، إِلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى. فَلَمَّا سَمِعَ الذَّبَّاحُونَ بِأَمْرِهِ أَقْبَلُوا إِلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ بِشِفَارِهِمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَذْبَحُوهُ- وَذَلِكَ من الفتون يا بن جُبَيْرٍ- فَقَالَتْ: لِلذَّبَّاحِينَ: انْصَرِفُوا، فَإِنَّ هَذَا الْوَاحِدَ لَا يَزِيدُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَآتِي فِرْعَوْنَ فَأَسْتَوْهِبُهُ إِيَّاهُ، فَإِنْ وَهَبَهُ لِي كُنْتُمْ قَدْ أَحْسَنْتُمْ وَأَجْمَلْتُمْ، وَإِنْ أَمَرَ بِذَبْحِهِ لَمْ أَلُمْكُمْ فلما أتت به فرعون قالت: «قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ» ، قَالَ فِرْعَوْنُ: يَكُونُ لَكِ، فَأَمَّا أَنَا فَلَا حَاجَةَ لِي فيه، [فقال رسول الله ص: وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ، لَوْ أَقَرَّ فِرْعَوْنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ قُرَّةَ عَيْنٍ كَمَا أَقَرَّتْ بِهِ لَهَدَاهُ اللَّهُ بِهِ، كَمَا هَدَى بِهِ امْرَأَتَهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ حَرَمَهُ ذَلِكَ] . فَأَرْسَلَتْ إِلَى مَنْ حَوْلَهَا مِنْ كُلِّ أُنْثَى لَهَا لَبَنٌ لِتَخْتَارَ لَهُ ظِئْرًا، فَجَعَلَ كُلَّمَا أَخَذَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ لِتُرْضِعَهُ لَمْ يَقْبَلْ ثَدْيَهَا، حَتَّى أَشْفَقَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ اللَّبَنِ فَيَمُوتَ، فَحَزَّنَهَا ذَلِكَ، فَأَمَرَتْ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى السُّوقِ،

مَجْمَعِ النَّاسِ تَرْجُو أَنْ تُصِيبَ لَهُ ظِئْرًا يَأْخُذُ مِنْهَا، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْ أَحَدٍ، وَأَصْبَحَتْ أُمُّ مُوسَى فَقَالَتْ لِأُخْتِهِ: قُصِّيهِ وَاطْلُبِيهِ هَلْ تَسْمَعِينَ لَهُ ذِكْرًا! أَحِيٌّ ابْنِي أَمْ قَدْ أَكَلَتْهُ دَوَابُّ الْبَحْرِ وَحِيتَانُهُ؟ وَنَسِيَتِ الَّذِي كَانَ اللَّهُ وَعَدَهَا، فَبَصُرَتْ بِهِ أُخْتُهُ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، فَقَالَتْ مِنَ الْفَرَحِ حِينَ أَعْيَاهُمُ الظُّئُورَاتُ: «هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ» فَأَخَذُوهَا فَقَالُوا: وَمَا يُدْرِيكِ مَا نُصْحُهُمْ لَهُ! هَلْ تَعْرِفِينَهُ؟ حَتَّى شَكُّوا فِي ذَلِكَ- وَذَلِكَ من الفتون يا بن جبير- فقالت: نصحهم له، وشفقتهم عَلَيْهِ، وَرَغْبَتُهُمْ فِي ظُئُورَةِ الْمَلِكِ، وَرَجَاءُ مَنْفَعَتِهِ فَتَرَكُوهَا، فَانْطَلَقَتْ إِلَى أُمِّهَا فَأَخْبَرَتْهَا الْخَبَرَ، فَجَاءَتْ فَلَمَّا وَضَعَتْهُ فِي حِجْرِهَا نَزَا إِلَى ثَدْيِهَا حَتَّى امْتَلَأَ جَنْبَاهُ، فَانْطَلَقَ الْبُشَرَاءُ إِلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ يُبَشِّرُونَهَا أَنْ قَدْ وَجَدْنَا لِابْنِكَ ظِئْرًا، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهَا فَأُتِيَتْ بِهَا وَبِهِ، فَلَمَّا رَأَتْ مَا يَصْنَعُ بِهَا قَالَتِ: امْكُثِي عِنْدِي تُرْضِعِينَ ابْنِي هَذَا فَإِنِّي لَمْ أُحِبَّ حُبَّهُ شَيْئًا قَطُّ قَالَ: فَقَالَتْ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَدَعَ بَيْتِي وَوَلَدِي فَيَضِيعَ، فَإِنْ طَابَتْ نَفْسُكِ أَنْ تُعْطِينِيهِ فَأَذْهَبَ بِهِ إِلَى بَيْتِي، فَيَكُونَ مَعِي لا آلُوهُ خَيْرًا فَعَلْتِ، وَإِلَّا فَإِنِّي غَيْرُ تَارِكَةٍ بَيْتِي وَوَلَدِي وَذَكَرَتْ أُمُّ مُوسَى مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَهَا، فَتَعَاسَرَتْ عَلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَأَيْقَنَتْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ، فَرَجَعَتْ بِابْنِهَا إِلَى بَيْتِهَا مِنْ يَوْمِهَا، فَأَنْبَتَهُ اللَّهُ نَبَاتًا حَسَنًا، وَحَفِظَهُ لِمَا قَضَى فِيهِ، فَلَمْ تَزَلْ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ يَمْتَنِعُونَ بِهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالسُّخْرِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِمْ، فَلَمَّا تَرَعْرَعَ قَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ لِأُمِّ مُوسَى: أُرِيدُ أَنْ تُرِينِي مُوسَى، فَوَعَدَتْهَا يَوْمًا تُرِيهَا إِيَّاهُ فِيهِ، فَقَالَتْ لِحَوَاضِنِهَا وَظُئُورِهَا وَقَهَارِمَتِهَا: لا يَبْقَيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا اسْتَقْبَلَ ابْنِي بِهَدِيَّةٍ وَكَرَامَةٍ، لِيَرَى ذَلِكَ، وَأَنَا بَاعِثَةٌ أَمِينَةً تُحْصِي مَا يَصْنَعُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ فَلَمْ تَزَلِ الْهَدِيَّةُ وَالْكَرَامَةُ وَالتُّحَفُ تَسْتَقْبِلُهُ

مِنْ حِينِ خَرَجَ مِنْ بَيْتِ أُمِّهِ إِلَى أَنْ دَخَلَ عَلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا بَجَّلَتْهُ وَأَكْرَمَتْهُ وَفَرِحَتْ بِهِ وَأَعْجَبَهَا مَا رَأَتْ مِنْ حُسْنِ أَثَرِهَا عَلَيْهِ، وَقَالَتِ: انْطَلِقْنَ بِهِ إِلَى فِرْعَوْنَ فَلْيُبَجِّلْهُ وَلْيُكْرِمْهُ فَلَمَّا دَخَلْنَ بِهِ عَلَى فِرْعَوْنَ وَضَعْنَهُ فِي حِجْرِهِ، فَتَنَاوَلَ مُوسَى لِحْيَةَ فِرْعَوْنَ حَتَّى مَدَّهَا، فَقَالَ: عَدُوٌّ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ! أَلَا تَرَى مَا وَعَدَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ سَيَصْرَعُكَ وَيَعْلُوكَ! فَأَرْسَلَ إِلَى الذباحين ليذبحوه- وذلك من الفتون يا بن جُبَيْرٍ- بَعْدَ كُلِّ بَلَاءٍ ابْتُلِيَ بِهِ وَأُرِيدَ بِهِ فَجَاءَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ تَسْعَى إِلَى فِرْعَوْنَ فَقَالَتْ: مَا بَدَا لَكَ فِي هَذَا الصَّبِيِّ الَّذِي وَهَبْتَهُ لِي؟ قَالَ: أَلَا تَرَيْنَهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَيَصْرَعُنِي وَيَعْلُونِي! فَقَالَتِ: اجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَمْرًا يُعْرَفُ فِيهِ الْحَقُّ، ائْتِ بِجَمْرَتَيْنِ وَلُؤْلُؤَتَيْنِ فَقَرِّبْهُنَّ إِلَيْهِ، فَإِنْ بَطَشَ بِاللُّؤْلُؤَتَيْنِ وَاجْتَنَبَ الْجَمْرَتَيْنِ عَلِمْتُ أَنَّهُ يَعْقِلُ، وَإِنْ تَنَاوَلَ الْجَمْرَتَيْنِ وَلَمْ يُرِدِ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ فَاعْلَمْ أَنَّ أَحَدًا لَا يُؤْثِرُ الْجَمْرَتَيْنِ عَلَى اللُّؤْلُؤَتَيْنِ وَهُوَ يَعْقِلُ، فَقَرَّبَ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَتَنَاوَلَ الْجَمْرَتَيْنِ فَنَزَعُوهُمَا مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ تُحْرِقَا يَدَهُ، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: أَلَا تَرَى! فَصَرَفَهُ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ مَا كَانَ قَدْ هَمَّ بِهِ، وَكَانَ اللَّهُ بَالِغًا فِيهِ أَمْرَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَكَانَ مِنَ الرِّجَالِ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَخْلُصُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِظُلْمٍ وَلَا سُخْرَةٍ، حَتَّى امْتَنَعُوا كُلَّ امْتِنَاعٍ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَمْشِي ذَاتَ يَوْمٍ فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ إِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ، أَحَدُهُمَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالآخَرُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، فَاسْتَغَاثَهُ الإِسْرَائِيلِيُّ عَلَى الْفِرْعَوْنِيِّ، فَغَضِبَ مُوسَى وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ لِأَنَّهُ تَنَاوَلَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ مَنْزِلَةَ مُوسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَحِفْظَهُ لَهُمْ، وَلَا يَعْلَمُ النَّاسُ إِلَّا أَنَّمَا ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الرَّضَاعَةِ غَيْرَ أُمِّ مُوسَى، إِلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَطْلَعَ مُوسَى مِنْ ذلك على ما لم يُطْلِعُ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، فَوَكَزَ مُوسَى الْفِرْعَوْنِيَّ فَقَتَلَهُ، وَلَيْسَ يَرَاهُمَا إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالْإِسْرَائِيلِيُّ، فَقَالَ مُوسَى حِينَ قَتَلَ الرَّجُلَ: «هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ

إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ» ، ثُمَّ قَالَ: «رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» فاصبح في المدينة خائفا يترقب الْأَخْبَارَ، فَأَتَى فِرْعَوْنَ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ قَتَلُوا رَجُلًا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ فَخُذْ لَنَا بِحَقِّنَا، وَلَا تُرَخِّصْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: ابْغُونِي قَاتِلَهُ، وَمَنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ نَقْضِيَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا ثَبْتٍ فَطَلَبُوا لَهُ ذَلِكَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَطُوفُونَ لَا يَجِدُونَ بَيِّنَةً، إِذْ مَرَّ مُوسَى مِنَ الْغَدِ، فَرَأَى ذَلِكَ الْإِسْرَائِيلِيَّ يُقَاتِلُ فِرْعَوْنِيًّا، فَاسْتَغَاثَهُ الْإِسْرَائِيلِيُّ عَلَى الْفِرْعَوْنِيِّ، فَصَادَفَ مُوسَى وَقَدْ نَدِمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ بِالْأَمْسِ، وَكَرِهَ الَّذِي رَأَى، فَغَضِبَ مُوسَى فَمَدَّ يَدَهُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْطِشَ بِالْفِرْعَوْنِيِّ، فَقَالَ لِلْإِسْرَائِيلِيِّ لِمَا فعل بالأمس واليوم: «إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ» . فَنَظَرَ الْإِسْرَائِيلِيُّ إِلَى مُوسَى بَعْدَ مَا قَالَ مَا قَالَ، فَإِذَا هُوَ غَضْبَانُ كَغَضَبِهِ بِالْأَمْسِ الَّذِي قَتَلَ فِيهِ الْفِرْعَوْنِيَّ، فَخَافَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مَا قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ» ، أَنْ يَكُونَ إِيَّاهُ أَرَادَ- وَلَمْ يَكُنْ أَرَادَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْفِرْعَوْنِيَّ- فَخَافَ الْإِسْرَائِيلِيُّ فَحَاجَزَ الْفِرْعَوْنِيَّ، وقال: يَا مُوسَى «أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ» ! وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ إِيَّاهُ أَرَادَ مُوسَى لِيَقْتُلَهُ، فَتَتَارَكَا، فَانْطَلَقَ الْفِرْعَوْنِيُّ إِلَى قَوْمِهِ فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا سَمِعَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّ مِنَ الْخَبَرِ، حِينَ يَقُولُ: «أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ» ! فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ الذَّبَّاحِينَ، وَسَلَكَ مُوسَى الطَّرِيقَ الْأَعْظَمَ وَطَلَبُوهُ وَهُمْ لَا يَخَافُونَ أَنْ يَفُوتَهُمْ، وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ شِيعَةِ مُوسَى مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ، فَاخْتَصَرَ طَرِيقًا قَرِيبًا حَتَّى سَبَقَهُمْ إِلَى مُوسَى، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، وَذَلِكَ مِنَ الفتون يا بن جُبَيْرٍ. ثُمَّ رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ السُّدِّيِّ قال: «فلما وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ

عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ» يَقُولُ: كَثْرَةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ. وقد حَدَّثَنَا أبو عمار المروزي، قَالَ: حَدَّثَنَا الفضل بن موسى، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، قَالَ: خرج موسى من مصر إلى مدين، وبينهما مسيرة ثمان ليال- قَالَ: وكان يقال نحو من الكوفة إلى البصرة- ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر، فخرج حافيا، فما وصل إليها حتى وقع خف قدمه حَدَّثَنَا أبو كريب، قَالَ: حَدَّثَنَا عثام، قَالَ: حَدَّثَنَا الأعمش، عن المنهال، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بنحوه. رجع الحديث إلى حديث السدي «وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ» يقول: تحبسان غنمهما، فسألهما: «مَا خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ» ، فرحمهما موسى فأتى البئر فاقتلع صخرة على البئر، كان النفر من أهل مدين يجتمعون عليها حتى يرفعوها، فسقى لهما موسى دلوا فأروتا غنمهما، فرجعتا سريعا، وكانتا إنما تسقيان من فضول الحياض، ثم تولى موسى إلى ظل شجرة من السمر فقال: «رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لقد قَالَ موسى، ولو شاء إنسان أن ينظر إلى خضرة أمعائه من شدة الجوع ما يسأل الله إلا أكلة. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامُ بْنُ سَلْمٍ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ» ، قَالَ: وَرَدَ الْمَاءَ وَإِنَّهُ لَيَتَرَاءَى خَضِرَةَ الْبَقْلِ فِي بَطْنِهِ مِنَ

الْهُزَالِ فَقَالَ: «رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» قَالَ: شُبْعَةٌ. رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ السُّدِّيِّ فَلَمَّا رَجَعَتِ الْجَارِيَتَانِ إِلَى أَبِيهِمَا سَرِيعًا، سَأَلَهُمَا فَأَخْبَرَتَاهُ خَبَرَ مُوسَى، فَأَرْسَلَ إِحْدَاهُمَا فَأَتَتْهُ «تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ وَهِيَ تَسْتَحْيِي مِنْهُ، قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا» فَقَامَ مَعَهَا، وَقَالَ لَهَا: امْضِي، فَمَشَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَضَرَبَتْهَا الرِّيَاحُ فَنَظَرَ إِلَى عَجِيزَتِهَا، فَقَالَ لَهَا مُوسَى: امْشِي خَلْفِي وَدُلِّينِي عَلَى الطَّرِيقِ إِنْ أَخْطَأْتُ، فَلَمَّا أَتَى الشَّيْخَ «وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. قالَتْ إِحْداهُما يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ» . وَهِيَ الْجَارِيَةُ الَّتِي دَعَتْهُ قَالَ الشَّيْخُ: هَذِهِ الْقُوَّةُ قَدْ رَأَيْتِ حِينَ اقْتَلَعَ الصَّخْرَةَ، أَرَأَيْتِ أَمَانَتَهُ مَا يُدْرِيكِ مَا هِيَ؟ قَالَتْ: إِنِّي مَشَيْتُ قُدَّامَهُ فَلَمْ يُحِبَّ أَنْ يُخَوِّنَنِي فِي نَفْسِي، وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْشِيَ خَلْفَهُ، قَالَ لَهُ الشَّيْخُ: «إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي» - إلى- «أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ» ، إِمَّا ثَمَانِيًا وَإِمَّا عَشْرًا، «وَاللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ» . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْجَارِيَةُ الَّتِي دَعَتْهُ هِيَ الَّتِي تَزَوَّجَ بِهَا فَأَمَرَ إِحْدَى ابْنَتَيْهِ أَنْ تَأْتِيَهُ بِعَصًا فَأَتَتْهُ بِعَصًا، وَكَانَتْ تِلْكَ الْعَصَا عَصًا اسْتَوْدَعَهَا إِيَّاهُ مَلَكٌ فِي صُورَةِ رَجُلٍ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ فَدَخَلَتِ الْجَارِيَةُ فَأَخَذَتِ الْعَصَا فَأَتَتْهُ بِهَا، فَلَمَّا رَآهَا الشَّيْخُ قَالَ لَهَا: لا، ايتيه بِغَيْرِهَا، فَأَلْقَتْهَا، فَأَخَذَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْخُذَ غَيْرَهَا فَلا يَقَعُ فِي يَدِهَا إِلَّا هِيَ، وَجَعَلَ يُرَدِّدُهَا، فَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْرُجُ فِي يَدِهَا غَيْرَهَا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَمَدَ إِلَيْهَا فَأَخْرَجَهَا معه، فرعى بها ثم ان الشيخ قدم وَقَالَ: كَانَتْ وَدِيعَةً فَخَرَجَ يَتَلَقَّى مُوسَى فَلَمَّا لقيه قال: أعطني العصا، فقال موسى:

هِيَ عَصَاي، فَأَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ، فَاخْتَصَمَا بَيْنَهُمَا ثُمَّ تَرَاضِيَا أَنْ يَجْعَلَا بَيْنَهُمَا أَوَّلَ رَجُلٍ يَلْقَاهُمَا، فَأَتَاهُمَا مَلَكٌ يَمْشِي فَقَضَى بَيْنَهُمَا فَقَالَ: ضَعَاهَا فِي الْأَرْضِ فَمَنْ حَمَلَهَا فَهِيَ لَهُ، فَعَالَجَهَا الشَّيْخُ فَلَمْ يُطِقْهَا، وَأَخَذَهَا مُوسَى بِيَدِهِ فَرَفَعَهَا، فَتَرَكَهَا لَهُ الشَّيْخُ، فَرَعَى لَهُ عَشْرَ سِنِينَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ مُوسَى أَحَقَّ بِالْوَفَاءِ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطوسى، قال: حدثنا الحميدى عبد الله ابن الزُّبَيْرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، [أَنَّ رَسُولَ الله ص قال: سالت جبرئيل: أَيُّ الأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قَالَ: أَتَمَّهُمَا وَأَكْمَلَهُمَا] . حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ لِي يَهُودِيٌّ بِالْكُوفَةِ- وَأَنَا أَتَجَهَّزُ لِلْحَجِّ-: إِنِّي أَرَاكَ رَجُلا يَتْبَعُ الْعِلْمَ، أَخْبِرْنِي أَيَّ الأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قُلْتُ: لا أَعْلَمُ وَأَنَا الْآنَ قَادِمٌ عَلَى حَبْرِ الْعَرَبِ- يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ- فَسَأَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا قَدِمْتُ مَكَّةَ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ وَأَخْبَرْتُهُ بِقَوْلِ الْيَهُودِيِّ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَضَى أَكْثَرَهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا، إِنَّ النَّبِيَّ إِذَا وَعَدَ لَمْ يُخْلِفْ قَالَ سَعِيدٌ: فَقَدِمْتُ الْعِرَاقَ فَلَقِيتُ الْيَهُودِيَّ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: صَدَقَ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى هَذَا وَاللَّهُ الْعَالِمُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الأَصْبَغُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَأَلَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ: أَيُّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قُلْتُ: لَا أَعْلَمُ- وَأَنَا يَوْمَئِذٍ لَا أَعْلَمُ- فَلَقِيتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَذَكَرْتُ لَهُ الَّذِي سَأَلَنِي عَنْهُ النَّصْرَانِيُّ، فَقَالَ: أَمَا كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ ثَمَانِيًا وَاجِبَةً عَلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ لِيَنْقُصُ مِنْهَا شَيْئًا، وَتَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ كَانَ قَاضِيًا عَنْ مُوسَى عِدَّتَهُ الَّتِي وَعَدَهُ، فَإِنَّهُ قَضَى عَشْرَ سِنِينَ

حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني وهب بن سليمان الذماري، عن شعيب الجبائي قَالَ: اسم الجاريتين ليا وصفورة، وامرأة موسى صفورة ابنة يترون، كاهن مدين، والكاهن حبر. حَدَّثَنِي أبو السائب، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو معاويه، عن الاعمش، عن عمرو ابن مرة، عن أبي عبيدة، قَالَ: كان الذي استأجر موسى يترون، ابن أخي شعيب النبي. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَلاءُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: الَّذِي اسْتَأْجَرَ مُوسَى اسْمُهُ يَثْرَى صَاحِبُ مَدْيَنَ. حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَبُو الْعَالِيَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابو قتيبة، عن حماد ابْنَ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: اسْمُ أَبِي امْرَأَةِ مُوسَى يثرَى. رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ السُّدِّيِّ «فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ» فَضَلَّ الطَّرِيقَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ فِي الشِّتَاءِ، وَرُفِعَتْ لَهُ نَارٌ، فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّهَا نَارٌ- وَكَانَتْ مِنْ نُورِ اللَّهِ- «قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ» ، فَإِنْ لَمْ أَجِدْ خَبَرًا أَتَيْتُكُمْ مِنْهَا بِشِهَابٍ قبس، «لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» - قَالَ: مِنَ الْبَرْدِ- «فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ» «أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها» فَلَمَّا سَمِعَ مُوسَى النِّدَاءَ فَزِعَ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. فَنُودِيَ: «يَا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» «وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي» ، يقول

اضْرِبْ بِهَا الْوَرَقَ، فَيَقَعُ لِلْغَنَمِ مِنَ الشَّجَرِ «وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى» ، يَقُولُ: حَوَائِجُ أُخْرَى أَحْمِلُ عَلَيْهَا الْمِزْوَدَ وَالسِّقَاءَ، فَقَالَ لَهُ: «أَلْقِها يَا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى» «فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ» ، يَقُولُ: لَمْ يَنْتَظِرْ فَنُودِيَ: «يَا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ» «أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ» ، «وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ» الْعَصَا وَالْيَدُ آيَتَانِ، فَذَلِكَ حِينَ يَدْعُو مُوسَى رَبَّهُ، فَقَالَ: «رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي» ، يَقُولُ: كَيْمَا يُصَدِّقُنِي «إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ» قَالَ: «وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ» - يَعْنِي بِالْقَتِيلِ- «قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً» - وَالسُّلْطَانُ الْحُجَّةُ- «فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ» ، «ْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ » . حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة: «فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ» ، خرج- فيما ذكر لي ابن إسحاق، عن وهب بن منبه اليماني- فيما ذكر له- عنه، ومعه غنم له، ومعه زند له وعصاه في يده يهش بها على غنمه نهاره، فإذا أمسى اقتدح بزنده نارا، فبات عليها هو وأهله وغنمه، فإذا أصبح غدا بأهله وبغنمه يتوكأ على عصاه، وكانت- كما وصف لي عن وهب بن منبه- ذات شعبتين في رأسها، ومحجن في طرفها. حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم من أصحابه، أن كعب الأحبار قدم مكة وبها عبد الله بن عمرو بن العاص،

فقال كعب: سلوه عن ثلاث، فإن أخبركم فإنه عالم، سلوه عن شيء من الجنة وضعه الله للناس في الأرض، وسلوه ما أول ما وضع في الأرض؟ وما أول شجرة غرست في الأرض؟ فسئل عبد الله عنها فقال: أما الشيء الذي وضعه الله للناس في الأرض من الجنة فهو هذا الركن الأسود، وأما أول ما وضع في الأرض فبرهوت باليمن يرده هام الكفار، وأما أول شجرة غرسها الله في الأرض فالعوسجة التي اقتطع منها موسى عصاه فلما بلغ ذلك كعبا قَالَ: صدق الرجل، عالم والله! قَالَ: فلما كانت الليلة التي أراد الله بموسى كرامته، وابتدأه فيها بنبوته وكلامه، أخطأ فيها الطريق حتى لا يدري أين يتوجه، فأخرج زنده ليقدح نارا لأهله ليبيتوا عليها حتى يصبح، ويعلم وجه سبيله، فأصلد عليه زنده فلا يوري له نارا، فقدح حتى إذا أعياه لاحت النار فرآها، «فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً» ، بقبس تصطلون، وهدى: عن علم الطريق الذي أضللنا بنعت من خبير فخرج نحوها، فإذا هي في شجرة من العليق وبعض أهل الكتاب يقول: في عوسجة، فلما دنا استأخرت عنه، فلما رأى استئخارها رجع عنها، وأوجس في نفسه منها خيفة، فلما أراد الرجعة دنت منه، ثم كلم من الشجرة، فلما سمع الصوت استأنس، وقال الله: يا موسى «اخلع نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً» فالقاهما ثم قال: «ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى» ، أي منافع أخرى، «قالَ أَلْقِها يَا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى» قد صار شعبتاها فمها وصار محجنها عرفا لها، في ظهر تهتز، لها أنياب، فهي كما شاء الله أن تكون فرأى

أمرا فظيعا فولى مدبرا ولم يعقب، فناداه ربه: أن يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ، «سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى» ، أي سيرتها عصا كما كانت قَالَ: فلما اقبل قال: «خُذْها وَلا تَخَفْ» ، أدخل يدك في فمها، وعلى موسى جبة من صوف، فلف يده بكمه وهو لها هائب، فنودي أن ألق كمك عن يدك، فألقاه عنها، ثم أدخل يده بين لحييها، فلما أدخلها قبض عليها فإذا هي عصاه في يده، ويده بين شعبتيها حيث كان يضعها، ومحجنها بموضعه الذي كان لا ينكر منها شيئا ثم قيل: «أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ» اى من غير برص- وكان موسى ع رجلا آدم أقنى جعدا طوالا- فأدخل يده في جيبه ثم أخرجها بيضاء مثل الثلج، ثم ردها في جيبه، فخرجت كما كانت على لونه، ثم قَالَ: «فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي» ، أي يبين لهم عني ما أكلمهم به، فإنه يفهم عني ما لا يفهمون «قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ» . رجع الحديث إلى حديث السدي فأقبل موسى إلى أهله فسار بهم نحو مصر حتى أتاها ليلا، فتضيف على أمه وهو لا يعرفهم، فأتاهم في ليلة كانوا يأكلون فيها الطفيشل، فنزل في جانب الدار، فجاء هارون فلما أبصر ضيفه سأل عنه أمه فأخبرته أنه ضيف، فدعاه فأكل معه، فلما أن قعدا تحدثا، فسأله هارون: من أنت؟ قَالَ: أنا موسى، فقام كل واحد منهما إلى صاحبه فاعتنقه، فلما أن تعارفا قَالَ له موسى: يا هارون

انطلق معي إلى فرعون، إن الله قد أرسلنا إليه، فقال هارون: سمع وطاعة، فقامت أمهما فصاحت وقالت: أنشدكما الله ألا تذهبا إلى فرعون فيقتلكما فأبيا فانطلقا إليه ليلا، فأتيا الباب فضرباه ففزع فرعون، وفزع البواب، وقال فرعون: من هذا الذي يضرب بابي في هذه الساعة؟ فأشرف عليهما البواب، فكلمهما، فقال له موسى: «إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ» ففزع البواب فأتى فرعون فأخبره فقال: إن هاهنا إنسانا مجنونا يزعم أنه رسول رب العالمين، قَالَ: أدخله، فدخل فقال: إني رسول رب العالمين، أن أرسل معي بني إسرائيل، فعرفه فرعون فقال: «أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ» . معنا على ديننا هذا الذي تعيب! «قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً» - والحكم النبوة- «وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ» وربيتني قبل وليدا! «قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ» «فَمَنْ رَبُّكُما يَا مُوسى قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» يَقُولُ: أَعْطَى كُلَّ دَابَّةٍ زَوْجَهَا ثُمَّ هَدَى لِلنِّكَاحِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: «إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا قَالَ لَهُ مِنَ الْكَلامِ ما ذكر الله تعالى قَالَ مُوسَى: «أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ» - وَالثُّعْبَانُ الذَّكَرُ مِنَ الْحَيَّاتِ- فَاتِحَةً

فَاهَا، وَاضِعَةً لَحْيَهَا الأَسْفَلَ فِي الأَرْضِ وَالأَعْلَى عَلَى سُورِ الْقَصْرِ، ثُمَّ تَوَجَّهَتْ نَحْوَ فِرْعَوْنَ لِتَأْخُذَهُ، فَلَمَّا رَآهَا ذُعِرَ مِنْهَا وَوَثَبَ، فأحدث- ولم يكن يحدث قبل ذلك- وصاح: يَا موسى خذها وانا أومن بك وأرسل معك بني إسرائيل فأخذها موسى فعادت عصا ثم نزع يده وأخرجها من جيبه، فإذا هي بيضاء للناظرين فخرج موسى من عنده على ذلك، وأبى فرعون أن يؤمن به، او يرسل معه بنى إسرائيل، وقال لقومه: «يا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى» فلما بنى له الصرح ارتقى فوقه، فأمر بنشابة فرمى بها نحو السماء فردت إليه، وهي ملطخة دما، فقال: قد قتلت إله موسى. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «فَأَوْقِدْ لِي يَا هامانُ عَلَى الطِّينِ» ، قَالَ: كان أول من طبخ الآجُرَّ يبني به الصرح. وأما ابن إسحاق، فإنه قَالَ ما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: خرج موسى لما بعثه الله عز وجل حتى قدم مصر على فرعون هو وأخوه هارون، حتى وقفا على باب فرعون يلتمسان الإذن عليه، وهما يقولان: إنا رسولا رب العالمين، فآذنوا بنا هذا الرجل فمكثا- فيما بلغنا- سنتين يغدوان على بابه، ويروحان لا يعلم بهما، ولا يجترئ أحد على أن يخبره بشأنهما، حتى دخل عليه بطال له يلعبه ويضحكه، فقال له: أيها الملك، إن على الباب رجلا يقول قولا عجيبا، يزعم أن له إلها غيرك، قَالَ: أدخلوه، فدخل ومعه هارون أخوه، وبيده عصاه، فلما وقف على فرعون قَالَ له: إني رسول رب العالمين، فعرفه فرعون فقال: «أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ

مِنَ الْكافِرِينَ قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ» أي خطأ لا أريد ذلك ثم أقبل عليه موسى ينكر عليه ما ذكر من يده عنده، فقال: «وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ» ! أي اتخذتهم عبيدا تنزع أبناءهم من أيديهم، فتسترق من شئت، وتقتل من شئت إني إنما صيرني إلى بيتك وإليك ذلك «قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ» ، أي يستوصفه إلهه الذي أرسله إليه، أي ما الهك هذا! «قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ» من ملئه «أَلا تَسْتَمِعُونَ» أي إنكارا لما قَالَ: ليس له إله غيرى «قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» الذي خلق آباءكم الأولين وخلفكم من آبائكم قَالَ فرعون: «إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ» ، أي ما هذا بكلام صحيح إذ يزعم أن لكم إلها غيري، «قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ» أي خالق المشرق والمغرب وما بينهما من الخلق إن كنتم تعقلون «قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي» لتعبد غيري وتترك عبادتي «لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ» ، أي بما تعرف بها صدقي وكذبك وحقي وباطلك! «لَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ » ، فملأت ما بين سماطي فرعون، فاتحة فاها، قد صار محجنها عرفا على ظهرها فارفض عنها الناس، وحال فرعون عن سريره ينشده بربه. ثم أدخل يده في جيبه فأخرجها بيضاء مثل الثلج، ثم ردها كهيئتها، وأدخل موسى يده في جيبه فصارت عصا في يده، يده بين شعبتيها، ومحجنها في أسفلها كما كانت، وأخذ فرعون بطنه، وكان فيما يزعمون يمكث الخمس والست ما يلتمس المذهب- يريد الخلاء- كما يلتمسه الناس، وكان ذلك مما زين له أن

يقول ما يقول: إنه ليس من الناس بشبه فحَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قَالَ: حدثت عن وهب بن منبه اليماني، قَالَ: فمشى بضعا وعشرين ليلة، حتى كادت نفسه أن تخرج، ثم استمسك فقال لملئه: «إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ» اى ما ساحر اسحر منه، «يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ» أقتله؟ فقال مؤمن من آل فرعون- العبد الصالح وكان اسمه فيما يزعمون حبرك: «أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ» بعصاه ويده! ثم خوفهم عقاب الله وحذرهم ما أصاب الأمم قبلهم، وقال: «يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ» وقال الملا من قومه- وقد وهنهم من سلطان الله ما وهنهم: «أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ» ، أي كاثره بالسحرة لعلك أن تجد في السحرة من جاء بمثل ما جاء به وقد كان موسى وهارون خرجا من عنده حين أراهم من سلطان الله ما أراهم، وبعث فرعون مكانه في مملكته، فلم يترك في سلطانه ساحرا إلا أُتي به، فذكر لي- والله أعلم- أنه جمع له خمسة عشر ألف ساحر، فلما اجتمعوا إليه أمرهم أمره، فقال لهم: قد جاءنا ساحر ما رأينا مثله قط، وإنكم إن غلبتموه أكرمتكم وفضلتكم وقربتكم على أهل مملكتي، قَالُوا: إن لنا ذلك عليك إن

غلبناه! قَالَ: نعم، قَالُوا: فعد لنا موعدا نجتمع نحن وهو، فكان رءوس السحرة الذين جمع فرعون لموسى: ساتور، وعادور، وحطحط، ومصفى، أربعة، وهم الذين آمنوا حين رأوا ما رأوا من سلطان الله، فآمنت السحرة جميعا وقالوا لفرعون حين توعدهم القتل والصلب: «لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ» فبعث فرعون الى موسى: ان اجعل «بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ» ، يَوم عيد كان فرعون يخرج إليه، «وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى» ، حتى يحضروا أمري وأمرك، فجمع فرعون الناس لذلك الجمع، ثم أمر السحرة فقال: «ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى» ، أي قد أفلح من استعلى اليوم على صاحبه فصف خمسة عشر ألف ساحر، مع كل ساحر حباله وعصيه، وخرج موسى ومعه أخوه يتكئ على عصاه، حتى أتى الجمع وفرعون في مجلسه ومعه أشراف أهل مملكته، وقد استكف له الناس، فقال موسى للسحرة حين جاءهم: «وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى» ، فتراد السحره بينهم، وقال بعضهم لبعض: ما هذا بقول ساحر، ثم قالوا واشار بعضهم الى بعض بتناج: «إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى» ثم قَالُوا: «يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ

وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى» فكان أول ما اختطفوا بسحرهم بصر موسى وبصر فرعون، ثم أبصار الناس بعد، ثم ألقى كل رجل منهم ما في يده من العصي والحبال، فإذا هي حيات كأمثال الجبال، قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا «فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى» ، وقال: والله إن كانت لعصيا في أيديهم، ولقد عادت حيات، وما تعدو عصاي هذه- أو كما حدث نفسه- فأوحى الله إليه: «وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى» وفرج عن موسى فألقى عصاه من يده، فاستعرضت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم- وهي حيات في عين فرعون وأعين الناس تسعى- فجعلت تلقفها، تبتلعها حية حية، حتى ما يرى في الوادي قليل ولا كثير مما ألقوا، ثم أخذها موسى فإذا هي عصاه في يده كما كانت، ووقع السحرة سجدا «قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى» ، لو كان هذا سحرا ما غلبنا قَالَ لهم فرعون- وأسف ورأى الغلبة البينة: «آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ» ، أي لعظيم السحار الذي علمكم «فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ» - إلى قوله- «فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ» ، اى لن نؤثرك على الله وعلى ما جاءنا من الحجج مع نبيه فاقض ما أنت قاض، أي فاصنع ما بدا لك، «إِنَّما تَقْضِي هذِهِ

الْحَياةَ الدُّنْيا» التي ليس لك سلطان إلا فيها، ثم لا سلطان لك بعدها، «إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى» ، أي خير منك ثوابا، وأبقى عقابا فرجع عدو الله مغلوبا ملعونا ثم أبى إلا الإقامة على الكفر، والتمادي في الشر، فتابع الله عليه بالآيات، وأخذه بالسنين، فأرسل عليه الطوفان. رجع الحديث إلى حديث السدي وأما السدي فإنه قَالَ في خبره: ذكر أن الآيات التي ابتلى الله بها قوم فرعون كانت قبل اجتماع موسى والسحرة، وقال: لما رجع اليه السهم ملطخا بالدم قَالَ: قد قتلنا إله موسى ثم إن الله أرسل عليهم الطوفان- وهو المطر- فغرق كل شيء لهم، فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا، ونحن نؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل فكشفه الله عنهم، ونبتت زروعهم، فقالوا: ما يسرنا أنا لم نمطر فبعث الله عليهم الجراد فأكل حروثهم، فسألوا موسى أن يدعو ربه فيكشفه ويؤمنوا به، فدعا فكشفه، وقد بقي من زروعهم بقية، فقالوا: لن نؤمن وقد بقي لنا من زروعنا بقية، فبعث الله عليهم الدبا- وهو القمل-، فلحس الأرض كلها، وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيعضه، وكان أحدهم يأكل الطعام فيمتلئ دبا حتى إن أحدهم ليبني الأسطوانة بالجص والآجر، فيزلقها حتى لا يرتقي فوقها شيء من الذباب، ثم يرفع فوقها الطعام، فإذا صعد إليه ليأكله وجده ملآن دبا، فلم يصبهم بلاء كان أشد عليهم من الدبا، وهو الرجز الذي ذكره الله في القرآن أنه وقع عليهم فسألوا موسى أن يدعو ربه فيكشفه عنهم ويؤمنوا به، فلما كشف عنهم أبوا أن يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الدم، فكان الاسرائيلى

ياتى هو والقبطى فيستقيان من ماء واحد، فيخرج ماء هذا القبطي دما، ويخرج للإسرائيلي ماء فلما اشتد ذلك عليهم سألوا موسى أن يكشفه ويؤمنوا به فكشف ذلك عنهم، فأبوا أن يؤمنوا، فذلك حين يقول الله: «فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ» ما أعطوا من العهود، وهو حين يقول: «وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ» - وهو الجوع- «وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» . ثم ان الله عز وجل اوحى الى موسى وهارون أن: «قولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى» ، فأتياه فقال له موسى: هل لك يا فرعون في أن أعطيك شبابك ولا تهرم، وملكك لا ينزع منك، ويرد إليك لذة المناكح والمشارب والركوب، فإذا مت دخلت الجنة؟ تؤمن بي! فوقعت في نفسه هذه الكلمات، وهي اللينة، فقال: كما أنت حتى يأتي هامان فلما جاء هامان قال له: اشعرت إن ذلك الرجل أتاني؟ قَالَ: من هو؟ - وكان قبل ذلك إنما يسميه الساحر، فلما كان ذلك اليوم لم يسمه الساحر- قَالَ فرعون: موسى، قَالَ: وما قَالَ لك؟ قَالَ: قال لي: كذا وكذا، قَالَ هامان: وما رددت عليه؟ قَالَ: قلت: حتى يأتي هامان فأستشيره، فعجزه هامان وقال: قد كان ظني بك خيرا من هذا، تصير عبدا يعبد بعد أن كنت ربا يعبد! فذلك حين خرج عليهم فقال لقومه وجمعهم فقال: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» وكان بين كلمته «مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» وبين قوله:

«أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» أربعون سنة وقال لقومه: «إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ» قَالَ فرعون: «أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يَا مُوسى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً» - يقول: عدلا، قَالَ موسى: «مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى» - وذلك يوم عيد لهم- «فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى» وأرسل فرعون في المدائن حاشرين، فحشروا عليه السحرة، وحشروا الناس ينظرون، يقول: «هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ» - الى قوله: «أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ» - يقول: عطية تعطينا- «قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» فقال لهم موسى: «وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ» ، يقول: يهلككم بعذاب «فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى» من دون موسى وهارون، وقالوا في نجواهم: «إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى» ، يقول: يذهبا بأشراف قومكم. فالتقى موسى وأمير السحرة، فقال له موسى: أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به حق؟ قَالَ: نعم، قَالَ الساحر: لآتين غدا بسحر لا يغلبه سحر، فو الله لئن غلبتني لأومنن بك، ولأشهدن أنك على حق- وفرعون ينظر إليهما- وهو قول فرعون: «إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ» ،

إذ التقيتما لتتظاهرا «لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها» فقالوا: «يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ» ، قال لهم موسى: القوا فألقوا حبالهم وعصيهم- وكانوا بضعة وثلاثين ألف رجل، ليس منهم رجل إلا ومعه حبل وعصا- «فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ» يقول: فرقوهم. «فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى» ، فأوحى الله إليه: ألا تخف، «وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا» فألقى موسى عصاه فأكلت كل حية لهم، فلما رأوا ذلك سجدوا، وقالوا: «آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ*» . قَالَ فرعون: «فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ» فقتلهم وقطعهم- كما قَالَ عبد الله بن عباس- حين قَالُوا: «رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ» قَالَ: كانوا في أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء. ثم أقبل على بني إسرائيل فقال له قومه: «أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ» ، وآلهته- فيما زعم ابْنُ عَبَّاسٍ- كانت البقر، كانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها، فلذلك أخرج لهم عجلا بقرة. ثم إن الله تعالى ذكره أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل فقال: «أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي» لَيْلا «إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ» فأمر موسى بني إسرائيل أن يخرجوا، وأمرهم

أن يستعيروا الحلي من القبط، وأمر ألا ينادي إنسان صاحبه، وأن يسرجوا في بيوتهم حتى الصبح، وأن من خرج إذا قَالَ: موسى، قَالَ: عمرو وأمر من خرج يلطخ بابه بكف من دم حتى يعلم أنه قد خرج وإن الله أخرج كل ولد زنا في القبط من بني إسرائيل إلى بني إسرائيل، وأخرج كل ولد زنا في بني إسرائيل من القبط إلى القبط، حتى أتوا آباءهم. ثم خرج موسى ببني إسرائيل ليلا والقبط لا يعلمون، وقد دعوا قبل ذلك على القبط، فقال موسى: «رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» الى قوله: «حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» ، فقال الله تعالى: «قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما» فزعم السدي أن موسى هو الذي دعا وامن هارون، فذلك حين يقول الله: «قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما» . وقوله: «رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ» فذكر أن طمس الأموال أنه جعل دراهمهم ودنانيرهم حجارة، ثم قَالَ لهما استقيما، فخرجا في قومهما، وألقي على القبط الموت، فمات كل بكر رجل، فأصبحوا يدفنونهم، فشغلوا عن طلبهم حتى طلعت الشمس، فذلك حين يقول الله: «فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ» . وكان موسى على ساقة بني إسرائيل، وكان هارون أمامهم يقدمهم، فقال المؤمن لموسى: يا نبي الله، أين أمرت؟ قَالَ: البحر، فأراد أن يقتحم فمنعه موسى وخرج موسى في ستمائه ألف وعشرين ألف مقاتل، لا يعدون ابن العشرين لصغره ولا ابن الستين لكبره، وإنما عدوا ما بين ذلك سوى الذرية، وتبعهم فرعون، وعلى مقدمته هامان، في الف الف وسبعمائة ألف حصان، ليس فيها ماذيانة، وذلك حين يقول الله: «فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ» - يعنى بنى إسرائيل- «وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ» ، يقول: قد حذرنا فاجمعنا امرنا،

«فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ» ، فنظرت بنو إسرائيل إلى فرعون قد ردفهم، قالوا: «إِنَّا لَمُدْرَكُونَ» قَالُوا: يا موسى، أوذينا من قبل أن تأتينا، كانوا يذبحون أبناءنا، ويستحيون نساءنا، ومن بعد ما جئتنا اليوم يدركنا فرعون فيقتلنا! إنا لمدركون، البحر من بين أيدينا وفرعون من خلفنا، قَالَ موسى: «كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ» ، يقول: سيكفيني، «قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» فتقدم هارون فضرب البحر فأبى البحر أن ينفتح، وقال: من هذا الجبار الذي يضربني! حتى أتاه موسى فكناه أبا خالد، وضربه، «فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ» ، يقول: كالجبل العظيم، فدخلت بنو إسرائيل، وكان في البحر اثنا عشر طريقا، في كل طريق سبط، وكأن الطرق إذا انفلقت بجدران فقال كل سبط: قد قتل أصحابنا، فلما رأى ذلك موسى دعا الله فجعلها لهم قناطر كهيئة الطيقان، فنظر آخرهم إلى أولهم، حتى خرجوا جميعا، ثم دنا فرعون وأصحابه، فلما نظر فرعون إلى البحر منفلقا قَالَ: ألا ترون البحر فرق مني، وقد تفتح لي حتى أدرك أعدائي فأقتلهم! فذلك قول الله: «وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ» ، يقول: قربنا ثم الآخرين، هم آل فرعون. فلما قام فرعون على أفواه الطرق أبت خيله ان تقتحم، فنزل جبرئيل على ماذيانه، فشمت الحصن ريح الماذيانة فاقتحمت في أثرها حتى إذا هم أولهم أن يخرج ودخل آخرهم، أمر البحر أن يأخذهم فالتطم عليهم،

وتفرد جبرئيل بفرعون بمقلة من مقل البحر، فجعل يدسها في فيه، فقال حين أدركه الغرق: «آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» ، فبعث الله اليه ميكائيل يعيره، قال: «آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» فقال جبرئيل: يا مُحَمَّد، ما أبغضت أحدا من الخلق ما أبغضت رجلين: أما أحدهما فمن الجن وهو إبليس حين أبى أن يسجد لآدم، وأما الآخر فهو فرعون حين قَالَ: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» ، ولو رأيتني يا مُحَمَّد، وأنا آخذ مقل البحر فأدخله في فم فرعون مخافة أن يقول كلمة يرحمه الله بها! وقالت بنو إسرائيل: لم يغرق فرعون، الآن يدركنا فيقتلنا، فدعا الله موسى: فاخرج فرعون في ستمائه ألف وعشرين ألفا، عليهم الحديد فأخذته بنو إسرائيل يمثلون به، وذلك قول الله لفرعون: «فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً» ، يقول: لبنى إسرائيل آيه فلما أرادوا أن يسيروا ضرب عليهم تيه، فلم يدروا أين يذهبون، فدعا موسى مشيخة بني إسرائيل فسألهم: ما بالنا؟ فقالوا له: إن يوسف لما مات بمصر أخذ على إخوته عهدا ألا تخرجوا من مصر حتى تخرجوني معكم، فذلك هذا الأمر، فسألهم: أين موضع قبره؟ فلم يعلموا، فقام موسى ينادي: أنشد الله كل من كان يعلم أين موضع قبر يوسف إلا أخبرني به، ومن لم يعلم فصمت أذناه عن قولي! وكان يمر بين الرجلين ينادي فلا يسمعان صوته، حتى سمعته عجوز لهم فقالت: أرأيتك إن دللتك على قبره أتعطيني كل ما سألتك؟ فأبى عليها وقال: حتى أسأل ربي، فأمره الله عز وجل أن يعطيها، فأتاها فأعطاها، فقالت: إني أريد ألا تنزل غرفة من الجنة إلا نزلتها معك، قَالَ: نعم، قالت: إني عجوز كبيرة لا أستطيع أن أمشي فاحملني، فحملها، فلما دنا من النيل، قالت: إنه في جوف الماء، فادع الله أن يحسر عنه الماء، فدعا الله فحسر الماء عن القبر، فقالت: احفره، ففعل فحمل عظامه، ففتح

لهم الطريق، فساروا، «فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ» - يقول: مهلك ما هم فيه- «وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ» فأما ابْنُ إِسْحَاقَ، فَإِنَّهُ قَالَ- فِيمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة عنه- فتابع الله عليه بالآيات- يعني على فرعون- وأخذه بالسنين إذ أبى أن يؤمن بعد ما كان من أمره وأمر السحرة ما كان، فأرسل عليه الطوفان، ثم الجراد، ثم القمل، ثم الضفادع، ثم الدم آيات مفصلات، أي آية بعد آية، يتبع بعضها بعضا، فأرسل الطوفان وهو الماء، ففاض على وجه الأرض ثم ركد، لا يقدرون على أن يحرثوا، ولا يعملوا شيئا، حتى جهدوا جوعا فلما بلغهم ذلك قَالُوا: يَا مُوسَى ادْعُ لنا ربك، «لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ» فدعا موسى ربه فكشفه عنهم فلم يفوا له بشيء مما قَالُوا، فأرسل الله عليهم الجراد فأكل الشجر- فيما بلغني حتى إنه كان ليأكل مسامير الأبواب من الحديد حتى تقع دورهم ومساكنهم، فقالوا مثل ما قَالُوا، فدعا ربه فكشفه عنهم فلم يفوا له بشيء مما قالوا، فأرسل الله عليهم القمل فذكر لي أن موسى أمر أن يمشي إلى كثيب فيضربه بعصاه فمشى إلى كثيب أهيل عظيم فضربه بها فانثال عليهم قملا حتى غلب على البيوت والأطعمة، ومنعهم النوم والقرار، فلما جهدهم قَالُوا له مثل ما قَالُوا، فدعا ربه فكشف عنهم فلم يفوا له بشيء مما قَالُوا، فأرسل الله عليهم الضفادع، فملأت البيوت والأطعمة والآنية فلا يكشف أحد منهم ثوبا ولا طعاما ولا إناء إلا وجد فيه الضفادع قد غلبت عليه، فلما جهدهم ذلك قَالُوا له مثل ما قَالُوا، فدعا ربه فكشف عنهم فلم يفوا له بشيء مما قَالُوا، فأرسل الله

عليهم الدم فصارت مياه آل فرعون دما، لا يستقون من بئر ولا نهر ولا يغترفون من إناء إلا عادت دما عبيطا. حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: فحَدَّثَنِي مُحَمَّد بن إسحاق، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كعب القرظي أنه حدث أن المرأة من آل فرعون كانت تأتي المرأة من بني إسرائيل حين جهدهم العطش، فتقول: اسقيني من مائك، فتغرف لها من جرتها أو تصب لها من قربتها، فيعود في الإناء دما، حتى إن كانت لتقول لها: اجعليه في فيك ثم مجيه في في، فتأخذ في فيها ماء، فإذا مجته في فيها صار دما، فمكثوا في ذلك سبعة أيام، فقالوا: «ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ» فلما كشف عنهم الرجز نكثوا ولم يفوا بشيء مما قَالُوا، فأمر الله موسى أن يسير، وأخبره أنه منجيه ومن معه، ومهلك فرعون وجنوده، وقد دعا موسى عليهم بالطمسة، فقال: «رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ» - إلى- «وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» فمسخ الله أموالهم حجارة: النخل والرقيق والأطعمة، فكانت احدى الآيات التي اراهن الله فرعون. حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بريده ابن سفيان بن فروة الأسلمي، عن محمد بن كعب القرظي، قَالَ: سألني عمر بن عبد العزيز عن التسع الآيات التي أراهن الله فرعون، فقلت: الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وعصاه، ويده، والطمسة، والبحر. فقال عمر: فأنى عرفت أن الطمسة إحداهن؟ قلت: دعا عليهم موسى وأمن هارون، فمسخ الله أموالهم حجارة، فقال: كيف يكون الفقه إلا هكذا! ثم

دعا بخريطة فيها أشياء مما كان أصيب لعبد العزيز بن مروان بمصر، إذ كان عليها من بقايا أموال آل فرعون، فأخرج البيضة مقشورة نصفين، وإنها لحجر، والجوزة مقشورة وإنها لحجر، والحمصة، والعدسة. حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنْ مُحَمَّدٍ، عن رجل من أهل الشام كان بمصر، قَالَ: قد رأيت النخلة مصروعة، وإنها لحجر، وقد رأيت إنسانا ما شككت أنه إنسان وإنه لحجر، من رقيقهم، فيقول الله عز وجل: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ» إلى قوله «مَثْبُوراً» يقول: شقيا. حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عروة بْن الزبير، عَنْ أَبِيهِ، أن الله حين أمر موسى بالمسير ببني إسرائيل أمره أن يحتمل يوسف معه حتى يضعه بالأرض المقدسة، فسأل موسى عمن يعرف موضع قبره، فما وجد إلا عجوزا من بني إسرائيل، فقالت: يا نبي الله، أنا أعرف مكانه إن أنت أخرجتني معك، ولم تخلفني بأرض مصر دللتك عليه قَالَ: أفعل، وقد كان موسى وعد بني إسرائيل أن يسير بهم إذا طلع الفجر، فدعا ربه أن يؤخر طلوعه حتى يفرغ من أمر يوسف، ففعل، فخرجت به العجوز حتى أرته إياه في ناحية من النيل في الماء، فاستخرجه موسى صندوقا من مرمر، فاحتمله معه قَالَ عروة: فمن ذلك تحمل اليهود موتاها من كل أرض إلى الأرض المقدسة. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كان- فيما ذكر لي- أن موسى قَالَ لبني إسرائيل فيما أمره الله به: استعيروا منهم الأمتعة والحلي والثياب فإني منفلكم أموالهم مع هلاكهم، فلما أذن فرعون في الناس كان مما يحرض به على بني إسرائيل أن قَالَ حين ساروا: لم يرضوا أن خرجوا بأنفسهم حتى ذهبوا بأموالكم معهم

حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد ابن كعب القرظي، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، قَالَ: لقد ذكر لي أنه خرج فرعون في طلب موسى على سبعين ألفا من دهم الخيل سوى ما في جنده من شيات الخيل، وخرج موسى حتى إذا قابله البحر ولم يكن عنه منصرف طلع فرعون في جنده من خلفهم، «فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ» ، أي للنجاة، وقد وعدني ذلك ولا خلف لموعوده. حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن إسحاق قَالَ: فأوحى الله تبارك وتعالى- فيما ذكر لي- إلى البحر: إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له، فبات البحر يضرب بعضه بعضا فرقا من الله وانتظارا لأمره، فأوحى الله عز وجل الى موسى: ان اضرب بعصاك البحر، فضربه بها وفيها سلطان الله الذي أعطاه، «فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ» ، أي كالجبل على نشز من الأرض يقول الله لموسى ع: «فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى» فلما استقر له البحر على طريق قائمة يبس سلك فيه موسى ببني إسرائيل، واتبعه فرعون بجنوده. حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كعب القرظي، عن عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي، قَالَ: حدثت أنه لما دخلت بنو إسرائيل فلم يبق منهم أحد أقبل فرعون وهو على حصان له من الخيل، حتى وقف على شفير البحر وهو قائم على حاله، فهاب الحصان ان يتقدم، فعرض له جبرئيل على فرس أنثى وديق، فقربها منه

فشمها الفحل، ولما شمها قدمها، فتقدم معه الحصان عليه فرعون، فلما رأى جند فرعون ان فرعون قد دخل دخلوا معه، وجبرئيل أمامه، فهم يتبعون فرعون، وميكائيل على فرس خلف القوم يشحذهم يقول: الحقوا بصاحبكم، حتى إذا فصل جبرئيل من البحر ليس أمامه أحد ووقف ميكائيل على الناحية الأخرى ليس خلفه أحد، طبق عليهم البحر، ونادى فرعون حين رأى من سلطان الله وقدرته ما رأى، وعرف ذله وخذلته نفسه، نادى: أن لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَأَنَا مِنَ المسلمين. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْبَصْرِيُّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ عَنِ ابن عباس، قال: جاء جبرئيل الى النبي ع فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَأَنَا أَدُسُّ مِنْ حَمَإِ الْبَحْرِ فِي فَمِ فِرْعَوْنَ مَخَافَةَ ان تدركه الرحمه! يقول الله: «آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ» ، اى سواء لَمْ يَذْهَبْ مِنْكَ شَيْءٌ، «لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً» أَيْ عِبْرَةً وَبَيِّنَةً فَكَانَ يُقَالُ: لَوْ لَمْ يُخْرِجْهُ اللَّهُ بِبَدَنِهِ حَتَّى عَرَفُوهُ لَشَكَّ فِيهِ بَعْضُ النَّاسِ. وَلَمَّا جَاوَزَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ أَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ، «قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ» وَوَعَدَ اللَّهُ مُوسَى حِينَ أَهْلَكَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ وَنَجَّاهُ وَقَوْمَهُ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً. رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حديث السدى ثم ان جبرئيل أَتَى مُوسَى يَذْهَبُ بِهِ إِلَى

اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَقْبَلَ عَلَى فَرَسٍ فَرَآهُ السَّامِرِيُّ فَأَنْكَرَهُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ فَرَسُ الْحَيَاةِ، فَقَالَ حِينَ رَآهُ: إِنَّ لِهَذَا لَشَأْنًا، فَأَخَذَ مِنْ تُرْبَةِ الْحَافِرِ حَافِرِ الْفَرَسِ، فَانْطَلَقَ مُوسَى وَاسْتَخْلَفَ هَارُونَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَوَاعَدَهُمْ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً، وَأَتَمَّهَا اللَّهُ بِعَشْرٍ، فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ: يَا قوم، إِنَّ الْغَنِيمَةَ لَا تَحِلُّ لَكُمْ، وَإِنَّ حُلِيَّ الْقِبْطِ إِنَّمَا هُوَ غَنِيمَةٌ، فَاجْمَعُوهَا جَمِيعًا فَاحْفِرُوا لَهَا حُفْرَةً فَادْفِنُوهَا فِيهَا، فَإِنْ جَاءَ مُوسَى فَأَحَلَّهَا أَخَذْتُمُوهَا، وَإِلَّا كَانَ شَيْئًا لَمْ تَأْكُلُوهُ، فَجَمَعُوا ذَلِكَ الْحُلِيَّ فِي تِلْكَ الْحُفْرَةِ، وَجَاءَ السامرى بتلك القبضه فقذفها، فاخرج الله مِنَ الْحُلِيِّ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ، وَعَدَّتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مَوْعِدَ مُوسَى، فَعَدُّوا اللَّيْلَةَ يَوْمًا واليوم يوما، فلما كان العشر خرج لهم العجل فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالَ لَهُمُ السَّامِرِيُّ: «هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ» يقول: ترك موسى إلهه هاهنا، وَذَهَبَ يَطْلُبُهُ فَعَكَفُوا عَلَيْهِ يَعْبُدُونَهُ، وَكَانَ يَخُورُ وَيَمْشِي، فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ: «يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ» يَقُولُ: إِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ بِهِ، يَقُولُ: بِالْعِجْلِ، «وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي» ، فَأَقَامَ هَارُونُ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يُقَاتِلُونَهُمْ، وَانْطَلَقَ مُوسَى إِلَى إِلَهِهِ يُكَلِّمُهُ، فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ لَهُ: «وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسى قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ» فَلَمَّا أَخْبَرَهُ خَبَرَهُمْ قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ هَذَا السَّامِرِيُّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا الْعِجْلَ، أَرَأَيْتَ الرُّوحَ مَنْ نَفَخَهَا فِيهِ؟ قَالَ الرَّبُّ: أَنَا قَالَ: رَبِّ أَنْتَ إِذًا أَضْلَلْتَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ موسى لما كلمه ربه أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، «قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ

فَسَوْفَ تَرانِي» ، فحف حَوْلَ الْجَبَلِ الْمَلَائِكَةَ، وَحَفَّ حَوْلَ الْمَلَائِكَةِ بِنَارٍ، وَحَفَّ حَوْلَ النَّارِ بِمَلَائِكَةٍ، وَحَوْلَ الْمَلَائِكَةِ بِنَارٍ، ثُمَّ تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ فَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي السُّدِّيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: تَجَلَّى مِنْهُ مِثْلُ طَرَفِ الْخِنْصَرِ، فَجَعَلَ الْجَبَلَ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا، فَلَمْ يَزَلْ صَعِقًا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَنَّهُ أَفَاقَ فَقَالَ: «سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» ، يَعْنِي أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ: «يَا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ» من الحلال والحرام «فَخُذْها بِقُوَّةٍ» ، يَعْنِي بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ «وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها» أَيْ بِأَحْسَنِ مَا يَجِدُونَ فِيهَا فَكَانَ مُوسَى بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَنْظُرَ فِي وَجْهِهِ، وَكَانَ يَلْبِسُ وَجْهَهُ بِحَرِيرَةٍ، فَأَخَذَ الْأَلْوَاحَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ «غَضْبانَ أَسِفاً» يَقُولُ: حَزِينًا «قالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً» - إلى- «قالُوا مَا أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا» يَقُولُونَ: بِطَاقَتِنَا، «وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ» يَقُولُ: مِنْ حَلِيِّ الْقِبْطِ «فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ» ، ذَلِكَ حِينَ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ: احْفِرُوا لِهَذَا الْحُلِيِّ حُفْرَةً، وَاطْرَحُوهُ فِيهَا، فَطَرَحُوهُ فَقَذَفَ السَّامِرِيُّ تُرْبَتَهُ، فَأَلْقَى مُوسَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يجره اليه، «لَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي » فَتَرَكَ مُوسَى هَارُونَ، وَمَالَ إِلَى السَّامِرِيِّ، فَقَالَ:

«فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ» ، قَالَ السَّامِرِيُّ: «بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ» الى: «فِي الْيَمِّ نَسْفاً» ثُمَّ أَخَذَهُ فَذَبَحَهُ، ثُمَّ حَرَّفَهُ بِالْمِبْرَدِ ثُمَّ ذَرَاهُ فِي الْبَحْرِ، فَلَمْ يَبْقَ بَحْرٌ يَجْرِي إِلَّا وَقَعَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ مُوسَى: اشْرَبُوا مِنْهُ فَشَرِبُوا، فَمَنْ كَانَ يُحِبُّهُ خَرَجَ عَلَى شَارِبِهِ الذَّهَبُ، فَذَلِكَ حِينَ يقول: «وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ» فَلَمَّا سَقَطَ فِي أَيْدِي بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ جَاءَ مُوسَى «وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» فَأَبَى اللَّهُ أَنْ يَقْبَلَ تَوْبَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا بِالْحَالِ الَّتِي كَرِهُوا أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ حِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: «يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» ، فَاجْتَلَدَ الَّذِينَ عَبَدُوهُ وَالَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوهُ بِالسِّيُوفِ، فَكَانَ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ شَهِيدًا، حَتَّى كَثُرَ الْقَتْلُ حَتَّى كَادُوا أَنْ يَهْلَكُوا، حَتَّى قُتِلَ بَيْنَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا، حَتَّى دَعَا مُوسَى وَهَارُونُ: رَبَّنَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ! رَبَّنَا الْبَقِيَّةَ الْبَقِيَّةَ! فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَضَعُوا السِّلَاحَ، وَتَابَ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ مَنْ قُتِلَ كَانَ شَهِيدًا، وَمَنْ بَقِيَ كَانَ مُكَفَّرًا عَنْهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: «فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» . حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ السَّامِرِيُّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ بَاجَرْمَا، وَكَانَ مِنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ، فَكَانَ حب عباده

الْبَقَرِ فِي نَفْسِهِ، وَكَانَ قَدْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا فَصَلَ هَارُونُ فِي بنى إسرائيل، وفصل موسى معهم إِلَى رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ لَهُمْ هَارُونُ: انكم قد تحملتم أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ آلِ فِرْعَوْنَ، وَأَمْتِعَةً وَحُلِيًّا، فَتَطَهَّرُوا مِنْهَا فَإِنَّهَا نَجِسٌ، وَأَوْقَدَ لَهُمْ نَارًا، وَقَالَ: اقْذِفُوا مَا كَانَ مَعَكُمْ مِنْ ذَلِكَ فِيهَا، قَالُوا: نَعَمْ، فَجَعَلُوا يَأْتُونَ بِمَا كَانَ فِيهِمْ مِنْ تِلْكَ الْحُلِيِّ وَتِلْكَ الْأَمْتِعَةِ فَيَقْذِفُونَ بِهِ فِيهَا، حَتَّى إِذَا انْكَسَرَتِ الْحُلِيُّ فيها، راى السامرى اثر فرس جبرئيل، فَأَخَذَ تُرَابًا مِنْ أَثَرِ حَافِرِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى الْحُفْرَةِ فَقَالَ لِهَارُونَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أُلْقِي مَا فِي يَدِي؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلا يَظُنُّ هَارُونُ إِلَّا أَنَّهُ كَبَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ غَيْرُهُ مِنْ تِلْكَ الْأَمْتِعَةِ وَالْحُلِيِّ، فَقَذَفَهُ فِيهَا، وَقَالَ: كُنْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ، فَكَانَ لِلْبَلَاءِ وَالْفِتْنَةِ، فَقَالَ: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى، فَعَكَفُوا عَلَيْهِ وَأَحَبُّوهُ حُبًّا لَمْ يُحِبُّوا مِثْلَهُ شَيْئًا قَطُّ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «فَنَسِيَ» ، أَيْ تَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، - يَعْنِي السَّامِرِيَّ- «أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً» . قَالَ: وَكَانَ اسْمُ السَّامِرِيِّ مُوسَى بْنُ ظُفْرٍ، وَقَعَ فِي أَرْضِ مِصْرَ، فَدَخَلَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا رَأَى هَارُونُ مَا وَقَعُوا فِيهِ قَالَ: «يَا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ» - إلى قوله- «حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى» فَأَقَامَ هَارُونُ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ لَمْ يُفْتَتَنْ، وَأَقَامَ مَنْ يَعْبُدُ الْعِجْلَ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَتَخَوَّفَ هَارُونُ إِنْ سَارَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقُولَ لَهُ مُوسَى: «َّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي » ، وَكَانَ لَهُ هَائِبًا مُطِيعًا، وَمَضَى مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الطُّورِ، وَكَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ أَنْجَاهُمْ وَأَهْلَكَ عَدُوَّهُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنِ، وَكَانَ مُوسَى حِينَ سَارَ ببني إسرائيل

مِنَ الْبَحْرِ قَدِ احْتَاجُوا إِلَى الْمَاءِ، فَاسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ، فَأُمِرَ أَنْ يَضْرِبَ بِعَصَاهُ الْحَجَرَ، فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، لِكُلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ يَشْرَبُونَ مِنْهَا قَدْ عَرَفُوهَا، فَلَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى طَمِعَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ «لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ» إِلَى قَوْلِهِ: «وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» ثُمَّ قَالَ اللَّهُ لِمُوسَى: «إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ» إِلَى قوله: «سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ» وَقَالَ لَهُ: «وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسى» إِلَى قَوْلِهِ: «فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً» ، وَمَعَهُ عَهْدُ اللَّهِ فِي أَلْوَاحِهِ. وَلَمَّا انْتَهَى مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ فَرَأَى مَا هُمْ فِيهِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ مِنْ يَدِهِ، وَكَانَتْ- فِيمَا يَذْكُرُونَ- مِنْ زَبَرْجَدٍ أَخْضَرَ، ثُمَّ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ وَلِحْيَتِهِ وَيَقُولُ: «مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ» الى قوله: «لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي » فقال: «يا ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ، فَارْعَوَى مُوسَى وَقَالَ: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» . وَأَقْبَلَ عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: «يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً» الى قوله: «عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ» واقبل عَلَى السَّامِرِيِّ فَقَالَ: «فَما خَطْبُكَ يَا سامِرِيُّ قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ» إِلَى قوله: «وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً» ثم

أَخَذَ الْأَلْوَاحَ، يَقُولُ اللَّهُ: «أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ» . حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن صدقه ابن يَسَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ كَتَبَ لِمُوسَى فِيهَا مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً، فَلَمَّا أَلْقَاهَا رَفَعَ اللَّهُ سِتَّةَ أَسْبَاعِهَا وَأَبْقَى سُبُعًا، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ» ، ثُمَّ أَمَرَ مُوسَى بِالْعِجْلِ فَأُحْرِقَ، حَتَّى رَجَعَ رَمَادًا، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَقُذِفَ فِي الْبَحْرِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَسَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: إِنَّمَا كَانَ أَحْرَقَهُ ثُمَّ سَحَلَهُ ثُمَّ ذَرَاهُ فِي الْبَحْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ اخْتَارَ مُوسَى مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلًا: الْخَيِّرَ فَالْخَيِّرَ، وَقَالَ: انْطَلِقُوا إِلَى اللَّهِ فَتُوبُوا إِلَيْهِ مِمَّا صَنَعْتُمْ وسلوه التوبة عَلَى مَنْ تَرَكْتُمْ وَرَاءَكُمْ مِنْ قَوْمِكِمْ، صُومُوا وَتَطَهَّرُوا وَطَهِّرُوا ثِيَابَكُمْ، فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى طُورِ سَيْنَاءَ لِمِيقَاتٍ وَقَّتَهُ لَهُ رَبُّهُ، وَكَانَ لَا يَأْتِيهِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ وَعِلْمٍ، فَقَالَ لَهُ السَّبْعُونَ- فِيمَا ذُكِرَ لِي- حِينَ صَنَعُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَخَرَجُوا مَعَهُ لِلِقَاءِ رَبِّهِ: اطْلُبْ لَنَا نَسْمَعْ كَلَامَ رَبِّنَا، فَقَالَ: أَفْعَلُ، فَلَمَّا دَنَا مُوسَى مِنَ الْجَبَلِ وَقَعَ عَلَيْهِ عَمُودُ الْغَمَامِ حَتَّى تَغَشَّى الْجَبَلُ كُلُّهُ، وَدَنَا مُوسَى فَدَخَلَ فِيهِ، وَقَالَ لِلْقَوْمِ: ادْنُوا، وَكَانَ مُوسَى إِذَا كَلَّمَهُ وَقَعَ عَلَى جَبْهَتِهِ نُورٌ سَاطِعٌ لا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ فَضَرَبَ دُونَهُ بِالْحِجَابِ، وَدَنَا الْقَوْمُ حَتَّى إِذَا دَخَلُوا فِي الْغَمَامِ وَقَعُوا سُجُودًا، فَسَمِعُوهُ وَهُوَ يُكَلِّمُ مُوسَى يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ: افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ، فَلَمَّا فَرِغَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِ انْكَشَفَ عَنْ مُوسَى الْغَمَامُ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا لِمُوسَى: «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» ، «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ*» ، وَهِيَ الصَّاعِقَةُ، فَانْفَلَتَتْ أَرْوَاحُهُمْ فَمَاتُوا جَمِيعا،

وَقَامَ مُوسَى يُنَاشِدُ رَبَّهُ وَيَدْعُوهُ، وَيَرْغَبُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ: «رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ» قد سفهوا، افتهلك مَنْ وَرَائِي مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا فَعَلَ السفهاء منا! ان هذا هلاك لهم اخْتَرْتُ مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلًا الْخَيِّرَ فَالْخَيِّرَ، أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ وَلَيْسَ مَعِي رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَمَا الَّذِي يُصَدِّقُونَنِي بِهِ! فَلَمْ يَزَلْ مُوسَى يُنَاشِدُ رَبَّهُ، وَيَسْأَلُهُ وَيَطْلَبُ إِلَيْهِ حَتَّى رَدَّ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحَهُمْ، وَطَلَبَ إِلَيْهِ التَّوْبَةَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، فَقَالَ: لا، إِلَّا أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ وَقَالَ: فَبَلَغَنِي أَنَّهُمْ قَالُوا لِمُوسَى: نَصْبِرُ لِأَمْرِ اللَّهِ، فَأَمَرَ مُوسَى مَنْ لَمْ يَكُنْ عَبَدَ الْعِجْلَ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ عَبَدَهُ، فَجَلَسُوا بِالأَفْنِيَةِ، وَأَصْلَتَ عَلَيْهِمُ الْقَوْمُ السُّيُوفَ، فَجَعَلُوا يَقْتُلُونَهُمْ، وَبَكَى مُوسَى وَبَهَشَ إِلَيْهِ الصِّبْيَانُ وَالنِّسَاءُ يَطْلُبُونَ الْعَفْوَ عَنْهُمْ، فَتَابَ عَلَيْهِمْ وَعَفَا عَنْهُمْ، وَأَمَرَ مُوسَى أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُمُ السَّيْفَ. وَأَمَّا السُّدِّيُّ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي خَبَرِهِ الَّذِي ذَكَرْتُ إِسْنَادَهُ قَبْلُ أَنَّ مَصِيرَ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ بِالسَّبْعِينَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مِنْ قَوْمِهِ بَعْدَ مَا تَابَ اللَّهُ عَلَى عَبَدَةِ الْعِجْلِ مِنْ قَوْمِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَ الْقِصَّةِ الَّتِي قَدْ ذَكَرْتُهَا عَنْهُ بعد قوله: «إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» قَالَ: ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ مُوسَى أَنْ يَأْتِيَهُ فِي نَاسٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَوَعَدَهُمْ مَوْعِدًا، فَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا عَلَى عَيْنِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمْ لِيَعْتَذِرُوا، فَلَمَّا أَتَوْا ذَلِكَ الْمَكَانَ قَالُوا: «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» ، فَإِنَّكَ قَدْ كَلَّمْتَهُ فَأَرِنَاهُ، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ فَمَاتُوا، فَقَامَ مُوسَى يَبْكِي وَيَدْعُو اللَّهَ وَيَقُولُ: رَبِّ مَاذَا أَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا أَتَيْتُهُمْ وَقَدْ أَهْلَكْتُ خِيَارَهُمْ! رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ، أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا! فأوحى الله عز وجل إلى موسى: أن هَؤُلَاءِ السَّبْعِينَ مِمَّنِ اتَّخَذَ الْعِجْلَ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ مُوسَى: «إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ» إلى قوله: «إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ» ، يقول:

تُبْنَا إِلَيْكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ» ، وَالصَّاعِقَةُ نَارٌ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَحْيَاهُمْ، فَقَامُوا وَعَاشُوا رَجُلًا رَجُلًا، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ: كَيْفَ يَحْيَوْنَ؟ فَقَالُوا: يَا مُوسَى، أَنْتَ تَدْعُو اللَّهَ فَلَا تَسْأَلُهُ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاكَ، فَادْعُهُ يَجْعَلْنَا أَنْبِيَاءَ، فَدَعَا اللَّهُ فَجَعَلَهُمْ أَنْبِيَاءَ، فَذَلِكَ قوله: «ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ» ، وَلَكِنَّهُ قَدَّمَ حَرْفًا وَأَخَّرَ حَرْفًا. ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالسَّيْرِ إِلَى أَرِيحَا، وَهِيَ أَرْضُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَسَارُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا قَرِيبًا مِنْهَا بَعَثَ مُوسَى اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا مِنْ جَمِيعِ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَسَارُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَأْتُوهُ بِخَبَرِ الْجَبَّارِينَ، فَلَقِيَهُمْ رَجُلٌ مِنَ الْجَبَّارِينَ يُقَالُ لَهُ عَاج، فَأَخَذَ الاثْنَيْ عَشَرَ فَجَعَلَهُمْ فِي حُجْزَتِهِ وَعَلَى رَأْسِهِ حَمْلَةُ حَطَبٍ، فَانْطَلَقَ بِهِمْ إِلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ: انْظُرِي إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُقَاتِلُونَا، فَطَرَحَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهَا، فَقَالَ: أَلَا أَطْحَنُهُمْ بِرِجْلِي! فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: لَا، بَلْ خَلِّ عَنْهُمْ حَتَّى يُخْبِرُوا قَوْمَهُمْ بِمَا رَأَوْا، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا خَرَجَ الْقَوْمُ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: يَا قَوْمُ، إِنَّكُمْ إِنْ أَخْبَرْتُمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِخَبَرِ الْقَوْمِ ارْتَدُّوا عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ، وَلَكِنِ اكْتُمُوهُمْ وَأَخْبِرُوا نَبِيَّ اللَّهِ، فَيَكُونَانِ هُمَا يُرِيَانِ رَأْيَهُمَا، فَأَخَذَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ الْمِيثَاقَ بِذَلِكَ لِيَكْتُمُوهُ، ثُمَّ رَجَعُوا فَانْطَلَقَ عَشَرَةٌ فَنَكَثُوا الْعَهْدَ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يُخْبِرُ أَخَاهُ وَأَبَاهُ بِمَا رَأَوْا مِنْ أَمْرِ عَاج، وَكَتَمَ رَجُلانِ مِنْهُمْ، فَأَتَوْا مُوسَى وَهَارُونَ فَأَخْبَرُوهُمَا الْخَبَرَ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهِ: «وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً» فقال لهم موسى: «يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً» ، يَمْلِكُ الرَّجُلُ مِنْكُمْ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ وَمَالَهُ «يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ» ، يَقُولُ: الَّتِي أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهَا

«وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ قالُوا» مِمَّا سَمِعُوا مِنَ الْعَشَرَةِ: «إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا» ، وَهُمَا اللَّذَانِ كَتَمَا، وَهُمَا يُوشَعُ بْنُ نُونٍ فَتَى مُوسَى وَكَالُوبُ بْنُ يوفنَةَ- وَقِيلَ: كِلَابُ بْنُ يوفنَةَ خَتَنُ مُوسَى- فَقَالَا: يَا قَوْمِ «ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ» «قالُوا يَا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً مَا دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» فَغَضِبَ مُوسَى، فَدَعَا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: «رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» وَكَانَتْ عَجَلَةً مِنْ مُوسَى عَجَلَهَا، فَقَالَ اللَّهُ: «فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ» فَلَمَّا ضُرِبَ عَلَيْهِمُ التِّيهُ، نَدِمَ مُوسَى وَأَتَاهُ قَوْمُهُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ يُطِيعُونَهُ، فَقَالُوا لَهُ: مَا صَنَعْتَ بِنَا يَا مُوسَى؟ فَلَمَّا نَدِمَ أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ: أَلَا تَأْسَ، أَيْ لَا تَحْزَنْ عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ سَمَّيْتَهُمْ فَاسِقِينَ فَلَمْ يَحْزَنْ، فَقَالُوا: يَا مُوسَى، فكيف لنا بماء هاهنا؟ أَيْنَ الطَّعَامُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، فَكَانَ يَسْقُطُ عَلَى الشَّجَرِ التَّرَنْجَبِينُ وَالسَّلْوَى- وَهُوَ طَيْرٌ يُشْبِهُ السُّمَانَى- فَكَانَ يَأْتِي أَحَدُهُمْ فَيَنْظُرُ إِلَى الطَّيْرِ، فَإِنْ كَانَ سَمِينًا ذَبَحَهُ وَإِلَّا أَرْسَلَهُ، فَإِذَا سَمِنَ أَتَاهُ، فَقَالُوا: هَذَا الطَّعَامُ فَأَيْنَ الشَّرَابُ؟ فَأَمَرَ مُوسَى فَضَرَبَ بِعَصَاهُ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، يَشْرَبُ كُلُّ سِبْطٍ مِنْ عَيْنٍ فَقَالُوا: هَذَا الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ، فَأَيْنَ الظِّلُّ؟ فَظَلَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ، فَقَالُوا: هَذَا الظِّلُّ، فَأَيْنَ

اللِّبَاسُ؟ فَكَانَتْ ثِيَابُهُمْ تَطُولُ مَعَهُمْ كَمَا تَطُولُ الصِّبْيَانُ، وَلَا يَتَخَرَّقُ لَهُمْ ثَوْبٌ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: «وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى» . وَقَوْلُهُ: «وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ» ، فَأَجْمَعُوا ذَلِكَ، فَقَالُوا: «يَا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها» - وهي الحنطة- «وَعَدَسِها وَبَصَلِها» . قال: «أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً» من الأمصار، «فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ» فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ التِّيهِ رُفِعَ الْمَنُّ وَالسَّلْوَى، وَأَكَلُوا الْبُقُولَ، وَالْتَقَى مُوسَى وَعَاج فَنَزَا مُوسَى فِي السَّمَاءِ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، وَكَانَتْ عَصَاهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، وَكَانَ طُولُهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، فَأَصَابَ كَعْبَ عَاجٍ فَقَتَلَهُ. حَدَّثَنَا ابن بشار، قَالَ: حَدَّثَنَا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن نوف، قال: كان طول عوج ثمانمائه ذراع، وكان طول موسى عشرة أذرع، وعصاه عشرة أذرع، ثم وثب في السماء عشرة أذرع، فضرب عوجا فأصاب كعبه فسقط ميتا، فكان جسرا للناس يمرون عليه. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا قَيْسٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَتْ عَصَا مُوسَى عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، وَوَثْبَتُهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، وَطُولُهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، فَأَصَابَ كَعْبَ عوجَ فَقَتَلَهُ، فَكَانَ جسرا لأهل النيل وقيل ان عوجَ عَاشَ ثَلَاثَةَ آلَافِ سَنَةٍ

ذكر وفاه موسى وهارون ابنى عمران ع

ذكر وفاه موسى وهارون ابنى عمران ع حدثنا موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود- وعن ناس من اصحاب النبي ص: ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَوْحَى إِلَى مُوسَى، أَنِّي مُتَوَفِّ هَارُونَ، فَأْتِ بِهِ جَبَلَ كَذَا وَكَذَا فَانْطَلَقَ مُوسَى وَهَارُونَ نَحْوَ ذَلِكَ الْجَبَلِ، فَإِذَا هُمَا بِشَجَرَةٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، وَإِذَا هُمَا بِبَيْتٍ مَبْنِيٍّ، وَإِذَا هُمَا فِيهِ بِسَرِيرٍ عَلَيْهِ فرْشٌ، وَإِذَا فِيهِ رِيحٌ طَيِّبَةٌ، فَلَمَّا نَظَرَ هَارُونُ إِلَى ذَلِكَ الْجَبَلِ وَالْبَيْتِ وَمَا فِيهِ أَعْجَبَهُ، فَقَالَ: يَا مُوسَى إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ أَنَامَ عَلَى هَذَا السَّرِيرِ، قَالَ لَهُ مُوسَى: فَنَمْ عَلَيْهِ، قَالَ: إِنِّي أَخَافَ أَنْ يَأْتِيَ رَبُّ هَذَا الْبَيْتِ فَيَغْضَبَ عَلَيَّ، قَالَ لَهُ مُوسَى: لَا تَرْهَبْ أَنَا أَكْفِيكَ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ فَنَمْ، قَالَ: يَا مُوسَى بَلْ نَمْ مَعِي، فَإِنْ جَاءَ رَبُّ الْبَيْتِ غَضِبَ عَلَيَّ وَعَلَيْكَ جَمِيعًا، فَلَمَّا نَامَا أَخَذَ هارون الموت، فلما وَجَدَ حِسَّهُ قَالَ: يَا مُوسَى خَدَعْتَنِي، فَلَمَّا قُبِضَ رُفِعَ ذَلِكَ الْبَيْتُ وَذَهَبَتْ تِلْكَ الشَّجَرَةُ وَرُفِعَ السَّرِيرُ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَيْسَ مَعَهُ هَارُونُ قَالُوا: فان مُوسَى قَتَلَ هَارُونَ وَحَسَدَهُ لِحُبِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَهُ، وَكَانَ هَارُونُ أَكَفَّ عَنْهُمْ وَأَلْيَنَ لَهُمْ مِنْ مُوسَى، وَكَانَ فِي مُوسَى بَعْضُ الْغِلَظِ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ قَالَ لَهُمْ: وَيْحَكُمْ! كَانَ أَخِي، أَفَتَرَوْنَنِي أَقْتُلُهُ! فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ دَعَا اللَّهَ فَنَزَلَ بِالسَّرِيرِ حَتَّى نَظَرُوا إِلَيْهِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَصَدَّقُوهُ ثُمَّ إِنَّ مُوسَى بَيْنَمَا هُوَ يَمْشِي وَيُوشَعُ فَتَاهُ إِذَا أَقْبَلَتْ رِيحٌ سَوْدَاءُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا يُوشَعُ ظَنَّ أَنَّهَا السَّاعَةُ وَالْتَزَمَ مُوسَى، وَقَالَ: تَقُومُ السَّاعَةُ وَأَنَا مُلْتَزِمُ مُوسَى نَبِيَّ اللَّهِ، فَاسْتَلَّ مُوسَى مِنْ تَحْتِ الْقَمِيصِ وَتَرَكَ الْقَمِيصَ فِي يَدِ يُوشَعَ، فَلَمَّا جَاءَ يُوشَعُ بِالْقَمِيصِ أَخَذَتْهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَقَالُوا: قَتَلْتَ نَبِيَّ اللَّهِ! قَالَ: لا وَاللَّهِ مَا قَتَلْتُهُ، وَلَكِنَّهُ اسْتَلَّ مِنِّي، فَلَمْ يُصَدِّقُوهُ وَأَرَادُوا قَتْلَهُ قَالَ: فَإِذَا لَمْ تُصَدِّقُونِي فَأَخِّرُونِي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَدَعَا اللَّهَ فَأُتِيَ كُلُّ

رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ يَحْرُسُهُ فِي الْمَنَامِ، فَأُخْبِرَ أَنْ يُوشَعَ لَمْ يَقْتُلْ مُوسَى، وَأَنَّا قَدْ رَفَعْنَاهُ إِلَيْنَا، فَتَرَكُوهُ وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِمَّنْ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ قَرْيَةَ الْجَبَّارِينَ مَعَ مُوسَى إِلَّا مَاتَ، وَلَمْ يَشْهَدِ الْفَتْحَ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قَالَ: كان صفي الله قد كره الموت وأعظمه، فلما كرهه أراد الله تعالى أن يجب إليه الموت ويكره إليه الحياة، فحولت النبوة إلى يوشع بن نون، فكان يغدو عليه ويروح، فيقول له موسى: يا نبي الله، ما أحدث الله إليك؟ فيقول له يوشع بن نون: يا نبي الله، ألم أصحبك كذا وكذا سنة، فهل كنت أسألك عن شيء مما أحدث الله إليك حتى تكون أنت الذي تبتدئ به وتذكره؟ فلا يذكر له شيئا، فلما رأى موسى ذلك كره الحياة وأحب الموت. قَالَ ابْنُ حُمَيْدٍ: قَالَ سَلَمَةُ: قَالَ ابْنُ إسحاق: وكان صفي الله- فيما ذكر لي وهب بن منبه- انما يستظل في عريش ويأكل ويشرب في نقير من حجر، إذا أراد أن يشرب بعد أن أكل كرع كما تكرع الدابة في ذلك النقير، تواضعا لله حين أكرمه الله بما أكرمه به من كلامه. قَالَ وهب: فذكر لي أنه كان من أمر وفاته أن صفي الله خرج يوما من عريشه ذلك لبعض حاجته لا يعلم به أحد من خلق الله، فمر برهط من الملائكة يحفرون قبرا فعرفهم وأقبل إليهم، حتى وقف عليهم، فإذا هم يحفرون قبرا لم ير شيئا قط أحسن منه، ولم ير مثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة، فقال لهم: يا ملائكة الله لمن تحفرون هذا القبر؟ قَالُوا: نحفره لعبد كريم على ربه، قَالَ: إن هذا العبد من الله لبمنزل! ما رأيت كاليوم مضجعا ولا مدخلا! وذلك حين حضر من أمر الله ما حضر من قبضه، فقالت له الملائكة: يا صفي الله، أتحب أن يكون لك؟ قَالَ: وددت قَالُوا: فانزل فاضطجع فيه، وتوجه إلى ربك، ثم تنفس أسهل تنفس تنفسته قط

فنزل فاضطجع فيه، وتوجه إلى ربه، ثم تنفس فقبض الله تعالى روحه، ثم سوت عليه الملائكة، وكان صفي الله زاهدا في الدنيا راغبا فيما عند الله. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قال: [قال رسول الله ص: إِنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ كَانَ يَأْتِي النَّاسَ عِيَانًا حَتَّى أَتَى موسى فَلَطَمَهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ، قَالَ: فَرَجَعَ فَقَالَ: يَا رَبِّ، إِنَّ عَبْدَكَ موسى فَقَأَ عَيْنِي، وَلَوْلا كَرَامَتُهُ عَلَيْكَ لَشَقَقْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: ائْتِ عَبْدِي موسى، فَقُلْ لَهُ: فَلْيَضَعْ كَفَّهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ وَارَتْ يَدُهُ سَنَةٌ، وَخَيِّرْهُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ أَنْ يَمُوتَ الآنَ، قَالَ: فَأَتَاهُ فَخَيَّرَهُ، فَقَالَ لَهُ موسى: فَمَا بَعْدَ ذَلِكَ؟ قَالَ: الْمَوْتُ، قَالَ: فَالآنَ إِذًا، قَالَ: فَشَمَّهُ شَمَّةً قَبَضَ رُوحَهُ. قَالَ: فَجَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى النَّاسِ خفيه] . حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن أبي سنان الشيباني، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قَالَ: مات موسى وهارون جميعا في التيه، مات هارون قبل موسى، وكانا خرجا جميعا في التيه إلى بعض الكهوف، فمات هارون، فدفنه موسى، وانصرف موسى إلى بني إسرائيل، فقالوا: ما فعل هارون؟ قَالَ: مات، قَالُوا: كذبت ولكنك قتلته لحبنا إياه، وكان محببا في بني إسرائيل، فتضرع موسى إلى ربه، وشكا ما لقي من بني إسرائيل، فأوحى الله إليه أن انطلق بهم إلى موضع قبره، فإني باعثه حتى يخبرهم أنه مات موتا ولم تقتله قَالَ: فانطلق بهم إلى قبر هارون، فنادى: يا هارون، فخرج من قبره ينفض رأسه، فقال: أنا قتلتك؟ قَالَ: لا والله، ولكني مت، قَالَ: فعد إلى مضجعك، وانصرفوا. فكان جميع مده عمر موسى ع كلها مائة وعشرين سنة، عشرون من ذلك في ملك أفريدون، ومائة منها في ملك منوشهر، وكان ابتداء أمره من لدن بعثه الله نبيا إلى أن قبضه إليه في ملك منوشهر

ذكر يوشع بن نون ع

ذكر يوشع بن نون ع ثم ابتعث الله عز وجل بعد موسى ع يوشع بن نون بن افراييم ابن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم نبيا، وأمره بالمسير إلى أريحا لحرب من فيها من الجبارين فاختلف السلف من أهل العلم في ذلك، وعلى يد من كان ذلك؟ ومتى سار يوشع إليها؟ في حياة موسى بن عمران كان مسيره إليها أم بعد وفاته؟ فقال بعضهم: لم يسر يوشع إلى أريحا، ولا أمر بالمسير إليها إلا بعد موت موسى، وبعد هلاك جميع من كان أبى المسير إليها مع موسى بن عمران، حين أمرهم الله تعالى بقتال من فيها من الجبارين، وقالوا: مات موسى وهارون جميعا في التيه قبل خروجهما منه. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَمَّا دَعَا مُوسَى- يَعْنِي بِدُعَائِهِ قَوْلِهِ: «رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ» قَالَ: فَدَخَلُوا التِّيهَ، فَكُلُّ مَنْ دَخَلَ التِّيهَ مِمَّنْ جَاوَزَ الْعِشْرِينَ سَنَةً مَاتَ فِي التِّيهِ، قَالَ: فَمَاتَ مُوسَى فِي التِّيهِ، وَمَاتَ هَارُونُ قَبْلَهُ قَالَ: فَلَبِثُوا فِي تِيهِهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَنَاهَضَ يُوشَعُ بِمَنْ بَقِيَ مَعَهُ مَدِينَةَ الْجَبَّارِينَ فَافْتَتَحَ يُوشَعُ الْمَدِينَةَ

حدثنا بشر، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سعيد عن قتادة قَالَ: قَالَ الله تعالى: «انها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً» الآية، حرمت عليهم القرى، فكانوا لا يهبطون قرية، ولا يقدرون على ذلك أربعين سنة. وذكر لنا أن موسى مات في الأربعين سنة، ولم يدخل بيت المقدس منهم إلا أبناؤهم، والرجلان اللذان قالا ما قالا. حَدَّثَنِي موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو، قَالَ: حَدَّثَنَا أسباط، عن السدي في الخبر الذي ذكرت إسناده فيما مضى: لم يبق أحد ممن أبى أن يدخل مدينة الجبارين مع موسى إلا مات، ولم يشهد الفتح. ثم إن الله عز وجل لما انقضت الأربعون سنة بعث يوشع بن نون نبيا فأخبرهم أنه نبي وأن الله قد أمره أن يقاتل الجبارين، فبايعوه وصدقوه، فهزم الجبارين، واقتحموا عليهم، فقتلوهم، فكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها لا يقطعونها. حَدَّثَنَا ابن بشار، قَالَ: حَدَّثَنَا سليمان بن حرب، عن هلال، عن قتادة في قول الله تعالى: «فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ» ، قَالَ: أبدا. حَدَّثَنِي المثنى قَالَ: حَدَّثَنَا مسلم بن إبراهيم، عن هارون النحوي، عن الزبير بن الخريت، عن عكرمة في قوله: «فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ» ، قَالَ: التحريم التيه. وقال آخرون: إنما فتح أريحا موسى، ولكن يوشع كان على مقدمة موسى حين سار إليهم. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذلك:

حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما نشأت النواشي من ذراريهم- يعني من ذراري الذين أبوا قتال الجبارين مع موسى- وهلك آباؤهم، وانقضت الأربعون سنة التي تُيِّهُوا فيها، سار بهم موسى ومعه يوشع بن نون، وكلاب بن يوفنة، وكان فيما يزعمون على مريم ابنة عمران أخت موسى وهارون، فكان لهم صهرا، فلما انتهوا إلى أرض كنعان، وبها بلعم بن باعور العروف، وكان رجلا قد آتاه الله علما، وكان فيما أوتي من العلم اسم الله الأعظم- فيما يذكرون- الذي إذا دعي الله به أجاب، وإذا سئل به أعطى. حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسحاق، عن سالم أبي النضر، أنه حدث أن موسى لما نزل أرض بني كنعان من أرض الشام، وكان بلعم ببالعة- قرية من قرى البلقاء- فلما نزل موسى ببني إسرائيل ذلك المنزل، أتى قوم بلعم إلى بلعم، فقالوا له: يا بلعم، هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل قد جاء يخرجنا من بلادنا، ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل، ويسكنها، وإنا قومك وليس لنا منزل، وأنت رجل مجاب الدعوة، فاخرج فادع الله عليهم، فقال: ويلكم! نبي الله معه الملائكة والمؤمنون! كيف أذهب أدعو عليهم، وأنا أعلم من الله ما أعلم! قَالُوا: ما لنا من منزل، فلم يزالوا به يرققونه، ويتضرعون إليه حتى فتنوه، فافتتن فركب حمارة له متوجها إلى الجبل الذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل، وهو جبل حسبان، فما سار عليها غير قليل، حتى ربضت به، فنزل عنها فضربها حتى اذلقها فقامت فركبها، فلم تسر به كثيرا حتى ربضت به، ففعل بها مثل ذلك، فقامت فركبها، فلم تسر به كثيرا حتى ربضت به، فضربها حتى إذا أذلقها أذن الله لها فكلمته حجة عليه، فقالت: ويحك يا بلعم! أين تذهب! ألا ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا! أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين تدعو

عليهم! فلم ينزع عنها يضربها، فخلى الله سبيلها حين فعل بها ذلك، فانطلقت حتى إذا أشرفت به على جبل حسبان، على عسكر موسى وبني إسرائيل، جعل يدعو عليهم، فلا يدعو عليهم بشيء إلا صرف الله لسانه إلى قومه، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف لسانه إلى بني إسرائيل، فقال له قومه: أتدري يا بلعم ما تصنع؟ إنما تدعو لهم، وتدعو علينا، قَالَ: فهذا ما لا أملك، هذا شيء قد غلب الله عليه، واندلع لسانه فوقع على صدره، فقال لهم: قد ذهبت الآن مني الدنيا والآخرة، فلم يبق إلا المكر والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال، جملوا النساء وأعطوهن السلع، ثم أرسلوهن إلى العسكر يبعنها فيه، ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها، فإنه إن زنى رجل واحد منهم كفيتموهم، ففعلوا، فلما دخل النساء العسكر مرت امرأة من الكنعانيين اسمها كستي ابنة صور- رأس أمته وبني أبيه من كان منهم في مدين، هو كان كبيرهم- برجل من عظماء بني إسرائيل، وهو زمرى بن شلوم، رأس سبط شمعون بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فقام إليها فأخذ بيدها حين أعجبه جمالها، ثم أقبل حتى وقف بها على موسى، فقال: إني أظنك ستقول: هذه حرام عليك! قَالَ: أجل هي حرام عليك لا تقربها، قَالَ: فو الله لا نطيعك في هذا، ثم دخل بها قبته فوقع عليها، فأرسل الله الطاعون في بني إسرائيل وكان فنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى، وكان رجلا قد أعطي بسطة في الخلق، وقوة في البطش، وكان غائبا حين صنع زمرى بن شلوم ما صنع، فجاء والطاعون يحوس في بني إسرائيل، فأخبر الخبر، فأخذ حربته- وكانت من حديد كلها- ثم دخل عليهما القبة وهما متضاجعان فانتظمهما بحربته، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء، والحربة قد أخذها بذراعه، واعتمد بمرفقه على خاصرته، وأسند الحربة إلى لحيته- وكان بكر العيزار- فجعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك! ورفع الطاعون فحسب من يهلك من بني إسرائيل في الطاعون- فيما بين أن أصاب زمرى المرأة إلى أن قتله

فنحاص- فوجدوا قد هلك منهم سبعون ألفا، والمقلل لهم يقول: عشرون ألفا، في ساعة من النهار، فمن هنالك تعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص بن العيزار بن هارون من كل ذبيحة ذبحوها القبة والذراع واللحى، لاعتماده بالحربة على خاصرته، وأخذه إياها بذراعه، وإسناده إياها إلى لحيته، والبكر من كل أموالهم وأنفسهم، لأنه كان بكر العيزار، ففي بلعم بن باعور، أنزل الله تعالى على مُحَمَّد ص: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها» - يعنى بلعم بن باعور، «فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ» الى قوله: «لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» يعني بني إسرائيل، إني قد جئتهم بخبر ما كان فيهم مما يخفون عليك لعلهم يتفكرون فيعرفون أنه لم يأت بهذا الخبر عما مضى فيهم إلا نبي يأتيه خبر من السماء. ثم إن موسى قدم يوشع بن نون إلى أريحا في بني إسرائيل فدخلها بهم، وقتل بها الجبابرة الذين كانوا فيها، وأصاب من أصاب منهم، وبقيت منهم بقية في اليوم الذي أصابهم فيه، وجنح عليهم الليل، وخشي إن لبسهم الليل أن يعجزوه، فاستوقف الشمس، ودعا الله أن يحبسها، ففعل عز وجل حتى استأصلهم، ثم دخلها موسى ببني إسرائيل، فأقام فيها ما شاء الله أن يقيم، ثم قبضه الله إليه، لا يعلم بقبره أحد من الخلائق. فأما السدي في الخبر الذي ذكرت عنه إسناده فيما مضى، فإنه ذكر في خبره ذلك أن الذي قاتل الجبارين يوشع بن نون بعد موت موسى وهارون، وقص من أمره وأمرهم ما أنا ذاكره، وهو أنه ذكر فيه أن الله بعث يوشع نبيا بعد أن انقضت الأربعون سنة، فدعا بني إسرائيل فأخبرهم أنه نبي، وأن الله قد أمره أن يقاتل الجبارين، فبايعوه وصدقوه، وانطلق رجل من بني إسرائيل يقال له: بلعم- وكان عالما، يعلم الاسم الأعظم المكتوم- فكفر

وأتى الجبارين، فقال: لا ترهبوا بني إسرائيل، فإني إذا خرجتم تقاتلونهم أدعو عليهم دعوة فيهلكون، فكان عندهم فيما شاء من الدنيا، غير أنه كان لا يستطيع أن يأتي النساء من عظمهن، فكان ينكح أتانا له، وهو الذي يقول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا» أي فبصر «فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ» إلى قوله: «وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ» ، فكان بلعم يلهث كما يلهث الكلب، فخرج يوشع يقاتل الجبارين في الناس، وخرج بلعم مع الجبارين على أتانه، وهو يريد أن يلعن بني إسرائيل، فكلما أراد أن يدعو على بني إسرائيل جاء على الجبارين، فقال الجبارون: إنك إنما تدعو علينا، فيقول: إنما أردت بني إسرائيل، فلما بلغ باب المدينة أخذ ملك بذنب الأتان فأمسكها، وجعل يحركها فلا تتحرك، فلما أكثر ضربها تكلمت، فقالت: أنت تنكحني بالليل وتركبني بالنهار! ويلي منك! ولو أني أطقت الخروج لخرجت بك، ولكن هذا الملك يحبسني، فقاتلهم يوشع يوم الجمعة قتالا شديدا حتى أمسوا وغربت الشمس، ودخل السبت فدعا الله فقال للشمس: إنك في طاعة الله وأنا في طاعة الله، اللهم اردد علي الشمس، فردت عليه الشمس، فزيد له في النهار يومئذ ساعة، فهزم الجبارين واقتحموا عليهم يقتلونهم، فكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها لا يقطعونها وجمعوا غنائمهم، وأمرهم يوشع أن يقربوا الغنيمه فقربوها، فلم تزل النار تأكلها، فقال يوشع: يا بني إسرائيل ان لله عز وجل عندكم طلبة، هلموا فبايعوني، فبايعوه فلصقت يد رجل منهم بيده، فقال: هلم ما عندك! فأتاه برأس ثور من ذهب مكلل بالياقوت والجوهر، كان قد غله، فجعله في القربان، وجعل الرجل معه، فجاءت النار فأكلت الرجل والقربان

وأما أهل التوراة، فإنهم يقولون: هلك هارون وموسى في التيه، وإن الله أوحى إلى يوشع بعد موسى، وأمره أن يعبر الأردن إلى الأرض التي أعطاها بني إسرائيل، ووعدها إياهم، وأن يوشع جد في ذلك ووجه إلى أريحا من تعرف خبرها، ثم سار ومعه تابوت الميثاق، حتى عبر الأردن، وصار له ولأصحابه فيه طريق، فأحاط بمدينة أريحا سته أشهر، فلما كان السابع نفخوا في القرون، وضج الشعب ضجة واحدة، فسقط سور المدينة فأباحوها وأحرقوها، وما كان فيها ما خلا الذهب والفضة وآنية النحاس والحديد، فإنهم أدخلوه بيت المال ثم إن رجلا من بني إسرائيل غل شيئا، فغضب الله عليهم وانهزموا، فجزع يوشع جزعا شديدا، فأوحى الله إلى يوشع أن يقرع بين الأسباط، ففعل حتى انتهت القرعة إلى الرجل الذي غل، فاستخرج غلوله من بيته، فرجمه يوشع وأحرق كل ما كان له بالنار، وسموا الموضع باسم صاحب الغلول، وهو عاجر فالموضع الى هذا اليوم غور عاجر ثم نهض بهم يوشع إلى ملك عايي وشعبه، فأرشدهم الله إلى حربه، وأمر يوشع أن يكمن لهم كمينا ففعل، وغلب على عايي وصلب ملكها على خشبة، وأحرق المدينة وقتل من أهلها اثني عشر ألفا من الرجال والنساء، واحتال اهل عماق وجيعون ليوشع حتى جعل لهم أمانا، فلما ظهر على خديعتهم دعا الله عليهم أن يكونوا حطابين وسقائين، فكانوا كذلك، وأن يكون بازق ملك أورشليم يتصدق، ثم أرسل ملوك الأرمانيين، وكانوا خمسه بعضهم الى بعض، وجمعوا كلمتهم على جيعون، فاستنجد اهل جيعون يوشع، فأنجدهم وهزموا أولئك الملوك حتى حدروهم إلى هبطة حوران، ورماهم الله بأحجار البرد، فكان من قتله البرد أكثر ممن قتله بنو إسرائيل بالسيف، وسأل يوشع الشمس أن تقف والقمر أن يقوم حتى ينتقم من أعدائه قبل دخول السبت، ففعلا ذلك وهرب الخمسة ملوك فاختفوا في غار، فأمر يوشع فسد باب الغار حتى فرغ من الانتقام

من أعدائه، ثم أمر بهم فأخرجوا، فقتلهم وصلبهم ثم أنزلهم من الخشب، وطرحهم في الغار الذي كانوا فيه، وتتبع سائر الملوك بالشام، فاستباح منهم أحدا وثلاثين ملكا، وفرق الأرض التي غلب عليها ثم مات يوشع، فلما مات دفن في جبل أفراييم، وقام بعده سبط يهوذا وسبط شمعون بحرب الكنعانيين، فاستباحوا حريمهم، وقتلوا منهم عشرة آلاف ببازق، وأخذوا ملك بازق فقطعوا إبهامي يديه ورجليه، فقال عند ذلك ملك بازق: قد كان يلقط الخبز من تحت مائدتي سبعون ملكا مقطعي الأباهيم، فقد جزاني الله بصنيعي، وأدخلوا ملك بازق أورشليم، فمات بها وحارب بنو يهوذا سائر الكنعانيين واستولوا على أرضهم، وكان عمر يوشع مائة سنة وستا وعشرين سنة وتدبيره أمر بني إسرائيل منذ توفي موسى إلى أن توفي يوشع بن نون سبعا وعشرين سنة. وقد قيل إن أول من ملك من ملوك اليمن، ملك كان لهم في عهد موسى بن عمران من حمير، يقال له: شمير بن الأملول، وهو الذي بنى مدينة ظفار باليمن، وأخرج من كان بها من العماليق، وإن شمير بن الأملول الحميري هذا كان من عمال ملك الفرس يومئذ على اليمن ونواحيها. وزعم هشام بن مُحَمَّد الكلبي أن بقية بقيت من الكنعانيين بعد ما قتل يوشع من قتل منهم، وأن إفريقيس بن قيس بن صيفي بن سبا بن كعب ابن زيد بن حمير بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان مر بهم متوجها إلى إفريقية، فاحتملهم من سواحل الشام، حتى أتى بهم إفريقية، فافتتحها وقتل ملكها جرجيرا، وأسكنها البقية التي كانت بقيت من الكنعانيين الذين كان احتملهم معه من سواحل الشام قَالَ: فهم البرابرة، قَالَ: وإنما سموا بربرا، لأن إفريقيس قَالَ لهم: ما أكثر بربرتكم! فسموا لذلك بربرا، وذكر أن إفريقيس قَالَ في ذلك من أمرهم شعرا، وهو قوله: بربرت كنعان لما سقتها ... من أراضي الهلك للعيش العجب قَالَ: وأقام من حمير في البربر صنهاجة وكتامة، فهم فيهم إلى اليوم

ذكر امر قارون بن يصهر بن قاهث

ذكر أمر قارون بن يصهر بن قاهث وكان قارون ابن عم موسى ع حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: «إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى» ، قال: ابن عمه، أخي ابيه فان: قارون ابن يصفر- هكذا قَالَ القاسم، وإنما هو يصهر- بن قاهث، وموسى بن عرمر بن قاهث، وعرمر بالعربية عمران، هكذا قَالَ القاسم، وإنما هو عمرم. وأما ابن إسحاق فإنه قَالَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عنه: تزوج يصهر بن قاهث شميت ابنه تباويت بن بركيا ابن يقسان بن إبراهيم فولدت له عمران بن يصهر وقارون بن يصهر، فقارون- على ما قَالَ ابن إسحاق- عم موسى أخو أبيه لأبيه وأمه. واما أهل العلم من سلف أمتنا ومن أهل الكتابين فعلى ما قَالَ ابن جريج. ذكر من حضرنا ذكره ممن قَالَ ذلك من علمائنا الماضين: حَدَّثَنَا أبو كريب، قَالَ: حَدَّثَنَا جابر بن نوح، قال: أخبرنا اسماعيل ابن أبي خالد، عن إبراهيم في قوله: «إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى» ، قال: كان ابن عم موسى. حدثنا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حدثنا عن سفيان، عن سماك بن حرب، عن إبراهيم، قَالَ: «إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى» ، كان قارون ابن عم موسى

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ سفيان، عن سماك، عن ابراهيم: «إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى» ، قَالَ: كان ابن عمه فبغى عليه. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يحيى بن سعيد القطان، عن سماك بن حرب، عن إبراهيم، قَالَ: كان قارون ابن عم موسى. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو معاوية، عن ابن أبي خالد، عن إبراهيم، قَالَ: «إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى» ، قَالَ: كان ابن عمه. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: «إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى» ، كنا نحدث أنه كان ابن عمه أخي أبيه، وكان يسمى المنور من حسن صورته في التوراة، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري، فأهلكه البغي. حَدَّثَنِي بشر بن هلال الصواف، قَالَ: حَدَّثَنَا جعفر بن سليمان الضبعي، عن مالك بن دينار، قَالَ: بلغني أن موسى بن عمران كان ابن عم قارون، وكان الله قد آتاه مالا كثيرا، كما وصفه الله عز وجل، فقال: «وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ» ، يعني بقوله: «تنوء» تثقل. وذكر أن مفاتيح خزائنه كانت كالذي حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا جرير، عن منصور، عن خيثمة في قوله: «ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ» قَالَ: نجد مكتوبا في الإنجيل: مفاتيح قارون وقر ستين بغلا غرا محجلة، ما يزيد مفتاح منها على إصبع، لكل مفتاح منها كنز. حَدَّثَنِي أبو كريب، قَالَ: حَدَّثَنَا هشيم، قَالَ: أخبرنا إسماعيل بن

سالم، عَنْ أَبِي صَالِحٍ: «ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ» ، قَالَ: كانت مفاتيح خزائنه تحمل على أربعين بغلا. حَدَّثَنَا أبو كريب، قَالَ: حَدَّثَنَا جابر بن نوح، قال: أخبرنا الأعمش عن خيثمة، قَالَ: كانت مفاتيح قارون تحمل على ستين بغلا، كل مفتاح منها لباب كنز معلوم، مثل الإصبع، من جلود. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الأعمش، عن خيثمة، قَالَ: كانت مفاتيح قارون من جلود، كل مفتاح مثل الإصبع، كل مفتاح على خزانة على حدة، فإذا ركب حملت المفاتيح على ستين بغلا أغر محجل. فبغى عدو الله لما أراد الله به من الشقاء والبلاء على قومه بكثرة ماله. وقيل إن بغيه عليهم كان بأن زاد عليهم في الثياب شبرا كذلك حدثنى علي بن سعيد الكندي وأبو السائب وابن وكيع، قالوا: حدثنا حفص ابن غياث، عن ليث، عن شهر بن حوشب. فوعظه قومه على ما كان من بغيه ونهوه عنه، وأمروه بإنفاق ما أعطاه الله في سبيله والعمل فيه بطاعته، كما أخبر الله عز وجل عنهم أنهم قَالُوا له فقال: «إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» وعنى بقوله: «وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا» : لا تنس في دنياك أن تأخذ نصيبك فيها لآخرتك، فكان جوابه إياهم جهلا منه، واغترارا بحلم الله عنه، ما ذكر الله تعالى في كتابه أن قَالَ لهم: إنما أوتيت ما أوتيت من هذه الدنيا عَلَى علم عندي فقيل: معنى ذلك: على خير عندي، كذلك روي ذلك عن قتادة. وقال غيره: عنى بذلك: لولا رضاء الله عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني

هذا، قَالَ الله عز وجل مكذبا قيله: «أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً» للأموال ولو كان الله إنما يعطي الأموال والدنيا من يعطيه إياها لرضاه عنه، وفضله عنده، لم يهلك من أهلك من أرباب الأموال الكثيرة قبله، مع كثرة ما كان أعطاهم منها، فلم يردعه عن جهله، وبغيه على قومه بكثرة ماله عظة من وعظه، وتذكير من ذكره بالله ونصيحته إياه، ولكنه تمادى في غيه وخسارته، حتى خرج على قومه في زينته راكبا برذونا أبيض مسرجا بسرج الأرجوان، قد لبس ثيابا معصفرة، قد حمل معه من الجواري بمثل هيئته وزينته على مثل برذونه ثلاثمائة جارية وأربعة آلاف من أصحابه. وقال بعضهم: كان الذين حملهم على مثل هيئته وزينته من أصحابه. سبعين ألفا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو خالد الأحمر، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد: «فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ» ، قَالَ: على براذين بيض، عليها سروج الأرجوان، عليهم المعصفرة فتمنى أهل الخسار من الذين خرج عليهم في زينته مثل الذي أوتيه، فقالوا: «يَا لَيْتَ لَنا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» ، فأنكر ذلك من قوله عليهم أهل العلم بالله فقالوا لهم: ويلكم أيها المتمنون مثل ما أوتي قارون! اتقوا الله، واعملوا بما أمركم الله به، وانتهوا عما نهاكم عنه، فإن ثواب الله وجزاءه أهل طاعته خير لمن آمن به وبرسله، وعمل بما أمره به من صالح الأعمال، يقول الله: «وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ» ، يقول: لا يلقى مثل هذه الكلمة إلا الذين صبروا عن طلب زينة الحياة الدنيا، وآثروا جزيل ثواب الله على صالح الأعمال على لذات الدنيا وشهواتها، فعملوا له بما يوجب لهم ذلك

فلما عتا الخبيث وتمادى في غيه، وبطر نعمة ربه ابتلاه الله عز وجل من الفريضة في ماله والحق الذي ألزمه فيه ما ساق إليه شحه به أليم عقابه، وصار به عبرة للغابرين وعظة للباقين. فَحَدَّثَنَا أَبُو كريب، قال: حدثنا جابر بن نوح، قال: أَخْبَرَنَا الْأَعْمَشُ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتِ الزَّكَاةُ أَتَى قَارُونَ مُوسَى فَصَالَحَهُ عَنْ كُلِّ أَلْفِ دِينَارٍ دِينَارًا، وَعَلَى كُلِّ أَلْفِ دِرْهَمٍ دِرْهَمًا، وَعَلَى كُلِّ أَلْفِ شَيْءٍ شَيْئًا، أَوْ قَالَ: وَكُلِّ أَلْفِ شَاةٍ شاه- قال ابو جعفر الطبرى: انا أشد- قَالَ: ثُمَّ أَتَى بَيْتَهُ فَحَسَبَهُ فَوَجَدَهُ كَثِيرًا فَجَمَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِنَّ مُوسَى قَدْ أَمَرَكُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ فَأَطَعْتُمُوهُ، وَهُوَ الآنَ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ أَمْوَالَكُمْ فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ كَبِيرُنَا وَسَيِّدُنَا، فَمُرْنَا بِمَا شِئْتَ، فَقَالَ: آمُرُكُمْ أَنْ تَجِيئُوا بِفُلَانَةَ الْبَغِيِّ فَتَجْعَلُوا لَهَا جُعْلًا فَتَقْذِفُهُ بِنَفْسِهَا فَدَعَوْهَا فَجَعَلُوا لَهَا جُعْلًا عَلَى أَنْ تَقْذِفَهُ بِنَفْسِهَا، ثُمَّ أَتَى موسى فقال: إِنَّ قَوْمَكَ قَدِ اجْتَمَعُوا لِتَأْمُرَهُمْ وَتَنْهَاهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ فِي بَرَاحٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَقَالَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، مَنْ سَرَقَ قَطَعْنَا يَدَهُ، ومن افترى جلدناه ثمانين، ومن زنا وليس له امراه جلدناه مائه، ومن زنا وَلَهُ امْرَأَةٌ جَلَدْنَاهُ حَتَّى يَمُوتَ- أَوْ قَالَ: رَجَمْنَاهُ حَتَّى يَمُوتَ- قَالَ أَبُو جَعْفَرَ أَنَا أَشُكُّ- فَقَالَ لَهُ قَارُونُ: وَإِنْ كُنْتَ أَنْتَ؟ قَالَ: وَإِنْ كُنْتُ أَنَا قَالَ: وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ فَجَرْتَ بِفُلَانَةَ، فَقَالَ: ادْعُوهَا، فَإِنْ قَالَتْ فَهُوَ كَمَا قَالَتْ، فَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ قَالَ لَهَا مُوسَى: يَا فُلَانَةُ، قَالَتْ: لَبَّيْكَ! قَالَ: أَنَا فَعَلْتُ بِكِ مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ؟ قَالَتْ: لَا، وَكَذَبُوا، وَلَكِنْ جَعَلُوا إِلَيَّ جُعْلًا عَلَى أَنْ أَقْذِفَكَ بِنَفْسِي، فَوَثَبَ فَسَجَدَ وَهُوَ بَيْنَهُمْ، فَأُوحِيَ إِلَيْهِ: مُرِ الْأَرْضَ بِمَا شِئْتَ، قَالَ: يَا أَرْضُ خُذِيهِمْ، فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى أَقْدَامِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَرْضُ خُذِيهِمْ فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى رُكَبِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَرْضُ خُذِيهِمْ، فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ،

قال: فجعلوا يقولون: يَا مُوسَى، وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ، قَالَ: يَا أَرْضُ خذيهم، فاطبقت عليهم، فاوحى الله اليه: يا موسى يَقُولُ لَكَ عِبَادِي: يَا مُوسَى يَا مُوسَى، فَلا تَرْحَمُهُمْ، أَمَا لَوْ إِيَّايَ دَعُوا لَوَجَدُونِي قَرِيبًا مُجِيبًا، قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ: «فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ» ، وَكَانَتْ زِينَتُهُ أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى دَوَابٍّ شَقِرٍ عَلَيْهَا سُرُوجُ أَرْجِوَانٍ، عَلَيْهَا ثِيَابٌ مُصْبَغَةٌ بِالْبَهْرَمَانِ،: «قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يَا لَيْتَ لَنا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارُونُ» إِلَى قَوْلِهِ: «لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» يا مُحَمَّدُ «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» . حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عِيسَى، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِنَحْوِهِ، وَزَادَنِي فِيهِ: قَالَ: فَأَصَابَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ شِدَّةٌ وَجُوعٌ شَدِيدٌ، فَأَتَوْا مُوسَى فَقَالُوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ، قَالَ: فَدَعَا لَهُمْ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا مُوسَى، أَتُكَلِّمُنِي فِي قَوْمٍ قَدْ أَظْلَمَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ مِنْ خَطَايَاهُمْ، وَقَدْ دَعَوكَ فَلَمْ تُجِبْهُمْ أَمَا لَوْ إِيَّايَ دَعَوْا لَأَجَبْتُهُمْ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمِ ابْنُ الْبُرَيْدِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ المنهال، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: «إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى» ، قَالَ: كَانَ ابْنَ عَمِّهِ، وَكَانَ مُوسَى يَقْضِي فِي نَاحِيَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَارُونُ فِي نَاحِيَةٍ، قَالَ: فَدَعَا بَغِيَّةً كَانَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَجَعَلَ لَهَا جُعْلًا عَلَى أَنْ تَرْمِيَ مُوسَى بِنَفْسِهَا، فَتَرَكَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمَ يَجْتَمِعُ فِيهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى مُوسَى أَتَاهُ قَارُونُ فَقَالَ: يَا مُوسَى، مَا حَدُّ مَنْ سَرَقَ؟ قَالَ: أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ، قَالَ: فَإِنْ كُنْتَ أَنْتَ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ: فَمَا حَدُّ مَنْ زنا؟ قَالَ: أَنْ يُرْجَمَ، قَالَ: وَإِنْ كُنْتَ أَنْتَ؟ قال: نعم،

قَالَ: فَإِنَّكَ قَدْ فَعَلَتْ، قَالَ: وَيْلَكَ! بِمَنْ؟ قَالَ: بِفُلَانَةَ، فَدَعَاهَا مُوسَى فَقَالَ: أَنْشُدُكِ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ، أَصَدَقَ قَارُونُ؟ قَالَتِ: اللَّهُمَّ إِذْ نَشَدْتَنِي، فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ بَرِيءٌ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ عَدُوَّ اللَّهِ قَارُونَ جَعَلَ لِي جُعْلًا عَلَى أَنْ أَرْمِيَكَ بِنَفْسِي، قَالَ: فَوَثَبَ مُوسَى فَخَرَّ سَاجِدًا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِ ارْفَعْ رَأْسَكَ فَقَدْ أَمَرْتُ الْأَرْضَ أَنْ تُطِيعَكَ، فَقَالَ مُوسَى: خُذِيهِمْ، فَأَخَذَتْهُمْ حَتَّى بَلَغُوا الْحِقْوَ، قَالَ: يَا مُوسَى، قَالَ: خُذِيهِمْ فَأَخَذَتْهُمْ حَتَّى بَلَغُوا الصُّدُورَ، قَالَ: يَا مُوسَى، قَالَ: خُذِيهِمْ، قَالَ: فَذَهَبُوا، قَالَ: فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا مُوسَى، اسْتَغَاثَ بِكَ فَلَمْ تُغِثْهُ، أَمَا لَوِ استغاث بي، لأجبته ولأغثته. حَدَّثَنَا بشر بن هلال الصواف، قَالَ: حَدَّثَنَا جعفر بن سليمان الضبعي، قَالَ: حَدَّثَنَا علي بن زيد بن جدعان، قَالَ: خرج عبد الله بن الحارث من الدار، ودخل المقصورة فلما خرج منها جلس وتساند عليها وجلسنا اليه، فذكر سليمان بن داود و «قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ» الى قوله: «فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ» قَالَ: ثم سكت عن حديث سليمان، فقال: «إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ» ، وكان قد أوتي من الكنوز ما ذكره الله في كتابه: «ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ» فقال: انما أوتيته على علم عندي قَالَ: وعاد موسى وكان مؤذيا له، فكان موسى يصفح عنه، ويعفو للقرابة حتى بنى دارا، وجعل باب داره من ذهب، وضرب على جدر داره صفائح الذهب، وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون عليه ويروحون، فيطعمهم الطعام ويحدثونه ويضحكونه، فلم تدعه شقوته والبلاء حتى أرسل إلى امرأة من بني إسرائيل مشهورة بالخنا مشهورة بالسب، فجاءت قال لها: هل لك أن أمولك وأعطيك وأخلطك

بنسائي، على أن تأتيني والملأ من بني إسرائيل عندي فتقولي: يا قارون ألا تنهى عني موسى! قالت: بلى، فلما جلس قارون، وجاءه الملأ من بني إسرائيل أرسل إليها فجاءت، فقامت بين يديه، فقلب الله قلبها، وأحدث لها توبة، فقالت في نفسها: لا أجد اليوم توبة أفضل من ألا أوذي رسول الله وأعذب عدو الله، فقالت: إن قارون قَالَ لي: هل لك أن أمولك وأعطيك وأخلطك بنسائي على أن تأتيني والملأ من بني إسرائيل عندي، فتقولي: يا قارون ألا تنهى عني موسى! فلم أجد توبة أفضل من ألا أوذي رسول الله، وأعذب عدو الله فلما تكلمت بهذا الكلام سقط في يدي قارون، ونكس رأسه، وسكت عن الملأ، وعرف انه قد وقع في هلكة، فشاع كلامها في الناس، حتى بلغ موسى، فلما بلغ موسى اشتد غضبه فتوضأ من الماء وصلى وبكى، وقال: يا رب عدوك لي مؤذ، أراد فضيحتي وشيني، يا رب سلطني عليه فأوحى الله إليه أن مر الأرض بما شئت تطعك، فجاء موسى إلى قارون، فلما دخل عليه عرف الشر في وجه موسى له، فقال له: يا موسى ارحمني، قال: يا أرض خذيهم، قال: فاضطربت داره، وساخت بقارون وأصحابه إلى الكعبين، وجعل يقول: يا موسى ارحمني، قال: يا أرض خذيهم، فاضطربت داره وساخت، وخسف بقارون وأصحابه إلى ركبهم وهو يتضرع إلى موسي: يا موسي، ارحمني! قَالَ: يا أرض خذيهم، فاضطربت داره، وساخت وخسف بقارون وأصحابه إلى سررهم، وهو يتضرع إلى موسي: يا موسي، ارحمني! قال: يا أرض خذيهم، فخسف به وبداره وأصحابه، قَالَ: وقيل لموسى: يا موسى، ما أفظك، أما وعزتي لو إياي نادى لأجبته! حَدَّثَنَا بشر بْنُ هِلالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عن أبي عمران الجوني، قَالَ: بلغني أنه قيل لموسى: لا أعبد الأرض لأحد بعدك أبدا. حَدَّثَنَا بشر، قَالَ: حَدَّثَنَا يزيد، قَالَ: حَدَّثَنَا سعيد عن قتادة، «فَخَسَفْنا

بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ» ، ذكر لنا أنه يخسف به كل يوم قامة، وأنه يتجلجل فيها لا يبلغ قعرها الى يوم القيامه. قال ابو جعفر: فلما نزلت نقمة الله بقارون حمد الله على ما أنعم به عليهم المؤمنون الذين وعظوه وأنذروه بأمر الله، ونصحوا له من المعرفة بحقه والعمل بطاعته، وندم الذين كانوا يتمنون ما هو فيه من كثرة المال، والسعة في العيش على أمنيتهم، وعرفوا خطأ أنفسهم في أمنيتها، فقالوا ما أخبر الله عز وجل عنهم في كتابه: «وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا» ، فصرف عنا ما ابتلى به قارون وأصحابه مما كنا نتمناه بالأمس لخسف بنا كما خسف به وبهم فنجى الله تعالى من كل هول وبلاء نبيه موسى والمؤمنين به المتمسكين بعهده من بني إسرائيل، وفتاه يوشع بن نون المتبعين له بطاعتهم ربهم، واهلك اعدائه واعدائهم: فرعون وهامان وقارون والكنعانيين بكفرهم وتمردهم عليه وعتوهم، بالغرق بعضا، وبالخسف بعضا، وبالسيف بعضا، وجعلهم عبرا لمن اعتبر بهم، وعظة لمن اتعظ بهم، مع كثرة أموالهم وكثرة عدد جنودهم، وشدة بطشهم، وعظم خلقهم وأجسامهم، فلم تغن عنهم أموالهم ولا أجسامهم ولا قواهم ولا جنودهم وأنصارهم عنهم من الله شيئا، إذ كانوا يجحدون بآيات الله، ويسعون في الأرض فسادا، ويتخذون عباد الله لأنفسهم خولا، وحاق بهم ما كانوا منه آمنين، نعوذ بالله من عمل يقرب من سخطه، ونرغب إليه في التوفيق لما يدني من محبته، ويزلف الى رحمته! وروى عن النبي ص مَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي الْمَاضِي بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلانِيِّ، عَنْ ابى ذر، قال: [قال رسول الله ص: أَوَّلُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ موسى وَآخِرُهُمْ عِيسَى

قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَانَ فِي صُحُفِ موسى؟ قَالَ: كَانَتْ عِبَرًا كُلَّهَا، عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالنَّارِ ثُمَّ يَضْحَكُ، عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ ثُمَّ يَفْرَحُ، عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْحِسَابِ غَدًا ثُمَّ لَمْ يَعْمَلْ!] وَكَانَ تَدْبِيرُ يُوشَعَ أَمْرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ لَدُنْ مَاتَ مُوسَى، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ يُوشَعُ، كُلُّهُ فِي زَمَانِ منُوشهرَ عِشْرِينَ سَنَةً، وَفِي زَمَانِ فراسياب سَبْعَ سِنِينَ. ونرجع الآن إلى:

ذكر القائم بالملك ببابل من الفرس بعد منوشهر إذ كان التاريخ إنما تدرك صحته على سياق مدة أعمار ملوكهم. ولما هلك منوشهر الملك بن منشخورنر، قهر فراسياب بن فشنج ابن رستم بن ترك على خنيارث ومملكة أهل فارس، وصار- فيما قيل- إلى أرض بابل، فكان يكثر المقام ببابل وبمهرجان قذق، فأكثر الفساد في مملكة أهل فارس. وقيل: إنه قَالَ حين غلب على مملكتهم: نحن مسرعون في إهلاك البرية، وإنه عظم جوره وظلمه، وخرب ما كان عامرا من بلاد خنيارث، ودفن الأنهار والقني، وقحط الناس في سنة خمس من ملكه، إلى أن خرج عن مملكة أهل فارس، ورد إلى بلاد الترك، فغارت المياه في تلك السنين، وحالت الأشجار المثمرة. ولم يزل الناس منه في أعظم البلية، إلى أن ظهر زو بن طهماسب وقد يلفظ باسم زو بغير ذلك فيقول بعضهم: زاب بن طهماسفان، ويقول بعضهم: زاغ، ويقول بعضهم: راسب بن طهماسب بن كانجو بن زاب بن أرفس بن هراسف بن ونديج بن اريج بن نوذوجوش ابن منسوا- بن نوذر بن منوشهر. وأم زو ما دول ابنة وامن بن واذرجا بن قود بن سلم بن أفريدون. وقيل: إن منوشهر كان وجد في أيام ملكه على طهماسب بسبب جناية جناها، وهو مقيم في حدود الترك لحرب فراسياب، فأراد منوشهر قتله بسبب ذلك، فكلمه في الصفح عنه عظماء أهل مملكته وكان من عدل

منوشهر- فيما ذكر- أنه قد كان يسوي بين الشريف والوضيع، والقريب والبعيد في العقوبة، إذا استوجبها بعض رعيته على ذنب أتاه- فأبى إجابتهم إلى ما سألوه من ذلك، وقال لهم: هذا في الدين وهن، ولكنكم إذ أبيتم علي، فإنه لا يسكن في شيء من مملكتي، ولا يقيم به، فنفاه عن مملكته فشخص إلى بلاد الترك، فوقع إلى ناحية وامن، فاحتال لابنته وهي محبوسة في قصر من أجل أن المنجمين كانوا ذكروا لوامن أبيها أنها تلد ولدا يقتله، حتى أخرجها من القصر الذي كانت محبوسة فيه، بعد أن حملت منه بزو. ثم ان منوشهر اذن طهماسب بعد أن انقضت أيام عقوبته في العود الى خينارث مملكة فارس، فأخرج مادول ابنة وامن بالحيلة منها ومنه في إخراجها من قصرها من بلاد الترك إلى مملكة أهل فارس، فولدت له زوا بعد العود إلى بلاد إيرانكرد، ثم إن زوا- فيما ذكر- قتل جده، وامن في بعض مغازيه الترك، وطرد فراسياب عن مملكة أهل فارس، حتى رده إلى الترك بعد حروب جرت بينه وبينه وقتال، فكانت غلبه فراسياب اهل فارس على إقليم بابل اثنتى عشره سنة، من لدن توفي منوشهر إلى أن طرده عنه، وأخرجه زو بن طهماسب إلى تركستان. وذكر أن طرد زو فراسياب عما كان عليه من مملكة أهل فارس في روز ابان من شهر آبانماه، فاتخذ العجم هذا اليوم عيدا لما رفع عنهم فيه من شر فراسياب وعسفه وجعلوه الثالث من أعيادهم النوروز والمهرجان. وكان زو محمودا في ملكه، محسنا إلى رعيته، فأمر بإصلاح ما كان فراسياب أفسد من بلاد خنيارث، ومملكة بابل وبناء ما كان هدم من حصون ذلك، ونثل ما كان طم وغور من الأنهار والقنى، وكرى ما كان اندفن من المياه حتى أعاد كل ذلك- فيما ذكر- الى احسن ما كان عليه، ووضع

عن الناس الخراج سبع سنين، ودفعه عنهم، فعمرت بلاد فارس في ملكه، وكثرت المياه فيها، ودرت معايش أهلها، واستخرج بالسواد نهرا وسماه الزاب، وأمر فبنيت على حافتيه مدينة وهي التي تسمى المدينة العتيقة، وكورها كورة، وسماها الزوابي، وجعل لها ثلاثة طساسيج: منها طسوج الزاب الأعلى، ومنها طسوج الزاب الأوسط، ومنها طسوج الزاب الأسفل، وأمر بحمل بزور الرياحين من الجبال إليها وأصول الأشجار، وبذر ما يبذر من ذلك، وغرس ما يغرس منه، وكان أول من اتخذ له ألوان الطبيخ وأمر بها وبأصناف الأطعمة، وأعطى جنوده مما غنم من الخيل والركاب، مما أوجف عليه من أموال الترك وغيرهم وقال يوم ملك وعقد التاج على رأسه: نحن متقدمون في عماره ما اخر به الساحر فراسياب. وكان له كرشاسب بن أثرط بن سهم بن نريمان بن طورك بن شيراسب بن أروشسب بن طوج بن أفريدون الملك. وقد نسبه بعض نسابي الفرس غير هذا النسب فيقول: هو كرشاسف بن أشناس بن طهموس بن اشك بن ترس بن رحر بن دودسرو بن منوشهر الملك- مؤازرا له على ملكه. ويقول بعضهم: كان زو وكرشاسب مشتركين في الملك، والمعروف من أمرهما أن الملك كان لزو بن طهماسب وأن كرشاسب كان له مؤازرا وله معينا

وكان كرشاسب عظيم الشأن في أهل فارس، غير أنه لم يملك، فكان جميع ملك زو إلى أن انقضى ومات- فيما قيل- ثلاث سنين. ثم ملك بعد زو كيقباذ، وهو كيقباذ بن زاغ بن نوحياه بن منشو بن نوذر بن منوشهر وكان متزوجا بفرتك ابنه تدرسا التركى، وكان تدرسا من رءوس الأتراك وعظمائهم، فولدت له كي إفنه، وكي كاوس، وكي أرش، وكيبه أرش، وكيفاشين وكيبية، وهؤلاء هم الملوك الجبابرة وآباء الملوك الجبابرة. وقيل إن كيقباذ قَالَ يوم ملك وعقد التاج على رأسه: نحن مدوخون بلاد الترك ومجتهدون في إصلاح بلادنا، حدبون عليها، وأنه قدر مياه الأنهار والعيون لشرب الأرضين، وسمى البلاد بأسمائها، وحدها بحدودها، وكور الكور، وبين حير كل كورة منها وحريمها، وأمر الناس باتخاذ الأرض، وأخذ العشر من غلاتها لأرزاق الجند، وكان- فيما ذكر- كيقباذ يشبه في حرصه على العمارة، ومنعه البلاد من العدو، وتكبره في نفسه بفرعون. وقيل ان الملوك الكييه وأولادهم من نسله، وجرت بينه وبين الترك وغيرهم حروب كثيرة، وكان مقيما في حد ما بين مملكة الفرس والترك بالقرب من نهر بلخ، لمنع الترك من تطرق شيء من حدود فارس، وكان ملكه مائة سنة، والله أعلم. ونرجع الآن إلى:

ذكر امر بنى إسرائيل والقوام الذين كانوا بامرهم بعد يوشع ابن نون والاحداث التي كانت في عهد زو وكيقباذ

ذكر أمر بني إسرائيل والقوام الذين كانوا بأمرهم بعد يوشع ابن نون والأحداث التي كانت في عهد زو وكيقباذ ولا خلاف بين أهل العلم بأخبار الماضين وأمور الأمم السالفين من أمتنا وغيرهم أن القيم بأمور بني إسرائيل بعد يوشع كان كالب بن يوفنا، ثم حزقيل بن بوذى من بعده، وهو الذي يقال له ابن العجوز. فحَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إِسْحَاقَ، قَالَ: إنما سمي حزقيل بن بوزي ابن العجوز، أنها سألت الله الولد، وقد كبرت وعقمت، فوهبه الله لها، فبذلك قيل له: ابن العجوز، وهو الذي دعا للقوم الذين ذكر الله في الكتاب عليه السلام كما بلغنا: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ» . حدثني محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهب بن منبه يقول: أصاب ناسا من بني إسرائيل بلاء وشدة من الزمان، فشكوا ما أصابهم فقالوا: يا ليتنا قدمتنا فاسترحنا مما نحن فيه! فأوحى الله إلى حزقيل: إن قومك صاحوا من البلاء، وزعموا أنهم ودوا لو ماتوا فاستراحوا، وأي راحة لهم في الموت! أيظنون أني لا أقدر على أن أبعثهم بعد الموت! فانطلق إلى جبانة كذا كذا فإن فيها أربعة آلاف- قَالَ وهب: وهم الذين قَالَ الله تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ» - فقم فيهم فنادهم، وكانت عظامهم قد تفرقت، فرقتها الطير والسباع، فناداها حزقيل، فقال: يا أيتها العظام النخرة، إن الله عز وجل

يأمرك أن تجتمعي فاجتمع عظام كل إنسان منهم معا، ثم نادى ثانية حزقيل فقال: أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تكتسي اللحم، فاكتست اللحم، وبعد اللحم جلدا، فكانت أجسادا، ثم نادى حزقيل الثالثة فقال: أيتها الارواح، ان الله يأمرك ان تعودي في أجسادك فقاموا بإذن الله، وكبروا تكبيرة واحدة. حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود- وعن ناس من اصحاب النبي ص «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ» كَانَتْ قَرْيَةً يُقَالُ لَهَا دَاوِرْدَانَ قَبْلَ وَاسِطَ، فَوَقَعَ بِهَا الطَّاعُونُ، فَهَرَبَ عَامَّةُ أَهْلِهَا فَنَزَلُوا نَاحِيَةً مِنْهَا، فَهَلَكَ أَكْثَرُ مَنْ بَقِيَ فِي الْقَرْيَةِ وَسَلِمَ الآخَرُونَ، فَلَمْ يَمُتْ مِنْهُمْ كَثِيرٌ، فَلَمَّا ارْتَفَعَ الطَّاعُونُ رَجَعُوا سَالِمِينَ، فَقَالَ الَّذِينَ بَقَوْا: أَصْحَابُنَا هَؤُلَاءِ كَانُوا أَحْزَمَ مِنَّا، لَوْ صَنَعْنَا كَمَا صَنَعُوا بَقِينَا! وَلَئِنْ وَقَعَ الطَّاعُونُ ثَانِيَةً لَنَخْرُجَنَّ مَعَهُمْ فَوَقَعَ فِي قَابِلَ فَهَرَبُوا وَهُمْ بِضْعَةٌ وَثَلاثُونَ أَلْفًا، حَتَّى نَزَلُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ، وَهُوَ وَادٍ أَفْيَحُ، فَنَادَاهُمْ مَلَكٌ مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي، وَآخَرُ مِنْ أَعْلَاهُ: أَنْ مُوتُوا، فَمَاتُوا حَتَّى هَلَكُوا، وَبَلِيَتْ أَجْسَادُهُمْ، فَمَرَّ بِهِمْ نبى يقال له هزقيل، فَلَمَّا رَآهُمْ وَقَفَ عَلَيْهِمْ فَجَعَلَ يَتَفَكَّرُ فِيهِمْ، يَلْوِي شِدْقَهُ وَأَصَابِعَهُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا هزقيل، أَتُرِيدُ أَنْ أُرِيكَ كَيْفَ أُحْيِيهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَإِنَّمَا كَانَ تَفَكُّرُهُ أَنَّهُ تَعَجَّبَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَقِيلَ لَهُ: نَادِ، فنادى يا أيتها الْعِظَامُ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَجْتَمِعِي، فَجَعَلَتِ الْعِظَامُ يَطِيرُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، حَتَّى كَانَتْ أَجْسَادًا مِنْ عِظَامٍ، ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ أَنْ ناد: يأتيها الْعِظَامُ، إِنَّ اللَّهُ يَأْمُرُكِ أَنْ تَكْتَسِيَ لَحْمًا فَاكْتَسَتْ لَحْمًا وَدَمًا وَثِيَابَهَا الَّتِي مَاتَتْ فِيهَا، وَهِيَ عَلَيْهَا، ثُمَّ قِيلَ لَهُ: نَادِ،

فنادى: يا أيتها الْأَجْسَادُ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَقُومِي، فَقَامُوا حَدَّثَنِي موسى، قَالَ: حَدَّثَنَا عمرو، قَالَ: حَدَّثَنَا أسباط، قَالَ: فزعم منصور بن المعتمر عن مجاهد أنهم قَالُوا حين أحيوا: سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت، فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون أنهم كانوا موتى، سحنة الموت على وجوههم، لا يلبسون ثوبا إلا عاد دسما مثل الكفن، حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم. حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا حكام، عن عنبسة، عن أشعث، عن سالم النصري، قَالَ: بينما عمر بن الخطاب يصلي ويهوديان خلفه، وكان عمر إذا أراد أن يركع خوى، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قَالَ: فلما انفتل عمر قَالَ: أرأيت قول أحدكما لصاحبه: أهو هو؟ فقالا: إنا نجد في كتابنا قرنا من حديد يعطى ما أعطى حزقيل الذي أحيا الموتى بإذن الله، فقال عمر: ما نجد في كتابنا حزقيل، ولا أحيا الموتى بإذن الله إلا عيسى ابن مريم، فقالا: أما تجد في كتاب الله «وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ» ، فقال عمر: بلى، قالا وأما إحياء الموتى فسنحدثك إن بني إسرائيل وقع فيهم الوباء، فخرج منهم قوم حتى إذا كانوا على رأس ميل أماتهم الله، فبنوا عليهم حائطا، حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل فقام عليهم، فقال: ما شاء الله! فبعثهم الله له، فأنزل الله في ذلك: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ» ، الآيَةَ. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن إسحاق،

عن وهب بن منبه: أن كالب بن يوفنا لما قبضه الله بعد يوشع، خلف فيهم- يعني في بني إسرائيل- حزقيل بن بوذى، وهو ابن العجوز، وهو الذي دعا للقوم الذين ذكر الله في الكتاب لمُحَمَّد ص كما بلغنا: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ» الآية. قَالَ ابْنُ حُمَيْدٍ: قَالَ سَلَمَةُ قَالَ ابْنُ إسحاق: فبلغني أنه كان من حديثهم أنهم خرجوا فرارا من بعض الأوباء من الطاعون، أو من سقم كان يصيب الناس حذرا من الموت وهم ألوف، حتى إذا نزلوا بصعيد من البلاد قَالَ الله لهم: موتوا، فماتوا جميعا، فعمد أهل تلك البلاد فحظروا عليهم حظيرة دون السباع، ثم تركوهم فيها، وذلك أنهم كثروا عن أن يغيبوا، فمرت بهم الأزمان والدهور، حتى صاروا عظاما نخرة، فمر بهم حزقيل بن بوذى، فوقف عليهم، فتعجب لأمرهم، ودخلته رحمة لهم، فقيل له: أتحب أن يحييهم الله؟ فقال: نعم، فقيل له: فقل: أيتها العظام الرميم، التي قد رمت وبليت، ليرجع كل عظم إلى صاحبه فناداهم بذلك، فنظر إلى العظام تتواثب يأخذ بعضها بعضا، ثم قيل له: قل أيها اللحم والعصب والجلد، اكس العظام بإذن ربك، قَالَ فنظر إليها والعصب يأخذ العظام، ثم اللحم والجلد والأشعار، حتى استووا خلقا ليست فيهم الأرواح، ثم دعا لهم بالحياة، فتغشاه من السماء شيء كربه، حتى غشي عليه منه، ثم أفاق والقوم جلوس يقولون: سبحان الله فقد أحياهم الله! فلم يذكر لنا مدة مكث حزقيل في بنى إسرائيل

الياس واليسع عليهما السلام

الياس واليسع عليهما السلام ولما قبض الله حزقيل كثرت الأحداث- فيما ذكر- في بني إسرائيل، وتركوا عهد الله الذي عهد إليهم في التوراة، وعبدوا الأوثان، فبعث الله إليهم فيما قيل: إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران. فحَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق: ثم إن الله عز وجل قبض حزقيل، وعظمت في بني إسرائيل الأحداث، ونسوا ما كان من عهد الله إليهم، حتى نصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله، فبعث الله إليهم إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران نبيا، وإنما كانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التوراة فكان إلياس مع ملك من ملوك بني إسرائيل يقال له أحاب، وكان اسم امرأته أزبل، وكان يسمع منه ويصدقه، وكان إلياس يقيم له أمره، وكان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنما يعبدونه من دون الله، يقال له: بعل قَالَ ابن إسحاق: وقد سمعت بعض أهل العلم يقول: ما كان بعل إلا امرأة يعبدونها من دون الله يقول الله لمحمد «وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ» - الى قوله: «اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» - فجعل الياس يدعوهم الى الله، وجعلوا لا يسمعون منه شيئا إلا ما كان من ذلك الملك، والملوك متفرقة بالشام، كل ملك له ناحية منها يأكلها، فقال ذلك الملك، الذي كان إلياس معه، يقوم له بأمره، ويراه على هدى من بين أصحابه يوما يا إلياس، والله

ما أرى ما تدعو إليه إلا باطلا، والله ما أرى فلانا وفلانا فعد ملوكا من ملوك بني إسرائيل قد عبدوا الأوثان من دون الله إلا على مثل ما نحن عليه، يأكلون ويشربون ويتنعمون، مملكين، ما ينقص دنياهم أمرهم الذي تزعم أنه باطل، وما نرى لنا عليهم من فضل. فيزعمون- والله أعلم- أن إلياس استرجع وقام شعر رأسه وجلده، ثم رفضه وخرج عنه ففعل ذلك الملك فعل أصحابه، عبد الأوثان، وصنع ما يصنعون فقال إلياس: اللهم إن بني إسرائيل قد أبوا إلا الكفر بك، والعبادة لغيرك، فغير ما بهم من نعمتك أو كما قال. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن إسحاق، قَالَ: ذكر لي أنه أوحي إليه: إنا قد جعلنا أمر أرزاقهم بيدك وإليك، حتى تكون أنت الذي تأمر في ذلك فقال إلياس: اللهم فأمسك عنهم المطر فحبس عنهم ثلاث سنين حتى هلكت الماشية والدواب والهوام والشجر، وجهد الناس جهدا شديدا. وكان إلياس- فيما يذكرون- حين دعا بذلك على بني إسرائيل قد استخفى شفقا على نفسه منهم، وكان حيث ما كان وضع له رزق، فكانوا إذا وجدوا ريح الخبز في دار أو بيت قَالُوا: لقد دخل إلياس هذا المكان، فطلبوه، ولقي أهل ذلك المنزل منهم شرا ثم إنه أوى ليلة إلى امرأة من بني إسرائيل، لها ابن يقال له اليسع بن أخطوب، به ضر، فآوته وأخفت أمره، فدعا إلياس لابنها فعوفي من الضر الذي كان به، واتبع اليسع فآمن به وصدقه ولزمه، فكان يذهب معه حيثما ذهب، وكان إلياس قد أسن وكبر، وكان اليسع غلاما شابا فيزعمون- والله أعلم- أن الله أوحى إلى إلياس أنك قد أهلكت كثيرا من الخلق ممن لم يعص، سوى بني إسرائيل ممن لم أكن أريد هلاكه بخطايا

بني إسرائيل من البهائم والدواب والطير والهوام والشجر، بحبس المطر عن بني إسرائيل فيزعمون- والله أعلم- أن إلياس قَالَ: أي رب، دعني أكن أنا الذي أدعو لهم به، وأكن أنا الذي آتيهم بالفرج مما هم فيه من البلاء الذي أصابهم، لعلهم أن يرجعوا وينزعوا عما هم عليه من عبادة غيرك قيل له نعم، فجاء إلياس إلى بني إسرائيل، فقال لهم: إنكم قد هلكتم جهدا، وهلكت البهائم والدواب والطير والهوام والشجر بخطاياكم، وإنكم على باطل وغرور- أو كما قَالَ لهم- فإن كنتم تحبون أن تعلموا ذلك وتعلموا أن الله عليكم ساخط فيما أنتم عليه، وأن الذي أدعوكم إليه الحق، فاخرجوا بأصنامكم هذه التي تعبدون وتزعمون أنها خير مما أدعوكم إليه، فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون، وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم، ودعوت الله ففرج عنكم ما أنتم فيه من البلاء قَالُوا: أنصفت، فخرجوا بأوثانهم وما يتقربون به إلى الله من أحداثهم التي لا يرضى، فدعوها فلم تستجب لهم، ولم تفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء، حتى عرفوا ما هم فيه من الضلالة والباطل، - ثم قَالُوا لإلياس: يا إلياس، إنا قد هلكنا، فادع الله لنا، فدعا لهم إلياس بالفرج مما هم فيه، وأن يسقوا، فخرجت سحابة مثل الترس بإذن الله على ظهر البحر، وهم ينظرون، ثم ترامى إليه السحاب، ثم أدجنت، ثم أرسل الله المطر فأغاثهم، فحييت بلادهم، وفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء، فلم ينزعوا ولم يرجعوا وأقاموا على أخبث ما كانوا عليه فلما رأى ذلك إلياس من كفرهم دعا ربه أن يقبضه إليه فيريحه منهم، فقيل له- فيما يزعمون: انظر يوم كذا وكذا فاخرج فيه إلى بلد كذا وكذا، فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه، فخرج إلياس، وخرج معه اليسع بن أخطوب حتى إذا كان بالبلد الذي ذكر له في المكان الذي أمر به أقبل فرس من نار، حتى وقف بين يديه فوثب عليه، فانطلق به فناداه اليسع: يا إلياس، يا إلياس، ما تأمرني؟ فكان آخر عهدهم به، فكساه الله الريش وألبسه النور، وقطع عنه لذة

المطعم، والمشرب، وطار في الملائكة، فكان إنسيا ملكيا أرضيا سمائيا. ثم قام بعد إلياس بأمر بني إسرائيل- فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة عن ابن إسحاق، قال: كما ذكر لي عن وهب بن منبه قَالَ: ثم نبئ فيهم- يعني في بني إسرائيل- بعده يعني بعد إلياس- اليسع، فكان فيهم ما شاء الله أن يكون، ثم قبضه الله إليه، وخلفت فيهم الخلوف، وعظمت فيهم الخطايا، وعندهم التابوت يتوارثونه كابرا عن كابر، فيه السكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون، فكانوا لا يلقاهم عدو فيقدمون التابوت ويزحفون به معهم إلا هزم الله ذلك العدو. والسكينة فيما ذكر ابن إسحاق عن وهب بن منبه عن بعض أهل العلم من بني إسرائيل رأس هرة ميتة، فإذا صرخت في التابوت بصراخ هر أيقنوا بالنصر، وجاءهم الفتح. ثم خلف فيهم ملك يقال له إيلاف، وكان الله قد بارك لهم في جبلهم من إيليا، لا يدخله عليهم عدو، ولا يحتاجون معه إلى غيره، فكان أحدهم- فيما يذكرون- يجمع التراب على الصخرة، ثم ينبذ فيه الحب، فيخرج الله له ما يأكل منه سنه وهو وعياله، ويكون لأحدهم الزيتونة فيعتصر منها ما يأكل، هو وعياله سنة، فلما عظمت أحداثهم، وتركوا عهد الله إليهم، نزل بهم عدو فخرجوا إليه وأخرجوا التابوت كما كانوا يخرجونه، ثم زحفوا به فقوتلوا حتى استلب من أيديهم، فأتى ملكهم إيلاف، فأخبر أن التابوت قد أخذ واستلب، فمالت عنقه فمات كمدا عليه، فمرج أمرهم بينهم واختلف ووطئهم عدوهم حتى أصيب من أبنائهم ونسائهم، فمكثوا على اضطراب من أمرهم، واختلاف من أحوالهم يتمادون أحيانا في غيهم وضلالهم، فسلط الله عليهم من ينتقم به منهم، ويراجعون التوبة أحيانا فيكفيهم الله عند

ذلك شر من بغاهم سوءا، حتى بعث الله فيهم طالوت ملكا، ورد عليهم تابوت الميثاق. وكانت مدة ما بين وفاة يوشع بن نون- التي كان أمر بني إسرائيل في بعضها إلى القضاة منهم والساسة، وفي بعضها إلى غيرهم ممن يقهرهم فيتملك عليهم من غيرهم إلى أن ثبت الملك فيهم، ورجعت النبوه اليهم بشمويل بن بالي- أربعمائة سنة وستين سنة فكان أول من سلط عليهم فيما قيل رجل من نسل لوط، يقال له: كوشان، فقهرهم وأذلهم ثماني سنين، ثم تنقذهم من يده أخ لكالب الأصغر يقال له عتنيل بن قيس- فقام بأمرهم فيما قيل- اربعين سنه، سلط عليهم ملك يقال له جعلون فملكهم ثماني عشرة سنة، ثم تنقذهم منه- فيما قيل- رجل من سبط بنيامين يقال له أهود بن جيرا الأشل اليمنى، فقام بأمرهم ثمانين سنة، ثم سلط عليهم ملك من الكنعانيين يقال له يافين، فملكهم عشرين سنة، ثم تنقذهم- فيما قيل- امرأة نبية من أنبيائهم يقال لها دبورا فدبر أمرهم- فيما قيل- رجل من قبلها يقال له باراق أربعين سنة، ثم سلط عليهم قوم من نسل لوط كانت منازلهم في تخوم الحجاز فملكوهم سبع سنين، ثم تنقذهم منهم رجل من ولد نفثالي بن يعقوب يقال له جدعون بن يواش، فدبر أمرهم أربعين سنة، ثم دبر أمرهم من بعد جدعون ابنه أبيملك بن جدعون ثلاث سنين، ثم دبرهم من بعد ابيملك تولغ بن فوا بن خال أبيملك وقيل إنه ابن عمه- ثلاثا وعشرين سنة، ثم دبر

أمرهم بعد تولغ رجل من بني إسرائيل يقال له: يائير اثنتين وعشرين سنة، ثم ملكهم بنو عمون، وهم قوم من أهل فلسطين ثماني عشرة سنة، ثم قام بأمرهم رجل منهم يقال له يفتح ست سنين، ثم دبرهم من بعده يجشون، وهو رجل من بني إسرائيل سبع سنين، ثم دبرهم بعده الون عشر سنين، ثم من بعده كيرون- ويسميه بعضهم عكرون- ثماني سنين، ثم قهرهم أهل فلسطين وملوكهم أربعين سنة، ثم وليهم شمسون وهو من بني إسرائيل عشرين سنة، ثم بقوا بغير رئيس ولا مدبر لأمرهم بعد شمسون- فيما قيل- عشر سنين، ثم دبر أمرهم بعد ذلك عالي الكاهن، وفي أيامه غلب أهل غزة وعسقلان على تابوت الميثاق، فلما مضى من وقت قيامه بامرهم اربعين سنه، بعث سمويل نبيا فدبر شمويل أمرهم- فيما ذكر- عشر سنين ثم سألوا شمويل حين نالهم بالذل والهوان بمعصيتهم ربهم أعداؤهم، أن يبعث لهم ملكا يجاهدون معه في سبيل الله، فقال لهم شمويل ما قد قص الله في كتابه العزيز

ذكر خبر شمويل بن بالي بن علقمه بن يرخام بن اليهو ابن تهو بن صوف، وطالوت وجالوت

ذكر خبر شمويل بن بالي بن علقمة بن يرخام بن اليهو ابن تهو بن صوف، وطالوت وجالوت كان من خبر شمويل بن بالي أن بني إسرائيل لما طال عليهم البلاء، وأذلتهم الملوك من غيرهم، ووطئت بلادهم، وقتلوا رجالهم، وسبوا ذراريهم، وغلبوهم على التابوت الذي فيه السكينة والبقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وبه كانوا ينصرون إذا لقوا العدو، ورغبوا إلى الله عز وجل في أن يبعث لهم نبيا يقيم أمرهم. فَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي، في خبر ذكره عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَأَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- وَعَنْ ناس من اصحاب رسول الله ص: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يُقَاتِلُونَ الْعَمَالِقَةَ، وَكَانَ مَلِكَ الْعَمَالِقَةِ جَالُوتُ، وَأَنَّهُمْ ظَهَرُوا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَضَرَبُوا عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ، وَأَخَذُوا تَوْرَاتَهُمْ، فَكَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَسْأَلُونَ اللَّهَ أَنْ يَبْعَثَ لَهُمْ نَبِيًّا يُقَاتِلُونَ مَعَهُ، وَكَانَ سِبْطُ النُّبُوَّةِ قَدْ هَلَكُوا، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا امْرَأَةٌ حُبْلَى فَأَخَذُوهَا فَحَبَسُوهَا فِي بَيْتٍ، رَهْبَةً أَنْ تَلِدَ جَارِيَةً فتبدله بِغُلَامٍ، لِمَا تَرَى مِنْ رَغْبَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي وَلَدِهَا، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تَدْعُو اللَّهَ أَنْ يرزقها غلاما، فولدت غلاما فسمته سمعون، تَقُولُ: اللَّهُ سَمِعَ دُعَائِيَ فَكَبُرَ الْغُلَامُ، فَأَسْلَمَتْهُ يَتَعَلَّمُ التَّوْرَاةَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَفَّلَهُ شَيْخٌ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، وَتَبَنَّاهُ، فَلَمَّا بَلَغَ الْغُلَامُ أَنْ يَبْعَثَهُ اللَّهُ نَبِيًّا، أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَالْغُلَامُ نَائِمٌ الى جنب الشيخ، وكان لا يامن عَلَيْهِ أَحَدًا غَيْرَهُ فَدَعَاهُ بِلَحْنِ الشَّيْخِ: يَا شَمُوِيلُ، فَقَامَ الْغُلَامُ فَزِعًا إِلَى الشَّيْخِ، فَقَالَ: يا أبتاه،

دَعَوْتَنِي! فَكَرِهَ الشَّيْخُ أَنْ يَقُولَ: لَا فَيُفْزَعَ الْغُلامُ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، ارْجِعْ فَنَمْ، فَرَجَعَ الْغُلَامُ فَنَامَ ثُمَّ دَعَاهُ الثَّانِيَةَ فَلَبَّاهُ الْغُلَامُ أَيْضًا، فَقَالَ: دَعَوْتَنِي! فَقَالَ ارْجِعْ فَنَمْ، فَإِنْ دَعَوْتُكَ الثَّالِثَةَ فَلا تُجِبْنِي، فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةَ ظهر له جبرئيل ع فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى قَوْمِكَ فَبَلِّغْهُمْ رِسَالَةَ رَبِّكَ، فان الله قد بعثك فِيهِمْ نَبِيًّا فَلَمَّا أَتَاهُمْ كَذَّبُوهُ وَقَالُوا: اسْتَعْجَلْتَ بالنبوة ولم يألك وَقَالُوا: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَابْعَثْ لَنَا مَلِكًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، آيَةً مِنْ نُبُوَّتِكَ، قال لهم سمعون: عَسَى إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا. قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ، فَدَعَا اللَّهَ فَأُتِيَ بِعَصًا، تَكُونُ مِقْدَارًا عَلَى طُولِ الرَّجُلِ الَّذِي يُبْعَثُ فِيهِمْ مَلِكًا، فَقَالَ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ يَكُونُ طُولُهُ طُولَ هَذِهِ الْعَصَا، فَقَاسُوا أَنْفُسَهُمْ بِهَا، فَلَمْ يَكُونُوا مِثْلَهَا، وَكَانَ طَالُوتُ رَجُلًا سَقَّاءً يَسْتَقِي عَلَى حِمَارٍ لَهُ، فَضَلَّ حِمَارَهُ، فَانْطَلَقَ يَطْلُبُهُ فِي الطَّرِيقِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ دَعَوْهُ فَقَاسُوهُ بِهَا فَكَانَ مِثْلَهَا، وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً» قَالَ الْقَوْمُ: مَا كُنْتَ قَطُّ أَكْذَبَ مِنْكَ السَّاعَةَ، وَنَحْنُ مِنْ سِبْطِ الْمَمْلَكَةِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ سِبْطِ الْمَمْلَكَةِ، وَلَمْ يُؤْتَ أَيْضًا سَعَةً مِنَ الْمَالِ فَنَتَّبِعَهُ لِذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ» ، فَقَالُوا: فَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَأْتِنَا بِآيَةِ أَنَّ هَذَا مَلِكٌ، قَالَ: «إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ» . وَالسَّكِينَةُ طَسْتٌ مِنْ ذَهَبٍ يُغْسَلُ فِيهَا قُلُوبُ الأنبياء، أعطاها الله مُوسَى، وَفِيهَا وَضَعَ الْأَلْوَاحَ، وَكَانَتِ الْأَلْوَاحُ- فِيمَا بَلَغَنَا- مِنْ دُرٍّ وَيَاقُوتَ وَزَبَرْجَدٍ، وَأَمَّا الْبَقِيَّةُ فَإِنَّهَا عَصَا مُوسَى وَرُضَاضَةُ الْأَلْوَاحِ، فَأَصْبَحَ التَّابُوتُ وَمَا فِيهِ فِي دَارِ

طالوت، فآمنوا بنبوة سمعون، وَسَلَّمُوا الْمُلْكَ لِطَالُوتَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَاءَتِ الْمَلائِكَةُ بِالتَّابُوتِ تَحْمِلُهُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ حَتَّى وَضَعَتْهُ عِنْدَ طَالُوتَ. حَدَّثَنِي يونس، قَالَ: أخبرنا ابن وهب، قَالَ: قَالَ ابن زيد: نزلت الملائكة بالتابوت نهارا ينظرون إليه عيانا، حتى وضعوه بين أظهرهم، قَالَ: فأقروا غير راضين، وخرجوا ساخطين. رجع الحديث إلى حديث السدي فخرجوا معه وهم ثمانون ألفا، وكان جالوت من اعظم الناس واشدهم بأسا، يخرج يسير بين يدي الجند، ولا يجتمع إليه أصحابه حتى يهزم هو من لقي، فلما خرجوا قَالَ لهم طالوت: «إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي» وهو نهر فلسطين، فشربوا منه هيبة من جالوت، فعبر معه منهم أربعة آلاف ورجع ستة وسبعون ألفا، فمن شرب منه عطش، ومن لم يشرب منه إلا غرفة روي، فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه، فنظروا إلى جالوت رجعوا أيضا وقالوا: «لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ» ، الذين يستيقنون «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» فرجع عنه أيضا ثلاثة آلاف وستمائه وبضعه وثمانون، وخلص في ثلاثمائة وتسعة عشر عدة أهل بدر حَدَّثَنِي المثنى، قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا اسماعيل ابن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: كان لعيلى الذي ربى شمويل ابنان شابان، أحدثا في القربان

شيئا لم يكن فيه كان مسوط القربان الذي كانوا يسوطونه به كلابين، فما أخرجا كان للكاهن الذي يسوطه، فجعله ابناه كلاليب، وكانا إذا جاءت النساء يصلين في القدس يتشبثان بهن فبينما أشمويل نائم قبل البيت الذي كان ينام فيه عيلى إذ سمع صوتا يقول: أشمويل! فوثب إلى عيلى فقال: لبيك، فقال: مالك دعوتني؟ قَالَ: لا! ارجع، فنم فنام، ثم سمع صوتا آخر يقول: أشمويل! فوثب إلى عيلى أيضا، فقال: لبيك، ما لك دعوتني؟ فقال: لم أفعل، ارجع فنم، فإن سمعت شيئا فقل: لبيك مكانك، مرني فافعل، فرجع فنام فسمع صوتا أيضا يقول: أشمويل، فقال: لبيك، أنا هذا فمرني أفعل، قَالَ: انطلق إلى عيلى، فقل له: منعه حب الولد من أن يزجر ابنيه أن يحدثا في قدسي وقرباني، وأن يعصياني، فلأنزعن منه الكهانة ومن ولده، ولأهلكنه وإياهما، فلما أصبح سأله عيلى فأخبره، ففزع لذلك فزعا شديدا، فسار إليهم عدو ممن حوله فأمر ابنيه أن يخرجا بالناس ويقاتلا ذلك العدو، فخرجا وأخرجا معهم التابوت الذي فيه الألواح وعصا موسى لينتصروا به فلما تهيئوا للقتال هم وعدوهم جعل عيلي يتوقع الخبر: ماذا صنعوا؟ فجاءه رجل يخبره وهو قاعد على كرسيه: أن ابنيك قد قتلا، وأن الناس قد انهزموا، قَالَ: فما فعل التابوت؟ قَالَ: ذهب به العدو قال فشهق ووقع على قفاه من كرسيه فمات، وذهب الذين سبوا التابوت حتى وضعوه في بيت آلهتهم، ولهم صنم يعبدونه، فوضعوه تحت الصنم والصنم من فوقه، فأصبح من الغد الصنم تحته، وهو فوق الصنم، ثم أخذوه فوضعوه فوقه، وسمروا قدميه في التابوت. فأصبح من الغد قد قطعت يد الصنم ورجلاه، وأصبح ملقى تحت التابوت،. فقال بعضهم لبعض: أليس قد علمتم أن إله بني إسرائيل لا يقوم له شيء! فأخرجوه من بيت آلهتكم فأخرجوا التابوت فوضعوه في ناحية من قريتهم، فأخذ أهل تلك الناحية التي وضعوا فيها التابوت وجع في أعناقهم، فقالوا: ما هذا؟ فقالت لهم جارية كانت عندهم من سني بني إسرائيل: لا تزالون

ترون ما تكرهون! ما كان هذا التابوت فيكم، فأخرجوه من قريتكم قَالُوا: كذبت، قالت: إن آية ذلك أن تأتوا ببقرتين، لهما أولاد لم يوضع عليهما نير قط، ثم تضعوا وراءهما العجل، ثم تضعوا التابوت على العجل وتسيروهما وتحبسوا أولادهما، فإنهما تنطلقان به مذعنتين، حتى إذا خرجتا من أرضكم ووقعتا في أدنى أرض بني إسرائيل كسرتا نيرهما، وأقبلتا إلى أولادهما، ففعلوا ذلك، فلما خرجتا من أرضهم، ووقعتا في أدنى أرض بني إسرائيل، كسرتا نيرهما وأقبلتا إلى أولادهما، ووضعتاه في خربة فيها حصاد من بني إسرائيل، ففزع إليه بنو إسرائيل، وأقبلوا إليه فجعل لا يدنو منه أحد إلا مات، فقال لهم نبيهم اشمويل اعترضوا، فمن آنس من نفسه قوة فليدن منه، فعرضوا عليه الناس، فلم يقدر أحد على أن يدنو منه، إلا رجلان من بني إسرائيل، أذن لهما بأن يحملاه إلى بيت أمهما، وهي أرملة، فكان في بيت أمهما، حتى ملك طالوت، فصلح أمر بني إسرائيل مع أشمويل فقالت بنو إسرائيل: لأشمويل: ابعث لنا ملكا يقاتل في سبيل الله، قَالَ: قد كفاكم الله القتال، قَالُوا إنا نتخوف من حولنا، فيكون لنا ملك نفزع إليه، فأوحى الله إلى أشمويل: أن ابعث لهم طالوت ملكا وادهنه بدهن القدس، فضلت حمر لأبي طالوت، فأرسله وغلاما له يطلبانها فجاءا إلى أشمويل يسألانه عنها، فقال إن الله قد بعثك ملكا على بني إسرائيل، قَالَ: انا! قال: نعم، قال اوما علمت أن سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل! قَالَ: بلى، قَالَ أفما علمت أن قبيلتي أدنى قبائل سبطي! قَالَ: بلى، قَالَ: أما علمت أن بيتي أدنى بيوت قبيلتي؟ قَالَ: بلى، قَالَ: فبأية آية؟ قَالَ: بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره، وإذا كنت في مكان كذا وكذا نزل عليك الوحي فدهنه بدهن القدس، وقال لبني إسرائيل: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُ

بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ» رجع الحديث إلى حديث السدي «وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً» فعبر يومئذ أبو داود فيمن عبر في ثلاثة عشر ابنا له، وكان داود أصغر بنيه وإنه أتاه ذات يوم فقال: يا أبتاه، ما أرمي بقذافتي شيئا إلا صرعته، قَالَ: أبشر يا بني، إن الله قد جعل رزقك في قذافتك، ثم أتاه مرة أخرى فقال: يا أبتاه لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا فركبت عليه وأخذت بأذنيه فلم يهجني، فقال: أبشر يا بني، فإن هذا خير يعطيكه الله، ثم أتاه يوما آخر، فقال: يا أبتاه إني لأمشي بين الجبال فأسبح فلا يبقى جبل إلا سبح معي، فقال: أبشر يا بني، فإن هذا خير أعطاكه الله- وكان داود راعيا، وكان أبوه خلفه يأتي إلى أبيه وإلى اخوته بالطعام- فاتى النبي ع بقرن فيه دهن وتنور من حديد، فبعث به الى طالوت، قال: إن صاحبكم الذي يقتل جالوت يوضع هذا القرن على رأسه، فيغلي حتى يدهن منه ولا يسيل على وجهه، ويكون على رأسه كهيئة الإكليل، ويدخل في هذا التنور فيملأه فدعا طالوت بني إسرائيل، فجربهم به فلم يوافقه منهم أحد، فلما فرغوا قَالَ طالوت لأبي داود: هل بقي لك ولد لم يشهدنا؟ قَالَ: نعم، بقي ابني داود، وهو يأتينا بطعام، فلما أتاه داود مر في الطريق بثلاثة أحجار فكلمنه وقلن له: خذنا يا داود تقتل بنا جالوت، قَالَ: فأخذهن وجعلهن في مخلاته، وكان طالوت قد قَالَ: من قتل جالوت زوجته ابنتي، وأجريت خاتمه في ملكي، فلما جاء داود وضعوا القرن على رأسه، فغلى حتى ادهن منه ولبس التنور فملأه، وكان رجلا مسقاما مصفارا، ولم يلبسه أحد إلا تقلقل فيه، فلما لبسه داود تضايق التنور عليه حتى تنقض، ثم مشى إلى جالوت، وكان جالوت من أجسم الناس واشدهم،

فلما نظر إلى داود قذف في قلبه الرعب منه، فقال له: يا فتى، ارجع فإني أرحمك أن أقتلك، فقال داود: لا بل أنا أقتلك فأخرج الحجارة فوضعها في القذافة، كلما رفع منها حجرا سماه، فقال: هذا باسم أبي إبراهيم، والثاني باسم أبي إسحاق، والثالث باسم أبي إسرائيل، ثم أدار القذافة فعادت الأحجار حجرا واحدا، ثم أرسله فصك به بين عيني جالوت فنقبت رأسه، ثم قتلته، فلم تزل تقتل كل إنسان تصيبه تنفذ فيه، حتى لم يكن بحيالها أحد، فهزموهم عند ذلك، وقتل داود جالوت، ورجع طالوت فأنكح داود ابنته، وأجرى خاتمه في ملكه، فمال الناس إلى داود وأحبوه. فلما رأى ذلك طالوت وجد في نفسه وجسده، وأراد قتله، فعلم داود أنه يريده بذلك، فسجى له زق خمر في مضجعه فدخل طالوت إلى منام داود وقد هرب داود، فضرب الزق ضربة فخرقه، فسالت الخمر منه، فوقعت قطره من خمر في فيه، فقال: يرحم الله داود، ما كان أكثر شربه للخمر! ثم إن داود أتاه من القابلة في بيته وهو نائم، فوضع سهمين عند رأسه، وعند رجليه وعن يمينه وعن شماله سهمين سهمين، ثم نزل فلما استيقظ طالوت بصر بالسهام فعرفها فقال: يرحم الله داود، هو خير، مني، ظفرت به فقتلته وظفر بي فكف عني! ثم إنه ركب يوما فوجده يمشي في البرية، وطالوت على فرس، فقال طالوت: اليوم أقتل داود- وكان داود إذا فزع لم يدرك- فركض على أثره طالوت، ففزع داود، فاشتد فدخل غارا، فأوحى الله إلى العنكبوت فضربت عليه بيتا، فلما انتهى طالوت إلى الغار نظر إلى بناء العنكبوت، فقال: لو كان دخل هاهنا لخرق بيت العنكبوت، فخيل إليه فتركه. وطعن العلماء على طالوت في شأن داود، فجعل طالوت لا ينهاه أحد عن داود إلا قتله، وأغراه الله بالعلماء يقتلهم، فلم يكن يقدر في بني إسرائيل على عالم يطيق قتله إلا قتله، حتى أتي بامرأة تعلم اسم الله الأعظم، فامر الخباز ان يقتلها،

فرحمها الخباز، وقال: لعلنا نحتاج إلى عالم فتركها، فوقع في قلب طالوت التوبة وندم، وأقبل على البكاء حتى رحمه الناس، وكان كل ليلة يخرج إلى القبور فيبكي، وينادي: أنشد الله عبدا علم أن لي توبة إلا أخبرني بها! فلما أكثر عليهم ليالي ناداه مناد من القبور: أن يا طالوت، أما ترضى أن قتلتنا أحياء حتى تؤذينا أمواتا! فازداد بكاء وحزنا، فرحمه الخباز فكلمه فقال: مالك؟ فقال: هل تعلم لي في الأرض عالما أسأله: هل لي من توبة؟ فقال له الخباز: هل تدري ما مثلك؟ إنما مثلك مثل ملك نزل قرية عشاء فصاح الديك، فتطير منه فقال: لا تتركوا في القرية ديكا إلا ذبحتموه، فلما أراد أن ينام قَالَ: إذا صاح الديك فأيقظونا حتى ندلج، فقالوا له: وهل تركت ديكا يسمع صوته! ولكن هل تركت عالما في الأرض! فازداد حزنا وبكاء، فلما راى الخباز منه الجد، قَالَ: أرأيتك إن دللتك على عالم لعلك أن تقتله! قَالَ: لا، فتوثق عليه الخباز، فاخبره ان المرأة العالمه عنده، قال: انطلق بي إليها أسألها هل لي من توبة؟ وكان إنما يعلم ذلك الاسم أهل بيت، إذا فنيت رجالهم علمت النساء، فقال: إنها إن رأتك غشي عليها، وفزعت منك، فلما بلغ الباب خلفه خلفه، ثم دخل عليها الخباز، فقال لها: ألست أعظم الناس منة عليك؟ أنجيتك من القتل، وآويتك عندي قالت: بلى، قَالَ: فإن لي إليك حاجة، هذا طالوت يسألك: هل له من توبة؟ فغشي عليها من الفرق، فقال لها: إنه لا يريد قتلك، ولكن يسألك: هل له من توبة؟ قالت: لا، والله ما أعلم لطالوت توبة، ولكن هل تعلمون مكان قبر نبي؟ قَالُوا: نعم، هذا قبر يوشع بن نون، فانطلقت وهما معها إليه، فدعت، فخرج يوشع بن نون ينفض رأسه من التراب، فلما نظر إليهم ثلاثتهم قَالَ: ما لكم؟ أقامت القيامة؟ قالت: لا، ولكن طالوت يسألك: هل له من توبة؟ قَالَ يوشع: ما أعلم لطالوت من توبة إلا أن يتخلى من ملكه، ويخرج هو وولده فيقاتلون بين يديه في سبيل الله، حتى إذا قتلوا شد هو فقتل، فعسى أن يكون

ذلك له توبة، ثم سقط ميتا في القبر. ورجع طالوت أحزن ما كان، رهبة ألا يتابعه ولده، فبكى حتى سقطت أشفار عينيه، ونحل جسمه، فدخل عليه بنوه وهم ثلاثة عشر رجلا فكلموه وسألوه عن حاله، فأخبرهم خبره، وما قيل له في توبته، فسألهم أن يغزوا معه، فجهزهم فخرجوا معه، فشدوا بين يديه حتى قتلوا، ثم شد بعدهم هو فقتل، وملك داود بعد ذلك، وجعله الله نبيا، فذلك قوله عز وجل: «وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ» ، قيل: هي النبوة، آتاه نبوة شمعون وملك طالوت. واسم طالوت بالسريانية شاول بن قيس بن أبيال بن ضرار بن بحرت بن أفيح بن أيش بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. وقال ابن إسحاق: كان النبي الذي بعث لطالوت من قبره حتى أخبره بتوبته اليسع بن أخطوب، حَدَّثَنَا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ. وزعم أهل التوراة أن مدة ملك طالوت من أولها إلى أن قتل في الحرب مع ولده كانت أربعين سنة

ذكر خبر داود بن ايشى بن عويد بن باعز بن سلمون بن نحشون بن عمى نادب بن رام بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم

ذكر خبر داود بن إيشى بن عويد بن باعز بن سلمون بن نحشون بن عمي نادب بن رام بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم وكان داود ع- فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه- قصيرا أزرق قليل الشعر، طاهر القلب نقيه. حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابن وهب، قال: حَدَّثَنِي ابن زيد في قول الله: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ» إلى قوله: «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» قَالَ: أوحى الله إلى نبيهم أن في ولد فلان رجلا يقتل الله به جالوت، ومن علامته هذا القرن يضعه على رأسه فيفيض ماء، فأتاه فقال: إن الله عز وجل أوحى إلي أن في ولدك رجلا يقتل الله به جالوت فقال: نعم يا نبي الله، قَالَ: فأخرج له اثني عشر رجلا امثال السواري، وفيهم رجل بارع عليهم، فجعل يعرضهم على القرن فلا يرى شيئا، فيقول لذلك الجسيم: ارجع، فيردده عليه، فأوحى الله إليه: إنا لا نأخذ الرجال على صورهم، ولكنا نأخذهم على صلاح قلوبهم، قَالَ: يا رب، قد زعم أنه ليس له ولد غيره، فقال: كذب، فقال: إن ربي قد كذبك، وقال: إن لك ولدا غيرهم قَالَ: قد صدق يا نبي الله، إن لي ولدا قصيرا استحييت أن يراه الناس فجعلته في الغنم، قَالَ: فأين هو؟ قَالَ: في شعب كذا وكذا، من جبل كذا وكذا، فخرج إليه فوجد الوادي قد سال بينه وبين البقعة التي كان يريح إليها قَالَ: ووجده يحمل شاتين شاتين، يجيز بهما السيل ولا يخوض بهما السيل فلما رآه قَالَ: هذا هو، لا شك فيه، هذا

يرحم البهائم، فهو بالناس أرحم! قَالَ: فوضع القرن على رأسه ففاض. حَدَّثَنِي المثنى، قَالَ: حَدَّثَنَا إسحاق، قَالَ، حَدَّثَنَا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه قَالَ: لما سلمت بنو إسرائيل الملك لطالوت، أوحى الله إلى نبي بني إسرائيل: أن قل لطالوت: فليغز أهل مدين، فلا يترك فيها حيا إلا قتله، فإني سأظهره عليهم، فخرج بالناس حتى أتى مدين، فقتل من كان فيها، إلا ملكهم فإنه أسره، وساق مواشيهم، فأوحى الله إلى أشمويل: ألا تعجب من طالوت إذ أمرته بأمري فاختل فيه، فجاء بملكهم أسيرا، وساق مواشيهم! فالقه فقل له: لأنزعن الملك من بيته، ثم لا يعود فيه إلى يوم القيامة، فإني إنما أكرم من أطاعني، وأهين من هان عليه أمري. فلقيه فقال له: ما صنعت! لم جئت بملكهم أسيرا، ولم سقت مواشيهم؟ قَالَ: إنما سقت المواشي لأقربها، قَالَ له أشمويل: إن الله قد نزع من بيتك الملك ثم لا يعود فيه إلى يوم القيامة، فأوحى الله إلى أشمويل: انطلق إلى إيشى فيعرض عليك بنيه، فادهن الذي آمرك بدهن القدس، يكن ملكا على بني إسرائيل فانطلق حتى أتى إيشى، فقال: اعرض علي بنيك، فدعا إيشى أكبر ولده، فأقبل رجل جسيم حسن المنظر، فلما نظر إليه أشمويل أعجبه، فقال: الحمد لله، إن الله بصير بالعباد! فأوحى الله إليه: إن عينيك تبصران ما ظهر، وإني أطلع على ما في القلوب، ليس بهذا! فقال: ليس بهذا، اعرض علي غيره فعرض عليه ستة، في كل ذلك يقول: ليس بهذا، اعرض علي غيره، فقال: هل لك من ولد غيرهم؟ فقال: بلى، لي غلام أمغر وهو راع في الغنم قَالَ: أرسل إليه، فلما أن جاء داود، جاء غلام أمغر، فدهنه بدهن القدس، وقال لأبيه: اكتم هذا،

فإن طالوت لو يطلع عليه قتله فسار جالوت في قومه إلى بني إسرائيل فعسكر، وسار طالوت ببني إسرائيل وعسكر، وتهيئوا للقتال، فأرسل جالوت إلى طالوت: لم يقتل قومي وقومك؟ ابرز لي، أو أبرز لي من شئت، فإن قتلتك كان الملك لي، وإن قتلتني كان الملك لك فأرسل طالوت في عسكره صائحا: من يبرز جالوت! ثم ذكر قصة طالوت وجالوت وقتل داود إياه، وما كان من طالوت إلى داود. قَالَ أبو جعفر: وفي هذا الخبر بيان أن داود قد كان الله حول الملك له قبل قتله جالوت، وقبل أن يكون من طالوت إليه ما كان من محاولته قتله، وأما سائر من روينا عنه قولا في ذلك، فإنهم قَالُوا: إنما ملك داود بعد ما قتل طالوت وولده. وقد حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال، حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إِسْحَاقَ- فيما ذكر لي بعض أهل العلم- عن وهب بن منبه قَالَ: لما قتل داود جالوت، وانهزم جنده قَالَ الناس: قتل داود جالوت وخلع طالوت، وأقبل الناس على داود مكانه حتى لم يسمع لطالوت بذكر. قَالَ: ولما اجتمعت بنو إسرائيل على داود أنزل الله عليه الزبور، وعلمه صنعة الحديد، وألانه له، وأمر الجبال والطير أن يسبحن معه إذا سبح، ولم يعط الله- فيما يذكرون- أحدا من خلقه مثل صوته، كان إذا قرأ الزبور- فيما يذكرون- ترنو له الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها، وإنها لمصيخة تسمع لصوته، وما صنعت الشياطين المزامير والبرابط والصنوج إلا على أصناف صوته، وكان شديد الاجتهاد، دائب العبادة، كثير البكاء، وكان كما وصفه الله عز وجل لنبيه محمد ع فقال: «وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ

ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ» ، يعني بذلك ذا القوة. وقد حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: «وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ» ، قَالَ: أعطي قوة في العبادة، وفقها في الاسلام وقد ذكر لنا ان داود ع كان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر وكان يحرسه- فيما ذكر- في كل يوم وليلة أربعة آلاف. حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، في قوله: «وَشَدَدْنا مُلْكَهُ» ، قَالَ: كان يحرسه كل يوم وليلة أربعة آلاف. وذكر أنه تمنى يوما من الأيام على ربه منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وسأله أن يمتحنه بنحو الذي كان امتحنهم، ويعطيه من الفضل نحو الذي كان أعطاهم. فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بن المفضل، قَالَ: حَدَّثَنَا أسباط، قَالَ: قَالَ السدي: كان داود قد قسم الدهر ثلاثة أيام: يوما يقضي فيه بين الناس، ويوما يخلو فيه لعبادة ربه، ويوما يخلو فيه لنسائه، وكان له تسع وتسعون امرأة، وكان فيما يقرأ من الكتب أنه كان يجد فيه فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فلما وجد ذلك فيما يقرأ من الكتب، قَالَ: يا رب أرى الخير كله قد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي، فأعطني مثل ما أعطيتهم، وافعل بي مثل ما فعلت بهم قَالَ: فأوحى الله إليه أن آباءك ابتلوا ببلايا لم تبتل بها، ابتلي إبراهيم بذبح ابنه، وابتلي إسحاق بذهاب بصره، وابتلي يعقوب بحزنه على ابنه يوسف، وإنك لم تبتل من ذلك بشيء قَالَ: يا رب ابتلني بمثل ما ابتليتهم به، وأعطني مثل ما اعطيتهم قال:

فأوحى إليه إنك مبتلى فاحترس قَالَ: فمكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث إذ جاءه الشيطان قد تمثل في صورة حمامة من ذهب، حتى وقع عند رجليه وهو قائم يصلي، قَالَ: فمد يده ليأخذه فتنحى فتبعه، فتباعد حتى وقع في كوة، فذهب ليأخذه، فطار من الكوة، فنظر: أين يقع فيبعث في أثره، قَالَ: فأبصر امرأة تغتسل على سطح لها، فرأى امرأة من أجمل النساء خلقا، فحانت منها التفاتة فأبصرته، فألقت شعرها فاستترت به، قَالَ: فزاده ذلك فيها رغبة، قَالَ: فسأل عنها فأخبر أن لها زوجا، وأن زوجها غائب بمسلحة كذا وكذا، قَالَ: فبعث إلى صاحب المسلحة يأمره أن يبعث أهريا إلى عدو كذا وكذا قَالَ: فبعثه ففتح له، قَالَ: وكتب إليه بذلك، فكتب إليه أيضا: أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا، أشد منهم بأسا. قَالَ: فبعثه ففتح له أيضا، قَالَ: فكتب إلى داود بذلك، قَالَ: فكتب إليه أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا قَالَ: فبعثه، قَالَ: فقتل المرة الثالثة، قَالَ: وتزوج داود امرأته، فلما دخلت عليه لم تلبث عنده إلا يسيرا حتى بعث الله ملكين في صورة إنسيين فطلبا أن يدخلا عليه، فوجداه في يوم عبادته، فمنعهما الحرس أن يدخلا عليه، فتسورا عليه المحراب، قَالَ: فما شعر وهو يصلي إذا هو بهما بين يديه جالسين، قَالَ: ففزع منهما، فقالا: لا تخف، إنما نحن «خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ» يقول: لا تحف، «وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ» إلى عدل القضاء قَالَ: قصا علي قصتكما، قَالَ: فقال أحدهما: «إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ» . فهو يريد أن يأخذ نعجتي، فيكمل بها نعاجه مائة، قَالَ: فقال للآخر:

ما تقول؟ فقال: إن لي تسعا وتسعين نعجة، ولأخي هذا نعجة واحدة، فأنا أريد أن آخذها منه، فأكمل بها نعاجي مائة، قَالَ: وهو كاره! قَالَ: وهو كاره، قَالَ: إذا لا ندعك وذاك، قَالَ: ما أنت على ذلك بقادر! قَالَ: فإن ذهبت تروم ذلك أو تريد ذلك، ضربنا منك هذا وهذا- وفسر أسباط طرف الأنف والجبهة- فقال: يا داود، أنت أحق أن يضرب منك هذا وهذا، حيث لك تسع وتسعون امرأة، ولم يكن لاهريا إلا امرأة واحدة فلم تزل به تعرضه للقتل حتى قتل، وتزوجت امرأته قَالَ: فنظر فلم ير شيئا، قَالَ: فعرف ما قد وقع فيه، وما ابتلي به، قَالَ: فخر ساجدا فبكى، قَالَ: فمكث يبكي ساجدا أربعين يوما لا يرفع رأسه إلا لحاجة لا بد منها، ثم يقع ساجدا يبكي، ثم يدعو حتى نبت العشب من دموع عينيه، قَالَ: فأوحى الله عز وجل إليه بعد اربعين يوما: يا داود، ارفع راسك فقد غفرت لك، فقال: يا رب، كيف أعلم أنك قد غفرت لي وأنت حكم عدل لا تحيف في القضاء، إذا جاء اهريا يوم القيامة آخذا رأسه بيمينه أو بشماله تشخب أوداجه دما في قبل عرشك: يقول: يا رب، سل هذا فيم قتلني! قَالَ: فأوحى الله اليه: إذا كان ذلك دعوت اهريا فأستوهبك منه، فيهبك لي فأثيبه بذلك الجنة قَالَ: رب الآن علمت أنك قد غفرت لي، قَالَ: فما استطاع أن يملأ عينيه من السماء حياء من ربه حتى قبض حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْن سهل، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيد بن مسلم، عن عبد الرحمن ابن يزيد بن جابر، قَالَ: حَدَّثَنِي عطاء الخراساني، قَالَ: نقش داود خطيئته في كفه لكيلا ينساها، فكان إذا رآها خفقت يده واضطربت. وقد قيل: إن سبب المحنة بما امتحن به، أن نفسه حدثته أنه يطيق قطع يوم من الأيام بغير مقارفة سوء، فكان اليوم الذي عرض له فيه ما عرض، اليوم الذي ظن أنه يقطعه بغير اقتراف سوء

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بشر، قَالَ: حَدَّثَنَا يزيد، قَالَ: حَدَّثَنَا سعيد، عن مطر، عن الحسن، أن داود جزأ الدهر أربعة أجزاء: يوما لنسائه، ويوما لعبادته، ويوما لقضاء بني إسرائيل، ويوما لبني إسرائيل، يذاكرهم ويذاكرونه، ويبكيهم ويبكونه فلما كان يوم بني إسرائيل، ذكروا فقالوا: هل يأتي على الإنسان يوم لا يصبب فيه ذنبا! فأضمر داود في نفسه أنه سيطيق ذلك، فلما كان يوم عبادته غلق أبوابه، وأمر ألا يدخل عليه أحد، وأكب على التوراة، فبينما هو يقرؤها إذا حمامة من ذهب، فيها من كل لون حسن، قد وقعت بين يديه، فأهوى إليها ليأخذها، قَالَ: فطارت فوقعت غير بعيد، من غير أن تؤيسه من نفسها، قَالَ: فما زال يتبعها حتى أشرف على امرأة تغتسل، فأعجبه خلقها وحسنها، فلما رأت ظله في الأرض جللت نفسها بشعرها، فزاده ذلك أيضا إعجابا بها، وكان قد بعث زوجها على بعض جيوشه، فكتب إليه أن يسير إلى مكان كذا وكذا مكان إذا سار إليه لم يرجع قَالَ: ففعل فأصيب، فخطبها فتزوجها- قَالَ: وقال قتادة بلغنا أنها أم سليمان- قَالَ: فبينما هو في المحراب إذ تسور الملكان عليه، وكان الخصمان إذا أتوه يأتونه من باب المحراب، ففزع منهم حين تسوروا المحراب، فَقَالُوا: «لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ» حتى بلغ «وَلا تُشْطِطْ» أي ولا تمل «وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ» أي أعدله وخيره، «إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً» - وكان لداود تسع وتسعون امرأة- «وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ» قَالَ: وإنما كان للرجل امرأة واحدة «فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ» ، أي ظلمني وقهرني «قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ» - الى «وَظَنَّ داوُدُ» ، فعلم أنما أضمر له، أي عني بذلك، «ف خَرَّ راكِعاً وَأَنابَ»

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إدريس، قَالَ: سمعت ليثا يذكر عن مجاهد، قَالَ: لما أصاب داود الخطيئة، خر لله ساجدا أربعين يوما، حتى نبت من دموع عينيه من البقل ما غطى رأسه، ثم نادى: يا رب قرح الجبين، وجمدت العين! وداود لم يرجع إليه في خطيئته شيء فنودي: أجائع فتطعم؟ أم مريض فتشفى؟ أم مظلوم فينتصر لك! قَالَ: فنحب نحبة هاج كل شيء كان نبت، فعند ذلك غفر له وكانت خطيئته مكتوبة بكفه يقرؤها، وكان يؤتى بالإناء ليشرب فلا يشرب إلا ثلثه أو نصفه، وكان يذكر خطيئته فينتحب النحبه تكاد مفاصله يزول بعضها عن بعض، ثم ما يتم شربه حتى يملأ الإناء من دموعه وكان يقال: إن دمعة داود تعدل دمعة الخلائق، ودمعة آدم تعدل دمعة داود ودمعة الخلائق قَالَ: وهو يجيء يوم القيامة خطيئته مكتوبة بكفه فيقول: رب ذنبي قدمني! قَالَ: فيقدم فلا يأمن، فيقول: رب أخرني، قَالَ: فيؤخر فلا يأمن. حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابن وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي صَخْرٍ، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مالك يقول: [سمعت رسول الله ص يقول: ان داود النبي ع حين نظر الى المرأة فَأُهِمَّ، قَطَعَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْثًا، فَأَوْصَى صَاحِبَ الْبَعْثِ، فَقَالَ: إِذَا حَضَرَ الْعَدُوُّ فَقَرِّبْ فُلانًا بَيْنَ يَدَيِ التَّابُوتِ، وَكَانَ التَّابُوتُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يُسْتَنْصَرُ بِهِ مَنْ قَدِمَ بَيْنَ يَدَيِ التَّابُوتِ لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يَنْهَزِمَ عَنْهُ الْجَيْشُ، فَقُتِلَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ، وَنَزَلَ الْمَلَكَانِ عَلَى دَاوُدَ يَقُصَّانِ عَلَيْهِ قِصَّتَهُ، فَفَطِنَ دَاوُدُ فَسَجَدَ، فَمَكَثَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً سَاجِدًا، حَتَّى نَبَتَ الزَّرْعُ مِنْ دُمُوعِهِ عَلَى رَأْسِهِ، وَأَكَلَتِ الأَرْضُ مِنْ جَبِينِهِ، وَهُوَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ-

فَلَمْ أُحْصِ مِنَ الرَّقَاشِيِّ إِلا هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ: رَبِّ زَلَّ دَاوُدُ زَلَّةً أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ! رَبِّ إِنْ لَمْ تَرْحَمْ ضَعْفَ دَاوُدَ، وَتَغْفِرْ ذَنْبَهُ جَعَلْتَ ذَنْبَهُ حَدِيثًا فِي الخلوف من بعده فجاءه جبرئيل مِنْ بَعْدِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَالَ: يَا دَاوُدُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ الْهَمَّ الَّذِي هَمَمْتَ بِهِ، فَقَالَ دَاوُدُ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَغْفِرَ لِيَ الْهَمَّ الَّذِي هَمَمْتُ بِهِ، وَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّ اللَّهَ عَدْلٌ لا يَمِيلُ، فَكَيْفَ بِفُلانٍ إِذَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ دَمِي الَّذِي عند داود! فقال جبرئيل: مَا سَأَلْتُ رَبَّكَ عَنْ ذَلِكَ، وَلَئِنْ شِئْتَ لافعلن، قال: نعم، قال: فعرج جبرئيل وَسَجَدَ دَاوُدُ، فَمَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نَزَلَ، فَقَالَ: قَدْ سَأَلْتُ اللَّهَ يَا دَاوُدُ عَنِ الَّذِي أَرْسَلْتَنِي فِيهِ فَقَالَ: قُلْ لَهُ: يَا دَاوُدُ، إِنَّ اللَّهَ يَجْمَعُكُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: هَبْ لِي دَمَكَ الَّذِي عِنْدَ دَاوُدَ، فَيَقُولُ: هُوَ لَكَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: فَإِنَّ لَكَ فِي الْجَنَّةِ مَا شِئْتَ وَمَا اشْتَهَيْتَ عِوَضًا] . وَيَزْعُمُ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّ دَاوُدَ لَمْ يَزَلْ قَائِمًا بِالْمُلْكِ بَعْدَ طَالُوتَ إِلَى أَنْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ امْرَأَةِ أُورِيَا مَا كَانَ، فَلَمَّا وَاقَعَ مَا وَاقَعَ مِنَ الْخَطِيئَةِ اشْتَغَلَ بِالتَّوْبَةِ مِنْهَا- فِيمَا زَعَمُوا- وَاسْتَخَفَّ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَوَثَبَ عَلَيْهِ ابْنٌ لَهُ يُقَالُ له ايشى، فَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَهْلُ الزَّيْغِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالُوا: فَلَمَّا تَابَ اللَّهُ عَلَى دَاوُدَ ثَابَتْ إِلَيْهِ ثَائِبَةٌ مِنَ النَّاسِ، فَحَارَبَ ابْنَهُ حَتَّى هَزَمَهُ، وَوَجَّهَ فِي طَلَبِهِ قَائِدًا مِنْ قُوَّادِهِ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ أَنْ يَتَوَقَّى حَتْفَهُ، وَيَتَلَطَّفَ لأَسْرِهِ، فَطَلَبَهُ الْقَائِدُ وَهُوَ مُنْهَزِمٌ، فَاضْطَرَّهُ إِلَى شَجَرَةٍ فَرَكَضَ فِيهَا- وَكَانَ ذَا جُمَّةٍ- فَتَعَلَّقَ بَعْضُ أَغْصَانِ الشَّجَرَةِ بِشَعْرِهِ فَحَبَسَهُ، وَلَحِقَهُ الْقَائِدُ فَقَتَلَهُ مُخَالِفًا لأَمْرِ دَاوُدَ، فَحَزِنَ دَاوُدُ عَلَيْهِ حُزْنًا شَدِيدًا، وَتَنَكَّرَ لِلْقَائِدِ، وَأَصَابَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَانِهِ طَاعُونٌ جَارِفٌ، فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى مَوْضِعِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَسْأَلُونَهُ كَشْفَ ذَلِكَ الْبَلاءِ عَنْهُمْ، فَاسْتُجِيبَ لَهُمْ، فَاتَّخَذُوا ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مَسْجِدًا، وَكَانَ ذَلِكَ- فِيمَا قِيلَ- لإِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً مَضَتْ مِنْ مُلْكِهِ وَتُوُفِّيَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَتِمَّ بِنَاءَهُ، فَأَوْصَى

إِلَى سُلَيْمَانَ بِاسْتِتْمَامِهِ، وَقَتْلِ الْقَائِدِ الَّذِي قَتَلَ أَخَاهُ، فَلَمَّا دَفَنَهُ سُلَيْمَانُ نَفَّذَ لأَمْرِهِ فِي الْقَائِدِ وَقَتَلَهُ، وَاسْتَتَمَّ بِنَاءَ الْمَسْجِدِ. وَقِيلَ فِي بِنَاءِ دَاوُدَ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ ما حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن سهل بن عسكر، قَالَ: حَدَّثَنِي إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: إن داود أراد أن يعلم عدد بني إسرائيل كم هم؟ فبعث لذلك عرفاء ونقباء، وأمرهم أن يرفعوا إليه ما بلغ عددهم، فعتب الله عليه ذلك، وقال: قد علمت أني وعدت إبراهيم أن أبارك فيه وفي ذريته حتى أجعلهم كعدد نجوم السماء، وأجعلهم لا يحصى عددهم، فأردت أن تعلم عدد ما قلت: إنه لا يحصى عددهم، فاختاروا بين أن أبتليكم بالجوع ثلاث سنين، أو أسلط عليكم العدو ثلاثة أشهر، أو الموت ثلاثة أيام! فاستشار داود في ذلك بني إسرائيل فقالوا: ما لنا بالجوع ثلاث سنين صبر، ولا بالعدو ثلاثة أشهر، فليس لهم بقية، فإن كان لا بد فالموت بيده لا بيد غيره فذكر وهب بن منبه أنه مات منهم في ساعة من نهار ألوف كبيره، لا يدرى ما عددهم، فلما رأى ذلك داود، شق عليه ما بلغه من كثرة الموت، فتبتل إلى الله ودعاه فقال: يا رب، أنا آكل الحماض وبنو إسرائيل يضرسون! أنا طلبت ذلك فأمرت به بني إسرائيل، فما كان من شيء فبي واعف عن بني إسرائيل فاستجاب الله له ورفع عنهم الموت، فرأى داود الملائكة سالين سيوفهم يغمدونها، يرتقون في سلم من ذهب من الصخرة إلى السماء، فقال داود: هذا مكان ينبغي أن يبنى فيه مسجد، فأراد داود أن يأخذ في بنائه، فأوحى الله إليه أن هذا بيت مقدس، وإنك قد صبغت يديك في الدماء، فلست ببانيه، ولكن ابن لك أملكه بعدك أسميه سليمان، أسلمه من الدماء. فلما ملك سليمان بناءه وشرفه، وكان عمر داود- فيما وردت به الاخبار عن رسول الله ص- مائة سنة. وأما بعض أهل الكتب، فإنه زعم أن عمره كان سبعا وسبعين سنة، وأن مدة ملكه كانت أربعين سنة

ذكر خبر سليمان بن داود ع

ذكر خبر سليمان بن داود ع ثم ملك سليمان بن داود بعد أبيه داود أمر بني إسرائيل، وسخر الله له الجن والإنس والطير والريح، وآتاه مع ذلك النبوة، وسأل ربه أن يؤتيه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، فاستجاب الله له فاعطاه ذلك. كان فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه: إذا خرج من بيته إلى مجلسه عكفت عليه الطير، وقام له الإنس والجن، حتى يجلس على سريره، وكان- فيما يزعمون- أبيض جسيما وضيئا، كثير الشعر يلبس من الثياب البياض، وكان أبوه في أيام ملكه بعد أن بلغ سليمان مبلغ الرجال يشاوره- فيما ذكر- في أموره. وكان من شأنه وشأن أبيه داود الحكم في الغنم التي نفشت في حرث القوم، الذين قص الله في كتابه خبرهم وخبرهما فقال: «وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً» . فَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَهَارُونُ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَصَمُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: «وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ» ، قَالَ: كَرْمٌ قَدْ أَنْبَتَتْ عَنَاقِيدُهُ فَأَفْسَدَتْهُ، قَالَ: فَقَضَى دَاوُدُ بِالْغَنَمِ لِصَاحِبِ الْكَرْمِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: غَيْرَ هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: تَدْفَعُ الْكَرْمَ إِلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ فَيَقُومُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ، وَتَدْفَعُ الْغَنَمِ إِلَى صَاحِبِ الْكَرْمِ فَيُصِيبُ مِنْهَا، حَتَّى إِذَا كَانَ الْكَرْمُ كَمَا كَانَ، دَفَعْتَ الْكَرْمَ الى

صَاحِبِهِ، وَدَفَعْتَ الْغَنَمِ إِلَى صَاحِبِهَا فَذَلِكَ قَوْلُهُ: «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ» وَكَانَ رَجُلًا غَزَّاءً لَا يَكَادُ يَقْعُدُ عَنِ الْغَزْوِ، وَكَانَ لَا يَسْمَعُ بِمَلِكٍ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا أَتَاهُ حَتَّى يُذِلَّهُ وكان فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ- فيما يزعمون- إذا اراد الغز وامر بعسكره فضرب له بخشب، ثم نصب له على الخشب، ثم حمل عليه الناس والدواب وآلة الحرب كلها، حتى إذا حمل معه ما يريد، أمر العاصف من الريح فدخلت تحت ذلك الخشب، فاحتملته حتى إذا استقلت به أمر الرخاء فمر به شهرا في روحته، وشهرا في غدوته إلى حيث أراد يقول الله عز وجل: «فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ» ، اى حيث اراد، وقال: «وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ» . قَالَ: وذكر لي أن منزلا بناحية دجلة مكتوب فيه: كتاب كتبه بعض أصحاب سليمان، إما من الجن، وإما من الإنس: نحن نزلناه وما بيناه، ومبنيا وجدناه، غدونا من إصطخر فقلناه، ونحن رائحون منه إن شاء الله، فبائتون بالشام. قَالَ: وكان- فيما بلغني- لتمر بعسكره الريح، والرخاء تهوي به إلى ما أراد، وإنها لتمر بالمزرعة فما تحركها. وقد حَدَّثَنَا القاسم بن الحسن، قَالَ: حَدَّثَنِي الحسين، قَالَ: حَدَّثَنِي حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي، قَالَ: بلغنا أن سليمان كان عسكره مائة فرسخ، خمسة وعشرون منها للإنس، وخمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للوحش، وخمسة وعشرون للطير، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلاثمائة صريحه، وسبعمائة سريه، فامر الريح العاصف

فرفعته وامر الرخاء فسيرته، فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض: إني قد زدت في ملكك، أنه لا يتكلم أحد من الخلائق إلا جاءت به الريح وأخبرتك. حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قال: كان سليمان ابن داود يوضع له ستمائه كُرْسِيٍّ، ثُمَّ يَجِيءُ أَشْرَافُ الْإِنْسِ فَيَجْلِسُونَ مِمَّا يَلِيهِ، ثُمَّ يَجِيءُ أَشْرَافُ الْجِنِّ فَيَجْلِسُونَ مِمَّا يَلِي الْإِنْسَ، قَالَ: ثُمَّ يَدْعُو الطَّيْرَ فَتُظِلُّهُمْ، ثُمَّ يَدْعُو الرِّيحَ فَتَحْمِلُهُمْ، قَالَ: فَتَسِيرُ فِي الْغَدَاةِ الْوَاحِدَةِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ

ذكر ما انتهى إلينا من مغازي سليمان ع

ذكر ما انتهى إلينا من مغازي سليمان ع فمن ذلك غزوته التي راسل فيها بلقيس- وهي فيما يقول أهل الأنساب- يلمقة ابنة اليشرح- ويقول بعضهم: ابنة إيلي شرح، ويقول بعضهم: ابنة ذي شرح- بن ذي جدن بن أيلي شرح بن الحارث بن قيس بن صيفي بن سبا ابن يشجب بن يعرب بن قحطان ثم صارت إليه سلما بغير حرب ولا قتال. وكان سبب مراسلته إياها- فيما ذكر- أنه فقد الهدهد يوما في مسير كان يسيره، واحتاج إلى الماء فلم يعلم من حضره بعده، وقيل له علم ذلك عند الهدهد، فسأل عن الهدهد فلم يجده وقال بعضهم: بل إنما سأل سليمان عن الهدهد لإخلاله بالنبوة. فكان من حديثه وحديث مسيره ذلك وحديث بلقيس، ما حدثنى العباس ابن الْوَلِيدِ الآمُلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ إِذَا سَافَرَ أَوْ أَرَادَ سَفَرًا قَعَدَ عَلَى سَرِيرِهِ، وَوُضِعَتِ الْكَرَاسِيُّ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَيَأْذَنُ لِلإِنْسِ، ثُمَّ يَأْذَنُ لِلْجِنِّ عَلَيْهِ بَعْدَ الإِنْسِ، فَيَكُونُونَ خَلْفَ الْإِنْسِ، ثُمَّ يَأْذَنُ لِلشَّيَاطِينِ بَعْدَ الْجِنِّ فَيَكُونُونَ خَلْفَ الْجِنِّ، ثُمَّ يُرْسِلُ إِلَى الطَّيْرِ فَتُظِلُّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، ثُمَّ يُرْسِلُ إِلَى الرِّيحِ فَتَحْمِلُهُمْ وَهُوَ عَلَى سَرِيرِهِ، وَالنَّاسُ عَلَى الْكَرَاسِيِّ فَتَسِيرُ بِهِمْ، غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شهر، رَخَاءً حَيْثُ أَصَابَ، لَيْسَ بِالْعَاصِفِ وَلا اللَّيِّنِ، وَسَطًا بَيْنَ ذَلِكَ فَبَيْنَمَا سُلَيْمَانُ يَسِيرُ- وَكَانَ سُلَيْمَانُ اخْتَارَ مِنْ كُلِّ طَيْرٍ طَيْرًا، فَجَعَلَهُ رَأْسَ تِلْكَ الطَّيْرِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُسَائِلَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الطَّيْرِ عَنْ شَيْءٍ سَأَلَ رَأْسَهَا- فَبَيْنَمَا سُلَيْمَانُ يَسِيرُ إِذْ نَزَلَ مَفَازَةً فسال عن بعد الماء هاهنا، فَقَالَ الْإِنْسُ: لَا نَدْرِي، فَسَأَلَ الْجِنَّ فَقَالُوا: لا تدرى، فَسَأَلَ الشَّيَاطِينَ، فَقَالُوا: لا نَدْرِي فَغَضِبَ سُلَيْمَانُ فَقَالَ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَعْلَمَ كَمْ بُعْدُ مسافة الماء هاهنا! قَالَ: فَقَالَتْ لَهُ الشَّيَاطِينُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تَغْضَبْ، فَإِنْ يَكُ شَيْئًا يُعْلَمُ فَالْهُدْهُدُ يَعْلَمُهُ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: عَلَيَّ بِالْهُدْهُدِ، فَلَمْ يُوجَدْ، فغضب

سُلَيْمَانُ فَقَالَ: «مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» ، يَقُولُ: بِعُذْرٍ مُبِينٍ لِمَ غَابَ عَنْ مَسِيرِي هَذَا؟ وَكَانَ عِقَابُهُ لِلطَّيْرِ أَنْ يَنْتِفَ رِيشَهُ وَيُشَمِّسَهُ فَلا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَطِيرَ، وَيَكُونُ مِنْ هَوَامِ الْأَرْضِ إِنْ أَرَادَ ذَلِكَ، أَوْ يَذْبَحَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ عَذَابَهُ. قَالَ: وَمَرَّ الْهُدْهُدُ عَلَى قَصْرِ بِلْقِيسَ، فَرَأَى بُسْتَانًا لَهَا خَلْفَ قَصْرِهَا، فَمَالَ إِلَى الْخَضِرَةِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَإِذَا هُوَ بِهُدْهُدٍ لَهَا فِي الْبُسْتَانِ، فَقَالَ هُدْهُدُ سُلَيْمَانَ: اين أنت عن سليمان؟ وما تصنع هاهنا؟ قَالَ لَهُ هُدْهُدُ بِلْقِيسَ: وَمَنْ سُلَيْمَانُ؟ فَقَالَ: بَعَثَ اللَّهُ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ سُلَيْمَانُ رَسُولًا، وَسَخَّرَ لَهُ الرِّيحَ وَالْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالطَّيْرَ قَالَ: فَقَالَ لَهُ هُدْهُدُ بِلْقِيسَ: أَيَّ شَيْءٍ تَقُولُ! قَالَ: أَقُولُ لَكَ مَا تَسْمَعُ، قَالَ: إِنَّ هَذَا لَعَجَبٌ، وَأَعْجَبُ مِنْ ذَاكَ أَنَّ كَثْرَةَ هؤلاء القوم تملكهم امراه، «أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ» ، جَعَلُوا الشُّكْرَ لِلَّهِ أَنْ يَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ: وَذَكَرَ الْهُدْهُدُ سُلَيْمَانَ فَنَهَضَ عَنْهُ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْعَسْكَرِ تَلَقَتْهُ الطَّيْرُ وَقَالُوا: تَوَعَّدَكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَأَخْبَرُوهُ بِمَا قَالَ قَالَ: وَكَانَ عَذَابُ سُلَيْمَانَ لِلطَّيْرِ أَنْ يَنْتِفَ رِيشَهُ وَيُشَمِّسَهُ فَلَا يَطِيرُ أَبَدًا، فَيَصِيرُ مِنْ هَوَامِ الْأَرْضِ، أَوْ يَذْبَحَهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ نسل ابدا قال: فقال الهدهد: او ما اسْتَثْنَى رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالُوا: بَلْ قَالَ: أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِعُذْرٍ مُبِينٍ، قَالَ: فَلَمَّا أَتَى سُلَيْمَانُ، قَالَ: مَا غَيَّبَكَ عَنْ مَسِيرِي؟ قَالَ: «أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ» حتى بلغ «فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ» . قَالَ: فَاعْتَلَّ لَهُ بِشَيْءٍ، وَأَخْبَرَهُ عَنْ بِلْقِيسَ وَقَوْمِهَا مَا أَخْبَرَهُ الْهُدْهُدُ، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: قَدِ اعْتَلَلْتَ، «سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ» ، قَالَ: فَوَافَقَهَا وَهِيَ فِي قَصْرِهَا، فَأَلْقَى إِلَيْهَا

الْكِتَابَ فَسَقَطَ فِي حِجْرِهَا أَنَّهُ كِتَابٌ كَرِيمٌ، وَأَشْفَقَتْ مِنْهُ، فَأَخَذَتْهُ وَأَلْقَتْ عَلَيْهِ ثِيَابَهَا، وَأَمَرَتْ بِسَرِيرِهَا فَأُخْرِجَ، فَخَرَجَتْ فَقَعَدَتْ عَلَيْهِ، وَنَادَتْ فِي قومها، فقالت لهم: «يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ» وَلَمْ أَكُنْ لِأَقْطَعَ أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونَ، «قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ» - الى- «وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ» ، فَإِنْ قَبِلَهَا فَهَذَا مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا وَأَنَا أَعَزُّ مِنْهُ وَأَقْوَى، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهَا فَهَذَا شَيْءٌ مِنَ اللَّهِ. فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ الْهَدِيَّةُ قَالَ لَهُمْ سُلَيْمَانُ: «أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ» - إِلَى قَوْلِهِ: «وَهُمْ صاغِرُونَ» ، يَقُولُ: وَهُمْ غَيْرُ مَحْمُودِينَ قَالَ: بَعَثَتْ إِلَيْهِ بِخَرَزَةٍ غَيْرِ مَثْقُوبَةٍ، فَقَالَتِ: اثْقُبْ هَذِهِ، قَالَ: فَسَأَلَ سُلَيْمَانُ الْإِنْسَ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ عِلْمُ ذَاكَ، ثُمَّ سَأَلَ الْجِنَّ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ عِلْمُ ذَاكَ، قَالَ: فَسَأَلَ الشَّيَاطِينَ، فَقَالُوا: تُرْسِلُ إِلَى الْأَرَضَةِ، فَجَاءَتِ الْأَرَضَةُ فَأَخَذَتْ شَعْرَةً فِي فِيهَا فَدَخَلَتْ فِيهَا فَنَقَبَتْهَا بَعْدَ حِينٍ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْهَا رَسُولُهَا خَرَجَتْ فَزِعَةً فِي أَوَّلِ النَّهَارِ مِنْ قَوْمِهَا وَتَبِعَهَا قَوْمُهَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ مَعَهَا أَلْفُ قَيْلٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَهْلُ الْيَمَنِ يُسَمُّونَ الْقَائِدَ قَيْلًا، مَعَ كُلِّ قَيْلٍ عَشَرَةُ آلافٍ قَالَ العباس: قَالَ عَلِيٌّ: عَشَرَةُ آلافِ أَلْفٍ. قَالَ الْعَبَّاسُ: قَالَ عَلِيٌّ: فَأَخْبَرَنَا حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ، قال: فاقبلت بلقيس الى سليمان ومعها ثلاثمائة قَيْلٍ وَاثْنَا عَشَرَ قَيْلًا، مَعَ كُلِّ قَيْلٍ عَشَرَةُ آلافٍ. قَالَ عَطَاءٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَكَانَ سُلَيْمَانُ رَجُلًا مَهِيبًا لا يبتدأ بِشَيْءٍ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ عَنْهُ، فَخَرَجَ يَوْمَئِذٍ فَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِهِ،

فَرَأَى رَهْجًا قَرِيبًا مِنْهُ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: بِلْقِيسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَقَدْ نَزَلَتْ مِنَّا بِهَذَا الْمَكَانِ! قَالَ مُجَاهِدٌ: فَوَصَفَ لَنَا ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَحَزَرْتُهُ مَا بَيْنَ الْكُوفَةِ وَالْحِيرَةِ قَدْرَ فَرْسَخٍ، قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَى جُنُودِهِ فقال: «أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ» الَّذِي أَنْتَ فِيهِ إِلَى الْحِينِ الَّذِي تَقُومُ إِلَى غَدَائِكَ قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ: مَنْ يَأْتِينِي بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ؟ «قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ» ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ سُلَيْمَانُ، فَلَمَّا قَطَعَ كَلَامَهُ رَدَّ سُلَيْمَانُ بَصَرَهُ عَلَى الْعَرْشِ، فَرَأَى سَرِيرَهَا قَدْ خَرَجَ وَنَبَعَ مِنْ تَحْتِ كُرْسِيِّهِ، «فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ» إِذْ أَتَانِي بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيَّ طرفي «أَمْ أَكْفُرُ» إِذْ جَعَلَ مَنْ تَحْتَ يَدَيَّ أَقْدَرَ عَلَى الْمَجِيءِ بِهِ مِنِّي قَالَ: فَوَضَعُوا لَهَا عَرْشَهَا، قَالَ: فَلَمَّا جَاءَتْ قَعَدَتْ إِلَى سُلَيْمَانَ، قِيلَ لها: «أَهكَذا عَرْشُكِ» ؟ فنظرت اليه فقالت: «كَأَنَّهُ هُوَ» ! ثُمَّ قَالَتْ: لَقَدْ تَرَكْتُهُ فِي حُصُونِي، وَتَرَكْتُ الْجُنُودَ مُحِيطَةً بِهِ، فَكَيْفَ جِيءَ بِهَذَا يَا سُلَيْمَانُ! إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ شَيْءٍ فَأَخْبِرْنِيهِ، قَالَ: سَلِي، قَالَتْ: أَخْبِرْنِي عَنْ مَاءٍ رَوَاءٍ، لا مِنْ سَمَاءٍ وَلا مِنْ أَرْضٍ- قَالَ: وَكَانَ إِذَا جَاءَ سُلَيْمَانَ شَيْءٌ لا يَعْلَمُهُ بَدَأَ فَسَأَلَ الْإِنْسَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْإِنْسِ فِيهِ عِلْمٌ وَإِلَّا سَأَلَ الْجِنَّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْجِنِّ عِلْمٌ بِهِ سَأَلَ الشَّيَاطِينَ- قَالَ: فَقَالَتْ لَهُ الشَّيَاطِينُ: مَا أَهْوَنَ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! مُرِ الْخَيْلَ فَلْتَجْرِ ثُمَّ تَمْلَأِ الآنِيَةَ مِنْ عَرَقِهَا، فَقَالَ لَهَا سُلَيْمَانُ: عَرَقُ الْخَيْلِ، قَالَتْ: صَدَقْتَ قَالَتْ: أَخْبِرْنِي عَنْ لَوْنِ الرَّبِّ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَوَثَبَ سُلَيْمَانُ عَنْ سَرِيرِهِ فَخَرَّ سَاجِدًا قال العباس: قال على: فأخبرني عمر بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: صُعِقَ فَغُشِيَ عَلَيْهِ، فَخَرَّ عَنْ سَرِيرِهِ. ثُمَّ رَجَعَ، إِلَى حَدِيثِهِ قَالَ: فَقَامَتْ عَنْهُ، وَتَفَرَّقَتْ عَنْهُ جُنُودُهُ، وجاءه

الرَّسُولُ فَقَالَ: يَا سُلَيْمَانُ، يَقُولُ لَكَ رَبُّكَ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: سَأَلْتِنِي عَنْ أَمْرٍ يُكَابِرُنِي- أَوْ يُكَابِدُنِي- أَنْ أُعِيدَهُ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَعُودَ إِلَى سَرِيرِكَ فَتَقْعُدَ عَلَيْهِ، وَتُرْسِلَ إِلَيْهَا وَإِلَى مَنْ حَضَرَهَا مِنْ جُنُودِهَا، وَتُرْسِلَ إِلَى جَمِيعِ جُنُودِكَ الَّذِينَ حَضَرُوا فَيَدْخُلُوا عَلَيْكَ فَتَسْأَلَهَا وَتَسْأَلَهُمْ عَمَّا سَأَلَتْكَ عَنْهُ قَالَ: ففعل، فلما دخلوا عَلَيْهِ جَمِيعًا، قَالَ لَهَا: عَمَّ سَأَلْتِنِي؟ قَالَتْ: سَأَلْتُكَ عَنْ مَاءٍ رَوَاءٍ، لا مِنْ سَمَاءٍ وَلا مِنْ أَرْضٍ، قَالَ: قُلْتُ لَكِ: عَرَقُ الْخَيْلِ، قَالَتْ: صَدَقْتَ، قَالَ: وَعَنْ أَيِّ شَيْءٍ سَأَلْتِنِي؟ قَالَتْ: مَا سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ غَيْرَ هَذَا قَالَ: قَالَ لَهَا سُلَيْمَانُ، فَلِأَيِّ شَيْءٍ خَرَرْتُ عَنْ سَرِيرِي؟ قَالَتْ: قَدْ كَانَ ذَاكَ لِشَيْءٍ لَا أَدْرِي مَا هُوَ- قَالَ الْعَبَّاسُ: قَالَ عَلِيٌّ: نُسِّيَتْهُ- قَالَ: فَسَأَلَ جُنُودَهَا فَقَالُوا مِثْلَ مَا قَالَتْ، قَالَ: فَسَأَلَ جُنُودَهُ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالطَّيْرِ وَكُلِّ شَيْءٍ كَانَ حَضَرَهُ مِنْ جُنُودِهِ، فَقَالُوا: مَا سَأَلَتْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا عَنْ مَاءٍ رَوَاءٍ، قَالَ- وَقَدْ كَانَ قَالَ لَهُ الرَّسُولُ: يَقُولُ اللَّهُ لَكَ: عُدْ إِلَى مَكَانِكَ فَإِنِّي قَدْ كَفَيْتُكَهُمْ- قَالَ: وَقَالَ سُلَيْمَانُ: لِلشَّيَاطِينِ: ابْنُوا لِي صَرْحًا تَدْخُلُ عَلَيَّ فِيهِ بِلْقِيسُ، قَالَ: فَرَجَعَ الشَّيَاطِينُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالُوا: سُلَيْمَانُ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ سَخَّرَ اللَّهُ لَهُ مَا سَخَّرَ، وَبِلْقِيسُ مَلِكَةُ سَبَأَ يَنْكِحُهَا فَتَلِدُ لَهُ غُلَامًا، فَلا نَنْفَكُّ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ أَبَدًا. قَالَ: وَكَانَتِ امْرَأَةً شَعْرَاءَ السَّاقَيْنِ، فَقَالَتِ الشَّيَاطِينُ: ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا لِيَرَى ذَلِكَ مِنْهَا، فَلا يَتَزَوَّجُهَا، فَبَنَوْا لَهُ صَرْحًا مِنْ قَوَارِيرَ أَخْضَرَ، وَجَعَلُوا لَهُ طَوَابِيقَ مِنْ قَوَارِيرَ كَأَنَّهُ الْمَاءُ، وَجَعَلُوا فِي بَاطِنِ الطَّوَابِيقِ كُلَّ شَيْءٍ يَكُونُ مِنَ الدَّوَابِّ فِي الْبَحْرِ مِنَ السَّمَكِ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ أَطْبَقُوهُ، ثُمَّ قَالُوا لِسُلَيْمَانَ: ادْخُلِ الصَّرْحَ، قَالَ: فَأُلْقِيَ لِسُلَيْمَانَ كُرْسِيٌّ فِي أَقْصَى الصَّرْحِ، فَلَمَّا دَخَلَهُ وَرَأَى مَا رَأَى أَتَى الْكُرْسِيَّ، فَقَعَدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَدْخِلُوا عَلَيَّ بِلْقِيسَ، فَقِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الصَّرْحَ، فَلَمَّا ذَهَبَتْ تَدْخُلُهُ رَأَتْ صُورَةَ السَّمَكِ وَمَا يَكُونُ فِي الْمَاءِ مِنَ الدَّوَابِّ، فَحَسِبَتْهُ لُجَّةً حسبته ماء وكشفت عن ساقيها لِتَدْخُلَ، وَكَانَ شَعْرُ سَاقَيْهَا مُلْتَوِيًا عَلَى سَاقَيْهَا، فَلَمَّا رَآهَا سُلَيْمَانُ، نَادَاهَا- وَصَرَفَ بَصَرَهُ عَنْهَا: انه صرح ممرد من

قوارير، فالقت ثوبها فقالت: «ِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ » قَالَ: فَدَعَا سُلَيْمَانُ الْإِنْسَ فَقَالَ: مَا أَقْبَحَ هَذَا! مَا يُذْهِبُ هَذَا؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْمُوسَى قَالَ: الْمَوَاسِي تَقْطَعُ سَاقَيِ الْمَرْأَةِ قَالَ: ثُمَّ دَعَا الْجِنَّ فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: لا نَدْرِي، ثُمَّ دَعَا الشَّيَاطِينَ فَقَالَ: مَا يُذْهِبُ هذا؟ قالوا مثل ذلك: الموسى، فقال: الْمَوَاسِي تَقْطَعُ سَاقَيِ الْمَرْأَةِ قَالَ: فَتَلَكَّئُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ جَعَلُوا لَهُ النُّورَةَ- قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ يَوْمٍ رُئِيَتْ فِيهِ النُّورَةُ- فَاسْتَنْكَحَهَا سُلَيْمَانُ. حَدَّثَنَا ابن حميد: قَالَ، حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب ابن منبه، قَالَ: لما رجعت الرسل إلى بلقيس بما قَالَ سليمان، قالت: قد والله عرفت ما هذا بملك، وما لنا به من طاقة، وما نصنع بمكاثرته شيئا، وبعثت إليه أني قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك، وما تدعو إليه من دينك ثم أمرت بسرير ملكها الذي كانت تجلس عليه- وكان من ذهب مفصص بالياقوت والزبرجد واللؤلؤ- فجعل في سبعة أبيات بعضها في بعض، ثم أقفلت على الأبواب، وكانت إنما تخدمها النساء، معها ستمائه امرأة تخدمها ثم قالت لمن خلفت على سلطانها: احتفظ بما قبلك، وسرير ملكي فلا يخلص إليه أحد ولا يرينه حتى آتيك ثم شخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف قيل معها من ملوك اليمن، تحت يد كل قيل منهم ألوف كثيرة، فجعل سليمان يبعث الجن فيأتونه بمسيرها ومنتهاها كل يوم وليلة، حتى إذا دنت جمع من عنده من الجن والإنس ممن تحت يديه، فقال: «يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ » . قَالَ: وأسلمت فحسن إسلامها قَالَ: فزعم أن سليمان قَالَ لها حين أسلمت وفرغ من أمرها: اختاري رجلا من قومك أزوجكه، قالت: ومثلي يا نبي الله ينكح الرجال، وقد كان لي في قومي من الملك والسلطان ما كان لي! قَالَ: نعم، إنه

لا يكون في الإسلام إلا ذلك، ولا ينبغي لك أن تحرمي ما أحل الله لك، فقالت: زوجني إن كان لا بد ذا تبع ملك همدان، فزوجه إياها، ثم ردها إلى اليمن، وسلط زوجها ذا تبع على اليمن، ودعا زوبعة أمير جن اليمن فقال: اعمل لذى تبع ما استعملك لقومه قال: فصنع لذى تبع الصنائع باليمن، ثم لم يزل بها ملكا يعمل له فيها ما أراد، حتى مات سليمان ابن داود ع. فلما حال الحول وتبينت الجن موت سليمان أقبل رجل منهم، فسلك تهامة حتى إذا كان في جوف اليمن صرخ بأعلى صوته: يا معشر الجن، إن الملك سليمان قد مات فارفعوا أيديكم قَالَ: فعمدت الشياطين إلى حجرين عظيمين، فكتبوا فيهما كتابا بالمسند: نحن بنينا سلحين، سبعة وسبعين خريفا دائبين، وبنينا صرواح ومراح وبينون برحاضه ايدين، وهنده وهنيدة، وسبعة أمجلة بقاعة، وتلثوم بريدة، ولولا صارخ بتهامة، لتركنا بالبون إمارة قَالَ: وسلحين وصرواح ومراح وبينون وهنده وهنيدة وتلثوم حصون كانت باليمن، عملتها الشياطين لذى تبع، ثم رفعوا أيديهم، ثم انطلقوا، وانقضى ملك ذي تبع وملك بلقيس مع ملك سليمان بن داود ع

ذكر غزوته أبا زوجته جراده وخبر الشيطان الذى أخذ خاتمه

ذكر غزوته أبا زوجته جرادة وخبر الشيطان الذي أخذ خاتمه حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض العلماء، قَالَ: قَالَ وهب بن منبه: سمع سليمان بمدينة في جزيرة من جزائر البحر، يقال لها صيدون، بها ملك عظيم السلطان لم يكن للناس اليه سبيل، لمكانه في البحر، وكان الله قد آتى سليمان في ملكه سلطانا لا يمتنع منه شيء في بر ولا بحر، إنما يركب إليه إذا ركب على الريح، فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء، حتى نزل بها بجنوده من الجن والإنس، فقتل ملكها واستفاء ما فيها، وأصاب فيما أصاب ابنة لذلك الملك لم ير مثلها حسنا وجمالا، فاصطفاها لنفسه، ودعاها إلى الإسلام فأسلمت على جفاء منها وقلة ثقة، وأحبها حبا لم يحبه شيئا من نسائه، ووقعت نفسه عليها، فكانت على منزلتها عنده لا يذهب حزنها، ولا يرقأ دمعها، فقال لها، لما رأى ما بها وهو يشق عليه من ذلك ما يرى: ويحك، ما هذا الحزن الذي لا يذهب، والدمع الذي لا يرقأ! قالت: إن أبي أذكره وأذكر ملكه وما كان فيه وما أصابه، فيحزنني ذلك، قَالَ: فقد ابد لك الله به ملكا هو أعظم من ملكه، وسلطانا هو أعظم من سلطانه، وهداك للإسلام وهو خير من ذلك كله، قالت: إن ذلك لكذلك، ولكني إذا ذكرته أصابني ما قد ترى من الحزن، فلو أنك أمرت الشياطين، فصوروا صورة أبي في داري التي أنا فيها، أراها بكرة وعشيا لرجوت أن يذهب ذلك حزني، وأن يسلي عني بعض ما أجد في نفسي، فأمر سليمان الشياطين، فقال: مثلوا لها صوره أبيها في دارها حتى ما تنكر منه شيئا، فمثلوه لها حتى نظرت إلى أبيها في نفسه،

إلا أنه لا روح فيه، فعمدت إليه حين صنعوه لها فأزرته وقمصته وعممته وردته بمثل ثيابه التي كان يلبس، مثل ما كان يكون فيه من هيئة، ثم كانت إذا خرج سليمان من دارها تغدو عليه في ولائدها حتى تسجد له ويسجدن له، كما كانت تصنع به في ملكه، وتروح كل عشية بمثل ذلك، لا يعلم سليمان بشيء من ذلك أربعين صباحا، وبلغ ذلك آصف بن برخيا- وكان صديقا، وكان لا يرد عن أبواب سليمان أي ساعة أراد دخول شيء من بيوته دخل، حاضرا كان سليمان أو غائبا- فأتاه فقال: يا نبي الله، كبرت سني، ودق عظمي، ونفد عمري، وقد حان منى ذهاب! وقد أحببت أن أقوم مقاما قبل الموت أذكر فيه من مضى من أنبياء الله، وأثني عليهم بعلمي فيهم، وأعلم الناس بعض ما كانوا يجهلون من كثير من أمورهم، فقال: افعل، فجمع له سليمان الناس، فقام فيهم خطيبا، فذكر من مضى من أنبياء الله، فأثنى على كل نبي بما فيه، وذكر ما فضله الله به، حتى انتهى الى سليمان وذكره، فقال: ما كان احملك في صغرك، وأورعك في صغرك، وأفضلك في صغرك، وأحكم أمرك في صغرك، وأبعدك من كل ما يكره في صغرك! ثم انصرف فوجد سليمان في نفسه حتى ملأه غضبا، فلما دخل سليمان داره أرسل إليه، فقال: يا آصف، ذكرت من مضى من أنبياء الله فأثنيت عليهم خيرا في كل زمانهم، وعلى كل حال من أمرهم، فلما ذكرتني جعلت تثني علي بخير في صغري، وسكت عما سوى ذلك من أمري في كبري، فما الذي أحدثت في آخر أمري؟ قَالَ: إن غير الله ليعبد في دارك منذ أربعين صباحا في هوى امرأة، فقال: في دارى! فقال: في دارك، قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! لقد عرفت أنك ما قلت إلا عن شيء بلغك، ثم رجع سليمان إلى داره فكسر ذلك الصنم، وعاقب تلك المرأة وولائدها، ثم أمر بثياب الطهرة فأتي بها، وهي ثياب لا يغزلها إلا الأبكار، ولا ينسجها الا

الأبكار، ولا يغسلها إلا الأبكار، ولا تمسها امرأة قد رأت الدم، فلبسها ثم خرج إلى فلاة من الأرض وحده، فأمر برماد ففرش له، ثم أقبل تائبا إلى الله حتى جلس على ذلك الرماد، فتمعك فيه بثيابه تذللا لله جل وعز وتضرعا إليه، يبكي ويدعو ويستغفر مما كان في داره، ويقول فيما يقول- فيما ذكر لي والله أعلم: رب ماذا ببلائك عند آل داود أن يعبدوا غيرك، وأن يقروا في دورهم وأهاليهم عبادة غيرك! فلم يزل كذلك يومه حتى أمسى، يبكي إلى الله ويتضرع إليه ويستغفره، ثم رجع إلى داره- وكانت أم ولد له يقال لها: الأمينة، كان إذا دخل مذهبه، أو أراد إصابة امرأة من نسائه وضع خاتمه عندها حتى يتطهر، وكان لا يمس خاتمه إلا وهو طاهر، وكان ملكه في خاتمه، فوضعه يوما من تلك الأيام عندها كما كان يضعه ثم دخل مذهبه، وأتاها الشيطان صاحب البحر- وكان اسمه صخرا- في صورة سليمان لا تنكر منه شيئا، فقال: خاتمي يا أمينة! فناولته إياه، فجعله في يده، ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان، وعكفت عليه الطير والجن والإنس، وخرج سليمان فأتى الأمينة، وقد غيرت حالته وهيئته عند كل من رآه، فقال: يا أمينة، خاتمي! فقالت: ومن أنت؟ قَالَ: أنا سليمان بن داود، فقالت: كذبت، لست بسليمان بن داود، وقد جاء سليمان فأخذ خاتمه، وهو ذاك جالس على سريره في ملكه فعرف سليمان أن خطيئته قد أدركته، فخرج فجعل يقف على الدار من دور بني إسرائيل، فيقول: أنا سليمان بن داود، فيحثون عليه التراب ويسبونه، ويقولون: انظروا إلى هذا المجنون، أي شيء يقول! يزعم أنه سليمان بن داود، فلما رأى سليمان ذلك عمد إلى البحر، فكان ينقل الحيتان لأصحاب البحر إلى السوق، فيعطونه كل يوم سمكتين، فإذا أمسى باع إحدى سمكتيه بأرغفة وشوى الأخرى، فأكلها، فمكث بذلك أربعين صباحا، عدة ما عبد ذلك الوثن في داره،

فأنكر آصف بن برخيا وعظماء بني إسرائيل حكم عدو الله الشيطان في تلك الأربعين صباحا، فقال آصف: يا معشر بني إسرائيل، هل رأيتم من اختلاف حكم ابن داود ما رأيت! قَالُوا: نعم، قَالَ: أمهلوني حتى أدخل على نسائه فأسألهن: هل أنكرن منه في خاصة أمره ما أنكرنا في عامة أمر الناس وعلانيته؟ فدخل على نسائه فقال: ويحكن! هل أنكرتن من أمر ابن داود ما أنكرنا؟ فقلن: اشده ما يدع امرأة منا في دمها، ولا يغتسل من جنابة، فقال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا اليه راجعون! ان هذا لهو البلاء المبين، ثم خرج إلى بني إسرائيل، فقال ما في الخاصة أعظم مما في العامة، فلما مضى أربعون صباحا طار الشيطان عن مجلسه، ثم مر بالبحر، فقذف الخاتم فيه، فبلعته سمكة، وبصر بعض الصيادين فأخذها وقد عمل له سليمان صدر يومه ذلك، حتى إذا كان العشي أعطاه سمكتيه، فأعطى السمكة التي أخذت الخاتم، ثم خرج سليمان بسمكتيه فيبيع التي ليس في بطنها الخاتم بالأرغفة، ثم عمد إلى السمكة الأخرى فبقرها ليشويها فاستقبله خاتمه في جوفها، فأخذه فجعله في يده ووقع ساجدا لله، وعكف عليه الطير والجن، وأقبل عليه الناس وعرف أن الذي دخل عليه لما كان أحدث في داره، فرجع إلى ملكه، وأظهر التوبة من ذنبه، وأمر الشياطين فقال: ائتوني به، فطلبته له الشياطين حتى أخذوه، فأتى به، فجاب له صخرة، فأدخله فيها، ثم سد عليه بأخرى، ثم أوثقها بالحديد والرصاص، ثم أمر به فقذف في البحر. حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ في قوله: «وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً» ، قَالَ: الشيطان حين جلس على كرسيه أربعين يوما، قال:

كان لسليمان مائة امرأة، وكانت امرأة منهن يقال لها جرادة، وهي آثر نسائه عنده، وآمنهن عنده، وكان إذا أجنب أو أتى حاجة نزع خاتمه، ولا يأتمن عليه أحدا من الناس غيرها، فجاءته يوما من الأيام فقالت له: إن أخي بينه وبين فلان خصومة، وأنا أحب أن تقضي له إذا جاءك، فقال: نعم، ولم يفعل، فابتلي فأعطاها خاتمه، ودخل المحرج فخرج الشيطان في صورته، فقال: هاتي الخاتم، فأعطته، فجاء حتى جلس على مجلس سليمان، وخرج سليمان بعد فسألها أن تعطيه خاتمه، فقالت: ألم تأخذه قبل؟ قَالَ: لا، وخرج من مكانه تائها، قَالَ: ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما. قَالَ: فأنكر الناس أحكامه، فاجتمع قراء بني إسرائيل وعلماؤهم، وجاءوا حتى دخلوا على نسائه فقالوا: إنا قد أنكرنا هذا، فإن كان سليمان، فقد ذهب عقله، وأنكرنا أحكامه! قَالَ: فبكى النساء عند ذلك، قَالَ: فأقبلوا يمشون حتى أتوه، فأحدقوا به ثم نشروا فقرءوا التوراة، قَالَ: فطار من بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه، ثم طار حتى ذهب إلى البحر، فوقع الخاتم منه في البحر، فابتلعه حوت من حيتان البحر، قَالَ: وأقبل سليمان في حاله التي كان فيها حتى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع، وقد اشتد جوعه، فاستطعمه من صيدهم، وقال: انى انا سليمان، فقام اليه بعضهم فضربه بعضا فشجه، قَالَ: فجعل يغسل دمه وهو على شاطئ البحر، فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه وقالوا: بئس ما صنعت حيث ضربته! قَالَ: انه زعم انه سليمان، قال: فأعطوه سمكتين مما قد ضرب عندهم، فلم يشغله ما كان به من الضرب، حتى قام على شط البحر، فشق بطونهما، وجعل يغسلهما، فوجد خاتمه في بطن إحداهما، فأخذه فلبسه، فرد الله عليه بهاءه وملكه، وجاءت الطير حتى حامت عليه، فعرف القوم أنه سليمان، فقام القوم يعتذرون مما صنعوا، فقال: ما أحمدكم على

عذركم، ولا ألومكم على ما كان منكم، كان هذا الأمر لا بد منه. قَالَ: فجاء حتى أتى ملكه، فأرسل إلى الشيطان فجيء به، وسخرت له الريح والشياطين يومئذ، ولم تكن سخرت له قبل ذلك، وهو قوله: «وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» . وبعث إلى الشيطان فأتى به، فأمر به فجعل في صندوق من حديد، ثم أطبق عليه، وأقفل عليه بقفل، وختم عليه بخاتمه، ثم أمر به فألقي في البحر، فهو فيه حتى تقوم الساعة، وكان اسمه حبقيق. قال ابو جعفر: ثم لبث سليمان بن داود في ملكه بعد أن رده الله إليه، تعمل له الجن مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات، وغير ذلك من أعماله، ويعذب من الشياطين من شاء، ويطلق من أحب منهم إطلاقه، حتى إذا دنا أجله، وأراد الله قبضه إليه، كان من أمره- فيما بلغني- ما حَدَّثَنِي بِهِ أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، [عن النبي ص قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ نَبِيُّ اللَّهِ إِذَا صَلَّى رَأَى شَجَرَةً نَابِتَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَقُولُ لَهَا: ما اسمك؟ فيقول: كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: لِأَيِّ شَيْءٍ أَنْتِ؟ فَإِنْ كانت لغرس غرست، ان كَانَتْ لِدَوَاءٍ كُتِبَتْ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُصَلِّي ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ رَأَى شَجَرَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهَا: مَا اسْمُكِ؟ قَالَتِ: الْخَرُّوبُ، قَالَ: لِأَيِّ شَيْءٍ أَنْتِ؟ قَالَتْ: لِخَرَابِ هَذَا الْبَيْتِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: اللَّهُمَّ عَمِّ عَلَى الْجِنِّ مَوْتِي حَتَّى يَعْلَمَ الْإِنْسُ أَنَّ الْجِنَّ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، فَنَحَتَهَا عَصًا، فَتَوَكَّأَ عَلَيْهَا حَوْلًا مَيِّتًا، وَالْجِنُّ تعمل، فأكلتها الأرضة فسقط، ف تَبَيَّنَتِ الْإِنْسُ أَنَّ الْجِنَّ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ] . قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا حَوْلًا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ قَالَ: فَشَكَرَتِ الْجِنُّ الْأَرَضَةَ، فَكَانَتْ تأتيها بالماء

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بْنُ حَمَّادٍ، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود- وعن ناس من أصحاب النبي ص قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ يَتَجَرَّدُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ، وَالشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ، وَأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرَ، يُدْخِلُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، فَأَدْخَلَهُ فِي الْمَرَّةِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا، فَكَانَ بَدْءُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمٌ يُصْبِحُ فِيهِ إِلَّا نَبَتَتْ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ شَجَرَةٌ، فَيَأْتِيهَا، فَيَسْأَلُهَا: مَا اسْمُكِ؟ فَتَقُولُ الشَّجَرَةُ: اسْمِي كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ لَهَا: لِأَيِّ شَيْءٍ نَبَتِّ؟ فَتَقُولُ: نَبَتُّ لِكَذَا وَكَذَا فَيَأْمُرُ بِهَا فَتُقْطَعُ، فَإِنْ كَانَتْ نَبَتَتْ لِغَرْسٍ غَرَسَهَا، وَإِنْ كَانَتْ نَبَتَتْ دَوَاءً قَالَتْ: نَبَتُّ دَوَاءً لِكَذَا وَكَذَا، فَيَجْعَلُهَا لِذَلِكَ، حَتَّى نَبَتَتْ شَجَرَةٌ يُقَالُ لَهَا الْخَرُّوبَةُ فَسَأَلَهَا: مَا اسْمُكِ؟ قَالَتْ: أَنَا الْخَرُّوبَةُ، قَالَ: وَلِأَيِّ شَيْءٍ نَبَتِّ؟ قَالَتْ: نَبَتُّ لِخَرَابِ هَذَا الْمَسْجِدِ قَالَ سُلَيْمَانُ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُخْرِبَهُ وَأَنَا حَيٌّ، أَنْتِ الَّتِي عَلَى وَجْهِكِ هَلَاكِي وَخَرَابُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَنَزَعَهَا وَغَرَسَهَا فِي حَائِطٍ لَهُ، ثُمَّ دَخَلَ الْمِحْرَابَ فَقَامَ يُصَلِّي مُتَّكِئًا عَلَى عَصَاهُ فَمَاتَ، وَلا تَعْلَمُ بِهِ الشَّيَاطِينُ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَعْمَلُونَ لَهُ يَخَافُونَ أَنْ يَخْرُجَ فَيُعَاقِبَهُمْ، وَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ تَجْتَمِعُ حَوْلَ الْمِحْرَابِ، وَكَانَ الْمِحْرَابُ لَهُ كُوًى بَيْنَ يَدَيْهِ وَخَلْفَهُ، فَكَانَ الشَّيْطَانُ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَخْلَعَ يَقُولُ: أَلَسْت جَلِيدًا إِنْ دَخَلْتُ فَخَرَجْتُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ؟ فَيَدْخُلُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْجَانِبِ الآخِرِ، فَدَخَلَ شَيْطَانٌ مِنْ أُولَئِكَ، فَمَرَّ- وَلَمْ يَكُنْ شَيْطَانٌ يَنْظُرُ إِلَى سُلَيْمَانَ فِي الْمِحْرَابِ إِلَّا احْتَرَقَ- وَلَمْ يَسْمَعْ صَوْتَ سُلَيْمَانَ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَمْ يَسْمَعْ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَمْ يَسْمَعْ ثُمَّ رَجَعَ فَوَقَفَ فِي الْبَيْتِ فَلَمْ يَحْتَرِقْ، وَنَظَرَ إِلَى سُلَيْمَانَ قَدْ سَقَطَ مَيِّتًا، فَخَرَجَ فَأَخْبَرَ النَّاسَ أَنَّ سُلَيْمَانَ قَدْ مَاتَ، فَفَتَحُوا عَنْهُ فَأَخْرَجُوهُ، وَوَجَدُوا مِنْسَأَتَهُ- وَهِيَ الْعَصَا بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ- قَدْ أَكَلَتْهَا الْأَرَضَةُ، وَلَمْ يَعْلَمُوا مُنْذُ كَمْ مَاتَ، فَوَضَعُوا الْأَرَضَةَ عَلَى الْعَصَا، فَأَكَلَتْ مِنْهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً، ثُمَّ حَسَبُوا عَلَى ذَلِكَ النَّحْوِ فَوَجَدُوهُ قَدْ مَاتَ مُنْذُ سَنَةٍ، وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مسعود: فمكثوا يدينون لَهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ حَوْلًا كَامِلًا، فَأَيْقَنَ النَّاسُ عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْجِنَّ كَانُوا يَكْذِبُونَهُمْ، وَلَوْ أَنَّهُمْ عَلِمُوا الْغَيْبَ لَعَلِمُوا مَوْتَ

سُلَيْمَانَ، وَلَمْ يَلْبَثُوا فِي الْعَذَابِ سَنَةً يَعْمَلُونَ لَهُ، وَذَاكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «مَا دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ» - إِلَى قوله- «فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ» يَقُولُ: بُيِّنَ أَمْرُهُمْ لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْذِبُونَهُمْ ثُمَّ إِنَّ الشَّيَاطِينَ قَالُوا لِلْأَرَضَةِ: لَوْ كُنْتِ تَأْكُلِينَ الطَّعَامَ أَتَيْنَاكِ بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ، وَلَوْ كُنْتِ تَشْرَبِينَ الشَّرَابَ سَقَيْنَاكِ أَطْيَبَ الشَّرَابِ، وَلَكِنَّا سَنَنْقُلُ إِلَيْكِ الْمَاءَ وَالطِّينَ قَالَ: فَهُمْ يَنْقُلُونَ إِلَيْهَا ذَلِكَ حَيْثُ كَانَتْ قَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الطِّينِ الَّذِي يَكُونُ فِي جَوْفِ الْخَشَبِ فَهُوَ مَا يَأْتِيهَا بِهِ الشَّيَاطِينُ شُكْرًا لَهَا! وَكَانَ جَمِيعُ عُمْرِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ فِيمَا ذُكِرَ نَيِّفًا وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَفِي سَنَةِ أَرْبَعٍ مِنْ مُلْكِهِ ابْتَدَأَ بِبِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِيمَا ذُكِرَ

ذكر من ملك إقليم بابل والمشرق من ملوك الفرس بعد كيقباذ

ذكر من ملك إقليم بابل والمشرق من ملوك الفرس بعد كيقباذ قَالَ أبو جعفر: ونرجع الآن إلى الخبر عمن ملك إقليم بابل والمشرق من ملوك الفرس بعد كيقباذ. وملك بعد كيقباذ بن زاغ بن يوجياه كيقاوس بن كيبية بن كيقباذ الملك. فذكر أنه قَالَ يوم ملك: إن الله تعالى إنما خولنا الأرض وما فيها لنسعى فيها بطاعته، وأنه قتل جماعة من عظماء البلاد التي حوله، وحمى بلاده ورعيته ممن حواليهم من الأعداء أن يتناولوا منها شيئا، وأنه كان يسكن بلخ، وأنه ولد له ابن لم ير مثله في عصره في جماله وكماله وتمام خلقه، فسماه سياوخش، وضمه إلى رستم الشديد بن دستان بن نريمان بن جودنك ابن كرشاسب بن أثرط بن سهم بن نريمان. وكان اصبهبذ سجستان وما يليه من قبله يربيه ويكفله، وأوصاه به فأخذه منه رستم، فمضى به معه إلى موضع عمله سجستان، فرباه رستم ولم يزل في حجره يجمع له وهو طفل الحواضن والمرضعات، ويتخيرهن له،

حتى إذا ترعرع جمع له المعلمين، فتخير له منهم من اختاره لتعليمه، حتى إذا قدر على الركوب علمه الفروسية حتى إذا تكاملت فيه فنون الآداب، وفاق في الفروسية قدم به على والده رجلا كاملا، فامتحنه والده كيقاوس، فوجده نافذا في كل ما أراد بارعا، فسر به، وكان كيقاوس تزوج- فيما ذكر- ابنه فراسياب ملك الترك، وقيل: بل إنها بنت ملك اليمن، وكان يقال لها سوذابة، وكانت ساحرة، فهويت سياوخش، ودعته إلى نفسها، وأنه امتنع عليها، وذكرت لها ولسياوخش قصة يطول بذكرها الكتاب، غير أن آخر أمرهما صار في ذلك- فيما ذكر لي- أن سوذابة لم تزل لما رأت من امتناع سياوخش عليها فيما أرادت منه من الفاحشة بأبيه كيقاوس حتى أفسدته عليه، وتغير لابنه سياوخش، فسأل سياوخش رستم أن يسأل أباه كيقاوس توجيهه لحرب فراسياب لسبب منعه بعض ما كان ضمن له عند إنكاحه ابنته إياه، وصلح جرى بينه وبينه، مريدا بذلك سياوخش البعد عن والده كيقاوس، والتنحى عما تكيد به عنده زوجته سوذابة، ففعل ذلك رستم، واستأذن له أباه فيما سأله، وضم إليه جندا كثيفا، فشخص إلى بلاد الترك للقاء فراسياب، فلما صار إليه سياوخش، جرى بينهما صلح، وكتب بذلك سياوخش إلى أبيه يعلمه ما جرى بينه وبين فراسياب من الصلح، فكتب اليه والده يأمره بمناهضه فراسياب ومناجزته الحرب، إن هو لم يذعن له بالوفاء بما كان فارقه عليه فرأى سياوخش أن في فعله ما كتب به إليه أبوه من محاربه فراسياب بعد الذي جرى بينه وبينه من الصلح والهدنة من غير نقض فراسياب شيئا من أسباب ذلك عليه عارا ومنقصة ومأثما، فامتنع من إنفاذ أمر أبيه في ذلك، ورأى في نفسه أنه يؤتى في كل ذلك من زوجة أبيه التي دعته إلى نفسها فامتنع عليها، ومال إلى الهرب

من ابيه، فراسل فراسياب في أخذ الأمان لنفسه منه، واللحاق به، وترك والده، فأجابه فراسياب إلى ذلك- وكان السفير بينهما في ذلك- فيما قيل- رجلا من الترك من عظمائهم يقال له: فيران بن ويسغان- فلما فعل ذلك سياوخش انصرف عنه من كان معه من جند أبيه كيقاوس. فلما صار سياوخش الى فراسياب بوأه وأكرمه وزوجه ابنة له يقال لها: وسفافريد، وهي أم كيخسرونة، ثم لم يزل له مكرما حتى ظهر له أدب سياوخش وعقله وكماله وفروسيته ونجدته ما أشفق على ملكه منه، فأفسده ذلك عنده، وزاده فسادا عليه سعي ابنين له وأخ يقال له: كندر بن فشنجان عليه بإفساد أمر سياوخش عنده، حسدا منهم له، وحذرا على ملكهم منه، حتى مكنهم من قتله، فذكر في سبب وصولهم إلى قتله أمر يطول بشرحه الخطب، إلا أنهم قتلوه ومثلوا به وامرأته ابنة فراسياب حامل منه بابنه كيخسرونة، فطلبوا الحيلة لإسقاطها ما في بطنها فلم يسقط، وأن فيران الذى سعى في عقد الصلح بين فراسياب وسياوخش لما صح عنده ما فعل فراسياب من قتله سياوخش، أنكر ذلك من فعله، وخوفه عاقبة الغدر، وحذره الطلب بالثأر من والده كيقاوس ومن رستم، وسأله دفع ابنته وسفافريد إليه لتكون عنده إلى أن تضع ما في بطنها ثم يقتله. ففعل ذلك فراسياب، فلما وضعت رق فيران لها وللمولود، فترك قتله وستر أمره، حتى بلغ المولود، فوجه- فيما ذكر- كيقاوس إلى بلاد الترك بي بن جوذرز، وأمره بالبحث عن المولود الذي ولدته زوجة ابنه سياوخش، والتأتي لإخراجه إليه، إذا وقف على خبره مع أمه، وأن بيا شخص لذلك، فلم يزل يفحص عن أمر ذلك المولود، متنكرا حينا من الزمان فلا يعرف له خبر، ولا يدله عليه أحد. ثم وقف بعد ذلك على خبره، فاحتال فيه وفي أمه حتى أخرجهما من أرض الترك إلى كيقاوس، وقد كان كيقاوس- فيما ذكر- حين اتصل به

قتل ابنه أشخص جماعة من رؤساء قواده، منهم رستم بن دستان الشديد، وطوس بن نوذران، وكانا ذوي بأس ونجدة، فأثخنا الترك قتلا واسرا، وحاربا فراسياب حربا شديدة وأن رستم قتل بيده شهر وشهره ابنى فراسياب وان طوسا قتل بيده كندر أخا فراسياب. وذكر أن الشياطين كانت مسخرة لكيقاوس، فزعم بعض أهل العلم بأخبار المتقدمين أن الشياطين الذين كانوا سخروا له إنما كانوا يطيعونه عن أمر سليمان بن داود إياهم بطاعته، وأن كيقاوس أمر الشياطين فبنوا له مدينة سماها كنكدر، ويقال: قيقذون، وكان طولها- فيما زعموا- ثمانمائه فرسخ، وأمرهم فضربوا عليها سورا من صفر، وسورا من شبه، وسورا من نحاس، وسورا من فخار، وسورا من فضة، وسورا من ذهب وكانت الشياطين تنقلها ما بين السماء والأرض وما فيها من الدواب والخزائن والأموال والناس وذكروا أن كيقاوس كان لا يحدث وهو يأكل ويشرب. ثم إن الله تعالى بعث إلى المدينة التي بناها كذلك من يخربها فأمر كيقاوس شياطينه بمنع من قصد لتخريبها، فلم يقدروا على ذلك، فلما رأى كيقاوس الشياطين لا تطيق الدفع عنها، عطف عليها، فقتل رؤساءها وكان كيقاوس- فيما ذكر- مظفرا لا يناوئه أحد من الملوك إلا ظفر عليه وقهره، ولم يزل ذلك أمره حتى حدثته نفسه- لما كان أتي من العز والملك، وأنه لا يتناول شيئا إلا وصل إليه- بالصعود إلى السماء. فحدثت عن هشام بن مُحَمَّد أنه شخص من خراسان حتى نزل بابل، وقال: ما بقي شيء من الأرض إلا وقد ملكته، ولا بد من أن أعرف أمر السماء والكواكب وما فوقها، وأن الله أعطاه قوة ارتفع بها ومن معه في الهواء حتى انتهوا إلى السحاب، ثم إن الله سلبهم تلك القوة فسقطوا فهلكوا، وأفلت بنفسه وأحدث يومئذ، وفسد عليه ملكه، وتمزقت الأرض، وكثرت الملوك في النواحي، فصار يغزوهم ويغزونه، فيظفر مرة وينكب اخرى

قَالَ: فغزا بلاد اليمن- والملك بها يومئذ ذو الاذعار بن أبرهة ذي المنار ابن الرائش- فلما ورد بلاد اليمن خرج عليه ذو الأذعار بن أبرهة وكان قد أصابه الفالج، فلم يكن يغزو قبل ذلك بنفسه قال: فلما اظله كيقاوس ووطيء بلاده في جموعه خرج بنفسه في جموع حمير وولد قحطان، فظفر بكيقاوس، فأسره، واستباح عسكره، وحبسه في بئر، وأطبق عليه طبقا قَالَ: وخرج من سجستان رجل يقال له رستم، كان جبارا قويا فيمن أطاعه من الناس قال: فزعمت الفرس انه دخل بلاد اليمن، واستخرج قبوس من محبسه وهو كيقاوس قَالَ: وزعم أهل اليمن أنه لما بلغ ذا الأذعار إقبال رستم خرج اليه في جنوده وعدده، وخندق كل واحد منهما على عسكره، وأنهما أشفقا على جنديهما من البوار، وتخوفا ان تزاحفا ألا تكون لهما بقية، فاصطلحا على دفع كيقاوس إلى رستم، ووضع الحرب، فانصرف رستم بكيقوس إلى بابل، وكتب كيقاوس لرستم عتقا من عبودة الملك، وأقطعه سجستان وزابلستان، وأعطاه قلنسوة منسوجة بالذهب وتوجه، وأمره أن يجلس على سرير من فضة، قوائمه من ذهب، فلم تزل تلك البلاد بيد رستم حتى هلك كيقاوس وبعده دهرا طويلا. قَالَ: وكان ملكه مائة وخمسين سنة. وزعم علماء الفرس أن أول من سود لباسه على وجه الحداد شادوس بن جودرز على سياوخش، وأنه فعل ذلك يوم ورد على كيقاوس نعي ابنه سياوخش وقتل فراسياب إياه، وغدره به، وأنه دخل على كيقاوس، وقد لبس السواد، فاعلمه أنه فعل ذلك لأن يومه يوم إظلام وسواد. وقد حقق ما ذكر ابن الكلبي من أسر صاحب اليمن قابوس الحسن بن هانئ في شعر له فقال:

وقاظ قابوس في سلاسلنا ... سنين سبعا وفت لحاسبها ثم ملك من بعد كيقاوس ابن ابنه كيخسرو بن سياوخش بن كيقاوس ابن كيبية بن كيقباذ. وكان كيقاوس حين صار به وبامه وسفافريد ابنه فراسياب- وربما قيل وسففره- بي بن جوذرز إليه من بلاد الترك ملكه، فلما قام بالملك بعد جده كيقاوس، وعقد التاج على رأسه خطب رعيته خطبة بليغه، أعلمهم فيها أنه على الطلب بدم أبيه سياوخش قبل فراسياب التركي، ثم كتب إلى جوذرز الأصبهبذ- كان- بأصبهان ونواحي خراسان- يأمره بالمصير إليه، فلما صار إليه أعلمه ما عزم عليه من الطلب بثأره من قتل والده، وأمره بعرض جنده، وانتخاب ثلاثين الف جل منهم، وضمهم إلى طوس بن نوذران، ليتوجه بهم إلى بلاد الترك، ففعل ذلك جوذرز، وضمهم إلى طوس، وكان فيمن أشخص معه برزافره بن كيقاوس، عم كيخسرو وبي بن جوذرز،

وجماعه كثيره من اخوته، وتقدم كيخسرو الى طوس، ان يكون قصده لفراسياب وطراخنته، وألا يمر بناحية من بلاد الترك، وكان فيها أخ له يقال له فروذ بن سياوخش، من امرأة يقال لها برزا فريد، كان سياوخش تزوجها في بعض مدائن الترك ايام سار الى فراسياب، ثم شخص عنها وهي حبلى، فولدت فروذ فأقام بموضعه، إلى أن شب فغلط طوس في أمر فروذ- فيما قيل- وذلك أنه لما صار بحذاء المدينة التي كان فيها فروذ هاج بينه وبينه حرب ببعض الأسباب، فهلك فروذ فيها، فلما اتصل خبره بكيخسرو كتب إلى برزافره عمه كتابا غليظا، يعلمه فيه ما ورد عليه من خبر طوس ابن نوذران ومحاربته فروذ أخاه، وأمره بتوجيه طوس إليه مقيدا مغلولا، وتقدم إليه في القيام بأمر العسكر والنفوذ به لوجهه، فلما وصل الكتاب إلى برزافره، جمع رؤساء الأجناد والمقاتلة فقرأه عليهم، وأمر بغل طوس وتقييده، ووجهه مع ثقات من رسله إلى كيخسرو، وتولى امر العسكر، وعبر النهر المعروف بكاسبروذ، وانتهى الخبر الى فراسياب، فوجه إلى برزافره جماعة من إخوته وطراخنته محاربته، فالتقوا بموضع من بلاد الترك يقال له واشن، وفيهم فيران بن ويسغان واخوته طراسيف بن جوذرز صهر فراسياب، وهماسف ابن فشنجان، وقاتلوا قتالا شديدا، وظهر من برزافره في ذلك اليوم فشل لما رأى من شدة الأمر وكثرة القتلى، حتى انحاز بالعلم إلى رءوس الجبال واضطرب على ولد جوذرز أمرهم، فقتل منهم في تلك الملحمة في وقعة واحدة سبعون رجلا، وقتل من الفريقين بشر كثير، وانصرف برزافره ومن كان معه إلى كيخسرو، وبهم من الغم والمصيبة ما تمنوا معه الموت، فكان خوفهم من سطوة كيخسرو أشد، فلما دخلوا على كيخسرو أقبل على برزافره بلائمة شديدة، وقال: أتيتم في وجهكم لترككم وصيتي ومخالفة وصية الملوك، تورد مورد السوء، وتورث الندامة، وبلغ ما أصيبوا به من كيخسرو حتى رئيت الكآبة في وجهه، ولم يلتذ طعاما ولا نوما فلما مضت لموافاتهم أيام أرسل إلى جوذرز فلما دخل عليه أظهر التوجع له، فشكا إليه جوذرز برزافره، وأعلمه أنه كان

السبب للهزيمة بالعلم وخذلانه ولده، فقال له كيخسرو: إن حقك بخدمتك لآبائنا لازم لنا، وهذه جنودنا وخزائننا مبذولة لك في مطالبة ترتك، وامره بالتهيؤ والاستعداد والتوجه الى فراسياب، والعمل في قتله وتخريب بلاده، فلما سمع جوذرز مقالة كيخسرو نهض مبادرا فقبل يده، وقال: أيها الملك المظفر، نحن رعيتك وعبيدك، فإن كانت آفة أو نازلة، فلتكن بالعبيد دون ملوكها، وأولادي المقتولون فداؤك، ونحن من وراء الانتقام من فراسياب والاشتفاء من مملكة الترك، فلا يغمن الملك ما كان، ولا يدعن لهوه، فإن الحرب دول، وأعلمه أنه على النفوذ لأمره وخرج من عنده مسرورا. فلما كان من الغد أمر كيخسرو أن يدخل عليه رؤساء أجناده والوجوه من أهل مملكته، فلما دخلوا عليه أعلمهم ما عزم عليه من محاربة الأتراك، وكتب إلى عماله في الآفاق يعلمهم ذلك، ويأمر بموافاتهم في صحراء تعرف بشاه أسطون، من كورة بلخ، في وقت وقته لهم فتوافت رؤساء الأجناد في ذلك الموضع، وشخص إليه كيخسرو بإصبهبذته وأصحابهم، وفيهم برزافره عمه وأهل بيته، وجوذرز وبقية ولده فلما تكاملت الملحمة، واجتمعت المرازبة، تولى كيخسرو بنفسه عرض الجند حتى عرف مبلغهم، وفهم أحوالهم، ثم دعا بجوذرز بن جشوادغان، وميلاذ بن جرجين وأغص بن بهذان- وأغص ابن وصيفة كانت لسياوخش، يقال لها: شوماهان- فأعلمهم أنه قد أراد إدخال العساكر على الترك من أربعة أوجه، حتى يحيطوا بهم برا وبحرا، وأنه قد قود على تلك العساكر، وجعل أعظمها إلى جوذرز، وصير مدخله من ناحية خراسان، وجعل فيمن ضم إليه برزافره عمه وبي بن جوذرز وجماعة من الأصبهبذين كثيرة، ودفع إليه يومئذ العلم الأكبر الذي كانوا يسمونه درفش كابيان، وزعموا أن ذلك العلم لم يكن دفعه أحد من الملوك إلى أحد من القواد قبل ذلك، وإنما كانوا يسيرونه مع أولاد الملوك إذا وجهوهم في

الأمور العظام وأمر ميلاذ بالدخول مما يلي الصين، وضم إليه جماعة كثيرة دون من ضم إلى جوذرز، وأمر أغص بالدخول من ناحية الخزر في مثل من ضم إلى ميلاذ، وضم إلى شومهان إخوتها وبني عمها وتمام ثلاثين ألف رجل من الجند، وأمرها بالدخول من طريق بين طريق جوذرز وميلاذ. ويقال: إن كيخسرو إنما غزا شومهان لخاصتها بسياوخش، وكانت نذرت أن تطالب بدمه فمضى جميع هؤلاء لوجههم، ودخل جوذرز بلاد الترك من ناحية خراسان، وبدأ بفيران بن ويسغان، فالتحمت بينهما حرب شديدة مذكورة، وهي الحرب التي قتل فيها بيزن بن بي خمان بن ويسغان مبارزة، وقتل جوذرز فيران أيضا، ثم قصد جوذرز فراسياب، وألحت عليه العساكر الثلاثة، كل عسكر من الوجه الذي دخل منه، واتبع القوم بعد ذلك كيخسرو بنفسه، وجعل قصده للوجه الذي كان فيه جوذرز، وصير مدخله منه، فوافى عسكر جوذرز، وقد أثخن في الترك، وقتل فيران رئيس اصبهبذى فراسياب، والمرشح للملك من بعده، وجماعة كثيرة من أخوته، مثل خمان، واوستهن، وجلباد، وسيامق، وبهرام، وفرشخاذ، وفرخلاد. ومن ولده، مثل روين بن فيران، وكان مقدما عند فراسياب، وجماعه من اخوه فراسياب، مثل: رتدراى، وأندرمان، وأسفخرم، وأخست. وأسر بروا بن فشنجان قاتل سياوخش، ووجد جوذرز قد أحصى القتلى والأسرى، وما غنم من الكراع والأموال، فوجد مبلغ ما في يده من الأسرى ثلاثين ألفا، ومن القتلى خمسمائة ألف ونيفا وستين ألف رجل، ومن الكراع والورق والأموال ما لا يحصى كثرة، وأمر كل واحد من الوجوه الذين كانوا معه أن يجعل أسيره أو قتيله من الأتراك عند علمه لينظر كيخسرو إلى ذلك عند موافاته. فلما وافى كيخسرو العسكر وموضع الملحمة اصطفت له الرجال، وتلقاه جوذرز وسائر الإصبهبذين، فلما دخل العسكر جعل يمر بعلم علم، فكان أول قتيل رآه جثة فيران عند علم جوذرز، فلما نظر إليها وقف ثم قال:

أيها الجبل الصعب الذرا المنيع الأركان! ألم أنهك عن هذه المحاربة، وعن نصب نفسك لنا دون فراسياب في هذه المطالبة! ألم أبذل لك نفسي، وأعرض عليك ملكي فلم تحسن الاختيار! ألست الصدوق اللسان، الحافظ للإخوان، الكاتم للأسرار! ألم اعلمك مكر فراسياب وقلة وفائه فلم تفعل ما أمرتك بل مضيت في نومك حتى احتوشتك الليوث من مقاتلتنا وأبناء مملكتنا! ما اغنى عنك فراسياب، وقد فارقت الدنيا وأفنيت آل ويسغان! فويل لحلمك وفهمك! وويل لسخائك وصدقك! إنا بك اليوم لموجعون! ولم يزل كيخسرو يرثي فيران حتى صار إلى علم بي بن جوذرز، فلما وقف عليه وجد بروا بن فشنجان حيا أسيرا في يدي بي، فسأل عنه فأخبر أنه بروا قاتل سياوخش الماثل به عند قتله إياه فقرب منه كيخسرو، ثم طأطأ رأسه بالسجود شكرا لربه، ثم قَالَ: الحمد لله الذي أمكنني منك يا بروا! أنت الذي قتلت سياوخش، ومثلت به! وأنت الذي سلبته زينته وتكلفت من بين الأتراك إبارته، فغرست لنا بفعلك هذه الشجرة من العداوة، وهيجت بيننا هذه المحاربة، وأشعلت في كلا الفريقين نارا موقدة! أنت الذي جرى على يديك تبديل صورته، وتوهين قوته! أما تهيبت أيها التركي جماله! ألا أبقيت عليه للنور الساطع على وجهه! أين نجدتك وقوتك اليوم! وأين أخوك الساحر عن نصرتك! لست أقتلك لقتلك إياه، بل لكلفتك وتوليك ما كان صلاحا لك ألا تتولاه، وسأقتل من قتله ببغيه وجرمه. ثم أمر أن تقطع أعضاؤه حيا ثم يذبح ففعل ذلك به بي، ولم يزل كيخسرو يمر بعلم علم، وأصبهبذ أصبهبذ، فإذا صار إلى الواحد منهم قَالَ له نحو ما ذكرنا، ثم صار إلى مضاربه، فلما استقر فيها دعا ببرزافره عمه، فلما دخل عليه أجلسه عن يمينه، وأظهر له السرور بقتله جلباذ بن ويسغان مبارزة، ثم أجزل جائزته وملكه على كرمان ومكران ونواحيها، ثم دعا بجوذرز، فلما

دخل عليه قَالَ له: أيها الأصبهبذ الرشيد، والكهل الشفيق، إنه مهما كان من هذا الفتح العظيم فمن ربنا عز وجل، وعن غير حيلة منا ولا قوة، ثم برعايتك حقنا، وبذلك نفسك وأولادك لنا، وذلك مذخور لك عندنا، وقد حبوناك بالمرتبة التي يقال لها بزرجفرمذار، وهي الوزارة، وجعلنا لك أصبهان وجرجان وجبالهما، فأحسن رعاية أهلها فشكر جوذرز ذلك، وخرج من عنده بهجا مسرورا، ثم أمر بالوجوه من أصبهبذته الذين كانوا مع جوذرز ممن حسن بلاؤه، وتولى قتل طراخنة الأتراك، ولد فشنجان وويسغان، مثل جرجين بن ميلاذان، وبي، وشادوس ولخام، وجدمير بن جوذرز، وبيزن بن بي، وبرازه بن بيفغان، وفروذه بن فامدان وزنده بن شابريغان، وبسطام بن كزدهمان، وفرته بن تفارغان فدخلوا عليه رجلا رجلا، فمنهم من ملكه على البلدان الشريفة، ومنهم من خصه بأعمال من أعمال حضرته، ثم لم يلبث أن وردت عليه الكتب من ميلاذ وأغص وشومهان بإثخانهم في بلاد الترك، وأنهم قد هزموا فراسياب عسكرا بعد عسكر، فكتب إليهم أن يجدوا في محاربة القوم، وأن يوافوه بموضع سماه لهم من بلاد الترك. فزعموا أن العساكر الأربعة لما أحاطت بفراسياب، وأتاه من قتل من قتل، وأسر من أسر، وخراب ما خرب ما أتاه، ضاقت عليه المذاهب، ولم يبق معه من ولده إلا شيده- وكان ساحرا- فوجهه نحو كيخسرو بالعدة والعتاد، فلما وافى كيخسرو أعلم أن أباه إنما وجهه للاحتيال عليه، فجمع أصبهبذته وتقدم إليهم في الاحتراس من غيلته. وقيل: ان كيخسرو واشفق يومئذ من شيده وهابه، وظن ألا طاقة له به، وأن القتال اتصل بينهما أربعة أيام، وإن رجلا من خاصة كيخسرو يقال له جرد بن جرهمان عبى يومئذ أصحاب كيخسرو، فأحسن تعبيتهم، فكثرت القتلى بينهم واستماتت رجال خنيارث وجدت، وايقن شيده الا طاقة له بهم فانهزم، واتبعه كيخسرو بمن معه، ولحقه جرد فضربه على هامته بالعمود ضربة خر منها ميتا، ووقف كيخسرو على جيفته، فعاين منها سماجة شنعة، وغنم كيخسرو ما كان من عسكرهم، وبلغ الخبر فراسياب، فاقبل بجميع

طراخنته، فلما التقى وكيخسرو، ونشبت بينهما حرب شديدة لا يقال إن مثلها كان على وجه الأرض قبلها، فاختلط رجال خنيارث برجال الترك، وامتد الأمر بينهم حتى لم تقع العين يومئذ إلا على الدماء، والاسر من جوذرز ولده وجرجين وجرد وبسطام، ونظر فراسياب وهم يحمون كيخسرو كأنهم اسود ضاربه، فانهزم موليا على وجهه هاربا، فأحصيت القتلى فيما ذكر يومئذ، فبلغت عدتهم مائة ألف، وجد كيخسرو واصحابه في طلب فراسياب، وقد تجرد للهرب فلم يزل يهرب من بلد إلى بلد حتى أتى أذربيجان، فاستتر في غدير هناك يعرف ببئر خاسف، ثم ظفر به، فلما أتى كيخسرو استوثق منه بالحديد، ثم أقام للاستراحة بموضعه ثلاثة أيام، ثم دعاه، فسأله عن عذره في أمر سياوخش، فلم يكن له عذر ولا حجة، فأمر بقتله، فقام إليه بي بن جوذرز، فذبحه كما ذبح سياوخش، ثم أتى كيخسرو بدمه، فغمس فيه يده، وقال هذا بترة سياوخش، وظلمكم اياه واعتدائكم عليه ثم انصرف من أذربيجان ظافرا غانما بهجا. وذكر أن عدة من أولاد كيبيه جد كيخسرو الأكبر وأولادهم كانوا مع كيخسرو في حرب الترك، وأن ممن كان معه كي أرش بن كيبيه، وكان مملكا على خوزستان وما يليها من بابل وكي به أرش، وكان مملكا على كرمان ونواحيها، وكي أوجي بن كيمنوش بن كيفاشين بن كيبيه، وكان مملكا على فارس، وكي أوجي هذا هو ابو كي لهراسف الملك، ويقال ان أخا لفراسياب كان يقال له: كي شراسف، صار إلى بلاد الترك بعد قتل كيخسرو أخاه، فاستولى على ملكها، وكان له ابن يقال له خرزاسف، فملك البلاد بعد أبيه، وكان جبارا عاتيا، وهو ابن أخي فراسياب ملك الترك الذي كان حارب منوشهر، وجوذرز هو ابن جشواغان بن يسحره بن قرحين بن حبر بن رسود بن أورب بن تاج بن رشيك بن أرس بن وندح بن رعر بن نودراحاه بن مسواغ بن نوذر بن منوشهر. فلما فرغ كيخسرو من المطالبة بوتره، واستقر في مملكته زهد في الملك، وتنسك، وأعلم الوجوه من أهله وأهل مملكته أنه على التخلي من الأمر، فاشتد

لذلك جزعهم، وعظمت له وحشتهم، واستغاثوا إليه، وطلبوا وتضرعوا، وراودوه على المقام بتدبير ملكهم، فلم يجدوا عنده في ذلك شيئا، فلما يئسوا قَالُوا بأجمعهم: فإذا قمت على ما أنت عليه فسم للملك رجلا نقلده إياه، وكان لهراسف حاضرا، فأشار بيده إليه، وأعلمهم أنه خاصته ووصيه، فأقبل الناس إلى لهراسف، وذلك بعد قبوله الوصية وفقد كيخسرو، فبعض يقول: إنه غاب للنسك فلا يدرى أين مات، ولا كيف كانت ميتته، وبعض يقول غير ذلك. وتقلد لهراسف الملك بعده على الرسم الذي رسم له، وولد كيخسرو: جاماس، وأسبهر، ورمى، ورمين. وكان ملك كيخسرو ستين سنه

امر إسرائيل بعد سليمان بن داود ع

امر إسرائيل بعد سليمان بن داود ع رجع الحديث الى الخبر عن امر بنى إسرائيل بعد سليمان بن داود ع. ثم ملك بعد سليمان بن داود على جميع بني إسرائيل ابنه رحبعم بن سليمان، وكان ملكه- فيما قيل- سبع عشرة سنة ثم افترقت ممالك بني إسرائيل فيما ذكر بعد رحبعم، فكان أبيا بن رحبعم ملك سبط يهوذا وبنيامين، دون سائر الأسباط، وذلك أن سائر الأسباط ملكوا عليهم يوربعم بن نابط، عبد سليمان، لسبب القربان الذي كانت زوجة سليمان قربته في داره، وكانت قربت فيها جرادة لصنم، فتوعده الله بإزالة بعض الملك عن ولده، فكان ملك رحبعم إلى أن توفي- فيما ذكر- ثلاث سنين. ثم ملك أسا بن أبيا أمر السبطين اللذين كان أبوه يملك أمرهما- وهما سبط يهوذا وسبط بنيامين- إلى أن توفي، إحدى وأربعين سنة . ذكر خبر أسا بن أبيا وزرح الهندي حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهب بن منبه يقول: إن ملكا من ملوك بنى إسرائيل يقال له أسا بن أبيا، كان رجلا صالحا، وكان أعرج، وكان ملك من ملوك الهند يقال له زرح، وكان ملكا جبارا فاسقا يدعو الناس

إلى عبادته، وكان أبيا عابد أصنام، له صنمان يعبدهما من دون الله، ويدعو الناس إلى عبادتهما، حتى أضل عامة بني إسرائيل، وكان يعبد الأصنام حتى توفي ثم ملك ابنه أسا من بعده، فلما ملكهم بعث فيهم مناديا ينادي: ألا إن الكفر قد مات وأهله، وعاش الإيمان وأهله، وانتكست الأصنام وعبادتها، وظهرت طاعة الله وأعمالها، فليس كافر من بني إسرائيل يطلع رأسه بعد اليوم بكفر في ولايتي ودهري، إلا أني قاتله فإن الطوفان لم يغرق الدنيا وأهلها، ولم يخسف بالقرى، ولم تمطر الحجارة والنار من السماء إلا بترك طاعة الله، وإظهار معصيته، فمن أجل ذلك ينبغي لنا ألا نقر لله معصية يعمل بها، ولا نترك طاعة لله إلا أظهرناها جهدنا، حتى نطهر الأرض من نجسها، وننقيها من دنسها، ونجاهد من خالفنا في ذلك بالحرب والنفي من بلادنا. فلما سمع ذلك قومه ضجوا وكرهوا، فأتوا أم أسا الملك فشكوا إليها فعل ابنها بهم وبآلهتهم، ودعاءه إياهم إلى مفارقة دينهم، والدخول في عبادة ربهم، فتحملت لهم أمه أن تكلمه وتصرفه إلى عبادة أصنام والده، فبينا الملك قاعد وعنده أشراف قومه ورءوسهم وذوو طاعتهم، إذ اقبلت أم الملك فقام لها الملك من مجلسه، وأمرها أن تجلس فيه، معرفة بحقها، وتوقيرا لها فأبت عليه وقالت: لست ابني إن لم تجبني إلى ما أدعوك إليه، وتضع طاعتك في يدي حتى تفعل ما آمرك به، وتجيبني إلى أمر، إن أطعتني فيه رشدت وأخذت بحظك، وإن عصيتني فحظك بخست، ونفسك ظلمت إنه بلغني يا بني أنك بدأت قومك بالعظيم، دعوتهم إلى مخالفة دينهم، والكفر بآلهتهم، والتحول عما كان عليه آباؤهم، وأحدثت فيهم سنة، وأظهرت فيهم بدعة، أردت بذلك- فيما زعمت- تعظيما لوقارك، ومعرفة بمكانك، وتشديدا لسلطانك، وفي التقصير يا بني دخلت، وبالشين أخذت ودعوت جميع الناس إلى حربك، وانتدبت لقتالهم وحدك، أردت بذلك أن تعيد الأحرار لك عبيدا، والضعيف

لك شديدا، سفهت بذلك رأي العلماء، وخالفت الحكماء، واتبعت رأي السفهاء ولعمري ما حملك على ذلك يا بني إلا كثرة طيشك، وحداثة سنك، وقلة علمك، فإن أنت رددت علي كلامي، ولم تعرف حقي، فلست من نسل والدك، ولا ينبغي الملك لمثلك يا بني بأي شيء تدل على قومك؟ لعلك أوتيت من الحروف مثل ما اتى موسى إلى فرعون، أن غرقه وأنجى قومه من الظلمة أو لعلك أوتيت من القوة ما أوتي داود، أن قتل الأسد لقومه، ولحق الذئب فشق شدقه، وقتل جالوت الجبار وحده أو لعلك أوتيت من الملك والحكمة أفضل مما أوتي سليمان بن داود رأس الحكماء، إذ صارت حكمته مثلا للباقين بعده! يا بني إنه ما يأتك من حسنة فأنا أحظى الناس بها، وإن تكن الأخرى فأنا أشقاهم بشقوتك. فلما سمعها الملك اشتد غضبه، وضاق صدره، فقال لها: يا أمه! إنه لا ينبغي أن آكل على مائدة واحدة مع حبيبي وعدوي، كذلك لا ينبغي أن أعبد غير ربي هلمي إلى أمر إن أطعتني فيه رشدت، وإن تركته غويت، أن تعبدي الله وتكفري بكل آلهة دونه، فإنه ليس أحد يرد هذا علي إلا هو لله عدو، وأنا ناصره لأني عبده. قالت له: ما كنت لأفارق أصنامي، ولا دين آبائي وقومي ولا أترك ذلك لقولك، ولا أعبد الرب الذي تدعوني إليه. فقال لها الملك: حينئذ يا أمه، إن قولك هذا قد قطع فيما بيني وبينك رحمي. وأمر بها الملك عند ذلك فأخرجوها وغربوها، ثم أوصى إلى صاحب شرطته وبابه أن يقتلها إن هي ألمت بمكانه. فلما سمع ذلك منه الأسباط الذين كانوا حوله وقعت في قلوبهم المهابة،

فأذعنوا له بالطاعة، وانقطعت فيما بينهم وبينه كل حيلة، وقالوا: قد فعل هذا بأمه، فأين نقع نحن منه إذا خالفنا في أمره، ولم نجبه إلى دينه! فاحتالوا له كل حيلة، فحفظه الله وأباد مكرهم فلما لم يكن لهم عن ذلك صبر، ولا على فراق دينهم قوام، ائتمروا بأن يهربوا من بلاده، ويسكنوا بلادا غيرها، فخرجوا متوجهين الى زرح ملك الهند يطلبون أن يستحملوه على أسا ومن اتبعه، فلما دخلوا على زرح سجدوا له، فقال لهم: من أنتم؟ قَالُوا: نحن عبيدك، قَالَ: وأي عبيدي أنتم؟ قَالُوا: نحن من أرضك أرض الشام، وأنا كنا نعتز بملك، حتى ظهر فينا ملك صبي حديث السن سفيه، فغير ديننا، وسفه رأينا، وكفر آباءنا، وهان عليه سخطنا، فأتيناك لنعلمك ذلك، فتكون أنت أولى بملكنا، ونحن رءوسهم، وهي أرض كثير مالها، ضعيف أهلها، طيبة معيشتها، كثيرة أنضارها، وفيهم الكنوز وملك ثلاثين ملكا، وهم الذين كان يوشع بن نون خليفة موسى سار بهم في البحر هو وقومه، فنحن وأرضنا لك، وبلادنا بلادك، وليس أحد فيها يناصبك، هم دافعون أيديهم إليك بغير قتال، بأموالهم وانفسهم مسالمه. قال: لهم زرح: لعمري، ما كنت لأجيبكم إلى ما دعوتموني إليه، ولا أستجيب إلى مقاتلة قوم لعلهم أطوع لي منكم، حتى أبعث إليهم من قومي أمناء، فإن وقع الأمر على ما تكلمتم به قدامي نفعكم ذلك عندي، وجعلتكم عليها ملوكا، وإن كان كلامكم كذبا فإني منزل بكم العقوبة التي تنبغي لمن كذبني. قَالَ القوم: تكلمت بالعدل، وحكمت بالقسط، ونحن به راضون. فأمر عند ذلك بالأرزاق فأجريت عليهم، واختار من قومه أمناء ليبعثهم جواسيس، فأوصاهم بوصيته، وخوفهم وحذرهم بطشه إن هم كذبوه،

ووعدهم المعروف ان هم صدقوه وقال زرح: إني مرسلكم لأمانتكم، وشحكم على دينكم، وحسن رأيكم في قومكم، لتطالعوا لي أرضا من أرضي، وتبحثوا لي عن شأنها، وتعلموني علم أهلها وملكها وجنودها وعددها وعدد مياهها، وفجاجها وطرقها، ومداخلها ومخارجها، وسهولتها وصعوبتها، حتى كأني شاهد ذلك وعالمه، وحاضر ذلك وخابره وخذوا معكم من الخزائن من الياقوت والمرجان والكسوة ما يفرغون إليه إذا رأوه، ويشترون منكم إذا نظروا إليه. فأمكنهم من خزائنه حتى أخذوا منها، فجهزهم لبرهم وبحرهم، ووصف لهم القوم الذين أتوهم الطرق، ودلوهم على مقاصدها، فساروا كالتجار، حتى نزلوا ساحل البحر، ثم ركبوا منه حتى ارسوا على ساحل إيلياء، ثم ساروا حتى دخلوها، فخلفوا أثقالهم فيها، وأظهروا أمتعتهم وبضاعتهم، ودعوا الناس إلى أن يشتروا منهم، فلم يفرغوا لبضاعتهم، وكسدت تجارتهم، فجعلوا يعطون بالشيء القليل الشيء الكثير، لكيلا يخرجوهم من قريتهم، حتى يعلموا أخبارهم، ويحقوا شأنهم ويستخرجوا ما أمرهم به ملكهم من أخبارهم. وكان أسا الملك قد تقدم إلى نساء بني إسرائيل ألا يقدر على امرأة لا زوج لها بهيئة امرأة لها زوج إلا قتلها أو نفاها من بلاده إلى جزائر البحار، فإن إبليس لم يدخل على أهل الدين في دينهم بمكيدة هي أشد من النساء، فكانت المرأة التي لا زوج لها لا تخرج إلا منتقبة في رثة الثياب لئلا تعرف، فلما بذل هؤلاء الأمناء بضاعتهم ما ثمنه مائة درهم بدرهم، جعل نساء بني إسرائيل يشترين خفية بالليل سرا، لا يعلم بهن أحد من أهل دينهن، حتى أنفقوا بضاعتهم واشتروا بها حاجتهم، واستوعبوا خبر مدينتهم وحصونهم، وعدد مياههم، وكانوا قد كتموا رءوس بضاعتهم ومحاسنها من اللؤلؤ والمرجان والياقوت هدية للملك، وجعل الأمناء يسألون من رأوا من أهل القرية عن خبر الملك

وشأنه إذ لم يشتر منهم شيئا، وقالوا: ما شأن الملك لا يشتري منا شيئا! ان كان غنيا فان عندنا من طرائف البضاعات فنعطيه ما شاء مما لم يدخل مثله في خزائنه، وإن كان محتاجا فما يمنعه أن يشهدنا فنعطيه ما شاء بغير ثمن! قَالَ لهم من حضرهم من أهل القرية: ان له من الغنى والخزائن وفنون المتاع ما لم يقدر على مثله، إنه استفرغ الخزائن التي كان موسى سار بها من مصر، والحلي الذي كان بنو إسرائيل أخذوا، وما جمع يوشع بن نون خليفة موسى، وما جمع سليمان رأس الحكماء والملوك، من الغنى الكثير والآنية التي لا يقدر على مثلها قَالَ الأمناء: فما قتاله؟ وبأي شيء عظمته؟ وما جنوده؟ أرأيتم لو أن ملكا انحرف عليه ففتق ملكه ما كان إذا قتاله إياه؟ وما عدته وعدد جنوده؟ أم بأي الخيل والفرسان غلبته؟ أم من أجل كثرة جمعه وخزائنه وقعت في قلوب الرجال هيبته! فأجابهم القوم وقالوا: إن أسا الملك قليلة عدته، ضعيفة قوته، غير أن له صديقا لو دعاه واستعان به على أن يزيل الجبال أزالها، فإذا كان معه صديقه فليس شيء من الخلق يطيقه. قَالَ لهم الأمناء: ومن صديق أسا؟ وكم عدد جنوده؟ وكيف مواجهته وقتاله؟ وكم عدد عساكره ومراكبه؟ وأين قراره ومسكنه؟ فأجابهم القوم: أما مسكنه ففوق السموات العلا، مستو على عرشه، لا يحصى عدد جنوده، وكل شيء من الخلق له عبد، لو أمر البحر لطم على البر، ولو أمر الأنهار لغارت في عنصرها، لا يرى ولا يعرف قراره، وهو صديق أسا وناصره

فجعل الأمناء يكتبون كل شيء أخبروا به من أمر أسا وقضية أمره، فدخل بعض هؤلاء الأمناء عليه فقالوا: يا ايها الملك، إن معنا هدية نريد أن نهديها لك من طرائف بلادنا، أو تشتري منا فنرخصه عليك. قَالَ لهم: ائتوني بذلك حتى أنظر إليه، فلما أتوه به قَالَ لهم: هل يبقى هذا لأهله ويبقون له؟ قَالُوا: بل يفنى هذا ويفنى أهله قَالَ لهم أسا: لا حاجة لي فيه، إنما طلبتي ما تبقى بهجته لأهله، لا تزول ولا يزولون عنه. فخرجوا من عنده، ورد عليهم هديتهم، فساروا من بيت المقدس متوجهين إلى زرح الهندي ملكهم فلما أتوه نشروا له كتاب خبرهم وأنبئوه بما انتهى إليهم من أمر ملكهم، وأخبروه بصديق اسا فلما سمع زرح كلامهم استحلفهم بعزته، وبالشمس والقمر اللذين يعبدونهما ولهما يصلون ألا يكتموه من خبر ما رأوا في بني إسرائيل شيئا فصدقوه. فلما فرغوا من خبرهم وخبر أسا ملكهم وصديقه، قال لهم زرح: إن بني إسرائيل لما علموا أنكم جواسيس، وأنكم قد اطلعتم على عوراتهم ذكروا لكم صديق أسا وهم كاذبون، أرادوا بذلك ترهيبكم إن صديق أسا لا يطيق أن يأتي بأكثر من جندي، ولا بأكمل من عدتي، ولا بأقسى قلوبا ولا أجرأ على القتال من قومي، إن لقيني بألف لقيته بأكثر من ذلك. ثم عمد زرح عند ذلك فكتب إلى كل من في طاعته أن يجهزوا من كل مخلاف جندا بعدتهم حتى استمد يأجوج ومأجوج والترك وفارس مع

من سواهم من الأمم ممن جرت عليه لزرح طاعه، كتب: من زرح الجبار الهندي ملك الأرضين، إلى من بلغته كتبي: أما بعد فإن لي أرضا قد دنا حصادها وأينع ثمرها، وأردت أن تبعثوا إلي بعمال أغنمهم ما حصدوا منها، وهم قوم قصوا عني، وغلبوا على أطراف من أرضي وقهروا من تحت أيديهم من رقيقي، وقد منحتهم من نهض إليهم معي، فإن قصرت بكم قوة فعندي قوتكم، فإنه لا تتعطل خزائني. فاجتمعوا إليه من كل ناحية، وأمدوه بالخيل والفرسان والرجالة والعدة، فلما اجتمعوا عنده أمكنهم من السلاح والجهاز من خزائنه، ثم أمر بإحصاء عددهم وتعبيتهم، فبلغ عددهم الف الف ومائه الف سوى اهل بلادهم. وأمر بمائة مركب، فقرن له البغال، كل أربعة أبغل جميعا عليها سرير وقبة، وفي كل قبة منها جارية، ومع كل مركب عشرة من الخدم، وخمسة أفيال من فيلته، فبلغ في كل عسكر من عساكره مائة ألف، وجعل خاصته الذين يركبون معه مائة من رءوسهم، وجعل في كل عسكر عرفاء، وخطبهم وحرضهم على القتال، فلما نظر إليهم وسار فيهم تعزز وتعظم شأنه في قلوب من حضره، ثم قال زرح: أين صديق أسا؟ هل يستطيع أن يعصمه مني؟ أو من يطيق غلبتي؟ فلو أن أسا وصديقه ينظران إلي وإلى جندي ما اجترءا على قتالي، لأن عندي بكل واحد من جنده ألفا من جنودي، ليدخلن أسا أرضي أسيرا، ولأقدمن بقومه سبيا في جنودي. فجعل زرح ينتقص اسا ويقول فيه ما لا ينبغى، فبلغ اسا صنيع زرح وجمعه عليه، فدعا ربه فقال: اللهم أنت الذي بقوتك خلقت السموات والأرض ومن فيهن حتى صار جميع ذلك في قبضتك، أنت ذو الاناه

الرفيقة والغضب الشديد، أسألك ألا تذكرنا بخطايانا فيما بيننا وبينك، ولا تعمدنا ولا تجزينا على معصيتك، ولكن تذكرنا برحمتك التي جعلتها للخلائق، فانظر إلى ضعفنا وقوة عدونا، وانظر إلى قلتنا وكثرة عدونا، وانظر إلى ما نحن فيه من الضيق والغم، وانظر إلى ما فيه عدونا من الفرح والراحة، فغرق زرحا وجنوده في اليم بالقدرة التي غرقت بها فرعون وجنوده، وأنجيت موسى وقومه وأسألك أن تحل على زرح وقومه عذابك بغتة! فأري أسا في المنام- والله أعلم- أني قد سمعت كلامك، ووصل الى جوارك، وانى على عرشي، وانى ان غرقت زرحا الهندي وقومه، لم يعلم بنو إسرائيل ولا من كان بحضرتهم كيف صنعت بهم، ولكن ساظهر في زرح وقومه لك ولمن اتبعك قدرة من قدرتي، حتى اكفيك مؤنتهم، وأهب لك غنيمتهم، وأضع في أيديكم عساكرهم، حتى يعلم أعداؤك أن صديق أسا لا يطاق وليه، ولا يهزم جنده، ولا يخيب مطيعه، فأنا أتمهل له حتى يفرغ من حاجته، ثم أسوقه إليك عبدا، وعساكره لك ولقومك خولا. فسار زرح ومن معه حتى حلوا على ساحل ترشيش، فلم يكن إلا محلة يوم حتى دفنوا أنهارها، ومحوا مروجها، حتى كان الطير ينقصف عليهم، والوحش لا تستطيع الهرب منهم، فساروا حتى كانوا على مرحلتين من إيلياء، ففرق زرح عساكره منها الى إيلياء، وامتلأت منهم تلك الأرض: جبالها وسهولها، وامتلأت قلوب أهل الشام منهم رعبا، وعاينوا هلكتهم. فسمع بهم أسا الملك، فبعث إليهم طليعة من قومه، وأمرهم أن يخبروه بعددهم وهيئتهم فسار القوم الذين بعثهم أسا حتى نظروا إليهم من رأس تل، ثم رجعوا إلى اسا فاخبروه انه لم تر عيون بني آدم، ولا سمعت آذانهم مثلهم ومثل أفيالهم وخيولهم وفرسانهم، وما ظننا أن في الناس مثلهم كثرة وعدة، فلت من إحصائهم عقولنا، وفلت من قتالهم حيلتنا، وانقطع فيما بيننا وبينهم رجاؤنا

فسمع بذلك أهل القرية فشقوا ثيابهم، وذروا التراب على رءوسهم، وعجوا بالعويل في أزقتهم وأسواقهم، وجعل بعضهم يودع بعضا ثم ساروا حتى أتوا الملك فقالوا: نحن خارجون بأجمعنا إلى هؤلاء القوم فدافعون إليهم أيدينا، لعلهم أن يرحمونا فيقرونا في بلادنا قَالَ لهم أسا الملك: معاذ الله أن نلقي بأيدينا في أيدي الكفرة، وأن نخلي بيت الله وكتابه للفجرة! قَالُوا: فاحتل لنا حيلة، واطلب إلى صديقك وربك الذي كنت تعدنا بنصره، وتدعونا إلى الإيمان به، فإن هو كشف عنا هذا البلاء، وإلا وضعنا أيدينا في أيدي عدونا لعلنا نتخلص بذلك من القتل. قَالَ لهم أسا: إن ربي لا يطاق إلا بالتضرع والتبتل والاستكانة قَالُوا: فأبرز له لعله أن يجيبك فيرحم ضعفنا، فإن الصديق لا يسلم صديقه على مثل هذا فدخل اسا لمصلى، ووضع تاجه من راسه، وخلى ثيابه، ولبس المسوح وافترش الرماد، ثم مد يده يدعو ربه بقلب حزين، وتضرع كثير، ودموع سجال، وهو يقول: اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم، إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، أنت المستخفي من خلقك حيث شئت، لا يدرك قرارك، ولا يطاق كنه عظمتك، أنت اليقظان الذي لا تنام، والجديد الذي لا تبليك الليالي والأيام، أسألك بالمسألة التي سألك بها إبراهيم خليلك فأطفأت بها عنه النار، وألحقته بها بالأبرار، وبالدعاء الذي دعاك به نجيك موسى فأنجيت بني إسرائيل من الظلمة، وأعتقتهم به من العبودية، وسيرتهم في البر والبحر، وغرقت فرعون ومن اتبعه وبالتضرع الذى تضرع لك عبدك داود فرفعته، ووهبت له من بعد الضعف القوة، ونصرته على جالوت الجبار، وهزمته وبالمسألة التي سألك بها سليمان نبيك فمنحته الحكمة، ووهبت له الرفعة، وملكته على كل دابة أنت محيي الموتى، ومفني الدنيا، وتبقى

وحدك خالدا لا تفنى، وجديدا لا تبلى أسألك يا إلهي أن ترحمني بإجابة دعوتي، فإني أعرج مسكين من أضعف عبادك، وأقلهم حيله، وقد حل بنا كرب عظيم، وحزب شديد، لا يطيق كشفه غيرك، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك، فارحم ضعفنا بما شئت، فإنك ترحم من تشاء بما تشاء. وجعل علماء بني إسرائيل يدعون الله خارجا وهم يقولون: اللهم أجب اليوم عبدك، فإنه قد اعتصم بك وحدك، ولا تخل بينه وبين عدوك، واذكر حبه إياك، وفراقه أمه وجميع الخلائق إلا من أطاعك. فألقى الله على أسا النوم وهو في مصلاه ساجدا، ثم أتاه من الله آت- والله أعلم- فقال: يا أسا، إن الحبيب لا يسلم حبيبه، وإن الله عز وجل يقول: إني قد ألقيت عليك محبتي، ووجب لك نصري، فأنا الذي أكفيك عدوك، فإنه لا يهون من توكل علي، ولا يضعف من تقوى بي كنت تذكرني في الرخاء، وأسلمك عند الشدائد، وكنت تدعوني آمنا، وأنا أسلمك خائفا، إن الله القوي يقول: أنا أقسم ان لو كايدتك السموات والأرض بمن فيهن لجعلت لك من جميع ذلك مخرجا، فأنا الذي أبعث طرفا من زبانيتي يقتلون أعدائي، فإني معك، ولن يخلص إليك ولا إلى من معك أحد. فخرج أسا من مصلاه وهو يحمد الله، مسفرا وجهه، فأخبرهم بما قيل له، فأما المؤمنون فصدقوه، وأما المنافقون فكذبوه، وقال بعضهم لبعض: إن أسا دخل أعرج وخرج أعرج، ولو كان صادقا أن الله قد أجابه إذا لأصلح رجله، ولكن يغرنا ويمنينا، حتى تقع الحرب فينا فيهلكنا! فبينا الملك يخبرهم عن صنع الله بهم إذ قدم رسل من زرح فدخلوا إيلياء ومعهم كتب من زرح إلى أسا، فيها شتم له ولقومه، وتكذيب بالله،

وكتب فيها: أن ادع صديقك الذي أضللت به قومك فليبارزني بجنوده، وليظهر لي مع ما أني أعلم أنه لن يطيقني هو ولا غيره، لانى انا زرح الهندي الملك. فلما قرأ أسا الكتب التي قدم بها عليه هملت عيناه بالبكاء، ثم دخل مصلاه، ونشر تلك الكتب بين يدي الله، ثم قَالَ: اللهم ليس لي شيء من الأشياء أحب إلي من لقائك، غير أني أتخوف أن يطفأ هذا النور الذي أظهرته في أيامي هذه، وقد حضرت هذه الصحائف وعلمت ما فيها، ولو كنت المراد بها كان ذلك يسيرا، غير أن عبدك زرحا بكايدك ويتناولك، فخر بغير فخر، وتكلم بغير صدق، وأنت حاضر ذلك وشاهده. فأوحى الله إلى أسا- والله أعلم- أنه لا تبديل لكلماتي، ولا خلف لموعدي، ولا تحويل لأمري، فأخرج من مصلاك، ثم مر خيلك أن تجتمع، ثم اخرج بهم وبمن اتبعك حتى تقفوا على نشز من الأرض. فخرج أسا فأخبرهم بما قيل له، فخرج اثنا عشر رجلا من رؤسائهم، مع كل رجل منهم رهط من قومه، فلما أن خرجوا، ودعوا أهاليهم بألا يرجعوا الى الدنيا فوقفوا لزرح على رابيه من الارض فابصروا منها زرحا وقومه، فلما ابصرهم زرح نفض رأسه ليسخر منهم، وقال: إنما نهضت من بلادي، وأنفقت أموالي لمثل هؤلاء! ودعا عند ذلك بالنفر الذين كانوا نعتوا عنده أسا وقومه، فقال: كذبتموني وزعمتم أن قومكم كثير عددهم! فأمر بهم وبالأمناء الذين كان بعثهم ليخبروه خبرهم، فقتلوا جميعا، وأسا في ذلك كثير تضرعه، معتصم بربه، فقال زرح: ما أدري ما أفعل

بهؤلاء القوم؟ وما أدري ما قدر قلتهم في كثرتنا؟ إني لأستقلهم عن المحاربة، وأرى الا اقاتلهم. فأرسل زرح إلى أسا فقال له: أين صديقك الذي كنت تعدنا به، وتزعم أنه يخلصك مما يحل بكم من سطواتي! أفتضعون أيديكم في يدي فأمضي فيكم حكمي، أو تلتمسون قتالي! فأجابه أسا فقال: يا شقي، إنك لست تعلم ما تقول، ولست تدري! أتريد أن تغالب ربك بضعفك، أم تريد أن تكاثره بقلتك؟ هو أعز شيء وأعظمه، وأغلب شيء وأقهره، وعباده أذل وأضعف عنده من أن ينظروا إليه معاينة هو معي في موقفي هذا، ولن يغلب أحد كان الله معه. فاجتهد يا شقي بجهدك حتى تعلم ماذا يحل بك. فلما اصطف قوم زرح وأخذوا مراتبهم، امر زرح الرماة من قومه أن يرموهم بنشابهم فبعث الله ملائكة من كل سماء- والله أعلم- عونا لأسا وقومه، ومادة له، فوقفهم أسا في مواقفهم، فلما رموا نشابهم، حال المشركون بين ضوء الشمس وبين الأرض، كأنها سحابة طلعت فنحتها الملائكة عن أسا وقومه، ثم رمت بها الملائكة قوم زرح فأصابت كل رجل منهم نشابته التي رمى بها، فقتل رماتهم بها كلها وأسا وقومه في كل ذلك يحمدون الله كثيرا، ويعجون إليه بالتسبيح، وتراءت الملائكة لهم- والله أعلم- فلما رآهم الشقي زرح وقع الرعب في قلبه، وسقط في يده، وقال: إن أسا لعظيم كيده، ماض سحره، وكذلك بنو إسرائيل، حيث كانوا لا يغلب سحرهم ساحر، ولا يطيق مكرهم عالم، وإنما تعلموه من مصر، وبه ساروا في البحر، ثم نادى الهندي في قومه: أن سلوا سيوفكم، ثم احملوا عليهم حملة واحدة. فدقوهم. فسلوا سيوفهم ثم حملوا على الملائكة فقتلتهم الملائكة، فلم يبق منهم غير زرح ونسائه ورقيقه

فلما راى ذلك زرح ولى مدبرا فارا هو ومن معه، وهو يقول: إن أسا ظهر علانية، وأهلكني صديقه سرا، وإني كنت أنظر إلى أسا ومن معه واقفين لا يقاتلون والحرب واقعة في قومى فلما راى اسا ان زرحا قد ولى مدبرا قال: اللهم ان زرحا قد ولى مدبرا، وانك ان لم تحل بيني وبينه استنفر علينا قومه ثانية فأوحى الله إلى أسا: إنك لم تقتل من قتل منهم ولكني قتلتهم، فقف مكانك، فإني لو خليت بينك وبينهم أهلكوكم جميعا، إنما يتقلب زرح في قبضتي، ولن ينصره أحد مني، وأنا لزرح بالمكان الذي لا يستطيع صدودا عنه ولا تحويلا، وإني قد وهبت لك ولقومك عساكره وما فيها من فضة ومتاع ودابة، فهذا اجرك إذ اعتصمت بي، ولا ألتمس منك أجرا على نصرتك! فسار زرح حتى أتى البحر يريد بذلك الهرب، ومعه مائة ألف، فهيئوا سفنهم ثم ركبوا فيها، فلما ساروا في البحر بعث الله الرياح من أطراف الأرضين والبحار إلى ذلك البحر واضطربت من كل ناحية أمواجه، وضربت السفن بعضها بعضا حتى تكسرت، فغرق زرح ومن كان معه، واضطربت بهم الأمواج حتى فزع لذلك أهل القرى حولهم، ورجفت الأرض، فبعث أسا من يعلمه علم ذلك، فأوحى الله إليه- والله أعلم- أن اهبط أنت وقومك أهل قراكم، فخذوا ما غنمكم الله بقوة، وكونوا فيه من الشاكرين، فإني قد سوغت كل من أخذ من هذه العساكر شيئا ما أخذه فهبطوا يحمدون الله ويقدسونه، فنقلوا تلك العساكر إلى قراهم ثلاثة أشهر والله أعلم. ثم ملك بعده يهوشافاظ بن أسا إلى أن هلك خمسا وعشرين سنة

ثم ملكت عتليا وتسمى غزليا ابنة عمرم أم أخزيا، وكانت قتلت أولاد ملوك بني إسرائيل، فلم يبق منهم إلا يواش بن أخزيا، فإنه ستر عنها، ثم قتلها يواش وأصحابه، وكان ملكها سبع سنين. ثم ملك يواش بن أخزيا إلى أن قتله أصحابه، وهو الذي قتل جدته، فكان ملكه أربعين سنة. ثم ملك أموصيا بن يواش إلى أن قتله أصحابه تسعا وعشرين سنة، ثم ملك عوزيا بن أموصيا- وقد يقال لعوزيا: غوزيا- إلى أن توفي، اثنتين وخمسين سنة. ثم ملك يوتام بن عوزيا إلى أن توفي، ست عشرة سنة. ثم ملك أحاز بن يوتام إلى أن توفي، ست عشرة سنة. ثم ملك حزقيا بن أحاز إلى أن توفي وقيل إنه صاحب شعيا الذي أعلمه شعيا انقضاء عمره، فتضرع إلى ربه فزاده وأمهله، وأمر شعيا بإعلامه ذلك. وأما مُحَمَّد بن إسحاق فإنه قَالَ: صاحب شعيا الذي هذه القصة قصته اسمه صديقة

ذكر صاحب قصه شعيا من ملوك بنى إسرائيل، وسنحاريب

ذكر صاحب قصة شعيا من ملوك بني إسرائيل، وسنحاريب حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الفضل، قَالَ: حَدَّثَنِي ابن إسحاق، قَالَ: كان فيما أنزل الله على موسى في خبره عن بني إسرائيل وأحداثهم وما هم فاعلون بعده، قَالَ: «وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً» - إلى- «وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً» ، فكانت بنو إسرائيل وفيهم الأحداث والذنوب، وكان الله في ذلك متجاوزا عنهم، متعطفا عليهم، محسنا إليهم، وكان مما أنزل الله بهم في ذنوبهم ما كان قدم إليهم في الخبر عنهم على لسان موسى. فكان أول ما أنزل بهم من تلك الوقائع، أن ملكا منهم كان يدعى صديقة، وكان الله إذا ملك الملك عليهم، بعث نبيا يسدده ويرشده، فيكون فيما بينه وبين الله، يحدث إليه في أمرهم لا ينزل عليهم الكتب، إنما يؤمرون باتباع التوراة والأحكام التي فيها، وينهونهم عن المعصية، ويدعونهم إلى ما تركوا من الطاعة. فلما ملك ذلك الملك بعث الله معه شعيا بن أمصيا، وذلك قبل مبعث عيسى وزكرياء ويحيى وشعيا الذي بشر بعيسى ومُحَمَّد، فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زمانا، فلما انقضى ملكه، وعظمت فيهم الأحداث، وشعيا معه، بعث الله عليهم سنحاريب ملك بابل معه ستمائه ألف راية، فأقبل سائرا حتى نزل حول بيت المقدس والملك مريض، في ساقه قرحة، فجاءه النبي شعيا، فقال له: يا ملك بني إسرائيل، إن سنحاريب ملك بابل، قد نزل بك هو وجنوده في ستمائه ألف راية، وقد هابهم الناس وفرقوا منهم. فكبر ذلك على الملك، فقال: يا نبي الله، هل أتاك وحي من الله فيما حدث فتخبرنا به كيف يفعل الله بنا وبسنحاريب وجنوده؟ فقال له النبي ع:

لم يأتني وحي حدث إلي في شأنك. فبينما هم على ذلك أوحى الله إلى شعيا النبي: أن ائت ملك بني إسرائيل فأمره ان يوصى بوصيته، ويستخلف على ملكه من يشاء من أهل بيته فأتى النبي شعيا ملك بني إسرائيل صديقة، فقال له: إن ربك قد أوحى إلي أن آمرك توصي وصيتك، وتستخلف من شئت على الملك من أهل بيتك، فإنك ميت. فلما قَالَ ذلك شعيا لصديقة: أقبل على القبلة، فصلى وسبح، ودعا وبكى، وقال وهو يبكي ويتضرع إلى الله بقلب مخلص، وتوكل وصبر، وظن صادق: اللهم رب الأرباب، وإله الآلهة، القدوس المتقدس، يا رحمن يا رحيم، المترحم، الرءوف الذي لا تأخذه سنة ولا نوم اذكرني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل، وذلك كله كان منك، فأنت أعلم به من نفسي وسري وعلانيتي لك وإن الرحمن استجاب له وكان عبدا صالحا. فأوحى الله إلى شعيا، فأمره أن يخبر صديقة الملك أن ربه قد استجاب له وقبل منه ورحمه، وقد راى بكاءه، وقد اخر اجله خمس عشره سنه، وانجاه من عدوه سنحاريب ملك بابل وجنوده فلما قَالَ له ذلك، ذهب عنه الوجع، وانقطع عنه الشر والحزن، وخر ساجدا، وقال: يا إلهي وإله آبائي، لك سجدت وسبحت، وكرمت وعظمت أنت الذي تعطي الملك من تشاء، وتنزعه مِمَّنْ تَشَاءُ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ، وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ، عالم الغيب والشهادة، أنت الأول والآخر، والظاهر والباطن، وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين، أنت الذي أجبت دعوتي، ورحمت تضرعي. فلما رفع رأسه أوحى الله إلى شعيا: أن قل للملك صديقة، فيأمر عبدا من عبيده، فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحته فيشفى ويصبح وقد برئ ففعل ذلك فشفي وقال الملك لشعيا النبي: سل ربك أن يجعل لنا علما بما هو صانع بعدونا هذا فقال الله لشعيا النبي: قل له إني قد كفيتك عدوك، وأنجيتك منهم، وإنهم سيصبحون موتى كلهم إلا سنحاريب وخمسة من كتابه

فلما أصبحوا جاءه صارخ فصرخ على باب المدينة: يا ملك بني إسرائيل، إن الله قد كفاك عدوك فاخرج، فإن سنحاريب ومن معه قد هلكوا فلما خرج الملك التمس سنحاريب فلم يوجد في الموتى، فبعث الملك في طلبه، فأدركه الطلب في مغارة وخمسة من كتابه أحدهم بختنصر، فجعلوهم في الجوامع، ثم أتوا بهم ملك بني إسرائيل، فلما رآهم خر ساجدا من حين طلعت الشمس حتى كانت العصر، ثم قَالَ لسنحاريب: كيف ترى فعل ربنا بكم؟ ألم يقتلكم بحوله وقوته ونحن وأنتم غافلون! فقال سنحاريب له: قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم، ورحمته التي رحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي، فلم أطع مرشدا ولم يلقني في الشقوة إلا قلة عقلي، ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم، ولكن الشقوة غلبت علي وعلى من معي فقال ملك بني إسرائيل: الحمد لله رب العزة الذي كفاناكم بما شاء، إن ربنا لم يبقك ومن معك لكرامة لك عليه، ولكنه إنما أبقاك ومن معك إلى ما هو شر لك ولمن معك لتزدادوا شقوة في الدنيا، وعذابا في الآخرة، ولتخبروا من وراءكم بما رأيتم من فعل ربنا، ولتنذروا من بعدكم، ولولا ذلك ما أبقاكم ولدمك ودم من معك أهون على الله من دم قراد لو قتلته!. ثم إن ملك بني إسرائيل أمر أمير حرسه فقذف في رقابهم الجوامع، وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس، وكان يرزقهم كل يوم خبزتين من شعير، لكل رجل منهم، فقال سنحاريب لملك بني إسرائيل: القتل خير مما تفعل بنا، فافعل ما أمرت فأمر بهم الملك إلى سجن القتل، فأوحى الله إلى شعيا النبي: أن قل لملك بني إسرائيل يرسل سنحاريب ومن معه لينذروا من وراءهم، وليكرمهم وليحملهم حتى يبلغوا بلادهم فبلغ النبي شعيا الملك ذلك، ففعل، فخرج سنحاريب ومن معه حتى قدموا بابل، فلما قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده فقال له كهانه وسحرته: يا ملك

بابل، قد كنا نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ووحي الله إلى نبيهم، فلم تطعنا، وهي أمة لا يستطيعها أحد من ربهم، فكان أمر سنحاريب مما خوفوا به، ثم كفاهم الله إياه تذكرة وعبرة، ثم لبث سنحاريب بعد ذلك سبع سنين ثم مات. وقد زعم بعض أهل الكتاب أن هذا الملك من بني إسرائيل الذي سار إليه سنحاريب كان أعرج، وكان عرجه من عرق النسا، وأن سنحاريب إنما طمع في مملكته لزمانته وضعفه، وأنه قد كان سار إليه قبل سنحاريب ملك من ملوك بابل، يقال له ليفر، وكان بختنصر ابن عمه كاتبه، وأن الله أرسل عليه ريحا أهلكت جيشه، وأفلت هو وكاتبه، وأن هذا البابلي قتله ابن له، وأن بختنصر غضب لصاحبه، فقتل ابنه الذي قتل أباه، وأن سنحاريب سار بعد ذلك إليه، وكان مسكنه بنينوى مع ملك أذربيجان يومئذ، وكان يدعى سلمان الأعسر، وأن سنحاريب وسلمان اختلفا، فتحاربا حتى تفانى جنداهما، وصار ما كان معهما غنيمة لبني إسرائيل. وقال بعضهم: بل الذي غزا حزقيا صاحب شعيا سنحاريب ملك الموصل، وزعم انه لما احاط ببيت المقدس بجنوده بعث الله ملكا، فقتل من أصحابه في ليلة واحدة مائة ألف وخمسة وثمانين ألف رجل وكان ملكه إلى أن توفي تسعا وعشرين سنة. ثم ملك بعده- فيما قيل- أمرهم منشا بن حزقيا إلى أن توفي، خمسا وخمسين سنة. ثم ملك بعده أمون بن منشا إلى أن قتله أصحابه، اثنتي عشرة سنة

ثم ملك بعده يوشيا بن أمون إلى أن قتله فرعون الأجدع المقعد ملك مصر، إحدى وثلاثين سنة. ثم ياهواحاز بن يوشيا، وكان فرعون الأجدع قد غزاه وأسره وأشخصه إلى مصر، وملك فرعون الأجدع يوياقيم بن ياهواحاز على ما كان عليه أبوه، ووظف عليه خراجا يؤديه إليه، فكان يوياقيم يجبي ذلك- فيما زعموا- من بني إسرائيل، ويحمله- فيما زعموا- اثنتي عشرة سنة. ثم ملك أمرهم من بعده يوياحين بن يوياقيم، فغزاه بختنصر، فأسره وأشخصه إلى بابل بعد ثلاثة أشهر من ملكه وملك مكانه متنيا عمه وسماه صديقيا فخالفه، فغزاه فظفر به، فأوثقه وحمله إلى بابل بعد أن ذبح ولده بين يديه، وسمل عينيه وخرب المدينة والهيكل، وسبى بني إسرائيل، وحملهم إلى بابل، فمكثوا بها إلى أن ردهم إلى بيت المقدس كيرش بن جاماسب ابن أسب، من أجل القرابة التي كانت بينه وبينهم، وذلك أن أمه أشتر ابنة جاويل- وقيل: حاويل- الإسرائيلي، فكان جميع ما ملك صديقيا مع الثلاثة الأشهر التي ملك فيها يوياحين- فيما قيل- إحدى عشرة سنة وثلاثة أشهر. ثم صار ملك بيت المقدس والشام لأشتاسب بن لهراسب، وعامله على ذلك كله بختنصر. وذكر مُحَمَّد بْن إسحاق، فيما حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة عنه: أن صديقة ملك بني إسرائيل الذي قد ذكرنا خبره، لما قبضه الله مرج

أمر بني إسرائيل، وتنافسوا الملك، حتى قتل بعضهم بعضا عليه، ونبيهم شعيا معهم، لا يرجعون إليه ولا يقبلون منه فلما فعلوا ذلك قَالَ الله- فيما بلغنا- لشعيا: قم في قومك أوح على لسانك، فلما قام أنطق الله لسانه بالوحي، فوعظهم وذكرهم وخوفهم الغير، بعد أن عدد عليهم نعم الله عليهم، وتعرضهم للغير. قَالَ: فلما فرغ شعيا إليهم من مقالته عدوا عليه- فيما بلغني- ليقتلوه، فهرب منهم، فلقيته شجرة، فانفلقت له، فدخل فيها وأدركه الشيطان، فأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها، فوضعوا المنشار في وسطها، فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها. وقد حَدَّثَنِي بقصة شعيا وقومه من بني إسرائيل وقتلهم إياه، مُحَمَّد بن سهل البخاري، قَالَ: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه

ذكر خبر لهراسب وابنه بشتاسب وغزو بختنصر بنى إسرائيل وتخريبه بيت المقدس

ذكر خبر لهراسب وابنه بشتاسب وغزو بختنصر بني إسرائيل وتخريبه بيت المقدس ثم ملك بعد كيخسرو من الفرس لهراسب بن كيوجي بن كيمنوش بن كيفاشين، باختيار كيخسرو إياه، فلما عقد التاج على رأسه قَالَ: نحن مؤثرون البر على غيره واتخذ سريرا من ذهب مكللا بأنواع الجواهر للجلوس عليه، وأمر فبنيت له بأرض خراسان مدينة بلخ، وسماها الحسناء، ودون الدواوين، وقوى ملكه بانتخابه لنفسه الجنود، وعمر الأرض واجتبى الخراج لأرزاق الجنود، ووجه بختنصر، وكان اسمه بالفارسية- فيما قيل- بخترشه. فحدثت عن هشام بن مُحَمَّد قَالَ: ملك لهراسب- وهو ابن أخي قبوس- فبنى مدينة بلخ، فاشتدت شوكة الترك في زمانه، وكان منزله ببلخ يقاتل الترك قَالَ: وكان بختنصر في زمانه، وكان أصبهبذ ما بين الأهواز إلى أرض الروم من غربي دجلة، فشخص حتى أتى دمشق، فصالحه أهلها ووجه قائدا له، فأتى بيت المقدس فصالح ملك بني إسرائيل، وهو رجل من ولد داود، وأخذ منه رهائن وانصرف فلما بلغ طبرية وثبت بنو إسرائيل على ملكهم فقتلوه، وقالوا: راهنت أهل بابل وخذلتنا! واستعدوا للقتال، فكتب قائد بختنصر إليه بما كان، فكتب إليه يأمره أن يقيم بموضعه حتى يوافيه، وأن يضرب أعناق الرهائن الذين معه، فسار بختنصر حتى أتى بيت المقدس، فأخذ المدينة عنوة، فقتل المقاتلة، وسبى الذرية. قَالَ: وبلغنا أنه وجد في سجن بني إسرائيل إرميا النبي، وكان الله تعالى بعثه نبيا- فيما بلغنا- إلى بني إسرائيل يحذرهم ما حل بهم من بختنصر،

ويعلمهم أن الله مسلط عليهم من يقتل مقاتلتهم، ويسبي ذراريهم، إن لم يتوبوا وينزعوا عن سيئ أعمالهم فقال له بختنصر: ما خطبك؟ فأخبره أن الله بعثه إلى قومه ليحذرهم الذي حل بهم، فكذبوه وحبسوه فقال بختنصر: بئس القوم قوم عصوا رسول ربهم! وخلى سبيله، وأحسن إليه فاجتمع إليه من بقي من ضعفاء بني إسرائيل، فقالوا: إنا قد أسأنا وظلمنا، ونحن نتوب إلى الله مما صنعنا، فادع الله أن يقبل توبتنا فدعا ربه فأوحى إليه أنهم غير فاعلين، فإن كانوا صادقين فليقيموا معك بهذه البلدة، فأخبرهم بما أمرهم الله به، فقالوا: كيف نقيم ببلدة قد خربت وغضب الله على أهلها! فأبوا أن يقيموا، فكتب بختنصر إلى ملك مصر: إن عبيدا لي هربوا مني إليك، فسرحهم إلي، وإلا غزوتك وأوطأت بلادك الخيل فكتب إليه ملك مصر: ما هم بعبيدك، ولكنهم الأحرار أبناء الأحرار، فغزاه بختنصر فقتله، وسبى أهل مصر، ثم سار في أرض المغرب، حتى بلغ أقصى تلك الناحية، ثم انطلق بسبي كثير من أهل فلسطين والأردن، فيهم دانيال وغيره من الأنبياء. قَالَ: وفي ذلك الزمان تفرقت بنو إسرائيل، ونزل بعضهم أرض الحجاز بيثرب ووادي القرى، وغيرها. قَالَ: ثم أوحى الله إلى إرميا- فيما بلغنا: إني عامر بيت المقدس فاخرج إليها، فانزلها فخرج إليها حتى قدمها وهي خراب، فقال في نفسه: سبحان الله! أمرني الله أن أنزل هذه البلدة، وأخبرني أنه عامرها، فمتى يعمر هذه، ومتى يحييها الله بعد موتها! ثم وضع رأسه فنام ومعه حماره وسلة فيها طعام، فمكث في نومه سبعين سنة، حتى هلك بختنصر والملك الذي فوقه،

وهو لهراسب الملك الأعظم وكان ملك لهراسب مائة وعشرين سنة وملك بعده بشتاسب ابنه، فبلغه عن بلاد الشام أنها خراب، وأن السباع قد كثرت في أرض فلسطين، فلم يبق بها من الإنس أحد، فنادى في أرض بابل في بني إسرائيل: إن من شاء أن يرجع إلى الشام فليرجع وملك عليهم رجلا من آل داود، وأمره أن يعمر بيت المقدس ويبني مسجدها، فرجعوا فعمروها، وفتح الله لإرميا عينيه، فنظر إلى المدينة كيف تعمر وتبنى، ومكث في نومه ذلك، حتى تمت له مائة سنة، ثم بعثه الله وهو لا يظن أنه نام أكثر من ساعة، وقد عهد المدينة خرابا يبابا، فلما نظر إليها قَالَ: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ على كل شيء قدير قَالَ: وأقام بنو إسرائيل ببيت المقدس ورد إليهم أمرهم، وكثروا بها حتى غلبت عليهم الروم في زمان ملوك الطوائف، فلم يكن لهم بعد ذلك جماعة. قَالَ هشام: وفي زمان بشتاسب ظهر زرادشت، الذي تزعم المجوس انه نبيهم، وكان زرادشت- فيما زعم قوم من علماء أهل الكتاب- من أهل فلسطين، خادما لبعض تلامذة إرميا النبي خاصا به، أثيرا عنده، فخانه فكذب عليه، فدعا الله عليه، فبرص فلحق ببلاد أذربيجان، فشرع بها دين المجوسية، ثم خرج منها متوجها نحو بشتاسب، وهو ببلخ، فلما قدم عليه وشرح له دينه أعجبه فقسر الناس على الدخول فيه، وقتل في ذلك من رعيته مقتلة عظيمة، ودانوا به، فكان ملك بشتاسب مائة سنة واثنتي عشرة سنة. وأما غيره من أهل الأخبار والعلم بأمور الأوائل فإنه ذكر أن كي لهراسب

كان محمودا في أهل مملكته، شديد القمع للملوك المحيطة بايران شهر، شديد التفقد لأصحابه، بعيد الهمة كثير الفكر في تشييد البنيان، وشق الأنهار، وعمارة البلاد، فكانت ملوك الروم والمغرب والهند وغيرهم يحملون إليه في كل سنة وظيفة معروفة وإتاوة معلومة، ويكاتبونه بالتعظيم ويقرون له أنه ملك الملوك هيبة له وحذرا. قَالَ: ويقال: إن بختنصر حمل اليه من اوريشلم خزائن وأموالا، فلما أحس بالضعف من قوته ملك ابنه بشتاسب، واعتزل الملك وفوضه إليه، وكان ملك لهراسب- فيما ذكر- مائة سنة وعشرين سنة. وزعم أن بختنصر هذا الذي غزا بني إسرائيل اسمه بخترشه، وأنه رجل من العجم، من ولد جوذرز، وأنه عاش دهرا طويلا جاوزت مدته ثلاثمائة سنة، وأنه كان في خدمة لهراسب الملك، أبي بشتاسب، وأن لهراسب وجهه إلى الشام وبيت المقدس ليجلي عنها اليهود فسار إليها ثم انصرف، وأنه لم يزل من بعد لهراسب في خدمة ابنه بشتاسب، ثم في خدمة بهمن من بعده، وأن بهمن كان مقيما بمدينة بلخ- وهي التي كانت تسمى الحسناء- وأنه أمر بخترشه بالتوجه إلى بيت المقدس ليجلي اليهود عنها، وأن السبب في ذلك وثوب صاحب بيت المقدس على رسل كان بهمن وجههم إليه، وقتله بعضهم فلما ورد الخبر على بهمن دعا بخترشه فملكه على بابل، وأمره بالمسير إليها، والنفوذ منها إلى الشام وبيت المقدس، والقصد إلى اليهود حتى يقتل مقاتلتهم، ويسبي ذراريهم، وبسط يده فيمن يختار من الأشراف والقواد، فاختار من أهل بيت المملكة داريوش بن مهرى، من ولد ماذي بن يافث بن نوح، وكان ابن أخت بخترشه واختار كيرش كيكوان من ولد غيلم بن سام،

وكان خازنا على بيت مال بهمن، وأخشويرش بن كيرش بن جاماسب الملقب بالعالم، وبهرام بن كيرش بن بشتاسب فضم بهمن إليه من أهله وخاصته هؤلاء الأربعة، وضم إليه من وجوه الأساورة ورؤسائهم ثلاثمائة رجل، ومن الجند خمسين ألف رجل، وأذن له في أن يفرض ما احتاج إليه، وفي إثباتهم ثم أقبل بهم حتى صار إلى بابل، فأقام بها للتجهز والاستعداد سنة، والتفت إليه جماعة عظيمة، وكان فيمن سار إليه رجل من ولد سنحاريب، الملك الذي كان غزا حزقيا بن أحاز الملك، الذي كان بالشام وببيت المقدس من ولد سليمان بن داود صاحب شعيا، يقال له بختنصر بن نبوزراذان بن سنحاريب، صاحب الموصل وناحيتها، بن داريوش بن عبيرى بن تيرى بن روبا ابن راببا بن سلامون بن داود بن طامي بن هامل بن هرمان بن فودي بن همول بن درمى بن قمائل بن صاما بن رغما بن نمرود بن كوش بن حام بن نوح ع. وكان مسيره إليه بسبب ما كان آتى حزقيا وبنو إسرائيل إلى جده سنحاريب عند غزوه إياهم، وتوسل إليه بذلك، فقدمه في جماعة كثيرة، ثم اتبعه، فلما توافت العساكر ببيت المقدس، نصر بخترشه على بني إسرائيل لما أراد الله بهم من العقوبة، فسباهم، وهدم البيت وانصرف إلى بابل، ومعه يوياحن بن يوياقيم ملك بني إسرائيل في ذلك الوقت، من ولد سليمان بعد أن ملك متنيا عم يوحينا، وسماه صدقيا

فلما صار بختنصر ببابل خالفه صدقيا، فغزاه بختنصر ثانية فظفر به، وأخرب المدينة والهيكل، وأوثق صدقيا، وحمله إلى بابل بعد أن ذبح ولده، وسمل عينيه فمكث بنو إسرائيل ببابل إلى أن رجعوا إلى بيت المقدس، فكان غلبة بختنصر- المسمى بخترشه- على بيت المقدس إلى أن مات- في قول هذا الذي حكينا قوله- أربعين سنة. ثم قام من بعده ابن يقال له او لمرودخ فملك الناحية ثلاثا وعشرين سنة، ثم هلك وملك مكانه ابن يقال له بلتشصر بن او لمرودخ سنة، فلما ملك بلتشصر خلط في أمره، فعزله بهمن وملك مكانه على بابل وما يتصل بها من الشام وغيرها داريوش الماذوي، المنسوب إلى ماذي بن يافث بن نوح ع حين صار إلى المشرق، فقتل بلتشصر، وملك بابل وناحية الشام ثلاث سنين ثم عزله بهمن وولى مكانه كيرش الغيلمي، من ولد غيلم بن سام ابن نوح، الذي كان نزع إلى جامر مع ماذي عند ما مضى جامر إلى المشرق. فلما صار الأمر إلى كيرش كتب بهمن أن يرفق ببني إسرائيل، ويطلق لهم النزول حيث أحبوا، والرجوع إلى أرضهم، وأن يولى عليهم من يختارونه، فاختاروا دانيال النبي ع، فولي أمرهم، وكان ملك كيرش على بابل وما يتصل بها ثلاث سنين، فصارت هذه السنون- من وقت غلبة بختنصر إلى انقضاء أمره وأمر ولده وملك كيرش الغيلمي- معدودة من خراب بيت المقدس، منسوبة إلى بختنصر، ومبلغها سبعون سنة. ثم ملك بابل وناحيتها من قبل بهمن رجل من قرابته، يقال له اخشوارش ابن كيرش بن جاماسب، الملقب بالعالم، من الأربعة الوجوه الذين اختارهم بخترشه عند توجهه إلى الشام من قبل بهمن، وذلك أن أخشوارش انصرف إلى بهمن من عند بختنصر محمودا، فولاه ذلك الوقت بابل وناحيتها، وكان السبب في ولايته- فيما زعم- أن رجلا كان يتولى لبهمن ناحية السند والهند

يقال له كراردشير بن دشكال خالفه، ومعه من الاتباع ستمائه ألف، فولى بهمن أخشويرش الناحية، وأمره بالمسير إلى كراردشير، ففعل ذلك وحاربه، فقتله وقتل أكثر أصحابه، فتابع له بهمن الزيادة في العمل، وجمع له طوائف من البلاد، فلزم السوس، وجمع الأشراف، وأطعم الناس اللحم، وسقاهم الخمر، وملك بابل إلى ناحية الهند والحبشة وما يلي البحر، وعقد لمائة وعشرين قائدا في يوم واحد الألوية، وصير تحت يد كل قائد ألف رجل من أبطال الجند الذين يعدل الواحد منهم في الحرب بمائة رجل، وأوطن بابل، وأكثر المقام بالسوس، وتزوج من سبي بني إسرائيل امرأة يقال لها أشتر ابنة أبي جاويل، كان رباها ابن عم لها يقال له مردخى، وكان أخاها من الرضاعة، لأن أم مردخى أرضعت أشتر، وكان السبب في تزوجه إياها قتله امرأة كانت له جليلة جميلة خطيرة، يقال لها وشتا، فأمرها بالبروز ليراها الناس، ليعرفوا جلالتها وجمالها، فامتنعت من ذلك فقتلها، فلما قتلها جزع لقتلها جزعا شديدا، فأشير عليه باعتراض نساء العالم، ففعل ذلك، وحببت إليه أشتر صنعا لبني إسرائيل، فتزعم النصارى أنها ولدت له عند مسيره إلى بابل ابنا فسماه كيرش، وأن ملك أخشويرش كان أربع عشرة سنة، وقد علمه مردخى، التوراة، ودخل في دين بني إسرائيل، وفهم عن دانيال النبي ع ومن كان معه حينئذ، مثل حننيا وميشايل وعازريا، فسألوه بأن يأذن لهم في الخروج إلى بيت المقدس فأبى وقال: لو كان معي منكم ألف نبي ما فارقني منكم واحد ما دمت حيا وولى دانيال القضاء، وجعل إليه جميع أمره، وأمره أن يخرج كل شيء في الخزائن مما كان بختنصر أخذه من بيت المقدس ويرده، وتقدم في بناء بيت المقدس، فبني وعمر في أيام

كيرش بن أخشويرش وكان ملك كيرش، مما دخل في ملك بهمن وخماني اثنتين وعشرين سنة. ومات بهمن لثلاث عشرة سنة مضت من ملك كيرش، وكان موت كيرش لأربع سنين مضين من ملك خماني، فكان جميع ملك كيرش بن أخشويرش اثنتين وعشرين سنة. فهذا ما ذكر أهل السير والأخبار في أمر بختنصر وما كان من أمره وأمر بني إسرائيل. وأما السلف من أهل العلم فإنهم قَالُوا في أمرهم أقوالا مختلفة، فمن ذلك ما حَدَّثَنِي القاسم بن الحسن، قَالَ: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج عن ابن جريج، قَالَ: حَدَّثَنِي يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، أنه سمعه يقول: كان رجل من بني إسرائيل يقرأ، حتى إذا بلغ: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ بكى، وفاضت عيناه، ثم أطبق المصحف، فقال: ذلك ما شاء الله من الزمان! ثم قَالَ: أي رب، أرني هذا الرجل الذي جعلت هلاك بني إسرائيل على يديه فأري في المنام مسكينا ببابل يقال له بختنصر، فانطلق بمال وأعبد له- وكان رجلا موسرا- فقيل له: أين تريد؟ فقال: أريد التجارة، حتى نزل دارا ببابل فاستكراها، ليس فيها أحد غيره، فجعل يدعو المساكين ويلطف بهم حتى لا يأتيه أحد إلا أعطاه، فقال: هل بقي مسكين غيركم؟ فقالوا: نعم مسكين بفج آل فلان مريض، يقال له بختنصر، فقال لغلمته: انطلقوا بنا، فانطلق حتى أتاه فقال: ما اسمك؟ قَالَ: بختنصر، فقال لغلمته: احتملوه فنقله إليه فمرضه حتى برئ، وكساه وأعطاه نفقة، ثم أذن الإسرائيلي بالرحيل، فبكى بختنصر، فقال الإسرائيلي: ما يبكيك؟ قَالَ: أبكي أنك فعلت بي ما فعلت، ولا أجد شيئا اجزيك!

قَالَ: بلى شيئا يسيرا، إن ملكت أطعتني فجعل الآخر يتبعه ويقول: تستهزئ بي! ولا يمنعه أن يعطيه ما سأله إلا أنه يرى أنه يستهزئ به فبكى الإسرائيلي وقال: لقد علمت ما يمنعك أن تعطيني ما سألتك، إلا أن الله عز وجل يريد أن ينفذ ما قضى وكتب في كتابه. وضرب الدهر من ضربه، فقال صيحون، وهو ملك فارس ببابل: لو أنا بعثنا طليعة إلى الشام! قَالُوا: وما ضرك لو فعلت! قَالَ: فمن ترون؟ قَالُوا: فلان، فبعث رجلا، واعطاه مائه والف، وخرج بختنصر في مطبخه لا يخرج إلا ليأكل في مطبخه، فلما قدم الشام رأى صاحب الطليعة أكثر أرض الله فرسا ورجلا جلدا، فكسره ذلك في ذرعه، فلم يسأل، فجعل بختنصر يجلس مجالس أهل الشام فيقول: ما يمنعكم أن تغزوا بابل؟ فلو غزوتموها، فما دون بيت مالها شيء قَالُوا: لا نحسن القتال ولا نقاتل حتى تنفذ مجالس أهل الشام، ثم رجعوا فأخبر متقدم الطليعة ملكهم بما رأى، وجعل بختنصر يقول لفوارس الملك: لو دعاني الملك لأخبرته غير ما أخبره فلان فرفع ذلك إليه، فدعاه فأخبره الخبر، وقال: إن فلانا لما رأى أكثر أرض الله كراعا ورجلا جلدا، كسر ذلك في ذرعه، ولم يسألهم عن شيء، وإني لم أدع مجلسا بالشام إلا جالست أهله، فقلت لهم كذا وكذا، فقالوا لي كذا وكذا- للذي ذكر سعيد بن جبير أنه قَالَ لهم- فقال متقدم الطليعة لبختنصر: فضحتني! لك مائة ألف وتنزع عما قلت قَالَ: لو أعطيتني بيت مال بابل ما نزعت وضرب الدهر من ضربه، فقال الملك: لو بعثنا جريدة خيل إلى الشام، فإن وجدوا مساغا ساغوا، وإلا امتشوا ما قدروا عليه قَالُوا: ما ضرك

لو فعلت! قَالَ: فمن ترون؟ قَالُوا: فلان، قَالَ: بل الرجل الذي أخبرني بما أخبرني، فدعا بختنصر، فأرسله وانتخب معه أربعة آلاف من فرسانهم، فانطلقوا فجاسوا خلال الديار، فسبوا ما شاء الله ولم يخربوا ولم يقتلوا، ورمي في جنازة صيحون، قَالُوا: استخلفوا رجلا، قَالُوا: على رسلكم حتى يأتي أصحابكم، فإنهم فرسانكم، أن ينغصوا عليكم شيئا! فأمهلوا حتى جاء بختنصر بالسبي وما معه، فقسمه في الناس فقالوا: ما رأينا أحدا أحق بالملك من هذا! فملكوه. وقال آخرون منهم: إنما كان خروج بختنصر إلى بني إسرائيل لحربهم حين قتلت بنو إسرائيل يحيى بن زكرياء. ذكر بعض من قَالَ ذلك منهم: حَدَّثَنِي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، في الحديث الذي ذكرنا إسناده قبل: أن بختنصر بعثه صيحائين لحرب بني إسرائيل حين قتل ملكهم يحيى بن زكرياء ع، وبلغ صيحائين قَتَلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ- فيما بلغني: استخلف الله عز وجل على بني إسرائيل بعد شعيا رجلا منهم يقال له ياشيه بن اموص، فبعث الله لهم الخضر نبيا، واسم الخضر- فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني إسرائيل- إرميا بن حلقيا، وكان من سبط هارون. وأما وهب بن منبه فإنه قَالَ فيه ما حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن سهل بن عسكر البخاري، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، قال: سمعت وهب بن منبه يقول:

وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق عمن لا يتهم عن وهب بن منبه اليماني أنه كان يقول: قَالَ الله عز وجل لإرميا حين بعثه نبيا إلى بني إسرائيل: يا إرميا، من قبل أن أخلقك اخترتك، ومن قبل أن أصورك في بطن أمك قدستك، ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهرتك، ومن قبل أن تبلغ السعي نبيتك، ومن قبل أن تبلغ الأشد اختبرتك، ولأمر عظيم اجتبيتك فبعث الله عز وجل إرميا إلى ذلك الملك من بني إسرائيل يسدده ويرشده، ويأتيه بالخبر من قبل الله فيما بينه وبين الله عز وجل قال: ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل، وركبوا المعاصي، واستحلوا المحارم، ونسوا ما كان الله صنع بهم، وما نجاهم من عدوهم سنحاريب وجنوده، فأوحى الله عز وجل إلى إرميا: أن ائت قومك من بني إسرائيل، فاقصص عليهم ما آمرك به، وذكرهم نعمي عليهم، وعرفهم أحداثهم فقال إرميا: إني ضعيف إن لم تقوني، عاجز إن لم تبلغني، مخطئ إن لم تسددني، مخذول إن لم تنصرني، ذليل إن لم تعزني قَالَ الله عز وجل: ألم تعلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتي، وأن القلوب كلها والألسن بيدي، أقلبها كيف شئت فتطيعني! وأني أنا الله الذي لا شيء مثلي، قامت السموات والأرض وما فيهن بكلمتي، وأنا كلمت البحار ففهمت قولي، وأمرتها فعقلت أمري، وحددت عليها بالبطحاء فلا تعدى حدي، تأتي بأمواج كالجبال، حتى إذا بلغت حدي ألبستها مذلة طاعتي خوفا واعترافا لأمري، إني معك ولن يصل إليك شيء معي، وإني بعثتك إلى خلق عظيم من خلقي لتبلغهم رسالاتي، ونستحق بذلك مثل أجر من اتبعك منهم، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، وإن تقصر به عنها تستحق بذلك مثل وزر من تركت في عماه، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا انطلق إلى قومك فقل: إن الله ذكر

بكم صلاح آبائكم، فحمله ذلك على أن يستتيبكم يا معشر الأبناء. وسلهم كيف وجد آباءهم مغبة طاعتي وكيف وجدوا هم مغبة معصيتي! وهل علموا أن أحدا قبلهم أطاعني فشقي بطاعتي، أو عصاني فسعد بمعصيتي! وأن الدواب مما تذكر أوطانها الصالحة تنتابها، وأن هؤلاء القوم رتعوا في مروج الهلكة أما أحبارهم ورهبانهم فاتخذوا عبادي خولا يتعبدونهم دوني، ويحكمون فيهم بغير كتابي، حتى أجهلوهم أمري، وأنسوهم ذكري، وغروهم مني. وأما أمراؤهم وقادتهم فبطروا نعمتي، وأمنوا مكري، ونبذوا كتابي، ونسوا عهدي، وغيروا سنتي، وادان لهم عبادي بالطاعة التي لا تنبغي إلا لي، فهم يطيعونهم في معصيتي، ويتابعونهم على البدع التي يبتدعون في ديني، جرأة علي وغرة، وفرية علي وعلى رسلي فسبحان جلالي وعلو مكاني وعظمة شأني! وهل ينبغي لبشر أن يطاع في معصيتي! وهل ينبغي أن أخلق عبادا أجعلهم أربابا من دوني! وأما قراؤهم وفقهاؤهم فيتعبدون في المساجد، ويتزينون بعمارتها لغيري لطلب الدنيا بالدين، ويتفقهون فيها لغير العلم، ويتعلمون فيها لغير العمل وأما أولاد الأنبياء فمكثورون مقهورون مغترون، يخوضون مع الخائضين، فيتمنون علي مثل نصرة آبائهم، والكرامة التي أكرمتهم بها، ويزعمون أن لا أحد أولى بذلك منهم مني بغير صدق ولا تفكر ولا تدبر ولا يذكرون كيف نصر آبائهم لي، وكيف كان جدهم في أمري، حين غير المغيرون، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم، فصبروا وصدقوا حتى عز أمري، وظهر ديني، فتأنيت بهؤلاء القوم لعلهم يستجيبون، فأطولت لهم، وصفحت عنهم لعلهم يرجعون، واكثرت ومددت لهم في العمر لعلهم يتفكرون، فأعذرت وفي كل ذلك أمطر عليهم السماء، وأنبت لهم الأرض، وألبسهم

العافية، وأظهرهم على العدو، فلا يزدادون إلا طغيانا وبعدا مني فحتى متى هذا! أبي يتمرسون! أم إياي يخادعون! فإني أحلف بعزتي لأقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحليم، ويضل فيها رأي ذي الرأي وحكمة الحكيم ثم لأسلطن عليهم جبارا قاسيا عاتيا، ألبسه الهيبة، وأنزع من صدره الرأفة والرحمة والليان، يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم، له عساكر مثل قطع السحاب، ومراكب أمثال العجاج، كأن خفيق راياته طيران النسور، وكأن حملة فرسانه كرير العقبان. ثم أوحى الله عز وجل إلى إرميا أني مهلك بني إسرائيل بيافث- ويافث أهل بابل، فهم من ولد يافث بن نوح ع- فلما سمع إرميا وحي ربه صاح وبكى وشق ثيابه، ونبذ الرماد على رأسه، فقال: ملعون يوم ولدت فيه، ويوم لقنت فيه التوراة، ومن شر أيامي يوم ولدت فيه، فما أبقيت آخر الأنبياء إلا لما هو شر علي، لو أراد بي خيرا ما جعلني آخر الأنبياء من بني إسرائيل، فمن أجلي تصيبهم الشقوة والهلاك! فلما سمع الله عز وجل تضرع الخضر وبكاءه، وكيف يقول، ناداه: يا إرميا، أشق عليك ما أوحيت لك! قَالَ: نعم يا رب، أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أسر به، فقال الله تعالى: وعزتي وجلالي لا أهلك بيت المقدس وبني إسرائيل حتى يكون الأمر من قبلك في ذلك ففرح عند ذلك إرميا لما قَالَ له ربه، وطابت نفسه وقال: لا، والذي بعث موسى وأنبياءه بالحق، لا آمر ربي بهلاك بني إسرائيل أبدا. ثم أتى ملك بني إسرائيل فأخبره بما أوحى الله إليه فاستبشر وفرح، وقال: إن يعذبنا ربنا فبذنوب كثيرة قدمناها لأنفسنا، وإن عفا عنا فبقدرته. ثم إنهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية وتماديا في الشر، وذلك حين اقترب هلاكهم، فقل الوحي حين لم يكونوا يتذكرون الآخرة، وأمسك عنهم حين ألهتهم الدنيا وشأنها، فقال لهم ملكهم:

يا بني إسرائيل، انتهوا عما أنتم عليه قبل أن يمسكم بأس الله، وقبل أن يبعث الله عليكم قوما لا رحمة لهم بكم، فإن ربكم قريب التوبة مبسوط اليدين بالخير، رحيم بمن تاب إليه فأبوا عليه أن ينزعوا عن شيء مما هم عليه وإن الله ألقى في قلب بختنصر بن نبوزراذان بن سنحاريب بن دارياس بن نمرود بن فالغ ابن عابر- ونمرود صاحب ابراهيم ع، الذي حاجه في ربه- أن يسير إلى بيت المقدس، ثم يفعل فيه ما كان جده سنحاريب أراد أن يفعل فخرج في ستمائه ألف راية يريد أهل بيت المقدس، فلما فصل سائرا أتى ملك بني إسرائيل الخبر أن بختنصر قد أقبل هو وجنوده يريدكم، فأرسل الملك إلى إرميا، فجاءه فقال: يا إرميا، أين ما زعمت لنا أن ربك أوحى إليك ألا يهلك أهل بيت المقدس حتى يكون منك الأمر في ذلك! فقال إرميا للملك: إن ربي لا يخلف الميعاد، وأنا به واثق. فلما اقترب الأجل ودنا انقطاع ملكهم، وعزم الله تعالى على هلاكهم، بعث الله عز وجل ملكا من عنده، فقال له: اذهب إلى إرميا واستفته. وأمره بالذي يستفتيه فيه فأقبل الملك إلى إرميا، وقد تمثل له رجلا من بني إسرائيل فقال له إرميا: من أنت؟ قَالَ: أنا رجل من بني إسرائيل أستفتيك في بعض أمري، فأذن له، فقال له الملك: يا نبي الله، أتيتك أستفتيك في أهل رحمي، وصلت أرحامهم بما أمرني الله به، لم آت إليهم إلا حسنا، ولم آلهم كرامة، فلا تزيدهم كرامتي إياهم إلا إسخاطا لي، فأفتني فيهم يا نبي الله! فقال له: أحسن فيما بينك وبين الله، وصل ما أمرك الله أن تصل، وأبشر بخير قَالَ: فانصرف عنه الملك، فمكث أياما ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل الذي كان جاءه، فقعد بين يديه، فقال له إرميا: من أنت؟ قَالَ أنا الرجل الذي أتيتك أستفتيك في شأن أهلي، فقال له نبي الله: اوما طهرت لك أخلاقهم بعد، ولم تر منهم الذي تحب! قَالَ: يا نبي الله، والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلى أهل رحمه

إلا وقد أتيتها إليهم وأفضل من ذلك فقال النبي: ارجع إلى أهلك فأحسن إليهم، واسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلح ذات بينكم، وأن يجمعكم على مرضاته، ويجنبكم سخطه فقام الملك من عنده فلبث أياما وقد نزل بختنصر وجنوده حول بيت المقدس بأكثر من الجراد، ففزع منهم بنو إسرائيل فزعا شديدا، وشق ذلك على ملك بني إسرائيل فدعا إرميا فقال: يا نبي الله، أين ما وعدك الله؟ فقال: إني بربي واثق ثم إن الملك أقبل إلى إرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده، فقعد بين يديه، فقال له إرميا: من أنت؟ قَالَ: أنا الذي كنت أتيتك في شأن أهلي مرتين، فقال له النبي: أولم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه! فقال الملك: يا نبي الله، كل شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه، وأعلم أن مآلهم في ذلك سخطي، فلما أتيتهم اليوم رأيتهم في عمل لا يرضاه الله ولا يحبه، قَالَ له النبي: على أي عمل رأيتهم؟ قَالَ: يا نبي الله، رأيتهم على عمل عظيم من سخط الله، فلو كانوا على مثل ما كانوا عليه قبل اليوم، لم يشتد غضبي عليهم، وصبرت لهم ورجوتهم، ولكني غضبت اليوم لله ولك، فأتيتك لأخبرك خبرهم، وإني أسألك بالله الذي هو بعثك بالحق إلا ما دعوت عليهم أن يهلكهم الله قَالَ إرميا: يا ملك السموات والأرض، إن كانوا على حق وصواب فأبقهم، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكهم. فلما خرجت الكلمة من في إرميا أرسل الله عز وجل صاعقة من السماء في بيت المقدس فالتهب مكان القربان، وخسف بسبعة أبواب من أبوابها. فلما رأى ذلك إرميا صاح وشق ثيابه، ونبذ التراب على رأسه، وقال: يا ملك السماء ويا أرحم الراحمين، أين ميعادك الذي وعدتني! فنودي: يا إرميا، إنه لم يصبهم الذي أصابهم إلا بفتياك التي أفتيت بها رسولنا فاستيقن النبي أنها

فتياه التي أفتى بها ثلاث مرات، وأنه رسول ربه. وطار إرميا حتى خالط الوحوش، ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس، فوطئ الشام، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم، وخرب بيت المقدس، ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا ثم يقذفه في بيت المقدس، فقذفوا فيه التراب حتى ملئوه ثم انصرف راجعا إلى أرض بابل، واحتمل معه سبايا بني إسرائيل، وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلهم، فاجتمع عنده كل صغير وكبير من بني إسرائيل، فاختار منهم مائه الف صبى، فلما خرجت غنائم جنده، وأراد أن يقسمها فيهم، قالت له الملوك الذين كانوا معه: أيها الملك، لك غنائمنا كلها واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل ففعل فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمة- وكان من أولئك الغلمان: دانيال، وحنانيا، وعزاريا، وميشايل- وسبعة آلاف من أهل بيت داود، وأحد عشر ألفا من سبط يوسف بن يعقوب وأخيه بنيامين، وثمانية آلاف من سبط أشر بن يعقوب وأربعة عشر ألفا من سبط زبالون ابن يعقوب، ونفثالي بن يعقوب، وأربعة آلاف من سبط روبيل ولاوى ابني يعقوب، وأربعة آلاف من سبط يهوذا بن يعقوب ومن بقي من بني إسرائيل. وجعلهم بختنصر ثلاث فرق، فثلثا أقر بالشام، وثلثا سبى، وثلثا قتل وذهب بآنية بيت المقدس حتى أقدمها بابل، وذهب بالصبيان السبعين الألف حتى أقدمهم بابل، وكانت هذه الوقعه الاولى التي أنزلها الله ببني إسرائيل بإحداثهم وظلمهم. فلما ولى بختنصر عنهم راجعا إلى بابل بمن معه من سبايا بني إسرائيل أقبل إرميا على حمار له معه عصير من عنب في ركوه وسله تين، حتى غشى إيلياء فلما وقف عليها ورأى ما بها من الخراب دخله شك، فقال: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا! فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ، وحماره وعصيره وسلة تينه عنده حيث أماته

الله وأمات حماره معه، وأعمى الله عنه العيون فلم يره أحد ثم بعثه الله فقال له: «كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ» - يقول لم يتغير- «وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً» . فنظر إلى حماره يتصل بعض إلى بعض- وقد كان مات معه- بالعروق والعصب، ثم كيف كسى ذلك منه اللحم حتى استوى، ثم جرى فيه الروح، فقام ينهق ثم نظر إلى عصيره وتينه، فإذا هو على هيئته حين وضعه لم يتغير فلما عاين من قدرة الله ما عاين، قَالَ: «أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ثم عمر الله إرميا بعد ذلك، فهو الذي يرى بفلوات الأرض والبلدان. ثم إن بختنصر أقام في سلطانه ما شاء الله أن يقيم، ثم رأى رؤيا، فبينما هو قد أعجبه ما رأى إذ رأى شيئا أصابه فأنساه الذي كان رأى، فدعا دانيال، وحنانيا وعزاريا، وميشايل من ذراري الأنبياء، فقال: أخبروني عن رؤيا رأيتها، ثم أصابني شيء فأنسانيها، وقد كانت أعجبتني ما هي؟ قَالُوا له: أخبرنا بها نخبرك بتأويلها، قَالَ: ما أذكرها، وإن لم تخبروني بتأويلها لأنزعن أكتافكم فخرجوا من عنده، فدعوا الله واستغاثوا وتضرعوا إليه، وسألوه أن يعلمهم إياها، فأعلمهم الذي سألهم عنه، فجاءوه فقالوا له: رأيت تمثالا؟ قَالَ: صدقتم، قَالُوا: قدماه وساقاه من فخار، وركبتاه وفخذاه من نحاس، وبطنه من فضة، وصدره من ذهب، ورأسه وعنقه من حديد. قَالَ: صدقتم قَالُوا: فبينما أنت تنظر إليه قد أعجبك، فأرسل الله عليه صخرة من السماء فدقته، فهي التي أنستكها قَالَ: صدقتم، فما تأويلها؟ قَالُوا: تأويلها أنك أريت ملك الملوك، فكان بعضهم ألين ملكا من بعض، وبعضهم كان أحسن ملكا من بعض، وبعضهم كان أشد ملكا من بعض،

فكان أول الملك الفخار وهو أضعفه وألينه ثم كان فوقه النحاس وهو أفضل منه وأشد، ثم كان فوق النحاس الفضة وهي أفضل من ذلك وأحسن، ثم كان فوق الفضة الذهب، فهو أحسن من الفضة وأفضل، ثم كان الحديد ملكك، فهو كان أشد الملوك وأعز مما كان قبله، وكانت الصخرة التي رأيت أرسل الله عليه من السماء فدقته، نبيا يبعثه الله من السماء فيدق ذلك أجمع، ويصير الأمر إليه. ثم إن أهل بابل قَالُوا لبختنصر: أرأيت هؤلاء الغلمان من بني إسرائيل الذين كنا سألناك أن تعطيناهم ففعلت! فإنا والله لقد أنكرنا نساءنا منذ كانوا معنا، لقد رأينا نساءنا علقن بهم وصرفن وجوههن إليهم، فأخرجهم من بين أظهرنا أو اقتلهم، قَالَ: شأنكم بهم، فمن أحب منكم أن يقتل من كان في يده فليفعل، فأخرجوهم فلما قربوهم للقتل تضرعوا إلى الله فقالوا: يا ربنا، أصابنا البلاء بذنوب غيرنا، فتحنن الله عليهم برحمته، فوعدهم أن يحييهم بعد قتلهم، فقتلوا إلا من استبقى بختنصر منهم، وكان ممن استبقى منهم: دانيال، وحنانيا، وعزاريا، وميشايل. ثم إن الله تبارك وتعالى حين أراد هلاك بختنصر، انبعث فقال لمن كان في يديه من بني إسرائيل: أرأيتم هذا البيت الذي أخربت، وهؤلاء الناس الذين قتلت، من هم؟ وما هذا البيت؟ قَالُوا: هذا بيت الله ومسجد من مساجده، وهؤلاء أهله كانوا من ذراري الأنبياء، فظلموا وتعدوا وعصوا فسلطت عليهم بذنوبهم، وكان ربهم رب السموات والأرض، ورب الخلق كلهم يكرمهم ويمنعهم ويعزهم، فلما فعلوا ما فعلوا أهلكهم الله وسلط عليهم غيرهم. قَالَ: فأخبروني ما الذي يطلع بي إلى السماء العليا، لعلي أطلع إليها فأقتل من فيها وأتخذها ملكا، فإني قد فرغت من الأرض ومن فيها، قَالُوا له: ما تقدر على ذلك وما يقدر على ذلك أحد من الخلائق، قَالَ: لتفعلن أو لأقتلنكم عن آخركم، فبكوا إلى الله وتضرعوا إليه، فبعث الله بقدرته- ليريه

ضعفه وهو انه عليه- بعوضة فدخلت في منخره ثم ساخت في دماغه حتى عضت بأم دماغه، فما كان يقر ولا يسكن حتى يوجأ له رأسه على أم دماغه، فلما عرف الموت قَالَ لخاصته من أهله: إذا مت فشقوا رأسي، فانظروا ما هذا الذي قتلني؟ فلما مات شقوا رأسه، فوجدوا البعوضة عاضة بأم دماغه ليري الله العباد قدرته وسلطانه، ونجى الله من كان بقي في يديه من بني إسرائيل وترحم عليهم وردهم إلى الشام والى إيلياء المسجد المقدس، فبنوا فيه وربلوا وكثروا، حتى كانوا على أحسن ما كانوا عليه. فيزعمون- والله أعلم- أن الله أحيا أولئك الموتى الذين قتلوا فلحقوا بهم. ثم إنهم لما دخلوا الشام دخلوها وليس معهم عهد من الله، كانت التوراة قد استبيت منهم فحرقت وهلكت وكان عزيز من السبايا الذين كانوا ببابل فرجع إلى الشام يبكي عليها ليله ونهاره، قد خرج من الناس فتوحد منهم، وإنما هو ببطون الأودية وبالفلوات يبكي، فبينما هو كذلك في حزنه على التوراة وبكائه عليها، إذ أقبل إليه رجل وهو جالس، فقال: يا عزير ما يبكيك؟ قَالَ: أبكي على كتاب الله وعهده، كان بين أظهرنا فبلغت بنا خطايانا، وغضب ربنا علينا أن سلط علينا عدونا، فقتل رجالنا، وأخرب بلادنا، وأحرق كتاب الله الذي بين أظهرنا، الذي لا يصلح دنيانا وآخرتنا غيره- أو كما قَالَ- فعلام أبكي إذا لم أبك على هذا! قَالَ: أفتحب ان يرد ذلك عليك؟ قَالَ: وهل إلى ذلك من سبيل؟ قَالَ: نعم ارجع فصم وتطهر وطهر ثيابك، ثم موعدك هذا المكان غدا فرجع عزير فصام وتطهر وطهر ثيابه، ثم عمد إلى المكان الذي وعده، فجلس فيه، فأتاه ذلك الرجل بإناء فيه ماء- وكان ملكا بعثه الله إليه- فسقاه من ذلك الإناء، فمثلت التوراة في صدره، فرجع إلى بني إسرائيل، فوضع لهم التوراة يعرفونها بحلالها وحرامها وسننها وفرائضها

وحدودها، فأحبوه حبا لم يحبوه شيئا قط، وقامت التوراة بين أظهرهم، وصلح بها أمرهم، واقام بين اظهرهم عزيز مؤديا لحق الله، ثم قبضه الله على ذلك، ثم حدثت فيهم الأحداث حتى قَالُوا لعزيز: هو ابن الله، وعاد الله عليهم فبعث فيهم نبيا كما كان يصنع بهم، يسدد أمرهم، ويعلمهم ويأمرهم بإقامة التوراة وما فيها. وقال جماعة أخر عن وهب بن منبه في أمر بختنصر وبني إسرائيل وغزوه إياهم أقوالا غير ذلك، تركنا ذكرها كراهة إطالة الكتاب بذكرها

ذكر خبر غزو بختنصر للعرب

ذكر خبر غزو بختنصر للعرب حدثت عن هشام بن مُحَمَّد، قَالَ: كان بدء نزول العرب ارض العراق وثبوتهم فيها، واتخاذهم الحيرة والأنبار منزلا- فيما ذكر لنا والله أعلم- أن الله عز وجل أوحى الى برخيا بن احنيا بن زر بابل بن شلتيل من ولد يهوذا- قَالَ هشام: قَالَ الشرقي: وشلتيل أول من اتخذ الطفشيل- أن ائت بختنصر وأمره أن يغزو العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم ولا أبواب، ويطأ بلادهم بالجنود، فيقتل مقاتلتهم ويستبيح أموالهم، وأعلمه كفرهم بي، واتخاذهم الآلهة دوني، وتكذيبهم أنبيائي ورسلي. قال: فاقبل برخيا من نجران حتى قدم على بختنصر ببابل- وهو نبوخذ نصر، فعربته العرب- وأخبره بما أوحى الله إليه وقص عليه ما أمره به، وذلك في زمان معد بن عدنان قَالَ: فوثب بختنصر على من كان في بلاده من تجار العرب، وكانوا يقدمون عليهم بالتجارات والبياعات. ويمتارون من عندهم الحب والتمر والثياب وغيرها. فجمع من ظفر به منهم، فبنى لهم حيرا على النجف وحصنه، ثم ضمهم فيه ووكل بهم حرسا وحفظة، ثم نادى في الناس بالغزو، فتأهبوا لذلك وانتشر الخبر فيمن يليهم من العرب فخرجت إليه طوائف منهم مسالمين مستأمنين، فاستشار بختنصر فيهم برخيا، فقال: إن خروجهم إليك من بلادهم قبل نهوضك إليهم رجوع منهم عما كانوا عليه فاقبل منهم، فأحسن إليهم قَالَ: فأنزلهم بختنصر السواد على شاطئ الفرات، فابتنوا موضع عسكرهم بعد فسموه الأنبار قال: وحلى عن اهل الحير، فاتخذوها منزلا حياة

بختنصر، فلما مات انضموا إلى أهل الأنبار، وبقي ذلك الحير خرابا. وأما غير هشام من أهل العلم بأخبار الماضين فإنه ذكر أن معد بن عدنان لما ولد، ابتدأت بنو إسرائيل بأنبيائهم فقتلوهم، فكان آخر من قتلوا يحيى بن زكرياء، وعدا أهل الرس على نبيهم فقتلوه، وعدا أهل حضور على نبيهم فقتلوه، فلما اجترءوا على أنبياء الله أذن الله في فناء ذلك القرن الذين معد بن عدنان من أنبيائهم، فبعث الله بختنصر على بني إسرائيل، فلما فرغ من إخراب المسجد الأقصى والمدائن وانتسف بني إسرائيل نسفا، فأوردهم أرض بابل أري فيما يرى النائم- أو أمر بعض الأنبياء أن يأمره- أن يدخل بلاد العرب فلا يستجبى فيها إنسيا ولا بهيمة، وأن ينتسف ذلك نسفا، حتى لا يبقي لهم أثرا فنظم بختنصر ما بين إيلة والأبلة خيلا ورجلا، ثم دخلوا على العرب فاستعرضوا كل ذي روح أتوا عليه وقدروا عليه وأن الله تعالى أوحى إلى إرميا وبرخيا أن الله قد أنذر قومكما، فلم ينتهوا، فعادوا بعد الملك عبيدا، وبعد نعيم العيش عالة يسألون الناس، وقد تقدمت إلى أهل عربة بمثل ذلك فأبوا إلا لحاجة، وقد سلطت بختنصر عليهم لأنتقم منهم فعليكما بمعد بن عدنان، الذى من ولده محمد الذي أخرجه في آخر الزمان، أختم به النبوة، وأرفع به من الضعة. فخرجا تطوى لهما الأرض حتى سبقا بختنصر، فلقيا عدنان قد تلقاهما، فطوياه إلى معد، ولمعد يومئذ اثنتا عشرة سنة، فحمله برخيا على البراق، وردف خلفه، فانتهيا إلى حران من ساعتهما، وطويت الأرض لإرميا فأصبح بحران، فالتقى عدنان وبختنصر بذات عرق، فهزم بختنصر عدنان، وسار في بلاد العرب، حتى قدم إلى حضور واتبع عدنان، فانتهى بختنصر إليها،

وقد اجتمع أكثر العرب من أقطار من عربة إلى حضور، فخندق الفريقان، وضرب بختنصر كمينا- وذلك أول كمين كان فيما زعم- ثم نادى مناد من جو السماء: يا لثارات الأنبياء! فأخذتهم السيوف من خلفهم ومن بين أيديهم، فندموا على ذنوبهم، فنادوا بالويل، ونهي عدنان عن بختنصر ونهي بختنصر عن عدنان، وافترق من لم يشهد حضور، ومن أفلت قبل الهزيمة فرقتين: فرقة أخذت إلى ريسوب وعليهم عك، وفرقة قصدت لوبار وفرقة حضر العرب، قَالَ: وإياهم عنى الله بقوله: «وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً» ، كافرة الأهل، فإن العذاب لما نزل بالقرى وأحاط بهم في آخر وقعة ذهبوا ليهربوا فلم يطيقوا الهرب، «فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا» انتقامنا منهم «إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ» يهربون، قد أخذتهم السيوف من بين أيديهم ومن خلفهم «لا تَرْكُضُوا» لا تهربوا «وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ» الى العيشه على النعم المكفورة «وَمَساكِنِكُمْ» مصيركم «لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ» . فلما عرفوا أنه واقع بهم أقروا بالذنوب، فقالوا: «يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ» ، موتى وقتلى بالسيف فرجع بختنصر إلى بابل بما جمع من سبايا عربة فألقاهم بالأنبار، فقيل أنبار العرب، وبذلك سميت الأنبار، وخالطهم بعد ذلك النبط فلما رجع بختنصر مات عدنان وبقيت بلاد العرب خرابا حياة بختنصر، فلما مات بختنصر خرج معد بن عدنان معه الأنبياء، أنبياء بني إسرائيل صلوات الله عليهم حتى أتى مكة فأقام أعلامها، فحج وحج الأنبياء معه، ثم خرج معد حتى أتى ريسوب فاستخرج أهلها، وسأل عمن بقي من ولد الحارث بن مضاض الجرهمي، وهو الذي قاتل دوس العتق، فأفنى أكثرهم جرهم على يديه، فقيل له: بقي جوشم بن جلهمة، فتزوج معد ابنته معانة، فولدت له نزار بن معد

رجع الخبر إلى قصه بشتاسب وذكر ملكه والحوادث التي كانت في ايام ملكه التي جرت على يديه ويد غيره من عماله في البلاد خلا ما جرى من ذلك على يد بختنصر

رجع الخبر إلى قصة بشتاسب وذكر ملكه والحوادث التي كانت في أيام ملكه التي جرت على يديه ويد غيره من عماله في البلاد خلا ما جرى من ذلك على يد بختنصر ذكر العلماء بأخبار الأمم السالفة من العجم والعرب، أن بشتاسب بن كي لهراسب لما عقد له التاج، قَالَ يوم ملك: نحن صارفون فكرنا وعملنا وعلمنا إلى كل ما ينال به البر وقيل: إنه ابتنى بفارس مدينة فسا، وببلاد الهند وغيرها بيوتا للنيران، ووكل بها الهرابذة، وإنه رتب سبعة نفر من عظماء أهل مملكته مراتب، وملك كل واحد منهم ناحية جعلها له، وان زرادشت ابن أسفيمان ظهر بعد ثلاثين سنة من ملكه فادعى النبوة، وأراده على قبول دينه، فامتنع من ذلك ثم صدقه، وقبل ما دعاه إليه وأتاه به من كتاب ادعاه وحيا، فكتب في جلد اثني عشرة ألف بقرة حفرا في الجلود، ونقشا بالذهب، وصير بشتاسب ذلك في موضع من إصطخر، يقال له دزنبشت، ووكل به الهرابذة، ومنع تعليمه العامة وكان بشتاسب في ايامه تلك مهادنا لحرزاسف بن كي سواسف، أخي فراسياب ملك الترك على ضرب من الصلح، وكان من شرط ذلك الصلح أن يكون لبشتاسب بباب خرزاسف دابة موقوفة بمنزلة الدواب التي تنوب على أبواب الملوك، فأشار زرادشت على بشتاسب بمفاسدة ملك الترك، فقبل ذلك منه، وبعث إلى الدابة والموكل بها، فصرفهما إليه، وأظهر الخبر لخرزاسف، فغضب من ذلك- وكان ساحرا عاتيا- فأجمع على محاربة بشتاسب، وكتب إليه كتابا غليظا عنيفا، أعلمه فيه أنه أحدث حدثا عظيما، وأنكر قبوله ما قبل من زرادشت، وأمره بتوجيهه إليه، وأقسم إن امتنع أن يغزوه حتى يسفك دمه، ودماء اهل بيته

فلما ورد الرسول بالكتاب على بشتاسب، جمع إليه أهل بيته وعظماء أهل مملكته، وفيهم جاماسف عالمهم وحاسبهم، وزرين بن لهراسب فكتب بشتاسب إلى ملك الترك كتابا غليظا جواب كتابه، آذنه فيه بالحرب، وأعلمه أنه غير ممسك عنه إن أمسك فسار بعضهما إلى بعض، مع كل واحد منهما من المقاتلة ما لا يحصى كثرة، ومع بشتاسب يومئذ زرين اخوه ونسطور ابن زرين وإسفنديار وبشوتن ابنا بشتاسب، وآل لهراسب جميعا، ومع خرزاسف وجوهرمز وأندرمان أخواه وأهل بيته، وبيدرفش الساحر، فقتل في تلك الحروب زرين، واشتد ذلك على بشتاسب، فأحسن الغناء عنه ابنه إسفنديار، وقتل بيدرفش مبارزة، فصارت الدبرة على الترك، فقتلوا قتلا ذريعا، ومضى خرزاسف هاربا، ورجع بشتاسب إلى بلخ، فلما مضت لتلك الحروب سنون سعى على إسفنديار رجل يقال له قرزم، فأفسد قلب بشتاسب عليه، فندبه لحرب بعد حرب، ثم أمر بتقييده وصيره في الحصن الذي فيه حبس النساء، وشخص بشتاسب إلى ناحية كرمان وسجستان، وصار منها الى جبل يقال له طميذر لدراسة دينه والنسك هناك، وخلف لهراسب أباه مدينة بلخ شيخا قد أبطله الكبر، وترك خزائنه وأمواله ونساءه مع خطوس امرأته، فحملت الجواسيس الخبر الى خزاسف، فلما عرف جمع جنودا لا يحصون كثرة، وشخص من بلاده نحو بلخ، وقد أمل أن يجد فرصة من بشتاسب ومملكته فلما انتهى إلى تخوم ملك فارس قدم أمامه جوهرمز أخاه- وكان مرشحا للملك بعده في جماعة من المقاتلة كثيرة- وأمره أن يغذ السير حتى يتوسط المملكة ويوقع بأهلها، ويغير على القرى والمدن، ففعل ذلك جوهرمز، وسفك الدماء واستباح من الحرم ما لا يحصى، واتبعه خرزاسف فأحرق الدواوين، وقتل لهراسف والهرابذة، وهدم بيوت النيران، واستولى على الأموال والكنوز، وسبى ابنتين لبشتاسب، يقال لإحداهما: خماني، وللأخرى باذافره، وأخذ- فيما أخذ- العلم الأكبر الذي كانوا يسمونه

درفش كابيان، وشخص متبعا لبشتاسب، وهرب منه بشتاسب حتى تحصن في تلك الناحية مما يلى فارس في الجبل الذى يعرف بطميذر، ونزل ببشتاسب ما ضاق به ذرعا، فيقال إنه لما اشتد به الأمر وجه إلى إسفنديار جاماسب حتى استخرجه من محبسه، ثم صار به إليه، فلما أدخل عليه اعتذر إليه، ووعده عقد التاج على رأسه، وأن يفعل به مثل الذي فعل لهراسب به، وقلده القيام بأمر عسكره، ومحاربة خرزاسف. فلما سمع إسفنديار كلامه كفر له خاشعا، ثم نهض من عنده، فتولى عرض الجند وتمييزهم، وتقدم فيما احتاج إلى التقدم فيه، وبات ليلته مشغولا بتعبئته، فلما أصبح أمر بنفخ القرون، وجمع الجنود، ثم سار بهم نحو عسكر الترك، فلما رأت الترك عسكره خرجوا في وجوههم يتسابقون، وفي القوم جوهرمز وأندرمان، فالتحمت الحرب بينهم، وانقض إسفنديار وفي يده الرمح كالبرق الخاطف، حتى خالط القوم، وأكب عليهم بالطعن، فلم يكن إلا هنيهة حتى ثلم في العسكر ثلمة عظيمة، وفشا في الترك أن إسفنديار قد أطلق من الحبس، فانهزموا لا يلوون على شيء، وانصرف إسفنديار، وقد ارتجع العلم الأعظم، وحمله معه منشورا، فلما دخل على بشتاسب استبشر بظفره، وأمره باتباع القوم، وكان مما أوصاه به أن يقتل خرزاسف إن قدر عليه بلهراسف، ويقتل جوهرمز وأندرمان بمن قتل من ولده، ويهدم حصون الترك ويحرق مدنها، ويقتل أهلها بمن قتلوا من حملة الدين، ويستنقذ السبايا ووجه معه ما احتاج إليه من القواد والعظماء. فذكروا أن إسفنديار دخل بلاد الترك من طريق لم يرمه أحد قبله، وأنه قام- من حراسة جنده، وقتل ما قتل من السباع، ورمي العنقاء المذكورة- بما لم يقم به أحد قبله، ودخل مدينة الترك التي يسمونها دزروئين- وتفسيرها بالعربية الصفرية- عنوة حتى قتل الملك وإخوته ومقاتلته، واستباح أمواله وسبى نساءه، واستنقذ أختيه، وكتب بالفتح إلى أبيه، وكان أعظم الغناء

في تلك المحاربة بعد إسفنديار لفشوتن أخيه وأدرنوش ومهرين ابن ابنته. ويقال إنهم لم يصلوا إلى المدينة حتى قطعوا أنهارا عظيمة مثل كاس روذ، ومهر روذ، ونهرا آخر لهم عظيما، وإن إسفنديار دخل أيضا مدينه كانت لفراسياب، يقال لها وهشكند، ودوخ البلاد وصار إلى آخر حدودها، وإلى التبت وباب صول، ثم قطع البلاد وصير كل ناحية منها إلى رجل من وجوه الترك بعد أن آمنهم، ووظف على كل واحد منهم خراجا يحمله إلى بشتاسب في كل سنة، ثم انصرف إلى بلخ. ثم إن بشتاسب حسد ابنه إسفنديار لما ظهر منه، فوجهه إلى رستم بسجستان، فحدثت عن هشام بن مُحَمَّد الكلبي أنه قَالَ: قد كان بشتاسب جعل الملك من بعده لابنه إسفنديار، وأغزاه الترك، فظفر بهم، وانصرف إلى أبيه، فقال له: هذا رستم متوسطا بلادنا، وليس يعطينا الطاعة لادعائه ما جعل له قابوس من العتق من رق الملك، فسر إليه فأتني به، فسار إسفنديار إلى رستم فقاتله، فقتله رستم ومات بشتاسب، وكان ملكه مائة سنة واثنتي عشرة سنة. وذكر بعضهم أن رجلا من بني إسرائيل، يقال له سمي كان نبيا، وأنه بعث إلى بشتاسب فصار إليه إلى بلخ، ودخل مدينتها، فاجتمع هو وزرادشت صاحب المجوس، وجاماسب العالم بن فخد، وكان سمي يتكلم بالعبرانية ويعرف زرادشت ذلك بتلقين، ويكتب بالفارسية ما يقول سمي بالعبرانية، ويدخل جاماسب معهما في ذلك، وبهذا السبب سمي جاماسب العالم. وزعم بعض العجم أن جاماسب هو ابن فخد بن هو بن حكاو بن نذكاو بن فرس بن رج بن خوراسرو بن منوشهر الملك، وان زرادشت بن يوسيسف ابن فردواسف بن أرنجد بن منجدسف بن جخشنش بن فيافيل بن الحدى ابن هردان بن سفمان بن ويدس بن أدرا بن رج بن خوراسرو بن منوشهر. وقيل إن بشتاسب وأباه لهراسب كانا على دين الصابئين، حتى أتاه سمى

وزرداشت بما أتياه به، وأنهما أتياه بذلك لثلاثين سنة مضت من ملكه. وقال هذا القائل: كان ملك بشتاسب مائة وخمسين سنة، فكان ممن رتب بشتاسب من النفر السبعة المراتب الشريفه، وسماهم عظماء بهكا بهند ومسكنه دهستان من ارض جرجان، وقارن الفهلوى ومسكنه ماه نهاوند، وسورين الفهلوي ومسكنه سجستان، وإسفنديار الفلهوي ومسكنه الري. وقال آخرون: كان ملك بشتاسب مائة وعشرين سنة

ذكر الخبر عن ملوك اليمن في ايام قابوس وبعده إلى عهد بهمن بن اسفنديار

ذكر الخبر عن ملوك اليمن في أيام قابوس وبعده إلى عهد بهمن بن إسفنديار قَالَ أبو جعفر: قد مضى ذكرنا الخبر عمن زعم أن قابوس كان في عهد سليمان بن داود ع، ومضى ذكرنا من كان في عهد سليمان من ملوك اليمن والخبر عن بلقيس بنت إيليشرح. فحدثت عن هشام بن مُحَمَّد الكلبي أن الملك باليمن صار بعد بلقيس إلى ياسر بن عمرو بن يعفر الذي كان يقال له ياسر انعم قال: وانما سموه ياسر انعم لإنعامه عليهم بما قوى من ملكهم، وجمع من أمرهم. قَالَ: فزعم أهل اليمن أنه سار غازيا نحو المغرب حتى بلغ واديا يقال له وادي الرمل، ولم يبلغه أحد قبله، فلما انتهى إليه لم يجد وراءه مجازا لكثرة الرمل، فبينما هو مقيم عليه إذا انكشف الرمل، فأمر رجلا من أهل بيته- يقال له عمرو- أن يعبر هو وأصحابه، فعبروا فلم يرجعوا فلما رأى ذلك أمر بصنم نحاس فصنع، ثم نصب على صخرة على شفير الوادي، وكتب في صدره بالمسند: هذا الصنم لياسر انعم الحميري، وليس وراءه مذهب، فلا يتكلفن ذلك أحد فيعطب. قَالَ: ثم ملك من بعده تبع، وهو تبان أسعد، وهو أبو كرب بن ملكي كرب تبع بن زيد بن عمرو بن تبع، وهو ذو الأذعار بن أبرهة تبع ذي المنار ابن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبأ قَالَ: وكان يقال له الرائد. قَالَ: فكان تبع هذا في أيام بشتاسب وأردشير بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب، وأنه شخص متوجها من اليمن في الطريق الذي سلكه الرائش، حتى خرج على جبلي طيّئ، ثم سار يريد الأنبار، فلما انتهى إلى الحيرة- وذلك ليلا- تحير، فأقام مكانه وسمي ذلك الموضع الحيرة، ثم سار وخلف به قوما من الأزد ولخم وجذام وعاملة وقضاعة، فبنوا وأقاموا به، ثم انتقل إليهم بعد

ذلك ناس من طيّئ وكلب والسكون وبلحارث بن كعب وإياد ثم توجه إلى الأنبار ثم إلى الموصل، ثم إلى أذربيجان، فلقي الترك بها فهزمهم، فقتل المقاتلة، وسبى الذرية، ثم انكفأ راجعا إلى اليمن فأقام بها دهرا، وهابته الملوك وعظمته وأهدت إليه فقدم عليه رسول ملك الهند بالهدايا والتحف، من الحرير والمسك والعود وسائر طرف بلاد الهند، فرأى ما لم ير مثله، فقال: ويحك! أكل ما أرى في بلادكم! فقال: أبيت اللعن! أقل ما ترى في بلادنا، وأكثره في بلاد الصين، ووصف له بلاد الصين وسعتها وخصبها وكثرة طرفها، فالى بيمين ليغزونها فسار بحمير مساحلا، حتى أتى الركائك وأصحاب القلانس السود، ووجه رجلا من أصحابه، يقال له ثابت نحو الصين، في جمع عظيم فأصيب، فسار تبع حتى دخل الصين، فقتل مقاتلها، واكتسح ما وجد فيها قَالَ: ويزعمون أن مسيره كان إليها ومقامه بها ورجعته منها في سبع سنين، وأنه خلف بالتبت اثني عشر ألف فارس من حمير، فهم أهل التبت، وهم اليوم يزعمون أنهم عرب، وخلقهم وألوانهم خلق العرب وألوانها. حَدَّثَنِي عبد الله بن أحمد المروزي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، قَالَ: قَرَأْتُ على عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ موسى بن طلحة: أن تبعا خرج في العرب يسير، حتى تحيروا بظاهر الكوفة، وكان منزلا من منازله، فبقي فيها من ضعفة الناس، فسميت الحيرة لتحيرهم، وخرج تبع سائرا، فرجع إليهم وقد بنوا وأقاموا، وأقبل تبع إلى اليمن وأقاموا هم، ففيهم من قبائل العرب كلها من بنى لحيان، وهذيل وتميم، وجعفي وطيّئ، وكلب

ذكر خبر أردشير بهمن وابنته خمانى

ذكر خبر أردشير بهمن وابنته خماني ثم ملك بعد بشتاسب ابن ابنه أردشير بهمن، فذكر أنه قَالَ يوم ملك وعقد التاج على رأسه: نحن محافظون على الوفاء، ودائنون رعيتنا بالخير، فكان يدعى أردشير الطويل الباع، وإنما لقب بذلك- فيما قيل- لتناوله كل ما مد إليه يده من الممالك التي حوله، حتى ملك الأقاليم كلها وقيل إنه ابتنى بالسواد مدينة، وسماها آباد أردشير هي القرية المعروفة بهمينا من الزاب الأعلى، وابتنى بكور دجلة مدينة وسماها بهمن أردشير، وهي الأبلة، وسار إلى سجستان طالبا بثأر أبيه، فقتل رستم وأباه دستان وأخاه إزواره وابنه فرمرز، واجتبى الناس لأرزاق الجند ونفقات الهرابذة وبيوت النيران وغير ذلك أموالا عظيمة، وهو أبو دارا الأكبر، وأبو ساسان أبي ملوك الفرس الأخر أردشير بن بابك وولده، وأم دارا خماني بنت بهمن. فحدثت عن هشام بن مُحَمَّد قَالَ: ملك بعد بشتاسب أردشير بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب، وكان- فيما ذكروا- متواضعا مرضيا فيهم، وكانت كتبه تخرج من أردشير: عبد الله وخادم الله، السائس لأمركم قَالَ: ويقال إنه غزا الرومية الداخلة في ألف ألف مقاتل. وقال غير هشام: هلك بهمن ودارا في بطن أمه، فملكوا خماني شكرا لأبيها بهمن، ولم تزل ملوك الأرض تحمل إلى بهمن الإتاوة والصلح، وكان من أعظم ملوك الفرس- فيما قَالُوا- شأنا، وأفضلهم تدبيرا، وله كتب ورسائل تفوق كتب أردشير وعهده، وكانت أم بهمن أستوريا، وهي

أستار بنت يائير بن شمعى بن قيس بن ميشا بن طالوت الملك بن قيس ابن أبل بن صارور بن بحرث بن أفيح بن إيشى بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم خليل الرحمن ع وكانت أم ولده راحب بنت فنحس من ولد رحبعم بن سليمان بن داود ع وكان بهمن ملك أخاها زر بابل بن شلتايل على بني إسرائيل، وصير له رياسة الجالوت، ورده إلى الشام بمسألة راحب أخته إياه ذلك، فتوفي بهمن يوم توفي وله من الولد: ابناه دارا الأكبر وساسان، وبناته: خماني التي ملكت بعده، وفرنك وبهمن دخت، وتفسير بهمن بالعربية الحسن النية، وكان ملكه مائة واثنتي عشرة سنة. فأما ابن الكلبي هشام فإنه قَالَ: كان ملكه ثمانين سنة. ثم ملكت خماني بنت بهمن، وكانوا ملكوها حبا لأبيها بهمن، وشكرا لإحسانه ولكمال عقلها وبهائها وفروسيتها ونجدتها- فيما ذكره بعض أهل الأخبار- فكانت تلقب بشهرازاد وقال بعضهم: إنما ملكت خماني بعد أبيها بهمن أنها حين حملت منه دارا الأكبر سألته أن يعقد التاج له في بطنها ويؤثره بالملك، ففعل ذلك بهمن بدارا، وعقد عليه التاج حملا في بطنها، وساسان ابن بهمن في ذلك الوقت رجل يتصنع للملك لا يشك فيه، فلما رأى ساسان ما فعل أبوه من ذلك لحق بإصطخر، فتزهد وخرج من الحلية الأولى وتعبد فلحق برءوس الجبال يتعبد فيها، واتخذ غنيمة، فكان يتولى ماشيته بنفسه، واستشنعت العامة ذلك من فعله، وفظعت به، وقالوا: صار ساسان راعيا، فكان ذلك سبب نسبة الناس إياه إلى الرعي، وأم ساسان ابنه شالتيال ابن يوحنا بن أوشيا بن أمون بن منشى بن حازقيا بن أحاذ بن يوثام بن عوزيا ابن يورام بن يوشافط بن أبيا بن رحبعم بن سليمان بن داود. وقيل: إن بهمن هلك وابنه دارا في بطن خماني، وأنها ولدته بعد أشهر من

ملكها وأنفت من إظهار ذلك، فجعلته في تابوت، وصيرت معه جوهرا نفيسا، وأجرته في نهر الكر من إصطخر وقال بعضهم: بل نهر بلخ، وإن التابوت صار إلى رجل طحان من أهل إصطخر، كان له ولد صغير فهلك، فلما وجده الرجل أتى به امرأته، فسرت به لجماله ونفاسة ما وجد معه، فحضنوه، ثم أظهر أمره حين شب، وأقرت خماني بإساءتها إليه وتعريضها إياه للتلف، فلما تكامل امتحن فوجد على غاية ما يكون عليه أبناء الملوك، فحولت التاج عن رأسها إليه، وتقلد أمر المملكة، وتنقلت خماني وصارت إلى فارس وبنت مدينة إصطخر، وأغزت الروم جيشا بعد جيش، وكانت قد أوتيت ظفرا، فقلعت الأعداء، وشغلتهم عن تطرف شيء من بلادها، ونال رعيتها في ملكها رفاهة وخفضا وكانت خماني حين أغزت أرض الروم سبي لها منها بشر كثير، وحملوا إلى بلادها، فأمرت من فيهم من بنائي الروم، فبنوا لها في كل موضع من حيز مدينة إصطخر بنيانا على بناء الروم منيفا معجبا، أحد ذلك البنيان في مدينة إصطخر، والثاني على المدرجة التي تسلك فيها الى دارابجرد، على فرسخ من هذه المدينة، والثالث على أربعة فراسخ منها في المدرجة التي تسلك فيها إلى خراسان وأنها أجهدت نفسها في طلب مرضاة الله عز وجل، فأوتيت الظفر والنصر، وخففت عن رعيتها في الخراج. وكان ملكها ثلاثين سنة. ثم نرجع الآن الى:

ذكر خبر بنى إسرائيل ومقابله تاريخ مده ايامهم إلى حين تصرمها بتاريخ مده من كان في ايامهم من ملوك الفرس

ذكر خبر بني إسرائيل ومقابلة تأريخ مدة أيامهم إلى حين تصرمها بتأريخ مدة من كان في أيامهم من ملوك الفرس قد ذكرنا فيما مضى قبل سبب انصراف من انصرف إلى بيت المقدس من سبايا بني إسرائيل الذين كان بختنصر سباهم وحملهم معه إلى أرض بابل، وأن ذلك كان في أيام كيرش بن أخشويرش وملكه ببابل من قبل بهمن بن إسفنديار في حياته وأربع سنين بعد وفاته في ملك ابنته خماني، وأن خماني عاشت بعد هلاك كيرش بن أخشويرش ستا وعشرين سنة في ملكها، تمام ثلاثين سنة وكانت مدة خراب بيت المقدس من لدن خربه بختنصر إلى أن عمر- فيما ذكره أهل الكتب القديمة والعلماء بالأخبار- سبعين سنة، كل ذلك في أيام بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب بن لهراسب بعضه، وبعضه في أيام خماني، على ما قد بين في هذا الكتاب. وقد زعم بعضهم أن كيرش هو بشتاسب، وأنكر ذلك من قيله بعضهم، وقال: كي أرش إنما هو عم لجد بشتاسب، وقال: هو كي إرش أخو كيقاوس ابن كيبيه بن كيقباذ الأكبر، وبشتاسب الملك هو ابن كيلهراسب بن كيوجى ابن كيمنوش بن كيقاوس بن كيبيه بن كيقباذ الأكبر قَالَ: ولم يملك كي أرش قط، وإنما كان مملكا على خوزستان وما يتصل بها من أرض بابل من قبل كيقاوس، ومن قبل كيخسرو بن سياوخش بن كيقاوس، ومن قبل لهراسف من بعده وكان طويل العمر، عظيم الشأن، ولما عمر بيت المقدس ورجع إليه أهله من بني إسرائيل كان فيهم عزير- وقد وصفت ما كان من أمره وأمر بني إسرائيل- وكان الملك عليهم بعد ذلك من قبل الفرس، إما رجل منهم وإما رجل من بني إسرائيل، إلى أن صار الملك بناحيتهم لليونانية والروم بسبب غلبة الإسكندر على تلك الناحية حين قتل دارا بن دارا وكانت جملة مدة ذلك- فيما قيل- ثمانيا وثمانين سنة. ونذكر الآن:

خبر دارا الاكبر وابنه دارا الاصغر ابن دارا الاكبر وكيف كان هلاكه مع خبر ذي القرنين

خبر دارا الأكبر وابنه دارا الأصغر ابن دارا الأكبر وكيف كان هلاكه مع خبر ذي القرنين وملك دارا بن بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب، وكان ينبه بجهرازاد- يعني به كريم الطبع- فذكروا أنه نزل بابل، وكان ضابطا لملكه، قاهرا لمن حوله من الملوك، يؤدون إليه الخراج، وأنه ابتنى بفارس مدينة سماها دارابجرد، وحذف دواب البرد ورتبها، وكان معجبا بابنه دارا، وأنه من حبه إياه سماه باسم نفسه، وصير له الملك من بعده، وأنه كان له وزير يسمى رستين محمودا في عقله، وأنه شجر بينه وبين غلام تربى مع دارا الأصغر، يقال له برى شر وعداوة، فسعى رستين عليه عند الملك، فقيل: إن الملك سقى برى شربه مات منها، واضطغن دارا على رستين الوزير وجماعة من القواد، كانوا عاونوه على برى ما كان منهم، وكان ملك دارا اثنتي عشرة سنة. ثم ملك من بعده ابنه دارا بن دارا بن بهمن، وكانت أمه ماهيا هند بنت هزار مرد بن بهرادمه، فلما عقد التاج على رأسه قَالَ: لن ندفع أحدا في مهوى الهلكة، ومن تردى فيها لم نكففه عنها وقيل إنه بنى بأرض الجزيرة مدينة دارا، واستكتب أخا برى واستوزره لأنسه كان به وبأخيه، فأفسد قلبه على أصحابه، وحمله على قتل بعضهم، فاستوحشت لذلك منه الخاصة والعامة، ونفروا عنه، وكان شابا غرا حميا حقودا جبارا. وحدثت عن هشام بن مُحَمَّد قَالَ: ملك من بعد دارا بن أردشير دارا ابن دارا أربع عشرة سنة، فأساء السيرة في رعيته، وقتل رؤساءهم، وغزاه الإسكندر على تئفة ذلك، وقد مله أهل مملكته وسئموه، وأحبوا الراحة منه، فلحق كثير من وجوههم وأعلامهم بالإسكندر، فأطلعوه على عورة دارا، وقووه عليه،

فالتقيا ببلاد الجزيرة، فاقتتلا سنة ثم إن رجالا من أصحاب دارا وثبوا به فقتلوه، وتقربوا برأسه إلى الإسكندر، فأمر بقتلهم، وقال: هذا جزاء من اجترأ على ملكه وتزوج ابنته روشنك بنت دارا، وغزا الهند ومشارق الأرض، ثم انصرف وهو يريد الإسكندرية، فهلك بناحية السواد، فحمل إلى الإسكندرية في تابوت من ذهب، وكان ملكه أربع عشرة سنة، واجتمع ملك الروم، وكان قبل الإسكندر متفرقا، وتفرق ملك فارس وكان قبل الإسكندر مجتمعا. قَالَ: وذكر غير هشام أن دارا بن دارا لما ملك أمر فبنيت له بأرض الجزيرة مدينة واسعة وسماها دارنوا، وهي التي تسمى اليوم دارا، وانه عمرها وشحنها من كل ما يحتاج إليه فيها، وأن فيلفوس أبا الإسكندر اليوناني من أهل بلدة من بلاد اليونانيين تدعى مقدونية، كان ملكا عليها وعلى بلاد أخرى احتازها إليها، كان صالح دارا على خراج يحمله إليه في كل سنة، وأن فيلفوس هلك، فملك بعده ابنه الإسكندر، فلم يحمل إلى دارا ما كان يحمله إليه أبوه من الخراج، فأسخط ذلك عليه دارا، وكتب إليه يؤنبه بسوء صنيعه في تركه حمل ما كان أبوه يحمل إليه من الخراج وغيره، وأنه إنما دعاه إلى حبس ما كان أبوه يحمل إليه من الخراج الصبا والجهل، وبعث إليه بصولجان وكرة وقفيز من سمسم، وأعلمه فيما كتب إليه أنه صبي، وأنه إنما ينبغي له أن يلعب بالصولجان والكرة اللذين بعث بهما إليه، ولا يتقلد الملك، ولا يتلبس به، وأنه إن لم يقتصر على ما أمره به من ذلك، وتعاطى الملك واستعصى عليه، بعث إليه من يأتيه به في وثاق، وأن عدة جنوده كعدة حب السمسم الذي بعث به إليه. فكتب إليه الإسكندر في جواب كتابه ذلك، أن قد فهم ما كتب، وأن قد نظر إلى ما ذكر في كتابه إليه من إرساله الصولجان والكرة، وتيمن به لإلقاء

الملقي الكرة إلى الصولجان، واحترازه إياها، وشبه الأرض بالكرة، وأنه محتاز ملك دارا إلى ملكه، وبلاده إلى حيزه من الأرض، وأن نظره إلى السمسم الذي بعث به إليه كنظره إلى الصولجان والكرة لدسمه وبعده من المرارة والحرافة وبعث إلى دارا مع كتابه بصرة من خردل، وأعلمه في ذلك الجواب أن ما بعث به إليه قليل، غير أن ذلك مثل الذي بعث به في الحرافة والمرارة والقوة، وأن جنوده في كل ما وصف به منه. فلما وصل إلى دارا جواب كتاب الإسكندر، جمع إليه جنده، وتأهب لمحاربة الإسكندر، وتأهب الإسكندر وسار نحو بلاد دارا. وبلغ ذلك دارا، فزحف إليه فالتقى الفئتان، واقتتلا أشد القتال، وصارت الدبرة على جند دارا، فلما رأى ذلك رجلان من حرس دارا، يقال إنهما كانا من أهل همذان، طعنا دارا من خلفه فأردياه من مركبه، وأرادا بطعنهما إياه الحظوة عند الإسكندر، والوسيلة إليه، ونادى الإسكندر أن يؤسر دارا أسرا ولا يقتل، فأخبر بشأن دارا، فسار الإسكندر حتى وقف عنده، فرآه يجود بنفسه، فنزل الاسكندر عن دابته حتى حبس عند رأسه، وأخبره أنه لم يهم قط بقتله، وأن الذي أصابه لم يكن عن رايه، وقال له: سلني ما بدا لك فأسعفك فيه، فقال له دارا: لي إليك حاجتان: إحداهما أن تنتقم لي من الرجلين اللذين فتكا بي- وسماهما وبلادهما- والأخرى أن تتزوج ابنتي روشنك فأجابه إلى الحاجتين، وأمر بصلب الرجلين اللذين انتهكا من دارا ما انتهكا، وتزوج روشنك وتوسط بلاد دارا، وكان ملكه له. وزعم بعض أهل العلم بأخبار الأولين أن الإسكندر هذا الذي حارب دارا الأصغر، هو أخو دارا الأصغر الذي حاربه، وأن أباه دارا الأكبر كان تزوج أم الإسكندر، وأنها ابنة ملك الروم واسمها هلاي، وأنها حملت

إلى زوجها دارا الأكبر، فلما وجد نتن ريحها وعرقها وسهكها، أمر أن يحتال لذلك منها، فاجتمع رأي أهل المعرفة في مداواتها على شجرة يقال لها بالفارسية سندر، فطبخت لها فغسلت بها وبمائها، فأذهب ذلك كثيرا من ذلك النتن، ولم يذهب كله، وانتهت نفسه عنها لبقية ما بها، وعافها وردها إلى أهلها، وقد علقت منه فولدت غلاما في أهلها، فسمته باسمها واسم الشجرة التي غسلت بها، حتى أذهبت عنها نتنها: هلاي سندروس، فهذا أصل الإسكندروس. قَالَ: وهلك دارا الأكبر، وصار الملك إلى ابنه دارا الأصغر، وكانت ملوك الروم تؤدي الخراج إلى دارا الأكبر في كل سنة، فهلك أبو هلاي ملك الروم جد الإسكندر لأمه، فلما صار الملك لابن ابنته بعث دارا الأصغر إليه للعادة: إنك أبطأت علينا بالخراج الذي كنت تؤديه ويؤديه من كان قبلك، فابعث إلينا بخراج بلادك وإلا نابذناك المحاربة فرجع إليه جوابه: أني قد ذبحت الدجاجة، وأكلت لحمها، ولم يبق لها بقية، وقد بقيت الأطراف، فإن أحببت وادعناك، وإن أحببت ناجزناك فعند ذلك نافره دارا وناجزه القتال، وجعل الإسكندر لحاجبي دارا حكمها على الفتك به، فاحتكما شيئا، ولم يشترطا أنفسهما، فلما التقوا للحرب، طعن حاجبا دارا دارا في الوقعة، فلحقه الإسكندر صريعا، فنزل إليه وهو بآخر رمق، فمسح التراب عن وجهه ووضع رأسه في حجره، ثم قَالَ له: إنما قتلك حاجباك، ولقد كنت أرغب بك يا شريف الأشراف وحر الأحرار وملك الملوك، عن هذا المصرع، فأوصني بما أحببت فأوصاه دارا أن يتزوج ابنته روشنك، ويتخذها لنفسه ويستبقي أحرار فارس، ولا يولى عليهم غيرهم فقبل وصيته وعمل بأمره، وجاء اللذان قتلا دارا إلى الإسكندر فدفع إليهما حكمهما، ووفى لهما ثم قَالَ لهما: قد وفيت لكما كما اشترطتما ولم تكونا اشترطتما أنفسكما، فأنا قاتلكما، فإنه ليس ينبغي لقتلة الملوك أن يستبقوا إلا بذمة لا تخفر فقتلهما

وذكر بعضهم أن ملك الروم في أيام دارا الأكبر كان يؤدي إلى دارا الإتاوة فهلك، وملك الروم الإسكندر، وكان رجلا ذا حزم وقوة ومكر، فيقال إنه غزا بعض ملوك المغرب فظفر به، وآنس لذلك من نفسه القوة فنشز على دارا الأصغر، وامتنع من حمل ما كان أبوه يحمله من الخراج، فحمي دارا لذلك، وكتب إليه كتبا عنيفة، ففسد ما بينهما وسار كل واحد منهما إلى صاحبه وقد احتشدا والتقيا في الحد واختلفت بينهما الكتب والرسائل، ووجل الإسكندر من محاربة دارا، ودعاه إلى الموادعة، فاستشار دارا أصحابه في أمره، فزينوا له الحرب لفساد قلوبهم عليه وقد اختلفوا في الحد وموضع التقائهما، فذكر بعضهم ان التقائهما كان بناحية خراسان مما يلي الخزر، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى خلص إليهما السلاح، وكان تحت الإسكندر يومئذ فرس له عجيب يقال له بوكفراسب، ويقال إن رجلا من أهل فارس حمل ذلك اليوم حتى تخرق الصفوف، وضرب الإسكندر ضربة بالسيف خيف عليه منها، وإنه تعجب من فعله وقال: هذا من فرسان فارس الذين كانت توصف شدتهم، وتحركت على دارا ضغائن أصحابه، وكان في حرسه رجلان من أهل همذان، فراسلا الإسكندر والتمسا الحيلة لدارا حتى طعناه، فكانت منيته من طعنهما إياه، ثم هربا. فقيل إنه لما وقعت الصيحة، وانتهى الخبر إلى الإسكندر ركب في أصحابه، فلما انتهى إلى دارا وجده يجود بنفسه، فكلمه ووضع رأسه في حجره، وبكى عليه، وقال له: أتيت من مأمنك، وغدر بك ثقاتك، وصرت بين أعدائك وحيدا، فسلني حوائجك فإني على المحافظة على القرابة بيننا- يعني القرابة بين سلم وهيرج ابني أفريذون- فيما زعم هذا القائل- وأظهر الجزع لما أصابه، وحمد ربه حين لم يبتله بأمره، فسأله دارا أن يتزوج ابنته روشنك، ويرعى لها حقها، ويعظم قدرها، وأن يطلب بثأره، فأجابه الإسكندر إلى ذلك

ثم أتاه الرجلان اللذان وثبا على دارا يطلبان الجزاء، فأمر بضرب رقابهما وصلبهما، وأن ينادى عليهما: هذا جزاء من اجترأ على ملكه، وغش أهل بلده. ويقال: إن الإسكندر حمل كتبا وعلوما كانت لأهل فارس من علوم ونجوم وحكمة، بعد أن نقل ذلك إلى السريانية ثم إلى الرومية. وزعم بعضهم أن دارا قتل وله من الولد الذكور: أشك بن دارا وبنو دارا وأردشير وله من البنات روشنك، وكان ملك دارا أربع عشرة سنة. وذكر بعضهم أن الإتاوة التي كان أبو الإسكندر يؤديها إلى ملوك الفرس كانت بيضا من ذهب، فلما ملك الإسكندر بعث إليه دارا يطلب ذلك الخراج، فبعث إليه: إني قد ذبحت تلك الدجاجة التي كانت تبيض ذلك البيض، وأكلت لحمها فأذن بالحرب ثم ملك الإسكندر بعد دارا بن دارا. وقد ذكرت قول من يقول: هو أخو دارا بن دارا من أبيه دارا الأكبر. وأما الروم وكثير من أهل الأنساب فإنهم يقولون: هو الاسكندر بن فيلفوس، وبعضهم يقول: هو ابن بيلبوس بن مطريوس، ويقال: ابن مصريم ابن هرمس بن هردس بن ميطون بن رومى بن ليطى بن يونان بن يافث بن ثوبه بن سرحون بن رومية بن زنط بن توقيل بن رومي بن الأصفر بن اليفز ابن العيص بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن ع فجمع بعد مهلك دارا ملك دارا إلى ملكه، فملك العراق والروم والشام ومصر، وعرض جنده بعد هلاك دارا فوجدهم- فيما قيل- الف الف وأربعمائة رجل، منهم من جنده ثمانمائه الف، ومن جند دارا ستمائه ألف. وذكر أنه قَالَ يوم جلس على سريره: قد أدالنا الله من دارا، ورزقنا خلاف ما كان يتوعدنا به، وأنه هدم ما كان في بلاد الفرس من المدن والحصون وبيوت النيران، وقتل الهرابذة، وأحرق كتبهم ودواوين دارا، واستعمل على مملكة دارا رجالا من أصحابه، وسار قدما إلى أرض الهند، فقتل ملكها وفتح مدينتها، ثم سار منها إلى الصين، فصنع بها كصنيعه بأرض الهند، ودانت

له عامة الأرضين، وملك التبت والصين، ودخل الظلمات مما يلي القطب الشمالي والشمس جنوبية في أربعمائة رجل يطلب عين الخلد، فسار فيها ثمانية عشر يوما، ثم خرج ورجع إلى العراق، وملك ملوك الطوائف، ومات في طريقه بشهرزور. وكان عمره ستا وثلاثين سنة في قول بعضهم، وحمل إلى أمه بالإسكندرية. وأما الفرس فإنها تزعم أن ملك الإسكندر كان أربع عشرة سنة، والنصارى تزعم أن ذلك كان ثلاث عشرة سنة وأشهرا، ويزعمون أن قتل دارا كان في أول السنة الثالثة من ملكه. وقيل إنه أمر ببناء مدن فبنيت اثنتا عشرة مدينة، وسماها كلها إسكندرية، منها مدينه بأصبهان يقال جى، بنيت على مثال الحيه، وثلاث مدائن بخراسان، منهن مدينة هراة ومدينة مرو ومدينة سمرقند، وبأرض بابل مدينة لروشنك بنت دارا، وبأرض اليونانية في بلاد هيلاقوس مدينة للفرس، ومدنا أخر غيرها. ولما مات الإسكندر عرض الملك من بعده على ابنه الإسكندروس، فأبى واختار النسك والعبادة، فملكت اليونانية عليهم- فيما قيل- بطلميوس بن لوغوس، وكان ملكه ثمانيا وثلاثين سنة، فكانت المملكة أيام اليونانية بعد الإسكندر وحياة الإسكندر إلى أن تحول الملك إلى الروم المصاص لليونانية، ولبني إسرائيل ببيت المقدس ونواحيها الديانة والرياسة على غير وجه الملك إلى أن خربت بلادهم الفرس والروم، وطردوهم عنها بعد قتل يحيى بن زكرياء ع. ثم كان الملك ببلاد الشام ومصر ونواحي المغرب بعد بطليموس بن لوغوس لبطلميوس دينايوس أربعين سنة. ثم من بعده لبطلميوس أورغاطس أربعا وعشرين سنة. ثم من بعده لبطلميوس فيلافطر إحدى وعشرين سنة. ثم من بعده لبطلميوس أفيفانس اثنتين وعشرين سنة. ثم من بعده لبطلميوس أورغاطس تسعا وعشرين سنة. ثم من بعده لبطلميوس ساطر سبع عشرة سنه

ثم من بعده لبطلميوس الأحسندر إحدى عشرة سنة. ثم من بعده لبطلميوس الذي اختفى عن ملكه ثماني سنين. ثم من بعده لبطلميوس دونسيوس ست عشرة سنة. ثم من بعده لبطلميوس قالوبطري سبع عشرة سنة. فكل هؤلاء كانوا يونانيين، فكل ملك منهم بعد الإسكندر كان يدعى بطلميوس، كما كانت ملوك الفرس يدعون أكاسرة، وهم الذين يقال لهم المفقانيون. ثم ملك الشام بعد قالوبطري- فيما ذكر الروم- المصاص، فكان أول من ملك منهم جايوس يوليوس خمس سنين ثم ملك الشام بعده اغوسطوس ستا وخمسين سنه فلما مضى من ملكه اثنتان وأربعون سنة ولد عيسى بن مريم ع، وبين مولده وقيام الاسكندر ثلاثمائة سنه وثلاث سنين

ذكر اخبار ملوك الفرس بعد الاسكندر وهم ملوك الطوائف

ذكر اخبار ملوك الفرس بعد الاسكندر وهم ملوك الطوائف ونرجع الآن إلى ذكر خبر الفرس بعد مهلك الإسكندر لسياق التأريخ على ملكهم. فاختلف أهل العلم بأخبار الماضين في الملك الذي كان بسواد العراق بعد الإسكندر، وفي عدد ملوك الطوائف الذين كانوا ملكوا إقليم بابل بعده إلى أن قام بالملك أردشير بابكان. فأما هشام بن مُحَمَّد فإنه قَالَ- فيما حدثت عنه: ملك بعد الإسكندر يلاقس سلقيس، ثم أنطيحس قَالَ: وهو الذي بنى مدينة أنطاكية قَالَ: وكان في أيدي هؤلاء الملوك سواد الكوفة، قَالَ: وكانوا يتطرقون الجبال وناحية الأهواز وفارس، حتى خرج رجل يقال له أشك، وهو ابن دارا الأكبر، وكان مولده ومنشؤه بالري، فجمع جمعا كثيرا وسار يريد أنطيحس، فزحف إليه أنطيحس، فالتقيا ببلاد الموصل فقتل أنطيحس، وغلب أشك على السواد، فصار في يده من الموصل إلى الري وأصبهان، وعظمه سائر ملوك الطوائف لنسبه، وشرفه فيهم ما كان من فعله، وعرفوا له فضله، وبدءوا به في كتبهم، وكتب إليهم فبدأ بنفسه، وسموه ملكا، وأهدوا إليه من غير أن يعزل أحدا منهم أو يستعمله. ثم ملك بعده جوذرز بن أشكان قَالَ: وهو الذي غزا بنى إسرائيل المرة الثانية، وكان سبب تسليط الله إياه عليهم- فيما ذكر أهل العلم- قتلهم يحيى بن زكرياء، فأكثر القتل فيهم، فلم تعد لهم جماعة كجماعتهم الأولى، ورفع الله عنهم النبوة وأنزل بهم الذل قَالَ: وقد كانت الروم غزت بلاد فارس، يقودها ملكها الأعظم يلتمس أن يدرك بثأرها في فارس لقتل أشك ملك بابل أنطيحس، وملك بابل يومئذ بلاش ابو اردوان، الذى قتله أردشير

ابن بابك، فكتب بلاش إلى ملوك الطوائف يعلمهم ما اجتمعت عليه الروم من غزو بلادهم، وإنه قد بلغه من حشدهم وجمعهم ما لا كفاء له عنده، وإنه إن ضعف عنهم ظفروا بهم جميعا فوجه كل ملك من ملوك الطوائف إلى بلاش من الرجال والسلاح والمال بقدر قوته، حتى اجتمع عنده أربعمائة ألف رجل، فولى عليهم صاحب الحضر- وكان ملكا من ملوك الطوائف يلي ما بين انقطاع السواد إلى الجزيرة- فسار بهم حتى لقي ملك الروم فقتله واستباح عسكره، وذلك هيج الروم على بناء القسطنطينية ونقل الملك من رومية إليها فكان الذي ولى إنشاءها الملك قسطنطين، وهو أول ملوك الروم تنصر، وهو أجلى من بقي من بني إسرائيل عن فلسطين والأردن لقتلهم- بزعمه- عيسى بن مريم، فأخذ الخشبة التي وجدهم يزعمون أنهم صلبوا المسيح عليها، فعظمها الروم، فأدخلوها خزائنهم، فهي عندهم إلى اليوم. قَالَ: ولم يزل ملك فارس متفرقا حتى ملك أردشير فذكر هشام ما ذكرت عنه، ولم يبين مدة ملك القوم. وقال غيره من أهل العلم بأخبار فارس: ملك بعد الإسكندر ملك دارا أناس من غير ملوك الفرس، غير أنهم كانوا يخضعون لكل من يملك بلاد الجبل ويمنحونه الطاعة. قَالَ: وهم الملوك الأشغانون الذين يدعون ملوك الطوائف قَالَ: فكان ملكهم مائتي سنة وستا وستين سنة. فملك من هذه السنين أشك بن أشجان عشر سنين ثم ملك بعده سابور بن أشغان ستين سنة، وفي سنة إحدى وأربعين من ملكه ظهر عيسى بن مريم بأرض فلسطين وإن ططوس بن أسفسيانوس ملك رومية غزا بيت المقدس بعد ارتفاع عيسى بن مريم بنحو من أربعين سنة، فقتل من في مدينة بيت المقدس، وسبى ذراريهم، وأمرهم فنسفت مدينة بيت المقدس، حتى لم يترك بها حجرا على حجر

ثم ملك جوذرز بن أشغانان الأكبر، عشر سنين. ثم ملك بيزن الأشغاني، إحدى وعشرين سنة. ثم ملك جوذرز الأشغاني، تسع عشرة سنة. ثم ملك نرسي الأشغاني، أربعين سنة. ثم ملك هرمز الأشغاني، سبع عشرة سنة. ثم ملك أردوان الأشغاني، اثنتي عشرة سنة. ثم ملك كسرى الأشغاني، أربعين سنة. ثم ملك بلاش الأشغاني، أربعا وعشرين سنة. ثم ملك أردوان الأصغر الأشغاني، ثلاث عشرة سنة. ثم ملك أردشير بن بابك. وقال بعضهم: ملك بلاد الفرس بعد الإسكندر ملوك الطوائف الذين فرق الإسكندر المملكة بينهم، وتفرد بكل ناحية من ملك عليها من حين ملكه، ما خلا السواد، فإنها كانت أربعا وخمسين سنة بعد هلاك الإسكندر في يد الروم وكان في ملوك الطوائف رجل من نسل الملوك مملكا على الجبال وأصبهان، ثم غلب ولده بعد ذلك على السواد، فكانوا ملوكا عليها وعلى الماهات والجبال وأصبهان، كالرئيس على سائر ملوك الطوائف، لأن السنة جرت بتقديمه وتقديم ولده، ولذلك قصد لذكرهم في كتب سير الملوك، فاقتصر على تسميتهم دون غيرهم. قال: ويقال ان عيسى بن مريم ع ولد باورشليم بعد إحدى وخمسين سنة من ملوك الطوائف، فكانت سنو ملكهم من لدن الإسكندر إلى وثوب أردشير بن بابك وقتله أردوان واستواء الأمر له، مائتين وستا وستين سنة. قَالَ: فمن الملوك الذين ملكوا الجبال ثم تهيأت لأولادهم بعد ذلك الغلبه

على السواد اشك بن حره بن رسبيان بن أرتشاخ بن هرمز بن ساهم بن رزان بن إسفنديار بن بشتاسب قَالَ: والفرس تزعم أنه أشك بن دارا وقال بعضهم: أشك بن أشكان الكبير، وكان من ولد كيبيه بن كيقباذ، وكان ملكه عشر سنين. ثم ملك من بعده أشك بن أشك بن أشكان، إحدى وعشرين سنة. ثم ملك سابور بن أشك بن أشكان، إحدى وعشرين سنة. ثم ملك سابور بن أشك بن أشكان، ثلاثين سنة. ثم ملك جوذرز الأكبر بن سابور بن أشكان، عشر سنين. ثم ملك بيرن بن جوذرز، إحدى وعشرين سنة. ثم جوذرز الأصغر بن بيزن، تسع عشرة سنة. ثم نرسه بن جوذرز الأصغر، أربعين سنة. ثم هرمز بن بلاش بن أشكان، سبع عشرة سنة. ثم أردوان الأكبر وهو أردوان بن أشكان، اثنتي عشرة سنة. ثم كسرى بن اشكان، اربعين سنه. ثم بها فريد الأشكاني، تسع سنين. ثم بلاش الأشكاني، أربعا وعشرين سنة. ثم أردوان الأصغر وهو أردوان بن بلاش بن فيروز بن هرمز بن بلاشر بن سابور بن أشك بن أشكان الأكبر، وكان جده كيبيه بن كيقباذ ويقال: إنه كان أعظم الأشكانية ملكا، وأظهرهم عزا، واسناهم ذكرا، واشدهم قهرا الملوك الطوائف، وأنه كان قد غلب على كورة إصطخر لاتصالها بأصبهان، ثم تخطى إلى جور وغيرها من فارس، حتى غلب عليها، ودانت له ملوكها لهيبة ملوك الطوائف كانت له، وكان ملكه ثلاث عشرة سنة. ثم ملك أردشير. وقال بعضهم: ملك العراق وما بين الشام ومصر بعد الإسكندر تسعون ملكا على تسعين طائفة كلهم يعظم من يملك المدائن، وهم الاشكانيون قال:

فملك من الاشكانيين افقور شاه بن بلاش بن سابور بن اشكان بن أرش الجبار بن سياوش بن كيقاوس الملك، اثنتين وستين سنة. ثم سابور بن أفقور- وعلى عهده كان المسيح ويحيى ع- ثلاثا وخمسين سنة. ثم جوذرز بن سابور بن أفقور الذي غزا بني إسرائيل طالبا بثار يحيى ابن زكرياء، ملك تسعا وخمسين سنة. ثم ابن أخيه أبزان بن بلاش بن سابور، سبعا وأربعين سنة. ثم جوذرز بن أبزان بن بلاش، إحدى وثلاثين سنة. ثم أخوه نرسى بن أبزان، أربعا وثلاثين سنة. ثم عمه الهرمزان بن بلاش، ثمانيا وأربعين سنة. ثم ابنه الفيروزان بن الهرمزان بن بلاش، تسعا وثلاثين سنة. ثم ابنه كسرى بن الفيروزان، سبعا وأربعين سنة. ثم ابنه اردوان بن بلاش، وهو آخرهم، قتله أردشير بن بابك، خمسا وخمسين سنة. قَالَ: وكان ملك الإسكندر وملك سائر ملوك الطوائف في النواحي خمسمائة وثلاثا وعشرين سنة

ذكر الاحداث التي كانت في ايام ملوك الطوائف

ذكر الأحداث التي كانت في أيام ملوك الطوائف فكان من ذلك- فيما زعمته الفرس- لمضي خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل، ولإحدى وخمسين سنة من ملك الأشكانيين- ولادة مريم بنت عمران عيسى بن مريم ع. فأما النصارى فإنها تزعم أن ولادتها إياه كانت لمضى ثلاثمائة سنة وثلاث سنين من وقت غلبة الإسكندر على أرض بابل وزعموا أن مولد يحيى بن زكرياء كان قبل مولد عيسى ع بستة أشهر وذكروا أن مريم حملت بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة، وأن عيسى عاش إلى أن رفع اثنتين وثلاثين سنة وأياما، وأن مريم بقيت بعد رفعه ست سنين، وكان جميع عمرها نيفا وخمسين سنة. قَالَ: وزعموا أن يحيى اجتمع هو وعيسى بنهر الأردن وله ثلاثون سنة، وأن يحيى قتل قبل أن يرفع عيسى وكان زكرياء بن برخيا أبو يحيى بن زكرياء وعمران بن ماثان أبو مريم متزوجين بأختين، إحداهما عند زكرياء وهي أم يحيى، والأخرى منهما عند عمران بن ماثان، وهي أم مريم، فمات عمران بن ماثان وأم مريم حامل بمريم، فلما ولدت مريم كفلها زكرياء بعد موت أمها، لأن خالتها أخت أمها كانت عنده واسم أم مريم حنة بنت فاقود ابن قبيل، واسم أختها أم يحيى الأشباع ابنة فاقود وكفلها زكرياء، وكانت مسماة بيوسف بن يعقوب بن ماثان بن اليعازار بن اليوذ بن أحين بن صادوق بن عازور بن الياقيم بن أبيوذ بن زربابل بن شلتيل بن يوحنيا بن يوشيا بن أمون بن منشا بن حزقيا بن أحاز بن يوثام بن عوزيا بن يورام بن يهوشافاظ بن أسا بن أبيا بن رحبعم بن سليمان بن داود، ابن عم مريم. وأما ابن حميد، فإنه حَدَّثَنَا عن سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، أنه قَالَ:

مريم- فيما بلغني عن نسبها- ابنة عمران بن ياشهم بن أمون بن منشا بن حزقيا ابن احزيق بن يوثام بن عزريا بن أمصيا بن ياوش بن أحزيهو بن يارم بن يهشافاط بن أسا بن أبيا بن رحبعم بن سليمان فولد لزكرياء يحيى ابن خالة عيسى بن مريم، فنبئ صغيرا، فساح، ثم دخل الشام يدعو الناس، ثم اجتمع يحيى وعيسى، ثم افترقا بعد أن عمد يحيى عيسى. وقيل: إن عيسى بعث يحيى بن زكرياء في اثني عشر من الحواريين يعلمون الناس: قال: وكان فيما نهوهم عنه نكاح بنات الأخ، فَحَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عن الأعمش، عن المنهال، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَعَثَ عِيسَى بن مَرْيَمَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّاءَ، فِي اثْنَيْ عَشَرَ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ، قَالَ: فَكَانَ فِيمَا نَهَوْهُمْ عَنْهُ نِكَاحُ ابْنَةِ الأَخِ قَالَ: وَكَانَ لِمَلِكِهِمُ ابْنَةُ أَخٍ تُعْجِبُهُ، يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَكَانَتْ لَهَا كُلَّ يَوْمٍ حَاجَةٌ يَقْضِيهَا، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أُمَّهَا قَالَتْ لَهَا: إِذَا دَخَلْتِ عَلَى الْمَلَكِ، فَسَأَلَكِ حَاجَتَكِ فَقُولِي: حَاجَتِي أَنْ تَذْبَحَ لِي يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّاءَ فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ سَأَلَهَا حَاجَتَهَا، قَالَتْ: حَاجَتِي أَنْ تَذْبَحَ لِي يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّاءَ، فَقَالَ: سَلِينِي غَيْرَ هَذَا، قَالَتْ: مَا أَسْأَلُكَ إِلَّا هَذَا، قَالَ: فَلَمَّا أَبَتْ عَلَيْهِ دَعَا يَحْيَى، وَدَعَا بِطَسْتٍ فذبحه، فندرت قَطْرَةٌ مِنْ دَمِهِ عَلَى الْأَرْضِ فَلَمْ تَزَلْ تَغْلِي حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ بُخْتَنَصَّرَ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَتْهُ عَجُوزٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَدَلَّتْهُ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ، قَالَ: فَأَلْقَى اللَّهُ فِي قَلْبِهِ أَنْ يَقْتُلَ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ مِنْهُمْ حَتَّى يَسْكُنَ، فَقَتَلَ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنْهُمْ مِنْ سِنٍّ وَاحِدَةٍ، فَسَكَنَ. حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْهَمْدَانِيُّ، قَالَ: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود- وعن ناس من اصحاب النبي ص، إِنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، رَأَى فِي النَّوْمِ أَنَّ خَرَابَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهَلاكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى يَدَيْ غُلَامٍ يَتِيمٍ، ابْنِ أَرْمَلَةٍ مِنْ أَهْلِ بَابِلَ، يُدْعَى بُخْتَنَصَّرَ، وَكَانُوا يَصْدُقُونَ فَتَصْدُقَ رُؤْيَاهُمْ، فَأَقْبَلَ يَسْأَلُ عَنْهُ، حَتَّى نَزَلَ عَلَى أُمِّهِ وَهُوَ يَحْتَطِبُ، فَلَمَّا جَاءَ وَعَلَى راسه حزمه

حَطَبٍ أَلْقَاهَا، ثُمَّ قَعَدَ فِي جَانِبِ الْبَيْتِ، فَكَلَّمَهُ، ثُمَّ أَعْطَاهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، فَقَالَ: اشْتَرِ بِهَذِهِ طَعَامًا وَشَرَابًا، فَاشْتَرَى بِدِرْهَمٍ لَحْمًا، وَبِدِرْهَمٍ خُبْزًا، وَبِدِرْهَمٍ خَمْرًا، فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا، حَتَّى إِذَا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ فَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَكْتُبَ لِي أَمَانًا إِنْ أَنْتَ مَلَكْتَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، قَالَ: تَسْخَرُ بِي! قَالَ: إِنِّي لَا أَسْخَرُ بِكَ، وَلَكِنْ مَا عَلَيْكَ أَنْ تَتَّخِذَ بِهَا عِنْدِي يَدًا! فَكَلَّمَتْهُ أُمُّهُ، فَقَالَتْ: وَمَا عَلَيْكَ إِنْ كَانَ، وَإِلَّا لَمْ يُنْقِصْكَ شَيْئًا! فَكَتَبَ لَهُ أَمَانًا، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ وَالنَّاسُ حَوْلَكَ، قَدْ حَالُوا بَيْنِي وَبَيْنَكَ! فَاجْعَلْ لِي آيَةً تَعْرِفْنِي بِهَا، قَالَ: تَرْفَعُ صَحِيفَتَكَ عَلَى قَصَبَةٍ فَأَعْرِفُكَ بِهَا فَكَسَاهُ وَأَعْطَاهُ ثُمَّ إِنَّ مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ يُكْرِمُ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّاءَ، وَيُدْنِي مَجْلِسَهُ، وَيَسْتَشِيرُهُ فِي أَمْرِهِ، وَلا يَقْطَعُ أَمْرًا دُونَهُ، وَإِنَّهُ هَوِيَ أَنْ يَتَزَوَّجَ ابْنَةَ امْرَأَةٍ لَهُ، فَسَأَلَ يَحْيَى عَنْ ذَلِكَ، فَنَهَاهُ عَنْ نِكَاحِهَا، وَقَالَ: لَسْتُ أَرْضَاهَا لَكَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أُمَّهَا فَحَقَدَتْ عَلَى يَحْيَى حِينَ نَهَاهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ ابْنَتَهَا، فَعَمَدَتْ إِلَى الْجَارِيَةِ حِينَ جَلَسَ الْمَلِكُ عَلَى شَرَابِهِ، فَأَلْبَسَتْهَا ثِيَابًا رِقَاقًا حُمْرًا، وَطَيَّبَتْهَا، وَأَلْبَسَتْهَا مِنَ الْحُلِيِّ، وَأَلْبَسَتْهَا فَوْقَ ذَلِكَ كِسَاءً أَسْوَدَ، فَأَرْسَلَتْهَا إِلَى الْمَلِكِ، وَأَمَرَتْهَا أَنْ تَسْقِيَهُ، وَأَنْ تَعْرِضَ لَهُ، فَإِنْ أَرَادَهَا عَلَى نَفْسِهَا أَبَتْ عَلَيْهِ، حَتَّى يُعْطِيَهَا مَا سَأَلَتْهُ، فَإِذَا أَعْطَاهَا ذَلِكَ سَأَلَتْهُ أَنْ تُؤْتَى بِرَأْسِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ فِي طَسْتٍ، فَفَعَلَتْ فَجَعَلَتْ تَسْقِيهِ وَتَعْرِضُ لَهُ، فَلَمَّا أَخَذَ فِيهِ الشَّرَابُ أَرَادَهَا عَلَى نَفْسِهَا، فَقَالَتْ: لا أَفْعَلُ حَتَّى تُعْطِيَنِي مَا أَسْأَلُكَ، قَالَ: مَا تَسْأَلِينِي؟ قَالَتْ: أَسْأَلُكَ أَنْ تَبْعَثَ إِلَى يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ، فَأُوتَى بِرَأْسِهِ فِي هَذَا الطَّسْتِ، فَقَالَ: وَيْحَكِ! سَلِينِي غَيْرَ هَذَا! قَالَتْ: مَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ إِلَّا هَذَا. قَالَ: فَلَمَّا أَبَتْ عَلَيْهِ، بَعَثَ إِلَيْهِ فَأُتِيَ بِرَأْسِهِ، وَالرَّأْسُ يَتَكَلَّمُ، حَتَّى وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: لَا تَحِلُّ لَكَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ إِذَا دَمُهُ يَغْلِي، فَأَمَرَ بِتُرَابٍ فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ، فَرَقَى الدَّمُ فَوْقَ التُّرَابِ يَغْلِي، فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ التُّرَابُ أَيْضًا، فَارْتَفَعَ الدَّمُ فَوْقَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يُلْقَى عَلَيْهِ التُّرَابُ حَتَّى بَلَغَ سُورَ الْمَدِينَةِ،

وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَغْلِي، وَبَلَغَ صيحائين فَنَادَى فِي النَّاسِ، وَأَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا، وَيُؤَمِّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا، فَأَتَاهُ بُخْتَنَصَّرُ، فَكَلَّمَهُ، وَقَالَ: إِنَّ الَّذِي كُنْتَ أَرْسَلْتَ تِلْكَ الْمَرَّةَ ضَعِيفٌ، فَإِنِّي قَدْ دَخَلْتُ الْمَدِينَةَ، وَسَمِعْتُ كَلَامَ أَهْلِهَا، فَابْعَثْنِي، فَبَعَثَهُ فَسَارَ بُخْتَنَصَّرَ، حَتَّى إِذَا بَلَغُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ تَحَصَّنُوا مِنْهُ فِي مَدَائِنِهِمْ، فَلَمْ يُطِقْهُمْ، فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْمُقَامُ، وَجَاعَ أَصْحَابُهُ اراد الرُّجُوعَ، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَتْ: أَيْنَ أَمِيرُ الْجُنْدِ؟ فَأُتِيَ بِهِ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ بِجُنْدِكَ قَبْلَ أَنْ تَفْتَحَ هَذِهِ الْمَدِينَةَ قَالَ: نَعَمْ، قَدْ طَالَ مُقَامِي، وَجَاعَ أَصْحَابِي، فَلَسْتُ أَسْتَطِيعُ الْمُقَامَ فَوْقَ الَّذِي كَانَ مِنِّي، فَقَالَتْ: أَرَأَيْتُكَ إِنْ فُتِحَتْ لَكَ الْمَدِينَةُ، أَتُعْطِينِي مَا أَسْأَلُكَ، فَتَقْتُلُ مَنْ أَمَرْتُكَ بِقَتْلِهِ، وَتَكُفُّ إِذَا أَمَرْتُكَ أَنْ تَكُفَّ؟ قَالَ لَهَا: نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَا أَصْبَحْتَ فَاقْسِمْ جُنْدَكَ أَرْبَعَةَ أَرْبَاعٍ، ثُمَّ أَقِمْ عَلَى كُلِّ زَاوِيَةٍ رُبْعًا، ثُمَّ ارْفَعُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى السَّمَاءِ، فَنَادَوْا: إِنَّا نَسْتَفْتِحُكَ يَا اللَّهِ بِدَمِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ، فَإِنَّها سَوْفَ تَتَسَاقَطُ فَفَعَلُوا، فَتَسَاقَطَتِ الْمَدِينَةُ، وَدَخَلُوا مِنْ جَوَانِبِهَا، فَقَالَتْ لَهُ: كُفَّ يَدَكَ، اقْتُلْ عَلَى هَذَا الدَّمِ حَتَّى يَسْكُنَ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ إِلَى دَمِ يَحْيَى وَهُوَ عَلَى تُرَابٍ كَثِيرٍ، فَقَتَلَ عَلَيْهِ حَتَّى سَكَنَ، فَقَتَلَ سَبْعِينَ أَلْفَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، فَلَمَّا سَكَنَ الدَّمُ، قَالَتْ لَهُ: كُفَّ يَدَكَ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا قُتِلَ نَبِيٌّ لَمْ يَرْضَ حَتَّى يُقْتَلَ مَنْ قَتَلَهُ وَمَنْ رَضِيَ قَتْلَهُ فَأَتَاهُ صَاحِبُ الصَّحِيفَةِ بِصَحِيفَتِهِ، فَكَفَّ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَأَمَرَ بِهِ أَنْ تُطْرَحَ فِيهِ الْجِيَفُ، وَقَالَ: مَنْ طَرَحَ فِيهِ جِيفَةً فَلَهُ جِزْيَتُهُ تِلْكَ السَّنَةَ، وَأَعَانَهُ عَلَى خَرَابِهِ الرُّومُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتَلُوا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّاءَ، فَلَمَّا خَرَّبَهُ بُخْتَنَصَّرُ ذَهَبَ مَعَهُ بِوُجُوهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَسَرَاتِهِمْ، وَذَهَبَ بِدَانْيَالَ وَعليَا وعزريَا وَمِيشَائِيلَ، هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ، وَذَهَبَ مَعَهُ بِرَأْسِ الْجَالُوتِ، فَلَمَّا قَدِمَ أَرْضَ بَابِلَ

وَجَدَ صيحَائينَ قَدْ مَاتَ، فَمَلَكَ مَكَانَهُ، وَكَانَ أَكْرَمَ النَّاسِ عَلَيْهِ دَانْيَالُ وَأَصْحَابُهُ، فَحَسَدَهُمُ الْمَجُوسُ، فَوَشَوْا بِهِمْ إِلَيْهِ، فَقَالُوا: إِنَّ دَانْيَالَ وَأَصْحَابَهُ لا يَعْبُدُونَ إِلَهَكَ، وَلا يَأْكُلُونَ مِنْ ذَبِيحَتِكَ، فَدَعَاهُمْ فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: أَجَلْ إِنَّ لَنَا رَبًّا نَعْبُدُهُ، وَلَسْنَا نَأْكُلُ مِنْ ذَبِيحَتِكُمْ، وَأَمَرَ بِخَدٍّ فَخُدَّ، فَأُلْقُوا فِيهِ وَهُمْ سِتَّةٌ، وَأُلْقِيَ مَعَهُمْ سَبُعٌ ضَارٍ لِيَأْكُلَهُمْ، فَقَالُوا: انْطَلِقُوا فَلْنَأْكُلْ وَلْنَشْرَبْ، فَذَهَبُوا، فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا، ثُمَّ رَاحُوا فَوَجَدُوهُمْ جُلُوسًا، وَالسَّبُعُ مُفْتَرِشٌ ذِرَاعَيْهِ بَيْنَهُمْ لَمْ يَخْدِشْ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَلَمْ يَنْكَأْهُ شَيْئًا، فَوَجَدُوا مَعَهُمْ رَجُلًا، فَعَدُّوهُمْ فَوَجَدُوهُمْ سَبْعَةً، فَقَالَ: مَا بَالُ هَذَا السَّابِعِ؟ إِنَّمَا كَانُوا سِتَّةً! فَخَرَجَ إِلَيْهِ السَّابِعُ- وَكَانَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ- فَلَطَمَهُ لَطْمَةً فَصَارَ فِي الْوَحْشِ، فَكَانَ فِيهِمْ سَبْعُ سِنِينَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ- الَّذِي رُوِيَ عَمَّنْ ذَكَرْتُ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي رَوَيْتُ وَعَمَّنْ لَمْ يُذْكَرْ فِي هَذَا الْكِتَابِ، مِنْ أَنَّ بُخْتَنَصَّرَ، هُوَ الَّذِي غَزَا بَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ قَتْلِهِمْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ- عِنْدَ أَهْلِ السِّيَرِ وَالْأَخْبَارِ وَالْعِلْمِ بِأُمُورِ الْمَاضِينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ غَلَطٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ بُخْتَنَصَّرَ إِنَّمَا غَزَا بَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ قَتْلِهِمْ نَبِيَّهُمْ شَعْيَا فِي عَهْدِ إِرْمِيَا بْنِ حلقِيَا، وَبَيْنَ عَهْدِ إِرْمِيَا وَتَخْرِيبِ بُخْتَنَصَّرَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى مَوْلِدِ يَحْيَى بن زكرياء أربعمائة سَنَةٍ وَإِحْدَى وَسِتُّونَ سَنَةً فِي قَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَيَذْكُرُونَ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فِي كُتُبِهِمْ وَأَسْفَارِهِمْ مُبَيَّنٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَعُدُّونَ مِنْ لَدُنْ تَخْرِيبِ بُخْتَنَصَّرَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى حِينِ عُمْرَانِهَا فِي عَهْدِ كيرشَ بْنِ أَخْشويرشَ أَصْبهبذَ بَابِلَ مِنْ قِبَلِ أَرْدِشِيرَ بهمن بْنِ إِسْفندِيَارِ بْنِ بشتَاسبَ، ثُمَّ مِنْ قِبَلِ ابْنَتِهِ خماني سَبْعِينَ سَنَةً، ثُمَّ مِنْ بَعْدِ عُمْرَانِهَا إِلَى ظُهُورِ الإِسْكَنْدَرِ عَلَيْهَا وَحِيَازَةِ مَمْلَكَتِهَا إِلَى مَمْلَكَتِهِ ثَمَانِيًا وَثَمَانِينَ سَنَةً، ثُمَّ مِنْ بَعْدِ مَمْلَكَةِ الإِسْكَنْدَرِ لها الى مولد يحيى بن زكرياء ثلاثمائة سنه وثلاث سنين، فذلك على قولهم أربعمائة سَنَةٍ وَإِحْدَى وَسِتُّونَ سَنَةً

وَأَمَّا الْمَجُوسُ فَإِنَّهَا تُوَافِقُ النَّصَارَى وَالْيَهُودَ فِي مُدَّةِ خَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَمْرِ بُخْتَنَصَّرَ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى غَلَبَةِ الإِسْكَنْدَرِ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالشَّامِ وَهَلاكِ دارا، وَتُخَالِفُهُمْ فِي مُدَّةِ مَا بَيْنَ مُلْكِ الإِسْكَنْدَرِ وَمَوْلِدِ يَحْيَى، فَتَزْعُمُ أَنَّ مُدَّةَ ذَلِكَ إِحْدَى وَخَمْسُونَ سَنَةً فَبَيْنَ الْمَجُوسِ وَالنَّصَارَى مِنَ الاخْتِلَافِ فِي مُدَّةِ مَا بَيْنَ مُلْكِ الإِسْكَنْدَرِ وَمَوْلِدِ يَحْيَى وَعِيسَى مَا ذَكَرْتُ. وَالنَّصَارَى تَزْعُمُ أَنَّ يَحْيَى وُلِدَ قَبْلَ عِيسَى بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَأَنَّ الَّذِي قَتَلَهُ مَلِكٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ هِيردُوسُ، بِسَبَبِ امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا هِيرُوذيَا، كَانَتِ امْرَأَةَ أَخٍ لَهُ، يُقَالُ لَهُ فيلفُوسُ، عَشِقَهَا فَوَافَقَتْهُ عَلَى الْفُجُورِ، وَكَانَ لَهَا ابْنَةٌ يُقَالُ لَهَا دمنَى فَأَرَادَ هِيردُوسُ أَنْ يَطَأَ امْرَأَةَ أَخِيهِ الْمُسَمَّاةَ هِيروذيَا، فَنَهَاهُ يَحْيَى وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ لا تَحِلُّ لَهُ، فَكَانَ هِيرُدوسُ مُعْجَبًا بِالابْنَةِ، فَأَلْهَتْهُ يَوْمًا، ثُمَّ سَأَلَتْهُ حَاجَةً فَأَجَابَهَا إِلَيْهَا، وَأَمَرَ صَاحِبًا لَهُ بِالنُّفُوذِ لِمَا تَأْمُرُهُ بِهِ، فَأَمَرَتْهُ أَنْ يَأْتِيَهَا بِرَأْسِ يَحْيَى، فَفَعَلَ، فَلَّما عَرَفَ هِيردُوسُ الْخَبَرَ أُسْقِطَ فِي يَدِهِ، وَجَزَعَ جَزَعًا شَدِيدًا. وَأَمَّا مَا قَالَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالأَخْبَارِ وَأُمُورِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَدْ حَكَيْتُ مِنْهُ مَا قَالَهُ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَلْبِيُّ. وأما ما قَالَ ابن إسحاق فيه، فهو مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بن إسحاق، قَالَ: عمرت بنو إسرائيل بعد ذلك- يعني بعد مرجعهم من أرض بابل إلى بيت المقدس- يحدثون الأحداث، ويعود الله عليهم ويبعث فيهم الرسل، ففريقا يكذبون وفريقا يقتلون، حتى كان آخر من بعث فيهم من أنبيائهم زكرياء ويحيى بن زكرياء وعيسى بن مريم، وكانوا من بيت آل داود ع وهو يحيى بن زكرياء بن ادى ابن مسلم بن صدوق بن نحشان بن داود بن سليمان بن مسلم بن صديقة بن برخية بن شفاطية بن فاحور بن شلوم بن يهفاشاط بن اسا بن أبيا بن رحبعم

ابن سليمان بن داود. قَالَ: فلما رفع الله عيسى ع من بين أظهرهم، وقتلوا يحيى بن زكرياء ع- وبعض الناس يقول: وقتلوا زكرياء- ابتعث الله عليهم ملكا من ملوك بابل يقال له خردوس، فسار إليهم بأهل بابل، حتى دخل عليهم الشام، فلما ظهر عليهم أمر رأسا من رءوس جنوده يدعى نبوزراذان، صاحب القتل، فقال له: انى كنت حلفت بالله: لئن أنا ظهرت على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري، إلى ألا أجد أحدا أقتله، فأمره أن يقتلهم، حتى يبلغ ذلك منهم وإن نبوزراذان دخل بيت المقدس، فقام في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم، فوجد فيها دما يغلي، وسألهم، فقال: يا بني إسرائيل، ما شأن هذا الدم يغلي؟ أخبروني خبره ولا تكتموني شيئا من أمره، فقالوا: هذا دم قربان كان لنا كنا قربناه فلم يقبل منا، فلذلك هو يغلي كما تراه، ولقد قربنا منذ ثمانمائه سنة القربان، فيقبل منا إلا هذا القربان قَالَ: ما صدقتموني الخبر، قَالُوا له: لو كان كأول زماننا لقبل منا، ولكنه قد انقطع منا الملك والنبوة والوحي، فلذلك لم يقبل منا فذبح منهم نبوزراذان على ذلك الدم سبعمائة وسبعين روحا من رءوسهم فلم يهدأ، فأمر فاتى بسبعمائة غلام من غلمانهم، فذبحوا على الدم فلم يهدأ، فامر بسبعه آلاف من بنيهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يبرد، فلما رأى نبوزراذان الدم لا يهدأ قَالَ لهم: يا بني إسرائيل، ويلكم! اصدقوني واصبروا على أمر ربكم، فقد طالما ملكتم في الأرض تفعلون فيها ما شئتم، قبل ألا أترك منكم نافخ نار، أنثى ولا ذكرا إلا قتلته! فلما رأوا الجهد وشدة القتل صدقوه الخبر فقالوا: إن هذا دم نبي منا كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله، فلو أطعناه فيها لكان أرشد لنا، وكان يخبرنا بأمركم فلم نصدقه فقتلناه، فهذا دمه فقال لهم نبوزراذان: ما كان اسمه؟ قَالُوا: يحيى بن زكرياء، قَالَ: الآن صدقتموني، لمثل هذا ينتقم ربكم منكم فلما رأى نبوزراذان أنهم قد صدقوه خر ساجدا، وقال لمن حوله: أغلقوا أبواب المدينة، وأخرجوا من كان هاهنا من جيش خردوس

وخلا في بني إسرائيل ثم قَالَ: يا يحيى بن زكرياء، قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك، وما قتل منهم من أجلك، فاهدأ بإذن الله قبل ألا أبقي من قومك أحدا، فهدأ دم يحيى بإذن الله، ورفع نبوزراذان عنهم القتل، وقال: آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل، وصدقت به وأيقنت أنه لا رب غيره، ولو كان معه آخر لم يصلح، لو كان معه شريك لم تستمسك السموات والأرض، ولو كان له ولد لم يصلح، فتبارك وتقدس وتسبح وتكبر وتعظم! ملك الملوك الذي يملك السموات السبع بعلم وحكم وجبروت وعزة، الذي بسط الأرض وألقى فيها رواسي لا تزول، فكذلك ينبغي لربي أن يكون ويكون ملكه فأوحى إلى رأس من رءوس بقية الأنبياء أن نبوزراذان حبور صدوق- والحبور بالعبرانية حديث الإيمان- وأن نبوزراذان قَالَ لبني إسرائيل: إن عدو الله خردوس أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره وإني فاعل، لست أستطيع أن أعصيه قَالُوا له: افعل ما أمرت به، فأمرهم فحفروا خندقا، وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والبقر والغنم والإبل فذبحها، حتى سال الدم في العسكر، وأمر بالقتلى الذين كانوا قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم، حتى كانوا فوقهم، فلم يظن خردوس إلا أن ما كان في الخندق من بني إسرائيل. فلما بلغ الدم عسكره أرسل إلى نبوزراذان: ارفع عنهم، فقد بلغني دماؤهم، وقد انتقمت منهم بما فعلوا ثم انصرف عنهم إلى أرض بابل، وقد أفنى بني إسرائيل أو كاد، وهي الوقعة الأخيرة التي أنزل الله ببني إسرائيل، يقول الله تعالى لنبيه محمد ص: «وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ» إلى قوله: «وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً» . وعسى من الله حق، فكانت الوقعه الأولى بختنصر وجنوده، ثم رد

الله لهم الكرة عليهم، ثم كانت الوقعة الأخيرة خردوس وجنوده، وهي كانت أعظم الوقعتين، فيها كان خراب بلادهم وقتل رجالهم وسبي ذراريهم ونسائهم، يقول الله عز وجل: «وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً» . رجع الحديث الى حديث عيسى بن مريم وأمه عليهما السلام. قَالَ: وكانت مريم ويوسف بن يعقوب ابن عمها يليان خدمة الكنيسة، فكانت مريم إذا نفد ماؤها- فيما ذكر- وماء يوسف أخذ كل واحد منهما قلته، فانطلق إلى المغارة التي فيها الماء الذي يستعذبانه، فيملأ قلته، ثم يرجعان إلى الكنيسة فلما كان اليوم الذي لقيها فيه جبرئيل- وكان أطول يوم في السنة وأشده حرا- نفد ماؤها، فقالت: يا يوسف، ألا تذهب بنا نستقي! قَالَ: إن عندي لفضلا من ماء أكتفي به يومي هذا إلى غد، قالت: لكني والله ما عندي ماء، فأخذت قلتها، ثم انطلقت وحدها، حتى دخلت المغارة، فتجد عندها جبرئيل، قد مثله الله لها بشرا سويا: فقال لها: يا مريم، إن الله قد بعثني إليك لأهب لك غلاما زكيا، قالت: «إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا » ، وهي تحسبه رجلا من بني آدم فقال: انما انا رسول ربك، قالت: «أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا» ، أي أن الله قد قضى أن ذلك كائن فلما قَالَ ذلك استسلمت لقضاء الله، فنفخ في جيبها، ثم انصرف عنها، وملأت قلتها. قال: فحَدَّثَنِي مُحَمَّد بن سهل بن عسكر البخاري، قال حدثنا اسماعيل ابن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، ابن أخي وهب،

قَالَ: سمعت وهبا قال: لما أرسل الله عز وجل جبرئيل إلى مريم، تمثل لها بشرا سويا فقالت: «إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا » ، ثم نفخ في جيب درعها حتى وصلت النفخة إلى الرحم، واشتملت على عيسى قَالَ: وكان معها ذو قرابة لها يقال له يوسف النجار، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون، وكان ذلك المسجد يومئذ من أعظم مساجدهم، وكانت مريم ويوسف يخدمان في ذلك المسجد في ذلك الزمان، وكان لخدمته فضل عظيم، فرغبا في ذلك، فكانا يليان معالجته بأنفسهما وتجميره وكناسته وطهوره، وكل عمل يعمل فيه، فكان لا يعلم من أهل زمانهما أحد أشد اجتهادا وعبادة منهما، وكان أول من أنكر حمل مريم صاحبها يوسف، فلما رأى الذي بها استعظمه، وعظم عليه، وفظع به، ولم يدر على ماذا يضع أمرها! فإذا أراد يوسف أن يتهمها ذكر صلاحها وبراءتها، وأنها لم تغب عنه ساعة قط، وإذا أراد أن يبرئها رأى الذي ظهر بها فلما اشتد عليه ذلك كلمها، فكان أول كلامه إياها أن قَالَ لها: إنه قد وقع في نفسي من أمرك أمر قد حرصت على أن أميته، وأكتمه في نفسي، فغلبني ذلك، فرأيت أن الكلام فيه أشفى لصدري، قالت: فقل قولا جميلا، قَالَ: ما كنت لأقول إلا ذلك، فحدثيني: هل ينبت زرع بغير بذر؟ قالت: نعم، قَالَ: فهل تنبت شجرة من غير غيث يصيبها؟ قالت: نعم، قَالَ: فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم، ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر، والبذر إنما كان من الزرع الذي أنبته الله من غير بذر! أولم تعلم أن الله أنبت الشجر من غير غيث، وأنه جعل بتلك القدرة الغيث حياة للشجر بعد ما خلق كل واحد منهما وحده! أو تقول لم يقدر الله على أن ينبت الشجر، حتى استعان عليه بالماء، ولولا ذلك لم يقدر على إنباته! قَالَ لها يوسف: لا أقول ذلك، ولكني أعلم أن الله بقدرته على ما يشاء يقول لذلك: كن فيكون قالت له مريم: أولم تعلم أن الله عز وجل

خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى؟ قَالَ: بلى، فلما قالت له ذلك وقع في نفسه أن الذي بها شيء من الله عز وجل، وأنه لا يسعه أن يسألها عنه، وذلك لما رأى من كتمانها لذلك ثم تولى يوسف خدمة المسجد، وكفاها كل عمل كانت تعمل فيه، وذلك لما رأى من رقة جسمها واصفرار لونها، وكلف وجهها، ونتوء بطنها، وضعف قوتها، ودأب نظرها، ولم تكن مريم قبل ذلك كذلك، فلما دنا نفاسها أوحى الله إليها أن اخرجي من أرض قومك، فإنهم إن ظفروا بك عيروك وقتلوا ولدك فأفضت عند ذلك إلى أختها- وأختها حينئذ حبلى، وقد بشرت بيحيى- فلما التقيا وجدت أم يحيى ما في بطنها خر لوجهه ساجدا معترفا بعيسى، فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له، ليس بينها حين ركبت الحمار وبين الإكاف شيء، فانطلق يوسف بها، حتى إذا كان متاخما لأرض مصر في منقطع بلاد قومها أدرك مريم النفاس، وألجأها إلى أري حمار- يعني مزود الحمار- في أصل نخلة، وذلك في زمان الشتاء، فاشتد على مريم المخاض، فلما وجدت منه شدة التجأت إلى النخلة، فاحتضنتها واحتوشتها الملائكة، قاموا صفوفا محدقين بها. فلما وضعت وهي محزونة، قيل لها: «أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا» إلى «إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا» ، فكان الرطب يتساقط عليها، وذلك في الشتاء. فأصبحت الأصنام التي كانت تعبد من دون الله حين ولدت بكل أرض مقلوبة منكوسة على رءوسها، ففزعت الشياطين وراعها، فلم يدروا ما سبب ذلك، فساروا عند ذلك مسرعين، حتى جاءوا إبليس، وهو على عرش له، في لجة خضراء، يتمثل بالعرش يوم كان على الماء ويحتجب، يتمثل بحجب النور التي من دون الرحمن، فاتوه وقد خلاست ساعات من النهار، فلما

رأى إبليس جماعتهم، فزع من ذلك، ولم يرهم جميعا منذ فرقهم قبل تلك الساعة، إنما كان يراهم أشتاتا، فسألهم فأخبروه أنه قد حدث في الأرض حدث أصبحت الأصنام منكوسة على رءوسها، ولم يكن شيء أعون على هلاك بني آدم منها، كنا ندخل في أجوافها فنكلمهم، وندبر أمرهم فيظنون أنها التي تكلمهم، فلما أصابها هذا الحدث صغرها في أعين بني آدم، وأذلها وأدناها، ذلك وقد خشينا ألا يعبدوها بعد هذا أبدا واعلم أنا لم نأتك حتى أحصينا الأرض، وقلبنا البحار وكل شيء قوينا عليه، فلم نزدد بما أردنا إلا جهلا قَالَ لهم إبليس: إن هذا لأمر عظيم، لقد علمت بأني كتمته، وكونوا على مكانكم هذا فطار إبليس عند ذلك، فلبث عنهم ثلاث ساعات، فمر فيهن بالمكان الذي ولد فيه عيسى، فلما رأى الملائكة محدقين بذلك المكان، علم أن ذلك الحدث فيه، فأراد إبليس أن يأتيه من فوقه، فإذا فوقه رءوس الملائكة ومناكبهم عند السماء ثم أراد أن يأتيه من تحت الأرض، فإذا أقدام الملائكة راسية أسفل مما أراد إبليس ثم أراد أن يدخل من بينهم فنحوه عن ذلك. ثم رجع إبليس إلى أصحابه فقال لهم: ما جئتكم حتى أحصيت الأرض كلها مشرقها ومغربها، وبرها وبحرها، والخافقين، والجو الأعلى، وكل هذا بلغت في ثلاث ساعات، وأخبرهم بمولد المسيح، وقال لهم: لقد كتمت شأنه، وما اشتملت قبله رحم أنثى على ولد إلا بعلمي، ولا وضعته قط، إلا وأنا حاضرها، وأني لأرجو أن أضل به أكثر مما يهتدي به، وما كان نبي قبله أشد علي وعليكم منه. وخرج في تلك الليلة قوم يؤمونه من أجل نجم طلع أنكروه، وكان قبل ذلك يتحدثون أن مطلع ذلك النجم من علامات مولود في كتاب دانيال. فخرجوا يريدونه، ومعهم الذهب والمر واللبان، فمروا بملك من ملوك الشام، فسألهم: أين يريدون؟ فأخبروه بذلك، قَالَ: فما بال الذهب والمر واللبان اهديتموه له من بين الأشياء كلها؟ قَالُوا: تلك أمثاله: لأن الذهب هو سيد المتاع كله، وكذلك هذا النبي هو سيد أهل زمانه، ولأن المر يجبر به

الجرح والكسر، وكذلك هذا النبي يشفي به الله كل سقيم ومريض، ولأن اللبان ينال دخانه السماء ولا ينالها دخان غيره، كذلك هذا النبي يرفعه الله إلى السماء لا يرفع في زمانه أحد غيره. فلما قَالُوا ذلك لذلك الملك حدث نفسه بقتله، فقال: اذهبوا، فإذا علمتم مكانه فأعلموني ذلك، فإني أرغب في مثل ما رغبتم فيه من أمره فانطلقوا حتى دفعوا ما كان معهم من تلك الهدية إلى مريم، وأرادوا أن يرجعوا إلى هذا الملك ليعلموه مكان عيسى، فلقيهم ملك فقال لهم: لا ترجعوا إليه، ولا تعلموه بمكانه، فإنه إنما أراد بذلك ليقتله، فانصرفوا في طريق آخر، واحتملته مريم على ذلك الحمار ومعها يوسف، حتى وردا أرض مصر، فهي الربوة التي قَالَ الله: «وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ» . فمكثت مريم اثنتي عشرة سنة تكتمه من الناس، لا يطلع عليه أحد، وكانت مريم لا تأمن عليه ولا على معيشته أحدا، كانت تلتقط السنبل من حيث ما سمعت بالحصاد، والمهد في منكبها والوعاء الذي تجعل فيه السنبل في منكبها الآخر، حتى تم لعيسى ع اثنتا عشرة سنة، فكان أول آية رآها الناس منه أن أمه كانت نازلة في دار دهقان من أهل مصر، فكان ذلك الدهقان قد سرقت له خزانة، وكان لا يسكن في داره إلا المساكين، فلم يتهمهم، فحزنت مريم لمصيبة ذلك الدهقان، فلما أن رأى عيسى حزن أمه بمصيبة صاحب ضيافتها، قَالَ لها: يا أمه، أتحبين أن أدله على ماله؟ قالت: نعم يا بني، قَالَ: قولي له يجمع لي مساكين داره، فقالت مريم للدهقان ذلك، فجمع له مساكين داره، فلما اجتمعوا عمد إلى رجلين منهم: أحدهما أعمى والآخر مقعد، فحمل المقعد على عاتق الأعمى، ثم قَالَ له: قم به، قَالَ الأعمى: أنا أضعف من ذلك، قَالَ عيسى ع: فكيف قويت على ذلك البارحة؟ فلما سمعوه يقول ذلك، بعثوا الأعمى، حتى قام به، فلما استقل قائما حاملا هوي المقعد إلى كوة الخزانة قَالَ عيسى: هكذا احتالا لمالك البارحة، لأنه استعان الأعمى بقوته، والمقعد بعينيه، فقال

المقعد والأعمى: صدق، فردا على الدهقان ماله ذلك، فوضعه الدهقان في خزانته، وقال: يا مريم خذي نصفه، قالت: إني لم أخلق لذلك، قَالَ الدهقان: فأعطيه ابنك، قالت: هو أعظم مني شأنا، ثم لم يلبث الدهقان أن أعرس ابن له فصنع له عيدا فجمع عليه أهل مصر كلهم، فلما انقضى ذلك زاره قوم من أهل الشام لم يحذرهم الدهقان، حتى نزلوا به، وليس عنده يومئذ شراب، فلما رأى عيسى اهتمامه بذلك دخل بيتا من بيوت الدهقان، فيه صفان من جرار، فأمر عيسى يده على أفواهها، وهو يمشي، فكلما أمر يده على جرة امتلأت شرابا، حتى أتى عيسى على آخرها، وهو يومئذ ابن اثنتي عشرة سنة، فلما فعل ذلك عيسى فزع الناس لشأنه وما أعطاه الله من ذلك، فأوحى الله عز وجل إلى أمه مريم، أن اطلعي به إلى الشام، ففعلت الذي أمرت به، فلم تزل بالشام حتى كان ابن ثلاثين سنة، فجاءه الوحي على ثلاثين سنة، وكانت نبوته ثلاث سنين ثم رفعه الله إليه، فلما رآه إبليس يوم لقيه على العقبة لم يطلق منه شيئا، فتمثل له برجل ذي سن وهيئة، وخرج معه شيطانان ماردان متمثلين كما تمثل إبليس، حتى خالطوا جماعة الناس. وزعم وهب أنه ربما اجتمع على عيسى من المرضى في الجماعة الواحدة خمسون ألفا، فمن أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق ذلك منهم أتاه عيسى ع يمشي إليه، وإنما كان يداويهم بالدعاء إلى الله عز وجل، فجاءه إبليس في هيئة يبهر الناس حسنها وجمالها، فلما رآه الناس فرغوا له، ومالوا نحوه، فجعل يخبرهم بالأعاجيب، فكان في قوله: إن شأن هذا الرجل لعجب، تكلم في المهد، وأحيا الموتى، وأنبأ عن الغيب، وشفى المريض، فهذا الله قَالَ أحد صاحبيه: جهلت أيها الشيخ، وبئس ما قلت! لا ينبغي لله أن يتجلى للعباد، ولا يسكن الأرحام، ولا تسعه أجواف النساء، ولكنه ابن الله وقال الثالث: بئس ما قلتما، كلا كما قد أخطأ وجهل، ليس ينبغي لله أن يتخذ ولدا، ولكنه إله معه، ثم غابوا حين فرغوا

من قولهم، فكان ذلك آخر العهد منهم. حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود- وعن ناس من اصحاب النبي ص، قَالَ: خَرَجَتْ مَرْيَمُ إِلَى جَانِبِ الْمِحْرَابِ لِحَيْضٍ أَصَابَهَا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا مِنَ الْجُدْرَانِ، وهو قوله: «ف انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً » فِي شَرْقِ الْمِحْرَابِ، فَلَمَّا طَهُرَتْ إِذَا هِيَ بِرَجُلٍ مَعَهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: «فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا » فهو جبرئيل «فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا » فَلَمَّا رَأَتْهُ فَزِعَتْ مِنْهُ وَقَالَتْ: «إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا » - تَقُولُ زَانِيَةً- «قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا» فَخَرَجَتْ، عَلَيْهَا جِلْبَابُهَا، فَأَخَذَ بِكُمَّيْهَا، فَنَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا- وَكَانَ مَشْقُوقًا مِنْ قُدَّامِهَا- فَدَخَلَتِ النَّفْخَةُ فِي صَدْرِهَا، فَحَمَلَتْ، فَأَتَتْهَا أُخْتُهَا امْرَأَةُ زَكَرِيَّاءَ لَيْلَةً تَزُورُهَا، فَلَمَّا فَتَحَتْ لَهَا الْبَابَ الْتَزَمَتْهَا، فَقَالَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّاءَ: يَا مَرْيَمُ أَشَعَرْتِ أَنِّي حُبْلَى. قَالَتْ مَرْيَمُ: أَشَعَرْتِ أَنِّي أَيْضًا حُبْلَى قَالَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّاءَ: فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ، فَذَلِكَ قوله: «مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ» . فَوَلَدَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّاءَ يَحْيَى، وَلَمَّا بَلَغَ أَنْ تَضَعَ مَرْيَمُ، خَرَجَتْ إِلَى جَانِبِ الْمِحْرَابِ الشَّرْقِيِّ مِنْهُ، فَأَتَتْ أَقْصَاهُ: «فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ» يَقُولُ: أَلْجَأَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ، «قالَتْ» : وَهِيَ تطلقُ مِنَ الْحَبْلِ اسْتِحْيَاءً مِنَ النَّاسِ: «يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا»

تَقُولُ: نَسِيًّا: نُسِيَ ذِكْرِي، وَمَنْسِيًّا، تَقُولُ: نُسِيَ أَثَرِي، فَلا يُرَى لِي أَثَرٌ وَلا عَيْنٌ «فَناداها» ، جبرئيل: «مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا» ، وَالسَّرِيُّ هُوَ النَّهْرُ «وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ» ، وَكَانَ جِذْعًا مِنْهَا مَقْطُوعًا فَهَزَّتْهُ، فَإِذَا هُوَ نَخْلَةٌ، وَأَجْرَى لَهَا فِي الْمِحْرَابِ نَهْرًا فَتَسَاقَطَتِ النخله رطبا جنيا، فقال لها: كلى وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا، «فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا» ، فَكَانَ مَنْ صَامَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يُمْسِيَ، فَقِيلَ لَهَا: لا تَزِيدِي عَلَى هَذَا، فَلَمَّا وَلَدَتْهُ ذَهَبَ الشَّيْطَانُ فَأَخْبَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ مَرْيَمَ قَدْ وَلَدَتْ، فَأَقْبَلُوا يَشْتَدُّونَ، فَدَعَوْهَا «فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا» - يَقُولُ عَظِيمًا- «يَا أُخْتَ هارُونَ مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا» ، فَمَا بَالُكِ أَنْتِ يَا أُخْتَ هَارُونَ! وَكَانَتْ مِنْ بَنِي هَارُونَ أَخِي مُوسَى، وَهُوَ كَمَا تَقُولُ: يَا أَخَا بَنِي فُلانٍ، إِنَّمَا تَعْنِي قَرَابَتَهُ فَقَالَتْ لَهُمْ مَا أَمَرَهَا اللَّهُ، فَلَمَّا أَرَادُوهَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْكَلَامِ، أَشَارَتْ إِلَيْهِ- إِلَى عِيسَى- فَغَضِبُوا وَقَالُوا: لَسُخْرِيَّتُهَا بِنَا حِينَ تَأْمُرُنَا أَنْ نُكَلِّمَ هَذَا الصَّبِيَّ أَشَدُّ عَلَيْنَا مِنْ زِنَاهَا! «قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا» فَتَكَلَّمَ عِيسَى فَقَالَ: «إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ» فَقَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: مَا أَحْبَلَهَا أَحَدٌ غَيْرُ زَكَرِيَّاءَ، هُوَ كَانَ يَدْخُلُ إِلَيْهَا، فَطَلَبُوهُ فَفَرَّ مِنْهُمْ فَتَشَبَّهَ لَهُ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ رَاعٍ، فَقَالَ: يَا زَكَرِيَّاءُ، قَدْ أَدْرَكُوكَ، فَادْعُ اللَّهَ حَتَّى تَنْفَتِحَ لَكَ هَذِهِ الشَّجَرَةُ فَتَدْخُلَ فِيهَا، فَدَعَا اللَّهَ فَانْفَتَحَتْ لَهُ الشَّجَرَةُ، فَدَخَلَ فِيهَا وَبَقِيَ مِنْ رِدَائِهِ هُدْبٌ، فَمَرَّتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِالشَّيْطَانِ، فَقَالُوا: يَا رَاعِي، هَلْ رَأَيْتَ رَجُلًا من هاهنا قَالَ: نَعَمْ سَحَرَ هَذِهِ الشَّجَرَةَ،

فَانْفَتَحَتْ لَهُ، فَدَخَلَ فِيهَا، وَهَذَا هُدْبُ رِدَائِهِ، فَعَمَدُوا فَقَطَعُوا الشَّجَرَةَ، وَهُوَ فِيهَا بِالْمَنَاشِيرِ، وَلَيْسَ تَجِدُ يَهُودِيًّا إِلَّا تِلْكَ الْهُدْبَة فِي رِدَائِهِ، فَلَمَّا وُلِدَ عِيسَى لَمْ يَبْقَ فِي الأَرْضِ صَنَمٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَّا أَصْبَحَ سَاقِطًا لِوَجْهِهِ حَدَّثَنِي المثنى، قَالَ: حَدَّثَنَا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا اسماعيل ابن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهبا يقول: إن عيسى بن مريم ع لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا جزع من الموت، وشق عليه، فدعا الحواريين، فصنع لهم طعاما، فقال: احضروني الليلة، فإن لي إليكم حاجة، فلما اجتمعوا إليه من الليل، عشاهم وقام يخدمهم، فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم ويوضئهم بيده، ويمسح أيديهم بثيابه، فتعاظموا ذلك وتكارهوه، فقال: ألا من رد علي شيئا الليلة مما أصنع فليس مني ولا أنا منه! فأقروه حتى إذا فرغ من ذلك قَالَ: أما ما صنعت بكم الليلة مما خدمتكم على الطعام، وغسلت أيديكم بيدي، فليكن لكم بي أسوة، فإنكم ترون أني خيركم، ولا يتعظم بعضكم على بعض، وليبذل بعضكم نفسه لبعض، كما بذلت نفسي لكم وأما حاجتي التي أستعينكم عليها، فتدعون الله لي، وتجتهدون في الدعاء أن يؤخر أجلي، فلما نصبوا أنفسهم للدعاء، وأرادوا أن يجتهدوا، أخذهم النوم، حتى لم يستطيعوا دعاء، فجعل يوقظهم، ويقول: سبحان الله! ما تصبرون لي ليلة واحدة تعينوني فيها! قَالُوا: والله ما ندري ما لنا! لقد كنا نسمر فنكثر السمر، وما نطيق الليلة سمرا، وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه! فقال: يذهب بالراعي وتتفرق الغنم وجعل يأتي بكلام نحو هذا، ينعى به نفسه، ثم قَالَ: الحق ليكفرن بي أحدكم، قبل ان يصيح الديك ثلاث مرات، وليبيعننى أحدكم بدراهم يسيرة، وليأكلن ثمني فخرجوا فتفرقوا، وكانت اليهود تطلبه، فأخذوا شمعون، أحد الحواريين، فقالوا: هذا من أصحابه، فجحد وقال: ما أنا بصاحبه، فتركوه، ثم أخذه آخر فجحد كذلك، ثم سمع صوت ديك،

فبكى، فلما أصبح أتى أحد الحواريين إلى اليهود، فقال: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح؟ فجعلوا له ثلاثين درهما، فأخذها ودلهم عليه- وكان شبه عليهم قبل ذلك- فأخذوه، فاستوثقوا منه، وربطوه بالحبل، فجعلوا يقودونه، ويقولون: أنت كنت تحيي الموتى، وتنتهر الشيطان، وتبرئ المجنون، أفلا تفتح نفسك من هذا الحبل! ويبصقون عليه، ويلقون عليه الشوك، حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها، فرفعه الله إليه، وصلبوا ما شبه لهم، فمكث سبعا ثم إن أمه والمرأة- التي كان عيسى يداويها فأبرأها الله من الجنون- جاءتا تبكيان عند المصلوب، فجاءهما عيسى ع، فقال: على من تبكيان؟ فقالتا: عليك، فقال: إني قد رفعني الله إليه، ولم يصبني إلا خير، وإن هذا شيء شبه لهم، فأمرا الحواريين أن يلقوني إلى مكان كذا وكذا، فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر، وفقد الذي كان باعه، ودل عليه اليهود، فسأل عنه أصحابه، فقالوا: إنه ندم على ما صنع، فاختنق وقتل نفسه، فقال: لو تاب تاب الله عليه! ثم سألهم عن غلام يتبعهم يقال له يحيى، فقال: هو معكم، فانطلقوا فإنه سيصبح كل إنسان منكم يحدث بلغة قوم فلينذرهم وليدعهم. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه اليماني، قال: توفى الله عيسى بن مريم ثلاث ساعات من النهار، حتى رفعه الله إليه. حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: والنصارى يزعمون أنه توفاه الله سبع ساعات من النهار، ثم أحياه الله، فقال له: اهبط، فانزل على مريم المجدلانية في جبلها، فإنه لم يبك عليك أحد بكاءها، ولم يحزن عليك أحد حزنها، ثم لتجمع لك الحواريين، فبثهم في الأرض دعاة إلى الله، فإنك لم تكن فعلت ذلك فأهبطه الله عليها، فاشتعل الجبل حين

هبط نورا، فجمعت له الحواريين، فبثهم وأمرهم، أن يبلغوا الناس عنه ما أمره الله به، ثم رفعه الله إليه، فكساه الريش، وألبسه النور، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، فطار في الملائكة وهو معهم حول العرش، فكان إنسيا ملكيا سمائيا أرضيا، وتفرق الحواريون حيث أمرهم، فتلك الليلة التي أهبط فيها الليلة التي تدخن فيها النصارى وكان ممن وجه من الحواريين والأتباع الذين كانوا في الأرض بعدهم، فطرس الحواري ومعه بولس- وكان من الأتباع، ولم يكن من الحواريين- إلى رومية، واندراييس ومثى إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس- وهي فيما نرى للأساود- وتوماس إلى أرض بابل من أرض المشرق، وفيلبس إلى القيروان وقرطاجنة، وهي إفريقية، ويحنس إلى دفسوس، قرية الفتية أصحاب الكهف، ويعقوبس إلى أوريشلم، وهي إيليا بيت المقدس، وابن تلما إلى العرابية، وهي أرض الحجاز، وسيمن إلى أرض البربر دون إفريقية، ويهوذا- ولم يكن من الحواريين- إلى اريوبس، جعل مكان يوذس زكرياء يوطا، حين أحدث ما أحدث. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمر ابن عبد الله بن عروة بن الزبير، عن ابن سليم الأنصاري، ثم الزرقي، قَالَ: كان على امرأة منا نذر، لتظهرن على رأس الجماء- جبل بالعقيق من ناحية المدينة- قَالَ: فظهرت معها، حتى إذا استوينا على رأس الجبل، إذا قبر عظيم، عليه حجران عظيمان، حجر عند رأسه، وحجر عند رجليه، فيهما كتاب بالمسند، لا أدري ما هو! فاحتملت الحجرين معي، حتى إذا كنت ببعض الجبل منهبطا ثقلا علي، فألقيت أحدهما وهبطت

بالآخر، فعرضته على أهل السريانية: هل يعرفون كتابه؟ فلم يعرفوه، وعرضته على من يكتب بالزبور من أهل اليمن، ومن يكتب بالمسند فلم يعرفوه قَالَ: فلما لم أجد أحدا ممن يعرفه ألقيته تحت تابوت لنا، فمكث سنين، ثم دخل علينا ناس من أهل ماه من الفرس يبتغون الخرز، فقلت لهم: هل لكم من كتاب؟ فقالوا: نعم، فأخرجت إليهم الحجر، فإذا هم يقرءونه، فإذا هو بكتابهم: هذا قبر رسول الله عيسى بن مريم ع إلى أهل هذه البلاد، فإذا هم كانوا أهلها في ذلك الزمان، مات عندهم فدفنوه على رأس الجبل. حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثم عدوا على بقية الحواريين يشمسونهم ويعذبونهم، وطافوا بهم، فسمع بذلك ملك الروم- وكانوا تحت يديه، وكان صاحب وثن- فقيل له: إن رجلا كان في هؤلاء الناس الذين تحت يديك من بني إسرائيل عدوا عليه فقتلوه، وكان يخبرهم أنه رسول الله، قد أراهم العجائب، وأحيا لهم الموتى، وأبرأ لهم الأسقام، وخلق لهم من الطين كهيئة الطير، ونفخ فيه فكان طائرا بإذن الله، وأخبرهم بالغيوب قَالَ: ويحكم! فما منعكم أن تذكروا هذا لي من امره وامرهم! فو الله لو علمت ما خليت بينهم وبينه ثم بعث إلى الحواريين، فانتزعهم من أيديهم، وسألهم عن دين عيسى وأمره، فأخبروه خبره، فتابعهم على دينهم، واستنزل سرجس فغيبه، وأخذ خشبته التي صلب عليها، فأكرمها وصانها لما مسها منه، وعدا على بني إسرائيل، فقتل منهم قتلى كثيرة، فمن هنالك كان أصل النصرانية في الروم. وذكر بعض أهل الأخبار أن مولد عيسى ع كان لمضي اثنتين وأربعين سنة من ملك اغوسطوس، وان اغوسطوس عاش بعد ذلك بقية ملكه،

وكان جميع ملكه ستا وخمسين سنة- قَالَ بعضهم: وأياما قَالَ: ووثبت اليهود بالمسيح، والرياسة ببيت المقدس في ذلك الوقت لقيصر، والملك على بيت المقدس من قبل قيصر هيردوس الكبير الذي دخلت عليه رسل ملك فارس الذين وجههم الملك الى المسيح، فصار إلى هيردوس غلطا، وأخبروه أن ملك فارس بعث بهم ليقربوا إلى المسيح ألطافا معهم من ذهب، ومر ولبان، وأنهم نظروا إلى نجمه قد طلع، فعرفوا ذلك بالحساب، وقربوا الألطاف إليه ببيت لحم من فلسطين فلما عرف هيردوس خبرهم كاد المسيح، فطلبه ليقتله، فأمر الله الملك أن يقول ليوسف الذي كان مع مريم في الكنيسة ما أراد هيردوس من قتله، وأمره أن يهرب بالغلام وأمه إلى مصر، فلما مات هيردوس قَالَ الملك ليوسف وهو بمصر: إن هيردوس قد مات، وملك مكانه أركلاوس ابنه، وذهب من كان يطلب نفس الغلام، فانصرف به إلى ناصرة من فلسطين ليتم قول شعيا النبي: من مصر دعوتك ومات أركلاوس، وملك مكانه هيردوس الصغير، الذي صلب شبه المسيح في ولايته، وكانت الرياسة في ذلك الوقت لملوك اليونانية والروم، وكان هيردوس وولده من قبلهم، إلا أنهم كانوا يلقبون باسم الملك، وكان الملوك الكبار يلقبون بقيصر، وكان ملك بيت المقدس في وقت الصلب لهيردوس الصغير من قبل طيباريوس بن أغوسطوس دون القضاء، وكان القضاء لرجل رومي يقال له: فيلاطوس من قبل قيصر، وكانت رياسة الجالوت ليونن بن بهبوثن. قَالَ: وذكروا أن الذي شبه بعيسى وصلب مكانه رجل إسرائيلي، يقال له: أيشوع بن فنديرا وكان ملك طيباريوس ثلاثا وعشرين سنة وأياما منها إلى وقت ارتفاع المسيح ثماني عشرة سنة وأيام، ومنها بعد ذلك خمس سنين

ذكر من ملك من الروم ارض الشام بعد رفع المسيح ع إلى عهد النبي ص في قول النصارى

ذكر من ملك من الروم أرض الشام بعد رفع المسيح ع الى عهد النبي ص في قول النصارى قَالَ أبو جعفر: زعموا أن ملك الشام من فلسطين وغيرها صار بعد طيباريوس إلى جايوس بن طيباريوس، وأن ملكه كان أربع سنين. ثم ملك بعده ابن له آخر، يقال له: قلوديوس أربع عشرة سنة. ثم ملك بعده نيرون، الذي قتل فطرس وبولس، وصلبه منكسا، أربع عشرة سنة. ثم ملك بعده بوطلايوس، أربعة أشهر. ثم ملك بعده أسفسيانوس أبو ططوس الذي وجهه إلى بيت المقدس عشر سنين ولمضي ثلاث سنين من ملكه وتمام أربعين سنة من وقت رفع عيسى ع وجه أسفسيانوس ابنه ططوس إلى بيت المقدس، حتى هدمه وقتل من قتل من بني إسرائيل غضبا للمسيح ثم ملك بعده ططوس بن اسفسيانوس، سنتين. ثم من بعده دومطيانوس، ست عشرة سنة ثم من بعده نارواس، ست سنين. ثم من بعده طرايانوس، تسع عشرة سنة. ثم من بعده هدريانوس، إحدى وعشرين سنة. ثم ملك من بعده ططورس بن بطيانوس، اثنتين وعشرين سنة. ثم من بعده مرقوس وأولاده، تسع عشرة سنة. ثم من بعده قوذوموس، ثلاث عشرة سنة

ثم من بعده فرطناجوس، ستة أشهر. ثم من بعده سبروس أربع عشرة سنة. ثم من بعده انطنياوس، سبع سنين. ثم بعده مرقيانوس، ست سنين. ثم بعده أنطنيانوس، أربع سنين. ثم الحسندروس، ثلاث عشرة سنة. ثم غسميانوس، ثلاث سنين. ثم جورديانوس، ست سنين. ثم بعده فليفوس، سبع سنين. ثم داقيوس، ست سنين. ثم قالوس، ست سنين. ثم بعده والرييانوس وقاليونس، خمس عشرة سنة. ثم قلوديوس، سنة. ثم من بعده قريطاليوس، شهرين. ثم اورليانوس، خمس سنين. ثم طيقطوس، ستة أشهر. ثم فولوريوس، خمسة وعشرين يوما ثم فرابوس، ست سنين. ثم قوروس وابناه، سنتين. ثم دوقلطيانوس، ست سنين. ثم محسميانوس، عشرين سنة. ثم قسطنطينوس، ثلاثين سنة. ثم قسطنطين، ثلاثين سنة. ثم قسطنطين عشرين سنة

ثم اليانوس المنافق، سنتين. ثم يويانوس، سنة. ثم والمطيانوس وغرطيانوس، عشر سنين. ثم خرطانوس ووالنطيانوس الصغير، سنة. ثم تياداسيس الأكبر، سبع عشرة سنة. ثم أرقديوس وأنوريوس، عشرين سنة. ثم تياداسيس الاصغر والنطيانوس ست عشرة سنة. ثم مرقيانوس، سبع سنين. ثم لاون، ست عشرة سنة. ثم زانون، ثماني عشرة سنة ثم أنسطاس، سبعا وعشرين سنة. ثم يوسطنيانوس، سبع سنين. ثم يوسطنيانوس الشيخ، عشرين سنة. ثم يوسطينس اثنتي عشرة سنة. ثم طيباريوس، ست سنين. ثم مريقيس وتاذاسيس ابنه، عشرين سنة ثم فوقا الذي قتل، سبع سنين وستة أشهر. ثم هرقل الذى كتب اليه رسول الله ص، ثلاثين سنة. فمن لدن عمر بيت المقدس بعد تخريبه بختنصر إلى الهجرة- على قولهم- ألف سنة ونيف، ومن ملك الإسكندر إليها تسعمائة سنة ونيف وعشرون سنة، من ذلك من وقت ظهوره الى مولد عيسى ثلاثمائة سنة وثلاث سنين ومن مولده إلى ارتفاعه اثنتان وثلاثون سنة، ومن وقت ارتفاعه إلى الهجره خمسمائة وخمس وثمانون سنة وأشهر. وزعم بعض أصحاب الأخبار أن قتل بني إسرائيل يحيى بن زكرياء كان في عهد أردشير بن بابك لثماني سنين خلت من ملكه، وأن بختنصر إنما صار إلى الشام لقتال اليهود من قبل سابور الجنود ابن أردشير بن بابك

نزول قبائل العرب الحيرة والأنبار ايام ملوك الطوائف

نزول قبائل العرب الحيرة والأنبار ايام ملوك الطوائف وكان من الأحداث أيام ملوك الطوائف إلى قيام أردشير بن بابك بالملك- فيما ذكر هشام بن مُحَمَّد- دنو من دنا من قبائل العرب من ريف العراق ونزول من نزل منهم الحيرة والأنبار وما حوالي ذلك. فحدثت عن هشام بن مُحَمَّد، قَالَ: لما مات بختنصر انضم الذين كان أسكنهم الحيرة من العرب حين أمر بقتالهم إلى أهل الأنبار وبقي الحير خرابا، فغبروا بذلك زمانا طويلا، لا تطلع عليهم طالعة من بلاد العرب، ولا يقدم عليهم قادم، وبالأنبار أهلها ومن انضم إليهم من أهل الحيرة من قبائل العرب من بني إسماعيل وبني معد بن عدنان، فلما كثر اولاد معد ابن عدنان ومن كان معهم من قبائل العرب، وملئوا بلادهم من تهامة وما يليهم، فرقتهم حروب وقعت بينهم، وأحداث حدثت فيهم، فخرجوا يطلبون المتسع والريف فيما يليهم من بلاد اليمن ومشارف الشام، وأقبلت منهم قبائل حتى نزلوا البحرين، وبها جماعة من الأزد كانوا نزلوها في دهر عمران بن عمرو، من بقايا بني عامر، وهو ماء السماء بن حارثة، وهو الغطريف بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد. وكان الذين أقبلوا من تهامة من العرب مالك وعمرو ابنا فهم بن تيم الله ابن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عِمْرَان بن الحاف بن قضاعة، ومالك بن زهير بن عمرو بن فهم بن تيم الله بن أسد بن وبرة، في جماعه من

قومهم، والحيقار بن الحيق بن عمير بن قنص بن معد بن عدنان، في قنص كلها ولحق بهم غطفان بن عمرو بن الطمثان بن عوذ مناه بن يقدم ابن أفصى بن دعمي بن إياد بن نزار بن معد بن عدنان، وزهر بن الحارث بن الشلل بن زهر بن اياد وصبح، بن صبيح بن الحارث بن أفصى بن دعمي بن إياد. فاجتمع بالبحرين جماعة من قبائل العرب، فتحالفوا على التنوخ- وهو المقام- وتعاقدوا على التوازر والتناصر، فصاروا يدا على الناس، وضمهم اسم تنوخ، فكانوا بذلك الاسم، كأنهم عمارة من العمائر. قال: وتنخ عليهم بطون من نمارة بن لخم قَالَ: ودعا مالك بن زهير جذيمة الأبرش بن مالك بن فهم بن غانم بن دوس الأزدي إلى التنوخ معه، وزوجه أخته لميس ابنة زهير، فتنخ جذيمة بن مالك وجماعة ممن كان بها من قومهم من الأزد، فصار مالك وعمرو ابنا فهم والأزد حلفاء دون سائر تنوخ، وكلمة تنوخ كلها واحدة. وكان اجتماع من اجتمع من قبائل العرب بالبحرين وتحالفهم وتعاقدهم أزمان ملوك الطوائف الذين ملكهم الإسكندر، وفرق البلدان بينهم عند قتله دارا بن دارا ملك فارس، إلى أن ظهر أردشير بن بابك ملك فارس على ملوك الطوائف، وقهرهم ودان له الناس، وضبط له الملك. قَالَ: وإنما سموا ملوك الطوائف، لأن كل ملك منهم كان ملكه قليلا من الأرض، إنما هي قصور وأبيات، وحولها خندق وعدوه قريب منه، له من الأرض مثل ذلك ونحوه، يغير أحدهما على صاحبه ثم يرجع كالخطفة. قَالَ: فتطلعت أنفس من كان بالبحرين من العرب إلى ريف العراق،

وطمعوا في غلبة الأعاجم على ما يلي بلاد العرب منه أو مشاركتهم فيه، واهتبلوا ما وقع بين ملوك الطوائف من الاختلاف، فأجمع رؤساؤهم بالمسير إلى العراق، ووطن جماعة ممن كان معهم على ذلك، فكان أول من طلع منهم الحيقار بن الحيق في جماعة قومه وأخلاط من الناس، فوجدوا الأرمانيين- وهم الذين بأرض بابل وما يليها إلى ناحية الموصل- يقاتلون الأردوانيين، وهم ملوك الطوائف، وهم فيما بين نفر- وهي قرية من سواد العراق إلى الأبلة وأطراف البادية- فلم تدن لهم، فدفعوهم عن بلادهم. قَالَ: وكان يقال لعاد إرم، فلما هلكت قيل لثمود إرم، ثم سموا الأرمانيين، وهم بقايا إرم، وهم نبط السواد ويقال لدمشق: إرم. قَالَ: فارتفعوا عن سواد العراق وصاروا أشلاء بعد في عرب الأنبار وعرب الحيرة، فهم أشلاء قنص بن معد، وإليهم ينسب عمرو بن عدى بن نصر ابن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن سعود بن مالك بن عمم بن نمارة بن لخم. وهذا قول مضر وحماد الراوية، وهو باطل، ولم يأت في قنص ابن معد شيء أثبت من قول جبير بن مطعم: إن النعمان كان من ولده قَالَ: وإنما سميت الأنبار أنبار لأنها كانت تكون فيها أنابير الطعام، وكانت تسمى الأهراء، لأن كسرى يرزق أصحابه رزقهم منها. قَالَ: ثم طلع مالك وعمرو، ابنا فهم بن تيم الله، ومالك بن زهير بن فهم بن تيم الله، وغطفان بن عمرو بن الطمثان، وزهر بن الحارث وصبح ابن صبيح، فيمن تنخ عليهم من عشائرهم وحلفائهم على الأنبار، على ملك الأرمانيين، فطلع نمارة بن قيس بن نمارة، والنجدة- وهم قبيلة من العماليق يدعون الى كنده- وملكان بن كندة، ومالك وعمرو ابنا فهم ومن حالفهم، وتنخ معهم على نفر على ملك الأردوانيين، فأنزلهم الحير الذي كان بناه

بختنصر لتجار العرب الذين وجدوا بحضرته حين أمر بغزو العرب في بلادهم، وإدخال الجيوش عليهم، فلم تزل طالعة الأنبار وطالعة نفر على ذلك، لا يدينون للأعاجم، ولا تدين لهم الأعاجم، حتى قدمها تبع- وهو أسعد أبو كرب بن ملكيكرب- في جيوشه، فخلف بها من لم تكن به قوة من الناس، ومن لم يقو على المضي معه، ولا الرجوع إلى بلاده، وانضموا إلى هذا الحير، واختلطوا بهم، وفي ذلك يقول كعب بن جعيل بن عجرة بن قمير بن ثعلبة بن عوف بن مالك بن بكر بن حبيب بن عَمْرو بن غنم بن تغلب بن وائل: وغزا تبع في حمير حتى ... نزل الحيرة من أهل عدن وخرج تبع سائرا ثم رجع إليهم، وأقاموا فأقرهم على حالهم، وانصرف راجعا إلي اليمن، وفيهم من كل القبائل من بني لحيان، وهم بقايا جرهم، وفيهم جعفي، وطيّئ، وكلب، وتميم، وليسوا إلا بالحيرة- يعني بقايا جرهم. قَالَ ابن الكلبي: لحيان بقايا جرهم. ونزل كثير من تنوخ الأنبار والحيرة وما بين الحيرة إلى طف الفرات وغربيه، إلى ناحية الأنبار وما والاها في المظال والأخبية، لا يسكنون بيوت المدر، ولا يجامعون أهلها فيها، واتصلت جماعتهم فيما بين الأنبار والحيرة، وكانوا يسمون عرب الضاحية، فكان أول من ملك منهم في زمان ملوك الطوائف مالك بن فهم، وكان منزله مما يلي الأنبار ثم مات مالك، فملك من بعده أخوه عمرو بن فهم ثم هلك عمرو بن فهم، فملك من بعده جذيمة الأبرش بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس الأزدي. قَالَ ابن الكلبي: دوس بن عدثان بن عبد الله بن نصر بن زهران ابن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد بن

الغوث بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبإ. قَالَ ابن الكلبي: ويقال إن جذيمة الأبرش من العاربة الأولى، من بني وبار بن أميم بن لوذ بن سام بن نوح قَالَ: وكان جذيمة من أفضل ملوك العرب رأيا، وأبعدهم مغارا، وأشدهم نكاية، وأظهرهم حزما، وأول من استجمع له الملك بأرض العراق، وضم إليه العرب، وغزا بالجيوش، وكان به برص، فكنت العرب عنه، وهابت العرب أن تسميه به وتنسبه إليه إعظاما له، فقيل: جذيمة الوضاح، وجذيمة الأبرش، وكانت منازله فيما بين الحيرة والأنبار وبقة وهيت وناحيتها، وعين التمر، وأطراف البر الى الغوير والقطقطانة وخفية وما والاها، وتجبى إليه الأموال، وتفد إليه الوفود، وكان غزا طسما وجديسا في منازلهم من جو وما حولهم، وكانت طسم وجديس يتكلمون بالعربية، فأصاب حسان بن تبع أسعد أبي كرب، قد أغار على طسم وجديس باليمامة، فانكفأ جذيمة راجعا بمن معه، وتأتي خيول تبع على سرية لجذيمة فاجتاحتها، وبلغ جذيمة خبرهم، فقال جذيمة: ربما أوفيت في علم ... ترفعن بردي شمالات في فتو أنا كالئهم ... في بلايا غزوة باتوا ثم أبنا غانمي نعم ... وأناس بعدنا ماتوا نحن كنا في ممرهم ... إذ ممر القوم خوات ليت شعري ما أماتهم ... نحن أدلجنا وهم باتوا

ولنا كانوا ونحن إذا ... قَالَ منا قائل صاتوا ولنا البيد البعاد التي ... أهلها السودان اشتات ثبه الاخيار شاهده ... ذاكم قومى واهلاتى قد شربت الخمر وسطهم ... ناعما في غير أصوات فعلى ما كان من كرم ... فستبكيني بنياتي انا رب الناس كلهم ... غير ربي الكافت الفات يعني بالكافت الذي يكفت ارواحهم، والفات الذى يفيتهم أنفسهم، يعني الله عز وجل. قَالَ ابن الكلبي: ثلاثة أبيات منها حق، والبقية باطل. قال: وفي مغازيه وغاراته على الأمم الخالية من العاربة الأولى يقول الشاعر في الجاهلية: أضحى جذيمة في يبرين منزله ... قد حاز ما جمعت في دهرها عاد فكان جذيمة قد تنبأ وتكهن، واتخذ صنمين، يقال لهما: الضيزنان- قَالَ: ومكان الضيزنين بالحيرة معروف- وكان يستسقى بهما ويستنصر بهما على العدو، وكانت أياد بعين أباغ، وأباغ رجل من العماليق، نزل بتلك العين، فكان يغازيهم، فذكر لجذيمة غلام من لخم في أخواله من أياد يقال له عدي بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن سعود بن مالك بن عمم بن نمارة بن لخم، له جمال وظرف، فغزاهم جذيمة، فبعث أياد قوما فسقوا سدنة الصنمين الخمر، وسرقوا الصنمين، فأصبحا في أياد، فبعث إلى جذيمة: أن صنميك أصبحا فينا، زهدا فيك ورغبة فينا، فإن اوثقت لنا الا تغزونا رددناهما إليك. قَالَ: وعدي بن نصر تدفعونه إلي فدفعوه إليه مع الصنمين، فانصرف

عنهم، وضم عديا إلى نفسه، وولاه شرابه، فأبصرته رقاش ابنة مالك أخت جذيمة، فعشقته وراسلته، وقالت: يا عدي، أخطبني إلى الملك، فإن لك حسبا وموضعا، فقال: لا أجترئ على كلامه في ذلك، ولا اطمع أن يزوجنيك، قالت: إذا جلس على شرابه، وحضره ندماؤه، فاسقه صرفا، واسق القوم مزاجا، فإذا أخذت الخمرة فيه، فاخطبني إليه، فإنه لن يردك، ولن يمتنع منك، فإذا زوجك فاشهد القوم، ففعل الفتى ما أمرته به، فلما أخذت الخمرة مأخذها خطبها إليه، فأملكه إياها، فانصرف إليها، فأعرس بها من ليلته، واصبح مضرجا بالخلوق، فقال له جذيمة- وأنكر ما رأى به: ما هذه الآثار يا عدي؟ قَالَ: آثار العرس، قَالَ أي عرس! قَالَ: عرس رقاش! قَالَ: من زوجكها ويحك! قَالَ: زوجنيها الملك، فضرب جذيمة بيده على جبهته، وأكب على الأرض ندامة وتلهفا، وخرج عدي على وجهه هاربا، فلم ير له أثر، ولم يسمع له بذكر، وأرسل إليها جذيمة، فقال: حدثيني وأنت لا تكذبيني ... ابحر زنيت أم بهجين! أم بعبد فأنت أهل لعبد ... أم بدون فأنت أهل لدون فقالت: لا بل أنت زوجتني امرا عربيا، معروقا حسيبا، ولم تستأمرني في نفسي، ولم أكن مالكة لأمري، فكف عنها، وعرف عذرها. ورجع عدي بن نصر إلى أياد، فكان فيهم، فخرج ذات يوم مع فتية متصيدين، فرمى به فتى منهم من لهب فيما بين جبلين، فتنكس فمات، واشتملت رقاش على حبل، فولدت غلاما، فسمته عمرا ورشحته، حتى إذا ترعرع عطرته وألبسته وحلته، وأزارته خاله جذيمة، فلما رآه أعجب به، وألقيت عليه منه مقة ومحبة، فكان يختلف مع ولده، ويكون معهم. فخرج جذيمة متبديا بأهله وولده في سنة خصبة مكلئة، فضربت له أبنية في روضة ذات زهرة وغدر، وخرج ولده وعمرو معهم يجتنون الكمأة،

فكانوا إذا أصابوا كمأة جيدة أكلوها، وإذا أصابها عمرو خبأها في حجزته فانصرفوا إلى جذيمة يتعادون، وعمرو يقول: هذا جناي وخياره فيه ... إذ كل جان يده إلى فيه فضمه إليه جذيمة والتزمه، وسر بقوله وفعله، وأمر فجعل له حلي من فضة وطوق، فكان أول عربي ألبس طوقا، فكان يسمى عمرا ذا الطوق، فبينما هو على أحسن حاله، إذ استطارته الجن فاستهوته، فضرب له جذيمة في البلدان والآفاق زمانا لا يقدر عليه قَالَ: وأقبل رجلان أخوان من بلقين- يقال لهما: مالك وعقيل، ابنا فارج بن مالك بن كعب بن القين بن جسر ابن شيع الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عِمْرَان بن الحاف بن قضاعة- من الشام يريدان جذيمة، قد اهديا له طرفا ومتاعا، فلما كانا ببعض الطريق نزلا منزلا، ومعهما قينة لهما يقال لها: أم عمرو، فقدمت إليهما طعاما، فبينما هما يأكلان إذ أقبل فتى عريان شاحب، قد تلبد شعره، وطالت أظفاره، وساءت حاله، فجاء حتى جلس حجره منهما، فمد يده يريد الطعام، فناولته القينة كراعا، فأكلها ثم مد يده إليها، فقالت: تعطي العبد كراعا فيطمع في الذراع، فذهبت مثلا، ثم ناولت الرجلين من شراب كان معها، وأوكت زقها، فقال عمرو بن عدي: صددت الكاس عنا أم عمرو ... وكان الكاس مجراها اليمينا وما شر الثلاثة أم عمرو ... بصاحبك الذي لا تصحبينا! فقال مالك وعقيل: من أنت يا فتي؟ فقال: إن تنكراني او تنكرا نسبي، فانى انا عمرو بن عدي، ابن تنوخية، اللخمي، وغدا ما ترياني في نمارة غير معصي

فنهضا إليه فضماه وغسلا رأسه، وقلما أظفاره، وأخذا من شعره وألبساه مما كان معهما من الثياب وقالا: ما كنا لنهدي لجذيمة هدية أنفس عنده، ولا أحب إليه من ابن أخته، قد رده الله عليه بنا فخرجا به، حتى دفعا إلي باب جذيمة بالحيرة، فبشراه، فسر بذلك سرورا شديدا، وأنكره لحال ما كان فيه، فقالا: أبيت اللعن! إن من كان في مثل حاله يتغير. فأرسل به إلى أمه، فمكث عندها أياما ثم أعادته إليه، فقال: لقد رأيته يوم ذهب وعليه طوق، فما ذهب عن عيني ولا قلبي إلي الساعة، فأعادوا عليه الطوق، فلما نظر إليه قَالَ: شب عمرو عن الطوق، فأرسلها مثلا، وقال لمالك وعقيل: حكمكما، قالا: حكمنا منادمتك ما بقينا وبقيت! فهما ندمانا جذيمة اللذان ضربا مثلا في أشعار العرب، وفي ذلك يقول أبو خراش الهذلي: لعمرك ما ملت كبيشة طلعتي ... وإن ثوائي عندها لقليل ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنا ... نديما صفاء مالك وعقيل وقال متمم بن نويرة: وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا وكان ملك العرب بأرض الجزيرة ومشارف بلاد الشام عمرو بن ظرب ابن حسان بن أذينة بن السميدع بن هوبر العملقي- ويقال العمليقي، من

عاملة العماليق، فجمع جذيمة جموعا من العرب، فسار إليه يريد غزاته، وأقبل عمرو بن ظرب بجموعه من الشام، فالتقوا، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل عمرو بن ظرب، وانفضت جموعه، وانصرف جذيمة بمن معه سالمين غانمين، فقال في ذلك الأعور بن عمرو بن هناءة بن مالك بن فهم الأزدي: كأن عمرو بن ثربى لم يعش ملكا ... ولم تكن حوله الرايات تختفق لاقى جذيمة في جأواء مشعلة ... فيها حراشف بالنيران ترتشق فملكت من بعد عمرو ابنته الزباء واسمها نائلة، وقال في ذلك القعقاع بن الدرماء الكلبي: أتعرف منزلا بين المنقي ... وبين مجر نائلة القديم وكان جنود الزباء بقايا من العماليق والعاربة الأولى، وتزيد وسليح ابني حلوان ابن عمران بن الحاف بن قضاعة، ومن كان معهم من قبائل قضاعه، وكانت للزباء أخت يقال لها زبيبة، فبنت لها قصرا حصينا على شاطئ الفرات الغربي، وكانت تشتو عند أختها، وتربع ببطن النجار، وتصير إلى تدمر فلما أن استجمع لها أمرها، واستحكم لها ملكها، اجمعت لغزو جذيمة الأبرش تطلب بثأر أبيها، فقالت لها أختها زبيبة- وكانت ذات رأي ودهاء وأرب: يا زباء، إنك إن غزوت جذيمة فإنما هو يوم له ما بعده، إن ظفرت أصبت ثارك، وإن قتلت ذهب ملكك، والحرب سجال، وعثراتها لا تستقال، وإن كعبك لم يزل ساميا على من ناواك وساماك، ولم تري بؤسا ولا غيرا، ولا تدرين لمن تكون العاقبة، وعلى من تكون الدائرة! فقالت لها الزباء: قد أديت النصيحه، وأحسنت الروية، وإن الرأي ما رأيت، والقول ما قلت. فانصرفت عما كانت أجمعت عليه من غزو جذيمة، ورفضت ذلك، وأتت

أمرها من وجوه الختل والخدع والمكر فكتبت إلى جذيمة تدعوه إلى نفسها وملكها، وأن يصل بلاده ببلادها وكان فيما كتبت به: إنها لم تجد ملك النساء إلا إلي قبيح في السماع، وضعف في السلطان، وقلة ضبط المملكة، وإنها لم تجد لملكها موضعا، ولا لنفسها كفئا غيرك، فأقبل إلى، فاجمع ملكي إلى ملكك، وصل بلادي ببلادك، وتقلد أمري مع أمرك. فلما انتهي كتاب الزباء إلى جذيمة، وقدم عليه رسلها استخفه ما دعته اليه، ورغب فيما أطمعته فيه، وجمع إليه أهل الحجى والنهى، من ثقات أصحابه، وهو بالبقة من شاطئ الفرات، فعرض عليهم ما دعته اليه الزباء، وعرضته عليه، واستشارهم في أمره، فأجمع رأيهم على أن يسير إليها، ويستولي على ملكها وكان فيهم رجل يقال له قصير بن سعد بن عمر بن جذيمة بن قيس بن ربي بن نمارة بن لخم وكان سعد تزوج أمة لجذيمة، فولدت له قصيرا، وكان أريبا حازما، أثيرا عند جذيمة، ناصحا، فخالفهم فيما أشاروا به عليه، وقال: رأي فاتر، وغدر حاضر، فذهبت مثلا فرادوه الكلام ونازعوه الرأي، فقال: إني لأرى أمرا ليس بالخسا ولا الزكا، فذهبت مثلا وقال لجذيمة: أكتب إليها، فإن كانت صادقة فلتقبل إليك، وإلا لم تمكنها من نفسك، ولم تقع في حبالها، وقد وترتها، وقتلت أباها فلم يوافق جذيمة ما أشار به عليه قصير، فقال قصير: إني امرؤ لا يميل العجز ترويتى ... إذا أتت دون شيء مرة الوذم فقال جذيمة: لا ولكنك امرؤ رأيك في الكن لا في الضح، فذهبت مثلا فدعا جذيمة ابن أخته عمرو بن عدي فاستشاره، فشجعه على المسير،

وقال: إن نمارة قومي مع الزباء، ولو قدروا لصاروا معك، فأطاعه وعصي قصيرا، فقال قصير: لا يطاع لقصير أمر، وفي ذلك يقول نهشل بن حرى ابن ضمرة بن جابر التميمي: ومولى عصاني واستبد برأيه ... كما لم يطع بالبقتين قصير فلما راى ما غب أمري وأمره ... وولت بأعجاز الأمور صدور تمنى نئيشا أن يكون أطاعني ... وقد حدثت بعد الأمور أمور وقالت العرب: ببقة أبرم الأمر، فذهبت مثلا، واستخلف جذيمة عمرو بن عدي على ملكه وسلطانه، وجعل عمرو بن عبد الجن الجرمي معه على خيوله، وسار في وجوه أصحابه، فأخذ على الفرات من الجانب الغربي. فلما نزل الفرضة دعا قصيرا، فقال: ما الرأي؟ قَالَ: ببقة تركت الرأي، فذهبت مثلا، واستقبلته رسل الزباء بالهدايا والألطاف، فقال: يا قصير، كيف ترى؟ قَالَ: خطر يسير في خطب كبير، فذهبت مثلا، وستلقاك الخيول، فإن سارت أمامك فإن المرأة صادقة، وإن أخذت جنبيك وأحاطت بك من خلفك، فإن القوم غادرون، فاركب العصا- وكانت فرسا لجذيمة لا تجارى- فإني راكبها ومسايرك عليها فلقيته الخيول والكتائب، فحالت بينه وبين العصا، فركبها قصير، ونظر إليه جذيمة موليا على متنها، فقال: ويل أمه حزما على ظهر العصا!، فذهبت مثلا، فقال: يا ضل ما تجري به العصا! وجرت به إلى غروب الشمس ثم نفقت، وقد قطعت أرضا بعيدة، فبنى عليها برجا يقال له برج العصا وقالت العرب: خير ما جاءت به العصا، مثل تضربه وسار جذيمة، وقد أحاطت به الخيول، حتى دخل على الزباء، فلما

/ رأته تكشفت فإذا هي مضفورة الأسب، فقالت: يا جذيمة ادأب عروس ترى!، فذهبت مثلا، فقال: بلغ المدى، وجف الثرى، وأمر غدر أرى، فقالت: أما وإلهي ما بنا من عدم مواس، ولا قلة أواس، ولكنه شيمة ما أناس فذهبت مثلا، وقالت: إني أنبئت أن دماء الملوك شفاء من الكلب، ثم أجلسته على نطع، وأمرت بطست من ذهب، فأعدته له وسقته من الخمر حتى أخذت مأخذها منه، وأمرت براهشيه فقطعا، وقدمت إليه الطست، وقد قيل لها: إن قطر من دمه شيء في غير الطست طلب بدمه- وكانت الملوك لا تقتل بضرب الأعناق إلا في قتال، تكرمه للملك- فلما ضعفت يداه سقطتا، فقطر من دمه في غير الطست، فقالت: لا تضيعوا دم الملك، فقال جذيمة: دعوا دما ضيعه اهله، فذهبت مثلا، فهلك جذيمة واستبقت الزباء دمه، فجعلته في برس قطن في ربعة لها، وخرج قصير من الحي الذي هلكت العصا بين أظهرهم، حتى قدم على عمرو ابن عدي وهو بالحيرة، فقال له قصير: أداثر أم ثائر، قال: لا، بل ثائر سائر، فذهبت مثلا، ووافق قصير الناس وقد اختلفوا، فصارت طائفة منهم مع عمرو بن عبد الجن الجرمي، وجماعة منهم مع عمرو بن عدي، فاختلف بينهما قصير حتى اصطلحا، وانقاد عمرو بن عبد الجن لعمرو بن عدي، ومال إليه الناس، فقال عمرو بن عدي في ذلك:

دعوت ابن عبد الجن للسلم بعد ما ... تتايع في غرب السفاه وكلسما فلما ارعوى عن صدنا باعترامه ... مريت هواه مرى آم روائما فقال عمرو بن عبد الجن مجيبا له: أما ودماء مائرات تخالها ... على قلة العزى او النسر عند ما وما قدس الرهبان في كل هيكل ... أبيل الابيلين المسيح بن مريما - قَالَ: هكذا وجد الشعر ليس بتام، وكان ينبغي أن يكون البيت الثالث: لقد كان كذا وكذا-- فقال قصير لعمرو بن عدى: تهيأ واستعد، ولا تطل دم خالك. قَالَ: وكيف لي بها وهي أمنع من عقاب الجو؟ فذهبت مثلا، وكانت الزباء سألت كاهنة لها عن أمرها وملكها، فقالت: أرى هلاكك بسبب غلام مهين، غير أمين، وهو عمرو بن عدي، ولن تموتي بيده، ولكن حتفك بيدك، ومن قبله ما يكون ذلك فحذرت عمرا، واتخذت نفقا من مجلسها الذي كانت تجلس فيه إلي حصن لها داخل مدينتها، وقالت: ان فجأني أمر دخلت النفق إلي حصني ودعت رجلا مصورا أجود أهل بلادها تصويرا، وأحسنهم عملا لذلك، فجهزته وأحسنت إليه، وقالت له: سر حتى تقدم على عمرو بن عدي متنكرا، فتخلو بحشمه، وتنضم إليهم، وتخالطهم وتعلمهم ما عندك من العلم بالصور والثقافة له، ثم أثبت عمرو بن عدي معرفة، وصوره جالسا وقائما، وراكبا ومتفضلا، ومتسلحا بهيئته ولبسته وثيابه ولونه، فإذا أحكمت ذلك، فأقبل إلي. فانطلق المصور حتى قدم على عمرو، وصنع الذي أمرته به الزباء، وبلغ ما أوصته به، ثم رجع إليها بعلم ما وجهته له من الصور على ما وصفت له، وأرادت أن تعرف عمرو بن عدي، فلا تراه على حال إلا عرفته وحذرته،

وعلمت علمه فقال قصير لعمرو بن عدي: اجدع أنفي واضرب ظهري، ودعني وإياها فقال عمرو: ما أنا بفاعل وما أنت لذلك بمستحق مني! فقال قصير: خل عني إذا وخلاك ذم، فذهبت مثلا. قَالَ ابن الكلبي: كان أبو الزباء اتخذ النفق لها ولأختها، وكان الحصن لأختها في داخل مدينتها، قَالَ: فقال له عمرو، فأنت أبصر، فجدع قصير أنفه، وأثر بظهره، فقالت العرب: لمكر ما جدع أنفه قصير، وفي ذلك يقول المتلمس: ومن حذر الأوتار ما حز أنفه ... قصير وخاض الموت بالسيف بيهس ويروى: ورام الموت وقال عدي بن زيد: كَقَصِيرٍ إِذْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَ أَنْ ... جَدَّعَ أَشْرَافَهُ لِشُكْرِ قَصِيرُ فلما أن جدع قصير أنفه وأثر تلك الآثار بظهره، خرج كأنه هارب، وأظهر أن عمرا فعل به ذلك، وأنه يزعم أنه مكر بخاله جذيمة، وغره من الزباء، فسار قصير حتى قدم على الزباء، فقيل لها: إن قصيرا بالباب، فأمرت به فأدخل عليها، فإذا أنفه قد جدع، وظهره قد ضرب، فقالت: ما الذي أرى بك يا قصير؟ فقال: زعم عمرو بن عدي أني غررت خاله، وزينت له السير إليك، وغششته ومالأتك عليه، ففعل بي ما ترين! فأقبلت إليك، وعرفت أني لا أكون مع أحد هو أثقل عليه منك فألطفته وأكرمته، وأصابت عنده بعض ما أرادت من الحزم والرأي والتجربة والمعرفة بامور الملوك،

فلما عرفت أنها قد استرسلت إليه، ووثقت به، قَالَ لها: إن لي بالعراق أموالا كثيرة، وبها طرائف وثياب وعطر، فابعثيني إلى العراق لأحمل مالي وأحمل إليك من بزوزها وطرائف ثيابها، وصنوف ما يكون بها من الأمتعة والطيب والتجارات، فتصيبين في ذلك أرباحا عظاما، وبعض ما لا غنى بالملوك عنه، فإنه لا طرائف كطرائف العراق! فلم يزل يزين لها ذلك حتى سرحته، ودفعت معه عيرا، فقالت: انطلق إلى العراق، فبع بها ما جهزناك به، وابتع لنا من طرائف ما يكون بها من الثياب وغيرها فسار قصير بما دفعت إليه حتى قدم العراق، وأتى الحيرة متنكرا، فدخل على عمرو بن عدي، فأخبره بالخبر، وقال: جهزني بالبز والطرف والأمتعة، لعل الله يمكن من الزباء فتصيب ثارك، تقتل عدوك فأعطاه حاجته، وجهزه بصنوف الثياب وغيرها، فرجع بذلك كله إلى الزباء، فعرضه عليها، فأعجبها ما رأت، وسرها ما أتاها به، وازدادت به ثقة، وإليه طمأنينة، ثم جهزته بعد ذلك بأكثر مما جهزته في المرة الأولى، فسار حتى قدم العراق، ولقي عمرو بن عدي، وحمل من عنده ما ظن أنه موافق للزباء، ولم يترك جهدا، ولم يدع طرفة ولا متاعا قدر عليه إلا حمله إليها ثم عاد الثالثة إلى العراق فأخبر عمرا الخبر، وقال: اجمع لي ثقات أصحابك وجندك، وهيئ لهم الغرائر والمسوح- قَالَ ابن الكلبي: وقصير أول من عمل الغرائر- واحمل كل رجلين على بعير في غرارتين، واجعل معقد رءوس الغرائر من باطنها، فإذا دخلوا مدينة الزباء أقمتك على باب نفقها، وخرجت الرجال من الغرائر، فصاحوا بأهل المدينة فمن قاتلهم قتلوه، وإن أقبلت الزباء تريد النفق جللتها بالسيف. ففعل عمرو بن عدي، وحمل الرجال في الغرائر على ما وصف له قصير، ثم وجه الإبل إلى الزباء عليها الرجال وأسلحتهم، فلما كانوا قريبا من مدينتها، تقدم قصير إليها، فبشرها وأعلمها كثرة ما حمل إليها من الثياب والطرائف، وسألها أن تخرج فتنظر إلى قطرات تلك الإبل، وما عليها من الأحمال، فإني

جئت بما صاء وصمت فذهبت مثلا وقال ابن الكلبي: وكان قصير يكمن النهار ويسير الليل وهو أول من كمن النهار وسار الليل: فخرجت الزباء فأبصرت الإبل تكاد قوائمها تسوخ في الأرض من ثقل أحمالها، فقالت: يا قصير: ما للجمال مشيها وئيدا! ... أجندلا يحملن أم حديدا! أم صرفانا باردا شديدا! فدخلت الإبل المدينة، حتى كان آخرها بعيرا مر على بواب المدينة وهو نبطى بيده منخسة، فنخس بها الغرائر التي تليه، فتصيب خاصرة الرجل الذي فيها، فضرط فقال البواب بالنبطية بشتابسقا يعني بقوله: بشتابسقا: في الجوالق شر وأرعب قلبا، فذهبت مثلا، فلما توسطت الإبل المدينة أنيخت، ودل قصير عمرا على باب النفق قبل ذلك، وأراه إياه، وخرجت الرجال من الغرائر، وصاحوا: بأهل المدينة! ووضعوا فيهم السلاح، وقام عمرو بن عدي على باب النفق، وأقبلت الزباء مولية مبادرة تريد النفق لتدخله، وأبصرت عمرا قائما، فعرفته بالصورة التي كان صورها لها المصور فمصت خاتمها، وكان فيها سم- وقالت: بيدي لا بيدك يا عمرو، فذهبت مثلا، وتلقاها عمرو بن عدي، فجللها بالسيف فقتلها، وأصاب ما أصاب من أهل المدينة، وانكفأ راجعا إلى العراق، فقال عدي بن زيد في أمر جذيمة وقصير والزباء وقتل عمرو بن عدي إياها قصيدته: أبدلت المنازل أم عفينا ... تقادم عهدها أم قد بلينا إلى آخرها. وقال المخبل، وهو ربيعة بن عوف السعدي: يا عمرو إني قد هويت جماعكم ... ولكل من يهوى الجماع فراق

بل كم رأيت الدهر زايل بينه ... من لا يزايل بينه الأخلاق طابت به الزباء وقد جعلت لها ... دورا ومشربة لها أنفاق حملت لها عمرا ولا بخشونة ... من آل دومة رسلة معناق حتى تفرعها بأبيض صارم ... عضب يلوح كأنه مخراق وأبو حذيفة يوم ضاق بجمعه ... شعب الغبيط فحومة فأفاق وله معد والعباد وطيّئ ... ومن الجنود كتائب ورفاق يهب النجائب والنزائع حوله ... جردا كأن متونها الإطلاق فآتت عليه ساعة ما إن له ... مما أفاء ولا أفاد عتاق فكأن ذلك يوم حم قضاؤه ... رفد أميل إناؤه مهراق وقال بعض شعراء العرب: نحن قتلنا فقحلا وابن راعن ... ونحن ختنا نبت زبا بمنجل فلما أتتها العير قالت أبارد ... من التمر هذا أم حديد وجندل وقال عبد باجر- واسمه بهرا من العرب العاربة، وهم عشرة أحياء: عاد، وثمود، والعماليق، وطسم، وجديس، واميم، والمود، وجرهم، ويقطن، والسلف قَالَ: والسلف دخل في حمير-:

لا ركبت رجلك من بين الدلي ... لقد ركبت مركبا غير الوطي على العراقي بصفا من الطوي ... إن كنت غضبي فاغضبي على الركي وعاتبي القيم عمرو بن عدي. فصار الملك بعد جذيمة لابن أخته عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن الحارث بن مالك بن عمرو بن نمارة بن لخم، وهو أول من اتخذ الحيرة منزلا من ملوك العرب، وأول من مجده أهل الحيرة في كتبهم من ملوك العرب بالعراق، وإليه ينسبون، وهم ملوك آل نصر، فلم يزل عمرو بن عدي ملكا حتى مات وهو ابن مائة وعشرين سنة، منفردا بملكه، مستبدا بأمره، يغزو المغازي ويصيب الغنائم، وتفد عليه الوفود دهره الأطول، لا يدين لملوك الطوائف بالعراق، ولا يدينون له، حتى قدم أردشير بن بابك في أهل فارس. وإنما ذكرنا في هذا الموضع ما ذكرنا من أمر جذيمة وابن أخته عمرو بن عدي لما كنا قدمنا من ذكر ملوك اليمن، إنه لم يكن لملكهم نظام، وأن الرئيس منهم إنما كان ملكا على مخلافه ومحجره، لا يجاوز ذلك، فإن نزع منهم نازع، أو نبغ منهم نابغ فتجاوز ذلك- وإن بعدت مسافة سيره من مخلافه- فإنما ذلك منه عن غير ملك له موطد، ولا لآبائه، ولا لأبنائه، ولكن كالذي يكون من بعض من يشرد من المتلصصة، فيغير على الناحية باستغفاله أهلها، فإذا قصده الطلب لم يكن له ثبات، فكذلك كان أمر ملوك اليمن، كان الواحد منهم بعد الواحد يخرج عن مخلافه ومحجره أحيانا فيصيب مما يمر به ثم يتشمر عند خوف الطلب، راجعا إلى موضعه ومخلافه، من غير أن يدين له أحد من غير أهل مخلافه بالطاعة، أو يؤدي إليه خرجا، حتى كان عمرو

ابن عدي الذي ذكرنا أمره، وهو ابن أخت جذيمة الذي اقتصصنا خبره، فإنه اتصل له ولعقبه ولأسبابه الملك على ما كان بنواحي العراق وبادية الحجاز من العرب باستعمال ملوك فارس إياهم على ذلك، واستكفائهم أمر من وليهم من العرب، إلى أن قتل أبرويز بن هرمز النعمان بن المنذر، ونقل ما كانت ملوك فارس يجعلونه إليهم إلى غيرهم، فذكرنا ما ذكرنا من امر جذيمة وعمرو ابن عدي من أجل ذلك، إذ كنا نريد أن نسوق تمام التاريخ على ملك ملوك فارس، ونستشهد على صحة ما روي من أمرهم بما وجدنا إلى الاستشهاد به عليها سبيلا وكان أمر آل نصر بن ربيعة ومن كان من ولاة ملوك الفرس وعمالهم على ثغر العرب الذين هم ببادية العراق عند أهل الحيرة متعالما مثبتا عندهم في كنائسهم وأسفارهم. وقد حدثت عن هشام بن مُحَمَّد الكلبي إنه قَالَ: إني كنت استخرج أخبار العرب وأنساب آل نصر بن ربيعة، ومبالغ أعمار من عمل منهم لآل كسرى وتاريخ سنيهم من بيع الحيرة، وفيها ملكهم وأمورهم كلها. فأما ابن حميد، فإنه حَدَّثَنَا في أمر ولد نصر بن ربيعة ومصيرهم إلى أرض العراق غير الذي ذكره هشام، والذي حَدَّثَنَا به من ذلك عن سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم: أن ربيعة بن نصر اللخمي رأى رؤيا نذكرها بعد- عند ذكر أمر الحبشة، وغلبتهم على اليمن وتعبير سطيح وشق وجوابهما عن رؤياه- ثم ذكر في خبره ذلك أن ربيعة بن نصر لما فرغ من مسألة سطيح وشق وجوابهما إياه، وقع في نفسه أن الذي قالا له كائن من أمر الحبشة، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرزاذ، فأسكنهم الحيرة قال: فمن بقية ربيعه ابن نصر كان النعمان ملك حيرة، وهو النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر ابن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر ذلك الملك في نسب أهل اليمن وعلمهم

ذكر طسم وجديس

ذكر طسم وجديس قَالَ أبو جعفر: ونذكر الآن أمر طسم وجديس إذ كان أمرهم أيضا كان في أيام ملوك الطوائف، وإن فناء جديس كان على يد حسان بن تبع، إذ كنا قدمنا فيما مضى ذكر تبايعه حمير، الذين كانوا على عهد ملوك فارس. وحدثت عن هشام بن مُحَمَّد وحَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق وغيرهما من علماء العرب، أن طسما وجديسا كانوا من ساكني اليمامة، وهي إذ ذاك من أخصب البلاد وأعمرها وأكثرها خيرا، لهم فيها صنوف الثمار ومعجبات الحدائق والقصور الشامخة، وكان عليهم ملك من طسم ظلوم غشوم، لا ينهاه شيء عن هواه، يقال له عملوق، مضرا بجديس، مستذلا لهم،. وكان مما لقوا من ظلمه واستذلاله، انه امر بالا تهدى بكر من جديس إلى زوجها حتى تدخل عليه فيفترعها، فقال رجل من جديس، يقال له الأسود بن غفار لرؤساء قومه: قد ترون ما نحن فيه من العار والذل الذي ينبغي للكلاب أن تعافه وتمتعض منه، فأطيعوني فإني أدعوكم إلى عز الدهر، ونفي الذل قَالُوا: وما ذاك؟ قَالَ: إني صانع للملك ولقومه طعاما، فإذا جاءوا نهضنا إليهم بأسيافنا وانفردت به فقتلته، وأجهز كل رجل منكم على جليسه، فأجابوه إلى ذلك، وأجمع رأيهم عليه فأعد طعاما، وأمر قومه فانتضوا سيوفهم ودفنوها في الرمل، وقال: إذا أتاكم القوم يرفلون في حللهم، فخذوا سيوفهم، ثم شدوا عليهم قبل أن يأخذوا مجالسهم، ثم اقتلوا الرؤساء، فإنكم إذا قتلتموهم لم تكن السفلة شيئا، وحضر الملك فقتل وقتل الرؤساء، فشدوا على العامة منهم، فأفنوهم، فهرب رجل من طسم يقال له رياح بن مرة، حتى أتى حسان بن تبع، فاستغاث به، فخرج حسان في حمير،

فلما كان من اليمامة على ثلاث، قَالَ له رياح: أبيت اللعن! إن لي أختا متزوجة في جديس، يقال لها: اليمامة، ليس على وجه الأرض أبصر منها، إنها لتبصر الراكب من مسيرة ثلاث، وإني أخاف أن تنذر القوم بك، فمر أصحابك، فليقطع كل رجل منهم شجرة فليجعلها أمامه ويسير وهي في يده، فأمرهم حسان بذلك، ففعلوا، ثم سار فنظرت اليمامة، فأبصرتهم، فقالت لجديس: لقد سارت حمير فقالوا: وما الذي ترين؟ قالت: أرى رجلا في شجرة، معه كتف يتعرقها، أو نعل يخصفها فكذبوها، وكان ذلك كما قالت، وصبحهم حسان فأبادهم وأخرب بلادهم وهدم قصورهم وحصونهم. وكانت اليمامه تسمى إذ ذاك جوا والقرية، وأتي حسان باليمامة ابنة مرة، فأمر بها ففقئت عيناها، فإذا فيها عروق سود، فقال لها: ما هذا السواد في عروق عينيك؟ قالت: حجير أسود يقال له الإثمد، كنت أكتحل به. وكانت فيما ذكروا أول من اكتحل بالإثمد، فأمر حسان بأن تسمى جو اليمامة. وقد قالت الشعراء من العرب في حسان ومسيره هذا، فمن ذلك قول الأعشى: كوني كمثل الذي إذ غاب وافدها ... أهدت له من بعيد نظرة جزعا ما نظرت ذات أشفار كنظرتها ... حقا كما صدق الذئبي إذ سجعا إذ قلبت مقلة ليست بمقرفة ... إذ يرفع الآل رأس الكلب فارتفعا

قالت أرى رجلا في كفه كتف ... أو يخصف النعل، لهفى أية صنعا! فكذبوها بما قالت فصبحهم ... ذو آل حسان يزجي الموت والشرعا فاستنزلوا أهل جو من مساكنهم ... وهدموا شاخص البنيان فاتضعا ومن ذلك قول النمر بن تولب العكلي: هلا سألت بعادياء وبيته ... والخل والخمر التي لم تمنع وفتاتهم عنز عشية آنست ... من بعد مرأى في الفضاء ومسمع قالت أرى رجلا يقلب كفه ... أصلا وجو آمن لم يفزع ورأت مقدمة الخميس وقبله ... رقص الركاب إلى الصياح بتبع فكأن صالح أهل جو غدوة ... صبحوا بذيفان السمام المنقع كانوا كأنعم من رأيت فأصبحوا ... يلوون زاد الراكب المتمتع قالت يمامة احملوني قائما ... إن تبعثوه باركا بي أصرع وحسان بن تبع، الذي أوقع بجديس، هو ذو معاهر، وهو تبع بن تبع تبان أسعد أبي كرب بن ملكيكرب بن تبع بن أقرن، وهو أبو تبع بن حسان الذي يزعم أهل اليمن أنه قدم مكة، وكسا الكعبة، وأن الشعب من المطابخ إنما سمي هذا الاسم لنصبه المطابخ في ذلك الموضع وإطعامه الناس، وإن أجيادا إنما سمي أجيادا، لأن خيله كانت هنالك، وإنه قدم يثرب فنزل منزلا يقال له منزل الملك اليوم، وقتل من اليهود مقتلة عظيمة بسبب شكاية من شكاهم إليه من الأوس والخزرج بسوء الجوار، وإنه وجه ابنه حسان الى السند

وسمرا ذا الجناح إلى خراسان، وأمرهما أن يستبقا إلى الصين، فمر سمر بسمرقند فأقام عليها حتى افتتحها، وقتل مقاتلتها، وسبى وحوى ما فيها ونفذ إلى الصين، فوافي حسان بها، فمن أهل اليمن من يزعم أنهما ماتا هنالك، ومنهم من يزعم أنهما انصرفا إلى تبع بالأموال والغنائم. ومما كان في أيام ملوك الطوائف ما ذكره الله عز وجل في كتابه من أمر الفتية الذين أووا إلى الكهف فضرب على آذانهم

الجزء الثاني

الجزء الثاني بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ذكر الخبر عن أصحاب الكهف وكان أصحاب الكهف فتية آمنوا بربهم، كما وصفهم الله عز وجل به من صفتهم في القرآن المجيد، فقال لنبيه محمد ص: «أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً» . والرقيم هو الكتاب الذي كان القوم الذين منهم كان الفتية، كتبوه في لوح بذكر خبرهم وقصصهم، ثم جعلوه على باب الكهف الذي أووا إليه، أو نقروه في الجبل الذي أووا إليه، أو كتبوه في لوح وجعلوه في صندوق خلفوه عندهم، إِذْ أَوَى الفتاه إِلَى الْكَهْفِ. وكان عدد الفتيه- فيما ذكر ابْنِ عَبَّاسٍ- سبعة، وثامنهم كلبهم. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس: «ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ» ، قال: أَنَا مِنَ الْقَلِيلِ، كَانُوا سَبْعَةً. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قال: حدثنا يزيد، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: أَنَا مِنْ أُولَئِكَ الْقَلِيلِ الَّذِينَ اسْتَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى، كَانُوا سَبْعَةً وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ

قَالَ: وَكَانَ اسْمُ أَحَدِهِمْ- وَهُوَ الَّذِي كَانَ يلى شرا الطَّعَامِ لَهُمْ، الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ قالوا اذهبوا مِنْ رَقْدَتِهِمْ: «فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ» . حَدَّثَنِي عبد الله بن مُحَمَّد الزهري، قَالَ: حَدَّثَنَا سفيان، عن مقاتل: «فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ» - اسمه يمنيخ. وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ فَإِنَّهُ قَالَ- فِيمَا حَدَّثَنَا به ابن حميد- قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عنه: اسمه يمليخا. وكان ابن إسحاق يقول: كان عدد الفتية ثمانية، فعلى قوله كان كلبهم تاسعهم وكان- فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق- يسميهم فيقول: كان أحدهم- وهو أكبرهم والذي كلم الملك عن سائرهم- مكسملينا، والآخر محسملينا، والثالث يمليخا، والرابع مرطوس، والخامس كسوطونس، والسادس بيرونس، والسابع رسمونس، والثامن بطونس، والتاسع قالوس وكانوا أحداثا. وقد حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، قَالَ: لقد حدثت أنه كان على بعضهم من حداثة أسنانهم وضح الورق وكانوا من قوم يعبدون الأوثان من الروم، فهداهم الله للإسلام، وكانت شريعتهم شريعة عيسى في قول جماعة من سلف علمائنا

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ بشير، قال: حدثنا عمرو- يعنى ابْنُ قَيْسٍ الْمُلَائِيُّ- فِي قَوْلِهِ: «أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ» ، كانت الفتيه على دين عيسى بن مريم ص عَلَى الإِسْلَامِ، وَكَانَ مَلِكُهُمْ كَافِرًا وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ أَمْرَهُمْ وَمَصِيرَهُمْ إِلَى الْكَهْفِ كَانَ قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَإِنَّ الْمَسِيحَ أَخْبَرَ قَوْمَهُ خَبَرَهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ابْتَعَثَهُمْ مِنْ رَقْدَتِهِمْ بَعْدَ مَا رَفَعَ الْمَسِيحَ، فِي الْفَتْرَةِ بَيْنَهُ وبين محمد ص، وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيَّ ذَلِكَ كَانَ. فَأَمَّا الَّذِي عَلَيْهِ عُلَمَاءُ أَهْلِ الإِسْلَامِ فَعَلَى أَنَّ أَمْرَهُمْ كَانَ بَعْدَ الْمَسِيحِ. فَأَمَّا أَنَّهُ كَانَ فِي أَيَّامِ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لا يَدْفَعُهُ دَافِعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَخْبَارِ النَّاسِ الْقَدِيمَةِ. وَكَانَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مَلِكٌ يُقَالُ لَهُ: دقْيَنُوسُ، يَعْبُدُ الأَصْنَامَ- فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ- فَبَلَغَهُ عَنِ الْفِتْيَةِ خِلافُهُمْ إِيَّاهُ فِي دِينِهِ، فَطَلَبَهُمْ فَهَرَبُوا مِنْهُ بِدِينِهِمْ، حَتَّى صَارُوا إِلَى جَبَلٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ- فِيمَا حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- نيحلوس. وَكَانَ سَبَبُ إِيمَانِهِمْ وَخِلافِهِمْ بِهِ قَوْمَهُمْ- فِيمَا حَدَّثَنَا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَدُوسٍ، - إِنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ: جاء حوارى عيسى بن مَرْيَمَ إِلَى مَدِينَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، فَأَرَادَ أَنْ يَدْخُلَهَا، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ عَلَى بَابِهَا صَنَمًا لا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ إِلَّا سَجَدَ لَهُ، فَكَرِهَ أَنْ يَدْخُلَهَا، فَأَتَى حَمَّامًا، وَكَانَ فِيهِ قَرِيبًا مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَعْمَلُ فِيهِ، يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ مِنْ صَاحِبِ الْحَمَّامِ. وَرَأَى صَاحِبُ الْحَمَّامِ في حمامه البركه، ودر عليه الرزق، فجعل يعرض عليه الاسلام وَجَعَلَ يَسْتَرْسِلُ إِلَيْهِ وَعَلِقَهُ فِتْيَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَجَعَلَ يُخْبِرُهُمْ

خَبَرَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَخَبَرَ الآخِرَةِ، حَتَّى آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَكَانُوا عَلَى مِثْلِ حَالِهِ فِي حُسْنِ الْهَيْئَةِ، وَكَانَ يَشْرُطُ عَلَى صَاحِبِ الْحَمَّامِ أَنَّ اللَّيْلَ لِي، لا تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ الصَّلاةِ إِذَا حَضَرَتْ فَكَانَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى جَاءَ ابْنُ الْمَلِكِ بِامْرَأَةٍ، فَدَخَلَ بِهَا الْحَمَّامَ، فَعَيَّرَهُ الْحَوَارِيُّ، فَقَالَ: أَنْتَ ابْنُ الْمَلَكِ وَتَدْخُلُ ومعك هذه الكذا! فاستحيا، فَذَهَبَ فَرَجَعَ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَسَبَّهُ وَانْتَهَرَهُ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ حَتَّى دَخَلَ، وَدَخَلَتْ مَعَهُ الْمَرْأَةُ فَمَاتَا فِي الْحَمَّامِ جَمِيعًا، فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: قَتَلَ صَاحِبُ الْحَمَّامِ ابْنَكَ. فَالْتُمِسَ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ فَهَرَبَ قَالَ مَنْ كَانَ يَصْحَبُهُ: فَسَمُّوا الْفِتْيَةَ، فَالْتُمِسُوا فَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَمَرُّوا بِصَاحِبٍ لَهُمْ فِي زَرْعٍ لَهُ، وَهُوَ عَلَى مِثْلِ أَمْرِهِمْ فَذَكَرُوا أَنَّهُمُ الْتُمِسُوا، وَانْطَلَقَ مَعَهُمْ وَمَعَهُ الْكَلْبُ، حَتَّى آوَاهُمُ الليل الى الكهف، فدخلوه فقالوا: نبيت هاهنا اللَّيْلَةَ ثُمَّ نُصْبِحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَتَرَوْنَ رَأْيَكُمْ فَضُرِبَ عَلى آذَانِهِمْ، فَخَرَجَ الْمَلِكُ فِي أَصْحَابِهِ يَتْبَعُونَهُمْ، حَتَّى وَجَدُوهُمْ قَدْ دَخَلُوا الْكَهْفَ، فَكُلَّمَا أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَدْخُلَ أُرْعِبَ، فَلَمْ يُطِقْ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ، فَقَالَ قَائِلٌ: أَلَيْسَ لَوْ كُنْتَ قَدَرْتَ عَلَيْهِمْ قَتَلْتَهُمْ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَابْنِ عَلَيْهِمْ بَابَ الْكَهْفِ، فَدَعْهُمْ فِيهِ يموتوا عَطَشًا وَجُوعًا. فَفَعَلَ فَغَبَرُوا- بَعْدَ مَا بُنِيَ عَلَيْهِمْ بَابُ الْكَهْفِ- زَمَانًا بَعْدَ زَمَانٍ. ثُمَّ إِنَّ رَاعِيًا أَدْرَكَهُ الْمَطَرُ عِنْدَ الْكَهْفِ، فَقَالَ: لَوْ فَتَحْتُ هَذَا الْكَهْفَ فَأَدْخَلْتُهُ غَنَمِي مِنَ الْمَطَرِ! فَلَمْ يَزَلْ يُعَالِجُهُ حَتَّى فَتَحَ مَا أَدْخَلَ فِيهِ، وَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ مِنَ الْغَدِ حِينَ أَصْبَحُوا، فَبَعَثُوا أَحَدَهُمْ بِوَرِقٍ يَشْتَرِي لَهُمْ طَعَامًا، فَكُلَّمَا أَتَى بَابَ مَدِينَتِهِمْ رَأَى شَيْئًا يُنْكِرُهُ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ، فَقَالَ: بِعْنِي بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ طَعَامًا، قَالَ: وَمِنْ أَيْنَ لَكَ هَذِهِ الدَّرَاهِمُ! قَالَ: خَرَجْتُ وَأَصْحَابٌ لِي أَمْسِ، فَآوَانَا اللَّيْلُ حَتَّى أَصْبَحُوا، فأرسلوني، فقال:

هَذِهِ الدَّرَاهِمُ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ الْمَلِكِ فُلَانٍ فَأَنَّى لَكَ بِهَا! فَرَفَعَهُ إِلَى الْمَلِكِ- وَكَانَ مَلِكًا صَالِحًا- فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذِهِ الْوَرِقُ؟ قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَأَصْحَابٌ لِي أَمْسِ حَتَّى أَدْرَكَنَا اللَّيْلُ فِي كَهْفِ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ أَمَرُونِي أَنْ أَشْتَرِيَ لَهُمْ طَعَامًا قَالَ: وَأَيْنَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: فِي الْكَهْفِ، قَالَ: فَانْطَلَقُوا مَعَهُ حَتَّى أَتَوْا بَابَ الْكَهْفِ، فَقَالَ: دَعُونِي أَدْخُلُ إِلَى أَصْحَابِي قَبْلَكُمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ وَدَنَا مِنْهُمْ ضُرِبَ عَلَى أُذُنِهِ وَآذَانِهِمْ، فَجَعَلُوا كُلَّمَا دَخَلَ رَجُلٌ أُرْعِبَ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَدْخُلُوا إِلَيْهِمْ، فَبَنَوْا عِنْدَهُمْ كَنِيسَةً، وَاتَّخَذُوهَا مَسْجِدًا يُصَلُّونَ فِيهِ. حَدَّثَنَا الحسن بن يحيى، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الرزاق، قَالَ: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن عكرمة، قَالَ: كان أصحاب الكهف أبناء ملوك الروم، رزقهم الله الإسلام، فتفردوا بدينهم، واعتزلوا قومهم، حتى انتهوا إلى الكهف، فضرب الله على سمخانهم فلبثوا دهرا طويلا، حتى هلكت أمتهم، وجاءت أمة مسلمة، وكان ملكهم مسلما، واختلفوا في الروح والجسد، فقال قائل: تبعث الروح والجسد جميعا، وقال قائل: تبعث الروح، وأما الجسد فتأكله الأرض، فلا يكون شيئا فشق على ملكهم اختلافهم، فانطلق فلبس المسوح، وجلس على الرماد، ثم دعا الله عز وجل، فقال: يا رب، قد ترى اختلاف هؤلاء، فابعث لهم ما يبين لهم، فبعث الله أصحاب الكهف، فبعثوا أحدهم يشتري لهم طعاما، فدخل السوق، فجعل ينكر الوجوه ويعرف الطرق، ويرى الإيمان بالمدينة ظاهرا، فانطلق وهو مستخف، حتى أتى رجلا يشتري منه طعاما، فلما نظر الرجل إلى الورق أنكرها- قَالَ: حسبت أنه قَالَ: كأنها أخفاف الربع- يعني الإبل الصغار- قَالَ له الفتي: أليس ملككم فلان؟ قَالَ: بل ملكنا فلان، فلم يزل ذلك بينهما حتى رفعه إلى الملك، فسأله فأخبره الفتى خبر أصحابه، فبعث الملك في الناس، فجمعهم فقال: إنكم قد اختلفتم في الروح والجسد،

وإن الله عز وجل قد بعث لكم آية، فهذا رجل من قوم فلان- يعني ملكهم الذي مضي- فقال الفتى: انطلقوا بي إلى أصحابي، فركب الملك، وركب معه الناس، حتى انتهى إلى الكهف، فقال الفتى: دعوني أدخل إلى أصحابي، فلما أبصرهم ضرب الله على أذنه وعلى آذانهم، فلما استبطئوه دخل الملك ودخل الناس معه، فإذا أجساد لا ينكرون منها شيئا غير أنها لا أرواح فيها. فقال الملك: هذه آية بعثها الله لكم. قَالَ قتادة: وغزا ابْنُ عَبَّاسٍ مع حبيب بن مسلمة، فمروا بالكهف، فإذا فيه عظام، فقال رجل: هذه عظام أصحاب الكهف، فقال ابْنُ عَبَّاسٍ: لقد ذهبت عظامهم منذ اكثر من ثلاثمائة سنة. قَالَ أبو جعفر: فكان منهم:

يونس بن متى

يونس بن متى - فكان فيما ذكر- من أهل قرية من قرى الموصل يقال لها: نينوى، وكان قومه يعبدون الأصنام، فبعث الله إليهم يونس بالنهي عن عبادتها، والأمر بالتوبة إلى الله من كفرهم، والأمر بالتوحيد فكان من أمره وأمر الذين بعث إليهم ما قصه الله في كتابه، فقال عز وجل: «فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» وقال: «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ» . وقد اختلف السلف من علماء أمة نبينا محمد ص في ذهابه لربه مغاضبا وظنه أن لن يقدر عليه، وفي حين ذلك. فقال بعضهم: كان ذلك منه قبل دعائه القوم الذين أرسل إليهم، وقبل إبلاغه إياهم رسالة ربه، وذلك أن القوم الذين أرسل إليهم لما حضرهم عذاب الله أمر بالمصير إليهم، ليعلمهم ما قد أظلهم من ذلك، لينيبوا مما هم عليه مقيمون مما يسخطه الله، فاستنظر ربه المصير إليهم، فلم ينظره، فغضب لاستعجال الله إياه للنفوذ لأمره وترك إنظاره

ذكر من قَالَ ذلك: حدثني الحارث، قَالَ: حَدَّثَنَا الحسن الأشيب، قَالَ: سمعت أبا هلال مُحَمَّد بن سليم، قَالَ: حَدَّثَنَا شهر بن حوشب، قال: أتاه جبريل ع- يعني يونس- وقال: انطلق إلى أهل نينوى، فأنذرهم أن العذاب قد حضرهم قَالَ: ألتمس دابة، قَالَ: الأمر أعجل من ذلك، قَالَ: ألتمس حذاء، قَالَ: الأمر أعجل من ذلك، قَالَ: فغضب، فانطلق إلى السفينة فركب، فلما ركب احتبست السفينة لا تقدم ولا تأخر قَالَ: فساهموا قَالَ: فسهم، فجاء الحوت يبصبص بذنبه، فنودي الحوت: أيا حوت، إنا لم نجعل يونس لك رزقا، إنما جعلناك له حرزا ومسجدا، فالتقمه الحوت، فانطلق به من ذلك المكان حتى مر به على الأيلة، ثم انطلق حتى مر به على دجلة، ثم انطلق به حتى ألقاه في نينوى. حدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا أَبُو هِلالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّمَا كَانَتْ رِسَالَةُ يُونُسَ بَعْدَ مَا نَبَذَهُ الْحُوتُ. وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ بَعْدَ دُعَائِهِ مَنْ أُرْسِلَ اليهم إِلَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِدُعَائِهِمْ إِلَيْهِ، وَتَبْلِيغِهِ إِيَّاهُمْ رِسَالَةَ رَبِّهِ، وَلَكِنَّهُ وَعَدَهُمْ نُزُولَ مَا كَانَ حَذَّرَهُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ فِي وَقْتٍ وَقَّتَهُ لَهُمْ، فَفَارَقَهُمْ إِذْ لَمْ يَتُوبُوا وَلَمْ يُرَاجِعُوا طَاعَةَ اللَّهِ وَالإِيمَانَ، فَلَمَّا أَظَلَّ الْقَوْمَ عَذَابُ اللَّهِ، فَغَشِيَهُمْ- كَمَا وَصَفَ اللَّهُ فِي تَنْزِيلِهِ- تَابُوا إِلَى اللَّهِ، فَرَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، وَبَلَغَ يُونُسَ سَلامَتُهُمْ وَارْتِفَاعُ الْعَذَابِ الَّذِي كَانَ وَعَدَهُمُوهُ، فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: وَعَدْتُهُمْ وَعْدًا، فَكَذَبَ وَعْدِيَ! فَذَهَبَ مُغَاضِبًا رَبَّهُ، وَكَرِهَ الرُّجُوعَ إِلَيْهِمْ وَقَدْ جَرَّبُوا عَلَيْهِ الْكَذِبَ

ذكر بعض من قَالَ ذلك: حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى- يَعْنِي يُونُسَ- إِلَى أَهْلِ قَرْيَتِهِ، فَرَدُّوا عَلَيْهِ مَا جَاءَهَمْ بِهِ، وَامْتَنَعُوا مِنْهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنِّي مُرْسِلٌ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا، فَاخْرُجْ مِنْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَأَعْلَمَ قَوْمَهُ الَّذِي وَعَدَهُمُ اللَّهُ مِنْ عَذَابِهِ إِيَّاهُمْ، فَقَالُوا: ارْمِقُوهُ، فَإِنْ هُوَ خَرَجَ مِنْ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ فَهُوَ وَاللَّهِ كَائِنٌ مَا وَعَدَكُمْ فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي وُعِدُوا العذاب في صبيحتها ادلج وراءه الْقَوْمُ، فَحَذِرُوا فَخَرَجُوا مِنَ الْقَرْيَةِ إِلَى بَرَازٍ مِنْ أَرْضِهِمْ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ دَابَّةٍ وَوَلَدِهَا، ثُمَّ عَجُّوا إِلَى اللَّهِ وَاسْتَقَالُوهُ فَأَقَالَهُمْ وَتَنَظَّرَ يُونُسُ الْخَبَرَ عَنِ الْقَرْيَةِ وَأَهْلِهَا حَتَّى مَرَّ بِهِ مَارٌّ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ؟ فقال: فَعَلُوا أَنَّ نَبِيَّهُمْ لَمَّا خَرَجَ مِنْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ عَرَفُوا أَنَّهُ صَدَقَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، فَخَرَجُوا مِنْ قَرْيَتِهِمْ إِلَى بَرَازٍ مِنَ الأَرْضِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذَاتِ وَلَدٍ وَوَلَدِهَا، ثُمَّ عَجُّوا إِلَى اللَّهِ وَتَابُوا إِلَيْهِ، فَقَبِلَ مِنْهُمْ، وَأَخَّرَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ قَالَ: فَقَالَ يُونُسُ عِنْدَ ذَلِكَ وَغَضِبَ: وَاللَّهِ لا أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ كَذَّابًا أَبَدًا، وَعَدْتُهُمُ الْعَذَابَ فِي يَوْمٍ، ثُمَّ رُدَّ عَنْهُمْ! وَمَضَى عَلَى وَجْهِهِ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ فَاسْتَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ. حَدَّثَنِي المثنى بن إبراهيم، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن انس، قَالَ: حَدَّثَنَا رجل قد قرأ القرآن في صدره في إمارة عمر بن الخطاب، فحدث عن قوم يونس حيث أنذر قومه فكذبوه، فأخبرهم أنه مصيبهم العذاب وفارقهم، فلما رأوا ذلك وغشيهم العذاب، لكنهم خرجوا من مساكنهم، وصعدوا

في مكان رفيع، وإنهم جأروا إلى ربهم، ودعوه مخلصين له الدين أن يكشف عنهم العذاب، وأن يرجع إليهم رسولهم، قَالَ: ففي ذلك أنزل الله تعالي: «فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» . فلم يكن قرية غشيها العذاب ثم أمسك عنها إلا قوم يونس خاصة، فلما رأى ذلك يونس، لكنه ذهب عاتبا على ربه، وانطلق مغاضبا، وظن أن لن يقدر عليه، حتى ركب سفينة، فأصاب أهلها عاصف من الريح فقالوا: هذه بخطيئة أحدكم وقال يونس- وقد عرف أنه هو صاحب الذنب: هذه بخطيئتي، فألقوني في البحر وإنهم أبوا عليه حتى أفاضوا بسهامهم، «فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ » ، فقال لهم: قد أخبرتكم أن هذا الأمر بذنبي وإنهم أبوا عليه أن يلقوه في البحر، حتى أفاضوا بسهامهم الثانية، «فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ » فقال لهم: قد أخبرتكم أن هذا الأمر بذنبي، وإنهم أبوا عليه أن يلقوه في البحر حتى أفاضوا بسهامهم الثالثة، «فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ » فلما رأى ذلك ألقى نفسه في البحر، وذلك تحت الليل، فابتلعه الحوت «فَنادى فِي الظُّلُماتِ» - وعرف الخطيئة- «أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» وكان قد سبق له من العمل الصالح، فأنزل الله فيه فقال: «فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» ، وذلك أن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر، «فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ» وألقي على ساحل البحر، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين- وهي فيما ذكر- شجرة القرع يتقطر عليه

من اللبن، حتى رجعت إليه قوته ثم رجع ذات يوم إلى الشجرة فوجدها قد يبست، فحزن وبكى عليها، فعوتب فقيل له: أحزنت على شجرة، وبكيت عليها ولم تحزن على مائة ألف أو زيادة أردت هلاكهم جميعا! ثم إن الله اجتباه من الضلالة، فجعله من الصالحين، ثم أمر أن يأتي قومه ويخبرهم أن الله قد تاب عليهم فعمد إليهم، حتى لقي راعيا، فسأله عن قوم يونس وعن حالهم، وكيف هم؟ فأخبره أنهم بخير، وأنهم على رجاء أن يرجع إليهم رسولهم، فقال له: فأخبرهم أني قد لقيت يونس. فقال: لا أستطيع إلا بشاهد، فسمى له عنزا من غنمه، فقال: هذه تشهد لك أنك قد لقيت يونس، قَالَ: وماذا؟ قَالَ: وهذه البقعة التي أنت فيها تشهد لك أنك قد لقيت يونس قَالَ: وماذا؟ قَالَ: وهذه الشجرة تشهد لك أنك قد لقيت يونس وإنه رجع الراعي إلى قومه فاخبرهم انه لقى يونس فكذبوه وهموا به شرا، فقال: لا تعجلوا علي حتى أصبح، فلما أصبح غدا بهم إلى البقعة التي لقى فيها يونس فاستنطقها، فاخبرته أنه لقي يونس، وسأل العنز، فأخبرتهم أنه لقي يونس، واستنطقوا الشجرة، فأخبرتهم أنه قد لقي يونس ثم إن يونس أتاهم بعد ذلك قَالَ: «وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» . حَدَّثَنِي الحسين بن عمرو بن مُحَمَّد العنقزي، قَالَ: حَدَّثَنَا أبي، عن إسرائيل، عن أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الأَوْدِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابن مسعود في بيت المال، قَالَ: إن يونس كان وعد قومه العذاب، وأخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام، ففرقوا بين كل والدة وولدها، ثم خرجوا فجأروا إلى الله، واستغفروه، فكف الله عنهم العذاب، وغدا يونس ينتظر العذاب، فلم ير شيئا، وكان من كذب ولم يكن له بينه قتل

فانطلق مغاضبا «فَنادى فِي الظُّلُماتِ» ، قَالَ: ظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل، وظلمة البحر. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ عَبْدِ الله بن رافع، مولى أم سلمه زوج النبي ص، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: [قَالَ رَسُولُ الله ص: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ حَبْسَ يُونُسَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْحُوتِ أَنْ خُذْهُ وَلا تَخْدِشْ لَهُ لَحْمًا، وَلا تَكْسِرْ عَظْمًا، فَأَخَذَهُ، ثُمَّ هَوَى بِهِ إِلَى مَسْكَنِهِ مِنَ الْبَحْرِ. فَلَمَّا انْتَهَى بِهِ إِلَى أَسْفَلِ الْبَحْرِ، سَمِعَ يُونُسُ حِسًّا، فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: مَا هَذَا؟ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: أَنَّ هَذَا تَسْبِيحُ دَوَابِّ الْبَحْرِ قَالَ: فَسَبَّحَ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، قَالَ: فَسَمِعَتِ الْمَلائِكَةُ تَسْبِيحَهُ، فَقَالُوا: يَا رَبَّنَا، إِنَّا لَنَسْمَعُ صَوْتًا ضَعِيفًا بِأَرْضٍ غَرِيبَةٍ قَالَ: ذَلِكَ عَبْدِي يُونُسُ، عَصَانِي فَحَبَسْتُهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ، قَالُوا: الْعَبْدُ الصَّالِحُ الَّذِي كَانَ يَصْعَدُ إِلَيْكَ مِنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَمَلٌ صَالِحٌ! قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَشَفَعُوا لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَأَمَرَ الْحُوتَ، فَقَذَفَهُ فِي السَّاحِلِ كَمَا قال الله: «وَهُوَ سَقِيمٌ» ، وَكَانَ سُقْمُهُ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ بِهِ، أَنَّهُ أَلْقَاهُ الْحُوتُ عَلَى السَّاحِلِ كَالصَّبِيِّ الْمَنْفُوسِ، قَدْ بشر اللَّحْمَ وَالْعَظْمَ] . حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد ابن زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَرَجَ بِهِ- يَعْنِي الْحُوتَ- حَتَّى لَفَظَهُ فِي سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَطَرَحَهُ مِثْلَ الصَّبِيِّ الْمَنْفُوسِ، لَمْ يَنْقُصْ مِنْ خَلْقِهِ شَيْءٌ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو صخر،

قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ قُسَيْطٍ إِنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: طُرِحَ بِالْعَرَاءِ، فَأَنْبَتَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَقْطِينَةً، فَقُلْنَا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَمَا الْيَقْطِينَةُ؟ قَالَ: شَجَرَةُ الدُّبَّاءِ، هَيَّأَ اللَّهُ لَهُ أُرْوِيَّةً وحشيه، تاكل من حشاش الأَرْضِ- أَوْ هَشَاشِ الأَرْضِ- فَتَفْشَحُ عَلَيْهِ، فَتَرْوِيهِ مِنْ لَبَنِهَا كُلَّ عَشِيَّةٍ وَبُكْرَةٍ، حَتَّى نَبَتَ. وَمِمَّا كَانَ أَيْضًا فِي أَيَّامِ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ:

ارسال الله رسله الثلاثة

إرسال الله رسله الثلاثة الذين ذكرهم في تنزيله، فقال: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ» ، الآيات التي ذكر تعالي ذكره في خبرهم. واختلف السلف في أمرهم، فقال بعضهم: كان هؤلاء الثلاثة- الذين ذكرهم الله في هذه الآيات، وقص فيها خبرهم- أنبياء ورسلا أرسلهم إلى بعض ملوك الروم، وهو انطيخس، والقرية التي كان فيها هذا الملك الذي أرسل الله إليه فيها هؤلاء الرسل إنطاكية. ذِكْرُ من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، قَالَ: كان من حديث صاحب يس- فيما حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن إسحاق- قَالَ: مما بلغه عن كعب الأحبار، وعن وهب بن منبه اليماني، انه كان رجلا من أهل إنطاكية، وكان اسمه حبيبا وكان يعمل الحرير، وكان رجلا سقيما قد أسرع فيه الجذام، وكان منزله عند باب من أبواب المدينة قاصيا، وكان مؤمنا ذا صدقة، يجمع كسبه إذا أمسى- فيما يذكرون- فيقسمه نصفين، فيطعم نصفا عياله، ويتصدق بنصف، فلم يهمه سقمه ولا عمله ولا ضعفه حين طهر قلبه، واستقامت فطرته، وكان بالمدينة التي هو بها، مدينة إنطاكية، فرعون من الفراعنة يقال له انطيخس بن انطيخس بن انطيخس، يعبد الأصنام، صاحب شرك

فبعث الله المرسلين، وهم ثلاثة: صادق وصدوق وشلوم، فقدم الله إليه وإلي أهل مدينته منهم اثنين، فكذبوهما، ثم عزز الله بثالث. وقال آخرون: بل كانوا من حواريي عيسى بن مريم، ولم يكونوا رسلا لله، وإنما كانوا رسل عيسى بن مريم، ولكن ارسال عيسى بن مريم إياهم، لما كان عن أمر الله تعالى ذكره إياه بذلك، أضيف إرساله إياهم إلى الله، فقيل: «إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ» . ذكر من قال ذلك: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قوله: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ» قال: ذكر لنا ان عيسى بن مريم بعث رجلين من الحواريين إلى إنطاكية، مدينة بالروم، فَكَذَّبُوهُمَا، فَأعَزَّهُمَا بِثَالِثٍ، «فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ» ، الآية. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق، فلما دعته الرسل، ونادته بأمر الله، وصدعت بالذي أمرت به، وعابت دينهم وما هم عليه، قال اصحاب القرية لهم: «إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» قالت لهم الرسل: «طائِرُكُمْ مَعَكُمْ» ، اى اعمالكم، «أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ» فلما أجمع هو وقومه على قتل الرسل بلغ ذلك حبيبا، وهو على باب المدينة الأقصى، فجاء يسعى إليهم

يذكرهم الله، ويدعوهم إلى اتباع المرسلين، فقال: «يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ» أي لا يسألونكم أموالكم على ما جاءوكم به من الهدى، وهم لكم ناصحون فاتبعوهم تهتدوا بهداهم. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ: قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قَالَ: لما انتهى- يعني حبيبا- إلى الرسل، قَالَ: هل تسألون على هذا من أجر؟ قَالُوا: لا، فقال عند ذلك: «يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ» . رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق: ثم ناداهم بخلاف ما هم عليه من عبادة الأصنام، وأظهر لهم دينه وعبادة ربه، وأخبرهم أنه لا يملك نفعه ولا ضره غيره، فقال: «وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً» الى قوله: «إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ» . أي آمنت بربكم، الذي كفرتم به، فاسمعوا قولي فلما قال لهم ذلك وثبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه، واستضعفوه لضعفه وسقمه، ولم يكن أحد يدفع عنه. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ: وَطَئُوهُ بِأَرْجُلِهِمْ، حَتَّى خَرَجَ قُصْبُهُ مِنْ دُبُرِهِ. وقال الله له: ادخل الجنه، فَدَخَلَهَا حَيًّا يُرْزَقُ فِيهَا، قَدْ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُ سَقَمَ الدُّنْيَا وَحَزَنَهَا وَنَصَبَهَا، فَلَمَّا أَفْضَى إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَجَنَّتِهِ وَكَرَامَتِهِ، قَالَ: «يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ» وَغَضِبَ اللَّهُ لَهُ لاسْتِضْعَافِهِمْ إِيَّاهُ غَضْبَةً لَمْ يَبْقَ مَعَهَا مِنَ الْقَوْمِ شَيْئًا فَعَجَّلَ لَهُمُ النِّقْمَةَ بِمَا اسْتَحَلُّوا مِنْهُ وقال: «وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ» ، يَقُولُ: مَا كَابَدْنَاهُمْ بِالْجُمُوعِ،

أَيِ الأَمْرُ أَيْسَرُ عَلَيْنَا مِنْ ذَلِكَ «إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ» فَأَهْلَكَ اللَّهُ ذَلِكَ الْمَلِكَ وَأَهْلَ أَنْطَاكِيَةَ، فَبَادُوا عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ بَاقِيَةٌ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن ابن عُمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ مِقْسَمٍ أَبِي الْقَاسِمِ، مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: كَانَ اسْمُ صَاحِبِ يس حَبِيبًا، وَكَانَ الْجُذَامُ قَدْ أَسْرَعَ فِيهِ. حَدَّثَنَا ابن بشار، قَالَ: حَدَّثَنَا مؤمل، قَالَ: حَدَّثَنَا سفيان، عن عاصم الأحول، عن أبي مخلد، قَالَ: كان اسم صاحب يس حبيب بن مري. وكان فيهم:

شمسون

شمسون وكان من أهل قرية من قرى الروم، قد هداه الله لرشده، وكان قومه أهل أوثان يعبدونها فكان من خبره وخبرهم- فِيمَا ذُكِرَ- مَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عن المغيرة بن أبي لبيد، عن وهب بن منبه اليماني: أن شمسون كان فيهم رجلا مسلما، وكانت أمه قد جعلته نذيرة، وكان من أهل قرية من قراهم، كانوا كفارا يعبدون الأصنام، وكان منزله منها على أميال غير كثيرة، وكان يغزوهم وحده ويجاهدهم في الله، فيصيب منهم وفيهم حاجته، فيقتل ويسبي، ويصيب المال، وكان إذا لقيهم لقيهم بلحي بعير لا يلقاهم بغيره، فإذا قاتلوه وقاتلهم، وتعب وعطش انفجر له من الحجر الذى مع اللحي ماء عذب فيشرب منه حتى يروى، وكان قد أعطي قوة في البطش، وكان لا يوثقه حديد ولا غيره، وكان على ذلك يجاهدهم في الله ويغزوهم، ويصيب منهم حاجته، لا يقدرون منه على شيء، حتى قَالُوا: لن تأتوه إلا من قبل امرأته، فدخلوا على امرأته، فجعلوا لها جعلا، فقالت: نعم أنا أوثقه لكم، فأعطوها حبلا وثيقا، وقالوا: إذا نام فأوثقي يده إلى عنقه حتى نأتيه فنأخذه فلما نام أوثقت يده إلى عنقه بذلك الحبل، فلما هب جذبه بيده، فوقع من عنقه، فقال لها: لم فعلت؟ فقالت: أجرب به قوتك، ما رأيت مثلك قط! فأرسلت إليهم أني قد ربطته بالحبل فلم أغن عنه شيئا، فأرسلوا إليها بجامعة من حديد، فقالوا: إذا نام فاجعليها في عنقه، فلما نام جعلتها في عنقه، ثم أحكمتها، فلما هب جذبها، فوقعت من يده ومن عنقه، فقال لها: لم فعلت هذا؟ قالت: أجرب به قوتك، ما رأيت مثلك في الدنيا يا شمسون!

أما في الأرض شيء يغلبك! قَالَ: لا، إلا شيء واحد، قالت: وما هو؟ قَالَ: ما أنا بمخبرك به، فلم تزل به تسأله عن ذلك- وكان ذا شعر كثير- فقال لها: ويحك! إن أمي جعلتني نذيرة، فلا يغلبني شيء أبدا، ولا يضبطني إلا شعري فلما نام أوثقت يده إلى عنقه بشعر رأسه، فأوثقه ذلك، وبعثت إلى القوم، فجاءوا فأخذوه، فجدعوا أنفه وأذنيه، وفقئوا عينيه، ووقفوه للناس بين ظهراني المئذنة- وكانت مئذنة ذات أساطين، وكان ملكهم قد أشرف عليها بالناس لينظروا إلى شمسون، وما يصنع به- فدعا الله شمسون حين مثلوا به ووقفوه أن يسلطه عليهم، فأمر أن يأخذ بعمودين من عمد المئذنة التي عليها الملك والناس الذين معه فيجذبهما، فجذبهما فرد الله عليه بصره وما أصابوا من جسده، ووقعت المئذنة بالملك ومن عليها من الناس، فهلكوا فيها هدما

ذكر خبر جرجيس

ذكر خبر جرجيس وكان جرجيس- فيما ذكر- عبدا لله صالحا من أهل فلسطين، ممن ادرك بقايا من حواريي عيسى بن مريم، وكان تاجرا يكسب بتجارته ما يستغني به عن الناس، ويعود بالفضل على أهل المسكنة وإنه تجهز مرة إلى ملك بالموصل، كما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عن وهب بن منبه وغيره من أهل العلم: أنه كان بالموصل داذانه، وكان قد ملك الشام كله، وكان جبارا عاتيا لا يطيقه إلا الله تعالى وكان جرجيس رجلا صالحا من أهل فلسطين، وكان مؤمنا يكتم إيمانه في عصبة معه صالحين، يستخفون بإيمانهم، وكانوا قد أدركوا بقايا من الحواريين فسمعوا منهم، وأخذوا عنهم وكان جرجيس كثير المال، عظيم التجارة، عظيم الصدقة، فكان يأتي عليه الزمان يتلف ماله في الصدقة حتى لا يبقى منه شيء، حتى يصير فقيرا، ثم يضرب الضربة فيصيب مثل ماله أضعافا مضاعفة، فكانت هذه حاله في المال وكان إنما يرغب في المال، ويعمره ويكسبه من أجل الصدقة، لولا ذلك كان الفقر أحب إليه من الغنى. وكان لا يأمن ولاية المشركين عليه مخافة أن يؤذوه في دينه، أو يفتنوه عنه، فخرج يؤم ملك الموصل، ومعه مال يريد أن يهديه له، لئلا يجعل لأحد من تلك الملوك عليه سلطانا دونه، فجاءه حين جاءه، وقد برز في مجلس له، وعنده عظماء قومه وملوكهم، وقد أوقد نارا، وقرب أصنافا من أصناف العذاب الذي كان يعذب به من خالفه، وقد أمر بصنم يقال له: أفلون فنصب، فالناس يعرضون عليه، فمن لم يسجد له ألقي في تلك النار، وعذب بأصناف ذلك العذاب فلما رأى جرجيس ما يصنع فظع به

وأعظمه، وحدث نفسه بجهاده، وألقى الله في نفسه بغضه ومحاربته، فعمد إلى المال الذي أراد أن يهديه له فقسمه في أهل ملته حتى لم يبق منه شيئا، وكره أن يجاهده بالمال، وأحب أن يلي ذلك بنفسه، فاقبل عليه عند ما كان أشد غضبا وأسفا، فقال له: اعلم أنك عبد مملوك لا تملك لنفسك شيئا ولا لغيرك، وأن فوقك ربا هو الذي يملكك وغيرك، وهو الذي خلقك ورزقك، وهو الذي يحييك ويميتك، ويضرك وينفعك، وأنت قد عمدت إلى خلق من خلقه- قَالَ له: كن فكان- أصم أبكم، لا ينطق ولا يبصر ولا يسمع، ولا يضر ولا ينفع، ولا يغني عنك من الله شيئا، فزينته بالذهب والفضة لتجعله فتنة للناس، ثم عبدته دون الله، وأجبرت عليه عباد الله، ودعوته ربا. فكلم الملك جرجيس بنحو هذا، من تعظيم الله وتمجيده، وتعريفه أمر الصنم، وأنه لا تصلح عبادته فكان من جواب الملك إياه مسألته إياه عنه، ومن هو؟ ومن أين هو؟ فأجابه جرجيس أن قَالَ: أنا عبد الله وابن عبده وابن أمته، أذل عباده وأفقرهم إليه، من التراب خلقت، وفيه أصير وأخبره ما الذي جاء به وحاله وإنه دعا ذلك الملك جرجيس إلى عبادة الله ورفض عبادة الأوثان وإن الملك دعا جرجيس إلى عبادة الصنم الذي يعبده، وقال: لو كان ربك الذي تزعم أنه ملك الملوك كما تقول، لرئى عليك أثره كما ترى أثري على من حولي من ملوك قومي. فأجابه جرجيس بتمجيد الله وتعظيم أمره وقال له- فيما قَالَ: أين تجعل طرقبلينا، وما نال بولايتك، فإنه عظيم قومك، من إلياس، وما نال إلياس بولاية الله! فإن إلياس كان بدؤه آدميا يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، فلم تتناه به كرامة الله حتى أنبت له الريش، وألبسه النور،

فصار إنسيا ملكيا، سمائيا أرضيا، يطير مع الملائكة وحدثني: أين تجعل مجليطيس، وما نال بولايتك: فانه عظيم قومك، من المسيح بن مريم وما نال بولاية الله! فإن الله فضله على رجال العالمين، وجعله وأمه آية للمعتبرين. ثم ذكر من أمر المسيح ما كان الله خصه به من الكرامة وقال أيضا: وحدثني: أين تجعل أم هذا الروح الطيب التي اختارها الله لكلمته، وطهر جوفها لروحه، وسودها على إمائه؟ فأين تجعلها وما نالت بولاية الله، من أزبيل وما نالت بولايتك؟ فإنها إذ كانت من شيعتك وملتك أسلمها الله عند عظيم ملكها إلى نفسها، حتى اقتحمت عليها الكلاب في بيتها، فانتهشت لحمها وولغت دمها، وجرت الثعالب والضباع أوصالها! فأين تجعلها وما نالت بولايتك من مريم ابنة عمران وما نالت بولاية الله! فقال له الملك: إنك لتحدثنا عن أشياء ليس لنا بها علم، فأتني بالرجلين اللذين ذكرت أمرهما، حتى أنظر إليهما، وأعتبر بهما، فإني أنكر أن يكون هذا في البشر. فقال له جرجيس: إنما جاءك الإنكار من قبل الغرة بالله، وأما الرجلان فلن تراهما ولن يرياك، إلا أن تعمل بعملهما، فتنزل منازلهما. فقال له الملك: أما نحن فقد أعذرنا إليك، وقد تبين لنا كذبك، لأنك فخرت بأمور عجزت عنها، ولم تأت بتصديقها ثم خير الملك جرجيس بين العذاب وبين السجود لأفلُّون، فيثيبه! فقال له جرجيس: إن كان أفلون هو الذي رفع السماء- وعدد عليه أشياء من قدرة الله- فقد أصبت ونصحت لي، وإلا فاخسأ أيها النجس الملعون! فلما سمعه الملك يسبه ويسب آلهته غضب من قوله غضبا شديدا، وأمر بخشبة فنصبت له للعذاب، وجعلت عليه أمشاط الحديد، فخدش بها

جسده حتى تقطع لحمه وجلده وعروقه، ينضح خلال ذلك بالخل والخردل. فلما رأى ذلك لم يقتله، أمر بستة مسامير من حديد فأحميت حتى إذا جعلت نارا، أمر بها فسمر بها رأسه حتى سال منه دماغه فلما رأى ذلك لم يقتله، أمر بحوض من نحاس، فأوقد عليه حتى إذا جعله نارا أمر به فأدخل في جوفه، وأطبق عليه، فلم يزل فيه حتى برد حره. فلما رأى ذلك لم يقتله، دعا به فقال: ألم تجد ألم هذا العذاب الذي تعذب به! فقال له جرجيس: أما أخبرتك أن لك ربا هو أولى بك من نفسك! قَالَ: بلى قد أخبرتني، قَالَ: فهو الذي حمل عني عذابك، وصبرني ليحتج عليك فلما قَالَ له ذلك أيقن بالشر، وخافه على نفسه وملكه، وأجمع رأيه على أن يخلده في السجن، فقال الملأ من قومه: إنك إن تركته طليقا يكلم الناس أوشك أن يميل بهم عليك، ولكن مر له بعذاب في السجن يشغله عن كلام الناس فأمر فبطح في السجن على وجهه، ثم أوتد في يديه ورجليه أربعة أوتاد من حديد، في كل ركن منها وتد، ثم أمر بأسطوان من رخام، فوضع على ظهره حمل ذلك الأسطوان سبعة رجال فلم يقلوه، ثم أربعة عشر رجلا فلم يقلوه، ثم ثمانية عشر رجلا فأقلوه، فظل يومه ذلك موتدا تحت الحجر. فلما أدركه الليل أرسل الله إليه ملكا- وذلك أول ما أيد بالملائكة، وأول ما جاءه الوحي- فقلع عنه الحجر، ونزع الأوتاد من يديه ورجليه، وأطعمه وسقاه، وبشره وعزاه، فلما أصبح أخرجه من السجن، وقال له: الحق بعدوك فجاهده في الله حق جهاده، فإن الله يقول لك: أبشر واصبر، فإني أبتليك بعدوي هذا سبع سنين، يعذبك ويقتلك فيهن أربع مرار، في كل ذلك أرد إليك روحك، فإذا كانت القتلة الرابعة تقبلت روحك وأوفيتك أجرك فلم يشعر الآخرون إلا وقد وقف جرجيس على رؤوسهم يدعوهم إلى الله. فقال له الملك: أجرجيس! قَالَ: نعم، قَالَ: من أخرجك من السجن؟

قَالَ: أخرجني الذي سلطانه فوق سلطانك فلما قَالَ له ذلك مليء غيظا، فدعا بأصناف العذاب حتى لم يخلف منها شيئا، فلما رآها جرجيس تصنف له، أوجس في نفسه خيفة وجزعا، ثم أقبل على نفسه يعاتبها بأعلى صوته، وهم يسمعون فلما فرغ من عتابه نفسه مدوه بين خشبتين، ووضعوا عليه سيفا على مفرق راسه، فوشروه حتى سقط بين رجليه، وصار جزلتين، ثم عمدوا إلى جزلتيه، فقطعوهما قطعا وله سبعة أسد ضارية في جب، وكانت صنفا من أصناف عذابه، ثم رموا بجسده إليها، فلما هوى نحوها أمر الله الأسد فخضعت برءوسها وأعناقها، وقامت على براثنها، لا تألو أن تقيه الأذى، فظل يومه ذلك ميتا، فكانت أول ميتة ذاقها فلما أدركه الليل جمع الله له جسده الذي قطعوه بعضه على بعض، حتى سواه ثم رد فيه روحه وأرسل ملكا فأخرجه من قعر الجب، وأطعمه وسقاه، وبشره وعزاه. فلما أصبحوا قَالَ له الملك: يا جرجيس، قَالَ: لبيك! قَالَ: اعلم أن القدرة التي خلق آدم بها من تراب هي التي أخرجتك من قعر الجب، فالحق بعدوك ثم جاهده في الله حق جهاده، ومت موت الصابرين. فلم يشعر الآخرون إلا وقد أقبل جرجيس، وهم عكوف على عيد لهم قد صنعوه فرحا- زعموا بموت جرجيس- فلما نظروا إلى جرجيس مقبلا، قَالُوا: ما أشبه هذا بجرجيس! قَالُوا: كأنه هو؟ قَالَ الملك: ما بجرجيس من خفاء، إنه لهو! ألا ترون إلى سكون ريحه، وقلة هيبته قَالَ جرجيس: بلى، أنا هو حقا! بئس القوم أنتم! قتلتم ومثلتم، فكان الله- وحق له- خيرا وأرحم منكم. أحياني ورد علي روحي هلم إلى هذا الرب العظيم الذي أراكم ما أراكم. فلما قَالَ لهم ذلك، أقبل بعضهم على بعض، فقالوا: ساحر سحر أيديكم وأعينكم عنه فجمعوا له من كان ببلادهم من السحرة، فلما جاء السحرة، قَالَ الملك لكبيرهم: اعرض علي من كبير سحرك ما تسرى به عني، قَالَ له: ادع لي بثور من البقر، فلما أتي به نفث في إحدى أذنيه فانشقت باثنتين، ثم نفث في الأخرى، فإذا هو ثوران، ثم أمر ببذر فحرث وبذر، ونبت

الزرع، وأينع وحصد، ثم داس وذري، وطحن وعجن، وخبز وأكل ذلك في ساعة واحدة كما ترون! قَالَ له الملك: هل تقدر على أن تمسخه لي دابة؟ قَالَ الساحر: أي دابة أمسخه لك؟ قَالَ: كلبا، قَالَ: ادع لي بقدح من ماء، فلما أتي بالقدح نفث فيه الساحر، ثم قَالَ للملك: اعزم عليه أن يشربه، فشربه جرجيس حتى أتى على آخره، فلما فرغ منه قَالَ له الساحر: ماذا تجد؟ قَالَ: ما أجد إلا خيرا، قد كنت عطشت فلطف الله لي بهذا الشراب، فقواني به عليكم فلما قَالَ له ذلك أقبل الساحر على الملك فقال: اعلم أيها الملك، أنك لو كنت تقاسي رجلا مثلك إذا كنت غلبته، ولكنك تقاسي جبار السموات، وهو الملك الذي لا يرام! وقد كانت امرأة مسكينة، سمعت بجرجيس وما يصنع من الأعاجيب، فأتته وهو في أشد ما هو فيه من البلاء، فقالت له: يا جرجيس، إني امرأة مسكينة، لم يكن لي مال ولا عيش إلا ثور كنت أحرث عليه فمات، وجئتك لترحمني وتدعو الله أن يحيي لي ثوري فذرفت عيناه ثم دعا الله أن يحيي لها ثورها، وأعطاها عصا، فقال: اذهبي إلى ثورك، فاقرعيه بهذه العصا وقولي له: احي بإذن الله فقالت: يا جرجيس مات ثوري منذ أيام، وتفرقته السباع، وبيني وبينك أيام، فقال: لو لم تجدي منه إلا سنا واحدة ثم قرعتها بالعصا لقام بإذن الله فانطلقت حتى أتت مصرع ثورها، فكان أول شيء بدا لها من ثورها أحد روقيه وشعر ذنبه، فجمعت أحدهما إلى الآخر، ثم قرعتهما بالعصا التي أعطاها، وقالت كما أمرها، فعاش ثورها، وعملت عليه حتى جاءهم الخبر بذلك. فلما قَالَ الساحر للملك ما قَالَ، قَالَ رجل من أصحاب الملك- وكان أعظمهم بعد الملك: اسمعوا مني أيها القوم أحدثكم، قَالُوا: نعم، فتكلم، قَالَ: إنكم قد وضعتم أمر هذا الرجل على السحر، وزعمتم أنه سحر أيديكم عنه وأعينكم فأراكم أنكم تعذبونه، ولم يصل إليه عذابكم! وأراكم أنكم

قد قتلتموه فلم يمت، فهل رأيتم ساحرا قط قدر أن يدرأ عن نفسه الموت، أو أحيا ميتا قط! ثم قص عليهم فعل جرجيس، وفعلهم به، وفعله بالثور وصاحبته، واحتج عليهم بذلك كله، فقالوا له: إن كلامك لكلام رجل قد أصغى إليه، قَالَ: ما زال أمره لي معجبا منذ رأيت منه ما رأيت، قَالُوا له: فلعله استهواك! قَالَ: بل آمنت وأشهد الله أني بريء مما تعبدون فقام إليه الملك وصحابته بالخناجر، فقطعوا لسانه، فلم يلبث أن مات، وقالوا: أصابه الطاعون، فأعجله الله قبل أن يتكلم فلما سمع الناس بموته أفزعهم، وكتموا شأنه، فلما رآهم جرجيس يكتمونه برز للناس، فكشف لهم أمره، وقص عليهم كلامه، فاتبعه على كلامه أربعة آلاف وهو ميت، فقالوا: صدق، ونعم ما قَالَ! يرحمه الله! فعمد إليهم الملك فأوثقهم، ثم لم يزل يلون لهم العذاب ويقتلهم بالمثلات. حتى أفناهم. فلما فرغ منهم أقبل على جرجيس، فقال له: هلا دعوت ربك. فأحيا لك أصحابك، هؤلاء الذين قتلوا بجريرتك! فقال له جرجيس ما خلى بينك وبينهم حتى خار لهم فقال رجل من عظمائهم يقال له مجليطيس: إنك زعمت يا جرجيس أن الهك هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وإني سائلك أمرا إن فعله إلهك آمنت بك وصدقتك، وكفيتك قومي هؤلاء، هذه تحتنا أربعة عشر منبرا حيث ترى، ومائدة بيننا عليها أقداح وصحاف، وكل صنع من الخشب اليابس، ثم هو من أشجار شتى، فادع ربك ينشئ هذه الآنية وهذه المنابر، وهذه المائدة، كما بدأها أَوَّلَ مَرَّةٍ، * حتى تعود خضرا نعرف كل عود منها بلونه وورقه وزهره وثمره. فقال له جرجيس: قد سألت أمرا عزيزا علي وعليك، وإنه على الله لهين فدعا ربه، فما برحوا مكانهم حتى اخضرت تلك المنابر، وتلك الآنية كلها، فساخت عروقها، وألبست اللحاء، وتشعبت، ونبت ورقها وزهرها وثمرها، حتى عرفوا كل عود منها باسمه ولونه وزهره وثمره. فلما نظروا إلى ذلك انتدب له مجليطيس، الذي تمنى عليه ما تمنى،

فقال: أنا أعذب لكم هذا الساحر عذابا يضل عنه كيده فعمد إلى نحاس فصنع منه صورة ثور جوفاء واسعة، ثم حشاها نفطا ورصاصا وكبريتا وزرنيخا، ثم أدخل جرجيس مع الحشو في جوفها، ثم أوقد تحت الصورة، فلم يزل يوقد حتى التهبت الصورة، وذاب كل شيء فيها واختلط، ومات جرجيس في جوفها فلما مات أرسل الله ريحا عاصفا، فملأت السماء سحابا أسود مظلما، فيه رعد لا يفتر، وبرق وصواعق متداركات، وأرسل الله إعصارا فملأت بلادهم عجاجا وقتاما، حتى اسود ما بين السماء والأرض وأظلم، ومكثوا أياما متحيرين في تلك الظلمة، لا يفصلون بين الليل والنهار. وأرسل الله ميكائيل فاحتمل الصورة التي فيها جرجيس، حتى إذا أقلها ضرب بها الأرض ضربا، فزع من روعته أهل الشام أجمعون، وكلهم يسمعه في ساعة واحدة، فخروا لوجوههم صعقين من شدة الهول، وانكسرت الصورة، فخرج منها جرجيس حيا، فلما وقف يكلمهم انكشفت الظلمة، وأسفر ما بين السماء والأرض، ورجعت اليهم انفسهم فقال له رجل منهم يقال له طرقبلينا: لا ندري يا جرجيس أنت تصنع هذه العجائب أم ربك؟ فإن كان هو الذي يصنعها، فادعه يحي لنا موتانا، فإن في هذه القبور التي ترى أمواتا من أمواتنا، منهم من نعرف ومنهم من مات قبل زماننا، فادعه يحيهم حتى يعودوا كما كانوا ونكلمهم، ونعرف من عرفنا منهم، ومن لا نعرف أخبرنا خبره فقال له جرجيس: لقد علمت ما يصفح الله عنكم هذا الصفح، ويريكم هذه العجائب إلا ليتم عليكم حججه، فتستوجبوا بذلك غضبه ثم أمر بالقبور فنبشت وهي عظام ورفات ورميم ثم أقبل على الدعاء فما برحوا مكانهم، حتى نظروا إلى سبعة عشر إنسانا: تسعة رهط وخمس نسوة وثلاثة صبية، فإذا شيخ منهم كبير، فقال له جرجيس: أيها الشيخ، ما اسمك؟ فقال: اسمي يوبيل، فقال: متى مت؟ قَالَ: في زمان كذا وكذا، فحسبوا فإذا هو قد مات منذ أربعمائة عام

فلما نظر إلى ذلك الملك وصحابته، قَالُوا: لم يبق من أصناف عذابكم شيء إلا قد عذبتموه، إلا الجوع والعطش، فعذبوه بهما فعمدوا إلى بيت عجوز كبيرة فقيرة، كان حريزا، وكان لها ابن أعمى أبكم مقعد، فحصروه في بيتها فلا يصل إليه من عند أحد طعام ولا شراب فلما بلغه الجوع، قَالَ للعجوز: هل عندك طعام أو شراب؟ قالت: لا والذي يحلف به، ما عهدنا بالطعام منذ كذا وكذا،، وسأخرج وألتمس لك شيئا قَالَ لها جرجيس: هل تعرفين الله؟ قالت له: نعم، قَالَ: فإياه تعبدين؟ قالت: لا، قَالَ: فدعاها إلى الله فصدقته، وانطلقت تطلب له شيئا، وفي بيتها دعامة من خشبة يابسة تحمل خشب البيت، فأقبل على الدعاء، فما كان كشيء حتى اخضرت تلك الدعامة، فأنبتت كل فاكهة تؤكل أو تعرف، أو تسمى حتى كان فيما أنبتت اللياء واللوبياء. قال ابو جعفر: اللياء نبت بالشام له حب يؤكل وظهر للدعامة فرع من فوق البيت أظله وما حوله وأقبلت العجوز، وهو فيما شاء يأكل رغدا، فلما رأت الذي حدث في بيتها من بعدها، قالت: آمنت بالذي أطعمك في بيت الجوع، فادع هذا الرب العظيم ليشفي ابني، قَالَ: أدنيه مني، فأدنته منه، فبصق في عينيه فأبصر، فنفث في أذنيه فسمع، قالت له: أطلق لسانه ورجليه، رحمك الله! قَالَ: أخريه، فإن له يوما عظيما وخرج الملك يسير في مدينته، فلما نظر إلى الشجرة، قَالَ لأصحابه: إني أرى شجرة بمكان ما كنت أعرفها به، قَالُوا له: تلك الشجرة نبتت لذلك الساحر الذي أردت أن تعذبه بالجوع، فهو فيما شاء قد شبع منها، وشبعت الفقيرة وشفى لها ابنها فأمر بالبيت فهدم، وبالشجرة لتقطع، فلما هموا بقطعها أيبسها الله تعالى كما كانت أول مرة، فتركوها، وأمر بجرجيس فبطح على

وجهه وأوتد له أربعة أوتاد، وأمر بعجل فأوقر أسطوانا ما حمل، وجعل في أسفل العجل خناجر وشفارا، ثم دعا بأربعين ثورا، فنهضت بالعجل نهضة واحدة، وجرجيس تحتها، فتقطع ثلاث قطع، ثم أمر بقطعة فأحرقت بالنار، حتى إذا عادت رمادا بعث بذلك الرماد رجالا فذروه في البحر، فلم يبرحوا مكانهم حتى سمعوا صوتا من السماء يقول: يا بحر، إن الله يأمرك أن تحفظ ما فيك من هذا الجسد الطيب، فإني أريد أن أعيده كما كان ثم أرسل الله الرياح فأخرجته من البحر، ثم جمعته حتى عاد الرماد صبرة كهيئته قبل أن يذروه، والذين ذروه قيام لم يبرحوا ثم نظروا إلى الرماد يثور كما كان، حتى خرج منه جرجيس مغبرا ينفض رأسه، فرجعوا، ورجع جرجيس معهم، فلما انتهوا إلى الملك أخبروه خبر الصوت الذي أحياه، والريح التي جمعته فقال له الملك: هل لك يا جرجيس فيما هو خير لي ولك! فلولا أن يقول الناس إنك قهرتني وغلبتني لاتبعتك وآمنت بك، ولكن اسجد لأفلُّون سجدة واحدة، أو اذبح له شاة واحدة، ثم أنا أفعل ما يسرك. فلما سمع جرجيس هذا من قوله طمع أن يهلك الصنم حين يدخله عليه، رجاء أن يؤمن له الملك حين يهلك صنمه، وييئس منه، فخدعه جرجيس، فقال: نعم، إذا شئت فأدخلني على صنمك أسجد له، وأذبح له، ففرح الملك بقوله، فقام إليه فقبل يديه ورجليه ورأسه، وقال: إني أعزم عليك ألا تظل هذا اليوم، ولا تبيت هذه الليلة إلا في بيتي وعلى فراشي، ومع أهلي حتى تستريح ويذهب عنك وصب العذاب، فيرى الناس كرامتك علي. فأخلى له بيته، وأخرج منه من كان فيه فظل فيه جرجيس، حتى إذا أدركه الليل، قام يصلي، ويقرأ الزبور- وكان أحسن الناس صوتا- فلما سمعته امرأة الملك استجابت له، ولم يشعر إلا وهي خلفه تبكي معه، فدعاها

جرجيس إلى الإيمان فآمنت، وأمرها فكتمت إيمانها فلما أصبح غدا به إلى بيت الأصنام ليسجد لها، وقيل للعجوز التي كان سجن في بيتها: هل علمت أن جرجيس قد فتن بعدك، وأصغى إلى الدنيا، وأطمعه الملك في ملكه، وقد خرج به إلى بيت أصنامه ليسجد لها! فخرجت العجوز في أعراضهم، تحمل ابنها على عاتقها، وتوبخ جرجيس، والناس مشتغلون عنها فلما دخل جرجيس بيت الأصنام، ودخل الناس معه، نظر فإذا العجوز وابنها على عاتقها أقرب الناس منه مقاما، فدعا ابن العجوز باسمه، فنطق بإجابته، وما تكلم قبل ذلك قط، ثم اقتحم عن عاتق أمه يمشى على رجليه سويتين، وما وطيء الأرض قبل ذلك قط بقدميه، فلما وقف بين يدي جرجيس قَالَ: اذهب، فادع لي هذه الأصنام، وهي حينئذ على منابر من ذهب، واحد وسبعون صنما، وهم يعبدون الشمس والقمر معها، فقال له الغلام: كيف أقول للأصنام؟ قَالَ: تقول لها: إن جرجيس يسألك ويعزم عليك بالذي خلقك إلا ما جئته فلما قَالَ لها الغلام ذلك، أقبلت تدحرج إلى جرجيس، فلما انتهت إليه ركض الأرض برجله، فخسف بها وبمنابرها، وخرج إبليس من جوف صنم منها هاربا فرقا من الخسف، فلما مر بجرجيس، أخذ بناصيته، فخضع له برأسه وعنقه، وكلمه جرجيس فقال له: أخبرني أيتها الروح النجسة، والخلق الملعون، ما الذي يحملك على أن تهلك نفسك، وتهلك الناس معك، وأنت تعلم أنك وجندك تصيرون إلى جهنم! فقال له إبليس: لو خيرت بين ما أشرقت عليه الشمس، وأظلم عليه الليل، وبين هلكة بني آدم وضلالتهم أو واحد منهم طرفة عين، لاخترت طرفة العين على ذلك كله، وإنه ليقع لي من الشهوة في ذلك واللذة مثل جميع ما يتلذذ به جميع الخلق ألم تعلم يا جرجيس أن الله أسجد لأبيك آدم جميع الملائكة، فسجد له: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وجميع الملائكة

المقربين، وأهل السموات كلهم، وامتنعت من السجود، فقلت: لا أسجد لهذا الخلق وأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ! * فلما قَالَ هذا خلاه جرجيس، فما دخل إبليس منذ يومئذ جوف صنم، مخافة الخسف، ولا يدخله بعدها- فيما يذكرون- أبدا. وقال الملك: يا جرجيس خدعتني وغررتني، وأهلكت آلهتي، فقال له جرجيس: إنما فعلت ذلك عمدا لتعتبر ولتعلم أنها لو كانت آلهة كما تقول إذا لامتنعت مني، فكيف ثقتك ويلك بآلهة لم تمنع أنفسها مني! وإنما أنا مخلوق ضعيف لا أملك إلا ما ملكني ربي قَالَ: فلما قَالَ هذا جرجيس، كلمتهم امرأة الملك، وذلك حين كشفت لهم إيمانها، وباينتهم بدينها، وعددت عليهم أفعال جرجيس، والعبر التي أراهم وقالت لهم: ما تنتظرون من هذا الرجل الا دعوه فتخسف بكم الأرض فتهلكوا، كما هلكت أصنامكم الله الله أيها القوم في أنفسكم! فقال لها الملك: ويحا لك إسكندرة! ما أسرع ما أضلك هذا الساحر في ليلة واحدة! وأنا أقاسيه منذ سبع سنين، فلم يطق مني شيئا. قالت له: أفما رأيت الله كيف يظفره بك، ويسلطه عليك، فيكون له الفلج والحجة عليك في كل موطن! فأمر بها عند ذلك فحملت على خشبة جرجيس التي كان علق عليها، فعلقت بها، وجعلت عليها الأمشاط التي جعلت على جرجيس فلما ألمت من وجع العذاب قالت: ادع ربك يا جرجيس يخفف عني، فإني قد ألمت من العذاب فقال: انظري فوقك فلما نظرت ضحكت، فقال لها: ما الذي يضحكك؟ قالت: أرى ملكين فوقي، معهما تاج من حلي الجنة ينتظران به روحي أن تخرج، فإذا خرجت زيناها بذلك التاج، ثم صعدا بها إلى الجنة، فلما قبض الله روحها أقبل جرجيس على الدعاء، فقال: اللهم أنت الذي أكرمتني بهذا البلاء، لتعطيني به فضائل الشهداء! اللهم فهذا آخر أيامي الذي وعدتني فيه الراحة من بلاء الدنيا، اللهم فانى أسألك ألا تقبض روحي، ولا أزول من مكاني هذا حتى تنزل بهذا القوم المتكبرين من سطواتك ونقمتك ما لا قبل لهم به، وما تشفي به صدري، وتقر به عيني، فإنهم ظلموني وعذبوني اللهم وأسألك ألا يدعو

بعدي داع في بلاء ولا كرب فيذكرني، ويسألك باسمي إلا فرجت عنه ورحمته وأجبته، وشفعتني فيه. فلما فرغ من هذا الدعاء، أمطر الله عليهم النار، فلما احترقوا عمدوا إليه فضربوه بالسيوف غيظا من شدة الحريق، ليعطيه الله تعالى بالقتلة الرابعة ما وعده فلما احترقت المدينة بجميع ما فيها، وصارت رمادا، حملها الله من وجه الأرض حتى أقلها، ثم جعل عاليها سافلها، فلبثت زمانا من الدهر يخرج من تحتها دخان منتن، لا يشمه أحد إلا سقم سقما شديدا، إلا أنها أسقام مختلفة، لا يشبه بعضها بعضا، فكان جميع من آمن بجرجيس، وقتل معه أربعة وثلاثين ألفا، وامرأة الملك رحمها الله! ونرجع الآن إلى:

ذكر الخبر عن ملوك الفرس وسنى ملكهم

ذكر الخبر عن ملوك الفرس وسني ملكهم لسياق تمام التأريخ، إذ كنا قد ذكرنا الجلائل من الأمور التي كانت في أيام ملوك الطوائف في الفرس، وبني إسرائيل، والروم، والعرب، الى عهد أردشير. ذكر ملك أردشير بن بابك ولما مضى من لدن ملك الإسكندر أرض بابل في قول النصارى وأهل الكتب الأول خمسمائة سنة وثلاث وعشرون سنة، وفي قول المجوس مائتان وست وستون سنه، وثب أردشير بن بابك شاه ملك خير بن ساسان الاصغر بن بابك، بن ساسان بن بابك بن مهرمس بن ساسان بن بهمن الملك بن إسفنديار بن بشتاسب بن لهراسب بن كيوجي بن كيمنش- وقيل في نسبه: أردشير بن بابك بن ساسان بن بابك بن زرار بن بهآفريذ بن ساسان الأكبر، بن بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب بن لهراسب- بفارس طالبا- بزعمه- بدم ابن عمه دارا بن دارا بن بهمن بن إسفنديار، الذي حارب الإسكندر، فقتله حاجباه، مريدا- فيما يقول- رد الملك إلى أهله، وإلى ما لم يزل عليه أيام سلفه وآبائه الذين مضوا قبل ملوك الطوائف، وجمعه لرئيس واحد وملك واحد. وذكر أن مولده كان بقرية من قرى إصطخر يقال لها طيروده، من رستاق خير من كورة أصطخر وكان جده ساسان شجاعا شديد البطش، وإنه بلغ من شجاعته وشدة بطشه، أنه حارب وحده ثمانين رجلا من أهل اصطخر، ذوي بأس ونجدة، فهزمهم وكانت امرأته من نسل قوم من الملوك، كانوا بفارس، يعرفون بالبازرنجين، يقال لها: رامبهشت، ذات جمال وكمال، وكان ساسان قيما على بيت نار أصطخر، يقال له بيت

نار أنا هيذ، وكان مغرما بالصيد والفروسية، فولدت رامبهشت لساسان بابك، وطول شعره حين ولدته أطول من شبر فلما احتنك قام بأمر الناس بعد أبيه، ثم ولد له ابنه أردشير. وكان ملك إصطخر يومئذ رجل من البازرنجين، يقال لَهُ- فِيمَا حدثت عن هِشَام بن مُحَمَّد- جوزهر وقال غيره: كان يسمى جزهر، وكان له خصي يقال له تيرى، قد صيره ارجبذا بدارابجرد فلما أتى لأردشير سبع سنين، سار به أبوه إلى جزهر، وهو بالبيضاء، فوقفه بين يديه، وسأله أن يضمه إلى تيرى، ليكون ربيبا له، وأرجبذا من بعده في موضعه فأجابه إلى ذلك، وكتب بما سأله من ذلك سجلا، وصار به إلى تيرى، فقبله أحسن قبول، وتبناه فلما هلك تيرى تقلد أردشير الأمر، وحسن قيامه به وأعلمه قوم من المنجمين والعرافين صلاح مولده، وأنه يملك البلاد فذكر أن أردشير تواضع واستكان لذلك، ولم يزل يزداد في الخير كل يوم، وأنه رأى في نومه ملكا جلس إلى رأسه، فقال له: إن الله يملكه البلاد، فليأخذ لذلك أهبته، فلما استيقظ سر بذلك، وأحس من نفسه قوة وشدة بطش، لم يكن يعهد مثله. وكان أول ما فعل أنه سار إلى موضع من دارابجرد، يقال له جوبانان، فقتل ملكا كان بها يقال له فاسين ثم سار إلى موضع يقال له كونس، فقتل ملكا كان بها يقال له منوشهر، ثم إلى موضع يقال له لروير، فقتل ملكا كان بها يقال له دارا، وملك هذه المواضيع قوما من قبله، ثم كتب إلى أبيه بما كان منه، وأمره بالوثوب بجزهر وهو بالبيضاء، ففعل ذلك، وقتل جزهر وأخذ تاجه، وكتب إلى أردوان البهلوي ملك الجبال وما يتصل بها، يتضرع له ويسأله الإذن في تتويج سابور ابنه بتاج جزهر فكتب إليه أردوان كتابا عنيفا، وأعلمه أنه وابنه أردشير على الخلاف بما كان من

قتلهما من قتلا- فلم يحفل بابك بذلك، وهلك في تلك الأيام، فتتوج سابور ابن بابك بالتاج، وملك مكان أبيه، وكتب إلى أردشير أن يشخص إليه. فامتنع أردشير من ذلك، فغضب سابور من امتناعه، وجمع جموعا، وسار بهم نحوه ليحاربه، وخرج من إصطخر، فألفى بها عدة من إخوته، كان بعضهم أكبر سنا منه، فاجتمعوا وأحضروا التاج وسرير الملك، فسلم الجميع لأردشير، فتتوج بالتاج، وجلس على السرير، وافتتح أمره بقوة وجد، ورتب قوما مراتب، وصير رجلا يقال له أبرسام بن رحفر وزيرا، وأطلق يده وفوض إليه، وصير رجلا يقال له فاهر موبذان موبذ، وأحس من إخوته وقوم كانوا معه بالفتك به، فقتل جماعة منهم كثيرة ثم أتاه ان اهل دارابجرد قد فسدوا عليه، فعاد إليها حتى افتتحها بعد أن قتل جماعة من أهلها ثم سار إلى كرمان، وبها ملك يقال له: بلاش، فاقتتل وهو قتالا شديدا، وقاتل أردشير بنفسه حتى أسر بلاش، واستولى على المدينة، فملك أردشير على كرمان ابنا له يقال له أردشير أيضا. وكان في سواحل بحر فارس ملك يقال له أبتنبود، كان يعظم ويعبد، فسار إليه أردشير فقتله وقطعه بسيفه نصفين، وقتل من كان حوله، واستخرج من مطامير كانت لهم كنوزا مجموعة فيها، وكتب الى مهرك، وكان ملك ايراهسان من أردشير خرة، وإلى جماعة من أمثاله في طاعته، فلم يفعلوا، فسار إليهم، فقتل مهرك، ثم سار إلى جور، فأسسها، وأخذ في بناء الجوسق المعروف بالطربال، وبيت نار هناك. فبينا هو كذلك إذ ورد عليه رسول الأردوان بكتاب منه، فجمع أردشير الناس لذلك، وقرأ الكتاب بحضرتهم، فإذا فيه: إنك قد عدوت طورك، واجتلبت حتفك، أيها الكردي المربى في خيام الأكراد! من أذن لك في التاج الذي لبسته، والبلاد التي احتويت عليها وغلبت ملوكها وأهلها! ومن أمرك ببناء المدينة التي أسستها في صحراء- يريد جور- مع أنا إن خليناك

وبناءها فابتن في صحراء طولها عشرة فراسخ مدينة، وسمها رام أردشير وأعلمه أنه قد وجه اليه ملك الأهواز ليأتيه به في وثاق. فكتب إليه أردشير: إن الله حباني بالتاج الذي لبسته، وملكني البلاد التي افتتحتها، وأعانني على من قتلت من الجبابرة والملوك، وأما المدينة التي ابنيها واسميها رام اردشير، فأنا أرجو أن أمكن منك، فأبعث برأسك وكنوزك إلى بيت النار الذي أسسته في أردشير خرة. ثم شخص أردشير نحو إصطخر، وخلف أبرسام بأردشير خرة، فلم يلبث أردشير إلا قليلا حتى ورد عليه كتاب أبرسام بموافاة ملك الأهواز، وانصرافه منكوبا ثم سار إلى أصبهان فأسر شاذ سابور ملكها، وقتله، ثم عاد إلى فارس، وتوجه لمحاربة نيروفر صاحب الاهواز، وسار الى الرجان والى بنيان وطاشان من رامهرمز، ثم إلى سرق فلما سار إلى ما هنالك، ركب في رهط من أصحابه، حتى وقف على شاطئ دجيل، فظفر بالمدينة، وابتنى مدينة سوق الأهواز، وانصرف إلى فارس بالغنائم، ثم ارتحل من فارس راجعا إلى الأهواز على طريق جره وكازرون، ثم صار من الأهواز إلى ميسان، فقتل ملكا كان بها يقال له بندو، وبنى هنالك كرخ ميسان، ثم انصرف إلى فارس، وأرسل إلى أردوان يرتاد موضعا يقتتلان فيه، فأرسل إليه أردوان: إني أوافيك في صحراء تدعى هرمزجان، لانسلاخ مهر ماه فوافاه أردشير قبل الوقت، وتبوأ من الصحراء موضعا، وخندق على نفسه وجنده، واحتوى على عين كانت هناك، ووافاه أردوان فاصطف القوم للقتال، وقد تقدم سابور بن أردشير دافعا عنه، ونشب القتال بينهم، فقتل سابور دارا بنداذ، كاتب أردوان بيده، فانقض أردشير من موضعه إلى أردوان حتى قتله، وكثر القتل في أصحابه، وهرب من بقي على وجهه ويقال: إن أردشير نزل حتى توطأ رأس أردوان بقدمه وفي ذلك اليوم سمي أردشير شاهنشاه

ثم سار من موضعه إلى همذان فافتتحها، وإلى الجبل وأذربيجان وإرمينية والموصل عنوة، ثم سار من الموصل إلى سورستان، وهي السواد فاحتازها، وبنى على شاطئ دجلة قبالة مدينة طهسبون- وهي المدينة التي في شرقي المدائن- مدينة غربية وسماها به أردشير، وكورها وضم إليها بهرسير، والرومقان، ونهر درقيط، وكوثى ونهر جوبر، واستعمل عليها عمالا، ثم توجه من السواد إلى إصطخر، وسار منها إلى سجستان، ثم جرجان، ثم إلى أبرشهر، ومرو، وبلخ، وخوارزم، إلى تخوم بلاد خراسان ثم رجع إلى مرو، وقتل جماعة وبعث رءوسهم إلى بيت نار أناهيذ، ثم انصرف من مرو إلى فارس ونزل جور، فأتته رسل ملك كوشان، وملك طوران، وملك مكران بالطاعة ثم توجه أردشير من جور إلى البحرين، فحاصر سنطرق ملكها، واضطره الجهد إلى أن رمى بنفسه من سور الحصن، فهلك ثم انصرف إلى المدائن، فأقام بها وتوج سابور ابنه بتاجه في حياته. ويقال: انه كانت بقرية يقال لها ألار، من رستاق كوجران من رساتيق سيف أردشير خرة ملكة تعظم وتعبد، فاجتمعت لها أموال وكنوز ومقاتلة فحارب أردشير سدنتها وقتلها، وغنم أموالا وكنوزا عظاما كانت لها: وإنه كان بنى ثماني مدن، منها بفارس مدينة أردشير خرة، وهي جور، ومدينة رام أردشير، ومدينة ريو أردشير، وبالأهواز هرمز أردشير، وهي سوق الأهواز، وبالسواد به أردشير، وهي غربي المدائن، وإستاباذ أردشير، وهي كرخ ميسان، وبالبحرين فنياذ أردشير، وهي مدينة الخط، وبالموصل بوذ أردشير، وهي حزه

وذكر أن أردشير عند ظهوره كتب إلى ملوك الطوائف كتبا بليغة، احتج عليهم فيها، ودعاهم إلى طاعته، فلما كان في آخر أمره رسم لمن بعده عهده، ولم يزل محمودا مظفرا منصورا، لا يفل له جمع، ولا ترد له راية، وقهر الملوك حول مملكته واذلهم، وأثخن في الأرض، وكور الكور، ومدن المدن، ورتب المراتب، واستكثر من العمارة وكان ملكه من وقت قتله أردوان إلى أن هلك أربع عشرة سنة وقال بعضهم: كان ملكه أربع عشرة سنة وعشرة أشهر. وحدثت عن هشام بن مُحَمَّد، قَالَ: قدم أردشير في أهل فارس يريد الغلبة على الملك بالعراق، فوافق بابا ملكا كان على الأرمانيين، ووافق أردوان ملكا على الأردوانيين. قَالَ هشام: الأرمانيون أنباط السواد، والأردوانيون أنباط الشام. قَالَ: وكل واحد منهما يقاتل صاحبه على الملك، فاجتمعا على قتال أردشير فقاتلاه متساندين، يقاتله هذا يوما، وهذا يوما، فإذا كان يوم بابا لم يقم له أردشير، وإذا كان يوم أردوان لم يقم لأردشير، فلما رأى ذلك أردشير صالح بابا على أن يكف عنه ويدعه وأردوان، ويخلي أردشير بين بابا وبين بلاده وما فيها، وتفرغ أردشير لحرب أردوان، فلم يلبث أن قتله واستولى على ما كان له، وسمع له، وأطاع بابا، فضبط أردشير ملك العراق ودانت له ملوكها، وقهر من كان يناوئه من أهلها، حتى حملهم على ما أراد مما خالفهم ووافقه. ولما استولى أردشير على الملك بالعراق كره كثير من تنوخ أن يقيموا في مملكته، وأن يدينوا له، فخرج من كان منهم من قبائل قضاعة الذين كانوا أقبلوا مع مالك وعمرو ابني فهم، ومالك بن زهير وغيرهم، فلحقوا بالشام إلى من هنالك من قضاعة. وكان ناس من العرب يحدثون في قومهم الأحداث، أو تضيق بهم

المعيشة، فيخرجون إلى ريف العراق وينزلون الحيرة على ثلاثة أثلاث: ثلث تنوخ، وهو من كان يسكن المظال وبيوت الشعر والوبر في غربي الفرات، فيما بين الحيرة والأنبار وما فوقها والثلث الثاني العباد، وهم الذين كانوا سكنوا الحيرة وابتنوا بها والثلث الثالث الأحلاف، وهم الذين لحقوا بأهل الحيرة، ونزلوا فيهم، ممن لم يكن من تنوخ الوبر، ولا من العباد الذين دانوا لأردشير. وكانت الحيرة والأنبار بنيتا جميعا في زمن بختنصر فخربت الحيرة لتحول أهلها عنها عند هلاك بختنصر إلى الأنبار، وعمرت الأنبار خمسمائة سنة وخمسين سنة، إلى أن عمرت الحيرة في زمن عمرو بن عدي، باتخاذه إياها منزلا، فعمرت الحيرة خمسمائة سنة وبضعا وثلاثين سنة إلى أن وضعت الكوفة، ونزلها الإسلام، فكان جميع ملك عمرو بن عدي مائة سنة وثماني عشرة سنة، من ذلك في زمن أردوان وملوك الطوائف خمس وتسعون سنة، وفي زمن ملوك فارس ثلاث وعشرون سنة، من ذلك في زمن أردشير بن بابك أربع عشرة سنة وعشرة أشهر، وفي زمن سابور بن أردشير ثماني سنين وشهران

ذكر الخبر عن القائم كان بملك فارس بعد أردشير بن بابك

ذكر الخبر عن القائم كان بملك فارس بعد أردشير بن بابك ولما هلك أردشير بن بابك، قام بملك فارس من بعده ابنه سابور. وكان أردشير بن بابك لما أفضى إليه الملك أسرف في قتل الأشكانية، الذين منهم كان ملوك الطوائف، حتى أفناهم بسبب ألية كان ساسان بن أردشير بن بهمن بن إسفنديار الأكبر، جد أردشير بن بابك، كان آلاها، أنه إن ملك يوما من الدهر لم يستبق من نسل أشك بن خرة أحدا، وأوجب ذلك على عقبه، وأوصاهم بألا يبقوا منهم أحدا إن هم ملكوا، أو ملك منهم أحد يوما فكان أول من ملك من ولد ولده ونسله أردشير بن بابك، فقتلهم جميعا، نساءهم ورجالهم، فلم يستبق منهم أحدا لعزمة جده ساسان. فذكر أنه لم يبق منهم أحد، غير أن جارية كان وجدها أردشير في دار المملكة، فأعجبه جمالها وحسنها، فسألها- وكانت ابنة الملك المقتول- عن نسبها فذكرت أنها كانت خادما لبعض نساء الملك، فسألها: أبكر أنت أم ثيب؟ فأخبرته أنها بكر، فواقعها واتخذها لنفسه، فعلقت منه، فلما أمنته على نفسها لاستمكانها منه بالحبل، أخبرته أنها من نسل أشك، فنفر منها ودعا هرجبذا أبرسام- وكان شيخا مسنا- فأخبره أنها أقرت أنها من نسل أشك، وقال: نحن أولى باستتمام الوفاء بنذر أبينا ساسان، وإن كان موقعها من قلبي على ما قد علمت، فانطلق بها فاقتلها فمضى الشيخ ليقتلها، فأخبرته أنها حبلى، فأتى بها القوابل، فشهدن بحبلها، فأودعها سربا في الأرض، ثم قطع مذاكيره فوضعها في حق، ثم ختم عليه، ورجع إلى الملك، فقال له الملك: ما فعلت؟ قَالَ: قد استودعتها بطن الأرض، ودفع الحق إليه، وسأله أن يختم عليه بخاتمه، ويودعه بعض خزائنه ففعل، فأقامت الجارية عند الشيخ، حتى وضعت غلاما، فكره الشيخ أن يسمي ابن الملك دونه،

وكره أن يعلمه به صبيا حتى يدرك، ويستكمل الأدب وقد كان الشيخ أخذ قياس الصبي ساعة ولد، وأقام له الطالع، فعلم عند ذلك أن سيملك، فسماه اسما جامعا يكون صفة واسما ويكون فيه بالخيار إذا علم به، فسماه شاه بور، وترجمتها بالعربية: ابن الملك، وهو أول من سمي هذا الاسم، وهو سابور الجنود بالعربية، بن أردشير وقال بعضهم: بل سماه اشه بور، ترجمتها بالعربية: ولد أشك، الذي كانت أم الغلام من نسله. فغبر أردشير دهرا لا يولد له، فدخل عليه الشيخ الأمين، الذي عنده الصبي، فوجده محزونا، فقال: ما يحزنك أيها الملك؟ فقال له أردشير: وكيف لا أحزن، وقد ضربت بسيفي ما بين المشرق والمغرب حتى ظفرت بحاجتي، وصفا لي الملك ملك آبائي، ثم أهلك لا يعقبني فيه عقب، ولا يكون لي فيه بقية! فقال له الشيخ: سرك الله أيها الملك وعمرك! لك عندي ولد طيب نفيس، فادع بالحق الذي استودعتك، وختمته بخاتمك أرك برهان ذلك. فدعا أردشير بالحق، فنظر إلى نقش خاتمه، ثم فضه، وفتح الحق، فوجد فيه مذاكير الشيخ، وكتابا فيه: إنا لما اختبرنا ابنة أشك التي علقت من ملك الملوك أردشير حين أمرنا بقتلها حين حملها، لم نستحل إتواء زرع الملك الطيب، فأودعناها بطن الأرض كما أمرنا ملكنا، وتبرأنا إليه من أنفسنا لئلا يجد عاضه إلى عضهها سبيلا، وقمنا بتقوية الحق المنزوع حتى لحق بأهله، وذلك في ساعة كذا من عام كذا فأمره أردشير عند ذلك أن يهيئه في مائة غلام وقال بعضهم: في ألف غلام من أترابه وأشباهه في الهيئة والقامة، ثم يدخلهم عليه جميعا لا يفرق بينهم في زي ولا قامة ولا أدب، ففعل ذلك الشيخ، فلما نظر إليهم أردشير قبلت نفسه ابنه من بينهم، واستحلاه من غير أن يكون أشير له إليه أو لحن به ثم أمر بهم جميعا

فأخرجوا إلى حجرة الإيوان، فأعطوا صوالجة، فلعبوا بالكرة وهو في الإيوان على سريره، فدخلت الكرة في الإيوان الذي هو فيه، فكاع الغلمان جميعا أن يدخلوا الإيوان، وأقدم سابور من بينهم فدخل فاستدل أردشير بدخوله عليه، وإقدامه وجرأته مع ما كان من قبول نفسه له أول مرة حين رآه، ورقته عليه دون أصحابه أنه ابنه فقال له أردشير بالفارسية: ما اسمك؟ فقال الغلام: شاه بور، فقال: أردشير: شاه بور! فلما ثبت عنده أنه ابنه شهر أمره، وعقد له التاج من بعده. وكان سابور قد ابتلى منه أهل فارس- قبل أن يفضي إليه الملك في حياة أبيه- عقلا وفضلا وعلما، مع شدة بطش، وبلاغة منطق، ورأفة بالرعية ورقة فلما عقد التاج على رأسه، اجتمع إليه العظماء، فدعوا له بطول البقاء، وأطنبوا في ذكر والده وذكر فضائله، فأعلمهم أنهم لم يكونوا يستدعون إحسانه بشيء يعدل عنده ذكرهم والده، ووعدهم خيرا. ثم أمر بما كان في الخزائن من الأموال، فوسع بها على الناس، وقسمها فيمن رآه لها موضعا، من الوجوه والجنود وأهل الحاجة، وكتب إلى عماله بالكور والنواحي أن يفعلوا مثل ذلك في الأموال التي في أيديهم، فوصل من فضله وإحسانه إلى القريب والبعيد، والشريف والوضيع، والخاص والعام ما عمهم ورفغت معايشهم ثم تخير لهم العمال، وأشرف عليهم وعلى الرعية إشرافا شديدا، فبان فضل سيرته، وبعد صوته، وفاق جميع الملوك. وقيل: إنه سار إلى مدينة نصيبين، لإحدى عشرة سنة مضت من ملكه، وفيها جنود من جنود الروم، فحاصرهم حينا، ثم أتاه عن ناحية من خراسان ما احتاج إلى مشاهدته، فشخص إليها حتى أحكم أمرها، ثم رجع إلى نصيبين وزعموا أن سور المدينة تصدع وانفرجت له فرجة دخل منها،

فقتل المقاتلة وسبى وأخذ أموالا عظيمة كانت لقيصر هنالك، ثم تجاوزها إلى الشام وبلاد الروم، فافتتح من مدائنها مدنا كثيرة. وقيل: إن فيما افتتح قالوقية وقذوقية، وإنه حاصر ملكا كان بالروم، يقال له الريانوس بمدينة أنطاكية، فأسره وحمله وجماعة كثيرة معه، وأسكنهم جندي سابور. وذكر أنه أخذ الريانوس ببناء شاذروان تستر، على أن يجعل عرضه ألف ذراع، فبناه الرومي بقوم أشخصهم إليه من الروم، وحكم سابور في فكاكه بعد فراغه من الشاذروان، فقيل إنه أخذ منه أموالا عظيمة، وأطلقه بعد أن جدع أنفه وقيل إنه قتله. وكان بحيال تكريت بين دجلة والفرات مدينة يقال لها الحضر، وكان بها رجل من الجرامقة يقال له الساطرون، وهو الذى يقول فيه ابو دواد الإيادي: وأرى الموت قد تدلى من الحضر ... على رب أهله الساطرون والعرب تسميه الضيزن وقيل: إن الضيزن من أهل باجرمى. وزعم هشام بن الكلبي أنه من العرب من قضاعه وانه الضيزن بن معاويه ابن العبيد بن الأجرام بن عمرو بن النخع بن سليح بن حلوان بن عمران ابن الحاف بن قضاعة، وأن أمه من تزيد بن حلوان اسمها جيهلة، وأنه إنما كان يعرف بأمه وزعم أنه كان ملك أرض الجزيرة، وكان معه من بني عبيد بن الأجرام وقبائل قضاعة ما لا يحصى، وأن ملكه كان قد بلغ الشام، وأنه تطرف من بعض السواد في غيبة كان غابها إلى ناحية خراسان سابور بن أردشير، فلما قدم من غيبته أخبر بما كان منه، فقال في ذلك من فعل الضيزن، عمرو بن إلة بن الجدي بن الدهاء بن جشم بن حلوان

ابن عمران بن الحاف بن قضاعة: لقيناهم بجمع من علاف ... وبالخيل الصلادمة الذكور فلاقت فارس منا نكالا ... وقتلنا هرابذ شهر زور دلفنا للأعاجم من بعيد ... بجمع كالجزيرة في السعير فلما أخبر سابور بما كان منه شخص إليه حتى أناخ على حصنه، وتحصن الضيزن في الحصن، فزعم ابن الكلبي أنه أقام سابور على حصنه أربع سنين، لا يقدر على هدمه ولا على الوصول إلى الضيزن. وأما الأعشى ميمون بن قيس فإنه ذكر في شعره انه أقام عليه حولين، فقال: ألم تر للحضر إذ أهله ... بنعمى وهل خالد من نعم! أقام به شاهبور الجنود ... حولين تضرب فيه القدم فما زاده ربه قوة ... ومثل مجاوره لم يقم فلما رأى ربه فعله ... أتاه طروقا فلم ينتقم وكان دعا قومه دعوة ... هلموا إلى أمركم قد صرم فموتوا كراما بأسيافكم ... أرى الموت يجشمه من جشم ثم إن ابنة للضيزن يقال لها النضيرة عركت فأخرجت إلى ربض

المدينة، وكانت من أجمل نساء زمانها- وكذلك كان يفعل بالنساء إذا هن عركن- وكان سابور من أجمل أهل زمانه- فيما قيل- فرأى كل واحد منهما صاحبه، فعشقته وعشقها، فأرسلت إليه: ما تجعل لي إن دللتك على ما تهدم به سور هذه المدينة وتقتل أبي؟ قَالَ: حكمك وأرفعك على نسائي، وأخصك بنفسي دونهن قالت: عليك بحمامة ورقاء مطوقة، فاكتب في رجلها بحيض جارية بكر زرقاء، ثم أرسلها، فإنها تقع على حائط المدينة، فتتداعى المدينة وكان ذلك طلسم المدينة لا يهدمها إلا هذا، ففعل وتأهب لهم، وقالت: أنا أسقي الحرس الخمر، فإذا صرعوا فاقتلهم، وادخل المدينة ففعل وتداعت المدينة، ففتحها عنوة، وقتل الضيزن يومئذ، وأبيدت أفناء قضاعة الذين كانوا مع الضيزن، فلم يبق منهم باق يعرف إلى اليوم، وأصيبت قبائل من بني حلوان، فانقرضوا ودرجوا، فقال عمرو بن إلة- وكان مع الضيزن: ألم يحزنك والأنباء تنمي ... بما لاقت سراة بني عبيد! ومصرع ضيزن وبني أبيه ... وأحلاس الكتائب من تزيد! أتاهم بالفيول مجللات ... وبالأبطال سابور الجنود فهدم من أواسي الحصن صخرا ... كأن ثفاله زبر الحديد وأخرب سابور المدينة، واحتمل النضيرة ابنة الضيزن، فأعرس بها بعين التمر، فذكر أنها لم تزل ليلتها تضور من خشونة فرشها، وهي من

حرير محشوة بالقز فالتمس ما كان يؤذيها، فإذا ورقة آس ملتزقة بعكنة من عكنها قد أثرت فيها قَالَ: وكان ينظر إلى مخها من لين بشرتها- فقال لها سابور: ويحك بأي شيء كان يغذوك أبوك؟ قالت: بالزبد والمخ وشهد الأبكار من النحل وصفو الخمر قَالَ: وأبيك لأنا أحدث عهدا بك، وآثر لك من أبيك الذي غذاك بما تذكرين فأمر رجلا فركب فرسا جموحا، ثم عصب غدائرها بذنبه، ثم استركضها فقطعها قطعا، فذلك قول الشاعر: اقفر الحصن من نضيره فالمر ... باع منها فجانب الثرثار وقد أكثر الشعراء ذكر ضيزن هذا في أشعارهم، وإياه عنى عدي بن زيد بقوله: وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة ... تحبى اليه والخابور. شاده مرمرا وجلله كلسا ... فللطير في ذراه وكور لم يهبه ريب المنون فباد ... الملك عنه فبابه مهجور ويقال إن سابور بنى بميسان شاذ سابور، التي تسمى بالنبطية ريما. وفي أيام سابور ظهر ماني الزنديق، ويقال: إن سابور لما سار إلى موضع جندي سابور ليؤسسها صادف عندها شيخا يقال له بيل، فسأله: هل يجوز أن يتخذ في ذلك الموضع مدينة؟ فقال له بيل: إن ألهمت الكتابة مع ما قد بلغت من السن جاز أن يبنى في هذا الموضع مدينة فقال له سابور: بل ليكن الأمران اللذان أنكرت كونهما فرسم المدينة وأسلم بيل إلى معلم، وفرض عليه تعليمه الكتاب والحساب في سنة، فخلا به المعلم وبدأ بحلق راسه

ذكر ملك هرمز بن سابور

ولحيته لئلا يتشاغل بهما، وجاده التعليم ثم أتى به سابور وقد نفذ ومهر، فقلده إحصاء النفقة على المدينة وإثبات حسابها، وكور الناحية وسماها بهأزنديو سابور، وتأويل ذلك: خير من أنطاكية، ومدينة سابور- وهي التي تسمى جندي سابور، وأهل الأهواز يسمونها بيل باسم القيم كان على بنائها ولما حضر سابور الموت ملك ابنه هرمز وعهد إليه عهدا أمره بالعمل به. واختلف في سني ملكه، فقال: بعضهم كان ذلك ثلاثين سنة وخمسة عشر يوما وقال آخرون: كان ملكه إحدى وثلاثين سنة وستة أشهر وتسعة عشر يوما ذكر ملك هرمز بن سابور ثم قام بالملك بعد سابور بن أردشير بن بابك ابنه هرمز وكان يلقب بالجريء، وكان يشبه في جسمه وخلقه وصورته بأردشير، غير لاحق به في رأيه وتدبيره، إلا أنه كان من البطش والجرأة وعظم الخلق على أمر عظيم. وكانت أمه- فيما قيل- من بنات مهرك، الملك الذي قتله أردشير بأردشير خرة وذلك أن المنجمين كانوا أخبروا أردشير أنه يكون من نسله من يملك فتتبع أردشير نسله فقتلهم، وأفلتت أم هرمز وكانت ذات عقل وجمال وكمال وشدة خلق، فوقعت إلى البادية، وأوت إلى بعض الرعاء. وإن سابور خرج يوما متصيدا، فامعن في طلب الصيد، واشتد به العطش، فارتفعت له الاخبيه التي كانت أم هرمز أوت إليها، فقصدها فوجد الرعاء غيبا، فطلب الماء، فناولته المرأة، فعاين منها جمالا فائقا، وقواما عجيبا، ووجها عتيقا ثم لم يلبث أن حضر الرعاء، فسألهم سابور عنها، فنسبها بعضهم إليه، فسأله أن يزوجها منه، فساعفه، فصار بها إلى منازله، وأمر بها فنظفت وكسيت وحليت، وأرادها على نفسها، فكان إذا خلا بها والتمس منها ما يلتمس الرجل من المرأة امتنعت وقهرته عند المجاذبة قهرا ينكره. وتعجب من قوتها، فلما تطاول ذلك من أمرها أنكره، ففحص عن امرها

فأخبرته أنها ابنة مهرك، وأنها إنما فعلت ما فعلت إبقاء عليه من أردشير، فعاهدها على ستر أمرها، ووطئها فولدت هرمز، فستر أمره حتى أتت له سنون. وإن أردشير ركب يوما، ثم انكفأ إلى منزل سابور لشيء أراد ذكره له، فدخل منزله مفاجأة، فلما استقر به القرار خرج هرمز، وقد ترعرع وبيده صولجان يلعب به وهو يصيح في اثر الكرة، فلما وقعت عين أردشير عليه أنكره، ووقف على المشابه التي فيه منهم، لأن الكية التي في آل أردشير كانت لا تخفى، ولا يذهب أمرهم على أحد، لعلامات كانت فيهم، من حسن الوجوه، وعبالة الخلق، وأمور كانوا بها مخصوصين في أجسامهم فاستدناه أردشير، وسأل سابور عنه، فخر مكفرا على سبيل الإقرار بالخطأ مما كان منه، وأخبر أباه حقيقة الخبر، فسر به، وأعلمه أنه قد تحقق الذي ذكر المنجمون في ولد مهرك، ومن يملك منهم، وأنهم إنما ذهبوا فيه إلى هرمز، إذ كان من نسل مهرك، وأن ذلك قد سلى ما كان في نفسه وأذهبه. فلما هلك أردشير وأفضى الأمر إلى سابور ولى هرمز خراسان، وسيره إليها، فاستقل بالعمل، وقمع من كان يليه من ملوك الأمم، وأظهر تجبرا شديدا، فوشى به الوشاة إلى سابور، ووهموه أنه إن دعاه لم يجب، وأنه على أن يبتزه الملك، ونمت الأخبار بذلك إلى هرمز، فقيل: إنه خلا بنفسه، فقطع يده وحسمها، وألقى عليها ما يحفظها، وأدرجها في نفيس من الثياب، وصيرها في سفط، وبعث بها إلى سابور، وكتب إليه بما بلغه، وأنه إنما فعل ما فعل، إزالة للتهمة عنه، ولأن في رسمهم ألا يملكوا ذا عاهة فلما وصل الكتاب بما معه إلى سابور، تقطع أسفا، وكتب إليه بما ناله من الغم بما فعل، واعتذر، وأعلمه أنه لو قطع بدنه عضوا عضوا، لم يؤثر عليه أحدا بالملك. فملكه

ذكر ملك بهرام بن هرمز

وقيل: إنه لما وضع التاج على رأسه، دخل عليه العظماء، فدعوا له فأحسن لهم الجواب، وعرفوا منه صدق الحديث، وأحسن فيهم السيرة، وعدل في رعيته، وسلك سبيل آبائه، وكور كورة رام هرمز وكان ملكه سنة وعشره ايام . ذكر ملك بهرام بن هرمز ثم قام بالملك بعده ابنه بهرام وهو بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير ابن بابك. وكان من عمال سابور بن أردشير، وهرمز بن سابور، وبهرام بن هرمز بن سابور- بعد مهلك عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة على فرج العرب من ربيعة ومضر وسائر من ببادية العراق والحجاز والجزيرة يومئذ- ابن لعمرو بن عدي، يقال له امرؤ القيس البدء، وهو أول من تنصر من ملوك آل نصر بن ربيعة وعمال ملوك الفرس، وعاش- فيما ذكر هشام بن مُحَمَّد- مملكا في عمله مائة سنة وأربع عشرة سنة، من ذلك في زمن سابور بن أردشير ثلاثا وعشرين سنة وشهرا، وفي زمن هرمز بن سابور سنة وعشرة ايام، وفي زمن بهرام بن هرمز ابن سابور ثلاث سنين وثلاثة أشهر وثلاثة أيام، وفي زمن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير ثماني عشرة سنة. وكان بهرام بن هرمز- فيما ذكر- رجلا ذا حلم وتؤدة، فاستبشر الناس بولايته، وأحسن السيرة فيهم، واتبع في ملكه في سياسة الناس آثار آبائه، وكان ماني الزنديق- فيما ذكر- يدعوه إلى دينه، فاستبرى ما عنده، فوجده داعية للشيطان، فأمر بقتله وسلخ جلده وحشوه تبنا وتعليقه على باب من أبواب مدينة جندي سابور، يدعى باب الماني، وقتل أصحابه ومن دخل في ملته. وكان ملكه- فيما قبل- ثلاث سنين وثلاثة اشهر وثلاثة ايام

ذكر ملك بهرام بن بهرام بن هرمز

ذكر ملك بهرام بن بهرام بن هرمز ثم قام بالملك بعده ابنه بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير. وكان ذا علم- فيما قيل- بالأمور، فلما عقد التاج على رأسه دعا له العظماء بمثل ما كانوا يدعون لآبائه، فرد عليهم مردا حسنا، وأحسن فيهم السيرة، وقال: إن ساعدنا الدهر نقبل ذلك بالشكر، وإن يكن غير ذلك نرض بالقسم. واختلف في سني ملكه، فقال بعضهم: كان ملكه ثماني عشرة سنة. وقال بعضهم: كان سبع عشرة سنة . ذكر ملك شاهنشاه بن بهرام ثم ملك بهرام الملقب بشاهنشاه بن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير، فلما عقد التاج على رأسه اجتمع إليه العظماء، فدعوا له ببركة الولاية وطول العمر، فرد عليهم أحسن الرد، وكان قبل أن يفضي إليه الملك مملكا على سجستان. وكان ملكه اربع سنين . ذكر ملك نرسى بن بهرام ثم قام بالملك بعده نرسى بن بهرام، وهو أخو بهرام الثالث، فلما عقد التاج على رأسه دخلت عليه الأشراف والعظماء، فدعوا له فوعدهم خيرا، وأمرهم بمكانفته على أمره، وسار فيهم بأعدل السيرة، وقال يوم ملك: إنا لن نضيع شكر الله على ما أنعم به علينا. وكان ملكه تسع سنين . ذكر ملك هرمز بن نرسى ثم ملك هرمز بن نرسي بن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير. وكان الناس قد وحلوا منه، وأحسوا بالفظاظة والشدة، فأعلمهم أنه قد

ذكر ملك سابور ذي الاكتاف

علم ما كانوا يخافونه من شدة ولايته، وأعلمهم أنه قد أبدل ما كان في خلقه من الغلظة والفظاظة رقة ورأفة، وساسهم بأرفق السياسة، وسار فيهم بأعدل السيرة، وكان حريصا على انتعاش الضعفاء وعمارة البلاد والعدل على الرعية. ثم هلك ولا ولد له، فشق ذلك على الناس، فسألوا بميلهم إليه عن نسائه، فذكر لهم أن بعضهن حبلى وقد قَالَ بعضهم: إن هرمز كان أوصى بالملك لذلك الحمل في بطن أمه، وأن تلك المرأة ولدت سابور ذا الأكتاف. وكان ملك هرمز في قول بعضهم ست سنين وخمسة أشهر، وفي قول آخرين سبع سنين وخمسة اشهر . ذكر ملك سابور ذي الاكتاف ثم ولد سابور ذو الأكتاف بن هرمز بن نرسي بن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير، مملكا بوصية أبيه هرمز له بالملك، فاستبشر الناس بولادته، وبثوا خبره في الآفاق، وكتبوا الكتب، ووجهوا به البرد إلى الآفاق والأطراف، وتقلد الوزراء والكتاب الأعمال التي كانوا يعملونها في ملك أبيه، ولم يزالوا على ذلك، حتى فشا خبرهم، وشاع في أطراف مملكة الفرس أنه كان لا ملك لهم، وأن أهلها إنما يتلومون صبيا في المهد، لا يدرون ما هو كائن من أمره، فطمعت في مملكتهم الترك والروم. وكانت بلاد العرب أدنى البلاد إلى فارس، وكانوا من أحوج الأمم إلى تناول شيء من معايشهم وبلادهم، لسوء حالهم وشظف عيشهم، فسار جمع عظيم منهم في البحر من ناحية بلاد عبد القيس والبحرين وكاظمه، حتى أناخوا على ابرشهر وسواحل أردشير خرة وأسياف فارس، وغلبوا أهلها على مواشيهم وحروثهم ومعايشهم، وأكثروا الفساد في تلك البلاد، فمكثوا على ذلك من أمرهم حينا، لا يغزوهم أحد من الفرس، لعقدهم تاج الملك على طفل من الأطفال، وقلة هيبة الناس له، حتى تحرك سابور وترعرع، فلما ترعرع ذكر أن أول ما عرف من تدبيره وحسن فهمه، أنه استيقظ ذات

ليلة وهو في قصر المملكة بطيسبون، من ضوضاء الناس بسحر، فسأل عن ذلك، فأخبر أن ذلك ضجة الناس عند ازدحامهم على جسر دجلة مقبلين ومدبرين، فأمر باتخاذ جسر آخر، حتى يكون أحدهما معبرا للمقبلين، والآخر معبرا للمدبرين، فلا يزدحم الناس في المرور عليهما. فاستبشر الناس بما رأوا من فطنته لما فطن من ذلك على صغر سنه وتقدم فيما أمر به من ذلك، فذكر أن الشمس لم تغرب من يومهم ذلك حتى عقد جسر بالقرب من الجسر الذي كان فاستراح الناس من المخاطرة بأنفسهم في الجواز على الجسر، وجعل الغلام يتزيد في اليوم ما يتزيده غيره في الحين الطويل. وجعل الكتاب والوزراء يعرضون عليه الأمر بعد الأمر، فكان فيما عرض عليه أمر الجنود التي في الثغور، ومن كان منهم بإزاء الأعداء وإن الأخبار وردت بان اكثرهم قد اخل، وعظموا عليه الأمر في ذلك، فقال لهم سابور: لا يكبرن هذا عندكم، فإن الحيلة فيه يسيرة، وأمر بالكتاب إلى أولئك الجنود جميعا، بأنه انتهى إليه طول مكثهم في النواحي التي هم بها، وعظم غنائهم عن أوليائهم وإخوانهم، فمن أحب أن ينصرف إلى أهله فلينصرف مأذونا له في ذلك، ومن أحب أن يستكمل الفضل بالصبر في موضعه عرف ذلك له وتقدم إلى من اختار الانصراف في لزوم أهله وبلاده إلى وقت الحاجة إليه. فلما سمع الوزراء ذلك من قوله استحسنوه، وقالوا: لو كان هذا قد أطال تجربة الأمور، وسياسة الجنود ما زاد رأيه وصحة منطقه على ما سمعنا به ثم تتابعت أخباره إلى البلدان والثغور، بما قوم أصحابه، وقمع أعداءه. حتى إذا تمت له ست عشرة سنة وأطاق حمل السلاح وركوب الخيل، واشتد عظمه، جمع إليه رؤساء أصحابه وأجناده، ثم قام فيهم خطيبا، ثم ذكر ما أنعم الله به عليه وعليهم بآبائه، وما أقاموا من أدبهم ونفوا من أعدائهم، وما اختل من أمورهم، في الأيام التي مضت من أيام صباه، وأعلمهم أنه

يبتدئ العمل في الذب عن البيضة، وأنه يقدر الشخوص إلى بعض الأعداء لمحاربته، وأن عدة من يشخص معه من المقاتلة ألف رجل فنهض إليه القوم داعين متشكرين، وسألوه أن يقيم بموضعه، ويوجه القواد والجنود ليكفوه ما قدر من الشخوص فيه، فأبى أن يجيبهم إلى المقام، فسألوه الازدياد على العدة التي ذكرها فأبى ثم انتخب ألف فارس من صناديد جنده وأبطالهم، وتقدم إليهم في المضي لأمره، ونهاهم عن الإبقاء على من لقوا من العرب، والعرجة على إصابة مال ثم سار بهم فأوقع بمن انتجع بلاد فارس من العرب وهم غارون، وقتل منهم أبرح القتل، وأسر أعنف الأسر، وهرب بقيتهم ثم قطع البحر في أصحابة، فورد الخط، واستقرى بلاد البحرين، يقتل أهلها ولا يقبل فداء، ولا يعرج على غنيمة ثم مضى على وجهه، فورد هجر، وبها ناس من اعراب تميم وبكر بن وائل وعبد القيس، فأفشي فيهم القتل، وسفك فيهم من الدماء سفكا سالت كسيل المطر، حتى كان الهارب منهم يرى أنه لن ينجيه منه غار في جبل، ولا جزيرة في بحر، ثم عطف إلى بلاد عبد القيس، فأباد أهلها إلا من هرب منهم، فلحق بالرمال، ثم أتى اليمامة، فقتل بها مثل تلك المقتلة، ولم يمر بماء من مياه العرب الا عوره، ولا جب من جبابهم إلا طمه ثم أتي قرب المدينة، فقتل من وجد هنالك من العرب وأسر، ثم عطف نحو بلاد بكر وتغلب فيما بين مملكة فارس ومناظر الروم بأرض الشام، فقتل من وجد بها من العرب، وسبى وطم مياههم وإنه أسكن من من بني تغلب من البحرين دارين- واسمهما هيج- والخط، ومن كان من عبد القيس وطوائف من بني تميم هجر، ومن كان من بكر بن وائل كرمان، وهم الذين يدعون بكر أبان، ومن كان منهم من بني حنظلة بالرملية من بلاد الأهواز وإنه أمر فبنيت بأرض السواد مدينة وسماها، بزرج سابور- وهي الأنبار- وبأرض الأهواز مدينتان: إحداهما ايران خره سابور، وتأويلها سابور وبلاده، وتسمى بالسريانية الكرخ، والأخرى السوس، وهي مدينة بناها إلى جانب الحصن الذي في جوفه تابوت فيه جثة دانيال النبي ع وإنه غزا أرض الروم فسبي منها سبيا كثيرا،

فاسكن مدينه ايران خره سابور، وسمتها العرب السوس بعد تخفيفها في التسمية وامر فبنيت بباجرمى مدينه سماها خنى سابور وكور كوره، وبأرض خراسان مدينه، وسماها نيسابور وكور كوره. وإن سابور كان هادن قسطنطين ملك الروم، وهو الذي بني مدينة قسطنطينية، وكان أول من تنصر من ملوك الروم، وهلك قسطنطين، وفرق ملكه بين ثلاثة بنين، كانوا له، فهلك بنوه الثلاثة، فملكت الروم عليهم رجلا من أهل بيت قسطنطين يقال له لليانوس، وكان يدين بملة الروم التي كانت قبل النصرانية، ويسر ذلك ويظهر النصرانية قبل أن يملك، حتى إذا ملك أظهر ملة الروم، وأعادها كهيئتها، وأمرهم بإحيائها، وأمر بهدم البيع وقتل الأساقفة وأحبار النصارى وإنه جمع جموعا من الروم والخزر، ومن كان في مملكته من العرب، ليقاتل بهم سابور وجنود فارس. وانتهزت العرب بذلك السبب الفرصة من الانتقام من سابور، وما كان من قتله العرب، واجتمع في عسكر لليانوس من العرب مائة ألف وسبعون الف مقاتل، فوجههم مع رجل من بطارقة الروم، بعثه على مقدمته يسمى يوسانوس وإن لليانوس سار حتى وقع ببلاد فارس، وانتهى إلى سابور كثرة من معه من جنود الروم والعرب والخزر، فهاله ذلك، ووجه عيونا تأتيه بخبرهم ومبلغ عددهم وحالهم في شجاعتهم وعيشهم فاختلفت أقاويل أولئك العيون فيما أتوه به من الأخبار عن لليانوس وجنده، فتنكر سابور، وسار في أناس من ثقاته ليعاين عسكرهم، فلما اقترب من عسكر يوسانوس صاحب مقدمة لليانوس، وجه رهطا ممن كان معه إلى عسكر يوسانوس ليتحسسوا الأخبار، ويأتوه بها على حقائقها، فنذرت الروم بهم، فأخذوهم ودفعوهم إلى يوسانوس، فلم يقر أحد منهم بالأمر الذي توجهوا له إلى عسكره، ما خلا رجلا منهم أخبره بالقصة على وجهها، وبمكان سابور حيث كان، وسأله أن يوجه معه جندا، فيدفع إليهم سابور فأرسل يوسانوس حيث سمع هذه المقالة إلى سابور رجلا من بطانته، يعلمه ما لقي من أمره، وينذره، فارتحل

سابور من الموضع الذي كان فيه إلى عسكره وإن من كان في عسكر لليانوس من العرب سألوه أن يأذن لهم في محاربة سابور، فأجابهم إلى ما سألوه، فزحفوا إلى سابور، فقاتلوه ففضوا جمعه، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وهرب سابور فيمن بقي من جنده، واحتوى لليانوس على مدينة طيسبون محلة سابور، وظفر ببيوت أموال سابور وخزائنه فيها، فكتب سابور إلى من في الآفاق من جنوده يعلمهم الذي لقي من لليانوس ومن معه من العرب، ويأمر من كان فيهم من القواد أن يقدموا عليه فيمن قبلهم من جنوده، فلم يلبث أن اجتمعت إليه الجيوش من كل أفق، فانصرف فحارب لليانوس واستنقذ منه مدينة طيسبون، ونزل لليانوس مدينة بهأردشير وما والاها بعسكره، وكانت الرسل تختلف فيما بينه وبين سابور وإن لليانوس كان جالسا ذات يوم في حجرته، فأصابه سهم غرب في فؤاده فقتله، فأسقط في روع جنده، وهالهم الذي نزل به، ويئسوا من التفصي من بلاد فارس، وصاروا شورى لا ملك عليهم ولا سائس لهم، فطلبوا إلى يوسانوس أن يتولى الملك لهم فيملكوه عليهم، فأبى ذلك، وألحوا عليه فيه، فأعلمهم أنه على ملة النصرانية، وأنه لا يلي ناسا له مخالفين في الملة فأخبرته الروم إنهم على ملته، وإنهم إنما كانوا يكتمونها مخافة لليانوس، فأجابهم إلى ما طلبوا، وملكوه عليهم، وأظهروا النصرانية. وأن سابور علم بهلاك لليانوس، فأرسل إلى قواد جنود الروم، يقول: إن الله قد أمكننا منكم، وأدالنا عليكم، بظلمكم إيانا، وتخطيكم إلى بلادنا، وإنا نرجو أن تهلكوا بها جوعا من غير أن نهيئ لقتالكم سيفا، ونشرع له رمحا، فسرحوا إلينا رئيسا إن كنتم رأستموه عليكم فعزم يوسانوس على إتيان سابور، فلم يتابعه على رأيه أحد من قواد جنده، فاستبد برأيه، وجاء إلى سابور في ثمانين رجلا من أشراف من كان في عسكره وجنده، وعليه تاجه، فبلغ سابور مجيئه إليه، فتلقاه وتساجدا، فعانقه سابور شكرا لما كان منه في أمره، وطعم عنده يومئذ ونعم. وإن سابور أرسل إلى قواد جند الروم وذوى الرياسة منهم يعلمهم أنهم

لو ملكوا غير يوسانوس لجرى هلاكهم في بلاد فارس، وإن تمليكهم إياه ينجيهم من سطوته وقوي أمر يوسانوس بجهده، ثم قَالَ: إن الروم قد شنوا الغارة على بلادنا، وقتلوا بشرا كثيرا، وقطعوا ما كان بأرض السواد من نخل وشجر، وخربوا عمارتها، فإما أن يدفعوا إلينا قيمة ما أفسدوا وخربوا، وإما أن يعوضونا من ذلك نصيبين وحيزها، عوضا منه، وكانت من بلاد فارس، فغلبت عليها الروم. فأجاب يوسانوس واشراف جنده سابور إلى ما سأل من العوض، ودفعوا اليه نصيبين، فبلغ ذلك أهلها، فجلوا منها إلى مدن في مملكة الروم، مخافة على أنفسهم من ملك الملك المخالف ملتهم، فبلغ ذلك سابور، فنقل اثني عشر ألف أهل بيت من أهل إصطخر وإصبهان وكور أخر من بلاده وحيزه إلى نصيبين، وأسكنهم إياها، وانصرف يوسانوس ومن معه من الجنود إلى الروم، وملكها زمنا يسيرا ثم هلك. وإن سابور ضري بقتل العرب، ونزع أكتاف رؤسائهم إلى أن هلك. وكان ذلك سبب تسميتهم إياه ذا الأكتاف وذكر بعض أهل الأخبار أن سابور بعد أن أثخن في العرب وأجلاهم عن النواحي التي كانوا صاروا إليها مما قرب من نواحي فارس والبحرين واليمامه، ثم هبط الى الشام، وسار إلى حد الروم، أعلم أصحابه إنه على دخول الروم حتى يبحث عن أسرارهم، ويعرف أخبار مدنهم وعدد جنودهم، فدخل الى الروم، فجال فيها حينا، وبلغه أن قيصر أولم، وامر بجمع الناس ليحضروا طعامه، فانطلق سابور بهيئة السؤال حتى شهد ذلك الجمع، لينظر إلى قيصر، ويعرف هيئته وحاله في طعامه، ففطن له فأخذ، وأمر به قيصر فأدرج في جلد ثور، ثم سار بجنوده الى أرض فارس، ومعه سابور على تلك

الحالة، فأكثر من القتل وخراب المدائن والقرى وقطع النخل والأشجار، حتى انتهى إلى مدينة جندي سابور، وقد تحصن أهلها، فنصب المجانيق، وهدم بعضها فبينا هم كذلك ذات ليلة إذ غفل الروم الموكلون بحراسة سابور، وكان بقربه قوم من سبي الأهواز، فأمرهم أن يلقوا على القد الذي كان عليه زيتا من زقاق كانت بقربهم، ففعلوا ذلك، ولان الجلد وانسل منه، فلم يزل يدب حتى دنا من باب المدينة، وأخبر حراسهم باسمه فلما دخل على أهلها، اشتد سرورهم به، وارتفعت أصواتهم بالحمد والتسبيح، فانتبه أصحاب قيصر بأصواتهم، وجمع سابور من كان في المدينة وعباهم، وخرج إلى الروم في تلك الليلة سحرا، فقتل الروم وأخذ قيصر أسيرا، وغنم أمواله ونساءه، ثم أثقل قيصر بالحديد وأخذه بعمارة ما أخرب، ويقال: إنه أخذ قيصر بنقل التراب من أرض الروم إلى المدائن وجندي سابور، حتى يرم به ما هدم منها، وبأن يغرس الزيتون مكان النخل والشجر الذي عقره، ثم قطع عقبه ورتقه، وبعث به إلى الروم على حمار، وقال: هذا جزاؤك ببغيك علينا، فلذلك تركت الروم اتخاذ الأعقاب، ورتق الذؤاب. ثم أقام سابور في مملكته حينا ثم غزا الروم فقتل من أهلها، وسبى سبيا كثيرا، وأسكن من سبي مدينة بناها بناحية السوس، وسماها ايرانشهر سابور، ثم استصلح العرب، وأسكن بعض قبائل تغلب وعبد القيس وبكر بن وائل كرمان وتوج والأهواز، وبنى مدينة نيسابور ومدائن أخر بالسند وسجستان، ونقل طبيبا من الهند فأسكنه الكرخ من السوس، فلما مات ورث طبه أهل السوس، ولذلك صار أهل تلك الناحية أطب العجم وأوصى بالملك لأخيه أردشير وكان ملك سابور اثنتين وسبعين سنة. وهلك في عهد سابور عامله على ضاحية مضر وربيعة، امرؤ القيس البدء بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر، فاستعمل سابور على عمله

ذكر ملك أردشير بن هرمز

ابنه عمرو بن امرئ القيس- فيما ذكر- فبقي في عمله بقية ملك سابور، وجميع أيام أخيه أردشير بن هرمز بن نرسى، وبعض أيام سابور بن سابور. وكان جميع عمله- على ما ذكرت- من العرب، وولايته عليهم- فيما ذكر ابن الكلبي- ثلاثين سنة . ذكر ملك أردشير بن هرمز ثم قام بالملك بعد سابور ذي الأكتاف اخوه أردشير بن هرمز بن نرسى ابن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير بن بابك فلما عقد التاج على رأسه جلس للعظماء، فلما دخلوا عليه دعوا له بالنصر، وشكروا عنده أخاه سابور، فأحسن جوابهم، وأعلمهم موقع ما كان من شكرهم لأخيه عنده، فلما استقر به الملك قراره عطف على العظماء وذوى الرياسة، فقتل منهم خلقا كثيرا، فخلعه الناس بعد اربع سنين من ملكه ذكر ملك سابور بن سابور ثم ملك سابور بن سابور ذي الأكتاف بن هرمز بن نرسى فاستبشرت الرعية بذلك وبرجوع ملك أبيه إليه، فلقيهم أحسن اللقاء، وكتب الكتب إلى العمال في حسن السيرة والرفق بالرعية، وأمر بمثل ذلك وزراءه وكتابه وحاشيته، وخطبهم خطبة بليغة، ولم يزل عادلا على رعيته، متحننا عليهم لما كان تبين من مودتهم ومحبتهم وطاعتهم، وخضع له عمه أردشير المخلوع، ومنحه الطاعة. وإن العظماء وأهل البيوتات قطعوا أطناب فسطاط كان ضرب عليه في حجرة من حجره، فسقط عليه الفسطاط. وكان ملكه خمس سنين . ذكر ملك بهرام بن سابور ثم ملك بعده اخوه بهرام بن سابور ذي الأكتاف وكان يلقب كرمان شاه، وذلك أن أباه سابور كان ولاه في حياته كرمان، فكتب إلى قواده كتابا يحثهم فيه على الطاعة، ويأمرهم بتقوى الله والنصيحة للملك، وبنى بكرمان مدينة، وكان حسن السياسة لرعيته، محمودا في أمره

ذكر ملك يزدجرد الأثيم

وكان ملكه إحدى عشرة سنة وإن ناسا من الفتاك ثاروا إليه فقتله رجل منهم برميه رماها اياه بنشابه . ذكر ملك يزدجرد الأثيم ثم قام بالملك بعده يزدجرد الملقب بالاثيم، بن بهرام الملقب بكرمان شاه بن سابور ذي الأكتاف. ومن أهل العلم بأنساب الفرس من يقول: ان يزدجرد الاثيم هذا، هو أخو بهرام الملقب بكرمان شاه وليس بابنه، ويقول: هو يزدجرد بن سابور ذي الأكتاف وممن نسبه هذا النسب وقال هذا القول، هشام بن مُحَمَّد. وكان- فيما ذكر- فظا غليظا ذا عيوب كثيرة، وكان من أشد عيوبه وأعظمها- فيما قيل- وضعه ذكاء ذهن وحسن أدب كان له وصنوفا من العلم قد مهرها وعلمها، غير موضعه، وكثرة رؤيته في الضار من الأمور، واستعمال كل ما عنده من ذلك، في المواربة والدهاء والمكايده والمخاتله، مع فطنة كانت بجهات الشر، وشدة عجبه بما عنده من ذلك، واستخفافه بكل ما كان في أيدي الناس من علم وأدب، واحتقاره له، وقلة اعتداده به، واستطالته على الناس بما عنده منه وكان مع ذلك غلقا سيئ الخلق، رديء الطعمة حتى بلغ من شدة غلقه وحدته أن الصغير من الزلات كان عنده كبيرا، واليسير من السقطات عظيما ثم لم يقدر أحد- وإن كان لطيف المنزلة منه- أن يكون لمن ابتلى عنده بشيء من ذلك شفيعا، وكان دهره كله للناس متهما، ولم يكن يأتمن أحدا على شيء من الأشياء، ولم يكن يكافي على حسن البلاء وإن هو أولى الخسيس من العرف استجزل ذلك، وإن جسر على كلامه في أمر كلمه فيه رجل لغيره قَالَ له: ما قدر جعالتك في هذا الأمر الذي كلمتنا فيه؟ وما أخذت عليه؟ فلم يكن يكلمه في ذلك وما أشبهه إلا الوفود القادمون عليه من قبل ملوك الأمم وإن رعيته إنما سلموا من سطوته وبليته، وما كان جمع من الخلال السيئة بتمسكهم

بمن كان قبل مملكته بالسنن الصالحة وبأدبهم وكانوا لسوء أدبه، ومخافة سطوته، متواصلين متعاونين، وكان من رأيه أن يعاقب كل من زل عنده وأذنب إليه من شدة العقوبة بما لا يستطاع أن يبلغ منه مثلها في مده ثلاثمائة. وكان لذلك لا يقرعه بسوط انتظارا منه للمعاقبة له بما ليس وراءه أفظع منه. وكان إذا بلغه أن أحدا من بطانته صافى رجلا من أهل صناعته أو طبقته نحاه عن خدمته. وكان استوزر عند ولايته نرسي حكيم دهره وكان نرسي كاملا في أدبه، فاضلا في جميع مذاهبه، متقدما لأهل زمانه وكانوا يسمونه مهر نرسى ومهر نرسه، ويلقب بالهزار بنده، فأملت الرعية بما كان منه أن ينزع عن أخلاقه، وأن يصلح نرسي منه، فلما استوى له الملك، اشتدت إهانته الأشراف والعظماء، وحمل على الضعفاء، وأكثر من سفك الدماء، وتسلط تسلطا لم يبتل الرعية بمثله في أيامه فلما رأى الوجوه والاشراف انه لا يزداد الا تتايعا في الجور، اجتمعوا فشكوا ما ينزل بهم من ظلمه، وتضرعوا إلى ربهم، وابتهلوا إليه بتعجيل إنقاذهم منه فزعموا أنه كان بجرجان، فرأى ذات يوم في قصره فرسا عائرا- لم ير مثله في الخيل، في حسن صورة، وتمام خلق- أقبل حتى وقف على بابه، فتعجب الناس منه، لأنه كان متجاوز الحال، فأخبر يزدجرد خبره، فأمر به أن يسرج ويلجم، ويدخل عليه، فحاول ساسته وصاحب مراكبه إلجامه وإسراجه، فلم يمكن أحدا منهم من ذلك، فأنهي إليه امتناع الفرس عليهم، فخرج ببدنه إلى الموضع الذي كان فيه ذلك الفرس فألجمه بيده، وألقى لبدا على ظهره، ووضع فوقه سرجا، وشد حزامه ولببه فلم يتحرك الفرس بشيء من ذلك، حتى إذا رفع ذنبه ليثفره استدبره الفرس فرمحه على فؤاده رمحة هلك منها مكانه، ثم لم يعاين ذلك الفرس ويقال: إن الفرس ملأ فروجه جريا فلم يدرك ولم

يوقف على السبب فيه، وخاضت الرعية بينها، وقالت: هذا من صنع الله لنا ورأفته بنا. وكان ملك يزدجرد في قول بعضهم اثنتين وعشرين سنة وخمسة أشهر وستة عشر يوما وفي قول آخرين إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر وثمانية عشر يوما. ولما هلك عمرو بن امرئ القيس البدء بن عمرو بن عدى في عهد سابور ابن سابور، استخلف سابور بن سابور على عمله أوس بن قلام في قول هشام. قَالَ: وهو من العماليق من بني عمرو بن عمليق، فثار به جحجبى بن عتيك بن لخم فقتله، فكان جميع ولاية أوس خمس سنين، وهلك في عهد بهرام بن سابور ذي الأكتاف واستخلف بعده في عمله امرؤ القيس البدء بن عمرو بن امرئ القيس البدء بن عمرو خمسا وعشرين سنة، وكان هلاكه في عهد يزدجرد الاثيم ثم استخلف يزدجرد مكانه ابنه النعمان بن امرئ القيس البدء بن عمرو بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي، وأمه شقيقة ابنة أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، وهو فارس حليمة، وصاحب الخورنق. وكان سبب بنائه الخورنق- فيما ذكر- ان يزدجرد الأثيم بن بهرام كرمان شاه بن سابور ذي الأكتاف كان لا يبقى له ولد فولد له بهرام، فسال عن منزل برى مريء صحيح من الأدواء والأسقام، فدل على ظهر الحيرة، فدفع ابنه بهرام جور إلى النعمان هذا، وأمره ببناء الخورنق مسكنا له، وأنزله إياه، وأمره بإخراجه إلى بوادي العرب، وكان الذي بنى الخورنق رجلا يقال له سنمار، فلما فرغ من بنائه، تعجبوا من حسنه وإتقان عمله، فقال: لو علمت أنكم توفونني أجري وتصنعون بي ما أنا أهله بنيته بناء يدور مع الشمس حيثما دارت، فقال: وإنك لتقدر على أن تبني ما هو أفضل منه

ثم لم تبنه! فأمر به فطرح من رأس الخورنق، ففي ذلك يقول أبو الطمحان القيني. جزاء سنمار جزاها، وربها ... وباللات والعزى جزاء المكفر وقال سليط بن سعد: جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر ... وحسن فعل كما يجزى سنمار وقال يزيد بن إياس النهشلي: جزى الله كمالا بأسوإ فعله ... جزاء سنمار جزاء موفرا وقال عبد العزى بن امرئ القيس الكلبي- وكان أهدى أفراسا إلى الحارث بن مارية الغساني، ووفد إليه فأعجبته وأعجب بعبد العزى وحديثه، وكان للملك ابن مسترضع في بني الحميم بن عوف من بنى عبد ود، من كلب، فنهشته حية، فظن الملك إنهم اغتالوه، فقال لعبد العزى: جئني بهؤلاء القوم، فقال: هم قوم أحرار، وليس لي عليهم فضل في نسب ولا فعال، فقال: لتأتيني بهم أو لأفعلن ولأفعلن! فقال: رجونا من حبائك أمرا حال دونه عقابك ودعا ابنيه: شراحيل وعبد الحارث، فكتب معهما إلى قومه: جزاني جزاه الله شر جزائه ... جزاء سنمار وما كان ذا ذنب سوى رصه البنيان عشرين حجه ... يعلى عليه بالقراميد والسكب فلما راى البنيان تم سموقه ... وآض كمثل الطود ذي الباذخ الصعب

فأتهمه من بعد حرس وحقبة ... وقد هره أهل المشارق والغرب وظن سنمار به كل حبرة ... وفاز لديه بالمودة والقرب فقال اقذفوا بالعلج من فوق برجه ... فهذا لعمر الله من أعجب الخطب وما كان لي عند ابن جفنة فاعلموا ... من الذنب ما آلى يمينا على كلب ليلتمسن بالخيل عقر بلادهم ... تحلل أبيت اللعن من قولك المزبي ودون الذي منى ابن جفنة نفسه ... رجال يردون الظلوم عن الشعب وقد رامنا من قبلك المرء حارث ... فغودر مسلولا لدى الأكم الصهب قَالَ هشام: وكان النعمان هذا قد غزا الشام مرارا، وأكثر المصائب في أهلها، وسبى وغنم، وكان من أشد الملوك نكاية في عدوه، وأبعدهم مغارا فيهم، وكان ملك فارس جعل معه كتيبتين: يقال لأحداهما: دوسر، وهي لتنوخ، وللأخرى: الشهباء، وهي لفارس، وهما اللتان يقال لهما: القبيلتان، فكان يغزو بهما بلاد الشام ومن لم يدن له من العرب. قَالَ: فذكر لنا- والله أعلم- أنه جلس يوما في مجلسه من الخورنق، فأشرف منه على النجف وما يليه من البساتين والنخل والجنان والأنهار مما يلي المغرب، وعلى الفرات مما يلي المشرق، وهو على متن النجف، في يوم من أيام الربيع، فأعجبه ما رأى من الخضرة والنور والأنهار، فقال لوزيره وصاحبه: هل رأيت مثل هذا المنظر قط! فقال: لا، لو كان يدوم! قَالَ: فما الذي يدوم؟ قَالَ: ما عند الله في الآخرة، قَالَ: فبم ينال ذاك؟ قال: بتركك الدنيا وعبادة الله والتماس ما عنده، فترك ملكه من ليلته ولبس المسوح، وخرج مستخفيا هاربا لا يعلم به، وأصبح الناس لا يعلمون بحاله، فحضروا بابه، فلم يؤذن لهم عليه كما كان يفعل، فلما أبطأ الإذن عليهم، سألوا عنه فلم يجدوه، وفي ذلك يقول عدي بن زيد العبادي:

ذكر ملك بهرام جور

وتفكر رب الخورنق إذ أشرف ... يوما وللهدى تبصير سره حاله وكثرة ما يملك ... والبحر معرض والسدير فارعوى قلبه فقال وما غبطة ... حي إلى الممات يصير ثم بعد الفلاح والملك والأمة ... وارتهم هناك القبور ثم أضحوا كأنهم ورق جف، ... فألوت به الصبا والدبور فكان ملك النعمان إلى أن ترك ملكه وساح في الأرض تسعا وعشرين سنة وأربعة أشهر. قَالَ ابن الكلبي: من ذلك في زمن يزدجرد خمس عشرة سنة، وفي زمن بهرام جور بن يزدجرد أربع عشرة سنة. وأما العلماء من الفرس بأخبارهم وأمورهم فإنهم يقولون في ذلك ما انا ذاكره ذكر ملك بهرام جور ثم ملك بعد يزدجرد الأثيم ابنه بهرام جور بن يزدجرد الخشن ابن بهرام كرمان شاه بن سابور ذي الأكتاف وذكر أن مولده كان هرمز دروز فروردين ماه، لسبع ساعات مضين من النهار فان أباه يزدجرد دعا ساعه ولد بهرام ممن كان ببابه من المنجمين، فأمرهم بإقامة كتاب مولده وتبينه بيانا يدل على الذي يئول إليه كل أمره، فقاسوا الشمس ونظروا في مطالع النجوم، ثم أخبروا يزدجرد أن الله مورث بهرام ملك أبيه، وأن رضاعه بغير أرض يسكنها الفرس، وأن من الرأي أن يربى بغير بلاده، فأجال يزدجرد الرأي في دفعه في الرضاع والتربية إلى بعض من ببابه من الروم أو العرب أو غيرهم ممن لم يكن من الفرس، فبدا له في اختيار العرب لتربيته وحضانته، فدعا بالمنذر

ابن النعمان، واستحضنه بهرام، وشرفه وأكرمه، وملكه على العرب، وحباه بمرتبتين سنيتين، تدعى إحداهما: رام ابزوذ يزدجرد، وتأويله زاد سرور يزدجرد، والأخرى تدعى بمهشت، وتأويلها أعظم الخول، وأمر له بصلة وكسوة بقدر استحقاقه لذلك في منزلته، وأمره أن يسير ببهرام إلى بلاد العرب. فسار به المنذر إلى محلته منها، واختار لرضاعه ثلاث نسوة ذوات أجسام صحيحة، وأذهان ذكية، وآداب رضية، من بنات الأشراف، منهن امرأتان من بنات العرب، وامرأة من بنات العجم، وأمر لهن بما أصلحهن من الكسوة والفرش والمطعم والمشرب وسائر ما احتجن إليه، فتداولن رضاعه ثلاث سنين، وفطم في السنة الرابعة، حتى إذا أتت له خمس سنين، قَالَ للمنذر: أحضرني مؤدبين ذوي علم، مدربين بالتعليم، ليعلموني الكتابة والرمي والفقه. فقال له المنذر: إنك بعد صغير السن، ولم يأن لك أن تأخذ في التعليم، فالزم ما يلزم الصبيان الأحداث، حتى تبلغ من السن ما يطيق التعلم والتأدب، واحضر من يعلمك كل ما سألت تعلمه فقال بهرام للمنذر: أنا لعمري صغير، ولكن عقلي عقل محتنك، وأنت كبير السن وعقلك عقل ضرع. أما تعلم أيها الرجل، أن كل ما يتقدم في طلبه ينال في وقته، وما يطلب في وقته ينال في غير وقته، وما يفرط في طلبه يفوت فلا ينال! وانى من ولد ملوك، والملك صائر إلي بإذن الله، وأولى ما كلف به الملوك وطلبوه صالح العلم، لأنه لهم زين، ولملكهم ركن به يقوون فعجل علي بمن سألتك من المؤدبين. فوجه المنذر ساعة سمع مقالة بهرام هذه إلى باب الملك من أتاه برهط من فقهاء الفرس، ومعلمي الرمى والفروسية ومعلمي الكتابه وخاصه ذوى الأدب، وجمع له حكماء من حكماء فارس والروم، ومحدثين من العرب، فألزمهم بهرام، ووقت لأصحاب كل مذهب من تلك المهن وقتا يأتونه فيه، وقدر

لهم قدرا يفيدونه ما عندهم، فتفرغ بهرام لتعلم كل ما سأل أن يتعلم، وللاستماع من أهل الحكمة وأصحاب الحديث، ووعى كل ما استمع، وثقف كل ما علم بأيسر تعليم وألفى بعد أن بلغ اثنتي عشرة سنة، وقد استفاد كل ما أفيد وحفظه، وفاق معلميه ومن حضره من أهل الأدب، حتى اعترفوا له بفضله عليهم. وأثاب بهرام المنذر ومعلميه، وأمرهم بالانصراف عنه، وأمر معلمي الرمي والفروسية بالإقامة عنده، ليأخذ عنهم كل ما ينبغي له التدرب به، والإحكام له، ثم دعا بهرام بالنعمان بن المنذر، وأمره أن يؤذن العرب بإحضار خيلهم من الذكور والإناث على أنسابها، فآذن النعمان للعرب بذلك، وبلغ المنذر الذي كان من رأي بهرام في اختيار الخيل لمركبه، فقال لبهرام: لا تجشمن العرب إجراء خيلهم، ولكن مر من يعرض الخيل عليك، واختر منها رضاك، وارتبطه لنفسك فقال له بهرام: قد أحسنت القول، ولكنى افضل الرجال سؤددا وشرفا، وليس ينبغي أن يكون مركبي إلا أفضل الخيل، وإنما يعرف فضل بعضها على بعض بالتجربة، ولا تجربة بلا إجراء. فرضي المنذر مقالته، وأمر النعمان العرب فأحضروا خيولهم، وركب بهرام والمنذر لحضور الحلبة، وسرحت الخيل من فرسخين، فبدر فرس أشقر للمنذر تلك الخيل جميعا سابقا، ثم أقبل بعده بقيتها بداد بداد من بين فرسين تاليين، أو ثلاثة موزعة، أو سكيتا فقرب المنذر بيده ذلك الأشقر إلى بهرام، وقال: يبارك الله لك فيه، فأمر بهرام بقبضه وعظم سروره به، وتشكر للمنذر. وإن بهرام ركب ذات يوم الفرس الأشقر الذي حمله عليه المنذر إلى الصيد، فبصر بعانة، فرمى عليها وقصد نحوها، فإذا هو بأسد قد شد على

عير كان فيها، فتناول ظهره بفيه ليقصمه ويفترسه، فرماه بهرام رمية في ظهره، فنفذت النشابة من بطنه وظهر العير وسرته حتى أفضت إلى الأرض. فساخت فيها إلى قريب من ثلثيها، فتحرك طويلا، وكان ذلك بمشهد ناس من العرب وحرس بهرام وغيرهم فأمر بهرام فصور ما كان منه في أمر الأسد والعير في بعض مجالسه. ثم إن بهرام أعلم المنذر أنه على الإلمام بأبيه، فشخص إلى أبيه، وكان أبوه يزدجرد لسوء خلقه لا يحفل بولد له، فاتخذ بهرام للخدمة، فلقي بهرام من ذلك عناء. ثم أن يزدجرد وفد عليه أخ لقيصر، يقال له: ثياذوس، في طلب الصلح والهدنة لقيصر والروم، فسأله بهرام أن يكلم يزدجرد في الإذن له في الانصراف إلى المنذر، فانصرف إلى بلاد العرب، فاقبل على التنعم والتلذذ. وهلك أبوه يزدجرد وبهرام غائب، فتعاقد ناس من العظماء واهل البيوتات الا يملكوا أحدا من ذرية يزدجرد لسوء سيرته، وقالوا: إن يزدجرد لم يخلف ولدا يحتمل الملك غير بهرام، ولم يل بهرام ولاية قط يبلى بها خبره، ويعرف بها حاله، ولم يتأدب بأدب العجم، وإنما أدبه أدب العرب، وخلقه كخلقهم، لنشئه بين أظهرهم واجتمعت كلمتهم وكلمة العامة على صرف الملك عن بهرام إلى رجل من عترة أردشير بن بابك، يقال له كسرى، ولم يقيموا أن ملكوه فانتهى هلاك يزدجرد والذي كان من تمليكهم كسرى إلى بهرام وهو ببادية العرب، فدعا بالمنذر والنعمان ابنه، وناس من علية العرب، وقال لهم: إني لا أحسبكم تجحدون خصيصي والدي، كان أتاكم معشر العرب بإحسانه وإنعامه كان عليكم، مع فظاظته وشدته كانت على الفرس، وأخبرهم بالذي أتاه من نعي أبيه، وتمليك الفرس من ملكوا عن تشاور منهم في ذلك. فقال المنذر: لا يهولنك ذلك حتى الطف الحيله فيه وإن المنذر

جهز عشرة آلاف رجل من فرسان العرب، ووجههم مع ابنه إلى طيسبون وبهأردشير مدينتي الملك، وأمره أن يعسكر قريبا منهما، ويدمن إرسال طلائعه إليهما، فإن تحرك أحد لقتاله قاتله وأغار على ما والاهما، وأسر وسبى، ونهاه عن سفك الدماء فسار النعمان حتى نزل قريبا من المدينتين، ووجه طلائعه إليهما، واستعظم قتال الفرس وإن من بالباب من العظماء وأهل البيوتات أوفدوا جواني صاحب رسائل يزدجرد إلى المنذر، وكتبوا إليه يعلمونه أمر النعمان، فلما ورد جواني على المنذر وقرأ الكتاب الذي كتب إليه، قَالَ له: الق الملك بهرام، ووجه معه من يوصله إليه فدخل جواني على بهرام فراعه ما رأى من وسامته وبهائه، وأغفل السجود دهشا، فعرف بهرام أنه إنما ترك السجود لما راعه من روائه، فكلمه بهرام، ووعده من نفسه أحسن الوعد، ورده إلى المنذر، وأرسل إليه أن يجيب في الذي كتب، فقال المنذر لجواني: قد تدبرت الكتاب الذي أتيتني به، وإنما وجه النعمان إلى ناحيتكم الملك بهرام حيث ملكه الله بعد أبيه، وخوله إياكم. فلما سمع جواني مقالة المنذر، وتذكر ما عاين من رواء بهرام وهيبته عند نفسه، وإن جميع من شاور في صرف الملك عن بهرام مخصوم محجوج، قَالَ للمنذر: إني لست محيرا جوابا، ولكن سر إن رأيت إلى محلة الملوك فيجتمع إليك من بها من العظماء وأهل البيوتات، وتشاوروا في ذلك. وأت فيه ما يجمل، فإنهم لن يخالفوك في شيء مما تشير به. فرد المنذر جواني إلى من أرسله إليه، واستعد وسار بعد فصول جواني من عنده بيوم ببهرام في ثلاثين ألف رجل من فرسان العرب وذوي البأس والنجدة منهم إلى مدينتي الملك، حتى إذا وردهما، أمر فجمع الناس، وجلس بهرام على منبر من ذهب مكلل بجوهر، وجلس المنذر عن يمينه،

وتكلم عظماء الفرس وأهل البيوتات، وفرشوا للمنذر بكلامهم فظاظة يزدجرد أبي بهرام كانت، وسوء سيرته، وإنه أخرب بسوء رأيه الأرض، وأكثر القتل ظلما، حتى قد قتل الناس في البلاد التي كان يملكها، وأمورا غير ذلك فظيعة وذكروا أنهم إنما تعاقدوا وتواثقوا على صرف الملك عن ولد يزدجرد لذلك، وسألوا المنذر الا يجبرهم في أمر الملك على ما يكرهونه. فوعى المنذر ما بثوا من ذلك، وقال لبهرام: أنت أولى بإجابة القوم مني فقال بهرام: إني لست أكذبكم معشر المتكلمين في شيء مما نسبتم إليه يزدجرد لما استقر عندي من ذلك، ولقد كنت زاريا عليه لسوء هديه، ومتنكبا لطريقه ودينه، ولم أزل أسأل الله أن يمن علي بالملك، فأصلح كل ما أفسد، وأرأب ما صدع، فإن أتت لملكي سنة ولم أف لكم بهذه الأمور التي عددت لكم تبرأت من الملك طائعا، وقد أشهدت بذلك علي الله وملائكته وموبذان موبذ وليكن هو فيها حكما بيني وبينكم وأنا مع الذي بينت على ما أعلمكم من رضاي بتمليككم من تناول التاج والزينة، من بين أسدين ضاريين مشبلين، فهو الملك. فلما سمع القوم مقالة بهرام هذه، وما وعد من نفسه، استبشروا بذلك، وانبسطت آمالهم، وقالوا فيما بينهم: إنا لسنا نقدر على رد قول بهرام، مع أنا إن تممنا على صرف الملك عنه نتخوف أن يكون في ذلك هلاكنا لكثرة من استمد واستجاش من العرب، ولكنا نمتحنه بما عرض علينا مما لم يدعه إليه إلا ثقة بقوته وبطشه وجرأته، فإن يكن على ما وصف به نفسه، فليس لنا رأي إلا تسليم الملك إليه، والسمع والطاعة له، وإن يهلك ضعفا ومعجزة، فنحن من هلكته برآء، ولشره وغائلته آمنون. وتفرقوا على هذا الرأي، فعاد بهرام بعد أن تكلم بهذا الكلام، وجلس كمجلسه الذي كان فيه بالأمس، وحضره من كان يحاده فقال لهم: إما

أن تجيبوني فيما تكلمت أمس، وإما أن تسكتوا باخعين لي بالطاعة. فقال القوم: أما نحن، فقد اخترنا لتدبير الملك كسرى، ولم نر منه إلا ما نحب، ولكنا قد رضينا مع ذلك أن يوضع التاج والزينة كما ذكرت بين أسدين، وتتنازعانهما أنت وكسرى، فأيكما تناولها من بينهما، سلمنا له الملك. فرضي بهرام بمقالتهم، فأتى بالتاج والزينة موبذان موبذ، الموكل كان بعقد التاج على رأس كل ملك يملك، فوضعهما في ناحية، وجاء بسطام إصبهبذ، بأسدين ضاريين مجوعين مشبلين، فوقف أحدهما عن جانب الموضع الذي وضع فيه التاج والزينة، والآخر بحذائه، وأرخى وثاقهما، ثم قَالَ بهرام لكسرى: دونك التاج والزينة فقال كسرى: أنت أولى بالبدء وبتناولهما مني، لأنك تطلب الملك بوراثة، وأنا فيه مغتصب فلم يكره بهرام قوله، لثقته كانت ببطشه وقوته، وحمل جرزا، وتوجه نحو التاج والزينة، فقال له موبذان موبذ: استماتتك في هذا الأمر الذي أقدمت عليه، إنما هو تطوع منك، لا عن رأي أحد من الفرس، ونحن برآء إلى الله من إتلافك نفسك. فقال بهرام: أنتم من ذلك برآء، ولا وزر عليكم فيه ثم أسرع نحو الأسدين، فلما رأى موبذان موبذ جده في لقائهما، هتف به وقال: بح بذنوبك، وتب منها، ثم أقدم إن كنت لا محالة مقدما، فباح بهرام بما سلف من ذنوبه، ثم مشى نحو الأسدين، فبدر إليه أحدهما، فلما دنا من بهرام وثب وثبة، فعلا ظهره، وعصر جنبي الأسد بفخذيه عصرا اثخنه، وجعل يضرب على رأسه بالجرز الذي كان حمل، ثم شد الأسد الآخر عليه، فقبض على أذنيه، وعركهما بكلتا يديه، فلم يزل يضرب رأسه برأس الأسد الذي كان راكبه حتى دمغهما ثم قتلهما كليهما على رأسهما بالجرز الذي كان حمله: وكان ذلك من صنيعه بمرأى من كسرى ومن حضر ذلك المحفل

فتناول بهرام بعد ذلك التاج والزينة، فكان كسرى أول من هتف به، وقال: عمرك الله بهرام! الذى من حوله سامعون، وله مطيعون، ورزقه ملك أقاليم الأرض السبعة ثم هتف به جميع الحضر، وقالوا: قد أذعنا للملك بهرام، وخضعنا له ورضينا به ملكا وأكثروا الدعاء له وإن العظماء وأهل البيوتات وأصحاب الولايات والوزراء لقوا المنذر بعد ذلك اليوم، وسألوه أن يكلم بهرام في التغمد لإساءتهم في أمره، والصفح والتجاوز عنهم، فكلم المنذر بهرام فيما سألوه من ذلك، واستوهبه ما كان احتمل عليهم في نفسه، فأسعفه بهرام فيما سأل، وبسط آمالهم. وإن بهرام ملك وهو ابن عشرين سنة، وأمر من يومه ذلك أن يلزم رعيته راحة ودعة، وجلس للناس بعد ذلك سبعة أيام متوالية، يعدهم الخير من نفسه، ويأمرهم بتقوى الله وطاعته. ثم لم يزل بهرام حيث ملك مؤثرا للهو على ما سواه، حتى كثرت ملامة رعيته إياه على ذلك، وطمع من حوله من الملوك في استباحة بلاده، والغلبة على ملكه، وكان أول من سبق إلى المكاثرة له عليه خاقان ملك الترك، فإنه غزاه في مائتين وخمسين ألف رجل من الترك، فبلغ الفرس اقبال خاقان في جمع عظيم إلى بلادهم، فتعاظمهم ذلك وهالهم، ودخل عليه من عظمائهم أناس لهم رأي أصيل، وعندهم نظر للعامة، فقالوا له: إنه قد ازمك أيها الملك من بائقة هذا العدو ما قد شغلك عما أنت عليه من اللهو والتلذذ، فتأهب له كيلا يلحقنا منه أمر يلزمك فيه مسبة وعار فقال لهم بهرام: إن الله ربنا قوي ونحن أولياؤه ولم يزدد إلا مثابرة على اللهو والتلذذ والصيد. وانه تجهز فسار الى اذربيجان لينسك في بيت نارها، ويتوجه منها إلى

أرمينية، ويطلب الصيد في آجامها، ويلهو في مسيره في سبعة رهط من العظماء وأهل البيوتات، وثلاثمائة رجل من رابطته ذوي بأس ونجدة، واستخلف أخا له يسمى نرسي على ما كان يدبر من ملكه فلم يشك الناس حين بلغهم مسير بهرام فيمن سار واستخلافه أخاه على ما استخلف في أن ذلك هرب من عدوه، وإسلام لملكه، وتآمروا في إنفاذ وفد إلى خاقان، والإقرار له بالخراج، مخافة منه لاستباحة بلادهم، واصطلامة مقاتلتهم إن هم لم يذعنوا له بذلك. فبلغ خاقان الذي أجمع عليه الفرس من الانقياد والخضوع له، فآمن ناحيتهم، وأمر جنده بالتورع، فأتى بهرام عين كان وجهه ليأتيه بخبر خاقان، فأخبره بأمر خاقان وعزمه، فسار إليه بهرام في العدة الذين كانوا معه فبيته، وقتل خاقان بيده، وأفشى القتل في جنده، وانهزم من سلم من القتل منهم، ومنحوه أكتافهم، وخلفوا عسكرهم وذراريهم وأثقالهم، وأمعن بهرام في طلبهم يقتلهم ويحوي ما غنم منهم، ويسبي ذراريهم وانصرف وجنده سالمين، وظفر بهرام بتاج خاقان وإكليله، وغلب على بلاده من بلاد الترك، واستعمل على ما غلب عليه منها مرزبانا حباه سريرا من فضة، وأتاه أناس من أهل البلاد المتاخمة لما غلب عليه من بلاد الترك خاضعين باخعين له بالطاعة، وسألوه أن يعلمهم حد ما بينه وبينهم فلا يتعدوه، فحد لهم حدا، وأمر فبنيت منارة، وهي المنارة التي أمر بها فيروز الملك ابن يزدجرد، فقدمت إلى بلاد الترك، ووجه بهرام قائدا من قواده إلى ما وراء النهر منهم، وامره بقتالهم فقاتلهم وأثخنهم، حتى أقروا لبهرام بالعبودية وأداء الجزية. وإن بهرام انصرف إلى أذربيجان، راجعا إلى محلته من السواد، وأمر بما كان في إكليل خاقان من ياقوت أحمر وسائر الجوهر، فعلق على بيت نار أذربيجان، ثم سار وورد مدينة طيسبون، فنزل دار المملكة بها، ثم

كتب إلى جنده وعماله بقتله خاقان، وما كان من أمره وأمر جنده ثم ولى أخاه نرسي خراسان، وأمره أن يسير إليها وينزل بلخ، وتقدم إليه بما أراد. ثم إن بهرام سار في آخر ملكه إلى ماه للصيد بها، فركب ذات يوم للصيد، فشد على عير، وأمعن في طلبه، فارتطم في جب، فغرق، فبلغ والدته فسارت إلى ذلك الجب بأموال عظيمة، وأقامت قريبة منه، وأمرت بإنفاق تلك الأموال على من يخرجه منه، فنقلوا من الجب طينا كثيرا وحماه، حتى جمعوا من ذلك آكاما عظاما، ولم يقدروا على جثة بهرام. وذكر أن بهرام لما انصرف إلى مملكته من غزوه الترك، خطب أهل مملكته أياما متوالية، حثهم في خطبته على لزوم الطاعة، وأعلمهم أن نيته التوسعة عليهم، وإيصال الخير إليهم، وإنهم إن زالوا عن الاستقامة نالهم من غلظته أكثر مما كان نالهم من أبيه، وإن أباه كان افتتح أمرهم باللين والمعدلة، فجحدوا ذلك أو من جحده منهم، ولم يخضعوا له خضوع الخول والعبيد للملوك فأصاره ذلك إلى الغلظة وضرب الأبشار وسفك الدماء وإن انصراف بهرام من غزوه ذلك كان على طريق أذربيجان، وإنه نحل بيت نار الشيز ما كان في إكليل خاقان من اليواقيت والجوهر وسيفا كان لخاقان مفصصا بدر وجوهر وحلية كثيرة، وأخدمه خاتون امرأة خاقان، ورفع عن الناس الخراج لثلاث سنين شكرا على ما لقي من النصر في وجهه، وقسم في الفقراء والمساكين مالا عظيما، وفي البيوتات وذوي الأحساب عشرين ألف ألف درهم، وكتب بخبر خاقان إلى الآفاق كتبا، يذكر فيها أن الخبر ورد عليه بورود خاقان بلاده وإنه مجد الله وعظمه وتوكل عليه، وسار نحوه في سبعه رهط من اهل البيوتات، وثلاثمائة فارس من نخبة رابطته على طريق أذربيجان وجبل القبق، حتى نفذ على براري خوارزم ومفاوزها، فابلاه

الله أحسن بلاء، وذكر لهم ما وضع عنهم من الخراج، وكان كتابه في ذلك كتابا بليغا. وقد كان بهرام حين أفضى إليه الملك أمر أن يرفع عن أهل الخراج البقايا التي بقيت عليهم من الخراج، فأعلم أن ذلك سبعون ألف ألف درهم، فأمر بتركها وبترك ثلث خراج السنة التي ولي فيها. وقيل إن بهرام جور لما انصرف إلى طيسبون من مغزاه خاقان التركي، ولى نرسي أخاه خراسان، وأنزله بلخ، واستوزر مهر نرسى بن برازه، وخصه وجعله بزرجفرمذار، وأعلمه أنه ماض إلى بلاد الهند، ليعرف أخبارها، والتلطف لحيازة بعض مملكة أهلها إلى مملكته، ليخفف بذلك بعض مئونة عن أهل مملكته، وتقدم إليه بما أراد التقدم إليه فيما خلفه عليه إلى أوان انصرافه، وإنه شخص من مملكته حتى دخل أرض الهند متنكرا، فمكث بها حينا لا يسأله أحد من أهلها عن شيء من أمره غير ما يرون من فروسيته وقتله السباع، وجماله وكمال خلقه ما يعجبون منه فلم يزل كذلك حتى بلغه أن في ناحية من أرضهم فيلا قد قطع السبل، وقتل ناسا كثيرا، فسال بعضهم أن يدله عليه ليقتله، وانتهى أمره إلى الملك فدعا به، وأرسل معه رسولا ينصرف إليه بخبره فلما انتهى بهرام والرسول إلى الأجمة التي فيها الفيل، رقى الرسول إلى شجرة لينظر إلى صنع بهرام ومضى بهرام ليستخرج الفيل، فصاح به، فخرج إليه مزبدا وله صوت شديد، ومنظر هائل، فلما قرب من بهرام رماه رمية وقعت بين عينيه حتى كادت تغيب، ووقذه بالنشاب، حتى بلغ منه، ووثب عليه فأخذه بمشفره، فاجتذبه جذبة جثا لها الفيل على ركبتيه، فلم يزل يطعنه حتى أمكن من نفسه، فاحتز رأسه وحمله على ظهره حتى أخرجه إلى الطريق، ورسول الملك ينظر إليه فلما انصرف الرسول اقتص خبره على الملك، فعجب من شدته وجرأته، وحباه حباء عظيما، واستفهمه أمره فقال له بهرام: أنا رجل من عظماء الفرس، وكان

ملك فارس سخط علي في شيء فهربت منه إلى جوارك، وكان لذلك الملك عدو قد نازعه ملكه، وسار إليه بجنود عظيمة، فاشتد وجل الملك صاحب بهرام منه لما كان يعرف من قوته، وأراده على الخضوع له وحمل الخراج إليه، وهم صاحب بهرام بإجابته إلى ذلك، فنهاه بهرام عن ذلك، وضمن له كفاية أمره، فسكن إلى قوله، وخرج بهرام مستعدا له، فلما التقوا قَالَ لاساوره الهند: احرسوا ظهري ثم حمل عليهم فجعل يضرب الرجل على رأسه فتنتهي ضربته إلى فمه، ويضرب وسط الرجل فيقطعه باثنين، وياتى الفيل فيقد مشفره بالسيف، ويحتمل الفارس عن سرجه- والهند قوم لا يحسنون الرمي، وأكثرهم رجالة لا دواب لهم- وكان بهرام إذا رمى أحدهم أنفذ السهم فيه، فلما عاينوا منه ما عاينوا، ولوا منهزمين لا يلوون على شيء، وغنم صاحب بهرام ما كان في عسكر عدوه، وانصرف محبورا مسرورا، ومعه بهرام، فكان في مكافاته إياه إن أنكحه ابنته، ونحله الديبل ومكران وما يليها من أرض السند، وكتب له بذلك كتابا، وأشهد له على نفسه شهودا، وأمر بتلك البلاد حتى ضمت إلى أرض العجم، وحمل خراجها إلى بهرام، وانصرف بهرام مسرورا. ثم انه اغزى مهر نرسى بن برازة بلاد الروم في أربعين ألف مقاتل، وأمره أن يقصد عظيمها، ويناظره في أمر الإتاوة وغيرها، مما لم يكن يقوم بمثله إلا مثل مهر نرسي، فتوجه في تلك العدة، ودخل القسطنطينية، وقام مقاما مشهورا، وهادنه عظيم الروم، وانصرف بكل الذي أراد بهرام، ولم يزل لمهر نرسي مكرما، وربما خفف اسمه فقيل نرسي وربما قيل مهر نرسه، وهو مهر نرسى بن برازه بن فرخزاذ بن خورهباذ بن سيسفاذ ابن سيسنابروه بن كي أشك بن دارا بن دارا بن بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب. وكان مهر نرسي معظما عند جميع ملوك فارس بحسن أدبه، وجودة آرائه، وسكون العامة إليه، وكان له أولاد مع ذلك قد قاربوه في القدر، وعملوا للملوك من الأعمال ما كادوا يلحقون بمرتبته، وإن منهم ثلاثة قد كانوا برزوا:

احدهم زروانداذ، كان مهر نرسي قصد به للدين والفقه، فأدرك من ذلك أمرا عظيما، حتى صيره بهرام جور هربذان هربذ، مرتبة شبيهة بمرتبة موبذان موبذ وكان يقال للآخر: ما جشنس، ولم يزل متوليا ديوان الخراج أيام بهرام جور وكان اسم مرتبته بالفارسية راستراي وشانسلان وكان الثالث اسمه كارد صاحب الجيش الأعظم، واسم مرتبته بالفارسية اسطران سلار، وهذه مرتبة فوق مرتبة الإصبهبذ تقارب مرتبة الأرجبذ، وكان اسم مهر نرسي بمرتبته بالفارسية بزرجفرماندار، وتفسيره بالعربية وزير الوزراء أو رئيس الرؤساء وقيل إنه كان من قرية يقال لها ابروان من رستاق دشتبارين من كورة أردشير خرة، فابتنى فيه وفي جره من كورة سابور لاتصال ذلك ودشتبارين أبنية رفيعة، واتخذ فيها بيت نار- هو باق فيما ذكر إلى اليوم وناره توقد إلى هذه الغاية- يقال لها مهر نرسيان، واتخذ بالقرب من ابروان أربع قرى، وجعل في كل واحدة منها بيت نار، فجعل واحدا منها لنفسه، وسماه فراز مرا آور خذايان، وتفسير ذلك: اقبلي إلي سيدتي، على وجه التعظيم للنار، وجعل الآخر لزراونداذ، وسماه زراوندادان، والآخر لكارد وسماه كارداذان، والآخر لماجشنس، وسماه ماجشنسفان، واتخذ في هذه الناحية ثلاث باغات، جعل في كل باغ منها اثنتى عشره ألف نخلة، وفي باغ اثني عشر ألف اصل زيتون، وفي باغ اثنتى عشره ألف سروة، ولم تزل هذه القرى والباغات وبيوت النيران في يد قوم من ولده معروفين إلى اليوم، وإن ذلك- فيما ذكر- إلى اليوم باق على أحسن حالاته. وذكر أن بهرام بعد فراغه من أمر خاقان وأمر ملك الروم، مضى إلى بلاد السودان من ناحية اليمن، فأوقع بهم، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وسبى منهم خلقا، ثم انصرف إلى مملكته ثم كان من أمر هلاكه ما قد وصفت. واختلفوا في مدة ملكة، فقال بعضهم: كان ملكه ثماني عشرة سنة وعشره

ذكر ملك يزدجرد بن بهرام جور

أشهر وعشرين يوما وقال آخرون كان ملكه ثلاثا وعشرين سنة وعشرة أشهر وعشرين يوما ذكر ملك يزدجرد بن بهرام جور ثم قام بالملك من بعده يزدجرد بن بهرام جور فلما عقد التاج على رأسه دخل عليه العظماء والأشراف، فدعوا له وهنئوه بالملك، فرد عليهم ردا حسنا، وذكر أباه ومناقبه، وما كان منه إلى الرعية، وطول جلوسه كان لها، وأعلمهم أنهم إن فقدوا منه مثل الذي كانوا يعهدونه من أبيه، فلا ينبغي لهم أن يستنكروه، فإن خلواته انما تكون في مصلحه للمملكه وكيد للأعداء، وأنه قد استوزر مهر نرسي بن برازة صاحب أبيه، وإنه سائر فيهم بأحسن السيرة، ومستن لهم أفضل السنن، ولم يزل قامعا لعدوه، رءوفا برعيته وجنوده، محسنا إليهم. وكان له ابنان: يقال لأحدهما هرمز، وكان ملكا على سجستان، والآخر يقال له فيروز، فغلب هرمز على الملك من بعد هلاك أبيه يزدجرد، فهرب فيروز منه ولحق ببلاد الهياطلة، وأخبر ملكها بقصته وقصة هرمز أخيه، وإنه أولى بالملك منه، وسأله أن يمده بجيش يقاتل بهم هرمز، ويحتوي على ملك أبيه، فأبى ملك الهياطلة أن يجيبه إلى ما سأل من ذلك، حتى أخبر أن هرمز ملك ظلوم جائر فقال ملك الهياطلة: إن الجور لا يرضاه الله، ولا يصلح عمل أهله، ولا يستطاع أن ينتصف ويحترف في ملك الملك الجائر إلا بالجور والظلم فأمد فيروز بعد أن دفع إليه الطالقان بجيش، فأقبل بهم وقاتل هرمز أخاه فقتله، وشتت جمعه، وغلب على الملك. وكان الروم التاثوا على يزدجرد بن بهرام في الخراج الذي كانوا يحملونه إلى أبيه، فوجه إليهم مهر نرسي بن برازة، في مثل العدة التي كان بهرام وجهه إليهم عليها، فبلغ له إرادته

ذكر ملك فيروز بن يزدجرد

وكان ملك يزدجرد ثماني عشرة سنة وأربعة أشهر في قول بعضهم. وفي قول آخرين سبع عشره سنه . ذكر ملك فيروز بن يزدجرد ثم ملك فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور، بعد أن قتل أخاه وثلاثة نفر من اهل بيته. وحدثت عن هشام بن مُحَمَّد، قَالَ: استعد فيروز من خراسان، واستنجد بأهل طخارستان وما يليها، وسار إلى أخيه هرمز بن يزدجرد، وهو بالري- وكانت أمهما واحدة، واسمها دينك، وكانت بالمدائن تدبر ما يليها من الملك- فظفر فيروز بأخيه فحبسه، وأظهر العدل وحسن السيرة، وكان يتدين، وقحط الناس في زمانه سبع سنين، فأحسن تدبير ذلك الأمر حتى قسم ما في بيوت الأموال، وكف عن الجباية، وساسهم أحسن السياسة، فلم يهلك في تلك السنين أحد ضياعا إلا رجل واحد. وسار إلى قوم كانوا قد غلبوا على طخارستان يقال لهم الهياطلة، وقد كان قوادهم في أول ملكة لمعونتهم إياه على أخيه، وكانوا- فيما زعموا- يعملون عمل قوم لوط، فلم يستحل ترك البلاد في أيديهم، فقاتلهم فقتلوه في المعركة، وأربعة بنين له، وأربعة أخوة، كلهم كان يتسمى بالملك، وغلبوا على عامة خراسان حتى سار إليهم رجل من اهل فارس يقال له سوخرا من أهل شيراز، وكان فيهم عظيما، فخرج فيمن تبعه شبه المحتسب المتطوع حتى لقي صاحب الهياطلة، فأخرجه من بلاد خراسان، فافترقا على الصلح، ورد ما لم يضع مما في عسكر فيروز من الإسراء والسبي وملك سبعا وعشرين سنه. وقال غير هشام من أهل الأخبار: كان فيروز ملكا محدودا محارفا مشئوما على رعيته، وكان جل قوله وفعله فيما هو ضرر وآفة عليه وعلى أهل مملكته وأن البلاد قحطت في ملكه سبع سنين متوالية، فغارت الأنهار والقنى والعيون، وقحلت الأشجار والغياض، وهاجت عامة الزروع

والأجام في السهل والجبل من بلاده، وموتت فيها الطير والوحوش، وجاعت الأنعام والدواب، حتى كانت لا تقدر أن تحمل حمولة، وقل ماء دجلة، وعم أهل بلاده اللزبات والمجاعة والجهد والشدائد. فكتب إلى جميع رعيته يعلمهم انه لا خراج عليهم ولا جزية، ولا نائبة ولا سخرة، وأن قد ملكهم أنفسهم، ويأمرهم بالسعي فيما يقوتهم ويقيمهم، ثم أعاد الكتاب إليهم في اخراج كل من كان له منهم مطموره أو هرى أو طعام أو غيره، مما يقوت الناس، والتأسي فيه، وترك الاستئثار فيه، وأن يكون حال أهل الغنى والفقر وأهل الشرف والضعة في التأسي واحدا. وأخبرهم أنه إن بلغه أن إنسيا مات جوعا عاقب أهل المدينة، أو أهل القرية، أو الموضع الذي يموت فيه ذلك الإنسي جوعا، ونكل بهم أشد النكال. فساس فيروز رعيته في تلك اللزبة والمجاعة سياسة لم يعطب أحد منهم جوعا، ما خلا رجلا واحدا من رستاق كورة اردشير خرة، يدعى بديه فتعظم ذلك عظماء الفرس، وجميع أهل اردشير خرة وفيروز، وإنه ابتهل إلى ربه في نشر رحمته له ولرعيته، وإنزال غيثه عليهم، فأغاثه الله، وعادت بلاده في كثرة المياه على ما كانت تكون عليه، وصلحت الأشجار. وإن فيروز أمر فبنيت بالري مدينة، وسماها رام فيروز، وفيما بين جرجان وباب صول مدينة، وسماها روشن فيروز، وبناحيه اذربيجان مدينة وسماها شهرام فيروز

ولما حييت بلاد فيروز، واستوثق له الملك، وأثخن في أعدائه وقهرهم، وفرغ من بناء هذه المدن الثلاث، سار بجنوده نحو خراسان مريدا حرب اخشنوار ملك الهياطلة، فلما بلغ اخشنوار خبره اشتد منه رعبه فذكر أن رجلا من أصحاب اخشنوار بذل له نفسه، وقال له: اقطع يدي ورجلي، وألقني على طريق فيروز، وأحسن إلى ولدي وعيالي- يريد بذلك فيما ذكر الاحتيال لفيروز- ففعل ذلك اخشنوار بذلك الرجل، وألقاه على طريق فيروز، فلما مر به أنكر حاله وسأله عن أمره، فأخبره أن اخشنوار فعل ذلك به لأنه قَالَ له: لا قوام لك بفيروز وجنود الفرس فرق له فيروز ورحمه، وأمر بحمله معه، فأعلمه على وجه النصح منه له- فيما زعم- أنه يدله وأصحابه على طريق مختصر لم يدخل إلى ملك الهياطلة منه أحد، فاغتر فيروز بذلك منه، وأخذ بالقوم في الطريق الذي ذكره له الأقطع، فلم يزل يقطع بهم مفازة بعد مفازة، فكلما شكوا عطشا أعلمهم أنهم قد قربوا من الماء ومن قطع المفازة، حتى إذا بلغ بهم موضعا علم أنهم لا يقدرون فيه على تقدم ولا تأخر، بين لهم أمره، فقال أصحاب فيروز لفيروز: قد كنا حذرناك هذا أيها الملك فلم تحذر، فأما الآن فلا بد من المضي قدما حتى نوافي القوم على الحالات كلها فمضوا لوجوههم، وقتل العطش أكثرهم، وصار فيروز بمن نجا معه إلى عدوهم، فلما أشرفوا عليهم على الحال التي هم فيها دعوا اخشنوار إلى الصلح، على أن يخلي سبيلهم، حتى ينصرفوا إلى بلادهم، على أن يجعل فيروز له عهد الله وميثاقه الا يغزوهم ولا يروم أرضهم، ولا يبعث إليهم جندا يقاتلونهم، ويجعل بين مملكتها حدا لا يجوزه فرضي اخشنوار بذلك، وكتب له به فيروز كتابا مختوما، وأشهد له على نفسه شهودا، ثم خلى سبيله وانصرف. فلما صار إلى مملكته حمله الأنف والحمية على معاودة اخشنوار، فغزاه بعد أن نهاه وزراؤه وخاصته عن ذلك، لما فيه من نقض العهد، فلم يقبل منهم

وأبى إلا ركوب رأيه، وكان فيمن نهاه عن ذلك رجل كان يخصه ويجتبي رأيه، يقال له مزدبوذ، فلما رأى مزدبوذ لجاجته، كتب ما دار بينهما في صحيفة، وسأله الختم عليها، ومضى فيروز لوجهه نحو بلاد اخشنوار، وقد كان اخشنوار حفر خندقا بينه وبين بلاد فيروز عظيما، فلما انتهى إليه فيروز عقد عليه القناطر، ونصب عليها رايات جعلها أعلاما له ولأصحابه في انصرافهم، وجاز الى القوم، فلما التقى بعسكرهم احتج عليه اخشنوار بالكتاب الذي كتبه له، ووعظه بعهده وميثاقه، فأبى فيروز إلا لجاجا ومحكا وتواقفا، فكلم كل واحد منهما صاحبه كلاما طويلا، ونشبت بينهما بعد ذلك الحرب، وأصحاب فيروز على فتور من أمرهم، للعهد الذي كان بينهم وبين الهياطلة، وأخرج اخشنوار الصحيفة التي كتبها له فيروز، فرفعها على رمح وقال: اللهم خذ بما في هذا الكتاب فانهزم فيروز وسها عن موضع الرايات، وسقط في الخندق، فهلك، وأخذ اخشنوار أثقال فيروز ونساءه وأمواله ودواوينه، وأصاب جند فارس شيء لم يصبهم مثله قط وكان بسجستان رجل من أهل كورة اردشير خرة من الأعاجم، ذو علم وبأس وبطش، يقال له: سوخرا، ومعه جماعة من الاساورة، فلما بلغه خبر فيروز ركب من ليلته، فأغذ السير حتى انتهى إلى اخشنوار، فأرسل إليه وآذنه بالحرب، وتوعده بالجائحة والبوار، فبعث إليه اخشنوار جيشا عظيما فلما التقوا ركب إليهم سوخرا فوجدهم مدلين، فيقال: إنه رمى بعض من ورد عليه منهم رمية فوقعت بين عيني فرسه حتى كادت النشابة تغيب في رأسه، فسقط الفرس وتمكن سوخرا من راكبه، فاستبقاه وقال له: انصرف إلى صاحبك فأخبره بما رايت، فانصرفوا الى اخشنوار، وحملوا الفرس معهم، فلما رأى أثر الرمية بهت وأرسل إلى سوخرا: أن سل حاجتك، فقال له: حاجتي أن ترد علي الديوان، وتطلق الأسرى ففعل ذلك، فلما صار الديوان في يده، واستنفذ الأسرى، استخرج من الديوان بيوت الأموال التي كانت

مع فيروز، فكتب إلى اخشنوار إنه غير منصرف إلا بها فلما تبين الجد، افتدى نفسه وانصرف سوخرا بعد استنقاذ الأسارى وأخذ الديوان وارتجاع الأموال، وجميع ما كان مع فيروز من خزائنه إلى أرض فارس، فلما صار إلى الأعاجم شرفوه وعظموا أمره، وبلغوا به من المنزلة ما لم يكن بعده إلا الملك. وهو سوخرا بن ويسابور بن زهان بن نرسي بن ويسابور بن قارن ابن كروان بن أبيد بن أوبيد بن تيرويه بن كردنك بن ناور بن طوس ابن نودكا بن منشو بن نودر بن منوشهر. وذكر بعض أهل العلم بأخبار الفرس من خبر فيروز وخبر اخشنوار نحوا مما ذكرت، غير أنه ذكر أن فيروز لما خرج متوجها إلى اخشنوار، استخلف على مدينة طيسبون ومدينة بهرسير- وكانتا محلة الملوك- سوخرا هذا، قَالَ: وكان يقال لمرتبته قارن، وكان يلي معهما سجستان وأن فيروز لما بلغ منارة كان بهرام جور ابتناها فيما بين تخوم بلاد خراسان وبلاد الترك، لئلا يجوزها الترك إلى خراسان لميثاق كان بين الترك والفرس على ترك الفريقين التعدى لها، وكان فيروز عاهد اخشنوار الا يجاوزها الى بلاد الهياطلة، امر فيروز فصفد فيها خمسون فيلا وثلاثمائة رجل، فجرت أمامه جرا، واتبعها، أراد بذلك زعم الوفاء لاخشنوار بما عاهده عليه، فبلغ اخشنوار ما كان من فيروز في أمر تلك المنارة، فأرسل إليه يقول: انته يا فيروز عما انتهى عنه أسلافك، ولا تقدم على ما لم يقدموا عليه فلم يحفل فيروز بقوله، ولم تكرثه رسالته، وجعل يستطعم محاربة اخشنوار، ويدعوه إليها، وجعل اخشنوار يمتنع من محاربته

ويستكرهها، لأن جل محاربة الترك إنما هو بالخداع والمكر والمكايدة، وإن اخشنوار أمر فحفر خلف عسكره خندق عرضه عشرة أذرع، وعمقه عشرون ذراعا، وغمى بخشب ضعاف، وألقى عليه ترابا، ثم ارتحل في جنده، فمضى غير بعيد، فبلغ فيروز رحلة اخشنوار بجنده من عسكره، فلم يشك في أن ذلك منهم انكشاف وهرب، فأمر بضرب الطبول، وركب في جنده في طلب اخشنوار وأصحابه، فأغذوا السير، وكان مسلكهم على ذلك الخندق فلما بلغوه اقحموا على عماية، فتردى فيه فيروز وعامة جنده، وهلكوا من عند آخرهم. وإن اخشنوار عطف على عسكر فيروز، فاحتوى على كل شيء فيه، وأسر موبذان موبذ، وصارت فيروز دخت ابنة فيروز فيمن صار في يده من نساء فيروز، وامر اخشنوار فاستخرجت جثة فيروز وجثة كل من سقط معه في ذلك الخندق، فوضعت في النواويس، ودعا اخشنوار فيروز دخت إلى أن يباشرها، فأبت عليه. وأن خبر هلاك فيروز سقط إلى بلاد فارس، فارتجوا له وفزعوا، حتى إذا استقرت حقيقة خبره عند سوخرا تأهب وسار في عظم من كان قبله من الجند إلى بلاد الهياطلة فلما بلغ جرجان بلغ اخشنوار خبر مسيره لمحاربته، فاستعد وأقبل متلقيا له، وأرسل إليه يستخبره عن خبره، ويسأله عن اسمه ومرتبته، فأرسل أنه رجل يقال له سوخرا، ولمرتبته قارن، وأنه إنما سار إليه لينتقم منه لفيروز، فأرسل إليه اخشنوار يقول: إن سبيلك في الأمر الذي قدمت له كسبيل فيروز إذ لم يعقبه في كثرة جنوده من محاربته إياي إلا الهلكة والبوار. فلم ينهنه سوخرا قول اخشنوار، ولم يعبأ به، وأمر جنوده فاستعدوا وتسلحوا، وزحف إلى اخشنوار لشدة إقدامه وحدة قلبه، فطلب موادعته وصلحه،

فلم يقبل منه سوخرا صلحا دون أن يصير في يده كل شيء صار عنده من عسكر فيروز فسلم اخشنوار إليه ما أصاب من أموال فيروز وخزائنه ومرابطه ونسائه، وفيهن فيروز دخت، ودفع إليه موبذان موبذ وكل أحد كان عنده من عظماء الفرس، فانصرف سوخرا بذلك كله إلى بلاد الفرس. واختلف في مدة ملك فيروز، فقال بعضهم: كانت ستا وعشرين سنة. وقال آخرون: كانت إحدى وعشرين سنة

ذكر ما كان من الاحداث في ايام يزدجرد بن بهرام وفيروز بين عمالهما على العرب واهل اليمن

ذكر ما كان من الأحداث في أيام يزدجرد بن بهرام وفيروز بين عمالهما على العرب واهل اليمن حدثت عن هشام بن مُحَمَّد، قَالَ: كان يخدم الملوك من حمير في زمان ملكهم أبناء الأشراف من حمير وغيرهم من القبائل، فكان ممن يخدم حسان بن تبع عمرو بن حجر الكندي، وكان سيد كندة في زمانه فلما سار حسان بن تبع إلى جديس خلفه على بعض أموره، فلما قتل عمرو بن تبع أخاه حسان بن تبع، وملك مكانه، اصطنع عمرو بن حجر الكندي. وكان ذا رأي ونبل، وكان مما أراد عمرو إكرامه به وتصغير بني أخيه حسان أن زوجه ابنة حسان بن تبع، فتكلمت في ذلك حمير وكان عندهم من الأحداث التي ابتلوا بها، لأنه لم يكن يطمع في التزويج إلى أهل ذلك البيت أحد من العرب وولدت ابنة حسان بن تبع لعمرو بن حجر الحارث بن عمرو، وملك بعد عمرو بن تبع عبد كلال بن مثوب، وذلك أن ولد حسان كانوا صغارا، إلا ما كان من تبع بن حسان، فإن الجن استهامته، فأخذ الملك عبد كلال بن مثوب مخافة أن يطمع في الملك غير اهل بيت المملكة، فوليه بسن وتجربة وسياسة حسنة وكان- فيما ذكروا- على دين النصرانية الأولى، وكان يسر ذلك من قومه، وكان الذي دعاه إليه رجل من غسان، قدم عليه من الشام، فوثبت حمير بالغساني فقتلته، فرجع تبع بن حسان من استهامة الجن إياه صحيحا، وهو أعلم الناس بنجم، وأعقل من تعلم في زمانه، وأكثره حديثا عما كان قبله وما يكون في الزمان بعده فملك تبع ابن حسان بن تبع بن ملكيكرب بن تبع الأقرن، فهابته حمير والعرب هيبة شديدة، فبعث بابن أخته الحارث بن عمرو بن حجر الكندي في جيش عظيم إلى بلاد معد والحيرة وما والاها فسار إلى النعمان بن امرئ القيس ابن الشقيقة فقاتله، فقتل النعمان وعدة من أهل بيته، وهزم أصحابه وأفلته المنذر بن النعمان الأكبر وأمه ماء السماء، امرأة من النمر، فذهب ملك

ذكر ملك بلاش بن فيروز

آل النعمان، وملك الحارث بن عمرو الكندي ما كانوا يملكون. وقال هشام: ملك بعد النعمان ابنه المنذر بن النعمان وأمه هند ابنة زيد مناة بن زيد الله بن عمرو الغساني أربعا وأربعين سنة، من ذلك في زمن بهرام جور بن يزدجرد ثماني سنين وتسعة أشهر، وفي زمن يزدجرد بن بهرام ثماني عشرة سنة وفي زمن فيروز بن يزدجرد سبع عشرة سنة ثم ملك بعده ابنه الأسود بن المنذر، وأمه هر ابنة النعمان من بني الهيجمانة، ابنة عمرو بْن أبي ربيعة بْن ذهل بْن شيبان، وهو الذي أسرته فارس عشرين سنة، من ذلك في زمن فيروز بن يزدجرد عشر سنين، وفي زمن بلاش بن يزدجرد أربع سنين، وفي زمن قباذ بن فيروز، ست سنين . ذكر ملك بلاش بن فيروز ثم قام بالملك بعد فيروز بن يزدجرد ابنه بلاش بن فيروز بن يزدجرد ابن بهرام جور، وكان قباذ أخوه قد نازعه الملك، فغلب بلاش، وهرب قباذ إلى خاقان ملك الترك يسأله المعونة والمدد، فلما عقد التاج لبلاش على رأسه اجتمع إليه العظماء والأشراف فهنئوه ودعوا له، وسألوه أن يكافئ سوخرا بما كان منه، فخصه وأكرمه وحباه، ولم يزل بلاش حسن السيرة، حريصا على العمارة وكان بلغ من حسن نظره إنه كان لا يبلغه أن بيتا خرب وجلا أهله عنه إلا عاقب صاحب القرية التي فيها ذلك البيت على تركه انتعاشهم وسد فاقتهم حتى لا يضطروا إلى الجلاء عن أوطانهم، وبنى بالسواد مدينه سماها بلا شاواذ، وهي مدينة ساباط التي بقرب المدائن. وكان ملكه اربع سنين . ذكر ملك قباذ بن فيروز ثم ملك قباذ بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور، وكان قباذ قبل أن يصير الملك إليه قد سار إلى خاقان مستنصرا به على أخيه بلاش، فمر في طريقه بحدود

نيسابور، ومعه جماعة يسيرة ممن شايعه على الشخوص متنكرين، وفيهم زرمهر بن سوخرا، فتاقت نفس قباذ إلى الجماع، فشكا ذلك إلى زرمهر، وسأله أن يلتمس له امرأة ذات حسب، ففعل ذلك، وصار إلى امرأة صاحب منزله، وكان رجلا من الأساورة، وكانت له ابنة بكر فائقة في الجمال، فتنصح لها في ابنتها، وأشار عليها أن تبعث بها إلى قباذ، فأعلمت ذلك زوجها، ولم يزل زرمهر يرغب المرأة وزوجها، ويشير عليهما بما يرغبهما فيه حتى فعلا، وصارت الابنة إلى قباذ، واسمها نيوندخت، فغشيها قباذ في تلك الليلة، فحملت بانوشروان، فأمر لها بجائزة حسنة، وحباها حباء جزيلا. وقيل إن أم تلك الجارية سألتها عن هيئة قباذ وحاله فأعلمتها أنها لا تعرف من ذلك غير أنها رأت سراويله منسوجا بالذهب، فعلمت أمها أنه من أبناء الملوك وسرها ذلك ومضى قباذ إلى خاقان، فلما وصل إليه أعلمه أنه ابن ملك فارس، وأن أخاه ضاده في الملك وغلبه، وأنه أتاه يستنصره فوعده أحسن العدة، ومكث قباذ عند خاقان أربع سنين يدافعه بما وعده فلما طال الأمر على قباذ أرسل إلى امرأة خاقان يسألها أن تتخذه ولدا، وأن تكلم فيه زوجها، وتسأله إنجاز عدته ففعلت، ولم تزل تحمل على خاقان حتى وجه مع قباذ جيشا، فلما انصرف قباذ بذلك الجيش، وصار في ناحية نيسابور سأل الرجل الذي كان أتاه بالجارية عن أمرها فاستخبر ذلك من أمها، فأخبرته أنها قد ولدت غلاما، فأمر قباذ أن يؤتى بها، فأتته ومعها انو شروان تقوده بيدها فلما دخلت عليه سألها عن قصة الغلام، فأخبرته أنه ابنه، وإذا هو قد نزع إليه في صورته وجماله. ويقال: إن الخبر ورد عليه في ذلك الموضع بهلاك بلاش فتيمن بالمولود، وأمر بحمله وحمل أمه على مراكب نساء الملوك، فلما صار إلى المدائن،

واستوثق له أمر الملك خص سوخرا، وفوض إليه أمره، وشكر له ما كان من خدمة ابنه إياه، ووجه الجنود إلى الأطراف، ففتكوا في الأعداء، وسبوا سبايا كثيرة، وبني بين الأهواز وفارس مدينة الرجان، وبنى أيضا مدينة حلوان، وبنى بكورة اردشير خرة في ناحيه كارزين مدينة يقال لها قباذ خرة، وذلك سوى مدائن وقرى أنشأها، وسوى أنهار احتفرها، وجسور عقدها. فلما مضت أكثر أيامه، وتولى سوخرا تدبير ملكه وسياسة أموره مال الناس عليه، وعاملوه واستخفوا بقباذ، وتهاونوا بأمره، فلما احتنك لم يحتمل ذلك، ولم يرض به، وكتب إلى سابور الرازي- الذي يقال للبيت الذي هو منه مهران، وكان إصبهبذ البلاد- في القدوم عليه فيمن قبله من الجند، فقدم سابور بهم عليه، فواصفه قباذ حالة سوخرا، وأمره بأمره فيه، فغدا سابور على قباذ فوجد عنده سوخرا جالسا، فمشى نحو قباذ متجاوزا له متغافلا لسوخرا، فلم يأبه سوخرا لذلك من أرب سابور، حتى ألقى وهقا كان معه في عنقه، ثم اجتذبه فأخرجه فأوثقه واستودعه السجن، فحينئذ قيل: نقصت ريح سوخرا وهبت لمهران ريح، وذهب ذلك مثلا وأن قباذ أمر بعد ذلك بقتل سوخرا فقتل، وأنه لما مضى لملك قباذ عشر سنين اجتمعت كلمة موبذان موبذ والعظماء على إزالته عن ملكه، فأزالوه عنه وحبسوه، لمتابعته لرجل يقال له مزدك مع أصحاب له قَالُوا: إن الله إنما جعل الأرزاق في الأرض ليقسمها العباد بينهم بالتآسي، ولكن الناس تظالموا فيها، وزعموا أنهم يأخذون للفقراء من الأغنياء، ويردون من المكثرين على المقلين، وانه من كان عنده فضل من الأموال والنساء والأمتعة فليس هو بأولى به من غيره، فافترص السفلة ذلك واغتنموه، وكانفوا مزدك وأصحابه وشايعوهم، فابتلى الناس بهم، وقوي أمرهم حتى كانوا يدخلون على الرجل في داره فيغلبونه على منزله

ونسائه وأمواله لا يستطيع الامتناع منهم، وحملوا قباذ على تزيين ذلك وتوعدوه بخلعه، فلم يلبثوا إلا قليلا حتى صاروا لا يعرف الرجل منهم ولده، ولا المولود أباه، ولا يملك الرجل شيئا مما يتسع به وصيروا قباذ في مكان لا يصل إليه أحد سواهم، وجعلوا أخا له يقال له جاماسب مكانه، وقالوا لقباذ: إنك قد أثمت فيما عملت به فيما مضى، وليس يطهرك من ذلك إلا إباحة نسائك، وأرادوه على أن يدفع إليهم نفسه فيذبحوه ويجعلوه قربانا للنار، فلما رأى ذلك زرمهر بن سوخرا خرج بمن شايعه من الأشراف باذلا نفسه، فقتل من المزدكية ناسا كثيرا، وأعاد قباذ إلى ملكه، وطرح أخاه جاماسب ثم لم يزل المزدكية بعد ذلك إنما يحرشون قباذ على زرمهر حتى قتله، ولم يزل قباذ من خيار ملوكهم حتى حمله مزدك على ما حمله عليه، فانتشرت الأطراف وفسدت الثغور. وذكر بعض أهل العلم بأخبار الفرس أن العظماء من الفرس هم حبسوا قباذ حين اتبع مزدك وشايعه على ما دعاه إليه من أمره، وملكوا مكانه أخاه جاماسب بن فيروز وأن أختا لقباذ أتت الحبس الذي كان فيه قباذ محبوسا، فحاولت الدخول عليه، فمنعها إياه الرجل الموكل كان بالحبس ومن فيه، وطمع الرجل أن يفضحها بذلك السبب، وألقى إليها طمعه فيها، واخبرته أنها غير مخالفته في شيء مما يهوى منها، فأذن لها فدخلت السجن فأقامت عند قباذ يوما وأمرت فلف قباذ في بساط من البسط التي كانت معه في الحبس، وحمل على غلام من غلمانه قوي ضابط، وأخرج من الحبس فلما مر الغلام بوالي الحبس سأله عما كان حامله فأفحم، واتبعته أخت قباذ فأخبرته أنه فراش كانت افترشته في عراكها، وأنها إنما خرجت لتتطهر وتنصرف، فصدقها الرجل ولم يمس البساط، ولم يدن منه استقذارا له، وخلى عن الغلام الحامل لقباذ، فمضى بقباذ ومضت على أثره. وهرب قباذ فلحق بأرض الهياطلة ليستمد ملكها ويستجيشه فيحارب

من خالفه وخلعه وأنه نزل في مبدئه إليها بابرشهر رجل من عظماء أهلها، له ابنة معصر، وأن نكاحه أم كسرى أنوشروان كان في سفره هذا، وأن قباذ رجع من سفره ذلك معه ابنه أنوشروان وأمه، فغلب أخاه جاماسب على ملكه بعد أن ملك أخوه جاماسب ست سنين، وأن- قباذ غزا بعد ذلك بلاد الروم، وافتتح منها مدينة من مدن الجزيرة تدعى آمد، وسبى أهلها، وأمر فبنيت في حد ما بين فارس وأرض الأهواز مدينه، وسماها رامقباذ، وهي التي تسمى بومقباذ، وتدعى أيضا أرجان وكور كورة، وجعل لها رساتيق من كوره سرق، كوره رام هرمز، وملك قباذ ابنه كسرى، وكتب له بذلك كتابا وختمه بخاتمه. فلما هلك قباذ- وكان ملكه بسني ملك أخيه جاماسب: ثلاثا وأربعين سنة- فنفذ كسرى ما أمر به قباذ من ذلك

ذكر ما كان من الحوادث التي كانت بين العرب في ايام قباذ في مملكته وبين عماله

ذكر ما كان من الحوادث التي كانت بين العرب في ايام قباذ في مملكته وبين عماله وحدثت عن هشام بن مُحَمَّد، قَالَ: لما لقي الحارث بن عمرو بن حجر ابن عدي الكندي النعمان بن المنذر بن امرئ القيس بن الشقيقه قتله، وأفلته المنذر بن النعمان الأكبر، وملك الحارث بن عمرو الكندي ما كان يملك، بعث قباذ بن فيروز ملك فارس إلى الحارث بن عمرو الكندي: أنه قد كان بيننا وبين الملك الذي قد كان قبلك عهد، وإني أحب أن ألقاك. وكان قباذ زنديقا يظهر الخير ويكره الدماء، ويداري أعداءه فيما يكره من سفك الدماء، وكثرت الأهواء في زمانه، واستضعفه الناس، فخرج إليه الحارث بن عمرو الكندي في عدد وعدة حتى التقوا بقنطرة الفيوم، فأمر قباذ بطبق من تمر فنزع نواه، وأمر بطبق فجعل فيه تمر فيه نواه، ثم وضعا بين أيديهما، فجعل الذي فيه النوى يلي الحارث بن عمرو، والذي لا نوى فيه يلي قباذ فجعل الحارث يأكل التمر ويلقي النوى، وجعل قباذ يأكل ما يليه، وقال للحارث: ما لك لا تاكل مثل ما آكل! فقال: له الحارث إنما يأكل النوى إبلنا وغنمنا وعلم أن قباذ يهزأ به، ثم اصطلحا على أن يورد الحارث بن عمرو ومن أحب من أصحابه خيولهم الفرات إلى ألبابها، ولا يجاوزوا أكثر من ذلك فلما رأى الحارث ما عليه قباذ من الضعف طمع في السواد، فأمر أصحاب مسالحه أن يقطعوا الفرات فيغيروا في السواد، فأتى قباذ الصريخ وهو بالمدائن فقال: هذا من تحت كنف ملكهم ثم أرسل إلى الحارث بن عمرو أن لصوصا من لصوص

العرب قد أغاروا، وأنه يحب لقاءه فلقيه، فقال له قباذ: لقد صنعت صنيعا ما صنعه أحد قبلك، فقال له الحارث: ما فعلت ولا شعرت، ولكنها لصوص من لصوص العرب، ولا أستطيع ضبط العرب إلا بالمال والجنود، قَالَ له قباذ: فما الذي تريد؟ قَالَ: أريد أن تطعمني من السواد ما اتخذ به سلاحا، فأمر له بما يلي جانب العرب من أسفل الفرات، وهي ستة طساسيج، فأرسل الحارث بن عمرو الكندي إلى تبع وهو باليمن: انى قد طمعت في ملك الأعاجم، وقد أخذت منه ستة طساسيج، فاجمع الجنود وأقبل فإنه ليس دون ملكهم شيء لان الملك عليهم لا يأكل اللحم، ولا يستحل هراقة الدماء لأنه زنديق فجمع تبع الجنود، وسار حتى نزل الحيرة وقرب من الفرات، فآذاه البق، فأمر الحارث بن عمرو أن يشق له نهرا إلى النجف ففعل، وهو نهر الحيرة فنزل عليه ووجه ابن أخيه شمرا ذا الجناح إلى قباذ، فقاتله فهزمه شمر حتى لحق بالري، ثم أدركه بها فقتله، وأمضى تبع شمرا ذا الجناح إلى خراسان، ووجه تبع ابنه حسان إلى الصغد، وقال: أيكما سبق إلى الصين فهو عليها وكان كل واحد منهما في جيش عظيم، يقال: كانا في ستمائه الف واربعين ألفا وبعث ابن أخيه يعفر الى الروم، وهو الذى يقول: أيا صاح عجبك للداهية ... لحمير إذ نزلوا الجابية! ثمانون ألفا رواياهمو ... لكل ثمانية راويه فسار يعفر حتى أتى القسطنطينية، فأعطوه الطاعة والإتاوة، ثم مضى إلى رومية وبينهما مسيرة أربعة أشهر، فحاصرها وأصاب من معه جوع، ووقع فيهم طاعون فرقوا، فأبصرهم الروم وما لقوا، فوثبوا عليهم فقتلوهم، فلم يفلت منهم أحد وسار شمر ذو الجناح حتى أتى سمرقند، فحاصرها

فلم يظفر بشيء منها فلما رأى ذلك أطاف بالحرس، حتى أخذ رجلا من أهلها، فسأله عن المدينة وملكها، فقال له: أما ملكها فأحمق الناس، ليس له هم إلا الشراب والاكل، وله ابنه وهي التي تقضي أمر الناس. فبعث معه بهدية إليها، فقال له: أخبرها أني إنما جئت من أرض العرب للذي بلغني من عقلها لتنكحني نفسها، فأصيب منها غلاما يملك العجم والعرب، وإني لم أجيء ألتمس المال، وإن معي أربعة آلاف تابوت من ذهب وفضة هاهنا، فأنا أدفعها إليها، وأمضى إلى الصين، فإن كانت الارض لي كانت امرأتي، وإن هلكت كان ذلك المال لها فلما أنهيت إليها رسالته قالت: قد أجبته فليبعث بما ذكر، فأرسل إليها أربعة آلاف تابوت، في كل تابوت رجلان، فكان لسمرقند أربعة أبواب على كل باب منها أربعة آلاف رجل، وجعل العلامة بينه وبينهم أن يضرب لهم بالجلجل. وتقدم في ذلك إلى رسله الذين وجه معهم، فلما صاروا في المدينة ضرب لهم بالجلجل فخرجوا، فأخذوا بالأبواب، ونهد شمر في الناس، فدخل المدينة فقتل أهلها وحوى ما فيها ثم سار إلى الصين، فلقي زحوف الترك فهزمهم، ومضى إلى الصين فوجد حسان بن تبع قد كان سبقه إليها بثلاث سنين، فأقاما بها- فيما ذكر بعض الناس- حتى ماتا وكان مقامهما إحدى وعشرين سنة. قَالَ: وقال من زعم أنهما أقاما بالصين حتى هلكا: أن تبعا جعل النار فيما بينه وبينهم، فكان إذا حَدَثَ حَدَثٌ أوقدوا النار بالليل، فأتى الخبر في ليلة، وجعل آية ما بينه وبينهم أن إذا أوقدت نارين من عندي فهو هلاك يعفر، وإن أوقدت ثلاثا فهو هلاك تبع، وإن كانت من عندهم نار فهو هلاك حسان، وإن كانت نارين فهو هلاكهما فمكثوا بذلك ثم إنه أوقد نارين فكان هلاك يعفر، ثم اوقد ثلاثا فكان هلاك تبع قَالَ: وأما الحديث المجتمع عليه فإن شمرا وحسان انصرفا في الطريق الذي كانا أخذا فيه حيث بدءا، حتى قدما على تبع بما حازا من الأموال بالصين، وصنوف

ذكر ملك كسرى انوشروان

الجوهر والطيب والسبي، ثم انصرفوا جميعا إلى بلادهم، وسار تبع حتى قدم مكة، فنزل بالشعب من المطابخ، وكانت وفاة تبع باليمن، فلم يخرج أحد من ملوك اليمن بعده عنها غازيا إلى شيء من البلاد، وكان ملكه مائة وإحدى وعشرين سنة. قَالَ: ويقال إنه كان دخل في دين اليهود للأحبار الذين كانوا خرجوا من يثرب مع تبع إلى مكة عدة كثيرة. قَالَ: ويقولون: إن علم كعب الأحبار كان من بقية ما أورثت تلك الأحبار، وكان كعب الأحبار رجلا من حمير. وأما ابن إسحاق فإنه ذكر ان الذى سار الى المشرق من التبابعة تبع الآخر، وأنه تبع تبان أسعد أبو كرب بن ملكيكرب بن زيد بن عمرو ذي الأذعار، وهو أبو حسان، حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه . ذكر ملك كسرى انوشروان ثم ملك كسرى انوشروان بن قباذ بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور فلما ملك كتب إلى أربعة فاذوسبانين- كان كل واحد منهم على ناحية من نواحي بلاد فارس ومن قبلهم- كتبا نسخة كتابه منها إلى فاذوسبان أذربيجان: بسم الله الرحمن الرحيم من الملك كسرى بن قباذ إلى واري ابن النخيرجان فاذوسبان أذربيجان وأرمينية وحيزها، ودنباوند وطبرستان وحيزها، ومن قبله: سلام، فإن أحرى ما استوحش له الناس فقد من تخوفوا في فقدهم إياه زوال النعم ووقوع الفتن، وحلول المكاره بالأفضل فالأفضل منهم، في نفسه أو حشمه أو ماله أو كريمه، وإنا لا نعلم

وحشة ولا فقد شيء أجل رزيئة عند العامة، ولا أحرى أن تعم به البلية من فقد ملك صالح. وإن كسرى لما استحكم له الملك أبطل ملة رجل منافق من أهل فسا يقال له: زراذشت بن خركان ابتدعها في المجوسية، فتابعه الناس على بدعته تلك، وفاق أمره فيها، وكان ممن دعا العامة إليها رجل من أهل مذرية يقال له: مزدق بن بامداذ، وكان مما أمر به الناس وزينه لهم وحثهم عليه، التآسي في أموالهم وأهليهم، وذكر أن ذلك من البر الذى يرضاه الله ويثيب عليه أحسن الثواب، وإنه لو لم يكن الذي أمرهم به، وحثهم عليه من الدين كان مكرمة في الفعال، ورضا في التفاوض فحض بذلك السفلة على العلية، واختلط له أجناس اللؤماء بعناصر الكرماء، وسهل السبيل للغصبة إلى الغصب، وللظلمة إلى الظلم، وللعهار إلى قضاء نهمتهم، والوصول إلى الكرائم اللائي لم يكونوا يطمعون فيهن، وشمل الناس بلاء عظيم لم يكن لهم عهد بمثله فنهى الناس كسرى عن السيرة بشيء مما ابتدع زراذشت خركان، ومزدق بن بامداذ، وأبطل بدعتهما، وقتل بشرا كثيرا ثبتوا عليها، ولم ينتهوا عما نهاهم عنه منها، وقوما من المنانية، وثبت للمجوس ملتهم التي لم يزالوا عليها. وكان يلى الاصبهبذه- وهي الرياسة على الجنود- قبل ملكه رجل، وكان إليه إصبهبذة البلاد، ففرق كسرى هذه الولاية والمرتبة بين اربعه اصبهذين، منهم اصبهذ المشرق وهو خراسان وما والاها، واصبهذ المغرب، واصبهذ نيمروز، وهي بلاد اليمن، واصبهذ اذربيجان وما والاها، وهي

بلاد الخزر، وما والاها، لما رأى في ذلك من النظام لملكه، وقوى المقاتلة بالأسلحة والكراع، وارتجع بلادا كانت من مملكة فارس، خرج بعضها من يد الملك قباذ إلى ملوك الأمم لعلل شتى واسباب، منها السند، وبست، والرخج، وزابلستان، وطخارستان، ودردستان، وكابلستان، وأعظم القتل في أمة يقال لها البارز، وأجلى بقيتهم عن بلادهم، وأسكنهم مواضع من بلاد مملكته، وأذعنوا له بالعبودية، واستعان بهم في حروبه، وأمر فأسرت أمة أخرى، يقال لها صول، وقدم بهم عليه، وأمر بهم فقتلوا، ما خلا ثمانين رجلا من كماتهم استحياهم، وأمر بإنزالهم شهرام فيروز، يستعين بهم في حروبه. وأن أمة يقال لها أبخز، وأمة يقال لها بنجر، وأمة يقال لها بلنجر، وأمة يقال لها ألان، تمالئوا على غزو بلاده، وأقبلوا إلى أرمينية ليغيروا على أهلها، وكان مسلكهم إليها يومئذ سهلا ممكنا، فأغضى كسرى على ما كان منهم، حتى إذا تمكنوا في بلاده وجه إليهم جنودا، فقاتلوهم واصطلموهم ما خلا عشرة آلاف رجل منهم أسروا، فأسكنوا أذربيجان وما والاها، وكان الملك فيروز بنى في ناحية صول وألان بناء بصخر إرادة أن يحصن بلاده عن تناول تلك الأمم إياها، وأحدث الملك قباذ بن فيروز من بعد أبيه في تلك المواطن بناء كثيرا، حتى إذا ملك كسرى أمر فبنيت في ناحية صول بصخر منحوت في ناحية جرجان مدن وحصون وآكام وبنيان كثير، ليكون حرزا لأهل بلاده يلجئون إليها من عدو إن دهمهم. وإن سنجبوا خاقان كان أمنع الترك وأشجعهم، وأعزهم وأكثرهم جنودا، وهو الذي قاتل وزر ملك الهياطلة غير خائف كثرة الهياطلة ومنعتهم، فقتل وزر ملكها وعامة جنوده، وغنم أموالهم، واحتوى على

بلادهم إلا ما كان كسرى غلب عليه منها، وإنه استمال أبخز، وبنجر، وبلنجر، فمنحوه طاعتهم وأعلموه أن ملوك فارس لم يزالوا يتقونهم بفداء يكفونهم به عن غزو بلادهم، وأنه أقبل في مائة ألف وعشرة آلاف مقاتل حتى شارف ما والى بلاد صول، وأرسل إلى كسرى في توعد منه إياه واستطالة عليه، أن يبعث إليه بأموال، وإلى أبخز وبنجر وبلنجر بالفداء الذي كانوا يعطونه اياه قبل ملك كسرى، وأنه إن لم يعجل بالبعثة إليه بما سأل وطيء بلاده وناجزه فلم يحفل كسرى بوعيده، ولم يجبه إلى شيء مما سأله لتحصينه كان ناحية باب صول، ومناعة السبل والفجاج التي كان سنجبوا خاقان سالكها إياه، ولمعرفته كانت بمقدرته على ضبط ثغر أرمينية بخمسة آلاف مقاتل من الفرسان والرجالة. فبلغ سنجبوا خاقان تحصين كسرى ثغر صول، فانصرف بمن كان معه إلى بلاده خائبا، ولم يقدر من كان بإزاء جرجان من العدو- للحصون التي كان أمر كسرى فبنيت حواليها- أن يشنوها بغارة، ويغلبوا عليها، وكان كسرى أنوشروان قد عرف الناس منه فضلا في رأيه وعلمه وعقله، وبأسه وحزمه، مع رأفته ورحمته بهم، فلما عقد التاج على رأسه دخل إليه العظماء والأشراف فاجتهدوا في الدعاء له، فلما قضوا مقالتهم، قام خطيبا، فبدأ بذكر نعم الله على خلقه عند خلقه إياهم، وتوكله بتدبير أمورهم، وتقدير الأقوات والمعايش لهم، ولم يدع شيئا إلا ذكره في خطبته، ثم أعلم الناس ما ابتلوا به من ضياع أمورهم، وإمحاء دينهم، وفساد حالهم في أولادهم ومعاشهم، وأعلمهم أنه ناظر فيما يصلح ذلك ويحسمه، وحث الناس على معاونته. ثم أمر برءوس المزدكية فضربت أعناقهم، وقسمت أموالهم في أهل الحاجة، وقتل جماعة كثيرة ممن كان دخل على الناس في أموالهم، ورد الأموال إلى أهلها، وأمر بكل مولود اختلف فيه عنده أن يلحق بمن هو منهم، إذا لم

يعرف أبوه، وأن يعطي نصيبا من مال الرجل الذي يسند إليه إذا قبله الرجل، وبكل امرأة غلبت على نفسها أن يؤخذ الغالب لها حتى يغرم لها مهرها، وبرضى أهلها ثم تخير المرأة بين الإقامة عنده، وبين تزويج من غيره، إلا أن يكون كان لها زوج أول، فترد إليه وأمر بكل من كان أضر برجل في ماله أو ركب أحدا بمظلمة أن يؤخذ منه الحق ثم يعاقب الظالم بعد ذلك بقدر جرمه وأمر بعيال ذوي الأحساب الذين مات قيمهم فكتبوا له، فأنكح بناتهم الأكفاء، وجعل جهازهم من بيت المال وأنكح شبانهم من بيوتات الاشراف وساق عنهم واغناهم، وامرهم بملازمة بابه ليستعان بهم في أعماله وخير نساء والده بين أن يقمن مع نسائه فيواسين ويصرن في الأجر إلى أمثالهن، أو يبتغي لهن أكفاءهن من البعولة وأمر بكري الأنهار، وحفر القني وأسلاف أصحاب العمارات وتقويتهم، وأمر بإعادة كل جسر قطع أو قنطرة كسرت، أو قرية خربت أن يرد ذلك إلى أحسن ما كان عليه من الصلاح، وتفقد الأساورة، فمن لم يكن له منهم يسار قواه بالدواب والعدة، وأجرى لهم ما يقويهم ووكل ببيوت النيران، وسهل سبل الناس، وبنى في الطرق القصور والحصون، وتخير الحكام والعمال والولاة، وتقدم إلى من ولى منهم ابلغ التقدم، وعمد الى سير أردشير وكتبه وقضاياه، فاقتدى بها وحمل الناس عليها، فلما استوثق له الملك، ودانت له البلاد سار نحو أنطاكية بعد سنين من ملكه، وكان فيها عظماء جنود قيصر، فافتتحها. ثم أمر أن تصور له مدينة أنطاكية على ذرعها وعدد منازلها وطرقها، وجميع ما فيها، وأن يبتنى له على صورتها مدينة إلى جنب المدائن، فبنيت المدينة المعروفة بالرومية على صورة أنطاكية، ثم حمل أهل أنطاكية حتى أسكنهم إياها. فلما دخلوا باب المدينة مضى أهل كل بيت منهم إلى ما يشبه منازلهم التي كانوا فيها بأنطاكية، كأنهم لم يخرجوا عنها. ثم قصد لمدينة هرقل فافتتحها، ثم الإسكندرية وما دونها، وخلف طائفة من

جنوده بأرض الروم، بعد أن أذعن له قيصر وحمل إليه الفدية، ثم انصرف من الروم، فأخذ نحو الخزر فأدرك فيهم تبله، وما كانوا وتروه به في رعيته ثم انصرف نحو عدن، فسكر ناحية من البحر هناك بين جبلين مما يلي أرض الحبشة بالسفن العظام والصخور وعمد الحديد والسلاسل وقتل عظماء تلك البلاد. ثم انصرف إلى المدائن، وقد استقام له ما دون هرقلة من بلاد الروم وأرمينية، وما بينه وبين البحرين من ناحية عدن. وملك المنذر بن النعمان على العرب وأكرمه، ثم أقام في ملكه بالمدائن، وتعاهد ما كان يحتاج إلى تعاهده ثم سار بعد ذلك إلى الهياطلة مطالبا بوتر فيروز جده- وقد كان أنوشروان صاهر خاقان قبل ذلك- فكتب إليه قبل شخوصه يعلمه ما عزم عليه، ويأمره بالمسير إلى الهياطلة فأتاهم، فقتل ملكهم، واستأصل أهل بيته وتجاوز بلخ وما وراءها، وأنزل جنوده فرغانة. ثم انصرف من خراسان، فلما صار بالمدائن وافاه قوم يستنصرونه على الحبشة، فبعث معهم قائدا من قواده في جند من أهل الديلم وما يليها، فقتلوا مسروقا الحبشي باليمن، وأقاموا بها. ولم يزل مظفرا منصورا تهابه جميع الأمم، ويحضر بابه من وفودهم عدد كثير من الترك والصين والخزر ونظرائهم، وكان مكرما للعلماء. وملك ثمانيا وأربعين سنة، وكان مولد النبي ص في آخر ملك أنوشروان. قَالَ هشام: وكان ملك أنوشروان سبعا وأربعين سنة قَالَ: وفي زمانه ولد عبد الله بن عبد المطلب ابو رسول الله ص، في سنة اثنتين وأربعين من سلطانه

قَالَ هشام: لما قوي شأن أنوشروان بعث إلى المنذر بن النعمان الأكبر- وأمه ماء السماء امرأة من النمر- فملكه الحيرة وما كان يلي آل الحارث بن عمرو، آكل المرار فلم يزل على ذلك حتى هلك. قال: وانوشروان غزا بزجان، ثم رجع فبنى الباب والأبواب وقال هشام: ملك العرب من قبل ملوك الفرس بعد الأسود بن المنذر أخوه المنذر بن المنذر بن النعمان- وأمه هر ابنة النعمان- سبع سنين. ثم ملك بعده النعمان بن الأسود بن المنذر- وأمه أم الملك ابنة عمرو بن حجر اخت الحارث بن عمرو الكندى- أربع سنين. ثم استخلف أبو يعفر بن علقمة بن مالك بن عدي بن الذميل بن ثور ابن أسس بن ربي بن نمارة بن لخم، ثلاث سنين. ثم ملك المنذر بن امرئ القيس البدء- وهو ذو القرنين، قَالَ: وإنما سمى بذلك لضفيرتين كانتا له من شعره، وأمه ماء السماء، وهي مارية ابنه عوف ابن جشم بن هلال بن ربيعة بن زيد مناه بن عامر الضيحان ابن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط، فكان جميع ملكه تسعا وأربعين سنة. ثم ملك ابنه عمرو بن المنذر- وأمه هند ابنة الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار- ست عشرة سنة. قَالَ: ولثماني سنين وثمانية أشهر من ملك عمرو بن هند ولد رسول الله ص، وذلك في زمن أنوشروان وعام الفيل الذي غزا فيه الأشرم أبو يكسوم البيت

ذكر بقية خبر تبع ايام قباذ وزمن انوشروان وتوجيه الفرس الجيش إلى اليمن لقتال الحبشه وسبب توجيهه إياهم إليها

ذكر بقية خبر تبع أيام قباذ وزمن أنوشروان وتوجيه الفرس الجيش إلى اليمن لقتال الحبشة وسبب توجيهه إياهم إليها حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قَالَ: كان تبع الآخر وهو تبان أسعد أبو كرب حين أقبل من المشرق، جعل طريقه على المدينة، وقد كان حين مر بها في بدءته لم يهج أهلها، وخلف بين أظهرهم ابنا له، فقتل غيلة، فقدمها وهو مجمع لإخرابها، واستئصال أهلها وقطع نخلها، فجمع له هذا الحي من الأنصار حين سمعوا بذلك من أمره ليمتنعوا منه، ورئيسهم يومئذ عمرو بن الطلة، أحد بني النجار، ثم أحد بني عمرو بن مبذول، فخرجوا لقتاله وكان تبع حين نزل بهم، قد قتل رجل منهم- من بني عدي بن النجار يقال له أحمر- رجلا من أصحاب تبع، وجده في عذق له يجده، فضربه بمنجله فقتله، وقال: إنما الثمر لمن أبره، ثم ألقاه حين قتله في بئر من آبارهم معروفة يقال لها: ذات تومان فزاد ذلك تبعا عليهم حنقا. فبينا تبع على ذلك من حربه وحربهم يقاتلهم ويقاتلونه- قَالَ: فتزعم الأنصار أنهم كانوا يقاتلونه بالنهار، ويقرونه بالليل فيعجبه ذلك منهم، ويقول: والله إن قومنا هؤلاء لكرام- إذ جاءه حبران من أحبار يهود من بني قريظة، عالمان راسخان حين سمعا منه ما يريد من إهلاك المدينة وأهلها، فقالا له: أيها الملك لا تفعل، فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها، ولم نأمن عليك عاجل العقوبة، فقال لهما: ولم ذاك؟ فقالا: هي مهاجر نبى يخرج من هذا الحي من قريش في آخر الزمان، تكون داره وقراره. فتناهى عند ذلك من قولهما عما كان يريد بالمدينة، ورأى أن لهما علما، وأعجبه ما سمع منهما فانصرف عن المدينة، وخرج بهما معه إلى اليمن واتبعهما على دينهما وكان اسم الحبرين كعبا وأسدا، وكانا من بني قريظة، وكانا

ابني عم، وكانا أعلم أهل زمانهما كما ذكر لي ابن حميد، عن سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عمرو، عن أبان بن أبي عياش، عن أنس بن مالك، عن أشياخ من قومه ممن أدرك الجاهلية، فقال شاعر من الانصار وهو خال ابن عبد العزى بن غزية بن عمرو بن عبد بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار، في حربهم وحرب تبع، يفتخر بعمرو بن طلة ويذكر فضله وامتناعه: أصحا أم انتهى ذكره ... أم قضى من لذة وطره أم تذكرت الشباب وما ... ذكرك الشباب أو عصره! إنها حرب رباعية ... مثلها أتى الفتى عبرة فسلا عمران أو فسلا ... أسدا إذ يغدو مع الزهره فيلق فيها أبو كرب ... سابغا أبدانها ذفره ثم قَالُوا من يؤم بها ... أبني عوف أم النجره يا بني النجار إن لنا ... فيهم قبل الأوان تره فتلقتهم عشنقة ... مدها كالغبية النثره

سيد سامى الملوك ومن ... يغز عمرا لا يجد قدره وقال رجل من الأنصار، يذكر امتناعهم من تبع: تكلفني من تكاليفها ... نخيل الأساويف والمنصعة نخيلا حمتها بنو مالك ... خيول أبي كرب المفظعة قَالَ: وكان تبع وقومه أصحاب أوثان يعبدونها، فوجه إلى مكة- وهي طريقه إلى اليمن- حتى إذا كان بالدف من جمدان بين عسفان وأمج، في طريقه بين مكة والمدينة، أتاه نفر من هذيل، فقالوا له: أيها الملك، ألا ندلك على بيت مال داثر، قد أغفلته الملوك قبلك، فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة؟ قَالَ: بلى قالوا: بيت بمكة يعبده أهله، ويصلون عنده وإنما يريد الهذليون بذلك هلاكه لما قد عرفوا من هلاك من أراده من الملوك وبغى عنده. فلما اجمع لما قَالُوا، أرسل إلى الحبرين، فسألهما عن ذلك، فقالا له: ما أراد القوم إلا هلاكك وهلاك جندك، ولئن فعلت ما دعوك إليه لتهلكن وليهلكن من معك جميعا، قَالَ: فماذا تأمرانني أن أصنع إذا قدمت عليه؟ قالا: تصنع عنده ما يصنع أهله، تطوف به وتعظمه وتكرمه، وتحلق عنده رأسك وتتذلل له حتى تخرج من عنده قَالَ: فما يمنعكما أنتما من ذلك؟ قالا: أما والله إنه لبيت أبينا إبراهيم، وإنه لكما أخبرناك، ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوا حوله، وبالدماء التي يهريقون عنده، وهم نجس أهل شرك أو كما قالا له. فعرف نصحهما وصدق حديثهما، فقرب النفر من هذيل، فقطع أيديهم وأرجلهم ثم مضى حتى قدم مكة، وأري في المنام أن يكسو البيت،

فكساه الخصف ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك، فكساه المعافر، ثم أري أن يكسوه احسن من ذلك، فكساه الملاء والوصائل، فكان تبع- فيما يزعمون- أول من كساه وأوصى به ولاته من جرهم، وأمرهم بتطهيره، والا يقربوه دما ولا ميته ولا مئلاثا وهي المحائض، وجعل له بابا ومفتاحا، ثم خرج متوجها إلى اليمن بمن معه من جنوده، وبالحبرين، حتى إذا دخل اليمن دعا قومه إلى الدخول فيما دخل فيه، فأبوا عليه حتى يحاكموه إلى النار التي كانت باليمن. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن أبي مالك بن ثعلبة بن أبي مالك القرظي، قَالَ: سمعت إبراهيم بن مُحَمَّد بن طلحه ابن عبيد الله يحدث أن تبعا لما دنا من اليمن ليدخلها، حالت حمير بينه وبين ذلك، وقالوا: لا تدخلها علينا وقد فارقت ديننا، فدعاهم إلى دينه، وقال: إنه دين خير من دينكم، قَالُوا: فحاكمنا إلى النار، قَالَ: نعم- قَالَ: وكانت باليمن فيما يزعم أهل اليمن نار تحكم بينهم فيما يختلفون فيه، تأكل الظالم ولا تضر المظلوم- فلما قَالُوا ذلك لتبع قَالَ: أنصفتم، فخرج قومه بأوثانهم وما يتقربون به في دينهم، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما متقلديها حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذي تخرج النار منه، فخرجت النار إليهم، فلما أقبلت نحوهم حادوا عنها وهابوها، فذمرهم من حضرهم من الناس، وأمروهم بالصبر فصبروا، حتى غشيتهم وأكلت الأوثان وما قربوا معها، ومن حمل ذلك من رجال حمير، وخرج الحبران بمصاحفهما في

أعناقهما تعرق جباههما، لم تضرهما، فأصفقت حمير عند ذلك على دينه، فمن هناك وعن ذلك كان أصل اليهودية باليمن حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أصحابه أن الحبرين ومن خرج معهما من حمير، إنما اتبعوا النار ليردوها، وقالوا: من ردها فهو أولى بالحق، فدنا منها رجال من حمير بأوثانهم ليردوها، فدنت منهم لتأكلهم، فحادوا عنها فلم يستطيعوا ردها، ودنا منها الحبران بعد ذلك، وجعلا يتلوان التوراة وتنكص، حتى رداها إلى مخرجها الذي خرجت منه، فأصفقت عند ذلك حمير على دينهما، وكان رئام بيتا لهم يعظمونه وينحرون عنده ويكلمون منه إذ كانوا على شركهم، فقال الحبران لتبع: إنما هو شيطان يفتنهم ويلعب بهم، فخل بيننا وبينه، قَالَ: فشأنكما به، فاستخرجا منه- فيما يزعم أهل اليمن- كلبا أسود، فذبحاه وهدما ذلك البيت، فبقاياه اليوم باليمن- كما ذكر لي- وهو رئام به آثار الدماء التي كانت تهراق عليه. فقال تبع في مسيره ذلك وما كان هم به من أمر المدينة وشأن البيت وما صنع برجال هذيل الذين قَالُوا له ما قَالُوا، وما صنع بالبيت حين قدم مكة من كسوته تطهيره وما ذكر له الحبران من أمر رسول الله ص: ما بال نومك مثل نوم الأرمد ... أرقا كأنك لا تزال تسهد حنقا على سبطين حلا يثربا ... أولى لهم بعقاب يوم مفسد! ولقد نزلت من المدينة منزلا ... طاب المبيت به وطاب المرقد وجعلت عرصة منزل برباوة ... بين العقيق إلى بقيع الغرقد ولقد تركنا لأبها وقرارها ... وسباخها فرشت بقاع أجرد ولقد هبطنا يثربا وصدورنا ... تغلي بلابلها بقتل محصد

ولقد حلفت يمين صبر مؤليا ... قسما لعمرك ليس بالمتردد إن جئت يثرب لا أغادر وسطها ... عذقا ولا بسرا بيثرب يخلد حتى أتاني من قريظة عالم ... حبر لعمرك في اليهود مسود قَالَ ازدجر عن قرية محفوظة ... لنبي مكة من قريش مهتد فعفوت عنهم عفو غير مثرب ... وتركتهم لعقاب يوم سرمد وتركتهم لله أرجو عفوه ... يوم الحساب من الجحيم الموقد ولقد تركت بها له من قومنا ... نفرا أولي حسب وبأس يحمد نفرا يكون النصر في أعقابهم ... أرجو بذاك ثواب رب مُحَمَّد ما كنت أحسب أن بيتا طاهرا ... لله في بطحاء مكة يعبد حتى أتاني من هذيل أعبد ... بالدف من جمدان فوق المسند قَالُوا بمكة بيت مال داثر ... وكنوزه من لؤلؤ وزبرجد فأردت أمرا حال ربي دونه ... والله يدفع عن خراب المسجد فرددت ما أملت فيه وفيهم ... وتركتهم مثلا لأهل المشهد قد كان ذو القرنين قبلي مسلما ... ملكا تدين له الملوك وتحشد ملك المشارق والمغارب يبتغي ... أسباب علم من حكيم مرشد فرأى مغيب الشمس عند غروبها ... في عين ذي خلب وثأط حرمد من قبله بلقيس كانت عمتي ... ملكتهم حتى أتاها الهدهد حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قَالَ: هذا الحي من الأنصار يزعمون أنه إنما كان حنق تبع على هذا الحي من يهود الذين كانوا بين أظهرهم، وأنه أراد هلاكهم حين قدم عليهم المدينة،

فمنعوه منهم، حتى انصرف عنهم ولذلك قَالَ في شعره: حنقا على سبطين حلا يثربا ... أولى لهم بعقاب يوم مفسد حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قَالَ: وقد كان قدم على تبع قبل ذلك شافع بن كليب الصدفي، وكان كاهنا، فأقام عنده، فلما أراد توديعه قَالَ تبع: ما بقي من علمك؟ قَالَ: بقي خبر ناطق، وعلم صادق، قَالَ: فهل تجد لقوم ملكا يوازي ملكي؟ قَالَ: لا إلا لملك غسان نجل، قَالَ: فهل تجد ملكا يزيد عليه؟ قَالَ: نعم، قَالَ: ولمن؟ قَالَ أجده لبار مبرور، أيد بالقهور، ووصف في الزبور، وفضلت أمته في السفور، يفرج الظلم بالنور، أحمد النبي، طوبى لأمته حين يجيء، أحد بني لؤي، ثم أحد بني قصي فبعث تبع إلى الزبور فنظر فيها، فإذا هو يجد صفه النبي ص. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْيَمَنِ، مِمَّنْ يَرْوِي الأَحَادِيثَ، فَحَدَّثَ بَعْضُهُمْ بَعْضَ الْحَدِيثِ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدِ اجْتَمَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ مَلِكًا مِنْ لَخْمٍ، كَانَ بِالْيَمَنِ فِيمَا بَيْنَ التَّبَابِعَةِ مِنْ حِمْيَر، يُقَالُ لَهُ: رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ مُلْكِهِ بِالْيَمَنِ مُلْكُ تُبَّعٍ الأَوَّلِ، وَهُوَ زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو ذِي الأَذْعَارِ بْنِ أَبْرَهَةَ ذِي المنار بن الرائش بن قيس بن صيفي ابن سَبَإٍ الأَصْغَرِ بْنِ كَهْفِ الظُّلْمِ بْنِ زَيْدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ قَيْسِ بْنِ معاويه ابن جُشْمِ بْنِ وَائِلِ بْنِ الْغَوْثِ بْنِ قَطَنِ بْنِ عُرَيْبِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَيْمَنَ بْنِ هُمَيْسِعِ ابْنِ الْعَرَنْجَجِ حِمْيَرِ بْنِ سَبَإٍ الأَكْبَرِ بن يَعْرُبَ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ قَحْطَانَ: وَكَانَ اسْمُ سَبَإٍ عَبْدَ شَمْسٍ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ سَبَأً- فِيمَا يزعمون- لأنه كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَبَى فِي الْعَرَبِ. فَهَذَا بَيْتُ مَمْلَكَةِ حِمْيَرَ الَّذِي فِيهِ كَانَتِ التَّبَابِعَةُ، ثُمَّ كَانَ بَعْدَ تُبَّعٍ الأَوَّلِ زَيْدُ بْنُ عمرو، وَشِمْر يَرْعِشُ بْنُ يَاسِرٍ يَنْعُمَ بْنِ عَمْرٍو ذِي الأَذْعَارِ، ابْنِ عَمِّهِ. وَشِمْرُ يَرْعِشُ الَّذِي غَزَا الصِّينَ وَبَنَى سَمَرْقَنْدَ وَحَيَرَ الْحِيرَةَ، وَهُوَ الذى يقول:

أَنَا شِمْرٌ أَبُو كَرْبِ الْيَمَانِي ... جَلَبْتُ الْخَيْلَ مِنْ يَمَنٍ وَشَامٍ لِآتِيَ أَعْبُدًا مَرَدُوا عَلَيْنَا ... وَرَاءَ الصِّينِ فِي عَثْمٍ وَيَامٍ فَنَحْكُمَ فِي بِلَادِهِمُ بِحُكْمٍ ... سَوَاءٍ لا يُجَاوِزُهُ غُلَامٌ الْقَصِيدَةَ كُلَّهَا. قَالَ: ثُمَّ كَانَ بَعْدَ شِمْرِ يَرْعِشَ بن يَاسِرٍ يَنْعُمُ تُبَّعٌ الأَصْغَرُ، وَهُوَ تُبَّانٌ أَسْعَدُ أبو كرب بن ملكيكرب بن زيد بن تبع الاول بن عَمْرو ذِي الأَذْعَارِ، وَهُوَ الَّذِي قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَسَاقَ الْحَبْرَيْنِ مِنْ يَهُودَ إِلَى الْيَمَنِ، وَعَمَّرَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ وَكَسَاهُ، وَقَالَ مَا قَالَ مِنَ الشِّعْرِ فَكُلُّ هَؤُلَاءِ مَلَكَهُ قَبْلَ مُلْكِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ اللَّخْمِيِّ، فَلَمَّا هَلَكَ رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ، رَجَعَ مُلْكُ الْيَمَنِ كُلُّهُ إِلَى حَسَّانَ بن تبان أسعد أبي كرب بن ملكيكرب بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو ذِي الأَذْعَارِ حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق عن بعض أهل العلم أن ربيعة بن نصر رأى رؤيا هالته، وفظع بها، فلما رآها بعث في أهل مملكته، فلم يدع كاهنا ولا ساحرا ولا عائفا ولا منجما إلا جمعه إليه، ثم قَالَ لهم: إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها، فأخبروني بتأويلها، قَالُوا له: اقصصها علينا لنخبرك بتأويلها، قَالَ: إني إن أخبرتكم بها لم اطمان إلى خبركم عن تأويلها، إنه لا يعرف تأويلها إلا من يعرفها قبل أن أخبره بها فلما قَالَ لهم ذلك قَالَ رجل من القوم الذين جمعوا لذلك: فإن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى سطيح وشق، فإنه ليس أحد أعلم منهما، فهما يخبرانك بما سألت- واسم سطيح ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن مازن بن غسان، وكان يقال لسطيح: الذئبي، لنسبته إلى ذئب بن عدي وشق بن صعب بن يشكر بن رهم بن أفرك بن نذير بن قيس بن عبقر بن أنمار فلما قَالُوا له ذلك بعث إليهما، فقدم عليه قبل شق سطيح، ولم يكن في زمانهما مثلهما من الكهان، فلما قدم عليه سطيح دعاه

فقال له: يا سطيح، إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها، فأخبرني بها فإنك ان أصبتها اصبت تأويلها، قَالَ- أفعل، رأيت جمجمة- قَالَ أبو جعفر: وقد وجدته في مواضع أخر، رأيت حممه- خرجت من ظلمه، فوقعت بأرض ثهمه، فأكلت منها كل ذات جمجمه فقال له الملك: ما أخطأت منها شيئا يا سطيح، فما عندك في تأويلها؟ فقال: احلف بما بين الحرتين من حنش، ليهبطن أرضكم الحبش، فليملكن ما بين أبين إلى جرش. قَالَ له الملك: وأبيك يا سطيح، إن هذا لغائظ موجع، فمتى هو كائن يا سطيح؟ أفي زماني أم بعده؟ قَالَ: لا بل بعده بحين، أكثر من ستين أو سبعين، يمضين من السنين قَالَ: فهل يدوم ذلك من ملكهم أو ينقطع؟ قَالَ: بل ينقطع لبضع وسبعين، يمضين من السنين، ثم يقتلون بها أجمعون، ويخرجون منها هاربين قَالَ الملك: ومن ذا الذي يلي ذلك من قتلهم وإخراجهم؟ قَالَ: يليه إرم ذي يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك منهم أحدا باليمن قَالَ أفيدوم ذلك من سلطانه أو ينقطع؟ قَالَ: بل ينقطع قَالَ: ومن يقطعه؟ قَالَ: نبي زكي، يأتيه الوحي من العلي قَالَ: وممن هذا النبي؟ قَالَ: رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر، قَالَ: وهل للدهر يا سطيح من آخر؟ قَالَ: نعم، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، ويسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون قَالَ: أحق ما تخبرنا يا سطيح؟ قَالَ: نعم، والشفق والغسق، والفلق إذا اتسق، إن ما أنبأتك به لحق. فلما فرغ قدم عليه شق، فدعاه، فقال له: يا شق، إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها، فأخبرني عنها، فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها- كما قَالَ لسطيح، وقد كتمه ما قَالَ سطيح لينظر أيتفقان أم يختلفان- قَالَ: نعم، رأيت جمجمه، خرجت من ظلمة، فوقعت بين روضة وأكمه، فأكلت منها كل ذات نسمه فلما رأى ذلك الملك من قولهما شيئا واحدا، قَالَ له: ما أخطأت يا شق منها شيئا، فما عندك في تأويلها؟ قَالَ: احلف بما بين الحرتين من انسان، لينزلن أرضكم السودان، فليغلبن على كل طفله

البنان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران فقال له الملك: وأبيك يا شق إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن؟ أفي زماني أم بعده؟ قَالَ: بل بعدك بزمان، ثم يستنقذكم منه عظيم ذو شأن، ويذيقهم أشد الهوان قَالَ: ومن هذا العظيم الشأن؟ قَالَ: غلام ليس بدني ولا مدن، يخرج من بيت ذي يزن، قَالَ: فهل يدوم سلطانه أو ينقطع؟ قَالَ: بل ينقطع برسول مرسل، يأتي بالحق والعدل، بين أهل الدين والفضل، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل، قَالَ: وما يوم الفصل؟ قَالَ: يوم يجزى فيه الولاة، يدعى من السماء بدعوات، يسمع منها الأحياء والأموات، ويجمع فيه الناس للميقات، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات قَالَ: أحق ما تقول يا شق؟ قَالَ: إي ورب السماء والأرض، وما بينهما من رفع وخفض، إن ما نبأتك لحق ما فيه أمض فلما فرغ من مسألتهما، وقع في نفسه أن الذي قالا له كائن من أمر الحبشة، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرزاذ، فأسكنهم الحيرة، فمن بقية ربيعة بن نصر كان النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وهو النعمان بن المنذر بن النعمان ابن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر ذلك الملك في نسب أهل اليمن وعلمهم. حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ولما قَالَ سطيح وشق لربيعة بن نصر ذلك، وصنع ربيعة بولده وأهل بيته ما صنع، ذهب ذكر ذلك في العرب، وتحدثوا حتى فشا ذكره وعلمه فيهم، فلما نزلت الحبشة اليمن، ووقع الأمر الذي كانوا يتحدثون به من أمر الكاهنين، قَالَ الأعشى، أعشى بني قيس بن ثعلبة البكري، في بعض ما يقول، وهو يذكر ما وقع من أمر ذينك الكاهنين: سطيح وشق: ما نظرت ذات أشفار كنظرتها ... حقا كما نطق الذئبي إذ سجعا

وكان سطيح إنما يدعوه العرب الذئبي، لأنه من ولد ذئب بن عدي فلما هلك ربيعة بن نصر، واجتمع ملك اليمن إلى حسان بن تبان اسعد ابى كرب ابن ملكيكرب بن زيد بن عمرو ذي الأذعار، كان مما هاج أمر الحبشة وتحول الملك عن حمير وانقطاع مدة سلطانهم- ولكل أمر سبب- ان حسان ابن تبان أسعد أبي كرب، سار بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب وأرض العجم، كما كانت التبابعة قبله تفعل، حتى إذا كان ببعض أرض العراق، كرهت حمير وقبائل اليمن السير معه، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم وأهليهم، فكلموا أخا له كان معه في جيشه، يقال له عمرو، فقالوا له: اقتل أخاك حسان نملكك علينا مكانه، وترجع بنا إلى بلادنا فتابعهم على ذلك، فأجمع أخوه ومن معه من حمير وقبائل اليمن على قتل حسان، إلا ما كان من ذي رعين الحميري، فإنه نهاه عن ذلك، وقال له: إنكم أهل بيت مملكتنا، لا تقتل أخاك ولا تشتت أمر أهل بيتك- او كما قال له- فلما لم يقبل منه قوله- وكان ذو رعين شريفا من حمير- عمد إلى صحيفة فكتب فيها: ألا من يشتري سهرا بنوم ... سعيد من يبيت قرير عين فإما حمير غدرت وخانت ... فمعذرة الإله لذي رعين ثم ختم عليها ثم أتى بها عمرا، فقال له: ضع لي عندك هذا الكتاب، فإن لي فيه بغية وحاجة، ففعل فلما بلغ حسان ما أجمع عليه أخوه عمرو وحمير وقبائل اليمن من قتله، قَالَ لعمرو: يا عمرو لا تعجل علي منيتي ... فالملك تأخذه بغير حشود فأبى إلا قتله، فقتله ثم رجع بمن معه من جنده إلى اليمن فقال قائل من حمير: إن لله من رأى مثل حسان ... قتيلا في سالف الأحقاب

قتلته الأقيال من خشية الجيش ... وقالوا له لباب لباب ميتكم خيرنا وحيكم ... رب علينا وكلكم اربابى فلما نزل عمرو بن تبان أسعد أبي كرب اليمن منع منه النوم، وسلط عليه السهر- فيما يزعمون- فجعل لا ينام، فلما جهده ذلك جعل يسأل الأطباء والحزاة من الكهان والعرافين عما به، ويقول: منع مني النوم فلا اقدر عليه، وقد جهدنى السهر، فقال له قائل منهم: والله ما قتل رجل أخاه قط أو ذا رحم بغيا على مثل ما قتلت عليه أخاك إلا ذهب نومه، وسلط عليه السهر، فلما قيل له ذلك، جعل يقتل كل من كان أمره بقتل أخيه حسان من أشراف حمير وقبائل اليمن، حتى خلص إلى ذي رعين، فلما أراد قتله قَالَ: إن لي عندك براءة مما تريد أن تصنع بي، قَالَ له: وما براءتك عندي؟ قال: اخرج الكتاب الذى كنت استودعتكه ووضعته عندك، فأخرج له الكتاب، فإذا فيه ذانك البيتان من الشعر: ألا من يشتري سهرا بنوم ... سعيد من يبيت قرير عين فإما حمير غدرت وخانت ... فمعذرة الإله لذي رعين فلما قرأهما عمرو قَالَ له ذو رعين: قد كنت نهيتك عن قتل أخيك فعصيتني، فلما أبيت علي وضعت هذا الكتاب عندك حجة لي عليك، وعذرا لي عندك، وتخوفت أن يصيبك إن أنت قتلته الذي أصابك، فإن أردت بي ما أراك تصنع بمن كان أمرك بقتل أخيك، كان هذا الكتاب نجاة لي عندك، فتركه عمرو بن تبان أسعد فلم يقتله من بين أشراف حمير، ورأى أن قد نصحه لو قبل منه نصيحته وقال عمرو بن تبان أسعد حين قتل من قتل من حمير وأهل اليمن ممن كان أمره بقتل أخيه حسان، فقال: شرينا النوم إذ عصبت علاب ... بتسهيد وعقد غير مين تنادوا عند غدرهم: لباب ... وقد برزت معاذر ذي رعين قتلنا من تولى المكر منهم ... بواء بابن رهم غير دين

قتلناهم بحسان بن رهم ... وحسان قتيل الثائرين قتلناهم فلا بقيا عليهم ... وقرت عند ذاكم كل عين عيون نوادب يبكين شجوا ... حرائر من نساء الفيلقين أوانس بالعشاء وهن حور ... إذا طلعت فروع الشعريين فنعرف بالوفاء إذا انتمينا ... ومن يغدر نباينه ببين فضلنا الناس كلهم جميعا ... كفضل الإبرزي على اللجين ملكنا الناس كلهم جميعا ... لنا الأسباب بعد التبعين ملكنا بعد داود زمانا ... وعبدنا ملوك المشرقين زبرنا في ظفار زبور مجد ... ليقرأه قروم القريتين فنحن الطالبون لكل وتر ... إذا قَالَ المقاول أين أين! سأشفي من ولاة المكر نفسي ... وكان المكر حينهم وحيني أطعتهم فلم أرشد وكانوا ... غواة أهلكوا حسبي وزيني قَالَ: ثم لم يلبث عمرو بن تبان أسعد أن هلك. قَالَ هشام بن مُحَمَّد: عمرو بن تبع هذا يدعى موثبان، لأنه وثب على أخيه حسان بفرضة نعم فقتله- قَالَ: وفرضة نعم رحبة طوق بن مالك، وكانت نعم سرية تبع حسان بن أسعد. رجع الحديث الى حديث ابن اسحق قَالَ: فمرج أمر حمير عند ذلك، وتفرقوا، فوثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت المملكة منهم، يقال له لخنيعة ينوف ذو شناتر، فملكهم فقتل خيارهم، وعبث ببيوت أهل المملكة منهم، فقال قائل من حمير، يذكر ما ضيعت حمير من أمرها، وفرقت جماعتها، ونفت من خيارها:

تقتل أبناها وتنفي سراتها ... وتبني بأيديهم لها الذل حمير تدمر دنياها بطيش حلومها ... وما ضيعت من دينها فهو أكثر كذاك القرون قبل ذاك بظلمها ... وإسرافها تأتي الشرور فتخسر وكان لخنيعة ينوف ذو شناتر يصنع ذلك بهم- وكان امرأ فاسقا يزعمون أنه كان يعمل عمل قوم لوط، ثم كان- مع الذي بلغ منهم من القتل والبغي- إذا سمع بالغلام من أبناء الملوك قد بلغ أرسل إليه فوقع عليه في مشربة له قد صنعها لذلك، لئلا يملك بعد ذلك أبدا، ثم يطلع من مشربته تلك إلى حرسه ومن حضر من جنده، وهم أسفل منه، قد أخذ سواكا، فجعله في فيه- أي ليعلمهم أنه قد فرغ منه ثم يخلي سبيله، فيخرج على حرسه وعلى الناس وقد فضحه، حتى إذا كان آخر أبناء تلك الملوك زرعة ذو نواس بن تبان أسعد أبي كرب بن ملكيكرب بن زيد بن عمرو ذي الاذعار أخو حسان- وزرعة كان صبيا صغيرا حين أصيب أخوه، فشب غلاما جميلا وسيما ذا هيئة وعقل- فبعث اليه لخنيعه ينوف ذو شناتر، ليفعل به كما كان يفعل بأبناء الملوك قبله، فلما أتاه رسوله عرف الذي يريد به، فأخذ سكينا حديدا لطيفا، فجعله بين نعله وقدمه، ثم انطلق إليه مع رسوله، فلما خلا به في مشربته تلك أغلقها عليه وعليه، ثم وثب عليه وواثبه ذو نواس بالسكين فطعنه به حتى قتله، ثم احتز رأسه، فجعله في كوة مشربته تلك التي يطلع منها إلى حرسه وجنده، ثم أخذ سواكه ذلك، فجعله في فيه ثم خرج على الناس، فقالوا له: ذو نواس، أرطب أم يباس؟ فقال: سل نخماس استرطبان ذو نواس، استرطبان ذو نواس، لا باس فذهبوا ينظرون حين قَالَ لهم ما قَالَ، فإذا رأس لخنيعة ينوف ذي شناتر في الكوة مقطوع في فيه سواكه، قد وضعه ذو نواس فيها فخرجت حمير والأحراس في أثر ذي نواس حتى أدركوه،

فقالوا له: ما ينبغي لنا أن يملكنا إلا أنت، إذ أرحتنا من هذا الخبيث. فملكوه واستجمعت عليه حمير وقبائل اليمن، فكان آخر ملوك حمير وتهود وتهودت معه حمير، وتسمى يوسف، فأقام في ملكه زمانا وبنجران بقايا من أهل دين عيسى على الإنجيل، أهل فضل واستقامة، لهم من أهل دينهم رأس يقال له عبد الله بن الثامر، وكان موقع أصل ذلك الدين بنجران، وهي بأوسط أرض العرب في ذلك الزمان، وأهلها وسائر العرب كلها أهل أوثان يعبدونها ثم إن رجلا من بقايا أهل ذلك الدين وقع بين أظهرهم يقال له فيميون، فحملهم عليه فدانوا به قَالَ هشام: زرعة ذو نواس، فلما تهود سمي يوسف، وهو الذي خد الأخدود بنجران وقتل النصارى. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن المغيرة بن أبي لبيد مولى الأخنس، عن وهب بن منبه اليماني، أنه حدثهم إن موقع ذلك الدين بنجران كان أن رجلا من بقايا أهل دين عيسى بن مريم يقال له فيميون، وكان رجلا صالحا مجتهدا زاهدا في الدنيا، مجاب الدعوة، وكان سائحا ينزل القرى، لا يعرف بقرية إلا خرج منها إلى قرية لا يعرف فيها وكان لا يأكل إلا من كسب يده، وكان بناء يعمل الطين، وكان يعظم الأحد، فإذا كان الأحد لم يعمل فيه شيئا، وخرج إلى فلاة من الأرض فصلى بها حتى يمسي، وكان في قرية من قرى الشام يعمل عمله ذلك مستخفيا، إذ فطن لشأنه رجل من أهلها، يقال له صالح، فأحبه صالح حبا لم يحبه شيئا كان قبله، فكان يتبعه حيث ذهب، ولا يفطن له فيميون حتى خرج مرة في يوم الأحد إلى فلاة من الأرض كما كان يصنع، وقد اتبعه صالح، وفيميون لا يدري، فجلس صالح منه منظر العين، مستخفيا منه لا يحب أن يعلم مكانه، وقام فيميون يصلي، فبينا هو يصلي إذ أقبل نحوه التنين- الحية ذات الرءوس السبعة- فلما رآها فيميون دعا عليها فماتت، ورآها صالح،

ولم يدر ما أصابها، فخافها عليه فعيل عوله، فصرخ: يا فيميون، التنين قد أقبل نحوك! فلم يلتفت إليه، وأقبل على صلاته حتى فرغ وأمسى، وانصرف وعرف أنه قد عرف، وعرف صالح أنه قد رأى مكانه، فكلمه، فقال: يا فيميون، يعلم الله ما أحببت شيئا حبك قط، وقد أردت صحبتك والكينونة معك حيثما كنت قَالَ: ما شئت، أمري كما ترى، فإن ظننت أنك تقوى عليه فنعم فلزمه صالح، وقد كاد أهل القرية أن يفطنوا لشأنه، وكان إذا فاجأه العبد به ضر دعا له فشفي، وإذا دعى إلى أحد به الضر لم يأته. وكان لرجل من أهل القرية ابن ضرير، فسأل عن شأن فيميون، فقيل له: إنه لا يأتي أحدا إذا دعاه، ولكنه رجل يعمل للناس البنيان بالأجر، فعمد الرجل إلى ابنه ذلك فوضعه في حجرته، وألقى عليه ثوبا، ثم جاءه فقال له: يا فيميون، إني قد أردت أن أعمل في بيتي عملا، فانطلق معي حتى تنظر إليه فأشارطك عليه، فانطلق معه حتى دخل حجرته، ثم قَالَ: ما تريد أن تعمل في بيتك؟ قَالَ: كذا وكذا ثم انتشط الرجل الثوب عن الصبي، ثم قَالَ: يا فيميون، عبد من عباد الله أصابه ما ترى، فادع الله له، فقال فيميون حين رأى الصبي: اللهم عبد من عبادك دخل عليه عدوك في نعمتك ليفسدها عليه فاشفه وعافه، وامنعه منه، فقام الصبي ليس به بأس. وعرف فيميون أنه قد عرف، فخرج من القرية، واتبعه صالح، فبينما هو يمشي في بعض الشام مر بشجرة عظيمة، فناداه منها رجل، فقال: أفيميون! قَالَ: نعم، قَالَ: ما زلت أنتظرك وأقول: متى هو جاء، حتى سمعت صوتك، فعرفت أنك هو، لا تبرح حتى نقوم علي، فإني ميت الآن قَالَ: فمات، وقام عليه حتى واراه ثم انصرف ومعه صالح، حتى وطئا بعض أرض العرب، فعدى عليهما فاختطفتهما سيارة من بعض العرب، فخرجوا بهما حتى باعوهما بنجران- وأهل نجران يومئذ على دين العرب، تعبد نخلة طويلة بين أظهرهم، لهم عيد كل سنة، إذا كان ذلك العيد علقوا عليها

كل ثوب حسن وجدوه، وحلي النساء ثم خرجوا، فعكفوا عليها يوما- فابتاع رجل من أشرافهم فيميون، وابتاع رجل آخر صالحا، فكان فيميون إذا قام من الليل- في بيت له أسكنه إياه سيده الذي ابتاعه- يصلي، استسرج له البيت نورا، حتى يصبح من غير مصباح، فرأى ذلك سيده فأعجبه ما رأى، فسأله عن دينه فأخبره به، فقال له فيميون: إنما أنتم في باطل، وإن هذه النخلة لا تضر ولا تنفع، لو دعوت عليها الذي أعبد أهلكها، وهو الله وحده لا شريك له قَالَ: فقال له سيده: فافعل، فإنك إن فعلت دخلنا في دينك، وتركنا ما كنا عليه، قَالَ: فقام فيميون، فتطهر ثم صلى ركعتين، ثم دعا الله عليهما، فأرسل الله ريحا فجعفتها من أصلها فألقتها، فاتبعه عند ذلك أهل نجران على دينه، فحملهم على الشريعه من دين عيسى بن مريم ثم دخل عليهم بعد ذلك الأحداث التي دخلت على أهل دينهم بكل أرض. فمن هنالك كانت النصرانية بنجران في أرض العرب. فهذا حديث وهب بن منبه في خبر أهل نَجْرَانَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قال: حدثني محمد بن إسحاق عن يزيد بن زياد، مولى لبني هاشم، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كعب القرظي قَالَ: وحدثني مُحَمَّد بن إسحاق أيضا عن بعض أهل نجران إن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان، وكان في قرية من قراها قريبا من نجران- ونجران القرية العظمى التي إليها جماع أهل تلك البلاد- ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر، فلما أن نزلها فيميون- قَالَ: ولم يسموه باسمه الذي سماه به وهب بن منبه، قَالُوا: رجل نزلها- ابتنى خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي بها الساحر، فجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر، فبعث الثامر ابنه عبد الله بن الثامر، مع غلمان أهل نجران، فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من صلاته وعبادته، فجعل يجلس إليه ويسمع منه حتى

أسلم، فوحد الله وعبده وجعل يسأله عن الاسم الأعظم- وكان يعلمه- فكتمه إياه وقال: يا بن أخي، إنك لن تحتمله، أخشى ضعفك عنه فلما ابى عليه- والثامر أبو عبد الله لا يظن إلا أن ابنه عبد الله يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان- فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن به عنه، وتخوف ضعفه فيه عمد إلى قداح فجمعها، ثم لم يبق لله اسما يعلمه إلا كتبه في قدح، لكل اسم قدح، حتى إذا أحصاها أوقد لها نارا، ثم جعل يقذفها فيها قدحا قدحا، حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذف فيها بقدحه، فوثب القدح حتى خرج منها، لم يضره شيء، فقام إليه فأخذه، ثم أتى صاحبه، فأخبره أنه قد علم الاسم الذي كتمه، فقال له: ما هو؟ قَالَ، كذا وكذا، قَالَ: وكيف علمته؟ فاخبره كيف صنع، قال: فقال: يا بن أخي، قد أصبته فامسك على نفسك، وما أظن أن تفعل فجعل عبد الله بن الثامر إذا أتى نجران لم يلق أحدا به ضر إلا قَالَ له: يا عبد الله، أتوحد الله وتدخل في ديني فأدعو الله فيعافيك مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول: نعم، فيوحد الله ويسلم، ويدعو له فيشفى، حتى لم يبق أحد بنجران به ضر إلا أتاه فاتبعه على أمره، ودعا له فعوفي، حتى رفع شأنه إلى ملك نجران، فدعاه فقال له: أفسدت علي أهل قريتي، وخالفت ديني ودين آبائي، لأمثلن بك! قَالَ: لا تقدر على ذلك، فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح عن رأسه فيقع على الأرض، ليس به بأس، وجعل يبعث به إلى مياه بنجران، بحور لا يقع فيها شيء إلا هلك، فيلقى فيها فيخرج ليس به بأس، فلما غلبه، قَالَ عبد الله بن الثامر: إنك والله لا تقدر على قتلي حتى توحد الله فتؤمن بما آمنت به، فإنك إن فعلت ذلك سلطت علي فقتلتني، فوحد الله ذلك الملك، وشهد بشهاده عبد الله ابن الثامر، ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرة فقتله، فهلك الملك مكانه، واستجمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر، وكان على ما جاء به عيسى بن مريم من الإنجيل وحكمه، ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث، فمن هنالك كان أصل النصرانية بنجران

فهذا حديث محمد بن كعب القرظي وبعض أهل نجران عن ذلك والله اعلم. قال: فسار اليهم ذو نواس بجنوده من حمير وقبائل اليمن، فجمعهم ثم دعاهم إلى دين اليهودية، فخيرهم بين القتل والدخول فيها، فاختاروا القتل، فخد لهم الأخدود، فحرق بالنار، وقتل بالسيف، ومثل بهم كل مثلة، حتى قتل منهم قريبا من عشرين ألفا، وأفلت منهم رجل يقال له دوس ذو ثعلبان، على فرس له، فسلك الرمل فأعجزهم. قَالَ: وقد سمعت بعض أهل اليمن يقول: إن الذي أفلت منهم رجل من أهل نجران يقال له جبار بن فيض. قَالَ: وأثبت الحديثين عندي الذي حَدَّثَنِي أنه دوس ذو ثعلبان. ثم رجع ذو نواس بمن معه من جنوده إلى صنعاء من أرض اليمن ففي ذي نواس وجنوده تلك حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الفضل، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: أنزل الله على رسوله: «قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ» الى قوله: «بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» . يقال: كان فيمن قتل ذو نواس عبد الله بن الثامر رئيسهم وإمامهم. ويقال: عبد الله بن الثامر قتل قبل ذلك، قتله ملك كان قبله، هو كان أصل ذلك الدين، وإنما قتل ذو نواس من كان بعده من أهل دينه. وأما هشام بن مُحَمَّد فإنه قَالَ: لم يزل ملك اليمن متصلا لا يطمع فيه طامع، حتى ظهرت الحبشة على بلادهم في زمن أنوشروان قَالَ: وكان سبب ظهورهم أن ذا نواس الحميري ملك اليمن في ذلك الزمان، وكان يهوديا، فقدم عليه يهودي، يقال له دوس من أهل نجران، فأخبره أن أهل نجران قتلوا ابنين له ظلما، واستنصره عليهم- وأهل نجران نصارى- فحمى ذو نواس لليهودية، فغزا أهل نجران، فأكثر فيهم القتل، فخرج رجل

من أهل نجران، حتى قدم على ملك الحبشه، فاعلمه ما ركبوا به، وأتاه الانجيل قد أحرقت النار بعضه، فقال له: الرجال عندي كثير، وليست عندي سفن، وأنا كاتب إلى قيصر في البعثة إلي بسفن أحمل فيها الرجال. فكتب إلى قيصر في ذلك، وبعث اليه بالإنجيل المحرق، فبعث اليه قيصر بسفن كثيرة. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ محمد بن عمرو بن حزم، إنه حدث أن رجلا من أهل نجران في زمن عمر بن الخطاب حفر خربة من خرب نجران لبعض حاجاته، فوجد عبد الله بن الثامر تحت دفن منها قاعدا واضعا يده على ضربة في رأسه ممسكا عليها بيده، فإذا أخرت يده عنها انثعبت دما، وإذا أرسلت يده ردها عليها، فامسك دمها، وفي يده خاتم مكتوب فيه: ربي الله فكتب فيه إلى عمر يخبره بأمره، فكتب إليهم عمر: أن أقروه على حاله، وردوا عليه الدفن الذي كان عليه ففعلوا. وخرج دوس ذو ثعلبان، حين أعجز القوم على وجهه ذلك، حتى قدم على قيصر صاحب الروم، فاستنصره على ذي نواس وجنوده، وأخبره بما بلغ منهم، فقال له قيصر: بعدت بلادك من بلادنا، ونأت عنا، فلا نقدر على أن نتناولها بالجنود، ولكني سأكتب لك إلى ملك الحبشة، فإنه على هذا الدين، وهو أقرب إلى بلادك منا فينصرك ويمنعك ويطلب لك بثأرك ممن ظلمك، واستحل منك ومن أهل دينك ما استحل فكتب معه قيصر إلى ملك الحبشة يذكر له حقه وما بلغ منه ومن أهل دينه، ويأمره بنصره، وطلب

ثأره ممن بغى عليه وعلى أهل دينه فلما قدم دوس ذو ثعلبان بكتاب قيصر على النجاشي صاحب الحبشة بعث معه سبعين ألفا من الحبشة وأمر عليهم رجلا منهم من أهل الحبشة، يقال له ارياط، وعهد إليه: إن أنت ظهرت عليهم فاقتل ثلث رجالهم، واخرب ثلث بلادهم، واسب ثلث نسائهم وأبنائهم. فخرج ارياط ومعه جنوده، وفي جنوده أبرهة الأشرم، فركب البحر ومعه دوس ذو ثعلبان، حتى نزلوا بساحل اليمن، وسمع بهم ذو نواس فجمع إليه حمير ومن أطاعه من قبائل اليمن، فاجتمعوا إليه على اختلاف وتفرق، لانقطاع المدة وحلول البلاء والنقمة، فلم يكن له حرب غير أنه ناوش ذو نواس شيئا من قتال، ثم انهزموا، ودخلها ارياط بجموعه، فلما رأى ذو نواس ما رأى مما نزل به وبقومه وجه فرسه إلى البحر، ثم ضربه فدخل فيه فخاض به ضحضاح البحر، حتى أفضى به إلى غمره، فأقحمه فيه، فكان آخر العهد به. ووطيء ارياط اليمن بالحبشة، فقتل ثلث رجالها، وأخرب ثلث بلادها، وبعث إلى النجاشي بثلث سباياها ثم أقام بها، قد ضبطها وأذلها، فقال قائل من أهل اليمن، وهو يذكر ما ساق إليهم دوس ذو ثعلبان من أمر الحبشة، فقال: لا كدوس ولا كإعلاق رحله يعني ما ساق إليهم من الحبشة، فهي مثل باليمن إلى اليوم. وقال ذو جدن الحميري وهو يذكر حمير، وما دخل عليها من الذل بعد العز الذي كانوا فيه، وما هدم من حصون اليمن، وكان ارياط قد اخرب مع ما أخرب من أرض اليمن سلحين وبينون وغمدان، حصونا لم يكن في الناس مثلها، فقال: هونك ليس يرد الدمع ما فاتا ... لا تهلكي أسفا في ذكر من ماتا أبعد بينون لا عين ولا أثر ... وبعد سلحين يبني الناس أبياتا! وقال ذو جدن الحميرى في ذلك: دعينى لا ابالك لن تطيقي ... لحاك الله قد أنزفت ريقي

لدى عزف القيان إذ انتشينا ... وإذ نسقى من الخمر الرحيق وشرب الخمر ليس على عارا ... إذا لم يشكني فيها رفيقي فإن الموت لا ينهاه ناه ... ولو شرب الشفاء مع النشوق ولا مترهب في أسطوان ... يناطح جدره بيض الأنوق وغمدان الذي حدثت عنه ... بنوه ممسكا في رأس نيق بمنهمة وأسفله جروب ... وحر الموحل اللثق الزليق مصابيح السليط تلوح فيه ... إذا يمسي كتوماض البروق ونخلته التي غرست اليه ... يكاد البسر يهصر بالعذوق فأصبح بعد جدته رمادا ... وغير حسنه لهب الحريق وأسلم ذو نواس مستميتا ... وحذر قومه ضنك المضيق وقال ابن الذئبة الثقفي، وهو يذكر حمير حين نزل بها السودان وما أصابوا منهم: لعمرك ما للفتى من مفر ... مع الموت يلحقه والكبر لعمرك ما للفتى صحرة ... لعمرك ما إن له من وزر

أبعد قبائل من حمير ... أتوا ذا صباح بذات العبر بالب الوب وحرابة ... كمثل السماء قبيل المطر يصم صياحهم المقربات ... وينفون من قاتلوا بالزمر سعالى كمثل عديد التراب ... ييبس منهم رطاب الشجر وأما هشام بن مُحَمَّد، فإنه زعم أن السفن لما قدمت على النجاشي من عند قيصر حمل جيشه فيها، فخرجوا في ساحل المندب قَالَ: فلما سمع بهم ذو نواس كتب إلى المقاول يدعوهم إلى مظاهرته، وأن يكون أمرهم في محاربة الحبشة ودفعهم عن بلادهم واحدا، فأبوا وقالوا: يقاتل كل رجل عن مقولته وناحيته فلما رأى ذلك صنع مفاتيح كثيرة، ثم حملها على عدة من الإبل، وخرج حتى لقي جمعهم، فقال: هذه مفاتيح خزائن اليمن قد جئتكم بها، فلكم المال والأرض، واستبقوا الرجال والذرية فقال عظيمهم: اكتب بذلك إلى الملك، فكتب إلى النجاشي، فكتب إليه يأمره بقبول ذلك منهم، فسار بهم ذو نواس حتى إذا دخل بهم صنعاء، قال لعظيمهم: وجه ثقات أصحابك في قبض هذه الخزائن ففرق أصحابه في قبضها ودفع إليهم المفاتيح، وسبقت كتب ذي نواس إلى كل ناحية: أن اذبحوا كل ثور أسود في بلدكم، فقتلت الحبشة، فلم يبق منهم إلا الشريد وبلغ النجاشي ما كان من ذي نواس، فجهز إليه سبعين ألفا، عليهم قائدان: أحدهما أبرهة الأشرم، فلما صاروا إلى صنعاء وراى ذو نواس الا طاقة له بهم ركب فرسه، واعترض البحر فاقتحمه، فكان آخر العهد به. وأقام أبرهة ملكا على صنعاء ومخاليفها، ولم يبعث إلى النجاشى بشيء،

فقيل للنجاشي: إنه قد خلع طاعتك، ورأى أنه قد استغنى بنفسه، فوجه إليه جيشا عليه رجل من أصحابه، يقال له ارياط، فلما حل بساحته، بعث إليه أبرهة أنه يجمعني وإياك البلاد والدين، والواجب علي وعليك أن ننظر لأهل بلادنا وديننا ممن معي ومعك، فإن شئت فبارزني، فأينا ظفر بصاحبه كان الملك له، ولم يقتل الحبشة فيما بيننا فرضي بذلك ارياط، وأجمع أبرهة على المكر به، فاتعدا موضعا يلتقيان فيه، وأكمن أبرهة لارياط عبدا له يقال له أرنجده، في وهدة قريب من الموضع الذي التقيا فيه، فلما التقيا سبق ارياط فزرق أبرهة بحربته، فزالت الحربة عن رأسه وشرمت أنفه فسمي الأشرم، ونهض ارنجده من الحفرة، فزرق ارياط فأنفذه، فقتله، فقال أبرهة لأرنجده: احتكم فقال: لا تدخل امراه اليمن على زوجها حتى يبدأ بي، قَالَ: لك ذاك، فغبر بذلك زمانا ثم إن أهل اليمن عدوا عليه فقتلوه، فقال أبرهة: قد انى لكم أن تكونوا أحرارا، وبلغ النجاشي قتل ارياط، فالى الا يكون له ناهية دون أن يهريق دم أبرهة، ويطأ بلاده، وبلغ أبرهة أليته، فكتب إليه: أيها الملك، إنما كان ارياط عبدك، وأنا عبدك، قدم علي يريد توهين ملكك، وقتل جندك، فسألته أن يكف عن قتالي إلى أن أوجه إليك رسولا، فإن أمرته بالكف عني، وإلا سلمت إليه جميع ما أنا فيه، فأبى إلا محاربتي، فحاربته فظهرت عليه، وإنما سلطاني لك، وقد بلغني أنك حلفت الا تنتهي حتى تهريق دمي، وتطأ بلادي وقد بعثت إليك بقارورة من دمي، وجراب من تراب أرضي، وفي ذلك خروجك من يمينك، فاستتم ايها الملك يدك عندي، فإنما أنا عبدك وعزي عزك. فرضي عنه النجاشي وأقره على عمله. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق قَالَ: فأقام أرياط باليمن سنين في سلطانه ذلك، ثم نازعه في أمر الحبشة باليمن أبرهة الحبشي،

وكان في جنده حتى تفرقت الحبشة عليهما، فانحاز إلى كل واحد منهما طائفة منهم، ثم سار أحدهما إلى الآخر، فلما تقارب الناس، ودنا بعضهم من بعض أرسل أبرهة إلى أرياط: إنك لن تصنع بأن تلقي الحبشة بعضها ببعض حتى تفنيها شيئا، فابرز لي وأبرز لك، فأينا ما أصاب صاحبه انصرف إليه جنده. فأرسل إليه أرياط: أن قد أنصفتني فاخرج فخرج إليه أبرهة، وكان رجلا قصيرا لحيما حادرا، وكان ذا دين في النصرانية، وخرج إليه أرياط وكان رجلا عظيما طويلا وسيما وفي يده حربة وخلف أبرهة ربوة تمنع ظهره وفيها غلام له يقال له عتودة، فلما دنا أحدهما من صاحبه رفع أرياط الحربة فضرب بها على رأس أبرهة- يريد يافوخه- فوقعت الحربة على جبهة أبرهة، فشرمت حاجبه وعينه وأنفه وشفته، فبذلك سمي أبرهة الأشرم وحمل غلام أبرهة عتودة على ارياط من خلف أبرهة فقتله، وانصرف جند أرياط إلى أبرهة، فاجتمعت عليه الحبشة باليمن، فقال عتودة في قتله ارياط: أنا عتودة، من فرقة أردة، لا أب ولا أم نجده، أي يقول: قتلك عبده، قَالَ: فقال الأشرم عند ذلك لعتودة: حكمك يا عتودة وإن كنت قتلته، ولا ينبغي لنا ذلك إلا ديته، فقال عتودة: حكمي ألا تدخل عروس من أهل اليمن على زوجها منهم حتى أصيبها قبله فقال: ذلك لك، ثم أخرج دية أرياط، وكان كل ما صنع أبرهة بغير علم النجاشي ملك الحبشة، فلما بلغه ذلك غضب غضبا شديدا، وقال: عدا على أميري، فقتله بغير أمري ثم حلف ألا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده، ويجز ناصيته، فلما بلغ ذلك أبرهة حلق رأسه، ثم ملأ جرابا من تراب اليمن، ثم بعث به إلى النجاشي، وكتب إليه: أيها الملك، إنما كان ارياط عبدك، وأنا عبدك، فاختلفنا في أمرك، وكل طاعته لك، إلا أني كنت أقوى منه على أمر الحبشة، وأضبط لها

وأسوس لها، وقد حلقت رأسي كله حين بلغني قسم الملك، وبعثت إليه بجراب من تراب أرض اليمن، ليضعه تحت قدميه فيبر قسمه. فلما انتهى ذلك إلى النجاشي رضي عنه، وكتب إليه: أن اثبت على عملك بأرض اليمن، حتى يأتيك أمري فلما رأى أبرهة أن النجاشي قد رضي عنه، وملكه على الحبشة وأرض اليمن بعث إلى أبي مرة بن ذي يزن، فنزع منه امرأته ريحانة ابنة علقمة بن مالك بن زيد بن كهلان- وأبو ريحانة ذو جدن، وقد كانت ولدت لأبي مرة معد يكرب بن أبي مرة، وولدت لأبرهة بعد أبي مرة مسروق بن أبرهة، وبسباسة ابنة أبرهة، وهرب منه أبو مرة فأقام أبرهة باليمن وغلامه عتودة يصنع باليمن ما كان أعطاه من حكمه حينا، ثم عدا على عتودة رجل من حمير- أو من خثعم- فقتله، فلما بلغ أبرهة قتله- وكان رجلا حليما سيدا شريفا ورعا في دينه من النصرانية- قَالَ: قد انى لكم يا أهل اليمن أن يكون فيكم رجل حازم، يأنف مما يأنف منه الرجال، إني والله لو علمت حين حكمته أنه يسأل الذي سأل ما حكمته، ولا أنعمته عينا، وايم الله لا يؤخذ منكم فيه عقل، ولا يتبعكم مني في قتله شيء تكرهونه. قَالَ: ثم إن أبرهة بنى القليس بصنعاء، فبنى كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض، ثم كتب إلى النجاشي ملك الحبشة: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف إليها حاج العرب. فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي غضب رجل من النساة أحد بني فقيم، ثم أحد بني مالك، فخرج حتى أتى القليس فقعد فيها، ثم خرج فلحق بأرضه، فأخبر بذلك أبرهة، فقال: من صنع هذا؟ فقيل: صنعه رجل من أهل هذا البيت الذي تحج العرب إليه بمكة، لما سمع

من قولك: أصرف إليه حاج العرب، فغضب فجاء فقعد فيها، أي أنها ليست لذلك بأهل فغضب عند ذلك أبرهة، وحلف ليسيرن إلى البيت فيهدمه، وعند أبرهة رجال من العرب، قد قدموا عليه يلتمسون فضله، منهم مُحَمَّد بن خزاعي بن حزابة الذكواني، ثم السلمي، في نفر من قومه، معه أخ له، يقال له قيس بن خزاعي، فبينا هم عنده غشيهم عيد لأبرهة، فبعث إليهم فيه بغدائه، وكان يأكل الخصى، فلما أتى القوم بغدائه قَالُوا: والله لئن أكلنا هذا لا تزال تعيبنا به العرب ما بقينا، فقام مُحَمَّد بن خزاعي، فجاء أبرهة فقال: أيها الملك، هذا يوم عيد لنا، لا نأكل فيه إلا الجنوب والأيدي، فقال له أبرهة: فسنبعث إليكم ما أحببتم، فإنما أكرمتكم بغدائي لمنزلتكم مني. ثم إن أبرهة توج مُحَمَّد بن خزاعي، وأمره على مضر، وأمره أن يسير في الناس يدعوهم إلى حج القليس، كنيسته التي بناها فسار مُحَمَّد بن خزاعي، حتى إذا نزل ببعض أرض بني كنانة- وقد بلغ أهل تهامة أمره، وما جاء له- بعثوا إليه رجلا من هذيل، يقال له عروة بن حياض الملاصي، فرماه بسهم فقتله وكان مع مُحَمَّد بن خزاعي أخوه قيس، فهرب حين قتل أخوه، فلحق بأبرهة، فأخبره بقتله، فزاد ذلك أبرهة غضبا وحنقا، وحلف ليغزون بني كنانة وليهدمن البيت. وأما هشام بن مُحَمَّد، فإنه قَالَ: بنى أبرهة بعد أن رضي عنه النجاشي وأقره على عمله كنيسة صنعاء، فبناها بناء معجبا لم ير مثله، بالذهب والأصباغ المعجبة، وكتب إلى قيصر يعلمه أنه يريد بناء كنيسة بصنعاء، يبقى أثرها وذكرها، وسأله المعونة له على ذلك فأعانه بالصناع والفسيفساء والرخام، وكتب أبرهة إلى النجاشي حين استتم بناؤها: إني أريد أن أصرف إليها حاج العرب فلما سمعت بذلك العرب أعظمته، وكبر عليها، فخرج رجل من بني مالك بن كنانة حتى قدم اليمن، فدخل الهيكل، فأحدث فيه، فغضب أبرهة، وأجمع على غزو مكة وهدم البيت، فخرج سائرا بالحبشة ومعه الفيل، فلقيه ذو نفر الحميري، فقاتله فأسره، فقال: أيها الملك، إنما أنا عبدك فاستبقني، فإن حياتي خير لك من قتلي، فاستبقاه، ثم سار فلقيه نفيل

ابن حبيب الخثعمي، فقاتله فهزم أصحابه، وأسره، فسأله أن يستبقيه، ففعل وجعله دليله في أرض العرب. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق قَالَ: ثم إن أبرهة حين أجمع السير إلى البيت أمر الحبشان فتهيأت وتجهزت، وخرج معه بالفيل- قَالَ: وسمعت العرب بذلك فأعظموه، وفظعوا به، ورأوا جهاده حقا عليهم حين سمعوا أنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام- فخرج له رجل كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم، يقال له: ذو نفر، فدعا قومه ومن أجابه منهم من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله، وما يريد من هدمه وإخرابه، فأجابه من أجابه إلى ذلك، وعرض له فقاتله، فهزم ذو نفر وأصحابه، وأخذ له ذو نفر أسيرا، فأتي به، فلما أراد قتله قَالَ له ذو نفر: أيها الملك، لا تقتلني، فإنه عسى أن يكون كوني معك خيرا لك من قتلي فتركه من القتل وحبسه عنده في وثاق- وكان أبرهة رجلا حليما- ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك، يريد ما خرج له، حتى إذا كان بأرض خثعم، عرض له نفيل ابن حبيب الخثعمي في قبيلي خثعم: شهران وناهس ومن تبعه من قبائل العرب، فقاتله فهزمه أبرهة، وأخذ له نفيل أسيرا، فأتي به، فلما هم بقتله قَالَ له نفيل: أيها الملك، لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب، وهاتان يداي لك على قبيلي خثعم، شهران وناهس بالسمع والطاعة، فأعفاه وخلى سبيله، وخرج به معه يدله على الطريق، حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال ثقيف، فقال له: أيها الملك، إنما نحن عبيدك، سامعون لك مطيعون ليس لك عندنا خلاف، وليس بيتنا هذا بالبيت الذي تريد- يعنون اللات- إنما تريد البيت الذي بمكة- يعنون الكعبة- ونحن نبعث معك من يدلك. فتجاوز عنهم، وبعثوا معه أبا رغال، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال، حتى أنزله المغمس، فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك، فرجمت العرب قبره، فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس. ولما نزل أبرهة المغمس بعث رجلا من الحبشة، يقال له الأسود بن مقصود

على خيل له حتى انتهى إلى مكة، فساق إليه أموال أهل مكة من قريش وغيرهم، وأصاب منها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها، فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بالحرم من سائر الناس بقتاله، ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به، فتركوا ذلك، وبعث أبرهة حناطة الحميري الى مكة، وقال له: سل عن سيد هذا البلد وشريفهم، ثم قل له: إن الملك يقول لكم: إني لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم البيت، فإن لم تعرضوا دونه بحرب، فلا حاجة لي بدمائكم، فإن لم يرد حربي فأتني به. فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش وشريفها، فقيل له: عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف بن قصي، فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم- أو كما قَالَ- فإن يمنعه فهو بيته وحرمه، وإن يخل بينه وبينه، فو الله ما عندنا من دفع عنه- أو كما قَالَ له- فقال له حناطة: فانطلق إلى الملك، فإنه قد أمرني أن آتيه بك- فانطلق معه عبد المطلب، ومعه بعض بنيه، حتى أتى العسكر فسأل عن ذي نفر- وكان له صديقا- حتى دل عليه، وهو في محبسه، فقال له: يا ذا نفر، هل عندك غناء فيما نزل بنا؟ فقال له ذو نفر: وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدوا أو عشيا! ما عندي غناء في شيء مما نزل بك إلا أن أنيسا سائس الفيل لي صديق، فسأرسل إليه فأوصيه بك، وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما تريد، ويشفع لك عنده بخير، إن قدر على ذلك قَالَ: حسبي. فبعث ذو نفر إلى أنيس، فجاء به، فقال: يا أنيس، إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عير مكة يطعم الناس بالسهل، والوحوش في رءوس الجبال، وقد أصاب له الملك مائتي بعير فاستأذن له عليه، وانفعه عنده بما استطعت. قَالَ: أفعل، فكلم أنيس أبرهة فقال: أيها الملك، هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك، وهو صاحب عير مكة يطعم الناس بالسهل، والوحوش في رءوس الجبال، فأذن له عليك، فيكلمك بحاجته وأحسن إليه قَالَ: فأذن له

أبرهة- وكان عبد المطلب رجلا عظيما وسيما جسيما- فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه أن يجلس تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه، فنزل أبرهة عن سريره، فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه، ثم قَالَ لترجمانه: قل له حاجتك إلى الملك، فقال له ذلك الترجمان، فقال عبد المطلب: حاجتي إلى الملك أن يرد علي مائتي بعير أصابها لي فلما قَالَ له ذلك، قَالَ أبرهة لترجمانه: قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في مائتي بعير قد أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه! قال له عبد المطلب: انى أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيمنعه، قَالَ: ما كان ليمنع مني، قَالَ: أنت وذاك، اردد إلي إبلي. وكان- فيما زعم بعض أهل العلم- قد ذهب عبد المطلب إلى أبرهة حين بعث إليه حناطة بعمرو بن نفاثة بن عدي بن الدئل بْن بكر بْن عبد مناة بْن كنانة- وهو يومئذ سيد بنى كنانه- وخويلد بن واثله الهذلي- وهو يومئذ سيد هذيل- فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم، ولا يهدم البيت، فأبى عليهم والله أعلم وكان أبرهة قد رد على عبد المطلب الإبل التي أصاب له، فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال والشعاب تخوفا عليهم معرة الجيش، ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة الباب باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب، وهو آخذ بحلقة باب الكعبة: يا رب لا أرجو لهم سواكا ... يا رب فامنع منهم حماكا إن عدو البيت من عاداكا ... امنعهم أن يخربوا قراكا

ثم قال أيضا: لا هم إن العبد يمنع ... رحله فامنع حلالك لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم غدوا محالك فلئن فعلت فربما ... أولى فأمر ما بدا لك ولئن فعلت فانه ... امر تتم به فعالك جروا جموع بلادهم ... والفيل كي يسبوا عيالك عمدوا حماك بكيدهم ... جهلا وما رقبوا جلالك وقال أيضا: وكنت إذا أتى باغ بسلم ... نرجي أن تكون لنا كذلك فولوا لم ينالوا غير خزي ... وكان الحين يهلكهم هنالك ولم أسمع بأرجس من رجال ... أرادوا العز فانتهكوا حرامك ثم أرسل عبد المطلب حلقة الباب، باب الكعبة، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال، فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله، وعبى جيشه- وكان اسم الفيل محمودا- وأبرهة مجمع لهدم البيت ثم الانصراف إلى اليمن، فلما وجهوا الفيل أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي حتى قام إلى جنبه، ثم أخذ بأذنه، فقال: ابرك محمود، وارجع راشدا من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام ثم أرسل أذنه، فبرك الفيل وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى صعد

في الجبل، وضربوا الفيل ليقوم فأبى، وضربوا في رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى، فأدخلوا محاجن لهم في مراقه فبزغوه ليقوم فأبى، فوجهوه راجعا إلى اليمن، فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فبرك، وأرسل الله عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف، مع كل طير منها ثلاثة أحجار يحملها، حجر في منقاره، وحجران في رجليه مثل الحمص والعدس لا تصيب منهم أحدا إلا هلك، وليس كلهم أصابت، وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاءوا، ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فقال نفيل بن حبيب حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته: أين المفر والإله الطالب ... والأشرم المغلوب غير الغالب! وقال نفيل أيضا: ألا حييت عنا يا ردينا ... نعمناكم مع الإصباح عينا أتانا قابس منكم عشاء ... فلم يقدر لقابسكم لدينا ردينة لو رأيت ولم تريه ... لدى جنب المحصب ما رأينا إذا لعذرتنى وحمدت رأيي ... ولم تأسى على ما فات بينا حمدت الله إذ عاينت طيرا ... وخفت حجارة تلقى علينا فكل القوم يسأل عن نفيل ... كأن علي للحبشان دينا! فخرجوا يتساقطون بكل طريق، ويهلكون على كل منهل، وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم تسقط أنامله أنملة أنملة، كلما سقطت منه

أنملة اتبعتها منه مدة تمث قيحا ودما حتى قدموا به صنعاء، وهو مثل فرخ الطير، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه- فيما يزعمون. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ السَّلْمَانِيِّ، عَنْ ابيه قال: وحدثنا عبد الله ابن عَمْرِو بْنِ زُهَيْرٍ الْكَعْبِيُّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْحِمْيَرِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ. قَالَ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الثَّقَفِيُّ عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ وَكِيعِ بْنِ عَدَسٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ قَالَ: وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بن مسلم، عن عبد الله ابن كَثِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي حَدِيثِ بَعْضٍ، قَالُوا: كَانَ النَّجَاشِيُّ قَدْ وَجَّهَ أَرْيَاطَ أبا صحم فِي أَرْبَعَةِ آلافٍ إِلَى الْيَمَنِ، فَأَدَاخَهَا وَغَلَبَ عَلَيْهَا، فَأَعْطَى الْمُلُوكَ، وَاسْتَذَلَّ الْفُقَرَاءَ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْحَبَشَةِ يُقَالُ لَهُ أَبْرَهَةُ الأَشْرَمُ أَبُو يَكْسُومَ، فَدَعَا إِلَى طَاعَتِهِ، فَأَجَابُوهُ، فَقَتَلَ أَرْيَاطَ، وَغَلَبَ عَلَى الْيَمَنِ، وَرَأَى النَّاسَ يَتَجَهَّزُونَ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ لِلحَجِّ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ، فَسَأَلَ: أَيْنَ يَذْهَبُ النَّاسُ؟ فَقَالُوا: يَحُجُّونَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ بِمَكَّةَ، قَالَ: مِمَّ هُوَ؟ قَالُوا: مِنْ حِجَارَةٍ، قَالَ: فما كسوته؟ قالوا: ما ياتى هاهنا مِنَ الْوَصَائِلِ، قَالَ: وَالْمَسِيحِ لَأَبْنِيَنَّ لَكُمْ خَيْرًا منه! فبنى لهم بيتا، عمله برخام الأَبْيَضِ وَالأَحْمَرِ وَالأَصْفَرِ وَالأَسْوَدِ، وَحَلَّاهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَحَفَّهُ بِالْجَوْهَرِ، وَجَعَلَ لَهُ أَبْوَابًا عَلَيْهَا صَفَائِحُ الذَّهَبِ وَمَسَامِيرُ الذَّهَبِ، وَفَصَلَ بَيْنَهَا بِالْجَوْهَرِ، وَجَعَلَ فِيهَا يَاقُوتَةً حَمْرَاءَ عَظِيمَةً، وَجَعَلَ لَهَا حِجَابًا، وكان يوقد بالمندل، ويلطخ جدره بِالْمِسْكِ، فَيَسُودُهُ حَتَّى يَغِيبَ الْجَوْهَرُ وَأَمَرَ النَّاسَ فَحَجُّوهُ، فَحَجَّهُ كَثِيرٌ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ سِنِينَ، وَمَكَثَ فِيهِ رِجَالٌ يَتَعَبَّدُونَ وَيَتَأَلَّهُونَ، وَنَسَكُوا لَهُ، وَكَانَ نُفَيْلٌ الْخَثْعَمِيُّ يُؤَرِّضُ لَهُ مَا يَكْرَهُ، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةً مِنَ

اللَّيَالِي لَمْ يَرَ أَحَدًا يَتَحَرَّكُ، فَقَامَ فَجَاءَ بِعَذِرَةٍ فَلَطَّخَ بِهَا قِبْلَتَهُ، وَجَمَعَ جِيَفًا فَأَلْقَاهَا فِيهِ فَأُخْبِرَ أَبْرَهَةُ بِذَلِكَ، فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَقَالَ: إِنَّمَا فَعَلَتْ هَذَا الْعَرَبُ غَضَبًا لِبَيْتِهِمْ، لَأَنْقُضَنَّهُ حَجَرًا حَجَرًا وَكَتَبَ إِلَى النَّجَاشِيِّ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، وَيَسْأَلُهُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ بِفِيلِهِ مَحْمُودٍ- وَكَانَ فِيلًا لَمْ يُرَ مِثْلَهُ فِي الأَرْضِ عِظَمًا وَجِسْمًا وَقُوَّةً- فَبَعَثَ بِهِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ الْفِيلُ سَارَ أَبْرَهَةُ بِالنَّاسِ وَمَعَهُ مَلِكُ حِمْيَرٍ، وَنُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ الْخَثْعَمِيُّ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْحَرَمِ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْغَارَةِ عَلَى نِعَمِ النَّاسِ فَأَصَابُوا إِبِلًا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ نُفَيْلٌ صَدِيقًا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَكَلَّمَهُ فِي إِبِلِهِ، فَكَلَّمَ نُفَيْلٌ أَبْرَهَةَ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، قَدْ أَتَاكَ سَيِّدُ الْعَرَبِ وَأَفْضَلُهُمْ قَدْرًا، وَأَقْدَمُهُمْ شَرَفًا، يَحْمِلُ عَلَى الْجِيَادِ، وَيُعْطِي الأَمْوَالَ، وَيُطْعِمُ مَا هَبَّتِ الرِّيحُ فَأَدْخَلَهُ عَلَى أَبْرَهَةَ، فَقَالَ: حَاجَتَكَ! قَالَ: تَرُدُّ عَلَيَّ إِبِلِي، فَقَالَ: مَا أَرَى مَا بَلَغَنِي عَنْكَ إِلَّا الْغُرُورُ، وَقَدْ ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُكَلِّمُنِي فِي بَيْتِكُمُ الَّذِي هُوَ شَرَفُكُمْ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: ارْدُدْ عَلَيَّ إِبِلِي، وَدُونَكَ الْبَيْتَ، فَإِنَّ لَهُ رَبًّا سَيُمْنَعُهُ فَأَمَر بِرَدِّ إِبِلِهِ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَبَضَهَا قَلَّدَهَا النِّعَالَ، وَأَشْعَرَهَا، وَجَعَلَهَا هَدْيًا، وَبَثَّهَا فِي الْحَرَمِ لِكَيْ يُصَابَ مِنْهَا شَيْءٌ فَيَغْضَبُ رَبُّ الْحَرَمِ، وَأَوْفَى عَبْدُ المطلب على حراء وَمَعَهُ عَمْرُو بْنُ عَائِذِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ وَمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ وَأَبُو مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: لا هُمَّ إِنَّ الْمَرْءَ يمنع ... رحله فامنع حلالك لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم غدوا محالك ان كنت تاركهم و ... قبلتنا فَأْمُرْ مَا بَدَا لَكَ قَالَ: فَأَقْبَلَتِ الطَّيْرُ مِنَ الْبَحْرِ أَبَابِيلَ، مَعَ كُلِّ طَيْرٍ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ: حَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ وَحَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ، فَقَذَفَتِ الْحِجَارَةَ عَلَيْهِمْ، لا تُصِيبُ شَيْئًا إِلَّا هَشَّمَتْهُ، وَإِلَّا نَفِطَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ، فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا كَانَ الْجُدَرِيُّ وَالْحَصْبَةُ والأَشْجَارُ الْمُرَّةُ، فَأَهْمَدَتْهُمُ الْحِجَارَةُ، وَبَعَثَ اللَّهُ سَيْلًا أَتِيًّا، فَذَهَبَ بِهِمْ فَأَلْقَاهُمْ فِي الْبَحْرِ

قَالَ: وَوَلَّى أَبْرَهَةُ وَمَنْ بَقِيَ مَعَهُ هُرَّابًا، فَجَعَلَ أَبْرَهَةُ يَسْقُطُ عُضْوًا عُضْوًا وَأَمَّا مَحْمَوُدٌ فِيلُ النَّجَاشِيِّ فَرَبَضَ وَلَمْ يَشْجُعْ عَلَى الْحَرَمِ فَنَجَا، وَأَمَّا الْفِيلُ الآخَرُ فَشَجُعَ فَحَصِبَ وَيُقَالُ: كَانَتْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ فِيلًا، وَنَزَلَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ من حراء، فَأَقْبَلَ رَجُلانِ مِنَ الْحَبَشَةِ فَقَبَّلَا رَأْسَهُ وَقَالَا: أَنْتَ كُنْتَ أَعْلَمَ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عن يعقوب ابن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، أنه حدث أن أول ما رئيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام، وأنه أول ما رئي بها مرار الشجر: الحرمل والحنظل والعشر، ذلك العام. قَالَ ابن إسحاق: ولما هلك أبرهة ملك اليمن ابنه في الحبشة يكسوم بن أبرهة- وبه كان يكنى- فذلت حمير وقبائل اليمن ووطئتهم الحبشة، فنكحوا نساءهم، وقتلوا رجالهم، واتخذوا أبناءهم تراجمة بينهم وبين العرب. قَالَ: ولما رد الله الحبشة عن مكة، فأصابهم ما أصابهم من النقمة، عظمت العرب قريشا، وقالوا: أهل الله، قاتل الله عنهم، فكفاهم مئونة عدوهم. قَالَ: ولما هلك يكسوم بن أبرهة ملك اليمن في الحبشة أخوه مسروق ابن أبرهة، فلما طال البلاء على أهل اليمن- وكان ملك الحبشة باليمن فيما بين أن دخلها أرياط إلى أن قتلت الفرس مسروقا، واخرجوا الحبشه من اليمن اثنتين وسبعين سنة، توارث ذلك منهم أربعة ملوك: أرياط، ثم أبرهة، ثم يكسوم بن أبرهة، ثم مسروق بن أبرهة- خرج سيف بن ذي يزن الحميري، وكان يكنى بأبي مرة، حتى قدم على قيصر ملك الروم، فشكا ما هم فيه، وطلب اليه أن يخرجهم عنه، ويليهم هو، ويبعث إليهم من شاء من الروم، فيكون له ملك اليمن، فلم يشكه ولم يجد عنده شيئا مما يريد، فخرج حتى قدم الحيرة على النعمان بن المنذر- وهو عامل كسرى على الحيرة وما يليها من أرض العرب من العراق- فشكا إليه ما هم فيه من البلاء والذل، فقال له النعمان: إن لي على كسرى وفماده في كل عام، فأقم عندي حتى يكون ذلك، فأخرج بك معي قَالَ: فأقام عنده حتى خرج النعمان إلى كسرى، فخرج معه الى

كسرى، فلما قدم النعمان على كسرى وفرغ من حاجته، ذكر له سيف بن ذي يزن وما قدم له، وسأل أن يأذن له عليه، ففعل وكان كسرى إنما يجلس في إيوان مجلسه الذي فيه تاجه، وكان تاجه مثل القنقل العظيم، مضروبا فيه الياقوت والزبرجد واللؤلؤ والذهب والفضة، معلقا بسلسلة من ذهب في رأس طاق مجلسه ذلك، كانت عنقه لا تحمل تاجه، إنما يستر بالثياب حتى يجلس في مجلسه ذلك، ثم يدخل رأسه في تاجه، فإذا استوى في مجلسه كشف الثياب عنه فلا يراه رجل لم يره قبل ذلك إلا برك هيبة له فلما دخل عليه سيف بن ذي يزن برك، ثم قَالَ: أيها الملك غلبتنا على بلادنا الأغربة، فقال كسرى: أي الأغربة؟ الحبشة أم السند؟ قَالَ: بل الحبشة، فجئتك لتنصرني عليهم، وتخرجهم عني، ويكون ملك بلادي لك، فأنت أحب إلينا منهم قَالَ: بعدت أرضك من أرضنا، وهي أرض قليلة الخير، إنما بها الشاء والبعير، وذلك مما لا حاجة لنا به، فلم أكن لأورط جيشا من فارس بأرض العرب لا حاجة لي بذلك! ثم أمر فأجيز بعشرة آلاف درهم واف، وكساه كسوة حسنة. فلما قبض ذلك سيف بن ذي يزن، خرج فجعل ينثر الورق للناس ينهبها الصبيان والعبيد والإماء، فلم يلبث ذلك أن دخل على كسرى، فقيل له: العربي الذى اعطيته ما أعطيته ينثر دراهمه للناس ينهبها العبيد والصبيان والإماء. فقال كسرى: إن لهذا الرجل لشأنا، ائتوني به، فلما دخل عليه قَالَ: عمدت إلي حباء الملك الذي حباك به تنثره للناس! قَالَ: وما أصنع بالذي أعطاني الملك! ما جبال أرضي التي جئت منها إلا ذهب وفضة- يرغبه فيها لما رأى من زهادته فيها- إنما جئت الملك ليمنعني من الظلم، ويدفع عني الذل، فقال له كسرى: أقم عندي حتى أنظر في أمرك فأقام عنده. وجمع كسرى مرازبته وأهل الرأي ممن كان يستشيره في أمره، فقال: ما ترون في أمر هذا الرجل، وما جاء له؟ فقال قائل منهم: أيها الملك، إن في سجونك رجالا قد حبستهم للقتل، فلو أنك بعثتهم معه، فإن هلكوا كان الذي أردت بهم، وإن ظهروا على بلاده كان ملكا ازددته إلى ملكك. فقال: إن هذا الرأي! أحصوا لي كم في سجوني من الرجال، فحسبوا له،

فوجدوا في سجونه ثمانمائه رجل، فقال: انظروا إلى أفضل رجل منهم حسبا وبيتا، اجعلوه عليهم فوجدوا أفضلهم حسبا وبيتا وهرز- وكان ذا سن- فبعثه مع سيف، وأمره على أصحابه، ثم حملهم في ثماني سفائن، في كل سفينة مائة رجل، وما يصلحهم في البحر فخرجوا حتى إذا لججوا في البحر، غرقت من السفن سفينتان بما فيهما، فخلص إلى ساحل اليمن من ارض عدن ست سفائن، فيهن ستمائه رجل، فيهم وهرز، وسيف بن ذي يزن، فلما اطمأنا بأرض اليمن، قَالَ وهرز لسيف: ما عندك؟ قَالَ: ما شئت من رجل عربي، وفرس عربي، ثم اجعل رجلي مع رجلك، حتى نموت جميعا أو نظهر جميعا قَالَ وهرز: أنصفت وأحسنت! فجمع إليه سيف من استطاع من قومه، وسمع بهم مسروق بن أبرهة فجمع إليه جنده من الحبشة، ثم سار إليهم حتى إذا تقارب العسكران، ونزل الناس بعضهم إلى بعض بعث وهرز ابنا له كان معه- يقال له نوزاذ- على جريدة خيل، فقال له: ناوشهم القتال، حتى ننظر كيف قتالهم فخرج إليهم فناوشهم شيئا من قتال، ثم تورط في مكان لم يستطع الخروج منه فقتلوه، فزاد ذلك وهرز حنقا عليهم، وجدا على قتالهم. فلما تواقف الناس على مصافهم قَالَ وهرز: أروني ملكهم، فقالوا: ترى رجلا على الفيل عاقدا تاجه على رأسه، بين عينيه ياقوتة حمراء، قال: نعم، قالوا: ذاك ملكهم، قال: اتركوه فوقفوا طويلا، ثم قال: علا م هو؟ قَالُوا: قد تحول على الفرس، فقال: اتركوه، فوقفوا طويلا، ثم قال: علا م هو؟ قَالُوا: قد تحول على البغلة، قَالَ: ابنة الحمار! ذل وذل ملكه، هل تسمعون إني سأرميه، فإن رأيتم أصحابه وقوفا لم يتحركوا فاثبتوا حتى أوذنكم، فإني قد أخطأت الرجل، وإن رأيتم القوم قد استداروا ولاثوا به، فقد أصبت الرجل، فاحملوا عليهم. ثم أوتر قوسه- وكانت فيما زعموا لا يوترها غيره من شدتها- ثم أمر بحاجبيه

فعصبا له، ثم وضع في قوسه نشابة فمغط فيها حتى إذا ملأها أرسلها فصك بها الياقوتة التي بين عينيه، فتغلغلت النشابة في رأسه، حتى خرجت من قفاه، وتنكس عن دابته، واستدارت الحبشة، ولاثت به، وحملت عليهم الفرس، وانهزمت الحبشة، فقتلوا وهرب شريدهم في كل وجه، فأقبل وهرز يريد صنعاء يدخلها، حتى إذا أتى بابها قَالَ: لا تدخل رايتي منكسة أبدا، اهدموا الباب. فهدم باب صنعاء، ثم دخلها ناصبا رايته يسار بها بين يديه. فلما ملك اليمن ونفى عنها الحبشة كتب إلى كسرى: إني قد ضبطت لك اليمن، وأخرجت من كان بها من الحبشة، وبعث إليه بالأموال فكتب إليه كسرى يأمره أن يملك سيف بن ذي يزن على اليمن وأرضها، وفرض كسرى على سيف بن ذي يزن جزية وخرجا يؤديه إليه في كل عام معلوم، يبعث إليه في كل عام وكتب إلى وهرز أن ينصرف إليه فانصرف إليه وهرز، وملك سيف بن ذي يزن على اليمن، وكان أبوه ذو يزن من ملوك اليمن. فهذا ما حَدَّثَنَا به ابن حميد، عن سلمة عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، من أمر حمير والحبشة، وملكهم وتوجيه كسرى من وجه لحرب الحبشة باليمن. وأما هشام بن مُحَمَّد، فإنه قَالَ: ملك بعد أبرهة يكسوم، ثم مسروق. قَالَ: وهو الذي قتله وهرز في ملك كسرى بن قباذ، ونفى الحبشة عن اليمن. قَالَ: وكان من حديثه أن أبا مرة الفياض ذا يزن، كان من أشراف اليمن، وكانت تحته ريحانة ابنة ذي جدن، فولدت له غلاما سماه معد يكرب. وكانت ذات جمال، فانتزعها الأشرم من أبي مرة، فاستنكحها، فخرج أبو مرة من اليمن، فلحق ببعض ملوك بني المنذر- أظنه عمرو بن هند- فسأله أن يكتب له إلى كسرى كتابا، يعلمه فيه قدره وشرفه ونزوعه إليه فيما نزع إليه فيه فقال: لا تعجل، فإن لي عليه في كل سنة وفادة، وهذا وقتها، فأقام قبله حتى وفد عليه معه، فدخل عمرو بن هند على كسرى،

فذكر له شرف ذي يزن وحاله، واستأذن له، فدخل فأوسع له عمرو، فلما رأى ذلك كسرى علم أن عمرا لم يصنع به ذلك بين يديه إلا لشرفه، فأقبل عليه، فألطفه وأحسن مسألته، وقال له: ما الأمر الذي نزع بك؟ قَالَ: أيها الملك، إن السودان قد غلبونا على بلادنا، وركبوا منا أمورا شنيعة، أجل الملك عن ذكرها، فلو أن الملك تناولنا بنصره من غير أن نستنصره، لكان حقيقا بذلك لفضله وكرمه وتقدمه لسائر الملوك فكيف وقد نزعنا إليه، مؤملين له، راجين ان يقصم الله عدونا وينصرنا عليهم، وينتقم لنا به منهم! فإن رأى الملك أن يصدق ظننا، ويحقق رجاءنا، ويوجه معي جيشا ينفون هذا العدو عن بلادنا فيزدادها إلى ملكه- فإنها من أخصب البلدان وأكثرها خيرا، وليست كما يلي الملك من بلاد العرب- فعل. قَالَ: قد علمت أن بلادكم كما وصفت، فأي السودان غلبوا عليها؟ الحبشة أم السند؟ قَالَ: بل الحبشة، قَالَ أنوشروان: إني لأحب أن أصدق ظنك، وأن تنصرف بحاجتك، ولكن المسلك للجيش إلى بلادك صعب، وأكره أن أغرره بجندي، ولي فيما سألت نظر، وأنت على ما تحب. وامر بإنزاله وإكرامه، فلم يزل مقيما عنده حتى هلك وقد كان أبو مرة قَالَ قصيدة بالحميرية يمتدح فيها كسرى، فلما ترجمت له، أعجب بها. وولدت ريحانة ابنة ذي جدن لأبرهة الاشرم غلاما، فسماه مسروقا، ونشا معديكرب بن ذي يزن مع أمه ريحانة في حجر أبرهة فسبه ابن لأبرهة، فقال له: لعنك الله، ولعن اباك! وكان معديكرب لا يحسب إلا أن الأشرم أبوه، فأتى أمه فقال لها: من أبي؟ قالت: الأشرم، قَالَ: لا والله، ما هو أبي، ولو كان أبي ما سبني فلان، فأخبرته أن أباه أبو مرة الفياض، واقتصت عليه خبره، فوقع ذلك في نفس الغلام، ولبث بعد ذلك لبثا

ثم إن الأشرم مات، ومات ابنه يكسوم، فخرج ابن ذي يزن قاصدا إلى ملك الروم، وتجنب كسرى لإبطائه عن نصر أبيه، فلم يجد عند ملك الروم ما يحب، ووجده يحامي عن الحبشة لموافقتهم إياه على الدين، فانكفأ راجعا إلى كسرى، فاعترضه يوما وقد ركب، فصاح به: أيها الملك، إن لي عندك ميراثا فدعا به كسرى لما نزل، وقال: من أنت؟ وما ميراثك؟ قَالَ: أنا ابن الشيخ اليماني ذي يزن، الذي وعدته أن تنصره، فمات ببابك وحضرتك، فتلك العدة حق لي وميراث يجب عليك الخروج لي منه فرق له كسرى، وأمر له بمال فخرج الغلام، فجعل ينثر الدراهم، فانتهبها الناس فأرسل إليه كسرى: ما الذي حملك على ما صنعت؟ قَالَ: إني لم آتك للمال، إنما جئتك للرجال، ولتمنعني من الذل فأعجب ذلك كسرى، فبعث إليه: أن أقم حتى أنظر في أمرك ثم إن كسرى استشار وزراءه في توجيه الجند معه، فقال له الموبذان: إن لهذا الغلام حقا بنزوعه وموت أبيه بباب الملك وحضرته، وما تقدم من عدته إياه، وفي سجون الملك رجال ذوو نجدة وبأس، فلو أن الملك وجههم معه، فإن أصابوا ظفرا كان له، وإن هلكوا كان قد استراح وأراح أهل مملكته منهم، ولم يكن ذلك ببعيد من الصواب. قَالَ كسرى: هذا الرأي، وأمر بمن كان في السجون من هذا الضرب فأحصوا فبلغوا ثمانمائه نفر، فقود عليهم قائدا من أساورته، يقال له وهرز، كان كسرى يعدله بألف أسوار، وقواهم وجهزهم وامر بحملهم في ثمانية سفائن، في كل سفينة مائة رجل، فركبوا البحر، فغرقت من الثماني السفن سفينتان، وسلمت ست، فخرجوا بساحل حضرموت، وسار إليهم مسروق في مائة ألف من الحبشة وحمير والأعراب، ولحق بابن ذي يزن بشر كثير، ونزل وهرز على سيف البحر، وجعل البحر وراء ظهره، فلما نظر مسروق إلى قلتهم طمع فيهم، فأرسل إلى وهرز: ما جاء بك، وليس معك إلا من

أرى، ومعي من ترى! لقد غررت بنفسك وأصحابك، فإن أحببت أذنت لك، فرجعت إلى بلادك ولم أهجك، ولم ينلك ولا أحدا من أصحابك مني ولا من أحد من أصحابي مكروه، وإن أحببت ناجزتك الساعة، وإن أحببت أجلتك حتى تنظر في أمرك، وتشاور أصحابك. فأعظم وهرز أمرهم، ورأى أنه لا طاقة له بهم، فأرسل إلى مسروق: بل تضرب بيني وبينك أجلا، وتعطيني موثقا وعهدا، وتأخذ مثله مني، ألا يقاتل بعضنا بعضا حتى ينقضي الأجل، ونرى رأينا. ففعل ذلك مسروق، ثم أقام كل واحد منهما في عسكره، حتى إذا مضى من الأجل عشرة أيام، خرج ابن وهرز يسير على فرس له، حتى دنا من عسكرهم، وحمله فرسه، فتوسط به عسكرهم، فقتلوه- ووهرز لا يشعر به- فلما بلغه قتل ابنه أرسل إلى مسروق: قد كان بيني وبينكم ما قد علمتم، فلم قتلتم ابني؟ فأرسل إليه مسروق: إن ابنك حمل علينا، وتوسط عسكرنا، فثار إليه سفهاء من سفهائنا، فقتلوه، وقد كنت لقتله كارها قَالَ وهرز للرسول: قل له: إنه لم يكن ابني، إنما كان ابن زانية، ولو كان ابني لصبر ولم يغدر حتى ينقضي الأجل الذي بيننا ثم أمر فرمي به في الصعيد حيث ينظر إلى جثمانه، وحلف ألا يشرب خمرا، ولا يدهن رأسه حتى ينقضي الأجل بينه وبينهم. فلما انقضى الأجل إلا يوما واحدا، أمر بالسفن التي كانوا فيها فأحرقت بالنار، وأمر بما كان معهم من فضل كسوة فأحرق، ولم يدع منه إلا ما كان على أجسادهم، ثم دعا بكل زاد معهم فقال لأصحابه: كلوا هذا الزاد، فأكلوه، فلما انتهوا أمر بفضله فألقي في البحر، ثم قام فيهم خطيبا، فقال: أما ما حرقت من سفنكم، فإني أردت أن تعلموا أنه لا سبيل إلى بلادكم أبدا، وأما ما حرقت من ثيابكم، فإنه كان يغيظني إن ظفرت بكم الحبش أن يصير

ذلك إليهم، وأما ما ألقيت من زادكم في البحر، فإني كرهت أن يطمع أحد منكم أن يكون معه زاد يعيش به يوما واحدا، فإن كنتم قوما تقاتلون معي وتصبرون أعلمتموني ذلك، وإن كنتم لا تفعلون اعتمدت على سيفي هذا حتى يخرج من ظهري، فإني لم أكن لأمكنهم من نفسي أبدا فانظروا ما تكون حالكم، إذا كنت رئيسكم وفعلت هذا بنفسي! فقالوا: لا بل نقاتل معك حتى نموت عن آخرنا، أو نظفر. فلما كان صبح اليوم الذي انقضى فيه الأجل عبى أصحابه، وجعل البحر خلفه، وأقبل عليهم يحضهم على الصبر، ويعلمهم أنهم منه بين خلتين، إما ظفروا بعدوهم، وإما ماتوا كراما، وأمرهم أن تكون قسيهم موترة، وقال: إذا أمرتكم أن ترموا فارموهم رشقا بالبنجكان- ولم يكن أهل اليمن رأوا النشاب قبل ذلك- وأقبل مسروق في جمع لا يرى طرفاه على فيل على رأسه تاج، بين عينيه ياقوتة حمراء مثل البيضة، لا يرى أن دون الظفر شيئا. وكان وهرز قد كل بصره فقال: أروني عظيمهم، فقالوا: هو صاحب الفيل، ثم لم يلبث مسروق أن نزل فركب فرسا، فقالوا: قد ركب فرسا، فقال: ارفعوا لي حاجبي، وقد كانا سقطا على عينيه من الكبر، فرفعوهما بعصابة، ثم أخرج نشابة، فوضعها في كبد قوسه، وقال: أشيروا لي إلى مسروق، فأشاروا له إليه حتى أثبته، ثم قَالَ لهم: ارموا، فرموا، ونزع في قوسه حتى إذا ملأها سرح النشابة، فأقبلت كأنها رشاء، حتى صكت جبهة مسروق، فسقط عن دابته، وقتل في ذلك الرشق منهم جماعة كثيرة، وانفض صفهم لما رأوا صاحبهم صريعا، فلم يكن دون الهزيمة شيء، وأمر وهرز بجثة ابنه من ساعته فووريت، وأمر بجثة مسروق، فألقيت مكانها، وغنم من عسكرهم ما لا يحصى ولا يعد كثرة، وجعل الأسوار يأخذ من الحبشة ومن حمير والأعراب الخمسين والستين فيسوقهم مكتفين، لا يمتنعون منه

فقال وهرز: أما حمير والأعراب فكفوا عنهم، واقصدوا قصد السودان فلا تبقوا منهم أحدا فقتلت الحبشة يومئذ حتى لم يبق منهم كثير أحد، وهرب رجل من الأعراب على جمل له، فركضه يوما وليلة، ثم التفت، فإذا في الحقيبة نشابة، فقال: لأمك الويل! أبعد أم طول مسير- حسب أن النشابة لحقته وأقبل وهرز حتى دخل صنعاء، وغلب على بلاد اليمن، وفرق عماله في المخاليف. وفي ابن ذي يزن وما كان منه ومن وهرز والفرس، يقول أبو الصلت أبو أمية بن أبي الصلت الثقفي: ليطلب الوتر أمثال ابن ذي يزن ... ريم في البحر للأعداء أحوالا اتى هرقل وقد شالت نعامتهم ... فلم يجد عنده بعض الذي قالا ثم انتحى نحو كسرى بعد سابعة ... من السنين لقد أبعدت إيغالا حتى أتى ببني الأحرار يحملهم ... إنك لعمري لقد أطولت قلقالا من مثل كسرى شهنشاه الملوك له ... أو مثل وهرز يوم الجيش إذ صالا! لله درهم من عصبة خرجوا ... ما إن ترى لهم في الناس أمثالا غر جحاجحة، بيض مرازبة، ... أسد تربب في الغيضات أشبالا يرمون عن شدف كأنها غبط ... في زمخر يعجل المرمي إعجالا أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد ... أضحى شريدهم في الأرض فلالا فاشرب هنيئا عليك التاج متكئا ... في رأس غمدان دارا منك محلالا

وأطل بالمسك إذ شالت نعامتهم ... وأسبل اليوم في برديك إسبالا تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق قال: فلما انصرف وهرز إلى كسرى، وملك سيفا على اليمن، عدا على الحبشة فجعل يقتلها ويبقر النساء عما في بطونها، حتى إذا أفناها إلا بقايا ذليلة قليلة، فاتخذهم خولا، واتخذ منهم جمازين يسعون بين يديه بحرابهم، فمكث بذلك حينا غير كثير ثم إنه خرج يوما والحبشة تسعى بين يديه بحرابهم، حتى إذا كان في وسط منهم وجئوه بالحراب حتى قتلوه، ووثب بهم رجل من الحبشة، فقتل باليمن وأوعث، فأفسد، فلما بلغ ذلك كسرى بعث إليهم وهرز في أربعة آلاف من الفرس، وأمره ألا يترك باليمن أسود ولا ولد عربية من أسود إلا قتله، صغيرا أو كبيرا، ولا يدع رجلا جعدا قططا قد شرك فيه السودان إلا قتله. فأقبل وهرز، حتى دخل اليمن، ففعل ذلك، ولم يترك بها حبشيا إلا قتله، ثم كتب إلى كسرى بذلك، فأمره كسرى عليها فكان عليها، وكان يجبيها إلى كسرى حتى هلك، وأمر كسرى بعده ابنه المرزبان بن وهرز، فكان عليها حتى هلك، فأمر كسرى بعده البينجان بن المرزبان بن وهرز حتى هلك، ثم أمر كسرى بعده خر خسره بن البينجان بن المرزبان بن وهرز، فكان عليها. ثم إن كسرى غضب عليه، فحلف ليأتينه به أهل اليمن يحملونه على أعناقهم ففعلوا، فلما قدم على كسرى تلقاه رجل من عظماء فارس، فألقى عليه سيفا لأبي كسرى، فأجاره كسرى بذلك من القتل ونزعه، وبعث باذان إلى اليمن، فلم يزل عليها حتى بعث الله رسوله محمدا ص. وكان- فيما ذكر- بين كسرى أنوشروان وبين يخطيانوس ملك

الروم، موادعة وهدنة، فوقع بين رجل من العرب كان ملكه يخطيانوس على عرب الشام، يقال له خالد بن جبلة، وبين رجل من لخم، كان ملكه كسرى على ما بين عمان والبحرين واليمامة إلى الطائف وسائر الحجاز ومن فيها من العرب، يقال له المنذر بن النعمان- نائرة، فأغار خالد بن جبلة على حيز المنذر، فقتل من أصحابه مقتلة عظيمة، وغنم أموالا من أمواله. فشكا ذلك المنذر إلى كسرى، وسأله الكتاب إلى ملك الروم في إنصافه من خالد فكتب كسرى إلى يخطيانوس، يذكر ما بينهما من العهد على الهدنة والصلح، ويعلمه ما لقي المنذر عامله على العرب من خالد بن جبلة الذي ملكه على من في بلاده من العرب، ويسأله أن يأمر خالدا أن يرد على المنذر ما غنم من حيزه وبلاده، ويدفع إليه دية من قتل من عربها وينصف المنذر من خالد، وألا يستخف بما كتب به من ذلك، فيكون انتقاض ما بينهما من العهد والهدنة بسببه. وواتر الكتب إلى يخطيانوس في إنصاف المنذر، فلم يحفل بها، فاستعد كسرى، فغزا بلاد يخطيانوس في بضعة وتسعين ألف مقاتل، فأخذ مدينة دارا، ومدينة الرهاء، ومدينة منبج، ومدينة قنسرين، ومدينة حلب، ومدينة أنطاكية- وكانت أفضل مدينة بالشام- ومدينة فامية، ومدينة حمص، ومدنا كثيرة متاخمة لهذه المدائن، عنوة، واحتوى على ما كان فيها من الأموال والعروض، وسبى أهل مدينة أنطاكية، ونقلهم إلى أرض السواد، وأمر فبنيت لهم مدينة إلى جنب مدينة طيسبون على بناء مدينة أنطاكية- على ما قد ذكرت قبل- وأسكنهم إياها، وهي التي تسمى الرومية، وكور لها كورة، وجعل لها خمسة طساسيج: طسوج نهروان الأعلى، وطسوج نهروان الأوسط، وطسوج نهروان الأسفل، وطسوج بادرايا، وطسوج باكسايا، وأجرى على السبي الذين نقلهم من أنطاكية إلى الرومية الأرزاق وولى القيام بأمورهم رجلا من نصارى أهل الأهواز، كان ولاه الرياسة على أصحاب

صناعاته، يقال له: براز، رقة منه لذلك السبي، إرادة أن يستأنسوا ببراز لحال ملته، ويسكنوا إليه وأما سائر مدن الشام ومصر فإن يخطيانوس ابتاعها من كسرى بأموال عظيمة حملها إليه، وضمن له فدية يحملها إليه في كل سنه على الا يغزو بلاده، وكتب لكسرى بذلك كتابا، وختم هو وعظماء الروم عليه، فكانوا يحملونها إليه في كل عام. وكان ملوك فارس يأخذون من كور من كورهم قبل ملك كسرى أنوشروان في خراجها الثلث، ومن كور الربع، ومن كور الخمس، ومن كور السدس، على قدر شربها وعمارتها، ومن جزية الجماجم شيئا معلوما، فأمر الملك قباذ بن فيروز في آخر ملكه بمسح الارض، سهلها وجبلها ليصح الخراج عليها، فمسحت، غير أن قباذ هلك قبل أن يستحكم له أمر تلك المساحة، حتى إذا ملك ابنه كسرى أمر باستتمامها وإحصاء النخل والزيتون والجماجم، ثم أمر كتابه فاستخرجوا جمل ذلك، وأذن للناس إذنا عاما، وأمر كاتب خراجه أن يقرأ عليهم الجمل التي استخرجت من أصناف غلات الأرض، وعدد النخل والزيتون والجماجم، فقرأ ذلك عليهم، ثم قَالَ لهم كسرى: إنا قد رأينا أن نضع على ما أحصي من جربان هذه المساحة من النخل والزيتون والجماجم وضائع، ونأمر بانجامها في السنه في ثلاثة انجم، ونجمع في بيوت أموالنا من الأموال ما لو أتانا عن ثغر من ثغورنا، أو طرف من أطرافنا فتق أو شيء نكرهه، واحتجنا إلى تداركه أو حسمه ببذلنا فيه مالا، كانت الأموال عندنا معدة موجودة، ولم نرد استئناف اجتبائها على تلك الحال. فما ترون فيما رأينا من ذلك وأجمعنا عليه؟ فلم يشر عليه أحد منهم فيه بمشورة، ولم ينبس بكلمة، فكرر كسرى هذا القول عليهم ثلاث مرات فقام رجل من عرضهم وقال لكسرى: أتضع أيها الملك- عمرك الله- الخالد من هذا الخراج على الفاني من كرم يموت، وزرع يهيج، ونهر يغور، وعين أو قناة ينقطع ماؤها! فقال له كسرى: يا ذا الكلفه

المشئوم، من أي طبقات الناس أنت؟ قَالَ: أنا رجل من الكتاب، فقال كسرى: اضربوه بالدوي حتى يموت، فضربه بها الكتاب خاصة تبرءوا منهم إلى كسرى من رأيه وما جاء منه، حتى قتلوه وقال الناس: نحن راضون أيها الملك بما أنت ملزمنا من خراج. وإن كسرى اختار رجالا من أهل الرأي والنصيحة، فأمرهم بالنظر في أصناف ما ارتفع إليه من المساحة وعدة النخل والزيتون ورءوس أهل الجزية ووضع الوضائع على ذلك بقدر ما يرون ان فيه صلاح رعيته، ورفاعة معاشهم، ورفعه إليه فتكلم كل امرئ منهم بمبلغ رأيه في ذلك من تلك الوضائع، وأداروا الأمر بينهم، فاجتمعت كلمتهم على وضع الحراج على ما يعصم الناس والبهائم، وهو الحنطة والشعير والأرز والكرم والرطاب والنخل والزيتون، وكان الذي وضعوا على كل جريب أرض من مزارع الحنطة والشعير درهما، وعلى كل جريب أرض كرم ثمانية دراهم، وعلى كل جريب أرض رطاب سبعة دراهم، وعلى كل أربع نخلات فارسية درهما، وعلى كل ست نخلات دقل مثل ذلك، وعلى كل ستة أصول زيتون مثل ذلك، ولم يضعوا إلا على كل نخل في حديقة، أو مجتمع غير شاذ، وتركوا ما سوى ذلك من الغلات السبع فقوي الناس في معاشهم، وألزموا الناس الجزية ما خلا أهل البيوتات والعظماء والمقاتلة والهرابذة والكتاب، ومن كان في خدمة الملك، وصيروها على طبقات: اثني عشر درهما وثمانية وستة وأربعة، كقدر إكثار الرجل وإقلاله، ولم يلزموا الجزية من كان أتى له من السن دون العشرين أو فوق الخمسين، ورفعوا وضائعهم إلى كسرى فرضيها وأمر بإمضائها والاجتباء عليها في السنة في ثلاثة أنجم، كل نجم أربعة أشهر وسماها أبراسيار، وتأويله الأمر المتراضى، وهي الوضائع التي اقتدى بها عمر بن الخطاب حين افتتح بلاد الفرس، وأمر باجتباء أهل الذمة عليها، إلا أنه وضع على كل جريب أرض غامر على قدر احتماله، مثل الذي وضع على الأرض المزروعة، وزاد على كل

جريب ارض مزارع حنطه او شعير قفيزا من حنطة إلى القفيزين، ورزق منه الجند ولم يخالف عمر بالعراق خاصة وضائع كسرى على جربان الأرض وعلى النخل والزيتون والجماجم، وألغى ما كان كسرى ألغاه من معايش الناس. وأمر كسرى فدونت وضائعه نسخا، فاتخذت نسخة منها في ديوانه قبله، ودفعت نسخة إلى عمال الخراج، ليجتبوا خراجهم عليها، ونسخة إلى قضاة الكور، وأمر القضاة أن يحولوا بين عمال الكور والزيادة على أهل الخراج فوق ما في الديوان الذي دفعت إليه نسخته، وأن يرفعوا الخراج عن كل من أصاب زرعه أو شيئا من غلاته آفة بقدر مبلغ تلك الآفة، وعمن هلك من أهل الجزية أو جاوز خمسين سنة، ويكتبوا إليه بما يرفعون من ذلك، ليأمر بحسبه للعمال، والا يخلوا بين العمال وبين اجتباء من أتي له دون عشرين سنة. وكان كسرى ولى رجلا من الكتاب- نابها بالنبل والمروءة والغناء والكفاية، يقال له بابك بن البيروان- ديوان المقاتلة، فقال لكسرى: إن أمري لا يتم إلا بإزاحة علتي في كل ما بي إليه الحاجة من صلاح أمر الملك في جنده. فأعطاه ذلك، فأمر بابك فبنيت له في الموضع الذي كان يعرض فيه الجند مصطبة وفرش له عليها بساط سوسنجرد ونمط صوف فوقه، ووضعت له وسائد لتكأته، ثم جلس على ما فرش له، ثم نادى مناديه في شاهد عسكر كسرى من الجند أن يحضره الفرسان على كراعهم وأسلحتهم والرجالة على ما يلزمهم من السلاح، فاجتمع إليه الجند على ما أمرهم أن يحضروه عليه، ولم يعاين كسرى فيهم، فأمرهم بالانصراف، ونادى مناديه في اليوم الثاني بمثل ذلك، فاجتمع إليه الجند فلما لم ير كسرى فيهم أمرهم أن ينصرفوا، ويغدوا إليه، وأمر مناديه أن ينادي في اليوم الثالث: ألا يتخلف عنه من شاهد العسكر أحد، ولا من أكرم بتاج وسرير، فإنه عزم لا رخصة فيه ولا محاباة فبلغ ذلك كسرى، فوضع تاجه على رأسه وتسلح بسلاح المقاتلة، ثم اتى بابك

ليعترض عليه، وكان الذي يؤخذ به الفارس من الجند تجافيف ودرعا، وجوشنا، وساقين، وسيفا، ورمحا، وترسا، وجرزا تلزمه منطقة، وطبرزينا أو عمودا، وجعبة فيها قوسان بوتريهما، وثلاثين نشابة ووترين مضفورين يعلقهما الفارس في مغفر له ظهريا. فاعترض كسرى على بابك بسلاح تام ما خلا الوترين اللذين كان يستظهر بهما فلم يجز بابك عن اسمه، وقال له: إنك أيها الملك واقف في موضع المعدلة التي لا محاباة تكون مني معها ولا هوادة، فهلم كل ما يلزمك من صنوف الأسلحة فذكر كسرى قصة الوترين فتعلقهما، ثم غرد داعي بابك بصوته، وقال: للكمي سيد الكماة أربعة آلاف درهم، وأجاز بابك عن اسمه، ثم الصرف وكان يفضل الملك في العطاء على أكثر المقاتلة عطاء بدرهم. فلما قام بابك من مجلسه ذلك أتى كسرى، فقال: إن غلظتي في الأمر الذي أغلظت فيه عليك اليوم أيها الملك، إنما هي لأن ينفذ لي عليه الأمر الذي وضعتني بسبيله، وسبب من أوثق الأسباب لما يريد الملك إحكامه لمكاني. فقال كسرى: ما غلظ علينا أمر أريد به صلاح رعيتنا، وأقيم عليه أود ذي الأود منهم. ثم إن كسرى وجه مع رجل من أهل اليمن يقال له سيفان بن معديكرب- ومن الناس من يقول إنه كان يسمى سيف بن ذي يزن- جيشا إلى اليمن، فقتلوا من بها من السودان، واستولوا عليها فلما دانت لكسرى بلاد اليمن وجه إلى سرنديب من بلاد الهند- وهي أرض الجوهر- قائدا من قواده في جند كثيف، فقاتل ملكها فقتله، واستولى عليها، وحمل إلى كسرى منها أموالا عظيمة، وجوهرا كثيرا. ولم يكن ببلاد الفرس بنات آوى، فتساقطت إليها من بلاد الترك في ملك كسرى أنوشروان، فبلغ ذلك كسرى، فبلغ ذلك منه مشقة، فدعا

بموبذان موبذ، فقال: إنه بلغنا تساقط هذه السباع إلى بلادنا، وقد تعاظم الناس ذلك، فتعجبنا من استعظامهم أمرها لهوانها، فأخبرنا برأيك في ذلك. فقال له موبذان موبذ: فإني سمعت أيها الملك- عمرك الله- فقهاءنا يقولون: متى لا يغمر في بلدة العدل الجور، ويمحق، بلي أهلها بغزو أعدائهم لهم، وتساقط إليهم ما يكرهون، وقد تخوفت أن يكون تساقط هذه السباع إلى بلادك لما أعلمتك من هذا الخطب فلم يلبث كسرى أن تناهى إليه أن فتيانا من الترك قد غزوا أقصى بلاده، فأمر وزراءه وأصحاب أعماله ألا يتعدوا فيما هم بسبيله العدل، ولا يعملوا في شيء منه إلا به، فصرف الله لما جرى من العدل ذلك العدو عن بلاده من غير أن يكون حاربهم، أو كلف مئونة في أمرهم. وكان لكسرى أولاد متأدبون، فجعل الملك من بعده لهرمز ابنه الذي كانت أمه ابنة خاتون وخاقان لمعرفة كسرى إياه بالاقتصاد والأخذ بالوثيقة وما رجا بذلك من ضبط هرمز الملك وقدرته على تدبير الملك ورعيته ومعاملتهم. وكان مولد رسول الله ص في عهد كسرى أنوشروان، عام قدم أبرهة الأشرم أبو يكسوم مع الحبشة إلى مكة، وساق فيه إليها الفيل، يريد هدم بيت الله الحرام، وذلك لمضي اثنتين وأربعين سنة من ملك كسرى انوشروان وفي هذا العام كان يوم جبلة، وهو يوم من أيام العرب مذكور

ذكر مولد رسول الله ص

ذكر مولد رسول الله ص حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ يُحَدِّثُ عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: وُلِدْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ ص عَامَ الْفِيلِ. قَالَ: وَسَأَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ قَبَاثَ بْنَ أَشْيَمَ، أَخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ ليث: أنت اكبر أم رسول الله ص؟ قال: رسول الله ص أَكْبَرُ مِنِّي، وَأَنَا أَقْدَمُ مِنْهُ فِي الْمِيلَادِ، وَرَأَيْتُ خَذْقَ الْفِيلِ أَخْضَرَ مُحِيلًا بَعْدَهُ بِعَامٍ، وَرَأَيْتُ أُمَيَّةَ بْنَ عَبْدِ شَمْسٍ شَيْخًا كَبِيرًا يَقُودُهُ عَبْدُهُ فَقَالَ ابْنُهُ: يَا قَبَاثُ، أَنْتَ أَعْلَمُ وَمَا تَقُولُ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْمُطَّلِبِ ابن عبد الله بن قيس بن مخرمة، عن أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ، قَالَ: ولدت انا ورسول الله ص عَامَ الْفِيلِ، فَنَحْنُ لِدَانِ. وَحُدِّثْتُ عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: وُلِدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عبد المطلب ابو رسول الله ص لاربع وعشرين مضت من سلطان كسرى انوشروان، وولد رسول الله ص فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ مِنْ سُلْطَانِهِ. وَحُدِّثْتُ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وُلِدَ رَسُولُ الله ص عَامَ الْفِيلِ. حُدِّثْتُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ،

قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ مُوسَى، عَنْ أَبِي الحويرث، قال: سمعت عبد الملك ابن مَرْوَانَ يَقُولُ لِقَبَاثِ بْنِ أَشْيَمَ الْكِنَانِيِّ اللَّيْثِيِّ: يَا قَبَاثُ، أَنْتَ أَكْبَرُ أَمْ رَسُول اللَّهِ ص؟ قال: رسول الله ص أَكْبَرُ مِنِّي وَأَنَا أَسَنُّ مِنْهُ، وُلِدَ رَسُولُ الله ص عَامَ الْفِيلِ، وَوَقَفَتْ بِي أُمِّي عَلَى رَوْثِ الْفِيلِ مُحِيلًا أَعْقِلُهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: ولد رسول الله ص يَوْمَ الاثْنَيْنِ عَامَ الْفِيلِ لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، وَقِيلَ إِنَّهُ وُلِدَ ص فِي الدَّارِ الَّتِي تُعْرَفُ بِدَارِ ابْنِ يُوسُفَ، وقيل: ان رسول الله ص كَانَ وَهَبَهَا لِعَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَلَمْ تَزَلْ فِي يَدِ عَقِيلٍ حَتَّى تُوُفِّيَ، فَبَاعَهَا وَلَدُهُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، أَخِي الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، فَبَنَى دَارَهُ الَّتِي يُقَالُ لَهَا دَارُ ابْنِ يُوسُفَ، وَأَدْخَلَ ذَلِكَ الْبَيْتَ فِي الدَّارِ، حَتَّى أَخْرَجَتْهُ الْخَيْزُرَانُ فَجَعَلَتْهُ مَسْجِدًا يُصَلَّى فِيهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: يزعمون فيما يتحدث الناس- والله أعلم- أن آمنة بنت وهب أم رسول الله ص، كانت تحدث أنها أتيت لما حملت برسول الله ص، فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع بالأرض فقولي: أعيذه بالواحد، من شر كل حاسد، ثم سميه مُحَمَّدا ورأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت منه قصور بصرى من أرض الشام، فلما وضعته أرسلت إلى جده عبد المطلب، أنه قد ولد لك غلام فأته فانظر إليه فأتاه فنظر إليه، وحدثته بما رأت حين حملت به، وما قيل لها فيه. وما أمرت أن تسميه. حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن سنان القزاز، قَالَ: حَدَّثَنَا يعقوب بن مُحَمَّد الزهري، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد العزيز بْن عمران، قَالَ: حَدَّثَنِي عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم، عَنْ أَبِيهِ، عن ابن أبي سويد الثقفي، عن

عثمان بن أبي العاص، قَالَ: حدثتني أمي أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب أم رسول الله ص- وكان ذلك ليل ولدته- قالت: فما شيء أنظر إليه من البيت إلا نور، وإني لأنظر إلى النجوم تدنو، حتى إني لأقول: لتقعن علي. حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: فيزعمون أن عبد المطلب أخذه فدخل به على هبل في جوف الكعبة، فقام عنده يدعو الله ويشكر ما أعطاه، ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها، والتمس له الرضعاء، فاسترضع له امرأة من بني سعد بن بكر، يقال لها حليمة ابنة أبي ذؤيب، وأبو ذئيب عبد الله، بن الحارث، بن شجنة، بن جابر، بن رزام، بن ناصرة، بن فصيه، بن سعد، بن بكر، بن هوازن، بن مَنْصُور، بن عِكْرِمَة، بن خصفة، بن قيس، بن عيلان، بن مضر. واسم الذي أرضعه: الحارث بن عبد العزى، بن رفاعة، بن ملان، بن ناصره، بن فصيه، بن سعد، بن بكر، بن هوازن، بن مَنْصُور، بن عِكْرِمَة، بن خصفة، بن قيس، بن عيلان، بن مضر واسم إخوته من الرضاعة: عبد الله بن الحارث، وأنيسة ابنة الحارث، وخذامه ابنة الحارث وهي الشيماء، غلب ذلك على اسمها فلا تعرف في قومها إلا به. وهي حليمة ابنة عبد الله بن الحارث، أم رسول الله ص، ويزعمون أن الشيماء كانت تحضنه مع أمها إذ كان عندهم ص. وأما غير ابن إسحاق، فإنه قَالَ في ذلك مَا حَدَّثَنِي بِهِ الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ شيبة، عن عميرة ابنة عبيد الله بن كعب بن مالك، عن بره ابنه

ابى تجزاه، قالت: أول من ارضع رسول الله ص ثويبة، بلبن ابن لها- يقال له مسروح- أياما قبل أن تقدم حليمة، وكانت قد أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب، وارضعت بعده أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ- وحَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ وحدثني هَارُونُ بْنُ إِدْرِيسَ الأَصَمُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الأُمَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي محمد ابن سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ- عَنِ الْجَهْمِ بْنِ أَبِي الْجَهْمِ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: كَانَتْ حَلِيمَةُ ابْنَةُ ابى ذؤيب السعديه أم رسول الله ص الَّتِي أَرْضَعَتْهُ تُحَدِّثُ أَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ بَلَدِهَا مَعَهَا زَوْجُهَا وَابْنٌ لَهَا تُرْضِعُهُ فِي نِسْوَةٍ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، تَلْتَمِسُ الرُّضَعَاءَ، قَالَتْ: وَذَلِكَ فِي سَنَةٍ شَهْبَاءَ لَمْ تُبْقِ شَيْئًا، فَخَرَجْتُ عَلَى أَتَانٍ لِي قَمْرَاءَ، مَعَنَا شَارِفٌ لَنَا، وَاللَّهِ مَا تَبِضُّ بِقَطْرَةٍ، وَمَا نَنَامُ لَيْلَنَا أَجْمَعَ مِنْ صَبِيِّنَا الَّذِي مَعِي مِنْ بُكَائِهِ مِنَ الْجُوعِ، وَمَا فِي ثَدْيَيَّ مَا يُغْنِيهِ، وَمَا فِي شَارِفِنَا مَا يَغْذُوهُ، وَلَكِنَّا نَرْجُو الْغَيْثَ وَالْفَرَجَ، فَخَرَجْتُ عَلَى أَتَانِي تِلْكَ، فَلَقَدْ أَذَمْتُ بِالرَّكْبِ حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ضَعْفًا وَعَجَفًا، حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ نَلْتَمِسُ الرُّضَعَاءَ فَمَا مِنَّا امْرَأَةٌ إِلَّا وَقَدْ عُرِضَ عليها رسول الله ص فَتَأْبَاهُ إِذَا قِيلَ لَهَا إِنَّهُ يَتِيمٌ، وَذَلِكَ أَنَّا إِنَّمَا نَرْجُو الْمَعْرُوفَ مِنْ أَبِي الصَّبِيِّ، فَكُنَّا نَقُولُ: يَتِيمٌ

مَا عَسَى أَنْ تَصْنَعَ أُمُّهُ وَجَدُّهُ! فَكُنَّا نَكْرَهُهُ لِذَلِكَ، فَمَا بَقِيَتِ امْرَأَةٌ قَدِمَتْ مَعِي إِلَّا أَخَذَتْ رَضِيعًا، غَيْرِي فَلَمَّا أَجْمَعْنَا الانْطِلَاقَ قُلْتُ لِصَاحِبِي: إِنِّي لأَكْرَهُ أَنْ أَرْجِعَ مِنْ بَيْنِ صَوَاحِبَاتِي وَلَمْ آخُذْ رَضِيعًا، وَاللَّهِ لَأَذْهَبَنَّ إِلَى ذَلِكَ الْيَتِيمِ فَلَآخُذَنَّهُ، قَالَ: لا عَلَيْكِ أَنْ تَفْعَلِي، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا فِيهِ بَرَكَةً! قَالَتْ: فَذَهَبْتُ إِلَيْهِ فَأَخَذْتُهُ وَمَا حَمَلَنِي عَلَى ذَلِكَ إِلَّا أَنِّي لَمْ أَجِدْ غَيْرَهُ قَالَتْ: فَلَمَّا أَخَذْتُهُ رَجَعْتُ بِهِ إِلَى رَحْلِي، فَلَمَّا وَضَعْتُهُ فِي حِجْرِي أَقْبَلَ عَلَيْهِ ثَدْيَايَ بِمَا شَاءَ مِنْ لَبَنٍ، فَشَرِبَ حَتَّى رُوِيَ، وَشَرِبَ مَعَهُ أَخُوهُ حَتَّى رُوِيَ، ثُمَّ نَامَا- وَمَا كَانَ يَنَامُ قَبْلَ ذَلِكَ- وَقَامَ زَوْجِي إِلَى شَارِفِنَا تِلْكَ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا فَإِذَا إِنَّهَا لِحَافِلٌ، فَحَلَبَ مِنْهَا حَتَّى شَرِبَ وَشَرِبْتُ، حَتَّى انْتَهَيْنَا رِيًّا وَشِبَعًا، فَبِتْنَا بِخَيْرِ لَيْلَةٍ قَالَتْ: يَقُولُ لِي صَاحِبِي حِينَ أَصْبَحْتُ: أَتَعْلَمِينَ وَاللَّهِ يَا حَلِيمَةُ، لَقَدْ أَخَذْتِ نَسَمَةً مُبَارَكَةً، قُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو ذَلِكَ قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجْنَا وَرَكِبْتُ أَتَانِي تِلْكَ، وَحَمَلْتُهُ عَلَيْهَا مَعِي، فو الله لَقَطَعَتْ بِنَا الرَّكْبَ مَا يَقْدُمُ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ حُمُرِهِمْ، حَتَّى إِنَّ صَوَاحِبِي لَيَقُلْنَ لِي: يَا ابْنَةَ أَبِي ذُؤَيْبٍ، ارْبِعِي عَلَيْنَا. أَلَيْسَ هَذِهِ أَتَانُكِ الَّتِي كُنْتِ خَرَجْتِ عَلَيْهَا؟ فَأَقُولُ لَهُنَّ: بَلَى وَاللَّهِ، إِنَّهَا لَهِيَ هِيَ، فَيَقُلْنَ: وَاللَّهِ إِنَّ لَهَا لَشَأْنًا قَالَتْ: ثُمَّ قَدِمْنَا مَنَازِلَنَا مِنْ بِلَادِ بَنِي سَعْدٍ، وَمَا أَعْلَمُ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ اللَّهِ أَجْدَبَ مِنْهَا، فَكَانَتْ غَنَمِي تَرُوحُ عَلَى حِينِ قَدِمْنَا بِهِ مَعَنَا شِبَاعًا لُبَّنًا، فَنَحْلِبُ وَنَشْرَبُ، وَمَا يَحْلِبُ إِنْسَانٌ قَطْرَةً وَلَا يَجِدُهَا فِي ضَرْعٍ، حَتَّى إِنْ كَانَ الْحَاضِرُ مِنْ قَوْمِنَا يَقُولُونَ لِرُعْيَانِهِمْ: وَيْلَكُمُ، اسْرَحُوا حَيْثُ يَسْرَحُ رَاعِي ابْنَةِ أَبِي ذُؤَيْبٍ! فَتَرُوحُ أَغْنَامُهُمْ جِيَاعًا مَا تَبُضُّ بِقَطْرَةِ لَبَنٍ، وَتَرُوحُ غَنَمِي شِبَاعًا لُبَّنًا فَلَمْ نَزَلْ نَتَعَرَّفُ مِنَ اللَّهِ زِيَادَةَ الْخَيْرِ بِهِ، حَتَّى مَضَتْ سَنَتَانِ وَفَصَلْتُهُ وَكَانَ يَشِبُّ شَبَابًا لا يَشِبُّهُ الْغِلْمَانُ، فَلَمْ يَبْلُغْ سَنَتَيْهِ حَتَّى كَانَ غُلَامًا جَفْرًا، فَقَدِمْنَا بِهِ عَلَى أُمِّهِ وَنَحْنُ أَحْرَصُ شَيْءٍ عَلَى مُكْثِهِ فِينَا، لِمَا كُنَّا نَرَى مِنْ بَرَكَتِهِ، فَكَلَّمْنَا أُمَّهُ وَقُلْنَا لَهَا: يَا ظِئْرُ، لَوْ تَرَكْتِ بُنَيَّ عِنْدِي حَتَّى يَغْلِظَ، فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْهِ وَبَاءَ مَكَّةَ! قَالَتْ:

فَلَمْ نَزَلْ بِهَا حَتَّى رَدَدْنَاهُ مَعَنَا قَالَتْ: فرجعنا به، فو الله إِنَّهُ بَعْدَ مَقْدَمِنَا بِهِ بِأَشْهُرٍ مَعَ أَخِيهِ فِي بَهْمٍ لَنَا خَلْفَ بُيُوتِنَا، إِذْ أَتَانَا أَخُوهُ يَشْتَدُّ، فَقَالَ لِي وَلأَبِيهِ: ذَاكَ أَخِي الْقُرَشِيُّ قَدْ جَاءَهُ رَجُلانِ عَلَيْهِمَا ثِيَابُ بَيَاضٍ، فَأَضْجَعَاهُ وَشَقَّا بَطْنَهُ وَهُمَا يَسُوطَانِهِ قَالَتْ: فَخَرَجْتُ أَنَا وَأَبُوهُ نَشْتَدُّ، فَوَجَدْنَاهُ قَائِمًا مُنْتَقِعًا وَجْهُهُ، قالت: فالتزمه وَالْتَزَمَهُ أَبُوهُ، وَقُلْنَا لَهُ: مَا لَكَ يَا بُنَيَّ؟ قَالَ: جَاءَنِي رَجُلانِ عَلَيْهِمَا ثِيَابُ بَيَاضٍ، فَأَضْجَعَانِي فَشَقَّا بَطْنِي فَالْتَمَسَا فِيهِ شَيْئًا لا أَدْرِي مَا هُوَ! قَالَتْ: فَرَجَعْنَا إِلَى خِبَائِنَا قَالَتْ: وَقَالَ لِي أَبُوهُ: وَاللَّهِ يَا حَلِيمَةُ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْغُلامُ قَدْ أُصِيبَ، فَأَلْحِقِيهِ بِأَهْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ بِهِ ذَلِكَ، قَالَتْ: فَاحْتَمَلْنَاهُ، فَقَدِمْنَا بِهِ عَلَى أُمِّهِ، فَقَالَتْ: مَا أَقْدَمَكِ بِهِ يَا ظِئْرُ، وَقَدْ كُنْتِ حَرِيصَةً عَلَيْهِ وَعَلى مُكْثِهِ عِنْدَكِ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: قَدْ بَلَغَ اللَّهُ بِابْنِي وَقَضَيْتُ الَّذِي عَلَيَّ وَتَخَوَّفْتُ الأَحْدَاثَ عَلَيْهِ، فَأَدَّيْتُهُ إِلَيْكِ كَمَا تُحَبِّينَ قَالَتْ: مَا هَذَا بِشَأْنِكِ، فَاصْدُقِينِي خَبَرَكِ، قَالَتْ: فَلَمْ تَدَعْنِي حَتَّى أَخْبَرْتُهَا الْخَبَرَ، قَالَتْ: فَتَخَوَّفْتِ عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ؟ قَالَتْ: فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَتْ: كَلا وَاللَّهِ مَا لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، وَإِنَّ لِبُنَيَّ لَشَأْنًا، أَفَلا أُخْبِرُكِ خَبَرَهُ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: رَأَيْتُ حِينَ حَمَلْتُ بِهِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنِّي نُورٌ أَضَاءَ لِي قُصُورَ بُصْرَى من ارض الشام، ثم حملت به، فو الله مَا رَأَيْتُ مِنْ حَمْلٍ قَطُّ كَانَ أَخَفَّ مِنْهُ وَلا أَيْسَرَ مِنْهُ، ثُمَّ وَقَعَ حِينَ وَلَدْتُهُ وَإِنَّهُ لَوَاضِعٌ يَدَيْهِ بِالأَرْضِ، رَافِعٌ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، دَعِيهِ عَنْكِ وَانْطَلِقِي رَاشِدَةً. حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْلَى، عَنْ عُمَرَ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ الشَّامِيِّ، عَنْ مَكْحُولٍ الشَّامِيِّ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، قَالَ: بَيْنَا نحن جلوس عند رسول الله ص، إِذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، وَهُوَ مَدَرَّةُ قَوْمِهِ وَسَيِّدُهُمْ، مِنْ شَيْخٍ كَبِيرٍ يَتَوَكَّأُ على عصا، فمثل بين يدي النبي ص قائما، ونسبه

الى جده، فقال: يا بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِنِّي أُنْبِئْتُ أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ، أَرْسَلَكَ بِمَا أَرْسَلَ بِهِ إِبْرَاهِيمَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَغَيْرَهُمْ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، أَلا وَإِنَّكَ فَوَّهْتَ بِعَظِيمٍ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الأَنْبِيَاءُ وَالْخُلَفَاءُ فِي بَيْتَيْنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنْتَ مِمَّنْ يَعْبُدُ هَذِهِ الْحِجَارَةَ وَالأَوْثَانَ، فَمَا لَكَ وَلِلنُّبُوَّةِ! وَلَكِنْ لِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيقَةٌ، فَأَنْبِئْنِي بِحَقِيقَةِ قولك، وبدء شانك، قال: فاعجب النبي ص بِمَسْأَلَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَخَا بَنِي عَامِرٍ، إِنَّ لِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي تَسْأَلُنِي عَنْهُ نَبَأً وَمَجْلِسًا، فَاجْلِسْ، فَثَنَّى رِجْلَيْهِ ثُمَّ بَرَكَ كَمَا يبرك البعير، فاستقبله النبي ص بِالْحَدِيثِ فَقَالَ: يَا أَخَا بَنِي عَامِرٍ، إِنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِي وَبَدْءَ شَأْنِي، أَنِّي دَعْوَةُ أَبِي ابراهيم، وبشرى أخي عيسى بن مَرْيَمَ وَإِنِّي كُنْتُ بِكْرَ أُمِّي، وَإِنَّهَا حَمَلَتْ بِي كَأَثْقَلِ مَا تَحْمِلُ، وَجَعَلَتْ تَشْتَكِي إِلَى صَوَاحِبِهَا ثِقَلَ مَا تَجِدُ. ثُمَّ إِنَّ أُمِّي رَأَتْ فِي الْمَنَامِ أَنَّ الَّذِي فِي بَطْنِهَا نُورٌ، قَالَتْ: فَجَعَلْتُ أُتْبِعُ بَصَرِيَ النُّورَ، وَالنُّورُ يَسْبِقُ بَصَرِي، حَتَّى أَضَاءَتْ لِي مَشَارِقُ الأَرْضِ وَمَغَارِبُهَا. ثُمَّ إِنَّهَا وَلَدَتْنِي فَنَشَأْتُ، فَلَمَّا أَنْ نَشَأْتُ بُغِّضَتْ إِلَيَّ أَوْثَانُ قُرَيْشٍ، وَبُغِّضَ إِلَيَّ الشِّعْرُ، وَكُنْتُ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي لَيْثِ بْنِ بَكْرٍ، فَبَيْنَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ مُنْتَبِذٌ مِنْ اهلى في بطن واد مع أَتْرَابٍ لِي مِنَ الصِّبْيَانِ نَتَقَاذَفُ بَيْنَنَا بِالْجُلَّةِ، إِذْ أَتَانَا رَهْطٌ ثَلاثَةٌ مَعَهُمْ طَسْتٌ مِنْ ذهب مليء ثَلْجًا، فَأَخَذُونِي مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِي، فَخَرَجَ أَصْحَابِي هِرَابًا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى شَفِيرِ الْوَادِي، ثُمَّ أَقْبَلُوا عَلَى الرَّهْطِ فَقَالُوا: مَا أَرَبُكُمْ إِلَى هَذَا الْغُلامِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنَّا، هَذَا ابْنُ سَيِّدِ قُرَيْشٍ، وَهُوَ مُسْتَرْضَعٌ فِينَا، مِنْ غُلامٍ يَتِيمٍ لَيْسَ لَهُ أَبٌ، فَمَاذَا يَرُدُّ عَلَيْكُمْ قَتْلُهُ، وَمَاذَا تُصِيبُونَ مِنْ ذَلِكَ! وَلَكِنْ إِنْ كُنْتُمْ لا بُدَّ قَاتِلِيهِ، فَاخْتَارُوا مِنَّا أَيَّنَا شِئْتُمْ، فَلْيَأْتِكُمْ مَكَانَهُ فَاقْتُلُوهُ، وَدَعُوا هَذَا الْغُلامَ فَإِنَّهُ يَتِيمٌ فَلَمَّا رَأَى الصِّبْيَانُ الْقَوْمَ لا يُحِيرُونَ إِلَيْهِمْ جَوَابًا، انْطَلَقُوا هِرَابًا مُسْرِعِينَ إِلَى الحى، يؤذنونهم ويستصرخونهم عَلَى الْقَوْمِ، فَعَمَدَ أَحَدُهُمْ فَأَضْجَعَنِي عَلَى الأَرْضِ

إِضْجَاعًا لَطِيفًا، ثُمَّ شَقَّ مَا بَيْنَ مَفْرِقِ صَدْرِي إِلَى مُنْتَهَى عَانَتِي، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فلم أَجِدْ لِذَلِكَ مَسًّا ثُمَّ أَخْرَجَ أَحْشَاءَ بَطْنِي ثُمَّ غَسَلَهَا بِذَلِكَ الثَّلْجِ فَأَنْعَمَ غَسْلَهَا، ثُمَّ أَعَادَهَا مَكَانَهَا، ثُمَّ قَامَ الثَّانِي مِنْهُمْ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ: تَنَحَّ، فَنَحَّاهُ عَنِّي، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَوْفِي فَأَخْرَجَ قَلْبِي وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَصَدَعَهُ، ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْهُ مُضْغَةً سَوْدَاءَ، فَرَمَى بِهَا ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ يُمْنَةً مِنْهُ، كَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا، فَإِذَا أَنَا بِخَاتَمٍ فِي يَدِهِ مِنْ نُورٍ يَحَارُ النَّاظِرُونَ دُونَهُ، فَخَتَمَ بِهِ قَلْبِي فَامْتَلأَ نُورًا، وَذَلِكَ نُورُ النُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ، ثُمَّ أَعَادَهُ مَكَانَهُ فَوَجَدْتُ بَرَدَ ذَلِكَ الْخَاتَمِ فِي قَلْبِي دَهْرًا، ثُمَّ قَالَ الثَّالِثُ لِصَاحِبِهِ: تَنَحَّ عَنِّي، فَأَمَرَّ يَدَهُ مَا بَيْنَ مَفْرِقِ صَدْرِي إِلَى مُنْتَهَى عَانَتِي، فَالْتَأَمَ ذَلِكَ الشَّقُّ بِإِذْنِ اللَّهِ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَأَنْهَضَنِي مِنْ مَكَانِي إِنْهَاضًا لَطِيفًا، ثُمَّ قَالَ لِلأَوَّلِ الَّذِي شَقَّ بَطْنِي: زِنْهُ بِعَشَرَةٍ مِنْ أُمَّتِهِ، فَوَزَنُونِي بِهِمْ فَرَجَحْتُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: زِنْهُ بِمِائَةٍ مِنْ أُمَّتِهِ، فَوَزَنُونِي بِهِمْ فَرَجَحْتُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: زِنْهُ بِأَلْفٍ مِنْ أُمَّتِهِ، فَوَزَنُونِي بِهِمْ فَرَجَحْتُهُمْ. فَقَالَ: دَعُوهُ، فَلَوْ وَزَنْتُمُوهُ بِأُمَّتِهِ كُلِّهَا لَرَجَحَهُمْ قَالَ: ثُمَّ ضَمُّونِي إِلَى صُدُورِهِمْ وَقَبَّلُوا رَأْسِي وَمَا بَيْنَ عَيْنَيَّ، ثُمَّ قَالُوا: يَا حَبِيبُ، لَمْ تُرَعْ، إِنَّكَ لَوْ تَدْرِي مَا يُرَادُ بِكَ مِنَ الْخَيْرِ لَقَرَّتْ عَيْنَاكَ قَالَ: فَبْيَنَا نَحْنُ كَذَلِكَ، إِذْ أَنَا بِالْحَيِّ قَدْ جَاءُوا بِحَذَافِيرِهِمْ، وَإِذَا أُمِّي- وَهِيَ ظِئْرِي- أَمَامَ الْحَيِّ تَهْتِفُ بِأَعْلَى صَوْتِهَا وَتَقُولُ: يَا ضَعِيفَاهُ! قَالَ: فَانْكَبُّوا عَلَيَّ فَقَبَّلُوا رَأْسِي وَمَا بَيْنَ عَيْنَيَّ، فَقَالُوا: حَبَّذَا أَنْتَ مِنْ ضَعِيفٍ! ثُمَّ قَالَتْ ظِئْرِي: يَا وَحِيدَاهُ! فَانْكَبُّوا عَلَيَّ فَضَمُّونِي إِلَى صُدُورِهِمْ وَقَبَّلُوا رَأْسِي وَمَا بَيْنَ عَيْنَيَّ، ثُمَّ قَالُوا: حَبَّذَا أَنْتَ مِنْ وَحِيدٍ وَمَا أَنْتَ بِوَحِيدٍ! إِنَّ اللَّهَ مَعَكَ وَمَلائِكَتَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ ثُمَّ قَالَتْ ظِئْرِي: يَا يَتِيمَاهُ، اسْتُضْعِفْتَ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِكَ فَقُتِلْتَ لِضَعْفِكَ، فَانْكَبُّوا عَلَيَّ فَضَمُّونِي إِلَى صُدُورِهِمْ وَقَبَّلُوا رَأْسِي وَمَا بَيْنَ عَيْنِي، وَقَالُوا: حَبَّذَا أَنْتَ مِنْ يَتِيمٍ، مَا أَكْرَمَكَ عَلَى اللَّهِ! لَوْ تَعْلَمُ مَاذَا يُرَادُ بِكَ مِنَ الْخَيْرِ! قَالَ: فَوَصَلُوا بِي إِلَى شَفِيرِ الْوَادِي، فَلَمَّا بَصُرَتْ بِي

أُمِّي- وَهِيَ ظِئْرِي- قَالَتْ: يَا بُنَيَّ أَلا أَرَاكَ حَيًّا بَعْدُ! فَجَاءَتْ حَتَّى انْكَبَّتْ عَلَيَّ وضمتني الى صدرها، فو الذى نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي لَفِي حِجْرِهَا وَقَدْ ضَمَّتْنِي إِلَيْهَا، وَإِنَّ يَدِي فِي يَدِ بَعْضِهِمْ، فَجَعَلْتُ أَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ وَظَنَنْتُ أَنَّ الْقَوْمَ يُبْصِرُونَهُمْ، فَإِذَا هُمْ لا يُبْصِرُونَهُمْ، يَقُولُ بَعْضُ الْقَوْمِ: إِنَّ هَذَا الْغُلامَ قَدْ أَصَابَهُ لَمَمٌ أَوْ طَائِفٌ مِنَ الْجِنِّ، فَانْطَلِقُوا بِهِ إِلَى كَاهِنِنَا حَتَّى يَنْظُرَ إِلَيْهِ وَيُدَاوِيَهُ فَقُلْتُ: يَا هَذَا، مَا بِي شَيْءٌ مِمَّا تَذْكُرُ، إِنَّ آرَائِي سَلِيمَةٌ وَفُؤَادِي صَحِيحٌ، لَيْسَ بِي قَلَبَةٌ فَقَالَ أَبِي- وَهُوَ زَوْجُ ظِئْرِي- أَلا تَرَوْنَ كَلامَهُ كَلامَ صَحِيحٍ! إِنِّي لأَرْجُو أَلا يَكُونَ بِابْنِي بَأْسٌ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَذْهَبُوا بِي إِلَى الْكَاهِنِ، فَاحْتَمَلُونِي حَتَّى ذَهَبُوا بِي إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَصُّوا عَلَيْهِ قِصَّتِي قَالَ: اسْكُتُوا حَتَّى أَسْمَعَ مِنَ الْغُلامِ، فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِأَمْرِهِ مِنْكُمْ، فَسَأَلَنِي، فَاقْتَصَصْتُ عَلَيْهِ أَمْرِي مَا بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ قَوْلِي وَثَبَ إِلَيَّ فَضَمَّنِي إِلَى صَدْرِهِ ثُمَّ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا لَلْعَرَبِ، يَا للعرب! اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه، فو اللات وَالْعُزَّى لَئِنْ تَرَكْتُمُوهُ وَأَدْرَكَ، لَيُبَدِّلَنَّ دِينَكُمْ وَلُيُسَفِّهَنَّ عُقُولَكُمْ وَعُقُولَ آبَائِكُمْ، وَلَيُخَالِفَنَّ أَمْرَكُمْ، وَلَيَأْتِيَنَّكُمْ بِدِينٍ لَمْ تَسْمَعُوا بِمِثْلِهِ قَطُّ! فَعَمَدَتْ ظِئْرِي فَانْتَزَعَتْنِي مِنْ حِجْرِهِ وَقَالَتْ: لأَنْتَ أَعْتَهُ وَأَجَنُّ مِنَ ابْنِي هَذَا! فَلَوْ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا يَكُونُ مِنْ قَوْلِكَ مَا أَتَيْتُكَ بِهِ، فَاطْلُبْ لِنَفْسِكَ مَنْ يَقْتُلُكَ، فَإِنَّا غَيْرُ قَاتِلِي هَذَا الْغُلامَ ثُمَّ احْتَمَلُونِي فَأَدَّوْنِي إِلَى أَهْلِي فَأَصْبَحْتُ مُفَزَّعًا مِمَّا فُعِلَ بِي، وَأَصْبَحَ أَثَرُ الشَّقِّ مَا بَيْنَ صَدْرِي إِلَى مُنْتَهَى عَانَتِي كَأَنَّهُ الشِّرَاكُ، فَذَلِكَ حَقِيقَةُ قَوْلِي وَبَدْءُ شَأْنِي يَا أَخَا بَنِي عَامِرٍ. فَقَالَ الْعَامِرِيُّ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ غَيْرُهُ أَنَّ أَمْرَكَ حَقٌّ، فَأَنْبِئْنِي

بِأَشْيَاءَ أَسْأَلُكَ عَنْهَا! قَالَ: سَلْ عَنْكَ- وَكَانَ النبي ص قَبْلَ ذَلِكَ يَقُولُ لِلسَّائِلِ: سَلْ عَمَّا شِئْتَ، وَعَمَّا بَدَا لَكَ، فَقَالَ لِلْعَامِرِيِّ يَوْمَئِذٍ: سَلْ عَنْكَ، لأَنَّهَا لُغَةُ بَنِي عَامِرٍ، فَكَلَّمَهُ بِمَا علم- فقال له العامري: [أخبرني يا بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَا يَزِيدُ فِي الْعِلْمِ؟ قَالَ: التَّعَلُّمُ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي مَا يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ؟ قال النبي ص: السُّؤَالُ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي مَاذَا يَزِيدُ فِي الشَّرِّ؟ قَالَ: التَّمَادِي، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي هَلْ يَنْفَعُ الْبِرُّ بَعْدَ الْفُجُورِ؟ قَالَ: نَعَمْ،] [التَّوْبَةُ تَغْسِلُ الْحَوْبَةَ، والحسنات يذهبن السيئات،] و [إذا ذَكَرَ الْعَبْدُ رَبَّهُ عِنْدَ الرَّخَاءِ، أَغَاثَهُ عِنْدَ البلاء] [، قال العامري: وكيف ذلك يا بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ قَالَ: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: لا وَعِزَّتِي وَجَلالِي، لا أَجْمَعُ لِعَبْدِي أَمْنَيْنِ، وَلا أَجْمَعُ لَهُ أَبَدًا خَوْفَيْنِ، إِنْ هُوَ خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمِنَنِي يَوْمَ أَجْمَعُ فِيهِ عِبَادِي عِنْدِي فِي حَظِيرَةِ الْفِرْدَوْسِ، فَيَدُومُ لَهُ أَمْنُهُ، وَلا أَمْحَقُهُ فِيمَنْ أَمْحَقُ، وَإِنْ هُوَ أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا خَافَنِي يَوْمَ أَجْمَعُ فِيهِ عِبَادِي لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، فَيَدُومُ لَهُ خَوْفُهُ، قال: يا بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَخْبِرْنِي إِلامَ تَدْعُو؟ قَالَ: أَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ تَخْلَعَ الأَنْدَادَ، وَتَكْفُرَ بِاللاتِ وَالْعُزَّى، وَتُقِرَّ بِمَا جَاءَ مِنَ اللَّهِ مِنْ كِتَابٍ أَوْ رَسُولٍ، وَتُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ بِحَقَائِقِهِنَّ، وَتَصُومَ شَهْرًا مِنَ السَّنَةِ، وَتُؤَدِّيَ زَكَاةَ مَالِكَ، يُطَهِّرُكَ اللَّهُ بِهَا وَيَطِيبُ لَكَ مَالُكَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِذَا وَجَدْتَ إِلَيْهِ سَبِيلا، وَتَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَتُؤْمِنَ بِالْمَوْتِ، وَبِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَبِالْجَنَّةِ، وَالنَّارِ قَالَ: يا بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَمَا لِي؟ قال النبي ص: «جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى» قال: يا بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، هَلْ مَعَ هَذَا مِنَ الدُّنْيَا شَيْءٌ؟ فَإِنَّهُ يُعْجِبُنِي الْوَطَاءَةُ مِنَ الْعَيْشِ! قَالَ النبي

ص: نَعَمْ، النَّصْرُ وَالتَّمَكُّنُ فِي الْبِلادِ قَالَ: فَأَجَابَ وَأَنَابَ] . حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ الْكَلاعِيِّ، أَنَّ نفرا من اصحاب رسول الله ص وَسَلَّمَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنَا عَنْ نَفْسِكَ، [قَالَ: نَعَمْ، أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى، وَرَأَتْ أُمِّي حِينَ حَمَلَتْ بِي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَ لَهَا قُصُورَ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، وَاسْتُرْضِعْتُ فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، فَبَيْنَا أَنَا مَعَ أَخٍ لِي خَلْفَ بُيُوتِنَا نَرْعَى بَهْمًا لَنَا، أَتَانِي رَجُلانِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ ثَلْجًا، فَأَخَذَانِي، فَشَقَّا بَطْنِي، ثُمَّ اسْتَخْرَجَا مِنْهُ قَلْبِي، فَشَقَّاهُ فَاسْتَخْرَجَا مِنْهُ عَلَقَةً سَوْدَاءَ، فَطَرَحَاهَا، ثُمَّ غَسَلا بَطْنِي وَقَلْبِي بِذَلِكَ الثَّلْجِ حَتَّى أَنْقَيَاهُ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: زِنْهُ بِعَشَرَةٍ مِنْ أُمَّتِهِ، فَوَزَنَنِي بِهِمْ فَوَزَنْتُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: زِنْهُ بِمِائَةٍ مِنْ أُمَّتِهِ، فَوَزَنَنِي بِهِمْ فَوَزَنْتُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: زِنْهُ بِأَلْفٍ مِنْ أُمَّتِهِ، فَوَزَنَنِي بِهِمْ فَوَزَنْتُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: دَعْهُ عَنْكَ، فَلَوْ وَزَنْتَهُ بِأُمَّتِهِ لَوَزَنَهَا] . قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هَلَكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَبُو رسول الله ص، وأم رسول الله آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زُهْرَةَ حَامِلٌ بِهِ. وَأَمَّا هِشَامٌ فَإِنَّهُ قَالَ: تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ أَبُو رَسُولِ اللَّهِ، بَعْدَ ما اتى على رسول الله ص ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا. حَدَّثَنِي الحارث، قَالَ: حَدَّثَنَا ابن سعد، قَالَ: قَالَ محمد بن عمر الواقدي: الثبت عندنا مما ليس بين أصحابنا فيه اختلاف، أن عبد الله بن عبد المطلب أقبل من الشام في عير لقريش، فنزل بالمدينة- وهو مريض- فأقام بها حتى توفي، ودفن في دار النابغة، في الدار الصغرى إذا دخلت الدار على يسارك في البيت. حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله ابن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عمرو بن حزم الأنصاري، ان أم رسول الله ص آمنه، توفيت- ورسول الله ص ابن ست سنين- بالأبواء بين مكة والمدينة، كانت قدمت به المدينة على أخواله من

رجع الحديث إلى تمام امر كسرى بن قباذ انوشروان

بني عدي بن النجار تزيره إياهم، فماتت وهي راجعة به إلى مكة. وقد حَدَّثَنِي الحارث، قال: حدثنا مُحَمَّد بن سعد، قال: أخبرنا محمد ابن عمر، قَالَ: حَدَّثَنِي ابن جريج، عن عثمان بن صفوان، أن قبر آمنة بنت وهب في شعب أبي ذر بمكة. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن العباس ابن عبد الله بن معبد بن العباس، عن بعض أهله، أن عبد المطلب توفي ورسول الله ص ابن ثماني سنين، وكان بعضهم يقول: توفي عبد المطلب ورسول الله ابن عشر سنين. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو الْحَضْرَمِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابن عباس قال: كان النبي ص فِي حِجْرِ أَبِي طَالِبٍ بَعْدَ جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَيُصْبِحُ وَلَدَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ غُمْصًا رُمْصًا، ويصبح ص صَقِيلا دَهِينًا رجع الحديث إلى تمام أمر كسرى بن قباذ انوشروان حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ الْمَوْصِلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَيُّوبَ يَعْلَى بْنُ عِمْرَانَ الْبَجَلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَخْزُومُ بْنُ هَانِئٍ الْمَخْزُومِيُّ عَنْ أَبِيهِ- وَأَتَتْ لَهُ خَمْسُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ- قَالَ: لَمَّا كانت ليله ولد فيها رسول الله ص، ارْتَجَسَ إِيَوانُ كِسْرَى وَسَقَطَتْ مِنْهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ شُرْفَةً، وَخَمِدَتْ نَارُ فَارِسَ، وَلَمْ تَخْمَدْ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَلْفِ عَامٍ، وَغَاضَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَةَ، وَرَأَى الْمُوبَذَانُ إِبِلًا صِعَابًا، تَقُودُ خَيْلًا عِرَابًا، وَقَدْ قَطَعَتْ دِجْلَةَ وَانْتَشَرَتْ فِي بِلَادِهَا. فَلَمَّا أَصْبَحَ كِسْرَى أَفْزَعَهُ مَا رَأَى، فَصَبَرَ تَشَجُّعًا، ثُمَّ رَأَى أَلَّا يَكْتُمَ ذَلِكَ عَنْ وُزَرَائِهِ وَمَرَازِبَتِهِ، فَلَبِسَ تَاجَهُ وَقَعَدَ عَلَى سَرِيرِهِ وَجَمَعَهُمْ إِلَيْهِ

فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ أَخْبَرَهُمْ بِالَّذِي بَعَثَ إِلَيْهِمْ فيه ودعاهم فبيناهم كَذَلِكَ إِذْ وَرَدَ عَلَيْهِ كِتَابٌ بِخُمُودِ النَّارِ فَازْدَادَ غَمًّا إِلَى غَمِّهِ، فَقَالَ الْمُوبَذَانُ: وَأَنَا أَصْلَحَ اللَّهُ الْمَلِكَ! قَدْ رَأَيْتُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَقَصَّ عَلَيْهِ الرُّؤْيَا فِي الإِبِلِ. فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ يَكُونُ هَذَا يَا مُوبِذَانُ؟ - وَكَانَ أَعْلَمَهُمْ عِنْدَ نَفْسِهِ بِذَلِكَ- فَقَالَ: حَادِثٌ يَكُونُ مِنْ عِنْدِ الْعَرَبِ، فَكَتَبَ عِنْدَ ذَلِكَ: مِنْ كِسْرَى مَلِكِ الْمُلُوكِ إِلَى النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، أَمَّا بَعْدُ، فَوَجِّهْ إِلَيَّ رَجُلًا عَالِمًا بِمَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْهُ. فَوَجَّهَ إِلَيْهِ عَبْدَ المسيح بن عمرو بن حيان بن بقيله الْغَسَّانِيَّ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ، قَالَ لَهُ: أَعِنْدَكَ عِلْمٌ بِمَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْهُ؟ قَالَ: لِيُخْبِرْنِي الْمَلِكُ، فَإِنْ كَانَ عِنْدِي مِنْهُ عِلْمٌ، وَإِلَّا أَخْبَرْتُهُ بِمَنْ يُعْلِمُهُ لَهُ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا رَأَى، فَقَالَ: عِلْمُ ذَلِكَ عِنْدَ خَالٍ لِي يَسْكُنُ مَشَارِفَ الشَّامِ، يُقَالُ لَهُ سَطِيحٌ، قَالَ: فَأْتِهِ فَاسْأَلْهُ عَمَّا سَأَلْتُكَ، وَأْتِنِي بِجَوَابِهِ فَرَكِبَ عَبْدُ الْمَسِيحِ رَاحِلَتَهُ حَتَّى قَدِمَ عَلَى سَطِيحٍ- وَقَدْ أَشْفَى عَلَى الْمَوْتِ- فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَحَيَّاهُ، فَلَمْ يُحِرْ سَطِيحٌ جَوَابًا، فَأَنْشَأَ عَبْدُ الْمَسِيحِ يَقُولُ: أَصَمُّ أَمْ يَسْمَعُ غِطْرِيفُ الْيَمَنِ! ... يَا فَاصِلَ الْخُطَّةِ أَعَيْتَ مَنْ وَمَنْ أَمْ فَازَ فَازْلَمَّ بِهِ شَأْوُ الْعَنَنِ ... أَتَاكَ شَيْخُ الْحَيِّ مِنْ آلِ سَنَنْ وَأُمُّهُ مِنْ آلِ ذِئْبِ بْنِ حَجَنْ ... أَزْرَقُ مُمْهَى النَّابِ صَرَّارُ الأُذُنْ أَبْيَضُ فَضْفَاضُ الرِّدَاءِ وَالْبَدَنْ ... رَسُولُ قَيْلِ الْعُجْمِ يسرى للوسن يجوب بي الارض علنداه شزن ... ترفعني وجن وتهوى بِي وَجَنْ لا يَرْهَبُ الرَّعْدَ وَلا رَيْبَ الزَّمَنِ ... حَتَّى أَتَى عَارِي الْجَآجِي وَالْقَطَنْ

تَلِفُّهُ فِي الرِّيحِ بَوْغَاءُ الدِّمَنْ ... كَأَنَّمَا حُثْحِثَ مِنْ حِضْنَيْ ثَكَنْ فَلَمَّا سَمِعَ سَطِيحٌ شِعْرَهُ، رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ: عَبْدُ الْمَسِيحِ، عَلَى جَمَلٍ يَسِيحُ، إِلَى سَطِيحٍ، وَقَدْ أَوْفَى عَلَى الضَّرِيحِ، بَعَثَكَ مَلِكُ بَنِي سَاسَانَ، لارْتِجَاسِ الإِيوَانِ، وَخُمُودِ النِّيرَانِ، وَرُؤْيَا الْمُوبَذَانِ رَأَى إِبِلًا صِعَابًا، تَقُودُ خَيْلًا عِرَابًا، قَدْ قَطَعَتْ دِجْلَةَ وَانْتَشَرَتْ فِي بِلَادِهَا، يَا عَبْدَ الْمَسِيحِ: إِذَا كَثُرَتِ التِّلَاوَةُ، وَبُعِثَ صَاحِبُ الْهَرَاوَةِ، وَفَاضَ وَادِي السَّمَاوَةِ، وَغَاضَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَةَ، وَخَمِدَتْ نَارُ فَارِسَ، فَلَيْسَتِ الشَّامُ لِسَطِيحٍ شَأْمًا، يَمْلِكُ مِنْهُمْ مُلُوكٌ وَمَلِكَاتٌ، عَلَى عَدَدِ الشُّرُفَاتِ، وَكُلُّ مَا هُو آتٍ آتِ. ثُمَّ قَضَى سَطِيحٌ مَكَانَهُ، فَقَامَ عَبْدُ الْمَسِيحِ إِلَى رَحْلِهِ وَهُوَ يَقُولُ: شَمِّرْ فَإِنَّكَ مَاضِي الْهَمَّ شِمِّيرُ ... لا يُفْزِعَنَّكَ تَفْرِيقٌ وَتَغْيِيرُ إِنْ يَكُ مُلْكُ بَنِي سَاسَانَ أَفْرَطَهُمْ ... فَإِنَّ ذَا الدَّهْرَ أَطْوَارٌ دَهَارِيرُ فَرُبَّمَا رُبَّمَا أَضْحَوْا بِمَنْزِلَةٍ ... تَهَابُ صَوْلَهُمُ الأُسْدُ الْمَهَاصِيرُ مِنْهُمْ أَخُو الصَّرْحِ مِهْرَانُ وَإِخْوَتُهُ ... وَالْهُرْمُزَانُ وَسَابُورٌ وَسَابُورُ وَالنَّاسُ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ فَمَنْ عَلِمُوا ... أَنْ قَدْ أَقَلَّ، فَمَهْجُورٌ وَمَحْقُورُ وَهُمْ بَنُو الأُمِّ لَمَّا أَنْ رَأَوْا نَشَبًا ... فَذَاكَ بِالْغَيْبِ مَحْفُوظٌ وَمَنْصُورُ وَالْخَيْرُ والشَّرُ مَقْرُونَانِ فِي قَرْنٍ ... فَالْخَيْرُ مُتَّبَعٌ وَالشَّرُّ مَحْذُورُ فَلَمَّا قَدِمَ عَبْدُ الْمَسِيحِ عَلَى كِسْرَى، أَخْبَرَهُ بِقَوْلِ سَطِيحٍ، فَقَالَ: إِلَى أَنْ يَمْلِكَ مِنَّا أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَلِكًا قَدْ كَانَتْ أُمُورٌ. فَمَلَكَ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَمَلَكَ الْبَاقُونَ إِلَى مُلْكِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ

وَحُدِّثْتُ عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: بَعَثَ وَهْرَزٌ بِأَمْوَالٍ وَطرفٍ مِنْ طرفِ الْيَمَنِ إِلَى كِسْرَى، فَلَمَّا صَارَتْ بِبِلادِ بَنِي تَمِيمٍ، دَعَا صعصعة ابن نَاجِيَةَ بْنِ عِقَالٍ الْمُجَاشِعِيُّ بَنِي تَمِيمٍ إِلَى الْوُثُوبِ عَلَيْهِ، فَأَبَوْا ذَلِكَ، فَلَمَّا صَارَتْ فِي بِلادِ بَنِي يَرْبُوعٍ دَعَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَهَابُوهُ، فَقَالَ: يَا بَنِي يَرْبُوعٍ، كَأَنِّي بِهَذِهِ الْعِيرِ قَدْ مَرَّتْ بِبِلادِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، فَوَثَبُوا عَلَيْهَا فَاسْتَعَانُوا بِهَا عَلَى حَرْبِكُمْ! فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ انْتَهَبُوهَا، وَأَخَذَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِيطٍ يُقَالُ لَهُ النَّطِفُ خَرَجَا فِيهِ جَوْهَرُ، فَكَانَ يُقَالُ: أَصَابَ كَنْزَ النَّطِفِ، فَصَارَ مَثَلًا، وَأَخَذَ صَعْصَعَةُ خَصَفَةً فِيهَا سَبَائِكُ فِضَّةٍ، وَصَارَ أَصْحَابُ الْعِيرِ إِلَى هَوْذَةَ بْنِ عَلِيٍّ الْحَنَفِيِّ بِالْيَمَامَةِ، فَكَسَاهُمْ، وَزَوَّدَهُمْ وَحَمَلَهُمْ، وَسَارَ مَعَهُمْ حَتَّى دَخَل عَلَى كِسْرَى وَكَانَ لِهَوْذَةَ جَمَالٌ وَبَيَانٌ، فَأُعْجِبَ بِهِ كِسْرَى وَحَفِظَ لَهُ مَا كَانَ مِنْهُ، وَدَعَا بِعِقْدٍ مِنْ دُرٍّ فَعَقَدَ عَلَى رَأْسِهِ، وَكَسَاهُ قَبَاءَ دِيبَاجٍ، مَعَ كِسْوَةٍ كَثِيرَةٍ، فَمِنْ ثَمَّ سُمِّيَ هَوْذَةُ ذَا التَّاجِ، وَقَالَ كِسْرَى لِهَوْذَةَ: أَرَأَيْتَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ صَنَعُوا مَا صَنَعُوا مِنْ قَوْمِكَ هُمْ؟ قَالَ: لا، قَالَ: أَصُلْحٌ هُمْ لَكَ؟ قَالَ: بَيْنَنَا الْمَوْتُ، قَالَ: قَدْ أَدْرَكْتَ بَعْضَ حَاجَتِكَ وَنِلْتَ ثَأْرَكَ وَعَزَمَ عَلَى تَوْجِيهِ الْخَيْلِ إِلَى بَنِي تَمِيمٍ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ بِلَادَهُمْ بِلَادُ سَوْءٍ، إِنَّمَا هِيَ مَفَاوِزُ وَصَحَارَى لا يُهْتَدَى لِمَسَالِكِهَا، وَمَاؤُهُمْ مِنَ الآبَارِ، وَلا يُؤْمِنُ أَنْ يُعَوِّرُوَهَا فَيَهْلَكُ جُنْدُكَ وَأُشِيرَ إِلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى عَامِلِهِ بِالْبَحْرَيْنِ وهو آزاذفروز بْنُ جَشْنَسَ الَّذِي سَمَّتْهُ الْعَرَبُ الْمُكَعْبَرُ- وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمُكَعْبَرُ، لأَنَّهُ كَانَ يَقْطَعُ الأَيْدِي وَالأَرْجُلِ وَآلَى أَلَّا يَدَعَ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ عَيْنًا تُطْرَفُ- فَفَعَلَ، وَوَجَّهَ لَهُ رَسُولًا وَدَعَا بِهَوْذَةَ فَجَدَّدَ لَهُ كَرَامَةً وَصِلَةً وَقَالَ: سِرْ مَعَ رَسُولِي هَذَا فَاشْفِنِي وَاشْتَفَّ، فَأَقْبَلَ هَوْذَةُ وَالرَّسُولُ مَعَهُ حَتَّى صَارَ إِلَى الْمُكَعْبَرِ، وَذَلِكَ قَرِيبٌ مِنْ أَيَّامِ اللِّقَاطِ، وَكَانَ بَنُو تَمِيمٍ يَصِيرُونَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى هَجَرِ، لِلْمِيرَةِ وَاللِّقَاطِ، فنادى منادى المكعبر: من كان هاهنا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَلْيَحْضُرْ

فَإِنَّ الْمَلِكَ قَدْ أَمَرَ لَهُمْ بِمِيرَةٍ وَطَعَامٍ يُقَسِّمُ فِيهِمْ، فَحَضَرُوَا، فَأَدْخَلَهُمِ الْمُشَقَّرَ- وَهُوَ حِصْنٌ حِيَالَهُ حِصْنٌ يُقَالُ لَهُ الصَّفَا، وَبَيْنَهُمَا نَهْرٌ يُقَالُ لَهُ مُحَلِّمٌ- وَكَانَ الَّذِي بَنَى الْمُشَقَّرَ رَجُلًا مِنْ أَسَاوِرَةِ كِسْرَى يُقَالُ لَهُ: بسكُ بْنُ مَاهبُوذَ، كَانَ كِسْرَى وَجَّهَهُ لِبِنَائِهِ، فَلَمَّا ابْتَدَأَهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْفَعَلَةَ لا يُقِيمُونَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ مَعَهُمْ نِسَاءٌ، فَإِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ بِهِمْ تَمَّ بِنَاؤُكَ، وَأَقَامُوا عَلَيْهِ حَتَّى يَفْرُغُوا مِنْهُ، فَنَقَلَ إِلَيْهِمُ الْفَوَاجِرَ مِنْ نَاحِيَةِ السَّوَادِ وَالأَهْوَازِ، وَحُمِلَتْ إِلَيْهِمْ رَوَايَا الْخَمْرِ مِنْ أَرْضِ فَارِسَ فِي الْبَحْرِ، فَتَنَاكَحُوا وَتَوَالَدُوا، فَكَانُوا جل أَهْل مَدِينَةِ هَجَرٍ، وَتَكَلَّمَ الْقَوْمُ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَكَانَتْ دَعْوَتُهُمْ إِلَى عَبْدِ الْقَيْسِ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلَامُ قَالُوا لِعَبْدِ الْقَيْسِ: قَدْ عَلِمْتُمْ عَدَدَنَا وَعُدَّتَنَا وَعَظِيمَ غِنَائِنَا، فَأَدْخِلُونَا فِيكُمْ وَزَوِّجُونَا، قَالُوا: لا، وَلَكِنْ أَقِيمُوا عَلَى حَالِكُمْ، فَأَنْتُمْ إِخْوَانُنَا وَمَوَالِينَا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ عبد القيس: يا معاشر عَبْدِ الْقَيْسِ، أَطِيعُونِي وَأَلْحِقُوهُمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَنْ مِثْلِ هَؤُلَاءِ مَرْغَبٌ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اما تستحي! أَتَأْمُرُنَا أَنْ نَدْخُلَ فِينَا مَنْ قَدْ عَرَفْتَ أَوَّلَهُ وَأَصْلَهُ! قَالَ: إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا أَلْحَقَهُمْ غَيْرُكُمْ مِنَ الْعَرَبِ، قَالَ: إِذًا لا نَسْتَوْحِشُ لَهُمْ، فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ فِي الْعَرَبِ، وَبَقِيَتْ فِي عَبْدِ الْقَيْسِ مِنْهُمْ بَقِيَّةٌ فَانْتَمَوْا إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَرُدُّوهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَلَمَّا أَدْخَلَ الْمُكَعْبَرُ بَنِي تَمِيمٍ الْمُشَقَّرَ قَتَلَ رِجَالَهُمْ وَاسْتَبْقَى الْغِلْمَانَ، وَقَتَلَ يَوْمَئِذٍ قَعْنَبَ الرِّيَاحِيَّ- وَكَانَ فَارِسَ بَنِي يَرْبُوعٍ- قَتَلَهُ رَجُلانِ مِنْ شَنٍّ كَانَا يَنُوبَانِ الْمُلُوكَ، وَجَعَلَ الْغِلْمَانَ فِي السُّفُنِ، فَعَبَرَ بِهِمْ إِلَى فَارِسَ، فَخَصُّوا مِنْهُمْ بَشَرًا قَالَ هُبَيْرَةُ بْنُ حُدَيْرٍ الْعَدَوِيُّ: رَجَعَ إِلَيْنَا بَعْد مَا فُتِحَتْ إصْطَخَرُ عِدَّةٌ مِنْهُمْ، أَحَدُهُمْ خِصْيٌ وَالآخَرُ خِيَاطٌ وَشَدَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، يُقَالُ لَهُ عُبَيْدُ بْنُ وَهْبٍ عَلَى سِلْسِلَةِ الْبَابِ فَقَطَعَهَا وَخَرَجَ، فَقَالَ: تَذَكَّرْتُ هِنْدًا لاتَ حِينَ تَذَكُّرُ ... تَذَكَّرْتُهَا وَدُونَهَا سَيْرُ أَشْهُرِ حِجَازِيَّةً عَلَوِيَّةً حَلَّ أَهْلُهَا ... مُصَابَ الْخَرِيف بَيْنَ زَوْرٍ وَمَنْوَرِ

أَلا هَلْ أَتَى قَوْمِي عَلَى النَّأْيِ أَنَّنِي ... حميت ذِمَارِي يَوْمَ بَابِ المُشَقَّرِ ضَرَبْتُ رِتَاجَ الْبَابِ بِالسَّيْفِ ضَرْبَةً ... تَفَرَّجَ مِنْهَا كُلُّ بَابٍ مُضَبَّرِ وَكَلَّمَ هَوْذَةُ بْنُ عَلِيٍّ الْمُكَعْبَرَ يَوْمَئِذٍ فِي مِائَةٍ مِنْ أَسْرَى بَنِي تَمِيمٍ، فَوَهَبَهُمْ لَهُ يَوْمَ الْفِصْحِ، فَأَعْتَقَهُمْ، فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الأَعْشَى: سَائِلْ تَمِيمًا بِهِ أَيَّامَ صَفْقَتِهِمْ ... لَمَّا أَتَوْهُ أُسَارَى كُلُّهُمْ ضَرَعًا وَسَطَ المُشَقَّرِ فِي غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ ... لا يَسْتَطِيعُونَ بَعْدَ الضُّرِّ مُنْتَفِعًا فَقَالَ لِلْمَلِكِ اطْلِقْ مِنْهُمْ مِائَةً ... رُسُلًا مِنَ الْقَوْلِ مَخْفُوضًا وَمَا رَفَعَا فَفَكَّ عَنْ مِائَةٍ مِنْهُمْ إِسَارَهُمْ ... وَأَصْبَحُوا كُلُّهُمْ مِنْ غُلِّهِ خَلِعًا بِهِمْ تقرب يوم الفصح ضاحية ... يرجو الإله بما اسدى وما صنعا فلا يرون بذاكم نعمة سبقت ... إن قَالَ قائلها حقا بها وسعا يصف بني تميم بالكفر لنعمته. قَالَ: فلما حضرت وهرز الوفاة- وذلك في آخر ملك انوشروان- دعا بقوسه ونشابته، ثم قَالَ: أجلسوني، فأجلسوه، فرمى وقال: انظروا حيث وقعت نشابتى فاجعلوا ناؤوسى هناك، فوقعت نشابته من وراء الدير، وهي الكنيسة التي عند نعم، وهي تسمى اليوم مقبرة وهرز، فلما بلغ كسرى موت وهرز، بعث الى اليمن اسوارا يقال له وين، وكان جبارا مسرفا، فعزله هرمز بن كسرى، واستعمل مكانه المروزان، فأقام

ذكر ملك هرمز بن كسرى انوشروان

باليمن حتى ولد له بها، وبلغ ولده ثم هلك كسرى انوشروان، وكان ملكه ثمانيا واربعين سنه . ذكر ملك هرمز بن كسرى انوشروان ثم ملك هرمز بن كسرى أنوشروان، وكانت أمه ابنة خاقان الأكبر، فحدثت عن هشام بن مُحَمَّد، قَالَ: كان هرمز بن كسرى هذا كثير الأدب، ذا نية في الإحسان إلى الضعفاء والمساكين، والحمل على الأشراف، فعادوه وأبغضوه، وكان في نفسه عليهم مثل ذلك، ولما عقد التاج على رأسه، اجتمع إليه أشراف أهل مملكته، واجتهدوا في الدعاء له والشكر لوالده، فوعدهم خيرا وكان متحريا للسيرة في رعيته بالعدل، شديدا على العظماء لاستطالتهم كانت على الوضعاء، وبلغ من عدله أنه كان يسير إلى ماه ليصيف، فأمر فنودي في مسيره ذلك في جنده وسائر من كان في عسكره أن يتحاموا مواضع الحروث ولا يضروا بأحد من الدهاقين فيها، ويضبطوا دوابهم عن الفساد فيها، ووكل بتعاهد ما يكون في عسكره من ذلك ومعاقبة من تعدى أمره. وكان ابنه كسرى في عسكره، فعار مركب من مراكبه ووقع في محرثة من المحارث التي كانت على طريقه فرتع فيها وأفسد منها، فأخذ ذلك المركب، ودفع إلى الرجل الذي وكل هرمز بمعاقبة من أفسد أو دابته شيئا من المحارث وتغريمه فلم يقدر الرجل على انفاذ أمر هرمز في كسرى، ولا في أحد ممن كان معه في حشمه، فرفع ما رأى من إفساد ذلك المركب إلى هرمز، فامر ان يجدع أذنيه، ويبتر ذنبه، ويغرم كسرى، فخرج الرجل من عند هرمز لينفذ أمره في كسرى ومركبه ذلك، فدس له كسرى رهطا من العظماء ليسألوه التغبيب في أمره، فلقوه وكلموه في ذلك فلم يجب إليه، فسألوه أن يؤخر ما أمر به هرمز في المركب حتى يكلموه فيأمر بالكف عنه، ففعل فلقي أولئك الرهط هرمز

وأعلموه أن بالمركب الذي أفسد ما أفسد زعارة، وأنه عار فوقع في محرثة، فأخذ من ساعة وقع فيها، وسألوه أن يأمر بالكف عن جدعه وتبتيره لما فيها من سوء الطيرة على كسرى فلم يجبهم إلى ما سألوا من ذلك، وامر بالمركب فجدع أذناه، وبتر ذنبه، وغرم كسرى مثل ما كان يغرم غيره في هذا الحد، ثم ارتحل من معسكره وكان هرمز ركب ذات يوم في أوان إيناع الكرم إلى ساباط المدائن، وكان ممره على بساتين وكروم، وإن رجلا ممن ركب معه من أساورته اطلع في كرم فراى فيه حصرما، فأصاب منه عناقيد ودفعها إلى غلام كان معه، وقال له: اذهب بها إلى المنزل واطبخها بلحم واتخذ منها مرقة فإنها نافعة في هذا الإبان فأتاه حافظ ذلك الكرم فلزمه وصرخ، فبلغ من إشفاق الرجل من عقوبة هرمز على تناوله من ذلك الكرم أن دفع إلى حافظ الكرم منطقة محلاة بذهب كانت عليه، عوضا له من الحصرم الذي رزأ من كرمه، وافتدى نفسه بها، ورأى أن قبض الحافظ إياها منه وتخليته عنه، منة من بها عليه، ومعروف أسداه إليه وقيل إن هرمز كان مظفرا منصورا لا يمد يده إلى شيء إلا ناله، وكان مع ذلك أديبا أريبا داهيا رديء النية، قد نزعه أخواله الأتراك، وكان مقصيا للأشراف، وإنه قتل من العلماء وأهل البيوتات والشرف ثلاثة عشر الف رجل وستمائه رجل، وإنه لم يكن له رأي إلا في تألف السفلة واستصلاحهم، وإنه حبس ناسا كثيرا من العظماء وأسقطهم وحط مراتبهم ودرجاتهم، وجهز الجنود وقصر بالأساورة ففسد عليه كثير ممن كان حوله لما أراد الله من تغيير أمرهم وتحويل ملكهم، ولكل شيء سبب وإن الهرابذة رفعوا إليه قصة يبغون فيها على النصارى، فوقع فيها: إنه كما لا قوام لسرير ملكنا بقائمتيه المقدمتين دون قائمتيه

المؤخرتين، فكذلك لأقوام لملكنا ولا ثبات له، مع استفسادنا من في بلادنا من النصارى وأهل سائر الملل المخالفة لنا، فأقصروا عن البغي على النصارى، وواظبوا على أعمال البر ليرى ذلك النصارى وغيرهم من أهل الملل والأديان، فيحمدوكم عليه، وتتوق أنفسهم إلى ملتكم وحدثت عن هشام بن مُحَمَّد، قَالَ: خرج على هرمز الترك- وقال غيره: أقبل عليه شابة ملك الترك الأعظم- في ثلاثمائة ألف مقاتل، في سنة إحدى عشرة من ملكه، حتى صار إلى باذغيس وهراة وإن ملك الروم صار إلى الضواحي في ثمانين ألف مقاتل قاصدا له، وإن ملك الخزر صار في جمع عظيم إلى الباب والأبواب، فعاث وأخرب، وإن رجلين من العرب يقال لأحدهما: عباس الأحول، والآخر: عمرو الأزرق، نزلا في جمع عظيم من العرب بشاطئ الفرات، وشنوا الغارة على أهل السواد، واجترأ أعداؤه عليه وغزوا بلاده، وبلغ من اكتنافهم إياها أنها سميت منخلا كثير السمام وقيل: قد اكتنف بلاد الفرس الأعداء من كل وجه كاكتناف الوتر سيتي القوس وأرسل شابة ملك الترك إلى هرمز وعظماء الفرس يؤذنهم بإقباله في جنوده، ويقول: رموا قناطر أنهار وأودية اجتاز عليها إلى بلادكم، واعقدوا القناطر على كل نهر من تلك الأنهار لا قنطرة له، وافعلوا ذلك في الأنهار والأودية التي عليها مسلكي من بلادكم إلى بلاد الروم، لإجماعي بالمسير إليها من بلادكم فاستفظع هرمز ما ورد عليه من ذلك، وشاور فيه، فأجمع له على القصد لملك الترك، فوجه إليه رجلا من أهل الري يقال له بهرام بن بهرام جشنس- ويعرف بجوبين- في اثني عشر ألف رجل، اختاره بهرام على عينيه من الكهول دون الشباب ويقال: إن هرمز عرض ذلك الوقت من كان بحضرته من الديوانية، فكانت عدتهم سبعين ألف مقاتل، فمضى بهرام بمن ضم إليه مغذا حتى جاز هراة وباذغيس، ولم يشعر شابة ببهرام حتى نزل بالقرب منه معسكرا، فجرت

بينهما رسائل وحروب، وقتل بهرام شابة برمية رماه إياها وقيل: إن الرمي في ملك العجم كان لثلاثة نفر، منها رمية أرششياطين بين منوشهر، وأفراسياب، ومنها رمية سوخرا في الترك، ومنها رمية بهرام هذه واستباح عسكره وأقام بموضعه، فوافاه برموذة بن شابة، وكان يعدل بأبيه، فحاربه فهزمه، وحصره في بعض الحصون، ثم ألح عليه حتى استسلم له، فوجهه إلى هرمز أسيرا، وغنم مما كان في الحصن وكانت كنوزا عظيمة. ويقال إنه حمل إلى هرمز من الأموال والجوهر والآنية والسلاح وسائر الأمتعة مما غنمه وقر مائتي ألف وخمسين ألف بعير، فشكر هرمز لبهرام ما كان منه بسبب الغنائم التي صارت إليه، وخاف بهرام سطوة هرمز، وخاف مثل ذلك من كان معه من الجنود، فخلعوا هرمز وأقبلوا نحو المدائن، وأظهروا الامتعاض مما كان من هرمز، وإن ابنه أبرويز أصلح للملك منه وساعدهم على ذلك بعض من كان بحضرة هرمز، فهرب أبرويز بهذا السبب إلى أذربيجان خوفا من هرمز، فاجتمع إليه هناك عدة من المرازبة والإصبهبذين، فأعطوه بيعتهم، ووثب العظماء والأشراف بالمدائن، وفيهم بندي وبسطام خالا أبرويز، فخلعوا هرمز وسملوا عينيه وتركوه تحرجا من قتله. وبلغ الخبر أبرويز، فأقبل بمن شايعه من أذربيجان إلى دار الملك مسابقا لبهرام، فلما صار إليها استولى على الملك وتحرز من بهرام، والتقى هو وهو على شاطئ النهروان، فجرت بينهما مناظره ومواقفه، ودعا أبرويز بهرام إلى أن يؤمنه ويرفع مرتبته ويسني ولايته، فلم يقبل ذلك، وجرت بينهما حروب اضطرت أبرويز إلى الهرب إلى الروم مستغيثا بملكها بعد حرب

ذكر ملك كسرى ابرويز بن هرمز

شديدة وبيات كان من بعضهم لبعض وقيل إنه كان مع بهرام جماعة من الأشداء، وكان فيهم ثلاثة نفر من وجوه الأتراك لا يعدل بهم في فروسيتهم وشدتهم من الأتراك أحد، قد جعلوا لبهرام قتل أبرويز فلما كان الغد من ليلة البيات وقف أبرويز ودعا الناس إلى حرب بهرام فتثاقلوا عليه، قصده النفر الثلاثة من الأتراك، فخرج إليهم أبرويز فقتلهم بيده واحدا واحدا، ثم انصرف من المعركة وقد أحس من أصحابه بالفتور والتغير، فصار إلى أبيه بطيسبون حتى دخل عليه، وأعلمه ما قد تبينه من أصحابه وشاوره، فأشار عليه بالمصير إلى موريق ملك الروم ليستنجده، فأحرز حرمه في موضع أمن عليهم بهرام، ومضى في عدة يسيرة، منهم بندي وبسطام وكردي أخو بهرام جوبين حتى صار إلى أنطاكية، وكاتب موريق فقبله، وزوجه ابنة له كانت عزيزة عليه، يقال لها: مريم وكان جميع مدة ملك هرمز بن كسرى في قول بعضهم، إحدى عشرة سنة وتسعة أشهر وعشرة أيام وأما هشام بن مُحَمَّد فإنه قَالَ: كان ملكه اثنتي عشره سنه . ذكر ملك كسرى ابرويز بن هرمز ثم ملك كسرى أبرويز بن هرمز بن كسرى انوشروان، وكان من أشد ملوكهم بطشا، وأنفذهم رأيا، وأبعدهم غورا، وبلغ- فيما ذكر- من البأس والنجدة والنصر والظفر وجمع الأموال والكنوز ومساعدة القدر ومساعفة الدهر إياه ما لم يتهيأ لملك أكثر منه، ولذلك سمي أبرويز، وتفسيره بالعربية: المظفر وذكر أنه لما استوحش من أبيه هرمز- لما كان من احتيال بهرام جوبين في ذلك، حتى أوهم هرمز أنه على أن يقوم بالملك لنفسه دونه- سار إلى أذربيجان مكتتما، ثم أظهر أمره بعد ذلك، فلما صار في الناحية اجتمعت إليه جماعة ممن كان هناك من الإصبهبذين وغيرهم، فأعطوه بيعتهم على نصرته، فلم يحدث في الأمر شيئا وقيل انه لما قتل آذين جشنس الموجه لمحاربة بهرام جوبين، انفض

الجمع الذي كان معه حتى وافوا المدائن، واتبعهم جوبين، فاضطرب امر هرمز، وكتبت اخت آذين جشنس الى ابرويز- وكانت تربه- نخبره بضعف هرمز للحادث في آذين جشنس، وأن العظماء قد أجمعوا على خلعه، وأعلمته أن جوبين إن سبقه إلى المدائن قبل موافاته احتوى عليها. فلما ورد الكتاب على أبرويز، جمع من أمكنه من أرمينية وأذربيجان، وصار بهم إلى المدائن، واجتمع إليه الوجوه والأشراف مسرورين بموافاته، فتتوج بتاج الملك، وجلس على سريره، وقال: إن من ملتنا إيثار البر، ومن رأينا العمل بالخير، وإن جدنا كسرى بن قباذ كان لكم بمنزلة الوالد، وإن هرمز أبانا كان لكم قاضيا عادلا، فعليكم بلزوم السمع والطاعة. فلما كان في اليوم الثالث، أتى أباه فسجد له، وقال: عمرك الله أيها الملك! إنك تعلم أني بريء مما أتى إليك المنافقون، وإني إنما تواريت ولحقت بأذربيجان خوفا من إقدامك على القتل فصدقه هرمز وقال له: إن لي إليك يا بني حاجتين، فأسعفني بهما، إحداهما: أن تنتقم لي ممن عاون على خلعي والسمل لعيني، ولا تأخذك فيهم رأفة، والأخرى: أن تؤنسني كل يوم بثلاثة نفر لهم أصالة رأي، وتأذن لهم في الدخول علي فتواضع له أبرويز وقال: عمرك الله أيها الملك، إن المارق بهرام قد أظلنا ومعه الشجاعة والنجدة، ولسنا نقدر أن نمد يدا إلى من آتى إليك ما آتى، فإن أدالني الله على المنافق، فأنا خليفتك وطوع يدك. وبلغ بهرام قدوم كسرى وتمليك الناس إياه، فأقبل بجنده حثيثا نحو المدائن، وأذكى أبرويز العيون عليه، فلما قرب منه رأى أبرويز أن الترفق به أصلح، فتسلح وأمر بندويه وبسطام وناسا كان يثق بهم من العظماء وألف رجل من جنده، فتزينوا وتسلحوا، وخرج بهم أبرويز من قصره نحو بهرام، والناس يدعون له، وقد احتوشه بندويه وبسطام

وغيرهما من الوجوه حتى وقف على شاطئ النهروان، فلما عرف بهرام مكانه، ركب برذونا له أبلق كان معجبا به، وأقبل حاسرا ومعه إيزدجشنس وثلاثة نفر من قرابة ملك الترك كانوا جعلوا لبهرام على أنفسهم أن يأتوه بأبرويز أسيرا، وأعطاهم بهرام على ذلك أموالا عظيمة ولما رأى بهرام بزة كسرى وزينته والتاج، يسايره معه درفش كابيان علمهم الأعظم منشورا، وأبصر بندويه وبسطام وسائر العظماء وحسن تسلحهم وفراهة دوابهم، اكتأب لذلك، وقال لمن معه: ألا ترون ابن الفاعلة قد ألحم وأشحم، وتحول من الحداثة إلى الحنكة، واستوت لحيته وكمل شبابه، وعظم بدنه! فبينا هو يتكلم بهذا وقد وقف غلى شاطئ النهروان. إذ قَالَ كسرى لبعض من كان واقفا: أي هؤلاء بهرام؟ فقال أخ لبهرام يسمى كردي لم يزل مطيعا لأبرويز مؤثرا له: عمرك الله! صاحب البرذون الأبلق فبدأ كسرى فقال: إنك يا بهرام ركن لمملكتنا وسناد لرعيتنا، وقد حسن بلاؤك عندنا، وقد رأينا أن نختار لك يوما صالحا لنوليك فيه إصبهبذة بلاد الفرس جميعا، فقال له بهرام- وازداد من كسرى قربا-: لكني أختار لك يوما أصلبك فيه فامتلأ كسرى حزنا من غير أن يبدو في وجهه من ذلك شيء، وامتد بينهما الكلام، فقال بهرام لأبرويز: يا بن الزانية المربى في خيام الأكراد! هذا ومثله، ولم يقبل شيئا مما عرضه عليه، وجرى ذكر إيرش جد بهرام، فقرعه أبرويز بطاعة إيرش كانت لمنوشهر جده وتفرقا وكل واحد منهما على غاية الوحشة لصاحبه. وكانت لبهرام أخت يقال لها كردية، من أتم النساء وأكملهن، وكان تزوجها، فعاتبت بهرام على سوء ملافظته كانت لكسرى، وأرادته على الدخول في طاعته، فلم يقبل ذلك، وكانت بين كسرى وبهرام مبايتة، فيقال إنه لما كان من غد الليلة التي كان البيات فيها، أبرز كسرى نفسه، فلما رآه الأتراك الثلاثة قصدوه، فقتلهم بيده أبرويز، وحرض الناس

على القتال فتبين فشلا، فأجمع أبرويز على إتيان بعض الملوك للاستجاشة به، فصار إلى أبيه وشاوره، فرأى له المصير إلى ملك الروم، فأحرز نساءه وشخص في عدة يسيرة، فيهم بندويه وبسطام وكردي أخو بهرام، فلما خرجوا من المدائن خاف القوم من بهرام أن يرد هرمز إلى الملك ويكتب إلى ملك الروم عنه في ردهم فيتلفوا، فأعلموا أبرويز ذلك، واستأذنوه في إتلاف هرمز فلم يحر جوابا، فانصرف بندويه وبسطام وبعض من كان معهم إلى هرمز حتى أتلفوه خنقا، ثم رجعوا إلى كسرى وقالوا: سر على خير طائر، فحثوا دوابهم وصاروا إلى الفرات فقطعوه، وأخذوا طريق المفازة بدلالة رجل يقال له خرشيذان، وصاروا إلى بعض الديارات التي في أطراف العمارة، فلما أوطنوا إلى الراحة غشيتهم خيل بهرام، يرأسها رجل يقال له بهرام بن سياوش، فلما نذروا بهم أنبه بندويه أبرويز من نومه وقال له: احتل لنفسك، فإن القوم قد أطلوك، قَالَ كسرى: ما عندي حيلة، فأعلمه بندويه أنه يبذل نفسه دونه، وسأله أن يدفع إليه بزته ويخرج ومن معه من الدير، ففعلوا ذلك، وبادروا القوم حتى تواروا بالجبل، فلما وافى بهرام بن سياوش، اطلع عليه من فوق الدير بندويه وعليه بزة أبرويز، فوهمه بذلك أنه أبرويز، وسأله أن ينظره إلى غده ليصير في يده سلما، فأمسك عنه، ثم ظهر بعد ذلك على حيلته، فانصرف به إلى جوبين، فحبسه في يدي بهرام بن سياوش. ويقال إن بهرام دخل دور الملك بالمدائن، وقعد على سريره، واجتمع إليه الوجوه والعظماء فخطبهم ووقع في أبرويز، وذمه، ودار بينه وبين الوجوه مناظرات وكلام كان كلهم منصرفا عنه، إلا أن بهرام جلس على سرير الملك وتتوج وانقاد له الناس خوفا- ويقال إن بهرام بن سياوش واطأ بندويه على الفتك بجوبين، وإن جوبين ظهر على ذلك فقتله، وأفلت بندويه فلحق بأذربيجان، وسار أبرويز حتى أتى أنطاكية، وكاتب موريق ملك الروم

منها، وأرسل إليه بجماعة ممن كان معه وسأله نصرته، فأجابه إلى ذلك، وقادته الأمور إلى أن زوجه مريم ابنته وحملها إليه، وبعث إليه بثياذوس أخيه ومعه ستون ألف مقاتل، عليهم رجل يقال له سرجس، يتولى تدبير أمرهم، ورجل آخر كانت قوته تعدل بقوة ألف رجل، واشترط عليه حياطته، وألا يسأله الإتاوة التي كان آباؤه يسألونها ملوك الروم فلما ورد القوم على أبرويز اغتبط، وأراحهم بعد موافاتهم خمسة أيام، ثم عرضهم وعرف عليهم العرفاء، وفي القوم ثياذوس وسرجس والكمي الذي يعدل بألف رجل، وسار بهم حتى صار إلى أذربيجان، ونزل صحراء تدعى الدنق، فوافاه هناك بندويه ورجل من أصبهبذي الناحية يقال له موسيل في أربعين ألف مقاتل، وانقض الناس من فارس وأصبهان وخراسان إلى أبرويز، وانتهى إلى بهرام مكانه بصحراء الدنق، فشخص نحوه من المدائن، فجرت بينهما حرب شديدة قتل فيها الكمي الرومي ويقال إن أبرويز حارب بهرام منفردا من العسكر بأربعة عشر رجلا- منهم كردي أخو بهرام، وبندويه وبسطام، وسابور بن افريان بن فرخزاد، وفرخهرمز- حربا شديدا وصل فيها بعضهم إلى بعض والمجوس تزعم أن أبرويز صار إلى مضيق واتبعه بهرام، فلما ظن أنه قد تمكن منه، رفعه إلى الجبل شيء لا يوقف عليه وذكر أن المنجمين أجمعت أن أبرويز يملك ثمانيا وأربعين سنة وقد كان أبرويز بارز بهرام فاختطف رمحه من يده وضرب به رأسه حتى تقصف، فاضطرب على بهرام أمره ووجل، وعلم أنه لا حيلة له في أبرويز فانحاز نحو خراسان، ثم صار إلى الترك، وصار أبرويز إلى المدائن بعد أن فرق في جنود الروم عشرين الف ألف وصرفهم إلى موريق ويقال إن أبرويز كتب للنصارى كتابا أطلق لهم فيه عمارة بيعهم وأن يدخل في ملتهم من أحب الدخول فيها من غير المجوس، واحتج في ذلك أن أنوشروان كان

هادن قيصر في الإتاوة التي أخذها منه على استصلاح من في بلده من أهل بلده، واتخاذ بيوت النيران هنالك وإن قيصر اشترط مثل ذلك في النصارى، ولبث بهرام في الترك مكرما عند الملك، حتى احتال له أبرويز بتوجيه رجل يقال له هرمز، وجهه إلى الترك بجوهر نفيس وغيره حتى احتال لخاتون امراه الملك ولاطفها بذلك الجوهر وغيره، حتى دست لبهرام من قتله. فيقال إن خاقان اغتم لقتله وأرسل إلى كردية أخته وامرأته يعلمها بلوغ الحادث ببهرام منه، ويسألها أن تزوج نفسها نطرا أخاه، وطلق خاتون بهذا السبب، فيقال إن كردية أجابت خاقان جوابا لينا وصرفت نطرا، وإنها ضمت إليها من كان مع أخيها من المقاتلة وخرجت بهم من بلاد الترك إلى حدود مملكة فارس، وإن نطرا التركي اتبعها في اثني عشر ألف مقاتل، وإن كردية قتلت نطرا بيدها ومضت لوجهها، وكتبت إلى أخيها كردي فأخذ لها أمانا من أبرويز فلما قدمت عليه تزوجها أبرويز واغتبط بها وشكر لها ما كان من عتابها لبهرام، وأقبل أبرويز على بر موريق وإلطافه. وإن الروم خلعوا- بعد أن ملك كسرى أربع عشرة سنة- موريق وقتلوه وأبادوا ورثته- خلا ابن له هرب إلى كسرى- وملكوا عليهم رجلا يقال له قوفا. فلما بلغ كسرى نكث الروم عهد موريق وقتلهم إياه، امتعض من ذلك وأنف منه، وأخذته الحفيظة، فآوى ابن موريق اللاجئ إليه، وتوجه وملكه على الروم، ووجه معه ثلاثة نفر من قواده في جنود كثيفة. أما أحدهم فكان يقال له رميوزان، وجهه إلى بلاد الشام فدوخها حتى انتهى إلى أرض فلسطين، وورد مدينة بيت المقدس فأخذ أسقفها ومن كان فيها من القسيسين وسائر النصارى بخشبة الصليب، وكانت وضعت في تابوت من ذهب، وطمر في بستان وزرع فوقه مبقلة، وألح عليهم حتى دلوه على موضعها، فاحتفر عنها بيده واستخرجها، وبعث بها إلى كسرى في أربع وعشرين من ملكه

وأما القائد الآخر- وكان يقال له شاهين، وكان فاذوسبان المغرب- فإنه سار حتى احتوى على مصر والإسكندرية وبلاد نوبة، وبعث إلى كسرى بمفاتيح مدينة إسكندرية في سنة ثمان وعشرين من ملكه وأما القائد الثالث فكان يقال له فرهان، وتدعى مرتبته شهربراز وإنه قصد القسطنطينية حتى أناخ على ضفة الخليج القريب منها، وخيم هنالك، فأمره كسرى فخرب بلاد الروم غضبا مما انتهكوا من موريق، وانتقاما له منهم، ولم يخضع لابن موريق من الروم أحد ولم يمنحه الطاعة، غير أنهم قتلوا قوفا الملك الذي كانوا ملكوه عليهم لما ظهر لهم من فجوره وجرأته على الله وسوء تدبيره، وملكوا عليهم رجلا يقال له هرقل. فلما رأى هرقل عظيم ما فيه بلاد الروم من تخريب جنود فارس إياها وقتلها مقاتلتهم وسبيهم ذراريهم واستباحتهم أموالهم وانتهاكهم ما بحضرتهم، بكى إلى الله وتضرع إليه وسأله أن ينقذه وأهل مملكته من جنود فارس، فرأى في منامه رجلا ضخم الجثة رفيع المجلس، عليه بزة، قائما في ناحية عنه، فدخل عليهما داخل، فألقى ذلك الرجل عن مجلسه، وقال لهرقل: إني قد أسلمته في يدك فلم يقصص رؤياه تلك في يقظته على أحد، ورأى الليلة الثانية في منامه أن الرجل الذي رآه في حلمه جالس في مجلس رفيع، وأن الرجل الداخل عليهما أتاه وبيده سلسلة طويلة، فألقاها في عنق صاحب المجلس وأمكنه منه، وقال له: هأنذا قد دفعت إليك كسرى برمته، فاغزه فإن الظفر لك، وإنك مدال عليه ونائل أمنيتك في غزاتك فلما تتابعت عليه هذه الأحلام، قصها على عظماء الروم وذوي الرأي منهم. فأخبروه أنه مدال عليه، وأشاروا عليه أن يغزوه، فاستعد هرقل واستخلف ابنا له على مدينة قسطنطينية، وأخذ غير الطريق الذى فيه شهربراز، وسار حتى اوغل في بلاد أرمينية، ونزل نصيبين بعد سنة، وكان

شاهين- فاذوسبان المغرب- بباب كسرى حين ورد هرقل نصيبين لموجدة كانت من كسرى عليه، وعزله إياه عن ذلك الثغر، وكان شهربراز مرابطا للموضع الذي كان فيه لتقدم كسرى كان إليه في الجثوم فيه، وترك البراح منه، فبلغ كسرى خبر تساقط هرقل في جنوده إلى نصيبين، فوجه لمحاربة هرقل رجلا من قواده يقال له: راهزار، في اثني عشر ألف مقاتل، وأمره أن يقيم بنينوى من مدينة الموصل على شاطئ دجلة، ويمنع الروم أن يجوزوها- وكان كسرى حين بلغه خبر هرقل مقيما بدسكرة الملك- فنفذ راهزار لأمر كسرى، وعسكر حيث أمره، فقطع هرقل دجلة في موضع آخر إلى الناحية التي كان فيها جند فارس، فأذكى راهزار العيون عليه، فانصرفوا إليه وأخبروه أنه في سبعين ألف مقاتل، وأيقن راهزار أنه ومن معه من الجنود عاجزون عن مناهضة سبعين ألف مقاتل، فكتب إلى كسرى غير مرة دهم هرقل إياه بمن لا طاقة له ولمن معه بهم، لكثرتهم وحسن عدتهم، كل ذلك يجيبه كسرى في كتابه، أنه إن عجز عن أولئك الروم فلن يعجز عن استقتالهم وبذل دمائهم في طاعته فلما تتابعت على راهزار جوابات كتبه إلى كسرى بذلك، عبى جنده وناهض الروم، فقتلت الروم راهزار وستة آلاف رجل، وانهزم بقيتهم وهربوا على وجوههم، وبلغ كسرى قتل الروم راهزار وما نال هرقل من الظفر، فهده ذلك وانحاز من دسكرة الملك إلى المدائن، وتحصن فيها لعجزه كان عن محاربة هرقل. وسار هرقل حتى كان قريبا من المدائن، فلما تساقط إلى كسرى خبره واستعد لقتاله، انصرف إلى أرض الروم وكتب كسرى إلى قواد الجند الذين انهزموا يأمرهم أن يدلوه على كل رجل منهم ومن أصحابهم، ممن فشل في تلك الحرب ولم يرابط مركزه فيها، فيأمر أن يعاقب بقدر ما استوجب، فاحرجهم بهذا الكتاب إلى الخلاف عليه، وطلب الحيل لنجاة أنفسهم منه، وكتب إلى شهربراز يأمره بالقدوم عليه ويستعجله في ذلك، ويصف ما كان من أمر الروم في عمله

وقد قيل: إن قول الله: «الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ، إنما نزل في أمر أبرويز ملك فارس وملك الروم هرقل، وما كان بينهما مما قد ذكرت من هذه الأخبار. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي القاسم بن الحسن، قَالَ: حَدَّثَنِي الحسين، قَالَ: حَدَّثَنِي حجاج، عن أبي بكر بن عبد الله، عن عكرمة: أن الروم وفارس اقتتلوا في أدنى الأرض قَالَ: وأدنى الأرض يومئذ أذرعات، بها التقوا فهزمت الروم، فبلغ ذلك النبي ص وأصحابه وهم بمكة، فشق ذلك عليهم- وكان النبي ص يكره أن يظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم- وفرح الكفار بمكة وشمتوا، فلقوا اصحاب النبي ص، فقالوا: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أميون، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم، فأنزل الله: «الم غُلِبَتِ الرُّومُ» - إلى- «وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ» ، فخرج أبو بكر الصديق إلى الكفار فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا! فلا تفرحوا ولا يقرن الله اعينكم، فو الله ليظهرن الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبينا فقام إليه أبي بن خلف الجمحي، فقال: كذبت يا أبا فصيل! فقال له أبو بكر: أنت أكذب يا عدو الله! فقال: أناحبك! عشر قلائص مني، وعشر قلائص منك،

فإن ظهرت الروم على فارس غرمت، وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين، ثم جاء ابو بكر الى النبي ص، فأخبره، [فقال: ما هكذا ذكرت، إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع، فزايده في الخطر وماده في الأجل] فخرج أبو بكر فلقي أبيا فقال: لعلك ندمت، قَالَ: لا، تعال أزايدك في الخطر وأمادك في الأجل، فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين، قَالَ: قد فعلت. حَدَّثَنَا القاسم، قَالَ: حَدَّثَنَا الحسين، قَالَ: حَدَّثَنَا حجاج، عن أبي بكر، عن عكرمة، قَالَ: كانت في فارس امرأة لا تلد إلا الملوك الأبطال، فدعاها كسرى، فقال: إني أريد أن أبعث إلى الروم جيشا وأستعمل عليهم رجلا من بنيك، فأشيري علي أيهم أستعمل، قالت: هذا فلان وهو أروغ من ثعلب، وأحذر من صقر، وهذا فرخان وهو انفذ من سنان، وهذا شهربراز وهو أحلم من كذا، فاستعمل أيهم شئت، قال: فانى قد استعملت الحليم، فاستعمل شهربراز، فسار إلى الروم بأهل فارس وظهر عليهم، فقتلهم وخرب مدائنهم، وقطع زيتونهم. قَالَ أبو بكر: فحدثت هذا الحديث عطاء الخراساني فقال: أما رأيت بلاد الشام؟ قلت: لا، قَالَ: أما إنك لو أتيتها لرأيت المدائن التي خربت والزيتون الذي قطع، فأتيت الشام بعد ذلك فرأيته. قَالَ عطاء الخراساني: حَدَّثَنِي يحيى بن يعمر، أن قيصر بعث رجلا يدعى قطمه بجيش من الروم، وبعث كسرى بشهربراز، فالتقيا بأذرعات وبصرى- وهي أدنى الشام إليكم- فلقيت فارس الروم فغلبتهم فارس، ففرح بذلك كفار قريش وكرهه المسلمون، فأنزل الله: «الم غُلِبَتِ الرُّومُ» الآيات ثم ذكر مثل حديث عكرمة، وزاد: فلم يبرح شهربراز يطؤهم ويخرب مدائنهم حتى بلغ الخليج، ثم مات كسرى فبلغهم موته، فانهزم

شهربراز وأصحابه، وأديلت عليهم الروم عند ذلك فاتبعوهم يقتلونهم. قَالَ: وقال عكرمة في حديثه: لما ظهرت فارس على الروم، جلس فرخان يشرب، فقال لأصحابه: لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى، فبلغت كسرى، فكتب الى شهربراز: إذا أتاك كتابي فابعث إلي برأس فرخان فكتب إليه: أيها الملك، إنك لن تجد مثل فرخان، إن له نكاية وصوتا في العدو فلا تفعل فكتب إليه: إن في رجال فارس خلفا منه، فعجل علي برأسه فراجعه، فغضب كسرى فلم يجبه، وبعث بريدا إلى أهل فارس: إني قد نزعت عنكم شهربراز، واستعملت عليكم فرخان. ثم دفع إلى البريد صحيفة صغيرة، وقال: إذا ولي فرخان الملك وانقاد له أخوه، فأعطه هذه الصحيفة فلما قرأ شهربراز الكتاب، قَالَ: سمعا وطاعة، ونزل عن سريره وجلس فرخان، ودفع الصحيفة إليه فقال: ائتوني بشهربراز، فقدمه ليضرب عنقه، فقال: لا تعجل حتى أكتب وصيتي، قَالَ: نعم، فدعا بالسفط فأعطاه ثلاث صحائف، وقال: كل هذا راجعت فيك كسرى، وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد! فرد الملك الى أخيه، وكتب شهربراز إلى قيصر ملك الروم: إن لي إليك حاجة لا تحملها البرد ولا تبلغها الصحف، فالقني، ولا تلقني إلا في خمسين روميا، فإني ألقاك في خمسين فارسيا، فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي، وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق، وخاف أن يكون قد مكر به، حتى أتاه عيونه، إنه ليس معه إلا خمسون رجلا، ثم بسط لهما والتقيا في قبة ديباج ضربت لهما، مع كل واحد منهما سكين، فدعوا ترجمانا بينهما، فقال شهربراز: إن الذين خربوا مدائنك أنا وأخي بكيدنا وشجاعتنا، وإن كسرى حسدنا فأراد أن أقتل أخي، فأبيت، ثم أمر أخي أن يقتلني، فقد خلعناه جميعا فنحن نقاتله معك قَالَ: قد أصبتما، ثم أشار أحدهما إلى صاحبه أن السر بين اثنين، فإذا جاوز اثنين فشا، قال: اجل، فقتلا الترجمان جميعا بسكينهما، فأهلك الله كسرى، وجاء الخبر

الى رسول الله ص يوم الحديبية، ففرح ومن معه. وحدثت عن هشام بن مُحَمَّد، أنه قَالَ: في سنة عشرين من ملك كسرى أبرويز، بعث الله محمدا ص، فأقام بمكة ثلاث عشرة سنة، وهاجر في سنه ثلاث وثلاثين من ملكه الى المدينة

ذكر الخبر عن الأسباب التي حدثت عند اراده الله ازاله ملك فارس عن اهل فارس

ذكر الخبر عن الأسباب التي حدثت عند إرادة الله إزالة ملك فارس عن أهل فارس ووطأتها العرب بما أكرمهم به بنبيه محمد ص من النبوة والخلافة والملك والسلطان في أيام كسرى أبرويز. فمن ذلك ما روي عن وهب بن منبه، وهو مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسحاق، قَالَ: كان من حديث كسرى كما حَدَّثَنِي بعض أصحابي، عن وهب بن منبه، أنه كان سكر دجلة العوراء، وأنفق عليها من الأموال ما لا يدرى ما هو، وكان طاق مجلسه قد بني بنيانا لم ير مثله، وكان يعلق تاجه، فيجلس فيه إذا جلس للناس، وكان عنده ستون وثلاثمائة رجل من الحزاة- والحزاة العلماء- من بين كاهن وساحر ومنجم، قَالَ: وكان فيهم رجل من العرب يقال له السائب، يعتاف اعتياف العرب قلما يخطئ- بعث به إليه باذان من اليمن- فكان كسرى إذا حزبه أمر جمع كهانه وسحاره ومنجميه، فقال: انظروا في هذا الأمر ما هو! فلما أن بعث الله نبيه محمدا ص، أصبح كسرى ذات غداة وقد انقصمت طاق ملكه من وسطها من غير ثقل، وانخرقت عليه دجلة العوراء، فلما راى ذلك حزنه، وقال: انقصمت طاق ملكي من وسطها من غير ثقل، وانخرقت علي دجلة العوراء، شاه بشكست: يقول: الملك انكسر ثم دعا كهانه وسحاره ومنجميه، ودعا السائب معهم، فقال لهم: انقصمت طاق ملكي من غير ثقل، وانخرقت علي دجلة العوراء، شاه بشكست انظروا في هذا الأمر ما هو؟ فخرجوا من عنده فنظروا في أمره، فأخذ عليهم بأقطار السماء، وأظلمت عليهم الأرض، وتسكعوا في علمهم، فلا

يمضي لساحر سحره، ولا لكاهن كهانته، ولا يستقيم لمنجم علم نجومه. وبات السائب في ليلة ظلماء على ربوة من الأرض يرمق برقا نشأ من قبل الحجاز، ثم استطار حتى بلغ المشرق، فلما أصبح ذهب ينظر إلى ما تحت قدميه، فإذا روضة خضراء، فقال فيما يعتاف: لئن صدق ما أرى، ليخرجن من الحجاز سلطان يبلغ المشرق، تخصب عنه الأرض كأفضل ما أخصبت عن ملك كان قبله. فلما خلص الكهان والمنجمون بعضهم إلى بعض، ورأوا ما قد أصابهم، ورأى السائب ما رأى، قَالَ بعضهم لبعض: تعلمون والله ما حيل بينكم وبين علمكم إلا لأمر جاء من السماء، وإنه لنبي قد بعث- أو هو مبعوث- يسلب هذا الملك ويكسره ولئن نعيتم لكسرى ملكه ليقتلنكم، فأقيموا بينكم أمرا تقولونه له تؤخرونه عنكم إلى أمر ما ساعة. فجاءوا كسرى، فقالوا له: إنا قد نظرنا في هذا الأمر فوجدنا حسابك الذين وضعت على حسابهم طاق ملكك، وسكرت دجلة العوراء وضعوه على النحوس، فلما اختلف عليهما الليل والنهار وقعت النحوس على مواقعها، فزال كل ما وضع عليهما، وإنا سنحسب لك حسابا تضع عليه بنيانك فلا يزول قَالَ: فاحسبوا، فحسبوا له، ثم قَالُوا له: ابنه، فبنى فعمل في دجلة ثمانية أشهر وأنفق فيها من الأموال ما لا يدري ما هو، حتى إذا فرغ منها قَالَ لهم: أجلس على سورها؟ قَالُوا: نعم، فأمر بالبسط والفرش والرياحين فوضعت عليها، وأمر بالمرازبة فجمعوا له، واجتمع إليه اللعابون، ثم خرج حتى جلس عليها، فبينا هو هنالك انتسفت دجلة البنيان من تحته، فلم يستخرج إلا بآخر رمق

فلما أخرجوه، جمع كهانه وسحاره ومنجميه، فقتل منهم قريبا من مائة، وقال سمنتكم وأدنيتكم دون الناس، وأجريت عليكم أرزاقي، ثم تلعبون بي! فقالوا: أيها الملك، أخطأنا كما أخطأ من كان قبلنا، ولكنا سنحسب لك حسابا فتثبت حتى تضعها على الوثاق من السعود قَالَ: انظروا ما تقولون! قَالُوا: فإنا نفعل، قَالَ: فاحسبوا، فحسبوا له، ثم قَالُوا له: ابنه، فبنى وأنفق من الأموال ما لا يدرى ما هو، ثمانية أشهر من ذي قبل ثم قَالُوا: قد فرغنا، قَالَ: أفأخرج فأقعد عليها؟ قَالُوا: نعم، فهاب الجلوس عليها، وركب برذونا له، وخرج يسير عليها، فبينا هو يسير فوقها إذ انتسفته دجلة بالبنيان، فلم يدرك إلا بآخر رمق، فدعاهم فقال: والله لأمرن على آخركم ولأنزعن أكتافكم، ولأطرحنكم تحت أيدي الفيلة أو لتصدقني ما هذا الأمر الذي تلفقون علي! قَالُوا: لا نكذبك أيها الملك، أمرتنا حين انخرقت عليك دجلة، وانقصمت عليك طاق مجلسك من غير ثقل أن ننظر في علمنا لم ذلك! فنظرنا، فأظلمت علينا الأرض وأخذ علينا بأقطار السماء، فتردد علينا علمنا في أيدينا، فلا يستقيم لساحر سحره، ولا لكاهن كهانته، ولا لمنجم علم نجومه، فعرفنا أن هذا الأمر حدث من السماء، وأنه قد بعث نبي أو هو مبعوث، فلذلك حيل بيننا وبين علمنا، فخشينا إن نعينا لك ملكك أن تقتلنا، وكرهنا من الموت ما يكره الناس، فعللناك عن أنفسنا بما رأيت قَالَ: ويحكم! فهلا تكونون بينتم لي هذا فأرى فيه رأيي! قَالُوا: منعنا من ذلك ما تخوفنا منك فتركهم ولها عن دجلة حين غلبته. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الفضل ابن عِيسَى الرَّقَاشِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، [أَنَّ أَصْحَابَ رسول الله ص قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى كِسْرَى فِيكَ! قَالَ: بَعَثَ

إِلَيْهِ مَلَكًا فَأَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ سُورِ جِدَارِ بَيْتِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ يَتَلأْلأُ نُورًا، فَلَمَّا رَآهَا فَزِعَ، فَقَالَ: لَمْ تُرَعْ يَا كِسْرَى، إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ رَسُولا وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا فَاتَّبِعْهُ تَسْلَمْ دُنْيَاكَ وَآخِرَتَكَ، قَالَ: سَأَنْظُرُ] . حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله ابن أَبِي بَكْرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بن عبد الرحمن بن عوف، قَالَ: بعث الله إلى كسرى ملكا وهو في بيت إيوانه الذي لا يدخل عليه فيه، فلم يرعه إلا به قائما على رأسه في يده عصا، بالهاجرة في ساعته التي كان يقيل فيها، فقال: يا كسرى أتسلم أو أكسر هذه العصا! فقال: بهل بهل، فانصرف عنه ثم دعا أحراسه وحجابه فتغيظ عليهم، وقال: من أدخل هذا الرجل علي؟ فقالوا: ما دخل عليك أحد ولا رأيناه، حتى إذا كان العام القابل أتاه في الساعة التي أتاه فيها، فقال له كما قَالَ له، ثم قَالَ له: أتسلم أو أكسر هذه العصا؟ فقال: بهل بهل بهل، ثلاثا، فخرج عنه فدعا كسرى حجابه وحراسه وبوابيه فتغيظ عليهم وقال لهم كما قَالَ أول مرة، فقالوا: ما رأينا أحدا دخل عليك حتى إذا كان في العام الثالث أتاه في الساعة التي جاءه فيها، فقال له كما قَالَ: أتسلم أو أكسر هذه العصا؟ فقال: بهل بهل، قَالَ: فكسر العصا، ثم خرج فلم يكن إلا تهور ملكه، وانبعاث ابنه والفرس حتى قتلوه. قَالَ عبد الله بن أبي بكر: فقال الزهري: حدثت عمر بن عبد العزيز هذا الحديث عن أبي سلمة بن عبد الرحمن فقال: ذكر لي أن الملك إنما دخل عليه بقارورتين في يديه، ثم قَالَ له: أسلم، فلم يفعل، فضرب إحداهما على الأخرى فرضضهما، ثم خرج فكان من أمر هلاكه ما كان

حدثني يحيى بن جعفر، قال: أخبرنا علي بن عاصم، قال: أخبرنا خالد الحذاء، قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي بكرة، يقول: بينما كسرى ابن هرمز نائم ليلة في هذا الإيوان، إيوان المدائن، والأساورة محدقون بقصره، إذ أقبل رجل يمشي معه عصا، حتى قام على رأسه، فقال: يا كسرى ابن هرمز، إني رسول الله إليك أن تسلم، قالها ثلاث مرات- وكسرى مستلق ينظر إليه لا يجيبه، ثم انصرف عنه- قال: فأرسل كسرى إلى صاحب حرسه، فقال: أنت أدخلت علي هذا الرجل؟ قال: لم أفعل ولم يدخل من قبلنا أحد قال: فلما كان العام المقبل خاف كسرى تلك الليلة، فأرسل إليه أن أحدق بقصري، ولا يدخل علي أحد، قال: ففعل، فلما كان تلك الساعة إذا هو قائم على رأسه، ومعه عصا، وهو يقول له: يا كسرى بن هرمز، إني رسول الله إليك أن تسلم، فأسلم خير لك- قال: وكسرى ينظر إليه لا يجيبه- فانصرف عنه، قال: فأرسل كسرى إلى صاحب الحرس: ألم آمرك ألا يدخل علي أحد! قال: أيها الملك، إنه والله ما دخل عليك من قبلنا أحد، فانظر من أين دخل عليك؟ قال: فلما كان العام المقبل، فكأنه خاف تلك الليلة، فأرسل إلى صاحب الحرس والحرس: أن أحدقوا بي الليلة، ولا تدخل امرأة ولا رجل، ففعلوا فلما كان تلك الساعة، إذا هو قائم على رأسه، وهو يقول: يا كسرى بن هرمز، إني رسول الله إليك أن تسلم، فأسلم خير لك، قالها ثلاث مرات وكسرى ينظر إليه لا يجيبه قال: يا كسرى إنك قد أبيت علي، والله ليكسرنك الله كما أكسر عصاي هذه، ثم كسرها وخرج، فأرسل كسرى الى الحرس، فقال: الم آمركم ألا يدخل علي الليلة أحد، أهل ولا ولد! قالوا: ما دخل عليك من قبلنا احد!

ذكر خبر يوم ذي قار

قال: فلم يلبث أن وثب عليه ابنه فقتله . ذكر خبر يوم ذي قار ومن ذلك ما كان من أمر ربيعة والجيش الذي كان أنفذه إليهم كسرى أبرويز لحربهم، فالتقوا بذي قار. [وذكر عن النبي ص أنه لما بلغه ما كان من هزيمة ربيعة جيش كسرى، قال: هذا أول يوم انتصف العرب من العجم، وبي نصروا] وهو يوم قراقر ويوم الحنو حنو ذي قار، ويوم حنو قراقر، ويوم الجبابات، ويوم ذي العجرم، ويوم الغذوان، ويوم البطحاء، بطحاء ذي قار، وكلهن حول ذي قار. فحدثت عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، قال: حدثني ابو المختار فراس بن خندق- او خندقه- وعدة من علماء العرب قد سماهم، أن الذي جر يوم ذي قار، قتل النعمان بن المنذر اللخمي عدي بن زيد العبادي، وكان عدي من تراجمة أبرويز كسرى بن هرمز. وكان سبب قتل النعمان بن المنذر عدي بن زيد، ما ذكر لي عن هشام ابن محمد، قال: سمعت إسحاق بن الجصاص- وأخذته من كتاب حماد وقد ذكر أبي بعضه- قال: ولد زيد بن حماد بن زيد بن أيوب بن محروف بن عامر بن عصية بن امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم ثلاثة: عديا الشاعر، وكان جميلا شاعرا خطيبا، وقد قرأ كتب العرب والفرس، وعمارا- وهو أبي- وعمرا- وهو سمي- ولهم أخ من أمهم، يقال له عدي بن حنظله من طيّئ وكان عمار يكون عند كسرى، فكان أحدهما يشتهي هلاك عدي بن زيد، وكان الآخر يتدين في نصرانيته، وكانوا أهل بيت يكونون مع الأكاسرة لهم معهم أكل وناحية، يقطعونهم القطائع، ويجزلون صلاتهم

وكان المنذر بن المنذر لما ملك جعل ابنه النعمان في حجر عدي، فهم الذين ارضعوه وربوه، وكان للمنذر ابن آخر يقال له الأسود، أمه مارية بنت الحارث بن جلهم من تيم الرباب، فارضعه، ورباه قوم من أهل الحيرة يقال لهم: بنو مرينا، ينسبون إلى لخم، وكانوا أشرافا وكان للمنذر بن المنذر سوى هذين من الولد عشرة، وكان يقال لولده كلهم الأشاهب، من جمالهم، فذلك قول الأعشى: وبنو المنذر الأشاهب بالحيرة ... يمشون غدوة بالسيوف وكان النعمان أحمر أبرش قصيرا، وكانت أمه يقال لها سلمى بنت وائل بن عطية الصائغ من اهل فدك، وكانت أمه للحارث ابن حصن بن ضمضم بن عدي بن جناب من كلب، وكان قابوس بن المنذر الأكبر عم النعمان وإخوته، بعث إلى كسرى بن هرمز بعدي بن زيد وإخوته، فكانوا في كتابه يترجمون له، فلما مات المنذر بن المنذر وترك ولده هؤلاء الثلاثة عشر، جعل على أمره كله إياس بن قبيصة الطائي وملكه على الحيرة إلى أن يرى كسرى رأيه فكان عليه أشهرا، وكسرى في طلب رجل يملكه على العرب ثم إن كسرى بن هرمز دعا عدي بن زيد، فقال له: من بقي من بني المنذر؟ وما هم؟ وهل فيهم خير؟ فقال: بقيتهم في ولد هذا الميت

المنذر بن المنذر، وهم رجال، فقال: ابعث إليهم، فكتب فيهم فقدموا عليه، فأنزلهم على عدي بن زيد فكان عدي يفضل إخوة النعمان عليه في النزل، وهو يريهم أنه لا يرجوه ويخلو بهم رجلا رجلا، ويقول لهم: ان سألكم الملك: اتكفوني العرب؟ فقولوا: نكفيكهم إلا النعمان، وقال للنعمان: إن سألك الملك: عن إخوتك فقل له: إن عجزت عنهم، فأنا عن غيرهم أعجز. وكان من بني مرينا رجل يقال له عدي بن أوس بن مرينا، وكان ماردا شاعرا، وكان يقول للأسود بن المنذر: إنك قد عرفت أني لك راج، وأن طلبتي ورغبتي إليك أن تخالف عدي بن زيد، فإنه والله لا ينصح لك أبدا فلم يلتفت إلى قوله. فلما أمر كسرى عدي بن زيد أن يدخلهم عليه، جعل يدخلهم عليه رجلا رجلا، فيكلمه، فكان يرى رجالا قلما رأى مثلهم، فإذا سألهم: هل تكفونني ما كنتم تلون؟ قالوا: نكفيك العرب إلا النعمان فلما دخل عليه النعمان رأى رجلا دميما فكلمه، وقال له: أتستطيع أن تكفيني العرب؟ قال: نعم: قال، فكيف تصنع بإخوتك؟ قال: إن عجزت عنهم فأنا عن غيرهم أعجز فملكه وكساه، وألبسه تاجا قيمته ستون ألف درهم، فيه اللؤلؤ والذهب مفلما خرج- وقد ملك- قال عدي بن أوس بن مرينا للأسود: دونك فإنك قد خالفت الرأي ثم إن عدي بن زيد صنع طعاما في بيعة، ثم أرسل إلى ابن مرينا أن ائتني بمن أحببت، فإن لي حاجة، فأتاه في ناس فتغدوا في البيعة، وشربوا، فقال: عدي بن زيد لعدي بن مرينا: يا عدي، إن أحق من عرف الحق ثم لم يلم عليه، من كان مثلك، إني قد عرفت أن صاحبك الأسود بن المنذر كان أحب إليك أن يملك من صاحبي النعمان، فلا تلمني على شيء كنت على مثله، وأنا أحب ألا تحقد علي شيئا لو قدرت

عليه ركبته، وأنا أحب أن تعطيني من نفسك ما أعطيتك من نفسي، فإن نصيبي من هذا الأمر ليس بأوفر من نصيبك فقام عدي بن زيد إلى البيعة فحلف ألا يهجوه ولا يبغيه غائلة أبدا، ولا يزوي عنه خبرا أبدا فلما فرغ عدي بن زيد قام عدي بن مرينا، فحلف على مثل يمينه الا يزال يهجوه أبدا، ويبغيه الغوائل ما بقي وخرج النعمان حتى نزل منزله بالحيرة، فقال عدي بن مرينا لعدي بن زيد: ألا أبلغ عديا عن عدي ... فلا تجزع وإن رثت قواكا هياكلنا تبز لغير فقر ... لتحمد أو يتم به غناكا فإن تظفر فلم تظفر حميدا ... وإن تعطب فلا يبعد سواكا ندمت ندامة الكسعي لما ... رأت عيناك ما صنعت يداكا وقال عدي بن مرينا للأسود: اما إذ لم تظفر فلا تعجز أن تطلب بثأرك من هذا المعدي، الذي عمل بك ما عمل فقد كنت أخبرك أن معدا لا ينام مكرها امرتك أن تعصيه فخالفتني قال: فما تريد؟ قال: أريد ألا يأتيك فائدة من مالك وأرضك إلا عرضتها علي ففعل. وكان ابن مرينا كثير المال والضيعة، فلم يك في الدهر يوم إلا على باب النعمان هدية من ابن مرينا، فصار من أكرم الناس عليه، وكان لا يقضي في ملكه شيئا إلا بأمر عدي بن مرينا، وكان إذا ذكر عدي بن زيد عنده أحسن عليه الثناء، وذكر فضله، وقال: إنه لا يصلح المعدي الا ان

يكون فيه مكر وخديعه فلما رأى من يطيف بالنعمان منزلة ابن مرينا عنده لزموه وتابعوه، فجعل يقول لمن يثق به من أصحابه: إذا رأيتموني أذكر عدى ابن زيد عند الملك بخير فقولوا: إنه لكما تقول، ولكنه لا يسلم عليه أحد، وإنه ليقول: إن الملك- يعني النعمان- عامله، وإنه ولاه ما ولاه، فلم يزالوا بذلك حتى أضغنوه عليه وكتبوا كتابا على لسان عدي إلى قهرمان لعدي ثم دسوا له، حتى أخذوا الكتاب، ثم أتي به النعمان فقرأه، فأغضبه، فأرسل إلى عدي بن زيد: عزمت عليك إلا زرتني، فإني قد اشتقت إلى رؤيتك! وهو عند كسرى فاستأذن كسرى، فأذن له، فلما أتاه لم ينظر إليه حتى حبس في محبس لا يدخل عليه فيه أحد، فجعل عدي بن زيد يقول الشعر وهو في السجن، فكان أول ما قال في السجن من الشعر: ليت شعري عن الهمام ويأتيك ... بخبر الأنباء عطف السؤال فقال أشعارا، وكان كلما قال عدي من الشعر، بلغ النعمان وسمعه ندم على حبسه إياه، فجعل يرسل إليه ويعده ويمنيه ويفرق أن يرسله فيبغيه الغوائل، فقال عدي: أرقت لمكفهر بات فيه ... بوارق يرتقين رءوس شيب

وقال أيضا: طال ذا الليل علينا واعتكر. وقال أيضا: ألا طال الليالي والنهار. وقال حين أعياه ما يتضرع إلى النعمان أشعارا، يذكره فيها الموت، ويخبره من هلك من الملوك قبله، فقال: أرواح مودع أم بكور. وأشعارا كثيرة. قال: وخرج النعمان يريد البحرين، فأقبل رجل من غسان، فأصاب في الحيرة ما أحب ويقال: الذي أغار على الحيرة فحرق فيها، جفنة بن النعمان الجفني، فقال عدي: سما صقر فأشعل جانبيها ... وألهاك المروح والعزيب فلما طال سجن عدي كتب إلى أخيه أبي، وهو مع كسرى بشعر فقال: ابلغ أبيا على نايه ... وهل ينفع المرء ما قد علم! بأن أخاك شقيق الفؤاد، ... كنت به والها ما سلم

لدى ملك موثق بالحديد ... إما بحق وإما ظلم فلا أعرفنك كدأب الغلام ... ما لم يجد عارما يعترم فأرضك أرضك إن تأتنا ... تنم نومة ليس فيها حلم فكتب إليه اخوه: ان يكن خانك الزمان فلا عاجز ... باع ولا ألف ضعيف ويمين الإله لو أن جأواء ... طحونا تضيء فيها السيوف ذات رز مجتابه غمرة الموت ... صحيح سربالها مكفوف كنت في حميها، لجئنك أسعى ... فاعلمن لو سمعت إذ تستضيف أو بمال سئلت دونك لم يمنع ... تلاد لحاجة أو طريف أو بأرض أسطيع آتيك فيها ... لم يهلني بعيدها أو مخوف في الأعادي وأنت مني بعيد ... عز هذا الزمان والتعريف إن تفتني والله إلفا فجوعا ... لا يعقبك ما يصوب الخريف فلعمري لئن جزعت عليه ... لجزوع على الصديق أسوف ولعمري لئن ملكت عزائي ... لقليل شرواك فيما أطوف فزعموا أن أبيا لما قرأ كتاب عدي قام إلى كسرى فكلمه، فكتب وبعث

معه رجلا، وكتب خليفة النعمان إليه: إنه قد كتب إليك في أمره فأتاه أعداء عدى من بنى بقيلة من غسان، فقالوا: اقتله الساعة، فأبى عليهم وجاء الرجل، وقد تقدم أخو عدي إليه ورشاه، وأمره أن يبدأ بعدي، فدخل عليه وهو محبوس بالصنين، فقال: ادخل عليه فانظر ما يأمرك به، فدخل الرسول على عدي، فقال: إني قد جئت بإرسالك، فما عندك؟ قال: عندي الذي تحب، ووعده عدة، وقال: لا تخرجن من عندي، وأعطني الكتاب حتى أرسل به، فإنك والله إن خرجت من عندي لأقتلن، فقال: لا أستطيع إلا أن آتي الملك بالكتاب، فأدخله عليه، فانطلق مخبر حتى أتى النعمان، فقال: إن رسول كسرى قد دخل على عدي وهو ذاهب به، وإن فعل والله لم يستبق منا أحدا، أنت ولا غيرك فبعث إليه النعمان أعداءه فغموه حتى مات، ثم دفنوه. ودخل الرسول على النعمان بالكتاب، فقال: نعم وكرامة! وبعث إليه بأربعة آلاف مثقال وجارية، وقال له: إذا أصبحت فادخل عليه، فأخرجه أنت بنفسك فلما أصبح ركب، فدخل السجن، فقال له الحرس: إنه قد مات منذ أيام، فلم نجترئ على أن نخبر الملك للفرق منه، وقد علمنا كراهته لموته فرجع إلى النعمان فقال: إني قد دخلت عليه وهو حي، وجئت اليوم فجحدنى السجان وبهتني وذكر له انه قد مات منذ ايام فقال له النعمان: يبعثك الملك إلي فتدخل إليه قبلي! كذبت، ولكنك أردت الرشوة والخبث. فتهدده ثم زاده جائزة وأكرمه، واستوثق منه ألا يخبر كسرى، إلا أنه قد مات قبل أن يقدم عليه. فرجع الرسول إلى كسرى، فقال: إنه قد مات قبل أن ادخل عليه،

وندم النعمان على موت عدي، واجترأ أعداء عدي على النعمان، وهابهم النعمان هيبة شديدة، فخرج النعمان في بعض صيده ذات يوم، فلقي ابنا لعدي، يقال له زيد، فلما رآه عرف شبهه، فقال: من أنت؟ قال: أنا زيد بن عدي بن زيد، فكلمه فإذا غلام ظريف، ففرح به فرحا شديدا، وقربه وأعطاه، واعتذر إليه من أمر أبيه، وجهزه، ثم كتب إلى كسرى إن عديا كان ممن أعين به الملك في نصحه ولبه، فأصابه ما لا بد منه، وانقضت مدته، وانقطع أكله، ولم يصب به أحد أشد من مصيبتي، وأما الملك فلم يكن ليفقد رجلا إلا جعل الله له منه خلفا، لما عظم الله له من ملكه وشأنه، وقد أدرك له ابن ليس دونه، وقد سرحته إلى الملك، فإن رأى الملك أن يجعله مكان أبيه، فليفعل. فلما قدم الغلام على كسرى جعله مكان أبيه، وصرف عمه إلى عمل آخر، فكان هو الذي يلي ما كتب به إلى أرض العرب، وخاصة الملك وكانت له من العرب وظيفة موظفة في كل سنة: مهران أشقران والكمأة الرطبة في حينها واليابسة، والأقط والأدم وسائر تجارات العرب، فكان زيد بن عدي بن زيد يلي ذلك، وكان هذا عمل عدي. فلما وقع عند الملك بهذا الموقع، سأله كسرى عن النعمان، فأحسن عليه الثناء، فمكث سنوات بمنزلة أبيه، وأعجب به كسرى، وكان يكثر الدخول عليه، وكانت لملوك الأعاجم صفة من النساء مكتوبة عندهم، فكانوا يبعثون في تلك الأرضين بتلك الصفة، فإذا وجدت حملت إلى الملك غير أنهم لم يكونوا يتناولون أرض العرب بشيء من ذلك، ولا يريدونه فبدأ الملك في طلب النساء فكتب بتلك الصفة ثم دخل على كسرى فكلمه فيما دخل فيه،

ثم قال: إني رأيت الملك كتب في نسوة يطلبن له، فقرأت الصفة، وقد كنت بآل المنذر عالما، وعند عبدك النعمان من بناته وبنات عمه وأهله أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة قال: فتكتب فيهن قال: أيها الملك، إن شر شيء في العرب وفي النعمان خاصه أنهم يتكرمون- زعموا في أنفسهم- عن العجم، فأنا أكره أن يغيبهن، عمن تبعث إليه، أو يعرض عليه غيرهن، وإن قدمت أنا عليه لم يقدر أن يغيبهن، فابعثني وابعث معي رجلا من حرسك يفقه العربية، حتى أبلغ ما تحبه فبعث معه رجلا جليدا، فخرج به زيد، فجعل يكرم ذلك الرجل ويلطفه حتى بلغ الحيرة. فلما دخل عليه اعظم الملك، وقال: إنه قد احتاج إلى نساء لأهله وولده، وأراد كرامتك بصهره، فبعث إليك فقال: وما هؤلاء النسوة؟ فقال: هذه صفتهن قد جئنا بها وكانت الصفة أن المنذر الأكبر أهدى الى انوشروان جارية، كان أصابها إذ أغار على الحارث الأكبر الغساني بن أبي شمر، فكتب إلى انوشروان يصفها له، وقال: إني قد وجهت إلى الملك جارية معتدلة الخلق، نقية اللون والثغر، بيضاء، قمراء، ووطفاء، كحلاء دعجاء، حوراء، عيناء، قنواء، شماء، زجاء، برجاء، أسيلة الخد، شهية القد،

جثلة الشعر، عظيمة الهامة، بعيدة مهوى القرط، عيطاء، عريضة الصدر، كاعب الثدي، ضخمة مشاشة المنكب والعضد، حسنة المعصم، لطيفة الكف، سبطة البنان، لطيفة طي البطن، خميصة الخصر، غرثى الوشاح، رداح القبل، رابية الكفل، لفاء الفخذين، ريا الروادف، ضخمة المأكمتين، عظيمة الركبة مفعمة الساق، مشبعة الخلخال، لطيفة الكعب والقدم، قطوف المشى، مكسال الضحى، بضه المتجرد، سموعا للسيد، ليست بخنساء، ولا سعفاء، ذليلة الأنف، عزيزة النفر، لم تغذ في بؤس، حيية رزينه، حليمه ركينه، كريمه الخال، تقتصر بنسب أبيها دون فصيلتها، وبفصيلتها دون جماع قبيلتها، قد أحكمتها الأمور في الأدب، فرأيها رأي أهل الشرف، وعملها عمل أهل الحاجة،

صناع الكفين، قطيعة اللسان، رهوة الصوت، تزين البيت، وتشين العدو، إن أردتها اشتهت، وإن تركتها انتهت، تحملق عيناها، وتحمر وجنتاها، وتذبذب شفتاها، وتبادرك الوثبة، ولا تجلس إلا بأمرك إذا جلست/. فقبلها كسرى، وأمر بإثبات هذه الصفة في دواوينه، فلم يزالوا يتوارثونها حتى أفضى ذلك إلى كسرى بن هرمز، فقرأ عليه زيد هذه الصفة، فشق عليه، فقال لزيد- والرسول يسمع: أما في عين السواد وفارس ما تبلغون حاجتكم! فقال الرسول لزيد: ما العين؟ قال: البقر، فقال زيد للنعمان: إنما أراد كرامتك، ولو علم أن هذا يشق عليك لم يكتب إليك به. فأنزلهما يومين، ثم كتب إلى كسرى: إن الذي طلب الملك ليس عندي، وقال لزيد: اعذرني عنده، فلما رجع إلى كسرى، قال زيد للرسول الذى جاء معه: اصدق الملك الذي سمعت منه، فإني سأحدثه بحديثك ولا أخالفك فيه فلما دخلا على كسرى، قال زيد: هذا كتابه، فقرأه عليه، فقال له كسرى: فأين الذي كنت خبرتني به؟ قال: قد كنت أخبرتك بضنهم بنسائهم على غيرهم، وأن ذلك من شقائهم واختيارهم الجوع والعري على الشبع والرياش، واختيارهم السموم والرياح على طيب أرضك هذه، حتى إنهم ليسمونها السجن، فسل هذا الرسول الذي كان معي عن الذي قال، فإني أكرم الملك عن الذي قال ورد عليه أن أقوله، فقال للرسول: وما قال؟ قال: أيها الملك، أما في بقر السواد وفارس ما يكفيه حتى يطلب ما عندنا!

فعرف الغضب في وجهه، ووقع في قلبه منه ما وقع، ولكنه قد قال: رب عبد قد أراد ما هو أشد من هذا، فيصير أمره إلى التباب وشاع هذا الكلام، فبلغ النعمان، وسكت كسرى على ذلك أشهرا، وجعل النعمان يستعد ويتوقع، حتى أتاه كتابه: أن أقبل فإن للملك إليك حاجة، فانطلق حين أتاه كتابه فحمل سلاحه، وما قوى عليه، ثم لحق بجبلي طيّئ وكانت فرعة ابنة سعد بن حارثة بن لأم عنده، وقد ولدت له رجلا وامرأة، وكانت أيضا عنده زينب ابنة أوس بن حارثة، فأراد النعمان طيئا على أن يدخلوه بين الجبلين ويمنعوه، فأبوا ذلك عليه، وقالوا: لولا صهرك لقاتلناك، فإنه لا حاجة لنا في معاداة كسرى، ولا طاقه لنا به فاقبل يطوف على قبائل العرب ليس أحد من الناس يقبله، غير أن بني رواحة بن سعد من بني عبس قالوا: إن شئت قاتلنا معك- لمنة كانت له عندهم في أمر مروان القرظ- فقال: لا أحب أن أهلككم، فإنه لا طاقة لكم بكسرى. فأقبل حتى نزل بذي قار في بني شيبان سرا، فلقي هانئ بن مسعود ابن عامر بْن عمرو بْن أبي ربيعة بْن ذهل بن شيبان، وكان سيدا منيعا، والبيت يومئذ من ربيعة في آل ذي الجدين، لقيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجدين وكان كسرى قد أطعم قيس بن مسعود الأبلة، فكره النعمان أن يدفع إليه أهله لذلك، وعلم أن هانئا مانعه مما يمنع منه نفسه. وتوجه النعمان إلى كسرى، فلقي زيد بن عدي على قنطرة ساباط، فقال: انج نعيم، إن استطعت النجاء، فقال: أنت يا زيد فعلت هذا! اما

والله لئن انفلت لأفعلن بك ما فعلت بأبيك! فقال له زيد: امض نعيم، فقد والله وضعت لك عنده آخية لا يقطعها المهر الأرن فلما بلغ كسرى أنه بالباب بعث إليه، فقيده وبعث به إلى خانقين، فلم يزل في السجن حتى وقع الطاعون فمات فيه، والناس يظنون أنه مات بساباط لبيت قاله الأعشى: فذاك وما أنجى من الموت ربه ... بساباط حتى مات، وهو محرزق وإنما هلك بخانقين، وهذا قبيل الإسلام، فلم يلبث إلا يسيرا حتى بعث الله نبيه ص، وكان سبب وقعة ذي قار بسبب النعمان. وحدثت عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، قال: حدثنا أبو المختار فراس بن خندق، وعدة من علماء العرب قد سماهم، أن النعمان لما قتل عديا كاد أخو عدي وابنه النعمان عند كسرى، وحرفا كتاب اعتذاره إليه بشيء غضب منه كسرى، فأمر بقتله، وكان النعمان لما خاف كسرى استودع هانئ بن مسعود بن عامر الخصيب بن عمرو المزدلف بْن أبي ربيعة بْن ذهل بْن شيبان بن ثعلبة، حلقته ونعمه وسلاحا غير ذلك، وذاك أن النعمان كان بناه ابنتين له. - قال أبو عبيدة: وقال بعضهم: لم يدرك هانئ بن مسعود هذا الأمر، إنما هو هانئ بْن قبيصة بْن هانئ بْن مسعود وهو الثبت عندي- فلما قتل كسرى النعمان، استعمل اياس بن قبيصة الطائي على الحيرة وما كان عليه النعمان قال أبو عبيدة: كان كسرى لما هرب من بهرام مر بإياس بن قبيصة فأهدى له فرسا وجزورا، فشكر ذلك له كسرى،

فبعث كسرى إلى إياس: أين تركة النعمان؟ قال: قد أحرزها في بكر بن وائل، فأمر كسرى إياسا أن يضم ما كان للنعمان ويبعث به إليه، فبعث إياس إلى هانئ: أن أرسل إلي ما استودعك النعمان من الدروع وغيرها- والمقلل يقول: كانت أربعمائة درع، والمكثر يقول: كانت ثمانمائه درع- فأبى هانئ أن يسلم خفارته قال: فلما منعها هانئ، غضب كسرى وأظهر أنه يستأصل بكر بن وائل- وعنده يومئذ النعمان بن زرعة التغلبي، وهو يحب هلاك بكر بن وائل- فقال لكسرى: يا خير الملوك، أدلك على غرة بكر؟ قال نعم، قال أمهلها حتى تقيظ، فإنهم لو قد قاظوا تساقطوا على ماء لهم يقال له ذو قار، تساقط الفراش في النار، فأخذتهم كيف شئت، وأنا أكفيكهم فترجموا له قوله: تساقطوا تساقط الفراش في النار، فأقرهم حتى إذا قاظوا، جاءت بكر بن وائل فنزلت الحنو، حنو ذي قار، وهي من ذي قار على مسيرة ليلة، فأرسل إليهم كسرى النعمان بن زرعة: أن اختاروا واحدة من ثلاث خصال، فنزل النعمان على هانئ ثم قال له: أنا رسول الملك إليكم أخيركم ثلاث خصال: إما أن تعطوا بأيديكم فيحكم فيكم الملك بما شاء، وإما أن تعروا الديار، واما ان تأذنوا بحرب. فتوامروا فولوا أمرهم حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي، وكانوا يتيمنون به فقال لهم: لا ارى إلا القتال، لأنكم إن أعطيتم بأيديكم قتلتم وسبيت ذراريكم، وإن هربتم قتلكم العطش، وتلقاكم تميم فتهلككم فآذنوا الملك بحرب فبعث الملك إلى إياس وإلى الهامرز التستري- وكان مسلحه بالقطقطانة- وإلى جلابزين- وكان مسلحة ببارق- وكتب كسرى الى قيس بن مسعود ابن قيس بن خالد بن ذي الجدين- وكان كسرى استعمله على طف سفوان- أن يوافوا اياسا، فإذا اجتمعوا فإياس على الناس وجاءت الفرس معها الجنود والفيول عليها الأساورة، وقد بعث النبي ص ورق امر فارس، [وقال النبي ص: الْيَوْمَ انْتَصَفَتِ الْعَرَبُ مِنَ الْعَجَمِ،]

فحفظ ذلك اليوم، فإذا هو يوم الوقعة فلما دنت جيوش الفرس بمن معهم انسل قيس بن مسعود ليلا فأتى هانئا، فقال له: أعط قومك سلاح النعمان فيقووا، فإن هلكوا كان تبعا لأنفسهم، وكنت قد أخذت بالحزم، وان ظفروا ردوه عليك ففعل وقسم الدروع والسلاح في ذوي القوى والجلد من قومه فلما دنا الجمع من بكر، قال لهم هانئ: يا معشر بكر، إنه لا طاقة لكم بجنود كسرى ومن معهم من العرب، فاركبوا الفلاة فتسارع الناس إلى ذلك، فوثب حنظلة بن ثعلبة بن سيار فقال له: إنما أردت نجاتنا فلم تزد على أن ألقيتنا في الهلكة، فرد الناس وقطع وضن الهوادج لئلا تستطيع بكر أن تسوق نساءهم إن هربوا- فسمي مقطع الوضن، وهي حزم الرحال ويقال: مقطع البطن، والبطن حزم الأقتاب- وضرب حنظلة على نفسه قبة ببطحاء ذي قار، وآلى ألا يفر حتى تفر القبة فمضى من مضى من الناس، ورجع أكثرهم، واستقوا ماء لنصف شهر، فأتتهم العجم، فقاتلتهم بالحنو، فجزعت العجم من العطش، فهربت ولم تقم لمحاصرتهم، فهربت إلى الجبابات، فتبعتهم بكر، وعجل أوائل بكر، فتقدمت عجل، وأبلت يومئذ بلاء حسنا، واضطمت عليهم جنود العجم، فقال الناس: هلكت عجل، ثم حملت بكر فوجدوا عجلا ثابتة تقاتل، وامرأة منهم تقول: إن يظفروا يحرزوا فينا الغرل ... إيها فداء لكم بني عجل! وتقول أيضا تحضض الناس: إن تهزموا نعانق ... ونفرش النمارق أو تهربوا نفارق ... فراق غير وامق فقاتلوهم بالجبابات يوما ثم عطش الأعاجم فمالوا إلى بطحاء ذي قار، فأرسلت إياد إلى بكر سرا- وكانوا أعوانا على بكر مع إياس بن قبيصة: أي الأمرين أعجب إليكم؟ أن نطير تحت ليلتنا فنذهب، أو نقيم ونفر حين تلاقوا

القوم؟ قالوا: بل تقيمون، فإذا التقى القوم انهزمتم بهم قال: فصبحتهم بكر بن وائل، والظعن واقفة يذمرن الرجال على القتال وقال يزيد بن حمار السكوني- وكان حليفا لبني شيبان-: يا بني شيبان، أطيعوني وأكمنوني لهم كمينا ففعلوا، وجعلوا يزيد بن حمار رأسهم فكمنوا في مكان من ذي قار، يسمى إلى اليوم الجب، فاجتلدوا، وعلى ميمنة إياس بن قبيصة الهامرز، وعلى ميسرته الجلابزين، وعلى ميمنة هانئ بن قبيصة رئيس بكر يزيد بن مسهر الشيباني، وعلى ميسرته حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي، وجعل الناس يتحاضون ويرجزون، فقال حنظلة بن ثعلبة: قد شاع أشياعكم فجدوا ... ما علتي وأنا مؤد جلد! والقوس فيها وتر عرد ... مثل ذراع البكر أو أشد قد جعلت أخبار قومي تبدو ... إن المنايا ليس منها بد هذا عمير تحته ألد ... يقدمه ليس له مرد حتى يعود كالكميت الورد ... خلوا بني شيبان واستبدوا نفسي فداكم وأبي والجد. وقال حنظلة أيضا: يا قوم طيبوا بالقتال نفسا ... أجدر يوم أن تفلوا الفرسا وقال يزيد بن المكسر بن حنظلة بن ثعلبة بن سيار: من فر منكم فر عن حريمه ... وجاره، وفر عن نديمه أنا ابن سيار على شكيمه ... إن الشراك قد من أديمه وكلهم يجري على قديمه ... من قارح الهجنة أو صميمه

قال فراس: ثم صيروا الأمر بعد هانئ إلى حنظلة، فمال إلى مارية ابنته- وهي أم عشرة نفر، أحدهم جابر بن أبجر- فقطع وضينها فوقعت إلى الأرض وقطع وضن النساء، فوقعن إلى الأرض، ونادت ابنة القرين الشيبانية حين وقعت النساء إلى الأرض: ويها بني شيبان صفا بعد صف ... إن تهزموا يصبغوا فينا القلف فقطع سبعمائة من بني شيبان أيدي أقبيتهم من قبل مناكبهم، لأن تخف أيديهم بضرب السيوف، فجالدوهم. قال: ونادى الهامرز: مرد ومرد، فقال برد بن حارثة اليشكري: ما يقول؟ قالوا: يدعو إلى البراز رجل ورجل، قال: وأبيكم لقد انصف. فبرز له فقتله برد، فقال سويد بن أبي كاهل: ومنا بريد إذ تحدى جموعكم ... فلم تقربوه المرزبان المسورا أي لم تجعلوه ونادى حنظلة بن ثعلبة بن سيار: يا قوم لا تقفوا لهم فيستغرقكم النشاب، فحملت ميسرة بكر وعليها حنظلة على ميمنة الجيش، وقد قتل برد منهم رئيسهم الهامرز، وحملت ميمنة بكر وعليها يزيد بن مسهر على ميسرة الجيش، وعليهم جلابزين، وخرج الكمين من جب ذي قار من ورائهم، وعليهم يزيد بن حمار، فشدوا على قلب الجيش، وفيهم إياس ابن قبيصة، وولت إياد منهزمة كما وعدتهم، وانهزمت الفرس. قال سليط: فحدثنا أسراؤنا الذين كانوا فيهم يومئذ، قالوا: فلما التقى الناس، ولت بكر منهزمة، فقلنا: يريدون الماء، فلما قطعوا الوادي فصاروا من ورائه، وجاوزوا الماء، قلنا: هي الهزيمة، وذاك في حر الظهيرة وفي يوم قائظ، فأقبلت كتيبة عجل كأنهم طن قصب، لا يفوت بعضهم بعضا، لا يمعنون هربا، ولا يخالطون القوم ثم تذامروا فزحفوا فرموهم بجباههم، فلم تكن إلا إياها، فأمالوا بأيديهم، فولوا، فقتلوا الفرس ومن معهم، ما بين بطحاء ذي قار، حتى بلغوا الراحضة. قال فراس: فخبرت أنه تبعه تسعون فارسا، لم ينظروا إلى سلب ولا

إلى شيء حتى تعارفوا بأدم موضع قريب من ذي قار، فوجد ثلاثون فارسا من بني عجل، ومن سائر بكر ستون فارسا، وقتلوا جلابزين، قتله حنظلة بن ثعلبة وقال ميمون بن قيس يمدح بني شيبان خاصة في قوله: فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي ... وراكبها يوم اللقاء، وقلت هم ضربوا بالحنو، حنو قراقر ... مقدمة الهامرز حتى تولت وأفلتنا قيس وقلت لعله ... هنالك لو كانت به النعل زلت فهذا يدل على أن قيسا قد شهد ذا قار. وقال بكير، أصم بني الحارث بن عباد، يمدح بني شيبان: إن كنت ساقية المدامة أهلها ... فاسقي على كرم بني همام وأبا ربيعة كلها ومحلما ... سبقا بغاية أمجد الأيام ضربوا بني الأحرار يوم لقوهم ... بالمشرفي على مقبل الهام عربا ثلاثة آلف وكتيبة ... ألفين أعجم من بني الفدام شد ابن قيس شدة ذهبت لها ... ذكرى له في معرق وشآم عمرو وما عمرو بقحم داله ... فيها، ولا غمر ولا بغلام فلما مدح الأعشى والأصم بني شيبان خاصة غضبت اللهازم، فقال أبو كلبة، أحد بني قيس يؤنبها بذلك: جدعتما شاعري قوم أولي حسب ... حزت أنوفهما حزا بمنشار أعني الأصم وأعشانا إذا اجتمعا ... فلا استعانا على سمع بإبصار

لولا فوارس لا ميل ولا عزل ... من اللهازم ما قاظوا بذي قار نحن أتيناهم من عند أشملهم ... كما تلبس وراد بصدار؟ قال أبو عمرو بن العلاء: فلما بلغ الأعشى قول أبي كلبة، قال: صدق. وقال معتذرا مما قال: متى يقرن أصم بحبل أعشى ... يتيها في الضلال وفي الخسار فلست بمبصر ما قد يراه ... وليس بسامع أبدا حواري وقال الأعشى في ذلك اليوم: أتانا عن بني الأحرار ... قول لم يكن أمما أرادوا نحت انلتنا ... وكنا نمنع الخطما وقال أيضا لقيس بن مسعود: أقيس بن مسعود بن قيس بن خالد ... وأنت امرؤ ترجو شبابك وائل أتجمع في عام غزاة ورحلة ... ألا ليت قيسا غرقته القوابل! وقال أعشى بني ربيعة: ونحن غداة ذي قار أقمنا ... وقد شهد القبائل محلبينا وقد جاءوا بها جأواء فلقا ... ململمة كتائبها طحونا ليوم كريهة حتى تجلت ... ظلال دجاه عنا مصلتينا فولونا الدوابر واتقونا ... بنعمان بن زرعة أكتعينا وذدنا عارض الأحرار وردا ... كما ورد القطا الثمد المعينا

ذكر من كان على ثغر العرب من قبل ملوك الفرس بالحيرة بعد عمرو بن هند

ذكر من كان على ثغر العرب من قبل ملوك الفرس بالحيرة بعد عمرو بن هند قد مضى ذكرنا من كان يلي ذلك من قبل ملوك الفرس من آل نصر ابن ربيعة إلى حين هلاك عمرو بن هند، وقدر مدة ولاية كل من ولي منهم ذلك، ونذكر الآن من ولي ذلك لهم بعد عمرو بن هند، إلى أن ولي ذلك لهم النعمان بن المنذر، والذي ولي لهم ذلك بعد عمرو بن هند أخوه قابوس بن المنذر، وأمه هند ابنة الحارث بن عمرو، فولي ذلك أربع سنين، من ذلك في زمن أنوشروان ثمانية أشهر، وفي زمن هرمز بن أنوشروان ثلاث سنين وأربعة أشهر. ثم ولي بعد قابوس بن المنذر السهرب. ثم ولي بعده المنذر أبو النعمان أربع سنين. ثم ولي بعده النعمان بن المنذر أبو قابوس اثنتين وعشرين سنة، من ذلك زمن هرمز بن انوشروان سبع سنين وثمانية أشهر، وفي زمن كسرى ابرويز 2/ 764 ابن هرمز أربع عشرة سنة وأربعة أشهر. ثم ولي إياس بن قبيصة الطائي ومعه النخيرجان، تسع سنين في زمن كسرى ابن هرمز ولسنة وثمانية أشهر من ولاية إياس بن قبيصة بعث النبي ص فيما زعم هشام بن محمد. ثم استخلف آزاذبه بن ماهان بن مهربنداذ الهمذاني سبع عشرة سنة، من ذلك في زمن كسرى بن هرمز أربع عشرة سنة وثمانية أشهر، وفي زمن شيرويه بن كسرى ثمانية أشهر، وفي زمن أردشير بن شيرويه سنة وسبعة أشهر، وفي زمن بوران دخت بنت كسرى شهرا. ثم ولي المنذر بن النعمان بن المنذر- وهو الذي تسميه العرب الغرور، الذي قتل بالبحرين يوم جؤاثى، إلى أن قدم خالد بن الوليد الحيرة- ثمانية اشهر

فكان آخر من بقي من آل نصر بن ربيعة، فانقرض أمرهم مع زوال ملك فارس. فجميع ملوك آل نصر- فيما زعم هشام- ومن استخلف من العباد والفرس عشرون ملكا قال: وعده ما ملكوا خمسمائة سنة واثنتان وعشرون سنة وثمانية أشهر رجع الحديث الى ذكر المرزان وولايته اليمن، من قبل هرمز وابنه أبرويز، ومن وليها بعده: حدثت عن هشام بن محمد، قال: عزل هرمز بن كسرى وين عن اليمن، واستعمل مكانه المروزان، فأقام باليمن، حتى ولد له بها، وبلغ ولده ثم إن أهل جبل من جبال اليمن يقال له المصانع خالفوه، وامتنعوا من حمل الخراج إليه- والمصانع جبل طويل ممتنع، إلى جانبه جبل آخر قريب منه، بينهما فضاء ليس بالبعيد، إلا أنه لا يرام ولا يطمع فيه- فسار المروزان إلى المصانع، فلما انتهى إليه نظر إلى جبل لا يطمع في دخوله إلا من باب واحد، يمنع ذلك الباب رجل واحد، فلما رأى أن لا سبيل له إليه، صعد الجبل الذي يحاذي حصنهم، فنظر إلى أضيق مكان منه وتحته هواء ذاهب، فلم ير شيئا أقرب إلى افتتاح الحصن من ذلك الموضع، فأمر أصحابه أن يصطفوا له صفين، ثم يصيحوا به صيحه واحده، وضرب فرسه فاستجمع حضرا، ثم رمى به فوثب المضيق، فإذا هو على رأس الحصن فلما نظرت إليه حمير وإلى صنيعه قالوا: هذا أيم- والأيم بالحميرية شيطان- فانتهرهم وزبرهم بالفارسية، وأمرهم أن يكتف بعضهم بعضا، فاستنزلهم من حصنهم، وقتل طائفة منهم وسبى بعضهم، وكتب بالذي كان من امره الى كسرى

ابن هرمز فتعجب من صنيعه، وكتب إليه: أن استخلف من شئت، وأقبل إلي. قال: وكان للمروزان ابنان: أحدهما تعجبه العربية، ويروي الشعر، يقال له خرخسره، والآخر أسوار يتكلم بالفارسية، ويتدهقن، فاستخلف المروزان ابنه خرخسره- وكان أحب ولده إليه- على اليمن، وسار حتى إذا كان في بعض بلاد العرب هلك، فوضع في تابوت، وحمل حتى قدم به على كسرى، فأمر بذلك التابوت فوضع في خزانته، وكتب عليه في هذا التابوت: فلان الذي صنع كذا وكذا، قصته في الجبلين ثم بلغ كسرى تعرب خرخسره وروايته الشعر، وتأدبه بأدب العرب، فعزله، وولى باذان، وهو آخر من قدم اليمن من ولاة العجم. وكان كسرى قد طغى لكثرة ما قد جمع من الأموال وأنواع الجوهر والأمتعة والكراع وافتتح من بلاد العدو، وساعده من الأمور، ورزق من مؤاتاته، وبطر، وشره شرها فاسدا، وحسد الناس على ما في أيديهم من الأموال، فولى جباية البقايا علجا من أهل قرية تدعى خندق من طسوج بهرسير، يقال له: فرخزاذ بن سمي، فسام الناس سوء العذاب، وظلمهم واعتدى عليهم، وغصبهم أموالهم في غير حله، بسبب بقايا الخراج، واستفسدهم بذلك، وضيق عليهم المعاش، وبغض إليهم كسرى وملكه. وحدثت عن هشام بن محمد، أنه قال: كان أبرويز كسرى هذا قد جمع من الأموال ما لم يجمع أحد من الملوك، وبلغت خيله القسطنطينية وإفريقية، وكان يشتو بالمدائن، ويتصيف ما بينها وبين همذان، وكان يقال: إنه كانت له اثنتا عشرة ألف امرأة وجارية، وألف فيل إلا واحدا، وخمسون ألف دابة بين فرس وبرذون وبغل، وكان أرغب الناس في الجوهر والأواني وغير ذلك. وأما غير هشام فإنه قال: كان له في قصره ثلاثة آلاف امرأة يطؤهن،

وألوف جوار اتخذهن للخدمة والغناء وغير ذلك، وثلاثة آلاف رجل يقومون بخدمته، وكانت له ثمانية آلاف وخمسمائة دابه لمركبه، وسبعمائة وستون فيلا، واثنا عشر ألف بغل لثقله، وأمر فبنيت بيوت النيران، وأقام فيها اثني عشر ألف هربذ للزمزمة وأنه أمر أن يحصى ما اجتبي من خراج بلاده وتوابعه وسائر أبواب المال، سنة ثماني عشرة من ملكه، فرفع إليه أن الذي اجتبي في تلك السنة من الخراج وسائر أبوابه من الورق أربعمائة ألف ألف مثقال وعشرون ألف ألف مثقال، يكون ذلك وزن سبعه، ستمائه ألف ألف درهم، وأمر فحول إلى بيت مال بنى بمدينه طيسبون، وسماه بهار حفرد خسرو، وأموال له أخرى من ضرب فيروز بن يزدجرد وقباذ بن فيروز، اثنا عشر ألف بدرة، في كل بدرة منها من الورق أربعة آلاف مثقال، يكون جميع ذلك ثمانية وأربعين ألف ألف مثقال، وهو وزن سبعه، ثمانية وستون الف الف وخمسمائة الف واحد وسبعون ألفا وأربعمائة وعشرون درهما ونصف وثلث ثمن درهم، في أنواع لا يحصي مبلغها إلا الله، من الجواهر والكسي وغير ذلك. وإن كسرى احتقر الناس، واستخف بما لا يستخف به الملك الرشيد الحازم، وبلغ من عتوه وجرأته على الله أنه أمر رجلا كان على حرس بابه الخاص- يقال له: زاذان فروخ- أن يقتل كل مقيد في سجن من سجونه، فأحصوا، فبلغوا ستة وثلاثين ألفا، فلم يقدم زاذان فروخ على قتلهم، وتقدم لتأخير ما أمر به كسرى فيهم، لعلل أعدها له، فكسب كسرى عداوة أهل مملكته من غير وجه، أحد ذلك احتقاره إياهم، وتصغيره عظماءهم. والثاني تسليط العلج فرخان زاد بن سمي عليهم، والثالث أمره بقتل من كان في السجن، والرابع إجماعه على قتل الفل الذين انصرفوا إليه من قبل هرقل والروم، فمضى ناس من العظماء إلى عقر بابل، وفيه شيري بن أبرويز مع إخوته بها، قد وكل بهم مؤدبون يؤدبونهم، وأساورة يحولون

بينهم وبين براح ذلك الموضع، فأقبلوا به، ودخل مدينة بهرسير ليلا، فخلى عمن كان في سجونها، وخرج من كان فيها، واجتمع إليه الفل الذين كان كسرى أجمع على قتلهم، فنادوا قباذ شاهنشاه، وصاروا حين أصبحوا إلى رحبة كسرى، فهرب من كان في قصره من حرسه، وانحاز كسرى بنفسه إلى باغ له قريب من قصره، ويدعى باغ الهندوان فارا مرعوبا، وطلب فاخذ ماه آذر وروز آذر، وحبس في دار المملكة، ودخل شيرويه دار الملك، واجتمع إليه الوجوه، فملكوه وأرسل إلى أبيه يقرعه بما كان منه. وحدثت عن هشام بن محمد، قال: ولد لكسرى أبرويز ثمانية عشر ولدا ذكرا، أكبرهم شهريار، وكانت شيرين تبنته، فقال المنجمون لكسرى: إنه سيولد لبعض ولدك غلام، ويكون خراب هذا المجلس وذهاب هذا الملك على يديه، وعلامته نقص في بعض بدنه، فحصر ولده لذلك عن النساء، فمكثوا حينا لا يصلون إلى امرأة، حتى شكا ذلك شهريار إلى شيرين، وبعث إليها يشكو الشبق، ويسألها أن تدخل عليه امرأة وإلا قتل نفسه، فأرسلت إليه: إني لا أصل إلى إدخال النساء عليك إلا أن تكون امرأة لا يؤبه لها، ولا يجمل بك أن تمسها، فقال لها: لست أبالي ما كانت، بعد أن تكون امرأة فأرسلت إليه بجارية كانت تحجمها، وكانت- فيما يزعمون- من بنات أشرافهم، إلا أن شيرين كانت غضبت عليها في بعض الأمور، فأسلمتها في الحجامين، فلما أدخلتها على شهريار وثب عليها، فحملت بيزدجرد، فأمرت بها شيرين فقصرت حتى ولدت، وكتمت أمر الولد خمس سنين ثم إنها رأت من كسرى رقة للصبيان حين كبر، فقالت له: هل يسرك أيها الملك أن ترى ولدا لبعض بنيك على ما كان في ذلك من المكروه؟ فقال: لا أبالي فأمرت بيزدجرد فطيب وحلي، وأدخلته عليه، وقالت: هذا يزدجرد بن شهريار، فدعا به فأجلسه في

ذكر ملك شيرويه بن ابرويز

حجره، وقبله وعطف عليه، وأحبه حبا شديدا، وجعل يبيته معه، فبينا هو يلعب ذات يوم بين يديه، إذ ذكر ما قيل فيه، فدعا به فعراه من ثيابه، واستقبله واستدبره، فاستبان النقص في أحد وركيه، فاستشاط غضبا وأسفا، واحتمله ليجلد به الأرض، فتعلقت به شيرين، وناشدته الله ألا يقتله، وقالت له: انه ان يكن امر قد حضر في هذا الملك فليس له مرد. قال: إن هذا المشئوم، الذي أخبرت عنه، فأخرجيه فلا أنظر إليه فأمرت به فحمل إلى سجستان وقال آخرون: بل كان بالسواد عند ظؤورته في قرية يقال لها خمانية. ووثبت فارس على كسرى فقتلته، وساعدهم على ذلك ابنه شيرويه بن مريم الرومية. وكان ملكه ثمانيا وثلاثين سنة ولمضي اثنتين وثلاثين سنة وخمسة أشهر وخمسة عشر يوما من ملكه هاجر النبي ص من مكة الى المدينة ذكر ملك شيرويه بن ابرويز ثم ملك من بعده ابنه شيرويه، واسمه قباذ بن أبرويز بن هرمز بن كسرى انوشروان فذكر أن شيرويه لما ملك دخل عظماء الفرس عليه بعد حبسه أباه، فقالوا له: إنه لا يستقيم أن يكون لنا ملكان اثنان، فإما أن تقتل كسرى ونحن خولك الباخعون لك بالطاعة، وإما أن نخلعك ونعطيه الطاعة على ما لم نزل نعطيه قبل أن تملك فهدت هذه المقالة شيرويه وكسرته، وأمر بتحويل كسرى من دار المملكة إلى دار رجل يقال له مارسفند فحمل كسرى على

برذون، وقنع رأسه، وسير به إلى تلك الدار، ومعه ناس من الجند، فمروا به في مسيرهم على إسكاف جالس في حانوت شارع على الطريق، فلما بصر بفرسان من الجند معهم فارس مقنع، عرف أن المقنع كسرى، فحذفه بقالب، فعطف إليه رجل ممن كان مع كسرى من الجند، فاخترط سيفه فضرب عنق الإسكاف، ثم لحق بأصحابه. فلما صار كسرى في دار مارسفند جمع شيرويه من كان بالباب من العظماء وأهل البيوتات، فقال: إنا قد رأينا أن نبدأ بالإرسال إلى الملك أبينا بما كان من إساءته في تدبيره ونوقفه على أشياء منها، ثم دعا برجل من أهل أردشير خرة يقال له اسفاذ جشنس، ولمرتبته رئيس الكتيبة، كان يلي تدبير المملكة، فقال له: انطلق إلى الملك أبينا، فقل له عن رسالتنا: إنا لم نكن للبلية التي أصبحت فيها ولا أحد من رعيتنا سببا، ولكن الله قضاها عليك جزاء منه لك بسيئ أعمالك، منها اجترامك إلى هرمز أبيك وفتكك به، وإزالتك الملك عنه، وسملك عينيه، وقتلك إياه شر قتلة، وما قارفت في أمره من الإثم العظيم ومنها سوء صنيعك إلينا معشر أبنائك في حظرك علينا مثافنة الأخيار ومجالستهم، وكل أمر يكون لنا فيه دعة وسرور وغبطة. ومنها إساءتك كانت بمن خلدت السجون منذ دهر، حتى شقوا بشدة الفقر وضيق المعاش والغربة عن بلادهم وأهاليهم وأولادهم ومنها سوء نظرك في استخلاصك كان لنفسك من النساء وتركك العطف عليهن بمودة منك والصرف لهن إلى معاشرة من كن يرزقن منه الولد والنسل، وحبسك إياهن قبلك مكرهات ومنها ما أتيت إلى رعيتك عامة في اجتبائك إياهم الخراج، وما انتهكت منهم في غلظتك وفظاظتك عليهم ومنها جمعك الأموال التي اجتبيتها من الناس في عنف شديد، واستفساد منك إياهم، وإدخالك البلاء والمضار عليهم فيه ومنها تجميرك من جمرت في ثغور الروم وغيرهم

من الجنود، وتفريقك بينهم وبين أهاليهم ومنها غدرك بموريق، ملك الروم، وكفرك إنعامه عليك فيما كان من إيوائه إياك، وحسن بلائه عندك، ودفعه عنك شر عدوك، وتنويهه باسمك في تزويجه إياك اكرم النساء من بناته عليه، وآثرهن عنده، واستخفافك بحقه، وتركك إطلابه ما طلب إليك من رد خشبة الصليب، التي لم يكن بك ولا بأهل بلادك إليها حاجة، علمته. فإن كانت لك حجج تدلي بها عندنا وعند الرعية فأدل بها، وإن لم تكن لك حجة، فتب إلى الله من قريب، وأنب إليه حتى نأمر فيك بأمرنا. فوعي أسفاذ جشنس رسالة كسرى شيرويه هذه، وتوجه من عنده إلى كسرى ليبلغه إياها، فلما توجه إلى الموضع الذي كان حبس فيه كسرى ألفى رجلا يقال له جيلنوس كان قائد الجند قد وكل بحراسة كسرى جالسا، فتحاورا ساعة، ثم سأل أسفاذ جشنس جلينوس أن يستأذن له على كسرى ليلقاه برسالة من شيرويه، فرجع جلينوس فرفع الستر الذي كان دون كسرى، فدخل عليه، وقال له: عمرك الله! ان اسفاذ جشنس بالباب، وذكر أن الملك شيرويه أرسله إليك في رسالة، وهو يستأذن عليك، فرأيك في الأمر فيه برأيك! فتبسم كسرى وقال مازحا: يا جلينوس اسفاذ ان، كلامك مخالف كلام أهل العقل، وذلك أنه إن كانت الرسالة التي ذكرت من شيرويه الملك فليس لنا مع ملكه إذن، وإن كان لنا إذن وحجب فليس شيرويه بملك، ولكن المثل في ذلك كما قيل: يشاء الله الشيء فيكون، ويأمر الملك بأمر فينفذ فاذن لاسفاذ جشنس يبلغ الرسالة التي حملها فلما سمع جلينوس هذه المقالة خرج من عند كسرى، وأخذ بيد اسفاذ جشنس، وقال له: قم فادخل إلى كسرى راشدا. فنهض اسفاذ جشنس، ودعا بعض من كان معه من خدمه، ودفع اليه

كساء كان لابسه، وأخرج من كمه ششتقة بيضاء نقية، فمسح بها وجهه، ثم دخل على كسرى، فلما عاين كسرى، خر له ساجدا، فأمره كسرى بالانبعاث، فانبعث وكفر بين يديه- وكان كسرى جالسا على ثلاثة أنماط من ديباج خسرواني منسوج بذهب، قد فرشت على بساط من إبريسم، متكئا على ثلاث وسائد منسوجه بذهب، وكان بيده سفرجلة صفراء شديدة الاستدارة فلما عاين اسفاذ جشنس، تربع جالسا ووضع السفرجلة التي كانت بيده على تكأته، فتدحرجت من أعلى الوسائد الثلاث لشدة استدارتها واملساس الوسادة التي كانت عليها، بامتلاء حشوها إلى أعلى تلك الأنماط الثلاثة، ومن النمط إلى البساط، ولم تلبث على البساط أن تدحرجت إلى الأرض، ووقعت بعيدا متلطخه بتراب، فتناولها اسفاذ جشنس فمسحها بكمه، وذهب ليضعها بين يدي كسرى، فأشار إليه أن ينحيها عنه، وقال له: اعزبها عنى، فوضعها اسفاذ جشنس عند طرف البساط إلى الأرض، ثم عاد فقام مقامه، وكفر بيده، فنكس كسرى، ثم قال متمثلا: الأمر إذا أدبر فاتت الحيلة في الإقبال به، وإذا أقبل أعيت الحيلة في الإدبار به، وهذان الأمران متداولان على ذهاب الحيل فيهما، ثم قال لاسفاذ جشنس: إنه قد كان من تدحرج هذه السفرجلة وسقوطها حيث سقطت، وتلطخها بالتراب وهو عندنا كالإخبار لنا بما حملت من الرسالة، وما أنتم عاملون به وعاقبته، فإن السفرجلة التي تأويلها الخير، سقطت من علو إلى سفل، ثم لم تلبث على مفرشنا أن سقطت إلى الأرض، ووقعت بعيدا متلطخة بتراب، وذلك منها دليل في حال الطيرة: أن مجد الملوك قد صار عند السوق، وأنا قد سلبنا الملك، وأنه لا يلبث في أيدي عقبنا أن يصير إلى من ليس من أهل المملكة، فدونك فتكلم بما حملت من رسالة، وزودت من الكلام. فاندفع اسفاذ جشنس في تبليغ الرسالة التي حمله إياها شيرويه، ولم يغادر منها كلمة، ولم يزلها عن نسقها فقال كسرى في مرجوع تلك الرسالة: بلغ

عني شيرويه القصير العمر، أنه لا ينبغي لذي عقل أن يبث من أحد الصغير من الذنب، ولا اليسير من السيئة إلا بعد تحقق ذلك عنده، وتيقنه إياه منه، فضلا عن عظيم ما بثثت ونشرت وادعيت منا، ونسبتنا إليه من الذنوب والجرائم، مع أن أولى الناس بالرد عن ذي ذنب، وتوبيخ ذي جرمة، من قد ضبط نفسه عن الذنوب والجرائم، ولو كنا على ما أضفتنا إليه لم يكن ينبغي أن تنشره وتؤنبنا به أيها القصير العمر القليل العلم، فإن كنت جاهلا بما يلزمك من العيوب ببثك منا ما بثثت، ونسبتك إيانا إلى ما نسبت، فاستثبت عيوبك واقتصر في الزري علينا، والعيب لنا على ما لا يزيدك بسوء مقالتك فيه إلا اشتهارا بالجهل، ونقص الرأي أيها العازب العقل، العديم العلم، فإنه إن كان لإجهادك نفسك في شهرك إيانا من الذنوب بما يوجب علينا القتل حقيقة، وكان لك على ذلك برهان، فقضاة أهل ملتك ينفون ولد المستوجب للقتل من أبيه، وينحونه عن مضامة الأخيار ومجالستهم، ومخالطتهم إلا في أقل المواطن فضلا عن أن يملك، مع أنه قد بلغ بحمد الله ونعمته من إصلاحنا أنفسنا ونيتنا فيما بيننا وبين الله وبيننا وبين أهل ملتنا وديننا، وبيننا وبينك وبين معشر أبنائنا ما ليس لنا في شيء من ذلك تقصير، ولا علينا فيه من أحد حجة ولا توبيخ، ونحن نشرح الحال فيما ألزمتنا من الذنوب، وألحقت بنا من الجرائم، عن غير التماس منا لذلك نقصا فيما أدلينا به من حجة، أو أتينا عليه من برهان، لتزداد علما بجهالتك وعزوب عقلك، وسوء صنيعك أما ما ذكرت من أمر أبينا هرمز، فمن جوابنا فيه أن الأشرار والبغاة كانوا أغروا هرمز بنا حتى اتهمنا واحتمل غمرا ووغرا ورأينا من ازوراره عنا، وسوء رأيه فينا، ما تخوفنا ناحيته، فاعتزلنا بابه لإشفاقنا منه، ولحقنا بأذربيجان، وقد استفاض، فانتهك من الملك ما انتهك فلما انتهى إلينا خبر ما بلغ منه شخصنا من أذربيجان إلى بابه، فهجم علينا المنافق بهرام في جنود عظيمة من العصاة

المستوجبة القتل، مارقا من الطاعة، فأجلانا عن موضع المملكة فلحقنا ببلاد الروم، فأقبلنا منها بالجنود والعدة، وحاربناه فهرب منا، وصار من أمره في بلاد الترك من الهلكة والبوار إلى ما قد اشتهر في الناس، حتى إذا صفا لنا الملك، واستحكم لنا أمره، ودفعنا بعون الله عن رعيتنا البلاء والآفات التي كانوا أشفوا عليها، قلنا: إن من خير ما نحن بادئون به في سياستنا، ومفتتحون به ملكنا الانتقام لأبينا، والثأر به والقتل لكل من شرك في دمه، فإذا أحكمنا ما نوينا من ذلك، وبلغنا منه ما نريد تفرغنا لغيره من تدبير الملك، فقتلنا كل من شرك في دمه، وسعى فيه ومالأ عليه. وأما ما ذكرت من أمر أبنائنا، فمن جوابنا أنه ليس من ولد ولدناه- ما خلا من استأثر الله به منهم- إلا صحيحة أعضاء جسده، غير أنا وكلنا بالحراسة لكم، وكفكم عن الانتشار فيما لا يعنيكم إرادة كف ما نتخوف من ضرركم على البلاد والرعية ثم كنا أقمنا من النفقات الواسعة في كسوتكم ومراكبكم وجميع ما تحتاجون إليه ما قد علمت، وأما أنت خاصة، فمن قصتك أن المنجمين كانوا قضوا في كتاب مولدك أنك مثرب علينا، أو يكون ذلك بسببك، فلم نأمر بقتلك، ولكن ختمنا على كتاب قضية مولدك، ودفعناه إلى شيرين صاحبتنا ومع ثقتنا بتلك القضية وجدنا فرميشا ملك الهند كتب إلينا في سنة ست وثلاثين من ملكنا، وقد أوفدهم إلينا، فكتب في أمور شتى، وأهدى لنا ولكم- معشر أبنائنا- هدايا، وكتب إلى كل واحد منكم كتابا، وكانت هديته لك- فاذكرها- فيلا، وسيفا، وبازيا أبيض، وديباجة منسوجة بذهب، فلما نظرنا فيما أهدي لكم، وكتب إليكم وجدته قد وقع على كتابه إليك بالهندية: اكتم ما فيه، فأمرنا أن يصرف إلى كل واحد منكم ما بعث إليه من هديه او كتاب، واحتبسنا كتابه إليك لحال التوقيع الذي كان عليه، ودعونا بكاتب هندي، وأمرنا بفض خاتم الكتاب وقراءته، فكان فيه: أبشر وقر عينا، وانعم بالا، فإنك متوج ماه آذر روز ديباذر سنه

ثمان وثلاثين من ملك كسرى، ومملك على ملكه وبلاده، فوثقنا أنك لم تكن لتملك إلا بهلكنا وبوارنا، فلم ننتقصك- بما استقر عندنا من ذلك مما كنا أمرنا بإجرائه عليك من الأرزاق والمعاون والصلات وغير ذلك- شيئا، فضلا عن أمرنا بقتلك. وأما كتاب فرميشا فقد ختمنا عليه بخاتمنا، واستودعناه شيرين صاحبتنا، وهي في الأحياء صحيحة العقل والبدن، فإن أحببت أن تأخذ منها قضية مولدك، وكتاب فرميشا إليك وتقرأهما لتكسبك قراءتك إياهما ندامة وثبورا فافعل وأما ما ذكرت من حال من خلد السجن فمن جوابنا فيه أن الملوك الماضين من لدن جيومرت إلى أن ملك بشتاسب، كانوا يدبرون ملكهم بالمعدلة، ولم يزالوا من لدن بشتاسب إلى أن ملكنا يدبرونه بمعدلة، معها ورع الدين، فسل إن كنت عديم عقل وعلم وأدب حملة الدين- وهم أوتاد هذه الملة- عن حال من عصى الملوك وخالفهم، ونكث عهدهم، والمستوجبين بذنوبهم القتل فيخبروك أنهم لا يستحقون أن يرحموا ويعفى عنهم واعلم مع ذلك أنا لم نأمر بالحبس في سجوننا، ولا من قد وجب عليه في القضاء العدل أن يقتل أو تسمل عينه، وتقطع يده ورجله وسائر أعضائه وكثيرا ما كان الموكلون بهم وغيرهم من وزرائنا يذكرون استيجاب من استوجب منهم القتل، ويقولون: عاجلهم بالقتل قبل أن يحتالوا لأنفسهم حيلا يقتلونك بها، فكنا لحبنا استبقاء النفوس وكراهتنا سفك الدماء نتأنى بهم، ونكلهم إلى الله، ولا نقدم على عقوبتهم بعد الحبس الذي اقتصرنا عليه، إلا على منعهم أكل اللحم وشرب الشراب، وشم الرياحين، ولم نعد في ذلك ما في سنن الملة من الحول بين المستوجبين للقتل، وبين التلذذ والتنعم بشيء مما منعناهم إياه، وكنا أمرنا لهم من المطعم والمشرب وسائر ما يقيمهم بالذي يصلحهم في اقتصاد، ولم نأمر بالحول بينهم وبين نسائهم والتوالد والتناسل في حال حبسهم وقد بلغنا أنك أجمعت على التخلية

عن أولئك الدعار المنافقين المستوجبين للقتل، والأمر بهدم محبسهم، ومتى تخل عنهم تأثم بالله ربك، وتسيء إلى نفسك، وتخل بدينك وما فيه من الوصايا والسنن التي فيها صرف الرحمة والعفو عن المستوجبين للقتل، مع أن أعداء الملوك لا يحبون الملك أبدا، والعاصين لهم لا يمنحونهم الطاعة وقد وعظ الحكماء وقالوا: لا تؤخرن معاقبة المستوجبي العقوبة، فإن في تأخيرها مدفعة للعدل، ومضرة على المملكة في حال التدبير، ولئن نالك بعض السرور إن أنت خليت عن أولئك الدعار المنافقين العصاة المستوجبين للقتل لتجدن غب ذلك في تدبيرك، ودخول أعظم المضرة والبلية على أهل الملة. وأما قولك: إنا إنما كسبنا وجمعنا وادخرنا الأموال والأمتعة والبزور وغيرها من بلاد مملكتنا بأعنف اجتباء، وأشد إلحاح على رعيتنا، وأشد ظلم، لا من بلاد العدو بالمجاهدة لهم والقهر، عن غلبة منا إياهم على ما في أيديهم، فمن جوابنا فيه إن من إصابة الجواب في كل كلام يتكلم بجهل وعنجهية ترك الجواب فيه، ولكن لم ندع- إذ صار ترك الجواب كالاقرار، وطافت حجتنا فيما غشينا أن نحتج به، قوية، وعذرنا واضحا- شرح ما سألتنا عنه من ذلك. اعلم أيها الجاهل، أنه إنما يقيم ملك الملوك بعد الله الأموال والجنود وبخاصة ملك فارس، الذي قد اكتنفت بلاده أعداء فاغرة أفواههم لالتقام ما في يديه، وليس يقدر على كفهم عنها، وردعهم عما يريدون من اختلاس ما يرومون اختلاسه منه، إلا بالجنود الكثيفة، والأسلحة والعدد الكثيرة، ولا سبيل له إلى الكثيف من الجنود والكثير مما يحتاج إليه إلا بكثرة الأموال ووفورها، ولا يستكثر من الأموال ولا يقدر على جمعها لحاجة إن عرضت له إليها إلا بالجد والتشمير في اجتباء هذا الخراج وما نحن ابتدعنا جمع الأموال، بل اقتدينا في ذلك بآبائنا والماضين من أسلافنا، فإنهم جمعوها كجمعنا إياها،

وكثروها ووفروها لتكون ظهرا لهم على تقوية جنودهم وإقامة أمورهم، وغير ذلك مما لم يستغنوا عن جمعها له فأغار على تلك الأموال وعلى جوهر كان في خزائننا، المنافق بهرام في عصابة مثله وفتاك مستوجبين القتل، فشذبوها وبذروها وذهبوا بما ذهبوا به منها، ولم يتركوا في بيوت أموالنا وخزائننا إلا أسلحة من أسلحتنا لم يقدروا على تشذيبها والذهاب بها، ولم يرغبوا فيها فلما ارتجعنا بحمد الله ملكنا، واستحكمت أمورنا وأذعن لنا الرعية بالطاعة، ودفعنا عنهم البوائق التي كانت حلت بهم، ووجهنا إلى نواحي بلادنا أصبهبذين، وولينا دونهم على تلك النواحي فاذوسبانين، واستعملنا على ثغورنا مرازبة وولاة ذوي صرامة ومضاء وجلد، وقوينا من ولينا من هؤلاء بالكثيف من الجنود، أثخن هؤلاء الولاة من كان بإزائهم من الملوك المخالفين لنا والعدو وبلغ من غاراتهم عليهم، وقتلهم من قتلوا، وأسرهم من أسروا منهم، من سنة ثلاث عشرة من ملكنا، ما لم يقدر الرجل من أولئك على إطلاع رأسه في حرم بلاده إلا بخفير، أو خائفا، أو بأمان منا، فضلا عن الإغارة على شيء من بلادنا، والتعاطي لشيء مما كرهنا، ووصل في مدة هذه السنين إلى بيوت أموالنا وخزائننا مما غنمنا من بلاد العدو من الذهب والفضة وأنواع الجوهر، ومن النحاس والفرند والحرير والإستبرق والديباج والكراع والأسلحة والسبي والأسراء ما لم يخف عظم خطر ذلك وقدره على العامة، فلما أمرنا في آخر سنة ثلاث عشرة من ملكنا بنقش سكك حديثة، لنأمر فيستأنف ضرب الورق بها، وجد في بيوت أموالنا- على ما رفع إلينا المحصون لما كان فيها من الورق سوى ما أمرنا بعزله من الأموال لأرزاق جنودنا من الورق- مائتا الف بدره، فيها ثمانمائه ألف ألف مثقال فلما رأينا أنا قد حصنا ثغورنا، وردعنا العدو عنها وعن رعيتنا، وجمعنا مشتت أمرنا، وكعمنا أفواههم الفاغرة كانت لالتقام ما في أيديهم، وبسطنا فيهم الأمن، وأمنا على نواحي

بلادنا الأربع ما كان أهلها فيه من البوائق والمغار، أمرنا باجتباء بقايا السنين، وما انتهب من بيوت أموالنا من ذهب وفضة، ومن خزائننا من جوهر أو نحاس، ورد ذلك كله إلى موضعه، حتى إذا كان في آخر سنه ثلاثين من ملكنا أمرنا بنقش سكك حديثة، يضرب عليها الورق، فوجد في بيوت أموالنا سوى ما أمرنا بعزله من الأموال لأرزاق جندنا، والأموال التي أحصيت لنا قبل ذلك من الورق أربعمائة ألف بدرة، يكون ما فيها ألف ألف الف مثقال وستمائه ألف ألف مثقال، وذلك سوى ما زادنا الله إلى تلك الأموال، مما أفاء الله بمنه وطوله علينا من أموال ملوك الروم، في سفن أقبلت بها إلينا الريح، فسميناها فيء الرياح، ولم تزل أموالنا من سنة ثلاثين من ملكنا إلى سنة ثمان وثلاثين من ملكنا، التي هي هذه السنة تزداد كثرة ووفورا، وبلادنا عمارة، ورعيتنا أمنا وطمأنينة، وثغورنا وأطرافنا مناعة وحصانة، وقد بلغنا أنك هممت- لرذولة مروءتك- أن تبذر هذه الأموال وتتويها، عن رأي الأشرار العتاة المستوجبين للقتل. ونحن نعلمك أن هذه الكنوز والأموال لم تجمع إلا بعد المخاطرة بالنفوس، وبعد كد وعناء شديد، لندفع بها العدو المكتنفين لبلاد هذه المملكة، المتقلبين إلى غلبتهم على ما في أيديهم وإنما يقدر على كف أولئك العدو في الأزمان والدهور كلها، بعد عون الله بالأموال والجنود، ولن تقوى الجنود إلا بالأموال، ولا ينتفع بالأموال إلا على كثرتها ووفورها، فلا تهمن بتفرقة هذه الأموال، ولا تجسرن عليها، فإنها كهف لملكك وبلادك، وقوة لك على عدوك. ثم انصرف اسفاذ جشنس إلى شيرويه فقص عليه ما قال له كسرى، ولم يسقط منه حرفا، وإن عظماء الفرس عادوا فقالوا لشيرويه: إنه لا يستقيم أن يكون لنا ملكان، فإما أن تأمر بقتل كسرى، ونحن خولك، المانحوك الطاعة، وإما أن نخلعك ونعطيه الطاعة فهدت شيرويه هذه المقالة وكسرته، وأمر بقتل كسرى، فانتدب لقتله رجال كان وترهم كسرى، فكلما أتاه

الرجل منهم شتمه كسرى وزبره فلم يقدم على قتله أحد، حتى أتاه شاب يقال له مهر هرمز بن مردان شاه ليقتله، وكان مردان شاه فاذوسبانا لكسرى على ناحية نيمروذ، وكان من أطوع الناس لكسرى وأنصحهم له، وإن كسرى سأل قبل أن يخلع بنحو من سنتين منجميه وعافته عن عاقبة أمره، وأخبروه أن منيته آتيه من قبل نيمروذ فاتهم مردان شاه، وتخوف ناحيته لعظم قدره، وأنه لم يكن في تلك الناحية من يعدله في القوة والقدرة. فكتب إليه أن يعجل القدوم عليه، حتى إذا قدم عليه أجال الرأي في طلب علة يقتله بها، فلم يجد عليه عثرة، وتذمم من قتله لما علم من طاعته إياه، ونصيحته له، وتحريه مرضاته فرأى أن يستبقيه، ويأمر بقطع يمينه، ويعوضه منها أموالا عظيمة يجود له بها، فبغى عليه من العلل ما قطع يمينه، وإنما كانت تقطع الأيدي والأرجل وتقطع الأعناق في رحبة الملك. وإن كسرى أرسل يوم أمر بقطع يده عينا ليأتيه بخبر ما يسمع من مردان شاه وممن بحضرته من النظارة، وان مردان شاه لما قطعت يمينه قبض عليها بشماله، فقبلها ووضعها في حجره، وجعل يندبها بدمع له دار ويقول: وا سمحتاه! وا راميتاه! وا كاتبتاه! وا ضاربتاه! وا لاعبتاه! وا كريمتاه! فانصرف إلى كسرى الرجل الذي كان وجهه عينا عليه، فأخبره بما رأى وسمع منه، فرق له كسرى، وندم على إتيانه في أمره ما أتى، فأرسل إليه مع رجل من العظماء يعلمه ندامته على ما كان منه، وأنه لن يسأله شيئا يجد السبيل إلى بذله له إلا أجابه إليه، وأسعفه به. فأرسل إلى كسرى مع ذلك الرسول يدعو له، ويقول: إني لم أزل أعرف تفضلك علي أيها الملك، وأشكره لك، وقد تيقنت أن الذي أتيت إلي مع كراهتك إياه، إنما كان سببه القضاء، ولكني سائلك أمرا فأعطني من الأيمان على إسعافك إياي به ما اطمان إليه، وليأتني بيقين حلفك على ذلك رجل من النساك، فأفرشك إياه وأبثه لك

فانصرف رسول كسرى إلى كسرى بهذه الرسالة، فسارع الى ما ساله مردان شاه، وحلف بالأيمان المغلظة ليجيبنه إلى ما هو سائله، ما لم تكن مسألته أمرا يوهن ملكه وأرسل إليه بهذه الرسالة مع رئيس المزمزمين، فأرسل اليه مردان شاه يسأله أن يأمر بضرب عنقه ليمتحي بذلك العار الذي لزمه، فأمر كسرى فضربت عنقه كراهة منه للحنث، زعم. وان كسرى سال مهر هرمز بن مردان شاه، حين دخل عليه عن اسمه، وعن اسم ابيه ومرتبته فاخبره انه مهر هرمز بن مردان شاه، فاذوسبان نيمروذ، فقال كسرى: أنت ابن رجل شريف كثير الغناء، قد كافأناه على طاعته إيانا، ونصيحته لنا، وغنائه عنا بغير ما كان يستحقه، فشأنك وما أمرت به فضرب مهر هرمز على حبل عاتقه بطبرزين كان بيده ضربات فلم يحك فيه، ففتش كسرى فوجد قد شد في عضده خرزه لا يحيك السيف في كل من تعلقها فنزعت من عضده، ثم ضربه بعد ذلك مهر هرمز ضربة فهلك منها. وبلغ شيرويه فخرق جيبه وبكى منتحبا، وامر بحمل جثته الى الناووس فحملت، وشيعها العظماء وأفناء الناس. وأمر فقتل قاتل كسرى، وكان ملكه ثمانيا وثلاثين سنة، وكان قتله ماه آذر روز ماه وقتل شيرويه سبعة عشر أخا له ذوي أدب وشجاعة ومروءة، بمشورة وزيره فيروز، وتحريض ابن ليزدين- والى عشور الآفاق كان لكسرى، يقال له شمطا- اياه على قتلهم، فابتلي بالأسقام ولم يلتذ بشيء من لذات الدنيا، وكان هلاكه بدسكرة الملك، وكان مشئوما على آل ساسان، فلما قتل إخوته جزع جزعا شديدا ويقال: إنه لما كان اليوم الثاني من اليوم الذي قتلهم فيه، دخلت عليه بوران وآزرميدخت أختاه فأسمعتاه وأغلظتا له، وقالتا: حملك الحرص على ملك لا يتم، على قتل أبيك وجميع إخوتك، وارتكبت المحارم! فلما سمع ذلك منهما بكى بكاء شديدا، ورمى بالتاج عن رأسه، ولم يزل أيامه كلها مهموما مدنفا ويقال: إنه أباد من قدر عليه من أهل بيته، وإن الطاعون فشا في أيامه حتى هلك الفرس إلا قليلا منهم وكان ملكه ثمانية اشهر

ذكر ملك أردشير بن شيرويه

ذكر ملك أردشير بن شيرويه ثم ملك أردشير بن شيرويه بن ابرويز بن هرمز بن انوشروان، وكان طفلا صغيرا- قيل: إنه كان ابن سبع سنين لأنه لم يكن في أهل بيت المملكة محتنك- فملكته عظماء فارس، وحضنه رجل يقال له مهاذرجشنس، وكانت مرتبته رئاسة أصحاب المائدة، فأحسن سياسة الملك، فبلغ من إحكامه ذلك ما لم يحس معه بحداثة سن أردشير وكان شهربراز بثغر الروم في جند ضمهم إليه كسرى وسماهم السعداء، وكان كسرى وشيرويه لا يزالان يكتبان إليه في الأمر يهمهما، فيستشيرانه فيه، فلما لم يشاوره عظماء فارس في تمليك أردشير. اتخذ ذلك ذريعة إلى التعتب والتبغي عليهم، وبسط يده في القتل، وجعله سببا للطمع في الملك، والاعتلاء عند ذلك من ضعة العبودية إلى رفعة الملك، واحتقر أردشير لحداثة سنه واستطال عليهم، وأجمع على دعاء الناس إلى التشاور في الملك ثم أقبل بجنده وقد عمد مهاذرجشنس، فحصن سور مدينة طيسبون وأبوابها، وحول أردشير، ومن بقي من نسل الملك ونسائهم، وما كان في بيت مال أردشير من ماله وخزائنه وكراعه إلى مدينة طيسبون وكان الذين اقبل فيهم من الجند شهربراز ستة آلاف رجل من جند فارس بثغر الروم، فأناخ إلى جانب مدينة طيسبون، وحاصر من فيها وقاتلهم عنها، ونصب المجانيق عليها فلم يصل إليها فلما رأى عجزه عن افتتاحها أتاها من قبل المكيدة، فلم يزل يخدع رجلا يقال له نيوخسروا، وكان رئيس حرس أردشير ونامدار جشنس بن آذر جشنس، أصبهبذ نيمروذ، حتى فتحا له باب المدينة فدخلها، فأخذ جماعة من الرؤساء فقتلهم، واستصفى أموالهم، وفضح نساءهم وقتل ناس بأمر شهربراز أردشير بن شيرويه، سنة اثنتين ماه بهمن، ليله روز آبان في ايوان خسرو شاه قباذ. وكان ملكه سنه وسته اشهر

ذكر ملك شهربراز

ذكر ملك شهربراز ثم ملك شهربراز، وهو فرخان ماه اسفنديار، ولم يكن من أهل بيت المملكة، ودعا نفسه ملكا وإنه حين جلس على سرير الملك ضرب عليه بطنه، وبلغ من شدة ذلك عليه أنه لم يقدر على إتيان الخلاء، فدعا بطست فوضع أمام ذلك السرير فتبرز فيه وإن رجلا من أهل إصطخر، يقال له فسفروخ بن ما خرشيذان وأخوين له، امتعضوا من قتل شهربراز أردشير وغلبته على الملك، وأنفوا من ذلك، وتحالفوا وتعاقدوا على قتله، وكانوا جميعا في حرس الملوك، وكان من السنة إذا ركب الملك أن يقف له حرسه سماطين، عليهم الدروع والبيض والترسة والسيوف، وبأيديهم الرماح، فإذا حاذى بهم الملك وضع كل رجل منهم نرسه على قربوس سرجه، ثم وضع جبهته عليه كهيئة السجود وان شهربراز ركب بعد أن ملك بأيام فوقف فسفروخ وأخواه، قريبا بعضهم من بعض، فلما حاذى بهم شهربراز طعنه فسفروخ، ثم طعنه أخواه، وكان ذلك اسفندارمذ ماه، وروز دي بدين، فسقط عن دابته ميتا، فشدوا في رجله حبلا وجروه إقبالا وإدبارا، وساعدهم على قتله رجل من العظماء يقال له زاذان فروخ بن شهرداران، ورجل يقال له ماهياي، كان مؤدب الأساورة، وكثير من العظماء وأهل البيوتات، وعاونوهم على قتل رجال فتكوا بأردشير بن شيرويه، وقتلوا رجالا من العظماء وإنهم ملكوا بوران بنت كسرى. وكان جميع ما ملك شهربراز اربعين يوما . ذكر ملك بوران بنت كسرى ابرويز ثم ملكت بوران بنت كسرى أبرويز بن هرمز بن كسرى انوشروان، فذكر أنها قالت يوم ملكت: البر أنوي وبالعدل آمر، وصيرت مرتبه شهربراز لفسفروخ، وقلدته وزارتها، وأحسنت السيرة في رعيتها، وبسطت العدل فيهم، وأمرت بضرب الورق ورم القناطر والجسور، ووضعت بقايا بقيت من الخراج على الناس عنهم، وكتبت إلى الناس عامة كتبا أعلمتهم ما هي عليه من الإحسان

ذكر ملك جشنسده

إليهم، وذكرت حال من هلك من أهل بيت المملكة، وأنها ترجو أن يريهم الله من الرفاهة والاستقامة بمكانها ما يعرفون به أنه ليس ببطش الرجال تدوخ البلاد، ولا ببأسهم تستباح العساكر، ولا بمكايدهم ينال الظفر وتطفأ النوائر، ولكن كل ذلك يكون بالله عز وجل، وأمرتهم بالطاعة وحضتهم على المناصحة، وكانت كتبها جماعة لكل ما يحتاج إليه، وإنها ردت خشبة الصليب على ملك الروم مع جاثليق يقال له إيشوعهب. وكان ملكها سنه واربعه اشهر ذكر ملك جشنسده ثم ملك بعدها رجل يقال له: جشنسده، من بني عم أبرويز الأبعدين. وكان ملكه اقل من شهر . ذكر ملك آزرميدخت بنت كسرى ابرويز ثم ملكت آزرميدخت بنت كسرى أبرويز بن هرمز بن كسرى انوشروان، ويقال إنها كانت من أجمل نسائهم، وإنها قالت حين ملكت: منهاجنا منهاج أبينا كسرى المنصور، فإن خالفنا أحد هرقنا دمه ويقال: إنه كان عظيم فارس يومئذ فرخهرمز إصبهبذ خراسان، فأرسل إليها يسألها أن تزوجه نفسها، فأرسلت إليه: إن التزويج للملكة غير جائز، وقد علمت أن دهرك فيما ذهبت إليه قضاء حاجتك وشهوتك مني، فصر إلي ليلة كذا وكذا ففعل فرخهرمز وركب إليها في تلك الليلة، وتقدمت آزرميدخت إلى صاحب حرسها أن يترصده في الليلة التي تواعدا الالتقاء فيها حتى يقتله فنفذ صاحب حرسها لأمرها، وأمرت به فجر برجله، وطرح في رحبة دار المملكة، فلما أصبحوا وجدوا فرخهرمز قتيلا، فأمرت بجثته فغيبت، وعلم أنه لم يقتل إلا لعظيمة وكان رستم بن فرخهرمز صاحب يزدجرد الذي وجه بعد لقتال العرب خليفة أبيه بخراسان، فلما بلغه الخبر أقبل في جند عظيم حتى نزل المدائن، وسمل

كسرى بن مهراجشنس

عيني آزرميدخت، وقتلها وقال بعضهم: بل سمت. وكان ملكها سته اشهر . كسرى بن مهراجشنس ثم أتي برجل من عقب أردشير بن بابك كان ينزل الأهواز يقال له: كسرى بن مهرجشنس، فملكه العظماء، ولبس التاج، وجلس على سرير الملك، وقتل بعد ان ملك بايام . ذكر ملك خرزا خسروا وقيل إن الذي ملك بعد آزرميدخت خرزاذ خسروا من ولد أبرويز. وقيل: إنه وجد بحصن يعرف بالحجارة بالقرب من نصيبين، فلما صار إلى المدائن مكث أياما يسيرة، ثم استعصوا عليه وخالفوه . ذكر ملك فيروز بن مهراجشنس وقال الذين قالوا: ملك بعد آزرميدخت كسرى بن مهراجشنس: لما قتل كسرى بن مهراجشنس، طلب عظماء فارس من يملكونه من أهل بيت المملكة، فطلبوا من له عنصر من أهل ذلك البيت ولو من قبل النساء، فأتوا برجل كان يسكن ميسان، يقال له فيروز بن مهرانجشنس، ويسمى أيضا جشنسده قد ولدته صهاربخت بنت يزداندار بن كسرى انوشروان، فملكوه كرها. وكان رجلا ضخم الرأس، فلما توج قال: ما أضيق هذا التاج! فتطير العظماء من افتتاحه كلامه بالضيق، وقتلوه بعد أن ملك أياما. ومن الناس من يقول: قتل ساعه تكلم بما تكلم به

ذكر ملك فرخزاذ خسروا

ذكر ملك فرخزاذ خسروا وقال قائل هذا القول: ثم شخص رجل من العظماء يقال له زاذي ولمرتبته رئيس الخول إلى موضع في ناحية المغرب قريب من نصيبين، يقال له: حصن الحجارة، فأقبل بابن لكسرى كان نجا إلى ذلك القصر حين قتل شيرويه بني كسرى يقال له: فرخزاذ خسروا إلى مدينة طيسبون، فانقاد له الناس زمنا يسيرا، ثم استعصوا عليه وخالفوه، فقال بعضهم: قتلوه وكان ملكه ستة أشهر . ذكر ملك يزدجرد بن شهريار وقال بعضهم كان أهل إصطخر ظفروا بيزدجرد بن شهريار بن كسرى بإصطخر، قد هرب به إليها حيث قتل شيرويه إخوته، فلما بلغ عظماء أهل إصطخر أن من بالمدائن خالفوا فرخزاذ خسروا، أتوا بيزدجرد بيت نار يدعى بيت نار أردشير، فتوجوه هنالك، وملكوه- وكان حدثا- ثم أقبلوا به إلى المدائن، وقتلوا فرخزاذ خسروا بحيل احتالوها لقتله بعد أن ملك سنة. وساغ الملك ليزدجرد، غير أن ملكه كان عند ملك آبائه كالخيال والحلم، وكانت العظماء والوزراء يدبرون ملكه لحداثة سنه، وكان أشدهم نباهة في وزرائه وأذكاهم رئيس الخول وضعف أمر مملكة فارس، واجترأ عليه أعداؤه من كل وجه، وتطرفوا بلاده وأخربوا منها، وغزت العرب بلاده بعد أن مضت سنتان من ملكه وقيل بعد أن مضى أربع سنين من ملكه. وكان عمره كله إلى أن قتل ثمانيا وعشرين سنة. وقد بقي من أخبار يزدجرد هذا وولده أخبار سأذكرها إن شاء الله بعد في مواضعها من فتوح المسلمين وما فتحوا من بلاد العجم، وما آل إليه أمره وأمر ولده. فجميع ما مضى من السنين من لدن أهبط آدم إلى الأرض، إلى وقت هجره النبي ص وَسَلَّمَ- على ما يقوله أهل الكتاب من اليهود، وتزعم أنه في التوراة الصورة مثبت من أعمار الأنبياء والملوك- أربعة آلاف سنة وستمائه

سنة واثنتان وأربعون سنة وأشهر وأما على ما تقوله النصارى مما تزعم أنه في توراة اليونانية، فإن ذلك خمسة آلاف سنة وتسعمائة سنة واثنتان وتسعون سنة وأشهر. وأما جميع ذلك على قول المجوس من الفرس، فإنه أربعة آلاف سنة ومائة سنة واثنتان وثمانون سنة وعشرة أشهر وتسعة عشر يوما، على أنه داخل في ذلك مدة ما بين وقت الهجرة ومقتل يزدجرد، وذلك ثلاثون سنة وشهران وخمسه عشر يوما، وعلى ان حسابهم ذلك وابتداء تأريخهم من عهد جيومرت، وجيومرت هو آدم أبو البشر، الذي إليه نسبة كل منتسب من الإنس، على ما قد بينت في كتابي هذا. وأما علماء الإسلام فقد ذكرت قبل ما قال فيه بعضهم، وأذكر بعض من لم يمض ذكره منهم الآن، فإنهم قالوا: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، والقرن مائة سنة، وبين نوح وإبراهيم عشرة قرون، والقرن مائة سنة، وبين إبراهيم وموسى بن عمران عشرة قرون، والقرن مائة سنة. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ، كُلُّهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ. حدثني الحارث بْن محمد، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بن عُمَرَ بْنِ وَاقِدٍ الأَسْلَمِيُّ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالُوا: كَانَ بَيْنَ آدَمَ ونوح عشرة قرون، والقرن مائة سنة، وبين نوح وإبراهيم عشرة قرون، والقرن مائة سنة، وبين إبراهيم وموسى بن عمران عشرة قرون، وَالْقَرْنُ مِائَةُ سَنَةٍ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: الفتره بين محمد وعيسى ع ستمائه سَنَةٍ. وَرُوِيَ عَنْ فُضَيْلِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَوْفٍ،

قال: كان بين عيسى وموسى ستمائه سَنَةٍ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي صَدَقَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: نُبِّئْتُ أَنَّ كَعْبًا قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: «يَا أُخْتَ هارُونَ» لَيْسَ بِهَارُونَ أَخِي مُوسَى، قَالَ: فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: كَذَبْتَ، قَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ كان النبي ص قَالَ فَهُوَ أَعْلَمُ وَأَخْبَرُ، وَإِلا فَإِنِّي أَجِدُ بينهما ستمائه سَنَةٍ قَالَ: فَسَكَتَتْ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ بَيْنَ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَعِيسَى بن مريم الف سنه وتسعمائة سَنَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَتْرَةٌ، وَإِنَّهُ أُرْسِلَ بَيْنَهُمَا أَلْفُ نَبِيٍّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، سِوَى مَنْ أُرْسِلَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكَانَ بَيْنَ مِيلادِ عيسى والنبي خمسمائة وَتِسْعٌ وَسِتُّونَ سَنَةٍ، بُعِثَ فِي أَوَّلِهَا ثَلاثَةُ أَنْبِيَاءَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ» ، وَالَّذِي عُزِّزَ بِهِ شَمْعُونُ، وَكَانَ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ، وَكَانَتِ الْفَتْرَةُ الَّتِي لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ فِيهَا رسولا أربعمائة وَأَرْبَعًا وَثَلاثِينَ سَنَةٍ، وَإِنَّ عِيسَى حِينَ رُفِعَ كَانَ ابْنَ اثْنَتَيْنِ وَثَلاثِينَ سَنَةً وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَكَانَتْ نُبُوَّتُهُ ثَلاثِينَ شَهْرًا، وَإِنَّ اللَّهَ رَفَعَهُ بِجَسَدِهِ، وَإِنَّهُ حَيٌّ الآنَ. حدثني محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهبا يقول: قد خلا من الدنيا خمسه آلاف سنه وستمائه سنة. حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَيُّوبَ الْحَضْرَمِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بسر، قال: [قال لي رسول الله ص: لَتُدْرِكَنَّ قَرْنًا، فَعَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ]

فهذا ما روي عن علماء الإسلام في ذلك، وفي ذلك من قولهم تفاوت شديد، وذلك أن الواقدي، حكى عن جماعة من أهل العلم أنهم قالوا ما ذكرت عنه أنه رواه عنهم وعلى ذلك من قوله، ينبغي أن يكون جميع سني الدنيا إلى مولد نبينا ص اربعه آلاف سنه وستمائه سنة، وعلى قول ابْنِ عَبَّاسٍ الذي رواه هشام بن محمد، عن أبيه، عن أبي صالح، عنه، ينبغي أن يكون إلى مولد النبي ص خمسه آلاف سنه وخمسمائة سنة. وأما وهب بن منبه فقد ذكر جملة من قوله من غير تفصيل، وأن ذلك الى زمنه خمسه آلاف سنه وستمائه سنة، وجميع مدة الدنيا عند وهب ستة آلاف سنة، وقد كان مضى عنده من ذلك الى زمانه خمسه آلاف سنه وستمائه سنة وكانت وفاة وهب بن منبه سنة أربع عشرة ومائة من الهجرة، فكأن الباقي من الدنيا على قول وهب من وقتنا الذي نحن فيه، مائتا سنة وخمس عشرة سنة. وهذا القول الذي قاله وهب بن منبه موافق لما رواه أبو صالح، عن ابْنِ عَبَّاسٍ. وقال بعضهم: من وقت هبوط آدم ع الى ان بعث نبينا ص ستة آلاف سنة ومائة وثلاث عشرة سنة، وذلك أن عنده من مهبط آدم إلى الأرض إلى الطوفان ألفي سنة ومائتي سنة وستا وخمسين سنة ومن الطوفان إلى مولد إبراهيم خليل الرحمن ألف سنة وتسعا وسبعين سنة، ومن مولد إبراهيم إلى خروج موسى ببني إسرائيل من مصر خمسمائة سنة وخمسا وستين سنة، ومن خروج موسى ببني إسرائيل من مصر إلى بناء بيت المقدس- وذلك لأربع سنين من ملك سليمان بن داود- ستمائه سنة وستا وثلاثين سنة، ومن بناء بيت المقدس الى ملك الاسكندر سبعمائة سنة وسبع عشرة سنة، ومن ملك الإسكندر الى مولد عيسى بن مريم ع ثلاثمائة سنة وتسعا وستين سنة، ومن مولد عيسى الى مبعث محمد ص خمسمائة سنة وإحدى وخمسين سنة، ومن مبعثه إلى هجرته من مكة

إلى المدينة ثلاث عشرة سنة. وَقَدْ حَدَّثَ بَعْضُهُمْ عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ مِنْ آدَمَ إِلَى نُوحٍ أَلْفَا سَنَةٍ وَمِائَتَا سَنَةٍ، وَمِنْ نُوحٍ إِلَى إِبْرَاهِيمَ أَلْفُ سَنَةٍ وَمِائَةُ سَنَةٍ وَثَلاثٌ وَأَرْبَعُونَ سنه، ومن ابراهيم الى موسى خمسمائة سَنَةٍ وَخَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَمِنْ مُوسَى إِلَى دَاوُدَ مِائَةُ سَنَةٍ وَتِسْعٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَمِنْ دَاوُدَ إِلَى عِيسَى أَلْفُ سَنَةٍ وَثَلاثٌ وَخَمْسُونَ سنه، ومن عيسى الى محمد ستمائه سَنَةٍ. وَحَدَّثَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيِّ عَنْ بَعْضِ اهل الكتب أَنَّهُ قَالَ: مِنْ آدَمَ إِلَى الطُّوفَانِ أَلْفَا سَنَةٍ وَمِائَتَا سَنَةٍ وَسِتٌّ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَمِنَ الطُّوفَانِ إِلَى وَفَاةِ إِبْرَاهِيمَ أَلْفُ سَنَةٍ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَمِنْ وَفَاةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى دُخُولِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِصْرَ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَمِنْ دُخُولِ يعقوب مصر الى خروج موسى منها أربعمائة سَنَةٍ وَثَلاثُونَ سَنَةً، وَمِنْ خُرُوجِ مُوسَى مِنْ مصر الى بناء بيت المقدس خمسمائة سَنَةٍ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَمِنْ بِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ الى ملك بختنصر وخراب بيت المقدس أربعمائة سَنَةٍ وَسِتٌّ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً وَمِنْ مُلْكِ بُخْتَنَصَّرَ الى ملك الاسكندر أربعمائة سَنَةٍ وَسِتٌّ وَثَلاثُونَ سَنَةً، وَمِنْ مُلْكِ الإِسْكَنْدَرِ إِلَى سَنَةِ سِتٍّ وَمِائَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ أَلْفُ سنه ومائتان وخمس واربعون سنه

القول في السيرة النبوية

[القول في السيرة النبوية] ذكر نسب رسول الله ص وذكر بعض أخبار آبائه وأجداده اسم رسول الله ص، وهو ابن عبد الله بن عبد المطلب، وكان عبد الله أبو رسول الله أصغر ولد أبيه، وكان عبد الله والزبير وعبد مناف- وهو أبو طالب- بنو عبد المطلب لأم واحدة، وأمهم جميعا فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق. وحدثت عن هشام بن محمد، عن أبيه، أنه قال: عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله، وأبو طالب- واسمه عبد مناف- والزبير، وعبد الكعبة، وعاتكة، وبرة، وأميمة، ولد عبد المطلب إخوة، أم جميعهم فاطمه بنت عمرو بن عائذ ابن عمران بن مخزوم بن يقظة. وكان عبد المطلب- فيما حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى- قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عن ابن شهاب، عن قبيصة بن ذؤيب، أنه أخبره أن امرأة نذرت أن تنحر ابنها عند الكعبة في أمر إن فعلته، ففعلت ذلك الأمر، فقدمت المدينة لتستفتي عن نذرها، فجاءت عبد الله بن عمر، فقال لها عبد الله بن عمر: لا أعلم الله أمر في النذر إلا الوفاء به، فقالت المرأة: أفأنحر ابني؟ قال ابن عمر: قد نهاكم الله أن تقتلوا أنفسكم، فلم يزدها عبد الله بن عمر على ذلك، فجاءت عبد الله بن عباس فاستفتته، فقال: أمر الله بوفاء النذر والنذر دين، ونهاكم أن تقتلوا أنفسكم- وقد كان عبد المطلب بن هاشم نذر إن توافى له عشرة رهط، أن ينحر أحدهم، فلما توافى له عشرة، أقرع بينهم أيهم ينحر؟ فطارت القرعة على عبد الله بن عبد المطلب، وكان أحب الناس إلى عبد المطلب، فقال عبد المطلب: اللهم هو أو مائة من الإبل، ثم أقرع بينه وبين الإبل، فطارت

القرعة- على المائة من الإبل- فقال ابْنُ عَبَّاسٍ للمرأة: فأرى أن تنحري مائة من الإبل مكان ابنك فبلغ الحديث مروان، وهو أمير المدينة، فقال: ما أرى ابن عمر ولا ابْنَ عَبَّاسٍ أصابا الفتيا، إنه لا نذر في معصية الله، استغفري الله وتوبي إلى الله، وتصدقي واعملي ما استطعت من الخير، فأما أن تنحري ابنك فقد نهاك الله عن ذلك فسر الناس بذلك، وأعجبهم قول مروان، ورأوا أنه قد أصاب الفتيا، فلم يزالوا يفتون بألا نذر في معصية الله. وأما ابن إسحاق، فإنه قص من أمر نذر عبد المطلب هذا قصة، هي اشيع مما في هذا الخبر الذي ذكرناه عن ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب، وذلك مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، قال: كان عبد المطلب بن هاشم- فيما يذكرون والله أعلم- قد نذر حين لقي من قريش في حفر زمزم ما لقي: لئن ولد له عشرة نفر ثم بلغوا معه حتى يمنعوه، لينحرن أحدهم لله عند الكعبة، فلما توافى له بنوه عشرة، وعرف أنهم سيمنعونه، جمعهم ثم أخبرهم بنذره الذي نذر، ودعاهم إلى الوفاء لله بذلك، فأطاعوه، وقالوا: كيف نصنع؟ قال: يأخذ كل رجل منكم قدحا، ثم ليكتب فيه اسمه، ثم ائتوني به ففعلوا، ثم أتوه، فدخل على هبل في جوف الكعبة، وكانت هبل أعظم أصنام قريش بمكة، وكانت على بئر في جوف الكعبة، وكانت تلك البئر هي التي يجمع فيها ما يهدى للكعبة، وكان عند هبل سبعة أقدح، كل قدح منها فيه كتاب: قدح فيه العقل، وإذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة، فإن خرج العقل فعلى من خرج حمله، وقدح فيه: نعم للأمر إذا ارادوه

يضرب به، فإن خرج قدح: نعم عملوا به، وقدح فيه لا، فإذا أرادوا أمرا ضربوا به في القداح، فإذا خرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك الأمر، وقدح فيه منكم، وقدح فيه ملصق، وقدح فيه من غيركم، وقدح فيه المياه إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح، وفيها ذلك القدح، فحيثما خرج عملوا به وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاما، أو ينكحوا منكحا، أو يدفنوا ميتا، أو شكوا في نسب أحد منهم ذهبوا به إلى هبل وبمائة درهم وجزور، فأعطوها صاحب القداح الذي يضربها، ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون، ثم قالوا: يا إلهنا، هذا ابن فلان، قد أردنا به كذا وكذا، فأخرج الحق فيه، ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب، فيضرب فإن خرج عليه منكم كان وسيطا وإن خرج عليه من غيركم كان حليفا، وإن خرج عليه ملصق كان على منزلته منهم، لا نسب له ولا حلف، وإن خرج في شيء سوى هذا مما يعملون به نعم عملوا به، وإن خرج لا أخروه عامهم ذلك حتى يأتوا به مرة أخرى، ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح- فقال عبد المطلب لصاحب القداح: اضرب على بني هؤلاء بقداحهم هذه، وأخبره بنذره الذي نذر، فأعطى كل رجل منهم قدحه الذي فيه اسمه- وكان عبد الله بن عبد المطلب أصغر بني أبيه، وكان فيما يزعمون أحب ولد عبد المطلب إليه، وكان عبد المطلب يرى أن السهم إذا أخطأه فقد أشوى، وهو أبو رسول الله ص- فلما أخذ صاحب القداح القداح ليضرب بها، قام عبد المطلب عند هبل في جوف الكعبة يدعو الله، ثم ضرب صاحب القداح، فخرج القدح على عبد الله، فأخذ عبد المطلب بيده، وأخذ الشفرة، ثم أقبل إلى إساف ونائلة- وهما وثنا قريش اللذان تنحر عندهما ذبائحها- ليذبحه، فقامت إليه قريش من أنديتها، فقالوا: ماذا تريد يا عبد المطلب؟ قال: أذبحه

فقالت له قريش وبنوه: والله لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه، لئن فعلت هذا، لا يزال الرجل يأتي بابنه حتى يذبحه، فما بقاء الناس على هذا! فقال له المغيرة بْن عبد الله بْن عمر بْن مخزوم- وكان عبد الله ابن أخت القوم-: والله لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه، فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه وقالت له قريش وبنوه: لا تفعل وانطلق به إلى الحجاز، فإن به عرافة لها تابع، فسلها، ثم أنت على رأس أمرك، إن أمرتك أن تذبحه ذبحته، وإن أمرتك بأمر لك وله فيه فرج قبلته. فانطلقوا حتى قدموا المدينة، فوجدوها- فيما يزعمون- بخيبر، فركبوا إليها حتى جاءوها، فسألوها، وقص عليها عبد المطلب خبره وخبر ابنه، وما أراد به، ونذره فيه فقالت لهم: ارجعوا عني اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله. فرجعوا عنها، فلما خرجوا من عندها، قام عبد المطلب يدعو الله ثم غدوا عليها، فقالت: نعم، قد جاءني الخبر، كم الدية فيكم؟ قالوا: عشر من الإبل- وكانت كذلك- قالت: فارجعوا إلى بلادكم، ثم قربوا صاحبكم،. وقربوا عشرا من الإبل، ثم اضربوا عليها وعليه بالقداح، فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا في الإبل حتى يرضى ربكم، وإن خرجت على الإبل فانحروها، فقد رضي ربكم، ونجا صاحبكم. فخرجوا حتى قدموا مكة، فلما أجمعوا لذلك من الأمر قام عبد المطلب يدعو الله، ثم قربوا عبد الله وعشرا من الإبل- وعبد المطلب في جوف الكعبة عند هبل يدعو الله- فخرج القدح على عبد الله، فزادوا عشرا، فكانت الإبل عشرين، وقام عبد المطلب في مكانه ذلك يدعو الله، ثم ضربوا فخرج السهم على عبد الله، فزادوا عشرا من الإبل، فكانت ثلاثين، ثم لم يزالوا يضربون بالقداح ويخرج القدح على عبد الله، فكلما خرج عليه زادوا من الإبل عشرا، حتى ضربوا عشر مرات، وبلغت الإبل مائة، وعبد المطلب

قائم يدعو، ثم ضربوا فخرج القدح على الإبل، فقالت قريش ومن حضر: قد انتهى رضا ربك يا عبد المطلب فزعموا أن عبد المطلب قال: لا والله حتى أضرب عليها ثلاث مرات، فضربوا على الإبل وعلى عبد الله، وقام عبد المطلب يدعو فخرج القدح على الإبل، ثم عادوا الثانية وعبد المطلب قائم يدعو، ثم عادوا الثالثة فضربوا، فخرج القدح على الإبل فنحرت، ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا سبع. ثم انصرف عبد المطلب آخذا بيد ابنه عبد الله، فمر- فيما يزعمون- على امراه من بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ بْنِ كِلابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غالب بن فهر، يقال لها: أم قتال بنت نوفل بن أسد بن عبد العزى، وهي أخت ورقة بن نوفل بن أسد، وهي عند الكعبة، فقالت له حين نظرت إلى وجهه: أين تذهب يا عبد الله؟ قال: مع أبي، قالت: لك عندي مثل الإبل التي نحرت عنك، وقع علي الآن، قال: إن معي أبي ولا أستطيع خلافه ولا فراقه فخرج به عبد المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة- ووهب يومئذ سيد بني زهرة سنا وشرفا- فزوجه آمنة بنت وهب، وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا، وهي لبرة بنت عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بن قصي، وبرة لأم حبيب بنت اسد ابن عبد العزى بن قصي، وأم حبيب بنت أسد لبرة بنت عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب بن لؤي فزعموا أنه دخل عليها حين ملكها مكانه فوقع عليها، فحملت بمحمد ص ثم خرج من عندها، حتى أتى المرأة التي عرضت عليه ما عرضت، فقال لها: مالك لا تعرضين علي اليوم ما كنت عرضت علي بالأمس؟ فقالت له: فارقك النور الذي كان معك بالأمس، فليس لي بك اليوم حاجة وقد كانت تسمع من أخيها ورقة

ابن نوفل، وكان قد تنصر واتبع الكتب، حتى أدرك، فكان فيما طلب من ذلك أنه كائن لهذه الأمة نبي من بني إسماعيل. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ إِسْحَاقَ بْنِ يسار، أنه حدث أن عبد الله إنما دخل على امرأة كانت له مع آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، وقد عمل في طين له، وبه آثار من الطين، فدعاها إلى نفسه، فأبطأت عليه لما رأت به من آثار الطين، فخرج من عندها، فتوضأ وغسل عنه ما كان به من ذلك، وعمد إلى آمنة فدخل عليها فأصابها، فحملت بمحمد ص، ثم مر بامرأته تلك، فقال: هل لك؟ فقالت: لا، مررت بي وبين عينيك غرة، فدعوتني فأبيت، ودخلت على آمنة فذهبت بها فزعموا أن امرأته تلك كانت تحدث أنه مر بها وبين عينيه مثل غرة الفرس، قالت: فدعوته رجاء أن يكون بي، فأبى علي، ودخل على آمنة بنت وهب فأصابها، فحملت برسول الله ص. حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ الْمَوْصِلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ الْقُرَشِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزِّنْجِيُّ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا خَرَجَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بِعَبْدِ اللَّهِ لِيُزَوِّجَهُ، مَرَّ بِهِ عَلَى كَاهِنَةٍ مِنْ خَثْعَمٍ، يُقَالُ لَهَا فَاطِمَةُ بِنْتُ مُرٍّ، مُتَهَوِّدَةٌ مِنْ أَهْلِ تَبَالَةَ، قَدْ قَرَأَتِ الْكُتُبَ، فَرَأَتْ فِي وَجْهِهِ نُورًا، فَقَالَتْ لَهُ: يَا فَتَى، هَلْ لَكَ أَنْ تَقَعَ عَلَيَّ الآنَ وَأُعْطِيَكَ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ؟ فَقَالَ: أَمَّا الْحَرَامُ فَالْمَمَاتُ دُونَهُ ... وَالْحِلُّ لا حَلَّ فَأَسْتَبِينُهُ فَكَيْفَ بِالأَمْرِ الَّذِي تَبْغِينَهُ

ثُمَّ قَالَ: أَنَا مَعَ أَبِي وَلا أَقْدِرُ أَنْ أُفَارِقَهُ، فَمَضَى بِهِ، فَزَوَّجَهُ آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ، فَأَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاثًا ثُمَّ انْصَرَفَ فَمَرَّ بِالْخَثْعَمِيَّةِ فَدَعَتْهُ نَفْسُهُ إِلَى مَا دَعَتْهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهَا: هَلْ لَكِ فِيمَا كُنْتِ أَرَدْتِ؟ فَقَالَتْ: يَا فَتَى، إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَنَا بِصَاحِبَةِ رِيبَةٍ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُ فِي وَجْهِكَ نُورًا فَأَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ فِي، وَأَبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يَجْعَلَهُ حَيْثُ أَرَادَ، فَمَا صَنَعْتَ بَعْدِي؟ قَالَ: زَوَّجَنِي أَبِي آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ، فَأَقَمْتُ عِنْدَهَا ثَلاثًا، فَأَنْشَأَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُرٍّ تَقُولُ: إِنِّي رَأَيْتُ مخيله لَمَعَتْ ... فَتَلَأْلَأَتْ بِحَنَاتِمِ الْقَطْرِ فلمأتها نُورًا يُضِيءُ لَهُ ... مَا حَوْلَهُ كَإِضَاءَةِ الْبَدْرِ فَرَجَوْتُهَا فَخْرًا أَبُوءُ بِهِ ... مَا كُلُّ قَادِحٍ زِنْدُهُ يُورِي لِلَّهِ مَا زهرية سلبت ... ثوبيك ما استلبت وما تدري! وقالت أيضا: بني هاشم قد غادرت من أخيكم ... امينه إذ للباه تعتركان كما غادر المصباح عند خموده ... فتائل قد ميثت له بدهان وما كل ما يحوي الفتى من تلاده ... لعزم ولا ما فاته لتوان فأجمل إذا طالبت أمرا فإنه ... سيكفيكه جدان يعتلجان

ابن عبد المطلب

سيكفيكه إما يد مقفعلة ... وإما يد مبسوطة ببنان ولما حوت منه أمينة ما حوت ... حوت منه فخرا ما لذلك ثان حدثني الحارث بْن محمد، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حدثنا معمر وغيره، عن الزهري، أن عبد الله بن عبد المطلب كان أجمل رجال قريش، فذكر لآمنة بنت وهب جماله وهيئته، وقيل لها: هل لك أن تزوجيه! فتزوجته آمنة بنت وهب، فدخل بها، وعلقت برسول الله ص، وبعثه أبوه إلى المدينة في ميرة يحمل لهم تمرا، فمات بالمدينة، فبعث عبد المطلب ابنه الحارث في طلبه حين أبطأ، فوجده قد مات. قال الواقدي: هذا غلط، والمجتمع عليه عندنا في نكاح عبد الله بن عبد المطلب ما حدثنا به عبد الله بن جعفر الزهري، عن أم بكر بنت المسور، أن عبد المطلب جاء بابنه عبد الله، فخطب على نفسه وعلى ابنه، فتزوجا في مجلس واحد، فتزوج عبد المطلب هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة، وتزوج عبد الله ابن عبد المطلب آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة. قَالَ الْحَارِثُ: قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: قَالَ الْوَاقِدِيُّ: والثبت عندنا، ليس بين أصحابنا فيه اختلاف، أن عبد الله بن عبد المطلب أقبل من الشام في عير لقريش، فنزل بالمدينة وهو مريض، فأقام بها حتى توفي، ودفن في دار النابغة- وقيل التابعة- في الدار الصغرى إذا دخلت الدار عن يسارك، ليس بين أصحابنا في هذا اختلاف. ابن عبد المطلب وعبد المطلب اسمه شيبة، سمي بذلك، لأنه فِيمَا حدثت عن هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبيه: كان في رأسه شيبة. وقيل له عبد المطلب، وذلك أن أباه هاشما كان شخص في تجارة له

الى الشام، فسلك طريق المدينة إليها، فلما قدم المدينة نزل- فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق وفيما حدثت عن هشام ابن محمد عن أبيه وفيما حدثني الحارث، عن محمد بن سعد، عن محمد بن عمر، ودخل حديث بعضهم في بعض، وبعضهم يزيد على بعض- على عمرو بن زيد بن لبيد الخزرجي، فرأى ابنته سلمى بنت عمرو- وأما ابن حميد فقال في حديثه عن سلمة، عن ابن إسحاق: سلمى بنت زيد بن عمرو- ابن لبيد بن حرام بن خداش بن جندب بن عدي بن النجار فأعجبته، فخطبها إلى أبيها عمرو، فأنكحه إياها، وشرط عليه ألا تلد ولدا إلا في أهلها، ثم مضى هاشم لوجهته قبل أن يبني بها، ثم انصرف راجعا من الشام، فبنى بها في أهلها بيثرب، فحملت منه ثم ارتحل إلى مكة وحملها معه، فلما أثقلت ردها إلى أهلها، ومضى إلى الشام فمات بها بغزة، فولدت له سلمى عبد المطلب، فمكث بيثرب سبع سنين أو ثماني سنين ثم إن رجلا من بني الحارث بن عبد مناة مر بيثرب، فإذا غلمان ينتضلون، فجعل شيبة إذا خسق قال: أنا ابن هاشم، أنا ابن سيد البطحاء، فقال له الحارثي: من أنت؟ قال: أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف فلما أتى الحارثي مكة، قال للمطلب وهو جالس في الحجر: يا أبا الحارث، تعلم أني وجدت غلمانا ينتضلون بيثرب، وفيهم غلام إذا خسق قال: أنا ابن هاشم، أنا ابن سيد البطحاء فقال المطلب: والله لا أرجع إلى أهلي حتى آتي به، فقال له الحارثي: هذه ناقتي بالفناء فاركبها، فجلس المطلب عليها، فورد يثرب عشاء، حتى أتى بني عدي بن النجار، فإذا غلمان يضربون كرة بين ظهري مجلس، فعرف ابن أخيه فقال للقوم: أهذا ابن هاشم؟ قالوا: نعم، هذا ابن أخيك، فإن كنت تريد أخذه فالساعة قبل أن تعلم به أمه، فإنها إن علمت لم تدعه، وحلنا بينك وبينه فدعاه، فقال: يا بن أخي، أنا عمك، وقد أردت الذهاب بك الى قومك- واناخ

راحلته- فما كذب أن جلس على عجز الناقة، فانطلق به، ولم تعلم به أمه حتى كان الليل، فقامت تدعو بحربها على ابنها، فأخبرت أن عمه ذهب به، وقدم به المطلب ضحوة، والناس في مجالسهم، فجعلوا يقولون: من هذا وراءك؟ فيقول: عبد لي، حتى أدخله منزله على امرأته خديجة بنت سعيد بن سهم، فقالت: من هذا؟ قال: عبد لي، ثم خرج المطلب حتى أتى الحزورة، فاشترى حلة فألبسها شيبة، ثم خرج به حين كان العشي إلى مجلس بني عبد مناف، فجعل بعد ذلك يطوف في سكك مكة في تلك الحلة، فيقال: هذا عبد المطلب، لقوله: هذا عبدي حين سأله قومه، فقال المطلب: عرفت شيبة والنجار قد جعلت ... ابناؤها حوله بالنبل تنتضل وقد حدثني هذا الحديث علي بن حرب الموصلي، قال: حدثني أبو معن عيسى- من ولد كعب بن مالك- عن محمد بن أبي بكر الأنصاري، عن مشايخ الأنصار، قالوا: تزوج هاشم بن عبد مناف امرأة من بني عدي بن النجار، ذات شرف، تشرط على من خطبها المقام بدار قومها، فتزوجت بهاشم، فولدت له شيبة الحمد، فربى في أخواله مكرما، فبينا هو يناضل فتيان الأنصار إذ أصاب خصلة، فقال: أنا ابن هاشم وسمعه رجل مجتاز فلما قدم مكة، قال لعمه المطلب بن عبد مناف: قد مررت بدار بني قيلة فرأيت فتى من صفته ومن صفته يناضل فتيانهم، فاعتزى إلى أخيك، وما ينبغي ترك مثله في الغربة فرحل المطلب حتى ورد المدينة، فأراده على الرحلة، فقال: ذاك إلى الوالدة، فلم يزل بها حتى أذنت له، وأقبل به قد أردفه، فإذا لقيه اللاقي وقال: من هذا يا مطلب؟ قال: عبد لي، فسمي عبد المطلب فلما قدم مكة وقفه على ملك أبيه، وسلمه إليه، فعرض له نوفل بن عبد مناف في ركح له، فاغتصبه إياه، فمشى عبد المطلب إلى رجالات قومه، فسألهم النصرة على عمه، فقالوا: لسنا بداخلين بينك وبين عمك، فلما رأى ذلك كتب إلى أخواله يصف لهم حال نوفل، وكتب في كتابه: أبلغ بني النجار إن جئتهم ... إني منهم وابنهم والخميس

رأيتهم قوما إذا جئتهم ... هووا لقائي وأحبوا حسيس فإن عمي نوفلا قد أبى ... إلا التي يغضي عليها الخسيس قال: فخرج أبو أسعد بن عدس النجاري في ثمانين راكبا، حتى أتى الأبطح، وبلغ عبد المطلب، فخرج يتلقاه، فقال: المنزل يا خال! فقال: أما حتى ألقى نوفلا فلا قال: تركته جالسا في الحجر في مشايخ قريش، فأقبل حتى وقف على رأسه، ثم استل سيفه، ثم قال: ورب هذه البنية، لتردن على ابن أختنا ركحه أو لأملأن منك السيف، قال: فإني ورب هذه البنية أرد ركحه فأشهد عليه من حضر، ثم قال: المنزل يا بن أختي، فأقام عنده ثلاثا واعتمر، وأنشأ عبد المطلب يقول: تأبى مازن وبنو عدي ... ودينار بن تيم اللات ضيمي وساده مالك حتى تناهى ... ونكب بعد نوفل عن حريمي بهم رد الإله علي ركحي ... وكانوا في التنسب دون قومي وقال في ذلك سمرة بن عمير، أبو عمرو الكناني: لعمري لأخوال لشيبة قصرة ... من أعمامه دنيا أبر وأوصل أجابوا على بعد دعاء ابن أختهم ... ولم يثنهم إذ جاوز الحق نوفل جزى الله خيرا عصبة خزرجية ... تواصوا على بر، وذو البر أفضل قال: فلما رأى ذلك نوفل، حالف بني عبد شمس كلها على بني هاشم. قال محمد بن أبي بكر: فحدثت بهذا الحديث موسى بن عيسى، فقال: يا بن أبي بكر، هذا شيء ترويه الأنصار تقربا إلينا، إذ صير الله الدولة فينا! عبد المطلب كان أعز في قومه من أن يحتاج إلى أن تركب بنو النجار من

المدينة إليه قلت: أصلح الله الأمير! قد احتاج إلى نصرهم من كان خيرا من عبد المطلب قال: وكان متكئا فجلس مغضبا، وقال: من خير من عبد المطلب! قلت: محمد رسول الله ص، قال: صدقت، وعاد إلى مكانه، وقال لبنيه: اكتبوا هذا الحديث من ابن أبي بكر. وقد حدثت هذا الحديث في أمر عبد المطلب وعمه نوفل بن عبد مناف، عن هشام بن محمد، عن أبيه، قال: حدثنا زياد بن علاقة التغلبي- وكان قد أدرك الجاهلية- قال: كان سبب بدء الحلف الذي كان بين بني هاشم وخزاعة الذي افتتح رسول الله ص بسببه مكة، وقال: لتنصب هذه السحابة بنصر بني كعب، أن نوفل بن عبد مناف- وكان آخر من بقي من بني عبد مناف- ظلم عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف على أركاح له- وهي الساحات- وكانت أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو النجارية من الخزرج، قال: فتنصف عبد المطلب عمه، فلم ينصفه، فكتب إلى أخواله: يا طول ليلي لأحزاني وأشغالي ... هل من رسول الى النجار اخوالى! بنى عديا ودينارا ومازنها ... ومالكا عصمة الجيران عن حالي قد كنت فيكم ولا أخشى ظلامة ذي ... ظلم عزيزا منيعا ناعم البال حتى ارتحلت إلى قومي وأزعجني ... عن ذاك مطلب عمي بترحال وكنت ما كان حيا ناعما جذلا ... امشى لعرضنه سحابا لأذيالي فغاب مطلب في قعر مظلمة ... وقام نوفل كي يعدو على مالي أإن رأى رجلا غابت عمومته ... وغاب أخواله عنه بلا وال أنحى عليه ولم يحفظ له رحما ... ما أمنع المرء بين العم والخال! فاستنفروا وامنعوا ضيم ابن أختكم ... لا تخذلوه وما أنتم بخذال ما مثلكم في بني قحطان قاطبة ... حي لجار وإنعام وإفضال

ابن هاشم

أنتم ليان لمن لانت عريكته ... سلم لكم وسمام الأبلخ الغالي قال: فقدم عليه منهم ثمانون راكبا، فأناخوا بفناء الكعبة، فلما رآهم نوفل بن عبد مناف، قال لهم: أنعموا صباحا! فقالوا له: لا نعم صباحك أيها الرجل! أنصف ابن أختنا من ظلامته قال: أفعل بالحب لكم والكرامة، فرد عليه الأركاح وأنصفه. قال: فانصرفوا عنه إلى بلادهم قال: فدعا ذلك عبد المطلب إلى الحلف، فدعا عبد المطلب بسر بن عمرو وورقاء بن فلان ورجالا من رجالات خزاعة، فدخلوا الكعبة وكتبوا كتابا. وكان إلى عبد المطلب بعد مهلك عمه المطلب بن عبد مناف ما كان إلى من قبله من بني عبد مناف من أمر السقاية والرفادة، وشرف في قومه، وعظم فيهم خطره، فلم يكن يعدل به منهم أحد، وهو الذي كشف عن زمزم، بئر إسماعيل بن إبراهيم، واستخرج ما كان فيها مدفونا، وذلك غزالان من ذهب، كانت جرهم دفنتهما- فيما ذكر- حين أخرجت من مكة، وأسياف قلعية، وأدراع، فجعل الأسياف بابا للكعبة، وضرب في الباب الغزالين صفائح من ذهب، فكان أول ذهب حليته- فيما قيل- الكعبه. وكانت كنيه عبد المطلب أبا الحارث، كني بذلك لأن الأكبر من ولده الذكور كان اسمه الحارث، وهو شيبة ابن هاشم واسم هاشم عمرو، وإنما قيل له هاشم، لأنه أول من هشم الثريد لقومه بمكة وأطعمه، وله يقول مطرود بن كعب الخزاعي- وقال ابن الكلبي: إنما قاله ابن الزبعرى:

عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف ذكر أن قومه من قريش، كانت أصابتهم لزبة وقحط، فرحل إلى فلسطين، فاشترى منها الدقيق، فقدم به مكة، فأمر به فخبز له ونحر جزورا، ثم اتخذ لقومه مرقة ثريد بذلك الخبز. وذكر أن هاشما هو أول من سن الرحلتين لقريش: رحلة الشتاء والصيف. وحدثت عن هشام بن محمد، عن أبيه، قال: كان هاشم، وعبد شمس- وهو أكبر ولد عبد مناف، والمطلب- وكان أصغرهم- أمهم عاتكة بنت مرة السلمية، ونوفل- وأمه واقدة- بني عبد مناف، فسادوا بعد أبيهم جميعا، وكان يقال لهم المجبرون، قال: ولهم يقال: يا ايها الرجل المحول رحله ... ألا نزلت بآل عبد مناف! فكانوا أول من أخذ لقريش العصم، فانتشروا من الحرم، أخذ لهم هاشم حبلا من ملوك الشام والروم وغسان، وأخذ لهم عبد شمس حبلا من النجاشي الأكبر، فاختلفوا بذلك السبب إلى أرض الحبشة، وأخذ لهم نوفل حبلا من الأكاسرة، فاختلفوا بذلك السبب إلى العراق وأرض فارس، وأخذ لهم المطلب حبلا من ملوك حمير، فاختلفوا بذلك السبب إلى اليمن، فجبر الله بهم قريشا، فسموا المجبرين. وقيل: ان عبد شمس وهاشما توأمان، وإن أحدهما ولد قبل صاحبه، وإصبع له ملتصقة بجبهة صاحبه، فنحيت عنها فسال من ذلك دم، فتطير من ذلك، فقيل: تكون بينهما دماء ولى هاشم بعد أبيه عبد مناف السقاية والرفادة. حدثني الحارث، قال: حدثنا مُحَمَّد بن سعد، قال: أخبرنا هشام بن

محمد، قال: حدثني معروف بن الخربوذ المكي، قال: حدثني رجل من آل عدي بن الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف عن أبيه، قال: وقال وهب بن عبد قصي في ذلك- يعني في إطعام هاشم قومه الثريد: تحمل هاشم ما ضاق عنه ... وأعيا أن يقوم به ابن بيض أتاهم بالغرائر متأقات ... من أرض الشام بالبر النفيض فأوسع أهل مكة من هشيم ... وشاب الخبز باللحم الغريض فظل القوم بين مكللات ... من الشيزى وحائرها يفيض قال: فحسده أمية بن عبد شمس بن عبد مناف- وكان ذا مال- فتكلف أن يصنع صنيع هاشم، فعجز عنه، فشمت به ناس من قريش فغضب، ونال من هاشم، ودعاه إلى المنافرة، فكره هاشم ذلك لسنه وقدره، ولم تدعه قريش وأحفظوه، قال: فإني أنافرك على خمسين ناقة سود الحدق، تنحرها ببطن مكة، والجلاء عن مكة عشر سنين فرضي بذلك أمية، وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي، فنفر هاشما عليه، فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها من حضره، وخرج أمية إلى الشام، فأقام بها عشر سنين فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية. حدثني الحارث قال: حدثنا مُحَمَّد بن سعد، قال: أخبرنا هشام ابن محمد، قال: أخبرني رجل من بني كنانة، يقال له ابن أبي صالح، ورجل من أهل الرقة مولى لبني أسد، وكان عالما، قالا: تنافر عبد المطلب ابن هاشم وحرب بن أمية إلى النجاشي الحبشي، فأبى ان ينفر بينها، فجعل بينهما نفيل بْن عبد العزى بْن رياح بْن عبد اللَّه بْن قرط بْن رزاح بْن عدى ابن كعب، فقال لحرب: يا أبا عمرو، أتنافر رجلا هو أطول منك قامة، وأعظم منك هامة، وأوسم منك وسامة، وأقل منك لامة، وأكثر منك ولدا، وأجزل منك صفدا، وأطول منك مذودا! فنفره عليه فقال حرب: إن

ابن عبد مناف

من انتكاث الزمان أن جعلناك حكما! فكان أول من مات من ولد عبد مناف ابنه هاشم، مات بغزة من أرض الشام، ثم مات عبد شمس بمكة فقبر بأجياد، ثم مات نوفل بسلمان من طريق العراق، ثم مات المطلب بردمان من أرض اليمن، وكانت الرفادة والسقاية بعد هاشم إلى أخيه المطلب . ابن عبد مناف واسمه المغيرة، وكان يقال له القمر من جماله وحصنه وكان قصي يقول- فيما زعموا-: ولد لي أربعة، فسميت اثنين بصنمي، وواحدا بداري، وواحدا بنفسي، وهم عبد مناف وعبد العزى ابنا قصي- وعبد العزى والد أسد- وعبد الدار بن قصي، وعبد قصي بن قصي- درج ولده- وبرة بنت قصي، أمهم جميعا حبى بنت حليل بْن حبشية بْن سلول بْن كعب بْن عمرو بن خزاعة. وحدثت عن هشام بن محمد، عن أبيه، قال: وكان يقال لعبد مناف القمر، واسمه المغيرة، وكانت أمه حبى دفعته إلى مناف- وكان أعظم أصنام مكة- تدينا بذلك، فغلب عليه عبد مناف، وهو كما قيل له: كانت قريش بيضه فتفلقت ... فالمح خالصة لعبد مناف ابن قصي وقصي اسمه زيد، وإنما قيل له قصي، لأن أباه كلاب بن مرة كان تزوج أم قصي فاطمة بنت سعد بن سيل- واسم سيل، خير- بن حمالة بن عوف بن غنم بن عامر الجادر، بن عمرو بن جعثمة بن يشكر، من أزدشنوءة حلفاء في بني الديل، فولدت لكلاب زهرة وزيدا، فهلك كلاب وزيد صغير، وقد شب زهرة وكبر، فقدم ربيعة بن حرام بن ضنه بن عبد بن كبير ابن عذرة بن سعد بن زيد، أحد قضاعة، فتزوج- فيما حَدَّثَنَا ابن حميد،

قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق وحدثت عن هشام بن محمد عن أبيه- فاطمة أم زهرة وقصي- وزهرة رجل قد بلغ، وقصي فطيم أو قريب من ذلك- فاحتملها إلى بلاده من أرض بني عذرة، من أشراف الشام، فاحتملت معها قصيا لصغره، وتخلف زهرة في قومه، فولدت فاطمة بنت سعد بن سيل لربيعة بن حرام رزاح بن ربيعة، فكان أخاه لأمه، وكان لربيعة بن حرام ثلاثة نفر من امرأة أخرى، وهم حن بن ربيعة، ومحمود بن ربيعة، وجلهمة بن ربيعة وشب زيد في حجر ربيعة، فسمي زيد قصيا لبعد داره عن دار قومه، ولم يبرح زهرة مكة، فبينا قصي بن كلاب بأرض قضاعة لا ينتمي- فيما يزعمون- إلا إلى ربيعة بن حرام، إذ كان بينه وبين رجل من قضاعة شيء- وقد بلغ قصي، وكان رجلا شابا- فأنبه القضاعي بالغربة وقال له: ألا تلحق بقومك ونسبك فإنك لست منا! فرجع قصي إلى أمه، وقد وجد في نفسه مما قال له القضاعي، فسألها عما قال له ذلك الرجل، فقالت له: أنت والله يا بني أكرم منه نفسا ووالدا، أنت ابن كلاب بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة القرشي، وقومك بمكة عند البيت الحرام، وفيما حوله فأجمع قصي الخروج إلى قومه واللحوق بهم، وكره الغربة بأرض قضاعة، فقالت له أمه: يا بني لا تعجل بالخروج حتى يدخل عليك الشهر الحرام، فتخرج في حاج العرب، فإني أخشى عليك أن يصيبك بعض البأس، فأقام قصي حتى إذا دخل الشهر الحرام، خرج حاج قضاعة، فخرج فيهم حتى قدم مكة، فلما فرغ من الحج أقام بها، وكان رجلا جليدا نسيبا، فخطب إلى حليل بن حبشية الخزاعي ابنته حبى بنت حليل، فعرف حليل النسب ورغب فيه، فزوجه- وحليل يومئذ فيما يزعمون- يلي الكعبة وأمر مكة. فأما ابن إسحاق، فإنه قال في خبره: فأقام قصي معه- يعني مع حليل- وولدت له ولده عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العزى، وعبدا بني قصي فلما انتشر ولده، وكثر ماله، وعظم شرفه هلك حليل بن حبشية، فرأى قصي أنه أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة وبني بكر، وأن قريشا

فرعة إسماعيل بن إبراهيم، وصريح ولده، فكلم رجالا من قريش وبني كنانة، ودعاهم إلى إخراج خزاعة وبني بكر من مكة، فلما قبلوا منه ما دعاهم إليه وبايعوه عليه، كتب إلى أخيه من أمه رزاح بن ربيعة بن حرام- وهو ببلاد قومه- يدعوه إلى نصرته، والقيام معه، فقام رزاح بن ربيعة في قضاعة، فدعاهم إلى نصر أخيه والخروج معه إليه، فأجابوه إلى ما دعاهم من ذلك. وقال هشام في خبره: قدم قصي على أخيه زهرة وقومه، فلم يلبث أن ساد، وكانت خزاعة بمكة أكثر من بني النضر، فاستنجد قصي أخاه رزاحا، وله ثلاثة أخوة من أبيه، من امرأة أخرى، فأقبل بهم وبمن أجابه من أحياء قضاعة، ومع قصي قومه بنو النضر، فنفوا خزاعة، فتزوج قصي حبى بنت حليل بن حبشية من خزاعة، فولدت له أولاده الأربعة، وكان حليل آخر من ولي البيت، فلما ثقل جعل ولاية البيت إلى ابنته حبى، فقالت: قد علمت أني لا أقدر على فتح الباب وإغلاقه، قال: فإني أجعل الفتح والإغلاق إلى رجل يقوم لك به، فجعله إلى أبي غبشان- وهو سليم بن عمرو بن بوى بن ملكان بن أفصى- فاشترى قصي ولاية البيت منه بزق خمر وبعود. فلما رأت ذلك خزاعة كثروا على قصي، فاستنصر أخاه، فقاتل خزاعة. فبلغنا- والله أعلم- أن خزاعة أخذتها العدسة، حتى كادت تفنيهم، فلما رأت ذلك جلت عن مكة، فمنهم من وهب مسكنه، ومنهم من باع، ومنهم من أسكن، فولي قصي البيت وأمر مكة والحكم بها، وجمع قبائل قريش، فأنزلهم أبطح مكة وكان بعضهم في الشعاب ورءوس جبال مكة، فقسم منازلهم بينهم، فسمي مجمعا، وله يقول مطرود- وقيل: إن قائله حذافة ابن غانم: أبوكم قصي كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر

وملكه قومه عليهم. وأما ابن إسحاق، فإنه ذكر أن رزاحا أجاب قصيا إلى ما دعاه إليه من نصرته، وخرج إلى مكة مع إخوته الثلاثة، ومن تبعه لذلك من قضاعة في حاج العرب، وهم مجمعون لنصر قصي، والقيام معه، قال: وخزاعة تزعم أن حليل بن حبشية أوصى بذلك قصيا، وأمره به حين انتشر له من ابنته من الأولاد ما انتشر، وقال: أنت أولى بالكعبة والقيام عليها، وبأمر مكة من خزاعة، فعند ذلك طلب قصي ما طلب. فلما اجتمع الناس بمكة وخرجوا إلى الموقف، وفرغوا من الحج ونزلوا منى، وقصي مجمع لما أجمع له، ومن تبعه من قومه من قريش وبني كنانة ومن معه من قضاعة، ولم يبق إلا أن ينفروا للصدر، وكانت صوفة تدفع بالناس من عرفة، وتجيزهم إذا نفروا من منى، إذا كان يوم النفر أتوا لرمي الجمار- ورجل من صوفة يرمي للناس، لا يرمون حتى يرمي- فكان ذوو الحاجات المعجلون يأتونه، فيقولون له: قم فارم حتى نرمي معك، فيقول: لا والله حتى تميل الشمس، فيظل ذوو الحاجات الذين يحبون التعجيل، يرمونه بالحجارة ويستعجلونه بذلك، ويقولون: ويلك قم فارم! فيأبى عليهم، حتى إذا مالت الشمس قام فرمى ورمى الناس معه. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، هذا الحديث، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْن الزبير، عن أبيه عباد. فإذا فرغوا من رمي الجمار، وأرادوا النفر من منى، أخذت صوفة بناحيتي العقبة، فحبسوا الناس، وقالوا: أجيزي صوفة، فلم يجز أحد من الناس حتى ينفذوا، فإذا نفرت صوفة ومضت خلي سبيل الناس، فانطلقوا بعدهم، فلما كان ذلك العام، فعلت ذلك صوفة كما كانت تفعل، قد عرفت ذلك لها العرب، وهو دين في أنفسهم في عهد جرهم وخزاعة وولايتهم، أتاهم قصي بن

كلاب بمن معه من قومه من قريش وكنانة وقضاعة عند العقبة، فقالوا: نحن أولى بهذا منكم، فناكروه فناكرهم، فقاتلوه فاقتتل الناس قتالا شديدا، ثم انهزمت صوفة، وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم من ذلك، وحال بينهم وبينه. قال: وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي بن كلاب، وعرفوا أنه سيمنعهم كما منع صوفة، وأنه سيحول بينهم وبين الكعبة وأمر مكة، فلما انحازوا عنه باداهم وأجمع لحربهم، وثبت معه أخوه رزاح بن ربيعة بمن معه من قومه من قضاعة، وخرجت لهم خزاعة وبنو بكر وتهيئوا لحربهم، والتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا، حتى كثرت القتلى من الفريقين جميعا، وفشت فيهم الجراحة ثم إنهم تداعوا إلى الصلح، إلى أن يحكموا بينهم رجلا من العرب فيما اختلفوا فيه، ليقضي بينهم، فحكموا يعمر بن عوف ابن كعب بْن ليث بْن بكر بْن عبد مناة بن كنانة، فقضى بينهم بأن قصيا أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة، وأن كل دم أصابه قصي من خزاعة وبني بكر موضوع يشدخه تحت قدميه، وأن ما أصابت خزاعة وبنو بكر من قريش وبني كنانه وقضاعة ففيه الدية مؤداة، وأن يخلى بين قصى ابن كلاب وبين الكعبة ومكة، فسمي يعمر بن عوف يومئذ الشداخ، لما شدخ من الدماء ووضع منها فولي قصي البيت وأمر مكة وجمع قومه من منازلهم إلى مكة، وتملك على قومه وأهل مكة فملكوه، فكان قصي أول ولد كعب ابن لؤي أصاب ملكا أطاع له به قومه، فكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء، فحاز شرف مكة كله، وقطع مكة أرباعا بين قومه، فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة التي أصبحوا عَلَيْهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن ابن إسحاق، قال: ويزعم الناس أن قريشا هابت قطع شجر الحرم في منازلهم، فقطعها قصي بيده، وأعانوه، فسمته العرب مجمعا لما جمع من أمرها، وتيمنت بأمره، فما تنكح امرأة ولا رجل من قريش إلا في دار قصي بن كلاب، وما يتشاورون

في أمر ينزل بهم إلا في داره، ولا يعقدون لواء لحرب قوم من غيرهم إلا في داره، يعقدها لهم بعض ولده، وما تدرع جارية إذا بلغت أن تدرع من قريش إلا في داره، يشق عليها فيها درعها ثم تدرعه، ثم ينطلق بها إلى أهلها، فكان أمره في قومه من قريش في حياته وبعد موته كالدين المتبع، لا يعمل بغيره تيمنا بأمره ومعرفة بفضله وشرفه، واتخذ قصي لنفسه دار الندوة، وجعل بابها إلى مسجد الكعبة، ففيها كانت قريش تقضي أمورها حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الملك بن راشد، عن أبيه، قال: سمعت السائب بن خباب صاحب المقصورة يحدث أنه سمع رجلا يحدث عمر بن الخطاب- وهو خليفة- حديث قصي بن كلاب هذا وما جمع من أمر قومه، وإخراجه خزاعة وبني بكر من مكة، وولايته البيت وأمر مكة، فلم يردد ذلك عليه ولم ينكره. قال: فأقام قصي بمكة على شرفه ومنزلته في قومه لا ينازع في شيء من أمر مكة، إلا أنه قد أقر للعرب في شأن حجهم ما كانوا عليه، وذلك لأنه كان يراه دينا في نفسه، لا ينبغي له تغييره، وكانت صوفة على ما كانت عليه، حتى انقرضت صوفة، فصار ذلك من أمرهم إلى آل صفوان بن الحارث ابن شجنة وراثة، وكانت عدوان على ما كانت عليه، وكانت النسأة من بني مالك بن كنانة على ما كانوا عليه، ومرة بن عوف على ما كانوا عليه، فلم يزالوا على ذلك حتى قام الإسلام، فهدم الله به ذلك كله وابتنى قصي دارا بمكة، وهي دار الندوة، وفيها كانت قريش تقضي أمورها، فلما كبر قصى ورق عظمه- وكان عبد الدار بكره هو، كان أكبر ولده، وكان- فيما يزعمون- ضعيفا، وكان عبد مناف قد شرف في زمان أبيه، وذهب كل مذهب وعبد العزى بن قصي وعبد بن قصي، فقال قصي لعبد الدار فيما يزعمون: أما والله لألحقنك بالقوم، وإن كانوا قد شرفوا عليك، لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تكون أنت تفتحها، ولا يعقد لقريش لواء لحربهم إلا أنت بيدك، ولا يشرب رجل بمكة ماء إلا من سقايتك، ولا يأكل أحد من

ابن كلاب

أهل الموسم طعاما إلا من طعامك، ولا تقطع قريش أمورها إلا في دارك. فأعطاه داره، دار الندوة التي لا تقضي قريش أمرا إلا فيها، وأعطاه الحجابة واللواء والندوة والسقاية والرفادة- وكانت الرفادة خرجا تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى قصي بن كلاب، فيصنع به طعاما للحاج يأكله من لم تكن له سعة ولا زاد ممن يحضر الموسم، وذلك أن قصيا فرضه على قريش، فقال لهم حين أمرهم به: يا معشر قريش، إنكم جيران الله وأهل بيته الحرام، وإن الحاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم شرابا وطعاما أيام هذا الحج، حتى يصدروا عنكم ففعلوا فكانوا يخرجون لذلك كل عام من أموالهم فيدفعونه إليه، فيصنعه طعاما للناس أيام منى فجرى ذلك من أمره على قومه في الجاهلية، حتى قام الإسلام، ثم جرى في الإسلام إلى يومك هذا، فهو الطعام الذي يصنعه السلطان كل عام بمنى حتى ينقضي الحج. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنى من امر قصى ابن كلاب وما قال لعبد الدار فيما دفع إليه ابن إسحاق بن يسار، عن أبيه، عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، قال: سمعته يقول ذلك لرجل من بني عبد الدار، يقال له نبيه بن وهب بن عامر بن عكرمة بن هاشم ابن عبد مناف بن عبد الدار قال الحسن بن محمد: فجعل إليه قصي ما كان بيده من أمر قومه كله، وكان قصي لا يخالف ولا يرد عليه شيء صنعه. ثم إن قصيا هلك، فأقام أمره في قومه من بعده بنوه . ابن كلاب وأم كلاب- فيما ذكر- هند بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة وله أخوان من ابيه من غير أمه، وهما تيم ويقظة، أمهما- فيما قال هشام بن الكلبي- أسماء بنت عدي بن حارثة ابن عمرو بن عامر بن بارق. وأما ابن إسحاق فإنه قال: أمهما هند بنت حارثة البارقية قال: ويقال: بل يقظة لهند بنت سرير، أم كلاب

ابن مره

ابن مرة وأم مرة وحشية بنت شيبان بن محارب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، وأخواه لأبيه وأمه عدي وهصيص وقيل إن أم هؤلاء الثلاثة مخشية وقيل: إن أم مرة وهصيص مخشية بنت شيبان بن محارب بن فهر، وأم عدي رقاش بنت ركبة بن نائلة بن كعب بن حرب بن تيم بن سعد بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان . ابن كعب وأم كعب ماوية- فيما قال ابن إسحاق وابن الكلبي- وماوية بنت كعب ابن القين بن جسر بن شيع الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عِمْرَان بن الحاف بن قضاعة، وله أخوان من أبيه وأمه: أحدهما يقال له عامر، والآخر سامة، وهم بنو ناجية، ولهم من أبيهم أخ قد انتمى ولده إلى غطفان ولحقوا بهم، كان يقال له: عوف، أمه الباردة بنت عوف بن غنم بن عبد الله بن غطفان. ذكر أن الباردة لما مات لؤي بن غالب خرجت بابنها عوف إلى قومها، فتزوجها سعد بن ذبيان بن بغيض، فتبنى عوفا، وفيه يقول- فيما ذكر- فزارة بن ذبيان: عرج علي ابن لؤي جملك ... يتركك القوم ولا منزل لك ولكعب أخوان آخران أيضا من أبيه من غير أمه، أحدهما خزيمة، وهو عائذة قريش، وعائذة أمه، وهي عائذة بنت الخمس بن قحافة، من خثعم، والآخر سعد ويقال لهم بنانة، وبنانة أمهم، فأهل البادية منهم اليوم- فيما ذكر- في بني أسعد بن همام في بني شيبان بن ثعلبة، وأهل الحاضرة ينتمون إلى قريش

ابن لؤي

ابن لؤي وأم لؤي- فيما قال هشام- عاتكة بنت يخلد بن النضر بن كنانة، وهي أولى العواتك اللائي ولدن رسول الله ص من قريش، وله أخوان من أبيه وأمه، يقال لأحدهما: تيم، وهو الذي كان يقال له تيم الأدرم- والدرم نقصان في الذقن، قيل إنه كان ناقص اللحي- وقيس، قيل: لم يبق من قيس أخي لؤي أحد، وإن آخر من كان بقي منهم رجل هلك في زمان خالد بن عبد الله القسري، فبقي ميراثه، لا يدري من يستحقه. وقد قيل: إن أم لؤي وإخوته سلمى بنت عمرو بن ربيعة، وهو لحي بن حارثة ابن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء، من خزاعة . ابن غالب وأم غالب ليلى بنت الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة وإخوته من أبيه وأمه: الحارث، ومحارب، وأسد، وعوف، وجون، وذئب، وكانت محارب والحارث من قريش الظواهر، فدخلت الحارث الأبطح ابن فهر وفهر- فيما حدثت عن هشام بن محمد أنه قال: هو جماع قريش، قال: وأمه جندلة بنت عامر بن الحارث بن مضاض الجرهمي. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ- فِيمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ- قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق: أمه جندلة بنت الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمي. وكان أبو عبيدة معمر بن المثنى يقول- فيما ذكر عنه- أمه سلمى بنت أد بن طابخة بن إلياس بن مضر. وقيل: إن أمه جميلة بنت عدوان من بارق، من الأزد. وكان فهر في زمانه رئيس الناس بمكة- فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق- في حربهم حسان بن عبد كلال بن مثوب

ابن مالك

ذي حرث الحميري وكان حسان- فيما قيل- أقبل من اليمن مع حمير وقبائل من اليمن عظيمة، يريد أن ينقل أحجار الكعبة من مكة إلى اليمن، ليجعل حج الناس عنده ببلاده، فأقبل حتى نزل بنخلة، فأغار على سرح الناس، ومنع الطريق، وهاب أن يدخل مكة، فلما رأت ذلك قريش وقبائل كنانة وخزيمة وأسد وجذام ومن كان معهم من أفناء مضر، خرجوا إليه، ورئيس الناس يومئذ فهر بن مالك، فاقتتلوا قتالا شديدا، فهزمت حمير، وأسر حسان بن عبد كلال ملك حمير، أسره الحارث بن فهر، وقتل في المعركة- فيمن قتل من الناس- ابن ابنه قيس بن غالب بن فهر وكان حسان عندهم بمكة أسيرا ثلاث سنين، حتى افتدى منهم نفسه، فخرج به، فمات بين مكة واليمن. ابن مالك وأمه عكرشة بنت عدوان، وهو الحارث بن عمرو بن قيس بن عيلان، في قول هشام. وأما ابن إسحاق فإنه قال: أمه عاتكة بنت عدوان بن عمرو بن قيس ابن عيلان. وقيل: إن عكرشة لقب عاتكة بنت عدوان، واسمها عاتكة. وقيل إن أمه هند بنت فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان وكان لمالك أخوان، يقال لأحدهما: يخلد، فدخلت يخلد في بني عمرو بن الحارث ابن مالك بن كنانة، فخرجوا من جماع قريش والآخر منهما يقال له: الصلت، لم يبق من ذريته أحد. وقيل: سميت قريش قريشا بقريش بن بدر بن يخلد بن الحارث بن يخلد بن النضر بن كنانة، وبه سميت قريش قريشا، لأن عير بني النضر كانت إذا قدمت قالت العرب: قد جاءت عير قريش، قالوا: وكان قريش

هذا دليل بني النضر في أسفارهم، وصاحب ميرتهم، وكان له ابن يسمى بدرا، احتفر بدرا، قالوا: فيه سميت البئر التي تدعى بدرا، بدرا. وقال ابن الكلبي: إنما قريش جماع نسب، ليس بأب ولا أم ولا حاضن ولا حاضنة. وقال آخرون: إنما سمي بنو النضر بن كنانة قريشا، لأن النضر بن كنانة خرج يوما على نادي قومه، فقال بعضهم لبعض: انظروا إلى النضر، كأنه جمل قريش. وقيل: إنما سميت قريش قريشا بدابة تكون في البحر تأكل دواب البحر، تدعى القرش، فشبه بنو النضر بن كنانة بها، لأنها أعظم دواب البحر قوة. وقيل: إن النضر بن كنانة كان يقرش عن حاجة الناس فيسدها بماله، والتقريش- فيما زعموا- التفتيش وكان بنوه يقرشون أهل الموسم عن الحاجة فيسدونها بما يبلغهم- واستشهدوا لقولهم: إن التقريش هو التفتيش، بقول الشاعر: أيها الناطق المقرش عنا ... عند عمرو فهل لهن انتهاء! وقيل: إن النضر بن كنانة كان اسمه قريشا وقيل: بل لم تزل بنو النضر ابن كنانة يدعون بني النضر حتى جمعهم قصي بن كلاب، فقيل لهم: قريش، من أجل أن التجمع هو التقرش، فقالت العرب تقرش بنو النضر، أي قد تجمعوا. وقيل: إنما قيل قريش، من أجل أنها تقرشت عن الغارات. حدثني الحارث، قال: حدثنا مُحَمَّد بن سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبو بكر بْن عبد الله بْن أبي سبرة، عن سعيد بن محمد ابن جبير بن مطعم، أن عبد الملك بن مروان سأل محمد بن جبير: متى

ابن النضر

سميت قريش قريشا؟ قال: حين اجتمعت إلى الحرم من تفرقها، فذلك التجمع التقرش فقال عبد الملك: ما سمعت هذا، ولكن سمعت أن قصيا كان يقال له القرشي، ولم تسم قريش قبله. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أبو بكر بْن عبد اللَّهِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَ قُصَيٌّ الْحَرَمَ وَغَلَبَ عليه، فَعَلَ أَفْعَالا جَمِيلَةً، فَقِيلَ لَهُ: الْقُرَشِيُّ، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سُمِّيَ بِهِ. حدثني الحارث، قال: حدثنا مُحَمَّد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أبو بكر بن أبي سبرة، عن أبي بكر بن عبيد الله بن أبي جهم، قال: النضر بن كنانة كان يسمى القرشي. حدثني الحارث، قال: حدثنا مُحَمَّد بن سعد، قال: قال محمد بن عمر: وقصي أحدث وقود النار بالمزدلفة، حيث وقف بها حتى يراها من دفع من عرفة، فلم تزل توقد تلك النار تلك الليلة في الجاهلية. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حدثنا مُحَمَّد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بْنُ عُمَرَ، قَالَ: فَأَخْبَرَنِي كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَتْ تِلْكَ النَّارُ تُوقَدُ عَلَى عَهْدِ رسول الله ص وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وَهِيَ تُوقَدُ إِلَى الْيَوْمِ . ابن النضر النضر قيس، وأمه برة بنت مر بن أد بن طابخه واخوته لأبيه وأمه نضير ومالك وملكان وعامر والحارث وعمر وسعد وعوف وغنم ومخرمة وجرول وغزوان وحدال وأخوهم من أبيهم عبد مناة، وأمه فكيهة- وقيل

ابن كنانه

فكهة- وهي الذفراء بنت هني بن بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة. وأخو عبد مناة لأمه علي بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن عمرو بن مازن الغساني، وكان عبد مناة بن كنانة تزوج هندا بنت بكر بن وائل، فولدت له ولده، ثم خلف عليها أخوه لأمه علي بن مسعود، فولدت له، فحضن علي بني أخيه، فنسبوا إليه، فقيل لبني عبد مناة: بنو علي، وإياهم عنى الشاعر بقوله: لله در بني علي ... أيم منهم وناكح وكعب بن زهير بقوله: صدموا عليا يوم بدر صدمة ... دانت علي بعدها لنزار ثم وثب مالك بن كنانة على علي بن مسعود، فقتله، فوداه أسد بن خزيمة . ابن كنانة وأم كنانة عوانة بنت سعد بن قيس بن عيلان وقد قيل: إن أمه هند بنت عمرو بن قيس، وإخوته من أبيه أسد وأسدة، يقال إنه أبو جذام والهون، وأمهم برة بنت مر بن أد بن طابخة، وهي أم النضر بن كنانة، خلف عليها بعد أبيه. ابن خزيمة وأمه سلمى بنت سليم بن الحاف بن قضاعة، وأخوه لأبيه وأمه هذيل، وأخوهما لأمهما تغلب بن حلوان بن عِمْرَان بن الحاف بن قضاعة. وقد قيل: إن أم خزيمة وهذيل سلمى بنت أسد بن ربيعة ابن مدركة واسمه عمرو، وأمه خندف، وهي ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف ابن قضاعة، وأمها ضرية بنت ربيعة بن نزار قيل: بها سمي حمى ضرية،

وإخوة مدركة لأبيه وأمه عامر- وهو طابخة- وعمير- وهو قمعة- ويقال: إنه أبو خزاعة. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق أنه قال: أم بني إلياس خندف، وهي امرأة من أهل اليمن، فغلبت على نسب بنيها، فقيل: بنو خندف. قال: وكان اسم مدركة عامرا، واسم طابخة عمرا قال: وزعموا أنهما كانا في إبل لهما يرعيانها، فاقتنصا صيدا، فقعدا عليه يطبخانه، وعدت عادية على إبلهما، فقال عامر لعمرو: أتدرك الإبل أو تطبخ هذا الصيد؟ فقال عمرو: بل أطبخ الصيد، فلحق عامر الإبل، فجاء بها، فلما راحا على أبيهما، فحدثاه بشأنهما، قال لعامر: أنت مدركة، وقال لعمرو: أنت طابخة. وحدثت عن هشام بن محمد، قالوا: خرج إلياس في نجعة له، فنفرت إبله من أرنب، فخرج إليها عمرو فأدركها، فسمي مدركة، وأخذها عامر فطبخها فسمي طابخة، وانقمع عمير في الخباء فلم يخرج فسمي قمعة، وخرجت أمهم تمشي فقال لها: إلياس أين تخندفين؟ فسميت خندف- والخندفة ضرب من المشي- قال: وقال قصي بن كلاب: أمهتي خندف وإلياس أبي. قال: وقال إلياس لعمرو ابنه: إنك قد أدركت ما طلبتا. ولعامر: وأنت قد أنضجت ما طبختا. ولعمير: وأنت قد اسات وانقمعتا

ابن الياس

ابن إلياس وأمه الرباب بنت حيدة بن معد، واخوه لأبيه وأمه الناس، وهو عيلان، وسمي عيلان- فيما ذكر- لأنه كان يعاتب على جوده، فيقال له: لتغلبن عليك العيلة يا عيلان، فلزمه هذا الاسم. وقيل: بل سمي عيلان بفرس كانت له تدعى عيلان. وقيل: سمي بذلك، لأنه ولد في جبل يسمى عيلان. وقيل: سمي بذلك لأنه حضنه عبد لمضر يدعى عيلان. ابن مضر وأمه سودة بنت عك، وأخوه لأبيه وأمه إياد، ولهما أخوان من أبيهما من غير أمهما، وهما ربيعة وأنمار، أمهما جدالة بنت وعلان بن جوشم ابن جلهمة بن عمرو، من جرهم. وذكر بعضهم أن نزار بن معد لما حضرته الوفاة اوصى بنيه، وقسم ماله بينهم، فقال: يا بني، هذه القبة- وهي قبة من أدم حمراء- وما أشبهها من مالي لمضر، فسمي مضر الحمراء وهذا الخباء الأسود وما أشبهه من مالي لربيعة، فخلف خيلا دهما، فسمي الفرس وهذه الخادم وما أشبهها من مالي لإياد- وكانت شمطاء- فأخذ البلق والنقد من غنمه وهذه البدرة والمجلس لأنمار يجلس فيه، فأخذ أنمار ما أصابه فإن أشكل عليكم في ذلك شيء واختلفتم في القسمة فعليكم بالأفعى الجرهمي فاختلفوا في القسمة، فتوجهوا إلى الأفعى، فبينما هم يسيرون في مسيرهم إذ رأى مضر كلأ قد رعي، فقال: إن البعير الذي رعى هذا الكلأ لأعور، وقال ربيعة: هو أزور، قال إياد: هو أبتر، وقال أنمار: هو شرود، فلم يسيروا إلا قليلا حتى لقيهم رجل توضع به راحلته، فسألهم عن البعير، فقال مضر: هو أعور؟ قال: نعم، قال ربيعة: هو أزور؟ قال: نعم، قال إياد: هو أبتر؟ قال: نعم، قال أنمار: هو شرود؟ قال: نعم، قال: هذه صفة بعيري،

دلوني عليه، فحلفوا له: ما رأوه، فلزمهم وقال: كيف أصدقكم وأنتم تصفون بعيري بصفته! فساروا جميعا حتى قدموا نجران، فنزلوا بالأفعى الجرهمي، فنادى صاحب البعير: هؤلاء أصحاب بعيري، وصفوا لي صفته ثم قالوا: لم نره فقال الجرهمي: كيف وصفتموه ولم تروه؟ فقال مضر: رأيته يرعى جانبا ويدع جانبا فعرفت أنه أعور وقال ربيعة: رأيت إحدى يديه ثابتة الأثر والأخرى فاسدة الأثر، فعرفت أنه أفسدها بشدة وطئه لازوراره. وقال إياد: عرفت أنه أبتر باجتماع بعره، ولو كان ذيالا لمصع به وقال: أنمار: عرفت أنه شرود، لأنه يرعى المكان الملتف نبته، ثم يجوزه إلى مكان آخر أرق منه نبتا وأخبث فقال الجرهمي: ليسوا بأصحاب بعيرك فاطلبه ثم سألهم: من هم؟ فأخبروه، فرحب بهم فقال: أتحتاجون إلي وأنتم كما أرى! فدعا لهم بطعام فأكلوا وأكل، وشربوا وشرب، فقال مضر: لم أر كاليوم خمرا أجود، لولا أنها نبتت على قبر، وقال ربيعة: لم أر كاليوم لحما أطيب لولا أنه ربي بلبن كلب، وقال إياد: لم أر كاليوم رجلا أسرى لولا أنه لغير أبيه الذي يدعى له وقال أنمار: لم أر كاليوم قط كلاما أنفع في حاجتنا من كلامنا. وسمع الجرهمي الكلام فتعجب لقولهم، وأتى أمه فسألها فأخبرته أنها كانت تحت ملك لا يولد له، فكرهت أن يذهب الملك فأمكنت رجلا من نفسها كان نزل بها، فوطئها فحملت به، وسأل القهرمان عن الخمر، فقال: من حبلة غرستها على قبر أبيك، وسأل الراعي عن اللحم، فقال: شاة أرضعتها لبن كلبة، ولم يكن ولد في الغنم شاة غيرها فقيل لمضر: من أين عرفت الخمر ونباتها على قبر؟ قال: لأنه أصابني عليها عطش شديد وقيل لربيعة: بم عرفت؟ فذكر كلاما. فأتاهم الجرهمي، فقال: صفوا لي صفتكم، فقصوا عليه ما اوصاهم

ابن نزار

به أبوهم، فقضي بالقبة الحمراء والدنانير والإبل- وهي حمر- لمضر، وقضي بالخباء الأسود وبالخيل الدهم لربيعة، وقضي بالخادم- وكانت شمطاء- وبالخيل البلق لإياد، وقضي بالأرض والدراهم لأنمار . ابن نزار وقيل إن نزارا كان يكنى أبا إياد وقيل: بل كان يكنى أبا ربيعة، أمه معانة بنت جوشم بن جلهمة بن عمرو، وإخوته لأبيه وأمه قنص، وقناصة، وسنام، وحيدان، وحيدة، وحيادة، وجنيد، وجنادة، والقحم، وعبيد الرماح، والعرف، وعوف، وشك، وقضاعة، وبه كان معد يكنى، وعدة درجوا. ابن معد وأم معد- فيما زعم هشام- مهدد بنت اللهم- ويقال: اللهم- ابن جلحب بن جديس وقيل: ابن طسم وقيل: ابن الطوسم، من ولد يقشان بن إبراهيم خليل الرحمن. حدثنا الحارث بْن محمد، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حدثني محمد بن عبد الرحمن العجلاني: وإخوته من أبيه وأمه الديث- وقيل: إن الديث هو عك وقيل: ان عكا هو ابن الديث ابن عدنان- وعدن بن عدنان، فزعم بعض أهل الأنساب أنه صاحب عدن، وإليه تنسب، وأن أهلها كانوا ولده فدرجوا، وأبين- وزعم بعضهم أنه صاحب أبين وأنها إليه تنسب، وأن أهلها كانوا ولده فدرجوا- وأد بن عدنان درج، والضحاك، والعي، وأم جميعهم أم معد

ابن عدنان

وقال بعض النسابة: كان عك انطلق إلى سمران من أرض اليمن، وترك أخاه معدا، وذلك أن أهل حضور لما قتلوا شعيب بن ذي مهدم الحضوري، بعث الله عليهم بختنصر عذابا، فخرج أرميا وبرخيا، فحملا معدا، فلما سكنت الحرب رداه إلى مكة، فوجد معد إخوته وعمومته من بني عدنان قد لحقوا بطوائف اليمن، وتزوجوا فيهم، وتعطفت عليهم اليمن بولادة جرهم إياهم، واستشهدوا في ذلك قول الشاعر: تركنا الديث أخوتنا وعكا ... إلى سمران فانطلقوا سراعا وكانوا من بني عدنان حتى ... أضاعوا الأمر بينهم، فضاعا ابن عدنان ولعدنان أخوان لأبيه، يدعى أحدهما نبتا والآخر منهما عمرا فنسب نبينا محمد ص لا يختلف النسابون فيه إلى معد بن عدنان، وأنه على ما بينت من نسبه. حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ وَغَيْرِهِ، عَنْ نِسْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ ص: محمد ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غالب بن فهر بن مالك بن النضر بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ بْنِ أُدَدَ. ثُمَّ يَخْتَلِفُونَ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ الْمِقْدَادِ الزَّمْعِيُّ، عَنْ عَمِّهِ مُوسَى ابن يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبِ بْنِ زَمْعَةَ، عَنْ عَمَّتِهِ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ص، قالت: [سمعت رسول الله ص يقول: معد ابن عَدْنَانَ بْنِ أُدَدَ بْنِ زَنْدِ بْنِ يَرَى بْنِ أَعْرَاقِ الثَّرَى،] قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَزَنْدٌ هُوَ الْهَمَيْسَعُ، وَيَرَى وَهُوَ نَبْتٌ، وَأَعْرَاقُ الثَّرَى هُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ

حدثني الحارث، قال: حدثنا مُحَمَّد بن سعد، قال: أخبرنا هشام بن محمد، قال: حدثني مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَجْلانِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ يَعْقُوبَ الزَّمْعِيِّ عَنْ عَمَّتِهِ، عَنْ جَدَّتِهَا ابْنَةِ الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ الْبَهْرَانِيِّ، قَالَتْ: [قَالَ رسول الله ص: مَعَدُّ بْنُ عَدْنَانَ بْنِ أُدَدَ بْنِ يَرَى بْنِ أَعْرَاقِ الثَّرَى] . وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ- فِيمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ عن سلمة بن الفضل عنه عدنان- فيما يزعم بعض النساب- بن أدد بن مقوم بن ناحور بن تيرح ابن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل بن إبراهيم. وبعض يقول: بل عدنان بن أدد بن أيتحب بن أيوب بن قيذر بن إسماعيل بن إبراهيم. قال: وقد انتمى قصي بن كلاب إلى قيذر في شعر. قال: ويقول بعض النساب: بل عدنان بن ميدع بن منيع بن أدد بن كعب بن يشجب بن يعرب بن الهميسع بن قيذر بن إسماعيل بن إبراهيم، قال: وذلك أنه علم قديم أخذ من أهل الكتاب الأول. وأما الكلبي محمد بن السائب فإنه- فيما حدثني الحارث، عن محمد بن سعد، عن هشام- قال: أخبرني مخبر عن أبي ولم أسمعه منه، أنه كان ينسب معد بن عدنان بن أدد بن الهميسع بن سلامان بن عوص بن بوز بن قموال ابن أبي بن العوام بن ناشد بن حزا بن بلداس بن يدلاف بن طابخ بن جاحم ابن تاحش بن ماخي بن عبقي بن عبقر بن عبيد بن الدعاء بن حمدان بن سنبر ابن يثربى بن يحزن بن يلحن بن أرعوى بن عيفى بن ديشان بن عيصر بن اقناد ابن إيهام بن مقصر بن ناحث بن زارح بن شمى بن مزى بن عوص بن عرام ابن قيذر بن إسماعيل بن إبراهيم، صلوات الله عليهما. حدثني الحارث، قال: حدثنا مُحَمَّد بن سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ

محمد، قال: وكان رجل من أهل تدمر، يكنى أبا يعقوب، من مسلمة بني إسرائيل، قد قرأ من كتبهم، وعلم علما، فذكر أن بروخ بن ناريا كاتب أرميا، أثبت نسب معد بن عدنان عنده، ووضعه في كتبه، وأنه معروف عند أحبار أهل الكتاب، مثبت في أسفارهم، وهو مقارب لهذه الأسماء، ولعل خلاف ما بينهم من قبل اللغة، لأن هذه الأسماء ترجمت من العبرانية. قال الحارث: قال محمد بن سعد: وأنشدني هشام، عن أبيه شعر قصي: فلست لحاضن إن لم تأثل ... بها أولاد قيذر والنبيت قال: أراد نبت بن إسماعيل. وقال الزبير بن بكار: حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي، عن زكرياء ابن عيسى، عن ابن شهاب، قال: معد بن عدنان بن أد بن الهميسع بن أسحب بن نبت بن قيذار بن إسماعيل. وقال بعضهم: هو معد بن عدنان بن أدد بن أمين بن شاجب بن ثعلبة بن عتر بن تريح بن محلم بن العوام بن المحتمل بن رائمة بن العيقان بن علة بن الشحدود بن الظريب بن عبقر بن إبراهيم بن اسماعيل ابن يزن بن أعوج بن المطعم بن الطمح بن القسور بن عتود بن دعدع بن محمود بن الزائد بن ندوان بن أتامة بن دوس بن حصن بن النزال بن القمير ابن المجشر بن معد مر بن صيفي بن نبت بن قيذار بن إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن

وقال آخرون: هو معد بن عدنان بن أدد بن زيد بن يقدر بن يقدم بن هميسع بن نبت بن قيذر بن إسماعيل بن إبراهيم. وقال آخرون: هو معد بن عدنان بن أد بن الهميسع بن نبت بن سلمان- وهو سلامان- ابن حمل بن نبت بن قيذر بن إسماعيل بن إبراهيم. وقال آخرون: هو معد بن عدنان بن أدد بن المقوم بن ناحور بن مشرح ابن يشجب بن مالك بن أيمن بن النبيت بن قيذر بن إسماعيل بن إبراهيم. وقال آخرون: هو معد بن عدنان بن أد بن أدد بن الهميسع بن اسحب ابن سعد بن تريح بن نضير بن حميل بن منحم بن لافث بن الصابوح بن كنانه ابن العوام بن نبت بن قيدر بن إسماعيل. وأخبرني بعض النساب أنه وجد طائفة من علماء العرب قد حفظت لمعد أربعين أبا بالعربية إلى إسماعيل، واحتجت لقولهم ذلك بأشعار العرب، وأنه قابل بما قالوا من ذلك ما يقول أهل الكتاب، فوجد العدد متفقا، واللفظ مختلفا، وأملى ذلك علي فكتبته عنه، فقال: هو معد بن عدنان بن أدد بن هميسع- وهميسع هو سلمان وهو أمين- ابن هميتع- وهو هميدع وهو الشاجب ابن سلامان- وهو منجر، وهو نبيت سمي بذلك- فيما زعم- لأنه كان منجر العرب، لأن الناس عاشوا في زمانه، واستشهد لقوله ذلك بقول قعنب بن عتاب الرياحي: تناشدني طي وطي بعيده ... وتذكرني بالود ازمان ينبت قال: نبيت بن عوص- وهو ثعلبة قال: وإليه تنسب الثعلبية- ابن بورا- وهو بوز وهو عتر العتائر، وأول من سن العتيرة للعرب- ابن شوحا وهو سعد رجب، وهو أول من سن الرجبية للعرب- ابن يعمانا- وهو قموال. وهو بريح الناصب، وكان في عصر سليمان بن داود النبي ص- ابن كسدانا- وهو محلم ذو العين- ابن حرانا- وهو العوام- ابن

بلداسا- وهو المحتمل- ابن بدلانا- وهو يدلاف، وهو رائمه- ابن طهبا- وهو طالب، وهو العيقان- ابن جهمي- وهو جاحم، وهو علة- ابن محشي- وهو تاحش، وهو الشحدود- ابن معجالي- وهو ماخي، وهو الظريب خاطم النار- ابن عقارا- وهو عافي، وهو عبقر أبو الجن، قال: وإليه تنسب جنة عبقر- ابن عاقاري- وهو عاقر، وهو إبراهيم جامع الشمل قال: وإنما سمي جامع الشمل لأنه أمن في ملكه كل خائف، ورد كل طريد، واستصلح الناس-- ابن بيداعى- وهو الدعاء، وهو إسماعيل ذو المطابخ، سمي بذلك لأنه حين ملك أقام بكل بلدة من بلدان العرب دار ضيافة- ابن ابداعي- وهو عبيد وهو يزن الطعان، وهو أول من قاتل بالرماح، فنسبت إليه- ابن همادي وهو حمدان، وهو إسماعيل ذو الأعوج وكان فرسا له، وإليه تنسب الأعوجية من الخيل- ابن بشماني- وهو بشين وهو المطعم في المحل- ابن بثراني- وهو بثرم، وهو الطمح- ابن بحرانى- وهو يحزن، وهو القسور- ابن نلحانى، وهو يلحن، وهو العنود- ابن رعواني- وهو رعوي، وهو الدعدع- ابن عاقاري- وهو عاقر- ابن داسان، وهو الزائد- ابن عاصار- وهو عاصر، وهو النيدوان ذو الأندية، وفي ملكه تفرق بنو القاذور وهو القادور وخرج الملك من ولد النبيت بن القادور إلى بني جاوان- ابن القادور ثم رجع إليهم ثانية- ابن قنادي- وهو قنار، وهو إيامة بن ثامار، وهو بهامي، وهو دوس العتق، وهو دوس أجمل الخلق، زعم في زمانه، فلذلك تقول العرب: أعتق من دوس لأمرين: أما أحدهما فلحسنه وعتقه، والآخر لقدمه، وفي ملكه أهلكت جرهم بن فالج وقطورا، وذلك أنهم بغوا في الحرم، فقتلهم دوس، وأتبع الذر آثار من بقي منهم، فولج في أسماعهم فأفناهم- ابن مقصر- وهو مقاصري، وهو حصن، ويقال له: ناحث، وهو النزال بن زارح، وهو قمير- ابن سمي- وهو سما، وهو المجشر، وكان- فيما زعم- أعدل ملك ولي وأحسنه سياسة، وفيه يقول أمية بن أبي الصلت لهرقل ملك الروم:

كن كالمجشر إذ قالت رعيته ... كان المجشر أوفانا بما حملا ابن مزرا- ويقال مرهر- ابن صنفا، وهو السمر، وهو الصفي، هو اجود ملك رئى على وجه الأرض، وله يقول أمية بن أبي الصلت: إن الصفي بن النبيت مملكا ... أعلى وأجود من هرقل وقيصرا ابن جعثم- وهو عرام، وهو النبيت، وهو قيذر، قال: وتأويل قيذر صاحب ملك، كان أول من ملك من ولد إسماعيل- ابن إسماعيل صادق الوعد، ابن ابراهيم خليل الرحمن بن تارخ- وهو آزر- ابن ناحور بن ساروع بن ارغوا ابن بالغ- وتفسير بالغ القاسم بالسريانية، لأنه الذي قسم الأرضين بين ولد آدم، وبالغ، فهو فالج بن عابر بن شالح بن ارفخشد بن سام بن نوح ابن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، وهو إدريس النبي ص- ابن يرد- وهو يارد الذي عملت الأصنام في زمانه- ابن مهلائيل بن قينان بن انوش ابن شيث- وهو هبه الله ابن آدم ع وكان وصي أبيه بعد مقتل هابيل، فقال: هبة الله من هابيل، فاشتق اسمه من اسمه. وقد مضى من ذكرنا الأخبار عن إسماعيل بن إبراهيم وآبائه وأمهاته فيما بينه وبين آدم، ومما كان من الأخبار والأحداث في كل زمان من ذلك بعض ما انتهى إلينا، بوجيز من القول مختصر، في كتابنا هذا، فكرهنا إعادته. وحدثت عن هشام بن محمد قال: كانت العرب تقول: إنما خدش الخدوش منذ ولد أبونا أنوش، وإنما حرم الحنث، منذ ولد أبونا شث، وهو بالسريانية شيث. ونعود الآن إلى:

ذكر رسول الله ص وأسبابه

ذكر رسول الله ص وأسبابه فتوفي عبد المطلب بعد الفيل بثماني سنين، كَذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الله بن أبي بكر: وكان عبد المطلب يوصى برسول الله ص عمه أبا طالب، وذلك أن أبا طالب، وعبد الله أبا رسول الله ص كانا لأم، فكان أبو طالب هو الذي يلى امر رسول الله ص بعد جده، وكان يكون معه ثم إن أبا طالب خرج في ركب من قريش إلى الشام تاجرا، فلما تهيأ للرحيل وأجمع السير ضب به رسول الله ص- فيما يزعمون- فرق له أبو طالب، فقال: والله لأخرجن به معي، ولا يفارقني ولا أفارقه أبدا، أو كما قال فخرج به معه، فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام، وبها راهب يقال له بحيرى في صومعة له، وكان ذا علم من أهل النصرانية، ولم يزل في تلك الصومعة مذ قط راهب، إليه يصير علمهم عن كتاب- فيما يزعمون- يتوارثونه كابرا عن كابر فلما نزلوا ذلك العام ببحيرى، صنع لهم طعاما كثيرا، وذلك أنه رأى رسول الله ص وهو في صومعته، عليه غمامة تظله من بين القوم، ثم أقبلوا حتى نزلوا في ظل شجرة قريبا منه، فنظر إلى الغمامة حين اظلت الشجرة، وتهصرت اغصان الشجرة على رسول الله ص، حتى استظل تحتها، فلما راى ذلك بحيرى، نزل من صومعته، ثم أرسل إليهم فدعاهم جميعا، فلما راى بحيرى رسول الله ص جعل يلحظه لحظا شديدا، وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته. فلما فرغ القوم من الطعام وتفرقوا، سال رسول الله ص عن أشياء في حاله، في يقظته وفي نومه، فجعل رسول الله ص يخبره فيجدها بحيرى موافقة لما عنده من صفته ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه، ثم قال بحيرى لعمه أبي طالب: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابنى، فقال له بحيرى: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام

أن يكون أبوه حيا قال: فإنه ابن أخي، قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به، قال: صدقت، ارجع به الى بلدك، واحذر عليه يهود، فو الله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت، ليبغنه شرا، فإنه كائن له شأن عظيم، فأسرع به إلى بلده فخرج به عمه سريعا حتى أقدمه مكة. وقال هشام بن محمد: خرج ابو طالب برسول الله ص إلى بصرى من أرض الشام، وهو ابن تسع سنين. حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حدثنا ابو نوح، قال: حدثنا يونس ابن أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ، وَخَرَجَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ ص فِي أَشْيَاخٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى الرَّاهِبِ هَبَطُوا فَحَلُّوا رِحَالَهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الرَّاهِبُ- وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ بِهِ فَلا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ وَلا يَلْتَفِتُ. قَالَ: فَهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ، فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمْ حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ الله ص، فَقَالَ: هَذَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ، هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَذَا يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخُ قُرَيْشٍ: مَا عِلْمُكَ؟ قَالَ: إِنَّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنَ الْعَقَبَةِ لَمْ تَبْقَ شَجَرَةٌ وَلا حَجَرٌ إِلَّا خَرَّ سَاجِدًا، وَلا يَسْجُدُونَ إِلَّا لِنَبِيٍّ، وَإِنِّي أَعْرِفُهُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، أَسْفَلَ مِنْ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ مِثْلَ التُّفَّاحَةِ. ثُمَّ رَجَعَ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا، فَلَمَّا أَتَاهُمْ بِهِ كَانَ هُوَ فِي رِعْيَةِ الإِبِلِ. قَالَ: أَرْسِلُوا إِلَيْهِ، فَأَقْبَلَ وَعَلَيْهِ غَمَامَةٌ، فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَيْهِ، عَلَيْهِ غَمَامَةٌ تُظِلُّهُ! فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْقَوْمِ وَجَدَهُمْ قَدْ سَبَقُوهُ إِلَى فَيْءِ الشَّجَرَةِ، فَلَمَّا جَلَسَ مَالَ فَيْءُ الشَّجَرَةِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى فَيْءِ الشَّجَرَةِ مَالَ عَلَيْهِ، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ يُنَاشِدُهُمْ أَلَّا يَذْهَبُوا بِهِ إِلَى الرُّومِ، فَإِنَّ الرُّومَ إِنْ رَأَوْهُ عَرَفُوهُ بِالصِّفَةِ فَقَتَلُوهُ، فَالْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِسَبْعَةِ نَفَرٍ قَدْ أَقْبَلُوا مِنَ الرُّومِ،

فَاسْتَقْبَلَهُمْ، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟ قَالُوا: جِئْنَا أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ خَارِجٌ فِي هَذَا الشَّهْرِ، فَلَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ إِلَّا بُعِثَ إِلَيْهَا نَاسٌ، وَإِنَّا اخْتِرْنَا خِيرَةَ، بَعْثِنَا إِلَى طَرِيقِكَ هَذَا، قَالَ لَهُمْ: هَلْ خَلَّفْتُمْ خَلْفَكُمْ أَحَدًا هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ؟ قَالُوا: لا، إِنَّمَا اخْتِرْنَا خِيرَةً لِطَرِيقِكَ هَذَا، قَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ أَمْرًا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَهُ، هَلْ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ رَدَّهُ! قَالُوا: لا، فَتَابَعُوهُ وَأَقَامُوا مَعَهُ، قَالَ: فَأَتَاهُمْ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ، أَيُّكُمْ وَلِيُّهُ؟ قَالُوا: أَبُو طَالِبٍ، فَلَمْ يَزَلْ يُنَاشِدُهُ حَتَّى رَدَّهُ، وَبَعَثَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِلالًا، وَزَوَّدَهُ الرَّاهِبُ مِنَ الْكَعْكِ وَالزَّيْتِ. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عبد الله بن قيس بن مخرمة، عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طَالِبٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، [عَنْ جَدِّهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله ص، يَقُولُ: مَا هَمَمْتُ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْمَلُونَ بِهِ غَيْرَ مَرَّتَيْنِ، كُلُّ ذَلِكَ يَحُولُ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَ مَا أُرِيدُ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ مَا هَمَمْتُ بِسُوءٍ حَتَّى أَكْرَمَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِرِسَالَتِهِ، فَإِنِّي قَدْ قُلْتُ لَيْلَةً لِغُلامٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَ يَرْعَى مَعِي بِأَعْلَى مَكَّةَ: لَوْ أَبْصَرْتَ لِي غَنَمِي حَتَّى أَدْخُلَ مَكَّةَ، فَأَسْمُرَ بِهَا كَمَا يَسْمُرُ الشَّبَابُ! فَقَالَ: أَفْعَلُ، فَخَرَجْتُ أُرِيدُ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا جِئْتُ أَوَّلَ دَارٍ مِنْ دُورِ مَكَّةَ، سَمِعْتُ عَزْفًا بِالدُّفُوفِ وَالْمَزَامِيرِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: فلان ابن فُلانٍ تَزَوَّجَ بِفُلانَةٍ بِنْتِ فُلانٍ. فَجَلَسْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى أُذُنِي فَنِمْتُ فَمَا أَيْقَظَنِي إِلا مَسُّ الشَّمْسِ، قَالَ: فَجِئْتُ صَاحِبِي، فَقَالَ: مَا فَعَلْتَ؟ قُلْتُ: مَا صَنَعْتُ شَيْئًا، ثُمَّ أَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ لَهُ لَيْلَةً أُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَفْعَلُ، فَخَرَجْتُ فَسَمِعْتُ حِينَ جِئْتُ مَكَّةَ مِثْلَ مَا سَمِعْتُ حِينَ دَخَلْتُ مَكَّةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَجَلَسْتُ أَنْظُرُ، فضرب الله على اذنى، فو الله مَا أَيْقَظَنِي إِلا مَسُّ الشَّمْسِ، فَرَجَعْتُ إِلَى صَاحِبِي فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، ثُمَّ مَا هَمَمْتُ بَعْدَهَا بِسُوءٍ حَتَّى أَكْرَمَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِرِسَالَتِهِ]

ذكر تزويج النبي ص خديجه رضى الله عنها

ذكر تزويج النبي ص خديجة رضي الله عنها قال هشام بن محمد: نكح رسول الله ص خديجة، وهو ابن خمس وعشرين سنة، وخديجة يومئذ ابنة أربعين سنة. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كَانَتْ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ امْرَأَةً تَاجِرَةً، ذَاتَ شَرَفٍ وَمَالٍ، تَسْتَتْجِرُ الرِّجَالَ فِي مَالِهَا، وَتُضَارِبُهُمْ إِيَّاهُ بِشَيْءٍ تَجْعَلُهُ لَهُمْ مِنْهُ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَوْمًا تُجَّارًا، فَلَمَّا بَلَغَهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ص مَا بَلَغَهَا مِنْ صِدْقِ حَدِيثِهِ، وَعِظَمِ أَمَانَتِهِ، وَكَرَمِ أَخْلَاقِهِ، بَعَثَتْ إِلَيْهِ، فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ فِي مَالِهَا إِلَى الشَّامِ تَاجِرًا، وَتُعْطِيهِ أَفْضَلَ مَا كَانَتْ تُعْطِي غَيْرَهُ مِنَ التُّجَّارِ، مَعَ غُلَامٍ لَهَا يُقَالُ لَهُ مَيْسَرَةُ فَقَبِلَهُ منها رسول الله ص، فَخَرَجَ فِي مَالِهَا ذَلِكَ، وَخَرَجَ مَعَهُ غُلَامُهَا مَيْسَرَةُ، حَتَّى قَدِمَا الشَّامَ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ص فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ قَرِيبًا مِنْ صَوْمَعَةِ رَاهِبٍ مِنَ الرُّهْبَانِ، فَأطْلَعَ الرَّاهِبُ رَأْسَهُ إِلَى مَيْسَرَةَ فَقَالَ: مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي نَزَلَ تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ؟ فَقَالَ لَهُ مَيْسَرَةُ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: مَا نَزَلَ تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ قَطُّ الا نبى، ثم باع رسول الله ص سِلْعَتَهُ الَّتِي خَرَجَ بِهَا، وَاشْتَرَى مَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ، ثُمَّ أَقْبَلَ قَافِلًا إِلَى مَكَّةَ، وَمَعَهُ مَيْسَرَةُ. فَكَانَ مَيْسَرَةُ- فِيمَا يَزْعُمُونَ- إِذَا كَانَتِ الْهَاجِرَةُ وَاشْتَدَّ الْحَرُّ يَرَى مَلَكَيْنِ يُظَلِّلَانِهِ مِنَ الشَّمْسِ، وَهُوَ يَسِيرُ عَلَى بَعِيرِهِ فَلَمَّا قدم مكة على خديجه بمالها، بَاعَتْ مَا جَاءَ بِهِ فَأَضْعَفَتْ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ وَحَدَّثَهَا مَيْسَرَةُ عَنْ

قَوْلِ الرَّاهِبِ، وَعَمَّا كَانَ يَرَى مِنْ إِظْلَالِ الْمَلَكَيْنِ إِيَّاهُ- وَكَانَتْ خَدِيجَةُ امْرَأَةً حَازِمَةً لَبِيبَةً شَرِيفَةً، مَعَ مَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَا مِنْ كَرَامَتِهِ- فَلَمَّا أَخْبَرَهَا مَيْسَرَةُ بِمَا أَخْبَرَهَا، بَعَثَتْ الى رسول الله ص، فقالت له- فيما يزعمون-: يا بن عم، انى قد رغبت فيك لقرابتك وسطتك فِي قَوْمِكَ، وَأَمَانَتِكَ وَحُسْنِ خُلُقِكَ وَصِدْقِ حَدِيثِكَ ثُمَّ عَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا، وَكَانَتْ خَدِيجَةُ يَوْمَئِذٍ أَوْسَطَ نِسَاءِ قُرَيْشٍ نَسَبًا، وَأَعْظَمَهُنَّ شَرَفًا، وَأَكْثَرَهُنَّ مَالًا، كُلُّ قَوْمِهَا كَانَ حَرِيصًا عَلَى ذَلِكَ مِنْهَا لَوْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا. فَلَمَّا قَالَتْ ذَلِكَ لرسول الله ص ذَكَرَ ذَلِكَ لأَعْمَامِهِ، فَخَرَجَ مَعَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمُّهُ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ، فَخَطَبَهَا إِلَيْهِ فَتَزَوَّجَهَا، فَوَلَدَتْ لَهُ ولده كلهم الا ابراهيم: زينب، وَرُقَيَّةَ، وَأُمَّ كُلْثُومٍ، وَفَاطِمَةَ، وَالْقَاسِمَ- وَبِهِ كَانَ يكنى ص- وَالطَّاهِرَ وَالطَّيِّبَ فَأَمَّا الْقَاسِمُ وَالطَّاهِرُ وَالطَّيِّبُ، فَهَلَكُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَمَّا بَنَاتُهُ فَكُلُّهُنَّ أَدْرَكْنَ الإِسْلَامَ فاسلمن، وهاجرن معه ص. حدثني الحارث، قال: حدثنا مُحَمَّد بن سعد، قال: حدثنا محمد ابن عمر، قال: حدثنا معمر وغيره، عن ابن شهاب الزهري- وقد قال ذلك غيره من أهل البلد: إن خديجة إنما كانت استأجرت رسول الله ص

ورجلا آخر من قريش إلى سوق حباشة بتهامة، وكان الذي زوجها إياه خويلد، وكان التي مشت في ذلك مولاة مولدة من مولدات مكة. قال الحارث: قال محمد بن سعد: قال الواقدي: فكل هذا غلط. قال الواقدي: ويقولون أيضا إن خديجة أرسلت إلى النبي ص تدعوه إلى نفسها- تعني التزويج- وكانت امرأة ذات شرف، وكان كل قريش حريصا على نكاحها- قد بذلوا الأموال لو طمعوا بذلك، فدعت أباها فسقته خمرا حتى ثمل، ونحرت بقرة وخلقته بخلوق، وألبسته حلة حبرة، ثم أرسلت الى رسول الله ص في عمومته، فدخلوا عليه، فزوجه، فلما صحا قال: ما هذا العقير؟ وما هذا العبير؟ وما هذا الحبير؟ قالت: زوجتني محمد بن عبد الله، قال: ما فعلت أنى أفعل هذا وقد خطبك أكابر قريش، فلم أفعل! قال الواقدي: وهذا غلط، والثبت عندنا المحفوظ من حديث محمد ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنْ عَمَّهَا عَمْرَو بن اسد زوجها رسول الله ص، وَأَنَّ أَبَاهَا مَاتَ قَبْلَ الْفِجَارِ. قال أبو جعفر: وكان منزل خديجة يومئذ المنزل الذي يعرف بها اليوم، فيقال: منزل خديجة، فاشتراه معاوية- فيما ذكر- فجعله مسجدا يصلي فيه الناس، وبناه على الذي هو عليه اليوم لم يغير وأما الحجر الذي على باب البيت عن يسار من يدخل البيت فإن رسول الله ص كان يجلس تحته يستتر به من الرمي إذا جاءه من دار أبي لهب، ودار عدى ابن حمراء الثقفي خلف دار ابن علقمة، والحجر ذراع وشبر في ذراع

ذكر باقى الاخبار عن الكائن من امر رسول الله ص قبل ان ينبأ، وما كان بين مولده ووقت نبوته من الاحداث في بلده

ذكر باقي الأخبار عن الكائن من أمر رسول الله ص قبل أن ينبأ، وما كان بين مولده ووقت نبوته من الأحداث في بلده قال أبو جعفر: قد ذكرنا قبل سبب تزويج النبي ص خديجة واختلاف المختلفين في ذلك، ووقت نكاحه ص إياها. وبعد السنة التي نكحها فيها رسول الله ص هدمت قريش الكعبة بعشر سنين ثم بنتها- وذلك في قول ابن إسحاق- في سنة خمس وثلاثين من مولد رسول الله ص. وكان سبب هدمهم إياها فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، أن الكعبة كانت رضمة فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفرا من قريش وغيرهم سرقوا كنز الكعبة، وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة. وكان أمر غزالي الكعبة- فِيمَا حدثت عن هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبيه- أن الكعبة كانت رفعت حين غرق قوم نوح، فأمر الله إبراهيم خليله ع وابنه إسماعيل أن يعيدا بناء الكعبة على أسها الأول، فأعادا بناءها، كما أنزل في القرآن: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» ، فلم يكن له ولاة منذ زمن نوح ع، وهو مرفوع ثم أمر الله عز وجل إبراهيم أن ينزل ابنه إسماعيل البيت، لما أراد الله من كرامة من أكرمه بنبيه محمد ص، فكان إبراهيم خليل الرحمن وابنه إسماعيل يليان البيت بعد عهد نوح، ومكة يومئذ بلاقع، ومن حول مكة يومئذ جرهم والعماليق فنكح اسماعيل ع امراه من

جرهم، فقال في ذلك عمرو بن الحارث بن مضاض: وصاهرنا من أكرم الناس والدا ... فأبناؤه منا ونحن الأصاهر فولي البيت بعد إبراهيم إسماعيل، وبعد إسماعيل نبت، وأمه الجرهمية، ثم مات نبت، ولم يكثر ولد إسماعيل، فغلبت جرهم على ولاية البيت، فقال عمرو بن الحارث بن مضاض: وكنا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف بذاك البيت، والخير ظاهر فكان أول من ولي من جرهم البيت مضاض، ثم وليته بعده بنوه كابرا بعد كابر، حتى بغت جرهم بمكة، واستحلوا حرمتها، وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى لها، وظلموا من دخل مكة، ثم لم يتناهوا حتى جعل الرجل منهم إذا لم يجد مكانا يزني فيه يدخل الكعبه فزنى فزعموا أن إسافا بغى بنائلة في جوف الكعبة، فمسخا حجرين، وكانت مكة في الجاهلية لا ظلم ولا بغي فيها، ولا يستحل حرمتها ملك إلا هلك مكانه فكانت تسمى الناسة، وتسمى بكة، تبك أعناق البغايا إذا بغوا فيها، والجبابرة. قال: ولما لم تتناه جرهم عن بغيها، وتفرق أولاد عمرو بن عامر من اليمن، فانخزع بنو حارثة بن عمرو، فأوطنوا تهامة- فسميت خزاعة، وهم بنو عمرو بن ربيعة بن حارثة- وأسلم ومالك وملكان بنو أفصى بن حارثة، فبعث الله على جرهم الرعاف والنمل، فأفناهم فاجتمعت خزاعة ليجلوا من بقي، ورئيسهم عمرو بن ربيعة بن حارثة، وأمه فهيرة بنت عامر بن الحارث ابن مضاض، فاقتتلوا فلما أحس عامر بن الحارث بالهزيمة، خرج بغزالي الكعبة وحجر الركن يلتمس التوبة، وهو يقول:

لا هم ان جرهما عبادك ... الناس طرف وهم تلادك بهم قديما عمرت بلادك. فلم تقبل توبته، فألقى غزالي الكعبة وحجر الركن في زمزم، ثم دفنها وخرج من بقي من جرهم إلى أرض من أرض جهينة، فجاءهم سيل أتي فذهب بهم، فذلك قول أمية بن أبي الصلت: وجرهم دمنوا تهامة في الدهر ... فسالت بجمعهم إضم وولي البيت عمرو بن ربيعة وقال بنو قصي: بل وليه عمرو بن الحارث الغبشاني، وهو يقول: ونحن ولينا البيت من بعد جرهم ... لنعمره من كل باغ وملحد وقال: واد حرام طيره ووحشه ... نحن ولاته فلا نغشه وقال عامر بن الحارث: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالى والجدود العواثر وقال: يا ايها الناس سيروا إن قصركم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا كنا أناسا كما كنتم فغيرنا ... دهر، فأنتم كما كنا تكونونا حثوا المطي وأرخوا من أزمتها ... قبل الممات وقضوا ما تقضونا يقول: اعملوا لآخرتكم، وافرغوا من حوائجكم في الدنيا، فوليت خزاعة البيت، غير أنه كان في قبائل مضر ثلاث خلال: الإجازة بالحج للناس من

عرفة، وكان ذلك إلى الغوث بن مر- وهو صوفة- فكانت إذا كانت الإجازة قالت العرب: أجيزي صوفة والثانية الإفاضة من جمع غداة النحر إلى منى، فكان ذلك إلى بني زيد بن عدوان، فكان آخر من ولي ذلك منهم أبو سيارة عميلة بن الأعزل بن خالد بن سعد بن الحارث بن وابش ابن زيد، والثالثة النسيء للشهور الحرم، فكان ذلك إلى القلمس، وهو حذيفة بن فقيم بن عدي من بني مالك بن كنانة، ثم بنيه حتى صار ذلك إلى آخرهم أبي ثمامة، وهو جنادة بن عوف بن أمية بن قلع بن حذيفة. وقام عليه الإسلام، وقد عادت الحرم إلى أصلها، فأحكمها الله وأبطل النسيء، فلما كثرت معد تفرقت، فذلك قول مهلهل: غنيت دارنا تهامة في الدهر ... وفيها بنو معد حلولا. وأما قريش، فلم يفارقوا مكة، فلما حفر عبد المطلب زمزم، وجد الغزالين، غزالي الكعبة اللذين كانت جرهم دفنتهما فيه، فاستخرجهما، وكان من أمره وأمرهما ما قد ذكرت في موضع ذلك فيما مضى من هذا الكتاب قبل. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق قال: وكان الذي وجد عنده الكنز دويكا مولى لبني مليح بن عمرو، من خزاعة فقطعت قريش يده من بينهم، وكان ممن اتهم في ذلك الحارث بن عامر بن نوفل، وابو إهاب ابن عزيز بن قيس بن سويد التميمي- وكان أخا الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مناف لأمه- وأبو لهب بن عبد المطلب، وهم الذين تزعم قريش أنهم وضعوا كنز الكعبة حين أخذوه عند دويك مولى بني مليح، فلما اتهمتهم قريش، دلوا على دويك، فقطع، ويقال: هم وضعوه عنده

وذكروا أن قريشا حين استيقنوا بأن ذلك كان عند الحارث بن عامر ابن نوفل بن عبد مناف، خرجوا به إلى كاهنة من كهان العرب، فسجعت عليه من كهانتها بألا يدخل مكة عشر سنين، بما استحل من حرمة الكعبة، فزعموا أنهم أخرجوه من مكة، فكان فيما حولها عشر سنين، وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم، فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدوه لسقفها، وكان بمكة رجل قبطي نجار، فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي يطرح فيها ما يهدى لها كل يوم، فتشرف على جدار الكعبة، فكانوا يهابونها، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزالت وكشت وفتحت فاها، فبينا هي يوما تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع، بعث الله عليها طائرا، فاختطفها فذهب بها، فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله عز وجل قد رضي ما أردنا عندنا عامل رقيق، وعندنا خشب، وقد كفانا الله أمر الحية وذلك بعد الفجار بخمس عشرة سنة، ورسول الله ص عامئذ ابن خمس وثلاثين سنة. فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنائها، قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ ابن عمران بن مخزوم، فتناول من الكعبة حجرا، فوثب من يده، حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا، ولا تدخلوا فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس. قال: والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة، حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابن أبي نجيح المكي، أنه حدث عن عَبْد اللَّهِ بن صفوان بن أُمَيَّة بن

خلف، أنه رأى ابنا لجعدة بن هبيرة بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ ابن عمران بن مخزوم يطوف بالبيت، فسأل عنه فقيل له: هذا ابن لجعدة ابن هبيرة، فقال عند ذلك عبد الله بن صفوان جد هذا- يعني أبا وهب الذي أخذ من الكعبة حجرا حين اجتمعت قريش لهدمها، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال عند ذلك: يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا، لا تدخلوا فيها مهر بغي، ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد. وأبو وهب خال أبي رسول الله ص، وكان شريفا. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: ثم إن قريشا تجزأت الكعبة، فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وتيم وقبائل من قريش، ضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جمح وبني سهم، وكان شق الحجر- وهو الحطيم- لبني عبد الدار بن قصي ولبني أسد بن عبد العزى بن قصي، وبني عدي بن كعب. ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا

أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول ثم قام عليها، وهو يقول: اللهم لم ترع، اللهم لا نريد إلا الخير ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس به تلك الليلة، وقالوا: ننظر، فإن أصيب لم نهدم منها شيئا، ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا هدمنا. فأصبح الوليد من ليلته غاديا على عمله، فهدم والناس معه، حتى انتهى الهدم إلى الأساس، فأفضوا إلى حجارة خضر كأنها أسنة آخذ بعضها ببعض. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عَنْ بَعْضِ مَنْ يَرْوِي الْحَدِيثَ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ مِمَّنْ كَانَ يَهْدِمُهَا، أَدْخَلَ عَتَلَةً بَيْنَ حَجَرَيْنِ مِنْهَا، لِيَقْلَعَ بِهَا أَحَدَهُمَا، فَلَمَّا تَحَرَّكَ الْحَجَرُ انْتَقَضَتْ مَكَّةُ بِأَسْرِهَا، فَانْتَهَوْا عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى الأَسَاسِ. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ الْقَبَائِلَ جَمَعَتِ الْحِجَارَةَ لِبِنَائِهَا، جَعَلَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ تَجْمَعُ عَلَى حِدَّتِهَا، ثُمَّ بَنَوْا حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْبُنْيَانُ مَوْضِعَ الرُّكْنِ اخْتَصَمُوا فِيهِ، كُلُّ قَبِيلَةٍ تُرِيدُ أَنْ تَرْفَعَهُ إِلَى مَوْضِعِهِ دُونَ الأُخْرَى، حَتَّى تَحَاوَزُوا وَتَحَالَفُوا وَتَوَاعَدُوا لِلْقِتَالِ، فَقَرَّبَتْ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ جَفْنَةً مَمْلُوءَةً دَمًا، ثُمَّ تَعَاقَدُوا هم

وَبَنُو عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ عَلَى الْمَوْتِ، وَأَدْخَلُوا ايديهم في ذلك الدم في الْجَفْنَةِ، فَسَمُّوا لَعَقَةَ الدَّمِ بِذَلِكَ، فَمَكَثَتْ قُرَيْشٌ أَرْبَعَ لَيَالٍ- أَوْ خَمْسَ لَيَالٍ- عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّهُمُ اجْتَمَعُوا فِي الْمَسْجِدِ، فَتَشَاوَرُوا وَتَنَاصَفُوا، فزعم بعض الرواه ان أبا اميه ابن الْمُغِيرَةِ كَانَ عَامَئِذٍ أَسَنَّ قُرَيْشٍ كُلِّهَا، قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ فِيمَا تَخْتَلِفُونَ فِيهِ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ بَابِ هَذَا الْمَسْجِدِ، يَقْضِي بَيْنَكُمْ فِيهِ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ دخل عليهم رسول الله ص، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: هَذَا الأَمِينُ، قَدْ رَضِينَا بِهِ، هَذَا مُحَمَّدٌ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِمْ وَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، قَالَ: هَلُمَّ لِي ثَوْبًا، فَأُتِيَ بِهِ فَأَخَذَ الرُّكْنَ، فَوَضَعَهُ فِيهِ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: لِتَأْخُذْ كُلُّ قَبِيلَةٍ بِنَاحِيَةٍ مِنَ الثَّوْبِ، ثُمَّ ارْفَعُوهُ جَمِيعًا، فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا بَلَغُوا بِهِ مَوْضِعَهُ، وَضَعَهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ بَنَى عَلَيْهِ، وَكَانَتْ قريش تسمى رسول الله ص قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ الأَمِينَ. قال أبو جعفر: وكان بناء قريش الكعبة بعد الفجار بخمس عشرة سنة، وكان بين عام الفيل وعام الفجار عشرون سنة. واختلف السلف في سن رسول الله ص حين نبى كم كانت؟ فقال بعضهم: نبئ رسول الله ص بعد ما بنت قريش الكعبة بخمس سنين، وبعد ما تمت له من مولده أربعون سنة. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ الْعَسْقَلانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ الضُّبَعِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ ص لأربعين سنه

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ الْمُثَنَّى، قَالا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَبِيعَةَ بْنَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَذْكُرُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص بُعِثَ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ. حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ الله ص بُعِثَ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ. حَدَّثَنِي ابْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْبَرْقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مالك، ان رسول الله ص بُعِثَ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ. حَدَّثَنِي أَبُو شُرَحْبِيلَ الْحِمْصِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ ص وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: بُعِثَ رسول الله ص وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ، عَنْ حَمَّادٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمْرٌو، عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ، [أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص قَالَ لِفَاطِمَةَ: إِنَّهُ كَانَ يُعْرَضُ عَلَيَّ الْقُرْآنُ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ قَدْ عُرِضَ عَلَيَّ الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَإِنَّهُ قَدْ خُيِّلَ إِلَيَّ أَنَّ أَجَلِي قَدْ حَضَرَ، وَأَنَّ أَوَّلَ أَهْلِي لِحَاقًا بِي أَنْتِ، وَإِنَّهُ لَمْ يُبْعَثْ نَبِيٌّ إِلا بُعِثَ الَّذِي بَعْدَهُ بِنِصْفٍ مِنْ عُمُرِهِ، وَبُعِثَ عِيسَى لأَرْبَعِينَ، وَبُعِثْتُ لِعِشْرِينَ]

حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ ص لأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَيْمُونٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ ص وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نُبِّئَ حِينَ نُبِّئَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بن ثابت الرازي، قال: حدثنا أحمد، قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أُنْزِلَ عَلَى النبي ص وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: أُنْزِلَ على رسول الله ص الْوَحْيُ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: حدثنا يحيى ابن سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدًا- يَعْنِي ابْنَ الْمُسَيِّبِ- يقول: انزل على رسول الله ص الْوَحْيُ، وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً

ذكر اليوم الذى نبى فيه رسول الله ص من الشهر الذى نبئ فيه وما جاء في ذلك

ذكر اليوم الذى نبى فيه رسول الله ص من الشهر الذي نبئ فيه وما جاء في ذلك قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: صَحَّ الْخَبَرُ عن رسول الله ص بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قال: حدثنا شعبة، عن غَيْلانَ بْنِ جَرِيرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْبَدٍ الزِّمَّانِيَّ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ، [ان رسول الله ص سُئِلَ عَنْ صَوْمِ الاثْنَيْنِ، فَقَالَ: ذَلِكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ- أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ] . حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن بن مُوسَى الأشيب، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هِلالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا غَيْلانُ بْنُ جَرِيرٍ الْمِعْوَلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْبَدٍ الزِّمَّانِيُّ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ عُمَرَ رَحِمَهُ الله انه [قال للنبي ص: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، صَوْمُ يَوْمِ الاثْنَيْنِ؟ قَالَ: ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ فِيهِ النُّبُوَّةُ] . حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وُلِدَ النَّبِيُّ ص يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَاسْتُنْبِئَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا مِمَّا لا خِلافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَيِّ الأَثَانِينِ كَانَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ الله ص لِثَمَانِي عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ. ذِكْرُ مَنْ قال ذلك. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن أيوب، عَنْ أَبِي قِلابَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ

الجرمي، أنه كان يقول- فيما بلغه وانتهى إليه من العلم: أنزل الفرقان على رسول الله ص لثماني عشرة ليلة خلت من رمضان. وقال آخرون: بل أنزل لأربع وعشرين ليلة خلت مِنْهُ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق،: حدثني من لا يتهم، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة بن دعامة السدوسي، عن أبي الجلد، قال: نزل الفرقان لأربع وعشرين ليلة خلت من رمضان. وقال آخرون: بل نزل لسبع عشرة خلت من شهر رمضان، واستشهدوا لتحقيق ذلك بقول الله عز وجل: «وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» ، وذلك ملتقى رسول الله ص والمشركين ببدر، وان التقاء رسول الله ص والمشركين ببدر كان صبيحة سبع عشرة من رمضان. قال أبو جعفر: وكان رسول الله ص من قبل ان يظهر له جبريل ع برسالة الله عز وجل إليه- فيما ذكر عنه- يرى ويعاين آثارا وأسبابا من آثار من يريد الله إكرامه واختصاصه بفضله، فكان من ذلك ما قد ذكرت فيما مضى من خبره عن الملكين اللذين أتياه فشقا بطنه، واستخرجا ما فيه من الغل والدنس، وهو عند أمه من

الرضاعة حليمة، ومن ذلك أنه كان إذا مر في طريق لا يمر- فيما ذكر- عنه بشجر ولا حجر فيه إلا سلم عليه. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بن سعد، قال: أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ محمد بن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ بَرَّةَ بِنْتِ أَبِي تَجْرَاةَ، قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ الله ص حِينَ أَرَادَ اللَّهُ كَرَامَتَهُ وَابْتِدَاءَهُ بِالنُّبُوَّةِ، كَانَ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ أَبْعَدَ حَتَّى لا يَرَى بَيْتًا، وَيُفْضِي إِلَى الشِّعَابِ وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ، فَلا يَمُرُّ بِحَجَرٍ وَلا شَجَرَةٍ إِلا قَالَتِ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَانَ يَلْتَفِتُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ وَخَلْفِهِ فَلا يَرَى أَحَدًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانَتِ الأُمَمُ تَتَحَدَّثُ بِمَبْعَثِهِ وَتُخْبِرُ عُلَمَاءُ كُلِّ أُمَّةِ مِنْهَا قَوْمَهَا بِذَلِكَ، وَقَدْ حدثني الحارث، قال: حدثنا مُحَمَّد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْحَكَمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ يَقُولُ: أَنَا أَنْتَظِرُ نَبِيًّا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، ثُمَّ مِنْ بَنِي عَبْدِ المطلب ولا أراني ادركه، وانا أومن بِهِ وَأُصَدِّقُهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَإِنْ طَالَتْ بِكَ مُدَّةٌ فَرَأَيْتَهُ، فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلامَ، وَسَأُخْبِرُكَ مَا نَعْتُهُ حَتَّى لا يَخْفَى عَلَيْكَ! قُلْتُ: هَلُمَّ، قَالَ: هُوَ رَجُلٌ لَيْسَ بِالْقَصِيرِ وَلا بِالطَّوِيلِ، وَلا بِكَثِيرِ الشَّعْرِ وَلا بِقَلِيلِهِ، وَلَيْسَتْ تُفَارِقُ عَيْنَيْهِ حُمْرَةٌ، وَخَاتَمُ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَاسْمُهُ أَحْمَدُ، وَهَذَا الْبَلَدُ مَوْلِدُهُ وَمَبْعَثُهُ، ثُمَّ يُخْرِجُهُ قَوْمُهُ مِنْهَا، وَيَكْرَهُونَ مَا جَاءَ بِهِ، حَتَّى يُهَاجِرَ إِلَى يَثْرِبَ فَيَظْهَرُ أَمْرُهُ، فَإِيَّاكَ أَنْ تُخْدَعَ عَنْهُ، فَإِنِّي طُفْتُ الْبِلادَ كُلَّهَا أَطْلُبُ دِينَ إِبْرَاهِيمَ، فَكُلُّ مَنْ أَسْأَلُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ يَقُولُونَ: هَذَا الدِّينُ وَرَاءَكَ، وَيَنْعِتُونَهُ مِثْلَ مَا نَعَتُّهُ لَكَ، وَيَقُولُونَ: لَمْ يَبْقَ نَبِيٌّ غَيْرَهُ

قَالَ عَامِرٌ: فَلَمَّا أَسْلَمْتُ أَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص قول زيد ابن عَمْرٍو وَأَقْرَأْتُهُ مِنْهُ السَّلامَ، [فَرَدَّ عَلَيْهِ رَسُولُ الله ص، وَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُهُ فِي الْجَنَّةِ يَسْحَبُ ذُيُولا] . حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق عمن لا يتهم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ مَوْلَى عُثْمَانَ، أَنَّهُ حَدَّثَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَيْنَا هُوَ جَالِسٌ فِي النَّاسِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ الله ص، إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ، يُرِيدُ عُمَرَ- يَعْنِي ابْنَ الْخَطَّابِ- فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ عُمَرُ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَعَلَى شِرْكِهِ بَعْدَ، مَا فَارَقَهُ- أَوْ لَقَدْ كَانَ كَاهِنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ- فَسَلَّمَ عَلَيْهِ الرَّجُلُ، ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: هَلْ أَسْلَمْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: هَلْ كُنْتَ كَاهِنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! لَقَدِ اسْتَقْبَلْتَنِي بِأَمْرٍ مَا أَرَاكَ قُلْتَهُ لأَحَدٍ مِنْ رَعِيَّتِكَ مُنْذُ وُلِّيتَ! فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ غُفْرًا، قَدْ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى شَرٍّ مِنْ ذَلِكَ، نَعْبُدُ الأَصْنَامَ، وَنَعْتَنِقُ الأَوْثَانَ حَتَّى أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِالإِسْلامِ فَقَالَ: نَعَمْ وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَقَدْ كُنْتُ كَاهِنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ: فَأَخْبِرْنَا مَا أَعْجَبُ مَا جَاءَكَ بِهِ صَاحِبُكَ قَالَ: جَاءَنِي قَبْلَ الإِسْلامِ بِشَهْرٍ- أَوْ سَنَةٍ- فَقَالَ لِي: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْجِنِّ وَإِبْلاسِهَا، وَإِيَاسِهَا مِنْ دِينِهَا، وَلُحُوقِهَا بِالْقِلاصِ وَأَحْلاسِهَا!. قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ عِنْدَ ذَلِكَ يُحَدِّثُ النَّاسُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَعِنْدَ وَثَنٍ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، قَدْ ذَبَحَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ عِجْلا فنحن ننظر قسمه ليقسم لنا منه، إِذْ سَمِعْتُ مِنْ جَوْفِ الْعِجْلِ صَوْتًا مَا سَمِعْتُ صَوْتًا قَطُّ أَنْفَذَ مِنْهُ، وَذَلِكَ قَبْلَ الإِسْلامِ بِشَهْرٍ أَوْ شَيْعِهِ، يَقُولُ: يَا آلَ ذريح،

أَمْرٌ نَجِيحٌ، وَرَجُلٌ يَصِيحُ، يَقُولُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُجَاهِدٍ، عن ابن إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ، مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، قَالَ: حدثنا مُحَمَّد بن سعد، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ صَنَمٍ بِبُوَانَةَ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ رَسُولُ الله ص بِشَهْرٍ، نَحَرْنَا جَزُورًا، فَإِذَا صَائِحٌ يَصِيحُ مِنْ جَوْفٍ وَاحِدَةٍ: اسْمَعُوا إِلَى الْعَجَبِ! ذَهَبَ اسْتِرَاقُ الْوَحْيِ، وَنُرْمَى بِالشُّهُبِ لِنَبِيٍّ بِمَكَّةَ اسْمُهُ أَحْمَدُ، مُهَاجَرُهُ إِلَى يَثْرِبَ قَالَ: فَأَمْسَكْنَا، وَعَجِبْنَا، وَخَرَجَ رسول الله ص. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَطَّانُ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَجُلا من بنى عامر اتى النبي ص، فَقَالَ: أَرِنِي الْخَاتِمَ الَّذِي بَيْنَ كَتِفَيْكَ، فَإِنْ يَكُ بِكَ طِبٌّ دَاوَيْتُكَ، فَإِنِّي أَطَبُّ الْعَرَبِ، [قَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ أُرِيَكَ آيَةً؟ قَالَ: نَعَمْ، ادْعُ ذَاكَ الْعِذْقَ، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَى عِذْقٍ فِي نَخْلَةٍ، فَدَعَاهُ فَجَعَلَ يُنْقِزُ، حَتَّى قَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: قُلْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ، فَرَجَعَ، فَقَالَ الْعَامِرِيُّ: يَا بَنِي عَامِرٍ، مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ أَسْحَرَ!] قال أبو جعفر: والأخبار عن الدلالة على نبوته ص أكثر من أن تحصى، ولذلك كتاب يفرد إن شاء الله. ونرجع الآن إلى:

ذكر الخبر عما كان من امر نبى الله ص عند ابتداء الله تعالى ذكره اياه بإكرامه بإرسال جبريل ع اليه بوحيه

ذكر الخبر عما كان من أمر نبي الله ص عند ابتداء الله تعالى ذكره إياه بإكرامه بإرسال جبريل ع إليه بوحيه قال أبو جعفر: قد ذكرنا قبل بعض الأخبار الواردة عن أول وقت مجيء جبريل نبينا محمدا ص بالوحي من الله، وكم كان سن النبي ص يومئذ، ونذكر الآن صفة ابتداء جبريل إياه بالمصير إليه، وظهوره له بتنزيل ربه. فَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي الْجَوْزَاءِ، قَالَ: حدثنا وهب ابن جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ رَاشِدٍ، يُحَدِّثُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ أَوَّلُ مَا ابتدئ به رسول الله ص مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ، كَانَتْ تَجِيءُ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاءُ، فَكَانَ بغار بحراء يَتَحَنَّثُ فِيهِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى فَجَأَهُ الْحَقُّ، [فَأَتَاهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ! قَالَ رَسُولُ الله ص: فَجَثَوْتُ لِرُكْبَتَيَّ وَأَنَا قَائِمٌ، ثُمَّ زَحَفْتُ تَرْجُفُ بَوَادِرِي، ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي! حَتَّى ذَهَبَ عَنِّي الرَّوْعُ، ثُمَّ أَتَانِي فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: فَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَطْرَحَ نَفْسِي مِنْ حَالِقٍ مِنْ جَبَلٍ، فَتَبَدَّى لِي حِينَ هَمَمْتُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنَا جِبْرِيلُ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَقْرَأُ؟ قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَتَّنِي ثَلاثَ مَرَّاتٍ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ قَالَ: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ» ، فَقَرَأْتُ فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ: لَقَدْ أَشْفَقْتُ عَلَى نفسي، فأخبرتها خبري، فقالت: ابشر، فو الله لا يخزيك الله ابدا، وو الله انك لتصل

الرحيم، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتُؤَدِّي الأَمَانَةَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتُقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِي إِلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدٍ، قَالَتِ: اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَسَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي، فَقَالَ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعٌ! لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ! قُلْتُ: أَمُخْرِجِيَّ هم؟ قال: نعم، انه لم يجيء رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلا عُودِيَ، وَلَئِنْ أَدْرَكَنِي يَوْمُكَ أَنْصُرُكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ كَانَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ عَلَيَّ مِنَ الْقُرْآنِ بعد اقْرَأْ: «ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ. مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ» ، و «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ» و «وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى» . ] حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: ثُمَّ كَانَ أَوَّلُ مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ مِنَ الْقُرْآنِ. إِلَى آخِرِهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ، قَالَ: [اتى جبريل محمدا ص، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اقْرَأْ؟ فَقَالَ: مَا أَقْرَأُ؟ قَالَ: فَضَمَّهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اقْرَأْ، قَالَ: مَا أَقْرَأُ؟ قَالَ: فَضَمَّهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اقْرَأْ، قَالَ: وَمَا أَقْرَأُ؟ قَالَ: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ» حَتَّى بَلَغَ «عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» ، قَالَ: فَجَاءَ إِلَى خَدِيجَةَ، فَقَالَ: يَا خَدِيجَةُ، مَا أَرَانِي إِلا قَدْ عُرِضَ لِي، قَالَتْ: كلا وَاللَّهِ مَا كَانَ رَبُّكَ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِكَ،] مَا أَتَيْتَ فَاحِشَةً قَطُّ قَالَ: فَأَتَتْ

خَدِيجَةُ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ فَأَخْبَرَتْهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتِ صَادِقَةً، إِنَّ زَوْجَكِ لَنَبِيٌّ، وَلَيَلْقَيَنَّ مِنْ أُمَّتِهِ شِدَّةً، وَلَئِنْ أَدْرَكْتُهُ لأُومِنَنَّ بِهِ. قَالَ: ثُمَّ أَبْطَأَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: مَا أَرَى رَبَّكَ إِلا قَدْ قَلاكَ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى» . حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ مَوْلَى آلِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ يَقُولُ لِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ قَتَادَةَ اللَّيْثِيِّ: حَدِّثْنَا يَا عُبَيْدُ كَيْفَ كَانَ بَدْءُ مَا ابْتُدِئَ بِهِ رَسُولُ الله ص من النبوه حين جاء جبريل ع؟ فَقَالَ عُبَيْدٌ- وَأَنَا حَاضِرٌ يُحَدِّثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَمَنْ عِنْدَهُ مِنَ النَّاسِ: كَانَ رسول الله ص يجاور في حراء من كُلِّ سَنَةٍ شَهْرًا، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا تَحَنَّثَ بِهِ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ- وَالتَّحَنُّثُ: التَّبَرُّرُ- وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: وَرَاقٍ لَيَرْقَى فِي حِرَاءٍ وَنَازِلٌ. فكان رسول الله ص يُجَاوِرُ ذَلِكَ الشَّهْرَ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ، يُطْعِمُ من جاءه من المساكين، فإذا قضى رسول الله ص جِوَارَهُ مِنْ شَهْرِهِ ذَلِكَ، كَانَ أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ- إِذَا انْصَرَفَ مِنْ جِوَارِهِ- الْكَعْبَةَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ، فَيَطُوفُ بِهَا سَبْعًا، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى بَيْتِهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ مَا أَرَادَ مِنْ كَرَامَتِهِ، مِنَ السَّنَةِ الَّتِي بَعَثَهُ فِيهَا، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، خَرَجَ رَسُولُ الله ص إِلَى حِرَاءٍ- كَمَا كَانَ يَخْرُجُ لِجِوَارِهِ- مَعَهُ أَهْلُهُ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَكْرَمَهُ اللَّهُ فِيهَا بِرِسَالَتِهِ وَرُحِمَ الْعِبَادُ بِهَا، جَاءَهُ جبريل بأمر الله [فقال رسول الله ص

، فَجَاءَنِي وَأَنَا نَائِمٌ بِنَمَطٍ مِنْ دِيبَاجٍ، فِيهِ كِتَابٌ، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَقْرَأُ؟ فَغَتَّنِي، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ الْمَوْتُ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَاذَا أَقْرَأُ؟ وَمَا أَقُولُ ذَلِكَ إِلا افْتِدَاءً مِنْهُ أَنْ يَعُودَ إِلَيَّ بِمِثْلِ مَا صَنَعَ بِي، قَالَ: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ» إِلَى قَوْلِهِ: «عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» ، قَالَ: فَقَرَأْتُهُ، قَالَ: ثُمَّ انْتَهَى، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنِّي وَهَبَبْتُ مِنْ نَوْمِي، وَكَأَنَّمَا كُتِبَ فِي قَلْبِي كِتَابًا] . [قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَحَدٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ شَاعِرٍ أَوْ مَجْنُونٍ، كُنْتُ لا أُطِيقُ أَنْ أَنْظُرَ إِلَيْهِمَا، قَالَ: قُلْتُ إِنَّ الأَبْعَدَ- يَعْنِي نَفْسَهُ- لَشَاعِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، لا تُحَدِّثُ بِهَا عَنِّي قُرَيْشٌ أَبَدًا! لأَعْمَدَنَّ إِلَى حَالِقٍ مِنَ الْجَبَلِ فَلأَطْرَحَنَّ نَفْسِي مِنْهُ فَلأَقْتُلَنَّهَا فَلأَسْتَرِيحَنَّ قَالَ، فَخَرَجْتُ أُرِيدُ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي وَسَطٍ مِنَ الْجَبَلِ، سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَا جِبْرِيلُ، قَالَ: فرفعت راسى الى السماء، فإذا جبرئيل فِي صُورَةِ رَجُلٍ صَافٍّ قَدَمَيْهِ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وانا جبرئيل قَالَ: فَوَقَفْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَشَغَلَنِي ذَلِكَ عَمَّا أَرَدْتُ، فَمَا أَتَقَدَّمُ وَمَا أَتَأَخَّرُ، وَجَعَلْتُ أَصْرِفُ وَجْهِي عَنْهُ فِي آفَاقِ السَّمَاءِ فَلا أَنْظُرُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا إِلا رَأَيْتُهُ كَذَلِكَ، فَمَا زِلْتُ وَاقِفًا مَا أَتَقَدَّمُ أَمَامِي، وَلا أَرْجِعُ وَرَائِي، حَتَّى بَعَثَتْ خَدِيجَةُ رُسُلَهَا فِي طَلَبِي، حَتَّى بَلَغُوا مَكَّةَ وَرَجَعُوا إِلَيْهَا وَأَنَا وَاقِفٌ فِي مَكَانِي ثُمَّ انْصَرَفَ عَنِّي وَانْصَرَفْتُ رَاجِعًا إِلَى أَهْلِي، حَتَّى أَتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَجَلَسْتُ إِلَى فَخِذِهَا مُضِيفًا فَقَالَتْ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، أَيْنَ كنت؟ فو الله لَقَدْ بَعَثْتُ رُسُلِي فِي طَلَبِكَ، حَتَّى بَلَغُوا مَكَّةَ وَرَجَعُوا إِلَيَّ قَالَ: قُلْتُ لَهَا: إِنَّ الأَبْعَدَ لَشَاعِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، فَقَالَتْ:

أُعِيذُكَ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ! مَا كَانَ اللَّهُ لِيَصْنَعَ ذَلِكَ بِكَ مَعَ مَا أَعْلَمُ مِنْكَ مِنْ صِدْقِ حَدِيثِكَ، وَعِظَمِ أَمَانَتِكَ، وَحُسْنِ خُلُقِكَ، وَصِلَةِ رَحِمِكَ! وَمَا ذَاكَ يا بن عَمٍّ! لَعَلَّكَ رَأَيْتَ شَيْئًا؟ قَالَ: فَقُلْتُ لَهَا: نَعَمْ ثُمَّ حَدَّثْتُهَا بِالَّذِي رَأَيْتُ، فَقَالَتْ: أَبْشِرْ يا بن عم واثبت،] فو الذى نَفْسُ خَدِيجَةَ بِيَدِهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونَ نَبِيَّ هَذِهِ الأُمَّةِ، ثُمَّ قَامَتْ فَجَمَعَتْ عَلَيْهَا ثِيَابَهَا، ثُمَّ انْطَلَقَتْ إِلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدٍ- وَهُوَ ابْنُ عَمِّهَا، وَكَانَ وَرَقَةُ قَدْ تَنَصَّرَ وَقَرَأَ الْكُتُبَ، وَسَمِعَ مِنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ- فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا أَخْبَرَهَا بِهِ رَسُولُ الله ص أَنَّهُ رَأَى وَسَمِعَ، فَقَالَ وَرَقَةُ: قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ! وَالَّذِي نَفْسُ وَرَقَةَ بِيَدِهِ، لَئِنْ كُنْتِ صَدَقْتِنِي يَا خَدِيجَةُ، لَقَدْ جَاءَهُ النَّامُوسُ الأَكْبَرُ- يَعْنِي بالناموس جبرئيل ع الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى- وَإِنَّهُ لَنَبِيُّ هَذِهِ الأُمَّةِ، فَقُولِي لَهُ فَلْيَثْبُتْ فَرَجَعَتْ خَدِيجَةُ إِلَى رسول الله ص، فَأَخْبَرَتْهُ بِقَوْلِ وَرَقَةَ، فَسَهَّلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بَعْضَ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْهَمِّ، فَلَمَّا قَضَى رسول الله ص جِوَارَهُ، وَانْصَرَفَ صَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ، وَبَدَأَ بِالْكَعْبَةِ فَطَافَ بِهَا فَلَقِيَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، وهو يطوف بالبيت، فقال: يا بن أَخِي، أَخْبِرْنِي بِمَا رَأَيْتَ أَوْ سَمِعْتَ، فَأَخْبَرَهُ رسول الله ص، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّكَ لَنَبِيُّ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَلَقَدْ جَاءَكَ النَّامُوسُ الأَكْبَرُ الَّذِي جَاءَ إِلَى مُوسَى، وَلَتُكَذِّبُنَّهُ وَلَتُؤْذِيَنَّهُ، وَلَتُخْرِجُنَّهُ، وَلَتُقَاتِلُنَّهُ، وَلَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُ ذَلِكَ لأَنْصُرَنَّ اللَّهَ نَصْرًا يَعْلَمُهُ ثُمَّ أَدْنَى رَأْسَهُ فَقَبَّلَ يَافُوخَهُ، ثم انصرف رسول الله ص، إِلَى مَنْزِلِهِ. وَقَدْ زَادَهُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ وَرَقَةَ ثَبَاتًا، وَخَفَّفَ عَنْهُ بَعْضَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْهَمِّ. فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، قال: حدثني مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ مَوْلَى آلِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ

خديجه انها قالت لرسول الله ص فِيمَا يُثَبِّتُهُ فِيمَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ نبوته: يا بن عَمِّ، أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُخْبِرَنِي بِصَاحِبِكَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ إِذَا جَاءَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَإِذَا جاءك فأخبرني به، فجاءه جبرئيل ع كما كان يأتيه، [فقال رسول الله ص لخديجة: يا خديجه هذا جبرئيل قد جاءني، فقالت: نعم، فقم يا بن عَمٍّ، فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِي الْيُسْرَى، فَقَامَ رَسُولُ الله ص فَجَلَسَ عَلَيْهَا، قَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَتَحَوَّلْ فَاقْعُدْ عَلَى فَخِذِي الْيُمْنَى، فَتَحَوَّلَ رسول الله ص فَجَلَسَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَتَحَوَّلْ فَاجْلِسْ فِي حِجْرِي، فَتَحَوَّلَ فَجَلَسَ فِي حِجْرِهَا، قَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فتحسرت، فالقت خمارها ورسول الله ص جَالِسٌ فِي حِجْرِهَا، ثُمَّ قَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ؟ قال: لا، فقالت: يا بن عم، اثبت وابشر، فو الله إِنَّهُ لَمَلَكٌ وَمَا هُوَ بِشَيْطَانٍ] . فَحَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: وَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَسَنِ، فَقَالَ: قَدْ سَمِعْتُ أُمِّي فَاطِمَةَ بِنْتَ الْحُسَيْنِ تُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ خَدِيجَةَ، إِلا أَنِّي قَدْ سَمِعْتُهَا تَقُولُ: أَدْخَلَتْ رسول الله ص بينها وبين درعها، فذهب عند ذلك جبرئيل، فقالت لرسول الله ص: إِنَّ هَذَا لَمَلَكٌ، وَمَا هُوَ بِشَيْطَانٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ بْنِ فَارِسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى- يَعْنِي ابْنَ أَبِي كَثِيرٍ- قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ: أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ أَوَّلَ؟ فقال: «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ» ، فقلت: يقولون: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ» ! فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله: اى القرآن انزل أول؟ فقال: «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ» ، فَقُلْتُ: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ» ، فَقَالَ: لا أُخْبِرُكَ إِلا مَا حَدَّثَنَا النَّبِيُّ ص، [قَالَ: جَاوَرْتُ فِي حِرَاءٍ، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي، هَبَطْتُ فَاسْتَبْطَنْتُ الْوَادِيَ،

فَنُودِيتُ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، وَخَلْفِي وَقُدَّامِي، فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَنَظَرْتُ فَوْقَ رَأْسِي، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى عَرْشٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَخَشِيتُ مِنْهُ- قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: هَكَذَا قال عثمان بن عمر، وانما هو فجئثت مِنْهُ فَلَقِيتُ خَدِيجَةَ، فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي، فَدَثَّرُونِي، وَصَبُّوا على ماء، وانزل على: «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ] » . حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ عَنْ أَوَّلِ ما نزل من القرآن، قال: نزلت: «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ» أَوَّلَ، قَالَ: قُلْتُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ» ، فَقَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: لا أُحَدِّثُكَ إِلا مَا [حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ ص، قَالَ: جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي، هَبَطْتُ فَسَمِعْتُ صَوْتًا، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَعَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ أَمَامِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ خَلْفِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَرَأَيْتُ شَيْئًا، فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي، وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً، قَالَ: فدثرونى وصبوا على ماء باردا، فنزلت: «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ] » . وَحَدَّثْتُ عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: اتى جبريل رسول الله ص أَوَّلَ مَا أَتَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ، وَلَيْلَةَ الأَحَدِ، ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ بِرِسَالَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، فَعَلَّمَهُ الْوُضُوءَ، وَعَلَّمَهُ الصَّلاةَ، وَعَلَّمَهُ: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ» ، وكان لرسول الله ص يَوْمَ الاثْنَيْنِ، يَوْمَ أُوحِيَ إِلَيْهِ، أَرْبَعُونَ سَنَةً. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ الطُّوسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ الْقُرَشِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ

عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ [قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ عَلِمْتَ أَنَّكَ نَبِيٌّ أَوَّلَ مَا عَلِمْتَ، حَتَّى عَلِمْتَ ذَلِكَ وَاسْتَيْقَنْتَ؟ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، أَتَانِي مَلَكَانِ وَأَنَا بِبَعْضِ بَطْحَاءِ مَكَّةَ، فَوَقَعَ أَحَدُهُمَا فِي الأَرْضِ وَالآخَرُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَهُوَ هُوَ؟ قَالَ: هُوَ هُوَ، قَالَ: فَزِنْهُ بِرَجُلٍ، فَوُزِنْتُ بِرَجُلٍ فَرَجَحْتُهُ، ثُمَّ قَالَ: زِنْهُ بِعَشَرَةٍ، فَوَزَنَنِي بِعَشَرَةٍ فَرَجَحْتُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: زِنْهُ بِمِائَةٍ، فَوَزَنَنِي بِمِائَةٍ فَرَجَحْتُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: زِنْهُ بِأَلْفٍ، فَوَزَنَنِي بِأَلْفٍ فَرَجَحْتُهُمْ، فَجَعَلُوا يَنْتَثِرُونَ عَلَيَّ مِنْ كِفَّةِ الْمِيزَانِ، قَالَ: فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ: لَوْ وَزَنْتَهُ بِأُمَّتِهِ رَجَحَهَا ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: شُقَّ بَطْنَهُ، فَشَقَّ بَطْنِي، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا: أَخْرِجْ قَلْبَهُ- أَوْ قَالَ: شُقَّ قَلْبَهُ- فَشَقَّ قَلْبِي، فَأَخْرَجَ مِنْهُ مَغْمَزَ الشَّيْطَانِ وَعَلَقَ الدَّمِ، فَطَرَحَهَا، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ: اغْسِلْ بَطْنَهُ غَسْلَ الإِنَاءِ، وَاغْسِلْ قَلْبَهُ غَسْلَ الإِنَاءِ- أَوِ اغْسِلْ قَلْبَهُ غَسْلَ الْمُلاءَةِ- ثُمَّ دَعَا بِالسِّكِّينَةِ، كَأَنَّهَا وَجْهُ هِرَّةٍ بَيْضَاءَ فَأُدْخِلَتْ قَلْبِي، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: خِطْ بَطْنَهُ، فَخَاطَا بَطْنِي، وَجَعَلا الْخَاتَمَ بَيْنَ كَتِفَيَّ، فَمَا هُوَ إِلا أَنْ وَلَّيَا عَنِّي فَكَأَنَّمَا أُعَايِنُ الأَمْرَ مُعَايَنَةً] . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: فَتَرَ الْوَحْيُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ص فَتْرَةً، فَحَزِنَ حُزْنًا شَدِيدًا، جَعَلَ يَغْدُو إِلَى رُءُوسِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ لِيَتَرَدَّى مِنْهَا، فَكُلَّمَا أَوْفَى بذروه جبل تبدى له جبرئيل، فَيَقُولُ: إِنَّكَ نَبِيُّ اللَّهِ، فَيَسْكُنَ لِذَلِكَ جَأْشُهُ، وترجع اليه نفسه، فكان النبي ص يُحَدِّثُ عَنْ ذَلِكَ، [قَالَ: فَبَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي يَوْمًا، إِذْ رَأَيْتُ الْمَلَكَ الَّذِي كَانَ يَأْتِينِي بِحِرَاءٍ، عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَجُئِثْتُ مِنْهُ رُعْبًا، فَرَجَعْتُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي، فَزَمَّلْنَاهُ- أَيْ دَثَّرْنَاهُ- فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:

«يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ» ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ أُنْزِلَ عَلَيْهِ: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ» حَتَّى بَلَغَ «ما لَمْ يَعْلَمْ] » . حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيَّ، قال: [قال رسول الله ص وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: فَجُئِثْتُ مِنْهُ فَرَقًا، وَجِئْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي! فدثرونى، فانزل الله عز وجل: «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ» إِلَى قَوْلِهِ: «وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ» ، قَالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ الْوَحْيُ] . قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ص أَنْ يَقُومَ بِإِنْذَارِ قَوْمِهِ عِقَابَ اللَّهِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مُقِيمِينَ مِنْ كُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ وَعِبَادَتِهِمُ الآلِهَةَ وَالأَصْنَامَ دُونَ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَرَزَقَهُمْ، وَأَنْ يُحَدِّثَ بِنِعْمَةِ رَبِّهِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: «وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ» ، وَذَلِكَ- فِيمَا زَعَمَ ابْنُ إِسْحَاقَ- النُّبُوَّةُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن ابن إسحاق: «وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ» ، أَيْ مَا جَاءَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ نِعْمَتِهِ وَكَرَامَتِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ فَحَدِّثِ، اذْكُرْهَا وَادْعُ إِلَيْهَا قال: فجعل رسول الله ص يَذْكُرُ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْعِبَادِ بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ سِرًّا إِلَى مَنْ يَطْمَئِنُّ اليه من

أَهْلِهِ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَهُ وَآمَنَ بِهِ واتبعه من خلق الله- فيما ذكر- زوجته خَدِيجَةُ رَحِمَهَا اللَّهُ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ الواقدي: أَصْحَابُنَا مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ اسْتَجَابَ لِرَسُولِ الله ص خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ رَحِمَهَا اللَّهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: ثُمَّ كَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ شَرَائِعِ الإِسْلامِ عَلَيْهِ بَعْدَ الإِقْرَارِ بِالتَّوْحِيدِ وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الأَوْثَانِ وَالأَصْنَامِ وَخَلْعِ الأَنْدَادِ الصَّلاةَ- فِيمَا ذُكِرَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إِسْحَاقَ، قَالَ: وحدثني بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الصلاة حين افترضت على رسول الله ص، أتاه جبرئيل وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ، فَهَمَزَ لَهُ بِعَقِبِهِ فِي ناحيه الوادى، فانفجرت منه عين، فتوضأ جبرئيل ع، ورسول الله ص يَنْظُرُ إِلَيْهِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ الطُّهُورُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ توضأ رسول الله ص كما راى جبرئيل ع توضأ، ثم قام جبرئيل ع، فصلى به وصلى النبي ص بصلاته ثم انصرف جبرئيل ع، فجاء رسول الله ص خَدِيجَةَ، فَتَوَضَّأَ لَهَا يُرِيهَا كَيْفَ الطُّهُورُ لِلصَّلَاةِ، كما أراه جبرئيل ع، فتوضأت كما توضأ رسول الله ص، ثم صلى بها رسول الله ص كما صلى به جبرئيل ع، فَصَلَّتْ بِصَلَاتِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَحَكَّامُ بْنُ سَلْمٍ،

عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ الْوَاسِطِيِّ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ سِيَاهٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا كَانَ حين نبى النبي ص، وَكَانَ يَنَامُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَنَامُ حولها، فأتاه ملكان: جبرئيل وَمِيكَائِيلُ، فَقَالا: بِأَيِّهِمْ أُمِرْنَا؟ فَقَالا: أُمِرْنَا بِسَيِّدِهِمْ، ثُمَّ ذَهَبَا ثُمَّ جَاءَا مِنَ الْقِبْلَةِ، وَهُمْ ثَلاثَةٌ، فَأَلْفَوْهُ وَهُوَ نَائِمٌ، فَقَلَّبُوهُ لِظَهْرِهِ، وَشَقُّوا بَطْنَهُ، ثُمَّ جَاءُوا بِمَاءٍ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، فَغَسَلُوا مَا كَانَ فِي بَطْنِهِ مِنْ شَكٍّ أَوْ شِرْكٍ أَوْ جَاهِلِيَّةٍ أَوْ ضَلالَةٍ، ثُمَّ جاءوا بطست من ذهب، مليء إِيمَانًا وَحِكْمَةً، فَمُلِئَ بَطْنُهُ وَجَوْفُهُ إِيمَانًا وَحِكْمَةً، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَاسْتَفْتَحَ جبرئيل، فقالوا: من هذا؟ فقال: جبرئيل، فَقَالُوا: مَنْ مَعَكَ؟ فَقَالَ: مُحَمَّدٌ، قَالُوا: وَقَدْ بُعِثَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: مَرْحَبًا، فَدَعَوْا لَهُ فِي دُعَائِهِمْ، فَلَمَّا دَخَلَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ جسيم وسيم، فقال: من هذا يا جبرئيل؟ فَقَالَ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ، ثُمَّ أَتَوْا بِهِ الى السماء الثانيه، فاستفتح جبرئيل، فَقِيلَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ، وَقَالُوا فِي السَّمَوَاتِ كُلِّهَا كَمَا قَالَ وَقِيلَ لَهُ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَلَمَّا دَخَلَ، إِذَا بِرَجُلَيْنِ، فَقَالَ: مَنْ هؤلاء يا جبرئيل؟ فَقَالَ: يَحْيَى وَعِيسَى ابْنَا الْخَالَةِ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ السَّمَاءَ الثَّالِثَةَ، فَلَمَّا دَخَلَ إِذَا هُوَ برجل، فقال: من هذا يا جبرئيل؟ قَالَ: هَذَا أَخُوكَ يُوسُفُ، فُضِّلَ بِالْحُسْنِ عَلَى النَّاسِ، كَمَا فُضِّلَ الْقَمَرُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى الْكَوَاكِبِ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ، فَإِذَا هو برجل، فقال: من هذا يا جبرئيل؟ فَقَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ، ثُمَّ قَرَأَ: «وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا» ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ، فَإِذَا هُوَ برجل، فقال: من هذا يا جبرئيل؟ قَالَ: هَذَا هَارُونُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ السَّمَاءَ السَّادِسَةَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ فَقَالَ: مَنْ هَذَا يا جبرئيل؟ فَقَالَ: هَذَا موسى، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ السَّمَاءَ السَّابِعَةَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا يا جبرئيل؟ قَالَ: هَذَا أَبُوكَ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى الْجَنَّةِ، فَإِذَا هُوَ بِنَهْرٍ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، بِجَنْبَتَيْهِ قِبَابُ الدُّرِّ، فقال: ما هذا يا جبرئيل؟ فَقَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي

أعطاك ربك، وهذه مساكنك، قال: وأخذ جبرئيل بِيَدِهِ مِنْ تُرْبَتِهِ، فَإِذَا هُوَ مِسْكٌ أَذْفَرُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَهِيَ سِدْرَةُ نَبْقٍ أَعْظَمُهَا أَمْثَالُ الْجِرَارِ، وَأَصْغَرُهَا أَمْثَالُ الْبَيْضِ، فَدَنَا رَبُّكَ عَزَّ وَجَلَّ: «فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى» ، فَجَعَلَ يَتَغَشَّى السِّدْرَةَ مِنْ دُنُوِّ رَبِّهَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَمْثَالُ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ وَاللُّؤْلُؤِ أَلْوَانٌ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ، وَفَهَّمَهُ وَعَلَّمَهُ وَفَرَضَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ صَلاةً، فَمَرَّ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: مَا فَرَضَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ فَقَالَ: خَمْسِينَ صَلاةً، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ أَضْعَفُ الأُمَمِ قُوَّةً، وَأَقَلُّهَا عُمْرًا، وَذَكَرَ مَا لَقِيَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَرَجَعَ فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرًا، ثُمَّ مَرَّ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ، كَذَلِكَ حَتَّى جَعَلَهَا خَمْسًا، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَقَالَ: لَسْتُ بِرَاجِعٍ، غَيْرَ عَاصِيكَ، وَقَذَفَ فِي قَلْبِهِ أَلا يَرْجِعَ، [فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لا يُبَدَّلُ كَلامِي، وَلا يُرَدُّ قَضَائِي وَفَرْضِي،] وَخَفَّفَ عَنْ أُمَّتِي الصَّلاةَ لِعُشْرٍ قَالَ أَنَسٌ: وَمَا وَجَدْتُ رِيحًا قَطُّ وَلا رِيحَ عَرُوسٍ قَطُّ، أَطْيَبَ رِيحًا مِنْ جِلْدِ رَسُولِ الله ص، أَلْزَقْتُ جِلْدِي بِجِلْدِهِ وَشَمَمْتُهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: ثُمَّ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيمَنِ اتَّبَعَ رَسُولَ اللَّهِ ص وَآمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنَ الْحَقِّ بَعْدَ زَوْجَتِهِ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، وَصَلَّى مَعَهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كان أول ذكر آمن برسول الله ص وَصَلَّى مَعَهُ وَصَدَّقَهُ بِمَا جَاءَهُ مِنْ عِنْدِ الله على بن ابى طالب ع

ذكر بعض من قال ذلك ممن حضرنا ذكره: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُخْتَارِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بَلْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ صَلَّى عَلِيٌّ. حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى الضَّرِيرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَحْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ، عَنْ جَابِرٍ، قال: بعث النبي ص يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَصَلَّى عَلِيٌّ يَوْمَ الثُّلاثَاءِ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ص عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: فَذَكَرْتُهُ لِلنَّخَعِيِّ، فَأَنْكَرَهُ، وَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي حَمْزَةَ مَوْلَى الأَنْصَارِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ص على بن ابى طالب ع. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أبا حمزه جلا مِنَ الأَنْصَارِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، يَقُولُ: أَوَّلُ رَجُلٍ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ص على ع. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْعَلاءُ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: [سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: أَنَا عبد الله وأخو رسوله، وَأَنَا الصِّدِّيقُ الأَكْبَرُ، لا يَقُولُهَا بَعْدِي إِلا كاذب مفتر، صليت مع رسول الله قَبْلَ النَّاسِ بِسَبْعِ سِنِينَ]

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ خُثَيْمٍ، عَنْ أَسَدِ بْنِ عَبْدَةَ الْبَجَلِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَفِيفٍ، عَنْ عَفِيفٍ، قَالَ: جِئْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى مَكَّةَ، فَنَزَلْتُ عَلَى الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: فَلَمَّا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَحَلَّقَتْ فِي السَّمَاءِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْكَعْبَةِ، أَقْبَلَ شَابٌّ، فَرَمَى بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْكَعْبَةَ، فَقَامَ مُسْتَقْبِلَهَا، فَلَمْ يَلْبَثْ حَتَّى جَاءَ غُلامٌ، فَقَامَ عَنْ يَمِينِهِ قَالَ: فَلَمْ يَلْبَثْ حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ، فَقَامَتْ خَلْفَهُمَا، فَرَكَعَ الشَّابُّ، فَرَكَعَ الْغُلامُ وَالْمَرْأَةُ، فَرَفَعَ الشَّابُّ فَرَفَعَ الْغُلامُ وَالْمَرْأَةُ، فَخَرَّ الشَّابُّ سَاجِدًا فَسَجَدَا مَعَهُ، فَقُلْتُ: يَا عَبَّاسُ، أَمْرٌ عَظِيمٌ! فَقَالَ: أَمْرٌ عَظِيمٌ! أَتَدْرِي مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: لا، قَالَ: هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ابْنُ أَخِي أَتَدْرِي مَنْ هَذَا مَعَهُ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: هَذَا عَلِيُّ بن ابى طالب ابن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ابْنُ أَخِي أَتَدْرِي مَنْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي خَلْفَهُمَا؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: هَذِهِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، زَوْجَةُ ابْنِ أَخِي، وَهَذَا حَدَّثَنِي أَنَّ رَبَّكَ رَبُّ السَّمَاءِ، أَمَرَهُمْ بِهَذَا الَّذِي تَرَاهُمْ عَلَيْهِ، وَايْمُ اللَّهِ مَا أَعْلَمُ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ كُلِّهَا أَحَدًا عَلَى هَذَا الدِّينِ غَيْرَ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا محمد ابن إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي الأَشْعَثِ الْكِنْدِيُّ، مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِيَاسِ بْنِ عَفِيفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جده، قال: كنت امرا تَاجِرًا، فَقَدِمْتُ أَيَّامَ الْحَجِّ، فَأَتَيْتُ الْعَبَّاسَ، فَبَيْنَا نَحْنُ عِنْدَهُ إِذْ خَرَجَ رَجُلٌ يُصَلِّي، فَقَامَ تِجَاهَ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ خَرَجَتِ امْرَأَةٌ فَقَامَتْ مَعَهُ تُصَلِّي، وَخَرَجَ غُلامٌ فَقَامَ يُصَلِّي مَعَهُ، فَقُلْتُ: يَا عَبَّاسُ، مَا هَذَا الدِّينُ؟ إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَا أَدْرِي مَا هُوَ؟ قَالَ: هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ بِهِ، وَأَنَّ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ سَتُفْتَحُ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ امْرَأَتُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ آمَنَتْ بِهِ، وَهَذَا الْغُلامُ ابْنُ عَمِّهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، آمَنَ بِهِ. قَالَ عَفِيفٌ: فَلَيْتَنِي كنت آمنت يومئذ فكنت أكون رابعا!

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ وَعَلِيُّ بْنُ مُجَاهِدٍ، قَالَ سَلَمَةُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي الأَشْعَثِ- قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهُوَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مَنْ كِتَابِي عَنْ يَحْيَى بْنِ الأَشْعَثِ- عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِيَاسِ بْنِ عَفِيفٍ الْكِنْدِيِّ- وَكَانَ عَفِيفٌ، أَخَا الأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ الْكِنْدِيِّ لأُمِّهِ، وَكَانَ ابْنَ عَمِّهِ- عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده عفيف، قال: كان العباس ابن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لِي صَدِيقًا، وَكَانَ يَخْتَلِفُ إِلَى الْيَمَنِ، يَشْتَرِي الْعِطْرَ فَيَبِيعُهُ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ، فَبَيْنَا أَنَا عِنْدَ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِمِنًى، فأتاه رَجُلٌ مُجْتَمِعٌ، فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَخَرَجَتِ امْرَأَةٌ فَتَوَضَّأَتْ وَقَامَتْ تُصَلِّي ثُمَّ خَرَجَ غُلامٌ قَدْ رَاهَقَ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى جَنْبِهِ يُصَلِّي، فَقُلْتُ: وَيْحَكَ يَا عَبَّاسُ! مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذَا ابْنُ أَخِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ بَعَثَهُ رَسُولا، وَهَذَا ابْنُ أَخِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَدْ تَابَعَهُ عَلَى دِينِهِ، وَهَذِهِ امْرَأَتُهُ خَدِيجَةُ ابْنَةُ خُوَيْلِدٍ، قَدْ تَابَعَتْهُ عَلَى دِينِهِ قَالَ عَفِيفٌ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ وَرَسَخَ الإِسْلامُ فِي قَلْبِهِ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ رَابِعًا! حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ سَوَادَةَ بْنِ الْجَعْدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَبُو حَازِمٍ الْمَدَنِيُّ، وَالْكَلْبِيُّ، قَالُوا: عَلِيٌّ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ تِسْعِ سِنِينَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كان أول ذكر آمن برسول الله ص، وَصَلَّى مَعَهُ وَصَدَّقَهُ بِمَا جَاءَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ، وَكَانَ مِمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ به على على بن ابى طالب ع، انه كان في حجر رسول الله ص قبل الاسلام

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ أَبِي الْحَجَّاجِ، قَالَ: كَانَ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَمَا صَنَعَ اللَّهُ لَهُ وَأَرَادَهُ بِهِ مِنَ الْخَيْرِ، أَنَّ قُرَيْشًا أَصَابَتْهُمْ أَزْمَةٌ شَدِيدَةٌ، وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ ذَا عِيَالٍ كَثِيرٍ، [فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص لِلْعَبَّاسِ عَمِّهِ- وَكَانَ مِنْ أَيْسَرِ بَنِي هَاشِمٍ: يَا عَبَّاسُ، إِنَّ أَخَاكَ أَبَا طَالِبٍ كَثِيرُ الْعِيَالِ، وَقَدْ أَصَابَ النَّاسَ مَا تَرَى مِنْ هذه الازمه، فانطلق بنا فلنخفف عَنْهُ مِنْ عِيَالِهِ، آخُذُ مِنْ بَنِيهِ رَجُلا، وَتَأْخُذُ مِنْ بَنِيهِ رَجُلا، فَنَكْفِهِمَا عَنْهُ قَالَ الْعَبَّاسُ: نَعَمْ، فَانْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا أَبَا طَالِبٍ، فَقَالا: إِنَّا نُرِيدُ أَنْ نُخَفِّفَ عَنْكَ مِنْ عِيَالِكَ حَتَّى يَنْكَشِفَ عَنِ النَّاسِ مَا هُمْ فِيهِ، فَقَالَ لَهُمَا أَبُو طَالِبٍ: إِذَا تَرَكْتُمَا لِي عَقِيلا فَاصْنَعَا مَا شِئْتُمَا، فَأَخَذَ رَسُولُ الله ص عَلِيًّا فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، وَأَخَذَ الْعَبَّاسُ جَعْفَرًا فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مع رسول الله ص حَتَّى بَعَثَهُ اللَّهُ نَبِيًّا، فَاتَّبَعَهُ عَلِيٌّ فَآمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ، وَلَمْ يَزَلْ جَعْفَرٌ عِنْدَ الْعَبَّاسِ حَتَّى أَسْلَمَ وَاسْتَغْنَى عَنْهُ] . حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، قال: فحدثني محمد بن إِسْحَاقَ، قَالَ: وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ رسول الله ص كَانَ إِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ، خَرَجَ إِلَى شِعَابِ مَكَّةَ، وَخَرَجَ مَعَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مُسْتَخْفِيًا مِنْ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ وَجَمِيعِ أَعْمَامِهِ وَسَائِرِ قَوْمِهِ، فَيُصَلِّيَانِ الصَّلَواتِ فِيهَا، فَإِذَا أَمْسَيَا رَجَعَا، فَمَكَثَا كَذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَا ثُمَّ إِنَّ أَبَا طَالِبٍ عَثَرَ عَلَيْهِمَا يوما وهما يصليان، فقال لرسول الله ص: يا بن أَخِي، مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي أَرَاكَ تَدِينُ بِهِ؟ [قال: أَيْ عَمِّ، هَذَا دِينُ اللَّهِ وَدِينُ مَلَائِكَتِهِ وَدِينُ رُسُلِهِ، وَدِينُ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ- أَوْ كَمَا قَالَ- بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ رَسُولًا إِلَى الْعِبَادِ، وَأَنْتَ يَا عَمُّ أَحَقُّ مَنْ بَذَلْتُ لَهُ النَّصِيحَةَ، وَدَعَوْتُهُ إِلَى الْهُدَى، وَأَحَقُّ مَنْ أَجَابَنِي إِلَيْهِ، وَأَعَانَنِي عَلَيْهِ- أَوْ كَمَا قال] فقال ابو طالب: يا بن أَخِي، إِنِّي لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُفَارِقَ دِينِي وَدِينَ آبَائِي وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لا يَخْلُصُ إِلَيْكَ بِشَيْءٍ تَكْرَهُهُ مَا حَيِيتُ

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: وَزَعَمُوا أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَيْ بُنَيَّ، مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ؟ [قَالَ: يَا أَبَهْ، آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَصَدَّقْتُهُ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَصَلَّيْتُ مَعَهُ لِلَّهِ] فَزَعَمُوا أَنَّهُ قَالَ لَهُ: أَمَا إِنَّهُ لا يَدْعُوكَ إِلَّا إِلَى خَيْرٍ، فَالْزَمْهُ. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: أخبرنا إبراهيم بن نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قال: أسلم علي وهو ابن عشر سنين. قَالَ الْحَارِثُ: قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: قَالَ الْوَاقِدِيُّ: واجتمع أصحابنا على أن عليا أسلم بعد ما تنبأ رسول الله ص بسنة، فأقام بمكة اثنتي عشرة سنة. وقال آخرون: أول من أسلم من الرجال أبو بكر رضي الله عنه. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَغْرَاءَ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ أَوَّلُ النَّاسِ إِسْلامًا؟ فَقَالَ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ: إِذَا تَذَكَّرْتَ شَجْوًا مِنْ أَخِي ثِقَةٍ ... فَاذْكُرْ أَخَاكَ أَبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلا خَيْرُ الْبَرِيَّةِ أَتْقَاهَا وَأَعْدَلُهَا ... بَعْدَ النَّبِيِّ وَأَوْفَاهَا بِمَا حَمَلا الثَّانِي التَّالِي الْمَحْمُودُ مَشْهَدُهُ ... وَأَوَّلُ النَّاسِ مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُّسُلا

وحدثني سَعِيدُ بْنُ عَنْبَسَةَ الرَّازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ واضح، قال: حدثنا الهيثم ابن عَدِيٍّ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ الْخَوْلانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو يَحْيَى وَضَمْرَةُ بْنُ حَبِيبٍ وَأَبُو طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عبسه قال: اتيت رسول الله ص وَهُوَ نَازِلٌ بِعُكَاظٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ تَبِعَكَ عَلَى هَذَا الأَمْرِ؟ [قَالَ: اتَّبَعَنِي عَلَيْهِ رَجُلانِ، حُرٌّ وَعَبْدٌ: أَبُو بَكْرٍ وَبِلالٌ،] قَالَ: فَأَسْلَمْتُ عِنْدَ ذَلِكَ، قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي إذ ذاك رُبْعَ الإِسْلامِ. حَدَّثَنِي ابْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْبَرْقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، عَنْ نَصْرِ بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَخِيهِ، عَنِ ابْنِ عَائِذٍ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ وَابْنُ عَبْسَةَ كِلاهُمَا يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي رُبْعَ الإِسْلامِ، وَلَمْ يُسْلِمْ قَبْلِي إِلا النَّبِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ وَبِلالٌ، كِلاهُمَا لا يَدْرِي مَتَّى أَسْلَمَ الآخَرُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قال: قال إبراهيم النخعي: أبو بكر أول من اسلم

وقال آخرون: أسلم قبل أبي بكر جماعة ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا كِنَانَةُ بْنُ جَبَلَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: قُلْتُ لأَبِي: أَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَوَّلَكُمْ إِسْلَامًا؟ فَقَالَ: لا، وَلَقَدْ أَسْلَمَ قَبْلَهُ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسِينَ، وَلَكِنْ كَانَ أَفْضَلَنَا إِسْلَامًا. وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ آمن واتبع النبي ص مِنَ الرِّجَالِ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ مَوْلَاهُ ذِكْرُ من قَالَ ذلك: حدثني الحارث، قَالَ: حدثنا محمد بن سعد، قال: قال الواقدي: حدثني ابن أبي ذئب، قال: سألت الزهري: من أول من أسلم؟ قال: من النساء خديجة، ومن الرجال زيد بن حارثة. حدثني الحارث، قال: حدثنا مُحَمَّد بن سعد، قال: أخبرنا محمد ابن عمر، قال: حدثنا مصعب بن ثابت، عن ابى الأسود، عن سليمان ابن يسار، قال: أول من أسلم زيد بن حارثة. حدثني الحارث، قال: حدثنا مُحَمَّد بن سعد، قال: أخبرنا محمد- يعني ابن عمر- قال: حدثنا ربيعة بن عثمان، عن عمران بن أبي أنس مثله. وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: حدثنا عبد الملك ابن مَسْلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ. وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي ذَلِكَ ما حدثنا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنْهُ: ثُمَّ أَسْلَمَ زَيْدُ بن حارثة مولى رسول الله ص فكان

أَوَّلَ ذَكَرٍ أَسْلَمَ، وَصَلَّى بَعْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ الصِّدِّيقُ، فَلَمَّا أَسْلَمَ أَظْهَرَ إِسْلامَهُ، وَدَعَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى رَسُولِهِ قال: وكان ابو بكر رجلا مألفا لِقَوْمِهِ، مُحَبَّبًا سَهْلا، وَكَانَ أَنْسَبَ قُرَيْشٍ لِقُرَيْشٍ، وَأَعْلَمَ قُرَيْشٍ بِهَا، وَبِمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَكَانَ رَجُلا تَاجِرًا ذَا خُلُقٍ وَمَعْرُوفٍ، وَكَانَ رِجَالُ قَوْمِهِ يَأْتُونَهُ وَيَأْلَفُونَهُ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الأَمْرِ، لِعِلْمِهِ وَتَجَارِبِهِ وَحُسْنِ مُجَالَسَتِهِ، فَجَعَلَ يَدْعُو إِلَى الإِسْلامِ مَنْ وَثِقَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ مِمَّنْ يَغْشَاهُ وَيَجْلِسُ إِلَيْهِ، فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ- فِيمَا بَلَغَنِي- عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَجَاءَ بِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ص حِينَ اسْتَجَابُوا لَهُ، فَأَسْلَمُوا وَصَلُّوا، فَكَانَ هَؤُلاءِ الثَّمَانِيَةُ، النَّفَرَ الَّذِينَ سَبَقُوا إِلَى الإِسْلامِ، فَصَلُّوا وصدقوا برسول الله ص وَآمَنُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الدُّخُولِ فِي الإِسْلامِ، الرِّجَالُ مِنْهُمْ وَالنِّسَاءُ، حَتَّى فَشَا ذِكْرُ الإِسْلامِ بِمَكَّةَ وَتَحَدَّثَ بِهِ النَّاسُ. وَقَالَ الواقدي فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، عَنْهُ: اجْتَمَعَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ أَوَّلَ اهل القبله استجاب لرسول الله ص خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، ثُمَّ اخْتُلِفَ عِنْدَنَا فِي ثَلاثَةِ نَفَرٍ: فِي أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ، وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، أَيُّهُمْ أَسْلَمَ أَوَّلَ. قَالَ: وَقَالَ الواقدي: أَسْلَمَ مَعَهُمْ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ خَامِسًا، وَأَسْلَمَ أَبُو ذَرٍّ، قَالُوا: رَابِعًا أَوْ خَامِسًا، وَأَسْلَمَ عَمْرُو بْنُ عَبْسَةَ السُّلَمِيُّ، فَيُقَالُ: رَابِعًا أَوْ خَامِسًا قَالَ: فَإِنَّمَا اخْتُلِفَ عِنْدَنَا فِي هَؤُلاءِ النَّفَرِ أَيُّهُمْ أَسْلَمَ أَوَّلَ، وَفِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ قَالَ: فَيُخْتَلَفُ فِي الثَّلاثَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَفِي هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَتَبْنَا بَعْدَهُمْ

حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَسْوَدِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ نَوْفَلٍ، قَالَ: كَانَ إِسْلامُ الزُّبَيْرِ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ، كَانَ رَابِعًا أَوْ خَامِسًا. وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ العاص وامراته امينه بِنْتَ خَلَفِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ عَامِرِ بْنِ بَيَاضَةَ، مِنْ خُزَاعَةَ، أَسْلَمَا بَعْدَ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ غَيْرَ الَّذِينَ ذَكَرْتُهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا مِنَ السَّابِقِينَ إِلَى الإِسْلامِ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجل امر نبيه محمدا ص بَعْدَ مَبْعَثِهِ بِثَلاثِ سِنِينَ أَنْ يَصْدَعَ بِمَا جَاءَهُ مِنْهُ، وَأَنْ يُبَادِيَ النَّاسَ بِأَمْرِهِ، وَيَدْعُو إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ» ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ- فِي السِّنِينَ الثَّلاثِ مِنْ مَبْعَثِهِ، إِلَى أَنْ أُمِرَ بِإِظْهَارِ الدُّعَاءِ إِلَى الله- مستسرا مخفيا امره ص، وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ: «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ» ، قال: وكان اصحاب رسول الله ص إِذَا صَلَّوْا ذَهَبُوا إِلَى الشِّعَابِ، فَاسْتَخْفَوْا مِنْ قَوْمِهِمْ، فَبَيْنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي نفر من اصحاب النبي ص فِي شِعْبٍ مِنْ شِعَابِ مَكَّةَ إِذْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ نَفَرٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ يُصَلُّونَ، فَنَاكَرُوهُمْ وَعَابُوا عَلَيْهِمْ مَا يَصْنَعُونَ، حَتَّى قَاتَلُوهُمْ، فَاقْتَتَلُوا، فَضَرَبَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يَوْمَئِذٍ رَجُلا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِلَحْيِ جَمَلٍ فَشَجَّهُ، فَكَانَ أَوَّلَ دَمٍ أُهْرِيقَ فِي الإِسْلامِ. فَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَأَبُو السَّائِبِ، قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:

[صعد رسول الله ص ذَاتَ يَوْمٍ الصَّفَا، فَقَالَ: يَا صَبَاحَاهْ! فَاجْتَمَعَتْ اليه قريش، فقالوا: مالك؟ قال: ارايت إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ مُصَبِّحُكُمْ أَوْ مُمْسِيكُمْ، أَمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي! قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنِّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد] فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ! أَلِهَذَا دَعَوْتَنَا- أَوْ جَمَعْتَنَا! فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، [قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» ، خرج رسول الله ص حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا، فَهَتَفَ: يَا صَبَاحَاهْ! فَقَالُوا: مَنْ هَذَا الَّذِي يَهْتِفُ؟ قَالُوا: مُحَمَّدٌ، فَقَالَ: يَا بَنِي فُلانٍ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ! فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَرَأَيْتُكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلا تَخْرُجُ بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قَالُوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا، قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يدي عذاب شديد] فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ! مَا جَمَعْتَنَا إِلا لِهَذَا! ثُمَّ قَامَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ: «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عَنْ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنِ الْمِنْهَالِ بن عمرو، عن عبد الله ابن الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، [عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هذه الآية على رسول الله ص: «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» ، دعانى رسول الله ص فَقَالَ لِي: يَا عَلِيُّ، إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُنْذِرَ عَشِيرَتِي الأَقْرَبِينَ،

فَضِقْتُ بِذَلِكَ ذَرْعًا، وَعَرَفْتُ أَنِّي مَتَى أُبَادِيهِمْ بِهَذَا الأَمْرِ أَرَى مِنْهُمْ مَا أَكْرَهُ، فَصَمَتُّ عليه حتى جاءني جبرئيل فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ إِلا تَفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ بِهِ يُعَذِّبْكَ رَبُّكَ، فَاصْنَعْ لَنَا صَاعًا من طعام، واجعل عليه رحل شَاةٍ، وَامْلأْ لَنَا عُسًّا مِنْ لَبَنٍ، ثُمَّ اجْمَعْ لِي بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حَتَّى أُكَلِّمَهُمْ، وَأُبَلِّغَهُمْ مَا أُمِرْتُ بِهِ، فَفَعَلْتُ مَا أَمَرَنِي بِهِ ثُمَّ دَعَوْتُهُمْ لَهُ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعُونَ رَجُلا، يَزِيدُونَ رَجُلا أَوْ يَنْقُصُونَهُ، فِيهِمْ أَعْمَامُهُ: أَبُو طَالِبٍ وَحَمْزَةُ وَالْعَبَّاسُ وَأَبُو لَهَبٍ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ دَعَانِي بِالطَّعَامِ الَّذِي صَنَعْتُ لَهُمْ، فَجِئْتُ بِهِ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُ تَنَاوَلَ رَسُولُ اللَّهِ ص حِذْيَةً مِنَ اللَّحْمِ، فَشَقَّهَا بِأَسْنَانِهِ، ثُمَّ أَلْقَاهَا فِي نَوَاحِي الصَّحْفَةِ ثُمَّ قَالَ: خُذُوا بِسْمِ اللَّهِ، فَأَكَلَ الْقَوْمُ حَتَّى مَا لَهُمْ بِشَيْءٍ حَاجَةٌ وَمَا أَرَى إِلا مَوْضِعَ أَيْدِيهِمْ، وَايْمُ اللَّهِ الَّذِي نَفْسُ عَلِيٍّ بِيَدِهِ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَيَأْكُلُ مَا قَدَّمْتُ لِجَمِيعِهِمْ ثُمَّ قَالَ: اسْقِ الْقَوْمَ، فَجِئْتُهُمْ بِذَلِكَ الْعُسِّ، فَشَرِبُوا مِنْهُ حَتَّى رُوُوا مِنْهُ جَمِيعًا، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَيَشْرَبُ مثله، فلما اراد رسول الله ص أَنْ يُكَلِّمَهُمْ بَدَرَهُ أَبُو لَهَبٍ إِلَى الْكَلامِ، فقال: لهدما سَحَرَكُمْ صَاحِبُكُمْ! فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ وَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ رَسُولُ الله ص، فَقَالَ: الْغَدَ يَا عَلِيُّ، إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ سَبَقَنِي إِلَى مَا قَدْ سَمِعْتَ مِنَ الْقَوْلِ، فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ قَبْلَ أَنْ أُكَلِّمَهُمْ، فَعُدَّ لَنَا مِنَ الطَّعَامِ بِمِثْلِ مَا صَنَعْتَ، ثُمَّ اجْمَعْهُمْ إِلَيَّ. قَالَ: فَفَعَلْتُ، ثُمَّ جَمَعْتُهُمْ ثُمَّ دَعَانِي بِالطَّعَامِ فَقَرَّبْتُهُ لَهُمْ، فَفَعَلَ كَمَا فَعَلَ بِالأَمْسِ، فَأَكَلُوا حَتَّى مَا لَهُمْ بِشَيْءٍ حَاجَةٌ ثُمَّ قَالَ: اسْقِهِمْ، فَجِئْتُهُمْ بِذَلِكَ الْعُسِّ، فَشَرِبُوا حَتَّى رُوُوا مِنْهُ جَمِيعًا، ثُمَّ تَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ص، فَقَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ شَابًّا فِي الْعَرَبِ جَاءَ قَوْمَهُ

بِأَفْضَلَ مِمَّا قَدْ جِئْتُكُمْ بِهِ، إِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَقَدْ أَمَرَنِي اللَّهُ تَعَالَى أَنْ أَدْعُوَكُمْ إِلَيْهِ، فَأَيُّكُمْ يُؤَازِرُنِي عَلَى هَذَا الأَمْرِ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَخِي وَوَصِيِّي وَخَلِيفَتِي فِيكُمْ؟ قَالَ: فَأَحْجَمَ الْقَوْمُ عَنْهَا جَمِيعًا، وَقُلْتُ: وَإِنِّي لأَحْدَثُهُمْ سِنًّا، وَأَرْمَصُهُمْ عَيْنًا، وَأَعْظَمُهُمْ بَطْنًا، وَأَحْمَشُهُمْ سَاقًا، أَنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَكُونُ وَزِيرَكَ عَلَيْهِ فَأَخَذَ بِرَقَبَتِي، ثُمَّ قَالَ: ان هذا أخي ووصى وَخَلِيفَتِي فِيكُمْ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا] قَالَ: فَقَامَ الْقَوْمُ يَضْحَكُونَ، وَيَقُولُونَ لأَبِي طَالِبٍ: قَدْ أَمَرَكَ أَنْ تَسْمَعَ لابْنِكَ وَتُطِيعَ. حَدَّثَنِي زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى الضَّرِيرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ أَبِي صَادِقٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ ناجد، [ان رجلا قال لعلى ع: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بِمَ وَرِثْتَ ابْنَ عَمِّكَ دُونَ عَمِّكَ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: هَاؤُمُ! ثَلاثَ مَرَّاتٍ، حَتَّى اشْرَأَبَّ النَّاسُ، وَنَشَرُوا آذَانَهُمْ ثُمَّ قَالَ: جمع رسول الله ص- أَوْ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ- بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مِنْهُمْ رَهْطَهُ، كُلَّهُمْ يَأْكُلُ الْجَذَعَةَ وَيَشْرَبُ الْفَرْقَ، قَالَ: فَصَنَعَ لَهُمْ مُدًّا مِنْ طَعَامٍ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا وَبَقِيَ الطَّعَامُ كَمَا هُوَ، كَأَنَّهُ لَمْ يُمَسَّ قَالَ: ثُمَّ دَعَا بِغَمْرٍ فَشَرِبُوا حَتَّى رُوُوا وَبَقِيَ الشَّرَابُ كَأَنَّهُ لَمْ يُمَسَّ وَلَمْ يَشْرَبُوا قَالَ: ثُمَّ قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِنِّي بُعِثْتُ إِلَيْكُمْ بِخَاصَّةٍ وَإِلَى النَّاسِ بِعَامَّةٍ، وَقَدْ رَأَيْتُمْ مِنْ هَذَا الأَمْرِ مَا قَدْ رَأَيْتُمْ، فَأَيُّكُمْ يُبَايِعُنِي عَلَى أَنْ يَكُونَ أَخِي وَصَاحِبِي وَوَارِثِي؟ فَلَمْ يَقُمْ إِلَيْهِ أَحَدٌ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ- وَكُنْتُ أَصْغَرَ الْقَوْمِ- قَالَ: فقال: اجلس، قال: ثُمَّ قَالَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ أَقُومُ إِلَيْهِ، فَيَقُولُ لِي: اجْلِسْ، حَتَّى كَانَ

فِي الثَّالِثَةِ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى يَدِي، قَالَ: فَبِذَلِكَ وَرِثْتُ ابْنَ عَمِّي دُونَ عَمِّي] . فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هذه الآية على رسول الله ص: «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» ، قام رسول الله ص بِالأَبْطَحِ، [ثُمَّ قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، يَا بَنِي قُصَيٍّ- قَالَ: ثُمَّ فَخَّذَ قُرَيْشًا قَبِيلَةً قَبِيلَةً، حَتَّى مَرَّ عَلَى آخِرِهِمْ- إِنِّي أَدْعُوكُمْ إِلَى اللَّهِ وانذركم عذابه] . حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَارِيَةُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ ص أَنْ يَصْدَعَ بِمَا جَاءَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنْ يُبَادِيَ النَّاسَ بِأَمْرِهِ، وَأَنْ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَكَانَ يَدْعُو مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ النُّبُوَّةُ ثَلاثَ سِنِينَ، مُسْتَخْفِيًا، إِلَى أَنْ أُمِرَ بِالظُّهُورِ لِلدُّعَاءِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ- فِيمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة، عنه: فصدع رسول الله ص بِأَمْرِ اللَّهِ، وَبَادَى قَوْمَهُ بِالإِسْلَامِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ قَوْمُهُ، وَلَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِ بَعْضَ الرَّدِّ- فِيمَا بَلَغَنِي- حَتَّى ذَكَرَ آلِهَتَهُمْ وَعَابَهَا، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ نَاكَرُوهُ وَأَجْمَعُوا عَلَى خِلافِهِ وَعَدَاوَتِهِ إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ مِنْهُمْ بِالإِسْلَامِ، وَهُمْ قَلِيلٌ مُسْتَخْفُونَ، وَحَدَبَ عَلَيْهِ أَبُو طَالِبٍ عَمُّهُ وَمَنَعَهُ، وَقَامَ دُونَهُ، وَمَضَى رسول الله ص

عَلَى أَمْرِ اللَّهِ مُظْهِرًا لأَمْرِهِ، لا يَرُدُّهُ عَنْهُ شَيْءٌ فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ رَسُولَ الله ص لا يعتبهم من شيء يكرهونه مما أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ مِنْ فِرَاقِهِمْ وَعَيْبِ آلِهَتِهِمْ، وَرَأَوْا أَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَدْ حَدَبَ عَلَيْهِ، وَقَامَ دُونَهُ فَلَمْ يُسَلِّمْهُ لَهُمْ، مَشَى رِجَالٌ مِنْ اشراف قريش الى ابى طالب: عتبة ابن رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ، وَالأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، وَنَبِيهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ- أَوْ مَنْ مَشَى إِلَيْهِ مِنْهُمْ- فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ، إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ قَدْ سَبَّ آلِهَتَنَا، وَعَابَ دِينَنَا، وَسَفَّهَ أَحْلَامَنَا، وَضَلَّلَ آبَاءَنَا، فَإِمَّا أَنْ تَكُفَّهُ عَنَّا، وَإِمَّا أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَإِنَّكَ عَلَى مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِهِ، فَنُكْفِيكَهُ فَقَالَ لَهُمْ أَبُو طَالِبٍ قَوْلًا رَفِيقًا، وَرَدَّهُمْ رَدًّا جَمِيلًا، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ، وَمَضَى رَسُولُ الله ص عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، يُظْهِرُ دِينَ اللَّهِ، وَيَدْعُو إِلَيْهِ قَالَ: ثُمَّ شَرِيَ الأَمْرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حَتَّى تَبَاعَدَ الرِّجَالُ، وَتَضَاغَنُوا، وَأَكْثَرَتْ قُرَيْشٌ ذكر رسول الله ص بَيْنَهَا، وَتَذَامَرُوا فِيهِ، وَحَضَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَيْهِ ثُمَّ إِنَّهُمْ مَشَوْا إِلَى أَبِي طَالِبٍ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ، إِنَّ لَكَ سِنًّا وَشَرَفًا وَمَنْزِلَةً فِينَا، وَإِنَّا قَدِ اسْتَنْهَيْنَاكَ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ فَلَمْ تَنْهَهْ عَنَّا، وَإِنَّا وَاللَّهِ لا نَصْبِرُ عَلَى هَذَا مِنْ شَتْمِ آبَائِنَا، وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِنَا، وَعَيْبِ آلِهَتِنَا حَتَّى تَكُفَّهُ عنا او تنازله وَإِيَّاكَ فِي ذَلِكَ، حَتَّى يَهْلِكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ- أَوْ كَمَا قَالُوا ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ، فَعَظُمَ على ابى طالب فراق قومه وعدواتهم لَهُ، وَلَمْ يَطِبْ نَفْسًا بِإِسْلَامِ رَسُولِ اللَّهِ ص لهم ولا خذلانه. حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: أَنَّ نَاسًا مِنْ قُرَيْشٍ اجْتَمَعُوا، فِيهِمْ أَبُو جهل

ابن هشام والعاص بن وائل، والأسود بن الْمُطَّلِبِ، وَالأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، فِي نَفَرٍ مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى أَبِي طَالِبٍ فَنُكَلِّمْهُ فِيهِ، فَلْيَنْصِفْنَا مِنْهُ، فَيَأْمُرُهُ فَلْيَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا، وَنَدَعْهُ وَإِلَهَهُ الَّذِي يَعْبُدُ، فَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يَمُوتَ هَذَا الشَّيْخُ فَيَكُونُ مِنَّا شَيْءٌ فَتُعَيِّرُنَا الْعَرَبُ، يَقُولُونَ: تَرَكُوهُ، حَتَّى إِذَا مَاتَ عَمُّهُ تَنَاوَلُوهُ. قَالَ: فَبَعَثُوا رَجُلًا مِنْهُمْ يُدْعَى الْمُطَّلِبُ، فَاسْتَأْذَنَ لهم عَلَى أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ مَشْيَخَةُ قَوْمِكَ وَسَرَوَاتُهُمْ، يَسْتَأْذِنُونَ عَلَيْكَ، قَالَ: أَدْخِلْهُمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ، قَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَنْتَ كَبِيرُنَا وَسَيِّدُنَا، فَأَنْصِفْنَا مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَمُرْهُ فَلْيَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا، وَنَدَعْهُ وَإِلَهَهُ. قَالَ: فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَبُو طَالِبٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ الله ص قال: يا بن أَخِي، هَؤُلَاءِ مَشْيَخَةُ قَوْمِكَ وَسَرَوَاتُهُمْ، وَقَدْ سَأَلُوكَ النَّصَفَ، أَنْ تَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِهِمْ وَيَدَعُوكَ وَإِلَهَكَ [قَالَ: أَيْ عَمِّ، أَوَلَا أَدْعُوهُمْ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْهَا؟ قَالَ: وَإِلَامَ تَدْعُوهُمْ؟ قَالَ: أَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِكَلِمَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَيَمْلِكُونَ بِهَا الْعَجَمَ قَالَ: فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ مِنْ بَيْنَ الْقَوْمِ: مَا هِيَ وَأَبِيكَ؟ لَنُعْطِيَنَّكَهَا وَعَشْرًا أَمْثَالَهَا قَالَ: تَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ: فَنَفَرُوا وتفرقوا وَقَالُوا: سَلْنَا غَيْرَ هَذِهِ،] [فَقَالَ: لَوْ جِئْتُمُونِي بِالشَّمْسِ حَتَّى تَضَعُوهَا فِي يَدِي مَا سَأَلْتُكُمْ غَيْرَهَا!] قَالَ: فَغَضِبُوا وَقَامُوا مِنْ عِنْدِهِ غَضَابَى، وَقَالُوا: وَاللَّهِ لَنَشْتُمَنَّكَ وَإِلَهَكَ الَّذِي يَأْمُرُكَ بِهَذَا، «وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرادُ» ، إلى قوله: «إِلَّا اخْتِلاقٌ»

[واقبل على عمه فقال له عمه: يا بن أَخِي، مَا شَطَطْتَ عَلَيْهِمْ، فَأَقْبَلَ عَلَى عَمِّهِ فدعاه، فَقَالَ: قُلْ كَلِّمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، تَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ،] فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ تُعَيِّبَكُمْ بِهَا الْعَرَبُ، يَقُولُونَ: جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ لَأَعْطَيْتُكَهَا، وَلَكِنْ عَلَى مِلَّةِ الأَشْيَاخِ، قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» . حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَابْنُ وَكِيعٍ، قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ، دَخَلَ عَلَيْهِ رَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ يَشْتُمُ آلِهَتَنَا، وَيَفْعَلُ وَيَفْعَلُ، وَيَقُولُ وَيَقُولُ، فَلَوْ بَعَثْتَ إِلَيْهِ فَنَهَيْتَهُ! فبعث اليه، فجاء النبي ص، فَدَخَلَ الْبَيْتَ وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَبِي طَالِبٍ قَدْرُ مَجْلِسِ رَجُلٍ، قَالَ: فَخَشِيَ أَبُو جَهْلٍ إِنْ جَلَسَ إِلَى جَنْبِ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَكُونَ أَرَقَّ لَهُ عَلَيْهِ، فَوَثَبَ فَجَلَسَ فِي ذَلِكَ المجلس ولم يجد رسول الله ص مَجْلِسًا قُرْبَ عَمِّهِ، فَجَلَسَ عِنْدَ الْبَابِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو طَالِبٍ: أَيِ ابْنَ أَخِي! مَا بَالُ قَوْمِكَ يَشْكُونَكَ، يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تَشْتُمُ آلِهَتَهُمْ وَتَقُولُ وَتَقُولُ! قَالَ: وَأَكْثَرُوا عَلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ، [وتكلم رسول الله ص، فَقَالَ: يَا عَمّ، إِنِّي أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يَقُولُونَهَا، تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمْ بِهَا الْعَجَمُ الْجِزْيَةَ فَفَزِعُوا لِكَلِمَتِهِ وَلِقَوْلِهِ، فَقَالَ الْقَوْمُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ: نَعَمْ وَأَبِيكَ عَشْرًا فَمَا هِيَ؟ فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: وَأَيُّ كَلِمَةٍ هي يا بن أَخِي؟ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ،] قَالَ: فَقَامُوا فَزِعِينَ يَنْفُضُونَ ثِيَابَهُمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ: «أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ» قَالَ: وَنَزَلَتْ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ

الى قوله: «لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ» لَفْظُ الْحَدِيثِ لأَبِي كُرَيْبٍ. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: فحدثني يعقوب ابن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، أنه حدث أَنَّ قُرَيْشًا حِينَ قَالَتْ لأَبِي طَالِبٍ هَذِهِ المقاله، بعث الى رسول الله ص، فقال له: يا بن أَخِي، إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَاءُونِي فَقَالُوا لِي كَذَا وَكَذَا، فَأَبْقِ عَلَيَّ وَعَلَى نَفْسِكَ وَلَا تُحَمِّلْنِي مِنَ الأَمْرِ مَا لَا أُطِيقُ! فَظَنَّ رسول الله ص أَنَّهُ قَدْ بَدَا لِعَمِّهِ فِيهِ بَدَاءٌ، وَأَنَّهُ خَاذِلُهُ وَمُسَلِّمُهُ، وَأَنَّهُ قَدْ ضَعُفَ عَنْ نُصْرَتِهِ والقيام معه، [فقال رسول الله ص: يا عماه، لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ ما تركته] ثم استعبر رسول الله ص، فَبَكَى ثُمَّ قَامَ، فَلَمَّا وَلَّى نَادَاهُ أَبُو طالب، فقال: اقبل يا بن أخي، فاقبل عليه رسول الله ص فقال: اذهب يا بن أخي، فقل ما احببت فو الله لَا أُسَلِّمُكَ لِشَيْءٍ أَبَدًا. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا لَمَّا عَرَفَتْ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ أَبَى خذلان رسول الله ص وَإِسْلَامَهُ وَإِجْمَاعَهُ لِفِرَاقِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَعَدَاوَتَهُمْ، مَشَوْا إِلَيْهِ بِعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَقَالُوا لَهُ- فِيمَا بَلَغَنِي: يَا أَبَا طَالِبٍ، هَذَا عماره

ابن الْوَلِيدِ أَنْهَدُ فَتًى فِي قُرَيْشٍ وَأَشْعَرُهُ وَأَجْمَلُهُ، فَخُذْهُ فَلَكَ عَقْلُهُ وَنُصْرَتُهُ، وَاتَّخِذْهُ وَلَدًا، فَهُوَ لَكَ، وَأَسْلِمْ لَنَا ابْنَ أَخِيكَ- هَذَا الَّذِي قَدْ خَالَفَ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ، وَفَرَّقَ جَمَاعَةَ قَوْمِكَ، وَسفه أَحْلَامَهُمْ- فَنَقْتُلُهُ، فَإِنَّمَا رَجُلٌ كَرَجُلٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَبِئْسَ مَا تَسُومُونَنِي! أَتُعْطُونَنِي ابْنَكُمْ أَغْذُوهُ لَكُمْ، وَأُعْطِيكُمُ ابْنِي تَقْتُلُونَهُ! هَذَا وَاللَّهِ ما لا يكون ابدا فقال المطعم ابن عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: وَاللَّهِ يَا أَبَا طَالِبٍ، لَقَدِ أَنْصَفَكَ قَوْمُكَ، وَجَهِدُوا عَلَى التَّخَلُّصِ مِمَّا تَكْرَهُهُ، فَمَا أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تَقْبَلَ مِنْهُمْ شَيْئًا، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ لِلْمُطْعِمِ: وَاللَّهِ مَا أَنْصَفُونِي، وَلَكِنَّكَ قَدْ أَجْمَعْتَ خِذْلَانِي وَمُظَاهَرَةِ الْقَوْمِ عَلَيَّ، فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ! أَوْ كَمَا قَالَ أَبُو طَالِبٍ. قَالَ: فَحَقِبَ الأَمْرُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَحَمِيَتِ الْحَرْبُ، وَتَنَابَذَ الْقَوْمُ، وَبَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا تَذَامَرُوا عَلَى مَنْ فِي الْقَبَائِلِ مِنْهُمْ من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين أَسْلَمُوا مَعَهُ فَوَثَبَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ عَلَى مَنْ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُعَذِّبُونَهُمْ وَيَفْتِنُونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَمَنَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ مِنْهُمْ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ قَامَ أَبُو طَالِبٍ حِينَ رَأَى قُرَيْشًا تَصْنَعُ مَا تَصْنَعُ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ منع رسول الله ص، وَالْقِيَامِ دُونَهُ فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، وَقَامُوا مَعَهُ، وَأَجَابُوا إِلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الدَّفْعِ عَنْ رسول الله ص، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ

أَبِي لَهَبٍ، فَلَمَّا رَأَى أَبُو طَالِبٍ مِنْ قَوْمِهِ مَا سَرَّهُ مِنْ جِدِّهِمْ مَعَهُ، وَحَدَبِهِمْ عَلَيْهِ، جَعَلَ يَمْدَحُهُمْ، وَيَذْكُرُ فَضْلَ رَسُولِ اللَّهِ ص فِيهِمْ، وَمَكَانَهُ مِنْهُمْ لِيَشُدَّ لَهُمْ رَأْيَهُمْ. حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، وَعَبْدُ الوارث بن عبد الصمد ابن عَبْدِ الْوَارِثِ- قَالَ عَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، وَقَالَ عَبْدُ الوارث: حَدَّثَنِي أَبِي- قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانٌ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ: أَمَّا بعد، فانه- يعنى رسول الله ص- لَمَّا دَعَا قَوْمَهُ لِمَا بَعَثَهُ اللَّهُ مِنَ الْهُدَى وَالنُّورِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ، لَمْ يَبْعُدُوا مِنْهُ أَوَّلَ مَا دَعَاهُمْ، وَكَادُوا يَسْمَعُونَ لَهُ، حَتَّى ذَكَرَ طَوَاغِيتَهُمْ وَقَدِمَ نَاسٌ مِنَ الطَّائِفِ مِنْ قُرَيْشٍ لَهُمْ أَمْوَالٌ، أَنْكَرُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ، واشتدوا عليه، وكرهوا ما قال لهم، وَأَغْرُوا بِهِ مَنْ أَطَاعَهُمْ، فَانْصَفَقَ عَنْهُ عَامَّةُ النَّاسِ، فَتَرَكُوهُ إِلَّا مَنْ حَفِظَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، وَهُمْ قَلِيلٌ، فَمَكَثَ بِذَلِكَ مَا قَدَّرَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ ثُمَّ ائْتَمَرَتْ رُءُوسُهُمْ بِأَنْ يَفْتِنُوا مَنْ تَبِعَهُ عَنْ دِينِ اللَّهِ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، فَكَانَتْ فِتْنَةً شَدِيدَةَ الزِّلْزَالِ عَلَى من اتبع رسول الله ص مِنْ أَهْلِ الإِسْلَامِ، فَافْتُتِنَ مَنِ افْتُتِنَ، وَعَصَمَ اللَّهُ مِنْهُمْ مَنْ شَاءَ فَلَمَّا فُعِلَ ذَلِكَ بالمسلمين، امرهم رسول الله ص أَنْ يَخْرُجُوا إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ- وَكَانَ بِالْحَبَشَةِ مَلِكٌ صَالِحٌ يُقَالُ لَهُ النَّجَاشِيُّ، لا يُظْلَمُ احد بارضه، وكان ينثى عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ صَلَاحٌ، وَكَانَتْ أَرْضُ الْحَبَشَةِ مَتْجَرًا لِقُرَيْشٍ يَتْجَرُونَ فِيهَا، يَجِدُونَ فِيهَا رِفَاغًا مِنَ الرِّزْقِ، وَأَمْنًا وَمَتْجَرًا حَسَنًا-

فأمرهم بها رسول الله ص، فَذَهَبَ إِلَيْهَا عَامَّتُهُمْ لَمَّا قُهِرُوا بِمَكَّةَ، وَخَافَ عَلَيْهِمُ الْفِتَنَ، وَمَكَثَ هُوَ فَلَمْ يَبْرَحْ، فَمَكَثَ بِذَلِكَ سَنَوَاتٍ، يَشْتَدُّونَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ. ثُمَّ إِنَّهُ فَشَا الإِسْلَامُ فِيهَا، وَدَخَلَ فِيهِ رِجَالٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَاخْتُلِفَ فِي عَدَدِ مَنْ خَرَجَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَهَاجَرَ إِلَيْهَا هَذِهِ الْهِجْرَةَ، وَهِيَ الْهِجْرَةُ الأُولَى. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانُوا أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا وَأَرْبَعَ نِسْوَةٍ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا يونس بن محمد الظفري، عن أبيه، عن رجل من قومه. قال: وأخبرنا عبيد الله بن العباس الهذلي، عن الحارث بن الفضيل، قالا: خرج الذين هاجروا الهجرة الأولى متسللين سرا، وكانوا أحد عشر رجلا وأربع نسوة، حتى انتهوا إلى الشعيبه، منهم الراكب والماشي، ووفق الله للمسلمين ساعة جاءوا سفينتين للتجار حملوهم فيهما إلى أرض الحبشة بنصف دينار، وكان مخرجهم في رجب في السنة الخامسة، من حين نبئ رسول الله ص، وخرجت قريش في آثارهم حتى جاءوا البحر، حيث ركبوا فلم يدركوا منهم أحدا. قالوا: وقدمنا أرض الحبشة، فجاورنا بها خير جار، أمنا على ديننا، وعبدنا الله، لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه. حدثني الحارث، قال: حدثنا مُحَمَّد بن سعد، قال: أخبرنا محمد ابن عمر، قال: حدثني يونس بن محمد، عن أبيه قال: وحدثني

عبد الحميد، عن محمد بن يحيى بن حبان، قالا: تسمية القوم الرجال والنساء: عثمان بن عفان معه امرأته رقية بنت رسول الله ص، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة معه امراته سهله بنت سهيل ابن عمرو، والزبير بن العوام بن خويلد بن أسد، ومصعب بن عمير بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدار، وعبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف ابن الحارث بن زهرة، وأبو سلمة بْن عبد الأسد بْن هلال بْن عبد الله بن عمر ابن مخزوم، معه امرأته أم سلمة بنت أبي أمية بْن المغيرة بْن عبد الله بْن عمر ابن مخزوم، وعثمان بن مظعون الجمحي، وعامر بن ربيعة العنزي، من عنز بن وائل- ليس من عنزة- حليف بني عدي بن كعب، معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة، وأبو سبرة بْن أبي رهم بْن عبد العزى العامري، وحاطب بن عمرو بن عبد شمس، وسهيل بن بيضاء، من بني الحارث بن فهر، وعبد الله بن مسعود حليف بني زهرة قال أبو جعفر: وقال آخرون: كان الذين لحقوا بأرض الحبشة، وهاجروا إليها من المسلمين- سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارا وولدوا بها- اثنين وثمانين رجلا، إن كان عمار بن ياسر فيهم، وهو يشك فيه! ذكر من قال ذلك: حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: لما راى رسول الله ص مَا يُصِيبُ أَصْحَابَهُ مِنَ الْبَلَاءِ، وَمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْعَافِيَةِ بِمَكَانِهِ مِنَ اللَّهِ وَعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَنَّهُ لا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ، [قَالَ لَهُمْ: لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ! فَإِنَّ بها ملكا

لَا يُظْلَمُ أَحَدٌ عِنْدَهُ، وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ، حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ!] فَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَصْحَابِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ، وَفِرَارًا إِلَّى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِدِينِهِمْ، فَكَانَتْ أَوَّلَ هِجْرَةٍ كَانَتْ فِي الإِسْلَامِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بْنِ ابى العاص ابن أُمَيَّةَ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ رُقَيَّةُ ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ ص، وَمِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، أَحَدِ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ. فَعَدَّ النَّفَرَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ الْوَاقِدِيُّ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: مِنْ بَنِي عامر بن لؤي ابن غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ أَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رَهْمِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَيُقَالُ: بَلْ أَبُو حَاطِبِ بْنَ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلٍ ابن عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ قَالَ: وَيُقَالُ: هُوَ أَوَّلُ مَنْ قَدِمَهَا، فَجَعَلَهُمُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَشَرَةً، وَقَالَ: كَانَ هَؤُلَاءِ الْعَشَرَةُ أَوَّلَ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ- فِيمَا بَلَغَنِي. قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَتَتَابَعَ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى اجْتَمَعُوا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَكَانُوا بِهَا، مِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ بِأَهْلِهِ مَعَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ بِنَفْسِهِ لا أَهْلَ مَعَهُ، ثُمَّ عَدَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَمَامَ اثْنَيْنَ وَثَمَانِينَ رَجُلًا، بِالْعَشَرَةِ الذين ذكرت باسمائهم، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَعَهُ أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ، وَمَنْ وُلِدَ لَهُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ لا أَهْلَ مَعَهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَلَمَّا خَرَجَ مَنْ خَرَجَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مهاجرا إليها، ورسول الله ص

مُقِيمٌ بِمَكَّةَ، يَدْعُو إِلَى اللَّهِ سِرًّا وَجَهْرًا، قَدْ مَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ وَبِمَنِ اسْتَجَابَ لِنُصْرَتِهِ مِنْ عَشِيرَتِهِ، وَرَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّهُمْ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَيْهِ، رَمَوْهُ بِالسِّحْرِ وَالْكَهَانَةِ وَالْجُنُونِ، وَأَنَّهُ شَاعِرٌ، وَجَعَلُوا يَصُدُّونَ عَنْهُ مَنْ خَافُوا مِنْهُ أَنْ يَسْمَعَ قَوْلَهُ فَيَتْبَعُهُ، فَكَانَ أَشَدَّ مَا بَلَغُوا مِنْهُ حِينَئِذٍ- فِيمَا ذُكِرَ- مَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: مَا أَكْثَرَ مَا رَأَيْتُ قريشا اصابت من رسول الله ص فِيمَا كَانَتْ تُظْهِرُ مِنْ عَدَاوَتِهِ! قَالَ: قَدْ حَضَرْتُهُمْ وَقَدِ اجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ يَوْمًا فِي الْحِجْرِ، فذكروا رسول الله ص فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ قَطُّ! سَفَّهَ أَحْلامَنَا، وَشَتَمَ آبَاءَنَا، وَعَابَ دِينَنَا، وَفَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَسَبَّ آلِهَتِنَا! لَقَدْ صَبَرْنَا مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ- أَوْ كَمَا قَالُوا. فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ رسول الله ص فَأَقْبَلَ يَمْشِي حَتَّى اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ طَائِفًا بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا مَرَّ بِهِمْ غَمَزُوهُ بِبَعْضِ الْقَوْلِ. قَالَ: فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِ رسول الله ص، ثُمَّ مَضَى، فَلَمَّا مَرَّ بِهِمُ الثَّانِيَةَ غَمَزُوهُ مِثْلَهَا، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ مَضَى، ثُمَّ مَرَّ بِهِمُ الثَّالِثَةَ، فَغَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا، فَوَقَفَ [فَقَالَ: أَتَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ!] قَالَ: فَأَخَذَتِ الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ، حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلا كَأَنَّمَا عَلَى رَأْسِهِ طَائِرٌ وَاقِعٌ، وَحَتَّى ان اشدهم فيه وصاه قبل ذلك ليرفؤه بِأَحْسَنِ مَا يَجِدُ مِنَ الْقَوْلِ، حَتَّى إِنَّهُ ليقول: انصرف يا أبا القاسم راشدا، فو الله مَا كُنْتَ جَهُولا!

قال: فانصرف رسول الله ص، حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ، اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ، وَأَنَا مَعَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ذَكَرْتُمْ مَا بَلَغَ مِنْكُمْ، وَمَا بَلَغَكُمْ عَنْهُ، حَتَّى إِذَا باداكم بما تكرهون تركتموه! فبيناهم كذلك إذ طلع رسول الله ص، فَوَثَبُوا إِلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَأَحَاطُوا بِهِ يَقُولُونَ لَهُ: أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا! لِمَا يَبْلُغُهُمْ مِنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَدِينِهِمْ، فَيَقُولُ رسول الله ص: نَعَمْ أَنَا الَّذِي أَقُولُ ذَلِكَ، قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلا مِنْهُمْ آخِذًا بِجَمْعِ رِدَائِهِ قَالَ: وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ دُونَهُ، يَقُولُ وَهُوَ يَبْكِي: وَيْلَكُمْ! أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ الله! ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ. فَإِنَّ ذَلِكَ أَشَدُّ مَا رَأَيْتُ قُرَيْشًا بَلَغَتْ مِنْهُ قَطُّ. حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: حَدِّثْنِي بِأَشَدِّ شَيْءٍ رَأَيْتَ الْمُشْرِكِينَ صَنَعُوا برسول الله ص قَالَ: أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ وَرَسُولُ الله ص عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَلَوَى ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ، وَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ خَلْفِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَنْكِبِهِ، فَدَفَعَهُ عَنْ رَسُولِ الله ص، ثُمَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا قَوْمُ: «أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ» إِلَى قَوْلِهِ: «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ» قال ابن إسحاق: وحدثني رجل من أسلم كان واعيه، ان أبا جهل ابن هشام مر برسول الله ص، وهو جالس عند الصفا، فآذاه وشتمه، ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتضعيف له، فلم يكلمه رسول الله ص، ومولاة لعبد الله بن جدعان التيمي في مسكن لها فوق الصفا تسمع ذلك ثم انصرف عنه، فعمد إلى نادي

قريش عند الكعبة، فجلس معهم فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل متوشحا قوسه، راجعا من قنص له- وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له، وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم، وكان أعز قريش وأشدها شكيمة- فلما مر بالمولاة وقد قام رسول الله ص ورجع الى بيته، قالت: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفا قبل أن تأتي من ابى الحكم بن هشام! وجده هاهنا جالسا فسبه وآذاه، وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد. قال: فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامته، فخرج سريعا- لا يقف على أحد كما كان يصنع- يريد الطواف بالكعبة، معدا لأبي جهل إذا لقيه أن يقع به، فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا في القوم، فأقبل نحوه، حتى إذا قام على رأسه، رفع القوس فضربه بها ضربة فشجه بها شجة منكرة، وقال: أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول! فرد ذلك علي إن استطعت! وقامت رجال بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل منه، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإني والله لقد سببت ابن أخيه سبا قبيحا وتم حمزة على إسلامه، فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله ص قد عز، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن رسول الله ص بعض ما كانوا ينالون مِنْهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ جهر بالقرآن بعد رسول الله ص بِمَكَّةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: اجْتَمَعَ يَوْمًا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا سَمِعَتْ قُرَيْشٌ بِهَذَا الْقُرْآنِ يُجْهَرُ لَهَا بِهِ قَطُّ، فَمَنْ رَجُلٌ يسمعهموه؟ فقال عبد الله

ابن مَسْعُودٍ: أَنَا، قَالُوا: إِنَّا نَخْشَاهُمْ عَلَيْكَ، إِنَّمَا نُرِيدُ رَجُلًا لَهُ عَشِيرَةٌ يَمْنَعُونَهُ مِنَ الْقَوْمِ إِنْ أَرَادُوهُ، فَقَالَ: دَعُونِي، فَإِنَّ اللَّهَ سَيَمْنَعُنِي، قَالَ: فَغَدَا ابْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى أَتَى الْمَقَامَ فِي الضُّحَى، وَقُرَيْشٌ فِي أَنْدِيَتِهَا، حَتَّى قَامَ عِنْدَ الْمَقَامِ ثُمَّ قَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» - رافعا بها صوته- «الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ» ، قَالَ: ثُمَّ اسْتَقْبَلَهَا يَقْرَأُ فِيهَا، قَالَ: وَتَأَمَّلُوا وَجَعَلُوا يَقُولُونَ: مَا يَقُولُ ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ! ثم قالوا: انه ليتلو بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ فَقَامُوا إِلَيْهِ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ فِي وَجْهِهِ، وَجَعَلَ يَقْرَأُ حَتَّى بَلَغَ مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَبْلُغَ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى أَصْحَابِهِ، وَقَدْ أَثَّرُوا بِوَجْهِهِ، فَقَالُوا: هَذَا الَّذِي خَشِينَا عَلَيْكَ! قَالَ: مَا كان أعداء الله اهون على منهم الان! لَئِنْ شِئْتُمْ لَأُغَادِيَنَّهُمْ غَدًا بِمِثْلِهَا، قَالُوا: لا، حَسْبُكَ، فَقَدْ أَسْمَعْتَهُمْ مَا يَكْرَهُونَ قال أبو جعفر: ولما استقر بالذين هاجروا إلى أرض الحبشة القرار بأرض النجاشي واطمأنوا، تآمرت قريش فيما بينها في الكيد بمن ضوى إليها من المسلمين، فوجهوا عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي إلى النجاشي، مع هدايا كثيرة أهدوها إليه وإلى بطارقته، وأمروهما أن يسألا النجاشي تسليم من قبله وبأرضه من المسلمين إليهم فشخص عمرو وعبد الله إليه في ذلك، فنفذا لما أرسلهما إليه قومهما، فلم يصلا إلى ما أمل قومهما من النجاشي، فرجعا مقبوحين، وأسلم عمر بن الخطاب رحمه الله، فلما أسلم- وكان رجلا جلدا جليدا منيعا، وكان قد اسلم قبل ذلك حمزه ابن عبد المطلب، ووجد أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أنفسهم قوة، وجعل الإسلام يفشو في القبائل، وحمى النجاشي من ضوى إلى بلده منهم- اجتمعت قريش، فائتمرت بينها: أن يكتبوا بينهم كتابا

يتعاقدون فيه، على الا ينكحوا إلى بني هاشم وبني المطلب، ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئا، ولا يبتاعوا منهم، فكتبوا بذلك صحيفة، وتعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة، توكيدا بذلك الأمر على أنفسهم، فلما فعلت ذلك قريش، انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب، فدخلوا معه في شعبه، واجتمعوا إليه، وخرج من بني هاشم أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب إلى قريش، وظاهرهم عليه، فأقاموا على ذلك من أمرهم سنتين أو ثلاثا، حتى جهدوا ألا يصل إلى أحد منهم شيء إلا سرا، مستخفيا به من أراد صلتهم من قريش وذكر أن أبا جهل لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد، معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة بنت خويلد، وهي عند رسول الله ص ومعه في الشعب، فتعلق به، وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم! والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة! فجاء أبو البختري بن هشام بن الحارث ابن اسد، فقال: مالك وله! قال: يحمل الطعام إلى بني هاشم، فقال له أبو البختري: طعام لعمته عنده بعثت اليه فيه، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها! خل سبيل الرجل فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البختري لحي بعير، فضربه فشجه، ووطئه وطئا شديدا، وحمزه ابن عبد المطلب قريب يرى ذلك، وهم يكرهون ان يبلغ ذلك رسول الله ص واصحابه، فيشمتوا بهم، ورسول الله ص في كل ذلك، يدعو قومه سرا وجهرا، آناء الليل وآناء النهار، والوحي عليه من الله متتابع بأمره ونهيه، ووعيد من ناصبه العداوة، والحجج لرسول الله ص على من خالفه

فذكر أن أشراف قومه اجتمعوا له يوما- فِيمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْحَرَشِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَلَفٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عباس، ان قريشا وعدوا رسول الله ص أَنْ يُعْطُوهُ مَالا فَيَكُونَ أَغْنَى رَجُلٍ بِمَكَّةَ، وَيُزَوِّجُوهُ مَا أَرَادَ مِنَ النِّسَاءِ، وَيَطَئُوا عَقِبَهُ، فَقَالُوا: هَذَا لَكَ عِنْدَنَا يَا مُحَمَّدُ، وَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا فَلا تَذْكُرْهَا بِسُوءٍ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَإِنَّا نَعْرِضُ عَلَيْكَ خَصْلَةً وَاحِدَةً فَهِيَ لَكَ وَلَنَا فِيهَا صَلاحٌ قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالُوا: تَعْبُدُ آلِهَتَنَا سَنَةً، اللاتَ وَالْعُزَّى، وَنَعْبُدُ إِلَهَكَ سَنَةً، قَالَ: حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَأْتِي مِنْ عِنْدِ رَبِّي! فَجَاءَ الْوَحْيُ مِنَ اللوح المحفوظ: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ» السُّورَةَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ» إِلَى قَوْلِهِ: «بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ» . حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ علية، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني سعيد بن ميناء، مولى أبي البختري، قال: لقي الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب واميه بن خلف رسول الله ص، فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونشركك في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيرا مما في أيدينا، كنا قد شركناك فيه، وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما في يدك، كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت بحظك منه فأنزل الله عز وجل: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» ، حتى انقضت السورة. فكان رسول الله ص حريصا على صلاح قومه، محبا مقاربتهم بما وجد إليه السبيل، قد ذكر أنه تمنى السبيل الى مقاربتهم، لكان من أمره في ذلك مَا حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، قال:

حدثني محمد بن إسحاق، عن يزيد بن زِيَادٍ الْمَدَنِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: لَمَّا راى رسول الله ص تَوَلِّي قَوْمِهِ عَنْهُ، وَشَقَّ عَلَيْهِ مَا يَرَى مِنْ مَبَاعَدَتِهِمْ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ اللَّهِ، تَمَنَّى فِي نَفْسِهِ أَنْ يَأْتِيَهُ مِنَ اللَّهِ مَا يُقَارِبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ، وَكَانَ يَسُرُّهُ مَعَ حُبِّهِ قَوْمَهُ، وَحِرْصِهِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَلِينَ لَهُ بَعْضُ مَا قَدْ غَلُظَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِمْ، حَتَّى حَدَّثَ بِذَلِكَ نَفْسَهُ، وَتَمَنَّاهُ وَأَحَبَّهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَالنَّجْمِ إِذا هَوى مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى» ، فلما انتهى إلى قوله: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى» ، أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ، لَمَّا كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَهُ، وَيَتَمَنَّى أَنْ يَأْتِيَ بِهِ قَوْمَهُ: تلك الغرانيق العلا، وان شفاعتهن لترتجى، فَلَمَّا سَمِعَتْ ذَلِكَ قُرَيْشٌ فَرِحُوا، وَسَرَّهُمْ وَأَعْجَبَهُمْ ما ذكر به آلهتهم، فاصاخوا لَهُ- وَالْمُؤْمِنُونَ مُصَدِّقُونَ نَبِيَّهُمْ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ عَنْ رَبِّهِمْ، وَلا يَتَّهِمُونَهُ عَلَى خَطَإٍ وَلا وَهْمٍ وَلا زَلَلٍ- فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى السَّجْدَةِ مِنْهَا وَخَتَمَ السُّورَةَ سَجَدَ فِيهَا، فَسَجَدَ الْمُسْلِمُونَ بِسُجُودِ نَبِيِّهِمْ، تَصْدِيقًا لِمَا جَاءَ بِهِ، وَاتِّبَاعًا لأَمْرِهِ، وَسَجَدَ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، لِمَا سَمِعُوا مِنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ، فَلَمْ يَبْقَ فِي الْمَسْجِدِ مُؤْمِنٌ وَلا كَافِرٌ إِلَّا سَجَدَ، إِلَّا الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، فَلَمْ يَسْتَطِعِ السُّجُودَ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ حِفْنَةً مِنَ الْبَطْحَاءِ فَسَجَدَ عَلَيْهَا، ثُمَّ تَفَرَّقَ النَّاسُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ، وَقَدْ سَرَّهُمْ مَا سَمِعُوا مِنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ، يَقُولُونَ: قَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ آلِهَتَنَا بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ، قَدْ زَعَمَ فِيمَا يَتْلُو: أَنَّهَا الْغَرَانِيقُ الْعُلَا، وَأَنَّ شَفَاعَتَهُنَّ تُرْتَضَى وَبَلَغَتِ السَّجْدَةُ مَنْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ، فَنَهَضَ مِنْهُمْ رِجَالٌ، وَتَخَلَّفَ آخَرُونَ، وَأَتَى جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ ص، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَاذَا

صَنَعْتَ! لَقَدْ تَلَوْتَ عَلَى النَّاسِ مَا لَمْ آتِكَ بِهِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقُلْتَ مَا لَمْ يَقُلْ لَكَ! فَحَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ ص عِنْدَ ذَلِكَ حُزْنًا شَدِيدًا، وَخَافَ مِنَ اللَّهِ خَوْفًا كَثِيرًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ- وَكَانَ بِهِ رَحِيمًا- يُعَزِّيهِ وَيُخَفِّضُ عَلَيْهِ الأَمْرَ، وَيُخْبِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُ قَبْلَهُ نَبِيٌّ وَلا رَسُولٌ تَمَنَّى كَمَا تَمَنَّى، وَلا أَحَبَّ كَمَا أَحَبَّ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ قَدْ أَلْقَى فِي أُمْنِيَّتِهِ، كَمَا القى على لسانه ص، فَنَسَخَ اللَّهُ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ وَأَحْكَمَ آيَاتِهِ، أَيْ فَإِنَّمَا أَنْتَ كَبَعْضِ الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ نَبِيِّهِ الْحَزَنَ، وَآمَنَهُ مِنَ الَّذِي كَانَ يَخَافُ، وَنَسَخَ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ مِنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ: أَنَّها الْغَرَانِيقُ الْعُلَا وَأَنَّ شَفَاعَتَهُنَّ تُرْتَضَى، بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ ذَكَرَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى: «أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى» أي عوجاء، «إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ» - الى قوله- «لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى» ، أَيْ فَكَيْفَ تَنْفَعُ شَفَاعَةُ آلِهَتِكُمْ عِنْدَهُ! فَلَمَّا جَاءَ مِنَ اللَّهِ مَا نَسَخَ مَا كَانَ الشَّيْطَانُ أَلْقَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ، قَالَتْ قُرَيْشٌ: نَدِمَ مُحَمَّدٌ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنْ مَنْزِلَةِ آلِهَتِكُمْ عِنْدَ اللَّهِ، فَغَيَّرَ ذَلِكَ وَجَاءَ بِغَيْرِهِ، وَكَانَ ذَانِكَ الْحَرْفَانِ اللَّذَانِ أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لسان رسول الله ص قَدْ وَقَعَا فِي فَمِ كُلِّ مُشْرِكٍ، فَازْدَادُوا شَرًّا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَشِدَّةً عَلَى من اسلم واتبع رسول الله ص منهم،

وَأَقْبَلَ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ لَمَّا بَلَغَهُمْ مِنْ إِسْلَامِ أَهْلِ مكة حين سجدوا مع رسول الله ص، حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْ مَكَّةَ، بَلَغَهُمْ أَنَّ الَّذِي كَانُوا تَحَدَّثُوا بِهِ مِنْ إِسْلَامِ أَهْلِ مَكَّةَ كَانَ بَاطِلًا، فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا بِجِوَارٍ، أَوْ مُسْتَخْفِيًّا، فَكَانَ مِمَّنْ قَدِمَ مَكَّةَ مِنْهُمْ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَشَهِدَ مَعَهُ بَدْرًا مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ، عُثْمَانُ بن عفان ابن أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ رُقَيَّةُ بنت رسول الله ص، وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ مَعَهُ امْرَأَتُهُ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ، وَجَمَاعَةٌ أُخَرُ مَعَهُمْ، عَدَدُهُمْ ثَلاثَةٌ وَثَلاثُونَ رَجُلًا. حدثني القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن أبي مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَمُحَمَّدِ بن قيس، قالا: جلس رسول الله ص فِي نَادٍ مِنْ أَنْدِيَةِ قُرَيْشٍ، كَثِيرٍ أَهْلُهُ، فتمنى يومئذ الا يَأْتِيَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْءٌ فَيَنْفِرُوا عَنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَالنَّجْمِ إِذا هَوى مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى» ، فقرأها رسول الله ص حَتَّى إِذَا بَلَغَ: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى» أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ كَلِمَتَيْنِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَا وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْجَى، فَتَكَلَّمَ بِهِمَا، ثُمَّ مَضَى فَقَرَأَ السُّورَةَ كُلَّهَا، فَسَجَدَ فِي آخِرِ السُّورَةِ، وَسَجَدَ الْقَوْمُ مَعَهُ جَمِيعًا، وَرَفَعَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ تُرَابًا إِلَى جَبْهَتِهِ، فَسَجَدَ عَلَيْهِ- وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا لا يَقْدِرُ عَلَى السُّجُودِ- فَرَضَوْا بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ، وَقَالُوا: قَدْ عَرَفْنَا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ الَّذِي يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ، وَلَكِنَّ آلِهِتَنَا هَذِهِ تَشْفَعُ لَنَا عِنْدَهُ، فَإِذَا جَعَلْتَ لَهَا نَصِيبًا فَنَحْنُ مَعَكَ قَالَا: فَلَمَّا امسى

أتاه جبرئيل ع، فَعَرَضَ عَلَيْهِ السُّورَةَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْكَلِمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ، قَالَ: مَا جِئْتُكَ بِهَاتَيْنِ! [فقال رسول الله ص: افْتَرَيْتُ عَلَى اللَّهِ، وَقُلْتُ عَلَى اللَّهِ مَا لَمْ يَقُلْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: «وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ» إِلَى قَوْلِهِ: «ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً» ، فَمَا زَالَ مَغْمُومًا مَهْمُومًا، حَتَّى نَزَلَتْ: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ» - الى قوله: «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] » قَالَ: فَسَمِعَ مَنْ كَانَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ قَدْ أَسْلَمُوا كُلَّهُمْ، فَرَجَعُوا إِلَى عَشَائِرِهِمْ، وَقَالُوا: هُمْ أَحَبُّ إِلَيْنَا، فَوَجَدُوا الْقَوْمَ قَدِ ارْتَكَسُوا حِينَ نَسَخَ اللَّهُ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ، ثم قام- فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، في نقض الصحيفة التي كانت قريش كتبت بينها على بني هاشم وبني المطلب- نفر من قريش وكان أحسنهم بلاء فيه هشام بن عمرو بن الحارث العامري، من عامر بن لؤي- وكان ابن أخي نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه- وأنه مشى الى زهير ابن أبي أمية بْن المغيرة بْن عبد الله بْن عمر بن مخزوم- وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب- فقال: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب، وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت، لا يبايعون ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم! أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم ابن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبدا قال: ويحك يا هشام! فماذا أصنع! إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها حتى أنقضها قال: قد وجدت رجلا، قال: من هو؟ قال: أنا، قال له زهير: ابغنا ثالثا، فذهب الى المطعم بن عدى ابن نوفل بن عبد مناف، فقال له: يا مطعم، أقد رضيت أن يهلك بطنان

من بني عبد مناف، وأنت شاهد على ذلك، موافق لقريش فيه! أما والله لئن امكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعا قال: ويحك! فماذا أصنع! إنما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت ثانيا، قال: من هو؟ قال: أنا، قال: ابغنا ثالثا، قال: قد فعلت، قال من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، قال: ابغنا رابعا، فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فقال له نحوا مما قال للمطعم بن عدي، فقال: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال: نعم، قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأنا معك. قال: ابغنا خامسا، فذهب إلى زمعة بْن الأَسْوَدِ بْن المطلب بْن أسد، فكلمه، وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم، ثم سمى له القوم فاتعدوا له خطم الحجون الذي بأعلى مكة، فاجتمعوا هنالك، وأجمعوا أمرهم، وتعاهدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها، وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أولكم يتكلم، فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أمية، عليه حلة له، فطاف بالبيت سبعا، ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام، ونشرب الشراب، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يبايعون ولا يبتاع منهم! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة، قال أبو جهل- وكان في ناحية المسجد: كذبت، والله لا تشق! قال زمعة ابن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابها حين كتبت، قال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر به! قال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها، ومما كتب فيها، وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك، قال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، وتشوور فيه بغير هذا المكان- وأبو طالب جالس في ناحية المسجد وقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها،

إلا ما كان من باسمك اللهم، وهي فاتحة ما كانت تكتب قريش، تفتتح بها كتابها إذا كتبت. قال: وكان كاتب صحيفة قريش- فيما بلغني- التي كتبوا على رسول الله ص ورهطه من بني هاشم وبني المطلب، منصور بن عكرمه ابن هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بن قصي، فشلت يده. وأقام بقيتهم بأرض الحبشه، حتى بعث فيهم رسول الله ص إلى النجاشي عمرو بن أمية الضمري، فحملهم في سفينتين، فقدم بهم على رسول الله ص، وهو بخيبر بعد الحديبية وكان جميع من قدم في السفينتين ستة عشر رجلا. ولم يزل رسول الله ص مقيما مع قريش بمكة يدعوهم إلى الله سرا وجهرا، صابرا على أذاهم وتكذيبهم إياه واستهزائهم به، حتى إن كان بعضهم- فيما ذكر- يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي، ويطرحها في برمته إذا نصبت له، حتى اتخذ رسول الله ص منهم- فيما بلغني- حجرا يستتر به منهم إذا صلى. حدثنا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: حدثني عمر بن عبد الله بن عروة بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: كَانَ رسول الله ص يَخْرُجُ بِذَلِكَ إِذَا رُمِيَ بِهِ فِي دَارِهِ عَلَى الْعُودِ فَيَقِفُ عَلَى بَابِهِ، [ثُمَّ يَقُولُ: يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، أَيُّ جِوَارٍ هَذَا! ثُمَّ يُلْقِيهِ بِالطَّرِيقِ] . ثُمَّ إِنَّ أَبَا طَالِبٍ وَخَدِيجَةَ هَلَكَا فِي عَامٍ وَاحِدٍ- وذلك فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق- قبل هجرته إلى المدينة بثلاث سنين، فعظمت المصيبة على رسول الله ص بهلاكهما، وذلك أن قريشا

وصلوا من أذاه بعد موت أبي طالب إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياته منه، حتى نثر بعضهم على رأسه التراب. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا نَثَرَ ذَلِكَ السفيه التراب على راس رسول الله ص، دخل رسول الله ص بَيْتَهُ وَالتُّرَابُ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَامَتْ إِلَيْهِ إِحْدَى بَنَاتِهِ تَغْسِلُ عَنْهُ التُّرَابَ، وَهِيَ تَبْكِي، [وَرَسُولُ الله ص يَقُولُ لَهَا: يَا بُنَيَّةُ لا تَبْكِي، فَإِنَّ اللَّهَ مَانِعٌ أَبَاكِ! قَالَ: وَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ ص: مَا نَالَتْ مِنِّي قُرَيْشٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ] وَلَمَّا هَلَكَ أَبُو طَالِبٍ خرج رسول الله ص إِلَى الطَّائِفِ يَلْتَمِسُ مِنْ ثَقِيفٍ النَّصْرَ وَالْمَنَعَةَ لَهُ مِنْ قَوْمِهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَيْهِمْ وَحْدَهُ، فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قال: لما انتهى رسول الله ص إِلَى الطَّائِفِ عَمَدَ إِلَى نَفَرٍ مِنْ ثَقِيفٍ- هُمْ يَوْمَئِذٍ سَادَةُ ثَقِيفٍ وَأَشْرَافُهُمْ، وَهُمْ إِخْوَةٌ ثَلَاثَةٌ: عَبْدُ يَالِيلَ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، ومسعود ابن عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، وَحَبِيبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، وَعِنْدَهُمُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي جُمَحٍ، فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ- فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَكَلَّمَهُمْ بِمَا جَاءَ لَهُمْ مِنْ نُصْرَتِهِ عَلَى الإِسْلَامِ، وَالْقِيَامِ مَعَهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ مِنْ قَوْمِهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: هُوَ يَمْرُطُ ثِيَابَ الْكَعْبَةِ إِنْ كَانَ اللَّهُ أَرْسَلَكَ! وَقَالَ الآخَرُ: مَا وَجَدَ الله

أَحَدًا يُرْسِلُهُ غَيْرَكَ! وَقَالَ الثَّالِثُ: وَاللَّهِ لا أُكَلِّمُكَ كَلِمَةً أَبَدًا، لَئِنْ كُنْتَ رَسُولًا مِنَ اللَّهِ كَمَا تَقُولُ، لأَنْتَ أَعْظَمُ خَطَرًا مِنْ أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ الْكَلَامَ، وَلَئِنْ كُنْتَ تَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ مَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أُكَلِّمَكَ! فقام رسول الله ص مِنْ عِنْدِهِمْ، وَقَدْ يَئِسَ مِنْ خَيْرِ ثَقِيفٍ، وقد [قال لهم- فيما ذكر لي-: إذ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ فَاكْتُمُوا عَلَيَّ] وَكَرِهَ رَسُولُ الله ص أَنْ يُبَلِّغَ قَوْمَهُ عَنْهُ، فَيُذْئِرَهُمْ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَفْعَلُوا وَأغروا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ وَعَبِيدَهُمْ، يَسُبُّونَهُ وَيَصِيحُونَ بِهِ، حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَأَلْجَئُوهُ إِلَى حَائِطٍ لِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَهُمَا فِيهِ، وَرَجَعَ عَنْهُ مِنْ سُفَهَاءِ ثَقِيفٍ مَنْ كَانَ يَتْبَعُهُ، فَعَمَدَ إِلَى ظِلِّ حَبَلَةٍ مِنْ عِنَبٍ، فَجَلَسَ فِيهِ، وَابْنَا رَبِيعَةَ يَنْظُرَانِ إِلَيْهِ، وَيُرِيَانِ مَا لَقِيَ مِنْ سُفَهَاءِ ثقيف وقد لقى رسول الله ص- فِيمَا ذُكِرَ لِي- تِلْكَ الْمَرْأَةَ مِنْ بَنِي جمح، فقال لها: ماذا لقينا من احمائك! فلما اطمان رسول الله ص، قَالَ- فِيمَا ذُكِرَ لِي: اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلْنِي! إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَوْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي! وَلَكِنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتِ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، مِنْ أَنْ يَنْزِلَ بِي غَضَبُكَ، أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ سَخَطِكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ. فَلَمَّا رَأَى ابْنَا رَبِيعَةَ: عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ مَا لَقِيَ، تَحَرَّكَتْ لَهُ رَحِمَهُمَا،

فَدَعَوْا لَهُ غُلامًا لَهُمَا نَصْرَانِيًّا، يُقَالُ لَهُ عَدَّاسٌ، فَقَالَا لَهُ: خُذْ قِطْفًا مِنْ هَذَا الْعِنَبِ وَضَعْهُ فِي ذَلِكَ الطَّبَقِ، ثُمَّ اذْهَبْ بِهِ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَقُلْ لَهُ يَأْكُلْ مِنْهُ، فَفَعَلَ عَدَّاسٌ، ثُمَّ أَقْبَلَ بِهِ حَتَّى وضعه بين يدي رسول الله ص، فلما وضع رسول الله ص يَدَهُ، قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، ثُمَّ أَكَلَ، فَنَظَرَ عَدَّاسٌ إِلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ هذا الكلام مَا يَقُولُهُ أَهْلُ هَذِهِ الْبَلْدَةِ، [قَالَ لَهُ رسول الله ص: وَمِنْ أَهْلِ أَيِّ الْبِلَادِ أَنْتَ يَا عَدَّاسُ؟ وَمَا دِينُكَ؟ قَالَ: أَنَا نَصْرَانِيٌّ، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نِينَوَى فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ص: أَمِنْ قَرْيَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتَّى؟ قَالَ لَهُ: وَمَا يُدْرِيكَ مَا يُونُسُ بْنُ متى؟ قال رسول الله ص: ذَاكَ أَخِي، كَانَ نَبِيًّا وَأَنَا نَبِيٌّ،] فَأَكَبَّ عداس على رسول الله ص يُقَبِّلُ رَأْسَهُ وَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، قَالَ: يَقُولُ ابْنَا رَبِيعَةَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَمَّا غُلَامُكَ فَقَدْ أَفْسَدَهُ عَلَيْكَ فَلَمَّا جَاءَهُمَا عَدَّاسٌ قَالَا لَهُ: وَيْلَكَ يَا عَدَّاسُ! مَا لَكَ تُقَبِّلُ رَأْسَ هَذَا الرَّجُلِ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ! قَالَ: يَا سَيِّدِي مَا فِي هَذِهِ الأَرْضِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ! لَقَدْ خَبَّرَنِي بِأَمْرٍ لا يَعْلَمُهُ إِلَّا نَبِيٌّ، فَقَالَا: وَيْحَكَ يَا عَدَّاسُ! لَا يُصْرِفَنَّكَ عَنْ دِينِكَ، فَإِنَّ دِينَكَ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ. ثُمَّ ان رسول الله ص انْصَرَفَ مِنَ الطَّائِفِ رَاجِعًا إِلَى مَكَّةَ حِينَ يَئِسَ مِنْ خَبَرِ ثَقِيفٍ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِنَخْلَةٍ، قَامَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ يُصَلِّي، فَمَرَّ بِهِ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَهُمْ- فِيمَا ذُكِرَ لِي- سَبْعَةٌ نَفَرٍ مِنْ جِنِّ اهل

نَصِيبِينَ الْيَمَنِ، فَاسْتَمَعُوا لَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، قَدْ آمَنُوا وَأَجَابُوا إِلَى مَا سَمِعُوا، فَقَصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَبَرَهُمْ عَلَيْهِ: «وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ» - إِلَى قَوْلِهِ: «وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» وَقَالَ: «قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ» إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ مِنْ خَبَرِهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَتَسْمِيَةُ النَّفَرِ مِنَ الجن الذين اسْتَمَعُوا الْوَحْيَ- فِيمَا بَلَغَنِي- حَسَا، وَمَسَا، وَشَاصِرٌ، وناصر، وايناالارد، واينين، والاحقم. قال: ثم قدم رسول الله ص مَكَّةَ، وَقَوْمُهُ أَشَدُّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِهِ وَفِرَاقِ دِينِهِ، إِلَّا قَلِيلًا مُسْتَضْعَفِينَ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص لَمَّا انْصَرَفَ مِنَ الطَّائِفِ مُرِيدًا مَكَّةَ مَرَّ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ مَكَّةَ، [فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله ص: هَلْ أَنْتَ مُبَلِّغٌ عَنِّي رِسَالَةً أُرْسِلُكَ بِهَا؟ قال: نعم، قال: ائت الاخنس ابن شَرِيقٍ، فَقُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ مُحَمَّدٌ: هَلْ أَنْتَ مُجِيرِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي؟ قَالَ: فَأَتَاهُ، فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ الأَخْنَسُ: إِنَّ الْحَلِيفَ لا يُجِيرُ عَلَى الصَّرِيحِ قَالَ: فَأَتَى النبي ص، فَأَخْبَرَهُ، قَالَ: تَعُودُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: ائْتِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، فَقُلْ لَهُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ لَكَ: هَلْ أَنْتَ مُجِيرِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالاتِ رَبِّي؟ فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ: فَقَالَ: إِنَّ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، لَا تُجِيرُ عَلَى بَنِي كَعْبٍ قَالَ: فَرَجَعَ إِلَى النبي ص فَأَخْبَرَهُ، قَالَ: تَعُودُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: ائْتِ الْمُطْعِمَ بْنَ عَدِيٍّ، فَقُلْ لَهُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ لَكَ: هَلْ أَنْتَ مُجِيرِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَاتِ رَبِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، فَلْيَدْخُلْ، قَالَ: فَرَجَعَ الرجل اليه، فاخبره، واصبح المطعم

ابن عَدِيٍّ قَدْ لَبِسَ سِلَاحَهُ هُوَ وَبَنُوهُ وَبَنُو أَخِيهِ، فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو جَهْلٍ، قَالَ: أَمُجِيرٌ أَمْ مُتَابِعٌ؟ قَالَ: بَلْ مُجِيرٌ، قَالَ: فَقَالَ: قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتَ، فَدَخَلَ النبي ص مَكَّةَ، وَأَقَامَ بِهَا، فَدَخَلَ يَوْمًا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَالْمُشْرِكُونَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو جَهْلٍ، قَالَ: هَذَا نَبِيُّكُمْ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَاف، قَالَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ: وَمَا تُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ مِنَّا نَبِيٌّ أَوْ مَلَكٌ! فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النبي ص- أَوْ سَمِعَهُ- فَأَتَاهُمْ، فَقَالَ: أَمَّا أَنْتَ يَا عتبة بن ربيعه فو الله مَا حَمَيْتَ لِلَّهِ وَلَا لِرَسُولِهِ، وَلَكِنْ حَمَيْتَ لأَنْفِكَ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هشام، فو الله لا يَأْتِي عَلَيْكَ غَيْرُ كَبِيرٍ مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى تَضْحَكَ قَلِيلًا وَتَبْكِي كَثِيرًا وَأَمَّا أَنْتُمْ يا معشر الملا من قريش، فو الله لا يَأْتِي عَلَيْكُمْ غَيْرُ كَبِيرٍ مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى تَدْخُلُوا فِيمَا تُنْكِرُونَ، وَأَنْتُمْ كَارِهُونَ] وَكَانَ رسول الله ص يَعْرِضُ نَفْسَهُ فِي الْمَوَاسِمِ- إِذَا كَانَتْ- عَلَى قبائل العرب، يدعوهم الى الله والى نصرته وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَيَسْأَلُهُمْ أَنْ يُصَدِّقُوهُ وَيَمْنَعُوهُ حَتَّى يُبَيِّنَ عَنِ اللَّهِ مَا بَعَثَهُ بِهِ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني حسين بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَبِيعَةَ بْنَ عَبَّادٍ يُحَدِّثُ أَبِي، قَالَ: إِنِّي لَغُلامٌ شَابٌّ مع ابى بمنى، ورسول الله ص يَقِفُ عَلَى مَنَازِلِ الْقَبَائِلِ مِنَ الْعَرَبِ، [فَيَقُولُ: يَا بَنِي فُلانٍ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَخْلَعُوا مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ هَذِهِ الأَنْدَادِ، وَأَنْ تُؤْمِنُوا بِي

وَتُصَدِّقُونِي وَتَمْنَعُونِي، حَتَّى أُبَيِّنَ عَنِ اللَّهِ مَا بَعَثَنِي بِهِ] . قَالَ: وَخَلْفَهُ رَجُلٌ أَحْوَلُ وَضِيءٌ، لَهُ غَدِيرَتَانِ، عَلَيْهِ حُلَّةٌ عَدَنِيَّةٌ، فَإِذَا فَرَغَ رسول الله ص مِنْ قَوْلِهِ، وَمَا دَعَا إِلَيْهِ، قَالَ الرَّجُلُ: يَا بَنِي فُلانٍ، إِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَدْعُوكُمْ إِلَى أَنْ تَسْلَخُوا اللاتَ وَالْعُزَّى مِنْ أَعْنَاقِكُمْ، وخلفاءكم مِنَ الْجِنِّ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ أُقَيْشٍ، إِلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْبِدْعَةِ وَالضَّلالَةِ، فَلا تُطِيعُوهُ وَلا تَسْمَعُوا لَهُ. قَالَ: فَقُلْتُ لأَبِي: يَا أَبَتِ مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي يَتْبَعُهُ، يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ؟ قَالَ: هَذَا عَمُّهُ عَبْدُ الْعُزَّى أَبُو لَهَبِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: وحدثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ أَنَّ رسول الله ص أَتَى كِنْدَةَ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَفِيهِمْ سَيِّدٌ لَهُمْ، يُقَالُ لَهُ مَلِيحٌ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قال: حدثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّهُ أَتَى كَلْبًا فِي مَنَازِلِهِمْ إِلَى بَطْنٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَبْدِ اللَّهِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ لَهُمْ: يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ اسْمَ أَبِيكُمْ فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ الله ص أَتَى بَنِي حَنِيفَةَ فِي مَنَازِلِهِمْ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الله، وعرض

عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ أَقْبَحَ رَدًّا عَلَيْهِ مِنْهُمْ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قال: قال محمد بن إِسْحَاقَ: وحدثني مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، أَنَّهُ أَتَى بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، يُقَالُ لَهُ بَيْحَرَةُ بْنُ فِرَاسٍ: وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي أَخَذْتُ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ لأَكَلْتُ بِهِ الْعَرَبَ ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ نَحْنُ تَابَعْنَاكَ عَلَى أَمْرِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللَّهُ عَلَى مَنْ خَالَفَكَ، أَيَكُونُ لَنَا الأَمْرُ مِنْ بَعْدِكَ؟ [قَالَ: الأَمْرُ إِلَى اللَّهِ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ] قَالَ: فَقَالَ لَهُ: أَفَتَهْدِفُ نُحُورَنَا لِلْعَرَبِ دُونَكَ، فَإِذَا ظَهَرْتَ كَانَ الأَمْرُ لِغَيْرِنَا! لا حَاجَةَ لَنَا بِأَمْرِكَ فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَلَمَّا صَدَرَ النَّاسُ، رَجَعَتْ بَنُو عَامِرٍ إِلَى شَيْخٍ لَهُمْ، قَدْ كَانَتْ أَدْرَكَتْهُ السِّنُّ، حَتَّى لا يَقْدِرَ عَلَى أَنْ يُوَافِيَ مَعَهُمُ الْمَوْسِمَ، فَكَانُوا إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِ، حَدَّثُوهُ بِمَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْمَوْسِمِ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ الْعَامَ، سَأَلَهُمْ عَمَّا كَانَ فِي مَوْسِمِهِمْ، فَقَالُوا: جَاءَنَا فَتًى مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَيَدْعُو إِلَى أَنْ نَمْنَعَهُ وَنَقُومَ مَعَهُ، وَنَخْرُجَ بِهِ مَعَنَا إِلَى بِلادِنَا قَالَ: فَوَضَعَ الشَّيْخُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا بَنِي عَامِرٍ، هَلْ لَهَا مِنْ تَلافٍ! هَلْ لِذَنَابَاهَا مِنْ مُطَّلِبٍ! وَالَّذِي نَفْسُ فُلانٍ بِيَدِهِ مَا تَقَوَّلَهَا إِسْمَاعِيلِيٌّ قَطُّ! وَإِنَّهَا لَحَقٌّ، فَأَيْنَ كَانَ رَأْيُكُمْ عَنْهُ!

فكان رسول الله ص عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ، كُلَّمَا اجْتَمَعَ لَهُ النَّاسُ بِالْمَوْسِمِ أَتَاهُمْ يَدْعُو الْقَبَائِلَ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الإِسْلامِ، وَيَعْرِضُ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ اللَّهِ مِنَ الْهُدَى وَالرَّحْمَةِ، لا يَسْمَعُ بِقَادِمٍ يَقْدَمُ مِنَ الْعَرَبِ، لَهُ اسْمٌ وَشَرَفٌ إِلا تَصَدَّى لَهُ فَدَعَاهُ إِلَى اللَّهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ مَا عِنْدَهُ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الظفري، عن أشياخ من قومه، قالوا: قدم سويد بن صامت- أخو بني عمرو بن عوف- مكة حاجا أو معتمرا، قال: وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل، لجلده وشعره، ونسبه وشرفه، وهو الذي يقول: ألا رب من تدعو صديقا ولو ترى ... مقالته بالغيب ساءك ما يفري مقالته كالشحم ما كان شاهدا ... وبالغيب مأثور على ثغرة النحر يسرك باديه وتحت أديمه ... نميمة غش تبتري عقب الظهر تبين لك العينان ما هو كاتم ... ولا جن بالبغضاء والنظر الشزر فرشني بخير طالما قد بريتني ... وخير الموالي من يريش ولا يبري مع أشعار له كثيره يقولها

قال: فتصدى له رسول الله ص حين سمع به، فدعاه إلى الله وإلى الإسلام قال: فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي! [فقال له رسول الله ص: وما الذي معك؟ قال: مجلة لقمان- يعني حكمه لقمان- فقال له رسول الله ص: عرضها علي، فعرضها عليه، فقال: إن هذا لكلام حسن، معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله علي، هدى ونور قال: فتلا عليه رسول الله ص القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه، وقال: إن هذا لقول حسن] . ثم انصرف عنه، وقدم المدينة، فلم يلبث أن قتلته الخزرج، فإن كان قومه ليقولون: قد قتل وهو مسلم، وكان قتله قبل بعاث حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدُ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لبيد، أخي بنى الأَشْهَلِ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ أَبُو الْحَيْسَرِ أَنَسُ بْنُ رَافِعٍ مَكَّةَ، وَمَعَهُ فِتْيَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، فِيهِمْ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ، يَلْتَمِسُونَ الْحِلْفَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى قَوْمِهِمْ مِنَ الْخَزْرَجِ، سمع بهم رسول الله ص، فَأَتَاهُمْ فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ، [فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ لَكُمْ إِلَى خَيْرٍ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ؟ قَالُوا: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، بَعَثَنِي إِلَى الْعِبَادِ، أَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ الْكِتَابَ. ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمُ الإِسْلَامَ، وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ] فَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ- وَكَانَ

غُلَامًا حَدَثًا: أَيْ قَوْمِ، هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ قَالَ: فَيَأْخُذُ أَبُو الْحَيْسَرِ أَنَسُ بْنُ رَافِعٍ حَفْنَةً مِنَ الْبَطْحَاءِ، فَضَرَبَ بها وجه اياس ابن مُعَاذٍ، وَقَالَ: دَعْنَا مِنْكَ، فَلَعَمْرِي لَقَدْ جِئْنَا لِغَيْرِ هَذَا قَالَ: فَصَمَتَ إِيَاسٌ، وَقَامَ رَسُولُ الله ص عَنُهْم وَانْصَرَفُوا إِلَى الْمَدِينَةِ فَكَانَتْ وَقْعَةُ بُعَاثٍ بَيْنَ الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ. قَالَ: ثُمَّ لَمْ يَلْبثْ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ أَنْ هَلَكَ قَالَ مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ: فَأَخْبَرَنِي مَنْ حَضَرَهُ مِنْ قَوْمِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يَسْمَعُونَهُ يُهَلِّلُ اللَّهَ وَيُكَبِّرُهُ، وَيُحَمِّدُهُ وَيُسَبِّحُهُ، حَتَّى مَاتَ، فَمَا كَانُوا يَشُكُّونَ أَنْ قَدْ مَاتَ مُسْلِمًا، لَقَدْ كَانَ اسْتَشْعَرَ الإِسْلَامَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ حِينَ سمع من رسول الله ص مَا سَمِعَ. قَالَ: فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِظْهَارَ دِينَهُ وَإِعْزَازَ نَبِيَّهُ، وَإِنْجَازَ مَوْعِدَهُ له، خرج رسول الله ص فِي الْمَوْسِمِ الَّذِي لَقِيَ فِيهِ النَّفَرَ مِنَ الأَنْصَارِ، فَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ، كَمَا كَانَ يَصْنَعُ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ، فَبَيْنَا هُوَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ إِذْ لَقِيَ رَهْطًا مِنَ الْخَزْرَجِ أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ خَيْرًا. قال ابن حميد: قال سلمة: قال محمد بن إسحاق: فحدثني عاصم ابن عمر بن قتادة، عن أشياخ من قومه، قالوا: لما لقيهم رسول الله ص، [قال لهم: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج، قال: أمن موالي يهود: قالوا: نعم، قال: أفلا تجلسون حتى أكلمكم؟ قالوا: بلى، قال: فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن] . قال: وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام، أن يهود كانوا معهم

ببلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا أهل شرك، أصحاب أوثان، وكانوا قد عزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إن نبيا الآن مبعوث قد أظل زمانه، نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم فلما كلم رسول الله ص أولئك النفر، ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: تعلمن والله أنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه. فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدقوه، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا له: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى الله أن يجمعهم بك، وسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فان يجمعهم الله عليه، فلا رجل أعز منك ثم انصرفوا عن رسول الله ص راجعين إلى بلادهم، وقد آمنوا وصدقوا. وهم- فيما ذكر لي- ستة نفر من الخزرج: منهم من بني النجار- وهم تيم الله- ثم من بني مالك بن النجار بن ثعلبه بن عمرو بن الخزرج ابن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، أسعد بن زرارة بن عدس بن عبيد ابن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، وهو ابو امامه، وعوف بن الحارث ابن رفاعة بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار، وهو ابن عفراء ومن بني زريق بن عامر بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم ابن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، رافع بن مالك بن العجلان ابن عمرو بن عامر بن زريق. ومن بني سلمه بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، ثم من بني سواد،

قطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمه. ومن بنى حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمه، عقبه ابن عامر بن نابي بن زيد بن حرام. ومن بنى عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة، جابر بن عبد الله بن رئاب بن النعمان بن سنان بن عبيد. قال: فلما قدموا المدينة على قومهم، ذكروا لهم رسول الله ص، ودعوهم إلى الإسلام، حتى فشا فيهم فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله ص، حتى إذا كان العام المقبل، وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا، فلقوه بالعقبة، وهي العقبه الاولى، فبايعوا رسول الله ص على بيعة النساء، وذلك قبل أن يفترض عليهم الحرب، منهم من بني النجار أسعد بن زراره ابن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، وهو أبو أمامة، وعوف ومعاذ ابنا الحارث بن رفاعة بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك ابن النجار، وهما ابنا عفراء. ومن بني زريق بن عامر، رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر ابن زريق، وذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زريق. ومن بني عوف بن الخزرج، ثم من بني غنم بن عوف- وهم القواقل- عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن عوف ابن الخزرج، وأبو عبد الرحمن، وهو يزيد بن ثعلبه بن خزمه بن اصرم ابن عمرو بن عمارة، من بني غضينة من بلي، حليف لهم

ومن بني سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج عباس بن عبادة ابن نضله بن مالك بن العجلان بن زيد بن غنم بن سالم بن عوف. ومن بني سلمة، ثم من بني حرام، عقبة بن عامر بن نابي بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة. ومن بني سواد، قطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة. وشهدها من الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، ثم من بني الأشهل: أبو الهيثم بن التيهان، اسمه مالك، حليف لهم. ومن بني عمرو بن عوف، عويم بن ساعدة بن صلعجة، حليف لهم. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن عُسَيْلَةَ الصُّنَابِحِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: كُنْتُ فِيمَنْ حَضَرَ الْعَقَبَةَ الأُولَى، وَكُنَّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلا، فَبَايَعْنَا رسول الله ص عَلَى بَيْعَةِ النِّسَاءِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْتَرَضَ الحرب، على الا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا نَسْرِقَ وَلا نَزْنِيَ، وَلا نَقْتُلَ أَوْلادَنَا، وَلا نَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا، وَلا نَعْصِيَهُ فِي مَعْرُوفٍ، فَإِنْ وَفَّيْتُمْ فَلَكُمُ الْجَنَّةُ، وَإِنْ غَشَّيْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَأُخِذْتُمْ بِحَدِّهِ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَإِنْ سُتِرْتُمْ عَلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَأَمْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَكُمْ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَكُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، أن ابْنَ شِهَابٍ ذَكَرَ عَنْ عَائِذِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلانِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بن

الصامت، عن النبي ص مثله. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: فلما انصرف عنه القوم بعث معهم رسول الله ص مصعب بن عمير بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدار بن قصي، وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين، فكان يسمى مصعب بالمدينة: المقرئ، وكان منزله على أسعد بن زرارة بن عدس أبي أمامة. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني عبيد الله بن المغيرة بن معيقيب، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ ابن عمرو بن حزم، أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير، يريد به دار بني عبد الأشهل، ودار بني ظفر، وكان سعد بن معاذ بن النعمان ابن امرئ القيس، ابن خالة أسعد بن زرارة، فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر، على بئر يقال لها بئر مرق، فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجال ممن أسلم، وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير يومئذ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه، فلما سمعا به، قال سعد ابن معاذ لأسيد بن حضير: لا أبا لك! انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارنا، ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما وانههما أن يأتيا دارنا، فإنه لولا أن أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت، كفيتك ذلك، هو ابن خالتي، ولا أجد عليه مقدما فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما،

فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك، فاصدق الله فيه قال مصعب: إن يجلس أكلمه، قال: فوقف عليهما متشتما، فقال: ما جاء بكما إلينا، تسفهان ضعفاءنا! اعتزلانا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره؟ قال: أنصفت، ثم ركز حربته، وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتسهله. ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل، فتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين قال: فقام فاغتسل، وطهر ثوبيه، وشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلا، إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، سعد بن معاذ ثم أخذ حربته، وانصرف إلى سعد وقومه، وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا، قال: أحلف بالله، لقد جاءكم أسيد بن حضير بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النادي، قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين، فو الله ما رأيت بهما بأسا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة، قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك، قال: فقام سعد مغضبا مبادرا تخوفا للذي ذكر له من بني حارثة فأخذ الحربة من يده، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا، ثم خرج إليهما، فلما رآهما سعد مطمئنين، عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشتما، ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة، لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا

مني تغشانا في دارنا بما نكره! وقد قال أسعد لمصعب: أي مصعب! جاءك والله سيد من وراءه من قومه، إن يتبعك لم يخالف عليك منهم اثنان، فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره؟ قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة، فجلس فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم به، في إشراقه وتسهله. ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل فتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين. قال: فقام فاغتسل وطهر ثوبيه، وشهد شهادة الحق، وركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادي قومه، ومعه أسيد بن حضير، فلما رآه قومه مقبلا، قالوا: نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم، قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا، وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله قال: فو الله ما أمسى في دار عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما أو مسلمة. ورجع أسعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف، وتلك أوس الله، وهم من أوس بن حارثة، وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت، وهو صيفي، وكان شاعرا لهم، وقائدا يسمعون منه، ويطيعونه، فوقف بهم عن الإسلام، فلم يزل على ذلك حتى هاجر رسول الله ص إلى المدينة، ومضى بدر وأحد والخندق

قال: ثم إن مصعب بن عمير، رجع إلى مكة وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك، حتى قدموا مكة، فواعدوا رسول الله ص العقبة من أوسط أيام التشريق حين أراد الله بهم ما أراد من كرامته، والنصر لنبيه ص وإعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله. فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي كَعْبِ بْنِ الْقَيْنِ، أَخُو بَنِي سَلَمَةَ، أَنَّ أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ- وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ الأَنْصَارِ- حَدَّثَهُ ان أباه كعب ابن مَالِكٍ حَدَّثَهُ- وَكَانَ كَعْبُ مِمَّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ، وبايع رسول الله ص بِهَا، قَالَ: خَرَجْنَا فِي حُجَّاجِ قَوْمِنَا، وَقَدْ صلينا وفقهنا، ومعنا البراء ابن مَعْرُورٍ، سَيِّدُنَا وَكَبِيرُنَا فَلَمَّا وَجَّهْنَا لِسَفَرِنَا، وَخَرَجْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، قَالَ الْبَرَاءُ لَنَا: وَاللَّهِ يَا هَؤُلاءِ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَأْيًا، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَتُوَافِقُونَنِي عَلَيْهِ أَمْ لا! قَالَ: فَقُلْنَا: وما ذاك؟ قال: قد رايت الا أَدَعَ هَذِهِ الْبِنْيَةَ مِنِّي بِظَهْرٍ- يَعْنِي الْكَعْبَةَ- وَأَنْ أُصَلِّيَ إِلَيْهَا قَالَ: فَقُلْنَا: وَاللَّهِ مَا بَلَغَنَا عَنْ نَبِيِّنَا أَنَّهُ يُصَلِّي إِلا إِلَى الشَّامِ، وَمَا نُرِيدُ أَنْ نُخَالِفَهُ قَالَ: فَقَالَ: إِنِّي لَمُصَلٍّ إِلَيْهَا، قَالَ: فَقُلْنَا لَهُ: لَكِنَّا لا نَفْعَلُ، قَالَ: فَكُنَّا إِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ صَلَّيْنَا إِلَى الشَّامِ، وَصَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ، حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ. قَالَ: وَقَدْ عِبْنَا عَلَيْهِ مَا صَنَعَ، وَأَبَى إِلا الإِقَامَةَ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا قد منا مكة قال لي: يا بن أخي، انطلق بنا الى رسول الله ص، حَتَّى أَسْأَلَهُ عَمَّا صَنَعْتُ فِي سَفَرِي هَذَا، فَإِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ وَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ خِلافِكُمْ إِيَّايَ فِيهِ. قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله ص- وَكُنَّا لا نَعْرِفُهُ،

وَلَمْ نَرَهُ قَبْلَ ذَلِكَ- فَلَقِينَا رَجُلا مِنْ اهل مكة، فسألناه عن رسول الله ص، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفَانِهِ؟ قُلْنَا: لا، قَالَ: فَهَلْ تعرفان العباس ابن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّهُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ- قَالَ: وَقَدْ كُنَّا نَعْرِفُ الْعَبَّاسَ، كَانَ لا يَزَالُ يَقْدَمُ عَلَيْنَا تَاجِرًا- قَالَ: فَإِذَا دَخَلْتُمَا الْمَسْجِدَ فَهُوَ الرجل الجالس مع العباس ابن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ: فَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ، فَإِذَا الْعَبَّاسُ جالس ورسول الله ص جَالِسٌ مَعَ الْعَبَّاسِ، فَسَلَّمْنَا، ثُمَّ جَلَسْنَا إِلَيْهِ، فقال رسول الله ص لِلْعَبَّاسِ: هَلْ تَعْرِفُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ يَا أَبَا الْفَضْلِ؟ قَالَ: نَعَمْ، هَذَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ سَيِّدُ قَوْمِهِ، وَهَذَا كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ- قَالَ: فو الله ما انسى قول رسول الله ص: الشَّاعِرُ؟ قَالَ: نَعَمْ- قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي خَرَجْتُ فِي سَفَرِي هَذَا، وَقَدْ هَدَانِي اللَّهُ لِلإِسْلامِ، فرايت الا أَجْعَلَ هَذِهِ الْبِنْيَةَ مِنِّي بِظَهْرٍ، فَصَلَّيْتُ إِلَيْهَا، وَقَدْ خَالَفَنِي أَصْحَابِي فِي ذَلِكَ، حَتَّى وَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَمَاذَا تَرَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: قَدْ كُنْتَ عَلَى قِبْلَةٍ لَوْ صَبَرْتَ عَلَيْهَا! فَرَجَعَ الْبَرَاءُ إِلَى قبله رسول الله ص، وَصَلَّى مَعَنَا إِلَى الشَّامِ قَالَ: وَأَهْلُهُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ صَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ حَتَّى مَاتَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَمَا قَالُوا، نَحْنُ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُمْ. قَالَ: ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى الْحَجِّ، وَوَاعَدَنَا رَسُولُ الله ص الْعَقَبَةَ مِنْ أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. قَالَ: فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ الْحَجِّ، وَكَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي وَاعَدَنَا رسول الله ص لَهَا، وَمَعَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، أَبُو جَابِرٍ، أَخْبَرْنَاهُ، وَكُنَّا نَكْتُمُ مَنْ مَعَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِنَا أَمْرَنَا، فَكَلَّمْنَاهُ، وَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا جَابِرٍ، إِنَّكَ سَيِّدٌ من سادتنا، وَشَرِيفٌ مِنْ أَشْرَافِنَا، وَإِنَّا نَرْغَبُ بِكَ عَمَّا أَنْتَ فِيهِ أَنْ تَكُونَ حَطَبًا لِلنَّارِ غَدًا ثُمَّ دَعَوْنَاهُ إِلَى الإِسْلامِ، وَأَخْبَرْنَاهُ بِمِيعَادِ رَسُولِ الله ص إِيَّانَا الْعَقَبَةَ. قَالَ: فَأَسْلَمَ، وَشَهِدَ مَعَنَا الْعَقَبَةَ- وَكَانَ نَقِيبًا- فَبِتْنَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَعَ قَوْمِنَا فِي رِحَالِنَا حَتَّى إِذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ، خرجنا من رحالنا لميعاد رسول

الله ص، نَتَسَلَّلُ مُسْتَخْفِينَ تَسَلُّلَ الْقَطَا، حَتَّى اجْتَمَعْنَا فِي الشِّعْبِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ، وَنَحْنُ سَبْعُونَ رَجُلا، وَمَعَهُمُ امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِهِمْ: نَسِيبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ أُمُّ عُمَارَةَ إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَدِيٍّ، إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي سَلَمَةَ، وَهِيَ أُمُّ مَنِيعٍ، فَاجْتَمَعْنَا بِالشِّعْبِ ننتظر رسول الله ص، حَتَّى جَاءَنَا وَمَعَهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، إِلا أَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَحْضُرَ أَمْرَ ابْنِ أَخِيهِ، وَيَتَوَثَّقَ لَهُ، فَلَمَّا جَلَسَ كَانَ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ- وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِنَّمَا يُسَمُّونَ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الأَنْصَارِ: الْخَزْرَجَ، خَزْرَجَهَا وَأَوْسَهَا- إِنَّ مُحَمَّدًا مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ، وَقَدْ مَنَعْنَاهُ مِنْ قَوْمِنَا مِمَّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِنَا، وَهُوَ فِي عِزٍّ مِنْ قَوْمِهِ وَمَنَعَةٍ فِي بَلَدِهِ، وَإِنَّهُ قَدْ أَبَى إِلا الانْقِطَاعَ إِلَيْكُمْ وَاللُّحُوقَ بِكُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ وَافُونَ لَهُ بِمَا دَعَوْتُمُوهُ إِلَيْهِ، وَمَانِعُوهُ مِمَّنْ خَالَفَهُ، فَأَنْتُمْ وَمَا تَحَمَّلْتُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ مُسْلِمُوهُ وَخَاذِلُوهُ بَعْدَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ، فَمِنَ الآنَ فَدَعُوهُ، فَإِنَّهُ فِي عِزٍّ وَمَنَعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَبَلَدِهِ. قَالَ: فَقُلْنَا لَهُ: قَدْ سَمِعْنَا مَا قُلْتَ، فَتَكَلَّمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَخُذْ لِنَفْسِكَ وَرَبِّكَ مَا أَحْبَبْتَ. قَالَ: [فَتَكَلَّمَ رسول الله ص، فَتَلا الْقُرْآنَ، وَدَعَا إِلَى اللَّهِ، وَرَغَّبَ فِي الإِسْلامِ، ثُمَّ قَالَ: أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ] . قَالَ: فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا، فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَنَحْنُ وَاللَّهِ أَهْلُ الْحَرْبِ وَأَهْلُ الْحَلَقَةِ، وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ

قَالَ: فَاعْتَرَضَ الْقَوْلَ- وَالْبَرَاءُ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ ص- أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ، حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّاسِ حِبَالا وَإِنَّا قَاطِعُوهَا- يَعْنِي الْيَهُودَ- فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ نَحْنُ فَعَلْنَا ذَلِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللَّهُ، أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ، وَتَدَعَنَا! قال: فتبسم رسول الله ص، [ثم قال: بل الدم الدم، الهدم الْهَدْمَ! أَنْتُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْكُمْ، أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ] [وَقَدْ قَالَ رَسُولُ الله ص: أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا،] يَكُونُونَ عَلَى قَوْمِهِمْ بِمَا فِيهِمْ فَأَخْرَجُوا اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا، تِسْعَةً مِنَ الْخَزْرَجِ وَثَلاثَةً مِنَ الأَوْسِ. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عمرو بن حزم، [ان رسول الله ص قَالَ لِلنُّقَبَاءِ: أَنْتُمْ عَلَى قَوْمِكُمْ بِمَا فِيهِمْ كفلاء، ككفالة الحواريين لعيسى بن مَرْيَمَ، وَأَنَا كَفِيلٌ عَلَى قَوْمِي،] قَالُوا: نَعَمْ. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: وحدثني عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا اجتمعوا لبيعه رسول الله ص، قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ الأَنْصَارِيُّ، ثُمَّ أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ، هَلْ تَدْرُونَ عَلامَ تُبَايِعُونَ هَذَا الرَّجُلَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: إِنَّكُمْ تُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِ الأَحْمَرِ وَالأَسْوَدِ مِنَ النَّاسِ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ إِذَا نُهِكَتْ أَمْوَالُكُمْ مُصِيبَةً، وَأَشْرَافُكُمْ قَتْلا أَسْلَمْتُمُوهُ، فَمِنَ الآنَ فَهُوَ وَاللَّهِ خِزْيُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ إِنْ فَعَلْتُمْ، وَإِنْ كُنْتُمْ

تَرَوْنَ أَنَّكُمْ وَافُونَ لَهُ بِمَا دَعَوْتُمُوهُ إِلَيْهِ، عَلَى نُهْكَةِ الأَمْوَالِ، وَقَتْلِ الأَشْرَافِ فَخُذُوهُ، فَهُوَ وَاللَّهِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ قَالُوا: فَإِنَّا نَأْخُذُهُ عَلَى مُصِيبَةِ الأَمْوَالِ، وَقَتْلِ الأَشْرَافِ، فَمَا لَنَا بِذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ نَحْنُ وَفَّيْنَا؟ قَالَ: الْجَنَّةُ، قَالُوا: ابْسُطْ يَدَكَ، فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعُوهُ. وَأَمَّا عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا قَالَ الْعَبَّاسُ ذَلِكَ إِلا ليشد العقد لرسول الله ص فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا قَالَ الْعَبَّاسُ ذَلِكَ إِلا لِيُؤَخِّرَ الْقَوْمَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ رَجَاءَ أَنْ يحضرها عبد الله بن ابى بن سَلُولٍ، فَيَكُونَ أَقْوَى لأَمْرِ الْقَوْمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ، فَبَنُو النَّجَارِ يَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ كَانَ أَوَّلَ مَنْ ضَرَبَ عَلَى يَدَيْهِ، وَبَنُو عَبْدِ الأَشْهَلِ يقولون: بل ابو الهيثم ابن التَّيِّهَانِ. قَالَ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: سَلَمَةُ، قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَمَّا مَعْبَدُ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فَحَدَّثَنِي- قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وحدثني سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ- قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي فِي حَدِيثِهِ عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ أَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ على يد رسول الله ص الْبَرَاءَ بْنَ مَعْرُورٍ، ثُمَّ تَتَابَعَ الْقَوْمُ، فَلَمَّا بايعنا رسول الله ص صَرَخَ الشَّيْطَانُ مِنْ رَأْسِ الْعَقَبَةِ بِأَنْفَذِ صَوْتٍ سَمِعْتُهُ قَطُّ: يَا أَهْلَ الْجَبَاجِبِ هَلْ لَكُمْ فِي مُذَمَّمٍ وَالصُّبَاةُ مَعَهُ، قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى حربكم! فقال رسول الله ص: مَا يَقُولُ عَدُوُّ اللَّهِ؟ هَذَا أَزَبُّ الْعَقَبَةِ، هَذَا ابْنُ أَزِيبٍ، اسْمَعْ عَدُوَّ اللَّهِ، أَمَا والله لافرغن

لك ثم قال رسول الله ص: ارفضوا الى رحالكم فقال له العباس ابن عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَئِنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ غَدًا عَلَى أَهْلِ مِنًى بِأَسْيَافِنَا، فقال رسول الله ص: لَمْ نُؤْمَرْ بِذَلِكَ، وَلَكِنِ ارْجِعُوا إِلَى رِحَالِكُمْ، قَالَ: فَرَجَعْنَا إِلَى مَضَاجِعِنَا، فَنِمْنَا عَلَيْهَا، حَتَّى أَصْبَحْنَا، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا غَدَتْ عَلَيْنَا جُلَّةُ قُرَيْشٍ حَتَّى جَاءُونَا فِي مَنَازِلِنَا، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ، إِنَّا قَدْ بَلَغَنَا أَنَّكُمْ قَدْ جِئْتُمْ إِلَى صَاحِبِنَا هَذَا تَسْتَخْرِجُونَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، وَتُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِنَا، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا مِنْ حَيٍّ مِنَ الْعَرَبِ أَبْغَضَ إِلَيْنَا أَنْ تَنْشَبَ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِنْكُمْ، قَالَ: فَانْبَعَثَ مَنْ هُنَاكَ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِنَا يَحْلِفُونَ لَهُمْ بِاللَّهِ: مَا كَانَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ وَمَا عَلِمْنَاهُ. قَالَ: وَصَدَقُوا لَمْ يَعْلَمُوا قَالَ: وَبَعْضُنَا يَنْظُرُ إِلَى بَعْضٍ، وَقَامَ الْقَوْمُ وَفِيهِمُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، وَعَلَيْهِ نَعْلانِ جَدِيدَانِ. قَالَ: فَقُلْتُ كَلِمَةً كَأَنِّي أُرِيدُ أَنْ أُشْرِكَ القوم بها فِيمَا قَالُوا: يَا أَبَا جَابِرٍ، أَمَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَتَّخِذَ وَأَنْتَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا مِثْلَ نَعْلَيْ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ؟ قَالَ: فَسَمِعَهَا الْحَارِثُ، فَخَلَعَهُمَا مِنْ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ رَمَى بِهِمَا الى، وقال: والله لتنتعلنهما قَالَ: يَقُولُ أَبُو جَابِرٍ: مَهْ أَحْفَظْتَ وَاللَّهِ الْفَتَى! فَارْدُدْ عَلَيْهِ نَعْلَيْهِ، قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ لا أَرُدُّهُمَا، فَأْلٌ وَاللَّهِ صَالِحٌ، وَاللَّهِ لَئِنْ صَدَقَ الْفَأْلُ لأَسْلُبَنَّهُ. فَهَذَا حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ الْعَقَبَةِ وَمَا حَضَرَ مِنْهَا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ إِسْحَاقَ: كَانَ مقدم من قدم على النبي ص لِلْبَيْعَةِ مِنَ الأَنْصَارِ فِي ذِي الْحَجَّةِ، وَأَقَامَ رسول الله ص بَعْدَهُمْ بِمَكَّةَ بَقِيَّةَ ذِي الْحَجَّةِ مِنْ تِلْكَ السنه، والمحرم

وَصَفَرَ، وَخَرَجَ مُهَاجِرًا إِلَى الْمَدِينَةِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، وَقَدِمَهَا يَوْمَ الاثْنَيْنِ لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ ليله خلت منه. وحدثنى عَلِيُّ بْنُ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ، وَعَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ- قَالَ عَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، وَقَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ: حَدَّثَنِي أَبِي- قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانٌ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا رَجَعَ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ مَنْ رَجَعَ مِنْهَا مِمَّنْ كَانَ هَاجَرَ إِلَيْهَا قَبْلَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ ص إِلَى الْمَدِينَةِ، جَعَلَ أَهْلُ الإِسْلَامِ يَزْدَادُونَ وَيَكْثُرُونَ، وَإِنَّهُ أَسْلَمَ مِنَ الأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ نَاسٌ كَثِيرٌ، وَفَشَا بِالْمَدِينَةِ الإِسْلَامُ، فَطَفِقَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَأْتُونَ رسول الله ص بِمَكَّةَ، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ قُرَيْشٌ تَذَامَرَتْ عَلَى أَنْ يَفْتِنُوهُمْ، وَيَشْتَدُّوا عَلَيْهِمْ، فَأَخَذُوهُمْ وَحَرَصُوا عَلَى أَنْ يَفْتِنُوهُمْ، فَأَصَابَهُمْ جَهْدٌ شَدِيدٌ، وَكَانَتِ الْفِتْنَةُ الآخِرَةُ، وَكَانَتْ فِتْنَتَيْنِ: فِتْنَةٌ أَخْرَجَتْ مَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، حِينَ أَمَرَهُمْ بِهَا، وَأَذِنَ لَهُمْ فِي الْخُرُوجِ إِلَيْهَا، وَفِتْنَةٌ لَمَّا رَجَعُوا وَرَأَوْا مَنْ يَأْتِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. ثم انه جاء رسول الله ص مِنَ الْمَدِينَةِ سَبْعُونَ نَقِيبًا، رُءُوسُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا، فَوَافُوهُ بِالْحَجِّ فَبَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ، وَأَعْطُوهُ عُهُودَهُمْ، عَلَى أَنَّا مِنْكَ وَأَنْتَ مِنَّا، وَعَلَى أَنَّهُ مَنْ جَاءَ مِنْ أَصْحَابِكَ أَوْ جِئْتَنَا فَإِنَّا نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَنْفُسَنَا فَاشْتَدَّتْ عَلَيْهِمْ قُرَيْشٌ عند ذلك، فامر رسول الله ص أَصْحَابَهُ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَهِيَ الْفِتْنَةُ الآخِرَةُ التي اخرج فيها رسول الله ص أَصْحَابَهُ وَخَرَجَ، وَهِيَ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا: «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ»

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قَالَ: وحدثني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بن مُحَمَّد بن عمرو بن حزم، أنهم أتوا عبد الله بن ابى بن سلون- يعني قريشا- فقالوا مثل ما ذكر كعب بن مالك من القول لهم، فقال لهم: إن هذا لأمر جسيم، ما كان قومي ليتفوتوا علي بمثل هذا وما علمته كان فانصرفوا عنه، وتفرق الناس من منى، فتنطس القوم الخبر فوجدوه قد كان، وخرجوا في طلب القوم، فأدركوا سعد بن عبادة بالحاجر، والمنذر بن عمرو أخا بنى ساعده ابن كعب بن الخزرج، وكلاهما كان نقيبا، فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد فأخذوه، وربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة، يضربونه ويجبذونه بجمته- وكان ذا شعر كثير- فقال سعد: فو الله إني لفي أيديهم، إذ طلع علي نفر من قريش، فيهم رجل أبيض وضيء شعشاع حلو من الرجال قال: قلت: إن يكن عند أحد من القوم خير فعند هذا، فلما دنا مني رفع يديه فلطمني لطمة شديدة. قال: قلت في نفسي: والله ما عندهم بعد هذا خير قال: فو الله إني لفي أيديهم يسحبونني، إذ أوى إلي رجل منهم ممن معهم، فقال: ويحك! أما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهد! قال: قلت: بلى والله، لقد كنت أجير لجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف «تجاره،»

وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي، وللحارث بن أُمَيَّة بن عبد شمس بن عبد مناف قال: ويحك! فاهتف باسم الرجلين، واذكر ما بينك وبينهما. قال: ففعلت، وخرج ذلك الرجل إليهما، فوجدهما في المسجد عند الكعبة، فقال لهما: إن رجلا من الخزرج الآن يضرب بالأبطح، وإنه ليهتف بكما، ويذكر أن بينه وبينكما جوارا، قالا: ومن هو؟ قال: سعد بن عبادة، قالا: صدق والله إن كان ليجير تجارنا، ويمنعهم أن يظلموا ببلده. قال: فجاءا فخلصا سعدا من أيديهم وانطلق وكان الذى لكم سعدا سهيل ابن عمرو، أخو بني عامر بن لؤي. قال أبو جعفر: فلما قدموا المدينة، أظهروا الإسلام بها، وفي قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من أهل الشرك، منهم عمرو بن الجموح ابن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن سلمة، وكان ابنه معاذ بن عمرو قد شهد العقبه، وبايع رسول الله ص في فتيان منهم، وبايع رسول الله ص من بايع من الأوس والخزرج في العقبة الآخرة، وهي بيعة الحرب حين أذن الله عز وجل في القتال بشروط غير الشروط في العقبة الأولى، وأما الأولى فإنما كانت على بيعة النساء، على ما ذكرت الخبر به عن عبادة بن الصامت قبل، وكانت بيعة العقبة الثانية على حرب الأحمر والأسود على ما قد ذكرت قبل، عن عروة بن الزبير وَقَدْ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَادَةُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِيهِ الْوَلِيدِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ- وَكَانَ أَحَدَ النُّقَبَاءِ- قَالَ: بَايَعْنَا رسول الله ص عَلَى بَيْعَةِ الْحَرْبِ، وَكَانَ عُبَادَةُ مِنَ الاثْنَيْ عَشَرَ الَّذِينَ بَايَعُوا فِي الْعَقَبَةِ الأُولَى. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَلَمَّا أَذِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لرسوله ص في

الْقِتَالِ، وَنَزَلَ قَوْلُهُ: «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ» ، وَبَايَعَهُ الأَنْصَارُ عَلَى مَا وَصَفْتُ مِنْ بَيْعَتِهِمْ، امر رسول الله ص أَصْحَابَهُ مِمَّنْ هُوَ مَعَهُ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِالْهِجْرَةِ وَالْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَاللُّحُوقِ بِإِخْوَانِهِمْ مِنَ الأَنْصَارِ، [وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ إِخْوَانًا وَدَارًا تَأْمَنُونَ فِيهَا] فَخَرَجُوا إرسالا، واقام رسول الله ص بِمَكَّةَ يَنْتَظِرُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ رَبُّهُ بِالْخُرُوجِ من مكة، فكان أول من هاجر من المدينة والهجره إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الأَسَدِ بْن هلال بْن عبد الله بْن عمر بْنِ مَخْزُومٍ، هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ بَيْعَةِ اصحاب العقبه رسول الله ص بسنه، وكان قدم على رسول الله ص بمكة من ارض الحبشه، فلما آذَتْهُ قُرَيْشٌ، وَبَلَغَهُ إِسْلامُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الأَنْصَارِ، خَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُهَاجِرًا. ثُمَّ كَانَ أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ بَعْدَ أَبِي سَلَمَةَ، عَامِرَ بْنَ رَبِيعَةَ، حَلِيفَ بَنِي عدي بن كعب، معه امرأته ليلى بنت أَبِي حَثْمَةَ بْنِ غَانِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُوَيْجِ بْنِ عدى بن كعب ثم عبد الله ابن جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ، وَأَبُو أَحْمَدَ بْنُ جَحْشٍ- وَكَانَ رَجُلا ضَرِيرَ الْبَصَرِ، وَكَانَ يَطُوفُ مَكَّةَ أَعْلاهَا وَأَسْفَلَهَا بِغَيْرِ قَائِدٍ- ثُمَّ تَتَابَعَ أَصْحَابُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة إرسالا. واقام رسول الله ص بِمَكَّةَ بَعْدَ أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ وَلَمْ يَتَخَلَّفْ مَعَهُ بِمَكَّةَ أَحَدُ الْمُهَاجِرِينَ إِلا أُخِذَ فَحُبِسَ أَوْ فُتِنَ إِلا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ كثيرا ما يستأذن رسول الله ص في الهجره، [فيقول له رسول الله ص: لا تَعْجَلْ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لَكَ صَاحِبًا،] فَطَمِعَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَكُونَهُ، فَلَمَّا رات قريش ان رسول الله ص

قَدْ صَارَتْ لَهُ شِيعَةٌ وَأَصْحَابٌ مِنْ غَيْرِهِمْ، بِغَيْرِ بَلَدِهِمْ، وَرَأَوْا خُرُوجَ أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَيْهِمْ، عَرَفُوا أَنَّهُمْ قَدْ نَزَلُوا دَارًا، وَأَصَابُوا منهم منعه، فحذروا خروج رسول الله ص إِلَيْهِمْ، وَعَرَفُوا أَنَّهُ قَدْ أَجْمَعَ أَنْ يَلْحَقَ بِهِمْ لِحَرْبِهِمْ، فَاجْتَمَعُوا لَهُ فِي دَارِ النَّدْوَةِ، وَهِيَ دَارُ قُصَيِّ بْنِ كِلابٍ، الَّتِي كَانَتْ قُرَيْشٌ لا تَقْضِي أَمْرًا إِلا فِيهَا، يَتَشَاوَرُونَ فِيهَا مَا يَصْنَعُونَ فِي أَمْرِ رَسُولِ اللَّه ص حِينَ خَافُوهُ! فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثني مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ أَبِي الْحَجَّاجِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وحدثني الْكَلْبِيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا اجْتَمَعُوا لِذَلِكَ وَاتَّعَدُوا أَنْ يَدْخُلُوا دَارَ النَّدْوَةِ، وَيَتَشَاوَرُوا فِيهَا فِي أَمْرِ رسول الله ص غَدَوْا فِي الْيَوْمِ الَّذِي اتَّعَدُوا لَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يُسَمَّى الزَّحْمَةَ، فَاعْتَرَضَهُمْ إِبْلِيسُ فِي هَيْئَةِ شَيْخٍ جَلِيلٍ، عَلَيْهِ بَتٌّ لَهُ، فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الدَّارِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ وَاقِفًا عَلَى بَابِهَا، قَالُوا: مَنِ الشَّيْخُ؟ قَالَ: شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، سَمِعَ بِالَّذِي اتَّعَدْتُمْ لَهُ، فَحَضَرَ مَعَكُمْ لِيَسْمَعَ مَا تَقُولُونَ، وَعَسَى أَلا يَعْدِمَكُمْ مِنْهُ رَأْيٌ وَنُصْحٌ، قَالُوا: أَجَلْ، فَادْخُلْ، فَدَخَلَ مَعَهُمْ، وَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهَا أَشْرَافُ قُرَيْشٍ كُلُّهُمْ، مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ، مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ شَيْبَةُ وَعُتْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حرب، ومن بنى نوفل ابن عَبْدِ مَنَافٍ طُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيٍّ وَجُبَيْرُ بْنُ مطعم والحارث بن عامر ابن نَوْفَلٍ وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيِّ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى أَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ وَزَمْعَةُ بْنُ الأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَمِنْ بَنِي سَهْمٍ نَبِيهٌ

وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ وَمِنْ بَنِي جُمَحَ أُمَيَّةُ بن خلف، ومن كان معهم وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ لا يُعَدُّ مِنْ قُرَيْشٍ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ كَانَ أَمْرُهُ مَا قَدْ كَانَ وَمَا قَدْ رَأَيْتُمْ، وَإِنَّا وَاللَّهِ مَا نَأْمَنُهُ عَلَى الْوُثُوبِ عَلَيْنَا بِمَنْ قَدِ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِنَا، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رايا، قال: فتشاروا ثُمَّ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمُ: احْبِسُوهُ فِي الْحَدِيدِ، وَأَغْلِقُوا عَلَيْهِ بَابًا، ثُمَّ تَرَبَّصُوا بِهِ مَا أَصَابَ أَشْبَاهَهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ الَّذِينَ قَبْلَهُ: زُهَيْرًا، وَالنَّابِغَةَ وَمَنْ مَضَى مِنْهُمْ، مِنْ هَذَا الْمَوْتِ حَتَّى يُصِيبَهُ مِنْهُ مَا أَصَابَهُمْ. قَالَ: فَقَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: لا وَاللَّهِ، مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ، وَاللَّهِ لَوْ حَبَسْتُمُوهُ- كَمَا تَقُولُونَ- لَخَرَجَ أَمْرُهُ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ الَّذِي أَغْلَقْتُمُوهُ دُونَهُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَلَأَوْشَكُوا أَنْ يَثِبُوا عَلَيْكُمْ فَيَنْتَزِعُوهُ مِنْ أَيْدِيكُمْ، ثُمَّ يُكَاثِرُوكُمْ حَتَّى يَغْلِبُوكُمْ عَلَى أَمْرِكُمْ هَذَا، مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ فَانْظُرُوا فِي غَيْرِهِ. ثُمَّ تَشَاوَرُوا، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: نُخْرِجُهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا فَنَنْفِيهِ مِنْ بَلَدِنَا، فإذا خرج عنا فو الله مَا نُبَالِي أَيْنَ ذَهَبَ، وَلا حَيْثُ وَقَعَ، إذا غاب عنا وَفَرَغْنَا مِنْهُ فَأَصْلَحْنَا أَمْرَنَا، وَأُلْفَتَنَا كَمَا كَانَتْ. قَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: وَاللَّهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ، أَلَمْ تَرَوْا حُسْنَ حَدِيثِهِ، وَحَلاوَةَ مَنْطِقِهِ، وَغَلَبَتَهُ عَلَى قُلُوبِ الرِّجَالِ بِمَا يَأْتِي بِهِ! وَاللَّهِ لَوْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ مَا أَمِنْتُ أَنْ يَحِلَّ عَلَى حَيٍّ مِنَ الْعَرَبِ، فَيَغْلِبَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ وَحَدِيثِهِ حَتَّى يُتَابِعُوهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَسِيرُ بِهِمْ إِلَيْكُمْ حَتَّى يَطَأَكُمْ بِهِمْ، فَيَأْخُذَ أَمْرَكُمْ مِنْ أَيْدِيكُمْ ثُمَّ يَفْعَلَ بِكُمْ مَا أَرَادَ أَدِيرُوا فِيهِ رَأْيًا غَيْرَ هَذَا! قَالَ: فَقَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ: وَاللَّهِ إِنَّ لِي فِيهِ لَرَأْيًا مَا أَرَاكُمْ وَقَعْتُمْ عَلَيْهِ بَعْدُ! قَالُوا: وَمَا هُوَ يَا أَبَا الْحَكَمِ؟ قَالَ: أَرَى أَنْ تَأْخُذُوا مِنْ كُلِّ قبيله

فَتًى شَابًّا جَلْدًا، نَسِيبًا وَسِيطًا فِينَا، ثُمَّ نُعْطِي كُلَّ فَتًى مِنْهُمْ سَيْفًا صَارِمًا ثُمَّ يَعْمِدُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ يَضْرِبُونَهُ بِهَا ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَيَقْتُلُونَهُ فَنَسْتَرِيحُ، فَإِنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ تَفَرَّقَ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ كُلِّهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ عَلَى حَرْبِ قَوْمِهِمْ جَمِيعًا، وَرَضُوا مِنَّا بِالْعَقْلِ فَعَقَلْنَاهُ لَهُمْ. قَالَ: فَقَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: الْقَوْلُ مَا قَالَ الرَّجُلُ، هَذَا الرَّأْيُ لا رَأْيَ لَكُمْ غَيْرُهُ. فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ مُجْمِعُونَ لَهُ، فَأَتَى جِبْرِيلُ رسول الله ص، فَقَالَ: لا تَبِتْ هَذِهِ اللَّيْلَةَ عَلَى فِرَاشِكَ الَّذِي كُنْتَ تَبِيتُ عَلَيْهِ! قَالَ: فَلَمَّا كَانَ الْعَتَمَةُ مِنَ اللَّيْلِ، اجْتَمَعُوا عَلَى بَابِهِ فَتَرَصَّدُوهُ مَتَى يَنَامُ، فَيَثِبُونَ عَلَيْهِ فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ الله ص مَكَانَهُمْ، [قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: نَمْ عَلَى فِرَاشِي، وَاتَّشِحْ بِبُرْدِي الْحَضْرَمِيِّ الأَخْضَرِ، فَنَمْ فَإِنَّهُ لا يَخْلُصُ إِلَيْكَ شَيْءٌ تَكْرَهُهُ مِنْهُمْ] وكان رسول الله ص يَنَامُ فِي بُرْدِهِ ذَلِكَ إِذَا نَامَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: زَادَ بَعْضُهُمْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: وَقَالَ لَهُ: إِنْ أَتَاكَ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، فَأَخْبِرْهُ أَنِّي تَوَجَّهْتُ إِلَى ثَوْرٍ، فَمُرْهُ فَلْيَلْحَقْ بِي، وَأَرْسِلْ إِلَيَّ بِطَعَامٍ، وَاسْتَأْجِرْ لِي دَلِيلا يَدُلُّنِي عَلَى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ، وَاشْتَرِ لِي رَاحِلَةً ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ ص، وَأَعْمَى اللَّهُ أَبْصَارَ الَّذِينَ كَانُوا يَرْصُدُونَهُ عَنْهُ، وخرج عليهم رسول الله ص. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: اجْتَمَعُوا لَهُ، وَفِيهِمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، فَقَالَ وَهُمْ عَلَى بَابِهِ: إِنَّ مُحَمَّدًا

يَزْعُمُ أَنَّكُمْ إِنْ تَابَعْتُمُوهُ عَلَى أَمْرِهِ كُنْتُمْ مُلُوكَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، ثُمَّ بُعِثْتُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ فَجُعِلَتْ لَكُمْ جِنَانٌ كَجِنَانِ الأُرْدُنِّ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ لَكُمْ مِنْهُ ذَبْحٌ، ثُمَّ بُعِثْتُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ، فَجُعِلَتْ لَكُمْ نَارٌ تُحْرَقُونَ فِيهَا. قال: وخرج رسول الله ص، فَأَخَذَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ، أَنَا أَقُولُ ذَلِكَ، أَنْتَ أَحَدُهُمْ وَأَخَذَ اللَّهُ عَلَى أَبْصَارِهِمْ عَنْهُ فَلَا يَرَوْنَهُ، فَجَعَلَ يَنْثُرُ ذَلِكَ التُّرَابَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الآيات من يس: «يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» إِلَى قَوْلِهِ: «وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» ، حتى فرغ رسول الله ص مِنْ هَؤُلَاءِ الآيَاتِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ رَجُلٌ الا وقد وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى حَيْثُ أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ. فَأَتَاهُمْ آتٍ مِمَّنْ لم يكن معهم، فقال: ما تنتظرون هاهنا؟ قَالُوا: مُحَمَّدًا، قَالَ: خَيَّبَكُمُ اللَّهُ! قَدْ وَاللَّهِ خَرَجَ عَلَيْكُمْ مُحَمَّدٌ، ثُمَّ مَا تَرَكَ مِنْكُمْ رَجُلًا إِلَّا وَقَدْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا، وَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، أَفَمَا تَرَوْنَ مَا بِكُمْ؟ قَالَ: فَوَضَعَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، فَإِذَا عَلَيْهِ تُرَابٌ، ثُمَّ جَعَلُوا يَطَّلِعُونَ، فَيَرَوْنَ عَلِيًّا عَلَى الْفِرَاشِ مُتَسَجِيًّا بِبُرْدِ رَسُولِ اللَّهِ ص، فَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَمُحَمَّدٌ نَائِمٌ، عَلَيْهِ بُرْدُهُ، فَلَمْ يَبْرَحُوا كَذَلِكَ حَتَّى أَصْبَحُوا، فَقَامَ عَلِيٌّ عَنِ الْفِرَاشِ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَقَدْ صَدَقَنَا الذى كان حدثنا، فَكَانَ مِمَّا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَمَا كَانُوا أَجْمَعُوا لَهُ:

«وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» ، وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ» وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَتَى عليا فسأله عن نبى الله ص فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَحِقَ بِالْغَارِ مِنْ ثَوْرٍ، وَقَالَ: إِنْ كَانَ لَكَ فِيهِ حَاجَةٌ فَالْحَقْهُ، فَخَرَجَ ابو بكر مسرعا، فلحق نبى الله ص في الطريق، فسمع رسول الله ص جَرَسَ أَبِي بَكْرٍ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، فَحَسِبَهُ من المشركين، فاسرع رسول الله ص الْمَشْيَ، فَانْقَطَعَ قِبَالُ نَعْلِهِ فَفَلَقَ إِبْهَامَهُ حَجَرٌ فَكَثُرَ دَمُهَا، وَأَسْرَعَ السَّعْيَ، فَخَافَ أَبُو بَكْرٍ ان يشق على رسول الله ص، فرفع صوته، وتكلم، فعرفه رسول الله ص فَقَامَ حَتَّى أَتَاهُ، فَانْطَلَقَا وَرِجْلُ رَسُولِ اللَّهِ ص تَسْتَنُّ دَمًا، حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْغَارِ مَعَ الصبح، فدخلاه وَأَصْبَحَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْصُدُونَ رَسُولَ اللَّهِ ص، فدخلوا الدار، وقام على ع عَنْ فِرَاشِهِ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنْهُ عَرَفُوهُ، فَقَالُوا له: اين صاحبك؟ قال: لا ادرى، او رقيبا كُنْتُ عَلَيْهِ! أَمَرْتُمُوهُ بِالْخُرُوجِ فَخَرَجَ، فَانْتَهَرُوهُ وَضَرَبُوهُ وَأَخْرَجُوهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَحَبَسُوهُ سَاعَةً ثُمَّ تَرَكُوهُ، وَنَجَّى اللَّهُ رَسُولَهُ مِنْ مَكْرِهِمْ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ»

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَذِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لرسوله ص عِنْدَ ذَلِكَ بِالْهِجْرَةِ، فَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ الْجَهْضَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانٌ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: لَمَّا خَرَجَ أَصْحَابُ رسول الله ص إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ- يَعْنِي رَسُولَ الله ص- وَقَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ هَذِهِ الآيَةُ الَّتِي أُمِرُوا فِيهَا بِالْقِتَالِ، اسْتَأْذَنَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَلَمْ يَكُنْ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ مَعَ مَنْ خَرَجَ مِنْ أَصْحَابِهِ، حبسه رسول الله ص، وَقَالَ لَهُ: انْظُرْنِي، فَإِنِّي لا أَدْرِي، لَعَلِّي يُؤْذَنُ لِي بِالْخُرُوجِ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ قَدِ اشْتَرَى رَاحِلَتَيْنِ يَعِدُّهُمَا لِلْخُرُوجِ مَعَ أَصْحَابِ رَسُولِ الله ص الى المدينة، فلما استنظره رسول الله ص، وَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي يَرْجُو مِنْ رَبِّهِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ بِالْخُرُوجِ، حَبَسَهُمَا وَعَلَفَهُمَا، انْتِظَارَ صُحْبَةِ رَسُولِ الله ص، حَتَّى أَسْمَنَهُمَا، فَلَمَّا حَبَسَ عَلَيْهِ خُرُوجُ النَّبِيِّ ص، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَتَطْمَعُ أَنْ يُؤْذَنَ لَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَانْتَظَرَهُ فَمَكَثَ بِذَلِكَ فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ، أَنَّهُمْ بَيْنَا هُمْ ظُهْرًا فِي بَيْتِهِمْ، وَلَيْسَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا ابْنَتَاهُ: عَائِشَةُ وَأَسْمَاءُ، إذا هم برسول الله ص، حِينَ قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ- وَكَانَ لا يُخْطِئُهُ يَوْمًا أَنْ يَأْتِيَ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ- فَلَمَّا رَأَى أَبُو بَكْرٍ النَّبِيَّ ص جَاءَ ظُهْرًا، قَالَ لَهُ: مَا جَاءَ بِكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِلَّا أَمْرٌ حَدَثَ؟ فَلَمَّا دخل عليهم النبي ص الْبَيْتَ، قَالَ لأَبِي بَكْرٍ: أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ، قَالَ: لَيْسَ عَلَيْنَا عَيْنٌ، إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِي بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الصَّحَابَةَ، الصَّحَابَةَ! قَالَ: الصَّحَابَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: خُذْ إِحْدَى الرَّاحِلَتَيْنِ- وَهُمَا الرَّاحِلَتَانِ اللَّتَانِ كَانَ يَعْلِفُهُمَا أَبُو بَكْرٍ، يَعِدُّهُمَا لِلْخُرُوجِ، إِذَا

اذن لرسول الله ص- فَأَعْطَاهُ إِحْدَى الرَّاحِلَتَيْنِ، فَقَالَ: خُذْهَا يَا رَسُولَ الله فارتحلها، [فقال النبي ص قَدْ أَخَذْتُهَا بِالثَّمَنِ،] وَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مولدا من مولدي الأزد، كان للطفيل ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَخْبَرَةَ، وَهُوَ أَبُو الْحَارِثِ بْنُ الطُّفَيْلِ، وَكَانَ أَخَا عَائِشَةَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ لأُمِّهِمَا، فَأَسْلَمَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُمْ، فَاشْتَرَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَعْتَقَهُ، وَكَانَ حَسَنَ الإِسْلَامِ، فلما خرج النبي ص وَأَبُو بَكْرٍ، كَانَ لأَبِي بَكْرٍ مَنِيحَةٌ مِنْ غَنَمٍ تَرُوحُ عَلَى أَهْلِهِ، فَأَرْسَلَ أَبُو بَكْرٍ عَامِرًا فِي الْغَنَمِ إِلَى ثَوْرٍ، فَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ يَرُوحُ بِتِلْكَ الْغَنَمِ عَلَى رَسُولِ الله ص بِالْغَارِ فِي ثَوْرٍ، وَهُوَ الْغَارُ الَّذِي سَمَّاهُ الله في القرآن، فأرسل بِظَهْرِهِمَا رَجُلًا مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ، حَلِيفًا لِقُرَيْشٍ مِنْ بَنِي سَهْمٍ، ثُمَّ آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وَذَلِكَ الْعَدَوِيُّ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ، وَلَكِنَّهُمَا اسْتَأْجَرَاهُ، وَهُوَ هَادٍ بِالطَّرِيقِ وَفِي اللَّيَالِي الَّتِي مَكَثَا بِالْغَارِ كَانَ يَأْتِيهِمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حِينَ يُمْسِي بِكُلِّ خَبَرٍ بِمَكَّةَ، ثُمَّ يُصْبِحُ بِمَكَّةَ وَيُرِيحُ عَامِرٌ الْغَنَمَ كُلَّ لَيْلَةٍ، فَيَحْلِبَانِ، ثُمَّ يَسْرَحَ بُكْرَةً فَيُصْبِحُ فِي رُعْيَانِ النَّاسِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ، حَتَّى إِذَا هَدَأَتْ عَنْهُمَا الأَصْوَاتُ، وَأَتَاهُمَا أَنْ قَدْ سُكِتَ عَنْهُمَا، جَاءَهُمَا صَاحِبُهُمَا بِبَعِيرَيْهِمَا، فَانْطَلَقَا وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا بِعَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ يَخْدِمُهُمَا وَيُعِينُهُمَا، يَرْدَفُهُ أَبُو بَكْرٍ وَيَعْقُبُهُ عَلَى رَحْلِهِ، لَيْسَ مَعَهُمَا أَحَدٌ إِلَّا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ،

وَأَخُو بَنِي عَدِيٍّ يَهْدِيهِمَا الطَّرِيقَ، فَأَجَازَ بِهِمَا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ، ثُمَّ مَضَى بِهِمَا حَتَّى حَاذَى بِهِمَا السَّاحِلَ، أَسْفَلَ مِنْ عُسْفَانَ، ثُمَّ اسْتَجَازَ بِهِمَا حَتَّى عَارَضَ الطَّرِيقَ بَعْدَ مَا جَاوَزَ قَدِيدًا، ثُمَّ سَلَكَ الْخَرَّارَ، ثُمَّ أَجَازَ عَلَى ثَنِيَّةِ الْمُرَّةِ، ثُمَّ أَخَذَ عَلَى طَرِيقٍ يُقَالُ لَهَا الْمُدْلَجَةِ بَيْنَ طَرِيقِ عمق وَطَرِيقِ الرَّوْحَاءِ، حَتَّى تَوَافَوْا طَرِيق الْعرجِ، وَسَلَكَ مَاءً يُقَالُ لَهُ الْغَابِرُ عَنْ يَمِينِ رَكُوبَةَ، حَتَّى يَطْلُعَ عَلَى بَطْنِ رِئْمٍ، ثُمَّ جَاءَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةِ عَلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ قِبَلَ الْقَائِلَةِ فَحُدِّثْتُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِيهِمْ إِلَّا يَوْمَيْنِ- وَتَزْعُمُ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ أَنْ قَدْ أَقَامَ فِيهِمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ- فَاقْتَادَ رَاحِلَتَهُ فَاتَّبَعْتُهُ حَتَّى دَخَلَ فِي دُورِ بنى النجار، فأراهم رسول الله ص مِرْبَدًا كَانَ بَيْنَ ظَهْرَيْ دُورِهِمْ. وَقَدْ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُصَيْنِ التَّمِيمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ عائشة زوج النبي ص، قالت: كان رسول الله ص لا يُخْطِئُهُ أَحَدُ طَرَفَيِ النَّهَارِ أَنْ يَأْتِيَ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ إِمَّا بُكْرَةً، وَإِمَّا عَشِيَّةً، حَتَّى إِذَا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ لِرَسُولِهِ بِالْهِجْرَةِ، وَبِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ مِنْ بين ظهراني قومه، أتانا رسول الله ص بِالْهَاجِرَةِ، فِي سَاعَةٍ كَانَ لا يَأْتِي فِيهَا. قَالَتْ: فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: مَا جاء رسول الله ص هَذِهِ السَّاعَةَ إِلا لأَمْرٍ حَدَثَ قَالَتْ: فَلَمَّا دَخَلَ تَأَخَّرَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ سَرِيرِهِ فَجَلَسَ رسول الله ص، وَلَيْسَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ إِلا أَنَا وَأُخْتِي

أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: أَخْرِجْ عَنِّي مَنْ عِنْدَكَ، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ، وَمَا ذَاكَ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي! قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَذِنَ لِي بِالْخُرُوجِ وَالْهِجْرَةِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الصُّحْبَةَ. قالت: فو الله مَا شَعُرْتُ قَطُّ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ أَحَدًا يَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ، حَتَّى رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ يَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ ثُمَّ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّ هَاتَيْنِ رَاحِلَتَايَ، كُنْتُ أَعْدَدْتُهُمَا لِهَذَا فَاسْتَأْجَرَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَرْقَدَ- رَجُلا مِنْ بَنِي الدِّيلِ بْنِ بَكْرٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ امْرَأَةً مِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ مُشْرِكًا- يَدُلُّهُمَا عَلَى الطَّرِيقِ، وَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، فَكَانَتَا عِنْدَهُ يَرْعَاهُمَا لِمِيعَادِهِمَا، وَلَمْ يَعْلَمْ- فيما بلغنى- بخروج رسول الله ص أَحَدٌ حِينَ خَرَجَ إِلا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَآلُ أَبِي بَكْرٍ، فَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَإِنَّ رَسُولَ الله ص- فِيمَا بَلَغَنِي- أَخْبَرَهُ بِخُرُوجِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَخَلَّفَ بَعْدَهُ بِمَكَّةَ حَتَّى يُؤَدِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ص الْوَدَائِعَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ لِلنَّاسِ، وَكَانَ رَسُولُ الله ص وَلَيْسَ بِمَكَّةَ أَحَدٌ عِنْدَهُ شَيْءٌ يَخْشَى عَلَيْهِ الا وضعه عند رسول الله ص، لِمَا يُعْرَفُ مِنْ صِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ فَلَمَّا أَجْمَعَ رسول الله ص لِلْخُرُوجِ أَتَى أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي قُحَافَةَ، فَخَرَجَا مِنْ خَوْخَةٍ لأَبِي بَكْرٍ فِي ظَهْرِ بَيْتِهِ، ثُمَّ عَمَدَا إِلَى غَارٍ بِثَوْرِ جَبَلٍ بِأَسْفَلِ مَكَّةَ، فَدَخَلاهُ، وَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَسْمَعَ لَهُمَا مَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهِمَا نَهَارَهُ، ثُمَّ يَأْتِيهِمَا إِذَا أَمْسَى بِمَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْخَبَرِ، وَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ مَوْلاهُ أَنْ يَرْعَى غَنَمَهُ نَهَارَهُ، ثُمَّ يُرِيحَهَا عَلَيْهِمَا إِذَا أَمْسَى بِالْغَارِ وَكَانَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ تَأْتِيهِمَا مِنَ الطَّعَامِ إِذَا أَمْسَتْ بما يصلحهما، فأقام رسول الله

ص فِي الْغَارِ ثَلاثًا، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ حِينَ فَقَدُوهُ مِائَةَ نَاقَةٍ لِمَنْ يَرُدُّهُ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ يَكُونُ فِي قُرَيْشٍ وَمَعَهُمْ، وَيَسْتَمِعُ مَا يَأْتَمِرُونَ بِهِ، وَمَا يَقُولُونَ فِي شَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ ص وَأَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ يَأْتِيهِمَا إِذَا أَمْسَى فَيُخْبِرُهُمَا الْخَبَرَ، وَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ يَرْعَى فِي رُعْيَانِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَإِذَا أَمْسَى أَرَاحَ عَلَيْهِمَا غَنَمَ أَبِي بَكْرٍ، فَاحْتَلَبَا وَذَبَحَا، فَإِذَا غَدَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ عِنْدِهِمَا إِلَى مَكَّةَ اتَّبَعَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ أَثَرَهُ بِالْغَنَمِ، حَتَّى يُعْفِي عَلَيْهِ، حَتَّى إِذَا مَضَتِ الثَّلاثُ، وَسَكَنَ عَنْهُمَا النَّاسُ، أَتَاهُمَا صَاحِبُهُمَا الَّذِي اسْتَأْجَرَا بِبَعِيرَيْهِمَا، وَأَتَتْهُمَا أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ بِسُفْرَتِهِمَا، وَنَسِيَتْ أَنْ تَجْعَلَ لَهَا عِصَامًا فَلَمَّا ارْتَحَلا ذَهَبَتْ لِتُعَلِّقَ السُّفْرَةَ، فَإِذَا لَيْسَ فِيهَا عِصَامٌ فَحَلَّتْ نِطَاقَهَا، فَجَعَلَتْهُ لَهَا عِصَامًا، ثُمَّ عَلَّقَتْهَا بِهِ- فَكَانَ يُقَالُ لأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ: ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ، لِذَلِكَ- فَلَمَّا قَرَّبَ أَبُو بَكْرٍ الرَّاحِلَتَيْنِ إِلَى رَسُولِ الله ص، قَرَّبَ لَهُ أَفْضَلَهُمَا، ثُمَّ قَالَ لَهُ: ارْكَبْ فداك ابى وأمي! [فقال رسول الله ص: إِنِّي لا أَرْكَبُ بَعِيرًا لَيْسَ لِي،] قَالَ: فَهُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! قَالَ: لا وَلَكِنْ مَا الثَّمَنُ الَّذِي ابْتَعْتَهَا بِهِ؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهَا بِذَلِكَ، قَالَ: هِيَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَرَكِبَا فَانْطَلَقَا، وَأَرْدَفَ أَبُو بَكْرٍ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ مَوْلاهُ خَلْفَهُ يَخْدُمُهُمَا بِالطَّرِيقِ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: وَحَدَّثْتُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ الله ص وَأَبُو بَكْرٍ أَتَانَا نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، فَوَقَفُوا عَلَى بَابِ أَبِي بَكْرٍ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا: أَيْنَ أَبُوكِ يَا ابْنَةَ أَبِي بَكْرٍ؟ قُلْتُ: لا أَدْرِي وَاللَّهِ أَيْنَ أَبِي! قَالَتْ: فَرَفَعَ أَبُو جَهْلٍ يده-

وَكَانَ فَاحِشًا خَبِيثًا- فَلَطَمَ خَدِّي لَطْمَةً طَرَحَ مِنْهَا قُرْطِي قَالَتْ: ثُمَّ انْصَرَفُوا وَمَكَثْنَا ثَلاثَ لَيَالٍ، لا نَدْرِي أَيْنَ تَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ ص، حَتَّى أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَ الْجِنِّ، مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ يُغَنِّي بِأَبْيَاتٍ مِنَ الشِّعْرِ غِنَاءَ الْعَرَبِ وَالنَّاسُ يَتْبَعُونَهُ، يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ وَمَا يَرَوْنَهُ، حَتَّى خَرَجَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ، وَهُوَ يَقُولُ: جَزَى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ هُمَا نَزَلاهَا بِالْهُدَى وَاغْتَدَوْا بِهِ ... فَأَفْلَحَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمَّدِ لِيَهْنَ بَنِي كَعْبٍ مَكَانُ فَتَاتِهِمْ ... وَمَقْعَدُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَرْصَدِ قَالَتْ: فَلَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَهُ عَرَفْنَا حَيْثُ وَجَّهَ رسول الله ص، وَأَنَّ وَجْهَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانُوا أَرْبَعَةً: رَسُولُ الله ص، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَرْقَدَ دَلِيلُهُمَا. قال أبو جعفر: حدثني أحمد بن المقدام العجلي، قال: حدثنا هشام ابن محمد بن السائب الكلبي، قال: حدثنا عبد الحميد بن أبي عبس بن محمد بن أبي عبس بن جبر، عن أبيه، قال: سمعت قريش قائلا يقول في الليل على أبي قبيس: فإن يسلم السعدان يصبح محمد ... بمكة لا يخشى خلاف المخالف فلما أصبحوا قال أبو سفيان: من السعدان؟ سعد بكر، سعد تميم، سعد هذيم! فلما كان في الليلة الثانية، سمعوه يقول: أيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصرا ... ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا ... على الله في الفردوس منية عارف فإن ثواب الله للطالب الهدى ... جنان من الفردوس ذات رفارف

فلما أصبحوا، قال أبو سفيان: هو والله سعد بن معاذ وسعد بن عبادة. قال أبو جعفر: وقدم دليلهما بهما قباء، على بني عمرو بن عوف، لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأول، يوم الاثنين حين اشتد الضحى، وكادت الشمس أن تعتدل. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُوَيْمِ بْنِ سَاعِدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي رِجَالُ قَوْمِي مِنْ أَصْحَابِ رسول الله ص، قالوا: لما سمعنا بمخرج رسول الله ص مِنْ مَكَّةَ، وَتَوَكَّفْنَا قُدُومَهُ، كُنَّا نَخْرُجُ إِذَا صَلَّيْنَا الصُّبْحَ إِلَى ظَاهِرِ حَرَّتِنَا، نَنْتَظِرُ رَسُولَ الله ص، فو الله مَا نَبْرَحُ حَتَّى تَغْلِبَنَا الشَّمْسُ عَلَى الظِّلَالِ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ ظِلًّا دَخَلْنَا بُيُوتَنَا، وَذَلِكَ فِي أَيَّامٍ حَارَّةٍ، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي اليوم الذى قدم فيه رسول الله ص جَلَسْنَا كَمَا كُنَّا نَجْلِسُ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ ظِلٌّ دَخَلْنَا بُيُوتَنَا، وَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ص حِينَ دَخَلْنَا الْبُيُوتَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ رَآهُ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَقَدْ رَأَى مَا كُنَّا نَصْنَعُ، وَإِنَّا كُنَّا نَنْتَظِرُ قُدُومَ رَسُولِ اللَّهِ ص، فَصَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا بَنِي قَيْلَةَ هَذَا جَدُّكُمْ قَدْ جَاءَ. قَالَ: فَخَرَجْنَا إِلَى رَسُولِ الله ص، وَهُوَ فِي ظِلِّ نَخْلَةٍ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي مِثْلِ سِنِّهِ وَأَكْثَرُنَا مَنْ لَمْ يَكُنْ راى رسول الله ص قَبْلَ ذَلِكَ، قَالَ: وَرَكِبَهُ النَّاسُ، وَمَا نَعْرِفُهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، حَتَّى زَالَ

الظل عن رسول الله ص، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَظَلَّهُ بِرِدَائِهِ، فَعَرَفْنَاهُ عِنْدَ ذلك، فنزل رسول الله ص- فِيمَا يَذْكُرُونَ- عَلَى كُلْثُومِ بْنِ هدم، أَخِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي عُبَيْدٍ، وَيُقَالُ: بَلْ نَزَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ. وَيَقُولُ مَنْ يَذْكُرُ أَنَّهُ نَزَلَ عَلَى كُلْثُومِ بْنِ هدمٍ: إِنَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ص إِذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِ كُلْثُومِ بْنِ هدمٍ، جَلَسَ لِلنَّاسِ فِي بَيْتِ سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ عَزَبًا لا أَهْلَ لَهُ، وَكَانَ مَنَازِلُ الْعُزَّابِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ص مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عِنْدَهُ، فَمِنْ هُنَالِكَ يُقَالُ: نَزَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ، وَكَانَ يُقَالُ لِبَيْتِ سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ: بَيْتُ الْعُزَّابِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ، كُلًّا قَدْ سَمِعْنَا. وَنَزَلَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ عَلَى خَبِيبِ بن اساف، أخي بنى الحارث ابن الْخَزْرَجِ بِالسَّنْحِ، وَيَقُولُ قَائِلٌ: كَانَ مَنْزِلُهُ عَلَى خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، أَخِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ. وَأَقَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ لَيَالٍ وَأَيَّامِهَا، حَتَّى أَدَّى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ص الْوَدَائِعَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ إِلَى النَّاسِ، حَتَّى إذا فرغ منها لحق برسول الله ص، فنزل معه على كلثوم ابن هدمٍ، فَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ: وَإِنَّمَا كَانَتْ إِقَامَتُهُ بِقُبَاءٍ عَلَى امْرَأَةٍ لا زَوْجَ لَهَا مُسْلِمَةٍ، لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ، وَكَانَ يَقُولُ: كُنْتُ نَزَلْتُ بِقُبَاءٍ عَلَى امْرَأَةٍ لا زَوْجَ لَهَا مُسْلِمَةٍ، فَرَأَيْتُ إِنْسَانًا يَأْتِيهَا فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، فَيَضْرِبُ عَلَيْهَا بَابَهَا، فَتَخْرُجُ إِلَيْهِ فَيُعْطِيهَا شَيْئًا مَعَهُ، قَالَ: فَاسْتَرَبْتُ لِشَأْنِهِ، فَقُلْتُ لَهَا: يَا أَمَةَ اللَّهِ، مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي يَضْرِبُ عَلَيْكِ بَابَكِ كُلَّ لَيْلَةٍ فَتَخْرُجِينَ إِلَيْهِ، فَيُعْطِيكِ شَيْئًا، مَا أَدْرِي مَا هُوَ؟ وَأَنْتِ امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ لا زَوْجَ لَكِ! قَالَتْ: هَذَا سَهْلُ بْنُ حُنَيْفِ بْنِ وَاهِبٍ، قَدْ عَرَفَ أَنِّي امْرَأَةٌ لا أَحَدَ لِي، فَإِذَا أَمْسَى عَدَا عَلَى أَوْثَانِ قَوِمِه فَكَسَرَهَا، ثُمَّ جَاءَنِي بِهَا، وَقَالَ: احْتَطِبِي بِهَذَا فَكَانَ عَلِيُّ بْنُ

أَبِي طَالِبٍ يَأْثُرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ سَهْلِ بْنِ حَنِيفٍ حِينَ هَلَكَ عِنْدَهُ بِالْعِرَاقِ حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني هذا الحديث عَلِيُّ بْنُ هِنْدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فأقام رسول الله ص بِقُبَاءَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الثُّلاثَاءِ، وَيَوْمَ الأَرْبِعَاءِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، وَأَسَّسَ مَسْجِدَهُمْ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ مَكَثَ فِيهِمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ويقول بعضهم: إن مقامه بقباء كان بضعة عشر يوما. قال أبو جعفر: واختلف السلف من أهل العلم في مده مقام رسول الله ص بمكة بعد ما استنبئ، فقال بعضهم: كانت مدة مقامه بها إلى أن هاجر إلى المدينة عشر سنين. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ الْمَدَنِيُّ- يُقَالُ لَهُ أَبُو زُكَيْرٍ- قَالَ: سَمِعْتُ رَبِيعَةَ بْنَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَذْكُرُ عَنْ أَنَسِ ابن مالك، ان رسول الله ص بُعِثَ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرًا. حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ نَصْرٍ الآمِلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ موسى، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: أخبرتني عائشة وابن عباس ان رسول الله ص

لَبِثَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ، يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قال: حدثنا يحيى ابن سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، يَقُولُ: انزل على رسول الله ص الْقُرْآنُ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَأَرْبَعِينَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرًا. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ ثَابِتٍ الرَّازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا احمد، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أُنْزِلَ على النبي ص وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَمَكَثَ بِمَكَّةَ عَشْرًا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ الْحِمْصِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ ص عَلَى رَأْسِ عَشْرٍ مِنْ مَخْرَجِهِ قال أبو جعفر: وقال آخرون: بل أقام بعد ما استنبئ بمكة ثلاث عشرة سنة. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ- يَعْنِي ابْنَ سَلَمَةَ-، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَقَامَ رَسُولُ الله ص بِمَكَّةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُوحَى إِلَيْهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ: حدثنا حماد ابن سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ الضُّبَعِيُّ، عَنِ ابن عباس، قال: بعث رسول الله ص لأربعين سنة، وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، قال: حدثنا زكرياء ابن إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مكث رسول الله ص بِمَكَّةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قال: بعث النبي ص لأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُوحَى إِلَيْهِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ. قال أبو جعفر: وقد وافق قول من قال: بعث رسول الله ص لأربعين سنة، وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة قول أبي قيس صرمة بن أبي أنس، أخي بني عدي بن النجار، في قصيدته التي يقول فيها، وهو يصف كرامة الله إياهم بما أكرمهم به من الإسلام، ونزول نبى الله ص، عليهم: ثوى في قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو يلقى صديقا مواتيا! ويعرض في اهل المواسم نفسه ... فلم ير من يؤوى، ولم ير داعيا فلما أتانا أظهر الله دينه ... فأصبح مسرورا بطيبة راضيا وألفى صديقا واطمأنت به النوى ... وكان له عونا من الله باديا يقص لنا ما قال نوح لقومه ... وما قال موسى إذ أجاب المناديا وأصبح لا يخشى من الناس واحدا ... قريبا، ولا يخشى من الناس نائيا بذلنا له الأموال من جل مالنا ... وأنفسنا عند الوغى والتأسيا

ونعلم أن الله لا شيء غيره ... ونعلم ان الله افضل هاديا فاخبر ابو القيس في قصيدته هذه أن مقام رسول الله ص في قومه قريش كان بعد ما استنبئ وصدع بالوحي من الله بضع عشرة حجة. وقال بعضهم كان مقامه بمكة خمس عشرة سنة: ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حدثني بذلك الْحَارِثُ، عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عمر، عن إبراهيم بن إسماعيل، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابن عباس، واستشهد بهذا البيت من قول أبي قيس صرمة بن أبي أنس، غير أنه أنشد ذلك: ثوى في قريش خمس عشرة حجة ... يذكر لو يلقى صديقا مواتيا! قال أبو جعفر: وقد روي عن الشعبي إن إسرافيل قرن برسول الله ص قبل أن يوحى إليه ثلاث سنين. حَدَّثَنِي الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ- قَالَ: وَحَدَّثَنَا إِمْلاءً مِنْ لَفْظِهِ مَنْصُورٌ عَنِ الأَشْعَثِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ- قَالَ: قُرِنَ إِسْرَافِيلُ بِنُبُوَّةِ رسول الله ص ثَلاثَ سِنِينَ، يَسْمَعُ حِسَّهُ، وَلا يَرَى شَخْصَهُ ثم كان بعد ذلك جبريل ع قال الواقدي: فذكرت ذلك لمحمد بن صالح بن دينار، فقال: والله يا بن أخي لقد سمعت عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، وعاصم بن عمر بن قتادة يحدثان في

المسجد ورجل عراقي يقول لهما هذا، فأنكراه جميعا وقالا: ما سمعنا ولا علمنا إلا أن جبريل هو الذي قرن به، وكان يأتيه بالوحي من يوم نبئ إلى أن توفى ص. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ النُّبُوَّةُ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَقُرِنَ بِنُبُوَّتِهِ إِسْرَافِيلُ ثَلاثَ سِنِينَ، فَكَانَ يُعَلِّمُهُ الْكَلِمَةَ وَالشَّيْءَ، وَلَمْ يَنْزِلِ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِهِ، فَلَمَّا مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل ع، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِهِ عَشْرَ سِنِينَ بِمَكَّةَ وَعَشْرَ سِنِينَ بِالْمَدِينَةِ. قال أبو جعفر: فلعل الذين قالوا: كان مقامه بمكة بعد الوحي عشرا عدوا مقامه بها من حين أتاه جبريل بالوحي من الله عز وجل، وأظهر الدعاء إلى توحيد الله وعد الذين قالوا: كان مقامه ثلاث عشرة سنة من أول الوقت الذي استنبئ فيه، وكان إسرافيل المقرون به وهي السنون الثلاث التي لم يكن أمر فيها بإظهار الدعوة. وقد روي عن قتادة غير القولين اللذين ذكرت، وذلك ما حدثت عن روح بن عبادة، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: نزل القرآن على رسول الله ص ثماني سنين بمكة وعشرا بعد ما هاجر، وكان الحسن يقول: عشرا بمكة وعشرا بالمدينة

ذكر الوقت الذى عمل فيه التاريخ

ذكر الوقت الذي عمل فيه التأريخ قَالَ ابو جعفر: ولما قدم رسول الله ص الْمَدِينَةَ، أَمَرَ بِالتَّأْرِيخِ فِيمَا قِيلَ حَدَّثَنِي زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي سلمه، عن ابن شهاب، ان النبي ص لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ- وَقَدِمَهَا فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ- أَمَرَ بِالتَّأْرِيخِ. قال أبو جعفر: فذكر أنهم كانوا يؤرخون بالشهر والشهرين من مقدمه إلى أن تمت السنة، وقد قيل إن أول من أمر بالتأريخ في الإسلام عمر بن الخطاب، رحمه الله. ذكر الأخبار الواردة بذلك: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابو نعيم، قال: حدثنا حبان ابن عَلِيٍّ الْعَنْزِيُّ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: كَتَبَ أَبُو موسى الأَشْعَرِيُّ إِلَى عُمَرَ: إِنَّهُ تَأْتِينَا مِنْكَ كُتُبٌ لَيْسَ لَهَا تَأْرِيخٌ قَالَ: فَجَمَعَ عُمَرُ النَّاسَ لِلْمَشُورَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرِّخْ لمبعث رسول الله ص وقال بعضهم: لمهاجر رسول الله ص، فَقَالَ عُمَرُ: لا بَلْ نُؤَرِّخُ لِمُهَاجَرِ رَسُولِ الله ص، فَإِنَّ مُهَاجَرَهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ حَيَّانَ أَبُو يَزِيدَ الْخَرَّازُ، عَنْ فُرَاتِ بْنِ سَلْمَانَ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، قَالَ: رُفِعَ إِلَى عُمَرَ صَكٌّ مَحِلُّهُ فِي شَعْبَانَ، فَقَالَ عُمَرُ: أَيُّ شَعْبَانَ؟ الَّذِي هُوَ آتٍ، أَوِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ؟ قَالَ: ثُمَّ قَالَ لأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ضَعُوا لِلنَّاسِ شَيْئًا يَعْرِفُونَهُ، فَقَالَ: بَعْضُهُمُ: اكْتُبُوا عَلَى تَأْرِيخِ الرُّومِ، فَقِيلَ: إِنَّهُمْ يَكْتُبُونَ مِنْ عَهْدِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، فَهَذَا يَطُولُ وَقَالَ بَعْضُهُمُ: اكْتُبُوا عَلَى تَأْرِيخِ الْفُرْسِ، فَقِيلَ: إِنَّ الْفُرْسَ كُلَّمَا قَامَ مَلِكٌ طَرَحَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يَنْظُرُوا: كم اقام رسول الله ص بِالْمَدِينَةِ؟ فَوَجَدُوهُ عَشْرَ سِنِينَ، فَكُتِبَ التَّأْرِيخُ مِنْ هجره رسول الله ص حُدِّثْتُ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ خَالِدٍ وَأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ السَّدُوسِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: أَرِّخُوا، فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَرِّخُوا؟ قَالَ: شَيْءٌ تَفْعَلُهُ الأَعَاجِمُ، يَكْتُبُونَ فِي شَهْرِ كَذَا مِنْ سَنَةِ كَذَا، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: حَسَنٌ، فَأَرِّخُوا فَقَالُوا: مِنْ أَيِّ السِّنِينَ نَبْدَأُ؟ قَالُوا: مِنْ مَبْعَثِهِ، وَقَالُوا: مِنْ وَفَاتِهِ، ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى الْهِجْرَةِ، ثُمَّ قَالُوا: فَأَيَّ الشُّهُورِ نَبْدَأُ؟ فَقَالُوا: رَمَضَانَ، ثُمَّ قَالُوا: الْمُحَرَّمَ، فَهُوَ مُنْصَرَفُ النَّاسِ مِنْ حَجِّهِمْ، وَهُوَ شَهْرٌ حَرَامٌ، فَأَجْمَعُوا عَلَى الْمُحَرَّمِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ ابن سَعْدٍ، قَالَ: مَا أَصَابَ النَّاسُ الْعَدَدَ، مَا عدوا من مبعث رسول الله ص، وَلا مِنْ وَفَاتِهِ، وَلا عَدُّوا إِلا مِنْ مَقْدِمِهِ الْمَدِينَةَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَال: كَانَ التَّأْرِيخُ فِي السَّنَةِ الَّتِي قدم فيها رسول الله ص الْمَدِينَةَ، وَفِيهَا وُلِدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ

حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عبد الحكم، قال: حدثنا يعقوب ابن إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي عَبَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيُّ، عَنْ عمرو ابن دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ التَّأْرِيخُ في السنه التي قدم رسول الله ص فِيهَا، فَذَكَرَ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا نُوحُ بْنُ قَيْسٍ الطَّاحِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحْصِنٍ، أَنَّ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ فِي: «وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ» ، قَالَ: الْفَجْرُ هُوَ الْمُحَرَّمُ، فَجْرُ السَّنَةِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: إِنَّ الْمُحَرَّمَ شَهْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ رَأْسُ السَّنَةِ، فِيهِ يُكْسَى الْبَيْتُ، وَيُؤَرَّخُ التَّأْرِيخُ، وَيُضْرَبُ فِيهِ الْوَرَقُ، وَفِيهِ يَوْمٌ كَانَ تَابَ فِيهِ قَوْمٌ، فَتَابَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ ثَابِت الرازي، قَالَ: حَدَّثَنَا أحمد، قَالَ: حَدَّثَنَا روح بن عبادة، قَالَ: حَدَّثَنَا زكرياء بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، أن أول من أرخ الكتب يعلى بن اميه، وهو باليمن، وان النبي ص قدم المدينة في شهر ربيع الأول، وأن الناس أرخوا لأول السنة، وإنما أرخ الناس لمقدم النبي ص. وقال علي بْنُ مُجَاهِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ الزهري وعن محمد ابن صالح، عن الشعبي، قالا: أرخ بنو إسماعيل من نار ابراهيم ع إلى بنيان البيت، حين بناه إبراهيم وإسماعيل، ثم أرخ بنو إسماعيل من بنيان البيت، حتى تفرقت، فكان كلما خرج قوم من تهامه ارخوا

بمخرجهم، ومن بقي بتهامة من بني إسماعيل يؤرخون من خروج سعد ونهد وجهينة، بني زيد، من تهامة، حتى مات كعب بن لؤي، فأرخوا من موت كعب بن لؤي إلى الفيل، فكان التأريخ من الفيل، حتى ارخ عمر ابن الخطاب من الهجرة، وذلك سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة. حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، يَقُولُ: جَمَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّاسَ، فَسَأَلَهُمْ، فَقَالَ: من اى يوم نكتب؟ [فقال على ع: من يوم هاجر رسول الله ص، وَتَرَكَ أَرْضَ الشِّرْكِ] ، فَفَعَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال أبو جعفر: وهذا الذي رواه علي بن مجاهد، عمن رواه عنه في تأريخ بني إسماعيل غير بعيد من الحق، وذلك انهم لم يكونوا يؤرخون على أمر معروف يعمل به عامتهم، وإنما كان المؤرخ منهم يؤرخ بزمان قحمة كانت في ناحية من نواحي بلادهم، ولزبة أصابتهم، أو بالعامل كان يكون عليهم، أو الأمر الحادث فيهم ينتشر خبره عندهم، يدل على ذلك اختلاف شعرائهم في تأريخاتهم، ولو كان لهم تأريخ على أمر معروف، وأصل معمول عليه، لم يختلف ذلك منهم. ومن ذلك قول الربيع بن ضبع الفزاري: هأنذا آمل الخلود وقد ... أدرك عقلي ومولدي حجرا أبا امرئ القيس هل سمعت به ... هيهات هيهات طال ذا عمرا! فارخ عمره بحجر بن عمرو أبي امرئ القيس. وقال نابغة بني جعدة:

فمن يك سائلا عني فإني ... من الشبان أزمان الخنان فجعل النابغة تأريخه ما أرخ بزمان علة كانت فيهم عامة. وقال آخر: وما هي إلا في إزار وعلقة ... مغار ابن همام على حي خثعما فكل واحد من هؤلاء الذين ذكرت تأريخهم في هذه الأبيات، أرخ على قرب زمان بعضهم من بعض، وقرب وقت ما أرخ به من وقت الآخر، بغير المعنى الذي أرخ به الآخر، ولو كان لهم تأريخ معروف كما للمسلمين اليوم ولسائر الأمم غيرها، كانوا إن شاء الله لا يتعدونه، ولكن الأمر في ذلك كان عندهم إن شاء الله على ما ذكرت، فأما قريش من بين العرب، فإن آخر ما حصلت من تأريخها قبل هجره النبي ص من مكة إلى المدينة على التأريخ بعام الفيل، وذلك عام ولد رسول الله ص، وكان بين عام الفيل والفجار عشرون سنة، وبين الفجار وبناء الكعبة خمس عشرة سنة، وبين بناء الكعبه ومبعث النبي ص خمس سنين. قال أبو جعفر: وبعث رسول الله ص وهو ابن أربعين سنة، وقرن بنبوته- كما قال الشعبي- ثلاث سنين: إسرافيل، وذلك قبل أن يؤمر بالدعاء وإظهاره على ما قدمنا الرواية والإخبار به، ثم قرن بنبوته جبريل ع بعد السنين الثلاث، وأمره بإظهار الدعوة إلى الله، فأظهرها، ودعا إلى الله مقيما بمكة عشر سنين، ثم هاجر إلى المدينة في شهر ربيع الأول من سنة أربع عشرة من حين استنبئ، وكان خروجه من مكة إليها يوم الاثنين، وقدومه المدينة يوم الاثنين، لمضي اثنتي عشرة ليلة من شهر ربيع الاول

حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ، عن ابن عباس قال: ولد النبي ص يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَاسْتُنْبِئَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَرَفَعَ الْحَجَرَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَخَرَجَ مُهَاجِرًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَقُبِضَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قال: قدم رسول الله ص الْمَدِينَةَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ. قال أبو جعفر: فإذا كان الأمر في تأريخ المسلمين كالذي وصفت، فإنه وإن كان من الهجرة، فإن ابتداءهم اياه قبل مقدم النبي ص المدينة بشهرين وأيام، هي اثنا عشر، وذلك أن أول السنة المحرم، وكان قدوم النبي ص المدينة، بعد مضي ما ذكرت من السنة، ولم يؤرخ التاريخ من وقت قدومه، بل من أول تلك السنة

ذكر ما كان من الأمور المذكوره في أول سنه من الهجره

ذكر ما كان من الأمور المذكورة في أول سنة من الهجرة قال أبو جعفر: قد مضى ذكرنا وقت مقدم النبي ص المدينة، وموضعه الذي نزل فيه حين قدمها، وعلى من كان نزوله، وقدر مكثه في الموضع الذي نزله، وخبر ارتحاله عنه، ونذكر الآن ما لم نذكر قبل مما كان من الأمور المذكورة في بقية سنة قدومه، وهي السنه الاولى من الهجره. فمن ذلك تجميعه ص بأصحابه الجمعة، في اليوم الذي ارتحل فيه من قباء، وذلك أن ارتحاله عنها كان يوم الجمعة عامدا المدينة، فأدركته الصلاة، صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف، ببطن واد لهم- قد اتخذ اليوم في ذلك الموضع مسجدا- فيما بلغني- وكانت هذه الجمعة، أول جمعة جمعها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الإسلام، فخطب في هذه الجمعة، وهي أول خطبة خطبها بالمدينة فيما قيل خطبه رسول الله ص في أول جمعة جمعها بالمدينة حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابن وهب، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُمَحِيُّ، انه بلغه عن خطبه رسول الله ص فِي أَوَّلِ جُمُعَةٍ صَلاهَا بِالْمَدِينَةِ فِي بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَحْمَدُهُ وَأَسْتَعِينُهُ، وَأَسْتَغْفِرُهُ وَأَسْتَهْدِيهِ، وَأُومِنُ بِهِ وَلا أَكْفُرُهُ، وَأُعَادِي مَنْ يَكْفُرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَالنُّورِ وَالْمَوْعِظَةِ، عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَقِلَّةٍ مِنَ

الْعِلْمِ، وَضَلالَةٍ مِنَ النَّاسِ، وَانْقِطَاعٍ مِنَ الزَّمَانِ، وَدُنُوٍّ مِنَ السَّاعَةِ، وَقُرْبٍ مِنَ الأَجَلِ، مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى وَفَرَّطَ، وَضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا [وَأُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ خَيْرُ مَا أَوْصَى بِهِ الْمُسْلِمُ الْمُسْلِمَ،] أَنْ يَحُضَّهُ عَلَى الآخِرَةِ، وَأَنْ يَأْمُرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَاحْذَرُوا مَا حَذَّرَكُمُ اللَّهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَلا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ نَصِيحَةً، وَلا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ذِكْرًا، وَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ لِمَنْ عَمِلَ بِهِ عَلَى وَجَلٍ وَمَخَافَةٍ مِنْ رَبِّهِ، عَوْنُ صِدْقٍ عَلَى مَا تَبْغُونَ مِنْ أَمْرِ الآخِرَةِ [وَمَنْ يُصْلِحُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ مِنْ أَمْرِهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلانِيَةِ، لا يَنْوِي بِذَلِكَ إِلا وَجْهَ اللَّهِ يَكُنْ لَهُ ذِكْرًا فِي عَاجِلِ أَمْرِهِ، وَذُخْرًا فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ،] حِينَ يَفْتَقِرُ الْمَرْءُ إِلَى مَا قَدَّمَ، وَمَا كَانَ مِنْ سِوَى ذَلِكَ يَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً، وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ، وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ. وَالَّذِي صَدَقَ قَوْلُهُ، وَأَنْجَزَ وَعْدَهُ، لا خُلْفَ لِذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: «مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي عَاجِلِ أَمْرِكُمْ وَآجِلِهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلانِيَةِ، فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ، وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا وَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ يُوقِي مَقْتَهُ، وَيُوقِي عُقُوبَتَهُ، وَيُوقِي سُخْطَهُ، وَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ يُبَيِّضُ الْوُجُوهَ، وَيُرْضِي الرَّبَّ، وَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ. خُذُوا بِحَظِّكُمْ، وَلا تُفَرِّطُوا فِي جَنْبِ اللَّهِ، قَدْ عَلَّمَكُمُ اللَّهُ كِتَابَهُ، وَنَهَجَ لَكُمْ سَبِيلَهُ، لِيَعْلَمَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَيَعْلَمَ الْكاذِبِينَ فَأَحْسِنُوا كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ، وَعَادُوا أَعْدَاءَهُ، وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَسَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، ويحيا من حي عن بينه، وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ [فَأَكْثِرُوا ذِكْرَ اللَّهِ، وَاعْمَلُوا لِمَا بَعْدَ الْيَوْمِ،] [فَإِنَّهُ مَنْ يُصْلِحُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ يَكْفِهِ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ،] ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقْضِي عَلَى النَّاسِ وَلا يَقْضُونَ عَلَيْهِ، وَيَمْلِكُ مِنَ النَّاسِ وَلا يَمْلِكُونَ

مِنْهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ الْعَظِيمِ!. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن ابن إسحاق، ان رسول الله ص رَكِبَ نَاقَتَهُ، وَأَرْخَى لَهَا الزِّمَامَ، فَجَعَلَتْ لا تَمُرُّ بِدَارٍ مِنْ دُورِ الأَنْصَارِ إِلا دَعَاهُ أَهْلُهَا إِلَى النُّزُولِ عِنْدَهُمْ، وَقَالُوا لَهُ: هَلُمَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِلَى الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالْمَنَعَةِ، [فيقول لهم ص: خَلُّوا زِمَامَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ،] حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَوْضِعِ مَسْجِدِهِ الْيَوْمَ، فَبَرَكَتْ عَلَى بَابِ مَسْجِدِهِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مِرْبَدٌ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ فِي حِجْرِ مُعَاذِ بْنِ عَفْرَاءَ، يُقَالُ لأَحَدِهِمَا سَهْلٌ وَلِلآخَرِ سُهَيْلٌ، ابْنَا عَمْرِو بْنِ عباد ابن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار فَلَمَّا بَرَكَتْ لَمْ يَنْزِلْ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ ص، ثُمَّ وَثَبَتْ فَسَارَتْ غَيْرَ بَعِيدٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ ص وَاضِعٌ لَهَا زِمَامَهَا لا يُثْنِيهَا بِهِ، ثُمَّ الْتَفَتَتْ خَلْفَهَا، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى مَبْرَكِهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَبَرَكَتْ فِيهِ وَوَضَعَتْ جِرَانَهَا، وَنَزَلَ عَنْهَا رسول الله ص، فَاحْتَمَلَ أَبُو أَيُّوبَ رَحْلَهُ، فَوَضَعَهُ فِي بَيْتِهِ، فَدَعَتْهُ الأَنْصَارُ إِلَى النُّزُولِ عَلَيْهِمْ، [فَقَالَ رَسُولُ الله ص: الْمَرْءُ مَعَ رَحْلِهِ] فَنَزَلَ عَلَى أَبِي أَيُّوبَ خَالِدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كُلَيْبٍ، فِي بَنِي غَنْمِ بْنِ النَّجَّارِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَسَأَلَ رسول الله ص عَنِ الْمِرْبَدِ لِمَنْ هُوَ؟ فَأَخْبَرَهُ مُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ، وَقَالَ: هُوَ لِيَتِيمَيْنِ لِي، سَأُرْضِيهِمَا فَأَمَرَ به رسول الله ص أَنْ يُبْنَى مَسْجِدًا، وَنَزَلَ عَلَى أَبِي أَيُّوبَ، حَتَّى بَنَى مَسْجِدَهُ وَمَسَاكِنَهُ وَقِيلَ: إِنَّ رَسُولَ الله ص اشْتَرَى مَوْضِعَ مَسْجِدِه، ثُمَّ بَنَاهُ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ، مَا حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ موسى، قال: حدثنا

يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سلمه، عن ابى التياح، عن انس ابن مالك، قال: كان موضع مسجد النبي ص لِبَنِي النَّجَّارِ، وَكَانَ فِيهِ نَخْلٌ وَحَرْثٌ وَقُبُورٌ مِنْ قُبُورِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ص: ثَامِنُونِي بِهِ، فَقَالُوا: لا نَبْتَغِي بِهِ ثَمَنًا إِلا مَا عِنْدَ اللَّهِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ص بِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، وَبِالْحَرْثِ فَأُفْسِدَ، وَبِالْقُبُورِ فَنُبِشَتْ، وَكَانَ رسول الله ص قَبْلَ ذَلِكَ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، وَحَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ. قال أبو جعفر: وتولى بناء مسجده ص هو بنفسه وأصحابه من المهاجرين والأنصار. وفي هذه السنة بني مسجد قباء. وكان أول من توفي بعد مقدمه المدينة من المسلمين- فيما ذكر- صاحب منزله كلثوم بن الهدم، لم يلبث بعد مقدمه إلا يسيرا حتى مات. ثم توفي بعده أسعد بن زرارة في سنة مقدمه، أبو أمامة وكانت وفاته قبل ان يفرغ رسول الله ص من بناء مسجده، بالذبحة والشهقة فَحَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد ابن إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرحمن، [ان رسول الله ص قال: بئس الميت ابو امامه اليهود وَمُنَافِقِي الْعَرَبِ! يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا لَمْ يَمُتْ صَاحِبُهُ، وَلا أَمْلِكُ لِنَفْسِي وَلا لِصَاحِبِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا]

وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزهري، عن انس، ان النبي ص كوى اسعد ابن زُرَارَةَ مِنَ الشَّوْكَةِ. قَالَ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ ابن عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ الأَنْصَارِيُّ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، اجْتَمَعَتْ بَنُو النجار الى رسول الله ص- وَكَانَ أَبُو أُمَامَةَ نَقِيبَهُمْ- فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ كَانَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ، فَاجْعَلْ مِنَّا رَجُلا مَكَانَهُ، يُقِيمُ مِنْ أَمْرِنَا مَا كَانَ يُقِيمُهُ، [فَقَالَ لهم رسول الله ص: أَنْتُمْ أَخْوَالِي وَأَنَا مِنْكُمْ، وَأَنَا نَقِيبُكُمْ] . قَالَ: وكره رسول الله ص أَنْ يَخُصَّ بِهَا بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ، فَكَانَ من فضل بنى النجار الذى تعد على قومهم، ان رسول الله ص كَانَ نَقِيبَهُمْ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ أَبُو أحيحة بماله بِالطَّائِفِ وَمَاتَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ فِيهَا بِمَكَّةَ. وَفِيهَا بَنَى رَسُولِ الله ص بِعَائِشَةَ بَعْدَ مَقْدِمِهِ الْمَدِينَةَ بِثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ، فِي ذِي الْقِعْدَةِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَفِي قَوْلِ بَعْضٍ: بَعْدَ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ بِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ، فِي شَوَّالٍ، وَكَانَ تَزَوَّجَهَا بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلاثِ سِنِينَ بَعْدَ وَفَاةِ خَدِيجَةَ وَهِيَ ابْنَةُ سِتِّ سِنِينَ، وَقَدْ قِيلَ: تَزَوَّجَهَا وَهِيَ ابْنَةُ سَبْعٍ

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ السُّكَّرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ- يَعْنِي ابْنَ أَبِي خَالِدٍ- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الضَّحَّاكِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ صَفْوَانَ وَآخَرُ مَعَهُ أَتَيَا عَائِشَةَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا فُلانُ، أَسَمِعْتَ حَدِيثَ حَفْصَةَ؟ قَالَ لَهَا: نَعَمْ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ لَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَتْ: خِلالٌ فِيَّ تِسْعٌ لَمْ تَكُنْ فِي أَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا آتَى اللَّهُ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، وَاللَّهِ مَا أَقُولُ هَذَا فَخْرًا عَلَى أَحَدٍ مِنْ صَوَاحِبِي، قَالَ لَهَا: وَمَا هن؟ قَالَتْ: نَزَلَ الْمَلَكُ بِصُورَتِي، وَتَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ ص لِسَبْعِ سِنِينَ، وَأُهْدِيتُ إِلَيْهِ لِتِسْعِ سِنِينَ، وَتَزَوَّجَنِي بِكْرًا لَمْ يُشْرِكْهُ فِيَّ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَكَانَ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ وَأَنَا وَهُوَ فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ، وَكُنْتُ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَنَزَلَ فِيَّ آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ كَادَتِ الأُمَّةُ أَنْ تَهْلِكَ، وَرَأَيْتُ جِبْرِيلَ وَلَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنْ نِسَائِهِ غَيْرِي، وَقُبِضَ فِي بَيْتِي لَمْ يَلِهِ أَحَدٌ غَيْرُ الْمَلَكِ وَأَنَا قال أبو جعفر: وتزوجها رسول الله ص- فيما قيل- في شوال، وبنى بها حين بنى بها في شوال. ذكر الرواية بذلك: حدثنا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الله بن عروه، عن ابيه، عن عائشة، قالت: تزوجني رسول الله ص في شوال، وبنى بي في شوال. وكانت عائشة تستحب ان يبنى بالنساء في شوال

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ سُفْيَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قالت: تزوجني رسول الله ص فِي شَوَّالٍ، وَبَنَى بِي فِي شَوَّالٍ، فَأَيُّ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ كَانَتْ أَحْظَى عِنْدَهُ مِنِّي! وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَسْتَحِبُّ أَنْ يُدْخَلَ بِالنِّسَاءِ فِي شَوَّالٍ. قال أبو جعفر: وقيل: إن رسول الله ص بنى بها في شوال يوم الأربعاء، في منزل أبي بكر بالسنح. وفي هذه السنة بعث النبي ص إلى بناته وزوجته سودة بنت زمعة، زيد بن حارثة وأبا رافع، فحملاهن من مكة إلى المدينة. ولما رجع- فيما ذكر- عبد الله بن أريقط إلى مكة أخبر عبد الله بن أبي بكر بمكان أبيه أبي بكر، فخرج عبد الله بعيال أبيه إليه، وصحبهم طلحة بن عبيد الله، معهم أم رومان، وهي أم عائشة، وعبد الله بن أبي بكر حتى قدموا المدينة. وفي هذه السنة زيد في صلاة الحضر- فيما قيل- ركعتان، وكانت صلاة الحضر والسفر ركعتين، وذلك بعد مقدم رسول الله ص المدينة بشهر، في ربيع الآخر، لمضي اثنتي عشرة ليلة منه، زعم الواقدي أنه لا خلاف بين أهل الحجاز فيه. وفيها- في قول بعضهم- ولد عبد الله بن الزبير وفي قول الواقدي: ولد في السنة الثانية من مقدم رسول الله ص المدينة في شوال

حدثني الحارث، قَالَ: حدثنا ابن سعد، قَالَ: قَالَ محمد بن عمر الواقدي: ولد ابن الزبير بعد الهجرة بعشرين شهرا بالمدينة. قال أبو جعفر: وكان أول مولود ولد من المهاجرين في دار الهجرة، فكبر- فيما ذكر- اصحاب رسول الله ص حين ولد، وذلك أن المسلمين كانوا قد تحدثوا أن اليهود يذكرون أنهم قد سحروهم فلا يولد لهم، فكان تكبيرهم ذلك سرورا منهم بتكذيب الله اليهود فيما قالوا من ذلك. وقيل: إن أسماء بنت أبي بكر، هاجرت إلى المدينة وهي حامل به. وقيل أيضا: إن النعمان بن بشير ولد في هذه السنة، وإنه أول مولود ولد للأنصار بعد هجره النبي ص إليهم، وأنكر ذلك الواقدي أيضا. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا الواقدي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قال: كان أول مولود من الأنصار النعمان بن بشير، ولد بعد الهجرة بأربعة عشر شهرا، فتوفى رسول الله ص وهو ابن ثماني سنين، أو أكثر قليلا. قال: وولد النعمان قبل بدر بثلاثة أشهر أو أربعة. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا مُحَمَّد بن عمر، قال: حدثنا مصعب بن ثابت، عن أبي الأسود، قال: ذكر النعمان بن بشير عند ابن الزبير، فقال: هو أسن مني بستة أشهر. قال أبو الأسود: ولد ابن الزبير على رأس عشرين شهرا من مهاجر

رسول الله ص، وولد النعمان على رأس أربعة عشر شهرا في ربيع الآخر. قال أبو جعفر: وقيل: إن المختار بن أبي عبيد الثقفي وزياد ابن سمية فيها ولدا. قال: وزعم الواقدي ان رسول الله ص عقد في هذه السنة في شهر رمضان، على رأس سبعة أشهر من مهاجره، لحمزة بن عبد المطلب لواء أبيض في ثلاثين رجلا من المهاجرين، ليعترض لعيرات قريش، وأن حمزة لقي أبا جهل بن هشام في ثلاثمائه رجل، فحجز بينهم مَجديّ بن عمرو الجهني فافترقوا، ولم يكن بينهم قتال وكان الذي يحمل لواء حمزة أبو مرثد. وأن رسول الله ص عقد أيضا في هذه السنة، على رأس ثمانية أشهر من مهاجره في شوال، لعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف لواء أبيض، وأمره بالمسير إلى بطن رابغ، وأن لواءه كان مع مسطح بن أثاثة، فبلغ ثنية المرة- وهي بناحية الجحفة- في ستين من المهاجرين، ليس فيهم أنصاري، وأنهم التقوا هم والمشركون على ماء يقال له أحياء، فكان بينهم الرمي دون المسايفة. قال: وقد اختلفوا في أمير السرية، فقال بعضهم: كان أبو سفيان بن حرب، وقال بعضهم: كان مكرز بن حفص. قال الواقدي: ورأيت الثبت على أبي سفيان بن حرب، وكان في مائتين من المشركين

قال: وفيها عقد رسول الله ص لسعد بن أبي وقاص إلى الخرار لواء أبيض يحمله المقداد بن عمرو في ذي القعدة وقال: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِيهِ، عن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: خرجت في عشرين رجلا على أقدامنا- أو قال: واحد وعشرين رجلا- فكنا نكمن النهار، ونسير الليل حتى صبحنا الخرار صبح خامسه، وكان رسول الله ص، قد عهد إلي ألا أجاوز الخرار، وكانت العير قد سبقتني قبل ذلك بيوم، وكانوا ستين، وكان من مع سعد كلهم من المهاجرين. قال أبو جعفر: وقال ابن إسحاق في أمر كل هذه السرايا التي ذكرت عن الواقدي قوله فيها غير ما قاله الواقدي، وأن ذلك كله كان في السنة الثانية من وقت التاريخ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الفضل، قال: حدثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ص الْمَدِينَةَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْهُ، فَأَقَامَ بِهَا مَا بَقِيَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ وَشَهْرَ رَبِيعٍ الآخِرِ وَجُمَادَيَيْنِ وَرَجَبَ وَشَعْبَانَ وَرَمَضَانَ وَشَوَّالًا وَذَا الْقِعْدَةِ وَذَا الْحِجَّةِ- وولى تلك الحجة المشركون- والمحرم. وَخَرَجَ فِي صَفَرٍ غَازِيًا عَلَى رَأْسِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ، لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، حَتَّى بَلَغَ وَدَّانَ، يُرِيدُ قُرَيْشًا وَبَنِي ضَمْرَةَ بْنَ بكر بْن عبد مناة بْن كنانة، وهي غَزْوَةَ الأَبْوَاءِ، فَوَادَعَتْهُ فِيهَا بَنُو ضَمْرَةَ، وَكَانَ الذى وادعه منهم عليهم سَيِّدُهُمْ كَانَ فِي زَمَانِهِ ذَلِكَ، مَخْشِيُّ بْنُ عمرو، رجل منهم

قال: ثم رجع رسول الله ص إلى المدينة، ولم يلق كيدا، فأقام بها بَقِيَّةَ صَفَرٍ وَصَدْرًا مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ. وَبَعَثَ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ فِي ثَمَانِينَ أَوْ سِتِّينَ رَاكِبًا من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد، حَتَّى بَلَغَ أَحْيَاءَ مَاءٍ بِالْحِجَازِ بِأَسْفَلِ ثَنِيَّةِ الْمَرَّةِ، فَلَقِيَ بِهَا جَمْعًا عَظِيمًا مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، إِلَّا أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَدْ رَمَى يَوْمَئِذٍ بِسَهْمٍ، فَكَانَ أَوَّلَ سَهْمٍ رُمِيَ بِهِ فِي الإِسْلَامِ. ثُمَّ انْصَرَفَ الْقَوْمُ عَنِ الْقَوْمِ وَلِلْمُسْلِمِينَ حَامِيةٌ، وَفَرَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو الْبَهْرَانِيُّ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بْنِ جَابِرٍ حَلِيفُ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ- وَكَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَلَكِنَّهُمَا خَرَجَا يَتَوَصَلانِ بِالْكُفَّارِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ- وَكَانَ عَلَى ذَلِكَ الْجَمْعِ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ. قَالَ مُحَمَّدٌ: فَكَانَتْ رَايَةُ عُبَيْدَةَ- فِيمَا بَلَغَنِي- أَوَّلَ رَايَةٍ عَقَدَهَا رسول الله ص فِي الإِسْلامِ لأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَحَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثني محمد بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَزْعُمُ أَنَّ رسول الله ص كَانَ بَعَثَهُ حِينَ أَقْبَلَ مِنْ غَزْوَةِ الأَبْوَاءِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: وَبَعَثَ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى سَيْفِ الْبَحْرِ مِنْ نَاحِيَةِ الْعِيصِ فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَهِيَ مِنْ أَرْضِ جُهَيْنَةَ لَيْسَ فِيهِمْ مِنَ الأَنْصَارِ أَحَدٌ، فَلَقِيَ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ بِذَلِكَ السَّاحِلِ فِي ثلاثمائة

رَاكِبٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَحَجَزَ بَيْنَهُمْ مَجديّ بْنُ عَمْرٍو الْجُهَنِيُّ، وَكَانَ مُوَادِعًا لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا، فَانْصَرَفَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ. قَالَ: وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَقُولُ: كَانَتْ رَايَةُ حَمْزَةَ أَوَّلَ رَايَةٍ عَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ ص لأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ بَعْثَهُ وَبَعْثَ عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ كَانَا مَعًا، فَشُبِّهَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ. قَالَ: وَالَّذِي سَمِعْنَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدَنَا أَنَّ رَايَةَ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ كَانَتْ أَوَّلَ رَايَةٍ عُقِدَتْ فِي الإِسْلَامِ. قَالَ: ثم غزا رسول الله ص فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الآخِرِ، يُرِيدُ قُرَيْشًا، حَتَّى إذا بلغ بواط مِنْ نَاحِيَةِ رَضْوَى رَجَعَ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا، فَلَبِثَ بَقِيَّةَ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخِرِ وَبَعْضَ جُمَادَى الأُولَى. ثُمَّ غَزَا يُرِيدُ قُرَيْشًا، فَسَلَكَ عَلَى نَقْبِ بَنِي دِينَارِ بْنِ النَّجَّارِ، ثُمَّ عَلَى فَيْفَاءِ الْخَبَارِ، فَنَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ بِبَطْحَاءِ ابْنِ أَزْهَرَ، يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ السَّاقِ، فَصَلَّى عِنْدَهَا، فَثَمَّ مَسْجِدُهُ وَصُنِعَ لَهُ عِنْدَهَا طَعَامٌ فَأَكَلَ مِنْهُ وَأَكَلَ النَّاسُ مَعَهُ، فَمَوْضِعُ أَثَافي البرمة معلوم هنالك وَاسْتَقَى لَهُ مِنْ مَاءٍ بِهِ يُقَالُ لَهُ الْمُشيربُ ثُمَّ ارْتَحَلَ فَتَرَكَ الْخَلَائِقَ بِيَسَارٍ، وَسَلَكَ شُعْبَةً يُقَالُ لَهَا شُعْبَةُ عَبْدِ اللَّهِ- وَذَلِكَ اسْمُهَا الْيَوْمَ- ثُمَّ صب ليسار، حتى هبط يليل، فَنَزَلَ بِمُجْتَمَعِهِ وَمُجْتَمَعِ الضّبُوعَةِ، وَاسْتُقِيَ لَهُ مِنْ بِئْرٍ بِالضبُوعَةِ ثُمَّ سَلَكَ الْفرش، فرش ملل، حتى لقى الطريق بصخيرات الْيَمَامِ ثُمَّ اعْتَدَلَ بِهِ الطَّرِيقُ حَتَّى

نَزَلَ الْعَشِيرَةَ مِنْ بَطْنِ يَنْبُعَ، فَأَقَامَ بِهَا بَقِيَّةَ جُمَادَى الأُولَى وَلَيَالِيَ مِنْ جُمَادَى الآخِرَةِ، وَوَادَعَ فِيهَا بَنِي مُدْلجٍ وَحُلَفَاءَهُمْ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَلْق كَيْدًا. وَفِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ ابى طالب ع مَا قَالَ. قَالَ: فَلَمْ يَقُمْ رَسُولُ اللَّهِ ص حِينَ قَدِمَ مِنْ غَزْوَةِ الْعُشَيْرَةِ بِالْمَدِينَةِ إِلَّا ليالي قَلَائِلَ لا تَبْلُغُ الْعُشْرَ، حَتَّى أَغَارَ كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْفِهْرِيُّ عَلَى سَرْحِ الْمَدِينَةِ، فَخَرَجَ رسول الله ص فِي طَلَبِهِ، حَتَّى بَلَغَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ سَفَوَانُ مِنْ نَاحِيَةِ بَدْرٍ، وَفَاتَهُ كُرْزٌ فَلَمْ يدركه، وهي غزو بدر الاولى، ثم رجع رسول الله ص إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَقَامَ بِهَا بَقِيَّةَ جُمَادَى الآخِرَةِ ورجب وَشَعْبَانَ وَقَدْ كَانَ بَعَثَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ فِي ثَمَانِيَةِ رَهْطٍ. وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي السَّنَةَ الأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ- جَاءَ أَبُو قَيْسِ بن الاسلت رسول الله ص، فعرض عليه رسول الله ص الإِسْلَامَ، فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ! أَنْظُرُ فِي أَمْرِي، ثُمَّ أَعُودُ إِلَيْكَ فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، فَقَالَ لَهُ: كَرِهْتُ وَاللَّهِ حَرْبَ الْخَزْرَجِ! فَقَالَ أَبُو قَيْسٍ: لا أُسْلِمُ سَنَةً، فَمَاتَ فِي ذِي الْقَعْدَةَ

السنه الثانيه من الهجره

ثم كانت السنة الثانية من الهجرة فغزا رسول الله ص- في قول جميع أهل السير- فيها، في ربيع الأول بنفسه غزوة الأبواء- ويقال ودان- وبينهما ستة أميال هي بحذائها، واستخلف رسول الله ص على المدينة حين خرج إليها سعد بن عبادة بن دليم وكان صاحب لوائه في هذه الغزاة حمزة بن عبد المطلب، وكان لواؤه- فيما ذكر- أبيض. وقال الواقدي: كان مقامه بها خمس عشرة ليلة، ثم قدم المدينة. قال الواقدى: ثم غزا رسول الله ص في مائتين من أصحابه، حتى بلغ بواط في شهر ربيع الأول، يعترض لعيرات قريش، وفيها أمية بن خلف ومائة رجل من قريش، والفان وخمسمائة بعير ثم رجع ولم يلق كيدا. وكان يحمل لواءه سعد بن أبي وقاص، واستخلف على المدينة سعد ابن معاذ في غزوته هذه. قال: ثم غزا في ربيع الاول في طلب كرز بن جابر الفهري في المهاجرين، وكان قد أغار على سرح المدينة، وكان يرعى بالجماء فاستاقه، فطلبه رسول الله ص حتى بلغ بدرا فلم يلحقه، وكان يحمل لواءه علي بن أبي طالب ع واستخلف على المدينة زيد بن حارثة

غزوه ذات العشيره

غزوه ذات العشيره قال: وفيها خرج رسول الله ص يعترض لعيرات قريش حين أبدأت إلى الشام في المهاجرين- وهي غزوة ذات العشيرة- حتى بلغ ينبع، واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، وكان يحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب فَحَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عُمَرَ بْنِ خَالِدٍ الرَّقِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سلمة، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُوكَ يَزِيدُ بْنُ خُثَيْمٍ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ كُنْتُ انا وعلى رفيقين مع رسول الله ص فِي غَزْوَةِ الْعَشِيرَةِ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلا، فَرَأَيْنَا رِجَالا مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ يَعْمَلُونَ فِي نَخْلٍ لَهُمْ، فَقُلْتُ: لَوِ انْطَلَقْنَا! فَنَظَرْنَا إِلَيْهِمْ كَيْفَ يَعْمَلُونَ، فَانْطَلَقْنَا فَنَظَرْنَا إِلَيْهِمْ سَاعَةً، ثُمَّ غَشِيَنَا النُّعَاسُ، فَعَمَدْنَا إِلَى صُورٍ مِنَ النَّخْلِ، فَنِمْنَا تَحْتَهُ فِي دَقْعَاءَ مِنَ التُّرَابِ، فَمَا أَيْقَظَنَا إِلا رسول الله ص، أَتَانَا وَقَدْ تَتَرَّبْنَا فِي ذَلِكَ التُّرَابِ، [فَحَرَّكَ عَلِيًّا بِرِجْلِهِ، فَقَالَ: قُمْ يَا أَبَا تُرَابٍ، أَلا أُخْبِرُكَ بِأَشْقَى النَّاسِ؟ أَحْمَرَ ثَمُودَ عَاقِرِ النَّاقَةِ، وَالَّذِي يَضْرِبُكَ يَا عَلِيُّ عَلَى هَذَا

- يَعْنِي قَرْنَهُ- فَيُخَضِّبُ هَذِهِ مِنْهَا، وَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ] . حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خُثَيْمٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ ابن كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خُثَيْمٍ- وَهُوَ أَبُو يَزِيدَ- عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَعَلِيٌّ رفيقين، فذكر نحوه. وقد قيل في ذلك غير هذا القول، وذلك ما حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قِيلَ لِسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: إِنَّ بَعْضَ أُمَرَاءِ الْمَدِينَةِ يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْكَ تَسُبُّ عَلِيًّا عِنْدَ الْمِنْبَرِ، قَالَ: أَقُولُ مَاذَا؟ قَالَ: تَقُولُ: أَبَا تُرَابٍ، قَالَ: وَاللَّهِ ما سماه بذلك الا رسول الله ص، قَالَ: قُلْتُ: وَكَيْفَ ذَاكَ يَا أَبَا الْعَبَّاسِ؟ قَالَ: دَخَلَ عَلِيٌّ عَلَى فَاطِمَةَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا، فَاضْطَجَعَ فِي فَيْءِ الْمَسْجِدِ قَالَ: ثم دخل رسول الله ص عَلَى فَاطِمَةَ، فَقَالَ لَهَا: أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ؟ فَقَالَتْ: هُوَ ذَاكَ مُضْطَجِعٌ فِي الْمَسْجِدِ، قَالَ: فجاءه رسول الله ص، فَوَجَدَهُ قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ ظَهْرِهِ، وَخَلُصَ التُّرَابُ إِلَى ظَهْرِهِ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ ظهره، ويقول: اجلس أبا تراب فو الله ما سماه به الا رسول الله ص، وو الله مَا كَانَ لَهُ اسْمٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهُ!

سريه عبد الله بن جحش

قال أبو جعفر: وفي هذه السنة في صفر، لليال بقين منه، تزوج علي بن ابى طالب ع فاطمة رضي الله عنها، حدثت بذلك، عن مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْن عبد الله بْن أبي سبرة، عن إسحاق ابن عبد الله بن أبي فروة، عن أبي جعفر . سريه عبد الله بن جحش قال أبو جعفر الطبري: ولما رجع رسول الله ص من طلب كرز بن جابر الفهري إلى المدينة، وذلك في جمادى الآخرة، بعث في رجب عبد الله بن جحش معه ثمانية رهط من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد، فيما حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، بِذَلِكَ. وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ فَإِنَّهُ زَعَمَ ان رسول الله ص بعث عبد الله ابن جَحْشٍ سريةً فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَيَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، قال: وكتب رسول الله ص له كتابا- يعنى

لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ- وَأَمَرَهُ أَلَّا يَنْظُرَ فِيهِ حَتَّى يَسِيرَ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ يَنْظُرَ فِيهِ فَيُمْضِيَ لَهُ أَمْرَهُ بِهِ، وَلا يَسْتَكْرِهَ أَحَدًا من اصحابه، فلما سار عبد الله ابن جَحْشٍ يَوْمَيْنِ، فَتَحَ الْكِتَابَ، وَنَظَرَ فِيهِ، فَإِذَا فيه: وإذا نَظَرْتَ فِي كِتَابِي هَذَا، فِسِرْ حَتَّى تَنْزِلَ نَخْلَةً بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، فَتَرَصَّدْ بِهَا قُرَيْشًا، وَتَعَلَّمْ لَنَا مِنْ أَخْبَارِهِمْ فَلَمَّا نَظَرَ عَبْدُ اللَّهِ فِي الْكِتَابِ، قَالَ: سَمْعٌ وَطَاعَةٌ، ثُمَّ قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله ص أَنْ أَمْضِيَ إِلَى نَخْلَةٍ، فَأَرْصُدَ بِهَا قُرَيْشًا حَتَّى آتِيَهُ مِنْهُمْ بِخَبَرٍ، وَقَدْ نَهَانِي أَنْ أَسْتَكْرِهَ أَحَدًا مِنْكُمْ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُرِيدُ الشَّهَادَةَ، وَيَرْغَبُ فِيهَا فَلْيَنْطَلِقْ، وَمَنْ كَرِهَ ذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ، فَأَمَّا أَنَا فَمَاضٍ لأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ص. فَمَضَى وَمَضَى مَعَهُ أَصْحَابُهُ، فَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَسَلَكَ عَلَى الْحِجَازِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِمَعْدِنٍ فَوْقَ الْفَرْعِ يُقَالُ لَهُ بَحْرَانُ، أَضَلَّ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُتْبَةُ بْنُ غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه، فَتَخَلَّفَا عَلَيْهِ فِي طَلَبِهِ وَمَضَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَبَقِيَّةُ أَصْحَابِهِ حَتَّى نَزَلَ بِنَخْلَةٍ، فَمَرَّتْ بِهِ عِيرٌ لِقُرَيْشٍ تَحْمِلُ زَبِيبًا وَأَدَمًا وَتِجَارَةً مِنْ تِجَارَةِ قُرَيْشٍ فِيهَا، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَخُوهُ نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّانِ، وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. فَلَمَّا رَآهُمُ الْقَوْمُ هَابُوهُمْ، وَقَدْ نَزَلُوا قَرِيبًا مِنْهُمْ، فَأَشْرَفَ لَهُمْ عُكَّاشَةُ بْنُ مُحْصِنٍ- وَقَدْ كَانَ حَلَقَ رَأْسَهُ- فَلَمَّا رَأَوْهُ أَمِنُوا، وَقَالُوا: عُمَّارٌ لا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ وَتَشَاوَرَ الْقَوْمُ فِيهِمْ، وَذَلِكَ فِي آخِرِ يَوْمٍ من رجب،

فَقَالَ الْقَوْمُ: وَاللَّهِ لَئِنْ تَرَكْتُمُ الْقَوْمَ هَذِهِ الليلة ليدخلن الحرم، فليمتنعن بِهِ مِنْكُمْ، وَلَئِنْ قَتَلْتُمُوهُمْ لَتَقْتُلَنَّهُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَتَرَدَّدَ الْقَوْمُ، وَهَابُوا الإِقْدَامَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ تَشَجَّعُوا عَلَيْهِمْ، وَأَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِ مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْهُمْ، وَأَخْذِ مَا مَعَهُمْ، فَرَمَى وَاقِدُ بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، وَاسْتَأْسَرَ عُثْمَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَكَمَ بْنَ كَيْسَانَ، وَأَفْلَتَ نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَأَعْجَزَهُمْ، وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَأَصْحَابُهُ بِالْعِيرِ وَالأَسِيرَيْنِ، حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ الله ص بِالْمَدِينَةِ. قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جحش، قال لأصحابه: ان لرسول الله ص مِمَّا غَنِمْتُمُ الْخُمُسَ- وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ اللَّهُ مِنَ الْغَنَائِمِ الْخُمُسَ- فَعَزَلَ لِرَسُولِ اللَّهِ ص خُمُسَ الْغَنِيمَةِ، وَقَسَّمَ سَائِرَهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا قدموا على رسول الله ص، [قَالَ: مَا أَمَرْتُكُمْ بِقِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ] فَوَقَّفَ الْعِيرَ وَالأَسِيرَيْنِ، وَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا. فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ص سَقَطَ فِي أَيْدِي الْقَوْمِ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا، وَعَنَّفَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِيمَا صَنَعُوا وَقَالُوا لَهُمْ: صَنَعْتُمْ مَا لَمْ تُؤْمَرُوا بِهِ، وَقَاتَلْتُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَلَمْ تُؤْمَرُوا بِقِتَالٍ! وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: قَدِ اسْتَحَلَّ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، فَسَفَكُوا فِيهِ الدَّمُ وَأَخَذُوا فِيهِ الأَمْوَالَ، وَأَسَرُوا فِيهِ الرِّجَالَ فَقَالَ مَنْ يَرُدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ كَانَ بِمَكَّةَ: إِنَّمَا أَصَابُوا مَا أصابوا في شعبان وقالت يهود، تفاءل بذلك على رسول الله ص: عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ قَتَلَهُ وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: عَمْرٌو عَمَرَتِ الْحَرْبُ، وَالْحَضْرَمِيُّ حَضَرَتِ الْحَرْبُ، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَقَدَتِ الْحَرْبُ، فَجَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ لا لَهُمْ. فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل على رسوله ص

: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ» الآية. فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِهَذَا مِنَ الأَمْرِ وَفَرَجَ اللَّهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا كَانُوا فِيهِ من الشفق، قبض رسول الله ص الْعِيرَ وَالأَسِيرَيْنِ. وبَعَثَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ فِي فِدَاءِ عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، [فقال رسول الله ص: لا نُفْدِيكُمُوهُمَا، حَتَّى يَقْدُمَ صَاحِبَانَا- يَعْنِي سَعْدَ ابن أَبِي وَقَّاصٍ وَعُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ- فَإِنَّا نَخْشَاكُمْ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ تَقْتُلُوهُمَا نَقْتُلْ صَاحِبَيْكُمْ] فَقَدِمَ سَعْدٌ وعتبة، ففاداهما رسول الله ص مِنْهُمْ، فَأَمَّا الْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ فَأَسْلَمَ فَحَسُنَ اسلامه، واقام عند رسول الله ص حَتَّى قُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ شَهِيدًا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَخَالَفَ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْقِصَّةِ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيَّ جَمِيعًا السُّدِّيُّ، حَدَّثَنِي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا اسباط، عن السدى: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» ، وذلك ان رسول الله ص بَعَثَ سَرِيَّةً وَكَانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ، عَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ الأَسَدِيُّ وَفِيهِمْ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ السُّلَمِيُّ حَلِيفٌ لِبَنِي نَوْفَلٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْيَرْبُوعِيُّ، حَلِيفٌ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَكَتَبَ مَعَ ابن جحش كتابا وامره الا يَقْرَأَهُ حَتَّى يَنْزِلَ بَطْنَ مَلَلٍ، فَلَمَّا نَزَلَ بَطْنَ مَلَلٍ فَتَحَ الْكِتَابَ، فَإِذَا فِيهِ: أَنْ سِرْ حَتَّى تَنْزِلَ بَطْنَ نَخْلَةَ، فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ

الْمَوْتَ فَلْيَمْضِ وَلْيُوصِ، فَإِنِّي مُوصٍ وَمَاضٍ لأَمْرِ رسول الله ص فَسَارَ وَتَخَلَّفَ عَنْهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ، أَضَلا رَاحِلَةً لَهُمَا، فَأَتَيَا بِحَرَّانَ يَطْلُبَانِهَا، وَسَارَ ابْنُ جَحْشٍ إِلَى بَطْنِ نَخْلَةَ، فَإِذَا هُوَ بِالْحَكَمِ بْنِ كَيْسَانَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ عُثْمَانَ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ، فَاقْتَتَلُوا، فَأَسَرُوا الْحَكَمَ بْنَ كَيْسَانَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَانْفَلَتَ الْمُغِيرَةُ، وَقُتِلَ عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ، قَتَلَهُ وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. فَكَانَتْ أَوَّلُ غَنِيمَةٍ غَنِمَهَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ص. فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ بِالأَسِيرَيْنِ وَمَا أَصَابُوا مِنَ الأَمْوَالِ، أَرَادَ أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يُفَادُوا الاسيرين، فقال النبي ص: حَتَّى نَنْظُرَ مَا فَعَلَ صَاحِبَانَا: فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدٌ وَصَاحِبُهُ فَادَى بِالأَسِيرَيْنِ، فَفَجَرَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ، وَقَالُوا: مُحَمَّدٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَتَّبِعُ طَاعَةَ اللَّهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَحَلَّ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، وَقَتَلَ صَاحِبَنَا فِي رَجَبٍ! فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: إِنَّمَا قَتَلْنَاهُ فِي جُمَادَى- وَقِيلَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ وَآخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى- وَغَمَدَ الْمُسْلِمُونَ سُيُوفَهُمْ حِينَ دَخَلَ رَجَبٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجل يعير اهل مكة: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ» الآيَةَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّ النبي ص كان

ذكر بقية ما كان في السنه الثانيه من سنى الهجره

انْتَدَبَ لِهَذَا الْمَسِيرِ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فِيهِ، فَنَدَبَ لَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ. ذكر الخبر بذلك: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ رَجُلٌ عَنْ أَبِي السَّوَّارِ، يُحَدِّثُهُ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ الله، عن رسول الله ص أَنَّهُ بَعَثَ رَهْطًا، فَبَعَثَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، فَلَمَّا أَخَذَ لِيَنْطَلِقَ بَكَى صَبَابَةً الى رسول الله ص، فَبَعَثَ رَجُلا مَكَانَهُ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بن جحش، وكتب له كتابا وامره الا يَقْرَأَ الْكِتَابَ حَتَّى يَبْلُغَ كَذَا وَكَذَا: وَلا تُكْرِهَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ عَلَى السَّيْرِ مَعَكَ فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ اسْتَرْجَعَ، ثُمَّ قَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً لأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ! فَخَبَّرَهُمْ بِالْخَبَرِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ، فَرَجَعَ رَجُلانِ وَمَضَى بَقِيَّتُهُمْ، فَلَقُوا ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَقَتَلُوهُ، وَلَمْ يَدْرُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ رَجَبٍ أَوْ مِنْ جُمَادَى! فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ: فَعَلْتُمْ كَذَا وَكَذَا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ! فاتوا النبي ص، فحدثوه الحديث، فانزل الله عز وجل: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ» إِلَى قَوْلِهِ: «وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ» ، الْفِتْنَةُ هِيَ الشِّرْكُ. وَقَالَ بَعْضُ الَّذِينَ- أَظُنُّهُ قَالَ-: كَانُوا فِي السَّرِيَّةِ: وَاللَّهِ مَا قَتَلَهُ إِلا وَاحِدٌ، فَقَالَ: إِنْ يَكُنْ خَيْرًا فَقَدْ وَلِيتُ، وَإِنْ يَكُنْ ذَنْبًا فَقَدْ عَمِلْتُ ذكر بقية ما كان في السنة الثانية من سني الهجرة ومن ذلك ما كان من صرف الله عز وجل قبلة المسلمين من الشام

إلى الكعبة، وذلك في السنة الثانية من مقدم النبي ص المدينة في شعبان. واختلف السلف من العلماء في الوقت الذي صرفت فيه من هذه السنة، فقال بعضهم- وهم الجمهور الأعظم: صرفت في النصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدم رسول الله ص المدينة. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي- في خبر ذكره- عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود- وعن ناس من أصحاب النبي ص: كَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَلَمَّا قدم النبي ص الْمَدِينَةَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مُهَاجَرِهِ، كَانَ إِذَا صَلَّى رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ يَنْظُرُ مَا يُؤْمَرُ، وَكَانَ يُصَلِّي قِبَلَ بيت المقدس، فنسختها الكعبه، وكان النبي ص يُحِبُّ أَنْ يُصَلِّيَ قِبَلَ الْكَعْبَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ» ، الآيَةَ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق قال صرفت القبلة في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدم رسول الله ص المدينة. وحدثت عن ابن سعد، عن الواقدي مثل ذلك وقال: صرفت القبلة في الظهر يوم الثلاثاء للنصف من شعبان

قال أبو جعفر: وقال آخرون: إنما صرفت القبلة إلى الكعبة لستة عشر شهرا مضت من سني الهجرة. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الآمِلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، قَالَ: كَانُوا يُصَلُّونَ نَحْوَ بَيْتِ المقدس، ورسول الله ص بمكة قبل الهجره، وبعد ما هاجر رسول الله ص صلى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ وُجِّهَ بَعْدَ ذَلِكَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ زَيْدٍ يَقُولُ: استقبل النبي ص بَيْتَ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، فَبَلَغَهُ أَنَّ يَهُودَ تَقُولُ: وَاللَّهِ مَا دَرَى مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَيْنَ قِبْلَتُهُمْ حَتَّى هَدَيْنَاهُمْ! فَكَرِهَ ذَلِكَ النَّبِيُّ ص، وَرَفَعَ وَجْهَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ» الآيَةَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فُرِضَ- فِيمَا ذُكِرَ- صَوْمُ رَمَضَانَ وَقِيلَ: إِنَّهُ فرض في شعبان منها وكان النبي ص حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، رَأَى يَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَسَأَلَهُمْ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي غَرَّقَ اللَّهُ فِيهِ آلَ فِرْعَوْنَ، وَنَجَّى مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ مِنْهُمْ، فَقَالَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْهُمْ فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصَوْمِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ، لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِصَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَلَمْ يَنْهَهُمْ عَنْهُ

وَفِيهَا أَمَرَ النَّاسَ بِإِخْرَاجِ زَكَاةَ الْفِطْرِ وَقِيلَ ان النبي ص خَطَبَ النَّاسَ قَبْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَأَمَرَهُمْ بِذَلِكَ. وَفِيهَا خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى فَصَلَّى بِهِمْ صَلاةَ الْعِيدِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ خَرْجَةٍ خَرَجَهَا بِالنَّاسِ إِلَى الْمُصَلَّى لِصَلاةِ الْعِيدِ وَفِيهَا- فِيمَا ذُكِرَ- حُمِلَتِ الْعَنْزَةُ لَهُ إِلَى الْمُصَلَّى فَصَلَّى إِلَيْهَا، وَكَانَتْ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ- كَانَ النَّجَاشِيُّ وَهَبَهَا لَهُ- فَكَانَتْ تُحْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الأَعْيَادِ، وَهِيَ الْيَوْمَ فِيمَا بَلَغَنِي عِنْدَ الْمُؤَذِّنِينَ بِالْمَدِينَةِ. وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ الكبرى بين رسول الله ص وَالْكُفَّارِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْهَا. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ كَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ يَوْمَ تِسْعَةَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رمضان. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي تِسْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً مِنْ رَمَضَانَ، فَإِنَّهَا لَيْلَةُ بَدْرٍ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ الأَسَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حُجَيْرٍ الثَّعْلَبِيِّ، عَنِ الأَسْوَدِ

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي تِسْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ، فَإِنَّ صَبِيحَتَهَا كَانَتْ صَبِيحَةَ بَدْرٍ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ زَيْدٍ، أَنَّهُ كَانَ لا يُحْيِي لَيْلَةً مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ كَمَا يُحْيِي لَيْلَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَيُصْبِحُ وَجْهَهُ مُصْفَرًّا مِنْ أَثَرِ السَّهَرِ، فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَّقَ فِي صَبِيحَتِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَبِيحَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ يُحَدِّثُ عَنْ حُجَيْرٍ، عَنِ الأَسْوَدِ وَعَلْقَمَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، قَالَ: الْتَمِسُوهَا فِي سَبْعَ عَشْرَةَ وتلا هذه الآية: «يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» ، يَوْمُ بَدْرٍ، ثُمَّ قَالَ: أَوْ تِسْعَ عَشْرَةَ، أَوْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ. حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أخبرنا محمد بن عمر، قَالَ: حَدَّثَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَانَتْ بَدْرٌ صَبِيحَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ. حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدثنا الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مِثْلَهُ. قَالَ الْحَارِثُ: قَالَ ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِمُحَمَّدِ بْنِ

صَالِحٍ، فَقَالَ: هَذَا أَعْجَبُ الأَشْيَاءِ، مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا شَكَّ فِي هَذَا، إِنَّهَا صَبِيحَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ، يَوْمَ الْجُمُعَةِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ: وَسَمِعْتُ عاصم بن عمر بن قتادة ويزيد بن رُومَانَ يقولان ذلك قَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ صالح: يا بن أَخِي، وَمَا تَحْتَاجُ إِلَى تَسْمِيَةِ الرِّجَالِ فِي هَذَا! هَذَا أَبْيَنُ مِنْ ذَلِكَ، مَا يَجْهَلُ هَذَا النِّسَاءُ فِي بُيُوتِهِنَّ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَذَكَرْتُهُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، فَقَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّهُ كَانَ يُحْيِي لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَإِنْ كَانَ لَيُصْبِحُ وَعَلَى وَجْهِهِ أَثَرُ السَّهَرِ، وَيَقُولُ: فَرَّقَ اللَّهُ فِي صَبِيحَتِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَأَعَزَّ فِي صُبْحِهَا الإِسْلامَ، وَأَنْزَلَ فِيهَا الْقُرْآنَ، وَأَذَلَّ فِيهَا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ. وَكَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى ابن وَاضِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَعْقُوبَ أَبُو طالب، عن ابى عون محمد ابن عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ، قَالَ: قَالَ [قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: كَانَتْ لَيْلَةُ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى، الْجَمْعانِ، لِسَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ] . وَكَانَ الَّذِي هَاجَ وَقْعَةَ بَدْرٍ وَسَائِرَ الْحُرُوبِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ الله ص وَبَيْنَ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ- فِيمَا قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ- مَا كَانَ مِنْ قَتْلِ وَاقِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيِّ عَمْرو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ

ذكر وقعه بدر الكبرى

ذكر وقعة بدر الكبرى حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ، وَعَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ- قَالَ عَلِيٌّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، وَقَالَ عَبْدُ الوارث: حَدَّثَنِي أَبِي- قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانٌ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ كَتَبْتَ إِلَيَّ فِي أَبِي سُفْيَانَ ومخرجِهِ، تَسْأَلَنِي كَيْفَ كَانَ شَأْنُهُ؟ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَقْبَلَ مِنَ الشَّامِ فِي قَرِيبٍ مِنْ سَبْعِينَ رَاكِبًا مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا، كَانُوا تُجَّارًا بِالشَّامِ، فَأَقْبَلُوا جَمِيعًا مَعَهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَتِجَارَتُهُمْ، فَذُكِرُوا لرسول الله ص وَأَصْحَابِهِ، وَقَدْ كَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَقُتِلَتْ قَتْلَى، وَقُتِلَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ فِي نَاسٍ بِنَخْلَةٍ، وَأُسِرَتْ أُسَارَى مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ بَعْضُ بَنِي الْمُغِيرَةِ، وَفِيهِمُ ابْنُ كَيْسَانَ مَوْلَاهُمْ، أَصَابَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَوَاقِدٌ حَلِيفُ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ، فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رسول الله ص بَعَثَهُمْ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْوَقْعَةُ هَاجَتِ الْحَرْبَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ص وَبَيْنَ قُرَيْشٍ، وَأَوَّلَ مَا أَصَابَ بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنَ الْحَرْبِ، وَذَلِكَ قَبْلَ مَخْرَجِ أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِهِ إِلَى الشَّامِ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَقْبَلَ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ رُكْبَانِ قُرَيْشٍ مُقْبِلِينَ مِنَ الشَّامِ، فَسَلَكُوا طَرِيقَ الساحل، فلما سمع بهم رسول الله ص نَدَبَ أَصْحَابَهُ وَحَدَّثَهُمْ بِمَا مَعَهُمْ مِنَ الأَمْوَالِ، وَبِقِلَّةِ عَدَدِهِمْ، فَخَرَجُوا لا يُرِيدُونَ إِلَّا أَبَا سُفْيَانَ وَالرَّكْبَ مَعَهُ، لا يَرَوْنَهَا إِلَّا غَنِيمَةً لَهُمْ، لا يَظُنُّونَ أَنْ يَكُونَ كَبِيرُ قِتَالٍ إِذَا لَقُوهُمْ، وَهِيَ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا: «وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ» . فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ الله ص معترضون له،

بَعَثَ إِلَى قُرَيْشٍ: إِنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ مُعْتَرِضُونَ لَكُمْ، فَأَجِيرُوا تِجَارَتَكُمْ فَلَمَّا أَتَى قُرَيْشًا الْخَبَرُ- وَفِي عِيرِ أَبِي سُفْيَانَ، مِنْ بُطُونِ كَعْبِ ابن لُؤَيٍّ كُلِّهَا- نَفَرَ لَهَا أَهْلُ مَكَّةَ، وَهِيَ نَفْرَةُ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، لَيْسَ فِيهَا من بنى عامر احد الا من كَانَ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ حِسْلٍ، وَلَمْ يسمع بنفره قريش رسول الله ص ولا اصحابه، حتى قدم النبي ص بَدْرًا- وَكَان طَرِيقُ رُكْبَانِ قُرَيْشٍ، مَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ طَرِيقَ السَّاحِلِ إِلَى الشَّامِ- فَخَفَضَ أَبُو سُفْيَانَ عَنْ بَدْرٍ، وَلَزِمَ طَرِيقَ السَّاحِلِ، وَخَافَ الرصد على بدر، وسار النبي ص، حَتَّى عَرَّسَ قَرِيبًا مِنْ بَدْرٍ، وَبَعَثَ النَّبِيُّ ص الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ فِي عِصَابَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى مَاءِ بَدْرٍ، وَلَيْسُوا يَحْسَبُونَ أَنَّ قُرَيْشًا خرجت لهم، فبينا النبي ص قَائِمٌ يُصَلِّي، إِذْ وَرَدَ بَعْضُ رَوَايَا قُرَيْشٍ مَاءَ بَدْرٍ، وَفِيمَنْ وَرَدَ مِنَ الرَّوَايَا غُلَامٌ لِبَنِي الْحَجَّاجِ أَسْوَدُ، فَأَخَذَهُ النَّفَرُ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ رسول الله ص مَعَ الزُّبَيْرِ إِلَى الْمَاءِ، وَأَفْلَتَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْعَبْدِ نَحْوَ قُرَيْشٍ، فَأَقْبَلُوا بِهِ حَتَّى أَتَوْا به رسول الله ص وَهُوَ فِي مُعَرَّسِهِ، فَسَأَلُوهُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِهِ، لا يَحْسِبُونَ إِلَّا أَنَّهُ مَعَهُمْ، فَطَفِقَ الْعَبْدُ يُحَدِّثُهُمْ عَنْ قُرَيْشٍ وَمَنْ خَرَجَ مِنْهَا، وَعَنْ رُءُوسِهِمْ، وَيَصْدُقُهُمُ الْخَبَرَ، وَهُمْ أَكْرَهُ شَيْءٍ إِلَيْهِمُ الْخَبَرُ الَّذِي يُخْبِرُهُمْ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُونَ حِينَئِذٍ بالركب أبا سفيان واصحابه، والنبي ص يُصَلِّي، يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ يَرَى وَيَسْمَعُ مَا يُصْنَعُ بِالْعَبْدِ، فَطَفِقُوا إِذَا ذَكَرَ لَهُمْ أَنَّهَا قُرَيْشٌ جَاءَتْهُمْ، ضَرَبُوهُ وَكَذَّبُوهُ، وَقَالُوا: إِنَّمَا تَكْتُمُنَا أَبَا سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ، فَجَعَلَ الْعَبْدُ إِذَا

أَذْلَقُوهُ بِالضَّرْبِ وَسَأَلُوهُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِهِ- وَلَيْسَ لَهُ بِهِمْ عِلْمٌ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ رَوَايَا قُرَيْشٍ- قَالَ: نَعَمْ، هَذَا أَبُو سُفْيَانَ، وَالرَّكْبُ حِينَئِذٍ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ» - حَتَّى بَلَغَ- «أَمْراً كانَ مَفْعُولًا» ، فَطَفِقُوا إِذَا قَالَ لَهُمُ الْعَبْدُ: هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَتَتْكُمْ ضَرَبُوهُ، وَإِذَا قَالَ لَهُمْ: هَذَا أَبُو سُفْيَانَ تَرَكُوهُ. فَلَمَّا رَأَى صَنِيعَهُمُ النَّبِيُّ ص انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ وَقَدْ سَمِعَ الَّذِي أَخْبَرَهُمْ، [فزعموا ان رسول الله ص، قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّكُمْ لَتَضْرِبُونَهُ إِذَا صَدَقَ، وَتَتْرُكُونَهُ إِذَا كَذَبَ!] قَالُوا: فَإِنَّهُ يُحَدِّثُنَا أَنَّ قُرَيْشًا قَدْ جَاءَتْ، قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ صَدَقَ، قَدْ خَرَجَتْ قُرَيْشٌ تُجِيرُ رِكَابَهَا، فَدَعَا الْغُلَامَ فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ بِقُرَيْشٍ، وَقَالَ: لا عِلْمَ لِي بِأَبِي سُفْيَانَ، فَسَأَلَهُ: كَمِ الْقَوْمُ؟ فَقَالَ: لا أَدْرِي، وَاللَّهِ هُمْ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ فَزَعَمُوا ان النبي ص، قَالَ: مَنْ أَطْعَمَهُمْ أَوَّلَ مِنْ أَمْسِ؟ فَسَمَّى رَجُلًا أَطْعَمَهُمْ، فَقَالَ: كَمْ جَزَائِرَ نَحَرَ لَهُمْ؟ قَالَ: تِسْعَ جَزَائِرَ، قَالَ: فَمَنْ أَطْعَمَهُمْ أَمْسِ؟ فَسَمَّى رَجُلًا، فَقَالَ: كَمْ نَحَرَ لَهُمْ؟ قَالَ: عشر جزائر، فزعموا ان النبي ص قال: القوم ما بين التسعمائة إِلَى الأَلْفِ فَكَانَ نَفْرَةُ قُرَيْشٍ يَوْمَئِذٍ خَمْسِينَ وتسعمائة

فانطلق النبي ص فَنَزَلَ الْمَاءَ وَمَلأَ الْحِيَاضَ، وَصَفَّ عَلَيْهَا أَصْحَابَهُ، حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِ الْقَوْمُ فَلَمَّا وَرَدَ رَسُولُ الله ص بدرا قال: هذه مصارعهم، فوجدوا النبي ص قَدْ سَبَقَهُمْ إِلَيْهِ وَنَزَلَ عَلَيْهِ فَلَمَّا طَلَعُوا عليه [زعموا ان النبي ص قَالَ: هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ جَاءَتْ بِجَلَبَتِهَا وَفَخْرِهَا، تُحَادُّكُ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ! اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مَا وَعَدْتَنِي] . فَلَمَّا أَقْبَلُوا اسْتَقْبَلَهُمْ، فَحَثَا فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ وَكَانُوا قَبْلَ أَنْ يَلْقَاهُمُ النبي ص قَدْ جَاءَهُمْ رَاكِبٌ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ وَالرَّكْبِ الَّذِينَ مَعَهُ: أَنِ ارْجِعُوا- وَالرَّكْبُ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ قُرَيْشًا بِالرَّجْعَةِ بِالْجُحْفَةِ- فَقَالُوا: وَاللَّهِ لا نَرْجِعُ حَتَّى نَنْزِلَ بَدْرًا، فَنُقِيمَ بِهِ ثَلاثَ لَيَالٍ، وَيَرَانَا مَنْ غَشِيَنَا مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ، فَإِنَّهُ لَنْ يَرَانَا أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ وَمَا جَمَعْنَا فَيُقَاتِلُنَا وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «الذين خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ» ، فالتقوا هم والنبي ص، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَأَخْزَى أَئِمَّةَ الْكُفْرِ وَشَفَى صُدُورَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ. حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إسحاق، عن حارثة، عن على ع، قَالَ: لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَصَبْنَا مِنْ ثِمَارِهَا، فَاجْتَوَيْنَاهَا، وَأَصَابَنَا بِهَا وَعْكٌ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ص يَتَخَبَّرُ عَنْ بَدْرٍ، فَلَمَّا بَلَغَنَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قد أقبلوا سار رسول الله ص إِلَى بَدْرٍ- وَبَدْرٌ بِئْرٌ- فَسَبَقْنَا الْمُشْرِكِينَ إِلَيْهَا، فَوَجَدْنَا فِيهَا رَجُلَيْنِ، مِنْهُمْ رَجُلٌ مِنْ

قُرَيْشٍ، وَمَوْلَى لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، فَأَمَّا الْقُرَشِيُّ فَانْفَلَتَ، وَأَمَّا مَوْلَى عُقْبَةَ فَأَخَذْنَاهُ، فَجَعَلْنَا نَقُولُ: كَمِ الْقَوْمُ؟ فَيَقُولُ: هُمْ وَاللَّهِ كَثِيرٌ، شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ، فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا قَالَ ذَلِكَ ضَرَبُوهُ، حَتَّى انْتَهَوْا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ص، فَقَالَ لَهُ: كَمِ الْقَوْمُ؟ فَقَالَ: هُمْ وَاللَّهِ كثير، شديد بأسهم، فجهد النبي ص أَنْ يُخْبِرَهُ كَمْ هُمْ، فَأَبَى ثُمَّ إِنَّ رسول الله ص سَأَلَهُ: كَمْ يَنْحَرُونَ مِنَ الْجُزُرِ؟ فَقَالَ: عَشْرًا كل يوم، قال رسول الله ص: الْقَوْمُ أَلْفٌ. ثُمَّ إِنَّهُ أَصَابَنَا مِنَ اللَّيْلِ طَشٌّ مِنَ الْمَطَرِ، فَانْطَلَقْنَا تَحْتَ الشَّجَرِ وَالْحَجَفِ نَسْتَظِلُّ تَحْتَهَا مِنَ الْمَطَرِ، وَبَاتَ رَسُولُ اللَّهِ ص يَدْعُو رَبَّهُ: اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ لا تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ فَلَمَّا أَنْ طَلَعَ الْفَجْرُ نَادَى: الصَّلاةَ عِبَادَ اللَّهِ! فَجَاءَ النَّاسُ مِنْ تَحْتِ الشَّجَرِ وَالْحَجَفِ، فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ الله ص، وَحَرَّضَ عَلَى الْقِتَالِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ جَمْعَ قُرَيْشٍ عِنْدَ هَذِهِ الضَّلْعَةِ مِنَ الْجَبَلِ فَلَمَّا أَنْ دَنَا الْقَوْمُ مِنَّا وَصَافَفْنَاهُمْ، إِذَا رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ يَسِيرُ فِي القوم، فقال رسول الله ص: يَا عَلِيُّ، نَادِ لِي حَمْزَةَ- وَكَانَ أَقْرَبَهُمْ إِلَى الْمُشْرِكِينَ-: مَنْ صَاحِبُ الْجَمَلِ الأَحْمَرِ؟ وَمَاذَا يقول لهم؟ وقال رسول الله ص: إِنْ يَكُنْ فِي الْقَوْمِ مَنْ يَأْمُرُ بِالْخَيْرِ، فَعَسَى أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ الْجَمَلِ الأَحْمَرِ، فَجَاءَ حَمْزَةُ، فَقَالَ: هُوَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَهُوَ يَنْهَى عَنِ الْقِتَالِ، وَيَقُولُ لَهُمْ: إِنِّي أَرَى قَوْمًا مُسْتَمِيتِينَ لا تَصِلُونَ إِلَيْهِمْ وَفِيكُمْ خَيْرٌ، يَا قَوْمُ اعْصُبُوهَا الْيَوْمَ بِرَأْسِي، وَقُولُوا: جَبُنَ عتبة ابن رَبِيعَةَ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي لَسْتُ بِأَجْبَنِكُمْ

قَالَ: فَسَمِعَ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: أَنْتَ تَقُولُ هَذَا! وَاللَّهِ لَوْ غَيْرُكَ يَقُولُ هَذَا لَعَضَضْتُهُ! لَقَدْ مُلِئَتْ رِئَتُكَ وَجَوْفُكَ رُعْبًا، فَقَالَ عُتْبَةُ: إِيَّايَ تُعَيِّرُ يَا مُصَفِّرَ اسْتِهِ! سَتَعْلَمُ الْيَوْمَ أَيُّنَا أَجْبَنُ! قَالَ: فَبَرَزَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَأَخُوهُ شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَابْنُهُ الْوَلِيدُ، حَمِيَّةً، فَقَالُوا: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَخَرَجَ فِتْيَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ سِتَّةٌ، فَقَالَ عُتْبَةُ: لا نُرِيدُ هَؤُلاءِ، وَلَكِنْ يُبَارِزُنَا مِنْ بَنِي عَمِّنَا مِنْ بَنِي عَبْدِ المطلب [فقال رسول الله ص: يَا عَلِيُّ قُمْ، يَا حَمْزَةُ قُمْ، يَا عُبَيْدَةُ بْنَ الْحَارِثِ قُمْ، فَقَتَلَ اللَّهُ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، وَجُرِحَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ، فَقَتَلْنَا مِنْهُمْ سَبْعِينَ، وَأَسَرْنَا مُنْهُمْ سَبْعِينَ] قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ قَصِيرٌ بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَسِيرًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا هَذَا أَسَرَنِي، وَلَكِنْ أَسَرَنِي رَجُلٌ أَجْلَحُ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا، عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ، مَا أَرَاهُ فِي الْقَوْمِ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: أَنَا أَسَرْتُهُ، [فقال رسول الله ص: لَقَدْ آزَرَكَ اللَّهُ بِمَلَكٍ كَرِيمٍ] [قَالَ عَلِيُّ: فَأُسِرَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْعَبَّاسُ وَعَقِيلٌ وَنَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ] . حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبُزُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ، [عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: لَمَّا أَنْ كَانَ يَوْمُ بدر، وحضر الباس اتقينا برسول الله، فَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بَأْسًا، وَمَا كَانَ مِنَّا أَحَدٌ أَقْرَبُ إِلَى الْعَدُوِّ مِنْهُ] . حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ، [عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: سمعته

يَقُولُ: مَا كَانَ فِينَا فَارِسٌ يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرَ مِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا فينا الا نائم، الا رسول الله ص قَائِمًا إِلَى شَجَرَةٍ يُصَلِّي، وَيَدْعُو حَتَّى الصُّبْحَ] . حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: إن رسول الله ص سمع بأبي سفيان بن حرب مقبلا من الشام في عير لقريش عظيمة، فيها أموال لقريش وتجارة من تجاراتهم، وفيها ثلاثون راكبا من قريش- أو أربعون- منهم مخرمة بن نوفل بْن أهيب بْن عبد مناف بْن زهرة، وعمرو بن العاص بن وائل بن هشام ابن سعيد بن سهم. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قَالَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيُّ وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، كُلٌّ قَدْ حَدَّثَنِي بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ، فَاجَتْمَعَ حَدِيثُهُمْ فِيمَا سُقْتُ مِنْ حَدِيثِ بَدْرٍ، قالوا: لما سمع رسول الله ص بِأَبِي سُفْيَانَ مُقْبِلًا مِنَ الشَّامِ، نَدَبَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ: هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا أَمْوَالُهُمْ، فَاخْرُجُوا إِلَيْهَا، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُنَفِّلَكُمُوهَا، فَانْتَدَبَ النَّاسَ فَخَفَّ بَعْضُهُمْ وَثَقُلَ بَعْضُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لم يظنوا ان رسول الله ص يَلْقَى حَرْبًا، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ دَنَا مِنَ الْحِجَازِ يَتَحَسَّسُ الأَخْبَارَ، وَيَسْأَلُ مَنْ لَقِيَ مِنَ الرُّكْبَانِ تَخَوُّفًا عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ، حَتَّى أَصَابَ خَبَرًا مِنْ بَعْضِ الرُّكْبَانِ، أَنَّ مُحَمَّدًا قَدِ اسْتَنْفَرَ أَصْحَابَهُ لَكَ وَلِعِيرِكَ فَحَذِرَ عِنْدَ ذَلِكَ، فَاسْتَأْجَرَ ضَمْضَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ، فَبَعَثَهُ إِلَى مَكَّةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ قُرَيْشًا يَسْتَنْفِرَهُمْ إِلَى أَمْوَالِهِمْ، وَيُخْبِرَهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ عَرَضَ لَهَا فِي أَصْحَابِهِ،

فَخَرَجَ ضَمْضَمُ بْنُ عَمْرٍو سَرِيعًا إِلَى مَكَّةَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قال: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وحدثني مَنْ لا أَتَّهِمُ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عباس، عن ابن عباس ويزيد ابن رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: وَقَدْ رَأَتْ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَبْلَ قُدُومِ ضَمْضَمَ مَكَّةَ بِثَلَاثِ لَيَالٍ رُؤْيَا أَفْزَعَتْهَا، فَبَعَثَتْ إِلَى أَخِيهَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَتْ لَهُ: يَا أَخِي، وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا لَقَدْ أَفْظَعَتْنِي، وَتَخَوَّفْتُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى قَوْمِكَ مِنْهَا شر ومصيبه، فاكتم على ما احدثك به قَالَ لَهَا: وَمَا رَأَيْتِ؟ قَالَتْ: رَأَيْتُ رَاكِبًا أَقْبَلَ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ حَتَّى وَقَفَ بِالأَبْطَحِ ثُمَّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: أَنِ انْفِرُوا يَا آلَ غُدَرَ لِمَصَارِعِكُمْ فِي ثَلَاثٍ! فَأَرَى النَّاسَ اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنَّاسُ يَتْبَعُونَهُ، فبيناهم حَوْلَهُ مَثَلَ بِهِ بَعِيرُهُ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ بِمِثْلِهَا: أَنِ انْفِرُوا يَا آلَ غُدَرَ لِمَصَارِعِكُمْ فِي ثَلَاثٍ! ثُمَّ مَثَلَ بِهِ بَعِيرُهُ عَلَى رَأْسِ أَبِي قُبَيْسٍ، فَصَرَخَ بِمِثْلِهَا، ثُمَّ أَخَذَ صَخْرَةً فَأَرْسَلَهَا، فَأَقْبَلَتْ تَهْوِي حَتَّى إِذَا كَانَتْ بِأَسْفَلِ الْجَبَلِ ارْفَضَّتْ فَمَا بَقِيَ بَيْتٌ مِنْ بُيُوتِ مَكَّةَ، وَلا دَارٌ مِنْ دُورِهَا إِلَّا دَخَلَتْ مِنْهَا فِلْقَةٌ. قَالَ الْعَبَّاسُ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَرَؤْيَا رَأَيْتِ فَاكْتُمِيهَا وَلا تَذْكُرِيهَا لأَحَدٍ

ثُمَّ خَرَجَ الْعَبَّاسُ فَلَقِيَ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ- وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا- فَذَكَرَهَا لَهُ وَاسْتَكْتَمَهُ إِيَّاهَا، فَذَكَرَهَا الْوَلِيدُ لأَبِيهِ عُتْبَةَ، فَفَشَا الْحَدِيثُ، حَتَّى تَحَدَّثَتْ بِهِ قُرَيْشٌ فِي أَنْدِيَتِهَا. قَالَ الْعَبَّاسُ: فَغَدَوْتُ أَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فِي رَهْطٍ مِنْ قُرَيْشٍ قُعُودٍ يَتَحَدَّثُونَ بِرُؤْيَا عَاتِكَةَ، فَلَمَّا رَآنِي أَبُو جَهْلٍ، قَالَ: يَا أَبَا الْفَضْلِ، إِذَا فَرَغْتَ مِنْ طَوَافِكَ فَأَقْبِلْ إِلَيْنَا قَالَ: فَلَمَّا فَرَغْتُ أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ حَتَّى جَلَسْتُ مَعَهُمْ، فَقَالَ لِي أَبُو جَهْلٍ: يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، مَتَى حَدَّثَتْ فِيكُمْ هَذِهِ النَّبِيَّةُ! قَالَ: قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: الرُّؤْيَا الَّتِي رَأَتْ عَاتِكَةُ، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا رَأَتْ؟ قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَمَا رَضِيتُمْ أَنْ تَتَنَبَّأَ رِجَالُكُمْ، حَتَّى تَتَنَبَّأَ نِسَاؤُكُمْ! قَدْ زَعَمَتْ عَاتِكَةُ فِي رُؤْيَاهَا أَنَّهُ قَالَ: انْفِرُوا فِي ثَلَاثٍ، فَسَنَتَرَبَّصُ بِكُمْ هَذِهِ الثَّلاثَ، فَإِنْ يَكُنْ مَا قَالَتْ حَقًّا فَسَيَكُونُ، وَإِنْ تَمْضِ الثَّلاثُ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، نَكْتُبْ عَلَيْكُمْ كِتَابًا أَنَّكُمْ أَكْذَبُ أَهْلِ بيت في العرب. قال العباس: فو الله مَا كَانَ مِنِّي إِلَيْهِ كَبِيرٌ إِلَّا أَنِّي جَحَدْتُ ذَلِكَ وَأَنْكَرْتُ أَنْ تَكُونَ رَأَتْ شَيْئًا قَالَ: ثُمَّ تَفَرَّقْنَا، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ لَمْ تَبْقَ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَّا أَتَتْنِي، فَقَالَتْ: أَقْرَرْتُمْ لِهَذَا الْفَاسِقِ الْخَبِيثِ أَنْ يَقَعَ فِي رِجَالِكُمْ، ثُمَّ قَدْ تَنَاوَلَ النِّسَاءَ وَأَنْتَ تَسْمَعُ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ عِنْدَكَ غَيْرَةٌ لِشَيْءٍ مِمَّا سَمِعْتَ! قَالَ: قُلْتُ: قَدْ وَاللَّهِ فَعَلْتُ، مَا كَانَ مِنِّي إِلَيْهِ مِنْ كَبِيرٍ، وَايْمُ اللَّهِ لأَتَعَرَّضَنَّ لَهُ، فَإِنْ عَادَ لأكفينَّكموه. قَالَ: فَغَدَوْتُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ رُؤْيَا عَاتِكَةَ، وَأَنَا حَدِيدٌ مُغْضَبٌ، أَرَى أَنْ قَدْ فَاتَنِي مِنْهُ أَمْرٌ أُحِبُّ أَنْ أُدْرِكَهُ مِنْهُ. قَالَ: فدخلت المسجد فرايته، فو الله إِنِّي لأَمْشِي نَحْوَهُ أَتَعَرَّضُهُ لِيَعُودَ لِبَعْضِ مَا قَالَ فَأَقَعُ بِهِ- وَكَانَ رَجُلًا خَفِيفًا حَدِيدَ الْوَجْهِ، حَدِيدَ اللِّسَانِ،

حَدِيدَ النَّظَرِ- إِذْ خَرَجَ نَحْوَ بَابِ الْمَسْجِدِ يَشْتَدُّ قَالَ: قُلْتُ فِي نَفْسِي: مَا لَهُ لَعَنَهُ اللَّهُ! أَكُلُّ هَذَا فَرَقًا مِنْ أَنْ أُشَاتِمَهُ! قَالَ: وَإِذَا هُوَ قَدْ سَمِعَ مَا لَمْ أَسْمَعْ، صَوْتَ ضَمْضَمَ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ، وَهُوَ يَصْرُخُ بِبَطْنِ الْوَادِي وَاقِفًا عَلَى بَعِيرِهِ، قَدْ جَدَعَ بَعِيرَهُ، وَحَوَلَ رَحْلَهُ، وَشَقَّ قَمِيصَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اللَّطِيمَةَ اللَّطِيمَةَ! أَمْوَالُكُمْ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ عَرَضَ لَهَا مُحَمَّدٌ فِي أَصْحَابِهِ، لا أَرَى أَنْ تُدْرِكُوهَا، الْغَوْثَ الْغَوْثَ! قَالَ: فَشَغَلَنِي عَنْهُ وَشَغَلَهُ عَنِّي مَا جَاءَ مِنَ الأَمْرِ فَتَجَهَّزَ النَّاسُ سِرَاعًا، وَقَالُوا: أَيَظُنُّ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَنْ تَكُونَ كَعِيرِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ! كَلَّا وَاللَّهِ لَيَعْلَمُنَّ غَيْرَ ذَلِكَ فَكَانُوا بَيْنَ رَجُلَيْنِ: إِمَّا خَارِجٌ، وَإِمَّا بَاعِثٌ مَكَانَهُ رَجُلًا، وَأَوْعَبَتْ قُرَيْشٌ فَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْ أَشْرَافِهَا أَحَدٌ، إِلَّا أَنَّ أَبَا لَهَبِ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تَخَلَّفَ، فَبَعَثَ مَكَانَهُ الْعَاصَ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَكَانَ لاطَ لَهُ بِأَرْبَعَةِ آلافِ دِرْهَمٍ كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ، أَفْلَسَ بِهَا، فَاسْتَأْجَرَهُ بِهَا عَلَى أَنْ يُجْزِيَ عَنْهُ بَعْثَهُ، فَخَرَجَ عَنْهُ وَتَخَلَّفَ أَبُو لَهَبٍ. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق. حدثني عبد الله بن أبي نجيح، أن أمية بن خلف كان قد أجمع القعود، وكان شيخا جليلا ثقيلا، فأتاه عقبة بن أبي معيط، وهو جالس في المسجد بين ظهري قومه بمجمرة يحملها، فيها نار ومجمر، حتى وضعها بين يديه، ثم قال: يا أبا علي، استجمر، فإنما أنت من النساء، قال: قَبَّحَكَ اللَّهُ وَقَبَّحَ مَا جِئْتَ بِهِ! قَالَ: ثم تجهز، فخرج مع الناس، فلما فرغوا من جهازهم، وأجمعوا السير، ذكروا ما بينهم وبين بَنِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ من الحرب، فقالوا: إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق، وحدثني يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قال: لما أجمعت قريش المسير، ذكرت الذي بينها وبين بنى بكر، فكاد ذلك أن يثنيهم، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن جعشم المدلجي- وكان من أشراف كنانة- فقال: أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه فخرجوا سراعا. قال أبو جعفر: وخرج رسول الله ص- فيما بلغني عن غير ابن إسحاق- لثلاث ليال خلون من شهر رمضان في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا من أصحابه، فاختلف في مبلغ الزيادة على العشرة. فقال بعضهم، كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ أَصْحَابَ بَدْرٍ يوم بدر كعدة اصحاب طالوت، ثلاثمائة رَجُلٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، الَّذِينَ جَاوَزُوا النَّهْرَ، فَسَكَتَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ الْجَنَبِيُّ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعَةً وَسَبْعِينَ رَجُلا، وَكَانَ الأَنْصَارُ مِائَتَيْنِ وَسِتَّةً وَثَلاثِينَ رَجُلا، وَكَانَ صاحب رايه رسول الله ص على بن ابى طالب ع، وَصَاحِبُ رَايَةِ الأَنْصَارِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ

وقال آخرون: كانوا ثلاثمائة رَجُلٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ، مَنْ شَهِدَ مِنْهُمْ، وَمَنْ ضُرِبَ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ، حَدَّثَنَا بِذَلِكَ ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق. وقال بعضهم: كانوا ثلاثمائة وثمانية عشر. وقال آخرون: كانوا ثلاثمائة وَسَبْعَةً. وَأَمَّا عَامَّةُ السَّلَفِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: كَانُوا ثلاثمائة رَجُلٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلا. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ، وحدثني أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الأَهْوَازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ عِدَّةَ أَصْحَابِ بَدْرٍ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهْرَ- وَلَمْ يَجُزْ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ- ثلاثمائة وَبِضْعَةَ عَشَرَ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ اصحاب النبي ص كانوا يوم بدر ثلاثمائة وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ، مَنْ جَازَ مَعَهُ النَّهْرَ، وَمَا جَازَ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْرَائِيلَ الرَّمْلِيُّ، قال: حدثنا عبد الله بن محمد ابن الْمُغِيرَةِ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: عِدَّةُ أَهْلِ بَدْرٍ عِدَّةُ أَصْحَابِ طالوت

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، [عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ص قَالَ لأَصْحَابِهِ يَوْمَ بَدْرٍ: أَنْتُمْ بِعِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ يَوْمَ لَقِيَ جَالُوتَ، وَكَانَ أَصْحَابُ نَبِيِّ الله ص يوم بدر ثلاثمائة وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا] . حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: خلص طالوت في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، عدة أصحاب بدر. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: كان مع النبي ص يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق قال: وخرج رسول الله ص في أصحابه، وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة أخا بني مازن بن النجار، في ليال مضت من شهر رمضان، فسار حتى إذا كان قريبا من الصفراء، بعث بسبس بن عمرو الجهني، حليف بني ساعدة وعدي بن أبي الزغباء الجهني حليف بني النجار إلى بدر، يتحسسان له الأخبار عن ابى سفيان بن حرب وعيره، ثم ارتحل رسول الله ص، وقد قدمهما، فلما استقبل الصفراء- وهي قرية بين جبلين- سأل عن جبليهما: ما أسماؤهما؟ فقالوا لأحدهما: هذا مسلح، وقالوا للآخر: هذا مخرئ، وسأل عن أهلهما، فقالوا: بنو النار وبنو حراق بطنان من بني غفار، فكرههما رسول الله ص والمرور بينهما،

وتفاءل بأسمائهما وأسماء أهاليهما، فتركهما والصفراء بيسار، وسلك ذات اليمين على واد يقال له ذفران، فخرج منه حتى إذا كان ببعضه نزل. وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار النبي ص الناس، وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر رضي الله عنه، فقال فأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو، فقال: يا رسول الله، امض لما أمرك الله، فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: «اذهب أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. فو الذى بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد- يعني مدينة الحبشة- لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه فقال له رسول الله ص خيرا، ودعا له بخبر. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُخَارِقُ، عَنْ طَارِقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: لَقَدْ شَهِدْتُ مِنَ الْمِقْدَادِ مَشْهَدًا لأَنْ أَكُونَ أَنَا صَاحِبُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا فِي الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ، كَانَ رَجُلًا فَارِسًا، وكان رسول الله ص إِذَا غَضِبَ احْمَارَّتْ وَجْنَتَاهُ، فَأَتَاهُ الْمِقْدَادُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فو الله لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لموسى: «اذهب أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» ، وَلَكِنْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَنَكُونَنَّ مِنْ بَيْنَ يَدَيْكَ وَمِنْ خَلْفِكَ، وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ، أَوْ يَفْتَحُ اللَّهُ لَكَ

رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق [ثم قال رسول الله ص: أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ]- وَإِنَّمَا يُرِيدُ الأَنْصَارَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَدَدَ النَّاسِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا بُرَآءٌ مِنْ ذِمَامِكَ حَتَّى تَصِلَ إِلَى دَارِنَا، فَإِذا وَصَلْتَ إِلَيْنَا فَأَنْتَ فِي ذِمَامِنَا، نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، فَكَانَ رسول الله ص يتخوف الا تَكُونَ الأَنْصَارُ تَرَى عَلَيْهَا نُصْرَتَهُ، إِلَّا مِمَّنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ عَدُوِّهِ، وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ إِلَى عَدُوٍّ مِنْ بِلَادِهِمْ- فلما قال ذلك رسول الله ص، قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: أَجَلْ، قَالَ: فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا، عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رسول الله لما اردت، فو الذى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، إِنِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا! إِنَّا لَصُبُرٌ عِنْدَ الْحَرْبِ، صُدْقٌ عِنْدَ اللِّقَاءِ، لَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ. فسر رسول الله ص بِقَوْلِ سَعْدٍ، وَنَشَّطَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: سِيرُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَاللَّهِ لَكَأَنِّي الآنَ أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ. ثُمَّ ارْتَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ ص مِنْ ذَفِرَانَ، فَسَلَكَ عَلَى ثَنَايَا يُقَالُ لَهَا الأَصَافِرُ، ثُمَّ انْحَطَّ مِنْهَا عَلَى بَلَدٍ يُقَالُ لَهَا الدَّبَّةُ، وَتَرَكَ الْحَنَّانَ بِيَمِينٍ، - وَهُوَ كَثِيبٌ عَظِيمٌ كَالْجَبَلِ- ثُمَّ نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ بَدْرٍ، فَرَكِبَ هُوَ وَرَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ- كَمَا حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ- حَتَّى وَقَفَ عَلَى شَيْخٍ مِنَ الْعَرَبِ، فَسَأَلَهُ عَنْ قُرَيْشٍ وَعَنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، وَمَا بَلَغَهُ عَنْهُمْ، فَقَالَ

الشَّيْخُ: لا أُخْبِرُكُمَا حَتَّى تُخْبِرَانِي مِمَّنْ أَنْتُمَا! فقال له رسول الله ص: إِذَا أَخْبَرْتَنَا أَخْبَرْنَاكَ، فَقَالَ: وَذَاكَ بِذَاكَ! قَالَ: نَعَمْ، قَالَ الشَّيْخُ: فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ صَدَقَنِي الَّذِي أَخْبَرَنِي فَهُوَ الْيَوْمُ بِمَكَانِ كَذَا وكذا- للمكان الذى به رسول الله ص- وَبَلَغَنِي أَنَّ قُرَيْشًا خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ الَّذِي حَدَّثَنِي صَدَقَنِي فَهُمُ الْيَوْمُ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا- لِلْمَكَانِ الَّذِي بِهِ قُرَيْشٍ- فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ خَبَرِهِ، قَالَ: مِمَّنْ أَنْتُمَا؟ فقال رسول الله ص: نَحْنُ مِنْ مَاءٍ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ قَالَ: يقول الشيخ: ما من ماء، امن ماء العراق! ثم رجع رسول الله ص الى اصحابه، فلما امسى بعث على ابن أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى مَاءِ بَدْرٍ يَلْتَمِسُونَ لَهُ الْخَبَرَ عَلَيْهِ- كَمَا حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، كَمَا حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ- فَأَصَابُوا رَاوِيَةً لِقُرَيْشٍ فِيهَا أَسْلَمُ، غُلامُ بَنِي الْحَجَّاجِ، وَعريض أَبُو يَسَارٍ، غُلَامُ بَنِي الْعَاصِ بْنِ سعيد، فاتوا بهما رسول الله ص، ورسول الله ص قَائِمٌ يُصَلِّي، فَسَأَلُوهُمَا، فَقَالَا: نَحْنُ سُقَاةُ قُرَيْشٍ، بَعَثُونَا لِنُسْقِيَهُمْ مِنَ الْمَاءِ، فَكَرِهَ الْقَوْمُ خَبَرَهُمَا، وَرَجَوْا أَنْ يَكُونَا لأَبِي سُفْيَانَ، فَضَرَبُوهُمَا، فَلَمَّا أَذْلَقُوهُمَا قَالَا: نَحْنَ لأَبِي سُفْيَانَ، فَتَرَكُوهُمَا، وَرَكَعَ رسول الله ص، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَالَ: إِذَا صَدَقَاكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمَا، وَإِذَا كَذَبَاكُمْ تَرَكْتُمُوهُمَا! صَدَقَا وَاللَّهِ! إِنَّهُمَا لِقُرَيْشٍ، أَخْبِرَانِي: أَيْنَ قُرَيْشٌ؟ قَالَا: هُمْ وَرَاءَ هَذَا الْكَثِيبِ الَّذِي تَرَى بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى- وَالْكَثِيبِ: العقنقل- فقال رسول الله ص لَهُمَا: كَمِ الْقَوْمُ؟ قَالَا: كَثِيرٌ، قَالَ: مَا عِدَّتُهُمْ؟ قَالَا: لا نَدْرِي، قَالَ: كَمْ يَنْحَرُونَ كُلَّ يَوْمٍ؟ قَالَا: يَوْمًا تِسْعًا وَيَوْمًا عَشْرًا، قال رسول

الله ص: القوم ما بين التسعمائة والالف ثم قال لهما رسول الله ص: فمن فيهم من اشراف قريش؟ قال: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَنَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَطُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلٍ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ، وَزَمْعَةُ بْنُ الأَسْوَدِ، وَأَبُو جهل ابن هشام، وأمية بن خلف ونبيه، ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبد ود [فاقبل رسول الله ص عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: هَذِهِ مَكَّةُ قَدْ أَلْقَتْ إِلَيْكُمْ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا] . قَالُوا: وَقَدْ كَانَ بَسْبَسُ بْنُ عَمْرٍو وَعَدِيُّ بْنُ أَبِي الزَّغْبَاءِ مَضَيَا حَتَّى نَزَلَا بَدْرًا، فَأَنَاخَا إِلَى تَلٍّ قَرِيبٍ مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ أَخَذَا شَنًّا يَسْتَقِيَانِ فِيهِ- ومَجديّ بْنُ عَمْرٍو الْجُهَنِيُّ عَلَى الْمَاءِ- فَسَمِعَ عَدِيٌّ وَبَسْبَسٌ جَارِيَتَيْنِ مِنْ جَوَارِي الْحَاضِرِ، وَهُمَا تَتَلَازَمَانِ عَلَى الْمَاءِ، وَالْمَلْزُومَةُ تَقُولُ لِصَاحِبَتِهَا: إِنَّمَا تَأْتِي الْعِيرُ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ، فَأَعْمَلُ لَهُمْ ثُمَّ أَقْضِيكِ الَّذِي لَكِ قَالَ: مَجديّ: صَدَقَتْ، ثُمَّ خَلَصَ بَيْنَهُمَا، وَسَمِعَ ذَلِكَ عَدِيٌّ وَبَسْبَسٌ، فَجَلَسَا عَلَى بَعِيرَيْهِمَا، ثُمَّ انْطَلَقَا حَتَّى أتيا رسول الله ص، فَأَخْبَرَاهُ بِمَا سَمِعَا. وَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ قَدْ تَقَدَّمَ الْعِيرَ حَذِرًا حَتَّى وَرَدَ الْمَاءَ، فَقَالَ لِمَجْدِيِّ بْنِ عَمْرٍو: هَلْ أَحْسَسْتَ أَحَدًا؟ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أُنْكِرُهُ، إِلَّا أَنِّي رَأَيْتُ رَاكِبَيْنِ أَنَاخَا إِلَى هَذَا التَّلِّ، ثُمَّ اسْتَقَيَا فِي شَنٍّ لَهُمَا، ثُمَّ انْطَلَقَا فَأَتَى أَبُو سُفْيَانَ مَنَاخَهُمَا، فَأَخَذَ مِنْ أَبْعَارِ بَعِيرَيْهِمَا فَفَتَّهُ، فَإِذَا فِيهِ نَوًى فَقَالَ: هَذِهِ وَاللَّهِ عَلَائِفُ يَثْرِبَ! فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ سَرِيعًا، فَضَرَبَ وَجْهَ عِيرِهِ عَنِ الطَّرِيقِ، فَسَاحَلَ

بِهَا، وَتَرَكَ بَدْرًا يَسَارًا، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى أَسْرَعَ. وَأَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ، فَلَمَّا نَزَلُوا الْجُحْفَةَ رَأَى جهيم بن الصلت بن مخرمه ابن الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ رُؤْيَا، فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، وَإِنِّي لَبَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ، إِذْ نَظَرْتُ إِلَى رَجُلٍ أَقْبَلَ عَلَى فَرَسٍ حَتَّى وَقَفَ وَمَعَهُ بَعِيرٌ لَهُ، ثُمَّ قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خَلَفٍ، وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَعَدَّدَ رِجَالًا مِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، وَرَأَيْتُهُ ضَرَبَ فِي لَبَّةِ بَعِيرِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِي الْعَسْكَرِ، فَمَا بَقِيَ خِبَاءٌ مِنْ أَخْبِيَةِ الْعَسْكَرِ إِلَّا أَصَابَهُ نَضْحٌ مِنْ دَمِهِ قَالَ: فَبَلَغَتْ أَبَا جَهْلٍ، فَقَالَ: وَهَذَا أَيْضًا نَبِيٌّ آخَرُ مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ، سَيُعْلَمُ غَدًا مَنِ الْمَقْتُولُ إِنْ نَحْنُ الْتَقَيْنَا! وَلَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ أَنَّهُ قَدْ أَحْرَزَ عِيرَهُ، أَرْسَلَ إِلَى قُرَيْشٍ: إِنَّكُمْ إِنَّمَا خَرَجْتُمْ لِتَمْنَعُوا عِيرَكُمْ وَرِجَالَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، فَقَدْ نَجَّاهَا الله، فارجعوا فقال ابو جهل ابن هِشَامٍ: وَاللَّهِ لا نَرْجِعُ حَتَّى نَرِدَّ بَدْرًا- وَكَانَ بَدْرٌ مَوْسِمًا مِنْ مَوَاسِمِ الْعَرَبِ، تَجْتَمِعُ لَهُمْ بِهَا سُوقٌ كُلَّ عَامٍ- فَنُقِيمُ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، وَنَنْحَرَ الْجُزُرَ، وَنُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَنُسْقِيَ الْخُمُورَ، وَتَعْزِفَ عَلَيْنَا الْقِيَانُ، وَتَسْمَعُ بِنَا الْعَرَبُ، فَلا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا أَبَدًا، فَامْضُوا فَقَالَ الأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثَّقَفِيُّ- وَكَانَ حَلِيفًا لِبَنِي زُهْرَةَ وَهُمْ بِالْجُحْفَةِ: يَا بَنِي زُهْرَةَ، قَدْ نَجَّى اللَّهُ لَكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَخَلَّصَ لَكُمْ صَاحِبَكُمْ مَخْرَمَةَ بْنَ نَوْفَلٍ، وَإِنَّمَا نَفَرْتُمْ لِتَمْنَعُوهُ وَمَالَهُ، فَاجْعَلُوا بِي جبنها وَارْجِعُوا، فَإِنَّهُ لا حَاجَةَ بِكُمْ فِي أَنْ تَخْرُجُوا فِي غَيْرِ ضَيْعَةٍ، لا مَا يَقُولُ هَذَا- يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ- فَرَجَعُوا، فَلَمْ يَشْهَدْهَا زُهْرِيٌّ وَاحِدٌ، وَكَانَ فِيهِمْ مُطَاعًا وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْ قُرَيْشٍ بَطْنٌ إِلَّا نَفَرَ مِنْهُمْ نَاسٌ، إِلَّا بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ، لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَرَجَعَتْ بَنُو زُهْرَةَ مَعَ الأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ، فَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا مِنْ هَاتَيْنِ الْقَبِيلَتَيْنِ أَحَدٌ وَمَضَى الْقَوْمُ

قَالَ: وَقَدْ كَانَ بَيْنَ طَالِبِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- وَكَانَ فِي الْقَوْمِ- وَبَيْنَ بَعْضِ قُرَيْشٍ مُحَاوَرَةٌ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْنَا يَا بَنِي هَاشِمٍ- وَإِنْ خَرَجْتُمْ مَعَنَا- أَنَّ هَوَاكُمْ مَعَ مُحَمَّدٍ فَرَجَعَ طَالِبٌ إِلَى مَكَّةَ فِيمَنْ رَجَعَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا ابْنُ الْكَلْبِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيمَا حُدِّثْتُ عَنْهُ: شَخَصَ طَالِبُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَى بَدْرٍ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، أُخْرِجَ كَرْهًا فَلَمْ يُوجَدْ فِي الأَسْرَى وَلا فِي الْقَتْلَى، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى أَهْلِهِ، وَكَان شَاعِرًا، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ: يَا رَبِّ إِمَّا يَغْزُونَ طَالِب ... فِي مَقْنَبٍ مِنْ هَذِهِ الْمَقَانِبِ فَلْيَكُنِ الْمَسْلُوبُ غَيْرَ السَّالِبِ ... وَلْيَكُنِ الْمَغْلُوبُ غَيْرَ الْغَالِبِ رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق قال: وَمَضَتْ قُرَيْشٌ حَتَّى نَزَلُوا بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى مِنَ الْوَادِي، خَلْفَ الْعَقَنْقَلِ، وَبَطْنِ الْوَادِي وَهُوَ يَلْيَلُ، بَيْنَ بَدْرٍ وَبَيْنَ الْعَقَنْقَلِ، الْكَثِيبِ الَّذِي خَلْفَهُ قُرَيْشٌ، وَالْقَلْبُ بِبَدْرٍ فِي الْعُدْوَةِ الدُّنْيَا مِنْ بَطْنِ يَلْيَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَبَعَثَ اللَّهُ السَّمَاءَ، وكان الوادى دهسا، فأصاب رسول الله ص وَأَصْحَابُهُ مِنْهَا مَا لَبَّدَ لَهُمُ الأَرْضَ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمُ الْمَسِيرَ، وَأَصَابَ قُرَيْشًا مِنْهَا مَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَرْتَحِلُوا مَعَهُ، فَخَرَجَ رَسُولُ الله ص يبادروهم إِلَى الْمَاءِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ بَدْرٍ نَزَلَ بِهِ

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، أَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ الحباب ابن الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ وَلا نَتَأَخَّرَهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ: بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ لَكَ بِمَنْزِلٍ، فَانْهَضْ بِالنَّاسِ حَتَّى نَأْتِي أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ فَنَنْزِلْهُ، ثُمَّ نعور ما سواه من القلب، ثم نبنى عَلَيْهِ حَوْضًا فَتَمْلَؤُهُ مَاءً، ثُمَّ نُقَاتِلُ الْقَوْمَ فنشرب ولا يشربون فقال رسول الله ص: لقد اشرت بالرأي فنهض رسول الله ص وَمَنْ مَعَهُ مِنَ النَّاسِ، فَسَارَ حَتَّى أَتَى أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ امر بالقلب فعورت، وَبَنَى حَوْضًا عَلَى الْقَلِيبِ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ فَمُلِئَ مَاءً، ثُمَّ قَذَفُوا فِيهِ الآنِيَةَ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَبْنِي لَكَ عَرِيشًا مِنْ جَرِيدٍ فَتَكُونُ فِيهِ، وَنَعُدُّ عِنْدَكَ رَكَائِبَكَ، ثُمَّ نَلْقَى عَدُّوَنَا، فَإِنْ أَعَزَّنَا اللَّهُ وَأَظْهَرَنَا عَلَى عَدُّوِنَا كَانَ ذَلِكَ مِمَّا أَحْبَبْنَا، وَإِنْ كَانَتِ الأُخْرَى جَلَسْتَ عَلَى رَكَائِبِكَ، فَلَحِقْتَ بِمَنْ وَرَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا، فَقَدْ تَخَلَّفَ عَنْكَ أَقْوَامٌ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَا نَحْنُ بِأَشَدِّ حُبًّا لَكَ مِنْهُمْ، وَلَوْ ظَنُّوا أَنَّكَ تَلْقَى حَرْبًا مَا تَخَلَّفُوا عَنْكَ يَمْنَعُكَ اللَّهُ بِهِمْ، يُنَاصِحُونَكَ وَيُجَاهِدُونَ معك فاثنى رسول الله ص عَلَيْهِ خَيْرًا، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ

ثم بنى لرسول الله ص عَرِيشٌ، فَكَانَ فِيهِ، وَقَدِ ارْتَحَلَتْ قُرَيْشٌ حِينَ اصبحت، فاقبلت، فلما رآها رسول الله ص تُصَوِّبُ مِنَ الْعَقَنْقَلِ- وَهُوَ الْكَثِيبُ الَّذِي مِنْهُ جَاءُوا إِلَى الْوَادِي- قَالَ: اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بَخَيْلَائِهَا وَفَخْرِهَا تُحَادّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، اللَّهُمَّ فَنَصْرَكَ الَّذِي وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ فَأَحِنْهُمُ الْغَدَاةَ! وقد قال رسول الله ص- وَرَأَى عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ فِي الْقَوْمِ، عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ: إِنْ يَكُنْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْقَوْمِ خَيْرٌ، فَعِنْدَ صَاحِبِ الْجَمَلِ الأَحْمَرِ، إِنْ يُطِيعُوهُ يَرْشُدُوا وَقَدْ كَانَ خُفَافُ بْنُ إِيمَاءِ بْنِ رَحْضَةَ الْغِفَارِيُّ- أَوْ أَبُوهُ إِيمَاءُ بْنُ رَحْضَةَ- بَعَثَ إِلَى قُرَيْشٍ حِينَ مَرُّوا بِهِ ابْنًا لَهُ بِجَزَائِرَ أَهْدَاهَا لَهُمْ، وَقَالَ: إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَمُدَّكُمْ بِسِلَاحٍ وَرِجَالٍ فَعَلْنَا، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ مَعَ ابْنِهِ: أَنْ وَصَلْتُكَ الرَّحِمَ! فَقَدْ قَضَيْتَ الَّذِي عَلَيْكَ، فَلَعَمْرِي لَئِنْ كُنَّا إِنَّمَا نُقَاتِلُ النَّاسَ، مَا بِنَا ضَعْفٌ عَنْهُمْ، وَلَئِنْ كُنَّا نُقَاتِلُ اللَّهَ- كَمَا يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ- فَمَا لأَحَدٍ بِاللَّهِ مِنْ طَاقَةٍ. فَلَمَّا نَزَلَ النَّاسُ، أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، حَتَّى وَرَدُوا حوض رسول الله ص، فِيهِمْ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، عَلَى فَرَسٍ لَهُ، فقال رسول الله ص: دَعُوهُمْ، فَمَا شَرِبَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا قُتِلَ يَوْمَئِذٍ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ، نَجَا عَلَى فَرَسٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ الْوَجِيهُ، وَأَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، فَكَانَ إِذَا اجْتَهَدَ فِي يَمِينِهِ قَالَ: لا وَالَّذِي نَجَّانِي يَوْمَ بَدْرٍ! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق:

وحدثني إسحاق بن يسار وغيره من أهل العلم، عن أشياخ من الأنصار، قالوا: لما اطمأن القوم، بعثوا عمير بن وهب الجمحي، فقالوا: احزر لنا أصحاب محمد، قال: فاستجال بفرسه حول العسكر، ثم رجع إليهم، فقال: ثلاثمائة رجل، يزيدون قليلا او ينقصون، ولكن أمهلوني حتى أنظر، أللقوم كمين أم مدد؟ قال: فضرب في الوادي، حتى أبعد فلم ير شيئا، فرجع إليهم، فقال: ما رأيت شيئا، ولكني قد رأيت- يا معشر قريش- الولايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجل منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك! فروا رأيكم. فلما سمع حكيم بن حزام ذلك، مشى في الناس، فأتى عتبة بن ربيعة، فقال: يا أبا الوليد، إنك كبير قريش الليلة وسيدها، والمطاع فيها، هل لك الا تزال تذكر منها بخير إلى آخر الدهر! قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس، وتحمل دم حليفك عمرو بن الحضرمي! قال: قد فعلت، أنت علي بذلك، إنما هو حليفي فعلي عقله، وما أصيب من ماله، فأت ابن الحنظلية، فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره-

يعني أبا جهل بن هشام حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثنا عثامة بن عمرو السهمي، قال: حدثني مسور بن عبد الملك اليربوعي، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب، قال: بينا نحن عند مروان بن الحكم، إذ دخل حاجبه، فقال: هذا أبو خالد حكيم بن حزام، قال: ائذن له، فلما دخل حكيم بن حزام، قال: مرحبا بك يا أبا خالد! ادن، فحال له مروان عن صدر المجلس، حتى كان بينه وبين الوسادة، ثم استقبله مروان، فقال: حدثنا حديث بدر، قال: خرجنا حتى إذا نزلنا الجحفة رجعت قبيلة من قبائل قريش بأسرها، فلم يشهد أحد من مشركيهم بدرا ثم خرجنا حتى نزلنا العدوة التي ذكرها الله عز وجل، فجئت عتبة بن ربيعة، فقلت: يا أبا الوليد، هل لك أن تذهب بشرف هذا اليوم ما بقيت؟ قال: أفعل ماذا؟ قلت: إنكم لا تطلبون من محمد إلا دم ابن الحضرمي، وهو حليفك، فتحمل ديته وترجع بالناس فقال: أنت وذاك، وأنا أتحمل بديته، واذهب إلى ابن الحنظلية- يعني أبا جهل- فقل له: هل لك أن ترجع اليوم بمن معك عن ابن عمك؟ فجئته فإذا هو في جماعة من بين يديه ومن ورائه، وإذا ابن الحضرمي واقف على رأسه، وهو يقول: قد فسخت عقدي من عبد شمس، وعقدي إلى بني مخزوم فقلت له: يقول لك عتبة بن ربيعة: هل لك أن ترجع اليوم عن ابن عمك بمن معك؟ قال: أما وجد رسولا غيرك! قلت: لا، ولم أكن لأكون رسولا لغيره قال حكيم: فخرجت مبادرا إلى عتبة، لئلا يفوتني من الخبر شيء، وعتبة متكئ على إيماء بن رحضة الغفاري، وقد أهدى إلى المشركين عشر جزائر، فطلع أبو جهل والشر في وجهه، فقال لعتبة: انتفخ سحرك! فقال له عتبة: ستعلم! فسل أبو جهل سيفه، فضرب به متن فرسه، فقال إيماء بن رحضة: بئس الفأل هذا! فعند ذلك قامت الحرب

رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق ثم قام عتبة بن ربيعة خطيبا، فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا، والله لئن أصبتموه لا يزال رجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون قال حكيم: فانطلقت أؤم أبا جهل، فوجدته قد نثل درعا له من جرابها، فهو يهيئها فقلت: يا أبا الحكم، إن عتبة قد أرسلني إليك بكذا وكذا- للذي قال- فقال: انتفخ والله سحره حين رأى محمدا وأصحابه، كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد وأصحابه، وما بعتبة ما قال، ولكنه قد رأى محمدا وأصحابه أكلة جزور، وفيهم ابنه فقد تخوفكم عليه ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي، فقال له: هذا حليفك، يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فانشد خفرتك ومقتل أخيك فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ: وا عمراه! وا عمراه! فحميت الحرب، وحقب امر الناس، واستوسقوا على ما هم عليه من الشر، وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة بن ربيعة. فلما بلغ عتبة بن ربيعة قول أبي جهل: انتفخ سحره، قال: سيعلم المصفر استه من انتفخ سحره، أنا أم هو! ثم التمس بيضة يدخلها في رأسه فما وجد في الجيش بيضة تسعه من عظم هامته، فلما رأى ذلك اعتجر على رأسه ببرد له

وقد خرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي- وكان رجلا شرسا سيئ الخلق- فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم ولأهدمنه أو لأموتن دونه فلما خرج خرج له حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة، فأطن قدمه بنصف ساقه، وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه، يريد- زعم- أن يبر يمينه، واتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض. ثم خرج بعده عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة، حتى إذا فصل من الصف دعا إلى المبارزة، فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة نفر منهم: عوف ومعوذ ابنا الحارث- وأمهما عفراء- ورجل آخر يقال له عبد الله بن رواحه، فقال: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار. فقالوا: ما لنا بكم حاجة! ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال رسول الله ص: قم يا حمزة بن عبد المطلب، قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا علي بن أبي طالب، فلما قاموا ودنوا منهم، قالوا: من أنتم؟ قال عبيدة: عبيدة، وقال حمزة: حمزة، وقال علي: علي، قالوا: نعم أكفاء كرام! فبارز عبيدة بن الحارث- وكان أسن القوم- عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز علي الوليد بن عتبة، فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيده وعتبة بينهما بضربتين، كلاهما أثبت صاحبه، وكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة، فذففا عليه فقتلاه، واحتملا صاحبهما عبيدة فجاءا به إلى أصحابه، وقد قطعت رجله، فمخها يسيل، فلما أتوا بعبيدة إلى رسول الله ص قال: ألست شهيدا يا رسول الله! قال:

بلى، فقال عبيدة: لو كان أبو طالب حيا لعلم أني أحق بما قال منه حيث يقول: وَنُسْلِمُهُ حَتَّى نُصَرَّعَ حَوْلَهُ ... وَنَذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا والحلائل حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: وحدثني عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ قَالَ لِلْفِتْيَةِ مِنَ الأَنْصَارِ حِينَ انْتَسَبُوا: أَكْفَاءٌ كِرَامٌ، إِنَّمَا نُرِيدُ قَوْمَنَا، ثُمَّ تَزَاحَفَ النَّاسُ، وَدَنَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وقد امر رسول الله ص أَصْحَابَهُ أَلَّا يَحْمِلُوا حَتَّى يَأْمُرَهُمْ، وَقَالَ: إِنِ اكْتَنَفَكُمُ الْقَوْمُ فَانْضَحُوهُمْ عَنْكُمْ بِالنَّبْلِ، وَرَسُولُ اللَّهِ ص فِي الْعَرِيشِ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَبِيحَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، كَمَا حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، كَمَا حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: قال محمد بْنُ إِسْحَاقَ: وحدثني حِبَّانُ بْنُ وَاسِعِ بْنِ حِبَّانَ بْنِ وَاسِعٍ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ، ان رسول الله ص عَدَلَ صُفُوفَ أَصْحَابِهِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِي يَدِهِ قَدَحٌ يَعْدِلُ بِهِ الْقَوْمَ، فَمَرَّ بِسُوَادِ بْنِ غَزِيَّةَ، حَلِيفِ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، وَهُو مستنتل من الصف، فطعن رسول الله ص فِي بَطْنِهِ بِالْقَدَحِ، وَقَالَ: اسْتَوِ يَا سُواد بن غزيه، قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْجَعْتَنِي وَقَدْ بَعَثَكَ اللَّهُ بالحق، فأقدني قال: فكشف رسول الله ص عَنْ بَطْنِهِ [ثُمَّ قَالَ: اسْتَقِدْ، قَالَ: فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَ بَطْنَهُ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ

عَلَى هَذَا يَا سُوَادُ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَضَرَ مَا تَرَى فَلَمْ آمَنِ الْقَتْلَ. فَأَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ الْعَهْدِ بِكَ أَنْ يَمَسَّ جِلْدِي جِلْدَكَ فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ص بِخَيْرٍ، وَقَالَ لَهُ خَيْرًا] . ثُمَّ عَدَلَ رَسُولُ الله ص الصُّفُوفَ، وَرَجَعَ إِلَى الْعَرِيشِ، وَدَخَلَهُ، وَمَعَهُ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ لَيْسَ مَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَرَسُولُ الله ص يُنَاشِدُ رَبَّهُ مَا وَعَدَهُ مِنَ النَّصْرِ، وَيَقُولُ فِيمَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تَهْلَكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ الْيَوْمَ- يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ- لا تُعْبَدُ بَعْدَ الْيَوْمِ، وَأَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، بَعْضُ مُنَاشَدَتِكَ رَبَّكَ!، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُنْجِزٌ لَكَ مَا وَعَدَكَ. فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يوم بدر، ونظر رسول الله ص إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَعِدَّتِهِمْ، وَنَظَرَ إِلَى أَصْحَابِهِ نَيِّفًا على ثلاثمائة، اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَجَعَلَ يَدْعُو، يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلَكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلامِ لا تُعْبَدُ فِي الأَرْضِ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ، فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: كَفَاكَ يَا نبى الله، بابى وأنت وَأُمِّي، مُنَاشَدَتَكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتعالى: «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» . حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الثَّقَفِيُّ- يَعْنِي عَبْدَ الْوَهَّابِ- عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابن عباس، ان النبي ص، قَالَ وَهُوَ فِي قُبَّتِهِ يَوْمَ بَدْرٍ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمَ!

قَالَ: فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَقَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ- وَهُوَ فِي الدِّرْعِ- فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ» . رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق قال: وقد خفق رسول الله ص خَفْقَةً وَهُو فِي الْعَرِيشِ، ثُمَّ انْتَبَهَ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَتَاكَ نَصْرُ اللَّهِ، هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِعَنَانِ فَرَسِهِ يَقُودُهُ، عَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ. قَالَ: وَقَدْ رُمِيَ مِهْجَعٌ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِسَهْمٍ فَقُتِلَ، فَكَانَ أَوَّلُ قَتِيلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ رُمِيَ حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ، أَحَدُ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ وَهُوَ يَشْرَبُ مِنَ الْحَوْضِ فَقُتِلَ ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ص إِلَى النَّاسِ فَحَرَّضَهُمْ، وَنَفَلَ كُلَّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا أَصَابَ، وَقَالَ: [وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يُقَاتِلُهُمُ الْيَوْمَ رَجُلٌ فَيُقْتَلُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلا غَيْرَ مُدْبِرٍ، إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ] فَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحَمَامِ، أَخُو بَنِي سَلَمَةَ وَفِي يَدِهِ تَمَرَاتٌ يَأْكُلُهُنَّ: بَخٍ بَخٍ، فَمَا بَيْنِي وَبَيْنَ أَنْ أَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا أَنْ يَقْتُلَنِي هَؤُلاءِ! ثُمَّ قَذَفَ التَّمَرَاتِ مِنْ يَدِهِ، وَأَخَذَ سَيْفَهُ، فَقَاتَلَ الْقَوْمَ حَتَّى قُتِلَ وَهُوَ يَقُولُ: رَكْضًا إِلَى اللَّهِ بِغَيْرِ زَادٍ إِلا التُّقَى وَعَمَلَ الْمَعَادِ وَالصَّبْرَ فِي اللَّهِ عَلَى الْجِهَادِ وَكُلُّ زَادٍ عُرْضَةُ النَّفَادِ غَيْرَ التُّقَى وَالْبِرِّ وَالرَّشَادِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، أَنَّ عَوْفَ بْنِ الْحَارِثِ- وَهُو ابْنُ

عَفْرَاءَ- قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، [مَا يُضْحِكُ الرَّبَّ مِنْ عَبْدِهِ؟ قَالَ: غَمْسُهُ يَدَهُ فِي الْعَدُوِّ حَاسِرًا] فَنَزَعَ دِرْعًا كَانَتْ عَلَيْهِ، فَقَذَفَهَا، ثُمَّ أَخَذَ سَيْفَهُ فَقَاتَلَ الْقَوْمَ حَتَّى قُتِلَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ. وحدثني مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ الْعُذْرِيِّ، حَلِيفِ بَنِي زُهْرَةَ، قَالَ: لَمَّا الْتَقَى النَّاسُ، وَدَنَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ: اللَّهُمَّ أَقْطَعُنَا لِلرَّحِمِ، وَآتَانَا بِمَا لَا يُعْرَفُ، فَأَحِنْهُ الْغَدَاةَ، فَكَانَ هُوَ الْمُسْتَفْتِحُ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص أَخَذَ حَفْنَةً مِنَ الْحَصْبَاءِ، فَاسْتَقْبَلَ بِهَا قُرَيْشًا، [ثُمَّ قَالَ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ! ثُمَّ نَفَحَهُمْ بِهَا، وَقَالَ لأَصْحَابِهِ: شُدُّوا،] فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ، فَقَتَلَ اللَّهُ مَنْ قَتَلَ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، وَأَسَرَ مَنْ أَسَرَ مِنْهُمْ فَلَمَّا وَضَعَ الْقَوْمُ أَيْدِيَهُمْ يَأْسِرُونَ، ورسول الله ص فِي الْعَرِيشِ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ قَائِمٌ عَلَى باب العريش الذى فيه رسول الله ص، مُتَوَشِّحًا السَّيْفَ، فِي نَفَرٍ مِنَ الأَنْصَارِ يَحْرُسُونَ رسول الله ص، يَخَافُونَ عَلَيْهِ كَرَّةَ الْعَدُوِّ، وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ ص- فِيمَا ذُكِرَ لِي- فِي وَجْهِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ الْكَرَاهِيَةَ لِمَا يَصْنَعُ النَّاسَ، فَقَالَ رَسُولُ الله ص: لَكَأَنَّكَ يَا سَعْدُ تَكْرَهُ مَا يَصْنَعُ النَّاسَ! قَالَ: أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَانَتْ أَوَّلَ وَقْعَةٍ أَوْقَعَهَا اللَّهُ بِالْمُشْرِكِينَ، فَكَانَ الإِثْخَانُ فِي الْقَتْلِ أَعْجَبَ إِلَيَّ مِنَ اسْتِبْقَاءِ الرِّجَالِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: وحدثني الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ، عن ابن عباس،

[ان رسول الله ص قَالَ لأَصْحَابِهِ يَوْمَئِذٍ: إِنِّي قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ رِجَالا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ قَدْ أُخْرِجُوا كَرْهًا، لا حَاجَةَ لَهُمْ بِقِتَالِنَا، فَمَنْ لَقِيَ مِنْكُمْ أَحَدًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَلا يَقْتُلُهُ، وَمَنْ لَقِيَ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ بْن هِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ فَلا يَقْتُلُهُ، وَمَنْ لَقِيَ العباس بن عبد المطلب عم رسول فَلا يَقْتُلُهُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا أُخْرِجَ مُسْتَكْرِهًا] قَالَ: فَقَالَ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ: أَنَقْتُلُ آبَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَإِخْوَانَنَا وَعَشِيرَتَنَا، وَنَتْرُكُ الْعَبَّاسَ! وَاللَّهِ لَئِنْ لَقِيتُهُ لأَلْحِمَنَّهُ السَّيْفَ فَبَلَغَتْ رَسُولَ الله ص، فَجَعَلَ يَقُولُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: يَا أَبَا حَفْصٍ، أَمَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِ أَبِي حُذَيْفَةَ، يقول: اضرب وجه عم رسول الله بِالسَّيْفِ! فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي فلاضربن عنقه بالسيف، فو الله لقد نافق. - قال عُمَرُ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لأَوَّلُ يَوْمٍ كَنَّانِي فِيهِ رسول الله ص بِأَبِي حَفْصٍ- قَالَ: فَكَانَ أَبُو حُذَيْفَةَ يَقُولُ: مَا أَنَا بِآمِنٍ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي قُلْتُ يَوْمَئِذٍ، وَلا أَزَالُ مِنْهَا خَائِفًا إِلا أَنْ تُكَفِّرَهَا عَنِّي الشَّهَادَةُ فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شهيدا قال: وانما نهى رسول الله ص عَنْ قَتْلِ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، لأَنَّهُ كَانَ أَكَفَّ القوم عن رسول الله ص وَهُو بِمَكَّةَ، كَانَ لا يُؤْذِيهِ وَلا يَبْلُغُهُ عَنْهُ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ، وَكَانَ مِمَّنْ قَامَ فِي نَقْضِ الصَّحِيفَةِ الَّتِي كَتَبَتْ قُرَيْشٌ عَلَى بَنِي هاشم وبنى المطلب، فلقيه المجذر بن ذياد الْبَلَوِيُّ، حَلِيفُ الأَنْصَارِ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ، فَقَالَ المجذر بن ذياد لأبي البختري: ان رسول الله ص قَدْ نَهَى عَنْ قَتْلِكَ- وَمَعَ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ زَمِيلٌ لَهُ خَرَجَ مَعَهُ مِنْ مَكَّةَ، وَهُوَ جُنَادَةُ بْنُ مَلِيحَةَ بِنْتِ زُهَيْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ، وَجُنَادَةُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ واسم ابى البختري العاص بن هشام

ابن الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ- قَالَ: وَزَمِيلِي؟ فَقَالَ: الْمِجْذَرُ: لا وَاللَّهِ مَا نَحْنُ بِتَارِكِي زَمِيلِكَ، مَا امرنا رسول الله ص إِلا بِكَ وَحْدَكَ، قَالَ: لا وَاللَّهِ إِذًا، لأَمُوتَنَّ أَنَا وَهُوَ جَمِيعًا، لا تُحَدِّثُ عَنِّي نِسَاءُ قُرَيْشٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنِّي تَرَكْتُ زَمِيلِي حِرْصًا عَلَى الْحَيَاةِ فَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ حِينَ نَازَلَهُ الْمِجْذَرُ، وَأَبَى إِلا الْقِتَالَ، وَهُوَ يَرْتَجِزُ: لَنْ يَسْلَمَ ابْنُ حَرَّةٍ أَكِيلَهْ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَرَى سَبِيلَهْ فَاقْتَتَلا، فَقَتَلَهُ الْمِجْذَرُ بن ذياد. قال: ثم اتى المجذر بن ذياد رسول الله ص، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَقَدْ جَهَدْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْسِرَ فَآتِيكَ بِهِ، فَأَبَى إِلا الْقِتَالَ، فَقَاتَلْتُهُ فَقَتَلْتُهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ وحدثني أَيْضًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَغَيْرُهُمَا، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: كَانَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ لِي صَدِيقًا بِمَكَّةَ- وَكَانَ اسْمِي عَبْدَ عَمْرٍو، فَسُمِّيتُ حِينَ أَسْلَمْتُ: عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَنَحْنُ بِمَكَّةَ- قَالَ: فَكَانَ يَلْقَانِي وَنَحْنُ بِمَكَّةَ، فَيَقُولُ: يَا عَبْدَ عَمْرٍو، أَرَغِبْتَ عَنِ اسْمٍ سَمَّاكَهُ أَبُوكَ؟ فَأَقُولُ نَعَمْ، فَيَقُولُ: فَإِنِّي لا أَعْرِفُ الرَّحْمَنَ، فَاجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ شَيْئًا أَدْعُوكَ بِهِ، أَمَّا أَنْتَ فَلَا تُجِيبُنِي بِاسْمِكَ الأَوَّلِ، وَأَمَّا أَنَا فَلَا أَدْعُوكَ بِمَا لَا أَعْرِفُ قَالَ: فَكَانَ إِذَا دَعَانِي: يَا عَبْدَ عَمْرٍو، لَمْ أُجِبْهُ، فَقُلْتُ: اجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا شِئْتَ، قَالَ: فَأَنْتَ عَبْدُ الإِلَهِ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَكُنْتُ إِذَا مَرَرْتُ بِهِ قَالَ: يَا عَبْدَ الإِلَهِ، فَأُجِيبُهُ، فَأَتَحَدَّثُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، مَرَرْتُ بِهِ وَهُوَ وَاقِفٌ مَعَ ابْنِهِ عَلِيِّ بْنِ أُمَيَّةَ، آخِذا بِيَدِهِ، وَمَعِي أَدْرَاعٌ قَدِ اسْتَلَبْتُهَا، فَأَنَا أَحْمِلُهَا فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: يَا عَبْدَ عَمْرٍو! فَلَمْ اجبه،

فَقَالَ: يَا عَبْدَ الإِلَهِ، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: هَلْ لَكَ فِيَّ، فَأَنَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ هَذِهِ الأَدْرَاعِ الَّتِي مَعَكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، هَلُمَّ إِذًا قَالَ: فَطَرَحْتُ الأَدْرَاعَ مِنْ يَدِي وَأَخَذْتُ بِيَدِهِ وَيَدِ ابْنِهِ عَلِيٍّ، وَهُوَ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ! أَمَا لَكُمْ حَاجَةٌ فِي اللَّبَنِ! قَالَ: ثُمَّ خَرَجْتُ أَمْشِي بِهِمَا. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بن عبد الرحمن ابن عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: قَالَ لِي أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَأَنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِهِ، آخِذٌ بِأَيْدِيهِمَا: يَا عَبْدَ الإِلَهِ، مَنِ الرَّجُلُ مِنْكُمُ، الْمُعَلَّمُ بِرِيشَةِ نَعَامَةٍ فِي صَدْرِهِ؟ قَالَ: قُلْتُ: ذَاكَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ: ذَاكَ الَّذِي فَعَلَ بنا الأفاعيل! قال عبد الرحمن: فو الله إِنِّي لأَقُودُهُمَا إِذْ رَآهُ بِلَالٌ مَعِي- وَكَانَ هُوَ الَّذِي يُعَذِّبُ بِلَالًا بِمَكَّةَ عَلَى أَنْ يَتْرُكَ الإِسْلَامَ فَيُخْرِجُهُ إِلَى رَمْضَاءِ مَكَّةَ إِذَا حَمِيَتْ، فَيُضْجِعُهُ عَلَى ظَهْرِهِ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِالصَّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ فَتُوضَعُ عَلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: لا تَزَالُ هَكَذَا حَتَّى تُفَارِقَ دِينَ مُحَمَّدٍ، فَيَقُولُ بِلَالٌ: أَحَدٌ أَحَدٌ- فَقَالَ بِلَالٌ حِينَ رَآهُ: راس الكفر اميه ابن خَلَفٍ، لا نَجَوْتُ إِنْ نَجَوْتَ، قَالَ: قُلْتُ: اى بلال، اسيرى! قَالَ: لا نَجَوْتُ إِنْ نَجَوَا قَالَ: قُلْتُ: تسمع يا بن السَّوْدَاءِ! قَالَ: لا نَجَوْتُ إِنْ نَجَوَا، ثُمَّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا أَنْصَارَ اللَّهِ، رَأْسُ الكفر اميه ابن خَلَفٍ، لا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا! قَالَ: فَأَحَاطُوا بِنَا، ثُمَّ جَعَلُونَا فِي مِثْلِ الْمَسَكَةِ

وَأَنَا أَذُبُّ عَنْهُ، قَالَ: فَضَرَبَ رَجُلٌ ابْنَهُ فَوَقَعَ قَالَ: وَصَاحَ أُمَيَّةُ صَيْحَةً مَا سَمِعْتُ بِمِثْلِهَا قَطُّ قَالَ: قُلْتُ: انْجُ بِنَفْسِكَ، وَلا نجاء، فو الله مَا أُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا قَالَ: فَهَبَرُوهُمَا بِأَسْيَافِهِمْ حَتَّى فَرَغُوا مِنْهُمَا. قَالَ: فَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ بِلَالًا! ذَهَبَتْ أَدْرَاعِي وَفَجَعَنِي بِأَسِيرِيَّ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن محمد بن إسحاق، قَالَ: وحدثني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ حَدَّثَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ، قَالَ: أَقْبَلْتُ أَنَا وَابْنَ عَمٍّ لِي حَتَّى أَصْعَدْنَا فِي جَبَلٍ يُشْرِفُ بِنَا عَلَى بَدْرٍ، وَنَحْنُ مُشْرِكَانِ، نَنْتَظِرُ الْوَقْعَةَ عَلَى مَنْ تَكُونُ الدَّبَرَةُ، فَنَنْتَهِبُ مَعَ مَنْ يَنْتَهِبُ قَالَ: فَبَيْنَا نَحْنُ فِي الْجَبَلِ، إِذْ دَنَتْ مِنَّا سَحَابَةٌ، فَسَمِعْنَا فِيهَا حَمْحَمَةَ الْخَيْلِ، فَسَمِعْتُ قَائِلا: يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ قَالَ: فَأَمَّا ابْنُ عَمِّي فَانْكَشَفَ قِنَاعُ قَلْبِهِ فَمَاتَ مَكَانَهُ، وَأَمَّا أَنَا فَكِدْتُ أَهْلَكَ، ثُمَّ تَمَاسَكْتُ. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وحدثني أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ الْمَازِنِيِّ- وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا- قَالَ: إِنِّي لأَتْبَعُ رَجُلا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ لأَضْرِبَهُ، إِذْ وَقَعَ رَأْسُهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ سَيْفِي، فَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ قَتَلَهُ غَيْرِي. حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عبد الحكم المصري، قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الإِسْكَنْدَرَانِيُّ عَنِ الْعَلاءِ بْنِ

كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ ابن سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، قَالَ: قَالَ لِي أَبِي: يَا بُنَيَّ، لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ، وَإِنَّ أَحَدَنَا لَيُشِيرُ بِسَيْفِهِ إِلَى الْمُشْرِكِ فَيَقَعُ رَأْسُهُ عَنْ جَسَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ السَّيْفُ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: وحدثني الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ مِقْسَمٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَتْ سِيمَاءُ الْمَلائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ عَمَائِمَ بِيضًا قَدْ أَرْسَلُوهَا فِي ظُهُورِهِمْ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ عَمَائِمَ حُمْرًا، وَلَمْ تُقَاتِلِ الْمَلائِكَةُ فِي يَوْمٍ مِنَ الأَيَّامِ سِوَى يَوْمِ بَدْرٍ وَكَانُوا يَكُونُونَ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الأَيَّامِ عَدَدًا وَمَدَدًا لا يَضْرِبُونَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدٌ: وحدثني ثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ مَوْلَى بَنِي الدِّيلِ، عَنْ عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قَالَ: وحدثني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ، قَالَا: كَانَ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ أَخُو بَنِي سَلَمَةَ يَقُولُ: لَمَّا فَرَغَ رَسُولُ الله ص مِنْ عَدُوِّهِ، أَمَرَ بِأَبِي جَهْلٍ أَنْ يَلْتَمِسَ فِي الْقَتْلَى، وَقَالَ: اللَّهُمَّ لا يَعْجِزَنَّكَ، قَالَ: فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيَ أَبَا جَهْلٍ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، قَالَ: سَمِعْتُ الْقَوْمَ وَأَبُو جَهْلٍ فِي مِثْلِ الْحَرَجَةِ وَهُمْ يَقُولُونَ: أَبُو الْحَكَمِ لا يخلصُ إِلَيْهِ فَلَمَّا سَمِعْتُهَا جَعَلْتُهُ مِنْ شَأْنِي، فَصَمَدْتُ نَحْوَهُ، فَلَمَّا أَمْكَنَنِي حَمَلْتُ عَلَيْهِ فَضَرَبْتُهُ ضَرْبَةً أَطَنَّتْ قَدَمُهُ بِنِصْفِ ساقه، فو الله مَا شَبَّهْتُهَا حِينَ طَاحَتْ إِلَّا النَّوَاةُ تَطِيحُ مِنْ تَحْتِ مِرْضَخَةِ النَّوَى حِينَ يُضْرَبُ بِهَا

قَالَ: وَضَرَبَنِي ابْنُهُ عِكْرَمَةُ عَلَى عَاتِقِي، فَطَرَحَ يَدِي، فَتَعَلَّقَتْ بِجِلْدَةٍ مِنْ جَنْبِي، وَأَجْهَضَنِي الْقِتَالُ عَنْهُ، فَلَقَدْ قَاتَلْتُ عَامَّةَ يَوْمِي، وَإِنِّي لأَسْحَبُهَا خَلْفِي، فَلَمَّا آذَتْنِي جَعَلْتُ عَلَيْهَا رِجْلِي، ثُمَّ تَمَطَّيْتُ بِهَا، حَتَّى طَرَحْتُهَا. قَالَ: ثُمَّ عَاشَ مُعَاذٌ بَعْدَ ذَلِكَ، حَتَّى كَانَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: ثُمَّ مَرَّ بِأَبِي جَهْلٍ- وَهُوَ عَقِيرٌ- مُعَوِّذُ بْنُ عَفْرَاءَ، فَضَرَبَهُ حَتَّى أَثْبَتَهُ، فَتَرَكَهُ وَبِهِ رَمَقٌ، وَقَاتَلَ مُعَوِّذٌ حَتَّى قُتِلَ، فَمَرَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ بابى جهل حين امر رسول الله ص أَنْ يُلْتَمَسَ فِي الْقَتْلَى، وَقَدْ قَالَ لَهُمْ رسول الله ص- فِيمَا بَلَغَنِي: انْظُرُوا إِنْ خَفِيَ عَلَيْكُمْ فِي الْقَتْلَى إِلَى أَثَرِ جُرْحٍ بِرُكْبَتِهِ، فَإِنِّي ازْدَحَمْتُ أَنَا وَهُوَ يَوْمًا عَلَى مَأْدُبَةٍ لِعَبْدِ اللَّهِ ابن جُدْعَانَ، وَنَحْنُ غُلَامَانِ، وَكُنْتُ أَشَفَّ مِنْهُ بِيَسِيرٍ، فَدَفَعْتُهُ، فَوَقَعَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَجَحَشَ فِي إِحْدَاهُمَا جحشا لم يزل اثره فيه بعد قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: فَوَجَدْتُهُ بِآخِرِ رَمَقٍ، فَعَرَفْتُهُ، فَوَضَعْتُ رِجْلِي عَلَى عُنُقِهِ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ ضَبَثَ بِي مَرَّةً بِمَكَّةَ، فَآذَانِي وَلَكَزَنِي ثُمَّ قُلْتُ: هَلْ أَخْزَاكَ اللَّهُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ! قَالَ: وَبِمَاذَا أَخْزَانِي! أعمد مِنْ رَجُلٍ قتلتموه! أخبرني لمن الدبره؟ اليوم قَالَ: قُلْتُ: لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق: وَزَعَمَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ، كَانَ يَقُولُ: قَالَ لِي أَبُو جَهْلٍ: لَقَدِ ارْتَقَيْتُ يَا رُوَيْعِيَ الْغَنَمِ مُرْتَقًى صَعْبًا! ثُمَّ احْتَزَزْتُ رَأْسَهُ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِ رَسُولَ الله ص، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَأْسُ عَدُوِّ الله

ابى جهل، قال: فقال رسول الله ص: آللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ غَيْرُهُ! - وَكَانَتْ يَمِينَ رسول الله ص- قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ غَيْرُهُ، ثُمَّ أَلْقَيْتُ رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ الله ص. قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ الله ص بِالْقَتْلَى أَنْ يُطْرَحُوا فِي الْقَلِيبِ طُرِحُوا فِيهِ، إِلا مَا كَانَ مِنْ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، فَإِنَّهُ انْتَفَخَ فِي دِرْعِهِ حَتَّى مَلأَهَا، فَذَهَبُوا لِيُحَرِّكُوهُ، فَتَزَايَلَ فَأَقَرُّوهُ، وَأَلْقَوْا عَلَيْهِ مَا غَيَّبَهُ مِنَ التُّرَابِ وَالْحِجَارَةِ، فَلَمَّا أَلْقَاهُمْ فِي الْقَلِيبِ، وقف رسول الله ص عليهم، [فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا! فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُكَلِّمُ قَوْمًا مَوْتَى! قَالَ: لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَا وَعَدْتُهُمْ حَقٌّ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: لَقَدْ سَمِعُوا مَا قُلْتَ لَهُمْ، وَإِنَّمَا قال رسول الله ص: لَقَدْ عَلِمُوا] . حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق. قال: وحدثني حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سمع اصحاب رسول الله ص رسول الله ص، [وَهُوَ يَقُولُ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ: يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ، يَا عُتْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا شَيْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا أُمَيَّةُ بْنَ خَلَفٍ، يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ- فَعَدَّدَ مَنْ كَانَ مَعَهُمْ فِي الْقَلِيبِ: هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا، فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي

رَبِّي حَقًّا! قَالَ: الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُنَادِي قَوْمًا قَدْ جَيَّفُوا! فَقَالَ: مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُجِيبُونِي] . حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: وحدثني بعض اهل العلم، [ان رسول الله ص يَوْمَ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ: قَالَ: يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ، بِئْسَ عَشِيرَةُ النَّبِيِّ كُنْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ! كَذَّبْتُمُونِي وَصَدَّقَنِي النَّاسُ، وَأَخْرَجْتُمُونِي وَآوَانِي النَّاسُ، وَقَاتَلْتُمُونِي وَنَصَرَنِي النَّاسُ. ثُمَّ قَالَ: هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ لِلْمَقَالَةِ الَّتِي قَالَ] قَالَ: وَلَمَّا امر بهم رسول الله ص أَنْ يُلْقُوا فِي الْقَلِيبِ، أُخِذَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ فَسُحِبَ إِلَى الْقَلِيبِ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ ص- فِيمَا بَلَغَنِي- فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ، فَإِذَا هُوَ كَئِيبٌ قَدْ تَغَيَّرَ، فَقَالَ: يَا أَبَا حُذَيْفَةَ، لَعَلَّكَ دَخَلَكَ مِنْ شَأْنِ ابيك شيء! - او كما قال ص- فقال: لا وَاللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَا شَكَكْتُ فِي أَبِي وَلا فِي مَصْرَعِهِ، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَعْرِفُ مِنْ أَبِي رَأْيًا وَحِلْمًا وَفَضْلًا، فَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَهْدِيَهُ ذَلِكَ إِلَى الإِسْلامِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ مَا أَصَابَهُ، وَذَكَرْتُ مَا مَاتَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بَعْدَ الَّذِي كُنْتُ أَرْجُو لَهُ، حزننى ذلك، قال: فدعا رسول الله ص لَهُ بِخَيْرٍ، وَقَالَ لَهُ خَيْرًا. ثُمَّ إِنَّ رسول الله ص أَمَرَ بِمَا فِي الْعَسْكَرِ مِمَّا جَمَعَ النَّاسُ فَجُمِعَ، فَاخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ، فَقَالَ مَنْ جَمَعَهُ: هو لنا، قد كان رسول الله ص نَفَّلَ كُلَّ امْرِئٍ مَا أَصَابَ، فَقَالَ الَّذِينَ كَانُوا يُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ وَيَطْلُبُونَهُمْ: لَوْلَا نَحْنُ مَا أَصَبْتُمُوهُ، لَنَحْنُ شَغَلْنَا الْقَوْمَ عَنْكُمْ حَتَّى أَصَبْتُمْ مَا أَصَبْتُمْ فَقَالَ الَّذِينَ يَحْرُسُونَ رَسُولَ اللَّهِ ص مَخَافَةَ أَنْ يُخَالِفَ إِلَيْهِ الْعَدُوُّ: وَاللَّهِ مَا أَنْتُمْ بِأَحَقَّ بِهِ مِنَّا، لَقَدْ رَأَيْنَا أَنْ نَقْتُلَ الْعَدُوَّ إِذْ وَلَّانَا اللَّهُ، وَمَنَحَنَا أَكْتَافَهُمْ، وَلَقَدْ رَأَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ الْمَتَاعَ

حِينَ لَمْ يَكُنْ دُونَهُ مَنْ يَمْنَعُهُ، وَلَكِنْ خفنا على رسول الله ص كَرَّةَ الْعَدُوِّ، فَقُمْنَا دُونَهُ، فَمَا أَنْتُمْ بِأَحَقَّ بِهِ مِنَّا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ موسى الأَشْدَقِ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ عَنِ الأَنْفَالِ، فَقَالَ: فِينَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ بَدْرٍ نَزَلَتْ، حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النَّفْلِ، وَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلاقُنَا، فَنَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَيْدِينَا، فجعله الى رسوله، فقسمه رسول الله ص بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ بُوَاءٍ- يَقُولُ عَلَى السَّوَاءِ- فَكَانَ فِي ذَلِكَ تَقْوَى اللَّهِ، وَطَاعَةُ رَسُولِهِ، وَصَلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ. قَالَ: ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ الله ص عِنْدَ الْفَتْحِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ بَشِيرًا إِلَى أَهْلِ الْعَالِيَةِ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رسوله ص وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبَعَثَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ إِلَى أَهْلِ السَّافِلَةِ. قَالَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ: فَأَتَانَا الْخَبَرُ حِينَ سَوَّيْنَا التُّرَابَ عَلَى رُقَيَّةَ بِنْتِ رسول الله ص الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، كَانَ رسول الله ص خَلَّفَنِي عَلَيْهَا مَعَ عُثْمَانَ. قَالَ: ثُمَّ قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَجِئْتُهُ وَهُوَ وَاقِفٌ بِالْمُصَلَّى قَدْ غَشِيَهُ النَّاسُ وَهُوَ يَقُولُ: قُتِلَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَزَمْعَةُ بْنُ الأَسْوَدِ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بن هشام، وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابْنَا الْحَجَّاجِ قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَهْ أَحَقٌّ هَذَا! قَالَ: نَعَمْ وَاللَّهِ يَا بُنَيَّ. ثُمَّ اقبل رسول الله ص قَافِلًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَاحْتَمَلَ مَعَهُ النَّفْلَ الَّذِي أُصِيبَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَجَعَل عَلَى النَّفْلِ عَبْدَ الله بن كعب بن زيد ابن عَوْفِ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَازِنِ بن النجار ثم اقبل رسول الله ص حَتَّى إِذَا خَرَجَ مِنْ مَضِيقِ الصَّفْرَاءِ، نَزَلَ عَلَى كَثِيبٍ بَيْنَ الْمَضِيقِ وَبَيْنَ النَّازية- يقال له سير- إلى سرحة به، فَقَسَّمَ هُنَالِكَ النفل

الَّذِي أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى السَّوَاءِ، وَاسْتَقَى لَهُ مِنْ مَاءٍ بِهِ يُقَالُ لَهُ الأَرْوَاقُ. ثُمَّ ارْتَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ ص حَتَّى إِذَا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ، لَقِيَهُ الْمُسْلِمُونَ يُهَنِّئُونَهُ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ- كما حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، كَمَا حَدَّثَنِي عاصم بن عمر بن قتادة، ويزيد بن رومان: وما الذى تهنئون به! فو الله إِنْ لَقِينَا إِلَّا عَجَائِزَ صُلْعًا كَالْبُدْنِ الْمُعْقَلَةِ، فنحرناها فتبسم رسول الله ص، وقال: يا بن أَخِي، أُولَئِكَ الْمَلَأُ قَالَ: وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ ص الأُسَارَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَكَانُوا أَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ أَسِيرًا، وَكَانَ مِنَ الْقَتْلَى مِثْلَ ذَلِكَ- وَفِي الأُسَارَى عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ- حَتَّى إِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ص بِالصَّفْرَاءِ، قُتِلَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة قال: قال مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَمَا حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ رسول الله ص، حَتَّى إِذَا كَانَ بِعِرْقِ الظُّبْيَةِ، قُتِلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، فَقَالَ حِينَ أَمَرَ بِهِ رسول الله ص أَنْ يُقْتَلَ: فَمَنْ لِلصِبْيَةِ يَا مُحَمَّدُ! قَالَ: النَّارُ، قَالَ: فَقَتَلَهُ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ ابى الاقلح الأنصاري، ثم أَحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ. قَالَ: كَمَا حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: وَلَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ ص إِلَى عِرْقِ الظُّبْيَةِ حِينَ قُتِلَ عُقْبَةُ لَقِيَهُ أَبُو هِنْدٍ مَوْلَى فَرْوَةَ بْنِ عَمْرٍو الْبَيَاضِيِّ بِحَمِيتٍ مَمْلُوءٍ حَيْسًا، وَكَانَ قَدْ تَخَلَّفَ عَنْ بَدْرٍ، ثُمَّ شَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ الله ص،

وكان حجام رسول الله ص، فقال رسول الله ص: إِنَّمَا أَبُو هِنْدٍ امْرُؤٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَأَنْكِحُوهُ وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِ، فَفَعَلُوا. ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ ص حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ قَبْلَ الأُسَارَى بِيَوْمٍ حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بَكْرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ، قَالَ: قَدِمَ بِالأُسَارَى حِينَ قَدِمَ بِهِمْ وَسَوْدَةُ بِنْتُ زمعه زوج النبي ص عِنْدَ آلِ عَفْرَاءَ فِي مَنَاحَتِهِمْ عَلَى عَوْفٍ وَمُعْوَذٍ ابْنَيْ عَفْرَاءَ- قَالَ: وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْهِنَّ الْحِجَابُ- قَالَ: تَقُولُ سَوْدَةُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَعِنْدَهُمْ إِذْ أَتَيْنَا، فَقِيلَ: هَؤُلاءِ الأُسَارَى قَدْ أُتِيَ بِهِمْ، قَالَتْ: فَرُحْتُ إِلَى بَيْتِي ورسول الله ص فِيهِ، وَإِذَا أَبُو يَزِيدَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو في ناحيه الحجرة، مجموعه يداه الى عنقه بحبل، قالت: فو الله مَا مَلَكْتُ نَفْسِي حِينَ رَأَيْتُ أَبَا يَزِيدَ كَذَلِكَ أَنْ قُلْتُ: يَا أَبَا يَزِيدَ، أُعْطِيتُمْ بايديكم، الا متم كراما! فو الله ما انبهنى الا قول رسول الله ص مِنَ الْبَيْتِ: يَا سَوْدَةُ، أَعَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ! قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا مَلَكْتُ نَفْسِي حِينَ رَأَيْتُ أَبَا يَزِيدَ مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ بِحَبْلٍ أَنْ قُلْتُ مَا قُلْتُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الفضل، عن محمد بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي نَبِيهُ بْنُ وَهْبٍ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، [أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص حِينَ أَقْبَلَ بِالأُسَارَى فَرَّقَهُمْ فِي أَصْحَابِهِ، وَقَالَ: اسْتَوْصُوا بِالأُسَارَى خَيْرًا]- قَالَ: وَكَانَ أَبُو عَزِيزِ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمٍ، أَخُو مُصْعَبِ بْنُ عُمَيْرٍ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ فِي الأُسَارَى- قَالَ: فَقَالَ أَبُو عَزِيزٍ: مَرَّ بِي أَخِي مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يَأْسِرُنِي، فَقَالَ: شُدَّ يديك به،

فَإِنَّ أُمَّهُ ذَاتَ مَتَاعٍ، لَعَلَّهَا أَنْ تَفْتَدِيَهُ مِنْكَ قَالَ: وَكُنْتُ فِي رَهْطٍ مِنَ الأَنْصَارِ حِينَ أَقْبَلُوا بِي مِنْ بَدْرٍ، فَكَانُوا إِذَا قَدَّمُوا غَدَاءَهُمْ وَعَشَاءَهُمْ خَصُّونِي بِالْخُبْزِ، وَأَكَلُوا التَّمْرَ لوصيه رسول الله ص إِيَّاهُمْ بِنَا، مَا تَقَعُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنْهُمْ كِسْرَةٌ مِنَ الْخُبْزِ إِلا نَفَحَنِي بِهَا قَالَ: فَأَسْتَحِي، فَأَرُدَّهَا عَلَى أَحَدِهِمْ فَيَرُدَّهَا عَلَيَّ مَا يَمَسُّهَا. حَدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبد الله بن اياس ابن ضبيعة بن مازن بن كعب بن عمرو الخزاعي- قال أبو جعفر: وقال الواقدي: الحيسمان بن حابس الخزاعي- قالوا: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وزمعة بن الأسود، وأبو البختري بن هشام ونبيه ومنبه ابنا الحجاج قال: فلما جعل يعدد أشراف قريش، قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر: والله إن يعقل هذا فسلوه عني، قالوا: ما فعل صفوان بن أمية؟ قال: هو ذاك جالسا في الحجر، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قال ابو رافع مولى رسول الله ص: كُنْتُ غُلامًا لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ الإِسْلامُ قَدْ دَخَلَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، وَأَسْلَمَتْ أُمُّ الْفَضْلِ وَأَسْلَمْتُ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ يَهَابُ قَوْمَهُ، وَيَكْرَهُ أَنْ يُخَالِفَهُمْ، وَكَانَ يَكْتُمُ إِسْلامَهُ، وَكَانَ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ مُتَفَرِّقٍ فِي قَوْمِهِ، وَكَانَ أَبُو لَهَبٍ عَدُوُّ اللَّهِ قَدْ تَخَلَّفَ عَنْ بَدْرٍ، وَبَعَثَ مَكَانَهُ الْعَاصَ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَكَذَلِكَ صَنَعُوا، لَمْ يَتَخَلَّفْ رَجُلٌ إِلا بَعَثَ مَكَانَهُ رَجُلا، فَلَمَّا جَاءَ الْخَبَرُ عَنْ مُصَابِ أَصْحَابِ بَدْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، كَبَتَهُ اللَّهُ وَأَخْزَاهُ، وَوَجَدْنَا فِي أَنْفُسِنَا قُوَّةً وَعِزًّا

قَالَ: وَكُنْتُ رَجُلا ضَعِيفًا، وَكُنْتُ أَعْمَلُ الْقِدَاحَ، أنحتها في حجره زمزم، فو الله انى لجالس فِيهَا أَنْحَتُ الْقِدَاحَ، وَعِنْدِي أُمُّ الْفَضْلِ جَالِسَةٌ، وَقَدْ سَرَّنَا مَا جَاءَنَا مِنَ الْخَبَرِ، إِذْ أَقْبَلَ الْفَاسِقُ أَبُو لَهَبٍ يَجُرُّ رِجْلَيْهِ بِشَرٍّ، حَتَّى جَلَسَ عَلَى طُنُبِ الْحُجْرَةِ، فَكَانَ ظَهْرُهُ إِلَى ظَهْرِي، فَبَيْنَا هُوَ جَالِسٌ إِذْ قَالَ النَّاسُ: هَذَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَدْ قَدِمَ قَالَ: فَقَالَ أَبُو لهب: هلم الى يا بن أَخِي، فَعِنْدَكَ الْخَبَرُ قَالَ: فَجَلَسَ إِلَيْهِ، وَالنَّاسُ قيام عليه، فقال: يا بن أَخِي، أَخْبِرْنِي، كَيْفَ كَانَ أَمْرُ النَّاسِ؟ قَالَ: لا شَيْءَ، وَاللَّهِ إِنْ كَانَ إِلا أَنْ لَقَيْنَاهُمْ، فَمَنَحْنَاهُمْ أَكْتَافَنَا، يَقْتُلُونَنَا وَيَأْسِرُونَ كَيْفَ شَاءُوا، وَايْمُ اللَّهِ مَعَ ذَلِكَ مَا لُمْتُ النَّاسَ، لَقِينَا رِجَالا بِيضًا عَلى خَيْلٍ بُلْقٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، مَا تَلِيقُ شَيْئًا وَلا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ قَالَ أَبُو رَافِعٍ: فَرَفَعْتُ طُنُبَ الْحُجْرَةِ بِيَدِي، ثُمَّ قُلْتُ: تِلْكَ الْمَلائِكَةُ قَالَ: فَرَفَعَ أَبُو لَهَبٍ يَدَهُ فَضَرَبَ وَجْهِي ضَرْبَةً شَدِيدَةً، قَالَ: فَثَاوَرْتُهُ، فَاحْتَمَلَنِي، فَضَرَبَ بِي الأَرْضَ ثُمَّ بَرَكَ عَلَيَّ يَضْرِبُنِي- وَكُنْتُ رَجُلا ضَعِيفًا- فَقَامَتْ أُمُّ الْفَضْلِ إِلَى عَمُودٍ مِنْ عُمُدِ الْحُجْرَةِ، فَأَخَذَتْهُ فَضَرَبَتْهُ بِهِ ضَرْبَةً فَشَجَّتْ فِي رَأْسِهِ شَجَّةً مُنْكَرَةً، وَقَالَتْ: تَسْتَضْعِفُهُ أَنْ غَابَ عنه سيده! فقام موليا ذليلا، فو الله مَا عَاشَ إِلا سَبْعَ لَيَالٍ حَتَّى رَمَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْعَدَسَةِ فَقَتَلَتْهُ، فَلَقَدْ تَرَكَهُ ابْنَاهُ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا مَا يَدْفِنَانِهِ حَتَّى أَنْتَنَ فِي بَيْتِهِ- وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَتَّقِي الْعَدَسَةَ وَعَدْوَتَهَا كَمَا يَتَّقِي النَّاسُ الطَّاعُونَ- حَتَّى قَالَ لَهُمَا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ: وَيْحَكُمَا! أَلا تَسْتَحِيَانِ أَنَّ أَبَاكُمَا قَدْ أَنْتَنَ فِي بَيْتِهِ لا تُغَيِّبَانِهِ! فَقَالا: إِنَّا نَخْشَى هَذِهِ الْقُرْحَةَ، قَالَ: فَانْطَلِقَا فَأَنَا مَعَكُمَا، فَمَا غَسَّلُوهُ إِلا قَذْفًا بِالْمَاءِ عَلَيْهِ مِنْ بَعِيدٍ، مَا يَمَسُّونَهُ، ثُمَّ احْتَمَلُوهُ فَدَفَنُوهُ بِأَعْلَى مَكَّةَ إِلَى جِدَارٍ، وَقَذَفُوا عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ حَتَّى وَارَوْهُ

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وحدثني الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ بعض اهله، عن عبد الله ابن عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا أَمْسَى الْقَوْمُ مِنْ يَوْمِ بَدْرٍ، وَالأُسَارَى مَحْبُوسُونَ فِي الْوَثَاقِ، بَاتَ رَسُولُ الله ص سَاهِرًا أَوَّلَ لَيْلَةٍ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَالَكَ لا تَنَامُ! فَقَالَ: سَمِعْتُ تَضَوُّرَ الْعَبَّاسِ فِي وَثَاقِهِ، قَالَ: فَقَامُوا إِلَى العباس فاطلقوه، فنام رسول الله ص. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة بن مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ الَّذِي أَسَرَ الْعَبَّاسُ أَبُو الْيُسْرِ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو أُخو بَنِي سَلَمَةَ، وَكَانَ أَبُو الْيُسْرِ رَجُلا مَجْمُوعًا، وَكَانَ الْعَبَّاسُ رَجُلا جَسِيمًا، فَقَالَ رَسُولُ الله ص لأَبِي الْيُسْرِ: كَيْفَ أَسَرْتَ الْعَبَّاسَ يَا أَبَا الْيُسْرِ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ أَعَانَنِي عَلَيْهِ رَجُلٌ مَا رَأَيْتُهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَلا بَعْدَهُ، هَيْئَتُهُ كَذَا وَكَذَا، [قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: لَقَدْ أَعَانَكَ عَلَيْهِ مَلَكٌ كَرِيمٌ] . حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الفضل، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: وحدثني يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ عَبَّادٍ، قَالَ: نَاحَتْ قُرَيْشٌ عَلَى قَتْلَاهُمْ، ثُمَّ قَالُوا: لا تَفْعَلُوا فَيَبْلُغُ ذَلِكَ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، فَيَشْمَتُ بِكُمْ، وَلا تَبْعَثُوا فِي فِدَاءِ أَسْرَاكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنَوْا بِهِمْ، لا يَتَأَرَّبُ عَلَيْكُمْ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ فِي الْفِدَاءِ

قال: وكان الأسود بن عبد المطلب قَدْ أُصِيبَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ وَلَدِهِ: زَمْعَةُ بْنُ الأَسْوَدِ، وَعَقِيلُ بْنُ الأَسْوَدِ، وَالْحَارِثُ بْنُ الأَسْوَدِ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَبْكِيَ عَلَى بَنِيهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ، إِذْ سَمِعَ نَائِحَةً مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ لِغُلامٍ لَهُ وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ: انْظُرْ هَلْ أَحَلَّ النَّحْبُ؟ هَلْ بَكَتْ قُرَيْشٌ عَلَى قَتْلَاهَا؟ لَعَلِّي أَبْكِي عَلَى أَبِي حُكَيْمَةَ- يَعْنِي زَمْعَةَ- فَإِنَّ جَوْفِي قَدِ احْتَرَقَ! قَالَ: فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْهِ الْغُلَامُ، قَالَ: إِنَّمَا هِيَ امْرَأَةٌ تَبْكِي عَلَى بَعِيرٍ لَهَا أَضَلَّتْهُ قَالَ: فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: أَتَبْكِي أَنْ يَضِلَّ لَهَا بَعِيرٌ ... وَيَمْنَعُهَا مِنَ النَّوْمِ السُّهُودُ فَلَا تَبْكِي عَلَى بَكْرٍ وَلَكِنْ ... عَلَى بَدْرٍ تَقَاصَرَتِ الْجُدُودُ عَلَى بَدْرٍ سَرَاةِ بَنِي هُصَيْصٍ ... وَمَخْزُومٍ وَرَهْطِ أَبِي الْوَلِيدِ وَبَكِّي إِنْ بَكَيْتِ عَلَى عَقِيلٍ ... وَبَكِّي حَارِثًا أَسَد الأُسُودِ وَبَكِّيهِمْ وَلا تَسْمِي جَمِيعًا ... فَمَا لأَبِي حُكَيْمَةَ مِنْ نَدِيدٍ أَلَا قَدْ سَادَ بَعْدَهُمْ رِجَالٌ ... وَلَوْلَا يَوْمُ بَدْرٍ لَمْ يَسُودُوا قَالَ: وَكَانَ فِي الأُسَارَى أَبُو وَدَاعَةَ بْنُ ضُبَيْرَةَ السَّهْمِيُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: إِنَّ لَهُ ابْنًا تَاجِرًا كَيِّسًا ذَا مَالٍ، وَكَأَنَّكُمْ بِهِ قَدْ جَاءَكُمْ فِي فِدَاءِ أَبِيهِ! قَالَ: فَلَمَّا قَالَتْ قُرَيْشٌ: لا تَعْجَلُوا فِي فِدَاءِ أُسَرَائِكُمْ لَا يَتَأَرَّبُ عَلَيْكُمْ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ، قَالَ الْمُطَّلِبُ بْنُ أَبِي وَدَاعَةَ- وَهُوَ الَّذِي كان رسول الله ص عَنَى-: صَدَقْتُمْ، لا تَعْجَلُوا بِفِدَاءِ أُسَرَائِكُمْ

ثُمَّ انْسَلَّ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَأَخَذَ أَبَاهُ بِأَرْبَعَةِ آلافِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِ، ثُمَّ بَعَثَتْ قُرَيْشٌ فِي فِدَاءِ الأُسَارَى، فَقَدِمَ مكرز بن حفص ابن الأَخْيَفِ فِي فِدَاءِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ الَّذِي أَسَرَهُ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُمِ، أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، وَكَانَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو أَعْلَمَ مِنْ شَفَتِهِ السُّفْلَى. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطَاءِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ عَلْقَمَةَ، أَخُو بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لرسول الله ص: يَا رَسُولَ اللَّهِ انْتَزِعْ ثَنِيَّتَيْ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو السُّفْلِيَّيْنِ يُدْلَعْ لِسَانُهُ، فَلا يَقُومُ عَلَيْكَ خَطِيبًا فِي مَوْطِنٍ أَبَدًا، [فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: لا أُمَثِّلُ بِهِ فَيُمَثِّلُ اللَّهُ بِي، وَإِنْ كُنْتُ نَبِيًّا] . قَالَ: وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ الله ص قَالَ لِعُمَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: إِنَّهُ عَسَى أَنْ يَقُومَ مَقَامًا لا تَذُمُّهُ، فَلَمَّا قَاوَلَهُمْ فِيهِ مِكْرَزٌ، وَانْتَهَى إِلَى رِضَاهُمْ، قَالُوا: هَاتِ الَّذِي لَنَا قَالَ: اجْعَلُوا رِجْلِي مَكَانَ رِجْلِهِ، وَخَلُّوا سَبِيلَهُ حَتَّى يَبْعَثُ إِلَيْكُمْ بِفِدَائِهِ قَالَ: فَخَلُّوا سَبِيلَ سُهَيْلٍ، وَحَبَسُوا مِكْرِزًا مَكَانَهُ عِنْدَهُمْ. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ الله ص قَالَ لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حِينَ انْتَهَى بِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ: يَا عَبَّاسُ، افْدِ نَفْسَكَ وَابْنَيْ أَخِيكَ عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ، وَحِليَفَك عُتْبَةَ بْنَ عَمْرِو بْنِ جَحْدَمٍ، أَخَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ، فَإِنَّكَ ذو مال

فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ مُسْلِمًا، وَلَكِنَّ الْقَوْمَ اسْتَكْرَهُونِي، فَقَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِسْلامِكَ، إِنْ يَكُنْ مَا تَذْكُرُ حَقًّا فَاللَّهُ يُجْزِيكَ بِهِ، فَأَمَّا ظَاهِرُ أَمْرِكَ فَقَدْ كَانَ عَلَيْنَا، فافد نفسك- وكان رسول الله ص قَدْ أَخَذَ مِنْهُ عِشْرِينَ أُوقِيَةٍ مِنْ ذَهَبٍ- فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، احْسِبْهَا لِي فِي فِدَائِي، قَالَ: لا، ذَاكَ شَيْءٌ أَعْطَانَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْكَ، قَالَ: فَإِنَّهُ لَيْسَ لِي مَالٌ قَالَ: فَأَيْنَ الْمَالُ الَّذِي وَضَعْتَهُ بِمَكَّةَ حَيْث خَرَجْتَ مِنْ عِنْدِ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ، لَيْسَ مَعَكُمَا أَحَدٌ ثُمَّ قُلْتَ لَهَا: إِنْ أُصِبْتُ فِي سَفَرِي هَذَا فَلِلْفَضْلِ كَذَا وَكَذَا، وَلِعَبْدِ اللَّهِ كَذَا وَكَذَا، وَلِقَثْمٍ كَذَا وَكَذَا، وَلِعُبَيْدِ اللَّهِ كَذَا وَكَذَا! قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عَلِمَ هَذَا أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرَهَا، وَإِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَفَدَى الْعَبَّاسُ نَفْسَهُ وَابْنَيْ أَخِيهِ وَحَلِيفَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الفضل، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: وحدثني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بن مُحَمَّد بن عمرو بن حَزْمٍ، قَالَ: كَانَ عَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ- وَكَانَ لابْنَةِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي معيط- أسيرا في يدي رسول الله ص مِنْ أَسَارَى بَدْرٍ، فَقِيلَ لأَبِي سُفْيَانَ: افْدِ عَمْرًا، قَالَ: أَيُجْمَعُ عَلَيَّ دَمِي وَمَالِي! قَتَلُوا حَنْظَلَةَ وَأَفْدِي عَمْرًا! دَعُوهُ فِي أَيْدِيهِمْ يَمْسِكُوهُ مَا بَدَا لَهُمْ قَالَ: فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ محبوس عند رسول الله ص، خَرَجَ سَعْدُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ أَكَّالٍ، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي مُعَاوِيَةَ مُعْتَمِرًا، وَمَعَهُ مَرِيَّةٌ لَهُ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا مُسْلِمًا فِي غَنَمٍ لَهُ بِالنَّقِيعِ، فَخَرَجَ مِنْ هُنَالِكَ مُعْتَمِرًا، وَلا يَخْشَى الَّذِي صُنِعَ بِهِ، لَمْ يَظُنَّ أَنَّهُ يُحْبَسُ بِمَكَّةَ، إِنَّمَا جاء معتمرا،

وَقَدْ عَهِدَ قُرَيْشًا لا تَعْتَرِضُ لأَحَدٍ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا إِلَّا بِخَيْرٍ، فَعَدَا عَلَيْهِ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَحَبَسَهُ بِمَكَّةَ بِابْنِهِ عَمْرِو بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَرَهْطَ ابْنِ أَكَّالٍ أَجِيبُوا دُعَاءَهُ ... تَعَاقَدْتُمْ لا تُسَلِّمُوا السَّيِّدَ الْكَهْلَا فَإِنَّ بَنِي عَمْرٍو لِئَامٌ أَذِلَّةٌ ... لِئَنْ لَمْ يَفُكُّوا عَنْ أَسِيرِهِمُ الْكَبْلَا قَالَ: فَمَشَى بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ إِلَى رسول الله ص، فَأَخْبَرُوهُ خَبَرَهُ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ عَمْرَو بْنَ أَبِي سُفْيَانَ فَيَفُكُّوا شَيْخَهُمْ، فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ص، فَبَعَثُوا بِهِ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ، فَخَلَّى سَبِيلَ سَعْدٍ. قَالَ: وَكَانَ فِي الأُسَارَى أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عَبْدِ شمس ختن رسول الله ص، زَوْجُ ابْنَتِهِ زَيْنَبَ، وَكَانَ أَبُو الْعَاصِ مِنْ رِجَالِ مَكَّةَ الْمَعْدُودِينَ مَالًا وَأَمَانَةً وَتِجَارَةً، وَكَانَ لِهَالَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ وَكَانَتْ خَدِيجَةُ خَالَتَهُ، فَسَأَلَتْ خديجه رسول الله ص ان يزوجه، وكان رسول الله ص لا يُخَالِفُهَا، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِ، فَزَوَّجَهُ، فَكَانَتْ تُعِدُّهُ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِهَا، فَلَمَّا أَكْرَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَسُولَهُ بِنُبُوَّتِهِ آمَنَتْ بِهِ خَدِيجَةُ وَبَنَاتُهُ، فَصَدَّقْنَهُ وَشَهِدْنَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَدِنَّ بِدِينِهِ، وَثَبَتَ أَبُو العاص على شركه. وكان رسول الله ص قَدْ زَوَّجَ عُتْبَةَ بْنَ أَبِي لَهَبٍ إِحْدَى ابْنَتَيْهِ رُقَيَّةَ أَوْ أُمَّ كُلْثُومٍ، فَلَمَّا بَادَى قُرَيْشًا بِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبَاعَدُوهُ، قَالُوا: إِنَّكُمْ قَدْ فَرَغْتُمْ مُحَمَّدًا مِنْ هَمِّهِ، فَرُدُّوا عَلَيْهِ بَنَاتِهِ، فَاشْغِلُوهُ بِهِنَّ، فَمَشَوْا إِلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَقَالُوا لَهُ: فَارِقْ صَاحِبَتَكَ، ونحن

نُزَوِّجُكَ أَيَّ امْرَأَةٍ شِئْتَ مِنْ قُرَيْشٍ، قَالَ: لا ها اللَّهِ إِذَا، لا أُفَارِقُ صَاحِبَتِي وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِامْرَأَتِي امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانَ رسول الله ص يُثْنِي عَلَيْهِ فِي صِهْرِهِ خَيْرًا- فِيمَا بَلَغَنِي. قَالَ: ثُمَّ مَشَوْا إِلَى الْفَاسِقِ ابْنِ الْفَاسِقِ، عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ، فَقَالُوا لَهُ: طَلِّقِ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ وَنَحْنُ نُزَوِّجُكَ أَيَّ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ شِئْتَ، فَقَالَ: إِنْ زَوَّجْتُمُونِي ابْنَةَ أَبَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، أَوِ ابْنَةَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فَارَقْتُهَا فَزَوَّجُوهُ ابْنَةَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَفَارَقَهَا، وَلَمْ يَكُنْ عَدُوُّ اللَّهِ دَخَلَ بِهَا، فَأَخْرَجَهَا اللَّهُ مِنْ يَدِهِ كَرَامَةً لَهَا، وَهَوَانًا لَهُ، فَخَلَفَ عَلَيْهَا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ بعده، وكان رسول الله ص لا يَحِلُّ بِمَكَّةَ وَلا يُحْرِمُ مَغْلُوبًا عَلَى أَمْرِهِ، وَكَانَ الإِسْلَامُ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ زَيْنَبَ بنت رسول الله ص حِينَ أَسْلَمَتْ وَبَيْنَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، الا ان رسول الله ص كَانَ لا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا، فاقامت معه على اسلامهم وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ، حَتَّى هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ ص، فَلَمَّا سَارَتْ قُرَيْشٌ إِلَى بَدْرٍ سَارَ فِيهِمْ أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ، فَأُصِيبَ فِي الأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ص. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عباد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزبير، عن ابيه عباد، عن عائشة زوج النبي ص، قَالَتْ: لَمَّا بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي فِدَاءِ اسرائهم، بعثت زينب بنت رسول الله ص في فداء ابى العاص ابن الرَّبِيعِ بِمَالٍ، وَبَعَثَتْ فِيهِ بِقِلادَةٍ لَهَا كَانَتْ خَدِيجَةُ أَدْخَلَتْهَا بِهَا عَلَى أَبِي الْعَاصِ حِينَ بَنَى عَلَيْهَا. قَالَتْ: فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ ص رَقَّ لَهَا رِقَّةً شَدِيدَةً، وَقَالَ: إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا فَافْعَلُوا! فَقَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَطْلَقُوهُ وَرَدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا

وكان رسول الله ص قَدْ أَخَذَ عَلَيْهِ- أَوْ وَعَدَ رَسُولَ اللَّهِ ص- أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَ زَيْنَبَ إِلَيْهِ، أَوْ كَانَ فِيمَا شَرَطَ عَلَيْهِ فِي إِطْلَاقِهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ ذلك منه ولا من رسول الله ص، فَيُعْلَمُ مَا هُوَ! إِلا أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ أَبُو الْعَاصِ إِلَى مَكَّةَ وَخُلِّيَ سَبِيلُهُ، بَعَثَ رسول الله ص زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَرَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ مَكَانَهُ، فَقَالَ: كُونَا بِبَطْنِ يَأْجَجَ، حَتَّى تَمُرَّ بِكُمَا زَيْنَبُ فَتَصْحَبَاهَا، حَتَّى تَأْتِيَانِي بِهَا، فَخَرَجَا مَكَانَهُمَا، وَذَلِكَ بَعْدَ بَدْرٍ بِشَهْرٍ أَوْ شَيْعِهِ فَلَمَّا قَدِمَ أَبُو الْعَاصِ مَكَّةَ أَمَرَهَا بِاللُّحُوقِ بِأَبِيهَا، فَخَرَجَتْ تَجَهَّزُ. فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بن أبي بكر بن مُحَمَّد بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ زَيْنَبَ أَنَّهَا قَالَتْ: بَيْنَا أَنَا أَتَجَهَّزُ بِمَكَّةَ لِلُّحُوقِ بِأَبِي، لَقِيَتْنِي هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، فَقَالَتْ: أَيِ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ، أَلَمْ يَبْلُغَنِي أَنَّكِ تُرِيدِينَ اللُّحُوقَ بِأَبِيكِ! قَالَتْ: فَقُلْتُ: مَا أَرَدْتُ ذَلِكَ، قَالَتْ: أَيِ ابْنَةَ عَمِّي، لا تَفْعَلِي، إِنْ كَانَتْ لَكِ حَاجَةٌ بِمَتَاعٍ مِمَّا يَرْفَقُ بِكِ فِي سَفَرِكِ، أَوْ بِمَالٍ تَبْلُغِينَ بِهِ إِلَى أَبِيكِ، فَإِنَّ عِنْدِي حَاجَتَكِ فَلا تَضْطَنِي مِنِّي، فَإِنَّهُ لا يَدْخُلُ بَيْنَ النِّسَاءِ مَا يَدْخُلُ بين الرجال قالت: وو الله مَا أَرَاهَا قَالَتْ ذَلِكَ إِلا لِتَفْعَلَ. قَالَتْ: وَلَكِنِّي خِفْتُهَا، فَأَنْكَرْتُ أَنْ أَكُونَ أُرِيدُ ذَلِكَ، وتجهزت. فلما فرغت ابنه رسول الله ص مِنْ جِهَازِهَا قَدِمَ لَهَا حَمُوهَا كِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ أَخُو زَوْجِهَا بَعِيرًا فَرَكِبَتْهُ، وَأَخَذَ قَوْسَهُ وَكِنَانَتَهُ، ثُمَّ خَرَجَ بِهَا نَهَارًا يَقُودُ بِهَا، وَهِيَ فِي هَوْدَجٍ لَهَا وَتَحَدَّثَ بِذَلِكَ رِجَالُ قريش،

فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهَا حَتَّى أَدْرَكُوهَا بِذِي طُوًى، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ سَبَقَ إِلَيْهَا هَبَّارُ بْنُ الأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى وَنَافِعُ بْنُ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَالْفِهْرِيُّ فَرَوَّعَهَا هَبَّارُ بِالرُّمْحِ وَهِيَ فِي هَوْدَجِهَا- وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ حَامِلا، فِيمَا يَزْعُمُونَ- فَلَمَّا رَجَعَتْ طَرَحَتْ ذَا بَطْنِهَا، وَبَرَكَ حَمُوهَا، وَنَثَرَ كِنَانَتَهُ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لا يَدْنُو مِنِّي رَجُلٌ إِلا وَضَعْتُ فِيهِ سَهْمًا، فَتَكَرْكَرَ النَّاسُ عَنْهُ، وَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ فِي جُلَّةِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، كُفَّ عَنَّا نَبْلَكَ حَتَّى نُكَلِّمَكَ، فَكَفَّ فَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّكَ لَمْ تُصِبْ، خَرَجْتَ بِالْمَرْأَةِ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ علانية، وَقَدْ عَرَفْتَ مُصِيبَتَنَا وَنَكْبَتَنَا وَمَا دَخَلَ عَلَيْنَا مِنْ مُحَمَّدٍ، فَيَظُنُّ النَّاسُ إِذَا خُرِجَ بِابْنَتِهِ علانية من بين أظهرنا ان ذلك عن ذُلٍّ أَصَابَنَا عَنْ مُصِيبَتِنَا، وَنَكْبَتِنَا الَّتِي كَانَتْ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنَّا ضَعْفٌ وَوَهَنٌ، لَعَمْرِي مَا لَنَا حَاجَةٌ فِي حَبْسِهَا عَنْ أَبِيهَا، وَمَا لَنَا فِي ذَلِكَ مِنْ ثُؤْرَةٍ، وَلَكِنْ أَرْجِعِ الْمَرْأَةَ، فَإِذَا هَدَأَ الصَّوْتُ، وَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّا قَدْ رَدَدْنَاهَا، فَسُلَّهَا سِرًّا فَأَلْحِقْهَا بِأَبِيهَا فَفَعَلَ حَتَّى إِذَا هَدَأَ الصَّوْتُ خَرَجَ بِهَا لَيْلا، حَتَّى أَسْلَمَهَا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَصَاحِبَهُ، فقدما بها على رسول الله ص. قَالَ: فَأَقَامَ أَبُو الْعَاصِ بِمَكَّةَ، وَأَقَامَتْ زَيْنَبُ عند رسول الله ص بِالْمَدِينَةِ، قَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الإِسْلامُ، حَتَّى إِذَا كَانَ قُبَيْلُ الْفَتْحِ خَرَجَ تَاجِرًا إِلَى الشَّامِ- وَكَانَ رَجُلا مَأْمُونًا بِمَالٍ لَهُ، وَأَمْوَالِ رِجَالٍ من قريش ابضعوها معه- فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ تِجَارَتِهِ- وَأَقْبَلَ قَافِلا، لَقِيَتْهُ سريه لرسول الله ص، فَأَصَابُوا مَا مَعَهُ، وَأَعْجَزَهُمْ هَرَبًا، فَلَمَّا قَدِمَتِ السَّرِيَّةُ بِمَا أَصَابُوا مِنْ مَالِهِ، أَقْبَلَ أَبُو الْعَاصِ تَحْتَ اللَّيْلِ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ بنت رسول الله

ص، فَاسْتَجَارَ بِهَا، فَأَجَارَتْهُ فِي طَلَبِ مَالِهِ، فَلَمَّا خرج رسول الله ص إِلَى الصُّبْحِ- فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: كَمَا حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ- فَكَبَّرَ وَكَبَّرَ النَّاسُ مَعَهُ، صَرَخَتْ زَيْنَبُ مِنْ صُفَّةِ النِّسَاءِ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ أَبَا الْعَاصِ بْنَ الربيع فلما سلم رسول الله ص مِنَ الصَّلاةِ، أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، [فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، هَلْ سَمِعْتُمْ مَا سَمِعْتُ! قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا عَلِمْتُ بِشَيْءٍ كَانَ حَتَّى سَمِعْتُ مِنْهُ مَا سَمِعْتُمْ، إِنَّهُ يُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ ثُمَّ انصرف رسول الله ص، فَدَخَلَ عَلى ابْنَتِهِ، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّةُ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ وَلا يَخْلُصُ إِلَيْكِ، فَإِنَّكِ لا تَحِلِّينَ لَهُ] حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن محمد بن إسحاق، قَالَ: وحدثني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، [أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص بَعَثَ إِلَى السَّرِيَّةِ الَّذِينَ أَصَابُوا مَالَ أَبِي الْعَاصِ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ، وَقَدْ أَصَبْتُمْ لَهُ مَالًا، فَإِنْ تُحْسِنُوا تَرُدُّوا عَلَيْهِ الَّذِي لَهُ، فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَهُوَ فَيْءُ اللَّهِ الَّذِي أَفَاءَهُ عَلَيْكُمْ، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِهِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلْ نَرُدُّهُ عَلَيْهِ!] قَالَ: فَرَدُّوا عَلَيْهِ مَالَهُ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِي بِالْحَبْلِ، وَيَأْتِي الرَّجُلُ بِالشَّنَّةِ وَالإِدَاوَةِ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَأْتِي بِالشِّظَاظِ، حَتَّى رَدُّوا عَلَيْهِ مَالَهُ بِأَسْرِهِ، لا يَفْقِدُ مِنْهُ شَيْئًا ثُمَّ احْتُمِلَ إِلَى مَكَّةَ، فَأَدَّى إِلَى كُلِّ ذِي مَالٍ من قريش

مَالَهُ مِمَّنْ كَانَ أَبْضَعَ مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَلْ بَقِيَ لأَحَدٍ مِنْكُمْ عِنْدِي مَالٌ لَمْ يَأْخَذْهُ؟ قَالُوا: لا فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، فَقَدْ وَجَدْنَاكَ وَفِيًّا كَرِيمًا، قَالَ: فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَاللَّهِ مَا مَنَعَنِي مِنَ الإِسْلَامِ عِنْدَهُ إِلَّا تَخَوَّفُ أَنْ تَظُنُّوا أَنِّي إِنَّمَا أَرَدْتُ أَكْلَ أَمْوَالِكُمْ، فَلَمَّا أَدَّاهَا الله إليكم، وَفَرَغْتُ مِنْهَا أَسْلَمْتُ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ على رسول الله ص. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: رَدَّ عَلَيْهِ رسول الله ص زَيْنَبَ بِالنِّكَاحِ الأَوَّلِ، وَلَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: جَلَسَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ مَعَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بَعْدَ مُصَابِ أَهْلِ بَدْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ بِيَسِيرٍ فِي الْحِجْرِ- وَكَانَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ شَيْطَانًا مِنْ شَيَاطِينِ قُرَيْشٍ، وَكَانَ مِمَّنْ يُؤْذِي رَسُولَ الله ص وَأَصْحَابَهُ، وَيَلْقَوْنَ مِنْهُ عَنَاءً وَهُمْ بِمَكَّةَ، وَكَانَ ابْنُهُ وَهْبُ بْنُ عُمَيْرٍ فِي أُسَارَى بَدْرٍ- فَذَكَرَ أَصْحَابَ الْقَلِيبِ وَمُصَابَهُمْ، فَقَالَ صَفْوَانُ: وَاللَّهِ إِنَّ فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ بَعْدَهُمْ، فَقَالَ عُمَيْرٌ: صَدَقْتَ وَاللَّهِ! أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا دَيْنٌ عَلَيَّ لَيْسَ لَهُ عِنْدِي قَضَاءٌ وَعِيَالٌ أَخْشَى عَلَيْهِمُ الضَّيْعَةَ بَعْدِي، لَرَكِبْتُ إِلَى مُحَمَّدٍ حَتَّى أَقْتُلَهُ، فَإِنَّ لِي قِبَلَهُمْ عِلَّةً، ابْنِي أَسِيرٌ فِي أَيْدِيهِمْ. فَاغْتَنَمَهَا صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، فَقَالَ: عَلَيَّ دَيْنُكَ أَنَا أُقْضِيهِ عَنْكَ، وَعِيَالُكَ مَعَ عِيَالِي أُوَاسِيهِمْ مَا بَقَوْا، لا يَسَعُنِي شَيْءٌ وَيُعْجَزُ عَنْهُمْ، قَالَ عُمَيْرٌ: فَاكْتُمْ عَلَيَّ شَأْنِي وَشَأْنَكَ: قال: افعل

قَالَ: ثُمَّ إِنَّ عُمَيْرًا أَمَرَ بِسَيْفِهِ فَشُحِذَ لَهُ وَسُمَّ، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَبَيْنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَسْجِدِ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ يَوْمِ بَدْرٍ، وَيَذْكُرُونَ مَا أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ، وَمَا أَرَاهُمْ فِي عَدُوِّهِمْ، إِذْ نَظَرَ عُمَرُ إِلَى عُمَيْرِ بْنِ وَهْبٍ حِينَ أَنَاخَ بَعِيرَهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، مُتَوَشِّحًا السَّيْفَ، فَقَالَ: هَذَا الْكَلْبُ عَدُوُّ اللَّهِ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ، مَا جَاءَ إِلَّا لِشَرٍّ! وَهُوَ الَّذِي حَرَّشَ بَيْنَنَا، وَحَزَرَنَا لِلْقَوْمِ يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ على رسول الله ص، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، هَذَا عَدُوُّ اللَّهِ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ قَدْ جَاءَ مُتَوَشِّحًا سَيْفَهُ، قَالَ: فَأَدْخِلْهُ عَلَيَّ. قَالَ: فَأَقْبَلَ عُمَرُ حَتَّى أَخَذَ بِحَمَّالَةِ سَيْفِهِ فِي عُنُقِهِ، فَلَبَّبَهُ بِهَا، وَقَالَ لِرِجَالٍ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الأَنْصَارِ: ادخلوا على رسول الله ص فَاجْلِسُوا عِنْدَهُ، وَاحْذَرُوا هَذَا الْخَبِيثَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ ثُمَّ دَخَلَ بِهِ عَلَى رَسُولِ الله ص. فلما رآه رسول الله ص وَعُمَرُ آخِذٌ بِحَمَّالَةِ سَيْفِهِ، قَالَ: أَرْسِلْهُ يَا عُمَرُ، ادْنُ يَا عُمَيْرُ، فَدَنَا ثُمَّ قَالَ: أنْعمُوا صَبَاحًا- وَكَانَتْ تَحِيَّةَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بَيْنَهُمْ- فقال رسول الله ص: قَدْ أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِتَحِيَّةٍ خَيْرٍ مِنْ تَحِيَّتِكَ يَا عُمَيْرُ، بِالسَّلَامِ تَحِيَّةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ إِنْ كُنْتَ لَحَدِيثَ عَهْدٍ بِهَا قَالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا عُمَيْرُ؟ قَالَ: جِئْتُ لِهَذَا الأَسِيرِ الَّذِي فِي أَيْدِيكُمْ، فَأَحْسِنُوا فِيهِ قَالَ: فَمَا بَالُ السَّيْفِ فِي عُنُقِكَ! قَالَ: قَبَحَّهَا اللَّهُ مِنْ سُيُوفٍ! وَهَلْ أَغْنَتْ شَيْئًا! قَالَ: اصْدُقْنِي بِالَّذِي جِئْتَ لَهُ، قَالَ: مَا جِئْتُ إِلَّا لِذَلِكَ، فَقَالَ: بَلَى، قَعَدْتَ أَنْتَ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ فِي الْحِجْرِ، فَذَكَرْتُمَا أَصْحَابَ الْقَلِيبِ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ قُلْتَ: لَوْلَا دَيْنٌ عَلَيَّ وَعِيَالِي لَخَرَجْتُ حَتَّى أَقْتُلَ مُحَمَّدًا، فَتَحَمَّلَ لَكَ صَفْوَانُ بِدَيْنِكَ وَعِيَالِكَ، عَلَى أَنْ تَقْتُلَنِي لَهُ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَائِلٌ بَيْنِي وَبَيْنَكَ. فَقَالَ عُمَيْرٌ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، قَدْ كُنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ نُكَذِّبُكَ بِمَا كُنْتَ

تَأْتِينَا بِهِ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَمَا يُنَزَّلُ عَلَيْكَ مِنَ الْوَحْيِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَمْ يَحْضُرْهُ الا انا وصفوان، فو الله إِنِّي لأَعْلَمُ مَا أَتَاكَ بِهِ إِلَّا اللَّهُ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانِي للإِسْلَامِ، وَسَاقَنِي هَذَا الْمسَاقَ ثُمَّ تَشَهَّدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ، [فَقَالَ رَسُولُ الله ص، فَقِّهُوا أَخَاكُمْ فِي دِينِهِ، وَأَقْرِئُوهُ وَعَلِّمُوهُ الْقُرْآنَ، وَأَطْلِقُوا لَهُ أَسِيرَهُ] . قَالَ: فَفَعَلُوا، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي كُنْتُ جَاهِدًا فِي إِطْفَاءِ نُورِ اللَّهِ، شَدِيدَ الأَذَى لِمَنْ كَانَ عَلَى دِينِ اللَّهِ، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَأْذَنَ لِي فَأَقْدَمُ مَكَّةَ فَأَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الإِسْلَامِ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ! وَإِلَّا آذَيْتُهُمْ في دينهم كما كنت أوذي أَصْحَابَكَ فِي دِينِهِمْ. قَالَ: فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ الله ص، فَلَحِقَ بِمَكَّةَ، وَكَانَ صَفْوَانُ حِينَ خَرَجَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ يَقُولُ لِقُرَيْشٍ: أَبْشِرُوا بِوَقْعَةٍ تَأْتِيكُمُ الآنَ فِي أَيَّامٍ تُنْسِيكُمْ وَقْعَةَ بَدْرٍ، وَكَانَ صَفْوَانُ يَسْأَلُ عَنْهُ الرُّكْبَانَ، حَتَّى قَدِمَ رَاكِبٌ فَأَخْبَرَهُ بِإِسْلَامِهِ، فَحَلَفَ أَلَّا يُكَلِّمَهُ أَبَدًا وَلَا يَنْفَعَهُ بِنَفْعٍ أَبَدًا فَلَمَّا قَدِمَ عُمَيْرٌ مَكَّةَ أَقَامَ بِهَا يَدْعُو إِلَى الإِسْلَامِ، وَيُؤْذِي مَنْ خَالَفَهُ أَذًى شَدِيدًا فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ أُنَاسٌ كَثِيرٌ. فَلَمَّا انْقَضَى أَمْرُ بَدْرٍ، أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ الأَنْفَالَ بِأَسْرِهَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زَمِيلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الله بن عباس، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ الْتَقَوْا، فَهَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلا، وَأُسِرَ سَبْعُونَ رَجُلا، فَلَمَّا كان يومئذ شاور رسول الله ص أَبَا بَكْرٍ وَعَلِيًّا وَعُمَرَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، هَؤُلاءِ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ وَالإِخْوَانِ، فَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمُ الْفِدْيَةَ، فَيَكُونُ مَا أَخَذْنَا مِنْهُمْ قُوَّةً، وَعَسَى اللَّهُ ان يهديهم،

فيكونوا لنا عضدا فقال رسول الله ص: ما ترى يا بن الْخَطَّابِ؟ قَالَ: قُلْتُ: لا وَاللَّهِ، مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ، وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تُمَكِّنَنِي مِنْ فُلانٍ فَأَضْرِبُ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنَ حَمْزَةَ مِنْ أَخٍ لَهُ فَيَضْرِبُ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبُ عُنُقَهُ، حَتَّى يَعْلَمَ اللَّهُ أَنْ لَيْسَ فِي قُلُوبِنَا هَوَادَةٌ لِلْكُفَّارِ، هَؤُلاءِ صَنَادِيدُهُمْ وَقَادَتُهُمْ وَأَئِمَّتُهُمْ. قَالَ: فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ ص مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ أَنَا، فَأَخَذَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ، فَلَمَّا كَانَ الغد قال عمر: غدوت الى النبي ص وَهُوَ قَاعِدٌ وَأَبُو بَكْرٍ، وَإِذَا هُمَا يَبْكِيَانِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مَاذَا يُبْكِيكَ أَنْتَ وَصَاحِبُكَ؟ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا فَقَالَ رَسُولُ الله ص: لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنَ الْفِدَاءِ لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُكُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ- لِشَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ- وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ» إِلَى قَوْلِهِ: «فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» ، ثُمَّ أَحَلَّ لَهُمُ الْغَنَائِمَ. فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَامِ الْقَابِلِ فِي أُحُدٍ عُوقِبُوا بِمَا صَنَعُوا، قتل من اصحاب رسول الله ص سَبْعُونَ، وَأُسِرَ سَبْعُونَ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَهُشِّمَتِ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ، وَسَالَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِهِ، وَفَرَّ اصحاب النبي ص، وَصَعَدُوا الْجَبَلَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الآيَةَ: «أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا» إِلَى قَوْلِهِ: «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ الأُخْرَى: «إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ» الى قوله: «مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً»

حَدَّثَنِي سَلْمُ بْنُ جُنَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَجِيءَ بِالأَسْرَى، قال رسول الله ص: مَا تَقُولُونَ فِي هَؤُلاءِ الأَسْرَى؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَوْمُكَ وَأَهْلُكَ، اسْتَبْقِهِمْ وَاسْتَأْنِهِمْ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَذَّبُوكَ وَأَخْرَجُوكَ، قَدِّمْهُمْ فَضَرِّبْ أَعْنَاقَهُمْ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْظُرْ وَادِيًا كَثِيرَ الْحَطَبِ فَأَدْخِلْهُمْ فِيهِ، ثُمَّ أَضْرِمْهُ عَلَيْهِمْ نَارًا قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: قَطَعَتْكَ رَحِمُكَ! قَالَ: فَسَكَتَ رسول الله ص فَلَمْ يُجِبْهُمْ، ثُمَّ دَخَلَ، فَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ، وَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ، [فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيُلِينُ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنَ اللَّبَنِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُشَدِّدُ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنَ الْحِجَارَةِ، وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَلُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: «فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ، وَمَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، مَثَلُ عِيسَى، قَالَ: «إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» وَمَثَلَكَ يَا عُمَرُ مَثَلُ نُوحٍ، قَالَ: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» ، وَمَثَلَكَ كَمَثَلِ موسى، قَالَ: «رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» ثم قال رسول الله ص: أَنْتُمُ الْيَوْمَ عَالَةٌ فَلا يَفْلِتَنَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبِ عُنُقٍ،] قَالَ عَبْدُ الله بن مسعود: الا سهيل ابن بَيْضَاءَ، فَإِنِّي سَمِعْتُه يَذْكُرُ الإِسْلامَ فَسَكَتَ رَسُولُ الله ص،

فَمَا رَأَيْتَنِي فِي يَوْمٍ أَخْوَفَ أَنْ تَقَعَ عَلَيَّ الْحِجَارَةُ مِنَ السَّمَاءِ مِنِّي فِي ذَلِكَ اليوم، حتى قال رسول الله ص: إِلا سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ» إِلَى آخِرِ الآيَاتِ الثَّلاثِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: [لَمَّا نَزَلَتْ- يَعْنِي هَذِهِ الآيَةَ: «مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى» ، قال رسول الله ص: لَوْ نَزَلَ عَذَابٌ مِنَ السَّمَاءِ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ إِلَّا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ،] لِقَوْلِهِ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كَانَ الإِثْخَانُ فِي الْقَتْلِ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنَ اسْتِبْقَاءِ الرِّجَالِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانَ جَمِيعُ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، ومن ضرب له رسول الله ص بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا فِي قَوْلِ ابن إسحاق. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه: وجميع من شهد من الأوس معه ومن ضرب له بسهمه واحد وستون رجلا وجميع من شهد معه من الخزرج مائة وسبعون رجلا في قول ابن إسحاق، وجميع من استشهد من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلا، ستة من المهاجرين وثمانية من الانصار. وكان المشركون- فيما زعم الواقدى- تسعمائة وخمسين مقاتلا، وكانت خيلهم مائة فرس. ورد رسول الله ص يومئذ جماعة استصغرهم- فيما زعم الواقدي- فمنهم فيما زعم عبد الله بن عمر، ورافع بن خديج، والبراء ابن عازب، وزيد بن ثابت، وأسيد بن ظهير، وعمير بن أبي وقاص ثم أجاز عميرا بعد أن رده فقتل يومئذ

وكان رسول الله ص قد بعث قبل أن يخرج من المدينة طلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، إلى طريق الشام يتحسسان الأخبار عن العير، ثم رجعا إلى المدينة، فقدماها يوم وقعة بدر، فاستقبلا رسول الله ص بتربان، وهو منحدر من بدر يريد المدينة. قال الواقدى: كان خروج رسول الله ص من المدينة في ثلاثمائة رجل وخمسة، وكان المهاجرون أربعة وسبعين رجلا، وسائرهم من الأنصار، وضرب لثمانية بأجورهم وسهمانهم: ثلاثة من المهاجرين، أحدهم عثمان بن عفان كان تخلف على ابنه رسول الله ص حتى ماتت، وطلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد، كان بعثهما يتحسسان الخبر عن العير، وخمسة من الأنصار: أبو لبابة بشير بن عبد المنذر، خلفه على المدينة، وعاصم بن عدي بن العجلان، خلفه على العالية، والحارث بن حاطب، رده من الروحاء إلى بني عمرو بن عوف لشيء بلغه عنهم، والحارث ابن الصمة، كسر بالروحاء، وهو من بني مالك بن النجار، وخوات بن جبير، كسر من بني عمرو بن عوف قال: وكانت الإبل سبعين بعيرا، والخيل فرسين: فرس للمقداد بن عمرو، وفرس لمرثد بن أبي مرثد. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ هِلالٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: وَرُئِيَ رسول الله ص فِي أَثَرِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ مُصْلِتًا السَّيْفَ، يَتْلُو هَذِهِ الآيَةَ: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ» . قَالَ: وَفِي غَزْوةِ بَدْرٍ انْتَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ ص سَيْفَهُ ذَا الْفَقَارِ،

غزوه بنى قينقاع

وَكَانَ لِمُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ. قَالَ: وَفِيهَا غَنِمَ جَمَلَ أَبِي جَهْلٍ، وَكَانَ مَهْرِيًّا يَغْزُو عَلَيْهِ وَيَضْرِبُ فِي لِقَاحِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: ثُمَّ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ص بِالْمَدِينَةِ، مُنْصَرفَهُ مِنْ بَدْرٍ، وَكَانَ قَدْ وَادَعَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ يَهُودَهَا، عَلَى أَنْ لا يُعِينُوا عَلَيْهِ أَحَدًا، وَإِنَّهُ إِنْ دَهَمَهُ بِهَا عدو نصروه فلما قتل رسول الله ص مَنْ قَتَلَ بِبَدْرٍ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، أَظْهَرُوا لَهُ الْحَسَدَ وَالْبَغْيَ، وَقَالُوا: لَمْ يَلْقَ مُحَمَّدُ مَنْ يُحْسِنُ الْقِتَالَ، وَلَوْ لَقِيَنَا لاقَى عِنْدَنَا قِتَالا لا يُشْبِهُهُ قِتَالُ أَحَدٍ، وَأَظْهَرُوا نَقْضَ الْعَهْدِ. غَزْوَةُ بَنِي قَيْنُقَاعَ فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بن إسحاق، قَالَ: كَانَ مِنْ أَمْرِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، أَنَّ رسول الله ص جَمَعَهُمْ بِسُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، احْذَرُوا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِثْلَ مَا نَزَلَ بِقُرَيْشٍ مِنَ النِّقْمَةِ، وَأَسْلِمُوا، فَإِنَّكُمْ قَدْ عَرَفْتُمْ أَنِّي نَبِيٌّ مُرْسَلٌ تَجِدُونَ ذَلِكَ فِي كِتَابِكُمْ، وَفِي عَهْدِ اللَّهِ إِلَيْكُمْ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ تَرَى أَنَّا كَقَوْمِكَ! لا يَغُرَّنَّكَ أَنَّكَ لَقِيتَ قَوْمًا لا عِلْمَ لَهُمْ بِالْحَرْبِ، فَأَصَبْتَ مِنْهُمْ فُرْصَةً، إِنَّا وَاللَّهِ لَئِنْ حَارَبْتَنَا لَتَعْلَمَنَّ أَنَّا نَحْنُ النَّاسُ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بن قَتَادَةَ، أَنَّ بَنِي قَيْنُقَاعَ كَانُوا أَوَّلَ يَهُودَ نقضوا ما بينهم وبين رسول الله ص، وَحَارَبُوا فِيمَا بَيْنَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ. فَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حدثنا محمد بن عمر:

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، ان غزوه رسول الله ص بَنِي الْقَيْنُقَاعِ كَانَتْ فِي شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ: نزل جبريل على رسول الله ص بِهَذِهِ الآيَةِ: «وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ» ، فلما فرغ جبريل ع من هذه الآية، قال رسول الله ص، إِنِّي أَخَافُ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعٍ، قَالَ عُرْوَةُ: فسار اليهم رسول الله ص بِهَذِهِ الآيَةِ. قَالَ الواقدي: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، قَالَ: حاصرهم رسول الله ص خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَا يَطْلُعُ مِنْهُمْ أَحَدٌ ثم نزلوا على حكم رسول الله ص، فَكُتِّفُوا وَهُوَ يُرِيدُ قَتْلَهُمْ، فَكَلَّمَهُ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ. رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قتادة، قال: فحاصرهم رسول الله ص حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ الله بن ابى بن سَلُولٍ حِينَ أَمْكَنَهُ اللَّهُ مِنْهُم، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَحْسِنْ فِي مَوَالِيَّ- وَكَانُوا حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ- فأبطأ عليه النبي ص فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَحْسِنْ فِي مَوَالِيَّ، فَأَعْرَضَ عنه النبي ص. قَالَ: فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِ رَسُولِ اللَّهِ ص، فقال رسول الله ص: أرسلني، وغضب رسول الله ص حَتَّى رَأَوْا فِي وَجْهِهِ ظِلَالًا- يَعْنِي تَلَوُّنًا- ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ أَرْسِلْنِي! قَال: لا وَاللَّهِ لا ارسلك حتى تحسن الى موالي أربعمائة حاسرو ثلاثمائة دَارِعٍ قَدْ مَنَعُونِي مِنَ الأَسْوَدِ وَالأَحْمَرِ، تَحْصُدُهُمْ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ! وَإِنِّي وَاللَّهِ لا آمَنُ وأخشى الدوائر فقال رسول الله ص: هم لك

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ فِي حَدِيثِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ص: خَلُّوهُمْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَعَنَهُ مَعَهُمْ! فَأَرْسَلُوهُمْ ثُمَّ أَمَرَ بِإِجْلَائِهِمْ، وَغَنَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَسُولَهُ وَالْمُسْلِمِينَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ مَالٍ- وَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ أَرَضُونَ، إِنَّمَا كَانُوا صَاغَةً- فَأَخَذَ رسول الله ص لَهُمْ سِلَاحًا كَثِيرًا وَآلَةَ صِيَاغَتِهِمْ، وَكَانَ الَّذِي وُلِّيَ إِخْرَاجَهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ بِذَرَارِيِّهِمْ عُبَادَةَ بْنَ الصامت، فمضى بهم حتى بلغ بهم دباب، وَهُوَ يَقُولُ: الشَّرَفُ الأَبْعَدُ، الأَقْصَى فَالأَقْصَى! وَكَانَ رسول الله ص اسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَفِيهَا كَانَ أَوَّلَ خمس خمسه رسول الله ص في الاسلام، فاخذ رسول الله ص صَفِيَّهُ وَالْخُمُسَ وَسَهْمَهُ، وَفَضَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَكَانَ أَوَّلَ خُمُسٍ قَبَضَهُ رَسُولُ اللَّهِ ص وكان لواء رسول الله ص يوم بنى قينقاع لِوَاءً أَبْيَضَ، مَعَ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلَمْ تَكُنْ يَوْمَئِذٍ رَايَاتٌ ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ الله ص إِلَى الْمَدِينَةِ، وَحَضَرَتِ الأَضْحَى، فَذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ الله ص ضَحَّى وَأَهْلُ الْيُسْرِ مِنْ أَصْحَابِهِ، يَوْمَ الْعَاشِرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَخَرَجَ بِالنَّاسِ إِلَى الْمُصَلَّى فَصَلَّى بِهِمْ، فَذَلِكَ أَوَّلُ صَلَاةٍ صَلَّى رَسُولُ الله ص بِالنَّاسِ بِالْمَدِينَةِ بِالْمُصَلَّى فِي عِيدٍ، وَذَبَحَ فِيهِ بِالْمُصَلَّى بِيَدِهِ شَاتَيْنِ- وَقِيلَ ذَبَحَ شَاةً. قال الواقدي: حدثني محمد بن الفضل، من ولد رافع بن خديج، عن أبي مبشر، قال: سمعت جابر بن عبد الله، يقول: لما رجعنا من بني قينقاع ضحينا في ذي الحجة صبيحة عشر، وكان أول أضحى رآه

المسلمون، وذبحنا في بني سلمة فعدت في بني سلمة سبع عشرة أضحية. قال أبو جعفر: وأما ابن إسحاق فلم يوقت لغزوة رسول الله ص التي غزاها بني قينقاع وقتا، غير أنه قال: كان ذلك بين غزوة السويق وخروج النبي ص من المدينة يريد غزو قريش، حتى بلغ بني سليم وبحران، معدنا بالحجاز من ناحية الفرع. وأما بعضهم، فإنه قال: كان بين غزوه رسول الله ص بدرا الأولى وغزوة بني قينقاع ثلاث غزوات وسريه اسراها وزعم ان النبي ص إنما غزاهم لتسع ليال خلون من صفر من سنة ثلاث من الهجرة، وأن رسول الله ص غزا بعد ما انصرف من بدر، وكان رجوعه إلى المدينة يوم الأربعاء لثماني ليال بقين من رمضان، وأنه أقام بها بقية رمضان ثم غزا قرقرة الكدر حين بلغه اجتماع بني سليم وغطفان، فخرج من المدينة يوم الجمعة بعد ما ارتفعت الشمس، غرة شوال من السنة الثانية من الهجرة إليها. وأما ابن حميد، فحدثنا عن سلمة، عن ابن إسحاق، أنه قال: لما قدم رسول الله ص من بدر إلى المدينة، وكان فراغه من بدر في عقب شهر رمضان- أو في أول شوال- لم يقم بالمدينة إلا سبع ليال، حتى غزا بنفسه يريد بني سليم، حتى بلغ ماء من مياههم، يقال له الكدر، فأقام عليه ثلاث ليال، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا، فأقام بها بقية شوال وذا القعدة، وفدى في إقامته تلك جل الأسارى من قريش. وأما الواقدي، فزعم ان غزوه النبي ص الكدر كانت في المحرم من سنة ثلاث من الهجرة، وأن لواءه كان يحمله فيها على بن

غزوه السويق

أبي طالب، وأنه استخلف فيها ابن أم مكتوم المعيصي على المدينة. وقال بعضهم: لما رجع النبي ص من غزوة الكدر إلى المدينة، وقد ساق النعم والرعاء ولم يلق كيدا وكان قدومه منها- فيما زعم- لعشر خلون من شوال، بعث غالب بن عبد الله الليثي يوم الأحد لعشر ليال مضين من شوال إلى بني سليم وغطفان في سرية، فقتلوا فيهم، وأخذوا النعم، وانصرفوا إلى المدينة بالغنيمة يوم السبت، لأربع عشرة ليلة بقيت من شوال، واستشهد من المسلمين ثلاثة نفر، وأن رسول الله ص أقام بالمدينة إلى ذي الحجة، وإن رسول الله ص غزا يوم الأحد لسبع ليال بقين من ذي الحجة غزوة السويق غزوة السويق قال أبو جعفر: وأما ابن إسحاق، فإنه قال في ذلك ما حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما رجع رسول الله ص مِنْ غَزْوَةِ الْكُدْرِ إِلَى الْمَدِينَةِ، أَقَامَ بِهَا بَقِيَّةَ شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَذَا الْقِعْدَةِ ثُمَّ غَزَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ غَزْوَةَ السَّوِيقِ فِي ذِي الْحِجَّةِ قَالَ: وولي تلك الحجة المشركون من تلك السنة. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَيَزِيدَ بْنِ رُومَانَ وَمَنْ لا اتهم، عن عبيد الله ابن كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ- وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ الأَنْصَارِ- قَالَ: كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ حِينَ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ، وَرَجَعَ فَلُّ قُرَيْشٍ إِلَى مَكَّةَ مِنْ بَدْرٍ، نَذَرَ أَلا يَمَسَّ رَأْسَهُ مَاءٌ مِن جَنَابَةٍ حَتَّى يَغْزُو مُحَمَّدًا فَخَرَجَ فِي مِائَتَيْ رَاكِبٍ

مِنْ قُرَيْشٍ، لِيُبِرَّ يَمِينَهُ، فَسَلَكَ النَّجْدِيَّةَ حَتَّى نَزَلَ بِصُدُورِ قَنَاةٍ إِلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ تَيْتٌ، مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى بَرِيدٍ أَوْ نَحْوَهُ ثُمَّ خَرَجَ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى أَتَى بَنِي النَّضِيرِ تَحْتَ اللَّيْلِ، فَأَتَى حُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ، فَضَرَبَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَأَبَى أَنْ يَفْتَحَ لَهُ وخافه، فأبى فَانْصَرَفَ إِلى سَلامِ بْنِ مِشْكَمٍ- وَكَانَ سَيِّدَ النَّضِيرِ فِي زَمَانِهِ ذَلِكَ، وَصَاحِبَ كَنْزِهِمْ- فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَأَذِنَ لَهُ فَقَرَاهُ وَسَقَاهُ، وَبَطَنَ لَهُ خَبَرَ النَّاسِ، ثُمَّ خَرَجَ فِي عَقِبِ لَيْلَتِهِ، حَتَّى جَاءَ أَصْحَابَهُ، فَبَعَثَ رِجَالا مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَتَوْا نَاحِيَةً مِنْهَا يُقَالُ لَهَا الْعَرِيضُ، فَحَرَّقُوا فِي أَصْوَارٍ مِنْ نَخْلٍ لَهَا، وَوَجَدُوا رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ وَحَلِيفًا لَهُ فِي حَرْثٍ لَهُمَا فَقَتَلُوهُمَا ثُمَّ انْصَرَفُوا رَاجِعِينَ، وَنَذَرَ بهم الناس، فخرج رسول الله ص فِي طَلَبِهِمْ، حَتَّى بَلَغَ قَرْقَرَةَ الْكُدْرِ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا، وَقَدْ فَاتَهُ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ، وَقَدْ رَأَوْا مِنْ مَزَاوِدِ الْقَوْمِ مَا قَدْ طَرَحُوهُ فِي الْحَرْثِ، يَتَخَفَّفُوَن مِنْهُ لِلنَّجَاةِ فَقَالَ المسلمون حين رجع بهم رسول الله ص: أَنَطْمَعُ أَنْ تَكُونَ لَنَا غَزْوَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَدْ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَالَ وَهُوَ يَتَجَهَّزُ خَارِجًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَبْيَاتًا مِنْ شِعْرٍ يُحَرِّضُ قُرَيْشًا: كُرُّوا عَلَى يَثْرِبَ وَجَمْعِهِمْ ... فَإِنَّ مَا جَمَعُوا لَكُمْ نَفْلٌ إِنْ يَكُ يَوْمَ الْقَلِيبِ كَانَ لَهُمْ ... فَإِنَّ مَا بَعْدَهُ لَكُمْ دُوَلٌ آلَيْتُ لا أَقْرَبُ النِّسَاءَ وَلا ... يَمَسُّ رَأِسي وَجِلْدِي الْغُسْلُ حَتَّى تَبِيرُوا قَبَائِلَ الأوس و ... الخزرج، إِنَّ الْفُؤَادَ مُشْتَعلٌ فَأَجَابَهُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: تلهف أُمِّ الْمُسَبِّحِينَ عَلَى ... جَيْشِ ابْنِ حَرْبٍ بِالْحَرَّةِ الفشل إذ يطرحون الرجال من سئم ... الطَّيْرِ تَرْقَى لِقُنَّةِ الْجَبَلِ

جَاءُوا بِجَمْعٍ لَوْ قِيسَ مَبْرَكُهُ ... مَا كَانَ الا كمفحص الدئل عَارٌ مِنَ النَّصْرِ وَالثَّرَاءِ وَمَنْ ... أَبْطَالِ أَهْلِ الْبَطْحَاءِ وَالأَسَلِ وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ فَزَعَمَ أَنَّ غَزْوَةَ السَّوِيقِ كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ وَقَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ص فِي مِائَتَيْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ قِصَّةِ أَبِي سُفْيَانَ نَحْوًا مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَمَرَّ- يَعْنِي أَبَا سُفْيَانَ- بِالْعَرِيضِ، بِرَجُلٍ مَعَهُ أَجِيرٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ مَعْبَدُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَتَلَهُمَا وَحَرَقَ أَبْيَاتًا هُنَاكَ وَتِبْنًا، وَرَأَى أَنَّ يَمِينَهُ قَدْ حَلَّتْ، وَجَاءَ الصَّرِيخُ إِلَى النبي ص، فَاسْتَنْفَرَ النَّاسُ، فَخَرَجُوا فِي أَثَرِهِ فَأَعْجَزَهُمْ قَالَ: وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ يَلْقَوْنَ جُرُبَ الدَّقِيقِ وَيَتَخَفَّفُونَ، وَكَانَ ذَلِكَ عَامَّةَ زَادِهِمْ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ غَزْوَةَ السَّوِيقِ. وَقَالَ الواقدي: وَاسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ ص على المدينة أبا لبابه ابن عَبْدِ الْمُنْذِرِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ- فِي ذِي الْحِجَّةِ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فَدَفَنَهُ رسول الله ص بِالْبَقِيعِ، وَجَعَلَ عِنْدَ رَأْسِهِ حَجَرًا عَلامَةً لِقَبْرِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالب ع وُلِدَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ ابْنَ أَبِي سَبْرَةَ حَدَّثَهُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ [عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طالب ع بنى

بفاطمه ع فِي ذِي الْحِجَّةِ، عَلَى رَأْسِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ شَهْرًا] . قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ صَحِيحَةً فَالْقَوْلُ الأَوَّلُ بَاطِلٌ. وَقِيلَ: إِنَّ في هذه السنه كتب رسول الله ص الْمَعَاقِلَ فَكَانَ مُعَلَّقًا بِسَيْفِهِ

السنه الثالثه من الهجره

ثم دخلت السنه الثالثه من الهجره غزوه ذي امر فحدثنا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ الله ص مِنْ غَزْوَةِ السَّوِيقِ، أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ بَقِيَّةَ ذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ، ثُمَّ غَزَا نَجْدًا يُرِيدُ غَطْفَانَ، وَهِيَ غَزْوَةُ ذِي أَمَرَّ، فَأَقَامَ بِنَجْدٍ صَفَرًا كُلَّهُ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا، فَلَبِثَ بِهَا شَهْرَ رَبِيعٍ الأَوَّلِ كُلِّهِ إِلا قَلِيلا مِنْهُ. ثُمَّ غَزَا يُرِيدُ قُرَيْشًا وَبَنِي سَلِيمٍ، حَتَّى بَلَغَ بَحْرَانَ مَعْدِنًا بِالْحِجَازِ مِنْ نَاحِيَةِ الْفَرْعِ فَأَقَامَ بِهَا شَهْرَ رَبِيعٍ الآخَرَ وَجُمَادَى الأُولَى، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا . خبر كعب بن الأشرف قال أبو جعفر: وفي هذه السنة سرى النبي ص سرية إلى كعب بن الأشرف، فزعم الواقدي ان النبي وجه من وجه إليه في شهر ربيع الأول من هذه السنة. وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كَانَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الأَشْرَفِ أَنَّهُ لَمَّا أُصِيبَ أَصْحَابُ بَدْرٍ، وَقَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ إِلَى أَهْلِ السَّافِلَةِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةِ إِلَى أَهْلِ الْعَالِيَةِ بَشِيرَيْنِ، بَعَثَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ص إِلَى مَنْ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِفَتْحِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ وَقَتْلِ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن المغيث ابن أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أسير الظَّفَرِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بن عمرو بن حزم، وعاصم بن عمر بن قتادة، وَصَالِحِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، قَالَ: كل

قَدْ حَدَّثَنِي بَعْضَ حَدِيثِهِ، قَالَ: قَالَ كَعْبُ بن الأشرف- وكان رجلا من طيّئ، ثُمَّ أَحَدَ بَنِي نَبْهَانَ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ، فَقَالَ حِينَ بَلَغَهُ الْخَبَرُ: وَيْلَكُمْ أَحَقٌّ هَذَا! أَتَرَوْنَ أَنَّ مُحَمَّدًا قَتَلَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُسَمِّي هَذَانِ الرَّجُلَانِ- يَعِني زَيْدَ بْنَ حارثة، وعبد الله بن رواحه؟ وهؤلاء اشراف الْعَرَبِ وَمُلُوكُ النَّاسِ وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ أَصَابَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لَبَطْنُ الأَرْضِ خَيْرٌ لَنَا مِنْ ظَهْرِهَا. فَلَمَّا تَيَقَّنَ عَدُوُّ اللَّهِ الْخَبَرَ، خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَنَزَلَ عَلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ بْنِ ضُبَيْرَةَ السَّهْمِيِّ، وَعِنْدَهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، فَأَنْزَلَتْهُ وَأَكْرَمَتْهُ، وَجَعَلَ يحرض على رسول الله ص، وَيُنْشِدُ الأَشْعَارَ، وَيَبْكِي عَلَى أَصْحَابِ الْقَلِيبِ الَّذِينَ أُصِيبُوا بِبَدْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ ثُمَّ رَجَعَ كَعْبُ بْنُ الأَشْرَفِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَشَبَّبَ بِأُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ، فَقَالَ: أَرَاحِلٌ أَنْتَ لَمْ تَحْلُلْ بِمَنْقَبَةٍ ... وَتَارِكٌ أَنْتَ أُمَّ الْفَضْلِ بِالْحَرَمِ! صَفْرَاءَ رَادِعَةً لَوْ تُعْصَرُ انْعَصَرَتْ ... مِنْ ذِي الْقَوَارِيرِ وَالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ يَرْتَجُّ مَا بَيْنَ كَعْبَيْهَا وَمِرْفَقِهَا ... إذا تاتت قِيَامًا ثُمَّ لَمْ تَقُمِ أَشْبَاهُ أُمِّ حَكِيمٍ إِذْ تُوَاصِلُنَا ... وَالْحَبْلُ مِنْهَا مَتِينٌ غَيْرُ مُنْجَذِمٍ إِحْدَى بَنِي عَامِرٍ جُنَّ الْفُؤَادُ بِهَا ... وَلَوْ تَشَاءُ شَفَتْ كَعْبًا مِنَ السَّقَمِ فَرْعُ النِّسَاءِ وَفَرْعُ الْقَوْمِ وَالِدُهَا ... أَهْلُ التَّحِلَّةِ وَالإِيفَاءِ بِالذِّمَمِ لَمْ أَرَ شَمْسًا بِلَيْلٍ قَبْلَهَا طَلَعَتْ ... حَتَّى تَجَلَّتْ لَنَا فِي لَيْلَةِ الظُّلَمِ ثُمَّ شَبَّبَ بِنِسَاءٍ مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى آذَاهُمْ، فَقَالَ النبي ص كما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بْنِ الْمُغِيثِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ: مَنْ لِي مِنَ ابْنِ الأَشْرَفِ!

قَالَ: فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ: أَنَا لَكَ بِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أَقْتُلُهُ قَالَ: فَافْعَلْ إِنْ قَدَرْتَ عَلَى ذَلِكَ، فَرَجَعَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَمَكَثَ ثَلَاثًا لا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ إِلَّا مَا يَعْلَقُ بِهِ نَفْسُهُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ص، فَدَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: لِمَ تَرَكْتَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتُ قَوْلًا لا أَدْرِي أَفِي بِهِ أَمْ لَا! قَالَ: إِنَّمَا عَلَيْكَ الْجَهْدُ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ لَا بُدَّ لَنَا مِنْ أَنْ نَقُولَ قَالَ: قُولُوا مَا بَدَا لَكُمْ، فَأَنْتُمْ فِي حِلٍّ مِنْ ذَلِكَ! قَالَ: فَاجْتَمَعَ فِي قَتْلِهِ مُحَمَّدُ بن مسلمه وسلكان بن سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ- وَهُوَ أَبُو نَائِلَةَ أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، وَكَانَ أَخَا كَعْبٍ مِنَ الرضاعه- وعباد ابن بِشْرِ بْنِ وَقْشٍ، أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، وَالْحَارِثُ بْنُ أَوْسِ بْنِ مُعَاذٍ، أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، وَأَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ، أَخُو بَنِي حَارِثَةَ ثُمَّ قَدَّمُوا إِلَى ابْنِ الأَشْرَفِ قبل ان يأتوه سلكان بن سَلَامَةَ أَبَا نَائِلَةَ، فَجَاءَهُ فَتَحَدَّثَ مَعَهُ سَاعَةً، وَتَنَاشَدَا شِعْرًا- وَكَانَ أَبُو نَائِلَةَ يَقُولُ الشِّعْرَ- ثم قال: ويحك يا بن الأَشْرَفِ! إِنِّي قَدْ جِئْتُكَ لِحَاجَةٍ أُرِيدُ ذِكْرَهَا لَكَ، فَاكْتُمْ عَلَيَّ، قَالَ: أَفْعَلُ، قَالَ: كَانَ قُدُومُ هَذَا الرَّجُلِ بَلَاءً عَلَيْنَا عَادَتْنَا الْعَرَبُ ورمونا عن قوس واحده، وَقُطِعَتْ عَنَّا السُّبُلُ حَتَّى ضَاعَ الْعِيَالُ، وَجَهَدَتِ الأَنْفُسُ، وَأَصْبَحْنَا قَدْ جُهِدْنَا وَجُهِدَ عِيَالُنَا! فَقَالَ كَعْبٌ: أَنَا ابْنُ الأَشْرَفِ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كنت اخبرتك يا بن سَلَامَةَ أَنَّ الأَمْرَ سَيَصِيرُ إِلَى مَا كُنْتُ أَقُولُ، فَقَالَ سِلْكَانُ: إِنِّي قَدْ أَرَدْتُ أَنْ تَبِيعَنَا طَعَامًا وَنَرْهَنُكَ وَنُوَثِّقُ لَكَ، وَتُحْسِنُ فِي ذَلِكَ قَالَ: تَرْهَنُونَنِي أَبْنَاءَكُمْ! فَقَالَ: لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ تَفْضَحَنَا! إِنَّ مَعِي أَصْحَابًا لِي عَلَى مِثْلِ رَأْيِي، وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ آتِيَكَ بِهِمْ فَتَبِيعَهُمْ، وَتُحْسِنَ فِي ذَلِكَ، وَنَرْهَنُكَ مِنَ الْحَلْقَةِ ما فيه لك وفاء- واراد سلكان الا يُنْكِرَ السِّلَاحَ إِذَا جَاءُوا بِهَا- فَقَالَ: إِنَّ في الحلقه الوفاء، قَالَ: فَرَجَعَ سِلْكَانُ إِلَى

أَصْحَابِهِ، فَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَهُ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا السِّلَاحَ فَيَنْطَلِقُوا فَيَجْتَمِعُوا إِلَيْهِ، فَاجْتَمَعُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ص. حَدَّثَنَا ابن حميد قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: فَحَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ الدِّيلِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَشَى مَعَهُمْ رَسُولُ الله ص إِلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، ثُمَّ وَجَّهَهُمْ وَقَالَ: انْطَلِقُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ أَعِنْهُمْ ثُمَّ رَجَعَ رسول الله ص إِلَى بَيْتِهِ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ، فَأَقْبَلُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى حِصْنِهِ، فَهَتَفَ بِهِ أَبُو نَائِلَةَ- وكَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرْسٍ- فَوَثَبَ فِي مِلْحَفَتِهِ، فَأَخَذَتِ امْرَأَتُهُ بِنَاحِيَتِهَا، وَقَالَتْ: إِنَّكَ امْرُؤٌ مُحَارِبٌ، وَإِنَّ صَاحِبُ الْحَرْبِ لا يَنْزِلُ فِي مِثْلِ هَذِهِ السَّاعَةِ قَالَ: إِنَّهُ أَبُو نَائِلَةَ، لَوْ وَجَدَنِي نَائِمًا لَمَا أَيْقَظَنِي، قَالَتْ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْرِفُ فِي صَوْتِهِ الشَّرَّ قَالَ: يَقُولُ لَهَا كَعْبٌ: لَوْ دُعِيَ الْفَتَى لِطَعْنَةٍ أَجَابَ، فَنَزَلَ فَتَحَدَّثَ مَعَهُمْ سَاعَةً، وَتَحَدَّثُوا مَعَهُ، ثُمَّ قَالُوا له: هل لك يا بن الأَشْرَفِ، أَنْ نَتَمَاشَى إِلَى شِعْبِ الْعَجُوزِ فَنَتَحَدَّثَ بِهِ بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا هَذِهِ! قَالَ: إِنْ شِئْتُمْ! فَخَرَجُوا يَتَمَاشَوْنَ، فَمَشَوْا سَاعَةً ثُمَّ إِنَّ أَبَا نَائِلَةَ شَامَ يَدَهُ فِي فَوْدِ رَأْسِهِ، ثُمَّ شم يَدَهُ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَاللَّيْلَةِ طِيبَ عِطْرٍ قَطُّ ثُمَّ مَشَى سَاعَةً ثُمَّ عَادَ لِمِثْلِهَا، حَتَّى اطْمَأَنَّ ثُمَّ مَشَى سَاعَةً، فَعَادَ لِمِثْلِهَا، فَأَخَذَ بِفَوْدَى رَأْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: اضْرِبُوا عَدُوَّ اللَّهِ، فَاخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ أَسْيَافُهُمْ، فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: فَذَكَرْتُ مِغْوَلًا فِي سَيْفِي حِينَ رَأَيْتُ أَسْيَافَنَا لا تُغْنِي شَيْئًا، فَأَخَذْتُهُ، وَقَدْ صَاحَ عَدُوُّ اللَّهِ صَيْحَةً لَمْ يَبْقَ حَوْلَنَا حِصْنٌ إِلَّا أُوقِدَتْ عَلَيْهِ نَارٌ، قَالَ: فَوَضَعْتُهُ فِي ثُنْدُؤَتِهِ، ثُمَّ تَحَامَلْتُ عَلَيْهِ حَتَّى بَلَغْتُ عَانَتَهُ، وَوَقَعَ عَدُوُّ اللَّهِ، وَقَدْ أُصِيبَ الْحَارِثُ بْنُ أَوْسِ بْنِ مُعَاذٍ بِجُرْحٍ فِي رَأْسِهِ أَوْ رِجْلِهِ، أَصَابَهُ بَعْضُ أَسْيَافِنَا

قَالَ: فَخَرَجْنَا حَتَّى سَلَكْنَا عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، ثُمَّ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، ثُمَّ عَلَى بُعَاثَ حَتَّى أَسْنَدْنَا فِي حَرَّةِ الْعَرِيضِ، وَقَدْ أَبْطَأَ عَلَيْنَا صَاحِبُنَا الْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ وَنَزَفَهُ الدَّمُ، فَوَقَفْنَا لَهُ سَاعَةً، ثُمَّ أَتَانَا يَتْبَعُ آثَارَنَا قَالَ: فَاحْتَمَلْنَاهُ فَجِئْنَا بِهِ رَسُولَ الله ص آخِرَ اللَّيْلِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَخَرَجَ إِلَيْنَا، فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَتْلِ عَدُوِّ اللَّهِ، وَتَفِلَ عَلَى جُرْحِ صَاحِبِنَا، وَرَجَعْنَا إِلَى أَهْلِنَا، فَأَصْبَحْنَا وَقَدْ خَافَتْ يَهُودُ بِوَقْعَتِنَا بِعَدُوِّ اللَّهِ، فَلَيْسَ بِهَا يَهُودِيٌّ إِلَّا وَهُوَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ قال: فقال رسول الله ص: مَنْ ظَفِرْتُمْ بِهِ مِنْ رِجَالِ يَهُودَ فَاقْتُلُوهُ، فَوَثَبَ مُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ عَلَى ابْنِ سُنَيْنَةَ- رَجُلٍ مِنْ تُجَّارِ يَهُودَ كَانَ يُلَابِسُهُمْ وَيُبَايِعُهُمْ فَقَتَلَهُ- وَكَانَ حُوَيْصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ إِذْ ذَاكَ لَمْ يُسْلِمْ، وَكَانَ أَسَنَّ مِنْ مُحَيِّصَةَ- فَلَمَّا قَتَلَهُ جَعَلَ حُوَيْصَةُ يَضْرِبُهُ وَيَقُولُ: أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ! قَتَلْتَهُ! أَمَا وَاللَّهِ لَرُبَّ شَحْمٍ فِي بَطْنِكَ مِنْ مَالِهِ! قَالَ مُحَيِّصَةُ: فَقُلْتُ لَهُ: وَاللَّهِ لَوْ أَمَرَنِي بِقَتْلِكَ مَنْ أَمَرَنِي بِقَتْلِهِ لضربت عنقك قال: فو الله إِنْ كَانَ لأَوَّلَ إِسْلَامِ حُوَيْصَةَ، وَقَالَ: لَوْ أَمَرَكَ مُحَمَّدٌ بِقَتْلِي لَقَتَلْتَنِي! قَالَ: نَعَمْ وَاللَّهِ، لَوْ أَمَرَنِي بِقَتْلِكَ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ دِينًا بَلَغَ بِكَ هَذَا لَعَجَبٌ! فَأَسْلَمَ حُوَيْصَةُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قال: حدثني محمد بن إسحاق قال: حدثني هَذَا الْحَدِيثُ مَوْلًى لِبَنِي حَارِثَةَ، عَنِ ابْنَةِ مُحَيِّصَةَ، عَنْ أَبِيهَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُمْ جَاءُوا بِرَأْسِ ابْنِ الأَشْرَفِ إِلَى رسول الله ص. وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ فِي رَبِيعٍ الأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ تَزَوَّجَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَمَّ كلثوم بنت رسول الله ص وَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ فِي جُمَادَى

غزوه القردة

الآخِرَةِ، وَأَنَّ فِي رَبِيعٍ الأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السنه غزا رسول الله ص غَزْوَةَ أَنْمَارٍ- وَيُقَالُ لَهَا: ذُو أَمَرَّ- وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي ذَلِكَ قَبْلُ. قَالَ الواقدي: وَفِيهَا وُلِدَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ ابْنُ أُخْتِ النَّمِرِ غزوة القردة قال الواقدي: وفي جمادى الآخرة من هذه السنة، كانت غزوة القردة وكان أميرهم- فيما ذكر- زيد بن حارثة، قال: وهي أول سرية خرج فيها زيد بن حارثة أميرا. قال أبو جعفر: وكان من أمرها مَا حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قَالَ: سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ الَّتِي بَعَثَهُ رسول الله ص فِيهَا حِينَ أَصَابَ عِيرَ قُرَيْشٍ، فِيهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، عَلَى الْقردة، مَاءٍ مِن مِيَاهِ نَجْدٍ قَالَ: وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهَا أَنَّ قُرَيْشًا قَدْ كَانَتْ خَافَتْ طَرِيقَهَا الَّتِي كَانَتْ تَسْلُكُ إِلَى الشَّامِ حِينَ كَانَ مِنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ مَا كَانَ، فَسَلَكُوا طَرِيقَ الْعِرَاقِ، فَخَرَجَ مِنْهُمْ تُجَّارٌ فِيهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَمَعَهُ فِضَّةٌ كَثِيرَةٌ، وَهِيَ عِظَمُ تِجَارَتِهِمْ، وَاسْتَأْجَرُوا رَجُلا مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ يُقَالُ لَهُ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ، يَدُلُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ الطَّرِيقِ، وبعث رسول الله ص زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، فَلَقِيَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ، فَأَصَابَ تِلْكَ الْعِيرَ وَمَا فِيهَا، وَأَعْجَزَهُ الرِّجَالُ، فقدم بها على رسول الله ص قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ، فَزَعَمَ أَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْغَزْوَةِ كَانَ أَنَّ قُرَيْشًا قَالَتْ: قَدْ عَوَّرَ عَلَيْنَا مُحَمَّدٌ مُتْجَرَنَا وَهُوَ عَلَى طَرِيقِنَا وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ

مقتل ابى رافع اليهودي

وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ: إِنْ أَقَمْنَا بِمَكَّةَ أَكَلْنَا رُءُوسَ أَمْوَالِنَا قَالَ أَبُو زَمْعَةَ بْنُ الأَسْوَدِ: فَأَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يَسْلُكُ بِكُمُ النَّجْدِيَّةَ، لَوْ سَلَكَهَا مُغْمَضَ الْعَيْنَيْنِ لاهَتْدَى قَالَ صَفْوَانُ: مَنْ هُوَ؟ فَحَاجَتُنَا إِلَى الْمَاءِ قَلِيلٌ، إِنَّمَا نَحْنَ شَاتُونَ قَالَ: فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ، فَدَعَوَاهُ فَاسْتَأَجْرَاهُ، فَخَرَجَ بِهِمْ فِي الشِّتَاءِ، فَسَلَكَ بِهِمْ عَلَى ذَاتِ عِرْقٍ، ثُمَّ خَرَجَ بِهِمْ عَلَى غمره، وانتهى الى النبي ص خَبَرُ الْعِيرِ وَفِيهَا مَالٌ كَثِيرٌ، وَآنِيَةٌ مِنْ فِضَّةٍ حَمَلَهَا صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، فَخَرَجَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَاعْتَرَضَهَا، فَظَفَرَ بِالْعِيرِ، وَأَفْلَتَ أَعْيَانُ الْقَوْمِ، فَكَانَ الْخُمْسُ عِشْرِينَ أَلْفًا، فَأَخَذَهُ رَسُولُ الله ص، وَقَسَّمَ الأَرْبَعَةَ الأَخْمَاسِ عَلَى السَّرِيَّةِ، وَأَتَى بِفُرَاتِ بْنِ حَيَّانَ الْعِجْلِيِّ أَسِيرًا، فَقِيلَ: إِنْ أَسْلَمْتَ لم يقتلك رسول الله ص، فلما دعا به رسول الله ص أَسْلَمَ، فَأَرْسَلَهُ . مقتل أبي رافع اليهودي قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كان مقتل أبي رافع اليهودي- فيما قيل- وكان سبب قتله، أنه كان- فيما ذكر عنه- يظاهر كعب بن الأشرف على رسول الله ص، فوجه اليه- فيما ذكر- رسول الله ص في النصف من جمادى الآخرة من هذه السنه عبد الله بن عتيك، فحدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، قال: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْرَائِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: بعث رسول الله ص إِلَى أَبِي رَافِعٍ الْيَهُودِيِّ- وَكَانَ بِأَرْضِ الْحِجَازِ- رِجَالًا مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بن عقبة- أو عبد الله بن عتيك- وكان ابو رافع يؤذى رسول الله ص وَيَبْغِي عَلَيْهِ، وَكَانَ فِي حِصْنٍ لَهُ بِأَرْضِ الْحِجَازِ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنْهُ وَقَدْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَرَاحَ النَّاسُ بِسَرْحِهِمْ، قَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بن عقبة- أو عبد الله بن

عَتِيكٍ: اجْلِسُوا مَكَانَكُمْ، فَإِنِّي أَنْطَلِقُ وَأَتَلَطَّفُ لِلْبَوَّابِ، لَعَلِّي أَدْخُلُ! قَالَ: فَأَقْبَلَ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنَ الْبَابِ، تَقَنَّعَ بِثَوْبِهِ، كَأَنَّهُ يَقْضِي حَاجَةً، وَقَدْ دَخَلَ النَّاسُ، فَهَتَفَ بِهِ الْبَوَّابُ يَا عَبْدَ اللَّهِ، إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَدْخُلَ فَادْخُلْ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُغْلِقَ الْبَابَ قَالَ: فَدَخَلْتُ فَكَمَنْتُ تَحْتَ آرِيِّ حِمَارٍ، فَلَمَّا دَخَلَ النَّاسُ أَغْلَقَ الْبَابَ ثُمَّ عَلَّقَ الأَقَالِيدَ عَلَى وَدٍّ قَالَ: فَقُمْتُ إِلَى الأَقَالِيدِ فَأَخَذْتُهَا، فَفَتَحْتُ الْبَابَ، وَكَانَ أَبُو رَافِعٍ يَسْمُرُ عِنْدَهُ فِي عَلَالِيٍّ، فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُ أَهْلُ سَمَرِهِ، فَصَعِدْتُ إِلَيْهِ فَجَعَلْتُ كُلَّمَا فَتَحْتُ بَابًا أَغْلَقْتُهُ عَلَيَّ مِنْ دَاخِلٍ قُلْتُ: إِنَّ الْقَوْمَ نَذَرُوا بِي لَمْ يَخْلُصُوا إِلَيَّ حَتَّى أَقْتُلَهُ قَالَ: فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ وَسَطَ عِيَالِهِ، لا أَدْرِي أَيْنَ هُوَ مِنَ الْبَيْتِ! قُلْتُ: أَبَا رَافِعٍ! قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: فَأَهْوَيْتُ نَحْوَ الصَّوْتِ، فَأَضْرِبُهُ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ، وَأَنَا دهش فما اغنى شَيْئًا وَصَاحَ، فَخَرَجْتُ مِنَ الْبَيْتِ وَمَكَثْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ دَخَلْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا الصَّوْتُ يَا أَبَا رَافِعٍ؟ قَالَ: لأُمِّكَ الْوَيْلُ! إِنَّ رَجُلًا فِي الْبَيْتِ ضَرَبَنِي قَبْلُ بِالسَّيْفِ، قَالَ: فَاضْرِبْهُ فَأَثْخِنْهُ وَلَمْ أَقْتُلْهُ قَالَ: ثُمَّ وَضَعْتُ ضَبِيبَ السَّيْفِ فِي بَطْنِهِ، حَتَّى أَخْرَجْتُهُ مِنْ ظَهْرِهِ، فَعَرَفْتُ أَنِّي قَدْ قَتَلْتُهُ، فَجَعَلْتُ أَفْتَحَ الأَبْوَابَ بَابًا فَبَابًا، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى دَرَجَةٍ، فَوَضَعْتُ رِجْلِي، وَأَنَا أَرَى أَنِّي انْتَهَيْتُ إِلَى الأَرْضِ، فَوَقَعْتُ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ، فَانْكَسَرَتْ سَاقِي، قَالَ: فَعَصَبْتُهَا بِعِمَامَتِي، ثُمَّ إِنِّي انْطَلَقْتُ حَتَّى جَلَسْتُ عِنْدَ الْبَابِ، فَقُلْتُ. وَاللَّهِ لا أَبْرَحُ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَعْلَمَ: أَقَتَلْتُهُ أَمْ لَا؟ قَالَ: فَلَمَّا صَاحَ الدِّيكُ، قَامَ النَّاعِي عَلَيْهِ عَلَى السُّورِ، فَقَالَ: أنْعى أَبَا رَافِعٍ رَبَّاحَ أَهْلِ الْحِجَازِ! قَالَ: فَانْطَلَقْتُ إِلَى أَصْحَابِي، فَقُلْتُ: النَّجَاءَ! قَدْ قَتَلَ اللَّهُ أَبَا رَافِعٍ، فَانْتَهَيْتُ الى

النبي ص، فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ: ابْسُطْ رِجْلَكَ، فَبَسَطْتُهَا فَمَسَحَهَا فَكَأَنَّمَا لَمْ أَشْتَكِهَا قَطُّ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ هَذِهِ السَّرِيَةَ الَّتِي وجهها رسول الله ص إِلَى أَبِي رَافِعٍ سَلَّامِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ إِنَّمَا وَجَّهَهَا إِلَيْهِ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَأَنَّ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا اليه فقتلوه، كانوا أبا قَتَادَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ، وَمَسْعُودُ بْنُ سِنَانٍ، وَالأَسْوَدُ بْنُ خُزَاعِيٍّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ. وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ، فَإِنَّهُ قَصَّ مِنْ قِصَّةِ هَذِهِ السَّرِيَةِ ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عنه: كان سلام بن أبي الحقيق- وهو أبو رافع- ممن كان حزب الأحزاب على رسول الله ص، وكانت الأوس قبل أحد قتلت كعب بن الأشرف في عداوته رسول الله ص وتحريضه عليه، فاستأذنت الخزرج رسول الله ص في قتل سلام بن أبي الحقيق، وهو بخيبر، فأذن لهم. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة عن محمد بن إسحاق، عن محمد مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قال: كان مما صنع الله به لرسوله أن هذين الحيين من الأنصار: الأوس والخزرج، كانا يتصاولان مع رسول الله ص تصاول الفحلين، لا تصنع الأوس شيئا فيه عن رسول الله ص غناء إلا قالت الخزرج: والله لا يذهبون بهذه فضلا علينا عند رسول الله ص في الإسلام، فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها قال: وإذا فعلت الخزرج شيئا، قالت الأوس مثل ذلك فلما أصابت الأوس

كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله ص، قالت الخزرج: لا يذهبون بها فضلا علينا أبدا قال: فتذاكروا: من رجل لرسول الله ص في العداوة كابن الأشرف! فذكروا ابن أبي الحقيق وهو بخيبر، فاستأذنوا رسول الله ص في قتله، فأذن لهم، فخرج إليه من الخزرج ثم من بني سلمة خمسة نفر: عبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، وخزاعي بن الأسود، حليف لهم من أسلم، فخرجوا، وأمر عليهم رسول الله ص عبد الله بن عتيك، ونهاهم أن يقتلوا وليدا أو امرأة. فخرجوا حتى قدموا خيبر، فأتوا دار ابن أبي الحقيق ليلا، فلم يدعوا بيتا في الدار إلا أغلقوه من خلفهم على أهله، وكان في علية له إليها عجلة رومية، فأسندوا فيها حتى قاموا على بابه فاستأذنوا، فخرجت إليهم امرأته فقالت: من أنتم؟ فقالوا: نفر من العرب نلتمس الميرة، قالت: ذاك صاحبكم فادخلوا عليه، فلما دخلنا أغلقنا عليها وعلينا وعليه باب الحجرة، وتخوفنا أن تكون دونه مجاولة تحول بيننا وبينه قال: فصاحت امرأته، ونوهت بنا، وابتدرناه وهو على فراشه بأسيافنا، والله ما يدلنا عليه في سواد الليل إلا بياضه، كأنه قبطية ملقاة قال: ولما صاحت بنا امرأته، جعل الرجل منا يرفع عليها السيف ثم يذكر نهى رسول الله ص، فيكف يده، ولولا ذاك فرغنا منها بليل، فلما ضربناه بأسيافنا، تحامل عليه عبد الله بن أنيس بسيفه في بطنه حتى أنفذه وهو يقول: قطني قطني! قال: ثم خرجنا، وكان عبد الله بن عتيك سيئ البصر، فوقع من الدرجة فوثئت رجله وثئا شديدا واحتملناه حتى نأتي به منهرا من عيونهم، فندخل فيه قال: وأوقدوا النيران، واشتدوا في كل وجه يطلبوننا، حتى إذا

يئسوا رجعوا إلى صاحبهم فاكتنفوه، وهو يقضي بينهم قال: فقلنا: كيف لنا بأن نعلم أن عدو الله قد مات! فقال رجل منا: أنا أذهب فأنظر لكم، فانطلق حتى دخل في الناس، قال: فوجدته ورجال يهود عنده، وامرأته في يدها المصباح تنظر في وجهه ثم قالت تحدثهم وتقول: أما والله لقد عرفت صوت ابن عتيك، ثم أكذبت، فقلت: أنى ابن عتيك بهذه البلاد! ثم أقبلت عليه لتنظر في وجهه ثم قالت: فاظ والله يهود! قال: يقول صاحبنا، فما سمعت من كلمة كانت ألذ إلى نفسي منها، ثم جاءنا فأخبرنا الخبر فاحتملنا صاحبنا، فقدمنا على رسول الله ص، وأخبرناه بقتل عدو الله، واختلفنا عنده في قتله، وكلنا يدعيه، [فقال رسول الله ص: هاتوا أسيافكم، فجئناه بها فنظر إليها، فقال لسيف عبد الله بن أنيس: هذا قتله، ارى فيه اثر الطعام] فقال حسان بن ثابت، وهو يذكر قتل كعب بن الأشرف وسلام ابن ابى الحقيق: لله در عصابه لاقيتهم ... يا بن الحقيق وأنت يا بن الأشرف يسرون بالبيض الخفاف إليكم ... مرحا كأسد في عرين مغرف حتى أتوكم في محل بلادكم ... فسقوكم حتفا ببيض ذفف مستبصرين لنصر دين نبيهم ... مستضعفين لكل أمر مجحف حَدَّثَنِي موسى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ وَعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيُّ، قَالا: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ عَنْ أُمِّهِ ابْنَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، ان

الرهط الذين بعثهم رسول الله ص إِلَى ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ لِيَقْتُلُوهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، وَأَبُو قَتَادَةَ، وَحَلِيفٌ لَهُمْ، وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَنَّهُمْ قَدِمُوا خَيْبَرَ لَيْلا قَالَ: فَعَمَدْنَا إِلَى أَبْوَابِهِمْ نُغْلِقُهَا مِنْ خَارِجٍ، وَنَأْخُذُ الْمَفَاتِيحَ، حَتَّى أَغْلَقْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَهُمْ، ثُمَّ أَخَذْنَا الْمَفَاتِيحَ فَأَلْقَيْنَاهَا فِي فَقِيرٍ، ثُمَّ جِئْنَا إِلَى الْمَشْرَبَةِ الَّتِي فِيهَا ابْنُ أَبِي الْحَقِيقِ، فَظَهَرْتُ عَلَيْهَا أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ وَقَعَدَ أَصْحَابُنَا فِي الْحَائِطِ، فَاسْتَأْذَنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ، فَقَالَتِ امْرَأَةُ ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ: إِنَّ هَذَا لَصَوْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتِيكٍ قَالَ ابْنُ أَبِي الْحَقِيقِ: ثَكِلَتْكِ أُمُّكِ! عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ بِيَثْرِبَ، اين هو عندك هذه الساعة! افتحى لي، إِنَّ الْكَرِيمَ لا يُرَدُّ عَنْ بَابِهِ هَذِهِ السَّاعَةَ فَقَامَتْ فَفَتَحَتْ، فَدَخَلْتُ أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ عَلَى ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ: دُونَكَ، قَالَ: فَشَهَرْتُ عَلَيْهَا السَّيْفَ، فَأَذْهَبَ لأَضْرِبُهَا بِالسَّيْفِ فَأَذْكُرُ نَهْيَ رَسُولِ اللَّهِ ص عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، فَأَكُفُّ عَنْهَا، فَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ عَلَى ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ قَالَ: فَأَنْظُرُ إِلَيْهِ فِي مَشْرَبَةٍ مُظْلِمَةٍ إِلَى شِدَّةِ بَيَاضِهِ، فَلَمَّا رَآنِي وَرَأَى السَّيْفَ، أَخَذَ الْوِسَادَةَ فَاتَّقَانِي بِهَا، فَأَذْهَبُ لأَضْرِبَهُ فَلا أَسْتَطِيعُ، فَوَخَزْتُهُ بِالسَّيْفِ وَخْزًا ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ عبد الله ابن أُنَيْسٍ، فَقَالَ: أَقْتُلُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ فَذَفَّفَ عَلَيْهِ قَالَ: ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتِيكٍ، فَانْطَلَقْنَا، وصاحت المرأة وا بياتاه وا بياتاه! قَالَ: فَسَقَطَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ فِي الدَّرَجَةِ، فَقَالَ: وَارِجْلاهُ وَارِجْلاهُ! فَاحْتَمَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، حَتَّى وَضَعَهُ إِلَى الأَرْضِ. قَالَ: قُلْتُ: انْطَلِقْ، لَيْسَ بِرِجْلِكَ بَأْسٌ قَالَ: فَانْطَلَقْنَا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ: جِئْنَا أَصْحَابَنَا فَانْطَلَقْنَا، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْسِي أَنِّي تَرَكْتُهَا فِي الدَّرَجَةِ، فَرَجَعْتُ إِلَى قَوْسِي، فَإِذَا أَهْلُ خَيْبَرَ يَمُوجُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، لَيْسَ لَهُمْ

غزوه احد

كَلامٌ إِلا مَنْ قَتَلَ ابْنَ أَبِي الْحَقِيقِ؟ مَنْ قَتَلَ ابْنَ أَبِي الْحَقِيقِ؟ قَالَ: فَجَعَلْتُ لا أَنْظُرُ فِي وَجْهِ إِنْسَانٍ، وَلا يَنْظُرُ فِي وَجْهِي إِنْسَانٌ إِلا قُلْتُ: مَنْ قَتَلَ ابْنَ أَبِي الْحَقِيقِ؟ قَالَ: ثُمَّ صَعِدْتُ الدَّرَجَةَ، وَالنَّاسُ يَظْهَرُونَ فِيهَا، وَيَنْزِلُونَ، فَأَخَذْتُ قَوْسِي مِنْ مَكَانِهَا، ثُمَّ ذَهَبْتُ فَأَدْرَكْتُ أَصْحَابِي، فَكُنَّا نَكْمُنُ النهار ونسير الليل، فإذا كمنا بالنهار أَقْعَدْنَا مِنَّا نَاطُورًا يَنْظُرُ لَنَا، فَإِنْ رَأَى شَيْئًا أَشَارَ إِلَيْنَا، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بالبيضاء كنت- قال موسى: انا ناطرهم، وَقَالَ عَبَّاسٌ: كُنْتُ أَنَا نَاطُورُهُمْ- فَأَشَرْتُ إِلَيْهِمْ فَذَهَبُوا جَمْزًا وَخَرَجْتُ فِي آثَارِهِمْ، حَتَّى إِذَا اقْتَرَبْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ أَدْرَكْتُهُمْ، قَالُوا: مَا شَأْنُكَ؟ هَلْ رَأَيْتَ شَيْئًا؟ قُلْتُ: لا، إِلا أَنِّي قَدْ عَرَفْتُ أَنْ قَدْ بَلَغَكُمُ الإِعْيَاءُ وَالْوَصَبُ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَحْمِلَكُمُ الْفَزَعُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وفي هذه السنه تزوج النبي ص حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ فِي شَعْبَانَ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ تَحْتَ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَتُوُفِّيَ عَنْهَا. وَفِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ رَسُولِ اللَّهِ ص أُحُدًا، وَكَانَتْ فِي شَوَّالٍ يَوْمَ السَّبْتِ لِسَبْعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْهُ- فِيمَا قِيلَ- مِنْ سَنَةِ ثَلاثٍ مِنَ الْهِجَرَةِ. غزوة أحد قال أبو جعفر: وكان الذي هاج غزوة أحد بين رسول الله ص ومشركي قريش وقعة بدر وقتل من قتل ببدر من أشراف قريش ورؤسائهم، فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بن إِسْحَاقَ، قَالَ: وحدثني مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابٍ

الزُّهْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، وَعَاصِمُ بن عمر بن قتادة، والحصين ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا، كُلُّهُمْ قَدْ حَدَّثَ بِبَعْضِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ يَوْمِ أُحُدٍ، وَقَدِ اجْتَمَعَ حَدِيثُهُمْ كُلِّهِمْ فِيمَا سُقْتُ مِنَ الْحَدِيثِ عَنْ يَوْمِ أُحُدٍ، قَالُوا: لَمَّا أُصِيبَتْ قُرَيْشٍ- أَوْ مَنْ قَالَهُ مِنْهُمْ- يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ مِنْ أَصْحَابِ الْقَلِيبِ، فَرَجَعَ فَلُّهُمْ إِلَى مَكَّةَ، وَرَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ بِعِيرِهِ، مَشَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ مِمَّنْ أُصِيبَ آبَاؤُهُمْ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَإِخْوَانُهُمْ بِبَدْرٍ، فَكَلَّمُوا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ فِي تِلْكَ الْعِيرِ مِنْ قُرَيْشٍ تِجَارَةٌ، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَتَرَكُمْ، وَقَتَلَ خِيَارَكُمْ، فَأَعِينُونَا بِهَذَا الْمَالِ عَلَى حَرْبِهِ، لَعَلَّنَا أَنْ نُدْرِكَ مِنْهُ ثَأْرًا بِمَنْ أُصِيبَ مِنَّا، فَفَعَلُوا، فَاجْتَمَعَتْ قريش لحرب رسول الله ص حِينَ فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُ الْعِيرِ بِأَحَابِيشِهَا وَمَنْ أَطَاعَهَا مِنْ قَبَائِلِ كِنَانَةَ وَأَهْلِ تِهَامَةَ، وَكُلُّ أُولَئِكَ قَدِ اسْتَعْوَوْا عَلَى حَرْبِ رسول الله ص. وَكَانَ أَبُو عَزَّةَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الجمحى قد من عليه رسول الله ص يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانَ فَقِيرًا ذَا بَنَاتٍ، وَكَانَ فِي الأُسَارَى، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي فَقِيرٌ ذُو عِيَالٍ وَحَاجَةٍ قَدْ عَرَفْتَهَا، فَامْنُنْ عَلَيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ! فَمَنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ الله ص، فقال صفوان

ابن أُمَيَّةَ: يَا أَبَا عَزَّةَ، إِنَّكَ امْرُؤٌ شَاعِرٌ، فَأَعِنَّا بِلِسَانِكَ، فَاخْرُجْ مَعَنَا. فَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَنَّ عَلَيَّ فَلا أُرِيدُ أَنْ أُظَاهِرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: بَلَى فَأَعِنَّا بِنَفْسِكَ، فَلَكَ اللَّهُ إِنْ رَجَعْتَ أَنْ أُغْنِيَكَ، وَإِنْ أَصَبْتَ أَنْ أَجْعَلَ بَنَاتِكَ مَعَ بَنَاتِي يُصِيبُهُنَّ مَا أَصَابَهُنَّ مِنْ عُسْرٍ وَيُسْرٍ فَخَرَجَ أَبُو عَزَّةَ يَسِيرُ فِي تِهَامَةَ، وَيَدْعُو بَنِي كِنَانَةَ وَخَرَجَ مُسَافِعُ بْنُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بن جُمَحٍ، إِلَى بَنِي مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ يُحَرِّضُهُمْ ويدعوهم الى حرب رسول الله ص، وَدَعَا جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ غُلَامًا لَهُ يُقَالُ لَهُ وَحْشِيٌّ، كَانَ حَبَشِيًّا يَقْذِفُ بِحَرْبَةٍ لَهُ قَذْفَ الْحَبَشَةِ، قَلَّمَا يُخْطِئُ بِهَا، فَقَالَ لَهُ: اخْرُجْ مَعَ النَّاسِ، فَإِنْ أَنْتَ قَتَلْتَ عَمَّ مُحَمَّدٍ بِعَمِّي طُعَيْمَةَ بْنِ عَدِيٍّ فَأَنْتَ عَتِيقٌ. فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ بِحَدِّهَا وَجَدِّهَا وَأَحَابِيشِهَا، وَمَنْ مَعَهَا مِنْ بَنِي كِنَانَةَ وَأَهْلِ تِهَامَةَ، وَخَرَجُوا مَعَهُمْ بِالظَّعْنِ الْتِمَاسَ الْحَفِيظَةِ، وَلِئَلَّا يَفِرُّوا فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ- وَهُوَ قَائِدُ النَّاسِ، مَعَهُ هند بنت عتبة ابن رَبِيعَةَ- وَخَرَجَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِأُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَخَرَجَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِفَاطِمَةَ بِنْتِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَخَرَجَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ بِبَرْزَةَ- قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقِيلَ بِبَرَّةَ- بِنْتِ مَسْعُودِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثَّقَفِيَّةِ، وَهِيَ أم عبد الله ابن صَفْوَانَ- وَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ بِرَيْطَةَ بِنْتِ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَهِيَ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَخَرَجَ طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَأَبُو طَلْحَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بِسُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ شَهِيدٍ- وَهِيَ أُمُّ بَنِي طَلْحَةَ مُسَافِعٍ والْجلاسِ وَكِلابٍ، قُتِلُوا يَوْمَئِذٍ وَأَبُوهُمْ- وَخَرَجَتْ خُنَاسُ بِنْتُ مَالِكِ بن المضرب احدى نساء بنى مالك ابن حِسْلٍ، مَعَ ابْنِهَا أَبِي عُزَيْزِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَهِيَ أُمُّ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ،

وخرجت عمره بنت علقمه احدى نساء بَنِي الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، وَكَانَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ كُلَّمَا مَرَّتْ بِوَحْشِيٍّ أَوْ مَرَّ بِهَا قَالَتْ: إِيهِ أَبَا دُسْمَةَ! اشْفِ وَاشْتَفِ- وَكَانَ وَحْشِيٌّ يُكَنَّى أَبَا دُسْمَةَ. فَأَقْبَلُوا حَتَّى نَزَلُوا بِعَيْنَيْنِ بِجَبَلٍ بِبَطْنِ السَّبْخَةِ، مِنْ قَنَاةٍ عَلَى شَفِيرِ الْوَادِي مِمَّا يَلِي الْمَدِينَةِ. فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ الله ص وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ نَزَلُوا حَيْثُ نَزَلُوا قَالَ رَسُولُ الله ص لِلْمُسْلِمِينَ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ بَقَرًا فَأَوَّلْتُهَا خَيْرًا، وَرَأَيْتُ فِي ذُبَابِ سَيْفِي ثَلْمًا، وَرَأَيْتُ أَنِّي ادخلت يدي في درع حصنيه فَأَوَّلْتُهَا الْمَدِينَةَ، فَإِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُقِيمُوا بِالْمَدِينَةِ وَتَدَعُوهُمْ حَيْثُ نَزَلُوا، فَإِنْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرِّ مَقَامٍ، وَإِنْ هُمْ دَخَلُوا عَلَيْنَا قَاتَلْنَاهُمْ فِيهَا وَنَزَلَتْ قُرَيْشٌ مَنْزِلَهَا مِنْ أُحُدٍ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ فَأَقَامُوا بِهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ وَيَوْمَ الجمعه وراح رسول الله ص حِينَ صَلَّى الْجُمُعَةَ، فَأَصْبَحَ بِالشِّعْبِ مِنْ أُحُدٍ فَالْتَقَوْا يَوْمَ السَّبْتِ لِلنِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ، وَكَانَ رَأْيُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولٍ مع راى رسول الله ص، يرى راى رسول الله ص فِي ذَلِكَ: أَلَّا يَخْرُجَ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ رَسُولُ الله ص يَكْرَهُ الْخُرُوجَ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ أَكْرَمَ اللَّهُ بِالشَّهَادَةِ يَوْمَ أُحُدٍ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ كَانَ فَاتَهُ بَدْرٌ وَحُضُورُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اخْرُجْ بِنَا إِلَى أَعْدَائِنَا، لا يَرَوْنَ أَنَّا جَبُنَّا عَنْهُمْ وَضَعُفْنَا، فَقَالَ عَبْدُ الله بن ابى بن سَلُولٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقِمْ بِالْمَدِينَةِ وَلا تخرج اليهم، فو الله مَا خَرَجْنَا مِنْهَا إِلَى عَدُوٍّ لَنَا قَطُّ إِلَّا أَصَابَ مِنَّا، وَلا دَخَلَهَا عَلَيْنَا إِلَّا أَصَبْنَا مِنْهُ، فَدَعْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرِّ مَجْلِسٍ، وَإِنْ دَخَلُوا قَاتَلَهُمُ الرِّجَالُ فِي وُجُوهِهِمْ، وَرَمَاهُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ بِالْحِجَارَةِ من فوقهم،

وَإِنْ رَجَعُوا رَجَعُوا خَائِبِينَ كَمَا جَاءُوا فَلَمْ يزل الناس برسول الله ص الَّذِينَ كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ حُبُّ لِقَاءِ الْقَوْمِ، حتى دخل رسول الله ص، فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حِينَ فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ، وَقَدْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ مَالِكُ بْنُ عَمْرٍو، أَحَدُ بَنِي النَّجَّارِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ الله ص، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ وَقَدْ نَدِمَ النَّاسُ، وَقَالُوا: استكرهنا رسول الله ص وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَنَا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا السُّدِّيُّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي ذَلِكَ غَيْرَ هَذَا الْقَوْلِ، وَلَكِنَّهُ قَالَ مَا حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، أَنَّ رَسُولَ الله ص لَمَّا سَمِعَ بِنُزُولِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعِهَا أُحُدًا، قَالَ لأَصْحَابِهِ: أَشِيرُوا عَلَيَّ مَا أَصْنَعُ! فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اخْرُجْ بِنَا إِلَى هَذِهِ الأَكْلُبِ، فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا غَلَبَنَا عَدُوٌّ لَنَا قَطُّ أَتَانَا فِي دِيَارِنَا، فَكَيْفَ وَأَنْتَ فِينَا! فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ص عبد الله بن ابى بن سَلُولٍ- وَلَمْ يَدْعُهُ قَطُّ قَبْلَهَا- فَاسْتَشَارَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اخْرُجْ بِنَا إِلَى هَذِهِ الاكلب، وكان رسول الله ص يُعْجِبُهُ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ، فَيُقَاتِلُوا فِي الأَزِقَّةِ، فَأَتَاهُ النُّعْمَانُ بْنُ مَالِكٍ الأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: يا رسول الله لا تحرمني الجنه، فو الذى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لأَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ، فَقَالَ لَهُ: بِمَ؟ قَالَ: بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنِّي لا أَفِرُّ مِنَ الزَّحْفِ قَالَ: صَدَقْتَ، فَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ ان رسول الله ص دَعَا بِدِرْعِهِ فَلَبِسَهَا، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَدْ لَبِسَ السِّلاحَ نَدِمُوا وَقَالُوا: بِئْسَ مَا صَنَعْنَا! نُشِيرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَالْوَحْيُ يَأْتِيهِ! فَقَامُوا فَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ، وَقَالُوا: اصْنَعْ مَا رَأَيْتَ، [فَقَالَ رَسُولُ الله ص: لا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَلْبَسَ لَأْمَتَهُ فَيَضَعَهَا حتى يقاتل] فخرج

رسول الله ص إِلَى أُحُدٍ فِي أَلْفِ رَجُلٍ، وَقَدْ وَعَدَهُمُ الْفَتْحَ إِنْ صَبَرُوا فَلَمَّا خَرَجَ رَجَعَ عَبْدُ الله بن ابى بن سلول في ثلاثمائه، فَتَبِعَهُمْ أُبو جَابِرٍ السُّلَمِيُّ يَدْعُوهُمْ، فَلَمَّا غَلَبُوهُ وَقَالُوا لَهُ: مَا نَعْلَمُ قِتَالا، وَلَئِنْ أَطَعْتَنَا لَتَرْجِعَنَّ مَعَنَا، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا» فَهُمْ بَنُو سَلَمَةَ وَبَنُو حَارِثَةَ، هَمُّوا بِالرُّجُوعِ حِينَ رَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، فَعَصَمَهُمُ الله عز وجل، وبقي رسول الله ص في سبعمائة. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق: قال: قالوا: لما خرج عليهم رسول الله ص قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَكْرَهْنَاكَ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَنَا، فَإِنْ شِئْتَ فَاقْعُدْ صَلَّى اللَّهُ عليك! [فقال رسول الله ص: مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يضعها حتى يقاتل،] فخرج رسول الله فِي أَلْفِ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالشَّوْطِ بَيْنَ أُحُدٍ وَالْمَدِينَةِ انْخَزَلَ عَنْهُ عبد الله بن ابى بن سَلُولٍ بِثُلُثِ النَّاسِ، فَقَالَ: أَطَاعَهُمْ فَخَرَجَ وَعَصَانِي، والله ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أَيُّهَا النَّاسُ! فَرَجَعَ بِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ النَّاسِ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَأَهْلِ الرَّيْبِ، وَاتَّبَعَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، أَخُو بَنِي سَلَمَةَ، يَقُولُ: يَا قَوْمِ أُذَكِّرُكُمُ الله ان تخذلوا نبيكم وقومكم عند ما حَضَرَ مِنْ عَدُوِّهِمْ! قَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكُمْ تُقَاتِلُونَ مَا أَسْلَمْنَاكُمْ، وَلَكِنَّا لا نَرَى أَنْ يَكُونَ قِتَالٌ، فَلَمَّا اسَتَعْصَوْا عَلَيْهِ، وَأَبَوْا إِلا الانْصِرَافَ عَنْهُ، قَالَ: أَبْعَدَكُمُ اللَّهُ أَعْدَاءَ اللَّهِ! فَسَيُغْنِي اللَّهُ عَنْكُمْ! قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ: انْخَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ بن ابى عن رسول الله ص من الشيخين بثلاثمائة، وبقي رسول الله ص في سبعمائة، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ ثَلَاثةَ آلافٍ، وَالْخَيْلُ

مِائَتَيْ فَرَسٍ، وَالظُّعُنُ خَمْسَ عَشْرَةَ امْرَأَةً. قَالَ: وكان في المشركين سبعمائة دارع، كان فِي الْمُسْلِمِينَ مِائَةُ دَارِعٍ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مِنَ الْخَيْلِ إِلَّا فَرَسَانِ: فَرَسٌ لِرَسُولِ اللَّهِ ص، وَفَرَسٌ لأَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ الْحَارِثِيِّ فَأَدْلَجَ رسول الله ص مِنَ الشَّيْخَيْنِ حِينَ طَلَعَتِ الْحَمْرَاءُ- وَهُمَا أُطُمَانِ، كَانَ يَهُودِيٌّ وَيَهُودِيَّةٌ أَعْمَيَانِ يَقُومَانِ عَلَيْهِمَا، فَيَتَحَدَّثَانِ فَلَذِلَكِ، سُمِّيَا الشَّيْخَيْنِ، وَهُو فِي طَرَفِ الْمَدِينَةِ- قال: وعرض رسول الله ص الْمُقَاتَلَةَ بِالشَّيْخَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، فَأَجَازَ مَنْ أَجَازَ، وَرَدَّ مَنْ رَدَّ، قَالَ: وَكَانَ فِيمَنْ رَدَّ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عُمَرَ، وَأُسَيْدُ بْنُ ظُهَيْرٍ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَعُرَابَةُ بْنُ أَوْسٍ قَالَ: وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الشَّمَّاخُ: رَأَيْتُ عُرَابَةَ الأَوْسِيَّ يَنْمِي ... إِلَى الْخَيْرَاتِ مُنْقَطِعَ الْقَرِينِ إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عُرَابَةُ بِالْيَمِينِ قَالَ: وَرَدَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، وَأَجَازَ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ وَرَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، وَكَانَ رسول الله ص، قَدِ اسْتَصْغَرَ رَافِعًا، فَقَامَ عَلَى خُفَّيْنِ لَهُ فِيهِمَا رِقَاعٌ، وَتَطَاوَلَ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ، فَلَمَّا رآه رسول الله ص أَجَازَهُ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: كَانَتْ أُمُّ سَمُرَةَ بْنُ جُنْدَبٍ تَحْتَ مُرِّيِّ بْنِ سِنَانِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، عَمِّ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، فكان ربيبه، فلما خرج رسول الله ص إِلَى أُحُدٍ، وَعَرَضَ أَصْحَابَهُ، فَرَدَّ مَنِ اسْتَصْغَرَ رَدَّ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدَبٍ، وَأَجَازَ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، فَقَالَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ لِرَبِيبِهِ مُرِّيِّ بْنِ سِنَانٍ: يَا أَبَتِ،

اجاز رسول الله ص رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، وَرَدَّنِي وَأَنَا أَصْرَعُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، فَقَالَ: مُرِّيُّ بْنُ سِنَانٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَدَدْتَ ابْنِي، وَأَجَزْتَ رَافِعَ بْنَ خديج وابنى يصرعه! فقال النبي ص لِرَافِعٍ وَسَمُرَةَ: تَصَارَعَا، فَصَرَعَ سَمُرَةُ رَافِعًا، فَأَجَازَهُ رسول الله ص فَشَهِدَهَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: وَكَانَ دَلِيلَ النَّبِيِّ ص أَبُو حَثْمَةَ الْحَارِثِيُّ. رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ ابن إسحاق: قال: ومضى رسول الله ص حَتَّى سَلَكَ فِي حَرَّةِ بَنِي حَارِثَةَ، فَذَبَّ فَرَسٌ بِذَنَبِهِ، فَأَصَابَ كِلَابَ سَيْفٍ، فَاسْتَلَّهُ، فَقَالَ رسول الله ص- وَكَانَ يُحِبُّ الْفَأْلَ وَلَا يَعْتَافَ- لِصَاحِبِ السَّيْفِ: شِمْ سَيْفَكَ، فَإِنِّي أَرَى السُّيُوفَ سَتُسَلُّ الْيَوْمَ ثم قال رسول الله ص لأَصْحَابِهِ: مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ بِنَا عَلَى الْقَوْمِ مِنْ كُثُبٍ، مِنْ طَرِيقٍ لا يَمُرُّ بِنَا عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ أَبُو حَثْمَةَ أَخُو بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَدَّمَهُ فَنَفَذَ بِهِ فِي حَرَّةِ بَنِي حَارِثَةَ وَبَيْنَ أَمْوَالِهِمْ حَتَّى سَلَكَ بِهِ فِي مَالِ الْمِرْبَعِ بْنِ قَيْظِيٍّ- وَكَانَ رَجُلًا مُنَافِقًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ- فلما سمع حس رسول الله ص وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، قَامَ يَحْثِي فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ، وَيَقُولُ: إِنْ كُنْتَ رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنِّي لا أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ حَائِطِي، قَالَ: وَقَدْ ذُكِرَ لِي أَنَّهُ أَخَذَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي لا أُصِيبُ بِهَا غَيْرَكَ يَا مُحَمَّدُ لَضَرَبْتُ بِهَا وَجْهَكَ فَابْتَدَرَهُ الْقَوْمُ لِيَقْتُلُوهُ، [فقال رسول الله ص: لا تَفْعَلُوا، فَهَذَا الأَعْمَى الْبَصَرِ، الأَعْمَى الْقَلْبِ] وَقَدْ بَدَرَ إِلَيْهِ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ حِينَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ص عنه،

فَضَرَبَهُ بِالْقَوْسِ فِي رَأْسِهِ فَشَجَّهُ، وَمَضَى رَسُولُ الله ص عَلَى وَجْهِهِ، حَتَّى نَزَلَ الشِّعْبَ مِنْ أُحُدٍ فِي عُدْوَةِ الْوَادِي إِلَى الْجَبَلِ، فَجَعَلَ ظَهْرَهُ وَعَسْكَرَهُ إِلَى أُحُدٍ، وَقَالَ: لا يُقَاتِلَنَّ أَحَدٌ حَتَّى نَأْمُرَهُ بِالْقِتَالِ، وَقَدْ سَرَحَتْ قُرَيْشٌ الظَّهْرَ وَالْكُرَاعَ فِي زُرُوعٍ كَانَتْ بِالصَّمْغَةِ مِنْ قَنَاةٍ لِلْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ نَهَى رسول الله ص عَنِ الْقِتَالِ: أَتَرْعَى زُرُوع بَنِي قَيْلَةَ وَلما نضارب! وتعبا رسول الله ص للقتال وهو في سبعمائة رَجُلٍ، وَتَعَبَّأَتْ قُرَيْشٌ وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلافِ رَجُلٍ، وَمَعَهُمْ مِائَتَا فَرَسٍ قَدْ جَنَّبُوهَا، فَجَعَلُوا عَلَى مَيْمَنَةِ الْخَيْلِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَعَلَى مَيْسَرَتِهَا عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ، وَأَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ ص عَلَى الرُّمَاةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ، أَخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُعَلَّمٌ بِثِيَابٍ بِيضٍ، وَالرُّمَاةُ خَمْسُونَ رَجُلًا، وَقَالَ: انْضَحْ عَنَّا الْخَيْلَ بِالنَّبْلِ لا يَأْتُونَا مِنْ خَلْفِنَا إِنْ كَانَتْ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا، فَاثْبُتْ مَكَانَكَ لا نُؤْتَيَنَّ مِنْ قِبَلِكَ، وَظَاهَرَ رَسُولُ اللَّهِ ص بَيْنَ دِرْعَيْنِ. فَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ المقدام، قال: حدثنا إسرائيل وَحَدَّثَنا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، وَلَقِيَ رَسُولُ الله ص المشركين اجلس رسول الله ص رِجَالا بِإِزَاءِ الرُّمَاةِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ، وَقَالَ لَهُمْ: لا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ إِنْ رَأَيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا فَلا تُعِينُونَا. فَلَمَّا لَقِيَ الْقَوْمَ هَزَمَ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى رَأَيْتُ النِّسَاءَ قَدْ رَفَعْنَ عَنْ سوقهن، وبدت

خلا خيلهن، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: الْغَنِيمَةَ الْغَنِيمَةَ! فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَهْلا، أَمَا عَلِمْتُمْ مَا عَهِدَ إِلَيْكُمْ رَسُولُ الله ص! فَأَبَوْا، فَانْطَلَقُوا، فَلَمَّا أَتَوْهُمْ صَرَفَ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ، فَأُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَبْعُونَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ فِي ثَلاثِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَوَّالٍ، حَتَّى نَزَلَ أُحُدًا، وخرج النبي ص، فَأَذَّنَ فِي النَّاسِ فَاجْتَمَعُوا، وَأَمَّرَ الزُّبَيْرَ عَلَى الْخَيْلِ، وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ الْمِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ الْكِنْدِيُّ، واعطى رسول الله ص اللِّوَاءَ رَجُلا مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَخَرَجَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِالْحَسْرِ، وَبَعَثَ حَمْزَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ، وَمَعَهُ عِكْرِمَةُ بن ابى جهل، فبعث رسول الله ص الزُّبَيْرَ، وَقَالَ: اسْتَقْبِلْ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَكُنْ بِإِزَائِهِ حَتَّى أُوذِنَكَ، وَأَمَرَ بِخَيْلٍ أُخْرَى، فَكَانُوا مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، فَقَالَ: لا تَبْرَحُنَّ حَتَّى أُوذِنَكُمْ وَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ يَحْمِلُ اللاتَ وَالْعُزَّى، فأرسل النبي ص إِلَى الزُّبَيْرِ أَنْ يَحْمِلَ، فَحَمَلَ عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَهَزَمَهُ اللَّهُ وَمَنْ مَعَهُ، فَقَالَ: «وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ» - إِلَى قَوْلِهِ- «مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ» ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ ينصرهم، وانه معهم وان رسول الله ص بَعَثَ نَاسًا مِنَ النَّاسِ، فَكَانُوا مِنْ وَرَائِهِمْ، فقال رسول الله ص: كونوا هاهنا، فَرُدُّوا وَجْهَ مَنْ فَرَّ مِنَّا، وَكُونُوا حُرَّاسًا لَنَا مِنْ قِبَلِ ظُهُورِنَا وَأَنَّ رَسُولَ

الله ص لَمَّا هَزَمَ الْقَوْمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، قَالَ الَّذِينَ كَانُوا جُعِلُوا مِنْ وَرَائِهِمْ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَرَأَوُا النِّسَاءَ مُصْعِدَاتٍ فِي الْجَبَلِ، وَرَأَوُا الْغَنَائِمَ: انْطَلِقُوا الى رسول الله ص، فَأَدْرِكُوا الْغَنِيمَةَ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقُونَا إِلَيْهَا، وَقَالَتْ طائفه اخرى: بل نطيع رسول الله ص فَنَثْبُتْ مَكَانَنَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ لَهُمْ: «مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا» الَّذِينَ أَرَادُوا الْغَنِيمَةَ، «وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ» الَّذِينَ قَالُوا: نُطِيعُ رَسُولَ اللَّهِ وَنَثْبُتُ مَكَانَنَا، فَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَا شَعُرْتُ أَنَّ أحدا من اصحاب النبي ص كَانَ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَعَرَضَهَا، حَتَّى كَانَ يَوْمَئِذٍ. حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قال: لما برز رسول الله ص إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِأُحُدٍ أَمَرَ الرُّمَاةَ، فَقَامُوا بِأَصْلِ الْجَبَلِ فِي وُجُوهِ خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ لَهُمْ: لا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ إِنْ رَأَيْتُمْ أَنَّنَا قَدْ هَزَمْنَاهُمْ، فَإِنَّا لا نَزَالُ غَالِبِينَ مَا ثَبَتُّمْ مَكَانَكُمْ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ أَخَا خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ. ثُمَّ إِنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُثْمَانَ صَاحِبَ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ قَامَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْجَلُنَا بِسِيُوفِكُمْ إِلَى النَّارِ، وَيَعْجَلُكُمْ بِسُيُوفِنَا إِلَى الْجَنَّةِ، فَهَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ يَعْجَلُهُ اللَّهُ بِسَيْفِي إِلَى الْجَنَّةِ، أَوْ يَعْجَلُنِي بِسَيْفِهِ إِلَى النَّارِ! فَقَامَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا أُفَارِقُكَ حَتَّى أَعْجَلَكَ بِسَيْفِي إِلَى النَّارِ، أَوْ تَعْجَلَنِي بِسَيْفِكَ إِلَى الْجَنَّةِ، فَضَرَبَهُ عَلِيٌّ فَقَطَعَ رِجْلَهُ فَسَقَطَ فَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ الله والرحم يا بن عم! فتركه، فكبر رسول الله ص، وقال لعلى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجْهِزَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: إِنَّ ابْنَ عَمِّي نَاشَدَنِي حِينَ انْكَشَفَتْ

عَوْرَتُهُ فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ ثُمَّ شَدَّ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَالْمِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَهَزَمَاهُمْ، وحمل النبي ص وَأَصْحَابُهُ فَهَزَمُوا أَبَا سُفْيَانَ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ- وَهُوَ عَلَى خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ- حَمَلَ فَرَمَتْهُ الرُّمَاةُ فَانْقَمَعَ فَلَمَّا نَظَرَ الرُّمَاةُ الى رسول الله ص وَأَصْحَابِهِ فِي جَوْفِ عَسْكَرِ الْمُشْرِكِينَ يَنْتَهِبُونَهُ، بَادَرُوا الْغَنِيمَةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا نَتْرُكُ أَمْرَ رَسُولِ الله ص وَانْطَلَقَ عَامَّتُهُمْ فَلَحِقُوا بِالْعَسْكَرِ، فَلَّما رَأَى خَالِدٌ قِلَّةَ الرُّمَاةِ صَاحَ فِي خَيْلِهِ، ثُمَّ حَمَلَ فقتل الرماه، وحمل على اصحاب النبي ص فَلَمَّا رَأَى الْمُشْرِكُونَ أَنَّ خَيْلَهُمْ تُقَاتِلُ، تَنَادَوْا فشدوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ. فَحَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ الْكِلابِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَازِعِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ الزبير: [عرض رسول الله ص سَيْفًا فِي يَدِهِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ: مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ؟ قَالَ: فَقُمْتُ فَقُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ؟ فَقُمْتُ فَقُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعْرَضَ عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ؟ قَالَ: فَقَامَ أَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ، فَقَالَ: أَنَا آخِذُهُ بِحَقِّهِ، وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: حَقُّهُ أَلا تَقْتُلَ بِهِ مُسْلِمًا، وَأَلا تَفِرَّ بِهِ عَنْ كَافِرٍ، قَالَ: فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ] قَالَ: وَكَانَ إِذَا أَرَادَ الْقِتَالَ أَعْلَمَ بِعِصَابَةٍ، قَالَ: فَقُلْتُ: لأَنْظُرَنَّ الْيَوْمَ مَا يَصْنَعُ، قَالَ: فَجَعَلَ لا يَرْتَفِعُ لَهُ شَيْءٌ إِلا هَتَكَهُ وَأَفْرَاهُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى نِسْوَةٍ فِي سَفْحِ جَبَلٍ، مَعَهُنَّ دُفُوفٌ لَهُنَّ، فِيهِنَّ امْرَأَةٌ تَقُولُ: نَحْنُ بَنَاتُ طَارِقْ إِنْ تُقْبِلُوا نُعَانِقْ وَنَبْسُطُ النَّمَارِقْ أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِقْ فِرَاقَ غَيْرِ وَامِقْ

قَالَ: فَرَفَعَ السَّيْفَ لِيَضْرِبَهَا، ثُمَّ كَفَّ عَنْهَا قَالَ: قُلْتُ: كُلَّ عَمَلِكَ قَدْ رَأَيْتُ، أَرَأَيْتَ رَفْعَكَ لِلسَّيْفِ عَنِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ مَا أَهْوَيْتَ بِه إِلَيْهَا! قَالَ: فَقَالَ: أَكْرَمْتُ سَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ أَنْ أَقْتُلَ بِهِ امْرَأَةً. رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ؟ فَقَامَ إِلَيْهِ رِجَالٌ، فَأَمْسَكَهُ عَنْهُمْ، حَتَّى قَامَ إِلَيْهِ أَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ أَخُو بَنِي سَاعِدَةَ، فَقَالَ: وَمَا حَقُّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْ تَضْرِبَ بِهِ فِي الْعَدُوِّ حَتَّى يَنْحَنِيَ، فَقَالَ: أَنَا آخِذُهُ بِحَقِّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ- وَكَانَ أَبُو دُجَانَةَ رَجُلا شُجَاعًا يَخْتَالُ عِنْدَ الْحَرْبِ إِذَا كَانَتْ، وَكَانَ إِذَا أَعْلَمَ بِعِصَابَةٍ لَهُ حَمْرَاءَ يَعْصِبُهَا عَلَى رَأْسِهِ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ سَيُقَاتِلُ- فَلَمَّا أَخَذَ السَّيْفَ من يد رسول الله ص أَخَذَ عِصَابَتَهُ تِلْكَ، فَعَصَبَ بِهَا رَأْسَهُ، ثُمَّ جَعَلَ يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ. فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَسْلَمَ، مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، قَالَ: [قال رسول الله ص حِينَ رَأَى أَبَا دُجَانَةَ يَتَبَخْتَرُ: إِنَّهَا لَمِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلا فِي هَذَا الْمَوْطِنِ] وَقَدْ أَرْسَلَ أَبُو سُفْيَانَ رَسُولا، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ عَمِّنَا نَنْصَرِفُ عَنْكُمْ، فَإِنَّهُ لا حَاجَةَ لَنَا بِقِتَالِكُمْ فَرَدُّوهُ بِمَا يَكْرَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عُمَرَ بن قَتَادَة، أَنَّ أَبَا عَامِرٍ عَبْدَ عَمْرِو بْنَ صَيْفِيِّ بْنِ مَالِكِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ أَمَةَ، أَحَدَ بَنِي ضُبَيْعَةَ، وَقَدْ كَانَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مباعدا

لرسول الله ص، مَعَهُ خَمْسُونَ غُلَامًا مِنَ الأَوْسِ، مِنْهُمْ عُثْمَانُ ابن حَنِيفٍ- وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: كَانُوا خَمْسَةَ عَشَرَ- فَكَانَ يَعِدُ قُرَيْشًا أَنْ لَوْ قَدْ لَقِيَ مُحَمَّدًا لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ مِنْهُمْ رَجُلانِ، فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ، كَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيَهُمْ أَبُو عَامِرٍ فِي الأَحَابِيشِ وَعُبْدَانِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَنَادَى: يَا مَعْشَرَ الأَوْسِ، أَنَا أَبُو عَامِرٍ، قَالُوا: فَلا أَنْعَمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا يَا فَاسِقُ- وَكَانَ أَبُو عَامِرٍ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ الرَّاهِبَ، فسماه رسول الله ص الْفَاسِقَ- فَلَمَّا سَمِعَ رَدَّهُمْ عَلَيْهِ، قَالَ: لَقَدْ أَصَابَ قَوْمِي بَعْدِي شَرٌّ ثُمَّ قَاتَلَهُمْ قِتَالًا شديدا، ثم ارضخهم بِالْحِجَارَةِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لأَصْحَابِ اللِّوَاءِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ يُحَرِّضُهُمْ بِذَلِكَ عَلَى الْقِتَالِ: يَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، إِنَّكُمْ وُلِّيتُمْ لِوَاءَنَا يَوْمَ بَدْرٍ، فَأَصَابَنَا مَا قَدْ رَأَيْتُمْ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى النَّاسُ مِنْ قِبَلِ رَايَاتِهِمْ، إِذَا زَالَتْ زَالُوا، فَإِمَّا أَنْ تَكْفُونَا لِوَاءَنَا، وَإِمَّا أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فَسَنَكْفِيكُمُوهُ فَهَمُّوا بِهِ وَتَوَاعَدُوهُ، وَقَالُوا: نَحْنُ نُسْلِمُ إِلَيْكَ لِوَاءَنَا، سَتَعْلَمُ غَدًا إِذَا الْتَقَيْنَا كَيْفَ نَصْنَعُ! وَذَلِكَ الَّذِي أَرَادَ أَبُو سُفْيَانَ فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ، وَدَنَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، قَامَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ فِي النِّسْوَةِ اللَّوَاتِي مَعَها. وَأَخَذْنَ الدُّفُوفَ يَضْرِبْنَ خَلْفَ الرِّجَالِ وَيُحَرِّضْنَهُمْ، فَقَالَتْ هِنْدٌ فِيمَا تَقُولُ: إِنْ تُقْبِلُوا نُعَانِقْ ... وَنَفْرِشِ النَّمَارِقْ أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِقْ ... فِرَاقَ غَيْرِ وَامِقْ وَتَقُولُ: وَيْهَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ! ... وَيْهَا حُمَاةَ الأَدْبَارِ! ضَرْبًا بِكُلِّ بتار

وَاقْتَتَلَ النَّاسُ حَتَّى حَمِيَتِ الْحَرْبُ، وَقَاتَلَ أَبُو دُجَانَةَ حَتَّى أَمْعَنَ فِي النَّاسِ، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي رِجَالٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَصْرَهُ، وَصَدَقَهُمْ وَعْدَهُ، فَحَسُّوهُمْ بِالسُّيُوفِ حَتَّى كَشَفُوهُمْ، وَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ لا شَكَّ فِيهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَنْظُرُ إِلَى خَدَمِ هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ وَصَوَاحِبِهَا مُشَمِّرَاتٍ هوارب، ما دون اخذهن قليل كَثِيرٌ، إِذ مَالَتِ الرُّمَاةُ إِلَى الْعَسْكَرِ حِينَ كَشَفْنَا الْقَوْمَ عَنْهُ يُرِيدُونَ النَّهْبَ، وَخَلَّوْا ظُهُورَنَا لِلْخَيْلِ، فَأُتِينَا مِنْ أَدْبَارِنَا وَصَرَخَ صَارِخٌ: أَلا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ! فَانْكَفَأْنَا وَانْكَفَأَ عَلَيْنَا الْقَوْمُ، بَعْدَ أَنْ أَصَبْنَا أَصْحَابَ اللِّوَاءِ حَتَّى مَا يَدْنُو مِنْهُ أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ حَدَّثَنَا ابن حميد قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم، أن اللواء لم يزل صريعا حتى أخذته سمره بنت علقمة الحارثية، فرفعته لقريش، فلاثوا به، وكان اللواء مع صواب، غلام لبني أبي طلحة، حبشي، وكان آخر من أخذه منهم، فقاتل حتى قطعت يداه، ثم برك عليه، فأخذ اللواء بصدره وعنقه حتى قتل عليه، وهو يقول: اللهم هل أعذرت! فقال حسان بن ثابت في قطع يد صواب حين تقاذفوا بالشعر: فخرتم باللواء وشر فخر ... لواء حين رد إلى صواب جعلتم فخركم فيها لعبد ... من الأم من وطي عفر التراب

ظننتم والسفيه له ظنون ... وما إن ذاك من أمر الصواب بأن جلادنا يوم التقينا ... بمكة بيعكم حمر العياب أقر العين أن عصبت يداه ... وما إن تعصبان على خضاب حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سعيد، قال: حدثنا حبان ابن عَلِيٍّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: لَمَّا قَتَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَصْحَابَ الالويه، ابصر رسول الله ص جَمَاعَةً مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، فَقَالَ لِعَلِيٍّ: احْمِلْ عَلَيْهِمْ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ، فَفَرَّقَ جَمْعَهُمْ، وَقَتَلَ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْجُمَحِيَّ قَالَ: ثُمَّ أَبْصَرَ رسول الله ص جَمَاعَةً مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، فَقَالَ لِعَلِيٍّ: احْمِلْ عَلَيْهِمْ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ فَفَرَّقَ جَمَاعَتَهُمْ، وَقَتَلَ شَيْبَةَ بن مالك احد بنى عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذِهِ لَلْمُوَاسَاةُ، [فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: إِنَّهُ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: وَأَنَا مِنْكُمَا، قَالَ: فَسَمِعُوا صَوْتًا: لا سَيْفَ إِلا ذُو الْفَقَارِ ... وَلا فَتًى إِلا عَلِيٌّ ] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَلَمَّا أُتِيَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ خَلْفِهِمُ انْكَشَفُوا وَأَصَابَ مِنْهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْبَلاءِ أَثْلاثًا: ثُلُثٌ قَتِيلٌ، وَثُلُثٌ جَرِيحٌ، وَثُلُثٌ مُنْهَزِمٌ، وَقَدْ جَهَدَتْهُ الْحَرْبُ حَتَّى مَا يَدْرِي مَا يَصْنَعُ، وَأُصِيبَتْ رباعيه رسول الله ص السُّفْلَى، وَشُقَّتْ شَفَتُهُ،

وَكُلِمَ فِي وَجْنَتَيْهِ وَجَبْهَتِهِ فِي أُصُولِ شَعْرِهِ، وَعَلاهُ ابْنُ قُمَيْئَةَ بِالسَّيْفِ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ، وَكَانَ الَّذِي أَصَابَهُ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، كُسِرَتْ رَبَاعِيَةُ رسول الله ص وَشُجَّ، فَجَعَلَ الدَّمُ يَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ، وَجَعَلَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، [وَيَقُولُ: كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضَبُوا وَجْهَ نَبِيِّهِمْ بِالدَّمِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ!] فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجل: «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ» الآيَةَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: [وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص حِينَ غَشِيَهُ الْقَوْمُ: مَنْ رَجُلٌ يَشْرِي لَنَا نَفْسَهُ!] فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قال: حدثني مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ عَمْرِو بْنِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ، قَالَ: فَقَامَ زِيَادُ بْنُ السَّكَنِ فِي نَفَرٍ خَمْسَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: إِنَّمَا هُوَ عُمَارَةُ بْنُ زياد ابن السكن، فقاتلوا دون رسول الله ص رَجُلا، ثُمَّ رَجُلا، يُقْتَلُونَ دُونَهُ، حَتَّى كَانَ آخِرَهُمْ زِيَادٌ- أَوْ عُمَارَةُ بْنُ زِيَادِ بْنِ السَّكَنِ- فَقَاتَلَ حَتَّى أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ، ثُمَّ فَاءَتْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِئَةٌ حَتَّى أَجْهَضُوهُمْ عَنْهُ، فَقَالَ رسول الله ص: ادنوه منى، فادنوه منه، فوسده قَدَمَهُ، فَمَاتَ وَخَدُّهُ عَلَى قَدَمِ رَسُولِ اللَّهِ ص، وترس دون

رسول الله ص أَبُو دُجَانَةَ بِنَفْسِهِ يَقَعُ النَّبْلُ فِي ظَهْرِهِ وَهُوَ مُنْحَنٍ عَلَيْهِ، حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِ النَّبْلُ، وَرَمَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ دُونَ رَسُولِ الله ص، فَقَالَ سَعْدٌ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يُنَاوِلُنِي وَيَقُولُ: ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي! حَتَّى إِنَّهُ لَيُنَاوِلُنِي السَّهْمَ مَا فِيهِ نَصْلٌ، فَيَقُولُ: ارْمِ بِهِ! حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، ان رسول الله ص رَمَى عَنْ قَوْسِهِ حَتَّى انْدَقَّتْ سِيَتُهَا، فَأَخَذَهَا قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، فَكَانَتْ عِنْدَهُ، وَأُصِيبَتْ يَوْمَئِذٍ عَيْنُ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، حَتَّى وَقَعَتْ عَلَى وَجْنَتِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص رَدَّهَا بِيَدِهِ، فَكَانَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيْهِ وَأَحَدَّهُمَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَاتَلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ دُونَ رسول الله ص وَمَعَهُ لِوَاؤُهُ حَتَّى قُتِلَ، وَكَانَ الَّذِي أَصَابَهُ ابْنُ قُمَيْئَةَ اللَّيْثِيُّ. وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ رَسُولُ الله ص، فَرَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَ: قَتَلْتُ مُحَمَّدًا فَلَمَّا قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ ص اللِّوَاءَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَاتَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حَتَّى قَتَلَ أَرْطَأَةَ بْنَ عَبْدِ شُرَحْبِيلَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ، وَكَانَ أَحَدَ النَّفَرِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ اللِّوَاءَ، ثُمَّ مَرَّ بِهِ سِبَاعُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى الْغُبْشَانِيُّ- وَكَانَ يُكَنَّى بِأَبِي نِيَارٍ- فَقَالَ لَهُ حمزه بن عبد المطلب: هلم الى يا بن مُقَطِّعَةِ الْبُظُورِ- وَكَانَتْ أُمُّهُ أُمُّ أَنْمَارٍ مَوْلاةَ شُرَيْقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثَّقَفِيِّ، وَكَانَتْ خَتَّانَةً بِمَكَّةَ- فَلَمَّا الْتَقَيَا ضَرَبَهُ حَمْزَةُ فَقَتَلَهُ، فقال

وَحْشِيٌّ غُلامُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: وَاللَّهِ إِنِّي لانظر الى حمزه يهذ النَّاسَ بِسَيْفِهِ، مَا يَلِيقُ شَيْئًا يَمُرُّ بِهِ، مِثْلَ الْجَمَلِ الأَوْرَقِ، إِذْ تَقَدَّمَنِي إِلَيْهِ سِبَاعُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، فَقَالَ لَهُ حَمْزَةُ: هَلُمَّ الى يا بن مُقَطِّعَةِ الْبُظُورِ! فَضَرَبَهُ، فَكَأَنَّمَا أَخْطَأَ رَأْسَهُ، وَهَزَزْتُ حربتي حتى إذ رَضِيتُ مِنْهَا دَفَعْتُهَا عَلَيْهِ فَوَقَعَتْ فِي لُبَّتِهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ، وَأَقْبَلَ نَحْوِي، فَغَلَبَ فَوَقَعَ، فَأَمْهَلْتُهُ حَتَّى إِذَا مَاتَ جِئْتُ فَأَخَذْتُ حَرْبَتِي، ثُمَ تَنَحَّيْتُ إِلَى الْعَسْكِر، وَلَمْ يَكُنْ لِي بِشَيْءٍ حَاجَةٌ غَيْرَهُ وَقَدْ قَتَلَ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الأَقْلَحِ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مُسَافِعِ بْنِ طَلْحَةَ وَأَخَاهُ كِلابَ بْنَ طَلْحَةَ، كِلاهُمَا يُشْعِرُهُ سَهْمًا، فَيَأْتِي أُمَّهُ سِلافَةَ فَيَضَعَ رَأْسَهُ فِي حِجْرِهَا، فَتَقُولُ: يَا بُنَيَّ، مَنْ أَصَابَكَ؟ فَيَقُولُ: سَمِعْتُ رَجُلا حِينَ رَمَانِي يَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الأَقْلَحِ! فَتَقُولُ: أَقْلَحِيٌّ! فَنَذَرَتْ لِلَّهِ إِنِ اللَّهُ أَمْكَنَهَا مِنْ رَأْسِ عَاصِمٍ أَنْ تَشْرَبَ فِيهِ الخمر وكان عاصم قد عاهد الله الا يَمَسَّ مُشْرِكًا أَبَدًا وَلا يَمَسَّهُ. فَحَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَافِعٍ، أَخُو بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، قَالَ: انْتَهَى أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ، عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَطَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ فِي رِجَالٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَقَدْ أَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ: مَا يُجْلِسُكُمْ؟ قَالُوا: قُتِلَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: فما تصنعون بالحياه بعده؟ قوموا فموتوا كراما على ما مات عليه رسول الله ص ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقَوْمَ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَبِهِ سُمِّي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَقَدْ وَجَدْنَا بِأَنَسِ بْنِ

النَّضْرِ يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ ضَرْبَةً وَطَعْنَةً فَمَا عَرَفَهُ إِلا أُخْتُهُ، عَرَفَتْهُ بِحُسْنِ بَنَانِهِ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: كان أول من عرف رسول الله ص بعد الهزيمة وقول الناس: قتل رسول الله ص- كما حدثني ابن شهاب الزهري- كعب بن مالك، أخو بني سلمة، قال: عرفت عينيه تزهران تحت المغفر، فناديت: بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا! هذا رسول الله ص! فاشار الى رسول الله ص: أن أنصت فلما عرف المسلمون رسول الله ص نهضوا به، ونهض نحو الشعب، معه عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، والحارث بن الصمة، في رهط من المسلمين فلما أسند رسول الله ص في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: أين محمد! لا نجوت إن نجوت! فقال القوم: يا رسول الله، أيعطف عليه رجل منا؟ قال: دعوه، فلما دنا تناول رسول الله ص الحربة من الحارث بن الصمة- قال: يقول بعض الناس فيما ذكر لي: فلما أخذها رسول الله ص، انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض بها، ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مرارا. وكان أبي بن خلف- كما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ- يَلْقَى رسول الله ص بِمَكَّةَ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ عِنْدِي الْعُودَ، أَعْلِفُهُ كُلَّ يَوْمٍ فَرَقًا مِنْ ذُرَةٍ أَقْتُلُكَ عليه! فيقول

رسول الله ص: بَلْ أَنَا أَقْتُلُكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ، وَقَدْ خَدَشَهُ فِي عُنُقِهِ خَدْشًا غَيْرَ كَبِيرٍ، فَاحْتَقَنَ الدَّمُ، قَالَ: قَتَلَنِي وَاللَّهِ مُحَمَّدُ قَالُوا: ذَهَبَ وَاللَّهِ فُؤَادُكَ، وَاللَّهِ إِنْ بِكَ بَأْسٌ قَالَ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ بمكة قال لي: انا اقتلك، فو الله لَوْ بَصَقَ عَلَيَّ لَقَتَلَنِي فَمَاتَ عَدُوُّ اللَّهِ بِسَرَفٍ وَهُمْ قَافِلُونَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ. قَالَ: فلما انتهى رسول الله ص إِلَى فَمِ الشِّعْبِ، خَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ حَتَّى مَلأَ دِرْقَتَهُ مِنَ الْمِهْرَاسِ ثُمَّ جاء به الى رسول الله ص لِيَشْرَبَ مِنْهُ، فَوَجَدَ لَهُ رِيحًا فَعَافَهُ، وَلَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ، وَغَسَلَ عَنْ وَجْهِهِ الدَّمَ، وَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ دَمَى وَجْهَ نَبِيِّهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني صالح بن كيسان، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا حَرَصْتُ عَلَى قَتْلِ رَجُلٍ قَطُّ مَا حَرَصْتُ عَلَى قَتْلِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَإِنْ كَانَ مَا عَلِمْتُ لَسَيِّئَ الْخُلُقِ، مُبْغَضًا فِي قَوْمِهِ، وَلَقَدْ كفاني منه قول رسول الله ص: اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ دَمَى وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: أَتَى ابْنُ قُمَيْئَةَ الْحَارِثِيُّ احد بنى الحارث ابن عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، فَرَمَى رَسُولُ اللَّهِ ص بِحَجَرٍ، فَكَسَرَ أَنْفَهُ وَرَبَاعِيَتَهُ، وَشَجَّهُ فِي وَجْهِهِ، فَأَثْقَلَهُ وَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَدَخَلَ بَعْضُهُمُ الْمَدِينَةَ، وَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ فَوْقَ الْجَبَلِ إِلَى الصَّخْرَةِ، فَقَامُوا عليها، وجعل رسول الله ص يَدْعُو النَّاسَ: إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ!

إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ! فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ ثَلاثُونَ رَجُلا، فَجَعَلُوا يَسِيرُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يَقِفْ أَحَدٌ إِلا طَلْحَةَ وَسَهْلَ بْنَ حَنِيفٍ، فَحَمَاهُ طَلْحَةُ، فَرُمِيَ بِسَهْمٍ فِي يَدِهِ فَيَبِسَتْ يَدُهُ، وَأَقْبَلَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ، وَقَدْ حَلَفَ لَيَقْتُلَنَّ النبي ص، فَقَالَ: بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ، فَقَالَ: يَا كَذَّابُ، اين تفر! فحمل عليه فطعنه النبي ص فِي جَيْبِ الدِّرْعِ، فَجُرِحَ جُرْحًا خَفِيفًا، فَوَقَعَ يَخُورُ خُوَارَ الثَّوْرِ، فَاحْتَمَلُوهُ، وَقَالُوا: لَيْسَ بِكَ جِرَاحَةٌ، فَمَا يُجْزِعُكَ؟ قَالَ: أَلَيْسَ قَالَ: لأَقْتُلَنَّكَ! لَوْ كَانَتْ بِجَمِيعِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ لَقَتَلَتْهُمْ! فَلَمْ يَلْبَثْ إِلا يَوْمًا أَوْ بَعْضُ يَوْمٍ حَتَّى مَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْجُرْحِ. وَفَشَا فِي النَّاسِ ان رسول الله ص قَدْ قُتِلَ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الصَّخْرَةِ: لَيْتَ لَنَا رَسُولا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَيَأْخُذُ لَنَا أَمَنَةً مِنْ أَبِي سُفْيَانَ! يَا قَوْمُ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَارْجِعُوا إِلَى قَوْمِكُمْ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوكُمْ فَيَقْتُلُوكُمْ. قَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: يَا قَوْمُ إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ قُتِلَ، فَإِنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ لَمْ يُقْتَلْ فَقَاتِلُوا عَلَى مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا يَقُولُ هَؤُلاءِ، وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ هَؤُلاءِ! ثُمَّ شَدَّ بِسَيْفِهِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ ص يَدْعُو النَّاسَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى أَصْحَابِ الصَّخْرَةِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ وَضَعَ رَجُلٌ سَهْمًا فِي قَوْسِهِ، فَأَرَادَ أَنْ يَرْمِيَهُ فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله ص حيا، وفرح رسول الله ص حِينَ رَأَى أَنَّ فِي أَصْحَابِهِ مَنْ يَمْتَنِعُ به، فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله ص ذَهَبَ عَنْهُمُ الْحَزَنُ، فَأَقْبَلُوا يَذْكُرُونَ الْفَتْحَ، وَمَا فَاتَهُمْ مِنْهُ، وَيَذْكُرُونَ أَصْحَابَهُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَارْجِعُوا إِلَى قَوْمِكُمْ: «وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ

وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» . فَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ نَسَوْا ذَلِكَ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، وأهمهم ابو سفيان، فقال رسول الله ص: لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا، اللَّهُمَّ إِنْ تُقْتَلْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ لا تُعْبَدُ! ثُمَّ نَدَبَ أَصْحَابَهُ، فَرَمَوْهُمْ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى أَنْزَلُوهُمْ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَئِذٍ: اعْلُ هُبَلُ، حَنْظَلَةُ بِحَنْظَلَةَ، وَيَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ حَنْظَلَةَ بْنَ الرَّاهِبِ، وَكَانَ جُنُبًا فَغَسَّلَتْهُ الْمَلائِكَةُ، وَكَانَ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَنَا الْعُزَّى وَلا عُزَّى لَكُمْ! [فَقَالَ رَسُولُ الله ص لِعُمَرَ: قُلِ: اللَّهُ مَوْلانَا وَلا مَوْلَى لَكُمْ] فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَفِيكُمْ مُحَمَّدٌ! أَمَا إِنَّهَا قَدْ كَانَتْ فِيكُمْ مُثْلَةٌ، مَا أَمَرْتُ بِهَا وَلا نَهَيْتُ عَنْهَا، وَلا سَرَّتْنِي وَلا سَاءَتْنِي، فَذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِشْرَافَ أَبِي سُفْيَانَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: «فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ» ، وَالْغَمُّ الأَوَّلُ مَا فَاتَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَتْحِ، وَالْغَمُّ الثَّانِي إِشْرَافُ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ، «لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ» من الغنيمه «وَلا ما أَصابَكُمْ» من القتل حين تَذْكُرُونَ فَشَغَلَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ، فَإِنَّهُ قَالَ- فِيمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنْهُ- بَيْنَا رسول الله ص فِي الشِّعْبِ، وَمَعَهُ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنْ أَصْحَابِهِ إِذْ عَلَتْ عَالِيَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ الْجَبَلَ، فَقَالَ رسول الله ص: اللَّهُمَّ إِنَّهُ لا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا، فَقَاتَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَرَهْطٌ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى أَهْبَطُوهُمْ عَنِ الْجَبَلِ، وَنَهَضَ رَسُولُ الله ص إِلَى صَخْرَةٍ مِنَ الْجَبَلِ لِيَعْلُوهَا وَقَدْ كَانَ بدن رسول

الله ص، وظاهر بَيْنَ دِرْعَيْنِ، فَلَمَّا ذَهَبَ لِيَنْهَضَ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَجَلَسَ تَحْتَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَنَهَضَ حَتَّى اسْتَوَى عَلَيْهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدٌ: قَالَ: قَالَ رسول الله ص، كَمَا حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الزُّبَيْرِ، [قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله ص يَقُولُ يَوْمَئِذٍ: أَوْجَبَ طَلْحَةُ حِينَ صَنَعَ بِرَسُولِ اللَّهِ مَا صَنَعَ] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ كان الناس انهزموا عن رسول الله ص، حَتَّى انْتَهَى بَعْضُهُمْ إِلَى الْمنقَّى دُونَ الأَعْوَصِ، وَفَرَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَعُقْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ وَسَعْدُ بْنُ عُثْمَانَ رَجُلانِ مِنَ الأَنْصَارِ، حَتَّى بَلَغُوا الْجَلْعَبِ جَبَلًا بِنَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ مِمَّا يَلِي الأَعْوَصَ، فَأَقَامُوا بِهِ ثَلَاثًا ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رسول الله ص، فزعموا ان رسول الله ص، قَالَ لَهُمْ: لَقَدْ ذَهَبْتُمْ فِيهَا عريضَةً. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ كَانَ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ الْغَسِيلُ، الْتَقَى هُوَ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَلَمَّا اسْتَعْلاهُ حَنْظَلَةُ رَآهُ شَدَّادُ بْنُ الأَسْوَدِ- وَكَانَ يُقَالُ لَهُ ابْنُ شَعُوبٍ- قَدْ عَلا أَبَا سُفْيَانَ، فَضَرَبَهُ شَدَّادٌ فَقَتَلَهُ [فَقَالَ رسول الله ص: إِنَّ صَاحِبَكُمْ- يَعْنِي حَنْظَلَةَ- لَتُغَسِّلُهُ الْمَلائِكَةُ فَسَلُوا أَهْلَهُ: مَا شَأْنُهُ؟ فَسُئِلَتْ صَاحِبَتُهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ وَهُوَ جُنُبٌ حِينَ سَمِعَ الْهَائِعَةَ، فَقَالَ رَسُولُ الله ص: لذلك غسلته الملائكة،] فقال شداد ابن الأَسْوَدِ فِي قَتْلِهِ حَنْظَلَةَ: لأَحْمِيَنَّ صَاحِبِي وَنَفْسِي ... بِطَعْنَةٍ مِثْلَ شُعَاعِ الشَّمْسِ

وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَهُوَ يَذْكُرُ صَبْرَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَمُعَاوَنَةَ ابْنِ شعُوبٍ شَدَّادِ بْنِ الأَسْوَدِ إِيَّاهُ عَلَى حَنْظَلَةَ: وَلَوْ شِئْتُ نَجَّتْنِي كُميتٌ طِمِرَّة ... وَلَمْ أَحْمِلِ النَّعْمَاءَ لابْنِ شَعُوبٍ فَمَا زَالَ مُهْرِي مُزْجَرَ الْكَلْبِ مِنْهُمْ ... لَدَى غَدْوَةً حَتَّى دَنَتْ لِغُرُوبٍ أُقَاتِلُهُمْ وَأَدْعِي يال غَالِبٍ ... وَأَدْفَعُهُمْ عَنِّي بِرُكْنِ صَلِيبٍ فبكي ولا ترعي مقالة عاذل ... ولا تسأمي من عبرة ونحيب أباك وإخوانا له قد تتابعوا ... وحق لهم من عبرة بنصيب وسلى الذي قد كان في النفس أنني ... قتلت من النجار كل نجيب ومن هاشم قرما نجيبا ومصعبا ... وكان لدى الهيجاء غير هيوب ولو أنني لم أشف منهم قرونتي ... لكانت شجى في القلب ذات ندوب فآبوا وقد أودى الحلائب منهم ... لهم خدب من مغبط وكئيب أصابهم من لم يكن لدمائهم ... كفيا ولا في خطة بضريب فأجابه حسان بن ثابت فقال: ذكرت القروم الصيد من آل هاشم ... ولست لزور قلته بمصيب أتعجب أن أقصدت حمزة منهم ... نجيبا وقد سميته بنجيب ألم يقتلوا عمرا وعتبة وابنه ... وشيبة والحجاج وابن حبيب!

غداة دعا العاصي عليا فراعه ... بضربة عضب بله بخضيب وقال شداد بن الأسود، يذكر يده عند أبي سفيان بن حرب فيما دفع عنه: ولولا دفاعى يا بن حرب ومشهدي ... لألفيت يوم النعف غير مجيب ولولا مكري المهر بالنعف قرقرت ... ضباع عليه او ضراء كليب وقال الحارث بن هشام يجيب أبا سفيان في قوله: وما زال مهري مزجر الكلب منهم. وظن أنه يعرض به إذ فر يوم بدر: وإنك لو عاينت ما كان منهم ... لأبت بقلب ما بقيت نخيب لدى صحن بدر أو لقامت نوائح ... عليك، ولم تحفل مصاب حبيب جزيتهم يوما ببدر كمثله ... على سابح ذي ميعة وشبيب قال أبو جعفر: وقد وقفت هند بنت عتبة- فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني صالح بن كيسان- والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى من اصحاب رسول الله ص، يجدعن الآذان والأنوف، حتى اتخذت هند من آذان الرجال وآنفهم خدما وقلائد، وأعطت خدمها وقلائدها وقرطتها وحشيا، غلام جبير بن مطعم، وبقرت عن كبد حمزة

فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها ثم علت على صخرة مشرفة، فصرخت بأعلى صوتها بما قالت من الشعر حين ظفروا بما أصابوا من اصحاب رسول الله ص. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني صالح بْنُ كَيْسَانَ، أَنَّهُ حَدَّثَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخطاب قال لحسان: يا بن الْفُرَيْعَةِ لَوْ سَمِعْتَ مَا تَقُولُ هِنْدٌ وَرَأَيْتَ أَشَرَهَا، قَائِمَةً عَلَى صَخْرَةٍ تَرْتَجِزُ بِنَا، وَتَذْكُرُ مَا صَنَعَتْ بِحَمْزَةَ! فَقَالَ لَهُ حَسَّانُ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَنْظُرُ إِلَى الْحَرْبَةِ تَهْوِي وَأَنَا عَلَى رَأْسٍ فَارِعٍ- يَعْنِي أُطُمَةً- فَقُلْتُ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَسِلاحٌ مَا هِيَ بِسِلاحِ الْعَرَبِ، وَكَأَنَّهَا إِنَّمَا تَهْوِي إِلَى حَمْزَةَ، وَلا أَدْرِي أَسْمِعْنِي بَعْضَ قَوْلِهَا أكفيكُمُوهَا، قَالَ: فَأَنْشَدَهُ عُمَرُ بَعْضُ مَا قَالَتْ، فَقَالَ حَسَّانُ يَهْجُو هِنْدًا: أَشِرَتْ لِكَاعُ وَكَانَ عَادَتُهَا ... لُؤْمًا إِذَا أَشِرَتْ مَعَ الْكُفْرِ لَعَنَ الإِلَهُ وَزَوْجَهَا مَعَهَا ... هِنْدَ الْهُنُودِ عَظِيمَةَ الْبَظْرِ أَخَرَجْتِ مرقصة إلى أحد ... في القوم مقتبة على بكر بكر ثفال لا حراك به ... لا عن معاتبة ولا زجر وعصاك إستك تتقين بها ... دقي العجاية هند بالفهر قرحت عجيزتها ومشرجها ... من دأبها نصا على القتر

ظلت تداويها زميلتها ... بالماء تنضحه وبالسدر أخرجت ثائرة مبادرة ... بأبيك وابنك يوم ذي بدر وبعمك المستوه في ردع ... وأخيك منعفرين في الجفر ونسيت فاحشة أتيت بها ... يا هند، ويحك سبة الدهر! فرجعت صاغرة بلا ترة ... منا ظفرت بها ولا نصر زعم الولائد أنها ولدت ... ولدا صغيرا كان من عهر قال أبو جعفر: ثم إن أبا سفيان بن حرب أشرف على القوم- فِيمَا حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بن المقدام، قال: حدثنا إسرائيل. وحدثنا ابن وكيع، قال: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَشْرَفَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ فقال رسول الله ص: لا تُجِيبُوهُ، مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ ثَلاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: لا تُجِيبُوهُ، ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الخطاب؟ ثلاثا، فقال رسول الله ص: لا تُجِيبُوهُ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلاءِ فَقَدْ قُتِلُوا، لَوْ كَانُوا فِي الأَحْيَاءِ لأَجَابُوا، فَلَمْ يَمْلِكْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ نَفْسَهُ أَنْ قَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، قَدْ أَبْقَى اللَّهُ لَكَ مَا يُخْزِيكَ! فَقَالَ: اعْلُ هُبَلُ! اعْلُ هُبَلُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: أَجِيبُوهُ، قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ! قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَلا لَنَا الْعُزَّى وَلا عُزَّى لَكُمْ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: أجيبوه، قالوا: ما نقول؟ قُولُوا: اللَّهُ مَوْلانَا وَلا مَوْلَى لَكُمْ! قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَوْمٌ

بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالْحَرْبُ سِجَالٌ، أَمَا إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ فِي الْقَوْمِ مُثْلا لَمْ آمُرُ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ فِي حَدِيثِهِ: لَمَّا أَجَابَ عُمَرُ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ: هَلُمَّ يَا عُمَرُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله ص: إِيتِهِ فَانْظُرْ مَا شَأْنُهُ؟ فَجَاءَهُ فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا عُمَرُ، أَقَتَلْنَا مُحَمَّدًا؟ فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ لا، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ كَلامَكَ الآنَ، فَقَالَ: أَنْتَ أَصْدَقُ عِنْدِي مِنَ ابْنِ قَمِيئَةَ وَأَبَرُّ، لِقَوْلِ ابْنِ قَمِيئَةَ لَهُمْ: إِنِّي قَتَلْتُ مُحَمَّدًا ثُمَّ نَادَى أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِي قَتْلاكُمْ مُثُلٌ وَاللَّهِ مَا رَضِيتُ وَلا سَخَطْتُ، وَلا نَهَيْتُ وَلا أَمَرْتُ. وَقَدْ كَانَ الْحُلَيْسُ بْنُ زَبَّانَ أَخُو بَنِي الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ الأَحَابِيشِ، قَدْ مَرَّ بِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَهُوَ يَضْرِبُ فِي شِدْقِ حَمْزَةَ بِزُجِّ الرُّمْحِ، وَهُوَ يَقُولُ: ذُقْ عُقَقُ! فَقَالَ الْحُلَيْسُ: يَا بَنِي كِنَانَةَ، هَذَا سَيِّدُ قُرَيْشٍ يصنع بابن عمه كما تَرَوْنَ لَحْمًا! فَقَالَ: اكْتُمْهَا، فَإِنَّهَا كَانَتْ زَلَّةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ نَادَى: إِنَّ مَوْعِدَكُمْ بَدْرٌ لِلْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَقَالَ رَسُولُ الله ص لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: قُلْ نَعَمْ هِيَ بَيْنَنَا وبينك موعد. ثم بعث رسول الله ص على بن ابى طالب ع، فَقَالَ: اخْرُجْ فِي آثَارِ الْقَوْمِ فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُونَ، وَمَاذَا يُرِيدُونَ! فَإِنْ كَانُوا قَدِ اجْتَنَبُوا الْخَيْلَ، وَامَتَطَوُا الإِبِلَ، فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ مَكَّةَ، وَإِنْ رَكِبُوا الْخَيْلَ، وَسَاقُوا الإِبِلَ، فَهُمْ يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ، فو الذى نفسي بيده، لئن أرادوها لَأَسِيرَنَّ إِلَيْهِمْ فِيهَا ثُمَّ لأُنَاجِزَنَّهُمْ قَالَ عَلِيٌّ: فَخَرَجْتُ فِي آثَارِهِمْ أَنْظُرُ مَاذَا

يَصْنَعُونَ، فَلَمَّا اجْتَنَبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوُا الإِبِلَ تَوَجَّهُوا الى مكة، وقد كان رسول الله ص قَالَ: أَيَّ ذَلِكَ كَانَ فَأَخْفِهِ حَتَّى تَأْتِيَنِي قال على ع: فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ قَدْ تَوَجَّهُوا إِلَى مَكَّةَ أَقْبَلْتُ أَصِيحُ، مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَكْتُمَ الَّذِي أَمَرَنِي به رسول الله ص لِمَا بِي مِنَ الْفَرَحِ، إِذْ رَأَيْتُهُمْ انْصَرَفُوا إِلَى مَكَّةَ عَنِ الْمَدِينَةِ. وَفَرَغَ النَّاسُ لِقَتْلاهُمْ فقال رسول الله ص- كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْمَازِنِيِّ أَخِي بَنِي النَّجَّارِ، أَنَّ رسول الله ص، قَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَنْظُرُ لِي مَا فَعَلَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ؟ - وَسَعْدٌ أَخُو بَنِي الْحَارِثَ بْنِ الْخَزْرَجِ- أَفِي الأَحْيَاءِ هُوَ أَمْ فِي الأَمْوَاتِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَا أَنْظُرُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فَعَلَ، فَنَظَرَ فوجده جريحا في القتلى به رمق، قال: فقلت له: ان رسول الله ص أَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ لَهُ: أَفِي الأَحْيَاءِ أَنْتَ أَمْ فِي الأَمْوَاتِ؟ قَالَ: فَأَنَا فِي الأَمْوَاتِ، أَبْلِغْ رَسُولَ اللَّهِ عَنِّي السَّلامَ، وَقُلْ لَهُ: ان سعد ابن الرَّبِيعِ يَقُولُ لَكَ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرَ مَا جُزِيَ نَبِيٌّ عَنْ أُمَّتِهِ، وَأَبْلِغْ عَنِّي قَوْمَكَ السَّلامُ، وَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ سَعْدَ بْنَ الرَّبِيعِ يَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ الله ان خلص الى نبيكم ص وَفِيكُمْ عَيْنٌ تَطْرُفُ ثُمَّ لَمْ أَبْرَحْ حَتَّى مات، فجئت رسول الله ص فاخبرته خبره وخرج رسول الله ص- فِيمَا بَلَغَنِي- يَلْتَمِسُ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَوَجَدَهُ بِبَطْنِ الْوَادِي قَدْ بُقِرَ بَطْنُهُ عَنْ كَبِدِهِ، وَمُثِّلَ بِهِ، فَجُدِعَ أَنْفُهُ وَأُذُنَاهُ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إِسْحَاقَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزبير، [ان رسول الله ص حِينَ رَأَى بِحَمْزَةَ مَا رَأَى، قَالَ: لَوْلا أَنْ تَحْزَنَ صَفِيَّةُ أَوْ تَكُونَ سُنَّةً مِنْ بَعْدِي لَتَرَكْتُهُ حَتَّى يَكُونَ فِي أَجْوَافِ السِّبَاعِ وَحَوَاصِلِ الطَّيْرِ، وَلَئِنْ أَنَا أَظْهَرَنِي اللَّهُ عَلَى قُرَيْشٍ فِي مَوْطِنٍ مِنَ الْمَوَاطِنِ لأُمَثِّلَنَّ بِثَلاثِينَ رَجُلا مِنْهُمْ،] فَلَمَّا رَأَى

المسلمون حزن رسول الله ص وَغَيْظَهُ عَلَى مَا فُعِلَ بِعَمِّهِ، قَالُوا: وَاللَّهِ لَئِنْ ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ لَنُمَثِّلَنَّ بِهِمْ مُثْلَةً لَمْ يُمَثِّلْهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ بِأَحَدٍ قَطُّ!. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: أَخْبَرَنِي بُرَيْدَةُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ فَرْوَةَ الأَسْلَمِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ سَلَمَةُ: وحدثني مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: وحدثني الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ الله ص وَقَوْلِ أَصْحَابِهِ: «وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ» ، الى آخر السورة، فعفا رسول الله ص وَصَبَرَ وَنَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَقْبَلَتْ- فِيمَا بَلَغَنِي- صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لِتَنْظُرَ إِلَى حَمْزَةَ- وَكَانَ أَخَاهَا لأَبِيهَا وَأُمِّهَا-[فقال رسول الله ص لابْنِهَا الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ: الْقَهَا فَارْجِعْهَا، لا تَرَى مَا بِأَخِيهَا] فَلَقِيَهَا الزُّبَيْرُ فَقَالَ لَهَا: يا أمه، ان رسول الله ص يَأْمُرُكِ أَنْ تَرْجِعِي، فَقَالَتْ: وَلِمَ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ مُثِّلَ بِأَخِي وَذَلِكَ فِي اللَّهِ قَلِيلٌ! فَمَا أَرْضَانَا بِمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ! لأَحْتَسِبَنَّ وَلأَصْبِرَنَّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمَّا جَاءَ الزُّبَيْرُ رسول الله ص فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، قَالَ: خَلِّ سَبِيلَهَا، فَأَتَتْهُ فَنَظَرَتْ إِلَيْهِ وَصَلَّتْ عَلَيْهِ، وَاسْتَرْجَعَتْ وَاسْتَغْفَرَتْ لَهُ، ثُمَّ امر رسول الله ص بِهِ فَدُفِنَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَزَعَمَ بَعْضُ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ- وَكَانَ لأُمَيْمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ خَالُهُ حَمْزَةَ، وَكَانَ قَدْ مُثِّلَ بِهِ كَمَا مُثِّلَ بِحَمْزَةَ، الا انه

لَمْ يُبْقَرْ عَنْ كَبِدِهِ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص دَفَنَهُ مَعَ حَمْزَةَ فِي قَبْرِهِ، وَلَمْ أَسْمَعْ ذَلِكَ إِلا عَنْ أَهْلِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني عاصم بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، قَالَ: لما خرج رسول الله ص إِلَى أُحُدٍ وَقَعَ حُسَيْلُ بْنُ جَابِرٍ- وَهُوَ الْيَمَانُ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ الْيَمَانِ- وَثَابِتُ بْنُ وَقْشِ بْنِ زَعُورَاءَ فِي الآطَامِ مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَهُمَا شَيْخَانِ كَبِيرَانِ: لا ابالك! ما تنتظر؟ فو الله إِنْ بَقِيَ لِوَاحِدٍ مِنَّا مِنْ عُمْرِهِ إِلا ظِمْءُ حِمَارٍ، إِنَّمَا نَحْنُ هَامَةٌ الْيَوْمَ أَوْ غَدٍ، أَفَلا نَأْخُذُ أَسْيَافَنَا، ثُمَّ نَلْحَقَ بِرَسُولِ الله ص، لَعَلَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَرْزُقُنَا شَهَادَةً مَعَ رسول الله ص! فَأَخَذَا أَسْيَافَهُمَا، ثُمَّ خَرَجَا حَتَّى دَخَلا فِي النَّاسِ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِمَا، فَأَمَّا ثَابِتُ بْنُ وَقْشٍ فَقَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، وَأَمَّا حُسَيْلُ بْنُ جَابِرٍ، الْيَمَانُ، فَاخْتَلَفَ عَلَيْهِ أَسْيَافُ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلُوهُ، وَلا يَعْرِفُونَهُ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَبِي! قَالُوا: وَاللَّهِ إِنْ عَرَفْنَاهُ. وَصَدَقُوا، قَالَ حُذَيْفَةُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وهو ارحم الراحمين! فاراد رسول الله ص أَنْ يَدِيَهُ فَتَصَدَّقَ حُذَيْفَةُ بِدِيَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فزادته عند رسول الله ص خيرا. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قَالَ: قَالَ محمد بْن إِسْحَاقَ: حدثني عاصم بْن عمر بْن قتادة، أن رجلا منهم كان يدعى حاطب بْن أمية بْن رافع، وكان له ابن يقال له يزيد بْن حاطب، أصابته جراحة يوم أحد: فأتي به إلى دار قومه وهو يموت، فاجتمع إليه أهل الدار، فجعل المسلمون يقولون من الرجال والنساء: ابشر يا بن حاطب بالجنة،

قَالَ: وكان حاطب شيخا قد عسا فِي الجاهلية، فنجم يومئذ نفاقه، فَقَالَ: بأي شيء تبشرونه، أبجنة من حرمل! غررتم والله هذا الغلام من نفسه، وفجعتموني بِهِ! حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بن عمر بن قَتَادَةَ، قَالَ: كَانَ فِينَا رَجُلٌ أُتِيَ لا يُدْرَى مِنْ أَيْنَ هُوَ، يُقَالُ لَهُ قُزْمَانُ، فكان رسول الله ص يَقُولُ إِذَا ذُكِرَ لَهُ: إِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، قَاتَلَ قِتَالا شَدِيدًا، فَقَتَلَ هُوَ وَحْدَهُ ثَمَانِيَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَوْ تِسْعَةً، وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا ذَا بَأْسٍ، فَأَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةَ، فَاحْتُمِلَ إِلَى دَارِ بَنِي ظُفَرَ قَالَ: فَجَعَلَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَبْلَيْتَ الْيَوْمَ يَا قُزْمَانُ، فَأَبْشِرْ! قَالَ: بم ابشر! فو الله إِنْ قَاتَلْتُ إِلا عَلَى أَحْسَابِ قَوْمِي، وَلَوْلا ذَلِكَ مَا قَاتَلْتُ، فَلَمَّا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ جِرَاحَتُهُ، أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَقَطَعَ رَوَاهِشَهُ فَنَزَفَهُ الدم فمات، فاخبر بذلك رسول الله ص، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا! وَكَانَ مِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ مُخَيْرِيقٌ الْيَهُودِيُّ، وَكَانَ احد بنى ثعلبه ابن الْفِطْيَونِ، لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمَ قَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ نَصْرَ مُحَمَّدٍ عَلَيْكُمْ لَحَقٌّ قَالُوا: إِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ السَّبْتِ، فَقَالَ: لا سَبْتَ، فَأَخَذَ سَيْفَهُ وَعُدَّتَهُ، وَقَالَ: إِنْ أُصِبْتُ فَمَالِي لِمُحَمَّدٍ يَصْنَعُ فِيهِ مَا شَاءَ ثُمَّ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ص فَقَاتَلَ مَعَهُ حَتَّى قُتِلَ، [فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص- فِيمَا بَلَغَنِي: مُخَيْرِيقٌ خَيْرُ يَهُودَ] . حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن

إِسْحَاقَ، قَالَ: وَقَدِ احْتَمَلَ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَتْلاهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ فَدَفَنُوهُمْ بِهَا، ثُمَّ نَهَى رسول الله ص عَنْ ذَلِكَ، [وَقَالَ: ادْفِنُوهُمْ حَيْثُ صُرِعُوا] . حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، [أَنَّ رسول الله ص قَالَ يَوْمَئِذٍ حِينَ أَمَرَ بِدَفْنِ الْقَتْلَى: انْظُرُوا عَمْرَو بْنَ الْجَمُوحِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ فَإِنَّهُمَا كَانَا مُتَصَافِيَيْنِ فِي الدُّنْيَا، فَاجْعَلُوهُمَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ] قَالَ: فَلَمَّا احْتَفَرَ مُعَاوِيَةُ الْقَنَاةَ أُخْرِجَا وَهُمَا يَنْثَنِيَانِ كَأَنَّمَا دُفِنَا بالأمس. قال: ثم انصرف رسول الله ص رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَقِيَتْهُ حِمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ- كَمَا ذُكِرَ لِي- فَنُعِيَ لَهَا أَخُوهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، فَاسْتَرْجَعَتْ وَاسْتَغْفَرَتْ لَهُ، ثُمَّ نُعِيَ لَهَا خَالُهَا حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَاسْتَرْجَعَتْ وَاسْتَغْفَرَتْ لَهُ، ثُمَّ نُعِيَ لَهَا زَوْجُهَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، فَصَاحَتْ وَوَلْوَلَتْ، [فَقَالَ رَسُولُ الله ص: إِنَّ زَوْجَ الْمَرْأَةِ مِنْهَا لَبِمَكَانٍ، لِمَا رَأَى مِنْ تَثَبُّتِهَا عِنْدَ أَخِيهَا وَخَالِهَا، وَصِيَاحِهَا عَلَى زوجها] . قال: ومر رسول الله ص بِدَارٍ مِنْ دُورِ الأَنْصَارِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الاشهل وظفر، فَسَمِعَ الْبُكَاءَ وَالنَّوَائِحَ عَلَى قَتْلاهُمْ، فَذَرَفَتْ عَيْنَا رسول الله ص فَبَكَى [ثُمَّ قَالَ: لَكِنَّ حَمْزَةَ لا بَوَاكِيَ لَهُ!] فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ إِلَى دَارِ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ امر نِسَاءَهُمْ أَنْ يَتَحَزَّمْنَ ثُمَّ يَذْهَبْنَ فَيَبْكِينَ عَلَى عم رسول الله ص. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ،

قال: مر رسول الله ص بِامْرَأَةٍ مِنْ بَنِي دِينَارٍ، وَقَدْ أُصِيبَ زَوْجُهَا وأخوها وأبوها مع رسول الله ص بِأُحُدٍ، فَلَمَّا نُعُوا لَهَا قَالَتْ: فَمَا فَعَلَ رسول الله ص؟ قَالُوا: خَيْرًا يَا أُمَّ فُلانٍ، هُوَ بِحَمْدِ الله كما تحبين، قالت: أرنيه حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَأُشِيرَ لَهَا إِلَيْهِ حَتَّى إِذَا رَأَتْهُ قَالَتْ: كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعْدَكَ جَلَلٌ! قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَلَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ ص إِلَى أَهْلِهِ نَاوَلَ سَيْفَهُ ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ، فَقَالَ: اغسلي عن هذا دمه يا بنيه، وناولها على ع سيفه، وقال: وهذا فاغسلي عنه، فو الله لقد صدقنى اليوم فقال رسول الله ص: لَئِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ الْقِتَالَ لَقَدْ صَدَقَ مَعَكَ سَهْلُ بْنُ حَنِيفٍ، وَأَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ وَزَعَمُوا أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ حين اعطى فاطمه ع سَيْفَهُ قَالَ: أَفَاطِمُ هَاكَ السَّيْفُ غَيْرُ ذَمِيمِ ... فَلَسْتُ بِرِعْدِيدٍ وَلا بِمُلِيمِ لَعَمْرِي لَقَدْ قَاتَلْتُ فِي حُبِّ أَحْمَدَ ... وَطَاعَةِ رَبٍّ بِالْعِبَادِ رَحِيمِ وسيفي بكفى كالشهاب اهزه ... اجذبه مِنْ عَاتِقٍ وَصَمِيمِ فَمَا زِلْتُ حَتَّى فَضَّ رَبِّي جُمُوعَهُمْ ... وَحَتَّى شَفَيْنَا نَفْسَ كُلِّ حَلِيمِ وَقَالَ أَبُو دُجَانَةَ حِينَ أَخَذَ السَّيْفَ مِنْ يد رسول الله ص فَقَاتَلَ بِهِ قِتَالا شَدِيدًا- وَكَانَ يَقُولُ: رَأَيْتُ إِنْسَانًا يَخْمِشُ النَّاسَ خَمْشًا شَدِيدًا فَصَمَدْتُ لَهُ، فَلَمَّا حَمَلْتُ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ وَلْوَلَتْ، فَإِذَا امْرَأَةٌ، فاكرمت سيف رسول الله ص أَنْ أَضْرِبَ بِهِ امْرَأَةً- وَقَالَ أَبُو دُجَانَةَ: أَنَا الَّذِي عَاهَدَنِي خَلِيلِي ... وَنَحْنُ بِالسَّفْحِ لَدَى النَّخِيلِ أَلا أَقُومَ الدَّهْرَ فِي الْكُيُولِ ... اضْرِبْ بسيف الله والرسول

غزوه حمراء الأسد

غزوه حمراء الأسد وكان رجوع رسول الله ص إِلَى الْمَدِينَةِ يَوْمَ السَّبْتِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْوَقْعَةِ بِأُحُدٍ، فحدثنا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عبد الله، عن عكرمة، قَالَ: كان يوم أحد يوم السبت، للنصف من شوال، فلما كان الغد من يوم أحد- وذلك يوم الأحد لست عشرة ليلة خلت من شوال- اذن مؤذن رسول الله ص فِي الناس بطلب العدو، وأذن مؤذنه: ألا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس فكلمه جابر بْن عبد الله بْن عمرو بن حزام، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع، وقال لي: يا بني، إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مَعَ رَسُولِ الله ص على نفسي، فتخلف على أخواتك فتخلفت عليهن فاذن له رسول الله ص، فخرج معه، وانما خرج رسول الله ص مرهبا للعدو، وليبلغهم أنه خرج فِي طلبهم، ليظنوا به قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى عَائِشَةَ بِنْتِ عُثْمَانَ، أَنَّ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله ص مِنْ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ كَانَ شَهِدَ أُحُدًا، قال: شهدت مع رسول الله ص أَنَا وَأَخٌ لِي، فَرَجَعْنَا جَرِيحَيْنِ، فَلَمَّا أَذَّنَ مؤذن رسول الله ص بِالْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ، قُلْتُ لأَخِي وَقَالَ لي: أتفوتنا غزوه مع رسول الله ص! وَاللَّهِ مَا لَنَا مِنْ دَابَّةٍ نَرْكَبُهَا، وَمَا مِنَّا إِلا جَرِيحٌ ثَقِيلٌ، فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله ص- وَكُنْتُ أَيْسَرَ جُرْحًا مِنْهُ- فَكُنْتُ إِذَا غُلِبَ حَمَلْتُهُ عَقِبَةً وَمَشَى عَقِبَةً، حَتَّى

انْتَهَيْنَا إِلَى مَا انْتَهَى إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، فَخَرَجَ رسول الله ص، حَتَّى انْتَهَى إِلَى حَمْرَاءِ الأَسَدِ، وَهِيَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ، فَأَقَامَ بِهَا ثَلاثًا: الاثْنَيْنِ، وَالثُّلاثَاءُ، وَالأَرْبِعَاءُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقَدْ مَرَّ بِهِ- فِيمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ محمد بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ- مَعْبَدٌ الْخُزَاعِيُّ، وَكَانَتْ خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبه رسول الله ص بِتُهَامَةَ، صَفْقَتُهُمْ مَعَهُ، لا يُخْفُونَ عَلَيْهِ شَيْئًا كَانَ بِهَا- وَمَعْبَدٌ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ- فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ عَزَّ عَلَيْنَا مَا أَصَابَكَ فِي أَصْحَابِكَ، وَلَوَدِدْنَا أَنَّ اللَّهَ كَانَ أعفاك فيهم! ثم خرج من عند رسول الله ص بِحَمْرَاءِ الأَسَدِ، حَتَّى لَقِيَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَمَنْ مَعَهُ بِالرَّوْحَاءِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا الرَّجْعَةَ الى رسول الله ص واصحابه، وقالوا: أصبنا حد أَصْحَابِهِ وَقَادَتِهِمْ وَأَشْرَافِهِمْ، ثُمَّ رَجَعْنَا قَبْلَ أَنْ نَسْتَأْصِلَهُمْ، لَنَكِرَّنَّ عَلَى بَقِيَّتِهِمْ، فَلَنَفْرَغَنَّ مِنْهُمْ فَلَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ مَعْبَدًا، قَالَ: مَا وَرَاءَكَ يَا مَعْبَدُ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ قَدْ خَرَجَ فِي أَصْحَابِهِ يَطْلِبُكُمْ فِي جَمْعٍ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطُّ، يَتَحَرَّقُونَ عَلَيْكُمْ تَحَرُّقًا، قَدِ اجْتَمَعَ مَعَهُ مَنْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْهُ فِي يَوْمِكُمْ، وَنَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا، فِيهِمْ مِنَ الْحَنَقِ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطُّ قَالَ: وَيْلَكَ مَا تَقُولُ! قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَاكَ تَرْتَحِلُ حتى ترى نواصي الخيل قال: فو الله لَقَدْ أَجْمَعْنَا الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ لِنَسْتَأْصِلَ بَقِيَّتَهُمْ، قَالَ: فانى انهاك عن ذلك، فو الله لَقَدْ حَمَلَنِي مَا رَأَيْتَ عَلَى أَنْ قُلْتُ فِيهِ أَبْيَاتًا مِنْ شِعْرٍ، قَالَ: وَمَاذَا قُلْتَ؟ قال: قلت: كادت تهد من الأَصْوَاتُ رَاحِلَتِي ... إِذْ سَالَتِ الأَرْضُ بِالْجُرْدِ الأَبَابِيلِ

تُرْدِي بِأُسْدٍ كِرَامٍ لا تَنَابِلَةً ... عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلا خُرْقٍ مَعَازِيلِ فَظَلْتُ عَدْوًا أَظُنُّ الأَرْضَ مَائِلَةً ... لَمَّا سَمَوْا بِرَئِيسٍ غَيْرِ مَخْذُولِ فَقُلْتُ وَيْلَ ابْنِ حَرْبٍ مِنْ لِقَائِكُمُ ... إِذَا تَغَطْمَطَتِ الْبَطْحَاءُ بِالْجِيلِ! إِنِّي نَذِيرٌ لأَهْلِ الْبُسْلِ ضَاحِيَةً ... لِكُلِّ ذِي إِرْبَةٍ مِنْهُمْ وَمَعْقُولِ مِنْ جَيْشِ أَحْمَدَ لا وَخْشٍ قَنَابِلُهُ ... وَلَيْسَ يُوصَفُ مَا أَنْذَرْتُ بِالْقِيلِ قَالَ: فَثَنَى ذَلِكَ أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ وَمَرَّ بِهِ رَكْبٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ الْمَدِينَةَ، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ الْمِيَرَةَ، قَالَ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُبَلِّغُونَ عَنِّي مُحَمَّدًا رِسَالَةً أُرْسِلُكُمْ بِهَا إِلَيْهِ، وَأَحْمِلُ لَكُمْ إِبِلَكُمْ هَذِهِ غَدًا زَبِيبًا بِعُكَاظٍ إِذَا وَافَيْتُمُوهَا؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَإِذَا جِئْتُمُوهُ فَأَخْبِرُوهُ أَنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا الْمَسِيرَ إِلَيْهِ وَإِلَى أَصْحَابِهِ، لِنَسْتَأْصِلَ بَقِيَّتَهُمْ فَمَرَّ الرَّكْبُ بِرَسُولِ الله ص وَهُوَ بِحَمْرَاءِ الأَسَدِ، فَأَخْبَرُوهُ بِالَّذِي قَالَ أَبُو سفيان، فقال رسول الله ص واصحابه: حسبنا الله ونعم الوكيل! قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ص إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ الثَّالِثَةِ، فَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الاخبار ان رسول الله ص ظَفَرَ فِي وَجْهِهِ إِلَى حَمْرَاءِ الأَسَدِ بِمُعَاوِيَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَأَبِي عَزَّةَ الجمحى، وكان رسول الله ص خَلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ حِينَ خَرَجَ إِلَى حَمْرَاءِ الأَسَدِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ

وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ ثَلاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ- وُلِدَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَفِيهَا عَلِقَتْ فَاطِمَةُ بِالْحُسَيْنِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ بَيْنَ وِلادَتِهَا الْحَسَنَ وَحَمْلِهَا بِالْحُسَيْنِ إِلا خَمْسُونَ لَيْلَةً. وَفِيهَا حَمَلَتْ- فِيمَا قِيلَ- جَمِيلَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ فِي شوال

سنه اربع من الهجره

ذِكْرُ الأَحْدَاثِ الَّتِي كَانَتْ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ من الهجره غزوه الرجيع ثُمَّ دَخَلَتِ السَّنَةُ الرَّابِعَةُ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَكَانَ فِيهَا غَزْوَةُ الرَّجِيعِ فِي صَفَرٍ. وَكَانَ مِنْ أَمْرِهَا مَا حَدَّثَنِي بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، قَالَ: قدم على رسول الله ص بَعْدَ أُحُدٍ رَهْطٌ مِنْ عَضَلٍ وَالْقَارَّةِ فَقَالُوا لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فِينَا إِسْلامًا وَخَيْرًا، فَابْعَثْ مَعَنَا نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِكَ يُفَقِّهُونَنَا في الدين، ويقرءوننا القرآن، ويعلموننا الشرائع الاسلام. فبعث رسول الله ص معهم نَفَرًا سِتَّةً مِنْ أَصْحَابِهِ مَرْثَدَ بْنَ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ حَلِيفَ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَخَالِدَ بْنَ الْبُكَيْرِ حَلِيفَ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَعَاصِمَ بْنَ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الأَقْلَحِ أخا بنى عمرو بن عوف، وحبيب بن عدى أخا بنى جحجبى بْنِ كُلَفَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَزَيْدَ بْنَ الدَّثِنَةِ أَخَا بَنِي بَيَاضَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَارِقٍ حَلِيفًا لِبَنِي ظُفَرَ من بلى. وامر رسول الله ص عَلَى الْقَوْمِ مَرْثَدَ بْنَ أَبِي مَرْثَدٍ، فَخَرَجُوا مَعَ الْقَوْمِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا عَلَى الرَّجِيعِ مَاءٌ لُهُذَيْلٍ بِنَاحِيَةٍ مِنَ الْحِجَازِ مِنْ صُدُورِ الْهَدْأَةِ غَدَرُوا بِهِمْ، فَاسْتَصْرَخُوا عَلَيْهِمْ هُذَيْلا، فَلَمْ يُرَعِ الْقَوْمُ وَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ إِلا بِالرِّجَالِ في ايديهم السيوف، قد غشوهم. فأخذوا أسيافهم لِيُقَاتِلُوا الْقَوْمَ، فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّا وَاللَّهِ مَا نُرِيدُ قَتْلَكُمْ، وَلَكِنَّا

نُرِيدُ أَنْ نُصِيبَ بِكُمْ شَيْئًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَلَكُمْ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ أَلا نَقْتُلَكُمْ. فاما مَرْثَدٍ وَخَالِدُ بْنُ الْبُكَيْرِ وَعَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الأَقْلَحِ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لا نَقْبَلُ مِنْ مُشْرِكٍ عَهْدًا وَلا عَقْدًا أَبَدًا، فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى قَتَلُوهُمْ جَمِيعًا. وَأَمَّا زَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ وَخُبَيْبُ بْنُ عَدِيٍّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَارِقٍ فَلانُوا وَرَقُّوا وَرَغِبُوا فِي الْحَيَاةِ، فَأَعْطَوْا بِأَيْدِيهِمْ، فَأَسَرُوهُمْ، ثُمَّ خَرَجُوا بِهِمْ إِلَى مَكَّةَ لِيَبِيعُوهُمْ بِهَا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالظَّهْرَانِ، انْتَزَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَارِقٍ يَدَهُ مِنَ الْقرانِ، ثُمَّ أَخَذَ سَيْفَهُ وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُ الْقَوْمُ، فَرَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى قَتَلُوهُ، فَقَبْرُهُ بِالظِّهْرَانِ وَأَمَّا خُبَيْبُ بْنُ عَدِيٍّ وَزَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ، فَقَدِمُوا بِهِمَا مَكَّةَ، فَبَاعُوهُمَا فَابْتَاعَ خُبَيْبًا حُجَيْرُ بْنُ أَبِي إِهَابٍ التَّمِيمِيُّ حَلِيفُ بَنِي نَوْفَلٍ لِعُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ- وَكَانَ حُجَيْرٌ أَخَا الْحَارِثِ بْنِ عَامِرٍ لأُمِّهِ- لِيَقْتُلَهُ بِأَبِيهِ، وَأَمَّا زَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ، فَابْتَاعَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ لِيَقْتُلَهُ بِأَبِيهِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَقَدْ كَانَتْ هُذَيْلُ حِينَ قُتِلَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ قَدْ أَرَادُوا رَأْسَهُ لِيَبِيعُوهُ مِنْ سُلافَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ شُهَيْدٍ، وَكَانَتْ قَدْ نَذَرَتْ حِينَ أَصَابَ ابْنَهَا يَوْمَ أُحُدٍ: لَئِنْ قَدِرَتْ عَلَى رَأْسِ عَاصِمٍ لَتَشْرَبَنَّ فِي قِحْفِهِ الْخَمْرَ، فَمَنَعَتْهُ الدَّبْرُ فَلَمَّا حَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، قَالُوا: دَعوه حَتَّى يُمْسِيَ فَتَذْهَبَ عَنْهُ، فَنَأْخُذَهُ، فَبَعَثَ اللَّهُ الْوَادِيَ فَاحْتَمَلَ عَاصِمًا فَذَهَبَ بِهِ، وَكَانَ عَاصِمٌ قَدْ اعطى الله عهدا الا يَمَسَّهُ مُشْرِكٌ أَبَدًا وَلا يَمَسَّ مُشْرِكًا أَبَدًا، تَنَجُّسًا مِنْهُ فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ حِينَ بَلَغَهُ، أَنَّ الدَّبْرَ مَنَعَتْهُ: عَجَبًا، لِحِفْظِ الله العبد المؤمن! كان عاصم نذر الا يَمَسَّهُ مُشْرِكٌ، وَلا يَمَسَّ مُشْرِكًا أَبَدًا فِي حَيَاتِهِ، فَمَنَعَهُ اللَّهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَمَا امْتَنَعَ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ

قال أبو جعفر: وأما غير ابن إسحاق، فَإِنَّهُ قَصَّ مِنْ خَبَرِ هَذِهِ السَّرِيَّةِ غَيْرَ الَّذِي قَصَّهُ، وَالَّذِي قَصَّهُ غَيْرُهُ مِنْ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ الْعُمَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَمْرٍو- أَوْ عُمَرَ- بْنِ أَسِيدٍ، عن ابى هريرة، ان رسول الله ص بَعَثَ عَشَرَةَ رَهْطٍ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ، فَخَرَجُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدْأَةِ ذَكَرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْلٍ، يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو لِحْيَانَ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِمْ مِائَةَ رَجُلٍ رَامِيًا، فَوَجَدُوا مَأْكَلَهُمْ حَيْثُ أَكَلُوا التَّمْرَ، فَقَالُوا: هَذِهِ نَوَى يَثْرِبَ، ثُمَّ اتَّبَعُوا آثَارَهُمْ، حَتَّى إِذَا أَحَسَّ بِهِمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ الْتَجَئُوا إِلَى جَبَلٍ، فَأَحَاطَ بِهِمُ الآخَرُونَ، فَاسْتَنْزَلُوهُمْ، وَأَعْطَوْهُمُ الْعَهْدَ، فَقَالَ عَاصِمٌ: وَاللَّهِ لا أَنْزِلُ عَلَى عَهْدِ كَافِرٍ، اللَّهُمَّ أَخْبِرْ نَبِيَّكَ عَنَّا وَنَزَلَ إِلَيْهِمُ ابْنُ الدَّثِنَةِ الْبِيَاضِيُّ، وَخُبَيْبٌ، وَرَجُلٌ آخَرُ، فَأَطْلَقَ الْقَوْمُ أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ، ثُمَّ أَوْثَقُوهُمْ، فَجَرَحُوا رَجُلا مِنَ الثَّلاثَةِ، فَقَالَ: هَذَا وَاللَّهِ أَوَّلُ الْغَدْرِ، وَاللَّهِ لا أَتَّبِعُكُمْ فَضَرَبُوهُ فَقَتَلُوهُ، وَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَابْنِ الدَّثِنَةِ إِلَى مَكَّةَ، فَدَفَعُوا خُبَيْبًا إِلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ الَّذِي قَتَلَ الْحَارِثَ بِأُحُدٍ، فَبَيْنَمَا خُبَيْبٌ عِنْدَ بَنَاتِ الْحَارِثِ، إِذِ اسْتَعَارَ مِنْ إِحْدَى بَنَاتِ الْحَارِثِ مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا لِلْقَتْلِ، فَمَا رَاعَ الْمَرْأَةَ- وَلَهَا صَبِيٌّ يَدْرُجُ- إِلا بِخُبَيْبٍ قَدْ أَجْلَسَ الصَّبِيَّ عَلَى فَخِذِهِ، وَالْمُوسَى فِي يَدِهِ، فَصَاحَتِ الْمَرْأَةُ، فَقَالَ خُبَيْبٌ: أَتَخْشِينَ أَنِّي أَقْتُلُهُ! إِنَّ الْغَدْرَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِنَا قَالَ: فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ بَعُدَ: مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، لَقَدْ رَأَيْتُهُ وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرَةٍ، وَإِنَّ فِي يَدِهِ لَقِطْفًا مِنْ عِنَبٍ يَأْكُلُهُ، إِنْ كَانَ إِلا رِزْقًا رَزَقَهُ اللَّهُ خُبَيْبًا. وَبَعَثَ حَيٌّ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمٍ لِيَؤْتُوا مِنْ لَحْمِهِ بِشَيْءٍ، وَقَدْ كَانَ لِعَاصِمٍ فِيهِمْ آثَارٌ بِأُحُدٍ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ دَبْرًا، فَحَمَتْ لَحْمَهُ، فَلَمْ

يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ لَحْمِهِ شَيْئًا، فَلَمَّا خَرَجُوا بِخُبَيْبٍ مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ، قَالَ: ذَرُونِي أُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ، فَتَرَكُوهُ فَصَلَّى سَجْدَتَيْنِ، فَجَرَتْ سُنَّةٌ لِمَنْ قُتِلَ صَبْرًا أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ خُبَيْبٌ: لَوْلا أَنْ يَقُولُوا جَزِعَ لَزِدْتُ، وما أبالي: على اى شق كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي. ثُمَّ قَالَ: وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ ... يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا، وَخُذْهُمْ بَدَدًا. ثُمَّ خَرَجَ بِهِ أَبُو سِرْوَعَةَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص بَعَثَهُ وَحْدَهُ عَيْنًا إِلَى قُرَيْشٍ، قَالَ: فَجِئْتُ إِلَى خَشَبَةِ خُبَيْبٍ وَأَنَا أَتَخَوَّفُ الْعُيُونَ، فَرَقَيْتُ فِيهَا، فَحَلَلْتُ خُبَيْبًا، فَوَقَعَ إِلَى

ذكر الخبر عن عمرو بن اميه الضمرى إذ وجهه رسول الله ص لقتل ابى سفيان بن حرب

الأَرْضِ، فَانْتَبَذْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ الْتَفَتُّ فَلَمْ أَرَ لِخُبَيْبٍ رِمَّةً، فَكَأَنَّمَا الأَرْضُ ابْتَلَعَتْهُ، فَلَمْ تُذْكَرْ لِخُبَيْبٍ رِمَّةٌ حَتَّى السَّاعَةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا زَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ، فَإِنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ بَعَثَ بِهِ- فِيمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق- مَعَ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ نِسْطَاسٌ إِلَى التَّنْعِيمِ، وَأَخْرَجَهُ مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلَهُ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ رَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ قُدِّمَ لِيُقْتَلَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا زَيْدُ، أَتُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا عِنْدَنَا الآنَ مَكَانَكَ نَضْرِبُ عُنُقَهُ، وَأَنَّكَ فِي أَهْلِكَ! قَالَ: وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا الآنَ فِي مَكَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ تُصِيبُهُ شَوْكَةٌ تُؤْذِيهِ وَأَنَا جَالِسٌ فِي أَهْلِي قَالَ: يَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ: مَا رَأَيْتُ فِي النَّاسِ أَحَدًا يُحِبُّ أَحَدًا كَحُبِّ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا ثُمَّ قَتَلَهُ نِسْطَاسٌ . ذكر الخبر عن عمرو بْن أمية الضمري إذ وجهه رَسُول الله ص لقتل أبي سفيان بْن حرب ولما قُتِلَ من وجهه النبي ص إلى عضل والقارة من أهل الرجيع، وبلغ خبرهم رسول الله ص بعث عمرو بْن أمية الضمري إلى مكة مَعَ رجل من الأنصار، وأمرهما بقتل أبي سفيان بْن حرب، فحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ- يَعْنِي عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ- قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ

اميه: بعثني رسول الله ص بَعْدَ قَتْلِ خُبَيْبٍ وَأَصْحَابِهِ، وَبَعَثَ مَعِي رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: ائْتِيَا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ فَاقْتُلاهُ، قَالَ: فَخَرَجْتُ أَنَا وَصَاحِبِي وَمَعِي بَعِيرٌ لِي، وَلَيْسَ مَعَ صَاحِبِي بَعِيرٌ، وَبِرِجْلِهِ عِلَّةٌ. فَكُنْتُ أَحْمِلُهُ عَلَى بَعِيرِي، حَتَّى جِئْنَا بَطْنَ يَأْجَجَ، فَعَقَلْنَا بَعِيرَنَا فِي فِنَاءِ شِعْبٍ، فَأَسْنَدْنَا فِيهِ، فَقُلْتُ لِصَاحِبِي: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى دَارِ أَبِي سُفْيَانَ، فَإِنِّي مُحَاوِلٌ قَتْلَهُ فَانْظُرْ، فَإِنْ كَانَتْ مُجَاوَلَةً أَوْ خَشِيتَ شَيْئًا فَالْحَقْ ببعيرك فاركبه، والحق بالمدينة فات رسول الله ص فَأَخْبِرْهُ الْخَبَرَ، وَخَلِّ عَنِّي، فَإِنِّي رَجُلٌ عَالِمٌ بِالْبَلَدِ، جَرِيءٌ عَلَيْهِ، نَجِيبُ السَّاقِ فَلَمَّا دَخَلْنَا مَكَّةَ وَمَعِي مِثْلُ خَافِيةِ النِّسْرِ- يَعْنِي خِنْجَرَهُ- قَدْ أَعْدَدْتُهُ، إِنْ عَانَقَنِي إِنْسَانٌ قَتَلْتُهُ بِهِ، فَقَالَ لِي صَاحِبِي: هَلْ لَكَ أَنْ نَبْدَأَ فَنَطُوفَ بِالْبَيْتِ أُسْبُوعًا، وَنُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ؟ فَقُلْتُ: أَنَا أَعْلَمُ بِأَهْلِ مَكَّةَ مِنْكَ، إِنَّهُمْ إِذَا أَظْلَمُوا رَشُّوا أَفْنِيَتَهُمْ، ثُمَّ جَلَسُوا بِهَا، وَأَنَا أَعْرَفُ بِهَا مِنَ الْفَرَسِ الأَبْلَقِ. قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أَتَيْنَا الْبَيْتَ، فَطُفْنَا بِهِ أُسْبُوعًا، وَصَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْنَا فَمَرَرْنَا بِمَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِهِمْ، فَعَرَفَنِي رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَصَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: هَذَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ! قَالَ: فَتَبَادَرَتْنَا أَهْلُ مَكَّةَ وَقَالُوا: تَاللَّهِ مَا جَاءَ بِعَمْرٍو خَيْرٌ! وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ مَا جَاءَهَا قَطُّ إِلا لِشَرٍّ- وَكَانَ عَمْرٌو رَجُلا فَاتِكًا مُتَشَيْطِنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ- قَالَ: فَقَامُوا فِي طَلَبِي وَطَلَبِ صَاحِبِي، فَقُلْتُ لَهُ: النَّجَاءَ! هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي كُنْتُ أَحْذَرُ، أَمَّا الرَّجُلُ فَلَيْسَ إِلَيْهِ سَبِيلٌ، فَانْجُ بِنَفْسِكَ، فَخَرَجْنَا نَشْتَدُّ حَتَّى أُصْعِدَنَا فِي الْجَبَلِ، فَدَخَلْنَا فِي غَارٍ، فَبِتْنَا فِيهِ لَيْلَتَنَا، وَأَعْجَزْنَاهُمْ، فَرَجَعُوا وَقَدِ اسْتَتَرْتُ دُونَهُمْ بِأَحْجَارٍ حِينَ دَخَلْتُ الْغَارَ، وَقُلْتُ لِصَاحِبِي: أَمْهِلْنِي حَتَّى يَسْكُنَ الطَّلَبُ عَنَّا، فَإِنَّهُمْ وَاللَّهِ لَيَطْلُبُنَّا لَيْلَتَهُمْ هَذِهِ وَيَوْمَهُمْ هذا حتى يمسوا قال: فو الله إِنِّي لَفِيهِ إِذْ أَقْبَلَ عُثْمَانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيُّ، يَتَخَيَّلُ بِفَرَسٍ لَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يَدْنُو وَيَتَخَيَّلُ بِفَرَسِهِ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا بِبَابِ الْغَارِ قَالَ: فَقُلْتُ لِصَاحِبِي: هَذَا وَاللَّهِ ابْنُ مَالِكٍ،

وَاللَّهِ لِئَنْ رَآنَا لَيُعْلِمَنَّ بِنَا أَهْلَ مَكَّةَ قَالَ: فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ فَوَجَأْتُهُ بِالْخِنْجَرِ تَحْتَ الثَّدْيِ، فَصَاحَ صَيْحَةً أَسْمَعَ أَهْلَ مَكَّةَ، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ، وَرَجَعْتُ إِلَى مَكَانِي، فَدَخَلْتُ فِيهِ، وَقُلْتُ لِصَاحِبِي: مَكَانَكَ! قَالَ: وَاتَّبَعَ أَهْلُ مَكَّةَ الصَّوْتَ يَشْتَدُّونَ، فَوَجَدُوهُ وَبِهِ رَمَقٌ، فَقَالُوا: وَيْلَكَ مَنْ ضَرَبَكَ! قَالَ: عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ: ثُمَّ مَاتَ وَمَا أَدْرَكُوا مَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِمَكَانِنَا، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِخَيْرٍ، وَشَغَلَهُمْ صَاحِبُهُمْ عَنْ طَلَبِنَا، فَاحْتَمَلُوهُ، وَمَكَثْنَا فِي الْغَارِ يَوْمَيْنِ حَتَّى سَكَنَ عَنَّا الطَّلَبُ ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى التَّنْعِيمِ، فَإِذَا خَشَبَةُ خُبَيْبٍ، فَقَالَ لِي صَاحِبِي: هَلْ لَكَ فِي خُبَيْبٍ تُنْزِلُهُ عَنْ خَشَبَتِهِ؟ فَقُلْتُ: أَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: هُوَ ذَاكَ حَيْثُ تَرَى فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَأَمْهِلْنِي وَتَنَحَّ عَنِّي قَالَ: وَحَوْلَهُ حَرَسٌ يَحْرُسُونَهُ قَالَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ: فَقُلْتُ لِلأَنْصَارِيِّ: إِنْ خَشِيتَ شَيْئًا فَخُذِ الطَّرِيقَ إِلَى جَمَلِكَ فَارْكَبْهُ وَالْحَقْ بِرَسُولِ الله ص، فَأَخْبِرْهُ الْخَبَرَ، فَاشْتَدَدْتُ إِلَى خَشَبَتِهِ فَاحْتَلَلْتُهُ وَاحْتَمَلْتُهُ على ظهري، فو الله مَا مَشِيتُ إِلا نَحْوَ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا حَتَّى نَذِرُوا بِي، فَطَرَحْتُهُ، فَمَا أَنْسَى وَجبتَهُ حِينَ سَقَطَ، فَاشْتَدُّوا فِي أَثَرِي، فَأَخَذْتُ طَرِيقَ الصَّفْرَاءِ فَأُعْيُوا، فَرَجَعُوا، وَانْطَلَقَ صَاحِبِي إِلَى بَعِيرِهِ فَرَكِبَهُ، ثم اتى النبي ص فَأَخْبَرَهُ أَمْرَنَا، وَأَقْبَلْتُ أَمْشِي، حَتَّى إِذَا أَشْرَفْتُ عَلَى الْغَلِيلِ، غَلِيلِ ضَجْنَانَ، دَخَلْتُ غَارًا فِيهِ، وَمَعِي قَوْسِي وَأَسْهُمِي، فَبَيْنَا أَنَا فِيهِ إِذْ دَخَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الدِّيلِ بْنِ بَكْرٍ، أَعْوَرُ طَوِيلٌ يَسُوقُ غَنَمًا لَهُ، فَقَالَ: مَنِ الرَّجُلُ؟ فَقُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ، قَالَ: وَأَنَا مِنْ بَنِي بَكْرٍ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي الدِّيلِ ثُمَّ اضْطَجَعَ مَعِي فِيهِ، فَرَفَعَ عَقِيرَتَهُ يَتَغَنَّى وَيَقُولُ: وَلَسْتُ بِمُسْلِمٍ مَا دُمْتُ حَيًّا ... وَلَسْتُ أَدِينُ دِينَ الْمُسْلِمِينَا فَقُلْتُ: سَوْفَ تَعْلَمُ! فَلَمْ يَلْبَثِ الأَعْرَابِيُّ أَنْ نَامَ وَغَطَّ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقَتَلْتُهُ أَسْوَأَ قِتْلَةٍ قَتَلَهَا أَحَدٌ أَحَدًا، قُمْتُ إِلَيْهِ فَجَعَلْتُ سِيَةَ قَوْسِي فِي عَيْنِهِ الصَّحِيحَةِ، ثُمَّ تَحَامَلْتُ عَلَيْهَا حَتَّى أَخْرَجْتُهَا مِنْ قَفَاهُ. قَالَ: ثُمَّ أَخْرَجَ مِثْلَ السَّبُعِ، وَأَخَذْتُ الْمَحَجَّةَ كَأَنِّي نَسْرٌ، وَكَانَ النَّجَاءُ حَتَّى أَخْرُجَ عَلَى بَلَدٍ قَدْ وَصَفَهُ، ثُمَّ عَلَى رَكُوبَةٍ، ثُمَّ عَلَى النَّقِيعِ، فَإِذَا رَجُلانِ

ذكر خبر بئر معونه

مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ بَعَثَتْهُمَا قُرَيْشٌ يَتَحَسَّسَانِ مِنْ امر رسول الله ص، فَعَرَفْتُهُمَا فَقُلْتُ: اسْتَأْسِرَا، فَقَالا: أَنَحْنُ نَسْتَأْسِرُ لَكَ! فَأَرْمِي أَحَدُهُمَا بِسَهْمٍ فَأَقْتُلُهُ، ثُمَّ قُلْتُ لِلآخَرِ: اسْتَأْسِرْ، فَاسْتَأْسَرَ، فَأَوْثَقْتُهُ، فَقَدِمْتُ بِهِ عَلَى رَسُولِ الله ص حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ وَرْدَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ: لَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، مَرَرْتُ بِمَشْيَخَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالُوا: هَذَا وَاللَّهِ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ، فَسَمِعَ الصِّبْيَانُ قولهم، فاشتدوا الى رسول الله ص يُخْبِرُونَهُ، وَقَدْ شَدَدْتُ إِبْهَامَ أَسِيرِي بِوَتَرِ قَوْسِي، فنظر النبي ص اليه فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، ثُمَّ سَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ لِي خَيْرًا وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ. وفي هذه السنه تزوج رسول الله ص زَيْنَبَ بِنْتَ خُزَيْمَةَ أُمَّ الْمَسَاكِينِ مِنْ بَنِي هِلالٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَدَخَلَ بِهَا فِيهِ، وَكَانَ أَصْدَقَهَا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَنَشًّا، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ الطُّفَيْلِ بْنِ الْحَارِثِ، فَطَلَّقَهَا . ذكر خبر بئر معونة قَالَ أبو جعفر: وفي هذه السنة- أعني سنة أربع من الهجرة- كان من أمر السرية التي وجهها رَسُول الله ص، فقتلت ببئر معونة وكان سبب توجيه النبي ص إياهم لما وجههم له، مَا حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: وحدثني محمد بن إسحاق، قال: فأقام رسول الله ص بِالْمَدِينَةِ بَقِيَّةَ شَوَّالٍ وَذَا الْقَعْدَةِ وَذَا الْحَجَّةِ وَالْمُحَرَّمَ، وَوَلِيَ تِلْكَ الْحَجَّةَ الْمُشْرِكُونَ. ثُمَّ بَعَثَ أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ فِي صَفَرٍ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ أُحُدٍ، وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهِمْ مَا حَدَّثَنِي أَبِي: إِسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ، عَنِ المغيره بن عبد الرحمن ابن الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بكر بن مُحَمَّد بن عمرو بن حزم، وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالُوا: قَدِمَ أَبُو بَرَاءٍ عَامِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرٍ مُلَاعِبُ

الأَسِنَّةِ- وَكَانَ سَيِّدَ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ- على رسول الله ص الْمَدِينَةَ، [وَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ ص أَنْ يَقْبَلَهَا، وَقَالَ: يَا أَبَا بَرَاءٍ، لا أَقْبَلُ هَدِيَّةَ مُشْرِكٍ، فَأَسْلِمْ إِنْ أَرَدْتَ أَنْ أَقْبَلَ هَدِيَّتَكَ] ثُمَّ عَرَضَ عَلَيْهِ الإِسْلَامَ، وَأَخْبَرَهُ بِمَا لَهُ فِيهِ، وَمَا وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الثَّوَابِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فَلَمْ يُسْلِمْ وَلَمْ يَبْعُدْ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ أَمْرَكَ هَذَا الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ حَسَنٌ جَمِيلٌ، فَلَوْ بَعَثْتَ رِجَالا مِنْ أَصْحَابِكَ إِلَى أَهْلِ نَجْدٍ فَدَعُوهُمْ إِلَى أَمْرِكَ رَجَوْتُ أَنْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فقال رسول الله ص: إِنِّي أَخْشَى عَلَيْهِمْ أَهْلَ نَجْدٍ! فَقَالَ أَبُو بَرَاءٍ: أَنَا لَهُمْ جَارٌ، فَابْعَثْهُمْ فَلْيَدْعُوا النَّاسَ الى امرك فبعث رسول الله ص الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو أَخَا بَنِي سَاعِدَةَ الْمُعْنِقَ لِيَمُوتَ فِي أَرْبَعِينَ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ، مِنْهُمُ الْحَارِثُ بْنُ الصُّمَّةِ، وَحَرَامُ بْنُ مِلْحَانَ أَخُو بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، وَعُرْوَةُ بْنُ أَسْمَاءَ بْنِ الصَّلْتِ السُّلَمِيُّ، وَنَافِعُ ابن بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، فِي رِجَالٍ مُسَمِّينَ مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ. فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: بعث رسول الله ص الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرِو فِي سَبْعِينَ رَاكِبًا، فَسَارُوا حَتَّى نَزَلُوا بِئْرَ مَعُونَةَ- وَهِيَ أَرْضٌ بَيْنَ أَرْضِ بَنِي عَامِرٍ وَحَرَّةِ بَنِي سُلَيْمٍ، كِلا الْبَلَدَيْنِ مِنْهَا قَرِيبٌ، وَهِيَ إِلَى حَرَّةِ بَنِي سُلَيْمٍ أَقْرَبُ- فَلَمَّا نَزَلُوهَا بَعَثُوا حَرَامَ بْنَ ملحان بكتاب رسول الله ص إِلَى عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ، فَلَمَّا أَتَاهُ لَمْ يَنْظُرْ فِي كِتَابِهِ، حَتَّى عَدَا عَلَى الرَّجُلِ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ اسْتَصْرَخَ عَلَيْهِمْ بَنِي عَامِرٍ، فَأَبَوْا أَنْ يُجِيبُوهُ إِلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، وَقَالُوا: لَنْ نَخْفِرَ أَبَا بَرَاءٍ، قَدْ عَقَدَ لَهُمْ عَقْدًا وَجِوَارًا، فَاسْتَصْرَخَ عَلَيْهِمْ قَبَائِلَ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ: عُصَيَّةَ، وَرَعْلا، وَذَكْوَانَ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَخَرَجُوا حَتَّى غَشَوُا الْقَوْمَ، فَأَحَاطُوا

بِهِمْ فِي رِحَالِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ أَخَذُوا السُّيُوفُ، ثُمَّ قَاتَلُوهُمْ حَتَّى قُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ، إِلا كَعْبَ بْنَ زَيْدٍ أَخَا بَنِي دِينَارِ بْنِ النَّجَّارِ، فَإِنَّهُمْ تَرَكُوهُ وَبِهِ رَمَقٌ، فَارْتَثَّ مِنْ بَيْنِ الْقَتْلَى، فَعَاشَ حَتَّى قُتِلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ. وَكَانَ فِي سَرْحِ الْقَوْمِ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ أَحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَلَمْ يُنْبِئْهُمَا بِمُصَابِ أَصْحَابِهِمَا إِلا الطَّيْرُ تَحُومُ عَلَى الْعَسْكَرِ، فَقَالا: وَاللَّهِ إِنَّ لِهَذِهِ الطَّيْرِ لَشَأْنًا، فَأَقْبَلا لِيَنْظُرَا إِلَيْهِ، فَإِذَا الْقَوْمُ فِي دِمَائِهِمْ، وَإِذَا الْخَيْلُ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ وَاقِفَةٌ فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ لِعَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ: مَاذَا تَرَى؟ قَالَ: أَرَى أَنْ نَلْحَقَ بِرَسُولِ اللَّهِ ص فَنُخْبِرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: لَكِنِّي مَا كُنْتُ لأَرْغَبَ بِنَفْسِي عَنْ مَوْطِنِ قَتْلٍ فِيهِ الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، وَمَا كُنْتُ لِتُخْبِرَنِي عَنْهُ الرِّجَالُ ثُمَّ قَاتَلَ الْقَوْمَ حَتَّى قُتِلَ، وَأَخَذُوا عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ أَسِيرًا، فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ مِنْ مُضَرَ، أَطْلَقَهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ، وَجَزَّ نَاصِيَتَهُ، وَأَعْتَقَهُ عَنْ رَقَبَةٍ زَعَمَ أَنَّهَا كَانَتْ عَلَى أُمِّهِ فَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْقَرْقَرَةِ مِنْ صَدْرِ قَنَاةٍ، أَقْبَلَ رَجُلانِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ حَتَّى نَزَلا مَعَهُ فِي ظِلٍّ هُوَ فِيهِ، وَكَانَ مَعَ الْعَامِرِيِّينَ عَقْدٌ من رسول الله ص وَجِوَارٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ، وَقَدْ سَأَلَهُمَا حِينْ نَزَلا: مِمَّنْ أَنْتُمَا؟ فَقَالا: مِنْ بَنِي عَامِرٍ، فَأَمْهَلَهُمَا حَتَّى إِذَا نَامَا عَدَا عَلَيْهِمَا فَقَتَلَهُمَا، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ بِهِمَا ثُؤْرَةَ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، بِمَا أصابوا من اصحاب رسول الله ص [فَلَمَّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ عَلَى رَسُولِ الله ص اخبره الخبر، فقال رسول الله ص: لَقَدْ قَتَلْتَ قَتِيلَيْنِ لأُدِينَهُمَا ثُمَّ قَالَ رَسُولُ الله ص: هَذَا عَمَلُ أَبِي بَرَاءٍ، قَدْ كُنْتُ لِهَذَا كَارِهًا مُتَخَوِّفًا فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا بَرَاءٍ فَشَقَّ عَلَيْهِ إِخْفَارُ عَامِرٍ إِيَّاهُ، وَمَا أَصَابَ رَسُولَ الله ص بِسَبَبِهِ وَجِوَارِهِ، وَكَانَ فِيمَنْ أُصِيبَ عَامِرُ بْنُ فهيره]

حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن هشام بن عروة، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ، كَانَ يَقُولُ: إِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ لَمَّا قُتِلَ رَأَيْتُهُ رُفِعَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ حَتَّى رَأَيْتُ السَّمَاءَ مِنْ دُونِهِ قَالُوا: هُوَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عن أحد بني جعفر، رجل من بني جبار بْن سلمى بن مالك ابن جعفر، قَالَ: كان جبار فيمن حضرها يومئذ مَعَ عامر، ثُمَّ أسلم بعد ذَلِكَ قَالَ: فكان يقول: مما دعاني إلى الإسلام أني طعنت رجلا منهم يومئذ بالرمح بين كتفيه، فنظرت إلى سنان الرمح حين خرج من صدره، فسمعته يقول حين طعنته: فزت والله! قَالَ: فقلت فِي نفسي: ما فاز! أليس قد قتلت الرجل! حَتَّى سألت بعد ذَلِكَ عن قوله، فقالوا: الشهادة، قَالَ: فقلت: فاز لعمر الله! فَقَالَ حسان بْن ثابت يحرض بني أبي البراء على عامر بْن الطفيل: بني أم البنين ألم يرعكم ... وأنتم من ذوائب أهل نجد تهكم عامر بأبي براء ... ليخفره، وما خطأ كعمد ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي ... فما أحدثت فِي الحدثان بعدي أبوك أبو الحروب أبو براء ... وخالك ماجد حكم بْن سعد وقال كعب بْن مالك فِي ذَلِكَ أيضا: لقد طارت شعاعا كل وجه ... خفارة ما أجار أبو براء

فمثل مسهب وبني أبيه ... بجنب الرده من كنفي سواء بني أم البنين أما سمعتم ... دعاء المستغيث مَعَ المساء! وتنويه الصريخ بلى ولكن ... عرفتم أنه صدق اللقاء فما صفرت عياب بني كلاب ... ولا القرطاء من ذم الوفاء أعامر عامر السوءات قدما ... فلا بالعقل فزت ولا السناء أأخفرت النبي وكنت قدما ... إلى السوءات تجري بالعراء! فلست كجار جار أبي دواد ... ولا الأسدي جار أبي العلاء ولكن عاركم داء قديم ... وداء الغدر فاعلم شر داء فلما بلغ ربيعة بْن عامر أبي البراء قول حسان وقول كعب، حمل على عامر بْن الطفيل فطعنه، فشطب الرمح عن مقتله، فخر عن فرسه. فَقَالَ: هذا عمل أبي براء! إن مت فدمي لعمي ولا يتبعن به، وإن أعش فسأرى رأيي فيما أتي إلي حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يُونُسَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ ص الذين ارسلهم رسول الله ص إِلَى أَهْلِ بِئْرِ مَعُونَةَ، قَالَ: لا أَدْرِي، أَرْبَعِينَ أَوْ سَبْعِينَ! وَعَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ الْجَعْفَرِيُّ، فَخَرَجَ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنْ اصحاب النبي ص الَّذِينَ بُعِثُوا، حَتَّى أَتَوْا غَارًا مُشْرِفًا عَلَى الْمَاءِ قَعَدُوا فِيهِ ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ايكم يبلغ رساله رسول الله ص أَهْلَ هَذَا الْمَاءِ؟ فَقَالَ- أَرَاهُ ابْنَ مِلْحَانَ الأنصاري-: انا ابلغ رساله رسول الله ص، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى حِوَاءَ مِنْهُمْ، فَاحْتَبَى أَمَامَ الْبُيُوتِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَهْلَ بِئْرِ مَعُونَةَ، انى رسول رسول الله إليكم،

ذكر خبر جلاء بنى النضير

إني أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَخَرَجَ إِلَيْهِ مَنْ كَسَرَ الْبَيْتَ بِرُمْحٍ فَضَرَبَ بِهِ فِي جَنْبِهِ حَتَّى خَرَجَ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ! فَاتَّبَعُوا أَثَرِهِ حَتَّى أَتَوْا أَصْحَابَهُ فِي الْغَارِ، فَقَتَلَهُمْ أَجْمَعِينَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ. قَالَ إِسْحَاقُ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ فِيهِمْ قُرْآنًا: بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا، فَرَضِيَ عَنَّا، وَرَضِينَا عَنْهُ، ثُمَّ نُسِخَتْ، فَرُفِعَتْ بَعْدَ مَا قَرَأْنَاهُ زَمَانًا، وَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ» حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الأَنْصَارِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ص إِلَى عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ الْكِلابِيِّ سَبْعِينَ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ: فَقَالَ أَمِيرُهُمْ: مَكَانَكُمْ حَتَّى آتيكم بخبر القوم! فلما جاءهم قال: اتؤمنوننى حتى اخبركم برسالة رسول الله ص؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَبَيْنَا هُوَ عِنْدَهُمْ، إِذْ وَخَزَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ بِالسِّنَانِ قَالَ: فَقَالَ الرَّجُلُ: فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ! فَقُتِلَ، فَقَالَ: عَامِرٌ: لا أَحْسَبُهُ إِلا أَنَّ لَهُ أَصْحَابًا، فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُ حَتَّى أَتَوْهُمْ فَقَتَلُوهُمْ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلا رَجُلٌ وَاحِدٌ. قَالَ أَنَسٌ: فَكُنَّا نَقْرَأُ فِيمَا نُسِخَ: بَلِّغُوا عَنَّا إِخْوَانَنَا أَنَّ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا، فَرَضِيَ عَنَّا وَرَضِينَا عَنْهُ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي السَّنَةَ الرَّابِعَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ- أَجْلَى النَّبِيُّ ص بنى النضير من دِيَارِهِمْ . ذكر خبر جلاء بني النضير قَالَ ابو جعفر: وكان سبب ذلك ما قد ذكرنا قبل من قتل عمرو بْن

اميه الضمرى الرجلين الذين قتلهما فِي منصرفه من الوجه الذي كان رسول الله ص وجهه إليه مَعَ أصحاب بئر معونة، وكان لهما من رسول الله ص جوار وعهد وقيل إن عامر بْن الطفيل كتب الى رسول الله ص: إنك قتلت رجلين لهما منك جوار وعهد، فابعث بديتهما فانطلق رسول الله ص إلى قباء، ثُمَّ مال إلى بني النضير مستعينا بهم فِي ديتهما، ومعه نفر من المهاجرين والأنصار، فيهم أبو بكر وعمر وعلي وأُسَيْد بْن حضير. فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: خرج رسول الله ص إِلَى بَنِي النَّضِيرِ، يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ ذَيْنِكَ الْقَتِيلَيْنِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ اللَّذَيْنِ قَتَلَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، لِلْجِوَارِ الَّذِي كَانَ رَسُولُ الله ص عَقَدَهُ لَهُمَا، - كَمَا حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ- وَكَانَ بَيْنَ بَنِي النَّضِيرِ وَبَيْنَ بَنِي عَامِرٍ حلف وعقد، فلما أتاهم رسول الله ص يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ ذَيْنِكَ الْقَتِيلَيْنِ، قَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، نُعِينُكَ عَلى مَا أَحْبَبْتَ مِمَّا اسْتَعَنْتَ بِنَا عَلَيْهِ ثُمَّ خَلا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَقَالُوا: إِنَّكُمْ لَنْ تَجِدُوا هَذَا الرَّجُلَ على مثل حاله هذه- ورسول الله ص إِلى جَنْبِ جِدَارٍ مِنْ بُيُوتِهِمْ، قَاعِدٌ- فَقَالُوا: مَنْ رَجُلٌ يَعْلُو عَلَى هَذَا الْبَيْتِ، فَيُلْقِي عَلَيْهِ صَخْرَةً فَيَقْتُلُهُ بِهَا فَيُرِيحُنَا مِنْهُ؟ فَانْتُدِبَ لِذَلِكَ عَمْرُو بْنُ جِحَاشِ بْنِ كَعْبٍ أَحَدُهُمْ، فَقَالَ: أَنَا لِذَلِكَ، فَصَعِدَ لِيُلْقِيَ عَلَيْهِ الصَّخْرَةَ- كما قال- ورسول الله ص فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وعمر وعلى، فاتى رسول الله ص الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ بِمَا أَرَادَ الْقَوْمُ، فَقَامَ وَقَالَ لأَصْحَابِهِ: لا تَبْرَحُوا حَتَّى آتِيَكُمْ، وَخَرَجَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا اسْتَلْبَثَ رَسُولَ اللَّهِ ص أَصْحَابُهُ، قَامُوا فِي طَلَبِهِ، فَلَقَوْا رَجُلا مُقْبِلا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَسَأَلُوهُ عَنْهُ، فَقَالَ: رَأَيْتُهُ دَاخِلا المدينة، فاقبل اصحاب رسول الله ص حَتَّى انْتَهَوْا إِلَيْهِ، فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ بِمَا كَانَتْ يَهُودُ قَدْ أَرَادَتْ

من الغدر به، وامر رسول الله ص بِالتَّهَيُّؤِ لِحَرْبِهِمْ، وَالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ. ثُمَّ سَارَ بِالنَّاسِ إِلَيْهِمْ، حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ، فَتَحَصَّنُوا مِنْهُ فِي الحصون، فامر رسول الله ص بِقَطْعِ النَّخْلِ وَالتَّحْرِيقِ فِيهَا، فَنَادَوْهُ: يَا مُحَمَّدُ، قَدْ كُنْتَ تَنْهَى عَنِ الْفَسَادِ وَتَعِيبُهُ عَلَى مَنْ صَنَعَهُ، فَمَا بَالُ قَطْعِ النَّخْلِ وَتَحْرِيقِهَا! قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَ بَنِي النَّضِيرِ لَمَّا تَآمَرُوا بِمَا تَآمَرُوا بِهِ مِنْ إِدْلاءِ الصَّخْرَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص، نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ سَلامُ بْنُ مِشْكَمٍ وَخَوَّفَهُمُ الْحَرْبَ وَقَالَ: هُوَ يعَلْمُ مَا تُرِيدُونَ، فَعَصَوْهُ، فَصَعِدَ عَمْرُو بْنُ جِحَاشٍ لِيُدَحْرِجَ الصَّخْرَةَ، وَجَاءَ النبي ص الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ، فَقَامَ كَأَنَّهُ يُرِيدُ حَاجَةً، وَانْتَظَرَهُ أَصْحَابُهُ، فَأَبْطَأَ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَتْ يَهُودُ تَقُولُ: مَا حَبَسَ أَبَا الْقَاسِمِ، وَانْصَرَفَ أَصْحَابُهُ؟ فَقَالَ كِنَانَةُ بْنُ صُورِيَا: جَاءَهُ الْخَبَرُ بِمَا هَمَمْتُمْ بِهِ، قَالَ: وَلَمَّا رَجَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ص انْتَهَوْا إِلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْتَظَرْنَاكَ وَمَضَيْتَ، [فَقَالَ: هَمَّتْ يَهُودُ بِقَتْلِي، وَأَخْبَرَنِيهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ادْعُوا لِي مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ، قَالَ: فَأَتَى مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى يَهُودَ فَقُلْ لَهُمُ: اخْرُجُوا مِنْ بِلادِي فَلا تُسَاكِنُونِي وَقَدْ هَمَمْتُمْ بِمَا هَمَمْتُمْ بِهِ مِنَ الْغَدْرِ] . قَالَ: فَجَاءَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ رسول الله ص يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَظْعَنُوا مِنْ بِلادِهِ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، مَا كُنَّا نَظُنُّ أَنْ يَجِيئَنَا بِهَذَا رَجُلٌ مِنَ الأَوْسِ! فَقَالَ مُحَمَّدٌ: تَغَيَّرَتِ الْقُلُوبُ، وَمَحَا الإِسْلامُ الْعُهُودَ،

فَقَالُوا: نَتَحَمَّلُ قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ يَقُولُ: لا تَخْرُجُوا، فَإِنَّ مَعِي مِنَ الْعَرَبِ وَمِمَّنِ انْضَوَى إِلَيَّ مِنْ قَوْمِي أَلْفَيْنِ، فَأَقِيمُوا فَهُمْ يَدْخُلُونَ مَعَكُمْ، وَقُرَيْظَةُ تَدْخُلُ مَعَكُمْ فَبَلَغَ كَعْبَ بْنَ أَسَدٍ صَاحِبَ عَهْدِ بَنِي قُرَيْظَةَ فَقَالَ: لا يَنْقُضُ الْعَهْدَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَأَنَا حَيٌّ، فَقَالَ سَلامُ بْنُ مِشْكَمٍ لِحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ: يَا حُيَيُّ اقْبَلْ هَذَا الَّذِي قَالَ مُحَمَّدٌ، فَإِنَّمَا شَرُفْنَا عَلَى قَوْمِنَا بِأَمْوَالِنَا قَبْلَ أَنْ تَقْبَلَ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ قَالَ: وَمَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ؟ قَالَ: أَخْذُ الأَمْوَالِ وَسَبْيُ الذُّرِّيَّةِ وَقَتْلُ المقاتله، فأبى حيي، فأرسل جدي ابن اخطب الى رسول الله ص: إِنَّا لا نُرِيمُ دَارَنَا فَاصْنَعْ مَا بَدَا لك! قال: فكبر رسول الله ص، وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَقَالَ: حَارَبَتْ يَهُودُ، وَانْطَلَقَ جُدَيٌّ إِلى ابْنِ أُبَيٍّ يَسْتَمِدُّهُ قَالَ: فَوَجَدْتُهُ جَالِسًا فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَمُنَادِي النَّبِيِّ ص يُنَادِي بِالسِّلاحِ، فَدَخَلَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عبد الله ابن أُبَيٍّ، وَأَنَا عِنْدَهُ، فَأَخَذَ السِّلاحَ، ثُمَّ خَرَجَ يَعْدُو، قَالَ: فَأَيِسْتُ مِنْ مَعُونَتِهِ قَالَ: فَأَخْبَرْتُ بِذَلِكَ كُلِّهِ حُيَيًّا، فَقَالَ: هَذِهِ مَكِيدَةٌ مِنْ محمد، فزحف اليهم رسول الله ص، فحاصرهم رسول الله ص خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، حَتَّى صَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يَحْقِنَ لَهُمْ دِمَاءَهُمْ، وَلَهُ الأَمْوَالُ وَالْحَلَقَةُ. فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: حَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ص- يَعْنِي بَنِي النَّضِيرِ- خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا حَتَّى بَلَغَ مِنْهُمْ كُلَّ مَبْلَغٍ، فَأَعْطَوْهُ مَا أَرَادَ مِنْهُمْ، فَصَالَحَهُمْ عَلى أَنْ يَحْقِنَ لَهُمْ دِمَاءَهُمْ، وَأَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ، وَيُسَيِّرَهُمْ إِلَى أَذْرُعَاتِ الشَّامِ، وَجَعَلَ لِكُلِّ ثَلاثَةٍ مِنْهُمْ بَعِيرًا وسقاء

حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: قاتلهم النبي ص حَتَّى صَالَحَهُمْ عَلَى الْجَلاءِ، فَأَجْلاهُمْ إِلَى الشَّامِ، عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا أَقَلَّتِ الإِبِلُ مِنْ شَيْءٍ إِلا الْحَلْقَةَ- وَالْحَلْقَةُ: السِّلاحُ. رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: وَقَدْ كَانَ رَهْطٌ مِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، مِنْهُمْ عبد الله بن ابى بن سَلُولَ وَوَدِيعَةُ وَمَالِكُ بْنُ أَبِي قَوْقَلٍ، وَسُوَيْدٌ وَدَاعِسٌ قَدْ بَعَثُوا إِلَى بَنِي النَّضِيرِ: أَنِ اثْبُتُوا وَتَمَنَّعُوا، فَإِنَّا لَنْ نُسَلِّمَكُمْ، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ قَاتَلْنَا مَعَكُمْ، وَإِنْ أُخْرِجْتُمْ خَرَجْنَا مَعَكُمْ، فَتَرَبَّصُوا فَلَمْ يَفْعَلُوا: وَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فسألوا رسول الله ص أَنْ يُجْلِيَهُمْ، وَيَكُفَّ عَنْ دِمَائِهِمْ، عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا حَمَلَتِ الإِبِلُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، إِلا الْحَلْقَةَ فَفَعَلَ فَاحْتَمَلُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ الإِبِلُ، فَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَهْدِمُ بَيْتَهُ عَنْ نِجَافِ بَابِهِ، فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِهِ، فَيَنْطَلِقُ بِهِ فَخَرَجُوا إِلَى خَيْبَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَارَ إِلَى الشَّامِ، فَكَانَ أَشْرَافُهُمْ مِمَّنْ سَارَ مِنْهُمْ إِلَى خَيْبَرَ سَلامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَكِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحَقِيقِ، وَحُيَيّ بْن أَخْطَبَ، فَلَمَّا نَزَلُوهَا دَانَ لَهُمْ أَهْلُهَا. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ حَدَّثَ أَنَّهُمْ اسْتَقَلُّوا بِالنِّسَاءِ وَالأَبْنَاءِ وَالأَمْوَالِ، مَعَهُمُ الدُّفُوفُ وَالْمَزَامِيرِ وَالْقِيَانِ يَعْزِفْنَ خَلْفَهُمْ، وَأَنَّ فِيهِمْ يَوْمَئِذٍ لأُمُّ عَمْرٍو، صَاحِبَةُ عُرْوَةَ بْنِ الْوَرْدِ الْعَبْسِيِّ، الَّتِي ابْتَاعُوا مِنْهُ، وَكَانَتْ إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي غِفَارٍ بِزُهَاءٍ وَفَخْرٍ، مَا رُئِيَ مِثْلُهُ مِنْ حَيٍّ مِنَ الناس في

غزوه ذات الرقاع

زمانهم، وخلوا الأموال لرسول الله ص، فكانت لرسول الله ص خَاصَةً يَضَعُهَا حَيْثُ يَشَاءُ، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ ص عَلَى الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ دُونَ الأَنْصَارِ، إِلا أَنَّ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ وَأَبَا دُجَانَةَ سِمَاكَ بْنَ خرشه، ذكرا فقرا فأعطاهما رسول الله ص وَلَمْ يُسْلِمْ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ إِلا رَجُلانِ: يَامِينُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ كَعْبٍ ابْنِ عَمِّ عَمْرِو بْنِ جَحَّاشٍ، وَأَبُو سَعْدِ بْنُ وَهْبٍ، أَسْلَمَا عَلَى أَمْوَالِهِمَا فَأَحْرَزَاهَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: واستخلف رسول الله ص إِذْ خَرَجَ لِحَرْبِ بَنِي النَّضِيرِ- فِيمَا قِيلَ- ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَكَانَتْ رَايَتُهُ يَوْمَئِذٍ مَعَ على بن ابى طالب ع. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فِي جُمَادَى الأُولَى مِنْهَا، وَهُوَ ابْنُ سِتِّ سِنِينَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ الله ص، وَنَزَلَ فِي حُفْرَتِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ. وَفِيهَا ولد الحسين بن على ع، لليال خلون من شعبان غزوه ذات الرقاع وَاخْتُلِفَ فِي الَّتِي كَانَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ النَّبِيِّ ص بَنِي النَّضِيرِ مِنْ غَزَوَاتِهِ، فَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ في ذلك، ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: ثم اقام رسول الله ص بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ شَهْرَيْ رَبِيعٍ، وَبَعْضَ شَهْرِ جُمَادَى ثُمَّ غَزَا نَجْدًا- يُرِيدُ بَنِي مُحَارِبٍ وَبَنِي ثَعْلَبَةَ مِنْ غَطَفَانَ- حَتَّى

نزل نخلا، وَهِيَ غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ، فَلَقِيَ بِهَا جَمْعًا مِنْ غَطَفَانَ، فَتَقَارَبَ النَّاسُ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ حرب، وقد خاف النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ص بِالْمُسْلِمِينَ صَلاةَ الْخَوْفِ، ثُمَّ انْصَرَفَ بِالْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ غَزْوَةَ رَسُولِ اللَّهِ ص ذَاتَ الرِّقَاعِ، كَانَتْ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ قَالَ: وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ ذَاتَ الرِّقَاعِ، لأَنَّ الْجَبَلَ الَّذِي سُمِّيَتْ بِهِ ذَاتَ الرِّقَاعِ جَبَلٌ بِهِ سَوَادٌ وَبَيَاضٌ وَحُمْرَةٌ، فَسُمِّيَتِ الْغَزْوَةُ بذلك الجبل قال: واستخلف رسول الله ص فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ عَلَى الْمَدِينَةِ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَمُحَمَّدُ- يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ- عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله ص إِلَى نَجْدٍ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِذَاتِ الرِّقَاعِ مِنْ نَخْلَ، لَقِيَ جَمْعًا مِنْ غَطْفَانَ، فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا قِتَالٌ، إِلا أَنَّ النَّاسَ قَدْ خَافُوهُمْ، وَنَزَلَتْ صَلاةُ الْخَوْفِ، فَصَدَعَ أَصْحَابُهُ صَدْعَيْنِ، فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مُوَاجِهَةٌ الْعَدُوَّ، وَقَامَتْ طَائِفَةٌ خَلْفَ رسول الله ص، فكبر رسول الله ص، فَكَبَّرُوا جَمِيعًا، ثُمَّ رَكَعَ بِمَنْ خَلْفَهُ، وَسَجَدَ بِهِمْ، فَلَمَّا قَامُوا مَشَوْا الْقَهْقَرَى إِلَى مَصَافِّ أَصْحَابِهِمْ، وَرَجَعَ الآخَرُونَ، فَصَلَّوْا لأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً، ثُمَّ قاموا فصلى بهم رسول الله ص رَكْعَةً وَجَلَسُوا، وَرَجَعَ الَّذِينَ كَانُوا مُوَاجِهِينَ الْعَدُوَّ، فَصَلَّوْا الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ،

فجلسوا جميعا، فجمعهم رسول الله ص بِالسَّلامِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِي صِفَةِ صَلاةِ رَسُولِ اللَّهِ ص هَذِهِ الصَّلاةِ بِبَطْنِ نَخْلٍ اخْتِلافًا مُتَفَاوِتًا، كَرِهْتُ ذِكْرَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ خَشْيَةَ إِطَالَةِ الْكِتَابِ، وَسَأَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى بَسِيطُ الْقَوْلِ فِي أَحْكَامِ شَرَائِعِ الإِسْلامِ فِي كِتَابِ صَلاةِ الْخَوْفِ مِنْهُ وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْيَشْكِرِيِّ، أَنَّهُ سَأَلَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ إِقْصَارِ الصَّلاةِ: أَيَّ يَوْمٍ أُنْزِلَ، أَوْ فِي أَيِّ يَوْمٍ هُوَ؟ فَقَالَ جَابِرٌ: انْطَلَقْنَا نَتَلَقَّى عِيرَ قُرَيْشٍ آتِيَةً مِنَ الشَّامِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِنَخْلَ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ الى رسول الله ص، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: هَلْ تَخَافُنِي؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَمَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: اللَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْكَ، قَالَ: فَسَلَّ السَّيْفَ ثُمَّ تَهَدَّدَهُ وَأَوْعَدَهُ ثُمَّ نَادَى بِالرَّحِيلِ وَأَخْذِ السِّلاحِ. ثُمَّ نُودِيَ بِالصَّلاةِ، فَصَلَّى نَبِيُّ اللَّهِ ص بِطَائِفَةٍ مِنَ الْقَوْمِ، وَطَائِفَةٌ أُخْرَى تَحْرُسُهُمْ، فَصَلَّى بالذين يَلُونَهُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَأَخَّرَ الَّذِينَ يَلُونَهُ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، فَقَامُوا فِي مَصَافِّ أَصْحَابِهِمْ، ثُمَّ جَاءَ الآخَرُونَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، وَالآخَرُونَ يَحْرُسُونَهُمْ ثُمَّ سلم، فكانت للنبي ص أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَيَوْمَئِذٍ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِقْصَارِ الصَّلاةِ، وَأُمِرَ الْمُؤْمِنُونَ بِأَخْذِ السِّلاحِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، قال: حدثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، عن الحسن البصري، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّ رَجُلا مِنْ بَنِي مُحَارِبٍ يُقَالُ لَهُ فُلانُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ لِقَوْمِهِ مِنْ غَطْفَانَ وَمُحَارِبٍ: أَلا أَقْتُلُ لَكُمْ مُحَمَّدًا؟ قَالُوا: نَعَمْ، وَكَيْفَ تَقْتُلُهُ؟ قَالَ: أَفْتِكُ بِهِ، فَأَقْبَلَ إِلَى رَسُولِ الله ص وهو جالس، وسيف

رسول الله ص فِي حِجْرِهِ، [فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، انْظُرْ إِلَى سَيْفِكَ هَذَا! قَالَ: نَعَمْ، فَأَخَذَهُ فَاسْتَلَّهُ، ثُمَّ جَعَلَ يَهُزُّهُ وَيَهِمُّ بِهِ، فَيَكْبِتُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَمَا تَخَافُنِي؟ قَالَ: لا، وَمَا أَخَافُ مِنْكَ؟ قَالَ: أَمَا تخافنى وفي يدي السيف؟ قال: لا، يمنعني الله منك! قال: ثم غمد السيف، فرده الى رسول الله ص، فانزل الله عز وجل: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ] » . حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي صَدَقَةُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ عَقِيلِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ جابر ابن عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله ص فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ مِنْ نَخْلَ، فَأَصَابَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ امْرَأَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا انصرف رسول الله ص قَافِلا أَتَى زَوْجُهَا وَكَانَ غَائِبًا، فَلَمَّا أُخْبِرَ الْخَبَرَ، حَلَفَ أَلا يَنْتَهِيَ حَتَّى يُهْرِيقَ فِي أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ دَمًا، فَخَرَجَ يَتْبَعُ أَثَرَ رَسُولِ الله ص، فنزل رسول الله ص مَنْزِلا، فَقَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَكْلَؤُنَا لَيْلَتَنَا هَذِهِ؟ فَانْتُدِبَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالا: نَحْنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَكُونَا بفم الشعب- وكان رسول الله ص وَأَصْحَابُهُ قَدْ نَزَلُوا الشِّعْبَ، مِنْ بَطْنِ الْوَادِي- فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلانِ إِلَى فَمِ الشِّعْبِ، قَالَ الأَنْصَارِيُّ لِلْمُهَاجِرِيِّ، أَيُّ اللَّيْلِ تُحِبُّ أَنْ أَكْفِيَكَهُ؟ أَوَّلَهُ أَوْ آخِرَهُ؟ قَالَ: بَلِ اكْفِنِي أَوَّلَهُ، فَاضْطَجَعَ الْمُهَاجِرِيُّ فَنَامَ، وَقَامَ الأَنْصَارِيُّ يُصَلِّي، وَأَتَى زَوْجُ الْمَرْأَةِ، فَلَمَّا رَأَى شَخْصَ الرَّجُلِ عَرَفَ أَنَّهُ رَبِيئَةُ الْقَوْمِ، فَرَمَى بِسَهْمٍ فَوَضَعَهُ فِيهِ فَنَزَعَهُ، فَوَضَعَهُ وَثَبَتَ قَائِمًا يُصَلِّي ثُمَّ رَمَاهُ بِسَهْمٍ آخَرَ، فَوَضَعَهُ فِيهِ، فَنَزَعَهُ، فَوَضَعَهُ وَثَبَتَ قَائِمًا يُصَلِّي، ثُمَّ عَادَ لَهُ بِالثَّالِثِ فَوَضَعَهُ فِيهِ، فَنَزَعَهُ فَوَضَعَهُ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ، ثُمَّ أَهَبَّ صَاحِبَهُ، فَقَالَ: اجْلِسْ، فَقَدْ أَتَيْتُ

ذكر الخبر عن غزوه السويق

قَالَ: فَوَثَبَ الْمُهَاجِرِيُّ، فَلَمَّا رَآهُمَا الرَّجُلُ، عَرَفَ أَنَّهُمْ قَدْ نَذَرُوا بِهِ، وَلَمَّا رَأَى الْمُهَاجِرِيُّ مَا بِالأَنْصَارِيِّ مِنَ الدِّمَاءِ، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! افلا، اهببتنى أَوَّلَ مَا رَمَاكَ! قَالَ: كُنْتُ فِي سُورَةٍ أَقْرَؤُهَا فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ أَقْطَعَهَا حَتَّى أَنْفِدَهَا، فلما تتابع على الرمى ركعت فَآذَنْتُكَ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْلا أَنْ أُضَيِّعَ ثَغْرًا أمرني رسول الله ص بِحِفْظِهِ لَقُطِعَ نَفَسِي قَبْلَ أَنْ أَقْطَعَهَا أَوْ أَنْفِدَهَا . ذِكْرُ الْخَبَرِ عَنْ غَزْوَةِ السَّوِيقِ وَهِيَ غزوه النبي ص بَدْرًا الثَّانِيَةَ لِمِيعَادِ أَبِي سُفْيَانَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما قدم رسول الله ص الْمَدِينَةَ مِنْ غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ، أَقَامَ بِهَا بقية جمادى الاولى وجمادى الآخرة ورجب، ثُمَّ خَرَجَ فِي شَعْبَانَ إِلَى بَدْرٍ لِمِيعَادِ أَبِي سُفْيَانَ حَتَّى نَزَلَهُ، فَأَقَامَ عَلَيْهِ ثَمَانِيَ لَيَالٍ يَنْتَظِرُ أَبَا سُفْيَانَ، وَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ فِي أَهْلِ مَكَّةَ، حَتَّى نَزَلَ مَجَنَّةَ مِنْ نَاحِيَةِ مَرِّ الظَّهْرَانِ- وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: قَدْ قَطَعَ عُسْفَانَ- ثُمَّ بَدَا لَهُ الرُّجُوعُ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّهُ لا يُصْلِحُكُمْ إِلا عَامُ خِصْبٍ تَرْعونَ فِيهِ الشَّجَرَ، وَتَشْرَبُونَ فِيهِ اللَّبَنَ، وَإِنَّ عَامَكُمْ هَذَا عَامُ جَدْبٍ، وَإِنِّي رَاجِعٌ فَارْجِعُوا فَرَجَعَ وَرَجَعَ النَّاسُ، فَسَمَّاهُم أَهْلُ مَكَّةَ جَيْشَ السَّوِيقِ يَقُولُونَ: إِنَّمَا خَرَجْتُمْ تَشْرَبُونَ السويق. فأقام رسول الله ص عَلَى بَدْرٍ يَنْتَظِرُ أَبَا سُفْيَانَ لِمِيعَادِهِ، فَأَتَاهُ مَخْشِيُّ بْنُ عَمْرٍو الضَّمْرِيُّ، وَهُوَ وَالَّذِي وَادَعَهُ عَلَى بَنِي ضَمْرَةَ فِي غَزْوَةِ وَدَّانَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَجِئْتَ لِلِقَاءِ قُرَيْشٍ عَلَى هَذَا الْمَاءِ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَخَا بَنِي ضَمْرَةَ، وَإِنْ شِئْتَ مَعَ ذَلِكَ رَدَدْنَا إِلَيْكَ مَا كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ،

ثُمَّ جَالَدْنَاكَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ فَقَالَ: لا وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ، مَا لَنَا بِذَلِكَ مِنْكَ مِنْ حَاجَةٍ، وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ص يَنْتَظِرُ أَبَا سُفْيَانَ، فَمَرَّ بِهِ مَعْبَدُ بْنُ أَبِي مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيُّ، وَقَدْ رَأَى مَكَانَ رَسُولِ الله ص وَنَاقَتَهُ تَهوي بِهِ فَقَالَ: قَدْ نَفَرَتْ مِنْ رفقتى محمد ... وَعَجْوَةٍ مِنْ يَثْرِبَ كَالْعَنْجَدِ تَهْوِي عَلَى دِينِ أَبِيهَا الأَتْلَدِ ... قَدْ جَعَلَتْ مَاءَ قَدِيدٍ مَوْعِدِي وَمَاءَ ضَجْنَانَ لَهَا ضُحَى الْغَدِ. وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ، فانه ذكر ان رسول الله ص نَدَبَ أَصْحَابَهُ لِغَزْوَةِ بَدْرٍ لِمَوْعِدِ أَبِي سُفْيَانَ الَّذِي كَانَ وَعَدَهُ الالْتِقَاءَ فِيهِ يَوْمَ أُحُدٍ رَأْسَ الْحَوْلِ لِلْقِتَالِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ قَالَ: وَكَانَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الأَشْجَعِيُّ قَدِ اعْتَمَرَ، فَقَدِمَ عَلَى قُرَيْشٍ، فَقَالُوا: يَا نُعَيْمُ، مِنْ أَيْنَ كَانَ وَجْهُكَ؟ قَالَ: مِنْ يَثْرِبَ، قَالَ: وَهَلْ رَأَيْتَ لِمُحَمَّدٍ حَرَكَةً؟ قَالَ: تَرَكْتُهُ عَلَى تَعْبِئَةٍ لِغَزْوِكُمْ، - وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ نُعَيْمٌ- قَالَ: فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ: يَا نُعَيْمُ، إِنَّ هَذَا عَامُ جَدْبٍ، وَلا يُصْلِحُنَا إِلا عَامٌ تَرْعَى فِيهِ الإِبِلُ الشَّجَرَ، وَنَشْرَبُ فِيهِ اللَّبَنَ، وَقَدْ جَاءَ أَوَانُ مَوْعِدِ مُحَمَّدٍ، فَالْحَقْ بالمدينة فثبطهم وعلمهم أَنَّا فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، وَلا طَاقَةَ لَهُمْ بِنَا، فَيَأْتِي الْخَلْفَ مِنْهُمْ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ قِبَلِنَا، وَلَكَ عَشْرُ فَرَائِضَ أَضَعُهَا لَكَ فِي يَدِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يضمنها فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو إِلَيْهِمْ، فَقَالَ نُعَيْمٌ لِسُهَيْلٍ: يَا أَبَا يَزِيدَ، أَتَضْمَنُ هَذِهِ الْفَرَائِضَ وَأَنْطَلِقُ إِلَى مُحَمَّدٍ فَأُثَبِّطُهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَخَرَجَ نُعَيْمٌ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَوَجَدَ النَّاسَ يَتَجَهَّزُونَ، فَتَدَسَّسَ لَهُمْ، وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا بِرَأْيٍ،

أَلَمْ يُجْرَحْ مُحَمَّدٌ فِي نَفْسِهِ! أَلَمْ يُقْتَلْ أَصْحَابُهُ! قَالَ: فَثَبَّطَ النَّاسَ، [حَتَّى بَلَغَ رَسُولَ الله ص، فَتَكَلَّمَ، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ لَمْ يَخْرُجْ مَعِي أَحَدٌ لَخَرَجْتُ وَحْدِي] . ثُمَّ أَنْهَجَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُسْلِمِينَ بَصَائِرَهُمْ، فَخَرَجُوا بِتِجَارَاتٍ، فأصابوا الدرهم دِرْهَمَيْنِ، وَلَمْ يَلْقَوْا عَدُوًّا، وَهِيَ بَدْرٌ الْمَوْعِدِ، وَكَانَتْ مَوْضِعَ سُوقٍ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، يَجْتَمِعُونَ إِلَيْهَا فِي كُلِّ عَامٍ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ قَالَ ابو جعفر: واستخلف رسول الله ص عَلَى الْمَدِينَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ. قَالَ الواقدي: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ ص أُمَّ سَلَمَةَ بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ فِي شَوَّالٍ، وَدَخَلَ بِهَا. [قَالَ: وَفِيهَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ص زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ يَهُودَ، وَقَالَ: إِنِّي لا آمَنُ أَنْ يُبَدِّلُوا كِتَابِي] . وَوَلِيَ الْحَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْمُشْرِكُونَ

السنه الخامسه من الهجره

ثُمَّ كَانَتِ السَّنَةُ الْخَامِسَةُ مِنَ الْهِجْرَةِ فَفِي هذه السنه تزوج رسول الله ص زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ . حُدِّثْتُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ الأَسْلَمِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، قال: جاء رسول الله ص بَيْتَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَكَانَ زَيْدٌ إِنَّمَا يُقَالُ لَهُ زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، رُبَّمَا فَقَدَهُ رسول الله ص السَّاعَةَ، فَيَقُولُ: أَيْنَ زَيْدٌ؟ فَجَاءَ مَنْزِلَهُ يَطْلُبُهُ فَلَمْ يَجِدْهُ، وَقَامَتْ إِلَيْهِ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ زوجته فضلا، فاعرض عنها رسول الله ص، فقالت: ليس هو هاهنا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَادْخُلْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! فأبى رسول الله ص أَنْ يَدْخُلَ، وَإِنَّمَا عَجِلَتْ زَيْنَبُ أَنْ تَلْبَسَ إذ قيل لها: رسول الله ص عَلَى الْبَابِ، فَوَثَبَتْ عَجِلَةً، فَأَعْجَبَتْ رَسُولَ اللَّهِ ص، فَوَلَّى وَهُوَ يُهَمْهِمُ بِشَيْءٍ لا يَكَادُ يُفْهَمُ، إِلا أَنَّهُ أَعْلَنَ: سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ! سُبْحَانَ اللَّهِ مُصَرِّفِ الْقُلُوبِ! قَالَ: فَجَاءَ زَيْدٌ إِلَى منزله، فاخبرته امراته ان رسول الله ص أَتَى مَنْزِلَهُ، فَقَالَ زَيْدٌ: أَلا قُلْتِ لَهُ: ادْخُلْ! فَقَالَتْ: قَدْ عَرَضْتُ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَأَبَى، قَالَ: فَسَمِعْتِهِ يَقُولُ شَيْئًا؟ قَالَتْ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ حِينَ وَلَّى: سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ، سُبْحَانَ اللَّهِ مُصَرِّفِ الْقُلُوبِ! فَخَرَجَ زَيْدٌ حَتَّى أَتَى رَسُولَ الله ص، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلَغَنِي أَنَّكَ جِئْتَ مَنْزِلِي، فَهَلا دَخَلْتَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَعَلَّ زَيْنَبَ أَعْجَبَتْكَ فَأُفَارِقُهَا! [فَقَالَ رسول الله ص: امسك

عَلَيْكَ زَوْجَكَ، فَمَا اسْتَطَاعَ زَيْدٌ إِلَيْهَا سَبِيلا بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَكَانَ يَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ ص فيخبره، فيقول له رسول الله ص: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، فَفَارَقَهَا زَيْدٌ وَاعْتَزَلَهَا وَحَلَّتْ] . فبينا رسول الله ص يَتَحَدَّثُ مَعَ عَائِشَةَ، إِذْ أَخَذَتْ رَسُولَ اللَّهِ ص غَشْيَةٌ، فَسُرِّيَ عَنْهُ وَهُوَ يَتْبَسِمُ وَيَقُولُ: مَنْ يَذْهَبُ إِلَى زَيْنَبَ يُبَشِّرُهَا، يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ زوجنيها؟ وتلا رسول الله ص: «وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» الْقِصَّةَ كُلَّهَا. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَخَذَنِي مَا قَرُبَ وَمَا بَعُدَ لِمَا يَبْلُغُنَا مِنْ جَمَالِهَا، وَأُخْرَى هِيَ أَعْظَمُ الأُمُورِ وَأَشْرَفُهَا، مَا صَنَعَ اللَّهُ لَهَا، زَوَّجَهَا، فَقُلْتُ: تَفْخَرُ عَلَيْنَا بِهَذَا. قَالَتْ عائشة: فخرجت سلمى خادم رسول الله ص تُخْبِرُهَا بِذَلِكَ، فَأَعْطَتْهَا أَوْضَاحًا عَلَيْهَا. حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قال: قال ابن زيد: كان النبي ص قَدْ زَوَّجَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ زَيْنَبَ بِنْتَ جحش ابنه عمته، فخرج رسول الله ص يَوْمًا يُرِيدُهُ، وَعَلَى الْبَابِ سِتْرٌ مِنْ شَعْرٍ، فَرَفَعَتِ الرِّيحُ السِّتْرَ فَانْكَشَفَ وَهِيَ فِي حُجْرَتِهَا حاسره، فوقع إعجابها في قلب النبي ص، فَلَمَّا وَقَعَ ذَلِكَ كُرِّهَتْ إِلَى الآخَرِ، قَالَ: فَجَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُرِيدُ ان افارق صاحبتي، فقال: مالك! أَرَابَكَ مِنْهَا شَيْءٌ! فَقَالَ: لا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا رَابَنِي مِنْهَا شَيْءٌ، وَلا رَأَيْتُ إِلا خَيْرًا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ص: امسك عليك زوجك واتق الله، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَإِذْ تَقُولُ

غزوه دومه الجندل

لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ» ، تخفى في نفسك ان فارقها تزوجتها. غزوه دومه الجندل قَالَ الواقدي: وفيها غزا دومة الجندل فِي شهر ربيع الأول، وكان سببها أَنَّ رَسُولَ الله ص بلغه أن جمعا تجمعوا بها ودنوا من اطرافه فغزاهم رسول الله ص، حَتَّى بلغ دومة الجندل، ولم يلق كيدا، وخلف على المدينة سباع بْن عرفطة الغفاري. قَالَ أبو جعفر: وفيها وادع رَسُول اللَّهِ ص عيينه ابن حصن أن يرعى بتغلمين وما والاها. قَالَ محمد بْن عمر- فيما حدثني إبراهيم بْن جعفر، عن أبيه- وذلك أن بلاد عيينة اجدبت، فوادع رسول الله ص أن يرعى بتغلمين إلى المراض، وكان ما هنالك قد أخصب بسحابة وقعت، فوادعه رَسُول الله ص أن يرعى فيما هنالك. قَالَ الواقدي: وفيها توفيت أم سعد بْن عبادة وسعد غائب مع رسول الله ص إلى دومة الجندل ذكر الخبر عن غزوة الخندق وفيها: كانت غزوه رسول الله ص الخندق فِي شوال، حَدَّثَنَا بذلك ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن ابن إسحاق:

وكان الذى جر غزوه رسول الله ص الخندق- فيما قيل- ما كان من إجلاء رسول الله ص بني النضير عن ديارهم. فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، مَوْلَى آلِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَمَنْ لا أَتَّهِمُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَعَنِ الزُّهْرِيِّ، وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بكر بن مُحَمَّد بن عمرو بن حزم، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَعَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَائِنَا، كُلٌّ قَدِ اجْتَمَعَ حَدِيثُهُ فِي الْحَدِيثِ عَنِ الْخَنْدَقِ، وَبَعْضُهُمْ يُحَدِّثُ مَا لا يُحَدِّثُ بَعْضٌ، أَنَّهُ كَانَ مِنْ حَدِيثِ الْخَنْدَقِ أَنَّ نَفَرًا مِنَ الْيَهُودِ مِنْهُمْ سَلامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ النَّضْرِيُّ وَحُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ النَّضْرِيُّ، وَكِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ النَّضْرِيُّ، وَهَوْذَةُ بْنُ قَيْسٍ الْوَائِلِيُّ، وَأَبُو عَمَّارٍ الْوَائِلِيُّ، فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ وَنَفَرٍ مِنْ بَنِي وَائِلٍ، هُمُ الَّذِينَ حَزَّبُوا الأَحْزَابَ عَلَى رسول الله ص، خَرَجُوا حَتَّى قَدِمُوا عَلَى قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ، فَدَعَوْهُمْ الى حرب رسول الله ص، وَقَالُوا: إِنَّا سَنَكُونُ مَعَكُمْ عَلَيْهِ حَتَّى نَسْتَأْصِلَهُ، فَقَالَتْ لَهُمْ قُرَيْشٌ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، إِنَّكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الأَوَّلِ، وَالْعِلْمِ بِمَا أَصْبَحْنَا نَخْتَلِفُ فِيهِ نَحْنُ وَمُحَمَّدٌ، أَفَدِينُنَا خَيْرٌ أَمْ دِينُهُ؟ قَالُوا: بَلْ دِينُكُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ، وَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْهُ قَالَ: فَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا» - إِلَى قَوْلِهِ- «وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً» . فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ لِقُرَيْشٍ، سَرَّهُمْ مَا قَالُوا وَنَشَطُوا لِمَا دَعَوْهُمْ إِلَيْهِ مِنْ حَرْبِ رَسُولِ الله ص، فَأَجْمَعُوا لِذَلِكَ وَاتَّعَدُوا لَهُ

ثُمَّ خَرَجَ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنْ يَهُودَ حَتَّى جاءوا غطفان من قيس عيلان فدعوهم الى حرب رسول الله ص، وَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّهُمْ سَيَكُونُونَ مَعَهُمْ عَلَيْهِ، وَأَنَّ قُرَيْشًا تَابَعُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَجْمَعُوا فِيهِ، فَأَجَابُوهُمْ. فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ وَقَائِدُهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَخَرَجَتْ غَطَفَانُ وَقَائِدُهَا عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ فِي بَنِي فَزَارَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَوْفِ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ الْمُرِّيُّ فِي بَنِي مره، ومسعود بن رخيله بن نويره ابن طَرِيفِ بْنِ سَحْمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِلالِ بْنِ خَلاوَةَ بْنِ أَشْجَعَ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ، فِيمَنْ تَابَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ اشجع. فلما سمع بهم رسول الله ص وَبِمَا أَجْمَعُوا لَهُ مِنَ الأَمْرِ، ضَرَبَ الْخَنْدَقَ عَلَى الْمَدِينَةِ فحدثت عن محمد بْن عمر، قَالَ: كان الذي أشار على رَسُول اللَّهِ ص بالخندق سلمان، وكان أول مشهد شهده سلمان مع رسول الله ص، وهو يومئذ حر، وقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا. رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق: فعمل رسول الله ص ترغيبا للمسلمين فِي الأجر، وعمل فيه المسلمون: فدأب فيه ودأبوا، وأبطأ عن رَسُول اللَّهِ ص وعن المسلمين فِي عملهم رجال من المنافقين، وجعلوا يورون بالضعف من العمل، ويتسللون إلى أهاليهم بغير علم من رسول الله ص ولا إذن وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته نائبة من الحاجة التي لا بد منها يذكر ذلك لرسول الله ص ويستأذنه فِي اللحوق بحاجته، فيأذن له،

فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله رغبة فِي الخير، واحتسابا له، فأنزل الله عز وجل: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ» إلى قوله: «وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» فنزلت هذه الآية فِي كل من كان من أهل الحسبة من المؤمنين والرغبة فِي الخير، والطاعة لله ولرسوله ص ثُمَّ قَالَ يعني المنافقين الذين كانوا يتسللون من العمل، ويذهبون بغير إذن رَسُول اللَّهِ ص: «لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً» إلى قوله: «قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ» ، أي قد علم ما أنتم عليه من صدق أو كذب، وعمل المسلمون فيه حَتَّى أحكموه، وارتجزوا فيه برجل من المسلمين يقال له جعيل، فسماه رسول الله ص عمرا، فقالوا: سماه من بعد جعيل عمرا وكان للبائس يوما ظهرا فإذا مروا بعمرو، قال رسول الله ص عمرا، وإذا قالوا: ظهرا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: ظهرا. فَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ عَثْمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، قال: خط رسول الله ص الْخَنْدَقَ عَامَ الأَحْزَابِ

مِنْ أَجَمِ الشَّيْخَيْنِ طَرَفَ بَنِي حَارِثَةَ، حَتَّى بَلَغَ الْمَذَادَ ثُمَّ قَطَعَهُ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا بَيْنَ كُلِّ عَشَرَةٍ، فَاحْتَقَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ فِي سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ- وَكَانَ رَجُلا قَوِيًّا- فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: سَلْمَانُ مِنَّا، وَقَالَتِ الْمُهَاجِرُونَ: سَلْمَانُ مِنَّا، [فَقَالَ رَسُولُ الله ص: سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ،] قَالَ عَمْرُو بْنُ عَوْفٍ: فَكُنْتُ أَنَا وَسَلْمَانُ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ الْمُزَنِيُّ، وَسِتَّةٌ مِنَ الأَنْصَارِ في اربعين ذراعا، فحفرنا تحت ذو باب حَتَّى بَلَغْنَا النَّدَى، فَأَخْرَجَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ بَطْنِ الْخَنْدَقِ صَخْرَةً بَيْضَاءَ مَرْوَةً فَكَسَرَتْ حَدِيدَنَا، وَشَقَّتْ عَلَيْنَا فَقُلْنَا: يَا سَلْمَانُ، ارْقَ الى رسول الله ص فَأَخْبِرْهُ خَبَرَ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَإِمَّا أَنْ نَعْدِلَ عَنْهَا فَإِنَّ الْمَعْدَلَ قَرِيبٌ، وَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَنَا فِيهَا بِأَمْرِهِ، فَإِنَّا لا نُحِبُّ أَنْ نُجَاوِزَ خَطَّهُ. فَرَقِيَ سَلْمَانُ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ص وَهُوَ ضَارِبٌ عَلَيْهِ قُبَّةً تُرْكِيَّةً، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِينَا أَنْتَ وَأُمِّنَا! خَرَجَتْ صَخْرَةٌ بَيْضَاءُ مِنَ الْخَنْدَقِ مَرْوَةٌ، فَكَسَرَتْ حَدِيدَنَا، وَشَقَّتْ عَلَيْنَا حَتَّى مَا نَحِيكُ فِيهَا قَلِيلا وَلا كَثِيرًا، فَمُرْنَا فِيهَا بِأَمْرِكَ، فَإِنَّا لا نُحِبُّ ان نجاوز خطك

فهبط رسول الله ص مَعَ سَلْمَانَ فِي الْخَنْدَقِ، وَرَقِينَا نَحْنُ التِّسْعَةَ على شقه الخندق، فاخذ رسول الله ص الْمِعْوَلَ مِنْ سَلْمَانَ، فَضَرَبَ الصَّخْرَةَ ضَرْبَةً صَدَعَهَا، وَبَرَقَتْ مِنْهَا بَرْقَةٌ أَضَاءَ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا- يَعْنِي لابَتَيِ الْمَدِينَةِ- حَتَّى لَكَأَنَّ مِصْبَاحًا فِي جوف بيت مظلم فكبر رسول الله ص تَكْبِيرَ فَتْحٍ، وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ ثُمَّ ضَرَبَهَا رَسُولُ الله ص الثَّانِيَةَ، فَصَدَعَهَا وَبَرَقَ مِنْهَا بَرْقَةٌ أَضَاءَ مِنْهَا مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا، حَتَّى لَكَأَنَّ مِصْبَاحًا فِي جوف بيت مظلم، فكبر رسول الله ص تَكْبِيرَ فَتْحٍ وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ. ثُمَّ ضَرَبَهَا رَسُولُ الله ص الثَّالِثَةَ فَكَسَرَهَا، وَبَرَقَ مِنْهَا بَرْقَةً أَضَاءَ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا، حَتَّى لَكَأَنَّ مِصْبَاحًا فِي جَوْفِ بيت مظلم، فكبر رسول الله ص تكبير فتح وكبر المسلمون، ثم أخذ بيد سَلْمَانُ فَرَقِيَ، فَقَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَقَدْ رَأَيْتُ شَيْئًا مَا رايته قط! [فالتفت رسول الله ص إِلَى الْقَوْمِ، فَقَالَ: هَلْ رَأَيْتُمْ مَا يَقُولُ سَلْمَانُ؟ قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِينَا أَنْتَ وَأُمِّنَا قَدْ رَأَيْنَاكَ تَضْرِبُ فَيَخْرُجُ بَرْقٌ كَالْمَوْجِ، فَرَأَيْنَاكَ تُكَبِّرُ فَنُكَبِّرُ، وَلا نَرَى شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ. قَالَ: صَدَقْتُمْ، ضَرَبْتُ ضَرْبَتِي الأُولَى، فَبَرَقَ الَّذِي رَأَيْتُمْ، أَضَاءَتْ لِي مِنْهَا قُصُورَ الْحِيرَةِ وَمَدَائِنِ كِسْرَى، كَأَنَّهَا أَنْيَابُ الْكِلابِ، فَأَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةٌ عَلَيْهَا، ثُمَّ ضَرَبْتُ ضَرْبَتِي الثَّانِيَةَ، فَبَرَقَ الَّذِي رَأَيْتُمْ، أَضَاءَتْ لِي مِنْهَا قُصُورَ الْحُمُرِ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ، كَأَنَّهَا أَنْيَابُ الْكِلابِ، فَأَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةٌ عَلَيْهَا، ثُمَّ ضَرَبْتُ ضَرْبَتِي الثَّالِثَةُ، فَبَرَقَ مِنْهَا الَّذِي رَأَيْتُمْ، أَضَاءَتْ لِي مِنْهَا قُصُورُ صَنْعَاءَ كَأَنَّهَا أَنْيَابُ الْكِلابِ، فَأَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةٌ عَلَيْهَا، فَأَبْشِرُوا يُبَلِّغُهُمُ النَّصْرَ، وَأَبْشِرُوا يُبَلِّغُهُمُ النَّصْرَ، وَأَبْشِرُوا يُبَلِّغُهُمُ النَّصْرُ! فَاسْتَبْشَرَ الْمُسْلِمُونَ، وَقَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ مُوعِدَ صَادِقٍ بَارٍّ، وَعَدَنَا النَّصْرَ بَعْدَ الْحَصْرَ فَطَلَعَتِ الأَحْزَابُ، فَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ: «هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً»

وَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: أَلا تَعْجَبُونَ! يُحَدِّثُكُمْ وَيُمَنِّيكُمْ وَيَعِدُكُمُ الْبَاطِلَ! يُخْبِرُكُمْ أَنَّهُ يُبْصِرُ مِنْ يَثْرِبَ قُصُورَ الْحِيرَةِ وَمَدَائِنَ كِسْرَى، وَأَنَّهَا تُفْتَحُ لَكُمْ، وَأَنْتُمْ تَحْفُرُونَ الْخَنْدَقَ وَلا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَبْرُزُوا! وَأُنْزِلَ الْقُرْآنُ: «وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا] » . حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَمَّنْ لا يُتَّهَمُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ حِينَ فُتِحَتْ هَذِهِ الأَمْصَارُ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وما بعده: افتتحوا ما بدا لكم! فو الذى نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ، مَا افْتَتَحْتُمْ مِنْ مَدِينَةٍ وَلا تَفْتَتِحُونَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلا وَقَدْ أُعْطِيَ مُحَمَّدٌ مَفَاتِيحَهَا قَبْلَ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ ثَلاثَةَ آلافٍ قال: ولما فرغ رسول الله ص مِنَ الْخَنْدَقِ، أَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ حَتَّى نَزَلَتْ بِمُجْتَمَعِ الاسيال من رومه بَيْنَ الْجُرْفِ وَالْغَابَةِ، فِي عَشَرَةِ آلافٍ مِنْ أَحَابِيشِهِمْ، وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنْ كِنَانَةَ وَأَهْلِ تِهَامَةَ، وَأَقْبَلَتْ غَطَفَانُ وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، حَتَّى نَزَلُوا بِذَنَبِ نُقْمَى إِلَى جَانِبِ أُحُدٍ. وخرج رسول الله ص عليه وَالْمُسْلِمُونَ، حَتَّى جَعَلُوا ظُهُورَهُمْ إِلَى سَلْعٍ، فِي ثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَضَرَبَ هُنَالِكَ عَسْكَرَهُ، وَأَمَرَ بِالذَّرَارِيِّ وَالنِّسَاءِ فَرُفِعُوا فِي الآطَامِ وَخَرَجَ عَدُوُّ اللَّهِ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ،

حَتَّى أَتَى كَعْبَ بْنَ أَسَدٍ الْقُرَظِيَّ صَاحِبَ عقد بنى قريظة وعهدهم، كان قد وادع رسول الله ص عَلَى قَوْمِهِ، وَعَاهَدَهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَاقَدَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ كَعْبٌ بِحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، أَغْلَقَ دُونَهُ حِصْنَهُ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَأَبَى أَنْ يَفْتَحَ لَهُ، فَنَادَاهُ حُيَيٌّ: يَا كَعْبُ، افْتَحْ لِي، قَالَ: وَيْحَكَ يَا حُيَيُّ! إِنَّكَ امْرُؤٌ مَشْئُومٌ، إِنِّي قَدْ عَاهَدْتُ مُحَمَّدًا فَلَسْتُ بِنَاقِضٍ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَلَمْ أَرَ مِنْهُ إِلا وَفَاءً وَصِدْقًا قَالَ: وَيْحَكَ! افْتَحْ لِي أُكَلِّمْكَ، قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، قَالَ: وَاللَّهِ إِنْ أَغْلَقْتَ دُونِي إِلا عَلَى جَشِيشَتِكَ أَنْ آكُلَ مَعَكَ مِنْهَا، فَأَحْفَظَ الرَّجُلُ، فَفَتَحَ لَهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا كَعْبُ! جِئْتُكَ بِعِزِّ الدَّهْرِ وَبِبَحْرٍ طَامٍ، جِئْتُكَ بِقُرَيْشٍ عَلَى قَادَتِهَا وَسَادَتِهَا، حَتَّى أَنْزَلْتُهُمْ بِمُجْتَمَعِ الاسيال من رومه، وَبِغَطَفَانَ عَلَى قَادَتِهَا وَسَادَتِهَا حَتَّى أَنْزَلْتُهُمْ بِذَنَبِ نُقْمَى إِلَى جَانِبِ أُحُدٍ، قَدْ عَاهَدُونِي وَعَاقَدُونِي أَلا يَبْرَحُوا حَتَّى يَسْتَأْصِلُوا مُحَمَّدًا وَمَنْ مَعَهُ فَقَالَ لَهُ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ: جِئْتَنِي وَاللَّهِ بِذُلِّ الدَّهْرِ! بِجَهَامٍ قَدْ هَرَاقَ مَاءَهُ يُرْعِدُ وَيُبْرِقُ، لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ! وَيْحَكَ فَدَعْنِي وَمُحَمَّدًا وَمَا أَنَا عَلَيْهِ، فَلَمْ أَرَ مِنْ مُحَمَّدٍ إِلا صِدْقًا وَوَفَاءً! فَلَمْ يَزَلْ حُيَيٌّ بِكَعْبٍ يَفْتِلُهُ فِي الذُّرْوَةِ وَالْغَارِبِ، حَتَّى سَمَحَ لَهُ، عَلَى أَنْ أَعْطَاهُ عَهْدًا مِنَ اللَّهِ وَمِيثَاقًا: لَئِنْ رَجَعَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ وَلَمْ يُصِيبُوا مُحَمَّدًا أَنْ أَدْخُلَ مَعَكَ فِي حِصْنِكَ حَتَّى يُصِيبَنِي مَا أَصَابَكَ فَنَقَضَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ عَهْدَهُ، وبريء مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ الله ص. فلما انتهى الى رسول الله ص الخبر والى المسلمين، بعث رسول الله ص سَعْدَ بْنَ مُعَاذِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ أَحَدَ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ الأَوْسِ- وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ بْنِ دُلَيْمٍ، أَحَدَ بَنِي سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ- وَمَعْهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ أَخُو بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَخَوَّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَقَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَنْظُرُوا: أَحَقٌّ مَا بَلَغَنَا عن

هَؤُلاءِ الْقَوْمِ أَمْ لا؟ فَإِنْ كَانَ حَقًّا فَالْحِنُوا لِي لَحْنًا نَعْرِفُهُ، وَلا تَفُتُّوا فِي أَعْضَادِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى الْوَفَاءِ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَاجْهَرُوا بِهِ لِلنَّاسِ. فَخَرَجُوا حَتَّى أَتَوْهُمْ فَوَجَدُوهُمْ عَلَى أَخْبَثِ مَا بَلَغَهُمْ عَنْهُمْ، ونالوا من رسول الله ص، وَقَالُوا: لا عَقْدَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ وَلا عَهْدَ. فَشَاتَمَهُمْ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَشَاتَمُوهُ، وَكَانَ رجلا فيه حد، فقال له سعد ابن مُعَاذٍ: دَعْ عَنْكَ مُشَاتَمَتَهُمْ، فَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَرْبَى مِنَ الْمُشَاتَمَةِ. ثُمَّ أَقْبَلَ سَعْدٌ وَسَعْدٌ ومن معهما الى رسول الله ص فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالُوا: عَضَلٌ وَالْقَارَّةُ أَيْ كَغَدْرِ عَضَلٍ وَالْقَارَّةِ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابِ الرَّجِيعِ، خُبَيْبِ بْنِ عدى واصحابه [فقال رسول الله ص: اللَّهُ أَكْبَرُ! أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ،] وَعَظُمَ عِنْدَ ذَلِكَ الْبَلاءُ، وَاشْتَدَّ الْخَوْفُ، وَأَتَاهُمْ عَدُّوهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ حَتَّى ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ كُلَّ ظَنٍّ، وَنَجَمَ النِّفَاقُ مِنْ بَعْضِ المنافقين، حتى قال معتب ابن قُشَيْرٍ، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: كَانَ مُحَمَّدٌ يَعِدُنَا أَنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَأَحَدُنَا لا يَقْدِرُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْغَائِطِ! وَحَتَّى قَالَ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ، أَحَدُ بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ بُيُوتَنَا لَعَوْرَةٌ مِنَ الْعَدُوِّ- وَذَلِكَ عَنْ مَلإٍ مِنْ رِجَالِ قَوْمِهِ- فَأْذَنْ لَنَا فَلْنَرْجِعْ إِلَى دَارِنَا، فَإِنَّهَا خَارِجَةٌ مِنَ الْمَدِينَةِ. فَأَقَامَ رَسُولُ الله ص، وَأَقَامَ الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقَوْمِ حَرْبٌ إِلا الرَّمْيُ بِالنَّبْلِ وَالْحِصَارُ. فَلَمَّا اشْتَدَّ الْبَلاءُ على الناس بعث رسول الله ص- كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ- إِلَى

عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَإِلَى الْحَارِثِ بْنِ عَوْفِ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ الْمُرِّيِّ- وَهُمَا قَائِدَا غَطَفَانَ- فَأَعْطَاهُمَا ثُلُثَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ، عَلَى أَنْ يَرْجِعَا بمن معهما عن رسول الله ص وَأَصْحَابِهِ، فَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمُ الصُّلْحَ، حَتَّى كَتَبُوا الْكِتَابَ، وَلَمْ تَقَعِ الشَّهَادَةُ وَلا عَزِيمَةُ الصُّلْحِ إِلا الْمُرَاوَضَةُ فِي ذَلِكَ، فَفَعَلا، فَلَمَّا أَرَادَ رسول الله ص أَنْ يَفْعَلَ، بَعَثَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمَا، وَاسْتَشَارَهُمَا فِيهِ فَقَالا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمْرٌ تُحِبُّهُ فَنَصْنَعَهُ، أَمْ شَيْءٌ أَمَرَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ، لا بُدَّ لَنَا مِنْ عَمَلٍ بِهِ، أَمْ شَيْءٌ تَصْنَعُهُ لَنَا؟ قَالَ: لا، بَلْ لَكُمْ، وَاللَّهِ مَا أَصْنَعُ ذَلِكَ إِلا أَنِّي رَأَيْتُ الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَكَالَبُوكُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَكْسِرَ عَنْكُمْ شَوْكَتَهُمْ لأَمْرٍ مَا سَاعَةً فَقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ كُنَّا نَحْنُ وَهَؤُلاءِ الْقَوْمُ عَلَى شِرْكٍ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعِبَادَةِ الأَوْثَانِ، وَلا نَعْبُدُ اللَّهَ وَلا نَعْرِفُهُ، وَهُمْ لا يَطْمَعُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنَّا تَمْرَةً إِلا قِرًى أَوْ بَيْعًا، أَفَحِينَ أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِالإِسْلامِ، وَهَدَانَا لَهُ، وَأَعَزَّنَا بِكَ، نُعْطِيهِمْ أَمْوَالَنَا! مَا لَنَا بِهَذَا مِنْ حَاجَةٍ، وَاللَّهِ لا نُعْطِيهِمْ إِلا السَّيْفَ حَتَّى يَحْكُمَ الله بيننا وبينهم فقال رسول الله ص: فَأَنْتَ وَذَاكَ! فَتَنَاوَلَ سَعْدٌ الصَّحِيفَةَ، فَمَحَا مَا فِيهَا مِنَ الْكِتَابِ، ثُمَّ قَالَ: لِيَجْهَدُوا عَلَيْنَا. فأقام رسول الله ص والمسلمون وعدوهم محاصروهم، لم يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ إِلا أَنَّ فَوَارِسَ مِنْ قريش منهم عمرو بن عبد ود بن أَبِي قَيْسٍ، أَخُو بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيَّانِ، وَنَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ بْنِ مِرْدَاسٍ، أَخُو بَنِي مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ، قَدْ تَلَبَّسُوا لِلْقِتَالِ، وَخَرَجُوا عَلَى خَيْلِهِمْ، وَمَرُّوا عَلَى بَنِي كِنَانَةِ، فَقَالُوا: تَهَيَّئُوا يَا بَنِي كِنَانَةَ لِلْحَرْبِ، فَسَتَعْلَمُونَ الْيَوْمَ

مَنِ الْفِرْسَانُ! ثُمَّ أَقْبَلُوا نَحْوَ الْخَنْدَقِ، حَتَّى وَقَفُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَمَكِيدَةٌ مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَكِيدُهَا، ثُمَّ تَيَمَّمُوا مَكَانًا مِنَ الْخَنْدَقِ ضَيِّقًا، فَضَرَبُوا خُيُولَهُمْ، فَاقْتَحَمَتْ مِنْهُ، فَجَالَتْ بِهِمْ فِي السَّبَخَةِ بَيْنَ الْخَنْدَقِ وَسَلْعٍ، وَخَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى أَخَذَ عَلَيْهِمُ الثَّغْرَةَ الَّتِي أَقْحَمُوا مِنْهَا خَيْلَهُمْ، وَأَقْبَلَتِ الْفِرْسَانُ تعنق نحوهم وقد كان عمرو بن عبد ود قَاتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ، حَتَّى أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ، فَلَمْ يَشْهَدْ أُحُدًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ خَرَجَ مُعْلِمًا لِيَرَى مَكَانَهُ، فَلَمَّا وَقَفَ هُوَ وَخَيْلُهُ، [قَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا عَمْرُو، إِنَّكَ كُنْتَ تعاهد الله الا يَدْعُوَكَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى خُلَّتَيْنِ إِلا أَخَذْتَ مِنْهُ إِحْدَاهُمَا! قَالَ: أَجَلْ! قَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى رَسُولِهِ وَإِلَى الإِسْلامِ، قَالَ: لا حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ، قَالَ: فَإِنِّي ادعوك الى النزال، قال: ولم يا بن أخي، فو الله مَا أُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَكَ! قَالَ: عَلِيٌّ: وَلَكِنِّي وَاللَّهِ أُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَكَ قَالَ: فَحُمِيَ عَمْرٌو عِنْدَ ذَلِكَ، فَاقْتَحَمَ عَنْ فَرَسِهِ فَعَقَرَهُ- أَوْ ضَرَبَ وَجْهَهُ- ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ، فَتَنَازَلا وتجاولا، فقتله على ع وَخَرَجَتْ خَيْلُهُ مُنْهَزِمَةً،] حَتَّى اقْتَحَمَتْ مِنَ الْخَنْدَقِ هَارِبَةً، وَقُتِلَ مَعَ عَمْرٍو رَجُلانِ: مُنَبِّهُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ، أَصَابَهُ سَهْمٌ فَمَاتَ مِنْهُ بِمَكَّةَ، وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَكَانَ اقْتَحَمَ الْخَنْدَقَ فَتَوَرَّطَ فِيهِ، فَرَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ، قِتْلَةً أَحْسَنَ مِنْ هَذِهِ! فَنَزَلَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ فَقَتَلَهُ، فَغَلَبَ المسلمون على جسده، [فسألوا رسول الله ص ان يبيعهم جسده، فقال رسول الله ص: لا حَاجَةَ لَنَا بِجَسَدِهِ وَلا ثَمَنِهِ، فَشَأْنُكُمْ بِهِ فَخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ] . حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق

عَنْ أَبِي لَيْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ الأَنْصَارِيِّ، ثُمَّ أَحَدِ بَنِي حَارِثَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانَتْ فِي حِصْنِ بَنِي حَارِثَةَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَكَانَ مِنْ أَحْرَزِ حُصُونِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ أُمُّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ مَعَهَا فِي الْحِصْنِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْنَا الْحِجَابُ قَالَتْ: فَمَرَّ سَعْدٌ وَعَلَيْهِ دِرْعٌ مُقَلَّصَةٌ، قَدْ خَرَجَتْ مِنْهَا ذِرَاعُهُ كُلُّهَا، وَفِي يَدِهِ حَرْبَتُهُ يَرْقُدُ بِهَا وَيَقُولُ: لَبِّثْ قَلِيلا يُشْهِدُ الْهَيْجَا حَمَلْ لا بَاسَ بِالْمَوْتِ إِذَا حَانَ الأَجَلْ قَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: الْحَقْ يَا بُنَيَّ، فَقَدْ وَاللَّهِ أَخَّرْتَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمَّ سَعْدٍ، وَاللَّهِ لَوَدَدْتُ أَنَّ دِرْعَ سَعْدٍ كَانَتْ أَسْبَغَ مِمَّا هِيَ! قَالَتْ: وَخِفْتُ عَلَيْهِ حَيْثُ أَصَابَ السَّهْمُ مِنْهُ. قَالَتْ: فَرُمِيَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ بِسَهْمٍ، فَقَطَعَ مِنْهُ الأَكْحَلَ، رَمَاهُ- فبما حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ- حِبَّانُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الْعَرِقَةِ أَحَدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، فَلَمَّا أَصَابَهُ قَالَ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْعَرِقَةِ، فَقَالَ سَعْدٌ: عَرَّقَ اللَّهُ وَجْهَكَ فِي النَّارِ! اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ أَبْقَيْتَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْئًا فَأَبْقِنِي لَهَا فَإِنَّهُ لا قَوْمَ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أُجَاهِدَهُمْ مِنْ قَوْمٍ آذَوْا رَسُولَكَ، وَكَذَّبُوهُ وَأَخْرَجُوهُ اللَّهُمَّ وَإِنْ كُنْتَ قَدْ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَاجْعَلْهُ لِي شَهَادَةً وَلا تُمِتْنِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنَيَّ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ. حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:

خرجت يوم الخندق اقفو آثار الناس، فو الله إِنِّي لأَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ وَئِيدَ. الأَرْضِ خَلْفِي- تَعْنِي حِسَّ الأَرْضِ- فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِسَعْدٍ، فَجَلَسْتُ إِلَى الأَرْضِ، وَمَعَهُ ابْنُ أَخِيهِ الْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ- شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ص، حَدَّثَنَا بِذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو- يَحْمِلُ مِجَنَّهُ، وَعَلَى سَعْدٍ دِرْعٌ مِنْ حَدِيدٍ قَدْ خَرَجَتْ أَطْرَافُهُ مِنْهَا قَالَتْ: وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ وَأَطْوَلِهِمْ. قَالَتْ: فَأَنَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أَطْرَافِ سَعْدٍ، فَمَرَّ بِي يَرْتَجِزُ، وَيَقُولُ: لَبِّثْ قَلِيلا يُدْرِكُ الْهَيْجَا حَمَلْ مَا أَحْسَنَ الْمَوْتَ إِذَا حَانَ الأَجَلْ! قَالَتْ: فَلَمَّا جَاوَزَنِي قُمْتُ فَاقْتَحَمْتُ حَدِيقَةً فِيهَا نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ تَسْبِغَةٌ لَهُ- قَالَ مُحَمَّدُ: وَالتَّسْبِغَةُ الْمِغْفَرُ- لا تُرَى إِلا عَيْنَاهُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّكِ لَجَرِيئَةٌ، مَا جَاءَ بِكِ؟ مَا يُدْرِيكِ لَعَلَّهُ يَكُونُ تَحَوُّزٌ أَوْ بَلاءٌ! فو الله مَا زَالَ يَلُومُنِي حَتَّى وَدَدْتُ أَنَّ الأَرْضَ تَنْشَقُّ لِي فَأَدْخُلَ فِيهَا، فَكَشَفَ الرَّجُلُ التَّسْبِغَةَ عَنْ وَجْهِهِ، فَإِذَا هُوَ طَلْحَةُ، فَقَالَ: إِنَّكَ قَدْ أَكْثَرْتَ، أَيْنَ الْفِرَارُ، وَأَيْنَ التَّحَوُّزُ إِلا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ! قَالَتْ: فَرُمِيَ سَعْدٌ يَوْمَئِذٍ بِسَهْمٍ، رَمَاهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْعَرَقَةِ، فَقَالَ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْعَرَقَةِ، فَقَالَ: سَعْدٌ: عَرَّقَ اللَّهُ وَجْهَكَ فِي النَّارِ! فَأَصَابَ الأَكْحَلَ مِنْهُ فَقَطَعَهُ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو: زَعَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَنْقَطِعْ مِنْ أَحَدٍ قَطُّ إِلا لَمْ يَزَلْ يَبِضُّ دَمًا حَتَّى يَمُوتَ فَقَالَ سَعْدٌ: اللَّهُمَّ لا تُمِتْنِي حَتَّى تَقَرَّ عَيْنِي فِي بَنِي قُرَيْظَةَ! وَكَانُوا حُلَفَاءَهُ وَمَوَالِيَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ لا يتهم، عن عبيد الله بن كعب بْن مالك، أنه كان

يقول: ما أصاب سعدا يومئذ بالسهم إلا أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم، فالله أعلم أي ذَلِكَ كان! حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ عَبَّادٍ، قَالَ: كانت صفيه بنت عبد المطلب في فارع حِصْنِ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَتْ: وَكَانَ حَسَّانٌ مَعَنَا فِيهِ مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ قَالَتْ صَفِيَّةُ: فَمَرَّ بِنَا رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ، فَجَعَلَ يُطِيفُ بِالْحِصْنِ، وَقَدْ حَارَبَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ وَقَطَعَتْ مَا بينها وبين رسول الله ص، لَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَحَدٌ يَدْفَعُ عَنَّا، وَرَسُولُ الله ص وَالْمُسْلِمُونَ فِي نُحُورِ عَدُوِّهِمْ لا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَنْصَرِفُوا إِلَيْنَا عَنْهُمْ إِنْ أَتَانَا آتٍ قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا حَسَّانُ، إِنَّ هَذَا الْيَهُودِيَّ كَمَا تَرَى، يُطِيفُ بِالْحِصْنِ، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُهُ ان يدل على عوراتنا مَنْ وَرَاءَنَا مِنْ يَهُودَ، وَقَدْ شُغِلَ عَنَّا رسول الله ص وَأَصْحَابُهُ، فَانْزِلْ إِلَيْهِ فَاقْتُلْهُ فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكِ يَا بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ! وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتِ مَا أَنَا بِصَاحِبِ هَذَا! قَالَتْ: فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ لِي، وَلَمْ أَرَ عِنْدَهُ شَيْئًا احْتَجَزْتُ، ثُمَّ أَخَذْتُ عَمُودًا، ثُمَّ نَزَلْتُ مِنَ الْحِصْنِ إِلَيْهِ فَضَرَبْتُهُ بِالْعَمُودِ حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْهُ رَجَعْتُ إِلَى الْحِصْنِ، فَقُلْتُ: يَا حَسَّانُ، انْزِلْ إِلَيْهِ فَاسْلُبْهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي مِنْ سَلَبِهِ إِلا أَنَّهُ رَجُلٌ، قَالَ: مَا لِي بِسَلَبِهِ مِنْ حَاجَةٍ يَا بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ص واصحابه،

فِيمَا وَصَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْخَوْفِ وَالشِّدَّةِ، لِتَظَاهُرِ عَدُوِّهِمْ عَلَيْهِمْ، وَإِتْيَانِهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ. ثُمَّ إِنَّ نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودِ بْنِ عَامِرِ بْنِ أُنَيْفِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بن قنفذ بن هلال ابن خلافه بْنِ أَشْجَعَ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ أَتَى رسول الله ص، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ، وَإِنَّ قَوْمِي لَمْ يَعْلَمُوا بِإِسْلامِي، فَمُرْنِي بِمَا شئت فقال له رسول الله ص: إِنَّمَا أَنْتَ فِينَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَخَذِّلْ عَنَّا إِنِ اسْتَطَعْتَ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ. فَخَرَجَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى أَتَى بَنِي قُرَيْظَةَ- وَكَانَ لَهُمْ نَدِيمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ- فَقَالَ لَهُمْ: يَا بَنِي قُرَيْظَةَ، قَدْ عَرَفْتُمْ وُدِّي إِيَّاكُمْ، وَخَاصَّةَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، قَالُوا: صَدَقْتَ، لَسْتَ عِنْدَنَا بِمُتَّهَمٍ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ قَدْ جَاءُوا لِحَرْبِ مُحَمَّدٍ، وَقَدْ ظَاهَرْتُمُوهُمْ عَلَيْهِ، وَإِنَّ قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ لَيْسُوا كَهَيْئَتِكُمْ، الْبَلَدُ بَلَدُكُمْ، بِهِ أَمْوَالُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ، لا تَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ تَحَوَّلُوا مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّ قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ أَمْوَالُهُمْ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَبَلَدُهُمْ بِغَيْرِهِ، فَلَيْسُوا كَهَيْئَتِكُمْ، إِنْ رَأَوْا نُهْزَةً وَغَنِيمَةً أَصَابُوهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ لَحِقُوا بِبِلادِهِمْ، وَخَلَّوْا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الرَّجُلِ بِبَلَدِكُمْ، وَلا طَاقَةَ لَكُمْ بِهِ إِنْ خَلا بِكُمْ، فَلا تُقَاتِلُوا مَعَ الْقَوْمِ حَتَّى تَأْخُذُوا مِنْهُمْ رَهْنًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ يَكُونُونَ بِأَيْدِيكُمْ، ثِقَةً لَكُمْ عَلَى أَنْ يُقَاتِلُوا مَعَكُمْ مُحَمَّدًا، حَتَّى تُنَاجِزُوهُ، فَقَالُوا: لَقَدْ أَشَرْتَ بِرَأْيٍ وَنُصْحٍ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا، فَقَالَ لأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ رِجَالِ قُرَيْشٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، قَدْ عَرَفْتُمْ وُدِّي إِيَّاكُمْ، وَفِرَاقِي مُحَمَّدًا، وَقَدْ بَلَغَنِي أَمْرٌ رَأَيْتُ حَقًّا عَلَيَّ أَنْ أُبَلِّغَكُمُوهَ نُصْحًا لَكُمْ، فَاكْتُمُوا عَلَيَّ قَالُوا: نَفْعَلُ، قَالَ: فَاعْلَمُوا أَنَّ مَعْشَرَ يَهُودَ قَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، وَقَدْ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ أَنْ قَدْ نَدِمْنَا عَلَى مَا فَعَلْنَا، فَهَلْ يُرْضِيكَ عَنَّا أَنْ نَأْخُذَ مِنَ الْقَبِيلَتَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ رِجَالا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَنُعْطِيكَهُمْ، فَتَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ، ثُمَّ نَكُونُ مَعَكَ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ؟ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَنْ نَعَمْ، فَإِنْ بَعَثَتْ إِلَيْكُمْ يَهُودُ يَلْتَمِسُونَ مِنْكُمْ رَهْنًا مِنْ رِجَالِكُمْ، فَلا تَدْفَعُوا إِلَيْهِمْ مِنْكُمْ رَجُلا وَاحِدًا ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى غَطَفَانَ، فَقَالَ:

يَا مَعْشَرَ غَطَفَانَ، أَنْتُمْ أَصْلِي وَعَشِيرَتِي، وَأَحَبُّ الناس الى، ولا أراكم تتهموننى! قَالُوا: صَدَقْتَ، قَالَ: فَاكْتُمُوا عَلَيَّ، قَالُوا: نَفْعَلُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ لِقُرَيْشٍ، وَحَذَّرَهُمْ مَا حَذَّرَهُمْ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةَ السَّبْتِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ، وَكَانَ مِمَّا صَنَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِهِ أَنْ أَرْسَلَ أَبُو سُفْيَانَ وَرُءُوسُ غَطَفَانَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ، فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ، فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّا لَسْنَا بِدَارِ مُقَامٍ، قَدْ هَلَكَ الْخُفُّ وَالْحَافِرُ، فَاغْدُوا لِلْقِتَالِ حَتَّى نُنَاجِزَ مُحَمَّدًا وَنَفْرُغَ مِمَّا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِمْ أَنَّ الْيَوْمَ السَّبْتُ، وَهُوَ يَوْمٌ لا نَعْمَلُ فِيهِ شَيْئًا، وَقَدْ كَانَ أَحْدَثَ فِيهِ بَعْضُنَا حَدَثًا فَأَصَابَهُ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكُمْ، وَلَسْنَا مَعَ ذَلِكَ بِالَّذِينَ نُقَاتِلُ مَعَكُمْ حَتَّى تُعْطُونَا رَهْنًا مِنْ رِجَالِكُمْ، يَكُونُونَ بِأَيْدِينَا ثِقَةً لَنَا، حَتَّى نُنَاجِزَ مُحَمَّدًا، فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ ضَرَسَتْكُمُ الْحَرْبُ، وَاشْتَدَّ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ، أَنْ تُشَمِّرُوا إِلَى بِلادِكُمْ وَتَتْرُكُونَا وَالرَّجُلُ فِي بَلَدِنَا، وَلا طَاقَةَ لَنَا بِذَلِكَ مِنْ مُحَمَّدٍ فَلَمَّا رَجَعَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ بِالَّذِي قَالَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ، قَالَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ: تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ أَنَّ الَّذِي حَدَّثَكُمْ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ لَحَقٌّ فَأَرْسِلُوا إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ: إِنَّا وَاللَّهِ لا نَدْفَعُ إِلَيْكُمْ رَجُلا وَاحِدًا مِنْ رِجَالِنَا، فَإِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ الْقِتَالَ فَاخْرُجُوا فَقَاتِلُوا، فَقَالَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ حِينَ انْتَهَتِ الرُّسُلُ إِلَيْهِمْ بِهَذَا: إِنَّ الَّذِي ذَكَرَ لَكُمْ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ لَحَقٌّ، مَا يُرِيدُ الْقَوْمُ إِلا أَنْ يُقَاتِلُوا، فَإِنْ وَجَدُوا فُرْصَةً انْتَهَزُوهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ تُشَمِّرُوا إِلَى بِلادِهمْ، وَخَلُّوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الرَّجُلِ فِي بِلادِكُمْ فَأَرْسَلُوا إِلَى قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ: إِنَّا وَاللَّهِ لا نُقَاتِلُ مَعَكُمْ حَتَّى تُعْطُونَا رَهْنًا، فَأَبَوْا عَلَيْهِمْ، وَخَذَّلَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ، وَبَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمُ الرِّيحَ فِي لَيَالٍ شَاتِيَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ، فَجَعَلَتْ تَكْفَأُ قُدُورَهُمْ، وَتَطْرَحُ أَبْنِيَتَهُمْ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى رسول الله ص مَا اخْتَلَف مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمَا فَرَّقَ اللَّهُ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ، دَعَا حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ، فَبَعَثَهُ إِلَيْهِمْ لِيَنْظُرَ مَا فَعَلَ الْقَوْمُ لَيْلا. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: قال فتى

مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، رَأَيْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ وَصَحِبْتُمُوهُ! قال: نعم يا بن أَخِي، قَالَ: فَكَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كُنَّا نَجْهَدُ، فَقَالَ الْفَتَى: وَاللَّهِ لَوْ أَدْرَكْنَاهُ مَا تَرَكْنَاهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ، وَلَحَمَلْنَاه على أعناقنا فقال حذيفة: يا بن أَخِي، وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ص بِالْخَنْدَقِ، وَصَلَّى هَوِيًّا مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا، فَقَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرَ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ ثُمَّ يَرْجِعُ- يَشْرِطُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ أَنَّهُ يَرْجِعُ- أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ؟ فَمَا قَامَ رَجُلٌ ثُمَّ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ص هَوِيًّا مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ مِثْلَهُ، فَمَا قَامَ مِنَّا رَجُلٌ، ثُمَّ صَلَّى رسول الله ص هَوِيًّا مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا، [فَقَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرَ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ ثُمَّ يَرْجِعُ- يَشْرِطُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ الرُّجْعَةَ- أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ؟ فَمَا قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَشِدَّةِ الْجُوعِ وَشِدَّةِ الْبَرْدِ فَلَمَّا لم يقم احد دعانى رسول الله ص فَلَمْ يَكُنْ لِي بُدٌّ مِنَ الْقِيَامِ حِينَ دَعَانِي فَقَالَ: يَا حُذَيْفَةُ، اذْهَبْ فَادْخُلْ فِي الْقَوْمِ فَانْظُرْ مَا يَفْعَلُونَ، وَلا تُحَدِّثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنَا،] قَالَ: فَذَهَبْتُ فَدَخَلْتُ فِي الْقَوْمِ وَالرِّيحُ وَجُنُودُ اللَّهِ تَفْعَلُ بِهِمْ مَا تَفْعَلُ، لا تُقِرٌّ لَهُمْ قِدْرًا وَلا نَارًا وَلا بِنَاءً فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لِيَنْظُرْ امْرُؤٌ جَلِيسَهُ، قَالَ: فَأَخَذْتُ بِيَدِ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ إِلَى جَنْبِي، فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا فُلانُ بْنُ فُلانٍ ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّكُمْ وَاللَّهِ مَا أَصْبَحْتُمْ بِدَارِ مُقَامٍ، لَقَدْ هَلَكَ الْكُرَاعُ وَالْخُفُّ، وَأَخْلَفَتْنَا بَنُو قُرَيْظَةَ وَبَلَغَنَا عَنْهُمُ الَّذِي نَكْرَهُ، وَلَقِينَا مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ مَا تَرَوْنَ، وَاللَّهِ مَا تَطْمَئِنُّ لَنَا قِدْرٌ، وَلا تَقُومُ لَنَا نَارٌ، وَلا يَسْتَمْسِكُ لَنَا بِنَاءٌ، فَارْتَحِلُوا فَإِنِّي مُرْتَحِلٌ. ثُمَّ قَامَ إِلَى جَمَلِهِ وَهُوَ مَعْقُولٌ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ فَوَثَبَ بِهِ عَلَى ثَلاثٍ، فَمَا أَطْلَقَ عِقَالَهُ إِلا وَهُوَ قَائِمٌ، وَلَوْلا عَهْدُ رَسُولِ الله ص الى الا أُحَدِّثُ شَيْئًا حَتَّى آتِيَهُ، ثُمَّ شِئْتُ لَقَتَلْتُهُ بِسَهْمٍ قَالَ حُذَيْفَةُ:

غزوه بنى قريظة

فرجعت الى رسول الله ص، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي مِرْطٍ لِبَعْضِ نِسَائِهِ مُرَحَّلٍ، فَلَمَّا رَآنِي أَدْخَلَنِي بَيْنَ رِجْلَيْهِ وَطَرَحَ عَلَيَّ طَرَفَ الْمِرْطِ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ، فَأَذْلَقْتُهُ فَلَمَّا سَلَّمَ أَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، وَسَمِعَتْ غَطَفَانُ بِمَا فَعَلَتْ قُرَيْشٌ، فَانْشَمَرُوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلادِهِمْ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحَ نَبِيُّ الله ص انْصَرَفَ عَنِ الْخَنْدَقِ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ وَالْمُسْلِمُونَ وَوَضَعُوا السِّلاحَ . غَزْوَةُ بَنِي قُرَيْظَةَ فَلَمَّا كَانَتِ الظهر، اتى جبريل رسول الله ص- كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ- مُعْتَجِرًا بِعِمَامَةٍ مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، عَلَى بَغْلَةٍ عَلَيْهَا رِحَالَةٌ، عَلَيْهَا قَطِيفَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ، فَقَالَ: أَقَدْ وَضَعْتَ السِّلاحَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ جِبْرِيلُ: مَا وَضَعَتِ الْمَلائِكَةُ السلاح وما رجعت الان الا من طَلَبِ الْقَوْمِ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ يَا مُحَمَّدُ بِالسَّيْرِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَأَنَا عَامِدٌ إِلَى بنى قريظة. [فامر رسول الله ص مُنَادِيًا، فَأَذَّنَ فِي النَّاسِ: إِنَّ مَنْ كَانَ سَامِعًا مُطِيعًا فَلا يُصَلِّيَنَّ الْعَصْرَ إِلا فِي بنى قريظة]

وقدم رسول الله ص عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بِرَايَتِهِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَابْتَدَرَهَا النَّاسُ، فَسَارَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب ع، حَتَّى إِذَا دَنَا مِنَ الْحُصُونِ، سَمِعَ مِنْهَا مقاله قبيحه لرسول الله ص منهم، فرجع حتى لقى رسول الله ص بِالطَّرِيقِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لا عَلَيْكَ أَلا تَدْنُوَ مِنْ هَؤُلاءِ الأَخَابِثِ! قَالَ: لِمَ؟ أَظُنُّكُ سَمِعْتَ لِي مِنْهُمْ أَذًى! قَالَ: نَعَمْ يا رسول الله لَوْ قَدْ رَأَوْنِي لَمْ يَقُولُوا مِنْ ذَلِكَ شيئا [فلما دنا رسول الله ص مِنْ حُصُونِهِمْ، قَالَ: يَا إِخْوَانَ الْقِرَدَةِ، هَلْ أَخْزَاكُمُ اللَّهُ، وَأَنْزَلَ بِكُمْ نِقْمَتَهُ!] قَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، مَا كُنْتَ جَهُولا وَمَرَّ رَسُولُ الله ص عَلَى أَصْحَابِهِ بِالصُّورَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، فَقَالَ: هَلْ مَرَّ بِكُمْ أَحَدٌ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ مَرَّ بِنَا دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيُّ، عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ، عَلَيْهَا رِحَالُهُ عَلَيْهَا قَطِيفَةُ دِيبَاجٍ، فَقَالَ رسول الله ص: ذَلِكَ جِبْرِيلُ، بُعِثَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ يُزَلْزِلُ بِهِمْ حُصُونَهُمْ، وَيَقْذِفُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ فَلَمَّا اتى رسول الله ص بَنِي قُرَيْظَةَ، نَزَلَ عَلَى بِئْرٍ مِنْ آبَارِهَا فِي نَاحِيَةٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، يُقَالُ لَهَا بِئْرُ أَنَّا، فَلاحَقَ بِهِ النَّاسُ، فَأَتَاهُ رِجَالٌ مِنْ بَعْدِ الْعِشَاءِ الآخِرَةِ، وَلَمْ يُصَلُّوا الْعَصْرَ، [لِقَوْلِ رسول الله ص: لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ] إِلا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، لِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْهُ بُدٌّ مِنْ حَرْبِهِمْ، وَأَبَوْا أَنْ يُصَلُّوا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ ص: حتى تأتوا بَنِي قُرَيْظَةَ، فَصَلَّوُا الْعَصْرَ بِهَا بَعْدَ الْعِشَاءِ الآخِرَةِ فَمَا عَابَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، ولا عنفهم به رسول الله ص وَالْحَدِيثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بشر، قال: حدثنا محمد ابن عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عائشة، قالت: ضرب رسول الله ص عَلَى سَعْدٍ قُبَّةً فِي الْمَسْجِدِ، وَوَضَعَ السِّلاحَ-- يعنى عند منصرف رسول الله ص مِنَ الْخَنْدَقِ- وَوَضَعَ الْمُسْلِمُونَ السِّلاحَ، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ ع، فقال: اوضعتم السلاح! فو الله مَا وَضَعَتِ الْمَلائِكَةُ بَعْدُ السِّلاحَ، اخْرُجْ إِلَيْهِمْ فقاتلهم، فدعا رسول الله ص بِلَأْمَتِهِ فَلَبِسَهَا، ثُمَّ خَرَجَ وَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ، فَمَرَّ بِبَنِي غَنْمٍ، فَقَالَ: مَنْ مَرَّ بِكُمْ؟ قَالُوا: مَرَّ عَلَيْنَا دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ-- وَكَانَ يُشَبِّهُ سُنَّتَهُ ولحيته ووجهه بجبريل ع- حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِمْ، وَسَعْدٌ فِي قُبَّتِهِ الَّتِي ضرب عليه رسول الله ص فِي الْمَسْجِدِ، فَحَاصَرَهُمْ شَهْرًا- أَوْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً- فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْحِصَارُ قِيلَ لَهُمُ: انزلوا على حكم رسول الله، فَأَشَارَ أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ إِنَّهُ الذَّبْحُ، فَقَالُوا: نَنْزِلُ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ معاذ، فقال رسول الله ص: انْزِلُوا عَلَى حُكْمِهِ، فَنَزَلُوا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولُ الله ص بِحِمَارٍ بِإِكَافٍ مِنْ لِيفٍ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ قَالَتْ عائشة: لقد كان برا كَلْمُهُ حَتَّى مَا يُرَى مِنْهُ إِلا مِثْلُ الْخَرْصِ. رَجْعُ الْحَدِيثِ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قال: وحاصرهم رسول الله ص خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، حَتَّى جَهَدَهُمُ الْحِصَارُ، وَقَذَفَ* الله فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ*- وقد كان حيي بْنُ أَخْطَبَ دَخَلَ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فِي حِصْنِهِمْ حِينَ رَجَعَتْ عَنْهُمْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ، وَفَاءً لِكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ بِمَا كَانَ عَاهَدَهُ عَلَيْهِ- فلما أيقنوا ان رسول الله ص غَيْرَ مُنْصَرِفٍ عَنْهُمْ حَتَّى يُنَاجِزَهُمْ، قَالَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِكُمْ مِنَ الأَمْرِ مَا تَرَوْنَ، وانى عارض

عَلَيْكُمْ خِلالا ثَلاثًا فَخُذُوا أَيَّهَا شِئْتُمْ! قَالُوا: وما هن؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه، فو الله لَقَدْ كَانَ تَبَيَّنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَإِنَّهُ لَلَّذِي كُنْتُمْ تَجِدُونَهُ فِي كِتَابِكُمْ، فَتَأْمَنُوا عَلَى دِمَائِكُمْ وَأَمْوَالِكِمْ وَأَبْنَائِكُمْ وَنِسَائِكُمْ، قَالُوا: لا نُفَارِقُ حُكْمَ التَّوْرَاةِ أَبَدًا، وَلا نَسْتَبْدِلُ بِهِ غيره قال: فإذ أَبَيْتُمْ هَذِهِ عَلَيَّ فَهَلُمَّ فَلْنَقْتُلْ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، ثُمَّ نَخْرُجْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ رِجَالا مُصَلِّتِينَ السيوف، وَلَمْ نَتْرُكْ وَرَاءَنَا ثِقَلا يُهِمُّنَا، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، فَإِنْ نَهْلِكْ نَهْلِكْ وَلَمْ نَتْرُكْ وَرَاءَنَا شَيْئًا نَخْشَى عَلَيْهِ، وَإِنْ نَظْهَرْ فَلَعَمْرِي لَنَجِدَنَّ النِّسَاءَ وَالأَبْنَاءَ قَالُوا: نَقْتُلُ هَؤُلاءِ الْمَسَاكِينَ، فَمَا خَيْرُ الْعَيْشِ بَعْدَهُمْ! قَالَ: فإذ أَبَيْتُمْ هَذِهِ عَلَيَّ فَإِنَّ اللَّيْلَةَ لَيْلَةُ السَّبْتِ، وَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ قَدْ أَمِنُوا فِيهَا، فَانْزِلُوا لَعَلَّنَا نُصِيبُ مِنْ مُحَمَّدٍ واصحابه غره قالوا: نفسد سبتنا، وَنُحْدِثُ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ أَحْدَثَ فِيهِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، إِلا مَنْ قَدْ عَلِمْتَ فَأَصَابَهُ مِنَ الْمَسْخِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ. قَالَ: مَا بَاتَ رَجُلٌ مِنْكُمْ مُنْذُ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ لَيْلَةً وَاحِدَةً مِنَ الدَّهْرِ حَازِمًا. قَالَ: ثم انهم بعثوا الى رسول الله ص: أَنِ ابْعَثْ إِلَيْنَا أَبَا لَبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، أَخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ- وَكَانُوا حُلَفَاءَ الأَوْسِ- نَسْتَشِيرُهُ فِي أَمْرِنَا، فَأَرْسَلَهُ رَسُولُ الله ص إِلَيْهِمْ فَلَمَّا رَأَوْهُ قَامَ إِلَيْهِ الرِّجَالُ، وَبَهَشَ إِلَيْهِ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ يَبْكُونَ فِي وَجْهِهِ، فَرَقَّ لَهُمْ وَقَالُوا لَهُ: يَا أَبَا لُبَابَةَ، أَتَرَى أَنْ نَنْزِلَ عَلَى حُكْمِ مُحَمَّدٍ! قَالَ: نَعَمْ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِهِ: إِنَّهُ الذَّبْحُ، قَالَ ابو لبابه: فو الله مَا زَالَتْ قَدَمَايَ حَتَّى عَرَفْتُ أَنِّي خُنْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. ثُمَّ انْطَلَقَ أَبُو لُبَابَةَ عَلَى وجهه، ولم يأت رسول الله ص

حَتَّى ارْتَبَطَ فِي الْمَسْجِدِ إِلَى عَمُودٍ مِنْ عُمُدِهِ، وَقَالَ: لا أَبْرَحُ مَكَانِي هَذَا حَتَّى يتوب الله على ما صنعت، وعاهد الله الا يَطَأَ بَنِي قُرَيْظَةَ أَبَدًا. وَقَالَ: لا يَرَانِي اللَّهُ فِي بَلَدٍ خُنْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِيهِ ابدا فلما بلغ رسول الله ص خَبَرُهُ، وَأَبْطَأَ عَلَيْهِ- وَكَانَ قَدِ اسْتَبْطَأَهُ-[قَالَ: اما لو جاءني لاستغفرت له، فاما إذ فَعَلَ مَا فَعَلَ، فَمَا أَنَا بِالَّذِي أُطْلِقُهُ مِنْ مَكَانِهِ حَتَّى يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ] حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، أَنَّ تَوْبَةَ ابى لبابه انزلت على رسول الله ص: وَهُوَ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ. قَالَتْ أُمُّ سلمه: فسمعت رسول الله ص مِنَ السَّحَرِ يَضْحَكُ فَقُلْتُ: مِمَّ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ! قَالَ: تِيبَ عَلَى أَبِي لُبَابَةَ، فَقُلْتُ: أَلا أُبَشِّرُهُ بِذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: بَلَى إِنْ شِئْتِ، قَالَ: فَقَامَتْ عَلَى بَابِ حُجْرَتِهَا- وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْهِنَّ الْحِجَابُ- فَقَالَتْ: يَا أَبَا لُبَابَةَ، أَبْشِرْ فَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْكَ قَالَ: فَثَارَ النَّاسُ إِلَيْهِ لِيُطْلِقُوهُ، فَقَالَ: لا وَاللَّهِ حتى يكون رسول الله ص هُوَ الَّذِي يُطْلِقُنِي بِيَدِهِ، فَلَمَّا مَرَّ عَلَيْهِ خَارِجًا إِلَى الصُّبْحِ أَطْلَقَهُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ ثَعْلَبَةَ بْنَ سَعْيَةَ وَأُسَيْدَ بْنَ سعيه، واسد ابن عُبَيْدٍ- وَهُمْ نَفَرٌ مِنْ بَنِي هَدَلٍ، لَيْسُوا مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَلا النَّضِيرِ، نَسَبُهُمْ فَوْقَ ذَلِكَ- هُمْ بَنُو عَمِّ الْقَوْمِ أَسْلَمُوا تِلْكَ اللَّيْلَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا قُرَيْظَةُ عَلَى حُكْمِ رسول الله ص- وَخَرَجَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ عَمْرُو بْنُ

سعدى القرظى، فمر بحرس رسول الله ص، وعليه مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الأَنْصَارِيُّ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: عَمْرُو بْنُ سُعْدَى- وَكَانَ عَمْرٌو قَدْ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي غَدْرِهِمْ بِرَسُولِ اللَّهِ ص، وَقَالَ: لا أَغْدِرُ بِمُحَمَّدٍ أَبَدًا- فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ حِينَ عَرَفَهُ: اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنِي عَثَرَاتِ الْكِرَامِ، ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ، فَخَرَجَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى بَاتَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ص بِالْمَدْيِنَةِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ ثُمَّ ذَهَبَ فَلا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبَ مِنْ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِهِ هذا! فذكر لرسول الله ص شَأْنُهُ، [فَقَالَ: ذَاكَ رَجُلٌ نَجَّاهُ اللَّهُ بِوَفَائِهِ] . قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَعْضُ النَّاسِ يَزْعُمُ أَنَّهُ كَانَ أَوْثَقَ بِرِمَّةٍ فِيمَنْ أَوْثَقَ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ حِينَ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ ص، فَأَصْبَحَتْ رِمَّتُهُ مُلْقَاةً لا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبَ، فقال رسول الله ص فِيهِ تِلْكَ الْمَقَالَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَلَمَّا أَصْبَحُوا نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ الله ص، فَتَوَاثَبَتِ الأَوْسُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ مَوَالِينَا دُونَ الْخَزْرَجِ، وَقَدْ فَعَلْتَ فِي مَوَالِي الْخَزْرَجِ بِالأَمْسِ مَا قَدْ عَلِمْتَ- وَقَدْ كَانَ رسول الله ص قَبْلَ بَنِي قُرَيْظَةَ حَاصَرَ بَنِي قَيْنُقَاعٍ، وَكَانُوا حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ، فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ، فَسَأَلَهُ إِيَّاهُمْ عبد الله بن ابى بن سَلُولَ، فَوَهَبَهُمْ لَهُ فَلَمَّا كَلَّمَهُ الأَوْسُ [قَالَ رسول الله ص: أَلا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الأَوْسِ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْكُمْ! قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَذَاكَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ]- وَكَانَ سَعْدُ بْنُ معاذ قد جعله رسول الله ص في خيمه امراه من اسلم يُقَالُ لَهَا رُفَيْدَةُ فِي مَسْجِدِهِ، كَانَتْ تُدَاوِي الْجَرْحَى، وَتَحْتَسِبُ بِنَفْسِهَا عَلَى خِدْمَةِ مَنْ كَانَتْ بِهِ ضَيْعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ص قَدْ قَالَ لِقَوْمِهِ حِينَ أَصَابَهُ السَّهْمُ بِالْخَنْدَقِ: اجْعَلُوهُ فِي خَيْمَةِ رُفَيْدَةَ، حَتَّى أَعُودَهُ مِنْ قريب- فلما

حكمه رسول الله ص فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، أَتَاهُ قَوْمُهُ، فَاحْتَمَلُوهُ عَلَى حِمَارٍ قَدْ وَطَّئُوا لَهُ بِوِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ- وَكَانَ رَجُلا جَسِيمًا- ثُمَّ أَقْبَلُوا مَعَهُ إِلَى رسول الله ص، وَهُمَ يَقُولُونَ: يَا أَبَا عَمْرٍو، أَحْسِنْ فِي مواليك، فان رسول الله ص إِنَّمَا وَلاكَ ذَلِكَ لِتُحْسِنَ فِيهِمْ فَلَمَّا أَكْثَرُوا عليه قال: قد انى لِسَعْدٍ أَلا تَأْخُذَهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لائِمٍ فَرَجَعَ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ إِلَى دَارِ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، فَنَعَى لَهُمْ رِجَالُ بَنِي قُرَيْظَةَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ عَنْ كَلِمَتِهِ الَّتِي سَمِعَ مِنْهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَلَمَّا انْتَهَى سَعْدٌ الى رسول الله ص والمسلمين، قال رسول الله ص- فِيمَا حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَلْقَمَةَ: فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ، قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: فَلَمَّا طلع- يعنى سعدا-[قال رسول الله ص: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ- أَوْ قَالَ: إِلَى خَيْرِكُمْ- فانزلوه، فقال رسول الله ص: احْكُمْ فِيهِمْ، قَالَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ، وَأَنْ تُسْبَى ذَرَارِيَّهُمْ وَأَنْ تُقْسَمَ أَمْوَالُهُمْ فَقَالَ: لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ] . رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ: وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: فَلَمَّا انْتَهَى سَعْدٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ص والمسلمون، قال رسول الله ص: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ، فَقَامُوا إِلَيْهِ، فَقَالُوا: يَا أبا عمرو، ان رسول الله ص قَدْ وَلاكَ أَمْرَ مَوَالِيكَ لِتَحْكُمَ فِيهِمْ فَقَالَ سَعْدٌ: عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ أَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا مَا حَكَمْتُ! قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: وعلى من هاهنا؟ - في الناحية التي فيها رسول

الله ص، وهو معرض عن رسول الله ص اجلالا له- فقال رسول الله ص: نَعَمْ، قَالَ سَعْدٌ: فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ بِأَنْ تُقْتَلَ الرِّجَالُ، وَتُقْسَمَ الأَمْوَالُ، وَتُسْبَى الذَّرَارِيُّ وَالنِّسَاءُ. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ، [قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص لِسَعْدٍ: لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ] . قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ استنزلوا، فحبسهم رسول الله ص فِي دَارِ ابْنَةِ الْحَارِثِ، امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي النجار ثم خرج رسول الله ص إِلَى سُوقِ الْمَدِينَةِ الَّتِي هِيَ سُوقُهَا الْيَوْمَ، فَخَنْدَقَ بِهَا خَنَادِقَ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِمْ فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ فِي تِلْكَ الْخَنَادِقِ، يَخْرُجُ بِهِمْ إِلَيْهِ أَرْسَالا، وَفِيهِمْ عَدُوُّ اللَّهِ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وكعب بن اسد، راس القوم، وهم ستمائه او سبعمائة، المكثر لهم يقول: كانوا من الثمانمائة الى التسعمائة وَقَدْ قَالُوا لِكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ- وَهُمْ يَذْهَبُ بهم الى رسول الله ص أَرْسَالا-: يَا كَعْبُ، مَا تَرَى مَا يُصْنَعُ بِنَا! فَقَالَ كَعْبٌ: فِي كُلِّ مَوْطِنٍ لا تَعْقِلُونَ: أَلا تَرَوْنَ الدَّاعِي لا يَنْزِعُ، وَأَنَّهُ مَنْ ذَهَبَ بِهِ مِنْكُمْ لا يَرْجِعُ، هُوَ وَاللَّهِ الْقَتْلُ! فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ الدَّأْبُ حَتَّى فرغ منهم رسول الله ص، وَأُتِيَ بِحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ عَدُوِّ اللَّهِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ لَهُ فُقَاحِيَةٌ قَدْ شَقَّقَهَا عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ كَمَوْضِعِ الأَنْمُلَةِ، أَنْمُلَةً أَنْمُلَةً، لِئَلا يُسْلَبَهَا، مَجْمُوعَةُ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ بِحَبْلٍ فَلَمَّا نظر الى رسول الله ص، قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا لُمْتُ نَفْسِي فِي عَدَاوَتِكَ، وَلَكِنَّهُ مَنْ يَخْذُلِ اللَّهَ يُخْذَلْ

ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، انه لا باس بأمر الله، كتاب اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَمَلْحَمَةٍ قَدْ كُتِبَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ جَلَسَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، فَقَالَ جَبَلُ بْنُ جَوَّالٍ الثَّعْلَبِيُّ: لَعَمْرُكَ مَا لامَ ابْنُ أَخْطَبَ نَفْسَهُ ... وَلَكِنَّهُ مَنْ يَخْذُلِ اللَّهُ يُخْذَلِ لَجَاهَدَ حَتَّى أَبْلَغَ النَّفْسَ عُذْرَهَا ... وَقَلْقَلَ يَبْغِي الْعِزَّ كُلُّ مُقَلْقَلِ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمْ يُقْتَلْ مِنْ نِسَائِهِمْ إِلا امْرَأَةً وَاحِدَةً قَالَتْ: وَاللَّهِ إِنَّهَا لَعِنْدِي تُحَدِّثُ مَعِي، وَتَضْحَكُ ظَهْرًا وبطنا، ورسول الله ص يَقْتُلُ رِجَالَهُمْ بِالسُّوقِ، إِذْ هَتَفَ هَاتِفٌ بِاسْمِهَا: أَيْنَ فُلانَةُ؟ قَالَتْ: أَنَا وَاللَّهِ قَالَتْ: قُلْتُ: وَيْلَكِ مَا لَكِ! قَالَتْ: أُقْتَلُ! قُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَتْ: حَدَثٌ أَحْدَثْتُهُ. قَالَتْ: فَانْطَلَقَ بِهَا فَضُرِبَتْ عُنُقُهَا فَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: مَا أَنْسَى عَجَبَنَا مِنْهَا، طِيبُ نَفْسٍ وَكَثْرَةُ ضَحِكٍ، وَقَدْ عَرَفَتْ أَنَّهَا تُقْتَلُ! وَكَانَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شِمَاسٍ- كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ- أَتَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَاطَا الْقُرَظِيُّ- وَكَانَ يُكْنَى أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ- وَكَانَ الزُّبَيْرُ قَدْ مَنَّ عَلَى ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شِمَاسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ مُحَمَّدٌ: مِمَّا ذَكَرَ لِي بَعْضُ وَلَدِ الزَّبِيرِ، أَنَّهُ كَانَ مَنَّ عَلَيْهِ يَوْمَ بُعَاثٍ، أَخَذَهُ فَجَزَّ نَاصِيَتَهُ، ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ- فَجَاءَهُ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، هَلْ تَعْرِفُنِي؟ قَالَ: وَهَلْ يَجْهَلُ مِثْلِي مِثْلَكَ!

قَالَ: إِنِّي قَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَجْزِيَكَ بِيَدِكَ عِنْدِي، قَالَ: إِنَّ الْكَرِيمَ يَجْزِي الْكَرِيمَ ثُمَّ اتى ثابت رسول الله ص، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ كَانَتْ لِلزَّبِيرِ عِنْدِي يَدٌ، وَلَهُ عَلَيَّ مِنَّةٌ، وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَجْزِيَهُ بِهَا، فَهَبْ لِي دَمَهُ فَقَالَ رسول الله ص: هو لك، فأتاه فقال: إن رسول الله ص قَدْ وَهَبَ لِي دَمَكَ فَهُوَ لَكَ، قَالَ: شَيْخٌ كَبِيرٌ لا أَهْلَ لَهُ وَلا وَلَدَ، فَمَا يَصْنَعُ بِالْحَيَاةِ! فَأَتَى ثَابِتٌ رَسُولَ اللَّهِ ص، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ، قَالَ: هُمْ لَكَ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص قَدْ أَعْطَانِي امْرَأَتَكَ وَوَلَدَكَ فَهُمْ لَكَ. قَالَ: أَهْلُ بَيْتٍ بِالْحِجَاز لا مَالَ لَهُمْ، فَمَا بقاؤهم! فاتى ثابت رسول الله ص، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَالُهُ! قَالَ: هُوَ لك، فأتاه فقال: ان رسول الله قَدْ أَعْطَانِي مَالَكَ فَهُوَ لَكَ، قَالَ: أَيْ ثَابِتُ! مَا فَعَلَ الَّذِي كَأَنَّ وَجْهَهُ مِرْآةٌ صِينِيَّةٌ تَتَرَاءَى فِيهَا عَذَارَى الْحَيِّ، كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ؟ قَالَ: قُتِلَ، قَالَ: فَمَا فَعَلَ سَيِّدُ الْحَاضِرِ وَالْبَادِي، حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ؟ قَالَ: قُتِلَ، قَالَ: فَمَا فَعَلَ مُقَدِّمَتُنَا إِذَا شَدَدْنَا، وَحَامِيتُنَا إِذَا كَرَرْنَا، عَزَّالُ بْنُ شمويلَ؟ قَالَ: قُتِلَ، قَالَ: فَمَا فَعَلَ الْمَجْلِسَانِ- يَعْنِي بَنِي كَعْبِ بْنِ قُرَيْظَةَ وَبَنِي عَمْرِو بْنِ قُرَيْظَةَ- قَالَ: ذَهَبُوا، قُتِلُوا قَالَ: فَإِنِّي أَسْأَلُكَ بِيَدِي عِنْدَكَ يا ثابت، الا ألحقتني بالقوم، فو الله مَا فِي الْعَيْشِ بَعْدَ هَؤُلاءِ مِنْ خَيْرٍ، فما انا بصابر الله قِبْلَةَ دَلْوٍ نُضِحَ حَتَّى أَلْقَى الأَحِبَّةَ! فَقَدَّمَهُ ثَابِتٌ فَضَرَبَ عُنُقَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ أَبَا بَكْرٍ قَوْلُهُ: أَلْقَى الأَحِبَّةَ قَالَ: يَلْقَاهُمْ وَاللَّهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا مُخَلَّدًا أَبَدًا فَقَالَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الشِّمَاسِ فِي ذَلِكَ، يَذْكُرُ الزَّبِيرَ بْنَ بَاطَا:

وَفَتْ ذِمَّتِي أَنِّي كَرِيمٌ وَأَنَّنِي ... صَبُورٌ إِذَا مَا الْقَوْمُ حَادُوا عَنِ الصَّبْرِ وَكَانَ زَبِيرٌ أَعْظَمَ النَّاسِ مِنَّةً ... عَلَيَّ فَلَمَّا شُدَّ كُوعَاهُ بِالأَسْرِ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ كَيْمَا أَفُكَّهُ ... وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ بَحْرًا لَنَا يَجْرِي [قَالَ: وَكَانَ رسول الله ص قَدْ أَمَرَ بِقَتْلِ مَنْ أُنْبِتَ مِنْهُمْ] . فَحَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، أَخِي بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، أَنَّ سَلْمَى بِنْتَ قَيْسٍ أُمَّ الْمُنْذِرِ أُخْتَ سُلَيْطِ بْنِ قيس- وكانت احدى خالات رسول الله ص، قَدْ صَلَّتْ مَعَهُ الْقِبْلَتَيْنِ، وَبَايَعَتْهُ بَيْعَةَ النِّسَاءِ- سَأَلَتْهُ رِفَاعَةَ بْنَ شمويلَ الْقُرَظِيَّ- وَكَانَ رَجُلا قَدْ بَلَغَ وَلاذَ بِهَا، وَكَانَ يَعْرِفُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ- فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! هَبْ لِي رِفَاعَةَ بْنَ شمويلَ، فَإِنَّهُ قَدْ زَعَمَ أَنَّهُ سَيُصَلِّي، وَيَأْكُلُ لَحْمَ الْجَمَلِ، فَوَهَبَهُ لَهَا، فَاسْتَحَيْتُهُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ ان رسول الله ص قَسَمَ أَمْوَالَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَعْلَمَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سَهْمَانِ الْخَيْلِ وَسَهْمَانِ الرِّجَالِ، وَأَخْرَجَ مِنْهَا الْخُمُسَ، فَكَانَ لِلْفَارِسِ ثَلاثَةُ أَسْهُمٍ، لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ وَلِفَارِسِهِ سَهْمٌ، وَلِلرَّاجِلِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ فَرَسٌ سَهْمٌ، وَكَانَتِ الْخَيْلُ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ سِتَّةً وَثَلاثِينَ فَرَسًا، وَكَانَ أول فيء وقع فيه السهمان واخرج منه الْخُمُسِ، فَعَلَى سُنَّتِهَا وَمَا مَضَى مِنْ رَسُولِ الله ص فِيهَا وَقَعَتِ الْمَقَاسِمُ، وَمَضَتِ السُّنَّةُ فِي الْمَغَازِي، وَلَمْ يَكُنْ يُسْهَمُ لِلْخَيْلِ إِذَا كَانَتْ مَعَ الرَّجُلِ إِلا لِفَرَسَيْنِ. ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ص سَعْدَ بْنَ زَيْدٍ الأَنْصَارِيَّ،

أَخَا بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ بِسَبَايَا مِنْ سَبَايَا بَنِي قُرَيْظَةَ إِلَى نَجْدٍ، فَابْتَاعَ لَهُ بِهِمْ خيلا وسلاحا، وكان رسول الله ص قَدِ اصْطَفَى لِنَفْسِهِ مِنْ نِسَائِهِمْ رَيْحَانَةَ بِنْتَ عمرو بن خنافه إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي عَمْرِو بْنِ قُرَيْظَةَ، فَكَانَتْ عند رسول الله ص حَتَّى تُوُفِّيَ عَنْهَا وَهِيَ فِي مِلْكِهِ، وَقَدْ كان رسول الله ص عَرَضَ عَلَيْهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَيَضْرِبَ عَلَيْهَا الْحِجَابَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلْ تَتْرُكَنِي فِي مِلْكِكَ فَهُوَ أَخَفُّ عَلَيَّ وَعَلَيْكَ فَتَرَكَهَا، وَقَدْ كانت حين سباها رسول الله ص قَدْ تَعَصَّتْ بِالإِسْلامِ، وَأَبَتْ إِلا الْيَهُودِيَّةَ، فَعَزَلَهَا رسول الله ص وَوَجَدَ فِي نَفْسِهِ لِذَلِكَ مِنْ أَمْرِهَا، فَبَيْنَا هُوَ مَعَ أَصْحَابِهِ إِذْ سَمِعَ وَقْعَ نَعْلَيْنِ خَلْفَهُ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَثَعْلَبَةُ بْنُ سَعْيَةَ يُبَشِّرُنِي بِإِسْلامِ رَيْحَانَةَ، فَجَاءَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أَسْلَمَتْ رَيْحَانَةُ، فَسَرَّهُ ذَلِكَ. فَلَمَّا انْقَضَى شَأْنُ بَنِي قُرَيْظَةَ انْفَجَرَ جُرْحُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ دَعَا- كَمَا حَدَّثَنِي ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بِشْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَلْقَمَةَ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ عَائِشَةَ: ثُمَّ دَعَا سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ- يَعْنِي بَعْدَ أَنْ حَكَمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ مَا حَكَمَ- فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَوْمٌ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أُقَاتِلَ أَوْ أُجَاهِدَ مِنْ قَوْمٍ كَذَّبُوا رَسُولَكَ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ أَبْقَيْتَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِكَ شَيْئًا فَأَبْقِنِي لَهَا، وَإِنْ كُنْتَ قَدْ قَطَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ فَانْفَجَرَ كَلْمُهُ، فرجعه رسول الله ص إِلَى خَيْمَتِهِ الَّتِي ضُرِبَتْ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ قالت عائشة: فحضره رسول الله ص، وابو بكر، وعمر، فو الذى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنِّي لأَعْرِفُ بُكَاءَ أَبِي بَكْرٍ مِنْ بُكَاءِ عُمَرَ وَإِنِّي لَفِي حُجْرَتِي قَالَتْ: وَكَانُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «رُحَماءُ بَيْنَهُمْ»

قَالَ عَلْقَمَةُ: أَيُّ أُمَّهْ! كَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ رسول الله ص؟ قَالَتْ: كَانَتْ عَيْنُهُ لا تَدْمَعُ عَلَى أَحَدٍ، وَلَكِنَّهُ كَانَ إِذَا اشْتَدَّ وَجْدُهُ عَلَى أَحَدٍ، أَوْ إِذَا وَجَدَ فَإِنَّمَا هُوَ آخِذٌ بِلِحْيَتِهِ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قال: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: لَمْ يُقْتَلْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ إِلا سِتَّةُ نَفَرٍ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ، وَقُتِلَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ خَلادُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عمرو ابن بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، طُرِحَتْ عَلَيْهِ رَحًى فَشَدَخَتْهُ شَدْخًا شَدِيدًا. وَمَاتَ أَبُو سِنَانِ بْنُ مِحْصَنِ بْنِ حُرْثَانَ، أَخُو بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، ورسول الله ص مُحَاصِرٌ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَدُفِنَ فِي مَقْبَرَةِ بَنِي قريظة. [ولما انصرف رسول الله ص عَنِ الْخَنْدَقِ، قَالَ: الآنَ نَغْزُوهُمْ- يَعْنِي قُرَيْشًا- وَلا يَغْزُونَنَا،] فَكَانَ كَذَلِكَ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ تعالى على رسوله ص مَكَّةَ. وَكَانَ فَتْحُ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَوْ فِي صَدْرِ ذِي الْحَجَّةِ، فِي قَوْلِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: غزاهم رسول الله ص فِي ذِي الْقَعْدَةِ، لِلَيَالٍ بَقِينَ مِنْه، وَزَعَمَ ان رسول الله ص أَمَرَ أَنْ يُشَقَّ لِبَنِي قُرَيْظَةَ فِي الأَرْضِ أَخَادِيدَ ثُمَّ جَلَسَ، فَجَعَلَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ يَضْرِبَانِ أَعْنَاقَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَزَعَمَ أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي قتلها النبي ص يَوْمَئِذٍ كَانَتْ تُسَمَّى بُنَانَةَ، امْرَأَةُ الْحَكَمِ الْقُرَظِيِّ، كَانَتْ قَتَلَتْ خَلادَ بْنَ سُوَيْدٍ، رَمَتْ عَلَيْهِ رحى، فدعا له رسول الله ص، فَضُرِبَ عُنُقُهَا بِخَلادِ بْنِ سُوَيْدٍ. وَاخْتُلِفَ فِي وقت غزوه النبي ص بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَهِيَ الْغَزْوَةُ الَّتِي يُقَالُ لَهَا غَزْوَةُ الْمُرَيْسِيعِ- وَالْمُرَيْسِيعُ اسْمُ مَاءٍ مِنْ مِيَاهِ خُزَاعَةَ بِنَاحِيَةِ قُدَيْدٍ إِلَى السَّاحِلِ- فقال: ابن إسحاق- فيما حدثنا ابن حميد،

قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص غزا بني المصطلق من خزاعة، فِي شعبان سنة ست من الهجرة. وقال الواقدي: غزا رسول الله ص المريسيع فِي شعبان سنة خمس من الهجرة وزعم أن غزوة الخندق وغزوة بني قريظة كانتا بعد المريسيع لحرب بني المصطلق من خزاعة. وزعم ابن إسحاق- فيما حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عنه- أن النبي ص انصرف بعد فراغه من بني قريظة، وذلك فِي آخر ذي القعدة أو فِي صدر ذي الحجة- فأقام بالمدينة ذا الحجة والمحرم وصفرا وشهري ربيع، وولي الحجة فِي سنة خمس المشركون

سنه ست من الهجره

ذكر الأحداث التي كانت فِي سنة ست من الهجره غزوه بنى لحيان قَالَ أبو جعفر: وخرج رَسُول اللَّهِ ص في جمادى الأولى على رأس ستة أشهر من فتح بني قريظة إلى بني لحيان، يطلب بأصحاب الرجيع، خُبَيْبُ بْنُ عَدِيٍّ وأصحابه، وأظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرة فخرج من المدينة، فسلك على غراب جبل بناحية المدينة على طريقه إلى الشام ثُمَّ على مخيض، ثُمَّ على البتراء، ثُمَّ صفق ذات اليسار، ثم على يين، ثُمَّ على صخيرات اليمام، ثُمَّ استقام به الطريق على المحجة من طريق مكة، فأغذ السير سريعا، حتى نزل على غران، وهي منازل بني لحيان- وغران واد بين أمج وعسفان- إلى بلد يقال له ساية، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا فِي رءوس الجبال، فلما نزلها رسول الله ص وأخطأه من غرتهم ما أراد، قَالَ: لو أنا هبطنا عسفان لرأى أهل مكة أنا قد جئنا مكة فخرج فِي مائتي راكب من أصحابه حَتَّى نزل عسفان، ثُمَّ بعث فارسين من أصحابه، حَتَّى بلغا كراع الغميم، ثُمَّ كرا وراح قافلا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق. - قَالَ: وَالْحَدِيثُ فِي غَزْوَةِ بَنِي لِحْيَانَ- عَنْ عاصم بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ قَدِمَ رَسُولُ الله ص الْمَدِينَةَ، فَلَمْ يُقِمْ إِلا لَيَالِيَ قَلائِلَ حَتَّى أَغَارَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيُّ فِي خَيْلٍ لِغَطَفَانَ عَلَى لِقَاحِ رسول الله ص بِالْغَابَةِ، وَفِيهَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ وَامْرَأَتُهُ، فَقَتَلُوا الرَّجُل وَاحْتَمَلُوا الْمَرْأَةَ فِي اللِّقَاحِ

غزوه ذي قرد

غَزْوَةُ ذِي قَرَدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَمَنْ لا أَتَّهِمُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كعب بن مالك، كُلٌّ قَدْ حَدَّثَ فِي غَزْوَةِ ذِي قَرَدٍ بَعْضَ الْحَدِيثِ، أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ نَذَرَ بِهِمْ سَلَمَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الأَكْوَعِ الأَسْلَمِيِّ، غَدَا يُرِيدُ الْغَابَةَ مُتَوَشِّحًا قَوْسَهُ وَنَبْلَهُ، وَمَعَهُ غُلامٌ لِطَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ بِهَذِهِ الْغَزْوَةِ مِنْ رَسُول الله ص بَعْدَ مَقْدِمِهِ الْمَدِينَةَ، مُنْصَرِفًا مِنْ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَا رُوِيَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ كان إِمَّا فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَإِمَّا فِي أَوَّلِ سَنَةِ سَبْعٍ، وذلك ان انصراف رسول الله ص مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ كَانَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَبَيْنَ الْوَقْتِ الَّذِي وَقَّتَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ لِغَزْوَةِ ذِي قَرَدٍ وَالْوَقْتِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَرِيبٌ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ حَدَّثَنَا حَدِيثَ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، قَالَ: حدثنا عكرمة بن عمار اليمامي، عَنْ إِيَاسَ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رسول الله ص إِلَى الْمَدِينَةِ- يَعْنِي بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ- فَبَعَثَ رسول الله ص بظهره مع رباح غلام رسول الله، وَخَرَجْتُ مَعَهُ بِفَرَسٍ لِطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ. فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُيَيْنَةَ قد اغار على ظهر رسول الله ص، فَاسْتَاقَهُ أَجْمَعَ، وَقَتَلَ رَاعِيَهُ قُلْتُ: يَا رَبَاحُ، خُذْ هَذَا الْفَرَسَ وَأَبْلِغْهُ طَلْحَةَ وَأَخْبِرْ رَسُولَ الله أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَغَارُوا عَلَى سَرْحِهِ ثُمَّ قمت

عَلَى أَكَمَةٍ فَاسْتَقْبَلْتُ الْمَدِينَةَ، فَنَادَيْتُ ثَلاثَةَ أَصْوَاتٍ: يَا صَبَاحَاهُ! ثُمَّ خَرَجْتُ فِي آثَارِ الْقَوْمِ ارميهم بالنبل، وارتجز واقول: انا ابن الاكوع، واليوم يوم الرضع. قال: فو الله مَا زِلْتُ أَرْمِيهِمْ وَأَعْقِرُ بِهِمْ، فَإِذَا رَجَعَ إِلَيَّ فَارِسٌ مِنْهُمْ أَتَيْتُ شَجَرَةً وَقَعَدْتُ فِي أَصْلِهَا، فَرَمَيْتُهُ فَعَقَرْتُ بِهِ، وَإِذَا تَضَايَقَ الْجَبَلُ فَدَخَلُوا فِي مُتَضَايِقٍ عَلَوْتُ الْجَبَلَ، ثُمَّ أُرَدِّيهِمْ بالحجارة، فو الله مَا زِلْتُ كَذَلِكَ حَتَّى مَا خَلَقَ اللَّهُ بعيرا من ظهر رسول الله ص إِلا جَعَلْتُهُ وَرَاءَ ظَهْرِي، وَخَلَّوْا بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَحَتَّى أَلْقَوْا أَكْثَرَ مِنْ ثَلاثِينَ رُمْحًا وَثَلاثِينَ بُرْدَةً، يَسْتَخِفُّونَ بِهَا لا يُلْقُونَ شَيْئًا إِلا جَعَلْتُ عَلَيْهِ آرَامًا حَتَّى يَعْرِفُهُ رَسُولُ اللَّهِ ص وَأَصْحَابُهُ، حَتَّى إِذَا انْتَهَوْا إِلَى مُتَضَايِقٍ مِنْ ثَنِيَّةٍ وَإِذَا هُمْ قَدْ أَتَاهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ بَدْرٍ مُمَدًّا، فَقَعَدُوا يَتَضَحُّونَ، وَقَعَدْتُ عَلَى قَرْنٍ فَوْقَهُمْ، فَنَظَرَ

عُيَيْنَةُ، فَقَالَ: مَا الَّذِي أَرَى؟ قَالُوا: لَقِينَا مِنْ هَذَا الْبَرْحَ، لا وَاللَّهِ مَا فَارَقَنَا هَذَا مُنْذُ غَلَسٍ، يَرْمِينَا حَتَّى اسْتَنْقَذَ كُلَّ شَيْءٍ فِي أَيْدِينَا. قَالَ: فَلْيَقُمْ إِلَيْهِ مِنْكُمْ أَرْبَعَةٌ فَعَمَدَ إِلَيَّ أَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ فَلَمَّا أَمْكَنُونِي مِنَ الْكَلامِ، قُلْتُ: أَتَعْرِفُونِّي؟ قَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ، وَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ لا أَطْلُبُ أَحَدًا مِنْكُمْ إِلا أَدْرَكْتُهُ، وَلا يَطْلُبُنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ فَيُدْرِكُنِي قَالَ أَحَدُهُمْ: أَنَا أَظُنُّ، قَالَ: فَرَجَعُوا فَمَا بَرِحْتُ مَكَانِي ذَاكَ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى فَوَارِسِ رَسُولِ اللَّهِ ص يَتَخَلَّلُونَ الشَّجَرَ، أَوَّلُهُمُ الأَخْرَمُ الأَسَدِيُّ، وَعَلَى إِثْرِهِ أَبُو قَتَادَةَ الأَنْصَارِيُّ، وَعَلَى إِثْرِهِ الْمِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ الْكِنْدِيُّ، فَأَخَذْتُ بِعِنَانِ فَرَسِ الأَخْرَمِ، فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، فَقُلْتُ: يَا أَخْرَمُ، إِنَّ الْقَوْمَ قَلِيلٌ، فَاحْذَرْهُمْ لا يَقْتَطِعُوكَ حَتَّى يَلْحَقَ بِنَا رَسُولُ الله وَأَصْحَابُهُ فَقَالَ: يَا سَلَمَةُ، إِنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتَعْلَمُ أَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ، فَلا تَحُلْ بَيْنِي وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ قال: فحليته، فَالْتَقَى هُوَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُيَيْنَةَ، فَعَقَرَ الأَخْرَمُ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ فَرَسَهُ، فَطَعَنَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَتَلَهُ، وَتَحَوَّلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى فَرَسِهِ، وَلَحِقَ أَبُو قَتَادَةَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَطَعَنَهُ وَقَتَلَهُ، وَعَقَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِأَبِي قَتَادَةَ فَرَسَهُ، وَتَحَوَّلَ أَبُو قَتَادَةَ عَلَى فَرَسِ الأَخْرَمِ، فَانْطَلَقُوا هَارِبِينَ. قَالَ سلمه: فو الذى كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ، لَتَبِعْتُهُمْ أَعْدُو عَلَى رِجْلَيَّ، حَتَّى مَا أَرَى وَرَائِي مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ص وَلا غُبَارِهِمْ شَيْئًا. قَالَ: وَيَعْدِلُونَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى شِعْبٍ فِيهِ مَاءٌ يُقَالُ لَهُ ذو قرد

يَشْرَبُونَ مِنْهُ وَهُمْ عِطَاشٌ، فَنَظَرُوا إِلَيَّ أَعْدُو في آثارهم، فحليتهم فَمَا ذَاقُوا مِنْهُ قَطْرَةً. قَالَ: وَيُسْنِدُونَ فِي ثنية ذي اثير، وَيَعْطِفُ عَلَيَّ وَاحِدٌ فَأَرْشُقُهُ بِسَهْمٍ فَيَقَعُ فِي نغض كَتِفِهِ، فَقُلْتُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ فَقَالَ: أَكْوَعِيٌّ غُدْوَةٌ! قُلْتُ: نَعَمْ يَا عَدُوَّ نَفْسِهِ، وَإِذَا فَرَسَانِ عَلَى الثَّنِيَّةِ، فجئت بهما اقودهما الى رسول الله وَلَحِقَنِي عَامِرٌ عَمِّي بَعْدَ مَا أَظْلَمْتُ بِسَطِيحَةٍ فِيهَا مَذْقَةٌ مِنْ لَبَنٍ، وَسَطِيحَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَتَوَضَّأْتُ وَصَلَّيْتُ وَشَرِبْتُ، ثُمَّ جِئْتُ إِلَى رَسُولِ الله ص وهو على الماء الذى حليتهم عَنْهُ، عِنْدَ ذِي قَرَدٍ، وَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ قَدْ أَخَذَ تِلْكَ الإِبِلَ الَّتِي اسْتَنْقَذْتُ مِنَ الْعَدُوِّ، وَكُلَّ رُمْحٍ، وَكُلَّ بُرْدَةٍ، وَإِذَا بِلالٌ قَدْ نَحَرَ نَاقَةً مِنَ الإِبِلِ الَّتِي اسْتَنْقَذْتُ من العدو، فهو يشوى لرسول الله ص مِنْ كَبِدِهَا وَسَنَامِهَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خَلِّنِي فَلأَنْتَخِبُ مِائَةَ رَجُلٍ مِنَ الْقَوْمِ، فَأَتَّبِعُ الْقَوْمَ فَلا يَبْقَى مِنْهُمْ عَيْنٌ. فَضَحِكَ رَسُولُ الله ص حتى بدا- وقد بَانَتْ- نَوَاجِذُهُ. فِي ضَوْءِ النَّارِ ثُمَّ قَالَ: أَكُنْتَ فَاعِلا! فَقُلْتُ: إِي وَالَّذِي أَكْرَمَكَ!

فلما أصبحنا قال رسول الله إِنَّهُمْ لَيَقَرُّونَ بِأَرْضِ غَطَفَانَ قَالَ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ غَطَفَانَ، فَقَالَ: نَحَرَ لَهُمْ فُلانٌ جَزُورًا، فَلَمَّا كَشَطُوا عَنْهَا جِلْدَهَا رَأَوْا غُبَارًا، فَقَالُوا: أَتَيْتُمْ! فَخَرَجُوا هَارِبِينَ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا [قَالَ رَسُولُ الله ص: خَيْرُ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ، وَخَيْرُ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ] ثُمَّ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ ص سَهْمَيْنِ سَهْمَ الْفَارِسِ، وَسَهْمَ الرَّاجِلِ، فَجَمَعَهُمَا لِي جمعيا، ثم اردفنى رسول الله وَرَاءَهُ عَلَى الْعَضْبَاءِ، رَاجِعِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَبَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ، وَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ لا يُسْبَقُ شَدًّا فَجَعَلَ يَقُولُ: أَلا مِنْ مُسَابِقٍ! فَقَالَ ذَاكَ مِرَارًا، فَلَمَّا سَمِعْتُهُ قُلْتُ: أَمَا تُكْرِمُ كَرِيمًا وَلا تَهَابُ شَرِيفًا! فَقَالَ: لا، إِلا أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! ائْذَنْ لِي فَلأُسَابِقَ الرَّجُلَ! قَالَ: إِنْ شِئْتَ، قَالَ: فَطَفَرْتُ فَعَدَوْتُ، فَرَبَطْتُ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ فَأَلْحَقُهُ وَأَصُكُّهُ بين كتفيه، فقلت: سبقتك والله! فقال: انى أَظُنُّ، فَسَبَقْتُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمْ نَمْكُثْ بِهَا إِلا ثَلاثًا حَتَّى خَرَجْنَا إِلَى خَيْبَرَ

رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَمَعَهُ غُلامٌ لِطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ- يَعْنِي مَعَ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ- مَعَهُ فَرَسٌ لَهُ يَقُودُهُ، حَتَّى إِذَا عَلا عَلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ نَظَرَ إِلَى بَعْضِ خُيُولِهِمْ، فَأَشْرَفَ فِي نَاحِيَةِ سَلْعٍ، ثم صرخ: وا صباحاه! ثُمَّ خَرَجَ يَشْتَدُّ فِي آثَارِ الْقَوْمِ- وَكَانَ مِثْلَ السَّبُعِ- حَتَّى لَحِقَ بِالْقَوْمِ، فَجَعَلَ يَرُدُّهُمْ بِالنَّبْلِ، وَيَقُولُ إِذَا رَمَى: خُذْهَا مِنِّي وَأَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ، وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ. فَإِذَا وُجِّهَتِ الْخَيْلُ نَحْوَهُ، انْطَلَقَ هَارِبًا، ثُمَّ عَارَضَهُمْ، فَإِذَا أَمْكَنَهُ الرَّمْيَ رَمَى، ثُمَّ قَالَ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ قَالَ: فَيَقُولُ قائلهم: اويكعنا هُوَ أَوَّلُ النَّهَارِ. قَالَ: وَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ ص صِيَاحُ ابْنِ الأَكْوَعِ، فَصَرَخَ بِالْمَدِينَةِ: الْفَزَعَ الْفَزَعَ!، فتتامت الخيول الى رسول الله ص، فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ انْتَهَى إِلَيْهِ مِنَ الْفُرْسَانِ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو. ثُمَّ كَانَ أَوَّلُ فَارِسٍ وقف على رسول الله ص بَعْدَ الْمِقْدَادِ مِنَ الأَنْصَارِ، عَبَّادُ بْنُ بِشْرِ بن وقش بن زغبه بن زعوراء، أَخُو بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، وَسَعْدُ بْنُ زَيْدٍ، أَحَدُ بَنِي كَعْبِ بْنِ عَبْدِ الأَشْهَلِ، وَأُسَيْدُ بْنُ ظُهَيْرٍ أَخُو بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ- يَشُكُّ فِيهِ- وَعُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، أَخُو بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَمُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ، أَخُو بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَأَبُو قَتَادَةَ الْحَارِثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ، وَأَبُو عَيَّاشٍ، وهو عبيد بن زيد بْنِ صَامِتٍ، أَخُو بَنِي زُرَيْقٍ. فَلَمَّا اجْتَمَعُوا الى رسول الله ص أَمَّرَ عَلَيْهِمْ سَعْدَ بْنَ زَيْدٍ. ثُمَّ قَالَ: اخْرُجْ فِي طَلَبِ الْقَوْمِ حَتَّى أُلْحِقَكَ فِي الناس. وقد قال رسول الله ص- فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ- لأَبِي عَيَّاشٍ: يَا أَبَا عَيَّاشٍ، لَوْ أَعْطَيْتَ هَذَا الْفَرَسَ رَجُلا هُوَ أَفْرَسُ مِنْكَ فَلَحِقَ بِالْقَوْمِ! قَالَ أَبُو عَيَّاشٍ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، انا

افرس الناس، ثم ضربت الفرس، فو الله مَا جَرَى خَمْسِينَ ذِرَاعًا حَتَّى طَرَحَنِي، فَعَجِبْتُ ان رسول الله ص يقول: لو أعطيه أَفْرَسَ مِنْكَ! وَأَقُولُ: أَنَا أَفْرَسُ النَّاسِ فَزَعَمَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص أَعْطَى فَرَسَ أَبِي عَيَّاشٍ مُعَاذَ بْنَ مَاعِصٍ- او عائذ بن ماعص- ابن قَيْسِ بْنِ خَلْدَةَ- وَكَانَ ثَامِنًا- وَبَعْضُ النَّاسِ يَعُدُّ سَلَمَةَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الأَكْوَعِ أَحَدَ الثَّمَانِيَةِ، وَيَطْرَحُ أُسَيْدَ بْنَ ظُهَيْرٍ أَخَا بَنِي حَارِثَةَ، وَلَمْ يَكُنْ سَلَمَةُ يَوْمَئِذٍ فَارِسًا، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لَحِقَ بِالْقَوْمِ عَلَى رِجْلَيْهِ، فَخَرَجَ الْفِرْسَانُ فِي طَلَبِ الْقَوْمِ، حَتَّى تَلاحَقُوا. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: وحدثني محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عُمَرَ بْن قَتَادَة، أن أول فارس لحق بالقوم محرز بْن نضلة، أخو بني أسد بْن خزيمة- ويقال لمحرز: الأخرم، ويقال له: قُمَيْرٌ- وأن الفزع لما كان، جال فرس لمحمود بْن مسلمة فِي الحائط حين سمع صاهلة الخيل، وكان فرسا صنيعا جاما، فَقَالَ نساء من نساء بني عبد الأشهل حين رأى الفرس يجول فِي الحائط بجذع من نخل هو مربوط به: يا قُمَيْرُ، هل لك فِي أن تركب هذا الفرس- فإنه كما ترى- ثم تلحق برسول الله ص وبالمسلمين! قال: نعم، فأعطنيه إياه، فخرج عليه، فلم ينشب أن بذ الخيل بجمامه حَتَّى أدرك القوم، فوقف لهم بين أيديهم، ثُمَّ قَالَ: قفوا معشر اللكيعة حَتَّى يلحق بكم من وراءكم من أدباركم من المهاجرين والأنصار. قَالَ: وحمل عليه رجل منهم فقتله، وجال الفرس فلم يقدروا عليه،

حَتَّى وقف على آرية فِي بني عبد الأشهل، فلم يقتل من المسلمين غيره، وكان اسم فرس محمود ذا اللمة. حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عمن لا يتهم، عن عبيد اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّ مُحْرِزًا إِنَّمَا كَانَ عَلَى فَرَسٍ لِعُكَّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ يُقَالُ لَهُ الْجَنَاحُ، فَقُتِلَ مُحْرِزٌ، وَاسْتُلِبَ الْجَنَاحُ وَلَمَّا تَلاحَقَتِ الْخُيُولُ قَتَلَ أَبُو قَتَادَةَ الْحَارِثُ بْنُ رِبْعِيٍّ أَخُو بَنِي سَلَمَةَ، حَبِيبَ بْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَغَشَّاهُ بِبُرْدَتِهِ، ثُمَّ لحق بالناس، واقبل رسول الله ص وَالْمُسْلِمُونَ، فَإِذَا حَبِيبٌ مُسَجًّى بِبُرْدَةِ أَبِي قَتَادَةَ، فَاسْتَرْجَعَ النَّاسُ، وَقَالُوا: قُتِلَ أَبُو قَتَادَةَ، فَقَالَ رسول الله ص: لَيْسَ بِأَبِي قَتَادَةَ، وَلَكِنَّهُ قَتِيلٌ لأَبِي قَتَادَةَ، وَضَعَ عَلَيْهِ بُرْدَتَهُ، لِتَعْرِفُوا أَنَّهُ صَاحِبُهُ وَأَدْرَكَ عكاشة ابن مِحْصَنٍ أَوْبَارًا وَابْنَهُ عَمْرَو بْنَ أَوْبَارٍ عَلَى بَعِيرٍ وَاحِدٍ، فَانْتَظَمَهُمَا بِالرُّمْحِ فَقَتَلَهُمَا جَمِيعًا، وَاسْتَنْقَذُوا بعض اللقاح وسار رسول الله ص. حَتَّى نَزَلَ بِالْجَبَلِ مِنْ ذِي قَرَدٍ، وَتَلاحَقَ به الناس، فنزل رسول الله ص، وَأَقَامَ عَلَيْهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَقَالَ لَهُ سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ سَرَّحْتَنِي فِي مِائَةِ رَجُلٍ لاسْتَنْقَذْتُ بَقِيَّةَ السَّرْحِ، وَأَخَذْتُ باعناق القوم فقال رسول الله ص- فِيمَا بَلَغَنِي: إِنَّهُمُ الآنَ لَيَغْبُقُون فِي غَطَفَانَ. وقسم رسول الله ص فِي أَصْحَابِهِ فِي كُلِّ مِائَةٍ جَزُورًا،

ذكر غزوه بنى المصطلق

فأقاموا عليها، ثم رجع رسول الله ص قَافِلا حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ. فَأَقَامَ بِهَا بَعْضَ جمادى الآخرة ورجب ثُمَّ غَزَا بِالْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سِتٍّ ذِكْرُ غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ وَعَلِيُّ بْنُ مُجَاهِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، قَالَ: كُلٌّ قَدْ حَدَّثَنِي بَعْضَ حَدِيثِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، قَالُوا: بَلَغَ رسول الله ص ان بلمصطلق يَجْتَمِعُونَ لَهُ، وَقَائِدُهُمُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي ضِرَارٍ، ابو جويرية بنت الحارث، زوج النبي ص، فلما سمع بهم رسول الله ص خَرَجَ إِلَيْهِمْ حَتَّى لَقِيَهُمْ عَلَى مَاءٍ مِنْ مِيَاهِهِمْ، يُقَالُ لَهُ: الْمُرَيْسِيعُ، مِنْ نَاحِيَةِ قُدَيْدٍ إِلَى السَّاحِلِ، فَتَزَاحَفَ النَّاسُ وَاقْتَتَلُوا قِتَالا شَدِيدًا، فَهَزَمَ اللَّهُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ منهم، ونفل رسول الله ص أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَفَاءَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَقَدْ أُصِيبَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَنِي كَلْبِ بن عوف بن عامر بن ليث ابن بَكْرٍ، يُقَالُ لَهُ هِشَامُ بْنُ صُبَابَةَ، أَصَابَهُ رجل من الانصار من رهط عباده ابن الصَّامِتِ، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ مِنَ الْعَدُوِّ، فَقَتَلَهُ خطا

فَبَيْنَا النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ وَرَدَتْ وَارِدَةُ النَّاسِ، وَمَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَجِيرٌ لَهُ مِنْ بَنِي غِفَارٍ يُقَالُ لَهُ جَهْجَاهُ بْنُ سَعِيدٍ، يَقُودُ لَهُ فَرَسُهُ، فَازْدَحَمَ جَهْجَاهُ وَسِنَانٌ الْجُهَنِيُّ حَلِيفُ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ عَلَى الْمَاءِ، فَاقْتَتَلا، فَصَرَخَ الْجُهَنِيُّ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، وَصَرَخَ جَهْجَاهٌ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، فَغَضِبَ عَبْدُ الله بن ابى بن سَلُولَ، وَعِنْدَهُ رَهْطٌ مِنْ قَوْمِهِ، فِيهِمْ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ غُلامٌ حَدِيثُ السِّنِّ، فَقَالَ: أَقَدْ فَعَلُوهَا! قَدْ نَافَرُونَا وَكَاثَرُونَا فِي بِلادِنَا، وَاللَّهِ مَا عَدَوْنَا وَجَلابِيبُ قُرَيْشٍ مَا قَالَ الْقَائِلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ! ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ قَوْمِهِ، فَقَالَ: هَذَا مَا فَعَلْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ! أَحْلَلْتُمُوهُمْ بِلادَكُمْ، وَقَاسَمْتُمُوهُمْ أَمْوَالَكُمْ! أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَمْسَكْتُمْ عَنْهُمْ مَا بِأَيْدِيكُمْ لَتَحَوَّلُوا إِلَى غَيْرِ بِلادِكُمْ. فَسَمِعَ ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، فَمَشَى بِهِ إِلَى رَسُولِ الله ص، وذلك عند فراغ رسول الله ص مِنْ عَدُوِّهِ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ

وَعِنْدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْ بِهِ عَبَّادَ بْنَ بِشْرِ بْنِ وقش فليقتله، [فقال رسول الله ص: فَكَيْفَ يَا عُمَرُ إِذَا تَحَدَّثَ النَّاسُ: أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ!] لا، وَلَكِنْ أَذِّنْ بِالرَّحِيلِ- وَذَلِكَ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ ص يَرْتَحِلُ فِيهَا- فَارْتَحَلَ النَّاسُ، وَقَدْ مَشَى عَبْدُ الله بن ابى بن سلول الى رسول الله ص حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قَدْ بَلَّغَهُ مَا سَمِعَ مِنْهُ فَحَلَفَ بِاللَّهِ: مَا قُلْتُ مَا قَالَ، وَلا تَكَلَّمْتُ بِهِ- وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فِي قَوْمِهِ شَرِيفًا عظيما- فقال من حضر رسول الله ص مِنْ أَصْحَابِهِ مِنَ الأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَسَى أَنْ يَكُونَ الْغُلامُ أُوهِمَ فِي حَدِيثِهِ وَلَمْ يَحْفَظْ مَا قَالَ الرَّجُلُ! حَدْبًا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَدَفْعًا عَنْهُ. فَلَمَّا استقل رسول الله ص وَسَارَ، لَقِيَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، فَحَيَّاهُ تَحِيَّةَ النُّبُوَّةِ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ رُحْتَ فِي سَاعَةٍ مُنْكَرَةٍ مَا كُنْتَ تَرُوحُ فِيهَا! [فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّهِ ص: او ما بَلَغَكَ مَا قَالَ صَاحِبُكُمْ! قَالَ: وَأَيُّ صَاحِبٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، قَالَ: وَمَا قَالَ؟ قَالَ: زَعَمَ أَنَّهُ إِنْ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَخْرَجَ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، قَالَ أُسَيْدٌ: فَأَنْتَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخْرِجُهُ إِنْ شِئْتَ، هُوَ وَاللَّهِ الذَّلِيلُ وَأَنْتَ الْعَزِيزُ! ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ارفق به فو الله لَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِكَ، وَإِنْ قَوْمَهُ لَيُنَظِّمُونَ لَهُ الْخَرَزَ لِيُتَوِّجُوهُ، فَإِنَّهُ لَيَرَى أَنَّكَ قَدِ استلبته ملكا] . ثم متن رسول الله ص بِالنَّاسِ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ حَتَّى أَمْسَى، وَلَيْلَتَهُمْ حَتَّى أَصْبَحَ، وَصَدْرَ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ حَتَّى آذَتْهُمُ الشَّمْسُ

ثُمَّ نَزَلَ بِالنَّاسِ، فَلَمْ يَكُنْ إِلا أَنْ وَجَدُوا مَسَّ الأَرْضِ وَقَعُوا نِيَامًا، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذلك رسول الله ص لِيَشْغَلَ النَّاسَ عَنِ الْحَدِيثِ الَّذِي كَانَ بِالأَمْسِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ. ثُمَّ رَاحَ بِالنَّاسِ، وَسَلَكَ الْحِجَازَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى مَاءٍ بِالْحِجَازِ فُوَيْقَ النَّقِيعِ، يُقَالُ لَهُ نَقْعَاءُ، فلما راح رسول الله ص هَبَّتْ عَلَى النَّاسِ رِيحٌ شَدِيدَةٌ آذَتْهُمْ، وَتَخَوَّفُوهَا، [فقال رسول الله ص: لا تخافوا، فإنما هَبَّتْ لِمَوْتِ عَظِيمٍ مِنْ عُظَمَاءِ الْكُفَّارِ، فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ وَجَدُوا رِفَاعَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ، أَحَدَ بَنِي قَيْنُقَاعَ- وَكَانَ مِنْ عُظَمَاءِ يَهُودَ، وَكَهْفًا لِلْمُنَافِقِينَ- قَدْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ] . وَنَزَلَتِ السُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ فِيهَا المنافقين في عبد الله بن ابى بن سلول ومن كان معه عَلَى مِثْلِ أَمْرِهِ، فَقَالَ: «إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ» ، [فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ص بِأُذُنِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فَقَالَ: هَذَا الَّذِي أَوْفَى اللَّهُ بِإِذْنِهِ] . حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عَمِّي فِي غَزَاةٍ، فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيِّ بْنِ سَلُولَ يَقُولُ لأَصْحَابِهِ: «لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ» وَاللَّهِ، «لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ» ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمِّي، فَذَكَرَهُ عَمِّي لرسول الله ص، فأرسل الى

فَحَدَّثْتُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ وَأَصْحَابِهِ، فَحَلَفُوا ما قالوا، قال: فكذبنى رسول الله ص وَصَدَّقَهُ، فَأَصَابَنِي هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ قَطُّ، فَجَلَسْتُ فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ لِي عَمِّي: مَا اردت الى ان كذبك رسول الله وَمَقَتَكَ! قَالَ: حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ» ، قال: فبعث الى رسول الله ص فَقَرَأَهَا، [ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ صَدَّقَكَ يَا زَيْدُ] . رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَبَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِ أَبِيهِ فَحَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بن ابى ابن سلول اتى رسول الله ص، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ قَتْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ- فِيمَا بَلَغَكَ عَنْهُ- فَإِنْ كُنْتَ فَاعِلا فَمُرْنِي به، فانا احمل إليك راسه، فو الله لَقَدْ عَلِمَتِ الْخَزْرَجُ مَا كَانَ بِهَا رَجُلٌ أَبَرُّ بِوَالِدِهِ مِنِّي، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ تَأْمُرَ بِهِ غَيْرِي فَيَقْتُلَهُ، فَلا تَدَعْنِي نَفْسِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى قَاتِلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يَمْشِي فِي النَّاسِ فَأَقْتُلَهُ، فَأَقْتُلَ مُؤْمِنًا بِكَافِرٍ فادخل النار، [فقال رسول الله ص: بَلْ نَرْفُقُ بِهِ وَنُحْسِنُ صُحْبَتُهُ مَا بَقِيَ معنا] وجعل بعد ذلك إِذَا أَحْدَثَ الْحَدَثَ، كَانَ قَوْمُهُ هُمُ الَّذِينَ يُعَاتِبُونَهُ وَيَأْخُذُونَهُ، وَيُعَنِّفُونَهُ وَيَتَوَعَّدُونَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ بَلَغَهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ مِنْ شَأْنِهِمْ: كَيْفَ تَرَى يَا عُمَرُ! أَمَا وَاللَّهِ لَوْ قَتَلْتُهُ يَوْمَ أَمَرْتَنِي بِقَتْلِهِ، لأُرْعِدَتْ لَهُ آنُفٌ لَوْ أَمَرْتُهَا الْيَوْمَ

بِقَتْلِهِ لَقَتَلْتُهُ قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ وَاللَّهِ علمت، لامر رسول الله أَعْظَمُ بَرَكَةً مِنْ أَمْرِي. قَالَ: وَقَدِمَ مقيسُ بْنُ صُبَابَةَ مِنْ مَكَّةَ مُسْلِمًا فِيمَا يَظْهَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْتُكَ مُسْلِمًا وَجِئْتُ أَطْلُبُ دِيَةَ أَخِي قُتِلَ خَطَأً فَأَمَرَ لَهُ رسول الله ص بِدِيَةِ أَخِيهِ هِشَامِ بْنِ صُبَابَةَ، فَأَقَامَ عِنْدَ رسول الله ص غَيْرَ كَثِيرٍ، ثُمَّ عَدَا عَلَى قَاتِلِ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مُرْتَدًّا، فَقَالَ في شعر: شَفَى النَّفْسَ أَنْ قَدْ بَاتَ بِالْقَاعِ مُسْنِدًا ... تضرج ثَوْبَيْهِ دِمَاءُ الأَخَادِعِ وَكَانَتْ هُمُومُ النَّفْسِ مِنْ قَبْلِ قَتْلِهِ ... تُلِمُّ، فَتَحْمِينِي وِطَاءَ الْمَضَاجِعِ حَلَلْتُ بِهِ وِتْرِي، وَأَدْرَكْتُ ثُؤْرَتِي ... وَكُنْتُ إِلَى الأَوْثَانِ أول راجع تارت به فهرا وَحَمَّلْتُ عَقْلَهُ ... سُرَاةَ بَنِي النَّجَّارِ أَرْبَابِ فَارِعِ وَقَالَ مِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ أَيْضًا: جَلَّلْتُهُ ضَرْبَةً بَاءَتْ، لَهَا وَشَلٌ ... مِنْ نَاقِعِ الْجَوْفِ يَعْلُوهُ وَيَنْصَرِمُ فَقُلْتُ وَالْمَوْتُ تَغْشَاهُ أَسِرَّتُهْ ... لا تَأْمَنَنَّ بَنِي بَكْرٍ إِذَا ظُلِمُوا وَأُصِيبَ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ يَوْمَئذٍ نَاسٌ كَثِيرٌ، وَقَتَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْهُمْ رَجُلَيْنِ: مَالِكًا وَابْنَهُ، وَأَصَابَ رسول الله ص منهم

حديث الافك

سَبْيًا كَثِيرًا، فَفَشَا قَسْمُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهُمْ جُوَيْرَيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ زَوْجُ النبي ص. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ زوج النبي ص، قالت: لما قسم رسول الله ص سَبَايَا بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَقَعَتْ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ في السهم لثابت بن قيس ابن الشماس- أو لابن عم له- فكاتبته على نَفْسِهَا- وَكَانَتِ امْرَأَةً حُلْوَةً مُلاحَةً، لا يَرَاهَا أَحَدٌ إِلا أَخَذَتْ بِنَفْسِهِ- فَأَتَتْ رَسُول اللَّهِ ص تستعينه على كتابتها، قالت: فو الله مَا هُوَ إِلا أَنْ رَأَيْتُهَا عَلَى بَابِ حُجْرَتِي كَرِهْتَهَا، وَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَرَى مِنْهَا مِثْلَ مَا رَأَيْتُ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ سَيِّدِ قَوْمِهِ، وَقَدْ أَصَابَنِي مِنَ الْبَلاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ، فَوَقَعْتُ فِي السَّهْمِ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الشِّمَاسِ- أَوْ لابْنِ عَمٍّ لَهُ- فَكَاتَبْتُهُ عَلَى نَفْسِي، فَجِئْتُكَ أَسْتَعِينُكَ عَلَى كِتَابَتِي، [فَقَالَ لَهَا: فَهَلْ لَكِ فِي خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَقْضِي كِتَابَتَكِ وَأَتَزَّوَجُكِ، قَالَتْ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، قَالَتْ: وَخَرَجَ الْخَبَرُ إِلَى النَّاسِ أَنَّ رَسُولَ الله ص قَدْ تَزَوَّجَ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، فَقَالَ النَّاسُ: اصهار رسول الله ص، فَأَرْسَلُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ] . قَالَتْ: فَلَقَدْ أَعْتَقَ بِتَزْوِيجِهِ إِيَّاهَا مِائَةَ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَمَا أَعْلَمُ امْرَأَةً كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا مِنْهَا . حَدِيثُ الإِفْكِ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق،

قال: واقبل رسول الله ص مِنْ سَفَرِهِ ذَلِكَ- كَمَا حَدَّثَنِي أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ- حَتَّى إِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ- وَكَانَتْ مَعَهُ عَائِشَةُ فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ- قَالَ أَهْلُ الإِفْكِ فِيهَا مَا قَالُوا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزُّهْرِيِّ، عَن علقمة بْن وقاص الليثي وعن سَعِيد بْن الْمُسَيِّب، وعن عروة بْن الزُّبَيْر وعن عُبَيْدِ اللَّه بْن عَبْد اللَّهِ بْن عُتْبَةَ بْن مَسْعُود قَالَ الزهري: كُل قَدْ حَدَّثَنِي بَعْض هَذَا الْحَدِيث، وَبَعْض الْقَوْم كَانَ أوعى لَهُ من بَعْض قَالَ: وَقَدْ جمعت لَك كُل الَّذِي حَدَّثَنِي الْقَوْم. حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزبير، عن أبيه، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَ: وحدثني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي بكر بن مُحَمَّد بن عمرو بن حَزْمٍ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَ: وَكُلٌّ قَدِ اجْتَمَعَ حَدِيثُهُ فِي خَبَرِ قِصَّةِ عَائِشَةَ عَنْ نَفْسِهَا حِينَ قَالَ أَهْلُ الإِفْكِ فِيهَا مَا قَالُوا، فَكُلٌّ قَدْ دَخَلَ فِي حَدِيثِهَا عَنْ هَؤُلاءِ جَمِيعًا، وَيُحَدِّثُ بَعْضُهُمْ مَا لَمْ يُحَدِّثْ بَعْضٌ، وَكُلٌّ كَانَ عَنْهَا ثِقَةً، وَكُلٌّ قَدْ حَدَّثَ عَنْهَا بِمَا سَمِعَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ رَسُول اللَّهِ ص إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتَهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَتْ غَزَوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ، فَخَرَجَ سَهْمِي عَلَيْهِنَّ، فَخَرَجَ بِي رسول الله ص قَالَتْ: وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ إِنَّمَا يَأْكُلْنَ العلق لم يهبجهن اللَّحْمَ فَيَثْقُلْنَ قَالَتْ: وَكُنْتُ إِذَا رَحَلَ بَعِيرِي جَلَسْتُ فِي هَوْدَجِي، ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمُ الَّذِينَ يُرَحِّلُونَ هَوْدَجِي فِي بَعِيرِي،

وَيَحْمِلُونِّي فَيَأْخُذُونَ بِأَسْفَلِ الْهَوْدَجِ، فَيَرْفَعُونَهُ فَيَضَعُونَهُ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ، فَيَشُدُّونَهُ بِحِبَالِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُونَ بِرَأْسِ الْبَعِيرِ، فَيَنْطَلِقُونَ بِهِ قَالَتْ: فَلَمَّا فَرَغَ رَسُول الله ص مِنْ سَفَرِهِ ذَلِكَ، وَجَّهَ قَافِلا، حَتَّى إِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ نَزَلَ مَنْزِلا، فَبَاتَ فِيهِ بَعْضَ اللَّيْلِ، ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالرَّحِيلِ، فَلَمَّا ارْتَحَلَ النَّاسُ خَرَجْتُ لِبَعْضِ حَاجَتِي وَفِي عُنُقِي عِقْدٌ لِي فِيهِ جَزَعُ ظَفَارٍ، فَلَمَّا فَرَغْتُ انْسَلَّ مِنْ عُنُقِي وَلا أَدْرِي، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى الرَّحْلِ ذَهَبْتُ أَلْتَمِسُهُ فِي عُنُقِي فَلَمْ أَجِدْهُ، وَقَدْ أَخَذَ النَّاسُ فِي الرَّحِيلِ قَالَتْ: فَرَجَعْتُ عَوْدِي عَلَى بَدْئِي إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي ذَهَبْتُ إِلَيْهِ، فَالْتَمَسْتُهُ حَتَّى وَجَدْتُهُ، وجاء خلافي القوم الذين كانوا يرجلون لِي الْبَعِيرَ، وَقَدْ فَرَغُوا مِنْ رِحْلَتِهِ، فَأَخَذُوا الْهَوْدَجَ، وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنِّي فِيهِ كَمَا كُنْتُ أَصْنَعُ، فَاحْتَمَلُوهُ، فَشَّدُوهُ عَلَى الْبَعِيرِ، وَلَمْ يَشُكُّوا أَنِّي فِيهِ ثُمَّ أَخَذُوا بِرَأْسِ الْبَعِيرِ فَانْطَلَقُوا بِهِ، وَرَجَعْتُ إِلَى الْعَسْكَرِ وَمَا فِيهِ دَاعٍ وَلا مُجِيبٌ، قَدِ انْطَلَقَ النَّاسُ قَالَتْ: فَتَلَفَّفْتُ بِجِلْبَابِي ثُمَّ اضْطَجَعْتُ فِي مَكَانِي الَّذِي ذَهَبْتُ إِلَيْهِ، وَعَرَفْتُ أَنْ لَوْ قَدِ افْتَقَدُونِي قَدْ رجعوا الى قالت: فو الله إِنِّي لَمُضْطَجِعَةٌ، إِذْ مَرَّ بِي صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ، وَقَدْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنِ الْعَسْكَرِ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، فَلَمْ يَبِتْ مَعَ النَّاسِ فِي الْعَسْكَرِ، فَلَمَّا رَأَى سَوَادِيَ أَقْبَلَ حَتَّى وَقَفَ عَلِيَّ فَعَرَفَنِي- وَقَدْ كَانَ يَرَانِي قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْنَا الْحِجَابُ- فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! أَظَعِينَةُ رَسُولِ اللَّهِ! وَأَنَا مُتَلَفِّفَةٌ فِي ثِيَابِي قَالَ: مَا خَلَّفَكِ رَحِمَكِ اللَّهُ؟ قَالَتْ: فَمَا كَلَّمْتُهُ، ثُمَّ قَرَّبَ الْبَعِيرَ فَقَالَ: ارْكَبِي رَحِمَكِ اللَّهُ! وَاسْتَأْخَرَ عَنِّي قَالَتْ: فَرَكِبْتُ وَجَاءَ فَأَخَذَ بِرَأْسِ الْبَعِيرِ، فَانْطَلَقَ بي سريعا يطلب الناس، فو الله مَا أَدْرَكْنَا النَّاسَ، وَمَا افْتُقِدْتُ حَتَّى أَصْبَحْتُ، وَنَزَلَ النَّاسُ، فَلَمَّا اطْمَأَنُّوا طَلَعَ الرَّجُلُ يَقُودُنِي، فَقَالَ أَهْلُ الإِفْكِ فِيَّ مَا قَالُوا فَارْتَجَّ

العسكر، وو الله مَا أَعْلَمُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَلَمْ أَمْكُثْ أَنِ اشْتَكَيْتُ شَكْوًى شَدِيدَةً، وَلا يَبْلُغَنِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدِ انْتَهَى الحديث الى رسول الله ص والى ابوى، ولا يذكران لِي مِنْ ذَلِكَ قَلِيلا وَلا كَثِيرًا، إِلا انى قد انكرت من رسول الله ص بَعْضَ لُطْفِهِ بِي، كُنْتُ إِذَا اشْتَكَيْتُ رَحِمَنِي وَلَطَفَ بِي، فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فِي شَكْوَايَ تِلْكَ، فَأَنْكَرْتُ مِنْهُ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلِيَّ وَأُمِّي تُمَرِّضُنِي، قَالَ: كَيْفَ تِيكُمْ؟ لا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ قَالَتْ: حَتَّى وَجَدْتُ فِي نَفْسِي مِمَّا رَأَيْتُ مِنْ جَفَائِهِ عَنِّي، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَذِنْتَ لِي فَانْتَقَلْتُ إِلَى أُمِّي فَمَرَّضَتْنِي! قَالَ: لا عَلَيْكَ! قَالَتْ: فَانْتَقَلْتُ إِلَى أُمِّي، وَلا أَعْلَمُ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ، حَتَّى نَقِهْتُ مِنْ وَجَعِي بَعْدَ بِضْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً قَالَتْ: وَكُنَّا قَوْمًا عَرَبًا لا نَتَّخِذُ فِي بُيُوتِنَا هَذِهِ الْكُنُفَ الَّتِي تَتَّخِذَهَا الأَعَاجِمُ، نَعَافُهَا وَنَكْرَهُهَا، إِنَّمَا كُنَّا نَخْرُجُ فِي فُسَحِ الْمَدِينَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ النِّسَاءُ يَخْرُجْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي حَوَائِجِهِنَّ، فَخَرَجْتُ لَيْلَةً لِبَعْضِ حَاجَتِي، وَمَعِي أُمُّ مِسْطَحِ بِنْتُ أَبِي رُهْمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَتْ أُمُّهَا بِنْتَ صَخْرِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بن تيم، خاله ابى بكر قالت فو الله إِنَّهَا لَتَمْشِي مَعِي، إِذْ عَثَرَتْ فِي مِرْطِهَا، فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ! قَالَتْ: قُلْتُ: بِئْسَ لَعَمْرِ اللَّهِ مَا قُلْتِ لِرَجُلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ قَدْ شهد بدرا! قالت: او ما بَلَغَكَ الْخَبَرُ يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ! قَالَتْ: قُلْتُ: وَمَا الْخَبَرُ؟ فَأَخْبَرَتْنِي بِالَّذِي كَانَ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ قَالَتْ: قُلْتُ وَقَدْ كَانَ هَذَا! قَالَتْ: نَعَمْ وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ قَالَتْ: فو الله مَا قَدِرْتُ عَلَى أَنْ أَقْضِيَ حَاجَتِي، وَرَجَعْتُ فَمَا زِلْتُ أَبْكِي حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ الْبُكَاءَ سَيَصْدَعُ كَبِدِي قَالَتْ: وَقُلْتُ لأُمِّي:

يَغْفِرُ اللَّهُ لَكِ! تَحَدَّثَ النَّاسُ بِمَا تَحَدَّثُوا بِهِ وَبَلَغَكِ مَا بَلَغَكِ، وَلا تَذْكُرِينَ لِي مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا! قَالَتْ: أَيْ بُنَيَّةُ خَفِّضِي الشان، فو الله قَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا لَهَا ضَرَائِرُ إِلا كَثَّرْنَ وَكَثَّرَ النَّاسُ عَلَيْهَا قالت: وقد قام رسول الله ص فِي النَّاسِ يَخْطُبُهُمْ وَلا أَعْلَمُ بِذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، مَا بَالُ رِجَالٍ يُؤْذُونَنِي فِي أَهْلِي، وَيَقُولُونَ عَلَيْهِنَّ غَيْرَ الْحَقِّ! وَاللَّهُ مَا عَلِمْتُ مِنْهُنَّ إِلا خَيْرًا، وَيَقُولُونَ ذَلِكَ لِرَجُلٍ وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ إِلا خَيْرًا! وَمَا دَخَلَ بَيْتًا مِنْ بُيُوتِي إِلا وَهُوَ مَعِي قَالَتْ: وَكَانَ كِبَرُ ذَلِكَ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ فِي رِجَالٍ مِنَ الْخَزْرَجِ، مَعَ الَّذِي قَالَ مِسْطَحٌ وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ- وَذَلِكَ أَنَّ أُخْتَهَا زَيْنَبَ بِنْتَ جحش كانت عند رسول الله ص، ولم تكن من نسائه امراه تناصبنى في المنزله عنده غيرها، فاما زينب فعصمها الله، واما حمنة بنت جحش، فَأَشَاعَتْ مِنْ ذَلِكَ مَا أَشَاعَتْ، تُضَارِّنِي لأُخْتِهَا زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ- فَشَقِيتُ بِذَلِكَ. فَلَمَّا قَالَ رسول الله ص تِلْكَ الْمَقَالَةَ، قَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ يكونوا من الأوس نكفكهم، وَإِنْ يَكُونُوا مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الْخَزْرَجِ فَمُرْنَا بأمرك، فو الله إِنَّهُمْ لأَهْلٌ أَنْ تُضْرَبَ أَعْنَاقُهُمْ قَالَتْ: فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ- وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يُرَى رَجُلا صَالِحًا- فَقَالَ: كَذَبْتَ لِعَمْرِ اللَّهِ لا تُضْرَبُ أَعْنَاقُهُمْ! أَمَا وَاللَّهِ مَا قُلْتَ هَذِهِ المْقَالَةَ إِلا أَنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُمْ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَلَوْ كَانُوا مِنْ قَوْمِكَ مَا قُلْتَ هَذَا! قَالَ أُسَيْدٌ: كَذَبْتَ لِعَمْرِ اللَّهِ! وَلَكِنَّكَ منافق تجادل عن

المنافقين! قالت: وتثاوره النَّاسُ حَتَّى كَادَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَيَّيْنِ مِنَ الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ شَرٌّ، وَنَزَلَ رَسُول الله ص، فَدَخَلَ عَلِيَّ، قَالَتْ: فَدَعَا عَلِيَّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَاسْتَشَارَهُمَا، فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَثْنَى خَيْرًا وَقَالَهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَهْلُكَ، وَلا نَعْلَمُ عَلَيْهِنَّ إِلا خَيْرًا، وَهَذَا الْكَذِبُ وَالْبَاطِلُ وَأَمَّا عَلِيٌّ فَإِنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ النِّسَاءَ لَكَثِيرٌ، وَإِنَّكَ لَقَادِرٌ عَلَى أَنْ تَسْتَخْلِفَ، وَسَلِ الْجَارِيَةَ فَإِنَّهَا تصدقك فدعا رسول الله ص بَرِيرَةَ يَسْأَلُهَا قَالَتْ: فَقَامَ إِلَيْهَا عَلِيٌّ فَضَرَبَهَا ضَرْبًا شَدِيدًا، وَهُوَ يَقُولُ: اصْدُقِي رَسُول اللَّهِ، قَالَتْ: فَتَقُولُ: وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ إِلا خَيْرًا، وَمَا كُنْتُ أَعِيبُ عَلَى عَائِشَةَ، إِلا أَنِّي كُنْتُ أَعْجِنُ عَجِينِي فَآمُرُهَا أَنْ تَحْفَظَهُ فَتَنَامَ عَنْهُ، فَيَأْتِي الدَّاجِنُ فَيَأْكُلُهُ. [ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ رسول الله ص وَعِنْدِي أَبَوَايَ، وَعِنْدِي امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَنَا أَبْكِي وَهِيَ تَبْكِي مَعِي، فَجَلَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَائِشَةُ، إِنَّهُ قَدْ كَانَ مَا بَلَغَكِ مِنْ قَوْلِ النَّاسِ، فَاتَّقِي اللَّهَ، وَإِنْ كُنْتِ قَارَفْتِ سُوءًا مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ فَتُوبِي إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يقبل التوبة عن عباده، قالت: فو الله مَا هُوَ إِلا أَنْ قَالَ ذَلِكَ، تَقَلَّصَ دَمْعِي، حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ شَيْئًا، وَانْتَظَرْتُ ابوى ان يجيبا رسول الله ص فَلَمْ يَتَكَلَّمَا قَالَتْ: وَايْمُ اللَّهِ لأَنا كُنْتُ أَحْقَرَ فِي نَفْسِي وَأَصْغَرَ شَأْنًا مِنْ أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيَّ قُرْآنًا يُقْرَأُ بِهِ فِي الْمَسَاجِدِ،

وَيُصَلَّى بِهِ، وَلَكِنِّي قَدْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ فِي نَوْمِهِ شَيْئًا يُكَذِّبُ اللَّهُ بِهِ عَنِّي، لِمَا يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَتِي، أَوْ يُخْبِرُ خَبَرًا، فَأَمَّا قُرْآنٌ يَنْزِلُ فِيَّ، فو الله لَنَفْسِي كَانَتْ أَحْقَرَ عِنْدِي مِنْ ذَلِكَ قَالَتْ: فَلَمَّا لَمْ أَرَ أَبَوَيْ يَتَكَلَّمَانِ. قَالَتْ: قُلْتُ أَلا تُجِيبَانِ رَسُولَ اللَّهِ! قَالَتْ: فَقَالا لِي: وَاللَّهِ مَا نَدْرِي بِمَاذَا نُجِيبُهُ! قَالَتْ: وَايْمُ اللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَهْلَ بَيْتٍ دَخَلَ عَلَيْهِمْ مَا دَخَلَ عَلَى آلِ أَبِي بَكْرٍ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ! قَالَتْ: فَلَمَّا اسْتَعْجَمَا عَلِيَّ اسْتَعْبَرْتُ فَبَكَيْتُ ثُمَّ قُلْتُ: وَاللَّهِ لا أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِمَّا ذَكَرْتَ أَبَدًا، وَاللَّهِ لَئِنْ أَقْرَرْتُ بِمَا يَقُولُ النَّاسُ- وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ- لَتُصَدِّقَنِّي، لأَقُولَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ، وَلَئِنْ أَنَا أَنْكَرْتُ مَا تَقُولُونَ لا تُصَدِّقُونَنِي قَالَتْ: ثُمَّ الْتَمَسْتُ اسْمَ يَعْقُوبَ فَمَا أَذْكُرُهُ، وَلَكِنِّي أَقُولُ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ» . قالت: فو الله ما برح رسول الله ص مَجْلِسَهُ حَتَّى تَغَشَّاهُ مِنَ اللَّهِ مَا كَانَ يَتَغَشَّاهُ، فَسَجَّى بِثَوْبِهِ، وَوَضَعْتُ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ تَحْتَ رَأْسِهِ، فَأَمَّا أَنَا حِينَ رَأَيْتُ مِنْ ذلك ما رايت، فو الله مَا فَزِعْتُ كَثِيرًا وَلا بَالَيْتُ، قَدْ عَرَفْتُ أَنِّي بِرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ غَيْرُ ظَالِمِي، وَأَمَّا ابواى، فو الذى نَفْسُ عَائِشَةَ بِيَدِهِ، مَا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ الله ص حَتَّى ظَنَنْتُ لَتَخْرُجَنَّ أَنْفُسُهُمَا فَرَقًا أَنْ يَأْتِيَ مِنَ اللَّهِ تَحْقِيقَ مَا قَالَ النَّاسُ قَالَتْ: ثم سرى عن رسول الله ص، فَجَلَسَ وَإِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلَ الْجُمَانِ فِي يَوْمٍ شَاتٍ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ الْعَرَقَ عَنْ جَبِينِهِ، وَيَقُولُ: أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ، فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَتَكِ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: بِحَمْدِ اللَّهِ وَذَمِّكُمْ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ فَخَطَبَهُمْ، وَتَلا عَلَيْهِمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْقُرْآنِ فِي. ثم امر بمسطح بْنِ أُثَاثَةَ وَحَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ وَحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ- وَكَانُوا مِمَّنْ أَفْصَحَ بِالْفَاحِشَةِ- فَضُرِبُوا حَدَّهُمْ]

حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ. عَنِ أَبِيهِ، عَنْ بَعْضِ رِجَالِ بَنِي النَّجَّارِ، أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ خَالِدَ بْنَ زَيْدٍ، قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ أَيُّوبَ: يَا أَبَا أَيُّوبَ، أَمَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي عَائِشَةَ؟ قَالَ: بَلَى، وَذَلِكَ الْكَذِبُ، أَكُنْتِ يَا أُمَّ أَيُّوبَ فَاعِلَةً ذَلِكَ! قَالَتْ: لا وَاللَّهِ مَا كُنْتُ لأَفْعَلَهُ، قَالَ: فَعَائِشَةُ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنْكِ قَالَ: فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ ذَكَرَ اللَّهُ مَنْ قَالَ مِنَ الْفَاحِشَةِ مَا قال من اهل الافك: «إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ» الآيَةَ، وَذَلِكَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي أَصْحَابِهِ الَّذِينَ قَالُوا مَا قَالُوا. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً» الآية، اى كما قَالَ أَبُو أَيُّوبَ وَصَاحِبَتُهُ ثُمَّ قَالَ: «إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ» الآيَةَ فَلَمَّا نَزَلَ هَذَا فِي عَائِشَةَ وَفِيمَنْ قَالَ لَهَا مَا قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ- وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَحَاجَتِهِ: وَاللَّهِ لا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا، وَلا أَنْفَعُهُ بِنَفْعٍ أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ، وَأَدْخَلَ عَلَيْنَا مَا أَدْخَلَ! قَالَتْ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ: «وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى» الآية

قالت: فقال ابو بكر: والله لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي فَرَجَّعَ إِلَى مِسْطَحٍ نَفَقَتَهُ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لا أَنْزَعُهَا مِنْهُ أَبَدًا. ثُمَّ إِنَّ صَفْوَانَ بْنَ الْمُعَطَّلِ اعْتَرَضَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ بِالسَّيْفِ حِينَ بَلَغَهُ مَا يَقُولُ فِيهِ، وَقَدْ كَانَ حَسَّانٌ قَالَ شِعْرًا مَعَ ذَلِكَ يُعَرِّضُ بِابْنِ الْمُعَطَّلِ فِيهِ وَبِمَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ مُضَرَ، فَقَالَ: أَمْسَى الْجَلابِيبُ قَدْ عَزُّوا وَقَدْ كَثُرُوا ... وَابْنُ الْفُرَيْعَةِ أَمْسَى بَيْضَةَ الْبَلَدِ قَدْ ثَكِلَتْ أُمُّهُ مَنْ كُنْتَ صَاحِبَهُ ... أَوْ كَانَ مُنْتَشِبًا فِي بُرْثُنِ الأَسَدِ مَا لِقَتِيلِي الَّذِي أَغْدُو فَآخُذُهُ ... مِنْ دِيَةٍ فِيهِ يُعْطَاهَا وَلا قَوَدِ مَا الْبَحْرُ حِينَ تَهُبُّ الرِّيحُ شَامِيَّةٌ ... فَيَغْطَئِلُّ وَيَرْمِي الْعِبرَ بِالزَّبَدِ يَوْمًا بِأَغْلَبَ منى حين تبصرني ... ملغيظ أُفْرِي كَفَرْيِ الْعَارِضِ الْبَرِدِ فَاعْتَرَضَهُ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ بِالسَّيْفِ فَضَرَبَهُ ثُمَّ قَالَ- كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بْنِ إِسْحَاقَ: تَلَقَّ ذُبَابَ السَّيْفِ عَنِّي فَإِنَّنِي ... غُلامٌ إِذَا هُوجِيتُ لَسْتُ بِشَاعِرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ، أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسِ أخا

بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَثَبَ عَلَى صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ فِي ضَرْبِهِ حَسَّانٍ، فَجَمَعَ يَدَيْهِ إِلَى عُنُقِهِ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى دَارِ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: أَلا أَعْجَبَكَ ضَرْبُ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ بِالسَّيْفِ! وَاللَّهِ مَا أَرَاهُ إِلا قَدْ قَتَلَهُ قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الله ابن رواحه: هل علم رسول الله ص بِشَيْءٍ مِمَّا صَنَعْتَ؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ، قَالَ: لَقَدِ اجْتَرَأْتَ! أَطْلِقِ الرَّجُلَ، فَأَطْلَقَهُ ثُمَّ أَتَوْا رسول الله ص، فذكروا لَهُ ذَلِكَ، فَدَعَا حَسَّانَ وَصَفْوَانَ بْنَ الْمُعَطَّلِ، فَقَالَ ابْنُ الْمُعَطَّلِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آذَانِي وَهَجَانِي، فَاحْتَمَلَنِي الْغَضَبُ فَضَرَبْتُهُ [فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص لِحَسَّانَ: يَا حَسَّانُ أَتَشَوَّهْتَ عَلَى قَوْمِي أَنْ هَدَاهُمُ اللَّهُ لِلإِسْلامِ! ثُمَّ قَالَ: أَحْسِنْ يَا حَسَّانُ فِي الَّذِي قَدْ أَصَابَكَ، قَالَ: هِيَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ] وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بن إسحاق، عن محمد ابن ابراهيم بن الحارث، ان رسول الله ص أَعْطَاهُ عِوَضًا مِنْهَا بَيْرَحَا- وَهِيَ قَصْرُ بَنِي حُدَيْلَةَ الْيَوْمَ بِالْمَدِينَةِ، كَانَتْ مَالا لأَبِي طَلْحَةَ بْنِ سَهْلٍ، تَصَدَّقَ بِهَا إِلَى رَسُول اللَّهِ ص، فَأَعْطَاهَا حَسَّانَ فِي ضَرْبَتِهِ- وَأَعْطَاهُ سِيرِينَ، أَمَةً قِبْطِيَّةً، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ حَسَانَ. قَالَ: وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: لَقَدْ سُئِلَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ فَوَجَدُوهُ رَجُلا حَصُورًا مَا يَأْتِي النِّسَاءَ ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ شَهِيدًا. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الواحد ابن حَمْزَةَ، أَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ كَانَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: ثُمَّ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ص بِالْمَدِينَةِ شَهْرَ رَمَضَانَ وَشَوَّالا، وَخَرَجَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ مُعْتَمِرًا

ذكر الخبر عن عمره النبي ص التي صده المشركون فيها عن البيت، وهي قصه الحديبية

ذكر الخبر عن عمره النبي ص الَّتِي صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ فِيهَا عَنِ الْبَيْتِ، وَهِيَ قِصَّةُ الْحُدَيْبِيَةِ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الحكم بن بشير، قال: حدثنا عمر ابن ذر الهمدانى، عن مجاهد، ان النبي ص اعْتَمَرَ ثَلاثَ عُمَرٍ، كُلَّهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ، يَرْجِعُ فِي كُلِّهَا إِلَى الْمَدِينَةِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: خرج النبي ص مُعْتَمِرًا فِي ذِي الْقَعْدَةِ لا يُرِيدُ حَرْبًا، وَقَدِ اسْتَنْفَرَ الْعَرَبَ وَمَنْ حَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُ، وَهُوَ يَخْشَى مِنْ قُرَيْشٍ الَّذِي صَنَعُوا بِهِ أَنْ يَعْرِضُوا لَهُ بِحَرْبٍ، أَوْ يَصُدُّوهُ عَنِ الْبَيْتِ، فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الأَعْرَابِ، وَخَرَجَ رَسُول الله ص وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَمَنْ لَحِقَ بِهِ مِنَ الْعَرَبِ، وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ، وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ، لِيَأْمَنَ النَّاسُ مِنْ حَرْبِهِ، وَلِيُعْلِمَ النَّاسَ أَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ زَائِرًا لِهَذَا الْبَيْتِ، مُعَظِّمًا لَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، انهما حدثاه قالا: خرج رسول الله ص عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، يُرِيدُ زِيَارَةَ الْبَيْتِ، لا يُرِيدُ قِتَالا، وَسَاقَ مَعَهُ سَبْعِينَ بَدَنَةً، وَكَانَ النَّاسُ سبعمائة رَجُلٍ، كَانَتْ كُلُّ بَدَنَةٍ عَنْ عَشْرَةِ نَفَرٍ وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبْدِ الأَعْلَى، فَحَدَّثَنَا عَنْ محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمه

وحدثني يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُبَارَكٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الحكم، قالا: خرج رسول الله ص مِنَ الْحُدَيْبِيَةَ، فِي بِضْعَةَ عَشَرَ وَمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بن عمار اليمامي، عَنْ إِيَاسَ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَدِمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ص الْحُدَيْبِيَةَ، وَنَحْنُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَمِائَةٌ. حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَسَعِيدُ بْنُ شُرَحْبِيلَ الْمِصْرِيُّ، قَالا: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ الْمِصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كُنَّا يَوْمَ الحديبية ألفا وأربعمائة. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ أَهْلُ البيعه تحت الشجرة ألفا وخمسمائة وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى، يَقُولُ: كُنَّا يَوْمَ الشَّجَرَةِ أَلْفًا وثلاثمائة، وَكَانَتْ أَسْلَمُ ثُمْنَ الْمُهَاجِرِينَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إِسْحَاقَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: كُنَّا أَصْحَابُ الْحُدَيْبِيَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَمِائَةَ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: فخرج رسول الله ص، حَتَّى إِذَا كَانَ بِعُسْفَانَ لَقِيَهُ بِشْرُ بْنُ سُفْيَانَ الْكَعْبِيُّ، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هذه

قُرَيْشٌ قَدْ سَمِعُوا بِمَسِيرِكَ، فَخَرَجُوا مَعَهُمُ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ، قَدْ لَبِسُوا جُلُودَ النُّمُورِ، وَقَدْ نَزَلُوا بِذِي طُوًى، يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لا تَدْخُلُهَا عَلَيْهِمْ أَبَدًا، وَهَذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي خَيْلِهِمْ، قَدْ قَدَّمُوهَا إِلَى كِرَاعِ الْغَمِيمِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ كَانَ يَوْمَئِذٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ص مُسْلِمًا. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ جَعْفَرٍ- يَعْنِي ابْنَ أَبِي الْمُغِيرَةِ- عَنِ ابْنِ أَبْزَى، قال: لما خرج النبي ص بِالْهَدْيِ، وَانْتَهَى إِلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ، قَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَدْخُلُ عَلَى قَوْمٍ هُمْ لَكَ حَرْبٌ بِغَيْرِ سِلاحٍ وَلا كُرَاعٍ! قال: فبعث النبي ص إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمْ يَدَعْ فِيهَا كُرَاعًا وَلا سِلاحًا إِلا حَمَلَهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ مَكَّةَ مَنَعُوهُ أَنْ يَدْخُلَ، فَسَارَ حَتَّى أَتَى مِنًى، فَنَزَلَ بِمِنًى، فَأَتَاهُ عَيْنُهُ أَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ ابى جهل قد خرج عليك في خمسمائة، فقال رسول الله ص لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ: يَا خَالِدُ، هَذَا ابْنُ عَمِّكَ، قَدْ أَتَاكَ فِي الْخَيْلِ، فَقَالَ خَالِدٌ: أَنَا سَيْفُ اللَّهِ وَسَيْفُ رَسُولِهِ- فَيَوْمَئِذٍ سُمِّيَ سَيْفَ اللَّهِ-: يَا رَسُولَ اللَّهِ ارْمِ بِي حَيْثُ شِئْتَ فَبَعَثَهُ عَلَى خَيْلٍ، فَلَقِيَ عِكْرِمَةَ فِي الشِّعْبِ، فَهَزَمَهُ حَتَّى أَدْخَلَهُ حِيطَانَ مَكَّةَ، ثُمَّ عَادَ فِي الثَّانِيَةِ، فَهَزَمَهُ حَتَّى أَدْخَلَهُ حِيطَانَ مَكَّةَ، ثُمَّ عَادَ فِي الثَّالِثَةِ فَهَزَمَهُ حَتَّى أَدْخَلَهُ حِيطَانَ مَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: «وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ» - الى قوله: «عَذاباً أَلِيماً» قال: وكف الله النبي ص

عَنْهُمْ بَعْدَ أَنْ أَظْفَرَهُ عَلَيْهِمْ لِبَقَايَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا بَقَوْا فِيهَا مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَهُ عَلَيْهِمْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَطَأَهُمُ الْخَيْلُ بِغَيْرِ عِلْمٍ رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ [قال: فقال رسول الله ص: يَا وَيْحَ قُرَيْشٍ! قَدْ أَكَلَتْهُمُ الْحَرْبُ، مَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ خَلَّوْا بَيْنِي وَبَيْنَ سَائِرِ الْعَرَبِ، فان هم أَصَابُونِي كَانَ ذَلِكَ الَّذِي أَرَادُوا، وَإِنْ أَظْهَرَنِي اللَّهُ عَلَيْهِمْ دَخَلُوا فِي الإِسْلامِ وَافِرِينَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا قَاتَلُوا وَبِهِمْ قُوَّةٌ فَمَا تَظُنُّ قريش! فو الله لا أَزَالُ أُجَاهِدُهُمْ عَلَى الَّذِي بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ أَوْ تَنْفَرِدَ هَذِهِ السَّالِفَةُ] . ثُمَّ قَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ بِنَا عَلَى طَرِيقٍ غَيْرِ طَرِيقِهِمُ الَّتِي هُمْ بِهَا؟ فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بَكْرٍ، أَنَّ رَجُلا مِنْ أَسْلَمَ قَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَسَلَكَ بِهِمْ عَلَى طَرِيقٍ وَعِرٍ حَزَنٍ بَيْنَ شِعَابٍ، فَلَمَّا أَنْ خَرَجُوا مِنْهُ- وَقَدْ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَفْضَوْا إِلَى أَرْضٍ سَهْلَةٍ عِنْدَ مُنْقَطَعِ الْوَادِي-[قال رسول الله ص لِلنَّاسِ: قُولُوا: نَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَنَتُوبُ إِلَيْهِ. فَفَعَلُوا فقال رسول الله ص: وَاللَّهِ إِنَّهَا لَلْحِطَّةُ الَّتِي عُرِضَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمْ يَقُولُوهَا] . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: ثُمَّ امر رسول الله ص النَّاسَ فَقَالَ: اسْلُكُوا ذَاتَ الْيَمِينِ، بَيْنَ ظَهْرَيِ الْحَمْضِ فِي طَرِيقٍ تُخْرِجُهُ عَلَى ثَنِيَّةِ الْمُرَارِ، عَلَى مَهْبِطِ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ قَالَ: فَسَلَكَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الطَّرِيقَ،

فَلَمَّا رَأَتْ خَيْلُ قُرَيْشٍ قَتَرَةَ الْجَيْشِ، وَأَنَّ رسول الله ص قَدْ خَالَفَهُمْ عَنْ طَرِيقِهِمْ، رَكَضُوا رَاجِعِينَ إِلَى قريش، وخرج رسول الله ص، حَتَّى إِذَا سَلَكَ فِي ثَنِيَّةِ الْمُرَارِ، بَرَكَتْ نَاقَتُهُ، فَقَالَ النَّاسُ: خَلأَتْ! فَقَالَ: مَا خَلأَتْ، وَمَا هُوَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ عَنْ مَكَّةَ، لا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ الْيَوْمَ إِلَى خُطَّةٍ يَسْأَلُونِي صِلَةَ الرَّحِمِ إِلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: انْزِلُوا، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بِالْوَادِي مَاءٌ نَنْزِلُ عَلَيْهِ! فَأَخْرَجَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَأَعْطَاهُ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَنَزَلَ فِي قَلِيبٍ مِنْ تِلْكَ الْقُلُبِ فَغَرَزَهُ فِي جَوْفِهِ، فَجَاشَ الْمَاءُ بِالرِّيِّ حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ عَلَيْهِ بِعَطَنٍ. فحدثنا ابْن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إِسْحَاق، عَن بَعْض أهل العلم، أَن رجلا من أسلم حدثه، أَن الَّذِي نزل فِي القليب بسهم رسول الله ص ناجيه بن جندب بن عمير ابن يعمر بْن دارم، وَهُوَ سائق بدن رَسُول الله ص. قَالَ: وَقَدْ زعم لي بَعْض أهل العلم أَن البراء بْن عازب كَانَ يَقُول: أنا الذى نزلت بسهم رسول الله ص قَالَ: وأنشدت أسلم أبياتا من شعر قالها ناجية، قَدْ ظننا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي نزل بسهم رسول الله ص، فزعمت أسلم أَن جارية من الأنصار أقبلت بدلوها، وناجية فِي القليب يميح عَلَى النَّاس، فقالت:

يا ايها المائح دلوي دونكا ... إني رأيت النَّاس يحمدونكا يثنون خيرا ويمجدونكا. وَقَالَ ناجية، وَهُوَ فِي القليب يميح النَّاس: قَدْ علمت جارية يمانيه ... أني أنا المائح واسمي ناجيه وطعنة ذَات رشاش واهيه ... طعنتها تَحْتَ صدور العاديه حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الصَّنْعَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ. وحدثني يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الحكم، قالا: نزل رسول الله ص بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ الْمَاءِ، إِنَّمَا يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا فَلَمْ يَلْبَثْهُ النَّاسُ أَنْ نزحوه، فشكى الى رسول الله ص الْعَطَشُ، فَنَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ ان يجعلوه فيه، فو الله مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّيِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خزاعة- وكانوا عيبه نصح رسول الله ص مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ- فَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَيٍّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَيٍّ قَدْ نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ، مَعَهُمُ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ، وَهُمْ مقاتلوك وصادوك عن البيت [فقال النبي ص: إِنَّا لَمْ نَأْتِ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهَكَتْهُمُ الْحَرْبُ وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْنَاهُمْ مُدَّةً وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ أَظْهَرُ، فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يدخلوا

فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا وَإِلا فَقَدْ جموا، وان هم أبوا فو الذى نَفْسِي بِيَدِهِ لأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي، أَوْ لَيُنَفِّذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ فَقَالَ بُدَيْلٌ: سُنُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ] . فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا فَقَالَ: إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ عِنْدِ هَذَا الرَّجُلِ، وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلا، فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ: لا حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُحَدِّثَنَا عَنْهُ بِشَيْءٍ، وَقَالَ ذُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ: هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قال النبي ص. فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، فَقَالَ: أَيْ قوم، الستم بالوالد! قالوا: بلى، قال: او لست بِالْوَلَدِ! قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَهَلْ تَتَّهِمُونَنِي؟ قَالُوا: لا، قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظٍ، فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَيَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي وَمَنْ أَطَاعَنِي! قَالُوا: بَلَى. وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بن إسحاق، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فِي حَدِيثِهِ، قَالَ: كَانَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ لَسَبِيعَةَ بِنْتِ عَبْدِ شَمْسٍ. رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبْدِ الأَعْلَى وَيَعْقُوبَ قَالَ: فَإِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خطه رشد فاقبلوها، ودعوني آته فقالوا: ائته، فأتاه، فجعل يكلم النبي ص، فقال النبي نَحْوًا مِنْ مَقَالَتِهِ لِبُدَيْلٍ، فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: أَيْ مُحَمَّدُ، أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَأْصَلْتَ قَوْمَكَ، فَهَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَصْلَهُ قبلك! وان تكن الاخرى، فو الله إِنِّي لأَرَى وُجُوهًا وَأَوْشَابًا مِنَ النَّاسِ خَلْقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: امْصُصْ بَظْرَ اللَّاتِ- وَاللَّاتُ طَاغِيَةُ ثَقِيفٍ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ- أَنَحْنُ نَفِرُّ وَنَدَعُهُ! فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بيده

لَوْلا يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بها لأجبتك، وجعل يكلم النبي ص، فَكُلَّمَا كَلَّمَهُ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ- وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قائم على راس النبي ص، وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ، فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بيده الى لحيه النبي ص ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ، وَقَالَ: أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَتِهِ، فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ، فَقَالَ: مَنْ هذا؟ قالوا: المغيره ابن شُعْبَةَ، قَالَ: أَيْ غُدَرُ، أَلَسْتُ أَسْعَى فِي غَدْرَتِكَ! وَكَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ صَحِبَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَتَلَهُمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ جَاءَ فاسلم، [فقال النبي ص: أَمَّا الإِسْلامُ فَقَدْ قَبِلْنَا، وَأَمَّا الْمَالُ فَإِنَّهُ مَالُ غَدْرٍ، لا حَاجَةَ لَنَا فِيهِ] . وَإِنَّ عروه جعل يرمق اصحاب النبي ص بعينه قال: فو الله إِنْ يَتَنَخَّمُ النَّبِيُّ نُخَامَةً إِلا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَّكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمُوا عِنْدَهُ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ وَمَا يُحِدُّونَ النَّظَرَ إِلَيْهِ تَعْظِيمًا لَهُ فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمُ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ وَوَفَدْتُ عَلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا، وَاللَّهِ إِنْ يَتَنَخَّمُ نُخَامَةً إِلا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَّكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمُوا عِنْدَهُ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ، وَمَا يُحِدُّونَ النَّظَرَ إِلَيْهِ تَعْظِيمًا لَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فاقبلوها فقال رجل من كنانه: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما اشرف على النبي ص واصحابه، [قال النبي ص: هَذَا فُلانٌ، وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ فَابْعَثُوهَا لَهُ،] فَبُعِثَتْ لَهُ، وَاسْتَقْبَلَهُ قَوْمٌ يُلَبُّونَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلاءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ! وَحَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن

الزُّهْرِيِّ، قَالَ فِي حَدِيثِهِ: ثُمَّ بَعَثُوا إِلَيْهِ الْحُلَيْسَ بْنَ عَلْقَمَةَ- أَوِ ابْنِ زَبَّانَ- وَكَانَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدَ الأَحَابِيشِ، وَهُوَ أَحَدُ بَلْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُول الله ص [قَالَ: إِنَّ هَذَا مِنْ قَوْمٍ يَتَأَلَّهُونَ، فَابْعَثُوا الْهَدْيَ فِي وَجْهِهِ حَتَّى يَرَاهُ،] فَلَمَّا رَأَى الْهَدْيَ يَسِيلُ عَلَيْهِ مِنْ عَرْضِ الْوَادِي فِي قلائده، قد أكل أوباره من طول الحبس، رَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ، وَلَمْ يَصِلْ إِلَى رَسُول الله ص إِعْظَامًا لِمَا رَأَى، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، انى قد رايت ما لا يحل صده: الْهَدْيِ فِي قَلائِدِهِ، قَدْ أُكِلَ أَوْبَارُهُ مِنْ طُولِ الْحَبْسِ عَنْ مَحِلِّهِ، قَالُوا لَهُ: اجْلِسْ، فَإِنَّمَا أَنْتَ رَجُلٌ أَعْرَابِيٌّ لا عِلْمَ لَكَ. وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ الْحُلَيْسَ غَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَاللَّهِ مَا عَلَى هَذَا حَالَفْنَاكُمْ، وَلا عَلَى هَذَا عَاقَدْنَاكُمْ، أَنْ تَصُدُّوا عَنْ بَيْتِ اللَّهِ مَنْ جَاءَهُ مُعَظِّمًا لَهُ، وَالَّذِي نَفْسُ الْحُلَيْسِ بِيَدِهِ لَتُخَلُّنَّ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَبَيْنَ مَا جَاءَ لَهُ، أَوْ لأَنْفِرَنَّ بِالأَحَابِيشِ نَفْرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ! قَالَ: فَقَالُوا لَهُ: مَهْ! كُفَّ عَنَّا يَا حُلَيْسُ حَتَّى نَأْخُذَ لأَنْفُسِنَا مَا نَرْضَى بِهِ. رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبْدِ الأَعْلَى وَيَعْقُوبَ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مُكْرِزُ بْنُ حَفْصٍ، فَقَالَ لَهُمْ: دَعُونِي آتِهِ، قَالُوا: ائْتِهِ، فَلَمَّا اشرف عليهم [قال النبي ص: هَذَا مُكْرِزُ بْنُ حَفْصٍ، وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ،] فجاء فجعل يكلم النبي ص، فَبَيْنَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو. وَقَالَ أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّهُ لَمَّا جاء سهيل [قال النبي ص: قَدْ سُهِّلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ]

فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ الأَسَدِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورِ- وَاللَّفْظُ لابْنِ عُمَارَةَ- قَالا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عبيده عن اياس ابن سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَتْ قُرَيْشٌ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو وَحُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ العزى وحفص بن فلان، الى النبي ص لِيُصَالِحُوهُ، فَلَمَّا رَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ فِيهِمْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، [قَالَ: سَهَّلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمُ، الْقَوْمُ مَاتُّونَ إِلَيْكُمْ بِأَرْحَامِكُمْ، وَسَائِلُوكُمُ الصُّلْحَ، فَابْعَثُوا الْهَدْيَ، وَأَظْهِرُوا التَّلْبِيَةَ، لَعَلَّ ذَلِكَ يُلِينُ قُلُوبَهُمْ] فَلَبَّوْا مِنْ نَوَاحِي الْعَسْكَرِ حَتَّى ارْتَجَّتْ أَصْوَاتُهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ قَالَ: فَجَاءُوا فَسَأَلُوهُ الصُّلْحَ، قَالَ: فَبَيْنَمَا النَّاسُ قَدْ تَوَادَعُوا، وَفِي الْمُسْلِمِينَ نَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَفِي الْمُشْرِكِينَ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: فَفَتَكَ بِهِ أَبُو سُفْيَانَ، قَالَ: فَإِذَا الْوَادِي يَسِيلُ بِالرِّجَالِ وَالسِّلاحِ قَالَ إِيَاسُ: قَالَ سَلَمَةُ: فَجِئْتُ بِسِتَّةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مُتَسَلِّحِينَ أَسُوقُهُمْ، مَا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا، فَأَتَيْتُ بهم النبي ص، فَلَمْ يَسْلُبْ وَلَمْ يَقْتُلْ، وَعَفَا. وَأَمَّا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى فَإِنَّهُ حَدَّثَنَا قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عامر قال: حدثنا عكرمة بن عمار اليمامي، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا اصْطَلَحْنَا نَحْنُ وَأَهْلُ مَكَّةَ، أَتَيْتُ الشَّجَرَةَ فَكَسَحْتُ شَوْكَهَا، ثُمَّ اضْطَجَعْتُ فِي ظِلِّهَا، فَأَتَانِي أَرْبَعَةُ نَفَرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله ص، فَأَبْغَضْتُهُمْ قَالَ: فَتَحَوَّلْتُ إِلَى شَجَرَةٍ أُخْرَى، فَعَلَّقُوا سلاحهم، ثم اضطجعوا، فبيناهم كَذَلِكَ، إِذْ نَادَى مُنَادٍ مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ! قُتِلَ ابْنُ زُنَيْمٍ! فَاخْتَرَطْتُ سَيْفِي، فَشَدَدْتُ عَلَى أُولَئِكَ الأَرْبَعَةَ وَهُمْ رُقُودٌ، فَأَخَذْتُ سِلاحَهُمْ فَجَعَلْتُهُ ضِغْثًا فِي يَدِي، ثُمَّ قُلْتُ: والذى كرم وجه محمد ص، لا يَرْفَعُ أَحَدٌ مِنْكُمْ رَأْسَهُ إِلا ضَرَبْتُ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاهُ قَالَ: فَجِئْتُ بِهِمْ

اقودهم الى رسول الله ص، وَجَاءَ عَمِّي عَامِرٌ بِرَجُلٍ مِنَ الْعَبَلاتِ، يُقَالُ لَهُ مُكْرِزٌ، يَقُودُهُ مُجَفَّفًا، حَتَّى وَقَفْنَا بِهِمْ على رسول الله ص فِي سَبْعِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ الله ص، [فَقَالَ: دَعُوهُمْ يَكُنْ لَهُمْ بَدْءَ الْفُجُورِ،] فَعَفَا عَنْهُمْ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ» رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَارَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ. قَالَ سَلَمَةُ: فَشَدَدْنَا عَلَى مَنْ فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ مِنَّا، فَمَا تَرَكْنَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَّا رَجُلا إِلا اسَتَنْقَذْنَاهُ قَالَ: وَغَلَبْنَا عَلَى مَنْ فِي أَيْدِينَا مِنْهُمْ. ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا بَعَثُوا سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو وَحُوَيْطِبًا فَوَلُّوهُمْ صُلْحَهُمْ، وَبَعَثَ النَّبِيُّ ص عليا ع فِي صُلْحِهِ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلا من اصحاب النبي ص يُقَالُ لَهُ زُنَيْمٌ، اطَّلَعَ الثَّنِيَّةَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، فرماه المشركون فقتلوه، فبعث رسول الله ص خَيْلا، فَأَتَوْهُ بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلا فَارِسًا مِنَ الكفار، فقال لهم نبى الله ص: هَلْ لَكُمْ عَلِيَّ عَهْدٌ؟ هَلْ لَكُمْ عَلِيَّ ذِمَّةٌ؟ قَالُوا: لا، قَالَ: فَأَرْسَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ص، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْقُرْآنَ: «وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ» - الى قوله: «بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً» . وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ قُرَيْشًا إِنَّمَا بَعَثَتْ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو بَعْدَ رِسَالَةٍ كان رسول الله ص أَرْسَلَهَا إِلَيْهِمْ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني بعض اهل العلم ان رسول الله ص دَعَا خِرَاشَ بْنَ أُمَيَّةَ الْخُزَاعِيَّ، فَبَعَثَهُ إِلَى قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ، وَحَمَلَهُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ الثَّعْلَبُ، لِيُبَلِّغَ أَشْرَافَهُمْ عَنْهُ مَا جَاءَ لَهُ، فَعَقَرُوا بِهِ جَمَلَ رَسُولِ اللَّهِ وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، فَمَنَعَتْهُ الأَحَابِيشُ، فَخَلوا سَبِيلَهُ، حَتَّى أَتَى رسول الله ص. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ لا أَتَّهِمُ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ قُرَيْشًا بَعَثُوا أَرْبَعِينَ رَجُلا مِنْهُمْ- أَوْ خَمْسِينَ رَجُلا- وَأَمَرُوهُمْ أَنْ يُطِيفُوا بِعَسْكَرِ رَسُول اللَّهِ ص لِيُصِيبُوا لَهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأُخِذُوا أَخْذًا، فَأُتِيَ بهم رسول الله ص، فَعَفَا عَنْهُمْ، وَخَلَّى سَبِيلَهُمْ- وَقَدْ كَانُوا رَمَوْا في عسكر رسول الله ص بالحجارة والنبل- ثم دعا النبي ص عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لِيَبْعَثَهُ إِلَى مَكَّةَ، فَيُبَلِّغَ عَنْهُ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مَا جَاءَ لَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَخَافُ قُرَيْشًا عَلَى نَفْسِي، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ أَحَدٌ يَمْنَعُنِي، وَقَدْ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ عَدَاوَتِي إِيَّاهَا، وَغِلْظَتِي عَلَيْهَا، وَلَكِنِّي أَدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ هُوَ أَعَزُّ بِهَا مِنِّي، عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ! فدعا رسول الله ص عُثْمَانَ، فَبَعَثَهُ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ وَأَشْرَافِ قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِحَرْبٍ، وَإِنَّمَا جَاءَ زَائِرًا لِهَذَا الْبَيْتِ، مُعَظِّمًا لِحُرْمَتِهِ. فَخَرَجَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَلَقِيَهُ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ- أَوْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا- فَنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ، فَحَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ رَدَفَهُ وَأَجَارَهُ، حَتَّى بَلَّغَ رِسَالَةَ رَسُول الله ص، فَانْطَلَقَ عُثْمَانُ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ وَعُظَمَاءِ قريش، فبلغهم عن رسول الله ص مَا أَرْسَلَهُ بِهِ، فَقَالُوا لِعُثْمَانَ حِينَ فَرَغَ من رساله رسول الله ص إِلَيْهِمْ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَطُفْ بِهِ، قَالَ: مَا كُنْتُ لأَفْعَلَ حَتَّى يَطُوفَ به رسول الله ص، فاحتبسته قريش عندها،

فبلغ رسول الله ص وَالْمُسْلِمِينَ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بكر، [ان رسول الله ص حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ، قَالَ: لا نَبْرَحُ حَتَّى نُنَاجِزَ الْقَوْمَ،] وَدَعَا النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ فَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ حَدَّثَنِي ابْنُ عُمَارَةَ الأَسَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، قَالَ: قَالَ سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ: بَيْنَمَا نَحْنُ قَافِلُونَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، نادى منادى النبي ص: أَيُّهَا النَّاسُ، الْبَيْعَةَ الْبَيْعَةَ! نَزَلَ رُوحُ الْقُدُسِ قال: فسرنا الى رسول الله وَهُوَ تَحْتَ شَجَرَةِ سَمُرَةَ، قَالَ: فَبَايَعْنَاهُ، قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ» . حدثنا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابن أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: كَانَ أَوَّلُ مَنْ بَايَعَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ رَجُلا مِنْ بَنِي أَسَدٍ، يُقَالُ لَهُ: أَبُو سِنَانِ بْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَمِائَةٍ قَالَ: فَبَايَعْنَا رسول الله ص، وَعُمَرُ آخِذٌ بِيَدِهِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَهِيَ سَمُرَةٌ، فَبَايَعْنَاهُ غَيْرَ الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ الأَنْصَارِيُّ، اخْتَبَأَ تَحْتَ بَطْنِ بَعِيرِهِ. قَالَ جَابِرٌ: بَايَعْنَا رَسُول الله على الا نَفِرَّ، وَلَمْ نُبَايِعْهُ عَلَى الْمَوْتِ

وَقَدْ قِيلَ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَ أَبُو عَامِرٍ، قَالَ: أخبرنا عكرمة بن عمار اليمامي، عن إياس بن سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ ص دَعَا النَّاسَ لِلْبَيْعَةِ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ، فَبَايَعْتُهُ فِي أَوَّلِ النَّاسِ، ثُمَّ بَايَعَ وَبَايَعَ، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي وَسَطٍ مِنَ النَّاسِ، قَالَ: بَايِعْ يَا سَلَمَةُ، قَالَ: قُلْتُ: قَدْ بَايَعْتُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي أَوَّلِ النَّاسِ! قَالَ: وأيضا، ورآنى النبي ص أَعْزَلَ، فَأَعْطَانِي حَجَفَةً أَوْ دَرَقَةً قَالَ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ بَايَعَ النَّاسَ، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي آخِرِهِمْ، قَالَ: أَلا تُبَايِعُ يَا سَلَمَةُ! قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ بَايَعْتُكَ فِي أَوَّلِ النَّاسِ وَأَوْسَطِهِمْ! قَالَ: وَأَيْضًا قَالَ: فبايعته الثالثه، [فقال رسول الله ص: فَأَيْنَ الدَّرَقَةُ، وَالْحَجَفَةُ الَّتِي أَعْطَيْتُكَ؟ قُلْتُ: لَقِيَنِي عَمِّي عَامِرٌ أَعْزَلَ فَأَعْطَيْتُهُ إِيَّاهَا، فَضَحِكَ رَسُولُ الله ص وَقَالَ: إِنَّكَ كَالَّذِي قَالَ الأَوَّلُ: اللَّهُمَّ ابْغِنِي حَبِيبًا هُوَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي] . رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: فَبَايَعَ رسول الله ص النَّاسَ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حضرها الا الجد ابن قَيْسٍ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ، قَالَ: كَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ لاصِقًا بِإِبِطِ نَاقَتِهِ، قَدْ ضَبَأَ إِلَيْهَا يَسْتَتِرُ بِهَا مِنَ النَّاسِ ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ص أَنَّ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِ عُثْمَانَ بَاطِلٌ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: ثُمَّ بَعَثَتْ قُرَيْشٌ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، أَخَا بَنِي عَامِرِ بن لؤي الى رسول الله ص، وَقَالُوا لَهُ: ائْتِ مُحَمَّدًا فَصَالِحْهُ، وَلا يَكُنْ فِي صُلْحِهِ إِلا أَنْ يَرْجِعَ عَنَّا عَامَهُ هذا، فو الله لا تُحَدِّثُ الْعَرَبُ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْنَا عُنْوَةً أَبَدًا. قَالَ: فَأَقَبْلَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَلَمَّا رآه رسول الله ص مُقْبِلا، قَالَ: قَدْ أَرَادَ الْقَوْمُ الصُّلْحَ حِينَ بَعَثُوا هَذَا الرَّجُلَ فَلَمَّا انْتَهَى سُهَيْلٌ

الى رسول الله ص تَكَلَّمَ فَأَطَالَ الْكَلامَ، وَتَرَاجَعَا، ثُمَّ جَرَى بَيْنَهُمَا الصُّلْحُ، فَلَمَّا الْتَأَمَ الأَمْرُ، وَلَمْ يَبْقَ إِلا الْكِتَابُ وَثَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَأَتَى أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَيْسَ بِرَسُولِ الله! قال: بلى، قال: او لسنا بالمسلمين! قال: بلى، قال: او ليسوا بِالْمُشْرِكِينَ! قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَعَلامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا! قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا عُمَرُ الْزَمْ غَرْزَهُ، فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ عُمَرُ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ. قال: ثم اتى رسول الله ص فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَسْتَ بِرَسُولِ اللَّهِ! قال: بلى، قال: او لسنا بالمسلمين! قال: بلى، قال: او ليسوا! بِالْمُشْرِكِينَ! قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَعَلامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا! فَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ لَنْ أُخَالِفَ أَمْرَهُ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي قَالَ: فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: مَا زِلْتُ أَصُومُ وَأَتَصَدَّقُ وَأُصَلِّي وَأَعْتِقُ مِنَ الَّذِي صَنَعْتُ يَوْمَئِذٍ، مَخَافَةَ كَلامِي الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ، حَتَّى رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ خيرا. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ سفيان بن فروة الأسلمي، عن محمد بن كعب القرظى، عن علقمه ابن قَيْسٍ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: ثُمَّ دَعَانِي رَسُولُ الله ص، فَقَالَ: اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فَقَالَ سُهَيْلٌ: لا أَعْرِفُ هَذَا، وَلَكِنِ اكْتُبْ: بِاسْمِكَ اللهم، فقال رسول الله: اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، فَكَتَبْتُهَا ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ: هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: لو شَهِدْتُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَمْ أُقَاتِلْكَ، وَلَكِنِ اكْتُبِ اسْمَكَ وَاسْمَ أَبِيكَ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ الله ص: اكْتُبْ: هَذَا مَا صَالِحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عبد الله سهيل ابن عَمْرٍو، اصْطَلَحَا عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَنِ النَّاسِ عَشْرَ سِنِينَ، يَأْمَنُ فِيهِنَّ النَّاسُ، وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ مِنْ قُرَيْشٍ بِغَيْرِ

إِذْنِ وَلِيِّهِ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ، وَمَنْ جَاءَ قُرَيْشًا مِمَّنْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ لَمْ تَرُدَّهُ عَلَيْهِ وَأَنَّ بَيْنَنَا عَيْبَةً مَكْفُوفَةً، وَأَنَّهُ لا إِسْلالَ وَلا إِغْلالَ، وَأَنَّهُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ رَسُولِ اللَّهِ وَعَهْدِهِ دَخَلَ فِيهِ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ، دَخَلَ فِيهِ- فَتَوَاثَبَتْ خُزَاعَةُ فَقَالُوا: نَحْنُ فِي عَقْدِ رَسُولِ اللَّهِ وَعَهْدِهِ، وَتَوَاثَبَتْ بَنُو بكر، فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدها- وَأَنَّكَ تَرْجِعُ عَنَّا عَامَكَ هَذَا، فَلا تَدْخُلُ عَلَيْنَا مَكَّةَ، وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَامُ قَابِلٌ خَرَجْنَا عَنْكَ، فَدَخَلْتَهَا بِأَصْحَابِكَ، فَأَقَمْتَ بِهَا ثَلاثًا، وَأَنَّ مَعَكَ سِلاحَ الرَّاكِبِ، السُّيُوفُ فِي الْقِرَبِ لا تَدْخُلُهَا بِغَيْرِ هَذَا. فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ص يَكْتُبُ الْكِتَابَ هُوَ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، إِذْ جَاءَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرِو يَرْسُفُ فِي الْحَدِيدِ، قَدِ انْفَلَتَ إِلَى رَسُولِ الله ص- قال: وقد كان اصحاب رسول الله ص خَرَجُوا وَهُمْ لا يَشُكُّونَ فِي الْفَتْحِ، لِرُؤْيَا رآها رسول الله ص، فَلَمَّا رَأَوْا مَا رَأَوْا مِنَ الصُّلْحِ وَالرُّجُوعِ، وما تحمل عليه رسول الله ص فِي نَفْسِهِ، دَخَلَ النَّاسَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ حَتَّى كَادُوا أَنْ يَهْلَكُوا- فَلَمَّا رَأَى سُهَيْلٌ أَبَا جَنْدَلٍ، قَامَ إِلَيْهِ فَضَرَبَ وَجْهَهُ، وَأَخَذَ بِلَبَبِهِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ قَدْ لَجَّتِ الْقَضِيَّةُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكَ هَذَا! قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَجَعَلَ يَنْتُرُهُ بِلَبَبِهِ، وَيَجُرُّهُ لِيَرُدَّهُ إِلَى قُرَيْشٍ، وَجَعَل أَبُو جَنْدَلٍ يَصْرُخُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونَنِي فِي دِينِي! فَزَادَ النَّاسَ ذَلِكَ شَرًّا إِلَى مَا بِهِمْ فَقَالَ [رَسُولُ اللَّهِ ص: يَا أَبَا جَنْدَلٍ، احْتَسِبْ، فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لك

وَلِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، إِنَّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ عَقْدًا وَصُلْحًا، وأعطيناهم على ذلك عهدا، وَأَعْطَوْنَا عَهْدًا، وَإِنَّا لا نَغْدِرُ بِهِمْ] . قَالَ: فَوَثَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَعَ أَبِي جَنْدلٍ يَمْشِي إِلَى جَنْبِهِ، وَيَقُولُ: اصْبِرْ يَا أَبَا جَنْدَلٍ، فَإِنَّمَا هُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَإِنَّمَا دَمُ أَحَدِهِمْ دَمُ كَلْبٍ! قَالَ: وَيُدْنِي قَائِمَ السَّيْفِ مِنْهُ، قَالَ: يَقُولُ عُمَرُ: رَجَوْتُ أَنْ يَأْخُذَ السَّيْفَ فَيَضْرِبَ بِهِ أَبَاهُ، قَالَ: فَضَنَّ الرَّجُلُ بِأَبِيهِ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْكِتَابِ أَشْهَدَ عَلَى الصُّلْحِ رِجَالا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَرِجَالا مِنَ الْمُشْرِكِينَ: أَبَا بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، وَمَحْمُودَ بْنَ مَسْلَمَةَ أَخَا بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، وَمُكْرِزَ بْنَ حَفْصِ بْنِ الأَخْيَفِ- وَهُوَ مُشْرِكٌ- أَخَا بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَكَتَبَ وَكَانَ هُوَ كَاتِبَ الصَّحِيفَةِ. حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ، وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: اعْتَمَرَ رسول الله ص فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلَ مَكَّةَ، حَتَّى يُقَاضِيَهُمْ عَلَى أَنْ يُقِيمَ بِهَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فَلَمَّا كَتَبَ الْكِتَابَ كَتَبَ: هَذَا مَا تَقَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا مَنَعْنَاكَ، وَلَكِنْ أَنْتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَا مُحَمَّدُ بن عبد الله، قال لعلى ع: امْحُ رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: لا وَاللَّهِ لا امحاك ابدا، فأخذه رسول الله ص- وَلَيْسَ يُحْسِنُ يَكْتُبُ- فَكَتَبَ مَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ مُحَمَّدٌ فَكَتَبَ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ، لا يَدْخُلُ مَكَّةَ بِالسِّلاحِ إِلا السُّيُوفَ فِي الْقِرَابِ، وَلا يَخْرُجُ مِنْ أَهْلِهَا بِأَحَدٍ أَرَادَ أَنْ يَتَّبِعَهُ، وَلا يَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ بِهَا فَلَمَّا دَخَلَهَا وَمَضَى الأجل، أتوا عليا ع، فَقَالُوا لَهُ: قُلْ

لِصَاحِبِكَ: اخْرُجْ عَنَّا فَقَدْ مَضَى الأَجَلُ، فَخَرَجَ رسول الله ص. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة. وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ: فَلَمَّا فَرَغَ رسول الله ص مِنْ قَضِيَّتِهِ [قَالَ لأَصْحَابِهِ: قُومُوا فَانْحَرُوا، ثُمَّ احلقوا قال: فو الله مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، قَامَ فَدَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَ اللَّهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ! اخْرُجْ ثُمَّ لا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بَدَنَتَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَقَامَ فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ، نَحَرَ بَدَنَتَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا، حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا] . قَالَ ابْنُ حُمَيْدٍ: قَالَ سَلَمَةُ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ الَّذِي حَلَقَهُ- فِيمَا بَلَغَنِي ذَلِكَ الْيَوْمَ- خِرَاشُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ الْفَضْلِ الْخُزَاعِيُّ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: حَلَقَ رِجَالٌ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَقَصَّرَ آخَرُونَ، [فقال رسول الله ص: يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَالْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ: وَالْمُقَصِّرِينَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلِمَ ظَاهَرْتَ التَّرَحُّمَ لِلْمُحَلِّقِينَ دُونَ الْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ: لأَنَّهُمْ لَمْ يَشُكُّوا]

حَدَّثَنَا ابن حميد قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن أَبَانِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قال: اهدى رسول الله ص عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي هَدَايَاهُ جَمَلا لأَبِي جَهْلٍ، فِي رَأْسِهِ بُرَّةٌ مِنْ فِضَّةٍ، لِيَغِيظَ الْمُشْرِكِينَ بِذَلِكَ. رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ الَّذِي ذكرنا قبل ثم رجع النبي ص إِلَى الْمَدِينَةِ- زَادَ ابْنُ حُمَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ فِي حَدِيثِهِ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: يَقُولُ الزُّهْرِيُّ: فَمَا فُتِحَ فِي الإِسْلامِ فَتْحٌ قَبْلَهُ كَانَ أَعْظَمَ مِنْه، إِنَّمَا كَانَ الْقِتَالُ حَيْثُ الْتَقَى النَّاسُ- فَلَمَّا كَانَتِ الْهُدْنَةُ، ووضعت الحرب او زارها، وَأَمِنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَالْتَقَوْا، وَتَفَاوَضُوا فِي الْحَدِيثِ وَالْمُنَازَعَةِ، فَلَمْ يُكَلَّمْ أَحَدٌ بِالإِسْلامِ يَعْقِلُ شَيْئًا إِلا دَخَلَ فِيهِ، فَلَقَدْ دَخَلَ فِي تَيْنِكِ السَّنَتَيْنِ فِي الإِسْلامِ مِثْلُ مَا كَانَ فِي الإِسْلامِ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ وَقَالُوا جَمِيعًا فِي حَدِيثِهِمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ وَمَرْوَانَ: فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ص الْمَدِينَةَ، جَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ، - رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ- قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثِهِ: أَبُو بَصِيرٍ عتبة بن اسيد ابن جَارِيَةَ- وَهُوَ مُسْلِمٌ، وَكَانَ مِمَّنْ حُبِسَ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ كَتَبَ فِيهِ أَزْهَرُ بْنُ عَبْدِ عَوْفٍ وَالأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثَّقَفِيُّ إِلَى رَسُولِ الله ص، وَبَعَثَ رَجُلا مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَمَعَهُ مَوْلًى لَهُمْ فَقَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص بكتاب الأزهر والاخنس، [فقال رسول الله ص: يَا أَبَا بَصِيرٍ، إِنَّا قَدْ أَعْطَيْنَا هَؤُلاءِ الْقَوْمَ مَا قَدْ عَلِمْتَ، وَلا يَصْلُحُ لَنَا فِي دِينِنَا الْغَدْرُ، وَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا] . قَالَ: فَانْطَلَقَ مَعَهُمَا حَتَّى إِذَا كَانَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، جَلَسَ إِلَى جِدَارٍ وَجَلَسَ مَعَهُ صَاحِبَاهُ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ: أَصَارِمٌ سَيْفُكَ هَذَا يَا أَخَا بَنِي عَامِرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَنْظُرُ إِلَيْهِ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتَ! فَاسْتَلَّهُ أَبُو بَصِيرٍ، ثُمَّ علاه

بِهِ حَتَّى قَتَلَهُ، وَخَرَجَ الْمَوْلَى سَرِيعًا حَتَّى اتى رسول الله ص وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ طَالِعًا، قَالَ: إِنَّ هَذَا رَجُلٌ قَدْ رَأَى فَزَعًا، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: وَيْلَكَ! مَا لَكَ! قَالَ: قَتَلَ صَاحِبُكُمْ صاحبي، فو الله مَا بَرِحَ حَتَّى طَلَعَ أَبُو بَصِيرٍ مُتَوَشِّحًا السيف، حتى وقف على رسول الله ص، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَفَتْ ذِمَّتُكَ، وَأُدِّيَ عَنْكَ، أَسْلَمْتَنِي وَرَدَدْتَنِي إِلَيْهِمْ ثُمَّ أَنْجَانِي اللَّهُ منهم [فقال النبي ص: وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ! - وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثِهِ: مِحَشَّ حَرْبٍ- لَوْ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ!] فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ قَالَ: فَخَرَجَ أَبُو بَصِيرٍ حَتَّى نَزَلَ بِالْعَيْصِ مِنْ نَاحِيَةِ ذِي الْمَرْوَةِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ بِطَرِيقِ قُرَيْشٍ الَّذِي كَانُوا يَأْخُذُونَ إِلَى الشَّامِ وَبَلَغَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا احْتَبَسُوا بِمَكَّةَ قول رسول الله ص لأَبِي بَصِيرٍ: [وَيْلَ أُمِّهِ مِحَشَّ حَرْبٍ لَوْ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ،] فَخَرَجُوا إِلَى أَبِي بَصِيرٍ بِالْعَيْصِ، وَيَنْفَلِتُ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ قَرِيبٌ مِنْ سَبْعِينَ رَجُلا مِنْهُمْ، فَكَانُوا قَدْ ضَيَّقُوا على قريش، فو الله مَا يَسْمَعُونَ بَعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّامِ إِلا اعْتَرَضُوا لَهُمْ فَقَتَلُوهُمْ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، فَأَرْسَلَتْ قريش الى النبي ص يُنَاشِدُونَهُ بِاللَّهِ وَبِالرَّحِمِ لَمَا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ! فَمَنْ أتاه فهو آمن، فاواهم رسول الله ص، فَقَدِمُوا عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ. زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثِهِ: فَلَمَّا بَلَغَ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو قَتْلُ أَبِي بَصِيرٍ صَاحِبَهُمُ الْعَامِرِيَّ أَسْنَدَ ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَقَالَ: لا أُؤَخِّرُ ظَهْرِي عَنِ الْكَعْبَةِ، حَتَّى يُودُوا هَذَا الرَّجُلَ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَهُوَ السَّفَهُ! وَاللَّهِ لا يُودَى! ثَلاثًا

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الأَعْلَى وَيَعْقُوبُ فِي حَدِيثِهِمَا: ثُمَّ جَاءَهُ- يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ- نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ، فانزل الله عز وجل عليه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ» - حَتَّى بلغ: «بِعِصَمِ الْكَوافِرِ» قَالَ: فَطَلَّقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ فِي الشِّرْكِ قَالَ: فَنَهَاهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُنَّ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرُدُّوا الصَّدَاقَ حِينَئِذٍ. قَالَ رَجُلٌ لِلزُّهْرِيِّ: أَمِنْ أَجْلِ الْفُرُوجِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَالأُخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ. زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي حديثه: وهاجرت الى رسول الله ص أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَخَرَجَ أَخَوَاهَا عِمَارَةُ وَالْوَلِيدُ ابْنَا عُقْبَةَ، حَتَّى قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص يَسْأَلانِهِ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِمَا بِالْعَهْدِ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، أَبَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ. وَقَالَ أَيْضًا فِي حَدِيثِهِ: كَانَ مِمَّنْ طَلَّقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، طَلَّقَ امْرَأَتَيْهِ قَرِيبَةَ بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ بن المغيره، فتزوجها بَعْدَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَهُمَا عَلَى شِرْكِهِمَا بِمَكَّةَ، وَأُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَمْرِو بْنِ جَرْوَلٍ الْخُزَاعِيَّةَ أُمَّ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَتَزَوَّجَهَا أَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَافَةَ بْنِ غَانِمٍ، رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهَا، وَهُمَا عَلَى شِرْكِهِمَا بِمَكَّةَ. وَقَالَ الواقدي: فِي هَذِهِ السَّنَةِ- فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الآخِرِ منها- بعث رسول الله ص عُكَاشَةَ بْنَ مِحْصَنٍ فِي أَرْبَعِينَ رَجُلا إِلَى الْغَمْرِ، فِيهِمْ ثَابِتُ بْنُ أَقْرَمَ وَشُجَاعُ بْنُ وَهْبٍ، فَأَغَذَّ السَّيْرَ، وَنَذَرَ الْقَوْمُ بِهِ فَهَرَبُوا، فَنَزَلَ عَلَى مِيَاهِهِمْ وَبَعَثَ الطَّلائِعَ، فَأَصَابُوا عَيْنًا فَدَلَّهُمْ عَلَى بَعْضِ مَاشِيَتِهِمْ، فَوَجَدُوا مِائَتَيْ بَعِيرٍ، فَحَدَرُوهَا إِلَى الْمَدِينَةِ

قال: وفيها بعث رسول الله ص مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فِي عَشَرَةِ نَفَرٍ فِي رَبِيعٍ الأَوَّلِ مِنْهَا، فَكَمَنَ الْقَوْمُ لَهُمْ حَتَّى نَامَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَمَا شَعُرُوا إِلا بِالْقَوْمِ، فَقُتِلَ أَصْحَابُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ وَأَفْلَتَ مُحَمَّدٌ جَرِيحًا. قَالَ الواقدي: وَفِيهَا أَسْرَى رَسُولُ اللَّهِ ص سَرِيَّةَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ إِلَى ذِي الْقَصَّةِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الآخَرِ فِي أَرْبَعِينَ رَجُلا، فَسَارُوا لَيْلَتَهُمْ مُشَاةً، وَوَافَوْا ذَا الْقَصَّةِ مَعَ عِمَايَةِ الصُّبْحِ، فَأَغَارُوا عَلَيْهِمْ، فَأَعْجَزُوهُمْ هَرَبًا فِي الْجِبَالِ، وَأَصَابُوا نَعْمًا وَرَثَةً وَرَجُلا وَاحِدًا، فاسلم، فتركه رسول الله ص قَالَ: وَفِيهَا كَانَتْ سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ بِالْجَمُومِ، فَأَصَابَ امْرَأَةً مِنْ مُزَيْنَةَ، يُقَالُ لَهَا حَلِيمَةُ، فَدَلَّتْهُمْ عَلَى مَحِلَّةِ من محال بَنِي سُلَيْمٍ، فَأَصَابُوا بِهَا نَعَمًا وَشَاءً وَأَسْرَاءَ، وَكَانَ فِي أُولَئِكَ الأُسَرَاءِ زَوْجُ حَلِيمَةَ، فَلَمَّا قَفَلَ بما أصاب وهب رسول الله ص لِلْمُزَنِيَّةِ زَوْجَهَا وَنَفْسَهَا. قَالَ وَفِيهَا كَانَتْ سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى الْعِيصِ فِي جُمَادَى الأُولَى مِنْهَا. وَفِيهَا أُخِذَتِ الأَمْوَالُ الَّتِي كَانَتْ مَعَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَاسْتَجَارَ بِزَيْنَبَ بنت النبي ص فَأَجَارَتْهُ. قَالَ: وَفِيهَا كَانَتْ سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى الطَّرَفِ، فِي جُمَادَى الآخِرَةِ، إِلَى بَنِي ثَعْلَبَةَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلا، فَهَرَبَتِ الأَعْرَابُ وَخَافُوا أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ سَارَ إِلَيْهِمْ، فَأَصَابَ مِنْ نَعَمِهِمْ عِشْرِينَ بَعِيرًا قَالَ: وَغَابَ أَرْبَعَ لَيَالٍ. قَالَ: وَفِيهَا سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى حِسْمَى فِي جُمَادَى الآخِرَةِ

قَالَ: وَكَانَ أَوَّل ذَلِكَ- فِيمَا حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَقْبَلَ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ مِنْ عِنْدِ قَيْصَرَ، وَقَدْ أَجَازَ دِحْيَةَ بِمَالٍ، وَكَسَاهُ كِسًى، فَأَقْبَلَ حَتَّى كَانَ بِحِسْمَى، فَلَقِيَهُ نَاسٌ مِنْ جِذَامٍ، فَقَطَعُوا عَلَيْهِ الطَّرِيقَ، فَلَمْ يُتْرَكْ مَعَهُ شَيْءٌ، فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ الله قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ فَأَخْبَرَهُ، فَبَعَثَ رَسُولُ الله ص زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ إِلَى حِسْمَى. قَالَ: وَفِيهَا تَزَوَّجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ جَمِيلَةَ بِنْتَ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الأَقْلَحِ، أُخْتَ عَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ، فَطَلَّقَهَا عُمَرُ فَتَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ يَزِيدُ بْنُ جَارِيَةَ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ، فَهُوَ أَخُو عَاصِمٍ لأُمِّهِ. قَالَ: وَفِيهَا سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى وَادِي الْقُرَى فِي رَجَبٍ. قَالَ: وَفِيهَا سَرِيَّةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ إِلَى دُومَةِ الْجَنْدَلِ فِي شَعْبَانَ، [وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ص: إِنْ أَطَاعُوكَ فَتَزَوَّجِ ابْنَةَ مَلِكِهِمْ،] فَأَسْلَمَ الْقَوْمُ، فَتَزَوَّجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ تُمَاضِرَ بِنْتَ الأَصْبَغِ، وَهِيَ أُمُّ أَبِي سَلَمَةَ، وَكَانَ أَبُوهَا رَأْسَهُمْ وَمَلِكَهُمْ. قَالَ: وَفِيهَا أَجْدَبَ النَّاسُ جَدبًا شَدِيدًا، فَاسْتَسْقَى رسول الله ص فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِالنَّاسِ. قَالَ: وَفِيهَا سَرِيَّةُ على بن ابى طالب ع إِلَى فَدَكٍ فِي شَعْبَانَ. قَالَ: وحدثني عَبْدُ الله بن جعفر، عن يعقوب بن عقبه، قَالَ: خَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي مِائَةِ رَجُلٍ إِلَى فَدَكٍ، إِلَى حَيٍّ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ أَنَّ لَهُمْ جَمْعًا يُرِيدُونَ أَنْ يَمُدُّوا يَهُودَ خَيْبَرَ، فَسَارَ إِلَيْهِمُ اللَّيْلَ وَكَمَنَ النَّهَارَ، وَأَصَابَ عَيْنًا، فَأَقَرَّ لَهُمْ أَنَّهُ بَعَثَ إِلَى خَيْبَرَ يَعْرِضُ عَلَيْهِمْ نَصْرَهُمْ عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا لَهُمْ ثَمَرَ خَيْبَرَ. قَالَ: وَفِيهَا سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى أُمِّ قِرْفَةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. وَفِيهَا قُتِلَتْ أُمُّ قِرْفَةَ، وَهِيَ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَبِيعَةَ بْنِ بَدْرٍ، قَتَلَهَا قَتْلا

عَنِيفًا، رَبَطَ بِرِجْلَيْهَا حَبْلا ثُمَّ رَبَطَهَا بَيْنَ بَعِيرَيْنِ حَتَّى شَقَّاهَا شَقًّا، وَكَانَتْ عَجُوزًا كَبِيرَةً. وَكَانَ مِنْ قِصَّتِهَا مَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال بعث رسول الله ص زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ إِلَى وَادِي الْقُرَى، فَلَقِيَ بِهِ بَنِي فَزَارَةَ، فَأُصِيبَ بِهِ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَارْتَثَّ زَيْدٌ مِنَ بَيْنِ الْقَتْلَى، وَأُصِيبَ فيها ورد ابن عَمْرٍو أَحَدُ بَنِي سَعْدٍ بَنِي هُذَيْمٍ، أَصَابَهُ أَحَدُ بَنِي بَدْرٍ، فَلَمَّا قَدِمَ زَيْدٌ نَذَرَ الا يَمَسَّ رَأْسَهُ غُسْلٌ مِنْ جَنَابَةٍ حَتَّى يَغْزُوَ فَزَارَةَ، فَلَمَّا اسْتَبَلَّ مِنْ جِرَاحِهِ بَعَثَهُ رَسُولُ الله ص فِي جَيْشٍ إِلَى بَنِي فَزَارَةَ، فَلَقِيَهُمْ بِوَادِي الْقُرَى، فَأَصَابَ فِيهِمْ، وَقَتَلَ قَيْسُ بْنُ الْمُسَحِّرِ الْيَعْمُرِيُّ مَسْعدَةَ بْنَ حِكْمَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ بَدْرٍ، وَأَسَرَ أُمَّ قِرْفَةَ- وَهِيَ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَبِيعَةَ بْنِ بَدْرٍ، وَكَانَتْ عِنْدَ مَالِكِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ، عَجُوزًا كَبِيرَةً- وَبِنْتًا لَهَا، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعَدَةَ فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ أَنْ يَقْتُلَ أُمَّ قِرْفَةَ، فَقَتَلَهَا قَتْلا عَنِيفًا، رَبَطَ بِرِجْلَيْهَا حَبْلَيْنِ ثُمَّ رَبَطَهُمَا إِلَى بَعِيرَيْنِ حَتَّى شَقَّاهَا. ثُمَّ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ الله ص بِابْنَةِ أُمِّ قِرْفَةَ وَبِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعَدَةَ، وَكَانَتِ ابْنَةُ أُمِّ قِرْفَةَ لِسَلَمَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الأَكْوَعِ، كَانَ هُوَ الَّذِي أَصَابَهَا، وَكَانَتْ فِي بَيْتِ شَرَفٍ مِنْ قَوْمِهَا، كَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ: لَوْ كُنْتُ أَعَزَّ مِنْ أُمِّ قِرْفَةَ ما زدت فسألها رسول الله ص سلمه، فَوَهَبَهَا لَهُ، فَأَهْدَاهَا لِخَالِهِ حَزْنِ بْنِ أَبِي وَهْبٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ حَزْنٍ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الأُخْرَى عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ فِي هَذِهِ السَّرِيَّةِ، أَنَّ أَمِيرَهَا كَانَ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي قُحَافَةَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، عن ابيه، قال: امر رسول الله ص عَلَيْنَا أَبَا بَكْرٍ فَغَزَوْنَا نَاسًا مِنْ بَنِي فَزَارَةَ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنَ الْمَاءِ أَمَرَنَا

ذكر خروج رسل رسول الله إلى الملوك

أَبُو بَكْرٍ فَعَرَّسْنَا، فَلَمَّا صَلَّيْنَا الصُّبْحَ، أَمَرَنَا أَبُو بَكْرٍ فَشَنَنَّا الْغَارَةَ عَلَيْهِمِ. قَالَ: فَوَرَدْنَا الْمَاءَ فَقَتَلْنَا بِهِ مَنْ قَتَلْنَا قَالَ: فَأَبْصَرْتُ عُنُقًا مِنَ النَّاسِ، وَفِيهِمُ النِّسَاءُ وَالذَّرَارِيُّ قَدْ كَادُوا يَسْبِقُونَ إِلَى الْجَبَلِ، فَطَرَحْتُ سَهْمًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْجَبَلِ، فَلَمَّا رَأَوُا السَّهْمَ وَقَفُوا، فَجِئْتُ بِهِمْ أَسُوقُهُمْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، وَفِيهِمُ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ عَلَيْهَا قَشْعُ أَدَمٍ، مَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا مِنْ أَحْسَنِ الْعَرَبِ قَالَ: فَنَفَّلَنِي أَبُو بَكْرٍ ابْنَتَهَا، قَالَ: فَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَلَقِيَنِي رسول الله ص بِالسُّوقِ، فَقَالَ: يَا سَلَمَةُ، لِلَّهِ أَبُوكَ! هَبْ لِي الْمَرْأَةَ! فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْجَبَتْنِي وَمَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا قَالَ: فَسَكَتَ عَنِّي حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ لَقِيَنِي فِي السُّوقِ، فَقَالَ: يَا سَلَمَةُ، لِلَّهِ أَبُوكَ! هَبْ لِي الْمَرْأَةَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا، وَهِيَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَبَعَثَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ إِلَى مَكَّةَ، فَفَادَى بِهَا أُسَارَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ سَلَمَةَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وَفِيهَا سَرِيَّةُ كُرْزِ بْنِ جَابِرٍ الْفِهْرِيِّ إِلَى العرنيين الذين قتلوا راعى رسول الله ص، وَاسْتَاقُوا الإِبِلَ فِي شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ، وبعثه رسول الله في عشرين فارسا . ذكر خروج رسل رسول الله الى الملوك قال: وفيها بعث رسول الله ص الرُّسُلَ، فَبَعَثَ فِي ذِي الْحَجَّةِ سِتَّةَ نَفَرٍ: ثَلاثَةً مُصْطَحِبِينَ، حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ مِنْ لَخْمٍ حَلِيفَ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى إِلَى الْمُقَوْقِسِ، وَشُجَاعَ بْنَ وَهْبِ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ- حَلِيفًا لِحَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ شَهِدَ بَدْرًا- إِلَى الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ الغساني، ودحية ابن خَلِيفَةَ الْكَلْبِيَّ إِلَى قَيْصَرَ وَبَعَثَ سُلَيْطَ بْنَ عَمْرٍو الْعَامِرِيَّ عَامِرَ بْنَ لُؤَيٍّ إِلَى هَوْذَةَ بْنِ عَلِيٍّ الْحَنَفِيِّ وَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ السَّهْمِيَّ إِلَى كِسْرَى. وَعَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضّمرِيَّ إِلَى النَّجَاشِيِّ

وَأَمَّا ابْن إِسْحَاق، فَإِنَّهُ- فيما زعم، وحدثنا به ابن حميد- قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عنه قال: كان رسول الله ص قَدْ فرق رجالا من أَصْحَابه إِلَى ملوك العرب والعجم، دعاة إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فيما بَيْنَ الحديبية ووفاته. وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حدثني ابن إسحاق، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ الْمِصْرِيِّ، أَنَّهُ وَجَدَ كِتَابًا فِيهِ تَسْمِيَةُ مَنْ بَعَثَ رَسُولُ الله ص إِلَى مُلُوكِ الْخَائِبِينَ، وَمَا قَالَ لأَصْحَابِهِ حِينَ بَعَثَهُمْ، فَبَعَثَ بِهِ إِلَى ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، مَعَ ثِقَةٍ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ فَعَرَفَهُ وَفِي الكتاب ان رسول الله ص خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ ذَاتَ غَدَاةٍ، [فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي بُعِثْتُ رَحْمَةً وَكَافَّةً، فَأَدُّوا عَنِّي يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ، وَلا تَخْتَلِفُوا عَلِيَّ كَاخْتِلافِ الْحَوَارِيِّينَ عَلَى عيسى بن مَرْيَمَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ كَانَ اخْتِلافُهُمْ؟ قَالَ: دَعَا إِلَى مِثْلِ مَا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ، فَأَمَّا مَنْ قَرُبَ بِهِ فَأَحَبَّ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا مَنْ بَعُدَ بِهِ فَكَرِهَ وَأَبَى، فَشَكَا ذَلِكَ مِنْهُمْ عِيسَى إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَصْبَحُوا مِنْ لَيْلَتِهِمْ تِلْكَ، وَكُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَتَكَلَّمُ بِلُغَةِ الْقَوْمِ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ عِيسَى: هَذَا أَمْرٌ قَدْ عَزَمَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِ، فَامْضُوا] . قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ فَرَّقَ رسول الله ص بَيْنَ أَصْحَابِهِ، فَبَعَثَ سُلَيْطَ بْنَ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدٍّ أَخَا بَنِي عامر بن لؤي إلى هوذة بن علي، صَاحِبِ الْيَمَامَةِ وَبَعَثَ الْعَلاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى أَخِي بَنِي عَبْدِ الْقَيْسِ صَاحِبِ الْبَحْرَيْنِ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى جَيْفَرِ بْنِ جُلَنْدَى وَعَبَّادِ بْنِ جُلَنْدَى الأَزْدِيَّيْنِ صَاحِبَيْ عُمَانَ وَبَعَثَ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُقَوْقِسِ صَاحِبِ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَأَدَّى إِلَيْهِ كِتَابَ رَسُولِ الله ص، واهدى المقوقس الى رسول الله ص اربع جوار، منهن مارية أم ابراهيم بن رسول الله ص وبعث رسول الله

دحية بن خليفه الكلبى ثم الخزجى إِلَى قَيْصَرَ، وَهُوَ هِرَقْلَ مَلِكِ الرُّومِ، فَلَمَّا أتاه بكتاب رسول الله ص نَظَرَ فِيهِ ثُمَّ جَعَلَهُ بَيْنَ فَخِذَيْهِ وَخَاصِرَتِهِ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن ابن شهاب الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عتبة بن مسعود، عن عبد الله ابن عَبَّاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: كُنَّا قَوْمًا تُجَّارًا، وَكَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ قَدْ حَصَرَتْنَا حَتَّى نَهَكَتْ أَمْوَالَنَا، فَلَمَّا كَانَتِ الْهُدْنَةُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ رَسُولِ الله، لم نامن الا نَجِدَ أَمْنًا، فَخَرَجْتُ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ تُجَّارٍ إِلَى الشَّامِ، وَكَانَ وَجْهُ مَتْجَرِنَا مِنْهَا غَزَّةَ، فَقَدِمْنَاهَا حِينَ ظَهَرَ هَرِقْلَ عَلَى مَنْ كَانَ بِأَرْضِهِ مِنْ فَارِسَ، وَأَخْرَجَهُمْ مِنْهَا، وَانْتَزَعَ لَهُ مِنْهُمْ صَلِيبَهُ الأَعْظَمَ، وَكَانُوا قَدِ اسْتَلَبُوهُ إِيَّاهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَبَلَغَهُ أَنَّ صَلِيبَهُ قَدِ اسْتُنْقِذَ لَهُ- وَكَانَتْ حِمْصُ مَنْزِلَهُ- خَرَجَ مِنْهَا يَمْشِي عَلَى قَدَمَيْهِ مُتَشَكِّرًا لِلَّهِ حين رد عليه مارد، لِيُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، تُبْسَطُ لَهُ الْبُسُطُ، وَتُلْقَى عَلَيْهَا الرَّيَاحِينُ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى إِيلِيَاءَ وَقَضَى فِيهَا صَلاتَهُ، وَمَعَهُ بَطَارِقَتُهُ وَأَشْرَافُ الرُّومِ، أَصْبَحَ ذَاتَ غَدَاةٍ مَهْمُومًا يُقَلِّبُ طَرفَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ لَهُ بَطَارِقَتُهُ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَصْبَحْتَ ايها الملك الغداة مهموما، قال: اجل، رايت فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ أَنَّ مُلْكَ الْخِتَانِ ظَاهِرٌ! قَالُوا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، مَا نَعْلَمُ أُمَّةً تَخْتَتِنُ إِلا يَهُودَ، وَهُمْ فِي سُلْطَانِكَ وَتَحْتَ يَدِكَ، فَابْعَثْ إِلَى كُلِّ مَنْ لَكَ عَلَيْهِ سُلْطَانٌ فِي بِلادِكَ، فَمُرْهُ فَلْيَضْرِبْ أَعْنَاقَ كُلِّ مَنْ تَحْتَ يَدَيْهِ مِنْ يَهُودَ، وَاسْتَرِحْ مِنْ هذا الهم، فو الله إِنَّهُمْ لَفِي ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِمْ يُدِيرُونَهُ، إِذْ أَتَاهُ رَسُولُ صَاحِبِ بُصْرَى بِرَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ، يَقُودُهُ- وَكَانَتِ الْمُلُوكُ تَهَادَى الأَخْبَارَ بَيْنَهَا- فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّ

هَذَا الرَّجُلَ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الشَّاءِ وَالإِبِلِ، يُحَدِّثُ عَنْ أَمْرٍ حَدَثَ بِبِلادِهِ عَجَبٌ، فَسَلْهُ عَنْهُ. فَلَمَّا انْتَهَى بِهِ إِلَى هِرَقْلَ رَسُولُ صَاحِبِ بُصْرَى، قَالَ هِرَقْلُ لِتَرْجُمَانِهِ: سَلْهُ، مَا كَانَ هَذَا الْحَدَثُ الَّذِي كَانَ بِبِلادِهِ؟ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: خَرَجَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا رَجُلٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، قَدِ اتَّبَعَهُ نَاسٌ وَصَدَّقُوهُ، وَخَالَفَهُ نَاسٌ، وَقَدْ كَانَتْ بَيْنَهُمْ مَلاحِمُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ، فَتَرَكْتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: فَلَمَّا أَخْبَرَهُ الْخَبَرَ قَالَ: جَرِّدُوهُ، فَجَرَّدُوهُ، فَإِذَا هُوَ مَخْتُونٌ، فَقَالَ هِرَقْلُ: هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي أُرِيتُ، لا ما تقولون، اعطوه ثوبه، انطلق عنا ثُمَّ دَعَا صَاحِبَ شُرْطَتِهِ، فَقَالَ لَهُ: قَلِّبْ لِي الشَّامَ ظَهْرًا وَبَطْنًا، حَتَّى تَأْتِيَنِي بِرَجُلٍ من قوم هذا الرجل- يعنى النبي ص. قال ابو سفيان: فو الله إِنَّا لبغزَّة، إِذْ هَجَمَ عَلَيْنَا صَاحِبُ شُرْطَتِهِ، فَقَالَ: أَنْتُمْ مِنْ قَوْمِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بِالْحِجَازِ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى الْمَلِكِ، فَانْطَلَقْنَا، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ قَالَ: أَنْتُمْ مِنْ رَهْطِ هَذَا الرَّجُلِ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: فَأَيُّكُمْ أَمَسُّ بِهِ رَحِمًا؟ قُلْتُ: أَنَا. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَايْمُ اللَّهِ مَا رَأَيْتُ مِنْ رَجُلٍ أَرَى أَنَّهُ كَانَ أَنْكَرَ مِنْ ذَلِكَ الأَغْلَفِ- يَعْنِي هِرَقْلَ- فَقَالَ: ادْنُهْ فَأَقْعَدَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَقْعَدَ أَصْحَابِي خَلْفِي، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي سأسأله، فان كذب فردوا عليه، فو الله لَوْ كَذَبْتُ مَا رَدُّوا عَلِيَّ، وَلَكِنِّي كُنْتُ امْرَأً سَيِّدًا أَتَكَرَّمُ عَنِ الْكَذِبِ، وَعَرَفْتُ أَنَّ أَيْسَرَ مَا فِي ذَلِكَ إِنْ أَنَا كَذَبْتُهُ أَنْ يَحْفَظُوا ذَلِكَ عَلَيَّ، ثُمَّ يُحَدِّثُوا بِهِ عَنِّي، فَلَمْ أَكْذِبْهُ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي خَرَجَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ يَدَّعِي مَا يَدَّعِي! قَالَ: فَجَعَلْتُ أَزْهَدُ لَهُ شَأْنَهُ، وَأُصَغِّرْ لَهُ أَمْرَهُ، وَأَقُولُ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، مَا يَهِمُّكَ مِنْ أَمْرِهِ! إِنَّ شَأْنَهُ دُونَ مَا يَبْلُغُكَ، فَجَعَلَ لا يَلْتَفِتُ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: أَنْبِئْنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ مِنْ شَأْنِهِ قُلْتُ: سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ، قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلْتُ: مَحْضُ، أَوْسَطِنَا نَسَبًا قَالَ:

فَأَخْبِرْنِي هَلْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ يَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُول، فَهُوَ يَتَشَبَّهُ بِهِ؟ قُلْتُ: لا: قَالَ: فَهَلْ كَانَ لَهُ فِيكُمْ مُلْكٌ فَاسْتَلَبْتُمُوهُ إِيَّاهُ، فَجَاءَ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِتَرُدُّوا عَلَيْهِ مُلْكَهُ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَتْبَاعِهِ مِنْكُمْ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: قُلْتُ الضُّعَفَاءُ والمساكين والاحداث من الغلمان والنساء، واما ذو والأسنان وَالشَّرَفِ مِنْ قَوْمِهِ، فَلَمْ يَتَّبِعْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَمَّنْ تَبِعَهُ، أَيُحِبُّهُ وَيَلْزَمُهُ أَمْ يَقْلِيهِ وَيُفَارِقُهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: مَا تَبِعَهُ رَجُلٌ فَفَارَقَهُ قَالَ: فَأَخْبِرْنِي كَيْفَ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: سِجَالٌ يُدَالُ عَلَيْنَا وَنُدَالُ عَلَيْهِ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي هَلْ يَغْدِرُ؟ فَلَمْ أَجِدْ شَيْئًا مِمَّا سَأَلَنِي عَنْهُ أَغْمِزُهُ فِيهِ غَيْرَهَا، قُلْتُ: لا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي هُدْنَةٍ، وَلا نَأْمَنُ غدره قال: فو الله مَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا مِنِّي، ثُمَّ كَرَّ عَلِيَّ الْحَدِيثَ. قَالَ: سَأَلْتُكَ كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ مَحْضٌ، مِنْ أَوْسَطِكُمْ نَسَبًا، وَكَذَلِكَ يَأْخُذُ اللَّهُ النَّبِيَّ إِذَا أَخَذَهُ، لا يَأْخُذُهُ إِلا مِنْ أَوْسَطِ قَوْمِهِ نَسَبًا. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ يَقُولُ بِقَوْلِهِ، فَهُوَ يَتَشَبَّهُ بِهِ، فَزَعَمْتَ أَنْ لا، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كَانَ لَهُ فِيكُمْ مُلْكٌ فَاسْتَلَبْتُمُوهُ إِيَّاهُ، فَجَاءَ بِهَذَا الْحَدِيثِ يَطْلُبُ بِهِ مُلْكَهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لا وَسَأَلْتُكَ عَنْ أَتْبَاعِهِ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُمُ الضُّعَفَاءُ وَالْمَسَاكِينُ وَالأَحْدَاثُ وَالنِّسَاءُ، وَكَذَلِكَ أَتْبَاعُ الأَنْبِيَاءِ فِي كُل زَمَانٍ، وَسَأَلْتُكَ عَمَّنْ يَتَّبِعُهُ، أَيُحِبُّهُ وَيَلْزَمُهُ أم يقليه ويفارقه؟ فزعمت انه لا يَتَّبِعَهُ أَحَدٌ فَيُفَارِقَهُ، وَكَذَلِكَ حَلاوَةُ الإِيمَانِ لا تَدْخُلُ قَلْبًا فَتَخْرُجُ مِنْهُ وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَغْدِرُ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لا، فَلَئِنْ كُنْتَ صَدَقْتَنِي عَنْهُ لَيَغْلِبَنِّي عَلَى مَا تَحْتَ قَدَمِي هَاتَيْنِ، وَلَوَدَدْتُ أَنِّي عِنْدَهُ فَأَغْسِلُ قَدَمَيْهِ انْطَلِقْ لِشَأْنِكَ قَالَ: فَقُمْتُ مِنْ عِنْدِهِ وَأَنَا أَضْرِبُ إِحْدَى يَدَيَّ بِالأُخْرَى، وَأَقُولُ: أَيْ عِبَادَ اللَّهِ، لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ! أَصْبَحَ مُلُوكُ بَنِي الأَصْفَرِ يَهَابُونَهُ فِي سُلْطَانِهِمْ بِالشَّامِ! قَالَ: وقدم عليه كتاب رسول الله ص مَعَ دِحْيَةَ بْنِ

خَلِيفَةَ الْكَلْبِيِّ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى أَمَّا بَعْدُ: أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، وَإِنْ تَتَوَلَّ فَإِنَّ إِثْمَ الأَكَّارِينَ عَلَيْكَ- يَعْنِي تِحْمَالَهُ. حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أخبرني ابو سفيان ابن حَرْبٍ، قَالَ: لَمَّا كَانَتِ الْهُدْنَةُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ رسول الله ص عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، خَرَجْتُ تَاجِرًا إِلَى الشَّامِ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ، إِلا أَنَّهُ زَادَ فِي آخِرِهِ: قَالَ: فَأَخَذَ الْكِتَابَ فَجَعَلَهُ بَيْنَ فَخِذَيْهِ وَخَاصِرَتِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إِسْحَاق، قَالَ: قَالَ ابْن شهاب الزُّهْرِيّ: حَدَّثَنِي أسقف للنصارى أدركته فِي زمان عَبْد الملك بن مروان، انه ادرك ذلك من امر رسول الله ص وأمر هرقل وعقله، قَالَ: فلما قدم عَلَيْهِ كتاب رسول الله ص مَعَ دحية بْن خليفة، أخذه هرقل، فجعله بَيْنَ فخذيه وخاصرته. ثُمَّ كتب إِلَى رجل برومية كَانَ يقرأ من العبرانية مَا يقرءونه، يذكر لَهُ أمره، ويصف لَهُ شأنه، ويخبره بِمَا جاء منه، فكتب إِلَيْهِ صاحب رومية: إنه للنبي الَّذِي كُنَّا ننتظره، لا شك فِيهِ، فاتبعه وصدقه. فأمر هرقل ببطارقة الروم، فجمعوا لَهُ فِي دسكرة، وأمر بِهَا فأشرجت أبوابها عَلَيْهِم، ثُمَّ اطلع عَلَيْهِم من علية لَهُ، وخافهم عَلَى نَفْسه، وَقَالَ: يا معشر الروم، انى قد جمعتكم لخبر، إنه قَدْ أتاني كتاب

هَذَا الرجل يدعوني إِلَى دينه، وَإِنَّهُ والله للنبي الَّذِي كُنَّا ننتظره ونجده فِي كتبنا، فهلموا فلنتبعه ونصدقه، فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا. قَالَ: فنخروا نخرة رجل واحد، ثُمَّ ابتدروا أبواب الدسكرة ليخرجوا منها فوجدوها قَدْ أغلقت، فَقَالَ: كروهم عَلِي- وخافهم عَلَى نَفْسه- فَقَالَ: يا معشر الروم، إني قَدْ قُلْت لكم المقالة الَّتِي قُلْت لأنظر كَيْفَ صلابتكم عَلَى دينكم لِهَذَا الأمر الَّذِي قَدْ حدث، وَقَدْ رأيت منكم الَّذِي أسر بِهِ، فوقعوا لَهُ سجدا، وأمر بأبواب الدسكرة ففتحت لَهُمْ، فانطلقوا حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لِدِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ حين قدم عليه بكتاب رسول الله ص: وَيْحَكَ! وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَكَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَإِنَّهُ الَّذِي كُنَّا نَنْتَظِرُهُ وَنَجِدُهُ فِي كِتَابِنَا، وَلَكِنِّي أَخَافُ الرُّومَ عَلَى نَفْسِي، وَلَوْلا ذلك لا تبعته، فاذهب الى صغاطر الأَسْقُفِ فَاذْكُرْ لَهُ أَمْرَ صَاحِبِكُمْ، فَهُوَ وَاللَّهِ أَعْظَمُ فِي الرُّومِ مِنِّي، وَأَجْوَزُ قَوْلا عِنْدَهُمْ منى، فانظر ما يقول لك. قال: فجاءه دِحْيَةُ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ رَسُولِ الله ص الى هرقل، وبما يدعوه اليه، فقال صغاطر: صَاحِبُكَ وَاللَّهِ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، نَعْرِفُهُ بِصَفَتِهِ، وَنَجِدُهُ فِي كُتُبِنَا بِاسْمِهِ. ثُمَّ دَخَلَ فَأَلْقَى ثِيَابًا كَانَتْ عَلَيْهِ سُودًا، وَلَبِسَ ثِيَابًا بِيضًا، ثُمَّ أَخَذَ عَصَاهُ، فَخَرَجَ عَلَى الرُّومِ وَهُمْ فِي الْكَنِيسَةِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، إِنَّهُ قَدْ جَاءَنَا كِتَابٌ مِنْ أَحْمَدَ، يَدْعُونَا فِيهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ أَحْمَدَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. قَالَ: فَوَثَبُوا عَلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَضَرَبُوهُ حَتَّى قَتَلُوهُ فَلَمَّا رَجَعَ

دِحْيَةُ إِلَى هِرَقْلَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ قَالَ: قَدْ قلت لك: انا نخافهم على أنفسنا، فصغاطر- وَاللَّهِ- كَانَ أَعْظَمَ عِنْدَهُمْ وَأَجْوَزَ قَوْلا مِنِّي. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ قُدَمَاءِ أَهْلِ الشَّامِ، قَالَ: لَمَّا أَرَادَ هِرَقْلُ الْخُرُوجَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، لَمَّا بَلَغَهُ مِنْ أَمْرِ رسول الله ص، جَمَعَ الرُّومَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، إِنِّي عَارِضٌ عَلَيْكُمْ أُمُورًا، فَانْظُرُوا فِيمَ قَدْ أَرَدْتُهَا! قَالُوا: مَا هِيَ؟ قَالَ: تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ، إِنَّا نَجِدُهُ فِي كِتَابِنَا نَعْرِفُهُ بِصِفَتِهِ الَّتِي وُصِفَ لَنَا، فَهَلُمَّ فَلْنَتَّبِعْهُ، فَتَسْلَمَ لَنَا دُنْيَانَا وَآخِرَتَنَا، فَقَالُوا: نَحْنُ نَكُونُ تَحْتَ يَدَيِ الْعَرَبِ، وَنَحْنُ أَعْظَمُ النَّاسِ مُلْكًا، وَأَكْثَرُهُمْ رِجَالا، وَأَفْضَلُهُمْ بَلَدًا! قَالَ: فَهَلُمَّ فأعطيه الجزية في كل سنه، اكسروا عَنِّي شَوْكَتَهُ وَأَسْتَرِيحُ مِنْ حَرْبِهِ بِمَالٍ أُعْطِيهِ إِيَّاهُ، قَالُوا: نَحْنُ نُعْطِي الْعَرَبَ الذُّلَّ وَالصَّغَارَ، بِخَرْجٍ يَأْخُذُونَهُ مِنَّا، وَنَحْنُ أَكْثَرُ النَّاسِّ عَدَدًا، وَأَعْظَمُهُمْ مُلْكًا، وَأَمْنَعُهُمْ بَلَدًا، لا وَاللَّهِ لا نَفْعَلُ هَذَا أَبَدًا. قَالَ: فَهَلُمَّ فَلأُصَالِحْهُ عَلَى أَنْ أُعْطِيَهُ أَرْضَ سُورِيَةَ، وَيَدَعَنِي وَأَرْضَ الشَّامِ- قَالَ: وَكَانَتْ أَرْضُ سُورِيَةَ أَرْضَ فِلَسْطِينَ وَالأُرْدُنَ وَدِمَشْقَ وَحِمْصَ وَمَا دُونَ الدَّرْبِ مِنْ أَرْضِ سُورِيَةَ، وَكَانَ مَا وَرَاءَ الدَّرْبِ عِنْدَهُمُ الشَّامَ- فَقَالُوا لَهُ: نَحْنُ نُعْطِيهِ أَرْضَ سُورِيَةَ، وَقَدْ عُرِفَتْ أَنَّهَا سُرَّةُ الشَّامِ، وَاللَّهِ لا نَفْعَلُ هَذَا أَبَدًا. فَلَمَّا أَبَوْا عَلَيْهِ، قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَتَرَوْنَ أَنَّكُمْ قَدْ ظَفِرْتُمْ إِذَا امْتَنَعْتُمْ مِنْهُ فِي مَدِينَتِكُمْ ثُمَّ جَلَسَ عَلَى بَغْلٍ لَهُ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا أَشْرَفَ عَلَى الدَّرْبِ اسْتَقْبَلَ أَرْضَ الشَّامِ، ثُمَّ قَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَرْضَ سُورِيَةَ تَسْلِيمُ الْوَدَاعِ، ثُمَّ رَكَضَ حَتَّى دخل القسطنطينية

قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله ص شُجَاعَ بْنَ وَهْبٍ، أَخَا بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ إِلَى الْمُنْذِرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ الْغَسَّانِيِّ، صَاحِبِ دِمَشْقَ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَتَبَ إِلَيْهِ مَعَهُ: سَلامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، وَآمَنَ بِهِ إِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ يَبْقَى لَكَ مُلْكُكَ فَقَدِمَ بِهِ شُجَاعُ بْنُ وَهْبٍ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: مَنْ يَنْزِعُ مِنِّي مُلْكِي! أَنَا سَائِرٌ إِلَيْهِ، [قَالَ النَّبِيُّ ص: بَادَ مُلْكُهُ!] حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: بَعَثَ رسول الله ص عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ إِلَى النَّجَاشِيِّ فِي شَأْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابِهِ، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى النَّجَاشِيِّ الأَصْحَمِ مَلِكِ الْحَبَشَةِ، سِلْمٌ أَنْتَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الْمَلِكَ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ عيسى بن مَرْيَمَ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ، أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْبَتُولِ الطَّيِّبَةِ الْحَصِينَةِ، فَحَمَلَتْ بِعِيسَى، فَخَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ رُوحِهِ وَنَفْخِهِ كَمَا خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ وَنَفْخِهِ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَالْمُوَالاةِ عَلَى طَاعَتِهِ، وَأَنْ تَتَّبِعَنِي وَتُؤْمِنَ بِالَّذِي جَاءَنِي، فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ ابْنَ عَمِّي جَعْفَرًا وَنَفَرًا مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا جَاءَكَ فَأَقِرَّهُمْ، وَدَعِ التَّجَبُّرَ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ وَجُنُودَكَ إِلَى اللَّهِ، فَقَدْ بَلَّغْتُ وَنَصَحْتُ، فَاقْبَلُوا نُصْحِي، وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى. فكتب النجاشى الى رسول الله ص: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ، مِنَ النَّجَاشِيِّ الأَصْحَمِ بْنِ أَبْجَرَ سَلامٌ عليك

يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، مِنَ اللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ، الَّذِي هَدَانِي إِلَى الإِسْلامِ أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَنِي كِتَابُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِيمَا ذَكَرْتَ مِنْ امر عيسى، فو رب السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ عِيسَى مَا يَزِيدُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ ثُفْرُوقًا، إِنَّهُ كَمَا قُلْتَ، وَقَدْ عَرَفْنَا مَا بُعِثْتَ بِهِ إِلَيْنَا، وَقَدْ قَرَيْنَا ابْنَ عَمِّكَ وَأَصْحَابَهُ، فَأَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ صَادِقًا مُصَدِّقًا، وَقَدْ بَايَعْتُكَ وَبَايَعْتُ ابْنَ عَمِّكَ، وَأَسْلَمْتُ عَلَى يَدَيْهِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَقَدْ بعثت إليك بابني ارها بن الأصحم ابن أَبْجَرَ، فَإِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ آتِيَكَ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنَّ مَا تَقُولُ حَقٌّ، وَالسَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَذُكِرَ لِي أَنَّ النَّجَاشِيَّ بَعَثَ ابْنَهُ فِي ستين من الحبشه في سفينه، فإذ كَانُوا فِي وَسَطٍ مِنَ الْبَحْرِ غَرِقَتْ بِهِمْ سَفِينَتُهُمْ، فَهَلَكُوا. وَحُدِّثْتُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، قال: ارسل رسول الله ص إِلَى النَّجَاشِيِّ لِيُزَوِّجَهُ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، وَيَبْعَثَ بِهَا إِلَيْهِ مَعَ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَرْسَلَ النَّجَاشِيُّ إِلَى أُمِّ حَبِيبَةَ يخبرها بخطبه رسول الله ص إِيَّاهَا جَارِيَةً لَهُ يُقَالُ لَهَا أَبْرَهَةُ، فَأَعْطَتْهَا أَوْضَاحًا لَهَا وَفَتَخًا، سُرُورًا بِذَلِكَ، وَأَمَرَهَا أَنْ تُوَكِّلَ مَنْ يُزَوِّجَهَا، فَوَكَّلَتْ خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، فَزَوَّجَهَا، فَخَطَبَ النَّجَاشِيُّ عَلَى رَسُولِ الله ص، وَخَطَبَ خَالِدٌ فَأَنْكَحَ أُمَّ حَبِيبَةَ، ثُمَّ دَعَا النجاشى بأربعمائة دِينَارٍ صَدَاقِهَا، فَدَفَعَهَا إِلَى خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، فَلَمَّا جَاءَتْ أُمَّ حَبِيبَةَ تِلْكَ الدَّنَانِيرُ، قَالَ: جَاءَتْ بِهَا أَبْرَهَةُ فَأَعْطَتْهَا خَمْسِينَ مِثْقَالا، وَقَالَتْ: كُنْتُ أَعْطَيْتُكِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بِيَدِي شَيْءٌ، وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَذَا

فقالت أبرهة: قد أمرني الملك الا آخُذَ مِنْكِ شَيْئًا، وَأَنْ أَرُدَّ إِلَيْكِ الَّذِي أخذت منك، فرددته وَأَنَا صَاحِبَةُ دُهْنِ الْمَلِكِ وَثِيَابِهِ، وَقَدْ صَدَّقْتُ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ وَآمَنْتُ بِهِ، وَحَاجَتِي إِلَيْكِ أَنْ تُقْرِئِيهِ مِنِّي السَّلامَ. قَالَتْ: نَعَمْ، وَقَدْ أَمَرَ الْمَلِكُ نِسَاءَهُ أَنْ يَبْعَثْنَ إِلَيْكِ بِمَا عِنْدَهُنَّ مِنْ عُودٍ وَعَنْبَرٍ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ص يَرَاهُ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا فَلا يُنْكِرُهُ قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ: فَخَرَجْنَا فِي سَفِينَتَيْنِ، وَبَعَثَ مَعَنَا النَّوَاتِيَّ حَتَّى قَدِمْنَا الْجَارَ، ثُمَّ رَكِبْنَا الظُّهُرَ إِلَى المدينة، فوجدنا رسول الله ص بِخَيْبَرَ، فَخَرَجَ مَنْ خَرَجَ إِلَيْهِ، وَأَقَمْتُ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ، فَدَخَلْتُ إِلَيْهِ، فَكَانَ يُسَائِلُنِي عَنِ النَّجَاشِيِّ، وَقَرَأْتُ عَلَيْهِ مِنْ أَبْرَهَةَ السلام، فرد رسول الله ص عَلَيْهَا، وَلَمَّا جَاءَ أَبَا سُفْيَانَ تَزْوِيجُ النَّبِيِّ ص أم حبيبه قال: ذلك الفحل لا يقدع انفه. وفيها كتب رسول الله ص إِلَى كِسْرَى، وَبَعَثَ الْكِتَابَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ، فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس سلام عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى، وَآمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَشَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَعَلَيْكَ إِثْمُ الْمَجُوسِ. فَمَزَّقَ كِتَابَ رسول الله ص، [فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: مُزِّقَ مُلْكُهُ] . حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَبِيبٍ، قَالَ: وَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ، إِلَى كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ مَلِكُ فَارِسٍ وَكَتَبَ مَعَهُ: بِسْمِ الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتَّبَعَ الْهُدَى، وَآمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَشَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ

لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَدْعُوكَ بِدُعَاءِ اللَّهِ، فَإِنِّي أَنَا رَسُولُ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً لأُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ، فَأَسْلَمَ تَسْلَمْ، فَإِنْ أَبَيْتَ، فَإِنَّ إِثْمَ الْمَجُوسِ عَلَيْكَ. فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ، وَقَالَ: يَكْتُبُ إِلَيَّ هَذَا وَهُوَ عَبْدِي! حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أَبِي بَكْرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، [أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ قَدِمَ بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ ص عَلَى كِسْرَى، فَلَمَّا قَرَأَهُ شَقَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ الله: مُزِّقَ مُلْكُهُ! حِينَ بَلَغَهُ أَنَّهُ شَقَّ كِتَابَهُ] . ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ قَالَ: ثُمَّ كَتَبَ كِسْرَى إِلَى بَاذَانَ، وَهُوَ عَلَى الْيَمَنِ: أَنِ ابْعَثْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بِالْحِجَازِ رَجُلَيْنِ مِنْ عِنْدِكَ جَلْدَيْنِ، فَلْيَأْتِيَانِي بِهِ، فَبَعَثَ بَاذَانَ قَهْرَمَانَهُ وَهُوَ بَابَوَيْهِ- وَكَانَ كَاتِبًا حَاسِبًا بِكِتَابِ فَارِسَ- وَبَعَثَ مَعَهُ رَجُلا مِنَ الْفُرْسِ يُقَالُ لَهُ خرخسرهُ، وَكَتَبَ معهما الى رسول الله ص يَأْمُرُهُ أَنْ يَنْصَرِفَ مَعَهُمَا إِلَى كِسْرَى، وَقَالَ لِبَابَوَيْهِ: ائْتِ بَلَدَ هَذَا الرَّجُلِ، وَكَلِّمْهُ وَأْتِنِي بِخَبَرِهِ، فَخَرَجَا حَتَّى قَدِمَا الطَّائِفَ فَوَجَدَا رِجَالا مِنْ قُرَيْشٍ بِنَخْبٍ مِنْ أَرْضِ الطَّائِفِ فَسَأَلاهُمْ عَنْهُ، فَقَالُوا: هُوَ بِالْمَدِينَةِ، وَاسْتَبْشَرُوا بِهِمَا وَفَرِحُوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَبْشِرُوا فَقَدْ نَصَبَ لَهُ كِسْرَى مَلِكُ الْمُلُوكِ، كُفِيتُمُ الرَّجُلَ! فَخَرَجَا حَتَّى قدما على رسول الله ص، فكلمه بابويه، فقال: ان شاهانشاه مَلِكَ الْمُلُوكِ كِسْرَى، قَدْ كَتَبَ إِلَى الْمَلِكِ بَاذَانَ، يَأْمُرُهُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْكَ مَنْ يَأْتِيهِ بِكَ، وَقَدْ بَعَثَنِي إِلَيْكَ لِتَنْطَلِقَ مَعِي، فَإِنْ فَعَلْتَ كَتَبَ فِيكَ إِلَى مَلِكِ الْمُلُوكِ يَنْفَعُكَ وَيَكُفُّهُ عَنْكَ، وَإِنْ أَبَيْتَ فَهُوَ مَنْ قَدْ عَلِمْتَ! فَهُوَ مُهْلِكُكَ وَمُهْلِكُ قَوْمِكَ، وَمُخَرِّبُ بِلادِكَ، ودخلا على رسول الله ص وَقَدْ حَلَقَا لِحَاهُمَا، وَأَعْفَيَا شَوَارِبَهُمَا، فَكَرِهَ النَّظَرَ إليهما، ثم

أَقْبَلَ عَلَيْهِمَا فَقَالَ: وَيْلَكُمَا! مَنْ أَمَرَكُمَا بِهَذَا؟ قَالا: أَمَرَنَا بِهَذَا رَبُّنَا- يَعْنِيَانِ كِسْرَى-[فَقَالَ رسول الله: لَكِنَّ رَبِّي قَدْ أَمَرَنِي بِإِعْفَاءِ لِحْيَتِي وَقَصِّ شَارِبِي] . ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: ارْجِعَا حَتَّى تَأْتِيَانِي غدا، واتى رسول الله ص الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ سَلَّطَ عَلَى كِسْرَى ابْنَهُ شِيرَوَيْهِ، فَقَتَلَهُ فِي شَهْرِ كَذَا وَكَذَا لَيْلَةَ كَذَا وَكَذَا مِنَ اللَّيْلِ، بَعْدَ مَا مَضَى مِنَ اللَّيْلِ، سَلَّطَ عَلَيْهِ ابْنَهُ شِيرَوَيْهِ فَقَتَلَهُ. - قَالَ الواقدي: قَتَلَ شِيرَوَيْهِ أَبَاهُ كِسْرَى لَيْلَةَ الثُّلاثَاءِ لِعَشْرِ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ جُمَادَى الأُولَى مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ لِسِتِّ سَاعَاتٍ مَضَتْ مِنْهَا- رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ. فَدَعَاهُمَا فَأَخْبَرَهُمَا، فَقَالا: [هَلْ تَدْرِي مَا تَقُولُ! إِنَّا قَدْ نَقِمْنَا عَلَيْكَ مَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ هَذَا، أَفَنَكْتُبُ هَذَا عَنْكَ، وَنُخْبِرُهُ الْمَلِكَ! قَالَ: نَعَمْ، أَخْبِرَاهُ ذَلِكَ عَنِّي، وَقُولا لَهُ: إِنَّ دِينِي وَسُلْطَانِي سَيَبْلُغُ مَا بَلَغَ مُلْكُ كِسْرَى، وَيَنْتَهِي إِلَى مُنْتَهَى الْخُفِّ وَالْحَافِرِ، وَقُولا لَهُ: إِنَّكَ إِنْ أَسْلَمْتَ أَعْطَيْتُكَ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ، وَمَلَّكْتُكَ عَلَى قَوْمِكَ مِنَ الأَبْنَاءِ، ثُمَّ أَعْطَى خرخسرهَ مِنْطَقَةً فِيهَا ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ، كَانَ أَهْدَاهَا لَهُ بَعْضُ الْمُلُوكِ] . فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى قَدِمَا عَلَى بَاذَانَ، فَأَخْبَرَاهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا هَذَا بِكَلامِ مَلِكٍ، وَإِنِّي لأَرَى الرَّجُلَ نَبِيًّا كَمَا يَقُولُ، وَلْنَنْظُرَنَّ مَا قَدْ قَالَ، فَلَئِنْ كَانَ هَذَا حَقًّا مَا فِيهِ كَلامٌ، إِنَّهُ لَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَسَنَرَى فِيهِ رَأْيَنَا. فَلَمْ يَنْشَبْ بَاذَانَ أَنْ قَدِمَ عَلَيْهِ كِتَابُ شِيرَوَيْهِ، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي قَدْ قَتَلْتُ كِسْرَى، وَلَمْ أَقْتُلْهُ إِلا غَضَبًا لِفَارِسَ لِمَا كَانَ اسْتَحَلَّ مِنْ قَتْلِ أَشْرَافِهِمْ وَتَجْمِيرِهِمْ فِي ثُغُورِهِمْ، فَإِذَا جَاءَكَ كِتَابِي هَذَا فَخُذْ لِي الطَّاعَةَ مِمَّنْ قِبَلَكَ، وَانْظُرِ الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ كِسْرَى كَتَبَ فِيهِ إِلَيْكَ فَلا تُهِجْهُ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي فِيهِ. فَلَمَّا انْتَهَى كِتَابُ شِيرَوَيْهِ إِلَى بَاذَانَ قَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَرَسُولٌ فَأَسْلَمَ وَأَسْلَمَتِ الأَبْنَاءُ مَعَهُ مِنْ فَارِسَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ بِالْيَمَنِ، فَكَانَتْ حمير تقول

لِخرخسرهَ: ذُو الْمُعْجِزَةِ، لِلْمِنْطَقَةِ الَّتِي أَعْطَاهُ إِيَّاهَا رسول الله ص- وَالْمِنْطَقَةُ بِلِسَانِ حِمْيَرَ الْمُعْجِزَةُ- فَبَنُوهُ الْيَوْمَ يُنْسَبُونَ إِلَيْهَا خرخسرهَ ذُو الْمُعْجِزَةِ. وَقَدْ قَالَ بَابُوَيْهِ لِبَاذَانَ: مَا كَلَّمْتُ رَجُلا قَطُّ أَهْيَبَ عِنْدِي مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ بَاذَانُ: هَلْ مَعَهُ شُرَطٌ؟ قَالَ: لا. قَالَ الواقدي: وَفِيهَا كَتَبَ إِلَى الْمُقَوْقِسِ عَظِيمِ الْقِبْطِ، يَدْعُوهُ إِلَى الإِسْلامِ فَلَمْ يُسْلِمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ الله ص مِنْ غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَقَامَ بِهَا ذَا الْحَجَّةِ وَبَعْضَ الْمُحَرَّمِ- فِيمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حميد قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق. قَالَ: وَوَلِيَ الْحَجَّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ الْمُشْرِكُونَ

الجزء الثالث

الجزء الثالث بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ذِكْرُ الأَحْدَاثِ الْكَائِنَةِ فِي سَنَةِ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ غَزْوَةُ خَيْبَرَ ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ، فخرج رسول الله ص فِي بَقِيَّةِ الْمُحَرَّمِ إِلَى خَيْبَرَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ الْغِفَارِيَّ، فَمَضَى حَتَّى نَزَلَ بِجَيْشِهِ بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ الرَّجِيعُ، فَنَزَلَ بَيْنَ أَهْلِ خَيْبَرَ وَبَيْنَ غَطَفَانَ- فِيمَا حَدَّثَنَا ابن حميد قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إِسْحَاقَ- لِيَحُولَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ يُمِدُّوا أَهْلَ خَيْبَرَ، وَكَانُوا لَهُمْ مُظَاهِرِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص. قَالَ: فَبَلَغَنِي أَنَّ غَطَفَانَ لَمَّا سَمِعَتْ بِمَنْزَلِ رسول الله ص مِنْ خَيْبَرَ، جَمَعُوا لَهُ، ثُمَّ خَرَجُوا لِيُظَاهِرُوا يَهُودَ عَلَيْهِ، حَتَّى إِذَا سَارُوا مَنْقَلَةً سَمِعُوا خَلْفَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَهَالِيهِمْ حِسًّا، ظَنُّوا أَنَّ القوم قد خالفوا إِلَيْهِمْ، فَرَجَعُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ، فَأَقَامُوا فِي أَهَالِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَخَلَّوْا بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ وَبَيْنَ خَيْبَرَ، وبدا رسول الله ص بِالأَمْوَالِ يَأْخُذُهَا مَالا مَالا، وَيَفْتَتِحُهَا حِصْنًا حِصْنًا، فَكَانَ أَوَّلَ حُصُونِهِمُ افْتُتِحَ حِصْنُ نَاعِمٍ، وَعِنْدَهُ قُتِلَ مَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ، أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ رَحًا مِنْهُ فَقَتَلَتْهُ، ثُمَّ الْقَمُوصُ، حِصْنُ ابْنِ أَبِي الحقيق وأصاب رسول الله ص مِنْهُمْ سَبَايَا، مِنْهُمْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَكَانَتْ عِنْدَ كِنَانَةَ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَابْنَتَيْ عَمٍّ لَهَا فَاصْطَفَى رَسُولُ الله ص صَفِيَّةَ لِنَفْسِهِ، وَكَانَ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ قَدْ سَأَلَ رسول الله صَفِيَّةَ، فَلَمَّا اصْطَفَاهَا لِنَفْسِهِ أَعْطَاهُ ابْنَتَيْ عَمِّهَا، وَفَشَتِ السَّبَايَا مِنْ خَيْبَرَ فِي الْمُسْلِمِينَ

قال: ثم جعل رسول الله ص يَتَدَنَّى الْحُصُونَ وَالأَمْوَالَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ بَعْضُ أَسْلَمَ، أَنَّ بَنِي سَهْمٍ مِنْ أَسْلَمَ، أتوا رسول الله ص، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ جَهِدْنَا وَمَا بِأَيْدِينَا شَيْءٌ، فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَ رَسُولِ الله شَيْئًا يُعْطِيهِمْ إِيَّاهُ، [فَقَالَ النَّبِيُّ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ حَالَهُمْ، وَأَنْ لَيْسَتْ بِهِمْ قُوَّةٌ، وَأَنْ لَيْسَ بِيَدِي شَيْءٌ أُعْطِيهِمْ إِيَّاهُ، فَافْتَحْ عَلَيْهِمْ أَعْظَمَ حُصُونِهَا، أَكْثَرَهَا طَعَامًا وَوَدَكًا] فَغَدَا النَّاسُ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حِصْنَ الصَّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ، وَمَا بِخَيْبَرَ حِصْنٌ كَانَ أَكْثَرَ طَعَامًا وَوَدَكًا مِنْهُ. قَالَ: وَلَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ ص مِنْ حُصُونِهِمْ مَا افْتَتَحَ، وَحَازَ مِنَ الأَمْوَالِ مَا حَازَ، انْتَهَوْا إِلَى حِصْنِهِمْ الْوَطِيحِ وَالسَّلالِمِ- وَكَانَ آخِرَ حُصُونِ خَيْبَرَ افْتُتِحَ- حَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً. فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بن إسحاق، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ أَخِي بَنِي حَارِثَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: خَرَجَ مَرْحَبٌ الْيَهُودِيُّ مِنْ حِصْنِهِمْ، قَدْ جَمَعَ سِلاحَهُ وَهُوَ يَرْتَجِزُ، وَيَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ شَاكِي السِّلاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ أَطْعَنُ أَحْيَانًا وَحِينًا أَضْرِبُ إِذَا اللُّيُوثُ أَقْبَلَتْ تُحَرَّبُ كَانَ حِمَايَ، لِلْحِمَى لا يُقْرَبُ. وَهُوَ يَقُولُ: هَلْ من مبارز! [فقال رسول الله ص: مَنْ لِهَذَا؟ فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَقَالَ: أَنَا لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا وَاللَّهِ الْمَوْتُورُ الثَّائِرُ، قَتَلُوا أَخِي بِالأَمْسِ! قَالَ: فَقُمْ إِلَيْهِ، اللَّهُمَّ أَعِنْهُ عَلَيْهِ] . فَلَمَّا أَنْ دَنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، دَخَلَتْ بَيْنَهُمَا شجره عمريه

مِنْ شَجَرِ الْعُشَرِ، فَجَعَلَ أَحَدُهُمَا يَلُوذُ بِهَا مِنْ صَاحِبِهِ، فَكُلَّمَا لاذَ بِهَا اقْتَطَعَ بِسَيْفِهِ مِنْهَا مَا دُونَهُ مِنْهَا، حَتَّى بَرَزَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَصَارَتْ بَيْنَهُمَا كَالرَّجُلِ الْقَائِمِ، مَا بَيْنَهُمَا فَنَنٌ، ثُمَّ حَمَلَ مَرْحَبٌ عَلَى مُحَمَّدٍ فَضَرَبَهُ، فَاتَّقَاهُ بِالدَّرَقَةِ فَوَقَعَ سَيْفُهُ فِيهَا، فعضت به فامسكته، وضربه محمد ابن مَسْلَمَةَ حَتَّى قَتَلَهُ. ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ مَرْحَبٍ أَخُوهُ يَاسِرٌ، يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ انى ياسر شاكى السِّلاحِ بَطَلٌ مُغَاوِرُ إِذَا اللُّيُوثُ أَقْبَلَتْ تُبَادِرُ وَأَحْجَمَتْ عَنْ صَوْلَتِي الْمَغَاوِرُ إِنَّ حِمَايَ فِيهِ موت حاضر. وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حدثنى محمد ابن إِسْحَاقَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ خَرَجَ إِلَى يَاسِرٍ، فَقَالَتْ أُمُّهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: أَيُقْتَلُ ابْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بَلِ ابْنُكِ يَقْتُلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَخَرَجَ الزُّبَيْرُ وَهُوَ يَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي زَبَّارْ قَرْمٌ لِقَوْمٍ غَيْرُ نِكْسٍ فَرَّارْ ابْنُ حُمَاةِ الْمَجْدِ وَابْنُ الأَخْيَارْ يَاسِرُ لا يَغْرُرْكَ جَمْعُ الْكُفَّارْ فَجَمْعُهُمْ مِثْلُ السَّرَابِ الْجَرَّارْ. ثُمَّ الْتَقَيَا فَقَتَلَهُ الزُّبَيْرُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قال: حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ مَيْمُونٍ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُرَيْدَةَ حَدَّثَ عَنْ بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيِّ، قَالَ: لَمَّا كَانَ حِينَ نزل رسول الله ص بحصن اهل خيبر، اعطى رسول الله ص اللِّوَاءَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَنَهَضَ مَنْ نَهَضَ

مَعَهُ مِنَ النَّاسِ، فَلَقَوْا أَهْلَ خَيْبَرَ، فَانْكَشَفَ عمر واصحابه، فرجعوا الى رسول الله ص، يجبنه اصحابه ويجبنهم، [فقال رسول الله ص: لأُعْطِيَنَّ اللِّوَاءَ غَدًا رَجُلا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ] . فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ تَطَاوَلَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَدَعَا عَلِيًّا ع وَهُوَ أَرْمَدُ، فَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ، وَأَعْطَاهُ اللِّوَاءَ، وَنَهَضَ مَعَهُ مِنَ النَّاسِ مَنْ نَهَضَ قَالَ: فَلَقِيَ أَهْلَ خَيْبَرَ، فَإِذَا مَرْحَبٌ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ شَاكِي السِّلاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ أَطْعَنُ أَحْيَانًا وَحِينًا أَضْرِبُ إِذَا اللُّيُوثُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ فَاخْتَلَفَ هُوَ وَعَلِيٌّ ضَرْبَتَيْنِ، فَضَرَبَهُ عَلِيٌّ عَلَى هَامَتِهِ، حَتَّى عَضَّ السَّيْفُ مِنْهَا بِأَضْرَاسِهِ، وَسَمِعَ أَهْلُ الْعَسْكَرِ صَوْتَ ضَرْبَتِهِ، فما تتام آخر الناس مع على ع حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ لَهُ وَلَهُمْ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُسَيَّبُ بْنُ مُسْلِمٍ الأَوْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كان رسول الله ص رُبَّمَا أَخَذَتْهُ الشَّقِيقَةُ، فَيَلْبَثُ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ لا يخرج فلما نزل رسول الله ص خَيْبَرَ أَخَذَتْهُ الشَّقِيقَةُ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى النَّاسِ وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ أَخَذَ رَايَةَ رَسُولِ اللَّهِ، ثُمَّ نَهَضَ فَقَاتَلَ قِتَالا شَدِيدًا، ثُمَّ رَجَعَ فَأَخَذَهَا عُمَرُ فَقَاتَلَ قِتَالا شَدِيدًا هُوَ أَشَدُّ مِنَ الْقِتَالِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَجَعَ فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ، [فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لأُعْطِيَنَّهَا غَدًا رَجُلا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، يأخذها عنوه]- قال: وليس ثم على ع- فَتَطَاوَلَتْ لَهَا قُرَيْشٌ، وَرَجَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ ذَلِكَ،

فاصبح فجاء على ع عَلَى بَعِيرٍ لَهُ، حَتَّى أَنَاخَ قَرِيبًا مِنْ خباء رسول الله ص وَهُوَ أَرْمَدُ، وَقَدْ عَصَبَ عَيْنَيْهِ بِشِقَّةِ بُرْدٍ قطري، فقال رسول الله ص: مَا لَكَ؟ قَالَ: رَمِدَتْ بَعْدُ، فَقَالَ رَسُولُ الله ص: ادن منى، فدنا فَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ، فَمَا وجعهُمَا حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ ثُمَّ أَعْطَاهُ الرَّايَةَ، فَنَهَضَ بِهَا مَعَهُ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ أُرْجُوَانٌ حَمْرَاءُ قَدْ أُخْرِجَ خَمَلُهَا فَأَتَى مَدِينَةَ خَيْبَرَ، وَخَرَجَ مَرْحَبٌ صَاحِبُ الْحِصْنِ وَعَلَيْهِ مِغْفَرٌ مُعَصْفَرٌ يَمَانٍ، وَحَجَرٌ قَدْ ثَقَبَهُ مِثْلَ الْبَيْضَةِ عَلَى رَأْسِهِ، وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ شَاكِي السِّلاحِ بطل مجرب فقال على ع: أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ أَكِيلُكُمْ بِالسَّيْفِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ لَيْثٌ بِغَابَاتٍ شَدِيدٌ قَسْوَرَهْ. فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ، فَبَدَرَهُ عَلِيٌّ فَضَرَبَهُ، فَقَدَّ الْحَجَرَ وَالْمِغْفَرَ وَرَأْسَهُ، حَتَّى وَقَعَ فِي الأَضْرَاسِ وَأَخَذَ الْمَدِينَةَ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن الْحَسَنِ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ مولى رسول الله ص، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حين بعثه رسول الله ص بِرَايَتِهِ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْحِصْنِ خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهُ، فَقَاتَلَهُمْ فَضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَطَرَحَ تِرْسَهُ مِنْ يَدِهِ، فَتَنَاوَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَابًا كَانَ عِنْدَ الْحِصْنِ، فَتَتَرَّسَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَزَلْ فِي يَدِهِ وَهُوَ يُقَاتِلُ، حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ حِينَ فَرَغَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي نَفَرٍ سَبْعَةٌ أَنَا ثَامِنُهُمْ، نَجْهَدُ عَلَى أَنْ نَقْلِبَ ذَلِكَ الْبَابَ فَمَا نَقْلِبُهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ولما

فتح رسول الله ص الْقَمُوصَ، حِصْنَ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، وَبِأُخْرَى مَعَهَا، فَمَرَّ بِهِمَا بِلالٌ- وَهُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِمَا- عَلَى قَتْلَى مِنْ قَتْلَى يَهُودَ، فَلَمَّا رَأَتْهُمُ الَّتِي مَعَ صَفِيَّةَ صَاحَتْ وَصَكَّتْ وَجْهَهَا، وَحَثَتِ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهَا، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: أَغْرِبُوا عَنِّي هَذِهِ الشَّيْطَانَةَ، وَأَمَرَ بِصَفِيَّةَ فَحِيزَتْ خَلْفَهُ، وَأُلْقِيَ عَلَيْهَا رِدَاؤُهُ، فَعَرَفَ المسلمون ان رسول الله ص قد اصطفاها لنفسه، [فقال رسول الله ص لِبِلالٍ- فِيمَا بَلَغَنِي- حِينَ رَأَى مِنْ تِلْكَ الْيَهُودِيَّةِ مَا رَأَى: أَنُزِعَتْ مِنْكَ الرَّحْمَةُ يَا بِلالُ، حَيْثُ تَمُرُّ بِامْرَأَتَيْنِ عَلَى قَتْلَى رِجَالِهِمَا!] وَكَانَتْ صَفِيَّةُ قَدْ رَأَتْ فِي الْمَنَامِ وَهِيَ عَرُوسٌ بِكِنَانَةَ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، أَنَّ قَمَرًا وَقَعَ فِي حِجْرِهَا، فَعَرَضَتْ رُؤْيَاهَا عَلَى زَوْجِهَا فَقَالَ: مَا هَذَا إِلا أَنَّكِ تَمَنِّينَ مَلِكَ الْحِجَازِ مُحَمَّدًا، فَلَطَمَ وَجْهَهَا لَطْمَةً اخْضَرَّتْ عَيْنُهَا مِنْهَا، فَأُتِيَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ص وَبِهَا أَثَرٌ مِنْهَا، فَسَأَلَهَا: مَا هُوَ؟ فَأَخْبَرَتْهُ هَذَا الْخَبَرَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأُتِيَ رَسُولُ الله ص بِكِنَانَةَ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ- وَكَانَ عِنْدَهُ كَنْزُ بَنِي النَّضِيرِ- فَسَأَلَهُ فَجَحَدَ أَنْ يكون يعلم مكانه، فاتى رسول الله ص برجل من يهود، فقال لرسول الله ص: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ كِنَانَةَ يُطِيفُ بِهَذِهِ الْخَرِبَةِ كُلَّ غَدَاةٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ لِكِنَانَةَ: أَرَأَيْتَ ان وجدناه عندك، ااقتلك؟ قال: نعم، فامر رسول الله ص بِالْخَرِبَةِ فَحُفِرَتْ، فَأُخْرِجَ مِنْهَا بَعْضُ كَنْزِهِمْ، ثُمَّ سَأَلَهُ مَا بَقِيَ، فَأَبَى أَنْ يُؤَدِّيَهُ، [فَأَمَرَ به رسول الله ص الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، فَقَالَ: عَذِّبْهُ حَتَّى تَسْتَأْصِلَ مَا عِنْدَهُ،] فَكَانَ الزُّبَيْرُ يَقْدَحُ بِزَنْدِهِ فِي صَدْرِهِ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ دَفَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ بِأَخِيهِ مَحْمُودِ بْنِ مَسْلَمَةَ وَحَاصَرَ رَسُولُ الله ص أَهْلَ خَيْبَرَ فِي حِصْنَيْهِمُ، الْوَطِيحَ وَالسَّلالِمَ، حَتَّى إِذَا أَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ سَأَلُوهُ

أَنْ يُسَيِّرَهُمْ وَيَحْقِنَ لَهُمْ دِمَاءَهُمْ، فَفَعَلَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ حَازَ الأَمْوَالَ كُلَّهَا: الشِّقَّ وَنَطَاةَ وَالْكَتِيبَةَ، وَجَمِيعَ حُصُونِهِمْ إِلا مَا كَانَ مِنْ ذَيْنِكَ الْحِصْنَيْنِ. فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ أَهْلُ فَدَكَ قَدْ صَنَعُوا مَا صَنَعُوا بَعَثُوا إِلَى رسول الله ص يَسْأَلُونَهُ أَنْ يُسَيِّرَهُمْ وَيَحْقِنَ دِمَاءَهُمْ لَهُمْ، وَيُخَلُّوا له الأَمْوَالَ، فَفَعَلَ، وَكَانَ فِيمَنْ مَشَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ مُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، أَخُو بَنِي حَارِثَةَ، فَلَمَّا نَزَلَ أَهْلُ خَيْبَرَ عَلَى ذَلِكَ، سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يُعَامِلَهُمْ بِالأَمْوَالِ عَلَى النِّصْفِ، وَقَالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِهَا منكم، واعمر لها، فصالحهم رسول الله ص عَلَى النِّصْفِ، عَلَى أَنَّا إِذَا شِئْنَا أَنْ نُخْرِجَكُمْ أَخْرَجْنَاكُمْ، وَصَالَحَهُ أَهْلُ فَدَكَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، فَكَانَتْ خَيْبَرُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَانَتْ فَدَكُ خالصه لرسول الله ص، لأَنَّهُمْ لَمْ يَجْلِبُوا عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَلا رِكابٍ. فلما اطمان رسول الله ص أَهْدَتْ لَهُ زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ امْرَأَةُ سَلامِ بْنِ مِشْكَمٍ شَاةً مَصْلِيَّةً، وَقَدْ سَأَلَتْ: أَيُّ عُضْوٍ مِنَ الشَّاةِ أَحَبُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ؟ فَقِيلَ لَهَا: الذِّرَاعُ، فَأَكْثَرَتْ فِيهَا السُّمَّ، فَسَمَّتْ سَائِرَ الشَّاةِ، ثُمَّ جَاءَتْ بِهَا، فَلَمَّا وَضَعَتْهَا بين يدي رسول الله ص تَنَاوَلَ الذِّرَاعَ، فَأَخَذَهَا فَلاكَ مِنْهَا مُضْغَةً فَلَمْ يسغها، ومعه بشر بن البراء ابن مَعْرُورٍ، وَقَدْ أَخَذَ مِنْهَا كَمَا أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ، فَأَمَّا بِشْرٌ فَأَسَاغَهَا، وَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ فَلَفَظَهَا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْعَظْمَ لَيُخْبِرُنِي أَنَّهُ مَسْمُومٌ، ثُمَّ دَعَا بِهَا فَاعْتَرَفَتْ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكِ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَتْ: بُلِّغْتُ مِنْ قَوْمِي مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ: إِنْ كَانَ نَبِيًّا فَسَيُخْبَرُ، وَإِنْ كَانَ مَلِكًا اسْتَرَحْتُ منه، فتجاوز عنها النبي ص وَمَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ مِنْ أَكْلَتِهِ الَّتِي أَكَلَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، قَالَ: وقد كان رسول الله ص

ذكر غزوه رسول الله ص وادي القرى

قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ- وَدَخَلَتْ عَلَيْهِ أُمُّ بِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ تَعُودُهُ: يَا أُمَّ بِشْرٍ، إِنَّ هَذَا الأَوَانَ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنَ الأَكْلَةِ الَّتِي أَكَلْتُ مَعَ ابْنِكِ بِخَيْبَرَ. قَالَ: وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَرَوْنَ أَنَّ رَسُولَ الله ص قَدْ مَاتَ شَهِيدًا مَعَ مَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا فرغ رسول الله ص مِنْ خَيْبَرَ انْصَرَفَ إِلَى وَادِي الْقُرَى فَحَاصَرَ أَهْلَهُ لَيَالِيَ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ ذكر غزوه رسول الله ص وَادِي الْقُرَى حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن ثور ابن زَيْدٍ، عَنْ سَالِمٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا انْصَرَفْنَا مع رسول الله ص مِنْ خَيْبَرَ إِلَى وَادِي الْقُرَى، نَزَلْنَا أَصْلا مع مغارب الشمس، ومع رسول الله ص غُلامٌ لَهُ، أَهْدَاهُ إِلَيْهِ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ الجذامى، ثم الضبيبى، فو الله انا لنضع رحل رسول الله ص إِذْ أَتَاهُ سَهْمُ غَرْبٍ، فَأَصَابَهُ فَقَتَلَهُ، فَقُلْنَا: هنيئا له الجنه! [فقال رسول الله ص: كَلا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ شَمْلَتَهُ الان لتحرق عليه في النار قال: وكان غَلَّهَا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ خَيْبَرَ] قَالَ: فسمعها رجل من اصحاب رسول الله ص فَأَتَاهُ، [فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصَبْتُ شِرَاكَيْنِ لِنَعْلَيْنِ لِي، قَالَ: فَقَالَ: يُقَدُّ لَكَ مِثْلَهُمَا مِنَ النَّارِ] . وَفِي هَذِهِ السَّفْرَةِ نَامَ رَسُولُ الله ص وَأَصْحَابُهُ عَنْ صَلاةِ الصُّبْحِ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسِ، حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن ابن إسحاق،

امر الحجاج بن علاط السلمى

عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: لما انصرف رسول الله ص مِنْ خَيْبَرَ، وَكَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، قَالَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ: مَنْ رَجُلٌ يَحْفَظُ عَلَيْنَا الْفَجْرَ، لَعَلَّنَا نَنَامُ؟ فَقَالَ بِلالٌ: أَنَا يَا رَسُولَ الله احفظ لك، فنزل رسول الله ص، وَنَزَلَ النَّاسُ فَنَامُوا، وَقَامَ بِلالٌ يُصَلِّي، فَصَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُصَلِّيَ ثُمَّ اسْتَنَدَ إِلَى بَعِيرِهِ، وَاسْتَقَبَلَ الْفَجْرَ يَرْمُقُهُ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ، فَنَامَ فَلَمْ يُوقِظْهُمْ إِلا مَسُّ الشَّمْسِ، وَكَانَ رسول الله ص أَوَّلَ أَصْحَابِهِ هَبَّ مِنْ نَوْمِهِ، فَقَالَ: مَاذَا صَنَعْتَ بِنَا يَا بِلالُ! فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخَذَ بِنَفْسِي الَّذِي أَخَذَ بِنَفْسِكَ، قَالَ: صدقت ثم اقتاد رسول الله غَيْرَ كَثِيرٍ، ثُمَّ أَنَاخَ فَتَوَضَّأَ وَتَوَضَّأَ النَّاسُ، ثُمَّ أَمَرَ بِلالا فَأَقَامَ الصَّلاةَ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ، فَلَمَّا سَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، [فَقَالَ: إِذَا نَسِيتُمُ الصَّلاةَ فَصَلُّوهَا إِذَا ذَكَرْتُمُوهَا، فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل يقول: «وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي] » . قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ فَتْحُ خَيْبَرَ فِي صفر. قال: وشهد مع رسول الله ص نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَرَضَخَ لَهُنَّ رَسُولُ الله من الفيء ولم يضرب لهن بسهم . امر الحجاج بن علاط السلمى قَالَ: وَلَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ قَالَ الْحَجَّاجُ بْنُ علاط السلمى ثم البهزى لرسول الله ص: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي مَالا بِمَكَّةَ عِنْدَ صَاحِبَتِي أُمِّ شَيْبَةَ بِنْتِ أَبِي طَلْحَةَ- وكانت عنده، له منها معرض بن الحجاج- ومال متفرق فِي تُجَّارِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَأْذَنْ لِي يَا رسول الله فاذن له رسول الله ص، ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ لا بُدَّ لِي مِنْ أَنْ أَقُولَ، قَالَ: قُلْ، قَالَ الْحَجَّاجُ: فَخَرَجْتُ حَتَّى إِذَا قَدِمْتُ مَكَّةَ، فَوَجَدْتُ بِثَنِيَّةِ الْبَيْضَاءِ رِجَالا مِنْ قُرَيْشٍ يَتَسَمَّعُونَ الأَخْبَارَ، وَيَسْأَلُونَ عَنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ، وَقَدْ بَلَغَهُمْ أَنَّهُ قَدْ سار

إِلَى خَيْبَرَ، وَقَدْ عَرَفُوا أَنَّهَا قَرْيَةُ الْحِجَازِ، ريفا ومنعه وَرِجَالا، فَهُمْ يَتَحَسَّسُونَ الأَخْبَارَ، فَلَمَّا رَأَوْنِي قَالُوا: الْحَجَّاجُ بْنُ عِلاطٍ- وَلَمْ يَكُونُوا عَلِمُوا بِإِسْلامِي- عِنْدَهُ وَاللَّهِ الْخَبَرَ! أَخْبِرْنَا بِأَمْرِ مُحَمَّدٍ، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّ الْقَاطِعَ قَدْ سَارَ إِلَى خَيْبَرَ، وَهِيَ بَلْدَةُ يَهُودَ وَرِيفُ الْحِجَازِ قَالَ: قُلْتُ: قَدْ بَلَغَنِي ذَلِكَ، وَعِنْدِي مِنَ الْخَبَرِ مَا يَسُرُّكُمْ قَالَ: فَالْتَاطُوا بِجَنْبَيْ نَاقَتِي يَقُولُونَ: إِيهِ يَا حَجَّاجُ! قَالَ: قُلْتُ: هُزِمُوا هَزِيمَةً لَمْ تَسْمَعُوا بِمِثْلِهَا قَطُّ، وَقُتِلَ أَصْحَابُهُ قَتْلا لَمْ تَسْمَعُوا بِمِثْلِهِ قَطُّ، وَأُسِرَ مُحَمَّدٌ أَسْرًا، وَقَالُوا: لَنْ نَقْتُلَهُ حَتَّى نَبْعَثَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ فَيَقْتُلُوهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ بِمَنْ كَانَ أَصَابَ مِنْ رِجَالِهِمْ قَالَ: فَقَامُوا فَصَاحُوا بِمَكَّةَ وَقَالُوا: قَدْ جَاءَكُمُ الْخَبَرُ، وَهَذَا مُحَمَّدٌ إِنَّمَا تَنْتَظِرُونَ أَنْ يُقْدَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ فَيُقْتَلَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ قَالَ: قُلْتُ: أَعِينُونِي عَلَى جَمْعِ مَالِي بِمَكَّةَ عَلَى غُرَمَائِي، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَقْدُمَ خَيْبَرَ، فَأُصِيبَ مِنْ فَلِّ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَنِي التُّجَّارُ إِلَى مَا هُنَالِكَ. قَالَ: فَقَامُوا فَجَمَعُوا مَالِي كَأَحَثِّ جَمْعٍ سَمِعْتُ بِهِ فَجِئْتُ صَاحِبَتِي فَقُلْتُ: مَالِي- وَقَدْ كَانَ لِي عِنْدَهَا مَالٌ مَوْضُوعٌ- لَعَلِّي أَلْحَقُ بِخَيْبَرَ، فَأُصِيبُ مِنْ فُرَصِ الْبَيْعِ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَنِي إِلَيْهِ التُّجَّارُ فَلَمَّا سَمِعَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْخَبَرَ وَجَاءَهُ عَنِّي، أَقْبَلَ حَتَّى وَقَفَ إِلَى جَنْبِي، وَأَنَا فِي خَيْمَةٍ مِنْ خِيَامِ التُّجَّارِ، فَقَالَ: يَا حَجَّاجُ، مَا هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَهَلْ عِنْدَكَ حِفْظٌ لِمَا وَضَعْتُ عِنْدَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَاسْتَأْخِرْ عَنِّي حَتَّى أَلْقَاكَ عَلَى خَلاءٍ، فَإِنِّي فِي جَمْعِ مَالِي كَمَا تَرَى، فَانْصَرِفْ عَنِّي حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ مِنْ جَمْعِ كُلِّ شَيْءٍ كَانَ لِي بِمَكَّةَ، وَأَجْمَعْتُ الْخُرُوجَ، لَقِيتُ الْعَبَّاسَ، فَقُلْتُ: احْفَظْ عَلَيَّ حَدِيثِي يَا أَبَا الْفَضْلِ، فَإِنِّي أَخْشَى الطَّلَبَ ثَلاثًا، ثُمَّ قُلْ مَا شِئْتَ قَالَ: أَفْعَلُ، قَالَ: قُلْتُ فَإِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ تَرَكْتُ ابْنَ أَخِيكَ عَرُوسًا عَلَى ابْنَةِ مَلِكِهِمْ- يَعْنِي صَفِيَّةَ بنت حيي ابن أَخْطَبَ- وَلَقَدِ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، وَانْتَثَلَ مَا فِيهَا، وَصَارَتْ لَهُ وَلأَصْحَابِهِ. قَالَ: مَا تَقُولُ يَا حَجَّاجُ! قَالَ: قُلْتُ: إِي وَاللَّهِ، فَاكْتُمْ عَلَيَّ، ولقد اسلمت

ذكر مقاسم خيبر وأموالها

وَمَا جِئْتُ إِلا لآخُذَ مَالِي فَرَقًا مِنْ أَنْ أُغْلَبَ عَلَيْهِ، فَإِذَا مَضَتْ ثَلاثٌ فَأَظْهِرْ أَمْرَكَ، فَهُوَ وَاللَّهِ عَلَى مَا تُحِبُّ قَالَ: حَتَّى إِذَا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ لَبِسَ الْعَبَّاسُ حُلَّةً لَهُ، وَتَخَلَّقَ وَأَخَذَ عَصَاهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى الْكَعْبَةَ، فَطَافَ بِهَا، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: يَا أَبَا الْفَضْلِ، هَذَا وَاللَّهِ التَّجَلُّدُ لِحَرِّ الْمُصِيبَةِ! قَالَ: كَلا وَالَّذِي حَلَفْتُمْ بِهِ! لَقَدِ افْتَتَحَ مُحَمَّدٌ خَيْبَرَ، وَتُرِكَ عَرُوسًا عَلَى ابْنَةِ مَلِكِهِمْ، وَأَحْرَزَ أَمْوَالَهَا وَمَا فِيهَا، فَأَصْبَحَتْ لَهُ وَلأَصْحَابِهِ قَالُوا: مَنْ جَاءَكَ بِهَذَا الْخَبَرِ؟ قَالَ: الَّذِي جَاءَكُمْ بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ، لَقَدْ دَخَلَ عَلَيْكُمْ مُسْلِمًا، وَأَخَذَ مَالَهُ وَانْطَلَقَ لِيَلْحَقَ برسول الله واصحابه فيكون معه، قالوا: يال عباد اللَّهِ! أَفْلَتَ عَدُوُّ اللَّهِ! أَمَا وَاللَّهِ لَوْ عَلِمْنَا لَكَانَ لَنَا وَلَهُ شَأْنٌ، وَلَمْ يَنْشَبُوا ان جاءهم الخبر بذلك ذكر مقاسم خيبر وأموالها حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: كَانَتِ الْمَقَاسِمُ عَلَى أَمْوَالِ خَيْبَرَ عَلَى الشِّقِّ وَنَطَاةَ وَالْكَتِيبَةِ، فَكَانَتِ الشِّقُّ وَنَطَاةُ فِي سُهْمَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَتِ الْكَتِيبَةُ خمس الله عز وجل وخمس النبي ص، وَسَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَطُعْمَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ، وَطُعْمَ رِجَالٍ مَشَوْا بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ وَبَيْنَ أَهْلِ فَدَكَ بِالصُّلْحِ، مِنْهُمْ محيصه ابن مسعود، اعطاه رسول الله ص مِنْهَا ثَلاثِينَ وَسْقَ شَعِيرٍ، وَثَلاثِينَ وَسْقَ تَمْرٍ وَقُسِّمَتْ خَيْبَرُ عَلَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، مَنْ شَهِدَ مِنْهُمْ خَيْبَرَ وَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَلَمْ يَغِبْ عَنْهَا إِلا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حرام الأنصاري، فقسم له رسول الله ص كَسَهْمِ مَنْ حَضَرَهَا

قال: ولما فرغ رسول الله ص مِنْ خَيْبَرَ قَذَفَ اللَّهُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ أَهْلِ فَدَكَ حِينَ بَلَغَهُمْ مَا أَوْقَعَ اللَّهُ بِأَهْلِ خَيْبَرَ، فَبَعَثُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ يُصَالِحُونَهُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ فَدَكَ، فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ رُسُلُهُمْ بِخَيْبَرَ أَوْ بِالطَّائِفِ، وَإِمَّا بَعْدَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَكَانَتْ فَدَكُ لِرَسُولِ الله ص خَاصَّةً، لأَنَّهُ لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَلا رِكابٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله ص يَبْعَثُ إِلَى أَهْلِ خَيْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ خَارِصًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَيَهُودَ، فَيَخْرُصُ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا قَالُوا: تَعَدَّيْتَ عَلَيْنَا، قَالَ: إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَلَنَا، فَتَقُولُ يَهُودُ: بِهَذَا قَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ. وَإِنَّمَا خَرَصَ عَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، ثُمَّ أُصِيبَ بِمُؤْتَةَ، فَكَانَ جَبَّارُ بْنُ صَخْرِ بْنِ خَنْسَاءَ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ، هُوَ الَّذِي يَخْرُصُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، فَأَقَامَتْ يَهُودُ عَلَى ذَلِكَ لا يَرَى بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ بَأْسًا فِي مُعَامَلَتِهِمْ، حتى عدوا في عهد رسول الله ص على عبد الله ابن سَهْلٍ، أَخِي بَنِي حَارِثَةَ، فَقَتَلُوهُ، فَاتَّهَمَهُمْ رَسُولُ الله ص وَالْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ شِهَابٍ الزُّهْرِيَّ: كَيْفَ كَانَ إِعْطَاءُ رَسُولِ اللَّهِ ص يَهُودَ خَيْبَرَ نَخِيلَهُمْ حِينَ أَعْطَاهُمُ النَّخْلَ عَلَى خَرْجِهَا؟ أَبَتَّ ذَلِكَ لَهُمْ حَتَّى قُبِضَ، أَمْ أَعْطَاهُمْ إِيَّاهَا لِضَرُورَةِ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ؟ فَأَخْبَرَنِي ابن شهاب ان رسول الله ص افْتَتَحَ خَيْبَرَ عَنْوَةً بَعْدَ الْقِتَالِ، وَكَانَتْ خَيْبَرُ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، خَمَسَهَا رَسُولُ الله وقسمها

بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَنَزَلَ مَنْ نَزَلَ مِنْ أَهْلِهَا عَلَى الإِجْلاءِ بَعْدَ الْقِتَالِ، فَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ص فَقَالَ: [إِنْ شِئْتُمْ دَفَعْنَا إِلَيْكُمْ هَذِهِ الأَمْوَالَ عَلَى أَنْ تَعْمَلُوهَا، وَتَكُونَ ثِمَارُهَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، وَأُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ] فَقَبِلُوا، فَكَانُوا عَلَى ذلك يعملونها وكان رسول الله ص يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فَيَقْسِمُ ثَمَرَهَا، وَيَعْدِلُ عَلَيْهِمْ فِي الْخَرْصِ، فَلَمَّا تَوَفَّى اللَّهُ عز وجل نبيه ص أَقَرَّهَا أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ النَّبِيِّ فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى الْمُعَامَلَةِ الَّتِي كَانَ عَامَلَهُمْ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ حَتَّى تُوُفِّيَ، ثُمَّ أَقَرَّهَا عُمَرُ صَدْرًا مِنْ إِمَارَتِهِ، ثَمَّ بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ الله ص قَالَ فِي وَجَعِهِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ: [لا يَجْتَمِعَنَّ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ،] فَفَحَصَ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى بَلَغَهُ الثَّبْتُ، فَأَرْسَلَ إِلَى يَهُودَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ فِي إِجْلائِكُمْ، فَقَدْ بلغنى ان رسول الله ص قَالَ: [لا يَجْتَمِعَنَّ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ،] فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ عَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ فَلْيَأْتِنِي بِهِ أُنْفِذْهُ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ مِنَ الْيَهُودِ فَلْيَتَجَهَّزْ لِلْجَلاءِ، فَأَجْلَى عُمَرُ مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عهد من رسول الله ص مِنْهُمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ الله ص إِلَى الْمَدِينَةِ. قَالَ الواقدي: فِي هَذِهِ السَّنَةِ رد رسول الله ص زَيْنَبَ ابْنَتَهُ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ. قَالَ: وَفِيهَا قَدِمَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ مِنْ عِنْدِ الْمُقَوْقِسِ بِمَارِيَةَ وَأُخْتِهَا سِيرِينَ وَبَغْلَتِهِ دُلْدُلَ وَحِمَارِهِ يَعْفُورَ وَكَسَا، وَبَعَثَ مَعَهُمَا بِخَصِيٍّ فَكَانَ مَعَهُمَا، وَكَانَ حَاطِبٌ قَدْ دَعَاهُمَا إِلَى الإِسْلامِ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ بِهِمَا، فَأَسْلَمَتْ هِيَ وَأُخْتُهَا، فَأَنْزَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ص عَلَى أُمِّ سُلَيْمِ بِنْتِ مِلْحَانَ- وَكَانَتْ مَارِيَةُ وضيئه- قال: فبعث النبي ص

بِأُخْتِهَا سِيرِينَ إِلَى حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ حَسَّانٍ. قَالَ: وَفِي هذه السنه اتخذ النبي ص مِنْبَرَهُ الَّذِي كَانَ يَخْطُبُ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَاتَّخَذَ دَرَجَتَيْنِ وَمَقْعَدَةً. قَالَ: وَيُقَالُ إِنَّهُ عُمِلَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ قَالَ: وَهُوَ الثَّبْتُ عِنْدَنَا. قَالَ: وفيها بعث رسول الله ص عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي ثَلاثِينَ رَجُلا إِلَى عَجُزِ هَوَازِنَ بِتُرْبَةٍ، فَخَرَجَ بِدَلِيلٍ لَهُ مِنْ بَنِي هِلالٍ، وَكَانُوا يَسِيرُونَ اللَّيْلَ، وَيَكْمُنُونَ النَّهَارَ، فَأَتَى الْخَبَرُ هَوَازِنَ فَهَرَبُوا، فَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا، وَرَجَعَ. قَالَ: وَفِيهَا سَرِيَّةُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ فِي شَعْبَانَ إِلَى نَجْدٍ، قَالَ سلمه ابن الأَكْوَعِ: غَزَوْنَا مَعَ أَبِي بَكْرٍ فِي تِلْكَ السَّنَةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَدْ مَضَى خَبَرُهَا قَبْلُ. قَالَ الواقدي: وَفِيهَا سَرِيَّةُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ إِلَى بَنِي مُرَّةَ بِفَدَكَ فِي شَعْبَانَ فِي ثَلاثِينَ رَجُلا فَأُصِيبَ أَصْحَابُهُ وَارْتُثَّ فِي الْقَتْلَى، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَفِيهَا سَرِيَّةُ غَالِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَى الْمَيْفَعَةِ، فَحَدَّثَنَا ابْنُ حميد قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: بعث رسول الله ص غالب ابن عَبْدِ اللَّهِ الْكَلْبِيَّ إِلَى أَرْضِ بَنِي مُرَّةَ، فأصاب بها مرداس بن نهيك حليفا لهم مِنَ الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، قَتَلَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ. قَالَ أُسَامَةُ: لَمَّا غَشِينَاهُ، قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَلَمْ نَنْزِعْ عَنْهُ حَتَّى قَتَلْنَاهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ أَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ، [فَقَالَ: يَا أُسَامَةُ، مَنْ لَكَ بِلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ!] قَالَ الواقدي: وَفِيهَا سَرِيَّةُ غَالِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى بَنِي عَبْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، ذَكَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عتبة، قال:

عمره القضاء

قال يسار مولى رسول الله ص: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَعْلَمُ غِرَّةً مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ غَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي مِائَةٍ وَثَلاثِينَ رَجُلا، حَتَّى أَغَارُوا عَلَى بَنِي عَبْدٍ، فَاسْتَاقُوا النَّعَمَ وَالشَّاءَ، وَحَدَرُوهَا إِلَى الْمَدِينَةِ. قَالَ: وَفِيهَا سَرِيَّةُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ إِلَى يُمْنٍ وَجِنَابٍ، فِي شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ، ذَكَرَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَهُ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: الَّذِي أَهَاجَ هَذِهِ السَّرِيَّةَ أَنَّ حُسَيْلَ بْنَ نُوَيْرَةَ الاشجعى- وكان دليل رسول الله ص الى خيبر- قدم على النبي ص، فَقَالَ: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: تَرَكْتُ جَمْعًا مِنْ غَطَفَانَ بِالْجِنَابِ قَدْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ لِيَسِيرُوا إِلَيْكُمْ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ، وَخَرَجَ مَعَهُ الدَّلِيلُ حُسَيْلُ بْنُ نُوَيْرَةَ، فَأَصَابُوا نَعَمًا وَشَاءً، وَلَقِيَهُمْ عَبْدٌ لِعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ لَقُوا جَمْعَ عُيَيْنَةَ، فَانْهَزَمَ، فَلَقِيَهُ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ مُنْهَزِمًا، فَقَالَ: قَدْ آنَ لَكَ يَا عُيَيْنَةُ أَنْ تُقْصِرَ عما ترى عمره القضاء حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ ص إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ خَيْبَرَ، أَقَامَ بِهَا شَهْرَ رَبِيعٍ الأَوَّلِ وَشَهْرَ رَبِيعٍ الآخِرِ وَجُمَادَى الأُولَى وجمادى الآخرة ورجب وَشَعْبَانَ وَشَهْرَ رَمَضَانَ وَشَوَّالا، يَبْعَثُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنْ غَزْوِهِ وَسَرَايَاهُ، ثُمَّ خَرَجَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فِي الشَّهْرِ الَّذِي صَدَّهُ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ مُعْتَمِرًا عُمْرَةَ الْقَضَاءِ مَكَانَ عُمْرَتِهِ الِّتِي صَدُّوهُ عَنْهَا، وَخَرَجَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ فِي عُمْرَتِهِ تِلْكَ، وَهِيَ سَنَةُ سَبْعٍ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ خَرَجُوا عَنْهُ، وَتَحَدَّثَتْ قُرَيْشٌ بَيْنَهَا أَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ فِي عُسْرٍ وَجَهْدٍ وَحَاجَةٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ

الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: اصْطَفُّوا لرسول الله ص عِنْدَ دَارِ النَّدْوَةِ لِيَنْظُرُوا إِلَيْهِ وَإِلَى أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ الْمَسْجِدَ، اضْطَبَعَ بِرِدَائِهِ، وَأَخْرَجَ عَضُدَهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ [قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَرَاهُمُ الْيَوْمَ مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةً! ثُمَّ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ وَخَرَجَ يُهَرْوِلُ وَيُهَرْوِلُ أَصْحَابُهُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا وَارَاهُ الْبَيْتُ مِنْهُمْ، وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ مَشَى حَتَّى يَسْتَلِمَ الأَسْوَدَ، ثُمَّ هَرْوَلَ كَذَلِكَ ثَلاثَةَ أَطْوَافٍ، وَمَشَى سَائِرَهَا] . وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: كَانَ النَّاسُ يَظُنُّونَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا صَنَعَهَا لِهَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ لِلَّذِي بَلَغَهُ عَنْهُمْ، حَتَّى حَجَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، فَرَمَلَهَا، فَمَضَتِ السُّنَّةُ بها. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، ان رسول الله ص حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ فِي تِلْكَ الْعُمْرَةِ، دَخَلَهَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ ... إِنِّي شَهِيدٌ أَنَّهُ رَسُولِهِ خَلُّوا فَكُلُّ الْخَيْرِ فِي رَسُولِهِ ... يَا رَبِّ إِنِّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهِ اعرف حق الله في قبوله ... يَا رَبِّ إِنِّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهِ أَعْرِفُ حَقَّ اللَّهِ فِي قَبُولِهِ ... نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ كَمَا قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ ... ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عن مقيله كَمَا قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ ... ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق،

عَنْ أَبَانِ بْنِ صَالِحٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ ابى نجيح، عن عطاء بن رَبَاحٍ وَمُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ الله ص تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ، وَهُوَ حَرَامٌ، وَكَانَ الَّذِي زَوَّجَهُ إِيَّاهَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَقَامَ رسول الله ص بِمَكَّةَ ثَلاثًا، فَأَتَاهُ حُوَيْطِبُ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلٍ، فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ وكلته باخراج رسول الله ص مِنْ مَكَّةَ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّهُ قَدِ انْقَضَى أَجَلُكَ فَاخْرُجْ عَنَّا، [فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ص: مَا عَلَيْكُمْ لَوْ تَرَكْتُمُونِي فَأَعْرَسْتُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ فَصَنَعْنَا لَكُمْ طَعَامًا فَحَضَرْتُمُوهُ!] قَالُوا: لا حَاجَةَ لَنَا فِي طَعَامِكَ فَاخْرُجْ عَنَّا فَخَرَجَ رَسُولُ الله ص وَخَلَّفَ أَبَا رَافِعٍ مَوْلاهُ عَلَى مَيْمُونَةَ، حَتَّى أَتَاهُ بِهَا بِسَرِفٍ، فَبَنَى عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ هُنَالِكَ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يُبَدِّلُوا الْهَدْيَ وَأَبْدَلَ مَعَهُمْ، فَعَزَّتْ عَلَيْهِمُ الإِبِلُ فَرَخَّصَ لَهُمْ في البقر، ثم انصرف رسول الله ص إِلَى الْمَدِينَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَأَقَامَ بِهَا بَقِيَّةَ ذِي الْحِجَّةِ- وَوَلَّى تِلْكَ الْحِجَّةَ الْمُشْرِكُونَ- وَالْمُحَرَّمَ وَصَفَرًا وَشَهْرَيْ رَبِيعٍ، وَبَعَثَ فِي جُمَادَى الأُولَى بَعْثَهُ إِلَى الشَّامِ الَّذِينَ أُصِيبُوا بِمُؤْتَةَ. وَقَالَ الواقدي: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزهري، قال: امرهم رسول الله ص أَنْ يَعْتَمِرُوا فِي قَابِلٍ قَضَاءً لِعُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَنْ يُهْدُوا. قَالَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْعُمْرَةُ قَضَاءً، وَلَكِنْ كَانَ شَرْطٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْتَمِرُوا قَابِلا فِي الشَّهْرِ الَّذِي صَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ فِيهِ. قَالَ الواقدي: قَوْلُ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ أَحَبُّ إِلَيْنَا، لأَنَّهُمْ أُحْصِرُوا وَلَمْ يَصِلُوا إِلَى الْبَيْتِ. وَقَالَ الواقدي: وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ موهب، عن محمد ابن ابراهيم، قال: ساق رسول الله ص فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ سِتِّينَ بَدَنَةً

قَالَ: وَحَدَّثَنِي مُعَاذُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، قَالَ: حَمَلَ السِّلاحَ وَالْبِيضَ وَالرِّمَاحَ، وَقَادَ مِائَةَ فَرَسٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى السِّلاحِ بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ، وَعَلَى الْخَيْلِ مُحَمَّدَ بْنَ مُسْلِمَةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا فَرَاعَهُمْ، فَأَرْسَلُوا مِكْرَزَ بْنَ حَفْصِ بْنِ الأَخْيَفِ، فَلَقِيَهُ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، [فَقَالَ لَهُ: مَا عَرَفْتُ صَغِيرًا وَلا كَبِيرًا إِلا بِالْوَفَاءِ، وَمَا أُرِيدُ إِدْخَالَ السِّلاحِ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ يَكُونُ قَرِيبًا إِلَيَّ] فَرَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ فَأَخْبَرَهُمْ. قَالَ الواقدي: وَفِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ ابْنِ أَبِي الْعَوْجَاءِ السُّلَمِيِّ إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ ص إِلَيْهِمْ بَعْدَ مَا رَجَعَ مِنْ مَكَّةَ فِي خَمْسِينَ رَجُلا، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَلَقِيَهُ- فِيمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بْنِ أَبِي بَكْرٍ- بَنُو سُلَيْمٍ، فَأُصِيبَ بِهَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ جَمِيعًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَمَّا الْوَاقِدِيُّ فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ نَجَا وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأُصِيبَ أَصْحَابُهُ

سنه ثمان من الهجره

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ فَفِيهَا تُوُفِّيَتْ- فِيمَا زَعَمَ الْوَاقِدِيُّ- زَيْنَبُ ابْنَةُ رَسُولِ الله ص، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ. خبر غزوه غالب بن عبد الله الليثى بنى الملوح قال: وفيها اغزى رسول الله ص غَالِبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ اللَّيْثِيَّ فِي صَفَرٍ إِلَى الْكَدِيدِ إِلَى بَنِي الْمُلَوِّحِ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانَ مِنْ خَبَرِ هَذِهِ السَّرِيَّةِ وَغَالِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، مَا حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ- قَالَ إِبْرَاهِيمُ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى: حَدَّثَنِي أَبِي- وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ إسحاق، قال: حدثنى يعقوب ابن عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ الله بن خبيب الجهنى، عن جندب ابن مكيث الجهنى، قال: بعث رسول الله ص غالب بن عبد الله الكلبي، كلب ليث، إِلَى بَنِي الْمُلَوِّحِ بِالْكَدِيدِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُغِيرَ عَلَيْهِمْ، فَخَرَجَ- وَكُنْتُ فِي سَرِيَّتِهِ- فَمَضَيْنَا، حَتَّى إذا كنا بقديد لقينا بها الحارث ابن مَالِكٍ- وَهُوَ ابْنُ الْبَرْصَاءِ اللَّيْثِيُّ- فَأَخَذْنَاهُ فَقَالَ: إِنِّي إِنَّمَا جِئْتُ لأُسْلِمَ، فَقَالَ غَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا جِئْتَ مُسْلِمًا، فَلَنْ يَضُرَّكَ رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ اسْتَوْثَقْنَا مِنْكَ قَالَ: فَأَوْثَقَهُ رباطا ثُمَّ خَلَّفَ عَلَيْهِ رُوَيْجِلا أَسْوَدَ كَانَ مَعَنَا، فَقَالَ: امْكُثْ مَعَهُ حَتَّى نَمُرَّ عَلَيْكَ، فَإِنْ نَازَعَكَ فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ قَالَ: ثُمَّ مَضَيْنَا حَتَّى أَتَيْنَا بَطْنَ الْكَدِيدِ، فَنَزَلْنَا عُشَيْشِيَةً بَعْدَ الْعَصْرِ، فَبَعَثَنِي أَصْحَابِي رَبِيئَةً، فَعَمِدْتُ إِلَى تَلٍّ يُطْلِعُنِي عَلَى الْحَاضِرِ، فَانْبَطَحْتُ عَلَيْهِ- وَذَلِكَ قُبَيْلَ الْمَغْرِبِ- فَخَرَجَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، فَنَظَرَ فَرَآنِي مُنْبَطِحًا عَلَى التَّلِّ، فَقَالَ لامْرَأَتِهِ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَرَى عَلَى هَذَا التَّلِّ سَوَادًا مَا كُنْتُ رَأَيْتُهُ أَوَّلَ النَّهَارِ، فَانْظُرِي لا تَكُونُ الْكِلابُ

جَرَّتْ بَعْضَ أَوْعِيَتِكِ فَنَظَرَتْ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَفْقِدُ شَيْئًا قَالَ: فَنَاوِلِينِي قَوْسِي وَسَهْمَيْنِ مِنْ نَبْلِي، فَنَاوَلَتْهُ فَرَمَانِي بِسَهْمٍ فَوَضَعَهُ فِي جَنْبِي قَالَ: فَنَزَعْتُهُ فَوَضَعْتُهُ، وَلَمْ أَتَحَرَّكْ ثُمَّ رَمَانِي بِالآخَرِ، فَوَضَعَهُ فِي رَأْسِ مَنْكِبِي، فَنَزَعْتُهُ فَوَضَعْتُهُ وَلَمْ أَتَحَرَّكْ فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ خَالَطَهُ سَهْمَايَ، وَلَوْ كَانَ رَبِيئَةً لَتَحَرَّكَ، فَإِذَا أَصْبَحْتِ فَاتَّبِعِي سَهْمَيَّ فَخُذِيهِمَا لا تَمْضُغُهُمَا عَلَيَّ الْكَلابُ، قَالَ: فَأَمْهَلْنَاهُمْ حَتَّى رَاحَتْ رَائِحَتُهُمْ، حَتَّى إِذَا احتلبوا وعطنوا سكنوا، وَذَهَبَتْ عَتَمَةٌ مِنَ اللَّيْلِ شَنَنَّا عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ، فَقَتَلْنَا مَنْ قَتَلْنَا وَاسْتَقْنَا النَّعَمَ، فَوَجَّهْنَا قَافِلِينَ، وَخَرَجَ صَرِيخُ الْقَوْمِ إِلَى الْقَوْمِ مُغَوِّثًا قَالَ: وَخَرَجْنَا سِرَاعًا حَتَّى نَمُرَّ بِالْحَارِثِ بْنِ مَالِكٍ، ابْنِ الْبَرْصَاءِ، وَصَاحِبِهِ، فَانْطَلَقْنَا بِهِ مَعَنَا، وَأَتَانَا صَرِيخُ النَّاسِ، فَجَاءَنَا مَا لا قِبَلَ لَنَا بِهِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ إِلا بَطْنُ الْوَادِي مِنْ قَدِيدٍ، بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حَيْثُ شَاءَ سَحَابًا مَا رَأَيْنَا قَبْلَ ذَلِكَ مَطَرًا وَلا خَالا، فَجَاءَ بِمَا لا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ، فَلَقَدْ رَأَيْنَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْنَا، مَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يُقْدِمَ وَلا يَتَقَدَّمَ، وَنَحْنُ نَحْدُوهَا سِرَاعًا، حَتَّى أَسْنَدْنَاهَا فِي الْمُشَلَّلِ، ثُمَّ حَدَرْنَاهَا عَنْهَا، فَأَعْجَزْنَا الْقَوْمَ بِمَا فِي أَيْدِينَا، فَمَا أَنْسَى قَوْلَ رَاجِزٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ يَحْدُوهَا فِي أَعْقَابِهَا، وَيَقُولُ: أَبَى أَبُو الْقَاسِمِ أَنْ تَعْزُبِي ... فِي خَضِلٍ نَبَاتُهُ مُغْلَوْلَبِ صُفْرٍ أَعَالِيهِ كَلَوْنِ الْمُذْهَبِ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن رَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ، عَنْ شَيْخٍ مِنْهُمْ، أَنَّ شعار اصحاب رسول الله ص تِلْكَ اللَّيْلَةَ كَانَ: أَمِتْ أَمِتْ. قَالَ الواقدي: كَانَتْ سَرِيَّةُ غَالِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بِضْعَةَ عشر رجلا

فيها قدم عمرو بن العاص مسلما على رسول الله ص

قال: وفيها بعث رسول الله ص الْعَلاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى الْعَبْدِيِّ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى سَلامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أحمد إليك اللَّه الَّذِي لا إله إلا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ كِتَابَكَ جَاءَنِي وَرُسُلَكَ وَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، فَإِنَّهُ مُسْلِمٌ، لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ أَبَى فَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ قال: فصالحهم رسول الله ص عَلَى أَنَّ عَلَى الْمَجُوسِ الْجِزْيَةَ، لا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ، وَلا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ. قَالَ: وَفِيهَا بَعَثَ رسول الله ص عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى جَيْفَرَ وَعَبَّادَ ابْنَيْ جَلَنْدِيٍّ بِعُمَانَ، فَصَدَّقَا النَّبِيَّ، وَأَقَرَّا بِمَا جَاءَ بِهِ، وَصَدَّقَ أَمْوَالَهُمَا، وَأَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ. قَالَ: وَفِيهَا سَرِيَّةُ شُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ إِلَى بَنِي عَامِرٍ، فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلا، فَشَنَّ الْغَارَةَ عَلَيْهِمْ، فَأَصَابُوا نَعَمًا وَشَاءً، وَكَانَتْ سِهَامُهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ بَعِيرًا، لِكُلِّ رَجُلٍ. قَالَ: وَفِيهَا كَانَتْ سَرِيَّةُ عَمْرِو بْنِ كَعْبٍ الْغِفَارِيِّ إِلَى ذَاتِ أَطْلاحٍ، خَرَجَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلا، حَتَّى انْتَهَى إِلَى ذَاتِ أَطْلاحٍ، فَوَجَدَ جَمْعًا كَثِيرًا، فَدَعَوْهُمْ إِلَى الإِسْلامِ، فَأَبَوْا أَنْ يُجِيبُوا، فَقَتَلُوا أَصْحَابَ عَمْرٍو جَمِيعًا، وَتَحَامَلَ حَتَّى بَلَغَ الْمَدِينَةَ. قَالَ الواقدي: وَذَاتُ أَطْلاحٍ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّامِ، وَكَانُوا مِنْ قُضَاعَةَ، وَرَأْسُهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ سَدُوسٌ قَالَ: وَفِيهَا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مُسْلِمًا عَلَى رسول الله ص ، قَدْ أَسْلَمَ عِنْدَ النَّجَاشِيِّ، وَقَدِمَ مَعَهُ عُثْمَانُ بن طلحه العبدري، وخالد ابن الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَدِمُوا الْمَدِينَةَ فِي أَوَّلِ صَفَرٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانَ سَبَبُ إِسْلامِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، مَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ رَاشِدٍ مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَوْسٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي أَوْسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي

عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِنْ فِيهِ إِلَى أُذُنِي، قَالَ: لَمَّا انْصَرَفْنَا مَعَ الأَحْزَابِ عَنِ الْخَنْدَقِ، جَمَعْتُ رِجَالا مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا يَرَوْنَ رَأْيِي، وَيَسْمَعُونَ مِنِّي، فَقُلْتُ لَهُمْ: تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ أَنِّي لأَرَى أَمْرَ مُحَمَّدٍ يَعْلُو الأُمُورَ عُلُوًّا مُنْكَرًا وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَأْيًا فَمَا تَرَوْنَ فِيهِ؟ قَالُوا: وَمَاذَا رَأَيْتَ؟ قُلْتُ: رَأَيْتُ أَنْ نَلْحَقَ بِالنَّجَاشِيِّ، فَنَكُونَ عِنْدَهُ، فَإِنْ ظَهَرَ مُحَمَّدٌ عَلَى قومنا كنا عند النجاشى، فلان نَكُونَ تَحْتَ يَدَيْهِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَنْ نَكُونَ تَحْتَ يَدَيْ مُحَمَّدٍ، وَإِنْ يَظْهَرْ قَوْمُنَا فَنَحْنُ مَنْ قَدْ عَرَفُوا، فَلا يَأْتِينَا مِنْهُمْ الا خير فقالوا: ان هذا لراى قُلْتُ: فَاجْمِعُوا لَهُ مَا نُهْدِي إِلَيْهِ- وَكَانَ أَحَبَّ مَا يُهْدَى إِلَيْهِ مِنْ أَرْضِنَا الأُدْمُ- فَجَمَعْنَا لَهُ أُدْمًا كَثِيرًا، ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى قدمنا عليه، فو الله إِنَّا لَعِنْدَهُ، إِذْ جَاءَهُ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضمرى- وكان رسول الله ص قَدْ بَعَثَهُ إِلَيْهِ فِي شَأْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابِهِ- قَالَ: فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ: فَقُلْتُ لأَصْحَابِي: هَذَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، لَوْ قَدْ دَخَلْتُ عَلَى النَّجَاشِيِّ وَسَأَلْتُهُ إِيَّاهُ، فَأَعْطَانِيهِ فَضَرَبْتُ عُنُقَهُ! فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي قَدْ أَجْزَأْتُ عَنْهَا حِينَ قَتَلْتُ رَسُولَ مُحَمَّدٍ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَسَجَدْتُ لَهُ كَمَا كُنْتُ أَصْنَعُ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِصَدِيقِي! أَهْدَيْتَ لِي شَيْئًا مِنْ بِلادِكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، أَيُّهَا الْمَلِكُ، قَدْ أَهْدَيْتُ لَكَ أُدْمًا كَثِيرًا، ثُمَّ قَرَّبْتُهُ إِلَيْهِ، فَأَعْجَبَهُ وَاشْتَهَاهُ، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَجُلا خَرَجَ مِنْ عِنْدِكَ، وَهُوَ رَسُولُ رَجُلٍ عَدُوٍّ لَنَا، فَأَعْطِنِيهِ لأَقْتُلَهُ، فَإِنَّهُ قَدْ أَصَابَ مِنْ أَشْرَافِنَا وَخِيَارِنَا قَالَ: فَغَضِبَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ فَضَرَبَ بِهَا أَنْفَهُ ضَرْبَةً ظَنَنْتُ أَنَّهُ قَدْ كَسَرَهُ- يَعْنِي النَّجَاشِيَّ- فَلَوِ انْشَقَّتِ الأَرْضُ لِي لَدَخَلْتُ فِيهَا فَرَقًا مِنْهُ ثُمَّ قُلْتُ: وَاللَّهِ أَيُّهَا الْمَلِكُ لَوْ ظَنَنْتَ أَنَّكَ تَكْرَهُ هَذَا مَا سَأَلْتُكَهُ، قَالَ: أَتَسْأَلُنِي أَنْ أُعْطِيَكَ رَسُولَ رَجُلٍ يَأْتِيهِ النَّامُوسُ الأَكْبَرُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى، لِتَقْتُلَهُ! فَقُلْتُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، أَكَذَاكَ هُوَ؟ قَالَ:

ذكر ما في الخبر عن الكائن كان من الاحداث المذكوره في سنه ثمان من سنى الهجره

وَيْحَكَ يَا عَمْرُو! أَطِعْنِي وَاتَّبِعْهُ، فَإِنَّهُ وَاللَّهِ لَعَلَى الْحَقِّ، وَلَيَظْهَرَنَّ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ كَمَا ظَهَرَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ. قَالَ: قُلْتُ: فَتُبَايِعُنِي لَهُ عَلَى الإِسْلامِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَبَسَطَ يَدَهُ، فَبَايَعْتُهُ عَلَى الإِسْلامِ، ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى أَصْحَابِي، وَقَدْ حَالَ رَأْيِي عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، وَكَتَمْتُ أَصْحَابِي إِسْلامِي، ثُمَّ خَرَجْتُ عَامِدًا لِرَسُولِ الله لاسلم، فلقيت خالد ابن الْوَلِيدِ- وَذَلِكَ قَبْلَ الْفَتْحِ- وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنْ مَكَّةَ، فَقُلْتُ: إِلَى أَيْنَ يَا أَبَا سُلَيْمَانَ؟ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَقَامَ الْمَنْسِمُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَنَبِيٌّ، أَذْهَبُ وَاللَّهِ أُسْلِمُ، فَحَتَّى مَتَى! فَقُلْتُ: وَاللَّهِ مَا جِئْتُ إِلا لأُسْلِمَ، فَقَدِمْنَا عَلَى رسول الله ص، [فَتَقَدَّمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَأَسْلَمَ وَبَايَعَ، ثُمَّ دَنَوْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ تَغْفِرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي، وَلا أَذْكُرَ مَا تَأَخَّرَ! فَقَالَ رَسُولُ الله ص: يَا عَمْرُو، بَايِعْ فَإِنَّ الإِسْلامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَإِنَّ الْهِجْرَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا فَبَايَعْتُهُ ثُمَّ انْصَرَفْتُ] حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ لا أَتَّهِمُ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، كَانَ مَعَهُمَا، أَسْلَمَ حِينَ أَسْلَمَا . ذِكْرُ مَا فِي الْخَبَرِ عَنِ الْكَائِنِ كَانَ مِنَ الأَحْدَاثِ الْمَذْكُورَةِ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ مِنْ سِنِي الْهِجْرَةِ فَمِمَّا كَانَ فِيهَا مِنْ ذَلِكَ تَوْجِيهُ رسول الله ص عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فِي جُمَادَى الآخِرَةِ إِلَى السلاسل من بلاد قضاعه في ثلاثمائة، وَذَلِكَ أَنَّ أُمَّ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ- فِيمَا ذُكِرَ- كَانَتْ قُضَاعِيَّةً، فَذُكِرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص أَرَادَ أَنْ يَتَأَلَّفَهُمْ بِذَلِكَ، فَوَجَّهَهُ فِي أَهْلِ الشَّرَفِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، ثُمَّ اسْتَمَدَّ رَسُولُ الله ص، فَأَمَدَّهُ بِأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي مِائَتَيْنِ، فكان جميعهم خمسمائة

غزوه ذات السلاسل

غزوه ذات السلاسل وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن أبي بكر، قال: بعث رسول الله ص عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى أَرْضِ بَلِيٍّ وَعُذْرَةَ، يَسْتَنْفِرُ النَّاسَ إِلَى الشَّامِ، وَذَلِكَ أَنَّ أُمَّ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ كَانَتِ امْرَأَةً مِنْ بَلِيٍّ، فبعثه رسول الله إِلَيْهِمْ يَسْتَأْلِفُهُمْ بِذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَ عَلَى مَاءٍ بِأَرْضِ جُذَامٍ، يُقَالُ لَهُ السَّلاسِلُ- وَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ ذَاتَ السَّلاسِلِ- فَلَمَّا كَانَ عليه خاف، فبعث الى رسول الله يستمده، فبعث اليه رسول الله ص أبا عبيده ابن الْجَرَّاحِ فِي الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ، فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، [وَقَالَ لأَبِي عُبَيْدَةَ حِينَ وَجَّهَهُ: لا تَخْتَلِفَا، فَخَرَجَ أَبُو عُبَيْدَةَ حَتَّى إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِ، قَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: إِنَّمَا جِئْتُ مَدَدًا لِي، فَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ: يَا عَمْرُو، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ قَالَ لِي: لا تَخْتَلِفَا، وَأَنْتَ إِنْ عَصَيْتَنِي أَطَعْتُكَ، قَالَ: فَأَنَا أَمِيرٌ عَلَيْكَ، وَإِنَّمَا أَنْتَ مَدَدٌ لِي، قَالَ: فَدُونَكَ! فَصَلَّى عمرو ابن العاص بالناس] غزوه الخبط قَالَ الواقدي: وَفِيهَا كَانَتْ غُزْوَةُ الْخَبَطِ، وَكَانَ الأمير فيها ابو عبيده ابن الجراح، بعثه رسول الله ص في رجب منها، في ثلاثمائة مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ قِبَلَ جُهَيْنَةَ، فَأَصَابَهُمْ فِيهَا أَزْلٌ شَدِيدٌ وَجَهْدٌ، حَتَّى اقْتَسَمُوا التَّمْرَ عَدَدًا. وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ حدثه انه سمع جابر ابن عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: خَرَجْنَا فِي بَعْثٍ وَنَحْنُ ثلاثمائة، وَعَلَيْنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، فَأَصَابَنَا جُوعٌ، فَكُنَّا نَأْكُلُ الْخَبَطَ ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ، فَخَرَجَتْ دَابَّةٌ من البحر

يُقَالُ لَهَا الْعَنْبَرُ، فَمَكَثْنَا نِصْفَ شَهْرٍ، نَأْكُلُ مِنْهَا، وَنَحَرَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ جَزَائِرَ، ثُمَّ نَحَرَ مِنَ الْغَدِ كَذَلِكَ، فَنَهَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، فَانْتَهَى. قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ- وَسَمِعْتُ ذَكْوَانَ أَبَا صَالِحٍ قَالَ: إِنَّهُ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ. قَالَ عَمْرٌو: وَحَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ سَوَادَةَ الْجُذَامِيُّ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ نَحْوَ ذَلِكَ، إِلا أَنَّهُ قَالَ: جَهِدُوا، وقد كان عليهم قيس ابن سَعْدٍ، وَنَحَرَ لَهُمْ تِسْعَ رَكَائِبَ، وَقَالَ: بَعَثَهُمْ فِي بَعْثٍ مِنْ وَرَاءِ الْبَحْرِ، وَإِنَّ الْبَحْرَ أَلْقَى إِلَيْهِمْ دَابَّةً، فَمَكَثُوا عَلَيْهَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ يَأْكُلُونَ مِنْهَا وَيُقَدِّدُونَ وَيَغْرِفُونَ شَحْمَهَا، [فَلَمَّا قَدِمُوا على رسول الله ص ذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ قَيْسِ بْنِ سعد، فقال رسول الله: إِنَّ الْجُودَ مِنْ شِيمَةِ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَيْتِ،] وَقَالَ فِي الْحُوتِ: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّا نَبْلُغُهُ قَبْلَ أَنْ يَرُوحَ لأَحْبَبْنَا أَنْ لَوْ كَانَ عِنْدَنَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْخَبَطَ وَلا شَيْئًا سِوَى ذَلِكَ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُخْبِرُ، قَالَ: زَوَّدَنَا النَّبِيُّ ص جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ، فَكَانَ يَقْبِضُ لَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ قَبْضَةً قَبْضَةً، ثُمَّ تَمْرَةً تَمْرَةً، فَنَمُصُّهَا وَنَشْرَبُ عَلَيْهَا الْمَاءَ إِلَى اللَّيْلِ، حَتَّى نَفِدَ مَا فِي الْجِرَابِ، فَكُنَّا نَجْنِي الْخَبَطَ، فَجُعْنَا جُوعًا شَدِيدًا قَالَ: فَأَلْقَى لَنَا الْبَحْرُ حُوتًا مَيِّتًا، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: جِيَاعٌ كُلُوا، فَأَكَلْنَا- وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَنْصُبُ الضِّلْعَ مِنْ أَضْلاعِهِ فَيَمُرُّ الرَّاكِبُ عَلَى بَعِيرِهِ تَحْتَهُ، وَيَجْلِسُ النَّفَرُ الْخَمْسَةُ فِي مَوْضِعِ عَيْنِهِ- فَأَكَلْنَا وَادَّهَنَّا حَتَّى صَلَحَتْ أَجْسَامُنَا، وَحَسُنَتْ شَحْمَاتُنَا، [فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ قال جابر: فذكرنا ذلك للنبي ص، فَقَالَ: كُلُوا رِزْقًا أَخْرَجَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَكُمْ، مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟ - وَكَانَ مَعَنَا مِنْهُ شَيْءٌ- فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْقَوْمِ فَأَكَلَ مِنْهُ] . قَالَ الواقدي: وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ غَزْوَةُ الْخَبَطِ، لأَنَّهُمْ أَكَلُوا الْخَبَطَ حَتَّى كَأَنَّ أَشْدَاقَهُمْ أَشْدَاق الإِبِلِ العضهه

حوادث متفرقة

[حوادث متفرقة] قَالَ: وَفِيهَا كَانَتْ سَرِيَّةٌ وَجَّهَهَا رَسُولُ اللَّهِ ص فِي شَعْبَانَ، أَمِيرُهَا أَبُو قَتَادَةَ . حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ [عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الأَسْلَمِيِّ، قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي، فَأَصْدَقْتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص أَسْتَعِينُهُ عَلَى نِكَاحِي، فَقَالَ: وَكَمْ أَصْدَقْتَ؟ قُلْتُ: مِائَتَيْ دِرْهَمٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! لَوْ كُنْتُمْ إِنَّمَا تَأْخُذُونَ الدَّرَاهِمَ مِنْ بَطْنِ وَادٍ مَا زِدْتُمْ! وَاللَّهِ مَا عِنْدِي مَا أُعِينُكَ بِهِ] . قَالَ: فَلَبِثْتُ أَيَّامًا، وَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي جُشَمَ بْنِ مُعَاوِيَةَ يُقَالُ لَهُ رِفَاعَةُ بْنُ قَيْسٍ- أَوْ قَيْسُ بْنُ رِفَاعَةَ- فِي بَطْنِ عَظِيمٍ مِنْ جُشَمَ، حَتَّى نَزَلَ بِقَوْمِهِ وَمَنْ مَعَهُ بِالْغَابَةِ، يُرِيدُ أَنْ يجمع قيسا على حرب رسول الله ص. قَالَ: وَكَانَ ذَا اسْمٍ وَشَرَفٍ فِي جُشَمَ قال: فدعاني رسول الله ص وَرَجُلَيْنِ، مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: اخْرُجُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ حَتَّى تَأْتُونَا بِهِ، أَوْ تَأْتُونَا مِنْهُ بِخَبَرٍ وَعِلْمٍ قَالَ: وَقَدَّمَ لَنَا شَارِفًا عَجْفَاءَ، فحمل عليها أحدنا، فو الله مَا قَامَتْ بِهِ ضَعْفًا حَتَّى دَعَمَهَا الرِّجَالُ مِنْ خَلْفِهَا بِأَيْدِيهِمْ حَتَّى اسْتَقَلَّتْ وَمَا كَادَتْ ثُمَّ قَالَ: تَبْلُغُوا عَلَى هَذِهِ وَاعْتَقِبُوهَا. قَالَ: فَخَرَجْنَا وَمَعَنَا سِلاحُنَا مِنَ النَّبْلِ وَالسُّيُوفِ، حَتَّى جِئْنَا قَرِيبًا مِنَ الْحَاضِرِ عُشَيْشِيَّةً مَعَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَكَمَنْتُ فِي نَاحِيَةٍ، وَأَمَرْتُ صَاحِبَيَّ، فَكَمَنَا فِي نَاحِيَةٍ أُخْرَى مِنْ حَاضِرِ الْقَوْمِ، وَقُلْتُ لَهُمَا: إِذَا سَمِعْتُمَانِي قَدْ كَبَّرْتُ وَشَدَدْتُ عَلَى العسكر فكبرا وشدا معى. قال: فو الله إِنَّا لَكَذَلِكَ نَنْتَظِرُ أَنْ نَرَى غِرَّةً أَوْ نُصِيبَ مِنْهُمْ شَيْئًا، غَشِيَنَا اللَّيْلُ حَتَّى ذَهَبَتْ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ، وَقَدْ كَانَ لَهُمْ رَاعٍ قَدْ سَرَحَ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ، فَأَبْطَأَ عَلَيْهِمْ حَتَّى تخوفوا عليه

فيها اغزى رسول الله ص في سريه أبا قتادة إلى بطن اضم

قَالَ: فَقَامَ صَاحِبُهُمْ ذَلِكَ رِفَاعَةُ بْنُ قَيْسٍ، فَأَخَذَ سَيْفَهُ، فَجَعَلَهُ فِي عُنُقِهِ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لأَتْبَعَنَّ أَثَرَ رَاعِينَا هَذَا، وَلَقَدْ أَصَابَهُ شَرٌّ فَقَالَ نَفَرٌ مِمَّنْ مَعَهُ: وَاللَّهِ لا تَذْهَبُ، نَحْنُ نَكْفِيكَ! فَقَالَ: وَاللَّهِ لا يَذْهَبُ إِلا أَنَا، قَالُوا: فَنَحْنُ مَعَكَ، قَالَ: وَاللَّهِ لا يَتْبَعُنِي مِنْكُمْ أَحَدٌ. قَالَ: وَخَرَجَ حَتَّى مَرَّ بِي، فَلَمَّا أَمْكَنَنِي نَفَحْتُهُ بِسَهْمٍ فَوَضَعْتُهُ في فؤاده، فو الله مَا تَكَلَّمَ، وَوَثَبْتُ إِلَيْهِ فَاحْتَزَزْتُ رَأْسَهُ، ثُمَّ شَدَدْتُ فِي نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ وَكَبَّرْتُ، وَشَدَّ صَاحِبَايَ وكبرا، فو الله مَا كَانَ إِلا النَّجَاءُ مِمَّنْ كَانَ فِيهِ عِنْدَكَ بِكُلِّ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ نِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ، وَمَا خَفَّ مَعَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. قَالَ: فَاسْتَقْنَا إِبِلا عَظِيمَةً، وَغَنَمًا كَثِيرَةً، فَجِئْنَا بِهَا الى رسول الله ص، وَجِئْتُ بِرَأْسِهِ أَحْمِلُهُ مَعِي، قَالَ: فَأَعَانَنِي رَسُولُ الله ص مِنْ تِلْكَ الإِبِلِ بِثَلاثَةَ عَشَرَ بَعِيرًا، فَجَمَعْتُ إِلَيَّ أَهْلِي. وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ، فَذَكَرَ أَنَّ مُحَمَّدَ بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة، حدثه عن ابيه، النبي ص بَعَثَ ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ فِي هَذِهِ السَّرِيَّةِ مَعَ أَبِي قَتَادَةَ، وَأَنَّ السَّرِيَّةَ كَانَتْ سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلا، وَأَنَّهُمْ غَابُوا خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَأَنَّ سُهْمَانَهُمْ كَانَتِ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا يُعْدَلُ الْبَعِيرُ بِعَشْرٍ مِنَ الْغَنَمِ، وَأَنَّهُمْ أَصَابُوا فِي وُجُوهِهِمْ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ، فِيهِنَّ فَتَاةٌ وَضِيئَةٌ، فَصَارَتْ لأَبِي قَتَادَةَ، فَكَلَّمَ مَحْمِيَةُ بْنُ الْجَزْءِ فِيهَا رسول الله ص، فسال رسول الله ص أَبَا قَتَادَةَ عَنْهَا، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُهَا مِنَ الْمَغْنَمِ، فَقَالَ: هَبْهَا لِي، فَوَهَبَهَا لَهُ، فَأَعْطَاهَا رَسُولُ الله مَحْمِيَةَ بْنَ جَزْءٍ الزُّبَيْدِيَّ . قَالَ: وَفِيهَا أَغْزَى رسول الله ص فِي سَرِيَّةٍ أَبَا قَتَادَةَ إِلَى بَطْنِ إِضَمٍ حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ أَبِي الْقَعْقَاعِ بن عبد الله بن ابى حد رد الأسلمي

ذكر الخبر عن غزوه مؤتة

وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنِ ابْنِ الْقَعْقَاعِ- عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ، قَالَ: بعثنا رسول الله ص إِلَى إِضَمٍ، فَخَرَجْتُ فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ الْحَارِثُ بْنُ رِبْعِيٍّ وَمُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ بْنِ قَيْسٍ اللَّيْثِيُّ، فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَطْنِ إِضَمٍ- وَكَانَتْ قَبْلَ الْفَتْحِ- مَرَّ بِنَا عَامِرُ بْنُ الأَضْبَطِ الأَشْجَعِيُّ عَلَى قُعُودٍ لَهُ، مَعَهُ مَتِيعٌ لَهُ وَوَطْبٌ مِنْ لَبَنٍ فَلَمَّا مَرَّ بِنَا سَلَّمَ عَلَيْنَا بِتَحِيَّةِ الإِسْلامِ، فَأَمْسَكْنَا عَنْهُ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيُّ لِشَيْءٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَقَتَلَهُ وَأَخَذَ بَعِيرَهُ وَمَتِيعَهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ الله ص فأخبرناه الخبر، نزل فينا القرآن: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا» الآيَةَ. وَقَالَ الواقدي: إِنَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ص بَعَثَ هَذِهِ السَّرِيَّةَ حِينَ خَرَجَ لِفَتْحِ مَكَّةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكَانُوا ثَمَانِيَةَ نَفَرٍ ذِكْرُ الْخَبَرِ عَنْ غَزْوَةِ مُؤْتَةَ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ- فِيمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة عنه، قال: لما رجع رسول الله ص إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ خَيْبَرَ، أَقَامَ بِهَا شَهْرَيْ رَبِيعٍ، ثُمَّ بَعَثَ فِي جُمَادَى الأُولَى بَعْثَهُ إِلَى الشَّامِ الَّذِينَ أُصِيبُوا بِمُؤْتَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: بعث رسول الله ص بَعْثَهُ إِلَى مُؤْتَةَ فِي جُمَادَى الأُولَى مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَقَالَ: إِنْ أُصِيبَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى النَّاسِ، فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ عَلَى النَّاسِ. فَتَجَهَّزَ النَّاسُ، ثُمَّ تَهَيَّئُوا لِلْخُرُوجِ، وَهُمْ ثَلاثَةُ آلافٍ، فَلَمَّا حَضَرَ خُرُوجُهُمْ وَدَّعَ النَّاسُ أُمَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ وَسَلَّمُوا عَلَيْهِمْ وَوَدَّعُوهُمْ فَلَمَّا

وُدِّعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ مَعَ مَنْ ودع من أمراء رسول الله ص بكى، فقالوا له: ما يبكيك يا بن رَوَاحَةَ؟ فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا بِي حُبُّ الدُّنْيَا، وَلا صَبَابَةٌ بِكُمْ، [وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله يَقْرَأُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ يَذْكُرُ فِيهَا النَّارَ: «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا] » . فَلَسْتُ أَدْرِي كَيْفَ لِي بِالصَّدْرِ بَعْدَ الْوُرُودِ! فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: صَحِبَكُمُ اللَّهُ وَدَفَعَ عَنْكُمْ، وَرَدَّكُمْ إِلَيْنَا صَالِحِينَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: لَكِنَّنِي أَسْأَلُ الرَّحْمَنَ مَغْفِرَةً ... وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا أَوْ طَعْنَةً بِيَدَيْ حَرَّانَ مُجْهَزَةً ... بِحَرْبَةٍ تُنْفِذُ الأَحْشَاءَ وَالْكَبِدَا حَتَّى يَقُولُوا إِذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثِي ... أَرْشَدَكَ اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا! ثُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ تَهَيَّئُوا لِلْخُرُوجِ، فَجَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ إِلَى رَسُولِ الله ص فَوَدَّعَهُ، ثُمَّ خَرَجَ الْقَوْمُ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ يُشَيِّعُهُمْ، حَتَّى إِذَا وَدَّعَهُمْ وَانْصَرَفَ عَنْهُمْ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: خَلَفَ السَّلامُ عَلَى امْرِئٍ وَدَّعْتُهُ ... فِي النَّخْلِ خَيْرَ مُشَيِّعٍ وَخَلِيلِ ثُمَّ مَضَوْا حَتَّى نَزَلُوا مُعَانَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، فَبَلَغَ النَّاسَ أَنَّ هِرَقْلَ قَدْ نَزَلَ مَآبَ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ فِي مِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الرُّومِ، وَانْضَمَّتْ إِلَيْهِ الْمُسْتَعْرِبَةُ مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامٍ وَبَلْقَيْنَ وَبَهْرَاءَ وَبَلِيٍّ فِي مِائَةِ أَلْفٍ مِنْهُمْ، عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْ بَلِيٍّ، ثُمَّ أَحَدُ إِرَاشَةَ، يُقَالُ لَهُ: مَالِكُ بْنُ رَافِلَةَ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ أَقَامُوا عَلَى مَعَانٍ لَيْلَتَيْنِ، يَنْظُرُونَ فِي أَمْرِهِمْ، وَقَالُوا: نَكْتُبُ إِلَى رَسُولِ الله وَنُخْبِرُهُ بِعَدَدِ عَدُوِّنَا، فَإِمَّا أَنْ يُمِدَّنَا بِرِجَالٍ، وَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَنَا بِأَمْرِهِ فَنَمْضِيَ لَهُ فَشَجَّعَ النَّاسَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَقَالَ: يَا قَوْمُ، وَاللَّهِ إِنَّ الَّذِي تَكْرَهُونَ لَلَّذِي خَرَجْتُمْ تَطْلُبُونَ الشَّهَادَةَ، وَمَا نُقَاتِلُ النَّاسَ بِعَدَدٍ وَلا قُوَّةٍ وَلا كَثْرَةٍ، مَا نُقَاتِلُهُمْ إِلا بِهَذَا الدِّينِ الَّذِي أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِهِ، فَانْطَلِقُوا، فَإِنَّمَا هي إِحْدَى

الْحُسْنَيَيْنِ، إِمَّا ظُهُورٌ، وَإِمَّا شَهَادَةٌ، فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ وَاللَّهِ صَدَقَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَمَضَى النَّاسُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فِي مَحْبِسِهِمْ ذَلِكَ: جَلَبْنَا الْخَيْلَ مِنْ آجَامِ قُرْحٍ ... تُغَرُّ مِنَ الْحَشِيشِ لَهَا الْعُكُومُ حَذَوْنَاهَا مِنَ الصَّوَّانِ سِبْتًا ... أَزَلَّ كَأَنَّ صَفْحَتَهُ أَدِيمُ أَقَامَتْ لَيْلَتَيْنِ عَلَى مُعَانٍ ... فَأُعْقِبَ بَعْدَ فَتْرَتِهَا جُمُومُ فَرُحْنَا وَالْجِيَادُ مُسَوَّمَاتٌ ... تَنَفَّسُ فِي مَنَاخِرِهَا السَّمُومُ فَلا وَأَبِي، مَآبِ لَنَأْتِيَنْهَا ... وَلَوْ كَانَتْ بِهَا عُرْبٌ وَرُومُ فَعَبَّأْنَا أَعِنَّتَهَا فَجَاءَتْ ... عَوَابِسَ وَالْغُبَارُ لَهَا بَرِيمُ بِذِي لَجَبٍ كَأَنَّ الْبِيضَ فِيهِ ... إِذَا بَرَزَتْ قَوَانِسُهَا النُّجُومُ فَرَاضِيَةُ الْمَعِيشَةِ طَلَّقَتْهَا ... أَسِنَّتُنَا فَتَنْكِحُ أَوْ تَئِيمُ ثُمَّ مَضَى النَّاسُ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: كُنْتُ يَتِيمًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ فِي حِجْرِهِ، فَخَرَجَ فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ مُرْدِفِي عَلَى حقيبه رحله، فو الله إِنَّهُ لَيَسِيرُ لَيْلَةً إِذْ سَمِعْتُهُ وَهُوَ يتَمَثَّلُ أَبْيَاتَهُ هَذِهِ: إِذَا أَدَّيْتِنِي وَحَمَلْتِ رَحْلِي ... مَسِيرَةَ أَرْبَعٍ بَعْدَ الْحِسَاءِ فَشَأْنُكِ أَنْعُمٌ وَخَلاكِ ذَمٌّ ... وَلا أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي وَرَائِي وَجَاءَ الْمُسْلِمُونَ وَغَادَرُونِي ... بِأَرْضِ الشَّامِ مُشْتَهِيَ الثَّوَاءِ وَرَدُّكِ كُلَّ ذِي نَسَبٍ قَرِيبٍ ... إِلَى الرَّحْمَنِ مُنْقَطِعُ الإِخَاءِ

هُنَالِكَ لا أُبَالِي طَلْعَ بَعْلٍ ... وَلا نَخْلٍ أَسَافِلُهَا رِوَاءِ قَالَ: فَلَمَّا سَمِعْتُهُنَّ مِنْهُ بَكَيْتُ، فَخَفَقَنِي بِالدِّرَّةِ، وَقَالَ: مَا عَلَيْكَ يَا لُكَعُ! يَرْزُقُنِي اللَّهُ الشَّهَادَةَ، وَتَرْجِعُ بَيْنَ شُعْبَتَيِ الرَّحْلِ! ثُمَّ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فِي بَعْضِ شِعْرِهِ وَهُوَ يَرْتَجِزُ: يَا زَيْدَ زَيْدَ الْيَعْمَلاتِ الذُّبَّلِ ... تَطَاوَلَ اللَّيْلُ هُدِيتَ فَانْزِلِ قَالَ: ثُمَّ مَضَى النَّاسُ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِتُخُومِ الْبَلْقَاءِ، لَقِيَتْهُمْ جُمُوعُ هِرَقْلَ مِنَ الرُّومِ وَالْعَرَبِ، بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْبَلْقَاءِ يُقَالُ لَهَا مَشَارِفُ ثُمَّ دَنَا الْعَدُوُّ، وَانْحَازَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا مُؤْتَةُ، فَالْتَقَى النَّاسُ عِنْدَهَا، فَتَعَبَّأَ الْمُسْلِمُونَ، فَجَعَلُوا عَلَى مَيْمَنَتِهِمْ رَجُلا مِنْ بَنِي عُذْرَةَ، يُقَالُ لَهُ قُطْبَةُ بْنُ قَتَادَةَ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِمْ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ عَبَايَةُ بْنُ مَالِكٍ، ثُمَّ الْتَقَى النَّاسُ، فَاقْتَتَلُوا، فَقَاتَلَ زَيْدُ بْنُ حارثة برايه رسول الله ص حَتَّى شَاطَ فِي رِمَاحِ الْقَوْمِ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَاتَلَ بِهَا حَتَّى إِذَا أَلْحَمَهُ الْقِتَالُ اقْتَحَمَ عَنْ فَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ فَعَقَرَهَا، ثُمَّ قَاتَلَ الْقَوْمَ حَتَّى قُتِلَ، فَكَانَ جَعْفَرٌ أَوَّلَ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَقَرَ فِي الإِسْلامِ فَرَسَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمه وابو تميمله، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عن يحيى بن عَبَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي الَّذِي أَرْضَعَنِي- وَكَانَ أَحَدَ بَنِي مُرَّةَ بْنِ عَوْفٍ، وَكَانَ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ غَزْوَةَ مُؤْتَةَ- قَالَ: وَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى جَعْفَرٍ حِينَ اقْتَحَمَ عَنْ فَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ، فَعَقَرَهَا، ثُمَّ قَاتَلَ الْقَوْمَ حَتَّى قُتِلَ، فَلَمَّا قُتِلَ جَعْفَرٌ أَخَذَ الرَّايَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ بِهَا وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ، فَجَعَلَ يَسْتَنْزِلُ نَفْسَهُ وَيَتَرَدَّدُ بَعْضَ التَّرَدُّدِ، ثُمَّ قَالَ: أَقْسَمْتُ يَا نَفْسُ لَتَنْزِلِنَّهْ طَائِعَةً أَوْ فَلَتُكْرَهِنَّهْ

إِنْ أَجْلَبَ النَّاسُ وَشَدُّوا الرَّنَّهْ ... مَا لِي أَرَاكِ تَكْرَهِينَ الْجَنَّهْ! قَدْ طَالَمَا قَدْ كُنْتِ مُطْمَئِنَّهْ ... هَلْ أَنْتِ إِلا نُطْفَةٌ فِي شَنَّهْ! وَقَالَ أَيْضًا: يَا نَفْسُ إِلا تَقْتُلِي تَمُوتِي ... هَذَا حِمَامُ الْمَوْتِ قَدْ صُلِيتِ وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَدْ أُعْطِيتِ ... إِنْ تَفْعَلِي فِعْلَهُمَا هُدِيتِ قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ، فَلَمَّا نَزَلَ أَتَاهُ ابْنَ عَمٍّ لَهُ بِعَظْمٍ مِنْ لَحْمٍ، فَقَالَ: شُدَّ بِهَا صُلْبَكَ، فَإِنَّكَ قَدْ لَقِيتَ أَيَّامَكَ هَذِهِ مَا لَقِيتَ، فَأَخَذَهُ مِنْ يَدِهِ، فَانْتَهَسَ مِنْهُ نَهْسَةً ثُمَّ سَمِعَ الْحَطْمَةَ فِي نَاحِيَةِ النَّاسِ، فَقَالَ: وَأَنْتَ فِي الدُّنْيَا! ثُمَّ أَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ، وَأَخَذَ سَيْفَهُ، فَتَقَدَّمَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ ثَابِتُ بْنُ أَقْرَمَ، أَخُو بِلْعِجْلانِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ اصْطَلِحُوا عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ، فَقَالُوا: أَنْتَ، قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، فَاصْطَلَحَ النَّاسُ عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَلَمَّا أَخَذَ الرَّايَةَ دَافَعَ الْقَوْمَ، وَحَاشَى بِهِمْ، ثُمَّ انْحَازَ وتحيز عنه حتى انصرف بالناس. فحدثني الْقَاسِمُ بْنُ بِشْرِ بْنِ مَعْرُوفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بْنُ شَيْبَانَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سُمَيْرٍ، قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبَاحٍ الأَنْصَارِيُّ- وَكَانَتِ الأَنْصَارُ تُفَقِّهُهُ- فَغَشِيَهُ النَّاسُ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو قتادة فارس رسول الله ص، قال: بعث رسول الله جَيْشَ الأُمَرَاءِ، فَقَالَ: عَلَيْكُمْ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فان اصيب فجعفر

ابن أَبِي طَالِبٍ، فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَوَثَبَ جَعْفَرٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كُنْتُ أَذْهَبُ أَنْ تَسْتَعْمِلَ زَيْدًا عَلَيَّ! قَالَ: امْضِ، فَإِنَّكَ لا تَدْرِي أَيُّ ذَلِكَ خَيْرٌ! فَانْطَلَقُوا، فَلَبِثُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثم ان رسول الله ص صَعِدَ الْمِنْبَرَ، وَأَمَرَ فَنُودِيَ: الصَّلاةُ جَامِعَةٌ! فَاجْتَمَعَ الناس الى رسول الله، فَقَالَ: بَابُ خَيْرٍ، بَابُ خَيْرٍ، بَابُ خَيْرٍ! أُخْبِرُكُمْ عَنْ جَيْشِكُمْ هَذَا الْغَازِي، إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا فَلَقُوا الْعَدُوَّ، فَقُتِلَ زَيْدٌ شَهِيدًا- وَاسْتَغْفَرَ لَهُ- ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ جَعْفَرٌ، فَشَدَّ عَلَى الْقَوْمِ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا- فَشَهِدَ لَهُ بِالشَّهَادَةِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ- ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَأَثْبَتَ قَدَمَيْهِ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا- فَاسْتَغْفَرَ لَهُ- ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ- وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الأُمَرَاءِ، هُوَ أَمَّرَ نَفْسَهُ-[ثم قال رسول الله ص: اللَّهُمَّ إِنَّهُ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِكَ، فَأَنْتَ تَنْصُرُهُ- فَمُنْذُ يَوْمِئِذٍ سُمِّيَ خَالِدُ سَيْفَ اللَّهِ- ثُمَّ قال رسول الله: أَبْكِرُوا فَأَمِدُّوا إِخْوَانَكُمْ وَلا يَتَخَّلَفَنَّ مِنْكُمْ أَحَدٌ] فَنَفَرُوا مُشَاةً وَرُكْبَانًا، وَذَلِكَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله ابن أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: لَمَّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ مصاب جعفر، [قال رسول الله ص: قَدْ مَرَّ جَعْفَرٌ الْبَارِحَةَ فِي نَفَرٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ، لَهُ جَنَاحَانِ، مُخْتَضِبَ الْقَوَادِمِ بِالدَّمِ، يُرِيدُونَ بِيشَةَ، أَرْضًا بِالْيَمَنِ] . قال وقد كان قطبة بْن قتادة العذري الذي كان على ميمنة المسلمين حمل على مالك بْن رافلة قائد المستعربة فقتله قَالَ: وقد كانت كاهنة من حدس حين سمعت بجيش رسول الله ص مقبلا قد قالت لقومها من حدس- وقومها بطن يقال لهم بنو غنم: أنذركم قوما خزرا، ينظرون شزرا، ويقودون الخيل بترا، ويهريقون دما

ذكر الخبر عن فتح مكة

عكرا فأخذوا بقولها، فاعتزلوا من بين لخم، فلم يزالوا بعد اثرى حدس وكان الذين صلوا الحرب يومئذ بنو ثعلبة، بطن من حدس، فلم يزالوا قليلا بعد، ولما انصرف خالد بْن الوليد بالناس أقبل بهم قافلا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، قال: حدثنى محمد ابن إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: لَمَّا دَنَوْا من دخول المدينة، تلقاهم رسول الله ص والمسلمون، ولقيهم الصبيان يشتدون، ورسول الله مُقْبِلٌ مَعَ الْقَوْمِ عَلَى دَابَّةٍ، فَقَالَ: خُذُوا الصِّبْيَانَ فَاحْمِلُوهُمْ وَأَعْطُونِي ابْنَ جَعْفَرٍ، فَأُتِيَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ فَأَخَذَهُ، فَحَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: وَجَعَلَ النَّاسُ يَحْثُونَ عَلَى الْجَيْشِ التُّرَابَ، وَيَقُولُونَ: يَا فُرَّارُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، [فَيَقُولُ رسول الله: لَيْسُوا بِالْفُرَّارِ، وَلَكِنَّهُمُ الْكُرَّارُ، إِنْ شَاءَ اللَّهَ!] حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ بَعْضِ آلِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ- وَهُمْ أَخْوَالُهُ- عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زوج النبي ص، قَالَ: قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ لامْرَأَةِ سَلَمَةَ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ: مَا لِي لا أَرَى سلمه يحضر الصلاة مع رسول الله وَمَعَ الْمُسْلِمِينَ! قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْرُجَ، كُلَّمَا خَرَجَ صَاحَ النَّاسُ: أَفَرَرْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ! حَتَّى قَعَدَ فِي بَيْتِهِ فَمَا يخرج. وفيها غزا رسول الله ص أَهْلَ مَكَّةَ ذِكْرُ الْخَبَرِ عَنْ فَتْحِ مَكَّةَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قال: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ،

قال: ثم اقام رسول الله ص بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ بَعْثِهِ إِلَى مُؤْتَةَ، جُمَادَى الآخِرَةَ ورجب. ثُمَّ إِنَّ بَنِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ عَدَتْ عَلَى خُزَاعَةَ، وَهُمْ عَلَى مَاءٍ لَهُمْ بِأَسْفَلَ مَكَّةَ، يُقَالُ لَهُ الْوَتِيرُ وَكَانَ الَّذِي هَاجَ مَا بَيْنَ بَنِي بَكْرٍ وبنى خزاعة رجل من بلحضرمى، يُقَالُ لَهُ مَالِكُ بْنُ عَبَّادٍ- وَحِلْفُ الْحَضْرَمِيِّ يَوْمَئِذٍ إِلَى الأَسْوَدِ بْنِ رِزْنٍ- خَرَجَ تَاجِرًا، فَلَمَّا تَوَسَّطَ أَرْضَ خُزَاعَةَ عَدَوْا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، وَأَخَذُوا مَالَهُ، فَعَدَتْ بَنُو بَكْرٍ عَلَى رَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ فَقَتَلُوهُ، فَعَدَتْ خُزَاعَةُ قُبَيْلَ الإِسْلامِ عَلَى بَنِي الأَسْوَدِ بْنِ رِزْنٍ الدِّيلِيِّ، وَهُمْ مَنْخَرُ بَنِي بَكْرٍ وَأَشْرَافُهُمْ: سُلْمَى، وَكُلْثُومٌ، وَذُؤَيْبٌ، فَقَتَلُوهُمْ بِعَرَفَةَ عِنْدَ أَنْصَابِ الْحَرَمِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي الدِّيلِ، قَالَ: كَانَ بَنُو الأَسْوَدِ يُودَوْنَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ديتين ديتين، ونودى ديه ديه لفضلهم فينا. فَبَيْنَا بَنُو بَكْرٍ وَخُزَاعَةُ عَلَى ذَلِكَ حَجَزَ بَيْنَهُمُ الإِسْلامُ، وَتَشَاغَلَ النَّاسُ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ صلح الحديبية بين رسول الله ص وَبَيْنَ قُرَيْشٍ كَانَ فِيمَا شَرَطُوا عَلَى رَسُولِ الله ص، وَشَرَطَ لَهُمْ- كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَائِنَا- أَنَّهُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ في عهد رسول الله ص وَعَقْدِهِ دَخَلَ فِيهِ، وَمَن أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ وَعَقْدِهِمْ دَخَلَ فِيهِ، فَدَخَلَتْ بَنُو بَكْرٍ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ، وَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ في عقد رسول الله ص. فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الْهُدْنَةُ اغْتَنَمَتْهَا بَنُو الدِّيلِ، مِنْ بَنِي بَكْرٍ مِنْ خُزَاعَةَ

وَأَرَادُوا أَنْ يُصِيبُوا مِنْهُمْ ثَأْرًا بِأُولَئِكَ النَّفَرِ الَّذِينَ أَصَابُوا مِنْهُمْ بِبَنِي الأَسْوَدِ بْنِ رِزْنٍ، فَخَرَجَ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدِّيلِيُّ فِي بَنِي الدِّيلِ- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ قَائِدُهُمْ، لَيْسَ كُلُّ بَنِي بَكْرٍ تَابِعَهُ- حَتَّى بَيَّتَ خُزَاعَةَ، وَهُمْ عَلَى الوتير، ماء لهم، فأصابوا منهم رجلا وتجاوزوا وَاقْتَتَلُوا، وَرَفَدَتْ قُرَيْشٌ بَنِي بَكْرٍ بِالسِّلاحِ وَقَاتَلَ مَعَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ مَنْ قَاتَلَ بِاللَّيْلِ مُسْتَخْفِيًا، حَتَّى حَازُوا خُزَاعَةَ إِلَى الْحَرَمِ. - قَالَ الواقدي: كَانَ مِمَّنْ أَعَانَ مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ لَيْلَتَئِذٍ بِأَنْفُسِهِمْ مُتَنَكِّرِينَ صَفْوَانُ بْنُ أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عَمْرٍو، مَعَ غَيْرِهِمْ وَعَبِيدِهِمْ- رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهِ قَالَتْ بَنُو بَكْرٍ: يَا نَوْفَلُ، إِنَّا قَدْ دَخَلْنَا الْحَرَمَ إِلَهَكَ إِلَهَكَ، فَقَالَ: كَلِمَةً عَظِيمَةً إِنَّهُ لا إِلَهَ لَهُ الْيَوْمَ! يَا بَنِي بَكْرٍ أَصِيبُوا ثَأْرَكُمْ، فَلَعَمْرِي إِنَّكُمْ لَتَسْرِقُونَ فِي الْحَرَمِ، أَفَلا تُصِيبُونَ ثَأْرَكُمْ فِيهِ! وَقَدْ أَصَابُوا مِنْهُمْ لَيْلَةَ بَيَّتُوهُمْ بِالْوَتِيرِ رَجُلا يُقَالُ لَهُ مُنَبِّهٌ، وَكَانَ مُنَبِّهٌ رَجُلا مَفْئُودًا خَرَجَ هُوَ وَرَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، يُقَالُ لَهُ تَمِيمُ بْنُ أَسَدٍ- فَقَالَ لَهُ مُنَبِّهٌ: يَا تَمِيمُ، انْجُ بنفسك، فاما انا فو الله إِنِّي لَمَيِّتٌ قَتَلُونِي أَوْ تَرَكُونِي، لَقَدْ أَنَّبْتُ فُؤَادِيَ فَانْطَلَقَ تَمِيمٌ فَأَفْلَتَ، وَأَدْرَكُوا مُنَبِّهًا فَقَتَلُوهُ- فَلَمَّا دَخَلَتْ خُزَاعَةُ مَكَّةَ لَجَئُوا إِلَى دَارِ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيِّ وَدَارَ مَوْلًى لَهُمْ يُقَالُ لَهُ رَافِعٌ. قَالَ: فَلَمَّا تَظَاهَرَتْ بَنُو بكر وقريش على خزاعة، وأصابوا منهم مَا أَصَابُوا، وَنَقَضُوا مَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رسول الله ص مِنَ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ بِمَا اسْتَحَلُّوا مِنْ خُزَاعَةَ- وَكَانُوا فِي عَقْدِهِ وَعَهْدِهِ- خَرَجَ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيُّ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي كَعْبٍ، حَتَّى قدم على رسول الله ص

الْمَدِينَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا هَاجَ فَتْحَ مَكَّةَ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ جَالِسٌ بَيْنَ ظهراني الناس، فقال: لا هم انى ناشد محمدا ... حلف أبينا وابيه ألا تلدا فَوَالِدًا كُنَّا وَكُنْتَ وَلَدًا ... ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا فَانْصُرْ رَسُولَ اللَّهِ نَصْرًا أَعْتَدَا ... وَادْعُ عِبَادَ اللَّهِ يَأْتُوا مَدَدَا فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ تَجَرَّدَا ... أَبْيَضَ مِثْلَ الْبَدْرِ يُنْمِي صُعُدَا إِنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبَّدَا ... فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدَا إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا ... وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكَّدَا وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءَ رَصَدَا ... وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتُ أَدْعُو أَحَدَا وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا ... هُمْ بَيَّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجَّدَا فَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا. يَقُولُ: قَدْ قَتَلُونَا وقد أسلمنا فقال رسول الله ص حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ: قَدْ نُصِرْتَ يَا عَمْرُو بن سالم! ثم عرض لرسول الله ص عَنَانٌ مِنَ السَّمَاءِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ السَّحَابَةَ لَتَسْتَهِلُّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ. ثُمَّ خَرَجَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ فِي نَفَرٍ مِنْ خُزَاعَةَ حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ الْمَدِينَةَ، فَأَخْبَرُوهُ بِمَا أُصِيبَ مِنْهُمْ، وَبِمُظَاهَرَةِ قُرَيْشٍ بَنِي بَكْرٍ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا رَاجِعِينَ إِلَى مَكَّةَ [وَقَدْ كَانَ رسول الله ص قَالَ لِلنَّاسِ: كَأَنَّكُمْ بِأَبِي سُفْيَانَ قَدْ جَاءَ لِيَشْدُدَ الْعَقْدَ، وَيَزِيدَ فِي الْمُدَّةِ]

وَمَضَى بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ وَأَصْحَابُهُ، فَلَقُوا أَبَا سُفْيَانَ بِعُسْفَانَ، قَدْ بَعَثَتْهُ قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ لِيَشْدُدَ الْعَقْدَ وَيَزِيدَ فِي الْمُدَّةِ، وَقَدْ رَهَبُوا الَّذِي صَنَعُوا، فَلَمَّا لَقِيَ أَبُو سُفْيَانَ بُدَيْلا، قَالَ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ يَا بُدَيْلُ؟ وَظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: سرت في خزاعة في الساحل وفي بطن هذا الوادى. قال: او ما أَتَيْتَ مُحَمَّدًا؟ قَالَ: لا قَالَ: فَلَمَّا رَاحَ بُدَيْلٌ إِلَى مَكَّةَ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَئِنْ كَانَ جَاءَ الْمَدِينَةَ لَقَدْ عَلَفَ بِهَا النَّوَى، فَعَمَدَ إِلَى مَبْرَكِ نَاقَتِهِ، فَأَخَذَ مِنْ بَعْرِهَا فَفَتَّهُ، فَرَأَى فِيهِ النَّوَى، فَقَالَ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ جَاءَ بُدَيْلٌ مُحَمَّدًا. ثُمَّ خَرَجَ أَبُو سفيان حتى قدم على رسول الله ص الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَمَّا ذَهَبَ لِيَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ رسول الله ص طَوَتْهُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّةُ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَرَغِبْتِ بِي عَنْ هَذَا الْفِرَاشِ، أَمْ رَغِبْتِ بِهِ عَنِّي! قَالَتْ: بَلْ هُوَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ، وَأَنْتَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ نَجِسٌ، فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ تَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَكِ يَا بُنَيَّةُ بَعْدِي شَرٌّ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ص، فَكَلَّمَهُ فَلَمْ يَرْدُدْ عَلَيْهِ شَيْئًا، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَكَلَّمَهُ أَنْ يُكَلِّمَ لَهُ رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ ثُمَّ أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَكَلَّمَهُ فَقَالَ: أَنَا اشفع لكم الى رسول الله! فو الله لَوْ لَمْ أَجِدْ إِلا الذَّرَّ لَجَاهَدْتُكُمْ ثُمَّ خَرَجَ فَدَخَلَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَعِنْدَهُ فَاطِمَةُ ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ، وَعِنْدَهَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، غُلامٌ يَدُبٌّ بَيْنَ يَدَيْهَا، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ، إِنَّكَ أَمَسُّ الْقَوْمِ بِي رَحِمًا، وَأَقَرَبُهُمْ مِنِّي قَرَابَةً، وَقَدْ جِئْتُ فِي حَاجَةٍ، فَلا أَرْجِعَنَّ كَمَا جِئْتُ خَائِبًا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ! قَالَ: وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ! وَاللَّهِ لَقَدْ عَزَمَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى أَمْرٍ مَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُكَلِّمَهُ فِيهِ، فَالْتَفَتَ إِلَى فَاطِمَةَ، فَقَالَ: يَا ابْنَةَ مُحَمَّدٍ، هَلْ لَكِ أَنْ تَأْمُرِي بُنَيَّكِ هَذَا فَيُجِيرُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَكُونَ سَيِّدَ الْعَرَبِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ! قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا بلغ بنيى ذلك

أَنْ يُجِيرَ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَا يُجِيرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ أَحَدٌ قَالَ: يَا أَبَا الْحَسَنِ، إِنِّي أَرَى الأُمُورَ قَدِ اشْتَدَّتْ عَلَيَّ فَانْصَحْنِي فَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ شَيْئًا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا، وَلَكِنَّكَ سَيِّدُ بَنِي كِنَانَةَ، فَقُمْ فَأَجِرْ بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ الْحَقْ بِأَرْضِكَ. قَالَ: او ترى ذَلِكَ مُغْنِيًا عَنِّي شَيْئًا! قَالَ: لا وَاللَّهِ مَا أَظُنُّ، وَلَكِنْ لا أَجِدُ لَكَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ رَكِبَ بَعِيرَهُ فَانْطَلَقَ. فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى قُرَيْشٍ، قَالُوا: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: جِئْتُ مُحَمَّدًا فكلمته، فو الله مَا رَدَّ عَلَيَّ شَيْئًا، ثُمَّ جِئْتُ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ، فَلَمْ أَجِدْ عِنْدَهُ خَيْرًا، ثُمَّ جِئْتُ ابْنَ الْخَطَّابِ، فَوَجَدْتُهُ أَعْدَى الْقَوْمِ، ثُمَّ جِئْتُ عَلِيَّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَوَجَدْتُهُ أَلْيَنَ القوم، وقد اشار على بشيء صنعته، فو الله مَا أَدْرِي هَلْ يُغْنِينِي شَيْئًا أَمْ لا! قَالُوا: وَبِمَاذَا أَمَرَكَ؟ قَالَ: أَمَرَنِي أَنْ أُجِيرَ بَيْنَ النَّاسِ فَفَعَلْتُ، قَالُوا: فَهَلْ أَجَازَ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ؟ قَالَ: لا، قَالُوا: وَيْلَكَ! وَاللَّهِ إِنْ زَادَ عَلَى أَنْ لَعِبَ بِكَ، فَمَا يُغْنِي عَنَّا مَا قُلْتَ قَالَ: لا وَاللَّهِ، مَا وَجَدْتُ غَيْرَ ذَلِكَ، قَالَ: وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ص النَّاسَ بِالْجِهَازِ، وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُجَهِّزُوهُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى ابْنَتِهِ عَائِشَةَ وَهِيَ تُحَرِّكُ بعض جهاز رسول الله ص، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّةُ، أَأَمَرَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ بِأَنْ تُجَهِّزُوهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَتَجَهَّزْ، قَالَ: فَأَيْنَ تَرَيْنَهُ يُرِيدُ؟ قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي. ثُمَّ إِنَّ رسول الله ص أَعْلَمَ النَّاسَ أَنَّهُ سَائِرٌ إِلَى مَكَّةَ، وَأَمَرَهُمْ بِالْجِدِّ وَالتَّهَيُّؤِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ خُذِ الْعُيُونَ وَالأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ حَتَّى نَبْغَتَهَا فِي بِلادِهَا. فَتَجَهَّزَ النَّاسُ، فَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيُّ يُحَرِّضُ النَّاسَ، وَيَذْكُرُ مُصَابَ رِجَالِ خُزَاعَةَ:

أَتَانِي وَلَمْ أَشْهَدْ بِبَطْحَاءَ مَكَّةٍ ... رِجَالُ بَنِي كَعْبٍ تُحَزُّ رِقَابُهَا بِأَيْدِي رِجَالٍ لَمْ يَسِلُّوا سُيُوفَهُمْ ... وَقَتْلَى كَثِيرٍ لَمْ تُجَنَّ ثِيَابُهَا أَلا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ تَنَالَنَّ نُصْرَتِي ... سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو حَرُّهَا وَعِقَابُهَا! وَصَفْوَانَ عُودًا حَزَّ مِنْ شفر استه ... فهذا او ان الحرب شد عصابها فلا تامننا يا بن أُمِّ مُجَالِدٍ ... إِذَا احْتَلَبَتْ صَرْفًا وَأَعْصَلَ نَابُهَا فَلا تَجْزَعُوا مِنْهَا فَإِنَّ سُيُوفَنَا ... لَهَا وَقْعَةٌ بِالْمَوْتِ يُفْتَحُ بَابُهَا وَقَوْلُ حَسَّانٍ. بِأَيْدِي رِجَالٍ لَمْ يَسُلُّوا سُيُوفَهُمْ. يَعْنِي قُرَيْشًا وَابْنَ أُمِّ مُجَالِدٍ، يَعْنِي عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَائِنَا، قَالُوا: لَمَّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللَّهِ ص الْمَسِيرَ إِلَى مَكَّةَ، كَتَبَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ كِتَابًا إِلَى قُرَيْشٍ، يُخْبِرُهُمْ بِالَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ مِنَ الأَمْرِ فِي السَّيْرِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَعْطَاهُ امْرَأَةً- يَزْعُمُ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَنَّهَا مِنْ مُزَيْنَةَ، وَزَعَمَ غَيْرُهُ أَنَّهَا سَارَّةُ، مَوْلاةٌ لِبَعْضِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ- وَجَعَلَ لَهَا جُعْلا عَلَى أَنْ تُبَلِّغَهُ قُرَيْشًا فَجَعَلَتْهُ فِي رَأْسِهَا، ثُمَّ فَتَلَتْ عَلَيْهِ قُرُونَهَا، ثُمَّ خرجت به واتى رسول الله ص الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ بِمَا صَنَعَ حَاطِبٌ، فَبَعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، فَقَالَ: أَدْرِكَا امْرَأَةً

قَدْ كَتَبَ مَعَهَا حَاطِبٌ بِكِتَابٍ إِلَى قُرَيْشٍ، يُحَذِّرُهُمْ مَا قَدْ أَجْمَعْنَا لَهُ فِي أَمْرِهِمْ، فَخَرَجَا حَتَّى أَدْرَكَاهَا بِالْحُلَيْفَةِ، حُلَيْفَةِ ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ، فَاسْتَنْزَلاهَا، فَالْتَمَسَا فِي رَحْلِهَا، فَلَمْ يَجِدَا شَيْئًا، [فَقَالَ لَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: انى احلف ما كذب رسول الله وَلا كُذِبْنَا، وَلْتُخْرِجِنَّ إِلَيَّ هَذَا الْكِتَابَ أَوْ لَنَكْشِفَنَّكِ،] فَلَمَّا رَأَتِ الْجِدَّ مِنْهُ، قَالَتْ: أَعْرِضْ عَنِّي، فَأَعْرَضَ عَنْهَا، فَحَلَّتْ قُرُونَ رَأْسِهَا، فَاسْتَخْرَجَتِ الْكِتَابَ مِنْهُ، فَدَفَعَتْهُ إِلَيْهِ، فَجَاءَ بِهِ إِلَى رسول الله ص، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ حَاطِبًا، فَقَالَ: يَا حَاطِبُ، مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَمُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، مَا غَيَّرْتُ وَلا بَدَّلْتُ، وَلَكِنِّي كُنْتُ امْرَأً لَيْسَ لِي فِي الْقَوْمِ أَصْلٌ وَلا عَشِيرَةٌ، وَكَانَ لِي بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ أَهْلٌ وَوَلَدٌ، فَصَانَعْتُهُمْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي فَلأَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ نافق، فقال رسول الله ص: وَمَا يُدْرِيكَ يَا عُمَرُ، لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ إِلَى أَصْحَابِ بَدْرٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ! فَأَنْزَلَ الله عز وجل في حاطب: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ» الى قوله: «وَإِلَيْكَ أَنَبْنا» إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ثُمَّ مَضَى رَسُولُ الله ص لسفره، واستخلف

عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا رُهْمٍ كُلْثُومَ بْنَ حُصَيْنِ بْنِ خَلَفٍ الْغِفَارِيَّ، وَخَرَجَ لِعَشْرٍ مَضَيْنَ مِنْ شهر رمضان، فصام رسول الله ص، وَصَامَ النَّاسُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْكَدِيدِ مَا بَيْنَ عَسفَانَ وَأَمَجَ، أَفْطَرَ رَسُولُ اللَّهِ ص، ثُمَّ مَضَى حَتَّى نَزَلَ مَرَّ الظَّهْرَانِ فِي عَشَرَةِ آلافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَسَبَّعَتْ سُلَيْمٌ، وَأَلَّفَتْ مُزَيْنَةُ وَفِي كُلِّ الْقَبَائِلِ عُدَدٌ وَإِسْلامٌ، وَأَوْعَبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ، فَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَلَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ص مَرَّ الظَّهْرَانِ، وَقَدْ عَمِيَتِ الأَخْبَارُ عَنْ قُرَيْشٍ فَلا يَأْتِيهِمْ خَبَرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَلا يَدْرُونَ مَا هُوَ فَاعِلٌ، فَخَرَجَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ، يَتَحَسَّسُونَ الأَخْبَارَ، هَلْ يَجِدُونَ خَبَرًا أَوْ يَسْمَعُونَ بِهِ! حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: وَقَدْ كَانَ فِيمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَقَدْ كَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تَلَقَّى رَسُولَ الله ص بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، وَقَدْ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ المغيره قد لقيا رسول الله ص بِنِيقِ الْعُقَابِ، فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَالْتَمَسَ الدخول على رسول الله، فَكَلَّمَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ فِيهِمَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْنُ عَمِّكَ وَابْنُ عَمَّتِكَ وَصِهْرُكَ، قَالَ: لا حَاجَةَ لِي بِهِمَا، أَمَّا ابْنُ عَمِّي فَهَتَكَ عِرْضِي، وَأَمَّا ابْنُ عَمَّتِي وَصِهْرِي فَهُوَ الَّذِي قَالَ بِمَكَّةَ مَا قَالَ. فَلَمَّا خَرَجَ الْخَبَرُ إِلَيْهِمَا بِذَلِكَ، وَمَعَ أَبِي سُفْيَانَ بُنَيٌّ لَهُ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَيَأْذَنَنَّ لِي أَوْ لآخُذَنَّ بِيَدِ بُنَيَّ هَذَا، ثُمَّ لَنَذْهَبَنَّ فِي الأَرْضِ، حَتَّى نَمُوتَ عَطَشًا وَجُوعًا فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ رسول الله ص رَقَّ لَهُمَا، ثُمَّ أَذِنَ لَهُمَا،

فَدَخَلا عَلَيْهِ، فَأَسْلَمَا وَأَنْشَدَهُ أَبُو سُفْيَانَ قَوْلَهُ فِي إِسْلامِهِ وَاعْتِذَارِهِ مِمَّا كَانَ مَضَى مِنْهُ: لَعَمْرِيَ إِنِّي يَوْمَ أَحْمِلُ رَايَةً ... لِتَغْلِبَ خَيْلُ اللَّاتِ خَيْلَ مُحَمَّدِ لَكَالْمُدْلِجِ الْحَيْرَانِ أَظْلَمَ لَيْلُهُ ... فَهَذَا أَوَانِي حِينَ أُهْدَى وَأَهْتَدِي وَهَادٍ هَدَانِي غَيْرَ نَفْسِي وَنَالَنِي ... مَعَ اللَّهِ مَنْ طَرَّدْتُ كُلَّ مُطَرَّدِ أَصُدُّ وَأَنْأَى جَاهِدًا عَنْ مُحَمَّدٍ ... وَأُدْعَى وَلَوْ لَمْ أَنْتَسِبْ مِنْ مُحَمَّدِ هُمُ مَا هُمُ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِهَوَاهُمُ ... وَإِنْ كَانَ ذَا رَأْيٍ يُلَمُّ وَيُفْنَدِ أُرِيدُ لأُرْضِيهِمْ وَلَسْتُ بِلائِطٍ ... مَعَ الْقَوْمِ مَا لَمْ أُهْدَ فِي كُلِّ مَقْعَدِ فَقُلْ لِثَقِيفٍ لا أُرِيدُ قتالها ... وقل لثقيف تلك غيرى او عدى وَمَا كُنْتُ فِي الْجَيْشِ الَّذِي نَالَ عَامِرًا ... وَمَا كَانَ عَنْ جَرَّى لِسَانِي وَلا يَدِي قَبَائِلُ جَاءَتْ مِنْ بِلادٍ بَعِيدَةٍ ... نَزَائِعُ جَاءَتْ مِنْ سِهَامٍ وَسُرْدَدِ قَالَ: فَزَعَمُوا أَنَّهُ حِينَ انشد رسول الله ص قَوْلَهُ: وَنَالَنِي مَعَ اللَّهِ مَنْ طَرَّدْتُ كُلَّ مطرد، ضرب النبي ص فِي صَدْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَنْتَ طَرَّدْتَنِي كُلَّ مطرد! وقال الواقدى: خرج رسول الله ص إِلَى مَكَّةَ، فَقَائِلٌ يَقُولُ: يُرِيدُ قُرَيْشًا، وَقَائِلٌ يَقُولُ: يُرِيدُ هَوَازِنَ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: يُرِيدُ ثَقِيفًا، وَبَعَثَ إِلَى الْقَبَائِلِ فَتَخَلَّفَتْ عَنْهُ، وَلَمْ يَعْقِدِ الأَلْوِيَةَ وَلَمْ يَنْشُرِ الرَّايَاتِ حَتَّى قَدِمَ قُدَيْدًا، فَلَقِيَتْهُ بَنُو سُلَيْمٍ عَلَى الْخَيْلِ وَالسِّلاحِ التَّامِّ، وقد كان عيينه

لحق رسول الله بِالْعَرَجِ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَحِقَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ بِالسُّقْيَا، فَقَالَ عُيَيْنَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا أَرَى آلَةَ الْحَرْبِ وَلا تَهْيِئَةَ الإِحْرَامِ، فَأَيْنَ تَتَوَجَّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فقال رسول الله؟ فقال رسول الله ص: حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ ص أَنْ تُعَمَّى عَلَيْهِمُ الأَخْبَارُ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ص مَرَّ الظَّهْرَانِ، وَلَقِيَهُ الْعَبَّاسُ بِالسُّقْيَا، وَلَقِيَهُ مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ بِنِيقِ الْعُقَابِ. فَلَمَّا نَزَلَ مَرَّ الظَّهْرَانِ خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَمَعَهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ فَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَ رَسُولُ الله ص مَرَّ الظَّهْرَانِ، قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وقد خرج رسول الله ص مِنَ الْمَدِينَةِ: يَا صَبَاحَ قُرَيْشٍ! وَاللَّهِ لَئِنْ بغتها رسول الله فِي بِلادِهَا، فَدَخَلَ مَكَّةَ عَنْوَةً، إِنَّهُ لَهَلاكُ قُرَيْشٍ آخِرَ الدَّهْرِ! فَجَلَسَ عَلَى بَغْلَةِ رَسُولِ الله ص الْبَيْضَاءَ، وَقَالَ: أَخْرُجُ إِلَى الأَرَاكِ لَعَلِّي أَرَى حَطَّابًا أَوْ صَاحِبَ لَبَنٍ، أَوْ دَاخِلا يَدْخُلُ مكة، فيخبرهم بمكان رسول الله، فيأتونه فيستامنونه فخرجت، فو الله إِنِّي لأَطُوفُ فِي الأَرَاكِ أَلْتَمِسُ مَا خَرَجْتُ لَهُ، إِذْ سَمِعْتُ صَوْتَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء، وَقَدْ خَرَجُوا يَتَحَسَّسُونَ الْخَبَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ص، فَسَمِعْتُ أَبَا سُفْيَانَ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ نِيرَانًا! فَقَالَ بُدَيْلٌ: هَذِهِ وَاللَّهِ نِيرَانُ خُزَاعَةَ، حَمَشَتْهَا الْحَرْبُ! فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: خُزَاعَةُ أَلأَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَذَلُّ! فَعَرَفْتُ صوته، فقلت:

يَا أَبَا حَنْظَلَةَ! فَقَالَ: أَبُو الْفَضْلِ! فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: لَبَّيْكَ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي! فَمَا وَرَاءَكَ؟ فَقُلْتُ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ وَرَائِي قَدْ دَلَفَ إِلَيْكُمْ بِمَا لا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ بِعَشْرَةِ آلافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ: فَمَا تَأْمُرُنِي؟ فَقُلْتُ: تَرْكَبُ عَجُزَ هَذِهِ الْبَغْلَةِ، فَأَسْتَأْمِنُ لَكَ رسول الله، فو الله لَئِنْ ظَفِرَ بِكَ لَيَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ، فَرَدَفَنِي فَخَرَجْتُ به اركض بغله رسول الله ص نحو رسول الله ص، فَكُلَّمَا مَرَرْتُ بِنَارٍ مِنْ نِيرَانِ الْمُسْلِمِينَ وَنَظَرُوا الى، قالوا: عم رسول الله عَلَى بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ، حَتَّى مَرَرْتُ بِنَارِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: أَبُو سُفْيَانَ! الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمْكَنَ مِنْكَ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلا عهد! ثم اشتد نحو النبي ص، وَرَكَّضْتُ الْبَغْلَةَ، وَقَدْ أَرْدَفْتُ أَبَا سُفْيَانَ، حَتَّى اقْتَحَمْتُ عَلَى بَابِ الْقُبَّةِ، وَسَبَقْتُ عُمَرَ بِمَا تَسْبِقُ بِهِ الدَّابَّةُ الْبَطِيئَةُ الرَّجُلَ الْبَطِيءَ، فَدَخَلَ عمر على رسول الله ص، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا أَبُو سُفْيَانَ عَدُوُّ اللَّهِ، قَدْ أَمْكَنَ اللَّهُ مِنْهُ بِغَيْرِ عَهْدٍ وَلا عَقْدٍ، فَدَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ أَجَرْتُهُ! ثُمَّ جلست الى رسول الله ص فَأَخَذْتُ بِرَأْسِهِ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لا يُنَاجِيهِ الْيَوْمَ أَحَدٌ دُونِي! فَلَمَّا أَكْثَرَ فِيهِ عُمَرُ، قُلْتُ: مهلا يا عمر! فو الله مَا تَصْنَعُ هَذَا إِلا لأَنَّهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَلَوْ كَانَ مِنْ بَنِي عدى ابن كَعْبٍ مَا قُلْتَ هَذَا فَقَالَ: مَهْلا يَا عباس! فو الله لإِسْلامُكَ يَوْمَ أَسْلَمْتَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ إِسْلامِ الْخَطَّابِ لَوْ أَسْلَمَ! وَذَلِكَ لأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ إِسْلامَكَ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ مِنْ إِسْلامِ الْخَطَّابِ لَوْ أَسْلَمَ، فَقَالَ رَسُولُ الله ص: اذْهَبْ فَقَدْ أَمَّنَّاهُ حَتَّى تَغْدُوَ بِهِ عَلَيَّ بِالْغَدَاةِ فَرَجَعَ بِهِ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غدا به على رسول الله ص، فلما رآه قال: [وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ! أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ! فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا أَوْصَلَكَ وَأَحْلَمَكَ وَأَكْرَمَكَ!] وَاللَّهِ لَقَدْ ظَنَنْتُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعَ اللَّهِ غَيْرُهُ لَقَدْ أَغْنَى عَنِّي شَيْئًا، فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ! أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنِّي

رَسُولُ اللَّهِ! فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مَا أَوْصَلَكَ وَأَحْلَمَكَ وَأَكْرَمَكَ! أَمَّا هَذِهِ فَفِي النَّفْسِ مِنْهَا شَيْءٌ! فَقَالَ الْعَبَّاسُ: فَقُلْتُ لَهُ وَيْلَكَ! تَشَهَّدْ شَهَادَةَ الْحَقِّ قَبْلَ وَاللَّهِ أَنْ تُضْرَبَ عُنُقُكَ، قَالَ: فَتَشَهَّدَ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص لِلْعَبَّاسِ حِينَ تَشَهَّدَ أَبُو سُفْيَانَ: انْصَرِفْ يَا عَبَّاسُ فَاحْبِسْهُ عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ بِمَضِيقِ الْوَادِي، حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْهِ جُنُودُ اللَّهِ، فَقُلْتُ لَهُ: [يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبُّ الْفَخْرَ، فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئًا يَكُونُ فِي قَوْمِهِ فَقَالَ: نَعَمْ، مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ] . فَخَرَجْتُ حَتَّى حَبَسْتُهُ عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ بِمَضِيقِ الْوَادِي، فَمَرَّتْ عَلَيْهِ الْقَبَائِلُ، فَيَقُولُ: مَنْ هَؤُلاءِ يَا عَبَّاسُ؟ فَأَقُولُ: سُلَيْمٌ، فَيَقُولُ: مَا لِي وَلِسُلَيْمٍ! فَتَمُرُّ بِهِ قَبِيلَةٌ، فَيَقُولُ: مَنْ هَؤُلاءِ؟ فَأَقُولُ: أَسْلَمُ، فَيَقُولُ: مَا لِي وَلأَسْلَمَ! وَتَمُرُّ جُهَيْنَةُ، فَيَقُولُ: مَا لِي وَلِجُهَيْنَةَ! حَتَّى مَرَّ رسول الله ص في الخضراء، كتيبه رسول الله ص مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ فِي الْحَدِيدِ، لا يُرَى مِنْهُمْ إِلا الْحَدَقُ، فَقَالَ: مَنْ هَؤُلاءِ يَا أَبَا الْفَضْلِ؟ فَقُلْتُ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْفَضْلِ، لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيكَ عَظِيمًا فَقُلْتُ: وَيْحَكَ إِنَّهَا النُّبُوَّةُ! فَقَالَ: نَعَمْ إِذًا، فَقُلْت: الْحَقِ الآنَ بِقَوْمِكَ فَحَذِّرْهُمْ، فَخَرَجَ سَرِيعًا حَتَّى أَتَى مَكَّةَ، فَصَرَخَ فِي الْمَسْجِدِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَذَا مُحَمَّدٌ قَدْ جَاءَكُمْ بِمَا لا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ! قَالُوا: فَمَهْ! فَقَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَهُوَ آمِنٌ، فَقَالُوا: وَيْحَكَ! وَمَا تُغْنِي عَنَّا دَارُكَ! فَقَالَ: وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ. حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنِي

أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا، أَبَانٌ الْعَطَّارُ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ كَتَبْتَ إِلَيَّ تَسْأَلُنِي عَنْ خَالِدِ بْنِ الوليد: هل اغار يوم الفتح؟ ويأمر مَنْ أَغَارَ؟ وَإِنَّهُ كَانَ مِنْ شَأْنِ خَالِدٍ يوم الفتح انه كان مع النبي ص، فَلَمَّا رَكِبَ النَّبِيُّ بَطْنَ مَرٍّ عَامِدًا إِلَى مَكَّةَ، وَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ بَعَثُوا أَبَا سُفْيَانَ وحكيم بن حزام يتلقيان رسول الله ص، وَهُمْ حِينَ بَعَثُوهُمَا لا يَدْرُونَ أَيْنَ يَتَوَجَّهُ النبي ص! إِلَيْهِمْ أَوْ إِلَى الطَّائِفِ! وَذَاكَ أَيَّامَ الْفَتْحِ، وَاسْتَتْبَعَ أَبُو سُفْيَانَ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ بُدَيْلَ بْنَ وَرْقَاءَ، وَأَحَبَّا أَنْ يَصْحَبَهُمَا، وَلَمْ يَكُنْ غَيْرُ أَبِي سُفْيَانَ وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَبُدَيْلٍ، وَقَالُوا لَهُمْ حِينَ بَعَثُوهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ص: لا نُؤْتَيَنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ، فَإِنَّا لا نَدْرِي مَنْ يُرِيدُ مُحَمَّدٌ! إِيَّانَا يُرِيدُ، أَوُ هَوَازِنَ يريد، او ثقيفا! وكان بين النبي ص وَبَيْنَ قُرَيْشٍ صُلْحٌ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَعَهْدٌ وَمُدَّةٌ، فَكَانَتْ بَنُو بَكْرٍ فِي ذَلِكَ الصُّلْحِ مَعَ قُرَيْشٍ، فَاقْتَتَلَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي كَعْبٍ وَطَائِفَةٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ، وَكَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ص وَبَيْنَ قُرَيْشٍ فِي ذَلِكَ الصُّلْحِ الَّذِي اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ: لا أَغْلالَ وَلا أَسْلالَ، فَأَعَانَتْ قُرَيْشٌ بَنِي بَكْرٍ بِالسِّلاحِ، فَاتَّهَمَتْ بَنُو كَعْبٍ قُرَيْشًا، فمنها غزا رسول الله ص أَهْلَ مَكَّةَ، وَفِي غَزْوَتِهِ تِلْكَ لَقِيَ أَبَا سُفْيَانَ وَحَكِيمًا وَبُدَيْلا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، وَلَمْ يَشْعُرُوا ان رسول الله ص نزل مر، حَتَّى طَلَعُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ بِمَرٍّ، دَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو سُفْيَانَ وَبُدَيْلٌ وَحَكِيمٌ بِمَنْزِلِهِ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فَبَايَعُوهُ، فَلَمَّا بَايَعُوهُ بَعَثَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى قُرَيْشٍ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلامِ، فَأُخْبِرْتُ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ- وَهِيَ بِأَعْلَى مَكَّةَ- وَمَنْ دَخَلَ دَارَ حَكِيمٍ- وَهِيَ بِأَسْفَلَ مَكَّةَ- فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ وَكَفَّ يَدَهُ فَهُوَ آمِنٌ. وَإِنَّهُ لَمَّا خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ وَحَكِيمٌ مِنْ عِنْدِ النبي ص عَامِدِينَ إِلَى مَكَّةَ، بَعَثَ فِي إِثْرِهِمَا الزُّبَيْرَ وَأَعْطَاهُ رَايَتَهُ، وَأَمَّرَهُ عَلَى خَيْلِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ

وَأَمَرَهُ أَنْ يَغْرِزَ رَايَتَهُ بِأَعْلَى مَكَّةَ بِالْحَجُونِ، وَقَالَ لِلزُّبَيْرِ: لا تَبْرَحْ حَيْثُ أَمَرْتُكَ أَنْ تَغْرِزَ رَايَتِي حَتَّى آتِيَكَ، وَمِنْ ثَمَّ دَخَلَ رسول الله ص، وَأَمَّرَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ- فِيمَنْ كَانَ أَسْلَمَ مِنْ قُضَاعَةَ وَبَنِي سُلَيْمٍ وَأُنَاسٍ، إِنَّمَا أَسْلَمُوا قُبَيْلَ ذَلِكَ- أَنْ يَدْخُلَ مِنْ أَسْفَلَ مَكَّةَ، وَبِهَا بَنُو بَكْرٍ قَدِ اسْتَنْفَرَتْهُمْ قُرَيْشٌ، وَبَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ وَمَنْ كَانَ مِنَ الأَحَابِيشِ أَمَرَتْهُمْ قُرَيْشٌ أَنْ يَكُونُوا بِأَسْفَلِ مَكَّةَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ أَسْفَلَ مكة. وحدثت ان النبي ص قَالَ لِخَالِدٍ وَالزُّبَيْرِ حِينَ بَعَثَهُمَا: لا تُقَاتِلا إِلا مَنْ قَاتَلَكُمَا، فَلَمَّا قَدِمَ خَالِدٌ عَلَى بنى بكر وو الاحابيش بِأَسْفَلَ مَكَّةَ، قَاتَلَهُمْ فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ قِتَالٌ غَيْرَ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنْ كُرْزَ بْنَ جَابِرٍ أَحْدَ بَنِي مُحَارِبِ بن فهر وابن الأشعر- رجلا مِنْ بَنِي كَعْبٍ- كَانَا فِي خَيْلِ الزُّبَيْرِ فَسَلَكَا كُدَاءَ، وَلَمْ يَسْلُكَا طَرِيقَ الزُّبَيْرِ الَّذِي سَلَكَ، الَّذِي أُمِرَ بِهِ فَقَدِمَا عَلَى كَتِيبَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ مَهْبِطَ كُدَاءَ فَقُتِلا، وَلَمْ يَكُنْ بِأَعْلَى مَكَّةَ مِنْ قِبَلِ الزُّبَيْرِ قِتَالٌ، وَمِنْ ثم قدم النبي ص، وَقَامَ النَّاسُ إِلَيْهِ يُبَايِعُونَهُ، فَأَسْلَمَ أَهْلُ مَكَّةَ، واقام النبي ص عِنْدَهُمْ نِصْفَ شَهْرٍ، لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى جَاءَتْ هَوَازِنُ وَثَقِيفٌ فَنَزَلُوا بِحُنَيْنٍ. وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن ابى نجيح، ان النبي ص حِينَ فَرَّقَ جَيْشَهُ مِنْ ذِي طُوًى، أَمَرَ الزُّبَيْرَ أَنْ يَدْخُلَ فِي بَعْضِ النَّاسِ مِنْ كُدًى، وَكَانَ الزُّبَيْرُ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْيُسْرَى، فَأَمَرَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ أَنْ يَدْخُلَ فِي بَعْضِ النَّاسِ مِنْ كَدَاءَ فَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ سَعْدًا قَالَ حِينَ وُجِّهَ دَاخِلا: الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمُ تُسْتَحَلُّ الْحُرْمَةُ فَسَمِعَهَا رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، [فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْمَعْ مَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمَا نَأْمَنُ أَنْ تَكُونَ لَهُ فِي قُرَيْشٍ صَوْلَةٌ! فَقَالَ رسول الله ص لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَدْرِكْهُ فَخُذِ الرَّايَةَ، فَكُنْ أَنْتَ الَّذِي تَدْخُلُ بِهَا]

حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح في حديثه، ان رسول الله ص أَمَرَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَدَخَلَ مِنَ اللِّيطِ أَسْفَلَ مَكَّةَ، فِي بَعْضِ النَّاسِ، وَكَانَ خَالِدٌ عَلَى الْمَجْنَبَةِ الْيُمْنَى، وَفِيهَا أَسْلَمُ وَغِفَارٌ وَمُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ وَقَبَائِلُ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَأَقْبَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ بِالصَّفِّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَنْصِبُ لمكه بين يدي رسول الله ص، ودخل رسول الله ص مِنْ أَذَاخِرَ، حَتَّى نَزَلَ بِأَعْلَى مَكَّةَ، وَضُرِبَتْ هُنَالِكَ قُبَّتُهُ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بْنِ أَبِي نَجِيحٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بكر، ان صفوان بن اميه، وعكرمه ابن أَبِي جَهْلٍ، وَسُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، وَكَانُوا قَدْ جَمَعُوا أُنَاسًا بِالْخَنْدَمَةِ لِيُقَاتِلُوا، وَقَدْ كَانَ حِمَاسُ بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ أَخُو بَنِي بَكْرٍ يُعِدُّ سِلاحًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ رَسُولُ اللَّهِ ص مَكَّةَ وَيُصْلِحُ مِنْهَا، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: لِمَاذَا تعد ما ارى؟ قال: محمد وَأَصْحَابِهِ، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أُرَاهُ يَقُومُ لِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ شَيْءٌ، قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُوَ أَنْ اخدمك بعضهم، فقال: ان تقبلوا اليوم فمالى عِلَّهْ ... هَذَا سِلاحٌ كَامِلٌ وَآلَهْ وَذُو غَرَارِينَ سَرِيعُ السَّلَّهْ. ثُمَّ شَهِدَ الْخَنْدَمَةَ مَعَ صَفْوَانَ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَعِكْرِمَةَ، فَلَمَّا لَقِيَهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَصْحَابِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ نَاوَشُوهُمْ شَيْئًا من قتال، فقتل كرز ابن جَابِرِ بْنِ حِسْلِ بْنِ الأَجَبِّ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ شَيْبَانَ بْنِ مُحَارِبِ بْنِ فهر، وحبيش بْنُ خَالِدٍ، وَهُوَ الأَشْعَرُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ اصرم بن ضبيس

ابن حَرَامِ بْنِ حُبْشِيَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو، حَلِيفُ بَنِي مُنْقِذٍ- وَكَانَا فِي خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَشَذَّا عَنْهُ، وَسَلَكَا طَرِيقًا غَيْرَ طَرِيقِهِ، فَقُتِلا جَمِيعًا- قُتِلَ خُنَيْسٌ قَبْلَ كُرْزِ بْنِ جَابِرٍ، فَجَعَلَهُ كُرْزٌ بَيْنَ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ وَهُوَ يَرْتَجِزُ، وَيَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ صَفْرَاءُ مِنْ بَنِي فِهْرِ ... نَقِيَّةُ الْوَجْهِ نَقِيَّةُ الصَّدْرِ لأَضْرِبَنَّ الْيَوْمَ عَنْ أَبِي صَخْرِ. وَكَانَ خُنَيْسٌ يُكْنَى بِأَبِي صَخْرٍ، وَأُصِيبَ مِنْ جُهَيْنَةَ سَلَمَةُ بْنُ الْمِيلاءِ مِنْ خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَأُصِيبَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أُنَاسٌ قَرِيبٌ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ أَوْ ثَلاثَةَ عَشَرَ ثُمَّ انْهَزَمُوا، فَخَرَجَ حِمَاسٌ مُنْهَزِمًا، حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ، ثُمَّ قَالَ لامْرَأَتِهِ: أَغْلِقِي عَلَيَّ بَابِي، قَالَتْ: فَأَيْنَ مَا كُنْتَ تَقُولُ؟ فَقَالَ: إِنَّكِ لَوْ شَهِدْتِ يَوْمَ الْخَنْدَمَهْ ... إِذْ فَرَّ صَفْوَانُ وَفَرَّ عِكْرِمَهْ وَأَبُو يَزِيدَ قَائِمٌ كَالْمُؤْتِمَهْ ... وَاسْتَقْبَلَتْهُمْ بِالسُّيُوفِ الْمُسْلِمَهْ يَقْطَعْنَ كُلَّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَهْ ... ضَرْبًا فَلا تَسْمَعُ إِلا غَمْغَمَهْ لَهُمْ نَهِيتٌ خَلْفُنَا وَهَمْهَمَهْ ... لم تنطقى في اللؤم أَدْنَى كَلِمَهْ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ الله ص قَدْ عَهِدَ إِلَى أُمَرَائِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ امرهم ان يدخلوا مكة، الا يَقْتُلُوا أَحَدًا إِلا مَنْ قَاتَلَهُمْ إِلا أَنَّهُ قَدْ عَهِدَ فِي نَفَرٍ سَمَّاهُمْ، أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ وان وجدوا تحت استار الكعبه منهم عبد الله بن سعد

ابن أَبِي سَرْحِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ جُذَيْمَةَ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ ابن لؤي- وانما امر رسول الله ص بِقَتْلِهِ، لأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ فَارْتَدَّ مُشْرِكًا، فَفَرَّ إِلَى عُثْمَانَ، وَكَانَ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فغيبه حتى اتى به رسول الله ص بَعْدَ أَنِ اطْمَأَنَّ أَهْلُ مَكَّةَ، فَاسْتَأْمَنَ لَهُ رسول الله، فذكر ان رسول الله ص صَمَتَ طَوِيلا، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ، فَلَمَّا انْصَرَفَ بِهِ عُثْمَانُ، [قَالَ رَسُولُ اللَّهِ لِمَنْ حَوْلَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ صَمَتُّ لِيَقُومَ إِلَيْهِ بَعْضُكُمْ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ! فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: فَهَلا أَوْمَأْتَ إِلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ لا يَقْتُلُ بِالإِشَارَةِ]- وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ بن غالب- وانما امر بقتله لأنه كان مسلما، فبعثه رسول الله ص مُصَّدِّقًا، وَبَعَثَ مَعَهُ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ، وَكَانَ مَعَهُ مَوْلًى لَهُ يَخْدِمُهُ، وَكَانَ مُسْلِمًا، فَنَزَلَ مَنْزِلا، وَأَمَرَ الْمَوْلَى أَنْ يَذْبَحَ لَهُ تَيْسًا، وَيَصْنَعَ لَهُ طَعَامًا، وَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَلَمْ يَصْنَعْ لَهُ شَيْئًا، فَعَدَا عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ ارْتَدَّ مُشْرِكًا، وَكَانَتْ لَهْ قَيْنَتَانِ: فَرْتَنَى وَأُخْرَى مَعَهَا، وكانتا تغنيان بهجاء رسول الله ص، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمَا مَعَهُ- وَالْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْذِ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ بْنِ قُصَيٍّ، وَكَانَ مِمَّنْ يُؤْذِيهِ بِمَكَّةَ، وَمِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ- وَإِنَّمَا أَمَرَ بِقَتْلِهِ لِقَتْلِهِ الأَنْصَارِيَّ الَّذِي كَانَ قَتَلَ أَخَاهُ خَطَأً، وَرُجُوعِهِ إِلَى قُرَيْشٍ مُرْتَدًّا- وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَسَارَةُ مَوْلاةٌ كَانَتْ لِبَعْضِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَتْ مِمَّنْ يُؤْذِيهِ بِمَكَّةَ فَأَمَّا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ فَهَرَبَ إِلَى الْيَمَنِ، وَأَسْلَمَتِ امْرَأَتُهُ أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ هشام، فاستامنت له رسول الله فَأَمَّنَهُ، فَخَرَجَتْ فِي طَلَبِهِ حَتَّى أَتَتْ بِهِ رسول الله ص، فَكَانَ عِكْرِمَةُ يُحَدِّثُ- فِيمَا يَذْكُرُونَ- أَنَّ الَّذِي رَدَّهُ إِلَى الإِسْلامِ بَعْدَ خُرُوجِهِ إِلَى الْيَمَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَرَدْتُ رُكُوبَ الْبَحْرِ لأَلْحَقَ بِالْحَبَشَةِ، فَلَمَّا أَتَيْتُ السَّفِينَةَ لأَرْكَبَهَا قَالَ صَاحِبُهَا: يَا عَبْدَ اللَّهِ، لا تَرْكَبْ سَفِينَتِي حَتَّى تُوَحِّدَ اللَّهَ، وَتَخْلَعَ مَا دُونَهُ مِنَ الأَنْدَادِ، فَإِنِّي أَخْشَى إِنْ لَمْ تَفْعَلْ أَنْ نَهْلِكَ فِيهَا، فَقُلْتُ: وَمَا يَرْكَبُهُ أَحَدٌ

حَتَّى يُوَحِّدَ اللَّهَ وَيَخْلَعَ مَا دُونَهُ! قَالَ: نَعَمْ، لا يَرْكَبُهُ أَحَدٌ إِلا أَخْلَصَ. قَالَ: فَقُلْتُ: فَفِيمَ أُفَارِقُ مُحَمَّدًا! فَهَذَا الَّذِي جَاءَنَا به، فو الله إِنَّ إِلَهَنَا فِي الْبَحْرِ لإِلَهُنَا فِي الْبَرِّ، فَعَرَفْتُ الإِسْلامَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَدَخَلَ فِي قَلْبِي واما عبد الله ابن خَطَلٍ، فَقَتَلَهُ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ الْمَخْزُومِيُّ وَأَبُو بَرْزَةَ الأَسْلَمِيُّ، اشْتَرَكَا فِي دَمِهِ، وَأَمَّا مِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ فَقَتَلَهُ نُمَيْلَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَقَالَتْ أُخْتُ مِقْيَسٍ: لَعَمْرِي لَقَدْ أَخَزَى نُمَيْلَةُ رَهْطَهُ ... وَفَجَّعَ أَضْيَافَ الشِّتَاءِ بِمِقْيَسِ فَلِلَّهِ عَيْنَا مَنْ رَأَى مِثْلَ مِقْيَسٍ ... إِذَا النُّفَسَاءُ أَصْبَحَتْ لَمْ تُخَرَّسِ! وَأَمَّا قَيْنَتَا ابْنِ خَطَلٍ فَقُتِلَتْ إِحْدَاهُمَا، وَهَرَبَتِ الأُخْرَى حَتَّى استؤمن لها رسول الله ص بَعْدُ، فَأَمَّنَهَا وَأَمَّا سَارَةُ، فَاسْتُؤْمِنَ لَهَا فَأَمَّنَهَا، ثُمَّ بَقِيَتْ حَتَّى أَوْطَأَهَا رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ فَرَسًا لَهُ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِالأَبْطَحِ، فَقَتَلَهَا وَأَمَّا الْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْذٍ، فَقَتَلَهُ عَلِيّ بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقال الواقدى: امر رسول الله ص بِقَتْلِ سِتَّةِ نَفَرٍ وَأَرْبَعِ نِسْوَةٍ، فَذَكَرَ مِنَ الرِّجَالِ مَنْ سَمَّاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَمِنَ النِّسَاءِ هند بنت عتبة ابن رَبِيعَةَ، فَأَسْلَمَتْ وَبَايَعَتْ، وَسَارَةَ مَوْلاةَ عَمْرِو بْنِ هاشم بن عبد المطلب ابن عَبْدِ مَنَافٍ، قُتِلَتْ يَوْمَئِذٍ، وَقَرِيبَةَ، قُتِلَتْ يَوْمَئِذٍ، وَفَرْتَنَى عَاشَتْ إِلَى خِلافَةِ عُثْمَانَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمر بن موسى ابن الْوَجِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ السَّدُوسِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص قَامَ قَائِمًا حِينَ وَقَفَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ، لا شَرِيكَ لَهُ،

صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ أَلا كُلُّ مَأْثَرَةٍ، أَوْ دَمٍ، أَوْ مَالٍ يُدَّعَى، فَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ إِلا سِدَانَةَ الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجِّ. أَلا وَقَتِيلُ الْخَطَأ مِثْلُ العمد، السوط والعصا، فيهما الدِّيَةُ مُغَلَّظَةٌ مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلادُهَا. يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَظُّمَهَا بِالآبَاءِ النَّاسُ مِنْ آدَمَ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تراب ثم تلا رسول الله ص: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» الآيَةَ. يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَيَا أَهْلَ مَكَّةَ، مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ ثُمَّ قَالَ: اذهبوا فأنتم الطلقاء. فاعتقهم رسول الله ص، وَقَدْ كَانَ اللَّهُ أَمْكَنَهُ مِنْ رِقَابِهِمْ عَنْوَةً، وَكَانُوا لَهُ فَيْئًا، فَبِذَلِكَ يُسَمَّى أَهْلُ مَكَّةَ الطُّلَقَاءَ ثُمَّ اجْتَمَعَ النَّاسُ بِمَكَّةَ لِبَيْعَةِ رَسُولِ الله ص عَلَى الإِسْلامِ، فَجَلَسَ لَهُمْ- فِيمَا بَلَغَنِي- عَلَى الصَّفَا وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ تَحْتَ رَسُولِ اللَّهِ أَسْفَلَ مِنْ مَجْلِسِهِ يَأْخُذُ عَلَى النَّاسِ فَبَايَعَ رسول الله ص عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ- فِيمَا اسْتَطَاعُوا- وَكَذَلِكَ كَانَتْ بَيْعَتُهُ لِمَنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ ص مِنَ النَّاسِ عَلَى الإِسْلامِ فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ الله ص مِنْ بَيْعَةِ الرِّجَالِ بَايَعَ النِّسَاءَ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، فِيهِنَّ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، مُتَنَقِّبَةً مُتَنَكِّرَةً لِحَدَثِهَا وَمَا كَانَ مِنْ صَنِيعِهَا بِحَمْزَةَ، فَهِيَ تَخَافُ أَنْ يَأْخُذَهَا رَسُولُ الله ص

فيها قتل خراش بن اميه الكعبي جنيدب بن الادلع

بِحَدَثِهَا ذَلِكَ، فَلَمَّا دَنَوْنَ مِنْهُ لِيُبَايِعْنَهُ [قَالَ، رسول الله ص- فِيمَا بَلَغَنِي-: تُبَايِعْنَنِي عَلَى أَلا تُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا! فَقَالَتْ هِنْدٌ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَأْخُذُ عَلَيْنَا أَمْرًا مَا تَأْخُذُهُ عَلَى الرِّجَالِ وَسَنُؤْتِيكَهُ قَالَ: وَلا تَسْرِقْنَ، قَالَتْ: وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لأُصِيبُ مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ الْهَنَةَ وَالْهَنَةَ وَمَا ادرى اكان ذلك حلالي أَمْ لا! فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ- وَكَانَ شَاهِدًا لِمَا تَقُولُ: أَمَّا مَا أَصَبْتِ فِيمَا مَضَى فَأَنْتِ مِنْهُ فِي حِلٍّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: وَإِنَّكِ لَهِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ! فَقَالَتْ: أَنَا هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، فَاعْفُ عَمَّا سَلَفَ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ! قَالَ: وَلا تَزْنِينَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ تَزْنِي الْحُرَّةُ! قَالَ: وَلا تَقْتُلْنَ أَوْلادَكُنَّ، قَالَتْ: قَدْ رَبَّيْنَاهُمْ صِغَارًا، وَقَتَلْتَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ كِبَارًا، فَأَنْتَ وَهُمْ أَعْلَمُ! فَضَحِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ قَوْلِهَا حَتَّى اسْتَغْرَبَ. قَالَ: وَلا تَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ تَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُنَّ وَأَرْجُلِكُنَّ، قَالَتْ: وَاللَّهِ إِنَّ إِتْيَانَ الْبُهْتَانِ لَقَبِيحٌ، وَلَبَعْضُ التَّجَاوُزِ أَمْثَلُ قَالَ: وَلا تَعْصِينَنِي فِي مَعْرُوفٍ، قَالَتْ: مَا جَلَسْنَا هَذَا الْمَجْلِسَ وَنَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نَعْصِيَكَ فِي مَعْرُوفٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص لِعُمَرَ: بَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ، فَبَايَعَهُنَّ عمر،] وكان رسول الله ص لا يُصَافِحُ النِّسَاءَ، وَلا يَمَسُّ امْرَأَةً وَلا تَمَسُّهُ إِلا امْرَأَةٌ أَحَلَّهَا اللَّهُ لَهُ، أَوْ ذَاتُ مَحْرَمٍ مِنْهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبَانَ ابن صَالِحٍ، أن بيعة النساء قد كانت على نحوين- فيما أخبره بعض أهل العلم- كان يوضع بين يدي رسول الله ص إناء فيه ماء، فإذا أخذ عليهن وأعطينه غمس يده فِي الإناء، ثُمَّ أخرجها فغمس النساء أيديهن فيه ثُمَّ كان بعد ذَلِكَ يأخذ عليهن، فإذا أعطينه ما شرط عليهن، قَالَ: اذهبن فقد بايعتكن، لا يزيد على ذَلِكَ . قَالَ الواقدي: فيها قتل خراش بْن أمية الكعبي جنيدب بْن الأدلع

الهذلي- وقال ابن إسحاق: ابن الأثوع الهذلي- وإنما قتله بذحل، كان فِي الجاهلية، فَقَالَ [النبي ص: إن خراشا قتال، إن خراشا قتال! يعيبه بذلك، فامر النبي ص خزاعة أن يدوه] . حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ- قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَلا أَعْلَمُهُ إِلا وَقَدْ حَدَّثَنِي عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ- قَالَ: خَرَجَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ يُرِيدُ جُدَّةَ، لِيَرْكَبَ مِنْهَا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ، يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ سَيِّدُ قَوْمِهِ، وَقَدْ خَرَجَ هَارِبًا مِنْكَ لِيَقْذِفَ نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ، فَأَمِّنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ! قَالَ: هُوَ آمِنٌ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِي شَيْئًا يَعْرِفُ بِهِ أَمَانَكَ، فَأَعْطَاهُ عِمَامَتَهُ الَّتِي دَخَلَ فِيهَا مَكَّةَ، فَخَرَجَ بِهَا عُمَيْرٌ حَتَّى أَدْرَكَهُ بِجُدَّةَ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَرْكَبَ الْبَحْرَ، فَقَالَ: يَا صَفْوَانُ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي! أُذَكِّرُكَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ أَنْ تُهْلِكَهَا! فَهَذَا أَمَانٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ قَدْ جِئْتُكَ بِهِ، قَالَ: وَيْلَكَ! اغْرُبْ عَنِّي فَلا تُكَلِّمْنِي! قَالَ: أَيْ صَفْوَانُ! فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي! أَفْضَلُ النَّاسِ، وَأَبَرُّ النَّاسِ، وَأَحْلَمُ النَّاسِ، وَخَيْرُ النَّاسِ، ابْنُ عَمَّتِكَ، عِزُّهُ عِزُّكَ، وَشَرَفُهُ شَرَفُكَ، وَمُلْكُهُ مُلْكُكَ! قَالَ: إِنِّي أَخَافُهُ عَلَى نَفْسِي، قَالَ: هُوَ أَحْلَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْرَمُ، فَرَجَعَ بِهِ مَعَهُ، حَتَّى قَدِمَ به على رسول الله ص فَقَالَ صَفْوَانُ: إِنَّ هَذَا زَعَمَ أَنَّكَ قَدْ أَمَّنْتَنِي، قَالَ: صَدَقَ، قَالَ: فَاجْعَلْنِي فِي أَمْرِي بِالْخِيَارِ شَهْرَيْنِ، قَالَ: أَنْتَ فِيهِ بِالْخِيَارِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ أُمَّ حَكِيمٍ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَفَاخِتَةَ بِنْتَ الْوَلِيدِ- وَكَانَتْ فَاخِتَةُ عِنْدَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَأُمُّ حَكِيمٍ عِنْدَ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ- أَسْلَمَتَا، فَأَمَّا أُمُّ حَكِيمٍ فَاسْتَأْمَنَتْ رَسُولَ اللَّهِ لِعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، فَآمَنَهُ، فَلَحِقَتْ بِهِ بِالْيَمَنِ، فَجَاءَتْ بِهِ، فَلَمَّا أَسْلَمَ عِكْرِمَةُ وَصَفْوَانُ، اقرهما رسول الله ص عِنْدَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ الأَوَّلِ

حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، لَمَّا دخل رسول الله ص مَكَّةَ هَرَبَ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى السَّهْمِيُّ إِلَى نَجْرَانَ حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: رَمَى حَسَّانُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزِّبَعْرَى وَهُوَ بِنَجْرَانَ بِبَيْتٍ وَاحِدٍ، مَا زَادَهُ عَلَيْهِ: لا تَعْدَمَنْ رَجُلا أَحَلَّكَ بُغْضَهُ ... نَجْرَانَ فِي عَيْشٍ أَحَذَّ لَئِيمِ فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ الزِّبَعْرَى، رجع الى رسول الله ص، فَقَالَ حِينَ أَسْلَمَ: يَا رَسُولَ الْمَلِيكِ إِنَّ لِسَانِي ... رَاتِقٌ مَا فَتَقْتُ إِذْ أَنَا بُورُ إِذْ أُبَارِي الشَّيْطَانَ فِي سِنَنِ الرِّيحِ ... وَمَنْ مَالَ مَيْلَهُ مَثْبُورُ آمَنَ اللَّحْمُ وَالْعِظَامُ لِرَبِّي ... ثُمَّ نَفْسِي الشَّهِيدُ أَنْتَ النَّذِيرُ إِنَّنِي عَنْكَ زَاجِرٌ ثَمَّ حَيٌّ ... مِنْ لُؤَيٍّ فَكُلُّهُمْ مَغْرُورُ وَأَمَّا هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ، فَأَقَامَ بِهَا كَافِرًا، وَقَدْ قَالَ حِينَ بَلَغَهُ إِسْلامُ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَتْ تَحْتَهُ، وَاسْمُهَا هِنْدٌ: أَشَاقَتْكَ هِنْدٌ أَمْ نَآكَ سُؤَالُهَا ... كَذَاكَ النَّوَى أَسْبَابُهَا وَانْفِتَالُهَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشره آلاف، من بنى غفار أربعمائة، ومن اسلم أربعمائة، ومن مزينة ألف وثلاثة نفر، ومن بني سليم

في هذه السنه تزوج رسول الله ص مليكه بنت داود الليثية،

سبعمائة، ومن جهينة الف وأربعمائة رجل، وسائرهم من قريش والأنصار وحلفائهم وطوائف العرب من بني تميم وقيس وأسد . قَالَ الواقدي: فِي هذه السنة تزوج رَسُول اللَّهِ ص مليكة بنت داود الليثية، فجاء إليها بعض ازواج النبي ص، فقالت لها: ألا تستحيين حين تزوجين رجلا قتل أباك! فاستعاذت منه، وكانت جميلة، وكانت حدثة، ففارقها رَسُول اللَّهِ، وكان قتل أباها يوم فتح مكة . قَالَ: وفيها هدم خالد بْن الوليد العزى ببطن نخلة، لخمس ليال بقين من رمضان، وهو صنم لبني شيبان، بطن من سليم حلفاء بني هاشم، وبنو أسد بْن عبد العزى، يقولون: هذا صنمنا، فخرج إليه خالد، فَقَالَ: قد هدمته، قَالَ: أرأيت شيئا؟ قَالَ: لا، قَالَ: فارجع فاهدمه، فرجع خالد إلى الصنم فهدم بيته، وكسر الصنم، فجعل السادن يقول: أعزى اغضبي بعض غضباتك! فخرجت عليه امرأة حبشية عريانة مولولة، فقتلها وأخذ ما فيها من حلية، ثُمَّ اتى رسول الله ص، فأخبره بذلك، فَقَالَ: تلك العزى، ولا تعبد العزى أبدا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ الله ص خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى الْعُزَّى- وَكَانَتْ بِنَخْلَةَ، وَكَانَتْ بَيْتًا يُعَظِّمُهُ هَذَا الْحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ وَمُضَرَ كُلِّهَا، وَكَانَتْ سَدَنَتُهَا مِنْ بَنِي شَيْبَانَ، مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ حُلَفَاءَ بَنِي هَاشِمٍ- فَلَمَّا سَمِعَ صَاحِبُهَا بِمَسِيرِ خَالِدٍ إِلَيْهَا، عَلَّقَ عَلَيْهَا سَيْفَهُ، وَأَسْنَدَ فِي الْجَبَلِ الَّذِي هِيَ إِلَيْهِ فَأُصْعِدَ فِيهِ، وَهُوَ يَقُولُ: أَيَا عُزُّ شُدِّي شَدَّةً لا شَوًى لَهَا ... عَلَى خَالِدٍ أَلْقِي الْقِنَاعَ وَشَمِّرِي وَيَا عُزُّ إِنْ لَمْ تَقْتُلِي الْيَوْمَ خَالِدًا ... فَبُوئِي بِإِثْمٍ عَاجِلٍ أَوْ تنصرى

وفيها هدم سواع،

فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهَا خَالِدٌ هَدَمَهَا، ثُمَّ رَجَعَ الى رسول الله ص قَالَ الواقدي: وَفِيهَا هُدِمَ سُوَاعٌ، وَكَانَ بِرُهَاطٍ لِهُذَيْلٍ، وَكَانَ حَجَرًا، وَكَانَ الَّذِي هَدَمَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لَمَّا انْتَهَى إِلَى الصَّنَمِ، قَالَ لَهُ السَّادِنُ: مَا تُرِيدُ؟ قَالَ: هَدْمَ سُوَاعٍ، قَالَ: لا تَطِيقُ تَهْدِمُهُ، قَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: أَنْتَ فِي الْبَاطِلِ بَعْدُ! فَهَدَمَهُ عمرو، ولم يَجِدْ فِي خِزَانَتِهِ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ عَمْرٌو لِلسَّادِنِ: كَيْفَ رَأَيْتَ؟ قَالَ: أَسْلَمْتُ وَاللَّهِ . وَفِيهَا هُدِمَ مَنَاةُ بِالْمُشَلَّلِ، هَدَمَهُ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ الأشهلي، وكان للأوس والخزرج . مسير خالد بن الوليد الى بنى جذيمة بن مالك وَفِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بَنِي جُذَيْمَةَ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِهِمْ مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: قَدْ كَانَ رَسُولُ الله ص بَعَثَ فِيمَا حَوْلَ مَكَّةَ السَّرَايَا تَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِقِتَالِ، وَكَانَ مِمَّنْ بَعَثَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ بِأَسْفَلَ تِهَامَةَ دَاعِيًا، وَلَمْ يَبْعَثْهُ مُقَاتِلا، فَوَطِئَ بَنِي جُذَيْمَةَ، فَأَصَابَ مِنْهُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن محمد بن إِسْحَاقَ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ص حِينَ افْتَتَحَ مَكَّةَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ دَاعِيًا وَلَمْ يَبْعَثْهُ مُقَاتِلا، وَمَعَهُ قَبَائِلُ مِنَ الْعَرَبِ: سُلَيْمٌ وَمِدْلَجٌ، وَقَبَائِلُ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَلَمَّا نَزَلُوا عَلَى الْغُمَيْصَاءِ- وَهِيَ مَاءٌ مِنْ مِيَاهِ بَنِي جذيمة بن عامر بن عبد مناه ابن كِنَانَةَ- عَلَى جَمَاعَتِهِمْ، وَكَانَتْ بَنُو جُذَيْمَةَ قَدْ أصابوا في الجاهلية عوف بن عبد عَوْفٍ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالْفَاكِهَ بْنَ الْمُغِيرَةِ- وَكَانَا أَقْبَلا تَاجِرَيْنِ مِنَ الْيَمَنِ- حَتَّى إِذَا نَزَلا بِهِمْ قَتَلُوهُمَا، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمَا، فلما كان الاسلام، وبعث

رسول الله ص خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، سَارَ حَتَّى نَزَلَ ذَلِكَ الْمَاءَ، فَلَمَّا رَآهُ الْقَوْمُ أَخَذُوا السِّلاحَ، فَقَالَ لَهُمْ خَالِدٌ: ضَعُوا السِّلاحَ، فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي جُذَيْمَةَ، قَالَ: لَمَّا أَمَرَنَا خَالِدٌ بِوَضْعِ السِّلاحِ، قَالَ رَجُلٌ مِنَّا يُقَالُ لَهُ جَحْدَمٌ: وَيْلَكُمْ يَا بَنِي جُذَيْمَةَ! إِنَّهُ خَالِدٌ! وَاللَّهِ مَا بَعْدَ وَضْعِ السِّلاحِ إِلا الإِسَارُ، ثُمَّ مَا بَعْدَ الإِسَارِ إِلا ضَرْبُ الأَعْنَاقِ، وَاللَّهِ لا أَضَعُ سِلاحِي أَبَدًا قَالَ: فَأَخَذَهُ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَقَالُوا: يَا جَحْدَمُ، أَتُرِيدُ أَنْ تَسْفِكَ دِمَاءَنَا! إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا، وَوُضِعَتِ الْحَرْبُ، وَأَمِنَ النَّاسُ، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى نَزَعُوا سِلاحَهُ، وَوَضَعَ الْقَوْمُ السِّلاحَ لِقَوْلِ خَالِدٍ، فَلَمَّا وَضَعُوهُ أَمَرَ بِهِمْ خَالِدٌ عِنْدَ ذَلِكَ فَكُتِّفُوا، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى السَّيْفِ، فَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ فلما انتهى الخبر الى رسول الله ص رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ! ثُمَّ دَعَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ع، [فَقَالَ: يَا عَلِيُّ اخْرُجْ إِلَى هَؤُلاءِ الْقَوْمِ، فَانْظُرْ فِي أَمْرِهِمْ، وَاجْعَلْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيْكَ فَخَرَجَ حَتَّى جَاءَهُمْ وَمَعَهُ مَالٌ قَدْ بعثه رسول الله ص بِهِ، فَوَدِيَ لَهُمْ الدِّمَاءَ وَمَا أُصِيبَ مِنَ الأَمْوَالِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَدِي مِيلَغَةَ الْكَلْبِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ وَلا مَالٍ إِلا وَدَاهُ، بَقِيَتْ مَعَهُ بَقِيَّةٌ مِنَ المال. فقال لهم على ع حِينَ فَرَغَ مِنْهُمْ: هَلْ بَقِيَ لَكُمْ دَمٌ أَوْ مَالٌ لَمْ يُودَ إِلَيْكُمْ؟ قَالُوا: لا، قَالَ: فَإِنِّي أُعْطِيكُمْ هَذِهِ الْبَقِيَّةَ مِنْ هَذَا المال احتياطا لرسول الله ص مِمَّا لا يَعْلَمُ وَلا تَعْلَمُونَ فَفَعَلَ، ثُمَّ رجع الى رسول الله ص فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ] ثُمَّ قَامَ رسول الله ص، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ قَائِمًا شَاهِرًا يَدَيْهِ، حَتَّى إِنَّهُ ليرى بياض

مَا تَحْتَ مَنْكِبَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ! قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَنْ يَعْذُرُ خَالِدًا: إِنَّهُ قَالَ: مَا قَاتَلْتُ حَتَّى أَمَرَنِي بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ، وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَمَرَكَ بِقَتْلِهِمْ لامْتِنَاعِهِمْ مِنَ الإِسْلامِ، وَقَدْ كَانَ جَحْدَمٌ قَالَ لَهُمْ حِينَ وَضَعُوا سِلاحَهُمْ، وَرَأَى مَا يَصْنَعُ خَالِدٌ بِبَنِي جُذَيْمَةَ: يَا بَنِي جُذَيْمَةَ، ضَاعَ الضَّرْبُ، قَدْ كُنْتُ حَذَّرْتُكُمْ مَا وَقَعْتُمْ فِيهِ! حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: كَانَ بَيْنَ خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن ابن عَوْفٍ- فِيمَا بَلَغَنِي- كَلامٌ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: عَمِلْتَ بِأَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي الإِسْلامِ! فَقَالَ: إِنَّمَا ثَأَرْتَ بِأَبِيكَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحَمْنِ بْنُ عَوْفٍ: كَذَبْتَ! قَدْ قَتَلْتَ قَاتِلَ أَبِي، وَلَكِنَّكَ إِنَّمَا ثَأَرْتَ بِعَمِّكَ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، حَتَّى كَانَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ص، [فَقَالَ: مَهْلا يَا خَالِدُ! دَعْ عَنْكَ أَصْحَابِي، فو الله لَوْ كَانَ لَكَ أُحُدٌ ذَهَبًا ثُمَّ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا أَدْرَكْتَ غَدْوَةَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِي وَلا رَوْحَتَهُ] . حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الأُمَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الأَسْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ، قَالَ: كُنْتُ يَوْمَئِذٍ فِي خَيْلِ خَالِدٍ، فَقَالَ لِي فَتًى مِنْهُمْ- وَهُوَ فِي السَّبْيِ، وَقَدْ جُمِعَتْ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ بِرُمَّةٍ وَنِسْوَةٌ مُجْتَمِعَاتٌ غَيْرَ بَعِيدٍ مِنْهُ: يَا فَتَى! قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: هَلْ أَنْتَ آخِذٌ بِهَذِهِ الرُّمَّةِ فَقَائِدِي بِهَا إِلَى هَؤُلاءِ النِّسْوَةِ، حَتَّى اقضى

إِلَيْهِنَّ حَاجَةً، ثُمَّ تَرُدَّنِي بَعْدُ، فَتَصْنَعُوا بِي مَا بَدَا لَكُمْ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ لَيَسِيرٌ مَا سَأَلْتَ، فَأَخَذْتُ بِرُمَّتِهِ فَقُدْتُهُ بِهَا حَتَّى أَوْقَفْتُهُ عَلَيْهِنَّ، فَقَالَ: اسْلَمِي حُبَيْشُ، عَلَى نَفَدِ الْعَيْشِ: أَرَيْتُكَ إِذْ طَالَبْتُكُمْ فَوَجَدْتُكُمْ ... بِحُلِيَّةٍ أَوْ الفيتكم بالخوانق! الم يك حقا أَنْ يُنَوَّلَ عَاشِقٌ ... تَكَلَّفَ إِدْلاجَ السُّرَى وَالْوَدَائِقِ! فَلا ذَنْبَ لِي قَدْ قُلْتُ إِذْ أَهْلُنَا مَعًا ... أَثِيبِي بِوُدٍّ قَبْلَ إِحْدَى الصَّفَائِقِ! أَثِيبِي بِوُدٍّ قَبْلَ أَنْ تَشْحَطَ النَّوَى ... وَيَنْأَى الأَمِيرُ بِالْحَبِيبِ الْمُفَارِقِ فَإِنِّيَ لا سِرًّا لَدَيَّ أَضَعْتُهُ ... وَلا رَاقَ عَيْنِي بَعْدَ وَجْهِكِ رَائِقِ عَلَى أَنَّ مَا نَابَ الْعَشِيرَةَ شَاغِلٌ ... وَلا ذُكِرَ إِلا أَنْ يَكُونَ لِوَامِقِ قَالَتْ: وَأَنْتَ فَحُيِّيتَ عَشْرًا، وَسَبْعًا وِتْرًا، وَثَمَانِيًا تَتْرَى! ثُمَّ انْصَرَفْتُ بِهِ، فَقَدِمَ فَضَرَبْتُ عُنُقَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن أبي فراس بْن أبي سنبلة الأسلمي، عن أشياخ منهم، عمن كان حضرها، قالوا: قامت إليه حين ضربت عنقه، فأكبت عليه، فما زالت تقبله حَتَّى ماتت عِنْدَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عَنِ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: أَقَامَ رسول الله ص بِمَكَّةَ بَعْدَ فَتْحِهَا خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً يَقْصُرُ الصَّلاةَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ فَتْحُ مَكَّةَ لِعَشْرِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثمان.

ذكر الخبر عن غزوه رسول الله ص هوازن بحنين

545241 ذكر الخبر عن غزوه رسول الله ص هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ وَكَانَ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ص وَأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْرِ هَوَازِنَ مَا حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ وَعَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ- قَالَ عَلِيٌّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، وَقَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ: حَدَّثَنَا أَبِي- قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: اقام النبي ص بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ نِصْفَ شَهْرٍ، لَمْ يَزِدْ على ذلك، حتى جاءت هوازن وثقيف، فنزلوا بِحُنَيْنٍ- وَحُنَيْنٌ وَادٍ إِلَى جَنْبِ ذِي الْمَجَازِ- وهم يومئذ عامدون يريدون قتال النبي ص، وَكَانُوا قَدْ جَمَعُوا قَبْلَ ذَلِكَ حِينَ سَمِعُوا بِمَخْرَجِ رَسُولِ اللَّهِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ إِنَّمَا يُرِيدُهُمْ حَيْثُ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا أَتَاهُمْ أَنَّهُ قَدْ نَزَلَ مَكَّةَ، أَقْبَلَتْ هوازن عامدين الى النبي ص، وَأَقْبَلُوا مَعَهُمْ بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالأَمْوَالِ- وَرَئِيسُ هَوَازِنَ يَوْمَئِذٍ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ أَحَدُ بَنِي نَصْرٍ- واقبلت معهم ثقيف، حتى نزلوا حنينا يريدون النبي ص، فَلَمَّا حُدِّثَ النَّبِيُّ وَهُوَ بِمَكَّةَ أَنْ قَدْ نَزَلَتْ هَوَازِنُ وَثَقِيفٌ بِحُنَيْنٍ، يَسُوقُهُمْ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ أَحَدُ بَنِي نَصْرٍ- وَهُوَ رَئِيسُهُمْ يَوْمَئِذٍ- عمد النبي ص حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِمْ، فَوَافَاهُمْ بِحُنَيْنٍ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ فِيهَا مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْكِتَابِ، وَكَانَ الَّذِي سَاقُوا مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَاشِيَةِ غَنِيمَةً غَنَمَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَسُولَهُ، فَقَسَمَ أَمْوَالَهُمْ فِيمَنْ كَانَ أَسْلَمَ مَعَهُ مِنْ قُرَيْشٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما سمعت هوازن برسول الله ص وما فتح الله عليه من مكة، جمعها مالك بْن عوف النصري، واجتمعت إليه مَعَ هوازن ثقيف كلها، فجمعت نصر وجشم كلها وسعد بْن بكر وناس من بني هلال، وهم قليل، ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء، وغابت عنها فلم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب، ولم يشهدها منهم أحد له اسم، وفي جشم دريد بْن

الصمة شيخ كبير، ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب، وكان شيخا كبيرا مجربا، وفي ثقيف سيدان لهم فِي الأحلاف: قارب بن الأسود ابن مسعود، وفي بني مالك ذو الخمار سبيع بْن الحارث وأخوه الأحمر بْن الحارث فِي بني هلال، وجماع أمر الناس إلى مالك بْن عوف النصري. فلما أجمع مالك المسير الى رسول الله ص حط مَعَ الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فلما نزل بأوطاس، اجتمع إليه الناس، وفيهم دريد بْن الصمة فِي شجار له يقاد به، فلما نزل قَالَ: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قَالَ: نعم مجال الخيل! لا حزن ضرس ولا سهل دهس، ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، ويعار الشاء، وبكاء الصغير! قالوا: ساق مالك بْن عوف مَعَ الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم، فَقَالَ: أين مالك؟ فقيل: هذا مالك، فدعي له، فَقَالَ: يا مالك، إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، ويعار الشاء، وبكاء الصغير! قَالَ: سقت مَعَ الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم، قَالَ: ولم؟ قَالَ: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم، قَالَ: فانقض به ثُمَّ قَالَ: راعي ضأن والله! هل يرد المنهزم شيء! إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت فِي أهلك ومالك. ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهد منهم أحد، قَالَ: غاب الجد والحد، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب، فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بْن عامر وعوف بْن عامر، قَالَ: ذانك الجذعان من بني عامر! لا ينفعان ولا

يضران، يا مالك إنك لم تصنع بتقديم البيضة، بيضة هوازن، إلى نحور الخيل شيئا، ارفعهم إلى متمنع بلادهم وعليا قومهم، ثُمَّ الق الصباء على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذَلِكَ وقد أحرزت أهلك ومالك قَالَ: والله لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر علمك، والله لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكئن على هذا السيف حَتَّى يخرج من ظهري! وكره أن يكون لدريد فيها ذكر ورأي قَالَ دريد بْن الصمة: هذا يوم لم أشهده، ولم يفتني: يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع أقود وطفاء الزمع ... كأنها شاة صدع وكان دريد رئيس بني جشم وسيدهم وأوسطهم، ولكن السن أدركته حَتَّى فني- وهو دريد بْن الصمة بْن بكر بْن علقمة بْن جداعة بْن غزية ابن جشم بْن معاوية بْن بكر بْن هوازن- ثُمَّ قَالَ مالك للناس: إذا أنتم رأيتم القوم فاكسروا جفون سيوفكم، وشدوا شدة رجل واحد عَلَيْهِمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن ابن إسحاق، عن اميه ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، أَنَّهُ حَدَّثَ أَنَّ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ بَعَثَ عُيُونًا مِنْ رِجَالِهِ لِيَنْظُرُوا لَهُ، وَيَأْتُوهُ بِخَبَرِ النَّاسِ، فَرَجَعُوا إِلَيْهِ وَقَدْ تَفَرَّقَتْ أَوْصَالُهُمْ، فَقَالَ: وَيْلَكُمْ! مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: رَأَيْنَا رِجَالا بيضا على خيل بلق، فو الله مَا تَمَاسَكْنَا أَنْ أَصَابَنَا مَا تَرَى! فَلَمْ يَنْهَهُ ذَلِكَ عَنْ وَجْهِهِ، إِنْ مَضَى عَلَى مَا يُرِيدُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا سَمِعَ بهم رسول الله ص بعث

إِلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي حَدْرَدٍ الأَسْلَمِيَّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي النَّاسِ فَيُقِيمَ فِيهِمْ حَتَّى يَأْتِيَهُ بِخَبَرٍ مِنْهُمْ، وَيَعْلَمَ مِنْ عِلْمِهِمْ فَانْطَلَقَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ، فَدَخَلَ فِيهِمْ، فَأَقَامَ مَعَهُمْ حَتَّى سَمِعَ وَعَلِمَ مَا قَدْ أَجْمَعُوا له من حرب رسول الله ص، وَعَلِمَ أَمْرَ مَالِكٍ وَأَمْرَ هَوَازِنَ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبْرَ، فدعا رسول الله ص عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ، فَقَالَ عُمَرُ: كَذَبَ! فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ: إِنْ تُكَذِّبْنِي فَطَالَمَا كَذَّبْتَ بِالْحَقِّ يَا عُمَرُ! فَقَالَ عُمَرُ: أَلا تَسْمَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَى مَا يَقُولُ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ! [فقال رسول الله ص: قَدْ كُنْتَ ضَالا فَهَدَاكَ اللَّهُ يَا عُمَرُ] . حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: [حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، قَالَ: لَمَّا اجمع رسول الله ص السَّيْرَ إِلَى هَوَازِنَ لِيَلْقَاهُمْ، ذُكِرَ لَهُ أَنَّ عِنْدَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ أَدْرَاعًا وَسِلاحًا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا أُمَيَّةَ- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ: أَعِرْنَا سِلاحَكَ هَذَا نَلْقَ فِيهِ عَدُوَّنَا غَدًا فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ! قَالَ: بَلْ عَارِيَةً مَضْمُونَةً حَتَّى نُؤَدِّيَهَا إِلَيْكَ، قَالَ: لَيْسَ بِهَذَا بَأْسٌ، فَأَعْطَاهُ مِائَةَ دِرْعٍ بِمَا يُصْلِحُهَا مِنَ السِّلاحِ، فَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ الله ص سَأَلَهُ أَنْ يَكْفِيَهُ حَمْلَهَا فَفَعَلَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ: فَمَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الْعَارِيَةَ مَضْمُونَةٌ مُؤَدَّاةٌ] . حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله ابن أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ص، وَمَعَهُ أَلْفَانِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، مَعَ عَشَرَةِ آلافٍ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ فَتَحَ اللَّهُ بِهِمْ مَكَّةَ، فَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ الله ص عتاب بن اسيد ابن أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ عَلَى مَكَّةَ أَمِيرًا عَلَى مَنْ غَابَ عَنْهُ مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ مَضَى عَلَى وَجْهِهِ يُرِيدُ لقاء هوازن

حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا اسْتَقْبَلْنَا وَادِيَ حُنَيْنٍ، انْحَدَرْنَا فِي وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ تِهَامَةَ أَجْوَفَ حَطُوطٍ، إِنَّمَا نَنْحَدِرُ فِيهِ انْحِدَارًا- قَالَ: وَفِي عِمَايَةِ الصُّبْحِ، وَكَانَ الْقَوْمُ قَدْ سَبَقُوا إِلَى الْوَادِي، فَكَمَنُوا لَنَا فِي شِعَابِهِ وَأَحْنَائِهِ وَمَضَايِقِهِ، قَدْ اجمعوا وتهيئوا وأعدوا- فو الله مَا رَاعِنَا وَنَحْنُ مُنْحَطُّونَ إِلا الْكَتَائِبَ قَدْ شَدَّتْ عَلَيْنَا شَدَّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَانْهَزَمَ النَّاسُ أَجْمَعُونَ، فَانْشَمَرُوا لا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وانحاز رسول الله ص ذَاتَ الْيَمِينِ، ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ أَيُّهَا النَّاسُ! هلم الى! انا رسول الله، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ! قَالَ: فَلا شَيْءَ، احْتَمَلَتِ الإِبِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَانْطَلَقَ النَّاسُ، إِلا أَنَّهُ قَدْ بَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ص نَفَرٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَمِمَّنْ ثَبَتَ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَمِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَابْنُهُ الْفَضْلُ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ، وَرَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأَيْمَنُ بن عبيد- وهو ايمن بن أُمِّ أَيْمَنَ- وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ قَالَ: وَرَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ، بِيَدِهِ رَايَةٌ سَوْدَاءُ فِي رَأْسِ رُمْحٍ طَوِيلٍ، أَمَامَ النَّاسِ وَهَوَازِنُ خَلْفَهُ، إِذَا أُدْرِكَ طَعَنَ بِرُمْحِهِ، وَإِذَا فَاتَهُ النَّاسُ رَفَعَ رُمْحَهُ لِمَنْ وَرَاءَهُ، فَاتَّبَعُوهُ وَلَمَّا انْهَزَمَ النَّاسُ، وَرَأَى من كان مع رسول الله ص مِنْ جُفَاةِ أَهْلِ مَكَّةَ الْهَزِيمَةَ، تَكَلَّمَ رِجَالٌ مِنْهُمْ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الضِّغْنِ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: لا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ الْبَحْرِ، وَالأَزْلامُ مَعَهُ فِي كِنَانَتِهِ، وَصَرَخَ كَلَدَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ- وَهُوَ مَعَ أَخِيهِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَكَانَ أَخَاهُ لأُمِّهِ، وَصَفْوَانُ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي جَعَلَ له رسول الله ص- فَقَالَ: أَلا بَطَلَ السِّحْرُ الْيَوْمَ! فَقَالَ لَهُ صفوان: اسكت فض الله فاك! فو الله لأَنْ يُرَبِّنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُرَبِّنِي

رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ! وَقَالَ شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ: قُلْتُ: الْيَوْمَ أُدْرِكُ ثَأْرِي- وَكَانَ أَبُوهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ- الْيَوْمَ أَقْتُلُ مُحَمَّدًا. قَالَ: فَأَرَدْتُ رسول الله لأَقْتُلَهُ، فَأَقْبَلَ شَيْءٌ حَتَّى تَغَشَّى فُؤَادِي فَلَمْ أُطِقْ ذَلِكَ، وَعَلِمْتُ أَنَّهُ قَدْ مُنِعَ مِنِّي. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ الْعَبَّاسِ، عَنْ أَبِيهِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المطلب، قال: انى لمع رسول الله ص آخِذٌ بِحَكَمَةِ بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، قَدْ شَجَرْتُهَا بِهَا، قَالَ: وَكُنْتُ امْرَأً جَسِيمًا شَدِيدَ الصَّوْتِ، قَالَ: ورسول الله ص يَقُولُ حِينَ رَأَى مِنَ النَّاسِ مَا رَأَى: أَيْنَ أَيُّهَا النَّاسُ! فَلَمَّا رَأَى النَّاسَ لا يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ قَالَ: يَا عَبَّاسُ، اصْرُخْ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ! يَا أَصْحَابَ السَّمُرَةِ! فَنَادَيْتُ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ السَّمُرَةِ! قَالَ: فَأَجَابُوا: أَنْ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ! قَالَ: فَيَذْهَبُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يُرِيدُ لِيُثْنِيَ بَعِيرَهُ، فَلا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَأْخُذُ دِرْعَهُ فَيَقْذِفُهَا فِي عُنُقِهِ، وَيَأْخُذُ سَيْفَهُ وَتِرْسَهُ، ثُمَّ يَقْتَحِمُ عَنْ بَعِيرِهِ فَيُخَلِّي سَبِيلَهُ فِي النَّاسِ، ثُمَّ يَؤُمُّ الصَّوْتَ، حتى ينتهى الى رسول الله ص، حَتَّى إِذَا اجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ مِائَةُ رَجُلٍ استقبلوا الناس، فاقتتلوا، فكانت الدعوى أول مَا كَانَتْ: يَا للأَنْصَارِ! ثُمَّ جُعِلَتْ أَخِيرًا: يَا لِلْخَزْرَجِ! وَكَانُوا صُبُرًا عِنْدَ الْحَرْبِ، فَأَشْرَفَ رسول الله ص فِي رِكَابِهِ، فَنَظَرَ مُجْتَلَدَ الْقَوْمِ وَهُمْ يَجْتَلِدُونَ، فَقَالَ: الآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ! حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ يقود بالنبي ص بغلته يوم حنين، فلما

غشى النبي ص الْمُشْرِكُونَ، نَزَلَ فَجَعَلَ يَرْتَجِزُ، وَيَقُولُ: [أَنَا النَّبِيُّ لا كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ ] فَمَا رُئِيَ مِنَ النَّاسِ أَشَدُّ مِنْهُ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن ابن إسحاق، عن عاصم ابن عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِيهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: بَيْنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ مِنْ هَوَازِنَ صَاحِبُ الرَّايَةِ عَلَى جَمَلِهِ يَصْنَعُ مَا يَصْنَعُ، إِذْ هَوَى لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، يُرِيدَانِهِ، فَيَأْتِيهِ عَلِيٌّ مِنْ خَلْفِهِ، فَيَضْرِبُ عُرْقُوبَيِ الْجَمَلِ، فَوَقَعَ عَلَى عَجُزِهِ، وَوَثَبَ الأَنْصَارِيُّ عَلَى الرَّجُلِ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً أَطَنَّ قَدَمَهُ بِنِصْفِ سَاقِهِ، فَانْجَعَفَ عَنْ رَحْلِهِ. قَالَ: وَاجْتَلَدَ الناس، فو الله مَا رَجَعَتْ رَاجِعَةُ النَّاسِ مِنْ هَزِيمَتِهِمْ حَتَّى وَجَدُوا الأُسَارَى مُكَتَّفِينَ، وَقَدِ الْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ ص الى ابى سفيان ابن الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ- وَكَانَ مِمَّنْ صَبَرَ يومئذ مع رسول الله ص، وَكَانَ حَسَنَ الإِسْلامِ حِينَ أَسْلَمَ، وَهُوَ آخِذٌ بِثَفَرِ بَغْلَتِهِ- فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: ابْنُ أُمِّكَ يَا رَسُولَ اللَّهَ! حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، أن رسول الله ص الْتَفَتَ، فَرَأَى أُمَّ سُلَيْمٍ بِنْتَ مِلْحَانَ- وَكَانَتْ مَعَ زَوْجِهَا أَبِي طَلْحَةَ- حَازِمَةً وَسَطَهَا بِبُرْدٍ لَهَا، وَإِنَّهَا لَحَامِلٌ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَمَعَهَا جَمَلُ أَبِي طَلْحَةَ، وَقَدْ خَشِيَتْ أَنْ يَعُزَّهَا الْجَمَلُ، فَأَدْنَتْ رَأْسَهُ مِنْهَا، فَأَدْخَلَتْ يَدَهَا فِي خِزَامَتِهِ مَعَ الْخِطَامِ، فَقَالَ رَسُولُ الله ص: أُمَّ سُلَيْمٍ! قَالَتْ: نَعَمْ،

بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ! اقْتُلْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَفِرُّونَ عَنْكَ كَمَا تَقْتُلُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكَ، فَإِنَّهُمْ لِذَلِكَ أَهْلٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله ص: او يكفى اللَّهُ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ! وَمَعَهَا خِنْجَرٌ فِي يَدِهَا، فَقَالَ لَهَا أَبُو طَلْحَةَ: مَا هَذَا مَعَكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ؟ قَالَتْ: خِنْجَرٌ أَخَذْتُهُ مَعِي، إِنْ دَنَا مِنِّي أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بعجته به قال: يقول أَبُو طَلْحَةَ: أَلا تَسْمَعُ مَا تَقُولُ أُمُّ سُلَيْمٍ يَا رَسُولَ اللَّهَ!. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن ابن إسحاق، قال: حَدَّثَنِي حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ ابن مَالِكٍ، قَالَ: لَقَدِ اسْتَلَبَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَ حُنَيْنٍ عِشْرِينَ رَجُلا وَحْدَهُ هُوَ قَتَلَهُمْ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ قَبْلَ هَزِيمَةِ الْقَوْمِ وَالنَّاسُ يَقْتَتِلُونَ مِثْلَ الْبِجَادِ الأَسْوَدِ، أَقْبَلَ مِنَ السَّمَاءِ حَتَّى سَقَطَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا نَمْلٌ أَسْوَدُ مَبْثُوثٌ قَدْ مَلَأَ الْوَادِيَ، فَلَمْ أَشُكَّ أَنَّهَا الْمَلائِكَةُ، وَلَمْ يَكُنْ إِلا هَزِيمَةُ الْقَوْمِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إِسْحَاقَ، قَالَ: فلما انهزمت هوازن استحر القتل من ثقيف ببني مالك، فقتل منهم سبعون رجلا تحت رايتهم، فيهم عثمان بْن عبد الله بْن ربيعة بْن الحارث بْن حبيب، جد ابن أم حكم بنت أبي سفيان، وكانت رايتهم مَعَ ذي الخمار، فلما قتل أخذها عثمان بْن عبد الله فقاتل بها حَتَّى قُتِلَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عَامِرِ بْنِ وَهْبِ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ، قال: لما بلغ رسول الله ص قَتْلُ عُثْمَانَ، قَالَ: أَبْعَدَهُ اللَّهُ! فَإِنَّهُ كَانَ يبغض قريشا

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ زَاذَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ انس، قال: كان النبي ص يَوْمَ حُنَيْنٍ عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ، يُقَالُ لَهَا دلدل، فلما انهزم المسلمون، [قال النبي ص لِبَغْلَتِهِ: الْبَدِي دُلْدُلُ! فَوَضَعَتْ بَطْنَهَا عَلَى الأَرْضِ فاخذ النبي ص حِفْنَةً مِنْ تُرَابٍ، فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِهِمْ، وَقَالَ: حم لا يُنْصَرُونَ!] . فَوَلَّى الْمُشْرِكُونَ مُدْبِرِينَ، مَا ضَرَبَ بِسَيْفٍ وَلا طَعَنَ بِرُمْحٍ وَلا رَمَى بِسَهْمٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثني مُحَمَّد بن إِسْحَاقَ، عن يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الأَخْنَسِ، قَالَ: قُتِلَ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ غُلامٌ لَهُ نَصْرَانِيٌّ أَغْرَلُ قَالَ: فَبَيْنَا رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يَسْتَلِبُ قَتْلَى مِنْ ثَقِيفٍ، إِذْ كَشَفَ الْعَبْدَ لِيَسْتَلِبَهُ، فَوَجَدَهُ أَغْرَلَ، فَصَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّ ثَقِيفًا غُرْلٌ مَا تَخْتَتِنُ! قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، وَخَشِيتُ أَنْ تَذْهَبَ عَنَّا فِي الْعَرَبِ، فَقُلْتُ: لا تَقُلْ ذَلِكَ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي! إِنَّمَا هُوَ غُلامٌ لَنَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ جَعَلْتُ أَكْشِفُ لَهُ قَتْلانَا فَأَقُولُ: أَلا تَرَاهُمْ مُخَتَّنِينَ! قَالَ: وَكَانَتْ رَايَةُ الأَحْلافِ مَعَ قَارِبِ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَلَمَّا هُزِمَ النَّاسُ أَسْنَدَ رَايَتَهُ إِلَى شَجَرَةٍ، وَهَرَبَ هُوَ وَبَنُو عَمِّهِ وَقَوْمُهُ مِنَ الأَحْلافِ، فَلَمْ يُقْتَلْ مِنْهُمْ إِلا رَجُلانِ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي غِيَرَةَ يُقَالُ لَهُ وَهْبٌ، وَآخَرُ مِنْ بَنِي كُنَّةَ يُقَالُ لَهُ: الْجُلاحُ، فقال رسول الله ص حِينَ بَلَغَهُ قَتْلُ الْجَلاحِ: قُتِلَ الْيَوْمَ سَيِّدُ شَبَابِ ثَقِيفٍ، إِلا مَا كَانَ مِنَ ابْنِ هُنَيْدَةَ- وَابْنُ هُنَيْدَةَ الْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إِسْحَاقَ، قَالَ: ولما انهزم المشركون أتوا الطائف، ومعهم مالك بْن عوف، وعسكر بعضهم بأوطاس، وتوجه بعضهم نحو نخلة- ولم يكن فيمن توجه نحو نخلة إلا بنو غيرة من ثقيف- فتبعت خيل رسول الله ص من سلك فِي نخلة

من الناس، ولم تتبع من سلك الثنايا، فأدرك ربيعة بْن رفيع بْن أهبان بْن ثعلبة بْن رَبِيعَةَ بْن يربوع بْن سمال بْن عوف بْن امرئ القيس- وكان يقال له ابن لذعة وهي أمه، فغلبت على نسبه- دريد بْن الصمة، فأخذ بخطام جمله، وهو يظن أنه امرأة، وذلك أنه كان فِي شجار له، فإذا هو رجل، فأناخ به، وإذا هو بشيخ كبير، وإذا هو دريد بْن الصمة، لا يعرفه الغلام، فَقَالَ له دريد: ماذا تريد بي؟ قَالَ: أقتلك، قَالَ: ومن أنت؟ قَالَ: أنا ربيعة بْن رفيع السلمى، ثم ضربه بسيفه فلم يغن شيئا، فَقَالَ: بئسما سلحتك أمك! خذ سيفي هذا من مؤخر الرحل فِي الشجار، ثُمَّ اضرب به وارفع عن العظام، واخفض عن الدماغ، فإني كذلك كنت أقتل الرجال ثُمَّ إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بْن الصمة، فرب يوم والله قد منعت نساءك! فزعمت بنو سليم أن ربيعة قَالَ: لما ضربته فوقع تكشف الثوب عنه، فإذا عجانه وبطون فخذيه مثل القرطاس من ركوب الخيل أعراء، فلما رجع ربيعة إلى أمه أخبرها بقتله إياه، فقالت: والله لقد أعتق أمهات لك ثلاثا. قَالَ أبو جعفر: وبعث رسول الله ص فِي آثار من توجه قبل أوطاس، فَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْكِنْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا قدم النبي ص مِنْ حُنَيْنٍ بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ عَلَى جَيْشٍ إِلَى أَوْطَاسَ، فَلَقِيَ دُرَيْدَ بْنَ الصُّمَّةِ، فَقَتَلَ دُرَيْدًا، وَهَزَمَ اللَّهُ أَصْحَابَهُ. قَالَ أَبُو مُوسَى: فَبَعَثَنِي مَعَ أَبِي عَامِرٍ، قَالَ: فَرُمِيَ أَبُو عَامِرٍ فِي رُكْبَتِهِ، رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي جُشَمٍ بِسَهْمٍ فَأَثْبَتَهُ فِي رُكْبَتِهِ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا عَمِّ، مَنْ رَمَاكَ؟ فَأَشَارَ أَبُو عَامِرٍ لأَبِي مُوسَى، فَقَالَ: إِنَّ ذَاكَ قَاتِلِي، تَرَاهُ ذَلِكَ الَّذِي رَمَانِي!

قَالَ أَبُو مُوسَى: فَقَصَدْتُ لَهُ فَاعْتَمَدْتُهُ، فَلَحِقْتُهُ، فَلَمَّا رَآنِي وَلَّى عَنِّي ذَاهِبًا، فَاتَّبَعْتُهُ، وَجَعَلْتُ اقول له: الا تستحي! أَلَسْتَ عَرَبِيًّا! أَلا تَثْبَتُ! فَكَرَّ، فَالْتَقَيْتُ أَنَا وَهُوَ، فَاخْتَلَفْنَا ضَرْبَتَيْنِ، فَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى أَبِي عَامِرٍ، فَقُلْتُ: قَدْ قَتَلَ اللَّهُ صَاحِبَكَ، قَالَ: فَانْزَعْ هَذَا السَّهْمَ، فَنَزَعْتُهُ فَنَزَا منه الماء، فقال: يا بن أَخِي، انْطَلِقْ إِلَى رَسُول اللَّهِ، فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلامَ، وَقُلْ لَهُ إِنَّهُ يَقُولُ لَكَ: اسْتَغْفِرْ لِي. قَالَ: وَاسْتَخْلَفَنِي أَبُو عَامِرٍ عَلَى النَّاسِ فَمَكَثَ يَسِيرًا ثُمَّ إِنَّهُ مَاتَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قَالَ: يزعمون أن سلمة بْن دريد، هو الذي رمى أبا عامر بسهم فأصاب ركبته، فقتله، فَقَالَ سلمة بْن دريد فِي قتله أبا عامر: إن تسألوا عني فإني سلمه ابن سمادير لمن توسمه أضرب بالسيف رءوس المسلمه. وسمادير أم سلمة، فانتمى إليها. قَالَ: وخرج مالك بْن عوف عِنْد الهزيمة، فوقف فِي فوارس من قومه على ثنية من الطريق، وقال لأصحابه: قفوا حَتَّى تمضي ضعفاؤكم وتلحق أخراكم، فوقف هنالك حَتَّى مضى من كان لحق بهم من منهزمة النَّاسُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قال: حدثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي بَعْضُ بَنِي سعد بن بكر، ان رسول الله ص قَالَ يَوْمَئِذٍ لِخَيْلِهِ الَّتِي بَعَثَ: إِنْ قَدَرْتُمْ على بجاد- رجل من بنى سعد ابن بَكْرٍ- فَلا يَفْلِتَنَّكُمْ، وَكَانَ بِجَادٌ قَدْ أَحْدَثَ حَدَثًا، فَلَمَّا ظَفَرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ سَاقُوهُ وَأَهْلَهُ، وَسَاقُوا أُخْتَهُ الشَّيْمَاءَ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، أُخْتَ رَسُولِ اللَّهِ ص مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَعَنَّفُوا عَلَيْهَا فِي السِّيَاقِ مَعَهُمْ،

فَقَالَتْ لِلْمُسْلِمِينَ: تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ أَنِّي لأُخْتُ صَاحِبِكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَلَمْ يُصَدِّقُوهَا حَتَّى أَتَوْا بِهَا رسول الله ص. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي وَجْزَةَ يَزِيدَ بْنِ عُبَيْدٍ السَّعْدِيِّ، قَالَ: لَمَّا انْتُهِيَ بِالشَّيْمَاءِ الى رسول الله ص قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُخْتُكَ، قَالَ: وَمَا عَلامَةُ ذَلِكَ؟ قَالَتْ عَضَّةٌ عَضَضْتَنِيهَا فِي ظَهْرِي وَأَنَا مُتَوَرِّكَتُكَ قَالَ: فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ص الْعَلامَةَ، فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ، ثُمَّ قَالَ: هَاهُنَا، فَأَجْلَسَهَا عَلَيْهِ، وَخَيَّرَهَا، وَقَالَ: إِنْ أَحْبَبْتِ فَعِنْدِي مُحَبَّبَةً مُكَرَّمَةً، وَإِنْ أَحْبَبْتِ أُمَتِّعْكِ وَتَرْجِعِي إِلَى قَوْمِكَ، قَالَتْ: بَلْ تُمَتِّعُنِي وَتَرُدُّنِي إِلَى قَوْمِي، فمتعها رسول الله ص، وَرَدَّهَا إِلَى قَوْمِهَا، فَزَعَمَتْ بَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ أَنَّهُ أَعْطَاهَا غُلامًا لَهُ يُقَالُ لَهُ مَكْحُولٌ، وَجَارِيَةً، فَزَوَّجَتْ أَحَدَهُمَا الآخَرَ، فَلَمْ يَزَلْ فِيهِمْ مِنْ نَسْلِهِمَا بَقِيَّةٌ. قال ابن إسحاق: استشهد يوم حنين من قريش، ثُمَّ من بني هاشم: أيمن بْن عبيد- وهو ابن أم ايمن، مولاه رسول الله ص- ومن بني أسد بْن عبد العزى يزيد بْن زمعة بْن الأَسْوَدِ بْن المطلب بْن أسد- جمح به فرس له يقال له الجناح، فقتل- ومن الأنصار سراقة بْن الحارث ابن عدي بْن بلعجلان، ومن الأشعريين أبو عامر الأشعري ثم جمعت الى رسول الله ص سبايا حنين وأموالها، وكان على المغانم مسعود بن عمرو القاري، فامر رسول الله ص بالسبايا والأموال إلى الجعرانة فحبست بها حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق: لما قدم فل ثقيف الطائف أغلقوا عليهم أبواب مدينتها، وصنعوا الصنائع للقتال، ولم يشهد حنينا ولا حصار الطائف عروة بْن مسعود ولا غيلان بْن

غزوه الطائف

سلمة، كانا بجرش يتعلمان صنعة الدباب والضبور والمجانيق. غزوه الطائف فَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبَانُ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عروه، قال: سار رسول الله ص يَوْمَ حُنَيْنٍ مِنْ فَوْرِهِ ذَلِكَ- يَعْنِي مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٍ- حَتَّى نَزَلَ الطَّائِفَ، فَأَقَامَ نِصْفَ شهر يقاتلهم رسول الله ص وَأَصْحَابُهُ، وَقَاتَلَتْهُمْ ثَقِيفٌ مِنْ وَرَاءِ الْحِصْنِ، لَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَأَسْلَمَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، وَجَاءَتْ رَسُولَ الله ص وفودهم، ثم رجع النبي ص وَلَمْ يُحَاصِرْهُمْ إِلا نِصْفَ شَهْرٍ حَتَّى نَزَلَ الْجِعْرَانَةَ، وَبِهَا السَّبْيُ الَّذِي سَبَى رَسُولُ اللَّهِ مِنْ حُنَيْنٍ مِنْ نِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ- وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ السَّبْيَ الَّذِي أَصَابَ يَوْمَئِذٍ مِنْ هَوَازِنَ كَانَتْ عُدَّتُهُ سِتَّةَ آلافٍ مِنْ نِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ- فلما رجع النبي ص إِلَى الْجِعْرَانَةِ، قَدِمَتْ عَلَيْهِ وُفُودُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَأَعْتَقَ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ كُلَّهُمْ، وَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنَ الْجِعْرَانَةِ، وَذَلِكَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ. ثُمَّ إِنَّ رسول الله ص رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَاسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَمْرَهُ أَنْ يُقِيمَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ، وَيُعَلِّمَ النَّاسَ الإِسْلامَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَمِّنَ مَنْ حَجَّ مِنَ النَّاسِ، وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا

قَدِمَهَا قَدِمَ عَلَيْهِ وُفُودُ ثَقِيفٍ، فَقَاضُوهُ عَلَى الْقَضِيَّةِ الَّتِي ذُكِرَتْ، فَبَايَعُوهُ، وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِي عِنْدَهُمْ كَاتَبُوهُ عَلَيْهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عمرو بن شعيب، ان رسول الله ص سَلَكَ إِلَى الطَّائِفِ مِنْ حُنَيْنٍ عَلَى نَخْلةِ الْيَمَانِيَّةِ، ثُمَّ عَلَى قَرَنٍ، ثُمَّ عَلَى الْمُلَيْحِ، ثُمَّ عَلَى بَحْرَةَ الرُّغَاءِ مِنْ لِيَّةَ، فَابْتَنَى بِهَا مَسْجِدًا، فَصَلَّى فِيهِ، فَأَقَادَ يَوْمَئِذٍ بِبَحْرَةَ الرغاه حِينَ نَزَلَهَا بِدَمٍ- وَهُوَ أَوَّلُ دَمٍ أُقِيدَ بِهِ فِي الإِسْلامِ- رَجُلا مِنْ بَنِي لَيْثٍ، قَتَلَ رَجُلا مِنْ هُذَيْلٍ، فَقَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ ص، وَأَمَرَ رَسُول اللَّهِ وَهُوَ بِلِيَّةَ بِحِصْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ فَهُدِمَ، ثُمَّ سَلَكَ فِي طَرِيقٍ يُقَالُ لَهَا الضَّيِّقَةُ، فَلَمَّا تَوَجَّهَ فِيهَا، سَأَلَ عَلَى اسْمِهَا، فَقَالَ: مَا اسْمُ هَذِهِ الطَّرِيقِ؟ فَقِيلَ لَهُ: الضَّيْقَةُ، فَقَالَ: بَلْ هِيَ الْيُسْرَى ثم خرج رسول الله ص عَلَى نَخَبٍ، حَتَّى نَزَلَ تَحْتَ سِدْرَةٍ يُقَالُ لَهَا الصَّادِرَةُ، قَرِيبًا مِنْ مَالِ رَجُلٍ مِنْ ثقيف، فأرسل اليه رسول الله ص: إِمَّا أَنْ تَخْرُجَ، وَإِمَّا أَنْ نُخَرِّبَ عَلَيْكَ حَائِطَكَ، فَأَبَى أَنْ يَخْرُجَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ص بِإِخْرَابِهِ ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ حَتَّى نَزَلَ قَرِيبًا مِنَ الطَّائِفِ، فَضَرَبَ عَسْكَرُهُ، فَقُتِلَ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالنَّبْلِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَسْكَرَ اقْتَرَبَ مِنْ حَائِطِ الطَّائِفِ فَكَانَتِ النَّبْلُ تَنَالُهُمْ، وَلَمْ يَقْدِرِ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَدْخُلُوا حَائِطَهُمْ، غَلَّقُوهُ دُونَهُمْ، فَلَمَّا أُصِيبَ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالنَّبْلِ، ارْتَفَعَ، فَوَضَعَ عَسْكَرَهُ عِنْدَ مَسْجِدِهِ الَّذِي بِالطَّائِفِ الْيَوْمَ، فَحَاصَرَهُمْ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَمَعَهُ امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِهِ، إِحْدَاهُمَا أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ وَأُخْرَى مَعَهَا- قَالَ الواقدي: الأُخْرَى زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ- فَضَرَبَ لَهُمَا قُبَّتَيْنِ، فَصَلَّى بَيْنَ القبتين

فَلَمَّا أَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ، بَنَى عَلَى مُصَلَّى رَسُول الله ص ذَلِكَ أَبُو أُمَيَّةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ وَهْبِ بْنِ مُعَتِّبِ بْنِ مَالِكٍ مَسْجِدًا، وَكَانَتْ فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ سَارِيةٌ- فِيمَا يَزْعُمُونَ- لا تَطْلُعُ عَلَيْهَا الشَّمْسُ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، إِلا سُمِعَ لها نقيض، فحاصرهم رسول الله ص، وَقَاتَلَهُمْ قِتَالا شَدِيدًا، وَتَرَامَوْا بِالنَّبْلِ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمَ الشَّدْخَةِ عِنْدَ جِدَارِ الطَّائِفِ، دَخَلَ نفر من اصحاب رسول الله ص تَحْتَ دَبَّابَةٍ، ثُمَّ زَحَفُوا بِهَا إِلَى جِدَارِ الطَّائِفِ، فَأَرْسَلَتْ عَلَيْهِمْ ثَقِيفٌ سِكَكَ الْحَدِيدِ مُحَمَّاةً بِالنَّارِ، فَخَرَجُوا مِنْ تَحْتِهَا، فَرَمَتْهُمْ ثَقِيفٌ بِالنَّبْلِ، وَقَتَلُوا رِجَالا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ بِقَطْعِ أَعْنَابِ ثَقِيفٍ، فَوَقَعَ فِيهَا النَّاسُ يَقْطَعُونَ. وَتَقَدَّمَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ إِلَى الطائف فناديا ثَقِيفًا: أَنْ أَمِّنُونَا حَتَّى نُكَلِّمَكُمْ! فَأَمَّنُوهُمَا، فَدَعَوْا نِسَاءً مِنْ نِسَاءِ قُرَيْشٍ وَبَنِي كِنَانَةَ لِيَخْرُجَنَّ إِلَيْهِمَا- وَهُمَا يَخَافَانِ عَلَيْهِنَّ السِّبَاءَ- فَأَبَيْنَ، مِنْهُنَّ آمِنَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، كَانَتْ عِنْدَ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ لَهُ مِنْهَا دَاوُدُ بْنُ عُرْوَةَ وَغَيْرُهَا. وَقَالَ الواقدي: حَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا مَضَتْ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنْ حِصَارِ الطَّائِفِ، اسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الدِّيلِيَّ، وَقَالَ: يَا نَوْفَلُ، مَا تَرَى فِي الْمُقَامِ عَلَيْهِمْ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثَعْلَبٌ فِي جُحْرٍ، إِنْ أَقَمْتَ عَلَيْهِ أَخَذْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَضُرَّكَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: قد بلغنى ان رسول الله ص قَالَ لأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ، وَهُوَ مُحَاصِرٌ ثَقِيفًا بِالطَّائِفِ: يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنِّي رَأَيْتُ أَنَّهُ أُهْدِيَتْ لِي قَعْبَةٌ

مَمْلُوءَةٌ زُبْدًا، فَنَقَرَهَا دِيكٌ فَأَهْرَاقَ مَا فِيهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَظُنُّ أَنْ تُدْرِكَ مِنْهُمْ يَوْمَكَ هَذَا مَا تُرِيدُ يَا رَسُولَ الله فقال رسول الله ص: وَأَنَا لا أَرَى ذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ حَكِيمِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ الأَوْقَصِ السُّلَمِيَّةِ- وَهِيَ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ- قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِي إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ الطَّائِفَ حُلِّيَّ بَادِيَةَ بِنْتِ غَيْلانَ بْنِ سَلَمَةَ، أَوْ حُلِيَّ الْفَارِعَةِ بِنْتِ عَقِيلٍ- وَكَانَتَا مِنْ أَحْلَى نِسَاءِ ثَقِيفٍ- قَالَ: فَذُكِرَ لي ان رسول الله ص قَالَ لَهَا: وَإِنْ كَانَ لَمْ يُؤْذَنْ لِي فِي ثَقِيفٍ يَا خُوَيْلَةُ! فَخَرَجَتْ خُوَيْلَةُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى رسول الله ص، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا حَدِيثٌ حَدَّثَتْنِيهِ خُوَيْلَةُ أَنَّكَ قُلْتَهُ! قَالَ: قَدْ قُلْتُهُ، قَالَ: او ما أُذِنَ فِيهِمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: لا، قَالَ: أَفَلا أُؤَذِّنُ بِالرَّحِيلِ فِي النَّاسِ! قَالَ: بلى، فاذن عمر بِالرَّحِيلِ، فَلَمَّا اسْتَقَلَّ النَّاسُ نَادَى سَعِيدَ بْنَ عُبَيْدِ بْنِ أُسَيْدِ بْن أَبِي عَمْرِو بْنِ عِلاجٍ الثَّقَفِيَّ: أَلا إِنَّ الْحَيَّ مُقِيمٌ! قَالَ: يَقُولُ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ: أَجَلْ وَاللَّهِ مَجَدَّةً كِرَامًا! فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: قَاتَلَكَ اللَّهُ يَا عُيَيْنَةُ! أَتَمْدَحُ قَوْمًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِالامْتِنَاعِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَقَدْ جِئْتَ تَنْصُرَهُ! قَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا جِئْتُ لأُقَاتِلَ مَعَكُمْ ثَقِيفًا، وَلَكِنِّي أَرَدْتُ أَنْ يَفْتَحَ مُحَمَّدٌ الطَّائِفَ فَأُصِيبُ مِنْ ثَقِيفٍ جَارِيَةً أَتَبَطَّنُهَا لَعَلَّهَا أَنْ تَلِدَ لِي رَجُلا، فَإِنَّ ثَقِيفًا قَوْمٌ مَنَاكِيرُ. واستشهد بالطائف من اصحاب رسول الله ص اثْنَا عَشَرَ رَجُلا، سَبْعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَرَجُلٌ من بنى ليث، واربعه من الانصار

امر اموال هوازن وعطايا المؤلفه قلوبهم منها

امر اموال هوازن وعطايا المؤلفه قلوبهم منها حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ص حِينَ انْصَرَفَ مِنَ الطَّائِفِ عَلَى دَحْنَا، حَتَّى نَزَلَ الْجِعْرَانَةَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ قَدِمَ سَبْيُ هَوَازِنَ حِينَ سَارَ إِلَى الطَّائِفِ الى الجعرانة، فحبس بها، ثم اتته بالجعرانة، وكان مع رسول الله ص مِنْ سَبْيِ هَوَازِنَ مِنَ النِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ عَدَدٌ كَثِيرٌ، وَمِنَ الإِبِلِ سِتَّةُ آلافِ بَعِيرٍ، وَمِنَ الشَّاءِ مَا لا يُحْصَى. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة قال: حدثني محمد بن إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: أَتَى وَفْدُ هَوَازِنَ رَسُولَ الله ص وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ، وَقَدْ أَسْلَمُوا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا أَصْلٌ وَعَشِيرَةٌ، وَقَدْ أَصَابَنَا مِنَ الْبَلاءِ مَا لا يَخْفَى عَلَيْكَ، فَامْنُنْ عَلَيْنَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ! فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ- أَحَدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، وَكَانَ بَنُو سعد هم الذين ارضعوا رسول الله ص- يُقَالُ لَهُ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدَ، وَكَانَ يُكَنَّى بِأَبِي صُرَدَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا فِي الْحَظَائِرِ عَمَّاتُكَ وَخَالاتُكَ وَحَوَاضِنُكَ اللَّاتِي كُنَّ يَكْفُلْنَكَ! وَلَوْ أَنَّنَا مَلَحْنَا لِلْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ أَوْ لِلنُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، ثُمَّ نَزَلَ مِنَّا بِمِثْلِ مَا نَزَلْتَ بِهِ، رَجَوْنَا عَطْفَهُ وَعَائِدَتَهُ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمَكْفُولِينَ! ثُمَّ قَالَ: امْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كَرَمٍ ... فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نرجوه وندخر

امْنُنْ عَلَى بَيْضَةٍ قَدْ عَاقَهَا قَدَرٌ ... مُمَزَّق شَمْلُهَا، فِي دَهْرِهَا غِيَرُ فِي أَبْيَاتٍ قَالَهَا، فقال رسول الله ص: أَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ أَمْ أَمْوَالُكُمْ؟ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خَيَّرْتَنَا بَيْنَ أَحْسَابِنَا وَأَمْوَالِنَا، بَلْ تَرُدُّ عَلَيْنَا نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا فَهُمْ أَحَبُّ إِلَيْنَا، فَقَالَ: أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ، فَإِذَا أَنَا صَلَّيْتُ بِالنَّاسِ، فَقُولُوا: إِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبِالْمُسْلِمِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فِي أَبْنَائِنَا وَنِسَائِنَا، فَسَأُعْطِيكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ، وَأَسْأَلُ لَكُمْ، فَلَمَّا صلى رسول الله ص بِالنَّاسِ الظُّهْرَ، قَامُوا فَتَكَلَّمُوا بِالَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ، فقال رسول الله: أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ، وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: وَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ، وَقَالَتِ الأَنْصَارُ: وَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ قَالَ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو تَمِيمٍ فَلا، وَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو فَزَارَةَ فلا، وقال عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو سُلَيْمٍ فَلا، قَالَتْ بَنُو سُلَيْمٍ: مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ. قَالَ: يَقُولُ الْعَبَّاسُ لِبَنِي سليم: وهنتمونى! [فقال رسول الله ص: أَمَّا مَنْ تَمَسَّكَ بِحَقِّهِ مِنْ هَذَا السَّبْيِ مِنْكُمْ فَلَهُ بِكُلِّ إِنْسَانٍ سِتُّ فَرَائِضَ مِنْ أَوَّلِ شَيْءٍ نُصِيبُهُ، فَرُدُّوا إِلَى النَّاسِ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ] . حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ السَّعْدِيُّ أَبُو وَجْزَةَ، أَنَّ رَسُولَ الله ص كَانَ أَعْطَى عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ جَارِيَةً مِنْ سَبْيِ حُنَيْنٍ يُقَالُ لَهَا رَيْطَةُ بِنْتُ هِلالِ بْنِ حَيَّانَ بْنِ عُمَيْرَةَ بْنِ هِلالِ بْنِ نَاصِرَةَ بْنِ قُصَيَّةَ بْنِ نَصْرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، وَأَعْطَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ جَارِيَةً يُقَالُ لَهَا زَيْنَبُ بِنْتُ حَيَّانَ بْنِ

عَمْرِو بْنِ حَيَّانَ، وَأَعْطَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ جَارِيَةً، فَوَهَبَهَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ ص عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ جَارِيَةً مِنْ سَبْيِ هَوَازِنَ، فَوَهَبَهَا لِي، فَبَعَثْتُ بِهَا إِلَى أَخْوَالِي مِنْ بَنِي جُمَحٍ لِيُصْلِحُوا لِي مِنْهَا حَتَّى أَطُوفَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ آتِيهِمْ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُصِيبَهَا إِذَا رَجَعْتُ إِلَيْهَا، قَالَ: فَخَرَجْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ حِينَ فَرَغْتُ، فَإِذَا النَّاسُ يَشْتَدُّونَ، فَقُلْتُ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: رَدَّ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا، قَالَ: قُلْتُ: تِلْكُمْ صَاحِبَتُكُمْ فِي بَنِي جُمَحٍ، اذْهَبُوا فَخُذُوهَا، فَذَهَبُوا إِلَيْهَا فَأَخَذُوهَا، وَأَمَّا عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ فَأَخَذَ عَجُوزًا مِنْ عَجَائِزِ هَوَازِنَ، وَقَالَ حِينَ أَخَذَهَا: أَرَى عَجُوزًا وَأَرَى لَهَا فِي الْحَيِّ نَسَبًا، وَعَسَى أَنْ يَعْظُمَ فداؤها! فلما رد رسول الله ص السَّبَايَا بِسِتِّ فَرَائِضَ أَبَى أَنْ يَرُدَّهَا، فَقَالَ له زهير ابو صرد: خذها عنك، فو الله مَا فُوهَا بِبَارِدٍ، وَلا ثَدْيُهَا بِنَاهِدٍ، وَلا بطنها بوالد، ولا درها بما كد، وَلا زَوْجُهَا بِوَاجِدٍ فَرَدَّهَا بِسِتِّ فَرَائِضَ حِينَ قَالَ لَهُ زُهَيْرٌ مَا قَالَ، فَزَعَمُوا أَنَّ عُيَيْنَةَ لَقِيَ الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، فَشَكَا إِلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكَ مَا أَخَذْتَهَا بِكْرًا غَرِيرَةً، وَلا نَصَفًا وَثِيرَةً، [فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص لِوَفْدِ هَوَازِنَ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ: مَا فَعَلَ؟ فَقَالُوا: هُوَ بِالطَّائِفِ مَعَ ثَقِيفٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: أَخْبِرُوا مَالِكًا أَنَّهُ إِنْ أَتَانِي مُسْلِمًا رَدَدْتُ عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، وَأَعْطَيْتُهُ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ،] فَأَتَى مَالِكٌ بِذَلِكَ، فَخَرَجَ مِنَ الطَّائِفِ إِلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ خَافَ ثَقِيفًا عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ رَسُولَ الله ص قَالَ لَهُ مَا قَالَ، فَيَحْبِسُوهُ، فَأَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَهُيِّئَتْ لَهُ، وَأَمَرَ بِفَرَسٍ لَهُ فَأُتِيَ بِهِ الطَّائِفَ، فَخَرَجَ لَيْلا، فَجَلَسَ عَلَى فَرَسِهِ فَرَكَضَهُ، حَتَّى أَتَى رَاحِلَتَهُ حَيْثُ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُحْبَسَ لَهُ، فَرَكِبَهَا، فَلَحِقَ بِرَسُولِ اللَّهِ فَأَدْرَكَهُ بالجعرانة- او

بِمَكَّةَ- فَرَدَّ عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، وَأَعْطَاهُ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، وَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إِسْلامُهُ. وَاسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ الله ص عَلَى قَوْمِهِ وَعَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْ تِلْكَ الْقَبَائِلِ حَوْلَ الطَّائِفِ: ثُمَالَةَ وَسَلِمَةَ وَفَهْمَ، فَكَانَ يُقَاتِلُ بِهِمْ ثَقِيفًا، لا يَخْرُجُ لَهُمْ سَرْحٌ إِلا أَغَارَ عَلَيْهِ، حَتَّى ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ ابو محجن ابن حَبِيبِ بْن عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثَّقَفِيُّ: هَابَتِ الأَعْدَاءُ جَانِبَنَا ... ثُمَّ تَغْزُونَا بَنُو سَلِمَهْ وَأَتَانَا مَالِكٌ بِهِمْ ... نَاقِضًا لِلْعَهْدِ وَالْحُرْمَهْ وَأَتَوْنَا فِي مَنَازِلِنَا ... وَلَقَدْ كُنَّا أُولِي نِقْمَهْ وَهَذَا آخِرُ حَدِيثِ أَبِي وَجْزَةَ. ثُمَّ رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ رسول الله ص مِنْ رَدِّ سَبَايَا حُنَيْنٍ إِلَى أَهْلِهَا، رَكِبَ وَاتَّبَعَهُ النَّاسُ [يَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اقْسِمْ علينا فيئنا الإِبِلِ وَالْغَنَمِ، حَتَّى أَلْجَئُوهُ إِلَى شَجَرَةٍ، فَاخْتَطَفَتِ الشَّجَرَةُ عَنْهُ رِدَاءَهُ، فَقَالَ: رُدُّوا عَلَيَّ رِدَائِي ايها الناس، فو الله لَوْ كَانَ لِي عَدَدَ شَجَرِ تِهَامَةَ نِعَمًا لَقَسَمْتُهَا عَلَيْكُمْ، ثُمَّ مَا لَقِيتُمُونِي بَخِيلا وَلا جَبَانًا وَلا كَذَّابًا ثُمَّ قَامَ إِلَى جَنْبِ بَعِيرٍ، فَأَخَذَ وَبْرَةً مِنْ سِنَامِهِ فَجَعَلَهَا بَيْنَ أُصْبَعَيْهِ، ثُمَّ رَفَعَهَا فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ وَاللَّهِ لَيْسَ لِي مِنْ فَيْئِكُمْ وَلا هَذِهِ الْوَبَرَةُ إِلا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ، فَأَدُّوا الخياط والمخيط،

فَإِنَّ الْغُلُولَ يَكُونُ عَلَى أَهْلِهِ عَارًا وَنَارًا وَشَنَارًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِكُبَّةٍ مِنْ خُيُوطِ شَعَرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخَذْتُ هَذِهِ الْكُبَّةَ أَعْمَلُ بِهَا بَرْذَعَةَ بَعِيرٍ لِي دُبِرَ، قَالَ: أَمَّا نَصِيبِي مِنْهَا فَلَكَ،] فَقَالَ: إِنَّهُ إِذَا بَلَغْتَ هَذِهِ فَلا حَاجَةَ لِي بِهَا، ثُمَّ طَرَحَهَا مِنْ يَدِهِ. إِلَى هَاهُنَا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله ابن ابى بكر، قال: اعطى رسول الله ص الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ- وَكَانُوا أَشْرَافًا مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ يَتَأَلَّفُهُمْ وَيَتَأَلَّفُ بِهِ قُلُوبَهُمْ- فَأَعْطَى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ مِائَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى ابْنَهُ مُعَاوِيَةَ مائه بعير، واعطى حكيم ابن حِزَامٍ مِائَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى النَّضِيرَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ أَخَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ مِائَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى الْعَلاءِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيِّ حَلِيفِ بَنِي زُهْرَةَ مِائَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ مِائَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ مِائَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو مِائَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ أَبِي قَيْسٍ مِائَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ مِائَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى الأَقْرَعَ ابن حَابِسٍ التَّمِيمِيَّ مِائَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى مَالِكَ بْنَ عوف النصرى مِائَةَ بَعِيرٍ، فَهَؤُلاءِ أَصْحَابُ الْمِئِينَ، وَأَعْطَى دُونَ المائه رجالا من قريش، منهم مخرمه ابن نَوْفَلِ بْنِ أُهَيْبٍ الزُّهْرِيُّ، وَعُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ، وَهِشَامُ بْنُ عَمْرٍو أَخُو بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ- لا يُحْفَظُ عِدَةُ مَا أَعْطَاهُمْ، وَقَدْ عُرِفَ فِيمَا زُعِمَ أَنَّهَا دُونَ الْمِائَةِ- وَأَعْطَى سَعِيدَ بْنَ يَرْبُوعِ بْنِ عَنْكَثَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ مَخْزُومٍ خَمْسِينَ مِنَ الإِبِلِ، وَأَعْطَى السَّهْمِيَّ خَمْسِينَ مِنَ الإِبِلِ، وَأَعْطَى عَبَّاسَ بْنَ مرداس السلمى اباعر فنسخطها، وعاتب فيها رسول الله ص، فقال:

كَانَتْ نِهَابًا تَلافَيْتُهَا ... بِكَرِّي عَلَى الْمُهْرِ فِي الأَجْرَعِ وَإِيقَاظِيَ الْقَوْمَ أَنْ يَرْقُدُوا ... إِذَا هَجَعَ النَّاسُ لَمْ أَهْجَعِ فَأَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعَبِيدِ ... بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالأَقْرَعِ وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَإٍ ... فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ إِلا أَفَائِلَ أُعْطَيْتُهَا ... عَدِيدَ قَوَائِمِهَا الأَرْبَعِ وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلا حَابِسٌ ... يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا ... وَمَنْ تَضَعِ الْيَوْمَ لا يُرْفَعِ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ الله ص: اذْهَبُوا فَاقْطَعُوا عَنِّي لِسَانَهُ، فَزَادُوهُ حَتَّى رَضِيَ، فَكَانَ ذَلِكَ قَطْعَ لِسَانِهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ [مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الحارث، ان قائلا قال لرسول الله ص مِنْ أَصْحَابِهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطَيْتَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ وَالأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِائَةً، وَتَرَكْتَ جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ الضَّمْرِيَّ! فَقَالَ رَسُولُ الله ص: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَجُعَيْلُ بْنُ سُرَاقَةَ خَيْرٌ مِنْ طِلاعِ الأَرْضِ، كُلِّهِمْ مِثْلَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَالأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ، وَلَكِنِّي تَأَلَّفْتُهُمَا لِيُسْلِمَا، وَوَكَلْتُ جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ إِلَى إِسْلامِهِ]

حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مِقْسَمٍ أَبِي الْقَاسِمِ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَتَلِيدُ بْنُ كِلابٍ اللَّيْثِيُّ حَتَّى أتينا عبد الله ابن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ مُعَلِّقًا نَعْلَيْهِ بِيَدِهِ، فَقُلْنَا لَهُ: هَلْ حَضَرْتَ رَسُولَ الله ص حِينَ كَلَّمَهُ التَّمِيمِيُّ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ [قَالَ: نَعَمْ، أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يُقَالُ لَهُ ذو الخويصره، فوقف على رسول الله ص وَهُوَ يُعْطِي النَّاسَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ قَدْ رَأَيْتُ مَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْيَوْمِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: أَجَلْ، فَكَيْفَ رَأَيْتَ؟ قَالَ: لَمْ ارك عدلت! فغضب رسول الله ص، ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ! إِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَدْلُ عِنْدِي، فَعِنْدَ مَنْ يَكُونُ! فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا نَقْتُلُهُ! فَقَالَ: لا، دَعُوهُ، فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ شِيعَةٌ يَتَعَمَّقُونَ فِي الدِّينِ حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهُ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ فِي النَّصْلِ فَلا يوجد شيء، ثم في القدح فَلا يُوجَدُ شَيْءٌ، ثُمَّ فِي الْفَوْقِ فَلا يُوجَدُ شَيْءٌ، سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ] . حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ مِثْلَ ذَلِكَ، وَسَمَّاهُ ذَا الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيَّ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ الَّذِي كَلَّمَ رسول الله ص بهذا الكلام، انما كلمه به في مال كان على ع بَعَثَهُ مِنَ الْيَمَنِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَقَسَمَهُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ، مِنْهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَالأَقْرَعُ، وَزَيْدُ الْخَيْلِ، فَقَالَ حِينَئِذٍ مَا ذُكِرَ عَنْ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ أَنَّهُ قَالَهُ رَجُلٌ حَضَرَهُ

حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أَبِي بَكْرٍ [أَنَّ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ص مِمَّنْ شَهِدَ مَعَهُ حُنَيْنًا، قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لاسير الى جنب رسول الله ص عَلَى نَاقَةٍ لِي، وَفِي رِجْلَيَّ نَعْلٌ غَلِيظَةٌ، إِذْ زَحَمَتْ نَاقَتِي نَاقَةَ رَسُولِ اللَّهِ، وَيَقَعُ حَرْفُ نَعْلِي عَلَى سَاقِ رَسُولِ اللَّهِ فَأَوْجَعَهُ، قال: فقرع قدمي بالسوط، وقال: أوجعتني فتأخر عَنِّي، فَانْصَرَفْتُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ إِذَا رسول الله يَلْتَمِسُنِي، قَالَ: قُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ لِمَا كُنْتُ أَصَبْتُ مِنْ رِجْلِ رَسُولِ اللَّهِ بِالأَمْسِ قَالَ: فَجِئْتُهُ وَأَنَا أَتَوَقَّعُ، فَقَالَ لِي: إِنَّكَ قَدْ اصبت رجلي بالأمس فاوجعتنى فقرعت قدمك بالسوط، فَدَعَوْتُكَ لأُعَوِّضَكَ مِنْهَا، فَأَعْطَانِي ثَمَانِينَ نَعْجَةً بِالضَّرْبَةِ الَّتِي ضَرَبَنِي] . حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عاصم ابن عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُمُ الْقَالَةُ، حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: لَقِيَ وَاللَّهِ رَسُولُ اللَّهِ قَوْمَهُ! فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الأَنْصَارِ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ، قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الأَنْصَارِ شَيْءٌ، قَالَ: فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ! قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَنَا إِلا مِنْ قَوْمِي! قَالَ: فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي الْحَظِيرَةِ، قَالَ: فَخَرَجَ سَعْدٌ فَجَمَعَ الأَنْصَارَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ، قَالَ: فَجَاءَهُ رِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا، وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدَّهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ: قَدِ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الأَنْصَارِ، فَأَتَاهُمْ رسول الله ص، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ،

عمرة رسول الله من الجعرانة

وَمَوْجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالَّا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ، وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ! قَالُوا: بَلَى، لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ! فَقَالَ: أَلا تُجِيبُونِي يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ! قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ! قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَصَدَقْتُمْ، وَلَصُدِّقْتُمْ، أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلا فَآسَيْنَاكَ، وَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلامِكُمْ! أَفَلا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاءِ وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُوا برسول الله الى رحالكم! [فو الذى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ شِعْبًا، لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ! اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ!] قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قِسْمًا وَحَظًّا، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ الله ص وتفرقوا . عمرة رسول الله من الجعرانة حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ص مِنَ الْجِعْرَانَةِ مُعْتَمِرًا، وَأَمَرَ بِبَقَايَا الْفَيْءِ، فَحُبِسَ بِمَجَنَّةَ، وَهِيَ بِنَاحِيَةِ مَرِّ الظَّهْرَانِ، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ عُمْرَتِهِ وَانْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ، اسْتَخْلَفَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدِ عَلَى مَكَّةَ، وَخَلَفَ مَعَهُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يُفَقِّهُ النَّاسَ فِي الدِّينِ وَيُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنَ، وَاتُّبِعَ رَسُولُ اللَّهِ ص ببقايا الفيء وكانت عمره رسول الله في ذي القعده، فقدم رسول الله ص

الْمَدِينَةَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَوْ فِي ذِي الْحَجَّةِ، وَحَجَّ النَّاسُ تِلْكَ السَّنَةِ عَلَى مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَحُجُّ عَلَيْهِ، وَحَجَّ تِلْكَ السَّنَةِ بِالْمُسْلِمِينَ عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ، وَهِيَ سَنَةُ ثَمَانٍ، وَأَقَامَ أَهْلُ الطَّائِفِ عَلَى شِرْكِهِمْ وَامْتِنَاعِهِمْ فِي طَائِفِهِمْ مَا بَيْنَ ذِي الْقَعْدَةِ، إِذِ انْصَرَفَ رسول الله عَنْهُمْ إِلَى شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ. قال الواقدى: لما قسم رسول الله ص الْغَنَائِمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِالْجِعْرَانَةِ، أَصَابَ كُلَّ رَجُلٍ أَرْبَعٌ مِنَ الإِبِلِ وَأَرْبَعُونَ شَاةً، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ فَارِسًا أَخَذَ سَهْمَ فَرَسِهِ أَيْضًا وَقَالَ أيضا: قدم رسول الله ص الْمَدِينَةَ لِلَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ مِنْ سَفْرَتِهِ هَذِهِ. قَالَ: وَفِيهَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ص عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى جَيْفَرٍ وَعَمْرِو ابْنَيْ الْجلندي مِنَ الأَزْدِ مُصَدِّقًا، فَخَلَّيَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّدَقَةِ، فَأَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَرَدَّهَا عَلَى فُقَرَائِهِمْ، وَأَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ الَّذِينَ بِهَا، وَهُمْ كَانُوا أَهْلَ الْبَلَدِ، وَالْعَرَبُ كَانُوا يَكُونُونَ حولها. قال: وفيها تزوج رسول الله ص الْكِلابِيَّةَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا فَاطِمَةُ بِنْتُ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ، فَاخْتَارَتِ الدُّنْيَا حِينَ خُيِّرَتْ وَقِيلَ: إِنَّهَا اسْتَعَاذَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، فَفَارَقَهَا وَذُكِرَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ وُثَيْمَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ، حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي وَجْزَةَ السعدي ان النبي ص تَزَوَّجَهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ. قَالَ: وَفِيهَا وَلَدَتْ مَارِيَّةُ إِبْرَاهِيمَ فِي ذِي الْحَجَّةِ، فَدَفَعَهُ رَسُولُ الله ص إِلَى أُمِّ بُرْدَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ بْنِ زَيْدِ بن لبيد بن خداش بن عامر ابن غَنْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، وَزَوْجُهَا الْبَرَاءُ بن أوس بن خالد بن الجعد ابن عَوْفِ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، فَكَانَتْ تُرْضِعُهُ. قَالَ: وكانت قابلتها سلمى مولاه رسول الله ص، فَخَرَجَتْ إِلَى أَبِي رَافِعٍ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا وَلَدَتْ غُلامًا، فَبَشَّرَ بِهِ أَبُو رَافِعٍ رَسُولَ اللَّهِ، فَوَهَبَ لَهُ مَمْلُوكًا. قَالَ: وَغَارَتْ نِسَاءُ رَسُولِ الله ص، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِنَّ حِينَ رُزِقَتْ مِنْهُ الْوَلَدَ

سنه تسع

ثُمَّ دخلت سنة تسع وفيها قدم وفد بنى اسد على رسول الله ص- فيما ذكر- فقالوا: قدمنا يَا رَسُولَ اللَّهِ قبل أن ترسل إلينا رسولا، فأنزل الله عز وجل فِي ذَلِكَ من قولهم: «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ» الآية. وفيها قدم وفد بلي فِي شهر ربيع الأول، فنزلوا على رويفع بْن ثابت البلوي. وفيها قدم وفد الداريين من لخم، وهم عشره. امر ثقيف وإسلامها وفيها قدم- فِي قول الْوَاقِدِيّ- عروة بْن مسعود الثقفى على رسول الله ص مسلما، وَكَانَ من خبره- ما حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق- ان رسول الله ص حِينَ انْصَرَفَ عَنْ أَهْلِ الطَّائِفِ اتَّبَعَ أَثَرَهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ مُعَتِّبٍ حَتَّى أَدْرَكَهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَسْلَمَ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى قَوْمِهِ بِالإِسْلامِ، فَقَالَ رَسُولُ الله ص- كَمَا يَتَحَدَّثُ قَوْمُهُمْ: إِنَّهُمْ قَاتِلُوكَ، وَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ أَنَّ فِيهِمْ نَخْوَةً بِالامْتِنَاعِ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ- فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَبْكَارِهِمْ- وَكَانَ فِيهِمْ كَذَلِكَ مُحَبَّبًا مُطَاعًا-

فَخَرَجَ يَدْعُو قَوْمَهُ إِلَى الإِسْلامِ، وَرَجَا أَلا يُخَالِفُوهُ لِمَنْزِلَتِهِ فِيهِمْ، فَلَمَّا أَشْرَفَ لَهُمْ عَلَى عُلِّيةٍ لَهُ وَقَدْ دَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلامِ، وَأَظْهَرَ لَهُمْ دِينَهُ، رَمَوْهُ بِالنَّبْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَأَصَابَهُ سَهْمٌ فَقَتَلَهُ، فَتَزْعُمُ بَنُو مَالِكٍ أَنَّهُ قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أَوْسُ بْنُ عَوْفٍ، أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ مَالِكٍ، وَتَزْعُمُ الأَحْلافُ أَنَّهُ قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ مِنْ بَنِي عَتَّابِ بْنِ مَالِكٍ، يُقَالُ لَهُ وَهْبُ بْنُ جَابِرٍ فَقِيلَ لِعُرْوَةَ: مَا تَرَى فِي دَمِكَ؟ قَالَ: كَرَامَةٌ أَكْرَمَنِي اللَّهُ بِهَا، وَشَهَادَةٌ سَاقَهَا اللَّهُ إِلَيَّ، فَلَيْسَ فِيَّ إِلا مَا فِي الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله ص قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ عَنْكُمْ، فَادْفِنُونِي مَعَهُمْ، فَدَفَنُوهُ معهم [فزعموا ان رسول الله ص قَالَ فِيهِ: إِنَّ مَثَلَهُ فِي قَوْمِهِ كَمَثَلِ صَاحِبِ يس فِي قَوْمِهِ] . وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ اهل الطائف على رسول الله ص، قِيلَ: إِنَّهُمْ قَدِمُوا عَلَيْهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. فحدثنا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثُمَّ أقامت ثقيف بعد قتل عُرْوَة أشهرا، ثُمَّ إنهم ائتمروا بينهم ألا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب وقد بايعوا وأسلموا. وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بن إِسْحَاقَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ الثَّقَفِيِّ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ أَخَا بَنِي عِلاجٍ كَانَ مُهَاجِرًا لعبد ياليل بن عمرو، الذى بينهما سيئ- وَكَانَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ مِنْ أَدْهَى الْعَرَبِ- فَمَشَى إِلَى عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَمْرٍو حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ دَارَهُ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ: أَنَّ عَمْرَو بْنِ أُمَيَّةَ يَقُولُ لَكَ: اخْرُجْ إِلَيَّ، فَقَالَ عَبْدُ يَالِيلَ لِلرَّسُولِ: وَيْحَكَ! أَعَمْرٌو أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَهُوَ ذَا وَاقِفٌ فِي دَارِكَ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ مَا كُنْتُ أَظُنُّهُ! لِعَمْرٍو كَانَ أَمْنَعَ فِي نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ فَلَمَّا رَآهُ رَحَّبَ بِهِ، وَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِنَا أَمْرٌ لَيْسَتْ مَعَهُ هِجْرَةٌ، إِنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ مَا قَدْ رَأَيْتَ، وَقَدْ أَسْلَمَتِ

الْعَرَبُ كُلَّهَا، وَلَيْسَتْ لَكُمْ بِحَرْبِهِمْ طَاقَةٌ، فَانْظُرُوا فِي أَمْرِكُمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ ائْتَمَرَتْ ثَقِيفٌ بَيْنَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَلا تَرَوْنَ أَنَّهُ لا يَأْمَنُ لَكُمْ سَرَبٌ، وَلا يَخْرُجُ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا اقْتُطِعَ بِهِ! فَائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ، وَأَجْمَعُوا أَنْ يرسلوا الى رسول الله ص رجلا، كما أرسلوا عروه، فكلموا عبد يا ليل ابن عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ- وَكَانَ فِي سِنِّ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ- وَعَرَضُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ، وَخَشِيَ أَنْ يُصْنَعَ بِهِ إِذَا رَجَعَ كما يصنع بِعُرْوَةَ، فَقَالَ: لَسْتُ فَاعِلا حَتَّى تَبْعَثُوا مَعِيَ رِجَالا، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يَبْعَثُوا مَعَهُ رَجُلَيْنِ مِنَ الأَحْلافِ وَثَلاثَةً مِنْ بَنِي مَالِكٍ، فَيَكُونُوا سِتَّةً: عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ بِشْرِ بْنِ عَبْدِ دُهْمَانَ أَخُو بَنِي يَسَارٍ، وَأَوْسُ بْنُ عَوْفٍ أَخُو بَنِي سَالِمٍ، وَنُمَيْرُ بْنُ خَرَشَةَ بْنِ رَبِيعَةَ أَخُو بَلْحَارِثِ، وَبَعَثُوا مِنَ الأَحْلافِ مَعَ عَبْدِ يَالِيلَ الْحَكَمَ بْنَ عَمْرِو بْنِ وَهْبِ بْنِ مُعَتِّبٍ وَشَرَحْبِيلَ بْنَ غَيْلانَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ مُعَتِّبٍ، فَخَرَجَ بِهِمْ عَبْدُ يَالِيلَ- وَهُوَ نَابُ الْقَوْمِ وَصَاحِبُ أَمْرِهِمْ، وَلَمْ يخرج إِلا خَشْيَةً مِنْ مِثْلِ مَا صُنِعَ بِعُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، لِيَشْغَلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَى الطَّائِفِ رَهْطَهُ- فَلَمَّا دَنَوْا مِنَ الْمَدِينَةِ، وَنَزَلُوا قَنَاةً لَقُوا بِهَا الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَرْعَى فِي نَوْبَتِهِ رِكَابَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، وَكَانَتْ رَعْيَتُهَا نَوْبًا عَلَى أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا رَآهُمُ الْمُغِيرَةُ تَرَكَ الرِّكَابَ وَضَبَرَ يَشْتَدُّ لِيُبَشِّرَ رسول الله ص بِقُدُومِهِمْ عَلَيْهِ، فَلَقِيَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَأَخْبَرَهُ عَنْ رَكْبِ ثَقِيفٍ أَنَّهُمْ قَدِمُوا يُرِيدُونَ الْبَيْعَةَ وَالإِسْلامَ، بِأَنْ يَشْرِطَ لَهُمْ شُرُوطًا، وَيَكْتَتِبُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ كِتَابًا فِي قَوْمِهِمْ وَبِلادِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِلْمُغِيرَةِ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ بِاللَّهِ لا تَسْبِقَنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّذِي أُحَدِّثُهُ، فَفَعَلَ الْمُغِيرَةُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَأَخْبَرَهُ عَنْ رَكْبِ ثَقِيفٍ بِقُدُومِهِمْ، ثُمَّ خَرَجَ الْمُغِيرَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَرَوَّحَ الظُّهْرَ مَعَهُمْ، وَعَلَّمَهُمْ كَيْفَ يحيون رسول الله ص، فَلَمْ يَفْعَلُوا إِلا بِتَحِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ

ولما ان قدموا على رسول الله ص ضُرِبَ عَلَيْهِمْ قُبَّةً فِي نَاحِيَةِ مَسْجِدِهِ- كَمَا يَزْعُمُونَ- وَكَانَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ هُوَ الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ص، حَتَّى اكْتَتَبُوا كِتَابَهُمْ، وَكَانَ خَالِدٌ هُوَ الَّذِي كَتَبَ كِتَابَهُمْ بِيَدِهِ، وَكَانُوا لا يَطْعَمُونَ طَعَامًا يَأْتِيَهُمْ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَأْكُلَ مِنْهُ خَالِدٌ، حَتَّى أَسْلَمُوا وَبَايَعُوا وَفَرَغُوا مِنْ كِتَابِهِمْ- وَقَدْ كَانَ فِيمَا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ص أَنْ يَدَعَ الطَّاغِيَةَ، وَهِيَ اللاتَ، لا يَهْدِمُهَا ثَلاثَ سِنِينَ، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فما برحوا يسالونه سنه سَنَةً، فَأَبَى عَلَيْهِمْ حَتَّى سَأَلُوهُ شَهْرًا وَاحِدًا بَعْدَ مَقْدِمِهِمْ، فَأَبَى أَنْ يَدَعَهَا شَيْئًا يُسَمَّى، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ فِيمَا يُظْهِرُونَ أَنْ يَسْلَمُوا بِتَرْكِهَا مِنْ سُفَهَائِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ، وَيَكْرَهُونَ أَنْ يُرَوِّعُوا قَوْمَهُمْ بِهَدْمِهَا حَتَّى يُدْخِلَهُمُ الإِسْلامَ- فَأَبَى رسول الله ص ذَلِكَ إِلا أَنْ يَبْعَثَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حرب والمغيره ابن شُعْبَةَ فَيَهْدِمَاهَا، [وَقَدْ كَانُوا سَأَلُوهُ مَعَ تَرْكِ الطَّاغِيَةِ أَنْ يُعْفِيَهُمْ مِنَ الصَّلاةِ، وَأَنْ يَكْسِرُوا أَوْثَانَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: أَمَّا كَسْرُ أَوْثَانِكُمْ بِأَيْدِيكُمْ فَسَنَعْفِيكُمْ مِنْهُ، وَأَمَّا الصَّلاةُ فَلا خَيْرَ فِي دِينٍ لا صَلاةَ فِيهِ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، أَمَّا هَذِهِ فَسَنُؤْتِيكَهَا وَإِنْ كَانَتْ دَنَاءَةً] . فَلَمَّا أَسْلَمُوا وَكَتَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ص كِتَابَهُمْ، أَمَّرَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ- وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا- وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن، فقال ابو بكر لرسول الله ص: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ هَذَا الْغُلامَ فِيهِمْ مِنْ أَحْرَصِهِمْ عَلَى التَّفَقُّهِ فِي الإِسْلامِ وَتَعَلُّمِ الْقُرْآنِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَعْقُوبَ ابن عُتْبَةَ، قَالَ: فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ الله ص وَتَوَجَّهُوا إِلَى بِلادِهِمْ رَاجِعِينَ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ص أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ،

ذكر الخبر عن غزوه تبوك

وَالْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فِي هَدْمِ الطَّاغِيَةِ، فَخَرَجَا مَعَ الْقَوْمِ، حَتَّى إِذَا قَدِمُوا الطَّائِفَ أَرَادَ الْمُغِيرَةُ أَنْ يُقَدِّمَ أَبَا سُفْيَانَ، فَأَبَى ذَلِكَ أَبُو سُفْيَانَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: ادْخُلْ أَنْتَ عَلَى قَوْمِكَ، وَأَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ بِمَالِهِ بِذِي الْهَرْمِ، فَلَمَّا دَخَلَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ عَلاهَا يَضْرِبُهَا بِالْمِعْوَلِ، وَقَامَ قَوْمُهُ دُونَهُ- بَنُو مُعَتِّبٍ- خَشْيَةَ أَنْ يُرْمَى أَوْ يُصَابَ كَمَا أُصِيبَ عُرْوَةُ، وَخَرَجَ نِسَاءُ ثَقِيفٍ حُسَّرًا يَبْكِينَ عَلَيْهَا، وَيَقُلْنَ: أَلا ابْكِيَنْ دُفَّاعْ ... أَسْلَمَهَا الرَّضَاعْ لَمْ يُحْسِنُوا الْمِصَاعْ. قَالَ: وَيَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ وَالْمُغِيرَةُ يَضْرِبُهَا بالفاس: واها لك! واها لَكَ! فَلَمَّا هَدَمَهَا الْمُغِيرَةُ أَخَذَ مَالَهَا وَحُلِيَّهَا وَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ وَحُلِيُّهَا مَجْمُوعٌ، وَمَالُهَا من الذهب والجزع، وكان رسول الله ص أَمَرَ أَبَا سُفْيَانَ أَنْ يَقْضِيَ مِنْ مَالِ اللاتِ دَيْنَ عُرْوَةَ وَالأَسْوَدَ ابْنَيْ مَسْعُودٍ، فَقَضَى مِنْهُ دَيْنَهُمَا. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا رَسُولُ الله ص غَزْوَةَ تَبُوكَ. ذِكْرُ الْخَبَرِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ص بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ مُنْصَرَفِهِ مِنَ الطَّائِفِ، مَا بَيْنَ ذِي الْحَجَّةِ إِلَى رَجَبٍ

ثم امر الناس بالتهيؤ الغزو الرُّومِ، فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَيَزِيدَ بْنَ رُومَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ، كُلٌّ قَدْ حَدَّثَ فِي غَزْوَةَ تَبُوكَ مَا بَلَغَهُ عَنْهَا، وَبَعَضُ الْقَوْمِ يُحَدِّثُ مَا لَمْ يُحَدِّثْ بَعْضٌ، وَكُلٌّ قَدِ اجْتَمَعَ حَدِيثُهُ فِي هَذَا الحديث ان رسول الله ص أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّهَيُّؤِ لِغَزْوِ الرُّومِ، وَذَلِكَ فِي زَمَنِ عُسْرَةٍ مِنَ النَّاسِ، وَشِدَّةٍ مِنَ الْحَرِّ، وَجَدْبٍ مِنَ الْبِلادِ، وَحِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَأُحِبَّتِ الظِّلالُ، فَالنَّاسُ يُحِبُّونَ الْمُقَامَ فِي ثِمَارِهِمْ وَظِلالِهِمْ، وَيَكْرَهُونَ الشُّخُوصَ عَنْهَا عَلَى الْحَالِ مِنَ الزَّمَانِ الذى هم عليه، وكان رسول الله ص قَلَّمَا يَخْرُجُ فِي غَزْوَةٍ إِلا كَنَّى عَنْهَا، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ غَيْرَ الَّذِي يَصْمُدُ لَهُ، إِلا مَا كَانَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَإِنَّهُ بَيَّنَهَا لِلنَّاسِ لِبُعْدِ الشُّقَّةِ وَشِدَّةِ الزَّمَانِ وَكَثْرَةِ الْعَدُوِّ الَّذِي يَصْمُدُ لَهُ، لِيَتَأَهَّبَ النَّاسُ لِذَلِكَ أُهْبَتَهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالْجِهَازِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ يُرِيدُ الرُّومَ. فَتَجَهَّزَ النَّاسُ عَلَى مَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْكُرْهِ لِذَلِكَ الْوَجْهِ لِمَا فِيهِ، مَعَ مَا عَظَّمُوا مِنْ ذِكْرِ الرُّومِ وَغَزْوِهِمْ، [فَقَالَ رسول الله ص ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ فِي جِهَازِهِ ذَلِكَ لِلْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ أَخِي بَنِي سَلِمَةَ: هَلْ لَكَ يَا جَدُّ الْعَامَ فِي جِلادِ بَنِي الأَصْفَرِ؟ فقال: يا رسول الله، او تاذن لي ولا تفتني! فو الله لَقَدْ عَرَفَ قَوْمِي مَا رَجُلٌ أَشَدُّ عَجَبًا بِالنِّسَاءِ مِنِّي، وَإِنِّي أَخْشَى إِنْ رَأَيْتُ نِسَاءَ بَنِي الأَصْفَرِ أَلا أَصْبِرَ عَنْهُنَّ فَأَعْرَضَ عَنْهُ رسول الله ص وَقَالَ: قَدْ أَذِنْتُ لَكَ، فَفِي الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي] » الآيَةَ، أَيْ إِنْ كَانَ إِنَّمَا يَخْشَى الْفِتْنَةَ مِنْ نِسَاءِ بَنِي الأَصْفَرِ- وَلَيْسَ ذَلِكَ بِهِ- فَمَا سَقَطَ فِيهِ مِنَ الْفِتْنَةِ بِتَخَلُّفِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَالرَّغْبَةِ بِنَفْسِهِ عَنْ نَفْسِهِ أَعْظَمُ، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمِنْ وَرَائِهِ. وَقَالَ قَائِلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ لِبَعْضٍ: لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ، زَهَادَةً في الجهاد،

وَشَكًّا فِي الْحَقِّ، وَإِرْجَافًا بِالرَّسُولِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهِمْ: «وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ» إِلَى قَوْلِهِ: «جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» . ثم ان رسول الله ص جَدَّ فِي سَفَرِهِ، فَأَمَرَ النَّاسَ بِالْجِهَازِ وَالانْكِمَاشِ، وَحَضَّ أَهْلَ الْغِنَى عَلَى النَّفَقَةِ وَالْحُمْلانِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَغَّبَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَحَمَلَ رِجَالٌ من اهل الغنى فاحتسبوا، وانفق عثمان ابن عَفَّانَ فِي ذَلِكَ نَفَقَةً عَظِيمَةً لَمْ يُنْفِقْ أَحَدٌ أَعْظَمَ مِنْ نَفَقَتِهِ. ثُمَّ إِنَّ رِجَالا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ، وَهُمُ الْبَكَّاءُونَ، وَهُمْ سَبْعَةُ نَفَرٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَغَيْرُهُمْ، [فَاسْتَحْمَلُوا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَانُوا أَهْلَ حَاجَةٍ، فَقَالَ: «لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ] » قَالَ: فَبَلَغَنِي أَنَّ يَامِينَ بْنَ عُمَيْرِ بْنِ كَعْبِ النَّضَرِيَّ لَقِيَ أَبَا لَيْلَى عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ كَعْبٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ، وَهُمَا يَبْكِيَانِ، فَقَالَ لَهُمَا: مَا يُبْكِيكُمَا؟ قَالا: جِئْنَا رَسُولَ اللَّهِ لِيَحْمِلَنَا، فَلَمْ نَجِدْ عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُنَا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ، فَأَعْطَاهُمَا نَاضِحًا فَارْتَحَلاهُ، وَزَوَّدَهُمَا شَيْئًا مِنْ تَمْرٍ، فَخَرَجَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ص

قَالَ: وَجَاءَ الْمُعَذَّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ، فَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ فَلَمْ يَعْذُرْهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَذُكِرَ لِي أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ بَنِي غِفَارٍ، مِنْهُمْ خُفَافُ بْنُ إِيمَاءَ بْنِ رَحْضَةَ. ثُمَّ اسْتَتَبَّ بِرَسُولِ الله ص سَفَرُهُ، وَأُجْمِعَ السَّيْرُ، وَقَدْ كَانَ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبْطَأَتْ بِهِمُ النِّيَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى تَخَلَّفُوا عَنْهُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلا ارْتِيَابٍ، مِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي كَعْبٍ أَخُو بَنِي سَلِمَةَ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَهِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ أَخُو بَنِي وَاقِفٍ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، وَكَانُوا نَفَرَ صِدْقٍ لا يُتَّهَمُونَ فِي إِسْلامِهِمْ، فَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ الله ص ضَرَبَ عَسْكَرَهُ عَلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، وَضَرَبَ عَبْدُ الله بن ابى بن سَلُولَ عَسْكَرَهُ عَلَى حِدَةٍ أَسْفَلَ مِنْهُ بِحِذَاءِ ذُبَابِ، جَبَلٍ بِالْجَبَّانَةِ أَسْفَلَ مِنْ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ وَكَانَ- فِيمَا يَزْعُمُونَ- لَيْسَ بِأَقَلَّ الْعَسْكَرَيْنِ، فَلَمَّا سار رسول الله ص تَخَلَّفَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فِيمَنْ تَخَلَّفَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الرَّيْبِ- وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَخَا بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ- وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَبْتَلٍ أَخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَرِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ أَخَا بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَكَانُوا مِنْ عُظَمَاءِ الْمُنَافِقِينَ، وَكَانُوا مِمَّنْ يَكِيدُ الإِسْلامَ وَأَهْلَهُ. قَالَ: وفيهم- فيما حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عن عمرو بْن عبيد، عن الحسن البصري- أنزل الله عز وجل: «لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ» ، الآية. قَالَ ابن إسحاق: وخلف رَسُول اللَّهِ ص علي بْن أبي طالب على أهله، وأمره بالإقامة فيهم، واستخلف على الْمَدِينَةِ سباع بْن عرفطة، أخا بني غفار، فأرجف المنافقون بعلي بْن أبي طالب، وقالوا: ما خلفه

إلا استثقالا لَهُ، وتخففا منه [فلما قَالَ ذَلِكَ المنافقون، أخذ علي سلاحه ثُمَّ خرج حتى اتى رسول الله ص وهو بالجرف فَقَالَ: يا نبي الله، زعم المنافقون أنك إنما خلفتني، أنك استثقلتني وتخففت مني! فَقَالَ: كَذَبُوا، وَلَكِنِّي إِنَّمَا خَلَفْتُكَ لِمَا وَرَائِي، فَارْجِعْ فَاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي وَأَهْلِكَ، أَفَلَا تَرْضَى يَا عَلِيُّ أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي!] فرجع علي إلى الْمَدِينَةِ، ومضى رَسُول الله ص على سفره. ثُمَّ إن أبا خيثمة أخا بني سالم رجع- بعد أن سَارَ رَسُول الله ص أياما- إلى أهله فِي يوم حار، فوجد امرأتين لَهُ فِي عريشين لهما فِي حائط، قد رشت كل واحدة منهما عريشها وبردت لَهُ فيه ماء، وهيأت لَهُ فيه طعاما، فلما دخل فقام على باب العريشين، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا لَهُ، قَالَ: رَسُول اللَّهِ فِي الضح والريح، وأبو خيثمة فِي ظلال باردة وماء بارد وطعام مهيإ وامرأة حسناء، فِي ماله مقيم! ما هذا بالنصف! ثُمَّ قَالَ: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حَتَّى ألحق برسول الله، فهيئا لي زادا، ففعلتا ثُمَّ قدم ناضحه فارتحله، ثُمَّ خرج في طلب رسول الله ص حَتَّى أدركه حين نزل تبوك، وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بْن وهب الجمحي في الطريق، يطلب رسول الله ص، فترافقا حَتَّى إذا دنوا من تبوك قَالَ أبو خيثمة لعمير بْن وهب: إن لي ذنبا، فلا عليك أن تخلف عني حَتَّى آتى رسول الله ص ففعل، ثُمَّ سَارَ حَتَّى إذا دنا من رسول الله ص وهو نازل بتبوك، قَالَ الناس: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هذا راكب على الطريق مقبل، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: كن أبا خيثمة! فقالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هو والله أبو خيثمة! فلما اناخ اقبل فسلم على رسول الله ص، فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّهِ: أولى لك

يا أبا خيثمة! ثُمَّ أخبر رَسُول اللَّهِ الخبر، فقال له رسول الله ص خيرا، ودعا لَهُ بخير. وقد كان رَسُول الله ص حين مر بالحجر نزلها واستقى الناس من بئرها، فلما راحوا منها [قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: لا تشربوا من مائها شيئا، ولا تتوضئوا منها للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإِبِل، ولا تأكلوا منه شيئا، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب لَهُ،] ففعل الناس ما أمرهم به رَسُول الله ص إلا رجلين من بني ساعدة، خرج أحدهما لحاجته، وخرج الآخر فِي طلب بعير لَهُ، فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه، وأما الذي ذهب فِي طلب بعيره فاحتملته الريح حَتَّى طرحته فِي جبلي طيئ، فاخبر بذلك رسول الله ص وَسَلَّمَ فَقَالَ: ألم أنهكم أن يخرج منكم أحد إلا ومعه صاحب لَهُ! ثُمَّ دعا للذي أصيب على مذهبه فشفي، وأما الآخر الذى وقع بجبلي طيّئ، فان طيئا هدته لرسول الله ص حين قدم الْمَدِينَةَ. قَالَ أبو جعفر: والحديث عن الرجلين. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ: فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ- وَلا مَاءَ مَعَهُمْ- شَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ص، فَدَعَا اللَّهَ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ سَحَابَةً فَأَمْطَرَتْ حَتَّى ارْتَوَى النَّاسُ، وَاحْتَمَلُوا حَاجَتَهُمْ مِنَ الْمَاءِ حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قَتَادَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِمَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ: هَلْ كَانَ النَّاسُ يَعْرِفُونَ النِّفَاقَ فِيهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَاللَّهِ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَعْرِفُهُ مِنْ أَخِيهِ ومن

أَبِيهِ وَمِنْ عَمِّهِ وَمِنْ عَشِيرَتِهِ، ثُمَّ يَلْبِسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ مَحْمُودٌ: لَقَدْ أَخْبَرَنِي رِجَالٌ مِنْ قَوْمِي عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مَعْرُوفٌ نِفَاقُهُ، كَانَ يَسِيرُ مَعَ رسول الله ص حَيْثُ سَارَ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْمَاءِ بالحجر ما كان، ودعا رسول الله ص حِينَ دَعَا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ السَّحَابَةَ فَأَمْطَرَتْ حَتَّى ارْتَوَى النَّاسُ، أَقْبَلْنَا عَلَيْهِ نَقُولُ: وَيْحَكَ! هَلْ بَعْدَ هَذَا شَيْءٌ! قَالَ: سَحَابَةٌ مَارَّةٌ ثُمَّ ان رسول الله ص سَارَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ ضَلَّتْ نَاقَتُهُ، فَخَرَجَ أَصْحَابُهُ فِي طَلَبِهَا، وَعِنْدَ رَسُولِ الله ص رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، يُقَالُ لَهُ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ، وَكَانَ عَقَبِيًّا بَدْرِيًّا، وَهُوَ عَمُّ بَنِي عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَكَانَ فِي رَحْلِهِ زَيْدُ بْنُ لُصَيْبٍ الْقَيْنُقَاعِيُّ، وَكَانَ مُنَافِقًا، فَقَالَ زَيْدُ بن لصيب وهو في رحل عماره، وعماره عند رسول الله ص: [أَلَيْسَ يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ نَبِيٌّ يُخْبِرُكُمْ عَنْ خَبَرِ السَّمَاءِ وَهُوَ لا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ! فقال رسول الله ص- وعماره عنده: ان رجلا قال: ان محمدا هذا يُخْبِرُكُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُخْبِرُكُمْ بِخَبَرِ السَّمَاءِ وَهُوَ لا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ! وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ إِلا مَا عَلَّمَنِي اللَّهُ، وَقَدْ دَلَّنِي اللَّهُ عَلَيْهَا، وَهِيَ فِي الْوَادِي مِنْ شِعْبِ كَذَا وَكَذَا قَدْ حَبَسَتْهَا شَجَرَةٌ بِزِمَامِهَا، فَانْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا بِهَا، فَذَهَبُوا فَجَاءُوا بِهَا،] فَرَجَعَ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ إِلَى أَهْلِهِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَعَجَبٌ مِنْ شَيْءٍ حَدَّثَنَاهُ رسول الله ص آنِفًا عَنْ مَقَالَةِ قَائِلٍ أَخْبَرَهُ اللَّهُ عَنْهُ كَذَا وَكَذَا- لِلَّذِي قَالَ زَيْدُ بْنُ اللُّصَيْبِ- فَقَالَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ فِي رَحْلِ عُمَارَةَ، وَلَمْ يَحْضُرْ رَسُولَ اللَّهِ: زَيْدٌ وَاللَّهِ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ فَأَقْبَلَ عُمَارَةُ على زيد يجأ في عنقه، ويقول: يَا عِبَادَ اللَّهِ، وَاللَّهِ إِنَّ فِي رَحْلِي لَدَاهِيَةً وَمَا أَدْرِي! اخْرُجْ يَا عَدُوَّ اللَّهِ مِنْ رَحْلِي فَلا تَصْحَبْنِي! قَالَ: فَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ زَيْدًا تَابَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَالَ بَعْضٌ: لَمْ يَزَلْ مُتَّهَمًا بِشَرٍّ حَتَّى هَلَكَ

ثم مضى رسول الله ص سَائِرًا، فَجَعَل يَتَخَلَّفُ عَنْهُ الرَّجُلُ [فَيَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَخَلَّفَ فُلانٌ، فَيَقُولُ: دَعُوهُ، فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللَّهُ بِكُمْ، وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمُ اللَّهُ مِنْهُ، حَتَّى قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَخَلَّفَ أَبُو ذَرٍّ وَأَبْطَأَ بِهِ بَعِيرُهُ، فَقَالَ: دَعُوهُ، فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللَّهُ بِكُمْ، وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمُ اللَّهُ مِنْهُ] . قَالَ: وَتَلَوَّمَ أَبُو ذَرٍّ عَلَى بَعِيرِهِ، فَلَمَّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ أَخَذَ مَتَاعَهُ، فَحَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ، ثُمَّ خَرَجَ يَتْبَعُ أَثَرَ رَسُولِ اللَّهِ مَاشِيًا، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ فِي بَعْضِ مَنَازِلِهِ، فَنَظَرَهُ نَاظِرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، [فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الطَّرِيقِ وَحْدَهُ، فقال رسول الله ص: كُنْ أَبَا ذَرٍّ! فَلَمَّا تَأَمَّلَهُ الْقَوْمُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ أَبُو ذَرٍّ! فَقَالَ رسول الله ص: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا ذَرٍّ! يَمْشِي وَحْدَهُ، وَيَمُوتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ] . حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ سُفْيَانَ الأَسْلَمِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: لَمَّا نَفَى عُثْمَانُ أَبَا ذَرٍّ نَزَلَ أَبُو ذَرٍّ الرَّبَذَةَ، فَأَصَابَهُ بِهَا قَدَرُهُ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَهُ وَغُلامَهُ، فَأَوْصَاهُمَا أَنْ غَسِّلانِي وَكَفِّنَانِي، ثُمَّ ضَعَانِي عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، فَأَوَّلُ رَكْبٍ يَمُرُّ بِكُمْ فَقُولُوا: هَذَا أَبُو ذَرٍّ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ فَلَمَّا مَاتَ فَعَلا ذَلِكَ بِهِ، ثُمَّ وَضَعَاهُ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، فَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَرَهْطٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عُمَّارًا، فَلَمْ يَرُعْهُمْ إِلا بِجِنَازَةٍ عَلَى الطَّرِيقِ قَدْ كَادَتِ الإِبِلُ تَطَؤُهَا، وَقَامَ إِلَيْهِمُ الْغُلامُ، فقال: هَذَا أَبُو ذَرٍّ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ، فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ قَالَ: فَاسْتَهَلَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَبْكِي، وَيَقُولُ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ! تَمْشِي وَحْدَكَ، وَتَمُوتُ وَحْدَكَ، وَتُبْعَثُ وَحْدَكَ! ثُمَّ نَزَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَوَارَوْهُ. ثُمَّ حَدَّثَهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ حَدِيثَهُ وَمَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ فِي مَسِيرِهِ إِلَى تَبُوكَ

قَالَ: وَقَدْ كَانَ رَهْطٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، مِنْهُمْ وديعة بن ثابت أخو بنى عمرو ابن عَوْفٍ، وَمِنْهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ حَلِيفٌ لِبَنِي سلمه، يقال له مخشى ابن حمير، يسيرون مع رسول الله ص وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إِلَى تَبُوكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَتَحْسَبُونَ قِتَالَ بَنِي الأَصْفَرِ كَقِتَالِ غَيْرِهِمْ! وَاللَّهِ لَكَأَنِّي بِكُمْ غَدًا مُقْرَنِينَ فِي الْحِبَالِ، إِرْجَافًا وترهيبا للمؤمنين فقال مخشى ابن حُمَيِّرٍ: وَاللَّهِ لَوَدَدْتُ أَنِّي أُقَاضَى عَلَى أَنْ يُضْرَبَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَأَنَّا نَنْفَلِتُ أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ فِينَا قُرْآنًا لِمَقَالَتِكُمْ هذه [وقال رسول الله ص- فِيمَا بَلَغَنِي- لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: أَدْرِكِ الْقَوْمَ، فَإِنَّهُمْ قَدِ احْتَرَقُوا، فَسَلْهُمْ عَمَّا قَالُوا، فَإِنْ أَنْكَرُوا فَقُلْ: بَلَى قَدْ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا] فَانْطَلَقَ إِلَيْهِمْ عَمَّارٌ فَقَالَ لَهُمْ ذَلِكَ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ، فَقَامَ وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ وَرَسُولُ اللَّهِ وَاقِفٌ عَلَى نَاقَتِهِ، فَجَعَلَ يَقُولُ وَهُوَ آخِذٌ بِحَقَبِهَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ» وَقَالَ مَخْشِيُّ بْنُ حُمَيِّرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَعَدَ بِي اسْمِي وَاسْمَ أَبِي، فَكَانَ الَّذِي عُفِيَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الآيَةِ مَخْشِيُّ بْنُ حُمَيِّرٍ، فَسُمِّيَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَقْتُلَهُ شَهِيدًا لا يُعْلَمُ مَكَانُهُ، فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ أَثَرٌ فَلَمَّا انْتَهَى رسول الله ص إِلَى تَبُوكَ، أَتَاهُ يُحَنةُ بْنُ رُؤْبَةَ، صَاحِبُ ايله، فصالح رسول الله ص واعطاه الجزية، واهل جرباء واذرح اعطوه الجزية، وكتب رسول الله ص لِكُلٍّ كِتَابًا، فَهُوَ عِنْدَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ الله ص دَعَا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَبَعَثَهُ إِلَى أُكَيْدِرِ دُومَةَ- وَهُوَ أُكَيْدِرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، رَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ، كَانَ مَلِكًا عَلَيْهَا، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا- فقال رسول الله ص لِخَالِدٍ: إِنَّكَ سَتَجِدُهُ

يَصِيدُ الْبَقَرَ، فَخَرَجَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ حِصْنِهِ بِمَنْظَرِ الْعَيْنِ، وَفِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ صَائِفَةٍ، وَهُوَ عَلَى سَطْحٍ لَهُ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ، فَبَاتَتِ الْبَقَرُ تَحُكُّ بِقُرُونِهَا بَابَ الْقَصْرِ، فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: هَلْ رَأَيْتَ مِثْلَ هَذَا قَطُّ! قَالَ: لا وَاللَّهِ، قَالَتْ: فَمَنْ يَتْرُكُ هَذَا؟ قَالَ: لا أَحَدٌ فَنَزَلَ فَأَمَرَ بِفَرَسِهِ فَأُسْرِجَ لَهُ، وَرَكِبَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فِيهِمْ أَخٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ حَسَّانٌ، فَرَكِبَ، وَخَرَجُوا مَعَهُ بِمَطَارِدِهِمْ، فَلَمَّا خَرَجُوا تَلَقَّتْهُمْ خيل رسول الله ص فأخذته، وقتلوا أخاه حسان، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ قِبَاءٌ لَهُ مِنْ دِيبَاجٍ مُخَوَّصٌ بِالذَّهَبِ، فَاسْتَلَبَهُ خَالِدٌ، فَبَعَثَ بِهِ إِلَى رسول الله ص قَبْلَ قُدُومِهِ عَلَيْهِ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: [رَأَيْتُ قُبَاءَ أُكَيْدِرٍ حين قدم به الى رسول الله ص، فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَلْمَسُونَهُ بِأَيْدِيهِمْ، وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ، فَقَالَ رسول الله: اتعجبون من هذا! فو الذى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا!] حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قَالَ: ثُمَّ إِنَّ خَالِدًا قَدِمَ بِأُكَيْدِرٍ عَلَى رسول الله ص، فَحَقَنَ لَهُ دَمَهُ، وَصَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ، ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ، فَرَجَعَ إِلَى قَرْيَتِهِ. رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ الَّذِي فِي أَوَّلِ غَزْوَةِ تَبُوكَ قَالَ: فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ص بِتَبُوكَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَلَمْ يُجَاوِزْهَا، ثُمَّ انْصَرَفَ قَافِلا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَكَانَ فِي الطَّرِيقِ مَاءٌ يَخْرُجُ مِنْ وَشَلٍ مَا يَرْوِي الرَّاكِبَ وَالرَّاكِبَيْنِ وَالثَّلاثَةَ، بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ وَادِي الْمُشَقَّقِ، [فقال رسول الله ص: مَنْ سَبَقَنَا إِلَى ذَلِكَ الْمَاءِ فَلا يَسْتَقِيَنَّ مِنْهُ شَيْئًا حَتَّى نَأْتِيَهُ قَالَ: فَسَبَقَهُ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَاسْتَقَوْا مَا فِيهِ، فَلَمَّا أتاه رسول الله ص

وَقَفَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرَ فِيهِ شَيْئًا، فَقَالَ: مَنْ سَبَقَنَا إِلَى هَذَا الْمَاءِ؟ فَقِيلَ لَهُ: يا رسول الله، فلان وفلان، فقال: او لم نَنْهَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنْهُ شَيْئًا حَتَّى نَأْتِيَهُ! ثُمَّ لَعَنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ، وَدَعَا عَلَيْهِمْ] ثُمَّ نزل ص، فَوَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ الْوَشَلِ، فَجَعَلَ يُصَبُّ فِي يَدِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَصُبَّ، ثُمَّ نَضَحَهُ بِهِ وَمَسَحَهُ بِيَدِهِ، وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ص بِمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَ، فَانْخَرَقَ مِنَ الْمَاءِ- كَمَا يَقُولُ مَنْ سَمِعَهُ: إِنَّ لَهُ حِسًّا كَحِسِّ الصَّوَاعِقِ، فَشَرِبَ النَّاسُ وَاسْتَقَوْا حَاجَتَهُمْ منه، [فقال رسول الله ص: مَنْ بَقِيَ مِنْكُمْ لَيَسْمَعُنَّ بِهَذَا الْوَادِي، وَهُوَ أَخْصَبُ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَا خَلْفَهُ] 12414 ثُمَّ اقبل رسول الله ص حَتَّى نَزَلَ بِذِي أَوَانَ، بَلَدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ، وَكَانَ أَصْحَابُ مَسْجِدِ الضِّرَارِ قَدْ كَانُوا أَتَوْهُ وَهُوَ يَتَجَهَّزُ إِلَى تَبُوكَ، [فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا قَدْ بَنَيْنَا مَسْجِدًا لِذِي الْعِلَّةِ وَالْحَاجَةِ وَاللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ وَاللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ، وَإِنَّا نُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَنَا فُتَصَلِّيَ لَنَا فِيهِ فَقَالَ: إِنِّي عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ، وَحَالِ شُغْلٍ- أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- وَلَوْ قَدِمْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَتَيْنَاكُمْ فَصَلَّيْنَا لَكُمْ فِيهِ، فَلَمَّا نَزَلَ بِذِي أَوَانَ أَتَاهُ خبر المسجد، فدعا رسول الله ص مَالِكَ بْنَ الدَّخْشَمِ، أَخَا بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ وَمَعْنَ بْنَ عَدِيٍّ- أَوْ أَخَاهُ عَاصِمَ بْنَ عَدِيٍّ أَخَا بَنِي الْعِجْلانِ- فَقَالَ: انْطَلَقَا الى المسجد الظالم اهله فاهد ماه وَحَرِّقَاهُ،] فَخَرَجَا سَرِيعَيْنِ حَتَّى أَتَيَا بَنِي سَالِمِ ابن عَوْفٍ، وَهُمْ رَهْطُ مَالِكِ بْنِ الدَّخْشَمِ، فَقَالَ مَالِكٌ لِمَعْنٍ: أَنْظِرْنِي حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْكَ بِنَارٍ مِنْ أَهْلِي، فَدَخَلَ إِلَى أَهْلِهِ، فَأَخَذَ سَعَفًا مِنَ النَّخْلِ، فَأَشْعَلَ فِيهِ نَارًا، ثُمَّ خَرَجَا يشتد ان حَتَّى دَخَلا الْمَسْجِدَ وَفِيهِ أَهْلُهُ، فَحَرَّقَاهُ وَهَدَّمَاهُ، وَتَفَرَّقُوا عَنْهُ، وَنَزَلَ فِيهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ مَا نَزَلَ: «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ» ، إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. وَكَانَ الَّذِينَ بَنَوْهُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلا: خِذَامُ بْنُ خَالِدٍ، مِنْ بَنِي عبيد بن

امر طيئ وعدى بن حاتم

زَيْدٍ، أَحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ- وَمِنْ دَارِهِ أَخْرَجَ مَسْجِدَ الشِّقَاقِ- وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ مِنْ بَنِي عُبَيْدٍ- وَهُوَ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، وَمُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَأَبُو حَبِيبَةَ بْنُ الأَزْعَرِ من بنى ضبيعه بن زيد، وعباد ابن حُنَيْفٍ، أَخُو سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَجَارِيَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَابْنَاهُ مُجَمِّعُ بْنُ جَارِيَةَ وَزَيْدُ بْنُ جَارِيَةَ، وَنَبْتَلُ بن الحارث، من بنى ضبيعه، وو بحزج- وَهُوَ إِلَى بَنِي ضُبَيْعَةَ- وَبِجَادُ بْنُ عُثْمَانَ- وَهُوَ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ- وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ وَهُوَ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ رَهْطُ أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ. قَالَ: وَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ص الْمَدِينَةَ-[وَقَدْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْهُ رَهْطٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَتَخَلَّفَ أُولَئِكَ الرَّهْطُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلا نِفَاقٍ: كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَهِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ- فَقَالَ رسول الله ص: لا يُكَلِّمَنَّ أَحَدٌ أَحَدًا مِنْ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ،] وَأَتَاهُ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَجَعَلُوا يَحْلِفُونَ لَهُ وَيَعْتَذِرُونَ، فَصَفَحَ عَنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ وَلَمْ يَعْذُرْهُمُ اللَّهُ وَلا رَسُولُهُ، وَاعْتَزَلَ الْمُسْلِمُونَ كَلامَ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ النَّفَرِ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلَهُ: «لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ» - إِلَى قَوْلِهِ- «وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» ، فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ: وَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ص الْمَدِينَةَ مِنْ تَبُوكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. وَقَدِمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ وَفْدُ ثَقِيفٍ، وَقَدْ مضى ذكر خبرهم قبل . امر طيّئ وعدى بن حاتم قَالَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ تِسْعٍ- وجه رسول الله ص عَلِيّ بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي سَرِيَّةٍ إِلَى بِلادِ طَيِّئٍ فِي رَبِيعٍ الآخِرٍ، فَأَغَارَ عَلَيْهِمْ، فَسَبَى وَأَخَذَ سَيْفَيْنِ كَانَا فِي بَيْتِ الصَّنَمِ، يُقَالُ لأَحَدِهِمَا:

رَسُوبٌ، وَلِلآخَرِ الْمِخْذَمُ، وَكَانَ لَهُمَا ذِكْرٌ، كَانَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي شَمِرٍ نَذَرَهُمَا لَهُ، وَسَبَى أُخْتَ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَأَمَّا الأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ عِنْدَنَا بِذَلِكَ فَبِغَيْرِ بَيَانِ وَقْتٍ، وَبِغَيْرِ مَا قَالَ الواقدي فِي سَبْيِ عَلِيٍّ أُخْتُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سِمَاكٌ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبَّادَ بْنَ حُبَيْشٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: جاءت خيل رسول الله ص- او قال: رسل رسول الله- فأخذوا عمتي وناسا، فاتوا بهم النبي ص قَالَ: فَصُفُّوا لَهُ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَأَى الْوَافِدُ، وَانْقَطَعَ الْوَالِدُ، وَأَنَا عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ مَا بِي مِنْ خِدْمَةٍ، فَمُنَّ عَلَيَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: وَمَنْ وَافِدُكِ؟ قَالَتْ: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: الَّذِي فَرَّ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ! قَالَتْ: فَمَنَّ عَلَيَّ- وَرَجُلٌ إِلَى جَنْبِهِ تَرَى أَنَّهُ عَلِيُّ ع، قال: سليه حملانا- قال: فسألته، فامر بها فَأَتَتْنِي، فَقَالَتْ: لَقَدْ فَعَلْت فَعْلَةً مَا كَانَ أَبُوكَ يَفْعَلُهَا! قَالَتِ: ائْتِهِ رَاغِبًا وَرَاهِبًا، فَقَدْ أتاه فُلانٌ فَأَصَابَ مِنْهُ. قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَإِذَا عِنْدَهُ امْرَأَةٌ وَصِبْيَانٌ- أَوْ صَبِيٌّ- فَذَكَرَ قُرْبَهُمْ مِنَ النبي ص- فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَلِكِ كِسْرَى وَلا قَيْصَرَ، [فَقَالَ لِي: يَا عَدِيُّ بْنَ حَاتِمٍ، مَا أَفَرَّكَ أَنْ يُقَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ! فَهَلْ مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ! وَمَا أَفَرَّكَ أَنْ يُقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ! فَهَلْ مِنْ شَيْءٍ هُوَ أَكْبَرُ مِنَ اللَّهِ! فَأَسْلَمْتُ فَرَأَيْتُ وَجْهَهُ اسْتَبْشَرَ] . حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ شَيْبَانَ بْنِ سَعْدٍ الطَّائِيِّ، قَالَ: كَانَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمِ طَيِّئٍ يَقُولُ فِيمَا بَلَغَنِي: مَا رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ كَانَ أَشَدَّ كَرَاهِيَةً لِرَسُولِ اللَّهِ حِينَ سمع به منى، اما

انا لكنت امْرَأً شَرِيفًا، وَكُنْتُ نَصْرَانِيًّا أَسِيرُ فِي قَوْمِي بِالْمِرْبَاعِ، فَكُنْتُ فِي نَفْسِي عَلَى دِينٍ، وَكُنْتُ مَلِكًا فِي قَوْمِي، لِمَا كَانَ يُصْنَعُ بِي، فَلَمَّا سَمِعْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ كَرِهْتُهُ، فَقُلْتُ لِغُلامٍ كَانَ لِي عَرَبِيٌّ وَكَانَ رَاعِيًا لإِبِلِي: لا ابالك! أَعْدِدِ لِي مِنْ إِبِلِي أَجْمَالا ذُلُلا سِمَانًا مسان، فَاحْبِسْهَا قَرِيبًا مِنِّي، فَإِذَا سَمِعْتَ بِجَيْشٍ لِمُحَمَّدٍ قد وطيء هَذِهِ الْبِلادَ فَآذِنِّي، فَفَعَلَ ثُمَّ إِنَّهُ أَتَانِي ذَاتَ غَدَاةٍ، فَقَالَ: يَا عَدِيُّ، مَا كُنْتَ صَانِعًا إِذَا غَشِيَتْكَ خَيْلُ مُحَمَّدٍ فَاصْنَعْهُ الآنَ، فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَايَاتٍ، فَسَأَلْتُ عَنْهَا، فَقَالُوا: هَذِهِ جُيُوشُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: فَقُلْتُ: قَرِّبْ لِي جِمَالِي، فَقَرَّبَهَا، فَاحْتَمَلْتُ بِأَهْلِي وَوَلَدِي، ثُمَّ قُلْتُ: أَلْحَقُ بِأَهْلِ دِينِي مِنَ النَّصَارَى بِالشَّامِ، فَسَلَكْتُ الْحُوشِيَّةَ وَخَلَفْتُ ابْنَةَ حَاتِمٍ فِي الْحَاضِرِ، فَلَمَّا قَدِمْتُ الشَّامَ أَقَمْتُ بِهَا، وَتَخَالَفَنِي خَيْلٌ لِرَسُولِ الله ص فَتُصِيبُ ابْنَةَ حَاتِمٍ فِيمَنْ أُصِيبَ فَقُدِمَ بِهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ فِي سَبَايَا طَيِّئٍ، وَقَدْ بلغ رسول الله ص هَرَبِي إِلَى الشَّامِ قَالَ: [فَجُعِلَتْ ابْنَةُ حَاتِمٍ فِي حَظِيرَةٍ بِبَابِ الْمَسْجِدِ كَانَتِ السَّبَايَا يُحْبَسْنَ بها، فمر بها رسول الله ص فَقَامَتْ إِلَيْهِ- وَكَانَتْ امْرَأَةً جَزْلَةً- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ الْوَالِدُ، وَغَابَ الْوَافِدُ، فَامْنُنْ عَلَيَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ! قَالَ: وَمَنْ وَافِدُكِ؟ قَالَتْ: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: الْفَارُّ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ! قَالَتْ: ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ ص وَتَرَكَنِي، حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ مَرَّ بِي وَقَدْ أَيِسْتُ، فَأَشَارَ إِلَيَّ رَجُلٌ مِنْ خَلْفِهِ: أَنْ قُومِي إِلَيْهِ فَكَلِّمِيهِ، قَالَتْ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ الْوَالِدُ، وَغَابَ الْوَافِدُ، فَامْنُنْ عَلَيَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ! قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ فَلا تَعْجَلِي بِخُرُوجٍ حَتَّى تَجِدِي مِنْ قَوْمِكِ مَنْ يَكُونُ لَكِ ثِقَةً حَتَّى يُبَلِّغَكِ إِلَى بِلادِكِ ثُمَّ آذِنِينِي] قَالَتْ: فَسَأَلْتُ عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيَّ أَنْ كَلِّمِيهِ فَقِيلَ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَتْ: وَأَقَمْتُ حَتَّى قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَلِيٍّ- أَوْ مِنْ قُضَاعَةَ- قَالَتْ: وَإِنَّمَا أُرِيدُ أَنْ آتِيَ أَخِي

بالشام، قالت: فجئت رسول الله ص، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ قَوْمِي لِي فِيهِمْ ثِقَةٌ وَبَلاغٌ قَالَتْ: فكساني رسول الله ص، وَحَمَلَنِي وَأَعْطَانِي نَفَقَةً، فَخَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ الشام قال عدى: فو الله، إِنِّي لَقَاعِدٌ فِي أَهْلِي إِذْ نَظَرْتُ إِلَى ظَعِينَةٍ تُصَوِّبُ إِلَيَّ تَؤُمُّنَا قَالَ: فَقُلْتُ: ابْنَةُ حَاتِمٍ! قَالَ: فَإِذَا هِيَ هِيَ، فَلَمَّا وَقَفَتْ عَلَيَّ انْسَحَلَتْ تَقُولُ: الْقَاطِعُ الظَّالِمُ! احْتَمَلْتَ بِأَهْلِكَ وَوَلَدِكَ، وَتَرَكْتَ بُنَيَّةَ وَالِدِكَ وَعَوْرَتَهُ! قَالَ: قُلْتُ: يا أخيه، لا تقولي الا خيرا، فو الله مَا لِي عُذْرٌ، لَقَدْ صَنَعْتُ مَا ذَكَرْتِ قَالَ: ثُمَّ نَزَلَتْ فَأَقَامَتْ عِنْدِي، فَقُلْتُ لَهَا- وَكَانَتْ امْرَأَةً حَازِمَةً: مَاذَا تَرَيْنَ فِي أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ؟ قَالَتْ: أَرَى وَاللَّهِ أَنْ تَلْحَقَ بِهِ سَرِيعًا، فَإِنْ يَكُنِ الرَّجُلُ نَبِيًّا فَالسَّابِقُ إِلَيْهِ لَهُ فَضِيلَةٌ، وَإِنْ يَكُنْ مَلِكًا فَلَنْ تُذَلَّ فِي عِزِّ الْيَمَنِ وَأَنْتَ أَنْتَ! قُلْتُ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لِلرَّأْيُ. قَالَ: فَخَرَجْتُ حَتَّى أَقْدَمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ الْمَدِينَةَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَسْجِدِهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَنِ الرَّجُلُ؟ فَقُلْتُ: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، فَقَامَ رَسُولُ الله ص فانطلق بي الى بيته، فو الله إِنَّهُ لَعَامِدٌ بِي إِذْ لَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ ضَعِيفَةٌ كَبِيرَةٌ فَاسْتَوْقَفَتْهُ، فَوَقَفَ لَهَا طَوِيلا تُكَلِّمُهُ فِي حَاجَتِهَا قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاللَّهِ مَا هَذَا بِمَلِكٍ، ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ، فَتَنَاوَلَ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ مَحْشُوَّةً لِيفًا، فَقَذَفَهَا إِلَيَّ، فَقَالَ لِي: اجْلِسْ عَلَى هَذِهِ، قَالَ: قُلْتُ: لا بَلْ أَنْتَ، فَاجْلِسْ عَلَيْهَا قَالَ: لا بَلْ أَنْتَ، [فَجَلَسْتُ وَجَلَسَ رسول الله ص بِالأَرْضِ قَالَ: قُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاللَّهِ مَا هَذَا بِأَمْرِ مَلِكٍ، ثُمَّ قَالَ: إِيهٍ يَا عَدِيُّ بْنَ حَاتِمٍ! أَلَمْ تَكُ رَكُوسِيًّا! قَالَ: قلت: بلى، قال: او لم تَكُنْ تَسِيرَ فِي قَوْمِكَ بِالْمِرْبَاعِ! قَالَ: قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لَكَ فِي دِينِكَ، قَالَ: قُلْتُ: أَجَلْ وَاللَّهِ- وَعَرَفْتُ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ يَعْلَمُ مَا يُجْهَلُ- قَالَ: ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّهُ يَا عَدِيُّ بْنَ

قدوم وفد بنى تميم ونزول سورة الحجرات

حَاتِمٍ، إِنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنَ الدُّخُولِ فِي هَذَا الدين ما ترى من حاجتهم! فو الله لَيُوشِكَنَّ الْمَالُ يَفِيضُ فِيهِمْ حَتَّى لا يُوجَدُ مَنْ يَأْخُذُهُ، وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنَ الدُّخُولِ فِي هَذَا الدِّينِ مَا تَرَى مِنْ كَثْرَةِ عدوهم وقله عددهم، فو الله لَيُوشِكَنَّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْمَرْأَةِ تَخْرُجُ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ عَلَى بَعِيرِهَا حَتَّى تَزُورَ هَذَا الْبَيْتَ، لا تَخَافُ إِلا اللَّهَ، وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ أَنَّكَ تَرَى أَنَّ الْمُلْكَ وَالسُّلْطَانَ فِي غَيْرِهِمْ، وَايْمُ اللَّهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْقُصُورِ الْبِيضِ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتِحَتْ] قَالَ: فَأَسْلَمْتُ، فَكَانَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ يَقُولُ: مَضَتِ الثِّنْتَانِ وَبَقِيَتِ الثَّالِثَةُ، وَاللَّهِ لَتَكُونَنَّ قَدْ رَأَيْتُ الْقُصُورَ الْبِيضَ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتَحَتْ، وَرَأَيْتُ الْمَرْأَةَ تَخْرُجُ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ عَلَى بَعِيرِهَا لا تَخَافُ شَيْئًا حَتَّى تَحُجَّ هَذَا الْبَيْتِ وَايْمُ اللَّهِ لَتَكُونَنَّ الثَّالِثَةُ لَيَفِيضَنَّ الْمَالُ حتى لا يوجد من يأخذه. قدوم وفد بنى تميم ونزول سوره الحجرات قَالَ الواقدي: وَفِيهَا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ، فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، قَالا: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ الله ص عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبِ بْنِ زُرَارَةَ بْنِ عُدُسٍ التَّمِيمِيُّ فِي أَشْرَافٍ مِنْ تَمِيمٍ، مِنْهُمُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَالزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ التَّمِيمِيُّ ثُمَّ أَحَدُ بَنِي سَعْدٍ، وَعَمْرِو بْنِ الأَهْتَمِ، وَالْحَتَّاتُ بْنُ فُلانٍ، وَنُعَيْمُ بْنُ زَيْدٍ، وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ أَخُو بَنِي سَعْدٍ فِي وَفْدٍ عَظِيمٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، مَعَهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ الْفَزَارِيُّ- وَقَدْ كَانَ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ شَهِدَا مَعَ رَسُولِ الله ص فتح مكة وحصار الطائف، فلما وفد وفد بنى تَمِيمٍ كَانَا مَعَهُمْ- فَلَمَّا دَخَلَ وَفْدُ بَنِي تميم المسجد، نادوا رسول الله ص مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ: أَنِ اخْرُجْ إِلَيْنَا يَا مُحَمَّدُ فَآذَى ذَلِكَ مِنْ صِيَاحِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ

ص، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، جِئْنَاكَ لِنُفَاخِرَكَ، فاذن لشاعرنا وخطيبنا، قال: نعم، أَذِنْتُ لِخَطِيبِكُمْ فَلْيَقُلْ فَقَامَ إِلَيْهِ عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ عَلَيْنَا الْفَضْلُ وَهُوَ أَهْلُهُ، الَّذِي جَعَلَنَا مُلُوكًا، وَوَهَبَ لَنَا أَمْوَالا عِظَامًا نَفْعَلُ فِيهَا الْمَعْرُوفَ، وَجَعَلَنَا أَعَزَّ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَأَكْثَرَهُ عَدَدًا وَأَيْسَرَهُ عُدَّةً، فَمَنْ مِثْلُنَا فِي النَّاسِ! أَلَسْنَا بِرُءُوسِ النَّاسِ وَأُولِي فَضْلِهِمْ! فَمَنْ يُفَاخِرُنَا فَلْيَعْدُدْ مِثْلَ مَا عَدَدْنَا، وَإِنَّا لَوْ نَشَاءُ لأَكْثَرْنَا الْكَلامَ، وَلَكِنَّا نَحْيَا مِنَ الإِكْثَارِ فِيمَا أَعْطَانَا، وَإِنَّا نُعْرَفُ أَقُولُ هَذَا الآنَ لِتَأْتُونَا بِمِثْلِ قَوْلِنَا، وَأَمْرٍ أَفْضَلَ مِنْ أَمْرِنَا، ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ رَسُولُ الله ص لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شِمَاسٍ أَخِي بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ: قُمْ فَأَجِبِ الرَّجُلَ فِي خُطْبَتِهِ. فَقَامَ ثَابِتٌ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ خَلْقُهُ، قَضَى فِيهِنَّ أَمْرَهُ، وَوَسِعَ كُرْسِيَّهُ عِلْمُهُ، وَلَمْ يَكُ شَيْءٌ قَطُّ إِلا مِنْ فَضْلِهِ ثُمَّ كَانَ مِنْ قُدْرَتِهِ أَنْ جَعَلَنَا مُلُوكًا وَاصْطَفَى مِنْ خَيْرِ خَلْقِهِ رَسُولا أَكْرَمَهُمْ نَسَبًا، وَأَصْدَقَهُمْ حَدِيثًا، وَأَفْضَلَهُمْ حَسَبًا، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ، وَائْتَمَنَهُ عَلَى خَلْقِهِ، فَكَانَ خِيَرَةَ اللَّهِ مِنَ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ دَعَا النَّاسَ إِلَى الإِيمَانِ، فَآمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قَوْمِهِ وَذَوِي رَحِمِهِ، أَكْرَمُ النَّاسِ أَنْسَابًا، وَأَحْسَنُ النَّاسِ وُجُوهًا، وَخَيْرُ النَّاسِ فِعَالا، ثُمَّ كَانَ أَوَّلُ الْخَلْقِ إِجَابَةً- وَاسْتَجَابَ لِلَّهِ حِينَ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ ص- نَحْنُ، فَنَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ وَوُزَرَاءُ رَسُولِهِ، نُقَاتِلُ النَّاسَ حَتَّى يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ، فَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُنِعَ مَالُهُ وَدَمُهُ، وَمَنْ كَفَرَ جَاهَدْنَاهُ فِي اللَّهِ أَبَدًا، وَكَانَ قَتْلُهُ عَلَيْنَا يَسِيرًا، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلِلْمُؤْمِنَاتِ، والسلام عليكم. قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، ائْذَنْ لِشَاعِرِنَا، فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَامَ الزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ فَقَالَ: نَحْنُ الْكِرَامُ فَلا حَيٌّ يُعَادِلُنَا ... مِنَّا الْمُلُوكُ وَفِينَا تُنْصَبُ البيع

وَكَمْ قَسَرْنَا مِنَ الأَحْيَاءِ كُلِّهِمُ ... عِنْدَ النِّهَابِ وَفَضْلُ الْعِزِّ يُتَّبَعُ وَنَحْنُ نُطْعِمُ عِنْدَ الْقَحْطِ مَطْعَمَنَا ... مِنَ الشِّوَاءِ إِذَا لَمْ يُؤْنَسِ الْقَزَعُ ثُمَّ تَرَى النَّاسَ تَأْتِينَا سُرَاتُهُمُ ... مِنْ كُلِّ أَرْضٍ هَوِيًّا ثُمَّ نَصْطَنِعُ فَنَنْحَرُ الْكُومَ عَبْطًا فِي أَرُومَتِنَا ... لِلنَّازِلِينَ إِذَا مَا أُنْزِلُوا شَبِعُوا فَلا تَرَانَا إِلَى حَيٍّ نُفَاخِرُهُمْ ... إِلا اسْتَقَادُوا وَكَادَ الرَّأْسُ يُقْتَطَعُ إِنَّا أَبَيْنَا وَلَنْ يَأْبَى لَنَا أَحَدٌ ... إِنَّا كَذَلِكَ عِنْدَ الْفَخْرِ نَرْتَفِعُ فَمَنْ يُقَادِرُنَا فِي ذَاكَ يَعْرِفُنَا ... فَيَرْجِعُ الْقَولُ وَالأَخْبَارُ تُسْتَمَعُ وَكَانَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ غَائِبًا، فبعث اليه رسول الله ص، قَالَ حَسَّانٌ: فَلَمَّا جَاءَنِي رَسُولُهُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ إِنَّمَا دَعَانِي لأُجِيبَ شَاعِرَ بَنِي تَمِيمٍ، خَرَجْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَأَنَا أَقُولُ: مَنَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ إِذْ حَلَّ وَسْطَنَا ... عَلَى كُلِّ بَاغٍ مِنْ مَعَدٍّ وَرَاغِمِ مَنَعْنَاهُ لَمَّا حَلَّ بَيْنَ بُيُوتِنَا ... بِأَسْيَافِنَا مِنْ كُلِّ عَادٍ وَظَالِمِ بِبَيْتِ حَرِيدٍ عِزُّهُ وَثَرَاؤُهُ ... بِجَابِيَةِ الْجَوْلانِ وَسْطَ الأَعَاجِمِ هَلِ الْمَجْدُ إِلا السُّؤْدَدُ الْعُودُ وَالنَّدَى ... وَجاهُ الْمُلُوكِ وَاحْتِمَالُ الْعَظَائِمِ! قَالَ: فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى رسول الله ص وَقَامَ شَاعِرُ الْقَوْمِ، فَقَالَ مَا قَالَ، عَرَضْتُ فِي قَوْلِهِ وَقُلْتُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا قَالَ، فَلَمَّا فَرَغَ الزِّبْرِقَانُ بْنُ

بدر من قوله [قال رسول الله ص لِحَسَّانٍ: قُمْ يَا حَسَّانُ فَأَجِبِ الرَّجُلَ فِيمَا قَالَ،] قَالَ: فَقَالَ حَسَّانٌ: إِنَّ الذَّوَائِبَ مِنْ فِهْرٍ وَإِخْوَتِهِمْ ... قَدْ بَيَّنُوا سُنَّةً لِلنَّاسِ تُتَّبَعُ يَرْضَى بِهَا كُلُّ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ ... تَقْوَى الإِلَهِ وَكُلُّ الْخَيْرِ يُصْطَنَعُ قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا ضَرَوْا عَدُوَّهُمُ ... أَوْ حَاوَلُوا النَّفْعَ فِي أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوا سَجِيَّةٌ تِلْكَ مِنْهُمْ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ ... إِنَّ الْخَلائِقَ فَاعْلَمْ شَرُّهَا الْبِدَعُ إِنْ كَانَ فِي النَّاسِ سَبَّاقُونَ بَعْدَهُمُ ... فَكُلُّ سَبْقٍ لأَدْنَى سَبْقِهِمْ تبع لا يرقع النَّاسُ مَا أَوْهَتْ أَكُفَّهُمُ ... عِنْدَ الدِّفَاعِ وَلا يُوهُونَ مَا رَقَعُوا إِنْ سَابَقُوا النَّاسَ يَوْمًا فَازَ سَبْقُهُمُ ... أَوْ وَازَنُوا أَهْلَ مَجْدٍ بِالنَّدَى مَتَعُوا أَعِفَّةٌ ذُكِرَتْ فِي الْوَحْيِ عِفَّتُهُمْ ... لا يَطْبَعُونَ وَلا يُرْدِيهِمُ طَمَعُ لا يَبْخَلُونَ عَلَى جَارٍ بِفْضِلِهِمُ ... وَلا يَمَسَّهُمُ مِنْ مَطْمَعٍ طَبَعُ إِذَا نَصَبْنَا لِحَيٍّ لَمْ نَدِبَّ لَهُمْ ... كَمَا يَدِبُّ إِلَى الْوَحْشِيَّةِ الذَّرَعُ نَسْمُو إِذَا الْحَرْبُ نَالَتْنَا مَخَالِبُهَا ... إِذَا الزِّعَانِفُ مِنْ أَظْفَارِهَا خَشَعُوا لا فَخْرَ إِنْ هُمْ أَصَابُوا مِنْ عُدُوِّهِمُ ... وَإِنْ أُصِيبُوا فَلا خُورٌ وَلا هُلُعُ كَأَنَّهُمْ فِي الْوَغَى وَالْمَوْتُ مُكْتَنِعٌ ... أُسْدٌ بِحَلْيَةٍ فِي أَرْسَاغِهَا فَدَعُ خُذْ مِنْهُمْ مَا أَتَوْا عَفْوًا إِذَا غَضِبُوا ... وَلا يَكُنْ هَمُّكَ الأَمْرَ الَّذِي منعوا

فَإِنَّ فِي حَرْبِهِمْ- فَاتْرُكْ عَدَاوَتَهُمْ ... شَرًّا يُخَاضُ عَلَيْهِ السُّمُّ وَالسَّلَعُ أَكْرَمَ بِقَوْمٍ رَسُولُ اللَّهِ شيعتهم ... إذا تفرقت الأهواء والشيع اهدى لهم مَدْحَتِي قَلْبٌ يُوَازِرُهُ ... فِيمَا أَحَبَّ لِسَانٌ حَائِكٌ صَنَعُ فَإِنَّهُمْ أَفْضَلُ الأَحْيَاءِ كُلِّهِمُ ... إِنْ جَدَّ بِالنَّاسِ جِدُّ الْقَوْلِ أَوْ شَمِعُوا فَلَمَّا فَرَغَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ قَوْلِهِ، قَالَ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: وَأَبِي إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَمُؤَتَّى لَهُ! لَخَطِيبَةٌ أَخْطَبُ مِنْ خَطِيبِنَا، وَلَشَاعِرُهُ أَشْعَرُ مِنْ شَاعِرِنَا، وَأَصْوَاتُهُمْ أَعْلَى مِنْ أَصْوَاتِنَا فَلَمَّا فرغ القوم أسلموا، وجوزهم رسول الله ص فَأَحْسَنَ جَوَائِزَهُمْ- وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الأَهْتَمِ قَدْ خَلَفَهُ الْقَوْمُ فِي ظَهْرِهِمْ- فَقَالَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ- وَكَانَ يُبْغِضُ عَمْرَو بْنَ الأَهْتَمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ قَدْ كَانَ مِنَّا رَجُلٌ فِي رِحَالِنَا وَهُوَ غُلامٌ حَدَثٌ، وَأَزْرَى بِهِ، فاعطاه رسول الله ص مِثْلَ مَا أَعْطَى الْقَوْمَ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الأَهْتَمِ حِينَ بَلَغَهُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ، وَهُوَ يَهْجُوهُ: ظَلَلْتَ مُفْتَرِشًا هلْبَاكَ تَشْتُمُنِي ... عِنْدَ الرَّسُولِ فَلَمْ تُصْدَقْ وَلَمْ تُصِبِ إِنْ تُبْغِضُونَا فَإِنَّ الرُّومَ أَصْلُكُمُ ... وَالرُّومُ لا تملك البغضاء للعرب سدنا فسؤددنا عود وسوددكم ... مُؤَخَّرٌ عِنْدَ أَصْلِ الْعُجْبِ وَالذَّنَبِ

قدوم رسول ملوك حمير على رسول الله بكتابهم

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان، قَالَ: فأنزل الله فيهم القرآن: «إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ» - من بني تميم- «أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» ، قال: وهي القراءة الاولى. قال الواقدى: وفيها مات عبد الله بْن أبي بن سلول، مرض فِي ليال بقين من شوال، ومات فِي ذي القعدة، وَكَانَ مرضه عشرين ليلة. قدوم رسول ملوك حمير على رسول الله بكتابهم قال: وفيها قدم على رسول الله ص كتاب ملوك حمير فِي شهر رمضان مقرين بِالإِسْلامِ، مَعَ رسولهم الحارث بْن عبد كلال ونعيم ابن عبد كلال، والنعمان قيل ذي رُعَيْن. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: قدم على رسول الله ص كِتَابُ مُلُوكِ حِمْيَرَ مَقْدَمَهُ مِنْ تَبُوكَ وَرَسُولُهُمْ إِلَيْهِ بِإِسْلامِهِمُ: الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ كَلالٍ وَنُعَيْمُ بن عبد كلال، والنعمان قيل ذي رعين، وَهَمْدَانَ وَمَعَافِرَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ زُرْعَةُ ذُو يَزَنَ مَالِكُ بْنُ مُرَّةَ الرَّهَاوِيُّ بِإِسْلامِهِ، وَمُفَارَقَتِهِمُ الشِّرْكَ واهله، فكتب اليهم رسول الله ص: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ كَلالٍ ونعيم بن عبد كلال والنعمان قيل ذي رُعَيْنٍ وَهَمْدَانَ وَمَعَافِرَ، أَمَّا بَعْدَ ذَلِكُمْ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكُمُ اللَّهَ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ قَدْ وَقَعَ بِنَا رَسُولُكُمْ مَقْفَلَنَا مِنْ أَرْضِ الرُّومِ، فَلَقِينَا بِالْمَدِينَةِ، فَبَلَغَ مَا أَرْسَلْتُمْ،

وَخَبَرُ مَا قَبْلَكُمْ، وَأَنْبَأَنَا بِإِسْلامِكُمْ وَقَتْلِكُمُ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ هَدَاكُمْ بِهِدَايَتِهِ، إِنْ أَصْلَحْتُمْ وَأَطَعْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَقَمْتُمُ الصَّلاةَ، وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ، وَأَعْطَيْتُمْ مِنَ الْمَغَانِمِ خُمُسَ اللَّهِ، وَسَهْمَ نَبِيِّهِ وَصَفِيِّهِ، وَمَا كَتَبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الصَّدَقَةِ مِنَ الْعَقَارِ عُشْرَ مَا سَقَتِ الْعَيْنُ وَمَا سَقَتِ السَّمَاءُ، وَكُلُّ مَا سُقِيَ بِالْغَرْبِ نِصْفُ الْعُشْرِ، وَفِي الإِبِلِ فِي الأَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ، وَفِي ثَلاثِينَ مِنَ الإِبِلِ ابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ، وَفِي كُلِّ خُمُسٍ مِنَ الإِبِلِ شَاةٌ، وَفِي كل عشر من الإبل شاتان، وفي كل أَرْبَعِينَ مِنَ الْبَقَرِ بَقَرَةٌ، وَفِي كُلِّ ثَلاثِينَ من البقر تبيع، جذع أو جذعة، وفي كُلِّ أَرْبَعِينَ مِنَ الْغَنَمِ سَائِمَةٌ وَحْدَهَا، شَاةٌ وَإِنَّهَا فَرِيضَةُ اللَّهِ الَّتِي فَرَضَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَةِ، فَمَنْ زَادَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَمَنْ أَدَّى ذَلِكَ وَأَشْهَدَ عَلَى إِسْلامِهِ وَظَاهَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، له ما لهم وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ، وَلَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ وَإِنَّهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ فَإِنَّ لَهُ مِثْلَ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِ مِثْلَ مَا عَلَيْهِمْ، وَمَنْ كَانَ عَلَى يَهُودِيَّتِهِ أَوْ نَصْرَانِيَّتِهِ فَإِنَّهُ لا يُفْتَنُ عَنْهَا، وَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، عَلَى كُلِّ حَالِمٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، دِينَارٌ وَافٍ أَوْ قِيمَتُهُ مِنَ الْمَعَافِرِ أَوْ عَرْضُهُ ثِيَابًا، فَمَنْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَإِنَّ لَهُ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ، وَمَنْ مَنَعَهُ فَإِنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ مُحَمَّدًا النَّبِيَّ أَرْسَلَ إِلَى زُرْعَةَ ذِي يَزَنَ أَنْ إِذَا أَتَتْكُمْ رُسُلِي فَأُوصِيكُمْ بِهِمْ خَيْرًا: مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ وَمَالِكُ بْنُ عُبَادَةَ، وَعُقْبَةُ بْنُ نَمِرٍ، وَمَالِكُ بْنُ مُرَّةَ وَأَصْحَابُهُمْ، وَأَنِ اجْمَعُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالْجِزْيَةِ مِنْ مُخَالِفِيكُمْ وَبَلِّغُوهَا رُسُلِي، وَإِنَّ أَمِيرَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَلا يَنْقَلِبَنَّ الا راضيا

أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّهُ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ إِنَّ مَالِكَ بْنَ مُرَّةَ الرَّهَاوِيَّ قَدْ حَدَّثَنِي أَنَّكَ أَسْلَمْتَ مِنْ أَوَّلِ حِمْيَرَ، وَقَتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ فَأَبْشِرْ بِخَيْرٍ، وَآمُرُكَ بِحِمْيَرَ خَيْرًا، وَلا تَخُونُوا وَلا تَخْذِلُوا فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ مَوْلَى غَنِيِّكُمْ وَفَقِيرِكُمْ، وَإِنَّ الصَّدَقَةَ لا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلا لأَهْلِهِ، إِنَّمَا هِيَ زَكَاةٌ يُتَزَكَّى بِهَا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَإِنَّ مَالِكًا قَدْ بَلَّغَ الْخَبَرَ وَحَفِظَ الْغَيْبَ، وَآمُرُكُمْ بِهِ خَيْرًا، وَإِنِّي قَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ مِنْ صَالِحِي أَهْلِي وَأُولِي دِينِي، وَأُولِي عِلْمِهِمْ، فَآمُرُكُمْ بِهِمْ خَيْرًا فَإِنَّهُ مَنْظُورٌ إِلَيْهِمْ، وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. قال الْوَاقِدِيّ: وفيها قدم وفد بهراء على رسول الله ص ثلاثة عشر رجلا، ونزلوا على المقداد بْن عمرو. قَالَ: وفيها قدم وفد بني البكاء. وفيها قدم وفد بني فزارة، وهم بضعة عشر رجلا، فيهم خارجة بْن حصن. قَالَ: وفيها نعى رسول الله ص للمسلمين النجاشي، وأنه مات فِي رجب سنة تسع. قَالَ: وفيها حج أبو بكر بالناس ثُمَّ خرج أبو بكر من الْمَدِينَةِ فِي ثلاثمائة، وبعث معه رسول الله ص بعشرين بدنة، وساق أبو بكر خمس بدنات وحج فيها عبد الرحمن بْن عوف وأهدى. وبعث رسول الله ص على بن ابى طالب ع على أثر أبي بكر رضي الله عنه، فأدركه بالعرج، فقرأ عَلِيُّ عليه براءة يوم النحر عِنْد العقبة فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَاتِ إِلَى رَأْسِ الأَرْبَعِينَ

- يَعْنِي مِنْ سُورَةِ بَرَاءَةَ- فَبَعَثَ بِهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَأَمَّرَهُ عَلَى الْحَجِّ، فَلَمَّا سَارَ فَبَلَغَ الشَّجَرَةَ مِنْ ذِي الْحَلِيفَةِ أَتْبَعَهُ بِعَلِيٍّ، فَأَخَذَهَا مِنْهُ، [فَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ الى النبي ص، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! أَنَزَلَ فِي شَأْنِي شَيْءٌ؟ قَالَ: لا، وَلَكِنْ لا يُبَلِّغُ عَنِّي غَيْرِي أَوْ رَجُلٌ مِنِّي أَمَا تَرْضَى يَا أَبَا بَكْرٍ أَنَّكَ كُنْتَ مَعِي فِي الْغَارِ، وَأَنَّكَ صَاحِبِي عَلَى الْحَوْضِ!] قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَارَ أَبُو بكر على الحج، [وَسَارَ عَلِيٌّ يُؤَذِّنُ بِبَرَاءَةَ، فَقَامَ يَوْمَ الأَضْحَى فَآذَنَ فَقَالَ: لا يَقْرَبَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ مُشْرِكٌ بَعْدَ عَامِهِ هَذَا، وَلا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ عَهْدٌ فَلَهُ عَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ، وَإِنَّ هَذِهِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ مُسْلِمًا] فَقَالُوا: نَحْنُ نَبْرَأُ مِنْ عَهْدِكَ وَعَهْدِ ابْنِ عَمِّكَ إِلا مِنَ الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ. فَرَجَعَ الْمُشْرِكُونَ فَلامَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَالُوا: مَا تَصْنَعُونَ وَقَدْ أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ! فَأَسْلَمُوا. حدثنى الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَغَيْرُهُ، قَالُوا: بعث رسول الله ص أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْمَوْسِمِ سَنَةَ تِسْعٍ، وَبَعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بِثَلاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ بَرَاءَةَ، فَقَرَأَهَا عَلَى النَّاسِ، يُؤَجِّلُ الْمُشْرِكِينَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَسِيحُونَ فِي الأَرْضِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ بَرَاءَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ، أَجَّلَ الْمُشْرِكِينَ عِشْرِينَ يَوْمًا مِنْ ذِي الْحَجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ وَصَفَرٍ وَشَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ وَعَشْرًا مِنْ رَبِيعٍ الآخِرِ، وَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَلا يَحُجَّنَّ بَعْدَ عَامِنَا هَذَا مُشْرِكٌ، وَلا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فُرِضَتِ الصدقات، وفرق فيها رسول الله ص عُمَّالَهُ عَلَى الصَّدَقَاتِ

قدوم ضمام بن ثعلبه وافدا عن بنى سعد

وَفِيهَا نَزَلَ قَوْلُهُ: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ» ، وَكَانَ السَّبَبَ الَّذِي نَزَلَ ذَلِكَ بِهِ قِصَّةُ أَمْرِ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ، ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ. قَالَ الواقدي: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ماتت أم كلثوم ابنه رسول الله ص فِي شَعْبَانَ، وَغَسَّلَتْهَا أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ وَصَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. قَالَ: وَقِيلَ غَسَّلَتْهَا نِسْوَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فِيهِنَّ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا أُمُّ عَطِيَّةَ، وَنَزَلَ فِي حُفْرَتِهَا أَبُو طَلْحَةَ. قَالَ: وفيها قدم وفد ثعلبه بن منقذ . قدوم ضمام بن ثعلبه وافدا عن بنى سعد وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ سَعْدِ هُذَيْمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قَالَ: حَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ نُوَيْفِعٍ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَعَثَ بَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ضِمَامَ بْنَ ثعلبه الى رسول الله ص، فَقَدِمَ عَلَيْهِ، فَأَنَاخَ بَعِيرَهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ ص جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ، وَكَانَ ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ رَجُلا جَلِدًا أَشْعَرَ ذَا غَدِيرَتَيْنِ، [فَأَقْبَلَ حَتَّى وقف على رسول الله ص فِي أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَيُّكُمُ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ: مُحَمَّدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: يَا بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِنِّي سَائِلُكَ وَمُغَلِّظٌ لَكَ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَلا تَجِدَنَّ فِي نَفْسِكَ! قَالَ: لا أَجِدُ فِي نَفْسِي، فَسَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ، قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ إِلَهِكَ وَإِلَهِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ وَإِلَهِ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكَ، آللَّهُ بَعَثَكَ إِلَيْنَا رَسُولا؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: فَأَنْشُدُكَ بِاللَّهِ إِلَهِكَ وَإِلَهِ مَنْ كَانَ

قَبْلَكَ وَإِلَهِ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكَ، آللَّهُ امرك ان نامرنا أَنْ نَعْبُدَهُ وَحْدَهُ، وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ نَخْلَعَ هَذِهِ الأَنْدَادَ الَّتِي كَانَتْ آبَاؤُنَا تَعْبُدُ مِنْ دُونِهِ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: فَأَنْشُدُكَ بِاللَّهِ إِلَهِكَ وَإِلَهِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ وَإِلَهِ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكَ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْمُرَنَا أَنْ نُصَلِّيَ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ قَالَ: ثُمَّ جَعَلَ يَذْكُرُ فَرَائِضَ الإِسْلامِ فَرِيضَةً فَرِيضَةً، الزَّكَاةَ، وَالصِّيَامَ، وَالْحَجَّ، وَشَرَائِعَ الإِسْلامِ كُلَّهَا، يُنَاشِدُهُ عَنْ كُلِّ فَرِيضَةٍ كَمَا نَاشَدَهُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، حَتَّى إِذَا فَرَغَ قَالَ: فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَسَأُؤَدِّي هَذِهِ الْفَرَائِضَ وَأَجْتَنِبُ مَا نَهَيْتَنِي عَنْهُ، ثُمَّ لا أَنْقُصُ ولا ازيد ثم انصرف الى بعيره راجعا. فقال رسول الله ص حِينَ وَلَّى: إِنْ صَدَقَ ذُو الْعَقِيصَتَيْنِ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ: فَأَتَى بَعِيرَهُ فَأَطْلَقَ عِقَالَهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: باست اللاتُ وَالْعُزَّى! قَالُوا: مَهْ يَا ضِمَامُ! اتَّقِ الْبَرَصَ، اتَّقِ الْجُذَامَ، اتَّقِ الْجُنُونَ! قَالَ: وَيْحَكُمْ، إِنَّهُمَا وَاللَّهِ لا يَنْفَعَانِ وَلا يَضُرَّانِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ رَسُولا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا، اسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِمَّا كُنْتُمْ فِيهِ، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِهِ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عنه] . قال: فو الله مَا أَمْسَى ذَلِكَ الْيَوْمَ فِي حَاضِرِهِ رَجُلٌ وَلا امْرَأَةٌ إِلا مُسْلِمًا قَالَ: يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَمَا سَمِعْنَا بِوَافِدِ قَوْمٍ كَانَ أَفْضَلَ من ضمام بن ثعلبه

سنه عشر

سنه عشر سريه خالد بن الوليد الى بنى الحارث بن كعب واسلامهم قَالَ أبو جعفر: فبعث فيها رَسُول اللَّهِ ص خالد بن الوليد فِي شهر ربيع الآخر- وقيل فِي شهر ربيع الأول، وقيل فِي جمادى الاولى- سريه في أربعمائة إلى بني الحارث بْن كعب. فَحَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: بعث رسول الله ص خالد ابن الْوَلِيدِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الآخِرِ- أَوْ فِي جُمَادَى الأُولَى- مِنْ سَنَةَ عَشْرٍ، إِلَى بَلْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ بِنَجْرَانَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الإِسْلامِ قَبْلَ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ ثَلاثًا، فَإِنِ اسْتَجَابُوا لَكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَأَقِمْ فِيهِمْ، وَعَلِّمْهُمْ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ، وَمَعَالِمَ الإِسْلامِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَقَاتِلْهُمْ. فَخَرَجَ خَالِدٌ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِمْ، فَبَعَثَ الرُّكْبَانَ يَضْرِبُونَ فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَيَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الإِسْلامِ، وَيَقُولُونَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا فَأَسْلَمَ النَّاسُ، وَدَخَلُوا فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، فَأَقَامَ خَالِدٌ فِيهِمْ، يُعَلِّمُهُمُ الإِسْلامَ وَكِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ. ثُمَّ كَتَبَ خَالِدٌ إِلَى رسول الله ص: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. لِمُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ الله ص مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، السَّلامُ عَلْيَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إليك اللَّه الَّذِي لا إله إلا هو، اما بعد يا رسول الله ص، بَعَثْتَنِي إِلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، وَأَمَرْتَنِي إِذَا أَتَيْتُهُمْ أَلا أُقَاتِلَهُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، وَأَنْ أَدْعُوَهُمْ إِلَى الإِسْلامِ، فَإِنْ أَسْلَمُوا قَبِلْتُ مِنْهُمْ وَعَلَّمْتُهُمْ مَعَالِمَ الإِسْلامِ وَكِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا قَاتَلْتُهُمْ وَإِنِّي قَدِمْتُ عَلَيْهِمْ فَدَعَوْتُهُمْ إِلَى الإِسْلامِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ كَمَا أَمَرَنِي رسول الله ص، وبعثت فيهم ركبانا قالوا: يَا بَنِي الْحَارِثِ، أَسْلِمُوا

تَسْلَمُوا، فَأَسْلَمُوا وَلَمْ يُقَاتِلُوا، وَأَنَا مُقِيمٌ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَآمُرُهُمْ بِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَأَنْهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ، وَأُعَلِّمُهُمْ مَعَالِمَ الإِسْلامِ وسنه النبي ص حَتَّى يَكْتُبَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ، وَالسَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَكَتَبَ اليه رسول الله ص: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رسول الله إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ سَلامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ إِلَيْكَ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ كِتَابَكَ جَاءَنِي مَعَ رُسُلِكَ بِخَبَرٍ أَنَّ بَنِي الْحَارِثِ قَدْ أَسْلَمُوا قَبْلَ أَنْ يُقَاتِلُوا، وَأَجَابُوا إِلَى مَا دَعَوْتَهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الإِسْلامِ وَشَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنْ قَدْ هَدَاهُمُ اللَّهُ بِهُدَاهُ، فَبَشِّرْهُمْ وَأَنْذِرْهُمْ، وَأَقْبِلْ وَلَيُقْبِلْ مَعَكَ وَفْدُهُمْ، وَالسَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَأَقْبَلَ خَالِدُ بن الوليد الى رسول الله ص، وَأَقْبَلَ مَعَهُ وَفْدُ بَلْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، فِيهِمْ قَيْسُ بْنُ الْحُصَيْنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ قِنَانَ ذِي الْغُصَّةِ، وَيَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَدَانِ، وَيَزِيدُ بْنُ الْمُحَجَّلِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُرَيْظٍ الزِّيَادِيُّ، وَشَدَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَنَانِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الضِّبَابِيُّ. [فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ الله ص، فَرَآهُمْ قَالَ: مَنْ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَأَنَّهُمْ رِجَالُ الْهِنْدِ؟ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَؤُلاءِ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، فَلَمَّا وَقَفُوا عِنْدَ رسول الله ص سَلَّمُوا عَلَيْهِ، فَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ الله ص: أَنْتُمُ الَّذِينَ إِذَا زُجِرُوا اسْتَقْدَمُوا! فَسَكَتُوا، فَلَمْ يُرَاجِعْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، ثُمَّ أَعَادَهَا رَسُولُ اللَّهِ ص الثَّانِيَةَ، فَلَمْ يُرَاجِعْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، ثُمَّ أَعَادَهَا رَسُولُ اللَّهِ الثَّالِثَةَ فَلَمْ يُرَاجِعْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، ثُمَّ أَعَادَهَا رَسُولُ اللَّهِ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَدَانِ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، نحن الذين إذا زجرنا اسْتَقْدَمْنَا، فَقَالَهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: لَوْ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ لَمْ يَكْتُبْ الى فيكم

أَنَّكُمْ أَسْلَمْتُمْ وَلَمْ تُقَاتِلُوا لأَلْقَيْتُ رُءُوسَكُمْ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ فَقَالَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَدَانِ: أَمَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا حَمِدْنَاكَ وَلا حَمِدْنَا خَالِدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: فَمَنْ حَمِدْتُمْ؟ قالوا: حمدنا الله الذى هدانا بك يا رسول الله، قال: صدقتم، ثم قال رسول الله ص: بِمَ كُنْتُمْ تَغْلِبُونَ مَنْ قَاتَلَكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالُوا: لَمْ نَكُنْ نَغْلِبُ أَحَدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: بَلَى قَدْ كُنْتُمْ تَغْلِبُونَ مَنْ قَاتَلَكُمْ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنَّا نَغْلِبُ مَنْ قَاتَلَنَا، أَنَّا كُنَّا بَنِي عُبَيْدٍ، وَكُنَّا نَجْتَمِعُ وَلا نَتْفَرِقُ، وَلا نَبْدَأُ أَحَدًا بِظُلْمٍ، قَالَ: صَدَقْتُمْ] ثُمَّ أَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى بَلْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ قَيْسَ بْنَ الْحُصَيْنِ فَرَجَعَ وَفْدُ بلحارث ابن كَعْبٍ إِلَى قَوْمِهِمْ فِي بَقِيَّةِ شَوَّالَ أَوْ فِي صَدْرِ ذِي الْقَعْدَةِ، فَلَمْ يَمْكُثُوا بَعْدَ أَنْ قَدِمُوا إِلَى قَوْمِهِمْ إِلا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، حتى توفى رسول الله ص. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بكر، قال: وكان رسول الله ص بَعَثَ إِلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ بَعْدَ أَنْ وَلَّى وَفْدَهُمْ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ الأَنْصَارِيَّ، ثُمَّ أَحَدَ بَنِي النَّجَّارِ، لِيُفَقِّهَهُمْ فِي الدِّينِ وَيُعَلِّمَهُمُ السُّنَّةَ وَمَعَالِمَ الإِسْلامِ، وَيَأْخُذُ مِنْهُمْ صَدَقَاتِهِمْ، وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا عَهِدَ إِلَيْهِ فِيهِ، وَأَمَرَهُ فِيهِ بِأَمْرِهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا بيان من الله ورسوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» ، عَقْدٌ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ، أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ في امره كله، فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالْحَقِّ كَمَا أَمَرَ بِهِ اللَّهُ وَأَنْ يُبَشِّرَ النَّاسَ بِالْخَيْرِ، وَيَأْمُرَهُمْ بِهِ، وَيُعَلِّمَ النَّاسَ الْقُرْآنَ، وَيُفَقِّهَهُمْ فِي الدِّينِ، وَيَنْهَى النَّاسَ وَلا «يَمَسَّ أَحَدٌ الْقُرْآنَ إِلا وَهُوَ طَاهِرٌ،» وَيُخْبِرَ النَّاسَ بِالَّذِي لَهُمْ، وَبِالَّذِي عَلَيْهِمْ، وَيَلِينَ لِلنَّاسِ فِي الْحَقِّ، وَيَشْتَدَّ عَلَيْهِمْ فِي الظُّلْمِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَرِهَ الظُّلْمَ وَنَهَى عَنْهُ وَقَالَ: «أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ» ، وَيُبَشِّرَ النَّاسَ بِالْجَنَّةِ وَبِعَمَلِهَا، وَيُنْذِرَ بِالنَّارِ

وَبِعَمَلِهَا، وَيَسْتَأْلِفَ النَّاسَ حَتَّى يَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، وَيُعَلِّمَ النَّاسَ مَعَالِمَ الْحَجِّ وَسُنَّتَهُ وَفَرِيضَتَهُ، وَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي الْحَجِّ الأَكْبَرِ وَالْحَجِّ الأَصْغَرِ، وَهُوَ الْعُمْرَةُ، وَيَنْهَى النَّاسَ أَنْ يُصَلِّيَ أَحَدٌ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ صَغِيرٍ، إِلا أَنْ يَكُونَ ثَوْبًا وَاحِدًا يُثْنِي طَرفَهُ عَلَى عَاتِقِهِ، وَيَنْهَى أَنْ يَحْتَبِيَ أَحَدٌ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ يُفْضِي بِفَرْجِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَيَنْهَى أَلا يَعْقِصُ أَحَدٌ شَعْرَ رَأْسِهِ إِذَا عَفَا فِي قَفَاهُ، وَيَنْهَى إِذَا كَانَ بَيْنَ النَّاسِ هَيْجٌ عَنِ الدُّعَاءِ إِلَى الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ، وَلْيَكُنْ دُعَاؤُهُمْ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، فَمَنْ لَمْ يَدْعُ إِلَى اللَّهِ وَدَعَا إِلَى الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ فَلْيُقْطَعُوا بِالسَّيْفِ حَتَّى يَكُونَ دُعَاؤُهُمْ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَيَأْمُرَ النَّاسَ بِإِسْبَاغِ الْوُضُوءِ وُجُوهَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَأَرْجُلَهُمْ إِلَى الكعبين، ويمسحون برؤسهم كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَرَهُ بِالصَّلاةِ لِوَقْتِهَا، وَإِتْمَامَ الرُّكُوعِ وَالْخُشُوعِ، وَيُغَلِّسَ بِالْفَجْرِ، وَيُهْجِرَ بِالْهَاجِرَةِ حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ، وَصَلاةُ الْعَصْرِ وَالشَّمْسُ فِي الأَرْضِ مُدْبِرَةٌ، وَالْمَغْرِبُ حِينَ يُقْبِلُ اللَّيْلُ، لا تُؤَخَّرُ حَتَّى تَبْدُوَ النُّجُومُ فِي السَّمَاءِ، وَالْعِشَاءِ أَوَّلُ اللَّيْلِ وَيَأْمُرَ بِالسَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ إِذَا نُودِيَ لَهَا، وَالْغُسْلُ عِنْدَ الرَّوَاحِ إِلَيْهَا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْمَغَانِمِ خُمُسَ اللَّهِ وَمَا كُتِبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَةِ مِنَ الْعَقَارِ عُشْرُ مَا سُقِيَ الْبَعْلُ وَمَا سَقَتِ السماء ومما سَقَى الْغَرْبُ نِصْفُ الْعُشْرِ، وَفِي كُلِّ عَشْرٍ مِنَ الإِبِلِ شَاتَانِ، وَفِي كُلِّ عِشْرِينَ مِنَ الإِبِلِ أَرْبَعُ شِيَاهٍ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مِنَ الْبَقَرِ بَقَرَةٌ، وَفِي كُلِّ ثَلاثِينَ مِنَ الْبَقَرِ تبيع جذع أو جذعة، وفي كل أربعين مِنَ الْغَنَمِ سَائِمَةُ شَاةٍ، فَإِنَّهَا فَرِيضَةُ اللَّهِ الَّتِي افْتَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَةِ، فَمَنْ زَادَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَأَنَّهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ إِسْلامًا خَالِصًا مِنْ نَفْسِهِ، وَدَانَ دِينَ الإِسْلامِ فَإِنَّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، لَهُ مِثْلُ مَا لهم وعليه مثل ما عليهم، ومن كان عَلَى نَصْرَانِيَّتِهِ أَوْ يَهُودِيَّتِهِ فَإِنَّهُ لا يُفْتَنُ عَنْهَا، وَعَلى كُلِّ حَالِمٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، دِينَارٌ وَافٍ أَوْ عَرَضُهُ ثِيَابًا، فَمَنْ أَدَّى ذَلِكَ، فَإِنَّ لَهُ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ، وَمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا

قدوم وفد الأزد

قال الواقدى: توفى رسول الله ص وعمرو بْن حزم عامله بنجران. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وفي هذه السنة قدم وفد سلامان فِي شوال على رسول الله ص، وهم سبعة نفر، رأسهم حبيب السلاماني. وفيها قدم وفد غسان فِي رمضان وفيها قدم وفد غامد في رمضان قدوم وفد الأزد وفيها قدم وفد الأزد، رأسهم صرد بْن عبد الله فِي بضعة عشر فَحَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: قدم على رسول الله ص صرد ابن عَبْدِ اللَّهِ الأَزْدِيُّ فَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إِسْلامُهُ، فِي وَفْدٍ مِنَ الأَزْدِ، فَأَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُجَاهِدَ بِمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَبَائِلِ الْيَمَنِ، فَخَرَجَ صُرَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَسِيرُ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ فِي جَيْشٍ حَتَّى نَزَلَ بِجُرَشَ، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ مَدِينَةٌ مُغْلَقَةٌ، وَفِيهَا قَبَائِلُ الْيَمَنِ، وَقَدْ ضَوَتْ إِلَيْهِمْ خَثْعَمٌ، فَدَخَلُوا مَعَهُمْ حِينَ سَمِعُوا بِمَسِيرِ الْمُسْلِمِينَ، فَحَاصَرُوهُمْ بِهَا قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ، وَامْتَنَعُوا مِنْهُمْ فِيهَا ثُمَّ إِنَّهُ رَجَعَ عَنْهُمْ قَافِلا، حَتَّى إِذَا كَانَ إِلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ كُشَرَ ظَنَّ أَهْلُ جُرَشَ أَنَّهُ إِنَّمَا وَلَّى عَنْهُمْ مُنْهَزِمًا، فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ، حَتَّى إِذَا أَدْرَكُوهُ عَطَفَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَهُمْ قَتْلا، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ جُرَشَ قَدْ بعثوا رجلين منهم الى رسول الله ص وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ يَرْتَادَانِ وَيَنْظُرَانِ، فَبَيْنَا هُمَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ عَشِيَّةً بَعْدَ الْعَصْرِ، إِذْ قَالَ رسول الله ص: بِأَيِّ بِلادِ اللَّهِ شُكَرُ؟ فَقَامَ الْجُرَشِيَّانِ فَقَالا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِبِلادِنَا جَبَلٌ

سريه على بن ابى طالب إلى اليمن

يُقَالُ لَهُ جَبَلُ كُشَرَ، وَكَذَلِكَ تُسَمِّيهِ أَهْلُ جُرَشَ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِكُشَرَ، وَلَكِنَّهُ شُكَرُ [قالا: فماله يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنَّ بُدْنَ اللَّهِ لَتُنْحَرَ عِنْدَهُ الآنَ] قَالَ فَجَلَسَ الرَّجُلانِ إِلَى ابى بكر والى عُثْمَانَ، فَقَالَ لَهُمَا: وَيْحَكُمَا! إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ الآنَ لَيَنْعِي لَكُمَا قَوْمَكُمَا، فَقُومَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَاسْأَلاهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ فَيَرْفَعَ عَنْ قَوْمِكُمَا، فَقَامَا إِلَيْهِ فَسَأَلاهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنْهُمْ، فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ رَاجِعَيْنِ إِلَى قَوْمِهِمَا، فَوَجَدَا قَوْمَهُمَا أُصِيبُوا يَوْمَ أَصَابَهُمْ صُرَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي الْيَوْمِ الذى قال فيه رسول الله ص مَا قَالَ، وَفِي السَّاعَةِ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا مَا ذَكَرَ، فَخَرَجَ وَفْدُ جُرَشَ حَتَّى قَدِمُوا على رسول الله ص فَأَسْلَمُوا، وَحَمَى لَهُمْ حِمًى حَوْلَ قَرْيَتِهِمْ عَلَى أَعْلامٍ مَعْلُومَةٍ لِلْفَرَسِ، وَلِلرَّاحِلَةِ، وَلِلْمُثِيرَةِ تُثِيرُ الْحَرْثَ، فَمَنْ رَعَاهَا مِنَ النَّاسِ سِوَى ذَلِكَ فَمَالُهُ سُحْتٌ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَزْدِ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ- وَكَانَتْ خَثْعَمٌ تُصِيبُ مِنَ الأَزْدِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانُوا يَغْزُونَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ: يَا غَزْوَة مَا غَزَوْنَا غَيْرَ خَائِبَةٍ ... فِيهَا الْبِغَالُ وَفِيهَا الْخَيْلُ وَالْحُمُرُ حَتَّى أَتَيْنَا حُمَيْرًا فِي مَصَانِعِهَا ... وَجَمْعُ خَثْعَمَ قَدْ سَاغَتْ لَهَا النُّذُرُ إِذَا وَضَعْتُ غَلِيلا كُنْتُ أَحْمِلُهُ ... فَمَا أُبَالِي أدانوا بعد أم كفروا! سريه على بن ابى طالب الى اليمن قال: وفيها وجه رسول الله ص عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فِي سَرِيَّةٍ إِلَى الْيَمَنِ فِي رَمَضَانَ فَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ هَيَّاجٍ، قَالا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَزْجِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: بَعَثَ

قدوم وفد زبيد

رسول الله ص خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلامِ فَكُنْتُ فِيمَنْ سَارَ مَعَهُ، فَأَقَامَ عَلَيْهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ لا يُجِيبُونَهُ إِلَى شَيْءٍ، فبعث النبي ص عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْفُلَ خَالِدًا وَمَنْ مَعَهُ، فَإِنْ أَرَادَ أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنْ يَعْقُبَ مَعَهُ تَرَكَهُ. قَالَ الْبَرَاءُ: فَكُنْتُ فِيمَنْ عَقِبَ مَعَهُ، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى أَوَائِلِ الْيَمَنِ، بَلَغَ الْقَوْمَ الْخَبَرُ، فَجَمَعُوا لَهُ، فَصَلَّى بِنَا عَلِيٌّ الْفَجْرَ، فَلَمَّا فَرَغَ صَفَّنَا صَفًّا وَاحِدًا، ثُمَّ تَقَدَّمَ بَيْنَ أَيْدِينَا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثم قرأ عليهم كتاب رسول الله ص، فَأَسْلَمَتْ هَمْدَانُ كُلُّهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَكَتَبَ بذلك الى رسول الله ص، فَلَمَّا قَرَأَ كِتَابَهُ خَرَّ سَاجِدًا، ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَى هَمْدَانَ، السَّلامُ عَلَى هَمْدَانَ! ثم تتابع اهل اليمن على الاسلام . قدوم وفد زبيد قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ زُبَيْدٍ على النبي ص بِإِسْلامِهِمْ فحدثنا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: قدم على رسول الله ص عمرو بْن معد يكرب فِي أناس من بنى زبيد، فاسلم، وكان عمرو بن معديكرب قد قَالَ لقيس بْن مكشوح المرادي حين انتهى اليهم امر رسول الله ص: يا قيس، إنك سيد قومك اليوم، وقد ذكر لنا أن رجلا من قريش يقال له محمد قد خرج بالحجاز يقول، إني نبي، فانطلق بنا إليه حَتَّى نعلم علمه، فإن كان نبيا كما يقول، فإنه لا يخفى عليك. إذا لقيناه اتبعناه، وإن كان غير ذَلِكَ علمنا علمه، فأبى عليه ذَلِكَ قيس بْن مكشوح وسفه رأيه

فركب عمرو بْن معد يكرب حَتَّى قدم على رسول الله ص فصدقه وآمن به، فلما بلغ ذَلِكَ قيسا أوعد عمرا، وتحفظ عليه، وقال: خالفني وترك رأيي! فَقَالَ عمرو فِي ذَلِكَ: أمرتك يوم ذي صنعاء ... أمرا باديا رشده أمرتك باتقاء الله ... والمعروف تاتعده خرجت من المنى مثل الحمار ... أعاره وتده تمناني على فرس ... عليه جالسا أسده علي مفاضة كالنهي ... أخلص ماءه جدده ترد الرمح مثني السنان ... عوائرا قصده فلو لاقيتني لاقيت ... ليثا فوقه لبده تلاقي شنبثا شثن البراثن ... ناشزا كتده يسامي القرن إن قرن ... تيمَّمه فيعتضده فيأخذه فيرفعه ... فيخفضه فيقتصده فيدمغه فيحطمه ... فيخضمه فيزدرده ظلوم الشرك فيما أحرزت ... أنيابه ويده

قدوم فروه بن مسيك المرادى

متى ما يغد أو يغدى ... به فقبوله برده فيخطر مثل خطر الفحل ... فوق جرانه زبده فأمسى يعتريه من البعوض ... ممنعا بلده فلا تتمننى وتمن ... غيرى لينا كتده وبوئنى لَهُ وطنا ... كثيرا حوله عدده قَالَ: فأقام عمرو بن معديكرب فِي قومه من بني زبيد، وعليهم فروة ابن مسيك المرادى، فلما توفى رسول الله ص ارتد عمرو فَقَالَ حين ارتد: وجدنا ملك فروة شر ملك ... حمارا ساف منخره بقذر وكنت إذا رأيت أبا عمير ... ترى الحولاء من خبث وغدر قدوم فروه بن مسيك المرادى وقد كان قدم عَلَى رَسُولِ اللَّهِ فِي هذه السنة- أعني سنة عشر- قبل قدوم عمرو ابن معديكرب، فروة بْن مسيك المرادي مفارقا لملوك كندة فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بَكْرٍ، قَالَ: قَدِمَ فَرْوَةُ بْنُ مُسَيْكٍ الْمُرَادِيُّ على رسول الله ص مُفَارِقًا لِمُلُوكِ كِنْدَةَ، وَمُعَانِدًا لَهُمْ، وَقَدْ كَانَ قُبَيْلَ الإِسْلامِ بَيْنَ مُرَادٍ وَهَمْدَانَ وَقْعَةٌ أَصَابَتْ فِيهَا هَمْدَانُ مِنْ مُرَادٍ مَا أَرَادُوا، حَتَّى أَثْخَنُوهُمْ فِي يَوْمٍ كَانَ يُقَالُ لَهُ الرَّزْمِ، وَكَانَ الَّذِي قَادَ هَمْدَانَ إِلَى مُرَادٍ الأَجْدَعُ بْنُ مَالِكٍ، فَفَضَحَهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ فَرْوَةُ بْنُ مُسَيْكٍ:

فَإِنْ نَغْلِبْ فَغَلَّابُونَ قِدَمًا ... وَإِنْ نُهْزَمْ فَغَيْرُ مُهَزَّمِينَا وَإِنْ نُقْتَلْ فَلا جُبْنَ وَلَكِنْ ... مَنَايَانَا وَطُعْمَةَ آخَرِينَا كَذَاكَ الدَّهْرُ دَوْلَتُهُ سِجَالٌ ... تَكِرُّ صُرُوفُهُ حِينًا فَحِينَا فَبَيْنَاهُ يُسَرُّ بِهِ وَيَرْضَى ... ولو لبست غضارته سنينا إذ انْقَلَبَتْ بِهِ كَرَّاتُ دَهْرٍ ... فَأَلْفَى لِلأُولَى غَبِطُوا طَحِينَا وَمَنْ يُغْبَطْ بِرَيْبِ الدَّهْرِ مِنْهُمْ ... يَجِدْ ريب الزمان له خؤونا فَلَوْ خَلَدَ الْمُلُوكُ إِذًا خَلَدْنَا ... وَلَوْ بَقِيَ الْكِرَامُ إِذًا بَقِينَا فَأَفْنَى ذَاكُمُ سَرَوَاتُ قَوْمِي ... كَمَا أَفْنَى الْقُرُونَ الأَوَّلِينَا وَلَمَّا تَوَجَّهَ فَرْوَةُ بن مسيك الى رسول الله ص مفارقا لِمُلُوكِ كِنْدَةَ قَالَ: لَمَّا رَأَيْتُ مُلُوكَ كِنْدَةَ أعرضت ... كالرجل خان الرجل عرق نسائها يممت رَاحِلَتِي أَؤُمُّ مُحَمَّدًا ... أَرْجُو فَوَاضِلَهَا وَحُسْنَ ثَرَائِهَا قال: فلما انتهى الى رسول الله ص [قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ- فِيمَا بَلَغَنِي: يَا فروه، هل ساءك ما أصاب قومك يومك يَوْمَ الرَّزْمِ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ ذَا يُصِيبُ قَوْمَهُ مِثْلَ مَا أَصَابَ قَوْمِي يَوْمَ الرَّزْمِ، لا يَسُوءُهُ

قدوم الجارود في وفد عبد القيس

ذلك! فقال رسول الله ص: أَمَا إِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَزِدْ قَوْمَكَ فِي الإِسْلامِ إِلا خَيْرًا] فَاسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى مُرَادٍ وَزُبَيْدٍ وَمَذْحِجٍ كُلِّهَا، وَبَعَثَ مَعَهُ خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَكَانَ مَعَهُ فِي بِلادِهِ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ص. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَسُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُجَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَامِرٌ، عَنْ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ، قَالَ: [قال رَسُولُ اللَّهِ: أَكَرِهْتَ يَوْمَكَ وَيَوْمَ هَمْدَانَ؟ فَقُلْتُ: إِي وَاللَّهِ! أَفْنَى الأَهْلَ وَالْعَشِيرَةَ، فَقَالَ: أَمَا انه خير لمن بقي] . قدوم الجارود في وفد عبد القيس وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ، فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: قدم على رسول الله ص الجارود بْن عمرو بْن حنش بْن المعلى، أخو عبد القيس فِي وفد عبد القيس وَكَانَ نصرانيا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ الْحَسَنِ، قَالَ: لَمَّا انْتَهَى إِلَى رسول الله ص كَلَّمَهُ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الإِسْلامَ، وَدَعَاهُ إِلَيْهِ، وَرَغَّبَهُ فِيهِ، [فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي قَدْ كُنْتُ عَلَى دِينٍ، وَإِنِّي تَارِكٌ دِينِي لِدِينِكَ، فَتَضْمَنُ لي ديني؟ فقال رسول الله ص: نَعَمْ أَنَا ضَامِنٌ لَكَ أَنْ قَدْ هَدَاكَ اللَّهُ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ قَالَ: فَأَسْلَمَ وَأَسْلَمَ مَعَهُ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ سَأَلُوا رَسُولَ الله الْحِمْلانَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بِلادِنَا ضَوَالَّ مِنْ ضَوَالِّ النَّاسِ، أَفَنَتَبَلَّغُ عَلَيْهَا إِلَى بِلادِنَا؟ قَالَ: إِيَّاكُمْ وَإِيَّاهَا، فَإِنَّمَا ذَلِكَ حَرْقُ النَّارِ] قَالَ: فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ الْجَارُودُ رَاجِعًا إِلَى قَوْمِهِ- وَكَانَ حَسَنَ الإِسْلامِ صُلْبًا عَلَى دِينِهِ- حَتَّى هَلَكَ، وَقَدْ أَدْرَكَ الرده،

قدوم وفد بنى حنيفه ومعهم مسيلمه

فَلَمَّا رَجَعَ مِنْ قَوْمِهِ مَنْ كَانَ أَسْلَمَ مِنْهُمْ إِلَى دِينِهِمْ الأَوَّلِ مَعَ الْغَرُورِ، الْمُنْذِرِ ابن النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، أَقَامَ الْجَارُودُ فَشَهِدَ شَهَادَةَ الحق ودعا الى الاسلام، فقال: يا ايها النَّاسُ، إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنْهَى مَنْ لَمْ يَشْهَدْ. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ بَعَثَ الْعَلاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ إِلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى الْعَبْدِيِّ، فَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إِسْلامُهُ، ثُمَّ هَلَكَ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَقَبْلَ رِدَّةِ أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ، وَالْعَلاءُ أَمِيرٌ عِنْدَهُ لِرَسُولِ الله على البحرين قدوم وفد بنى حنيفه ومعهم مسيلمه وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ بَنِي حَنِيفَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: قدم على رسول الله ص وفد بني حنيفة، فيهم مسيلمة بْن حبيب الكذاب، فكان منزلهم فِي دار ابنة الحارث، امرأة من الأنصار، ثُمَّ من بني النجار. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، أَنَّ بَنِي حَنِيفَةَ أَتَتْ بِمُسَيْلِمَةَ الى رسول الله ص تَسْتُرُهُ بِالثِّيَابِ، وَرَسُولُ اللَّهِ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ، وَمَعَهُ عَسِيبٌ مِنْ سَعْفِ النَّخْلِ، فِي رَأْسِه خوصات، [فلما انتهى الى رسول الله ص وهم يسترونه بالثياب، كلم رسول الله ص، فقال له رسول الله: لَوْ سَأَلْتَنِي هَذَا الْعَسِيبَ الَّذِي فِي يَدِي مَا أَعْطَيْتُكَ!] حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، قَالَ: كَانَ حَدِيثُ مُسَيْلِمَةَ عَلَى غَيْرِ هَذَا،

قدوم الاشعث بن قيس في وفد كنده

زَعَمَ أَنَّ وَفْدَ بَنِي حَنِيفَةَ أَتَوْا رَسُولَ الله ص وَخَلَّفُوا مُسَيْلِمَةَ فِي رِحَالِهِمْ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا ذَكَرُوا لَهُ مَكَانَهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا قَدْ خَلَّفْنَا صَاحِبًا لَنَا فِي رِحَالِنَا وَرِكَابِنَا يحفظهما لَنَا قَالَ: فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ بِمِثْلِ مَا أَمَرَ بِهِ لِلْقَوْمِ، وَقَالَ: [أَما إِنَّهُ لَيْسَ بِشَرِّكُمْ مَكَانًا، يَحْفَظُ ضَيْعَةَ أَصْحَابِهِ،] وَذَلِكَ الذى يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَجَاءُوا مُسَيْلِمَةَ بِمَا أَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْيَمَامَةِ ارْتَدَّ عَدُوُّ اللَّهِ وَتَنَبَّأَ وَتَكَذَّبَ لَهُمْ، وَقَالَ: إِنِّي قَدْ اشركت في الأمر معه، وقال الوفد: أَلَمْ يَقُلْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ حَيْثُ ذَكَرْتُمُونِي: أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بِشَرِّكُمْ مَكَانًا! مَا ذَلِكَ إِلا لِمَا كَانَ يَعْلَمُ أَنِّي قَدْ أُشْرِكْتُ مَعَهُ، ثُمَّ جَعَلَ يَسْجَعُ السَّجَعَاتِ، وَيَقُولُ لَهُمْ فِيمَا يَقُولُ مُضَاهَاةً لِلْقُرْآنِ: لَقَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى الْحُبْلَى، أَخْرَجَ مِنْهَا نَسَمَةً تَسْعَى، مِنْ بَيْنِ صِفَاقٍ وَحِشَى، وَوَضَعَ عَنْهُمْ الصَّلاةَ، وَأَحَلَّ لَهُمُ الْخَمْرَ وَالزِّنَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ فَشَهِدَ لِرَسُولِ الله ص أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَأَصْفَقَتْ بَنُو حَنِيفَةَ عَلَى ذَلِكَ، فالله اعلم اى ذلك كان. قدوم الاشعث بن قيس في وفد كنده قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَفِيهَا قَدِمَ وَفْدُ كِنْدَةَ، رَأْسُهُمُ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ، فَحَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: قَدِمَ عَلَى رسول الله ص الاشعث ابن قَيْسٍ فِي سِتِّينَ رَاكِبًا مِنْ كِنْدَةَ، فَدَخَلُوا على رسول الله مسجده، وقد

حوادث متفرقة

رَجَّلُوا جُمَمَهُمْ، وَتَكَحَّلُوا، عَلَيْهِمْ جُبَبُ الْحَبِرَةِ، قَدْ كَفَّفُوهَا بِالْحَرِيرِ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص، قَالَ: أَلَمْ تُسْلِمُوا؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَمَا بَالُ هَذَا الْحَرِيرِ فِي أَعْنَاقِكُمْ؟ قَالَ: فَشَقُّوهُ مِنْهَا فَأَلْقَوْهُ، ثُمَّ قَالَ الأَشْعَثُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَحْنُ بَنُو آكِلِ الْمُرَارِ، وَأَنْتَ ابْنُ آكِلِ الْمُرَارِ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: ناسبوا بهذا النسب العباس ابن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَرَبِيعَةَ بْنَ الْحَارِثِ قَالَ: وَكَانَ رَبِيعَةُ وَالْعَبَّاسُ تَاجِرَيْنِ، فَكَانَا إِذَا سَاحَا فِي أَرْضِ الْعَرَبِ فَسُئِلا مَنْ هُمَا؟ قَالا: نَحْنُ بَنُو آكِلِ الْمُرَارِ، يَتَعَزَّزَانِ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ كنده كانت ملوكا، [فقال رسول الله ص: نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ لا نَقْفُو أُمَّنَا، وَلا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا] فَقَالَ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ: هَلْ عَرَفْتُمْ يَا مَعْشَرَ كِنْدَةَ! وَاللَّهِ لا أَسْمَعُ رَجُلا قَالَهَا بَعْدَ الْيَوْمِ الا ضربته حده ثمانين . [حوادث متفرقة] قال الْوَاقِدِيّ: وفيها قدم وفد محارب وفيها قدم وفد الرهاويين. وفيها قدم وفد العاقب والسيد من نجران، فكتب لهما رَسُول اللَّهِ ص كتاب الصلح. قَالَ: وفيها قدم وفد عبس. وفيها قدم وفد صدف، وافوا رَسُول اللَّهِ ص فِي حجة الوداع

قدوم رفاعة بن زيد الجذامى

قَالَ: وفيها قدم عدي بْن حاتم الطائي، فِي شعبان. وفيها مات أبو عامر الراهب عِنْد هرقل، فاختلف كنانة بْن عبد ياليل وعلقمة بْن علاثة فِي ميراثه، فقضي به لكنانة بْن عبد ياليل قَالَ: هما من اهل المدر، وأنت من اهل الوبر. قدوم رفاعة بن زيد الجذامى قَالَ: وفيها قدم وفد خولان، وهم عشرة. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، قَالَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص فِي هُدْنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ قَبْلَ خَيْبَرَ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ الْجُذَامِيُّ ثُمَّ الضُّبَيْبِيُّ، فَأَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ غُلامًا، وَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إِسْلامُهُ، وَكَتَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى قَوْمِهِ كِتَابًا، فِي كِتَابِهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ لِرِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ، إِنِّي بَعَثْتُهُ إِلَى قَوْمِهِ عَامَّةً وَمَنْ دَخَلَ فِيهِمْ، يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، فَمَنْ أَقْبَلَ فَمِنْ حِزْبِ اللَّهِ وَحِزْبِ رَسُولِهِ، وَمَنْ أَدْبَرَ فَلَهُ أَمَانُ شَهْرَيْنِ فَلَمَّا قَدِمَ رِفَاعَةُ عَلَى قَوْمِهِ، أَجَابُوا وَأَسْلَمُوا، ثُمَّ سَارُوا إِلَى الْحَرَّةِ، حَرَّةِ الرَّجْلاءِ فَنَزَلُوهَا. فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ لا يَتَّهِمُ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ جُذَامٍ كَانُوا بِهَا عُلَمَاءَ، أَنَّ رِفَاعَةَ بْنَ زَيْدٍ، لَمَّا قَدِمَ مِنْ عند رسول الله ص بِكِتَابِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلامِ، فَاسْتَجَابُوا لَهُ، لَمْ يَلْبَثْ أَنْ أَقْبَلَ دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيُّ مِنْ عِنْدِ قَيْصَرَ صَاحِبِ الرُّومِ، حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ وَمَعَهُ تِجَارَةٌ لَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِوَادٍ مِنْ أَوْدِيَتِهَا، يُقَالُ لَهُ: شَنَارٌ، أَغَارَ عَلَى دِحْيَةَ الْهُنَيْدُ بْنُ عَوْصٍ وَابْنُهُ عَوْصُ بْنُ الْهُنَيْدِ، الضَّلِيعِيَّانِ- وَالضَّلِيعُ بَطْنٌ مِنْ جُذَامٍ- فَأَصَابَا كُلَّ شَيْءٍ كَانَ مَعَهُ،

فَبَلَغَ ذَلِكَ نَفَرًا مِنْ بَنِي الضُّبَيْبِ قَوْمِ رِفَاعَةَ مِمَّنْ كَانَ أَسْلَمَ وَأَجَابَ، فَنَفَرُوا إِلَى الْهُنَيْدِ وَابْنِهِ، فِيهِمْ مِنْ بَنِي الضُّبَيْبِ النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي جِعَالٍ، حَتَّى لَقُوهُمْ، فَاقْتَتَلُوا، وَانْتَمَى يَوْمَئِذٍ قُرَّةُ بْنُ أَشْقَرٍ الضُّفَارِيُّ ثُمَّ الضَّلِيعِيُّ، فَقَالَ: أنا ابْنُ لُبْنَى، وَرَمَى النُّعْمَانَ بْنَ أَبِي جِعَالٍ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ رُكْبَتَهُ، فَقَالَ حِينَ أَصَابَهُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ لُبْنَى- وَكَانَتْ لَهُ أُمٌّ تُدْعَى لُبْنَى- قَالَ: وَقَدْ كَانَ حَسَّانُ بْنُ مَلَّةَ الضُّبَيْبِيُّ قَدْ صَحِبَ دِحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيَّ قَبْلَ ذَلِكَ، فَعَلَّمَهُ أُمَّ الْكِتَابِ، فَاسْتَنْقَذُوا مَا كَانَ فِي يَدِ الْهُنَيْدِ وَابْنِهِ عَوْصٍ، فَرَدُّوهُ عَلَى دِحْيَةَ، فَسَارَ دِحْيَةُ حَتَّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ، وَاسْتَسْقَاهُ دَمَ الْهُنَيْدِ وَابْنِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِم رَسُولُ اللَّهِ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ- وَذَلِكَ الَّذِي هَاجَ غَزْوَةَ زيد جذاما، وَبَعَثَ مَعَهُ جَيْشًا- وَقَدْ وَجَّهَتْ غَطَفَانُ مِنْ جُذَامٍ كُلِّهَا وَوَائِلُ وَمَنْ كَانَ مِنْ سَلامَانَ وَسَعْدُ بْنُ هُذَيْمٍ حِينَ جَاءَهُمْ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ، فَنَزَلُوا بِالْحَرَّةِ، حَرَّةِ الرَّجْلاءِ، وَرِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ بِكُرَاعِ ربَّةَ وَلَمْ يَعْلَمْ، وَمَعَهُ نَاسٌ مِنْ بَنِي الضُّبَيْبِ وَسَائِرُ بَنِي الضُّبَيْبِ بِوَادٍ مِنْ نَاحِيَةِ الْحَرَّةِ مِمَّا يَسِيلُ مَشْرِقًا، وَأَقْبَلَ جَيْشُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ مِنْ نَاحِيَةِ الأَوْلاجِ، فَأَغَارَ بِالْفَضَافِضِ مِنْ قِبَلِ الْحَرَّةِ، وَجَمَعُوا مَا وَجَدُوا مِنْ مَالٍ وَأُنَاسٍ، وَقَتَلُوا الْهُنَيْدَ وَابْنَهُ وَرَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي الأَحْنَفِ، وَرَجُلا مِنْ بَنِي خَصِيبٍ، فَلَمَّا سَمِعَتْ بِذَلِكَ بَنُو الضُّبَيْبِ وَالْجَيْشُ بِفَيْفَاءَ مُدَانٍ، رَكِبَ حَسَّانُ بْنُ مَلَّةَ عَلَى فَرَسٍ لِسُوَيْدِ بْنِ زَيْدٍ يُقَالُ لَهَا الْعَجَّاجَةُ، وَأُنَيْفُ بْنُ مَلَّةَ عَلَى فَرَسٍ لِمَلَّةَ، يُقَالُ لَهَا رِغَالُ، وَأَبُو زَيْدِ بْنُ عَمْرٍو عَلَى فَرَسٍ لَهُ يُقَالُ لَهَا شِمْرٌ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنَ الْجَيْشِ، قَالَ أَبُو زَيْدٍ لأُنَيْفِ بْنِ مَلَّةَ: كُفَّ عَنَّا وَانْصَرِفْ، فَإِنَّا نَخْشَى لِسَانَكَ، فَانْصَرِفْ فَوَقَفَ عَنْهُمَا، فَلَمْ يُبْعِدَا مِنْهُ، فَجَعَلَ فَرَسَهُ تَبْحَثُ بِيَدِهَا وَتُوثَبُ، فَقَالَ: لأَنَا أَضِنُّ بِالرَّجُلَيْنِ مِنْكَ بِالْفَرَسَيْنِ، فَأَرْخَى لَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُمَا، فَقَالا لَهُ: أَمَا إِذْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ، فَكُفَّ عَنَّا لِسَانَكَ وَلا تَشْأَمُنَا الْيَوْمَ، وَتَوَاطَئُوا أَلا يَتَكَلَّمَ مِنْهُمْ إِلا حَسَّانُ بْنُ مَلَّةَ، وَكَانَتْ

بَيْنَهُمْ كَلِمَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَدْ عَرَفُوهَا، بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ، إِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَضْرِبَ بِسَيْفِهِ قَالَ: ثورِي. فَلَمَّا بَرَزُوا عَلَى الْجَيْشِ أَقْبَلَ الْقَوْمُ يَبْتَدِرُونَهُمْ، فَقَالَ حَسَّانٌ: إِنَّا قَوْمٌ مُسْلِمُونَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيَهُمْ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ أَدْهَمَ بَائِعٌ رُمْحَهُ يَقُولُ مُعَرِّضَهُ: كَأَنَّمَا رَكَزَهُ عَلَى مَنْسَجِ فَرَسِهِ جُدْ وَأَعْتِقْ، فَأَقْبَلَ يَسُوقُهُمْ، فَقَالَ أُنَيْفٌ: ثورِي، فَقَالَ حَسَّانٌ: مَهْلا! فَلَمَّا وَقَفُوا عَلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ قَالَ لَهُ حَسَّانٌ: إِنَّا قَوْمٌ مُسْلِمُونَ، فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: فَاقْرَأْ أُمَّ الْكِتَابِ، فَقَرَأَهَا حَسَّانٌ، فَقَالَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ: نَادُوا فِي الْجَيْشِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَيْنَا ثُغْرَةَ الْقَوْمِ الَّتِي جَاءُوا مِنْهَا إِلا مَنْ خَتَرَ، وَإِذَا أُخْتٌ لحسان ابن مَلَّةَ- وَهِيَ امْرَأَةُ أَبِي وَبَرِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ الضُّبَيْبِ- فِي الأُسَارَى. فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: خُذْهَا، فَأَخَذَتْ بِحِقْوَيْهِ، فَقَالَتْ أُمُّ الْفَزِرِ الضَّلِيعِيَّةِ: أَتَنْطَلِقُونَ بِبَنَاتِكُمْ، وَتَذَرُونَ أُمَّهَاتِكُمْ! فَقَالَ أَحَدُ بَنِي خَصِيبٍ: إِنَّهَا بَنُو الضُّبَيْبِ! وَسَحَرَتْ أَلْسِنَتَهُمْ سَائِرَ الْيَوْمِ، فَسَمِعَهَا بَعْضُ الْجَيْشِ، فَأُخْبِرَ بِهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَأَمَرَ بِأُخْتِ حَسَّانٍ، فَفُكَّتْ يَدَاهَا مِنْ حِقْوَيْهِ، فَقَالَ لَهَا: اجْلِسِي مَعَ بَنَاتِ عَمِّكِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ فِيكُنَّ حُكْمَهُ، فَرَجَعُوا، وَنَهَى الْجَيْشَ أَنْ يَهْبِطُوا إِلَى وَادِيهِمُ الَّذِي جَاءُوا مِنْهُ، فَأَمْسَوْا فِي أَهْلِيهِمْ، وَاسْتَعْتَمُوا ذَوْدًا لِسُويَدِ بْنِ زَيْدٍ، فَلَمَّا شَرِبُوا عَتَمَتَهُمْ رَكِبُوا إِلَى رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَكَانَ مِمَّنْ رَكِبَ إِلَى رِفَاعَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَبُو زَيْدِ بْنُ عَمْرٍو وَأَبُو شِمَاسِ بْنُ عَمْرٍو، وَسُوَيْدُ بْنُ زَيْدٍ، وَبَعْجَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَبَرْذَعُ بْنُ زَيْدٍ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَمَخْرَبَةُ بْنُ عَدِيٍّ، وَأُنَيْفُ بْنُ مَلَّةَ، وَحَسَّانُ بْنُ مَلَّةَ، حتى صبحوا رفاعة

ابن زَيْدٍ بِكُرَاعِ ربَّةَ بِظَهْرِ الْحَرَّةِ عَلَى بِئْرٍ هُنَالِكَ مِنْ حَرَّةِ لَيْلَى، فَقَالَ لَهُ حَسَّانُ بْنُ مَلَّةَ: إِنَّكَ لَجَالِسٌ تَحْلِبُ الْمَعْزَى وَنِسَاءُ جُذَامٍ يُجَرَّرْنَ أُسَارَى قَدْ غَرَّهَا كِتَابُكَ الَّذِي جِئْتَ بِهِ! فَدَعَا رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ بِجَمَلٍ لَهُ، فَجَعَلَ يَشْكِلُ عَلَيْهِ رَحْلَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: هَلْ أَنْتَ حَيٌّ أَوْ تُنَادِي حَيًّا ثُمَّ غَدَا وَهُمْ مَعَهُ بِأُمَيَّةَ بْنِ ضُفَارَةِ أَخِي الْخَصِيبِيِّ الْمَقْتُولِ مُبَكِّرِينَ مِنْ ظَهْرِ الْحَرَّةِ، فَسَارُوا إِلَى جَوْفِ الْمَدِينَةِ ثَلاثَ لَيَالٍ، فَلَمَّا دَخَلُوا انتهوا الى المسجد، ونظر اليه رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ لَهُمْ: لا تُنِيخُوا إِبِلَكُمْ فَتُقْطَعَ أَيْدِيهِنَّ، فَنَزَلُوا عَنْهَا وَهُنَّ قِيَامٌ، فلما دخلوا على رسول الله ص وَرَآهُمْ، أَلاحَ إِلَيْهِمْ بِيَدِهِ: أَنْ تَعَالَوْا مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ، فَلَمَّا اسْتَفْتَحَ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ الْمَنْطِقَ قَامَ رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ: إِنَّ هؤلاء يا نبى الله قوم سحره، فرددها مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ رِفَاعَةُ: رَحِمَ اللَّهُ مَنْ لَمْ يَجْزِنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا إِلا خَيْرًا! ثُمَّ دَفَعَ رِفَاعَةُ كِتَابَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ الَّذِي كَانَ كَتَبَهُ لَهُ، فَقَالَ: دُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدِيمًا كِتَابُهُ، حَدِيثًا غَدْرُهُ فَقَالَ رَسُولُ الله ص: اقْرَأْ يَا غُلامُ وَأَعْلِنْ، فَلَمَّا قَرَأَ كِتَابَهُمْ وَاسْتَخْبَرَهُمْ فَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: كَيْفَ أَصْنَعُ بِالْقَتْلَى؟ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ رِفَاعَةُ: أَنْتَ يا رسول الله اعلم، لانحرم عَلَيْكَ حَلالا، وَلا نُحِلُّ لَكَ حَرَامًا، فَقَالَ أَبُو زَيْدِ بْنُ عَمْرٍو: أَطْلِقْ لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ كَانَ حَيًّا، وَمَنْ كَانَ قَدْ قُتِلَ فَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: صَدَقَ أَبُو زَيْدٍ، ارْكَبْ مَعَهُمْ يَا عَلِيُّ، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ زَيْدًا لَنْ يُطِيعَنِي، قَالَ: خُذْ سَيْفِي، فَأَعْطَاهُ سَيْفَهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَيْسَ لِي رَاحِلَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْكَبُهَا، فَحَمَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى جَمَلٍ لِثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرٍو، يُقَالُ لَهُ الْمِكْحَالُ، فَخَرَجُوا، فَإِذَا رَسُولٌ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ عَلَى نَاقَةٍ مِنْ إِبِلِ أَبِي وَبْرٍ، يُقَالُ لَهَا الشَّمِرُ، فَأَنْزَلُوهُ عَنْهَا، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ مَا شَأْنِي؟ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: مَا لَهُمْ عَرَفُوهُ فَأَخَذُوهُ ثُمَّ سَارُوا حَتَّى لَقُوا الْجَيْشَ بِفَيْفَاءَ الْفَحْلَتَيْنِ، فَأَخَذُوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، حَتَّى كَانُوا يَنْزِعُونَ لُبُدَ الْمَرْأَةِ مِنْ تحت الرحل

وفد بنى عامر بن صعصعة

وَفْدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، قَالَ: قدم على رسول الله ص وَفْدُ بَنِي عَامِرٍ، فِيهِمْ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ، وَأَرْبَدُ بْنُ قَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَجَبَّارُ بْنُ سَلْمَى بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَكَانَ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ رُءُوسُ الْقَوْمِ وَشَيَاطِينُهُمْ. فَقَدِمَ عامر بن الطفيل على رسول الله ص وَهُوَ يُرِيدُ الْغَدْرَ بِهِ، وَقَدْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ: يَا عَامِرُ، إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا فَأَسْلِمْ، قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ آلَيْتُ أَلا أَنْتَهِيَ حَتَّى تَتَّبِعَ الْعَرَبُ عَقِبِي، أَفَأَنَا أَتْبَعُ عَقِبَ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ! ثُمَّ قَالَ لأَرْبَدَ: إِذَا قَدِمْتُ عَلَى الرَّجُلِ فَإِنِّي شَاغِلٌ عَنْكَ وَجْهَهُ، فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَاعِلُهُ بِالسَّيْفِ، [فلما قدموا على رسول الله ص قَالَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ: يَا مُحَمَّدُ خَالِنِي، قَالَ: لا وَاللَّهِ حَتَّى تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ خَالِنِي، قَالَ: وَجَعَلَ يُكَلِّمُهُ فَيَنْتَظِرُ مِنْ أَرْبَدَ مَا كَانَ أَمَرَهُ بِهِ، فَجَعَلَ أَرْبَدُ لا يُحِيرُ شَيْئًا، فَلَمَّا رَأَى عَامِرٌ مَا يَصْنَعُ أَرْبَدُ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ خَالِنِي، قَالَ: لا وَاللَّهِ حَتَّى تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ فَلَمَّا أَبَى عَلَيْهِ رسول الله ص قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لأَمْلأَنَّهَا عَلَيْكَ خَيْلا حُمُرًا وَرِجَالا، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: اللَّهُمَّ اكْفِنِي عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ،] فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ عَامِرٌ لأَرْبَدَ: وَيْلَكَ يَا أَرْبَدُ أَيْنَ مَا كُنْتُ أَوْصَيْتُكَ بِهِ! وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ رَجُلٌ هُوَ أَخْوَفُ عَلَى نَفْسِي عِنْدِي مِنْكَ، وَايْمُ اللَّهِ لا أَخَافُكَ بَعْدَ الْيَوْمِ أَبَدًا قَالَ: لا تعجل على لا ابالك! وَاللَّهِ مَا هَمَمْتُ بِالَّذِي أَمَرْتَنِي بِهِ مِنْ مَرَّةٍ إِلا دَخَلْتَ بَيْنِي وَبَيْنَ الرَّجُلِ حَتَّى مَا أَرَى غَيْرَكَ، أَفَأَضْرِبُكَ بِالسَّيْفِ! قَالَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ: بُعِثَ الرَّسُولُ بِمَا تَرَى فَكَأَنَّمَا ... عمدا نشن عَلَى الْمَقَانِبِ غَارَا وَلَقَدْ وَرَدْنَ بِنَا الْمَدِينَةَ شُزَّبًا ... وَلَقَدْ قَتَلْنَ بِجَوِّهَا الأَنْصَارَا وَخَرَجُوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلادِهِمْ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ

قدوم زيد الخيل في وفد طيئ

وَجَلَّ عَلَى عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ الطَّاعُونَ فِي عُنُقِهِ فَقَتَلَهُ، وَإِنَّهُ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي سَلُولَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا بَنِي عَامِرٍ، أَغُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبِكْرِ، وَمَوْتٌ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي سَلُولَ! ثُمَّ خَرَجَ أَصْحَابُهُ حِينَ وَارَوْهُ، حَتَّى قَدِمُوا أَرْضَ بَنِي عَامِرٍ، فَلَمَّا قَدِمُوا أَتَاهُمْ قَوْمُهُمْ، فَقَالُوا: مَا وَرَاءَكَ يَا أَرْبَدُ؟ قَالَ: لا شَيْءٌ، وَاللَّهِ لَقَدْ دَعَانَا إِلَى عِبَادَةِ شَيْءٍ لَوَدَدْتُ أَنَّهُ عِنْدِيَ الآنَ فَأَرْمِيهِ بِنَبْلِي هَذِهِ حَتَّى أَقْتُلَهُ، فَخَرَجَ بَعْدَ مَقَالَتِهِ هَذِهِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، مَعَهُ جَمَلٌ لَهُ يَبِيعُهُ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى جَمَلِهِ صَاعِقَةً فَأَحْرَقَتْهُمَا وَكَانَ أَرْبَدُ بْنُ قَيْسٍ أَخَا لبيد بن ربيعه لامه. قدوم زيد الخيل في وفد طيّئ وقدم على رسول الله ص وَفْدُ طَيِّئٍ، فِيهِمْ زَيْدُ الْخَيْلِ، وَهُوَ سَيِّدُهُمْ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهِ كَلَّمُوهُ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ الإِسْلامَ فَأَسْلَمُوا فَحَسُنَ إِسْلامُهُمْ، [فَقَالَ رَسُولُ الله ص- كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ طَيِّئٍ: مَا ذُكِرَ لِي رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ بِفَضْلٍ ثُمَّ جَاءَنِي إِلا رَأَيْتُهُ دُونَ مَا يُقَالُ فِيهِ إِلا مَا كَانَ مِنْ زَيْدِ الْخَيْلِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ فِيهِ كُلُّ مَا فِيهِ] . ثُمَّ سَمَّاهُ زَيْدُ الْخَيْرِ، وَقَطَعَ لَهُ فَيْدًا وَأَرْضِينَ مَعَهُ، وَكَتَبَ لَهُ بِذَلِكَ فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ رَاجِعًا إِلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: إِنْ يَنْجُ زَيْدٌ مِنْ حُمَّى الْمَدِينَةِ! سَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ بِاسْمٍ غَيْرِ الْحُمَّى وَغَيْرِ أُمِّ مِلْدَمٍ فَلْم يُثَبِّتْهُ- فَلَمَّا انْتَهَى مِنْ بِلادِ نَجْدٍ إِلَى مَاءٍ مِنْ مِيَاهِهِ يُقَالُ لَهُ فَرْدَةُ أَصَابَتْهُ الْحُمَّى، فَمَاتَ بِهَا، فَلَمَّا أَحَسَّ زَيْدٌ بِالْمَوْتِ قَالَ: أَمُرْتَحِلٌ قَوْمِي الْمَشَارِقَ غَدْوَةً ... وَأُتْرَكُ فِي بَيْتٍ بِفَرْدَةَ مُنْجِدُ أَلا رُبَّ يَوْمٍ لَوْ مَرِضْتُ لَعَادَنِي ... عَوَائِدُ مَنْ لَمْ يَبَرَّ مِنْهُنَّ يَجْهَدُ

كتاب مسيلمه إلى رسول الله والجواب عنه

فَلَمَّا مَاتَ عَمِدَتِ امْرَأَتُهُ إِلَى مَا كَانَ مَعَهَا مِنْ كُتُبِهِ الَّتِي قَطَعَ لَهُ رَسُولُ الله ص فحرقتها بالنار . كتاب مسيلمه الى رسول الله والجواب عنه وفي هذه السنة كتب مسيلمة إلى رَسُول الله ص يدعي أنه أشرك معه فِي النُّبُوَّةُ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قَالَ: كان مسيلمة بْن حبيب الكذاب كتب الى رسول الله ص: من مسيلمة رَسُول اللَّهِ إلى محمد رَسُول اللَّهِ سلام عليك، فإني قد أُشركت فِي الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم يعتدون. فقدم عليه رسولان بهذا الكتاب. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن شَيْخٍ مِنْ أَشْجَعَ قَالَ ابْنُ حُمَيْدٍ: أَمَّا عَلِيُّ بْنُ مُجَاهِدٍ فَيَقُولُ: عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ الأَشْجَعِيِّ، عَنْ أَبِيهِ نُعَيْمٍ-[قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله ص يقول لهما حين قرءا كِتَابَ مُسَيْلِمَةَ: فَمَا تَقُولانِ أَنْتُمَا؟ قَالا: نَقُولُ كَمَا قَالَ، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْلا أَنَّ الرُّسُلَ لا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا] . ثُمَّ كَتَبَ إِلَى مُسَيْلِمَةَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ محمد رسول الله إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ سَلامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، ف إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قَالَ: وَكَانَ ذَلِكَ فِي آخِرِ سَنَةِ عَشْرٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ دَعْوَى مُسَيْلِمَةَ وَمَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ مِنَ الكذابين في عهد النبي ص، إِنَّمَا كَانَتْ بَعْدَ انْصِرَافِ النَّبِيِّ مِنْ حَجِّهِ الْمُسَمَّى حَجَّةَ الْوَدَاعِ، وَمَرضَتِهِ الَّتِي مَرِضَهَا الَّتِي كانت منها وفاته ص

خروج الأمراء والعمال على الصدقات

حدثنا عبيد الله بن سعيد الزهري، قال: حدثني عمي يعقوب بن إبراهيم قَالَ: حَدَّثَنِي سَيْفُ بْنُ عُمَرَ- وَكَتَبَ بِذَلِكَ الى السرى يقول: حدثنا شعيب ابن إِبْرَاهِيمَ التَّمِيمِيُّ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ التَّمِيمِيِّ الأُسَيْدِيِّ- قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بن ثابت بن الجذع الأنصاري، عن عبيد مولى رسول الله ص عَنْ أَبِي مُوَيْهِبَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: لما انصرف النبي ص الى المدينة بعد ما قَضَى حَجَّةُ التَّمَامِ، فَتَحَلَّلَ بِهِ السَّيْرُ، وَطَارَتْ به الاخبار لتحلل السير بالنبي ص، أَنَّهُ قَدِ اشْتَكَى، فَوَثَبَ الأَسْوَدُ بِالْيَمَنِ وَمُسَيْلَمَةُ باليمامة، وجاء الخبر عنهما للنبي ص، ثُمَّ وَثَبَ طُلَيْحَةُ فِي بِلادِ بَنِي أَسَدٍ بعد ما أَفَاقَ النَّبِيُّ، ثُمَّ اشْتَكَى فِي الْمُحَرَّمِ وَجَعَهُ الذى توفاه الله فيه . خروج الأمراء والعمال على الصدقات قال ابو جعفر: وفرق رسول الله ص فِي جَمِيعِ الْبِلادِ الَّتِي دَخَلَهَا الإِسْلامُ عُمَّالا عَلَى الصَّدَقَاتِ، عَلَى كُلِّ مَا أَوْطَأَ الإِسْلامُ مِنَ الْبِلْدَانِ، فَبَعَث الْمُهَاجِرَ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ إِلَى صَنْعَاءَ، فَخَرَجَ عَلَيْهِ الْعَنْسِيُّ وَهُوَ بِهَا، وَبَعَثَ زِيَادَ بْنَ لَبِيدٍ أَخَا بَنِي بَيَاضَةَ الأَنْصَارِيَّ إِلَى حَضْرَمَوْتَ عَلَى صَدَقَتِهَا، وَبَعَثَ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ عَلَى الصَّدَقَةِ، صَدَقَةِ طَيِّئٍ وَأَسَدٍ، وَبَعَثَ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي حَنْظَلَةَ، وَفَرَّقَ صَدَقَةَ بَنِي سَعْدٍ عَلَى رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ، وَبَعَثَ الْعَلاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ عَلَى الْبَحْرَيْنِ، وَبَعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ إِلَى نَجْرَانَ لِيَجْمَعَ صَدَقَاتِهِمْ، وَيُقْدِمَ عَلَيْهِ بِجِزْيَتِهِمْ

حجه الوداع

حجه الوداع فَلَمَّا دَخَلَ ذُو الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ عَشْرٍ- تَجَهَّزَ النَّبِيُّ إِلَى الْحَجِّ، فَأَمَرَ النَّاسَ بِالْجِهَازِ لَهُ فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عائشة زوج النبي ص، قالت: خرج النبي ص إِلَى الْحَجِّ لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، لا يَذْكُرُ وَلا يَذْكُرُ النَّاسُ إِلا الْحَجَّ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرِفَ، [وَقَدْ سَاقَ رَسُولُ اللَّهِ مَعَهُ الْهَدْيَ وَأَشْرَافٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ، أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَحِلُّوا بِعُمْرَةٍ إِلا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ، وَحِضْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَدَخَلَ على وانا ابكى، فقال: مالك يَا عَائِشَةُ؟ لَعَلَّكِ نَفِسْتِ! فَقُلْتُ: نَعَمْ، لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَخْرُجْ مَعَكُمْ عَامِي هَذَا فِي هذا السَّفَرِ، قَالَ: لا تَفْعَلِي، لا تَقُولِنَّ ذَلِكَ، فَإِنَّكِ تَقْضِينَ كُلَّ مَا يَقْضِي الْحَاجُّ، إِلا أَنَّكِ لا تَطُوفِينَ بِالْبَيْتِ] قَالَتْ: وَدَخَلَ رَسُولُ الله ص مَكَّةَ، فَحَلَّ كُلُّ مَنْ كَانَ لا هَدْيَ مَعَهُ، وَحَلَّ نِسَاؤُهُ بِعُمْرَةٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ أُتِيتُ بِلَحْمِ بَقَرٍ كَثِيرٍ، فَطُرِحَ فِي بَيْتِي، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: ذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ نِسَائِهِ الْبَقَرَ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ، بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ مَعَ أَخِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، لأَقْضِيَ عُمْرَتِي مِنَ التَّنْعِيمِ مَكَانَ عُمْرَتِي الَّتِي فَاتَتْنِي. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، قَالَ: [بَعَثَ رسول الله ص عَلَيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ إِلَى نَجْرَانَ، فَلَقِيَهُ بِمَكَّةَ، وَقَدْ أَحْرَمَ، فَدَخَلَ عَلِيٌّ عَلَى فَاطِمَةَ ابْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ،

فوجدها قد حلت وتهيأت، فقال: مالك يَا ابْنَةَ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَتْ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ أَنْ نَحِلَّ بِعُمْرَةٍ، فَأَحْلَلْنَا، قَالَ: ثُمَّ اتى رسول الله ص، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ سَفَرِهِ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: انْطَلِقْ فَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَحِلَّ كَمَا حَلَّ أَصْحَابُكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ أَهْلَلْتُ بِمَا أَهْلَلْتَ بِهِ، قَالَ: ارْجِعْ فَاحْلِلْ كَمَا حَلَّ أَصْحَابُكَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قُلْتُ حِينَ أَحْرَمْتُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، قَالَ: فَهَلْ مَعَكَ مِنْ هَدْيٍ؟ قَالَ: قلت: لا، قال: فاشركه رسول الله ص فِي هَدْيِهِ وَثَبَتَ عَلَى إِحْرَامِهِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، حَتَّى فَرَغَا مِنَ الْحَجِّ، وَنَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ الْهَدْيَ عَنْهُمَا] . حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى ابن عبد الله بْن عبد الرحمن بْن أبي عَمْرَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ، قَالَ: لَمَّا أَقْبَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنَ الْيَمَنِ لِيَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ بِمَكَّةَ تَعَجَّلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى جُنْدِهِ الَّذِينَ مَعَهُ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَعَمَدَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، فَكَسَا رِجَالا مِنَ الْقَوْمِ حُلَلا مِنَ الْبَزِّ الَّذِي كَانَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَلَمَّا دَنَا جَيْشُهُ، خَرَجَ عَلِيٌّ ليلقاهم، فَإِذَا هُمْ عَلَيْهِمُ الْحُلَلَ، فَقَالَ: وَيْحَكَ مَا هَذَا! قَالَ: كَسَوْتُ الْقَوْمَ لِيَتَجَمَّلُوا بِهِ إِذَا قَدِمُوا فِي النَّاسِ، فَقَالَ: وَيْلَكَ! انْزَعْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: فَانْتَزَعَ الْحُلَلَ مِنَ النَّاسِ، وَرَدَّهَا فِي الْبَزِّ، وَأَظْهَرَ الْجَيْشُ شِكَايَةً لِمَا صُنِعَ بِهِمْ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بن محمد بن كعب ابن عجزه، عَنْ عَمَّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ- وَكَانَتْ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، [قَالَ: شَكَا النَّاسُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ فِينَا خَطِيبًا، فَسَمِعْتُهُ يقول: يا ايها الناس، لا تشكوا عليا، فو الله انه لأخشى فِي ذَاتِ اللَّهِ- أَوْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ- من ان يشكى]

حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، قال: ثم مضى رسول الله ص عَلَى حَجِّهِ، فَأَرَى النَّاسَ مَنَاسِكَهُمْ، وَأَعْلَمَهُمْ سُنَنَ حَجِّهِمْ، وَخَطَبَ النَّاسَ خُطْبَتَهُ الَّتِي بَيَّنَ لِلنَّاسِ فِيهَا مَا بَيَّنَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا قَوْلِي، فَإِنِّي لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا، بِهَذَا الْمَوْقِفِ أَبَدًا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، إِلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، وَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ وَقَدْ بَلَّغْتُ، فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا وَإِنَّ كُلَّ رِبًا مَوْضُوعٌ، وَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ، لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ قَضَى اللَّهُ أَنَّهُ لا رِبًا وَإِنَّ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، وَإِنَّ كُلَّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ- وَكَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي لَيْثٍ، فَقَتَلَتْهُ بَنُو هُذَيْلٍ- فَهُوَ أَوَّلُ مَا أَبْدَأُ بِهِ مِنْ دِمَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ أَبَدًا، وَلَكِنَّهُ رَضِيَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا تُحَقِّرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَاحْذَرُوهُ عَلَى دِينِكُمْ. أَيُّهَا النَّاسُ: «إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ» ، وَيُحَرِّمُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَإِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، وَ «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ

السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ» ، ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَةٌ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ. أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ حَقًّا، لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، وَعَلَيْهِنَّ أَلا يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَإِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ ، وَتَضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فَإِنِ انْتَهَيْنَ فَلَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٍ لا يَمْلِكْنَ لأَنْفُسِهِنَّ شَيْئًا، وَإِنَّكُمْ إِنَّمَا أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، فَاعْقِلُوا أَيُّهَا النَّاسُ وَاسْمَعُوا قَوْلِي، [فَإِنِّي قَدْ بَلَّغْتُ وَتَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا، كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ] . أَيُّهَا النَّاسُ، [اسْمَعُوا قَوْلِي فَإِنِّي قَدْ بَلَّغْتُ، وَاعْقِلُوهُ تَعْلَمُنَّ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ أَخُو الْمُسْلِمِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ إِخْوَةٌ،] فَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ مِنْ أَخِيهِ إِلا مَا أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، فَلا تَظْلِمُوا أَنْفُسَكُمُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ! قَالَ: فَذُكِرَ أَنَّهُمْ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ عَبَّادٍ، قَالَ: كَانَ الذى يصرخ في الناس بقول رَسُولَ اللَّهِ وَهُوَ عَلَى عَرَفَةَ، رَبِيعَةُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، [قَالَ: يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: قُلْ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: هَلْ تَدْرُونَ أَيَّ شَهْرٍ هَذَا! فَيَقُولُونَ: الشَّهْرُ الْحَرَامُ، فَيَقُولُ: قُلْ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ إِلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ كَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا ثُمَّ قَالَ: قُلْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، فَهَلْ تَدْرُونَ أَيَّ بَلَدٍ هَذَا؟ قَالَ: فَيَصْرُخُ بِهِ، فَيَقُولُونَ: الْبَلَدُ الْحَرَامُ، قَالَ: فَيَقُولُ: قُلْ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ

ذكر جمله الغزوات

وَأَمْوَالَكُمْ إِلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ، كَحُرْمَةِ بَلَدِكُمْ هَذَا ثُمَّ قَالَ: قُلْ: أَيُّهَا النَّاسُ، هَلْ تَدْرُونَ أَيَّ يَوْمٍ هَذَا؟ فَقَالَ لَهُمْ، فَقَالُوا: يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ، فَقَالَ: قُلْ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ وَدِمَاءَكُمْ إِلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا] . حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ، [أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ حِينَ وَقَفَ بِعَرَفَةَ، قَالَ: هَذَا الْمَوْقِفُ- لِلْجَبَلِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ- وَكُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ وَقَالَ حِينَ وَقَفَ عَلَى قُزَحِ صَبِيحَةِ الْمُزْدَلِفَةِ: هَذَا الْمَوْقِفُ، وَكُلُّ الْمُزْدَلِفَةِ مَوْقِفٌ ثُمَّ لَمَّا نَحَرَ بِالْمَنْحَرِ، قَالَ: هَذَا الْمَنْحَرُ، وَكُلُّ منى منحر،] فقضى رسول الله ص الْحَجَّ وَقَدْ أَرَاهُمْ مَنَاسِكَهُمْ، وَعَلَّمَهُمْ مَا افْتُرِضَ عَلَيْهِمْ فِي حَجِّهِمْ فِي الْمَوَاقِفِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ وَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَمَا أُحِلَّ لَهُمْ فِي حَجِّهِمْ وَمَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ، فَكَانَتْ حَجَّةَ الْوَدَاعِ وَحَجَّةَ الْبَلاغِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يَحُجَّ بعدها . ذكر جمله الغزوات قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانَتْ غَزَوَاتُهُ بِنَفْسِهِ سِتًّا وَعِشْرِينَ غَزْوَةً، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: هُنَّ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ غَزْوَةً، فَمَنْ قَالَ: هِيَ سِتٌّ وَعِشْرُونَ، جَعَلَ غزوه النبي ص خَيْبَرَ وَغَزْوَتُهُ مِنْ خَيْبَرَ إِلَى وَادِي الْقُرَى غَزْوَةً وَاحِدَةً، لأَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ خَيْبَرَ حِينَ فَرَغَ مِنْ أَمْرِهَا إِلَى مَنْزِلِهِ، وَلَكِنَّهُ مَضَى مِنْهَا إِلَى وَادِي الْقُرَى، فَجَعَلَ ذَلِكَ غَزْوَةً وَاحِدَةً وَمَنْ قَالَ: هِيَ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ غَزْوَةً، جَعَلَ غَزْوَةَ خَيْبَرَ غَزْوَةً، وَغَزْوَةَ وَادِي الْقُرَى غَزْوَةً أُخْرَى، فَيَجْعَلُ الْعَدَدَ سَبْعًا وَعِشْرِينَ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: كَانَ جَمِيعُ مَا غَزَا رسول الله ص بِنَفْسِهِ سِتًّا وَعِشْرِينَ غَزْوَةً أَوَّلُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا وَدَّانُ، وَهِيَ غَزْوَةُ الأَبْوَاءِ، ثُمَّ غَزْوَةُ بُوَاطٍ إِلَى نَاحِيَةِ رَضْوَى، ثُمَّ غَزْوَةُ الْعَشِيرَةِ مِنْ بَطْنِ يَنْبُعَ، ثُمَّ غَزْوَةُ بَدْرٍ

الأُولَى يَطْلُبُ كُرَزَ بْنِ جَابِرٍ، ثُمَّ غَزْوَةُ بَدْرٍ الْكُبْرَى الَّتِي قَتَلَ فِيهَا صَنَادِيدَ قُرَيْشٍ وَأَشْرَافَهُمْ، وَأَسَرَ فِيهَا مَنْ أَسَرَ، ثُمَّ غَزْوَةُ بَنِي سُلَيْمٍ حَتَّى بَلَغَ الْكُدَرَ، مَاءً لِبَنِي سُلَيْمٍ، ثُمَّ غَزْوَةُ السَّوِيقِ يَطْلُبُ أَبَا سُفْيَانَ حَتَّى بَلَغَ قَرْقَرَةَ الْكُدَرِ، ثُمَّ غَزْوَةُ غَطَفَانَ إِلَى نَجْدٍ، وَهِيَ غَزْوَةُ ذِي أَمَرٍّ، ثُمَّ غَزْوَةُ بَحْرَانَ، مَعْدِن بِالْحِجَازِ مِنْ فَوْقِ الْفُرعُ، ثُمَّ غَزْوَةُ أُحُدٍ، ثُمَّ غَزْوَةُ حَمْرَاءِ الأَسَدِ، ثُمَّ غَزْوَةُ بَنِي النَّضِيرِ، ثُمَّ غَزْوَةُ ذَاتِ الرقاع من نخل، ثم غزوه بدر الآخرة، ثُمَّ غَزْوَةُ دُومَةِ الْجَنْدَلِ، ثُمَّ غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ، ثُمَّ غَزْوَةُ بَنِي قُرَيْظَةَ، ثُمَّ غَزْوَةُ بَنِي لِحْيَانَ مِنْ هُذَيْلٍ، ثُمَّ غَزْوَةُ ذِي قَرَدٍ، ثُمَّ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ، ثُمَّ غَزْوَةُ الْحُدَيْبِيَةِ- لا يُرِيدُ قِتَالا، فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ- ثُمَّ غَزْوَةُ خَيْبَرَ، ثُمَّ اعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ، ثُمَّ غَزْوَةُ الْفَتْحِ، فَتَحِ مَكَّةَ، ثُمَّ غَزْوَةُ حُنَيْنٍ، ثُمَّ غَزْوَةُ الطَّائِفِ، ثُمَّ غَزْوَةُ تَبُوكَ قَاتَلَ مِنْهَا فِي تِسْعِ غَزَوَاتٍ: بَدْرٌ، وَأُحُدٌ، وَالْخَنْدَقُ، وَقُرَيْظَةُ، وَالْمُصْطَلِقُ، وَخَيْبَرُ، وَالْفَتْحُ، وَحُنَيْنٌ، وَالطَّائِفُ. حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: غَزَا رَسُولُ الله ص سِتًّا وَعِشْرِينَ غَزْوَةً ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ مَعْرُوفَةٌ مُجْتَمَعٌ عَلَيْهَا، لَيْسَ فِيهَا اخْتِلافٌ بَيْنَ أَحَدٍ فِي عَدَدِهَا، وَهِيَ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ غَزْوَةً، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا بَيْنَهُمْ فِي تَقْدِيمِ مَغْزَاةٍ قَبْلَ مَغْزَاةٍ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ: كَمْ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ ص؟ قَالَ: سَبْعًا وَعِشْرِينَ غَزْوَةً، فَقِيلَ لابْنِ عُمَرَ كَمْ غَزَوْتَ مَعَهُ؟ قَالَ: إِحْدَى وَعِشْرِينَ غَزْوَةً، أَوَّلُهَا الْخَنْدَقُ، وَفَاتَنِي سِتُّ غَزَوَاتٍ، وَقَدْ كُنْتُ حريصا، قد عرضت

ذكر جمله السرايا والبعوث

على النبي ص، كُلَّ ذَلِكَ يَرُدُّنِي فَلا يُجِيزُنِي حَتَّى أَجَازَنِي فِي الْخَنْدَقِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: قَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ ص فِي إِحْدَى عَشْرَةَ، ذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ التِّسْعَ الَّتِي ذَكَرْتُهَا عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَعَدَّ مَعَهَا غَزْوَةَ وَادِي الْقُرَى، وَأَنَّهُ قَاتَلَ فِيهَا فَقُتِلَ غُلامُهُ مِدْعَمٌ، رُمِيَ بِسَهْمٍ قَالَ: وَقَاتَلَ يَوْمَ الْغَابَةِ، فَقَتَلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَقُتِلَ مُحْرِزُ بْنُ نضله يومئذ . ذكر جمله السرايا والبعوث واختلف في عدد سراياه ص، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: كَانَت سَرَايَا رسول الله ص وَبُعُوثُهُ- فِيمَا بَيْنَ أَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَبَيْنَ أَنْ قَبَضَهُ اللَّهُ- خَمْسًا وَثَلاثِينَ بَعْثًا وَسَرِيَّةً: سَرِيَّةُ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ إِلَى أَحْيَاءٍ مِنْ تثنيه الْمَرَةِ، وَهُوَ مَاءٌ بِالْحِجَازِ، ثُمَّ غَزْوَةُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ مِنْ نَاحِيَةِ الْعِيصِ- وَبَعْضُ النَّاسِ يُقَدِّمُ غَزْوَةَ حَمْزَةَ قَبْلَ غَزْوَةِ عُبَيْدَةَ- وَغَزْوَةُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ إِلَى الْخَرَّارِ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ، وَغَزْوَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ إِلَى نَخْلَةَ، وَغَزْوَةُ زيد ابن حَارِثَةَ الْقَرَدَةَ، مَاءٌ مِنْ مِيَاهِ نَجْدٍ، وَغَزْوَةُ مَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ الرَّجِيعَ، وَغَزْوَةُ الْمُنْذِرِ بْنِ عَمْرٍو بِئْرَ مَعُونَةَ، وَغَزْوَةُ أَبِي عبيده بْنِ الْجَرَّاحِ إِلَى ذِي الْقَصَّةِ مِنْ طَرِيقِ الْعِرَاقِ، وَغَزْوَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ تُرَبَةَ مِنْ أَرْضِ بَنِي عَامِرٍ، وَغَزْوَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْيَمَنَ، وَغَزْوَةُ غَالِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْكَلْبِيِّ- كَلْبَ لَيْثٍ- الْكَدِيدَ، وَأَصَابَ بِلْمُلَوِّحِ، وَغَزْوَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى بَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ مِنْ أَهْلِ فَدَكٍ، وَغَزْوَةُ ابْنِ أَبِي الْعَوْجَاءِ السُّلَمِيِّ أَرْضَ

بَنِي سُلَيْمٍ، أُصِيبَ بِهَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ جَمِيعًا، وَغَزْوَةُ عُكَاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ الْغَمْرَةَ، وَغَزْوَةُ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الأَسَدِ قَطَنًا، مَاءٌ مِنْ مِيَاهِ بَنِي أَسَدٍ مِنْ نَاحِيَةِ نَجْدٍ قُتِلَ فِيهَا مَسْعُودُ بْنُ عُرْوَةَ، وَغَزْوَةُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، أَخِي بَنِي الْحَارِثِ إِلَى الْقُرَطَاءِ مِنْ هَوَازِنَ، وَغَزْوَةُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ إِلَى بَنِي مُرَّةَ بِفَدَكٍ، وَغَزْوَةُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ أَيْضًا إِلَى يُمْنٍ وَجِنَابٍ، بَلَدٌ مِنْ أَرْضِ خَيْبَرَ- وَقِيلَ يَمَنٌ وَجُبَارٌ، أَرْضٌ مِنْ أَرْضِ خَيْبَرَ، وَغَزْوَةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ الْجَمُومَ، مِنْ أَرْضِ بَنِي سُلَيْمٍ، وَغَزْوَةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ أَيْضًا جُذَامَ مِنْ أَرْضِ حِسْمَى- وَقَدْ مَضَى ذِكْرُ خَبَرِهَا قَبْلُ- وَغَزْوَةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ أَيْضًا وَادِي الْقُرَى، لَقِيَ بَنِي فَزَارَةَ. وَغَزْوَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ خَيْبَرَ مَرَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا الَّتِي أَصَابَ اللَّهُ فِيهَا يَسِيرَ بْنَ رِزَامٍ- وَكَانَ مِنْ حَدِيثِ يَسِيرِ بْنِ رِزَامٍ الْيَهُودِيِّ أَنَّهُ كَانَ بِخَيْبَرَ يَجْمَعُ غَطَفَانَ لِغَزْوِ رَسُولِ اللَّهِ ص، فبعث اليه رسول الله عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ حَلِيفُ بَنِي سَلِمَةَ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ كَلَّمُوهُ وَوَاعَدُوهُ وَقَرَّبُوا لَهُ، وَقَالُوا لَهُ: إِنَّكَ إِنْ قَدِمْتَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ اسْتَعْمَلَكَ وَأَكْرَمَكَ، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى خَرَجَ مَعَهُمْ فِي نَفَرٍ مِنْ يَهُودَ، فَحَمَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ عَلَى بَعِيرِهِ وَرَدَفَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْقَرْقَرَةِ مِنْ خَيْبَرَ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ نَدِمَ يَسِيرُ بْنُ رِزَامٍ عَلَى سَيْرِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَفَطِنَ له عبد الله ابن أُنَيْسٍ وَهُوَ يُرِيدُ السَّيْفَ، فَاقْتَحَمَ بِهِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَ رِجْلَهُ وَضَرَبَهُ يَسِيرٌ بِمِخْرَشٍ فِي يَدِهِ مِنْ شَوْحَطٍ، فَأَمَّهُ فِي رَأْسِهِ، وَقَتَلَ اللَّهُ يَسِيرًا، وَمَالَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْ اصحاب رسول الله ص عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ يَهُودَ فَقَتَلَهُ إِلا رَجُلا وَاحِدًا أَفْلَتَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَبْدُ الله ابن انيس على رسول الله ص تَفِلَ عَلَى شُجَّتِهِ فَلَمْ تُقْحَ وَلَمْ تُؤْذِهِ. وَغَزْوَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتِيكٍ إِلَى خَيْبَرَ، فَأَصَابَ بِهَا أَبَا رَافِعٍ،

وقد كان رسول الله ص بَعَثَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ وَأَصْحَابَهُ- فِيمَا بَيْنَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ- إِلَى كَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ فَقَتَلُوهُ، وبعث رسول الله ص عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ إِلَى خَالِدَ بْنَ سُفْيَانَ بْنِ نُبَيْحٍ الْهُذَلِيِّ- وَهُوَ بِنَخْلَةٍ أَوْ بِعُرَنَةَ- يَجْمَعُ لِرَسُولِ اللَّهِ لِيَغْزُوَهُ، فَقَتَلَهُ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بن الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، قَالَ: دعانى رسول الله ص، فَقَالَ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ خَالِدَ بْنَ سُفْيَانَ بْنِ نُبَيْحٍ الْهُذَلِيَّ يَجْمَعُ لِيَ النَّاسَ لِيَغْزُوَنِي- وَهُوَ بِنَخْلَةٍ أَوْ بَعُرْنَةَ- فَأْتِهِ فَاقْتُلْهُ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْعَتْهُ لِي حَتَّى أَعْرِفَهُ، قَالَ: إِذَا رَأَيْتَهُ أَذْكَرَكَ الشَّيْطَانَ! إِنَّهُ آيَةٌ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَنَّكَ إِذَا رَأَيْتَهُ وَجَدْتَ لَهُ قَشْعَرِيرَةً قَالَ: فَخَرَجْتُ مُتَوَشِّحًا سَيْفِي حَتَّى دَفَعْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي ظُعُنٍ يَرْتَادُ لَهُنَّ مَنْزِلا حَيْثُ كَانَ وَقْتُ الْعَصْرِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ وَجَدْتُ مَا وَصَفَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ص مِنَ الْقَشْعَرِيرَةِ، فَأَقْبَلْتُ نَحْوَهُ، وَخَشِيتُ أَنْ تَكُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مُجَاوَلَةٌ تَشْغَلُنِي عَنِ الصَّلاةِ، فَصَلَّيْتُ وَأَنَا أَمْشِي نَحْوَهُ، أُومِئُ بِرَأْسِي إِيمَاءً، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَيْهِ قَالَ: مَنِ الرَّجُلُ؟ قُلْتُ: رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ سَمِعَ بِكَ وَبِجَمْعِكَ لِهَذَا الرَّجُلِ، فَجَاءَكَ لِذَلِكَ، قَالَ: أَجَلْ، أَنَا فِي ذَلِكَ، فَمَشَيْتُ مَعَهُ شَيْئًا حَتَّى إِذَا أَمْكَنَنِي حَمَلْتُ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ حَتَّى قَتَلْتُهُ، ثُمَّ خَرَجْتُ وَتَرَكْتُ ظَعَائِنَهُ مُكِبَّاتٍ عَلَيْهِ. فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَرَآنِي، قَالَ: أَفْلَحَ الْوَجْهُ! قَالَ: قُلْتُ: قَدْ قَتَلْتُهُ قَالَ: صَدَقْتَ! ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ فَدَخَلَ بَيْتَهُ، فَأَعْطَانِي عَصًا، فَقَالَ: أَمْسِكْ هَذِهِ الْعَصَا عِنْدَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ قَالَ: فَخَرَجْتُ بِهَا عَلَى النَّاسِ، فَقَالُوا: مَا هَذِهِ الْعَصَا؟ قُلْتُ: أَعْطَانِيهَا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْسِكَهَا عِنْدِي، قَالُوا: أَفَلا تَرْجِعُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَتَسْأَلَهُ لِمَ ذَلِكَ؟ فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ أَعْطَيْتَنِي هَذِهِ الْعَصَا؟ قَالَ: آيَةُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّ أَقَلَّ النَّاسِ الْمُتَخَصِّرُونَ

يَوْمَئِذٍ، فَقَرَنَهَا عَبْدُ اللَّهِ بِسَيْفِهِ، فَلَمْ تَزَلْ مَعَهُ حَتَّى إِذَا مَاتَ أَمَرَ بِهَا فَضُمَّت مَعَهُ فِي كَفَنِهِ، ثُمَّ دُفِنَا جَمِيعًا ثم رجع الحديث إلى حديث عبد اللَّه بْن أبي بكر قَالَ: وغزوة زيد بْن حارثة وجعفر بْن أبي طالب وعبد الله بْن رواحة إلى مؤتة من أرض الشام، وغزوة كعب بْن عمير الغفاري بذات أطلاح من أرض الشام، فأصيب بِهَا هو وأصحابه، وغزوة عيينة بْن حصن بني العنبر من بني تميم، وَكَانَ من حديثهم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص بعثه إِلَيْهِم، فأغار عليهم، فأصاب منهم ناسا، وسبى منهم سبيا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، [أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ لرسول الله ص: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عَلَيَّ رَقَبَةً مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: هَذَا سَبْيُ بَنِي الْعَنْبَرِ يَقْدَمُ الآنَ فَنُعْطِيكِ إِنْسَانًا فَتَعْتِقِينَهُ] قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا قَدِمَ سَبْيُهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص رَكِبَ فِيهِمْ وَفْدٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، حَتَّى قدموا على رسول الله ص، مِنْهُمْ رَبِيعَةُ بْنُ رُفَيْعٍ، وَسَبْرَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَالْقَعْقَاعُ بْنُ مَعْبَدٍ، وَوَرْدَانُ بْنُ مُحْرِزٍ، وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ، وَمَالِكُ بْنُ عَمْرٍو، وَالأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَحَنْظَلَةُ بْنُ دَارِمٍ، وَفِرَاسُ بْنُ حَابِسٍ وَكَانَ مِمَّنْ سُبِيَ مِنْ نِسَائِهِمْ يَوْمَئِذٍ أَسْمَاءُ بِنْتُ مَالِكٍ، وَكَأْسُ بِنْتُ أَرِيٍّ، وَنَجْوَةُ بِنْتُ نَهْدٍ وَجُمَيْعَةُ بِنْتُ قَيْسٍ، وَعَمْرَةُ بِنْتُ مَطَرٍ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: وَغَزْوَةُ غَالِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْكَلْبِيِّ- كَلْبُ لَيْثٍ- أَرْض بَنِي مُرَّةَ، فأصاب بها مرداس بن نهيك، حليفا لهم مِنَ الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، قَتَلَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، وَهُوَ الَّذِي [قَالَ فيه النبي ص لأُسَامَةَ: مَنْ لَكَ بِلا إِلَهَ إِلا اللَّهِ!]

وَغَزْوَةُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ذَاتَ السَّلاسِلِ، وَغَزْوَةُ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ وَأَصْحَابِهِ إِلَى بَطْنِ إِضَمٍ، وَغَزْوَةُ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الأَسْلَمِيِّ إِلَى الغابة، وغزوه عبد الرحمن ابن عَوْفٍ. وَبَعَثَ سَرِيَّةً إِلَى سَيْفِ الْبَحْرِ، وَعَلَيْهِمْ ابو عبيده بن الجراح، وهي غزوه الحبط. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سعد، قَالَ: قَالَ محمد ابن عمر: كانت سرايا رسول الله ص ثمانيا وأربعين سرية. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فِي هذه السنة قدم جرير بْن عبد الله البجلي على رسول الله ص مسلما فِي رمضان، فبعثه رَسُول اللَّهِ إلى ذي الخلصة فهدمها. قَالَ: وفيها قدم وبر بْن يحنس على الأبناء باليمن، يدعوهم إلى الإسلام فنزل على بنات النعمان بْن بُزُرْج فأسلمن، وبعث إلى فيروز الديلمي فأسلم، وإلى مركبود وعطاء ابنه، ووهب بْن منبه، وَكَانَ أول من جمع القرآن بصنعاء ابنه عطاء بْن مركبود ووهب بْن منبه. قَالَ: وفيها اسلم باذان، وبعث الله النبي ص بإسلامه. قَالَ أبو جعفر: وقد خالف فِي ذلك عبد الله بن ابى بكر من قال: كانت مغازي رسول الله ص ستا وعشرين غزوة، من أنا ذاكره: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: سَمِعْتُ مِنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ غَزَا تِسْعَ عشره غزوه، وحج بعد ما هَاجَرَ حَجَّةً، لَمْ يَحُجَّ غَيْرَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ حَجَّةً بِمَكَّةَ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: فَسَأَلْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ: كَمْ غَزَوْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: سَبْعَ عَشْرَةَ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ الأَنْصَارِيَّ خَرَجَ يَسْتَسْقِي بِالنَّاسِ، قال:

ذكر الخبر عن حج رسول الله ص

فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ اسْتَسْقَى قَالَ: فَلَقِيتُ يَوْمَئِذٍ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، قَالَ: لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ غَيْرُ رَجُلٍ- أَوْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ رَجُلٌ- قَالَ: فقلت: كم غزا رسول الله ص؟ قَالَ: تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، فَقُلْتُ: كَمْ غَزَوْتَ مَعَهُ؟ قَالَ: سَبْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، فَقُلْتُ: فَمَا أَوَّلُ غَزْوَةٍ غَزَا؟ قَالَ: ذَاتُ الْعَسِيرِ- أَوِ الْعَشِيرِ. وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ هَذَا عِنْدَهُمْ خَطَأٌ، حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: لِزَيْدِ بن أرقم: كم غزوت مع رسول الله ص؟ قَالَ: سَبْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، قُلْتُ: كَمْ غَزَا رسول الله ص؟ قَالَ: تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً قَالَ الْحَارِثُ: قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ، فَقَالَ: هَذَا إِسْنَادُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، يَقُولُونَ هَكَذَا، وَأَوَّلُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا زَيْدُ بْنُ الأَرْقَمِ الْمُرَيْسِيعُ، وَهُوَ غُلامٌ صَغِيرٌ، وَشَهِدَ مُؤْتَةَ رَدِيفَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، وما غزا مع النبي ص إِلا ثَلاثَ غَزَوَاتٍ أَوْ أَرْبَعًا. وَرُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، عَنْ مَكْحُولٍ، قَالَ: غَزَا رسول الله ص ثَمَانِيَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، قَاتَلَ مِنْ ذَلِكَ فِي ثَمَانِ غَزَوَاتٍ أَوَّلُهُنَّ بَدْرٌ وَأُحُدٌ وَالأَحْزَابُ وَقُرَيْظَةُ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ: حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ الأَرْقَمِ، وَحَدِيثُ مَكْحُولٍ جَمِيعًا غَلَطٌ . ذكر الخبر عن حج رسول الله ص حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ ابيه، عن جابر، ان النبي ص

ذكر الخبر عن ازواج رسول الله ص

حَجَّ ثَلاثَ حِجَجٍ: حَجَّتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ، وَحَجَّةً بَعْدَ مَا هَاجَرَ، مَعَهَا عُمْرَةٌ. حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَان، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: اعْتَمَرَ رسول الله ص عُمْرَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ، فَقَالَتِ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ أَرْبَعَ عُمَرٍ، قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، مِنْهُنَّ عُمْرَةٌ مَعَ حَجَّتِهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَمْزَةَ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عمر يقول: اعتمر رسول الله ص ثَلاثَ عُمَرٍ فَبَلَغَ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: لَقَدْ عَلِمَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّهُ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ، مِنْهَا عُمْرَتُهُ الَّتِي قَرَنَ مَعَهَا الْحَجَّةَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا ابْنُ عُمَرَ جَالِسٌ عِنْدَ حُجْرَةِ عائشة، فقلنا: كم اعتمر النبي ص؟ فَقَالَ: أَرْبَعًا، إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ، فَكَرِهْنَا أَنْ نُكَذِّبَهُ وَنَرُدَّ عَلَيْهِ، فَسَمِعْنَا اسْتِنَانَ عَائِشَةَ فِي الْحُجْرَةِ، فَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: يَا أُمَّهْ، يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَمَا تَسْمَعِينَ مَا يَقُولُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ! فَقَالَتْ: وَمَا يَقُولُ؟ قَالَ: يقول: ان النبي ص اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ: إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ، فَقَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! مَا اعْتَمَرَ النَّبِيُّ عُمْرَةً إِلا وَهُوَ شَاهِدٌ، وَما اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ . ذكر الخبر عن أزواج رَسُول الله ص ومن منهن عاش بعده ومن منهن فارقه فِي حياته، والسبب الذي فارقه من أجله، ومن منهن مات قبله. فَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص تزوج خمس

ذكر السبب الذى كان في خطبه رسول الله ص عائشة وسوده

عَشْرَةَ امْرَأَةً، دَخَلَ بِثَلاثَ عَشْرَةَ، وَجَمَعَ بَيْنَ إِحْدَى عَشْرَةَ، وَتُوُفِّيَ عَنْ تِسْعٍ. تَزَوَّجَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ ابْنُ بِضْعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَهِيَ أَوَّلُ مَنْ تَزَوَّجَ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ عتيق بن عابد ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَأُمُّهَا فَاطِمَةُ بِنْتُ زَائِدَةَ بْنِ الأَصَمِّ بْنِ رَوَاحَةَ بْنِ حُجْرِ بْن مَعِيصِ بْنِ لُؤَيٍّ فَوَلَدَتَ لِعَتِيقٍ جَارِيَةً، ثُمَّ تُوُفِّيَ عَنْهَا وَخَلَفَ عَلَيْهَا أَبُو هَالَةَ بْنُ زُرَارَةَ بْنِ نُبَاشِ بْنِ زُرَارَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ سَلامَةَ بْنِ غَذِيِّ بْنِ جِرْوَةَ بْن أُسَيِّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ، وَهُوَ فِي بَنِي عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ. فَوَلَدَتْ لأَبِي هَالَةَ هِنْدَ بْنَ أَبِي هَالَةَ، ثُمَّ تُوُفِّيَ عَنْهَا فَخَلَفَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ، وَعِنْدَهَا ابْنُ أَبِي هَالَةَ هِنْدٌ، فَوَلَدَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ ثَمَانِيَةً: الْقَاسِمُ، وَالطَّيِّبُ، وَالطَّاهِرُ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَزَيْنَبُ، وَرُقَيَّةُ، وَأُمُّ كُلْثُومٍ، وَفَاطِمَةُ. قَالَ ابو جعفر: ولم يتزوج رسول الله ص فِي حَيَاتِهَا عَلَى خَدِيجَةَ حَتَّى مَضَتْ لِسَبِيلِهَا، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ بَعْدَهَا، فَاخْتُلِفَ فِيمَنْ بَدَأَ بِنِكَاحِهَا مِنْهُنَّ بَعْدَ خَدِيجَةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتِ الَّتِي بَدَأَ بِنِكَاحِهَا بَعْدَ خَدِيجَةَ قَبْلَ غَيْرِهَا عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ كَانَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ نَصْرٍ فَأَمَّا عَائِشَةُ فَكَانَتْ يَوْمَ تَزَوَّجَهَا صَغِيرَةً لا تَصْلُحُ لِلْجِمَاعِ، وَأَمَّا سَوْدَةُ فَإِنَّهَا كَانَتْ امْرَأَةً ثَيِّبًا، قَدْ كَانَ لها قبل النبي ص زَوْجٌ، وَكَانَ زَوْجَهَا قَبْلَ النَّبِيِّ السَّكْرَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَكَانَ السَّكْرَانُ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْحَبَشَةِ فَتَنَصَّرَ وَمَاتَ بِهَا، فَخَلَفَ عَلَيْهَا رسول الله ص وَهُوَ بِمَكَّةَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَلا خِلافَ بَيْنَ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِسِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ ص ان رسول الله ص بَنَى بِسَوْدَةَ قَبْلَ عَائِشَةَ. ذكر السبب الذي كان في خطبه رسول الله ص عائشة وسودة والرواية الواردة بأولاهما كان عقد عليها رَسُول اللَّهِ عقدة النكاح:

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأُمَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ، قَالَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ الأَوْقَصِ، امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَذَلِكَ بِمَكَّةَ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ، أَلا تَزَوَّجُ؟ فَقَالَ: وَمَنْ؟ فَقَالَتْ: إِنْ شِئْتَ بِكْرًا وَإِنْ شِئْتَ ثَيِّبًا، قَالَ: فَمَنِ الْبِكْرُ؟ قَالَتِ: ابْنَةُ أَحَبِّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْكَ عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: وَمَنِ الثَّيِّبُ؟ قَالَتْ: سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ بْنِ قَيْسٍ، قَدْ آمَنَتْ بِكَ وَاتَّبَعَتْكَ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ قَالَ: فَاذْهَبِي فَاذْكُرِيهِمَا عَلَيَّ فَجَاءَتْ فَدَخَلَتْ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ، فَوَجَدَتْ أُمَّ رُومَانَ، أُمَّ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: أَيْ أُمَّ رُومَانَ؟ مَاذَا أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ! قَالَتْ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَتْ: أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ أَخْطُبُ عَلَيْهِ عَائِشَةَ، قَالَتْ: وَدِدْتُ! انْتَظِرِي أَبَا بكر، فانه آت، فجاء ابو بكر، قالت: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَاذَا أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ! أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ أَخْطُبُ عَلَيْهِ عَائِشَةَ، قَالَ: وَهَلْ تَصْلُحُ لَهُ، إِنَّمَا هِيَ ابْنَةُ أَخِيهِ! فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ص، فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: ارْجِعِي إِلَيْهِ، فَقُولِي لَهُ: أَنْتَ أَخِي فِي الإِسْلامِ، وَأَنَا أَخُوكَ، وَابْنَتُكَ تَصْلُحُ لِي؟ فَأَتَتْ أَبَا بَكْرٍ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: انْتَظِرِينِي حَتَّى أَرْجِعَ، فَقَالَتْ أُمُّ رُومَانَ: إِنَّ الْمُطْعِمَ بْنَ عَدِيٍّ كَانَ ذَكَرَهَا عَلَى ابْنِهِ، وَلا وَاللَّهِ مَا وَعَدَ شَيْئًا قَطُّ فَأَخْلَفَ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى مُطْعِمٍ، وَعِنْدَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ ابْنِهِ الَّذِي كَانَ ذكرها عليه، فقالت العجوز: يا بن أَبِي قُحَافَةَ، لَعَلَّنَا إِنْ زَوَّجْنَا ابْنَنَا ابْنَتَكَ أَنْ تَصْبِئَهُ وَتُدْخِلَهُ فِي دِينِكَ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ! فَأْقَبَلَ عَلَى زَوْجِهَا الْمُطْعِمِ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ هَذِهِ؟ فَقَالَ: إِنَّهَا تَقُولُ ذَاكَ قَالَ: فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ، وَقَدْ أَذْهَبَ اللَّهُ الْعِدَةَ الَّتِي كَانَتْ فِي نَفْسِهِ مِنْ عِدَتِهِ الَّتِي وَعَدَهَا إِيَّاهُ، وَقَالَ لِخَوْلَةَ: ادْعِي لِي رَسُولَ اللَّهِ، فَدَعَتْهُ فَجَاءَ فَأَنْكَحَهُ، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ ابْنَةُ سِتِّ سِنِينَ قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى سَوْدَةَ فَقُلْتُ: أَيْ سَوْدَةُ، مَاذَا أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْكِ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ! قَالَتْ: وَمَا ذَاكَ؟ قالت: أرسلني رسول الله يخطبك عَلَيْهِ، قَالَتْ: فَقَالَتْ:

وَدِدْتُ! ادْخُلِي عَلَى أَبِي فَاذْكُرِي لَهُ ذَلِكَ، قَالَتْ: وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ قَدْ تَخَلَّفَ عَنِ الْحَجِّ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَحَيَّيْتُهُ بِتَحِيَّةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ قُلْتُ: إِنَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَرْسَلَنِي أَخْطُبُ عَلَيْهِ سَوْدَةَ، قَالَ: كُفْءٌ كَرِيمٌ، فَمَاذَا تَقُولُ صَاحِبَتُهُ؟ قَالَتْ: تُحِبُّ ذَلِكَ، قَالَ: ادْعِيهَا إِلَيَّ، فَدَعَيْتُ لَهُ، فَقَالَ: أَيْ سَوْدَةُ، زَعَمَتْ هَذِهِ أَنَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَرْسَلَ يَخْطُبُكِ وَهُوَ كُفْءٌ كَرِيمٌ، أَفَتُحِبِّينَ أَنْ أُزَوِّجَكَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَادْعِيهِ لِي، فَدَعَتْهُ، فَجَاءَ فَزَوَّجَهُ، فَجَاءَ أَخُوهَا مِنَ الْحَجِّ، عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَجَعَلَ يَحْثِي فِي رَأْسِهِ التُّرَابَ، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ: إِنِّي لَسَفِيهٌ يَوْمَ أَحْثِي فِي رَأْسِي التُّرَابَ أَنْ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ! قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَنَزَلَ أَبُو بَكْرٍ السُّنْحَ فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، قَالَتْ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ فَدَخَل بَيْتَنَا، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ مِنَ الأَنْصَارِ وَنِسَاءٌ، فَجَاءَتْنِي أُمِّي وَأَنَا فِي أُرْجُوحَةٍ بَيْنَ عدقين يُرْجَحُ بِي، فَأَنْزَلَتْنِي ثُمَّ وَفَتْ جُمَيْمَة كَانَتْ لِي، وَمَسَحَتْ وَجْهِي بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ تَقُودُنِي، حَتَّى إِذَا كُنْتُ عِنْدَ الْبَابِ وَقَفَتْ بِي حَتَّى ذَهَبَ بَعْضُ نَفَسِي، ثُمَّ ادخلت ورسول الله جَالِسٌ عَلَى سَرِيرٍ فِي بَيْتِنَا قَالَتْ: فَأَجْلَسَتْنِي فِي حِجْرِهِ، فَقَالَتْ: هَؤُلاءِ أَهْلُكَ فَبَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهِنَّ وَبَارَكَ لَهُنَّ فِيكَ! وَوَثَبَ الْقَوْمُ وَالنِّسَاءُ، فَخَرَجُوا، فَبَنَى بِي رَسُولُ اللَّهِ فِي بَيْتِي، مَا نُحِرَتْ جَزُورٌ وَلا ذُبِحَتْ عَلَيَّ شَاةٌ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ ابْنَةُ تِسْعِ سِنِينَ، حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيْنَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ بِجَفْنَةٍ كَانَ يرسل بها الى رسول الله ص. حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ- وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي- قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانٌ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الملك ابن مَرْوَانَ: إِنَّكَ كَتَبْتَ إِلَيَّ فِي خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ تَسْأَلُنِي: مَتَى تُوُفِّيَتْ؟ وَإِنَّهَا تُوُفِّيَتْ قَبْلَ مخرج رسول الله ص مِنْ مَكَّةَ بِثَلاثِ سِنِينَ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، وَنَكَحَ عَائِشَةَ مُتَوَفَّى خَدِيجَةَ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ رَأَى عَائِشَةَ مَرَّتَيْنِ، يُقَالُ لَهُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ، وَعَائِشَةُ يَوْمَئِذٍ ابْنَةُ سِتِّ سِنِينَ

ثم ان رسول الله ص بنى بعائشة بعد ما قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَهِيَ يَوْمَ بَنَى بِهَا ابْنَةُ تِسْعِ سِنِينَ رجع الخبر إلى خبر هشام بن محمد ثم تزوج رسول الله ص عائشة بنت أبي بكر- واسمه عتيق بْن أبي قحافة، وهو عثمان- ويقال عبد الرحمن بن عثمان- بن عامر بن عَمْرو بن كعب بن سَعْدِ بْنِ تيم بن مرة تزوجها قبل الهجرة بثلاث سنين، وهي ابنة سبع سنين، وجمع إليها بعد أن هاجر إلى الْمَدِينَةِ وهي ابنة تسع سنين فِي شوال، فتوفى عنها وهي ابنه ثمان عشره، ولم يتزوج رسول الله ص بكرا غيرها، ثم تزوج رسول الله ص حفصة بنت عمر بن الخطاب ابن نفيل بْن عبد العزى بْن رياح بْن عبد الله بْن قرط بْن كعب- وكانت قبله عِنْد خنيس بْن حذافة بْن قيس بن عدى ابن سعد بْن سهم. وَكَانَ بدريا، شهد بدرا مع رسول الله ص- فلم تلد لَهُ شيئا، ولم يشهد من بني سهم بدرا غيره . ثُمَّ تزوج رَسُول الله ص أم سلمة، واسمها هند بنت أبي أمية بْن المغيرة بْن عبد الله بْن عمر بْن مخزوم، وكانت قبله عِنْد أبي سلمة ابن عبد الأسد بْن هلال بْن عبد الله بْن عمر بْن مخزوم، وشهد بدرا مَعَ رسول الله ص، وَكَانَ فارس القوم، فأصابته جراحة يوم أحد فمات منها، وَكَانَ ابن عمة رَسُول اللَّهِ ورضيعه، وأمه برة بنت عبد المطلب ولدت لَهُ عمر، وسلمة، وزينب، ودرة، [فلما مات كبر رسول الله ص على أبي سلمة تسع تكبيرات، فلما قيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أسهوت أم نسيت؟ قَالَ: لم أسه ولم أنس، ولو كبرت على أبي سلمة ألفا كان أهلا لذلك،] ودعا النبي ص لأبي سلمة بخلفه فِي أهله فتزوجها رَسُول الله ص قبل الأحزاب سنة ثلاث، وزوج سلمة بْن أبي سلمة ابنة حمزة بْن عبد المطلب

ثم تزوج رسول الله ص عام المريسيع جويرية بنت الحارث ابن أبي ضرار بْن حبيب بْن مالك بْن جذيمة- وهو المصطلق بْن سعد بْن عمرو- سنة خمس، وكانت قبله عِنْد مالك بْن صفوان ذي الشفر بْن أبي سرح بْن مالك بْن المصطلق، لم تلد لَهُ شيئا، فكانت صفيه رسول الله ص يوم المريسيع، فأعتقها وتزوجها، وسألت رَسُول اللَّهِ ص عتق ما فِي يده من قومها، فأعتقهم لها. ثم تزوج رسول الله ص أم حبيبة بنت أبي سفيان بْن حرب، وكانت عِنْد عبيد الله بْن جحش بْن رئاب بن يعمر بن صبره بْن مرة بْن كبير بْن غنم بْن دودان بْن أسد- وكانت من مهاجرات الحبشة هي وزوجها، فتنصر زوجها وحاولها أن تتابعه فأبت وصبرت على دينها، ومات زوجها على النصرانية، فبعث رسول الله ص إلى النجاشي فيها، فَقَالَ النجاشي لأصحابه: من أولاكم بِهَا؟ قالوا: خالد بْن سعيد بْن العاص، قَالَ: فزوجها من نبيكم، ففعل وأمهرها أربعمائة دينار ويقال: بل خطبها رسول الله ص إلى عثمان بْن عفان، فلما زوجه إياها بعث إلى النجاشي فيها، فساق عنه النجاشي، وبعث بها الى رسول الله ص. ثم تزوج رسول الله ص زينب بنت جحش بن رئاب ابن يعمر بْن صبرة، وكانت قبله عِنْد زيد بْن حارثة بْن شراحيل مولى رَسُول اللَّهِ ص، فلم تلد لَهُ شيئا، وفيها أنزل الله عز وجل: «وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» إلى آخر الآية، فزوجها الله عز وجل إياه، وبعث فِي ذَلِكَ جبريل، وكانت تفخر على نساء النبي ص، وتقول: أنا أكرمكن وليا، وأكرمكن سفيرا. ثُمَّ تزوج رسول الله ص صفية بنت حيي بْن أخطب بْن سعية بْن ثعلبة بْن عبيد بْن كعب بْن الخزرج بْن أبي حبيب بْن النضير،

وكانت قبله تحت سلام بْن مشكم بْن الحكم بْن حارثة بْن الخزرج بْن كعب بْن الخزرج، وتوفي عنها وخلف عليها كنانة بْن الربيع بْن أبي الحقيق، فقتله محمد بن مسلمه بأمر النبي ص، ضرب عنقه صبرا، فلما تصفح النبي ص السبي يوم خيبر، ألقى رداءه على صفية، فكانت صفية يوم خيبر، ثُمَّ عرض عليها الإسلام فأسلمت، فأعتقها، وذلك سنة ست. ثُمَّ تزوج رسول الله ص ميمونه بنت الحارث بن حزن ابن بجير بْن الهزم بْن رويبة بْن عبد الله بْن هلال، وكانت قبله عِنْد عمير ابن عمرو، من بني عقدة بْن غيرة بْن عوف بن قسي- وهو ثقيف- لم تلد لَهُ شيئا، وهي أخت أم الفضل امرأة العباس بْن عبد المطلب، فتزوجها رسول الله ص بسرف فِي عمرة القضاء، زوجها إياه العباس ابن عبد المطلب، فتزوجها رَسُول اللَّهِ. وكل هؤلاء اللواتي ذكرنا ان رسول الله ص تزوجهن إلى هذا الموضع، توفي رَسُول اللَّهِ وهن أحياء، غير خديجة بنت خويلد. ثُمَّ تزوج رسول الله ص امرأة من بني كلاب بْن ربيعة، يقال لَهَا النشاة بنت رفاعة، وكانوا حلفاء لبني رفاعة من قريظة وقد اختلف فيها، وَكَانَ بعضهم يسمي هذه سنا وينسبها، فيقول: سنا بنت أسماء بْن الصلت السلمية وقال بعضهم: هي سبا بنت أسماء بْن الصلت من بني حرام من بني سليم وقالوا: توفيت قبل ان يدخل بها رسول الله ص، ونسبها بعضهم فَقَالَ: هي سنا بنت الصلت بْن حبيب بْن حارثة بْن هلال بْن حرام بْن سمال بْن عوف السلمي. ثُمَّ تزوج رسول الله ص الشنباء بنت عمرو الغفارية. وكانوا أيضا حلفاء لبني قريظة، وبعضهم يزعم أنها قرظية، وقد جهل نسبها لهلاك بني قريظة، وقيل أيضا إنها كنانية، فعركت حين دخلت

عليه، ومات إبراهيم قبل أن تطهر، فقالت: لو كان نبيا ما مات أحب الناس اليه، فسرحها رسول الله ص. ثم تزوج رسول الله ص غزية بنت جابر من بني أبي بكر بْن كلاب، بلغ رَسُول اللَّهِ عنها جمال وبسطة، فبعث أبا أُسَيْدٍ الأنصاري، ثُمَّ الساعدي، فخطبها عليه فلما قدمت على النبي ص- وكانت حديثة عهد بالكفر فقالت: إني لم أستأمر فِي نفسي، إني أعوذ بالله منك! فقال النبي ص: امتنع عائذ الله وردها الى أهلها، يقال: إنها من كندة. ثُمَّ تزوج رَسُول اللَّهِ ص أسماء بنت النعمان بن الأسود ابن شراحيل بْن الجون بْن حجر بْن معاوية الكندي، فلما دخل بِهَا وجد بِهَا بياضا فمتعها وجهزها وردها إلى أهلها، ويقال: بل كان النعمان بعث بِهَا إلى رَسُول اللَّهِ فسرحته، فلما دخلت عليه استعاذت منه أيضا، فبعث إلى أبيها، فَقَالَ لَهُ: أليست ابنتك؟ قَالَ: بلى، قَالَ لَهَا: ألست ابنته؟ قالت: بلى، قَالَ النعمان: عليكها يَا رَسُولَ اللَّهِ، فإنها وإنها وأطنب فِي الثناء فَقَالَ: إنها لم تيجع قط، ففعل بِهَا ما فعل بالعامرية، فلا يدرى: ألقولها أم لقول أبيها: إنها لم تيجع قط. وأفاء الله عز وجل على رسوله ريحانة بنت زيد، من بني قريظة. وأهدي لرسول الله ص مارية القبطية، أهداها لَهُ المقوقس صاحب الإسكندرية، فولدت له ابراهيم بن رسول الله. فهؤلاء ازواج رسول الله ص، منهن ست قرشيات. قَالَ أبو جعفر: وممن لم يذكر هشام فِي خبره هذا ممن روى عن رسول الله ص أنه تزوجه من النساء: زينب بنت خزيمة- وهي التي يقال لَهَا أم المساكين- من بني عامر بْن صعصعة، وهي زينب بنت خزيمة بن الحارث ابن عبد الله بْن عمرو بْن عبد مناف بْن هلال بْن عامر بْن صعصعة، وكانت قبل رَسُول اللَّهِ عِنْد الطفيل بْن الحارث بْن المطلب، أخي عبيدة بْن الحارث، توفيت عند رسول الله ص بالمدينة

وقيل انه لم يمت عِنْد رَسُول اللَّهِ فِي حياته من أزواجه غيرها وغير خديجة وشراف بنت خليفة، أخت دحية بْن خليفة الكلبي، والعالية بنت ظبيان. حَدَّثَنِي ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ ص الْعَالِيَةَ، امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَبِي بَكْرِ بْنِ كِلابٍ فَمَتَّعَهَا، ثُمَّ فَارَقَهَا، وَقُتَيْلَةَ بِنْتَ قَيْسِ ابن معديكرب أُخْتَ الأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، فَتُوُفِّيَ عَنْهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَارْتَدَّتْ عَنِ الإِسْلامِ مَعَ أَخِيهَا، وَفَاطِمَةَ بِنْتَ شُرَيْحٍ. وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: غَزِيَّةَ بِنْتِ جَابِرٍ، هِيَ أم شريك، تزوجها رسول الله ص بَعْدَ زَوْجٍ كَانَ لَهَا قَبْلَهُ، وَكَانَ لَهَا مِنْهُ ابْنٌ يُقَالُ لَهُ شَرِيكٌ، فَكُنِّيَتْ بِهِ، فلما دخل بها النبي ص وَجَدَهَا مُسِنَّةً، فَطَلَّقَهَا، وَكَانَتْ قَدْ أَسْلَمَتْ، وَكَانَتْ تَدْخُلُ عَلَى نِسَاءِ قُرَيْشٍ فَتَدْعُوهُنَّ إِلَى الإِسْلامِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ تَزَوَّجَ خَوْلَةَ بِنْتَ الْهُذَيْلِ بْنِ هُبَيْرَةَ بْنِ قَبِيصَةَ بْنِ الْحَارِثِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهَذَا الإِسْنَادِ أَنَّ لَيْلَى بِنْتَ الْخُطَيْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَوَادِ بْنِ ظفر ابن الحارث بن الخزرج، اقبلت الى النبي ص وَهُوَ مُوَلٍّ ظَهْرَهُ الشَّمْسَ، فَضَرَبَتْ عَلَى مَنْكِبِهِ، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَتْ: أَنَا ابْنَةُ مُبَارِي الرِّيحَ، أَنَا لَيْلَى بِنْتُ الْخُطَيْمِ، جِئْتُكَ أَعْرِضُ عَلَيْكَ نَفْسِي فَتَزَوَّجْنِي، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، فَرَجَعَتْ إِلَى قَوْمِهَا، فَقَالَتْ: قَدْ تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالُوا: بِئْسَمَا صَنَعْتِ! أَنْتِ امْرَأَةٌ غَيْرَى، وَالنَّبِيُّ صَاحِبُ نِسَاءٍ، اسْتَقِيلِيهِ نَفْسَكِ، فَرَجَعَتْ إِلَى النَّبِيِّ ص، فَقَالَتْ: أَقِلْنِي، قَالَ: قَدْ أَقَلْتُكِ. وَبِغَيْرِ هَذَا الاسناد ان النبي ص تَزَوَّجَ عَمْرَةَ بِنْتَ يَزِيدَ، امْرَأَةً مِنْ بَنِي رُؤَاسِ بْنِ كِلابٍ

ذكر من خطب النبي ص من النساء ثم لم ينكحهن

ذكر من خطب النبي ص من النساء ثُمَّ لم ينكحهن منهن أم هانئ بنت أبي طالب، واسمها هند، خطبها رسول الله ص ولم يتزوجها، لأنها ذكرت أنها ذات ولد. وخطب ضباعة بنت عامر بْن قرط بْن سلمة بْن قشير بْن كعب بْن ربيعة بْن عامر بْن صعصعة إلى ابنها سلمة بْن هشام بْن المغيرة، فَقَالَ: حَتَّى أستأمرها، فأتاها فقال: ان النبي ص خطبك، فقالت: ما قلت لَهُ؟ قَالَ: قلت لَهُ حَتَّى أستأمرها! قالت: وفي النبي يستأمر! ارجع فزوجه، فرجع فسكت عنه النبي ص، وذلك أنه أخبر أنها قد كبرت. وخطب- فيما ذكر- صفية بنت بشامة أخت الأعور العنبري، وَكَانَ أصابها سباء، فخيرها، فَقَالَ: إن شئت أنا وإن شئت زوجك، قالت: بل زوجي، فأرسلها. وخطب أم حبيب بنت العباس بْن عبد المطلب، فوجد العباس أخاه من الرضاعة، أرضعتهما ثويبة. وخطب جمرة بنت الحارث بْن أبي حارثة، فَقَالَ أبوها- فيما ذكر: بِهَا شيء، ولم يكن بِهَا شيء، فرجع فوجدها قد برصت . ذكر سراري رَسُول اللَّهِ ص وهي مارية بنت شمعون القبطية، وريحانة بنت زيد القرظية وقيل: هي من بني النضير وقد مضى ذكر أخبارهما قبل . ذكر موالي رسول الله ص فمنهم زيد بْن حارثة وابنه أسامة بْن زيد، وقد ذكرنا خبره فيما مضى. وثوبان- مولى رَسُول اللَّهِ، فأعتقه، ولم يزل معه حَتَّى قبض، ثُمَّ نزل حمص

وله بِهَا دار وقف، ذكر أنه توفي سنة أربع وخمسين فِي خلافة معاوية. وقال بعضهم: بل كان سكن الرملة، ولا عقب لَهُ. وشقران- وَكَانَ من الحبشة، اسمه صالح بن عدى، اختلف في امره قد ذكر عن عبد الله بْن داود الخريبي انه قال: شقران ورثه رسول الله ص عن أبيه وقال بعضهم: شقران من الفرس، ونسبه فقال: هو صالح بن حول ابن مهر بود. نسب شقران مولى رسول الله ص فِي قول من نسبه إلى عجم الفرس زعم أنه صالح بْن حول بْن مهربوذ بْن آذر جشنس بْن مهربان بْن فيران بْن رستم بْن فيروز بْن ماي بْن بهرام بْن رشتهري، وزعم أنهم كانوا من دهاقين الري. وذكر عن مصعب الزبيري أنه قَالَ: كان شقران لعبد الرحمن بْن عوف. فوهبه للنبي ص وانه اعقب، وان آخرهم مئوبا، رجل كان بالمدينة من ولده، كان لَهُ بالبصرة بقية. ورويفع- وهو أبو رافع مولى رسول الله ص، اسمه أسلم وقال بعضهم: اسمه إبراهيم واختلفوا فِي أمره، فَقَالَ بعضهم: كان للعباس بْن عبد المطلب، فوهبه لرسول الله ص، فأعتقه رَسُول اللَّهِ. وقال بعضهم: كان أبو رافع لأبي أحيحة سعيد بْن العاص الأكبر فورثه بنوه، فأعتق ثلاثة منهم أنصباءهم منه، وقتلوا يوم بدر جميعا، وشهد أبو رافع معهم بدرا، ووهب خالد بْن سعيد نصيبه منه لرسول الله ص فأعتقه رَسُول اللَّهِ. وابنه البهي- اسمه رافع. وأخو البهي عبيد الله بْن أبي رافع- وَكَانَ يكتب لعلي بْن أبي طالب، فلما ولي عمرو بْن سعيد الْمَدِينَةَ دعا البهي، فَقَالَ: من مولاك؟ فَقَالَ: رَسُول اللَّهِ، فضربه مائة سوط، وقال: مولى من أنت! قَالَ: مولى رَسُول اللَّهِ، فضربه مائة سوط، فلم يزل يفعل به ذَلِكَ كلما سأله: مولى من أنت؟ قَالَ: مولى رسول الله، حتى ضربه خمسمائة سوط، ثُمَّ قَالَ: مولى من أنت؟ قَالَ: مولاكم، فلما قتل عبد الملك عمرو بْن سعيد قَالَ البهي بْن أبي رافع:

صحَّت ولا شلَّت وضرّت عدوها ... يمين هراقت مهجه ابن سعيد هو ابن ابى العاصي مرارا وينتمي ... إلى أسرة طابت لَهُ وجدود وسلمان الفارسي- وكنيته أبو عبد الله من أهل قرية إصبهان، ويقال: إنه من قرية رامهرمز، فأصابه أسر من بعض كلب، فبيع من بعض اليهود بناحية وادي القرى، فكاتب اليهودي، فأعانه رسول الله ص والمسلمون حَتَّى عتق وقال بعض نسابه الفرس: سلمان من كور سابور، واسمه ما به بْن بوذخشان بْن ده ديره وسفينة- مولى رسول الله ص، وَكَانَ لأم سلمة فأعتقته، واشترطت عليه خدمة رسول الله ص حياته، قيل: إنه أسود، واختلف فِي اسمه، فَقَالَ بعضهم: اسمه مهران، وقال بعضهم: اسمه رباح، وقال بعضهم: هو من عجم الفرس، واسمه سبيه بْن مارقيه، وأنسة يكنى أبا مسرح، وقيل: أبا مسروح كان من مولدي السراة، وكان يأذن على رسول الله ص إذا جلس، وشهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها مع رسول الله ص وقال بعضهم: أصله من عجم الفرس، كانت أمه حبشية وأبوه فارسيا قَالَ: واسم أبيه بالفارسيه كردوى ابن أشرنيده بْن أدوهر بْن مهرادر بْن كحنكان من بني مهجوار بْن يوماست. وأبو كبشة- واسمه سليم، قيل إنه كان من مولدي مكة، وقيل: من مولدي أرض دوس، ابتاعه رسول الله ص فأعتقه، فشهد مَعَ رَسُولِ اللَّهِ بدرا وأحدا والمشاهد توفى في أول يوم استخلف فيه عمر بْن الْخَطَّاب، سنة ثلاث عشرة من الهجرة. وأبو مويهبة- قيل: إنه كان من مولدي مزينة، فاشتراه رسول الله ص فأعتقه. ورباح الأسود- كان يأذن لرسول الله ص. وفضالة- مولى رسول الله ص نزل- فيما ذكر- الشام. ومدعم- مولى رَسُول الله ص، كان عبدا لرفاعة

ابن زيد الجذامي، فوهبه لرسول الله، فقتل بوادي القرى، يوم نزل بهم رَسُول اللَّهِ، أتاه سهم غرب فقتله. وأبو ضميرة- كان بعض نسابة الفرس زعم أنه من عجم الفرس، من ولد كشتاسب الملك، وأن اسمه واح بن شيرز بن بيرويس بن تاريشمه ابن ماهوش بن باكمهيز وذكر بعضهم أنه كان ممن صار فِي قسم رَسُول اللَّهِ فِي بعض وقائعه، فأعتقه، وكتب له كتابا بالوصية، وهو جد حسين بن عبد الله بْن أبي ضميرة، وأن ذَلِكَ الكتاب فِي أيدي ولد ولده وأهل بيته، وأن حسين بْن عبد الله هذا قدم على المهدي ومعه ذَلِكَ الكتاب، فأخذه المهدي فوضعه على عينيه، ووصله بثلاثمائة دينار. ويسار- وَكَانَ فيما ذكر نوبيا، كان فيما وقع في سهم رسول الله ص فِي بعض غزواته فأعتقه، وهو الذي قتله العرنيون الذين أغاروا على لقاح رَسُول اللَّهِ. ومهران- حدث عن رسول الله ص. وكان له خصى يقال له مابور- كان المقوقس أهداه إليه مَعَ الجاريتين اللتين يقال لإحداهما مارية، وهي التي تسري بِهَا والأخرى سيرين وهي التي وهبها رسول الله ص لحسان بْن ثابت، لما كان من جناية صفوان بْن المعطل عليه، فولدت لحسان ابنه عبد الرحمن بْن حسان وَكَانَ المقوقس بعث بهذا الخصي مَعَ الجاريتين اللتين أهداهما لرسول الله ص ليوصلهما اليه، ويحفظهما من الطريق حتى متصلا إليه وقيل: إنه الذي قذفت مارية به، فبعث رسول الله ص عليا وأمره بقتله، فلما رأى عليا وما يريد به تكشف حَتَّى تبين لعلي أنه أجب لا شيء معه مما يكون مَعَ الرجال، فكف عنه علي وخرج إليه من الطَّائِف- وهو محاصر أهلها- أعبد لهم أربعة، فاعتقهم ص، منهم ابو بكر

ذكر من كان يكتب لرسول الله ص

ذكر من كان يكتب لرسول الله ص ذكر أن عثمان بْن عفان كان يكتب لَهُ أحيانا، وأحيانا علي بْن أبي طالب، وخالد بْن سعيد، وأبان بْن سعيد، والعلاء بن الحضرمى. قيل: أول من كتب لَهُ أبي بْن كعب، وَكَانَ إذا غاب أبي كتب لَهُ زيد بْن ثابت. وكتب لَهُ عبد الله بْن سعد بْن أبي سرح، ثُمَّ ارتد عن الإسلام، ثُمَّ راجع الإسلام يوم فتح مكة. وكتب لَهُ معاوية بْن أبي سفيان، وحنظلة الأسيدي . أسماء خيل رسول الله ص حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَوَّلُ فَرَسٍ مَلَكَهُ رَسُولُ الله ص فَرَسٌ ابْتَاعَهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ بِعَشْرِ أَوَاقٍ، وَكَانَ اسْمُهُ عِنْدَ الأَعْرَابِيَّ الضَّرِسَ، فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ السَّكْبَ، وَكَانَ أَوَّلَ ما غزا عليه أحدا، لَيْسَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ فَرَسٌ غَيْرُهُ، وَفَرَسٌ لأَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ، يُقَالُ لَهُ مُلاوِحٌ. حدثني الحارث، قَالَ: أخبرنا ابن سعد، قَالَ: أخبرنا محمد بْن عمر، قَالَ: سألت محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة عن المرتجز، فَقَالَ: هو الفرس الذي اشتراه من الأعرابي الذي شهد لَهُ فيه خزيمة بْن ثابت، وَكَانَ الأعرابي من بني مرة. حدثني الحارث قال: حدثنا ابن سعد، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أُبَيُّ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جده، قال: كان لرسول الله ص ثلاثة افراس: لزاز، والظرب، واللخيف،

ذكر أسماء بغال رسول الله ص

فاما لزاز فاهداه له المقوقس، واما اللخيف فَأَهْدَاهُ لَهُ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي الْبَرَاءِ، فَأَثَابَهُ عَلَيْهِ فَرَائِضَ مِنْ نِعَمِ بَنِي كِلابٍ، وَأَمَّا الظرب فاهداه له فروه ابن عَمْرٍو الْجُذَامِيُّ وَأَهْدَى تَمِيمٌ الدَّارِيُّ لِرَسُولِ اللَّهِ فَرَسًا يُقَالُ لَهُ: الْوَرْدُ، فَأَعْطَاهُ عُمَرَ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَوَجَدَهُ يَنْبَاع. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ كَانَ لَهُ مَعَ مَا ذَكَرْتُ مِنَ الْخَيْلِ فَرَسٌ يُقَالُ لَهُ اليعسوب . ذكر أسماء بغال رسول الله ص حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْن مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كانت دلدل بغله النبي ص أَوَّلُ بَغْلَةٍ رُئِيَتْ فِي الإِسْلامِ، أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقِسُ وَأَهْدَى لَهُ مَعَهَا حِمَارًا يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ، فَكَانَتِ الْبَغْلَةُ قَدْ بَقِيَتْ حَتَّى كَانَ زَمَنُ مُعَاوِيَةَ. حدثني الحارث، قَالَ: حَدَّثَنَا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، قَالَ: دلدل أهداها لَهُ فروة بْن عمرو الجذامي. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بْنُ عُمَرَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ زَامِلِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: أَهْدَى فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو الى النبي ص بَغْلَةً يُقَالُ لَهَا فِضَّةٌ، فَوَهَبَهَا لأَبِي بَكْرٍ، وَحِمَارَهُ يَعْفُورَ، فَنَفَقَ مُنْصَرَفِهِ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ . ذكر أسماء ابله ص حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قال: كانت

ذكر أسماء لقاح رسول الله ص

الْقَصْوَاءُ مِنْ نَعَمِ بَنِي الْحُرَيْشِ، ابْتَاعَهَا أَبُو بكر واخرى معها بثمانمائه درهم، وأخذها منه رسول الله ص بأربعمائة، فَكَانَتْ عِنْدَهُ حَتَّى نَفَقَتْ، وَهِيَ الَّتِي هَاجَرَ عليها، وكانت حين قدم رسول الله الْمَدِينَةَ ربَاعِيَّةً، وَكَانَ اسْمُهَا الْقَصْوَاءَ وَالْجَدْعَاءَ وَالْعَضْبَاءَ. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا مُحَمَّد بْن عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي ذئب، عن يحيى بْن يعلى، عن ابن المسيب، قَالَ: كان اسمها العضباء، وَكَانَ فِي طرف أذنها جدع . ذكر أسماء لقاح رسول الله ص حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ ابى رافع، قال: كانت لرسول الله ص لِقَاحٌ، وَهِيَ الَّتِي أَغَارَ عَلَيْهَا الْقَوْمَ بِالْغَابَةِ، وَهِيَ عِشْرُونَ لُقْحَةً، وَكَانَتِ الَّتِي يَعِيشُ بِهَا اهل رسول الله ص يُرَاحُ إِلَيْهِ كُلَّ لَيْلَةٍ بَقِرْبَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ لَبَنٍ فِيهَا لِقَاحٌ غِزَارٌ: الْحَنَّاءُ، وَالسَّمُرَاءُ، وَالْعِرِّيسُ، وَالسَّعْدِيَّةُ، وَالْبَغُومُ، وَالْيَسِيرَةُ، وَالرَّيَّا. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي هَارُوَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نَبْهَانَ، مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ، تَقُولُ: كَانَ عَيْشُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ اللَّبَنَ- أَوْ قَالَتْ أَكْثَرَ عَيْشِنَا- كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ لِقَاحٌ بِالْغَابَةِ كَانَ قَدْ فَرَّقَهَا عَلَى نِسَائِهِ، فَكَانَتْ فِيهَا لِقْحَةٌ تُدْعَى الْعِرِّيسَ، وَكُنَّا مِنْهَا فِيمَا شِئْنَا مِنَ اللَّبَنِ، وَكَانَتْ لِعَائِشَةَ لِقْحَةٌ تُدْعَى السَّمُرَاءَ غَزِيرَةٌ، لَمْ تَكُنْ كَلِقْحَتِي، فَقَرَّبَ رَاعِيهِنَّ اللِّقَاحَ إِلَى مَرْعًى بِنَاحِيَةِ الْجَوَّانِيَّةِ، فَكَانَتْ تَرُوحُ عَلَى أَبْيَاتِنَا فَنُؤْتَى بِهِمَا فَتُحْلَبَانِ، فَتُوجَدُ لِقْحَتُهُ أَغْزَرَ مِنْهُمَا بِمِثْلِ لَبَنِهِمَا أَوْ أَكْثَرَ

ذكر أسماء منائح رسول الله ص

حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلامِ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَتْ لرسول الله ص لَقَائِحُ تَكُونُ بِذِي الْجَدْرِ، وَتَكُونُ بِالْجَمَّاءِ، فَكَانَ لبنها يؤوب إِلَيْنَا، لِقْحَةٌ تُدْعَى مُهْرَةً، أَرْسَلَ بِهَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ مِنْ نَعَمِ بَنِي عُقَيْلٍ وَكَانَتْ غَزِيرَةً، وَكَانَتِ الرَّيَّا وَالشَّقْرَاءُ ابْتَاعَهُمَا بِسُوقِ النَّبَطِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، وَكَانَتْ بُرْدَةُ، وَالسَّمُرَاءُ، وَالعِرِّيسُ، وَالْيَسِيرَةُ، وَالْحَنَّاءُ، يُحْلَبْنَ وَيُرَاحُ إِلَيْهِ بِلَبَنِهِنَّ كُلَّ ليله، وكان فيها غلام للنبي ص اسْمُهُ يَسَارٌ، فَقَتَلُوهُ . ذكر أسماء منائح رَسُول الله ص حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنى زكرياء بْنُ يَحْيَى، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، مِنْ وَلَدِ عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ، قَالَ: كَانَتْ منائح رسول الله ص سَبْعًا: عَجْوَةُ، وَزَمْزَمُ، وَسُقْيَا، وَبَرَكَةُ، وَوَرَسَةُ، وَأَطْلالُ، وَأَطْرَافُ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قال: أخبرنا محمد، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَتْ منائح رسول الله ص سَبْعَ أَعْنُزِ مَنَائِح، يَرْعَاهُنَّ ابْنُ أُمِّ أَيْمَنَ . ذكر أسماء سيوف رسول الله ص حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا أبو بكر بْن عبد الله بْن أبي سبرة، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ

ذكر أسماء قسيه ورماحه ص

أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، قَالَ: أَصَابَ رَسُولُ الله ص مِنْ سِلاحِ بَنِي قَيْنُقَاعَ ثَلاثَةَ أَسْيَافٍ: سَيْفًا قَلَعِيًّا، وَسَيْفًا يُدْعَى بَتَّارًا، وَسَيْفًا يُدْعَى الْحَتْفَ، وَكَانَ عِنْدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْمُخَذِّمُ وَرَسُوبٌ، أَصَابَهُمَا من الفلس وقيل انه قدم رسول الله ص المدينة ومعه سيفان، يقال لأحدهما: القضيب، شَهِدَ بِهِ بَدْرًا، وَسَيْفُهُ ذُو الْفَقَارِ غَنِمَهُ يَوْمَ بَدْرٍ، كَانَ لِمُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ . ذكر أسماء قسيه ورماحه ص حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا أبو بكر بْن عبد الله بْن أبي سبرة، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، قال: أصاب رسول الله ص مِنْ سِلاحِ بَنِي قَيْنُقَاعٍ ثَلاثَةَ أَرْمَاحٍ وَثَلاثَ قِسِيٍّ: قَوْسُ الرَّوْحَاءِ، وَقَوْسُ شَوْحَطٍ، تُدْعَى الْبَيْضَاءَ، وقوس صفراء تدعى الصفراء من نبع . ذكر أسماء دروعه ص حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا أبو بكر بْن عبد الله بْن أبي سبرة، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، قال: أصاب رسول الله ص مِنْ سِلاحِ بَنِي قَيْنُقَاعٍ دِرْعَينِ، دِرْعٌ يُقَالُ لَهَا السَّعْدِيَّةُ، وَدِرْعٌ يُقَالُ لَهَا فِضَّةٌ. حَدَّثَنِي الحارث، قال: حدثني ابن سعد، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُمَرَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، قَالَ: رايت على رسول الله ص يَوْمَ أُحُدٍ دِرْعَيْنِ:

ذكر ترسه ص

دِرْعَهُ ذَاتُ الْفُضُولِ وَدِرْعَهُ فِضَّةُ، وَرَأَيْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ خَيْبَرَ دِرْعَيْنِ: ذَاتَ الْفُضُولِ وَالسَّعْدِيَّةَ . ذكر ترسه ص حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أَخْبَرَنَا عَتَّابُ بْنُ زِيَادٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن يزيد ابن جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مَكْحُولا يَقُولُ: كَانَ لِرَسُولِ الله ص تُرْسٌ فِيهِ تِمْثَالُ رَأْسِ كَبْشٍ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ مَكَانَهُ، فَأَصْبَحَ يَوْمًا وَقَدْ أَذْهَبَهُ اللَّهُ عز وجل . ذكر أسماء رسول الله ص حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ- يَعْنِي الْمَسْعُودِيَّ- عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: سَمَّى لَنَا رَسُولُ الله ص نَفْسَهُ أَسْمَاءً، مِنْهَا مَا حَفِظْنَا. قَالَ: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْمُقَفِّي، وَالْحَاشِرُ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ وَالْمَلْحَمَةِ. حَدَّثَنِي ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ- يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ- عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، [قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ الله ص: إِنَّ لِي أَسْمَاءً، أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْعَاقِبُ، والماحى] قال الزهري: العاقب: الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ أَحَدٌ، وَالْمَاحِي: الَّذِي يَمْحُو الله به الكفر. حدثنا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ، أَخْبَرَنَا سفيان ابن حُسَيْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، [عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رسول الله ص: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْمَاحِي،

ذكر صفه النبي ص

وَالْعَاقِبُ، وَالْحَاشِرُ، الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي قَالَ يَزِيدُ: فَسَأَلْتُ سُفْيَانَ: مَا الْعَاقِبُ؟ قَالَ: آخر الأنبياء] ذكر صفه النبي ص حدثنى ابن المثنى، قال: حدثنى ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُرْمُزَ، قَالَ: حَدَّثَنِي نافع بن جبير، [عن على ابن ابى طالب، قال: كان رسول الله ص لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلا بِالْقَصِيرِ، ضَخْمَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، شَثْنَ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، ضَخْمَ الْكَرَادِيسِ، مُشْرَبًا وَجْهُهُ الْحُمْرَةَ، طَوِيلَ الْمَسْرُبَةِ إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ تَكَفُّؤًا كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ، لَمْ أَرَ قَبْلَهُ ولا بعده مثله، ص] /. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُجَمِّعُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِمْرَانَ، [عَنْ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ- لَمْ يُسَمِّهِ- أَنَّهُ سَأَلَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ مُحْتَبٍ بِحِمَالَةِ سَيْفِهِ، فَقَالَ: انْعَتْ لِي نَعْتَ رسول الله ص، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ أَبْيَضَ اللَّوْنِ مُشْرَبًا حُمْرَةً، أَدْعَجَ سَبْطَ الشَّعَرِ، دَقِيقَ الْمَسْرُبَةِ، سَهْلَ الْخَدَّيْنِ، كَثَّ اللِّحْيَةِ، ذَا وَفْرَةٍ، كَأَنَّ عُنُقَهُ إِبْرِيقُ فِضَّةٍ، كَانَ لَهُ شَعَرٌ مِنْ لَبَّتِهِ إِلَى سُرَّتِهِ يَجْرِي كَالْقَضِيبِ، لَمْ يَكُنْ فِي إِبْطِهِ وَلا صَدْرِهِ شَعَرٌ غَيْرُهُ، شَثْنَ الْكَفِّ وَالْقَدَمِ، إِذَا مَشَى كَأَنَّمَا يَنْحَدِرُ مِنْ صَبَبٍ، وَإِذَا مَشَى كَأَنَّمَا يَنْقَلِعُ مِنْ صَخْرٍ، وَإِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ جَمِيعًا، لَيْسَ بِالْقَصِيرِ وَلا بِالطَّوِيلِ، وَلا الْعَاجِزِ وَلا اللَّئِيمِ، كَأَنَّ الْعَرَقَ فِي وَجْهِهِ

ذكر خاتم النبوه التي كانت به ص

اللُّؤْلُؤُ، وَلَرِيحُ عَرَقِهِ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، لَمْ أر قبله ولا بعده مثله ص] . حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُقَدَّمِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ الَّذِي يُقَالُ لَهُ أَبُو زُكَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَبِيعَةَ بْنَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَذْكُرُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رسول الله ص بُعِثَ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرًا وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا، وَتُوُفِّيَ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ، لَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ، وَلَمْ يكن رسول الله ص بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ، وَلا الْقَصِيرِ، وَلَمْ يَكُنْ بِالأَبْيَضِ الأَمْهَقِ، وَلا الآدَمِ، وَلَمْ يَكُنْ بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ وَلا السَّبْطِ. حَدَّثَنِي ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي الطُّفَيْلِ نَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَقَالَ: مَا بقي احد راى رسول الله ص غَيْرِي، قَالَ: وَقُلْتُ: أَرَأَيْتَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: كَيْفَ كَانَ صِفَتُهُ؟ قَالَ: كَانَ أَبْيَضَ مَلِيحًا مُقَصَّدًا ذكر خاتم النبوة التي كانت به ص حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِلْبَاءُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ، قَالَ: قال لي رسول الله ص: يَا أَبَا زَيْدٍ، ادْنُ مِنِّي امْسَحْ ظَهْرِي- وَكَشَفَ عَنْ ظَهْرِهِ- قَالَ: فَمَسَسْتُ ظَهْرَهُ، ثُمَّ وَضَعْتُ إِصْبَعِي عَلَى الْخَاتَمِ فَغَمَزْتُهَا، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا الْخَاتَمُ؟ قَالَ: شَعْرٌ مُجَمَّعٌ كَانَ عَلَى كَتِفَيْهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْوَضَّاحِ أَبُو الْهَيْثَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَقِيلٍ الدَّوْرَقِيُّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ عَنِ الْخَاتَمِ الَّتِي كَانَتْ للنبي ص، قَالَ كَانَتْ بَضْعَةٌ نَاشِزَةً

ذكر شجاعته وجوده ص

ذكر شجاعته وجوده ص حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ نبى الله ص مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ، وَأَسْمَحِ النَّاسِ، وَأَشْجَعِ النَّاسِ، لَقَدْ كَانَ فَزَعٌ بِالْمَدِينَةِ، فَانْطَلَقَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ نَحْوَ الصَّوْتِ، فَإِذَا هُمْ قَدْ تَلَقُّوا رَسُولَ الله ص عَلَى فَرَسٍ عُرْيٍ لأَبِي طَلْحَةَ، مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ، وَعَلَيْهِ السَّيْفُ: قَالَ: وَقَدْ كَانَ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ، قَالَ: فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الناس، لم تراعوا، لم تُرَاعُوا! مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا طَلْحَةَ، وَجَدْنَاهُ بَحْرًا، وَقَدْ كَانَ الْفَرَسُ يبطَّأ، فَمَا سَبَقَهُ فَرَسٌ بَعْدَ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قال: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ انس، قال: كان رسول الله ص أَشْجَعَ النَّاسِ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ، كَانَ فَزَعٌ بِالْمَدِينَةِ فَخَرَجَ النَّاس قِبَلَ الصَّوْتِ، فَاسْتَبْرَأَ الْفَزَعَ عَلَى فرس لأبي طلحه عرى، ما عليه سرج، فِي عُنُقِهِ السَّيْفُ قَالَ: وَجَدْنَاهُ بَحْرًا- أَوْ قال: وانه لبحر . ذكر صفه شعره ص وهل كان يخضب أم لا حَدَّثَنِي ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُرَيْزُ بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ أَبُو مُوسَى: قَالَ مُعَاذٌ: وَمَا رَأَيْتُ مِنْ رَجُلٍ قَطُّ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ أُفَضِّلُهُ عَلَيْه، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، فَقُلْتُ لَهُ من بين اصحابى: ارايت رسول الله ص؟ أَشَيْخًا كَانَ؟ قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى عَنْفَقَتِهِ، وَقَالَ: كَانَ فِي عَنْفَقَتِهِ شَعْرٌ أَبْيَضُ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي جحيفه، قال: رايت رسول الله ص عَنْفَقَتُهُ بَيْضَاءُ، قِيلَ: مِثْلُ مَنْ أَنْتَ يَوْمَئِذٍ يَا أَبَا جُحَيْفَةَ؟ قَالَ: أَبْرِي النَّبْلَ وَأَرِيشُهَا

حَدَّثَنِي ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، قَالَ: سُئِلَ أَنَسٌ: أَخَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: فَقَالَ أَنَسٌ: لَمْ يشتد برسول الله الشَّيْبُ، وَلَكِنْ خَضَّبَ أَبُو بَكْرٍ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وخضب عمر بالحناء. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ حُمَيْدٍ، قَالَ: سئل انس: هل خضب رسول الله ص؟ قَالَ: لَمْ يُرَ مِنَ الشَّيْبِ إِلا نَحْوٌ مِنْ تِسْعَ عَشْرَةَ أَوْ عِشْرِينَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ فِي مُقَدِّمِ لِحْيَتِهِ قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يُشَنْ بِالشَّيْبِ، فَقِيلَ لأَنَسٍ: وَشَيْنٌ هُوَ! قَالَ: كُلُّكُمْ يَكْرَهُهُ، وَلَكِنْ خَضَّبَ أَبُو بَكْرٍ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وخضب عمر بالحناء. حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا معاذ بن معاذ، قال: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: لَمْ يَكُنِ الشيب الذى بالنبي ص عِشْرِينَ شَعْرَةً. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الرحمن، قال: حدثنا حماد ابن سَلَمَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: مَا كَانَ فِي رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ ص مِنَ الشَّيْبِ إِلا شَعَرَاتٌ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، وَكَانَ إِذَا دَهَنَهُ غَطَّاهُنَّ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قال: حَدَّثَنَا سَلامُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ، قَالَ: دَخَلَتْ زوج النبي ص فَأَخْرَجَتْ إِلَيْنَا شَعَرًا مِنْ شَعَرِ رَسُولِ اللَّهِ مَخْضُوبًا بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ. حَدَّثَنَا ابْنُ جَابِرِ بْنِ الْكُرْدِيِّ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ حُمْرَةَ، عَنْ غَيْلانَ بْنِ جَامِعٍ، عَنْ إِيَادِ بْنِ لَقِيطٍ، عَنْ أَبِي رمثه، قال: كان رسول الله ص يَخْضِبُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَكَانَ يَبْلُغُ شَعْرُهُ كَتِفَيْهِ أَوْ مَنْكِبَيْهِ- الشَّكُّ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ

ذكر الخبر عن بدء مرض رسول الله الذى توفى فيه وما كان منه قبيل ذلك لما نعيت اليه نفسه ص

حدثنا ابن الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ- يَعْنِي ابْنَ نَافِعٍ- عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أم هاني، قالت: رايت رسول الله ص وَلَهُ ضَفَائِرُ أَرْبَعٌ . ذكر الخبر عن بدء مرض رسول الله الذي توفي فيه وما كان منه قبيل ذلك لما نعيت اليه نفسه ص قَالَ أبو جعفر: يقول الله عز وجل: «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً» قد مضى ذكرنا قبل ما كان من تعليم رسول الله ص أصحابه- فِي حجته التي حجها المسماة حجة الوداع، وحجة التمام، وحجة البلاغ- مناسكهم ووصيته إياهم، بما قد ذكرت قبل فِي خطبته التي خطبها بهم فيها. ثُمَّ إن رَسُول الله ص انصرف من سفره ذَلِكَ بعد فراغه من حجه إلى منزله بالمدينة فِي بقية ذي الحجة، فأقام بِهَا ما بقي من ذي الحجة والمحرم والصفر

سنه احدى عشره

ثُمَّ دخلت سنة إحدى عشرة ذكر الأحداث التي كانت فيها قَالَ أبو جعفر: ثُمَّ ضرب فِي المحرم من سنة إحدى عشرة على الناس بعثا إلى الشام، وأمَّر عليهم مولاه وابن مولاه أسامة بْن زيد بْن حارثة، وأمره- فيما حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الحارث بْن عياش بْن أبي ربيعة- أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، فتجهز الناس، وأوعب مَعَ أسامة المهاجرون الأولون. فبينا الناس على ذلك ابتدى ص شكواه التي قبضه الله عز وجل فيها إلى ما أراد به من رحمته وكرامته فِي ليال بقين من صفر، أو فِي أول شهر ربيع الأول. حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ الزُّهْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمُ قَالَ: أَخْبَرَنَا سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ ثابت ابن الْجَزعِ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ مَوْلَى النبي ص، عَنْ أَبِي مُوَيْهِبَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: رجع رسول الله ص الى المدينة بعد ما قَضَى حَجَّةَ التَّمَامِ، فَتَحَلَّلَ بِهِ السَّيْرُ، وَضَرَبَ عَلَى النَّاسِ بَعْثًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُوطِئَ مِنْ آبِلِ الزَّيْتِ مِنْ مَشَارِفِ الشَّامِ الأَرْضِ بِالأُرْدُنِّ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ في ذلك، [ورد عليهم النبي ص: إِنَّهُ لَخَلِيقٌ لَهَا- أَيْ حَقِيقٌ بِالإِمَارَةِ- وَإِنْ قُلْتُمْ فِيهِ لَقَدْ قُلْتُمْ فِي أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَإِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لَهَا] فطارت الأخبار بتحلل السير بالنبي ص أن النبي قد اشتكى، فوثب الأسود باليمن ومسيلمه باليمامة،

وجاء الخبر عنهما للنبي ص ثُمَّ وثب طليحة فِي بلاد أسد بعد ما افاق النبي ص، ثُمَّ اشتكى فِي المحرم وجعه الذي قبضه الله تعالى فيه. حدثنا ابن سعد، قال: حدثني عمي يعقوب بن إبراهيم قال: أخبرنا سيف، قَالَ: حَدَّثَنَا هشام بْن عُرْوَة، عن ابيه، قال: اشتكى رسول الله ص وجعه الذي توفاه الله به فِي عقب المحرم وقال الواقدى: بدئ رسول الله ص وجعه لليلتين بقيتا من صفر حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حدثنا سيف ابن عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُسْتَنِيرُ بْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ، عن عروة بن غزية الدثيني، عن الضحاك بْنِ فَيْرُوزِ بْنِ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ رِدَّةٍ كَانَتْ فِي الإِسْلامِ بِالْيَمَنِ كانت على عهد رسول الله ص عَلَى يَدَيْ ذِي الْخِمَارِ عَبْهَلَةَ بْنِ كَعْبٍ- وَهُوَ الأَسْوَدُ- فِي عَامَّةِ مَذْحِجٍ. خَرَجَ بَعْدَ الْوَدَاعِ، كَانَ الأَسْوَدُ كَاهِنًا شَعْبَاذًا، وَكَانَ يُرِيهِمِ الأَعَاجِيبَ، وَيُسْبِي قُلُوبَ مَنْ سَمِعَ مَنْطِقَهُ، وَكَانَ أَوَّلُ مَا خَرَجَ أَنْ خَرَجَ مِنْ كَهْفِ خُبَّانَ، وَهِيَ كَانَتْ دَارَهُ، وَبِهَا وُلِدَ وَنَشَأَ، فَكَاتَبَتْهُ مَذْحِجُ، وَوَاعَدَتْهُ نَجْرَانَ، فَوَثَبُوا بِهَا وَأَخْرَجُوا عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ وَخَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَأَنْزَلُوهُ مَنْزِلَهُمَا، وَوَثَبَ قَيْسُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ عَلَى فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ وَهُوَ عَلَى مُرَادَ، فَأَجْلاهُ وَنَزَلَ مَنْزِلَهُ، فَلَمْ يَنْشِبْ عَبْهَلَةُ بِنَجْرَانَ أَنْ سَارَ إِلَى صَنْعَاءَ فَأَخَذَهَا، وَكُتِبَ بذلك الى النبي ص مِنْ فِعْلِهِ وَنُزُولِهِ صَنْعَاءَ، وَكَانَ أَوَّلَ خَبَرٍ وَقَعَ بِهِ عَنْهُ مِنْ قِبَلِ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ، وَلَحِقَ بِفَرْوَةَ مَنْ تَمَّ عَلَى الإِسْلامِ مِنْ مَذْحِجَ، فَكَانُوا بِالأَحْسِيَةِ، وَلَمْ يُكَاتِبْهُ الأَسْوَدُ وَلَمْ يُرْسِلْ إِلَيْهِ، لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ يُشَاغِبُهُ، وَصَفَا لَهُ مُلْكُ الْيَمَنِ

حَدَّثَنَا عُبْيَدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمِّي يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَيْفٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ الأَعْلَمِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ النبي ص قَدْ ضَرَبَ بَعْثَ أُسَامَةَ فَلَمْ يَسْتَتَبَّ لِوَجَعِ رَسُولِ اللَّهِ وَلِخَلْعِ مُسَيْلِمَةَ وَالأَسْوَدِ، وَقَدْ أَكْثَرَ الْمُنَافِقُونَ فِي تَأْمِيرِ أُسَامَةَ، حَتَّى بَلَغَهُ، فَخَرَجَ النبي ص عَلَى النَّاسِ عَاصِبًا رَأْسَهُ مِنَ الصُّدَاعِ لِذَلِكَ الشَّأْنِ وَانْتِشَارِهِ، لِرُؤْيَا رَآهَا فِي بَيْتِ عَائِشَةَ: [فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ- فِيمَا يَرَى النَّائِمُ- أَنَّ فِي عَضُدِي سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ، فَكَرِهْتُهُمَا فَنَفَخْتُهُمَا، فَطَارَا، فَأَوَّلْتُهُمَا هَذَيْنِ الْكَذَّابَيْنِ- صَاحِبَ الْيَمَامَةِ وَصَاحِبَ الْيَمَنِ- وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ أَقْوَامًا يَقُولُونَ فِي إِمَارَةِ أُسَامَةَ! وَلَعَمْرِي لَئِنْ قَالُوا فِي إِمَارَتِهِ، لَقَدْ قَالُوا فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ! وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ لَخَلِيقًا لِلإِمَارَةِ، وَإِنَّهُ لَخَلِيقٌ لَهَا، فَأَنْفِذُوا بَعْثَ أُسَامَةَ وَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ!] فَخَرَجَ أُسَامَةُ فَضَرَبَ بِالْجُرْفِ، وَأَنْشَأَ النَّاسُ فِي الْعَسْكَرِ، وَنَجَمَ طُلَيْحَةُ وَتَمَهَّلَ النَّاسُ، وَثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ ص فَلَمْ يُسْتَتَمَّ الأَمْرُ، يَنْظُرُونَ أَوَّلُهُمْ آخِرَهُمْ، حَتَّى توفى الله عز وجل نبيه ص. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، يَقُولُ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّمِيمِيُّ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ أَبُو يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِي مَاجِدٍ الأَسَدِيِّ، عَنِ الْحَضْرَمِيِّ بْنِ عَامِرٍ الأَسَدِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ أَمْرِ طليحة ابن خُوَيْلِدٍ، فَقَالَ: وَقَعَ بِنَا الْخَبَرُ بِوَجَعِ النَّبِيِّ ص، ثُمَّ بَلَغَنَا أَنَّ مُسَيْلِمَةَ قَدْ غَلَبَ عَلَى الْيَمَامَةِ، وَأَنَّ الأَسْوَدَ قَدْ غَلَبَ عَلَى الْيَمَنِ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلا قَلِيلا حَتَّى ادَّعَى طُلَيْحَةُ النُّبُوَّةَ، وَعَسْكَرَ بِسَمِيرَاءَ، وَاتَّبَعَهُ الْعَوَّامُ، وَاسْتَكْثَفَ أَمْرَهُ، وبعث حبال ابن أخيه الى النبي ص يَدْعُوهُ إِلَى الْمُوَادَعَةِ، وَيُخْبِرُهُ خَبَرَهُ وَقَالَ حِبَالٌ: إِنَّ الَّذِي يَأْتِيهِ ذُو النُّونِ، فَقَالَ: لَقَدْ سمى مَلِكًا، فَقَالَ حِبَالٌ: أَنَا ابْنُ خُوَيْلِدٍ، [فقال النبي ص: قَتَلَكَ اللَّهُ وَحَرَمَكَ الشَّهَادَةَ!]

وحدثنى عبيد الله بن سعد، قال: أخبرنا عمي يعقوب، قَالَ: أخبرنا سيف، قَالَ: وحدثنا سعيد بْن عبيد، عن حريث بْن المعلى: أن أول من كتب الى النبي ص بخبر طليحة سنان بْن أبي سنان، وَكَانَ على بني مالك، وَكَانَ قضاعي بْن عمرو على بني الحارث. حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سعد، قال: أخبرنا عمي، قال: أخبرنا سيف، قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قال: حاربهم رسول الله ص بِالرُّسُلِ، قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَى نَفَرٍ مِنَ الأَبْنَاءِ رَسُولا، وَكَتَبَ إِلَيْهِمْ أَنْ يُحَاوِلُوهُ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَنْجِدُوا رِجَالا- قَدْ سَمَّاهُمْ- مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَقَيْسٍ، وَأَرْسَلَ إِلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ أَنْ يُنْجِدُوهُمْ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَانْقَطَعَتْ سُبُلُ الْمُرْتَدَّةِ، وَطُعِنُوا فِي نُقْصَانٍ وَأَغْلَقَهُمْ، وَاشْتَغَلُوا فِي أَنْفُسِهِمْ، فَأُصِيبَ الأَسْوَدُ في حياه رسول الله ص وَقَبْلَ وَفَاتِهِ بِيَوْمٍ أَوْ بِلَيْلَةٍ، وَلَظَّ طُلَيْحَةُ وَمُسَيْلَمَةُ وَأَشْبَاهُهُمْ بِالرُّسُلِ، وَلَمْ يَشْغَلْهُ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْوَجَعِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالذَّبِّ عَنْ دِينِهِ، فَبَعَثَ وَبَرَ بْنَ يُحَنِّسَ إِلَى فَيْرُوزَ وَجُشَيْشٍ الدَّيْلَمِيِّ وَدَاذُوَيْهِ الإِصْطَخَرِيِّ، وَبَعَثَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى ذِي الْكِلاعِ وَذِي ظُلَيْمٍ، وَبَعَثَ الأَقْرَعَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحِمْيَرِيَّ إِلَى ذِي زَوْدٍ وَذِي مُرَّانَ، وَبَعَثَ فُرَاتَ بْنَ حَيَّانَ الْعِجْلِيَّ إِلَى ثُمَامَةَ بْنِ أَثَالٍ، وَبَعَثَ زِيَادَ بْنَ حَنْظَلَةَ التَّمِيمِيَّ ثُمَّ الْعُمَرِيَّ إِلَى قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ وَالزِّبْرِقَانِ بْنِ بَدْرٍ، وَبَعَثَ صُلْصُلَ بْنَ شَرَحْبِيلَ إِلَى سَبْرَةَ الْعَنْبَرِيِّ وَوَكِيعِ الدَّارِمِيِّ وَإِلَى عَمْرِو بْنِ الْمَحْجُوبِ الْعَامِرِيِّ، وَإِلَى عَمْرِو بْنِ الْخَفَاجِيِّ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، وَبَعَثَ ضِرَارَ بْنَ الأَزْوَرِ الأَسَدِيَّ إِلَى عَوْفٍ الزُّرْقَانِيِّ مِنْ بَنِي الصَّيْدَاءِ وَسِنَانِ الأسدي ثم الغنمي، وقضاعى الدؤلي، وَبَعَثَ نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ الأَشْجَعِيَّ إِلَى ابْنِ ذِي اللِّحْيَةِ وَابْنِ مُشَيْمِصَةَ الْجُبَيْرِيِّ. وحدثت عن هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، قال: حدثنا الصقعب ابن زهير، عن فقهاء أهل الحجاز، أن رسول الله ص وجع وجعه الذي قبض فيه فِي آخر صفر فِي أيام بقين منه، وهو فِي بيت زينب بنت جحش

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ وَعَلِيُّ بن مجاهد، عن محمد ابن إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ، مَوْلَى الْحَكَمِ ابن أَبِي الْعَاصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، [عَنْ أَبِي مُوَيْهِبَةَ مَوْلَى رَسُولِ الله ص، قال: بعثني رسول الله ص مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ، إِنِّي قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَسْتَغْفِرَ لأَهْلِ الْبَقِيعِ، فَانْطَلِقْ مَعِي، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، قَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْمَقَابِرِ، لِيُهِنْ لَكُمْ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ مِمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ فِيهِ! أَقْبَلَتِ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يَتْبَعُ آخِرُهَا أَوَّلَهَا، الآخِرَةُ شَرٌّ مِنَ الأُولَى. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ فَقَالَ: يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ، إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا، ثُمَّ الْجَنَّةُ، خُيِّرْتُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ لِقَاءِ رَبِّي وَالْجَنَّةِ، فَاخْتَرْتُ لِقَاءَ رَبِّي وَالْجَنَّةَ قال: قلت: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! فَخُذْ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا، ثُمَّ الْجَنَّةَ فَقَالَ: لا وَاللَّهِ يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ، لَقَدِ اخْتَرْتُ لِقَاءَ رَبِّي وَالْجَنَّةَ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لأَهْلِ الْبَقِيعِ، ثُمَّ انْصَرَفَ] فبدئ رسول الله ص بِوَجَعِهِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثنا محمد ابن إِسْحَاقَ. وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُجَاهِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النبي ص، قالت: رجع رسول الله ص مِنَ الْبَقِيعِ، فَوَجَدَنِي وَأَنَا أَجِدُ صُدَاعًا فِي راسى، وانا اقول: وا راساه! قال: بل انا والله يا عائشة وا راساه! ثُمَّ قَالَ: مَا ضَرَّكِ لَوْ مِتِّ قَبْلِي فَقُمْتُ عَلَيْكِ وَكَفَّنْتُكِ، وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ، وَدَفَنْتُكِ! فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَكَأَنِّي بِكَ لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ رَجَعْتَ إِلَى بَيْتِي فَأَعْرَسْتَ

ببعض نسائك، قالت: فتبسم رسول الله ص، وَتَتَامَّ بِهِ وَجَعُهُ، وَهُوَ يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ حَتَّى اسْتَعَزَّ بِهِ وَهُوَ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ، فَدَعَا نِسَاءَهُ فَاسْتَأْذَنَهُنَّ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي، فاذن له. فخرج رسول الله ص بَيْنَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِهِ: أَحَدُهُمَا الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ وَرَجُلٌ آخَرُ تَخُطُّ قَدَمَاهُ الأَرْضَ، عَاصِبًا رَأْسَهُ حَتَّى دَخَلَ بَيْتِي. - قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَحَدَّثْتُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي مَنِ الرَّجُلُ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ لا تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَذْكُرَهُ بِخَيْرٍ وهي تستطيع-[ثم غمر رسول الله ص وَاشْتَدَّ بِهِ الْوَجَعُ، فَقَالَ: أَهْرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ مِنْ آبَارٍ شَتَّى، حَتَّى أَخْرُجَ إِلَى النَّاسِ فَأَعْهَدَ إِلَيْهِمْ، قَالَتْ: فَأَقْعَدْنَاهُ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ، ثُمَّ صَبَبْنَا عَلَيْهِ الْمَاءَ حَتَّى طَفِقَ يَقُولُ: حَسْبُكُمْ، حَسْبُكُمْ!] . فَحَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ الرَّبِيعِ الْخَرَّازُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِيَاسٍ اللَّيْثِيُّ، ثم الاشجعى، عن القاسم بن يزيد، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَخِيهِ الْفَضْلِ بن عباس قال: جاءني رسول الله ص، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ فَوَجَدْتُهُ مَوْعُوكًا قَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: خُذْ بِيَدِي يَا فَضْلُ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ قَالَ: نَادِ فِي النَّاسِ. فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكُمُ اللَّهَ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ، وَإِنَّهُ قَدْ دَنَا مِنِّي حُقُوقٌ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ، فَمَنْ كُنْتُ جَلَدْتُ لَهُ ظَهْرًا فَهَذَا ظَهْرِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، وَمَنْ كُنْتُ شَتَمْتُ لَهُ عِرْضًا فَهَذَا عِرْضِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، أَلا وَإِنَّ الشَّحْنَاءَ لَيْسَتْ مِنْ طَبْعِي وَلا مِنْ شَأْنِي، أَلا وَإِنَّ

أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ مَنْ أَخَذَ مِنِّي حَقًّا إِنْ كَانَ لَهُ، أَوْ حَلَّلَنِي فَلَقِيتُ اللَّهَ وَأَنَا أَطْيَبُ النَّفْسِ، وَقَدْ أَرَى أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُغْنٍ عَنِّي حَتَّى أَقُومَ فِيكُمْ مِرَارًا. قَالَ الْفَضْلُ: ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَجَعَ فَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَعَادَ لِمَقَالَتِهِ الأُولَى فِي الشَّحْنَاءِ وَغَيْرِهَا، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي عِنْدَكَ ثَلاثَةَ دَرَاهِمَ، قَالَ: أَعْطِهِ يَا فَضْلُ، فَأَمَرْتُهُ فَجَلَسَ ثُمَّ قَالَ: [أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلْيُؤَدِّهِ وَلا يَقُلْ فُضُوحَ الدُّنْيَا، أَلا وَإِنَّ فُضُوحَ الدُّنْيَا أَيْسَرُ مِنْ فُضُوحِ الآخِرَةِ] فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي ثَلاثَةُ دَرَاهِمَ غَلَلْتُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: وَلِمَ غَلَلْتَهَا؟ قَالَ: كُنْتُ إِلَيْهَا مُحْتَاجًا، قَالَ: خُذْهَا مِنْهُ يَا فَضْلُ ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ خَشِيَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا فَلْيَقُمْ أَدْعُ لَهُ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انى لكذاب، انى لفاحش، وانى لنؤوم، فَقَالَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْهُ صِدْقًا وَإِيمَانًا، وَأَذْهِبْ عَنْهُ النَّوْمَ إِذَا أَرَادَ ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَكَذَّابٌ وَإِنِّي لَمُنَافِقٌ، وَمَا شَيْءٌ- أَوْ إِنْ شَيْءٌ- إِلا قَدْ جَنَيْتُهُ فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: فضحت نفسك ايها الرجل! فقال النبي ص: يا بن الْخَطَّابِ، فُضُوحُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ فُضُوحِ الآخِرَةِ، اللَّهُمَّ ارْزُقْهُ صِدْقًا وَإِيمَانًا وَصَيِّرْ أَمْرَهُ إِلَى خَيْرٍ. فَقَالَ عُمَرُ كَلِمَةً، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: [عُمَرُ مَعِي وَأَنَا مَعَ عُمَرَ، وَالْحَقُّ بَعْدِي مَعَ عُمَرَ حَيْثُ كَانَ] . حَدَّثَنَا ابن حميد قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ بَشِيرٍ، ان رسول الله ص خَرَجَ عَاصِبًا رَأْسَهُ، حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ كَانَ أَوَّلُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ صَلَّى عَلَى أَصْحَابِ أُحُدٍ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَأَكْثَرَ الصَّلاةَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ قَالَ: فَفَهِمَهَا أَبُو بَكْرٍ، وَعَلِمَ أَنَّ نَفْسَهُ يُرِيدُ، فَبَكَى، وَقَالَ: بَلْ نَفْدِيكَ بِأَنْفُسِنَا وَأَبْنَائِنَا، فَقَالَ: على

رِسْلِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ! انْظُرُوا هَذِهِ الأَبْوَابَ الشَّوَارِعَ اللافِظَةَ فِي الْمَسْجِدِ فَسُدُّوهَا، إِلا مَا كَانَ مِنْ بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنِّي لا أَعْلَمُ أَحَدًا كَانَ أَفْضَلَ عِنْدِي فِي الصُّحْبَةِ يَدًا مِنْهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ بَعْضِ آلِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ [قَالَ يَوْمَئِذٍ فِي كَلامِهِ هَذَا: فَإِنِّي لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنَ الْعِبَادِ خَلِيلا لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلا، وَلَكِنَّ صُحْبَةٌ وَإِخَاءُ إِيمَانٍ حَتَّى يَجْمَعَ اللَّهُ بَيْنَنَا عِنْدَهُ] . وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي عبد الله ابن وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدرى ان رسول الله ص جَلَسَ يَوْمًا عَلَى الْمِنْبَرِ، [فَقَالَ: إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ،] فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ قَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: فَتَعَجَّبْنَا لَهُ، وَقَالَ النَّاسُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ يُخْبِرُ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ عَبْدٍ يُخَيَّرُ، وَيَقُولُ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا! قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ هُوَ الْمُخَيَّرُ، وَكَانَ أَبُو بكر اعلمنا به، [فقال رسول الله ص: إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلا لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلا، وَلَكِنْ أُخوَّةُ الإِسْلامِ، لا تَبْقَ خَوْخَةٌ فِي الْمَسْجِدِ إِلا خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ] . حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ الصَّبَّاحِ الْهَمْدَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ جَعْفَرٍ الْبَجَلِيُّ، قَالَ: سمعت عبد الملك ابن الأَصْبَهَانِيِّ عَنْ خَلادٍ الأَسَدِيِّ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: نَعَى إِلَيْنَا نَبِيُّنَا وَحَبِيبُنَا نَفْسَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ، فَلَمَّا دَنَا الْفِرَاقُ جَمَعَنَا فِي بَيْتِ أُمِّنَا عَائِشَةَ، فَنَظَرَ إِلَيْنَا وَشَدَّدَ، فَدَمَعَتْ عَيْنُهُ، [وَقَالَ: مَرْحَبًا بِكُمْ! رَحِمَكُمُ الله!

آوَاكُمُ اللَّهُ! حَفِظَكُمُ اللَّهُ! رَفَعَكُمُ اللَّهُ! نَفَعَكُمُ اللَّهُ! وَفَّقَكُمُ اللَّهُ! نَصَرَكُمُ اللَّهُ! سَلَّمَكُمُ اللَّهُ! رَحِمَكُمُ اللَّهُ! قَبِلَكُمُ اللَّهُ! أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَأُوصِي اللَّهُ بِكُمْ، وَأَسْتَخْلِفُهُ عَلَيْكُمْ، وَأُؤَدِّيكُمْ إِلَيْهِ، إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ، لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ فِي عِبَادِهِ وَبِلادِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ لِي وَلَكُمْ: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» وقال: «أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ» فَقُلْنَا: مَتَى أَجَلُكَ؟ قَالَ: قَدْ دَنَا الْفِرَاقُ، وَالْمُنْقَلَبُ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى قُلْنَا: فَمَنْ يُغَسِّلُكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: أَهْلِي الأَدْنَى فَالأَدْنَى، قُلْنَا: فَفِيمَ نُكَفِّنُكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: فِي ثِيَابِي هَذِهِ إِنْ شِئْتُمْ، أَوْ فِي بَيَاضِ مِصْرَ، أَوْ حُلَّةٍ يَمَانِيَّةٍ، قُلْنَا: فَمَنْ يُصَلِّي عَلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: مَهْلا غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ، وَجَزَاكُمْ عَنْ نبيكم خيرا! فبكينا وبكى النبي ص، وَقَالَ: إِذَا غَسَّلْتُمُونِي وَكَفَّنْتُمُونِي فَضَعُونِي عَلَى سَرِيرِي فِي بَيْتِي هَذَا، عَلَى شَفِيرِ قَبْرِي، ثُمَّ اخْرُجُوا عَنِّي سَاعَةً، فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ يُصَلِّي عَلَيَّ جَلِيسِي وَخَلِيلِي جِبْرِيلُ، ثُمَّ مِيكَائِيلُ، ثُمَّ إِسْرَافِيلُ، ثُمَّ مَلَكُ الْمَوْتِ مَعَ جُنُودٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ بِأَجْمَعِهَا، ثُمَّ ادْخُلُوا عَلَيَّ فَوْجًا فَوْجًا، فَصَلُّوا عَلَيَّ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا، وَلا تُؤْذُونِي بِتَزْكِيَة وَلا بِرَنَّةٍ وَلا صَيْحَةٍ، وَلْيَبْدَأْ بِالصَّلاةِ عَلَيَّ رِجَالُ أَهْلِ بَيْتِي، ثُمَّ نِسَاؤُهُمْ، ثُمَّ أَنْتُمْ بَعْدُ أقْرِئُوا أَنْفُسَكُمْ مِنِّي السَّلامَ، فَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ سَلَّمْتُ عَلَى مَنْ بَايَعَنِي عَلَى دِينِي مِنَ الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قُلْنَا: فَمَنْ يُدْخِلُكَ فِي قَبْرِكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: أَهْلِي مَعَ مَلائِكَةٍ كَثِيرِينَ يَرَوْنَكُمْ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَمَّادٍ الدُّولابِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُلَيْمَانَ ابن أَبِي مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: يَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الخميس! قال: اشتد برسول الله ص وَجَعُهُ، [فَقَالَ: ائْتُونِي أَكْتُبُ كِتَابًا لا تَضِلُّوا بَعْدِي أَبَدًا فَتَنَازَعُوا- وَلا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ ان يتنازع]-

فَقَالُوا: مَا شَأْنُهُ؟ أَهَجَرَ! اسْتَفْهِمُوهُ، فَذَهَبُوا يُعِيدُونَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: دَعُونِي فَمَا أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، [وَأُوصِي بِثَلاثٍ، قَالَ: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوٍ مِمَّا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ، وَسَكَتَ عَنِ الثَّالِثَةِ عَمْدًا- أَوْ قَالَ: فَنَسِيتُهَا] . حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: يَوْمُ الْخَمِيسِ! ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ أَحْمَدَ بْنِ حَمَّادٍ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: وَلا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ أَنْ يُنَازَعَ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَصَالِحُ بْنُ سمال، قال: حدثنا وكيع، عن مالك ابن مِغْوَلٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: يَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ! قَالَ: ثُمَّ نَظَرْتُ إِلَى دُمُوعِهِ تَسِيلُ عَلَى خَدَّيْهِ كَأَنَّهَا نِظَامُ اللؤلؤ قال: [قال رسول الله ص: ائْتُونِي بِاللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ- أَوْ بِالْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ- أَكْتُبُ لَكُمْ كِتَابًا لا تَضِلُّونَ بَعْدَهُ] قَالَ: فَقَالُوا: ان رسول الله يَهْجُرُ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، قال: حدثنى عمى عبد الله ابن وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أخبرني عبد الله ابن كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ خَرَجَ مِنْ عند رسول الله ص فِي وَجَعِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، [فَقَالَ النَّاسُ: يَا أَبَا حَسَنٍ، كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللَّهِ بَارِئًا، فَأَخَذَ بِيَدِهِ عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ: أَلا تَرَى أَنَّكَ بَعْدَ ثَلاثٍ عَبْدَ الْعَصَا! وَإِنِّي أَرَى رسول الله سَيُتَوَفَّى فِي وَجَعِهِ هَذَا، وَإِنِّي لأَعْرِفُ وُجُوهَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَاذْهَبْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَسَلْهُ فِيمَنْ يَكُونُ هَذَا الأَمْرُ؟ فَإِنْ كَانَ فِينَا عَلِمْنَا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِنَا أَمَرَ بِهِ فَأَوْصَى بِنَا قَالَ عَلِيٌّ: وَاللَّهِ لَئِنْ

سَأَلْنَاهَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنَعَنَاهَا لا يُعْطِينَاهَا النَّاسُ أَبَدًا، وَاللَّهِ لا أَسْأَلُهَا رَسُولَ اللَّهِ أَبَدًا] . حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَرَجَ يَوْمَئِذٍ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى النَّاسِ مِنْ عند رسول الله ص، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتُ الْمَوْتَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ كَمَا كُنْتُ أَعْرِفُهُ فِي وُجُوهِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَانْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الأَمْرُ فِينَا عَلِمْنَا، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِنَا أَمَرَنَا فَأَوْصَى بِنَا النَّاسَ، وَزَادَ فِيهِ أَيْضًا: فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ حِينَ اشْتَدَّ الضُّحَى مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمَ. حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الأُمَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: [قَالَ لنا رسول الله ص: أَفْرِغُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ مِنْ سَبْعِ آبَارٍ شَتَّى، لَعَلِّي أَخْرُجُ إِلَى النَّاسِ فَأَعْهَدَ إِلَيْهِمْ] . قَالَ مُحَمَّدٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: فَصَبَبْنَا عَلَيْهِ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ، فَوَجَدَ رَاحَةً، فَخَرَجَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ، وَخَطَبَهُمْ، وَاسْتَغْفَرَ لِلشُّهَدَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أُحُدٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِالأَنْصَارِ خَيْرًا، فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، إِنَّكُمْ قَدْ أَصْبَحْتُمْ تَزِيدُونَ، وَأَصْبَحَتِ الأَنْصَارُ لا تَزِيدُ عَلَى هَيْئَتِهَا الَّتِي هِيَ عَلَيْهَا الْيَوْمَ، وَالأَنْصَارُ عَيْبَتِي الَّتِي أَوَيْتُ إِلَيْهَا، فَأَكْرِمُوا كَرِيمَهُمْ، وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ قَدْ خُيِّرَ بَيْنَ مَا عِنْدَ اللَّهِ وَبَيْنَ الدُّنْيَا فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَلَمْ يَفْقَهْهَا إِلا أَبُو بَكْرٍ، ظَنَّ أَنَّهُ يُرِيدُ نَفْسَهُ، فَبَكَى، [فقال له النبي ص: عَلَى رِسْلِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ! سُدُّوا هَذِهِ الأَبْوَابَ الشَّوَارِعَ فِي الْمَسْجِدِ إِلا بَابَ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنِّي لا أَعْلَمُ امْرَأً أَفْضَلَ يَدًا فِي الصَّحَابَةِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ]

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ عُبَيْدِ الله بن عبد الله ابن عُتْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَدَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ ص فِي مَرَضِهِ، فَقَالَ: لا تَلُدُّونِي! فَقُلْنَا: كَرَاهِيَةَ الْمَرِيضِ الدَّوَاءَ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: لا يَبْقَى مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا لُدَّ، غَيْرَ الْعَبَّاسِ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثِهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ، عَنِ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: ثُمَّ نزل رسول الله ص، فَدَخَلَ بَيْتَهُ، وَتَتَامَّ بِهِ وَجَعُهُ حَتَّى غُمِرَ، وَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ نِسَاءٌ مِنْ نِسَائِهِ: أُمُّ سَلَمَةَ، وَمَيْمُونَةُ، وَنِسَاءٌ مِنْ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، مِنْهُنَّ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، وَعِنْدَهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يَلُدُّوهُ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: لأَلُدَنَّهُ، قَالَ: فَلُدَّ، فَلَمَّا أَفَاقَ رَسُولُ اللَّهِ ص، قَالَ: مَنْ صَنَعَ بِي هَذَا؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَمُّكَ الْعَبَّاسُ، قَالَ: هَذَا دَوَاءٌ أَتَى بِهِ نِسَاءٌ مِنْ نَحْوِ هَذِهِ الأَرْضِ- وَأَشَارَ نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ- قَالَ: وَلِمَ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ؟ [فَقَالَ الْعَبَّاسُ: خَشِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ بِكَ وَجَعُ ذَاتِ الْجَنْبِ، فَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَدَاءٌ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَنِي بِهِ، لا يَبْقَى فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ إِلا لُدَّ إِلا عَمِّي] قَالَ: فَلَقَدْ لُدَّتْ مَيْمُونَةُ وانها لصائمه لقسم رسول الله ص، عُقُوبَةً لَهُمْ بِمَا صَنَعُوا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بن الزبير، عن عُرْوَةَ، [أَنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص حِينَ قَالُوا: خَشِينَا أَنْ يَكُونَ بِكَ ذَاتُ الْجَنْبِ، قَالَ: إِنَّهَا مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيُسَلِّطَهَا عَلَيَّ] . حُدِّثْتُ عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي الصَّقْعَبُ ابن زهير، عن فقهاء أهل الحجاز، أن رسول الله ص ثَقُلَ فِي وَجَعِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ حَتَّى أُغْمِيَ عَلَيْهِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ نِسَاؤُهُ وَابْنَتُهُ وَأَهْلُ

بَيْتِهِ وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَجَمِيعُهُمْ، وَإِنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ قَالَتْ: مَا وَجَعُهُ هَذَا إِلا ذَاتُ الْجَنْبِ، فَلُدُّوهُ، فَلَدَدْنَاهُ، فَلَمَّا أَفَاقَ، قَالَ: مَنْ فَعَلَ بِي هَذَا؟ قَالُوا: لَدَّتكَ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، ظَنَّتْ أَنَّ بِكَ ذَاتَ الْجَنْبِ [قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ يَبْلِيَنِي بِذَاتِ الْجَنْبِ، أَنَا أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ] . حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ اسامه ابن زيد، قال: لما ثقل رسول الله ص هَبَطْتُ وَهَبَطَ النَّاسُ مَعِي إِلَى الْمَدِينَةِ، فَدَخَلْنَا على رسول الله ص، وَقَدْ أُصْمِتَ فَلا يَتَكَلَّمُ، فَجَعَلَ يَرْفَعُ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ يَضَعُهَا عَلَيَّ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يَدْعُو لِي. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، [عَنْ عَائِشَةَ، قالت: كان رسول الله ص كَثِيرًا مَا أَسْمَعُهُ، وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَقْبِضْ نَبِيًّا حَتَّى يُخَيِّرَهُ] . حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الأَرْقَمِ بْنِ شُرَحْبِيلَ، قَالَ: سَأَلْتُ ابن عباس: اوصى رسول الله ص؟ قَالَ: لا، قُلْتُ: فَكَيْفَ كَانَ ذَلِكَ؟ قَالَ: [قال رسول الله: ابْعَثُوا إِلَى عَلِيٍّ فَادْعُوهُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَوْ بَعَثْتَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ! وَقَالَتْ حَفْصَةُ: لَوْ بَعَثْتَ إِلَى عُمَرَ! فَاجْتَمَعُوا عِنْدَهُ جَمِيعًا، فَقَالَ رسول الله ص: انْصَرِفُوا، فَإِنْ تَكُ لِي حَاجَةً أَبْعَثْ إِلَيْكُمْ، فانصرفوا، وقال رسول الله ص: آنَ الصَّلاةُ؟ قِيلَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأْمُرُوا أَبَا بَكْرٍ لِيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّهُ رَجُلٌ رَقِيقٌ، فَمُرْ عُمَرَ، فَقَالَ: مُرُوا عُمَرَ، فَقَالَ عمر: ما كنت لا تقدم وابو بكر

شَاهِدٌ،] فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ، وَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ، فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو بَكْرٍ حَرَكَتَهُ تأخر، فجذب رسول الله ص ثَوْبَهُ، فَأَقَامَهُ مَكَانَهُ، وَقَعَدَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَرَأَ مِنْ حَيْثُ انْتَهَى أَبُو بَكْرٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الأَعْمَشِ، قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَوَكِيعٌ، قَالا: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، وَحَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: [لَمَّا مرض رسول الله ص الْمَرَضَ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، أُذِّنَ بِالصَّلاةِ، فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَقُلْتُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ، وَإِنَّهُ مَتَى يَقُومُ مَقَامَكَ لا يُطِيقُ! قَالَ: فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَقُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَغَضِبَ، وَقَالَ: إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ]- وَقَالَ ابْنُ وَكِيعٍ: صَوَاحِبَاتُ يُوسُفَ- مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، قَالَ: فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَقَدَمَاهُ تَخُطَّانِ فِي الأَرْضِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ أَبِي بَكْرٍ، تَأَخَّرَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ الله ص أَنْ قُمْ فِي مَقَامِكَ، فَقَعَدَ رَسُولُ اللَّهِ ص، فَصَلَّى إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ جَالِسًا قَالَتْ: فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلاةِ النَّبِيِّ، وَكَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاةِ أَبِي بَكْرٍ اللَّفْظُ لِحَدِيثِ عِيسَى بْنِ عُثْمَانَ. حدثت عن الْوَاقِدِيّ، قَالَ: سألت ابن أبي سبرة: كم صلى أبو بكر بالناس؟ قَالَ: سبع عشرة صلاة، قلت: من أخبرك؟ قَالَ: أيوب بْن عبد الرحمن بْن أبي صعصعة، عن رجل من أصحاب النبي ص قَالَ: وحدثنا ابن أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ، عن عكرمة، قَالَ: صلى بهم أبو بكر ثلاثة أيام. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُوسَى بْنِ سَرْجَسٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ الله ص يَمُوتُ، وَعِنْدَهُ قَدَحٌ فِيهِ مَاءٌ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْقَدَحِ، ثُمَّ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ يَقُولُ: [اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى سَكْرَةِ الْمَوْتِ!]

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ الْعَسْقَلانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ مُوسَى بْنِ سَرْجَسٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: رَأَيْتُ رسول الله ص وَهُوَ يَمُوتُ ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَهُ، إِلا أَنَّهُ [قَالَ: أَعْنِي عَلَى سَكَرَاتِ الْمَوْتِ] . حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الاثْنَيْنِ، الْيَوْمُ الَّذِي قبض فيه رسول الله ص، خَرَجَ إِلَى النَّاسِ وَهُمْ يُصَلُّونَ الصُّبْحَ، فَرَفَعَ السِّتْرَ، وَفَتَحَ الْبَابَ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ، حَتَّى قَامَ بِبَابِ عَائِشَةَ، فَكَادَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَفْتَتِنُوا في صلاتهم برسول الله ص حِينَ رَأَوْهُ، فَرَحًا بِهِ، وَتَفَرَّجُوا فَأَشَارَ بِيَدِهِ: أَنِ اثْبُتُوا عَلَى صَلاتِكُمْ، وَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ فَرَحًا لَمَّا رَأَى مِنْ هَيْئَتِهِمْ فِي صَلاتِهِمْ، وما رايت رسول الله ص أَحْسَنَ هَيْئَةً مِنْهُ تِلْكَ السَّاعَةَ، ثُمَّ رَجَعَ وَانْصَرَفَ النَّاسُ، وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص قَدْ أَفَاقَ مِنْ وَجَعِهِ، فَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى أَهْلِهِ بِالسُّنْحِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن أبي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قال: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الاثْنَيْنِ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ص عَاصِبًا رَأْسَهُ إِلَى الصُّبْحِ، وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بالناس، فلما خرج رسول الله ص تَفَرَّجَ النَّاسُ، فَعَرَفَ أَبُو بَكْرٍ أَنَّ النَّاسَ لم يفعلوا ذلك الا لرسول الله ص، فَنَكَصَ عَنْ مُصَلاهُ، فَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ فِي ظَهْرِهِ، وَقَالَ: صَلِّ بِالنَّاسِ وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى جَنْبِهِ، فَصَلَّى قَاعِدًا عَنْ يَمِينِ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلاةِ، أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ وَكَلَّمَهُمْ رَافِعًا صَوْتَهُ حَتَّى خَرَجَ صَوْتَهُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ، يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، سُعِّرَتِ النَّارُ، وَأَقْبَلَتِ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ! وَإِنِّي وَاللَّهِ لا تُمْسِكُونَ عَلَيَّ شَيْئًا، إِنِّي لَمْ أُحِلَّ لَكُمْ إِلا مَا أَحَلَّ لَكُمُ الْقُرْآنُ، وَلَمْ أُحَرِّمْ عَلَيْكُمْ إِلا مَا حَرَّمَ عليكم القرآن فلما فرغ رسول الله ص مِنْ كَلامِهِ، قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ:

ذكر الاخبار الوارده باليوم الذى توفى فيه رسول الله ومبلغ سنه يوم وفاته

يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي أَرَاكَ قَدْ أَصْبَحْتَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ كَمَا نُحِبُّ، وَالْيَوْمُ يَوْمُ ابْنَةِ خَارِجَةَ، فَآتِيهَا ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ص وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى أَهْلِهِ بِالسُّنْحِ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إِسْحَاقَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: رَجَعَ رَسُولُ الله ص فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حِينَ دَخَلَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَاضْطَجَعَ فِي حِجْرِي، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ مِنْ آلِ بَكْرٍ فِي يَدِهِ سِوَاكٌ أَخْضَرُ قَالَتْ: فنظر رسول الله ص إِلَى يَدِهِ نَظَرًا عَرَفْتُ أَنَّهُ يُرِيدُهُ، فَأَخَذْتُهُ فَمَضَغْتُهُ حَتَّى أَلَنْتُهُ، ثُمَّ أَعْطَيْتُهُ إِيَّاهُ، قَالَتْ: فَاسْتَنَّ بِهِ كَأَشَدِّ مَا رَأَيْتُهُ يَسْتَنُّ بِسِوَاكٍ قَبْلَهُ، ثُمَّ وَضَعَهُ، وَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَثْقُلُ فِي حِجْرِي قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ فِي وَجْهِهِ، [فَإِذَا نَظَرُهُ قَدْ شَخَصَ، وَهُوَ يَقُولُ: بَلِ الرَّفِيقُ الأَعْلَى مِنَ الْجَنَّةِ! قَالَتْ: قُلْتُ: خُيِّرْتَ فَاخْتَرْتَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ! قَالَتْ: وَقُبِضَ رَسُولُ الله ص] . حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ عَبَّادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عائشة تقول: مات رسول الله ص بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي وَفِي دَوْرِي، وَلَمْ أَظْلِمْ فِيهِ أَحَدًا، فَمِنْ سَفَهِي وَحَدَاثَةِ سِنِّي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قُبِضَ وَهُوَ فِي حِجْرِي، ثُمَّ وَضَعْتُ رَأْسَهُ عَلَى وِسَادَةٍ، وَقُمْتُ أَلْتَدِمُ مَعَ النِّسَاءِ، وَأَضْرِبُ وَجْهِي ذكر الأخبار الواردة باليوم الذى توفى فيه رسول الله ومبلغ سنه يوم وفاته قَالَ أبو جعفر: أما اليوم الذي مات فيه رسول الله ص، فلا خلاف بين أهل العلم بالأخبار فيه أنه كان يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، غير أنه

اختلف في اى الاثانين كان موته ص؟ فَقَالَ بعضهم فِي ذَلِكَ مَا حُدِّثْتُ عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي مخنف، قال: حدثنا الصقعب بن زهير، عن فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحِجَازِ، قالوا: قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ ص نِصْفَ النَّهَارِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، لِلَيْلَتَيْنِ مَضَتَا مِنْ شَهْرِ- رَبِيعٍ الأَوَّلِ، وَبُويِعَ أَبُو بَكْرٍ يَوْمَ الاثْنَيْنِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ النَّبِيُّ ص. وقال الواقدى: توفى يوم الاثنين لثنى عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ نِصْفَ النَّهَارِ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ، وَذَلِكَ يَوْمُ الثُّلاثَاءِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: توفى رسول الله ص وَأَبُو بَكْرٍ بِالسُّنْحِ وَعُمَرُ حَاضِرٌ فَحَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ص قَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: إِنَّ رِجَالا من المنافقين يزعمون ان رسول الله تُوُفِّيَ وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا مَاتَ، وَلَكِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى رَبِّهِ كَمَا ذَهَبَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ، فَغَابَ عَنْ قَوْمِهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ قِيلَ قَدْ مَاتَ، وَاللَّهِ لَيَرْجِعِنَّ رَسُولُ اللَّهِ فَلْيُقَطِّعَنَّ أَيْدِي رِجَالٍ وَأَرْجُلُهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ مَاتَ. قَالَ: وَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى نَزَلَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ حِينَ بَلَغَهُ الْخَبَرُ، وَعُمَرُ يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى دَخَلَ عَلَى رسول الله ص فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، وَرَسُولُ اللَّهِ مُسَجًّى فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، عَلَيْهِ بُرْدُ حَبِرَةٍ، فَأَقْبَلَ حَتَّى كَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكَ فَقَدْ ذُقْتَهَا، ثُمَّ لَنْ يُصِيبَكَ بَعْدَهَا مَوْتَةٌ أَبَدًا ثُمَّ رَدَّ الثَّوْبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ خَرَجَ وَعُمَرُ يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَقَالَ: عَلَى رِسْلِكَ يَا عُمَرُ! فَانْصِتْ، فَأَبَى إِلا أَنْ يَتَكَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ لا يُنْصِتُ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ كَلامَهُ أَقْبَلُوا عَلَيْهِ،

وَتَرَكُوا عُمَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ. ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: «وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ» الى آخر الآية قال: فو الله لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نزلت على رسول الله ص حَتَّى تَلاهَا أَبُو بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ قَالَ: وَأَخَذَهَا النَّاسُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ فَإِنَّمَا هِيَ فِي أَفْوَاهِهِمْ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلا أَنْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ يَتْلُوهَا فَعُقِرْتُ حَتَّى وَقَعْتُ إِلَى الأَرْضِ، مَا تَحْمِلُنِي رِجْلايَ، وَعَرَفْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ مَاتَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ زِيَادِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: لما قبض النبي ص كَانَ أَبُو بَكْرٍ غَائِبًا، فَجَاءَ بَعْدَ ثَلاثٍ، وَلَمْ يَجْتَرِئْ أَحَدٌ أَنْ يَكْشِفَ عَنْ وَجْهِهِ، حَتَّى أُرْبِدَ بَطْنُهُ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! طِبْتَ حَيًّا وَطِبْتَ مَيِّتًا! ثُمَّ خَرَجَ أَبُو بكر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ ثُمَّ قَرَأَ: «وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: لَمْ يَمُتْ، وَكَانَ يَتَوَعَّدُ النَّاسَ بِالْقَتْلِ فِي ذَلِكَ. فَاجْتَمَعَ الأَنْصَارُ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ لِيُبَايِعُوا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا بَكْرٍ، فَأَتَاهُمْ وَمَعَهُ عُمَرُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟

فَقَالُوا: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مِنَّا الأُمَرَاءُ وَمِنْكُمُ الْوُزَرَاءُ. ثُمَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنِّي قَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ: عُمَرَ أَوْ أَبَا عُبَيْدَةَ، إِنَّ النبي ص جَاءَهُ قَوْمٌ فَقَالُوا: ابْعَثْ مَعَنَا أَمِينًا فَقَالَ: لأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ، فَبَعَثَ مَعَهُمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، وَأَنَا أَرْضَى لَكُمْ أَبَا عُبَيْدَةَ فَقَامَ عُمَرُ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ تَطِيبُ نفسه ان يخلف قدمين قدمهما النبي ص! فَبَايَعَهُ عُمَرُ وَبَايَعَهُ النَّاسُ، فَقَالَتِ الأَنْصَارُ- أَوْ بَعْضُ الأَنْصَارِ، لا نُبَايِعُ إِلا عَلِيًّا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ كُلَيْبٍ، قَالَ: أَتَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَنْزِلَ عَلِيٍّ وَفِيهِ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَرِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لأَحْرِقَنَّ عَلَيْكُمْ أَوْ لَتَخْرُجُنَّ إِلَى الْبَيْعَةِ فَخَرَجَ عَلَيْهِ الزُّبَيْرُ مصلتا بالسيف، فَعَثَرَ فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَوَثَبُوا عَلَيْهِ فاخذوه. حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى الضَّرِيرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَوْدِيُّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُمَيْرِيِّ، قَالَ: توفى رسول الله ص وَأَبُو بَكْرٍ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَجَاءَ فَكَشَفَ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ فَقَبَّلَهُ، وَقَالَ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي! مَا أَطْيَبَكَ حَيًّا وَمَيِّتًا! مَاتَ مُحَمَّدٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ! قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى المنبر، فوجد عمر ابن الْخَطَّابِ قَائِمًا يُوعِدُ النَّاسَ، وَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ الله ص حَيٌّ لَمْ يَمُتْ، وَإِنَّهُ خَارِجٌ إِلَى مَنْ أَرْجَفَ بِهِ، وَقَاطِعٌ أَيْدِيَهُمْ، وَضَارِبٌ أَعْنَاقَهُمْ، وَصَالِبُهُمْ قَالَ: فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: أَنْصِتْ قَالَ: فَأَبَى عُمَرُ أَنْ يُنْصِتَ، فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، وقال: ان الله قال لنبيه ص: «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ» «وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ» ، حَتَّى خَتَمَ الآيَةَ، فَمَنْ

حوادث السنة الحادية العشرة بعد وفاة رسول الله

كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَقَدْ مَاتَ إِلَهُهُ الَّذِي كَانَ يَعْبُدُهُ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ لا شَرِيكَ لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ. قَالَ: فَحَلَفَ رِجَالٌ أَدْرَكْنَاهُمْ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ص: ما علمنا ان هاتين الآيَتَيْنِ نَزَلَتَا حَتَّى قَرَأَهُمَا أَبُو بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ يَسْعَى فَقَالَ: هَاتِيكَ الأَنْصَارُ قَدِ اجْتَمَعَتْ فِي ظُلَّةِ بَنِي سَاعِدَةَ، يُبَايِعُونَ رَجُلا مِنْهُمْ، يَقُولُونَ: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْ قُرَيْشٍ أَمِيرٌ، قَالَ: فَانْطَلَقَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَتَقَاوَدَانِ حتى أتياهم، فَأَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَتَكَلَّمَ، فَنَهَاهُ أَبُو بَكْرٍ، فقال: لا اعصى خليفه النبي ص فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ. قَالَ: فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا نَزَلَ فِي الأَنْصَارِ، وَلا ذكره رسول الله ص من شانهم الا وذكره [وقال: لقد عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ وَادِيًا سَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ،] [وَلَقَدْ عَلِمْتَ يَا سَعْدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَأَنْتَ قَاعِدٌ: قُرَيْشٌ وُلاةُ هَذَا الأَمْرِ، فَبَرُّ النَّاسِ تَبَعٌ لِبَرِّهِمْ، وَفَاجِرُهُمْ تَبَعٌ لِفَاجِرِهِمْ قَالَ: فَقَالَ سَعْدٌ: صَدَقْتَ، فَنَحْنُ الْوُزَرَاءُ وَأَنْتُمُ الأُمَرَاءُ] قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: ابْسُطْ يَدَكَ يا أبا بكر فلا بايعك، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلْ أَنْتَ يَا عُمَرُ، فَأَنْتَ أَقْوَى لَهَا مِنِّي قَالَ: وَكَانَ عُمَرُ أَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ، قَالَ: وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُرِيدُ صَاحِبَهُ يَفْتَحُ يَدَهُ يَضْرِبُ عَلَيْهَا، فَفَتَحَ عُمَرُ يَدَ أَبِي بَكْرٍ وَقَالَ: إِنَّ لَكَ قُوَّتِي مَعَ قُوَّتِكَ قَالَ: فَبَايَعَ النَّاسُ وَاسْتَثْبَتُوا لِلْبَيْعَةِ، وَتَخَلَّفَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ، وَاخْتَرَطَ الزُّبَيْرُ سَيْفَهُ، وَقَالَ: لا أَغْمِدُهُ حَتَّى يُبَايَعَ عَلِيٌّ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ عُمَرُ: خُذُوا سَيْفَ الزُّبَيْرِ، فَاضْرِبُوا بِهِ الْحَجَرَ قَالَ: فَانْطَلَقَ إِلَيْهِمْ عُمَرُ، فَجَاءَ بِهِمَا تَعِبًا، وَقَالَ: لَتُبَايِعَانِ وَأَنْتُمَا طَائِعَانِ، أَوْ لَتُبَايِعَانِ وَأَنْتُمَا كَارِهَانِ! فَبَايَعَا . [حوادث السنة الحادية العشرة بعد وفاة رسول الله] حَدِيثُ السَّقِيفَةِ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ رَاشِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَنِ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عتبة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُنْتُ أُقْرِئُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ الْقُرْآنَ، قَالَ:

فَحَجَّ عُمَرُ وَحَجَجْنَا مَعَهُ، قَالَ: فَإِنِّي لَفِي منزل بمنى إذ جاءني عبد الرحمن ابن عَوْفٍ، فَقَالَ: شَهِدْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ، وَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ فُلانًا يَقُولُ: لَوْ قَدْ مَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ بَايَعْتُ فُلانًا قَالَ: فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: إِنِّي لَقَائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِي النَّاسِ فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوا النَّاسَ أَمْرَهُمْ قَالَ: قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رِعَاعَ النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ، وَإِنَّهُمُ الَّذِينَ يَغْلِبُونَ عَلَى مَجْلِسِكَ، وَإِنِّي لَخَائِفٌ إِنْ قُلْتَ الْيَوْمَ مَقَالَةً أَلا يَعُوهَا وَلا يَحْفَظُوهَا، وَلا يَضَعُوهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا، وَأَنْ يَطَّيَّرُوا بِهَا كُلَّ مُطَيْرٍ، وَلَكِنْ أَمْهِلْ حتى تقدم المدينة، نقدم دَارَ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ، وَتَخْلُصَ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، فَتَقُولُ مَا قُلْتَ مُتَمَكِّنًا فَيَعُوا مَقَالَتَكَ، وَيَضَعُوهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا فَقَالَ: وَاللَّهِ لأَقُومَنَّ بِهَا فِي أَوَّلِ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، وَجَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ هَجَّرْتُ لِلْحَدِيثِ الَّذِي حَدَّثَنِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَوَجَدْتُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ قَدْ سَبَقَنِي بِالتَّهْجِيرِ، فَجَلَسْتُ إِلَى جَنْبِهِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، رُكْبَتِي إِلَى رُكْبَتِهِ، فَلَمَّا زَالَتِ الشَّمْسُ لَمْ يَلْبَثْ عُمَرُ أَنْ خَرَجَ، فَقُلْتُ لِسَعِيدٍ وَهُوَ مُقْبِلٌ: لَيَقُولَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ مَقَالَةً لَمْ تُقَلْ قَبْلَهُ فَغَضِبَ وَقَالَ: فَأَيُّ مَقَالَةٍ يَقُولُ لَمْ تُقَلْ قَبْلَهُ! فَلَمَّا جَلَسَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ، فَلَمَّا قَضَى الْمُؤَذِّنُ أَذَانَهُ قَامَ عُمَرُ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَقُولَ مَقَالَةً قَدْ قُدِّرَ أَنْ أَقُولَهَا، مَنْ وَعَاهَا وَعَقَلَهَا وَحَفِظَهَا، فَلْيُحَدِّثْ بِهَا حَيْثُ تَنْتَهِي بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَمَنْ لَمْ يَعِهَا فَإِنِّي لا أُحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيَّ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، وَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ آيَةَ الرَّجْمِ، فَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، وَإِنِّي قَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ، فَيَقُولُ قَائِلٌ: وَاللَّهِ مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، وَقَدْ كُنَّا نَقُولُ: لا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، فَإِنَّهُ كُفْرٌ

بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ ثُمَّ إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ قَائِلا مِنْكُمْ يَقُولُ: لَوْ قَدْ مَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بَايَعْتُ فُلانًا! فَلا يَغُرَّنَّ امْرَأً أَنْ يَقُولَ: إِنَّ بَيْعَةَ أَبِي بَكْرٍ كَانَتْ فَلْتَةً، فَقَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ وَقَى شَرَّهَا، وَلَيْسَ مِنْكُمْ مَنْ تُقْطَعُ إِلَيْهِ الأَعْنَاقُ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ! وَإِنَّهُ كَانَ من خبرنا حين توفى الله نبيه ص أَنَّ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وَمَنْ مَعَهُمَا تَخَلَّفُوا عَنَّا فِي بَيْتِ فَاطِمَةَ، وَتَخَلَّفَتْ عَنَّا الأَنْصَارُ بِأَسْرِهَا، وَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقُلْتُ لأَبِي بَكْرٍ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى إِخْوَانِنَا هَؤُلاءِ مِنَ الأَنْصَارِ، فَانْطَلَقْنَا نَؤُمُّهُمْ، فَلَقِيَنَا رَجُلانِ صَالِحَانِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا، فَقَالا: أَيْنَ تُرِيدُونَ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ؟ فَقُلْنَا: نُرِيدُ إِخْوَانَنَا هَؤُلاءِ مِنَ الأَنْصَارِ قَالا: فَارْجِعُوا فَاقْضُوا أَمْرَكُمْ بَيْنَكُمْ فَقُلْنَا: وَاللَّهِ لَنَأْتِيَنَّهُمْ، قَالَ: فَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ قَالَ: وَإِذَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ رَجُلٌ مُزَّمِّلٌ، قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقُلْتُ: مَا شَأْنُهُ؟ قَالُوا: وَجِعٌ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَنَحْنُ الأَنْصَارُ وَكَتِيبَةُ الإِسْلامِ، وَأَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ رَهْطُ نَبِيِّنَا، وَقَدْ دَفَّتْ إِلَيْنَا مِنْ قَوْمِكُمْ دَافَّةٌ قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْتَزِلُونَا مِنْ أَصْلِنَا، وَيَغْصِبُونَا الأَمْرَ وَقَدْ كُنْتُ زَوِرْتُ فِي نَفْسِي مَقَالَةً أُقَدِّمُهَا بَيْنَ يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ، وَقَدْ كُنْتُ أُدَارِي مِنْهُ بعض الحد، وَكَانَ هُوَ أَوْقَرَ مِنِّي وَأَحْلَمَ، فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، قَالَ: عَلَى رِسْلِكَ! فَكَرِهْتُ أَنْ أَعْصِيَهُ، فَقَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَمَا تَرَكَ شَيْئًا كُنْتُ زَوِرْتُ فِي نَفْسِي أَنْ أَتَكَلَّمَ بِهِ لَوْ تَكَلَّمْتُ، إِلا قَدْ جَاءَ بِهِ أَوْ بِأَحْسَنَ مِنْهُ. وَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، فَإِنَّكُمْ لا تَذْكُرُونَ مِنْكُمْ فَضْلا إِلا وَأَنْتُمْ لَهُ أَهْلٌ، وَإِنَّ الْعَرَبَ لا تَعْرِفُ هَذَا الأَمْرَ إِلا لِهَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ، وَهُمْ

أَوْسَطُ الْعَرَبِ دَارًا وَنَسَبًا، وَلَكِنْ قَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، فَبَايِعُوا أَيَّهُمَا شِئْتُمْ فَأَخَذَ بِيَدِي وَبِيَدِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ. وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا كَرِهْتُ مِنْ كَلامِهِ شَيْئًا غَيْرَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، إِنْ كُنْتُ لأُقَدَّمَ فَتُضْرَبَ عُنُقِي فِيمَا لا يُقَرِّبُنِي إِلَى إِثْمٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُؤَمَّرَ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ فَلَمَّا قَضَى أَبُو بَكْرٍ كَلامَهُ، قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّكُ، وَعُذَيْقُهَا الْمُرَجَّبُ، مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ. قَالَ: فَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ، وَكَثُرَ اللَّغَطُ، فَلَمَّا أَشْفَقْتُ الاخْتِلافَ، قُلْتُ لأَبِي بَكْرٍ: ابْسُطْ يَدَكَ أُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعْتُهُ وَبَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ، وَبَايَعَهُ الأَنْصَارُ ثُمَّ نَزَوْنَا عَلَى سَعْدٍ، حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: قَتَلْتُمْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فَقُلْتُ: قَتَلَ اللَّهُ سَعْدًا! وَإِنَّا وَاللَّهِ مَا وَجَدْنَا أَمْرًا هُوَ أَقْوَى مِنْ مُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ، خَشِينَا إِنْ فَارَقَنَا الْقَوْمُ وَلَمْ تَكُنْ بَيْعَةٌ أَنْ يُحْدِثُوا بَعْدَنَا بَيْعَةً، فَإِمَّا أَنْ نُتَابِعَهُمْ عَلَى مَا نَرْضَى، أَوْ نُخَالِفَهُمْ فَيَكُونَ فَسَادٌ حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: إِنَّ أَحَدَ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ لَقَوْا مِنَ الأَنْصَارِ حِينَ ذَهَبُوا إِلَى السَّقِيفَةِ، عُوَيْمُ بْن سَاعِدَةَ وَالآخَرَ مَعْنُ بْنُ عَدِيِّ، أَخُو بَنِي الْعَجَلانِ، فَأَمَّا عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ فَهُوَ الَّذِي بَلَغَنَا أَنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ ص

: [مَنِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ لَهُمْ: «فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ» ؟ فقال رسول الله ص: نِعْمَ الْمَرْءُ مِنْهُمْ عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ!] وَأَمَّا مَعْنٌ فَبَلَغَنَا أَنَّ النَّاسَ بَكَوْا عَلَى رَسُولِ الله ص حِينَ تَوَفَّاهُ اللَّهُ، وَقَالُوا: وَاللَّهِ لَوَدَدْنَا أَنَّا مِتْنَا قَبْلَهُ، إِنَّا نَخْشَى أَنْ نُفْتَتَنَ بَعْدَهُ فَقَالَ مَعْنُ بْنُ عَدِيٍّ: وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنِّي مِتُّ قَبْلَهُ حَتَّى أُصَدِّقَهُ مَيِّتًا كَمَا صَدَّقْتُهُ حَيًّا فَقُتِلَ مَعْنٌ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شَهِيدًا فِي خِلافَةِ أَبِي بَكْرٍ يَوْمَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ. حدثنا عبيد الله بن سعيد الزُّهْرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمِّي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ظَبْيَةَ الْبَجَلِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ جُمَيْعٍ الزُّهْرِيُّ، قَالَ: قال عمرو بن حريث لسعيد ابن زيد: اشهدت وفاه رسول الله ص؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَتَى بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ؟ قال: يوم مات رسول الله ص كَرِهُوا أَنْ يَبْقَوْا بَعْضَ يَوْمٍ وَلَيْسُوا فِي جَمَاعَةٍ قَالَ: فَخَالَفَ عَلَيْهِ أَحَدٌ؟ قَالَ: لا إِلا مُرْتَدٌّ أَوْ مَنْ قَدْ كَادَ أَنْ يَرْتَدَّ، لَوْلا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنْقِذُهُمْ مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ: فَهَلْ قَعَدَ أَحَدٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ؟ قَالَ: لا، تَتَابَعَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى بَيْعَتِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْعُوَهُمْ. حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمِّي، قَالَ: أَخْبَرَنِي سيف، عن عبد العزيز بن سياه، عن حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ فِي بَيْتِهِ إِذْ أُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: قَدْ جَلَسَ أَبُو بَكْرٍ لِلْبَيْعَةِ، فَخَرَجَ فِي قَمِيصٍ مَا عَلَيْهِ إِزَارٌ وَلا رِدَاءٌ، عَجِلا، كَرَاهِيَةَ أَنْ يُبْطِئَ عَنْهَا، حَتَّى بَايَعَهُ ثُمَّ جَلَسَ إِلَيْهِ وَبَعَثَ إِلَى ثَوْبِهِ فَأَتَاهُ فَتَجَلَّلَهُ، وَلَزِمَ مَجْلِسَهُ. حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ الضِّرَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ فَاطِمَةَ والعباس أتيا

أَبَا بَكْرٍ يَطْلُبَانِ مِيرَاثَهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص، وَهُمَا حِينَئِذٍ يَطْلُبَانِ أَرْضَهُ مِنْ فَدَكٍ، وَسَهْمَهُ مِنْ خَيْبَرَ، فَقَالَ لَهُمَا أَبُو بَكْرٍ: أَمَا انى سمعت رسول الله يَقُولُ: [لا نُوَرَّثُ، مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ فِي هَذَا الْمَالِ] وَإِنِّي وَاللَّهِ لا أَدَعُ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ الله يَصْنَعُهُ إِلا صَنَعْتُهُ قَالَ: فَهَجَرَتْهُ فَاطِمَةُ فَلَمْ تُكَلِّمْهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى مَاتَتْ، فَدَفَنَهَا عَلِيٌّ لَيْلا، وَلَمْ يُؤْذِنْ بِهَا أَبَا بَكْرٍ وَكَانَ لِعَلِيٍّ وَجْهٌ مِنَ النَّاسِ حَيَاةَ فَاطِمَةَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ فَاطِمَةُ انْصَرَفَتْ وُجُوهُ النَّاسِ عَنْ عَلِيٍّ، فَمَكَثَتْ فَاطِمَةُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ص، ثُمَّ تُوُفِّيَتْ. قَالَ مَعْمَرٌ: فَقَالَ رَجُلٌ لِلزُّهْرِيِّ: أَفَلَمْ يُبَايِعْهُ عَلِيٌّ سِتَّةَ أَشْهُرٍ! قَالَ: لا، وَلا أَحَدٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، حَتَّى بَايَعَهُ عَلِيٌّ فَلَمَّا رَأَى عَلِيٌّ انْصِرَافَ وُجُوهِ النَّاسِ عَنْهُ ضَرَعَ إِلَى مُصَالَحَةِ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ: أَنِ ائْتِنَا وَلا يَأْتِنَا مَعَكَ أَحَدٌ، وَكَرِهَ أَنْ يَأْتِيَهُ عُمَرُ لِمَا عَلِمَ مِنْ شِدَّةِ عُمَرَ، فَقَالَ عُمَرُ: لا تأتهم وحدك، قال ابو بكر: ولله لآتِيَنَّهُمْ وَحْدِي، وَمَا عَسَى أَنْ يَصْنَعُوا بِي! قَالَ: فَانْطَلَقَ أَبُو بَكْرٍ، فَدَخَلَ عَلَى عَلِيٍّ، وَقَدْ جَمَعَ بَنِي هَاشِمٍ عِنْدَهُ، فَقَامَ عَلِيٌّ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنَا مِنْ أَنْ نُبَايِعَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ إِنْكَارٌ لِفَضِيلَتِكَ، وَلا نَفَاسَةٌ عَلَيْكَ بِخَيْرٍ سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكَ، وَلَكِنَّا كُنَّا نَرَى أَنَّ لَنَا فِي هَذَا الأَمْرِ حَقًّا، فَاسْتَبَدَدْتُمْ بِهِ عَلَيْنَا. ثُمَّ ذكر قرابته من رسول الله ص وَحَقَّهُمْ فَلَمْ يَزَلْ عَلِيٌّ يَقُولُ ذَلِكَ حَتَّى بَكَى أَبُو بَكْرٍ. فَلَمَّا صَمَتَ عَلِيٌّ تَشَهَّدَ أَبُو بَكْرٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثم قال: اما بعد، فو الله لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَلَوْتُ فِي هَذِهِ الأَمْوَالِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ غَيْرَ الخير، ولكنى سمعت رسول الله يَقُولُ: [لا نُوَرَّثُ، مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ فِي هَذَا الْمَالِ،] وَإِنِّي أَعُوذُ بِاللَّهِ لا أَذْكُرُ أَمْرًا صَنَعَهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ إِلا صَنَعْتُهُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: مَوْعِدُكَ الْعَشِيَّةَ لِلْبَيْعَةِ، فَلَمَّا صَلَّى أَبُو بَكْرٍ الظُّهْرَ أَقْبَلَ

عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ عَذَرَ عَلِيًّا بِبَعْضِ مَا اعْتَذَرَ، ثُمَّ قَامَ عَلِيٌّ فَعَظَّمَ مِنْ حَقِّ أَبِي بَكْرٍ، وَذَكَرَ فَضِيلَتَهُ وَسَابِقَتَهُ، ثُمَّ مَضَى إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَبَايَعَهُ قَالَتْ: فَأَقْبَلَ النَّاسُ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالُوا: أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ، قَالَتْ: فَكَانَ النَّاسُ قَرِيبًا إِلَى عَلِيٍّ حِينَ قَارَبَ الْحَقَّ وَالْمَعْرُوفَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَفْوَانَ الثَّقَفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مالك- يعنى ابن مغول- عن ابن الحر، قَالَ: قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِعَلِيٍّ: مَا بَالُ هَذَا الأَمْرِ فِي أَقَلِّ حَيٍّ مِنْ قُرَيْشٍ! وَاللَّهِ لَئِنْ شِئْتَ لأَمْلأَنَّهَا عَلَيْهِ خَيْلا وَرِجَالا! قَالَ: [فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، طَالَمَا عَادَيْتَ الإِسْلامَ وَأَهْلَهُ فَلَمْ تَضُرَّهُ بِذَاكَ شَيْئًا! إِنَّا وَجَدْنَا أَبَا بَكْرٍ لَهَا أَهْلا] . حدثني محمد بْن عثمان الثقفي، قَالَ: حَدَّثَنَا أمية بْن خالد، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، قَالَ: لما استخلف أبو بكر قال ابو سفيان: ما لنا ولأبي فصيل، إنما هي بنو عبد مناف! قَالَ: فقيل لَهُ: إنه قد ولى ابنك، قَالَ: وصلته رحم! حُدِّثْتُ عَنْ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَوَانَةُ، قَالَ: لَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ، أَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ، وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَرَى عَجَاجَةً لا يُطْفِئُهَا إِلا دَمٌ! يَا آلَ عَبْدِ مَنَافٍ فِيمَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ أُمُورِكُمْ! أَيْنَ الْمُسْتَضْعَفَانِ! أَيْنَ الأَذَلانِ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ! [وَقَالَ: أَبَا حَسَنٍ! ابْسُطْ يَدَكَ حَتَّى أُبَايِعَكَ. فَأَبَى عَلِيٌّ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ يَتَمَثَّلُ بِشِعْرِ الْمُتَلَمِّسِ: وَلَنْ يُقِيمَ عَلَى خَسْفٍ يُرَادُ بِهِ ... إِلا الأَذَلانِ عِيرُ الْحَيِّ وَالْوَتَدُ هَذَا عَلَى الْخَسْفِ مَعْكُوسٌ بِرُمَّتِهِ ... وَذَا يُشَجُّ فَلا يَبْكِي لَهُ أَحَدُ قَالَ: فَزَجَرَهُ عَلِيٌّ، وَقَالَ: إِنَّكَ وَاللَّهِ مَا أَرَدْتَ بِهَذَا إِلا الْفِتْنَةَ، وَإِنَّكَ وَاللَّهِ طَالَمَا بَغَيْتَ الإِسْلامَ شَرًّا! لا حَاجَةَ لَنَا فِي نَصِيحَتِكَ]

قَالَ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ، قَالَ: لَمَّا بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِعَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ: أَنْتُمَا الأَذَلانِ! ثُمَّ أَنْشَدَ يَتَمَثَّلُ: إِنَّ الْهَوَانَ حِمَارُ الأَهْلِ يَعْرِفُهُ ... وَالْحُرُّ يُنْكِرُهُ وَالرُّسْلَةُ الأَجَدُ وَلا يُقِيمُ عَلَى ضَيْمٍ يُرَادُ بِهِ ... إِلا الأَذَلانِ عِيرُ الْحَيِّ وَالْوَتَدُ هَذَا عَلَى الْخَسْفِ مَعْكُوسٌ بِرُمَّتِهِ ... وَذَا يُشَجُّ فَلا يَبْكِي لَهُ أَحَدُ حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ فِي السَّقِيفَةِ، وَكَانَ الْغَدُ، جَلَسَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَامَ عُمَرُ فَتَكَلَّمَ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ كُنْتُ قُلْتُ لَكُمْ بِالأَمْسِ مَقَالَةً مَا كَانَتْ إِلا عَنْ رَأْيِي، وَمَا وَجَدْتُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلا كَانَتْ عَهْدًا عَهِدَهُ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ص، وَلَكِنِّي قَدْ كُنْتُ أَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ سَيُدبِرُ أَمْرَنَا، حَتَّى يَكُونَ آخِرَنَا، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْقَى فِيكُمْ كِتَابَهُ الَّذِي هَدَى بِهِ رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ هَدَاكُمُ اللَّهُ لِمَا كَانَ هَدَاهُ لَهُ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَمَعَ أَمْرَكُمْ عَلَى خَيْرِكُمْ، صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ، وثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ، فَقُومُوا فَبَايِعُوا فَبَايَعَ النَّاسُ أَبَا بَكْرٍ بَيْعَةَ الْعَامَّةِ بَعْدَ بَيْعَةِ السَّقِيفَةِ. ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنِّي قَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُونِي الصِّدْقُ أَمَانَةٌ، وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ، وَالضَّعِيفُ فِيكُمْ قَوِيٌّ عِنْدِي حَتَّى أُرِيحَ عَلَيْهِ حَقَّهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالْقَوِيُّ مِنْكُمُ الضَّعِيفُ عِنْدِي حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لا يَدَعُ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لا يَدَعُهُ قَوْمٌ إِلا ضَرَبَهُمُ اللَّهُ بِالذُّلِّ، وَلا تَشِيعُ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ إِلا عَمَّهُمُ اللَّهُ بِالْبَلاءِ أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِذَا عَصَيْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ قُومُوا إِلَى صَلاتِكُمْ رَحِمَكُمُ اللَّهُ!

ذكر جهاز رسول الله ص ودفنه

حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَمْشِي مَعَ عُمَرَ فِي خِلافَتِهِ، وَهُوَ عَامِدٌ إِلَى حَاجَةٍ لَهُ، وَفِي يَدِهِ الدِّرَّةُ، وَمَا مَعَهُ غَيْرِي. قَالَ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ، وَيَضْرِبُ وَحْشِيَّ قَدَمَهُ بِدِرَّتِهِ، قَالَ إِذِ التفت الى فقال: يا بن عَبَّاسٍ، هَلْ تَدْرِي مَا حَمَلَنِي عَلَى مَقَالَتِي هَذِهِ الَّتِي قُلْتُ حِينَ تَوَفَّى اللَّهُ رَسُولَهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لا أَدْرِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْتَ أَعْلَمُ، قَالَ: وَاللَّهِ إِنْ حَمَلَنِي عَلَى ذَلِكَ إِلا أَنِّي كُنْتُ أَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ: «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» ، فو الله إِنِّي كُنْتُ لأَظُنُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ سَيَبْقَى فِي أُمَّتِهِ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَيْهَا بِآخِرِ أَعْمَالِهَا، فَإِنَّهُ لَلَّذِي حَمَلَنِي عَلَى أَنْ قُلْتُ مَا قلت ذكر جهاز رسول الله ص ودفنه قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَلَمَّا بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ اقبل الناس على جهاز رسول الله ص، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ يَوْمَ الثلاثاء، وذلك الغد من وفاته ص. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا دُفِنَ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِثَلاثَةِ أَيَّامٍ، وَقَدْ مَضَى ذِكْرُ بَعْضِ قَائِلِي ذَلِكَ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أَبِي بَكْرٍ وَكَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِهِ، عَمَّنْ يُحَدِّثُهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ والعباس بن عبد المطلب والفضل ابن الْعَبَّاسِ وَقُثَمَ بْنَ الْعَبَّاسِ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وشقران مولى رسول الله ص هم الذين ولو غُسْلَهُ، وَإِنَّ أَوْسَ بْنَ خَوْلِيٍّ أَحَدَ بَنِي عوف ابن الْخَزْرَجِ، قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَنْشُدُكَ الله يا علي، وحظنا من رسول

اللَّهِ! وَكَانَ أَوْسٌ مِنْ أَصْحَابِ بَدْرٍ، وَقَالَ: ادخل، فدخل فحضر غسل رسول الله ص، فَأَسْنَدَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَى صَدْرِهِ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ وَالْفَضْلُ وَقُثَمُ هُمُ الَّذِينَ يَقْلِبُونَهُ مَعَهُ، وَكَانَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَشُقْرَانُ مَوْلِيَاهُ هُمَا اللَّذَانِ يَصُبَّانِ الْمَاءَ، وَعَلِيٌّ يَغْسِلُهُ قَدْ أَسْنَدَهُ إِلَى صَدْرِهِ، وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ يُدْلِكُهُ مِنْ وَرَائِهِ، لا يُفْضِي بِيَدِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ص وَعَلِيٌّ يَقُولُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! مَا أَطْيَبَكَ حَيًّا وَمَيِّتًا! وَلَمْ يُرَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ شَيْءٌ مِمَّا يُرَى مِنَ الْمَيِّتِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يحيى ابن عَبَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ عَبَّادٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لما أرادوا ان يغسلوا النبي ص اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَدْرِي أَنُجَرِّدُ رَسُولَ اللَّهِ مِنْ ثِيَابِهِ كَمَا نُجَرِّدُ مَوْتَانَا، أَوْ نَغْسِلُهُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ! فَلَمَّا اخْتَلَفُوا أُلْقِيَ عَلَيْهِمُ السِّنَةُ حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلا وَذَقْنُهُ فِي صَدْرِهِ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ مُتَكَلِّمٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ لا يُدْرَى مَنْ هُوَ: أَنِ اغْسِلُوا النَّبِيَّ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ، قَالَتْ: فَقَامُوا إِلَى رسول الله ص فَغَسَّلُوهُ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ يَصُبُّونَ عَلَيْهِ الْمَاءَ فَوْقَ الْقَمِيصِ، وَيُدَلِّكُونَهُ وَالْقَمِيصُ دُونَ أَيْدِيهِمْ. قَالَ: فَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا غَسَّلَهُ إِلا نِسَاؤُهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن جعفر ابن مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، [عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، قَالَ: فَلَمَّا فُرِغَ مِنْ غَسْلِ رَسُولِ اللَّهِ ص كُفِّنَ فِي ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ: ثَوْبَيْنِ صَحَارِيَّيْنِ وَبُرْدٍ حبَرَةٍ، أُدْرِجَ فِيهَا إِدْرَاجًا]

حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا أَرَادُوا ان يحفروا لرسول الله ص- وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ يَضْرَحُ كَحَفْرِ اهل مكة، وكان ابو طلحه زيد ابن سَهْلٍ هُوَ الَّذِي يَحْفِرُ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ يَلْحَدُ- فَدَعَا الْعَبَّاسُ رَجُلَيْنِ، فَقَالَ لأَحَدِهِمَا: اذْهَبْ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ، وَلِلآخَرِ: اذْهَبْ إِلَى أَبِي طَلْحَةَ، اللَّهُمَّ خِرْ لِرَسُولِكَ، قَالَ: فَوَجَدَ صَاحِبُ أَبِي طَلْحَةَ أَبَا طَلْحَةَ فَجَاءَ بِهِ فَلَحَدَ لرسول الله ص فلما فرغ من جهاز رسول الله يَوْمَ الثُّلاثَاءِ وُضِعَ عَلَى سَرِيرِهِ فِي بَيْتِهِ، وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ اخْتَلَفُوا فِي دَفْنِهِ، فَقَالَ قَائِلٌ: نَدْفِنُهُ فِي مَسْجِدِهِ، وَقَالَ قَائِلٌ: يُدْفَنُ مَعَ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنِّي سَمِعْتُ رسول الله ص يَقُولُ: [مَا قُبِضَ نَبِيٌّ إِلا يُدْفَنُ حَيْثُ قُبِضَ،] فَرُفِعَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ الَّذِي تُوُفِّيَ عَلَيْهِ، فَحُفِرَ لَهُ تَحْتَهُ، وَدَخَلَ النَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ أَرْسَالا، حَتَّى إِذَا فَرَغَ الرِّجَالُ أُدْخِلَ النِّسَاءُ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ النِّسَاءُ أُدْخِلَ الصِّبْيَانُ، ثُمَّ أُدْخِلَ الْعَبِيدُ، وَلَمْ يؤم الناس على رسول الله ص احد، ثم دفن رسول الله ص مِنْ وَسَطِ اللَّيْلِ لَيْلَةَ الأَرْبِعَاءِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إِسْحَاقَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَارَةَ، امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ- يَعْنِي ابْنَ أَبِي بَكْرٍ- عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتْ: ما علمنا بدفن رسول الله ص حَتَّى سَمِعْنَا صَوْتَ الْمَسَاحِي مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ لَيْلَةَ الأَرْبِعَاءِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ الَّذِي نزل قبر رسول الله ص عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ وَقُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ وَشَقْرَانُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ ص، وَقَدْ قَالَ أَوْسُ بْنُ خَوْلِيٍّ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا عَلِيُّ وَحَظُّنَا

مِنْ رَسُولِ اللَّهِ! فَقَالَ لَهُ: انْزِلْ، فَنَزَلَ مَعَ الْقَوْمِ، وَقَدْ كَانَ شَقْرَانُ مَوْلَى رَسُولِ الله حين وضع رسول الله ص فِي حُفْرَتِهِ، وَبُنِيَ عَلَيْهِ، قَدْ أَخَذَ قَطِيفَةً كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَلْبَسُهَا وَيَفْتَرِشُهَا، فَقَذَفَهَا فِي الْقَبْرِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لا يَلْبَسُهَا أَحَدٌ بَعْدَكَ ابدا قال: فدفنت مع رسول الله ص. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ يَدَّعِي أَنَّهُ أَحْدَثُ النَّاسِ عَهْدًا بِرَسُولِ اللَّهِ ص، وَيَقُولُ: أَخَذْتُ خَاتَمِي فَأَلْقَيْتُهُ فِي الْقَبْرِ، وَقُلْتُ: إِنَّ خَاتَمِي قَدْ سَقَطَ، وَإِنَّمَا طَرَحْتُهُ عَمْدًا لامس رسول الله، فَأَكُونَ آخِرَ النَّاسِ بِهِ عَهْدًا حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ محمد بن إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ مِقْسَمٍ أَبِي الْقَاسِمِ، مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الحارث ابن نَوْفَلٍ، عَنْ مَوْلاهُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: اعْتَمَرْتُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي زَمَانِ عُمَرَ- أَوْ زَمَانِ عُثْمَانَ- فَنَزَلَ عَلَى أُخْتِهِ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ رَجَعَ وَسَكَبَتْ لَهُ غُسْلا فَاغْتَسَلَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ [دَخَلَ عَلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَقَالُوا، يَا أَبَا الْحَسَنِ، جِئْنَا نَسْأَلُكَ عَنْ أَمْرٍ نُحِبُّ أَنْ تُخْبِرَنَا بِهِ! فَقَالَ: أَظُنُّ الْمُغِيرَةَ يُحَدِّثُكُمْ أَنَّهُ كَانَ أَحْدَثَ النَّاسِ عَهْدًا بِرَسُولِ اللَّهِ ص! قَالُوا: أَجَلْ، عَنْ ذَا جِئْنَا نَسْأَلُكَ! قَالَ: كَذَبَ، كَانَ أَحْدَثَ النَّاسِ عَهْدًا بِرَسُولِ اللَّهِ قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ] . حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ صَالِحِ ابن كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ عَلَى رسول الله ص خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ حِينَ اشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ، قَالَتْ: فَهُوَ يَضَعُهَا مَرَّةً عَلَى وَجْهِهِ، وَمَرَّةً يَكْشِفُهَا عَنْهُ، [وَيَقُولُ قَاتَلَ اللَّهُ قَوْمًا اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ! يُحَذِّرُ ذَلِكَ عَلَى أُمَّتِهِ] . حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن صالح

ابن كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: [كان آخر ما عهد رسول الله ص أَنَّهُ قَالَ: لا يُتْرَكُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ] . قالت: وتوفى رسول الله ص لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، فِي الْيَوْمِ الَّذِي قَدِمَ فِيهِ الْمَدِينَةَ مُهَاجِرًا فَاسْتَكْمَلَ فِي هِجْرَتِهِ عَشْرَ سِنِينَ كَوَامِلَ. واختلف في مبلغ سنه يوم توفى ص، فَقَالَ بعضهم: كان لَهُ يومئذ ثلاث وستون سنة. ذكر من قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ- يَعْنِي ابْنَ سَلَمَةَ- عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَقَامَ رَسُولُ الله ص بِمَكَّةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُوحَى إِلَيْهِ، وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عن ابيه، قال: عاش رسول الله ص ثَلاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، يَقُولُ: أُنْزِلَ عَلَى رسول الله ص وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرًا، وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا، وَتُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ الْعَسْقَلانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ الضُّبَعِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:

بعث رسول الله ص لأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ يُوحَى إِلَيْهِ، وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عن عائشة، قالت: توفى رسول الله ص وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ. وقال آخرون: كان لَهُ يومئذ خمس وستون. ذكر من قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قبض النبي ص وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ دَغْفَلٍ- يعنى ابن حنظله- ان النبي ص تُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً. وقال آخرون: بل كان لَهُ يومئذ ستون سنة. ذكر من قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: بُعِثَ رسول الله ص وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ سِتِّينَ. حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شَيْبَانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي عائشة وابن عباس، ان رسول الله ص لَبِثَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وبالمدينة عشرا

ذكر الخبر عن اليوم والشهر اللذين توفى فيهما رسول الله ص

ذكر الخبر عن اليوم والشهر اللذين توفي فيهما رسول الله ص قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْوَلِيدِ الْجُرْجَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي طَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عن ابن عمر، ان النبي ص اسْتَعَمَلَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ سَنَةَ تِسْعٍ، فَأَرَاهُمْ مَنَاسِكَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَجَّ رسول الله ص حَجَّةَ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ، وَصَدَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقُبِضَ فِي رَبِيعٍ الأَوَّلِ. حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وُلِدَ النبي ص يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَاسْتُنْبِئَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَرَفَعَ الْحَجَرَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَخَرَجَ مُهَاجِرًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَقُبِضَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شَرِيكٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ محمد ابن عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: تُوُفِّيَ رسول الله ص فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَدُفِنَ لَيْلَةَ الأَرْبِعَاءِ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ لامْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ: حَدِّثِي مُحَمَّدًا مَا سَمِعْتِ مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. فَقَالَتْ: سَمِعْتُ عَمْرَةَ تَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: دُفِنَ نبى الله ص لَيْلَةَ الأَرْبِعَاءِ، وَمَا عَلِمْنَا بِهِ حَتَّى سَمِعْنَا صوت المساحى

ذكر الخبر عما جرى بين المهاجرين والانصار في امر الإمارة في سقيفه بنى ساعده

ذكر الخبر عما جرى بين المهاجرين والأنصار فِي أمر الإمارة فِي سقيفة بني ساعدة حَدَّثَنَا هشام بْن مُحَمَّد، عن أبي مخنف، قال: حدثنى عبد الله ابن عبد الرحمن بْن أبي عمرة الأنصاري، أن النبي ص لما قبض اجتمعت الأنصار فِي سقيفة بني ساعدة، فقالوا: نولي هذا الأمر بعد محمد ع سعد بْن عبادة، وأخرجوا سعدا إِلَيْهِم وهو مريض، فلما اجتمعوا قَالَ لابنه أو بعض بني عمه: إني لا أقدر لشكواي أن أسمع القوم كلهم كلامي، ولكن تلق مني قولي فأسمعهموه، فكان يتكلم ويحفظ الرجل قوله، فيرفع صوته فيسمع أصحابه، فَقَالَ بعد أن حمد الله وأثنى عَلَيْهِ: يا معشر الأنصار، لكم سابقة فِي الدين وفضيلة فِي الإسلام ليست لقبيله من العرب، ان محمدا ع لبث بضع عشرة سنة فِي قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأنداد والأوثان، فما آمن به من قومه إلا رجال قليل، وَكَانَ ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رَسُول اللَّهِ، ولا أن يعزوا دينه، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيما عموا به، حَتَّى إذا أراد بكم الفضيلة، ساق إليكم الكرامة وخصكم بالنعمة، فرزقكم اللَّه الإيمان به وبرسوله، والمنع لَهُ ولأصحابه، والإعزاز لَهُ ولدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشد الناس على عدوه منكم، وأثقله على عدوه من غيركم، حَتَّى استقامت العرب لأمر الله طوعا وكرها، وأعطى البعيد المقادة صاغرا داخرا، حَتَّى أثخن الله عز وجل لرسوله بكم الأرض، ودانت بأسيافكم لَهُ العرب، وتوفاه اللَّه وهو عنكم راض، وبكم قرير عين استبدوا بهذا الأمر فإنه لكم دون الناس. فأجابوه بأجمعهم: أن قد وفقت فِي الرأي وأصبت فِي القول، ولن نعدو ما رأيت، ونوليك هذا الأمر، فإنك فينا مقنع ولصالح المؤمنين رضا ثُمَّ إنهم ترادوا الكلام بينهم، فقالوا: فإن أبت مهاجرة قريش، فقالوا: نحن المهاجرون وصحابة رَسُول اللَّهِ الأولون، ونحن عشيرته وأولياؤه، فعلام تنازعوننا هذا الأمر بعده! فقالت طائفة منهم: فإنا نقول إذا: منا أمير

ومنكم أمير، ولن نرضى بدون هذا الأمر أبدا فَقَالَ سعد بْن عبادة حين سمعها: هذا أول الوهن! وأتى عمر الخبر، فأقبل الى منزل النبي ص، فأرسل إلى أبي بكر وأبو بكر فِي الدار وعلى بن ابى طالب ع دائب في جهاز رسول الله ص، فأرسل إلى أبي بكر أن اخرج إلي، فأرسل إليه: إني مشتغل، فأرسل إليه أنه قد حدث أمر لا بد لك من حضوره، فخرج إليه، فَقَالَ: أما علمت أن الأنصار قد اجتمعت فِي سقيفة بني ساعدة، يريدون أن يولوا هذا الأمر سعد بْن عبادة، وأحسنهم مقالة من يقول: منا أمير ومن قريش أمير! فمضيا مسرعين نحوهم، فلقيا أبا عبيدة بْن الجراح، فتماشوا إِلَيْهِم ثلاثتهم، فلقيهم عاصم بْن عدي وعويم بْن ساعدة، فقالا لهم: ارجعوا فإنه لا يكون ما تريدون، فقالوا: لا نفعل، فجاءوا وهم مجتمعون فَقَالَ عمر بْن الْخَطَّاب: أتيناهم- وقد كنت زورت كلاما أردت أن أقوم به فيهم- فلما أن دفعت إِلَيْهِم ذهبت لأبتدئ المنطق، فَقَالَ لي أبو بكر: رويدا حَتَّى أتكلم ثُمَّ انطق بعد بما أحببت فنطق، فَقَالَ عمر: فما شيء كنت أردت أن أقوله إلا وقد أتى به أو زاد عليه. فَقَالَ عبد الله بْن عبد الرحمن: فبدأ أبو بكر، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إن اللَّه بعث محمدا رسولا إلى خلقه، وشهيدا على أمته، ليعبدوا اللَّه ويوحدوه وهم يعبدون من دونه آلهة شتى، ويزعمون أنها لهم عنده شافعة، ولهم نافعة، وإنما هي من حجر منحوت، وخشب منجور، ثُمَّ قرأ: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» ، وقالوا: «مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» ، فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم، فخص اللَّه المهاجرين الأولين من

قومه بتصديقه، والإيمان به، والمؤاساة لَهُ، والصبر معه على شدة أذى قومهم لهم، وتكذيبهم إياهم، وكل الناس لهم مخالف، زار عليهم، فلم يستوحشوا لقلة عددهم وشنف الناس لهم، وإجماع قومهم عليهم، فهم أول من عبد الله فِي الأرض وآمن بالله وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحق الناس بهذا الأمر من بعده، ولا ينازعهم ذَلِكَ إلا ظالم، وأنتم يا معشر الأنصار، من لا ينكر فضلهم في الدين، ولا سابقتهم العظيمه في الاسلام، رضيكم الله أنصارا لدينه ورسوله، وجعل إليكم هجرته، وفيكم جلة أزواجه وأصحابه، فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا احد بمنزلتكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تفتاتون بمشورة، ولا نقضي دونكم الأمور. قَالَ: فقام الحباب بْن المنذر بْن الجموح، فَقَالَ: يا معشر الأنصار، املكوا عليكم أمركم، فإن الناس فِي فيئكم وفي ظلكم، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم، ولن يصدر الناس إلا عن رأيكم، أنتم أهل العز والثروة، وأولو العدد والمنعة والتجربة، ذوو البأس والنجدة، وإنما ينظر الناس إلى ما تصنعون، ولا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم، وينتقض عليكم أمركم، فإن أبى هؤلاء إلا ما سمعتم، فمنا أمير ومنهم أمير. فَقَالَ عمر: هيهات لا يجتمع اثنان فِي قرن! والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمورهم منهم، ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين، من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته، ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل، أو متجانف لاثم، ومتورط فِي هلكة! فقام الحباب بْن المنذر فَقَالَ: يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتموه، فاجلوهم عن هذه البلاد، وتولوا عليهم هذه الأمور، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم، فانه بأسيافكم دان لهذا الذين من دان ممن لم يكن يدين أنا جذيلها

المحكك، وعذيقها المرجب! أما واللَّه لئن شئتم لنعيدنها جذعة، فَقَالَ عمر: إذا يقتلك الله! قَالَ: بل إياك يقتل! فَقَالَ أبو عبيدة: يا معشر الأنصار، إنكم أول من نصر وآزر، فلا تكونوا أول من بدل وغير. فقام بشير بْن سعد أبو النعمان بْن بشير فَقَالَ: يا معشر الأنصار، إنا والله لئن كنا أولي فضيلة فِي جهاد المشركين، وسابقة فِي هذا الدين، ما أردنا به إلا رضا ربنا وطاعة نبينا، والكدح لأنفسنا، فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك، ولا نبتغي به من الدنيا عرضا، فإن الله ولي المنة علينا بذلك، ألا ان محمدا ص من قريش، وقومه أحق به وأولى وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبدا، فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم! فَقَالَ أبو بكر: هذا عمر، وهذا أبو عبيدة، فأيهما شئتم فبايعوا فقالا: لا والله لا نتولى هذا الأمر عليك، فإنك أفضل المهاجرين وثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ، وخليفة رَسُول اللَّهِ على الصلاة، والصلاة أفضل دين الْمُسْلِمين، فمن ذا ينبغي لَهُ أن يتقدمك أو يتولى هذا الأمر عليك! ابسط يدك نبايعك. فلما ذهبا ليبايعاه، سبقهما إليه بشير بن سعد، فبايعه، فناداه الحباب ابن المنذر: يا بشير بن سعد: عقتك عقاق، ما أحوجك إلى ما صنعت، أنفست على ابن عمك الإمارة! فَقَالَ: لا والله، ولكني كرهت أن أنازع قوما حقا جعله اللَّه لهم. ولما رأت الأوس ما صنع بشير بْن سعد، وما تدعو إليه قريش، وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بْن عباده، قال بعضهم لبعض، وفيهم اسيد ابن حضير- وَكَانَ أحد النقباء: والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة، ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيبا أبدا، فقوموا فبايعوا

أبا بكر فقاموا إليه فبايعوه، فانكسر على سعد بْن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعوا لَهُ من أمرهم. قَالَ هشام: قَالَ أبو مخنف: فحدثني أبو بكر بْن محمد الخزاعي، أن أسلم أقبلت بجماعتها حَتَّى تضايق بهم السكك، فبايعوا أبا بكر، فكان عمر يقول: ما هو إلا أن رأيت أسلم، فأيقنت بالنصر. قَالَ هِشَام، عن أبي مخنف: قَالَ عَبْد اللَّه بْن عبد الرحمن: فأقبل الناس من كل جانب يبايعون أبا بكر، وكادوا يطئون سعد بْن عبادة، فَقَالَ ناس من أصحاب سعد: اتقوا سعدا لا تطئوه، فَقَالَ عمر: اقتلوه قتله اللَّه! ثُمَّ قام على رأسه، فَقَالَ: لقد هممت أن أطأك حَتَّى تندر عضدك، فأخذ سعد بلحية عمر، فَقَالَ: والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة، فَقَالَ أبو بكر: مهلا يا عمر! الرفق هاهنا أبلغ فأعرض عنه عمر وقال سعد: أما والله لو أن بي قوة ما، أقوى على النهوض، لسمعت مني فِي أقطارها وسككها زئيرا يجحرك وأصحابك، أما والله إذا لألحقنك بقوم كنت فيهم تابعا غير متبوع! احملوني من هذا المكان، فحملوه فأدخلوه فِي داره، وترك أياما ثُمَّ بعث إليه أن أقبل فبايع فقد بايع الناس وبايع قومك، فَقَالَ: أما والله حَتَّى أرميكم بما فِي كنانتي من نبلي، وأخضب سنان رمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي، فلا أفعل، وايم الله لو أن الجن اجتمعت لكم مَعَ الإنس ما بايعتكم، حَتَّى أعرض على ربي، وأعلم ما حسابي. فلما أتى أبو بكر بذلك قَالَ لَهُ عمر: لا تدعه حَتَّى يبايع فَقَالَ لَهُ بشير بْن سعد: إنه قد لج وأبى، وليس بمبايعكم حَتَّى يقتل، وليس بمقتول حَتَّى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته، فاتركوه فليس تركه بضاركم، إنما هو رجل واحد فتركوه وقبلوا مشورة بشير بْن سعد واستنصحوه لما بدا لهم منه،

ذكر امر ابى بكر في أول خلافته

فكان سعد لا يصلي بصلاتهم، ولا يجمع معهم ويحج ولا يفيض معهم بإفاضتهم، فلم يزل كذلك حَتَّى هلك أبو بكر رحمه الله. حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حدثنا عمى، قال: أخبرنا سيف ابن عُمَرَ، عَنْ سَهْلٍ وَأَبِي عُثْمَان، عَنِ الضَّحَّاكِ بن خليفه، قال: لما قام الحباب ابن الْمُنْذِرِ انْتَضَى سَيْفَهُ، وَقَالَ: أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّكُ وعذيقها المرجب، انا ابو شبل في عريسة الأَسَدِ، يُعْزَى إِلَى الأَسَدِ فَحَامَلَهُ عُمَرُ فَضَرَبَ يَدَهُ، فَنَدَرَ السَّيْفَ، فَأَخَذَهُ ثُمَّ وَثَبَ عَلَى سَعْدٍ وَوَثَبُوا عَلَى سَعْدٍ، وَتَتَابَعَ الْقَوْمُ عَلَى الْبَيْعَةِ، وَبَايَعَ سَعْدٌ، وَكَانَتْ فَلْتَةٌ كَفَلَتَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ، قَامَ أَبُو بَكْرٍ دُونَهَا وَقَالَ قَائِلٌ حِينَ أُوطِئَ سَعْدٌ: قَتَلْتُمْ سَعْدًا، فَقَالَ عُمَرُ: قَتَلَهُ اللَّهُ! إِنَّهُ مُنَافِقٌ، وَاعْتَرَضَ عُمَرُ بِالسَّيْفِ صَخْرَةً فقطعه. حدثنا عبيد الله بن سعيد، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ، عَنْ مُبَشِّرٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ يَوْمَئِذٍ لأَبِي بَكْرٍ: إِنَّكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ حَسَدْتُمُونِي عَلَى الإِمَارَةِ، وَإِنَّكَ وَقَوْمِي أَجْبَرْتُمُونِي عَلَى الْبَيْعَةِ، فَقَالُوا: إِنَّا لَوْ أَجْبَرْنَاكَ عَلَى الْفُرْقَةِ فَصِرْتَ إِلَى الْجَمَاعَةِ كُنْتَ فِي سعه، ولكنا اجبرنا عَلَى الْجَمَاعَةِ، فَلا إِقَالَةَ فِيهَا، لَئِنْ نَزَعْتَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، أَوْ فَرَّقْتَ جَمَاعَةً، لَنَضْرِبَنَّ الذى فيه عيناك . ذكر امر ابى بكر في أول خلافته حدثنا عبيد الله بن سعد، قال: أخبرنا عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ- وَحَدَّثَنِي السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ- عَنْ أَبِي ضَمْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ: نَادَى مُنَادِي أَبِي بَكْرٍ، مِنْ بَعْدِ الْغَدِ مِنْ متوفى رسول الله ص: لِيُتَمَّ بَعْثُ أُسَامَةَ، أَلا لا يَبْقَيَنَّ بِالْمَدِينَةِ أَحَدٌ مِن جُنْدِ أُسَامَةَ إِلا خَرَجَ إِلَى عَسْكَرِهِ بِالْجُرْفِ وَقَامَ فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَنَا مِثْلُكُمْ، وَإِنِّي لا أَدْرِي لَعَلَّكُمْ سَتُكَلِّفُونَنِي مَا كَانَ رَسُولُ الله ص يُطِيقُ، إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى الْعَالَمِينَ وَعَصَمَهُ مِنَ الآفَاتِ، وَإِنَّمَا أَنَا مُتَّبِعٌ وَلَسْتُ بِمُبْتَدِعٌ، فَإِنِ اسْتَقَمْتُ فَتَابِعُونِي، وَإِنْ زُغْتُ فَقَوِّمُونِي، وان رسول الله ص قُبِضَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَطْلُبُهُ بمظلمة ضربه سَوْطٍ فَمَا دُونَهَا، أَلا وَإِنَّ لِي شَيْطَانًا يَعْتَرِينِي، فَإِذَا أَتَانِي فَاجْتَنِبُونِي، لا أُؤْثِرُ فِي أَشْعَارِكُمْ وَأَبْشَارِكُمْ، وَأَنْتُمْ تَغْدُونَ وَتَرُوحُونَ فِي أَجَلٍ قَدْ غُيِّبَ عَنْكُمْ عِلْمُهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَلا يَمْضِيَ هَذَا الأَجَلُ إِلا وَأَنْتُمْ فِي عَمَلٍ صَالِحٍ فَافْعَلُوا، وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا ذَلِكَ إِلا بِاللَّهِ، فَسَابِقُوا فِي مَهَلٍ آجَالَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُسْلِمَكُمْ آجَالُكُمْ إِلَى انْقِطَاعِ الأَعْمَالِ، فَإِنَّ قَوْمًا نَسَوْا آجَالَهُمْ، وَجَعَلُوا أَعْمَالَهُمْ لِغَيْرِهِمْ، فَإِيَّاكُمْ أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ الْجَدَّ الْجَدَّ! وَالْوَحَا الْوَحَا! وَالنَّجَاءَ النَّجَاءَ! فَإِنَّ وَرَاءَكُمْ طَالِبًا حَثِيثًا، أَجَلا مَرُّهُ سَرِيعٌ احْذَرُوا الْمَوْتَ، وَاعْتَبِرُوا بِالآبَاءِ وَالأَبْنَاءِ وَالإِخْوَانِ، وَلا تَغْبِطُوا الأَحْيَاءَ إِلا بِمَا تَغْبِطُونَ بِهِ الأَمْوَاتِ. وَقَامَ أَيْضًا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يَقْبَلُ مِنَ الأَعْمَالِ إِلا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهَهُ، فَأَرِيدُوا اللَّهَ بِأَعْمَالِكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا أَخْلَصْتُمْ لِلَّهِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَطَاعَةٌ أَتَيْتُمُوهَا، وَخَطَأٌ ظَفَرْتُمْ بِهِ، وَضَرَائِبُ أَدَّيْتُمُوهَا، وَسَلَفٌ قَدَّمْتُمُوهُ مِنْ أَيَّامٍ فَانِيَةٍ لأُخْرَى بَاقِيَةٍ، لِحِينِ فَقْرِكُمْ وَحَاجَتِكُمْ اعْتَبِرُوا عِبَادَ اللَّهِ بِمَنْ مَاتَ مِنْكُمْ، وَتَفَكَّرُوا فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَيْنَ كَانُوا أَمْسَ، وَأَيْنَ هُمُ الْيَوْمَ! أَيْنَ الْجَبَّارُونَ! وَأَيْنَ الَّذِينَ كَانَ لَهُمْ ذِكْرُ الْقِتَالِ وَالْغَلَبَةُ فِي مَوَاطِنِ الْحُرُوبِ! قَدْ تَضَعْضَعَ بِهِمُ الدَّهْرُ، وَصَارُوا رَمِيمًا، قَدْ تُرِكَتْ عَلَيْهِمِ الْقَالاتُ، الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ، وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَأَيْنَ الْمُلُوكُ الَّذِينَ أَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَّرُوهَا، قَدْ بُعِدُوا وَنُسِيَ ذِكْرُهُمْ، وَصَارُوا كَلا شَيْءَ أَلا إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْقَى عَلَيْهِمُ التَّبِعَاتِ، وَقَطَعَ عَنْهُمُ الشَّهَوَاتِ، وَمَضَوْا وَالأَعْمَالُ أَعْمَالُهُمْ، وَالدُّنْيَا دُنْيَا غَيْرِهِمْ، وَبَقِينَا خَلَفًا بَعْدَهُمْ، فَإِنْ نَحْنُ اعْتَبَرْنَا بِهِمْ نَجَوْنَا، وَإِنِ اغْتَرَرْنَا كُنَّا مِثْلَهُمْ! أَيْنَ الْوُضَّاءُ الْحَسَنَةُ وُجُوهُهُمْ، الْمُعْجَبُونَ بِشَبَابِهِمْ! صَارُوا تُرَابًا، وَصَارَ مَا فَرَّطُوا فِيهِ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ! أَيْنَ الَّذِينَ بَنَوُا الْمَدَائِنَ وَحَصَّنُوهَا بِالْحَوَائِطِ، وَجَعَلُوا فِيهَا الأَعَاجِيبَ! قَدْ تَرَكُوهَا

لِمَنْ خَلْفَهُمْ، فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ خَاوِيَةً، وَهُمْ فِي ظلمات القبور، هل نحس مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا! أَيْنَ مَنْ تَعْرِفُونَ مِنْ أَبْنَائِكُمْ وَإِخْوَانِكُمْ، قَدِ انْتَهَتْ بِهِمْ آجَالُهُمْ، فَوَرَدُوا عَلَى مَا قَدَّمُوا فَحَلُّوا عَلَيْهِ وَأَقَامُوا لِلشَّقْوَةِ وَالسَّعَادَةِ فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ أَلا إِنَّ اللَّهَ لا شَرِيكَ لَهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ سَبَبٌ يُعْطِيهِ بِهِ خَيْرًا، وَلا يَصْرِفُ عَنْهُ بِهِ سُوءًا، إِلا بِطَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ عَبِيدٌ مَدِينُونَ، وَأَنَّ مَا عِنْدَهُ لا يُدْرَكُ إِلا بِطَاعَتِهِ، أَمَا أَنَّهُ لا خَيْرَ بِخَيْرٍ بَعْدَهُ النَّارُ، وَلا شَرَّ بِشَرٍّ بَعْدَهُ الْجَنَّةُ. حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمِّي، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَيْفٌ- وَحَدَّثَنِي السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سَيْفٌ- عَنْ هِشَامِ ابن عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَمَعَ الأَنْصَارَ فِي الأَمْرِ الَّذِي افْتَرَقُوا فِيهِ، قَالَ: لَيُتَمَّ بَعْثُ أُسَامَةَ، وَقَدِ ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ، إِمَّا عَامَّةً وَإِمَّا خَاصَّةً فِي كُلِّ قَبِيلَةٍ، وَنَجَمَ النِّفَاقُ، وَاشْرَأَبَّتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَالْمُسْلِمُونَ كَالْغَنَمِ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ الشاتيه، لفقد نبيهم ص وَقِلَّتِهِمْ، وَكَثْرَةِ عَدُوُّهِمْ فَقَالَ لَهُ النَّاسُ: إِنَّ هَؤُلاءِ جُلُّ الْمُسْلِمِينَ وَالْعَرَبُ- عَلَى مَا تَرَى- قَدِ انْتُقِضَتْ بِكَ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَفْرِقَ عَنْكَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي بَكْرٍ بِيَدِهِ، لَوْ ظَنَنْتُ أَنَّ السِّبَاعَ تَخَطَّفَنِي لأَنْفَذْتُ بَعْثَ أُسَامَةَ كَمَا امر به رسول الله ص، وَلَوْ لَمْ يَبْقَ فِي الْقُرَى غَيْرِي لأَنْفَذْتُهُ! حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَيْفٌ- وَحَدَّثَنِي السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ- عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ عَلِيٍّ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالا: ثُمَّ اجْتَمْعَ مَنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِنَ الْقَبَائِلِ الَّتِي غَابَتْ فِي عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَخَرَجُوا وَخَرَجَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي جُنْدِ أُسَامَةَ، فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ مَنْ بَقِيَ مِنْ تِلْكَ الْقَبَائِلِ الَّتِي كَانَتْ لَهُمُ الْهِجْرَةُ فِي دِيَارِهِمْ، فَصَارُوا مَسَالِحَ حَوْلَ قَبَائِلِهِمْ وَهُمْ قَلِيلٌ. حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: أَخْبَرَنِي سيف- وحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، قال: حَدَّثَنَا سَيْفٌ- عَنْ أَبِي ضَمْرَةَ

وَأَبِي عَمْرٍو وَغَيْرِهِمَا، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الحسن البصرى، قال: ضرب رسول الله ص قَبْلَ وَفَاتِهِ بَعْثًا عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حولهم، وفيهم عمر ابن الْخَطَّابِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَلَمْ يُجَاوِزْ آخِرُهُمُ الْخَنْدَقَ، حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ ص، فَوَقَفَ أُسَامَةُ بِالنَّاسِ، ثُمَّ قَالَ لِعُمَرَ: ارْجِعْ إِلَى خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ فَاسْتَأْذِنْهُ، يَأْذَنْ لِي أَنْ أَرْجِعَ بِالنَّاسِ، فَإِنَّ مَعِي وُجُوهَ النَّاسِ وَحْدَهُمْ، وَلا آمَنُ عَلَى خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ وَثِقَلِ رَسُولِ اللَّهِ وَأَثْقَالِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَخَطَّفَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَقَالَتِ الأَنْصَارُ: فَإِنْ أَبَى إِلا أَنْ نَمْضِيَ فَأَبْلِغْهُ عَنَّا، وَاطْلُبْ إِلَيْهِ أَنْ يُوَلِّيَ أَمْرَنَا رَجُلا أَقْدَمَ سِنًّا مِنْ أُسَامَةَ. فَخَرَجَ عُمَرُ بِأَمْرِ أُسَامَةَ، وَأَتَى أَبَا بَكْرٍ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ أُسَامَةُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، لَوْ خَطَّفَتْنِي الْكِلابُ وَالذِّئَابُ لَمْ أَرُدَّ قَضَاءً قَضَى به رسول الله ص! قَالَ: فَإِنَّ الأَنْصَارَ أَمَرُونِي أَنْ أُبَلِّغَكَ، وَإِنَّهُمْ يَطْلُبُونَ إِلَيْكَ أَنْ تُوَلِّيَ أَمْرَهُمْ رَجُلا أَقْدَمَ سِنًّا مِنْ أُسَامَةَ، فَوَثَبَ أَبُو بَكْرٍ- وَكَانَ جَالِسًا- فَأَخَذَ بِلِحْيَةِ عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ: ثَكِلَتْكَ أمك وعدمتك يا بن الخطاب! استعمله رسول الله ص وَتَأْمُرَنِي أَنْ أَنْزِعَهُ! فَخَرَجَ عُمَرُ إِلَى النَّاسِ فَقَالُوا لَهُ: مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: امْضُوا، ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ! مَا لَقِيتُ فِي سَبَبِكُمْ مِنْ خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ! ثُمَّ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى أَتَاهُمْ، فَأَشْخَصَهُمْ وَشَيَّعَهُمْ وَهُوَ مَاشٍ وَأُسَامَةُ رَاكِبٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يَقُودُ دَابَّةَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ أُسَامَةُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَتَرْكَبَنَّ أَوْ لأَنْزِلَنَّ! فَقَالَ: وَاللَّهِ لا تنزل وو الله لا أَرْكَبُ! وَمَا عَلَيَّ أَنْ أُغَبِّرَ قَدَمَيَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَاعَةً، فَإِنَّ لِلْغَازِي بِكُلِّ خطوه يخطوها سبعمائة حسنه تكتب له، وسبعمائة درجه ترتفع له، وترفع عنه سبعمائة خَطِيئَةٍ! حَتَّى إِذَا انْتَهَى قَالَ: إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُعِينَنِي بِعُمَرَ فَافْعَلْ! فَأَذِنَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قِفُوا أُوصِكُمْ بِعَشْرٍ فَاحْفَظُوهَا عَنِّي: لا تَخُونُوا وَلا تَغِلُّوا، وَلا تَغْدِرُوا وَلا تُمَثِّلُوا، وَلا تَقْتُلُوا طِفْلا صَغِيرًا، وَلا شَيْخًا كَبِيرًا وَلا امْرَأَةً، وَلا تَعْقِرُوا نَخْلا وَلا تُحَرِّقُوهُ، وَلا تَقْطَعُوا شَجَرَةً

بقية الخبر عن امر الكذاب العنسي

مُثْمِرَةً، وَلا تَذْبَحُوا شَاةً وَلا بَقَرَةً وَلا بَعِيرًا إِلا لِمَأْكَلَةٍ، وَسَوْفَ تَمُرُّونَ بِأَقْوَامٍ قَدْ فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الصَّوَامِعِ، فَدَعُوهُمْ وَمَا فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ، وَسَوْفَ تَقْدَمُونَ عَلَى قَوْمٍ يَأْتُونَكُمْ بِآنِيَةٍ فِيهَا أَلْوَانُ الطَّعَامِ، فَإِذَا أَكَلْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا وَتَلْقَوْنَ أَقْوَامًا قَدْ فَحَصُوا أَوْسَاطَ رُءُوسِهِمْ وَتَرَكُوا حَوْلَهَا مِثْلَ الْعَصَائِبِ، فَاخْفِقُوهُمْ بِالسَّيْفِ خَفْقًا انْدَفِعُوا باسم الله، أفناكم اللَّهُ بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ. حَدَّثَنِي السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ- وَأَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ- عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى الْجُرْفِ، فَاسْتَقْرَى أُسَامَةَ وَبَعْثَهُ، وَسَأَلَهُ عُمَرَ فَأَذِنَ لَهُ، وَقَالَ لَهُ: اصْنَعْ ما امرك به نبى الله ص، ابدا ببلاد قضاعه ثم ايت آبِلَ، وَلا تُقَصِّرَنَّ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ رسول الله ص، وَلا تَعْجَلَنَّ لِمَا خَلَفْتَ عَنْ عَهْدِهِ فَمَضَى أُسَامَةُ مُغِذًّا عَلَى ذِي الْمَرْوَةِ وَالْوَادِي، وَانْتَهَى الى ما امره به النبي ص مِنْ بَثِّ الْخُيُولِ فِي قَبَائِلِ قُضَاعَةَ وَالْغَارَةِ عَلَى آبِلَ، فَسَلِمَ وَغَنِمَ، وَكَانَ فَرَاغُهُ فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا سِوَى مُقَامِهِ وَمُنْقَلَبِهِ رَاجِعًا. فَحَدَّثَنِي السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ سيف- وحدثنا عبيد الله، قال: أخبرنا عمي، قَالَ: أَخْبَرَنَا سَيْفٌ- عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الأَخْنَسِ. وَعَنْهُمَا، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ مِثْلَهُ. بقية الخبر عن أمر الكذاب العنسي كان رسول الله ص جمع- فيما بلغنا- لباذام حين أسلم وأسلمت اليمن عمل اليمن كلها، وأمره على جميع مخاليفها، فلم يزل عامل رسول الله

ص أيام حياته، فلم يعزله عنها ولا عن شيء منها، ولا أشرك معه فيها شريكا حَتَّى مات باذام، فلما مات فرق عملها بين جماعة من أصحابه. فَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ الزُّهْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ- وَحَدَّثَنِي السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَيْفٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عبيد بن صخر ابن لَوْذَانَ الأَنْصَارِيِّ السُّلَمِيِّ- وَكَانَ فِيمَنْ بَعَثَ النَّبِيُّ ص مع عمال اليمن في سنه عشر بعد ما حَجَّ حَجَّةَ التَّمَامِ: وَقَدْ مَاتَ بَاذَامُ، فَلِذَلِكَ فَرَّقَ عَمَلَهَا بَيْنَ شَهْرِ بْنِ بَاذَامَ، وَعَامِرِ بْنِ شَهْرٍ الْهَمْدَانِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، وَخَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَالطَّاهِرِ بْنِ أَبِي هَالَةَ، وَيَعْلَى بْنِ اميه، وعمر بْنِ حَزْمٍ، وَعَلَى بِلادِ حَضْرَمَوْتَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الْبِيَاضِيُّ وَعُكَاشَةُ بْنُ ثَوْرِ بْنِ أَصْغَرَ الغوثي، على السكاسك والسكون ومعاويه ابن كِنْدَةَ، وَبَعَثَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ مُعَلِّمًا لأَهْلِ البلدين: اليمن وحضر موت. حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمِّي، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَيْفٌ- يَعْنِي ابْنَ عُمَرَ- عَنْ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عُبَادَةَ بن قرص بن عباده، عن قرص الليثى، ان النبي ص رجع الى المدينة بعد ما قَضَى حَجَّةُ الإِسْلامِ، وَقَدْ وَجَّهَ إِمَارَةَ الْيَمَنِ وَفَرَّقَهَا بَيْنَ رِجَالٍ، وَأَفْرَدَ كُلَّ رَجُلٍ بِحِيَزِهِ، ووجه اماره حضر موت وَفَرَّقَهَا بَيْنَ ثَلاثَةٍ، وَأَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحِيَزِهِ، وَاسْتَعْمَلَ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ عَلَى نَجْرَانَ، وَخَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَلَى مَا بَيْنَ نَجْرَانَ وَرِمْعٍ وَزُبَيْدَ، وَعَامِرَ بْنَ شَهْرٍ عَلَى هَمْدَانَ، وَعَلَى صَنْعَاءَ ابْنَ بَاذَامَ، وَعَلَى عَكٍّ وَالأَشْعَرِيِّينَ الطَّاهِرَ بْنَ أَبِي هَالَةَ، وَعَلَى مَأْرِبَ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ، وَعَلَى الْجُنْدِ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ وَكَانَ مُعَاذٌ مُعَلِّمًا يَتْنَقِلُ فِي عِمَالَةِ كُلِّ عَامِلٍ بِالْيَمَنِ وَحَضْرَمَوْتَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى أَعْمَالِ حَضْرَمَوْتَ، عَلَى السَّكَاسِكِ وَالسُّكُونِ عُكَاشَةَ بْنَ ثَوْرٍ، وَعَلَى بَنِي مُعَاوِيَةَ بْنِ كِنْدَةَ عَبْدَ اللَّهِ- أَوِ الْمُهَاجِرَ- فَاشْتَكَى فَلَمْ يَذْهَبْ حَتَّى وَجَّهَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعَلَى حَضْرَمَوْتَ زِيَادَ بْنَ لبيد

الْبِيَاضِيَّ، وَكَانَ زِيَادٌ يَقُومُ عَلَى عَمَلِ الْمُهَاجِرِ، فمات رسول الله ص وَهَؤُلاءِ عُمَّالُهُ عَلَى الْيَمَنِ وَحَضْرَمَوْتَ، إِلا مَنْ قُتِلَ فِي قِتَالِ الأَسْوَدِ أَوْ مَاتَ، وَهُوَ باذام، مات ففرق النبي ص الْعَمَلَ مِنْ أَجْلِهِ. وَشَهْرٌ ابْنُهُ- يَعْنِي ابْنَ بَاذَامَ- فَسَارَ إِلَيْهِ الأَسْوَدُ فَقَاتَلَهُ فَقَتَلَهُ. وَحَدَّثَنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَيْفٍ. فَقَالَ فِيهِ: عَنْ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَلْحَةَ ثُمَّ سائر الحديث باسناده مثل حديث ابن سعد الزُّهْرِيِّ. قَالَ: حَدَّثَنِي السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ الأَعْلَمِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَوَّلُ مَنِ اعْتَرَضَ عَلَى الْعَنْسِيِّ وَكَاثَرَهُ عَامِرُ بْنُ شَهْرٍ الْهَمْدَانِيُّ فِي نَاحِيَتِهِ وَفَيْرُوزُ وَدَاذُوَيْهِ فِي نَاحِيَتِهِمَا، ثُمَّ تَتَابَعَ الَّذِينَ كَتَبَ إِلَيْهِمْ عَلَى مَا أُمِرُوا بِهِ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمِّي، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَيْفٌ، قَالَ وَحَدَّثَنَا السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ- عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ صَخْرٍ، قَالَ فَبَيْنَا نَحْنُ بِالْجُنْدِ قَدْ أَقَمْنَاهُمْ عَلَى مَا يَنْبَغِي، وَكَتَبْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الْكُتُبَ، إِذْ جَاءَنَا كِتَابٌ مِنَ الأَسْوَدِ: أَيُّهَا الْمُتَوَرِّدُونَ عَلَيْنَا، أَمْسِكُوا عَلَيْنَا مَا أَخَذْتُمْ مِنْ أَرْضِنَا، وَوَفِّرُوا مَا جَمَعْتُمْ، فَنَحْنُ أَوْلَى بِهِ وَأَنْتُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فَقُلْنَا لِلرَّسُولِ: مِنْ أَيْنَ جِئْتَ؟ قَالَ: مِنْ كَهْفِ خُبَّانَ ثُمَّ كَانَ وَجْهُهُ إِلَى نَجْرَانَ، حَتَّى أَخَذَهَا فِي عَشْرٍ لِمَخْرَجِهِ، وَطَابَقَهُ عُوَّامُ مَذْحِجَ فَبَيْنَا نَحْنُ نَنْظُرُ فِي أَمْرِنَا، وَنَجْمَعُ جَمْعَنَا، إِذْ أَتِيَنَا فَقِيلَ: هَذَا الأَسْوَدُ بِشَعُوبٍ، وَقَدْ خَرَجَ إِلَيْهِ شَهْرُ بْنُ بِاذَامَ، وَذَلِكَ لِعِشْرِينَ لَيْلَةً مِنْ مَنْجَمِهِ فَبَيْنَا نَحْنُ نَنْتَظِرُ الْخَبَرَ عَلَى مَنْ تَكُونُ الدِّبْرَةُ، إِذْ أَتَانَا أَنَّهُ قَتَلَ شَهْرًا، وَهَزَمَ الأَبْنَاءَ، وَغَلَبَ عَلَى صَنْعَاءَ لِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً مِنْ مَنْجَمِهِ وَخَرَجَ مُعَاذٌ هَارِبًا، حَتَّى مَرَّ بِأَبِي موسى

وَهُوَ بِمَأْرِبَ، فَاقْتَحَمَا حَضْرَمَوْتَ، فَأَمَّا مُعَاذٌ فَإِنَّهُ نَزَلَ فِي السُّكُونِ، وَأَمَّا أَبُو مُوسَى فَإِنَّهُ نَزَلَ فِي السَّكَاسِكِ مِمَّا يَلِي الْمُفُورَ وَالْمَفَازَةَ بَيْنَهُمَ وَبَيْنَ مَأْرِبَ، وَانْحَازَ سَائِرُ أُمَرَاءِ الْيَمَنِ إِلَى الطَّاهِرِ إِلا عَمْرًا وَخَالِدًا، فَإِنَّهُمَا رَجَعَا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَالطَّاهِرُ يَوْمَئِذٍ فِي وَسَطِ بِلادِ عَكٍّ بِحِيَالِ صَنْعَاءَ وَغَلَبَ الأَسْوَدُ عَلَى مَا بَيْنَ صُهَيْدَ- مَفَازَةَ حَضْرَمَوْتَ- إِلَى عَمَلِ الطَّائِفِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ قِبَلَ عَدَنٍ، وَطَابَقَتْ عَلَيْهِ الْيَمَنُ، وَعَكٍّ بِتِهَامَةَ مُعْتَرِضُونَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ يَسْتَطِيرُ اسْتِطَارَةَ الحريق، وكان معه سبعمائة فَارِسٍ يَوْمَ لَقِيَ شَهْرًا سِوَى الرُّكْبَانِ، وَكَانَ قُوَّادَهُ قَيْسُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ الْمُرَادِيُّ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قَيْسٍ الْجَنْبِيُّ وَيَزِيدُ بْنُ مُحْرِمٍ وَيَزِيدُ بْنُ حُصَيْنٍ الْحَارِثِيُّ وَيَزِيدُ بْنُ الأَفْكَلِ الأَزْدِيُّ وَثَبَتَ مُلْكُهُ وَاسْتَغْلَظَ أَمْرُهُ، وَدَانَتْ لَهُ سَوَاحِلُ مِنَ السَّوَاحِلِ، حَازَ عَثْرَ وَالشَّرْجَةَ وَالْحَرْدَةَ وَغَلافِقَةَ وَعَدَنَ، وَالْجُنْدَ، ثُمَّ صَنْعَاءَ إِلَى عَمَلِ الطَّائِفِ، إِلَى الأَحْسِيَةِ وَعُلَيْبٍ، وَعَامَلَهُ الْمُسْلِمُونَ بِالْبَقِيَّةِ، وَعَامَلَهُ أَهْلُ الرِّدَّةِ بِالْكُفْرِ وَالرُّجُوعِ عَنِ الإِسْلامِ. وَكَانَ خَلِيفَتَهُ فِي مَذْحِجَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يكَرِبَ، وَأَسْنَدَ أَمْرَهُ إِلَى نَفَرٍ، فَأَمَّا أَمْرُ جُنْدِهِ فَإِلَى قَيْسِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ، وَأَسْنَدَ أَمْرَ الأَبْنَاءِ إِلَى فَيْروزٍ وَدَاذُوَيْهِ. فَلَمَّا أَثْخَنَ فِي الأَرْضِ اسْتَخَفَّ بِقَيْسٍ وَبِفَيْرُوزَ وَدَاذُوَيْهِ، وَتَزَوَّجَ امْرَأَةَ شَهْرٍ، وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّ فَيْرُوزَ، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ بِحَضْرَمَوْتَ- وَلا نَأْمَنُ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْنَا الأَسْوَدُ، أَوْ يَبْعَثَ إِلَيْنَا جَيْشًا، أَوْ يَخْرُجَ بِحَضْرَمَوْتَ خَارِجٌ يَدَّعِيَ بِمِثْلِ مَا ادَّعَى بِهِ الأَسْوَدُ، فَنَحْنُ عَلَى ظَهْرٍ، تَزَوَّجَ مُعَاذٌ إِلَى بَنِي بَكْرَةَ، حَيٍّ مِنَ السُّكُونِ، امْرَأَةً أَخْوَالُهَا بَنُو زَنْكَبِيلَ يُقَالُ لَهَا رَمْلَةُ، فَحَدَبُوا لِصِهْرِهِ

عَلَيْنَا، وَكَانَ مُعَاذٌ بِهَا مُعْجَبًا، فَإِنْ كَانَ لَيَقُولُ فِيمَا يَدْعُو اللَّهَ بِهِ: اللَّهُمَّ ابْعَثْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ السُّكُونِ، وَيَقُولُ أَحْيَانًا: اللَّهُمَّ اغفر للسكون- إذ جاءتنا كتب النبي ص يأمرنا فيها ان نبعث الرجال لمجاولته أَوْ لِمُصَاوَلَتِهِ، وَنُبَلِّغَ كُلَّ مَنْ رَجَا عِنْدَهُ شيئا من ذلك عن النبي ص فَقَامَ مُعَاذٌ فِي ذَلِكَ بِالَّذِي أَمَرَ بِهِ، فَعَرَفْنَا الْقُوَّةَ وَوَثَقْنَا بِالنَّصْرِ. حَدَّثَنَا السَّرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ- وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ الله، قال: أخبرنا عمي، قال: أخبرنا سيف- قال: أخبرنا المستنير ابن يَزِيدَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ غَزِيَّةَ الدُّثَيْنِيِّ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ فَيْرُوزَ- قَالَ السَّرِيُّ: عَنْ جُشَيْشِ بن الديلمى، وقال عبيد الله: عن جشنس بْنِ الدَّيْلَمِيِّ- قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا وَبْرُ بْنُ يحنس بكتاب النبي ص، يَأْمُرُنَا فِيهِ بِالْقِيَامِ عَلَى دِينِنَا، وَالنُّهُوضِ فِي الْحَرْبِ، وَالْعَمَلِ فِي الأَسْوَدِ: إِمَّا غَيْلَةً وَإِمَّا مُصَادَمَةً، وَأَنْ نُبَلِّغَ عَنْهُ مَنْ رَأَيْنَا أَنَّ عِنْدَهُ نَجْدَةً وَدِينًا فَعَمِلْنَا فِي ذَلِكَ، فَرَأَيْنَا أَمْرًا كَثِيفًا، وَرَأَيْنَاهُ قَدْ تَغَيَّرَ لِقَيْسِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ- وَكَانَ عَلَى جُنْدِهِ- فَقُلْنَا: يَخَافُ عَلَى دَمِهِ، فَهُوَ لأَوَّلُ دَعْوَةٍ، فَدَعَوْنَاهُ وَأَنْبَأْنَاهُ الشان، وابلغناه عن النبي ص، فَكَأَنَّمَا وَقَعْنَا عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ، وَكَانَ فِي غَمٍّ وَضِيقٍ بِأَمْرِهِ، فَأَجَابَنَا إِلَى مَا أَحْبَبْنَا مِنْ ذَلِكَ، وَجَاءَنَا وَبْرُ بْنُ يُحَنِّسَ، وَكَاتَبْنَا النَّاسَ وَدَعَوْنَاهُمْ، وَأَخْبَرَهُ الشَّيْطَانُ بِشَيْءٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى قَيْسٍ وَقَالَ: يَا قَيْسُ، مَا يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ: وَمَا يَقُولُ؟ قَالَ: يَقُولُ: عَمَدْتَ إِلَى قَيْسٍ فَأَكْرَمْتَهُ، حَتَّى إِذَا دَخَلَ مِنْكَ كُلَّ مُدْخَلٍ، وَصَارَ فِي الْعِزِّ مِثْلَكَ، مَالَ مَيْلَ عَدُوِّكَ، وَحَاوَلَ مُلْكَكَ وَأَضْمَرَ عَلَى الْغَدْرِ! إِنَّهُ يَقُولُ: يَا أَسْوَدُ يَا أَسْوَدُ! يَا سَوْءَةُ يَا سَوْءَةُ! اقْطِفْ قُنَّتَهُ، وَخُذْ مِنْ قَيْسٍ أَعْلاهُ، وَإِلا سَلَبَكَ أَوْ قَطَفَ قُنَّتَكَ فَقَالَ قَيْسٌ- وَحَلَفَ بِهِ: كَذَبَ وَذِي الْخِمَارِ، لأَنْتَ اعظم في

نَفْسِي وَأَجَلُّ عِنْدِي مِنْ أَنْ أُحَدِّثَ بِكَ نَفْسِي، فَقَالَ: مَا أَجْفَاكَ: أَتُكَذِّبُ الْمَلِكَ! قَدْ صَدَقَ الْمَلِكُ، وَعَرَفْتُ الآنَ أَنَّكَ تَائِبٌ مِمَّا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْكَ ثُمَّ خَرَجَ فَأَتَانَا، فَقَالَ: يَا جُشَيْشُ، وَيَا فَيْرُوزُ، وَيَا دَاذُوَيْهِ، إِنَّهُ قَدْ قَالَ وَقُلْتُ، فَمَا الرَّأْيُ؟ فَقُلْنَا: نَحْنُ عَلَى حَذَرٍ، فَإِنَّا فِي ذَلِكَ، إِذْ أَرْسَلَ إِلَيْنَا، فَقَالَ: أَلَمْ أُشْرِفْكُمْ عَلَى قَوْمِكُمْ، أَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْكُمْ! فَقُلْنَا: أَقلْنَا مَرَّتَنَا هَذِهِ، فَقَالَ: لا يبلغني عنكم فاقتلكم، فنجونا ولم تكد، وَهُوَ فِي ارْتِيَابٍ مِنْ أَمْرِنَا وَأَمْرِ قَيْسٍ، وَنَحْنُ فِي ارْتِيَابٍ وَعَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ، إِذْ جاءنا اعتراض عامر ابن شَهْرٍ وَذِي زَوْدٍ وَذِي مُرَّان وَذِي الْكَلاعِ وَذِي ظُلَيْمٍ عَلَيْهِ، وَكَاتَبُونَا وَبَذَلُوا لَنَا النَّصْرَ، وَكَاتَبْنَاهُمْ وَأَمَرْنَاهُمْ أَلا يُحَرِّكُوا شَيْئًا حَتَّى نُبْرِمَ الأَمْرَ- وَإِنَّمَا اهْتَاجُوا لِذَلِكَ حِينَ جَاءَ كِتَابُ النبي ص، وكتب النبي ص إِلَى أَهْلِ نَجْرَانَ، إِلَى عَرَبِهِمْ وَسَاكِنِي الأَرْضِ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ، فَثَبتُوا فَتَنَحَّوْا وَانْضَمُّوا إِلَى مَكَانٍ وَاحِدٍ- وَبَلَغَهُ ذَلِكَ، وَأَحَسَّ بِالْهَلاكِ، وَفَرَقَ لنا الرأي، فدخلت على آذاد، وَهِيَ امْرَأَتُهُ، فَقُلْتُ: يَا ابْنَةَ عَمِّ، قَدْ عَرَفْت بَلاءَ هَذَا الرَّجُلِ عِنْدَ قَوْمِكِ، قَتَلَ زَوْجَكِ، وَطَأْطَأَ فِي قَوْمِكِ الْقَتْلَ، وَسَفَلَ بِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَفَضَحَ النِّسَاءَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ مُمَالأَةٍ عَلَيْهِ! فَقَالَتْ: عَلَى أَيِّ أَمْرِهِ؟ قُلْتُ: إِخْرَاجِهِ، قَالَتْ: أَوْ قَتْلِهِ، قُلْتُ: أَوْ قَتْلِهِ، قَالَتْ: نَعَمْ وَاللَّهِ مَا خَلَقَ اللَّهُ شَخْصًا أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْهُ، مَا يَقُومُ لِلَّهِ عَلَى حَقٍّ، وَلا يَنْتَهِي لَهُ عَنْ حُرْمَةٍ، فَإِذَا عَزَمْتُمْ فَأَعْلِمُونِي أُخْبِرْكُمْ بِمَأْتَى هَذَا الأَمْرِ فَأَخْرُجَ فَإِذَا فَيْرُوزُ وَدَاذُوَيْهِ يَنْتَظِرَانِي، وَجَاءَ قَيْسٌ وَنَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نُنَاهِضَهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ إِلَيْنَا: الْمَلِكُ يَدْعُوكَ، فَدَخَلَ فِي عَشَرَةٍ مِنْ مَذْحِجَ وَهَمْدَانَ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى قَتْلِهِ مَعَهُمْ- قَالَ السَّرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: فَقَالَ:

يَا عَيْهَلَةُ بْنُ كَعْبِ بْنِ غَوْثٍ، وَقَالَ عبيد الله في حديثه: يا عبهله بْنُ كَعْبِ بْنِ غَوْثٍ- أَمِنِّي تُحْصَنُ بِالرِّجَالِ! الم اخبرك الحق وتخبرني الكذابة! انه يَقُولُ: يَا سَوْءَةُ يَا سَوْءَةُ! إِلا تَقْطَعَ مِنْ قَيْسٍ يَدَهُ يَقْطَعْ قُنَّتَكَ الْعُلْيَا، حَتَّى ظَنَّ أَنَّهُ قَاتِلُهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْحَقِّ أَنْ أَقْتُلَكَ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَمُرْ بِي بِمَا أَحْبَبْتَ، فَأَمَّا الْخَوْفُ وَالْفَزَعُ فَأَنَا فيهما مخافه ان تقتلني- قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَإِمَّا قَتَلْتَنِي فَمَوْتُهُ، وَقَالَ السَّرِيُّ: اقْتُلْنِي فَمَوْتَةٌ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ مَوْتَاتٍ أَمُوتُهَا كُلَّ يَوْمٍ- فَرَقَّ لَهُ فَأَخْرَجَهُ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا فأخبرنا وواطأنا، وَقَالَ: اعْمَلُوا عَمْلَكُمْ، وَخَرَجَ عَلَيْنَا فِي جَمْعٍ، فَقُمْنَا مُثُولا لَهُ، وَبِالْبَابِ مِائَةٌ مَا بَيْنَ بَقَرَةٍ وَبَعِيرٍ، فَقَامَ وَخَطَّ خَطًّا فَأُقِيمَتْ مِنْ ورائه، وَقَامَ مَنْ دُونِهَا، فَنَحَرَهَا غَيْرَ مُحْبَسَةٍ وَلا مُعْقَلَةٍ، مَا يَقْتَحِمُ الْخَطَّ مِنْهَا شَيْءٌ، ثُمَّ خَلاهَا فَجَالَتْ إِلَى أَنْ زُهِقَتْ، فَمَا رَأَيْتُ أَمْرًا كَانَ أَفْظَعَ مِنْهُ، وَلا يَوْمًا أَوْحَشَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: أَحَقٌّ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ يَا فَيْرُوزُ؟ وَبَوَّأَ لَهُ الْحَرْبَةَ- لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْحَرَكَ فَأُتْبِعَكَ هَذِهِ الْبَهِيمَةَ، فَقَالَ: اخْتَرْتَنَا لِصِهْرِكَ وَفَضَّلْتَنَا عَلَى الأَبْنَاءِ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ نَبِيًّا مَا بِعْنَا نَصِيبَنَا مِنْكَ بِشَيْءٍ، فَكَيْفَ وَقَدِ اجْتَمَعَ لَنَا بِكَ أَمْرُ آخِرَةٍ وَدُنْيَا، لا تقبلن علينا امثال مَا يَبْلُغُكَ، فَإِنَّا بِحَيْثُ تُحِبُّ فَقَالَ: اقْسِمْ هذه، فأنت اعلم بمن هاهنا، فَاجْتَمَعَ إِلَيَّ أَهْلَ صَنْعَاءَ، وَجَعَلْتُ آمُرَ لِلرَّهْطِ بِالْجَزُورِ وَلأَهْلِ الْبَيْتِ بِالْبَقَرَةِ، وَلأَهْلِ الْحِلَّةِ بِعِدَّةٍ، حَتَّى أَخَذَ أَهْلُ كُلِّ نَاحِيَةٍ بِقِسْطِهِمْ فَلَحِقَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى دَارِهِ- وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَيَّ- رَجُلٌ يَسْعَى إِلَيْهِ بِفَيْرُوزَ، فَاسْتَمَعَ لَهُ، وَاسْتَمَعَ لَهُ فَيْرُوزٌ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا قَاتِلُهُ غَدًا وَأَصْحَابُهُ، فَاغْدُ عَلَيَّ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا بِهِ، فَقَالَ: مَهْ! فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي صَنَعَ، فَقَالَ: أَحْسَنْتَ، ثُمَّ ضَرَبَ دَابَّتَهُ دَاخِلا، فَرَجَعَ إلينا فأخبرنا

الْخَبَرَ، فَأَرْسَلْنَا إِلَى قَيْسٍ، فَجَاءَنَا، فَأَجْمَعَ مَلَؤُهُمْ أَنْ أَعُودَ إِلَى الْمَرْأَةِ فَأُخْبِرَهَا بِعَزِيمَتَنَا لِتُخْبِرَنَا بِمَا تَأْمُرُ، فَأَتَيْتُ الْمَرْأَةَ وَقُلْتُ: مَا عِنْدَكِ؟ فَقَالَتْ: هُوَ مُتَحَرِّزٌ مُتَحَرِّسٌ، وَلَيْسَ مِنَ الْقَصْرِ شَيْءٌ إِلا وَالْحَرَسُ مُحِيطُونَ بِهِ غَيْرَ هَذَا الْبَيْتِ، فَإِنَّ ظَهْرَهُ إِلَى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا مِنَ الطَّرِيقِ، فَإِذَا أَمْسَيْتُمْ فَانْقُبُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّكُمْ مِنْ دُونِ الْحَرَسِ، وَلَيْسَ دُونَ قَتْلِهِ شَيْءٌ وَقَالَتْ: إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ فِيهِ سِرَاجًا وَسِلاحًا فَخَرَجْتُ فَتَلَقَّانِي الأَسْوُد خَارِجًا مِنْ بَعْضِ مَنَازِلِهِ، فَقَالَ لِي مَا أَدْخَلَكَ عَلَيَّ؟ وَوَجَأَ رَأْسِي حَتَّى سَقَطْتُ- وَكَانَ شَدِيدًا- وَصَاحَتِ الْمَرْأَةُ فَأَدْهَشَتْهُ عَنِّي، وَلَوْلا ذَلِكَ لَقَتَلَنِي وَقَالَتِ: ابْنُ عَمِّي جَاءَنِي زائرا، فقصرت بي! فقال: اسكتي لا ابالك، فَقَدْ وَهَبْتُهُ لَكِ! فَتَزَايَلَتْ عَنِّي، فَأَتَيْتُ أَصْحَابِي فَقُلْتُ: النَّجَاءَ! الْهَرَبَ! وَأَخْبَرْتُهُمُ الْخَبَرَ، فَإِنَّا عَلَى ذَلِكَ حَيَارَى إِذْ جَاءَنِي رَسُولُهَا: لا تَدَعْنَ مَا فَارَقْتُكَ عَلَيْهِ، فَإِنِّي لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى اطْمَأَنَّ، فَقُلْنَا لِفَيْرُوزٍ: ائْتِهَا فَتَثَبَّتْ مِنْهَا، فَأَمَّا أَنَا فَلا سَبِيلَ لِي إِلَى الدُّخُولِ بَعْدَ النَّهْيِ فَفَعَلَ، وَإِذَا هُوَ كَانَ أَفْطَنَ منى، فلما اخبرته قالت: وَكَيْفَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَنْقُبَ عَلَى بُيُوتٍ مُبَطَّنَةٍ! يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُقْلِعَ بِطَانَةَ الْبَيْتِ، فَدَخَلا فَاقْتَلَعَا الْبِطَانَةَ، ثُمَّ أَغْلَقَاهُ، وَجَلَسَ عِنْدَهَا كَالزَّائِرِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا الأَسْوَدُ فَاسْتَخَفَّتْهُ غَيْرَةٌ، وَأَخْبَرَتْهُ بِرَضَاعٍ وَقَرَابَةٍ مِنْهَا عِنْدَهُ مُحَرَّمٌ، فَصَاحَ بِهِ وَأَخْرَجَهُ وَجَاءَنَا بِالْخَبَرِ، فَلَمَّا أَمْسَيْنَا عَمِلْنَا فِي أَمْرِنَا، وَقَدْ وَاطَأْنَا أَشْيَاعَنَا، وَعَجِلْنَا عَنْ مُرَاسَلَةِ الْهَمْدَانِيِّينَ وَالْحِمْيَرِيِّينَ، فَنَقَبْنَا الْبَيْتَ مِنْ خَارِجٍ، ثُمَّ دَخَلْنَا وَفِيهِ سِرَاجٌ تَحْتَ جُفْنَةٍ، وَاتَّقَيْنَا بِفَيْرُوزَ، وَكَانَ أَنْجَدَنَا وَأَشَدَّنَا- فَقُلْنَا: انْظُرْ مَاذَا تَرَى! فَخَرَجَ وَنَحْنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَسِ مَعَهُ فِي مَقْصُورَةٍ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ بَابِ الْبَيْتِ سَمِعَ غَطِيطًا شَدِيدًا، وَإِذَا الْمَرْأَةُ جَالِسَةٌ، فَلَمَّا قَامَ عَلَى الْبَابِ أَجْلَسَهُ الشَّيْطَانُ فَكَلَّمَهُ عَلَى لِسَانِهِ- وَإِنَّهُ لَيَغُطَّ جَالِسًا وَقَالَ أَيْضًا: مَا لِي وَلَكَ يَا فَيْرُوزُ! فَخَشِيَ إِنْ رَجَعَ أَنْ يَهْلِكَ وَتَهْلِكَ الْمَرْأَةُ، فَعَاجَلَهُ فَخَالَطَهُ وَهُوَ مِثْلُ الْجَمَلِ، فَأَخَذَ بِرَأْسِهِ فَقَتَلَهُ، فَدَقَّ

عُنُقَهُ، وَوَضَعَ رُكْبَتَهُ فِي ظَهْرِهِ فَدَقَّهُ، ثُمَّ قَامَ لِيَخْرُجَ، فَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ بِثَوْبِهِ وَهِيَ تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ، فَقَالَتْ: أَيْنَ تَدَعُنِي! قَالَ: أُخْبِرُ أَصْحَابِي بِمَقْتَلِهِ، فَأَتَانَا فَقُمْنَا مَعَهُ، فَأَرَدْنَا حَزَّ رَأْسِهِ، فَحَرَّكَهُ الشَّيْطَانُ فَاضْطَرَبَ فَلَمْ يَضْبِطْهُ، فَقُلْتُ: اجْلِسُوا عَلَى صَدْرِهِ، فَجَلَسَ اثْنَانِ عَلَى صَدْرِهِ، وَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ بِشَعْرِهِ، وَسَمِعْنَا بَرْبَرَةً فَأَلْجَمَتْهُ بِمِئْلاةٍ، وَأَمَرَّ الشَّفْرَةَ عَلَى حَلْقِهِ فَخَارَ كَأَشَدِّ خُوَارِ ثَوْرٍ سَمِعْتُهُ قَطُّ، فَابْتَدَرَ الْحَرَسُ الْبَابَ وَهُمْ حَوْلَ الْمَقْصُورَةِ، فَقَالُوا: مَا هَذَا، مَا هَذَا! فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: النَّبِيُّ يُوحَى إِلَيْهِ! فَخَمَدَ ثُمَّ سَمُرْنَا لَيْلَتَنَا وَنَحْنُ نَأْتَمِرُ كَيْفَ نُخْبِرُ أَشْيَاعَنَا، لَيْسَ غَيْرُنَا ثَلاثَتُنَا: فَيْرُوزُ وَدَاذُوَيْهِ وَقَيْسٌ، فَاجْتَمَعْنَا عَلَى النِّدَاءِ بِشِعَارِنَا الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَشْيَاعِنَا، ثُمَّ يُنَادَى بِالأَذَانِ، فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ نَادَى دَاذُوَيْهِ بِالشِّعَارِ، فَفَزِعَ الْمُسْلِمُونَ وَالْكَافِرُونَ، وَتَجَمَّعَ الْحَرَسُ فَأَحَاطُوا بِنَا، ثُمَّ نَادَيْتُ بِالأَذَانِ، وَتَوَافَتْ خُيُولُهُمْ إِلَى الْحَرَسِ، فَنَادَيْتُهُمْ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ عَبْهَلَةَ كَذَّابٌ! وَأَلْقَيْنَا إِلَيْهِمْ رَأْسَهُ، فَأَقَامَ وَبَرٌ الصَّلاةَ، وَشَنَّهَا الْقَوْمُ غَارَةً، ونَادَيْنَا: يَا أَهْلَ صَنْعَاءَ، مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ دَاخِلٌ فَتَعَلَّقُوا بِهِ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَتَعَلَّقُوا بِهِ. وَنَادَيْنَا بِمَنْ فِي الطَّرِيقِ: تَعَلَّقُوا بِمَنِ اسْتَطَعْتُمْ! فَاخْتَطَفُوا صِبْيَانًا كَثِيرِينَ، وَانْتَهَبُوا مَا انْتَهَبُوا، ثُمَّ مَضَوْا خَارِجِينَ، فَلَمَّا بَرَزُوا فَقَدُوا مِنْهُمْ سَبْعِينَ فَارِسًا رُكْبَانًا، وَإِذَا أَهْلُ الدور والطرق وقد وافونا بهم، وفقدنا سبعمائة عيل فراسلونا وراسلناهم أَنْ يَتْرُكُوا لَنَا مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَنَتْرُكُ لَهُمْ مَا فِي أَيْدِينَا، فَفَعَلُوا فَخَرَجُوا لَمْ يَظْفَرُوا مِنَّا بِشَيْءٍ، فَتَرَدَّدُوا فِيمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَنَجْرَانَ، وَخَلَصَتْ صَنْعَاءُ وَالْجُنْدُ، وَأَعَزَّ اللَّهُ الإِسْلامَ واهله، وتنافسنا الإمارة، وتراجع اصحاب النبي ص إِلَى أَعْمَالِهِمْ، فَاصْطَلَحْنَا عَلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، فَكَانَ يُصَلِّي بِنَا، وَكَتَبْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ص بالخبر، وذلك في حياه

النبي ص فَأَتَاهُ الْخَبَرُ مِنْ لَيْلَتِهِ، وَقَدِمَتْ رُسُلُنَا، وَقَدْ مات النبي ص صَبِيحَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَأَجَابَنَا أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمِّي، قال: أخبرنا سيف- وحدثني السري، قال: حدثنا شُعَيْبٌ، عَنْ سَيْفٍ- عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الشَّنَوِيِّ، عَنِ الْعَلاءِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، [قال: اتى الخبر النبي ص مِنَ السَّمَاءِ اللَّيْلَةَ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا الْعَنْسِيُّ لِيُبَشِّرَنَا، فَقَالَ: قُتِلَ الْعَنْسِيُّ الْبَارِحَةَ، قَتَلَهُ رَجُلٌ مُبَارَكٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ مُبَارَكينَ، قِيلَ: وَمَنْ هو؟ قَالَ: فَيْرُوزُ، فَازَ فَيْرُوزُ!] حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمِّي، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَيْفٌ- وَحَدَّثَنِي السري، قال: حدثنا شعيب، عن سيف- عن الْمُسْتَنِيرِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنْ فَيْرُوزَ، قَالَ: قَتَلْنَا الأَسْوَدَ، وَعَادَ أَمْرُنَا كَمَا كَانَ، إِلا أَنَّا أَرْسَلْنَا إِلَى مُعَاذٍ، فَتَرَاضَيْنَا عَلَيْهِ، فكان يصلى بنا في صنعاء، فو الله ما صلى بنا الا ثلاثا ونحن راجون مَؤْمُلُونَ، لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ نَكْرَهُهُ إِلا مَا كَانَ مِنْ تِلْكَ الْخُيُولِ الَّتِي تَتَرَدَّدُ بَيْنَنَا وَبَيَنْ نَجْرَانَ، حَتَّى أَتَانَا الْخَبَرُ بِوَفَاةِ رَسُولِ الله ص، فَانْتُقِضَتِ الأُمُورُ، وَأَنْكَرْنَا كَثِيرًا مِمَّا كُنَّا نَعْرِفُ، وَاضْطَرَبَتِ الأَرْضُ حَدَّثَنِي السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ، عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ وَأَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ يَحْيَى بْنِ أَبِي عمرو السيبانى، مِنْ جُنْدِ فِلَسْطِينَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ ص بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولا، يُقَالُ لَهُ: وَبْرُ بْنُ يَحْنُسَ الأَزْدِيُّ، وَكَانَ مَنْزِلُهُ عَلَى دَاذُوَيْهِ الْفَارِسِيِّ، وَكَانَ الأَسْوَدُ كَاهِنًا مَعَهُ شَيْطَانٌ وَتَابِعٌ لَهُ، فَخَرَجَ فَنَزَلَ عَلَى مَلَكِ الْيَمَنِ، فَقَتَلَ مَلِكَهَا وَنَكَحَ امْرَأَتَهُ وَمَلَكَ الْيَمَنَ، وَكَانَ بَاذَامُ هَلَكَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَخَلَفَ ابْنَهُ عَلَى أَمْرِهِ، فَقَتَلَهُ وَتَزَوَّجَهَا، فَاجْتَمَعْتُ أَنَا وَدَاذُوَيْهِ وَقَيْسِ بْنِ الْمَكْشُوحِ الْمُرَادِيِّ عِنْدَ وَبَرِ بْنِ يُحَنِّسَ رَسُولِ نَبِيِّ الله ص

نَأْتَمِرُ بِقَتْلِ الأَسْوَدِ ثُمَّ إِنَّ الأَسْوَدَ أَمَرَ النَّاسَ فَاجْتَمَعُوا فِي رُحْبَةٍ مِنْ صَنْعَاءَ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَامَ فِي وَسْطِهِمْ، وَمَعَهُ حَرْبَةُ الْمَلِكِ، ثُمَّ دَعَا بِفَرَسِ الْمَلِكِ فَأَوْجَرَهُ الْحَرْبَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَ فَجَعَلَ يَجْرِي فِي الْمَدِينَةِ وَدِمَاؤُهُ تَسِيلُ حَتَّى مَاتَ وَقَامَ وَسَطَ الرُّحْبَةِ، ثُمَّ دَعَا بِجُزُرٍ مِنْ وَرَاءِ الْخَطِّ فَأَقَامَهَا، وَأَعْنَاقُهَا وَرُءُوسُهَا فِي الْخَطِّ مَا يَجُزْنَهُ ثُمَّ اسْتَقْبَلَهُنَّ بِحَرْبَتِهِ فَنَحَرَهُنَّ فَتَصَدَّعْنَ عَنْهُ، حَتَّى فَرَغَ مِنْهُنَّ، ثُمَّ أَمْسَكَ حَرْبَتَهُ فِي يَدِهِ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَى الأَرْضِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ- يَعْنِي شَيْطَانَهُ الَّذِي مَعَهُ: إِنَّ ابْنَ الْمَكْشُوحِ مِنَ الطُّغَاةِ، يَا أَسْوَدُ اقْطَعْ قُنَّةَ راسه العليا ثم أكب رَأْسَهُ أَيْضًا يَنْظُرُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ ابْنَ الدَّيْلَمِيِّ مِنَ الطُّغَاةِ، يَا أَسْوَدُ اقْطَعْ يَدَهُ الْيُمْنَى وَرِجْلَهُ الْيُمْنَى، فلما سمعت قوله قلت: والله ما آمن أَنْ يَدْعُوَ بِي، فَيْنَحَرَنِي بِحَرْبَتِهِ كَمَا نَحَرَ هَذِهِ الْجُزُرَ، فَجَعَلْتُ أَسْتَتِرُ بِالنَّاسِ لِئَلا يَرَانِي، حَتَّى خَرَجْتُ وَلا أَدْرِي مِنْ حِذْرِي كَيْفَ آخُذُ! فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْ مَنْزِلِي لَقِيَنِي رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَدَقَّ فِي رَقَبَتِي، فَقَالَ: إِنَّ الْمَلِكَ يَدْعُوكَ وَأَنْتَ تَرُوغُ! ارْجِعْ، فَردَّنِي، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ خَشِيتُ أَنْ يَقْتُلَنِي قَالَ: وَكُنَّا لا يَكَادُ يُفَارِقُ رَجُلا مِنَّا أَبَدًا خِنْجَرَهُ، فَأَدُسُّ يَدِي فِي خُفِّي، فَأَخَذْتُ خِنْجَرِي، ثُمَّ أَقْبَلْتُ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَحْمِلَ عَلَيْهِ، فَأَطْعَنَهُ بِهِ حَتَّى أَقْتُلَهُ، ثُمَّ أَقْتُلَ مَنْ مَعَهُ، فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ رَأَى فِي وَجْهِي الشَّرَّ، فَقَالَ: مَكَانَكَ! فَوَقَفْتُ، فَقَالَ: إِنَّكَ أَكْبَرُ مَنْ هَاهُنَا وَأَعْلَمُهُمْ بِأَشْرَافِ أَهْلِهَا، فَاقْسِمْ هَذِهِ الْجُزُرَ بَيْنَهُمْ وَرَكِبَ فَانْطَلَقَ وَعَلَّقْتُ أُقْسِمُ اللَّحْمَ بَيْنَ أَهْلِ صَنْعَاءَ، فَأَتَانِي ذَلِكَ الَّذِي دَقَّ فِي رَقَبَتِي، فَقَالَ: أَعْطِنِي مِنْهَا، فَقُلْتُ: لا وَاللَّهِ وَلا بَضْعَةً وَاحِدَةً، أَلَسْتَ الَّذِي دَقَقْتَ فِي رَقَبَتِي! فَانْطَلَقَ غَضْبَانَ حَتَّى أَتَى الأَسْوَدَ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا لَقِيَ مِنِّي وَقُلْتُ لَهُ فَلَمَّا فَرَغْتُ أَتَيْتُ الأَسْوَدَ أَمْشِي إِلَيْهِ، فَسَمِعْتُ الرَّجُلَ وَهُوَ يَشْكُونِي إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الأَسْوَدُ: أَمَا وَاللَّهِ لأَذْبَحَنَّهُ ذَبْحًا! فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي قَدْ فَرَغْتُ

مِمَّا أَمَرْتَنِي بِهِ، وَقَسَّمْتُهُ بَيْنَ النَّاسِ قَالَ: قَدْ أَحْسَنْتَ فَانْصَرِفْ فَانْصَرَفْتُ، فَبَعَثْنَا إِلَى امْرَأَةِ الْمَلِكِ: أَنَّا نُرِيدُ قَتْلَ الأَسْوَدِ، فَكَيْفَ لَنَا! فَأَرْسَلَتْ إِلَيَّ: أَنْ هَلُمَّ فَأَتَيْتُهَا، وَجَعَلَتِ الْجَارِيَةَ عَلَى الْبَابِ لَتُؤْذِنَنَا إِذَا جَاءَ، وَدَخَلْتُ أَنَا وَهِيَ الْبَيْتَ الآخِرَ، فَحَفَرْنَا حَتَّى نَقَبْنَا نَقْبًا، ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى الْبَيْتِ، فَأَرْسَلْنَا السِّتْرَ، فَقُلْتُ: إِنَّا نَقْتُلُهُ اللَّيْلَةَ، فَقَالَتْ: فَتَعَالَوْا، فَمَا شَعَرْتُ بِشَيْءٍ حَتَّى إِذَا الأَسْوَدُ قَدْ دَخَلَ الْبَيْتَ، وَإِذَا هُوَ مَعَنَا، فَأَخَذَتْهُ غَيْرَةٌ شَدِيدَةٌ، فَجَعَلَ يَدُقُّ فِي رَقَبَتِي، وَكَفْكَفْتُهُ عَنِّي، وَخَرَجْتُ فَأَتَيْتُ أَصْحَابِي بِالَّذِي صَنَعْتُ، وَأَيْقَنْتُ بِانْقِطَاعِ الْحِيلَةِ عَنَّا فِيهِ، إِذْ جَاءَنَا رَسُولُ الْمَرْأَةِ، أَلا يَكْسِرِنَّ عَلَيْكُمْ أَمْرَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ، فَإِنِّي قَدْ قُلْتُ له بعد ما خَرَجْتَ: أَلَسْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ أَقْوَامُ أَحْرَارٍ لَكُمْ أَحْسَابٌ! قَالَ: بَلَى، فَقُلْتُ: جَاءَنِي أَخِي يُسَلِّمُ عَلَيَّ وَيُكْرِمُنِي، فَوَقَعْتَ عَلَيْهِ تَدُقُّ فِي رَقَبَتِهِ، حتى اخرجته، فكانت هذه كرامتك اياه! فم أَزَلْ أَلُومُهُ حَتَّى لامَ نَفْسَهُ، وَقَالَ: أَهُوَ أَخُوكِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: مَا شَعُرْتُ، فَأَقْبِلُوا اللَّيْلَةَ لِمَا أَرَدْتُمْ. قَالَ الدَّيْلَمِيُّ: فَاطْمَأَنَّتْ أَنْفُسُنَا، وَاجْتَمَعَ لَنَا أَمْرَنَا، فَأَقْبَلْنَا مِنَ اللَّيْلِ أَنَا وَدَاذُوَيْهِ وَقَيْسٌ حَتَّى نَدْخُلَ الْبَيْتَ الأَقْصَى مِنَ النَّقَبِ الَّذِي نَقَبْنَا، فَقُلْتُ: يَا قَيْسُ، أَنْتَ فَارِسُ الْعَرَبِ، ادْخُلْ فَاقْتُلِ الرَّجُلَ، قَالَ: إِنِّي تَأْخُذُنِي رِعْدَةٌ شَدِيدَةٌ عِنْدَ الْبَأْسِ، فَأَخَافُ أَنْ أَضْرِبَ الرَّجُلَ ضَرْبَةً لا تُغْنِي شَيْئًا، وَلَكِنِ ادْخُلْ أَنْتَ يَا فَيْرُوزُ، فَإِنَّكَ أَشَبُّنَا وَأَقْوَانَا، قَالَ: فَوَضَعْتُ سَيْفِي عِنْدَ الْقَوْمِ، وَدَخَلْتُ لأَنْظُرَ أَيْنَ رَأْسُ الرَّجُلِ! فَإِذَا السِّرَاجُ يُزْهِرُ، وَإِذَا هُوَ رَاقِدٌ عَلَى فُرُشٍ قَدْ غَابَ فِيهَا لا أَدْرِي أَيْنَ رَأْسُهُ مِنْ رِجْلَيْهِ! وَإِذَا الْمَرْأَةُ جَالِسَةٌ عِنْدَهُ كَانَتْ تُطْعِمُهُ رُمَّانًا حَتَّى رَقَدَ، فَأَشَرْتُ إِلَيْهَا: أَيْنَ رَأْسُهُ؟ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ، فَأَقْبَلْتُ أَمْشِي حَتَّى قُمْتُ عِنْدَ رَأْسِهِ لأَنْظُرَ، فَمَا أَدْرِي أَنَظَرْتُ فِي وَجْهِهِ أَمْ لا! فَإِذَا هُوَ قَدْ فَتَحَ عَيْنَيْهِ، فَنَظَرَ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: إِنْ رَجَعْتُ إِلَى سَيْفِي خِفْتُ أَنْ يَفُوتَنِي وَيَأْخُذَ عُدَّةً يَمْتَنِعُ بِهَا مِنِّي، وَإِذَا شَيْطَانُهُ قَدْ أَنْذَرَهُ بِمَكَانِي وَقَدْ

أَيْقَظَهُ، فَلَمَّا أَبْطَأَ كَلَّمَنِي عَلَى لِسَانِهِ، وَإِنَّهُ لَيَنْظُرُ وَيَغُطُّ، فَأَضْرِبُ بِيَدِي إِلَى رَأْسِهِ، فَأَخَذْتُ رَأْسَهُ بِيَدٍ وَلِحْيَتَهُ بِيَدٍ، ثُمَّ أَلْوِي عُنُقَهُ فَدَقَقْتُهَا، ثُمَّ أَقْبَلْتُ إِلَى أَصْحَابِي، فَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ بِثَوْبِي، فَقَالَتْ: أُخْتُكُمْ نَصِيحَتُكُمْ! قُلْتُ: قَدْ وَاللَّهِ قَتَلْتُهُ وَأَرَحْتُكِ مِنْهُ قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى صَاحِبَيَّ فأخبرتهما، قالا: فارجع فاحتز راسه وائتنا بِهِ، فَدَخَلْتُ فَبَرْبَرَ فَأَلْجَمْتُهُ فَحَزَزْتُ رَأْسَهُ، فَأَتَيْتُهُمَا بِهِ، ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى أَتَيْنَا مَنْزِلَنَا، وَعِنْدَنَا وَبَرُ بْنُ يُحَنِّسَ الأَزْدِيُّ، فَقَامَ مَعَنَا حَتَّى ارْتَقَيْنَا عَلَى حِصْنٍ مُرْتَفِعٍ مِنْ تِلْكَ الْحُصُونِ، فَأَذَّنَ وَبَرُ بْنُ يُحَنِّسَ بِالصَّلاةِ، ثُمَّ قُلْنَا: أَلا إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ قَتَلَ الأَسْوَدَ الْكَذَّابَ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْنَا فَرَمَيْنَا بِرَأْسِهِ، فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ أَسْرَجُوا خُيُولَهُمْ، ثُمَّ جَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَأْخُذُ غُلامًا مِنْ أَبْنَائِنَا مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ الَّذِي كَانَ نَازِلا فِيهِمْ، فَأَبْصَرْتُهُمْ فِي الْغَلَسِ مُرْدِفِي الْغِلْمَانِ، فَنَادَيْتُ أَخِي وَهُوَ أَسْفَلَ مِنِّي مَعَ النَّاسِ: أَنْ تَعَلَّقُوا بِمَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْهُمْ، أَلا تَرَوْنَ مَا يَصْنَعُونَ بِالأَبْنَاءِ! فَتَعَلَّقُوا بِهِمْ، فَحَبَسْنَا مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلا، وَذَهَبُوا مِنَّا بِثَلاثِينَ غُلامًا، فَلَمَّا بَرَزُوا إِذَا هُمْ يَفْقِدُونَ سَبْعِينَ رَجُلا حِينَ تَفَقَّدُوا أَصْحَابَهُمْ، فَأَتَوْنَا فَقَالُوا: أَرْسِلُوا إِلَيْنَا أَصْحَابَنَا، فَقُلْنَا لَهُمْ: أَرْسِلُوا إِلَيْنَا أَبْنَاءَنَا، فَأَرْسَلُوا إِلَيْنَا الأَبْنَاءَ، وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ أَصْحَابَهُمْ. قَالَ: [وقال رسول الله ص لأَصْحَابِهِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ قَتَلَ الأَسْوَدَ الْكَذَّابَ الْعَنْسِيَّ، قَتَلَهُ بِيَدِ رَجُلٍ مِنْ إِخْوَانِكُمْ، وَقَوْمٌ أَسْلَمُوا وَصَدَّقُوا،] فَكُنَّا كَأَنَّا عَلَى الأَمْرِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ قُدُومِ الأَسْوَدِ عَلَيْنَا وَأَمِنَ الأُمَرَاءُ وَتَرَاجَعُوا، وَاعْتَذَرَ النَّاسُ وَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ. حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ: أخبرنا سيف- وحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ- عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ صَخْرٍ، قَالَ: كَانَ أَوَّلُ أَمْرِهِ إِلَى آخِرِهِ ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ

حوادث متفرقة

وحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، عن سيف- وحدثنا عبيد الله قال: أخبرنا عمي، قال: أخبرنا سيف- عن جابر بْن يزيد، عن عروه ابن غزية، عن الضحاك بْن فيروز، قَالَ: كان ما بين خروجه بكهف خبان ومقتله نحوا من أربعة أشهر، وقد كان قبل ذَلِكَ مستسرا بأمره. حَتَّى بادى بعد. حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا علي بن محمد، عن أبي معشر ويزيد بْن عياض بْن جعد به وغسان بْن عبد الحميد وجويرية بْن أسماء، عن مشيختهم، قالوا: أمضى أبو بكر جيش أسامة بْن زيد فِي آخر ربيع الأول، وأتى مقتل العنسي فِي آخر ربيع الأول بعد مخرج أسامة، وَكَانَ ذَلِكَ أول فتح اتى أبا بكر وهو بالمدينة . [حوادث متفرقة] وقال الْوَاقِدِيّ: فِي هذه السنة- أعني سنة إحدى عشرة- قدم وفد النخع فِي النصف من المحرم على رسول الله ص، رأسهم زرارة بْن عمرو، وهم آخر من قدم من الوفود. وفيها: ماتت فاطمة ابنة رسول الله ص فِي ليلة الثلاثاء، لثلاث خلون من شهر رمضان، وهي يومئذ ابنة تسع وعشرين سنة أو نحوها. وذكر أن أبا بكر بْن عبد الله، حَدَّثَهُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أبان بْن صالح بذلك وزعم أن ابن جريج حدثه عن عمرو بْن دينار، عن أبي جعفر، قَالَ: توفيت فاطمة ع بعد النبي ص بثلاثة أشهر. قَالَ: وحدثنا ابن جريج، عن الزهري، عن عُرْوَة، قَالَ: توفيت فاطمة بعد النبي ص بستة أشهر. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وهو أثبت عندنا. قال: وغسلها على ع وأسماء بنت عميس

قَالَ: وحدثني عبد الرحمن بْن عبد العزيز بْن عبد الله بْن عثمان بْن حنيف، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عمرو بْن حزم، عن عمرة ابنة عبد الرحمن قالت: صلى عليها العباس بْن عبد المطلب. وحدثنا أبو زيد، قَالَ: حَدَّثَنَا علي، عن أبي معشر، قَالَ: دخل قبرها العباس وعلي والفضل بْن العباس. قَالَ: وفيها توفي عبد الله بْن أبي بكر بْن أبي قحافة، وَكَانَ أصابه بالطائف سهم مَعَ النَّبِيّ ص، رماه ابو محجن، ودمل الجرح حَتَّى انتقض به فِي شوال، فمات. وحدثني أبو زيد، قَالَ: حَدَّثَنَا علي، قال: حدثنا ابو معشر ومحمد ابن إِسْحَاقَ وجويرية بْن أسماء بإسناده الَّذِي ذكرت قبل، قالوا: فِي العام الَّذِي بويع فيه أبو بكر ملك أهل فارس عليهم يزدجرد. قَالَ أبو جعفر: وفيها كان لقاء أبي بكر رحمه الله خارجة بْن حصن الفزاري حَدَّثَنِي أَبُو زَيْد، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ محمد بإسناده الَّذِي ذكرت قبل، قالوا: أقام أبو بكر بالمدينة بعد وفاة رَسُول اللَّهِ ص وتوجيهه أسامة فِي جيشه إلى حيث قتل أبوه زيد بْن حارثة من أرض الشام، وهو الموضع الذى كان رسول الله ص امره بالمسير إليه، لم يحدث شَيْئًا، وقد جاءته وفود العرب مرتدين يقرون بالصلاة، ويمنعون الزكاة. فلم يقبل ذَلِكَ منهم وردهم، وأقام حَتَّى قدم أسامة بْن زيد بْن حارثة بعد أربعين يوما من شخوصه- ويقال: بعد سبعين يوما- فلما قدم أسامة بْن زيد استخلفه أبو بكر على المدينة وشخص- ويقال استخلف سنانا الضمري على الْمَدِينَةِ- فسار ونزل بذي القصة فِي جمادى الأولى، ويقال فِي جمادى الآخرة، وَكَانَ نوفل بْن معاويه الديلى بعثه رسول الله ص،

فلقيه خارجة بْن حصن بالشربة، فأخذ ما فِي يديه، فرده على بني فزارة، فرجع نوفل إلى أبي بكر بالمدينة قبل قدوم أسامة على أبي بكر فأول حرب كانت في الرده بعد وفاه النبي ص حرب العنسي، وقد كانت حرب العنسي باليمن، ثُمَّ حرب خارجة بْن حصن ومنظور بْن زبان بْن سيار فِي غطفان، والمسلمون غارون، فانحاز أبو بكر إلى أجمة فاستتر بِهَا، ثُمَّ هزم الله المشركين. وحدثني عبيد الله، قَالَ: حدثنا عمي، قال: أخبرنا سيف- وحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، قال: حدثنا سيف- عن المجالد ابن سعيد، قَالَ: لما فصل أسامة كفرت الأرض وتضرمت، وارتدت من كل قبيلة عامة أو خاصه الا قريشا وثقيفا. وحدثني عبيد الله، قَالَ: حَدَّثَنَا عمي، قَالَ: أخبرنا سيف- وحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، قال: حدثنا سَيْفٍ- عَنْ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا مات رَسُول اللَّهِ ص، وفصل أسامة ارتدت العرب عوام أو خواص، وتوحى مسيلمة وطليحة، فاستغلظ أمرهما، واجتمع على طليحة عوام طيئ وأسد، وارتدت غطفان إلى ما كان من أشجع وخواص من الأفناء فبايعوه، وقدمت هَوَازِن رجلا وأخرت رجلا أمسكوا الصدقه الا ما كان من ثقيف ولفها، فإنهم اقتدى بهم عوام جديلة والأعجاز، وارتدت خواص من بني سليم، وكذلك سائر الناس بكل مكان. قَالَ: وقدمت رسل النَّبِيّ ص من اليمن واليمامة وبلاد بني أسد ووفود من كان كاتبه النبي ص، وامر امره في الأسود ومسيلمه وطليحة بالأخبار والكتب، فدفعوا كتبهم إلى أبي بكر، واخبروه

الخبر، فَقَالَ لهم أبو بكر: لا تبرحوا حَتَّى تجيء رسل أمرائكم وغيرهم بأدهى مما وصفتم وأمر، وانتقاض الأمور فلم يلبثوا أن قدمت كتب أمراء النبي ص من كل مكان بانتقاض عامة أو خاصة، وتبسُّطهم بأنواع الميل على الْمُسْلِمين، فحاربهم أبو بكر بما كان رسول الله ص حاربهم بالرسل فرد رسلهم بأمره، وأتبع الرسل رسلا، وانتظر بمصادمتهم قدوم أسامة، وَكَانَ أول من صادم عبس وذبيان، عاجلوه فقاتلهم قبل رجوع أسامة. حدثني عبيد الله، قَالَ: أخبرنا عمي، قال: أخبرنا سيف- وحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، قال: حدثنا سيف- عن أبي عمرو، عن زيد بْن أسلم، قَالَ: مات رسول الله ص وعماله على قضاعة، وعلى كلب امرؤ القيس بْن الأصبغ الكلبي من بني عبد الله، وعلى القين عمرو بْن الحكم، وعلى سعد هذيم معاوية بْن فلان الوائلي. وقال السري الوالبي: فارتد وديعة الكلبي فيمن آزره من كلب، وبقي امرؤ القيس على دينه، وارتد زميل بْن قطبة القيني فيمن آزره من بني القين وبقي عمرو، وارتد معاوية فيمن آزره من سعد هذيم. فكتب أبو بكر إلى امرئ القيس بْن فلان- وهو جد سكينة ابنة حسين- فسار لوديعة، وإلى عمرو فأقام لزميل، وإلى معاوية العذري فلما توسط أسامة بلاد قضاعة، بث الخيول فيهم وأمرهم أن ينهضوا من أقام على الإسلام إلى من رجع عنه، فخرجوا هُرَّابا، حَتَّى أرزوا إلى دومة، واجتمعوا إلى وديعة، ورجعت خيول اسامه اليه، فمضى فيها أسامة. حَتَّى أغار على الحمقتين، فأصاب فِي بني الضبيب من جذام، وفي بني خيليل من لخم ولفها من القبيلين، وحازهم من آبل وانكفأ سالما غانما فحدثني السري، قال: حدثنا شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عن القاسم بن محمد، قال: مات رسول الله ص، واجتمعت أسد وغطفان وطيئ على طليحة، إلا ما كان من خواص أقوام فِي القبائل الثلاث، فاجتمعت أسد بسميراء، وفزارة ومن يليهم من غطفان بجنوب طيبة، وطيئ على حدود أرضهم واجتمعت ثعلبة بْن سعد ومن يليهم من مرة وعبس بالأبرق من الربذة، وتأشب، إِلَيْهِم ناس من بني كنانة، فلم تحملهم البلاد، فافترقوا فرقتين، فأقامت فرقة منهم بالأبرق، وسارت الأخرى إلى ذي القصة، وأمدهم طليحة بحبال فكان حبال على أهل ذي القصة من بني أسد ومن تأشب من ليث والديل ومدلج وَكَانَ على مرة بالأبرق عوف بْن فلان بْن سنان، وعلى ثعلبة وعبس الحارث ابن فلان، أحد بني سبيع، وقد بعثوا وفودا فقدموا الْمَدِينَة، فنزلوا على وجوه الناس، فأنزلوهم ما خلا عباسا فتحملوا بهم على أبي بكر، على أن يقيموا الصلاة، وعلى ألا يؤتوا الزكاة، فعزم الله لأبي بكر على الحق، وقال: لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه- وكانت عقل الصدقة على أهل الصدقة مَعَ الصدقة- فردهم فرجع وفد من يلي الْمَدِينَة من المرتدة إِلَيْهِم، فأخبروا

عشائرهم بقله من اهل المدينة، وأطعموهم فيها، وجعل أبو بكر بعد ما أخرج الوفد على انقاب المدينة نفرا: عليا والزبير وطلحة وعبد الله بْن مسعود، وأخذ أهل الْمَدِينَة بحضور المسجد، وقال لهم: إن الأرض كافرة، وقد رأى وفدهم منكم قلة، وإنكم لا تدرون أليلا تؤتون أم نهارا! وأدناهم منكم على بريد. وقد كان القوم يأملون أن نقبل منهم ونوادعهم، وقد أبينا عليهم، ونبذنا إِلَيْهِم عهدهم، فاستعدوا وأعدوا فما لبثوا إلا ثلاثا حَتَّى طرقوا الْمَدِينَة غارة مَعَ الليل، وخلفوا بعضهم بذي حسى، ليكونوا لهم ردءا، فوافق الغوار ليلا الأنقاب، وعليها المقاتلة، ودونهم أقوام يدرجون، فنبهوهم، وأرسلوا إلى أبي بكر بالخبر، فأرسل إِلَيْهِم أبو بكر أن الزموا أماكنكم، ففعلوا وخرج فِي أهل المسجد على النواضح إِلَيْهِم، فانفش العدو، فاتبعهم المسلمون على إبلهم، حَتَّى بلغوا ذا حسى، فخرج عليهم الردء بأنحاء قد نفخوها، جعلوا فيها الحبال، ثُمَّ دهدهوها بأرجلهم فِي وجوه الإِبِل، فتدهده كل نحي فِي طوله، فنفرت إبل الْمُسْلِمين وهم عليها- ولا تنفر الإِبِل من شيء نفارها من الأنحاء- فعاجت بهم ما يملكونها، حَتَّى دخلت بهم الْمَدِينَة، فلم يصرع مسلم ولم يصب، فَقَالَ: فِي ذَلِكَ الخطيل بن أوس أخو الحطيئه ابن أوس: فدى لبني ذبيان رحلي وناقتي ... عشية يحذى بالرماح أبو بكر ولكن يدهدي بالرجال فهبنه ... الى قدر ما ان يزيد ولا يحرى وللَّه أجناد تذاق مذاقه ... لتحسب فيما عد من عجب الدهر!

وأنشده الزهري: من حسب الدهر. وقال عبد الله الليثي، وكانت بنو عبد مناة من المرتدة- وهم بنو ذبيان- فِي ذَلِكَ الأمر بذى القصة وبذى حمى: أطعنا رَسُول اللَّهِ ما كان بيننا ... فيا لعباد الله ما لأبي بكر! أيورثها بكرا إذا مات بعده ... وتلك لعمر الله قاصمة الظهر فهلا رددتم وفدنا بزمانه ... وهلا خشيتم حس راغية البكر! وإن التي سألوكم فمنعتم ... لكالتمر أو أحلى إلي من التمر فظن القوم بالمسلمين الوهن، وبعثوا إلى أهل ذي القصة بالخبر، فقدموا عليهم اعتمادا فِي الذين أخبروهم، وهم لا يشعرون لأمر الله عز وجل الَّذِي أراده، وأحب أن يبلغه فيهم، فبات أبو بكر ليلته يتهيأ، فعبَّى الناس، ثم خرج على تعبئة من أعجاز ليلته يمشي، وعلى ميمنته النعمان بْن مقرن، وعلى ميسرته عبد الله بْن مقرن، وعلى الساقة سويد بْن مقرن معه الركاب، فما طلع الفجر إلا وهم والعدو فِي صعيد واحد، فما سمعوا للمسلمين همسا ولا حسا حَتَّى وضعوا فيهم السيوف، فاقتتلوا أعجاز ليلتهم، فما ذر قرن الشمس حَتَّى ولوهم الأدبار، وغلبوهم على عامة ظهرهم، وقتل حبال واتبعهم أبو بكر، حَتَّى نزل بذي القصة- وَكَانَ أول الفتح- ووضع بِهَا النعمان ابن مقرن فِي عدد، ورجع إلى الْمَدِينَة فذل بِهَا المشركون، فوثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم مِنَ الْمُسْلِمين، فقتلوهم كل قتلة، وفعل من وراءهم فعلهم وعز المسلمون بوقعة أبي بكر، وحلف أبو بكر ليقتلن فِي المشركين كل قتلة، وليقتلن فِي كل قبيلة بمن قتلوا مِنَ الْمُسْلِمين وزيادة، وفي ذَلِكَ يقول زياد بْن حنظلة التميمي:

غداة سعى أبو بكر إِلَيْهِم ... كما يسعى لموتته جلال أراح على نواهقها عليا ... ومج لهن مهجته حبال وقال أيضا: أقمنا لهم عرض الشمال فكبكبوا ... ككبكبة الغزى أناخوا على الوفر فما صبروا للحرب عِنْد قيامها ... صبيحة يسمو بالرجال أبو بكر طرقنا بني عبس بأدنى نباجها ... وذبيان نهنهنا بقاصمة الظهر ثُمَّ لم يصنع إلا ذَلِكَ، حَتَّى ازداد المسلمون لَهَا ثباتا على دينهم فِي كل قبيلة، وازداد لَهَا المشركون انعكاسا من أمرهم فِي كل قبيلة، وطرقت الْمَدِينَة صدقات نفر: صفوان، الزبرقان، عدي، صفوان، ثُمَّ الزبرقان، ثُمَّ عدي، صفوان فِي أول الليل، والثاني فِي وسطه، والثالث فِي آخره وَكَانَ الَّذِي بشر بصفوان سعد بْن أبي وقاص، والذي بشر بالزبرقان عبد الرحمن بْن عوف، والذي بشر بعدي عبد الله بْن مسعود وقال غيره: أبو قتادة. قَالَ: وقال الناس لكلهم حين طلع: نذير، وقال أبو بكر: هذا بشير، هذا حام وليس بوان، فإذا نادى بالخير، قالوا: طالما بشرت بالخير! وذلك لتمام ستين يوما من مخرج أسامة وقدم أسامة بعد ذَلِكَ بأيام لشهرين وأيام، فاستخلفه أبو بكر على الْمَدِينَة، وقال لَهُ ولجنده: أريحوا وأريحوا ظهركم. ثُمَّ خرج فِي الذين خرجوا إلى ذي القصة والذين كانوا على الأنقاب على ذَلِكَ الظهر، فَقَالَ لَهُ المسلمون: ننشدك الله يا خليفة رَسُول اللَّهِ أن تعرض نفسك! فإنك إن تصب لم يكن للناس نظام، ومقامك أشد على العدو، فابعث رجلا، فإن أصيب أمرت آخر، فَقَالَ: لا والله لا أفعل ولأواسينكم بنفسي، فخرج فِي تعبيته إلى ذي حسى وذي القصة، والنعمان وعبد الله وسويد على ما كانوا عليه، حَتَّى نزل على أهل الربذة بالأبرق، فاقتتلوا، فهزم

الله الحارث وعوفا، وأخذ الحطيئة أسيرا، فطارت عبس وبنو بكر، وأقام أبو بكر على الأبرق أياما، وقد غلب بني ذبيان على البلاد وقال: حرام على بني ذبيان أن يتملكوا هذه البلاد إذ غنمناها الله! وأجلاها. فلما غلب أهل الردة، ودخلوا فِي الباب الَّذِي خرجوا منه، وسامح الناس جاءت بنو ثعلبة، وهي كانت منازلهم لينزلوها، فمنعوا منها فاتوه في المدينة، فقالوا: علا م نمنع من نزول بلادنا! فَقَالَ: كذبتم، ليست لكم ببلاد، ولكنها موهبي ونقذى، ولم يعتبهم، وحمى الأبرق لخيول الْمُسْلِمين، وأرعى سائر بلاد الربذة الناس على بني ثعلبة، ثُمَّ حماها كلها لصدقات الْمُسْلِمين، لقتال كان وقع بين الناس وأصحاب الصدقات، فمنع بذلك بعضهم من بعض. ولما فضت عبس وذبيان أرزوا إلى طليحة وقد نزل طليحة على بزاخة، وارتحل عن سميراء إليها، فأقام عليها، وقال فِي يوم الأبرق زياد بْن حنظلة: ويوم بالأبارق قد شهدنا ... على ذبيان يلتهب التهابا أتيناهم بداهية نسوف ... مَعَ الصديق إذ ترك العتابا حَدَّثَنِي السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد بْنِ ثَابِتِ بْنِ الْجَذِعِ وَحَرَامِ بْنِ عُثْمَانَ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَمَضَى حَتَّى انْتَهَى إِلَى الرَّبَذَةِ يَلْقَى بَنِي عَبْسٍ وَذُبْيَانَ وجماعه من بنى عبد مناه ابن كِنَانَةَ، فَلَقِيَهُمْ بِالأَبْرَقِ، فَقَاتَلَهُمْ فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ وَفَلَّهُمْ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا جَمَّ جُنْدُ أُسَامَةَ، وَثَابَ مَنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ خَرَجَ إِلَى ذِي الْقُصَّةِ فَنَزَلَ بِهِمْ- وَهُوَ عَلَى بَرِيدٍ مِنَ الْمَدِينَةِ تِلْقَاءَ نَجْدٍ- فَقَطَعَ فِيهَا الْجُنْدَ، وَعَقَدَ الأَلْوِيَةَ، عَقَدَ أَحَدَ عَشَرَ لِوَاءً عَلَى أَحَدَ عَشَرَ جُنْدًا، وَأَمَرَ أَمِيرَ كُلَّ

كتاب ابى بكر إلى القبائل المرتدة ووصيته للامراء

جُنْدٍ بِاسْتِنْفَارِ مَنْ مَرَّ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْقُوَّةِ، وَتَخَلَّفَ بَعْضُ أَهْلِ الْقُوَّةِ لِمَنْعِ بِلادِهِمْ. حَدَّثَنَا السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عن الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: لَمَّا أَرَاحَ أُسَامَةُ وَجُنْدُهُ ظَهْرَهُمْ وَجَمُّوا، وَقَدْ جَاءَتْ صَدَقَاتٌ كَثِيرَةٌ تَفْضُلُ عَنْهُمْ، قَطَعَ أَبُو بَكْرٍ الْبُعُوثَ وَعَقَدَ الأَلْوِيَةَ، فَعَقَدَ أَحَدَ عَشَرَ لِوَاءً: عَقَدَ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَأَمَرَهُ بِطُلَيْحَةَ بْنِ خُوَيْلِدٍ، فَإِذَا فَرَغَ سَارَ إِلَى مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ بِالْبِطَاحِ ان اقام له، ولعكرمه ابن أَبِي جَهْلٍ وَأَمَرَهُ بِمُسَيْلِمَةَ، وَلِلْمُهَاجِرِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ وَأَمَرَهُ بِجُنُودِ الْعَنْسِيِّ وَمَعُونَةِ الأَبْنَاءِ عَلَى قَيْسِ بْنِ الْمَكْشُوحِ وَمَنْ أَعَانَهُ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يَمْضِي إِلَى كِنْدَةَ بِحَضْرَمَوْتَ، وَلِخَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ- وَكَانَ قَدِمَ عَلَى تَفْيِئَةِ ذَلِكَ مِنَ الْيَمَنِ وَتَرَكَ عَمَلَهُ- وَبَعَثَهُ إِلَى الْحَمِقَتَيْنِ مِنْ مَشَارِفِ الشَّامِ، وَلِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ إِلَى جِمَاعِ قُضَاعَةَ وَوَدِيعَةَ وَالْحَارِثِ، وَلِحُذَيْفَةَ بْنِ مِحْصَنٍ الْغَلْفَانِيِّ وَأَمَرَهُ بِأَهْلِ دَبَا وَلِعَرْفَجَةَ بْنِ هَرْثَمَةَ وَأَمَرَهُ بِمُهْرَةَ، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَجْتَمِعَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي عَمَلِهِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَبَعَثَ شُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ فِي أَثَرِ عكرمه ابن أَبِي جَهْلٍ، وَقَالَ: إِذَا فَرَغَ مِنَ الْيَمَامَةِ فَالْحَقْ بِقُضَاعَةَ، وَأَنْتَ عَلَى خَيْلِكَ تُقَاتِلُ أَهْلَ الرِّدَّةِ، وَلِطَرِيفَةَ بْنِ حَاجِزٍ وَأَمَرَهُ بِبَنِي سُلَيْمٍ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ هَوَازِنَ، وَلِسُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ وَأَمَرَهُ بِتِهَامَةَ الْيَمَنِ، وَلِلْعَلاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ وَأَمَرَهُ بالبحرين كتاب ابى بكر الى القبائل المرتدة ووصيته للامراء فَفَصَلَتِ الأُمَرَاءُ مِنْ ذِي الْقُصَّةِ، وَنَزَلُوا عَلَى قَصْدِهِمْ، فَلَحِقَ بِكُلِّ أَمِيرٍ جُنْدُهُ، وَقَدْ عَهِدَ اليهم عهده، وكتب الى من بعث اليه مِنْ جَمِيعِ الْمُرْتَدَّةِ

حَدَّثَنَا السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَشَارَكَهُ فِي الْعَهْدِ وَالْكِتَابِ قَحْذَمٌ، فَكَانَتْ الْكُتُبُ إِلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ الْمُرْتَدَّةِ كِتَابًا وَاحِدًا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ ص إِلَى مَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي هَذَا مِنْ عَامَّةٍ وَخَاصَّةٍ، أَقَامَ عَلَى إِسْلامِهِ أَوْ رَجَعَ عَنْهُ سَلامٌ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى، وَلَمْ يَرْجِعْ بَعْدَ الْهُدَى إِلَى الضَّلالَةِ وَالْعَمَى، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكُمُ اللَّهَ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، نُقِرُّ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَنُكَفِّرُ مَنْ أَبَى وَنُجَاهِدُهُ أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى خَلْقِهِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً، لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ فَهَدَى اللَّهُ بِالْحَقِّ مَنْ أَجَابَ إِلَيْهِ. وضرب رسول الله ص بِإِذْنِهِ مَنْ أَدْبَرَ عَنْهُ، حَتَّى صَارَ إِلَى الإِسْلامِ طَوْعًا وَكَرْهًا ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ رَسُولَهُ الله ص وَقَدْ نَفَّذَ لأَمْرِ اللَّهِ، وَنَصَحَ لأُمَّتِهِ، وَقَضَى الَّذِي عَلَيْهِ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ بَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ وَلأَهْلِ الإِسْلامِ فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ، فقال: «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ» وَقَالَ: «وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ» وَقَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ: «وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» ، فَمَنْ كَانَ إِنَّمَا يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ إِنَّمَا يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَهُ بِالْمِرْصَادِ، حَيٌّ قَيُّومٌ لا يَمُوتُ، وَلا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ، حَافِظٌ لأَمْرِهِ، مُنْتَقِمٌ مِنْ عَدُوِّهِ، يَجْزِيهِ وَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَحَظِّكُمْ وَنَصِيبِكُمْ مِنَ اللَّهِ، وَمَا جَاءَكُمْ بِهِ نَبِيُّكُمْ ص، وَأَنْ تَهْتَدُوا بِهُدَاهُ، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِدِينِ اللَّهِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَهْدِهِ اللَّهُ ضَالٌّ، وكل

مَنْ لَمْ يُعَافِهِ مُبْتَلًى، وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُعِنْهُ اللَّهُ مَخْذُولٌ، فَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ كَانَ مُهْتَدِيًا، وَمَنْ أَضَلَّهُ كَانَ ضَالا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً» ، وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا عَمَلٌ حَتَّى يقربه، وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ فِي الآخِرَةِ صَرَفٌ وَلا عَدْلٌ. وَقَدْ بَلَغَنِي رُجُوعُ مَنْ رَجَعَ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ أَقَرَّ بِالإِسْلامِ وَعَمِلَ بِهِ، اغْتِرَارًا بِاللَّهِ، وَجَهَالَةً بِأَمْرِهِ، وَإِجَابَةً لِلشَّيْطَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا» وَقَالَ: «إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ» ، وَإِنِّي بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ فُلانًا فِي جَيْشٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالتَّابِعِينَ بِإِحْسَانٍ، وَأَمَرْتُه أَلا يُقَاتِلَ أَحَدًا وَلا يَقْتُلَهَ حَتَّى يَدْعُوَهُ إِلَى دَاعِيَةِ اللَّهِ، فَمَنِ اسْتَجَابَ لَهُ وَأَقَرَّ وَكَفَّ وَعَمِلَ صَالِحًا قَبِلَ مِنْهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَبَى أَمَرْتُ أَنْ يُقَاتِلَهُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ لا يُبْقِي عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ قَدِرَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُحَرِّقَهُمْ بِالنَّارِ، وَيَقْتُلَهُمْ كُلَّ قتلة، وَأَنْ يَسْبِيَ النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ، وَلا يَقْبَلْ مِنْ أَحَدٍ إِلا الإِسْلامَ، فَمَنِ اتَّبَعَهُ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَمَنْ تَرَكَهُ فَلَنْ يُعْجِزَ اللَّهَ وَقَدْ أَمَرْتُ رَسُولِي أَنْ يَقْرَأَ كِتَابِي فِي كُلِّ مَجْمَعٍ لَكُمْ، وَالدَّاعِيَةُ الأَذَانُ، فَإِذَا أَذَّنَ الْمُسْلِمُونَ فَأَذَّنُوا كُفُّوا عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُؤَذِّنُوا عَاجَلُوهُمْ، وَإِنْ أَذَّنُوا اسْأَلُوهُمْ مَا عَلَيْهِمْ، فَإِنْ أَبَوْا عَاجِلُوهُمْ، وَإِنْ أَقَرُّوا قُبِلَ مِنْهُمْ، وَحَمَلَهُمْ عَلَى مَا يَنْبَغِي لَهُمْ. فَنَفَذَتِ الرُّسُلُ بِالْكُتُبِ أَمَامَ الْجُنُودِ، وَخَرَجَتِ الأُمَرَاءُ وَمَعَهُمُ الْعُهُودُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا عَهْدٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَلِيفَةِ رَسُولِ الله ص لِفُلانٍ حِينَ بَعَثَهُ فِيمَنْ بَعَثَهُ لِقِتَالِ مَنْ رَجَعَ عَنِ الإِسْلامِ، وَعَهِدَ إِلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ فِي أَمْرِهِ كُلِّهِ سِرِّهِ وَعَلانِيَتِهِ، وَأَمَرَهُ بِالْجِدِّ فِي أَمْرِ اللَّهِ،

وَمُجَاهَدَةِ مَنْ تَوَلَّى عَنْهُ، وَرَجَعَ عَنِ الإِسْلامِ إِلَى أَمَانِيِّ الشَّيْطَانِ بَعْدَ أَنْ يَعْذِرَ إِلَيْهِمْ فَيَدْعُوهُمْ بِدَاعَيَةِ الإِسْلامِ، فَإِنْ أَجَابُوهُ أَمْسَكَ عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُجِيبُوهُ شَنَّ غَارَتَهُ عَلَيْهِمْ، حَتَّى يُقِرُّوا لَهُ، ثُمَّ يُنْبِئهُمْ بِالَّذِي عَلَيْهِمْ وَالَّذِي لَهُمْ، فَيَأْخُذ مَا عَلَيْهِمْ، وَيُعْطيهمُ الَّذِي لَهُمْ، لا يُنْظِرْهُمْ، وَلا يَرُدَّ الْمُسْلِمِينَ عَنْ قِتَالِ عَدُوِّهِمْ، فَمَنْ أَجَابَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَقَرَّ لَهُ قَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِنَّمَا يُقَاتِلُ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ عَلَى الإِقْرَارِ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَإِذَا أَجَابَ الدَّعْوَةَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، وَكَانَ اللَّهُ حَسِيبَهُ بَعْدُ فِيمَا اسْتَسَرَّ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبْ دَاعِيَةَ اللَّهِ قُتِلَ وَقُوتِلَ حَيْثُ كَانَ، وَحَيْثُ بَلَغَ مُرَاغَمَةً، لا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا أَعْطَاهُ إِلا الإِسْلامَ، فَمَنْ أَجَابَهُ وَأَقَرَّ قُبِلَ مِنْهُ وَعَلِمَهُ، وَمَنْ أَبَى قَاتَلَهُ، فَإِنْ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ قَتَلَ مِنْهُمْ كُلَّ قِتْلَةٍ بِالسِّلاحِ وَالنِّيرَانِ، ثُمَّ قَسَّمَ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ، إِلا الْخُمُسَ فَإِنَّهُ يُبَلِّغَنَاهُ، وَأَنْ يَمْنَعَ أَصْحَابَهُ الْعَجَلَةَ وَالْفَسَادَ، وَأَلا يَدْخُلَ فِيهِمْ حَشْوًا حَتَّى يَعْرِفَهُمْ وَيَعْلَمَ مَا هُمْ، لا يكونوا عيونا، ولئلا يُؤْتَى الْمُسْلِمُونَ مِنْ قِبَلِهِمْ، وَأَنْ يَقْتَصِدَ بِالْمُسْلِمِينَ وَيَرْفِقَ بِهِمْ فِي السَّيْرِ وَالْمَنْزِلِ وَيَتَفَقَّدَهُمْ، وَلا يَعْجَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَيَسْتَوْصِيَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي حُسْنِ الصُّحْبَةِ وَلِينِ الْقَوْلِ

ذكر بقية الخبر عن غطفان حين انضمت إلى طليحة وما آل اليه امر طليحة

ذكر بقية الخبر عن غطفان حين انضمت إلى طليحة وما آل إليه أمر طليحة حدثنا عبيد الله بن سعد، قال: حدثنا عمي، قال: أخبرنا سيف- وحدثني السري، قال: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ- عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَبَدْرِ بْنِ الْخَلِيلِ وَهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، قَالُوا: لَمَّا أَرَزَتْ عَبْسٌ وَذُبْيَانُ وَلَفَّهَا إِلَى الْبُزَاخَةِ، أَرْسَلَ طُلَيْحَةُ إِلَى جَدِيلَةَ وَالْغَوْثِ أَنْ يَنْضَمُّوا إِلَيْهِ، فتعجل إِلَيْهِ، فَتَعَجَّلَ إِلَيْهِ أُنَاسٌ مِنَ الْحَيَّيْنِ، وَأَمَرُوا قَوْمَهُمْ بِاللِّحَاقِ بِهِمْ، فَقَدِمُوا عَلَى طُلَيْحَةَ، وَبَعَثَ أَبُو بَكْرٍ عَدِيًّا قَبْلَ تَوْجِيهِ خَالِدٍ مِنْ ذِي الْقُصَّةِ إِلَى قَوْمِهِ، وَقَالَ: أَدْرِكْهُمْ لا يؤكلوا فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَتَلَهُمْ فِي الذِّرْوَةِ وَالْغَارِبِ، وَخَرَجَ خَالِدٌ فِي أَثَرِهِ، وَأَمَرَهُ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يبدأ بطيىء عَلَى الأَكْنَافِ، ثُمَّ يَكُونَ وَجْهَهُ إِلَى الْبُزَاخَةِ، ثُمَّ يُثَلِّثُ بِالْبِطَاحِ، وَلا يُرِيمَ إِذَا فَرَغَ مِنْ قَوْمٍ حَتَّى يُحَدِّثَ إِلَيْهِ، وَيَأْمُرَهُ بِذَلِكَ وَأَظْهَرَ أَبُو بَكْرٍ أَنَّهُ خَارِجٌ إِلَى خَيْبَرَ وَمُنْصَبٌّ عَلَيْهِ مِنْهَا حَتَّى يُلاقِيَهُ بِالأَكْنَافِ، أَكْنَافِ سَلْمَى، فَخَرَجَ خَالِدٌ فَازَّوَارَ عَنِ الْبُزَاخَةِ، وَجَنَحَ إِلَى أَجَأَ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ خَارِجٌ إِلَى خَيْبَرَ، ثُمَّ مُنْصَبٌّ عَلَيْهِمْ، فَقَعَّدَ ذَلِكَ طَيِّئًا وَبَطَّأَهُمْ عَنْ طُلَيْحَةَ، وَقَدِمَ عَلَيْهِمْ عَدِيٌّ، فَدَعَاهُمْ فَقَالُوا: لا نُبَايِعُ أَبَا الْفَصِيلِ أَبَدًا، فَقَالَ: لَقَدْ أَتَاكُمْ قَوْمٌ لَيُبِيحُنَّ حَرِيمَكُمْ، وَلَتَكُنّنَّهُ بِالْفَحْلِ الأَكْبَرِ، فَشَأْنُكُمْ بِهِ فَقَالُوا لَهُ: فَاسْتَقْبِلِ الْجَيْشَ فَنَهْنِهْهُ عَنَّا حَتَّى نَسْتَخْرِجَ مَنْ لَحِقَ بِالْبُزَاخَةِ مِنَّا، فَإِنَّا إِنْ خَالَفْنَا طُلَيْحَةَ وَهُمْ فِي يَدَيْهِ قَتَلَهُمْ أَوِ ارْتَهَنَهُمْ فَاسْتَقْبَلَ عَدِيٌّ خَالِدًا وَهُوَ بِالسُّنْحِ، فَقَالَ: يَا خَالِدُ، أَمْسِكْ عَنِّي ثَلاثًا يجتمع لك خمسمائة مُقَاتِلٍ تَضْرِبُ بِهِمْ عَدُوَّكَ، وَذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُعْجِلَهُمْ إِلَى النَّارِ، وَتُشَاغِلَ بِهِمْ، فَفَعَلَ فعاد عدى اليهم وقد أرسلوا إخوانهم، فَأَتَوْهُمْ مِنْ بُزَاخَةَ كَالْمَدَدِ لَهُمْ، وَلَوْلا ذَلِكَ لَمْ يُتْرَكُوا، فَعَادَ عَدِيٌّ بِإِسْلامِهِمْ إِلَى خَالِدٍ، وَارْتَحَلَ خَالِدٌ نَحْوَ الأَنْسَرِ يُرِيدُ جَدِيلَةَ، فَقَالَ لَهُ عَدِيٌّ: إِنَّ طَيِّئًا كَالطَّائِرِ، وَإِنَّ جَدِيلَةَ

أَحَدُ جَنَاحَيْ طَيِّئٍ، فَأَجِّلْنِي أَيَّامًا لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْتَقِذَ جَدِيلَةَ كَمَا انْتَقَذَ الْغَوْثَ، فَفَعَلَ، فَأَتَاهُمْ عَدِيٌّ فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى بَايَعُوهُ، فَجَاءَهُ بِإِسْلامِهِمْ، وَلَحِقَ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ أَلْفُ رَاكِبٍ، فَكَانَ خَيْرَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي أَرْضِ طَيِّئٍ وَأَعْظَمَهُ عَلَيْهِمْ بَرَكَةً. وَأَمَّا هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا رَجَعَ إِلَيْهِ أُسَامَةُ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْجَيْشِ، جَدَّ فِي حَرْبِ أَهْلِ الرِّدَّةِ، وَخَرَجَ بِالنَّاسِ وَهُوَ فِيهِمْ حَتَّى نَزَلَ بِذِي الْقُصَّةِ، مَنْزِلا مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى بَرِيدٍ مِنْ نَحْوِ نَجْدٍ، فَعَبَّى هُنَالِكَ جُنُودَهُ، ثُمَّ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى النَّاسِ، وَجَعَلَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ عَلَى الأَنْصَارِ، وَأَمَرَهُ إِلَى خَالِدٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَصْمُدَ لِطُلَيْحَةَ وَعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَهُمَا عَلَى بُزَاخَةَ، مَاءٌ مِنْ مِيَاهِ بَنِي أَسَدٍ، وَأَظْهِرْ أَنِّي أُلاقِيَكَ بِمَنْ مَعِي مِنْ نَحْوِ خَيْبَرَ، مَكِيدَةً، وَقَدْ أَوْعَبَ مَعَ خَالِدٍ النَّاس، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ عَدُوَّهُ فَيُرْعِبَهُمْ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَسَارَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَتَّى إِذَا دَنَا مِنَ الْقَوْمِ بَعَثَ عُكَاشَةَ بْنَ مِحْصَنٍ، وَثَابِتَ بْنَ أَقْرَمَ- أَحَدَ بَنِي الْعَجْلانِ حَلِيفًا لِلأَنْصَارِ- طَلِيعَةً، حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنَ الْقَوْمِ خَرَجَ طُلَيْحَةُ وَأَخُوهُ سَلَمَةُ يَنْظُرَانِ وَيَسْأَلانِ: فَأَمَّا سَلَمَةُ فَلَمْ يُمْهِلْ ثَابِتًا أَنْ قَتَلَهُ، وَنَادَى طُلَيْحَةُ أَخَاهُ حِينَ رَأَى أَنْ قَدْ فَرَغَ مِنْ صَاحِبِهِ أَنْ أَعِنِّي عَلَى الرَّجُلِ، فَإِنَّهُ آكِلٌ، فَاعْتَوَنَا عَلَيْهِ، فَقَتَلاهُ ثُمَّ رَجَعَا، وَأَقْبَلَ خَالِدٌ بِالنَّاسِ حَتَّى مَرُّوا بِثَابِتِ بْنِ أَقْرَمَ قَتِيلا، فَلَمْ يَفْطِنُوا لَهُ حَتَّى وَطِئَتْهُ الْمَطِيُّ بِأَخْفَافِهَا، فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ نَظَرُوا فَإِذَا هُمْ بِعُكَاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ صَرِيعًا، فَجَزِعَ لِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ، وَقَالُوا: قُتِلَ سَيِّدَانِ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَفَارِسَانِ مِنْ فِرْسَانِهِمْ، فَانْصَرَفَ خَالِدٌ نَحْوَ طَيِّئٍ. قَالَ هِشَامٌ: قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ مُجَاهِدٍ، عَنِ الْمُحِلِّ ابن خَلِيفَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: بَعَثْتُ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنْ سِرْ إِلَيَّ فَأَقِمْ عِنْدِي أَيَّامًا حَتَّى أَبْعَثَ إِلَى قَبَائِلِ طَيِّئٍ، فَأَجْمَعَ لَكَ مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِمَّنْ مَعَكَ، ثُمَّ أَصْحَبُكَ إِلَى عَدُوِّكَ قَالَ: فَسَارَ إِلَيَّ. قَالَ هِشَامٌ: قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلامِ بْنُ سُوَيْدٍ أَنَّ بَعْضَ

الأَنْصَارِ حَدَّثَهُ أَنَّ خَالِدًا لَمَّا رَأَى مَا بِأَصْحَابِهِ مِنَ الْجَزَعِ عِنْدَ مَقْتَلِ ثَابِتٍ وَعُكَاشَةَ، قَالَ لَهُمْ: هَلْ لَكُمْ إِلَى أَنْ أَمِيلَ بِكُمْ إِلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، كَثِيرٍ عَدَدُهُمْ، شَدِيدَةٍ شَوْكَتُهُمْ، لَمْ يَرْتَدَّ مِنْهُمْ عَنِ الإِسْلامِ أَحَدٌ! فَقَالَ لَهُ النَّاسُ: وَمَنْ هَذَا الْحَيُّ الَّذِي تَعْنِي؟ فَنِعْمَ وَاللَّهِ الْحَيُّ هُوَ! قَالَ لَهْمُ: طَيِّئٌ، فَقَالُوا: وَفَّقَكَ اللَّهُ، نِعْمَ الرَّأْيُ رَأَيْتَ! فَانْصَرَفَ بِهِمْ حَتَّى نَزَلَ بِالْجَيْشِ فِي طَيِّئٍ. قَالَ هِشَامٌ: حَدَّثَنِي جَدِيلُ بْنُ خَبَّابٍ النَّبْهَانِيُّ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ أُبَيٍّ، أَنَّ خَالِدًا جَاءَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى أَرَكِ، مَدِينَةِ سَلْمَى. قَالَ هِشَامٌ: قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَنَّهُ نَزَلَ بِأَجَأَ، ثُمَّ تَعَبَّى لِحَرْبِهِ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى الْتَقَيَا عَلَى بُزَاخَةَ، وَبَنُو عَامِرٍ عَلَى سَادَتِهِمْ وَقَادَتِهِمْ قَرِيبًا يَسْتَمِعُونَ وَيَتَرَبَّصُونَ عَلَى مَنْ تَكُونُ الدِّبْرَةُ. قَالَ هِشَامٌ عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ: حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَشْيَاخًا مِنْ قَوْمِهِ يَقُولُونَ: سَأَلْنَا خَالِدًا أَنْ نَكْفِيَهُ قَيْسًا فَإِنَّ بَنِي أَسَدٍ حُلَفَاؤُنَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا قَيْسٌ بِأَوْهَنَ الشَّوْكَتَيْنِ، اصْمُدُوا إِلَى أَيِّ الْقِبْلَتَيْنِ أَحْبَبْتُمْ، فَقَالَ عَدِيٌّ: لَوْ تَرَكَ هَذَا الدِّينَ أُسْرَتِي الأَدْنَى فَالأَدْنَى مِنْ قَوْمِي لَجَاهَدْتُهُمْ عَلَيْهِ، فَأَنَا أَمْتَنِعُ مِنْ جِهَادِ بَنِي أَسَدٍ لِحِلْفِهِمْ! لا لَعَمْرِ اللَّهِ لا أَفْعَلُ! فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: إِنَّ جِهَادَ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا جِهَادٌ، لا تُخَالِفْ رَأْيَ أَصْحَابِكَ، امض الى احد الفريقين، وامض بِهِمْ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ هُمْ لِقِتَالِهِمْ أَنْشَطُ. قَالَ هِشَامٌ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ السَّلامِ بْنُ سُوَيْدٍ، أَنَّ خَيْلَ طَيِّئٍ كَانَتْ تَلْقَى خَيْلَ بَنِي أَسَدٍ وَفَزَارَةَ قَبْلَ قُدُومِ خالد عليهم فيتشامون وَلا يَقْتَتِلُونَ، فَتَقُولُ أَسَدٌ وَفَزَارَةُ: لا وَاللَّهِ لا نُبَايِعُ أَبَا الْفَصِيلِ أَبَدًا فَتَقُولُ لَهُمْ خَيْلُ طَيِّئٍ: أَشْهَدُ لَيُقَاتِلَنَّكُمْ حَتَّى تُكَنُّوهُ أَبَا الْفَحْلِ الأَكْبَرِ! فحدثنا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بن إسحاق،

عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عتبة، قَالَ: حدثت أن الناس لما اقتتلوا، قاتل عيينه مع طليحة في سبعمائة من بني فزارة قتالا شديدا، وطليحة متلفف فِي كساء لَهُ بفناء بيت لَهُ من شعر، يتنبأ لهم، والناس يقتتلون، فلما هزت عيينة الحرب، وضرس القتال، كر على طليحة، فَقَالَ: هل جاءك جبريل بعد؟ قَالَ: لا، قَالَ: فرجع فقاتل حَتَّى إذا ضرس القتال وهزته الحرب كر عليه فقال: لا أيا لك! أجاءك جبريل بعد؟ قَالَ: لا والله، قَالَ: يقول عيينة حلفا: حَتَّى متى! قد والله بلغ منا! قَالَ: ثُمَّ رجع فقاتل، حَتَّى إذا بلغ كر عَلَيْهِ، فَقَالَ: هل جاءك جبريل بعد؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فماذا قَالَ لك؟ قَالَ: قَالَ لي: إن لك رحا كرحاه، وحديثا لا تنساه، قَالَ: يقول عيينة: أظن أن قد علم الله أنه سيكون حديث لا تنساه، يا بني فزارة هكذا، فانصرفوا، فهذا والله كذاب فانصرفوا وانهزم الناس فغشوا طليحة يقولون: ماذا تأمرنا؟ وقد كان أعد فرسه عنده، وهيأ بعيرا لامرأته النوار، فلما أن غشوه يقولون: ماذا تأمرنا؟ قام فوثب على فرسه، وحمل امرأته ثُمَّ نجا بِهَا، وقال: من استطاع منكم أن يفعل مثل ما فعلت وينجو بأهله فليفعل، ثُمَّ سلك الحوشية حَتَّى لحق بالشام وارفضَّ جمعه، وقتل الله من قتل منهم، وبنو عامر قريبا منهم على قادتهم وسادتهم، وتلك القبائل من سليم وهوازن على تلك الحال، فلما أوقع الله بطليحة وفزارة ما أوقع، أقبل أولئك يقولون: ندخل فيما خرجنا مِنْهُ، ونؤمن بالله ورسوله، ونسلم لحكمه فِي أموالنا وأنفسنا قَالَ أبو جعفر: وَكَانَ سبب ارتداد عيينة وغطفان ومن ارتد من طيئ مَا حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمِّي، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَيْفٌ- وَحَدَّثَنِي السَّرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ عَنْ سَيْفٍ- عَنْ طَلْحَةَ بْنِ الأعلم عن حبيب ابن رَبِيعَةَ الأَسَدِيِّ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ فُلانٍ الأَسَدِيِّ، قَالَ: ارْتَدَّ طُلَيْحَةُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ص، فادعى النبوه، فوجه النبي

ص ضِرَارَ بْنَ الأَزْوَرِ إِلَى عُمَّالِهِ عَلَى بَنِي أَسَدٍ فِي ذَلِكَ، وَأَمَرَهُمْ بِالْقِيَامِ فِي ذَلِكَ عَلَى كُلِّ مَنِ ارْتَدَّ، فَأَشَجُّوا طُلَيْحَةَ وَأَخَافُوهُ، وَنَزَلَ الْمُسْلِمُونَ بِوَارِدَاتٍ، وَنَزَلَ الْمُشْرِكُونَ بِسَمِيرَاءَ، فَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ فِي نَمَاءٍ وَالْمُشْرِكُونَ فِي نُقْصَانٍ، حَتَّى هَمَّ ضِرَارٌ بِالْمَسِيرِ إِلَى طُلَيْحَةَ، فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ إِلا أَخَذَهُ سِلْمًا، إِلا ضَرْبَةً كَانَ ضَرَبَهَا بِالْجُرَازِ، فَنَبَا عَنْهُ، فَشَاعَتْ فِي النَّاسِ فَأُتِيَ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِخَبَرِ موت نبيهم ص، وَقَالَ نَاسٌ مِنَ النَّاسِ لِتِلْكَ الضَّرْبَةِ: إِنَّ السِّلاحَ لا يَحِيكُ فِي طُلَيْحَةَ، فَمَا أَمْسَى الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى عَرَفُوا النُّقْصَانَ، وَارْفَضَّ النَّاسُ إِلَى طُلَيْحَةَ، وَاسْتَطَارَ أَمْرُهُ، وَأَقْبَلَ ذُو الْخِمَارَيْنِ عَوْفٌ الْجُذَمِيُّ حَتَّى نَزَلَ بِإِزَائِنَا، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ثُمَامَةُ بْنُ أَوْسِ بْنِ لأَمٍ الطائي: ان معى من جديله خمسمائة، فَإِنْ دَهِمَكُمْ أَمْرٌ فَنَحْنُ بِالْقُرْدُودَةِ وَالأَنْسَرِ دُوَيْنِ الرمل وارسل اليه مهلهل بن زيد: إِنَّ مَعِي حَدَّ الْغَوْثِ، فَإِنْ دَهِمَكُمْ أَمْرٌ فَنَحْنُ بِالأَكْنَافِ بِحِيَالِ فَيْدٍ وَإِنَّمَا تَحَدَّبَتْ طَيِّئٌ عَلَى ذِي الْخِمَارَيْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ أَسَدٍ وَغَطَفَانَ وَطَيِّئٍ حِلْفٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا كان قبل مبعث النبي ص اجْتَمَعَتْ غَطَفَانُ وَأَسَدٌ عَلَى طَيِّئٍ، فَأَزَاحُوهَا عَنْ دَارِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ: غَوْثُهَا وَجَدِيلَتُهَا، فَكَرِهَ ذَلِكَ عَوْفٌ، فَقَطَعَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَطَفَانَ، وَتَتَابَعَ الْحَيَّانُ عَلَى الْجَلاءِ، وَأَرْسَلَ عَوْفٌ إِلَى الْحَيَّيْنِ مِنْ طَيِّئٍ، فَأَعَادَ حِلْفَهُمْ، وَقَامَ بِنُصْرَتِهِمْ، فَرَجَعُوا إِلَى دُورِهِمْ، وَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى غَطَفَانَ، فَلَمَّا مات رسول الله ص قَامَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ فِي غَطَفَانَ، فَقَالَ: مَا أَعْرِفُ حُدُودَ غَطَفَانَ مُنْذُ انْقَطَعَ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَنِي أَسَدٍ، وَإِنِّي لَمُجَدِّدٌ الْحِلْفَ الَّذِي كَانَ بَيْنَنَا فِي الْقَدِيمِ وَمُتَابِعٌ طُلَيْحَةَ، وَاللَّهِ لأَنْ نَتَّبِعَ نَبِيًّا مِنَ الْحِلِيفَيْنِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَنْ نَتَّبِعَ نَبِيًّا مِنْ قُرَيْشٍ، وَقَدْ مَاتَ مُحَمَّدٌ، وَبَقِيَ طُلَيْحَةُ فَطَابَقُوهُ عَلَى رَأْيِهِ، فَفَعَلَ وَفَعَلُوا

فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ غَطَفَانُ عَلَى الْمُطَابَقَةِ لِطُلَيْحَةَ هَرَبَ ضِرَارٌ وَقُضَاعِي وَسِنَانٌ وَمَنْ كَانَ قَامَ بِشَيْءٍ من امر النبي ص فِي بَنِي أَسَدٍ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، وَارْفَضَّ مَنْ كَانَ مَعَهُمْ، فَأَخَبُروا أَبَا بَكْرٍ الْخَبَرَ، وَأَمَرُوهُ بِالْحَذَرِ، فَقَالَ ضِرَارُ بْنُ الأَزْوَرِ: فَمَا رايت أحدا- ليس رسول الله ص- أَمْلأَ بِحَرْبٍ شَعْوَاءَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، فَجَعَلْنَا نُخْبِرُهُ، وَلَكَأَنَّمَا نُخْبِرُهُ بِمَا لَهُ وَلا عَلَيْهِ وَقَدِمَتْ عَلَيْهِ وُفُودُ بَنِي أَسَدٍ وَغَطَفَانَ وَهَوَازِنَ وَطَيِّئٍ، وَتَلَقَّتْ وُفُودُ قُضَاعَةُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَحَوَّزَهَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَاجْتَمَعُوا بِالْمَدِينَةِ فَنَزَلُوا عَلَى وُجُوهِ الْمُسْلِمِينَ، لِعَاشِرٍ مِنْ مُتَوَفَّى رَسُولِ الله ص، فَعَرَضُوا الصَّلاةَ عَلَى أَنْ يُعْفَوْا مِنَ الزَّكَاةِ، وَاجْتَمَعَ مَلأُ مَنْ أَنْزَلَهُمْ عَلَى قَبُولِ ذَلِكَ حَتَّى يَبْلُغُوا مَا يُرِيدُونَ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ وُجُوهِ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ إِلا أَنْزَلَ مِنْهُمْ نَازِلا إِلا الْعَبَّاسَ ثُمَّ أَتَوْا أَبَا بَكْرٍ فَأَخْبَرُوهُ خَبَرَهُمْ وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ مَلَؤُهُمْ، إِلا مَا كَانَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنَّهُ أَبَى إِلا ما كان رسول الله ص يَأْخُذُ، وَأَبَوْا، فَرَدَّهُمْ وَأَجَّلَهُمْ يَوْمًا وَلَيْلَةً، فَتَطَايَرُوا إِلَى عَشَائِرِهِمْ. حَدَّثَنِي السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شعيب، قال: كان رسول الله ص قد بعث عمرو ابن الْعَاصِ إِلَى جَيْفَرٍ، مُنْصَرَفِهِ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فمات رسول الله ص وَعَمْرٌو بِعُمَانَ، فَأَقْبَلَ حَتَّى إِذَا انْتَهَى إِلَى الْبَحْرَيْنِ وَجَدَ الْمُنْذِرَ بْنَ سَاوَى فِي الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُ الْمُنْذِرُ: أَشِرْ عَلَيَّ فِي مَالِي بِأَمْرٍ لِي وَلا عَلَيَّ، قَالَ: صَدِّقْ بِعَقَارٍ صَدَقَةً تَجْرِي مِنْ بَعْدِكَ، فَفَعَلَ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَسَارَ فِي بَنِي تَمِيمٍ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا إِلَى بِلادِ بَنِي عَامِرٍ، فَنَزَلَ عَلَى قُرَّةَ بْنِ هُبَيْرَةَ، وَقُرَّةُ يُقَدِّمُ رِجْلا وَيُؤَخِّرُ رِجْلا، وَعَلَى ذَلِكَ بَنُو عَامِرٍ كُلُّهُمْ إِلا خَوَّاصٌ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَأَطَافَتْ بِهِ قُرَيْشٌ، وَسَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْعَسَاكِرَ مُعَسْكَرَةٌ مِنْ دَبَا إِلَى حَيْثُ انْتَهَيَتْ إِلَيْكُمْ، فَتَفَرَّقُوا وَتَحَلَّقُوا حِلَقًا، وَأَقْبَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُرِيدُ التَّسْلِيمَ عَلَى عَمْرٍو،

فَمَرَّ بِحَلَقَةٍ، وَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنَ الَّذِي سمعوا من عمرو في تِلْكَ الْحَلَقَةِ: عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَسَعْدٌ، فَلَمَّا دَنَا عُمَرُ مِنْهُمْ سَكَتُوا، فَقَالَ: فِيمَ أَنْتُمْ؟ فَلَمْ يُجِيبُوهُ، فَقَالَ: مَا أَعْلَمَنِي بِالَّذِي خَلَوْتُمْ عَلَيْهِ! فَغَضِبَ طَلْحَةُ، وَقَالَ: تالله يا بن الْخَطَّابِ لَتُخْبِرَنَّا بِالْغَيْبِ! قَالَ: لا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ، وَلَكِنْ أَظُنُّ قُلْتُمْ: مَا أَخْوَفُنَا على قريش من العرب واخلقهم أَلا يُقِرُّوا بِهَذَا الأَمْرِ! قَالُوا: صَدَقْتَ، قَالَ: فَلا تَخَافُوا هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ، أَنَا وَاللَّهِ مِنْكُمْ عَلَى الْعَرَبِ أَخْوَفُ مِنِّي مِنَ الْعَرَبِ عَلَيْكُمْ، والله لو تدخلون معاشر قريش جحرا لدخلته الْعَرَبُ فِي آثَارِكُمْ، فَاتَّقُوا اللَّهَ فِيهِمْ وَمَضَى إِلَى عَمْرٍو فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ. حَدَّثَنَا السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عن أَبِيهِ، قَالَ: نَزَلَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مُنْصَرَفَهُ من عمان- بعد وفاه رسول الله ص- بِقُرَّةَ بْنِ هُبَيْرَةِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ قُشَيْرٍ، وَحَوْلَهُ عَسْكَرٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ مِنْ أَفْنَائِهِمْ، فَذَبَحَ لَهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، فَلَمَّا أَرَادَ الرِّحْلَةَ خَلا بِهِ قُرَّةُ، فَقَالَ: يَا هَذَا، إِنَّ الْعَرَبَ لا تَطِيبُ لَكُمْ نَفْسًا بِالإِتَاوَةِ، فَإِنْ أَنْتُمْ أَعْفَيْتُمُوهَا مِنْ أَخْذِ أَمْوَالِهَا فَسَتَسْمَعْ لَكُمْ وَتُطِيعْ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَلا أَرَى أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَيْكُمْ فَقَالَ عَمْرٌو: أَكَفَرْتَ يَا قُرَّةُ! وَحَوْلَهُ بَنُو عَامِرٍ، فَكَرِهَ أَنْ يَبُوحَ بِمُتَابَعَتِهِمْ فَيَكْفُرُوا بِمُتَابَعَتِهِ، فَيَنْفِرَ فِي شَرٍّ، فَقَالَ: لَنَرُدَّنَّكُمْ إِلَى فَيْئَتِكُمْ- وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ الإِسْلامُ- اجْعَلُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ مَوْعِدًا فَقَالَ عَمْرٌو: أَتُوَعِّدُنَا بِالْعَرَبِ وَتُخَوِّفُنَا بها! موعدك حفش أمك، فو الله لأُوطِئَنَّ عَلَيْكَ الْخَيْلَ وَقَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَالْمُسْلِمِينَ فَأَخْبَرَهُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: لَمَّا فَرَغَ خَالِدٌ مِنْ أَمْرِ بَنِي عَامِرٍ وَبَيْعَتِهِمْ عَلَى مَا بَايَعَهُمْ عَلَيْهِ، أَوْثَقَ عُيَيْنَةَ بْنَ

حِصْنٍ وَقُرَّةَ بْنَ هُبَيْرَةَ، فَبَعَثَ بِهِمَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا قَدِمَا عَلَيْهِ قَالَ لَهُ قُرَّةُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ كُنْتُ مُسْلِمًا، وَلِي مِنْ ذَلِكَ عَلَى إِسْلامِي عِنْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ شَهَادَةٌ، قَدْ مَرَّ بِي فَأَكْرَمْتُهُ وَقَرَّبْتُهُ وَمَنَعْتُهُ قَالَ: فَدَعَا أَبُو بَكْرٍ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، فَقَالَ: مَا تَعْلَمُ مِنْ أَمْرِ هَذَا؟ فَقَصَّ عَلَيْهِ الْخَبَرَ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَا قَالَ لَهُ مِنْ أَمْرِ الصَّدَقَةِ، قَالَ لَهُ قُرَّةُ: حَسْبُكَ رَحِمَكَ اللَّهُ! قَالَ: لا وَاللَّهِ، حَتَّى أُبَلِّغَ لَهُ كُلَّ مَا قُلْتَ، فَبَلَّغَ لَهُ، فَتَجَاوَزَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ، وَحَقَنَ دَمَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن عبيد الله بن عبد الله ابن عُتْبَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ نَظَرَ إِلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ مَجْمُوعَةً يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ بِحَبْلٍ، يَنْخُسُهُ غِلْمَانُ الْمَدِينَةِ بِالْجَرِيدِ، يَقُولُونَ: أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ، أَكَفَرْتَ بَعْدَ إِيمَانِكَ! فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ آمَنْتُ بِاللَّهِ قَطُّ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ وَحَقَنَ لَهُ دَمَهُ. حَدَّثَنِي السَّرِيُّ، قَالَ: حدثنا شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، قَالَ: أخذ المسلمون رجلا من بني أسد، فأتي بِهِ خالد بالغمر- وَكَانَ عالما بأمر طليحة- فَقَالَ لَهُ خالد: حَدِّثْنَا عَنْهُ وعما يقول لكم، فزعم أن مما أتى به: والحمام واليمام، والصرد الصوام، قد صمن قبلكم بأعوام، ليبلغن ملكنا العراق والشام حَدَّثَنِي السري، قال: حدثنا شعيب، عن سيف، عن ابى يعقوب سعيد بن عبيد، قال: لما أرزى أهل الغمر إلى البزاخة، قام فيهم طليحة، ثُمَّ قَالَ: أمرت أن تصنعوا رحا ذات عرا، يرمي الله بِهَا من رمى، يهوي عليها من هوى، ثُمَّ عبَّى جنوده، ثُمَّ قَالَ: ابعثوا فارسين، على فرسين

ذكر رده هوازن وسليم وعامر

أدهمين، من بني نصر بْن قعين، يأتيانكم بعين فبعثوا فارسين من بني قعين، فخرج هو وسلمة طليعتين. حَدَّثَنَا السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سَعِيدِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ الْجَذِعِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ، عَمَّنْ شَهِدَ بُزَاخَةَ مِنَ الأَنْصَارِ، قَالَ: لَمْ يُصِبْ خَالِدٌ عَلَى الْبُزَاخَةِ عَيْلا وَاحِدًا، كَانَتْ عِيَالاتُ بَنِي أَسَدٍ مُحْرَزَةً- وقال ابو يعقوب: بين مثقب وفلج، وَكَانَتْ عِيَالاتُ قَيْسٍ بَيْنَ فَلَجٍ وَوَاسِطَ- فَلَمْ يَعُدْ أَنِ انْهَزَمُوا، فَأَقَرُّوا جَمِيعًا بِالإِسْلامِ خَشْيَةً عَلَى الذَّرَارِي، وَاتَّقُوا خَالِدًا بِطَلِبَتِهِ، وَاسْتَحَقُّوا الأَمَانَ، ومضى طليحة، حتى نزل كلب عَلَى النَّقْعِ، فَأَسْلَمَ، وَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا فِي كَلْبٍ حَتَّى مَاتَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَانَ إِسْلامُهُ هُنَالِكَ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ أَسَدًا وَغَطَفَانَ وَعَامِرًا قَدْ أَسْلَمُوا، ثُمَّ خَرَجَ نَحْوَ مَكَّةَ مُعْتَمِرًا فِي إِمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَمَرَّ بِجَنَبَاتِ الْمَدِينَةِ، فَقِيلَ لأَبِي بَكْرٍ: هَذَا طُلَيْحَةُ، فَقَالَ: مَا أَصْنَعُ بِهِ! خَلُّوا عَنْهُ، فَقَدْ هَدَاهُ اللَّهُ لِلإِسْلامِ. وَمَضَى طُلَيْحَةُ نَحْوَ مَكَّةَ فَقَضَى عُمْرَتَهُ، ثُمَّ أَتَى عُمَرَ إِلَى الْبَيْعَةِ حِينَ اسْتُخْلِفَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَنْتَ قَاتِلُ عُكَاشَةَ وَثَابِتٍ! وَاللَّهِ لا أُحِبُّكَ أَبَدًا فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا تَهِمُّ مِنْ رَجُلَيْنِ أَكْرَمَهُمَا اللَّهُ بِيَدِي، وَلَمْ يُهِنِّي بِأَيْدِيهِمَا! فَبَايَعَهُ عُمَرُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا خُدَعُ، مَا بَقِيَ مِنْ كَهَانَتِكَ؟ قَالَ: نَفْخَةٌ أَوْ نَفْخَتَانِ بِالْكِيرِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى دَارِ قَوْمِهِ، فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى خَرَجَ إِلَى الْعِرَاقِ . ذكر ردة هَوَازِن وسليم وعامر حَدَّثَنَا السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ سَهْلٍ وَعَبْدِ اللَّهِ، قَالا: أَمَّا بَنُو عَامِرٍ فَإِنَّهُمْ قَدَّمُوا رِجْلا وَأَخَّرُوا أُخْرَى، وَنَظَرُوا مَا تَصْنَعُ أَسَدٌ وَغَطَفَانُ، فَلَمَّا أُحِيطَ بِهِمْ وَبَنُو عَامِرٍ عَلَى قَادَتِهِمْ وَسَادَتِهِمْ، كَانَ قُرَّةُ بن

هُبَيْرَةَ فِي كَعْبٍ وَمَنْ لافَّهَا، وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلاثَةَ فِي كِلابٍ وَمَنْ لافَّهَا، وَقَدْ كَانَ عَلْقَمَةُ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ فِي أَزْمَانِ النَّبِيِّ ص، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ فَتْحِ الطَّائِفِ حَتَّى لَحِقَ بالشام، فلما توفى النبي ص أَقْبَلَ مُسْرِعًا حَتَّى عَسْكَرَ فِي بَنِي كَعْبٍ، مُقَدِّمًا رِجْلا وَمُؤَخِّرًا أُخْرَى، وَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا بَكْرٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ سَرِيَّةً، وَأَمَّرَ عَلَيْهَا الْقَعْقَاعَ بن عمرو، وقال: يا قعقاع، سر حتى تُغِيرُ عَلَى عَلْقَمَةَ بْنِ عُلاثَةَ، لَعَلَّكَ أَنْ تَأْخُذَهُ لِي أَوْ تَقْتُلَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ شِفَاءَ الشق الحوص، فَاصْنَعْ مَا عِنْدَكَ فَخَرَجَ فِي تِلْكَ السَّرِيَّةِ، حَتَّى أَغَارَ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي عَلَيْهِ عَلْقَمَةُ، وَكَانَ لا يَبْرَحُ أَنْ يَكُونَ عَلَى رِجْلٍ، فَسَابَقَهُمْ عَلَى فَرَسِهِ، فَسَبَقَهُمْ مُرَاكَضَةً، وَأَسْلَمَ أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ، فَانْتَسَفَ امْرَأَتَهُ وَبَنَاتَهُ وَنِسَاءَهُ، وَمَنْ أَقَامَ مِنَ الرِّجَالِ، فَاتَّقَوْهُ بِالإِسْلامِ فَقَدِمَ بِهِمْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَجَحَدَ وَلَدُهُ وَزَوْجَتُهُ أَنْ يَكُونُوا مَالَئُوا عَلْقَمَةَ، وَكَانُوا مُقِيمِينَ فِي الدَّارِ، فَلَمْ يَبْلُغْهُ إِلا ذَلِكَ، وَقَالُوا: مَا ذَنْبُنَا فِيمَا صَنَعَ عَلْقَمَةُ مِنْ ذَلِكَ! فَأَرْسَلَهُمْ ثُمَّ أَسْلَمَ، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ. حَدَّثَنَا السري، عن شعيب، عَنْ سَيْفٍ، عن أبي عمرو وأبي ضمرة، عن ابن سيرين مثل معانيه. وأقبلت بنو عامر بعد هزيمة أهل بزاخة يقولون: ندخل فيما خرجنا مِنْهُ، فبايعهم على ما بايع عَلَيْهِ أهل البزاخة من أسد وغطفان وطيئ قبلهم، وأعطوه بأيديهم على الإسلام، ولم يقبل من أحد من أسد ولا غطفان ولا هَوَازِن ولا سليم ولا طيئ إلا أن يأتوه بالذين حرقوا ومثلوا وعدوا على أهل الإسلام فِي حال ردتهم فأتوه بهم، فقبل منهم إلا قرة بْن هبيرة ونفرا معه أوثقهم، ومثل بالذين عدوا على الإسلام، فأحرقهم بالنيران وو رضخهم بالحجارة، ورمى بهم من الجبال، ونكسهم فِي الآبار، وخزق بالنبال وبعث بقرة وبالأسارى، وكتب

إلى أبي بكر: إن بني عامر أقبلت بعد إعراض، ودخلت فِي الإسلام بعد تربص، وإني لم أقبل من أحد قاتلني أو سالمني شَيْئًا حَتَّى يجيئوني بمن عدا على الْمُسْلِمين، فقتلتهم كل قتلة، وبعثت إليك بقرة وأصحابه حَدَّثَنَا السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: كَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى خَالِدٍ: لِيُزِدْكَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكَ خَيْرًا، وَاتَّقِ اللَّهَ فِي أَمْرِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ جِدَّ فِي أَمْرِ اللَّهِ ولا تبنين، وَلا تَظْفَرَنَّ بِأَحَدٍ قَتَلَ الْمُسْلِمِينَ إِلا قَتَلْتَهُ وَنَكَّلْتَ بِهِ غَيْرَهُ، وَمَنْ أَحْبَبْتَ مِمَّنْ حَادَّ اللَّهَ أَوْ ضَادَّهُ، مِمَّنْ تَرَى أَنَّ فِي ذَلِكَ صَلاحًا فَاقْتُلْهُ فَأَقَامَ عَلَى الْبُزَاخَةِ شَهْرًا يَصْعَدُ عَنْهَا وَيَصُوبُ، وَيَرْجِعُ إِلَيْهَا فِي طَلَبِ أُولَئِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَحْرَقَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَمَطَهُ وَرَضَخَهُ بِالْحِجَارَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَمَى بِهِ مِنْ رؤوس الْجِبَالِ وَقَدِمَ بِقُرَّةَ وَأَصْحَابِهِ، فَلَمْ يَنْزِلُوا وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ كَمَا قِيلَ لِعُيَيْنَةَ وَأَصْحَابِهِ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي مِثْلِ حَالِهِمْ، وَلَمْ يَفْعَلُوا فِعْلَهُمْ قَالَ السري: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ سَيْفٍ، عن سهل وابى يعقوب، قال: واجتمعت فلال غطفان إلى ظفر، وبها أم زمل سلمى ابنة مالك بْن حذيفة بْن بدر، وهي تشبه بأمها أم قرفة بنت ربيعة بْن فلان بْن بدر، وكانت أم قرفة عِنْد مالك بْن حذيفة، فولدت لَهُ قرفة، وحكمة، وجراشة، وزملا، وحصينا، وشريكا، وعبدا، وزفر، ومعاوية، وحملة، وقيسا، ولأيا، فأما حكمة فقتله رسول الله ص يوم أغار عيينة بْن حصن على سرح الْمَدِينَة، قتله أبو قتادة، فاجتمعت تلك الفلال إلى سلمى، وكانت فِي مثل عز أمها، وعندها جمل أم قرفة، فنزلوا إليها فذمرتهم، وأمرتهم بالحرب، وصعدت سائرة فيهم وصوبت، تدعوهم إلى حرب خالد، حَتَّى اجتمعوا لَهَا، وتشجعوا على ذَلِكَ، وتأشب إِلَيْهِم الشرداء من كل جانب- وكانت قد سبيت أيام

أم قرفة، فوقعت لعائشة فأعتقتها، فكانت تكون عندها، ثُمَّ رجعت إلى قومها، [وقد كَانَ النبي ص دخل عليهن يوما، فَقَالَ إن إحداكن تستنبح كلاب الحوأب،] ففعلت سلمى ذَلِكَ حين ارتدت، وطلبت بذلك الثأر، فسيرت فيما بين ظفر والحوأب، لتجمع إليها، فتجمع إليها كل فل ومضيق عَلَيْهِ من تلك الأحياء من غطفان وهوازن وسليم وأسد وطيئ، فلما بلغ ذَلِكَ خالدا- وهو فيما هو فيه من تتبع الثأر، وأخذ الصدقة ودعاء الناس وتسكينهم- سَارَ الى المرأة وقد استكثف أمرها، وغلظ شأنها، فنزل عليها وعلى جُمَّاعها، فاقتتلوا قتالا شديدا، وهي واقفة على جمل أمها، وفي مثل عزها، وَكَانَ يقال: من نخس جملها فله مائة من الإِبِل لعزها، وابيرت يومئذ بيوتات من جاس- قال ابو جعفر: جاس حي من غنم- وهاربه، وغنم، وأصيب فِي أناس من كاهل، وَكَانَ قتالهم شديدا، حَتَّى اجتمع على الجمل فوارس فعقروه وقتلوها. وقتل حول جملها مائة رجل، وبعث بالفتح، فقدم على أثر قرة بنحو من عشرين ليلة. قَالَ السري: قَالَ شعيب، عن سيف، عن سهل وأبي يعقوب، قالا: كَانَ من حديث الجواء وناعر، أن الفجاءة إياس بْن عبد ياليل قدم على أبي بكر، فَقَالَ: أعني بسلاح، ومرني بمن شئت من أهل الردة، فأعطاه سلاحا، وأمره أمره، فخالف أمره إلى الْمُسْلِمين، فخرج حَتَّى ينزل بالجواء، وبعث نجبة بْن أبي الميثاء من بني الشريد، وأمره بالمسلمين، فشنها غارة على كل مسلم فِي سليم وعامر وهوازن، وبلغ ذَلِكَ أبا بكر، فأرسل إلى طريفة بْن حاجز يأمره أن يجمع لَهُ وأن يسير إليه، وبعث إليه عبد الله بْن قيس الجاسي عونا، ففعل، ثُمَّ نهضا إليه وطلباه، فجعل يلوذ منهما حَتَّى لقياه على الجواء، فاقتتلوا، فقتل نجبة، وهرب الفجاءة، فلحقه طريفة فأسره ثُمَّ بعث بِهِ إلى أبي بكر، فقدم بِهِ على أبي بكر، فأمر فأوقد لَهُ نارا فِي مصلى الْمَدِينَة على حطب كثير، ثُمَّ رمي بِهِ فيها مقموطا

قال أبو جعفر: وأما ابن حميد، فإنه حَدَّثَنَا فِي شأن الفجاءة عن سلمة، عَنْ محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قَالَ: قدم على أبي بكر رجل من بني سليم، يقال لَهُ الفجاءة، وهو إياس بْن عبد الله بْن عبد ياليل بْن عميرة بْن خفاف، فَقَالَ لأبي بكر: إني مسلم، وقد أردت جهاد من ارتد من الكفار، فاحملني وأعني، فحمله أبو بكر على ظهر، وأعطاه سلاحا، فخرج يستعرض الناس: المسلم والمرتد، يأخذ أموالهم، ويصيب من امتنع منهم، ومعه رجل من بني الشريد، يقال لَهُ: نجبة بْن أبي الميثاء، فلما بلغ أبا بكر خبره، كتب إلى طريفة بْن حاجز: إن عدو الله الفجاءة أتاني يزعم أنه مسلم، ويسألني أن أقويه على من ارتد عَنِ الإِسْلامِ، فحملته وسلحته، ثُمَّ انتهى إليَّ من يقين الخبر أن عدو الله قد استعرض الناس: المسلم والمرتد يأخذ أموالهم، ويقتل من خالفه منهم، فسر إليه بمن معك مِنَ الْمُسْلِمين حَتَّى تقتله، أو تأخذه فتأتيني بِهِ فسار طريفة بْن حاجز، فلما التقى الناس كانت بينهم الرِّمّيّا بالنبل، فقتل نجبة بْن أبي الميثاء بسهم رمي بِهِ، فلما رأى الفجاءة مِنَ الْمُسْلِمين الجد قَالَ لطريفة: والله ما أنت بأولى بالأمر مني، أنت أمير لأبي بكر وأنا أميره فَقَالَ لَهُ طريفة: إن كنت صادقا فضع السلاح، وانطلق معي إلى أبي بكر فخرج معه، فلما قد ما عَلَيْهِ أمر أبو بكر طريفة بْن حاجز، فَقَالَ: اخرج بِهِ إلى هذا البقيع فحرّقه فيه بالنار، فخرج بِهِ طريفة إلى المصلى فأوقد لَهُ نارا، فقذفه فيها، فَقَالَ خفاف بْن ندبة- وهو خفاف بْن عمير- يذكر الفجاءة، فيما صنع: لم يأخذون سلاحه لقتاله ... ولذاكم عند الإله اثام لادينهم ديني ولا انا منهم ... حتى يسير الى الصراة شمام حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: كَانَتْ سُلَيْمُ بْنُ مَنْصُورٍ قَدِ انْتُقِضَ بَعْضُهُمْ، فَرَجَعُوا كُفَّارًا، وَثَبَتَ بَعْضُهُمْ عَلَى الإِسْلامِ مَعَ أَمِيرٍ كَانَ لأَبِي بَكْرٍ عليهم،

يُقَالُ لَهُ مَعْنُ بْنُ حَاجِزٍ، أَحَدُ بَنِي حَارِثَةَ، فَلَمَّا سَارَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إِلَى طُلَيْحَةَ وَأَصْحَابِهِ، كَتَبَ إِلَى مَعْنِ بْنِ حَاجِزٍ أَنْ يَسِيرَ بِمَنْ ثَبَتَ مَعَهُ عَلَى الإِسْلامِ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ مَعَ خَالِدٍ، فَسَارَ وَاسْتَخْلَفَ على عمله أخاه طريفه ابن حَاجِزٍ، وَقَدْ كَانَ لَحِقَ فِيمَنْ لَحِقَ مِنْ بنى سليم باهل الرده ابو شجره ابن عَبْدِ الْعُزَّى، وَهُوَ ابْنُ الْخَنْسَاءِ، فَقَالَ: فَلَوْ سالت عنا غداه مرامر ... كَمَا كُنْتَ عَنْهَا سَائِلا لَوْ نَأَيْتُهَا لِقَاءَ بَنِي فِهْرٍ وَكَانَ لِقَاؤُهُمْ ... غَدَاةَ الْجَوَاءِ حَاجَةً فَقَضَيْتُهَا صَبَرْتُ لَهُمْ نَفْسِي وَعَرَّجْتُ مُهْرَتِي ... عَلَى الطَّعْنِ حَتَّى صَارَ وَرْدًا كُمَيْتُهَا إِذَا هِيَ صَدَّتْ عَنْ كَمِيٍّ أُرِيدُهُ ... عَدَلْتُ إِلَيْهِ صَدْرَهَا فَهدِيتُهَا فَقَالَ أَبُو شَجَرَةَ حِينَ ارْتَدَّ عَنِ الإِسْلامِ: صَحَا الْقَلْبُ عَنْ مَيَّ هَوَاهُ وَأَقْصَرَا ... وطلوع فِيهَا الْعَاذِلِينَ فَأَبْصَرَا وَأَصْبَحَ أَدْنَى رَائِدَ الْجَهْلِ والصبا ... كَمَا وُدُّهَا عَنَّا كَذَاكَ تَغَيَّرَا وَأَصْبَحَ أَدْنَى رَائِدَ الْوَصْلِ مِنْهُمُ ... كَمَا حَبْلُهَا مِنْ حَبْلِنَا قَدْ تَبَتَّرَا أَلا أَيُّهَا الْمُدْلِي بِكَثْرَةِ قَوْمِهِ ... وَحَظُّكَ مِنْهُمْ أَنْ تُضَامَ وَتُقْهَرَا سَلِ النَّاسَ عَنَّا كُلَّ يَوْمِ كَرِيهَةٍ ... إِذَا مَا الْتَقَيْنَا: دَارِعِينَ وَحُسَّرَا أَلَسْنَا نُعَاطِي ذَا الطِّمَاحِ لِجَامَهُ ... وَنَطْعَنُ فِي الْهَيْجَا إِذَا الْمَوْتُ أَقْفَرَا! وَعَاضِرَةٌ شَهْبَاءُ تَخْطُرُ بِالْقَنَا ... تَرَى الْبُلْقَ فِي حَافَّاتِهَا وَالسَّنَّوْرَا فَرَوَيْتُ رُمْحِي مِنْ كَتِيبَةِ خَالِدٍ ... وَإِنِّي لأرجو بعدها ان اعمرا ثم ان أَبَا شَجَرَةَ أَسْلَمَ، وَدَخَلَ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ، فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَنَسٍ السُّلَمِيِّ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ وَحَدَّثَنَا السَّرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ سَهْلٍ وَأَبِي يَعْقُوبَ وَمُحَمَّدِ بْنِ مرزوق،

ذكر خبر بنى تميم وامر سجاح بنت الحارث بن سويد

وَعَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قَيْسٍ السُّلَمِيِّ، قَالُوا: فَأَنَاخَ نَاقَتَهُ بِصَعِيدِ بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ: ثُمَّ أَتَى عُمَرَ وَهُوَ يُعْطِي الْمَسَاكِينَ مِنَ الصَّدَقَةِ وَيَقْسِمُهَا بَيْنَ فُقَرَاءِ الْعَرَبِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَعْطِنِي فَإِنِّي ذُو حَاجَةٍ، قَالَ: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَبُو شَجَرَةَ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى السُّلَمِيُّ، قَالَ: أَبُو شَجَرَةَ! أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ، أَلَسْتَ الَّذِي تَقُولُ: فَرَوَيْتُ رُمْحِي مِنْ كَتِيبَةِ خَالِدٍ ... وَإِنِّي لأَرْجُو بَعْدَهَا أَنْ أُعَمَّرَا قَالَ: ثُمَّ جَعَلَ يَعْلُوهُ بِالدِّرَّةِ فِي رَأْسِهِ حَتَّى سَبَقَهُ عَدْوًا، فَرَجَعَ إِلَى نَاقَتِهِ فَارْتَحَلَهَا، ثُمَّ أَسْنَدَهَا فِي حَرَّةِ شَوْرَانَ رَاجِعًا إِلَى أَرْضِ بَنِي سُلَيْمٍ، فَقَالَ: ضَنَّ عَلَيْنَا أَبُو حَفْصٍ بِنَائِلِهِ ... وَكُلُّ مُخْتَبِطٍ يَوْمًا لَهُ وَرَقُ مَا زَالَ يُرْهِقُنِي حَتَّى خَذِيتُ لَهُ ... وَحَالَ مِنْ دُونِ بَعْضِ الرَّغْبَةِ الشَّفَقُ لَمَّا رَهِبْتُ أَبَا حَفْصٍ وَشُرْطَتَهُ ... وَالشَّيْخُ يُفْزَعُ أَحْيَانًا فَيَنْحَمِقُ ثُمَّ ارْعَوَيْتُ إِلَيْهَا وَهْيَ جَانِحَةً ... مِثْلَ الطَّرِيدَةِ لَمْ يَنْبُتْ لَهَا ورق أوردتها الحل مِنْ شَوْرَانِ صَادِرَةً ... إِنِّي لأُزْرِي عَلَيْهَا وَهِيَ تَنْطَلِقُ تَطِيرُ مَرْوَ أَبَّانٍ عَنْ مَنَاسِمِهَا ... كَمَا تَنْوَقِدُ عِنْدَ الْجَهَبِذِ الْوَرَقُ إِذَا يُعَارِضُهَا خِرْقٌ تُعَارِضُهُ ... وَرْهَاءُ فِيهَا إِذَا اسْتَعْجَلْتُهَا خَرِقُ يَنُوءُ آخِرُهَا مِنْهَا بِأَوَّلِهَا ... سَرْحُ الْيَدَيْنِ بِهَا نِهَاضَةَ الْعُنُقُ ذكر خبر بني تميم وأمر سجاح بنت الحارث بْن سويد وَكَانَ من أمر بنى تميم، ان رسول الله ص توفي وقد فرق فيهم عماله، فكان الزبرقان بْن بدر على الرباب وعوف والأبناء- فيما

ذكر السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بْن عطية بْن بلال، عن أبيه وسهم بْن منجاب- وقيس بْن عاصم على مقاعس والبطون، وصفوان ابن صفوان وسبرة بْن عمرو على بني عمرو، هذا على بهدي وهذا على خضم- قبيلتين من بني تميم- ووكيع بْن مالك ومالك بْن نويرة على بني حنظلة، هذا على بني مالك، وهذا على بني يربوع فضرب صفوان إلى أبي بكر حين وقع إليه الخبر بموت النبي ص بصدقات بني عمرو، وما ولى منها وبما ولى سبرة، وأقام سبرة فِي قومه لحدث ان ناب القوم، وقد أطرق قيس ينظر ما الزبرقان صانع وَكَانَ الزبرقان متعتّبا عَلَيْهِ، وقلما جامله إلا مزقه الزبرقان بحظوته وجده وقد قَالَ قيس وهو ينتظر لينظر ما يصنع ليخالفه حين أبطأ عليه: وا ويلنا من ابن العكلية! والله لقد مزقني فما أدري ما أصنع! لئن أنا تابعت أبا بكر وأتيته بالصدقة لينحرنها فِي بني سعد فليسودني فيهم، ولئن نحرتها فِي بني سعد ليأتين أبا بكر فليسودني عنده فعزم قيس على قسمها فِي المقاعس والبطون، ففعل وعزم الزبرقان على الوفاء، فاتبع صفوان بصدقات الرباب وعوف والأبناء حَتَّى قدم بِهَا الْمَدِينَة، وهو يقول ويعرض بقيس: وفيت بأذواد الرسول وقد أبت ... سعاة فلم يردد بعيرا مجيرها وتحلل الأحياء ونشب الشر، وتشاغلوا وشغل بعضهم بعضا ثُمَّ ندم قيس بعد ذَلِكَ، فلما أظله العلاء بْن الحضرمي أخرج صدقتها، فتلقاه بِهَا، ثُمَّ خرج معه، وقال فِي ذَلِكَ: ألا أبلغا عني قريشا رسالة ... إذا ما أتتها بينات الودائع فتشاغلت فِي تلك الحال عوف والأبناء بالبطون والرباب بمقاعس، وتشاغلت خضم بمالك وبهدي بيربوع، وعلى خضم سبرة بْن عمرو، وذلك الذى حلفه عن صفوان والحصين بْن نيار على بهدي، والرباب، عبد الله بْن صفوان

على ضبة، وعصمة بْن أبير على عبد مناة، وعلى عوف والأبناء عوف بْن البلاد ابن خالد من بني غنم الجشمي، وعلى البطون سعر بن خفاف، وقد كان ثمامة ابن أثال تأتيه أمداد من بني تميم، فلما حدث هذا الحدث فيما بينهم تراجعوا إلى عشائرهم، فأضر ذَلِكَ بثمامة بْن أثال حَتَّى قدم عَلَيْهِ عكرمة وأنهضه، فلم يصنع شَيْئًا، فبينا الناس فِي بلاد تميم على ذَلِكَ، قد شغل بعضهم بعضا، فمسلمهم بإزاء من قدم رجلا وأخر أخرى وتربص، وبإزاء من ارتاب، فجئتهم سجاح بنت الحارث قد أقبلت من الجزيرة، وكانت ورهطها فِي بني تغلب تقود أفناء ربيعة، معها الهذيل بْن عمران في بنى تغلب، وعقه ابن هلال في النمر، وتاد بْن فلان فِي إياد، والسليل بْن قيس فِي شيبان، فأتاهم أمر دهي، هو أعظم مما فيه الناس، لهجوم سجاح عليهم، ولما هم فيه من اختلاف الكلمة، والتشاغل بما بينهم وقال عفيف بْن المنذر فِي ذَلِكَ: ألم يأتيك والأنباء تسري ... بما لاقت سراة بني تميم تداعى من سراتهم رجال ... وكانوا فِي الذوائب والصميم وألجوهم وَكَانَ لهم جناب ... الى احياء خاليه وخيم وكانت سجاح بنت الحارث بْن سويد بْن عقفان- هي وبنو أبيها عقفان- فِي بني تغلب، فتنبت بعد موت رسول الله ص بالجزيرة فِي بني تغلب، فاستجاب لَهَا الهذيل، وترك التنصر، وهؤلاء الرؤساء الذين أقبلوا معها لتغزو بهم أبا بكر فلما انتهت إلى الحزن راسلت مالك بْن نويرة ودعته إلى الموادعة، فأجابها، وفثأها عن غزوها، وحملها على أحياء من بني تميم، قالت: نعم، فشأنك بمن رأيت، فإني إنما أنا امرأة من بني يربوع، وإن كَانَ ملك فالملك ملككم فأرسلت إلى بني مالك بْن حنظلة تدعوهم إلى الموادعة، فخرج عطارد بْن حاجب وسروات بني مالك حَتَّى نزلوا فِي بني العنبر على سبرة بْن عمرو هُرَّابا قد كرهوا ما صنع وكيع،

وخرج أشباههم من بني يربوع، حَتَّى نزلوا على الحصين بْن نيار فِي بني مازن، وقد كرهوا ما صنع مالك، فلما جاءت رسلها إلى بني مالك تطلب الموادعة، أجابها إلى ذَلِكَ وكيع، فاجتمع وكيع ومالك وسجاح، وقد وادع بعضهم بعضا، واجتمعوا على قتال الناس وقالوا: بمن نبدأ؟ بخضم، أم ببهدي، أم بعوف والأبناء، أم بالرباب؟ وكفوا عن قيس لما رأوا من تردده وطمعوا فيه، فقالت: أعدوا الركاب، واستعدوا للنهاب، ثُمَّ أغيروا على الرباب، فليس دونهم حجاب. قَالَ: وصمدت سجاح للأحفار حَتَّى تنزل بِهَا، وقالت لهم: إن الدهناء حجاز بني تميم، ولن تعدو الرباب، إذا شدها المصاب، أن تلوذ بالدجاني والدهاني، فلينزلها بعضكم فتوجه الجفول- يعني مالك بْن نويرة- إلى الدجاني فنزلها، وسمعت بهذا الرباب فاجتمعوا لَهَا، ضبتها وعبد مناتها، فولي وكيع وبشر بني بكر من بني ضبة، وولي ثعلبة بْن سعد بْن ضبة عقة، وولي عبد مناة الهذيل فالتقى وكيع وبشر وبنو بكر من بني ضبة، فهُزما، وأسر سماعة ووكيع وقعقاع، وقتلت قتلى كثيرة، فَقَالَ فِي ذَلِكَ قيس بْن عاصم، وذلك أول ما استبان فيه الندم: كأنك لم تشهد سماعة إذ غزا ... وما سر قعقاع وخاب وكيع رأيتك قد صاحبت ضبة كارها ... على ندب فِي الصفحتين وجيع ومطلق أسرى كَانَ حمقا مسيرها ... إلى صخرات أمرهن جميع فصرفت سجاح والهذيل وعقة بني بكر، للموادعة التي بينها وبين وكيع- وَكَانَ عقة خال بشر- وقالت: اقتلوا الرباب ويصالحونكم ويطلقون أسراكم، وتحملون لهم دماءهم، وتحمد غب رأيهم أخراهم فاطلقت

لهم ضبة الأسرى، وودوا القتلى، وخرجوا عنهم فَقَالَ فِي ذَلِكَ قيس يعيرهم صلح ضبة، إسعادا لضبة وتأنيبا لهم ولم يدخل فِي أمر سجاح عمري ولا سعدي ولا ربي، ولم يطمعوا من جميع هؤلاء إلا فِي قيس، حَتَّى بدا مِنْهُ إسعاد ضبة، وظهر مِنْهُ الندم ولم يمالئهم من حنظلة إلا وكيع ومالك، فكانت ممالأتهما موادعة على أن ينصر بعضهم بعضا، ويحتاز بعضهم إلى بعضهم، وقال أصم التيمي فِي ذَلِكَ: أتتنا أخت تغلب فاستهدت ... جلائب من سراة بني أبينا وأرست دعوة فينا سفاها ... وكانت من عمائر آخرينا فما كنا لنرزيهم زبالا ... وما كانت لتسلم إذ أتينا ألا سفهت حلومكم وضلت ... عشية تحشدون لَهَا ثبينا قَالَ: ثُمَّ إن سجاح خرجت فِي جنود الجزيرة، حَتَّى بلغت النباج، فأغار عليهم أوس بْن خزيمة الهجيمي فيمن تأشب إليه من بني عمرو، فأسر الهذيل، أسره رجل من بني مازن ثُمَّ أحد بني وبر، يدعى ناشرة. وأسر عقة، أسره عبدة الهجيمي، وتحاجزوا على أن يترادوا الأسرى، وينصرفوا عنهم، ولا يجتازوا عليهم، ففعلوا، فردوها وتوثقوا عليها وعليهما، أن يرجعوا عنهم، ولا يتخذوهم طريقا إلا من ورائهم فوفوا لهم، ولم يزل فِي نفس الهذيل على المازني، حَتَّى إذا قتل عثمان بْن عفان، جمع جمعا فأغار على سفار، وعليه بنو مازن، فقتلته بنو مازن ورموا بِهِ فِي سفار. ولما رجع الهذيل وعقة إليها واجتمع رؤساء أهل الجزيرة قالوا لَهَا: ما تأمريننا؟ فقد صالح مالك ووكيع قومهما، فلا ينصروننا ولا يزيدوننا على أن نجوز فِي أرضهم، وقد عاهدنا هؤلاء القوم فقالت: اليمامة، فقالوا: إن شوكة أهل اليمامة شديدة، وقد غلظ أمر مسيلمة، فقالت: عليكم باليمامة،

ودفوا دفيف الحمامة، فإنها غزوة صرامة، لا يلحقكم بعدها ملامة. فنهدت لبني حنيفة، وبلغ ذَلِكَ مسيلمة فهابها، وخاف إن هو شغل بِهَا أن يغلبه ثمامة على حجر أو شرحبيل بْن حسنة، أو القبائل التي حولهم، فأهدى لَهَا، ثُمَّ أرسل إليها يستأمنها على نفسه حَتَّى يأتيها. فنزلت الجنود على الأمواه، وأذنت لَهُ وآمنته، فجاءها وافدا فِي أربعين من بني حنيفة- وكانت راسخة فِي النصرانية، قد علمت من علم نصارى تغلب- فَقَالَ مسيلمة: لنا نصف الأرض، وَكَانَ لقريش نصفها لو عدلت، وقد رد الله عليك النصف الَّذِي ردت قريش، فحباك بِهِ، وَكَانَ لَهَا لو قبلت فقالت: لا يرد النصف إلا من حنف، فاحمل النصف إلى خيل تراها كالسهف فَقَالَ مسيلمة: سمع الله لمن سمع، وأطمعه بالخير إذ طمع، ولا زال أمره فِي كل ما سر نفسه يجتمع رآكم ربكم فحياكم، ومن وحشة خلاكم، ويوم دينه أنجاكم فأحياكم علينا من صلوات معشر أبرار، لا أشقياء ولا فجار، يقومون الليل ويصومون النهار، لربكم الكبار، رب الغيوم والأمطار. وقال أيضا: لما رأيت وجوههم حسنت، وأبشارهم صفت، وأيديهم طفلت، قلت لهم: لا النساء تأتون، ولا الخمر تشربون، ولكنكم معشر أبرار، تصومون يوما، وتكلفون يوما، فسبحان الله! إذا جاءت الحياة كيف تحيون، وإلى ملك السماء ترقون! فلو أنها حبة خردلة، لقام عليها شهيد يعلم ما فِي الصدور، ولأكثر الناس فيها الثبور. وَكَانَ مما شرع لهم مسيلمة أن من أصاب ولدا واحدا عقبا لا يأتي

امرأة إلى أن يموت ذَلِكَ الابن فيطلب الولد، حَتَّى يصيب ابنا ثُمَّ يمسك، فكان قد حرم النساء على من لَهُ ولد ذكر. قَالَ أبو جعفر: وأما غير سيف ومن ذكرنا عَنْهُ هذا الخبر، فإنه ذكر أن مسيلمة لما نزلت بِهِ سجاح، أغلق الحصن دونها، فقالت لَهُ سجاح: انزل، قَالَ: فنحي عنك أصحابك، ففعلت فَقَالَ مسيلمة: اضربوا لَهَا قبة وجمروها لعلها تذكر الباه، ففعلوا، فلما دخلت القبة نزل مسيلمة فَقَالَ: ليقف هاهنا عشرة، وهاهنا عشرة، ثُمَّ دارسها، فَقَالَ: ما أوحي إليك؟ فقالت: هل تكون النساء يبتدئن! ولكن أنت قل ما أوحي إليك؟ قَالَ: ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشي قالت: وماذا أيضا؟ قَالَ: أوحي إلي: أن الله خلق النساء أفراجا، وجعل الرجال لهن أزواجا، فنولج فيهن قعسا إيلاجا، ثُمَّ نخرجها إذا نشاء إخراجا، فينتجن لنا سخالا إنتاجا قالت: أشهد أنك نبي، قَالَ: هل لك أن أتزوجك فآكل بقومي وقومك العرب! قالت: نعم، قَالَ: ألا قومي إلى النيك ... فقد هيى لك المضجع وإن شئت ففي البيت ... وإن شئت ففي المخدع وإن شئت سلقناك ... وإن شئت على أربع وإن شئت بثلثيه ... وإن شئت بِهِ أجمع

قالت: بل بِهِ أجمع، قَالَ بذلك أوحي إلي فأقامت عنده ثلاثا ثُمَّ انصرفت إلى قومها، فقالوا: ما عندك؟ قالت: كَانَ على الحق فاتبعته فتزوجته، قالوا: فهل أصدقك شَيْئًا؟ قالت: لا، قالوا: ارجعي إليه، فقبيح بمثلك أن ترجع بغير صداق! فرجعت، فلما رآها مسيلمة أغلق الحصن، وقال: ما لك؟ قالت: أصدقني صداقا، قَالَ: من مؤذنك؟ قالت: شبث بْن ربعي الرياحي، قَالَ: علي بِهِ، فجاء فَقَالَ: ناد فِي أصحابك أن مسيلمة بْن حبيب رَسُول اللَّهِ قد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم بِهِ محمد: صلاة العشاء الآخرة وصلاة الفجر. قَالَ: وَكَانَ من أصحابها الزبرقان بْن بدر وعطارد بْن حاجب ونظراؤهم. - وذكر الكلبي أن مشيخة بني تميم حدثوه أن عامة بني تميم بالرمل لا يصلونهما- فانصرفت ومعها أصحابها، فيهم الزبرقان، وعطارد بْن حاجب، وعمرو بْن الأهتم، وغيلان بْن خرشة، وشبث ابن ربعي، فَقَالَ عطارد بْن حاجب: أمست نبيتنا أنثى نطيف بِهَا ... وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا وقال حكيم بْن عياش الأعور الكلبي، وهو يعير مضر بسجاح، ويذكر ربيعة: أتوكم بدين قائم وأتيتم ... بمنتسخ الآيات فِي مصحف طب

رجع الحديث إلى حديث سيف فصالحها على أن يحمل إليها النصف من غلات اليمامة، وأبت إلا السنة المقبلة يسلفها، فباح لَهَا بذلك، وقال: خلِّفي على السلف من يجمعه لك، وانصرفي أنت بنصف العام، فرجع فحمل إليها النصف، فاحتملته وانصرفت بِهِ إلى الجزيرة، وخلفت الهذيل وعقة وزيادا لينجز النصف الباقي، فلم يفجأهم إلا دنو خالد بْن الوليد منهم، فارفضُّوا فلم تزل سجاح فِي بني تغلب، حَتَّى نقلهم معاوية عام الجماعة فِي زمانه، وَكَانَ معاوية حين أجمع عَلَيْهِ أهل العراق بعد على ع يخرج من الكوفة المستغرب فِي أمر علي، وينزل داره المستغرب فِي أمر نفسه من أهل الشام وأهل البصرة وأهل الجزيرة، وهم الذين يقال لهم النواقل فِي الأمصار، فأخرج من الكوفة قعقاع بْن عمرو بْن مالك الى إيليا بفلسطين، فطلب إليه أن ينزل منازل بني أبيه بني عقفان، وينقلهم إلى بني تميم، فنقلهم من الجزيرة إلى الكوفة، وأنزلهم منازل القعقاع وبني أبيه، وجاءت معهم وحسن إسلامها، وخرج الزبرقان والأقرع إلى أبي بكر، وقالا: اجعل لنا خراج البحرين ونضمن لك ألا يرجع من قومنا أحد، ففعل وكتب الكتاب وَكَانَ الَّذِي يختلف بينهم طلحة بْن عبيد الله وأشهدوا شهودا منهم عمر فلما أتي عمر بالكتاب فنظر فيه لم يشهد، ثُمَّ قال: لا والله ولا كرامة! ثم مرق الكتاب ومحاه، فغضب طلحة، فأتى أبا بكر، فَقَالَ: أأنت الأمير أم عمر؟ فَقَالَ: عمر، غير أن الطاعة لي. فسكت. وشهدا مَعَ خالد المشاهد كلها حَتَّى اليمامة، ثُمَّ مضى الأقرع ومعه شرحبيل إلى دومة

ذكر البطاح وخبره

ذكر البطاح وخبره كتب إلي السري بْن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بْن عطية بْن بلال، قَالَ: لما انصرفت سجاح إلى الجزيرة، ارعوى مالك بْن نويرة، وندم وتحير فِي أمره، وعرف وكيع وسماعة قبح ما أتيا، فرجعا رجوعا حسنا، ولم يتجبرا، وأخرجا الصدقات فاستقبلا بِهَا خالدا، فَقَالَ خالد: ما حملكما على موادعة هؤلاء القوم؟ فقالا: ثأر كنا نطلبه فِي بني ضبة، وكانت أيام تشاغل وفرص، وقال وكيع فِي ذَلِكَ: فلا تحسبا أني رجعت وأنني ... منعت وقد تحنى إلي الأصابع ولكنني حاميت عن جل مالك ... ولاحظت حَتَّى أكحلتني الأخادع فلما أتانا خالد بلوائه ... تخطت إليه بالبطاح الودائع ولم يبق فِي بلاد بني حنظلة شيء يكره إلا ما كَانَ من مالك بْن نويرة ومن تأشب إليه بالبطاح، فهو على حاله متحير شج. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن سهل، عن القاسم وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، قَالا: لَمَّا أَرَادَ خَالِدٌ السَّيْرَ خَرَجَ مِنْ ظُفَرَ، وَقَدِ اسْتَبْرَأَ أَسَدًا وَغَطَفَانَ وَطَيِّئًا وَهَوَازِنَ، فَسَارَ يُرِيدُ الْبِطَاحَ دُونَ الْحَزَنِ، وَعَلَيْهَا مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ، وَقَدْ تَرَدَّدَ عليه امره، وقد تردبت الأَنْصَارُ عَلَى خَالِدٍ وَتَخَلَّفَتْ عَنْهُ، وَقَالُوا: مَا هَذَا بِعَهْدِ الْخَلِيفَةِ إِلَيْنَا! إِنَّ الْخَلِيفَةَ عَهِدَ إِلَيْنَا إِنْ نَحْنُ فَرَغْنَا مِنَ الْبُزَاخَةِ، وَاسْتَبْرَأْنَا بِلادَ الْقَوْمِ أَنْ نُقِيمَ حَتَّى يَكْتُبَ إِلَيْنَا. فَقَالَ خَالِدٌ: إِنْ يَكُ عَهِدَ إِلَيْكُمْ هَذَا فَقَدْ عَهِدَ إِلَيَّ أَنْ أَمْضِيَ، وَأَنَا الأَمِيرُ وَإِلَيَّ تَنْتَهِي الأَخْبَارُ وَلَوْ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِنِي لَهُ كِتَابٌ وَلا أَمْرٌ، ثُمَّ رَأَيْتُ فُرْصَةً، فَكُنْتُ إِنْ أَعْلَمْتُهُ فَاتَتْنِي لَمْ أُعْلِمْهُ حَتَّى أَنْتَهِزَهَا، كَذَلِكَ لَوِ ابْتُلِينَا بِأَمْرٍ لَيْسَ مِنْهُ

عَهْدٌ إِلَيْنَا فِيهِ لَمْ نَدَعْ أَنْ نَرَى أَفْضَلَ مَا بِحَضْرَتِنَا، ثُمَّ نَعْمَلَ بِهِ. وَهَذَا مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ بِحِيَالِنَا، وَأَنَا قَاصِدٌ إِلَيْهِ وَمَنْ مَعِي مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالتَّابِعِينَ بِإِحْسَانٍ، وَلَسْتُ أُكْرِهُكُمْ وَمَضَى خَالِدٌ، وَنَدِمَتِ الأَنْصَارُ، وَتَذَامَرُوا، وَقَالُوا: إِنْ أَصَابَ الْقَوْمُ خَيْرًا إِنَّهُ لَخَيْرٌ حُرِمْتُمُوهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ لَيَجْتَنِبَنَّكُمُ النَّاسُ فَأَجْمَعُوا اللِّحَاقَ بِخَالِدٍ وَجَرَّدُوا إِلَيْهِ رَسُولا، فَأَقَامَ عَلَيْهِمْ حَتَّى لَحِقُوا بِهِ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى قَدِمَ الْبِطَاحَ فَلَمْ يَجِدْ بِهِ أَحَدًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ، فِيمَا كَتَبَ بِهِ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، يذكر عن شعيب ابن إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ شَجَرَةَ الْعُقْفَانِيِّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ الْمُثْعِبَةِ الرِّيَاحِيِّ، قال: قدم خالد ابن الْوَلِيدِ الْبِطَاحَ فَلَمْ يَجِدْ عَلَيْهِ أَحْدًا، وَوَجَدَ مَالِكًا قَدْ فَرَّقَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الاجْتِمَاعِ حِينَ تَرَدَّدَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ، وَقَالَ: يَا بَنِي يَرْبُوعٍ، إِنَّا قَدْ كُنَّا عَصَيْنَا أُمَرَاءَنَا إِذْ دَعَوْنَا إِلَى هَذَا الدِّينِ، وَبَطَّأْنَا النَّاسَ عنه فَلَمْ نُفْلِحْ وَلَمْ نَنْجَحْ، وَإِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي هَذَا الأَمْرِ، فَوَجَدْتُ الأَمْرَ يَتَأَتَّى لَهُمْ بِغَيْرِ سِيَاسَةٍ، وَإِذَا الأَمْرُ لا يَسُوسُهُ النَّاسُ، فَإِيَّاكُمْ وَمُنَاوَأَةَ قَوْمٍ صُنِعَ لَهُمْ، فَتَفَرَّقُوا إِلَى دِيَارِكُمْ وَادْخُلُوا فِي هَذَا الأَمْرِ فَتَفَرَّقُوا عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَمْوَالِهِمْ، وَخَرَجَ مَالِكٌ حَتَّى رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَلَمَّا قَدِمَ خَالِدٌ الْبِطَاحَ بَثَّ السَّرَايَا وَأَمَرَهُمْ بِدَاعِيَةِ الإِسْلامِ أَنْ يَأْتُوهُ بِكُلِّ مَنْ لَمْ يُجِبْ، وَإِنِ امْتَنَعَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، وَكَانَ مِمَّا أَوْصَى بِهِ أَبُو بَكْرٍ: إِذَا نَزَلْتُمْ مَنْزِلا فَأَذِّنُوا وَأَقِيمُوا، فَإِنْ أَذَّنَ الْقَوْمُ وَأَقَامُوا فَكُفُّوا عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَلا شيء الا الغارة، ثم اقتلوهم كُلَّ قِتْلَةٍ، الْحَرْقَ فَمَا سِوَاهُ، وَإِنْ

أَجَابُوكُمْ إِلَى دَاعِيَةِ الإِسْلامِ فَسَائِلُوهُمْ، فَإِنْ أَقَرُّوا بِالزَّكَاةِ فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ، وَإِنْ أَبَوْهَا فَلا شَيْءٌ إِلا الْغَارَةُ وَلا كَلِمَةٌ فَجَاءَتْهُ الْخَيْلُ بِمَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ فِي نَفَرٍ مَعَهُ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبُوعٍ، مِنْ عَاصِمٍ وَعُبَيْدٍ وَعُرَيْنٍ وَجَعْفَرٍ، فَاخْتَلَفَتِ السَّرِيَّةُ فِيهِمْ، وَفِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ، فَكَانَ فِيمَنْ شَهِدَ أَنَّهُمْ قَدْ أَذَّنُوا وَأَقَامُوا وَصَلَّوْا فَلَمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِمْ أَمَرَ بِهِمْ فَحُبِسُوا فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ لا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ، وَجَعَلَتْ تَزْدَادُ بَرْدًا، فَأَمَرَ خَالِدٌ مُنَادِيًا فَنَادَى: ادفئوا اسراكم، وكانت في لغة كنانه إذا قَالُوا: دَثِّرُوا الرَّجُلَ فَأَدْفِئُوهُ، دِفْئُهُ قَتْلُهُ وَفِي لُغَةِ غَيْرِهِمْ: أَدْفِهِ فَاقْتُلْهُ، فَظَنَّ الْقَوْمُ- وَهِيَ فِي لُغَتِهِمِ الْقَتْلُ- أَنَّهُ أَرَادَ الْقَتْلَ، فَقَتَلُوهُمْ، فَقَتَلَ ضِرَارُ بْنُ الأَزْوَرِ مَالِكًا، وَسِمَع خَالِدٌ الْوَاعِيَةَ، فَخَرَجَ وَقَدْ فَرَغُوا مِنْهُمْ، فَقَالَ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا أَصَابَهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقَوْمُ فِيهِمْ، فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: هَذَا عَمَلُكَ، فَزَبَرَهُ خَالِدٌ فَغَضِبَ وَمَضَى، حَتَّى أَتَى أَبَا بَكْرٍ فَغَضِبَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ، حَتَّى كَلَّمَهُ عُمَرُ فِيهِ، فَلَمْ يَرْضَ إِلا أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ حَتَّى قَدِمَ مَعَهُ الْمَدِينَةَ، وَتَزَوَّجَ خَالِدٌ أُمَّ تَمِيمِ ابْنَةَ الْمِنْهَالِ، وَتَرَكَهَا لِيَنْقَضِيَ طُهْرُهَا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَكْرَهُ النِّسَاءَ فِي الْحَرْبِ وَتُعَايِرُهُ، وَقَالَ عُمَرُ لأَبِي بَكْرٍ إِنَّ فِي سَيْفِ خَالِدٍ رَهَقًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا حَقًّا، حَقَّ عَلَيْهِ أَنْ تُقِيدَهُ، وَأَكَثَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ- وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لا يُقِيدُ مِنْ عُمَّالِهِ وَلا وَزَعَتِهِ- فَقَالَ: هَيْهٍ يَا عُمَرُ! تَأَوَّلَ فَأَخْطَأَ، فَارْفَعْ لِسَانَكَ عَنْ خَالِدٍ وَوَدي مَالِكًا وَكَتَبَ إِلَى خَالِدٍ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ، فَفَعَلَ، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ،

فَعَذَرَهُ وَقَبِلَ مِنْهُ، وَعَنَّفَهُ فِي التَّزْوِيجِ الَّذِي كَانَتْ تَعِيبُ عَلَيْهِ الْعَرَبُ مِنْ ذَلِكَ وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: شَهِدَ قَوْمٌ مِنَ السَّرِيَّةِ أَنَّهُمْ أَذَّنُوا وَأَقَامُوا وَصَلَّوْا، فَفَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ. وَشَهِدَ آخَرُونَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَقُتِلُوا وَقَدِمَ أَخُوهُ مُتَمِّمُ بْنُ نُوَيْرَةَ يُنْشِدُ أَبَا بَكْرٍ دَمَهُ، وَيَطْلُبُ إِلَيْهِ فِي سَبْيِهِمْ، فَكَتَبَ لَهُ بِرَدِّ السَّبْيِ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ عُمَرُ فِي خَالِدٍ أَنْ يَعْزِلَهُ، وَقَالَ: إِنَّ فِي سَيْفِهِ رَهَقًا فَقَالَ: لا يَا عُمَرُ، لَمْ أَكُنْ لأُشِيمَ سَيْفًا سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْكَافِرِينَ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ خُزَيْمَةَ، عَنْ عُثْمَانَ، عَنْ سُوَيْدٍ، قَالَ: كَانَ مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ شَعْرًا، وَإِنَّ أَهْلَ الْعَسْكَرِ أَثَفُّوا بِرُءُوسِهِمْ الْقُدُورَ، فَمَا مِنْهُمْ رَأْسٌ إِلا وَصَلَتِ النَّارُ إِلَى بَشْرَتِهِ مَا خَلا مَالِكًا، فَإِنَّ الْقِدْرَ نَضَجَتْ وَمَا نَضَجَ رَأْسُهُ مِنْ كَثْرَةِ شَعْرِهِ، وَقَى الشَّعْرُ الْبَشْرَةَ حَرَّهَا أَنْ يَبْلُغَ مِنْهُ ذَلِكَ. وَأَنْشَدَهُ مُتَمِّمٌ، وَذَكَرَ خَمْصَهُ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ رَآهُ مَقْدَمَهُ عَلَى النبي ص، فَقَالَ: أَكَذَاكَ يَا مُتَمِّمُ كَانَ! قَالَ: أَمَّا ما أَعْنِي فَنَعَمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ مِنْ عَهْدِهِ إِلَى جُيُوشِهِ: أَنْ إِذَا غَشِيتُمْ دَارًا مِنْ دُورِ النَّاسِ فَسَمِعْتُمْ فِيهَا أَذَانًا لِلصَّلاةِ، فَأَمْسِكُوا عَنْ أَهْلِهَا حَتَّى تَسْأَلُوهُمْ مَا الَّذِي نَقَمُوا! وَإِنْ لَمْ تَسْمَعُوا أَذَانًا، فَشِنُّوا الْغَارَةَ، فَاقْتُلُوا، وَحَرِّقُوا

وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ لِمَالِكٍ بِالإِسْلامِ أَبُو قَتَادَةَ الْحَارِثُ بْنُ رِبْعِيٍّ أَخُو بَنِي سَلَمَةَ، وَقَدْ كَانَ عَاهَدَ اللَّهَ أَلا يَشْهَدَ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ حَرْبًا أَبَدًا بَعْدَهَا، وَكَانَ يُحَدِّثُ أَنَّهُمْ لَمَّا غَشُوا الْقَوْمَ رَاعُوهُمْ تَحْتَ اللَّيْلِ، فَأَخَذَ الْقَوْمُ السِّلاحَ قَالَ: فَقُلْنَا: إِنَّا الْمُسْلِمُونَ، فَقَالُوا: وَنَحْنُ الْمُسْلِمُونَ، قُلْنَا: فَمَا بَالُ السِّلاحُ مَعَكُمْ! قَالُوا لَنَا: فَمَا بَالُ السِّلاحُ مَعَكُمْ! قُلْنَا: فَإِنْ كُنْتُمْ كَمَا تَقُولُونَ فَضَعُوا السِّلاحَ، قَالَ: فَوَضَعُوهَا، ثُمَّ صَلَّيْنَا وَصَلُوا وَكَانَ خَالِدٌ يَعْتَذِرُ فِي قَتْلِهِ أَنَّهُ قَالَ لَهُ وَهُوَ يُرَاجِعُهُ: مَا أَخَالُ صَاحِبَكُمْ إِلا وَقَدْ كَانَ يقول كذا وكذا قال: او ما تَعُدُّهُ لَكَ صَاحِبًا! ثُمَّ قَدَّمَهُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ وَأَعْنَاقَ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا بَلَغَ قَتْلَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، تَكَلَّمَ فِيهِ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ فَأَكْثَرَ، وقال: عدو الله عدا عَلَى امْرِئٍ مُسْلِمٍ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ نَزَا عَلَى امْرَأَتِهِ! وَأَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ قَافِلا حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَعَلَيْهِ قِبَاءٌ لَهُ عَلَيْهِ صَدَأُ الْحَدِيدِ، مُعْتَجِرًا بِعِمَامَةٍ لَهُ، قَدْ غَرَزَ فِي عِمَامَتِهِ أَسْهُمًا، فَلَمَّا أَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ فَانْتَزَعَ الأَسْهُمَ مِنْ رَأْسِهِ فَحَطَّمَهَا، ثم قال: ارثاء! قتلت امْرَأً مُسْلِمًا، ثُمَّ نَزَوْتَ عَلَى امْرَأَتِهِ! وَاللَّهِ لأَرْجُمَنَّكَ بِأَحْجَارِكَ- وَلا يُكَلِّمُهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَلا يَظُنُّ إِلا أَنَّ رَأْيَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى مِثْلِ رَأْيِ عُمَرَ فِيهِ- حَتَّى دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا أَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ أَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَعَذَرَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَتَجَاوَزَ عَنْهُ مَا كَانَ فِي حَرْبِهِ تِلْكَ قَالَ: فَخَرَجَ خَالِدٌ حِينَ رَضِيَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: هَلُمَّ الى يا بن أُمِّ شَمْلَةَ! قَالَ: فَعَرَفَ عُمَرُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَدْ رَضِيَ عَنْهُ فَلَمْ يُكَلِّمْهُ، وَدَخَلَ بَيْتَهُ. وَكَانَ الَّذِي قَتَلَ مَالِكَ بْنِ نُوَيْرَةَ عَبْدُ بْنُ الأَزْوَرِ الأَسَدِيُّ وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: الَّذِي قَتَلَ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ ضِرَارُ بْنُ الأزور

ذكر بقية خبر مسيلمه الكذاب وقومه من اهل اليمامه

ذِكْرُ بَقِيَّةِ خَبَرِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَقَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ الْيَمَامَةِ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ حِينَ بَعَثَ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ إِلَى مُسَيْلِمَةَ وَأَتْبَعَهُ شُرَحْبِيلَ عَجِلَ عِكْرِمَةُ، فَبَادَرَ شُرَحْبِيلَ لِيَذْهَبَ بِصَوْتِهَا فَوَاقَعَهُمْ، فَنَكَبُوهُ، وَأَقَامَ شُرَحْبِيلُ بِالطَّرِيقِ حَيْثُ أَدْرَكَهُ الْخَبَرُ، وَكَتَبَ عِكْرِمَةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِالَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابو بكر: يا بن أُمِّ عِكْرِمَةَ، لا أَرَيْنَكَ وَلا تَرَانِي عَلَى حَالِهَا! لا تَرْجِعْ فَتُوهِنَ النَّاسَ، امْضِ عَلَى وَجْهِكَ حَتَّى تُسَانِدَ حُذَيْفَةَ وَعُرْفُجَةَ فَقَاتِلْ مَعَهُمَا أَهْلَ عُمَانَ وَمهْرَةَ، وَإِنْ شُغِلا فَامْضِ أَنْتَ، ثم تسير وتسير جندك تستبرئون مَنْ مَرَرْتُمْ بِهِ، حَتَّى تَلْتَقُوا أَنْتُمْ وَالْمُهَاجِرَ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بِالْيَمَنِ وَحَضْرَمَوْتَ. وَكَتَبَ إِلَى شُرَحْبِيلَ يَأْمُرُهُ بِالْمُقَامِ حَتَّى يَأْتِيَهُ أَمْرُهُ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُوَجِّهَ خَالِدًا بِأَيَّامٍ إِلَى الْيَمَامَةِ: إِذَا قَدِمَ عَلَيْكَ خَالِدٌ، ثُمَّ فَرَغْتُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَالْحَقْ بِقُضَاعَةَ، حَتَّى تَكُونَ أَنْتَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَلَى مَنْ أَبَى مِنْهُمْ وَخَالَفَ فَلَمَّا قَدِمَ خَالِدٌ عَلَى أَبِي بَكْرٍ مِنَ الْبِطَاحِ رَضِيَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ خَالِدٍ، وَسَمِعَ عُذْرَهُ وَقَبِلَ مِنْهُ وَصَدَّقَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ، وَوَجَّهَهُ إِلَى مُسَيْلِمَةَ وَأَوْعَبَ مَعَهُ النَّاسَ وَعَلَى الأَنْصَارِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ وَالْبَرَاءِ بْنِ فُلانٍ، وَعَلَى الْمُهَاجِرِينَ أَبُو حُذَيْفَةَ وَزَيْدٌ، وَعَلَى الْقَبَائِلِ، عَلَى كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ. وَتَعَجَّلَ خَالِدٌ حَتَّى قَدِمَ عَلَى أَهْلِ الْعَسْكَرِ بِالْبِطَاحِ، وَانْتَظَرَ الْبَعْثَ الَّذِي ضَرَبَ بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ نَهَضَ حَتَّى أَتَى الْيَمَامَةَ وَبَنُو حَنِيفَةَ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلاءِ، عَنْ رِجَالٍ، قَالُوا: كَانَ عَدَدُ بَنِي حَنِيفَةَ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، فِي قُرَاهَا

وَحِجْرِهَا، فَسَارَ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا أَظَلَّ عَلَيْهِمْ أَسْنَدَ خُيُولا لِعُقةَ وَالْهُذَيْلِ وَزِيَادٍ، وَقَدْ كَانُوا أَقَامُوا عَلَى خَرْجٍ أَخْرَجَهُ لَهُمْ مُسَيْلِمَةُ لِيُلْحِقُوا بِهِ سَجَاحَ. وَكَتَبَ إِلَى الْقَبَائِلِ مِنْ تَمِيمٍ فِيهِمْ، فَنَفَرُوهُمْ حَتَّى أَخْرَجُوهُمْ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَعَجَلَ شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ، وَفَعَلَ فِعْلَ عِكْرِمَةَ، وَبَادَرَ خَالِدًا بِقِتَالِ مُسَيْلِمَةَ قَبْلَ قُدُومِ خَالِدٍ عَلَيْهِ، فَنُكِبَ، فَحَاجَزَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ خَالِدٌ لامَهُ، وَإِنَّمَا أَسْنَدَ خَالِدٌ تِلْكَ الْخُيُولَ مَخَافَةَ أَنْ يَأْتُوهُ مِنْ خَلْفِهِ، وَكَانُوا بِأَفْنِيَةِ الْيَمَامَةِ. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد بن ثابت، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ جَابِرِ بْنِ فُلانٍ، قَالَ: وَأَمَدَّ أَبُو بَكْرٍ خَالِدًا بِسُلَيْطٍ، لَيَكُونَ رِدْءًا لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْفِهِ، فَخَرَجَ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ خَالِدٍ وَجَدَ تِلْكَ الْخُيُولَ الَّتِي انْتَابَتْ تِلْكَ الْبِلادَ قَدْ فُرِّقُوا، فَهَرَبُوا، وَكَانَ مِنْهُمْ قَرِيبًا رِدْءًا لَهُمْ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: لا أَسْتَعْمِلُ أَهْلَ بَدْرٍ، أَدَعُهُمْ حَتَّى يَلْقَوُا اللَّهَ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ بِهِمْ وَبِالصُّلَحَاءِ مِنَ الأُمَمِ أَكْثَرَ وَأَفْضَلَ مِمَّا يَنْتَصِرُ بِهِمْ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: وَاللَّهِ لأُشْرِكَنَّهُمْ وليُواسُنَّني كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة بْن الأعلم، عن عبيد بْن عمير، عن اثال الحنفي- وكان مع ثمامة بْن أثال- قال: وكان مسيلمة يصانع كل أحد ويتألفه ولا يبالي أن يطلع الناس منه على قبيح، وكان معه نهار الرجال بْن عنفوة، وكان قد هاجر الى النبي ص، وقرأ القرآن، وفقه في الدين، فبعثه معلما لأهل اليمامة وليشغب على مسيلمة، وليشدد من أمر المسلمين، فكان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة، شهد له أنه سمع محمدا ص يقول: إنه قد أشرك معه، فصدقوه واستجابوا له، وامروه بمكاتبه النبي ص

، ووعدوه إن هو لم يقبل أن يعينوه عليه، فكان نهار الرجال بْن عنفوة لا يقول شيئا إلا تابعه عليه، وكان ينتهي الى امره، وكان يؤذن للنبي ص، ويشهد في الأذان أن محمدا رسول اللَّه، وكان الذي يؤذن له عبد اللَّه بْن النواحة، وكان الذي يقيم له حجير بْن عمير، ويشهد له، وكان مسيلمة إذا دنا حجير من الشهادة، قال: صرح حجير، فيزيد في صوته، ويبالغ لتصديق نفسه، وتصديق نهار وتضليل من كان قد أسلم، فعظم وقاره في أنفسهم قال: وضرب حرما باليمامة، فنهى عنه، وأخذ الناس به، فكان محرما فوقع في ذلك الحرم قرى الأحاليف، أفخاذ من بنى اسيد، كانت دراهم باليمامة، فصار مكان دارهم في الحرم- والأحاليف: سيحان ونمارة ونمر والحارث بنو جروة- فإن أخصبوا أغاروا على ثمار أهل اليمامة، واتخذوا الحرم دغلا، فإن نذروا بهم فدخلوه أحجموا عنهم، وإن لم ينذروا بهم فذلك ما يريدون فكثر ذلك منهم حتى استعدوا عليهم، فقال: أنتظر الذي يأتي من السماء فيكم وفيهم ثم قال لهم: والليل الأطحم، والذئب الأدلم والجذع الأزلم، ما انتهكت أسيد من محرم، فقالوا: أما محرم استحلال الحرم وفساد الأموال! ثم عادوا للغارة، وعادوا للعدوى. فقال: أنتظر الذي يأتيني، فقال: والليل الدامس، والذئب الهامس، ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس، فقالوا: أما النخيل مرطبة فقد جدوها، وأما الجدران يابسة فقد هدموها، فقال: اذهبوا وارجعوا فلا حق لكم. وكان فيما يقرأ لهم فيهم: إن بني تميم قوم طهر لقاح، لا مكروه

عليهم ولا إتاوة، نجاورهم ما حيينا بإحسان، نمنعهم من كل إنسان، فإذا متنا فأمرهم إلى الرحمن. وكان يقول: والشاء وألوانها، وأعجبها السود وألبانها والشاء السوداء واللبن الأبيض، إنه لعجب محض، وقد حرم المذق، فما لكم لا تمجعون!. وكان يقول: يا ضفدع ابنة ضفدع، نقي ما تنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين. وكان يقول: والمبذرات زرعا، والحاصدات حصدا، والذاريات قمحا، والطاحنات طحنا، والخابزات خبزا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما، إهالة وسمنا، لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه، والمعتر فآووه، والباغي فناوئوه. قال: وأتته امرأة من بني حنيفة تكنى بأم الهيثم فقالت: إن نخلنا لسحق وإن آبارنا لجرز، فادع اللَّه لمائنا ولنخلنا كما دعا مُحَمَّد لأهل هزمان. فقال: يا نهار ما تقول هذه؟ فقال: ان اهل هزمان أتوا محمدا ص فشكوا بعد مائهم، - وكانت آبارهم جرزا- ونخلهم أنها سحق، فدعا لهم فجاشت آبارهم، وانحنت كل نخلة قد انتهت حتى وضعت جرانها لانتهائها، فحكت به الأرض حتى أنشبت عروقا ثم قطعت من دون ذلك، فعادت فسيلا مكمما ينمى صاعدا. قال: وكيف صنع بالآبار؟ قال: دعا بسجل، فدعا لهم فيه،

ثم تمضمض بفمه منه، ثم مجه فيه، فانطلقوا به حتى فرغوه في تلك الآبار، ثم سقوه نخلهم، ففعل النبي ما حدثتك، وبقي الآخر إلى انتهائه فدعا مسيلمة بدلو من ماء فدعا لهم فيه، ثم تمضمض منه، ثم مج فيه فنقلوه فأفرغوه في آبارهم فغارت مياه تلك الآبار، وخوى نخلهم، وإنما استبان ذلك بعد مهلكه. وقال له نهار: برك على مولودي بني حنيفة، فقال له: وما التبريك؟ قال: كان أهل الحجاز إذا ولد فيهم المولود أتوا به محمدا ص فحنكه ومسح رأسه، فلم يؤت مسيلمة بصبي فحنكه ومسح رأسه إلا قرع ولثغ واستبان ذلك بعد مهلكه. وقالوا: تتبع حيطانهم كما كان محمد ص يصنع فصل فيها: فدخل حائطا من حوائط اليمامة، فتوضأ، فقال نهار لصاحب الحائط: ما يمنعك من وضوء الرحمن فتسقي به حائطك حتى يروى ويبتل، كما صنع بنو المهرية، أهل بيت من بني حنيفة- وكان رجل من المهرية قدم على النبي ص فأخذ وضوءه فنقله معه إلى اليمامة فأفرغه في بئره، ثم نزع وسقى، وكانت أرضه تهوم فرويت وجزأت فلم تلف إلا خضراء مهتزة- ففعل فعادت يبابا لا ينبت مرعاها. وأتاه رجل فقال: ادع اللَّه لأرضي فإنها مسبخه، كما دعا محمد ص لسلمي على أرضه فقال: ما يقول يا نهار؟ فقال:

قدم عليه سلمي، وكانت أرضه سبخة فدعا له، وأعطاه سجلا من ماء، ومج له فيه، فأفرغه في بئره، ثم نزع، فطابت وعذبت، ففعل مثل ذلك فانطلق الرجل، ففعل بالسجل كما فعل سلمي، فغرقت أرضه، فما جف ثراها، ولا أدرك ثمرها. وأتته امرأة فاستجلبته إلى نخل لها يدعو لها فيها، فجزت كبائسها يوم عقرباء كلها، وكانوا قد علموا واستبان لهم، ولكن الشقاء غلب عليهم. كتب إلي السري، قال: حدثنا شعيب، عن سيف، عن خليد بن ذفرة النمري، عن عمير بْن طلحة النمري، عن أبيه، أنه جاء اليمامة، فقال: أين مسيلمة؟ قالوا: مه رسول اللَّه! فقال: لا، حتى أراه، فلما جاءه، قال: أنت مسيلمة؟ قال: نعم، قال: من يأتيك؟ قال: رحمن، قال: أفي نور أو في ظلمة؟ فقال: في ظلمة، فقال: أشهد أنك كذاب وأن محمدا صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر، فقتل معه يوم عقرباء. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الكلبي مثله، إلا أنه قال: كذاب ربيعة أحب إلي من كذاب مضر. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة بْن الأعلم، عن عبيد بْن عمير، عن رجل منهم، قال: لما بلغ مسيلمة دنو خالد، ضرب عسكره بعقرباء، واستنفر الناس، فجعل الناس يخرجون إليه، وخرج مجاعة بْن مرارة في سريه يطلب ثارا له في بني عامر وبني تميم قد خاف فواته، وبادر به الشغل، فأما ثأره في بني عامر فكانت خولة ابنة جعفر فيهم، فمنعوه منها، فاختلجها، وأما ثأره في بني تميم فنعم أخذوا له واستقبل خالد شرحبيل بْن حسنة، فقدمه وأمر على المقدمة خالد بْن فلان المخزومي، وجعل على المجنبتين زيدا وأبا حذيفة، وجعل مسيلمة على

مجنبتيه المحكم والرجال، فسار خالد ومعه شرحبيل، حتى إذا كان من عسكر مسيلمة على ليله، هجم على جبيله هجوم- المقلل يقول: أربعين، والمكثر يقول: ستين- فإذا هو مجاعة وأصحابه، وقد غلبهم الكرى، وكانوا راجعين من بلاد بني عامر، قد طووا إليهم، واستخرجوا خولة ابنة جعفر فهي معهم، فعرسوا دون أصل الثنية، ثنية اليمامة، فوجدوهم نياما وأرسان خيولهم بأيديهم تحت خدودهم وهم لا يشعرون بقرب الجيش منهم، فأنبهوهم، وقالوا: من أنتم؟ قالوا: هذا مجاعة وهذه حنيفة، قالوا: وأنتم فلا حياكم اللَّه! فأوثقوهم وأقاموا إلى أن جاءهم خالد بْن الوليد، فأتوه بهم، فظن خالد أنهم جاءوه ليستقبلوه وليتقوه بحاجته، فقال: متى سمعتم بنا؟ قالوا: ما شعرنا بك، إنما خرجنا لثأر لنا فيمن حولنا من بني عامر وتميم، ولو فطنوا لقالوا: تلقيناك حين سمعنا بك فأمر بهم أن يقتلوا، فجادوا كلهم بأنفسهم دون مجاعة بْن مرارة، وقالوا: إن كنت تريد بأهل اليمامة غدا خيرا أو شرا فاستبق هذا ولا تقتله، فقتلهم خالد وحبس مجاعة عنده كالرهينة. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ بَعَثَ إِلَى الرَّجَّالِ فَأَتَاهُ فَأَوْصَاهُ بِوَصِيَّتِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَهُ إِلَى أَهْلِ الْيَمَامَةِ، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ عَلَى الصِّدْقِ حِينَ أَجَابَهُ قَالا: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: جَلَسْتُ مَعَ النَّبِيِّ ص في رهط معنا الرجال ابن عُنْفُوَةَ، فَقَالَ: [إِنَّ فِيكُمْ لَرَجُلا ضَرْسُهُ فِي النَّارِ أَعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ،] فَهَلَكَ الْقَوْمُ وَبَقِيتُ أَنَا وَالرَّجَّالُ، فَكُنْتُ مُتَخَوِّفًا لَهَا، حَتَّى خَرَجَ الرَّجَّالُ مَعَ مُسَيْلِمَةَ، فَشَهِدَ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ، فَكَانَتْ فِتْنَةُ الرَّجَّالِ أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَةِ مُسَيْلِمَةَ،. فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ خَالِدًا، فَسَارَ حَتَّى إِذَا بلغ ثنية اليمامه، استقبل مجاعه ابن مِرَارَةَ- وَكَانَ سَيَّدَ بَنِي حَنِيفَةَ- فِي جَبَلٍ مِنْ قَوْمِهِ، يُرِيدُ الْغَارَةَ عَلَى

بَنِي عَامِرٍ، وَيَطْلُبُ دَمًا، وَهُمْ ثَلاثَةٌ وَعِشْرُونَ فَارِسًا رُكْبَانًا قَدْ عَرَسُوا. فَبَيَّتَهُمْ خَالِدٌ فِي مَعْرَسِهِمْ، فَقَالَ: مَتَى سَمِعْتُمْ بِنَا؟ فَقَالُوا: مَا سمعنا بكم، انما خرجنا لنثئر بِدَمٍ لَنَا فِي بَنِي عَامِرٍ فَأَمَرَ بِهِمْ خَالِدٌ فَضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ، وَاسْتَحْيَا مُجَّاعَةَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى الْيَمَامَةِ، فَخَرَجَ مُسَيْلِمَةُ وَبَنُو حَنِيفَةَ حِينَ سَمِعُوا بِخَالِدٍ، فَنَزَلُوا بِعَقْرَبَاءَ، فَحَلَّ بِهَا عَلَيْهِمْ- وَهِيَ طَرَفُ الْيَمَامَةِ دُونَ الأَمْوَالِ- وَرِيفُ الْيَمَامَةِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَقَالَ شُرَحْبِيلُ بْنُ مُسَيْلِمَةَ: يَا بَنِي حَنِيفَةَ، الْيَوْمَ يَوْمَ الْغَيْرَةِ، الْيَوْمَ إِنْ هزمتم تستردف النساء سبيات، وينكحن غير خطيبات، فَقَاتِلُوا عَنْ أَحْسَابِكُمْ، وَامْنَعُوا نِسَاءَكُمْ فَاقْتَتَلُوا بِعَقْرَبَاءَ، وَكَانَتْ رَايَةُ الْمُهَاجِرِينَ مَعَ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، فَقَالُوا: تَخْشَى عَلَيْنَا مِنْ نَفْسِكَ شَيْئًا! فَقَالَ: بِئْسَ حَامِلُ الْقُرْآنِ أَنَا إِذًا! وَكَانَتْ رَايَةُ الأَنْصَارِ مَعَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ عَلَى رَايَاتِهَا وَمُجَّاعَةُ أَسِيرٌ مَعَ أُمِّ تَمِيمٍ فِي فُسْطَاطِهَا فَجَالَ الْمُسْلِمُونَ جَوْلَةً، وَدَخَلَ أُنَاسٌ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ عَلَى أُمِّ تَمِيمٍ، فَأَرَادُوا قَتْلَهَا، فَمَنَعَهَا مُجَّاعَةُ قَالَ: أَنَا لَهَا جَارٌ، فَنِعْمَتِ الْحُرَّةُ هِيَ! فَدَفَعَهُمْ عَنْهَا، وَتَرَادَّ الْمُسْلِمُونَ، فَكَرُّوا عَلَيْهِمْ، فَانْهَزَمَتْ بَنُو حَنِيفَةَ، فَقَالَ الْمُحكمُ بْنُ الطُّفَيْلِ: يَا بَنِي حَنِيفَةَ، ادْخُلُوا الْحَدِيقَةَ، فَإِنِّي سَأَمْنَعُ أَدْبَارَكُمْ، فَقَاتَلَ دُونَهُمْ سَاعَةً ثُمَّ قَتَلَهُ اللَّهُ، قَتَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَدَخَلَ الْكُفَّارُ الْحَدِيقَةَ، وَقَتَلَ وَحْشِيُّ مُسَيْلِمَةَ، وَضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَشَارَكَهُ فِيهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، بِنَحْوِ حَدِيثِ سَيْفٍ هَذَا، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: دَعَا خَالِدٌ بِمُجَّاعَةَ وَمَنْ أُخِذَ مَعَهُ حِينَ أَصْبَحَ، فَقَالَ: يَا بَنِي حَنِيفَةَ، مَا تَقُولُونَ؟ قَالُوا: نَقُولُ: مِنَّا نَبِيٌّ وَمِنْكُمْ نَبِيٌّ، فَعَرَضَهُمْ عَلَى السَّيْفِ، حَتَّى إِذَا بَقِيَ مِنْهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ سَارِيَةُ بْنُ عَامِرٍ وَمُجَّاعَةُ بْنُ مِرَارَةَ، قَالَ لَهُ سَارِيَةٌ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهَذِهِ الْقَرْيَةِ غَدًا خَيْرًا أَوْ شَرًّا، فَاسْتَبْقِ هَذَا الرَّجُلَ- يَعْنِي مُجَّاعَةَ- فَأَمَرَ بِهِ خَالِدٌ فَأَوْثَقَهُ فِي الْحَدِيدِ، ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَى أُمِّ تَمِيمٍ امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: اسْتَوْصِي بِهِ

خَيْرًا، ثُمَّ مَضَى حَتَّى نَزَلَ الْيَمَامَةَ عَلَى كَثِيبٍ مُشْرِفٍ عَلَى الْيَمَامَةِ، فَضَرَبَ بِهِ عَسْكَرَهُ، وَخَرَجَ أَهْلُ الْيَمَامَةِ مَعَ مُسَيْلِمَةَ وَقَدْ قَدِمَ فِي مُقَدِّمَتِهِ الرَّحَّالُ- قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ، هَكَذَا قَالَ ابْنُ حُمَيْدٍ بِالْحَاءِ- بْنُ عُنْفُوَةَ بْنِ نَهْشَلٍ، وَكَانَ الرَّحَّالُ رَجُلا مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ قَدْ كَانَ أَسْلَمَ، وَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ الْيَمَامَةَ شَهِدَ لِمُسَيْلِمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص قَدْ كَانَ أَشْرَكَهُ فِي الأَمْرِ فَكَانَ أَعْظَمَ عَلَى أَهْلِ الْيَمَامَةِ فِتْنَةً مِنْ مُسَيْلِمَةَ، وَكَانَ المسلمون يسألون عن الرجال يَرْجُونَ أَنَّهُ يَثْلِمُ عَلَى أَهْلِ الْيَمَامَةِ أَمْرَهُمْ بِإِسْلامِهِ، فَلَقِيَهُمْ فِي أَوَائِلِ النَّاسِ مُتَكَتِّبًا، وَقَدْ قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرِهِ، وَعِنْدَهُ أَشْرَافُ النَّاسِ وَالنَّاسُ عَلَى مُصَافِّهِمْ، وَقَدْ رَأَى بَارِقَةً فِي بَنِي حَنِيفَةَ: أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ كَفَاكُمُ اللَّهُ أَمْرَ عَدُوِّكُمْ وَاخْتَلَفَ الْقَوْمُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَنَظَرَ مُجَّاعَةُ وَهُوَ خَلْفَهُ مُوَثَّقًا فِي الْحَدِيدِ، فَقَالَ: كَلا وَاللَّهِ، وَلَكِنَّهَا الْهُنْدُوَانِيَّةِ خَشَوْا عَلَيْهَا مِنْ تَحَطُّمِهَا، فَأَبْرَزُوهَا لِلشَّمْسِ لِتَلِينَ لَهُمْ، فَكَانَ كَمَا قَالَ فَلَمَّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ كَانَ أَوَّلُ مَنْ لقيهم الرجال بْنُ عُنْفُوَةَ، فَقَتَلَهُ اللَّهَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن محمد بن إسحاق، عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، عَنْ أَبِي هريرة، [ان رسول الله ص قَالَ يَوْمًا- وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَرَجَّالُ بْنُ عُنْفُوَةَ فِي مَجْلِسٍ عِنْدَهُ: لَضِرْسُ أَحَدِكُمْ أَيُّهَا الْمَجْلِسُ فِي النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ] . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمَضَى الْقَوْمُ لِسَبِيلِهِمْ، وَبَقِيتُ انا ورجال بْنُ عُنْفُوَةَ، فَمَا زِلْتُ لَهَا مَتَخَوِّفًا، حَتَّى سمعت بمخرج رجال، فَأَمَنْتُ وَعَرَفْتُ أَنَّ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص حَقٌّ. ثُمَّ الْتَقَى النَّاسُ وَلَمْ يَلْقَهُمْ حَرْبٌ قَطُّ مِثْلَهَا مِنْ حَرْبِ الْعَرَبِ، فَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالا شَدِيدًا، حَتَّى انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ وَخَلَصَ بَنُو حَنِيفَةَ إِلَى مُجَّاعَةَ وَإِلَى خَالِدٍ، فَزَالَ خَالِدٌ عَنْ فُسْطَاطِهِ وَدَخَلَ أُنَاسٌ الْفُسْطَاطَ وَفِيهِ مُجَّاعَةَ عِنْدَ أُمِّ تَمِيمٍ، فَحَمَلَ عَلَيْهَا رَجُلٌ بِالسَّيْفِ، فَقَالَ مُجَّاعَةُ: مَهْ،

أَنَا لَهَا جَارٌ، فَنِعْمَتِ الْحُرَّةُ! عَلَيْكُمْ بِالرِّجَالِ، فَرَعْبَلُوا الْفُسْطَاطَ بِالسُّيُوفِ ثُمَّ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ تَدَاعَوْا، فَقَالَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ: بِئْسَمَا عَوَّدْتُمْ أَنْفُسَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ! اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ- يَعْني أَهْلَ الْيَمَامَةِ- وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا يَصْنَعُ هَؤُلاءِ- يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ- ثُمَّ جَالَدَ بِسَيْفِهِ حَتَّى قُتِلَ وَقَالَ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ حِينَ انْكَشَفَ النَّاسُ عَنْ رِحَالِهِمْ: لا تَحُوزُ بَعْدُ الرِّحَالُ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ ثُمَّ قَامَ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ أَخُو أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ- وَكَانَ إِذَا حَضَرَ الْحَرْبُ أَخَذَتْهُ الْعُرَوَاءُ حَتَّى يَقْعُدَ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، ثُمَّ يَنْتَفِضُ تَحْتَهُمْ حَتَّى يَبُولَ فِي سَرَاوِيلِهِ، فَإِذَا بَالَ يَثُورُ كَمَا يَثُورُ الأَسَدُ- فَلَمَّا رَأَى مَا صَنَعَ النَّاسُ أَخَذَهُ الَّذِي كَانَ يَأْخُذُهُ حَتَّى قَعَدَ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، فَلَمَّا بَالَ وَثَبَ، فَقَالَ: أَيْنَ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمينَ! أَنَا الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ، هَلُمَّ إِلَيَّ! وَفَاءَتْ فِئَةٌ مِنَ النَّاسِ، فَقَاتَلُوا الْقَوْمَ حَتَّى قَتَلَهَمُ اللَّهُ، وَخَلَصُوا إِلَى مُحَكِّمِ الْيَمَامَةِ- وَهُوَ مُحَكِّمُ بْنُ الطُّفَيْلِ- فَقَالَ حِينَ بَلَغَهُ الْقِتَالُ: يَا مَعْشَرَ بَنِي حَنِيفَةَ، الآنَ وَاللَّهِ تُسْتَحْقَبُ الْكَرَائِمُ غَيْرَ رَضِيَّاتٍ، وَيُنْكَحْنَ غير خطيبات، فَمَا عِنْدَكُمْ مِنْ حَسَبٍ فَأَخْرِجُوهُ فَقَاتَلَ قِتَالا شَدِيدًا، وَرَمَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بِسَهْمٍ فَوَضَعَهُ فِي نَحْرِهِ فَقَتَلَهُ ثُمَّ زَحَفَ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى أَلْجَئُوهُمْ إِلَى الْحَدِيقَةِ، حَدِيقَةِ الْمَوْتِ، وَفِيهَا عَدُوُّ اللَّهِ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ، فَقَالَ الْبَرَاءُ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أَلْقُونِي عَلَيْهِمْ فِي الْحَدِيقَةِ فَقَالَ النَّاسُ: لا تَفْعَلْ يَا بَرَاءُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَتَطْرِحُنِّي عَلَيْهِمْ فِيهَا، فَاحْتَمَلَ حَتَّى إِذَا أَشْرَفَ عَلَى الْحَدِيقَةِ مِنَ الْجِدَارِ، اقْتَحَمَ فقاتلهم عن باب الحديقة، حتى فتحها المسلمون، وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ فِيهَا، فَاقْتَتَلُوا حَتَّى قَتَلَ اللَّهُ مُسَيْلِمَةَ عَدُوَّ اللَّهِ، وَاشْتَرَكَ فِي قَتْلِهِ وَحْشِيٌّ مَوْلَى جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، كِلاهُمَا قَدْ أَصَابَهُ، أَمَّا وَحْشِيٌّ فَدَفَعَ عَلَيْهِ حَرْبَتَهُ، وَأَمَّا الأَنْصَارِيُّ فَضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ، فَكَانَ وَحْشِيٌّ يَقُولُ: رَبُّكَ أَعْلَمُ أَيُّنَا قَتَلَهُ!

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلا يَوْمَئِذٍ يَصْرُخُ يَقُولُ، قَتَلَهُ الْعَبْدُ الأَسْوَدُ! كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: كَانَ الرَّجَّالُ بِحِيَالِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، فَلَمَّا دَنَا صَفَّاهُمَا، قَالَ زَيْدٌ: يَا رَجَّالُ، اللَّهَ الله! فو الله لَقَدْ تَرَكْتَ الدِّينَ، وَإِنَّ الَّذِي أَدْعُوكَ إِلَيْهِ لأَشْرَفُ لَكَ، وَأَكْثَرُ لِدُنْيَاكَ فَأَبَى، فَاجْتَلَدَا فَقُتِلَ الرِّجَّالُ وَأَهْلُ الْبَصَائِرِ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ فِي أَمْرِ مُسَيْلِمَةَ، فَتَذَامَرُوا وَحَمَلَ كُلُّ قَوْمٍ فِي نَاحِيَتِهِمْ، فَجَالَ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى بَلَغُوا عَسْكَرَهُمْ، ثُمَّ أَعْرُوهُ لَهُمْ، فَقَطَعُوا أَطْنَابَ الْبُيُوتِ، وَهَتَكُوهَا، وَتَشَاغَلُوا بِالْعَسْكَرِ، وَعَالَجُوا مُجَّاعَةَ، وَهَمُّوا بِأُمِّ تَمِيمٍ، فَأَجَارَهَا، وَقَالَ: نِعْمَ أُمُّ الْمَثْوَى! وَتَذَامَرَ زَيْدٌ وَخَالِدٌ وَأَبُو حُذَيْفَةَ، وَتَكَلَّمَ النَّاسُ- وَكَانَ يَوْمَ جَنُوبٍ لَهُ غُبَارٌ- فَقَالَ زَيْدٌ: لا وَاللَّهِ لا أَتَكَلَّمُ الْيَوْمَ حَتَّى نَهْزِمَهُمْ أَوْ أَلْقَى اللَّهَ فَأُكَلِّمَهُ بِحُجَّتِي! عَضُّوا عَلَى أَضْرَاسِكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، وَاضْرِبُوا فِي عَدُوِّكُمْ، وَامْضُوا قُدُمًا فَفَعَلُوا، فَرَدُّوهُمْ إِلَى مُصَافِّهِمْ حَتَّى أَعَادُوهُمْ إِلَى أَبْعَدِ مِنَ الْغَايَةِ الَّتِي حُيِّزُوا إِلَيْهَا مِنْ عَسْكَرِهِمْ، وَقُتِلَ زَيْدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَتَكَلَّمَ ثَابِتٌ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أَنْتُمْ حِزْبُ اللَّهِ وَهُمْ أَحْزَابُ الشَّيْطَانِ، وَالْعِزَّةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَحْزَابِهِ، أَرُونِي كَمَا أُرِيكُمْ، ثُمَّ جَلَدَ فِيهِمْ حَتَّى حَازَهُمْ. وَقَالَ أَبُو حُذَيْفَةَ: يَا أَهْلَ الْقُرْآِن، زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِالْفِعَالِ وَحَمَلَ فَحَازَهُمْ حَتَّى أَنْفَذَهُمْ، وَأُصِيبَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَحَمَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَقَالَ لِحُمَاتِهِ: لا أُوتِيَنَّ مِنْ خَلْفِي حَتَّى كَانَ بِحِيَالِ مُسَيْلِمَةَ يَطْلُبُ الْفُرْصَةَ وَيَرْقُبُ مُسَيْلِمَةَ. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن مبشر بْنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَمَّا أُعْطِيَ سَالِمٌ الرَّايَةَ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: مَا أَعْلَمُنِي لأَيِّ شَيْءٍ أَعْطَيْتُمُونِيهَا! قُلْتُمْ: صَاحِبُ قُرْآنٍ وَسَيَثْبُتُ كَمَا ثَبَتَ صَاحِبُهَا

قَبْلَهُ حَتَّى مَاتَ! قَالُوا: أَجَلْ وَقَالُوا: فَانْظُرْ كَيْفَ تَكُونُ؟ فَقَالَ: بِئْسَ وَاللَّهِ حَامِلُ الْقُرْآنِ أَنَا إِنْ لَمْ أَثْبُتْ! وَكَانَ صَاحِبَ الرَّايَةِ قَبْلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَفْصِ بْنِ غَانِمٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا قَالَ مُجَّاعَةُ لِبَنِي حَنِيفَةَ: وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِالرَّجَّالِ، إِذَا فِئَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَذَامَرُوا بَيْنَهُمْ فَتَفَانُوا وَتَفَانَى الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ، وتكلم رجال من اصحاب رسول الله ص، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ: وَاللَّهِ لا أَتَكَلَّمُ أَوْ أَظْفَرُ أَوْ أُقْتَلُ، وَاصْنَعُوا كَمَا أَصْنَعُ أَنَا، فَحَمَلَ وَحَمَلَ أَصْحَابُهُ وَقَالَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ: بِئْسَمَا عَوَّدْتُمْ أَنْفُسَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ! هَكَذَا عَنِّي حَتَّى أُرِيَكُمُ الْجلادَ وَقُتِلَ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ رَحِمَهُ اللَّهُ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُبَشِّرٍ، عَنْ سَالِمٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ حِينَ رَجَعَ: أَلا هَلَكْتَ قَبْلَ زيد! هلك زيد وأنت حي! فقال: قد حَرَصْتُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ، وَلَكِنَّ نَفْسِي تَأَخَّرَتْ، فَأَكْرَمَهُ اللَّهُ بِالشَّهَادَةِ وَقَالَ سَهْلٌ: قَالَ: مَا جَاءَ بِكَ وَقَدْ هَلَكَ زَيْدٌ؟ أَلا وَارَيْتَ وَجْهَكَ عَنِّي! فَقَالَ: سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ فَأُعْطِيهَا، وَجَهَدْتُ أَنْ تُسَاقَ إِلَيَّ فَلَمْ أُعْطَهَا. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة بْن الأعلم، عن عبيد بْن عمير: إن المهاجرين والأنصار جبنوا أهل البوادي وجبنهم أهل البوادي، فقال بعضهم لبعض: امتازوا كي نستحيا من الفرار اليوم، ونعرف اليوم من أين نؤتى! ففعلوا وقال أهل القرى: نحن أعلم بقتال أهل القرى يا معشر أهل البادية منكم، فقال لهم أهل البادية: إن أهل القرى لا يحسنون القتال، ولا يدرون ما الحرب! فسترون إذا امتزنا من اين يجيء الخلل! فامتازوا، فما رئى يوم كان أحد ولا أعظم نكاية مما رئى يومئذ، ولم يدر أي الفريقين كان أشد فيهم نكاية! إلا أن المصيبة كانت في المهاجرين والأنصار أكثر منها في أهل البادية، وأن البقية أبدا في الشدة. ورمى عبد الرحمن بْن أبي بكر المحكم بسهم فقتله وهو يخطب، فنحره

وقتل زيد بْن الخطاب الرجال بْن عنفوة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ يَرْبُوعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُحَيْمٍ قَدْ شَهِدَهَا مَعَ خَالِدٍ، قَالَ: لَمَّا اشْتَدَّ الْقِتَالُ- وَكَانَتْ يَوْمَئِذٍ سِجَالا إِنَّمَا تَكُونُ مَرَّةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَمَرَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ- فَقَالَ خَالِدٌ: أَيُّهَا النَّاسُ امْتَازُوا لِنَعْلَمَ بَلاءَ كُلِّ حَيٍّ، وَلِنَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ نُؤْتَى! فَامْتَازَ أَهْلُ الْقُرَى وَالْبَوَادِي، وَامْتَازَتِ الْقَبَائِلُ من اهل البادية واهل الحاضر، فَوَقَفَ بَنُو كُلِّ أَبٍ عَلَى رَايَتِهِمْ، فَقَاتَلُوا جَمِيعًا، فَقَالَ أَهْلُ الْبَوَادِي يَوْمَئِذٍ: الآنَ يَسْتَحِرُّ الْقَتْلُ فِي الأَجْزَعِ الأَضْعَفِ، فَاسْتَحَرَّ الْقَتْلُ فِي أَهْلِ الْقُرَى، وَثَبَتَ مُسَيْلِمَةُ، وَدَارَتْ رَحَاهُمْ عَلَيْهِ، فَعَرَفَ خَالِدٌ أنَّهَا لا تَرْكُدُ إِلا بِقَتْلِ مُسَيْلِمَةَ، وَلَمْ تَحْفَلْ بَنُو حَنِيفَةَ بِقَتْلِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ ثُمَّ بَرَزَ خَالِدٌ، حَتَّى إِذَا كَانَ أَمَامَ الصَّفِّ دَعَا إِلَى الْبِرَازِ وَانْتَمَى، وَقَالَ: أَنَا ابْنُ الْوَلِيدِ الْعود، أَنَا ابْنُ عَامِرٍ وَزَيْدٍ! وَنَادَى بِشِعَارِهِمْ يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ شِعَارُهُمْ يَوْمَئِذٍ: يَا مُحَمَّدَاهُ! فَجَعَلَ لا يَبْرُزُ لَهُ أَحَدٌ إِلا قَتَلَهُ، وَهُوَ يَرْتَجِزُ: أَنَا ابْنُ أَشْيَاخٍ وَسَيْفِي السَّخْتُ أَعْظَمُ شَيْءٍ حِينَ يَأْتِيكَ النَّفْتُ وَلا يَبْرُزُ لَهُ شَيْءٌ إِلا أَكَلَهُ، ودارت رحا المسلمى وَطَحَنَتْ ثُمَّ نَادَى خَالِدٌ حِينَ دَنَا مِنْ مسيلمه-[وكان رسول الله ص قَالَ: إِنْ مَعَ مُسَيْلِمَةَ شَيْطَانًا لا يَعْصِيهِ، فَإِذَا اعْتَرَاهُ أَزْبَدَ كَأَنَّ شِدْقَيْهِ زَبِيبَتَانِ لا يَهِمُّ بِخَيْرٍ أَبَدًا إِلا صَرَفَهُ عَنْهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُ عَوْرَةً، فَلا تُقِيلُوهُ الْعَثْرَةَ]- فَلَمَّا دَنَا خَالِدٌ مِنْهُ طَلَبَ تِلْكَ، وَرَآهُ ثَابِتًا وَرَحَاهُمْ تَدُورُ عَلَيْهِ، وَعَرَفَ أَنَّهَا لا تَزُولُ إِلا بِزَوَالِهِ، فَدَعَا مُسَيْلِمَةَ طَلَبًا لِعَوْرَتِهِ، فَأَجَابَهُ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ مِمَّا يَشْتَهِي مُسَيْلِمَةُ، وَقَالَ: إِنْ قَبِلْنَا النِّصْفَ، فَأَيُّ الأَنْصَافِ تُعْطِينَا؟ فَكَانَ إِذَا هَمَّ بِجَوَابِهِ أَعْرَضَ بِوَجْهِهِ مُسْتَشِيرًا، فَيَنْهَاهُ شيطانه ان

يَقْبَلَ، فَأَعْرَضَ بِوَجْهِهِ مَرَّةً مِنْ ذَلِكَ، وَرَكِبَهُ خَالِدٌ فَأَرْهَقَهُ فَأَدْبَرَ، وَزَالُوا فَذَمَرَ خَالِدٌ النَّاسَ، وَقَالَ: دُونَكُمْ لا تُقِيلُوهُمْ! وَرَكِبُوهُمْ فَكَانَتْ هَزِيمَتُهُمْ، فَقَالَ مُسَيْلِمَةُ حِينَ قَامَ، وَقَدْ تَطَايَرَ النَّاسُ عَنْهُ، وَقَالَ قَائِلُونَ: فَأَيْنَ مَا كُنْتَ تَعِدُنَا؟ فَقَالَ: قَاتِلُوا عَنْ أَحْسَابِكُمْ، قَالَ: وَنَادَى الْمُحَكِّمُ: يَا بَنِي حَنِيفَةَ، الْحَدِيقَةَ الْحَدِيقَةَ! وَيَأْتِي وَحْشِيٌّ عَلَى مُسَيْلِمَةَ وَهُوَ مُزْبِدٌ مُتَسَانِدٌ لا يَعْقِلُ مِنَ الْغَيْظِ، فَخَرَطَ عَلَيْهِ حَرْبَتَهُ فَقَتَلَهُ، وَاقْتَحَمَ النَّاسُ عَلَيْهِمْ حَدِيقَةَ الْمَوْتِ مِنْ حِيطَانِهَا وَأَبْوَابِهَا، فَقُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَحَدِيقَةُ الْمَوْتُ عَشَرَةُ آلافِ مُقَاتِلٍ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن هارون، وطلحة، عن عمرو بْن شعيب وابن إسحاق أنهم لما امتازوا وصبروا، وانحازت بنو حنيفة تبعهم المسلمون يقتلونهم، حتى بلغوا بهم إلى حديقة الموت، فاختلفوا في قتل مسيلمة عندها، فقال قائلون: فيها قتل، فدخلوها وأغلقوها عليهم، وأحاط المسلمون بهم وصرخ البراء بْن مالك، فقال: يا معشر المسلمين، احملوني على الجدار حتى تطرحوني عليه، ففعلوا حتى إذا وضعوه على الجدار نظر وأرعد فنادى: أنزلوني، ثم قال: احملوني، ففعل ذلك مرارا ثم قال: أف لهذا خشعا! ثم قال: احملوني، فلما وضعوه على الحائط اقتحم عليهم، فقاتلهم على الباب حتى فتحه للمسلمين وهم على الباب من خارج فدخلوا، فأغلق الباب عليهم، ثم رمى بالمفتاح من وراء الجدار، فاقتتلوا قتالا شديدا لم يروا مثله، وأبير من في الحديقة منهم، وقد قتل اللَّه مسيلمة، وقالت له بنو حنيفة: أين ما كنت تعدنا! قال: قاتلوا عن أحسابكم! كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن هارون وطلحة وابن إسحاق، قالوا: لما صرخ الصارخ أن العبد الأسود قتل مسيلمة، خرج

خالد بمجاعة يرسف في الحديد ليريه مسيلمة، وأعلام جنده، فأتى على الرجال فقال: هذا الرِّجَالِ! حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: لَمَّا فَرَغَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ مُسَيْلِمَةَ أَتَى خَالِدٌ فَأُخْبِرَ، فَخَرَجَ بِمُجَّاعَةَ يَرْسُفُ مَعَهُ فِي الْحَدِيدِ لِيَدُلَّهُ عَلَى مُسَيْلِمَةَ، فَجَعَلَ يَكْشِفُ لَهُ الْقَتْلَى حَتَّى مَرَّ بِمُحَكِّمِ بْنِ الطُّفَيْلِ- وَكَانَ رَجُلا جَسِيمًا وَسِيمًا- فَلَمَّا رَآهُ خَالِدٌ، قَالَ: هَذَا صَاحِبُكُمْ قَالَ: لا، هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنْهُ وَأَكْرَمُ، هَذَا مُحَكِّمُ الْيَمَامَةِ قَالَ: ثُمَّ مَضَى خَالِدٌ يَكْشِفَ لَهُ الْقَتْلَى حَتَّى دَخَلَ الْحَدِيقَةَ، فَقَلَبَ لَهُ الْقَتْلَى، فَإِذَا رُوَيْجِلٌ أُصَيْفِرُ أُخَيْنِس فَقَالَ مُجَّاعَةُ: هَذَا صَاحِبُكُمْ، قَدْ فَرَغْتُمْ مِنْهُ، فَقَالَ خَالِدٌ لِمُجَّاعَةَ: هَذَا صَاحِبُكُمُ الَّذِي فَعَلَ بِكُمْ مَا فَعَلَ، قَالَ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ يَا خَالِدُ، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا جَاءَكَ إِلا سَرْعَانُ النَّاسِ، وَإِنَّ جَمَاهِيرَ النَّاسِ لَفِي الْحُصُونِ فَقَالَ: وَيْلَكَ مَا تَقُولُ! قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ الْحَقُّ، فَهَلُمَّ لأُصَالِحُكَ عَلَى قَوْمِي. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن الضحاك، عن أبيه، قال: كان رجل من بني عامر بْن حنيفة يدعى الأغلب بْن عامر بْن حنيفة، وكان أغلظ أهل زمانه عنقا، فلما انهزم المشركون يومئذ، وأحاط المسلمون بهم، تماوت، فلما أثبت المسلمون في القتلى أتى رجل من الأنصار يكنى أبا بصيرة ومعه نفر عليه، فلما رأوه مجدلا في القتلى وهم يحسبونه قتيلا، قالوا: يا أبا بصيرة، إنك تزعم- ولم تزل تزعم- أن سيفك قاطع، فاضرب عنق هذا الأغلب الميت، فإن قطعته فكل شيء كان يبلغنا حق، فاخترطه ثم مشى إليه ولا يرونه إلا ميتا، فلما دنا منه ثار،

فحاضره، واتبعه أبو بصيرة، وجعل يقول: أنا أبو بصيرة الأنصاري! وجعل الأغلب يتمطر ولا يزداد منه إلا بعدا، فكلما قال ذلك أبو بصيرة، قال الأغلب: كيف ترى عدو أخيك الكافر! حتى أفلت كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: لَمَّا فَرَغَ خَالِدٌ مِنْ مُسَيْلِمَةَ وَالْجُنْدِ، قَالَ لَهُ عبد الله ابن عُمَرَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: ارْتَحِلْ بِنَا وَبِالنَّاسِ فَانْزِلْ عَلَى الْحُصُونِ، فَقَالَ: دَعَانِي أَبُثُّ الْخُيُولَ فَأَلْقُطُ مَنْ لَيْسَ فِي الْحُصُونِ، ثُمَّ أَرَى رَأْيِي. فَبَثَّ الْخُيُولَ فَحَوَوْا مَا وَجَدُوا مِنْ مَالٍ وَنِسَاءٍ وَصِبْيَانٍ، فَضَمُّوا هَذَا إِلَى الْعَسْكَرِ، وَنَادَى بِالرَّحِيلِ لِيَنْزِلَ عَلَى الْحُصُونِ، فَقَالَ لَهُ مُجَّاعَةُ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا جَاءَكَ إِلا سَرْعَانُ النَّاسِ، وَإِنَّ الْحُصُونَ لَمَمْلُوءَةٌ رِجَالا، فَهَلُمَّ لَكَ إِلَى الصُّلْحِ عَلَى مَا وَرَائِي، فَصَالَحَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ دُونَ النُّفُوسِ ثُمَّ قَالَ: انْطَلِقْ إِلَيْهِمْ فَأُشَاوِرُهُمْ وَنَنْظُرُ فِي هَذَا الأَمْرِ، ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَيْكَ فَدَخَلَ مُجَّاعَةُ الْحُصُونَ، وَلَيْسَ فِيهَا إِلا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَمَشْيَخَةٌ فَانِيَةٌ، وَرِجَالٌ ضَعْفَى فَظَاهَرَ الْحَدِيدَ عَلَى النِّسَاءِ وَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَنْشُرْنَ شُعُورَهُنَّ، وَأَنْ يُشْرِفْنَ عَلَى رُءُوسِ الْحُصُونِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِنَّ، ثُمَّ رَجَعَ فَأَتَى خَالِدًا فَقَالَ: قَدْ أَبَوْا أَنْ يُجِيزُوا مَا صَنَعْتَ، وَقَدْ أَشْرَفَ لَكَ بَعْضُهُمْ نَقْضًا عَلَيَّ وَهُمْ مِنِّي بَرَاءٌ فَنَظَرَ خَالِدٌ إِلَى رُءُوسِ الْحُصُونِ وَقَدِ اسْوَدَّتْ، وَقَدْ نَهَكَتِ الْمُسْلِمِينَ الْحَرْبُ، وَطَالَ اللِّقَاءُ، وَأَحَبُّوا أَنْ يَرْجِعُوا عَلَى الظَّفْرِ، وَلَمْ يَدْرُوا مَا كَانَ كَائِنًا لَوْ كَانَ فِيهَا رِجَالٌ وَقِتَالٌ، وَقَدْ قُتِلَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ والانصار من اهل قصبه المدينة يومئذ ثلاثمائة وَسِتُّونَ قَالَ سَهْلٌ: وَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ غَيْرِ اهل المدينة والتابعين باحسان ثلاثمائة

من هؤلاء وثلاثمائة من هؤلاء، ستمائه أَوْ يَزِيدُونَ وَقُتِلَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ يَوْمَئِذٍ، قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ، فَرَمَى بِهَا قَاتلَهُ فَقَتَلَهُ، وَقُتِلَ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ فِي الْفَضَاءِ بِعَقْرَبَاءِ سَبْعَةُ آلافٍ، وَفِي حَدِيقَةِ الْمَوْتِ سَبْعَةُ آلافٍ، وَفِي الطَّلَبِ نَحْوٌ مِنْهَا. وَقَالَ ضِرَارُ بْنُ الأَزْوَرِ فِي يَوْمِ الْيَمَامَةِ: وَلَوْ سُئِلَتْ عَنَّا جَنُوبُ لأَخْبَرَتْ ... عَشِيَّةَ سَالَتْ عَقْرَبَاءُ وَمَلْهَمُ وَسَالَ بِفَرْعِ الْوَادِ حَتَّى تَرَقْرَقَتْ ... حِجَارَتُهُ فِيهَا مِنَ الْقَوْمِ بِالدَّمِ عَشِيَّةَ لا تُغْنِي الرِّمَاحُ مَكَانَهَا ... وَلا النَّبْلُ إِلا الْمَشْرَفِيُّ الْمُصَمِّمُ فَإِنْ تَبْتَغِي الْكُفَّارَ غَيْرُ مَلِيمَةٍ ... جَنُوبُ، فَإِنِّي تَابِعُ الدِّينِ مُسْلِمُ أُجَاهِدُ إِذْ كَانَ الْجِهَادُ غَنِيمَةً ... وَلَلَّهُ بِالْمَرْءِ الْمُجَاهِدِ أَعْلَمَ حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إِسْحَاقَ، قَالَ: قَالَ مُجَّاعَةُ لِخَالِدٍ مَا قَالَ إِذْ قَالَ لَهُ: فَهَلُمَّ لأُصَالِحَكَ عَنْ قَوْمِي لِرَجُلٍ قَدْ نَهَكَتْهُ الْحَرْبُ، وَأُصِيبَ مَعَهُ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ مَنْ أُصِيبَ، فَقَدْ رَقَّ وَأَحَبَّ الدَّعَةَ وَالصُّلْحَ فَقَالَ: هَلُمَّ لأُصَالِحَكَ، فَصَالَحَهُ عَلَى الصَّفْرَاءِ وَالْبَيْضَاءِ وَالْحَلَقَةِ وَنِصْفِ السَّبْيِ ثُمَّ قَالَ: إِنِّي آتِي الْقَوْمَ فَأَعْرِضُ عَلَيْهِمْ مَا قَدْ صَنَعْتَ قَالَ: فَانْطَلَقَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ لِلنِّسَاءِ: الْبِسْنَ الْحَدِيدَ ثُمَّ أَشْرِفْنَ عَلَى الْحُصُونِ، فَفَعَلْنَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى خَالِدٍ، وَقَدَ رَأَى خَالِدٌ الرِّجَالَ فِيمَا يَرَى عَلَى الْحُصُونِ عَلَيْهِمُ الْحَدِيدُ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى خَالِدٍ، قَالَ: أَبَوْا مَا صَالَحْتُكَ

عَلَيْهِ، وَلَكِنْ إِنْ شِئْتَ صَنَعْتُ لَكَ شَيْئًا، فَعَزَمْتُ عَلَى الْقَوْمِ قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: تَأْخُذُ مِنِّي رُبْعَ السَّبْيِ وَتَدَعُ رُبْعًا قَالَ خَالِدٌ: قَدْ فَعَلْتُ، قَالَ: قَدْ صَالَحْتُكَ، فَلَمَّا فَرَغَا فُتِحَتِ الْحُصُونُ، فَإِذَا لَيْسَ فِيهَا إِلا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَقَالَ خَالِدٌ لِمُجَّاعَةَ: وَيْحَكَ خَدَعْتَنِي! قَالَ: قَوْمِي، وَلَمْ أَسْتَطِعْ إِلا مَا صَنَعْتُ. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، قال: قال مجاعة يومئذ ثانية: إن شئت أن تقبل مني نصف السبي والصفراء والبيضاء والحلقة والكراع عزمت وكتبت الصلح بيني وبينك. ففعل خالد ذلك، فصالحه على الصفراء والبيضاء والحلقة والكراع وعلى نصف السبي وحائط من كل قرية يختاره خالد، ومزرعة يختارها خالد. فتقاضوا على ذلك، ثم سرحه، وقال: أنتم بالخيار ثلاثا، والله لئن تتموا وتقبلوا لأنهدن إليكم، ثم لا أقبل منكم خصلة أبدا إلا القتل فأتاهم مجاعة فقال: أما الآن فاقبلوا، فقال سلمة بْن عمير الحنفي: لا والله لا نقبل، نبعث إلى أهل القرى والعبيد فنقاتل ولا نقاضي خالدا، فإن الحصون حصينة والطعام كثير، والشتاء قد حضر فقال مجاعة: إنك امرؤ مشئوم، وغرك أني خدعت القوم حتى أجابوني إلى الصلح، وهل بقي منكم أحد فيه خير، أو به دفع! وإنما أنا بادرتكم قبل أن يصيبكم ما قال شرحبيل بن مسيلمة، فخرج مجاعة سابع سبعة حتى أتى خالدا، فقال: بعد شد ما رضوا، اكتب كتابك، فكتب: هذا ما قاضى عليه خالد بْن الوليد مجاعة بْن مرارة وسلمة بْن عمير وفلانا وفلانا، قاضاهم على الصفراء والبيضاء ونصف السبي والحلقة والكراع وحائط من كل قرية، ومزرعة، على أن يسلموا ثم أنتم آمنون بأمان اللَّه، ولكم ذمة خالد بْن الوليد وذمة أبي بكر خليفة رسول اللَّه

ص، وذمه المسلمين على الوفاء. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن طلحة، عن عكرمة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا صَالَحَ خَالِدٌ مُجَّاعَةَ، صَالَحَهُ عَلَى الصَّفْرَاءِ وَالْبَيْضَاءِ وَالْحَلَقَةِ وَكُلِّ حَائِطٍ رضَانَا فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ وَنِصْفِ الْمَمْلُوكِينَ. فَأَبَوْا ذَلِكَ، فَقَالَ خَالِدٌ: أَنْتَ بِالْخِيَارِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، فَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ عُمَيْرٍ: يَا بَنِي حَنِيفَةَ، قَاتِلُوا عَنْ أَحْسَابِكُمْ، وَلا تُصَالِحُوا عَلَى شَيْءٍ، فَإِنَّ الْحِصْنَ حَصِينٌ، وَالطَّعَامَ كَثِيرٌ وَقَدْ حَضَرَ الشِّتَاءُ فَقَالَ مُجَّاعَةُ: يَا بَنِي حَنِيفَةَ، أَطِيعُونِي وَاعْصُوا سَلَمَةَ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ مَشْئُومٌ، قَبْلَ أن يصيبكم ما قال شرحبيل بن مسيلمة قَبْلَ أَنْ تُسْتَرْدَفَ النِّسَاءُ غَيْرَ رَضِيَّاتٍ، وَيُنْكَحْنَ غير خطيبات فَأَطَاعُوهُ وَعَصَوْا سَلَمَةَ، وَقَبِلُوا قَضْيَتَهُ وَقَدْ بَعَثَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِكِتَابٍ إِلَى خَالِدٍ مَعَ سَلَمَةَ بْنِ سَلامَةَ بْنِ وَقشٍ، يَأْمُرُهُ إِنْ ظَفَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يقتل من جرت عليه المواسى مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، فَقَدِمَ فَوَجَدَهُ قَدْ صَالَحَهُمْ، فَوَفَّى لَهُمْ، وَتَمَّ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَحُشِرَتْ بَنُو حَنِيفَةَ إِلَى الْبَيْعَةِ وَالْبَرَاءَةِ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ إِلَى خَالِدٍ، وَخَالِدٌ فِي عَسْكَرِهِ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا قَالَ سَلَمَةُ بْنُ عُمَيْرٍ لِمُجَّاعَةَ: اسْتَأْذِنْ لِي عَلَى خَالِدٍ أُكَلِّمُهُ فِي حَاجَةٍ لَهُ عِنْدِي وَنَصِيحَةٍ- وَقَدْ أَجْمَعَ أَنْ يَفْتِكَ بِهِ- فَكَلَّمَهُ فَأَذِنَ لَهُ، فَأَقْبَلَ سَلَمَةُ بْنُ عُمَيْرٍ، مُشْتَمِلا عَلَى السَّيْفِ يُرِيدُ مَا يُرِيدُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا الْمُقْبِلُ؟ قَالَ مُجَّاعَةُ: هَذَا الَّذِي كَلَّمْتُكَ فِيهِ، وَقَدْ أَذِنْتَ لَهُ، قَالَ: أَخْرِجُوهُ عَنِّي، فَأَخْرَجُوهُ عَنْهُ، فَفَتَّشُوهُ فَوَجَدُوا مَعَهُ السَّيْفَ، فَلَعَنُوهُ وَشَتَمُوهُ وَأَوْثَقُوهُ، وَقَالُوا: لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ تُهْلِكَ قَوْمَكَ، وَايْمِ اللَّهِ مَا أَرَدْتَ إِلا أَنْ تُسْتَأْصَلُ بَنُو حَنِيفَةَ، وَتُسْبَى الذَّرِيَّةُ وَالنِّسَاءُ، وَايْمِ اللَّهِ لَوْ أَنَّ خَالِدًا عَلِمَ أَنَّكَ حَمَلْتَ السِّلاحَ لَقَتَلَكَ، وَمَا نَأْمَنُهُ إِنْ بَلَغَهُ ذَلِكَ أَنْ يَقْتُلَكَ وَأَنْ يَقْتُلَ الرِّجَالَ وَيُسْبِيَ النِّسَاءَ بِمَا فَعَلْتَ، وَيَحْسَبُ أَنَّ ذَلِكَ عَنْ مَلإٍ مِنَّا فَأَوْثَقُوهُ وَجَعَلُوهُ فِي الْحِصْنِ، وَتَتَابَعَ بَنُو حَنِيفَةَ عَلَى الْبَرَاءِ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ، وَعَلَى الإِسْلامِ، وَعَاهَدَهُمْ سَلَمَةُ عَلَى أَلا يُحْدِثُ حَدَثًا وَيُعْفُوهُ، فَأَبَوْا وَلَمْ يَثِقُوا بِحُمْقِهِ أَنْ يَقْبَلُوا مِنْهُ عَهْدًا، فَأَفْلَتَ

لَيْلا، فَعَمَدَ إِلَى عَسْكَرِ خَالِدٍ، فَصَاحَ بِهِ الْحَرَسُ، وَفَزِعَتْ بَنُو حَنِيفَةَ، فَاتَّبَعُوهُ فَأَدْرَكُوهُ فِي بَعْضِ الْحَوَائِطِ، فَشَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّيْفِ، فَاكْتَنَفُوهُ بِالْحِجَارَةِ، وَأَجَالَ السَّيْفَ عَلَى حَلْقِهِ فَقَطَعَ أَوْدَاجَهُ، فَسَقَطَ فِي بِئْرٍ فَمَاتَ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ يَرْبُوعٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: صَالَحَ خَالِدٌ بَنِي حَنِيفَةَ جَمِيعًا إِلا مَا كَانَ بِالْعَرْضِ وَالْقَرْيَةِ فَإِنَّهُمْ سُبُوا عِنْدَ انْبِثَاثِ الْغَارَةِ، فَبَعَثَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ مِمَّنْ جَرَى عَلَيْهِ الْقَسْمُ بِالْعَرْضِ وَالْقَرْيَةِ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ أَوْ قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ او يشكر، خمسمائة رَأْسٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّ خَالِدًا قَالَ لِمُجَّاعَةَ: زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ، فَقَالَ لَهُ مُجَّاعَةُ: مَهْلا، إِنَّكَ قَاطِعٌ ظَهْرِي وَظَهْرَكَ مَعِي عِنْدَ صَاحِبِكَ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، زَوِّجْنِي، فَزَوَّجَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا بَكْرٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا يقطر الدم: لعمري يا بن أُمِّ خَالِدٍ، إِنَّكَ لَفَارِغٌ تَنْكِحُ النِّسَاءَ وَبِفِنَاءِ بَيْتِكَ دَمُ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَجْفُفْ بَعْدُ! قَالَ: فَلَمَّا نَظَرَ خَالِدٌ فِي الْكِتَابِ جَعَلَ يَقُولُ: هَذَا عَمَلُ الأُعَيْسِرِ- يَعْنِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- وَقَدْ بَعَثَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَفْدًا مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَدِمُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ: وَيْحَكُمْ! مَا هَذَا الَّذِي اسْتَزَلَّ مِنْكُمْ مَا اسْتَزَلَّ! قَالُوا: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، قَدْ كَانَ الَّذِي بَلَغَكَ مِمَّا أَصَابَنَا كَانَ امرا لَمْ يُبَارِكِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ وَلا لِعَشِيرَتِهِ فِيهِ، قَالَ: عَلَى ذَلِكَ، مَا الَّذِي دَعَاكُمْ بِهِ! قَالُوا: كَانَ يَقُولُ: يَا ضُفْدَعُ نَقِّي نَقِّي، لا الشَّارِبَ تَمْنَعِينَ، وَلا الْمَاءَ تَكْدُرِينَ، لَنَا نِصْفُ الأَرْضِ، وَلِقُرَيْشٍ نِصْفُ الأَرْضِ، وَلَكِنَّ قُرَيْشًا قَوْمٌ يَعْتَدُّونَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: سُبْحَانَ اللَّهِ! وَيْحَكُمْ! إِنَّ هَذَا لَكَلامٌ مَا خَرَجَ مِنْ إِلٍّ وَلا برٍّ، فَأَيْنَ يَذْهَبُ بِكُمْ! فَلَمَّا فَرَغَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنَ الْيَمَامَةِ- وَكَانَ مَنْزِلُهُ الَّذِي بِهِ الْتَقَى النَّاسَ أَبَاضَ، وَادٍ مِنْ

ذكر خبر اهل البحرين ورده الحطم ومن تجمع معه بالبحرين

أَوْدِيَةِ الْيَمَامَةِ ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى وَادٍ مِنْ أوديتها يقال له الوبر- كان مَنْزِلُهُ بِهَا . ذكر خبر أهل البحرين وردة الحطم ومن تجمع معه بالبحرين قال أبو جعفر: وكان فيما بلغنا من خبر أهل البحرين وارتداد من ارتد منهم ما حَدَّثَنَا عبيد الله بن سعد، قال: أخبرنا عمي يعقوب بن إبراهيم، قال: أخبرنا سيف، قال: خرج العلاء بْن الحضرمي نحو البحرين، وكان من حديث البحرين ان النبي ص والمنذر بْن ساوى اشتكيا في شهر واحد، ثم مات المنذر بعد النبي ص بقليل، وارتد بعده أهل البحرين، فأما عبد القيس ففاءت، وأما بكر فتمت على ردتها، وكان الذي ثنى عبد القيس الجارود حتى فاءوا. حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمِّي، قال: أخبرنا سيف، عن إسماعيل بن مسلم، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ، قَالَ: [قَدِمَ الجارود بن المعلى على النبي ص مرتادا، فَقَالَ: أَسْلِمْ يَا جَارُودُ، فَقَالَ: إِنَّ لِي دينا، قال له النبي ص: إِنَّ دِينَكَ يَا جَارُودُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَيْسَ بِدِينٍ، فَقَالَ لَهُ الْجَارُودُ: فَإِنْ أَنَا أَسْلَمْتُ فَمَا كَانَ مِنْ تَبَعَةٍ فِي الإِسْلامِ فَعَلَيْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَأَسْلَمَ وَمَكَثَ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى فَقِهَ. فَلَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَجِدُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ ظَهْرًا نَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: مَا أَصْبَحَ عِنْدَنَا ظَهْرٌ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا

نَجِدُ بِالطَّرِيقِ ضَوَالَّ مِنْ هَذِهِ الضَّوَالِّ، قَالَ: تِلْكَ حرق النَّارِ، فَإِيَّاكَ وَإِيَّاهَا] فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ دَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلامِ فَأَجَابُوهُ كُلُّهُمْ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلا يَسِيرًا حَتَّى مَاتَ النَّبِيُّ ص فَقَالَتْ عَبْدُ الْقَيْسِ: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا لَمَا مَاتَ، وَارْتَدُّوا، وَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَبَعَثَ فِيهِمْ فَجَمَعَهُمْ، ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَهُمْ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ عَبْدِ الْقَيْسِ، إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ أَمْرٍ فَأَخْبِرُونِي بِهِ إِنْ عَلِمْتُمُوهُ وَلا تُجِيبُونِي إِنْ لَمْ تَعْلَمُوا قَالُوا: سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ، قَالَ: تَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَانَ لِلَّهِ أَنْبِيَاءٌ فِيمَا مَضَى؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: تَعْلَمُونَهُ أَوْ تَرَوْنَهُ؟ قَالُوا: لا بَلْ نَعْلَمُهُ، قَالَ: فَمَا فَعَلُوا؟ قَالُوا: ماتوا، قال: فان محمدا ص مَاتَ كَمَا مَاتُوا، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدا عبده ورسوله، قَالُوا: وَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّكَ سَيِّدُنَا وَأَفْضَلُنَا وَثَبَتُوا عَلَى إِسْلامِهِمْ، وَلَمْ يُبْسِطُوا وَلَمْ يُبْسَطْ إِلَيْهِمْ وَخَلُّوا بَيْنَ سَائِرِ رَبِيعَةَ وَبَيْنَ الْمُنْذِرِ وَالْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ الْمُنْذِرُ مِشْتَغِلا بِهِمْ حَيَاتَهُ، فَلَمَّا مَاتَ الْمُنْذِرُ حُصِرَ أَصْحَابُ الْمُنْذِرِ فِي مَكَانَيْنِ حَتَّى تَنَقَّذَهُمُ الْعَلاءُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ فَإِنَّهُ قَالَ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا فَرَغَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنَ الْيَمَامَةِ بَعَثَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْعَلاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ وَكَانَ الْعَلاءُ هو الذى كان رسول الله ص بَعَثَهُ إِلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى الْعَبْدِيِّ، فَأَسْلَمَ الْمُنْذِرُ، فَأَقَامَ بِهَا الْعَلاءُ أَمِيرًا لِرَسُولِ اللَّهِ ص، فَمَاتَ الْمُنْذِرُ بْنُ سَاوَى بِالْبَحْرَيْنِ بَعْدَ مُتَوَفَّى رسول الله ص، وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِعُمَانَ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ الله ص وَعَمْرٌو بِهَا فَأَقْبَلَ عَمْرٌو، فَمَرَّ بِالْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى وَهُوَ بِالْمَوْتِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ الْمُنْذِرُ له:

كم كان رسول الله ص يَجْعَلُ لِلْمَيِّتِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ وَفَاتِهِ؟ قَالَ عَمْرٌو: فَقُلْتُ لَهُ: كَانَ يَجْعَلُ لَهُ الثُّلُثَ، قَالَ: فَمَا تَرَى لِي أَنْ أَصْنَعَ فِي ثُلُثِ مَالِي؟ قَالَ عَمْرٌو: فَقُلْتُ لَهُ: إِنْ شِئْتَ قَسَّمْتَهُ فِي أَهْلِ قَرَابَتِكَ، وَجَعَلْتَهُ فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ، وَإِنْ شِئْتَ تَصَدَّقْتَ بِهِ فَجَعَلْتَهُ صَدَقَةً مُحَرَّمَةً تَجْرِي مِنْ بَعْدِكَ عَلَى مَنْ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَيْهِ قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنْ أَجْعَلَ مِنْ مَالِي شَيْئًا مُحَرَّمًا كَالْبُحَيْرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي وَلَكِنْ أُقَسِّمُهُ، فَأُنْفِذُهُ عَلَى مَنْ أَوْصَيْتُ بِهِ لَهُ يَصْنَعُ بِهِ مَا يَشَاءُ قَالَ:: فَكَانَ عَمْرٌو يَعْجَبُ لَهَا مِنْ قَوْلِهِ وَارْتَدَّتْ رَبِيعَةُ بِالْبَحْرَيْنِ فِيمَنِ ارْتَدَّ مِنَ الْعَرَبِ، إِلا الْجَارُودَ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَنَشِ بْنِ مُعَلَّى، فَإِنَّهُ ثَبَتَ عَلَى الإِسْلامِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ، وَقَامَ حِينَ بَلَغَتْهُ وفاه رسول الله ص وَارْتِدَادُ الْعَرَبِ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأُكَفِّرُ مَنْ لا يَشْهَدُ وَاجْتَمَعَتْ رَبِيعَةُ بِالْبَحْرَيْنِ وَارْتَدَّتْ، فَقَالُوا: نَرُدُّ الْمُلْكَ فِي آلِ الْمُنْذِرِ، فَمَلَّكُوا الْمُنْذِرَ بْنَ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَكَانَ يُسَمَّى الْغَرُورَ، وَكَانَ يَقُولُ حِينَ أَسْلَمَ وَأَسْلَمَ النَّاسُ وَغَلَبَهُمُ السَّيْفُ: لَسْتُ بِالْغَرُورِ، وَلَكِنِّي الْمَغْرُورُ حدثنا عبيد الله بن سعد، قال: أخبرنا عمي، قال: أخبرنا سيف،

عن إسماعيل بْن مسلم، عن عمير بْن فلان العبدى، قال: لما مات النبي ص خرج الحطم بْن ضبيعة أخو بني قيس بْن ثعلبة فيمن اتبعه من بكر بْن وائل على الردة، ومن تأشب إليه من غير المرتدين ممن لم يزل كافرا، حتى نزل القطيف وهجر، واستغوى الخط ومن فيها من الزط والسيابجة، وبعث بعثا إلى دارين، فأقاموا له ليجعل عبد القيس بينه وبينهم، وكانوا مخالفين لهم، يمدون المنذر والمسلمين، وأرسل إلى الغرور بْن سويد، أخي النعمان بْن المنذر، فبعثه الى جؤاثى، وقال: اثبت، فإني إن ظفرت ملكتك بالبحرين حتى تكون كالنعمان بالحيرة وبعث الى جؤاثى، فحصرهم وألحوا عليهم فاشتد على المحصورين الحصر، وفي المسلمين المحصورين رجل من صالح المسلمين يقال له عبد اللَّه بْن حذف، أحد بني أبي بكر بْن كلاب، وقد اشتد عليه وعليهم الجوع حتى كادوا أن يهلكوا وقال في ذلك عبد اللَّه بْن حذف: ألا أبلغ أبا بكر رسولا ... وفتيان المدينة أجمعينا فهل لكم إلى قوم كرام ... قعود في جؤاثى محصرينا! كأن دماءهم في كل فج ... شعاع الشمس يغشى الناظرينا توكلنا على الرحمن إنا ... وجدنا الصبر للمتوكلينا كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن الصعب بن عطية ابن بِلالٍ، عَنْ سَهْمِ بْنِ مِنْجَابٍ، عَنْ مِنْجَابِ بْنِ رَاشِدٍ، قَالَ: بَعَثَ أَبُو بَكْرٍ الْعَلاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ بِالْبَحْرَيْنِ، فَلَمَّا أَقْبَلَ إِلَيْهَا، فَكَانَ بِحِيَالِ الْيَمَامَةِ، لَحِقَ بِهِ ثُمَامَةُ بْنُ أَثَالٍ فِي مُسْلِمَةِ بَنِي حنيفه

مِنْ بَنِي سُحَيْمٍ وَمِنْ أَهْلِ الْقُرَى مِنْ سَائِرِ بَنِي حَنِيفَةَ، وَكَانَ مُتَلَدِّدًا، وَقَدْ أَلْحَقَ عِكْرِمَةَ بِعُمَانَ ثُمَّ مَهْرَةَ، وَأَمَرَ شُرَحْبِيلَ بِالْمقَامِ حَيْثُ انْتَهَى إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُ أَمْرُ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ يُغَاوِرُ هُوَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَهْلَ الرِّدَّةِ مِنْ قُضَاعَةَ فَأَمَّا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَكَانَ يُغَاوِرُ سَعْدًا وَبليا وأمر هذا بكلب ولفها، فَلَمَّا دَنَا مِنَّا وَنَحْنُ فِي عُلْيَا الْبِلادِ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ لَهُ فَرَسٌ مِنَ الرَّبَابِ وَعَمْرو بن تَمِيمٍ إِلا جنبه، ثُمَّ اسْتَقْبَلَهُ، فَأَمَّا بَنُو حَنْظَلَةَ فَإِنَّهُمْ قَدَّمُوا رِجْلا وَأَخَّرُوا أُخْرَى وَكَانَ مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ فِي الْبِطَاحِ وَمَعَهُ جُمُوعٌ يُسَاجِلُنَا وَنُسَاجِلُهُ. وَكَانَ وَكِيعُ بْنُ مَالِكٍ فِي الْقَرْعَاءِ مَعَهُ جُمُوعٌ يُسَاجِلُ عَمْرًا وَعَمْرٌو يُسَاجِلُهُ، وَأَمَّا سَعْدُ بْنُ زَيْدِ مَنَاةَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِرْقَتَيْنِ، فَأَمَّا عَوْفٌ وَالأَبْنَاءُ فَإِنَّهُمْ أَطَاعُوا الزِّبْرَقَانَ بْنَ بَدْرٍ، فَثَبَتُوا عَلَى إِسْلامِهِمْ وَتَمُّوا وَذَبُّوا عَنْهُ، وَأَمَّا الْمَقَاعِسُ والبطون فإنهما اصاخا وَلَمْ يُتَابِعَا، إِلا مَا كَانَ مِنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ، فَإِنَّهُ قَسَّمَ الصَّدَقَاتَ الَّتِي كَانَتِ اجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ فِي الْمَقَاعِسِ وَالْبُطُونِ حِينَ شَخَصَ الزِّبْرِقَانُ بِصَدَقَاتِ عَوْفٍ وَالأَبْنَاءِ، فَكَانَتْ عَوْفٌ وَالأَبْنَاءُ مَشَاغِيلٌ بِالْمَقَاعِسِ وَالْبُطُونِ فَلَمَّا رَأَى قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ مَا صَنَعَتِ الربابُ وَعَمْرٌو مِنْ تَلَقِّي الْعَلاءِ نَدَمَ عَلَى مَا كَانَ فرط مِنْهُ، فَتَلَقَّى الْعَلاءُ بِإِعْدَادِ مَا كَانَ قسم مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَنَزَعَ عَنْ أَمْرِهِ الَّذِي كَانَ هَمَّ بِهِ، وَاسْتَاقَ حَتَّى أَبْلَغَهَا إِيَّاهُ، وَخَرَجَ مَعَهُ إِلَى قِتَالِ أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا كَمَا قَالَ الزِّبْرِقَانُ فِي صَدَقَتِهِ حِينَ أَبْلَغَهَا أَبَا بَكْرٍ، وَكَانَ الَّذِي قَالَ الزِّبْرِقَانُ فِي ذَلِكَ: وَفَيْتُ بِأَذْوَادِ الرَّسُولِ وَقَدْ أَبَتْ ... سُعَاةٌ فَلَمْ يَرْدُدْ بَعِيرًا مُجِيرُهَا مَعًا وَمَنَعْنَاهَا مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ ... تُرَامِي الأَعَادِي عِنْدَنَا مَا يُضِيرُهَا فَأَدَّيْتُهَا كَيْ لا أَخُونَ بِذِمَّتِي ... مَحَانِيقَ لَمْ تُدْرَسْ لِرَكْبٍ ظُهُورُهَا أَرَدْتُ بِهَا التَّقْوَى وَمَجْدَ حَدِيثِهَا ... إِذَا عُصْبَة سامى قبيلي فَخُورُهَا وَإِنِّي لَمِنْ حَيٍّ إِذَا عُدَّ سَعْيُهُمْ ... يَرَى الْفَخْرَ مِنْهَا حَيُّهَا وَقُبُورُهَا

أَصَاغِرُهُمْ لَمْ يَضْرَعُوا وَكِبَارُهُمْ ... رَزَانٌ مَرَاسِيهَا، عِفَافٌ صُدُورُهَا وَمِنْ رَهْطِ كَنادِ تَوَفَّيْتُ ذِمَّتِي ... وَلَمْ يَثْنِ سَيْفِي نَبْحُهَا وَهَرِيرُهَا وَلِلَّهِ ملك قَدْ دَخَلْتُ وَفَارِسٍ ... طَعَنْتُ إِذَا مَا الْخَيْلِ شَدَّ مُغِيرُهَا فَفَرَّجْتُ أُولاهَا بِنَجْلاءِ ثَرَّةٍ ... بِحَيْثُ الَّذِي يَرْجُو الْحَيَاةَ يُضِيرُهَا وَمَشْهَدِ صِدْقٍ قَدْ شَهِدْتُ فَلَمْ أَكُنْ ... بِهِ خَامِلا وَالْيَوْمُ يُثْنَى مَصِيرُهَا أَرَى رَهْبَةَ الأَعْدَاءِ مِنِّي جَرَاءَةً ... وَيَبْكِي إِذَا مَا النَّفْسُ يُوحَى ضَمِيرُهَا وَقَالَ قَيْسٌ عِنْدَ اسْتِقْبَالِ الْعَلاءِ بِالصَّدَقَةِ: أَلا أَبْلِغَا عَنِّي قُرَيْشًا رِسَالَةً ... إِذَا مَا أَتَتْهَا بَيِّنَاتُ الْوَدَائِعِ حَبَوْتُ بها في الدهر اعراض منقر ... وأيأست مِنْهَا كل أطلس طامع وجدت أبي والخال كانا بنجوة ... بقاع فلم يحلل بها من ادافع فاكرمه العلاء، وخرج مع العلاء من عَمْرٍو وَسَعْدٍ الرَّبَّابِ مِثْلَ عَسْكَرِهِ، وَسَلَكَ بِنَا الدَّهْنَاءَ، حَتَّى إِذَا كُنَّا فِي بُحْبُوحَتِهَا وَالْحَنانَاتِ وَالْعَزَّافَاتِ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، وَأَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُرِيَنَا آيَاتِهِ نَزَلَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالنُّزُولِ، فَنَفَرَتِ الإِبِلُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، فَمَا بَقِيَ عِنْدَنَا بَعِيرٌ وَلا زَادٌ وَلا مَزَادٌ

وَلا بِنَاءٌ إِلا ذَهَبَ عَلَيْهَا فِي عَرَضِ الرَّمْلِ، وَذَلِكَ حِينَ نَزَلَ النَّاسُ، وَقَبْلَ أَنْ يَحُطُّوا، فَمَا عَلِمْتُ جَمْعًا هَجَمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْغَمِّ مَا هَجَمَ عَلَيْنَا وَأَوْصَى بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ، وَنَادَى مُنَادِي الْعَلاءِ: اجْتَمِعُوا، فَاجْتَمَعْنَا إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي ظَهَرَ فِيكُمْ وَغَلَبَ عَلَيْكُمْ؟ فَقَالَ النَّاسُ: وَكَيْفَ نُلامُ وَنَحْنُ إِنْ بَلَغْنَا غَدًا لَمْ تَحْمِ شَمْسُهُ حَتَّى نَصِيرَ حَدِيثًا! فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، لا تُرَاعُوا، أَلَسْتُمْ مُسْلِمِينَ! أَلَسْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ! أَلَسْتُمْ أَنْصَارَ الله! قالوا: بلى، قال: فابشروا، فو الله لا يَخْذُلُ اللَّهُ مَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِكُمْ وَنَادَى الْمُنَادِي بِصَلاةِ الصُّبْحِ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ فَصَلَّى بِنَا، وَمِنَّا الْمُتَيَمِّمُ، وَمِنَّا مَنْ لَمْ يَزَلْ عَلَى طُهُورِهِ، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ جَثَا لِرُكْبَتَيْهِ وَجَثَا النَّاسُ، فَنَصَبَ فِي الدُّعَاءِ وَنَصَبُوا مَعَهُ، فَلَمَعَ لَهُمْ سَرَابُ الشَّمْسِ، فَالْتَفَتَ إِلَى الصَّفِّ، فَقَالَ: رَائِدٌ يَنْظُرُ مَا هَذَا؟ فَفَعَلَ ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: سَرَابٌ، فَأَقْبَلَ عَلَى الدُّعَاءِ، ثُمَّ لَمَعَ لَهُمْ آخَرُ فَكَذَلِكَ، ثُمَّ لَمَعَ لَهُمْ آخَرُ، فَقَالَ: مَاءٌ، فَقَامَ وَقَامَ النَّاسُ، فَمَشَيْنَا إِلَيْهِ حَتَّى نَزَلْنَا عَلَيْهِ، فَشَرِبْنَا وَاغْتَسَلْنَا، فَمَا تَعَالَى النَّهَارُ حَتَّى أَقْبَلَتِ الإِبِلُ تكرد مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَأَنَاخَتْ إِلَيْنَا، فَقَامَ كُلُّ رَجُلٍ إِلَى ظَهْرِهِ، فَأَخَذَهُ، فَمَا فَقَدْنَا سَلكًا فَأَرْوَيْنَاهَا وَأَسْقَيْنَاهَا العللَ بَعْدَ النَّهْلِ، وَتَرَوَّيْنَا ثُمَّ تَرَوَّحْنَا- وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَفِيقِي- فَلَمَّا غِبْنَا عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ، قَالَ لِي: كَيْفَ علمك بموضع ذلك الماء؟ فقلت: أَنَا مَنْ أَهْدِي الْعَرَبَ بِهَذِهِ الْبِلادِ قَالَ: فَكُنْ مَعِي حَتَّى تُقِيمَنِي عَلَيْهِ، فَكَرَرْتُ بِهِ، فَأَتَيْتُ بِهِ عَلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ بِعَيْنِهِ، فَإِذَا هُوَ لا غَدِيرَ بِهِ، وَلا أَثَرَ لِلْمَاءِ، فَقُلْتُ لَهُ: وَاللَّهُ لَوْلا أَنِّي لا أَرَى الْغَدِيرَ لأَخْبَرْتُكَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَكَانُ، وَمَا رَأَيْتُ بِهَذَا الْمَكَانِ مَاءً نَاقِعًا قَبْلَ الْيَوْمِ، وَإِذَا إِدَاوَةٌ مَمْلُوءَةٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا سَهْمٍ، هَذَا وَاللَّهِ الْمَكَانُ،

وَلِهَذَا رَجَعْتُ وَرَجَعْتُ بِكَ وَمَلأتُ إِدَاوَتِي ثُمَّ وَضَعْتُهَا عَلَى شَفِيرِهِ، فَقُلْتُ: إِنْ كَانَ مَنًّا مِنَ الْمَنِّ وَكَانَتْ آيَةً عَرَفْتُهَا، وَإِنْ كَانَ غِيَاثًا عَرَفْتُهُ، فَإِذًا مَنٌّ مِنَ المَنِّ، فَحَمَدَ اللَّهَ، ثُمَّ سِرْنَا حَتَّى نَنْزِلَ هَجَرَ قَالَ: فَأَرْسَلَ الْعَلاءُ إِلَى الْجَارُودِ وَرَجُلٍ آخَرَ أَنِ انْضَمَّا فِي عَبْدِ الْقَيْسِ حَتَّى تَنْزِلا عَلَى الْحَطمِ مِمَّا يَلِيكُمَا، وَخَرَجَ هُوَ فِيمَنْ جَاءَ مَعَهُ وَفِيمَنْ قَدِمَ عَلَيْهِ، حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ مِمَّا يَلِي هَجَرَ، وَتَجَمَّعَ الْمُشْرِكُونَ كُلُّهُمْ إِلَى الْحطمِ إِلا أَهْلَ دَارِينَ، وَتَجَمَّعَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ إِلَى الْعَلاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَخَنْدَقَ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، وَكَانُوا يَتَرَاوَحُونَ الْقِتَالَ وَيَرْجِعُونَ إِلَى خَنْدَقِهِمْ، فَكَانُوا كَذَلِكَ شَهْرًا، فَبَيْنَا النَّاسُ لَيْلَةً إِذْ سَمِعَ الْمُسْلِمُونَ فِي عَسْكَرِ الْمُشْرِكِينَ ضَوْضَاءً شَدِيدَةً، كَأَنَّهَا ضَوْضَاءُ هَزِيمَةٍ أَوْ قِتَالٍ، فَقَالَ الْعَلاءُ: مَنْ يأتينا بخبر القوم؟ فقال عبد الله ابن حذفٍ: أَنَا آتِيكُمْ بِخَبَرِ الْقَوْمِ- وَكَانَتْ أُمُّهُ عِجْلِيَّةً- فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْ خَنْدَقِهِمْ أَخَذُوهُ، فَقَالُوا لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَانْتَسَبَ لَهُمْ، وَجَعَلَ يُنَادِي: يَا أَبْجَرَاهُ! فَجَاءَ أَبْجَرُ بْنُ بُجَيْرٍ، فَعَرَفَهُ فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ: لا أَضِيعَنَّ اللَّيْلَةَ بَيْنَ اللَّهَازِمِ! عَلامَ أُقْتَلُ وَحَوْلِي عَسَاكِرُ مِنْ عِجْلٍ وَتَيْمِ اللاتِ وَقَيْسٍ وَعَنْزَةَ! أَيَتَلاعَبُ بِي الحطمُ وَنِزَاعُ الْقَبَائِلِ وَأَنْتُمْ شُهُودٌ! فَتَخَلَّصَهُ، وَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَظُنُّكَ بِئْسَ ابْنُ الأُخْتِ لأَخْوَالِكَ اللَّيْلَةَ! فَقَالَ: دَعْنِي مِنْ هَذَا وَأَطْعِمْنِي، فَإِنِّي قَدْ مِتُّ جُوعًا فَقَرَّبَ لَهُ طَعَامًا، فَأَكَلَ ثُمَّ قَالَ: زَوِّدْنِي وَاحْمِلْنِي وَجَوِّزْنِي انْطَلِقْ إِلَى طَيَّتِي. وَيَقُولُ ذَلِكَ لِرَجُلٍ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الشَّرَابُ، فَفَعَلَ وَحَمَلَهُ عَلَى بَعِيرٍ، وَزَوَّدَهُ وَجَوَّزَهُ، وَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حذفٍ حَتَّى دَخَلَ عَسْكَرَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْقَوْمَ سُكَارَى، فَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ حَتَّى اقْتَحَمُوا عَلَيْهِمْ عَسْكَرَهُمْ، فَوَضَعُوا السُّيُوفَ فِيهِمْ حَيْثُ شَاءُوا، وَاقْتَحَمُوا الْخَنْدَقَ هُرَّابا، فَمُتَرَدٌّ، وَنَاجٍ وَدَهِشٌ، وَمَقْتُولٌ أَوْ مَأْسُورٌ، وَاسْتَوْلَى الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَا فِي الْعَسْكَرِ، لم يفلت

رَجُلٌ إِلا بِمَا عَلَيْهِ، فَأَمَّا أَبْجَرُ فَأَفْلَتَ، وَأَمَّا الْحطمُ فَإِنَّهُ بَعِلَ وَدَهِشَ، وَطَارَ فُؤَادُهُ، فَقَامَ إِلَى فَرَسِهِ- وَالْمُسْلِمُونَ خِلالُهُمْ يَجُوسُونَهُمْ- لِيَرْكَبَهُ، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ انْقَطَعَ بِهِ، فَمَرَّ بِهِ عَفِيفُ بْنُ الْمُنْذِرِ أَحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ، وَالحطمُ يَسْتَغِيثُ وَيَقُولُ: أَلا رَجُلٌ مِنْ بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ يَعْقِلُنِي! فَرَفَعَ صَوْتَهُ، فَعَرَفَ صَوْتَهُ، فَقَالَ: أَبُو ضُبَيْعَةَ! قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَعْطِنِي رِجْلَكَ أُعْقِلَكَ، فَأَعْطَاهُ رِجْلَهُ يَعْقِلَهُ، فَنَفَحَهَا فَأَطَنَّهَا مِنَ الْفَخِذِ، وتَرَكَهُ، فَقَالَ: أَجْهِزْ عَلَيَّ، فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَلا تَمُوتَ حَتَّى أمضكَ. - وَكَانَ مَعَ عَفِيفٍ عِدَّةٌ مِنْ وَلَدِ أَبِيهِ، فَأُصِيبُوا ليلتئذ- وَجَعَلَ الحطمُ لا يَمُرُّ بِهِ فِي اللَّيْلِ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلا قَالَ: هَلْ لَكَ فِي الْحطمِ أَنْ تَقْتُلَهُ؟ وَيَقُولُ: ذَاكَ لِمَنْ لا يَعْرِفُهُ، حَتَّى مَرَّ بِهِ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ، فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَمَالَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ، فَلَمَّا رَأَى فخذه نادره، قال: وا سوأتاه! لَوْ عَلِمْتُ الَّذِي بِهِ لَمْ أُحَرِّكْهُ، وَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ مَا أَحْرَزُوا الْخَنْدَقَ عَلَى الْقَوْمِ يَطْلُبُونَهُمْ، فاتَّبَعُوهُمْ، فَلَحِقَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ أَبْجَرَ- وَكَانَ فَرَسُ أَبْجَرَ أَقْوَى مِنْ فَرَسِ قَيْسٍ- فَلَمَّا خَشِيَ أَنْ يَفُوتَهُ طَعَنَهُ فِي الْعُرْقُوبِ فَقَطَعَ الْعَصَبَ، وَسَلمَ النَّسَا، فَكَانَتْ رَادَّةً، وَقَالَ عَفِيفُ بْنُ الْمُنْذِرِ: فَإِنْ يَرْقَإِ الْعُرْقُوبُ لا يَرْقَإِ النَّسَا ... وَمَا كُلُّ مَنْ يَهْوَى بِذَلِكَ عَالِمُ أَلَمْ تَرَ أَنَّا قَدْ فَلَلْنَا حُمَاتَهُمْ ... بِأَسْرَةِ عَمْرٍو وَالرَّبَابُ الأَكَارِمُ وَأَسَرَ عَفِيفُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْغَرُورَ بْنَ سُوَيْدٍ، فَكَلَّمَتْهُ الرَّبَابُ فِيهِ، وَكَانَ أَبُوهُ ابْنُ أُخْتِ التَّيْمِ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يُجِيرَهُ، فَقَالَ لِلْعَلاءِ: إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ هَذَا، قَالَ: وَمَنْ هَذَا؟ قَالَ: الْغَرُورُ، قَالَ: أَنْتَ غَرَرْتَ هَؤُلاءِ، قَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنِّي لَسْتُ بِالْغَرُورِ، وَلَكِنِّي الْمَغْرُورُ، قَالَ:

أَسْلِمْ، فَأَسْلَمَ وَبَقِيَ بِهَجَرَ، وَكَانَ اسْمُهُ الْغَرُورُ، وَلَيْسَ بِلَقَبٍ، وَقَتَلَ عَفِيفٌ الْمُنْذِرَ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ الْمُنْذِرِ، أَخَا الْغَرُورِ لأُمِّهِ، وَأَصْبَحَ الْعَلاءُ فَقَسَّمَ الأَنْفَالَ، وَنَفَّل رِجَالا مِنْ أَهْلِ الْبَلاءِ ثِيَابًا، فَكَانَ فِيمَنْ نُفِلَ عَفِيفُ بْنُ الْمُنْذِرِ وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ وَثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَأَمَّا ثُمَامَةُ فَنُفِلَ ثِيَابًا فِيهَا خَمِيصَةٌ ذَاتُ أَعْلامٍ، كَانَ الْحطمُ يُبَاهِي فِيهَا، وَبَاع الثِّيَابَ وَقَصَدَ عَظم الفلال لدارين، فَرَكِبُوا فِيهَا السفن، وَرَجَعَ الآخَرُونَ إِلَى بِلادِ قَوْمِهِمْ، فَكَتَبَ الْعَلاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى مَنْ أَقَامَ عَلَى إِسْلامِهِ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ فِيهِمْ، وَأَرْسَلَ إِلَى عُتَيْبَةَ بْنِ النَّهَّاسِ وَإِلَى عَامِرِ بْنِ عَبْدِ الأَسْوَدِ بِلُزُومِ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَالْقُعُودِ لأَهْلِ الرِّدَّةِ بِكُلِّ سَبِيلٍ، وَأَمَرَ مِسْمَعًا بِمُبَادَرَتِهِمْ، وَأَرْسَلَ إِلَى خصفةَ التَّمِيمِيِّ وَالْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِيِّ، فَأَقَامُوا لأُولَئِكَ بِالطَّرِيقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَنَابَ، فَقَبِلُوا مِنْهُ وَاشْتَمَلُوا عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَى وَلَج فمنع مِنَ الرُّجُوعِ، فَرَجَعُوا عَوْدهمْ عَلَى بَدْئِهِمْ، حَتَّى عَبَرُوا إِلَى دَارِينَ، فَجَمَعَهُمُ اللَّهُ بِهَا، وَقَالَ فِي ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ بْنِ عِجْلٍ، يُدْعَى وَهْبًا، يُعَيِّرُ مَنِ ارْتَدَّ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْبُكُ خَلْقَهُ ... فَيَخْبُثُ أَقْوَامٌ وَيَصْفُو مَعْشَرُ لَحَى اللَّهُ أَقْوَامًا أُصِيبُوا بِخَنْعَةٍ ... أَصَابَهُمْ زَيْدُ الضَّلال وَمَعْمَرُ! وَلَمْ يَزَلِ الْعَلاءُ مُقِيمًا فِي عَسْكَرِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى رَجَعَتْ إِلَيْهِ الْكُتُبُ مِنْ عِنْدِ مَنْ كَانَ كَتَبَ إِلَيْهِ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، وَبَلَغَهُ عَنْهُمُ الْقِيَامُ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَالْغَضَبُ لِدِينِهِ، فَلَمَّا جَاءَهُ عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ يَشْتَهِي، أَيْقَنَ أَنَّهُ لَنْ يُؤْتَى مِنْ خَلْفِهِ بِشَيْءٍ يَكْرَهُهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ، وَنَدَبَ النَّاسَ إِلَى دَارِينَ، ثُمَّ جَمَعَهُمْ فَخَطَبَهُمْ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ جَمَعَ لَكُمْ أَحْزَابَ الشَّيَاطِينِ وَشَرَدَ الْحَرْبَ فِي هَذَا الْبَحْرِ، وَقَدْ أَرَاكُمْ مِنْ آيَاتِهِ فِي الْبَرِّ لِتَعْتَبِرُوا بها

فِي الْبَحْرِ، فَانْهَضُوا إِلَى عَدُوِّكُمْ، ثُمَّ اسْتَعْرِضُوا الْبَحْرَ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَمَعَهُمْ، فَقَالُوا: نَفْعَلُ وَلا نَهَابُ وَاللَّهِ بَعْدَ الدَّهْنَاءِ هَوْلا مَا بَقِينَا فَارْتَحَلَ وَارْتَحَلُوا، حَتَّى إِذَا أَتَى سَاحِلَ الْبَحْرِ اقْتَحَمُوا عَلَى الصَّاهِلِ، وَالْجَامِلِ، وَالشَّاحِجِ وَالنَّاهِقِ، وَالرَّاكِبِ وَالرَّاجِلِ، وَدَعَا وَدَعَوْا، وَكَانَ دُعَاؤُهُ وَدُعَاؤُهُمْ: يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، يَا كَرِيمُ، يَا حَلِيمُ، يَا أَحَدُ، يَا صَمَدُ يَا حَيُّ يَا مُحْيِيَ الْمَوْتَى، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ يَا رَبَّنَا فَأَجَازُوا ذَلِكَ الْخَلِيجَ بِإِذْنِ اللَّهِ جَمِيعًا يَمْشُونَ عَلَى مِثْلِ رَمْلَةٍ مَيْثَاءَ، فَوْقَهَا مَاءٌ يَغْمُرُ أَخْفَافَ الإِبِلِ، وَإِنَّ مَا بَيْنَ السَّاحِلِ وَدَارِينَ مَسِيرَةُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِسُفُنِ الْبَحْرِ فِي بَعْضِ الْحَالاتِ، فَالْتَقُوا بِهَا، وَاقْتَتَلُوا قِتَالا شَدِيدًا، فَمَا تَرَكُوا بِهَا مَخْبَرًا وَسَبُوا الذَّرَارِيَ، وَاسْتَاقُوا الأَمْوَالَ، فَبَلَغَ نَفَلُ الْفَارِسِ سِتَّةَ آلافٍ، وَالرَّاجِلِ أَلْفَيْنِ، قَطَعُوا لَيْلَهُمْ وَسَارُوا يَوْمَهُمْ، فَلَمَّا فَرَغُوا رَجَعُوا عَوْدَهُمْ عَلَى بَدْئِهِمْ حَتَّى عَبَرُوا، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ عَفِيفُ بْنُ الْمُنْذِرِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ ذَلَّلَ بَحْرَهُ ... وَأَنْزَلَ بِالْكُفَّارِ إِحْدَى الْجَلائِلِ! دَعَوْنَا الَّذِي شَقَّ الْبِحَارَ فَجَاءَنَا ... بِأَعْجَبَ مِنْ فَلْقِ الْبِحَارِ الأَوَائِلِ وَلَمَّا رَجَعَ الْعَلاءُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، وَضَرَبَ الإِسْلامُ فِيهَا بِجِرَانِهِ، وَعَزَّ الإِسْلامُ وَأَهْلُهُ، وَذُلَّ الشِّرْكُ وَأَهْلُهُ، أَقْبَلَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَا فِيهَا عَلَى الإِرْجَافِ، فَأَرْجَفَ مُرْجِفُونَ، وَقَالُوا: ها ذاك مَفْرُوقٌ، قَدْ جَمَعَ رَهْطَهُ. شَيْبَانَ وَتَغْلِبَ وَالنَّمِرَ، فَقَالَ لَهُمْ أَقْوَامٌ منِ الْمُسْلِمِينَ: إِذَا تَشْغَلُهُمْ عَنَّا اللَّهَازِمُ- وَاللَّهَازِمُ يَوْمَئِذٍ قَدِ اسْتُجْمِعَ أَمْرُهُمْ عَلَى نَصْرِ الْعَلاءِ وَطَابَقُوا وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ

ابن حَذفٍ فِي ذَلِكَ: لا تُوعِدُونَا بِمَفْرُوقٍ وَأُسْرَتِهِ ... إِنْ يَأْتِنَا يَلْقَ فِينَا سُنَّةَ الْحَطَمِ وَإِنَّ ذَا الْحَيِّ مِنْ بَكْرٍ وَإِنْ كَثُرُوا ... لأُمَّةٌ دَاخِلُونَ النَّارَ فِي أُمَمِ فَالنَّخْلُ ظَاهِرُهُ خَيْلٌ وَبَاطِنُهُ ... خَيْلٌ تَكَدَّسَ بِالْفِتْيَانِ فِي النَّعَمِ وَأَقْفَلَ الْعَلاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ النَّاسَ، فَرَجَعَ النَّاسُ إِلا مَنْ أَحَبَّ الْمُقَامِ، فَقَفَلْنَا وَقَفَلَ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، حَتَّى إِذَا كُنَّا عَلَى مَاءٍ لِبَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، فَرَأَوْا ثُمَامَةَ، وَرَأَوْا خَمِيصَةَ الْحَطمِ عَلَيْهِ دَسُّوا لَهُ رَجُلا، وَقَالُوا: سَلْهُ كَيْفَ صَارَتْ لَهُ؟ وَعَنِ الْحطمِ: أَهُوَ قَتَلَهُ أَوْ غَيْرُهُ؟ فَأَتَاهُ، فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَقَالَ: نُفِّلْتُهَا قَالَ: أَأَنْتَ قَتَلْتَ الْحطمَ؟ قَالَ: لا، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ قَتَلْتُهُ، قَالَ: فَمَا بَالُ هَذِهِ الْخَمِيصَةِ مَعَكَ؟ قَالَ: أَلَمْ أُخْبِرْكَ! فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ فَأَخْبَرَهُمْ، فَتَجَمَّعُوا لَهُ، ثُمَّ أَتَوْهُ فَاحْتَوَشُوهُ، فَقَالَ: مَا لَكُمْ؟ قَالُوا: أَنْتَ قَاتِلُ الحطمَ؟ قَالَ: كَذَبْتُمْ، لَسْتُ بِقَاتِلِهِ وَلَكِنِّي نُفِّلْتُهَا، قَالُوا: هَلْ يُنَفَّلُ إِلا الْقَاتِلُ! قَالَ: إِنَّهَا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ، إِنَّمَا وُجِدَتْ فِي رَحْلِهِ، قَالُوا: كَذَبْتَ فَأَصَابُوهُ. قَالَ: وَكَانَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ رَاهِبٌ فِي هَجَرَ، فَأَسْلَمَ يَوْمَئِذٍ فَقِيلَ: مَا دَعَاكَ إِلَى الإِسْلامِ؟ قَالَ: ثَلاثَةُ أَشْيَاءَ، خَشِيتُ أَنْ يَمْسَخَنِي اللَّهُ بَعْدَهَا إِنْ أَنَا لَمْ أَفْعَلْ: فَيْضٌ فِي الرِّمَالِ، وَتَمْهِيدُ أَثْبَاجِ الْبِحَارِ، وَدُعَاءٌ سَمِعْتُهُ فِي عَسْكَرِهِمْ فِي الْهَوَاءِ مِنَ السَّحَرِ قَالُوا: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، لا إِلَهَ غَيْرُكَ، وَالْبَدِيعُ لَيْسَ قَبْلِكَ شَيْءٌ، وَالدَّائِمُ غَيْرُ الْغَافِلِ، وَالْحَيُّ الَّذِي لا يَمُوتُ، وَخَالِقُ مَا يَرَى وَمَا لا يَرَى، وَكُلُّ يَوْمٍ أَنْتَ فِي شَأْنٍ، وَعَلِمْتَ اللَّهُمَّ كُلَّ شَيْءٍ بِغَيْرِ تَعَلُّمٍ، فَعَلِمْتَ أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يُعَانُوا بِالْمَلائِكَةِ إِلا وَهُمْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ. فلقد كان اصحاب رسول الله ص يَسْمَعُونَ مِنْ ذَلِكَ الْهجري بعد

ذكر الخبر عن رده اهل عمان ومهره واليمن

وَكَتَبَ الْعَلاءُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَجَّرَ لَنَا الدَّهْنَاءَ فَيْضًا لا تُرَى غَوَارِبُهُ، وَأَرَانَا آيَةً وَعِبْرَةً بَعْدَ غَمٍّ وَكَرْبِ، لِنَحْمَدِ اللَّهَ وَنُمَجِّدْهُ، فَادْعُ اللَّهُ وَاسْتَنْصِرْهُ لِجُنُودِهِ وَأَعْوَانِ دِينِهِ. فَحَمَدَ أَبُو بَكْرٍ اللَّهَ وَدَعَاهُ، وَقَالَ: مَا زَالَتِ الْعَرَبُ فِيمَا تُحَدِّثُ عَنْ بُلْدَانِهَا يَقُولُونَ: إِنَّ لُقْمَانَ حِينَ سُئِلَ عَنِ الدَّهْنَاءِ: أَيَحْتَفُرُونَهَا أَوْ يَدَعُونَهَا؟ نَهَاهُمْ، وَقَالَ: لا تبلغها الأرشية، وَلَمْ تقر الْعُيُونُ، وَأَنَّ شَأْنَ هَذَا الْفَيْضِ مِنْ عَظِيمِ الآيَاتِ، وَمَا سَمِعْنَا بِهِ فِي أُمَّةٍ قَبْلَهَا اللهم اخلف محمدا ص فِينَا. ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهِ الْعَلاءُ بِهَزِيمَةِ أَهْلِ الخندق وقتل الحطم، قتله زيد ومعمر: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ اسْمُهُ سَلَبَ عَدُوَّنَا عُقُولَهُمْ، وَأَذْهَبَ رِيحَهُمْ بِشَرَابٍ أَصَابُوهُ مِنَ النَّهَارِ، فَاقْتَحَمْنَا عَلَيْهِمْ خَنْدَقَهُمْ، فَوَجَدْنَاهُمْ سُكَارَى، فَقَتَلْنَاهُمْ إِلا الشَّرِيدَ، وَقَدْ قَتَلَ اللَّهُ الْحطمَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنْ بَلَغَكَ عَنْ بَنِي شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ تَمَامٌ عَلَى مَا بَلَغَكَ، وَخَاضَ فِيهِ الْمُرْجِفُونَ، فَابْعَثْ إِلَيْهِمْ جُنْدًا فَأَوْطِئْهُمْ وَشَرِّدْ بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ فَلَمْ يَجْتَمِعُوا، وَلَمْ يَصر ذَلِكَ مِنْ أَرْجَافِهِمْ إِلَى شَيْءٍ. ذكر الخبر عن ردة أهل عمان ومهرة واليمن قال أبو جعفر: وقد اختلف في تاريخ حرب المسلمين، فقال محمد ابن إسحاق- فيما حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، عن سلمة عنه: كان فتح اليمامة واليمن والبحرين وبعث الجنود إلى الشام في سنة اثنتي عشرة. وأما أبو زيد فحدثني عن أبي الحسن المدائني في خبر ذكره، عن أبي معشر ويزيد بْن عياض بْن جعدبة وأبي عبيدة بْن مُحَمَّد بْن أبي

عبيدة وغسان بْن عبد الحميد وجويرية بْن أسماء، بإسنادهم عن مشيختهم وغيرهم من علماء أهل الشام وأهل العراق، أن الفتوح في أهل الردة كلها كانت لخالد بْن الوليد وغيره في سنة إحدى عشرة، إلا أمر ربيعة بْن بجير، فإنه كان في سنة ثلاث عشرة. وقصة ربيعة بْن بجير التغلبي أن خالد بْن الوليد- فيما ذكر في خبره هذا الذي ذكرت عنه- بالمصيخ والحصيد، قام وهو في جمع من المرتدين فقاتله، وغنم وسبى، وأصاب ابنة لربيعة بْن بجير،، فسباها وبعث بالسبي إلى أبي بكر رحمه اللَّه، فصارت ابنة ربيعة إلى علي بْن أبي طالب ع. فأما أمر عمان فإنه كان- فيما كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْن يحيى يخبرني عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ يوسف، عن القاسم بْن مُحَمَّد والغصن بْن القاسم وموسى الجليوسى عن ابن محيريز، قال: نبغ بعمان ذو التاج لقيط بْن مالك الأزدي، وكان يسامي في الجاهلية الجلندي، وادعى بمثل ما ادعى به من كان نبيا، وغلب على عمان مرتدا، وألجأ جيفرا وعبادا الى الاجبال والبحر، فبعث جيفر إلى أبي بكر يخبره بذلك، ويستجيشه عليه فبعث أبو بكر الصديق حذيفة بْن محصن الغلفاني من حمير، وعرفجة البارقي من الأزد، حذيفة إلى عمان وعرفجة إلى مهرة وأمرهما إذا اتفقا أن يجتمعا على من بعثا إليه، وأن يبتدئا بعمان، وحذيفة على عرفجة في وجهه، وعرفجة على حذيفة في وجهه. فخرجا متساندين، وأمرهما أن يجدا السير حتى يقدما عمان، فإذا كانا منها قريبا كاتبا جيفرا وعبادا، وعملا برأيهما فمضيا لما أمرا به، وقد كان أبو بكر بعث عكرمة إلى مسيلمة باليمامة، وأتبعه شرحبيل بْن حسنة،

وسمى لهما اليمامة، وأمرهما بما أمر به حذيفة وعرفجة فبادر عكرمة شرحبيل، وطلب حظوة الظفر، فنكبه مسيلمة، فأحجم عن مسيلمة، وكتب إلى أبي بكر بالخبر، وأقام شرحبيل عليه حيث بلغه الخبر، وكتب أبو بكر إلى شرحبيل بْن حسنة، أن أقم بأدنى اليمامة حتى يأتيك أمري، وترك أن يمضيه لوجهه الذي وجهه له، وكتب إلى عكرمة يعنفه لتسرعه، ويقول: لا أرينك ولا أسمعن بك إلا بعد بلاء، والحق بعمان حتى تقاتل أهل عمان، وتعين حذيفة وعرفجة، وكل واحد منكم على خيله، وحذيفة ما دمتم في عمله على الناس، فإذا فرغتم فامض إلى مهرة، ثم ليكن وجهك منها إلى اليمن، حتى تلاقي المهاجر ابن أبي أمية باليمن وبحضرموت، وأوطئ من بين عمان واليمن ممن ارتد، وليبلغني بلاؤك. فمضى عكرمة في أثر عرفجة وحذيفة فيمن كان معه حتى لحق بهما قبل أن ينتهيا إلى عمان، وقد عهد إليهم أن ينتهوا إلى رأي عكرمة بعد الفراغ في السير معه أو المقام بعمان، فلما تلاحقوا- وكانوا قريبا من عمان بمكان يدعى رجاما- راسلوا جيفرا وعبادا وبلغ لقيطا مجيء الجيش، فجمع جموعه وعسكر بدبا، وخرج جيفر وعباد من موضعهما الذي كانا فيه، فعسكرا بصحار، وبعثا إلى حذيفة وعرفجة وعكرمة في القدوم عليهما، فقدموا عليهما بصحار، فاستبرءوا ما يليهم حتى رضوا ممن يليهم، وكاتبوا رؤساء مع لقيط وبدءوا بسيد بني جديد، فكاتبهم وكاتبوه حتى ارفضوا عنه، ونهدوا إلى لقيط، فالتقوا على دبا، وقد جمع لقيط العيالات، فجعلهم وراء صفوفهم ليجربهم، وليحافظوا على حرمهم-- ودبا هي المصر والسوق العظمى- فاقتتلوا بدبا قتالا شديدا، وكاد لقيط يستعلي الناس، فبيناهم كذلك، وقد رأى المسلمون الخلل ورأى المشركون الظفر، جاءت المسلمين موادهم العظمى من بنى ناجيه، وعليهم الخريت بْن راشد، ومن عبد القيس وعليهم سيحان بْن صوحان، وشواذب

ذكر خبر مهره بالنجد

عمان من بني ناجية وعبد القيس، فقوى اللَّه بهم أهل الإسلام، ووهنَّ اللَّه بهم اهل الشرك، فولى المشركون الأدبار، فقتلوا منهم في المعركة عشرة آلاف، وركبوهم حتى أثخنوا فيهم، وسبوا الذراري، وقسموا الأموال على المسلمين، وبعثوا بالخمس إلى أبي بكر مع عرفجة، ورأى عكرمة وحذيفة أن يقيم حذيفة بعمان حتى يوطئ الأمور، ويسكن الناس، وكان الخمس ثمانمائه رأس، وغنموا السوق بحذافيرها فسار عرفجة إلى أبي بكر بخمس السبي والمغانم، وأقام حذيفة لتسكين الناس، ودعا القبائل حول عمان إلى سكون ما أفاء اللَّه على المسلمين، وشواذب عمان، ومضى عكرمة في الناس، وبدأ بمهرة، وقال في ذلك عباد الناجي: لعمري لقد لاقى لقيط بْن مالك ... من الشر ما أخزى وجوه الثعالب وبادى أبا بكر ومن هلَّ فارتمى ... خليجان من تياره المتراكب ولم تنهه الأولى ولم ينكأ العدا ... فألوت عليه خيله بالجنائب ذكر خبر مهرة بالنجد ولما فرغ عكرمة وعرفجة وحذيفة من ردة عمان، خرج عكرمة في جنده نحو مهرة، واستنصر من حول عمان وأهل عمان، وسار حتى يأتي مهرة، ومعه ممن استنصره من ناجية والأزد وعبد القيس وراسب وسعد من بني تميم بشر، حتى اقتحم على مهرة بلادها، فوافق بها جمعين من مهرة: أما أحدهما فبمكان من أرض مهرة يقال له: جيروت، وقد امتلأ ذلك الحيز إلى نضدون- قاعين من قيعان مهرة- عليهم شخريت، رجل من بني شخراة، وأما الآخر فبالنجد، وقد انقادت

مهرة جميعا لصاحب هذا الجمع، عليهم المصبح،، أحد بني محارب والناس كلهم معه، إلا ما كان من شخريت، فكانا مختلفين، كل واحد من الرئيسين يدعو الآخر إلى نفسه، وكل واحد من الجندين يشتهي أن يكون الفلج لرئيسهم، وكان ذلك مما أعان اللَّه به المسلمين وقواهم على عدوهم، ووهنهم. ولما رأى عكرمة قلة من مع شخريت دعاه إلى الرجوع إلى الإسلام، فكان لأول الدعاء، فأجابه ووهن اللَّه بذلك المصبح ثم أرسل إلى المصبح يدعوه إلى الإسلام والرجوع عن الكفر، فاغتر بكثرة من معه، وازداد مباعدة لمكان شخريت، فسار إليه عكرمة، وسار معه شخريت، فالتقوا هم والمصبح بالنجد، فاقتتلوا أشد من قتال دبا. ثم إن اللَّه كشف جنود المرتدين، وقتل رئيسهم، وركبهم المسلمون فقتلوا منهم ما شاءوا، وأصابوا ما شاءوا، وأصابوا فيما أصابوا ألفي نجيبة، فخمس عكرمة الفيء، فبعث بالأخماس مع شخريت إلى أبي بكر، وقسم الأربعة الأخماس على المسلمين، وازداد عكرمة وجنده قوة بالظهر والمتاع والأداة، وأقام عكرمة حتى جمعهم على الذي يحب، وجمع أهل النجد، اهل رياض الروضة، وأهل الساحل، وأهل الجزائر، وأهل المر واللبان وأهل جيروت، وظهور الشحر والصبرات، وينعب، وذات الخيم، فبايعوا على الإسلام، فكتب بذلك مع البشير- وهو السائب أحد بني عابد من مخزوم- فقدم على أبي بكر بالفتح، وقدم شخريت بعده بالأخماس، وقال في ذلك علجوم المحاربي: جزى اللَّه شخريتا وأفناء هيشم ... وفرضم إذ سارت إلينا الحلائب جزاء مسيء لم يراقب لذمة ... ولم يرجها فيما يرجى الأقارب أعكرم لولا جمع قومي وفعلهم ... لضاقت عليك بالفضاء المذاهب

ذكر خبر المرتدين باليمن

وكنا كمن اقتاد كفا بأختها ... وحلت علينا في الدهور النوائب ذكر خبر المرتدين باليمن قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَسَهْلٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قال: توفى رسول الله ص وَعَلَى مَكَّةَ وَأَرْضِهَا عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ وَالطَّاهِرُ بْنُ أَبِي هَالَةَ، عَتَّابٌ عَلَى بَنِي كِنَانَةَ، والطاهر على عك، وذلك ان النبي ص قَالَ: اجْعَلُوا عِمَالَةَ عَكٍّ فِي بَنِي أَبِيهَا مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ، وَعَلَى الطَّائِفِ وَأَرْضِهَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ وَمَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ، عُثْمَانُ عَلَى أَهْلِ الْمَدَرِ وَمَالِكٌ عَلَى أَهْلِ الْوَبَرِ أَعْجَازِ هَوَازِنَ، وَعَلَى نَجْرَانَ وَأَرْضِهَا عَمْرُو بن حزم وابو سفيان ابن حَرْبٍ، عَمْرُو بْنُ حَزْمٍ عَلَى الصَّلاةِ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ عَلَى الصَّدَقَاتِ، وَعَلَى مَا بَيْنَ رَمْعٍ وَزَبيد إِلَى حَدِّ نَجْرَانَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَعَلَى هَمْدَانَ كُلِّهَا عَامِرُ بْنُ شَهْرٍ، وَعَلَى صَنْعَاءَ فَيْرُوزُ الدَّيْلَمِيُّ يسانده داذويهِ وَقَيْسُ بْنُ الْمَكْشُوحِ، وَعَلَى الْجُنْدِ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ، وَعَلَى مَأْربِ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ، وَعَلَى الأَشْعَرِيِّينَ مَعَ عَكٍّ الطَّاهِرُ بْنُ أَبِي هَالَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُعَلِّمُ الْقَوْمَ، يَتْنَقِلُ فِي عَمَلِ كُلِّ عَامِلٍ، فَنَزَا بِهِمُ الأَسْوَدُ في حياه النبي ص، فحاربه النبي ع بِالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ حَتَّى قَتَلَهُ اللَّهُ، وَعَادَ أَمْرُ النبي ع كما كان قبل وفاه النبي ع بِلَيْلَةٍ، إِلا أَنَّ مَجِيئَهُمْ لَمْ يُحَرِّكِ النَّاسَ، وَالنَّاسُ مُسْتَعِدُّونَ لَهُ. فَلَمَّا بَلَغَهُمْ مَوْتُ النَّبِيِّ ص انْتقضت الْيَمَنُ وَالْبُلْدَانُ، وَقَدْ كَانَتْ تَذَبْذَبَتْ خُيُولُ الْعَنْسِيِّ- فِيمَا بَيْنَ نَجْرَانَ إِلَى صَنْعَاءَ فِي

عَرْضِ ذَلِكَ الْبَحْرِ- لا تَأْوِي إِلَى أَحَدٍ، ولا يأوي إليها احد، فعمرو بن معد يكرب بِحِيَالِ فَرْوَةَ بْنِ مسيكٍ، وَمُعَاوُيَةُ بْنُ أَنَسٍ فِي فَالَةَ الْعَنْسِيِّ يَتَرَدَّدُ، وَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ عمال النبي ص بعد وفاه النبي ص إِلا عَمْرَو بْنِ حَزْمٍ وَخَالِدَ بْنَ سَعِيدٍ، وَلَجَأَ سَائِرُ الْعُمَّالِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَاعْتَرَضَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ خَالِدَ بْنَ سَعِيدٍ، فَسَلَبَهُ الصَّمْصَامَةَ. وَرَجَعَتِ الرُّسُلُ مَعَ مَنْ رَجَعَ بِالْخَبَرِ، فَرَجَعَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالأَقْرَعُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَوَبْرُ بْنُ يُحَنَّسَ، فَحَارَبَ أَبُو بَكْرٍ الْمُرْتَدَّةَ جَمِيعًا بِالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ، كَمَا كَانَ رَسُولُ الله ص حَارَبَهُمْ، إِلَى أَنْ رَجَعَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ مِنَ الشَّامِ، وَحَزرَ ذَلِكَ ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ، إِلا ما كان من اهل ذي حمى وَذِي الْقصَّةَ ثُمَّ كَانَ أَوَّلُ مصادم عِنْدَ رجوع اسامه هم فَخَرَجَ إِلَى الأَبْرَقِ فَلَمْ يَصْمُدْ لِقَوْمٍ فَيَفُلَّهُمْ إِلا اسْتَنْفَرَ مَنْ لَمْ يَرْتَدَّ مِنْهُمْ إِلَى آخَرِينَ، فَيَفُلَّ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالْمُسْتَنْفِرَةِ مِمَّنْ لَمْ يَرْتَدَّ إِلَى الَّتِي تَلِيهِمْ، حَتَّى فَرَغَ مِنْ آخِرِ أُمُورِ النَّاسِ، وَلا يَسْتَعِينُ بِالْمُرْتَدِّينَ. فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ كَتَبَ إِلَيْهِ عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ، كَتَبَ إِلَيْهِ بِرُكُوبِ مَنِ ارْتَدَّ مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ بِمَنْ ثَبَتَ عَلَى الإِسْلامِ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ بِرُكُوبِ مَنِ ارْتَدَّ مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ بِمَنْ ثَبَتَ عَلَى الإِسْلامِ، فاما عتاب فانه بعث خالد ابن أُسَيْدٍ إِلَى أَهْلِ تِهَامَةَ، وَقَدْ تَجَمَّعَتْ بِهَا جِمَاعٌ مِنْ مُدْلِجٍ، وَتَأَشَّبَ إِلَيْهِمْ شُذَّاذٌ مِنْ خُزَاعَةَ وَأَفْنَاءِ كِنَانَةَ، عَلَيْهِمْ جُنْدُبُ بْنُ سَلْمَى، أَحَدُ بَنِي شَنُوقٍ، مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِي عَمَلِ عَتَّابٍ جَمْعٌ غَيْرُهُ، فَالْتَقَوْا بِالأَبَارِقِ، فَفَرَّقَهُمْ وَقَتَلَهُمْ، وَاسْتَحَرَّ الْقَتْلُ فِي بَنِي شَنُوقٍ، فَمَا زَالُوا أَذِلاءَ قَلِيلا، وَبَرِئَتْ عِمَالَةُ عَتَّابٍ، وَأَفْلَتَ جُنْدُبٌ، فَقَالَ جُنْدُبٌ فِي ذَلِكَ: نَدِمْتُ وَأَيْقَنْتُ الْغَداةَ بِأَنَّنِي ... أَتَيْتُ الَّتِي يَبْقَى عَلَى الْمَرْءِ عَارُهَا شَهِدْتُ بِأَنَّ اللَّهَ لا شَيْءَ غَيْرُهُ ... بَنِي مُدْلِجٍ فَاللَّهُ رَبِّي وَجَارُهَا

خبر الأخابث من عك

وَبَعَثَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ بَعْثًا إِلَى شَنُوءَةَ، وَقَدْ تَجَمَّعَتْ بِهَا جُمَّاعٌ مِنَ الأَزْدِ وَبَجِيلَةَ وَخَثْعَمٍ، عَلَيْهِمْ حُمَيْضَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَعَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ عُثْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ، فَالْتَقَوْا بِشَنُوءَةَ، فَهَزَمُوا تِلْكَ الْجُمَّاعَ، وَتَفَرَّقُوا عَنْ حُمَيْضَةَ وَهَرَبَ حُمَيْضَةُ فِي الْبِلادِ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ عُثْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ: فَضَضْنَا جَمْعَهُمْ وَالنَّقْعُ كَابٍ ... وَقَدْ تُعْدِي عَلَى الْغَدْرِ الْفُتُوقُ وَأَبْرَقَ بَارِقٌ لَمَّا الْتَقَيْنَا ... فَعَادَتْ خُلَّبًا تِلْكَ الْبُرُوقُ خبر الأخابث من عك قال أبو جعفر: وكان أول منتقض بعد النبي ص بتهامة عك والأشعرون، وذلك أنهم حين بلغهم موت النبي ص تجمع منهم طخارير، فأقبل إليهم طخارير من الأشعرين وخضم فانضموا إليهم، فأقاموا على الأعلاب طريق الساحل، وتأشب اليهم او زاع على غير رئيس، فكتب بذلك الطاهر بْن أبي هالة إلى أبي بكر، وسار إليهم، وكتب أيضا بمسيره إليهم، ومعه مسروق العكي حتى انتهى إلى تلك الأوزاع، على الأعلاب، فالتقوا فاقتتلوا، فهزمهم اللَّه، وقتلوهم كل قتلة، وأنتنت السبل لقتلهم، وكان مقتلهم فتحا عظيما وأجاب أبو بكر الطاهر قبل أن يأتيه كتابه بالفتح: بلغني كتابك تخبرني فيه مسيرك واستنفارك مسروقا وقومه إلى الأخابث بالأعلاب، فقد أصبت، فعاجلوا هذا الضرب ولا ترفهوا عنهم، وأقيموا بالأعلاب حتى يأمن طريق الأخابث، ويأتيكم أمري: فسميت تلك

الجموع من عك ومن تأشب إليهم إلى اليوم الأخابث، وسمي ذلك الطريق طريق الأخابث، وقال في ذلك الطاهر بْن أبي هالة. وو الله لولا اللَّه لا شيء غيره ... لما فض بالأجراع جمع العثاعث فلم تر عيني مثل يوم رأيته ... بجنب صحار في جموع الأخابث قتلناهم ما بين قنة خامر ... الى القيمه الحمراء ذات النبائث وفئنا بأموال الأخابث عنوة ... جهارا ولم نحفل بتلك الهثاهث وعسكر طاهر على طريق الأخابث، ومعه مسروق في عك ينتظر أمر أبي بكر رحمه اللَّه. قال أبو جعفر: ولما بلغ أهل نجران وفاه رسول الله ص وهم يومئذ اربعون ألف مقاتل، من بني الأفعى، الأمة التي كانوا بها قبل بني الحارث، بعثوا وفدا ليجددوا عهدا، فقدموا إليه فكتب لهم كتابا: بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ عبد اللَّه أبي بكر خليفه رسول الله ص لأهل نجران، أجارهم من جنده ونفسه، وأجاز لهم ذمه محمد ص إلا ما رجع عنه مُحَمَّد رسول اللَّه ص بأمر اللَّه عز وجل في أرضهم وأرض العرب، ألا يسكن بها دينان، أجارهم على أنفسهم بعد ذلك وملتهم وسائر أموالهم وحاشيتهم وعاديتهم، وغائبهم وشاهدهم، وأسقفهم ورهبانهم وبيعهم حيثما وقعت، وعلى ما ملكت أيديهم من قليل أو كثير، عليهم ما عليهم، فإذا أدوه فلا

يحشرون ولا يعشرون ولا يغير أسقف من اسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ووفى لهم بكل ما كتب لهم رسول الله ص وعلى ما في هذا الكتاب من ذمة محمد رسول الله ص وجوار المسلمين. وعليهم النصح والإصلاح فيما عليهم من الحق شهد المسور بْن عمرو، وعمرو مولى أبي بكر. ورد أبو بكر جرير بْن عبد اللَّه، وأمره أن يدعو من قومه من ثبت على أمر اللَّه، ثم يستنفر مقويهم، فيقاتل بهم من ولى عن أمر اللَّه، وأمره أن يأتي خثعم، فيقاتل من خرج غضبا لذي الخلصة، ومن أراد إعادته حتى يقتلهم اللَّه، ويقتل من شاركهم فيه، ثم يكون وجهه إلى نجران، فيقيم بها حتى يأتيه أمره. فخرج جرير فنفذ لما أمره به أبو بكر، فلم يقر له أحد إلا رجال في عدة قليلة، فقتلهم وتتبعهم، ثم كان وجهه إلى نجران، فأقام بها انتظارا أمر أبي بكر رحمه اللَّه. وكتب إلى عثمان بْن أبي العاص أن يضرب بعثا على أهل الطائف على كل مخلاف بقدره، ويولي عليهم رجلا يأمنه ويثق بناحيته، فضرب على كل مخلاف عشرين رجلا، وأمر عليهم أخاه. وكتب إلى عتاب بْن أسيد، أن اضرب على أهل مكة وعملها خمسمائة مقو، وابعث عليهم رجلا تأمنه، فسمى من يبعث، وأمر عليهم خالد بْن أسيد، وأقام أمير كل قوم، وقاموا على رجل ليأتيهم أمر أبي بكر، وليمر عليهم المهاجر

رده اهل اليمن ثانيه

ردة أهل اليمن ثانية قال أبو جعفر: فممن ارتد ثانية منهم، قيس بْن عبد يغوث المكشوح، كتب إلي السري، عن شعيب، عن سَيْفٍ، قال: كان من حديث قيس في ردته الثانية، أنه حين وقع إليهم الخبر بموت رسول الله ص انتكث، وعمل في قتل فيروز وداذويه وجشيش، وكتب أبو بكر إلى عمير ذي مران وإلى سعيد ذي زود وإلى سميفع ذي الكلاع، وإلى حوشب ذي ظليم، وإلى شهر ذي يناف، يأمرهم بالتمسك بالذي هم عليه، والقيام بأمر اللَّه والناس، ويعدهم الجنود: من ابى بكر خليفه رسول الله ص إلى عمير بْن أفلح ذي مران، وسعيد بْن العاقب ذي زود، وسميفع بْن ناكور ذي الكلاع وحوشب ذي ظليم، وشهر ذي يناف أما بعد، فأعينوا الأبناء على من ناوأهم وحوطوهم واسمعوا من فيروز، وجدوا معه، فإني قد وليته. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن المستنير بن يزيد، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ غَزِيَّةَ الدَّثِينِيِّ، قَالَ: لَمَّا وَلِيَ أَبُو بَكْرٍ أَمَّرَ فَيْرُوزَ، وَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتَسَانِدُونَ، هُوَ وَدَاذُوَيْهِ وَجَشِيشٌ وَقَيْسٌ، وَكَتَبَ إِلَى وُجُوهٍ مِنْ وُجُوهِ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ قَيْسٌ أَرْسَلَ إِلَى ذِي الْكَلاعِ وَأَصْحَابِهِ: إِنَّ الأَبْنَاءَ نُزَّاعٌ فِي بِلادِكُمْ، وَنُقَلاءُ فِيكُمْ، وَإِنْ تَتْرُكُوهُمْ لَنْ يَزَالُوا عَلَيْكُمْ، وَقَدْ أَرَى مِنَ الرَّأْيِ أَنْ أَقْتُلَ رُءُوسَهُمْ، وَأُخْرِجَهُمْ مِنْ بِلادِنَا فَتَبْرَءُوا، فَلَمْ يُمَالِئُوهُ وَلَمْ يَنْصُرُوا الأبناء، واعتزلوا وقالوا: لسنا مما هاهنا فِي شَيْءٍ، أَنْتَ صَاحِبُهُمْ وَهُمْ أَصْحَابُكَ. فَتَرَبَّصَ لَهُمْ قَيْسٌ، وَاسْتَعَدَّ لِقَتْلِ رُؤَسَائِهِمْ وَتَسْيِيرِ عَامَّتِهِمْ، فكاتب قيس تلك الفالة السيارة اللحجية، وَهُمْ يَصْعَدُونَ فِي الْبِلادِ وَيُصَوِّبُونَ،

مُحَارِبِينَ لِجَمِيعِ مَنْ خَالَفَهُمْ، فَكَاتَبَهُمْ قَيْسٌ فِي السِّرِّ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَعَجَّلُوا إِلَيْهِ، وَلِيَكُونَ أَمْرُهُ وَأَمْرُهُمْ وَاحِدًا، وَلِيَجْتَمِعُوا عَلَى نَفْيِ الأَبْنَاءِ مِنْ بِلادِ الْيَمَنِ فَكَتَبُوا إِلَيْهِ بِالاسْتِجَابَةِ لَهُ، وَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ سِرَاعٌ، فَلَمْ يَفْجَأْ أَهْلَ صَنْعَاءَ إِلا الْخَبَرُ بِدُنُوِّهِمْ مِنْهَا، فَأَتَى قَيْسٌ فَيْرُوزَ فِي ذَلِكَ كَالْفرقِ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ وَأَتَى دَاذُوَيْهِ، فَاسْتَشَارَهُمَا لِيلبسَ عَلَيْهِمَا، وَلِئَلا يَتَّهِمَاهُ، فَنَظَرُوا فِي ذَلِكَ وَاطْمَأَنُّوا إِلَيْهِ ثُمَّ إِنَّ قَيْسًا دَعَاهُمْ مِنَ الْغَدِ إِلَى طَعَامٍ، فَبَدَأَ بِدَاذُوَيْهِ، وَثَنَّى بِفَيْرُوزَ، وَثَلَّثَ بِجَشِيشٍ، فَخَرَجَ دَاذُوَيْهِ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ عَاجَلَهُ فَقَتَلَهُ، وَخَرَجَ فَيْرُوزُ يَسِيرُ حَتَّى إِذَا دَنَا سَمِعَ امْرَأَتَيْنِ عَلَى سَطْحَيْنِ تَتَحَدَّثَانِ، فَقَالَتْ إِحْدَاهُمَا: هَذَا مَقْتُولٌ كَمَا قُتِلَ دَاذُوَيْهِ، فَلَقِيَهُمَا، فَعَاجَ حَتَّى يَرَى أَويَّ الْقَوْمِ الَّذِي أربئوا، فَأُخْبِرَ بِرُجُوعِ فَيْرُوزَ، فَخَرَجُوا يَرْكُضُونَ، وَرَكَضَ فَيْرُوزُ، وَتَلَقَّاهُ جَشِيشٌ، فَخَرَجَ مَعَهُ مُتَوَجِّهًا نَحْوَ جَبَلِ خَوْلانَ- وَهُمْ أَخْوَالُ فَيْرُوزَ- فَسَبَقَا الْخُيُولَ إِلَى الْجَبَلِ، ثُمَّ نَزَلا، فَتَوَقَّلا وَعَلَيْهِمَا خِفَافٌ سَاذِجَةٌ، فَمَا وَصَلا حَتَّى تَقَطَّعَتْ أَقْدَامُهُمَا، فَانْتَهَيَا إِلَى خَوْلانَ وَامْتَنَعَ فَيْرُوزُ بِأَخْوَالِهِ، وَآلَى أَلا يَنْتَعِلَ سَاذِجًا، وَرَجَعَتِ الْخُيُولُ إِلَى قَيْسٍ، فَثَارَ بِصَنْعَاءَ فَأَخَذَهَا، وَجَبَى مَا حَوْلَهَا، مُقَدِّمًا رِجْلا وَمُؤَخِّرًا أُخْرَى، وَأَتَتْهُ خُيُولُ الأُسُودِ. وَلَمَّا أَوَى فَيْرُوزُ إِلَى أَخْوَالِهِ خَوْلانَ فَمَنَعُوهُ وَتَأَشَّبَ إِلَيْهِ النَّاسُ، كَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِالْخَبَرِ فَقَالَ قَيْسٌ: وَمَا خَوْلانُ! وَمَا فَيْرُوزُ! وَمَا قَرَارٌ أَوَوْا إِلَيْهِ! وَطَابَقَ عَلَى قَيْسٍ عَوَامُّ قَبَائِلِ مَنْ كَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى رُؤَسَائِهِمْ، وَبَقِيَ الرُّؤَسَاءُ مُعْتَزِلِينَ، وَعَمَدَ قَيْسٌ إِلَى الأَبْنَاءِ فَفَرَقَهُمْ ثَلاثَ فِرَقٍ: أَقَرَّ مَنْ أَقَامَ وَأَقَرَّ عِيَالَهُ، وَفَرَقَ عِيَالَ الَّذِينَ هَرَبُوا إِلَى فَيْرُوزَ فِرْقَتَيْنِ، فَوَجَّهَ إِحْدَاهُمَا إِلَى عَدْنٍ، لِيَحْمِلُوا فِي الْبَحْرِ، وَحَمَلَ الأُخْرَى فِي الْبَرِّ، وَقَالَ لَهُمْ جَمِيعًا: الْحَقُوا بِأَرْضِكُمْ، وَبَعَثَ مَعَهُمْ مَنْ يُسَيِّرُهُمْ، فَكَانَ عِيَالُ الدَّيْلَمِيِّ مِمَّنْ سُيِّرَ فِي الْبَرِّ

وَعِيَالُ دَاذُوَيْهِ مِمَّنْ سُيِّرَ فِي الْبَحْرِ، فَلَمَّا رَأَى فَيْرُوزُ أَنْ قَدِ اجْتَمَعَ عَوَامُّ أَهْلِ الْيَمَنِ عَلَى قَيْسٍ، وَأَنَّ الْعِيَالَ قَدْ سُيِّرُوا وَعَرَّضَهُمْ لِلنَّهْبِ، وَلَمْ يَجِدْ إِلَى فراق عَسْكَرِهِ فِي تَنَقُّذِهِمْ سَبِيلا، وَبَلَغَهُ مَا قَالَ قَيْسٌ فِي اسْتِصْغَارِهِ الأَخْوَالِ وَالأَبْنَاءِ، فَقَالَ فَيْرُوزُ مُنْتَمِيًا وَمُفَاخِرًا وَذَكَرَ الظَّعْنَ: أَلا نَادِيَا ظُعْنًا إِلَى الرَّمْلِ ذِي النَّخْلِ ... وَقُولا لَهَا أَلا يُقَالُ وَلا عَذْلِي وَمَا ضَرَّهُمْ قَوْلُ الْعُدَاةِ لَوْ انه ... أَتَى قَوْمَهُ عَنْ غَيْرِ فُحْشٍ وَلا بخْلِ فَدَعْ عَنْكَ ظُعْنًا بِالطَّرِيقِ الَّتِي هَوَتْ ... لِطَيَّتِهَا صَمْد الرِّمَالِ إِلَى الرَّمْلِ وَإِنَّا وَإِنْ كَانَتْ بِصَنْعَاءَ دَارُنَا ... لَنَا نَسْلُ قَوْمٍ مِنْ عَرانِينِهِمْ نَسْلِي وَلِلدَّيْلَمِ الرَّزَّامِ مِنْ بَعْدِ بَاسِلٍ ... أَبَى الْخَفْضَ وَاخْتَارَ الْحَرُورَ عَلَى الظِّلِّ وَكَانَتْ مَنَابِيتُ الْعِرَاقِ جِسَامَهَا ... لِرَهْطِي إِذَا كِسْرَى مَرَاجِلُهُ تَغْلِي وَبَاسِلٌ أَصْلِي إِنْ نَمَيْتُ وَمَنْصِبِي ... كَمَا كُلُّ عُودٍ مُنْتَهَاهُ إِلَى الأَصْلِ هُمْ تَرَكُوا مَجْرَايَ سَهْلا وَحَصَّنُوا ... فِجَاجِي بِحُسْنِ الْقَوْلِ وَالْحَسَبِ الْجَزْلِ فَمَا عَزَّنَا فِي الْجَهْلِ مِنْ ذِي عَدَاوَةٍ ... أَبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُعِزَّ عَلَى الْجَهْلِ وَلا عَاقَنَا فِي السَّلْمِ عَنْ آلِ أَحْمَدَ ... وَلا خَسَّ فِي الإِسْلامِ إِذْ أَسْلَمُوا قَبْلِي وَإِنْ كَانَ سَجْلٌ من قبيلي أرشني ... فَإِنِّي لَرَاجٌ أَنْ يُغْرِقَهُمْ سَجْلِي وَقَامَ فَيْرُوزُ فِي حَرْبِهِ، وَتَجَرَّدَ لَهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى بَنِي عُقَيْلِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ رَسُولا بِأَنَّهُ مُتَخَفِّرٌ بِهِمْ، يَسْتَمِدُّهُمْ وَيَسْتَنْصِرُهُمْ فِي ثُقْلِهِ عَلَى الَّذِينَ يُزْعِجُونَ أَثْقَالَ الأَبْنَاءِ، وَأَرْسَلَ إِلَى عَكٍّ رَسُولا يَسْتَمِدُّهُمْ وَيَسْتَنْصِرُهُمْ عَلَى الَّذِينَ يُزْعِجُونَ أَثْقَالَ الأَبْنَاءِ فَرَكِبَتْ عُقَيْلٌ وَعَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنَ الْحُلَفَاءِ يُقَالُ لَهُ مُعَاوِيَةُ، فَاعْتَرَضُوا خَيْلَ قَيْسٍ فَتَنَقَّذُوا أُولَئِكَ الْعِيَالَ، وَقَتَلُوا الَّذِينَ سَيَّرُوهُمْ، وَقَصَرُوا عَلَيْهِمُ الْقُرَى، إِلَى أَنْ رَجَعَ فَيْرُوزُ إِلَى

صَنْعَاءَ، وَوَثَبَتْ عَكٌّ، وَعَلَيْهِمْ مَسْرُوقٌ، فَسَارُوا حَتَّى تَنَقَّذُوا عِيَالاتِ الأَبْنَاءِ، وَقَصَرُوا عَلَيْهِمُ الْقُرَى، إِلَى أَنْ رَجَعَ فَيْرُوزُ إِلَى صَنْعَاءَ، وَأَمَدَّتْ عُقَيْلٌ وَعَكٌّ فَيْرُوزَ بِالرِّجَالِ، فَلَمَّا أَتَتْهُ أَمْدَادُهُمْ- فِيمَنْ كَانَ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ- خَرَجَ فِيمَنْ كَانَ تَأَشَّبَ إِلَيْهِ وَمَنْ أَمَدَّهُ مِنْ عَكٍّ وَعُقَيْلٍ، فَنَاهَدَ قَيْسًا فَالْتَقُوا دُونَ صَنْعَاءَ، فَاقْتَتَلُوا فَهَزَمَ اللَّهُ قَيْسًا فِي قَوْمِهِ وَمَنْ أُنْهِضُوا، فَخَرَجَ هَارِبًا فِي جُنْدِهِ حَتَّى عَادَ مَعَهُمْ، وَعَادُوا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانُوا بِهِ مُبَادِرِينَ حِينَ هَرَبُوا بَعْدَ مَقْتَلِ الْعَنْسِيِّ، وَعَلَيْهِمْ قَيْسٌ، وَتَذَبْذَبَتْ رَافِضَةُ الْعَنْسِيِّ وَقَيْسٍ مَعَهُمْ فِيمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَنَجْرَانَ، وَكَانَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ بِإِزَاءِ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ فِي طَاعَةِ الْعَنْسِيِّ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عطية، عن عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ، قَالَ: وَكَانَ مِنْ أَمْرِ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ أَنَّهُ كَانَ قَدِمَ عَلَى رسول الله ص مُسْلِمًا، وَقَالَ فِي ذَلِكَ: لَمَّا رَأَيْتُ مُلُوكَ حِمْيَرَ أَعْرَضَتْ ... كَالرَّجُلِ خَانَ الرَّجُلَ عِرْقُ نَسَائِهَا يَمَّمْتُ رَاحِلَتِي أَمَامَ مُحَمَّدٍ ... أَرْجُو فَوَاضِلَهَا وَحُسْنُ ثنائها وقال له رسول الله ص فِيمَا قَالَ لَهُ: هَلْ سَاءَكَ مَا لَقِيَ قومك يوم الرزم يا فروه او سرك؟ قَالَ: وَمَنْ يُصَبْ فِي قَوْمِهِ بِمِثْلِ الَّذِي أَصَبْتَ بِهِ فِي قَوْمِي يَوْمَ الرَّزْمِ إِلا سَاءَهُ ذَلِكَ! وَكَانَ يَوْمَ الرَّزْمِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ هَمْدَانَ عَلَى يَغُوثَ، وَثَنٍ كَانَ يَكُونُ فِي هَؤُلاءِ مَرَّةً وَفِي هَؤُلاءِ مَرَّةً، فَأَرَادَتْ مُرادٌ أَنْ تَغْلِبَهُمْ عَلَيْهِ فِي مَرَّتِهِمْ، فَقَتَلَتْهُمْ هَمْدَانُ، وَرَئِيسُهُمُ الأَجْدَعُ أَبُو مَسْرُوقٍ، [فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: أَمَا إِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَزِدْهُمْ فِي الإِسْلامِ إِلا خَيْرًا،] فَقَالَ: قَدْ سَرَّنِي إِذْ كَانَ ذَلِكَ، فَاسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَدَقَاتِ مُرَادٍ وَمَنْ نَازَلَهُمْ أَوْ نَزَلَ دَارَهُمْ وَكَانَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ قَدْ فَارَقَ قَوْمَهُ سَعْدَ الْعَشِيرَةِ فِي بَنِي زُبَيْدٍ واخلافها، وانحاز

إِلَيْهِمْ، وَأَسْلَمَ مَعَهُمْ، فَكَانَ فِيهِمْ، فَلَمَّا ارْتَدَّ الْعَنْسِيُّ وَاتَّبَعَهُ عَوَامُّ مَذْحِجٍ، اعْتَزَلَ فَرْوَةُ فِيمَنْ أَقَامَ مَعَهُ عَلَى الإِسْلامِ، وَارْتَدَّ عَمْرٌو فِيمَنِ ارْتَدَّ، فَخَلَّفَهُ الْعَنْسِيُّ، فَجَعَلَهُ بِإِزَاءِ فَرْوَةَ، فَكَانَ بِحِيَالِهِ، وَيَمْتَنِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَكَانِ صَاحِبِهِ مِنَ الْبَرَاحِ، فَكَانَا يَتَهَادَيَانِ الشِّعْرَ، فَقَالَ عَمْرٌو يَذْكُرُ إِمَارَةَ فَرْوَةَ وَيَعِيبُهَا: وَجَدْنَا مُلْكَ فَرْوَةَ شر ملك ... حمارا ساف منخره بقذر وكنت إذا رأيت أبا عمير ... ترى الحولاء من خُبْثٍ وَغَدْرِ فَأَجَابَهُ فَرْوَةُ: أَتَانِي عَنْ أَبِي ثَوْرٍ كَلامٌ ... وَقِدما كَانَ فِي الْأَبْغَالِ يَجْرِي وَكَانَ اللَّهُ يُبْغِضُهُ قَدِيمًا ... عَلَى مَا كَانَ مِنْ خُبْثٍ وَغَدْرِ فَبَيْنَاهُمْ كَذَلِكَ قَدِمَ عِكْرِمَةُ أبين. وكتب إلي السري، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن سهل، عن القاسم وموسى بْن الغصن، عن ابن محيريز، قال: فخرج عكرمة من مهرة سائرا نحو اليمن حتى ورد أبين، ومعه بشر كثير من مهرة، وسعد بْن زيد، والأزد، وناجية، وعبد القيس، وحدبان من بني مالك بْن كنانة، وعمرو بْن جندب من العنبر، فجمع النخع بعد من أصاب من مدبريهم فقال لهم: كيف كنتم في هذا الأمر؟ فقالوا له: كنا في الجاهلية أهل دين، لا نتعاطى ما تتعاطى العرب بعضها من بعض، فكيف بنا إذا صرنا إلى دين عرفنا فضله، ودخلنا حبه! فسأل عنهم فإذا الأمر كما قالوا، ثبت عوامهم وهرب من كان فارق من خاصتهم، واستبرأ النخع وحمير، واقام لاجتماعهم، وأرز قيس بْن عبد يغوث لهبوط عكرمة إلى اليمن إلى عمرو بْن معديكرب، فلما ضامه وقع بينهما تنازع، فتعايرا، فقال

ذكر خبر طاهر حين شخص مددا لفيروز

عمرو بْن معديكرب يعير قيسا غدره بالأبناء وقتله داذويه، ويذكر فراره من فيروز: غدرت ولم تحسن وفاء ولم يكن ... ليحتمل الأسباب إلا المعود وكيف لقيس أن ينوط نفسه ... إذا ما جرى والمضرحي المسود! وقال قيس: وفيت لقومي واحتشدت لمعشر ... أصابوا على الأحياء عمرا ومرثدا وكنت لدى الأبناء لما لقيتهم ... كأصيد يسمو بالعزازة أصيدا وقال عمرو بْن معديكرب: فما إن داذوي لكم بفخر ... ولكن داذوي فضح الذمارا وفيروز غداة أصاب فيكم ... وأضرب في جموعكم استجارا ذكر خبر طاهر حين شخص مددا لفيروز قال أبو جعفر الطبري رحمه الله: قد كان أبو بكر رحمه اللَّه كتب إلى طاهر بْن أبي هالة بالنزول إلى صنعاء وإعانة الأبناء، وإلى مسروق، فخرجا حتى أتيا صنعاء، وكتب إلى عبد اللَّه بْن ثور بْن أصغر، بأن يجمع إليه العرب ومن استجاب له من أهل تهامة، ثم يقيم بمكانه حتى يأتيه أمره. وكان أول ردة عمرو بْن معديكرب أنه كان مع خالد بْن سعيد فخالفه، واستجاب للأسود، فسار إليه خالد بْن سعيد حتى لقيه، فاختلفا ضربتين، فضربه خالد على عاتقه فقطع حمالة سيفه فوقع، ووصلت الضربة إلى عاتقه، وضربه عمرو فلم يصنع شيئا، فلما أراد خالد أن يثني عليه نزل فتوقل في الجبل، وسلبه فرسه وسيفه الصمصامة،

ولحج عمرو فيمن لحج وصارت إلى سعيد بْن العاص الأصغر مواريث آل سعيد بْن العاص الأكبر فلما ولي الكوفة عرض عليه عمرو ابنته، فلم يقبلها، وأتاه في داره بعدة سيوف كان خالد أصابها باليمن، فقال: أيها الصمصامة؟ قال: هذا، قال: خذه فهو لك، فأخذه، ثم آكف بغلا له فضرب الإكاف فقطعه والبرذعة، وأسرع في البغل، ثم رده على سعيد، وقال: لو زرتني في بيتي وهو لي لوهبته لك، فما كنت لأقبله إذ وقع. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن المستنير بن يزيد عن عروة بْن غزية وموسى، عن أبي زرعه السيبانى، قال: ولما فصل المهاجر بْن أبي أمية من عند أبي بكر- وكان في آخر من فصل- اتخذ مكة طريقا، فمر بها فاتبعه خالد بْن أسيد، ومر بالطائف فاتبعه عبد الرحمن بْن أبي العاص، ثم مضى حتى إذا حاذى جرير بْن عبد اللَّه ضمه إليه، وانضم إليه عبد اللَّه بْن ثور حين حازاه، ثم قدم على أهل نجران، فانضم إليه فروة بْن مسيك، وفارق عمرو بْن معديكرب قيسا، وأقبل مستجيبا، حتى دخل على المهاجر على غير أمان، فأوثقه المهاجر، وأوثق قيسا، وكتب بحالهما إلى أبي بكر رحمه اللَّه، وبعث بهما إليه فلما سار المهاجر من نجران إلى اللحجية، والتفت الخيول على تلك الفالة استأمنوا، فأبى أن يؤمنهم، فافترقوا فرقتين، فلقي المهاجر إحداهما بعجيب، فأتى عليهم، ولقيت خيوله الأخرى بطريق الأخابث، فأتوا عليهم- وعلى الخيول عبد اللَّه- وقتل الشرداء بكل سبيل، فقدم بقيس وعمرو على أبي بكر، فقال: يا قيس، أعدوت على عباد اللَّه تقتلهم وتتخذ المرتدين والمشركين وليجة من دون المؤمنين! وهم بقتله لو وجد أمرا جليا وانتفى قيس من أن يكون قارف من أمر داذويه شيئا، وكان ذلك عملا عمل في سر لم يكن به بينة، فتجافى له عن دمه، وقال لعمرو ابن معديكرب: أما تخزى أنك كل يوم مهزوم أو مأسور! لو نصرت هذا

ذكر خبر حضرموت في ردتهم

الدين لرفعك اللَّه ثم خلى سبيله، وردهما إلى عشائرهما، وقال عمرو: لا جرم! لأقبلن ولا أعود. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن المستنير وموسى قالا: سار المهاجر من عجيب، حتى ينزل صنعاء، وأمر أن يتبعوا شُذَّاذ القبائل الذين هربوا، فقتلوا من قدروا عليه منهم كل قتلة، ولم يعف متمردا، وقبل توبة من أناب من غير المتمردة، وعملوا في ذلك على قدر ما رأوا من آثارهم، ورجوا عندهم وكتب إلى أبي بكر بدخوله صنعاء وبالذي يتبع من ذلك . ذكر خبر حضرموت في ردتهم قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن سهل ابن يُوسُفَ، عَنِ الصَّلْتِ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ، قال: مات رسول الله ص وَعُمَّالُهُ عَلَى بِلادِ حَضْرَمَوْتَ: زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الْبَيَاضِيُّ عَلَى حَضْرَمَوْتَ وَعُكَّاشَةُ بنُ مِحْصَنٍ عَلَى السَّكَاسِكِ وَالسّكُونِ، وَالْمُهَاجِرُ عَلَى كِنْدَةَ- وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ لَمْ يَكُنْ خَرَجَ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ص، فَبَعَثَهُ أَبُو بَكْرٍ بَعْدُ إِلَى قِتَالِ مَنْ بِالْيَمَنِ وَالْمُضِيِّ بَعْدُ إِلَى عَمَلِهِ. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي السائب، عطاء ابن فلان الْمَخْزُومِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَالْمُهَاجِرِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، أَنَّهُ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْ تبوك، فرجع رسول الله ص وَهُوَ عَلَيْهِ عَاتِبٌ، فَبَيْنَا أُمُّ سَلَمَةَ تَغْسِلُ راس رسول الله ص، قَالَتْ: كَيْفَ يَنْفَعُنِي شَيْءٌ وَأَنْتَ عَاتِبٌ عَلَى أَخِي! فَرَأَتْ مِنْهُ رِقَّةً، فَأَوْمَأَتْ إِلَى خَادِمِهَا، فدعته، فلم يزل برسول الله ص يَنْشُرُ عُذْرَهُ حَتَّى

عَذَرَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ وَأَمَّرَهُ عَلَى كِنْدَةَ فَاشْتَكَى وَلَمْ يُطِقِ الذَّهَابَ، فَكَتَبَ إِلَى زِيَادٍ لِيَقُومَ لَهُ عَلَى عَمَلِهِ وَبَرَأَ بَعْدُ، فَأَتَمَّ لَهُ أَبُو بَكْرٍ إِمْرَتَهُ، وَأَمَرَهُ بِقِتَالِ مَنْ بَيْنَ نَجْرَانَ إِلَى أَقْصَى الْيَمَنِ، وَلِذَلِكَ أَبْطَأَ زِيَادٌ وَعُكَّاشَةُ عَنْ مُنَاجَزَةِ كِنْدَةَ انْتِظَارًا لَهُ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ الْقَاسِمِ بن محمد، قَالَ: كَانَ سَبَبُ رِدَّةِ كِنْدَةَ إِجَابَتَهُمُ الأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ حَتَّى لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُلُوكَ الأَرْبَعَةَ، وَأَنَّهُمْ قَبْلَ رِدَّتِهِمْ حِينَ أَسْلَمُوا وَأَسْلَمَ أَهْلُ بِلادِ حَضْرَمَوْتَ كُلُّهُمْ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمَا يُوضَعُ مِنَ الصَّدَقَاتِ أَنْ يُوضَعَ صَدَقَةُ بعض حضرموت في كنده، وتوضع صَدَقَةِ كِنْدَةَ فِي بَعْضِ حَضْرَمَوْتَ، وَبَعْضُ حَضْرَمَوْتَ فِي السكُونِ وَالسكُونُ فِي بَعْضِ حَضْرَمَوْتَ فَقَالَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي وَلِيعَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَسْنَا بِأَصْحَابِ إِبِلٍ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ يَبْعَثُوا إِلَيْنَا بِذَلِكَ عَلَى ظَهْرٍ! فَقَالَ: إِنْ رَأَيْتُمْ! قَالُوا: فَإِنَّا نَنْظُرُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ظَهْرٌ فَعَلْنَا فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَاءَ ذَلِكَ الإِبَانُ، دَعَا زِيَادٌ النَّاسَ إِلَى ذَلِكَ، فَحَضَرُوهُ، فَقَالَتْ بَنُو وَلِيعَةَ: أَبْلِغُونَا كَمَا وَعَدْتُمْ رَسُولِ اللَّهِ ص، فَقَالُوا: إِنَّ لَكُمْ ظَهْرًا، فَهَلُمُّوا فَاحْتَمِلُوا، وَلاحُوهُمْ، حَتَّى لاحُوا زِيَادًا، وَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ مَعَهُمْ عَلَيْنَا فَأَبَى الْحَضْرَمِيُّونَ، وَلَجَّ الْكِنْدِيُّونَ، فَرَجَعُوا إِلَى دَارِهِمْ، وَقَدَّمُوا رِجْلا وَأَخَّرُوا أُخْرَى، وَأَمْسَكَ عَنْهُمْ زِيَادٌ انْتِظَارًا لِلْمُهَاجِرِ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُ صَنْعَاءَ، كَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِكُلِّ الَّذِي صَنَعَ، وَأَقَامَ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِ جَوَابُ كِتَابِهِ مِنْ قِبَلِ أَبِي بَكْرٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ وَإِلَى عِكْرِمَةَ أَنْ يَسِيرَا حَتَّى يَقْدَمَا حَضْرَمَوْتَ، واقر زيادا على عمله، واذن لمن معك مِنْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْيَمَنِ فِي الْقَفْلِ، إِلا ان يؤثر قوم الجهاد وامده بعبيده ابن سَعْدٍ فَفَعَلَ، فَسَارَ الْمُهَاجِرُ مِنْ صَنْعَاءَ يُرِيدُ حَضْرَمَوْتَ، وَسَارَ عِكْرِمَةُ مِنْ أَبْيَنَ يُرِيدُ حَضْرَمَوْتَ، فَالْتَقَيَا بِمَأْرِبٍ، ثُمَّ فوزا مِنْ صهيد، حَتَّى اقْتَحَمَا حَضْرَمَوْتَ، فَنَزَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى الأَشْعَثِ وَالآخَرُ على وائل

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن أبيه، عن كثير بْن الصلت، قال: وكان زياد بْن لبيد حين رجع الكنديون ولجوا ولج الحضرميون، ولى صدقات بني عمرو بْن معاوية بنفسه، فقدم عليهم وهم بالرياض، فصدق أول من انتهى إليه منهم، وهو غلام، يقال له شيطان بْن حجر، فأعجبته بكرة من الصدقة، فدعا بنار فوضع عليها الميسم، وإذا الناقة لأخي الشيطان العداء بْن حجر، وليست عليه صدقة، وكان أخوه قد أوهم حين أخرجها وظنها غيرها، فقال العداء: هذه شذرة باسمها، فقال الشيطان: صدق أخي، فإني لم أعطكموها إلا وأنا أراها غيرها، فأطلق شذرة وخذ غيرها، فإنها غير متروكة فرأى زياد أن ذلك منه اعتلال، واتهمه بالكفر ومباعدة الإسلام وتحري الشر. فحمي وحمي الرجلان، فقال زياد: لا ولا تنعم، ولا هي لك، لقد وقع عليها ميسم الصدقة وصارت في حق اللَّه، ولا سبيل إلى ردها، فلا تكونن شذرة عليكم كالبسوس، فنادى العداء: يا آل عمرو، بالرياض أضام واضطهد! إن الذليل من أكل في داره! ونادى: يا أبا السميط، فأقبل ابو السميط حارثة بن سراقه بن معديكرب، فقصد لزياد بْن لبيد وهو واقف، فقال: أطلق لهذا الفتى بكرته، وخذ بعيرا مكانها، فإنما بعير مكان بعير، فقال: ما إلى ذلك سبيل! فقال: ذاك إذا كنت يهوديا! وعاج إليها، فأطلق عقالها، ثم ضرب على جنبها، فبعثها وقام دونها، وهو يقول: يمنعها شيخ بخديه الشيب ... ملمع كما يلمع الثوب فأمر به زياد شبابا من حضرموت والسكون، فمغثوه وتوطئوه، وكتفوه وكتفوا أصحابه، وارتهنوهم، وأخذوا البكره فعقلوها كما كانت، وقال زياد ابن لبيد في ذلك:

لم يمنع الشذرة أركوب ... والشيخ قد يثنيه أرجوب وتصايح أهل الرياض وتنادوا، وغضبت بنو معاوية لحارثة، وأظهروا أمرهم، وغضبت السكون لزياد، وغضبت له حضرموت، وقاموا جميعا دونه وتوافى عسكران عظيمان من هؤلاء وهؤلاء، لا تحدث بنو معاوية لمكان أسرائهم شيئا، ولا يجد أصحاب زياد على بني معاوية سبيلا يتعلقون به عليهم، فأرسل إليهم زياد: إما أن تضعوا السلاح، وإما أن تؤذنوا بحرب، فقالوا: لا نضع السلاح أبدا حتى ترسلوا أصحابنا، فقال زياد: لا يرسلون أبدا حتى ترفضوا وأنتم صغرة قمأة يا أخابث الناس، ألستم سكان حضرموت وجيران السكون! فما عسيتم أن تكونوا وتصنعوا في دار حضرموت، وفي جنوب مواليكم! وقالت له السكون: ناهد القوم، فإنه لا يفطمهم إلا ذلك، فنهد إليهم ليلا، فقتل منهم، وطاروا عباديد، وتمثل زياد حين أصبح في عسكرهم: وكنت امرأ لا أبعث الحرب ظالما ... فلما أبوا سامحت في حرب حاطب ولما هرب القوم خلى عن النفر الثلاثة، ورجع زياد إلى منزله على الظفر ولما رجع الأسراء إلى أصحابهم ذمروهم فتذامروا، وقالوا: لا تصلح البلدة علينا وعلى هؤلاء حتى تخلو لأحد الفريقين فأجمعوا وعسكروا جميعا، ونادوا بمنع الصدقة، فتركهم زياد لم يخرج إليهم، وتركوا المسير إليه وأرسل إليهم الحصين بْن نمير، فما زال يسفر فيما بينهم وبين زياد وحضرموت والسكون حتى سكن بعضهم عن بعض، وهذه النفرة الثانية، وقال السكوني في ذلك: لعمري وما عمرى بعرضه جانب ... ليجتلبن منها المرار بنو عمرو كذبتم وبيت اللَّه لا تمنعونها ... زيادا، وقد جئنا زيادا على قدر

فأقاموا بعد ذلك يسيرا ثم إن بني عمرو بْن معاوية خصوصا خرجوا إلى المحاجر، إلى أحماء حموها، فنزل جمد محجرا، ومخوص محجرا، ومشرح محجرا، وأبضعة محجرا، وأختهم العمردة محجرا- وكانت بنو عمرو ابن معاوية على هؤلاء الرؤساء- ونزلت بنو الحارث بْن معاوية محاجرها، فنزل الأشعث بْن قيس محجرا، والسمط بْن الأسود محجرا، وطابقت معاوية كلها على منع الصدقة، وأجمعوا على الردة إلا ما كان من شرحبيل بْن السمط وابنه، فإنهما قاما في بني معاوية، فقالا: والله إن هذا لقبيح بأقوام أحرار التنقل، إن الكرام ليكونون على الشبهة فيتكرمون أن يتنقلوا منها إلى أوضح منها مخافة العار، فكيف بالرجوع عن الجميل، وعن الحق إلى الباطل والقبيح! اللهم انا لا نمالى قومنا على هذا، وإنا لنادمون على مجامعتهم إلى يومنا هذا- يعني يوم البكرة ويوم النفره- وخرج شرحبيل بْن السمط وابنه السمط، حتى أتيا زياد بْن لبيد، فانضما إليه، وخرج ابن صالح وامرؤ القيس بْن عابس، حتى أتيا زيادا، فقالا له: بيت القوم، فإن أقواما من السكاسك قد انضموا إليهم، وقد تسرع إليهم قوم من السكون وشذاذ من حضرموت، لعلنا نوقع بهم وقعة تورث بيننا عداوة، وتفرق بيننا، وإن أبيت خشينا أن يرفضَّ الناس عنا إليهم، والقوم غارون لمكان من أتاهم، راجون لمن بقي فقال: شأنكم فجمعوا جمعهم، فطرقوهم في محاجرهم، فوجدوهم حول نيرانهم جلوسا، فعرفوا من يريدون، فأكبوا على بني عمرو بْن معاوية، وهم عدد القوم وشوكتهم، من خمسة أوجه في خمس فرق، فأصابوا مشرحا ومخوصا وجمدا وأبضعة وأختهم العمردة، أدركتهم اللعنة، وقتلوا فأكثروا، وهرب من أطاق الهرب، ووهنت بنو عمرو بْن معاوية، فلم يأتوا بخير بعدها، وانكفأ زياد بالسبي والأموال، وأخذوا طريقا

يفضي بهم إلى عسكر الأشعث وبني الحارث بْن معاوية، فلما مروا بهم فيه استغاث نسوة بني عمرو بْن معاوية ببني الحارث ونادينه: يا أشعث، يا أشعث! خالاتك خالاتك! فثار في بني الحارث فتنقذهم- وهذه الثالثة- وقال الأشعث: منعت بني عمرو وقد جاء جمعهم ... بأمعز من يوم البضيض وأصبرا وعلم الأشعث أن زيادا وجنده إذا بلغهم ذلك لم يقلعوا عنه ولا عن بني الحارث بْن معاوية وبني عمرو بْن معاوية، فجمع إليه بني الحارث بْن معاوية وبني عمرو بْن معاوية، ومن أطاعه من السكاسك والخصائص من قبائل ما حولهم، وتباين لهذه الوقعة من بحضرموت من القبائل، فثبت أصحاب زياد على طاعة زياد، ولجت كندة، فلما تباينت القبائل كتب زياد إلى المهاجر، وكاتبه الناس فتلقاه بالكتاب، وقد قطع صهيد- مفازة ما بين مأرب وحضرموت- واستخلف على الجيش عكرمة، وتعجل في سرعان الناس، ثم سار حتى قدم على زياد، فنهد إلى كندة وعليهم الأشعث، فالتقوا بمحجر الزرقان فاقتتلوا به فهزمت كندة، وقتلت وخرجوا هرابا، فالتجأت إلى النجير وقد رموه وحصنوه، وقال في يوم محجر الزرقان المهاجر: كنا بزرقان إذ يشردكم ... بحر يزجي في موجه الحطبا نحن قتلناكم بمحجركم ... حتى ركبتم من خوفنا السببا إلى حصار يكون أهونه ... سبي الذراري وسوقها خببا وسار المهاجر في الناس من محجر الزرقان حتى نزل على النجير،

وقد اجتمعت إليه كندة، فتحصنوا فيه، ومعهم من استغووا من السكاسك وشذاذ من السكون وحضرموت والنجير، على ثلاثة سبل، فنزل زياد على أحدها، ونزل المهاجر على الآخر، وكان الثالث لهم يؤتون فيه ويذهبون فيه، إلى أن قدم عكرمة في الجيش، فأنزله على ذلك الطريق، فقطع عليهم المواد وردهم، وفرق في كندة الخيول، وأمرهم أن يوطئوهم وفيمن بعث يزيد بْن قنان من بني مالك بْن سعد، فقتل من بقرى بني هند إلى برهوت، وبعث فيمن بعث إلى الساحل خالد بْن فلان المخزومي وربيعة الحضرمي، فقتلوا أهل محا وأحياء أخر، وبلغ كندة وهم في الحصار ما لقي سائر قومهم، فقالوا: الموت خير مما أنتم فيه، جزوا نواصيكم حتى كأنكم قوم قد وهبتم لله أنفسكم، فأنعم عليكم فبؤتم بنعمه، لعله أن ينصركم على هؤلاء الظلمة فجزوا نواصيهم، وتعاقدوا وتواثقوا ألا يفر بعضهم عن بعض، وجعل راجزهم يرتجز في جوف الليل فوق حصنهم: صباح سوء لبني قتيرة ... وللأمير من بني المغيرة وجعل راجز المسلمين زياد بْن دينار يرد عليهم: لا توعدونا واصبروا حصيره ... نحن خيول ولد المغيره وفي الصباح تظفر العشيره. فلما أصبحوا خرجوا على الناس، فاقتتلوا بأفنية النجير، حتى كثرت القتلى بحيال كل طريق من الطرق الثلاثة، وجعل عكرمة يرتجز يومئذ، ويقول: أطعنهم وأنا على أوفاز ... طعنا أبوء به على مجاز

ويقول: أنفذ قولي وله نفاذ ... وكل من جاورني معاذ فهزمت كندة، وقد أكثروا فيهم القتل. وقال هشام بْن مُحَمَّد: قدم عكرمة بْن أبي جهل بعد ما فرغ المهاجر من أمر القوم مددا له، فقال زياد والمهاجر لمن معهما: إن إخوانكم قدموا مددا لكم، وقد سبقتموهم بالفتح فأشركوهم في الغنيمة ففعلوا وأشركوا من لحق بهم، وتواصوا بذلك، وبعثوا بالأخماس والأسرى، وسار البشير فسبقهم، وكانوا يبشرون القبائل ويقرءون عليهم الفتح. وكتب إلي السري، قال: كتب أبو بكر رحمه اللَّه إلى المهاجر مع المغيرة بْن شعبة: إذا جاءكم كتابي هذا ولم تظفروا، فإن ظفرتم بالقوم فاقتلوا المقاتلة، واسبوا الذرية إن أخذتموهم عنوة، أو ينزلوا على حكمي، فإن جرى بينكم صلح قبل ذلك فعلى أن تخرجوهم من ديارهم، فإني أكره أن أقر أقواما فعلوا فعلهم في منازلهم، ليعلموا أن قد أساءوا، وليذوقوا وبال بعض الذي أتوا قال أبو جعفر: ولما رأى أهل النجير المواد لا تنقطع عن المسلمين، وأيقنوا أنهم غير منصرفين عنهم، خشعت أنفسهم، ثم خافوا القتل، وخاف الرؤساء على أنفسهم، ولو صبروا حتى يجيء المغيرة لكانت لهم في الثالثة الصلح على الجلاء نجاة فعجل الأشعث، فخرج إلى عكرمة بأمان، وكان لا يأمن غيره، وذلك أنه كانت تحته أسماء ابنة النعمان بْن الجون، خطبها وهو يومئذ بالجند ينتظر المهاجر، فأهداها إليه أبوها قبل أن يبادوا، فأبلغه عكرمة المهاجر، واستأمنه له على نفسه، ونفر معه تسعة، على ان يؤمنهم وأهليهم وان يفتحوا لهم الباب، فأجابه إلى ذلك، وقال: انطلق فاستوثق لنفسك، ثم هلم كتابك أختمه. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي إسحاق

الشيباني، عن سعيد بْن أبي بردة، عن عامر، أنه دخل عليه فاستأمنه على أهله وماله، وتسعة ممن أحب، وعلى أن يفتح لهم الباب فيدخلوا على قومه. فقال له المهاجر: اكتب ما شئت واعجل، فكتب أمانه وأمانهم، وفيهم أخوه وبنو عمه وأهلوهم، ونسي نفسه، عجل ودهش ثم جاء بالكتاب فختمه، ورجع فسرب الذين في الكتاب. وقال الأجلح والمجالد: لما لم يبق إلا أن يكتب نفسه وثب عليه جحدم بشفرة، وقال: نفسك أو تكتبني! فكتبه وترك نفسه. قال أبو إسحاق: فلما فتح الباب اقتحمه المسلمون فلم يدعوا فيه مقاتلا إلا قتلوه، ضربوا أعناقهم صبرا، وأحصي ألف امرأة ممن في النجير والخندق، ووضع على السبي والفيء الأحراس، وشاركهم كثير. وقال كثير بْن الصلت: لما فتح الباب وفُرغ ممن في النجير، وأحصي ما أفاء اللَّه عليهم، دعا الأشعث بأولئك النفر، ودعا بكتابه فعرضهم، فأجاز من في الكتاب، فإذا الأشعث ليس فيه، فقال المهاجر: الحمد لله الذي أخطاك نوءك يا أشعث، يا عدو اللَّه! قد كنت أشتهي أن يخزيك اللَّه. فشده وثاقا، وهم بقتله، فقال له عكرمة: أخره، وأبلغه أبا بكر، فهو أعلم بالحكم في هذا وإنه كان رجلا نسي اسمه أن يكتبه، وهو ولي المخاطبة أفذاك يبطل ذاك! فقال المهاجر: إن أمره لبين، ولكني أتبع المشورة وأوثرها وأخره وبعث به إلى أبي بكر مع السبي، فكان معهم يلعنه المسلمون ويلعنه سبايا قومه، وسماه نساء قومه عُرْف النار- كلام يمان يسمون به الغادر- وقد كان المغيرة تحير ليله للذي أراد اللَّه، فجاء والقوم في دمائهم والسبي على ظهر، وسارت السبايا والأسرى، فقدم القوم على أبي بكر رحمه اللَّه بالفتح والسبايا والأسرى فدعا بالاشعث، فقال:

استزلك بنو وليعه، ولم تكن لتستزل لهم- ولا يرونك لذلك أهلا- وهلكوا وأهلكوك! أما تخشى ان تكون دعوه رسول الله ص قد وصل إليك منها طرف! ما تراني صانعا بك؟ قال: إني لا علم لي برأيك، وأنت أعلم برأيك، قال: فإني أرى قتلك قال: فإني أنا الذي راوضت القوم في عشرة، فما يحل دمي، قال: أفوضوا إليك؟ قال: نعم، قال: ثم أتيتهم بما فوضوا إليك فختموه لك؟ قال: نعم، قال: فإنما وجب الصلح بعد ختم الصحيفة على من في الصحيفة، وإنما كنت قبل ذلك مراوضا فلما خشي أن يقع به قال: أو تحتسب في خيرا فتطلق إساري وتقيلني عثرتي، وتقبل إسلامي، وتفعل بي مثل ما فعلته بأمثالي وترد علي زوجتي- وقد كان خطب أم فروة بنت أبي قحافة مقدمه على رسول الله ص، فزوجه وأخرها إلى أن يقدم الثانية، فمات رسول الله ص، وفعل الأشعث ما فعل، فخشي ألا ترد عليه- تجدني خير أهل بلادي لدين اللَّه! فتجافى له عن دمه، وقبل منه، ورد عليه أهله، وقال: انطلق فليبلغني عنك خير، وخلى عن القوم فذهبوا، وقسم أبو بكر في الناس الخمس، واقتسم الجيش الأربعة الأخماس. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا ابْنُ حُمَيْدٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بَكْرٍ، أَنَّ الأَشْعَثَ لَمَّا قُدِمَ بِهِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: مَاذَا تَرَانِي أَصْنَعُ بِكَ، فَإِنَّكَ قَدْ فَعَلْتَ مَا عَلِمْتَ! قَالَ: تَمُنَّ على فتفكتنى مِنَ الْحَدِيدِ وَتُزَوِّجْنِي أُخْتَكَ، فَإِنِّي قَدْ رَاجَعْتُ وَأَسْلَمْتُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ فَعَلْتُ فَزَوَّجَهُ أُمَّ فَرْوَةَ ابْنَةَ أَبِي قُحَافَةَ، فَكَانَ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى فَتَحَ الْعِرَاقِ. رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ سَيْفٍ فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَالَ: انه

لَيَقْبُحُ بِالْعَرَبِ أَنْ يَمْلِكَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ، وَفَتَحَ الأَعَاجِمَ. وَاسْتَشَارَ فِي فِدَاءِ سَبَايَا الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالإِسْلامِ إِلا امْرَأَةً وُلِدَتْ لِسَيِّدِهَا، وَجَعَلَ فِدَاءَ كُلِّ إِنْسَانٍ سَبْعَةَ أبعرة وسته أبعرة الا حنيفه وكنده، فَإِنَّهُ خَفَّفَ عَنْهُمْ لِقَتْلِ رِجَالِهِمْ، وَمَنْ لا يَقْدِرُ عَلَى فِدَاء لقيامهم وأهل دبا، فَتَتَبَّعَتْ رِجَالُهُمْ نِسَاءَهُمْ بِكُلِّ مَكَانٍ فَوَجَدَ الأَشْعَثُ فِي بَنِي نَهْدٍ وَبَنِي غُطَيْفٍ امْرَأَتَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَقَفَ فِيهَا يَسْأَلُ عَنْ غُرَابٍ وَعُقَابٍ، فَقِيلَ: مَا تُرِيدُ إِلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: إِنَّ نِسَاءَنَا يَوْمَ النُّجَيْرِ خَطَفَهُنَّ الْعُقْبَانُ وَالْغِرْبَانُ وَالذِّئَابُ وَالْكِلابُ فَقَالَ بَنُو غُطَيْفٍ: هَذَا غُرَابٌ، قَالَ: فَمَا مَوْضِعُهُ فِيكُمْ؟ قَالُوا: فِي الصِّيَانَةِ، قَالَ: فَنَعَمْ، وَانْصَرَفَ وَقَالَ عُمَرُ: لا مُلْكَ عَلَى عَرَبِيٍّ، لِلَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُ. قَالُوا: وَنَظَرَ الْمُهَاجِرُ فِي أَمْرِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَ أَبُوهَا النعمان بن الجون أهداها لرسول الله ص، فَوَصَفَهَا أَنَّهَا لَمْ تَشْتَكِ قَطُّ، فَرَدَّهَا، [وَقَالَ: لا حَاجَةَ لَنَا بِهَا، بَعْدَ أَنْ أَجْلَسَهَا بين يديه وقال له: لَوْ كَانَ لَهَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لاشْتَكَتْ] فَقَالَ الْمُهَاجِرُ لِعِكْرِمَةَ: مَتَى تَزَوَّجْتَهَا؟ قَالَ: وَأَنَا بِعَدْنٍ، فَأُهْدِيَتْ إِلَيَّ بِالْجُنْدِ، فَسَافَرْتُ بِهَا إِلَى مَأْرِبٍ، ثُمَّ أَوْرَدْتُهَا الْعَسْكَرَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: دَعْهَا فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِأَهْلٍ أَنْ يُرْغَبَ فِيهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تَدَعْهَا فَكَتَبَ الْمُهَاجِرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ أَبَاهَا النُّعْمَانَ بْنَ الجون اتى رسول الله ص، فَزَيَّنَهَا لَهُ حَتَّى أَمَرَهُ أَنْ يَجِيئَهُ بِهَا، فَلَمَّا جَاءَهُ بِهَا قَالَ: أُزِيدُكَ أَنَّهَا لَمْ تيجع شَيْئًا قَطُّ، [فَقَالَ: لَوْ كَانَ لَهَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لاشْتَكَتْ،] وَرَغِبَ عَنْهَا، فَارْغَبُوا عَنْهَا فأرسلها وبقي في قريش بعد ما أَمَرَ عُمَرُ فِي السَّبْيِ بِالْفِدَاءِ عِدَّةً، مِنْهُمْ بُشْرَى بِنْتُ قَيْسِ بْنِ أَبِي الْكَيْسَمِ،

عِنْدَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ عُمَرَ، وَزُرْعَةُ بِنْتُ مِشْرَحٍ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ وَلَدَتْ لَهُ عَلِيًّا. وَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى الْمُهَاجِرِ يُخَيِّرُهُ الْيَمَنَ أَوْ حَضْرَمَوْتَ، فَاخْتَارَ الْيَمَنَ، فَكَانَتِ الْيَمَنُ عَلَى أَمِيرَيْنِ: فَيْرُوزَ وَالْمُهَاجِرِ، وَكَانَتْ حَضْرَمَوْتَ عَلَى أَمِيرَيْنِ: عُبَيْدَةَ بْنِ سَعْدٍ عَلَى كِنْدَةَ وَالسَّكَاسِكَ، وَزِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ عَلَى حَضْرَمَوْتَ. وَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عُمَّالِ الرِّدَّةِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنْ أَحَبَّ مَنْ أَدْخَلْتُمْ فِي أُمُورِكُمْ إِلَيَّ مَنْ لَمْ يَرْتَدَّ وَمَنْ كَانَ مِمَّنْ لَمْ يَرْتَدَّ، فَأَجْمِعُوا عَلَى ذَلِكَ، فَاتَّخِذُوا مِنْهَا صَنَائِعَ، وَائْذَنُوا لِمَنْ شَاءَ فِي الانْصِرَافِ، وَلا تَسْتَعِينُوا بِمُرْتَدٍّ فِي جِهَادِ عَدُوٍّ. وَقَالَ الأَشْعَثُ بْنُ مئناس السَّكُونِيُّ يَبْكِي أَهْلَ النُّجَيْرِ: لَعَمْرِي وَمَا عَمْرِي عَلَيَّ بِهَيِّنٍ ... لَقَدْ كُنْتُ بِالْقَتْلَى لَحَقَّ ضَنِينِ فَلا غَرْوَ إِلا يَوْمَ اقرع بَيْنَهُمْ ... وَمَا الدَّهْرُ عِنْدِي بَعْدَهُمْ بِأَمِينِ فَلَيْتَ جُنُوبُ النَّاسِ تَحْتَ جُنُوبِهِمْ ... وَلَمْ تَمْشِ أُنْثَى بَعْدَهُمْ لِجَنِينِ وَكُنْتُ كَذَاتِ الْبَوِّ رِيَعَتْ فَأَقْبَلَتْ ... عَلَى بَوِّهَا إِذْ طَرَّبَتْ بِحَنِينِ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ خَلِيفَةَ، قَالَ: وَقَعَ إِلَى الْمُهَاجِرِ امْرَأَتَانِ مُغَنِّيَتَانِ، غَنَّتْ إِحْدَاهُمَا بشتم رسول الله ص، فَقَطَعَ يَدَهَا، وَنَزَعَ ثنيتَهَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: بَلَغَنِي الَّذِي سِرْتَ بِهِ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي تَغَنَّتْ وَزَمَرَتْ بِشَتِيمَةِ رَسُولِ الله ص، فَلَوْلا مَا قَدْ سَبَقْتَنِي فِيهَا لأَمَرْتُكَ بِقَتْلِهَا، لأَنَّ حَدَّ الأَنْبِيَاءِ لَيْسَ يُشْبِهُ الْحُدُودَ، فَمَنْ تَعَاطَى ذَلِكَ مِنْ مُسْلِمٍ فَهُوَ مُرْتَدٌّ، أَوْ مُعَاهِدٍ فَهُوَ مُحَارِبٌ غَادِرٌ. وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ فِي الَّتِي تَغَنَّتْ بِهِجَاءِ الْمُسْلِمِينَ: أَمَّا بعد، فانه

حوادث متفرقة

بلغنى انك قطعت يدا امْرَأَةٍ فِي أَنْ تَغَنَّتْ بِهِجَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَنَزَعْتَ ثنيتَهَا، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَدَّعِي الإِسْلامَ فَأَدَبٌ وَتَقْدِمَةٌ دُونَ الْمُثْلَةِ، وَإِنْ كَانَتْ ذِمِّيَّةً فَلَعَمْرِي لَمَا صَفَحْتَ عَنْهُ مِنَ الشِّرْكِ أَعْظَمُ، وَلَوْ كنت تَقَدَّمَتْ إِلَيْكَ فِي مِثْلِ هَذَا لَبَلَغَتْ مَكْرُوهًا، فَاقْبَلِ الدِّعَةَ وَإِيَّاكَ وَالْمُثْلَةَ فِي النَّاسِ، فَإِنَّهَا مأثم ومنفره الا في قصاص . [حوادث متفرقة] وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ إِحْدَى عَشَرَةَ- انصرف معاذ بن جبل من اليمن. وستقضى أَبُو بَكْرٍ فِيهَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَكَانَ عَلَى الْقَضَاءِ أَيَّامَ خِلافَتِهِ كُلِّهَا. وَفِيهَا أَمَّرَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى الْمَوْسِمِ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ- فِيمَا ذَكَرَهُ الَّذِينَ أَسْنَدَ إِلَيْهِمْ خَبَرَهُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الَّذِينَ ذَكَرْتُ قَبْلُ فِي كِتَابِي هَذَا أَسْمَاءَهُمْ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ: وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي سَنَةِ إِحْدَى عَشَرَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَنْ تَأْمِيرِ أَبِي بَكْرٍ إِيَّاهُ بِذَلِكَ

سنه اثنتى عشره من الهجره

ثم كانت سنة اثنتي عشرة من الهجرة مسير خالد الى العراق وصلح الحيرة قال أبو جعفر، ولما فرغ خالد من أمر اليمامة، كتب إليه أبو بكر الصديق رحمه اللَّه، وخالد مقيم باليمامة- فيما حَدَّثَنَا عبيد الله بن سعد الزهري، قال: أخبرنا عمي، قال: أخبرنا سيف بن عمر، عن عمرو بْن مُحَمَّد، عن الشعبي: أن سر إلى العراق حتى تدخلها، وابدأ بفرج الهند، وهي الأبلة، وتألف أهل فارس، ومن كان في ملكهم من الأمم. حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ بِالإِسْنَادِ الَّذِي قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، عَنِ الْقَوْمِ الَّذِينَ ذَكَرْتُهُمْ فِيهِ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَّهَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى أَرْضِ الْكُوفَةِ، وَفِيهَا الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِيُّ، فَسَارَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ، فَجَعَلَ طَرِيقَهَ الْبَصْرَةَ، وَفِيهَا قُطْبَةُ بْنُ قَتَادَةَ السَّدُوسِيُّ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ، فَإِنَّهُ قَالَ: اخْتُلِفَ فِي أَمْرِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَقَائِلٌ يَقُولُ: مَضَى مِنْ وَجْهِهِ ذَلِكَ مِنَ الْيَمَامَةِ إِلَى الْعِرَاقِ وَقَائِلٌ يَقُولُ: رَجَعَ مِنَ الْيَمَامَةِ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى الْعِرَاقِ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى طَرِيقِ الْكُوفَةِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْحِيرَةِ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إِسْحَاقَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كَتَبَ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ يَأْمُرُهُ أَنْ يَسِيرَ إِلَى الْعِرَاقِ، فَمَضَى خَالِدٌ يُرِيدُ الْعِرَاقَ، حَتَّى نَزَلَ بِقَرْيَاتٍ مِنَ السَّوَادِ، يُقَالُ لَهَا: بَانِقْيَا وَبَارُوسْمَا وأُلَيْسَ، فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا، وَكَانَ الَّذِي صَالَحَهُ عَلَيْهَا ابْنُ صَلُوبَا، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ، فَقَبِلَ مِنْهُمْ خالد الجزية

وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ لابْنِ صَلُوبَا السَّوَادِيِّ- وَمَنْزِلُهُ بِشَاطِئِ الْفُرَاتِ- إِنَّكَ آمِنٌ بِأَمَانِ اللَّهِ- إِذْ حَقَنَ دَمَهُ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ- وَقَدْ أَعْطَيْتَ عَنْ نَفْسِكَ وَعَنْ أَهْلِ خَرْجِكَ وَجَزِيرَتِكَ وَمَنْ كَانَ فِي قَرْيَتَيْكَ- بَانِقْيَا وَبَارُوسْمَا- أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَقَبِلْتُهَا مِنْكَ، وَرَضِيَ مَنْ مَعِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِهَا مِنْكَ، وَلَكَ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ وَشَهِدَ هِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ. ثُمَّ أَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِمَنْ مَعَهُ حَتَّى نَزَلَ الْحِيرَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَشْرَافُهُمْ مَعَ قَبِيصَةَ بْنِ إِيَاسِ بْنِ حَيَّةَ الطَّائِيِّ- وَكَانَ أَمَّرَهُ عليها كسرى بعد النعمان ابن الْمُنْذِرِ- فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ وَلأَصْحَابِهِ: أَدْعُوكُمْ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الإِسْلامِ فَإِنْ أَجَبْتُمْ إِلَيْهِ فَأَنْتُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لَكُمْ مَا لَهُمْ وَعَلَيْكُمْ مَا عليهم، فان ابيتم فالجزية، فَإِنْ أَبَيْتُمُ الْجِزْيَةَ فَقَدْ أَتَيْتُكُمْ بِأَقْوَامٍ هُمْ أَحْرَصُ عَلَى الْمَوْتِ مِنْكُمْ عَلَى الْحَيَاةِ، جَاهَدْنَاكُمْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ. فَقَالَ لَهُ قَبِيصَةُ بْنُ إِيَاسٍ: مَا لَنَا بِحَرْبِكَ مِنْ حَاجَةٍ، بَلْ نُقِيمُ عَلَى دِينِنَا، وَنُعْطِيكَ الْجِزْيَةَ فَصَالَحَهُمْ عَلَى تِسْعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَكَانَتْ أَوَّلُ جزية وقعت بالعراق، هي القريات الَّتِي صَالَحَ عَلَيْهَا ابْنَ صَلُوبَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَمَّا كَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَهُوَ بِالْيَمَامَةِ أَنْ يَسِيرَ إِلَى الشَّامِ، أَمَرَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِالْعِرَاقِ فَيَمُرَّ بِهَا، فَأَقْبَلَ خَالِدٌ مِنْهَا يَسِيرُ حَتَّى نَزَلَ النِّبَاجَ. قَالَ هِشَامٌ: قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي أَبُو الْخَطَّابِ حَمْزَةُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، أَنَّ الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِيَّ، سَارَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: أَمِّرْنِي عَلَى مَنْ قَبْلِي مِنْ قَوْمِي، أُقَاتِلُ مَنْ يَلِينِي مِنْ أَهْلِ فَارِسٍ، وَأَكْفِيكَ نَاحِيَتِي، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَأَقْبَلَ فَجَمَعَ قَوْمَهُ وَأَخَذَ يُغِيرُ بِنَاحِيَةِ كَسْكَرٍ مَرَّةً، وَفِي أَسْفَلِ الْفُرَاتِ مَرَّةً، وَنَزَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ النِّبَاجَ والمثنى بن حارثة بخفان معسكر، فَكَتَبَ إِلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ

لِيَأْتِيَهُ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِكِتَابٍ مِنْ أَبِي بَكْرٍ يَأْمُرُهُ فِيهِ بِطَاعَتِهِ، فَانْقَضَّ إِلَيْهِ جَوَادًا حَتَّى لَحِقَ بِهِ، وَقَدْ زَعَمَتْ بَنُو عِجْلٍ أَنَّهُ كَانَ خَرَجَ مَعَ الْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ رَجُلٌ منهم يقال له مذعور بن عدى، نازع الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ، فَتَكَاتَبَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى الْعِجْلِيِّ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ مَعَ خَالِدٍ إِلَى الشَّامِ، وَأَقَرَّ الْمُثَنَّى عَلَى حَالِهِ، فَبَلَغَ الْعِجْلِيُّ مِصْرَ، فَشَرُفَ بِهَا وَعَظُمَ شَأْنُهُ، فَدَارُهُ الْيَوْمَ بِهَا مَعْرُوفَةٌ، وَأَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَسِيرُ، فَعَرَضَ لَهُ جَابَانُ صَاحِبُ أُلَيْسَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ، فَقَاتَلَهُ فَهَزَمَهُ، وَقَتَلَ جُلَّ أَصْحَابِهِ، إِلَى جَانِبِ نَهْرٍ ثَمَّ يُدْعَى نَهْرَ دَمٍ لِتِلْكَ الْوَقْعَةِ، وَصَالَحَ أَهْلَ أُلَيْسَ، وَأَقْبَلَ حَتَّى دَنَا مِنَ الْحِيرَةِ، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ خُيُولُ آزَاذْبَهْ صَاحِبِ خَيْلِ كِسْرَى الَّتِي كَانَتْ فِي مَسَالِحِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَرَبِ، فَلَقُوهُمْ بِمُجْتَمَعِ الأَنْهَارِ، فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِمُ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ وَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَهْلُ الْحِيرَةِ خَرَجُوا يَسْتَقْبِلُونَهُ، فِيهِمْ عَبْدُ الْمَسِيحِ بْنُ عَمْرِو بْنِ بُقَيْلَةَ وَهَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ، فَقَالَ خَالِدٌ لِعَبْدِ الْمَسِيحِ: مِنْ أَيْنَ أَثَرُكَ؟ قَالَ: مِنْ ظَهْرِ أَبِي، قَالَ: مِنْ أَيْنَ خَرَجْتَ؟ قَالَ: مِنْ بَطْنِ أُمِّي، قَالَ: وَيْحَكَ! عَلَى أَيِّ شَيْءٍ أَنْتَ؟ قَالَ: عَلَى الأَرْضِ، قَالَ: وَيْلَكَ! فِي أَيِّ شَيْءٍ أَنْتَ؟ قَالَ: فِي ثِيَابِي، قَالَ: وَيْحَكَ! تَعَقِلُ؟ قَالَ: نَعَمْ وأقيد، قَالَ: إِنَّمَا أَسْأَلُكَ، قَالَ: وَأَنَا أُجِيبُكَ، قَالَ: أَسِلْمٌ أَنْتَ أَمْ حَرْبٌ؟ قَالَ: بَلْ سِلْمٌ، قَالَ: فَمَا هَذِهِ الْحُصُونُ الَّتِي أَرَى؟ قَالَ: بَنَيْنَاهَا لِلسَّفِيهِ نَحْبِسُهُ حَتَّى يَجِيءَ الْحَلِيمُ فَيَنْهَاهُ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ خَالِدٌ: إِنِّي أَدْعُوكُمْ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى عِبَادَتِهِ وَإِلَى الإِسْلامِ، فَإِنْ قَبِلْتُمْ فَلَكُمْ مَا لَنَا وَعَلَيْكُمْ مَا عَلَيْنَا، وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَالْجِزْيَةِ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِقَوْمٍ يُحِبُّونَ الْمَوْتَ كَمَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ شُرْبَ الْخَمْرِ فَقَالُوا: لا حَاجَةَ لَنَا فِي حَرْبِكَ، فَصَالَحَهُمْ عَلَى تِسْعِينَ وَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَكَانَتْ أَوَّلُ جِزْيَةٍ حُمِلَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنَ الْعِرَاقِ ثم نزل

عَلَى بَانِقْيَا، فَصَالَحَهُ بصُبْهُرَى بْنُ صلُوبَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَطَيْلَسَانٍ، وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا، وَكَانَ صَالَحَ خَالِدٌ أَهْلَ الْحِيرَةِ عَلَى أَنْ يَكُونُوا لَهُ عُيُونًا، فَفَعَلُوا. قَالَ هِشَامٌ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْمُجَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: أَقْرَأَنِي بَنُو بُقَيْلَةَ كِتَابَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى أَهْلِ الْمَدَائِنِ: مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى مَرَازِبَةِ أَهْلِ فَارِسٍ، سَلامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى أَمَّا بَعْدُ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّ خِدْمَتَكُمْ، وَسَلَبَ مُلْكَكُمْ، وَوَهَّنَ كَيْدَكُمْ وَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ مَا لنَا، وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا أَمَّا بَعْدُ، فَإِذَا جَاءَكُمْ كِتَابِي فَابْعَثُوا إِلَيَّ بِالرُّهُنِ، وَاعْتَقِدُوا مِنِّي الذمة، والا فو الذى لا إِلَهَ غَيْرُهُ لأَبْعَثَنَّ إِلَيْكُمْ قَوْمًا يُحِبُّونَ الْمَوْتَ كَمَا تُحِبُّونَ الْحَيَاةَ فَلَمَّا قَرَءُوا الْكِتَابَ، أَخَذُوا يَتَعَجَّبُونَ، وَذَلِكَ سَنَةُ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ. قال أبو جعفر: وأما غير ابن إسحاق وغير هشام ومن ذكرت قوله من قبل، فإنه قال في أمر خالد ومسيره إلى العراق ما حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ الزُّهْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، عَنْ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، قال: لَمَّا فَرَغَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنَ الْيَمَامَةِ، كَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: إن اللَّه فَتَحَ عَلَيْكَ فعارق حَتَّى تَلْقَى عِيَاضًا وَكَتَبَ إِلَى عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ وَهُوَ بَيْنَ النِّبَاجِ وَالْحِجَازِ: أَنْ سِرْ حَتَّى تَأْتِيَ المُصَيَّخَ فَابْدَأْ بِهَا، ثُمَّ ادْخُلِ الْعِرَاقَ مِنْ أَعْلاهَا، وَعَارق حَتَّى تَلْقَى خَالِدًا وَأْذَنَا لِمَنْ شَاءَ بِالرُّجُوعِ، وَلا تَسْتَفْتِحَا بِمُتَكَارِهٍ. وَلَمَّا قَدِمَ الْكِتَابُ عَلَى خَالِدٍ وَعِيَاضٍ، وَأَذِنَا فِي الْقَفْلِ عَنْ أَمْرِ أَبِي بَكْرٍ قَفَلَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا وَأَعْرَوْهُمَا، فَاسْتَمَدَّا أَبَا بَكْرٍ، فَأَمَدَّ أَبُو بَكْرٍ خَالِدًا بِالْقَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو التَّمِيمِيِّ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَمُدُّ رَجُلا قَدِ ارْفَضَّ عَنْهُ

جُنُودُهُ بِرَجُلٍ! فَقَالَ: لا يُهْزَمُ جَيْشٌ فِيهِمْ مِثْلُ هَذَا وَأَمَدَّ عِيَاضًا بِعَبْدِ بْنِ عَوْفٍ الْحِمْيَرِيِّ، وَكَتَبَ إِلَيْهِمَا أَنِ اسْتَنْفِرَا مَنْ قَاتَلَ أَهْلَ الرِّدَّةِ، وَمَنْ ثَبَتَ عَلَى الإِسْلامِ بَعْدَ رسول الله ص، وَلا يَغْزُوَنَّ مَعَكُمْ أَحَدٌ ارْتَدَّ حَتَّى أَرَى رَأْيِي فَلَمْ يَشْهَدِ الأَيَّامَ مُرْتَدٌّ. فَلَمَّا قَدِمَ الْكِتَابُ عَلَى خَالِدٍ بِتَأْمِيرِ الْعِرَاقِ، كَتَبَ إِلَى حَرْمَلَةَ وَسَلْمَى وَالْمُثَنَّى وَمَذْعُورٍ بِاللِّحَاقِ بِهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُوَاعِدُوا جُنُودَهُمُ الأُبُلَّةَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَمَرَ خَالِدًا فِي كِتَابِهِ: إِذَا دَخَلَ الْعِرَاقَ أَنْ يَبْدَأَ بِفَرْجِ أَهْلِ السِّنْدِ وَالْهِنْدِ- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ الأُبُلَّةُ- لِيَوْمٍ قَدْ سَمَّاهُ، ثُمَّ حَشَرَ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِرَاقِ، فَحَشَرَ ثَمَانِيَةَ آلاف من ربيعه ومضر إِلَى أَلْفَيْنِ كَانَا مَعَهُ، فَقَدِمَ فِي عَشَرَةِ آلافٍ عَلَى ثَمَانِيَةِ آلافٍ مِمَّنْ كَانَ مَعَ الأُمَرَاءِ الأَرْبَعَةِ- يَعْنِي بِالأُمَرَاءِ الأَرْبَعَةِ: الْمُثَنَّى، وَمَذْعُورًا، وَسَلْمَى، وَحَرْمَلَةَ- فَلَقِيَ هُرْمُزَ فِي ثَمَانِيَةَ عَشْرَ أَلْفًا. حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ الأَسَدِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سِيَاهٍ، وَطَلْحَةَ بْنِ الأَعْلَمِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عُتَيْبَةَ، قَالُوا: كَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، إِذْ أَمَّرَهُ عَلَى حَرْبِ الْعِرَاقِ، أَنْ يَدْخُلَهَا مِنْ أَسْفَلِهَا وَإِلَى عِيَاضٍ إِذْ أَمَّرَهُ عَلَى حَرْبِ الْعِرَاقِ، أَنْ يَدْخُلَهَا مِنْ أَعْلاهَا، ثُمَّ يَسْتَبِقَا إِلَى الْحِيرَةِ، فَأَيُّهُمَا سَبَقَ إِلَى الْحِيرَةِ فَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى صَاحِبِهِ، وَقَالَ: إِذَا اجْتَمَعْتُمَا بِالْحِيرَةِ، وَقَدْ فَضَضْتُمَا مَسَالِحَ فَارِسَ وَأَمِنْتُمَا أَنْ يُؤْتَى الْمُسْلِمُونَ مِنْ خَلْفِهِمْ، فَلْيَكُنْ أَحَدُكُمَا رِدْءًا لِلْمُسْلِمِينَ وَلِصَاحِبِهِ بِالْحِيرَةِ، وَلْيَقْتَحِمِ الآخَرُ عَلَى عَدُوِّ اللَّهِ وَعَدُوِّكُمْ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ دَارَهُمْ وَمُسْتَقَرَّ عِزِّهِمُ، الْمَدَائِنَ. حَدَّثَنَا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْمُجَالِدِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: كَتَبَ خَالِدٌ إِلَى هُرْمُزَ قَبْلَ خُرُوجِهِ مَعَ آزَاذْبَهْ- أَبِي الزياذبه الَّذِينَ بِالْيَمَامَةِ وَهُرْمُزُ صَاحِبُ الثَّغْرِ يَوْمَئِذٍ: أَمَّا بَعْدُ، فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ، أَوِ اعْتَقِدْ لِنَفْسِكَ وَقَوْمِكَ

الذِّمَّةَ، وَأَقْرِرْ بِالْجِزْيَةِ، وَإِلا فَلا تَلُومَنَّ إِلا نَفْسَكَ، فَقَدْ جِئْتُكَ بِقَوْمٍ يُحِبُّونَ الْمَوْتَ كَمَا تُحِبُّونَ الْحَيَاةَ. قَالَ سَيْفٌ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ الأَعْلَمِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عُتَيْبَةَ- وَكَانَ قَاضِي أَهْلِ الْكُوفَةِ- قَالَ: فَرَّقَ خَالِدٌ مَخْرَجَهُ مِنَ الْيَمَامَةِ إِلَى الْعِرَاقِ جُنْدَهُ ثَلاثَ فِرَقٍ، وَلَمْ يَحْمِلْهُمْ عَلَى طَرِيقٍ وَاحِدَةٍ فَسَرَّحَ الْمُثَنَّى قَبْلَهُ بِيَوْمَيْنِ وَدَلِيلُهُ ظفرُ، وَسَرَّحَ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ وَعَاصِمَ بْنَ عَمْرٍو وَدَلِيلاهُمَا مَالِكُ بْنُ عَبَّادٍ وَسَالمُ بْنُ نَصْرٍ، أَحَدُهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ بِيَوْمٍ، وَخَرَجَ خَالِدٌ وَدَلِيلُهُ رَافِعٌ، فَوَاعَدَهُمْ جَمِيعًا الْحَفِيرَ لِيَجْتَمِعُوا بِهِ وَلِيُصَادِمُوا بِهِ عَدُوَّهُمْ، وَكَانَ فَرْجُ الْهِنْدِ أَعْظَمَ فُرُوجِ فَارِسَ شَأْنًا، وَأَشَدَّهَا شَوْكَةً، وَكَانَ صَاحِبُهُ يُحَارِبُ الْعَرَبَ فِي الْبَرِّ وَالْهِنْد فِي الْبَحْرِ. قَالَ- وَشَارَكَهُ الْمُهَلَّبُ بْنُ عُقْبَةَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سِيَاهٍ الأَحْمَرِيُّ، الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ الْحَمْرَاءُ، فَيُقَالُ: حَمْرَاءُ سِيَاهٍ- قَالَ: لَمَّا قَدِمَ كِتَابُ خَالِدٍ عَلَى هُرْمُزَ كَتَبَ بِالْخَبَرِ إِلَى شِيرَى بْنِ كِسْرَى وَإِلَى أَرْدَشِيرَ بْنِ شِيرَى وَجَمَعَ جُمُوعَهُ، ثُمَّ تَعَجَّلَ إِلَى الْكَوَاظِمِ فِي سَرَعَانِ أَصْحَابِهِ لِيَتَلَقَّى خَالِدًا، وَسَبَقَ حَلَبَتَهُ فَلَمْ يَجِدْهَا طَرِيقَ خَالِدٍ، وَبَلَغَهُ أَنَّهُمْ تَوَاعَدُوا الْحَفِيرَ، فَعَاجَ يُبَادِرُهُ إِلَى الْحَفِيرِ فَنَزَلَهُ، فَتَعَبَّى بِهِ، وَجَعَلَ عَلَى مُجَنِّبَتِهِ أَخَوَيْنِ يُلاقِيَانِ أَرْدَشِيرَ وَشِيرَى إِلَى أَرْدَشِيرَ الأَكْبَرِ، يُقَالُ لَهُمَا: قُبَاذُ وانو شجان، وَاقْتَرَنُوا فِي السَّلاسِلِ، فَقَالَ مَنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ لِمَنْ رَآهُ: قَيَّدْتُمْ أَنْفُسَكُمْ لِعَدُوِّكُمْ، فَلا تَفْعَلُوا، فَإِنَّ هَذَا طَائِرُ سُوءٍ، فَأَجَابُوهُمْ وَقَالُوا: اما أنتم فحدثوننا أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ الْهَرَبَ فَلَمَّا أَتَى الْخَبَرُ خَالِدًا بِأَنَّ هُرْمُزَ فِي الْحَفِيرِ أَمَالَ النَّاسَ إِلَى كَاظِمَةَ، وَبَلَغَ هُرْمُزَ ذَلِكَ فَبَادَرَهُ إِلَى كَاظِمَةَ فَنَزَلَهَا وَهُوَ حَسِيرٌ، وَكَانَ مِنْ أَسْوَإِ أُمَرَاءِ ذَلِكَ الْفَرْجِ جِوَارًا لِلْعَرَبِ، فَكُلُّ الْعَرَبِ عَلَيْهِ مُغَيَّظٌ، وَقَدْ كَانُوا ضَرَبُوهُ مَثَلا فِي الْخُبْثِ حَتَّى قَالُوا: أَخْبَثُ مِنْ هُرْمُزَ، وَأَكْفَرُ مِنْ هرمز وتعبى هُرْمُزُ وَأَصْحَابُهُ وَاقْتَرَنُوا فِي السَّلاسِلِ، وَالْمَاءِ فِي أَيْدِيهِمْ وَقَدِمَ خَالِدٌ عَلَيْهِمْ فَنَزَلَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَقَالُوا لَهُ فِي ذَلِكَ،

فَأَمَرَ مُنَادِيهِ، فَنَادَى: أَلا انْزِلُوا وَحُطُّوا أَثْقَالَكُمْ، ثُمَّ جَالَدُوهُمْ عَلَى الْمَاءِ، فَلَعَمْرِي لَيَصِيرَنَّ الْمَاءُ لأَصْبَرِ الْفَرِيقَيْنِ، وَأَكْرَمِ الْجُنْدَيْنِ، فَحُطَّتِ الأَثْقَالُ وَالْخَيْلُ وُقُوفٌ، وَتَقَدَّمَ الرَّجُلُ، ثُمَّ زَحَفَ إِلَيْهِمْ حَتَّى لاقاهم، فاقتتلوا، وارسل الله سحابه فاغزرت مَا وَرَاءِ صَفِّ الْمُسْلِمِينَ، فَقَوَّاهُمْ بِهَا، وَمَا ارْتَفَعَ النَّهَارُ وَفِي الْغَائِطِ مُقْتَرِنٌ. حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَطَاءٍ الْبَكَّائِيِّ، عَنِ الْمُقَطِّعِ بْنِ الْهَيْثَمِ الْبَكَّائِيِّ بِمِثْلِهِ، وَقَالُوا: وَأَرْسَلَ هُرْمُزُ أَصْحَابَهُ بِالْغَدِ لِيَغْدُرُوا بِخَالِدٍ، فَوَاطَئُوهُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجَ هُرْمُزَ، فَنَادَى رَجُلٌ وَرَجُلٌ: أَيْنَ خَالِدٌ؟ وَقَدْ عَهِدَ إِلَى فِرَسَانِهِ عَهْدَهُ، فَلَمَّا نَزَلَ خَالِدٌ نَزَلَ هُرْمُزُ، وَدَعَاهُ إِلَى النِّزَالِ فَنَزَلَ خَالِدٌ فَمَشِيَ إِلَيْهِ، فَالْتَقَيَا فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ، واحتضنه خالد، وَحَمَلَتْ حَامِيَةُ هُرْمُزَ وَغَدَرَتْ، فَاسْتَلْحَمُوا خَالِدًا، فَمَا شَغَلَهُ ذَلِكَ عَنْ قَتْلِهِ وَحَمَلَ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو وَاسْتَلْحَمَ حُمَاةُ هُرْمُزَ فَأَنَامُوهُمْ، وَإِذَا خَالِدٌ يُمَاصِعُهُمْ، وَانْهَزَمَ أَهْلُ فَارِسَ، وَرَكِبَ الْمُسْلِمُونَ أَكْتَافَهُمْ إِلَى اللَّيْلِ، وَجَمَعَ خَالِدٌ الرِّثَاثَ وَفِيهَا السَّلاسِلُ، فكانت وقر بعير، الف رطل، فسميت ذات السلاسل، وافلت قباذ وانو شجان. حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، قَالَ: كَانَ أَهْلُ فَارِسَ يَجْعَلُونَ قَلانِسَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَحْسَابِهِمْ فِي عَشَائِرِهِمْ، فَمَنْ تَمَّ شَرَفُهُ فَقِيمَةُ قَلَنْسُوَتِهِ مِائَةُ أَلْفٍ فَكَانَ هُرْمُزُ مِمَّنْ تَمَّ شَرَفُهُ، فَكَانَتْ قِيمَتُهَا مِائَةَ أَلْفٍ، فَنَفَّلَهَا أَبُو بَكْرٍ خَالِدًا، وَكَانَتْ مُفَصَّصَةً بِالْجَوْهَرِ، وَتَمَامُ شرف احدهم ان يكون من بيوتات

حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ نُوَيْرَةَ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ زِيَادِ بْنِ حَنْظَلَةَ، قَالَ: لَمَّا تَرَاجَعَ الطَّلَبُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، نَادَى مُنَادِي خَالِدٍ بِالرَّحِيلِ، وَسَارَ بِالنَّاسِ، وَاتَّبَعَتْهُ الأَثْقَالُ، حَتَّى يَنْزِلَ بِمَوْضِعِ الْجِسْرِ الأَعْظَمِ مِنَ الْبَصْرَةِ الْيَوْمَ، وَقَدْ أَفْلَتَ قُبَاذُ وَأَنُوشَجَانُ، وَبَعَثَ خَالِدٌ بِالْفَتْحِ وَمَا بَقِيَ مِنَ الأَخْمَاسِ وَبِالْفِيلِ، وَقَرَأَ الْفَتْحَ عَلَى النَّاسِ وَلَمَّا قَدِمَ زِرُّ بْنُ كُلَيْبٍ بِالْفِيلِ مَعَ الأَخْمَاسِ، فَطِيفَ بِهِ فِي الْمَدِينَةِ لِيَرَاهُ النَّاسُ، جَعَلَ ضَعِيفَاتُ النِّسَاءِ يَقُلْنَ: أَمِنْ خَلْقِ اللَّهِ مَا نَرَى! وَرَأَيْنَهُ مَصْنُوعًا، فَرَدَّهُ أَبُو بَكْرٍ مَعَ زِرٍّ قَالَ: وَلَمَّا نَزَلَ خَالِدٌ مَوْضِعَ الْجِسْرِ الأَعْظَمِ الْيَوْمَ بِالْبَصْرَةِ، بَعَثَ الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ فِي آثَارِ الْقَوْمِ، وَأَرْسَلَ مَعْقِلَ بْنَ مُقَرِّنٍ الْمُزَنِيَّ إِلَى الأُبُلَّةِ لِيَجْمَعَ لَهُ مَالَهَا وَالسَّبْيَ، فَخَرَجَ مَعْقِلُ حَتَّى نَزَلَ الأُبُلَّةَ فَجَمَعَ الأَمْوَالَ وَالسَّبَايَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ الْقِصَّةُ فِي أَمْرِ الأُبُلَّةِ وَفَتْحِهَا خِلافُ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ السِّيَرِ، وَخِلافُ مَا جَاءَتْ بِهِ الآثَارُ الصِّحَاحُ، وَإِنَّمَا كَانَ فَتْحُ الأُبُلَّةِ أَيَّامَ عُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعَلَى يَدِ عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشَرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَسَنَذْكُرُ أَمْرَهَا وَقِصَّةَ فَتْحِهَا إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَى ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ نُوَيْرَةَ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: وَخَرَجَ الْمُثَنَّى حَتَّى انْتَهَى إِلَى نَهْرِ الْمَرْأَةِ، فَانْتَهَى إِلَى الْحِصْنِ الَّذِي فِيهِ الْمَرْأَةُ، فَخَلَّفَ الْمُعَنَّى بْنُ حَارِثَةَ عَلَيْهِ، فَحَاصَرَهَا فِي قَصْرِهَا، وَمَضَى الْمُثَنَّى إِلَى الرَّجُلِ فَحَاصَرَهُ ثُمَّ اسْتَنْزَلَهُمْ عَنْوَةً، فَقَتَلَهُمْ وَاسْتَفَاءَ أَمْوَالَهُمْ، وَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمَرْأَةَ صَالَحَتِ الْمُثَنَّى وَأَسْلَمَتْ، فَتَزَوَّجَهَا الْمُعَنَّى، وَلَمْ يُحَرِّكْ خَالِدٌ وَأُمَرَاؤُهُ الفلاحين في شيء من فتوحهم لِتَقَدُّمِ أَبِي بَكْرٍ إِلَيْهِ فِيهِمْ، وَسَبَى أَوْلادَ الْمُقَاتِلَةِ الَّذِينَ كَانُوا يَقُومُونَ بِأُمُورِ الأَعَاجِمِ، وَأَقَرَّ مَنْ لَمْ يَنْهَضْ مِنَ الْفَلاحِينَ، وَجَعَلَ لَهُمُ الذِّمَّةَ، وَبَلَغَ سَهْمُ الْفَارِسِ فِي يَوْمِ ذَاتِ السَّلاسِلِ وَالثَّني أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَالرَّاجِلِ عَلَى الثُّلُثِ من ذلك

ذكر وقعه المذار

8 ذكر وقعه المذار 8 قَالَ: وَكَانَتْ وَقْعَةُ الْمذَارِ فِي صَفَرٍ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ، وَيَوْمَئِذٍ قَالَ النَّاسُ: صَفَرُ الأَصْفَارِ، فِيهِ يُقْتَلُ كُلُّ جَبَّارٍ، عَلَى مَجْمَعِ الأَنْهَارِ حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سَيْفٍ، عَنْ زِيَادٍ وَالْمُهَلَّبِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابن سِيَاهٍ الأَحْمَرِيِّ. وَأَمَّا فِيمَا كَتَبَ بِهِ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، فَإِنَّهُ عَنْ سيف، عن المهلب بن عقبة وزياد بن سَرْجِسَ الأَحْمَرِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سِيَاهٍ الأَحْمَرِيِّ وَسُفْيَانَ الأَحْمَرِيِّ، قَالُوا: وَقَدْ كَانَ هُرْمُزُ كَتَبَ إِلَى أَرْدَشِيرَ وَشِيرَى بِالْخَبَرِ بِكِتَابِ خَالِدٍ إِلَيْهِ بِمَسِيرِهِ مِنَ الْيَمَامَةِ نَحْوَهُ، فَأَمَدَّهُ بِقَارِنِ بْنِ قريانسَ، فَخَرَجَ قَارِنٌ مِنَ الْمَدَائِنِ مُمِدًّا لِهُرْمُزَ، حَتَّى إِذَا انْتَهَى إِلَى الْمذارِ بَلَغَتْهُ الْهَزِيمَةُ، وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ الْفُلالُ فَتَذَامَرُوا، وَقَالَ فُلَّالُ الأَهْوَازِ وَفَارِسَ لِفُلالِ السَّوَادِ وَالْجَبَلِ: إِنِ افْتَرَقْتُمْ لَمْ تَجْتَمِعُوا بَعْدَهَا أَبَدًا، فَاجْتَمَعُوا عَلَى الْعَوْدِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَهَذَا مَدَدُ الْمَلِكِ وَهَذَا قَارِنٌ، لَعَلَّ اللَّهَ يُديلنَا وَيُشْفِينَا مِنْ عَدُوِّنَا وَنُدْرِكُ بَعْضَ مَا أَصَابُوا مِنَّا فَفَعَلُوا وَعَسْكَرُوا بِالمذارِ، وَاسْتَعْمَلَ قَارِنٌ عَلَى مُجَنِّبَتِهِ قُبَاذُ وَأَنُوشَجَانُ، وَأَرَزَ الْمُثَنَّى وَالْمُعَنَّى إِلَى خَالِدٍ بِالْخَبَرِ، وَلَمَّا انْتَهَى الْخَبَرُ إِلَى خَالِدٍ عَنْ قَارِنٍ قَسَّمَ الْفَيْءَ عَلَى مَنْ أَفَاءَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَنَفَّلَ مِنَ الْخُمسِ مَا شَاءَ اللَّهُ، وَبَعَثَ بِبَقِيَّتِهِ وَبِالْفَتْحِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَبِالْخَبَرِ عَنِ الْقَوْمِ وَبِاجْتِمَاعِهِمْ إِلَى الثني المغيث والمغاث، مع الوليد ابن عُقْبَةَ- وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ نَهْرٍ الثّنِيَّ- وَخَرَجَ خَالِدٌ سَائِرًا حَتَّى يَنْزِلَ الْمذارَ عَلَى قَارِنٍ فِي جُمُوعِهِ، فَالْتَقَوْا وَخَالِدٌ عَلَى تَعْبِيَتِهِ، فَاقْتَتَلُوا عَلَى حَنَقٍ وَحَفِيظَةٍ، وَخَرَجَ قَارِنٌ يَدْعُو لِلْبِرَازِ، فَبَرَزَ لَهُ خَالِدٌ وَأَبْيَضُ الرُّكْبَانِ مَعْقِلُ بْنُ الأَعْشَى بْنِ النَّبَّاشِ، فَابْتَدَرَاهُ، فَسَبَقَهُ إِلَيْهِ مَعْقِلٌ، فَقَتَلَهُ وَقَتَلَ عَاصِمٌ الأَنُوشَجَانَ، وَقَتَلَ عَدِيُّ قُبَاذَ وَكَانَ شَرَفُ قَارِنٍ قَدِ انْتَهَى، ثَمَّ لَمْ يقاتل

الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ أَحَدًا انْتَهَى شَرَفُهُ فِي الأَعَاجِمِ، وَقُتِلَتْ فَارِسُ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، فَضَمُّوا السُّفُنَ، وَمَنَعَتِ الْمِيَاهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ طَلَبِهِمْ، وَأَقَامَ خَالِدٌ بِالمذارِ، وَسلَّمَ الأَسْلابَ لِمَنْ سَلَبَهَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَقَسَّمَ الْفَيْءَ وَنَفَّلَ مِنَ الأَخْمَاسِ أَهْلَ الْبَلاءِ، وَبَعَثَ بِبَقِيَّةِ الأَخْمَاسِ، وَوَفَّدَ وَفْدًا مَعَ سَعِيدِ بْنِ النُّعْمَانِ أَخِي بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ. حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عن أَبِي عُثْمَانَ، قَالَ: قُتِلَ لَيْلَةَ المذارِ ثَلاثُونَ أَلْفًا سِوَى مَنْ غَرِقَ، وَلَوْلا الْمِيَاهُ لأُتِيَ عَلَى آخِرِهِمْ، وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ مَنْ أَفْلَتَ إِلا عُرَاةً وَأَشْبَاهَ الْعُرَاةِ. قَالَ سَيْفٌ، عَنْ عَمْرٍو وَالْمُجَالِدِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: كَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِيَ خَالِدٌ مَهْبَطَهُ الْعِرَاقِ هُرْمُزَ بِالْكَوَاظِمِ، ثُمَّ نَزَلَ الْفُرَاتَ بِشَاطِئِ دِجْلَةَ، فَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا، وَتَبَحْبَحَ بِشَاطِئِ دِجْلَةَ، ثُمَّ الثَّنِيِّ، وَلَمْ يَلْقَ بَعْدَ هُرْمُزَ أَحَدًا إِلا كَانَتِ الْوَقْعَةُ الآخِرَةُ أَعْظَمَ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا، حَتَّى أَتَى دَوْمَةَ الْجَنْدَلِ، وَزَادَ سَهْمُ الْفَارِسِ فِي يَوْمِ الثَّنِيِّ عَلَى سَهْمِهِ فِي ذَاتِ السَّلاسِلِ. فَأَقَامَ خَالِدٌ بِالثَّنِيِّ يُسْبِي عِيَالاتِ الْمُقَاتِلَةِ وَمَنْ أَعَانَهُمْ، وَأَقَرَّ الْفَلاحِينَ وَمَنْ أَجَابَ إِلَى الْخَرَاجِ مِنْ جميع الناس بعد ما دُعُوا، وَكُلُّ ذَلِكَ أُخِذَ عَنْوَةً وَلَكِنْ دُعُوا إِلَى الْجَزَاءِ، فَأَجَابُوا وَتَرَاجَعُوا، وَصَارُوا ذِمَّةً، وَصَارَتْ أَرْضُهُمْ لَهُمْ، كَذَلِكَ جَرَى مَا لَمْ يُقَسَّمْ، فَإِذَا اقْتَسَمَ فَلا. وَكَانَ فِي السَّبْيِ حَبِيبٌ أَبُو الْحَسَنِ- يَعْنِي أَبَا الْحَسَنِ الْبَصْرِيَّ- وَكَانَ نَصْرَانِيَّا، وَمَافِنَةُ مَوْلَى عُثْمَانَ، وَأَبُو زِيَادٍ مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ. وَأَمَّرَ عَلَى الْجُنْدِ سَعِيدَ بْنَ النُّعْمَانِ، وَعَلَى الْجَزَاءِ سُوَيْدَ بْنَ مُقَرِّنٍ الْمُزَنِيَّ، وَأَمَرَهُ بِنُزُولِ الْحَفِيرِ، وَأَمَرَهُ بِبَثِّ عُمَّالِهِ ووضع يده في الجبايه، واقام لعدوه يتجسس الاخبار

ذكر وقعه الولجة

ذكر وقعه الولجة ثُمَّ كَانَ أَمْرُ الْولجَةِ فِي صَفَرٍ مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ، وَالولجة مِمَّا يَلِي كَسْكَرٍ مِنَ الْبَرِّ. حَدَّثَنَا عبيد اللَّه، قال: حَدَّثَنِي عمي، قال: حدثني سيف، عن عمرو والمجالد، عن الشعبي قال لما فرغ خالد من الثني واتى الخبر أردشير، بعث الاندرزغر، وكان فارسيا من مولدي السواد. حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله، قال: حدثني عمي، قال: حدثني سيف، عَنْ زِيَادِ بْنِ سَرْجِسَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سِيَاهٍ، قَالَ- وَفِيمَا كَتَبَ بِهِ إِلَيَّ السري، قال: حدثنا شعيب قال: حدثنا سيف، عَنِ الْمُهَلَّبِ بْنِ عُقْبَةَ وَزِيَادِ بْنِ سَرْجِسَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سِيَاهٍ- قَالُوا: لَمَّا وَقَعَ الْخَبَرُ بِأَرْدَشِيرَ بِمُصَابِ قَارِنٍ وَأَهْلِ الْمذارِ، أَرْسَلَ الأندرزغر، - وَكَانَ فَارِسِيًّا مِنْ مَوْلِدِي السَّوَادِ وَتَنَائِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ وُلِدَ فِي الْمَدَائِنِ وَلا نَشَأَ بِهَا- وَأَرْسَلَ بهمن جَاذُوَيْهِ فِي أَثَرِهِ فِي جَيْشٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْبُرَ طَرِيقَ الأندرزغرِ، وَكَانَ الأندرزغرُ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى فَرْجِ خُرَاسَانَ، فَخَرَجَ الأندرزغرُ سَائِرًا مِنَ الْمَدَائِنِ حَتَّى أَتَى كَسْكَرٍ، ثُمَّ جَازَهَا إِلَى الْولجةِ، وَخَرَجَ بهمنُ جَاذُوَيْهِ فِي أَثَرِهِ، وَأَخَذَ غَيْرَ طَرِيقِهِ، فَسَلَكَ وَسْطَ السَّوَادِ، وَقَدْ حُشِرَ إِلَى الأندرزغرِ مِنْ بَيْنَ الْحِيرَةِ وَكَسْكَرٍ مِنْ عَرَبِ الضَّاحِيَةِ وَالدَّهَّاقِينِ فَعَسْكَرُوا إِلَى جَنْبِ عَسْكَرِهِ بِالولجةِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ لَهُ مَا أَرَادَ وَاسْتَتَمَّ أَعْجَبَهُ مَا هُوَ فِيهِ، وَأَجْمَعَ السَّيْرَ إِلَى خَالِدٍ، وَلَمَّا بَلَغَ خَالِدًا وَهُوَ بِالثَّنِيِّ خَبَرُ الأندرزغرِ وَنُزُولِهِ الْولجةَ، نَادَى بِالرَّحِيلِ، وَخَلَّفَ سُوَيْدَ بْنَ مُقَرِّنٍ، وَأَمَرَهُ بِلُزُومِ الْحَفِيرِ، وَتَقَدَّمَ إِلَى مَنْ خُلِّفَ فِي أَسْفَلِ دِجْلَةَ، وَأَمَرَهُمْ بِالْحَذَرِ وَقِلَّةِ الْغَفْلَةِ، وَتَرْكِ الاغْتِرَارِ، وَخَرَجَ سَائِرًا فِي الْجُنُودِ نَحْوَ الْولجةِ، حَتَّى يَنْزِلَ عَلَى الأندرزغرِ وَجُنُودِهِ وَمَنْ تَأَشَّبَ إِلَيْهِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالا شَدِيدًا، هُوَ أَعْظَمُ مِنْ قتال الثني

حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ، قَالَ: نَزَلَ خَالِدٌ عَلَى الأندرزغرِ بِالولجةِ فِي صَفَرٍ، فَاقْتَتَلُوا بِهَا قِتَالا شَدِيدًا، حَتَّى ظَنَّ الْفَرِيقَانِ ان الصبر قد فرغ، وَاسْتَبْطَأَ خَالِدٌ كَمِينَهُ، وَكَانَ قَدْ وَضَعَ لَهُمْ كَمِينًا فِي نَاحِيَتَيْنِ، عَلَيْهِمْ بُسْرُ بْنُ أَبِي رُهْمٍ وَسَعِيدُ بْنُ مُرَّةَ الْعِجْلِيُّ، فَخَرَجَ الْكَمِينُ فِي وَجْهَيْنِ، فَانْهَزَمَتْ صُفُوفُ الأَعَاجِمِ وَوَلَّوْا، فَأَخَذَهُمْ خَالِدٌ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَالْكَمِينُ مِنْ خَلْفِهِمْ، فَلَمْ يَرَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مَقْتَلَ صَاحِبِهِ، وَمَضَى الأندرزغرُ فِي هَزِيمَتِهِ، فَمَاتَ عَطَشًا وَقَامَ خَالِدٌ فِي النَّاسِ خَطِيبًا يُرَغِّبُهُمْ فِي بِلادِ الْعَجَمِ، وَيُزَهِّدُهُمْ فِي بِلادِ الْعَرَبِ، وَقَالَ: أَلا تَرَوْنَ إِلَى الطَّعَامِ كَرَفْغِ التُّرَابِ وَبِاللَّهِ لَوْ لَمْ يُلْزِمْنَا الْجِهَادُ فِي اللَّهِ وَالدُّعَاءُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَمْ يَكُنْ إِلا الْمَعَاشُ لَكَانَ الرَّأْيُ أَنْ نُقَارِعَ عَلَى هَذَا الرِّيفِ حَتَّى نَكُونَ أَوْلَى بِهِ، وَنُوَلِّي الْجُوعَ وَالإِقْلالِ مَنْ تَوَلاهُ مِمَّنِ اثَّاقَلَ عَمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَسَارَ خَالِدٌ فِي الْفَلاحِينَ بِسِيرَتِهِ فَلَمْ يَقْتُلْهُمْ، وَسَبَى ذَرَارِيَّ الْمُقَاتِلَةِ وَمَنْ أَعَانَهُمْ، وَدَعَا أَهْلَ الأَرْضِ إِلَى الْجَزَاءِ وَالذِّمَّةِ، فَتَرَاجَعُوا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ- وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قال: حدثني عمي، عن سيف- عن عمرو، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: بَارَزَ خَالِدٌ يَوْمَ الولجةِ رَجُلا مِنْ أَهْلِ فَارِسَ يَعْدِلُ بِأَلْفِ رَجُلٍ فَقَتَلَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ اتَّكَأَ عَلَيْهِ، وَدَعَا بِغَدَائِهِ وَأَصَابَ فِي أُنَاسٍ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ ابْنًا لِجَابِرِ بْنِ بُجَيْرٍ وَابْنًا لِعَبْدِ الأَسْوَدِ

خبر اليس، وهي على صلب الفرات

خبر أليس، وهي على صلب الفرات قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ وَطَلْحَةَ بْنِ الأَعْلَمِ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عُتَيْبَةَ وَأَمَّا السَّرِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الله عن أَبِي عُثْمَانَ، وَطَلْحَةَ بْنِ الأَعْلَمِ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عُتَيْبَةَ، قَالا: وَلَمَّا أَصَابَ خَالِدٌ يَوْمَ الولجةِ مَنْ أَصَابَ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ مِنْ نَصَارَاهُمُ الَّذِينَ أَعَانُوا أَهْلَ فَارِسٍ غَضَبَ لَهُم نَصَارَى قَوْمِهِمْ، فَكَاتَبُوا الأَعَاجِمَ وَكَاتَبَتْهُمُ الأَعَاجِمُ، فَاجْتَمَعُوا إِلَى أُلَيْسَ، وَعَلَيْهِمْ عَبْدُ الأَسْوَدِ الْعِجْلِيُّ، وَكَانَ أَشَدَّ النَّاسِ عَلَى أُولَئِكَ النَّصَارَى مُسْلِمُو بَنِي عِجْلٍ: عُتَيْبَةُ بْنُ النَّهَّاسِ وَسَعِيدُ بْنُ مُرَّةَ وَفُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ وَالْمُثَنَّى بْنُ لاحِقٍ ومذعور ابن عَدِيٍّ وَكَتَبَ أَرْدشِيرُ إِلَى بهمنَ جَاذُوَيْهِ، وَهُوَ بقسيانا- وَكَانَ رَافِدَ فَارِسَ فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ شَهْرِهِمْ وَبَنَوْا شُهُورَهُمْ كُلَّ شَهْرٍ عَلَى ثَلاثِينَ يَوْمًا، وَكَانَ لأَهْلِ فَارِسَ فِي كُلِّ يَوْمٍ رَافِدٌ قَدْ نُصِّبَ لِذَلِكَ يَرْفُدُهُمْ عِنْدَ الْمَلِكِ، فكان رافدهم بهمن روز- أَنْ سِرْ حَتَّى تَقْدِمَ أُلَيْسَ بِجَيْشِكَ إِلَى مَنِ اجْتَمَعَ بِهَا مِنْ فَارِسَ وَنَصَارَى الْعَرَبِ فقدم بهمن جَاذُوَيْهِ جَابَانَ وَأَمَرَهُ بِالْحَثِّ، وَقَالَ: كَفْكِفْ نَفْسَكَ وَجُنْدَكَ مِنْ قِتَالِ الْقَوْمِ حَتَّى أَلْحَقَ بِكَ إِلا أَنْ يَعْجَلُوكَ فَسَارَ جَابَانُ نَحْوَ أُلَيْسَ، وَانْطَلَقَ بهمنُ جَاذُوَيْهِ إِلَى أردشيرَ لِيحدثَ بِهِ عَهْدًا، وَلِيَسْتَأْمِرَهُ فِيمَا يُرِيدُ أَنْ يُشِيرَ بِهِ، فَوَجَدَهُ مَرِيضًا، فَعَرَجَ عَلَيْهِ، وَأَخْلَى جَابَانُ بِذَلِكَ الْوَجْهِ، وَمَضَى حَتَّى أَتَى أُلَيْسَ، فَنَزَلَ بِهَا فِي صَفَرٍ، وَاجْتَمَعَتْ إِلَيْه الْمَسَالِحُ الَّتِي كَانَتْ بِإِزَاءِ الْعَرَبِ، وَعَبْدُ الأَسْوَدِ فِي نَصَارَى الْعَرَبِ مِنْ بَنِي عِجْلٍ وَتَيْمِ اللاتِ وَضُبَيْعَةَ وَعَرَبِ الضَّاحِيَةِ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ، وَكَانَ جَابِرُ بْنُ بُجَيْرٍ نَصْرَانِيًّا، فَسَانَدَ عَبْدَ الأَسْوَدِ، وَقَدْ كَانَ خَالِدٌ بَلَغَهُ تَجَمُّعُ عَبْدِ الأَسْوَدِ وَجَابِرٍ وَزُهَيْرٍ فيمن تأشب اليهم، فنهدلهم وَلا يَشْعُرُ بِدُنُوِّ جَابَانَ، وَلَيْسَتْ لِخَالِدٍ هِمَّةٌ إِلا مَنْ تَجَمَّعَ لَهُ مِنْ عَرَبِ الضَّاحِيَةِ

وَنَصَارَاهُمْ، فَأَقْبَلَ فَلَمَّا طَلَعَ عَلَى جَابَانَ بِأُلَيْسَ، قالت الأعاجم لجابان: انعاجلهم أم نغدى الناس ولا نُرِيهِمْ إِنَّا نَحْفَلُ بِهِمْ، ثُمَّ نُقَاتِلُهُمْ بَعْدَ الْفَرَاغِ؟ فَقَالَ جَابَانُ: إِنْ تَرَكُوكُمْ وَالتَّهَاوُنَ بِكُمْ فتهاونوا، ولكن ظني بهم ان سيعجلونكم ويعجلونكم عَنِ الطَّعَامِ فَعَصَوْهُ وَبَسَطُوا الْبُسُطَ وَوَضَعُوا الأَطْعِمَةَ، وتداعوا إليها، وتوافوا عليها فَلَمَّا انْتَهَى خَالِدٌ إِلَيْهِمْ، وَقَفَ وَأَمَرَ بِحَطِّ الأَثْقَالِ، فَلَمَّا وُضِعَتْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ، وَوَكَّلَ خَالِدٌ بنفسه حوامى يحمون ظهره، ثم بدر أَمَامَ الصَّفِّ، فَنَادَى: أَيْنَ أَبْجَرُ؟ أَيْنَ عَبْدُ الأَسْوَدِ؟ أَيْنَ مَالِكُ بْنُ قَيْسٍ؟ رجل من جذرة، فَنَكَلُوا عَنْهُ جَمِيعًا إِلا مَالِكًا، فَبَرَزَ له، فقال له خالد: يا بن الْخَبِيثَةِ، مَا جَرَّأَكَ عَلَيَّ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَلَيْسَ فِيكَ وَفَاءٌ! فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ، وَأَجْهَضَ الأَعَاجِمَ عَنْ طَعَامِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَأْكُلُوا، فَقَالَ جَابَانُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ يَا قَوْمُ! أَمَا وَاللَّهِ مَا دَخَلَتْنِي مِنْ رَئِيسٍ وَحْشَةٌ قَطُّ حَتَّى كَانَ الْيَوْمُ، فَقَالُوا حَيْثُ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الأَكْلِ تَجَلُّدَا: نَدَعَهَا حَتَّى نَفْرُغَ مِنْهُمْ، وَنَعُودَ إِلَيْهَا. فَقَالَ جَابَانُ: وَأَيْضًا أَظُنُّكُمْ وَاللَّهِ لَهُمْ وَضَعْتُمُوهَا وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ، فَالآنَ فَأَطِيعُونِي، سِمُّوهَا، فَإِنْ كَانَتْ لَكُمْ فَأَهْوَنُ هَالِكٍ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْكُمْ كُنْتُمْ قَدْ صَنَعْتُمْ شَيْئًا، وَأَبْلَيْتُمْ عُذْرًا فَقَالُوا: لا، اقتدارا عَلَيْهِمْ فَجَعَلَ جَابَانُ عَلَى مُجَنِّبَتَيْهِ عَبْدَ الأَسْوَدِ وابجر، وخالد على تعبئته فِي الأَيَّامِ الَّتِي قَبْلِهَا، فَاقْتَتَلُوا قِتَالا شَدِيدًا، وَالْمُشْرِكُونَ يَزِيدُهُمْ كَلَبًا وَشِدَّةً مَا يَتَوَقَّعُونَ مِنْ قُدُومِ بهمنَ جَاذُوَيْهِ، فَصَابَرُوا الْمُسْلِمِينَ لِلَّذِي كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنْ يُصَيِّرَهُمْ إِلَيْهِ، وَحَرِبَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ خَالِدٌ: اللَّهُمَّ إِنَّ لَكَ عَلَيَّ إِنْ مَنَحْتَنَا أَكْتَافَهُمْ أَلا أَسْتَبْقِي مِنْهُمْ أَحَدًا قَدَرْنَا عَلَيْهِ حَتَّى أُجْرِيَ نَهْرَهُمْ بِدِمَائِهِمْ! ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَشَفَهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَنَحَهُمْ أَكْتَافَهُمْ، فَأَمَرَ خَالِدٌ مُنَادِيَهُ، فَنَادَى فِي النَّاسِ: الأَسْرَ الأَسْرَ! لا تَقْتُلُوا إِلا مَنِ امْتَنَعَ، فَأَقْبَلَتِ الْخُيُولُ بِهِمْ أَفْوَاجًا مُسْتَأْسَرِينَ يُسَاقُونَ سَوْقًا، وَقَدْ وَكَّلَ بِهِم رِجَالا يَضْرِبُونَ أَعْنَاقَهُمْ فِي النَّهْرِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَطَلَبُوهُمُ الْغَدَ وَبَعْدَ الْغَدِ،

حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى النَّهْرَيْنِ، وَمِقْدَارِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ جَوَانِبِ أُلَيْسَ فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ، وَقَالَ لَهُ الْقَعْقَاعُ وَأَشْبَاهٌ لَهُ: لَوْ أَنَّكَ قَتَلْتَ أَهْلَ الأَرْضِ لَمْ تَجْرِ دِمَاؤُهُمْ، إِنَّ الدِّمَاءَ لا تَزِيدُ عَلَى أَنْ تَرَقْرَقَ مُنْذُ نَهَيْتَ عَنِ السَّيَلانِ، وَنُهِيَتِ الأَرْضُ عَنْ نَشْفِ الدِّمَاءِ، فَأَرْسِلْ عَلَيْهَا، الْمَاءَ تَبَرَّ يَمِينُكَ وَقَدْ كَانَ صَدَّ الْمَاءَ عَنِ النَّهْرِ فَأَعَادَهُ، فَجَرَى دَمًا عَبِيطًا فَسُمِّيَ نَهْرَ الدَّمِ لِذَلِكَ الشَّأْنِ إِلَى الْيَوْمِ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ بَشِيرُ بْنُ الْخَصَّاصِيَّةِ، قَالَ: وَبَلَغَنَا أَنَّ الأَرْضَ لَمَّا نَشَّفَتْ دَمَ ابْنِ آدَمَ نُهِيَتْ عَنْ نَشْفِ الدِّمَاءِ، وَنُهِيَ الدَّمُ عَنِ السَّيَلانِ إِلا مِقْدَارَ برْدِهِ. وَلَمَّا هُزِمَ الْقَوْمُ وَأُجْلَوْا عَنْ عَسْكَرِهِمْ، وَرَجَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ طَلَبِهِمْ وَدَخَلُوهُ، وَقَفَ خَالِدٌ عَلَى الطَّعَامِ، فَقَالَ: قَدْ نَفَّلْتُكُمُوهُ فَهُوَ لَكُمْ وَقَالَ: كَانَ رَسُولُ الله ص إِذَا أَتَى عَلَى طَعَامٍ مَصْنُوعٍ نَفَّلَهُ فَقَعَدَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ لِعَشَائِهِمْ بِاللَّيْلِ، وَجَعَلَ مَنْ لَمْ يَرَ الأَرْيَافَ وَلا يَعْرِفَ الرِّقَاقَ يَقُولُ: مَا هذه الرقاق الْبِيضِ! وَجَعَلَ مَنْ قَدْ عَرَفَهَا يُجِيبُهُمْ، وَيَقُولُ لَهُمْ مَازِحًا: هَلْ سَمِعْتُمْ بِرَقِيقِ الْعَيْشِ؟ فَيَقُولُونَ: نعم، فيقول: هُوَ هَذَا، فَسُمِّيَ الرِّقَاقُ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّيهِ، الْقَرَى. حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قال: حَدَّثَنَا سَيْفٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَمَّنْ حَدَّثَ، عَنْ خَالِدٍ، أَنَّ رسول الله ص نَفَلَ النَّاسَ يَوْمَ خَيْبَرَ الْخُبْزَ وَالطَّبِيخَ وَالشِّوَاءَ، وَمَا أَكَلُوا غَيْرَ ذَلِكَ فِي بُطُونِهِمْ غَيْرَ مُتَأَثِّلِيهِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ طَلْحَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: كَانَتْ عَلَى النَّهْرِ أَرْحَاءُ، فَطَحَنتْ بِالْمَاءِ وَهُوَ أَحْمَرُ قُوتَ الْعَسْكَرِ، ثَمَانِيَةَ عَشْرَ أَلْفًا أَوْ يَزِيدُونَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَبَعَثَ خَالِدٌ بِالْخَبَرِ مَعَ رَجُلٍ يدعى

حديث أمغيشيا

جَنْدَلا مِنْ بَنِي عِجْلٍ، وَكَانَ دَلِيلا صَارِمًا، فَقَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ بِالْخَبَرِ، وَبِفَتْحِ أُلَيْسَ، وَبِقَدْرِ الْفَيْءِ وَبِعِدَّةِ السَّبْيِ، وَبِمَا حَصَلَ مِنَ الأَخْمَاسِ، وَبِأَهْلِ الْبَلاءِ مِنَ النَّاسِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَرَأَى صَرَامَتَهُ وَثَبَاتَ خَبَرِهِ، قَالَ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: جَنْدَلٌ، قَالَ: وَيْهًا جَنْدلُ! نَفْسُ عِصَامٍ سَوَّدَتْ عِصَامًا ... وَعَوَّدَتْهُ الْكَرَّ وَالإِقْدَامَا وَأَمَرَ لَهُ بِجَارِيَةٍ مِنْ ذَلِكَ السَّبْيِ، فَوَلَدَتْ لَهُ. قَالَ: وَبَلَغَتْ قَتْلاهُمْ مِنْ أُلَيْسَ سَبْعِينَ أَلْفًا جُلَّهُمْ مِنْ أَمْغِيشِيَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَالَ لَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ: قَالَ عَمِّي: سَأَلْتُ عَنْ أَمْغِيشْيَا بِالْحِيرَةِ فَقِيلَ لِي: مَنِشيَا، فَقُلْتُ لِسَيْفٍ، فَقَالَ: هَذَانِ اسْمَانِ . حديث أمغيشيا في صفر، وأفاءها اللَّه عز وجل بغير خيل. حَدَّثَنَا عبيد اللَّه، قال: حدثني عمي، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عن أبي عُثْمَان وطلحه، عن المغيره، قال: لما فرغ خالد من وقعة أليس، نهض فأتى أمغيشيا، وقد أعجلهم عما فيها، وقد جلا أهلها، وتفرقوا في السواد، ومن يومئذ صارت السكرات في السواد، فأمر خالد بهدم أمغيشيا وكل شيء كان في حيزها، وكانت مصرا كالحيرة، وكان فرات بادقلى ينتهي إليها، وكانت أليس من مسالحها، فأصابوا فيها ما لم يصيبوا مثله قط. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ بَحْرِ بْنِ الفُرَاتِ العِجْلِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمْ يُصِبِ الْمُسْلِمُونَ فِيمَا بَيْنَ ذَاتِ السَّلاسِلِ وَأَمْغِيشِيَا مِثْلَ شَيْءٍ أَصَابُوهُ فِي أَمْغِيشِيَا، بَلَغَ سَهْمُ الْفَارِسِ ألفا وخمسمائة، سِوَى النَّفَلِ الَّذِي نَفَلَهُ أَهْلُ الْبَلاءِ وَقَالُوا جَمِيعًا: قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ حِينَ

حديث يوم المقر وفم فرات بادقلى

بَلَغَهُ ذَلِكَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ- يُخْبِرُهُمْ بِالْذِي أَتَاهُ: عَدَا أَسَدُكُمْ عَلَى الأَسَدِ فَغَلَبَهُ عَلَى خراذيله، اعجزت النساء ان ينسلن مِثْلَ خَالِدٍ! حديث يوم المقر وفم فرات بادقلى قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد، عن أَبِي عُثْمَانَ وَطَلْحَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ: أَنَّ الآزَاذبَةَ كَانَ مَرْزُبَانَ الْحِيرَةِ أَزْمَانَ كِسْرَى إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَكَانُوا لا يَمُدُّ بَعْضَهُمْ بَعْضًا إِلا بِإِذْنِ الْمَلِكِ، وَكَانَ قَدْ بَلَغَ نِصْفَ الشَّرَفِ، وَكَانَ قِيمَةُ قَلَنْسُوَتِهِ خَمْسِينَ أَلْفًا، فَلَمَّا أَخْرَبَ خَالِدٌ أَمْغِيشِيَا، وَعَادَ أَهْلُهَا سكراتٍ لِدَهَاقِينِ الْقُرَى عَلِمَ الآزَاذبَةَ أَنَّهُ غَيْرُ مَتْرُوكٍ، فَأَخَذَ فِي أَمْرِهِ وَتَهَيَّأَ لِحَرْبِ خَالِدٍ، وَقَدَّمَ ابْنَهُ ثُمَّ خَرَجَ فِي أَثَرِهِ حَتَّى عَسْكَرَ خَارِجًا مِنَ الْحِيرَةِ، وَأَمَرَ ابْنَهُ بِسَدِّ الْفُرَاتِ، وَلَمَّا اسْتَقَلَّ خَالِدٌ مِنْ أَمْغِيشِيَا وَحَمَلَ الرَّجُلَ فِي السُّفُنِ مع الانفال والانقال، لَمْ يَفْجَأْ خَالِدٌ إِلا وَالسُّفُنُ جَوَانِحٌ، فَارْتَاعُوا لِذَلِكَ، فَقَالَ الْمَلاحُونَ: إِنَّ أَهْلَ فَارِسَ فَجَّرُوا الأَنْهَارَ، فَسَلَكَ الْمَاءُ غَيْرَ طَرِيقِهِ، فَلا يَأْتِينَا الْمَاءُ إِلا بِسَدِّ الأَنْهَارِ، فَتَعَجَّلَ خَالِدٌ فِي خَيْلٍ نَحْوَ ابْنِ الآزَاذبَةَ، فَتَلَقَّاهُ عَلَى فَمِ العتيق خيل من خيله، فجاهم وَهُمْ آمِنُونَ لِغَارَةِ خَالِدٍ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، فَأَنَامَهُمْ بِالْمِقَرِّ، ثُمَّ سَارَ مِنْ فَوْرِهِ وَسَبَقَ الأَخْبَارَ إِلَى ابْنِ الآزَاذبَةَ حَتَّى يَلْقَاهُ وَجُنْدَهُ عَلَى فَمِ فُرَاتِ بَادِقْلَى، فَاقْتَتَلُوا فَأَنَامَهُمْ، وَفَجَّرَ الْفُرَاتَ وَسَدَّ الأَنْهَارِ وَسَلَكَ الْمَاءُ سَبِيلَهُ. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد، عن أبي عثمان وطلحة عن المغيرة، وَبَحْرٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالُوا وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قال: حدثني عمي، قال: حدثنا سيف، عن محمد عن أبي عثمان، وطلحة عن المغيرة، قَالا: لَمَّا أَصَابَ خَالِدٌ ابْنَ الآزَاذبَةَ عَلَى فَمِ فُرَاتِ بَادِقْلَى، قَصَدَ

لِلْحِيرَةِ، وَاسْتَلْحَقَ أَصْحَابَهُ، وَسَارَ حَتَّى يَنْزِلَ بَيْنَ الْخَوَرْنَقِ وَالنَّجَفِ، فَقَدِمَ خَالِدٌ الْخَوَرْنَقَ، وَقَدْ قَطَعَ الآزَاذبَةَ الْفُرَاتَ هَارِبًا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَإِنَّمَا حَدَاهُ عَلَى الْهَرَبِ أَنَّ الْخَبَرَ وَقَعَ إِلَيْهِ بِمَوْتِ أَرْدَشِيرَ وَمُصَابِ ابْنِهِ، وَكَانَ عَسْكَرُهُ بَيْنَ الْغَرِيَّيْنِ وَالْقَصْرِ الأَبْيَضِ وَلَمَّا تَتَامَّ أَصْحَابُ خَالِدٍ إِلَيْهِ بِالْخَوَرْنَقِ خَرَجَ مِنَ الْعَسْكَرِ حَتَّى يُعَسْكِرَ بِمَوْضِعِ عَسْكَرِ الآزَاذبَةَ بَيْنَ الْغَرِيَّيْنِ وَالْقَصْرِ الأَبْيَضِ، وَأَهْلِ الْحِيرَةِ مُتَحَصِّنُونَ، فَأَدْخَلَ خَالِدٌ الْحِيرَةَ الْخَيْلَ مِنْ عَسْكَرِهِ، وَأَمَّرَ بِكُلِّ قَصْرٍ رَجُلا مِنْ قُوَّادِهِ يُحَاصِرُ أَهْلَهُ وَيُقَاتِلُهُمْ، فَكَانَ ضِرَارُ بْنُ الأَزْوَرِ مُحَاصِرًا الْقَصْرَ الأَبْيَضَ، وَفِيهِ إِيَاسُ بْنُ قُبَيْصَةَ الطَّائِيُّ، وَكَانَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ مُحَاصِرًا قَصْرَ الْعَدْسِيِّينَ وَفِيهِ عَدِيُّ بْنُ عَدِيٍّ الْمَقْتُولُ، وَكَانَ ضِرَارُ بْنُ مُقَرِّنٍ الْمُزَنِيُّ عَاشِرَ عَشَرَةِ إِخْوَة لَهُ مُحَاصِرًا قَصْرَ بَنِي مَازِنٍ، وَفِيهِ ابْنُ أَكَّالٍ، وَكَانَ الْمُثَنَّى مُحَاصِرًا قَصْرَ ابْنِ بقيله وفيه عمرو ابن عَبْدِ الْمَسِيحِ، فَدَعَوْهُمْ جَمِيعًا، وَأَجلُوهُمْ يَوْمًا، فَأَبَى أَهْلُ الْحِيرَةِ وَلَجُّوا، فَنَاوَشَهُمُ الْمُسْلِمُونَ. حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْغُصْنِ بْنِ الْقَاسِمِ، رَجُلٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ- قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: هَكَذَا قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ وَقَالَ السَّرِيُّ فِيمَا كَتَبَ بِهِ إِلَيَّ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْغُصْنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ- قَالَ: عَهَدَ خَالِدٌ إِلَى أُمَرَائِهِ أَنْ يَبْدَءُوا بِالدُّعَاءِ، فَإِنْ قَبِلُوا قَبِلُوا مِنْهُمْ وَإِنْ أَبَوْا أَنْ يُؤَجِّلُوهُمْ يَوْمًا، وَقَالَ: لا تُمَكِّنُوا عَدُوَّكُمْ مِنْ آذَانِكُمْ، فَيَتَرَبَّصُوا بِكُمُ الدَّوَائِرَ، وَلَكِنْ نَاجِزُوهُمْ ولا ترددوا الْمُسْلِمِينَ عَنْ قِتَالِ عَدُوِّهِمْ فَكَانَ أَوَّلُ الْقُوَّاد أَنْشَبَ الْقِتَالَ بَعْدَ يَوْمٍ أَجَّلُوهُمْ فِيهِ ضِرَارَ بْنَ الأَزْوَرِ، وَكَانَ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْقَصْرِ الأَبْيَضِ، فَأَصْبَحُوا وَهُمْ مُشْرِفُونَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى إِحْدَى ثَلاثٍ: الإِسْلامِ، أَوِ الْجَزَاءِ، أَوِ الْمُنَابَذَةِ، فَاخْتَارُوا الْمُنَابَذَةَ وَتَنَادَوْا: عَلَيْكُمُ الْخَزَازِيفُ، فَقَالَ ضِرَارٌ: تَنَحَّوْا لا يَنَالُكُمُ الرَّمْيُ، حَتَّى نَنْظُرَ فِي الَّذِي هَتَفُوا بِهِ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنِ امْتَلأَ رَأْسُ

الْقَصْرِ مِنْ رِجَالٍ مُتَعَلِّقِي الْمَخَالِي، يَرْمُونَ الْمُسْلِمِينَ بِالْخَزَازِيفِ- وَهِيَ الْمَدَاحِي مِنَ الْخَزَفُ- فَقَالَ ضِرَارٌ: ارْشقُوهُمْ، فَدَنَوْا مِنْهُمْ فَرَشَقَوُهُمْ بِالنَّبْلِ، فَأَعْرَوْا رُءُوسَ الْحِيطَانِ، ثُمَّ بَثُّوا غَارَتَهُمْ فِيمَنْ يَلِيهِمْ، وَصَبَحَ أَمِيرُ كُلِّ قَوْمٍ أَصْحَابَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَافْتَتَحُوا الدُّورَ وَالدِّيرَاتِ، وَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ، فَنَادَى الْقِسِّيسُونَ وَالرُّهْبَانُ: يَا أَهْلَ الْقُصُورِ، مَا يَقْتُلُنَا غَيْرُكُمْ فَنَادَى أَهْلُ الْقُصُورِ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ، قَدْ قَبِلْنَا وَاحِدَةً مِنْ ثَلاثٍ، فَادْعُوا بِنَا وَكُفُّوا عَنَّا حَتَّى تُبَلِّغُونَا خَالِدًا فَخَرَجَ إِيَاسُ بْنُ قَبِيصَةَ وَأَخُوهُ إِلَى ضِرَارِ بْنِ الأَزْوَرِ، وَخَرَجَ عَدِيُّ بْنُ عَدِيٍّ وَزَيْدُ بْنُ عَدِيٍّ إِلَى ضِرَارِ بْنِ الْخَطَّابِ- وَعَدِيٌّ الأَوْسَطُ الَّذِي رَثَتْهُ أُمُّهُ وَقُتِلَ يَوْمَ ذِي قَارٍ- وَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ الْمَسِيحِ وَابْنُ أَكَّالٍ، هَذَا إِلَى ضِرَارِ بْنِ مُقَرِّنٍ، وَهَذَا إِلَى الْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ، فَأَرْسَلُوهُمْ إِلَى خَالِدٍ وَهُمْ عَلَى مَوَاقِفِهِمْ. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد عن أبي عثمان، وطلحة عن المغيرة، قالا: كَانَ أَوَّلُ مَنْ طَلَبَ الصُّلْحَ عَمْرَو بْنَ عبد المسيح ابن قَيْسِ بْنِ حَيَّانَ بْنِ الْحَارِثِ وَهُوَ بُقَيْلَةُ- وَإِنَّمَا سُمِّيَ بُقَيْلَةَ لأَنَّهُ خَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي بُرْدَيْنِ أَخْضَرَيْنِ، فَقَالُوا: يَا حَارِ مَا أَنْتَ إِلا بُقَيْلَةٌ خَضْرَاءُ- وَتَتَابَعُوا عَلَى ذَلِكَ، فَأَرْسَلَهُمُ الرُّؤَسَاءُ إِلَى خَالِدٍ، مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ ثِقَةٌ، لِيُصَالِحَ عَلَيْهِ أَهْلَ الْحِصْنِ، فَخَلا خَالِدٌ بِأَهْلِ كُلِّ قَصْرٍ مِنْهُمْ دُونَ الآخَرِينَ، وَبَدَأَ بِأَصْحَابِ عَدِيٍّ، وَقَالَ: وَيْحَكُمْ! مَا أَنْتُمْ! أَعَرَبٌ؟ فَمَا تَنْقِمُونَ مِنَ الْعَرَبِ! أَوْ عَجَمٌ؟ فَمَا تَنْقِمُونَ مِنَ الإِنْصَافِ وَالْعَدْلِ! فَقَالَ لَهُ عَدِيٌّ: بَلْ عَرَبٌ عَارِبَةٌ وَأُخْرَى مُتَعَرِّبَةٌ، فَقَالَ: لَوْ كُنْتُمْ كَمَا تَقُولُونَ لَمْ تُحَادُّونَا وَتَكْرَهُوا أَمْرَنَا، فَقَالَ لَهُ عَدِيٌّ: لِيَدُلُّكَ عَلَى مَا نَقُولُ أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا لِسَانٌ إِلا بِالْعَرَبِيَّةِ، فَقَالَ: صَدَقْتَ وَقَالَ: اخْتَارُوا وَاحِدَةً مِنْ ثَلاثٍ: أَنْ تَدْخُلُوا فِي دِينِنَا فَلَكُمْ مَا لَنَا وَعَلَيْكُمْ مَا عَلَيْنَا إِنْ نَهَضْتُمْ وَهَاجَرْتُمْ

وَإِنْ أَقَمْتُمْ فِي دِيَارِكُمْ، أَوِ الْجِزْيَةَ، أَوِ الْمُنَابَذَةَ وَالْمُنَاجَزَةَ، فَقَدْ وَاللَّهِ أَتَيْتُكُمْ بِقَوْمٍ هُمْ عَلَى الْمَوْتِ أَحْرَصُ مِنْكُمْ عَلَى الْحَيَاةِ فَقَالَ: بَلْ نُعْطِيكَ الْجِزْيَةَ، فَقَالَ خَالِدٌ: تَبًّا لَكُمْ، وَيْحَكُمْ! إِنَّ الْكُفْرَ فَلاةٌ مُضِلَّةٌ، فَأَحْمَقُ الْعَرَبِ مَنْ سَلَكَهَا فَلَقِيَهُ دَلِيلانِ: أَحَدُهُمَا عَرَبِيٌّ فَتَرَكَهُ وَاسْتَدَلَّ الأَعْجَمِيَّ. فَصَالَحُوهُ عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ وَتِسْعِينَ أَلْفًا، وَتَتَابَعُوا عَلَى ذَلِكَ، وَأَهْدُوا لَهُ هَدَايَا، وَبَعَثَ بِالْفَتْحِ وَالْهَدَايَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعَ الْهُذَيْلِ الْكَاهِلِيِّ، فَقَبِلَهَا أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْجَزَاءِ، وَكَتبَ إِلَى خَالِدٍ أَنِ احْسِبْ لَهُمْ هَدِيَّتَهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ، إِلا أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَزَاءِ، وَخُذْ بَقِيَّةَ مَا عَلَيْهِمْ فَقُوِّ بِهَا أَصْحَابَكَ: وَقَالَ ابْنُ بُقَيْلَةَ: أبعد المنذرين ارى سواما ... تروح بالخورنق والسدير! وبعد فوارس النعمان أرعى ... قلوصا بين مرة والحفير فصرنا بعد هلك أبي قبيس ... كجرب المعز في اليوم المطير تقسمنا القبائل من معد ... علانية كأيسار الجزور وكنا لا يرام لنا حريم ... فنحن كضرة الضرع الفخور نؤدي الخرج بعد خراج كسرى ... وخرج من قريظة والنضير كذاك الدهر دولته سجال ... فيوم من مساءه او سرور كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنِ الْغُصْنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، وَيُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِنَحْوٍ مِنْهُ، وَقَالا: فَكَانُوا يَخْتَلِفُونَ إِلَيْهِ وَيُقَدِّمُونَ فِي حَوَائِجِهِمْ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ الْمَسِيحِ، فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: كَمْ أَتَتْ عَلَيْكَ مِنَ السِّنِينَ قَالَ: مئو سنين، قَالَ: فَمَا أَعْجَبُ مَا رَأَيْتَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ الْقُرَى مَنْظُومَةً مَا بَيْنَ دِمَشْقَ وَالْحِيرَةِ، تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ مِنَ الْحِيرَةِ فَلا تَزَوَّدُ إِلا رَغِيفًا فَتَبَسَّمَ خَالِدٌ، وَقَالَ: هَلْ لَكَ من شيخك الا عمله

خَرِفْتَ وَاللَّهِ يَا عَمْرُو! ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَهْلِ الْحِيرَةِ فَقَالَ: أَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّكُمْ خَبَثَةٌ خَدَعَةٌ مَكَرَةٌ! فَمَا لَكُمْ تَتَنَاوَلُونَ حَوَائِجَكُمْ بِخَرِفٍ لا يُدْرَى مِنْ أَيْنَ جَاءَ! فَتَجَاهَلَ لَهُ عَمْرٌو، وَأَحَبَّ أَنْ يُرِيَهُ مِنْ نَفْسِهِ مَا يَعْرِفُ بِهِ عَقْلُهُ، وَيَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ مَا حَدَّثَهُ بِهِ، فَقَالَ: وَحَقِّكَ أَيُّهَا الأَمِيرُ، إِنِّي لأَعْرِفُ مِنْ أَيْنَ جِئْتُ؟ قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ جِئْتَ؟ قَالَ: أَقْرَبُ أَمْ أَبْعَدُ؟ قَالَ: مَا شِئْتَ، قَالَ: مِنْ بَطْنِ أُمِّي، قَالَ: فَأَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أَمَامِي، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: الآخِرَةَ قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ أَقْصَى أَثَرِكَ؟ قَالَ: مِنْ صُلْبِ أَبِي، قَالَ: فَفِيمَ أَنْتَ؟ قَالَ: فِي ثِيَابِي، قَالَ: أَتَعْقِلُ؟ قَالَ: إِي وَاللَّهِ وأقيدُ قَالَ: فَوَجَدَهُ حِينَ فره عضا، وَكَانَ أَهْلُ قَرْيَتِهِ أَعْلَمَ بِهِ- فَقَالَ خَالِدٌ: قَتَلَتْ أَرْضٌ جَاهِلَهَا، وَقَتَلَ أَرْضًا عَالِمُهَا، وَالْقَوْمُ أَعْلَمُ بِمَا فِيهِمْ فَقَالَ عَمْرٌو: أَيُّهَا الأَمِيرُ النَّمْلَةُ أَعْلَمُ بِمَا فِي بَيْتِهَا مِنَ الْجَمَلِ بِمَا فِي بَيْتِ النَّمْلَةِ وَشَارَكَهُمْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا الْمَكَانِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي السَّفَرِ، عَنْ ذِي الْجَوْشَنِ الضَّبَابِيِّ، وَأَمَّا الزُّهْرِيُّ فَإِنَّهُ حَدَّثَنَا بِهِ، فَقَالَ: شَارَكَهُمْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ رَجُلٌ مِنَ الضَّبَابِ. قَالُوا: وَكَانَ مَعَ ابْنِ بُقَيْلَةَ مُنْصِفٌ لَهُ فَعَلَّقَ كِيسًا فِي حَقْوِهِ، فَتَنَاوَلَ خَالِدٌ الْكِيسَ، وَنَثَرَ مَا فِيهِ فِي رَاحَتِهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا عَمْرُو؟ قَالَ: هَذَا وَأَمَانَةِ اللَّهِ سُمُّ سَاعَةٍ، قَالَ: لم تَحْتَقِبِ السُّمَّ؟ قَالَ: خَشِيتُ أَنْ تَكُونُوا عَلَى غَيْرِ مَا رَأَيْتُ، وَقَدْ أَتَيْتُ عَلَى أَجَلِي، وَالْمَوْتُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَكْرُوهٍ أُدْخِلُهُ عَلَى قَوْمِي وَأَهْلِ قَرْيَتِي فَقَالَ خَالِدٌ: إِنَّهَا لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَأْتِيَ عَلَى أَجَلِهَا، وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ خَيْرِ الأَسْمَاءِ، رَبِّ الأَرْضِ وَرَبِّ السَّمَاءِ، الَّذِي لَيْسَ يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ دَاءٌ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَأَهْوَوْا إِلَيْهِ لِيَمْنَعُوهُ مِنْهُ، وَبَادَرَهُمْ فَابْتَلَعَهُ، فَقَالَ عَمْرٌو: وَاللَّهِ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ لَتَمْلُكُنَّ مَا أَرَدْتُمْ مَا دَامَ مِنْكِم أَحَدٌ أَيُّهَا الْقرن وَأَقْبَلَ عَلَى أَهْلِ الْحِيرَةِ، فَقَالَ: لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ أَمْرًا أَوْضَحَ إِقْبَالا!

وَأَبَى خَالِدٌ أَنْ يُكَاتِبَهَمُ إِلا عَلَى إِسْلامِ كَرَامَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمَسِيحِ إِلَى شُوَيْلٍ، فَثَقَلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَتْ: هَوِّنُوا عَلَيْكُمْ وَأَسْلِمُوني، فَإِنِّي سَأَفْتَدِي. فَفَعَلُوا، وَكَتَبَ خَالِدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كِتَابًا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا عَاهَدَ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَدِيًّا وَعَمْرًا ابْنَيْ عَدِيٍّ، وَعَمْرَو بْنَ عَبْدِ الْمَسِيحِ وَإِيَاسَ بْنِ قَبِيصَةَ وَحيريَّ بْنِ أَكَّالٍ- وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: جبرى- وَهُمْ نُقَبَاءُ أَهْلِ الْحِيرَةِ، وَرَضِيَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْحِيرَةِ، وَأَمَرُوهُمْ بِهِ- عَاهَدَهُمْ عَلَى تِسْعِينَ وَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، تُقْبَلُ فِي كُلِّ سَنَةٍ جَزَاءً عَنْ أَيْدِيهِمْ فِي الدُّنْيَا، رُهْبَانِهِمْ وَقِسِّيسِهِمْ، إِلا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَلَى غَيْرِ ذِي يَدٍ، حَبِيسًا عَنِ الدُّنْيَا، تَارِكًا لَهَا- وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: إِلا مَنْ كَانَ غَيْرَ ذِي يَدٍ حَبِيسًا عَنِ الدُّنْيَا، تَارِكًا لَهَا- أَوْ سَائِحًا تَارِكًا لِلدُّنْيَا، وَعَلَى الْمَنْعَةِ، فَإِنْ لَمْ يَمْنَعْهُمْ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَمْنَعَهُمْ، وَإِنْ غَدَرُوا بِفِعْلٍ أَوْ بِقَوْلٍ فَالذِّمَّةُ مِنْهُمْ بَرِيئَةٌ وَكَتَبَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، وَدَفَعَ الْكِتَابَ إِلَيْهِمْ. فَلَمَّا كَفَرَ أَهْلُ السَّوَادِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي بَكْرٍ اسْتَخَفُّوا بِالْكِتَابِ، وَضَيَّعُوهُ، وَكَفَرُوا فِيمَنْ كَفَرَ، وَغَلَبَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ فَارِسَ، فَلَمَّا افْتَتَحَ الْمُثَنَّى ثَانِيَةً، أَدْلَوا بِذَلِكَ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ إِلَيْهِ، وَعَادَ بِشَرْطٍ آخَرَ، فَلَمَّا غَلَبَ الْمُثَنَّى عَلَى الْبِلادِ كَفَرُوا وَأَعَانُوا وَاسْتَخَفُّوا وَأَضَاعُوا الْكِتَابَ فَلَمَّا افْتَتَحَهَا سَعْدٌ، وَأَدْلَوا بِذَلِكَ سَأَلَهُمْ وَاحِدًا مِنَ الشَّرْطَيْنِ، فَلَمْ يَجِيئُوا بِهِمَا، فَوَضَعَ عَلَيْهِمْ وَتَحَرَّى مَا يَرَى أَنَّهُمْ مطيقون، فوضع عليهم أربعمائة أَلْفٍ سِوَى الْحَرَزةِ- قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: سِوَى الْخرزةِ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، عن سيف- والسري، عن

خبر ما بعد الحيرة

شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ- عن الغصن بن الْقَاسِم الْكِنَانِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ وَيُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالا: كَانَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مِمَّنْ خَرَجَ مَعَ خَالِدِ بْنِ سعيد بن العاصي إِلَى الشَّامِ، فَاسْتَأْذَنَ خَالِدًا إِلَى أَبِي بَكْرٍ لِيُكَلِّمَهُ فِي قَوْمِهِ وَلِيَجْمَعَهُمْ لَهُ، وَكَانُوا أَوْزَاعًا فِي الْعَرَبِ، وَلِيَتَخَلَّصَهُمْ، فَأَذِنَ لَهُ، فَقَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَذَكَرَ لَهُ عِدَةً مِنَ النَّبِيِّ ص وَأَتَاهُ عَلَى الْعِدَةِ بِشُهُودٍ، وَسَأَلَهُ إِنْجَازَ ذَلِكَ، فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ لَهُ: تَرَى شُغْلَنَا وَمَا نَحْنُ فِيهِ بِغَوْثِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ بِإِزَائِهِمْ مِنَ الأَسَدَيْنِ فَارِسَ وَالرُّومِ، ثُمَّ أَنْتَ تُكَلِّفُنِي التَّشَاغُلَ بِمَا لا يُغْنِي عَمَّا هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ! دَعْنِي وَسِرْ نَحْوَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَحْكُمُ اللَّهُ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. فَسَارَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى خَالِدٍ وَهُوَ بِالْحِيرَةِ، وَلَمْ يَشْهَدْ شَيْئًا مِمَّا كَانَ بِالْعِرَاقِ إِلا مَا كَانَ بَعْدَ الْحِيرَةِ، وَلا شَيْئًا مِمَّا كَانَ خَالِدٌ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَقَالَ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو فِي أَيَّامِ الْحِيرَةِ: سَقَى اللَّهُ قَتْلَى بِالْفُرَاتِ مُقِيمَةً ... وَأُخْرَى باثباج النِّجَافِ الْكَوَانِفِ فَنَحْنُ وَطِئْنَا بِالْكَوَاظِمِ هُرْمُزًا ... وَبِالثَّنِيِّ قَرْنَيْ قَارِنٍ بِالْجَوَارِفِ وَيَوْمَ أَحَطْنَا بِالْقُصُورِ تَتَابَعَتْ ... على الحيرة الروحاء إِحْدَى الْمَصَارِفِ حَطَطْنَاهُمْ مِنْهَا وَقَدْ كَادَ عَرْشُهُمْ ... يَمِيلُ بِهِمْ، فِعْلَ الْجَبَانِ الْمُخَالِفِ رَمَيْنَا عَلَيْهِمْ بِالْقَبُولِ وَقَدْ رَأَوْا ... غَبُوقَ الْمَنَايَا حَوْلَ تِلْكَ الْمَحَارِفِ صَبِيحَةَ قَالُوا نَحْنُ قَوْمٌ تَنَزَّلُوا ... إِلَى الرِّيفِ مِنْ أَرْضِ الْعُرَيْبِ الْمَقَانِفِ خبر ما بعد الحيرة حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ الزُّهْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ جَمِيلٍ الطَّائِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا أُعْطِيَ شُوَيْلٌ كَرَامَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمَسِيحِ

قُلْتُ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: أَلا تَعْجَبَ مِنْ مَسْأَلَةِ شُوَيْلٍ كَرَامَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمَسِيحِ عَلَى ضَعْفِهِ! قَالَ: كَانَ يَهْرِفُ بِهَا دَهْرَهُ، قَالَ: [وذلك انى لما سمعت رسول الله ص يَذْكُرُ مَا رُفِعَ لَهُ مِنَ الْبُلْدَانِ، فَذَكَرَ الْحِيرَةَ فِيمَا رُفِعَ لَهُ، وَكَأَنَّ شُرَفَ قُصُورِهَا أَضْرَاسُ الْكِلابِ،] عَرَفَتْ أَنْ قَدْ أُرِيهَا، وَأَنَّهَا ستفتح، فلقيته مَسْأَلَتَهَا. وَحدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، عَنْ سَيْفٍ، قال: قَالَ لِي عَمْرٌو وَالْمُجَالِدُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ- وَالسَّرِيِّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْمُجَالِدِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ- قَالَ: [لَمَّا قَدِمَ شُوَيْلٌ إِلَى خَالِدٍ، قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله ص يَذْكُرُ فَتْحَ الْحِيرَةَ، فَسَأَلْتُهُ كَرَامَةً، فَقَالَ: هِيَ لَكَ إِذَا فُتِحَتْ عَنْوَةً] وَشَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ، وَعَلَى ذَلِكَ صَالَحَهُمْ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهَا وَأَهْلِ قَرْيَتِهَا مَا وَقَعَتْ فِيهِ، وَأَعْظَمُوا الْخَطَرَ، فَقَالَتْ: لا تَخْطُرُوهُ، وَلَكِنِ اصْبِرُوا، مَا تَخَافُونَ عَلَى امْرَأَةٍ بَلَغَتْ ثَمَانِينَ سَنَةً! فَإِنَّمَا هَذَا رَجُلٌ أَحْمَقُ رَآنِي فِي شَبِيبَتِي فَظَنَّ أَنَّ الشَّبَابَ يَدُومُ. فَدَفَعُوهَا إِلَى خَالِدٍ، فَدَفَعَهَا خَالِدٌ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: مَا أَرَبُكَ إِلَى عَجُوزٍ كَمَا تَرَى! فَادَنِي، قَالَ: لا، إِلا عَلَى حُكْمِي، قَالَتْ: فَلَكَ حُكْمُكَ مُرْسَلا فَقَالَ: لَسْتِ لأُمِّ شُوَيْلٍ إِنْ نَقَصْتُكِ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ! فَاسْتَكْثَرَتْ ذَلِكَ لِتَخْدَعَهُ، ثُمَّ أَتَتْهُ بِهَا فَرَجَعَتْ إِلَى أَهْلِهَا، فَتَسَامَعَ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَعَنَّفُوهُ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ عَدَدًا يَزِيدُ عَلَى أَلْفٍ! فَأَبَوْا عَلَيْهِ إِلا أَنْ يُخَاصِمَهُمْ فَخَاصَمَهُمْ، فَقَالَ: كَانَتْ نِيَّتِي غَايَةَ الْعَدَدِ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْعَدَدَ يَزِيدُ عَلَى أَلْفٍ، فَقَالَ خَالِدٌ: أَرَدْتَ أَمْرًا وَأَرَادَ اللَّهُ غَيْرَهُ، نَأْخُذُ بِمَا يَظْهَرُ وَنَدَعْكَ وَنِيَّتَكَ، كَاذِبًا كُنْتَ أَوْ صَادِقًا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: لَمَّا فَتَحَ خَالِدٌ الْحِيرَةَ صَلَّى صَلاةَ الْفَتْحِ ثَمَانِي رَكَعَاتٍ لا يُسَلِّمُ فِيهِنَّ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَقَالَ: لَقَدْ قَاتَلْتُ يَوْمَ مُؤْتَةَ فَانْقَطَعَ فِي يدي تسعه

أَسْيَافٍ، وَمَا لَقِيتُ قَوْمًا كَقَوْمٍ لَقِيتُهُمْ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، وَمَا لَقِيتُ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ قَوْمًا كَأَهْلِ أُلَيْسَ! حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَمْرٍو وَالْمُجَالِدِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: صَلَّى خَالِدٌ صَلاةَ الْفَتْحِ، ثُمَّ انْصَرَفَ ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ السَّرِيِّ. حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف- والسري، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ- عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ- وَكَانَ قَدِمَ مَعَ جَرِيرٍ عَلَى خَالِدٍ- قَالَ: أَتَيْنَا خَالِدًا بِالْحِيرَةِ وَهُوَ مُتَوَشِّحٌ قَدْ شَدَّ ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ يُصَلِّي فِيهِ وَحْدَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَقَالَ: انْدَقَّ فِي يَدِي تِسْعَةُ أَسْيَافٍ يَوْمَ مُؤْتَةَ، ثُمَّ صَبَرَتْ فِي يَدِي صَفِيحَةٌ يَمَانِيَّةٌ، فَمَا زَالَتْ مَعِي. حَدَّثَنَا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عن أبي عُثْمَانَ وَطَلْحَةَ بْنِ الأَعْلَمِ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عتيبة والغصن ابن الْقَاسِمِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ وَسُفْيَانَ الأحمري عن ماهان، قال: وَلَمَّا صَالَحَ أَهْلُ الْحِيرَةِ خَالِدًا خَرَجَ صَلُوبَا بْنُ نسطُونَا صَاحِبُ قِسِّ النَّاطِفِ، حَتَّى دَخَل عَلَى خَالِدٍ عَسْكَرَهَ، فَصَالَحَهُ عَلَى بَانِقْيَا وَبسمَا، وَضَمَنَ لَهُ مَا عَلَيْهِمَا وَعَلَى أَرْضَيْهِمَا مِنْ شَاطِئِ الْفُرَاتِ جَمِيعًا، وَاعْتَقَدَ لِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَقَوْمِهِ عَلَى عَشَرَةِ آلافِ دِينَارٍ سِوَى الْخرزةِ، خرزةِ كِسْرَى، وَكَانَتْ عَلَى كُلِّ رَأْسٍ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا فَتَمُّوا وَتَمَّ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ عَلَيْهِ فِي حَالِ غَلَبَةِ فَارِسَ بِغَدْرٍ، وَشَارَكَهُمُ الْمُجَالِدُ فِي الْكِتَابِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ لِصَلُوبَا بْنِ نسطونَا وَقَوْمِهِ، إِنِّي عَاهَدْتُكُمْ عَلَى الْجِزْيَةِ وَالْمَنْعَةِ، عَلَى كُلِّ ذِي يَدٍ، بَانِقْيَا وبسما جَمِيعًا، عَلَى عَشَرَةِ آلافِ دِينَارٍ سِوَى الْخرزةِ، القوى على

قَدْرِ قُوَّتِهِ، وَالْمُقِلُّ عَلَى قَدْرِ إِقْلالِهِ، فِي كُلِّ سَنَةٍ وَإِنَّكَ قَدْ نَقَبْتَ عَلَى قَوْمِكَ، وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ رَضُوا بِكَ، وَقَدْ قَبِلْتُ وَمَنْ مَعِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَرَضِيتُ وَرَضِيَ قَوْمُكَ، فَلَكَ الذِّمَّةُ وَالْمَنْعَةُ، فَإِنْ مَنَعْنَاكُمْ فَلَنَا الْجِزْيَةُ، وَإِلا فلا حَتَّى نَمْنَعَكُمْ شَهِدَ هِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَالْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحِمْيَرِيُّ، وَحَنْظَلَةُ بْنُ الرَّبِيعِ وَكَتَبَ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِي صَفَرٍ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مِكْنَفٍ، وَطَلْحَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ، وَسُفْيَانَ عَنْ مَاهَانَ وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عن أبي عُثْمَان، وَطَلْحَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: كَانَ الدَّهَّاقِينُ يَتَرَبَّصُونَ بِخَالِدٍ وَيَنْظُرُونَ مَا يَصْنَعُ أَهْلُ الْحِيرَةِ فَلَمَّا اسْتَقَامَ مَا بَيْنَ أَهْلِ الْحِيرَةِ وَبَيْنَ خَالِدٍ، وَاسْتَقَامُوا لَهُ أَتَتْهُ دَهَّاقِينُ الْمِلْطَاطَيْنِ، وَأَتَاهُ زَاذُ بْنُ بهيشٍ دِهْقَانُ فُرَاتِ سريا، وَصلوبَا بْنُ نسطونَا بْنِ بصبهرى- هَكَذا فِي حَدِيثِ السَّرِيِّ، وقال عبيد الله: صلوبا بْنُ نسطونَا بْنِ بصبهرى- هَكَذا فِي حَدِيثِ السَّرِيِّ، وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: صلوبا بْنُ بصبهرى ونسطونا- فَصَالَحُوهُ عَلَى مَا بَيْنَ الْفَلالِيجِ إِلَى هرمزجرد عَلَى أَلْفَيْ أَلْفٍ- وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ فِي حَدِيثِهِ: عَلَى أَلْفِ أَلْفٍ ثَقِيلٍ- وَأَنَّ لِلْمُسْلِمِينَ مَا كَانَ لآلِ كِسْرَى وَمَنْ مَالَ مَعَهُمْ عَنِ الْمُقَامِ فِي دَارِهِ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الصُّلْحِ وَضَرَبَ خَالِدٌ رِوَاقَهُ فِي عَسْكَرِهِ، وَكَتَبَ لهم كتابا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ لِزَاذَ بْنِ بهيش وصلوبا بن نسطونا، لَكُمُ الذِّمَّةَ وَعَلَيْكُمُ الْجِزْيَةَ، وَأَنْتُمْ ضَامِنُونَ لِمَنْ نَقَبْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْبَهْقَبَاذِ الأَسْفَلِ وَالأَوْسَطِ- وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: وَأَنْتُمْ ضَامِنُونَ جِزْيَةَ مَنْ نقبتم عليه- على الفى الف ثقيل في كل سنه، عن كُلّ ذِي يَدٍ سِوَى مَا عَلَى بَانِقْيَا وَبسمَا وَإِنَّكُمْ قَدْ أَرْضَيْتُمُونِي وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا قَدْ أَرْضَيْنَاكُمْ وَأَهْلَ الْبَهْقَبَاذِ

الأَسْفَلِ، وَمَنْ دَخَلَ مَعَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَهْقَبَاذِ الأَوْسَطِ عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَيْسَ فِيهَا مَا كَانَ لآلِ كِسْرَى وَمَنْ مَالَ مَيْلَهُمْ شَهِدَ هِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَالْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَجَرِيرُ بْنُ عبد الله الحميرى، وبشير بن عبيد اللَّهِ بْنِ الْخَصَّاصِيَّةِ، وَحَنْظَلَةُ بْنُ الرَّبِيعِ وَكَتَبَ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِي صَفَرَ وَبَعَثَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عُمَّالَهُ وَمَسَالِحَهُ، فَبَعَثَ فِي الْعِمَالَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ وَثِيمَةَ النَّصْرِيَّ، فَنَزَلَ فِي أَعْلَى الْعَمَلِ بِالْفَلالِيجِ عَلَى الْمَنْعَةِ وَقَبَضَ الْجِزْيَةَ، وَجَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى بَانِقْيَا وَبسمَا، وَبَشِيرَ بْنَ الْخَصَّاصِيَّةِ عَلَى النَّهْرَيْنِ فَنَزَلَ الْكُوَيْفَةَ ببانبورا، وسويد بن مقرن المزنى الى نستر، فَنَزَلَ الْعَقْرَ- فَهِيَ تُسَمَّى عَقْرَ سُوَيْدٍ إِلَى الْيَوْمِ، وَلَيْسَتْ بِسُوَيْدٍ الْمِنْقَرِيِّ سُمِّيَتْ- وأَطَّ بْنَ أَبِي أَطٍّ إِلَى روذمستانَ، فَنَزَلَ مَنْزِلا عَلَى نَهْرٍ سُمِّيَ ذَلِكَ النَّهْرُ بِهِ- وَيُقَالُ لَهُ: نَهْرُ أَطٍّ إِلَى الْيَوْمِ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ، فَهَؤُلاءِ كَانُوا عُمَّالَ الْخَراجِ زَمَنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ. وَكَانَتِ الثُّغُورُ فِي زَمَنِ خَالِدٍ بِالسَّيْبِ، بَعَثَ ضِرَارَ بن الأزور وضرار ابن الْخَطَّابِ وَالْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ وَضِرَارَ بْنَ مُقَرِّنٍ وَالْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو وَبُسْرَ بْنَ أَبِي رُهْمٍ وَعُتَيْبَةَ بْنَ النَّهَّاسِ، فَنَزَلُوا عَلَى السَّيْبِ فِي عَرْضِ سُلْطَانِهِ فَهَؤُلاءِ أُمَرَاءُ ثُغُورِ خَالِدٍ وَأَمَرَهُمْ خَالِدٌ بِالْغَارَةِ وَالإِلْحَاحِ، فَمَخَرُوا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ إِلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ. قَالُوا: وَلَمَّا غَلَبَ خَالِدٌ عَلَى أَحَدِ جَانِبَيِ السَّوَادِ، دَعَا مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ بِرَجُلٍ، وَكَتَبَ مَعَهُ إِلَى أَهْلِ فَارِسَ وَهُمْ بِالْمَدَائِنِ مُخْتَلِفُونَ مُتَسَانِدُونَ لِمَوْتِ أَرْدَشِيرَ، إِلا أَنَّهُمْ قَدْ أَنَزَلُوا بهمنَ جَاذُوَيْهِ بِبَهُرَسِيرَ، وَكَأَنَّهُ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ، وَمَعَ بهمنَ جَاذُوَيْهِ الآزَاذبَةَ فِي أَشْبَاهٍ لَهُ، وَدَعَا صَلُوبَا بِرَجُلٍ، وَكَتَبَ مَعَهُمَا كِتَابَيْنِ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَإِلَى الْخَاصَّةِ وَأَمَّا الآخَرُ فَإِلَى الْعَامَّةِ، أَحَدُهُمَا حِيرِيٌّ وَالآخَرُ نِبْطِيٌّ. وَلَمَّا قَالَ خَالِدٌ لِرَسُولِ أَهْلِ الْحِيرَةِ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: مُرَّةٌ، قَالَ: خُذِ

الْكِتَابَ فَأْتِ بِهِ أَهْلَ فَارِسَ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُمِرَّ عَلَيْهِمْ عَيْشَهُمْ، أَوْ يُسْلِمُوا، أَوْ يُنِيبُوا وَقَالَ لِرَسُولِ صلُوبَا: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: هِزْقِيلُ، قَالَ: فَخُذِ الْكِتَابَ. وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَزْهِقْ نُفُوسَهُمْ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُجَالِدٍ وَغَيْرِهِ، بِمِثْلِهِ. وَالْكِتَابَانِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى مُلُوكِ فَارِسَ، أَمَّا بَعْدُ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي حَلَّ نِظَامَكُمْ، وَوَهَنَ كَيْدَكُمْ، وَفَرَّقَ كَلِمَتَكُمْ، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بِكُمْ كَانَ شَرًّا لَكُمْ، فَادْخُلُوا فِي أَمْرِنَا نَدَعْكُمْ وَأَرْضَكُمْ، وَنُجَوِّزْكُمْ إِلَى غَيْرِكُمْ، وَإِلا كَانَ ذَلِكَ وَأَنْتُمْ كَارِهُونَ عَلَى غَلَبٍ، عَلَى أَيْدِي قَوْمٍ يُحِبُّونَ الْمَوْتَ كَمَا تُحِبُّونَ الْحَيَاةَ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى مَرَازِبَةِ فَارِسَ، أَمَّا بَعْدُ فَأَسْلِمُوا تَسْلَمُوا، وَإِلا فَاعْتَقِدُوا مِنِّي الذِّمَّةَ، وَأَدُّوا الْجِزْيَةَ، وَإِلا فَقَدْ جِئْتُكُمْ بِقَوْمٍ يُحِبُّونَ الْمَوْتَ، كَمَا تُحِبُّونَ شُرْبَ الْخَمْرِ. حَدَّثَنِي عبيد الله، قال: حدثني عمي، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّد بْن نويرة، عن أبي عثمان والسري، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مُحَمَّد بْن عبد اللَّه، عن أبي عثمان والمهلب بْن عقبة وزياد بْن سرجس، عن سياه وسفيان الأحمري، عن ماهان: أن الخراج جبي إلى خالد في خمسين ليلة، وكان الذين ضمنوه والذين هم رءوس الرساتيق رهنا في يده، فأعطى ذلك كله للمسلمين، فقووا به على أمورهم وكان أهل فارس بموت أردشير مختلفين في الملك، مجتمعين على قتال خالد، متساندين، وكانوا بذلك سنة، والمسلمون يمخرون ما دون دجلة، وليس لأهل فارس فيما بين الحيرة ودجلة أمر، وليست لأحد منهم ذمة إلا الذين كاتبوه واكتتبوا منه، وسائر أهل السواد جلاء، ومتحصنون، ومحاربون واكتتب عمال الخراج، وكتبوا البراءات لأهل الخراج، من نسخة واحدة:

بسم اللَّه الرحمن الرحيم براءة لمن كان من كذا وكذا من الجزية التي صالحهم عليها الأمير خالد بْن الوليد، وقد قبضت الذي صالحهم عليه خالد، وخالد والمسلمون لكم يد على من بدل صلح خالد، ما أقررتم بالجزية وكففتم أمانكم أمان، وصلحكم صلح، نحن لكم على الوفاء وأشهدوا لهم النفر من الصحابة الذين كان خالد أشهدهم: هشاما، والقعقاع، وجابر بْن طارق، وجريرا، وبشيرا، وحنظلة، وأزداذ، والحجاج بْن ذي العنق، ومالك بْن زيد. حَدَّثَنَا عبيد اللَّه، قال: حَدَّثَنِي عمي، عن سيف، عن عطية بن الحارث، عن عبد خير، قال: وخرج خالد وقد كتب أهل الحيرة عنه كتابا: إنا قد أدينا الجزية التي عاهدنا عليها خالد العبد الصالح والمسلمون عباد اللَّه الصالحون، على أن يمنعونا وأميرهم البغي من المسلمين وغيرهم. وأما السري، فإنه قال في كتابه إلي: حَدَّثَنَا شعيب، عن سيف، عن عطية بن الحارث، عن عبد خير، عن هشام بْن الوليد، قال: فرغ خالد. ثم سائر الحديث مثل حديث عبيد اللَّه بْن سعد. حَدَّثَنَا عبيد اللَّه، قال: حدثني عمي، عن سيف- والسري، عن شعيب عن سيف- عن عبد العزيز بن سياه، عن حبيب بْن أبي ثابت، عن ابن الهذيل الكاهلي نحوا منه، قالوا: وأمر الرسولين اللذين بعثهما أن يوافياه بالخبر، وأقام خالد في عمله سنة، ومنزله الحيرة، يصعد ويصوب قبل خروجه إلى الشام، وأهل فارس يخلعون ويملكون، ليس إلا الدفع عن بهرسير، وذلك أن شيرى بْن كسرى قتل كل من كان يناسبه إلى كسرى بْن قباذ، ووثب أهل فارس بعده وبعد أردشير ابنه، فقتلوا كل من بين كسرى بْن قباذ وبين بهرام جور، فبقوا لا يقدرون على من يملكونه ممن يجتمعون عليه

حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، قال: حدثني سيف، عن عمرو والمجالد، عن الشعبي، قَالَ: أَقَامَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِيمَا بَيْنَ فَتْحِ الْحِيرَةِ إِلَى خُرُوجِهِ إِلَى الشَّامِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ، يُعَالِجُ عَمَلَ عِيَاضٍ الَّذِي سُمِّيَ لَهُ، وَقَالَ خَالِدٌ لِلْمُسْلِمِينَ: لَوْلا مَا عَهِدَ إِلَيَّ الْخَلِيفَةُ لَمْ أَتَنَقَّذْ عِيَاضًا، وَكَانَ قَدْ شَجِيَ وَأَشْجَى بِدُومَةٍ، وَمَا كَانَ دُونَ فَتْحِ فَارِسَ شَيْءٌ، إِنَّهَا لَسُنَّةٌ كَأَنَّهَا سنة نساء وَكَانَ عَهِدَ إِلَيْهِ أَلا يَقْتَحِمَ عَلَيْهِمْ وَخَلْفَهُ نِظَامٌ لَهُمْ وَكَانَ بِالْعَيْنِ عَسْكَرٌ لِفَارِسَ وَبِالأَنْبَارِ آخَرُ وَبِالْفَرَاضِ آخَرُ وَلَمَّا وَقَعَتْ كُتُبُ خَالِدٍ إِلَى أَهْلِ الْمَدَائِنِ تَكَلَّمَ نِسَاءُ آلِ كِسْرَى، فَوَلِيَ الْفَرْخَزَاذُ بْنُ الْبَنْدَوَانِ إِلَى أَنْ يَجْتَمِعَ آلُ كِسْرَى عَلَى رَجُلٍ إِنْ وَجَدُوهُ. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عن أبي عثمان، وَطَلْحَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ، وَالْمُهَلَّبِ عَنْ سِيَاهٍ، وَسُفْيَانَ عَنْ مَاهَانَ، قَالُوا: كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ عَهِدَ إِلَى خَالِدٍ أَنْ يَأْتِيَ الْعِرَاقَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهَا، وَإِلَى عِيَاضٍ أَنْ يَأْتِيَ الْعِرَاقَ مِنْ فَوْقِهَا، وَأَيُّكُمَا مَا سَبَقَ إِلَى الْحِيرَةِ فَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الْحِيرَةِ، فَإِذَا اجْتَمَعْتُمَا بِالْحِيرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَقَدْ فَضَضْتُمَا مَسَالِحَ مَا بَيْنَ الْعَرَبِ وَفَارِسَ وَأَمِنْتُمْ أَنْ يُؤْتَى الْمُسْلِمُونَ مِنْ خَلْفِهِمْ فَلْيَقُمْ بِالْحِيرَةِ أَحَدُكُمَا، وَلْيَقْتَحِمِ الآخَرُ عَلَى الْقَوْمِ، وَجَالِدُوهُمْ عَمَّا فِي أَيْدِيهِمْ، وَاسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاتَّقُوهُ، وَآثِرُوا أَمْرَ الآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا يَجْتَمِعَا لَكُمْ، وَلا تُؤْثِرُوا الدُّنْيَا فَتُسْلَبُوهُمَا. وَاحْذَرُوا مَا حَذَّرَكُمُ اللَّهُ بِتَرْكِ الْمَعَاصِي وَمُعَاجَلَةِ التَّوْبَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالإِصْرَارَ وَتَأْخِيرَ التَّوْبَةِ. فَأَتَى خَالِدٌ عَلَى مَا كَانَ أُمِرَ بِهِ، وَنَزَلَ الْحِيرَةَ، وَاسْتَقَامَ لَهُ مَا بَيْنَ الْفَلالِيجِ إِلَى أَسْفَلِ السَّوَادِ، وَفَرَّقَ سَوَادَ الْحِيرَةِ يَوْمَئِذٍ عَلَى جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحِمْيَرِيِّ. وَبَشِيرِ بْنِ الْخَصَّاصِيَّةِ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَاشِمَةِ، وَابْنِ ذِي الْعُنُقِ، وَأَطٍّ، وَسُوَيْدٍ وَضِرَارٍ، وَفَرَّقَ سَوادَ الأُبُلَّةِ عَلَى سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ، وَحَسْكَةَ الْحبطِيِّ، وَالْحُصَيْنِ بْنِ أَبِي الْحُرِّ، وَرَبِيعَةَ بْنِ عَسَلٍ، وَأَقَرَّ الْمَسَالِحَ على ثغورهم،

حديث الأنبار - وهي ذات العيون - وذكر كلواذى

وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْحِيرَةِ الْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو وَخَرَجَ خَالِدٌ فِي عَمَلِ عِيَاضٍ لِيَقضيَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَلإِغَاثَتِهِ، فَسَلَكَ الْفَلُّوجَةَ حَتَّى نَزَلَ بِكَرْبلاءَ وَعَلَى مَسْلَحَتِهَا عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَلَى مُقَدِّمَةِ خَالِدٍ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، لأَنَّ الْمُثَنَّى كَانَ عَلَى ثَغْرٍ مِنَ الثُّغُورِ الَّتِي تَلِي الْمَدَائِنَ، فَكَانُوا يُغَاوِرُونَ أَهْلَ فَارِسَ، وَيَنْتَهُونَ إِلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ قَبْلَ خُرُوجِ خَالِدٍ مِنَ الْحِيرَةِ وَبَعْدِ خُرُوجِهِ فِي إِغَاثَةِ عِيَاضٍ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن أبي روق، عَمَّنْ شَهِدَهُمْ بِمِثْلِهِ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَأَقَامَ خالد على كربلاء ايام، وَشَكَا إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَثِيمَةَ الذُّبَابَ، فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: اصْبِرْ فَإِنِّي إِنَّمَا أريد أَنْ أَسْتَفْرِغَ الْمَسَالِحَ الَّتِي أَمَرَ بِهَا عِيَاضٌ فَنُسْكِنَهَا الْعَرْبَ، فَتَأْمَنَ جُنُودُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُؤْتَوْا مِنْ خَلْفِهِمْ، وَتَجَيئَنَا الْعَرَبُ أمَنَةً وَغَيْرَ مُتَعْتَعَةٍ، وَبِذَلِكَ أَمَرَنَا الْخَلِيفَةُ، وَرَأْيُهُ يَعْدِلُ نَجْدَةَ الأُمَّةِ وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ فِيمَا حَكَى ابْنُ وَثِيمَةَ: لَقَدْ حُبِسَتْ فِي كَرْبِلاءِ مَطِيَّتِي ... وَفِي العين حتى عاد غثا سمينها إذا زحلت مِنْ مَبْرَكٍ رَجَعَتْ لَهُ ... لَعَمْرُ أَبِيهَا إِنَّنِي لأُهِينُهَا وَيَمْنَعُهَا مِنْ مَاءِ كُلِّ شَرِيعَةٍ ... رِفَاقٌ مِنَ الذِّبَّانِ زُرْقٌ عُيُونُهَا حديث الأنبار- وهي ذات العيون- وذكر كلواذى كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وَأَصْحَابِهِمَا، قَالُوا: خَرَجَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي تَعْبِيَتِهِ الَّتِي خَرَجَ فِيهَا مِنَ الْحِيرَةِ، وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فَلَمَّا نَزَلَ الأَقْرَعُ الْمَنْزِلَ الَّذِي يُسَلِّمُهُ إِلَى الأَنْبَارِ أَنْتَجَ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِبِلَهُمْ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا الْعَرَجَةَ،

وَلَمْ يَجِدُوا بُدًّا مِنَ الإِقْدَامِ، وَمَعَهُمْ بَنَاتُ مُخَاضٍ، تَتْبَعُهُمْ فَلَمَّا نُودِيَ بِالرَّحِيلِ صَرُّوا الأُمَّهَاتِ، وَاحْتَقَبُوا الْمَنْتُوجَاتِ، لأَنَّهَا لَمْ تُطِقِ السَّيْرَ، فَانْتَهُوا رُكْبَانًا إِلَى الأَنْبَارِ، وَقَدْ تَحَصَّنَ أَهْلُ الأَنْبَارِ، وَخَنْدَقُوا عَلَيْهِمْ، وَأَشْرَفُوا مِنْ حِصْنِهِمْ، وَعَلَى تِلْكَ الجنود شيرزاد صَاحِبُ سَابَاطَ- وَكَانَ أَعْقَلَ أَعْجَمِيٍّ يَوْمَئِذٍ وَأَسْوَدَهُ وَأَقْنَعَهُ فِي النَّاسِ: الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ- فَتَصَايَحَ عَرَبُ الأَنْبَارِ يَوْمَئِذٍ مِنَ السُّورِ، وَقَالُوا: صبح الأنبار شر، جمل يحمل جميلة وجمل تربه عوذ فقال شيرزاد: مَا يَقُولُونَ؟ فَفَسَّرَ لَهُ، فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلاءِ فَقَدْ قَضَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ إِذَا قَضَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ قَضَاءً كَادَ يُلْزِمُهُمْ، وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ يَكُنْ خَالِدٌ مُجْتَازًا لأُصَالِحَنَّهُ، فبيناهم كَذَلِكَ قَدِمَ خَالِدٌ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ، فَأَطَافَ بِالْخَنْدَقِ، وَأَنْشَبَ الْقِتَالَ، وَكَانَ قَلِيلَ الصَّبْرِ عَنْهُ إِذَا رَآهُ أَوْ سَمِعَ بِهِ، وَتَقَدَّمَ إِلَى رُمَاتِهِ، فَأَوْصَاهُمْ وَقَالَ: إِنِّي أَرَى أَقْوَامًا لا عِلْمَ لَهُمْ بِالْحَرْبِ، فَارْمُوا عُيُونَهُمْ وَلا تَوَخُّوا غَيْرَهَا، فَرَمَوْا رَشْقًا وَاحِدًا، ثُمَّ تَابَعُوا، فَفُقِئَ أَلْفُ عَيْنٍ يَوْمَئِذٍ، فَسُمِّيَتْ تِلْكَ الْوَقْعَةُ ذَاتَ الْعُيُونِ، وَتَصَايَحَ الْقَوْمُ: ذَهَبَتْ عُيُونُ أَهْلِ الأَنْبَارِ! فَقَالَ شِيرَزَاذُ: مَا يَقُولُونَ؟ فَفَسَّرَ لَهُ، فَقَالَ: آباذ آباذ فَرَاسَلَ خَالِدًا فِي الصُّلْحِ عَلى أَمْرٍ لَمْ يَرْضَهُ خَالِدٌ، فَرَدَّ رُسُلَهُ، وَأَتَى خَالِدٌ أَضْيَقَ مَكَانٍ فِي الْخَنْدَقِ بِرَذَايَا الْجَيْشِ فَنَحَرَهَا، ثُمَّ رَمَى بِهَا فِيهِ فَأَفْعَمَهُ، ثُمَّ اقْتَحَمَ الخندق- والردايا جُسُورُهُمْ- فَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ فِي الْخَنْدَقِ وَأَرَزَ القوم الى حصنهم، وراسل شيرزاد خَالِدًا فِي الصُّلْحِ عَلَى مَا أَرَادَ، فَقَبِلَ مِنْهُ عَلَى أَنْ يُخَلِّيَهُ وَيُلْحِقَهُ بِمَأْمَنِهِ فِي جَرِيدَةِ خَيْلٍ، لَيْسَ مَعَهُمْ مِنَ الْمَتَاعِ وَالأَمْوَالِ شيء، فخرج شيرزاد، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى بهمنَ جَاذُوَيْهِ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ لامَهُ، فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ فِي قَوْمٍ لَيْسَتْ لَهُمْ عُقُولٌ، وَأَصْلُهُمْ مِنَ الْعَرَبِ، فَسَمِعْتُهُمْ مَقْدَمَهُمْ عَلَيْنَا يَقْضُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَقَلَّمَا قَضَى قَوْمٌ عَلَى أَنْفُسِهِمْ قَضَاءً إِلا وَجَبَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ قاتلهم الجند،

فَفَقَئُوا فِيهِمْ وَفِي أَهْلِ الأَرْضِ أَلْفَ عَيْنٍ، فَعَرَفْتُ أَنَّ الْمُسَالَمَةَ أَسْلَمُ وَلَمَّا اطْمَأَنَّ خَالِدٌ بِالأَنْبَارِ وَالْمُسْلِمُونَ، وَأَمِنَ أَهْلَ الأَنْبَارِ وَظَهَرُوا، رَآهُمْ يَكْتُبُونَ بِالْعَرَبِيَّةِ وَيَتَعَلَّمُونَهَا، فَسَأَلَهُمْ: مَا أَنْتُمْ؟ فَقَالُوا: قَوْمٌ مِنَ الْعَرَبِ، نَزَلْنَا إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْعَرَبِ قَبْلَنَا- فَكَانَتْ أَوَائِلَهُمْ نَزَلُوهَا أَيَّامَ بُخْتَنَصَّرَ حِينَ أَبَاحَ الْعَرَبُ، ثُمَّ لَمْ تَزَلْ عَنْهَا- فَقَالَ: مِمَّنْ تَعَلَّمْتُمُ الْكِتَابَ؟ فَقَالُوا: تَعَلَّمْنَا الْخَطَّ مِنْ إِيَادٍ، وَأَنْشَدُوهُ قَوْلَ الشَّاعِرِ: قَوْمِي إِيَادٌ لَوْ أَنَّهُمْ أَمَمُ ... أَوْ لَوْ أَقَامُوا فَتُهْزَلُ النَّعَمُ قَوْمٌ لَهُمْ بَاحَةُ الْعِرَاقِ إِذَا ... سَارُوا جَمِيعًا وَالْخَطُّ وَالْقَلَمُ وَصَالَحَ خَالِدٌ مَنْ حَوْلَهُمْ، وَبَدَأَ بِأَهْلِ الْبَوَازِيجِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ أَهْلُ كَلْوَاذَى وعقد لَهُمْ، فَكَاتَبَهُمْ فَكَانُوا عيبته مِنْ وَرَاءِ دِجْلَةَ ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الأَنْبَارِ وَمَا حَوْلَهَا نَقَضُوا فِيمَا كَانَ يَكُونُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ مِنَ الدُّوَلِ مَا خَلا أَهْلُ الْبَوَازِيجِ، فَإِنَّهُمْ ثَبَتُوا كَمَا ثَبَتَ أَهْلُ بَانِقْيَا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبد العزيز- يعني ابن سياه- عن حبيب بْن أبي ثابت، قال: ليس لأحد من أهل السواد عقد قبل الوقعة إلا بني صلوبا- وهم أهل الحيرة- وكلواذى، وقرى من قرى الفرات، ثم غدروا حتى دعوا إلى الذمة بعد ما غدروا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مُحَمَّد بْن قيس، قال: قلت للشعبي: أخذ السواد عنوة؟ قال: نعم، وكل أرض إلا بعض القلاع والحصون، فإن بعضهم صالح به، وبعضهم غلب فقلت: فهل لأهل السواد ذمة اعتقدوها قبل الهرب؟ قال: لا، ولكنهم لما دعوا ورضوا بالخراج وأخذ منهم صاروا ذمة

خبر عين التمر

خبر عين التمر كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وَزِيَادٍ، قَالُوا: وَلَمَّا فَرَغَ خَالِدٌ مِنَ الأَنْبَارِ، وَاسْتُحْكِمَتْ لَهُ، اسْتَخْلَفَ عَلَى الأَنْبَارِ الزِّبْرَقَانَ بْنَ بَدْرٍ، وَقَصَدَ لِعَيْنِ التَّمْرِ، وَبِهَا يَوْمَئِذٍ مِهْرَانُ بْنُ بَهْرَامَ جوبين فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ مِنَ الْعَجَمِ، وَعَقَّةُ بْنُ أَبِي عَقَّةَ فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ مِنَ الْعَرَبِ مِنَ النَّمِرِ وَتَغْلِبَ وَإِيَادٍ وَمَنْ لافَهُمْ فَلَمَّا سَمِعُوا بِخَالِدٍ قَالَ عَقَّةُ لِمِهْرَانَ: إِنَّ الْعَرَبَ أَعْلَمُ بِقِتَالِ الْعَرَبِ، فَدَعْنَا وَخَالِدًا، قَالَ: صَدَقْتَ، لَعَمْرِي لأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِقِتَالِ الْعَرَبِ، وَإِنَّكُمْ لَمِثْلُنَا فِي قِتَالِ الْعَجَمِ فَخَدَعَهُ وَاتَّقَى بِهِ، وَقَالَ: دُونَكُمُوهُمْ وَإِنِ احْتَجْتُمْ إِلَيْنَا أَعَنَّاكُمْ فَلَمَّا مَضَى نَحْوَ خَالِدٍ قَالَتْ لَهُ الأَعَاجِمُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَقُولَ هَذَا الْقَوْلَ لِهَذَا الْكَلْبِ! فَقَالَ: دَعُونِي فَإِنِّي لَمْ أَرُدَّ إِلا مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَشَرٌّ لَهُمْ، إِنَّهُ قَدْ جَاءَكُمْ مَنْ قَتْلَ مُلُوكَكُمْ، وَفَلَّ حَدَّكُمْ، فَاتَّقَيْتُهُ بِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ عَلَى خَالِدٍ فَهِيَ لَكُمْ، وَإِنْ كَانَتِ الأُخْرَى لَمْ تَبْلُغُوا مِنْهُمْ حَتَّى يَهِنُوا، فَنُقَاتِلَهُمْ وَنَحْنُ أَقْوِيَاءُ وَهُمْ مُضْعَفُونَ. فَاعْتَرَفُوا لَهُ بِفَضْلِ الرَّأْيِ، فَلَزَمَ مِهْرَانُ الْعَيْنَ، وَنَزَلَ عَقَّةُ لِخَالِدٍ عَلَى الطَّرِيقِ، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ بُجَيْرُ بْنُ فُلانٍ أَحَدُ بَنِي عُتْبَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُهَيْرٍ، وَعَلَى ميسرته الهذيل ابن عِمْرَانَ، وَبَيْنَ عَقَّةَ وَبَيْنَ مِهْرَانَ رَوْحَةٌ أَوْ غَدْوَةٌ، وَمِهْرَانُ فِي الْحِصْنِ فِي رَابِطَةِ فَارِسَ، وَعَقَّةُ عَلَى طَرِيقِ الْكَرْخِ كَالْخَفِيرِ فَقَدِمَ عَلَيْهِ خَالِدٌ وَهُوَ فِي تَعْبِئَةِ جُنْدِهِ، فَعَبَّى خَالِدٌ جُنْدَهُ وَقَالَ لِمُجَنِّبَتَيْهِ: اكْفُونَا مَا عِنْدَهُ، فَإِنِّي حَامِلٌ، وَوَكَّلَ بِنَفْسِهِ حَوَامِي، ثُمَّ حَمَلَ وَعَقَّةُ يُقِيمُ صُفُوفَهُ، فَاحْتَضَنَهُ فَأَخَذَهُ أَسِيرًا، وَانْهَزَمَ صَفَّهُ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، فَأَكْثَرُوا فِيهِمُ الأَسْرَ، وَهَرَبَ بُجَيْرٌ وَالْهُذَيْلُ، وَاتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَلَمَّا جَاءَ الْخَبَرُ مِهْرَانَ هَرَبَ فِي جُنْدِهِ، وَتَرَكُوا الْحِصْنَ وَلَمَّا انْتَهَتْ فِلالُ عَقَّةَ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ إِلَى الْحِصْنِ اقْتَحَمُوهُ وَاعْتَصَمُوا بِهِ، وَأَقْبَلَ خَالِدٌ فِي النَّاسِ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَى الْحِصْنِ وَمَعَهُ عَقَّةُ أَسِيرٌ وَعَمْرُو بْنُ الصَّعِقِ، وَهُمْ يَرْجُونَ أَنْ يَكُونَ خَالِدٌ كَمَنْ كَانَ

يُغِيرُ مِنَ الْعَرَبِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ يُحَاوِلُهُمْ سَأَلُوهُ الأَمَانَ، فَأَبَى إِلا عَلَى حُكْمِهِ فَسَلِسُوا لَهُ بِهِ فَلَمَّا فَتَحُوا دَفَعَهُمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فَصَارُوا مساكًا، وَأَمَرَ خَالِدٌ بِعَقَّةَ وَكَانَ خَفِيرَ الْقَوْمِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ لِيُوئْسِ الأُسَرَاءَ مِنَ الْحَيَاةِ، وَلَمَّا رَآهُ الأُسَرَاءُ مَطْرُوحًا عَلَى الْجِسْرِ يَئِسُوا مِنَ الْحَيَاةِ، ثُمَّ دَعَا بِعَمْرِو بْنِ الصَّعِقِ فَضَرَبَ عُنُقَهُ، وَضَرَبَ أَعْنَاقَ أَهْلِ الْحِصْنِ أَجْمَعِينَ وَسَبَى كُلَّ مَنْ حَوَى حِصْنُهُمْ، وَغَنِمَ مَا فِيهِ، وَوَجَدَ فِي بَيْعَتِهِمْ أَرْبَعِينَ غُلامًا يَتَعَلَّمُونَ الإِنْجِيلَ، عَلَيْهِمْ بَابٌ مُغْلَقٌ، فَكَسَرَهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ: مَا أَنْتُمْ؟ قَالُوا: رُهُنٌ، فَقَسَمَهُمْ فِي أَهْلِ الْبَلاءِ، مِنْهُمْ أَبُو زِيَادٍ مَوْلَى ثَقِيفٍ، وَمِنْهُمْ نُصَيْرٌ أَبُو مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ، وَمِنْهُمْ أَبُو عَمْرَةَ جَدُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى الشَّاعِرِ، وَسِيرِينُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ سِيرِينَ، وَحُرَيْثٌ، وَعُلاثَةُ فصار ابو عمره لشرحبيل ابن حَسَنَةَ، وَحُرَيْثٌ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي عَبَّادٍ، وَعُلاثَةُ للمعنى، وَحُمْرَانُ لِعُثْمَانَ وَمِنْهُمْ عُمَيْرٌ وَأَبُو قَيْسٍ، فَثَبَتَ عَلَى نَسَبِهِ مِنْ مَوَالِي أَهْلِ الشَّامِ الْقُدَمَاءِ، وَكَانَ نُصَيْرٌ يُنْسَبُ إِلَى بَنِي يَشْكُرَ، وَأَبُو عَمْرَةَ إِلَى بَنِي مُرَّةَ وَمِنْهُمُ ابْنُ أُخْتِ النَّمِرِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَأَبِي سُفْيَانَ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالْمُهَلَّبِ بْنِ عُقْبَةَ، قَالُوا: وَلَمَّا قَدِمَ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ مِنْ عِنْدِ خَالِدٍ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَا بَعَثَ بِهِ إِلَيْهِ مِنَ الأَخْمَاسِ وَجَّهَهُ إِلَى عِيَاضٍ، وَأَمَدَّهُ بِهِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ الْوَلِيدُ، وَعِيَاضٌ مُحَاصِرُهُمْ وَهُمْ مُحَاصِرُوهُ، وَقَدْ أَخَذُوا عَلَيْهِ بِالطَّرِيقِ، فَقَالَ لَهُ: الرَّأْيُ فِي بَعْضِ الْحَالاتِ خَيْرٌ مِنْ جُنْدٍ كَثِيفٍ، ابْعَثْ إِلَى خَالِدٍ فَاسْتَمِدَّهُ فَفَعَلَ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ رَسُولُهُ غب وَقْعَةِ الْعَيْنِ مُسْتَغُيثًا، فَعَجَلَ إِلَى عِيَاضٍ بِكِتَابِهِ: مِنْ خَالِدٍ إِلَى عِيَاضٍ إِيَّاكَ أُرِيدُ. لبث قَلِيلا تَأْتِكَ الْحَلائِبُ ... يَحْمِلْنَ آسَادًا عَلَيْهَا الْقَاشِبُ كَتَائِبٌ يتبعها كتائب

خبر دومه الجندل

خبر دومة الجندل قالوا: ولما فرغ خالد من عين التمر خلف فيها عويم بْن الكاهل الأسلمي، وخرج في تعبيته التي دخل فيها العين، ولما بلغ أهل دومة مسير خالد إليهم بعثوا إلى أحزابهم من بهراء وكلب وغسان وتنوخ والضجاعم، وقبل ما قد أتاهم وديعة في كلب وبهراء، ومسانده ابن وبرة بْن رومانس، وأتاهم ابن الحدرجان في الضجاعم، وابن الأيهم في طوائف من غسان وتنوخ، فأشجوا عياضا وشجوا به. فلما بلغهم دنو خالد، وهم على رئيسين: أكيدر بْن عبد الملك والجودي ابن ربيعة، اختلفوا، فقال أكيدر: أنا أعلم الناس بخالد، لا أحد أيمن طائرا منه، ولا أحد في حرب، ولا يرى وجه خالد قوم أبدا قلوا أو كثروا إلا انهزموا عنه، فأطيعوني وصالحوا القوم فأبوا عليه، فقال: لن أمالئكم على حرب خالد، فشأنكم. فخرج لطيته، وبلغ ذلك خالدا، فبعث عاصم بْن عمرو معارضا له، فأخذه فقال: إنما تلقبت الأمير خالدا، فلما أتى به خالدا أمر به فضربت عنقه، وأخذ ما كان معه من شيء، ومضى خالد حتى ينزل على أهل دومة، وعليهم الجودي بْن ربيعة، ووديعة الكلبي، وابن رومانس الكلبي، وابن الأيهم وابن الحدرجان، فجعل خالد دومة بين عسكره وعسكر عياض، وكان النصارى الذين أمدوا أهل دومة من العرب محيطين بحصن دومة، لم يحملهم الحصن، فلما اطمأن خالد خرج الجودي، فنهض بوديعة فزحفا لخالد، وخرج ابن الحدرجان وابن الأيهم إلى عياض، فاقتتلوا، فهزم اللَّه الجودي ووديعة علي يدي خالد، وهزم عياض من يليه، وركبهم المسلمون، فأما خالد فإنه أخذ الجودي أخذا، وأخذ الأقرع بْن حابس وديعة، وأرز بقية الناس إلى الحصن، فلم يحملهم، فلما امتلأ الحصن، أغلق من في الحصن الحصن دون أصحابهم، فبقوا حوله حرداء، وقال عاصم بْن عمرو: يا بني تميم، حلفاؤكم كلب، آسوهم واجيروهم،

فإنكم لا تقدرون لهم على مثلها، ففعلوا وكان سبب نجاتهم يومئذ وصية عاصم بني تميم بهم، وأقبل خالد على الذين أرزوا إلى الحصن فقتلهم حتى سد بهم باب الحصن، ودعا خالد بالجودي فضرب عنقه، ودعا بالأسرى فضرب أعناقهم إلا أسارى كلب، فإن عاصما والأقرع وبني تميم قالوا: قد آمناهم، فأطلقهم لهم خالد، وقال: ما لي ولكم! أتحفظون أمر الجاهلية وتضيعون أمر الإسلام! فقال له عاصم: لا تحسدهم العافية، ولا يحوزهم الشيطان ثم أطاف خالد بالباب، فلم يزل عنه حتى اقتلعه، واقتحموا عليهم، فقتلوا المقاتلة، وسبوا الشرخ، فأقاموهم فيمن يزيد، فاشترى خالد ابنة الجودي وكانت موصوفة، وأقام خالد بدومة ورد الأقرع إلى الأنبار. ولما رجع خالد إلى الحيرة- وكان منها قريبا حيث يصبحها- أخذ القعقاع أهل الحيرة بالتقليس، فخرجوا يتلقونه وهم يقلسون، وجعل بعضهم يقول لبعض: مروا بنا فهذا فرج الشر! كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ، قَالُوا: وَقَدْ كَانَ خَالِدٌ أَقَامَ بِدومَةَ، فَظَنَّ الأَعَاجِمُ بِهِ، وَكَاتَبَهُمْ عَرَبُ الْجَزِيرَةِ غَضَبًا لِعَقَّةَ، فَخَرَجَ، زرمهرُ مِنْ بَغْدَادَ وَمَعَهُ رَوْزبَهْ يُرِيدَانِ الأَنْبَارَ، وَاتَّعَدَا حَصِيدًا وَالْخَنَافِسَ، فَكَتَبَ الزِّبْرِقَانُ وَهُوَ عَلَى الأَنْبَارِ إِلَى الْقَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو وَهُوَ يَوْمَئِذٍ خَلِيفَةُ خَالِدٍ عَلَى الْحِيرَةِ، فَبَعَثَ الْقَعْقَاعُ أَعْبَدَ بْنَ فَدكيٍّ السَّعْدِيَّ وَأَمَرَهُ بِالْحَصِيدِ، وَبَعَثَ عُرْوَةَ بْنَ الْجَعْدِ الْبَارِقِيَّ وَأَمَرَهُ بِالْخَنَافِسِ، وَقَالَ لَهُمَا: إِنْ رَأَيْتُمَا مقدما فَأَقْدِمَا فَخَرَجَا فَحَالا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الرِّيفِ، وَأَغْلَقَاهُمَا، وَانْتَظَرَ رُوزْبَهْ وزرمهرُ بِالْمُسْلِمِينَ اجْتِمَاعَ مَنْ كَاتَبَهُمَا مِنْ رَبِيعَةَ، وَقَدْ كَانُوا تَكَاتَبُوا وَاتَّعَدُوا، فَلَمَّا رَجَعَ خَالِدٌ مِنْ دُومَةَ إِلَى الْحِيرَةِ عَلَى الظهرِ وَبَلَغَهُ ذَلِكَ وَقَدْ عَزَمَ عَلَى مُصَادَمَةِ أَهْلِ الْمَدَائِنِ، كَرِهَ خِلافَ أَبِي بَكْرٍ، وَأَنْ يَتَعَلَّقَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَعَجَلَ الْقَعْقَاعُ

خبر حصيد

ابن عَمْرٍو وَأَبُو لَيْلَى بْنُ فَدكِيٍّ إِلَى رُوزْبَهْ وَزرمهرُ، فَسَبَقَاهُ إِلَى عَيْنِ التَّمْرِ، وَقَدِمَ عَلَى خَالِدٍ كِتَابُ امْرِئِ الْقَيْسِ الْكَلْبِيِّ، أَنَّ الْهُذَيْلَ بْنَ عِمْرَانَ قَدْ عَسْكَرَ بِالْمصيخِ، وَنَزَلَ رَبِيعَةُ بْنُ بُجَيْرٍ بِالثَّنِيِّ وَبِالبشرِ فِي عَسْكَرٍ غَضَبًا لِعَقَّةَ، يُرِيدَانِ زرمهر وروزبه فَخَرَجَ خَالِدٌ وَعَلَى مُقَدُّمَتِهِ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْحِيرَةِ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ، وَأَخَذَ طَرِيقَ الْقَعْقَاعِ وَأَبِي لَيْلَى إِلَى الْخَنَافِسِ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِمَا بِالْعَيْنِ، فبعث القعقاع الى حصيد، وَأَمَّرَهُ عَلَى النَّاسِ، وَبَعَثَ أَبَا لَيْلَى إِلَى الخنافس، وقال: زجياهم ليجتمعوا ومن استثارهم، وَإِلا فَوَاقِعَاهُمْ فَأَبَيَا إِلا الْمَقَامِ خبر حصيد فلما رأى القعقاع أن زرمهر وروزبه لا يتحركان سار نحو حصيد، وعلى من مر به من العرب والعجم روزبه ولما رأى روزبه أن القعقاع قد قصد له استمد زرمهر، فأمده بنفسه، واستخلف على عسكره المهبوذان، فالتقوا بحصيد، فاقتتلوا، فقتل اللَّه العجم مقتلة عظيمة، وقتل القعقاع زرمهر، وقتل روزبه، قتله عصمة بْن عبد اللَّه أحد بني الحارث بْن طريف، من بني ضبة، وكان عصمه من البررة- وكل فخذ هاجرت بأسرها تدعى البررة، وكل قوم هاجروا من بطن يدعون الخيرة- فكان المسلمون خيرة وبررة وغنم المسلمون يوم حصيد غنائم كثيرة وأرز فلال حصيد إلى الخنافس فاجتمعوا بها . الخنافس وسار أبو ليلى بْن فدكي بمن معه ومن قدم عليه نحو الخنافس، وقد أرزت فلال حصيد إلى المهبوذان، فلما أحس المهبوذان بقدومهم هرب ومن معه وأرزوا إلى المصيخ، وبه الهذيل بْن عمران، ولم يلق بالخنافس كيدا، وبعثوا إلى خالد بالخبر جميعا

مصيخ بنى البرشاء

مصيخ بني البرشاء قالوا: ولما انتهى الخبر إلى خالد بمصاب أهل الحصيد وهرب أهل الخنافس كتب إليهم، ووعد القعقاع وأبا ليلى وأعبد وعروة ليلة وساعة يجتمعون فيها إلى المصيخ- وهو بين حوران والقلت- وخرج خالد من العين قاصدا للمصيخ على الإبل يجنب الخيل، فنزل الجناب فالبردان فالحنى، واستقل من الحنى، فلما كان تلك الساعة من ليله الموعد اتفقوا جميعا بالمصيخ، فأغاروا على الهذيل ومن معه ومن أوى إليه، وهم نائمون من ثلاثة أوجه، فقتلوهم وأفلت الهذيل في أناس قليل، وامتلأ الفضاء قتلى، فما شبهوا بهم إلا غنما مصرعة، وقد كان حرقوص بْن النعمان قد محضهم النصح، وأجاد الرأي، فلم ينتفعوا بتحذيره، وقال حرقوص بن النعمان قبل الغارة: الا سقيانى قبل خيل أبي بكر. الأبيات وكان حرقوص معرسا بامرأة من بني هلال تدعى أم تغلب، فقتلت تلك الليلة، وعبادة بْن البشر وامرؤ القيس بْن بشر وقيس بْن بشر، وهؤلاء بنو الثورية من بني هلال وأصاب جرير بْن عبد اللَّه يوم المصيخ من النمر عبد العزى بْن أبي رهم بْن قرواش أخا أوس مناة، من النمر، وكان معه ومع لبيد بْن جرير كتاب من أبي بكر بإسلامهما، وبلغ أبا بكر قول عبد العزى، وقد سماه عبد اللَّه ليلة الغارة، وقال: سبحانك اللهم رب مُحَمَّد. فوداه وودى لبيدا- وكانا أصيبا في المعركة- وقال: أما إن ذلك ليس علي إذ نازلا أهل الحرب، وأوصى بأولادهما، وكان عمر يعتد على خالد بقتلهما إلى قتل مالك- يعني ابن نويرة- فيقول أبو بكر: كذلك يلقى من ساكن أهل الحرب في ديارهم وقال عبد العزى: أقول إذ طرق الصباح بغارة: ... سبحانك اللهم رب مُحَمَّد

الثني والزميل

سبحان ربي لا إله غيره ... رب البلاد ورب من يتورد كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: أَغَرْنَا عَلَى أَهْلِ المُصَيَّخِ، وإذا رجل يدعى باسمه حرقوص ابن النُّعْمَانِ، مِنَ النَّمِرِ، وَإِذَا حَوْلَهُ بَنُوهُ وَامْرَأَتُهُ، وَبَيْنَهُمْ جَفْنَةٌ مِنْ خَمْرٍ، وَهُمْ عَلَيْهَا عُكُوفٌ يَقُولُونَ لَهُ: وَمَنْ يَشْرَبُ هَذِهِ السَّاعَةَ وَفِي أَعْجَازِ اللَّيْلِ! فَقَالَ: اشْرَبُوا شُرْبَ وَدَاعٍ، فَمَا أَرَى أَنْ تَشْرَبُوا خَمْرًا بَعْدَهَا، هَذَا خَالِدٌ بِالْعَيْنِ وَجُنُودُهُ بِحَصِيدٍ، وَقَدْ بَلَغَهُ جَمْعُنَا وَلَيْسَ بِتَارِكِنَا، ثُمَّ قَالَ: أَلا فَاشْرَبُوا مِنْ قَبْلِ فأصمه الظَّهْرِ ... بُعَيْدِ انْتِفَاخِ الْقَوْمِ بِالعكرِ الدثرِ وَقَبْلَ مِنَايَانَا الْمُصِيبَة بِالْقَدَرِ ... لِحِينٍ لَعَمْرِي لا يَزِيدُ وَلا يَحْرِي فَسَبَقَ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْخَيْلِ، فَضَرَبَ رَأْسَهُ، فَإِذَا هُوَ فِي جَفْنَتِهِ، وَأَخَذْنَا بَنَاتِهِ وَقَتَلْنَا بَنِيهِ . الثني والزميل وقد نزل ربيعة بْن بجير التغلبي الثني والبشر غضبا لعقة، وواعد روزبه وزرمهر والهذيل فلما أصاب خالد أهل المصيخ بما أصابهم به، تقدم إلى القعقاع وإلى أبي ليلى، بأن يرتحلا أمامه، وواعدهما الليلة ليفترقوا فيها للغارة عليهم من ثلاثة أوجه، كما فعل بأهل المصيخ ثم خرج خالد من المصيخ، فنزل حوران، ثم الرنق، ثم الحماة- وهي اليوم لبني جنادة بْن زهير من كلب- ثم الزميل، وهو البشر والثني معه- وهما اليوم شرقي الرصافة- فبدأ بالثني، واجتمع هو وأصحابه، فبيته من ثلاثة أوجه بياتا ومن اجتمع له وإليه، ومن تأشب لذلك من الشبان، فجردوا فيهم السيوف، فلم يفلت من ذلك الجيش مخبر، واستبى الشرخ، وبعث بخمس اللَّه إلى أبي بكر مع النعمان بْن عوف بْن النعمان الشيباني، وقسم النهب والسبايا، فاشترى علي بْن ابى طالب ع بنت ربيعه

حديث الفراض

ابن بجير التغلبي، فاتخذها، فولدت له عمر ورقية، وكان الهذيل حين نجا أوى إلى الزميل، إلى عتاب بْن فلان، وهو بالبشر في عسكر ضخم، فبيتهم بمثلها غارة شعواء من ثلاثة أوجه سبقت إليهم الخبر عن ربيعة، فقتل منهم مقتلة عظيمة لم يقتلوا قبلها مثلها، وأصابوا منهم ما شاءوا، وكانت على خالد يمين: ليبغتن تغلب في دارها، وقسم خالد فيئهم في الناس، وبعث بالأخماس إلى أبي بكر مع الصباح بْن فلان المزني، وكانت في الأخماس ابنة مؤذن النمري، وليلى بنت خالد، وريحانة بنت الهذيل بْن هبيرة ثم عطف خالد من البشر إلى الرضاب، وبها هلال بْن عقة، وقد ارفض عنه أصحابه حين سمعوا بدنو خالد، وانقشع عنها هلال فلم يلق كيدا بها حديث الفراض ثم قصد خالد بعد الرضاب وبغتته تغلب إلى الفراض- والفراض: تخوم الشام والعراق والجزيرة- فأفطر بها رمضان في تلك السفرة التي اتصلت له فيها الغزوات والأيام، ونظمن نظما، أكثر فيهن الرجاز إلى ما كان قبل ذلك منهن. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن محمد وطلحه- وشاركهما عمرو بْن مُحَمَّد، عن رجل من بني سعد، عن ظفر بْن دهى- والمهلب بْن عقبة، قالوا: فلما اجتمع المسلمون بالفراض، حميت الروم واغتاظت، واستعانوا بمن يليهم من مسالح أهل فارس، وقد حموا واغتاظوا واستمدوا تغلب واياد والنمر، فأمدوهم، ثم ناهدوا خالدا، حتى إذا صار الفرات بينهم، قالوا: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم قال: خالد: بل اعبروا إلينا، قالوا: فتنحوا حتى نعبر، فقال خالد: لا نفعل، ولكن اعبروا أسفل منا وذلك للنصف من ذي القعدة سنة اثنى عشرة فقالت الروم وفارس بعضهم لبعض: احتسبوا ملككم، هذا رجل يقاتل على دين، وله عقل وعلم، وو الله لينصرن ولنخذلن ثم لم ينتفعوا بذلك، فعبروا أسفل من خالد، فلما تتاموا قالت الروم: امتازوا حتى نعرف اليوم ما كان من حسن أو قبيح، من أينا يجيء! ففعلوا، فاقتتلوا قتالا

حجه خالد

شديدا طويلا ثم إن اللَّه عز وجل هزمهم، وقال خالد للمسلمين: ألحوا عليهم ولا ترفهوا عنهم، فجعل صاحب الخيل يحشر منهم الزمرة برماح أصحابه، فإذا جمعوهم قتلوهم، فقتل يوم الفراض في المعركة وفي الطلب مائة ألف، وأقام خالد على الفراض بعد الوقعة عشرا، ثم أذن في القفل إلى الحيرة لخمس بقين من ذي القعدة، وأمر عاصم بْن عمرو أن يسير بهم، وأمر شجرة بْن الأعز أن يسوقهم، وأظهر خالد أنه في الساقة . حجة خالد قال أبو جعفر: وخرج خالد حاجا من الفراض لخمس بقين من ذي القعدة، مكتتما بحجه، ومعه عدة من أصحابه، يعتسف البلاد حتى أتى مكة بالسمت، فتأتى له من ذلك ما لم يتأت لدليل ولا رئبال، فسار طريقا من طرق أهل الجزيرة، لم ير طريق أعجب منه، ولا أشد على صعوبته منه، فكانت غيبته عن الجند يسيرة، فما توافى إلى الحيرة آخرهم حتى وافاهم مع صاحب الساقة الذي وضعه فقدما معا، وخالد وأصحابه محلقون، لم يعلم بحجه إلا من أفضى إليه بذلك من الساقة، ولم يعلم أبو بكر رحمه اللَّه بذلك إلا بعد، فعتب عليه وكانت عقوبته إياه أن صرفه إلى الشام وكان مسير خالد من الفراض أن استعرض البلاد متعسفا متسمتا، فقطع طريق الفراض ماء العنبري، ثم مثقبا، ثم انتهى إلى ذات عرق، فشرق منها، فأسلمه إلى عرفات من الفراض، وسمي ذلك الطريق الصد، ووافاه كتاب من أبي بكر منصرفه من حجه بالحيرة يأمره بالشام، يقاربه ويباعده. قال أبو جعفر: قالوا: فوافى خالدا كتاب أبي بكر بالحيرة، منصرفه من حجه: أن سر حتى تأتي جموع المسلمين باليرموك، فإنهم قد شجوا

حوادث متفرقة

وأشجوا، وإياك أن تعود لمثل ما فعلت، فإنه لم يشج الجموع من الناس بعون الله شجاك، ولم ينزع الشجى من الناس نزعك، فليهنئك أبا سليمان النية والحظوة، فأتمم يتمم الله لك، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدل بعمل، فإن الله له المن، وهو ولي الجزاء. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الملك بن عطاء بْن البكائي، عن المقطع بْن الهيثم البكائي، عن أبيه، قال: كان أهل الأيام من أهل الكوفة يوعدون معاوية عند بعض الذي يبلغهم، ويقولون: ما شاء معاوية! نحن أصحاب ذات السلاسل ويسمون ما بينها وبين الفراض ما يذكرون ما كان بعد احتقارا لما كان بعد فيما كان قبل. وَحَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بن مُحَمَّدٍ بِالإِسْنَادِ الَّذِي قَدْ مَضَى ذِكْرُهُ، أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَتَى الأَنْبَارَ فَصَالَحُوهُ عَلَى الجلاء، ثم اعطوه شيئا رضى به، وَأَنَّهُ أَغَارَ عَلَى سُوقِ بَغْدَادَ مِنْ رُسْتَاقِ الْعَالِ، وَأَنَّهُ وَجَّهَ الْمُثَنَّى فَأَغَارَ عَلَى سُوقٍ فِيهَا جَمْعٌ لِقُضَاعَةَ وَبَكْرٍ، فَأَصَابَ مَا فِي السُّوقِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى عَيْنِ التَّمْرِ، فَفَتَحَهَا عَنْوَةً، فَقَتَلَ وَسَبَى، وَبَعَثَ بِالسَّبْيِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَكَانَ أَوَّلَ سَبْيٍ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنَ الْعَجَمِ، وَسَارَ إِلَى دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، فَقَتَلَ أكيدرَ، وَسَبَى ابْنَةَ الْجُودِي، وَرَجَعَ فَأَقَامَ بِالْحِيرَةِ. هَذَا كله سنه اثنتى عشره . [حوادث متفرقة] وَفِيهَا تَزَوَّجَ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَاتِكَةَ بِنْتَ زَيْدٍ وَفِيهَا مَاتَ أَبُو مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ. وَفِيهَا مات ابو العاصي بْنُ الرَّبِيعِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَأَوْصَى إِلَى الزبير، وتزوج على ع ابْنَتَهُ وَفِيهَا اشْتَرَى عُمَرُ أَسْلَمَ مَوْلاهُ

وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَجَّ بِهِمْ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. ذكر من قال ذلك: حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إِسْحَاقَ، عَنِ الْعَلاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، مَوْلَى الْحُرَقَةَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَهْمٍ، عَنِ ابْنِ مَاجِدَةَ السَّهْمِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: حَجَّ أَبُو بَكْرٍ فِي خِلافَتِهِ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، وَقَدْ عَارَمْتُ غُلامًا مِنْ أَهْلِي، فَعَضَّ بِأُذْنِي فَقَطَعَ مِنْهَا- أَوْ عَضَضْتُ بِأُذْنِهِ فَقَطَعْتُ مِنْهَا- فَرَفَعَ شَأْنَنَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِمَا إِلَى عُمَرَ فَلْيَنْظُرْ، فَإِنْ كَانَ الْجَارِحُ قَدْ بَلَغَ فَلْيقد مِنْهُ فَلَمَّا انْتَهَى بِنَا إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَعَمْرِي لَقَدْ بَلَغَ هَذَا! ادْعُوا لِي حَجَّامًا قَالَ: فَلَمَّا ذَكَرَ الْحَجَّامَ، قَالَ: [أَمَا إِنِّي قد سمعت النبي ص يقول: قد اعطيت خالتي غلاما، وانا أرجو أَنْ يُبَارِكَ اللَّهُ لَهَا فِيهِ، وَقَدْ نَهَيْتُهَا أَنْ تَجْعَلَهُ حَجَّامًا أَوْ قَصَّابًا أَوْ صَائِغًا، فَاقْتَصَّ مِنْهُ] . وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي وَجْزَةَ يَزِيدَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَجَّ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَجَّ بِالنَّاسِ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. ذكر من قال ذلك: حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: بعض الناس يقول: لم يحج أبو بكر في خلافته، وأنه بعث سنة اثنتي عشرة على الموسم عمر بْن الخطاب، أو عبد الرحمن بْن عوف

سنه ثلاث عشره

ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث ففيها وجه أبو بكر رحمه اللَّه الجيوش إلى الشام بعد منصرفه من مكة إلى المدينة حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ لَمَّا قَفَلَ أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَجِّ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ جَهَّزَ الْجُيُوشَ إِلَى الشَّامِ، فَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قِبَلَ فِلَسْطِينَ، فَأَخَذَ طَرِيقَ الْمُعْرِقَةَ عَلَى أَيْلَةَ، وَبَعَثَ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَشُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ- وَهُوَ أَحَدُ الْغَوْثِ- وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْلُكُوا التبوكيةَ عَلَى الْبَلْقَاءِ مِنْ عَلْيَاءِ الشَّامِ. وَحَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ بِالإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرْتُ قَبْلُ، عَنْ شُيُوخِهِ الَّذِينَ مَضَى ذِكْرُهُمْ، قَالَ: ثُمَّ وَجَّهَ أَبُو بَكْرٍ الْجُنُودَ إِلَى الشَّامِ أَوَّلَ سَنَة ثَلاثَ عَشْرَةَ، فَأَوَّلُ لِوَاءٍ عَقَدَهُ لِوَاءُ خالد بن سعيد بن العاصي، ثم عزله قبل ان يسير، وَوَلَّى يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، فَكَانَ أَوَّلَ الأُمَرَاءِ الَّذِينَ خَرَجُوا إِلَى الشَّامِ، وَخَرَجُوا فِي سَبْعَةِ آلافٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانَ سَبَبَ عَزْلِ أَبِي بَكْرٍ خَالِدَ بْنَ سَعِيدٍ- فِيمَا ذُكِرَ- مَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله ابن ابى بكر، ان خالد بن سعيد لما قَدِمَ مِنَ الْيَمَنِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَرَبَّصَ بِبَيْعَتِهِ شَهْرَيْنِ، يَقُولُ: قَدْ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ لَمْ يَعْزِلْنِي حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ وَقَدْ لَقِيَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وعثمان ابن عَفَّانٍ، فَقَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لَقَدْ طِبْتُمْ نَفْسًا عَنْ أَمْرِكُمْ يَلِيهِ غَيْرُكُمْ! فَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَحْفِلْهَا عَلَيْهِ، وَأَمَّا عُمَرُ فَاضْطَغَنَهَا عَلَيْهِ ثُمَّ بَعَثَ أَبُو بَكْرٍ

الْجُنُودَ إِلَى الشَّامِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَعْمَلَ عَلَى رُبْعٍ مِنْهَا خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، فَأَخَذَ عُمَرُ يَقُولُ: أَتؤمره وَقَدْ صَنَعَ مَا صَنَعَ وَقَالَ مَا قَالَ! فَلَمْ يَزَلْ بِأَبِي بَكْرٍ حَتَّى عَزَلَهُ، وَأَمَّرَ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُبَشِّرِ بْنِ فُضَيْلِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ صخر حارس النبي ص، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بن العاصي باليمن زمن النبي ص، وتوفى النبي ص وَهُوَ بِهَا، وَقَدِمَ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِشَهْرٍ، وَعَلَيْهِ جُبَّةُ دِيبَاجٍ فَلَقِيَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَصَاحَ عُمَرُ بِمَنْ يَلِيهِ: مَزَّقُوا عَلَيْهِ جُبَّتَهُ! أَيَلْبَسُ الْحَرِيرَ وَهُوَ فِي رِجَالِنَا فِي السِّلْمِ مَهْجُورٌ! فَمَزَّقُوا جُبَّتَهُ، فَقَالَ خَالِدٌ: يَا أَبَا الْحَسَنِ، يَا بَنِي عَبْدِ مناف، اغلبتم عليها! فقال على ع: أَمُغَالَبَةً تَرَى أَمْ خِلافَةً؟ قَالَ: لا يَغَالِبُ عَلَى هَذَا الأَمْرِ أَوْلَى مِنْكُمْ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَقَالَ عُمَرُ لِخَالِدٍ: فَضَّ اللَّهُ فَاكَ! وَاللَّهِ لا يَزَالُ كَاذِبٌ يَخُوضُ فِيمَا قُلْتَ ثُمَّ لا يَضُرُّ إِلا نَفْسَهُ فَأَبْلَغَ عُمَرُ أَبَا بَكْرٍ مَقَالَتَهُ، فَلَمَّا عَقَدَ أَبُو بَكْرٍ الأَلْوِيَةَ لِقِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ عَقَدَ لَهُ فِيمَنْ عَقَدَ، فَنَهَاهُ عَنْهُ عُمَرُ وَقَالَ: إِنَّهُ لَمَخْذُولٌ، وَإِنَّهُ لَضَعِيفُ التَّرْوِئَةَ، وَلَقَدْ كَذَبَ كَذِبَةً لا يُفَارِقُ الأَرْضَ مُدْلٍ بِهَا وَخَائِضٌ فِيهَا، فَلا تَسْتَنْصِرْ بِهِ فَلَمْ يَحْتَمِلْ أَبُو بَكْرٍ عَلَيْهِ، وَجَعَلَهُ رِدْءًا بِتَيْمَاءَ، أَطَاعَ عُمَرَ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ وَعَصَاهُ فِي بَعْضٍ. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ أَبِي صَفِيَّةَ التَّيْمِيِّ، تَيْمِ بْنِ شَيْبَانَ، وَطَلْحَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ، وَمُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، قَالُوا: أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ خَالِدًا بِأَنْ يَنْزِلَ تَيْمَاءَ، فَفَصَلَ ردءا حَتَّى يَنْزِلَ بِتَيْمَاءَ، وَقَدْ أَمَرَهُ أَبُو بَكْرٍ أَلا يَبْرَحَهَا، وَأَنْ يَدْعُوَ مَنْ حَوْلَهُ بِالانْضِمَامِ إِلَيْهِ، وَأَلا يَقْبَلَ إِلا مِمَّنْ لَمْ يَرْتَدَّ، وَلا يُقَاتِلَ إِلا مَنْ قَاتَلَهُ، حَتَّى يَأْتِيَهُ أَمْرُهُ فَأَقَامَ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ، وَبَلَغَ الرُّومَ عِظَمُ ذَلِكَ الْعَسْكَرِ، فَضَرَبُوا عَلَى الْعَرَبِ الضَّاحِيَةِ الْبعوث بالشام إليهم، فَكَتَبَ خَالِدُ بْنُ

سَعِيدٍ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِذَلِكَ، وَبِنُزُولِ مَنِ اسْتَنْفَرَتِ الرُّومُ، وَنَفَرَ إِلَيْهِمْ مِنْ بَهْرَاءَ وَكَلْبٍ وَسَلِيحٍ وَتَنُوخَ وَلَخْمٍ وَجُذَامَ وَغَسَّانَ مِنْ دُونِ زَيزَاءَ بِثَلاثٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ: أَنْ أَقْدِمْ وَلا تُحْجِمْ وَاسْتَنْصِرِ اللَّهَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ خَالِدٌ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُمْ تَفَرَّقُوا وَأَعْرَوْا مَنْزِلَهُمْ، فَنَزَلَهُ وَدَخَلَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ تَجَمَّعَ لَهُ فِي الإِسْلامِ، وَكَتَبَ خَالِدٌ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ: أَقْدِمْ وَلا تَقْتَحِمَنَّ حَتَّى لا تُؤْتَى مِنْ خَلْفِكَ فَسَارَ فِيمَنْ كَانَ خَرَجَ مَعَهُ مِنْ تَيْمَاءَ وَفِيمَنْ لَحِقَ بِهِ مِنْ طَرَفِ الرَّمْلِ، حَتَّى نَزَلُوا فِيمَا بَيْنَ آبِلَ وَزَيزَاءَ والْقَسْطَلِ، فَسَارَ إِلَيْهِ بِطْرِيقٌ مِنْ بَطَارِقَةِ الرُّومِ، يُدْعَى بَاهَانَ، فَهَزَمَهُ وَقَتَلَ جُنْدَهُ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَاسْتَمَدَّهُ وَقَدْ قَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَوَائِلُ مُسْتَنْفِرِي الْيَمَنِ وَمَنْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْيَمَنِ، وَفِيهِمْ ذو الكلاع، وقدم اليه عِكْرِمَةُ قَافِلا وَغَازِيًا فِيمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ تِهَامَةَ وَعُمَانَ وَالْبَحْرَيْنِ وَالسَّرْوِ. فَكَتَبَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ إِلَى أُمَرَاءِ الصَّدَقَاتِ أَنْ يُبَدِّلُوا مَنِ اسْتُبْدِلَ، فَكُلُّهُمُ اسْتُبْدِلَ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْجَيْشُ جَيْشَ الْبِدَالِ فَقَدِمُوا عَلَى خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، وَعِنْدَ ذَلِكَ اهْتَاجَ أَبُو بَكْرٍ لِلشَّأمِ، وَعَنَاهُ أَمْرُهُ وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَدَّ عَمْرَو بْنَ العاص على عماله كان رسول الله ص وَلاهَا إِيَّاهُ مِنْ صَدَقَاتِ سَعْدِ هُذَيْمٍ، وَعُذْرَةَ وَمَنْ لَفَّهَا مِنْ جُذَامَ، وَحَدَسٍ قَبْلَ ذِهَابِهِ إِلَى عُمَانَ فَخَرَجَ إِلَى عُمَانَ وَهُوَ عَلَى عِدَةٍ مِنْ عَمَلِهِ، إِذَا هُوَ رَجَعَ فَأَنْجَزَ لَهُ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ. فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ عِنْدَ اهْتِيَاجِهِ لِلشَّأمِ إِلَى عَمْرٍو: إِنِّي كُنْتُ قَدْ رَدَدْتُكَ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي كَانَ رَسُولُ الله ص وَلاكَهُ مَرَّةً، وَسَمَّاهُ لَكَ أُخْرَى، مَبْعَثُكَ إِلَى عمان إنجازا لمواعيد رسول الله ص، فَقَدْ وليته ثم وليته، وَقَدْ أَحْبَبْتُ- أَبَا عَبْدِ اللَّهِ- أَنْ أُفَرِّغَكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ فِي حَيَاتِكَ وَمَعَادِكَ مِنْهُ، إِلا أَنْ يَكُونَ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ أَحَبَّ إِلَيْكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَمْرٌو: إِنِّي سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الإِسْلامِ، وَأَنْتَ بَعْدَ اللَّهِ الرَّامِي بِهَا، وَالْجَامِعُ لَهَا، فَانْظُرْ أَشَدَّهَا وَأَخْشَاهَا وَأَفْضَلَهَا فَارْمِ بِهِ شَيْئًا إِنْ جَاءَكَ مِنْ نَاحِيَةٍ مِنَ النَّوَاحِي وَكَتَبَ الى الوليد بن عقبه بنحو ذلك، فأجابه بايثار الجهاد

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: كَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عَمْرٍو، وَإِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ- وَكَانَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَدَقَاتِ قُضَاعَةَ- وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ شَيَّعَهُمَا مَبْعَثَهُمَا عَلَى الصَّدَقَةِ، وَأَوْصَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِوَصِيَّةٍ وَاحِدَةٍ: اتَّقِ اللَّهَ فِي السِّرِّ وَالْعَلانِيَةِ، فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً فَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ خَيْرُ مَا تَوَاصَى بِهِ عِبَادُ اللَّهِ، إِنَّكَ فِي سَبِيلٍ مِنْ سُبُلِ اللَّهِ، لا يَسَعُكَ فِيهِ الإِذْهَانُ وَالتَّفْرِيطُ وَالْغَفْلَةُ عَمَّا فِيهِ قَوَامُ دِينِكُمْ، وَعِصْمَةُ أَمْرِكُمْ، فَلا تَنِ وَلا تَفْتُرْ وَكَتَبَ إِلَيْهِمَا: اسْتَخْلِفَا عَلَى أَعْمَالِكُمَا، وَانْدُبَا مَنْ يَلِيكُمَا. فَوَلَّى عَمْرٌو عَلَى عُلْيَا قُضَاعَةَ عَمْرَو بْنَ فُلانٍ الْعُذْرِيَّ، وَوَلَّى الْوَلِيدُ عَلَى ضَاحِيَةِ قُضَاعَةَ مِمَّا يَلِي دُومَةَ امْرَأَ الْقَيْسِ، وَنَدَبَا النَّاسَ، فَتَتَامَّ إِلَيْهِمَا بِشَرٍّ كَثِيرٍ، وَانْتَظَرَا أَمْرَ أَبِي بَكْرٍ. وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى رَسُولِهِ، وَقَالَ: أَلا إِنَّ لِكُلِّ أَمْرٍ جَوَامِعَ، فَمَنْ بَلَغَهَا فَهِيَ حَسْبُهُ، وَمَنْ عَمِلَ لِلَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ. عَلَيْكُمْ بِالْجِدِّ وَالْقَصْدِ، فَإِنَّ الْقَصْدَ أَبْلَغُ، إِلا إِنَّهُ لا دِينَ لأَحَدٍ لا إِيمَانَ لَهُ، وَلا أَجْرَ لِمَنْ لا حسْبَةَ لَهُ، وَلا عَمَلَ لِمَنْ لا نِيَّةَ لَهُ أَلا وَإِنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَمَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُحِبَّ أَنْ يُخَصَّ بِهِ، هِيَ التِّجَارَةُ الَّتِي دَلَّ اللَّهُ عَلَيْهَا، وَنَجَّى بِهَا مِنَ الْخِزْيِ، وَأَلْحَقَ بِهَا الْكَرَامَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. فَأَمَدَّ عَمْرًا بِبَعْضِ مَنِ انْتَدَبَ إِلَى مَنِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ، وَأَمَّرَهُ عَلَى فِلَسْطِينَ، وَأَمَّرَهُ بِطَرِيقٍ سَمَّاهَا لَهُ، وَكَتَبَ إِلَى الْوَلِيدِ وَأَمَّرَهُ بِالأُرْدُنِّ، وَأَمَدَّهُ بِبَعْضِهِمْ: وَدَعَا يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، فَأَمَّرَهُ عَلَى جُنْدٍ عَظِيمٍ، هُمْ جُمْهُورُ مَنِ انْتُدِبَ لَهُ، وَفِي جُنْدِهِ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَأَشْبَاهُهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَشَيَّعَهُ مَاشِيًا. وَاسْتَعْمَلَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ عَلى مَنِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ، وَأَمَّرَهُ عَلَى حِمْصَ وَخَرَجَ مَعَهُ وَهُمَا مَاشِيَانِ وَالنَّاسُ مَعَهُمَا وَخَلْفَهُمَا، وَأَوْصَى كُلَّ واحد منهما. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سَهْلٍ، عَنِ الْقَاسِمِ،

وَمُبَشِّرٍ عَنْ سَالِمٍ، وَيَزِيدَ بْنِ أُسَيْدٍ الْغَسَّانِيِّ عَنْ خَالِدٍ، وَعُبَادَةَ، قَالُوا: وَلَمَّا قَدِمَ الْوَلِيدُ عَلَى خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ فَسَانَدَهُ، وَقَدِمَتْ جُنُودُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَمَدَّهُ بِهِمْ وَسُمُّوا جَيْشَ الْبِدَالِ، وَبَلَغَهُ عَنِ الأُمَرَاءِ وَتَوَجُّهِهِمْ اليه، اقتحم على الروم طلب الْحَظْوَةَ، وَأَعْرَى ظَهْرَهُ، وَبَادَرَ الأُمَرَاءُ بِقِتَالِ الرُّومِ، وَاسْتَطْرَدَ لَهُ بَاهَانُ فَأَرَزَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى دِمَشْقَ، وَاقْتَحَمَ خَالِدٌ فِي الْجَيْشِ وَمَعَهُ ذُو الْكَلاعِ وَعِكْرِمَةُ وَالْوَلِيدُ حَتَّى يَنْزِلَ مَرْجَ الصفرِ، مِنْ بَيْنِ الْوَاقُوصَةِ وَدِمَشْقَ، فَانْطَوَتْ مَسَالِحُ بَاهَان عَلَيْهِ، وَأَخَذُوا عَلَيْهِ الطُّرُقَ وَلا يَشْعُرُ، وَزَحَفَ لَهُ بَاهَانُ فَوَجَدَ ابْنَهُ سَعِيدَ بْنَ خَالِدٍ يَسْتَمْطِرُ فِي النَّاسِ، فَقَتَلُوهُمْ. وَأَتَى الْخَبَرُ خَالِدًا، فَخَرَجَ هَارِبًا فِي جَرِيدَةٍ، فَأَفْلَتَ مَنْ أَفْلَتَ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى ظُهُورِ الْخَيْلِ وَالإِبِلِ، وَقَدْ أُجْهِضُوا عَنْ عَسْكَرِهِمْ، وَلَمْ تَنْتَهِ بِخَالِدِ بن سعيد هزيمه عَنْ ذِي الْمَرْوَةِ، وَأَقَامَ عِكْرِمَةُ فِي النَّاسِ ردءا لهم، فرد عنهم باهان جنوده أَنْ يَطْلُبُوهُ، وَأَقَامَ مِنَ الشَّامِ عَلَى قَرِيبٍ، وَقَدْ قَدِمَ شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ وَافِدًا مِنْ عِنْدِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَنَدَبَ مَعَهُ النَّاسَ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَهُ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَمَلِ الْوَلِيدِ، وَخَرَجَ مَعَهُ يُوصِيهِ، فَأَتَى شُرَحْبِيلُ عَلَى خَالِدٍ، فَفَصَلَ بِأَصْحَابِهِ إِلا الْقَلِيلَ، وَاجْتَمَعَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أُنَاسٌ، فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ مُعَاوِيَةَ، وَأَمَرَهُ بِاللِّحَاقِ بِيَزِيدَ، فَخَرَجَ مُعَاوِيَةُ حَتَّى لَحِقَ بِيَزِيدَ، فَلَمَّا مَرَّ بِخَالِدٍ فَصَلَ بِبَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن هشام بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمْ يَزَلْ يُكَلِّمُ أَبَا بَكْرٍ فِي خالد بن الوليد وفي خالد ابن سعيد، فأبى ان يعطيه فِي خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَقَالَ: لا أُشِيمُ سَيْفًا سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْكُفَّارِ، وَأَطَاعَهُ فِي خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ بَعْدَ مَا فَعَلَ فَعْلَتَهُ فَأَخَذَ عَمْرٌو طَرِيقَ الْمُعْرِقَةِ، وَسَلَكَ أَبُو عُبَيْدَةَ طَرِيقَهُ، وَأَخَذَ يَزِيدُ طَرِيقَ التَّبُوكِيَّةِ، وَسَلَكَ شُرَحْبِيلُ طَرِيقَهُ، وَسَمَّى لَهُمْ أَمْصَارَ الشَّامِ، وَعَرَفَ أَنَّ الرُّومَ سَتَشُغِلُهُمْ، فَأَحَبَّ أَنْ يُصْعِدَ الْمُصَوِّبَ وَيُصَوِّبَ الْمُصْعِدَ، لِئَلا يَتَوَاكَلُوا، فَكَانَ كَمَا ظَنَّ وَصَارُوا إِلَى مَا أَحَبَّ

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ ذَا الْمَرْوَةِ، وَأَتَى أَبَا بَكْرٍ الْخَبَرُ كَتَبَ إِلَى خَالِدٍ: أَقِمْ مَكَانَكَ، فَلَعَمْرِي إِنَّكَ مِقْدَامٌ مِحْجَامٌ، نَجَّاءُ مِنَ الْغَمَرَاتِ، لا تَخُوضُهَا إِلا إِلَى حَقٍّ، وَلا تَصْبِرُ عَلَيْهِ وَلَمَّا كَانَ بَعْدُ، وَأَذِنَ لَهُ فِي دُخُولِهِ الْمَدِينَةَ قَالَ خَالِدٌ: اعْذُرْنِي، قَالَ: أَخْطَلُ! أَنْتَ امْرُؤٌ جُبْنٌ لَدَى الْحَرْبِ فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ: كَانَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ أَعْلَمَ بِخَالِدٍ، وَلَوْ أَطَعْتُهُمَا فِيهِ اخْتَشَيْتُهُ وَاتَّقَيْتُهُ! كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُبَشِّرٍ وَسَهْلٍ وَأَبِي عُثْمَانَ، عَنْ خَالِدٍ وَعُبَادَةَ وَأَبِي حَارِثَةَ، قَالُوا: وَأَوْعَبَ الْقُوَّادُ بِالنَّاسِ نَحْوَ الشَّامِ وَعِكْرِمَةُ رِدْءٌ لِلنَّاسِ، وَبَلَغَ الرُّومَ ذَلِكَ، فَكَتَبُوا إِلَى هِرَقْلَ، وَخَرَجَ هِرَقْلُ حَتَّى نَزَلَ بِحِمْصَ، فَأَعَدَّ لَهُمُ الْجُنُودَ، وَعَبَّى لَهُمُ الْعَسَاكِرَ، وَأَرَادَ اشْتِغَالَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ لِكَثْرَةِ جُنْدِهِ، وَفُضُولِ رِجَالِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى عَمْرٍو أَخَاهُ تذارقَ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَخَرَجَ نَحْوَهُمْ فِي تِسْعِينَ أَلْفًا، وَبَعَثَ مَنْ يَسُوقُهُمْ، حَتَّى نَزَلَ صَاحِبُ السَّاقَةِ ثَنِيَّةَ جلق بِأَعْلَى فِلَسْطِينَ، وَبَعَثَ جرجةَ بْنَ توذرَا نَحْوَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَعَسْكَرَ بِإِزَائِهِ، وَبَعَثَ الدّرَاقصَ فَاسْتَقْبَلَ شُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ، وَبَعَثَ الْفَيْقَارَ بْنَ نسطوسَ فِي سِتِّينَ أَلْفًا نَحْوَ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَهَابَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَجَمِيعُ فِرَقِ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، سِوَى عِكْرِمَةَ فِي سِتَّةِ آلافٍ، فَفَزِعُوا جَمِيعًا بِالْكُتُبِ وَبِالرُّسُلِ إِلَى عَمْرٍو: أَنَّ مَا الرَّأْيُ؟ فَكَاتَبَهُمْ وَرَاسَلَهُمْ: أَنَّ الرَّأْيَ الاجْتِمَاعُ، وَذَلِكَ أَنَّ مِثْلَنَا إِذَا اجْتَمَعَ لَمْ يُغْلَبْ مِنْ قِلَّةٍ، وَإِذَا نَحْنُ تَفَرَّقْنَا لَمْ يَبْقَ الرَّجُلُ مِنَّا فِي عَدَدٍ يُقْرَنُ فيه لأحد ممن استقبلنا واعد لنا لِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنَّا فَاتَّعِدُوا الْيَرْمُوكَ لِيَجْتَمِعُوا بِهِ، وَقَدْ كَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِمِثْلِ مَا كَاتَبُوا بِهِ عَمْرًا، فَطَلَعَ عَلَيْهِمْ كِتَابُهُ بِمِثْلِ رَأْيِ عَمْرٍو، بِأَنِ اجْتَمِعُوا فَتَكُونُوا عَسْكَرًا وَاحِدًا، وَالْقَوْا زُحُوفَ الْمُشْرِكِينَ بِزَحْفِ الْمُسْلِمِينَ،

فَإِنَّكُمْ أَعْوَانُ اللَّهِ، وَاللَّهُ نَاصِرٌ مَنْ نَصَرَهُ، وَخَاذِلٌ مَنْ كَفَرَهُ، وَلَنْ يُؤْتَى مِثْلُكُمْ مِنْ قِلَّةٍ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى الْعَشَرَةُ آلافٍ وَالزِّيَادَةُ عَلَى الْعَشَرَةِ آلافِ إِذَا أَتَوْا مِنْ تِلْقَاءِ الذَّنُوبِ، فَاحْتَرِسُوا مِنَ الذَّنُوبِ، وَاجْتَمِعُوا بِالْيَرْمُوكِ مُتَسَانِدِينَ وَلْيَصِلْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِأَصْحَابِهِ. وَبَلَغَ ذَلِكَ هِرَقْلَ، فَكَتَبَ إِلَى بَطَارِقَتِهِ: أَنِ اجْتَمِعُوا لَهُمْ، وَانْزِلُوا بِالرُّومِ مَنْزِلا وَاسَعَ الْعَطَنِ، وَاسِعَ الْمِطْرَدِ، ضَيِّقَ الْمَهْرَبِ، وَعَلَى النَّاسِ التذارقُ وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ جرجةُ، وَعَلَى مُجَنِّبَتَيْهِ باهانُ وَالدراقصُ، وَعَلَى الْحَرْبِ الفَيْقَارُ، وَأَبْشِرُوا فَإِنَّ بَاهَانَ فِي الأَثَرِ مَدَدٌ لَكُمْ فَفَعَلُوا فَنَزَلُوا الْوَاقُوصَةَ وَهِيَ عَلَى ضِفَّةِ الْيَرْمُوكِ، وَصَارَ الْوَادِي خَنْدَقًا لَهُمْ، وَهُوَ لَهَبٌ لا يُدْرَكُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بَاهَانُ وَأَصْحَابُهُ أَنْ تَسْتَفِيقَ الرُّومُ وَيَأْنَسُوا بِالْمُسْلِمِينَ، وَتَرْجِعَ إِلَيْهِمْ أَفْئِدَتُهُمْ عَنْ طِيرَتِهَا. وَانْتَقَلَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ عَسْكَرِهِمُ الَّذِي اجْتَمَعُوا به، فنزل عَلَيْهِمْ بِحِذَائِهِمْ عَلَى طَرِيقِهِمْ، وَلَيْسَ لِلرُّومِ طَرِيقٌ إِلا عَلَيْهِمْ فَقَالَ عَمْرٌو: أَيُّهَا النَّاسُ، أَبْشِرُوا، حُصِرَتْ وَاللَّهِ الرُّومُ، وَقَلَّمَا جَاءَ مَحْصُورٌ بِخَيْرٍ! فَأَقَامُوا بِإِزَائِهِمْ وَعَلَى طَرِيقِهِمْ، وَمَخْرَجِهِمْ صَفَرٍ مِنْ سَنَةِ ثَلاثَ عَشْرَةَ وَشَهْرَيِ رَبِيعٍ، لا يَقْدِرُونَ مِنَ الرُّومِ عَلَى شَيْءٍ، وَلا يَخْلُصُونَ إِلَيْهِمُ، اللَّهَبَ- وَهُوَ الْوَاقُوصَةُ- مِنْ وَرَائِهِمْ، وَالْخَنْدَقُ مِنْ أَمَامِهِمْ، وَلا يَخْرُجُونَ خَرْجةً إِلا أديل الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ، حَتَّى إِذَا سَلَخُوا شَهْرَ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، وَقَدِ اسْتَمَدُّوا أَبَا بَكْرٍ وَأَعْلَمُوهُ الشَّأْنَ فِي صَفَرٍ، فَكَتَبَ إِلَى خَالِدٍ لِيَلْحَقَ بِهِمْ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَخْلُفَ عَلَى الْعِرَاقِ الْمُثَنَّى، فَوَافَاهُمْ فِي رَبِيعٍ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَعَمْرٍو وَالْمُهَلَّبِ، قَالُوا: وَلَمَّا نَزَلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَرْمُوكَ، وَاسْتَمَدُّوا أَبَا بَكْرٍ، قَالَ: خَالِدٌ لَهَا فَبَعَثَ إِلَيْهِ وَهُوَ بِالْعِرَاقِ، وَعَزَمَ عَلَيْهِ وَاسْتَحَثَّهُ فِي السَّيْرِ، فَنَفَذَ خَالِدٌ لِذَلِكَ، فَطَلَعَ عَلَيْهِمْ خَالِدٌ، وَطَلَعَ بَاهَانُ عَلَى الرُّومِ، وَقَدْ قَدَّمَ قُدَّامَهُ الشَّمَامِسَةَ وَالرُّهْبَانَ وَالْقِسِّيسِينَ، يَغْرُونَهُمْ وَيُحَضِّضُونَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَوَافَقَ قُدُومُ خَالِدٍ

خبر اليرموك

قُدُومَ بَاهَانَ، فَخَرَجَ بِهِمْ بَاهَانُ كَالْمُقْتَدِرِ، فَوَلِيَ خَالِدٌ قِتَالَهُ، وَقَاتَلَ الأُمَرَاءُ مَنْ بِإِزَائِهِمْ، فَهُزِمَ بَاهَانُ، وَتَتَابَعَ الرُّومُ عَلَى الْهَزِيمَةِ، فَاقْتَحَمُوا خَنْدَقَهُمْ، وتيمنت الروم بباهان، وفرح المسلمون بخالد وحرد الْمُسْلِمُونَ وَحَرَبَ الْمُشْرِكُونَ وَهُمْ أَرْبَعُونَ وَمِائَتَا أَلْفٍ، مِنْهُمْ ثَمَانُونَ أَلْفَ مُقَيَّدٍ، وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا مِنْهُمْ مُسَلْسَلٌ لِلْمَوْتِ، وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا مُرَبَّطُونَ بِالْعَمَائِمِ، وَثَمَانُونَ أَلْفَ فَارِسٍ وَثَمَانُونَ أَلْفَ رَاجِلٍ، وَالْمُسْلِمُونَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا مِمَّنْ كَانَ مُقِيمًا، إِلَى أَنْ قَدِمَ عَلَيْهِمْ خَالِدٌ فِي تِسْعَةِ آلافٍ، فَصَارُوا سِتَّةً وَثلاثِينَ أَلْفًا. وَمَرِضَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي جُمَادَى الأُولَى، وَتُوُفِّيَ لِلنِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الآخِرَةِ، قَبْلَ الْفَتْحِ بِعَشْرِ لَيَالٍ . خبر اليرموك قال أبو جعفر: وكان أبو بكر قد سمى لكل أمير من أمراء الشام كورة، فسمى لأبي عبيدة بْن عبد اللَّه بْن الجراح حمص، وليزيد بْن أبي سفيان دمشق، ولشرحبيل بْن حسنة الأردن، ولعمرو بْن العاص ولعلقمة بْن مجزز فلسطين، فلما فرغا منها نزل علقمة وسار إلى مصر فلما شارفوا الشام، دهم كل أمير منهم قوم كثير، فأجمع رأيهم أن يجتمعوا بمكان واحد، وأن يلقوا جمع المشركين بجمع المسلمين. ولما رأى خالد أن المسلمين يقاتلون متساندين قال لهم: هل لكم يا معشر الرؤساء في أمر يعز اللَّه به الدين، ولا يدخل عليكم معه ولا منه نقيصة ولا مكروه! كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان يزيد بن أسيد الغساني، عَنْ خَالِدٍ وَعُبَادَةَ، قَالا: تَوَافَى إِلَيْهَا مَعَ الأُمَرَاءِ وَالْجُنُودِ الأَرْبَعَةِ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا وَثَلاثَةُ آلافٍ مِنْ فلالِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، أَمَّرَ عليهم ابو بكر ومعاويه وَشُرَحْبِيلَ، وَعَشَرَةَ آلافٍ مِنْ أَمْدَادِ أَهْلِ الْعِرَاقِ مع خالد

ابن الْوَلِيدِ سِوَى سِتَّةِ آلافٍ ثَبَتُوا مَعَ عِكْرِمَةَ رِدْءًا بَعْدَ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، فَكَانُوا سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَكُلُّ قِتَالُهُمْ كَانَ عَلَى تَسَانُدِ، كُلِّ جُنْدٍ وَأَمِيرِهِ، لا يَجْمَعُهُمْ أَحَدٌ، حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِمْ خَالِدٌ مِنَ الْعِرَاقِ وَكَانَ عَسْكَرُ أَبِي عُبَيْدَةَ بِالْيَرْمُوكِ مُجَاوِرًا لِعَسْكَرِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعَسْكَرُ شُرَحْبِيلَ مُجَاوِرًا لِعَسْكَرِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ رُبَّمَا صَلَّى مَعَ عَمْرٍو، وَشُرَحْبِيلُ مَعَ يَزِيدَ. فَأَمَّا عَمْرٌو وَيَزِيدُ فَإِنَّهُمَا كَانَا لا يُصَلِّيَانِ مَعَ أَبِي عبيده وَشُرَحْبِيلَ، وَقَدِمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَهُمْ عَلَى حَالِهِمْ تِلْكَ، فعَسَكَرَ عَلَى حدةٍ، فَصَلَّى بِأَهْلِ الْعِرَاقِ، وَوَافَقَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ مُتَضَايقُونَ بِمَدَدِ الرُّومِ، عَلَيْهِمْ بَاهَانُ، وَوَافَقَ الرُّومَ وَهُمْ نشاط بِمَدَدِهِمْ، فَالْتَقَوْا، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ حَتَّى أَلْجَأَهُمْ وَأَمَدَادَهُمْ إِلَى الْخَنَادِقِ- وَالْوَاقُوصَةُ أَحَدُ حُدُودِهِ- فَلَزِمُوا خَنْدَقَهُمْ عَامَّةَ شَهْرٍ، يُحَضِّضُهُمُ الْقِسِّيسُونَ وَالشَّمَامِسَةُ وَالرُّهْبَانُ وَيَنْعَوْنَ لَهُمُ النَّصْرَانِيَّةَ، حَتَّى اسْتَبْصَرُوا. فَخَرَجُوا لِلْقِتَالِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ قِتَالٌ مِثْلُهُ، فِي جُمَادَى الآخِرَةِ. فَلَمَّا أَحَسَّ الْمُسْلِمُونَ خُرُوجَهُمْ، وَأَرَادُوا الْخُرُوجَ مُتَسَانِدِينَ، سَارَ فِيهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ اللَّهِ، لا يَنْبَغِي فِيهِ الْفَخْرُ وَلا الْبَغْيُ أَخْلِصُوا جِهَادَكُمْ، وَأَرِيدُوا اللَّهَ بِعَمَلِكُمْ، فَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ لَهُ مَا بعده، ولا تقاتلوا قوما على نظام وتعبئة، عَلَى تَسَانُدٍ وَانْتِشَارٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ لا يُحِلُّ وَلا يَنْبَغِي وَإِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ لَوْ يَعْلَمُ عِلْمَكُمْ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ هَذَا، فَاعْمَلُوا فِيمَا لَمْ تُؤْمَرُوا بِهِ بِالَّذِي تَرَوْنَ أَنَّهُ الرَّأْيُ مِنْ وَالِيكُمْ وَمَحَبَّتِهِ، قَالُوا: فَهَاتِ، فَمَا الرَّأْيُ؟ قَالَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَبْعَثْنَا إِلا وَهُوَ يَرَى أَنَّا سَنَتَيَاسَرُ، وَلَوْ عَلِمَ بِالَّذِي كَانَ وَيَكُونُ، لَقَدْ جَمَعَكُمْ أَنَّ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ أَشَدُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِمَّا قَدْ غَشِيَهُمْ، وَأَنْفَعُ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ أَمْدَادِهِمْ، وَلَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الدُّنْيَا فَرَّقَتْ بَيْنَكُمْ، فَاللَّهَ اللَّهَ، فَقَدْ أُفْرِدَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِبَلَدٍ مِنَ الْبُلْدَانِ لا يَنْتَقِصُهُ مِنْهُ أَنْ دَانَ لأَحَدٍ مِنْ أُمَرَاءِ الْجُنُودِ، وَلا يَزِيدُهُ عَلَيْهِ أَنْ

دَانُوا لَهُ إِنَّ تَأْمِيرَ بَعْضَكُمْ لا يُنْقِصُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلا عِنْدَ خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ ص هَلُمُّوا فَإِنَّ هَؤُلاءِ تَهَيَّئُوا، وَهَذا يَوْمٌ لَهُ مَا بَعْدَهُ، إِنْ رَدَدْنَاهُمْ إِلَى خَنْدَقِهِمُ الْيَوْمَ لَمْ نَزَلْ نَرُدُّهُمْ، وَإِنْ هَزَمُونَا لَمْ نُفْلَحْ بَعْدَهَا فَهَلُمُّوا فَلْنَتَعَاوَرِ الإِمَارَةَ، فَلْيَكُنْ عَلَيْهَا بَعْضُنَا الْيَوْمَ، وَالآخَرُ غَدًا، وَالآخَرُ بَعْدَ غَدٍ، حَتَّى يَتَأَمَّرَ كُلُّكُمْ، وَدَعُونِي أَلِيكُمُ الْيَوْمَ. فَأَمَّرُوهُ، وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهَا كَخَرَجَاتِهِمْ، وَأَنَّ الأَمْرَ أَطْوَلُ مِمَّا صاروا اليه، فخرجت الروم في تعبئة لَمْ يَرَ الرَّاءُونَ مِثْلَهَا قَطُّ، وَخَرَجَ خَالِدٌ في تعبئة لَمْ تُعَبِّهَا الْعَرَبُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَخَرَجَ فِي سِتَّةٍ وَثَلاثِينَ كُرْدُوسًا إِلَى الأَرْبَعِينَ، وَقَالَ: إِنَّ عدوكم قد كثر وطغى، وليس من التعبئة تعبئة اكثر في رَأْيِ الْعَيْنِ مِنَ الْكَرَادِيسِ فَجَعَلَ الْقَلْبَ كَرَادِيسَ، وَأَقَامَ فِيهِ أَبَا عُبَيْدَةَ، وَجَعَلَ الْمَيْمَنَةَ كَرَادِيسَ وَعَلَيْهَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَفِيهَا شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ. وَجَعَلَ الْمَيْسَرَةَ كَرَادِيسَ وَعَلَيْهَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَكَانَ عَلَى كُرْدُوسٍ مِنْ كَرَادِيسِ أَهْلِ الْعِرَاقِ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَلَى كُرْدُوسٍ مَذْعُورُ بْنُ عَدِيٍّ، وَعِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَهَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَزِيَادُ بْنُ حَنْظَلَةَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَخَالِدٌ فِي كُرْدُوسٍ، وعلى فاله خالد بن سعيد دحية بْنُ خَلِيفَةَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَامْرُؤُ الْقَيْسِ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَيَزِيدُ بْنُ يُحَنَّسَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَعِكْرِمَةُ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَسُهَيْلٌ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَلَى كُرْدُوسٍ- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً- وَحَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ خَالِدٍ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَأَبُو الأَعْوَرِ بْنُ سُفْيَانَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَابْنُ ذِي الْخِمَارِ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَفِي الْمَيْمَنَةِ عماره بن مخشى ابن خُوَيْلِدٍ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَشُرَحْبِيلُ على كردوس وَمَعَهُ خالد بن

سَعِيدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَعَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَالسِّمْطُ بْنُ الأَسْوَدِ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَذُو الْكلاعِ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ عَلَى آخَرَ، وَجُنْدُبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حُمَمَةَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَعَمْرُو بْنُ فُلانٍ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَلَقِيطُ بْنُ عَبْدِ الْقَيْسِ بْنِ بُجْرَةَ حَلِيفٌ لِبَنِي ظُفَرَ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَفِي الْمَيْسَرَةِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَالزُّبَيْرُ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَحَوْشَبُ ذُو ظُلَيْمٍ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَقَيْسُ بْنُ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ مَازِنِ بْنِ صَعْصَعَةَ مِنْ هَوَازِنَ- حَلِيفٌ لِبَنِي النَّجَّارِ- عَلَى كُرْدُوسٍ، وَعِصْمَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ- حَلِيفٌ لِبَنِي النَّجَّارِ مِنْ بَنِي أَسَدٍ- عَلَى كُرْدُوسٍ، وَضِرَارُ بْنُ الأَزْوَرِ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَمَسْرُوقُ بْنُ فُلانٍ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ بَهْزِ- حَلِيفٌ لِبَنِي عِصْمَةَ- عَلَى كُرْدُوسٍ، وَجَارِيَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَشْجَعِيُّ- حَلِيفٌ لِبَنِي سَلَمَةَ- عَلَى كُرْدُوسٍ، وَقَبَاثٌ عَلَى كُرْدُوسٍ وَكَانَ الْقَاضِي أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَكَانَ الْقَاصَّ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَكَانَ عَلَى الطَّلائِعِ قُبَاثُ بْنُ أُشَيْمٍ، وَكَانَ عَلَى الأَقْبَاضِ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود. كتب إلي السري، عن شعيب، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ نَحْوًا مِنْ حديث ابى عثمان، وقالوا جميعا: وكان القارئ الْمِقْدَادَ وَمِنَ السُّنَّةِ الَّتِي سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ ص بَعْدَ بَدْرٍ أَنْ تُقْرَأَ سُورَةُ الْجِهَادِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَهِيَ الأَنْفَالُ، وَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى ذَلِكَ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان يزيد بْنِ أُسَيْدٍ الْغَسَّانِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ وَخَالِدٍ، قَالا: شهد اليرموك الف من اصحاب رسول الله ص، فِيهِمْ نَحْوٌ مِنْ مِائَةٍ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ قَالا: وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ يَسِيرُ فَيَقِفُ عَلَى الكراديس، فيقول: الله لله! إِنَّكُمْ ذَادَةُ الْعَرَبِ، وَأَنْصَارُ الإِسْلامِ، وَإِنَّهُمْ ذَادَةُ الرُّومِ وَأَنْصَارُ الشِّرْكِ! اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِكَ، اللَّهُمَّ أَنْزِلْ نَصْرَكَ عَلَى عِبَادِكَ! قَالا: وَقَالَ رَجُلٌ لِخَالِدٍ: مَا أَكْثَرَ الرُّومَ وَأَقَلَّ الْمُسْلِمِينَ! فَقَالَ خَالِدٌ:

مَا أَقَلَّ الرُّومَ وَأَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ! إِنَّمَا تَكْثُرُ الْجُنُودُ بِالنَّصْرِ وَتَقِلُّ بِالْخِذْلانِ، لا بِعَدَدِ الرِّجَالِ، وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ الأَشْقَرَ بَرَاءٌ مِنْ تَوْجِيهٍ، وَأَنَّهُمْ أُضْعِفُوا فِي الْعَدَدِ- وَكَانَ فَرَسُهُ قَدْ حَفِيَ فِي مَسِيرِهِ- قَالا: فَأَمَرَ خَالِدٌ عِكْرِمَةَ والقعقاع، وكانا على مجنبى الْقَلْبِ، فَأَنْشَبَا الْقِتَالَ، وَارْتَجَزَ الْقَعْقَاعُ وَقَالَ: يَا لَيْتَنِي أَلْقَاكَ فِي الطِّرَادِ قَبْلَ اعْتِرَامِ الْجَحْفَلِ الْوَرَّادِ وَأَنْتَ فِي حَلَبَتِكَ الْوِرَادِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: قَدْ عَلِمَتْ بَهْكَنَةُ الْجَوَارِي أَنِّي عَلَى مَكْرُمَةٍ أُحَامِي فَنَشَبَ الْقِتَالُ، وَالْتَحَمَ النَّاسُ، وَتَطَارَدَ الْفِرْسَانُ، فَإِنَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ قَدِمَ الْبَرِيدُ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَأَخَذَتْهُ الْخُيُولُ، وَسَأَلُوهُ الْخَبَرَ، فَلَمْ يُخْبِرْهُمْ إِلا بِسَلامَةٍ، وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ أَمْدَادٍ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِمَوْتِ أَبِي بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَتَأْمِيرِ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَأَبْلَغُوهُ خَالِدًا، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ أَبِي بَكْرٍ، أَسَرَّهُ إِلَيْهِ، وَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي أَخْبَرَ بِهِ الْجُنْدَ قَالَ: أَحْسَنْتَ فَقِفْ، وَأَخَذَ الْكِتَابَ وَجَعَلَهُ فِي كِنَانَتِهِ، وَخَافَ إِنْ هُوَ أَظْهَرَ ذَلِكَ أَنْ ينتشر لَهُ أَمْرُ الْجُنْدِ، فَوَقَفَ مَحْمِيَّةُ بْنُ زُنَيْمٍ مَعَ خَالِدٍ، وَهُوَ الرَّسُولُ، وَخَرَجَ جرجةُ، حَتَّى كَانَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، وَنَادَى: لِيَخْرُجْ إِلَيَّ خَالِدٌ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ خَالِدٌ وَأَقَامَ أَبَا عُبَيْدَةَ مَكَانَهُ، فَوَافَقَهُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، حَتَّى اخْتَلَفَتْ أَعْنَاقُ دَابَّتَيْهِمَا، وَقَدْ أَمِنَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَقَالَ جرجةُ: يَا خَالِدُ أَصْدِقْنِي وَلا تُكْذِبْنِي فَإِنَّ الْحُرَّ لا يَكْذِبُ وَلا تُخَادِعْنِي فَإِنَّ الْكَرِيمَ لا يُخَادِعُ الْمُسْتَرْسِلَ بِاللَّهِ، هَلْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيُّكُمْ سَيْفًا مِنَ السَّمَاءِ فَأَعْطَاكَهُ،

فَلا تُسِلُّهُ عَلَى قَوْمٍ إِلا هَزَمْتَهُمْ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَبِمَ سُمِّيتَ سَيْفَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ فِينَا نَبِيَّهُ ص، فَدَعَانَا فَنَفَرْنَا عَنْهُ وَنَأْيَنَا عَنْهُ جَمِيعًا ثُمَّ إِنَّ بَعْضَنَا صَدَّقَهُ وَتَابَعَهُ، وَبَعْضَنَا بَاعَدَهُ وَكَذَّبَهُ، فَكُنْتُ فِيمَنْ كَذَّبَهُ وَبَاعَدَهُ وَقَاتَلَهُ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَخَذَ بِقُلُوبِنَا وَنَوَاصِينَا، فَهَدَانَا بِهِ، فَتَابَعْنَاهُ [فَقَالَ: أَنْتَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ!] وَدَعَا لِي بِالنَّصْرِ، فَسُمِّيتُ سَيْفَ اللَّهِ بِذَلِكَ، فَأَنَا مِنْ أَشَدِّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ صَدَقْتَنِي، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ جرجه: يا خالد، أخبرني الا م تَدْعُونِي؟ قَالَ: إِلَى شِهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَالإِقْرَارِ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، قَالَ: فَمَنْ لَمْ يُجِبْكُمْ؟ قَالَ: فَالْجِزْيَةُ وَنَمْنَعُهُمْ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يُعْطِهَا، قَالَ: نُؤْذِنْهُ بِحَرْبٍ، ثُمَّ نُقَاتِلُهُ قَالَ: فَمَا مَنْزِلَةُ الَّذِي يَدْخُلُ فِيكُمْ وَيُجِيبُكُمْ إِلَى هَذَا الأَمْرِ الْيَوْمَ؟ قَالَ: مَنْزِلَتُنَا وَاحِدَةٌ فِيمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنَا، شَرِيفُنَا وَوَضِيعُنَا، وَأَوَّلُنَا وَآخِرُنَا. ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ جرجةُ: هَلْ لِمَنْ دَخَلَ فِيكُمُ الْيَوْمَ يَا خَالِدُ مِثْلُ مَا لَكُمْ مِنَ الأَجْرِ وَالذَّخْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأَفْضَلُ، قَالَ: وَكَيْفَ يُسَاوِيكُمْ وَقَدْ سَبَقْتُمُوهُ؟ قَالَ: إِنَّا دَخَلْنَا فِي هَذَا الأَمْرِ، وَبَايَعْنَا نَبِيَّنَا ص وَهُوَ حَيٌّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، تَأْتِيهِ أَخْبَارُ السَّمَاءِ ويخبرنا بِالْكُتُبِ، وَيُرِينَا الآيَاتِ، وَحَقٌّ لِمَنْ رَأَى مَا رَأَيْنَا، وَسَمِعَ مَا سَمِعْنَا، أَنْ يُسْلِمَ وَيُبَايِعَ، وَإِنَّكُمْ أَنْتُمْ لَمْ تَرَوْا مَا رَأَيْنَا، وَلَمْ تَسْمَعُوا مَا سَمِعْنَا مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْحُجَجِ، فَمَنْ دَخَلَ فِي هَذَا الأَمْرِ مِنْكُمْ بِحَقِيقَةٍ وَنِيَّةٍ كَانَ أَفْضَلَ مِنَّا قَالَ جرجةُ: بِاللَّهِ لَقَدْ صَدَقْتَنِي وَلَمْ تُخَادِعْنِي وَلَمْ تَأْلَفْنِي! قَالَ: بِاللَّهِ، لَقَدْ صَدَقْتُكَ وَمَا بِي إِلَيْكَ وَلا إِلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ وَحْشَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَوَلِيُّ مَا سَأَلْتَ عَنْهُ فَقَالَ: صَدَقْتَنِي، وَقَلَبَ التُّرْسَ وَمَالَ مَعَ خَالِدٍ، وَقَالَ: عَلِّمْنِي الإِسْلامَ، فَمَالَ بِهِ خَالِدٌ إِلَى فُسْطَاطِهِ، فَشَنَّ عَلَيْهِ قِرْبَةً مِنْ مَاءٍ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَحَمَلَتِ الرُّومُ مَعَ

انْقِلابِهِ إِلَى خَالِدٍ، وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهَا مِنْهُ حَمْلَةٌ، فَأَزَالُوا الْمُسْلِمِينَ عَنْ مَوَاقِفِهِمْ إِلا الْمُحَامِيَةَ، عَلَيْهِمْ عِكْرِمَةُ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَرَكِبَ خَالِدٌ وَمَعَهُ جرجةُ وَالرُّومُ خِلالَ الْمُسْلِمِينَ، فَتَنَادَى النَّاسُ، فَثَابُوا، وَتَرَاجَعَتِ الرُّومُ إِلَى مَوَاقِفِهِمْ، فَزَحَفَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى تَصَافَحُوا بِالسُّيُوفِ، فَضَرَبَ فِيهِمْ خَالِدٌ وَجرجةُ مِنْ لَدُنِ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ إِلَى جُنُوحِ الشَّمْسِ لِلْغُرُوبِ، ثُمَّ أُصِيبَ جرجةُ وَلَمْ يُصَلِّ صَلاةً سَجَدَ فِيهَا إِلا الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَسْلَمَ عَلَيْهِمَا، وَصَلَّى النَّاسُ الأُولَى وَالْعَصْرَ إِيمَاءً، وَتَضَعْضَعَ الرُّومُ، وَنَهَدَ خَالِدٌ بِالْقَلْبِ حَتَّى كَانَ بَيْنَ خَيْلِهِمْ وَرِجْلِهِمْ، وَكَانَ مُقَاتِلُهُمْ وَاسِعَ الْمَطْرَدِ، ضَيِّقَ الْمَهْرَبِ، فَلَمَّا وَجَدَتْ خَيْلُهُمْ مَذْهَبًا ذَهَبَتْ وَتَرَكُوا رِجْلَهُمْ فِي مَصَافِّهِمْ، وَخَرَجَتْ خَيْلُهُمْ تَشْتَدُّ بِهِمْ فِي الصَّحْرَاءِ، وَأَخَّرَ النَّاسُ الصَّلاةَ حَتَّى صَلُّوا بَعْدَ الْفَتْحِ. وَلَمَّا رَأَى الْمُسْلِمُونَ خَيْلَ الرُّومِ تَوَجَّهَتْ لِلْهَرَبِ، أَفْرَجُوا لَهَا، وَلَمْ يُحَرِّجُوهَا، فَذَهَبَتْ فَتَفَرَّقَتْ فِي الْبِلادِ، وَأَقْبَلَ خَالِدٌ وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى الرَّجْلِ فَفَضُّوهُمْ، فَكَأَنَّمَا هُدِمَ بِهِمْ حَائِطٌ، فَاقْتَحِمُوا فِي خَنْدَقِهِمْ، فَاقْتَحَمَهُ عَلَيْهِمْ فَعَمَدُوا إِلَى الْوَاقُوصَةِ، حَتَّى هَوَى فِيهَا الْمُقْتَرِنُونَ وَغَيْرُهُمْ، فَمَنْ صَبَرَ من المقترنين للقتال هوى به من خشعت نَفْسُهُ، فَيَهْوِي الْوَاحِدُ بِالْعَشْرَةِ لا يُطِيقُونَهُ، كُلَّمَا هَوَى اثْنَانِ كَانَتِ الْبَقِيَّةُ أَضْعَفَ، فَتَهَافَتَ فِي الْوَاقُوصَةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ أَلْفٍ، ثَمَانُونَ أَلْفَ مُقْتَرِنٍ وَأَرْبَعُونَ أَلْفَ مُطْلَقٍ، سِوَى مَنْ قُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ مِنَ الْخَيْلِ وَالرَّجْلِ، فَكَانَ سَهْمُ الْفَارِسِ يومئذ ألفا وخمسمائة، وَتَجَلَّلَ الْفَيْقَارُ وَأَشْرَافٌ مِنْ أَشْرَافِ الرُّومِ بَرَانِسَهُمْ، ثُمَّ جَلَسُوا وَقَالُوا: لا نُحِبُّ أَنْ نَرَى يَوْمَ السُّوءِ إِذْ لَمْ نَسْتَطِعْ أَنْ نَرَى يَوْمَ السُّرُورِ، وَإِذْ لَمْ نَسْتَطِعْ أَنْ نَمْنَعَ النَّصْرَانِيَّةَ، فَأُصِيبُوا فِي تَزَمُّلِهِمْ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان، عن خالد

وعباده، قالا: اصبح خالد من تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَهُوَ فِي رِوَاقِ تذارقَ، لَمَّا دَخَلَ الْخَنْدَقَ نَزَلَهُ وَأَحَاطَتْ بِهِ خَيْلُهُ، وَقَاتَلَ النَّاسُ حَتَّى أَصْبَحُوا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ الْغَسَّانِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ يَوْمَئِذٍ: قَاتَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ، وَأَفِرُّ مِنْكُمُ الْيَوْمَ! ثُمَّ نَادَى: مَنْ يُبَايِعُ عَلَى الْمَوْتِ؟ فَبَايَعَهُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَضِرَارُ بْنُ الأَزْوَرِ في أربعمائة مِنْ وُجُوهِ الْمُسْلِمِينَ وَفِرْسَانِهِمْ، فَقَاتَلُوا قُدَّامَ فُسْطَاطِ خَالِدٍ حَتَّى أَثْبَتُوا جَمِيعًا جِرَاحًا، وَقُتِلُوا إِلا مَنْ بَرَأَ، وَمِنْهُمْ ضِرَارُ بْنُ الأَزْوَرِ قَالَ: واتى خالد بعد ما أَصْبَحُوا بِعِكْرِمَةَ جَرِيحًا فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِهِ، وَبِعَمْرِو بْنِ عِكْرِمَةَ فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاقِهِ، وَجَعَلَ يَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمَا، وَيَقْطُرُ فِي حُلُوقِهِمَا الْمَاءَ، وَيَقُولُ: كَلا، زَعَمَ ابْنُ الْحَنْتَمَةِ أَنَّا لا نَسْتَشْهِدُ! كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي عُمَيْسٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ- وَكَانَ شَهِدَ الْيَرْمُوكَ هُوَ وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ- أَنَّ النِّسَاءَ قَاتَلْنَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ فِي جَوْلَةٍ، فَخَرَجَتْ جُوَيْرِيَةُ ابْنَةُ أَبِي سُفْيَانَ فِي جَوْلَةٍ، وَكَانَتْ مَعَ زَوْجِهَا وَأُصِيبَتْ بَعْدَ قِتَالٍ شَدِيدٍ، وَأُصِيبَتْ يَوْمَئِذٍ عَيْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَأَخْرَجَ السَّهْمَ مِنْ عينه وابو حَثْمَةَ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن المستنير بْن يزيد بْن أرطاة ابن جهيش، قال: كان الأشتر قد شهد اليرموك ولم يشهد القادسية، فخرج يومئذ رجل من الروم، فقال: من يبارز؟ فخرج إليه الأشتر، فاختلفا ضربتين، فقال للرومي: خذها وأنا الغلام الإيادي، فقال: الرومي: أكثر اللَّه في قومي مثلك! اما والله لو أنك من قومي لآزرت الروم، فأما الآن فلا اعينهم!

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان وخالد: وكان ممن أصيب في الثلاثة الآلاف الذين أصيبوا يوم اليرموك عكرمة، وعمرو بْن عكرمة، وسلمة بْن هشام، وعمرو بْن سعيد، وأبان بْن سعيد- وأثبت خالد بْن سعيد فلا يدرى أين مات بعد- وجندب بن عمرو ابن حممة الدوسي، والطفيل بْن عمرو، وضرار بْن الأزور أثبت فبقي وطليب بْن عمير بْن وهب من بني عبد بْن قصي، وهبار بن سفيان، وهشام بن العاصي. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَقِيَ خَالِدًا مَقْدَمَهُ الشَّامِ مُغِيثًا لأَهْلِ الْيَرْمُوكِ رَجُلٌ مِنْ رُومِ الْعَرَبِ، فَقَالَ: يَا خَالِدُ، إِنَّ الرُّومَ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، مِائَتَيْ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَرْجِعَ عَلَى حاميتك فافعل، فقال خالد: أبا الروم تُخَوِّفُنِي! وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ الأَشْقَرَ بَرَاءٌ مِنْ تَوْجِيهٍ، وَأَنَّهُمْ أَضْعَفُوا ضَعْفَهُمْ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ! كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْمُسْتَنِيرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَرْطَاةَ بْنِ جُهَيْشٍ، قَالَ: قَالَ خَالِدٌ يَوْمَئِذٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَضَى عَلَى أَبِي بَكْرٍ بِالْمَوْتِ وَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ عُمَرَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَلَّى عُمَرَ، وَكَانَ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ أَلْزَمَنِي حُبَّهُ! كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحه وعمرو ابن ميمون، قالوا: وقد كان هرقل حج قبل مهزم خالد بْن سعيد، فحج بيت المقدس، فبينا هو مقيم به أتاه الخبر بقرب الجنود منه، فجمع الروم، وقال: أرى من الرأي الا تقاتلوا هؤلاء القوم، وان نصالحوهم، فو الله لأن تعطوهم نصف ما أخرجت الشام، وتأخذوا نصفا وتقر لكم جبال الروم، خير لكم من أن يبلغوكم على الشام، ويشاركوكم في جبال الروم، فنخر أخوه ونخر ختنه، وتصدع عنه من كان حوله، فلما رآهم يعصونه ويردون عليه بعث أخاه، وأمر الأمراء ووجه إلى كل جند

جندا فلما اجتمع المسلمون، أمرهم بمنزل واحد واسع جامع حصين، فنزلوا بالواقوصة، وخرج فنزل حمص، فلما بلغه أن خالدا قد طلع على سوى وانتسف أهله وأموالهم، وعمد إلى بصرى وافتتحها وأباح عذراء، قال لجلسائه: ألم أقل لكم لا تقاتلوهم! فإنه لا قوام لكم مع هؤلاء القوم، إن دينهم دين جديد يجدد لهم ثبارهم، فلا يقوم لهم أحد حتى يبلى. فقالوا: قاتل عن دينك ولا تجبن الناس، واقض الذي عليك، قال: وأي شيء أطلب إلا توفير دينكم! ولما نزلت جنود المسلمين اليرموك، بعث إليهم المسلمون: إنا نريد كلام أميركم وملاقاته، فدعونا نأته ونكلمه، فأبلغوه فأذن لهم فأتاه أبو عبيدة ويزيد بْن أبي سفيان كالرسول، والحارث بْن هشام وضرار بْن الأزور وأبو جندل بْن سهيل، ومع أخي الملك يومئذ ثلاثون رواقا في عسكره وثلاثون سرادقا، كلها من ديباج، فلما انتهوا إليها أبوا أن يدخلوا عليه فيها، وقالوا: لا نستحل الحرير فابرز لنا فبرز إلى فرش ممهدة، وبلغ ذلك هرقل، فقال: ألم أقل لكم! هذا أول الذل، أما الشام فلا شأم، وويل للروم من المولود المشئوم! ولم يتأت بينهم وبين المسلمين صلح، فرجع أبو عبيدة وأصحابه واتعدوا، فكان القتال حتى جاء الفتح. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مطرح، عن القاسم، عن أبي أمامة وأبي عثمان، عن يزيد بْن سنان، عن رجال من أهل الشام ومن أشياخهم، قالوا: لما كان اليوم الذي تأمر فيه خالد، هزم اللَّه الروم مع الليل، وصعد المسلمون العقبة، وأصابوا ما في العسكر، وقتل اللَّه صناديدهم ورءوسهم وفرسانهم، وقتل اللَّه أخا هرقل، وأخذ التذارق، وانتهت الهزيمة إلى هرقل وهو دون مدينة حمص، فارتحل فجعل حمص بينه وبينهم، وأمر عليها أميرا وخلفه فيها، كما كان أمر على دمشق، وأتبع المسلمون الروم حين هزموهم خيولا يثفنونهم ولما صار إلى

أبي عبيدة الأمر بعد الهزيمة، نادى بالرحيل، وارتحل المسلمون بزحفهم حتى وضعوا عساكرهم بمرج الصفر قال أبو أمامة: فبعثت طليعة من مرج الصفر، معي فارسان، حتى دخلت الغوطة فجستها بين أبياتها وشجراتها، فقال أحد صاحبي: قد بلغت حيث أمرت فانصرف لا تهلكنا، فقلت: قف مكانك حتى تصبح أو آتيك فسرت حتى دفعت إلى باب المدينة، وليس في الأرض أحد ظاهر، فنزعت لجام فرسي وعلقت عليها مخلاتها، وركزت رمحي، ثم وضعت رأسي فلم أشعر إلا بالمفتاح يحرك عند الباب ليفتح، فقمت فصليت الغداة، ثم ركبت فرسي، فحملت عليه، فطعنت البواب فقتلته، ثم انكفأت راجعا، وخرجوا يطلبوننى، فجعلوا يكفون عني مخافة أن يكون لي كمين، فدفعت إلى صاحبي الأدنى الذي أمرته أن يقف، فلما رأوه قالوا: هذا كمين انتهى إلى كمينه فانصرفوا وسرت أنا وصاحبي، حتى دفعنا إلى صاحبنا الثاني، فسرنا حتى انتهينا إلى المسلمين، وقد عزم أبو عبيدة ألا يبرح حتى يأتيه رأي عمر وأمره، فأتاه فرحلوا حتى نزلوا على دمشق، وخلف باليرموك بشير بْن كعب بْن أبي الحميري في خيل كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سعيد، قال: قال قباث: كنت في الوفد بفتح اليرموك، وقد أصبنا خيرا ونفلا كثيرا، فمر بنا الدليل على ماء رجل قد كنت اتبعته في الجاهلية حين أدركت وأنست من نفسي لأصيب منه، كنت دللت عليه، فأتيته فأخبرته، فقال: قد أصبت، فإذا ريبال من ريابلة العرب قد كان يأكل في اليوم عجز جزور بأدمها ومقدار ذلك من غير العجز ما يفضل عنه إلا ما يقوتني وكان يغير على الحي ويدعني قريبا، ويقول: إذا مر بك راجز يرتجز بكذا وكذا، فأنا ذلك، فشل معي فمكثت بذلك حتى أقطعني قطيعا من مال، وأتيت به أهلي، فهو أول مال أصبته. ثم إني رأست قومي، وبلغت مبلغ رجال العرب، فلما مر بنا على ذلك الماء

عرفته، فسألت عن بيته فلم يعرفوه، وقالوا: هو حي، فأتيت ببنين استفادهم بعدي، فأخبرتهم خبري، فقالوا: اغد علينا غدا، فإنه أقرب ما يكون إلى ما تحب بالغداة، فغاديتهم فأدخلت عليه، فأخرج من خدره، فأجلس لي، فلم أزل أذكره حتى ذكر، وتسمع وجعل يطرب للحديث ويستطعمنيه، وطال مجلسنا وثقلنا على صبيانهم، ففرقوه ببعض ما كان يفرق منه ليدخل خدره، فوافق ذلك عقله، فقال: قد كنت وما أفزع! فقلت: أجل، فأعطيته ولم أدع أحدا من أهله إلا أصبته بمعروف ثم ارتحلت. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، قَالَ: قَالَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ لِقُبَاثٍ: أَأَنْتَ أَكْبَرُ أَمْ رَسُولُ الله ص؟ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنِّي، وَأَنَا أَقْدَمُ مِنْهُ، قَالَ: فَمَا أَبْعَدُ ذِكْرِكَ؟ قَالَ: خِثْيُ الْفِيلِ لِسَنَةٍ قَالَ: وَمَا أَعْجَبُ مَا رَأَيْتَ؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ قُضَاعَةَ، إِنِّي لَمَّا أَدْرَكْتُ وَآنَسْتُ مِنْ نَفْسِي سَأَلْتُ عَنْ رَجُلٍ أَكُونُ مَعَهُ وَأُصِيبُ مِنْهُ، فَدُلِلْتُ عَلَيْهِ وَاقْتَصَّ هَذَا الْحَدِيثَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ حِينَ سار القوم خرج مع يزيد ابن أَبِي سُفْيَانَ يُوصِيهِ، وَأَبُو بَكْرٍ يَمْشِي وَيَزِيدُ رَاكِبٌ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ وَصِيَّتِهِ قَالَ: أُقْرِئُكَ السَّلامَ، وَأَسْتَوْدِعُكَ اللَّهَ ثُمَّ انْصَرَفَ وَمَضَى يَزِيدُ، فَأَخَذَ التبوكية ثُمَّ تَبِعَهُ شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ ثُمَّ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ مَدَدًا لَهُمَا عَلَى ربع، فَسَلَكُوا ذَلِكَ الطَّرِيقِ، وَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ حَتَّى نَزَلَ بِغمرِ الْعَرَبَاتِ، وَنَزَلَتِ الرُّومُ بِثَنِيَّةِ جِلَّقَ بِأَعْلَى فِلَسْطِينَ فِي سَبْعِينَ أَلْفًا، عَلَيْهِمْ تذارقُ أَخُو هِرَقْلَ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ فَكَتَبَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، يَذْكُرُ لَهُ أَمْرَ الرُّومِ وَيَسْتَمِدُّهُ وَخَرَجَ خَالِدُ بن سعيد بن العاصي، وَهُوَ بِمَرْجِ الصّفرِ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ يَسْتَمْطِرُ فِيهِ، فَتَعَاوَى عَلَيْهِ

أَعْلاجُ الرُّومِ، فَقَتَلُوهُ، وَقَدْ كَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ كَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ يَذْكُرُ لَهُ أَمْرَ الرُّومِ وَيَسْتَمِدُّهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا أَبُو زَيْدٍ، فَحَدَّثَنِي عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ بِالإِسْنَادِ الَّذِي قَدْ ذَكَرْتُ قَبْلُ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَّهَ بَعْدَ خُرُوجِ يَزِيدَ بن ابى سفيان موجها إِلَى الشَّامِ بِأَيَّامٍ، شُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ- قَالَ: وهو شرحبيل ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُطَاعِ بْنِ عَمْرِو، مِنْ كِنْدَةَ، وَيُقَالُ مِنَ الأَزْدِ- فَسَارَ فِي سَبْعَةِ آلافٍ، ثُمَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ فِي سَبْعَةِ آلافٍ، فَنَزَلَ يَزِيدُ الْبَلْقَاءَ، وَنَزَلَ شُرَحْبِيلُ الأُرْدُنَّ- وَيُقَالُ بُصْرَى- وَنَزَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْجَابِيَةَ، ثُمَّ أَمَدَّهُمْ بِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَنَزَلَ بِغَمْرِ الْعَرَبَاتِ، ثُمَّ رَغَّبَ النَّاسَ فِي الْجِهَادِ، فَكَانُوا يَأْتُونَ الْمَدِينَةَ فَيُوَجِّهُهُمْ أَبُو بَكْرٍ إِلَى الشَّامِ فَمُنْهُمْ مَنْ يَصِيرُ مَعَ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَصِيرُ مَعَ يَزِيدَ، يَصِيرُ كُلُّ قَوْمٍ مَعَ مَنْ أَحَبُّوا. قَالُوا: فَأَوَّلُ صُلْحٍ كَانَ بِالشَّامِ صُلْحُ مَآبٍ، وَهِيَ فُسْطَاطٌ لَيْسَتْ بِمَدِينَةٍ، مَرَّ أَبُو عُبَيْدَةَ بِهِمْ فِي طَرِيقِهِ، وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنَ الْبَلْقَاءِ، فَقَاتَلُوهُ، ثُمَّ سَأَلُوهُ الصُّلْحَ فَصَالَحَهُمْ وَاجْتَمَعَ الرُّومُ جَمْعًا بِالْعَرْبَةِ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ، فَفَضَّ ذَلِكَ الْجَمْعَ. قَالُوا: فَأَوَّلُ حَرْبٍ كَانَتْ بِالشَّامِ بَعْدَ سَرِيَّةِ أُسَامَةَ بِالْعَرْبَةِ ثُمَّ أَتَوُا الدَّاثِنَةَ- وَيُقَالُ الدَّاثِنَ- فَهَزَمَهُمْ أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ، وَقَتَلَ بِطْرِيقًا مِنْهُمْ ثُمَّ كَانَتْ مَرْجَ الصُّفَّرِ، اسْتُشْهِدَ فِيهَا خَالِدُ بْنُ سعيد بن العاصي، أَتَاهُمْ أدرنجَارُ فِي أَرْبَعَةِ آلافٍ وَهُمْ غَارُونَ، فَاسْتُشْهِدَ خَالِدٌ وَعِدَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقِيلَ إِنَّ الْمَقْتُولَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ كان ابْنًا لِخَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، وَإِنَّ خَالِدًا انْحَازَ حِينَ قُتِلَ ابْنُهُ، فَوَجَّهَ أَبُو بَكْرٍ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَمِيرًا عَلَى الأُمَرَاءِ الَّذِينَ بِالشَّامِ، ضَمَّهُمْ إِلَيْهِ، فَشَخَصَ خَالِدٌ مِنَ الْحِيرَةِ فِي رَبِيعٍ الآخِرِ سَنَةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ فِي ثمانمائه- ويقال في خمسمائة- وَاسْتَخْلَفَ عَلَى عَمَلِهِ الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ، فَلَقِيَهُ عَدُوٌّ بِصَنْدُودَاءَ، فَظَفَرَ بِهِمْ، وَخَلَّفَ بِهَا ابْنَ حَرَامٍ الأَنْصَارِيَّ، وَلَقِيَ جَمْعًا بِالْمُصَيَّخِ وَالْحَصِيدِ، عَلَيْهِمْ

رَبِيعَةُ بْنُ بُجَيْرٍ التَّغْلِبِيُّ، فَهَزَمَهُمْ وَسَبَى وَغَنِمَ، وَسَارَ فَفَوز مِنْ قُرَاقِرَ إِلَى سَوَى، فَأَغَارَ عَلَى أَهْلِ سَوَى، وَاكْتَسَحَ أَمْوَالَهُمْ، وَقَتَلَ حُرْقُوصَ ابن النُّعْمَانِ الْبَهْرَانِيَّ، ثُمَّ أَتَى أَرْكَ فَصَالَحُوهُ، وَأَتَى تَدْمُرَ فَتَحَصَّنُوا، ثُمَّ صَالَحُوهُ، ثُمَّ أَتَى الْقَرْيَتَيْنِ، فَقَاتَلَهُمْ فَظَفَرَ بِهِمْ وَغَنِمَ، وَأَتَى حُوَارِينَ، فَقَاتَلَهُمْ فَهَزَمَهُمْ وَقَتَلَ وَسَبَى، وَأَتَى قَصَمَ فَصَالَحَهُ بَنُو مَشْجَعَةَ مِنْ قُضَاعَةَ، وَأَتَى مَرْجَ رَاهِطٍ، فَأَغَارَ عَلَى غَسَّانَ فِي يَوْمِ فِصْحِهِمْ، فَقَتَلَ وَسَبَى، وَوَجَّهَ بُسْرَ بْنَ أَبِي أَرْطَاةَ وَحَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ إِلَى الْغَوْطَةِ، فَأَتَوْا كَنِيسَةً فَسَبَوُا الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ، وَسَاقُوا الْعِيَالَ إِلَى خَالِدٍ. قَالَ: فَوَافَى خالدا كتاب أبي بكر بالحيرة منصرفه من حجه: أن سر حتى تأتي جموع المسلمين باليرموك، فإنهم قد شجوا وأشجوا، وإياك أن تعود لمثل ما فعلت، فإنه لم يشج الجموع من الناس بعون الله شجاك، ولم ينزع الشجى من الناس نزعك فليهنئك أبا سليمان النية والحظوة، فأتمم يتمم الله لك، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أَنْ تَدُلَّ بِعَمَلٍ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ له المن، وهو ولي الجزاء. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الملك بْن عطاء، عن الهيثم البكائي، قال: كان أهل الأيام من أهل الكوفة يوعدون معاوية عند بعض الذي يبلغهم، ويقولون: ما شاء معاوية! نحن أصحاب ذات السلاسل، ويسمون ما بينها وبين الفراض، ما يذكرون ما كان بعد، احتقارا لما كان بعد فيما كان قبل. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عن إسحاق بن إبراهيم، عن ظفر بن دهي، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ،

وَطَلْحَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ، وَالْمُهَلَّبِ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سِيَاهٍ الأَحْمَرِيِّ، قَالُوا: كَانَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ وَجَّهَ خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بن العاصي إِلَى الشَّامِ حَيْثُ وَجَّهَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَأَوْصَاهُ بِمِثْلِ الَّذِي أَوْصَى بِهِ خالدا وان خالد ابن سَعِيدٍ سَارَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى الشَّامِ وَلَمْ يَقْتَحِمْ، وَاسْتَجْلَبَ النَّاسَ فَعَزَّ، فَهَابَتْهُ الرُّومُ، فَأَحْجَمُوا عَنْهُ، فَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى أَمْرِ أَبِي بَكْرٍ وَلَكِنْ تَوَرَّدَهَا فَاسْتَطْرَدَتْ لَهُ الرُّومُ، حَتَّى أَوْرَدُوهُ الصُّفَّرَ، ثُمَّ تَعَطَّفُوا عَلَيْهِ بَعْدَ مَا أَمِنَ، فَوَافَقُوا ابْنَهُ سَعِيدَ بْنَ خَالِدٍ مُسْتَمْطِرًا، فَقَتَلُوهُ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ، وَأَتَى الْخَبَرُ خَالِدًا، فَخَرَجَ هَارِبًا، حَتَّى يَأْتِيَ الْبَرَّ، فَيَنْزِلَ مَنْزِلا، وَاجْتَمَعَتِ الرُّومُ إِلَى الْيَرْمُوكِ، فَنَزَلُوا بِهِ، وَقَالُوا: وَاللَّهِ لَنُشْغِلَنَّ أَبَا بَكْرٍ فِي نَفْسِهِ عَنْ تَوَرُّدِ بِلادَنَا بِخُيُولِهِ. وَكَتَبَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِالَّذِي كَانَ، فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ الى عمرو ابن الْعَاصِ- وَكَانَ فِي بِلادِ قُضَاعَةَ- بِالسَّيْرِ إِلَى الْيَرْمُوكِ، فَفَعَلَ وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَيَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَمَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْغَارَةِ، وَأَلا تُوغِلُوا حَتَّى لا يَكُونُ وَرَاءَكُمْ أَحَدٌ مِنْ عَدُوِّكُمْ. وَقَدِمَ عَلَيْهِ شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ بِفَتْحٍ مِنْ فُتُوحِ خَالِدٍ، فَسَرَّحَهُ نَحْوَ الشَّامِ فِي جُنْدٍ، وَسَمَّى لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْ أُمَرَاءِ الأَجْنَادِ كَوْرَةً مِنْ كُوَرِ الشَّامِ، فَتَوَافَوْا بِالْيَرْمُوكِ، فَلَمَّا رَأَتِ الرُّومُ تَوَافِيَهُمْ، نَدِمُوا عَلَى الَّذِي ظَهَرَ مِنْهُمْ، وَنَسُوا الَّذِي كَانُوا يَتَوَعَّدُونَ بِهِ أَبَا بَكْرٍ، وَاهْتَمُّوا وَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ، وَأَشْجَوْهُمْ وَشَجَوْا بِهِمْ، ثُمَّ نَزَلُوا الْوَاقُوصَةَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لأُنْسِيَنَّ الرُّومَ وَسَاوِسَ الشَّيْطَانِ بِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِهَذَا الْكِتَابِ الَّذِي فَوْقَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ عَلَى الْعِرَاقِ فِي نِصْفِ النَّاسِ، فَإِذَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الشَّامَ، فَارْجِعْ إِلَى عَمَلِكَ بِالْعِرَاقِ وَبَعَثَ خَالِدٌ بِالأَخْمَاسِ إِلا مَا نُفِلَ مِنْهَا مَعَ عُمَيْرِ بْنِ سَعْدٍ الأَنْصَارِيِّ وَبِمَسِيرِهِ إِلَى الشَّامِ. وَدَعَا خَالِدٌ الأَدِلَّةَ، فَارْتَحَلَ مِنَ الْحِيرَةِ سَائِرًا إِلَى دُومَةَ، ثُمَّ طَعَنَ فِي الْبَرِّ إِلَى قُرَاقِرَ، ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ لِي بِطَرِيقٍ أَخْرُجُ فِيهِ مِنْ وَرَاءِ جُمُوعِ الرُّومِ!

فَإِنِّي إِنِ اسْتَقْبَلْتُهَا حَبَسَتْنِي عَنْ غِيَاثِ الْمُسْلِمِينَ، فَكُلُّهُمْ قَالَ: لا نَعْرِفُ إِلا طَرِيقًا لا يَحْمِلُ الْجُيُوشَ، يَأْخُذُهُ الْفَذُّ الرَّاكِبُ، فَإِيَّاكَ أَنْ تُغَرِّرَ بِالْمُسْلِمِينَ فَعَزَمَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ إِلا رَافِعُ بْنُ عُمَيْرَةَ عَلَى تَهَيُّبٍ شَدِيدٍ، فَقَامَ فِيهِمْ، فَقَالَ: لا يَخْتَلِفَنَّ هَدْيُكُمْ، وَلا يَضْعُفَنَّ يَقِينُكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْمَعُونَةَ تَأْتِي على قدر النية، والأجر على قدر الحسبة، وَإِنَّ الْمُسْلِمَ لا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكْتَرِثَ بِشَيْءٍ يَقَعُ فِيهِ مَعَ مَعُونَةِ اللَّهِ لَهُ، فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَكَ الْخَيْرَ، فَشَأْنُكَ فَطَابَقُوهُ ونَوَوْا وَاحَتَسَبُوا، وَاشْتَهَوْا مِثْلَ الَّذِي اشْتَهَى خَالِدٌ، فَأَمَرَهُمْ خَالِدٌ، فَتَرَوَّوْا لِلشفةِ لِخَمْسٍ، وَأَمَرَ صَاحِبَ كُلِّ خَيْلٍ بِقَدْرِ مَا يَسْقِيهَا، فَظَمَأَ كُلُّ قَائِدٍ مِنَ الإِبِلِ الشرفِ الْجَلالِ مَا يَكْتَفِي بِهِ، ثُمَّ سَقَوْهَا الْعَلَلَ بَعْدَ النَّهَلِ، ثُمَّ صَرُّوا آذَانَ الإِبِلِ وَكَعَمُوهَا، وَخَلَّوْا أَدْبَارَهَا، ثُمَّ رَكِبُوا مِنْ قُرَاقِرَ مُفَوِّزِينَ إِلَى سَوَى- وَهِيَ عَلَى جَانِبِهَا الآخَرِ مِمَّا يَلِي الشَّامَ- فَلَمَّا سَارُوا يَوْمًا افْتَظُّوا لِكُلِّ عِدَّةٍ مِنَ الْخَيْلِ عَشْرًا مِنْ تِلْكَ الإِبِلِ فَمَزَجُوا مَا فِي كُرُوشِهَا بِمَا كَانَ مِنَ الأَلْبَانِ، ثُمَّ سَقَوُا الْخَيْلَ، وَشَرِبُوا للشفةِ جَرْعًا، فَفَعَلُوا ذَلِكَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبيد الله بن محفز ابن ثعلبة، عمن حدثه من بكر بْن وائل، أن محرز بْن حريش المحاربي قال لخالد: اجعل كوكب الصبح على حاجبك الأيمن، ثم أمه تفض إلى سوى، فكان أدلهم. قال أبو جعفر الطبري: وشاركهم مُحَمَّد وطلحة، قالوا: لما نزل بسوى وخشي أن يفضحهم حر الشمس، نادى خالد رافعا: ما عندك؟ قال:

خير، ادركتم الري، وأنتم على الماء! وشجعهم وهو متحير أرمد، وقال: أيها الناس، انظروا علمين كأنهما ثديان فأتوا عليهما وقالوا: علمان، فقام عليهما فقال: اضربوا يمنة ويسرة- لعوسجة كقعدة الرجل- فوجدوا جذمها، فقالوا: جذم ولا نرى شجرة، فقال: احتفروا حيث شئتم، فاستثاروا أوشالا وأحساء رواء، فقال رافع: أيها الأمير، والله ما وردت هذا الماء منذ ثلاثين سنة، وما وردته الا مره وانا غلام مع ابى. فاستعد واثم أغاروا والقوم لا يرون أن جيشا يقطع إليهم. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ ظُفَرِ بْنِ دَهْيٍ، قَالَ: فَأَغَارَ بِنَا خَالِدٌ مِنَ سَوَى عَلَى مُصَيَّخِ بهمراء بِالْقَصْوَانِيِّ- مَاءٌ مِنَ الْمِيَاهِ- فَصَبَحَ الْمُصَيَّخُ وَالنَّمِرُ، وَإِنَّهُمْ لَغَارُونَ، وَإِنَّ رُفْقَةً لَتَشْرَبُ فِي وَجْهِ الصُّبْحِ، وَسَاقِيهِمْ يُغَنِّيهِمْ، وَيَقُولُ: أَلا صَبِّحَانِي قَبْلَ جَيْشِ أَبِي بَكْرٍ. فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، فَاخْتَلَطَ دَمُهُ بِخَمْرِهِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ بِإِسْنَادِهِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، قَالَ: وَلَمَّا بَلَغَ غَسَّانَ خُرُوجُ خَالِدٍ عَلَى سَوَى وَانْتِسَافُهَا، وَغَارَتُهُ عَلَى مُصَيَّخِ بَهَرَاءَ وَانْتِسَافُهَا، فَاجْتَمَعُوا بِمَرْجِ رَاهِطٍ، وَبَلَغَ ذَلِكَ خَالِدًا، وَقَدْ خَلَّفَ ثُغُورَ الرُّومِ وَجُنُودَهَا مِمَّا يَلِي الْعِرَاقَ، فَصَارَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْيَرْمُوكَ، صَمَدَ لهم، فخرج من سوى بعد ما رَجَعَ إِلَيْهَا بِسَبْيِ بَهْرَاءَ، فَنَزَلَ الرُّمَّانَتَيْنِ- عَلَمَيْنِ عَلَى الطَّرِيقِ- ثُمَّ نَزَلَ الْكَثَبَ، حَتَّى صَارَ إِلَى دِمَشْقَ، ثُمَّ مَرْجِ الصُّفَّرِ، فَلَقِيَ عَلَيْهِ غَسَّانَ وَعَلَيْهِمُ الْحَارِثُ بْنُ الأَيْهَمِ، فَانْتَسَفَ عَسْكَرَهُمْ وَعِيَالاتِهِمْ وَنَزَلَ بِالْمَرْجِ أَيَّامًا، وَبَعَثَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِالأَخْمَاسِ مَعَ بِلالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْمَرْجِ حَتَّى يَنْزِلَ قَنَاةَ بُصْرَى، فَكَانَتْ أَوَّلَ مَدِينَةٍ افْتُتِحَتْ بِالشَّامِ عَلَى يدي خالد

فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ جُنُودِ الْعِرَاقِ، وَخَرَجَ مِنْهَا، فَوَافَى الْمُسْلِمِينَ بِالْوَاقُوصَةِ، فَنَازَلَهُمْ بِهَا فِي تِسْعَةِ آلافٍ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ، قَالُوا: وَلَمَّا رَجَعَ خَالِدٌ مِنْ حَجِّهِ وَافَاهُ كِتَابُ أَبِي بَكْرٍ بِالْخُرُوجِ فِي شَطْرِ النَّاسِ، وَأَنْ يُخَلِّفَ عَلَى الشَّطْرِ الْبَاقِي الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ، وَقَالَ: لا تَأْخُذَنَّ نَجْدًا إِلا خَلَّفْتَ لَهُ نَجْدًا، فَإِذَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَارْدُدْهُمْ إِلَى الْعِرَاقِ، وَأَنْتَ مَعَهُمْ، ثُمَّ أَنْتَ عَلَى عَمَلِكَ، وَأَحْضَرَ خَالِدٌ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَأْثَرَ بِهِمْ عَلَى الْمُثَنَّى، وَتَرَكَ لِلْمُثَنَّى أَعْدَادَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقَنَاعَةِ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ صُحْبَةٌ، ثُمَّ نَظَرَ فِيمَنْ بَقِيَ، فَاخْتَلَجَ من كان قدم على النبي ص وَافِدًا أَوْ غَيْرِ وَافِدٍ، وَتَرَكَ لِلْمُثَنَّى أَعْدَادَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقَنَاعَةِ، ثُمَّ قَسَّمَ الْجُنْدَ نِصْفَيْنِ، فَقَالَ الْمُثَنَّى: وَاللَّهِ لا أُقِيمُ إِلا عَلَى إِنْفَاذِ أَمْرِ أَبِي بَكْرٍ كُلِّهِ فِي اسْتِصْحَابِ نِصْفِ الصَّحَابَةِ أَوْ بَعْضِ النِّصْفِ، وَبِاللَّهِ مَا أَرْجُو النَّصْرَ إِلا بِهِمْ، فَأَنَّى تُعْرِينِي مِنْهُمْ! فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ خَالِدٌ بَعْدَ مَا تَلَكَّأَ عَلَيْهِ أَعَاضَهُ مِنْهُمْ حَتَّى رَضِيَ، وَكَانَ فِيمَنْ أَعَاضَهُ مِنْهُمْ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ الْعِجْلِيُّ، وَبَشِيرُ بْنُ الْخَصَّاصِيَّةِ وَالْحَارِثُ بْنُ حَسَّانٍ الذُّهْلِيَّانِ، وَمَعْبَدُ بن أُمِّ مَعْبَدٍ الأَسْلَمِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى الأَسْلَمِيُّ، وَالْحَارِثُ بْنُ بِلالٍ الْمُزَنِيُّ، وَعَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو التَّمِيمِيُّ، حَتَّى إِذَا رَضِيَ الْمُثَنَّى وَأَخَذَ حَاجَتَهُ، انْجَذَبَ خَالِدٌ فَمَضَى لِوَجْهِهِ وَشَيَّعَهُ الْمُثَنَّى إِلَى قُرَاقِرَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْحِيرَةِ فِي الْمُحَرَّمِ، فَأَقَامَ فِي سُلْطَانِهِ، وَوَضَعَ فِي الْمَسْلَحَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا عَلَى السَّيْبِ أَخَاهُ، وَمَكَانَ ضِرَارِ بْنِ الْخَطَّابِ عُتَيْبَةَ بْنَ النَّهَّاسِ، وَمَكَانَ ضِرَارِ بْنِ الأَزْوَرِ مَسْعُودًا أَخَاهُ الآخَرَ، وَسَدَّ أَمَاكِنَ كُلِّ مَنْ خَرَجَ مِنَ الأُمَرَاءِ بِرِجَالٍ أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْغِنَاءِ، وَوَضَعَ مَذْعُورَ بْنَ عَدِيٍّ فِي بَعْضِ تِلْكَ الأَمَاكِنِ، وَاسْتَقَامَ أَهْلُ فَارِسٍ- عَلَى رَأْسِ سَنَةٍ مِنْ مَقْدَمِ خَالِدٍ الْحِيرَةِ، بَعْدَ خُرُوجِ خَالِدٍ بِقَلِيلٍ، وَذَلِكَ في سنه ثلاث عشره- على شهر براز بْنِ أردشيرَ بْنِ شَهْرَيَارِ مِمَّنْ يُنَاسَبُ إِلَى كِسْرَى، ثُمَّ إِلَى سَابُورَ فَوَجَّهَ إِلَى الْمُثَنَّى جُنْدًا عَظِيمًا عَلَيْهِمْ هُرْمُزُ جَاذُوَيْهِ

فِي عَشَرَةِ آلافٍ، وَمَعَهُ فِيلٌ، وَكَتَبَتِ الْمَسَالِحُ إِلَى الْمُثَنَّى بِإِقْبَالِهِ، فَخَرَجَ الْمُثَنَّى مِنَ الْحِيرَةِ نَحْوَهُ، وَضَمَّ إِلَيْهِ الْمَسَالِحَ، وَجَعَلَ عَلَى مُجَنِّبَتَيْهِ الْمُعَنَّى وَمَسْعُودًا ابْنَيْ حَارِثَةَ، وَأَقَامَ لَهُ بِبَابِلَ، واقبل هرمز جاذويه، وعلى مجنبتيه الكوكبد والحركبذ وكتب الى المثنى: من شهر براز إِلَى الْمُثَنَّى، إِنِّي قَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ جُنْدًا من وخش أَهْلِ فَارِسَ، إِنَّمَا هُمْ رُعَاةُ الدَّجَاجِ وَالْخَنَازِيرِ، وَلَسْتُ أُقَاتِلُكَ إِلا بِهِمْ فَأَجَابَهُ الْمُثَنَّى: مِنَ المثنى الى شهر براز، إِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إِمَّا بَاغٍ فَذَلِكَ شَرٌّ لَكَ وَخَيْرٌ لَنَا، وَإِمَّا كَاذِبٌ فَأَعْظَمُ الْكَذَّابِينَ عُقُوبَةً وَفَضِيحَةً عِنْدَ اللَّهِ فِي النَّاسِ الْمُلُوكُ وَأَمَّا الَّذِي يَدُلُّنَا عَلَيْهِ الرَّأْيُ، فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِمْ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَكُمْ إِلَى رُعَاةِ الدَّجَاجِ وَالْخَنَازِيرِ. فَجَزِعَ أَهْلُ فارس من كتابه، وقالوا: انما اتى شهر براز مِنْ شُؤمِ مَوْلِدِهِ وَلُؤْمِ مَنْشَئِهِ- وَكَانَ يَسْكُنُ مَيْسَانَ- وَبَعْضُ الْبُلْدَانِ شَيْنٌ عَلَى مَنْ يَسْكُنُهُ. وَقَالُوا لَهُ: جَرَّأْتَ عَلَيْنَا عَدُوَّنَا بِالَّذِي كَتَبْتَ بِهِ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا كَاتَبْتَ أَحَدًا فَاسْتَشِرْ فَالْتَقَوْا بِبَابِلَ، فَاقْتَتَلُوا بِعَدْوَةِ الصَّرَاةِ الدُّنْيَا عَلَى الطَّرِيقِ الأَوَّلِ قِتَالا شَدِيدًا ثُمَّ إِنَّ الْمُثَنَّى وَنَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ اعْتَوَرُوا الْفِيلَ- وَقَدْ كَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الصُّفُوفِ وَالْكَرَادِيسِ- فَأَصَابُوا مَقْتَلَهُ، فَقَتَلُوهُ وَهَزَمُوا أَهْلَ فَارِسَ، وَاتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَهُمْ، حَتَّى جَازُوا بِهِمْ مَسَالِحَهُمْ، فَأَقَامُوا فِيهَا، وَتَتَبَّعَ الطَّلَبُ الْفَالَةَ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْمَدَائِنِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ عَبْدَةُ بْنُ الطَّبِيبِ السَّعْدِيُّ، وَكَانَ عَبْدَةُ قَدْ هَاجَرَ لِمُهَاجِرَةٍ حَلِيلَةٍ لَهُ حَتَّى شَهِدَ وَقْعَةَ بَابِلَ، فَلَمَّا آيَسَتْهُ رَجَعَ إِلَى الْبَادِيَةِ، فَقَالَ: هَلْ حَبْلُ خَوْلَةَ بَعْدَ الْبَيْنِ مَوْصُولُ ... أَمْ أَنْتَ عَنْهَا بَعِيدُ الدَّارِ مَشْغُولُ! وَلِلأَحِبَّةِ أَيَّامٌ تَذَكَّرُهَا ... وَللِنَّوَى قَبْلَ يَوْمِ الْبَيْنِ تَأْوِيلُ

حَلَّتْ خُوَيْلَةُ فِي حَيٍّ عَهِدْتُهُمُ ... دُونَ الْمَدَائِنِ فِيهَا الدِّيكُ وَالْفِيلُ يُقَارِعُونَ رُءُوسَ الْعُجْمِ ضَاحِيَةً ... مِنْهُمْ فَوَارِسُ، لا عُزْلٌ وَلا مِيلُ الْقَصِيدَةَ وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ يُعَدِّدُ بُيُوتَاتِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ وَذَكَرَ الْمُثَنَّى وَقَتْلَهُ الْفِيلَ: وَبَيْتُ الْمُثَنَّى قَاتِلِ الْفِيلِ عَنْوَةً ... بِبَابِلَ إِذْ فِي فَارِسٍ مُلْكُ بابل ومات شهر براز مُنْهَزِمٌ هرمزُ جَاذُوَيْهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ فَارِسَ، وَبَقِيَ مَا دُونَ دِجْلَةَ وبُرْسَ مِنَ السَّوَادِ فِي يَدَيِ الْمُثَنَّى وَالْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ فَارِسَ اجتمعوا بعد شهر براز عَلَى دختَ زنانَ ابْنَةِ كِسْرَى، فَلَمْ يَنْفُذْ لَهَا أَمْرٌ فَخُلِعَتْ. وَمُلِّكَ سابورُ بْنُ شهر برازَ قَالُوا: وَلَمَّا مَلَكَ سَابورُ بْنُ شهر برازَ قَامَ بِأَمْرِهِ الْفرخزاذُ بْنُ الْبندوانِ، فَسَأَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ آزرميدختَ ابْنَةَ كِسْرَى، فَفَعَلَ، فَغَضَبَتْ من ذلك، وقالت: يا بن عم، اتزوجني عبدى! قال: استحيى مِنْ هَذَا الْكَلامِ وَلا تُعِيدِيهِ عَلَيَّ، فَإِنَّهُ زَوْجُكِ، فَبَعَثَتْ إِلَى سياوخشَ الرَّازِيِّ- وَكَانَ مِنْ فُتَّاكِ الأَعَاجِمِ- فَشَكَتْ إِلَيْهِ الَّذِي تَخَافُ، فَقَالَ لَهَا: إِنْ كُنْتِ كَارِهَةً لِهَذَا فَلا تُعَاوِدِيهِ فِيهِ، وَأَرْسِلِي إِلَيْهِ وَقُولِي لَهُ: فَلْيَقُلْ لَهُ فَلْيَأْتِكِ، فَأَنَا أُكْفِيَكِهِ فَفَعَلَتْ وَفَعَلَ، وَاسْتَعَدَّ سياوخشُ، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةَ الْعُرْسِ أَقْبَلَ الْفرخزاذُ حَتَّى دَخَلَ، فَثَارَ بِهِ سياوخشُ فَقَتَلَهُ وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ نَهَدَ بِهَا مَعَهُ إِلَى سَابُورَ، فَحَضَرَتْهُ ثُمَّ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَمَلَكَتْ آزرميدختُ بِنْتُ كِسْرَى، وَتَشَاغَلُوا بِذَلِكَ، وَأَبْطَأَ خَبَرُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَخَلَّفَ الْمُثَنَّى عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَشِيرَ بْنَ الْخَصَّاصِيَّةِ، وَوَضَعَ مَكَانَهُ فِي الْمَسَالِحِ سَعِيدَ بْنَ مُرَّةَ الْعِجْلِيَّ، وَخَرَجَ الْمُثَنَّى نَحْوَ أَبِي بَكْرٍ لِيُخْبِرَهُ خَبَرَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَلِيَسْتَأْذِنَهُ فِي الاسْتِعَانَةِ بِمَنْ قَدْ ظَهَرَتْ

تَوْبَتُهُ وَنَدَمُهُ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ مِمَّنْ يَسْتَطْعِمُهُ الْغَزْوُ، وَلِيُخْبِرَهُ أَنَّهُ لَمْ يُخَلِّفْ أَحَدًا أَنْشَطَ إِلَى قِتَالِ فَارِسَ وَحَرْبِهَا وَمَعُونَةِ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ وَأَبُو بَكْرٍ مَرِيضٌ، وَقَدْ كَانَ مَرِضَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ مَخْرَجِ خَالِدٍ إِلَى الشَّامِ- مَرْضَتَهَ الَّتِي مَاتَ فِيهَا- بِأَشْهُرٍ، فَقَدِمَ الْمُثَنَّى وَقَدْ أُشْفِيَ، وَعَقَدَ لِعُمَرَ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: عَلَيَّ بِعُمُرَ، فَجَاءَ فَقَالَ لَهُ: اسْمَعْ يَا عُمَرُ مَا أَقُولُ لَكَ، ثُمَّ اعْمَلْ بِهِ، إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَمُوتَ مِنْ يَوْمِي هذا- وذلك يوم الاثنين- فان انامت فَلا تُمْسِيَنَّ حَتَّى تَنْدُبَ النَّاسَ مَعَ الْمُثَنَّى، وَإِنْ تَأَخَّرْتُ إِلَى اللَّيْلِ فَلا تُصْبِحَنَّ حَتَّى تَنْدُبَ النَّاسَ مَعَ الْمُثَنَّى، وَلا تَشْغِلَنَّكُمْ مُصِيبَةٌ وَإِنْ عَظُمَتْ عَنْ أَمْرِ دِينِكُمْ، وَوَصِيَّةِ رَبِّكُمْ، وقد رأيتني متوفى رسول الله ص وَمَا صَنَعْتُ، وَلَمْ يُصَبِ الْخَلْقُ بِمِثْلِهِ، وَبِاللَّهِ لو انى انى عن امر رَسُولِهِ لَخَذَلَنَا وَلَعَاقَبَنَا، فَاضْطَرَمَتِ الْمَدِينَةُ نَارًا وَإِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَى أُمَرَاءِ الشَّامِ فَارْدُدْ أَصْحَابَ خَالِدٍ إِلَى الْعِرَاقِ، فَإِنَّهُمْ أَهْلُهُ وَوُلاةُ أَمْرِهِ وحده واهل الضراوة منهم والجرأة عَلَيْهِمْ. وَمَاتَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعَ اللَّيْلِ، فَدَفَنَهُ عُمَرُ لَيْلا، وَصَلَّى عَلَيْهِ فِي المسجد، وندب الناس مع المثنى بعد ما سَوِيَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَقَالَ عُمَرُ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يَسُوءُنِي أَنْ أُؤَمِّرَ خَالِدًا عَلَى حَرْبِ الْعِرَاقِ، حِينَ أَمَرَنِي بِصَرْفِ أَصْحَابِي، وَتَرْكِ ذِكْرِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِلَى آزرميدختَ انْتَهَى شَأْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَأَحَد شِقَّيِ السَّوَادِ فِي سُلْطَانِهِ، ثُمَّ مَاتَ وَتَشَاغَلَ أَهْلُ فَارِسَ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَنْ إِزَالَةِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ السَّوَادِ، فِيمَا بَيْنَ مُلْكِ أَبِي بَكْرٍ إِلَى قِيَامِ عُمَرَ وَرُجُوعِ الْمُثَنَّى مَعَ أَبِي عُبَيْدٍ إِلَى الْعِرَاقِ، وَالْجُمْهُورِ مِنْ جُنْدِ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِالْحِيرَةِ، وَالْمَسَالِحِ بِالسَّيْبِ، وَالْغَارَاتُ تَنْتَهِي بِهِمْ إِلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ، وَدِجْلَةُ حِجَازٌ بَيْنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ. فَهَذَا حَدِيثُ الْعِرَاقِ فِي إِمَارَةِ أَبِي بكر من مبتدئه الى منتهاه

ذكر وقعة أجنادين

[ذكر وقعة أجنادين] رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى خَالِدٍ وَهُوَ بِالْحِيرَةِ، يَأْمُرُهُ أَنْ يَمُدَّ أَهْلَ الشَّامِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْقُوَّةِ، وَيَخْرُجُ فِيهِمْ، وَيَسْتَخْلِفُ عَلَى ضَعَفَةِ النَّاسِ رَجُلا مِنْهُمْ، فَلَمَّا أَتَى خَالِدًا كِتَابُ أَبِي بَكْرٍ بِذَلِكَ، قَالَ خَالِدٌ: هَذا عَمَلُ الاعيسر بن أم شمله- يعنى عمر ابن الْخَطَّابِ- حَسَدَنِي أَنْ يَكُونَ فَتْحُ الْعِرَاقِ عَلَى يَدِي فَسَارَ خَالِدٌ بِأَهْلِ الْقُوَّةِ مِنَ النَّاسِ وَرَدَّ الضُّعَفَاءَ وَالنِّسَاءَ إِلَى الْمَدِينَةِ، مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عُمَيْرَ بْنَ سَعْدٍ الأَنْصَارِيَّ، وَاسْتَخْلَفَ خَالِدٌ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ بِالْعِرَاقِ مِنْ رَبِيعَةَ وَغَيْرِهِمُ الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِيَّ ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى عَيْنِ التَّمْرِ، فَأَغَارَ عَلَى أَهْلِهَا، فَأَصَابَ مِنْهُمْ، وَرَابَطَ حِصْنًا بِهَا فِيهِ مُقَاتِلَةٌ كَانَ كِسْرَى وَضَعَهُمْ فِيهِ حَتَّى اسْتَنْزَلَهُمْ، فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ، وَسَبَى مِنْ عَيْنِ التَّمْرِ وَمِنْ أَبْنَاءِ تِلْكَ الْمُرَابِطَةِ سَبَايَا كَثِيرَةٍ، فَبَعَثَ بِهَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَكَانَ مِنْ تِلْكَ السَّبَايَا أَبُو عَمْرَةَ مَوْلَى شَبَّانَ، وَهُوَ أَبُو عَبْدِ الأَعْلَى بْنُ أَبِي عَمْرَةَ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ مَوْلَى الْمُعَلَّى، مِنَ الأَنْصَارِ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى زَهْرَةَ، وَخَيْرٌ مَوْلَى أَبِي دَاوُدَ الأَنْصَارِيِّ ثُمَّ أَحَدُ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ، وَيَسَارٌ وَهُوَ جَدُّ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ مَوْلَى قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأَفْلَحُ مَوْلَى أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ ثُمَّ أَحَدُ بنى مالك بن النجار، وحمران ابن أَبَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَقَتَلَ خَالِدُ بن الوليد هلال بن عقه ابن بِشْرٍ النَّمِرِيَّ وَصَلَبَهُ بِعَيْنِ التَّمْرِ، ثُمَّ أَرَادَ السَّيْرَ مُفَوِّزًا مِنْ قُرَاقِرَ- وَهُوَ مَاءٌ لِكَلْبٍ إِلَى سَوَى، وَهُوَ مَاءٌ لِبَهْرَاءَ بَيْنَهُمَا خَمْسُ لَيَالٍ- فَلَمْ يَهْتَدِ خَالِدٌ الطَّرِيقَ، فَالْتَمَسَ دَلِيلا، فَدُلَّ عَلَى رَافِعِ بْنِ عُمَيْرَةَ الطَّائِيِّ، فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: انْطَلِقْ بِالنَّاسِ، فَقَالَ لَهُ رَافِعٌ: إِنَّكَ لَنْ تُطِيقَ ذَلِكَ بِالْخَيْلِ وَالأَثْقَالِ، وَاللَّهِ إِنَّ الرَّاكِبَ الْمُفْرَدَ لَيَخَافَهَا عَلَى نَفْسِهِ وَمَا يَسْلُكُهَا إِلا مُغَرِّرًا، إِنَّهَا لَخَمْسُ لَيَالٍ جِيَادٍ لا يُصَابُ فِيهَا مَاءٌ مَعَ مَضَلَّتِهَا، فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: وَيْحَكَ! إِنَّهُ وَاللَّهِ إِنَّ لِي بُدٌّ مِنْ ذَلِكَ، إِنَّهُ قَدْ أَتَتْنِي مِنَ الأَمِيرِ عَزْمَةٌ بِذَلِكَ، فَمُرْ بِأَمْرِكَ. قَالَ: اسْتَكْثِرُوا مِنَ الْمَاءِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَصُرَّ أُذُنَ نَاقَتِهِ عَلَى مَاءٍ فَلْيَفْعَلْ،

فَإِنَّهَا الْمَهَالِكُ إِلا مَا دَفَعَ اللَّهُ، ابْغِنِي عشرين جزورا عظاما سمانا مسان. فَأَتَاهُ بِهِنَّ خَالِدٌ، فَعَمَدَ إِلَيْهِنَّ رَافِعٌ فَظَمَّأَهُنَّ، حَتَّى إِذَا أَجْهَدَهُنَّ عَطَشًا أَوْرَدَهُنَّ فَشَرِبْنَ حَتَّى إِذَا تَمَلأَنَّ عَمَدَ إِلَيْهِنَّ، فَقَطَعَ مَشَافِرَهُنَّ، ثُمَّ كَعَمَهُنَّ لِئَلا يَجْتَرِرْنَ، ثُمَّ أَخْلَى أَدْبَارَهُنَّ. ثُمَّ قَالَ لِخَالِدٍ: سِرْ، فَسَارَ خَالِدٌ مَعَهُ مُغِذًّا بِالْخُيُولِ وَالأَثْقَالِ، فَكُلَّمَا نَزَلَ مَنْزِلا افْتَظَّ أَرْبَعًا مِنْ تِلْكَ الشَّوَارِفِ، فَأَخَذَ مَا فِي أَكْرَاشِهَا، فَسَقَاهُ الْخَيْلَ، ثُمَّ شَرِبَ النَّاسُ مِمَّا حَمَلُوا مَعَهُمْ مِنَ الْمَاءِ، فَلَمَّا خَشِيَ خَالِدٌ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنَ الْمَفَازَةِ قَالَ لِرَافِعِ بْنِ عُمَيْرَةَ وَهُوَ أَرْمَدُ: وَيْحَكَ يَا رَافِعُ! مَا عِنْدَكَ؟ قَالَ أَدْرَكْتُ الرَّيَّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْعَلَمَيْنِ، قَالَ لِلنَّاسِ: انْظُرُوا هَلْ تَرَوْنَ شُجَيْرَةً مِنْ عَوْسَجٍ كَقَعْدَةِ الرَّجُلِ؟ قَالُوا: مَا نَرَاهَا. قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! هَلَكْتُمْ وَاللَّهِ إِذًا وهلكت، لا ابالكم! انْظُرُوا، فَطَلَبُوا فَوَجَدُوهَا قَدْ قُطِعَتْ وَبَقِيَتْ مِنْهَا بَقِيَّةٌ، فَلَمَّا رَآهَا الْمُسْلِمُونَ كَبَّرُوا وَكَبَّرَ رَافِعُ بْنُ عُمَيْرَةَ، ثُمَّ قَالَ: احْفُرُوا فِي أَصْلِهَا، فَحَفَرُوا فَاسْتَخْرَجُوا عَيْنًا، فَشَرِبُوا حَتَّى رُوِيَ النَّاسُ، فَاتَّصَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِخَالِدٍ الْمَنَازِلُ، فَقَالَ رَافِعٌ: وَاللَّهِ مَا وَرَدْتُ هَذَا الْمَاءَ قَطُّ إِلا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَرَدْتُهُ مَعَ أَبِي وَأَنَا غُلامٌ، فقال شاعر من المسلمين: لله عينا رَافِعٍ أَنَّى اهْتَدَى ... فَوْز مِنْ قُرَاقِرَ إِلَى سَوَى! خَمْسًا إِذَا مَا سَارَهَا الْجَيْشُ بَكَى ... مَا سَارَهَا قَبْلَكَ إِنْسِيٌّ يَرَى فَلَمَّا انْتَهَى خَالِدٌ إِلَى سَوَى، أَغَارَ عَلَى أَهْلِهِ- وَهُمْ بهراء- قبيل الصبح، وناس منهم يشربون خمرا لهم في جفنة قد اجتمعوا عليها، ومغنيهم يقول: أَلا عَلِّلانِي قَبْلَ جَيْشِ أَبِي بَكْرٍ ... لَعَلَّ مَنَايَانَا قَرِيبٌ وَمَا نَدْرِي

الا عللانى بالزجاج وكرار ... عَلَيَّ كميت اللَّوْنِ صَافِيةً تَجْرِي أَلا عَلِّلانِي مِنْ سُلافَةِ قَهْوَةٍ ... تُسْلِي هُمُومَ النَّفْسِ مِنْ جَيِّدِ الْخَمْرِ أَظُنُّ خُيُولَ الْمُسْلِمِينَ وَخَالِدًا ... سَتَطْرُقُكُمْ قَبْلَ الصَّبَاحِ مِنَ الْبشْرِ فَهَلْ لَكُمْ فِي السَّيْرِ قَبْلَ قِتَالِهِمْ ... وَقَبْلَ خُرُوجِ الْمُعْصرَاتِ مِنَ الْخدْرِ! فَيَزْعُمُونَ أَنَّ مُغَنِّيَهُمْ ذَلِكَ قُتِلَ تَحْتَ الْغَارَةِ، فَسَالَ دَمُهُ فِي تِلْكَ الْجَفْنَةِ. ثُمَّ سَارَ خَالِدٌ عَلَى وَجْهِهِ ذَلِكَ، حَتَّى أَغَارَ عَلَى غَسَّانَ بِمَرْجِ رَاهِطٍ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى قَنَاةِ بُصْرَى، وَعَلَيْهَا أَبُو عُبَيْدَةَ بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أَبِي سُفْيَانَ، فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهَا، فَرَابَطُوهَا حَتَّى صَالَحَتْ بُصْرَى عَلَى الْجِزْيَةِ، وَفَتَحَهَا اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَتْ أَوَّلَ مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ الشَّامِ فُتِحَتْ فِي خِلافَةِ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ سَارُوا جَمِيعًا إِلَى فِلَسْطِينَ، مَدَدًا لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعَمْرٌو مُقِيمٌ بِالْعَرَبَاتِ مِنْ غَوْرِ فِلَسْطِينَ، وَسَمِعَتِ الرُّومُ بِهِمْ، فَانْكَشَفُوا عَنْ جِلَّقَ إِلَى أَجْنَادِينَ، وَعَلَيْهِمْ تذارقُ أَخُو هِرَقْلَ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ- وَأَجْنَادِينُ بَلَدٌ بَيْنَ الرَّمْلَةِ وَبَيْتِ جِبْرِينَ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ- وَسَارَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ حِينَ سَمِعَ بِأَبِي عبيده بن الجراح وشرحبيل ابن حَسَنَةَ وَيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ حَتَّى لِقِيَهُمْ فَاجْتَمَعُوا بِأَجْنَادِينَ، حَتَّى عَسْكَرُوا عَلَيْهِمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أنه قال: كان على الروم رجل منهم يقال له القبقلار، وكان هرقل استخلفه على أمراء الشام حين سار إلى القسطنطينية، وإليه انصرف تذارق بمن معه من الروم. فأما علماء الشام فيزعمون أنما كان على الروم تذارق والله أَعْلَمَ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جعفر بْن الزبير، عن عروة، قال: لما تدانى العسكران بعث

القبقلار رجلا عربيا- قال: فحدثت أن ذلك الرجل رجل من قضاعة، من تزيد بْن حيدان، يقال له ابن هزارف- فقال: ادخل في هؤلاء القوم فأقم فيهم يوما وليلة، ثم ائتني بخبرهم قال: فدخل في الناس رجل عربي لا ينكر، فأقام فيهم يوما وليلة، ثم أتاه فقال له: ما وراءك؟ قال: بالليل رهبان، وبالنهار فرسان، ولو سرق ابن ملكهم قطعوا يده، ولو زنى رجم، لإقامة الحق فيهم فقال له القبقلار: لئن كنت صدقتني لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها، ولوددت أن حظي من الله ان يخلى بيني وبينهم، فلا ينصرني عليهم، ولا ينصرهم علي قال: ثم تزاحف الناس، فاقتتلوا، فلما رأى القبقلار ما رأى من قتال المسلمين، قال للروم: لفوا رأسي بثوب، قالوا له: لم؟ قال: يوم البئيس، لا أحب أن أراه! ما رأيت في الدنيا يوما أشد من هذا! قال: فاحتز المسلمون رأسه، وإنه لملفف. وكانت وقعة أجنادين في سنة ثلاث عشرة لليلتين بقيتا من جمادى الاولى وقتل يومئذ من المسلمين جماعة، منهم سلمة بن هشام ابن المغيرة، وهبار بْن الأسود بْن عبد الأسد، ونعيم بْن عبد اللَّه النحام، وهشام بْن العاصي بْن وائل، وجماعة أخر من قريش قال: ولم يسم لنا من الأنصار أحد أصيب بها. وفيها توفي أبو بكر لثمان ليال بقين- أو سبع بقين- من جمادى الآخرة. رجع الحديث إلى حديث أبي زيد، عن علي بن محمد بإسناده الذي قد مضى ذكره قال: وأتى خالد دمشق فجمع له صاحب بصرى، فسار إليه هو وأبو عبيدة، فلقيهم أدرنجا، فظفر بهم وهزمهم، فدخلوا حصنهم، وطلبوا الصلح، فصالحهم على كل رأس دينار في كل عام وجريب حنطة ثم رجع العدو للمسلمين، فتوافت جنود المسلمين والروم

ذكر مرض ابى بكر ووفاته

بأجنادين، فالتقوا يوم السبت لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، فظهر المسلمون، وهزم اللَّه المشركين، وقتل خليفة هرقل، واستشهد رجال من المسلمين، ثم رجع هرقل للمسلمين، فالتقوا بالواقوصة فقاتلوهم، وقاتلهم العدو، وجاءتهم وفاة أبي بكر وهم مصافون وولاية أبي عبيدة، وكانت هذه الوقعه في رجب ذكر مرض ابى بكر ووفاته حَدَّثَنِي أبو زيد، عن علي بْن مُحَمَّد، بإسناده الذي قد مضى ذكره، قالوا: توفي أبو بكر وهو ابن ثلاث وستين سنة في جمادى الآخرة يوم الاثنين لثمان بقين منه قالوا: وكان سبب وفاته أن اليهود سمته في أرزة، ويقال في جذيذة، وتناول معه الحارث بْن كلدة منها، ثم كف وقال لأبي بكر: أكلت طعاما مسموما سم سنة فمات بعد سنة، ومرض خمسة عشر يوما، فقيل له: لو أرسلت إلى الطبيب! فقال: قد رآني، قالوا: فما قال لك؟ قال: إني أفعل ما أشاء. قال أبو جعفر: ومات عتاب بْن أسيد بمكة في اليوم الذى مات فيه ابو بكر- وكانا سما جميعا- ثم مات عتاب بمكة. وقال غير من ذكرت في سبب مرض أبي بكر الذي توفي فيه، مَا حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَ. وَأَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحُسَيْنِ مَوْلَى آلِ مَظْعُونٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عبد الرحمن ابن أَبِي بَكْرٍ، قَالُوا: كَانَ أَوَّلُ مَا بَدَأَ مَرَضُ أَبِي بَكْرٍ بِهِ أَنَّهُ اغْتَسَلَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الآخِرَةِ، وَكَانَ يَوْمًا بَارِدًا فَحُمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لا يَخْرُجُ إِلَى الصَّلاةِ، وَكَانَ يَأْمُرُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، وَيَدُخُلُ النَّاسُ يَعُودُونَهُ، وَهُوَ يَثْقُلُ كُلَّ يَوْمٍ، وَهُوَ نَازِلٌ فِي داره

التي قطع له رسول الله ص وُجَاهَ دَارِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الْيَوْمَ، وَكَانَ عُثْمَانُ أَلْزَمَهُمْ لَهُ فِي مَرَضِهِ، وَتُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ مِسْيَ لَيْلَةِ الثُّلاثَاءِ، لِثَمَانِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الآخِرَةِ سَنَةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ مِنَ الْهُجْرَةِ وَكَانَتْ خِلافَتُهُ سَنَتَيْنِ وَثَلاثةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرِ لَيَالٍ قَالَ: وَكَانَ أَبُو مَعْشَرٍ يَقُولُ: كَانَتْ خِلافَتُهُ سَنَتَيْن وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إِلا أَرْبَعَ لَيَالٍ، فَتُوُفِّيَ، وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، مَجْتَمَعٌ عَلَى ذَلِكَ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا، اسْتَوْفَى سِنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وُلِدَ بَعْدَ الْفِيلِ بِثَلاثِ سِنِينَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: اسْتَكْمَلَ أَبُو بَكْرٍ بِخِلافَتِهِ سِنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتُوُفِّيَ وَهُوَ بِسِنِّ النبي ص. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي السَّفَرِ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ معاويه فقال: توفى النبي ص وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَتُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَقُتِلَ عُمَرُ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً. وَحَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: قبض رسول الله ص وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ، وَقُتِلَ عُمَرُ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ، وَتُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ فِي خَبَرِهِ الَّذِي ذَكَرْتُ عَنْهُ: كَانَتْ وِلايَةُ أَبِي بَكْرٍ سَنَتَيْنِ وَثَلاثَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَيُقَالُ: عَشَرَةَ أَيَّامٍ

ذكر الخبر عمن غسله والكفن الذى كفن فيه ابو بكر ومن صلى عليه والوقت الذى صلى عليه فيه والوقت الذى توفى فيه

ذكر الخبر عمن غسله والكفن الذي كفن فيه ابو بكر ومن صلى عليه والوقت الذي صلي عليه فيه والوقت الذى توفى فيه حدثني الحارث، عن ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنى مالك بن أَبِي الرَّحَّالِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَطَاءٍ وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ، قَالَتْ: قَالَ لِي أَبُو بَكْرٍ: غَسِّلِينِي، قُلْتُ: لا أُطِيقُ ذَلِكَ، قَالَ: يُعِينُكِ عبد الرحمن ابن أَبِي بَكْرٍ، يَصُبُّ الْمَاءَ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ، قَالا: حَدَّثَنَا الأَشْعَثُ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ صَبْرَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ أَوْصَى أَنْ تُغَسِّلَهُ امْرَأَتُهُ أَسْمَاءُ، فَإِنْ عَجَزَتْ أَعَانَهَا ابْنُهُ مُحَمَّدٌ قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وهذا الْحَدِيثُ وَهِلٌ، وَإِنَّمَا كَانَ لِمُحَمَّدٍ يَوْمَ تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ ثَلاثُ سِنِينَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، سَأَلَهَا أَبُو بَكْرٍ، فِي كَمْ كُفِّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: فِي ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ، قَالَ: اغْسِلُوا ثَوْبَيَّ هَذَيْنِ- وَكَانَا مُمَشَّقَيْنِ- وَابْتَاعُوا لِي ثَوْبًا آخَرَ قُلْتُ: يَا أَبَهْ، إِنَّا مُوسِرُونَ، قَالَ: أَيْ بُنَيَّةُ، الْحَيُّ أَحَقُّ بِالْجَدِيدِ مِنَ الْمَيِّتِ، وَإِنَّمَا هُمَا لِلْمُهْلَةِ وَالصَّدِيدِ حَدَّثَنِي العباس بْن الوليد، قال: أخبرنا أبي قال: حَدَّثَنَا الأوزاعي،

قال: حَدَّثَنِي عبد الرحمن بْن القاسم، أن أبا بكر توفي عشاء بعد ما غابت الشمس ليلة الثلاثاء، ودفن ليلا ليلة الثلاثاء. حَدَّثَنَا أبو كريب، قال: حَدَّثَنَا غنام، عن هشام، عن أبيه، أن أبا بكر مات ليلة الثلاثاء ودفن ليلا. حَدَّثَنِي أَبُو زَيْدٍ، عن علي بْن مُحَمَّد بإسناده الذي قد مضى ذكريه، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حُمِلَ عَلَى السَّرِيرِ الَّذِي حُمِلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ عُمَرُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ الله ص، وَدَخَلَ قَبْرَهُ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَطَلْحَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَأَرَادَ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَدْخُلَ قَبْرَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: كُفِيتَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانَ أَوْصَى- فِيمَا حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، عن ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا أبو بكر بْن عبد اللَّهِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- يَعْنِي ابْنَ عُرْوَةَ- أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ وَالْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولانِ: أَوْصَى أَبُو بَكْرٍ عَائِشَةَ أَنْ يُدْفَنَ إِلَى جَنْبِ النَّبِيِّ ص، فَلَمَّا تُوُفِّيَ حُفِرَ لَهُ، وَجُعِلَ رَأْسُهُ عِنْدَ كَتِفَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والصقوا اللحد يلحد النبي ص فَقُبِرَ هُنَالِكَ. قَالَ الْحَارِثُ: حَدَّثَنِي ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: جُعِلَ رَأْسُ أَبِي بَكْرٍ عند كتفي رسول الله ص، وَرَأْسُ عُمَرَ عِنْدَ حِقْوَيْ أَبِي بَكْرٍ. حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ الطُّوسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ هَانِئٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا، فَقُلْتُ: يَا أُمَّهِ، اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِ النبي ص وَصَاحِبَيْهِ، فَكَشَفَتْ لِي عَنْ ثَلاثَةِ قُبُورٍ، لا مُشْرِفَةٍ وَلا لاطِئَةٍ، مَبْطُوحَةٍ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ، قَالَ: فَرَأَيْتُ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقَدَّمًا وَقَبْرُ أَبِي بَكْرٍ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَعُمَرُ رَأْسُهُ عِنْدَ رِجْلِ النَّبِيِّ ص. حدثني الحارث، عن ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا أبو بكر بْن عبد الله بْن أبي سبرة، عن عمرو بْن أبي عمرو، عن المطلب بْن عبد اللَّه بْن حنطب، قال: جعل قبر ابى بكر مثل قبر النبي ص مسطحا، ورش عليه الماء، وأقامت عليه عائشة النوح. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَقَامَتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ النَّوْحَ، فَأَقْبَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَتَّى قَامَ بِبَابِهَا، فَنَهَاهُنَّ عَنِ الْبُكَاءِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَنْتَهِينَ، فَقَالَ عُمَرُ لِهِشَامِ بْنِ الْوَلِيدِ: ادْخُلْ فَأَخْرِجْ إِلَيَّ ابْنَةَ أَبِي قُحَافَةَ، أُخْتَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِهِشَامٍ حِينَ سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ: إِنِّي أُحَرِّجُ عَلَيْكَ بَيْتِي فَقَالَ عُمَرُ لِهِشَامٍ: ادْخُلْ فَقَدْ أَذِنْتُ لَكَ، فَدَخَلَ هِشَامٌ فَأَخْرَجَ أُمَّ فَرْوَةَ أُخْتَ أَبِي بَكْرٍ إِلَى عُمَرَ، فَعَلاهَا بِالدِّرَّةِ، فَضَرَبَهَا ضَرَبَاتٍ، فَتَفَرَّقَ النَّوْحُ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ. وَتَمَثَّلَ فِي مَرَضِهِ- فِيمَا حَدَّثَنِي أَبُو زيد، عن على ابن مُحَمَّدٍ بِإِسْنَادِهِ- الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ: وَكُلُّ ذِي إِبِلٍ مَوْرُوثٌ ... وَكُلُّ ذِي سَلَبٍ مَسْلُوبُ وَكُلُّ ذِي غَيْبَةٍ يَئُوبُ ... وَغَائِبُ الْمَوْتِ لا يَئُوبُ وَكَانَ آخِرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ، رَبِّ «تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ»

ذكر الخبر عن صفه جسم ابى بكر رحمه الله

ذكر الخبر عن صفة جسم أبي بكر رحمه اللَّه حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا شُعَيْبُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا، أَنَّهَا نَظَرَتْ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ مَرَّ وَهِيَ فِي هَوْدَجِهَا، فَقَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَجُلا أَشْبَهَ بِأَبِي بَكْرٍ مِنْ هَذَا، فَقُلْنَا لَهَا: صِفِي أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَتْ: رَجُلٌ أَبْيَضُ نَحِيفٌ خَفِيفُ الْعَارِضَيْنِ، أَجْنَأُ لا يَسْتَمْسِكُ إِزَارُهُ، يَسْتَرْخِي عَنْ حِقْوَيْهِ، مَعْرُوقُ الْوَجْهِ، غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، نَاتِئُ الْجَبْهَةِ، عَارِي الأَشَاجِعِ. وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِهِ الَّذِي ذَكَرْتُ إِسْنَادَهُ قَبْلُ: إِنَّهُ كَانَ أَبْيَضَ يُخَالِطُهُ صُفْرَةٌ، حَسَنَ القامة، نحيفا اجنا، رَقِيقًا عَتِيقًا، أَقْنَى، مَعْرُوقَ الْوَجْهِ، غَائِرَ الْعَيْنَيْنِ، حَمْشَ السَّاقَيْنِ، مَمْحُوصَ الْفَخِذَيْنِ، يَخْضِبُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ وَكَانَ أَبُو قُحَافَةَ حِينَ تُوُفِّيَ حَيًّا بِمَكَّةَ، فَلَمَّا نُعِيَ إِلَيْهِ قَالَ: رُزْءٌ جَلِيلٌ! ذكر نسب أبي بكر واسمه وما كان يعرف به حَدَّثَنِي أَبُو زَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ محمد بإسناده الذي قد مضى ذكره، أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ اسْمَ أَبِي بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا قِيلَ لَهُ عَتِيقٌ عَنْ عِتْقِهِ قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قِيلَ لَهُ ذَلِكَ، [لأَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لَهُ: أَنْتَ عَتِيقٌ مِنَ النَّارِ]

ذكر أسماء نساء ابى بكر الصديق رحمه الله

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا سُئِلَتْ: لِمَ سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ عَتِيقًا؟ فَقَالَتْ: [نَظَرَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالَ: هَذَا عَتِيقُ اللَّهِ مِنَ النَّارِ] . وَاسْمُ أَبِيهِ عُثْمَانُ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو قُحَافَةَ، قَالَ: فَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الله بن عثمان ابن عامر بن عَمْرو بن كعب بن سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لؤي ابن غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ، وَأُمُّهُ أُمُّ الْخَيْرِ بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ- وَاسْمُهُ عُثْمَانُ- بْنُ عَامِرٍ. وَأُمُّهُ أُمُّ الْخَيْرِ، وَاسْمُهَا سَلْمَى بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كعب بن سعد بن تيم بن مرة. وَأَمَّا هِشَامٌ، فَإِنَّهُ قَالَ- فِيمَا حُدِّثْتُ عَنْهُ- ان اسم ابى بكر عتيق ابن عثمان بن عامر. وحدثنى يُونُسُ، قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ لهيعة، عن عمارة بْن غزية، قال: سألت عبد الرحمن بْن القاسم عن اسم أبي بكر الصديق، فقال: عتيق، وكانوا إخوة ثلاثة بني أبي قحافة: عتيق ومعتق وعتيق ذكر أسماء نساء أبي بكر الصديق رحمه اللَّه حدث علي بْن مُحَمَّد، عمن حدثه ومن ذكرت من شيوخه، قال: تزوج أبو بكر في الجاهلية قتيلة- ووافقه على ذلك الواقدي والكلبي- قالوا: وهي قتيلة ابنة عبد العزى بْن عبد بْن أسعد بْن جابر بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لؤي، فولدت له عبد اللَّه وأسماء وتزوج أيضا في الجاهلية أم رومان

ذكر أسماء قضاته وكتابه وعماله على الصدقات

بنت عامر بْن عميرة بْن ذهل بْن دهمان بْن الحارث بْن غنم بْن مالك ابن كنانة- وقال بعضهم: هي أم رومان بنت عامر بْن عويمر بْن عبد شمس بْن عتاب بْن أذينة بْن سبيع بْن دهمان بْن الحارث بْن غنم بْن مالك بْن كنانة- فولدت له عبد الرحمن وعائشة. فكل هؤلاء الأربعة من أولاده، ولدوا من زوجتيه اللتين سميناهما في الجاهلية. وتزوج في الإسلام أسماء بنت عميس، وكانت قبله عند جعفر بْن أبي طالب، وهي أسماء بنت عميس بْن معد بْن تيم بْن الحارث بْن كعب ابن مالك بْن قحافة بْن عامر بْن ربيعة بْن عامر بْن مالك بْن نسر بْن وهب اللَّه بْن شهران بْن عفرس بْن حلف بْن أفتل- وهو خثعم- فولدت له مُحَمَّد بْن أبي بكر. وتزوج أيضا في الإسلام حبيبة بنت خارجة بْن زيد بْن أبي زهير، من بني الحارث بن الخزرج، وكانت نسأ حين توفي أبو بكر، فولدت له بعد وفاته جارية سميت أم كلثوم ذكر أسماء قضاته وكتابه وعماله على الصدقات حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُخَرِّمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفَتْحِ نَصْرُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: قَالَ سُفْيَانُ- وَذَكَرَهُ عَنْ مِسْعَرٍ: لَمَّا وُلِّيَ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَنَا أُكْفِيكَ الْمَالَ- يَعْنِي الْجَزَاءَ- وَقَالَ عُمَرُ: أَنَا أُكْفِيكَ الْقَضَاءَ: فَمَكَثَ عُمَرُ سَنَةً لا يَأْتِيهِ رَجُلانِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ الَّذِينَ سَمَّيْتُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: جَعَلَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ قَاضِيًا فِي خِلافَتِهِ، فَمَكَثَ سَنَةً لَمْ يُخَاصَمْ إِلَيْهِ أَحَدٌ. قَالَ: وَقَالُوا: كَانَ يَكْتُبُ لَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَيَكْتُبُ لَهُ الأَخْبَارَ عُثْمَانُ ابن عفان رضى الله عَنْهُ، وَكَانَ يَكْتُبُ لَهُ مَنْ حَضَرَ

وَقَالُوا: كَانَ عَامِلَهُ عَلَى مَكَّةَ عَتَّابُ بْنُ أسيد، وعلى الطائف عثمان بن ابى العاصي، وَعَلَى صَنْعَاءَ الْمُهَاجِرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، وَعَلَى حَضْرَمَوْتَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ، وَعَلَى خَوْلانَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ، وَعَلَى زَبِيدَ وَرِمَعَ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ، وَعَلَى الْجُنْدِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَعَلَى البحرين العلاء ابن الْحَضْرَمِيِّ وَبَعَثَ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى نَجْرَانَ، وَبَعَثَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَوْرٍ، أَحَدِ بَنِي الْغَوْثِ إِلَى نَاحِيَةِ جُرَشَ، وَبَعَثَ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ الْفِهْرِيَّ إِلَى دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، وَكَانَ بِالشَّامِ أَبُو عُبَيْدَةَ وَشُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، كُلُّ رجل منهم على جند، وعليهم خالد ابن الْوَلِيدِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَخِيًّا لَيِّنًا، عَالِمًا بِأَنْسَابِ الْعَرَبِ، وَفِيهِ يَقُولُ خُفَافُ بْنُ نُدْبَةَ- وَنُدْبَةُ أُمُّهُ، وَأَبُوهُ عُمَيْرُ بْنُ الْحَارِثِ- فِي مَرْثِيَّتِهِ أَبَا بَكْرٍ: أَبْلَجُ ذُو عرف وَذُو منكر مقسم المعروف رحب الفناء للمجد في منزله باديا حوض رفيع لم يخنه الإزاء والله لا يدرك أيامه ذو مئزر حاف ولا ذو رداء من يسع كي يدرك أيامه يجتهد الشد بأرض فضاء وكان- فيما ذكر الحارث، عن ابن سعد، عن عمرو بْن الهيثم أبي قطن، قال: حَدَّثَنَا الربيع عن حيان الصائغ، قال: كان نقش خاتم أبي بكر رحمه اللَّه: نعم القادر اللَّه. قالوا: ولم يعش أبو قحافة بعد أبي بكر إلا ستة أشهر وأياما، وتوفي في المحرم سنة أربع عشرة بمكة، وهو ابن سبع وتسعين سنة

ذكر استخلافه عمر بن الخطاب

ذكر استخلافه عمر بن الخطاب وعقد أبو بكر في مرضته التي توفي فيها لعمر بْن الخطاب عقد الخلافة من بعده. وذكر أنه لما أراد العقد له دعا عبد الرحمن بْن عوف، فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَ بِأَبِي بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْوَفَاةُ دَعَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ عُمَرَ، فَقَالَ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، هُوَ وَاللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ رَأْيِكَ فِيهِ مِنْ رَجُلٍ، وَلَكِنْ فِيهِ غِلْظَةٌ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ذَلِكَ لأَنَّهُ يَرَانِي رَقِيقًا، وَلَوْ أُفْضِيَ الأَمْرُ إِلَيْهِ لَتَرَكَ كَثِيرًا مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ وَيَا أَبَا مُحَمَّدٍ قَدْ رَمَقْتُهُ، فَرَأَيْتُنِي إِذَا غَضِبْتُ عَلَى الرَّجُلِ فِي الشَّيْءِ أَرَانِي الرِّضَا عَنْهُ، وَإِذَا لِنْتُ لَهُ أَرَانِي الشِّدَّةَ عَلَيْهِ، لا تَذْكُرْ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ مِمَّا قُلْتُ لَكَ شَيْئًا، قَالَ: نَعَمْ ثُمَّ دَعَا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، قَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ عُمَرَ، قَالَ: أَنْتَ أَخْبَرُ بِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَلَيَّ ذَاكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! قَالَ: اللَّهُمَّ عِلْمِي بِهِ أَنَّ سَرِيرَتَهُ خَيْرٌ مِنْ عَلانِيَتِهِ، وَأَنْ لَيْسَ فِينَا مِثْلُهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: رَحِمَكَ اللَّهُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، لا تَذْكُرْ مِمَّا ذَكَرْتُ لَكَ شَيْئًا، قَالَ: أَفْعَلُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: لَوْ تَرَكْتُهُ مَا عَدَوْتُكَ، وَمَا أَدْرِي لَعَلَّهُ تَارِكُهُ، وَالْخِيرَةُ لَهُ أَلا يَلِي مِنْ أُمُورِكُمْ شَيْئًا، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ خِلْوًا مِنْ أُمُورِكُمْ، وَأَنِّي كُنْتُ فِيمَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِكُمْ، يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، لا تَذْكُرَنَّ مِمَّا قُلْتُ لَكَ مِنْ أَمْرِ عُمَرَ، وَلا مِمَّا دَعَوْتُكَ لَهُ شَيْئًا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي السَّفَرِ، قَالَ: أَشْرَفَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى النَّاسِ مِنْ كَنِيفِهِ وَأَسْمَاءُ ابْنَةُ عُمَيْسٍ مُمْسِكَتُهُ، مَوْشُومَةُ الْيَدَيْنِ، وَهُوَ يَقُولُ: أَتَرْضَوْنَ بِمَنْ أَسْتَخْلِفُ عَلَيْكُمْ؟ فَإِنِّي وَاللَّهِ مَا آلَوْتُ مِنْ جَهْدِ الرَّأْيِ، وَلا وَلَّيْتُ ذَا قَرَابَةٍ، وَإِنِّي قَدِ اسْتَخْلَفْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا، فَقَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا

حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ عُثْمَانَ الْقُرْقُسَانِيِّ، قال: حدثنا سفيان ابن عُيَيْنَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ يَجْلِسُ وَالنَّاسُ مَعَهُ، وَبِيَدِهِ جَرِيدَةٌ، وَهُوَ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا وأطيعوا قول خليفه رسول الله ص، إِنَّهُ يَقُولُ: إِنِّي لَمْ آلُكُمْ نُصْحًا قَالَ: وَمَعَهُ مَوْلَى لأَبِي بَكْرٍ يُقَالُ لَهُ: شَدِيدٌ، مَعَهُ الصَّحِيفَةُ الَّتِي فِيهَا اسْتِخْلافُ عُمَرَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: دَعَا أَبُو بَكْرٍ عُثْمَانَ خَالِيًا، فقال: اكْتُبْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا عَهِدَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، أَمَّا بَعْدُ قَالَ: ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، فذهب عَنْهُ، فَكَتَبَ عُثْمَانُ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدِ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَلَمْ آلكم خيرا منه، ثُمَّ أَفَاقَ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: اقْرَأْ عَلَيَّ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ، فَكَبَّرَ أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: أَرَاكَ خِفْتَ أَنْ يَخْتَلِفَ النَّاسُ إِنِ افْتُلِتَتْ نَفْسِي فِي غَشْيَتِي! قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا عَنِ الإِسْلامِ وَأَهْلِهِ، وَأَقَرَّهَا أَبُو بَكْرٍ رضى الله عَنْهُ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ. حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُلْوَانُ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَأَصَابَهُ مُهْتَمًّا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَصْبَحْتَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ بَارِئًا! فقال ابو بكر رضى الله عَنْهُ: أَتَرَاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إِنِّي وَلَّيْتُ أَمْرَكُمْ خَيْرَكُمْ فِي نَفْسِي، فَكُلُّكُمْ وَرِمَ أَنْفُهُ مِنْ ذَلِكَ، يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ الأَمْرُ لَهُ دُونَهُ، وَرَأَيْتُمُ الدُّنْيَا قَدْ أَقْبَلَتْ وَلَمَّا تُقْبِلُ، وَهِيَ مُقْبِلَةٌ حَتَّى تَتَّخِذُوا سُتُورَ

الْحَرِيرِ وَنَضَائِدَ الدِّيبَاجِ وَتَأَلَّمُوا الاضْطِجَاعَ عَلَى الصُّوفِ الأَذْرِيِّ، كَمَا يَأْلَمُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَنَامَ عَلَى حَسَكٍ، وَاللَّهِ لأَنْ يَقْدَمُ أَحَدُكُمْ فَتُضْرَبُ عُنُقُهُ فِي غَيْرِ حَدٍّ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَخُوضَ فِي غَمْرَةِ الدُّنْيَا وَأَنْتُمْ أَوَّلُ ضَالٍّ بِالنَّاسِ غَدًا، فَتَصُدُّونَهُمْ عَنِ الطَّرِيقِ يَمِينًا وَشِمَالا يَا هَادِيَ الطَّرِيقِ، إِنَّمَا هُوَ الْفَجْرُ أَوِ البجر، فَقُلْتُ لَهُ: خَفِّضْ عَلَيْكَ رَحِمَكَ اللَّهُ، فَإِنَّ هَذَا يَهِيضُكَ فِي أَمْرِكَ إِنَّمَا النَّاسُ فِي أَمْرِكَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ: إِمَّا رَجُلٌ رَأَى مَا رَأَيْتَ فَهُوَ مَعَكَ، وَإِمَّا رَجُلٌ خَالَفَكَ فَهُوَ مُشِيرٌ عَلَيْكَ وَصَاحِبُكَ كَمَا تُحِبُّ، وَلا نَعْلَمُكَ أَرَدْتَ إِلا خَيْرًا، وَلَمْ تَزَلْ صَالِحًا مُصْلِحًا، وَأَنَّكَ لا تَأْسَى عَلَى شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا. قال ابو بكر رضى الله عَنْهُ: أَجَلْ، إِنِّي لا آسَى عَلَى شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا إِلا عَلَى ثَلاثٍ فَعَلْتُهُنَّ وَدِدْتُ أَنِّي تَرَكْتُهُنَّ، وَثَلاثٌ تَرَكْتُهُنَّ وَدِدْتُ أَنِّي فَعَلْتُهُنَّ، وَثَلاثٌ وَدِدْتُ أَنِّي سَأَلْتُ عَنْهُنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا الثَّلاثُ اللاتِي وَدِدْتُ أَنِّي تَرَكْتُهُنَّ، فَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكْشِفْ بَيْتَ فَاطِمَةَ عَنْ شَيْءٍ وَإِنْ كَانُوا قَدْ غَلَّقُوهُ عَلَى الْحَرْبِ، وَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ حَرَقْتُ الْفُجَاءَةَ السُّلَمِيَّ، وَأَنِّي كُنْتُ قَتَلْتُهُ سَرِيحًا أَوْ خَلَّيْتُهُ نَجِيحًا وَوَدِدْتُ أَنِّي يَوْمَ سَقِيفَةَ بَنِي سَاعِدَةَ كُنْتُ قَذَفْتُ الأَمْرَ فِي عُنُقِ أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ- يُرِيدُ عُمَرَ وَأَبَا عُبَيْدَةَ- فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَمِيرًا، وَكُنْتُ وَزِيرًا وَأَمَّا اللاتِي تَرَكْتُهُنَّ، فَوَدِدْتُ أَنِّي يَوْمَ أُتِيتُ بِالأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ أسيرا كنت

حال أبي بكر قبل الخلافة وبعدها

ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، فَإِنَّهُ تَخَيلَّ إِلَيَّ أَنَّهُ لا يَرَى شَرًّا إِلا أَعَانَ عَلَيْهِ وَوَدِدْتُ أَنِّي حِينَ سَيَّرْتُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى أَهْلِ الرِّدَّةِ، كُنْتُ أَقَمْتُ بِذِي الْقَصَّةِ، فَإِنْ ظَفَرَ الْمُسْلِمُونَ ظَفَرُوا، وَإِنْ هُزِمُوا كُنْتُ بِصَدَدِ لِقَاءٍ او مددا وَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ إِذْ وَجَّهْتُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى الشَّامِ كُنْتُ وَجَّهْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ إِلَى الْعِرَاقِ، فَكُنْتُ قَدْ بَسَطْتُ يَدَيَّ كِلْتَيْهِمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ- وَمَدَّ يَدَيْهِ- وَوَدِدْتُ انى كنت سالت رسول الله ص: لِمَنْ هَذَا الأَمْرُ؟ فَلا يُنَازِعُهُ أَحَدٌ، وَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ سَأَلْتُهُ: هَلْ لِلأَنْصَارِ فِي هَذَا الأَمْرِ نَصِيبٌ؟ وَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ سَأَلْتُهُ عَنْ مِيرَاثِ ابْنَةِ الأَخِ وَالْعَمَّةِ، فَإِنَّ فِي نَفْسِي مِنْهُمَا شَيْئًا. قَالَ لِي يُونُسُ: قَالَ لَنَا يَحْيَى: ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْنَا عُلْوَانُ بَعْدَ وَفَاةِ اللَّيْثِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَحَدَّثَنِي بِهِ كَمَا حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ حَرْفًا حَرْفًا، وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ هُوَ حَدَّثَ بِهِ اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ، وَسَأَلْتُهُ عَنِ اسْمِ أَبِيهِ، فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ عُلْوَانُ بْنُ دَاوُدَ. وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمُرَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ، قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، عَنْ عُلْوَانَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّ أَبَا بكر الصديق رضى الله عَنْهُ، قَالَ- ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ، وَلَمْ يَقُلْ فيه: عن ابيه . [حال أبي بكر قبل الخلافة وبعدها] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ قَبْلَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ تَاجِرًا، وَكَانَ مَنْزِلُهُ بِالسُّنْحِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ مَرْوَانَ بن أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ قَالَ: وَأَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صُبَيْحَةَ التَّمِيمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ وَأَخْبَرَنَا عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو قُدَامَةَ عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عن

أَبِي وَجْزَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ وَغَيْرُ هَؤُلاءِ أَيْضًا قَدْ حَدَّثَنِي بِبَعْضِهِ، فَدَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي حَدِيثِ بَعْضٍ، قَالُوا: قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ مَنْزِلُ أَبِي بِالسُّنْحِ عِنْدَ زَوْجَتِهِ حَبِيبَةَ ابنة خارجة بن زيد بن أبي زهير من بنى الحارث ابن الْخَزْرَجِ، وَكَانَ قَدْ حَجَرَ عَلَيْهِ حُجْرَةً مِنْ سَعَفٍ، فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تَحَوَّلَ الى منزله بالمدينة، فأقام هنالك بالسنح بعد ما بُويِعَ لَهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، يَغْدُو عَلَى رِجْلَيْهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَرُبَّمَا رَكِبَ عَلَى فَرَسٍ لَهُ، وَعَلَيْهِ إِزَارٌ وَرِدَاءٌ مُمَشَّقٌ، فَيُوَافِي الْمَدِينَةَ فَيُصَلِّي الصَّلَوَاتِ بِالنَّاسِ، فَإِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ، رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ بِالسُّنْحِ، فَكَانَ إِذَا حَضَرَ صَلَّى بِالنَّاسِ وَإِذَا لَمْ يَحْضُرْ صَلَّى بِهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: فَكَانَ يُقِيمُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَدْرَ النَّهَارِ بِالسُّنْحِ يَصْبِغُ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ ثُمَّ يَرُوحُ لِقَدْرِ الْجُمُعَةِ، فَيُجَمِّعُ بِالنَّاسِ. وَكَانَ رَجُلا تَاجِرًا، فَكَانَ يَغْدُو كُلَّ يَوْمٍ إِلَى السُّوقِ، فَيَبِيعُ وَيَبْتَاعُ، وَكَانَتْ لَهُ قِطْعَةُ غَنَمٍ تَرُوحُ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا خَرَجَ هُوَ بِنَفْسِهِ فِيهَا، وَرُبَّمَا كُفِيهَا فَرُعِيَتْ لَهُ، وَكَانَ يَحْلِبُ لِلْحَيِّ أَغْنَامَهُمْ، فَلَمَّا بُويِعَ لَهُ بِالْخِلافَةِ قَالَتْ جَارِيَةٌ مِنَ الْحَيِّ: الآنَ لا تَحْلِبُ لَنَا مَنَائِحَ دَارِنَا، فَسَمِعَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: بَلَى لَعَمْرِي لأَحْلِبَنَّهَا لَكُمْ، وَإِنِّي لأَرْجُو أَلا يُغَيِّرَنِي مَا دَخَلْتُ فِيهِ عَنْ خُلُقٍ كُنْتُ عَلَيْهِ فَكَانَ يَحْلِبُ لَهُمْ، فَرُبَّمَا قَالَ لِلْجَارِيَةِ مِنَ الْحَيِّ: يَا جَارِيَةُ اتحبين أَنْ أَرْعَى لَكِ، أَوْ أصرح؟ فَرُبَّمَا قَالَتِ: ارْعَ، وَرُبَّمَا قَالَتْ: صرح، فَأَيُّ ذَلِكَ قَالَتْهُ فَعَلَ، فَمَكَثَ كَذَلِكَ بِالسُّنْحِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَقَامَ بِهَا، وَنَظَرَ فِي أَمْرِهِ، فَقَالَ: لا وَاللَّهِ، مَا تُصْلِحُ أُمُورَ النَّاسِ التِّجَارَةُ، وَمَا يُصْلِحُهُمْ إِلا التَّفَرُّغُ لَهُمْ وَالنَّظَرُ فِي شَأْنِهِمْ، وَلا بُدَّ لِعِيَالِي مِمَّا يُصْلِحُهُمْ فَتَرَكَ التِّجَارَةَ وَاسْتَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ مَا يُصْلِحُهُ وَيُصْلِحُ عِيَالَهُ يَوْمًا بِيَوْمٍ، وَيَحُجُّ وَيَعْتَمِرُ وَكَانَ الَّذِي فَرَضُوا لَهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ سِتَّةَ آلافِ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، قَالَ: رُدُّوا مَا عِنْدَنَا مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنِّي لا أُصِيبُ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْئًا، وَإِنَّ أَرْضِي الَّتِي بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا لِلْمُسْلِمِينَ بِمَا أَصَبْتُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَدَفَعَ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ، وَلَقُوحًا وَعَبْدًا

صَيْقَلا، وَقَطِيفَةً مَا تُسَاوِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، فَقَالَ عُمَرُ: لَقَدْ أَتْعَبَ مَنْ بَعْدَهُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ- فِيمَا حَدَّثَنِي أَبُو زَيْدٍ عَنْهُ فِي حَدِيثِهِ عَنِ الْقَوْمِ الَّذِينَ ذَكَرْتُ رِوَايَتَهُ عَنْهُمْ- قَالَ أَبُو بَكْرٍ: انْظُرُوا كَمْ أَنْفَقْتُ مُنْذُ وُلِّيتُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَاقْضُوهُ عَنِّي فَوَجَدُوا مَبْلَغَهُ ثَمَانِيةَ آلافِ دِرْهَمٍ فِي وِلايَتهِ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَسْمَاءَ ابْنَةِ عُمَيْسٍ، قَالَتْ: دَخَلَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: اسْتَخْلَفْتَ عَلَى النَّاسِ عُمَرَ، وَقَدْ رَأَيْتَ مَا يَلْقَى النَّاسُ مِنْهُ وَأَنْتَ مَعَهُ، فَكَيْفَ بِهِ إِذَا خَلا بِهِمْ! وَأَنْتَ لاقٍ رَبِّكَ فَسَائِلُكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ- وَكَانَ مُضْطَجِعًا: أَجْلِسُونِي، فَأَجْلَسُوهُ، فَقَالَ لِطَلْحَةَ: أَبِاللَّهِ تَفْرُقُنِي- أَوْ أَبِاللَّهِ تُخَوِّفُنِي- إِذَا لَقِيتُ اللَّهَ رَبِّي فَسَاءَلَنِي قُلْتُ: اسْتَخْلَفْتُ عَلَى أَهْلِكَ خَيْرَ أَهْلِكَ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحُصَيْنِ بِمِثْلِ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا وَقْتَ عَقْدِ أَبِي بَكْرٍ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْخِلافَةَ، وَوَقْتَ وَفَاةِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَنَّ عُمَرَ صَلَّى عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ دُفِنَ لَيْلَةَ وَفَاتِهِ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ النَّاسُ، فَأَصْبَحَ عُمَرُ صَبِيحَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَكَانَ أَوَّلُ مَا عَمِلَ وَقَالَ- فِيمَا ذُكِرَ- مَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: إِنِّي قَائِلٌ كَلِمَاتٍ فَأَمِّنُوا عَلَيْهِنَّ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْطِقٍ نَطَقَ بِهِ حِينَ اسْتُخْلِفَ- فِيمَا حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ ضِرَارٍ، عَنْ حُصَيْنٍ الْمُرِّيِّ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: إِنَّمَا مَثَلُ الْعَرَبِ مِثْلُ جَمَلٍ أَنِفٍ اتَّبَعَ قَائِدَهُ، فَلْيَنْظُرْ قَائِدُهُ حَيْثُ يقود، واما انا فو رب الْكَعْبَةِ لأَحْمِلَنَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ

ذكر غزوه فحل وفتح دمشق

حَدَّثَنَا عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، عَنْ عِيسَى بْنِ يَزِيدَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، قَالَ: كَانَ أَوَّلُ كِتَابٍ كَتَبَهُ عُمَرُ حِينَ وُلِّيَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ يُوَلِّيهِ عَلَى جُنْدِ خَالِدٍ: أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي يَبْقَى وَيَفْنَى مَا سِوَاهُ، الَّذِي هَدَانَا مِنَ الضَّلالَةِ، وَأَخْرَجَنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَقَدِ اسْتَعْمَلْتُكَ عَلَى جُنْدِ خالد ابن الْوَلِيدِ، فَقُمْ بِأَمْرِهِمُ الَّذِي يَحِقُّ عَلَيْكَ، لا تُقَدِّمِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى هَلَكَةٍ رَجَاءَ غَنِيمَةٍ، وَلا تُنْزِلْهُمْ مَنْزِلا قَبْلَ أَنْ تَسْتَرِيدَهُ لَهُمْ، وَتَعْلَمَ كَيْفَ مَأْتَاهُ، وَلا تَبْعَثْ سَرِيَّةً إِلا فِي كَثْفٍ مِنَ النَّاسِ، وَإِيَّاكَ وَإِلْقَاءَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْهَلَكَةِ، وَقَدْ أَبْلاكَ اللَّهُ بِي وَأَبْلانِي بِكَ، فَغَمِّضْ بَصَرَكَ عَنِ الدُّنْيَا، وَأَلْهِ قَلْبَكَ عَنْهَا، وإياك ان تهلك كَمَا أَهْلَكَتْ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ، فَقَدْ رَأَيْتَ مصارعهم ذكر غزوه فحل وفتح دمشق حَدَّثَنِي عمر، عن علي بْن مُحَمَّد، بإسناده، عن النفر الذين ذكرت روايتهم عنهم في أول ذكري أمر أبي بكر، أنهم قالوا: قدم بوفاة أبي بكر إلى الشام شداد بْن أوس بْن ثابت الأنصاري ومحمية بْن جزء، ويرفأ، فكتموا الخبر الناس حتى ظفر المسلمون- وكانوا بالياقوصه يقاتلون عدوهم من الروم، وذلك في رجب- فأخبروا أبا عبيدة بوفاة أبي بكر وولايته حرب الشام، وضم عمر إليه الأمراء، وعزل خالد بْن الوليد. فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما فَرَغَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَجْنَادِينَ سَارُوا إِلَى فِحْلَ مِنْ أَرْضِ الأُرْدُنِّ، وَقَدِ اجْتَمَعَتْ فِيهَا رَافِضَةُ الرُّومِ، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى أُمَرَائِهِمْ وَخَالِدٌ عَلَى مُقَدِّمَةِ النَّاسِ. فَلَمَّا نَزَلَتِ الرُّومُ بَيْسَانَ بَثَقُوا أَنْهَارَهَا، وهي ارض صبخه، فكانت وحلا، ونزلوا فحلا- وَبَيْسَانَ بَيْنَ فِلَسْطِينَ وَبَيْنَ الأَرْدُنِ- فَلَمَّا غَشِيَهَا المسلمون ولم

يَعْلَمُوا بِمَا صَنَعَتِ الرُّومُ، وَحِلَتْ خُيُولُهُمْ، وَلَقُوا فِيهَا عَنَاءً، ثُمَّ سَلَّمَهُمُ اللَّهُ- وَسُمِّيَتْ بَيْسَانُ ذَاتَ الرَّدَغَةِ لِمَا لَقِيَ الْمُسْلِمُونَ فِيهَا- ثُمَّ نَهَضُوا إِلَى الرُّومِ وَهُمْ بِفِحْلَ، فَاقْتَتَلُوا فَهُزِمَتِ الروم، ودخل المسلمون فحلا وَلَحِقَتْ رَافِضَةُ الرُّومِ بِدِمَشْقَ، فَكَانَتْ فِحْلُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ، عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ خِلافَةِ عُمَرَ وَأَقَامَ تِلْكَ الْحَجَّةَ لِلنَّاسِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ. ثُمَّ سَارُوا إِلَى دِمَشْقَ وَخَالِدٌ عَلَى مُقَدِّمَةِ النَّاسِ، وَقَدِ اجْتَمَعَتِ الرُّومُ إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ بَاهَانُ بِدِمَشْقَ- وَقَدْ كَانَ عُمَرُ عَزَلَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَاسْتَعْمَلَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ- فَالْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالرُّومُ فِيمَا حَوْلَ دِمَشْقَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالا شَدِيدًا، ثُمَّ هَزَمَ اللَّهُ الرُّومَ، وَأَصَابَ مِنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَدَخَلَتِ الرُّومُ دِمَشْقَ، فَغَلَّقُوا أبوابها وجثم الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا فَرَابَطُوهَا حَتَّى فُتِحَتْ دِمَشْقُ، وَأَعْطَوُا الْجِزْيَةَ، وَقَدْ قَدِمَ الْكِتَابُ عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بامارته وعزل خالد، فاستحيا أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ يُقْرِئَ خَالِدًا الْكِتَابَ حَتَّى فُتِحَتْ دِمَشْقُ، وَجَرَى الصُّلْحُ عَلَى يَدَيْ خَالِدٍ، وَكَتَبَ الْكِتَابَ بِاسْمِهِ فَلَمَّا صَالَحَتْ دِمَشْقُ لَحِقَ بَاهَانُ- صَاحِبُ الرُّومِ الَّذِي قَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ- بِهِرَقْلَ وَكَانَ فَتْحُ دِمَشْقَ فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فِي رَجَبٍ، وَأَظْهَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِمَارَتَهُ وَعَزْلِ خَالِدٍ، وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ، الْتَقَوْا هُمْ وَالرُّومُ بِبَلَدٍ يُقَالُ لَهُ عَيْنُ فِحْلٍ بَيْنَ فِلَسْطِينَ وَالأُرْدُنِ، فَاقْتَتَلُوا بِهِ قِتَالا شَدِيدًا، ثُمَّ لَحِقَتِ الرُّومُ بِدِمَشْقَ. وَأَمَّا سَيْفٌ- فِيمَا ذَكَرَ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْهُ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ خَالِدٍ وَعُبَادَةَ- فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي خَبَرِهِ أَنَّ الْبَرِيدَ قَدِمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمَدِينَةِ بِمَوْتِ أَبِي بَكْرٍ وَتَأْمِيرِ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَهُمْ بِالْيَرْمُوكِ، وَقَدِ الْتَحَمَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّومِ. وَقَصَّ مِنْ خَبَرِ الْيَرْمُوكِ وَخَبَرِ دِمَشْقَ غَيْرَ الَّذِي اقْتَصَّهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَأَنَا ذَاكِرٌ بَعْضَ الَّذِي اقْتَصَّ مِنْ ذَلِكَ: كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد، عن أبي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: لَمَّا قَامَ عمر رضى عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ فَأَذِنَ لَهُمَا بِدُخُولِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ قد منعهما لِفَرَّتِهِمَا الَّتِي فَرَّاهَا وَرَدَّهُمَا

إِلَى الشَّامِ، وَقَالَ: لِيَبْلُغْنِي عَنْكُمَا غِنَاءُ أبلكما بَلاءً، فَانْضَمَّا إِلَى أَيِّ أُمَرَائِنَا أَحْبَبْتُمَا، فَلَحِقَا بِالنَّاسِ فَأَبْلَيَا وَأَغْنَيَا. خبر دمشق من رواية سيف: كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ خَالِدٍ وَعُبَادَةَ، قَالا: لَمَّا هَزَمَ اللَّهُ جُنْدَ الْيَرْمُوكِ، وَتَهَافَتَ أَهْلُ الْوَاقُوصَةِ وَفُرِغَ مِنَ الْمَقَاسِمِ وَالأَنْفَالِ، وَبُعِثَ بِالأَخْمَاسِ وَسُرِّحَتِ الْوُفُودُ، اسْتَخْلَفَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى الْيَرْمُوكِ بَشِيرَ بْنَ كَعْبِ بْنِ أَبِي الْحِمْيَرِيِّ كَيْلا يَغْتَالُ بردة، وَلا تَقْطَعُ الرُّومُ عَلَى مَوَادهِ، وَخَرَجَ أَبُو عُبَيْدَةَ حَتَّى يَنْزِلَ بِالصُّفَّرِ، وُهَو يُرِيدُ اتِّبَاعَ الْفَالَةَ، وَلا يَدْرِي يَجْتَمِعُونَ أَوْ يَفْتَرِقُونَ، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ بِأَنَّهُمْ أَرَزُوا إِلَى فِحْلَ، وَأَتَاهُ الْخَبَرُ بِأَنَّ الْمَدَدَ قَدْ أَتَى أَهْلَ دِمَشْقَ مِنْ حِمْصَ، فَهُوَ لا يَدْرِي أَبِدِمَشْقَ يَبْدَأُ أَمْ بِفِحْلَ مِنْ بِلادِ الأردن فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ، وَانْتَظَرَ الْجَوَابَ، وَأَقَامَ بِالصُّفَّرِ، فَلَمَّا جَاءَ عُمَرَ فَتْحُ الْيَرْمُوكِ أَقَرَّ الأُمَرَاءَ عَلَى مَا كَانَ اسْتَعْمَلَهُمْ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ إِلا مَا كَانَ مِنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَإِنَّهُ ضَمَّ خَالِدًا إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ، وَأَمَرَ عَمْرًا بِمَعُونَةِ النَّاسِ، حَتَّى يُصَيِّرَ الْحَرْبَ إِلَى فِلَسْطِينَ، ثُمَّ يَتَوَلَّى حَرْبَهَا. وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَمْرِ خَالِدٍ وَعَزْلِ عُمَرَ إِيَّاهُ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّمَا نَزَعَ عُمَرُ خَالِدًا فِي كَلامٍ كَانَ خَالِدٌ تَكَلَّمَ بِهِ- فِيمَا يَزْعُمُونَ- وَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ عَلَيْهِ سَاخِطًا وَلأَمْرِهِ كَارِهًا فِي زَمَانِ أَبِي بَكْرٍ كُلِّهِ، لِوَقْعَتِهِ بِابْنِ نُوَيْرَةَ، وَمَا كَانَ يَعْمَلُ بِهِ فِي حَرْبِهِ، فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ كَانَ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ عَزْلُهُ، فَقَالَ: لا يَلِي لِي عَمَلا أَبَدًا، فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ: إِنْ خالد أَكْذَبَ نَفْسَهُ فَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَإِنْ هُوَ لَمْ يُكَذِّبْ نَفْسَهُ فَأَنْتَ الأَمِيرُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، ثُمَّ انْزَعْ عمامته عن

رَأْسِهِ، وَقَاسِمْهُ مَالَهُ نِصْفَيْنِ فَلَمَّا ذَكَرَ أَبُو عبيده ذلك لخالد، قال: انظرنى استشر أُخْتِي فِي أَمْرِي، فَفَعَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ، فَدَخَلَ خَالِدٌ عَلَى أُخْتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْوَلِيدِ- وَكَانَتْ عِنْدَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ- فَذَكَرَ لَهَا ذَلِكَ، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لا يُحِّبُكَ عُمَرُ أَبَدًا، وَمَا يُرِيدُ إِلا أَنْ تُكَذِّبَ نَفْسَكَ ثُمَّ يَنْزَعَكَ فَقَبَّلَ رَأْسَهَا وَقَالَ: صَدَقْتِ وَاللَّهِ! فَتَمَّ عَلَى أَمْرِهِ، وَأَبَى أَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ فَقَامَ بِلالٌ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ، فَقَالَ: مَا أُمِرْتَ بِهِ فِي خَالِدٍ؟ قَالَ: أُمِرْتُ أَنْ أَنْزِعَ عِمَامَتَهُ، وَأُقَاسِمَهُ مَالَهُ فَقَاسَمَهُ مَالَهُ حَتَّى بَقِيَتْ نَعْلاهُ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّ هَذَا لا يَصْلُحُ إِلا بِهَذَا، فَقَالَ خَالِدٌ: أَجَلْ، مَا أَنَا بِالَّذِي أَعْصِي أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ! فَأَخَذَ نَعْلا وَأَعْطَاهُ نَعْلا. ثُمَّ قَدِمَ خَالِدٌ عَلَى عُمَرَ الْمَدِينَةَ حِينَ عَزَلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بْنِ عُمَرَ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ كُلَّمَا مَرَّ بِخَالِدٍ قَالَ: يَا خَالِدُ، أَخْرِجْ مَالَ اللَّهِ مِنْ تَحْتِ اسْتِكَ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا عِنْدِي مِنْ مَالٍ، فَلَمَّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ عُمَرُ قَالَ لَهُ خَالِدٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا قِيمَةُ مَا أَصَبْتُ فِي سُلْطَانِكُمْ! أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ! فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ أَخَذْتُ ذَلِكَ مِنْكَ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، قَالَ: هُوَ لَكَ، قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ ولم يكن لخالد مال إِلا عِدَّةٌ وَرَقِيقٌ، فَحُسِبَ ذَلِكَ، فَبَلَغَتْ قِيمَتُهُ ثَمَانِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَنَاصَفَهُ عُمَرُ ذَلِكَ، فَأَعْطَاهُ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَأَخَذَ الْمَالَ فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ رَدَدْتَ عَلَى خَالِدٍ مَالَهُ! فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا تَاجِرٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَاللَّهِ لا أَرُدُّهُ عَلَيْهِ أَبَدًا فَكَانَ عُمَرُ يَرَى أَنَّهُ قَدِ اشْتَفَى مِنْ خَالِدٍ حِينَ صَنَعَ بِهِ ذَلِكَ. رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ خَالِدٍ وَعُبَادَةَ، قَالا: وَلَمَّا جَاءَ عُمَرَ الْكِتَابُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بِالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَبْدَأَ بِهِ كَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَابْدَءُوا بِدِمَشْقَ، فَانْهَدُوا لَهَا، فَإِنَّهَا حِصْنُ الشَّامِ وَبَيْتُ

مَمْلَكَتِهِمْ، وَاشْغِلُوا عَنْكُمْ أَهْلَ فِحْلَ بِخَيْلٍ تَكُونُ بِإِزَائِهِمْ فِي نُحُورِهِمْ وَأَهْلَ فِلَسْطِينَ وَأَهْلَ حِمْصَ، فَإِنْ فَتَحَهَا اللَّهُ قَبْلَ دِمَشْقَ فَذَاكَ الَّذِي نُحِبُّ، وَإِنْ تَأَخَّرَ فَتْحُهَا حَتَّى يَفْتَحُ اللَّهُ دِمَشْقَ فَلْيَنْزِلْ بِدِمَشْقَ مَنْ يُمْسِكْ بِهَا، وَدَعُوهَا، وَانْطَلِقْ أَنْتَ وَسَائِرُ الأُمَرَاءِ حَتَّى تُغِيرُوا عَلَى فِحْلَ، فَإِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَانْصَرِفْ أَنْتَ وَخَالِدٌ إِلَى حِمْصَ، وَدَعْ شُرَحْبِيلَ وَعَمْرًا وَأَخْلِهِمَا بِالأُرْدُنِّ وَفِلَسْطِينَ، وَأَمِيرُ كُلِّ بَلَدٍ وَجُنْدٍ عَلَى النَّاسِ حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْ إِمَارَتِهِ فَسَرَّحَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى فِحْلَ عَشَرَةَ قُوَّادٍ: أَبَا الأَعْوَرِ السُّلَمِيَّ، وَعَبْدَ عَمْرِو بْنَ يَزِيدَ بْنِ عَامِرٍ الْجُرَشِيَّ، وَعَامِرَ بْنَ حَثْمَةَ، وَعَمْرَو بْنَ كُلَيْبٍ من يحصب، وَعُمَارَةَ بْنَ الْصَعِقِ بْنِ كَعْبٍ، وَصَيْفِيَّ بْنَ عُلْبَةَ بْنِ شَامِلٍ، وَعَمْرَو بْنَ الْحَبِيبِ بْنِ عَمْرٍو، ولِبْدَةَ بْنَ عَامِرِ بْنِ خَثْعَمَةَ، وَبِشْرَ بْنَ عِصْمَةَ، وَعُمَارَةَ بْنَ مخش قَائِدَ النَّاسِ، وَمَعَ كُلِّ رَجُلٍ خَمْسَةُ قُوَّادٍ، وَكَانَتِ الرُّؤَسَاءُ تَكُونُ مِنَ الصَّحَابَةِ حَتَّى لا يَجِدُوا مَنْ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَسَارُوا مِنَ الصُّفَّرِ حَتَّى نَزَلُوا قَرِيبًا مِنْ فِحْلَ، فَلَمَّا رَأَتِ الرُّومُ أَنَّ الْجُنُودَ تُرِيدُهُمْ بَثَقُوا الْمِيَاهَ حَوْلَ فِحْلَ، فَأُرْدِغَتِ الأَرْضُ، ثُمَّ وَحِلَتْ، وَاغْتَمَّ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ، فَحَبَسُوا عَنِ الْمُسْلِمِينَ بِهَا ثَمَانِينَ أَلْفَ فَارِسٍ وَكَانَ أَوَّلَ مَحْصُورٍ بِالشَّامِ أَهْلُ فِحْلَ، ثُمَّ أَهْلُ دِمَشْقَ وَبَعَثَ أَبُو عُبَيْدَةَ ذَا الْكَلاعِ حَتَّى كَانَ بَيْنَ دِمَشْقَ وَحِمْصَ رِدْءًا وَبَعَثَ عَلْقَمَةَ بْنَ حَكِيمٍ وَمَسْرُوقًا فَكَانَا بَيْنَ دِمَشْقَ وَفِلَسْطِينَ، وَالأَمِيرُ يَزِيدُ فَفَصَلَ، وَفَصَلَ بِأَبِي عُبَيْدَةَ مِنَ الْمَرْجِ، وَقَدِمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَعَلَى مُجَنِّبَتَيْهِ عَمْرٌو وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَعَلى الْخَيْلِ عِيَاضٌ، وَعَلَى الرُّجَّلِ شُرَحْبِيلُ، فَقَدِمُوا عَلَى دِمَشْقَ، وعليهم نسطاس بن نسطورس، فَحَصَرُوا أَهْلَ دِمَشْقَ، وَنَزَلُوا حَوَالَيْهَا، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى نَاحِيَةٍ، وَعَمْرٌو عَلَى نَاحِيَةٍ، وَيَزِيدُ عَلَى نَاحِيَةٍ، وَهِرَقْلُ يَوْمَئِذٍ بِحِمْصَ، وَمَدِينَةُ حِمْصَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَحَاصَرُوا أَهْلَ دِمَشْقَ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ لَيْلَةً حِصَارًا شَدِيدًا بِالزُّحُوفِ وَالتَّرَامِي وَالْمَجَانِيقِ، وهم معتصمون

بِالْمَدِينَةِ يَرْجُونَ الْغِيَاثَ، وَهِرَقلُ مِنْهُمْ قَرِيبٌ وَقَدِ اسْتَمَدُّوهُ وَذُو الْكَلاعِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ حِمْصَ على راس ليله من دمشق، كأنه يُرِيدُ حِمْصَ، وَجَاءَتْ خُيُولُ هِرَقْلَ مُغِيثَةً لأَهْلِ دِمَشْقَ، فَأَشجتْهَا الْخُيُولُ الَّتِي مَعَ ذِي الْكَلاعِ، وَشَغَلَتْهَا عَنِ النَّاسِ، فَأَرَزُوا وَنَزَلُوا بِإِزَائِهِ، وَأَهْلُ دِمَشْقَ عَلَى حَالِهِمْ. فَلَمَّا أيَقْنَ أَهْلُ دِمَشْقَ أَنَّ الأَمْدَادَ لا تَصِلُ إِلَيْهِمْ فَشِلُوا وَوَهِنُوا وَأُبْلِسُوا وَازْدَادَ الْمُسْلِمُونَ طَمَعًا فِيهِمْ، وَقَدْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّها كَالْغَارَاتِ قَبْلَ ذَلِكَ، إِذَا هَجَمَ الْبَرْدُ قَفَلَ النَّاسُ، فَسَقَطَ النَّجْمُ وَالْقَوْمُ مُقِيمُونَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ انْقَطَعَ رَجَاؤُهُمْ، وَنَدِمُوا عَلَى دُخُولِ دِمَشْقَ، وَوُلِدَ لِلْبِطْرِيقِ الَّذِي دَخَلَ عَلَى أَهْلِ دِمَشْقَ مَوْلُودٌ، فَصَنَعَ عَلَيْهِ، فَأَكَلَ الْقَوْمُ وَشَرِبُوا، وَغَفِلُوا عَنْ مَوَاقِفِهِمْ، وَلا يَشْعُرُ بِذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلا مَا كَانَ مِنْ خَالِدٍ، فَإِنَّهُ كَانَ لا يَنَامُ وَلا يُنِيمُ، وَلا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِهِمْ شَيْءٌ، عُيُونُهُ ذَاكِيَةٌ وَهُوَ مَعْنِيٌّ بِمَا يَلِيهِ، قَدِ اتَّخَذَ حِبَالا كَهَيْئَةِ السَّلالِيمِ وَأَوْهَاقًا فَلَمَّا أَمْسَى مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ نَهَدَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ جُنْدِهِ الَّذِينَ قدم بهم عَلَيْهِمْ، وَتَقَدَّمَهُمْ هُوَ وَالْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَمَذْعُورُ بْنُ عَدِيٍّ، وَأَمْثَالُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي أَوَّلِ يَوْمِهِ، وَقَالُوا: إِذَا سَمِعْتُمْ تَكْبِيرَنَا عَلَى السُّورِ فَارْقُوا إِلَيْنَا، وَانْهَدُوا لِلْبَابِ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ الْمُتَقَدِّمُونَ رَمَوْا بِالْحِبَالِ الشُّرَفَ وَعَلَى ظُهُورِهِمُ الْقِرَبُ الَّتِي قَطَعُوا بِهَا خَنْدَقِهِمْ فَلَمَّا ثَبَتَ لَهُمْ وَهْقَانِ تَسَلَّقَ فِيهِمَا الْقَعْقَاعُ وَمَذْعُورٌ، ثُمَّ لَمْ يَدَعَا أُحْبُولَةً إِلا أَثْبَتَاهَا- وَالأَوْهَاق بِالشُّرَفِ- وَكَانَ الْمَكَانُ الَّذِي اقْتَحَمُوا مِنْهُ أَحْصَنَ مَكَانٍ يُحِيطُ بِدِمَشْقَ، أَكْثَرَهُ مَاءً، وَأَشَدَّهُ مَدْخَلا، وَتَوَافَوْا لِذَلِكَ، فَلَمْ يَبْقَ مِمَّنْ دَخَلَ مَعَهُ أَحَدٌ إِلا رَقِيَ أَوْ دَنَا مِنَ الْبَابِ، حَتَّى إِذَا اسْتَوَوْا عَلَى السُّورِ حَدَرَ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ، وَانْحَدَرَ مَعَهُمْ، وَخَلَّفَ

مَنْ يَحْمِي ذَلِكَ الْمَكَانَ لِمَنْ يَرْتَقِي، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ، فَكَبَّرَ الَّذِينَ عَلَى رَأْسِ السُّورِ، فَنَهَدَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْبَابِ، وَمَالَ إِلَى الْحِبَالِ بَشَرٌ كَثِيرٌ، فَوَثَبُوا فِيهَا، وَانْتَهَى خَالِدٌ إِلَى أَوَّلِ مَنْ يَلِيهِ فَأَنَامَهُمْ، وَانْحَدَرَ إِلَى الْبَابِ، فَقَتَلَ الْبَوَّابِينَ، وَثَارَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَفَزِعَ سَائِرُ النَّاسِ، فَأَخَذُوا مَوَاقِفَهُمْ، وَلا يَدْرُونَ مَا الشَّأْنُ! وَتَشَاغَلَ أَهْلُ كُلِّ نَاحِيَةٍ بِمَا يَلِيهِمْ، وَقَطَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَمَنْ مَعَهُ أَغْلاقَ الْبَابِ بِالسُّيُوفِ، وَفَتَحُوا لِلْمُسْلِمِينَ، فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مِنْ دَاخِلٍ، حَتَّى مَا بَقِيَ مِمَّا يَلِي بَابَ خَالِدٍ مُقَاتِلٌ إِلا أُنِيمَ وَلَمَّا شَدَّ خَالِدٌ عَلَى مَنْ يَلِيهِ، وَبَلَغَ مِنْهُمُ الَّذِي أَرَادَ عَنْوَةً أَرَزَ مَنْ أَفْلَتَ إِلَى أَهْلِ الأَبْوَابِ الَّتِي تَلِي غَيْرَهُ، وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ دَعَوْهُمْ إِلَى الْمُشَاطَرَةِ فَأَبَوْا وَأَبْعَدُوا، فَلَمْ يَفْجَأْهُمْ إِلا وَهُمْ يَبُوحُونَ لَهُمْ بِالصُّلْحِ، فَأَجَابُوهُمْ وَقَبِلُوا مِنْهُمْ، وَفَتَحُوا لَهُمُ الأَبْوَابَ، وَقَالُوا: ادْخُلُوا وَامْنَعُونَا مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَابِ فَدَخَلَ أَهْلُ كُلِّ بَابٍ بِصُلْحٍ مِمَّا يَلِيهِمْ، وَدَخَلَ خَالِدٌ مِمَّا يَلِيهِ عَنْوَةً، فَالْتَقَى خَالِدٌ وَالْقُوَّادُ فِي وَسَطِهَا، هَذَا اسْتِعْرَاضًا وَانْتِهَابًا، وَهَذَا صُلْحًا وَتَسْكِينًا، فَأَجْرَوْا نَاحِيَةَ خَالِدٍ مَجْرَى الصُّلْحِ، فَصَارَ صُلْحًا، وَكَانَ صُلْحُ دِمَشْقَ عَلَى الْمُقَاسَمَةِ، الدِّينَارِ وَالْعَقَارِ، وَدِينَارٍ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ، فَاقْتَسَمُوا الأَسْلابَ، فَكَانَ أَصْحَابُ خَالِدٍ فِيهَا كَأَصْحَابِ سَائِرِ الْقُوَّادِ، وَجَرَى عَلَى الدِّيَارِ وَمَنْ بَقِيَ فِي الصُّلْحِ جَرِيبٌ مِنْ كُلِّ جَرِيبِ أَرْضٍ، وَوَقَفَ مَا كَانَ لِلْمُلُوكِ وَمَنْ صَوَّبَ مَعَهُمْ فَيْئًا، وَقَسَّمُوا لِذِي الْكَلاعِ وَمَنْ مَعَهُ، وَلأَبِي الأَعْوَرِ وَمَنْ مَعَهُ، وَلِبَشِيرٍ وَمَنْ مَعَهُ، وَبَعَثُوا بِالْبِشَارَةِ إِلَى عُمَرَ، وَقَدِمَ عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ كِتَابُ عُمَرَ، بِأَنِ اصْرِفْ جُنْدَ الْعِرَاقِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْحَثِّ إِلَى سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، فَأَمَّرَ عَلَى جُنْدِ الْعِرَاقِ هَاشِمَ بْنَ عُتْبَةَ، وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ الْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو، وَعَلَى مُجَنِّبَتَيْهِ عَمْرَو بْنَ مَالِكٍ الزُّهْرِيَّ وَرِبْعِيَّ بْنَ عَامِرٍ، وَضَرَبُوا بَعْدَ دِمَشْقَ نَحْوَ سَعْدٍ، فَخَرَجَ هَاشِمٌ نَحْوَ الْعِرَاقِ فِي جُنْدِ الْعِرَاقِ، وَخَرَجَ الْقُوَّادُ نحو فحل

وَأَصْحَابُ هَاشِمٍ عَشَرَةُ آلافٍ إِلا مَنْ أُصِيبَ مِنْهُمْ، فَأَتَمُّوهُمْ بِأُنَاسٍ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ قَيْسٌ وَالأَشْتَرُ، وَخَرَجَ عَلْقَمَةُ وَمَسْرُوقٌ إِلَى إِيلِيَاءَ، فَنَزَلا عَلَى طَرِيقِهَا، وَبَقِيَ بِدِمَشْقَ مَعَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ مِنْ قُوَّادِ أَهْلِ الْيَمَنِ عَدَدٌ، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ شِمْرِ بْنِ غَزِيَّةَ، وَسَهْمُ بْنُ الْمُسَافِرِ بْنِ هَزْمَةَ، وَمُشَافِعُ ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَافِعٍ وَبَعَثَ يَزِيدُ دِحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيَّ فِي خَيْلٍ بَعْدَ مَا فَتَحَ دِمَشْقَ إِلَى تَدْمُرَ، وَأَبَا الزَّهْرَاءِ الْقُشَيْرِيَّ إِلَى الْبَثَنِيَّةِ وَحَوْرَانَ، فَصَالَحُوهُمَا عَلَى صُلْحِ دِمَشْقٍ، وَوَلِيَا الْقِيَامَ عَلَى فَتْحِ مَا بُعِثَا إِلَيْهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ فَتْحُ دِمَشْقَ فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فِي رَجَبٍ وَقَالَ أَيْضًا: كَانَتْ وَقْعَةُ فِحْلَ قَبْلَ دِمَشْقَ، وَإِنَّمَا صَارَ إِلَى دِمَشْقَ رَافِضَةُ فِحْلَ، وَاتَّبَعَهَمُ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهَا وَزَعَمَ أَنَّ وَقْعَةَ فِحْلَ كَانَتْ سَنَةَ ثلاث عشره فِي ذِي الْقَعْدَةَ مِنْهَا، حَدَّثَنَا بِذَلِكَ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْهُ. وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ: فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ فَتْحَ دِمَشْقَ كَانَ فِي سنه اربع عشره، كَمَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَزَعَمَ أَنَّ حِصَارَ الْمُسْلِمِينَ لَهَا كَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَزَعَمَ أَنْ وقعه اليرموك كانت في سنه خمس عشره وَزَعَمَ أَنَّ هِرَقْلَ جَلا فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ وَقْعَةِ الْيَرْمُوكِ فِي شَعْبَانَ مِنْ أَنْطَاكِيَةَ إِلَى قُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الْيَرْمُوكِ وَقْعَةٌ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ مَضَى ذِكْرِي مَا رُوِيَ عَنْ سَيْفٍ، عَمَّنْ رَوَى عَنْهُ، أَنَّ وَقْعَةَ الْيَرْمُوكِ كَانَتْ فِي سَنَةِ ثَلاثَ عَشَرَةَ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَرَدَ عَلَيْهِمُ الْبَرِيدُ بِوَفَاةِ ابى بكر باليرموك، في الْيَوْمِ الَّذِي هُزِمَتِ الرُّومُ فِي آخِرِهِ، وَأَنَّ عُمَرَ أَمَرَهُمْ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنَ الْيَرْمُوكِ بِالْمَسِيرِ الى دمشق، وزعم ان فحلا كَانَتْ بَعْدَ دِمَشْقَ، وَأَنَّ حُرُوبًا بَعْدَ ذَلِكَ كَانَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ سِوَى ذَلِكَ، قَبْلَ شُخُوصِ هِرَقْلَ إِلَى قُسْطَنْطِينِيَّةَ، سَأَذْكُرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَوَاضِعِهَا. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ- وَجَّهَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أبا عبيد ابن مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ نَحْوَ الْعِرَاقِ وَفِيهَا اسْتُشْهِدَ فِي قول الواقدى

وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ، فَإِنَّهُ قَالَ: كَانَ يَوْمُ الجسر، جسر ابى عبيد بن مسعود الثقفى في سنه اربع عشره. ذكر أمر فحل من رواية سيف: قال أبو جعفر: ونذكر الآن أمر فحل إذ كان في الخبر الذي فيه من الاختلاف ما ذكرت من فتوح جند الشام ومن الأمور التي تستنكر وقوع مثل الاختلاف الذي ذكرته في وقته، لقرب بعض ذلك من بعض. فأما ما قال ابن إسحاق من ذلك وقص من قصته، فقد تقدم ذكريه قبل واما السرى فانه فِيمَا كَتَبَ بِهِ إِلَيَّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن أبي عثمان يزيد بن أسيد الغساني وأبي حارثة العبشمي، قالا: خلف الناس بعد فتح دمشق يزيد بْن أبي سفيان في خيله في دمشق، وساروا نحو فحل، وعلى الناس شرحبيل بْن حسنة، فبعث خالدا على المقدمة وأبا عبيدة وعمرا على مجنبتيه، وعلى الخيل ضرار بْن الأزور، وعلى الرجل عياض، وكرهوا أن يصمدوا لهرقل، وخلفهم ثمانون ألفا، وعلموا أن من بإزاء فحل جنة الروم وإليهم ينظرون، وأن الشام بعدهم سلم فلما انتهوا إلى أبي الأعور، قدموه إلى طبرية، فحاصرهم ونزلوا على فحل من الأردن، - وقد كان أهل فحل حين نزل بهم أبو الأعور تركوه وأرزوا إلى بيسان- فنزل شرحبيل بالناس فحلا، والروم بيسان، وبينهم وبين المسلمين تلك المياه والأوحال، وكتبوا إلى عمر بالخبر، وهم يحدثون انفسهم بالمقام، ولا يريدون ان يريموا فحلا حتى يرجع جواب كتابهم من عند عمر، ولا يستطيعون الإقدام على عدوهم في مكانهم لما دونهم من الأوحال، وكانت العرب تسمي تلك الغزاة فحلا وذات الردغة وبيسان وأصاب المسلمون من ريف الأردن أفضل مما فيه المشركون، مادتهم متواصلة، وخصبهم رغد، فاغترهم القوم، وعلى القوم سقلار بن مخراق، ورجوا ان يكونوا

ذكر بيسان

على غره، فاتوهم والمسلمون لا يأمنون مجيئهم، فهم على حذر وكان شرحبيل لا يبيت ولا يصبح إلا على تعبئة فلما هجموا على المسلمين غافصوهم، فلم يناظروهم، واقتتلوا بفحل كأشد قتال اقتتلوه قط ليلتهم ويومهم إلى الليل، فأظلم الليل عليهم وقد حاروا، فانهزموا وهم حيارى وقد أصيب رئيسهم سقلار بن مخراق، والذي يليه فيهم نسطورس، وظفر المسلمون أحسن ظفر وأهنأه، وركبوهم وهم يرون أنهم على قصد وجدد، فوجدوهم حيارى لا يعرفون مأخذهم، فأسلمتهم هزيمتهم وحيرتهم إلى الوحل، فركبوه، ولحق أوائل المسلمين بهم، وقد وحلوا فركبوهم، وما يمنعون يد لامس، فوخزوهم بالرماح، فكانت الهزيمة في فحل، وكان مقتلهم في الرداغ، فأصيب الثمانون ألفا، لم يفلت منهم إلا الشريد، وكان اللَّه يصنع للمسلمين وهم كارهون، كرهوا البثوق فكانت عونا لهم على عدوهم، وأناة من اللَّه ليزدادوا بصيرة وجدا، واقتسموا ما أفاء اللَّه عليهم، وانصرف أبو عبيدة بخالد من فحل إلى حمص، وصرفوا سمير بْن كعب معهم، ومضوا بذي الكلاع ومن معه، وخلفوا شرحبيل ومن معه . ذكر بيسان ولما فرغ شرحبيل من وقعة فحل نهد في الناس ومعه عمرو إلى أهل بيسان، فنزلوا عليهم، وأبو الأعور والقواد معه على طبرية، وقد بلغ أفناء أهل الأردن ما لقيت دمشق، وما لقي سقلار والروم بفحل وفي الردغة، ومسير شرحبيل إليهم، ومعه عمرو بْن العاص والحارث بْن هشام وسهيل بْن عمرو، يريد بيسان، وتحصنوا بكل مكان، فسار شرحبيل بالناس إلى أهل بيسان، فحصروهم أياما ثم إنهم خرجوا عليهم فقاتلوهم، فأناموا من خرج إليهم، وصالحوا بقية أهلها، فقبل ذلك على صلح دمشق

طبرية

طبرية وبلغ أهل طبرية الخبر، فصالحوا أبا الأعور، على أن يبلغهم شرحبيل، ففعل، فصالحوهم وأهل بيسان على صلح دمشق، على أن يشاطروا المسلمين المنازل في المدائن، وما أحاط بها مما يصلها، فيدعون لهم نصفا، ويجتمعون في النصف الآخر، وعن كل رأس دينار كل سنة، وعن كل جريب أرض جريب بر أو شعير، أي ذلك حرث، وأشياء في ذلك صالحوهم عليها، ونزلت القواد وخيولهم فيها، وتم صلح الأردن، وتفرقت الأمداد في مدائن الأردن وقراها، وكتب إلى عمر بالفتح . ذكر خبر المثنى بْن حارثة وأبي عبيد بن مسعود كتب إلي السري، عن شعيب، عَنْ سَيْفِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَوَّادٍ وَطَلْحَةَ بْنِ الأَعْلَمِ وَزِيَادَ بْنِ سَرْجِسَ الأَحْمَرِيِّ بِإِسْنَادِهِمْ، قَالُوا: أَوَّلُ مَا عَمِلَ بِهِ عُمَرُ أَنْ نَدَبَ النَّاسَ مَعَ الْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِيِّ إِلَى أَهْلِ فَارِسَ قَبْلَ صَلاةِ الْفَجْرِ، مِنَ اللَّيْلَةِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ أَصْبَحَ فَبَايَعَ النَّاسَ، وَعَادَ فَنَدَبَ النَّاسَ إِلَى فَارِسَ، وَتَتَابَعَ النَّاسُ عَلَى الْبَيْعَةِ فَفَرَغُوا فِي ثَلاثٍ، كُلَّ يَوْمٍ يَنْدُبُهُمْ فَلا يَنْتَدِبُ أَحَدٌ إِلَى فَارِسَ، وَكَانَ وَجْهُ فَارِسَ مِنْ أَكْرَهِ الْوُجُوهِ إِلَيْهِمْ وَأَثْقَلِهَا عَلَيْهِمْ، لِشِدَّةِ سُلْطَانِهِمْ وَشَوْكَتِهِمْ وَعِزِّهِمْ وَقَهْرِهِمُ الأُمَمَ قَالُوا: فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ، عَادَ فَنَدَبَ النَّاسَ إِلَى الْعِرَاقِ، فَكَانَ أَوَّلُ مُنْتَدَبٍ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ مَسْعُودٍ وَسَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ الأَنْصَارِيُّ حَلِيفُ بَنِي فَزَارَةَ، هَرَبَ يَوْمَ الْجِسْرِ، فَكَانَتِ الْوُجُوهُ تُعْرَضُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَأْبَى إِلا الْعِرَاقَ، وَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ اعْتَدَّ عَلَيَّ فِيهَا بِفَرَّةٍ، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ فِيهَا كَرَّةً وَتَتَابَعَ النَّاسُ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ يوسف، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: وَتَكَلَّمَ الْمُثَنَّى بن حارثة، فقال:

يا ايها النَّاسُ، لا يَعْظُمَنَّ عَلَيْكُمْ هَذَا الْوَجْهُ، فَإِنَّا قَدْ تَبَحْبَحْنَا رِيفَ فَارِسَ، وَغَلَبْنَاهُمْ عَلَى خَيْرٍ شِقَّيِ السَّوَادِ وَشَاطَرْنَاهُمْ وَنِلْنَا مِنْهُمْ، وَاجْتَرَأَ مَنْ قِبَلِنَا عَلَيْهِمْ، وَلَهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَا بَعْدَهَا وَقَامَ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي النَّاسِ، فَقَالَ: إِنَّ الْحِجَازَ لَيْسَ لَكُمْ بِدَارٍ إِلا عَلَى النُّجْعَةِ، وَلا يَقْوَى عَلَيْهِ أَهْلُهُ إِلا بِذَلِكَ، أَيْنَ الطُّرَّاءُ الْمُهَاجِرُونَ عَنْ مَوْعُودِ اللَّهِ! سِيرُوا فِي الأَرْضِ الَّتِي وَعَدَكُمُ اللَّهَ فِي الْكِتَابِ أَنْ يُورِثَكُمُوهَا، فَإِنَّهُ قَالَ: «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ*» ، وَاللَّهُ مُظْهِرٌ دِينَهُ، وَمُعِزٌّ نَاصِرَهُ، وَمُوَلِّي أَهْلَهُ مَوَارِيثَ الأُمَمِ أَيْنَ عِبَادُ اللَّهِ الصَّالِحُونَ! فَكَانَ أَوَّلُ مُنْتَدَبٍ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ مَسْعُودٍ، ثُمَّ ثنى سعد بن عبيد- او سليط ابن قَيْسٍ- فَلَمَّا اجْتَمَعَ ذَلِكَ الْبَعْثُ، قِيلَ لِعُمَرَ: أَمِّرْ عَلَيْهِمْ رَجُلا مِنَ السَّابِقِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ قَالَ: لا وَاللَّهِ لا أَفْعَلُ، إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا رَفَعَكُمْ بِسَبْقِكُمْ وَسُرْعَتِكُمْ إِلَى الْعَدُوِّ، فإذا جبنتم وكرهتم اللقاء، فاولى بالرئاسة مِنْكُمْ مَنْ سَبَقَ إِلَى الدَّفْعِ، وَأَجَابَ إِلَى الدُّعَاءِ! وَاللَّهِ لا أُؤَمِّرُ عَلَيْهِمْ إِلا أَوَّلَهُمُ انْتِدَابًا. ثُمَّ دَعَا أَبَا عُبَيْدٍ، وَسُلَيْطًا وَسَعْدًا، فَقَالَ: أَمَّا إِنَّكُمَا لَوْ سَبَقْتُمَاهُ لَوَلَّيْتُكُمَا وَلأَدْرَكْتُمَا بِهَا إِلَى مَا لَكُمَا مِنَ الْقُدْمَةِ فَأَمَّرَ أَبَا عُبَيْدٍ عَلَى الْجَيْشِ، وَقَالَ لأَبِي عُبَيْدٍ: اسمع من اصحاب النبي ص وَسَلَّمَ، وَأَشْرِكْهُمْ فِي الأَمْرِ، وَلا تَجْتَهِدْ مُسْرِعًا حَتَّى تَتَبَيَّنَ، فَإِنَّهَا الْحَرْبُ، وَالْحَرْبُ لا يُصْلِحُهَا إِلا الرَّجُلُ الْمَكِيثُ الَّذِي يَعْرِفُ الْفُرْصَةَ وَالْكَفَّ وَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لأَبِي عُبَيْدٍ: إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أُؤَمِّرَ سُلَيْطًا إِلا سُرْعَتُهُ إِلَى الْحَرْبِ، وَفِي التَّسَرُّعِ إِلَى الْحَرْبِ ضَيَاعٌ إِلا عَنْ بَيَانٍ، وَاللَّهِ لَوْلا سُرْعَتُهُ لأَمَّرْتُهُ، وَلَكِنَّ الْحَرْبَ لا يُصْلِحُهَا إِلا الْمَكِيثُ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ الْمُجَالِدِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: قَدِمَ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ سَنَةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ، فَبَعَثَ مَعَهُ بَعْثًا قَدْ كَانَ نَدَبَهُمْ ثَلاثًا، فَلَمْ يَنْتَدِبْ لَهُ أَحَدٌ حَتَّى انْتَدَبَ لَهُ أَبُو عُبَيْدٍ ثُمَّ سَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ حِينَ انتدب:

خبر النمارق

أَنَا لَهَا، وَقَالَ سَعْدٌ: أَنَا لَهَا، لفعلة فَعَلَهَا وَقَالَ سُلَيْطٌ: فَقِيلَ لِعُمَرَ: أَمِّرْ عَلَيْهِمْ رَجُلا لَهُ صُحْبَةٌ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّمَا فُضَّلَ الصَّحَابَةُ بِسُرْعَتِهِمْ إِلَى الْعَدُوِّ وَكِفَايَتِهِمْ مَنْ أَبَى، فَإِذَا فَعَلَ فِعْلَهُمْ قَوْمٌ وَاثَّاقَلُوا كَانَ الَّذِينَ يَنْفِرُونَ خِفَافًا وَثِقَالا أَوْلَى بِهَا مِنْهُمْ، وَاللَّهِ لا أَبْعَثُ عَلَيْهِمْ إِلا أَوَّلَهُمُ انْتِدَابًا فَأَمَّرَ أَبَا عُبَيْدٍ، وَأَوْصَاهُ بِجُنْدِهِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ سَهْلٍ، عَنِ الْقَاسِمِ وَمُبَشِّرٍ، عَنْ سَالِمٍ، قَالَ: كَانَ أَوَّلُ بَعْثٍ بَعَثَهُ عُمَرُ بَعْثَ أَبِي عُبَيْدٍ، ثُمَّ بَعْثَ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ إِلَى الْيَمَنِ وَأَمَرَهُ بِإِجْلاءِ اهل نجران، لوصيه رسول الله ص فِي مَرَضِهِ بِذَلِكَ، وَلِوَصِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي مَرَضِهِ، وَقَالَ: ائْتِهِمْ وَلا تَفْتِنْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، ثُمَّ أَجْلِهِمْ، مَنْ أَقَامَ مِنْهُمْ عَلَى دِينِهِ، وَأَقْرِرِ الْمُسْلِمَ، وَامْسَحْ أَرْضَ كُلِّ مَنْ تُجْلِي مِنْهُمْ، ثُمَّ خَيِّرْهُمُ الْبُلْدَانَ، وَأَعْلِمْهُمْ أَنَّا نُجْلِيهِمْ بِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَلا يُتْرَكَ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ، فَلْيُخْرِجُوا، مَنْ أَقَامَ عَلَى دِينِهِ مِنْهُمْ، ثُمَّ نُعْطِيهِمْ أَرْضًا كَأَرْضِهِمْ، إِقْرَارًا لَهُمْ بِالْحَقِّ عَلَى أَنْفُسِنَا، وَوَفَاءً بِذِمَّتِهِمْ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، بَدَلا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ جِيرَانِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ وَغَيْرِهِمْ فِيمَا صَارَ لِجِيرَانِهِمْ بِالرِّيفِ . خبر النمارق كَتَبَ إِلَيَّ السري بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن سهل ومبشر بإسنادهما، ومجالد عن الشعبي، قالوا: فخرج أبو عبيد ومعه سعد بْن عبيد، وسليط بْن قيس، أخو بني عدي بْن النجار، والمثنى بْن حارثة أخو بني شيبان، ثم أحد بني هند. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، وَعَمْرٍو عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَأَبِي رَوْقٍ، قَالُوا: كَانَتْ بوران بِنْتُ كِسْرَى- كُلَّمَا اخْتَلَفَ النَّاسُ بِالْمَدَائِنِ- عَدْلا بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى يَصْطَلِحُوا، فَلَمَّا قُتِلَ الْفرخزاذُ بن

البندوانِ وَقَدِمَ رُسْتُمُ فَقَتَلَ آزرميدختَ، كَانَتْ عَدْلا إِلَى أَنِ اسْتَخْرَجُوا يزدجردَ، فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالعَدْلُ بورانُ، وَصَاحِبُ الْحَرْبِ رُسْتُمُ، وَقَدْ كَانَتْ بوران اهدت للنبي ص، فقبل هديتها، وكانت ضدا على شيرى سَنَةً، ثُمَّ إِنَّهَا تَابَعَتْهُ، وَاجْتَمَعَا عَلَى أَنْ رَأَسَ وَجَعَلَهَا عَدْلا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يحيى عن شعيب، عن سيف، عن محمد وَطَلْحَةَ وَزِيَادٍ بِإِسْنَادِهِمْ، قَالُوا: لَمَّا قَتَلَ سياوخشُ فرخزاذَ بْنَ البندوانِ، وَمَلَكَتْ آزرميدختُ، اخْتَلَفَ أَهْلُ فَارِسَ، وَتَشَاغَلُوا عَنِ الْمُسْلِمِينَ غَيْبَةَ الْمُثَنَّى كُلَّهَا إِلَى أَنْ رَجَعَ مِنَ الْمَدِينَةِ فَبَعَثَتْ بورانُ إِلَى رُسْتُمَ بِالْخَبَرِ، وَاسْتَحَثَّتْهُ بِالسَّيْرِ، وَكَانَ عَلَى فَرْجِ خُرَاسَانَ، فَأَقْبَلَ فِي النَّاسِ حَتَّى نَزَلَ الْمَدَائِنَ، لا يَلْقَى جَيْشًا لآزرميدختَ إِلا هَزَمَهُ، فَاقْتَتَلُوا بِالْمَدَائِنِ، فَهَزَمَ سياوخشَ وَحُصِرَ وَحُصِرَتْ آزرميدختُ، ثُمَّ افْتَتَحَهَا فَقَتَلَ سياوخشَ، وَفَقَأَ عَيْنَ آزرميدختَ، وَنَصَّبَ بورانَ وَدَعَتْهُ إِلَى الْقِيَامِ بِأَمْرِ أَهْلِ فَارِسَ، وَشَكَتْ إِلَيْهِ تَضَعْضُعَهُمْ وَإِدْبَارَ أَمْرِهِمْ، عَلَى أَنْ تُمَلِّكَهُ عَشْرَ حِجَجٍ، ثُمَّ يَكُونُ الْمُلْكُ فِي آلِ كِسْرَى، إِنْ وَجَدُوا مِنْ غِلْمَانِهِمْ أَحَدًا، وَإِلا فَفِي نِسَائِهِمْ. فَقَالَ رُسْتُمُ: أَمَّا أَنَا فَسَامِعٌ مُطِيعٌ، غَيْرُ طَالِبٍ عِوَضًا وَلا ثَوَابًا، وَإِنْ شَرَّفْتُمُونِي وَصَنَعْتُمْ إِلَيَّ شَيْئًا فَأَنْتُمْ أَوْلِيَاءُ مَا صَنَعْتُمْ، إِنَّمَا أَنَا سَهْمُكُمْ وَطَوْعُ أَيْدِيكُمْ فَقَالَتْ بُورانُ: اغْدُ عَلَيَّ، فَغَدَا عَلَيْهَا وَدَعَتْ مَرَازِبَةَ فَارِسَ، وَكَتَبَتْ لَهُ بِأَنَّكَ عَلَى حَرْبِ فَارِسَ، لَيْسَ عَلَيْكَ إِلا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، عَنْ رِضًا مِنَّا وَتَسْلِيمٍ لِحُكْمِكَ، وَحُكْمُكَ جَائِزٌ فِيهِمْ مَا كَانَ حُكْمُكَ فِي مَنْعِ أَرْضِهِمْ وَجَمْعِهِمْ عَنْ فُرْقَتِهِمْ وَتَوَّجَتْهُ وَأَمَرَتْ أَهْلَ فَارِسَ أَنْ يَسْمَعُوا لَهُ وَيُطِيعُوا فَدَانَتْ لَهُ فَارِسُ بَعْدَ قُدُومِ أَبِي عُبَيْدٍ، وَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ أَحْدَثَهُ عُمَرُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي بَكْرٍ مِنَ اللَّيْلِ، أَنْ نَادَى: الصَّلاةُ جَامِعَةٌ! ثُمَّ نَدَبَهُمْ فَتَفَرَّقُوا عَلَى غَيْرِ إِجَابَةٍ مِنْ أَحَدٍ، ثُمَّ نَدَبَهُمْ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ، فَأَجَابَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ أَوَّلَ النَّاسِ، وَتَتَابَعَ النَّاسُ، وَانْتَخَبَ عُمَرُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمِنْ حَوْلِهَا أَلْفَ رَجُلٍ،

أَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدٍ، فَقِيلَ لَهُ: اسْتَعْمِلْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: لا هَا اللَّهُ ذَا يَا أَصْحَابَ النَّبِيِّ، لا أَنْدُبُكُمْ فَتَنْكِلُونَ، وَيَنْتَدِبُ غَيْرُكُمْ فَأُؤَمِّرُكُمْ عَلَيْهِمْ! إِنَّكُمْ إِنَّمَا فُضِّلْتُمْ بِتَسَرُّعِكُمْ إِلَى مثلها، فان نكلتم فضلوكم، بَلْ أُؤَمِّرُ عَلَيْكُمْ أَوَّلَكُمُ انْتِدَابًا وَعَجَّلَ الْمُثَنَّى، وَقَالَ: النَّجَاءَ حَتَّى يَقْدَمَ عَلَيْكَ أَصْحَابُكَ! فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ أَحْدَثَهُ عُمَرُ فِي خِلافَتِهِ مَعَ بَيْعَتِهِ بَعْثُهُ أَبَا عُبَيْدٍ، ثُمَّ بَعَثَ أَهْلَ نَجْرَانَ، ثُمَّ نَدَبَ أَهْلَ الرِّدَّةِ، فَأَقْبَلُوا سِرَاعًا من كل أوب، فرمى بهم الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَكَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَرْمُوكِ، بِأَنَّ عَلَيْكُمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّكَ عَلَى النَّاسِ، فَإِنْ أَظْفَرَكَ اللَّهُ فَاصْرِفْ أَهْلَ الْعِرَاقِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْ أَمْدَادِكُمْ إِذَا هُمْ قَدِمُوا عَلَيْكُمْ فَكَانَ أَوَّلَ فَتْحٍ أَتَاهُ الْيَرْمُوكُ عَلَى عِشْرِينَ لَيْلَةٍ مِنْ مُتَوَفَّى أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ فِي الأَمْدَادِ إِلَى الْيَرْمُوكِ فِي زَمَنِ عُمَرَ قَيْسُ بْنُ هُبَيْرَةَ، وَرَجَعَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا غَزَا حِينَ أَذِنَ عُمَرُ لأَهْلِ الرِّدَّةِ فِي الْغَزْوِ وَقَدْ كَانَتْ فَارِسُ تَشَاغَلَتْ بِمَوْتِ شهر براز عَنِ الْمُسْلِمِينَ، فَمَلَكَتْ شَاهْ زنانَ، حَتَّى اصْطَلَحُوا على سابور بن شهر براز بْنِ أَردشيرَ بْنِ شَهْرَيَارَ، فَثَارَتْ بِهِ آزرميدختُ، فَقَتَلَتْهُ وَالْفرخزَاذُ، وَمَلَكَتْ- وَرُسْتُمُ بْنُ الْفَرخزَاذِ بِخُرَاسَانَ عَلَى فرجها- فَأَتَاهُ الْخَبَرُ عَنْ بورانَ وَقَدِمَ الْمُثَنَّى الْحِيرَةَ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي عَشْرٍ، وَلَحِقَهُ أَبُو عُبَيْدٍ بَعْدَ شَهْرٍ، فَأَقَامَ الْمُثَنَّى بِالْحِيرَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَكَتَبَ رُسْتُمُ إِلَى دَهَاقِينِ السَّوَادِ أَنْ يَثُورُوا بِالْمُسْلِمِينَ، وَدَسَّ فِي كُلِّ رُسْتَاقٍ رَجُلا لِيَثُورَ بِأَهْلِهِ، فَبَعَثَ جَابَانَ إِلَى الْبَهْقَبَاذِ الأَسْفَلِ، وَبَعَثَ نَرْسِيًّ إِلَى كَسْكَرَ، وَوَعَدَهُمْ يَوْمًا، وَبَعَثَ جُنْدًا لِمُصَادَمَةِ الْمُثَنَّى، وَبَلَغَ الْمُثَنَّى ذَلِكَ، فَضَمَّ إِلَيْهِ مَسَالِحَهُ وَحَذِرَ، وَعَجِلَ جَابَانَ، فَثَارَ وَنَزَلَ النَّمَارِقَ. وَتَوَالَوْا عَلَى الْخُرُوجِ، فَخَرَجَ نَرْسِيٌّ، فَنَزَلَ زَنْدوَرْدَ، وَثَارَ أَهْلُ الرَّسَاتِيقِ مِنْ أَعْلَى الْفُرَاتِ إِلَى أَسْفَلِهِ، وَخَرَجَ الْمُثَنَّى فِي جَمَاعَةٍ حَتَّى يَنْزِلَ

خَفَّانَ، لِئَلا يُؤْتَى مِنْ خَلْفِهِ بِشَيْءٍ يَكْرَهُهُ، واقام حتى قدم عليه ابو عبيده، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدٍ عَلَى النَّاسِ، فَأَقَامَ بِخَفَّانَ أَيَّامًا لِيَسْتَجِمَّ أَصْحَابُهُ، وَقَدِ اجْتَمَعَ إِلَى جَابَانَ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَخَرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ بَعْدَ مَا جَمَّ النَّاسَ وَظَهَرَهُمْ، وَتَعَبَّى، فَجَعَلَ الْمُثَنَّى عَلَى الْخَيْلِ، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ وَالِقُ بْنُ جيدَارَةَ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ عَمْرُو بْنُ الْهَيْثَمِ بْنِ الصَّلْتِ بْنِ حَبِيبٍ السُّلَمِيُّ وَعَلَى مُجَنِّبَتَيْ جَابَانَ جشنسُ مَاهْ ومردان شاه فَنَزَلُوا عَلَى جَابَانَ بِالنَّمَارِقِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالا شَدِيدًا فَهَزَمَ اللَّهُ أَهْلَ فَارِسَ، وَأُسِرَ جَابَانُ، أَسَرَهُ مطر بن فضه التيمى، واسر مردان شاه، أَسَرَهُ أَكْتَلُ بْنُ شَمَّاخٍ الْعُكْلِيُّ، فَأَمَّا أَكْتَلُ فانه ضرب عنق مردان شاه، وَأَمَّا مَطَرُ بْنُ فِضَّةَ فَإِنَّ جَابَانَ خَدَعَهُ، حَتَّى تَفَلَّتَ مِنْهُ بِشَيْءٍ فَخَلَّى عَنْهُ، فَأَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَأَتَوْا بِهِ أَبَا عُبَيْدٍ وَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ الْمَلِكُ، وَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِقَتْلِهِ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ أَنْ أَقْتُلَهُ، وَقَدْ آمَنَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، وَالْمُسْلِمُونَ فِي التَّوَادِّ وَالتَّنَاصُرِ كَالْجَسَدِ، مَا لَزِمَ بَعْضَهُمْ فَقَدْ لَزِمَهُمْ كُلَّهُمْ. فَقَالُوا لَهُ: إِنَّهُ الْمَلِكُ، قَالَ: وَإِنْ كَانَ لا أَغْدُرُ، فَتَرَكَهُ كتب إلي السري بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن الصلت بن بهرام، عن ابى عمران الجعفى، قَالَ: وَلَّتْ حَرْبَهَا فَارِسُ رُسْتُمَ عَشْرَ سِنِينَ، وَمَلَّكُوهُ، وَكَانَ مُنَجِّمًا عَالِمًا بِالنُّجُومِ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا دَعَاكَ إِلَى هَذَا الأَمْرِ وَأَنْتَ تَرَى مَا تَرَى! قَالَ: الطَّمَعُ وَحُبُّ الشَّرَفِ فَكَاتَبَ أَهْلَ السَّوَادِ، وَدَسَّ إِلَيْهِمُ الرُّؤَسَاءَ، فَثَارُوا بِالْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَى الْقَوْمِ أَنَّ الأَمِيرَ عَلَيْكُمْ أَوَّلُ مَنْ ثَارَ، فَثَارَ جَابَانُ فِي فُرَاتِ بَادِقْلَى، وَثَارَ النَّاسُ بَعْدَهُ، وَأَرَزَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْمُثَنَّى بِالْحِيرَةِ، فَصَمَدَ لِخَفَّانَ، وَنَزَلَ خَفَّانَ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِ أَبُو عُبَيْدٍ وَهُوَ الأَمِيرُ عَلَى الْمُثَنَّى وَغَيْرِهِ، وَنَزَلَ جَابَانُ النَّمَارِقَ، فَسَارَ إِلَيْهِ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ خَفَّانَ، فَالْتَقَوْا بِالنَّمَارِقِ، فَهَزَمَ اللَّهُ أَهْلَ فَارِسَ، وَأَصَابُوا مِنْهُمْ مَا شَاءُوا وَبَصَرَ مَطَرُ بْنُ فِضَّةَ- وَكَانَ يُنْسَبُ إِلَى أُمِّهِ- وَأُبَيٌّ بِرَجُلٍ عَلَيْهِ حُلِيٌّ، فَشَدَّا عَلَيْهِ فَأَخَذَاهُ أَسِيرًا، فَوَجَدَاهُ شَيْخًا كَبِيرًا

السقاطيه بكسكر

فَزَهِدَ فِيهِ أُبَيٌّ وَرَغِبَ مَطَرٌ فِي فِدَائِهِ، فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنَّ سَلْبَهُ لأُبَيٍّ، وَأَنَّ إِسَارَهُ لِمَطَرٍ، فَلَمَّا خَلَصَ مَطَرٌ بِهِ، قَالَ: إِنَّكُمْ مَعَاشِرَ الْعَرَبِ أَهْلُ وَفَاءٍ، فَهَلْ لَكَ أَنْ تؤمننى وَأُعْطِيكَ غُلامَيْنِ أَمْرَدَيْنِ خَفِيفَيْنِ فِي عَمَلِكَ وَكَذَا وَكَذَا! قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَدْخِلْنِي عَلَى مَلِكِكُمْ، حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ بِمَشْهَدٍ مِنْهُ، فَفَعَلَ فَأَدْخَلَهُ عَلَى أَبِي عُبَيْدٍ، فَتَمَّ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَأَجَازَ أَبُو عُبَيْدٍ، فَقَامَ أُبَيٌّ وَأُنَاسٌ مِنْ رَبِيعَةَ، فَأَمَّا أُبَيٌّ فَقَالَ: أَسَرْتُهُ أَنَا وَهُوَ عَلَى غَيْرِ أَمَانٍ، وَأَمَّا الآخَرُونَ فَعَرَفُوهُ، وَقَالُوا: هَذَا الْمَلِكُ جَابَانُ، وَهُوَ الَّذِي لَقِيَنَا بِهَذَا الْجَمْعِ، فَقَالَ: مَا تَرَوْنِي فَاعِلا مَعَاشِرَ رَبِيعَةَ؟ أَيُؤَمِّنُهُ صَاحِبُكُمْ وَأَقْتُلُهُ أَنَا! مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ! وَقَسَّمَ أَبُو عُبَيْدٍ الْغَنَائِمَ، وَكَانَ فِيهَا عِطْرٌ كَثِيرٌ وَنَفَلَ، وَبَعَثَ بِالأَخْمَاسِ مَعَ الْقَاسِمِ . السقاطية بكسكر كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَزِيَادٍ، قَالُوا: وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ حِينَ انْهَزَمُوا وَأَخَذُوا نَحْوَ كَسْكَرَ لِيَلْجَئُوا إِلَى نَرْسِيٍّ- وَكَانَ نَرْسِيٌّ ابْنَ خَالَةِ كِسْرَى، وَكَانَتْ كَسْكَرُ قَطِيعَةً لَهُ، وَكَانَ النَّرْسِيَّانِ لَهُ، يَحْمِيهِ لا يَأْكُلُهُ بَشَرٌ، وَلا يَغْرِسُهُ غَيْرُهُمْ أَوْ ملك فَارِسَ إِلا مَنْ أَكْرَمُوهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَكَانَ ذَلِكَ مَذْكُورًا مِنْ فِعْلِهِمْ فِي النَّاسِ، وَأَنَّ ثَمَرَهُمْ هَذَا حِمًى، فَقَالَ لَهُ رُسْتُمُ وبورانُ: اشْخُصْ إِلَى قَطِيعَتِكَ فَاحْمِهَا مِنْ عَدُوِّكَ وَعَدُوِّنَا وَكُنْ رَجُلا، فَلَمَّا انْهَزَمَ النَّاسُ يَوْمَ النَّمَارِقِ، وَوُجِّهَتِ الْفَالَةُ نَحْوَ نَرْسِيٍّ- وَنَرْسِيٌّ فِي عَسْكَرِهِ- نَادَى أَبُو عُبَيْدٍ بِالرَّحِيلِ، وَقَالَ لِلْمُجَرَّدَةِ: أَتْبِعُوهُمْ حَتَّى تُدْخِلُوهُمْ عَسْكَرَ نَرْسِيٍّ، أَوْ تُبِيدُوهُمْ فِيمَا بَيْنَ النَّمَارِقِ إِلَى بَارِقٍ إِلى دُرْتَا وَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو فِي ذَلِكَ: لَعَمْرِي وَمَا عَمْرِي عَلَيَّ بِهَيِّنٍ ... لَقَدْ صُبِّحَتْ بِالْخِزْيِ أَهْلُ النَّمَارِقِ

بِأَيْدِي رِجَالٍ هَاجَرُوا نَحْوَ رَبِّهِمْ ... يَجُوسُونَهُمْ مَا بَيْنَ دُرْتَا وَبَارِقِ قَتَلْنَاهُمْ مَا بَيْنَ مَرْجِ مُسْلِحٍ ... وَبَيْنَ الْهَوَافِي مِنْ طَرِيقِ الْبَذَارِقِ وَمَضَى أَبُو عُبَيْدٍ حِينَ ارْتَحَلَ مِنَ النَّمَارِقِ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَى نَرْسِيٍّ بِكَسْكَرَ- وَنَرْسِيٌّ يَوْمَئِذٍ بِأَسْفَلِ كَسْكَرَ- وَالْمُثَنَّى فِي تَعْبِيَتِهِ الَّتِي قَاتَلَ فِيهَا جَابَانَ، وَنَرْسِيٌّ عَلَى مُجَنَّبَتَيْهِ ابْنَا خَالِهِ وَهُمَا ابْنَا خَالِ كِسْرَى بَنْدُوَيْهِ وَتِيرُوَيْهِ ابْنَا بِسْطَامَ- وَأَهْلُ بَارُوسْمَا وَنَهْرِ جَوْبَرَ وَالزَّوَابِي مَعَهُ إِلَى جُنْدِهِ، وَقَدْ أَتَى الْخَبَرُ بورانَ وَرُسْتُمَ بِهَزِيمَةِ جَابَانَ، فَبَعَثُوا إِلَى الْجَالِنُوسِ، وَبَلَغَ ذَلِكَ نَرْسِيَّ وَأَهْلَ كَسْكَرَ وَبَارُوسْمَا وَنَهْرَ جَوْبَرَ وَالزَّابَ، فَرَجَوْا أَنْ يَلْحَقَ قَبْلَ الْوَقْعَةِ، وَعَاجَلَهُمْ أَبُو عُبَيْدٍ فَالْتَقَوْا أَسْفَلَ مِنْ كَسْكَرَ بِمَكَانٍ يُدْعَى السَّقَاطِيَّةَ فَاقْتَتَلُوا فِي صَحَارَى ملس قِتَالا شَدِيدًا ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ هَزَمَ فَارِسَ، وَهَرَبَ نَرْسِيٌّ، وَغُلِبَ عَلَى عَسْكَرِهِ وَأَرْضِهِ، وَأَخْرَبَ أَبُو عُبَيْدٍ مَا كَانَ حَوْلَ مُعَسْكَرِهِمْ مِنْ كَسْكَرَ، وَجَمَعَ الْغَنَائِمَ، فَرَأَى مِنَ الأَطْعِمَةِ شَيْئًا عَظِيمًا، فَبَعَثَ فِيمَنْ يَلِيهِ مِنَ الْعَرَبِ فَانْتَقَلُوا مَا شَاءُوا، وَأُخِذَتْ خَزَائِنُ نَرْسِيٍّ، فَلَمْ يَكُونُوا بِشَيْءٍ مِمَّا خُزِنَ أَفْرَحَ مِنْهُمْ بِالنَّرْسِيَّانِ، لأَنَّهُ كَانَ يَحْمِيهِ وَيُمَالِئُهُ عَلَيْهِ مُلُوكُهُمْ، فَاقْتَسَمُوهُ فَجَعَلُوا يُطْعِمُونَهُ الْفَلاحِينَ، وَبَعَثُوا بِخُمْسِهِ إِلَى عُمَرَ وَكَتَبُوا إِلَيْهِ: إِنَّ اللَّهَ أَطْعَمَنَا مَطَاعِمَ كَانَتِ الأَكَاسِرَةُ يَحْمُونَهَا، وَأَحْبَبْنَا أَنْ تَرَوْهَا، وَلِتَذْكُرُوا إِنْعَامَ اللَّهِ وَإِفْضَالِهِ. وَأَقَامَ أَبُو عُبَيْدٍ وَسَرَّحَ الْمُثَنَّى إِلَى بَارُوسْمَا، وَبَعَثَ وَالِقًا إِلَى الزَّوَابِي وَعَاصِمًا إِلَى نَهْرِ جَوْبَرَ، فَهَزَمُوا مَنْ كَانَ تَجَمَّعَ وَأَخْرَبُوا وَسَبَوْا، وَكَانَ مِمَّا أَخْرَبَ الْمُثَنَّى وَسَبَى أَهْلَ زَنْدوَرْدَ وَبسُوسِيَا، وَكَانَ أَبُو زَعْبَلٍ مِنْ سَبْيِ زَنْدوَرْدَ، وَهَرَبَ ذَلِكَ الْجُنْدُ إِلَى الْجَالِنُوسِ، فَكَانَ مِمَّنْ أَسَرَ عَاصِمٌ أَهْلُ بيتيقَ مِنْ نَهْرِ جَوْبَرَ، وَمِمَّنْ أَسَرَ وَالِقٌ أَبُو الصَّلْتِ وَخَرَجَ فَرُّوخُ وَفروندَاذُ إِلَى الْمُثَنَّى، يَطْلُبَانِ الْجَزَاءَ وَالذِّمَّةَ، دَفْعًا عَنْ أَرْضِهِمْ، فَأَبْلَغَهُمَا أَبَا عُبَيْدٍ: أَحَدُهُمَا بَارُوسْمَا وَالآخَرُ نَهْرَ جَوْبَرَ، فَأَعْطَيَاهُ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ أَرْبَعَةً، فَرُّوخُ عن باروسما وفر ونداذ عَنْ نَهْرِ جَوْبَرَ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الزَّوَابِي وَكَسْكَرُ، وَضَمِنَا لَهُمُ الرِّجَالَ عَنِ التَّعْجِيلِ، فَفَعَلُوا وَصَارُوا صُلْحًا وَجَاءَ فَرُّوخُ

وَفروندَاذُ إِلَى أَبِي عُبَيْدٍ بِآنِيَةٍ فِيهَا أَنْوَاعُ أَطْعِمَةِ فَارِسَ مِنَ الأَلْوَانِ وَالأَخْبِصَةِ وَغَيْرِهَا، فَقَالُوا: هَذِهِ كَرَامَةٌ أَكْرَمْنَاكَ بِهَا، وَقِرًى لَكَ قَالَ: أَأَكْرَمْتُمُ الْجُنْدَ وَقَرَيْتُمُوهُمْ مِثْلَهُ؟ قَالُوا: لَمْ يَتَيَسَّرْ وَنَحْنُ فَاعِلُونَ، وَإِنَّمَا يَتَرَبَّصُونَ بِهِمْ قُدُومَ الْجَالِنُوسِ وَمَا يَصْنَعُ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فَلا حَاجَةَ لَنَا فِيمَا لا يَسَعِ الْجُنْدَ، فَرَدَّهُ، وَخَرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ حَتَّى يَنْزِلَ بِبَارُوسْمَا فَبَلَغَهُ مَسِيرُ الْجَالِنُوسِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن النضر بْن السري الضبي، قال: فأتاه الاندرزغر بن الخركبذ بمثل ما جاء به فروخ وفرونداذ. فقال لهم: أأكرمتم الجند بمثله وقريتموهم؟ قالوا: لا، فرده، وقال: لا حاجة لنا فيه، بئس المرء أبو عبيد، إن صحب قوما من بلادهم أهراقوا دماءهم دونه، أو لم يهريقوا فاستأثر عليهم بشيء يصيبه! لا والله لا يأكل مما أفاء اللَّه عليهم إلا مثل ما يأكل أوساطهم. قال أبو جعفر: وقد حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق بنحو من حديث سيف هذا، عن رجاله في توجيه عمر المثنى وأبا عبيد ابن مسعود إلى العراق في حرب من بها من الكفار وحروبهم، ومن حاربهم بها، غير أنه قال: لما هزم جالنوس وأصحابه، ودخل أبو عبيد بَارُوسْمَا، نزل هو وأصحابه قرية من قراها، فاشتملت عليهم، فصنع لأبي عبيد طعام فأتي به، فلما رآه قال: ما أنا بالذي آكل هذا دون المسلمين! فقالوا له: كل فإنه ليس من أصحابك أحد إلا وهو يؤتى في منزله بمثل هذا أو أفضل، فأكل فلما رجعوا إليه سألهم عن طعامهم، فأخبروه بما جاءهم من الطعام. كتب إلي السري بن يحيى، عن شعيب بن إبراهيم، عن سيف بن عمر، عن محمد وطلحه وزياده بِإِسْنَادِهِمْ، قَالُوا: وَقَدْ كَانَ جَابَانُ وَنَرْسِيٌّ اسْتَمَدَّا بورانَ، فَأَمَدَّتْهُمَا بِالْجَالِنُوسِ فِي جُنْدِ جَابَانَ، وَأُمِرَ أَنْ يَبْدَأَ بِنَرْسِيٍّ، ثُمَّ يُقَاتِلُ أَبَا عُبَيْدٍ بَعْدُ، فَبَادَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، فَنَهَضَ فِي جُنْدِهِ قَبْلَ أَنْ يَدْنُوَ، فَلَمَّا دَنَا

اسْتَقْبَلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، فَنَزَلَ الْجَالِنُوسُ بِبَاقُسْيَاثَا مِنْ بَارُوسْمَا، فَنَهَدَ إِلَيْهِ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ عَلَى تَعْبِيَتِهِ، فَالْتَقَوْا عَلَى بَاقُسْيَاثَا، فَهَزَمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَهَرَبَ الْجَالِنُوسُ، وَأَقَامَ أَبُو عُبَيْدٍ، قَدْ غَلَبَ عَلَى تِلْكَ الْبِلادِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن النَّضْرِ بْنِ السَّرِيِّ وَالْمُجَالِدِ بِنَحْوٍ مِنْ وَقْعَةِ بَاقُسْيَاثَا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَمُجَالِدٍ وَزِيَادٍ وَالنَّضْرِ بِإِسْنَادِهِمْ، قَالُوا: أَتَاهُ أُولَئِكَ الدَّهَّاقِينُ الْمُتَرَبِّصُونَ جَمِيعًا بِمَا وَسِعَ الْجُنْدُ، وَهَابُوا وَخَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمَّا النَّضْرُ وَمُجَالِدٌ فَإِنَّهُمَا قَالا: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَلَمْ أُعْلِمْكُمْ أَنِّي لَسْتُ آكِلا إِلا مَا يَسَعُ مَنْ مَعِي مِمَّنْ أَصَبْتُمْ بِهِمْ! قَالُوا: لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ إِلا وَقَدْ أَتَى بِشَبْعِهِ مِنْ هَذَا فِي رِحَالِهِمْ وَأَفْضَلَ. فَلَمَّا رَاحَ النَّاسُ عَلَيْهِ سَأَلَهُمْ عَنْ قَرَى أَهْلِ الأَرْضِ فَأَخْبَرُوهُ، وَإِنَّمَا كَانُوا قَصَرُوا أَوَّلا تَرَبُّصًا وَمَخَافَةَ عُقُوبَةِ أَهْلِ فَارِسَ وَأَمَّا مُحَمَّدٌ وَطَلْحَةُ وَزِيَادٌ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: فَلَمَّا عَلِمَ قَبِلَ مِنْهُمْ، وَأَكَلَ وَأَرْسَلَ إِلَى قَوْمٍ كَانُوا يَأْكُلُونَ مَعَهُ أَضْيَافًا عَلَيْهِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الطَّعَامِ، وَقَدْ أَصَابُوا مَنْ نَزَلَ فَارِسَ وَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُمْ أَتَوْا أَبَا عُبَيْدٍ بِشَيْءٍ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ يُدْعَوْنَ إِلَى مِثْلِ مَا كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَيْهِ مِنْ غَلِيظِ عَيْشِ أَبِي عُبَيْدٍ، وَكَرِهُوا تَرْكَ مَا أُتُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا لَهُ: قُلْ لِلأَمِيرِ، إِنَّا لا نَشْتَهِي شَيْئًا مَعَ شَيْءٍ أَتَتْنَا بِهِ الدَّهَّاقِينُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: إِنَّهُ طَعَامٌ كَثِيرٌ مِنْ أَطْعِمَةِ الأَعَاجِمِ، لِتَنْظُرُوا أَيْنَ هُوَ مِمَّا أَتَيْتُمْ بِهِ! إِنَّهُ قرو ونجم وجوزل وشواء وخردل، فَقَالَ فِي ذَلِكَ عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو وَأَضْيَافِهِ عِنْدَهُ: إِنْ تَكُ ذَا قرو وَنَجمٍ وَجَوْزَلٍ ... فَعِنْدَ ابْنِ فَرُّوخَ شِوَاءٌ وَخَرْدَلُ وَقَروٌ رِقَاقٌ كَالصَّحَائِفِ طُوِّيَتْ ... عَلَى مُزَعٍ فِيهَا بقولٌ وَجَوْزَلٌ وَقَالَ أَيْضًا: صَبَحْنَا بِالبقايسِ رَهْطَ كِسْرَى ... صَبُوحًا لَيْسَ مِنْ خَمْرِ السَّوَادِ صَبَحْنَاهُمْ بِكُلِّ فَتًى كَمِيٍّ ... وَأَجْرَدَ سَابِحٍ مِنْ خيل عاد

وقعه القرقس

ثُمَّ ارْتَحَلَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَقَدَّمَ الْمُثَنَّى، وَسَارَ فِي تَعْبِيَتِهِ حَتَّى قَدِمَ الْحِيرَةَ. وَقَالَ النَّضْرُ وَمُجَالِدٌ وَمُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ: تَقَدَّمَ عُمَرُ إِلَى أَبِي عُبَيْدٍ، فَقَالَ: إِنَّكَ تُقْدِمُ عَلَى أَرْضِ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ وَالْخِيَانَةِ وَالْجَبْرِيَّةِ، تُقْدِمُ عَلَى قَوْمٍ قَدْ جَرَءُوا عَلَى الشَّرِّ فَعَلِمُوهُ، وَتَنَاسَوُا الْخَيْرَ فَجَهِلُوهُ، فَانْظُرْ كَيْفَ تَكُونُ! وَاخْزُنْ لِسَانَكَ، وَلا تُفْشِيَنَّ سِرَّكَ، فَإِنَّ صَاحِبَ السِّرِّ مَا ضَبَطَهُ، مُتَحَصِّنٌ لا يُؤْتَى مِنْ وَجْهٍ يَكْرَهُهُ، وَإِذَا ضَيَّعَهُ كَانَ بِمَضْيَعَةٍ . وقعة القرقس ويقال لها القس قس الناطف، ويقال لها الجسر، ويقال لها المروحة. قال ابو جعفر الطبرى رحمه الله: كتب إلي السري بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قَالُوا: وَلَمَّا رَجَعَ الْجَالِنُوسُ إِلَى رُسْتُمَ وَمَنْ أَفْلَتَ مِنْ جُنُودِهِ، قَالَ رُسْتُمُ: أَيُّ الْعُجْمِ أَشَدُّ عَلَى الْعَرَبِ فِيمَا تَرَوْنَ؟ قَالُوا: بهمنُ جَاذُوَيْهِ، فَوَجَّهَهُ وَمَعَهُ فِيَلَةٌ وَرَدَّ الْجَالِنُوسَ مَعَهُ، وَقَالَ لَهُ: قَدِّمِ الْجَالِنُوسَ، فَإِنْ عَادَ لِمِثْلِهَا فَاضْرِبْ عُنُقَهُ، فَأَقْبَلَ بهمنُ جَاذُوَيْهِ وَمَعَهُ دَرفشُ كابيانَ رَايَةُ كِسْرَى- وَكَانَتْ مِنْ جُلُودِ النَّمِرِ، عَرْضَ ثَمَانِيَةِ أَذْرُعٍ فِي طُولِ اثْنَيْ عَشَرَ ذِرَاعًا- وَأَقْبَلَ أَبُو عُبَيْدٍ، فَنَزَلَ الْمَرْوَحَةَ، مَوْضِعَ الْبُرْجِ وَالْعَاقُولِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بهمنُ جَاذُوَيْهِ: إِمَّا أَنْ تَعْبُرُوا إِلَيْنَا وَنَدَعُكُمْ وَالْعُبُورَ وَإِمَّا أَنْ تَدَعُونَا نَعْبُرُ إِلَيْكُمْ! فَقَالَ النَّاسُ: لا تَعْبُرْ يَا أَبَا عُبَيْدٍ، نَنْهَاكَ عَنِ الْعُبُورِ وَقَالُوا لَهُ: قُلْ لَهُمْ: فَلْيَعْبُرُوا- وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ سُلَيْطٌ- فَلَجَّ أَبُو عُبَيْدٍ، وَتَرَكَ الرَّأْيَ، وَقَالَ: لا يَكُونُونَ أَجْرَأَ عَلَى الْمَوْتِ مِنَّا، بَلْ نَعْبُرُ إِلَيْهِمْ فَعَبَرُوا إِلَيْهِمْ وَهُمْ فِي مَنْزِلٍ ضَيِّقِ الْمَطْرَدِ وَالْمَذْهَبُ، فَاقْتَتَلُوا يَوْمًا- وَأَبُو عُبَيْدٍ فِيمَا بَيْنَ السِّتَّةِ وَالْعَشَرَةِ- حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ، وَاسْتَبْطَأَ رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ الْفَتْحَ، أَلَّفَ بَيْنَ النَّاسِ، فَتَصَافَحُوا بِالسُّيُوفِ وَضَرَبَ أَبُو عُبَيْدٍ الْفِيلَ، وَخَبَطَ الْفِيلُ أَبَا عُبَيْدٍ، وَقَدْ أَسْرَعَتِ السُّيُوفُ فِي أَهْلِ فَارِسَ،

وَأُصِيبَ مِنْهُمْ سِتَّةُ آلافٍ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَلَمْ يَبْقَ وَلَمْ يَنْتَظِرْ إِلا الْهَزِيمَةِ، فَلَمَّا خُبِطَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَقَامَ عَلَيْهِ الْفِيلُ جَالَ الْمُسْلِمُونَ جَوْلَةً، ثُمَّ تَمُّوا عَلَيْهَا، وَرَكِبَهُمْ أَهْلُ فَارِسَ، فَبَادَرَ رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ إِلَى الْجِسْرِ فَقَطَعَهُ، فَانْتَهَى النَّاسُ إِلَيْهِ وَالسُّيُوفُ تَأْخُذُهُمْ مِنْ خَلْفِهِمْ، فَتَهَافَتُوا فِي الْفُرَاتُ، فَأَصَابُوا يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَرْبَعَةَ آلافِ، مِنْ بَيْن غَرِيقٍ وَقَتِيلٍ، وَحَمَى الْمُثَنَّى النَّاسَ وَعَاصِمٌ وَالْكَلَجُ الضَّبِّيُّ وَمَذْعُورٌ، حَتَّى عَقَدُوا الْجِسْرَ وَعَبَرُوهُمْ ثُمَّ عَبَرُوا فِي آثَارِهِمْ، فَأَقَامُوا بِالْمَرْوَحَةِ وَالْمُثَنَّى جَرِيحٌ، والْكَلَجُ وَمَذْعُورٌ وَعَاصِمٌ- وكانوا حماه لناس- مَعَ الْمُثَنَّى، وَهَرَبَ مِنَ النَّاسِ بَشَرٌ كَثِيرٌ عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَافْتَضَحُوا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَاسْتَحْيُوا مِمَّا نَزَلَ بِهِمْ، وَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ عَنْ بَعْضِ مَنْ أَوَى إِلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ: عِبَادَ اللَّهِ! اللَّهُمَّ إِنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ فِي حِلٍّ مِنِّي، أَنَا فِئَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ، يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عُبَيْدٍ! لَوْ كَانَ عَبَرَ فَاعْتَصَمَ بِالْخِيفِ، أَوْ تَحَيَّزَ إِلَيْنَا وَلَمْ يَسْتَقْتِلْ لَكُنَّا لَهُ فِئَةٌ! وَبَيْنَا أَهْلُ فَارِسَ يُحَاوِلُونَ الْعُبُورَ أَتَاهُمُ الْخَبَرُ أَنَّ النَّاسَ بِالْمَدَائِنِ قَدْ ثَارُوا بِرُسْتُمَ، وَنَقَضُوا الَّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فَصَارُوا فِرْقَتَيْنِ: الْفهلُوجُ عَلَى رُسْتُمَ، وَأَهْلُ فَارِسَ عَلَى الْفيرزانِ، وَكَانَ بَيْنَ وَقْعَةِ الْيَرْمُوكِ وَالْجِسْرِ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً، وَكَانَ الَّذِي جَاءَ بِالْخَبَرِ عَنِ الْيَرْمُوكِ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحِمْيَرِيُّ، وَالَّذِي جَاءَ بِالْخَبَرِ عَنِ الْجِسْرِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ الأَنْصَارِيُّ- وَلَيْسَ بِالَّذِي رَأَى الرُّؤْيَا- فَانْتَهَى إِلَى عُمَرَ وَعُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَنَادَى عُمَرُ: الْخَبَرُ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ! قَالَ: أَتَاكَ الْخَبَرُ الْيَقِينُ، ثُمَّ صَعِدَ إِلَيْهِ الْمِنْبَرَ فَأَسَرَّ ذَلِكَ إِلَيْهِ. وَكَانَتِ الْيَرْمُوكُ فِي أَيَّامٍ مِنْ جُمَادَى الآخِرَةِ، وَالْجِسْرِ فِي شَعْبَانَ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عن شعيب، عن سيف، عن المجالد وسعيد ابن الْمَرْزُبَانِ، قَالا: وَاسْتَعْمَلَ رُسْتُمُ عَلَى حَرْبِ أَبِي عُبَيْدٍ بهمنَ جَاذُوَيْهِ، وَهُوَ ذُو الْحَاجِبِ، وَرَدَّ مَعَهُ الْجَالِنُوسَ وَمَعَهُ الْفِيَلَةُ، فِيهَا فِيلٌ أَبْيَضُ عَلَيْهِ النخلُ، وَأَقْبَلَ فِي الدهم، وَقَدِ اسْتَقْبَلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَابِلَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ انْحَازَ حَتَّى جَعَلَ الْفُرَاتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فعسكر بالمروحة

ثُمَّ إِنَّ أَبَا عُبَيْدٍ نَدِمَ حِينَ نَزَلُوا بِهِ وَقَالُوا: إِمَّا أَنْ تَعْبُرُوا إِلَيْنَا وَإِمَّا أَنْ نَعْبُرَ، فَحَلَفَ لَيَقْطَعَنَّ الْفُرَاتَ إِلَيْهِمْ، وَلَيَمْحَصَنَّ مَا صَنَعَ، فَنَاشَدَهُ سُلَيْطُ بْنُ قَيْسٍ وَوُجُوهُ النَّاسِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَلْقَ مِثْلَ جُنُودِ فَارِسَ مُذْ كَانُوا، وَإِنَّهُمْ قَدْ حَفَلُوا لَنَا وَاسْتَقْبَلُونَا مِنَ الزُّهَاءِ وَالْعُدَّةِ بِمَا لَمْ يَلْقَنَا بِهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَقَدْ نَزَلْتَ مَنْزِلا لَنَا فِيهِ مَجَالٌ وَمَلْجَأٌ وَمَرْجِعٌ، مِنْ فَرَّةٍ إِلَى كَرَّةٍ فَقَالَ: لا أَفْعَلُ، جَبُنْتَ وَاللَّهِ! وَكَانَ الرَّسُولُ فِيمَا بَيْنَ ذِي الْحَاجِبِ وَأَبِي عبيد مردان شاه الْخصي، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ قَدْ عَيَّرُوهُمْ، فَازْدَادَ أَبُو عُبَيْدٍ مَحَكًّا، وَرَدَّ عَلَى أَصْحَابِهِ الرَّأْيَ، وَجَبُنَ سُلَيْطًا، فَقَالَ: سُلَيْطٌ: أَنَا وَاللَّهِ أَجْرَأُ مِنْكَ نَفْسًا، وَقَدْ أَشَرْنَا عَلَيْكَ الرَّأْيَ فَسَتَعْلَمُ! كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنْ شعيب، عن سيف، عن النضر بن السري، عَنِ الأَغَرِّ الْعِجْلِيِّ، قَالَ: أَقْبَل ذُو الْحَاجِبِ حَتَّى وَقَفَ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ بِقُسِّ النَّاطِفِ، وَأَبُو عُبَيْدٍ مُعَسْكِرٌ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ بِالْمَرْوَحَةِ فَقَالَ: إِمَّا أَنْ تَعْبُرُوا إِلَيْنَا وَإِمَّا أَنْ نَعْبُرَ إِلَيْكُمْ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: بَلْ نَعْبُرُ إِلَيْكُمْ فَعَقَدَ ابْنُ صَلُوبَا الْجِسْرَ لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا، وَقَبْلَ ذَلِكَ مَا قَدْ رَأَتْ دَوْمَةُ امْرَأَةُ أَبِي عُبَيْدٍ رُؤْيَا وَهِيَ بِالْمَرْوَحَةِ، أَنَّ رَجُلا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ بِإِنَاءٍ فِيهِ شَرَابٌ، فَشَرِبَ أَبُو عُبَيْدٍ وَجَبْرٌ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِهِ، فَأَخْبَرَتْ بِهَا أَبَا عُبَيْدٍ، فَقَالَ: هَذِهِ الشِّهَادَةُ، وَعَهِدَ أَبُو عُبَيْدٍ إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ: إِنْ قُتِلْتُ فَعَلَى النَّاسِ جَبْرٌ، فَإِنْ قُتِلَ فَعَلَيْكُمْ فُلانٌ، حَتَّى أَمَّرَ الَّذِينَ شَرِبُوا مِنَ الإِنَاءِ عَلَى الْوَلاءِ مِنْ كَلامِهِ ثُمَّ قَالَ: إِنْ قُتِلَ أَبُو الْقَاسِمِ فَعَلَيْكُمُ الْمُثَنَّى، ثُمَّ نَهَدَ بِالنَّاسِ فَعَبَرَ وَعَبَرُوا إِلَيْهِمْ، وَعَضِلَتِ الأَرْضُ بِأَهْلِهَا، وَأَلْحَمَ النَّاسُ الْحَرْبَ. فَلَمَّا نَظَرَتِ الْخُيُولُ إِلَى الْفِيَلَةِ عَلَيْهَا النَّخلُ، وَالْخَيْلُ عَلَيْهَا التَّجَافِيفُ وَالْفِرْسَانُ عَلَيْهِمُ الشُّعُرُ رَأَتْ شَيْئًا مُنْكَرًا لَمْ تَكُنْ تَرَى مِثْلَهُ، فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا حَمَلُوا عَلَيْهِمْ لَمْ تَقَدَّمْ خُيُولُهُمْ، وَإِذَا حَمَلُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْفِيَلَةِ وَالْجَلاجِلِ فَرَّقَتْ بَيْنَ كَرَادِيسِهِمْ، لا تَقُومُ لَهَا الْخَيْلُ إِلا عَلَى نِفَارٍ وَخَزَقَهُمُ الْفُرْسُ

بِالنُّشَّابِ، وَعَضَّ الْمُسْلِمِينَ الأَلَمُ، وَجَعَلُوا لا يَصِلُونَ إِلَيْهِمْ، فَتَرَجَّلَ أَبُو عُبَيْدٍ وَتَرَجَّلَ النَّاسُ، ثُمَّ مَشَوْا إِلَيْهِمْ فَصَافَحُوهُمْ بِالسُّيُوفِ، فَجَعَلَتِ الْفِيَلَةُ لا تَحْمِلُ عَلَى جَمَاعَةٍ إِلا دَفَعَتْهُمْ، فَنَادَى أَبُو عُبَيْدٍ: احْتَوِشُوا الْفِيلَةَ، وَقَطِّعُوا بَطْنَهَا وَاقْلِبُوا عَنْهَا أَهْلَهَا، وَوَاثَبَ هُوَ الْفِيلَ الأَبْيَضَ، فَتَعَلَّقَ بِبِطَانِهِ فَقَطَعَهُ، وَوَقَعَ الَّذِينَ عَلَيْهِ، وَفَعَلَ الْقَوْمُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَمَا تَرَكُوا فِيلا إِلا حَطُّوا رَحْلَهُ، وَقَتَلُوا أَصْحَابَهُ، وَأَهْوَى الْفِيلُ لأَبِي عُبَيْدٍ، فَنَفَحَ مِشْفَرَهُ بِالسَّيْفِ، فَاتَّقَاهُ الْفِيلُ بِيَدِهِ، وَأَبُو عُبَيْدٍ يَتَجَرْثَمُهُ، فَأَصَابَهُ بِيَدِهِ فَوَقَعَ فَخَبَطَهُ الْفِيلُ، وَقَامَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا بَصرَ النَّاسُ بِأَبِي عُبَيْدٍ تَحْتَ الْفِيلِ، خَشَعَتْ أَنْفُسُ بَعْضِهِمْ، وَأَخَذَ اللِّوَاءَ الَّذِي كَانَ أَمَّرَهُ بَعْدَهُ، فَقَاتَلَ الْفِيلَ حَتَّى تَنَحَّى عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، فَاجْتَرَّهُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَحْرَزُوا شِلْوَهُ، وَتَجَرْثَمَ الْفِيل فَاتَّقَاهُ الْفِيلُ بِيَدِهِ، دَأْبَ أَبِي عُبَيْدٍ وَخَبَطَهُ الْفِيلُ وَقَامَ عَلَيْهِ وَتَتَابَعَ سَبْعَةٌ مِنْ ثَقِيفٍ، كُلُّهُمْ يَأْخُذُ اللِّوَاءَ فَيُقَاتِلُ حَتَّى يَمُوتَ ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ الْمُثَنَّى، وَهَرَبَ النَّاسُ، فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَرْثَدٍ الثَّقَفِيُّ مَا لَقِيَ أَبُو عُبَيْدٍ وَخُلَفَاؤُهُ وَمَا يَصْنَعُ النَّاسُ، بَادَرَهُمْ إِلَى الْجِسْرِ فَقَطَعَهُ، وَقَالَ: يا ايها النَّاسُ، مُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ أُمَرَاؤُكُمْ أَوْ تَظْفُرُوا وَحَازَ الْمُشْرِكُونَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْجِسْرِ، وَخَشَعَ نَاسٌ فَتَوَاثَبُوا فِي الْفُرَاتِ، فَغَرِقَ مَنْ لَمْ يَصْبِرْ وَأَسْرَعُوا فِيمَنْ صَبَرَ، وَحَمَى الْمُثَنَّى وفرسان من المسلمين الناس، ونادى: يا ايها النَّاسُ، إِنَّا دُونَكُمْ فَاعْبُرُوا عَلَى هَيِّنَتِكُمْ وَلا تَدْهَشُوا، فَإِنَّا لَنْ نُزَايِلَ حَتَّى نَرَاكُمْ مِنْ ذلك الجانب، ولا تغرقوا انفسكم. فوجدوا الْجِسْرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَرْثَدٍ قَائِمٌ عَلَيْهِ يَمْنَعُ النَّاسَ مِنَ الْعُبُورِ، فَأَخَذُوهُ فَأَتَوْا بِهِ الْمُثَنَّى، فَضَرَبَهُ وَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى الَّذِي صَنَعْتَ؟ قَالَ: لِيُقَاتِلُوا، وَنَادَى مِنْ عَبَرَ فَجَاءُوا بِعُلُوجٍ، فَضُمُّوا إِلَى السَّفِينَةِ الَّتِي قُطِعَتْ سَفَائِنُهَا، وَعَبَرَ النَّاسُ، وَكَانَ آخِرُ مَنْ قُتِلَ عِنْدَ الْجِسْرِ سُلَيْطُ بْنُ قَيْسٍ، وَعَبَرَ الْمُثَنَّى وَحَمَى جَانِبَهُ، فَاضْطَرَبَ عَسْكَرُهُ، وَرَامَهُمْ ذُو الْحَاجِبِ فَلَمْ يقدر عليهم،

فَلَمَّا عَبَرَ الْمُثَنَّى وَحَمَى جَانِبَهُ ارْفَضَّ عَنْهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ حَتَّى لَحِقُوا بِالْمَدِينَةِ وَتَرَكَهَا بَعْضُهُمْ وَنَزَلُوا الْبَوَادِي وَبَقِيَ الْمُثَنَّى فِي قِلَّةٍ. كَتَبَ إلي السري عن شعيب، عن سيف، عن رجل، عن أبي عثمان النهدي، قال: هلك يومئذ أربعة آلاف بين قتيل وغريق، وهرب ألفان، وبقي ثلاثة آلاف، وأتى ذا الحاجب الخبر باختلاف فارس، فرجع بجنده، وكان ذلك سببا لارفضاضهم عنه، وجرح المثنى، وأثبت فيه حلق من درعه هتكهن الرمح. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد وعطية نحوا مِنْهُ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُجَالِدٍ وَعَطِيَّةَ وَالنَّضْرِ، أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَمَّا لَحِقُوا بِالْمَدِينَةِ وَأَخْبَرُوا عَمَّنْ سَارَ فِي الْبِلادِ اسْتِحْيَاءً مِنَ الْهَزِيمَةِ، اشتد على عمر ذلك ورحمهم قَالَ الشَّعْبِيُّ: قَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ كُلُّ مُسْلِمٍ فِي حِلٍّ مِنِّي، أَنَا فِئَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ، مَنْ لَقِيَ الْعَدُوَّ فَفَظِعَ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ فَأَنَا لَهُ فِئَةٌ، يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عُبَيْدٍ لَوْ كَانَ انْحَازَ إِلَيَّ لَكُنْتُ لَهُ فِئَةٌ! وَبَعَثَ الْمُثَنَّى بِالْخَبَرِ إِلَى عُمَرَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ. وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بِنَحْوِ خَبَرِ سَيْفٍ هَذَا فِي أَمْرِ أَبِي عُبَيْدٍ وَذِي الْحَاجِبِ، وَقِصَّةِ حَرْبِهِمَا، إِلا أَنَّهُ قَالَ: وَقَدْ كَانَتْ رَأَتْ دَوْمَةُ أُمُّ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، أَنَّ رَجُلا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَعَهُ إِنَاءٌ فِيهِ شَرَابٌ مِنَ الْجَنَّةِ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، فَشَرِبَ مِنْهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَجَبْرُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ وَأُنَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ وَقَالَ أَيْضًا: فَلَمَّا رَأَى أَبُو عُبَيْدٍ مَا يَصْنَعُ الْفِيلُ، قَالَ: هَلْ لِهَذِهِ الدَّابَّةِ مِنْ مَقْتَلٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، إِذَا قُطِعَ مِشْفَرُهَا مَاتَتْ، فَشَدَّ عَلَى الْفِيلِ فَضَرَبَ مِشْفَرَهُ فَقَطَعَهُ، وَبَرَكَ عَلَيْهِ الْفِيلُ فَقَتَلَهُ وَقَالَ أَيْضًا: فَرَجَعَتِ الْفُرْسُ وَنَزَلَ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ أُلَيْسَ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ، فَلَحِقُوا بِالْمَدِينَةِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ بِخَبَرِ النَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْحُصَيْنِ الْخَطْمِيُّ، فاخبر الناس

خبر اليس الصغرى

حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ ابْنَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عن عائشة زوج النبي ص، قَالَتْ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ قَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، فَنَادَى: الْخَبَرُ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ! وَهُوَ دَاخِلُ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ يَمُرُّ عَلَى بَابِ حُجْرَتِي، فَقَالَ: مَا عِنْدَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ؟ قَالَ: أَتَاكَ الْخَبَرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ أَخْبَرَهُ خَبَرَ النَّاسِ، فَمَا سَمِعْتُ بِرَجُلٍ حَضَرَ أَمْرًا فَحَدَّثَ عَنْهُ كَانَ أَثْبَتَ خَبَرًا مِنْهُ فَلَمَّا قَدِمَ فَلُّ النَّاسِ، وَرَأَى عُمَرُ جَزَعَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ مِنَ الْفِرَارِ، قَالَ: لا تَجْزَعُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أَنَا فِئَتُكُمْ، إِنَّمَا انْحَزْتُمْ إِلَيَّ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحُصَيْنِ وَغَيْرِهِ، أَنَّ مُعَاذًا القاري أَخَا بَنِي النَّجَّارِ، كَانَ مِمَّنْ شَهِدَهَا فَفَرَّ يَوْمَئِذٍ، فَكَانَ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: «وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» ، بَكَى، فَيَقُولُ لَهُ عُمَرُ: لا تَبْكِ يَا مُعَاذُ، أَنَا فِئَتُكَ، وَإِنَّمَا انْحَزْتَ إِلَيَّ . خبر أليس الصغرى قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ نُوَيْرَةَ وَطَلْحَةَ وَزِيَادٍ وَعَطِيَّةَ، قَالُوا: وَخَرَجَ جَابَانُ ومردان شاه حَتَّى أَخَذَا بِالطَّرِيقِ، وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ سَيَرْفُضُونَ وَلا يَشْعُرُونَ بِمَا جَاءَ ذَا الْحَاجِبِ مِنْ فُرْقَةِ أَهْلِ فَارِسَ، فَلَمَّا ارْفَضَّ أَهْلُ فَارِسَ، وَخَرَجَ ذُو الْحَاجِبِ فِي آثَارِهِمْ، وَبَلَغَ الْمُثَنَّى فعله جابان ومردان شاه، اسْتَخْلَفَ عَلَى النَّاسِ عَاصِمَ بْنَ عَمْرٍو، وَخَرَجَ فِي جَرِيدَةِ خَيْلٍ يُرِيدُهُمَا، فَظَنَّا أَنَّهُ هَارِبٌ،

البويب

فَاعْتَرَضَاهُ فَأَخَذَهُمَا أَسِيرَيْنِ، وَخَرَجَ أَهْلُ أُلَّيْسَ عَلَى أَصْحَابِهِمَا، فَأَتَوْهُ بِهِمْ أُسَرَاءَ، وَعَقَدَ لَهُمْ بِهَا ذِمَّةً وَقَدَّمَهُمَا، وَقَالَ: أَنْتُمَا غَرَّرْتُمَا أَمِيرَنَا، وَكَذَبْتُمَاهُ وَاسْتَفْزَزْتُمَاهُ فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمَا، وَضَرَبَ أَعْنَاقَ الأُسَرَاءِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عَسْكَرِهِ وَهَرَبَ أَبُو مِحْجَنٍ مِنْ أُلَّيْسَ، وَلَمْ يَرْجِعْ مَعَ الْمُثَنَّى، وَكَانَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَحَنْظَلَةُ بْنُ الرَّبِيعِ وَنَفَرٌ اسْتَأْذَنُوا خَالِدًا مِنْ سُوَى، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَقَدِمُوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَذَكَرَ لَهُ جَرِيرٌ حَاجَتَهُ، فَقَالَ: أَعَلَى حَالِنَا، وَأَخَّرَهُ بِهَا، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ دَعَاهُ بِالْبَيِّنَةِ، فَأَقَامَهَا، فَكَتَبَ لَهُ عُمَرُ إِلَى عُمَّالِهِ السُّعَاةِ فِي الْعَرَبِ كُلِّهِمْ: مَنْ كَانَ فِيهِ أَحَدٌ يُنْسَبُ إِلَى بَجِيلَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَثَبَتَ عَلَيْهِ فِي الإِسْلامِ يَعْرِفُ ذَلِكَ فَأَخْرِجُوهُ إِلَى جَرِيرٍ وَوَعَدَهُمْ جَرِيرٌ مَكَانًا بَيْنَ الْعِرَاقِ وَالْمَدِينَةِ وَلَمَّا أُعْطِيَ جَرِيرٌ حَاجَتَهُ فِي اسْتِخْرَاجِ بَجِيلَةَ مِنَ النَّاسِ فَجَمَعَهُمْ فَأُخْرِجُوا لَهُ، وَأَمَرَهُمْ بِالْمَوْعِدِ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْعِرَاقِ، فَتَتَامَّوْا، قَالَ لِجَرِيرٍ: اخْرُجْ حَتَّى تَلْحَقَ بِالْمُثَنَّى، فَقَالَ: بَلِ الشَّامُ، قَالَ: بَلِ الْعِرَاقُ، فَإِنَّ أَهْلَ الشَّامِ قَدْ قَوَوْا عَلَى عَدُوِّهِمْ، فَأَبَى حَتَّى أَكْرَهَهُ، فَلَمَّا خَرَجُوا لَهُ وَأَمَرَهُمْ بِالْمَوْعِدِ عَوَّضَهُ لإِكْرَاهِهِ وَاسْتِصْلاحًا لَهُ، فَجَعَلَ لَهُ رُبْعُ خُمُسِ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي غَزَاتِهِمْ هَذِهِ لَهُ وَلِمَنِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ، وَلِمَنْ أَخْرَجَ لَهُ إِلَيْهِ مِنَ الْقَبَائِلِ، وَقَالَ: اتَّخِذُونَا طَرِيقًا، فَقَدِمُوا الْمَدِينَةَ، ثُمَّ فَصَلُوا مِنْهَا إِلَى الْعِرَاقِ مُمِدِّينَ لِلْمُثَنَّى، وَبَعَثَ عِصْمَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ الضَّبِيِّ فِيمَنْ تَبِعَهُ مِنْ بَنِي ضَبَّةَ، وَقَدْ كَانَ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الرِّدَّةِ، فَلَمْ يُوَافِ شَعْبَانَ أَحَدٌ إِلا رَمَى بِهِ الْمُثَنَّى . البويب كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: وبعث المثنى بعد الجسر فيمن يليه من الممدين،

فتوافوا إليه في جمع عظيم، وبلغ رستم والفيرزان ذلك، وأتتهم العيون به وبما ينتظرون من الأمداد، واجتمعا على أن يبعثا مهران الهمذاني، حتى يريا من رأيهما، فخرج مهران في الخيول وأمراه بالحيرة، وبلغ المثنى الخبر وهو معسكر بمرج السباخ بين القادسية وخفان في الذين أمدوه من العرب عن خبر بشير وكنانة- وبشير يومئذ بالحيرة- فاستبطن فرات بادقلى، وأرسل إلى جرير ومن معه: إنا جاءنا أمر لم نستطع معه المقام حتى تقدموا علينا، فعجلوا اللحاق بنا، وموعدكم البويب. وكان جرير ممدا له، وكتب إلى عصمة ومن معه، وكان ممدا له بمثل ذلك، وإلى كل قائد أظله بمثل ذلك، وقال: خذوا على الجوف، فسلكوا القادسية والجوف، وسلك المثنى وسط السواد، فطلع على النهرين ثم على الخورنق، وطلع عصمة على النجف، ومن سلك معه طريقه، وطلع جرير على الجوف ومن سلك معه طريقه، فانتهوا إلى المثنى، وهو على البويب، ومهران من وراء الفرات بإزائه، فاجتمع عسكر المسلمين على البويب مما يلي موضع الكوفة اليوم، وعليهم المثنى وهم بإزاء مهران وعسكره فقال المثنى لرجل من اهل السواد: ما يقال للرقعه للتي فيها مهران وعسكره؟ قال: بسوسيا فقال: أكدي مهران وهلك! نزل منزلا هو البسوس، وأقام بمكانه حتى كاتبه مهران: إما أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم، فقال المثنى: اعبروا، فعبر مهران، فنزل على شاطئ الفرات معهم في الملطاط، فقال المثنى لذلك الرجل: ما يقال لهذه الرقعة التي نزلها مهران وعسكره؟ قال: شوميا- وذلك في رمضان- فنادى في الناس: انهدوا لعدوكم، فتناهدوا، وقد كان المثنى عبى جيشه، فجعل على مجنبتيه مذعورا والنسير، وعلى المجردة عاصما، وعلى الطلائع عصمة، واصطف الفريقان، وقام المثنى فيهم خطيبا، فقال: إنكم صوام، والصوم مرقة ومضعفة، وإني أرى من الرأي أن تفطروا ثم تقووا بالطعام على قتال عدوكم قالوا: نعم، فأفطروا، فأبصر رجلا يستوفز ويستنتل من الصف، فقال: ما بال هذا؟ قالوا: هو ممن فر من

الزحف يوم الجسر، وهو يريد ان يستقبل، فقرعه بالرمح، وقال: لا ابالك! الزم موقفك، فإذا أتاك قرنك فأغنه عن صاحبك ولا تستقتل، قال: إني بذلك لجدير، فاستقر ولزم الصف. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن أبي إسحاق الشيباني بمثله. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سَيْفٍ، عَنْ عَطِيَّةَ وَعَنْ سُفْيَانَ الأَحْمَرِيِّ، عَنِ الْمُجَالِدِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالا: قَالَ عُمَرُ حِينَ اسْتَجَمَّ جَمْعُ بَجِيلَةَ: اتَّخذُونَا طَرِيقًا، فَخَرَجَ سَرَوَاتُ بَجِيلَةَ وَوَفْدُهُمْ نَحْوَهُ، وَخَلَّفُوا الْجُمْهُورَ، فَقَالَ: أَيُّ الْوُجُوهِ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ؟ قَالُوا: الشَّامُ فَإِنَّ أَسْلافَنَا بِهَا، فَقَالَ: بَلِ الْعِرَاقُ، فَإِنَّ الشَّامَ فِي كِفَايَةٍ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ، وَيَأْبَوْنَ عَلَيْهِ حَتَّى عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ، وَجَعَلَ لَهُمْ رُبْعَ خُمُسِ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِلَى نَصِيبِهِمْ مِنَ الْفَيْءِ، فَاسْتَعْمَلَ عَرْفَجَةَ عَلَى مَنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى جَدِيلَةَ مِنْ بَجِيلَةَ، وَجَرِيرًا عَلَى مَنْ كَانَ مِنْ بَنِي عَامِرٍ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَلاهُ قِتَالَ أَهْلِ عُمَانَ فِي نَفَرٍ، وَأَقْفَلَهُ حِينَ غَزَا فِي الْبَحْرِ، فَوَلاهُ عُمَرُ عِظَمَ بَجِيلَةَ، وَقَالَ: اسْمَعُوا لِهَذَا، وَقَالَ لِلآخَرِينَ: اسْمَعُوا لِجَرِيرٍ، فَقَالَ جَرِيرٌ لِبَجِيلَةَ: تُقِرُّونَ بِهَذَا- وَقَدْ كَانَتْ بَجِيلَةُ غَضِبَتْ عَلَى عَرْفَجَةَ فِي امْرَأَةٍ مِنْهُمْ- وَقَدْ أَدْخَلَ عَلَيْنَا مَا أَدْخَلَ! فَاجْتَمَعُوا فَأَتَوْا عُمَرَ، فَقَالُوا: أَعْفِنَا مِنْ عَرْفَجَةَ، فَقَالَ: لا أَعْفِيكُمْ مِنْ أَقْدَمِكُمْ هِجْرَةً وَإِسْلامًا، وَأَعْظَمِكُمْ بَلاءً وَإِحْسَانًا، قَالُوا: اسْتَعْمِلْ عَلَيْنَا رَجُلا مِنَّا، وَلا تَسْتَعْمِلْ عَلَيْنَا نَزِيعًا فِينَا، فَظَنَّ عُمَرُ أَنَّهُمْ يَنْفُونَهُ مِنْ نَسَبِهِ، فَقَالَ: انْظُرُوا مَا تَقُولُونَ! قَالُوا: نَقُولُ مَا تَسْمَعُ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَرْفَجَةَ، فَقَالَ: إِنَّ هَؤُلاءِ اسْتَعْفُونِي مِنْكَ، وَزَعَمُوا أَنَّكَ لَسْتَ مِنْهُمْ، فَمَا عِنْدَكَ؟ قَالَ: صَدَقُوا، وَمَا يَسُرُّنِي أَنِّي مِنْهُمْ. أَنَا امْرُؤٌ مِنَ الأَزْدِ، ثُمَّ مِنْ بَارِقَ، فِي كَهفٍ لا يُحْصَى عَدَدُهُ، وَحَسَبٍ غَيْرِ مُؤْتَشِبٍ فَقَالَ عُمَرُ: نِعْمَ الْحَيُّ الأَزْدُ! يَأْخُذُونَ نَصِيبَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ قَالَ عَرْفَجَةُ: إِنَّهُ كَانَ مِنْ شَأْنِي أَنَّ الشَّرَّ تَفَاقَمَ فِينَا، ودارنا واحده،

فَأَصَبْنَا الدِّمَاءَ، وَوَتِرَ بَعْضُنَا بَعْضًا، فَاعْتَزَلْتُهُمْ لَمَّا خِفْتُهُمْ، فَكُنْتُ فِي هَؤُلاءِ أَسُودُهُمْ وَأَقُودُهُمْ، فَحَفِظُوا عَلَيَّ لأَمْرٍ دَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ دَهَاقِينِهِمْ، فَحَسَدُونِي وَكَفَّرُونِي فَقَالَ: لا يَضُرُّكَ فَاعْتَزِلْهُمْ إِذْ كَرِهُوكَ وَاسْتَعْمَلَ جَرِيرًا مَكَانَهُ، وَجَمَعَ لَهُ بَجِيلَةَ، وَأَرَى جَرِيرًا وَبَجِيلَةَ أَنَّهُ يَبْعَثُ عَرْفَجَةَ إِلَى الشَّامِ، فَحَبَّبَ ذَلِكَ إِلَى جَرِيرٍ الْعِرَاقَ، وَخَرَجَ جَرِيرٌ في قومه ممدا للمثنى ابن حَارِثَةَ، حَتَّى نَزَلَ ذَا قَارَ، ثُمَّ ارْتَفَعَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْجُلِّ وَالْمُثَنَّى بِمَرْجِ السّبَاخِ، أَتَى الْمُثَنَّى الْخَبَرُ عَنْ حَدِيثِ بَشِيرٍ وَهُوَ بِالْحِيرَةِ، أَنَّ الأَعَاجِمَ قَدْ بَعَثُوا مِهْرَانَ، وَنَهَضَ مِنَ الْمَدَائِنِ شَاخِصًا نَحْوَ الْحِيرَةِ فَأَرْسَلَ الْمُثَنَّى إِلَى جَرِيرٍ وَإِلَى عِصْمَةَ بِالْحَثِّ، وَقَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَيْهِمْ عُمَرُ أَلا يَعْبُرُوا بَحْرًا وَلا جِسْرًا إِلا بَعْدَ ظَفْرٍ، فَاجْتَمَعُوا بِالْبُوَيْبِ، فَاجْتَمَعَ الْعَسْكَرَانِ عَلَى شَاطِئِ الْبُوَيْبِ الشَّرْقِيِّ، وَكَانَ الْبُوَيْبُ مُغِيضًا لِلْفُرَاتِ أَيَّامَ الْمُدُودِ، أَزْمَانَ فَارِسَ، يَصُبُّ فِي الْجَوْفِ، وَالْمُشْرِكُونَ بِمَوْضِعِ دَارِ الرِّزْقِ، وَالْمُسْلِمُونَ بِمَوْضِعِ السَّكُونِ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَطِيَّةَ وَالْمُجَالِدِ بِإِسْنَادِهِمَا، قَالا: وَقَدِمَا عَلَى عُمَرَ غُزَاةُ بَنِي كِنَانَةَ وَالأَزْدِ فِي سبعمائة جَمِيعًا، فَقَالَ: أَيُّ الْوُجُوهِ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ؟ قَالُوا: الشَّامُ، أَسْلافُنَا أَسْلافُنَا! فَقَالَ: ذَلِكَ قَدْ كُفِيتُمُوهُ، الْعِرَاقَ الْعِرَاقَ! ذَرُوا بَلْدَةً قَدْ قَلَّلَ اللَّهُ شَوْكَتَهَا وَعَدَدَهَا، وَاسْتَقْبِلُوا جِهَادَ قَوْمٍ قَدْ حَوَوْا فُنُونَ الْعَيْشِ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُورِثَكُمْ بِقِسْطِكُمْ مِنْ ذَلِكَ فَتَعِيشُوا مَعَ مَنْ عَاشَ مِنَ النَّاسِ فَقَالَ غَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ اللَّيْثِيُّ وَعَرْفَجَةُ الْبَارِقِيُّ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِقَوْمِهِ، وَقَامَا فِيهِمْ: يَا عَشِيرَتَاهُ! أَجِيبُوا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَا يَرَى، وَأَمْضُوا لَهُ مَا يُسْكِنُكُمْ قَالُوا: إِنَّا قَدْ أَطَعْنَاكَ وَأَجَبْنَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَا رَأَى وَأَرَادَ فَدَعَا لَهُمْ عُمَرُ بِخَيْرٍ وَقَالَهُ لَهُمْ، وَأَمَّرَ عَلَى بَنِي كِنَانَةَ غَالِبَ بْنَ عبدِ اللَّهِ وَسَرَّحَهُ، وَأَمَّرَ عَلَى الأَزْدِ عَرْفَجَةَ بْنَ هَرْثَمَةَ وَعَامَّتُهُمْ مِنْ بَارِقَ، وَفَرِحُوا بِرُجُوعِ عَرْفَجَةَ إِلَيْهِمْ. فَخَرَجَ هَذَا فِي قَوْمِهِ، وَهَذَا فِي قَوْمِهِ، حَتَّى قَدِمَا عَلَى الْمُثَنَّى. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَعَمْرٍو

بِإِسْنَادِهِمَا، قَالا: وَخَرَجَ هِلالُ بْنُ عُلْفَةَ التَّيْمِيُّ فِيمَنِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنَ الرِّبَابِ حَتَّى أَتَى عُمَرَ، فَأَمَّرَهُ عَلَيْهِمْ وَسَرَّحَهُ، فَقَدِمَ عَلَى الْمُثَنَّى وَخَرَجَ ابْنُ الْمُثَنَّى الْجُشَمِيُّ، جُشَمُ سَعْدٍ، حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِ، فَوَجَّهَهُ وَأَمَّرَهُ عَلَى بَنِي سَعْدٍ، فَقَدِمَ عَلَى الْمُثَنَّى. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن المجالد، عن الشعبي وعطية بإسنادهما، قالا: وجاء عبد اللَّه بْن ذي السهمين في أناس من خثعم، فأمره عليهم ووجهه إلى المثنى، فخرج نحوه حتى قدم عَلَيْهِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن محمد وعمرو بإسنادهما، قالا: وجاء ربعي في أناس من بني حنظلة، فأمره عليهم وسرحهم، وخرجوا حتى قدم بهم على المثنى، فرأس بعده ابنه شبث بْن ربعي، وقدم عليه أناس من بني عمرو، فأمر عليهم ربعي بْن عامر بْن خالد العنود، وألحقه بالمثنى، وقدم عليه قوم من بني ضبة، فجعلهم فرقتين، فجعل على إحدى الفرقتين ابن الهوبر، وعلى الأخرى المنذر بْن حسان، وقدم عليه قرط بْن جماح في عبد القيس، فوجهه وقالوا جميعا: اجتمع الفيرزان ورستم على أن يبعثا مهران لقتال المثنى واستأذنا بوران- وكانا إذا أرادا شيئا دنوا من حجابها حتى يكلماها به- فقالا بالذي رأيا وأخبراها بعدد الجيش- وكانت فارس لا تكثر البعوث، حتى كان من أمر العرب ما كان- فلما أخبراها بكثرة عدد الجيش، قالت: ما بال أهل فارس لا يخرجون إلى العرب كما كانوا يخرجون قبل اليوم؟ وما لكما لا تبعثان كما كانت الملوك تبعث قبل اليوم! قالا: إن الهيبة كانت مع عدونا يومئذ، وانها فينا اليوم، فما لاتهما وعرفت ما جاءاها به، فمضى مهران في جنده حتى نزل من دون الفرات والمثنى وجنده على شاطئ الفرات، والفرات بينهما، وقدم أنس بْن هلال النمري ممدا للمثنى في أناس من النمر نصارى وجلاب جلبوا خيلا، وقدم ابن مردى الفهري التغلبي في أناس من بني تغلب نصارى وجلاب جلبوا خيلا- وهو عبد اللَّه بْن كليب بْن خالد- وقالوا حين رأوا نزول العرب بالعجم: نقاتل مع قومنا وقال مهران: إما أن تعبروا

إلينا، وإما أن نعبر إليكم، فقال المسلمون: اعبروا إلينا، فارتحلوا من بسوسيا إلى شوميا، وهي موضع دار الرزق. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبيد الله بْن محفز، عن أبيه، أن العجم لما أذن لهم في العبور نزلوا شوميا موضع دار الرزق، فتعبوا هنالك، فأقبلوا إلى المسلمين في صفوف ثلاثة مع كل صف فيل، ورجلهم أمام فيلهم، وجاءوا ولهم زجل فقال المثنى للمسلمين: إن الذي تسمعون فشل، فالزموا الصمت وائتمروا همسا فدنوا من المسلمين وجاءوهم من قبل نهر بني سليم نحو موضع نهر بنى سليم، فلما دنوا زحفوا، وصف المسلمون فيما بين نهر بني سليم اليوم وما وراءها كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد وطلحة، قالا: وكان على مجنبتي المثنى بشير وبسر بْن أبي رهم، وعلى مجردته الْمُعَنَّى، وعلى الرجل مسعود، وعلى الطلائع قبل ذلك اليوم النسير، وعلى الردء مذعور، وكان على مجنبى مهران ابن الازاذبه مرزبان الحيرة ومردان شاه. ولما خرج المثنى طاف في صفوفه يعهد إليهم عهده، وهو على فرسه الشموس- وكان يدعى الشموس من لين عريكته وطهارته، فكان إذا ركبه قاتل، وكان لا يركبه إلا لقتال ويدعه ما لم يكن قتال- فوقف على الرايات راية راية يحضضهم، ويأمرهم بأمره، ويهزهم بأحسن ما فيهم، تحضيضا لهم، ولكلهم يقول: إني لأرجو ألا تؤتى العرب اليوم من قبلكم، والله ما يسرني اليوم لنفسي شيء إلا وهو يسرني لعامتكم، فيجيبونه بمثل ذلك وأنصفهم المثنى في القول والفعل، وخلط الناس في المكروه والمحبوب، فلم يستطع أحد منهم أن يعيب له قولا ولا عملا ثم قال: إني مكبر ثلاثا فتهيئوا، ثم احملوا مع الرابعة، فلما كبر أول تكبيرة أعجلهم أهل فارس وعاجلوهم فخالطوهم مع أول تكبيرة، وركدت حربهم مليا، فرأى المثنى خللا في بعض صفوفه، فأرسل إليهم رجلا، وقال: إن الأمير يقرأ عليكم السلام، ويقول: لا تفضحوا المسلمين اليوم، فقالوا: نعم، واعتدلوا، وجعلوا قبل ذلك يرونه وهو يمد لحيته لما يرى منهم، فاعتنوا بأمر لم يجيء به

أحد من المسلمين يومئذ فرمقوه، فرأوه يضحك فرحا والقوم بنو عجل. فلما طال القتال واشتد، عمد المثنى إلى أنس بْن هلال، فقال: يا أنس إنك امرؤ عربي، وإن لم تكن على ديننا، فإذا رأيتني قد حملت على مهران فاحمل معي، وقال لابن مردى الفهر مثل ذلك فأجابه فحمل المثنى على مهران، فأزاله حتى دخل في ميمنته، ثم خالطوهم، واجتمع القلبان وارتفع الغبار والمجنبات تقتتل، لا يستطيعون أن يفرغوا لنصر أميرهم، لا المشركون ولا المسلمون، وارتث مسعود يومئذ وقواد من قواد المسلمين، وقد كان قال لهم: إن رأيتمونا أصبنا فلا تدعوا ما أنتم فيه، فإن الجيش ينكشف ثم ينصرف، الزموا مصافكم، وأغنوا غناء من يليكم وأوجع قلب المسلمين في قلب المشركين، وقتل غلام من التغلبيين نصراني مهران واستوى على فرسه، فجعل المثنى سلبه لصاحب خيله، وكذلك إذا كان المشرك في خيل رجل فقتل وسلب فهو للذي هو أمير على من قتل، وكان له قائدان: أحدهما جرير والآخر ابن الهوبر، فاقتسما سلاحه. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن عبيد الله بن محفز، عن أبيه محفز بْن ثعلبة، قال: جلب فتية من بني تغلب أفراسا، فلما التقى الزحفان يوم البويب، قالوا: نقاتل العجم مع العرب، فأصاب أحدهم مهران يومئذ، ومهران على فرس له ورد مجفف بتجفاف أصفر، بين عينيه هلال، وعلى ذنبه أهلة من شبه، فاستوى على فرسه، ثم انتمى: أنا الغلام التغلبي، أنا قتلت المرزبان! فأتاه جرير وابن الهوبر في قومهما فأخذا برجله فأنزلاه. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سعيد بْن المرزبان أن جريرا والمنذر اشتركا فيه فاختصما في سلاحه، فتقاضيا إلى المثنى، فجعل سلاحه بينهما والمنطقة والسوارين بينهما، وأفنوا قلب المشركين كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن أبي روق، قال:

والله إن كنا لنأتي البويب، فنرى فيما بين موضع السكون وبني سليم عظاما بيضا تلولا تلوح من هامهم وأوصالهم، يعتبر بها قال: وحدثني بعض من شهدها أنهم كانوا يحزرونها مائة ألف، وما عفي عليها حتى دفنها أدفان البيوت. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وقف المثنى عند ارتفاع الغبار، حتى أسفر الغبار، وقد فني قلب المشركين، والمجنبات قد هز بعضها بعضا، فلما رأوه وقد أزال القلب، وأفنى أهله، قويت المجنبات- مجنبات المسلمين- على المشركين، وجعلوا يردون الأعاجم على أدبارهم، وجعل المثنى والمسلمون في القلب يدعون لهم بالنصر، ويرسل عليهم من يذمرهم، ويقول: إن المثنى يقول: عاداتكم في أمثالهم، انصروا اللَّه ينصركم، حتى هزموا القوم، فسابقهم المثنى إلى الجسر فسبقهم وأخذ الأعاجم، فافترقوا بشاطئ الفرات مصعدين ومصوبين، واعتورتهم خيول المسلمين حتى قتلوهم، ثم جعلوهم جثا، فما كانت بين العرب والعجم وقعة كانت أبقى رمة منها ولما ارتث مسعود بْن حارثة يومئذ- وكان صرع قبل الهزيمة، فتضعضع من معه، فرأى ذلك وهو دنف- قال: يا معشر بكر بْن وائل، ارفعوا رايتكم، رفعكم اللَّه! لا يهولنكم مصرعي وقاتل أنس بْن هلال النمري يومئذ حتى ارتث، ارتثه للمثنى، وضمه وضم مسعودا إليه وقاتل قرط بْن جماح العبدي يومئذ حتى دق قنا، وقطع أسيافا وقتل شهربراز من دهاقين فارس وصاحب مجردة مهران. قال: ولما فرغوا جلس المثنى للناس من بعد الفراغ يحدثهم ويحدثونه، وكلما جاء رجل فتحدث قال له: أخبرني عنك، فقال له قرط بْن جماح: قتلت رجلا فوجدت منه رائحة المسك، فقلت: مهران، ورجوت أن يكون إياه، فإذا هو صاحب الخيل شهر براز، فو الله ما رأيته إذ لم يكن مهران شيئا. فقال المثنى: قد قاتلت العرب والعجم في الجاهلية والإسلام، والله لمائة من العجم في الجاهلية كانوا أشد علي من ألف من العرب، ولمائة اليوم من العرب

أشد علي من ألف من العجم، إن اللَّه أذهب مصدوقتهم، ووهن كيدهم، فلا يروعنكم زهاء ترونه، ولا سواد ولا قسي فج، ولا نبال طوال، فإنهم إذا أعجلوا عنها أو فقدوها، كالبهائم أينما وجهتموها اتجهت. وقال ربعي وهو يحدث المثنى: لما رأيت ركود الحرب واحتدامها، قلت: تترسوا بالمجان، فإنهم شادون عليكم، فاصبروا لشدتين وأنا زعيم لكم بالظفر في الثالثة، فأجابوني والله، فوفى اللَّه كفالتي. وقال ابن ذي السهمين محدثا: قلت لأصحابي: إني سمعت الأمير يقرأ ويذكر في قراءته الرعب، فما ذكره إلا لفضل عنده، اقتدوا برايتكم، وليحم راجلكم خيلكم، ثم احملوا، فما لقول اللَّه من خلف، فأنجز اللَّه لهم وعده، وكان كما رجوت. وقال عرفجة محدثا: حزنا كتيبة منهم إلى الفرات، ورجوت أن يكون اللَّه تعالى قد أذن في غرقهم وسلى عنا بها مصيبة الجسر، فلما دخلوا في حد الإحراج، كروا علينا، فقاتلناهم قتالا شديدا حتى قال بعض قومي: لو أخرت رايتك! فقلت: علي إقدامها، وحملت بها على حاميتهم فقتلته، فولوا نحو الفرات، فما بلغه منهم أحد فيه الروح. وقال ربعي بْن عامر بْن خالد: كنت مع أبي يوم البويب- قال وسمي البويب يوم الأعشار- أحصي مائة رجل، قتل كل رجل منهم عشرة في المعركة يومئذ، وكان عروة بْن زيد الخيل من أصحاب التسعة، وغالب في بني كنانة من أصحاب التسعة، وعرفجة في الأزد من أصحاب التسعة. وقتل المشركون فيما بين السكون اليوم إلى شاطئ الفرات، ضفة البويب الشرقية، وذلك أن المثنى بادرهم عند الهزيمة الجسر، فأخذه عليهم، فأخذوا يمنة ويسرة، وتبعهم المسلمون إلى الليل، ومن الغد إلى الليل، وندم المثنى على أخذه بالجسر، وقال: لقد عجزت عجزة وقى اللَّه شرها بمسابقتي إياهم إلى الجسر وقطعه، حتى أحرجتهم، فإني غير عائد، فلا تعودوا

ولا تقتدوا بي أيها الناس، فإنها كانت مني زلة لا ينبغي إحراج أحد إلا من لا يقوى على امتناع ومات أناس من الجرحى من أعلام المسلمين، منهم خالد ابن هلال ومسعود بْن حارثة، فصلى عليهم المثنى، وقدمهم على الأسنان والقرآن، وقال: والله إنه ليهون علي وجدي أن شهدوا البويب، أقدموا وصبروا، ولم يجزعوا ولم ينكلوا، وإن كان في الشهادة كفارة لتجوز الذنوب كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: وقد كان المثنى وعصمة وجرير أصابوا في أيام البويب على الظهر نزل مهران غنما ودقيقا وبقرا، فبعثوا بها إلى عيالات من قدم من المدينة وقد خلفوهن بالقوادس، وإلى عيالات أهل الأيام قبلهم، وهم بالحيرة. وكان دليل الذين ذهبوا بنصيب العيالات الذين بالقوادس عمرو بْن عبد المسيح بْن بقيلة، فلما رفعوا للنسوة فرأين الخيل، تصايحن وحسبنها غارة، فقمن دون الصبيان بالحجارة والعمد، فقال عمرو: هكذا ينبغي لنساء هذا الجيش! وبشروهن بالفتح، وقالوا: هذا أوله، وعلى الخيل التي أتتهم بالنزل النسير، وأقام في خيله حامية لهم، ورجع عمرو بْن عبد المسيح فبات بالحيرة وقال المثنى يومئذ: من يتبع الناس حتى ينتهي إلى السيب؟ فقام جرير بْن عبد اللَّه في قومه، فقال: يا معشر بجيلة، إنكم وجميع من شهد هذا اليوم في السابقة والفضيلة والبلاء سواء، وليس لاخذ منهم في هذا الخمس غدا من النفل مثل الذي لكم منه، ولكم ربع خمسه نفلا من أمير المؤمنين، فلا يكونن أحد أسرع إلى هذا العدو ولا أشد عليه منكم للذي لكم منه، ونية إلى ما ترجون، فإنما تنتظرون إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ: الشهادة والجنة أو الغنيمة والجنة. ومال المثنى على الذين أرادوا أن يستقتلوا من منهزمة يوم الجسر، ثم قال: أين المستبسل بالأمس وأصحابه! انتدبوا في آثار هؤلاء القوم إلى السيب، وابلغوا من عدوكم ما تغيظونهم به، فهو خير لكم وأعظم أجرا، واستغفروا اللَّه إن اللَّه غفور رحيم

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن حمزة بْن علي بْن محفز، عن رجل من بكر بْن وائل، قال: كان أول الناس انتدب يومئذ للمثنى واتبع آثارهم المستبسل وأصحابه، وقد كان أراد الخروج بالأمس إلى العدو من صف المسلمين واستوفز واستنتل، فأمر المثنى أن يعقد لهم الجسر، ثم اخرجهم في آثار للقوم، واتبعتهم بجيلة وخيول من المسلمين تغذ من كل فارس، فانطلقوا في طلبهم حتى بلغوا السيب، ولم يبق في العسكر جسري إلا خرج في الخيل، فأصابوا من البقر والسبي وسائر الغنائم شيئا كثيرا فقسمه المثنى عليهم، وفضل أهل البلاء من جميع القبائل، ونفل بجيلة يومئذ ربع الخمس بينهم بالسوية، وبعث بثلاثة أرباعه مع عكرمة، وألقى اللَّه الرعب في قلوب أهل فارس وكتب القواد الذين قادوا الناس في الطلب إلى المثنى، وكتب عاصم وعصمة وجرير: إن اللَّه عز وجل قد سلم وكفى، ووجه لنا ما رأيت، وليس دون القوم شيء، فتأذن لنا في الإقدام! فأذن لهم، فأغاروا حتى بلغوا ساباط، وتحصن أهل ساباط منهم واستباحوا القريات دونها، وراماهم أهل الحصن بساباط عن حصنهم، وكان أول من دخل حصنهم ثلاثة قواد: عصمة، وعاصم، وجرير، وقد تبعهم أوزاع من الناس كلهم ثم انكفئوا راجعين إلى المثنى. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطية بْن الحارث، قال: لما أهلك اللَّه مهران استمكن المسلمون من الغارة على السواد فيما بينهم وبين دجلة فمخروها، لا يخافون كيدا، ولا يلقون فيها مانعا، وانتقضت مسالح العجم، فرجعت إليهم، واعتصموا بساباط، وسرهم أن يتركوا ما وراء دجلة. وكانت وقعة البويب في رمضان سنة ثلاث عشرة، قتل اللَّه عليه مهران وجيشه، وأفعموا جنبتي البويب عظاما، حتى استوى وما عفى عليها إلا التراب أزمان الفتنة، وما يثار هنالك شيء إلا وقعوا منها على شيء، وهو ما بين السكون ومرهبة وبني سليم، وكان مغيضا للفرات ازمان الاكاسره بصب في الجوف وقال الأعور العبدي الشني:

هاجت لأعور دار الحي أحزانا ... واستبدلت بعد عبد القيس خفانا وقد أرانا بها والشمل مجتمع ... إذ بالنخيلة قتلى جند مهرانا أزمان سار المثنى بالخيول لهم ... فقتل الزحف من فرس وجيلانا سما لمهران والجيش الذي معه ... حتى أبادهم مثنى ووحدانا قال أبو جعفر: وأما ابن إسحاق، فإنه قال في أمر جرير وعرفجة والمثنى وقتال المثنى مهران غير ما قص سيف من أخبارهم، والذي قال في أمرهم ما حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لَمَّا انْتَهَتْ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مُصِيبَةُ أَصْحَابِ الْجِسْرِ، وَقَدِمَ عَلَيْهِ فَلُّهُمْ، قَدِمَ عَلَيْهِ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ مِنَ الْيَمَنِ فِي رَكْبٍ مِنْ بَجِيلَةَ، وَعَرْفَجَةُ بْنُ هَرْثَمَةَ- وَكَانَ عَرْفَجَةُ يَوْمَئِذٍ سَيَّدَ بَجِيلَةَ، وَكَانَ حَلِيفًا لَهُمْ مِنَ الأَزْدِ- فَكَلَّمَهُمْ عُمَرُ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ قَدْ عَلِمْتُمْ مَا كَانَ مِنَ الْمُصِيبَةِ فِي إِخْوَانِكُمْ بِالْعِرَاقِ، فَسِيرُوا إِلَيْهِمْ وَأَنَا أُخْرِجُ إِلَيْكُمْ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ فَأَجْمَعُهُمْ إِلَيْكُمْ قَالُوا: نَفْعَلُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَخْرَجَ لَهُمْ قَيْسَ كُبَّةَ وَسَحْمَةَ وَعُرَيْنَةَ، وَكَانُوا فِي قَبَائِلِ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَرْفَجَةَ بْنَ هَرْثَمَةَ فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ، فَقَالَ لِبَجِيلَةَ: كَلِّمُوا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالُوا لَهُ: اسْتَعْمَلْتَ عَلَيْنَا رَجُلا لَيْسَ مِنَّا، فَأَرْسَلَ إِلَى عَرْفَجَةَ، فَقَالَ: مَا يَقُولُ هَؤُلاءِ؟ قَالَ: صَدَقُوا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَسْتُ مِنْهُمْ، وَلَكِنِّي رَجُلٌ مِنَ الأَزْدِ، كُنَّا أَصَبْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ دَمًا فِي قَوْمنَا، فَلَحِقْنَا بَجِيلَةَ، فَبَلَغْنَا فِيهِمْ مِنَ السُّؤْدُدِ مَا بَلَغَكَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَاثْبَتْ عَلَى مَنْزِلَتِكَ، ودافعهم كما يدفعونك قَالَ: لَسْتُ فَاعِلا وَلا سَائِرًا مَعَهُمْ، فَسَارَ عَرْفَجَةُ إِلَى الْبَصْرَةِ بَعْد أَنْ نَزَلَتْ، وَتَرَكَ بَجِيلَةَ، وَأَمَّرَ عُمَرُ عَلَى بَجِيلَةَ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَسَارَ بِهِمْ مَكَانَهُ إِلَى الْكُوفَةِ، وَضَمَّ إِلَيْهِ عُمَرُ قَوْمَهُ مِنْ بَجِيلَةَ، فَأَقْبَلَ جَرِيرٌ حَتَّى إِذَا مَرَّ قَرِيبًا مِنَ الْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ، كَتَبَ إِلَيْهِ الْمُثَنَّى أَنْ أَقْبِلْ إِلَيَّ، فَإِنَّمَا أَنْتَ مَدَدٌ لِي فَكَتَبَ إِلَيْهِ جَرِيرٌ: إِنِّي لَسْتُ فَاعِلا إِلا أَنْ يَأْمُرَنِي بِذَلِكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْتَ أَمِيرٌ وأَنَا أَمِيرٌ

خبر الخنافس

ثُمَّ سَارَ جَرِيرٌ نَحْوَ الْجِسْرِ، فَلَقِيَهُ مِهْرَانُ بْنُ بَاذَانَ- وَكَانَ مِنْ عُظَمَاءِ فَارِسَ- عِنْدَ النَّخِيلَةِ، قَدْ قَطَعَ إِلَيْهِ الْجِسْرَ، فَاقْتَتَلا قِتَالا شَدِيدًا، وَشَدَّ الْمُنْذِرُ بْنُ حَسَّانِ بْنِ ضِرَارٍ الضَّبِّيُّ عَلَى مِهْرَانَ فَطَعَنَهُ، فَوَقَعَ عَنْ دَابَّتِهِ، فَاقْتَحَمَ عَلَيْهِ جَرِيرٌ فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، فَاخْتَصَمَا فِي سَلْبِهِ، ثُمَّ اصْطَلَحَا فِيهِ، فَأَخَذَ جَرِيرٌ السِّلاحَ، وَأَخَذَ الْمُنْذِرُ بْنُ حَسَّانٍ مِنْطَقَتَهُ. قَالَ: وَحُدِّثْتُ أَنَّ مِهْرَانَ لَمَّا لَقِيَ جَرِيرًا قَالَ: إِنْ تَسْأَلُوا عَنِّي فَإِنِّي مِهْرَانُ ... أَنَا لِمَنْ أَنْكَرَنِي ابْنُ بَاذَانَ قَالَ: فَأَنْكَرْتُ ذَلِكَ حَتَّى حَدَّثَنِي مَنْ لا أَتَّهِمُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ كَانَ عَرَبِيًّا نَشَأَ مَعَ أَبِيهِ بِالْيَمَنِ إِذْ كَانَ عَامِلا لِكِسْرَى قَالَ: فَلَمْ أُنْكِرْ ذَلِكَ حِينَ بَلَغَنِي. وَكَتَبَ الْمُثَنَّى إِلَى عُمَرَ يُمْحِلُ بِجَرِيرٍ، فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى الْمُثَنَّى: إِنِّي لَمْ أَكُنْ لأَسْتَعْمِلُكَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ص- يَعْنِي جَرِيرًا وَقَدْ وَجَّهَ عُمَرُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ إِلَى الْعِرَاقِ فِي سِتَّةِ آلافِ، أَمَّرَهُ عَلَيْهِمْ، وَكَتَبَ إِلَى الْمُثَنَّى وَجَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنْ يَجْتَمِعَا إِلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأَمَّرَ سَعْدًا عَلَيْهِمَا، فَسَارَ سَعْدٌ حَتَّى نَزَلَ شَرَافَ، وَسَارَ الْمُثَنَّى وَجَرِيرٌ حَتَّى نَزَلا عَلَيْهِ، فَشَتَا بِهَا سَعْدٌ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ، وَمَاتَ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ . خبر الخنافس رجع الحديث الى حديث سيف كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: ومخر المثنى السواد وخلف بالحيرة بشير بْن الخصاصية، وأرسل جريرا إلى ميسان، وهلال بْن علفة التيمي إلى دست ميسان، وأذكى المسالح بعصمة بْن فلان الضبي

وبالكلج الضبي وبعرفجة البارقي، وأمثالهم في قواد المسلمين، فبدأ فنزل أليس- قرية من قرى الأنبار- وهذه الغزاة تدعى غزاة الأنبار الآخرة، وغزاة أليس الآخرة، وألز رجلان بالمثنى: أحدهما أنباري، والآخر حيري يدله كل واحد منهما على سوق، فأما الأنباري فدله على الخنافس، وأما الحيري فدله على بغداد فقال المثنى: أيتهما قبل صاحبتها؟ فقالوا: بينهما أيام، قال: أيهما أعجل؟ قالوا: سوق الخنافس سوق يتوافى إليها الناس، ويجتمع بها ربيعة وقضاعة يخفرونهم فاستعد لها المثنى، حتى إذا ظن أنه موافيها يوم سوقها ركب نحوهم، فأغار على الخنافس يوم سوقها، وبها خيلان من ربيعة وقضاعة، وعلى قضاعة رومانس بْن وبرة، وعلى ربيعة السليل بْن قيس وهم الخفراء، فانتسف السوق وما فيها، وسلب الخفراء، ثم رجع عوده على بدئه حتى يطرق دهاقين الأنبار طروقا في أول النهار يومه، فتحصنوا منه، فلما عرفوه نزلوا إليه فأتوه بالأعلاف والزاد، وأتوه بالأدلاء على بغداد، فكان وجهه إلى سوق بغداد، فصبحهم والمسلمون يمخرون السواد والمثنى بالأنبار، ويشنون الغارات فيما بين أسفل كسكر وأسفل الفرات وجسور مثقب إلى عين التمر وما والاها من الأرض في أرض الفلاليج والعال. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن عبيد الله بن محفز، عن أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ لِلْمُثَنَّى: أَلا نَدُلُّكَ عَلَى قَرْيَةٍ يَأْتِيهَا تُجَّارُ مَدَائِنِ كِسْرَى وَالسَّوَادِ، وَتَجْتَمِعُ بِهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً وَمَعَهُمْ فِيهَا الأَمْوَالُ، كَبَيْتِ الْمَالِ، وَهَذِهِ أَيَّامُ سُوقِهِمْ، فَإِنْ أَنْتَ قَدَرْتَ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْهِمْ وَهُمَ لا يَشْعُرُونَ أَصَبْتَ فِيهَا مَالا يَكُونُ غِنَاءً لِلْمُسْلِمِينَ، وَقَوَوْا بِهِ عَلَى عَدُوِّهِمْ دَهْرَهُمْ، قَالَ: وَكَمْ بَيْنَ مَدَائِنِ كِسْرَى وَبَيْنَهَا؟ قَالَ: بَعْضُ يَوْمٍ أَوْ عَامَّةُ يَوْمٍ، قَالَ: فَكَيْفَ لِي بِهَا؟ قَالُوا: نَأْمُرُكَ إِنْ أَرَدْتَهَا أَنْ تَأْخُذَ طَرِيقَ الْبَرِّ،

حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى الْخَنَافِسِ، فَإِنَّ أَهْلَ الأَنْبَارِ سَيَضْرِبُونَ إِلَيْهَا، وَيُخْبِرُونَ عَنْكَ فَيَأْمَنُونَ، ثُمَّ تَعُوجَ عَلَى أَهْلِ الأَنْبَارِ فَتَأْخُذَ الدَّهَاقِينَ بِالأَدِلاءِ، فَتَسِيرَ سَوَادَ لَيْلَتِكَ مِنَ الأَنْبَارِ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ صُبْحًا فَتُصْبِحَهُمْ غَارَةً. فَخَرَجَ مِنْ أُلَّيْسَ حَتَّى أَتَى الْخَنَافِسَ، ثُمَّ عَاجَ حَتَّى رَجَعَ عَلَى الأَنْبَارِ، فَلَمَّا أَحَسَّهُ صَاحِبُهَا تَحَصَّنَ وَهُوَ لا يَدْرِي مَنْ هُوَ، وَذَلِكَ لَيْلا، فَلَمَّا عَرَفَهُ نَزَلَ اليه فاطمعه الْمُثَنَّى، وَخَوَّفَهُ وَاسْتَكْتَمَهُ، وَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُغِيرَ فَابْعَثْ مَعِي الأَدِلاءَ إِلَى بَغْدَادَ، حَتَّى أُغِيرَ مِنْهَا إِلَى الْمَدَائِنِ قَالَ: أَنَا أَجِيءُ مَعَكَ، قَالَ: لا أُرِيدُ أَنْ تَجِيءَ مَعِي، وَلَكِنِ ابْعَثْ مَعِي مَنْ هُوَ أَدَلُّ مِنْكَ، فَزَوَّدَهُمُ الأَطْعِمَةَ وَالأَعْلافَ، وَبَعَثَ مَعَهُمُ الأَدِلَّةَ، فَسَارُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالنِّصْفِ، قَالَ لَهُمُ الْمُثَنَّى: كَمْ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ؟ قَالُوا: أَرْبَعَةُ أَوْ خَمْسَةُ فَرَاسِخَ فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: مَنْ يَنْتَدِبُ لِلْحَرَسِ؟ فَانْتَدَبَ لَهُ قَوْمٌ فَقَالَ لَهُمْ: أَذْكُوا حَرَسَكُمْ، وَنَزَلَ، وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، أَقِيمُوا وَأَطْعِمُوا وَتَوَضَّئُوا وَتَهَيَّئُوا وَبَعَثَ الطَّلائِعَ فَحَبَسُوا النَّاسَ لِيَسْبِقُوا الأَخْبَارَ، فَلَمَّا فَرَغُوا أَسْرَى إِلَيْهِمْ آخِرَ اللَّيْلِ، فَعَبَرَ إِلَيْهِمْ، فَصَبَحَهُمْ فِي أَسْوَاقِهِمْ، فَوَضَعَ فِيهِمُ السَّيْفَ فَقَتَلَ، وَأَخَذُوا مَا شَاءُوا، وَقَالَ الْمُثَنَّى: لا تَأْخُذُوا إِلا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَلا تَأْخُذُوا مِنَ الْمَتَاعِ إِلا مَا يَقْدِرُ الرَّجُلُ مِنْكُمْ عَلَى حَمْلِهِ عَلَى دَابَّتِهِ. وَهَرَبَ أَهْلُ الأَسْوَاقِ، وَمَلأَ الْمُسْلِمُونَ أَيْدِيَهُمْ مِنَ الصَّفْرَاءِ وَالْبَيْضَاءِ وَالْحُرِّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ خَرَجَ كَارًّا حَتَّى نَزَلَ بِنَهْرِ السَّيلَحِينِ بِالأَنْبَارِ، فَنَزَلَ وَخَطَبَ النَّاسَ، وقال: ايها الناس، انزلوا وقضوا أَوْطَارَكُمْ، وَتَأَهَّبُوا لِلسَّيْرِ، وَاحْمَدُوا اللَّهَ وَسَلُوهُ الْعَافِيَةَ، ثُمَّ انْكَشَفُوا قَبِيضًا. فَفَعَلُوا، فَسَمِعَ هَمْسًا فِيمَا بَيْنَهُمْ: مَا أَسْرَعَ الْقَوْمَ فِي طَلَبِنَا! فَقَالَ: تَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، انْظُرُوا فِي الأُمُورِ وَقَدِّرُوهَا ثُمَّ تَكَلَّمُوا، أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغِ النَّذِيرُ مَدِينَتَهُمْ بَعْدُ، وَلَوْ بَلَغَهُمْ لَحَالَ الرُّعْبُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ طَلَبِكُمْ إِنَّ لِلْغَارَاتِ رَوَعَاتٌ تَنْتَشِرُ عَلَيْهَا يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ، وَلَوْ طَلَبَكُمُ الْمُحَامُونَ مِنْ رَأْيِ الْعَيْنِ مَا أَدْرَكُوكُمْ، وَأَنْتُمْ عَلَى الْعَرابِ حَتَّى تَنْتَهُوا إِلَى

عَسْكَرِكُمْ وَجَمَاعَتِكُمْ، وَلَوْ أَدْرَكُوكُمْ لَقَاتَلْتُهُمْ لاثْنَتَيْنِ: الْتِمَاسِ الأَجْرِ وَرَجَاءِ النَّصْرِ، فَثِقُوا بِاللَّهِ وَأَحْسِنُوا بِهِ الظَّنَّ، فَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَهُمْ أَعَدُّ مِنْكُمْ، وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنِّي وَعَنِ انْكِمَاشِي وَالَّذِي أُرِيدُ بِذَلِكَ، إِنَّ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ ص أَبَا بَكْرٍ أَوْصَانَا أَنْ نُقْلِلَ الْعرجةَ، وَنُسْرِعَ الْكَرَّةَ فِي الْغَارَاتِ، وَنُسْرِعُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الأَوْبَةَ وَأَقْبَلَ بِهِمْ وَمَعَهُمْ أَدِلاؤُهُمْ يَقْطَعُونَ بِهِمُ الصَّحَارِي وَالأَنْهَارَ، حَتَّى انْتَهَى بِهِمْ إِلَى الأَنْبَارِ، فَاسْتَقْبَلَهُمْ دَهَاقِينُ الأَنْبَارِ بِالْكَرَامَةِ، وَاسْتَبْشَرُوا بِسَلامَتِهِ، وَكَانَ مَوْعِدُهُ الإِحْسَانَ إِلَيْهِمْ إِذَا اسْتَقَامَ لَهُمْ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا يُحِبُّونَ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قَالُوا: لَمَّا رَجَعَ الْمُثَنَّى مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الأَنْبَارِ سَرَّحَ الْمُضَارِبَ الْعِجْلِيَّ وَزَيْدًا إِلَى الْكَبَاثِ، وَعَلَيْهِ فَارِسُ الْعنابِ التَّغْلِبِيُّ، ثُمَّ خَرَجَ فِي آثَارِهِمْ، فَقَدِمَ الرَّجُلانِ الْكَبَاثَ، وَقَدِ ارْفَضُّوا وَأَخْلَوُا الْكَبَاثَ، وَكَانَ أَهْلُهُ كُلُّهُمْ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ، فَرَكِبُوا آثَارَهُمْ يَتْبَعُونَهُمْ، فَأَدْرَكُوا أُخْرَيَاتِهِمْ وَفَارِسُ الْعنابِ يَحْمِيهِمْ، فَحَمَاهُمْ سَاعَةً ثُمَّ هَرَبَ، وَقَتَلُوا فِي أُخْرَيَاتِهِمْ وَأَكْثَرُوا، وَرَجَعَ الْمُثَنَّى إِلَى عَسْكَرِهِ بِالأَنْبَارِ، وَالْخَلِيفَةُ عَلَيْهِمْ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ فَلَمَّا رَجَعَ المثنى الى الأنبار سرح فرات ابن حَيَّانَ وَعُتَيْبَةَ بْنَ النَّهَّاسِ وَأَمَرَهُمَا بِالْغَارَةِ عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ تَغْلِبَ وَالنَّمِرِ بِصِفِّينَ، ثُمَّ اتَّبَعَهُمَا وَخَلَّفَ عَلَى النَّاسِ عَمْرَو بْنَ أَبِي سَلْمَى الْهُجَيْمِيَّ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنْ صِفِّينَ، افْتَرَقَ الْمُثَنَّى وَفُرَاتُ وَعُتَيْبَةُ، وَفَرَّ أَهْلُ صِفِّينَ وَعَبَرُوا الْفُرَاتَ إِلَى الْجَزِيرَةِ، وَتَحَصَّنُوا، وَأَرْمَلَ الْمُثَنَّى وَأَصْحَابُهُ مِنَ الزاد، حتى أقبلوا على رواحلهم الا مالا بُدَّ مِنْهُ فَأَكَلُوهَا حَتَّى أَخْفَافَهَا وَعِظَامَهَا وَجُلُودَهَا ثُمَّ أَدْرَكُوا عِيرًا مِنْ أَهْلِ دِيَافَ وَحَوْرَانَ، فَقَتَلُوا الْعُلُوجَ وَأَصَابُوا ثَلاثَةَ نَفَرٍ مِنْ بَنِي تغلب خفراء، وأخذوا العير، وَكَانَ ظَهْرًا فَاضِلا، وَقَالَ لَهُمْ: دُلُّونِي، فَقَالَ احدهم: آمنونى على اهلى وما لي، وَأَدُلُّكُمْ عَلَى حَيٍّ مِنْ تَغْلِبَ غَدَوْتُ مِنْ عِنْدِهِمُ الْيَوْمَ، فَآمَنَهُ الْمُثَنَّى وَسَارَ مَعَهُ يَوْمَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْعَشِيُّ هَجَمَ عَلَى الْقَوْمِ، فَإِذَا النَّعَمُ صَادِرَةٌ عَنِ الْمَاءِ، وَإِذَا الْقَوْمُ جلوس بافنيه

الْبُيُوتِ، فَبَثَّ غَارَتَهُ، فَقَتَلُوا الْمُقَاتِلَةَ، وَسَبَوُا الذُّرِيَّةَ، وَاسْتَاقُوا الأَمْوَالَ، وَإِذَا هُمْ بَنُو ذِي الرُّوَيْحِلَةِ، فَاشْتَرَى مَنْ كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ رَبِيعَةَ السَّبَايَا بِنَصِيبِهِ مِنَ الْفَيْءِ، وَأَعْتَقُوا سَبْيَهُمْ، وَكَانَتْ رَبِيعَةُ لا تُسْبَى إِذِ الْعَرَبُ يَتَسَابُونَ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ وَأَخْبِرَ الْمُثَنَّى أَنَّ جُمْهُورَ مَنْ سَلَكَ الْبِلادَ قَدِ انْتَجَعُوا الشَّطَّ، شَاطِئَ دِجْلَةَ، فَخَرَجَ الْمُثَنَّى، وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ فِي غَزَوَاتِهِ هَذِهِ بَعْدَ الْبُوَيْبِ كُلِّهَا حُذَيْفَةُ بْنُ مِحْصَنٍ الْغلفَانِيُّ، وَعَلى مُجَنِّبَتَيْهِ النُّعْمَانُ بْنُ عَوْفِ بْنِ النُّعْمَانِ وَمَطَرٌ الشَّيْبَانِيَّانِ، فَسَرَّحَ فِي أَدْبَارِهِمْ حُذَيْفَةَ وَأَتْبَعَهُ، فَأَدْرَكُوهُمْ بِتِكْرِيتَ دُوَيْنَهَا مِنْ حَيْثُ طَلَبُوهُمْ يَخُوضُونَ الْمَاءَ، فَأَصَابُوا مَا شَاءُوا مِنَ النَّعَمِ، حَتَّى أَصَابَ الرَّجُلُ خمسًا مِنَ النَّعَمِ، وَخمسًا مِنَ السَّبْيِ، وَخُمْسَ الْمَالِ، وَجَاءَ بِهِ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَى النَّاسِ بِالأَنْبَارِ، وَقَدْ مَضَى فُرَاتُ وَعُتَيْبَةُ فِي وُجُوهِهِمَا، حَتَّى أَغَارُوا عَلَى صِفِّينَ وَبِهَا النَّمِرُ وَتَغْلِبُ مُتَسَانِدَيْنِ، فَأَغَارُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى رَمَوْا بِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ فِي الْمَاءِ، فَنَاشَدُوهُمْ فَلَمْ يُقْلِعُوا عَنْهُمْ، وَجَعَلُوا يُنَادُونَهُمُ: الْغَرَقَ الْغَرَقَ! وَجَعَلَ عُتَيْبَةُ وَفُرَاتُ يَذْمُرُونَ النَّاسَ، وَيُنَادُونَهُمْ: تَغْرِيقٌ بِتَحْرِيقٍ- يُذَكِّرُونَهُمْ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَحْرَقُوا فِيهِ قَوْمًا مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ فِي غَيْضَةٍ مِنَ الْغِيَاضِ- ثُمَّ انْكَفَئُوا رَاجِعِينَ إِلَى الْمُثَنَّى، وَقَدْ غَرَّقُوهُمْ. وَلَمَّا تَرَاجَعَ النَّاسُ إِلَى عَسْكَرِهِمْ بِالأَنْبَارِ وَتَوَافَى بِهَا الْبُعُوثُ وَالسَّرَايَا، انْحَدَرَ بِهِمُ الْمُثَنَّى إِلَى الْحِيرَةِ، فَنَزَلَ بِهَا وَكَانَتْ تَكُونُ لِعُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْعُيُونُ فِي كُلِّ جَيْشٍ، فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بِمَا كَانَ فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ، وبلغه الذى قال عُتَيْبَةُ وَفُرَاتُ يَوْمَ بَنِي تَغْلِبَ وَالْمَاءِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمَا فَسَأَلَهُمَا، فَأَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا قَالا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ أَنَّهُ مَثَلٌ، وَأَنَّهُمَا لَمْ يَفْعَلا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ طَلَبِ ذِحْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَاسْتَحْلَفَهُمَا، فَحَلَفَا أَنَّهُمَا مَا أَرَادَا بِذَلِكَ إِلا الْمَثَلَ وَإِعْزَازَ الإِسْلامِ، فَصَدَّقَهُمَا وَرَدَّهُمَا حَتَّى قَدِمَا عَلَى الْمُثَنَّى

ذكر الخبر عما هيج امر القادسية

ذكر الخبر عما هيج أمر القادسية كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّه بْن سواد بْن نويرة، عن عزيز بْن مكنف التميمي ثم الأسيدي، وطلحة بْن الأعلم الحنفي، عن المغيرة بْن عتيبة بْن النهاس العجلي، وزياد بْن سرجس الأحمري، عن عبد الرحمن بْن ساباط الأحمري، قالوا جميعا، قال أهل فارس لرستم والفيرزان- وهما على أهل فارس: أين يذهب بكما! لم يبرح بكما الاختلاف حتى وهنتما أهل فارس، وأطمعتما فيهم عدوهم! وإنه لم يبلغ من خطركما أن يقركما فارس على هذا الرأي، وأن تعرضاها للهلكة، ما بعد بغداد وساباط وتكريت إلا المدائن، والله لتجتمعان أو لنبدأن بكما قبل أن يشمت بنا شامت. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن عبيد الله بن محفز عن أبيه، قال: قال أهل فارس لرستم والمسلمون يمخرون السواد: ما تنتظرون والله إلا أن ينزل بنا ونهلك! والله ما جر هذا الوهن علينا غيركم يا معاشر القواد! لقد فرقتم بين أهل فارس وثبطتموهم عن عدوهم والله لولا أن في قتلكم هلاكنا لعجلنا لكم القتل الساعة، ولئن لم تنتهوا لنهلكنكم ثم نهلك وقد اشتفينا منكم. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وَطَلْحَةَ وَزِيَادٍ، قَالُوا: فَقَالَ الْفيرزانُ وَرُسْتُمُ لِبُورَانَ ابْنَةَ كِسْرَى: اكْتُبِي لَنَا نِسَاءَ كِسْرَى وَسَرَارِيهِ وَنِسَاءَ آلِ كِسْرَى وَسَرَارِيهِمْ فَفَعَلَتْ، ثُمَّ أَخْرَجَتْ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ فِي كِتَابٍ، فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِنَّ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ إِلا أَتَوْا بِهَا، فَأَخَذُوهُنَّ بِالرِّجَالِ وَوَضَعُوا عَلَيْهِنَّ الْعَذَابَ يَسْتَدِلُّونَهُنَّ عَلَى ذَكَرٍ مِنْ أَبْنَاءِ كِسْرَى، فَلَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُنَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَقُلْنَ- أَوْ مَنْ قَالَ مِنْهُنَّ: لَمْ يَبْقَ إِلا غُلامٌ يُدْعَى يَزْدَجَرْدُ مِنْ وَلَدِ شَهْرَيَارَ بْنِ كِسْرَى، وَأُمُّهُ مِنْ أَهْلِ بَادُورِيَا فَأَرْسَلُوا إِلَيْهَا فَأَخَذُوهَا بِهِ، وَكَانَتْ قَدْ أَنْزَلَتْهُ فِي أَيَّامِ شِيرِي حِينَ جَمَعَهُنَّ فِي القصر

الأَبْيَضِ، فَقَتَلَ الذُّكُورَ، فَوَاعَدَتْ أَخْوَالَهُ، ثُمَّ دَلَّتْهُ إِلَيْهِمْ فِي زَبِيلَ فَسَأَلُوهَا عَنْهُ وَأَخَذُوهَا بِهِ، فَدَلَّتْهُمْ عَلَيْهِ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ فَجَاءُوا بِهِ فَمَلَّكُوهُ وَهُوَ ابْنُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَاطْمَأَنَّتْ فَارِسُ وَاسْتَوْثَقُوا وَتَبَارَى الرُّؤَسَاءُ فِي طَاعَتِهِ وَمَعُونَتِهِ فَسَمَّى الْجُنُودَ لِكُلِّ مَسْلَحَةٍ كَانَتْ لِكِسْرَى أَوْ مَوْضِعِ ثَغْرٍ، فَسَمَّى جُنْدَ الْحِيرَةِ وَالأَنْبَارِ والْمَسَالِحِ وَالأُبُلَّةِ وَبَلَغَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى يَزْدَجَرْدَ الْمُثَنَّى وَالْمُسْلِمِينَ، فَكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ بِمَا يَنْتَظِرُونَ مِمَّنْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَلَمْ يَصِلِ الْكِتَابُ إِلَى عُمَرَ حَتَّى كَفَرَ أَهْلُ السَّوَادِ، مَنْ كَانَ لَهُ مِنْهُمْ عَهْدٌ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُمْ عَهْدٌ فَخَرَجَ الْمُثَنَّى عَلَى حَامِيَتِهِ حَتَّى نَزَلَ بِذِي قَارَ، وَتَنَزَّلَ النَّاسُ بِالطَّفِّ فِي عَسْكَرٍ وَاحِدٍ حَتَّى جَاءَهُمْ كِتَابُ عُمَرَ: أَمَّا بَعْدُ، فَاخْرُجُوا مِنْ بَيْنَ ظَهْرَيِ الأَعَاجِمِ، وَتَفَرَّقُوا فِي الْمِيَاهِ الَّتِي تَلِي الأَعَاجِمَ عَلَى حُدُودِ أَرْضِكُمْ وَأَرْضِهِمْ، وَلا تَدَعُوا فِي رَبِيعَةَ أَحَدًا وَلا مُضَرَ وَلا حُلَفَائِهِمْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ النَّجَدَاتِ وَلا فَارِسًا إِلا اجْتَلَبْتُمُوهُ، فَإِنْ جَاءَ طَائِعًا وَإِلا حَشَرْتُمُوهُ، احْمِلُوا الْعَرَبَ عَلَى الْجد إذ جد الْعَجَم، فلتلقوا جدهم بجدكم. فَنَزَلَ الْمُثَنَّى بِذِي قَارٍ، وَنَزَلَ النَّاسُ بِالجُلِّ وَشَرَافَ إِلَى غُضَيٍّ- وَغُضَيٌّ حِيَالُ الْبَصْرَةِ- فَكَانَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِغُضَيٍّ وَسَبْرَةُ بن عمرو العنبري وَمَنْ أَخَذَ أَخْذَهُمْ فِيمَنْ مَعَهُ إِلَى سَلْمَانَ، فكانوا في امواه الطف مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا مَسَالِحُ بَعْضِهِمْ يَنْظُرُ إِلَى بَعْضٍ، وَيَغِيثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِنْ كَانَ كَونٌ، وَذَلِكَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ. حَدَّثَنَا السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَزِيَادٍ بِإِسْنَادِهِمْ، قَالُوا: كَانَ أَوَّلُ مَا عَمِلَ بِهِ عُمَرُ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ فَارِسَ قَدْ مَلَّكُوا يَزْدَجَرْدَ، أَنْ كَتَبَ إِلَى عُمَّالِ الْعَرَبِ عَلَى الْكُورِ وَالْقَبَائِلِ، وَذَلِكَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ مَخْرَجَهُ الى الحج، وحج سنواته كلها: لا تدعى

سنه اربع عشره

أَحَدًا لَهُ سِلاحٌ، أَوْ فَرَسٌ، أَوْ نَجْدَةٌ، أَوْ رَأْيٌ إِلا انْتَخَبْتُمُوهُ، ثُمَّ وَجَّهْتُمُوهُ إِلَيَّ، وَالْعَجَلَ الْعَجَلَ! فَمَضَتِ الرُّسُلُ إِلَى مَنْ أَرْسَلَهُمْ إِلَيْهِمْ مَخْرَجَهُ إِلَى الْحَجِّ، وَوَافَاهُ أَهْلُ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْقَبَائِلِ الَّتِي طُرُقُهَا عَلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى النِّصْفِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِرَاقِ، فَوَافَاهُ بِالْمَدِينَةِ مَرْجِعَهُ مِنَ الْحَجِّ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَانْضَمُّوا إِلَى الْمُثَنَّى، فَأَمَّا مَنْ وَافَى عُمَرَ فَإِنَّهُمْ أَخْبَرُوهُ عَمَّنْ وَرَاءَهُمْ بِالْحَثِّ. وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ، فِيمَا حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، عَنْهُ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ- فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عَنْهُ: الَّذِي حَجَّ بِالنَّاسِ سَنَةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَقَدْ حَدَّثَنِي الْمُقَدَّمِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ الْفَرْوِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: اسْتَعْمَلَ عُمَرُ عَلَى الْحَجِّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فِي السَّنَةِ الَّتِي وَلِيَ فِيهَا، فَحَجَّ بِالنَّاسِ، ثُمَّ حَجَّ سِنِيهِ كُلَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ. وَكَانَ عَامِلَ عُمَرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ- عَلَى مَا ذَكَرَ- عَلَى مَكَّةَ عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ، وَعَلَى الطَّائِفِ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، وعلى اليمن يعلى بن مُنَيَّةَ، وَعَلَى عُمَانَ وَالْيَمَامَةِ حُذَيْفَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَعَلَى الْبَحْرَيْنِ الْعَلاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ، وَعَلَى الشَّامِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَعَلَى فرجِ الْكُوفَةِ وما فتح من أرضها المثنى ابن حَارِثَةَ وَكَانَ عَلَى الْقَضَاءِ- فِيمَا ذَكَرَ- عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ لِعُمَرَ فِي أَيَّامِهِ قَاضٍ . ثم دخلت سنة أربع عشره ذكر ابتداء امر القادسية 8 ففي أول يوم من المحرم سنة أربع عشرة- فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ بِهِ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن محمد وطلحة وزياد بِإِسْنَادِهِمْ- خَرَجَ عُمَرُ حَتَّى نَزَلَ عَلَى مَاءٍ يُدْعَى صِرَارًا، فَعَسْكَرَ بِهِ وَلا يَدْرِي النَّاسُ مَا يُرِيدُ، أَيَسِيرُ أَمْ يُقِيمُ وَكَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ رَمَوْهُ بِعُثْمَانَ أَوْ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَكَانَ عُثْمَانُ يُدْعَى فِي إِمَارَةِ عُمَرَ رَدِيفًا- قَالُوا: وَالرَّدِيفُ بِلِسَانِ الْعَرَبِ الرَّجُلُ الَّذِي بَعْدَ الرَّجُلِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ ذَلِكَ لِلرَّجُلِ الَّذِي يَرْجُونَهُ بَعْدَ رَئِيسِهِمْ- وَكَانُوا إِذَا لَمْ يَقْدِرْ هَذَانِ عَلَى عِلْمِ شَيْءٍ مِمَّا يُرِيدُونَ، ثَلَّثُوا بِالْعَبَّاسِ، فَقَالَ عُثْمَانُ لِعُمَرَ: مَا بَلَغَكَ؟ مَا الَّذِي تُرِيدُ؟ فَنَادَى: الصَّلاةُ جَامِعَةٌ فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ ثُمَّ نَظَرَ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَقَالَ الْعَامَّةُ: سِرْ وَسِرْ بِنَا مَعَكَ، فَدَخَلَ مَعَهُمْ فِي رَأْيِهِمْ، وَكَرِهَ أَنْ يَدَعَهُمْ حَتَّى يُخْرِجَهُمْ مِنْهُ فِي رِفْقٍ، فَقَالَ: اسْتَعِدُّوا وَأَعِدُّوا فَإِنِّي سَائِرٌ إِلا أَنْ يَجِيءَ رَأْيٌ هُوَ أَمْثَلُ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ بَعَثَ إِلَى أَهْلِ الرَّأْيِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ وُجُوهُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْلامُ الْعَرَبِ، فَقَالَ: أَحْضِرُونِي الرَّأْيَ فَإِنِّي سَائِرٌ فَاجْتَمَعُوا جَمِيعًا، وَأَجْمَعَ مَلَؤُهُمْ عَلَى أَنْ يبعث رجلا من اصحاب رسول الله ص وَيُقِيمُ، وَيَرْمِيهِ بِالْجُنُودِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَشْتَهِي مِنَ الْفَتْحِ، فَهُوَ الَّذِي يُرِيدُ وَيُرِيدُونَ، وَإِلا أَعَادَ رَجُلا وَنَدَبَ جُنْدًا آخَرَ، وَفِي ذَلِكَ مَا يَغِيظُ الْعَدُوَّ، وَيَرْعَوِي الْمُسْلِمُونَ، وَيَجِيءُ نَصْرُ اللَّهِ بِإِنْجَازِ مَوْعُودِ اللَّهِ فَنَادَى عُمَرُ: الصَّلاةُ جَامِعَةٌ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى عَلِيٍّ ع، وَقَدِ اسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَأَتَاهُ، وَإِلَى طَلْحَةَ وقد بعثه

عَلَى الْمُقَدِّمَةِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ عَلَى الْمُجَنِّبَتَيْنِ الزُّبَيْرَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَقَامَ فِي النَّاسِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ جَمَعَ عَلَى الإِسْلامِ أَهْلَهُ، فَأَلَّفَ بَيْنَ الْقُلُوبِ، وَجَعَلَهُمْ فِيهِ إِخْوَانًا، وَالْمُسْلِمُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ كَالْجَسَدِ لا يَخْلُو مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ شَيْءٍ أَصَابَ غيره، وكذلك يحق على المسلمين ان يكونوا أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ذَوِي الرَّأْيِ مِنْهُمْ، فَالنَّاسُ تُبَّعٌ لِمَنْ قَامَ بِهَذَا الأَمْرِ، مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ وَرَضُوا بِهِ لَزِمَ النَّاسُ وَكَانُوا فِيهِ تُبَّعًا لَهُمْ، وَمَنْ أَقَامَ بِهَذَا الأَمْرِ تَبِعٌ لأُولِي رَأْيِهِمْ مَا رَأَوْا لَهُمْ وَرَضُوا بِهِ لَهُمْ مِنْ مَكِيدَةٍ فِي حَرْبٍ كَانُوا فيه تبعا لهم يا ايها النَّاسُ، إِنِّي إِنَّمَا كُنْتُ كَرَجُلٍ مُنْكُمْ حَتَّى صَرَفَنِي ذَوُو الرَّأْيِ مِنْكُمْ عَنِ الْخُرُوجِ، فَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أُقِيمَ وَأَبْعَثَ رَجُلا، وَقَدْ أَحْضَرْتُ هَذَا الأَمْرَ، مَنْ قَدَّمْتُ وَمَنْ خَلَّفْتُ: وَكَانَ على ع خَلِيفَتَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَطَلْحَةُ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ بِالأَعْوَصِ، فَأَحْضَرَهُمَا ذَلِكَ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: لَمَّا انْتَهَى قَتْلُ أَبِي عُبَيْدِ ابن مَسْعُودٍ إِلَى عُمَرَ، وَاجْتِمَاعُ أَهْلِ فَارِسَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ آلِ كِسْرَى، نَادَى فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَخَرَجَ حَتَّى أَتَى صِرَارًا، وَقَدَّمَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ حَتَّى يَأْتِي الأَعْوَصَ، وَسَمَّى لِمَيْمَنَتِهِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَلِمَيْسَرَتِهِ الزُّبَيْرَ ابن الْعَوَّامِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَاسْتَشَارَ النَّاسَ، فَكُلُّهُمْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِالسَّيْرِ إِلَى فَارِسَ، وَلَمْ يَكُنِ اسْتَشَارَ فِي الَّذِي كَانَ حَتَّى نَزَلَ بِصِرَارٍ وَرَجَعَ طَلْحَةُ، فَاسْتَشَارَ ذَوِي الرَّأْيِ، فَكَانَ طَلْحَةُ مِمَّنْ تَابَعَ النَّاسَ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مِمَّنْ نَهَاهُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَمَا فَدَيْتُ أَحَدًا بِأَبِي وَأُمِّي بَعْدَ النبي ص قَبْلَ يَوْمَئِذٍ وَلا بَعْدَهُ، فَقُلْتُ: يَا بِأَبِي وَأُمِّي، اجْعَلْ عَجُزَهَا بِي وَأَقِمْ وَابْعَثْ جُنْدًا، فَقَدْ رَأَيْتُ قَضَاءَ اللَّهِ لَكَ فِي جُنُودِكَ قَبْلُ وَبَعْدُ، فَإِنَّهُ إِنْ يُهْزَمْ جَيْشُكَ لَيْسَ كَهَزِيمَتِكَ، وَإِنَّكَ إِنْ تُقْتَلْ أَوْ تُهْزَمْ

فِي أَنْفِ الأَمْرِ خَشِيتُ أَلا يُكَبِّرَ الْمُسْلِمُونَ وَأَلا يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ أَبَدًا وَهُوَ فِي ارْتِيَادٍ مِنْ رَجُلٍ، وَأَتَى كتاب سعد على حفف مَشُورَتِهِمْ، وَهُوَ عَلَى بَعْضِ صَدَقَاتِ نَجْدٍ، فَقَالَ عُمَرُ: فَأَشِيرُوا عَلَيَّ بِرَجُلٍ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وَجَدْتُهُ، قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: الأَسَدُ فِي بَرَاثِنِهِ، سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ، وَمَالأَهُ أُولُو الرَّأْيِ. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ خُلَيْدِ بْنِ ذَفْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَتَبَ الْمُثَنَّى إِلَى عُمَرَ بِاجْتِمَاعِ فَارِسَ عَلَى يزدجرد وببعوثهم، وَبِحَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ، أَنْ تَنَحَّ إِلَى الْبَرِّ، وَادْعُ مَنْ يَلِيكَ، وَأَقِمْ مِنْهُمْ قَرِيبًا عَلَى حُدُودِ أَرْضِكَ وَأَرْضِهِمْ، حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي وَعَاجَلَتْهُمُ الأَعَاجِمُ فَزَاحَفَتْهُمُ الزُّحُوفُ، وَثَارَ بِهِمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ، فَخَرَجَ الْمُثَنَّى بِالنَّاسِ حَتَّى يَنْزِلَ الطَّفَّ، فَفَرَّقَهُمْ فِيهِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، فَأَقَامَ مَا بَيْنَ غُضَيٍّ إِلَى الْقُطْقُطَانَةِ مَسَالِحَهُ، وَعَادَتْ مَسَالِحُ كِسْرَى وَثُغُورُهُ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُ فَارِسَ وَهُمْ فِي ذَلِكَ هَائِبُونَ مُشْفِقُونَ، وَالْمُسْلِمُونَ مُتَدَفِّقُونَ قَدْ ضَرُّوا بِهِمْ كَالأَسَدِ يُنَازِعُ فَرِيسَتَهُ، ثُمَّ يُعَاوِدُ الْكَرَّ، وَأُمَرَاؤُهُمْ يُكَفْكِفُونَهُمْ بِكِتَابِ عُمَرَ وَأَمْدَادِ الْمُسْلِمِينَ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ اسْتَعْمَلَ سَعْدًا عَلَى صَدَقَاتِ هَوَازِنَ بِنَجْدٍ، فَأَقَرَّهُ عُمَرُ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ فِيمَنْ كَتَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْعُمَّالِ حِينَ اسْتَنْفَرَ النَّاسَ أَنْ يَنْتَخِبَ أَهْلَ الْخَيْلِ وَالسِّلاحِ مِمَّنْ لَهُ رَأْيٌ وَنَجْدَةٌ فَرَجَعَ إِلَيْهِ كِتَابُ سَعْدٍ بِمَنْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الضَّرْبِ، فَوَافَقَ عُمَرُ وَقَدِ اسْتَشَارَهُمْ فِي رَجُلٍ، فَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِهِ عِنْدَ ذِكْرِهِ

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ بِإِسْنَادِهِمَا، قَالا: كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَلَى صَدَقَاتِ هَوَازِنَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ فِيمَنْ كَتَبَ إِلَيْهِ بِانْتِخَابِ ذَوِي الرَّأْيِ وَالنَّجْدَةِ مِمَّنْ كَانَ لَهُ سِلاحٌ أَوْ فَرَسٌ، فَجَاءَهُ كِتَابُ سَعْدٍ: إِنِّي قَدِ انْتَخَبْتُ لَكَ أَلْفَ فَارِسٍ مؤد كُلَّهُمْ لَهُ نَجْدَةٌ وَرَأْيٌ، وَصَاحَبُ حِيطَةٍ يَحُوطُ حَرِيمَ قَوْمِهِ، وَيَمْنَعُ ذمَارَهُمْ، إِلَيْهِمْ انْتَهَتْ أَحْسَابُهُمْ وَرَأْيُهُمْ، فَشَأْنُكَ بِهِمْ وَوَافَقَ كِتَابُهُ مَشُورَتَهُمْ، فَقَالُوا: قَدْ وَجَدْتُهُ، قَالَ: فَمَنْ؟ قَالُوا: الأَسَدُ عَادِيًا، قَالَ: مَنْ؟ قَالُوا: سَعْدٌ، فَانْتَهَى إِلَى قَوْلِهِمْ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ، فَأَمَّرَهُ عَلَى حَرْبِ الْعِرَاقِ وَأَوْصَاهُ فَقَالَ: يَا سَعْدُ، سَعْدَ بَنِي وُهَيْبٍ، لا يَغُرَّنَّكَ مِنَ اللَّهِ أَنْ قِيلَ خَالُ رَسُولِ اللَّهِ ص وصاحب رسول الله، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يَمْحُو السَّيِّئَ بِالسَّيِّئِ، وَلَكِنَّهُ يَمْحُو السَّيِّئَ بِالْحَسَنِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدٍ نَسَبٌ إِلا طَاعَتَهُ، فَالنَّاسُ شَرِيفُهُمْ وَوَضِيعُهُمْ فِي ذَاتِ اللَّهِ سَوَاءٌ، اللَّهُ رَبُّهُمْ وَهُمْ عِبَادُهُ، يَتَفَاضَلُونَ بِالْعَافِيَةِ، وَيُدْرِكُونَ مَا عِنْدَهُ بِالطَّاعَةِ فَانْظُرِ الأَمْرَ الَّذِي رَأَيْتَ النبي ص عَلَيْهِ مُنْذُ بُعِثَ إِلَى أَنْ فَارَقَنَا فَالْزَمْهُ فَإِنَّهُ الأَمْرُ هَذِهِ عِظَتِي إِيَّاكَ إِنْ تَرَكْتَهَا وَرَغِبْتَ عَنْهَا حَبِطَ عَمَلُكَ، وَكُنْتَ مِنَ الْخَاسِرِينَ. وَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُسَرِّحَهُ دَعَاهُ، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ حَرْبَ الْعِرَاقِ فَاحْفَظْ وَصِيَّتِي فَإِنَّكَ تُقْدِمُ عَلَى أَمْرٍ شَدِيدٍ كَرِيهٍ لا يَخْلُصُ مِنْهُ إِلا الْحَقُّ، فَعَوِّدْ نَفْسَكَ وَمَنْ مَعَكَ الخير، واستفتح به واعلم ان لكل عاده عتادا، فعتاد الخير الصبر، فالصبر عَلَى مَا أَصَابَكَ أَوْ نَابَكَ، يَجْتَمِعُ لَكَ خَشْيَةُ اللَّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ خَشْيَةَ اللَّهِ تَجْتَمِعُ فِي أَمْرَيْنِ: فِي طَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ، وَإِنَّمَا أَطَاعَهُ مَنْ أَطَاعَهُ بِبُغْضِ الدُّنْيَا وَحُبِّ الآخِرَةِ، وَعَصَاهُ مَنْ عَصَاهُ بِحُبِّ الدُّنْيَا

وَبُغْضِ الآخِرَةِ، وَلِلْقُلُوبِ حَقَائِقُ يُنْشِئُهَا اللَّهُ إِنْشَاءً، مِنْهَا السِّرُّ، وَمِنْهَا الْعَلانِيَةُ، فَأَمَّا الْعَلانِيَةُ فَأَنْ يَكُونَ حَامِدُهُ وَذَامُّهُ فِي الْحَقِّ سَوَاءٌ، وَأَمَّا السِّرُّ فَيُعْرَفُ بِظُهُورِ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ، وَبِمَحَبَّةِ النَّاسِ، فَلا تَزْهَدْ فِي التَّحَبُّبِ فَإِنَّ النَّبِيِّينَ قَدْ سَأَلُوا مَحَبَّتَهُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا حَبَّبَهُ، وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا بَغَّضَهُ فَاعْتَبِرْ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَتِكَ عِنْدَ النَّاسِ، مِمَّنْ يَشْرَعُ مَعَكَ فِي أَمْرِكَ ثُمَّ سَرَّحَهُ فِيمَنِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ مِنْ نَفِيرِ الْمُسْلِمِينَ. فَخَرَجَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ مِنَ الْمَدِينَةِ قَاصِدًا الْعِرَاقَ فِي أَرْبَعَةِ آلافٍ، ثَلاثَةٍ مِمَّنْ قَدِمَ عَلَيْهِ مِنَ الْيَمَنِ وَالسُّرَاةِ، وَعَلَى أَهْلِ السَّرَوَاتِ حُمَيْضَةُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ حُمَيْضَةَ الْبَارِقِيُّ، وَهُمْ بَارِقُ وَأَلْمَعُ وَغَامِدُ وَسَائِرُ اخوتهم، في سبعمائة من اهل السراة، واهل اليمن الفان وثلاثمائه، مِنْهُمُ النَّخَعُ بْنُ عَمْرٍو، وَجَمِيعُهُمْ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعَةُ آلاف، مقاتلتهم وذراريهم ونساؤهم، وَأَتَاهُمْ عُمَرُ فِي عَسْكَرِهِمْ، فَأَرَادَهُمْ جَمِيعًا عَلَى الْعِرَاقِ، فَأَبَوْا إِلا الشَّامَ، وَأَبَى إِلا الْعِرَاقَ، فسمح نِصْفَهُمْ فَأَمْضَاهُمْ نَحْوَ الْعِرَاقِ، وَأَمْضَى النِّصْفَ الآخَرَ نَحْوَ الشَّامِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ حَنَشٍ النَّخَعِيُّ، عَنْ أَبِيهِ وَغَيْرِهِ مِنْهُمْ، أَنَّ عُمَرَ أَتَاهُمْ فِي عَسْكَرِهِمْ، فَقَالَ: إِنَّ الشَّرَفَ فِيكُمْ يَا مَعْشَرَ النَّخَعِ لَمُتَرَبِّعٌ، سِيرُوا مَعَ سَعْدٍ فَنَزَعُوا إِلَى الشَّامِ، وَأَبَى إِلا الْعِرَاقَ، وَأَبَوْا إِلا الشَّامَ، فَسَرَّحَ نِصْفَهُمْ إِلَى الشَّامِ وَنِصْفَهُمْ إِلَى الْعِرَاقِ. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد وطلحة والمستنير وحنش، قالوا: وكان فيهم من حضرموت والصدف ستمائه، عليهم شداد بْن ضمعج، وكان فيهم ألف وثلاثمائة من مذحج، على ثلاثة رؤساء: عمرو بْن معديكرب على بني منبه، وأبو سبرة بْن ذؤيب على جعفي ومن في حلف جعفي من إخوة جزء وزبيد وأنس اللَّه ومن لفهم، ويزيد بْن الحارث الصدائي على صداء وجنب ومسليه في ثلاثمائة، هؤلاء شهدوا من مذحج فيمن خرج من المدينة مخرج سعد منها، وخرج

معه من قيس عيلان ألف عليهم بشر بْن عبد اللَّه الهلالي. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبيدة، عن إبراهيم، قال: خرج أهل القادسية من المدينة، وكانوا أربعة آلاف، ثلاثة آلاف منهم من أهل اليمن وألف من سائر النَّاسِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَسَهْلٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، قَالُوا: وَشَيَّعَهُمْ عُمَرُ مِنْ صِرَارٍ إِلَى الأَعْوَصِ، ثُمَّ قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا ضَرَبَ لَكُمُ الأَمْثَالَ، وَصَرَفَ لَكُمُ الْقَوْلَ، لِيُحْيِيَ بِهِ الْقُلُوبَ، فَإِنَّ الْقُلُوبَ مَيِّتَةٌ فِي صُدُورِهَا حَتَّى يُحْيِيَهَا اللَّهُ، مَنْ عَلِمَ شَيْئًا فَلْيَنْتَفِعْ بِهِ، وَإِنَّ لِلْعَدْلِ أَمَارَاتٍ وَتَبَاشِيرَ، فَأَمَّا الأَمَارَاتُ فَالْحَيَاءُ وَالسَّخَاءُ وَالْهَيْنُ وَاللِّينُ، وَأَمَّا التَّبَاشِيرُ فَالرَّحْمَةُ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ أَمْرٍ بَابًا، وَيَسَّرَ لِكُلِّ بَابٍ مِفْتَاحًا، فَبَابُ الْعَدْلِ الاعْتِبَارُ وَمِفْتَاحُهُ الزُّهْدُ. وَالاعْتِبَارُ ذِكْرُ الْمَوْتِ بِتَذَكُّرِ الأَمْوَاتِ، وَالاسْتِعْدَادِ لَهُ بِتَقْدِيمِ الأَعْمَالِ، وَالزُّهْدُ أَخْذُ الْحَقِّ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ قَبْلَهُ حَقٌّ، وَتَأْدِيَةُ الْحَقِّ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ لَهُ حَقٌّ وَلا تُصَانِعُ فِي ذَلِكَ أَحَدًا، وَاكْتَفِ بِمَا يَكْفِيكَ مِنَ الْكَفَافِ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَكْفِهِ الْكَفَافُ لَمْ يُغْنِهِ شَيْءٌ إِنِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَحَدٌ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَلْزَمَنِي دَفْعَ الدُّعَاءِ عَنْهُ، فَانْهُوا شُكَاتَكُمْ إِلَيْنَا، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِلَى مَنْ يَبْلِغُنَاهَا نَأْخُذُ لَهُ الْحَقَّ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ وَأَمَرَ سَعْدًا بِالسَّيْرِ، وَقَالَ: إِذَا انْتَهَيْتَ إِلَى زَرُودَ فَانْزِلْ بِهَا، وَتَفَرَّقُوا فِيمَا حَوْلَهَا، وَانْدُبْ مَنْ حَوْلَكَ مِنْهُمْ، وَانْتَخِبْ أَهْلَ النَّجْدَةِ وَالرَّأْيِ وَالْقُوَّةِ وَالْعُدَّةِ. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بْن سوقة، عن رجل، قال: مرت السكون مع أول كندة مع حصين بْن نمير السكوني ومعاويه بن حديج في أربعمائة، فاعترضهم، فإذا فيهم فتية دلم سباط

مع معاوية بْن حديج، فأعرض عنهم، ثم اعرض، ثم اعرض، حتى قيل له: مالك ولهؤلاء! قال: إني عنهم لمتردد، وما مر بي قوم من العرب أكره إلي منهم ثم أمضاهم، فكان بعد يكثر أن يتذكرهم بالكراهية، وتعجب الناس من رأي عمر وكان منهم رجل يقال له سودان بْن حمران، قتل عثمان بْن عفان رضي اللَّه عنه، وإذا منهم حليف لهم يقال له خالد بْن ملجم، قتل علي بْن أبي طالب رحمه اللَّه، وإذا منهم معاوية بْن حديج، فنهض في قوم منهم يتبع قتلة عثمان يقتلهم، وإذا منهم قوم يقرون قتلة عثمان. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، عَنْ مَاهَانَ، وَزِيَادٍ بِإِسْنَادِهِ، قَالُوا: وَأَمَدَّ عُمَرُ سَعْدًا بَعْدَ خُرُوجِهِ بِأَلْفَيْ يَمَانِيٍّ وَأَلْفَيْ نَجْدِيٍّ مُؤَدٍّ مِنْ غَطَفَانَ وَسَائِرِ قَيْسٍ، فَقَدِمَ سَعْدٌ زَرُودَ فِي أَوَّلِ الشِّتَاءِ، فَنَزَلَهَا وَتَفَرَّقَتِ الْجُنُودُ فِيمَا حَوْلَهَا مِنْ أَمْوَاهِ بَنِي تَمِيمٍ وَأَسَدٍ، وَانْتَظَرَ اجْتِمَاعَ النَّاسِ، وَأَمَّرَ عُمَرُ، وَانْتَخَبَ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَالرَّبَابِ أَرْبَعَةَ آلافٍ، ثَلاثَةُ آلافٍ تَمِيمِيٌّ وَأَلْفٌ رَبِيٌّ، وَانْتَخَبَ مِنْ بَنِي أَسَدٍ ثَلاثَةَ آلافٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى حَدِّ أَرْضِهِمْ بَيْنَ الْحَزْنِ وَالْبَسِيطَةِ، فَأَقَامُوا هُنَالِكَ بَيْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَبَيْنَ الْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ، وَكَانَ الْمُثَنَّى فِي ثَمَانِيَةِ آلافٍ، مِنْ رَبِيعَةَ سِتَّةُ آلافٍ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، وَأَلْفَانِ مِنْ سَائِرِ رَبِيعَةَ، أَرْبَعَةُ آلافٍ مِمَّنْ كَانَ انْتُخِبَ بَعْدَ فُصُولِ خَالِدٍ، وَأَرْبَعَةُ آلافٍ كَانُوا مَعَهُ مِمَّنْ بَقِيَ يَوْمَ الْجِسْرِ وَكَانَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ أَلْفَانِ مِنْ بَجِيلَةَ، وَأَلْفَانِ مِنْ قُضَاعَةَ وَطَيِّئٍ مِمَّنِ انْتُخِبُوا إِلَى مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، عَلَى طَيِّئٍ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، وَعَلَى قُضَاعَةَ عَمْرُو بْنُ وَبَرَةَ، وَعَلَى بَجِيلَةَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَبَيْنَا النَّاسُ كَذَلِكَ، سَعْدٌ يَرْجُو أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ الْمُثَنَّى، وَالْمُثَنَّى يَرْجُو أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ سَعْدٌ، مَاتَ الْمُثَنَّى مِنْ جِرَاحَتِهِ الَّتِي كَانَ جُرِحَهَا يَوْمَ الْجِسْرِ، انْتَقَضَتْ بِهِ، فَاسْتَخْلَفَ الْمُثَنَّى عَلَى النَّاسِ بَشِيرَ بْنَ الْخَصَّاصِيَّةِ، وَسَعْدٌ يَوْمَئِذٍ بِزَرُودَ، وَمَعَ بَشِيرٍ يَوْمَئِذٍ وُجُوهُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَمَعَ سَعْدٍ وُفُودُ أَهْلِ الْعِرَاقِ الَّذِينَ كَانُوا قَدِمُوا عَلَى عُمَرَ، مِنْهُمْ فُرَاتُ بن حيان

الْعِجْلِيُّ وَعُتَيْبَةُ، فَرَدَّهُمْ مَعَ سَعْدٍ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن محمد بإسناده، وزياد عن ماهان، قالا: فمن أجل ذلك اختلف الناس في عدد أهل القادسية، فمن قال: أربعة آلاف فلمخرجهم مع سعد من المدينة، ومن قال: ثمانية آلاف فلاجتماعهم بزرود، ومن قال: تسعة آلاف فللحاق القيسيين، ومن قال: اثنا عشر ألفا فلدفوف بني أسد من فروع الحزن بثلاثة آلاف. وأمر سعدا بالإقدام، فأقدم ونهض إلى العراق وجموع الناس بشراف، وقدم عليه مع قدومه شراف الاشعث بن قيس في الف وسبعمائة من أهل اليمن، فجميع من شهد القادسية بضعة وثلاثون ألفا، وجميع من قسم عليه فيء القادسية نحو من ثلاثين ألفا. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عُنْ زِيَادٍ، عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَنْزِعُونَ إِلَى الشَّامِ، وَكَانَتْ مُضَرَ تَنْزِعُ إِلَى الْعِرَاقِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَرْحَامُكُمْ أَرْسَخُ مِنْ أَرْحَامِنَا! مَا بَالُ مُضَرَ لا تَذْكُرُ أَسْلافَهَا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ! كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن أبي سعد بْن المرزبان، عمن حدثه، عن مُحَمَّد بْن حذيفة بْن اليمان، قال: لم يكن أحد من العرب أجرأ على فارس من ربيعة، فكان المسلمون يسمونهم ربيعة الأسد إلى ربيعة الفرس، وكانت العرب في جاهليتها تسمي فارس الأسد، والروم الأسد. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن طَلْحَةَ، عَنْ مَاهَانَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ لأَضْرِبَنَّ مُلُوكَ الْعُجْمِ بِمُلُوكِ الْعَرَبِ، فَلَمْ يَدَعْ رَئِيسًا، وَلا ذَا رَأْيٍ، وَلا ذَا شَرَفٍ، ولا ذا سطة، وَلا خَطِيبًا، وَلا شَاعِرًا، إِلا رَمَاهُمْ بِهِ، فَرَمَاهُمْ بِوُجُوهِ النَّاسِ وَغَرَّرَهُمْ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشَّعْبِيِّ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ قَدْ كَتَبَ إِلَى سَعْدٍ مُرْتَحَلَهُ مِنْ زَرُودَ، أَنِ ابْعَثْ إِلَى فرج الهند

رَجُلا تَرْضَاهُ يَكُونُ بِحِيَالِهِ، وَيَكُونُ رِدْءًا لَكَ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَتَاكَ مِنْ تِلْكَ التُّخُومِ، فبعث المغيره بن شعبه في خمسمائة، فَكَانَ بِحِيَال الأُبُلَّةِ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ، فَأَتَى غضيا، ونزل على جرير، وهو فِيمَا هُنَالِكَ يَوْمَئِذٍ فَلَمَّا نَزَلَ سَعْدٌ بِشَرَافَ، كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بِمَنْزِلِهِ وُبِمَنَازِلِ النَّاسِ فِيمَا بَيْنَ غُضَيٍّ إِلَى الْجَبَّانَةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِذَا جَاءَكَ كِتَابِي هَذَا فَعَشِّرِ النَّاسَ وَعَرِّفْ عَلَيْهِمْ، وَأَمِّرْ عَلَى أَجْنَادِهِمْ، وَعَبِّهِمْ، وَمُرْ رُؤَسَاءَ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَشْهَدُوا، وَقَدِّرْهُمْ وَهُمْ شُهُودٌ، ثُمَّ وَجِّهْهُمْ إِلَى أَصْحَابِهِمْ، وَوَاعِدْهُمُ الْقَادِسِيَّةَ، وَاضْمُمُ إِلَيْكَ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فِي خَيْلِهِ، وَاكْتُبْ إِلَيَّ بِالَّذِي يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ أَمْرُهُمْ فَبَعَثَ سَعْدٌ إِلَى الْمُغِيرَةِ، فَانْضَمَّ إِلَيْهِ وَإِلَى رُؤَسَاءِ الْقَبَائِلِ، فَأَتَوُهْ، فَقَدَّرَ النَّاسَ وَعَبَّاهُمْ بِشَرَافَ، وَأَمَّرَ أُمَرَاءَ الأَجْنَادِ، وَعَرَّفَ الْعُرَفَاءَ، فَعَرَّفَ عَلَى كُلِّ عَشَرَةٍ رَجُلا، كَمَا كانت العرافات ازمان النبي ص، وَكَذَلِكَ كَانَتْ إِلَى أَنْ فُرِضَ الْعَطَاءُ، وَأَمَّرَ عَلَى الرَّايَّاتِ رِجَالا مِنْ أَهْلِ السَّابِقَةِ، وَعَشَّرَ النَّاسَ، وَأَمَّرَ عَلَى الأَعْشَارِ رِجَالا مِنَ النَّاسِ لَهُمْ وَسَائِلُ فِي الإِسْلامِ، وَوَلَّى الْحُرُوبَ رِجَالا، فَوَلَّى عَلَى مُقَدِّمَاتِهَا وَمُجَنِّبَاتِهَا وَسَاقَتِهَا وَمُجَرِّدَاتِهَا وَطَلائِعِهَا ورجلها وركبانها، فلم يفصل الا على تعبئة، وَلَمْ يَفْصِلْ مِنْهَا إِلا بِكِتَابِ عُمَرَ وَإِذْنِهِ، فاما أمراء التعبئة، فَاسْتَعْمَلَ زَهْرَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَتَادَةَ بْنِ الحوية بْنِ مَرْثَدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَعْنِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَرْثَمَ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْحَارِثِ الأَعْرَجِ، وَكَانَ مَلِكُ هَجَرَ قَدْ سَوَّدَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَوَفَدَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه سلم، فَقَدَّمَهُ، فَفَصَلَ بِالْمُقَدِّمَاتِ بَعْدَ الإِذْنِ مِنْ شَرَافَ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْعُذَيْبِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَيْمَنَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُعْتَمِّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النبي ص، وَكَانَ أَحَدَ التِّسْعَةِ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَمَّمَهُمْ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَشَرَةً، فَكَانُوا عِرَافَةً، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَيْسَرَةِ شُرَحْبِيلَ بْنَ السِّمْطِ بْنِ شُرَحْبِيلَ الْكِنْدِيَّ- وَكَانَ غُلامًا شَابًّا، وَكَانَ قَدْ قَاتَلَ أَهْلَ الرِّدَّةِ، وَوَفَّى اللَّهَ، فَعُرِفَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَانَ قَدْ غَلَبَ الأَشْعَثَ عَلَى الشَّرَفِ فِيمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ، إِلَى أَنِ اخْتَطَّتِ الْكُوفَةِ

وَكَانَ أَبُوهُ مِمَّنْ تَقَدَّمَ إِلَى الشَّامِ مَعَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ- وَجَعَلَ خَلِيفَتَهُ خَالِدَ ابن عَرْفَطَةَ، وَجَعَلَ عَاصِمَ بْنَ عَمْرٍو التَّمِيمِيَّ ثُمَّ العمرى على الساقه، وسواد ابن مَالِكٍ التَّمِيمِيَّ عَلَى الطَّلائِعِ، وَسَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيَّ عَلَى الْمُجَرَّدَةِ، وَعَلَى الرجلِ حَمَّالَ بْنَ مَالِكٍ الأَسَدِيَّ، وَعَلَى الرُّكْبَانِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ذي السهمين الخثعمى، فكان أمراء التعبئة يَلُونَ الأَمِيرَ، وَالَّذِينَ يَلُونَ أُمَرَاءَ الأَعْشَارِ، وَالَّذِينَ يَلُونَ أُمَرَاءَ الأَعْشَارِ أَصْحَابُ الرَّايَاتِ، وَالَّذِينَ يَلُونَ أَصْحَابَ الرَّايَاتِ وَالْقُوَّادِ رُءُوسُ الْقَبَائِلِ، وَقَالُوا جَمِيعًا: لا يَسْتَعِينُ أَبُو بَكْرٍ فِي الرِّدَّةِ وَلا عَلَى الأَعَاجِمِ بِمُرْتَدٍّ، وَاسْتَنْفَرَهُمْ عُمَرُ وَلَمْ يُوَّلِّ مِنْهُمْ أَحَدًا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُجَالِدٍ وَعَمْرٍو بِإِسْنَادِهِمَا، وَسَعِيدِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ، قَالُوا: بَعَثَ عُمَرُ الأَطِبَّةَ، وَجَعَلَ عَلَى قَضَاءِ النَّاسِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيَّ ذَا النُّورِ، وَجَعَلَ إِلَيْهِ الأَقْبَاضَ وَقِسْمَةَ الْفَيْءِ، وَجَعَلَ دَاعِيَتَهُمْ وَرَائِدَهُمْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أَبِي عَمْرٍو، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، قَالَ: وَالتُّرْجُمَانُ هِلالٌ الْهَجَرِيُّ وَالْكَاتِبُ زِيَادُ بْنُ أَبِي سفيان. فلما فرغ سعد من تعبيته، وعد لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ جَمَاعًا وَرَأْسًا، كَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى عُمَرَ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ سَعْدٍ فِيمَا بَيْنَ كِتَابِهِ إِلَى عُمَرَ بِالَّذِي جَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسَ وَبَيْنَ رُجُوعِ جَوَابِهِ وَرَحْلِهِ مِنْ شراف الى القادسية قدوم المثنى بْنِ حَارِثَةَ وَسَلْمَى بِنْتِ خَصَفَةَ التَّيْمِيَّةِ، تَيْمِ اللاتِ، إِلَى سَعْدٍ بِوَصِيَّةِ الْمُثَنَّى، وَكَانَ قَدْ أَوْصَى بِهَا، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُعَجِّلُوهَا عَلَى سَعْدٍ بِزَرُودَ، فَلَمْ يَفْرُغُوا لِذَلِكَ وَشَغَلَهُمْ عَنْهُ قَابُوسُ بْنُ قَابُوسَ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الآزاذمردَ بْنَ الآزاذبهِ بَعَثَهُ إِلَى الْقَادِسِيَّةِ، وَقَالَ لَهُ: ادْعُ الْعَرَبَ، فَأَنْتَ عَلَى مَنْ أَجَابَكَ، وَكُنْ كَمَا كَانَ آبَاؤُكَ فَنَزَلَ الْقَادِسِيَّةَ، وَكَاتَبَ بَكْرَ بن

وَائِلٍ بِمِثْلِ مَا كَانَ النُّعْمَانُ يُكَاتِبُهُمْ بِهِ مُقَارَبَةً وَوَعِيدًا فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْمُعَنَّى خَبَرُهُ، أَسْرَى الْمُعَنَّى مِنْ ذِي قَارٍ حَتَّى بَيْتِهِ، فَأَنَامَهُ وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى ذِي قَارٍ، وَخَرَجَ مِنْهَا هُوَ وَسَلْمَى إِلَى سَعْدٍ بُوَصِيَّةِ الْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ وَرَأْيِهِ، فَقَدِمُوا عَلَيْهِ وَهُوَ بِشَرَافَ، يَذْكُرُ فِيهَا أَنَّ رَأْيَهُ لِسَعْدٍ أَلا يُقَاتِلَ عَدُوَّهُ وَعُدُوَّهُمْ- يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ- مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، إِذَا اسْتُجْمِعَ أَمْرُهُمْ وَمَلَؤُهُمْ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتِلَهُمْ عَلَى حُدُودِ أَرْضِهِمْ عَلَى أَدْنَى حَجَرٍ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ وَأَدْنَى مَدَرَةٍ مِنْ أَرْضِ الْعُجْمِ، فَإِنْ يُظْهِرِ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ فَلَهُمْ مَا وَرَاءَهُمْ، وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى فَاءُوا إِلَى فِئَةٍ، ثُمَّ يَكُونُوا أَعْلَمَ بِسَبِيلِهِمْ، وَأَجْرَأَ عَلَى أَرْضِهِمْ، إِلَى أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى سَعْدٍ رَأْيُ الْمُثَنَّى وَوَصِيَّتُهُ تَرَحَّمَ عَلَيْهِ، وَأَمَّرَ الْمُعَنَّى عَلَى عَمَلِهِ، وَأَوْصَى بِأَهْلِ بَيْتِهِ خَيْرًا، وَخَطَبَ سَلْمَى فَتَزَوَّجَهَا وَبَنَى بِهَا، وَكَانَ فِي الأَعْشَارِ كلها بضعه وسبعون بدريا، وثلاثمائة وَبِضْعَةُ عَشْرَ مِمَّنْ كَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، فِيمَا بَيْنَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ إِلَى مَا فَوْقَ ذَلِكَ، وثلاثمائة ممن شهد الفتح، وسبعمائة مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ، فِي جَمِيعِ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ وَقَدِمَ عَلَى سَعْدٍ وَهُوَ بِشَرَافِ كِتَابُ عُمَرَ بِمِثْلِ رَأْيِ الْمُثَنَّى، وَقَدْ كَتَبَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ مَعَ كِتَابِ سَعْدٍ، فَفَصَلَ كِتَابَاهُمَا إِلَيْهِمَا، فَأَمَرَ أَبَا عُبَيْدَةَ فِي كِتَابِهِ بِصَرْفِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَهُمْ سِتَّةُ آلافٍ، وَمَنِ اشْتَهَى أَنْ يَلْحَقَ بِهِمْ، وَكَانَ كِتَابُهُ إِلَى سَعْدٍ: أَمَّا بَعْدُ، فَسِرْ مِنْ شَرَافَ نَحْوَ فَارِسَ بِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَاسْتَعِنْ بِهِ عَلَى أَمْرِكَ كُلِّهِ، وَاعْلَمْ فِيمَا لَدَيْكَ أَنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى أُمَّةٍ عَدَدُهُمْ كَثِيرٌ، وَعُدَّتُهُمْ فَاضِلَةٌ، وَبَأْسُهُمْ شَدِيدٌ، وَعَلَى بَلَدٍ مَنِيعٍ- وَإِنْ كان سهلا- كؤود لِبُحُورِهِ وَفُيُوضِهِ وَدَآدِئِهِ، إِلا أَنْ تُوَافِقُوا غَيْضًا مِنْ فَيْضٍ. وَإِذَا لَقِيتُمُ الْقَوْمَ أَوْ أَحَدًا مِنْهُمْ فَابْدَءُوهُمُ الشَّدَّ وَالضَّرْبَ، وَإِيَّاكُمْ وَالْمُنَاظَرَةَ لِجُمُوعِهِمْ وَلا يَخْدَعَنَّكُمْ، فَإِنَّهُمْ خُدْعَةٌ مَكْرَةٌ، أَمْرُهُمْ غَيْرُ امركم، الا

أَنْ تُجَادُّوهُمْ، وَإِذَا انْتَهَيْتَ إِلَى الْقَادِسِيَّةِ- وَالْقَادِسِيَّةُ بَابُ فَارِسَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهِيَ أَجْمَعُ تِلْكَ الأَبْوَابِ لِمَادَّتِهِمْ، وَلِمَا يُرِيدُونَهُ مِنَ تِلْكَ الآصل، وَهُوَ مَنْزِلٌ رَغِيبٌ خَصِيبٌ حَصِينٌ دُونَهُ قَنَاطِرٌ، وَأَنْهَارٌ مُمْتَنِعَةٌ- فَتَكُونُ مَسَالِحُكَ عَلَى أَنْقَابِهَا، وَيَكُونُ النَّاسُ بَيْنَ الْحَجَرِ وَالْمَدَرِ عَلَى حَافَّاتِ الْحَجَرِ وَحَافَّاتِ الْمَدَرِ، وَالْجِرَاعُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ الْزَمْ مَكَانَكَ فلا تبرحه، فإنهم إذا احسوك انغضتهم وَرَمَوْكَ بِجَمْعِهِمُ الَّذِي يَأْتِي عَلَى خَيْلِهِمْ وَرِجْلِهِمْ وَحَدِّهِمْ وَجَدِّهِمْ، فَإِنْ أَنْتُمْ صَبَرْتُمْ لِعَدُوِّكُمْ وَاحْتَسَبْتُمْ لِقِتَالِهِ وَنَوَيْتُمُ الأَمَانَةَ، رَجَوْتُ أَنْ تُنْصَرُوا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ لا يَجْتَمِعُ لَكُمْ مِثْلَهُمْ أَبَدًا إِلا أَنْ يَجْتَمِعُوا، وَلَيْسَتْ مَعَهُمْ قُلُوبُهُمْ، وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى كَانَ الْحَجَرُ فِي أَدْبَارِكُمْ، فَانْصَرَفْتُمْ مِنْ أَدْنَى مَدَرَةٍ مِنْ أَرْضِهِمْ إِلَى أَدْنَى حَجَرٍ مِنْ أَرْضِكُمْ، ثُمَّ كُنْتُمْ عَلَيْهَا أَجْرَأَ وَبِهَا أَعْلَمَ، وَكَانُوا عَنْهَا أَجْبَنَ وَبِهَا أَجْهَلَ، حَتَّى يَأْتِي اللَّهُ بِالْفَتْحِ عَلَيْهِمْ، وَيَرُدُّ لَكُمُ الْكَرَّةَ. وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَيْضًا بِالْيَوْمِ الَّذِي يَرْتَحِلُ فِيهِ مِنْ شَرَافَ: فَإِذَا كَانَ يَوْمُ كَذَا وَكَذَا فَارْتَحِلْ بِالنَّاسِ حَتَّى تَنْزِلَ فِيمَا بَيْنَ عُذَيْبِ الْهَجَانَاتِ وَعُذَيْبِ الْقَوَادِسِ، وَشَرِّقْ بِالنَّاسِ وَغَرِّبْ بِهِمْ. ثم قدم عليه كتاب جواب عُمَرَ: أَمَّا بَعْدُ، فَتُعَاهِدْ قَلْبَكَ، وَحَادِثْ جُنْدَكَ بِالْمَوْعِظَةِ وَالنِّيَّةِ وَالْحِسْبَةِ، وَمَنْ غَفَلَ فَلْيُحَدِّثْهُمَا، وَالصَّبْرَ الصَّبْرَ، فَإِنَّ الْمَعُونَةَ تَأْتِي مِنَ اللَّهِ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ، وَالأَجْرُ عَلَى قَدْرِ الْحِسْبَةِ وَالْحَذَرَ الْحَذَرَ عَلَى مَنْ أَنْتَ عَلَيْهِ وَمَا أَنْتَ بِسَبِيلِهِ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، وَأَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ، وَاكْتُبْ إِلَيَّ أَيْنَ بَلَغَكَ جَمْعُهُمْ، وَمَنْ رَأْسُهُمُ الَّذِي يَلِي مُصَادَمَتَكُمْ، فَإِنَّهُ قَدْ مَنَعَنِي مِنْ بَعْضِ مَا أَرَدْتَ الْكِتَابَ بِهِ قِلَّةُ عِلْمِي بِمَا هَجَمْتُمْ عَلَيْهِ، وَالَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أَمْرُ عَدُوِّكُمْ، فَصِفْ لَنَا مَنَازِلَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْبَلَدِ الَّذِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْمَدَائِنِ صِفَةً كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَاجْعَلْنِي مِنْ أَمْرِكُمْ عَلَى الْجَلِيَّةِ، وَخَفِ اللَّهَ وَارْجُهُ، وَلا تُدْلِ بِشَيْءٍ وَاعْلَمْ

أَنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَكُمْ وَتَوَكَّلَ لِهَذَا الأَمْرِ بِمَا لا خُلْفَ لَهُ، فَاحْذَرْ أَنْ تَصْرِفَهُ عَنْكَ، وَيُسْتَبْدَلَ بِكُمْ غَيْرُكُمْ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ سَعْدٌ بِصِفَةِ الْبُلْدَانِ: إِنَّ الْقَادِسِيَّةَ بَيْنَ الْخَنْدَقِ وَالْعَتِيقِ، وَإِنَّ مَا عَنْ يَسَارِ الْقَادِسِيَّةِ بَحْرٌ أَخْضَرُ فِي جَوْفٍ لاحَ إِلَى الْحِيرَةِ بَيْنَ طَرِيقَيْنِ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَعَلَى الظَّهْرِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَعَلَى شَاطِئِ نَهْرٍ يُدْعَى الْحَضُوضَ، يَطْلَعُ بِمَنْ سَلَكَهُ عَلَى مَا بَيْنَ الْخَوَرْنَقِ وَالْحِيرَةِ، وَمَا عَنْ يَمِينِ الْقَادِسِيَّةِ إِلَى الْولجَةِ فَيْضٌ مِنْ فُيُوضِ مِيَاهِهِمْ وَإِنَّ جَمِيعَ مَنْ صَالَحَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ قَبْلِي ألب لأَهْلِ فَارِسَ قَدْ خَفُّوا لَهُمْ، وَاسْتَعَدُّوا لَنَا وَإِنَّ الَّذِي أَعَدُّوا لِمُصَادَمَتِنَا رُسْتُمَ فِي أَمْثَالٍ لَهُ مِنْهُمْ، فَهُمْ يُحَاوِلُونَ إِنْغَاضَنَا وَإِقْحَامَنَا، وَنَحْنُ نُحَاوِلُ إِنْغَاضَهُمْ وَإِبْرَازَهُمْ، وَأَمْرُ اللَّهِ بَعْدُ مَاضٍ، وَقَضَاؤُهُ مُسَلِّمٌ إِلَى مَا قَدَّرَ لَنَا وَعَلَيْنَا، فَنَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرَ الْقَضَاءِ، وَخَيْرَ الْقَدَرِ فِي عَافِيَةٍ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: قَدْ جَاءَنِي كِتَابُكَ وَفَهِمْتُهُ، فَأَقِمْ بِمَكَانِكَ حَتَّى يُنْغِضَ اللَّهُ لَكَ عَدُوَّكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ لَهَا مَا بَعْدَهَا، فَإِنْ مَنَحَكَ اللَّهُ أَدْبَارَهُمْ فَلا تَنْزَعْ عَنْهُمْ حَتَّى تَقْتَحِمَ عَلَيْهِمُ الْمَدَائِنَ، فَإِنَّهُ خَرَابُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَجَعَلَ عُمَرُ يَدْعُو لِسَعْدٍ خَاصَّةً، وَيَدْعُونَ لَهُ مَعَهُ، وَلِلْمُسْلِمِينَ عامه، فقدم زهره سعد حَتَّى عَسْكَرَ بِعُذَيْبِ الْهَجَانَاتِ، ثُمَّ خَرَجَ فِي أَثَرِهِ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَى زَهْرَةَ بِعُذَيْبِ الْهَجَانَاتِ، وَقَدَّمَهُ، فَنَزَلَ زَهْرَةُ الْقَادِسِيَّةَ بَيْنَ الْعَتِيقِ وَالْخَنْدَقِ بِحِيالِ الْقَنْطَرَةِ، وَقُدَيْسُ يَوْمَئِذٍ أَسْفَلُ مِنْهَا بِمَيْلٍ. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنِ الْقَعْقَاعِ بِإِسْنَادِهِ، قَالَ: وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى سَعْدٍ: إِنِّي قَدْ أُلْقِيَ فِي رَوْعِي أَنَّكُمْ إذا لقيتم العدو هزمتموهم، فَاطْرَحُوا الشَّكَّ، وَآثِرُوا التَّقِيَّةَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لاعَبَ أَحَدٌ مِنْكُمْ أَحَدًا مِنَ الْعُجْمِ بِأَمَانٍ أَوْ قرفه باشاره او بلسان، فكان لا يَدْرِي الأَعْجَمِيُّ مَا كَلَّمَهُ بِهِ، وَكَانَ عِنْدَهُمْ أَمَانًا فَأَجْرُوا ذَلِكَ لَهُ مَجْرَى الأَمَانِ، وَإِيَّاكُمْ وَالضَّحِكَ وَالْوَفَاءَ الْوَفَاءَ! فَإِنَّ الْخَطَأَ بِالْوَفَاءِ بقية وان الخطا بالغدر الهلكة، وفيها وهنك

وَقُوَّةُ عَدُوِّكُمْ، وَذَهَابُ رِيحِكُمْ، وَإِقْبَالُ رِيحِهِمْ وَاعْلَمُوا أَنِّي أُحَذِّرُكُمْ أَنْ تَكُونُوا شَيْنًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَسَبَبًا لِتَوْهِينِهِمْ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن عبد اللَّه بْن مسلم العكلي والمقدام بْن أبي المقدام، عن أبيه، عن كرب بْن أبي كرب العكلي- وكان في المقدمات أيام القادسية- قال: قدمنا سعد من شراف، فنزلنا بعذيب الهجانات ثم ارتحل، فلما نزل علينا بعذيب الهجانات وذلك في وجه الصبح خرج زهرة بْن الحوية في المقدمات، فلما رفع لنا العذيب- وكان من مسالحهم- استبنا على بروجه ناسا، فما نشاء أن نرى على برج من بروجه رجلا أو بين شرفتين إلا رأيناه، وكنا في سرعان الخيل، فأمسكنا حتى تلاحق بنا كثف ونحن نرى أن فيها خيلا، ثم أقدمنا على العذيب، فلما دنونا منه، خرج رجل يركض نحو القادسية، فانتهينا إليه، فدخلناه فإذا ليس فيه أحد، وإذا ذلك الرجل هو الذي كان يتراءى لنا على البروج وهو بين الشرف مكيدة، ثم انطلق بخبرنا، فطلبناه فأعجزنا، وسمع بذلك زهرة فاتبعنا، فلحق بنا وخلفنا واتبعه وقال: إن أفلت الربيء أتاهم الخبر فلحقه بالخندق فطعنه فجدله فيه، وكان أهل القادسية يتعجبون من شجاعة ذلك الرجل، ومن علمه بالحرب، لم ير عين قوم قط أثبت ولا أربط جأشا من ذلك الفارسي، لولا بعد غايته لم يلحق به، ولم يصبه زهرة، ووجد المسلمون في العذيب رماحا ونشابا وأسفاطا من جلود وغيرها، انتفع بها المسلمون ثم بث الغارات، وسرحهم في جوف الليل، وأمرهم بالغارة على الحيرة، وأمر عليهم بكير بْن عبد اللَّه الليثي- وكان فيها الشماخ الشاعر القيسي في ثلاثين معروفين بالنجدة والبأس- فسروا حتى جازوا السيلحين، وقطعوا جسرها يريدون الحيرة، فسمعوا جلبة وأزفلة، فأحجموا عن الإقدام، وأقاموا كمينا حتى يتبينوا، فما زالوا كذلك حتى جازوا بهم، فإذا خيول تقدم تلك الغوغاء، فتركوها فنفذت الطريق إلى الصنين، واذاهم

لم يشعروا بهم، وإنما ينتظرون ذلك العين لا يريدونهم، ولا يأبهون لهم، إنما همتهم الصنين، وإذا اخت آزاذ مرد بْن آزاذبه مرزبان الحيرة تزف إلى صاحب الصنين- وكان من أشراف العجم- فسار معها من يبلغها مخافة ما هو دون الذي لقوا، فلما انقطعت الخيل عن الزواف، والمسلمون كمين في النخل، وجازت بهم الأثقال، حمل بكير على شيرزاذ بْن أزاذبه، وهو بينها وبين الخيل، فقصم صلبه، وطارت الخيل على وجوهها، وأخذوا الأثقال وابنة آزاذبه في ثلاثين امرأة من الدهاقين ومائة من التوابع، ومعهم ما لا يدرى قيمته، ثم عاج واستاق ذلك، فصبح سعدا بعذيب الهجانات بما أفاء اللَّه على المسلمين، فكبروا تكبيرة شديدة فقال سعد: أقسم بالله لقد كبرتم تكبيرة قوم عرفت فيهم العز، فقسم ذلك سعد على المسلمين فالخمس نفله، وأعطى المجاهدين بقيته، فوقع منهم موقعا، ووضع سعد بالعذيب خيلا تحوط الحريم، وانضم إليها حاطة كل حريم، وأمر عليهم غالب بْن عبد اللَّه الليثي، ونزل سعد القادسية، فنزل بقديس، ونزل زهرة بحيال قنطرة العتيق في موضع القادسية اليوم، وبعث بخبر سرية بكير، وبنزوله قديسا، فأقام بها شهرا، ثم كتب إلى عمر: لم يوجه القوم إلينا أحدا، ولم يسندوا حربا إلى أحد علمناه، ومتى ما يبلغنا ذلك نكتب به، واستنصر اللَّه، فإنا بمنحاة دنيا عريضة، دونها بأس شديد، قد تقدم إلينا في الدعاء إليهم، فقال: «سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ» . وبعث سعد في مقامه ذلك إلى أسفل الفرات عاصم بْن عمرو فسار حتى أتى ميسان، فطلب غنما أو بقرا فلم يقدر عليها، وتحصن منه من في الأفدان، ووغلوا في الآجام، ووغل حتى أصاب رجلا على طف أجمة، فسأله واستدله على البقر والغنم، فحلف له وقال: لا أعلم، وإذا هو راعي ما في تلك الأجمة، فصاح منها ثور كذب والله وها نحن أولاء، فدخل فاستاق الثيران وأتى بها العسكر، فقسم ذلك سعد على الناس فأخصبوا أياما، وبلغ ذلك الحجاج في زمانه، فأرسل إلى نفر ممن شهدها أحدهم نذير بْن عمرو والوليد بْن عبد شمس وزاهر،

فسألهم فقالوا: نعم، نحن سمعنا ذلك، ورأيناه واستقناها، فقال: كذبتم! فقالوا: كذلك، إن كنت شهدتها وغبنا عنها، فقال: صدقتم، فما كان الناس يقولون في ذلك؟ قالوا: آية تبشير يستدل بها على رضا اللَّه، وفتح عدونا، فقال: والله ما يكون هذا إلا والجمع أبرار أتقياء، قالوا: والله ما ندري ما أجنت قلوبهم، فأما ما رأينا فإنا لم نر قوما قط أزهد في دنيا منهم، ولا أشد لها بغضا، ما اعتد على رجل منهم في ذلك اليوم بواحدة من ثلاث، لا بجبن ولا بغدر ولا بغلول، وكان هذا اليوم يوم الأباقر، وبث الغارات بين كسكر والأنبار، فحووا من الأطعمة ما كانوا يستكفون به زمانا، وبعث سعد عيونا إلى أهل الحيرة وإلى صلوبا، ليعلموا له خبر أهل فارس، فرجعوا إليه بالخبر، بأن الملك قد ولى رستم بْن الفرخزاذ الأرمني حربه، وأمره بالعسكرة فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: لا يكربنك ما يأتيك عنهم، ولا ما يأتونك به، واستعن بالله وتوكل عليه، وابعث إليه رجالا من أهل المنظرة والرأي والجلد يدعونه، فإن اللَّه جاعل دعاءهم توهينا لهم، وفلجا عليهم، واكتب إلي في كل يوم ولما عسكر رستم بساباط كتبوا بذلك إلى عمر كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عَنْ أَبِي ضَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حازم، قالا: لما بلغ سعدا فصول رُسْتُمَ إِلَى سَابَاطَ، أَقَامَ فِي عَسْكَرِهِ لاجْتِمَاعِ النَّاسِ، فَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَإِنَّهُ قَالَ: كَتَبَ إِلَيْهِ سَعْدٌ أَنَّ رُسْتُمَ قَدْ ضَرَبَ عَسْكَرَهُ بِسَابَاطَ دُونَ الْمَدَائِنِ وَزَحَفَ إِلَيْنَا، وَأَمَّا أَبُو ضَمْرَةَ فَإِنَّهُ قَالَ: كَتَبَ إِلَيْهِ أَنَّ رُسْتُمَ قَدْ عَسْكَرَ بِسَابَاطَ، وَزَحَفَ إِلَيْنَا بِالْخُيُولِ وَالْفُيُولِ وَزُهَاءِ فَارِسَ، وَلَيْسَ شَيْءٌ أَهَمَّ إِلَيَّ وَلا أَنَا لَهُ أَكْثَرُ ذِكْرًا مِنِّي لِمَا أَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ عَلَيْهِ، وَنَسْتَعِينُ بِاللَّهِ، وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، وَقَدْ بعثت فلانا وفلانا وهم ما وصفت

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عَمْرٍو وَالْمُجَالِدِ بِإِسْنَادِهِمَا، وَسَعِيدِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ حِينَ جَاءَهُ أَمْرُ عُمَرَ فِيهِمْ، جَمَعَ نَفَرًا عَلَيْهِمْ نِجَارٌ، وَلَهُمْ آرَاءٌ، وَنَفَرًا لَهُمْ مَنْظَرٌ، وَعَلَيْهِمْ مَهَابَةٌ وَلَهُمْ آرَاءٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ عَلَيْهِمْ نِجَارٌ وَلَهُمْ آرَاءٌ وَلَهُمُ اجْتِهَادٌ فَالنُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ وَبُسْرُ بْنُ أَبِي رُهْمٍ وَحَمَلَةُ بْنُ جُوَيَّةَ الْكِنَانِيُّ وَحَنْظَلَةُ بْنُ الرَّبِيعِ التَّمِيمِيُّ وَفُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ الْعِجْلِيُّ وعدى بن سهيل والمغيره بن زراره بْنُ النَّبَّاشِ بْنِ حَبِيبٍ، وَأَمَّا مَنْ لَهُمْ مَنْظَرٌ لأَجْسَامِهِمْ، وَعَلَيْهِمْ مَهَابَةٌ وَلَهُمْ آرَاءٌ، فَعُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ وَالأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ وَالْحَارِثُ بْنُ حسان وعاصم بن عمرو وعمرو ابن معديكرب والمغيره بن شعبه والمثنى بْنُ حَارِثَةَ، فَبَعَثَهُمْ دُعَاةً إِلَى الْمَلِكِ. حَدَّثَنِي محمد بن عبد الله بن صفوان الثقفي، قال: حدثنا أمية بن خالد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عبد الرحمن، قَالَ: قَالَ أَبُو وَائِلٍ: جَاءَ سَعْدٌ حَتَّى نَزَلَ الْقَادِسِيَّةَ، وَمَعَهُ النَّاسُ، قَالَ: لا أَدْرِي لَعَلَّنَا لا نَزِيدُ عَلَى سَبْعَةِ آلافٍ أَوْ نحو من ذلك، والمشركين ثَلاثُونَ أَلْفًا أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ فَقَالُوا لَنَا: لا يدي لَكُمْ وَلا قوة وَلا سِلاح، ما جاء بكم؟ ارجعوا، قَالَ: قُلْنَا: لا نَرْجِعُ، وَمَا نَحْنُ بِرَاجِعِينَ، فَكَانُوا يَضْحَكُونَ مِنْ نُبْلِنَا، وَيَقُولُونَ: دوك دوك، وَيُشَبِّهُونَهَا بِالْمَغَازِلِ قَالَ: فَلَمَّا أَبَيْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ نَرْجِعَ، قَالُوا: ابْعَثُوا إِلَيْنَا رَجُلا مِنْكُمْ، عَاقِلا يُبَيِّنُ لَنَا مَا جَاءَ بِكُمْ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: أَنَا، فَعَبَرَ إِلَيْهِمْ، فَقَعَدَ مَعَ رُسْتُمَ عَلَى السَّرِيرِ، فَنَخَرُوا وَصَاحُوا، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَمْ يَزِدْنِي رِفْعَةً، وَلَمْ يُنْقِصْ صَاحِبَكُمْ، قَالَ رُسْتُمَ: صَدَقْتَ، مَا جَاءَ بِكُمْ؟ قَالَ: انا كنا قوما في شر وَضَلالَةٍ، فَبَعَثَ اللَّهُ فِينَا نَبِيًّا، فَهَدَانَا اللَّهُ بِهِ وَرَزَقَنَا عَلَى يَدَيْهِ، فَكَانَ مِمَّا رَزَقَنَا حَبَّةٌ زعمت تَنْبُتُ بِهَذَا الْبَلَدِ، فَلَمَّا أَكَلْنَاهَا وَأَطْعَمْنَاهَا أَهْلِينَا قَالُوا: لا صَبْرَ لَنَا عَنْ هَذِهِ، أَنْزِلُونَا هَذِهِ الأَرْضَ حَتَّى نَأْكُلَ مِنْ هَذِهِ الْحَبَّةِ، فَقَالَ رُسْتُمُ: إِذًا نَقْتُلَكُمْ، فَقَالَ: ان قتلتمونا

دَخَلْنَا الْجَنَّةَ، وَإِنْ قَتَلْنَاكُمْ دَخَلْتُمُ النَّارَ، أَوْ أَدَّيْتُمُ الْجِزْيَةَ قَالَ: فَلَمَّا قَالَ: أَدَّيْتُمُ الْجِزْيَةَ، نَخَرُوا وَصَاحُوا، وَقَالُوا: لا صُلْحَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، فَقَالَ: الْمُغِيرَةُ: تَعْبُرُونَ إِلَيْنَا أَوْ نَعْبُرُ إِلَيْكُمْ؟ فَقَالَ رُسْتُمُ: بَلْ نَعْبُرُ إِلَيْكُمْ، فَاسْتَأْخَرَ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى عَبَرَ مِنْهُمْ مَنْ عَبَرَ، فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ فهزموهم. قَالَ حُصَيْنٌ: فَحَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنَّا يُقَالُ لَهُ عُبَيْدُ بْنُ جَحْشٍ السُّلَمِيُّ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَإِنَّا لَنَطَأُ عَلَى ظُهُورِ الرِّجَالِ، مَا مَسَّهُمْ سِلاحٌ، قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا أَصَبْنَا جِرَابًا مِنْ كَافُورٍ، فَحَسِبْنَاهُ مِلْحًا لا نَشُكُّ أَنَّهُ مِلْحٌ، فَطَبَخْنَا لَحْمًا، فَجَعَلْنَا نُلْقِيهِ فِي الْقِدْرِ فَلا نَجِدْ لَهُ طَعْمًا، فَمَرَّ بِنَا عبادي مَعَهُ قَمِيصٌ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُعَرِّبِينَ، لا تُفْسِدُوا طَعَامَكُمْ، فَإِنَّ مِلْحَ هَذِهِ الأَرْضِ لا خَيْرَ فِيهِ، هَلْ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا هَذَا الْقَمِيصَ بِهِ؟ فَأَخَذْنَاهُ مِنْهُ، وَأَعْطَيْنَاهُ مِنَّا رَجُلا يَلْبَسُهُ، فَجَعَلْنَا نُطِيفُ بِهِ وَنَعْجَبُ مِنْهُ، فَلَمَّا عَرَفْنَا الثِّيَابَ، إِذَا ثَمَنُ ذَلِكَ الْقَمِيصِ دِرْهَمَانِ قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَقْرَبَ إِلَى رَجُلٍ عَلَيْهِ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ، وَسِلاحُهُ، فَجَاءَ فَمَا كَلَّمْتُهُ حَتَّى ضَرَبْتُ عُنُقَهُ. قَالَ: فَانْهَزَمُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الصَّرَاةِ، فَطَلَبْنَاهُمْ فَانْهَزَمُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْمَدَائِنِ، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ بِكُوثَى وَكَانَ مَسْلَحَةُ الْمُشْرِكِينَ بِدَيْرِ الْمِسْلاخِ، فَأَتَاهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَالْتَقَوْا، فَهُزِمَ الْمُشْرِكُونَ حَتَّى نَزَلُوا بِشَاطِئِ دِجْلَةَ، فَمِنْهُمْ مَنْ عَبَرَ مِنْ كَلْوَاذَى، وَمِنْهُمْ مَنْ عَبَرَ مِنْ أَسْفَلِ الْمَدَائِنِ، فَحَصَرُوهُمْ حَتَّى- مَا يَجِدُونَ طَعَامًا يَأْكُلُونَهُ، إِلا كِلابَهُمْ وَسَنَانِيرَهُمْ فَخَرَجُوا لَيْلا، فَلَحِقُوا بِجَلُولاءَ، فَأَتَاهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَعَلَى مُقَدِّمَةِ سَعْدٍ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ، وَمَوْضِعُ الْوَقْعَةِ الَّتِي أَلْحَقَهُمْ مِنْهَا فَرِيدٌ قَالَ أَبُو وَائِلٍ: فَبَعَثَ عُمَرُ بن الخطاب حذيفة ابن الْيَمَانِ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَمُجَاشِعَ بْنَ مَسْعُودٍ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَطَلْحَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ، قَالُوا: فَخَرَجُوا مِنَ الْعَسْكَرِ حَتَّى قَدِمُوا الْمَدَائِنَ احْتِجَاجًا وَدُعَاةً لِيَزْدَجَرْدَ، فَطَوَوْا رُسْتُمَ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى بَابِ يَزْدَجَرْدَ، فَوَقَفُوا عَلَى خُيُولٍ عَرَواتٍ، مَعَهُمْ جَنَائِبُ، وَكُلُّهَا صَهَّالٌ، فَاسْتَأْذَنُوا فَحُبِسُوا، وَبَعَثَ يَزْدَجَرْدُ إِلَى وُزَرَائِهِ وَوَجُوهِ أَرْضِهِ يَسْتَشِيرَهُمْ فِيمَا

يَصْنَعُ بِهِمْ، وَيَقُولُهُ لَهُمْ، وَسَمِعَ بِهِمُ النَّاسُ فَحَضَرُوهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ، وَعَلَيْهِمُ الْمُقَطَّعَاتُ وَالْبُرُودُ، وَفِي أَيْدِيهِمْ سِيَاطٌ دِقَاقٌ، وَفِي أَرْجُلِهِمُ النِّعَالُ فَلَمَّا اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ أَذِنَ لَهُمْ فَأُدْخِلُوا عَلَيْهِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن طلحة، عن بنت كيسان الضبية، عن بعض سبايا القادسية ممن حسن إسلامه، وحضر هذا اليوم الذي قدم فيه وفود العرب قال: وثاب إليهم الناس ينظرون إليهم، فلم أر عشرة قط يعدلون في الهيئة بألف غيرهم، وخيلهم تخبط ويوعد بعضها بعضا وجعل أهل فارس يسوءهم ما يرون من حالهم وحال خيلهم، فلما دخلوا على يزدجرد أمرهم بالجلوس، وكان سَيِّئَ الأدب، فكان أول شيء دار بينه وبينهم أن أمر الترجمان بينه وبينهم فقال: سلهم ما يسمون هذه الأردية؟ فسأل النعمان- وكان على الوفد: ما تسمي رداءك؟ قال: البرد، فتطير وقال: بردجهان، وتغيرت ألوان فارس وشق ذلك عليهم ثم قال: سلهم عن أحذيتهم، فقال: ما تسمون هذه الاحذيه؟ فقال: النعمان، فعاد لمثلها، فقال: ناله ناله في أرضنا، ثم سأله عن الذي في يده فقال: سوط، والسوط بالفارسية الحريق، فقال: أحرقوا فارس أحرقهم اللَّه! وكان تطيره على أهل فارس، وكانوا يجدون من كلامه. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، بمثله وزاد: ثم قال الملك: سلهم ما جاء بكم؟ وما دعاكم إلى غزونا والولوع ببلادنا؟ أمن أجل أنا أجممناكم، وتشاغلنا عنكم، اجترأتم علينا! فقال لهم النعمان ابن مقرن: إن شئتم أجبت عنكم، ومن شاء آثرته فقالوا: بل تكلم، وقالوا للملك: كلام هذا الرجل كلامنا فتكلم النعمان، فقال: إن اللَّه رحمنا فأرسل إلينا رسولا يدلنا على الخير ويأمرنا به، ويعرفنا الشر وينهانا عنه، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة، فلم يدع إلى ذلك قبيلة إلا صاروا فرقتين، فرقة تقاربه، وفرقة تباعده، ولا يدخل معه في دينه إلا الخواص فمكث

بذلك ما شاء اللَّه أن يمكث، ثم أمر أن ينبذ إلى من خالفه من العرب، وبدأ بهم وفعل، فدخلوا معه جميعا على وجهين: مكره عليه فاغتبط، وطائع أتاه فازداد، فعرفنا جميعا فضل ما جاء به على الذي كنا عليه من العداوة والضيق، ثم أمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف، فنحن ندعوكم إلى ديننا، وهو دين حسن الحسن وقبح القبيح كله، فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون من آخر شر منه الجزاء، فإن أبيتم فالمناجزة، فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب اللَّه، وأقمناكم عليه، على أن تحكموا بأحكامه، ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم، وإن اتقيتمونا بالجزاء قبلنا ومنعناكم، وإلا قاتلناكم. قال: فتكلم يزدجرد، فقال: إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددا ولا أسوأ ذات بين منكم، قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي فيكفونناكم لا تغزون فارس ولا تطمعون أن تقوموا لهم، فإن كان عدد لحق فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتا إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم، وملكنا عليكم ملكا يرفق بكم. فأسكت القوم فقام المغيرة بْن زرارة بْن النباش الأسيدي، فقال: أيها الملك، إن هؤلاء رءوس العرب ووجوههم، وهم أشراف يستحيون من الأشراف، وإنما يكرم الأشراف الأشراف، ويعظم حقوق الأشراف الأشراف، ويفخم الأشراف الأشراف، وليس كل ما أرسلوا به جمعوه لك، ولا كل ما تكلمت به أجابوك عليه، وقد أحسنوا ولا يحسن بمثلهم إلا ذلك، فجاوبني لأكون الذي أبلغك، ويشهدون على ذلك، أنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالما، فأما ما ذكرت من سوء الحال، فما كان أسوأ حالا منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات، فنرى ذلك طعامنا وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم،

ديننا أن يقتل بعضنا بعضا، ويغير بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية كراهية أن تأكل من طعامنا، فكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك، فبعث اللَّه إلينا رجلا معروفا، نعرف نسبه، ونعرف وجهه ومولده، فأرضه خير أرضنا، وحسبه خير أحسابنا، وبيته أعظم بيوتنا، وقبيلته خير قبائلنا، وهو بنفسه كان خيرنا في الحال التي كان فيها أصدقنا وأحلمنا، فدعانا الى امر فلم يجبه احد قبل ترب كان له وكان الخليفة من بعده، فقال وقلنا، وصدق وكذبنا، وزاد ونقصنا، فلم يقل شيئا إلا كان، فقذف اللَّه في قلوبنا التصديق له واتباعه، فصار فيما بيننا وبين رب العالمين، فما قال لنا فهو قول اللَّه، وما أمرنا فهو أمر اللَّه، فقال لنا: إن ربكم يقول: إني أنا اللَّه وحدي لا شريك لي، كنت إذ لم يكن شيء وكل شيء هالك إلا وجهي، وأنا خلقت كل شيء، وإلي يصير كل شيء، وإن رحمتي أدركتكم فبعثت إليكم هذا الرجل لأدلكم على السبيل التي بها أنجيكم بعد الموت من عذابي، ولأحلكم داري، دار السلام، فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الحق، وقال: من تابعكم على هذا فله ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أبى فاعرضوا عليه الجزية، ثم امنعوه مما تمنعون منه أنفسكم، ومن أبى فقاتلوه، فأنا الحكم بينكم فمن قتل منكم أدخلته جنى، ومن بقي منكم أعقبته النصر على من ناوأه، فاختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر، وإن شئت فالسيف، أو تسلم فتنجي نفسك فقال: أتستقبلني بمثل هذا! فقال: ما استقبلت إلا من كلمني، ولو كلمني غيرك لم أستقبلك به فقال: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم، لا شيء لكم عندي، وقال: ائتوني بوقر من تراب، فقال: احملوه على أشرف هؤلاء، ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن، ارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أني مرسل إليكم رستم

حتى يدفيكم ويدفيه في خندق القادسية، وينكل به وبكم من بعد، ثم أورده بلادكم، حتى أشغلكم في أنفسكم بأشد مما نالكم من سابور. ثم قال: من أشرفكم؟ فسكت القوم، فقال عاصم بْن عمرو- وافتات ليأخذ التراب: أنا أشرفهم، أنا سيد هؤلاء فحملنيه، فقال: أكذاك؟ قالوا: نعم، فحمله على عنقه، فخرج به من الإيوان والدار حتى أتى راحلته فحمله عليها، ثم انجذب في السير، فأتوا به سعدا وسبقهم عاصم فمر بباب قديس فطواه، فقال: بشروا الأمير بالظفر، ظفرنا إن شاء اللَّه. ثم مضى حتى جعل التراب في الحجر، ثم رجع فدخل على سعد، فأخبره الخبر فقال: أبشروا فقد والله أعطانا اللَّه أقاليد ملكهم وجاء أصحابه وجعلوا يزدادون في كل يوم قوة، ويزداد عدوهم في كل يوم وهنا، واشتد ما صنع المسلمون، وصنع الملك من قبول التراب على جلساء الملك، وراح رستم من ساباط إلى الملك يسأله عما كان من أمره وأمرهم، وكيف رآهم، فقال الملك: ما كنت أرى أن في العرب مثل رجال رأيتهم دخلوا علي وما أنتم بأعقل منهم، ولا أحسن جوابا منهم، وأخبره بكلام متكلمهم، وقال: لقد صدقني القوم، لقد وعد القوم أمرا ليدركنه أو ليموتن عليه، على أني قد وجدت أفضلهم أحمقهم، لما ذكروا الجزية أعطيته ترابا فحمله على رأسه، فخرج به، ولو شاء اتقى بغيره، وأنا لا أعلم. قال: أيها الملك، إنه لأعقلهم، وتطير إلى ذلك، وأبصرها دون أصحابه. وخرج رستم من عنده كئيبا غضبان- وكان منجما كاهنا- فبعث في أثر الوفد، وقال لثقته: إن أدركهم الرسول تلافينا أرضنا، وإن أعجزوه

سلبكم اللَّه أرضكم وأبناءكم فرجع الرسول من الحيرة بفواتهم، فقال: ذهب القوم بأرضكم غير ذي شك، ما كان من شأن ابن الحجامة الملك! ذهب القوم بمفاتيح أرضنا! فكان ذلك مما زاد اللَّه به فارس غيظا وأغاروا بعد ما خرج الوفد إلى يزدجرد، إلى أن جاءوا إلى صيادين قد اصطادوا سمكا، وسار سواد بْن مالك التميمي إلى النجاف والفراض الى جنبها، فاستاق ثلاثمائة دابة من بين بغل وحمار وثور، فأوقروها سمكا، واستاقوها، فصبحوا العسكر، فقسم السمك بين الناس سعد، وقسم الدواب، ونفل الخمس إلا ما رد على المجاهدين منه، وأسهم على السبي، وهذا يوم الحيتان، وقد كان الآزاذمرد ابن الآزاذبه خرج في الطلب، فعطف عليه سواد وفوارس معه، فقاتلهم على قنطرة السيلحين، حتى عرفوا أن الغنيمة قد نجت، ثم اتبعوها فأبلغوها المسلمين، وكانوا إنما يقرمون إلى اللحم، فأما الحنطة والشعير والتمر والحبوب، فكانوا قد اكتسبوا منها ما اكتفوا به لو أقاموا زمانا، فكانت السرايا إنما تسري للحوم، ويسمون أيامها بها، ومن أيام اللحم يوم الأباقر ويوم الحيتان وبعث مالك بْن ربيعة بْن خالد التيمي، تيم الرباب، ثم الواثلي ومعه المساور بْن النعمان التيمي ثم الربيعي في سرية أخرى، فأغارا على الفيوم، فأصابا إبلا لبني تغلب والنمر فشلاها ومن فيها، فغدوا بها على سعد، فنحرت الإبل في الناس واخصبوا، واغار على النهرين عمرو ابن الحارث، فوجدوا على باب ثوراء مواشي كثيرة، فسلكوا أرض شيلى- وهي اليوم نهر زياد- حتى أتوا بها العسكر. وقال عمرو: ليس بها يومئذ إلا نهران وكان بين قدوم خالد العراق ونزول سعد القادسية سنتان وشيء وكان مقام سعد بها شهرين وشيئا حتى ظفر. قال- والإسناد الأول-: وكان من حديث فارس والعرب بعد البويب أن الأنوشجان بْن الهربذ خرج من سواد البصرة يريد أهل غضي، فاعترضه أربعة نفر على أفناء تميم، وهم بإزائهم: المستورد وهو على الرباب،

وعبد اللَّه بْن زيد يسانده، الرباب بينهما، وجزء بْن معاوية وابن النابغة يسانده، سعد بينهما، والحصين بْن نيار والأعور بْن بشامة يسانده على عمرو، والحصين بْن معبد والشبه على حنظلة، فقتلوه دونهم وقدم سعد فانضموا إليه هم وأهل غضي وجميع تلك الفرق. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد وطلحة وعمرو بإسنادهم، قالوا: وعج أهل السواد إلى يزدجرد بْن شهريار، وأرسلوا إليه أن العرب قد نزلوا القادسية بأمر ليس يشبه إلا الحرب، وإن فعل العرب مذ نزلوا القادسية لا يبقى عليه شيء، وقد أخربوا ما بينهم وبين الفرات، وليس فيما هنالك أنيس إلا في الحصون، وقد ذهب الدواب وكل شيء لم تحتمله الحصون من الأطعمة، ولم يبق إلا أن يستنزلونا، فإن أبطأ عنا الغياث أعطيناهم بأيدينا وكتب إليه بذلك الملوك الذين لهم الضياع بالطف، وأعانوهم عليه، وهيجوه على بعثه رستم. ولما بدا ليزدجرد أن يرسل رستم أرسل إليه، فدخل عليه، فقال له: إني أريد أن أوجهك في هذا الوجه، وإنما يعد للأمور على قدرها، وأنت رجل أهل فارس اليوم، وقد ترى ما جاء أهل فارس من أمر لم يأتهم مثله منذ ولي آل أردشير فأراه أن قد قبل منه، وأثنى عليه. فقال له الملك: قد أحب أن أنظر فيما لديك لأعرف ما عندك، فصف لي العرب وفعلهم منذ نزلوا القادسية، وصف لي العجم وما يلقون منهم. فقال رستم: صفة ذئاب صادفت غرة من رعاء فأفسدت فقال: ليس كذلك، إني إنما سألتك رجاء أن تعرب صفتهم فأقويك لتعمل على قدر ذلك فلم تصب، فافهم عني، إنما مثلهم ومثل أهل فارس كمثل عقاب أوفى على جبل يأوي إليه الطير بالليل، فتبيت في سفحه في أوكارها،

فلما أصبحت تجلت الطير، فأبصرته يرقبها، فإن شذ منها شيء اختطفه، فلما أبصرته الطير لم تنهض من مخافته، وجعلت كلما شذ منها طائر اختطفه، فلو نهضت نهضة واحدة ردته، وأشد شيء يكون في ذلك أن تنجو كلها إلا واحدا، وإن اختلفت لم تنهض فرقة إلا هلكت، فهذا مثلهم ومثل الأعاجم، فاعمل على قدر ذلك فقال له رستم: أيها الملك، دعني، فإن العرب لا تزال تهاب العجم ما لم تضرهم بي، ولعل الدولة أن تثبت بي فيكون اللَّه قد كفى، ونكون قد أصبنا المكيدة ورأي الحرب، فإن الرأي فيها والمكيدة أنفع من بعض الظفر فأبى عليه، وقال: أي شيء بقي! فقال رستم: إن الأناة في الحرب خير من العجلة، وللأناة اليوم موضع، وقتال جيش بعد جيش أمثل من هزيمة بمرة وأشد على عدونا فلج وأبى، فخرج حتى ضرب عسكره بساباط، وجعلت تختلف إلى الملك الرسل ليرى موضعا لإعفائه وبعثة غيره، ويجتمع إليه الناس وجاء العيون إلى سعد بذلك من قبل الحيرة وبني صلوبا، وكتب إلى عمر بذلك ولما كثرت الاستغاثة على يزدجرد من أهل السواد على يدي الآزاذمرد بْن الآزاذبه جشعت نفسه، واتقى الحرب برستم، وترك الرأي- وكان ضيقا لجوجا- فاستحث رستم، فأعاد عليه رستم القول، وقال: أيها الملك، لقد اضطرني تضييع الرأي إلى إعظام نفسي وتزكيتها، ولو أجد من ذلك بدا لم أتكلم به، فأنشدك اللَّه في نفسك وأهلك وملكك، دعني أقم بعسكري وأسرح الجالنوس، فإن تكن لنا فذلك، وإلا فأنا على رجل وأبعث غيره، حتى إذا لم نجد بدا ولا حيلة صبرنا لهم، وقد وهناهم وحسرناهم ونحن جامون فأبى إلا أن يسير. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بْن السري الضبي، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: لما نزل رستم بساباط، وجمع آلة الحرب وأداتها بعث على مقدمته الجالنوس في أربعين ألفا، وقال: ازحف زحفا، ولا تنجذب إلا بأمري، واستعمل على ميمنته الهرمزان، وعلى ميسرته مهران بْن بهرام الرازي، وعلى ساقته البيرزان، وقال رستم

ليشجع الملك: إن فتح اللَّه علينا القوم فهو وجهنا إلى ملكهم في دارهم حتى نشغلهم في أصلهم وبلادهم، إلى أن يقبلوا المسالمة أو يرضوا بما كانوا يرضون به فلما قدمت وفود سعد على الملك، ورجعوا من عنده رأى رستم فيما يرى النائم رؤيا فكرهها، وأحس بالشر، وكره لها الخروج ولقاء القوم، واختلف عليه رأيه واضطرب وسأل الملك أن يمضي الجالنوس ويقيم حتى ينظر ما يصنعون، وقال: إن غناء الجالنوس كغنائي، وإن كان اسمي أشد عليهم من اسمه، فإن ظفر فهو الذي نريد، وإن تكن الأخرى وجهت مثله، ودفعنا هؤلاء القوم إلى يوم ما، فإني لا أزال مرجوا في أهل فارس، ما لم أهزم ينشطون، ولا أزال مهيبا في صدور العرب، ولا يزالون يهابون الإقدام ما لم أباشرهم، فإن باشرتهم اجترءوا آخر دهرهم، وانكسر أهل فارس آخر دهرهم فبعث مقدمته أربعين ألفا، وخرج في ستين ألفا، وساقته في عشرين ألفا. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد وطلحة وزياد وعمرو بإسنادهم، قالوا: وخرج رستم في عشرين ومائة ألف، كلهم متبوع، وكانوا بأتباعهم أكثر من مائتي ألف، وخرج من المدائن في ستين ألف متبوع. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عائشة، أن رستم زحف لسعد وهو بالقادسية في ستين ألف متبوع. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عائشة، أن رستم زحف لسعد وهو بالقادسية في ستين ألف متبوع. كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن مُحَمَّد وطلحة وزياد وعمرو بإسنادهم، قالوا: لما أبى الملك إلا السير، كتب رستم إلى أخيه وإلى رءوس أهل بلادهم: من رستم إلى البندوان مرزبان الباب، وسهم أهل فارس، الذي كان لكل كون يكون، فيفض اللَّه به كل جند عظيم شديد، ويفتح به

كل حصن حصين، ومن يليه، فرموا حصونكم، وأعدوا واستعدوا، فكأنكم بالعرب قد وردوا بلادكم، وقارعوكم عن أرضكم وأبنائكم، وقد كان من رأيي مدافعتهم ومطاولتهم حتى تعود سعودهم نحوسا، فأبى الملك. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن الصلت بن بهرام، عن رجل، أن يزدجرد لما أمر رستم بالخروج من ساباط، كتب إلى أخيه بنحو من الكتاب الأول، وزاد فيه: فإن السمكة قد كدرت الماء، وإن النعائم قد حسنت، وحسنت الزهرة، واعتدل الميزان، وذهب بهرام، ولا أرى هؤلاء القوم إلا سيظهرون علينا، ويستولون على ما يلينا وإن أشد ما رأيت أن الملك قال: لتسيرن إليهم أو لأسيرن إليهم أنا بنفسي فأنا سائر إليهم. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السري، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: كان الذي جرأ يزدجرد على إرسال رستم غلام جابان منجم كسرى، وكان من أهل فرات بادقلى، فأرسل إليه فقال: ما ترى في مسير رستم وحرب العرب اليوم؟ فخافه على الصدق فكذبه، وكان رستم يعلم نحوا من علمه، فثقل عليه مسيره لعلمه، وخف على الملك لما غره منه، وقال: انى أحب ان تخبرني بشيء أراه اطمان به إلى قولك، فقال الغلام لزرنا الهندي: أخبره، فقال: سلني، فسأله فقال: أيها الملك يقبل طائر فيقع على إيوانك فيقع منه شيء في فيه هاهنا- وخط دارة- فقال العبد: صدق، والطائر غراب، والذى في فيه درهم وبلغ جابان أن الملك طلبه، فأقبل حتى دخل عليه، فسأله عما قال غلامه، فحسب فقال: صدق ولم يصب، هو عقعق، والذي في فيه درهم، فيقع منه على هذا المكان، وكذب زرنا. ينزو الدرهم فيستقر هاهنا- ودور دارة أخرى- فما قاموا حتى وقع على الشرفات عقعق، فسقط منه الدرهم في الخط الأول، فنزا فاستقر في الخط

الآخر ونافر الهندي جابان حيث خطأه، فأتيا ببقرة نتوج، فقال الهندي: سخلتها غراء سوداء، فقال جابان: كذبت، بل سوداء صبغاء، فنحرت البقرة فاستخرجت سخلتها، فإذا هي ذنبها بين عينيها، فقال جابان: من هاهنا أتي زرنا، وشجعاه على إخراج رستم، فأمضاه، وكتب جابان إلى جشنسماه: إن أهل فارس قد زال أمرهم، وأديل عدوهم عليهم، وذهب ملك المجوسية، وأقبل ملك العرب، وأديل دينهم، فاعتقد منهم الذمة، ولا تخلبنك الأمور، والعجل العجل قبل أن تؤخذ! فلما وقع الكتاب إليه خرج جشنسماه إليهم حتى أتى الْمُعَنَّى، وهو في خيل بالعتيق، وأرسله إلى سعد، فاعتقد منه على نفسه وأهل بيته ومن استجاب له ورده، وكان صاحب أخبارهم وأهدى للمعنى فالوذق، فقال لامرأته: ما هذا؟ فقالت: أظن البائسة امرأته أراغت العصيدة فأخطأتها، فقال الْمُعَنَّى: بؤسا لها! كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مُحَمَّد وطلحة وزياد وعمرو بإسنادهم، قالوا: لما فصل رستم من ساباط، لقيه جابان على القنطرة، فشكا إليه، وقال: ألا ترى ما أرى؟ فقال له رستم: أما أنا فأقاد بخشاش وزمام، ولا أجد بدا من الانقياد وأمر الجالنوس حتى قدم الحيرة، فمضى واضطرب فسطاطه بالنجف، وخرج رستم حتى ينزل بكوثى، وكتب إلى الجالنوس والآزاذمرد: أصيبا لي رجلا من العرب من جند سعد فركبا بأنفسهما طليعة، فأصابا رجلا، فبعثا به إليه وهو بكوثى فاستخبره، ثم قتله. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السري، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: لما فصل رستم، وأمر الجالنوس بالتقدم إلى الحيرة، أمره أن يصيب له رجلا من العرب، فخرج هو والآزاذمرد

سرية في مائة، حتى انتهيا إلى القادسية، فأصابا رجلا دون قنطرة القادسية فاختطفاه، فنفر الناس فأعجزوهم إلا ما أصاب المسلمون في أخرياتهم. فلما انتهيا إلى النجف سرحا به إلى رستم، وهو بكوثى، فقال له رستم: ما جاء بكم؟ وماذا تطلبون؟ قال: جئنا نطلب موعود اللَّه، قال: وما هو؟ قال: أرضكم وأبناؤكم ودماؤكم إن أبيتم أن تسلموا قال رستم: فإن قتلتم قبل ذلك؟ قال: في موعود اللَّه أن من قتل منا قبل ذلك أدخله الجنة، وأنجز لمن بقي منا ما قلت لك، فنحن على يقين فقال رستم: قد وضعنا إذا في أيديكم، قال: ويحك يا رستم! إن أعمالكم وضعتكم فأسلمكم اللَّه بها، فلا يغرنك ما ترى حولك، فإنك لست تحاول الانس، انما تحاول القضاء والقدر! فاستشاط غضبا، فأمر به فضربت عنقه، وخرج رستم من كوثى، حتى ينزل ببرس، فغصب أصحابه الناس أموالهم ووقعوا على النساء، وشربوا الخمور فضج العلوج إلى رستم، وشكوا إليه ما يلقون في أموالهم وأبنائهم فقام فيهم، فقال: يا معشر أهل فارس، والله لقد صدق العربي، والله ما أسلمنا إلا أعمالنا، والله للعرب في هؤلاء وهم لهم ولنا حرب أحسن سيرة منكم إن اللَّه كان ينصركم على العدو، ويمكن لكم في البلاد بحسن السيرة وكف الظلم والوفاء بالعهود والإحسان، فأما إذ تحولتم عن ذلك إلى هذه الأعمال، فلا أرى اللَّه إلا مغيرا ما بكم، وما أنا بآمن أن ينزع اللَّه سلطانه منكم وبعث الرجال، فلقطوا له بعض من يشكى فأتي بنفر، فضرب أعناقهم، ثم ركب ونادى في الناس بالرحيل، فخرج ونزل بحيال دير الأعور، ثم انصب إلى الملطاط، فعسكر مما يلي الفرات بحيال أهل النجف بحيال الخورنق إلى الغريين، ودعا بأهل الحيرة، فأوعدهم وهم بهم، فقال له ابن بقيلة: لا تجمع علينا اثنتين: أن تعجز عن نصرتنا، وتلومنا على الدفع عن أنفسنا وبلادنا فسكت. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، والمقدام الحارثي عمن ذكره، قالا: دعا رستم أهل الحيرة وسرادقه إلى جانب الدير، فقال: يا أعداء اللَّه، فرحتم بدخول العرب علينا بلادنا، وكنتم عيونا لهم علينا، وقويتموهم بالأموال! فاتقوه ابن بقيله،

وقالوا له: كن أنت الذي تكلمه، فتقدم، فقال: أما أنت وقولك: إنا فرحنا بمجيئهم، فماذا فعلوا؟ وبأي ذلك من أمورهم نفرح! إنهم ليزعمون أنا عبيد لهم، وما هم على ديننا، وإنهم ليشهدون علينا أنا من أهل النار وأما قولك: إنا كنا عيونا لهم، فما الذي يحوجهم إلى أن نكون عيونا لهم، وقد هرب أصحابكم منهم، وخلوا لهم القرى! فليس يمنعهم أحد من وجه أرادوه، إن شاءوا أخذوا يمينا أو شمالا وأما قولك: إنا قويناهم بالأموال، فإنا صانعناهم بالأموال عن أنفسنا، وإذ لم تمنعونا مخافة أن نسبى وأن نحرب، وتقتل مقاتلتنا- وقد عجز منهم من لقيهم منكم- فكنا نحن أعجز، ولعمري لأنتم أحب إلينا منهم، وأحسن عندنا بلاء، فامنعونا منهم لكن لكم أعوانا، فإنما نحن بمنزلة علوج السواد، عبيد من غلب. فقال رستم: صدقكم الرجل كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: رأى رستم بالدير أن ملكا جاء حتى دخل عسكر فارس، فختم السلاح أجمع. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، وَشَارَكَهُمُ النَّضْرُ بِإِسْنَادِهِ، قَالُوا: وَلَمَّا اطْمَأَنَّ رُسْتُمُ أَمَرَ الْجَالِنُوسَ أَنْ يَسِيرَ مِنَ النَّجَفِ، فَسَارَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ، فَنَزَلَ فِيمَا بَيْنَ النَّجَفِ وَالسَّيْلَحِينِ، وَارْتَحَلَ رُسْتُمُ، فَنَزَلَ النَّجَفَ- وَكَانَ بَيْنَ خُرُوجِ رُسْتُمَ مِنَ الْمَدَائِنِ وَعَسْكَرَتِهِ بِسَابَاطَ وَزَحْفِهِ مِنْهَا إِلَى أَنْ لَقِيَ سَعْدًا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، لا يُقْدِمُ وَلا يُقَاتِلُ- رَجَاءَ أَنْ يَضْجُرُوا بِمَكَانِهِمْ، وَأَنْ يُجْهَدُوا فَيَنْصَرِفُوا، وَكَرِهَ قِتَالَهُمْ مَخَافَةَ أَنْ يَلْقَى مَا لَقِيَ مَنْ قَبْلَهُ، وَطَاوَلَهُمْ لَوْلا مَا جَعَلَ الْمَلِكُ يَسْتَعْجِلُهُ وَيُنْهِضُهُ وَيُقَدِّمُهُ، حَتَّى أَقْحَمَهُ، فَلَمَّا نَزَلَ رُسْتُمُ النَّجَفَ عَادَتْ عَلَيْهِ الرُّؤْيَا، فَرَأَى ذَلِكَ الْمَلَكُ ومعه النبي ص وَعُمَرُ، فَأَخَذَ الْمَلَكُ سِلاحَ أَهْلِ

فارس، فختمه، ثم دفعه الى النبي ص، فَدَفَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عُمَرَ فَأَصْبَحَ رُسْتُمُ، فَازْدَادَ حُزْنًا، فَلَمَّا رَأَى الرُّفَيْلُ ذَلِكَ رَغِبَ فِي الإِسْلامِ، فَكَانَتْ دَاعِيَتُهُ إِلَى الإِسْلامِ، وَعَرَفَ عُمَرُ أَنَّ الْقَوْمَ سَيُطَاوِلُونَهُمْ، فَعَهِدَ إِلَى سَعْدٍ وَإِلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْزِلُوا حُدُودَ أَرْضِهِمْ، وَأَنْ يُطَاوِلُوهُمْ أَبَدًا حَتَّى يُنْغِضُوهُمْ، فَنَزَلُوا الْقَادِسِيَّةَ، وَقَدْ وَطَّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ وَالْمُطَاوَلَةِ، وَأَبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ، فَأَقَامُوا وَاطْمَأَنُّوا، فَكَانُوا يُغِيرُونَ عَلَى السَّوَادِ، فَانْتَسَفُوا مَا حَوْلَهُمْ فَحَوَوْهُ وَأَعَدُّوا لِلْمُطَاوَلَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ جاءوا، او يفتح اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَكَانَ عُمَرُ يَمُدُّهُمْ بِالأَسْوَاقِ إِلَى مَا يُصِيبُونَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْمَلِكُ وَرُسْتُمُ وعرفوا حَالَهُمْ، وَبَلَغَهُمْ عَنْهُمْ فِعْلُهُمْ، عَلِمَ أَنَّ الْقَوْمَ غَيْرُ مُنْتَهِينَ، وَأَنَّهُ إِنْ أَقَامَ لَمْ يَتْرُكُوهُ، فَرَأَى أَنْ يَشْخُصَ رُسْتُمُ، وَرَأَى رُسْتُمُ أَنْ يَنْزِلَ بَيْنَ الْعَتِيقِ وَالنَّجَفِ، ثُمَّ يُطَاوِلَهُمْ مَعَ الْمُنَازَلَةِ، وَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ أَمْثَلُ مَا هُمْ فَاعِلُونَ، حَتَّى يُصِيبُوا مِنَ الإِحْجَامِ حَاجَتَهُمْ، أَوْ تَدُورَ لَهُمْ سُعُودٌ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: وجعلت السرايا تطوف، ورستم بالنجف والجالنوس بين النجف والسيلحين وذو الحاجب بين رستم والجالنوس، والهرمزان ومهران على مجنبتيه، والبيرزان على ساقته وزاذ بْن بهيش صاحب فرات سريا على الرجالة، وكنارى على المجردة، وكان جنده مائة وعشرين ألفا، ستين ألف متبوع مع الرجل الشاكري، ومن الستين ألفا خمسة عشر ألف شريف متبوع، وقد تسلسلوا وتقارنوا لتدور عليهم رحى الحرب. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن قَيْسٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَرِيفٍ، قَالَ: قَالَ النَّاسُ لِسَعْدٍ: لَقَدْ ضَاقَ بِنَا الْمَكَانُ، فَأَقْدِمْ، فَزَبَرَ مَنْ كَلَّمَهُ بِذَلِكَ، وَقَالَ: إِذَا كُفِيتُمُ الرَّأْيَ، فَلا تَكَلَّفُوا، فَإِنَّا لَنْ نَقْدُمَ إِلا عَلَى رَأْيِ ذَوِي الرَّأْيِ، فَاسْكُتُوا مَا سَكَتْنَا عنكم وبعث

طُلَيْحَةَ وَعَمْرًا فِي غَيْرِ خَيْلٍ كَالطَّلِيعَةِ، وَخَرَجَ سَوَّادٌ وَحُمَيْضَةُ فِي مِائَةِ مِائَةٍ، فَأَغَارُوا عَلَى النَّهْرَيْنِ، وَقَدْ كَانَ سَعْدٌ نَهَاهُمَا أَنْ يُمْعِنَا، وَبَلَغَ رَسْتُمَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ خَيْلا، وَبَلَغَ سَعْدًا أَنَّ خَيْلَهُ قَدْ وَغِلَتْ، فَدَعَا عَاصِمَ بْنَ عَمْرٍو وَجَابِرًا الأَسَدِيَّ، فَأَرْسَلَهُمَا فِي آثَارِهِمْ يَقْتَصَّانِهَا، وَسَلَكَا طَرِيقَهُمَا، وَقَالَ لِعَاصِمٍ: إِنْ جَمَعَكُمْ قِتَالٌ فَأَنْتَ عَلَيْهِمْ، فَلَقِيَهُمْ بَيْنَ النَّهْرَيْنِ وَإصطيميا، وَخَيْلُ أَهْلِ فَارِسَ مُحْتَوِشَتُهُمْ، يُرِيدُونَ تَخَلُّصَ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَقَدْ قَالَ سَوَّادٌ لِحُمَيْضَةَ: اخْتَرْ، إِمَّا أَنْ تُقِيمَ لَهُمْ وَأَسْتَاقُ الْغَنِيمَةَ، أَوْ أُقِيمَ لَهُمْ وَتَسْتَاقُ الْغَنِيمَةَ قَالَ: أَقِمْ لَهُمْ وَنَهْنِهُهُمْ عنى، وانا ابلغ لك الغنيمه، فَأَقَامَ لَهُمْ سَوَّادٌ، وَانْجَذَبَ حُمَيْضَةُ، فَلَقِيَهُ عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو، فَظَنَّ حُمَيْضَةُ أَنَّهَا خَيْلٌ لِلأَعَاجِمِ أُخْرَى، فَصَدَّ عَنْهَا مُنْحَرِفًا، فَلَمَّا تَعَارَفُوا سَاقَهَا، وَمَضَى عَاصِمٌ إِلَى سَوَّادٍ- وَقَدْ كَانَ أَهْلُ فَارِسَ تَنَقَّذُوا بَعْضَهَا- فَلَمَّا رَأَتِ الأَعَاجِمُ عَاصِمًا هَرَبُوا، وَتَنَقَّذَ سَوَّادٌ مَا كَانُوا ارْتَجَعُوا، فَأَتَوْا سَعْدًا بِالْفَتْحِ وَالْغَنَائِمِ وَالسَّلامَةِ، وَقَدْ خَرَجَ طُلَيْحَةُ وَعَمْرٌو، فَأَمَّا طُلَيْحَةُ فَأَمَرَهُ بِعَسْكَرِ رُسْتُمَ، وَأَمَّا عَمْرٌو فَأَمَرَهُ بِعَسْكَرِ الْجَالِنُوسِ، فَخَرَجَ طُلَيْحَةُ وَحْدَهُ، وَخَرَجَ عَمْرٌو فِي عِدَّةٍ، فَبَعَثَ قَيْسَ بْنَ هُبَيْرَةَ فِي آثَارِهِمَا، فَقَالَ: إِنْ لَقِيتَ قِتَالا فَأَنْتَ عَلَيْهِمْ- وَأَرَادَ إِذْلالَ طُلَيْحَةَ لِمَعْصِيَتِهِ، وَأَمَّا عَمْرٌو فَقَدْ أَطَاعَهُ- فَخَرَجَ حَتَّى تَلَقَّى عَمْرًا، فَسَأَلَهُ عَنْ طُلَيْحَةَ، فَقَالَ: لا عِلْمَ لِي بِهِ، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى النَّجَفِ مِنْ قَبْلِ الْجَوْفِ، قَالَ لَهُ قَيْسٌ: مَا تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ أُغِيرَ عَلَى أَدْنَى عَسْكَرِهِمْ، قَالَ: فِي هَؤُلاءِ! قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: لا أَدَعَكَ وَاللَّهِ وَذَاكَ! أَتُعَرِّضُ الْمُسْلِمِينَ لِمَا لا يُطِيقُونَ! قَالَ: وَمَا أَنْتَ وَذَاكَ! قَالَ: إِنِّي أُمِّرْتُ عَلَيْكَ، وَلَوْ لَمْ أَكُنْ أَمِيرًا لَمْ أَدَعْكَ وَذَاكَ وَشَهِدَ لَهُ الأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ فِي نَفَرٍ إِنَّ سَعْدًا قَدِ اسْتَعْمَلَهُ عَلَيْكَ، وَعَلَى طُلَيْحَةَ إِذَا اجْتَمَعْتُمْ، فَقَالَ عَمْرٌو: وَاللَّهِ يَا قَيْسُ، إِنَّ زَمَانًا تَكُونُ عَلَيَّ فِيهِ أَمِيرًا لَزَمَانُ سُوءٍ! لأَنْ أَرْجِعَ عَنْ دِينِكُمْ هَذَا إِلَى دِينِي الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ وَأُقَاتِلُ عَلَيْهِ حَتَّى أَمُوتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَتَأَمَّرَ عَلَيَّ ثَانِيَةً وَقَالَ: لَئِنْ عَادَ صَاحِبُكَ الَّذِي بَعَثَكَ لِمِثْلِهَا لَنُفَارِقَنَّهُ، قَالَ: ذَاكَ إِلَيْكَ بَعْدَ مَرَّتِكَ هَذِهِ، فَرَدَّهُ، فَرَجَعَا

إِلَى سَعْدٍ بِالْخَبَرِ وَبِأَعْلاجٍ وَأَفْرَاسٍ، وَشَكَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، أَمَّا قَيْسٌ فَشَكَا عِصْيَانَ عَمْرٍو، وَأَمَّا عَمْرٌو، فَشَكَا غِلْظَةَ قَيْسٍ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا عَمْرُو، الْخَبَرُ وَالسَّلامَةُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مُصَابِ مِائَةٍ بِقَتْلِ أَلْفٍ، أَتَعْمَدُ إِلَى حَلَبَةِ فَارِسَ فَتُصَادِمُهُمْ بِمِائَةٍ! إِنْ كُنْتُ لأَرَاكَ أَعْلَمَ بِالْحَرْبِ مِمَّا أَرَى فَقَالَ: إِنَّ الأَمْرَ لَكُمَا قُلْتُ، وَخَرَجَ طُلَيْحَةُ حَتَّى دَخَلَ عَسْكَرَهُمْ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ، فَتَوَسَّمَ فِيهِ، فَهَتَكَ أَطْنَابَ بَيْتِ رَجُلٍ عَلَيْهِ، وَاقْتَادَ فَرَسَهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى مَرَّ بِعَسْكَرِ ذِي الْحَاجِبِ، فَهَتَكَ عَلَى رَجُلٍ آخَرَ بَيْتَهُ، وَحَلَّ فَرَسَهُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى الْجَالِنُوسِ عَسْكَرَهُ فَهَتَكَ عَلَى آخَرَ بَيْتَهُ، وَحَلَّ فَرَسَهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى الْخَرَّارَةَ، وَخَرَجَ الَّذِي كَانَ بِالنَّجَفِ، وَالَّذِي كَانَ فِي عَسْكَرِ ذِي الْحَاجِبِ فَاتَّبَعَهُ الَّذِي كَانَ فِي عسكر الجالنوس، فكان اولهم لحاقا به الجالنوس، ثُمَّ الْحَاجِبِيُّ، ثُمَّ النَّجَفِيُّ، فَأَصَابَ الأَوَّلَيْنِ، وَأَسَرَ الآخِرَ وَأَتَى بِهِ سَعْدًا فَأَخْبَرَهُ، وَأَسْلَمَ، فَسَمَّاهُ سَعْدٌ مُسْلِمًا، وَلَزِمَ طُلَيْحَةَ، فَكَانَ مَعَهُ فِي تِلْكَ الْمَغَازِي كُلِّهَا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن أبي عمرو، عن أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ قَدْ عَهِدَ إِلَى سَعْدٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى فَارِسَ، أَلا يَمُرَّ بِمَاءٍ مِنَ الْمِيَاهِ بِذِي قُوَّةٍ وَنَجْدَةٍ وَرِيَاسَةٍ إِلا أَشْخَصَهُ، فَإِنْ أَبَى انْتَخَبَهُ، فَأَمَّرَهُ عُمَرُ، فَقَدِمَ الْقَادِسِيَّةَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ أَهْلِ الأَيَّامِ، وَأُنَاسٍ مِنَ الْحَمْرَاءِ اسْتَجَابُوا لِلْمُسْلِمِينَ، فَأَعَانُوهُمْ، أَسْلَمَ بَعْضُهُمْ قَبْلَ الْقِتَالِ، وَأَسْلَمَ بَعْضُهُمْ غِبَّ الْقِتَالِ، فَأُشْرِكُوا فِي الْغَنِيمَةِ، وَفُرِضَتْ لَهُمْ فَرَائِضُ أَهْلِ الْقَادِسِيَّةِ: أَلْفَيْنِ أَلْفَيْنِ، وَسَأَلُوا عَنْ أَمْنَعِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، فَعَادُوا تَمِيمًا، فَلَمَّا دَنَا رُسْتُمُ، وَنَزَلَ النَّجَفَ بَعَثَ سَعْدٌ الطَّلائِعَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُصِيبُوا رَجُلا لِيَسْأَلَهُ عَنْ أَهْلِ فَارِسَ، فَخَرَجَتِ الطَّلائِعُ بَعْدَ اخْتِلافٍ، فَلَمَّا اجمع ملا النَّاسَ أَنَّ الطَّلِيعَةَ مِنَ الْوَاحِدِ إِلَى الْعَشَرَةِ سَمُحُوا، فَأَخْرَجَ سَعْدٌ طُلَيْحَةَ فِي خَمْسَةٍ، وَعَمْرَو بْنَ مَعْدِيكَرِبَ فِي خَمْسَةٍ، وَذَلِكَ صَبِيحَةَ قدم رستم الجالنوس وذا الحاجب، ولا يشعرون بفصولهم مِنَ النَّجَفِ، فَلَمْ يَسِيرُوا إِلا فَرْسَخًا وَبَعْضَ

آخَرَ، حَتَّى رَأَوْا مَسَالِحَهُمْ وَسَرْحَهُمْ عَلَى الطفُوفِ قَدْ مَلَئُوهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمُ: ارْجِعُوا إِلَى أَمِيرِكُمْ فَإِنَّهُ سَرَّحَكُمْ، وَهُوَ يَرَى أَنَّ الْقَوْمَ بِالنَّجَفِ، فاخبروه الخبر، وقال بعضهم: ارجعوا لا يُنْذِرَ بِكُمْ عَدُوَّكُمْ! فَقَالَ عَمْرٌو لأَصْحَابِهِ: صَدَقْتُمْ، وَقَالَ طُلَيْحَةُ لأَصْحَابِهِ: كَذَبْتُمْ، مَا بُعِثْتُمْ لِتُخْبِرُوا عَنِ السَّرْحِ، وَمَا بُعِثْتُمْ إِلا لِلْخَبَرِ قَالُوا: فَمَا تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ أُخَاطِرَ الْقَوْمَ أَوْ أَهْلَكَ، فَقَالُوا: أَنْتَ رَجُلٌ فِي نَفْسِكَ غدر، ولن تفلح بعد قتل عكاشة ابن مِحْصَنٍ، فَارْجِعْ بِنَا، فَأَبَى وَأَتَى سَعْدًا الْخَبَرُ بِرَحِيلِهِمْ، فَبَعَثَ قَيْسَ بْنَ هُبَيْرَةَ الأَسَدِيَّ، وَأَمَّرَهُ عَلَى مِائَةٍ، وَعَلَيْهِمْ إِنْ هُوَ لَقِيَهُمْ فَانْتَهَى إِلَيْهِمْ وَقَدِ افْتَرَقُوا، فَلَمَّا رَآهُ عَمْرٌو قَالَ: تجلدوا له، اروه أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْغَارَةَ، فَرَدَّهُمْ، وَوَجَدَ طُلَيْحَةَ قَدْ فَارَقَهُمْ فَرَجَعَ بِهِمْ فَأَتَوْا سَعْدًا، فَأَخْبَرُوهُ بِقُرْبِ الْقَوْمِ، وَمَضَى طُلَيْحَةُ، وَعَارَضَ الْمِيَاهَ عَلَى الطّفُوفِ، حَتَّى دَخَلَ عَسْكَرَ رُسْتُمَ، وَبَاتَ فِيهِ يَجُوسُهُ وَيَنْظُرُ وَيَتَوَسَّمُ، فَلَمَّا أَدْبَرَ اللَّيْلُ، خَرَجَ وَقَدْ أَتَى أَفْضَلَ مَنْ تَوَسَّمَ فِي نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ، فَإِذَا فَرَسٌ لَهُ لَمْ يَرَ فِي خَيْلِ الْقَوْمِ مِثْلَهُ، وَفُسْطَاطٌ أَبْيَضُ لَمْ يَرَ مِثْلَهُ، فَانْتَضَى سَيْفَهُ، فَقَطَعَ مِقْوَدَ الْفَرَسِ، ثُمَّ ضَمَّهُ إِلَى مِقْوَدِ فَرَسِهِ، ثُمَّ حَرَّكَ فَرَسَهُ، فَخَرَجَ يَعْدُو بِهِ، وَنَذَرَ بِهِ النَّاسَ وَالرَّجُلَ، فَتَنَادَوْا وَرَكِبُوا الصَّعْبَةَ وَالذَّلُولَ، وَعجل بعضهم أن يسرج، فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَحِقَهُ فَارِسٌ مِنَ الْجُنْدِ، فَلَمَّا غَشِيَهُ وَبَوَّأَ لَهُ الرُّمْحَ لِيَطْعَنَهُ عَدَلَ طُلَيْحَةُ فَرَسَهُ، فَنَدَرَ الْفَارِسِيُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَكَرَّ عَلَيْهِ طُلَيْحَةُ، فَقَصَمَ ظَهْرَهُ بِالرُّمْحِ، ثُمَّ لَحِقَ بِهِ آخَرُ، فَفَعَلَ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ لَحِقَ بِهِ آخَرُ، وَقَدْ رَأَى مَصْرَعَ صَاحِبَيْهِ- وَهُمَا ابْنَا عَمِّهِ- فَازْدَادَ حَنَقًا، فَلَمَّا لَحِقَ بِطُلَيْحَةَ، وَبَوَّأَ لَهُ الرُّمْحَ، عَدَلَ طُلَيْحَةُ فَرَسَهُ، فَنَدَرَ الْفَارِسِيُّ أَمَامَهُ، وَكَرَّ عَلَيْهِ طُلَيْحَةُ، وَدَعَاهُ إِلَى الإِسَارِ، فَعَرَفَ الْفَارِسِيُّ أَنَّهُ قَاتِلُهُ فَاسْتَأْسَرَ، وَأَمَرَهُ طُلَيْحَةُ أَنْ يَرْكُضَ بَيْنَ يديه، ففعل ولحق النَّاسُ فَرَأَوْا فَارِسِيَّ الْجُنْدِ قَدْ قُتِلا وَقَدْ أُسِر الثَّالِثُ، وَقَدْ شَارَفَ طُلَيْحَةُ عَسْكَرَهُمْ،

فأحجموا عنه، ونكسوا، وَأَقْبَلَ طُلَيْحَةُ حَتَّى غَشِيَ الْعَسْكَرَ، وَهُمْ عَلَى تعبئة، فَأَفْزَعَ النَّاسَ، وَجَوزُوهُ إِلَى سَعْدٍ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ، قَالَ: وَيْحَكَ مَا وَرَاءَكَ! قَالَ: دَخَلْتُ عَسَاكِرَهُمْ وَجُسْتُهَا مُنْذُ اللَّيْلَةَ، وَقَدْ أَخَذْتُ أَفْضَلَهُمْ تَوَسُّمًا، وَمَا أَدْرِي أَصَبْتُ أَمْ أَخْطَأْتُ! وَهَا هُوَ ذَا فَاسْتَخْبِرْهُ فَأُقِيمَ التَّرْجُمَانُ بَيْنَ سَعْدٍ وَبَيْنَ الْفَارِسِيِّ، فَقَالَ لَهُ الْفَارِسِيُّ: أَتُؤَمِّنَنِي عَلَى دَمِي إِنْ صَدَقْتُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، الصِّدْقُ فِي الْحَرْبِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنَ الْكَذِبِ، قَالَ: أُخْبِرُكُمْ عَنْ صَاحِبِكُمْ هَذَا قَبْلَ أَنْ أُخْبِرَكُمْ عَمَّنْ قَبْلِي، بَاشَرْتُ الْحُرُوبَ وَغَشِيتُهَا، وَسَمِعْتُ بِالأَبْطَالِ وَلَقِيتُهَا، مُنْذُ أَنَا غُلامٌ إِلَى أَنْ بَلَغْتُ مَا تَرَى، وَلَمْ أَرَ وَلَمْ أَسْمَعْ بِمِثْلِ هَذَا، أَنَّ رَجُلا قَطَعَ عَسْكَرَيْنِ لا يَجْتَرِئُ عَلَيْهِمَا الأَبْطَالُ إِلَى عَسْكَرٍ فِيهِ سَبْعُونَ أَلْفًا، يَخْدِمُ الرَّجُلُ مِنْهُمُ الْخَمْسَةَ وَالْعَشَرَةَ إِلَى مَا هُوَ دُونَ، فَلَمْ يَرْضَ أَنْ يَخْرُجَ كَمَا دَخَلَ حَتَّى سَلَبَ فَارِسَ الْجُنْدِ، وَهَتَكَ أَطْنَابَ بَيْتِهِ فَأَنْذَرَهُ، فَأَنْذَرَنَا بِهِ، فَطَلَبْنَاهُ، فَأَدْرَكَهُ الأَوَّلُ وَهُوَ فَارِسُ النَّاسِ، يَعْدِلُ أَلْفَ فَارِسٍ فَقَتَلَهُ، فَأَدْرَكَهُ الثَّانِي وَهُوَ نَظِيرُهُ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ أَدْرَكْتُهُ، وَلا أَظُنُّ أَنَّنِي خَلَّفْتُ بَعْدِي مَنْ يَعْدِلُنِي وَأَنَا الثَّائِرُ بِالْقَتِيلَيْنِ، وَهُمَا ابْنَا عَمِّي، فَرَأَيْتُ الْمَوْتَ فاستأسرت ثُمَّ أَخْبَرَهُ عَنْ أَهْلِ فَارِسَ، بِأَنَّ الْجُنْدَ عِشْرُونَ وَمِائَةُ أَلْفٍ، وَأَنَّ الأَتْبَاعَ مِثْلُهُمْ خدامٌ لَهُمْ وَأَسْلَمَ الرَّجُلُ وَسَمَّاهُ سَعْدٌ مُسْلِمًا، وَعَادَ إِلَى طُلَيْحَةَ، وَقَالَ: لا وَاللَّهِ، لا تُهْزَمُونَ مَا دُمْتُمْ عَلَى مَا أَرَى مِنَ الْوَفَاءِ وَالصِّدْقِ وَالإِصْلاحِ وَالْمُؤَاسَاةِ، لا حَاجَةَ لِي فِي صُحْبَةِ فَارِسَ، فَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَلاءِ يومئذ. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن قيس، عن موسى بْنِ طَرِيفٍ، قَالَ: قَالَ سَعْدٌ لِقَيْسِ بْنِ هُبَيْرَةَ الأَسَدِيِّ: اخْرُجْ يَا عَاقِلُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَكَ مِنَ الدُّنْيَا شَيْءٌ تَحْنُو عَلَيْهِ حَتَّى تَأْتِيَنِي بِعِلْمِ الْقَوْمِ فَخَرَجَ وَسَرَّحَ عَمْرَو بْنَ مَعْدِيكَرِبَ وَطُلَيْحَةَ، فَلَمَّا حَاذَى الْقَنْطَرَةَ لَمْ يَسِرْ إِلا يَسِيرًا حَتَّى لَحِقَ، فَانْتَهَى إِلَى خَيْلٍ عَظِيمَةٍ مِنْهُمْ بِحِيَالِهَا ترد عَنْ عَسْكَرِهِمْ، فَإِذَا رُسْتُمُ قَدِ ارْتَحَلَ مِنَ النَّجَفِ، فَنَزَلَ مَنْزِلَ ذي الحاجب،

فَارْتَحَلَ الْجَالِنُوسُ، فَنَزَلَ ذُو الْحَاجِبِ مَنْزِلَهُ، وَالْجَالِنُوسَ يُرِيدُ طِيزَنَابَاذَ، فَنَزَلَ بِهَا، وَقَدَّمَ تِلْكَ الْخَيْلَ وَإِنَّ مَا حَمَلَ سَعْدًا عَلَى إِرْسَالِ عَمْرٍو وَطُلَيْحَةَ مَعَهُ لِمَقَالَةٍ بَلَغَتْهُ عَنْ عَمْرٍو، وَكَلِمَةٍ قَالَهَا لِقَيْسِ بْنِ هُبَيْرَةَ قَبْلَ هَذِهِ الْمَرَّةِ، فَقَالَ: قَاتِلُوا عَدُوَّكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ فَأَنْشَبَ الْقِتَالَ، وَطَارَدَهُمْ سَاعَةً ثُمَّ إِنَّ قَيْسًا حَمَلَ عَلَيْهِمْ، فَكَانَتْ هَزِيمَتَهُمْ، فَأَصَابَ مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلا، وَثَلاثَةَ أُسَرَاءٍ، وَأَصَابَ أَسْلابًا، فَأَتَوْا بِالْغَنِيمَةِ سَعْدًا وَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: هَذِهِ بُشْرَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ، إِذَا لَقِيتُمْ جَمْعَهُمُ الأَعْظَمَ وحدهم، فَلَهُمْ أَمْثَالُهَا، وَدَعَا عَمْرًا وَطُلَيْحَةَ، فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتُمَا قَيْسًا؟ فَقَالَ طُلَيْحَةُ: رَأَيْنَاهُ أكمانا، وَقَالَ عَمْرٌو: الأَمِيرُ أَعْلَمُ بِالرِّجَالِ مِنَّا قَالَ سَعْدٌ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْيَانَا بِالإِسْلامِ وَأَحْيَا بِهِ قُلُوبًا كَانَتْ مَيِّتَةً، وَأَمَاتَ بِهِ قُلُوبًا كَانَتْ حَيَّةً، وَإِنِّي أُحَذِّرُكُمَا أَنْ تُؤْثِرَا أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى الإِسْلامِ، فَتَمُوتُ قُلُوبُكُمَا وَأَنْتُمَا حَيَّانِ، الْزَمَا السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ وَالاعْتِرَافَ بِالْحُقُوقِ، فَمَا رَأَى النَّاسُ كَأَقْوَامٍ أَعَزَّهُمُ اللَّهُ بِالإِسْلامِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو وزياد، وشاركهم المجالد وسعيد بْن المرزبان، قالوا: فلما أصبح رستم من الغد من يوم نزل السيلحين قدم الجالنوس وذا الحاجب، فارتحل الجالنوس، فنزل من دون القنطرة بحيال زهرة، ونزل إلى صاحب المقدمة، ونزل ذو الحاجب منزله بطيزناباذ، ونزل رستم منزل ذي الحاجب بالخرارة، ثم قدم ذا الحاجب، فلما انتهى إلى العتيق تياسر حتى إذا كان بحيال قديس خندق خندقا، وارتحل الجالنوس فنزل عليه وعلى مقدمته- أعني سعدا- زهرة بْن الحوية، وعلى مجنبتيه عبد اللَّه بْن المعتم، وشرحبيل بْن السمط الكندي، وعلى مجردته عاصم بْن عمرو، وعلى المرامية فلان، وعلى الرجل فلان، وعلى الطلائع سواد بْن مالك، وعلى مقدمة رستم الجالنوس، وعلى مجنبتيه الهرمزان ومهران وعلى مجردته ذو الحاجب، وعلى الطلائع البيرزان، وعلى الرجالة زاذ بْن بهيش فلما انتهى رستم إلى العتيق، وقف عليه

بحيال عسكر سعد، ونزل الناس، فما زالوا يتلاحقون وينزلهم فينزلون، حتى أعتموا من كثرتهم، فبات بها تلك الليلة والمسلمون ممسكون عنهم. قال سعيد بْن المرزبان: فلما أصبحوا من ليلتهم بشاطئ العتيق غدا منجم رستم على رستم برؤيا أريها من الليل، قال: رأيت الدلو في السماء، دلوا أفرغ ماؤه، ورأيت السمكة، سمكة في ضحضاح من الماء تضطرب، ورأيت النعائم والزهرة تزدهر، قال: ويحك! هل أخبرت بها أحدا؟ قال: لا، قال: فاكتمها كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي، قال: كان رستم منجما، فكان يبكي مما يرى ويقدم عليه، فلما كان بظهر الكوفة رأى أن عمر دخل عسكر فارس، ومعه ملك، فختم على سلاحهم، ثم حزمه ودفعه إلى عمر. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قيس بن أبي حازم- وكان قد شهد القادسية- قال: كان مع رستم ثمانية عشر فيلا، ومع الجالنوس خمسة عشر فيلا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن المجالد، عن الشعبي، قال: كان مع رستم يوم القادسية ثلاثون فيلا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن سعيد بْن المرزبان، عن رجل، قال: كان مع رستم ثلاثة وثلاثون فيلا، منها فيل سابور الأبيض، وكانت الفيلة تألفه، وكان أعظمها وأقدمها. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: كان معه ثلاثة وثلاثون فيلا، معه في القلب ثمانية عشر فيلا، ومعه في المجنبتين خمسة عشر فيلا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْمُجَالِدِ وَسَعِيدٍ وَطَلْحَةَ

وَعَمْرٍو وَزِيَادٍ، قَالُوا: فَلَمَّا أَصْبَحَ رُسْتُمُ مِنْ لَيْلَتِهِ الَّتِي بَاتَهَا بِالْعَتِيقِ، أَصْبَحَ رَاكِبًا فِي خَيْلِهِ، فَنَظَرَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ صَعِدَ نَحْوَ الْقَنْطَرَةِ، وَقَدْ حَزَرَ النَّاسُ، فَوَقَفَ بِحِيَالِهِمْ دُونَ الْقَنْطَرَةِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَجُلا، إِنَّ رُسْتُمَ يَقُولُ لَكُمْ: أَرْسِلُوا إِلَيْنَا رَجُلا نُكَلِّمَهُ وَيُكَلِّمَنَا، وَانْصَرَفَ فَأَرْسَلَ زَهْرَةُ إِلَى سَعْدٍ بِذَلِكَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، فَأَخْرَجَهُ زَهْرَةُ إِلَى الْجَالِنُوسِ، فَأَبْلَغَهُ الْجَالِنُوسُ رُسْتُمَ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: لما نزل رستم على العتيق وبات به، أصبح غاديا على التصفح والحزر، فساير العتيق نحو خفان، حتى أتى على منقطع عسكر المسلمين، ثم صعد حتى انتهى إلى القنطرة، فتأمل القوم، حتى أتى على شيء يشرف منه عليهم، فلما وقف على القنطرة راسل زهرة، فخرج إليه حتى واقفه، فأراده أن يصالحهم، ويجعل له جعلا على أن ينصرفوا عنه، وجعل يقول فيما يقول: أنتم جيراننا وقد كانت طائفة منكم في سلطاننا، فكنا نحسن جوارهم، ونكف الأذى عنهم، ونوليهم المرافق الكثيرة، نحفظهم في أهل باديتهم، فنرعيهم مراعينا، ونميرهم من بلادنا، ولا نمنعهم من التجارة في شيء من أرضنا، وقد كان لهم في ذلك معاش- يعرض لهم بالصلح، وإنما يخبره بصنيعهم، والصلح يريد ولا يصرح- فقال له زهرة: صدقت، قد كان ما تذكر، وليس أمرنا أمر أولئك ولا طلبتنا إنا لم نأتكم لطلب الدنيا، إنما طلبتنا وهمتنا الآخرة، كنا كما ذكرت، يدين لكم من ورد عليكم منا، ويضرع إليكم يطلب ما في أيديكم ثم بعث اللَّه تبارك وتعالى إلينا رسولا، فدعانا إلى ربه، فأجبناه، فقال لنبيه ص: إني قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني، فأنا منتقم بهم منهم، وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به، وهو دين الحق، لا يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به أحد إلا عز فقال له رستم: وما هو؟ قال: أما عموده الذي

لا يصلح منه شيء إلا به، فشهادة أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول اللَّه، والإقرار بما جاء من عند اللَّه تعالى قال: ما أحسن هذا! وأي شيء أيضا؟ قال: وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة اللَّه تعالى قال: حسن، وأي شيء أيضا؟ قال: والناس بنو آدم وحواء، إخوة لأب وأم، قال: ما أحسن هذا! ثم قال له رستم: أرأيت لو أني رضيت بهذا الأمر وأجبتكم إليه، ومعي قومي كيف يكون أمركم! أترجعون؟ قال: إي والله، ثم لا نقرب بلادكم أبدا إلا في تجارة أو حاجة قال: صدقتني والله، أما إن أهل فارس منذ ولي أردشير لم يدعوا أحدا يخرج من عمله من السفلة، كانوا يقولون إذا خرجوا من أعمالهم: تعدوا طورهم، وعادوا أشرافهم فقال له زهرة: نحن خير الناس للناس، فلا نستطيع أن نكون كما تقولون، نطيع اللَّه في السفلة، ولا يضرنا من عصى اللَّه فينا فانصرف عنه، ودعا رجال فارس فذاكرهم هذا، فحموا من ذلك، وأنفوا، فقال: أبعدكم اللَّه وأسحقكم! أخزى اللَّه أخرعنا وأجبننا! فلما انصرف رستم ملت إلى زهرة، فكان إسلامي، وكنت له عديدا وفرض لي فرائض أهل القادسية. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَعَمْرٍو وَزِيَادٍ بِإِسْنَادِهِمْ مِثْلَهُ قَالُوا: وَأَرْسَلَ سَعْدٌ إِلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَبُسْرِ بْنِ أَبِي رُهْمٍ وَعَرْفَجَةَ بْنِ هَرْثَمَةَ وَحُذَيْفَةَ بْنِ مِحْصَنٍ وَرِبْعِيِّ بْنِ عَامِرٍ وَقِرْفَةَ بْنِ زَاهِرٍ التَّيْمِيِّ ثُمَّ الْوَاثِلِيِّ وَمَذْعُورِ بْنِ عَدِيٍّ العجلى، والمضارب ابن يَزِيدَ الْعِجْلِيِّ وَمَعْبَدِ بْنِ مُرَّةَ الْعِجْلِيِّ- وَكَانَ مِنْ دُهَاةِ الْعَرَبِ- فَقَالَ: إِنِّي مُرْسِلُكُمْ إِلَى هَؤُلاءِ الْقَوْمِ، فَمَا عِنْدَكُمْ؟ قَالُوا جَمِيعًا: نَتْبَعُ مَا تَأْمُرُنَا بِهِ، وَنَنْتَهِي إِلَيْهِ، فَإِذَا جَاءَ أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ مِنْكَ فِيهِ شَيْءٌ نَظَرْنَا أَمْثَلَ مَا يَنْبَغِي وَأَنْفَعَهُ لِلنَّاسِ، فَكَلَّمْنَاهُمْ بِهِ فَقَالَ سَعْدٌ: هَذَا فِعْلُ الْحِزْمَةِ، اذْهَبُوا فَتَهَيَّئُوا، فَقَالَ رِبْعِيُّ بْنُ عَامِرٍ: إِنَّ الأَعَاجِمَ لَهُمْ آرَاءٌ وَآدَابٌ، وَمَتَى

نَأْتِهِمْ جَمِيعًا يَرَوْا أَنَّا قَدِ احْتَفَلْنَا بِهِمْ! فَلا تَزِدْهُمْ عَلَى رَجُلٍ، فَمَالَئُوهُ جَمِيعًا عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: فَسَرِّحُونِي، فَسَرَّحَهُ، فَخَرَجَ رِبْعِيٌّ لِيَدْخُلَ عَلَى رُسْتُمَ عَسْكَرَهُ، فَاحْتَبَسَهُ الَّذِينَ عَلَى الْقَنْطَرَةِ، وَأَرْسَلَ إِلَى رُسْتُمَ لِمَجِيئِهِ، فَاسْتَشَارَ عُظَمَاءَ أَهْلِ فَارِسَ، فَقَالَ: مَا تَرَوْنَ؟ أَنُبَاهِي أَمْ نَتَهَاوَنُ! فَأَجْمَعَ مَلَؤُهُمْ عَلَى التَّهَاوُنِ، فَأَظْهَرُوا الزِّبْرِجَ، وَبَسَطُوا الْبُسُطَ وَالنَّمَارِقَ، وَلَمْ يَتْرُكُوا شَيْئًا، وَوُضِعَ لِرُسْتُمَ سَرِيرُ الذَّهَبِ، وَأُلْبِسَ زِينَتَهُ مِنَ الأَنْمَاطِ وَالْوَسَائِدِ الْمَنْسُوجَةِ بِالذَّهَبِ وَأَقْبَلَ رِبْعِيٌّ يَسِيرُ عَلَى فَرَسٍ لَهُ زَبَّاءٌ قَصِيرَةٌ، مَعَهُ سَيْفٌ لَهُ مَشُوفٌ، وَغَمْدُهُ لِفَافَةُ ثَوْبٍ خَلِقٍ، وَرُمْحُهُ مَعْلُوبٌ بِقدٍّ، مَعَهُ حَجَفَةٌ مِنْ جُلُودِ الْبَقَرِ، عَلَى وَجْهِهَا أَدِيمٌ أَحْمَرُ مِثْلُ الرَّغِيفِ، وَمَعَهُ قَوْسُهُ وَنَبْلُهُ فَلَمَّا غَشِيَ الْمَلِكَ، وَانْتَهَى إِلَيْهِ وَإِلَى أَدْنَى الْبُسُطِ، قِيلَ لَهُ: انْزِلْ، فَحَمَلَهَا عَلَى الْبِسَاطِ، فَلَمَّا اسْتَوَتْ عَلَيْهِ، نَزَلَ عَنْهَا وَرَبَطَهَا بِوِسَادَتَيْنِ فَشَقَّهُمَا، ثُمَّ أَدْخَلَ الْحَبْلَ فِيهِمَا، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَنْهَوْهُ، وَإِنَّمَا أَرَوْهُ التَّهَاوُنَ وَعَرَفَ مَا أَرَادُوا، فَأَرَادَ اسْتِحْرَاجَهُمْ، وَعَلَيْهِ دِرْعٌ لَهُ كَأَنَّهَا أَضَاةٌ وَيلمقُهُ عَبَاءَةُ بَعِيرِهِ، قَدْ جَابَهَا وَتَدَرَّعَهَا، وَشَدَّهَا عَلى وَسَطِهِ بِسَلَبٍ وَقَدْ شَدَّ رَأْسَهُ بِمعْجَرَتِهِ، وَكَانَ أَكْثَرَ الْعَرَبِ شعرة، ومعْجَرَتُهُ نِسْعَةُ بَعِيرِهِ، وَلِرَأْسِهِ أَرْبَعُ ضَفَائِرَ، قَدْ قُمْنَ قِيَامًا، كَأَنَّهُنَّ قُرُونُ الْوَعْلَةِ فَقَالُوا: ضَعْ سِلاحَكَ، فَقَالَ: إِنِّي لَمْ آتِكُمْ فَأَضَعُ سِلاحِي بِأَمْرِكُمْ، أَنْتُمْ دعوتموني، فان ابيتم ان آتيكم كما اريد رَجَعْتُ فَأَخْبِرُوا رُسْتُمَ، فَقَالَ: ائْذَنُوا لَهُ، هَلْ هُوَ إِلا رَجُلٌ وَاحِدٌ! فَأَقْبَلَ يَتَوَكَّأُ عَلَى رمحه، وزجه نصل يقارب

الخطو، وَيَزُجُّ النَّمَارِقَ وَالْبُسُطَ، فَمَا تَرَكَ لَهُمْ نِمْرِقَةً وَلا بُسَاطًا إِلا أَفْسَدَهُ وَتَرَكَهُ مُنْهَتِكًا مُخْرَقًا، فَلَمَّا دَنَا مِنْ رُسْتُمَ تَعَلَّقَ بِهِ الْحَرَسُ، وَجَلَسَ عَلَى الأَرْضِ، وَرَكَّزَ رُمْحَهُ بِالْبُسُطِ، فَقَالُوا: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: إِنَّا لا نَسْتَحِبُّ الْقُعُودَ عَلَى زِينَتِكُمْ هَذِهِ فَكَلَّمَهُ، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟ قَالَ: اللَّهُ ابْتَعَثَنَا، وَاللَّهُ جَاءَ بِنَا لِنُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَمِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سِعَتِهَا، وَمِنْ جَوْرِ الأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الإِسْلامِ، فَأَرْسَلَنَا بِدِينِهِ إِلَى خَلْقِهِ لِنَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ، فَمَنْ قَبِلَ مِنَّا ذَلِكَ قَبِلْنَا ذَلِكَ مِنْهُ وَرَجَعْنَا عَنْهُ، وَتَرَكْنَاهُ وَأَرْضَهُ يَلِيهَا دُونَنَا، وَمَنْ أَبَى قَاتَلْنَاهُ أَبَدًا، حَتَّى نُفْضِيَ إِلَى مَوْعُودِ اللَّهِ. قَالَ: وَمَا مَوْعُودُ اللَّهِ؟ قَالَ: الْجَنَّةُ لِمَنْ مَاتَ عَلَى قِتَالِ مَنْ أَبَى، وَالظَّفْرِ لِمَنْ بَقِيَ فَقَالَ رُسْتُمُ: قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكُمْ، فَهَلْ لَكُمْ أَنْ تُؤَخِّرُوا هَذَا الأَمْرَ حَتَّى نَنْظُرَ فِيهِ وَتَنْظُرُوا! قَالَ: نَعَمْ، كَمْ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ؟ أَيَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ؟ قَالَ: لا بَلْ حَتَّى نُكَاتِبَ أَهْلَ رَأْيِنَا وَرُؤَسَاءَ قَوْمِنَا وَأَرَادَ مُقَارَبَتَهُ وَمُدَافَعَتَهُ، فَقَالَ: إِنَّ مِمَّا سَنَّ لَنَا رسول الله ص وَعَمِلَ بِهِ أَئِمَّتُنَا، أَلا نُمَكِّنَ الأَعْدَاءَ مِنْ آذَانِنَا، وَلا نُؤَجِّلَهُمْ عِنْدَ اللِّقَاءِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاثٍ، فَنَحْنُ مُتَرَدِّدُونَ عَنْكُمْ ثَلاثًا، فَانْظُرْ فِي أَمْرِكَ وَأَمْرِهِمْ، وَاخْتَرْ وَاحِدَةً مِنْ ثَلاثٍ بَعْدَ الأَجَلِ، اخْتَرِ الإِسْلامَ وَنَدَعُكَ وَأَرْضَكَ، أَوِ الْجَزَاءَ، فَنَقْبَلَ وَنَكُفَّ عَنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ عَنْ نَصْرِنَا غَنِيًّا تَرَكْنَاكَ مِنْهُ، وَإِنْ كُنْتَ إِلَيْهِ مُحْتَاجًا مَنَعْنَاكَ أَوِ الْمُنَابَذَةِ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَلَسْنَا نَبْدَؤُكَ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْيَوْمِ الرَّابِعِ إِلا أَنْ تَبْدَأَنَا، أَنَا كَفِيلٌ لَكَ بِذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِي وَعَلَى جَمِيعِ مَنْ تَرَى قَالَ: أَسَيِّدُهُمْ أَنْتَ؟ قَالَ: لا، وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَالْجَسَدِ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، يُجِيرُ أَدْنَاهُمْ عَلَى أَعْلاهُمْ فَخَلَصَ رستم برءوساء أَهْلِ فَارِسَ، فَقَالَ: مَا تَرَوْنَ؟ هَلْ رَأَيْتُمْ كَلامًا قَطُّ أَوْضَحَ وَلا أَعَزَّ مِنْ كَلامِ هَذَا الرَّجُلِ؟ قَالُوا: مَعَاذَ اللَّهِ لَكَ أَنْ تَمِيلَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا وَتَدَعَ دِينَكَ لِهَذَا الْكَلْبِ! أَمَا تَرَى إِلَى ثِيَابِهِ! فَقَالَ: ويحكم

لا تَنْظُرَوا إِلَى الثِّيَابِ، وَلَكِنِ انْظُرُوا إِلَى الرَّأْيِ وَالْكَلامِ وَالسِّيرَةِ، إِنَّ الْعَرَبَ تَسْتَخِفُّ بِاللِّبَاسِ وَالْمَأْكَلِ وَيَصُونُونَ الأَحْسَابَ، لَيْسُوا مِثْلَكُمْ فِي اللِّبَاسِ، وَلا يَرَوْنَ فِيهِ مَا تَرَوْنَ وَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَتَنَاوَلُونَ سِلاحَهُ، وَيُزَهِّدُونَهُ فِيهِ، فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ لَكُمْ إِلَى أَنْ ترونِي فَأُرِيَكُمْ؟ فَأَخْرَجَ سَيْفَهُ مِنْ خِرْقِهِ كَأَنَّهُ شُعْلَةُ نَارٍ فَقَالَ الْقَوْمُ: اغْمِدْهُ، فَغَمَدَهُ، ثُمَّ رَمَى تُرْسًا وَرَمَوْا حَجْفَتَهُ، فَخُرِقَ تُرْسُهُمْ، وَسَلِمَتْ حَجْفَتُهُ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ فَارِسَ، إِنَّكُمْ عَظَّمْتُمُ الطَّعَامَ وَاللِّبَاسَ وَالشَّرَابَ، وَإِنَّا صَغَّرْنَاهُنَّ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى الأَجَلِ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ بَعَثُوا أَنِ ابْعَثْ إِلَيْنَا ذَلِكَ الرَّجُلَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ سَعْدٌ حُذَيْفَةَ بْنَ مِحْصَنٍ، فَأَقْبَلَ فِي نَحْوٍ مِنْ ذَلِكَ الزِّيِّ، حَتَّى إِذَا كَانَ عَلَى أَدْنَى الْبِسَاطِ، قِيلَ لَهُ: انْزِلْ، قَالَ: ذَلِكَ لَوْ جِئْتُكُمْ فِي حَاجَتِي، فَقُولُوا لِمَلِكِكُمْ: أَلَهُ الْحَاجَةُ أَمْ لِي؟ فَإِنْ قَالَ: لِي، فَقَدْ كَذَبَ، وَرَجَعْتُ وَتَرَكْتُكُمْ، فَإِنْ قَالَ: لَهُ، لَمْ آتِكُمْ إِلا عَلَى مَا أُحِبُّ فَقَالَ: دَعُوهُ، فَجَاءَ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ وَرُسْتُمُ عَلَى سَرِيرِهِ، فَقَالَ: انْزِلْ، قَالَ: لا أَفْعَلُ، فَلَمَّا أَبَى سَأَلَهُ: ما بالك جئت ولم يجيء صَاحِبُنَا بِالأَمْسِ؟ قَالَ: إِنَّ أَمِيرَنَا يُحِبُّ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَنَا فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، فَهَذِهِ نَوْبَتِي قَالَ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَنَّ عَلَيْنَا بِدِينِهِ، وَأَرَانَا آيَاتِهِ، حَتَّى عَرَفْنَاهُ وَكُنَّا لَهُ مُنْكِرِينَ ثُمَّ أَمَرَنَا بِدُعَاءِ النَّاسِ إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْ ثَلاثٍ، فَأَيُّهَا أَجَابُوا إِلَيْهَا قَبِلْنَاهَا: الإِسْلامُ وَنَنْصَرِفُ عَنْكُمْ، أَوِ الجزاء ويمنعكم إِنِ احْتَجْتُمْ إِلَى ذَلِكَ، أَوِ الْمُنَابَذَةُ فَقَالَ: أَوِ الْمُوَادَعَةُ إِلَى يَوْمٍ مَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، ثَلاثًا مِنْ أَمْسَ فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ إِلا ذَلِكَ رَدَّهُ وَأَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: وَيْحَكُمْ! أَلا تَرَوْنَ إِلَى مَا أَرَى! جَاءَنَا الأَوَّلُ بِالأَمْسِ فَغَلَبَنَا عَلَى أَرْضِنَا، وَحَقَّرَ مَا نُعَظِّمُ، وَأَقَامَ فَرَسَهُ عَلَى زِبْرِجِنَا وَرَبَطَهُ بِهِ، فَهُوَ فِي يُمْنِ الطَّائِرِ، ذَهَبَ بِأَرْضِنَا وَمَا فِيهَا إِلَيْهِمْ، مَعَ فَضْلِ عَقْلِهِ وَجَاءَنَا هَذَا الْيَوْمَ فَوَقَفَ عَلَيْنَا، فَهُوَ فِي يُمْنِ الطَّائِرِ، يَقُومُ عَلَى أَرْضِنَا دُونَنَا، حَتَّى أَغْضَبَهُمْ وَأَغْضَبُوهُ فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَرْسَلَ: ابْعَثُوا إِلَيْنَا رَجُلا، فَبَعَثُوا إِلَيْهِمُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَة كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: لَمَّا جَاءَ الْمُغِيرَةُ إِلَى الْقَنْطَرَةِ فَعَبَرَهَا إِلَى أَهْلِ فَارِسَ حَبَسُوهُ واستأذنوا رستم

فِي إِجَازَتِهِ، وَلَمْ يُغَيِّرُوا شَيْئًا مِنْ شَارَتِهِمْ، تَقْوِيَةً لِتَهَاوُنِهِمْ، فَأَقْبَلَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَالْقَوْمُ فِي زِيِّهِمْ، عَلَيْهِمُ التِّيجَانُ وَالثِّيَابُ الْمَنْسُوجَةُ بِالذَّهَبِ، وَبُسُطُهُمْ عَلَى غَلْوَةٍ لا يَصِلُ إِلَى صَاحِبِهِمْ، حَتَّى يَمْشِيَ عَلَيْهِمْ غَلْوَةً، وَأَقْبَلَ الْمُغِيرَةُ وَلَهُ أَرْبَعُ ضَفَائِرَ يَمْشِي، حَتَّى جَلَسَ مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ وَوِسَادَتِهِ، فَوَثَبُوا عَلَيْهِ فَتَرْتَرُوهُ وَأَنْزَلُوهُ وَمَغَثُوهُ فَقَالَ: كَانَتْ تَبْلُغُنَا عَنْكُمُ الأَحْلامُ، وَلا أَرَى قَوْمًا أَسْفَهَ مِنْكُمْ! إِنَّا مَعْشَرَ الْعَرَبِ سَوَاءٌ، لا يَسْتَعْبِدُ بَعْضُنَا بَعْضًا إِلا أَنْ يَكُونَ مُحَارِبًا لِصَاحِبِهِ، فَظَنَنْتُ أَنَّكُمْ تُوَاسُونَ قَوْمَكُمْ كَمَا نَتَوَاسَى، وَكَانَ أَحْسَنَ مِنَ الَّذِي صَنَعْتُمْ أَنْ تُخْبِرُونِي أَنَّ بَعْضَكُمْ أَرْبَابُ بَعْضٍ، وَأَنَّ هَذَا الأَمْرَ لا يَسْتَقِيمُ فِيكُمْ فَلا نَصْنَعُهُ، وَلَمْ آتِكُمْ، وَلَكِنْ دَعَوْتُمُونِي الْيَوْمُ، عَلِمْتُ أَنَّ أَمْرَكُمْ مُضْمَحِلٌّ، وَأَنَّكُمْ مَغْلُوبُونَ، وَأَنَّ مُلْكًا لا يَقُومُ عَلَى هَذِهِ السِّيرَةِ، وَلا عَلَى هَذِهِ الْعُقُولِ فَقَالَتِ السَّفَلَةُ: صَدَقَ وَاللَّهِ الْعَرَبِيُّ، وَقَالَتِ الدَّهَّاقِينُ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَمَى بِكَلامٍ لا يَزَالُ عَبِيدُنَا يَنْزَعُونَ إِلَيْهِ، قَاتَلَ اللَّهُ أَوَّلينَا، مَا كَانَ أَحْمَقَهُمْ حِينَ كَانُوا يُصَغِّرُونَ أَمْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ! فَمَازَحَهُ رُسْتُمُ لِيَمْحُوَ مَا صَنَعَ، وَقَالَ لَهُ: يَا عَرَبِيُّ، إِنَّ الْحَاشِيَةَ قَدْ تَصْنَعُ مَا لا يُوَافِقُ الْمَلِكَ، فَيَتَرَاخَى عَنْهَا مَخَافَةَ أَنْ يَكْسِرَهَا عَمَّا يَنْبَغِي مِنْ ذَلِكَ، فَالأَمْرُ عَلَى مَا تُحِبُّ مِنَ الْوَفَاءِ وَقُبُولِ الْحَقِّ، مَا هَذِهِ الْمَغَازِلُ الَّتِي مَعَكَ؟ قَالَ: مَا ضَرَّ الْجَمْرَةَ أَلا تَكُونَ طَوِيلَةً! ثُمَّ رَامَاهُمْ وَقَالَ: مَا بَالُ سَيْفِكَ رَثًّا! قَالَ: رَثُّ الْكِسْوَةِ، حَدِيدُ الْمَضْرَبَةِ ثُمَّ عَاطَاهُ سَيْفَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ رُسْتُمُ: تَكَلَّمْ أَمْ أَتَكَلَّمُ؟ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: أَنْتَ الَّذِي بَعَثْتَ إِلَيْنَا، فَتَكَلَّمْ، فَأَقَامَ التَّرْجُمَانُ بَيْنَهُمَا، وَتَكَلَّمَ رُسْتُمُ، فَحَمِدَ قَوْمَهُ، وَعَظَّمَ أَمْرَهُمْ وَطَوَّلَهُ، وَقَالَ: لَمْ نَزَلْ مُتَمَكِّنِينَ فِي الْبِلادِ، ظَاهِرِينَ عَلَى الأَعْدَاءِ، أَشْرَافًا فِي الأُمَمِ، فَلَيْسَ لأَحَدٍ مِنَ الْمُلُوكِ مِثْلُ عِزِّنَا وَشَرَفِنَا وَسُلْطَانِنَا، نُنْصَرُ عَلَى النَّاسِ وَلا يُنْصَرُونَ عَلَيْنَا إِلا الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ، أَوِ الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ، لِلذُّنُوبِ، فَإِذَا انْتَقَمَ اللَّهُ فَرَضِيَ رَدَّ إِلَيْنَا عِزَّنَا، وَجَمَعَنَا لِعَدُوِّنَا شَرَّ يَوْمٍ هُوَ آتٍ عَلَيْهِمْ

ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي النَّاسِ أُمَّةٌ أَصْغَرُ عِنْدَنَا أَمْرًا مِنْكُمْ، كُنْتُمْ أَهْلَ قَشَفٍ وَمَعِيشَةٍ سَيِّئَةٍ، لا نَرَاكُمْ شَيْئًا وَلا نَعُدُّكُمْ، وَكُنْتُمْ إِذَا قَحِطَتْ أَرْضُكُمْ، وَأَصَابَتْكُمُ السَّنَةُ اسْتَغَثْتُمْ بناحيه أرضنا فنأمر لكم بالشيء مِنَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ ثُمَّ نَرُدُّكُمْ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْكُمْ عَلَى مَا صَنَعْتُمْ إِلا مَا أَصَابَكُمْ مِنَ الْجَهْدِ فِي بِلادِكُمْ، فَأَنَا آمِرٌ لأَمِيرِكُمْ بِكِسْوَةٍ وَبَغْلٍ وَأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَآمِرٌ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِوِقْرِ تَمْرٍ وَبِثَوْبَيْنِ، وَتَنْصَرِفُونَ عَنَّا، فَإِنِّي لَسْتُ أَشْتَهِي أَنْ أَقْتُلَكُمْ وَلا آسِرَكُمْ فَتَكَلَّمَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَازِقُهُ، فَمَنْ صَنَعَ شَيْئًا فَإِنَّمَا هُوَ الذى يصنعه هو لَهُ وَأَمَّا الَّذِي ذَكَرْتَ بِهِ نَفْسَكَ وَأَهْلَ بِلادِكَ، مِنَ الظُّهُورِ عَلَى الأَعْدَاءِ وَالتَّمَكُّنِ فِي الْبِلادِ وَعِظَمِ السُّلْطَانِ فِي الدُّنْيَا، فَنَحْنُ نَعْرِفُهُ، وَلَسْنَا نُنْكِرُهُ، فَاللَّهُ صَنَعَهُ بِكُمْ، وَوَضَعَهُ فِيكُمْ، وَهُوَ لَهُ دُونَكُمْ، وَأَمَّا الَّذِي ذَكَرْتَ فِينَا مِنْ سُوءِ الْحَالِ، وَضِيقِ الْمَعِيشَةِ وَاخْتِلافِ الْقُلُوبِ، فَنَحْنُ نَعْرِفُهُ، وَلَسْنَا نُنْكِرُهُ، وَاللَّهُ ابْتَلانَا بِذَلِكَ، وَصَيَّرَنَا إِلَيْهِ، وَالدُّنْيَا دُوَلٌ، وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ شَدَائِدِهَا يَتَوَقَّعُونَ الرَّخَاءِ حَتَّى يَصِيرُوا إِلَيْهِ، وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ رَخَائِهَا يَتَوَقَّعُونَ الشَّدَائِدَ حَتَّى تَنْزِلَ بِهِمْ، وَيَصِيرُوا إِلَيْهَا، وَلَوْ كُنْتُمْ فِيمَا آتَاكُمُ اللَّهُ ذَوِي شُكْرٍ، كَانَ شُكْرُكُمْ يَقْصُرُ عَمَّا أُوتِيتُمْ، وَأَسْلَمَكُمْ ضَعْفُ الشُّكْرِ إِلَى تَغَيُّرِ الْحَالِ، وَلَوْ كُنَّا فِيمَا ابْتُلِينَا بِهِ أَهْلَ كُفْرٍ، كَانَ عَظِيمُ مَا تَتَابَعَ عَلَيْنَا مُسْتَجْلِبًا مِنَ اللَّهِ رَحْمَةً يُرَفِّهُ بِهَا عَنَّا، وَلَكِنَّ الشَّأْنَ غَيْرُ مَا تَذْهَبُونَ إِلَيْهِ، أَوْ كُنْتُمْ تَعْرِفُونَنَا بِهِ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَعَثَ فِينَا رَسُولا ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَ الْكَلامِ الأَوَّلِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: وَإِنِ احْتَجْتَ إِلَيْنَا أَنْ نَمْنَعَكَ فَكُنْ لَنَا عَبْدًا تُؤَدِّي الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَأَنْتَ صَاغِرٌ، وَإِلا فَالسَّيْفُ إِنْ أَبَيْتَ! فَنَخَرَ نَخْرَةً، وَاسْتَشَاطَ غَضَبًا، ثُمَّ حَلِفَ بِالشَّمْسِ لا يَرْتَفِعُ لَكُمُ الصُّبْحُ غَدًا حَتَّى أَقْتُلَكُمْ أَجْمَعِينَ. فَانْصَرَفَ الْمُغِيرَةُ، وَخَلَصَ رُسْتُمُ تَأَلُّفًا بِأَهْلِ فَارِسَ، وَقَالَ: أَيْنَ هَؤُلاءِ مِنْكُمْ؟ مَا بَعْدُ هَذَا! أَلَمْ يَأْتِكُمُ الأَوَّلانِ فَحَسَرَاكُمْ وَاسْتَحْرَجَاكُمْ، ثُمَّ جاءكم

هَذَا، فَلَمْ يَخْتَلِفُوا، وَسَلَكُوا طَرِيقًا وَاحِدًا، وَلَزِمُوا أَمْرًا وَاحِدًا، هَؤُلاءِ وَاللَّهِ الرِّجَالُ، صَادِقِينَ كَانُوا أَمْ كَاذِبِينَ! وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ بَلَغَ مِنْ إِرْبِهِمْ وَصَوْنِهِمْ لِسِرِّهِمْ أَلا يَخْتَلِفُوا، فَمَا قَوْمٌ أَبْلَغُ فِيمَا أَرَادُوا مِنْهُمْ، لَئِنْ كَانُوا صَادِقِينَ مَا يَقُومُ لِهَؤُلاءِ شَيْءٌ! فَلُجُّوا وَتَجَلَّدُوا وَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكُمْ تُصْغُونَ إِلَى مَا اقول لكم، وان هذا منكم رياء، فَازْدَادُوا لَجَاجَةً. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: فَأَرْسَلَ مَعَ الْمُغِيرَةِ رَجُلا، وَقَالَ لَهُ: إِذَا قَطَعَ الْقَنْطَرَةَ، وَوَصَلَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَنَادِ: إِنَّ الْمَلِكَ كَانَ مُنَجِّمًا قَدْ حَسَبَ لَكَ وَنَظَرَ فِي أَمْرِكَ، فَقَالَ: إِنَّكَ غَدًا تُفْقَأُ عَيْنُكَ فَفَعَلَ الرَّسُولُ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: بَشَّرْتَنِي بِخَيْرٍ وَأَجْرٍ، وَلَوْلا أَنْ أُجَاهِدَ بَعْدَ الْيَوْمِ أَشْبَاهَكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لَتَمَنَّيْتُ أَنَّ الأُخْرَى ذَهَبَتْ أَيْضًا فَرَآهُمْ يَضْحَكُونَ مِنْ مَقَالَتِهِ، وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ بَصِيرَتِهِ، فَرَجَعَ إِلَى الْمَلِكِ بِذَلِكَ، فَقَالَ: أَطِيعُونِي يَا أَهْلَ فَارِسَ، وَإِنِّي لأَرَى لِلَّهِ فِيكُمْ نَقْمَةً لا تَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا عَنْ أَنْفُسِكُمْ. وَكَانَتْ خُيُولُهُمْ تَلْتَقِي عَلَى الْقَنْطَرَةِ لا تَلْتَقِي إِلا عَلَيْهَا، فَلا يَزَالُونَ يَبْدَءُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُسْلِمُونَ كَافُّونَ عَنْهُمُ الثَّلاثَةَ الأَيَّام، لا يَبْدَءُونَهُمْ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ صَدُّوهُمْ وَرَدَعُوهُمْ. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ تَرْجُمَانُ رُسْتُمَ عَنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ يُدْعَى عبودَ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي وَسَعِيدِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ، قَالا: دَعَا رُسْتُمُ بِالْمُغِيرَةِ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ عَلَى سَرِيرِهِ، وَدَعَا رُسْتُمُ تَرْجُمَانَهُ- وَكَانَ عَرَبِيًّا مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ، يُدْعَى عبودَ- فَقَالَ لَهُ الْمُغِيرَةُ: وَيْحَكَ يَا عبودُ! أَنْتَ رَجُلٌ عَرَبِيٌّ، فَأَبْلِغْهُ عَنِّي إِذَا أَنَا تَكَلَّمْتُ كَمَا تُبَلِّغُنِي عَنْهُ فَقَالَ لَهُ رُسْتُمُ مِثْلَ مَقَالَتِهِ، وَقَالَ لَهُ الْمُغِيرَةُ مِثْلَ مَقَالَتِهِ، الى احدى

ثَلاثِ خِلالٍ: إِلَى الإِسْلامِ وَلَكُمْ فِيهِ مَا لَنَا وَعَلَيْكُمْ فِيهِ مَا عَلَيْنَا، لَيْسَ فِيهِ تَفَاضُلُ بَيْنَنَا، أَوِ الْجِزْيَةِ عَنْ يَدٍ وَأَنْتُمْ صَاغِرُونَ قَالَ: مَا صَاغِرُونَ؟ قَالَ: أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ عَلَى رَأْسِ أَحَدِنَا بِالْجِزْيَةِ يَحْمَدُهُ أَنْ يَقْبَلَهَا مِنْهُ. إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَالإِسْلامُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْهُمَا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عُبَيْدَةَ، عَنْ شَقِيقٍ، قَالَ: شَهِدْتُ الْقَادِسِيَّةَ غُلامًا بَعْدَ مَا احْتَلَمْتُ، فَقَدِمَ سَعْدٌ الْقَادِسِيَّةَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَبِهَا أَهل الأَيَّامِ، فَقَدِمَتْ عَلَيْنَا مُقْدِمَاتُ رُسْتُمَ، ثُمَّ زَحَفَ إِلَيْنَا فِي سِتِّينَ أَلْفًا، فَلَمَّا أَشْرَفَ رُسْتُمُ عَلَى الْعَسْكَرِ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ، ابْعَثُوا إِلَيْنَا رَجُلا يُكَلِّمُنَا وَنُكَلِّمْهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ وَنَفَرًا، فَلَمَّا أَتَوْا رُسْتُمَ جَلَسَ الْمُغِيرَةُ عَلَى السَّرِيرِ، فَنَخَرَ أَخُو رُسْتُمَ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: لا تَنْخَرُ، فَمَا زَادَنِي هَذَا شَرَفًا وَلا نَقَصَ أَخَاكَ فَقَالَ رُسْتُمُ: يَا مُغِيرَةُ، كُنْتُمْ أَهْلَ شَقَاءٍ، حَتَّى بَلَغَ، وَإِنْ كَانَ لَكُمْ أَمْرٌ سِوَى ذَلِكَ، فَأَخْبِرُونَا ثُمَّ أَخَذَ رُسْتُمُ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، وَقَالَ: لا تَرَوْا أَنَّ هَذِهِ الْمَغَازِلَ تُغْنِي عَنْكُمْ شَيْئًا، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ مُجِيبًا لَهُ، فَذَكَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: فَكَانَ مِمَّا رَزَقَنَا اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ حَبَّةٌ تَنْبُتُ فِي أَرْضِكُمْ هَذِهِ، فَلَمَّا أَذَقْنَاهَا عِيَالَنَا، قَالُوا: لا صَبْرَ لَنَا عَنْهَا، فَجِئْنَا لِنُطْعِمَهُمْ أَوْ نَمُوتَ فَقَالَ رُسْتُمُ: إِذًا تَمُوتُونَ أَوْ تُقْتَلُونَ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: إِذًا يَدْخُلَ مَنْ قُتِلَ مِنَّا الْجَنَّةَ، وَيَدْخُلَ مَنْ قَتَلَنَا مِنْكُمُ النَّارَ، وَيَظْفَرُ مَنْ بَقِيَ مِنَّا بِمَنْ بَقِيَ مِنْكُمْ، فَنَحْنُ نُخَيِّرُكَ بَيْنَ ثَلاثِ خِلالٍ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ فَقَالَ رُسْتُمُ: لا صُلْحَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَزِيَادٍ، قَالُوا: أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ سَعْدٌ بَقِيَّةَ ذَوِي الرَّأْيِ جَمِيعًا، وَحَبَسَ الثَّلاثَةَ، فَخَرَجُوا حَتَّى أَتَوْهُ لِيُعْظِمُوا عَلَيْهِ اسْتِقْبَاحًا، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ أَمِيرَنَا يَقُولُ لَكَ: إِنَّ الْجِوَارَ يَحْفَظُ الْوُلاةَ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَنَا وَلَكَ، الْعَافِيَةُ أَنْ تَقْبَلَ

مَا دَعَاكَ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَنَرْجِعُ إِلَى أَرْضِنَا، وَتَرْجِعُ إِلَى أَرْضِكَ وَبَعْضُنَا مِنْ بَعْضٍ، إِلا أَنَّ دَارَكُمْ لَكُمْ، وَأَمْرَكُمْ فِيكُمْ، وَمَا أَصَبْتُمْ مِمَّا وَرَاءَكُمْ كَانَ زِيَادَةً لَكُمْ دُونَنَا، وَكُنَّا لَكُمْ عَوْنًا عَلَى أَحَدٍ إِنْ أَرَادَكُمْ أَوْ قَوِيَ عَلَيْكُمْ وَاتَّقِ اللَّهَ يَا رُسْتُمُ، وَلا يَكُونَنَّ هَلاكُ قَوْمِكَ عَلَى يَدَيْكَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَنْ تغبط بِهِ إِلا أَنْ تَدْخُلَ فِيهِ وَتَطْرُدُ بِهِ الشَّيْطَانَ عَنْكَ، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ كَلَّمْتُ مِنْكُمْ نَفَرًا، وَلَوْ أَنَّهُمْ فَهِمُوا عَنِّي رَجَوْتُ أَنْ تَكُونُوا قَدْ فَهِمْتُمْ، وَإِنَّ الأَمْثَالَ أَوْضَحُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْكَلامِ، وَسَأَضْرِبُ لَكُمْ مَثَلَكُمْ تُبْصِرُوا أَنَّكُمْ كُنْتُمْ أَهْلَ جَهْدٍ فِي الْمَعِيشَةِ، وَقَشَفٍ فِي الْهَيْئَةِ، لا تَمْتَنِعُونَ وَلا تَنْتَصِفُونَ، فَلَمْ نُسِئْ جِوَارَكُمْ، وَلَمْ نَدَعْ مُوَاسَاتَكُمْ، تُقْحَمُونَ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، فَنُمِيرُكُمْ ثُمَّ نَرُدُّكُمْ، وَتَأْتُونَنَا أَجْرَاءً وَتُجَّارًا، فَنُحْسِنُ إِلَيْكُمْ، فلما تَطَاعَمْتُمْ بِطَعَامِنَا، وَشَرِبْتُمْ شَرَابَنَا، وَأَظَلَّكُمْ ظِلُّنَا، وَصَفْتُمْ لِقَوْمِكُمْ، فَدَعَوْتُمُوهُمْ، ثُمَّ أَتَيْتُمُونَا بِهِمْ، وَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ فِي ذَلِكَ وَمَثَلُنَا كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَ لَهُ كَرْمٌ، فَرَأَى فِيهِ ثَعْلَبًا، فَقَالَ: وَمَا ثَعْلَبُ! فَانْطَلَقَ الثَّعْلَبُ، فَدَعَا الثَّعَالِبَ إِلَى ذَلِكَ الْكَرْمِ، فَلَمَّا اجْتَمَعْنَ عَلَيْهِ سَدَّ عَلَيْهِنَّ صَاحِبُ الْكَرْمِ الْجُحْرَ الَّذِي كُنَّ يَدْخُلْنَ مِنْهُ، فَقَتَلَهُنَّ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الَّذِي حَمَلَكُمْ عَلَى هَذَا الْحِرْصُ وَالطَّمَعُ وَالْجهْدُ، فَارْجِعُوا عَنَّا عَامَكُمْ هَذَا، وَامْتَارُوا حَاجَتَكُمْ، وَلَكُمُ الْعَوْدُ كُلَّمَا احْتَجْتُمْ، فَإِنِّي لا أَشْتَهِي أَنْ أَقْتُلَكُمْ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن عمارة بْن القعقاع الضبي، عن رجل من يربوع شهدها، قال: وقال وقد أصاب أناس كثير منكم من أرضنا ما أرادوا، ثم كان مصيرهم القتل والهرب، ومن سن هذا لكم خير منكم وأقوى، وقد رأيتم أنتم كلما أصابوا شيئا أصيب بعضهم ونجا بعضهم، وخرج مما كان أصاب، ومن أمثالكم فيما تصنعون مثل جرذان ألفت جرة فيها حب، وفي الجرة ثقب، فدخل الأول فأقام فيها، وجعل الأخر ينقلن منها ويرجعن ويكلمنه في الرجوع، فيأبى فانتهى سمن الذي في الجرة، فاشتاق إلى أهله ليريهم حسن حاله،

فضاق عليه الجحر، ولم يطق الخروج، فشكا القلق إلى أصحابه، وسألهم المخرج، فقلن له: ما أنت بخارج منها حتى تعود كما كنت قبل أن تدخل، فكف وجوع نفسه، وبقي في الخوف، حتى إذا عاد كما كان قبل أن يدخلها أتى عليه صاحب الجرة فقتله فاخرجوا ولا يكونن هذا لكم مثلا. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: وقال: لم يخلق اللَّه خلقا أولع من ذباب ولا أضر، ما خلاكم يا معشر العرب، ترون الهلاك ويدليكم فيه الطمع، وسأضرب لكم مثلكم: إن الذباب إذا رأى العسل طار، وقال: من يوصلني إليه وله درهمان حتى يدخله؟ لا ينهنهه أحد إلا عصاه، فإذا دخله غرق ونشب وقال: من يخرجني وله أربعة دراهم؟ وقال أيضا: إنما مثلكم مثل ثعلب دخل جحرا وهو مهزول ضعيف إلى كرم، فكان فيه يأكل ما شاء اللَّه، فرآه صاحب الكرم، ورأى ما به، فرحمه، فلما طال مكثه في الكرم وسمن، وصلحت حاله، وذهب ما كان به من الهزال أشر، فجعل يعبث بالكرم ويفسد أكثر مما يأكل، فاشتد على صاحب الكرم، فقال: لا أصبر على هذا من أمر هذا، فأخذ له خشبة واستعان عليه غلمانه، فطلبوه وجعل يراوغهم في الكرم، فلما رأى أنهم غير مقلعين عنه، ذهب ليخرج من الجحر الذي دخل منه، فنشب اتسع عليه وهو مهزول، وضاق عليه وهو سمين، فجاءه وهو على تلك الحال صاحب الكرم، فلم يزل يضربه حتى قتله، وقد جئتم وأنتم مهازيل، وقد سمنتم شيئا من سمن، فانظروا كيف تخرجون! وقال أيضا: إن رجلا وضع سلا، وجعل طعامه فيه، فأتى الجرذان، فخرقوا سله، فدخلوا فيه فأراد سده، فقيل له: لا تفعل، إذا يخرقنه، ولكن انقب بحياله، ثم اجعل فيها قصبة مجوفة، فإذا جاءت الجرذان دخلن من القصبة وخرجن منها، فكلما طلع عليكم جرذ قتلتموه وقد سددت عليكم، فإياكم أن تقتحموا القصبة، فلا يخرج منها أحد إلا قتل، وما دعاكم إلى ما صنعتم، ولا أرى عددا ولا عدة!

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ بِإِسْنَادِهِمَا وَزِيَادٍ مَعَهُمَا، قَالُوا: فَتَكَلَّمَ الْقَوْمُ فَقَالُوا: أَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ سُوءِ حَالِنَا فِيمَا مَضَى، وَانْتِشَارِ أَمْرِنَا، فَلَمَّا تبلغ كنهه! يَمُوتُ الْمَيِّتُ مِنَّا إِلَى النَّارِ، وَيَبْقَى الْبَاقِي مِنَّا فِي بُؤْسٍ، فَبَيْنَا نَحْنُ فِي أَسْوَإِ ذَلِكَ، بَعَثَ اللَّهُ فِينَا رَسُولا مِنْ أَنْفُسِنَا إِلَى الإِنْسِ وَالْجِنِّ، رَحْمَةً رَحِمَ بِهَا مَنْ أَرَادَ رَحْمَتَهُ، وَنَقْمَةً يَنْتَقِمُ بِهَا مِمَّنْ رَدَّ كَرَامَتَهُ، فَبَدَأَ بِنَا قَبِيلَةً قَبِيلَةً، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَشَدَّ عَلَيْهِ، وَلا أَشَدَّ إِنْكَارًا لِمَا جَاءَ بِهِ، وَلا أَجْهَدَ عَلَى قَتْلِهِ وَرَدَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، حَتَّى طَابَقْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ كُلُّنَا، فَنَصَبْنَا لَهُ جَمِيعًا، وَهُوَ وَحْدَهُ فَرْدٌ لَيْسَ مَعَهُ إِلا اللَّهُ تَعَالَى، فَأُعْطِيَ الظَّفْرَ عَلَيْنَا، فَدَخَلَ بَعْضُنَا طَوْعًا، وَبَعْضُنَا كَرْهًا، ثُمَّ عَرَفْنَا جَمِيعًا الْحَقَّ وَالصِّدْقَ لَمَّا أَتَانَا بِهِ مِنَ الآيَاتِ الْمُعْجِزَةِ، وَكَانَ مِمَّا أَتَانَا بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا جِهَادُ الأَدْنَى فَالأَدْنَى، فَسِرْنَا بِذَلِكَ فِيمَا بَيْنَنَا، نَرَى أَنَّ الَّذِي قَالَ لَنَا وَوَعَدَنَا لا يُخْرَمُ عَنْهُ وَلا يُنْقَضُ، حَتَّى اجْتَمَعَتِ الْعَرَبُ عَلَى هَذَا، وَكَانُوا مِنَ اخْتِلافِ الرَّأْيِ فِيمَا لا يُطِيقُ الْخَلائِقُ تَأْلِيفَهُمْ ثُمَّ أَتَيْنَاكُمْ بِأَمْرِ رَبِّنَا، نُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ، وَنَنْفُذُ لأَمْرِهِ، وَنَنْتَجِزُ مَوْعُودَهُ، وَنَدْعُوكُمْ إِلَى الإِسْلامِ وَحُكْمِهِ، فَإِنْ أَجَبْتُمُونَا تَرَكْنَاكُمْ وَرَجَعْنَا وَخَلَّفْنَا فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ لَمْ يَحْلُ لَنَا إِلا أَنْ نُعَاطِيَكُمُ الْقِتَالَ أَوْ تَفْتَدُوا بِالْجِزَى، فَإِنْ فَعَلْتُمْ وَإِلا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْرَثَنَا أرضكم وابناءكم وأموالكم. فاقبلوا نصيحتنا، فو الله لإِسْلامُكُمْ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ غَنَائِمِكُمْ، وَلَقِتَالُكُمْ بَعْدُ أحب مِنْ صُلْحِكُمْ وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ رَثَاثَتِنَا وَقِلَّتِنَا فَإِنَّ أَدَاتَنَا الطَّاعَةُ، وَقِتَالَنَا الصَّبْرُ وَأَمَّا مَا ضَرَبْتُمْ لَنَا مِنَ الأَمْثَالِ، فَإِنَّكُمْ ضَرَبْتُمْ لِلرِّجَالِ وَالأُمُورِ الْجِسَامِ وَلِلجِّدِ الْهَزْلِ، وَلَكِنَّا سَنَضْرَبُ مَثَلَكُمْ، إِنَّمَا مَثَلُكُمْ مَثَلُ رَجُلٍ غَرَسَ أَرْضًا، وَاخْتَارَ لَهَا الشَّجَرَ وَالْحَبَّ، وَأَجْرَى إِلَيْهَا الأَنْهَارَ، وزينها بالقصور، واقام فيها فلا حين يَسْكُنُونَ قُصُورَهَا، وَيَقُومُونَ عَلَى جَنَّاتِهَا، فَخَلا الْفَلاحُونَ فِي الْقُصُورِ عَلَى مَا لا يُحِبُّ، وَفِي الْجِنَانِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَأَطَالَ نَظْرَتَهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَحْيُوا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمُ، اسْتَعْتَبَهُمْ فَكَابَرُوهُ، فَدَعَا

يوم ارماث

إِلَيْهَا غَيْرَهُمْ، وَأَخْرَجَهُمْ مِنْهَا، فَإِنْ ذَهَبُوا عَنْهَا تَخَطَّفَهُمُ النَّاسُ، وَإِنْ أَقَامُوا فِيهَا صَارُوا خَوْلا لِهَؤُلاءِ يَمْلِكُونَهُمْ، وَلا يَمَلِكُونَ عَلَيْهِمْ، فَيَسُومُونَهُمُ الْخَسْفَ ابدا، وو الله أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَا نَقُولُ لَكَ حَقًّا، وَلَمْ يَكُنْ إِلا الدُّنْيَا، لَمَا كَانَ لَنَا عَمَّا ضَرِينَا بِهِ مِنْ لَذِيذِ عَيْشِكُمْ، وَرَأَيْنَا مِنْ زَبْرَجِكُمْ مِنْ صَبْرٍ، وَلَقَارَعْنَاكُمْ حَتَّى نَغْلِبَكُمْ عَلَيْهِ. فَقَالَ رُسْتُمُ: أَتَعْبُرُونَ إِلَيْنَا أَمْ نَعْبُرُ إِلَيْكُمْ؟ فَقَالُوا: بَلِ اعْبُرُوا إِلَيْنَا، فَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ عَشِيًّا، وَأَرْسَلَ سَعْدٌ إِلَى النَّاسِ أَنْ يَقِفُوا مَوَاقِفَهُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: شَأْنَكُمْ وَالْعُبُورَ، فَأَرَادُوا الْقَنْطَرَةَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: لا وَلا كَرَامَةَ! أَمَّا شَيْءٌ قَدْ غَلَبْنَاكُمْ عَلَيْهِ فَلَنْ نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ، تَكَلَّفُوا مَعْبَرًا غَيْرَ الْقَنَاطِرِ، فَبَاتُوا يَسْكُرُونَ الْعَتِيقَ حَتَّى الصَّبَاحِ بِأَمْتِعَتِهِمْ يوم أرماث كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد، عن عبيد اللَّه، عن نافع وعن الحكم، قالا: لما أراد رستم العبور أمر بسكر العتيق بحيال قادس، وهو يومئذ أسفل منها اليوم مما يلي عين الشمس، فباتوا ليلتهم حتى الصباح يسكرون العتيق بالتراب والقصب والبراذع حتى جعلوه طريقا، واستتم بعد ما ارتفع النهار من الغد. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: ورأى رستم من الليل أن ملكا نزل من السماء، فأخذ قسي أصحابه، فختم عليها، ثم صعد بها إلى السماء، فاستيقظ مهموما محزونا، فدعا خاصته فقصها عليهم، وقال: إن اللَّه ليعظنا، لو أن فارس تركوني أتعظ! أما ترون النصر قد رفع عنا، وترون الريح مع عدونا، وأنا لا نقوم لهم في فعل ولا منطق، ثم هم يريدون مغالبة بالجبرية! فعبروا بأثقالهم حتى نزلوا على ضفة العتيق. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن الأعمش، قال:

لما كان يوم السكر، لبس رستم درعين ومغفرا وأخذ سلاحه، وأمر بفرسه فأسرج، فأتي به فوثب، فإذا هو عليه لم يمسه ولم يضع رجله في الركاب، ثم قال: غدا ندقهم دقا، فقال له رجل: إن شاء اللَّه، فقال: وإن لم يشأ! كَتَبَ إلي السري بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: قال رستم: إنما ضغا الثعلب حين مات الأسد- يذكرهم موت كسرى- ثم قال لأصحابه: قد خشيت أن تكون هذه سنة القرود ولما عبر أهل فارس أخذوا مصافهم، وجلس رستم على سريره وضرب عليه طيارة، وعبى في القلب ثمانية عشر فيلا، عليها الصناديق والرجال، وفي المجنبتين ثمانية وسبعة، عليها الصناديق والرجال، وأقام الجالنوس بينه وبين ميمنته والبيرزان بينه وبين ميسرته، وبقيت القنطرة بين خيلين من خيول المسلمين وخيول المشركين، وكان يزدجرد وضع رجلا على باب إيوانه، إذ سرح رستم، وأمره بلزومه وإخباره، وآخر حيث يسمعه من الدار، وآخر خارج الدار، وكذلك على كل دعوة رجلا، فلما نزل رستم، قال الذي بساباط: قد نزل، فقاله الآخر حتى قاله الذي على باب الإيوان، وجعل بين كل مرحلتين على كل دعوة رجلا، فكلما نزل وارتحل أو حدث أمر قاله، فقاله الذي يليه، حتى يقوله الذي يلي باب الإيوان، فنظم ما بين العتيق والمدائن رجالا، وترك البرد، وكان ذلك هو الشأن. وأخذ المسلمون مصافهم، وجعل زهرة وعاصم بين عبد اللَّه وشرحبيل، ووكل صاحب الطلائع بالطراد، وخلط بين الناس في القلب والمجنبات، ونادى مناديه: ألا إن الحسد لا يحل إلا على الجهاد في أمر اللَّه يا أيها الناس، فتحاسدوا وتغايروا على الجهاد وكان سعد يومئذ لا يستطيع أن يركب ولا يجلس، به حبون، فإنما هو على وجهه في صدره وسادة، هو مكب عليها، مشرف على الناس من القصر، يرمي بالرقاع فيها أمره ونهيه،

إلى خالد بْن عرفطة، وهو أسفل منه، وكان الصف إلى جنب القصر، وكان خالد كالخليفة لسعد لو لم يكن سعد شاهدا مشرفا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ الْوَلِيدِ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي نِمْرَانَ، قَالَ: لَمَّا عَبَرَ رستم تخول زَهْرَةُ وَالْجَالِنُوسُ، فَجَعَلَ سَعْدٌ زَهْرَةَ مَكَانَ ابْنِ السِّمْطِ، وَجَعَلَ رُسْتُمُ الْجَالِنُوسَ مَكَانَ الْهُرْمُزَانِ، وَكَانَ بِسَعْدٍ عِرْقُ النَّسَا وَدَمَامِيلُ، وَكَانَ إِنَّمَا هُوَ مُكِبٌّ، وَاسْتَخْلَفَ خَالِدَ بْنَ عَرْفَطَةَ عَلَى النَّاسِ، فَاخْتَلَفَ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَقَالَ: احْمِلُونِي، وَأَشْرِفُوا بِي عَلَى النَّاسِ، فَارْتَقَوْا بِهِ، فَأَكَبَّ مُطَّلِعًا عَلَيْهِمْ، وَالصَّفُّ فِي أَصْلِ حَائِطِ قُدَيْسَ، يَأْمُرُ خَالِدًا فَيَأْمُرُ خَالِدٌ النَّاسَ، وَكَانَ مِمَّنْ شَغَبَ عَلَيْهِ وُجُوهٌ مِنْ وُجُوهِ النَّاسِ، فَهَمَّ بِهِمْ سَعْدٌ وَشَتَمَهُمْ، وَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْلا أَنَّ عَدُوَّكُمْ بِحَضْرَتِكُمْ لَجَعَلْتُكُمْ نَكَالا لِغَيْرِكُمْ! فَحَبَسَهُمْ- وَمِنْهُمْ أَبُو مِحْجَنٍ الثَّقَفِيُّ- وَقَيَّدَهُمْ فِي الْقَصْرِ، وَقَالَ جَرِيرٌ: اما انى بايعت رسول الله ص عَلَى أَنْ أَسْمَعَ وَأُطِيعَ لِمَنْ وَلاهُ اللَّهُ الأَمْرَ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، وَقَالَ سَعْدٌ: وَاللَّهِ لا يَعُودُ أَحَدٌ بَعْدَهَا يَحْبِسُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ عَدُوِّهِمْ وَيُشَاغِلُهُمْ وَهُمْ بِإِزَائِهِمْ إِلا سُنَّتْ بِهِ سُنَّةٌ يُؤْخَذُ بِهَا مِنْ بَعْدِي. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَزِيَادٍ بِإِسْنَادِهِمْ، قَالُوا: إِنَّ سَعْدًا خَطَبَ مَنْ يَلِيهِ يَوْمَئِذٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، بَعْدَ مَا تَهَدَّمَ عَلَى الَّذِينَ اعْتَرَضُوا عَلَى خَالِدِ بْنِ عَرْفَطَةَ فَحَمَدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ لا شَرِيكَ لَهُ فِي الملك، وليس لقوله خلف، قال الله جل ثَنَاؤُهُ: «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» ، إِنَّ هَذَا مِيرَاثُكُمْ وَمَوْعُودُ رَبِّكُمْ، وَقَدْ أَبَاحَهَا لَكُمْ مُنْذُ ثَلاثِ حِجَجٍ، فَأَنْتُمْ تُطْعَمُونَ مِنْهَا، وَتَأْكُلُونَ مِنْهَا، وَتَقْتُلُونَ أَهْلَهَا، وَتَجْبَوْنَهُمْ وَتَسْبَوْنَهُمْ إِلَى هذا اليوم

بِمَا نَالَ مِنْهُمْ أَصْحَابُ الأَيَّامِ مِنْكُمْ، وَقَدْ جَاءَكُمْ مِنْهُمْ هَذَا الْجَمْعُ، وَأَنْتُمْ وُجُوهُ الْعَرَبِ وَأَعْيَانُهُمْ، وَخِيَارُ كُلِّ قَبِيلَةٍ، وَعَز مَنْ وَرَاءَكُمْ، فَإِنْ تَزْهَدُوا فِي الدُّنْيَا وَتَرْغَبُوا فِي الآخِرَةِ جَمَعَ اللَّهُ لَكُمُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ، وَلا يُقَرِّبُ ذَلِكَ أَحَدًا إِلَى أَجَلِهِ، وَإِنْ تَفْشَلُوا وَتَهِنُوا وَتَضْعَفُوا تَذْهَبَ رِيحُكُمْ، وَتُوبِقُوا آخِرَتكُمْ. وَقَامَ عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو فِي الْمُجَرَّدَةِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ بِلادٌ قَدْ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ أَهْلَهَا، وَأَنْتُمْ تنالون منهم منذ ثلاث سنين مالا يَنَالُونَ مِنْكُمْ، وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ، إِنْ صَبَرْتُمْ وَصَدَقْتُمُوهُمُ الضَّرْبَ وَالطَّعْنَ فَلَكُمْ أَمْوَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَبِلادُهُمْ، وَإِنْ خُرْتُمْ وَفَشِلْتُمْ فَاللَّهُ لَكُمْ مِنْ ذَلِكَ جَارٌ وَحَافِظٌ، لَمْ يُبْقِ هَذَا الْجَمْعُ مِنْكُمْ بَاقِيَةً، مَخَافَةَ أَنْ تَعُودُوا عَلَيْهِمْ بعائده هلاك الله اللَّهِ! اذْكُرُوا الأَيَّامَ وَمَا مَنَحَكُمُ اللَّهُ فِيهَا، او لا تَرَوْنَ أَنَّ الأَرْضَ وَرَاءَكُمْ بِسَابُسَ قِفَارٌ لَيْسَ فِيهَا خَمَرٌ وَلا وَزَرٌ يُعْقَلُ إِلَيْهِ، وَلا يُمْتَنَعُ بِهِ! اجْعَلُوا هَمَّكُمُ الآخِرَةَ. وَكَتَبَ سَعْدٌ إِلَى الرَّايَاتِ: إِنِّي قَدِ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ خَالِدَ بْنَ عَرْفَطَةَ، وَلَيْسَ يَمْنَعُنِي أَنْ أَكُونَ مَكَانَهُ إِلا وَجَعِي الَّذِي يَعُودُنِي وَمَا بِي مِنَ الحبون، فَإِنِّي مُكِبٌّ عَلَى وَجْهِي وَشَخْصِي لَكُمْ بَادٍ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِأَمْرِي، وَيَعْمَلُ بِرَأْيِي فَقُرِئَ عَلَى النَّاسِ فَزَادَهُمْ خَيْرًا، وَانْتَهَوْا إِلَى رَأْيِهِ، وَقَبِلُوا مِنْهُ وَتَحَاثُّوا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى عُذْرِ سَعْدٍ وَالرِّضَا بِمَا صَنَعَ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن حلام، عن مسعود، قال: وخطب أمير كل قوم أصحابه، وسير فيهم، وتحاضوا على الطاعة والصبر تواصوا، ورجع كل أمير إلى موقفه بمن والاه من أصحابه عند المواقف، ونادى منادي سعد بالظهر، ونادى رستم: پادشهان مرندر، أكل عمر كبدي أحرق اللَّه كبده! علم هؤلاء حتى علموا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، قال: حَدَّثَنَا سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، قال: لما نزل رستم النجف بعث منها عينا إلى عسكر المسلمين، فانغمس فيهم بالقادسية كبعض من ند منهم، فرآهم يستاكون

عند كل صلاة ثم يصلون فيفترقون إلى مواقفهم، فرجع إليه فأخبره بخبرهم، وسيرتهم، حتى سأله: ما طعامهم؟ فقال: مكثت فيهم ليلة، لا والله ما رأيت أحدا منهم يأكل شيئا إلا أن يمصوا عيدانا لهم حين يمسون، وحين ينامون، وقبيل أن يصبحوا فلما سار فنزل بين الحصن والعتيق وافقهم وقد أذن مؤذن سعد الغداة، فرآهم يتحشحشون، فنادى في أهل فارس أن يركبوا، فقيل له: ولم؟ قال: أما ترون إلى عدوكم قد نودي فيهم فتحشحشوا لكم! قال عينه: ذلك إنما تحشحشهم هذا للصلاة، فقال بالفارسية، وهذا تفسيره بالعربية أتاني صوت عند الغداة، وإنما هو عمر الذي يكلم الكلاب فيعلمهم العقل، فلما عبروا تواقفوا، وأذن مؤذن سعد للصلاة، فصلى سعد، وقال رستم: أكل عمر كبدي! كتب إلي السري، قال: حدثنا شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: وَأَرْسَلَ سَعْدٌ الَّذِينَ انْتَهَى إِلَيْهِمْ رَأْيُ النَّاسِ، وَالَّذِينَ انْتَهَتْ إِلَيْهِمْ نَجْدَتُهُمْ وَأَصْنَافُ الْفَضْلِ مِنْهُمْ إِلَى النَّاسِ، فَكَانَ مِنْهُمْ مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ النَّفَرُ الَّذِينَ أَتَوْا رُسْتُمَ الْمُغِيرَةُ، وَحُذَيْفَةُ، وَعَاصِمٌ، وَأَصْحَابُهُمْ، وَمِنْ أَهْلِ النَّجْدَةِ طُلَيْحَةُ، وَقَيْسٌ الأَسَدِيُّ، وغالب، وعمرو ابن معد يكرب وَأَمْثَالُهُمْ، وَمِنَ الشُّعَرَاءِ الشَّمَّاخُ وَالْحُطَيْئَةُ، وَأَوْسُ بْنُ مَغْرَاءَ، وَعَبْدَةُ بْنُ الطَّبِيبِ، وَمِنْ سَائِرِ الأَصْنَافِ أَمْثَالُهُمْ وَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَرْسِلَهُمْ: انْطَلِقُوا فَقُومُوا فِي النَّاسِ بِمَا يَحِقُّ عَلَيْكُمْ وَيَحِقُّ عَلَيْهِمْ عِنْدَ مَوَاطِنِ الْبَأْسِ، فَإِنَّكُمْ مِنَ الْعَرَبِ بِالْمَكَانِ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ، وَأَنْتُمْ شُعَرَاءُ الْعَرَبِ وَخُطَبَاؤُهُمْ وَذَوُو رَأْيِهِمْ وَنَجْدَتُهُمْ وَسَادَتُهُمْ، فَسِيرُوا فِي النَّاسِ، فَذَكِّرُوهُمْ وَحَرِّضُوهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، فَسَارُوا فِيهِمْ فَقَالَ قَيْسُ بْنُ هُبَيْرَةَ الأَسَدِيُّ: أَيُّهَا النَّاسُ، احْمَدُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ لَهُ وَأَبْلاكُمْ يَزِدْكُمْ، وَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ، وَارْغَبُوا إِلَيْهِ فِي عَادَاتِهِ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ أَوِ الْغَنِيمَةَ أَمَامُكُمْ، وَإِنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ هَذَا الْقَصْرِ إِلا الْعَرَاءُ

وَالأَرْضُ الْقَفْرُ، وَالظِّرَابُ الْخَشِنُ، وَالْفَلَوَاتُ الَّتِي لا تَقْطَعُهَا الأَدِلَّةُ. وَقَالَ غَالِبٌ: أَيُّهَا النَّاسُ، احْمَدُوا اللَّهَ عَلَى مَا أَبْلاكُمْ، وَسَلُوهُ يَزِدْكُمْ، وَادْعُوهُ يُجِبْكُمْ، يَا مَعَاشِرَ مَعْدٍ، مَا عِلَّتُكُمُ الْيَوْمَ وَأَنْتُمْ فِي حُصُونِكُمْ- يَعْنِي الْخَيْلَ- وَمَعَكُمْ مَنْ لا يَعْصِيكُمْ- يَعْنِي السُّيُوفَ؟ اذْكُرُوا حَدِيثَ النَّاسِ فِي غَدٍ، فَإِنَّهُ بِكُمْ غَدًا يَبْدَأُ عِنْدَهُ، وَبِمَنْ بَعْدِكُمْ يُثَنَّى. وَقَالَ ابْنُ الْهُذَيْلِ الأَسَدِيُّ: يَا مَعَاشِرَ مَعْدٍ، اجْعَلُوا حُصُونَكُمُ السُّيُوفَ، وَكُونُوا عَلَيْهِمْ كَأُسُودِ الأَجَمِ، وَتَرَبَّدُوا لَهْمُ تَرَبُّدَ النُّمُورِ، وَادَّرِعُوا الْعَجَّاجَ، وَثِقُوا بِاللَّهِ وَغُضُّوا الأَبْصَارَ، فَإِذَا كَلَّتِ السُّيُوفُ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ، فَأَرْسِلُوا عَلَيْهِمُ الْجَنَادِلَ، فَإِنَّهَا يُؤْذَنَ لَهَا فِيمَا لا يُؤْذَنُ لِلْحَدِيدِ فِيهِ. وَقَالَ بُسْرُ بْنُ أَبِي رُهْمٍ الْجُهَنِيُّ: احْمَدُوا اللَّهَ، وَصَدِّقُوا قَوْلَكُمْ بِفِعْلٍ، فَقَدْ حَمَدْتُمُ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ لَهُ وَوَحَّدْتُمُوهُ وَلا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَكَبَّرْتُمُوهُ، وَآمَنْتُمْ بِنَبِيِّهِ وَرُسُلِهِ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، وَلا يَكُونَنَّ شَيْءٌ بِأَهْوَنَ عَلَيْكُمْ مِنَ الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا تَأْتِي مَنْ تَهَاوَنَ بِهَا، وَلا تَمِيلُوا إِلَيْهَا فَتَهْرَبَ مِنْكُمْ لِتَمِيلَ بِكُمْ. انْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ. وَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو: يَا مَعَاشِرَ الْعَرَبِ، إِنَّكُمْ أَعْيَانُ الْعَرَبِ، وَقَدْ صَمَدْتُمُ الأَعْيَانَ مِنَ الْعُجْمِ، وَإِنَّمَا تُخَاطِرُونَ بِالْجَنَّةِ، وَيُخَاطِرُونَ بِالدُّنْيَا، فَلا يَكُونَنَّ عَلَى دُنْيَاهُمْ أَحْوَطَ مِنْكُمْ عَلَى آخِرَتِكُمْ لا تُحْدِثُوا اليوم امرا تكونون به شيئا عَلَى الْعَرَبِ غَدًا. وَقَالَ رَبِيعُ بْنُ الْبِلادِ السَّعْدِيُّ: يَا مَعَاشِرَ الْعَرَبِ، قَاتِلُوا لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا، «وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» ، وَإِنْ عَظَّمَ الشَّيْطَانُ عَلَيْكُمُ الأَمْرَ، فَاذْكُرُوا الأَخْبَارَ عَنْكُمْ بِالْمَوَاسِمِ مَا دَامَ لِلأَخْبَارِ أَهْلٌ

وَقَالَ رِبْعِيُّ بْنُ عَامِرٍ: إِنَّ اللَّهَ قد هَدَاكُمْ لِلإِسْلامِ، وَجَمَعَكُمْ بِهِ، وَأَرَاكُمُ الزِّيَادَةَ، وَفِي الصَّبْرِ الرَّاحَةُ، فَعَوِّدُوا أَنْفُسَكُمُ الصَّبْرَ تَعْتَادُوهُ، وَلا تُعَوِّدُوهَا الْجَزَعَ فَتَعْتَادُوهُ. وَقَامَ كُلُّهُمْ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا الْكَلامِ، وَتَوَاثَقَ النَّاسُ، وَتَعَاهَدُوا، وَاهْتَاجُوا لِكُلِّ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ، وَفَعَلَ أَهْلُ فَارِسَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ، وَتَعَاهَدُوا وَتَوَاصَوْا، وَاقْتَرَنُوا بِالسَّلاسِلِ، وَكَانَ الْمُقْتَرِنُونَ ثَلاثِينَ أَلْفًا كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي: إن أهل فارس كانوا عشرين ومائة ألف، معهم ثلاثون فيلا، مع كل فيل أربعة آلاف. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ حلامٍ، عَنْ مَسْعُودِ بْنِ خِرَاشٍ، قَالَ: كَانَ صَفُّ الْمُشْرِكِينَ عَلَى شَفِيرِ الْعَتِيقِ، وَكَانَ صَفُّ الْمُسْلِمِينَ مَعَ حَائِطِ قُدَيْسَ، الْخَنْدَقُ مِنْ وَرَائِهِمْ فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ بَيْنَ الْخَنْدَقِ وَالْعَتِيقِ وَمَعَهُمْ ثَلاثُونَ أَلْفَ مُسَلْسَلٍ، وَثَلاثُونَ فِيلا تُقَاتِلُ، وَفِيَلَةٌ عَلَيْهَا الْمُلُوكُ وُقُوفٌ لا تُقَاتِلُ وَأَمَرَ سَعْدٌ النَّاسَ أَنْ يَقْرَءُوا عَلَى النَّاسِ سُورَةَ الْجِهَادِ، وَكَانُوا يتعلمونها. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: قال سَعْدٌ: الْزَمُوا مَوَاقِفَكُمْ، لا تَحَرَّكُوا شَيْئًا حَتَّى تُصَلُّوا الظُّهْرَ، فَإِذَا صَلَّيْتُمُ الظُّهْرَ فَإِنِّي مُكَبِّرٌ تَكْبِيرَةٌ، فَكَبِّرُوا وَاسْتَعِدُّوا. وَاعْلَمُوا أَنَّ التَّكْبِيرَ لَمْ يُعْطَهُ أَحَدٌ قَبْلَكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُعْطِيتُمُوهُ تَأْيِيدًا لَكُمْ ثُمَّ إِذَا سَمِعْتُمُ الثَّانِيَةَ فَكَبِّرُوا، ولتستتم عُدَّتُكُمْ، ثُمَّ إِذَا كَبَّرْتُ الثَّالِثَةَ فَكَبِرُّوا، وَلْيُنَشِّطْ فِرْسَانُكُمُ النَّاسَ لِيَبْرُزُوا وَلِيُطَارِدُوا، فَإِذَا كَبَّرْتُ الرَّابِعَةَ فَازْحَفُوا جَمِيعًا حَتَّى تُخَالِطُوا عَدُوَّكُمْ، وَقُولُوا: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ! كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بْنِ الرَّيَّانِ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، مِثْلَهُ. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ زَكَرِيَّاءَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: أَرْسَلَ سَعْدٌ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ فِي النَّاسِ: إِذَا سَمِعْتُمُ التكبير

فَشُدُّوا شُسُوعَ نِعَالِكُمْ، فَإِذَا كَبَّرْتُ الثَّانِيَةَ فَتَهَيَّئُوا، فَإِذَا كَبَّرْتُ الثَّالِثَةَ فَشُدُّوا النَّوَاجِذَ عَلَى الأَضْرَاسِ وَاحْمِلُوا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بِإِسْنَادِهِمْ، قَالُوا: لَمَّا صَلَّى سَعْدٌ الظُّهْرَ أَمَرَ الْغُلامَ الَّذِي كَانَ أَلْزَمَهُ عُمَرُ إِيَّاهُ- وَكَانَ من القراء- ان يقرا سُورَةَ الْجِهَادِ، فَقُرِئَتْ فِي كُلِّ كَتِيبَةٍ، فَهَشَّتْ قُلُوبَ النَّاسِ وَعُيُونَهُمْ وَعَرَفُوا السَّكِينَةَ مَعَ قِرَاءَتِهَا كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَزِيَادٍ بِإِسْنَادِهِمْ، قَالُوا: لَمَّا فَرَغَ الْقُرَّاءُ كَبَّرَ سَعْدٌ، فَكَبَّرَ الَّذِينَ يَلُونَهُ تَكْبِيرَةً، وَكَبَّرَ بَعْضُ النَّاسِ بِتَكْبِيرِ بَعْضٍ، فَتَحَشْحَشَ النَّاسُ، ثُمَّ ثَنَّى فَاسْتَتَمَّ النَّاسُ، ثُمَّ ثَلَّثَ فَبَرَزَ أَهْلُ النَّجَدَاتِ فَأَنْشَبُوا الْقِتَالَ، وَخَرَجَ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ أَمْثَالُهُمْ، فَاعْتَوَرُوا الطَّعْنَ وَالضَّرْبَ، وَخَرَجَ غَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَسَدِيُّ وَهُوَ يَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ وَارِدَةُ الْمَسَائِحِ ... ذَاتُ اللَّبَانِ وَالْبَنَانِ الْوَاضِحِ أَنِّي سِمَامُ الْبَطَلِ الْمُشَايِحِ ... وَفَارِجُ الأَمْرِ الْمُهِمِّ الْفَادِحِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ هُرْمُزُ- وَكَانَ مِنْ مُلُوكِ الْبَابِ، وَكَانَ مُتَوَّجًا- فَأَسَرَهُ غَالِبٌ أَسْرًا، فجاء سَعْدًا، فَأُدْخِلَ، وَانْصَرَفَ غَالِبٌ إِلَى الْمُطَارَدَةِ، وَخَرَجَ عاصم ابن عَمْرٍو وَهُوَ يَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ بَيْضَاءُ صَفْرَاءُ اللَّبَبِ ... مِثْلَ اللُّجَيْنِ إِذْ تَغْشَاهُ الذَّهَبُ أَنِّي امْرُؤٌ لا مَنْ تَعِيبُهُ السَّبَبُ ... مِثْلِي عَلَى مِثْلِكَ يُغْرِيهِ الْعَتَبُ

فَطَارَدَ رَجُلا مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، فَهَرَبَ مِنْهُ وَاتَّبَعَهُ، حَتَّى إِذَا خَالَطَ صَفَّهُمُ الْتَقَى بِفَارِسٍ مَعَهُ بَغْلُهُ، فَتَرَكَ الْفَارِسُ الْبَغْلَ، وَاعْتَصَمَ بِأَصْحَابِهِ فَحَمُوهُ، وَاسْتَاقَ عَاصِمٌ الْبَغْلَ وَالرَّحْلَ، حَتَّى أَفْضَى بِهِ إِلَى الصَّفِّ، فَإِذَا هُوَ خَبَّازُ الْمَلِكِ وَإِذَا الَّذِي مَعَهُ لُطْفُ الْمَلِكِ الأَخْبِصَةُ وَالْعَسَلُ الْمَعْقُودُ، فَأَتَى بِهِ سَعْدًا، وَرَجَعَ إِلَى مَوْقِفِهِ، فَلَمَّا نَظَرَ فِيهِ سَعْدٌ، قَالَ: انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى أَهْلِ مَوْقِفِهِ، وَقَالَ: إِنَّ الأَمِيرَ قَدْ نَفَلَكُمْ هَذَا فَكُلُوهُ، فَنَفَلَهُمْ إِيَّاهُ قَالُوا: وَبَيْنَا النَّاسُ يَنْتَظِرُونَ التَّكْبِيرَةَ الرَّابِعَةَ، إِذْ قَامَ صَاحِبُ رَجَّالَةِ بَنِي نَهْدٍ قَيْسُ بْنُ حُذَيْمِ بْنِ جُرْثُومَةَ، فَقَالَ: يَا بَنِي نَهْدٍ انْهَدُوا، إِنَّمَا سُمِّيتُمْ نَهْدًا لِتَفْعَلُوا فَبَعَثَ إِلَيْهِ خَالِدُ بْنُ عَرْفَطَةَ: وَاللَّهِ لَتَكُفَّنَّ أَوْ لأُوَلِّيَنَّ عَمَلَكَ غَيْرَكَ فَكَفَّ. وَلَمَّا تَطَارَدَتِ الْخَيْلُ وَالْفِرْسَانُ خَرَجَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ يُنَادِي: مرد ومرد، فَانْتَدَبَ لَهُ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ وَهُوَ بِحِيَالِهِ، فَبَارَزَهُ فَاعْتَنَقَهُ، ثُمَّ جَلَدَ بِهِ الأَرْضَ فَذَبَحَهُ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ: إِنَّ الْفَارِسِيَّ إِذَا فَقَدَ قَوْسَهُ فَإِنَّمَا هُوَ تَيْسٌ ثُمَّ تَكَتَّبَتِ الْكَتَائِبُ مِنْ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْن أبي حازم، قال: مر بنا عمرو بْن معديكرب وهو يحضض الناس بين الصفين، وهو يقول: إن الرجل من هذه الأعاجم إذا ألقى مزراقه، فإنما هو تيس، فبينا هو كذلك يحرضنا إذ خرج إليه رجل من الأعاجم، فوقف بين الصفين فرمى بنشابة، فما أخطأت سية قوسه وهو متنكبها، فالتفت إليه فحمل عليه، فاعتنقه، ثم أخذ بمنطقته، فاحتمله فوضعه بين يديه، فجاء به حتى إذا دنا منا كسر عنقه، ثم وضع سيفه على حلقه فذبحه، ثم ألقاه ثم قال: هكذا فاصنعوا بهم! فقلنا: يا أبا ثور، من يستطيع أن يصنع كما تصنع! وقال بعضهم غير إسماعيل: وأخذ سواريه ومنطقته ويلمق ديباج عَلَيْهِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ،

عن قيس بْن أبي حازم، أن الأعاجم وجهت إلى الوجه الذي فيه بجيلة ثلاثة عشر فيلا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: كانت- يعني وقعة القادسية- في المحرم سنة أربع عشرة في أوله وكان قد خرج من الناس إليهم، فقال له أهل فارس: أحلنا، فأحالهم على بجيلة، فصرفوا إليهم ستة عشر فيلا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: لَمَّا تَكَتَّبَتِ الْكَتَائِبُ بَعْدَ الطِّرَادِ حَمَلَ أَصْحَابُ الْفِيَلَةِ عَلَيْهِمْ، فَفَرَّقَتْ بَيْنَ الْكَتَائِبِ، فَابْذَعَرَّتِ الْخَيْلُ، فَكَادَتْ بَجِيلَةَ أَنْ تُؤْكَلَ، فَرَّتْ عَنْهَا خَيْلُهَا نِفَارًا، وَعَمَّنْ كَانَ مَعَهُمْ فِي مَوَاقِفِهِمْ، وَبَقِيَتِ الرَّجَّالَةُ مِنْ أَهْلِ الْمَوَاقِفِ، فَأَرْسَلَ سَعْدٌ إِلَى بَنِي أَسَدٍ: ذَبِّبُوا عَنْ بَجِيلَةَ وَمَنْ لافَّهَا مِنَ النَّاسِ، فَخَرَجَ طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ وَحَمَّالُ بْنُ مَالِكٍ وَغَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالرَّبِيلُ بْنُ عَمْرٍو فِي كَتَائِبِهِمْ، فَبَاشَرُوا الْفِيَلَةَ حَتَّى عَدَلَهَا رُكْبَانُهَا، وَإِنَّ عَلَى كُلِّ فِيلٍ عِشْرِينَ رَجُلا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن محمد بن قيس، عن موسى بْن طريف، أن طليحة قام في قومه حين استصرخهم سعد، فقال: يا عشيرتاه، إن المنوه باسمه، الموثوق به، وإن هذا لو علم أن أحدا أحق بإغاثة هؤلاء منكم استغاثهم، ابتدءوهم الشدة، وأقدموا عليهم

إقدام الليوث الحربة، فإنما سميتم أسدا لتفعلوا فعله، شدوا ولا تصدوا، وكروا ولا تفروا، لله در ربيعة! أي فري يفرون! وأي قرن يغنون! هل يوصل إلى مواقفهم! فأغنوا عن مواقفكم أعانكم اللَّه! شدوا عليهم باسم اللَّه! فقال المعرور بْن سويد وشقيق: فشدوا والله عليهم فما زالوا يطعنونهم ويضربونهم حتى حبسنا الفيلة عنهم، فأخرت، وخرج إلى طليحة عظيم منهم فبارزه، فما لبثه طليحة أن قتله. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَزِيَادٍ، قَالُوا: وَقَامَ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ كِنْدَةَ، لِلَّهِ دَرُّ بَنِي أَسَدٍ! أَيُّ فِرًى يَفْرُونَ! وَأَيُّ هَذٍّ يَهُذُّونَ عَنْ مَوْقِفِهِمْ مُنْذُ الْيَوْمَ! أَغْنَى كُلُّ قَوْمٍ مَا يَلِيهِمْ، وَأَنْتُمْ تَنْتَظِرُونَ مَنْ يَكْفِيكُمُ الْبَأْسَ! أَشْهَدُ مَا أَحْسَنْتُمْ أُسْوَةَ قَوْمِكُمُ الْعَرَبِ مُنْذُ الْيَوْمَ، وَإِنَّهُمْ لَيُقْتَلُونَ وَيُقَاتِلُونَ، وَأَنْتُمْ جُثَاةٌ عَلَى الرُّكَبِ تَنْظُرُونَ! فَوَثَبَ إِلَيْهِ عَدَدٌ مِنْهُمْ عشرة، فَقَالُوا: عَثَّرَ اللَّهُ جَدَّكَ! إِنَّكَ لتُؤبِّسُنا جَاهِدًا، وَنَحْنُ أَحْسَنُ النَّاسِ مَوْقِفًا! فَمِنْ أَيْنَ خَذَلْنَا قَوْمَنَا الْعَرَبَ وَأَسَأْنَا أُسْوَتَهُمْ! فَهَا نَحْنُ مَعَكَ فَنَهَدَ وَنَهَدُوا، فَأَزَالُوا الَّذِينَ بِإِزَائِهِمْ، فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ فَارِسَ مَا تَلْقَى الْفِيَلَةُ مِنْ كَتِيبَةِ أَسَدٍ رَمَوْهُمْ بِحَدِّهِمْ وَبَدَرَ الْمُسْلِمِينَ الشِّدَّةُ عَلَيْهِمْ ذُو الْحَاجِبِ وَالْجَالِنُوسُ، وَالْمُسْلِمُونَ يَنْتَظِرُونَ التَّكْبِيرَةَ الرَّابِعَةَ مِنْ سَعْدٍ، فَاجْتَمَعَتْ حَلَبَةُ فَارِسَ عَلَى أَسَدٍ وَمَعَهُمْ تِلْكَ الْفِيَلَةُ، وَقَدْ ثَبَتُوا لَهُمْ، وَقَدْ كَبَّرَ سَعْدٌ الرَّابِعَةَ، فَزَحَفَ اليهم

الْمُسْلِمُونَ وَرَحَى الْحَرْبِ تَدُورُ عَلَى أَسَدٍ، وَحَمَلَتِ الْفُيُولُ عَلَى الْمَيْمَنَةِ وَالْمَيْسَرَةِ عَلَى الْخُيُولِ، فَكَانَتِ الْخُيُولُ تُحْجِمُ عَنْهَا وَتَحِيدُ، وَتَلِحُّ فِرْسَانُهُمْ عَلَى الرَّجْلِ يَشْمِسُونَ بِالْخَيْلِ، فَأَرْسَلَ سَعْدٌ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَمْرٍو، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ بَنِي تَمِيمٍ، أَلَسْتُمْ أَصْحَابُ الإِبِلِ وَالْخَيْلِ! أَمَا عِنْدَكُمْ لِهَذِهِ الْفِيَلَةِ مِنْ حِيلَةٍ! قَالُوا: بَلَى وَاللَّهِ، ثُمَّ نَادَى فِي رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ رُمَاةٍ وَآخَرِينَ لَهُمْ ثَقَافَةٌ، فَقَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ الرُّمَاةِ ذُبُّوا رُكْبَانَ الْفِيَلَةِ عَنْهُمْ بِالنَّبْلِ، وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الثَّقَافَةِ اسْتَدْبِرُوا الْفِيَلَةَ فَقَطِّعُوا وضنها، وَخَرَجَ يَحْمِيهِمْ وَالرَّحَى تَدُورُ عَلَى أَسَدٍ، وَقَدْ جَالَتِ الْمَيْمَنَةُ وَالْمَيْسَرَةُ غَيْرَ بَعِيدٍ، وَأَقْبَلَ أَصْحَابُ عَاصِمٍ عَلَى الْفِيَلَةِ، فَأَخَذُوا بِأَذْنَابِهَا وَذَبَاذِبِ تَوَابِيتِهَا، فَقَطَّعُوا وُضُنَهَا، وَارْتَفَعَ عَوَاؤُهُمْ، فَمَا بَقِيَ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِيلٌ إِلا أُعْرِيَ، وَقُتِلَ أَصْحَابُهَا، وَتَقَابَلَ النَّاسُ وَنُفِّسَ عَنْ أَسَدٍ، وَرَدُّوا فَارِسَ عَنْهُمْ إِلَى مَوَاقِفِهِمْ، فَاقْتَتَلُوا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ ثُمَّ حَتَّى ذَهَبَتْ هَدْأَةٌ مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ رَجَعَ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ، وَأُصِيبَ مِنْ أَسَدٍ تِلْكَ الْعَشِيَّةَ خمسمائة، وَكَانُوا رِدْءًا لِلنَّاسِ، وَكَانَ عَاصِمٌ عَادِيَةَ النَّاسِ وَحَامِيَتَهُمْ، وَهَذَا يَوْمُهَا الأَوَّلُ وَهُوَ يَوْمُ أَرْمَاثَ. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن، عن الْقَاسِم، عن رجل من بني كنانة، قَالَ: جالت المجنبات ودارت على أسد يوم أرماث فقتل تلك العشية منهم خمسمائة رجل، فقال عمرو بْن شأس الأسدي: جلبنا الخيل من أكناف نيق ... إلى كسرى فوافقها رعالا تركن لهم على الأقسام شجوا ... وبالحقوين أياما طوالا وداعية بفارس قد تركنا ... تبكي كلما رأت الهلالا قتلنا رستما وبنيه قسرا ... تثير الخيل فوقهم الهيالا تركنا منهم حيث التقينا ... فئاما ما يريدون ارتحالا

وفر البيرزان ولم يحامي ... وكان على كتيبته وبالا ونجى الهرمزان حذار نفس ... وركض الخيل موصله عجالا

يوم اغواث

يوم أغواث كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وكان سَعْدٌ قَدْ تَزَوَّجَ سَلْمَى بِنْتَ خَصَفَةَ، امْرَأَةَ الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ قبله بِشَرَافَ، فَنَزَلَ بِهَا الْقَادِسِيَّةَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أَرْمَاثَ، وَجَالَ النَّاسُ، وَكَانَ لا يُطِيقُ جِلْسَةً إِلا مُسْتَوْفِزًا أَوْ عَلَى بَطْنِهِ، جَعَلَ سَعْدٌ يَتَمَلْمَلُ وَيَحُولُ جَزَعًا فَوْقَ الْقَصْرِ، فَلَمَّا رَأَتْ مَا يَصْنَعُ أَهْلُ فارس، قالت: وا مثنياه وَلا مُثَنَّى لِلْخَيْلِ الْيَوْمَ! - وَهِيَ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَضْجَرَهُ مَا يَرَى مِنْ أَصْحَابِهِ وَفِي نَفْسِهِ- فَلَطَمَ وَجْهَهَا، وَقَالَ: أَيْنَ الْمُثَنَّى مِنْ هَذِهِ الْكَتِيبَةِ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا الرَّحَى! - يَعْنِي أَسَدًا وعَاصِمًا وَخَيْلَهُ- فَقَالَتْ: أَغَيْرَةً وَجُبْنًا! قَالَ: وَاللَّهِ لا يَعْذِرُنِي الْيَوْمَ أَحَدٌ إِذَا أَنْتِ لَمْ تَعْذِرِينِي وَأَنْتِ تَرَيْنَ مَا بِي، وَالنَّاسُ أَحَقُّ أَلا يَعْذِرُونِي! فَتَعَلَّقَهَا النَّاسُ، فَلَمَّا ظَهَرَ النَّاسُ لَمْ يَبْقَ شَاعِرٌ إِلا اعْتَدَّ بِهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ غَيْرَ جَبَانٍ وَلا مَلُومٍ وَلَمَّا اصبح القوم من الغد أصبحوا على تعبئة، وَقَدْ وَكَّلَ سَعْدٌ رِجَالا بِنَقْلِ الشُّهَدَاءِ إِلَى الْعُذَيْبِ وَنَقْلِ الرَّثِيثِ، فَأَمَّا الرَّثِيثُ فَأُسْلِمَ إِلَى النِّسَاءِ يَقُمْنَ عَلَيْهِمْ إِلَى قَضَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا الشُّهَدَاءُ فَدَفَنُوهُمْ هُنَالِكَ عَلَى مُشَرِّقٍ- وَهُوَ وَادٍ بَيْنَ الْعُذَيْبِ وَبَيْنَ عَيْنِ الشَّمْسِ فِي عَدْوَتَيْهِ جَمِيعًا، الدُّنْيَا مِنْهُمَا إِلَى الْعُذَيْبِ وَالْقُصْوَى مِنْهُمَا مِنَ الْعُذَيْبِ- وَالنَّاسُ يَنْتَظِرُونَ بِالْقِتَالِ حَمْلَ الرَّثِيثِ وَالأَمْوَاتِ، فَلَمَّا اسْتَقَلَّتْ بِهِمُ الإِبِلُ وَتَوَجَّهَتْ بِهِمْ نَحْوَ الْعُذَيْبِ طَلَعَتْ نَوَاصِي الْخَيْلِ مِنَ الشَّامِ- وَكَانَ فَتْحُ دِمَشْقَ قَبْلَ الْقَادِسِيَّةِ بِشَهْرٍ- فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ كِتَابُ عُمَرَ بِصَرْفِ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَصْحَابِ خَالِدٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ خَالِدًا

ضَنَّ بِخَالِدٍ فَحَبَسَهُ وَسَرَّحَ الْجَيْشَ، وَهُمْ سِتَّةُ آلافٍ، خَمْسَةُ آلافٍ مِنْ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ وَأَلْفٌ مِنْ أَفْنَاءِ الْيَمَنِ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ هَاشِمَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، فَجَعَلَهُ أَمَامَهُ، وَجَعَلَ عَلَى إِحْدَى مُجَنِّبَتَيْهِ قَيْسَ بْنَ هُبَيْرَةَ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ الْمُرَادِيَّ- وَلَمْ يَكُنْ شَهِدَ الأَيَّامَ، أَتَاهُمْ وَهُمْ بِالْيَرْمُوكِ حِينَ صُرِفَ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَصُرِفَ مَعَهُمْ- وَعَلَى الْمُجَنِّبَةِ الأُخْرَى الْهَزْهَازَ بْنَ عَمْرٍو الْعِجْلِيَّ، وَعَلى السَّاقَةِ أَنَسَ بْنَ عَبَّاسٍ. فَانْجَذَبَ الْقَعْقَاعُ وَطَوَى وَتَعَجَّلَ، فَقَدِمَ عَلَى النَّاسِ صَبِيحَةَ يَوْمِ أَغْوَاثَ، وَقَدْ عَهِدَ إِلَى أَصْحَابِهِ أَنْ يَتَقَطَّعُوا أَعْشَارًا، وَهُمْ أَلْفٌ، فَكُلَّمَا بَلَغَ عَشَرَةً مَدَى الْبَصَرِ سَرَّحُوا فِي آثَارِهِمْ عَشَرَةً، فَقَدَّمَ الْقَعْقَاعُ أَصْحَابَهُ فِي عَشَرَةٍ، فَأَتَى الناس فسلم عليهم، وبشرهم بالجنود، فقال: يا ايها النَّاسُ، إِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ فِي قَوْمٍ، وَاللَّهِ أَنْ لَوْ كَانُوا بِمَكَانِكُمْ، ثُمَّ أَحَسُّوكُمْ حَسَدُوكُمْ حَظْوَتَهَا، وَحَاوَلُوا أَنْ يَطَّيَّرُوا بِهَا دُونَكُمْ، فَاصْنَعُوا كَمَا أَصْنَعُ، فَتَقَدَّمَ ثُمَّ نَادَى: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَقَالُوا فِيهِ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: لا يُهْزَمُ جَيْشٌ فِيهِمْ مِثْلُ هَذَا، وَسَكَنُوا إِلَيْهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ ذُو الْحَاجِبِ، فَقَالَ لَهُ الْقَعْقَاعُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا بهمنُ جَاذُوَيْهِ، فَنَادَى: يَا لِثَارَاتِ أَبِي عُبَيْدٍ وَسُلَيْطٍ وَأَصْحَابِ يَوْمِ الْجِسْرِ! فَاجْتَلَدَا، فَقَتَلَهُ الْقَعْقَاعُ، وَجَعَلَتْ خَيْلُهُ تَرِدُ قِطَعًا، وَمَا زَالَتْ تَرِدُ إِلَى اللَّيْلِ وَتَنْشَطُ النَّاسُ، وَكَأَنَّ لَمْ يَكُنْ بِالأَمْسِ مُصِيبَةٌ، وَكَأَنَّمَا اسْتَقْبَلُوا قِتَالَهُمْ بِقَتْلِ الْحَاجِبِيِّ وَللحاق القطع، وَانْكَسَرَتِ الأَعَاجِمُ لِذَلِكَ وَنَادَى الْقَعْقَاعُ أَيْضًا: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَجُلانِ: أَحَدُهُمَا البيرزَانُ وَالآخَرُ الْبندوَانُ، فَانْضَمَّ إِلَى الْقَعْقَاعِ الْحَارِثُ بْنُ ظَبْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ أَخُو بَنِي تَيْمِ اللاتِ، فَبَارَزَ الْقَعْقَاعُ الْبيرزَانَ، فَضَرَبَهُ فَأَذْرَى رَأْسَهُ، وَبَارَزَ ابْنُ ظَبْيَانَ الْبندوَانَ، فَضَرَبَهُ فَأَذْرَى رَأْسَهُ، وَتَوَرَّدَهُمْ فِرْسَانُ الْمُسْلِمِينَ، وَجَعَلَ الْقَعْقَاعُ يَقُولُ: يَا مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ، بَاشِرُوهُمْ بِالسُّيُوفِ، فَإِنَّمَا يُحْصَدُ النَّاسُ بِهَا! فَتَوَاصَى النَّاسُ،

وَتَشَايَعُوا إِلَيْهِمْ، فَاجْتَلَدُوا بِهَا حَتَّى الْمَسَاءِ فَلَمْ يَرَ أَهْلُ فَارِسَ فِي هَذَا الْيَوْمِ شَيْئًا مِمَّا يُعْجِبُهُمْ، وَأَكْثَرَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِمُ الْقَتْلَ، وَلَمْ يُقَاتِلُوا فِي هَذَا الْيَوْمِ عَلَى فيل، كَانَتْ توابيتها تَكَسَّرَتْ بِالأَمْسِ، فَاسْتَأْنَفُوا عِلاجَهَا حِينَ أَصْبَحُوا فَلَمْ تَرْتَفِعْ حَتَّى كَانَ الْغَدُ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي، قال: كانت امرأة من النخع لها بنون أربعة شهدوا القادسية، فقالت لبنيها: إنكم اسلمتم فلم تبدلوا، وهاجرتم فلم تثوبوا، ولم تنب بكم البلاد، ولم تقحمكم السنة، ثم جئتم بأمكم عجوز كبيرة فوضعتموها بين يدي اهل فارس، والله إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، انطلقوا فاشهدوا أول القتال وآخره فأقبلوا يشتدون، فلما غابوا عنها رفعت يديها إلى السماء، وهي تقول: اللهم ادفع عن بني! فرجعوا إليها، وقد أحسنوا القتال، ما كُلِمَ منهم رجل كَلْمًا، فرأيتهم بعد ذلك يأخذون ألفين ألفين من العطاء، ثم يأتون أمهم، فيلقونه في حجرها، فترده عليهم وتقسمه فيهم على ما يصلحهم ويرضيهم. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: فازر القعقاع يومئذ ثلاثة نفر من بني يربوع رياحيين، وجعل القعقاع كلما طلعت قطعة كبر وكبر المسلمون، ويحمل ويحملون، واليربوعيون: نعيم بْن عمرو بْن عتاب، وعتاب بْن نعيم بْن عتاب بْن الحارث ابن عمرو بْن همام، وعمرو بْن شبيب بْن زنباع بْن الحارث بْن ربيعة، أحد بني زيد وقدم ذلك اليوم رسول لعمر بأربعة أسياف وأربعة أفراس يقسمها فيمن انتهى إليه البلاء، إن كنت لقيت حربا فدعا حمال بْن مالك والربيل بْن عمرو بْن ربيعة الوالبيين وطليحة بْن خويلد الفقعسي- وكلهم من بني أسد- وعاصم بْن عمرو التميمي، فأعطاهم الأسياف، ودعا القعقاع ابن عمرو واليربوعيين فحملهم على الأفراس، فأصاب ثلاثة من بنى يربوع

ثلاثة أرباعها، وأصاب ثلاثة من بني أسد ثلاثة أرباع السيوف، فقال في ذلك الربيل بْن عمرو: لقد علم الأقوام أنا أحقهم ... إذا حصلوا بالمرهفات البواتر وما فتئت خيلي عشية أرمثوا ... يذودون رهوا عن جموع العشائر لدن غدوة حتى أتى الليل دونهم ... وقد أفلحت أخرى الليالي الغوابر وقال القعقاع في شأن الخيل: لم تعرف الخيل العراب سواءنا ... عشية أغواث بجنب القوادس عشية رحنا بالرماح كأنها ... على القوم ألوان الطيور الرسارس كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن القاسم بْن سليم بْن عبد الرحمن السعدي، عن أبيه، قال: كان يكون أول القتال في كل أيامها المطاردة، فلما قدم القعقاع قال: يا أيها الناس، اصنعوا كما اصنع، ونادى: من يبارز؟ فبرز له ذو الحاجب فقتله، ثم البيرزان فقتله، ثم خرج الناس من كل ناحية، وبدأ الحرب والطعان، وحمل بنو عم القعقاع يومئذ عشرة عشرة من الرجالة، على إبل قد ألبسوها فهي مجللة مبرقعة، وأطافت بهم خيولهم، تحميهم، وأمرهم أن يحملوا على خيلهم بين الصفين يتشبهون بالفيلة، ففعلوا بهم يوم أغواث كما فعلت فارس يوم أرماث، فجعلت تلك الإبل لا تصمد لقليل ولا لكثير إلا نفرت بهم خيلهم، وركبتهم خيول المسلمين فلما رأى ذلك الناس استنوا بهم، فلقي فارس من الإبل يوم أغواث أعظم مما لقي المسلمون من الفيلة يوم أرماث. وحمل رجل من بني تميم ممن كان يحمي العشيرة يقال له سواد، وجعل يتعرض للشهادة، فقتل بعد ما حمل، وأبطأت عليه الشهادة، حتى تعرض لرستم يريده، فأصيب دونه

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن عن العلاء ابن زياد، والقاسم بْن سليم، عن أبيه، قالا: خرج رجل من أهل فارس، ينادي: من يبارز؟ فبرز له علباء بْن جحش العجلي، فنفحه علباء، فأسحره، ونفحه الآخر فأمعاه، وخرا، فأما الفارسي فمات من ساعته، وأما الآخر فانتثرت أمعاؤه، فلم يستطع القيام، فعالج إدخالها فلم يتأت له حتى مر به رجل من المسلمين، فقال: يا هذا، أعني على بطني، فأدخله له، فأخذ بصفاقيه، ثم زحف نحو صف فارس ما يلتفت إلى المسلمين، فأدركه الموت على رأس ثلاثين ذراعا من مصرعه، إلى صف فارس، وقال: أرجو بها من ربنا ثوابا ... قد كنت ممن أحسن الضرابا كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن الغصن عن العلاء، والقاسم عن أبيه، قالا: وخرج رجل من أهل فارس فنادى: من يبارز؟ فبرز له الأعرف بْن الأعلم العقيلي فقتله، ثم برز له آخر فقتله، وأحاطت به فوارس منهم فصرعوه، وندر سلاحه عنه فاخذوه، فغبر في وجوههم بالتراب حتى رجع إلى أصحابه، وقال في ذلك: وإن يأخذوا بزي فإني مجرب ... خروج من الغماء محتضر النصر وإني لحام من وراء عشيرتي ... ركوب لآثار الهوى محفل الأمر كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن عن العلاء، والقاسم عن أبيه، قالا: فحمل القعقاع يومئذ ثلاثين حملة، كلما طلعت قطعة حمل حملة، وأصاب فيها، وجعل يرتجز ويقول: أزعجهم عمدا بها إزعاجا أطعن طعنا صائبا ثجاجا أرجو به من جنة أفواجا

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد وطلحة وزياد، قالوا: قتل القعقاع يوم أغواث ثلاثين في ثلاثين حملة، كلما حمل حمله قتل فيها، فكان آخرهم بزرجمهر الهمذاني، وقال في ذلك القعقاع: حبوته جيلشه بالنفس ... هدارة مثل شعاع الشمس في يوم أغواث فليل الفرس ... أنخس بالقوم أشد النخس حتى تفيض معشري ونفسي. وبارز الأعور بْن قطبة شهر براز سجستان، فقتل كل واحد منهما صاحبه، فقال أخوه في ذلك: لم أر يوما كان أحلى وأمر ... من يوم أغواث إذ افتر الثغر من غير ضحك كان أسوا وأبر. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، وشاركهم ابن مخراق عن رجل من طيئ، قالوا: وقاتلت الفرسان يوم الكتائب فيما بين أن أصبحوا إلى انتصاف النهار، فلما عدل النهار تزاحف الناس، فاقتتلوا بها صتيتا حتى انتصف الليل، فكانت ليلة أرماث تدعى الهدأة، وليلة أغواث تدعى السواد، والنصف الأول يدعى السواد ثم لم يزل المسلمون يرون في يوم أغواث في القادسية الظفر، وقتلوا فيه عامة أعلامهم، وجالت فيه خيل القلب، وثبت رجلهم، فلولا أن خيلهم كرت أخذ رستم أخذا، فلما ذهب السواد بات الناس على مثل ما بات عليه القوم ليلة أرماث، ولم يزل المسلمون ينتمون لدن أمسوا حتى تفايئوا فلما أمسى سعد وسمع ذلك نام، وقال لبعض من عنده: إن تم الناس على الانتماء فلا توقظني، فإنهم أقوياء على عدوهم، وإن سكتوا ولم ينتم الآخرون فلا توقظني، فإنهم على السواء

فان سمعتهم ينتمون فايقظنى، فان انتماءهم عن السوء. فقالوا: ولما اشتد القتال بالسواد، وكان أبو محجن قد حبس وقيد، فهو في القصر، فصعد حين أمسى إلى سعد يستعفيه ويستقيله، فزبره ورده، فنزل، فأتى سلمى بنت خصفة، فقال: يا سلمى يا بنت آل خصفة، هل لك إلى خير؟ قالت: وما ذاك؟ قال: تخلين عني وتعيرينني البلقاء، فلله علي إن سلمني اللَّه أن أرجع إليك حتى أضع رجلي في قيدي، فقالت: وما انا وذاك! فرجع يرسف في قيوده، ويقول: كفى حزنا أن تردي الخيل بالقنا ... وأترك مشدودا علي وثاقيا إذا قمت عناني الحديد وأغلقت ... مصاريع دوني قد تصم المناديا وقد كنت ذا مال كثير وإخوة ... فقد تركوني واحدا لا اخاليا ولله عهد لا أخيس بعهده ... لئن فرجت ألا أزور الحوانيا فقالت سلمى: إني استخرت اللَّه ورضيت بعهدك، فأطلقته وقالت: أما الفرس فلا أعيرها، ورجعت إلى بيتها، فاقتادها فأخرجها من باب القصر الذي يلي الخندق فركبها، ثم دب عليها، حتى إذا كان بحيال الميمنة كبر، ثم حمل على ميسرة القوم يلعب برمحه وسلاحه بين الصفين، فقالوا: بسرجها، وقال سعيد والقاسم: عريا، ثم رجع من خلف المسلمين إلى الميسرة فكبر وحمل على ميمنة القوم يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه، ثم رجع من خلف المسلمين إلى القلب فندر أمام الناس، فحمل على القوم يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه، وكان يقصف الناس ليلتئذ قصفا منكرا

وتعجب الناس منه وهم لا يعرفونه ولم يروه من النهار، فقال بعضهم: أوائل أصحاب هاشم أو هاشم نفسه وجعل سعد يقول وهو مشرف على الناس مكب من فوق القصر: والله لولا محبس أبي محجن لقلت: هذا أبو محجن وهذه البلقاء! وقال بعض الناس: إن كان الخضر يشهد الحروب فنظن صاحب البلقاء الخضر، وقال بعضهم: لولا أن الملائكة لا تباشر القتال لقلنا: ملك يثبتنا، ولا يذكره الناس ولا يأبهون له، لأنه بات في محبسه، فلما انتصف الليل حاجز أهل فارس، وتراجع المسلمون، وأقبل أبو محجن حتى دخل من حيث خرج، ووضع عن نفسه وعن دابته، وأعاد رجليه في قيديه، وقال: لقد علمت ثقيف غير فخر ... بأنا نحن أكرمهم سيوفا وأكثرهم دروعا سابغات ... وأصبرهم إذا كرهوا الوقوفا وأنا وفدهم في كل يوم ... فإن عميوا فسل بهم عريفا وليلة قادس لم يشعروا بي ... ولم أشعر بمخرجي الزحوفا فإن أحبس فذلكم بلائي ... وإن أترك أذيقهم الحتوفا فقالت له سلمى: يا أبا محجن، في أي شيء حبسك هذا الرجل؟ قال: أما والله ما حبسني بحرام أكلته ولا شربته، ولكني كنت صاحب شراب في الجاهلية، وأنا امرؤ شاعر يدب الشعر على لساني، يبعثه على شفتي أحيانا، فيساء لذلك ثنائي، ولذلك حبسني، قلت: إذا مت فادفني إلى أصل كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها ولا تدفنني بالفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت ألا أذوقها وتروي بخمر الحص لحدي فإنني ... أسير لها من بعد ما قد أسوقها

يوم عماس

ولم تزل سلمى مغاضبة لسعد عشية أرماث، وليلة الهدأة، وليلة السواد، حتى إذا أصبحت أتته وصالحته وأخبرته خبرها وخبر أبي محجن، فدعا به فأطلقه، وقال: اذهب فما أنا مؤاخذك بشيء تقوله حتى تفعله، قال: لا جرم، والله لا أجيب لساني إلى صفة قبيح أبدا . يوم عماس كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد وطلحة وزياد بإسنادهم، وابن مخراق عن رجل من طيئ، قالوا: فأصبحوا من اليوم الثالث، وهم على مواقفهم، وأصبحت الأعاجم على مواقفهم، وأصبح ما بين الناس كالرجلة الحمراء- يعني الحرة- ميل في عرض ما بين الصفين، وقد قتل من المسلمين ألفان من رثيث وميت، ومن المشركين عشرة آلاف من رثيث وميت وقال سعد: من شاء غسل الشهداء، ومن شاء فليدفنهم بدمائهم، وأقبل المسلمون على قتلاهم فأحرزوهم، فجعلوهم من وراء ظهورهم، وأقبل الذين يجمعون القتلى يحملونهم إلى المقابر، ويبلغون الرثيث إلى النساء، وحاجب بْن زيد على الشهداء، وكان النساء والصبيان يحفرون القبور في اليومين: يوم أغواث، ويوم أرماث، بعدوتي مشرق، فدفن الفان وخمسمائة من أهل القادسية وأهل الأيام، فمر حاجب وبعض أهل الشهادة وولاة الشهداء في أصل نخلة بين القادسية والعذيب، وليس بينهما يومئذ نخله غيرها، فكان الرثيث إذا حملوا فانتهي بهم إليها وأحدهم يعقل سألهم أن يقفوا به تحتها يستروح إلى ظلها، ورجل من الجرحى يدعى بجيرا، يقول وهو مستظل بظلها: ألا يا اسلمي يا نخلة بين قادس ... وبين العذيب لا يجاورك النخل

ورجل من بني ضبة، أو من بني ثور يدعى غيلان، يقول: ألا يا اسلمي يا نخلة بين جرعة ... يجاورك الجمان دونك والرغل ورجل من بني تيم اللَّه، يقال له: ربعي يقول: أيا نخلة الجرعاء يا جرعة العدى ... سقتك الغوادي والغيوث الهواطل وقال الأعور بْن قطبة: أيا نخلة الركبان لا زلت فانضري ... ولا زال في أكناف جرعائك النخل وقال عوف بْن مالك التميمي- ويقال التيمي تيم الرباب: أيا نخلة دون العذيب بتلعة ... سقيت الغوادي المدجنات من النخل كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد وطلحة وزياد، قالوا: وبات القعقاع ليلته كلها يسرب أصحابه إلى المكان الذي فارقهم فيه من الأمس، ثم قال: إذا طلعت لكم الشمس، فأقبلوا مائة مائة، كلما توارى عنكم مائة فليتبعها مائة، فإن جاء هاشم فذاك وإلا جددتم للناس رجاء وجدا، ففعلوا، ولا يشعر بذلك أحد، وأصبح الناس على مواقفهم قد أحرزوا قتلاهم، وخلوا بينهم وبين حاجب بْن زيد وقتلى المشركين بين الصفين قد أضيعوا، وكانوا لا يعرضون لأمواتهم، وكان مكانهم مما صنع اللَّه للمسلمين مكيدة فتحها ليشد بها أعضاد المسلمين، فلما ذر قرن الشمس والقعقاع يلاحظ الخيل، وطلعت نواصيها كبر وكبر الناس، وقالوا: جاء المدد، وقد كان عاصم بْن عمرو أمر أن يصنع مثلها، فجاءوا من قبل خفان، فتقدم الفرسان وتكتبت الكتائب، فاختلفوا الضرب والطعن، ومددهم متتابع، فما جاء آخر أصحاب القعقاع حتى انتهى إليهم هاشم، وقد طلعوا في سبعمائة، فأخبروه برأي القعقاع وما صنع في يوميه، فعبى

أصحابه سبعين سبعين، فلما جاء آخر أصحاب القعقاع خرج هاشم في سبعين معه، فيهم قيس بْن هبيرة بْن عبد يغوث- ولم يكن من أهل الأيام، إنما أتى من اليمن اليرموك- فانتدب مع هاشم، فأقبل هاشم حتى إذا خالط القلب، كبر وكبر المسلمون، وقد أخذوا مصافهم، وقال هاشم: أول القتال المطاردة ثم المراماة، فأخذ قوسه، فوضع سهما على كبدها، ثم نزع فيها، فرفعت فرسه راسها، فخل اذنها، فضحك وقال: وا سوأتاه من رمية رجل! كل من رأى ينتظره! أين ترون سهمي كان بالغا؟ فقيل: العتيق، فنزقها وقد نزع السهم، ثم ضربها حتى بلغت العتيق، ثم ضربها فأقبلت به تخرقهم، حتى عاد إلى موقفه، وما زالت مقانبه تطلع إلى الأولى، وقد بات المشركون في علاج توابيتهم، حتى أعادوها، وأصبحوا على مواقفهم، وأقبلت الفيلة معها الرجالة يحمونها أن تقطع وضنها، ومع الرجالة فرسان يحمونهم، إذا أرادوا كتيبة دلفوا لها بفيل وأتباعه، لينفروا بهم خيلهم فلم يكن ذلك منهم كما كان بالأمس، لأن الفيل إذا كان وحده ليس معه أحد كان أوحش، وإذا أطافوا به كان آنس، فكان القتال كذلك، حتى عدل النهار، وكان يوم عماس من أوله إلى آخره شديدا، العرب والعجم فيه على السواء، ولا يكون بينهم نقطة إلا تعاورها الرجال بالأصوات حتى تبلغ يزدجرد، فيبعث إليهم أهل النجدات ممن بقي عنده، فيقوون بهم، وأصبحت عنده للذي لقي بالأمس الأمداد على البرد، فلولا الذي صنع اللَّه للمسلمين بالذي ألهم القعقاع في اليومين وأتاح لهم بهاشم، كسر ذلك المسلمين. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مجالد، عن الشعبي، قال: قدم هاشم بْن عتبة من قبل الشام، معه قيس بن المكشوح المرادى في سبعمائة بعد فتح اليرموك ودمشق، فتعجل في سبعين، فيهم سعيد بْن نمران

الهمداني قال مجالد: وكان قيس بْن أبي حازم مع القعقاع في مقدمة هاشم. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن جخدب بْن جرعب، عن عصمة الوابلي- وكان قد شهد القادسية- قال: قدم هاشم في أهل العراق من الشام، فتعجل أناس ليس معه أحد من غيرهم إلا نفير، منهم ابن المكشوح، فلما دنا تعجل في ثلاثمائة، فوافق الناس وهم على مواقفهم، فدخلوا مع الناس في صفوفهم. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي، قال: كان اليوم الثالث يوم عماس، ولم يكن في أيام القادسية مثله، خرج الناس منه على السواء، كلهم على ما أصابه كان صابرا، وكلما بلغ منهم المسلمون بلغ الكافرون من المسلمين مثله، وكلما بلغ الكافرون من المسلمين بلغ المسلمون من الكافرين مثله. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بْن الريان، عن إسماعيل بْن مُحَمَّد بْن سعد، قال: قدم هاشم بْن عتبة القادسية يوم عماس، فكان لا يقاتل إلا على فرس أنثى، لا يقاتل على ذكر، فلما وقف في الناس رمى بسهم، فأصاب اذن فرسه، فقال: وا سوأتاه من هذه! أين ترون سهمي كان بالغا لو لم يصب أذن الفرس! قالوا: كذا وكذا، فأجال فنزل وترك فرسه، ثم خرج يضربهم حتى بلغ حيث قالوا. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: وكان في الميمنة. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بْن الريان، عن إسماعيل بْن مُحَمَّد، قال: كنا نرى أنه كان على الميمنة، وما كان عامة جنن الناس إلا البراذع، براذع الرحال، قد أعرضوا فيها الجريد، وعصب من لم يكن له وقاية رءوسهم بالأنساع

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن ابى كبران الحسن ابن عقبة، أن قيس بْن المكشوح، قال مقدمه من الشام مع هاشم، وقام فيمن يليه، فقال لهم: يا معشر العرب، إن اللَّه قد من عليكم بالإسلام، وأكرمكم بمحمد ص، فأصبحتم بنعمة اللَّه إخوانا. دعوتكم واحدة، وأمركم واحد، بعد إذ أنتم يعدو بعضكم على بعض عدو الأسد، ويختطف بعضكم بعضا اختطاف الذئاب، فانصروا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ، وتنجزوا من اللَّه فتح فارس، فإن إخوانكم من أهل الشام قد أنجز اللَّه لهم فتح الشام، وانتثال القصور الحمر والحصون الحمر كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن المقدام الحارثي، عن الشعبي، قال: قال عمرو بْن معديكرب: إني حامل على الفيل ومن حوله- لفيل بإزائهم- فلا تدعوني أكثر من جزر جزور، فإن تأخرتم عني فقدتم أبا ثور، فإني لكم مثل أبي ثور! فإن أدركتموني وجدتموني وفي يدي السيف فحمل فما انثنى حتى ضرب فيهم، وستره الغبار، فقال أصحابه: ما تنتظرون! ما أنتم بخلقاء أن تدركوه، وإن فقدتموه فقد المسلمون فارسهم، فحملوا حملة، فأفرج المشركون عنه بعد ما صرعوه وطعنوه، وإن سيفه لفي يده يضاربهم، وقد طعن فرسه، فلما رأى أصحابه، وانفرج عنه أهل فارس أخذ برجل فرس رجل من أهل فارس، فحركه الفارسي، فاضطرب الفرس، فالتفت الفارسي إلى عمرو، فهم به وأبصره المسلمون، فغشوه، فنزل عنه الفارسي، وحاضر إلى أصحابه، فقال عمرو: أمكنوني من لجامه، فأمكنوه منه فركبه. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد اللَّه بْن المغيرة العبدي، عن الأسود بْن قيس، عن أشياخ لهم شهدوا القادسية، قالوا: لما كان يوم عماس خرج رجل من العجم حتى إذا كان بين الصفين هدر وشقشق ونادى: من يبارز؟ فخرج رجل منا يقال له شبر بْن علقمة- وكان قصيرا قليلا دميما- فقال: يا معشر المسلمين قد أنصفكم الرجل، فلم يجبه أحد، ولم يخرج إليه أحد، فقال: أما والله لولا أن تزدروني لخرجت

إليه فلما رأى أنه لا يمنع أخذ سيفه وحجفته، وتقدم فلما رآه الفارسي هدر، ثم نزل إليه فاحتمله، فجلس على صدره، ثم أخذ سيفه ليذبحه ومقود فرسه مشدود بمنطقته، فلما استل السيف حاص الفرس حيصة فجذبه المقود، فقلبه عنه، فأقبل عليه وهو يسحب، فافترشه، فجعل أصحابه يصيحون به، فقال: صيحوا ما بدا لكم، فو الله لا أفارقه حتى أقتله وأسلبه فذبحه وسلبه، ثم أتى به سعدا، فقال: إذا كان حين الظهر فأتني، فوافاه بالسلب، فحمد اللَّه سعد وأثنى عليه، ثم قال: إني قد رأيت أن أنحله إياه، وكل من سلب سلبا فهو له، فباعه باثني عشر ألفا. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَزِيَادٍ، قَالُوا: وَلَمَّا رَأَى سَعْدٌ الْفِيَلَةَ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْكَتَائِبِ وَعَادَتْ لِفِعْلِهَا يَوْمَ أَرْمَاثَ، أَرْسَلَ إِلَى أُولَئِكَ الْمُسِلَمَةِ: ضَخْمٍ، وَمُسْلِمٍ، وَرَافِعٍ، وَعَشَنَّقٍ، وَأَصْحَابِهِمْ مِنَ الْفُرْسِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَسَأَلَهُمْ عَنِ الْفِيَلَةِ: هَلْ لَهَا مَقَاتِلٌ؟ فَقَالُوا: نَعَمِ، الْمَشَافِرُ وَالْعُيُونُ لا يُنْتَفَعُ بِهَا بَعْدَهَا فَأَرْسَلَ إِلَى الْقَعْقَاعِ وَعَاصِمِ ابْنَيْ عَمْرٍو: اكْفِيَانِي الأَبْيَضَ- وَكَانَتْ كُلُّهَا آلِفَةً لَهُ، وَكَانَ بِإِزَائِهِمَا- وَأَرْسَلَ إِلَى حَمَّالٍ وَالرَّبِيلِ: اكْفِيَانِي الْفِيلَ الأَجْرَبَ، وَكَانَتْ آلِفَةً لَهُ كُلُّهَا، وَكَانَ بِإِزَائِهِمَا، فَأَخَذَ الْقَعْقَاعُ وَعَاصِمٌ رُمْحَيْنِ أَصَمَّيْنِ لَيِّنَيْنِ وَدَبَّا فِي خَيْلٍ وَرَجُلٍ فَقَالا: اكْتَنِفُوهُ لِتُخِيرُوهُ، وَهُمَا مَعَ الْقَوْمِ، فَفَعَلَ حَمَّالٌ وَالرَّبِيلُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا خَالَطُوهُمَا اكْتَنَفُوهُمَا، فَنَظَرَ كُلٌّ واحد مِنْهُمَا يُمْنَةً وَيُسْرَةً، وَهُمَا يُرِيدَانِ أَنْ يَتَخَبَّطَا، فَحَمَلَ الْقَعْقَاعُ وَعَاصِمٌ، وَالْفِيلُ مُتَشَاغِلٌ بِمَنْ حَوْلَهُ، فَوَضَعَا رُمْحَيْهِمَا مَعًا فِي عَيْنَيِ الْفِيلِ الأَبْيَضِ، وَقَبَعَ وَنَفَضَ رَأْسَهُ، فَطَرَحَ سَائِسَهُ وَدَلَّى مِشْفَرَهُ، فَنَفَحَهُ الْقَعْقَاعُ، فَرَمَى بِهِ وَوَقَعَ لِجَنْبِهِ، فَقَتَلُوا مَنْ كَانَ عَلَيْهِ، وَحَمَلَ حَمَّالٌ، وَقَالَ لِلرَّبِيلِ: اخْتَرْ، إِمَّا أَنْ تَضْرِبَ الْمِشْفَرَ وَأَطْعَنُ فِي عَيْنِهِ، أَوْ تَطْعَنُ فِي عَيْنِهِ وَأَضْرَبُ مِشْفَرَهُ، فَاخْتَارَ الضَّرْبَ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ حَمَّالٌ وَهُوَ

مُتَشَاغِلٌ بِمُلاحَظَةِ مَنِ اكْتَنَفَهُ، لا يَخَافُ سَائِسُهُ إِلا عَلَى بِطَانِهِ، فَانْفَرَدَ بِهِ أُولَئِكَ، فَطَعَنَهُ فِي عَيْنِهِ، فَأَقْعَى، ثُمَّ اسْتَوَى وَنَفَحَهُ الرَّبِيلُ، فَأَبَانَ مِشْفَرَهُ وَبَصُرَ بِهِ سَائِسُهُ، فَبَقَرَ أَنْفَهُ وَجَبِينَهُ بِفَأْسِهِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مجالد، عن الشعبي، قال: قال رجلان من بني أسد، يقال لهما الربيل وحمال: يا معشر المسلمين أي الموت أشد؟ قالوا: أن يشد على هذا الفيل، فنزقا فرسيهما حتى إذا قاما على السنابك ضرباهما على الفيل الذي بإزائهما، فطعن أحدهما في عين الفيل، فوطئ الفيل من خلفه، وضرب الآخر مشفره، فضربه سائس الفيل ضربة شائنة بالطبرزين في وجهه، فأفلت بها هو والربيل، وحمل القعقاع وأخوه على الفيل الذي بازائهما، ففقأ عينيه، وقطعا مشفره، فبقي متلددا بين الصفين، كلما أتى صف المسلمين وخزوه، وإذا أتى صف المشركين نخسوه. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: كان في الفيلة فيلان يعلمان الفيلة، فلما كان يوم القادسية حملوهما على القلب، فأمر بهما سعد القعقاع وعاصما التميميين وحمالا والربيل الأسديين، فذكر مثل الأول إلا أن فيه: وعاش بعد، وصاح الفيلان صياح الخنزير، ثم ولى الأجرب الذي عور، فوثب في العتيق، فاتبعته الفيلة، فخرقت صف الأعاجم فعبرت العتيق في أثره، فأتت المدائن في توابيتها، وهلك من فيها. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: فلما ذهبت الفيلة، وخلص المسلمون بأهل فارس، ومال الظل تزاحف المسلمون، وحماهم فرسانهم الذين قاتلوا أول النهار، فاجتلدوا بها حتى أمسوا

على حرد، وهم في ذلك على السواء، لأن المسلمين حين فعلوا بالفيول ما فعلوا، تكتبت كتائب الإبل المجففة، فعرقبوا فيها، وكفكفوا عنها. وقال في ذلك القعقاع بْن عمرو: حضض قومي مضرحي بْن يعمر ... فلله قومي حين هزوا العواليا وما خام عنها يوم سارت جموعنا ... لأهل قديس يمنعون المواليا فإن كنت قاتلت العدو فللته ... فإني لألقى في الحروب الدواهيا فيولا أراها كالبيوت مغيرة ... أسمل أعيانا لها ومآقيا كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: لما أمسى الناس من يومهم ذلك، وطعنوا في الليل، اشتد القتال وصبر الفريقان، فخرجا على السواء إلا الغماغم من هؤلاء وهؤلاء، فسميت ليلة الهرير، لم يكن قتال بليل بعدها بالقادسية. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو ابن مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَيْشٍ، أَنَّ سَعْدًا بَعَثَ لَيْلَةَ الْهَرِيرِ طُلَيْحَةَ وَعَمْرًا إِلَى مَخَاضَةٍ أَسْفَلَ مِنَ الْعَسْكَرِ لِيَقُومَا عَلَيْهَا خَشْيَةَ أَنْ يَأْتِيَهُ الْقَوْمُ مِنْهَا، وَقَالَ لَهُمَا: إِنْ وَجَدْتُمَا الْقَوْمَ قَدْ سَبَقُوكُمَا إِلَيْهَا فَانْزِلا بِحِيَالِهِمْ، وَإِنْ لَمْ تَجِدَاهُمْ عَلِمُوا بِهَا، فَأَقِيمَا حَتَّى يَأْتِيَكُمَا أَمْرِي- وَكَانَ عُمَرُ قَدْ عَهِدَ إِلَى سَعْدٍ أَلا يُوَلِّيَ رُؤَسَاءَ أَهْلِ الرِّدَّةِ عَلَى مِائَةٍ- فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى الْمَخَاضَةِ فَلَمْ يَرَيَا فِيهَا أَحَدًا، قَالَ طُلَيْحَةُ: لَوْ خُضْنَا فَأَتَيْنَا الأَعَاجِمَ مِنْ خَلْفِهِمْ! فَقَالَ عَمْرٌو: لا، بَلْ نَعْبُرُ أَسْفَلَ، فَقَالَ طُلَيْحَةُ: إِنَّ الَّذِي أَقُولُهُ أَنْفَعُ لِلنَّاسِ، فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّكَ تَدْعُونِي إِلَى مَا لا أُطِيقُ، فَافْتَرَقَا، فَأَخَذَ طُلَيْحَةُ نَحْوَ الْعَسْكَرِ مِنْ وَرَاءِ الْعَتِيقِ وَحْدَهُ، وَسَفَلَ عَمْرٌو بِأَصْحَابِهِمَا جَمِيعًا، فَأَغَارُوا،

وَثَارَتْ بِهِمُ الأَعَاجِمُ، وَخَشِيَ سَعْدٌ مِنْهُمَا الَّذِي كَانَ، فَبَعَثَ قَيْسَ بْنَ الْمَكْشُوحِ فِي آثَارِهِمَا فِي سَبْعِينَ رَجُلا، وَكَانَ مِنْ أُولَئِكَ الرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ نُهِيَ عَنْهُمْ أَنْ يُوَلِّيَهُمُ الْمِائَةَ، وَقَالَ: إِنْ لَحِقْتَهُمْ فَأَنْتَ عَلَيْهِمْ فَخَرَجَ نَحْوَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الْمَخَاضَةِ وَجَدَ الْقَوْمَ يَكْرُدُونَ عَمْرًا وَأَصْحَابَهُ، فَنَهْنَهَ النَّاسَ عَنْهُ، وَأَقْبَلَ قَيْسٌ عَلَى عَمْرٍو يَلُومُهُ، فَتَلاحَيَا، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: إِنَّهُ قَدْ أُمِّرَ عَلَيْكَ، فَسَكَتَ، وَقَالَ: يَتَأَمَّرُ عَلَيَّ رَجُلٌ قَدْ قَاتَلْتُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عُمْرَ رَجُلٍ! فَرَجَعَ إِلَى الْعَسْكَرِ، وَأَقْبَلَ طُلَيْحَةُ حَتَّى إِذَا كَانَ بحيال السكر، كَبَّرَ ثَلاثَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ ذَهَبَ، فَطَلَبَهُ الْقَوْمُ فَلَمْ يَدْرُوا أَيْنَ سَلَكَ! وَسَفَلَ حَتَّى خَاضَ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى الْعَسْكَرِ، فَأَتَى سَعْدًا فَأَخْبَرَهُ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ وَمَا يَدْرُونَ مَا هُوَ! كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن قدامة الكاهلي، عمن حدثه، أن عشرة إخوة من بني كاهل بْن أسد، يقال لهم بنو حرب، جعل أحدهم يرتجز ليلتئذ، ويقول: أنا ابن حرب ومعى مخراقى اضربهم بصارم رقراق اذكره الموت أبو إسحاق وجاشت النفس على التراقي صبرا عفاق إنه الفراق. وكان عفاق أحد العشرة، فأصيب فخذ صاحب هذا الشعر يومئذ، فأنشأ يقول: صبرا عفاق إنها الأساوره صبرا ولا تغررك رجل نادره فمات من ضربته يومئذ. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عن أَبِيهِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ أَبِي شَجَّارٍ، قَالَ: بَعَثَ سَعْدٌ طُلَيْحَةَ فِي حَاجَةٍ فَتَرَكَهَا، وَعَبَرَ الْعَتِيقَ، فَدَارَ إِلَى عَسْكَرِ الْقَوْمِ، حَتَّى إِذَا وَقَفَ عَلَى رَدْمِ النَّهْرِ كَبَّرَ ثَلاثَ تَكْبِيرَاتٍ، فَرَاعَ أَهْلَ فَارِسَ، وَتَعَجَّبَ الْمُسْلِمُونَ،

فَكَفَّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ لِلنَّظَرِ فِي ذَلِكَ، فَأَرْسَلَتِ الأَعَاجِمُ فِي ذَلِكَ، وَسَأَلَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ ذلك ثم انهم عادوا وجددوا تعبئة، وَأَخَذُوا فِي أَمْرٍ لَمْ يَكُونُوا عَلَيْهِ فِي الأَيَّامِ الثَّلاثَةِ، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى تَعْبِيَتِهِمْ، وَجَعَلَ طُلَيْحَةُ يَقُولُ: لا تَعْدَمُوا امْرَأً ضَعْضَعَكُمْ وَخَرَجَ مَسْعُودُ بْنُ مَالِكٍ الأَسَدِيُّ وَعَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو التَّمِيمِيُّ وَابْنُ ذِي الْبُرْدَيْنِ الْهِلالِيُّ وَابْنُ ذِي السَّهْمَيْنِ وَقَيْسُ بْنُ هُبَيْرَةَ الأَسَدِيُّ، وَأَشْبَاهُهُمْ، فَطَارَدُوا الْقَوْمَ، وَانْبَعَثُوا لِلْقِتَالِ، فَإِذَا الْقَوْمُ لمة لا يَشُدُّونَ، وَلا يُرِيدُونَ غَيْرَ الزَّحْفِ، فَقَدَّمُوا صَفًّا لَهُ أذنانِ، وَأَتْبَعُوا آخَرَ مِثْلَهُ، وَآخَرَ وَآخَرَ، حَتَّى تَمَّتْ صُفُوفُهُمْ ثَلاثَةَ عَشَرَ صَفًّا فِي الْقَلْبِ وَالْمُجَنِّبَتَيْنِ كَذَلِكَ، فَلَمَّا أَقْدَمَ عَلَيْهِمْ فِرْسَانُ الْعَسْكَرِ رَامُوهُمْ فَلَمْ يَعْطِفْهُمْ ذَلِكَ عَنْ رُكُوبِهِمْ، ثُمَّ لَحِقَتْ بِالْفِرْسَانِ الْكَتَائِبُ، فَأُصِيبَ لَيْلَتَئِذٍ خَالِدُ بْنُ يَعْمُرَ التَّمِيمِيُّ، ثُمَّ الْعمرِيُّ، فَحَمَلَ الْقَعْقَاعُ عَلَى نَاحِيَتِهِ الَّتِي رَمَى بِهَا مُزْدَلِفًا، فَقَامُوا عَلَى سَاقٍ، فَقَالَ الْقَعْقَاعُ: سَقَى اللَّهُ يَا خَوْصَاءُ قَبْرَ ابْنِ يَعْمُرٍ إِذَا ارْتَحَلَ السُّفَارُ لَمْ يَتَرَحَّلِ سَقَى اللَّهُ أَرْضًا حَلَّهَا قَبْرُ خَالِدٍ ذَهَابَ غَوَادٍ مُدْجِنَاتٍ تُجَلْجِلِ فَأَقْسَمْتُ لا يَنْفَكُّ سَيْفِي يَحُسُّهُمْ فَإِنْ زَحَلَ الأَقْوَامُ لَمْ أَتَزَحَّلِ فَزَاحَفَهُمْ وَالنَّاسُ عَلَى رَايَاتِهِمْ بِغَيْرِ إِذْنِ سَعْدٍ، فَقَالَ سَعْدٌ: اللَّهُمَّ اغْفِرْهَا لَهُ، وَانْصُرْهُ قَدْ أَذِنْتُ لَهُ إِذْ لَمْ يَسْتَأْذِنِّي، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى مَوَاقِفِهِمْ، إِلا مَنْ تَكَتَّبَ أَوْ طَارَدَهُمْ وَهُمْ ثَلاثَةُ صُفُوفٍ، فَصَفٌّ فِيهِ الرَّجَّالَةُ أَصْحَابُ الرِّمَاحِ وَالسُّيُوفِ، وَصَفٌّ فِيهِ المراميةُ، وَصَفٌّ فِيهِ الْخُيُولُ، وَهُمْ أَمَامَ الرَّجَّالَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَيْمَنَةُ، وَكَذَلِكَ الْمَيْسَرَةُ وَقَالَ سَعْدٌ: إِنَّ الأَمْرَ الَّذِي صَنَعَ الْقَعْقَاعُ، فَإِذَا كَبَّرْتُ ثَلاثًا فَازْحَفُوا، فَكَبَّرَ تَكْبِيرَةً فَتَهَيَّئُوا، وَرَأَى النَّاسُ كُلُّهُمْ مِثْلَ الَّذِي

رَأَى، وَالرَّحَى تَدُورُ عَلَى الْقَعْقَاعِ وَمَنْ مَعَهُ كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبيد اللَّه بْن عبد الأعلى، عن عمرو بْن مرة، قال: وقام قيس بْن هبيرة المرادي فيمن يليه، ولم يشهد شيئا من لياليها إلا تلك الليلة، فقال: إن عدوكم قد أبى إلا المزاحفة، والرأي رأي أميركم، وليس بأن تحمل الخيل ليس معها الرجالة، فإن القوم إذا زحفوا وطاردهم عدوهم على الخيل لا رجال معهم عقروا بهم، ولم يطيقوا أن يقدموا عليهم، فتيسروا للحملة فتيسروا وانتظروا التكبيرة وموافقة حمل الناس، وإن نشاب الأعاجم لتجوز صف المسلمين. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن المستنير بْن يزيد، عمن حدثه، قال: وقال دريد بْن كعب النخعي، وكان معه لواء النخع: ان المسلمين تهيئوا للمزاحفة، فاسبقوا المسلمين الليلة إلى اللَّه والجهاد، فإنه لا يسبق الليلة أحد إلا كان ثوابه على قدر سبقه، نافسوهم في الشهادة، وطيبوا بالموت نفسا، فإنه أنجى من الموت إن كنتم تريدون الحياة، وإلا فالآخرة ما أردتم. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن الأجلح، قال: قال الأشعث بْن قيس: يا معشر العرب، إنه لا ينبغي أن يكون هؤلاء القوم أجرأ على الموت، ولا أسخى أنفسا عن الدنيا، تنافسوا الأزواج والأولاد، ولا تجزعوا من القتل، فإنه أماني الكرام، ومنايا الشهداء، وترجل. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بْن مُحَمَّد، قال: قال حنظلة بْن الربيع وأمراء الأعشار: ترجلوا أيها الناس، وافعلوا كما نفعل، ولا تجزعوا مما لا بد منه، فالصبر أنجى من الفزع وفعل طليحة وغالب وحمال وأهل النجدات من جميع القبائل مثل ذلك

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو والنضر بْن السري، قالا: ونزل ضرار بْن الخطاب القرشي، وتتابع على التسرع إليهم الناس كلهم فيها بين تكبيرات سعد حين استبطئوه فلما كبر الثانية، حمل عاصم بْن عمرو حتى انضم إلى القعقاع، وحملت النخع، وعصى الناس كلهم سعدا، فلم ينتظر الثالثة إلا الرؤساء، فلما كبر الثالثة زحفوا فلحقوا بأصحابهم، وخالطوا القوم، فاستقبلوا الليل استقبالا بعد ما صلوا العشاء. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن الوليد بن عبد الله بْن أبي طيبة، عن أبيه، قال: حمل الناس ليلة الهرير عامة، ولم ينتظروا بالحملة سعدا، وكان أول من حمل القعقاع، فقال: اللهم اغفرها له وانصره. وقال: وا تميماه سائر الليلة! ثم قال: أرى الأمر ما فيه هذا، فإذا كبرت ثلاثا فاحملوا فكبر واحدة فلحقتهم أسد، فقيل: قد حملت أسد، فقال: اللهم اغفرها لهم وانصرهم، وا أسداه سائر الليلة! ثم قيل: حملت النخع، فقال: اللهم اغفرها لهم وانصرهم، وا نخعاه سائر الليلة! ثم قيل: حملت بجيلة، فقال: اللهم اغفرها لهم، وانصرهم، وا بجيلتاه! ثم حملت الكنود، فقيل: حملت كندة، فقال: وا كندتاه! ثم زحف الرؤساء بمن انتظر التكبيرة، فقامت حربهم على ساق حتى الصباح، فذلك ليلة الهرير. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مُحَمَّد بْن نويرة، عن عمه أنس بْن الحليس، قال: شهدت ليلة الهرير، فكان صليل الحديد فيها كصوت القيون ليلتهم حتى الصباح، أفرغ عليهم الصبر إفراغا، وبات سعد بليلة لم يبت بمثلها، ورأى العرب والعجم أمرا لم يروا مثله قط، وانقطعت الأصوات والأخبار عن رستم وسعد، وأقبل سعد على الدعاء، حتى

إذا كان وجه الصبح، انتهى الناس فاستدل بذلك على أنهم الأعلون، وأن الغلبة لهم. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بْن مُحَمَّد، عن الأعور بْن بنان المنقري، قال: أول شيء سمعه سعد ليلتئذ مما يستدل به على الفتح في نصف الليل الباقي صوت القعقاع بْن عمرو وهو يقول: نحن قتلنا معشرا وزئدا اربعه وخمسه وواحدا يحسب فوق اللبد الأساودا حتى إذا ماتوا دعوت جاهدا اللَّه ربي، واحترزت عامدا. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الأعور ومحمد، عن عمه، والنضر عن ابن الرفيل، قالوا: اجتلدوا تلك الليلة من أولها حتى الصباح لا ينطقون، كلامهم الهرير، فسميت ليلة الهرير. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن عمرو بن الريان، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: بَعَثَ سَعْدٌ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ بِجَادًا وَهُوَ غُلامٌ إِلَى الصَّفِّ، إِذْ لَمْ يَجِدْ رَسُولا، فَقَالَ: انْظُرْ مَا تَرَى مِنْ حَالِهِمْ، فَرَجَعَ فَقَالَ: مَا رَأَيْتَ أَيْ بُنَيَّ؟ قَالَ: رَأَيْتُهُمْ يَلْعَبُونَ، فَقَالَ: أَوْ يَجِدُّونَ! كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مُحَمَّد بْن جرير العبدي، عن عابس الجعفي، عن أبيه، قال: كانت بإزاء جعفي يوم عماس كتيبة من كتائب العجم، عليهم السلاح التام، فازدلفوا لهم، فجالدوهم بالسيوف، فرأوا أن السيوف لا تعمل في الحديد فارتدعوا، فقال حميضة: ما لكم؟ قالوا: لا يجوز فيهم السلاح، قال: كما أنتم حتى أريكم، انظروا فحمل على رجل منهم، فدق ظهره بالرمح، ثم التفت

ليله القادسية

إلى أصحابه، فقال: ما أراهم إلا يموتون دونكم فحملوا عليهم فأزالوهم إلى صفهم. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي، قال: لا والله ما شهدها من كنده خاصه الا سبعمائة، وكان بإزائهم ترك الطبري، فقال الأشعث: يا قوم ازحفوا لهم، فزحف لهم في سبعمائة، فأزالهم وقتل تركا، فقال راجزهم: نحن تركنا تركهم في المصطره مختضبا من بهران الأبهره ليلة القادسية كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: وأصبحوا ليلة القادسية، وهي صبحة ليلة الهرير، وهي تسمى ليلة القادسية، من بين تلك الأيام والناس حسرى، لم يغمضوا ليلتهم كلها، فسار القعقاع في الناس، فقال: إن الدبرة بعد ساعة لمن بدأ القوم، فاصبروا ساعة واحملوا، فإن النصر مع الصبر فآثروا الصبر على الجزع، فاجتمع إليه جماعة من الرؤساء، وصمدوا لرستم، حتى خالطوا الذين دونه مع الصبح، ولما رأت ذلك القبائل قام فيها رجال، فقام قيس بْن عبد يغوث والأشعث ابن قيس وعمرو بْن معديكرب وابن ذي السهمين الخثعمي وابن ذي البردين الهلالي، فقالوا: لا يكونن هؤلاء أجد في أمر اللَّه منكم، ولا يكونن هؤلاء- لأهل فارس- أجرأ على الموت منكم، ولا أسخى أنفسا عن الدنيا، تنافسوها فحملوا مما يليهم حتى خالطوا الذين بإزائهم، وقام في ربيعة رجال، فقالوا: أنتم أعلم الناس بفارس وأجرؤهم عليهم فيما مضى، فما يمنعكم اليوم أن تكونوا أجرأ مما كنتم بالجرأة! فكان أول من زال حين قام قائم الظهيرة الهرمزان والبيرزان، فتأخرا وثبتا حيث انتهيا، وانفرج

القلب حين قام قائم الظهيرة، وركد عليهم النقع، وهبت ريح عاصف، فقلعت طيارة رستم عن سريره، فهوت في العتيق، وهي دبور، ومال الغبار عليهم، وانتهى القعقاع ومن معه إلى السرير فعثروا به، وقد قام رستم عنه حين طارت الريح بالطيارة إلى بغال قد قدمت عليه بمال يومئذ فهي واقفة، فاستظل في ظل بغل وحمله، وضرب هلال بْن علفة الحمل الذي رستم تحته، فقطع حباله، ووقع عليه أحد العدلين، ولا يراه هلال ولا يشعر به، فأزال من ظهره فقارا، ويضربه ضربة فنفحت مسكا، ومضى رستم نحو العتيق فرمى بنفسه فيه، واقتحمه هلال عليه، فتناوله وقد عام، وهلال قائم، فأخذ برجله، ثم خرج به إلى الجد، فضرب جبينه بالسيف حتى قتله، ثم جاء به حتى رمى به بين أرجل البغال، وصعد السرير، ثم نادى: قتلت رستم ورب الكعبة، إلي، فأطافوا به وما يحسون السرير ولا يرونه، وكبروا وتنادوا، وانبت قلب المشركين عندها وانهزموا، وقام الجالنوس على الردم، ونادى أهل فارس إلى العبور، وانسفر الغبار، فأما المقترنون فإنهم جشعوا فتهافتوا في العتيق، فوخزهم المسلمون برماحهم فما أفلت منهم مخبر، وهم ثلاثون ألفا، وأخذ ضرار بْن الخطاب درفش كابيان، فعوض منها ثلاثين ألفا، وكانت قيمتها ألف ألف ومائتي ألف، وقتلوا في المعركة عشرة آلاف سوى من قتلوا في الأيام قبله. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطية، عن عمرو بْن سلمة، قال: قتل هلال بْن علفة رستم يوم القادسية. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن ابن مخراق، عن ابى كعب الطائي، عن أبيه، قال: أصيب من الناس قبل ليله الهرير الفان وخمسمائة، وقتل ليلة الهرير ويوم القادسية ستة آلاف من المسلمين، فدفنوا في الخندق بحيال مشرق

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَزِيَادٍ، قَالُوا: لَمَّا انْكَشَفَ أَهْلُ فَارِسَ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ بَيْنَ الْخَنْدَقِ وَالْعَتِيقِ أَحَدٌ، وَطَبَّقَتِ الْقَتْلَى مَا بَيْنَ قُدَيْسَ وَالْعَتِيقِ أَمَرَ سَعْدٌ زَهْرَةَ بِاتِّبَاعِهِمْ، فَنَادَى زَهْرَةُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ، وَأَمَرَ الْقَعْقَاعَ بِمَنْ سَفُلَ، وَشُرَحْبِيلَ بِمَنْ عَلا، وَأَمَر خَالِدَ بْنَ عُرْفُطَةَ بِسَلْبِ الْقَتْلَى وَبِدَفْنِ الشُّهَدَاءَ، فَدَفَنَ الشُّهَدَاءَ، شُهَدَاءَ لَيْلَةَ الهرير ويوم القادسية، حول قديس الفان وخمسمائة وَرَاءَ الْعَتِيقِ بِحِيَالِ مُشَرِّقٍ، وَدُفِنَ شُهَدَاءُ مَا كَانَ قَبْلَ لَيْلَةِ الْهَرِيرِ عَلَى مُشَرِّقٍ، وَجُمِعَتِ الأَسْلابُ وَالأَمْوَالُ فَجُمِعَ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يُجْمَعْ قَبْلَهُ وَلا بَعْدَهُ مِثْلُهُ، وَأَرْسَلَ سَعْدٌ إِلَى هلال، فدعا لَهُ، فَقَالَ: أَيْنَ صَاحِبُكَ؟ قَالَ: رَمَيْتُ بِهِ تحت ابغل، قال: اذهب فجيء بِهِ، فَذَهَبَ فَجَاءَ بِهِ، فَقَالَ: جَرِّدْهُ إِلا مَا شِئْتَ، فَأَخَذَ سَلَبَهُ فَلَمْ يَدَعْ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَلَمَّا رَجَعَ الْقَعْقَاعُ وَشُرَحْبِيلُ قَالَ لِهَذَا: اغْدِ فِيمَا طَلَبَ هَذَا، وَقَالَ لِهَذَا: اغْدِ فِيمَا طَلَبَ هَذَا، فَعَلا هَذَا، وَسَفَلَ هَذَا، حَتَّى بَلَغَا مِقْدَارَ الْخَرَّارَةِ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ، وَخَرَجَ زَهْرَةُ بْنُ الحوية فِي آثَارِهِمْ، وَانْتَهَى إِلَى الرَّدْمِ وَقَدْ بَثَقُوهُ لِيَمْنَعُوهُمْ بِهِ مِنَ الطَّلَبِ، فَقَالَ زَهْرَةُ: يَا بُكَيْرُ، أَقْدِمْ، فَضَرَبَ فَرَسَهُ، وَكَانَ يُقَاتِلُ عَلَى الإِنَاثِ، فَقَالَ: ثِبِي أَطْلالُ، فَتَجَمَّعَتْ وَقَالَتْ: وَثْبًا وَسُورَةُ الْبَقَرَةِ! وَوَثَبَ زَهْرَةُ- وَكَانَ عَنْ حِصَانٍ- وَسَائِرِ الْخَيْلِ فَاقْتَحَمَتْهُ، وَتَتَابَعَ على ذلك ثلاثمائة فَارِسٍ، وَنَادَى زَهْرَةُ حَيْثُ كَاعَتِ الْخَيْلُ: خُذُوا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَى الْقَنْطَرَةِ، وَعَارِضُونَا، فَمَضَى وَمَضَى النَّاسُ إِلَى الْقَنْطَرَةِ يَتْبَعُونَهُ، فَلَحِقَ بِالْقَوْمِ وَالْجَالِنُوسُ فِي آخِرِهِمْ يَحْمِيهِمْ، فَشَاوَلَهُ زَهْرَةُ، فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ، فَقَتَلَهُ زَهْرَةُ، وَأَخَذَ سَلَبَهُ، وَقَتَلُوا

مَا بَيْنَ الْخَرَّارَةِ إِلَى السَّيْلَحِينِ، إِلَى النَّجَفِ، وَأَمْسَوْا فَرَجَعُوا فَبَاتُوا بِالْقَادِسِيَّةِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بْنِ شُبْرُمَةَ، عَنْ شَقِيقٍ، قَالَ: اقْتَحَمْنَا الْقَادِسِيَّةِ صَدْرَ النَّهَارِ، فَتَرَاجَعْنَا وَقَدْ أَتَى الصَّلاةَ، وَقَدْ أُصِيبَ الْمُؤَذِّنُ، فَتَشَاحَّ النَّاسُ فِي الأَذَانِ حَتَّى كَادُوا أَنْ يَجْتَلِدُوا بِالسُّيُوفِ، فَأَقْرَعَ سَعْدٌ بَيْنَهُمْ، فَخَرَجَ سَهْمُ رَجُلٍ فَأَذَّنَ. ثُمَّ رَجَعَ الْحَدِيثُ وَتَرَاجَعُ الطَّلَبُ الَّذِينَ طَلَبُوا مَنْ عَلا عَلَى القادسية ومن سفل عنها، وقد انى الصَّلاةَ وَقَدْ قُتِلَ الْمُؤَذِّنُ فَتَشَاحُّوا عَلَى الأَذَانِ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ سَعْدٌ، وَأَقَامُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ وَلَيْلَتِهِمْ حَتَّى رَجَعَ زَهْرَةُ، وَأَصْبَحُوا وَهُمْ جَمِيعٌ لا يَنْتَظِرُونَ أَحَدًا مِنْ جُنْدِهِمْ، وَكَتَبَ سَعْدٌ بِالْفَتْحِ وَبِعِدَّةِ مَنْ قُتِلُوا وَمَنْ أُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَسَمَّى لِعُمَرَ مَنْ يَعْرِفُ مَعَ سَعْدِ بْنِ عُمَيْلَةَ الْفَزَارِيِّ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرُّفَيْلِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَعَانِي سَعْدٌ، فَأَرْسَلَنِي أَنْظُرُ لَهُ فِي الْقَتْلَى، وَأُسَمِّي لَهُ رُءُوسَهُمْ، فَأَتَيْتُهُ فَأَعْلَمْتُهُ، وَلَمْ أَرَ رُسْتُمَ فِي مَكَانِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ التَّيْمِ يُدْعَى هِلالا، فَقَالَ: أَلَمْ تُبْلِغْنِي أَنَّكَ قَتَلْتَ رُسْتُمَ! قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَمَا صَنَعْتَ بِهِ؟ قَالَ: أَلْقَيْتُهُ تَحْتَ قَوَائِمِ الأَبْغَلِ، قَالَ: فَكَيْفَ قَتَلْتَهُ؟ فَأَخْبَرَهُ، حَتَّى قَالَ: ضَرَبْتُ جَبِينَهُ وَأَنْفَهُ قَالَ: فَجِئْنَا بِهِ، فَأَعْطَاهُ سَلَبَهُ، وَكَانَ قَدْ تَخَفَّفَ حِينَ وَقَعَ إِلَى الْمَاءِ، فَبَاعَ الَّذِي عَلَيْهِ بِسَبْعِينَ أَلْفًا، وَكَانَتْ قِيمَةُ قَلَنْسُوَتِهِ مِائَةَ أَلْفٍ لَوْ ظَفَرَ بِهَا وَجَاءَ نَفَرٌ مِنَ الْعُبَّادِ حَتَّى دَخَلُوا عَلَى سَعْدٍ، فَقَالُوا: أَيُّهَا الأَمِيرُ، رَأَيْنَا جَسَدَ رُسْتُمَ عَلَى بَابِ قَصْرِكَ وَعَلَيْهِ رَأْسُ غَيْرِهِ، وَكَانَ الضَّرْبُ قَدْ شَوَّهَهُ، فَضَحِكَ. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد وطلحة وزياد، قالوا: وقال الديلم ورؤساء أهل المسالح الذين استجابوا للمسلمين، وقاتلوا معهم على غير الإسلام: إخواننا الذين دخلوا في هذا الأمر من أول الشأن أصوب منا وخير، ولا والله لا يفلح أهل فارس بعد رستم إلا من دخل في

هذا الأمر منهم، فأسلموا، وخرج صبيان العسكر في القتلى، ومعهم الأداوى يسقون من به رمق من المسلمين، ويقتلون من به رمق من المشركين، وانحدروا من العذيب مع العشاء قال: وخرج زهرة في طلب الجالنوس، وخرج القعقاع وأخوه وشرحبيل في طلب من ارتفع وسفل، فقتلوهم في كل قرية وأجمة وشاطئ نهر، ورجعوا فوافوا صلاة الظهر، وهنأ الناس أميرهم، وأثنى على كل حي خيرا، وذكره منهم. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ، قَالَ: خَرَجَ زَهْرَةُ حَتَّى أَدْرَكَ الْجَالِنُوسَ، مَلِكًا مِنْ مُلُوكِهِمْ، بَيْنَ الْخَرَّارَةِ وَالسَّيْلَحِينِ، وَعَلَيْهِ يَارَقَانِ وَقَلبانِ وَقِرْطَانِ عَلَى بِرْذَوْنٍ لَهُ قَدْ خَضَدَ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ، فَقَتَلَهُ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ زَهْرَةَ يَوْمَئِذٍ لَعَلَى فَرَسٍ لَهُ مَا عَنَانُهَا إِلا مِنْ حَبْلٍ مَضْفُورٍ كَالْمِقْوَدِ، وَكَذَلِكَ حِزَامُهَا شَعْرٌ مَنْسُوجٌ، فَجَاءَ بِسَلْبِهِ إِلَى سَعْدٍ، فَعَرَفَ الأُسَارَى الَّذِينَ عِنْدَ سَعْدٍ سَلْبَهُ، فَقَالُوا: هَذَا سَلَبُ الْجَالِنُوسُ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: هَلْ أَعَانَكَ عَلَيْهِ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَنْ؟ قَالَ: اللَّهُ، فَنَفَلَهُ سَلْبَهُ. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ عُبَيْدَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: كَانَ سَعْدٌ اسْتَكْثَرَ لَهُ سَلَبَهُ، فَكَتَبَ فِيهِ إِلَى عُمَرَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِنِّي قَدْ نَفَّلْتُ مَنْ قَتَلَ رَجُلا سَلَبَهُ، فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ فَبَاعَهُ بِسَبْعِينَ أَلْفًا. وعَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْبَرْمَكَانِ، وَالْمُجَالِدِ عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: لَحِقَ بِهِ زَهْرَةُ، فَرَفَعَ لَهُ الْكَرَّةَ فَمَا يُخْطِئُهَا بِنُشَّابَةٍ، فَالْتَقَيَا فَضَرَبَهُ زَهْرَةُ فجد له- وَلِزَهْرَةَ يَوْمَئِذٍ ذُؤَابَةٌ وَقَدْ سَودَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَحَسُنَ بَلاؤُهُ فِي الإِسْلامِ وَلَهُ سَابِقَةٌ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ شَابٌّ- فَتَدَرَّعَ زَهْرَةُ مَا كَانَ عَلَى الْجَالِنُوسِ، فَبَلَغَ بِضْعَةً وَسَبْعِينَ

أَلْفًا فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى سَعْدٍ نَزَعَ سَلَبَهُ، وَقَالَ: أَلا انْتَظَرْتَ إِذْنِي! وَتَكَاتَبَا، فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى سَعْدٍ: تَعْمَدُ إِلَى مِثْلِ زَهْرَةَ- وَقَدْ صَلِيَ بِمِثْلِ مَا صَلِيَ بِهِ، وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْكَ مِنْ حَرْبِكَ مَا بَقِيَ- تَكْسِرُ قَرْنَهُ، وَتُفْسِدُ قَلْبَهُ! أَمْضِ لَهُ سَلَبَهُ، وَفَضِّلْهُ عَلَى اصحابه عند العطاء بخمسمائة. وعَنْ سَيْفٍ، عَنْ عُبَيْدٍ، عَنْ عِصْمَةَ، قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ إِلَى سَعْدٍ: أَنَا أَعْلَمُ بِزَهْرَةَ مِنْكَ، وَإِنَّ زَهْرَةَ لَمْ يَكُنْ لِيُغَيِّبَ مِنْ سَلَبٍ سَلَبَهُ شَيْئًا، فَإِنْ كَانَ الَّذِي سَعَى بِهِ إِلَيْكَ كَاذِبًا فَلَقَاهُ اللَّهُ مِثْل زَهْرَةَ، في عضديه يا رقان، وَإِنِّي قَدْ نَفَّلْتُ كُلَّ مَنْ قَتَلَ رَجُلا سَلَبَهُ، فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ فَبَاعَهُ بِسَبْعِينَ أَلْفًا. وعَنْ سَيْفٍ، عن عبيدة، عن إبراهيم وعامر، أن أهل البلاء يوم القادسية فضلوا عند العطاء بخمسمائة خمسمائة في أعطياتهم، خمسة وعشرين رجلا، منهم زهرة، وعصمة الضبي، والكلج وأما أهل الأيام، فإنه فرض لهم على ثلاثة آلاف فضلوا على أهل القادسية. وعَنْ سَيْفٍ، عن عبيدة، عن يزيد الضخم، قال: فقيل لعمر: لو ألحقت بهم أهل القادسية! فقال: لم أكن لألحق بهم من لم يدركهم وقيل له في أهل القادسية: لو فضلت من بعدت داره على من قاتلهم بفنائه! قال: وكيف أفضلهم عليهم على بعد دارهم، وهم شجن العدو، وما سويت بينهم حتى استطبتهم، فهلا فعل المهاجرون بالأنصار إذ قاتلوا بفنائهم مثل هذا! وعَنْ سَيْفٍ، عن المجالد، عن الشعبي، وسعيد بْن المرزبان عن رجل من بني عبس، قال: لما زال رستم عن مكانه ركب بغلا، فلما دنا منه هلال نزع له نشابة، فأصاب قدمه فشكها في الركاب، وقال: بپايه، فأقبل عليه هلال فنزل، فدخل تحت البغل، فلما لم يصل إليه قطع عليه المال، ثم نزل إليه ففلق هامته. وعَنْ سَيْفٍ، عن عبيدة، عن شقيق، قال: حملنا على الأعاجم يوم القادسية حملة رجل واحد، فهزمهم اللَّه، فلقد رأيتني أشرت إلى أسوار منهم

فجاء إلي وعليه السلاح التام، فضربت عنقه، ثم أخذت ما كان عليه. وعَنْ سَيْفٍ، عن سعيد بْن المرزبان، عن رجل من بني عبس، قال: أصاب أهل فارس يومئذ بعد ما انهزموا ما أصاب الناس قبلهم، قتلوا حتى إن كان الرجل من المسلمين ليدعو الرجل منهم فيأتيه حتى يقوم بين يديه، فيضرب عنقه، وحتى إنه ليأخذ سلاحه فيقتله به، وحتى إنه ليأمر الرجلين أحدهما بصاحبه، وكذلك في العدة. وعَنْ سَيْفٍ، عن يونس بْن أبي إسحاق، عن أبيه، عمن شهدها، قال: أبصر سلمان بْن ربيعة الباهلي أناسا من الأعاجم تحت راية لهم قد حفروا لها، وجلسوا تحتها، وقالوا: لا نبرح حتى نموت، فحمل عليهم فقتل من كان تحتها وسلبهم وكان سلمان فارس الناس يوم القادسية، وكان أحد الذين مالوا بعد الهزيمة على من ثبت، والآخر عبد الرحمن ابن ربيعة ذو النور، ومال على آخرين قد تكتبوا، ونصبوا للمسلمين فطحنهم بخيله. وعَنْ سَيْفٍ، عن الغصن، عن القاسم، عن البهي، أن الشعبي قال: كان يقال: لسلمان أبصر بالمفاصل من الجازر بمفاصل الجزور. فكان موضع المحبس اليوم دار عبد الرحمن بْن ربيعة، والتي بينها وبين دار المختار دار سلمان، وإن الأشعث بْن قيس استقطع فناء كان قدامها، هو اليوم في دار المختار، فأقطعه فقال له: ما جرأك علي يا أشعث؟ والله لئن حزتها لأضربنك بالجنثي- يعني سيفه- فانظر ما يبقى منك بعد، فصدف عنها ولم يتعرض لها. وعَنْ سَيْفٍ، عن المهلب ومحمد وطلحة وأصحابه، قالوا: وثبت بعد الهزيمة بضع وثلاثون كتيبة، استقتلوا واستحيوا من الفرار، فأبادهم اللَّه، فصمد لهم بضعة وثلاثون من رؤساء المسلمين، ولم يتبعوا فالة القوم، فصمد سلمان بْن ربيعة لكتيبة وعبد الرحمن بْن ربيعة ذو النور لأخرى، وصمد لكل كتيبة منها رأس من رؤساء المسلمين وكان قتال أهل هذه الكتائب،

من أهل فارس على وجهين، فمنهم من كذب فهرب، ومنهم من ثبت حتى قتل، فكان ممن هرب من أمراء تلك الكتائب الهرمزان وكان بإزاء عطارد، وأهود وكان بإزاء حنظلة بْن الربيع، وهو كاتب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وزاذ بْن بهيش وكان بإزاء عاصم بْن عمرو، وقارن وكان بإزاء القعقاع بْن عمرو، وكان ممن استقتل شهريار بْن كنار وكان بإزاء سلمان. وابن الهربذ وكان بإزاء عبد الرحمن، والفرخان الأهوازي وكان بإزاء بسر بن ابى رهم الجهنى، وخسرو شنوم الهمذاني وكان بحيال ابن الهذيل الكاهلي. ثم إن سعدا أتبع بعد ذلك القعقاع وشرحبيل من صوب في هزيمته أو صعد عن العسكر وأتبع زهرة بْن الحوية الجالنوس ذكر حديث ابن إسحاق: قال أبو جعفر الطبري رحمه اللَّه: رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: ومات المثنى بْن حارثة، وتزوج سعد بْن أبي وقاص امرأته سلمى ابنة خصفة وذلك في سنة أربع عشرة وأقام تلك الحجة للناس عمر بْن الخطاب ودخل أبو عبيدة بْن الجراح تلك السنة دمشق، فشتا بها، فلما أصافت الروم سار هرقل في الروم حتى نزل أنطاكية ومعه من المستعربة لخم وجذام وبلقين وبلي وعاملة، وتلك القبائل من قضاعه، غسان بشر كثير، ومعه من أهل أرمينية مثل ذلك، فلما نزلها أقام بها، وبعث الصقلار، خصيا له، فسار بمائة ألف مقاتل، معه من أهل أرمينية اثنا عشر ألفا، عليهم جرجة، ومعه من المستعربة من غسان وتلك القبائل من قضاعة اثنا عشر ألفا عليهم جبلة بْن الأيهم الغساني، وسائرهم من الروم، وعلى جماعة الناس الصقلار خصي هرقل، وسار اليهم المسلمون

وهم أربعة وعشرون ألفا عليهم أبو عبيدة بْن الجراح، فالتقوا باليرموك في رجب سنة خمس عشرة، فاقتتل الناس قتالا شديدا حتى دخل عسكر المسلمين، وقاتل نساء من نساء قريش بالسيوف حين دخل العسكر- منهن أم حكيم بنت الحارث بْن هشام- حتى سابقن الرجال، وقد كان انضم إلى المسلمين حين ساروا إلى الروم ناس من لخم وجذام، فلما رأوا جد القتال فروا ونجوا إلى ما كان قربهم من القرى، وخذلوا المسلمين. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بْن عروة بْن الزبير، عن أبيه، قال: قال قائل من المسلمين حين رأى من لخم وجذام ما رأى: القوم لخم وجذام في الهرب ... ونحن والروم بمرج نضطرب فإن يعودوا بعدها لا نصطحب. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن وهب ابن كَيْسَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي الزُّبَيْرِ عَامَ الْيَرْمُوكِ، فَلَمَّا تَعَبَّى الْمُسْلِمُونَ لِلْقِتَالِ، لَبِسَ الزُّبَيْرُ لأْمَتَهُ، ثُمَّ جَلَسَ عَلَى فَرَسِهِ، ثُمَّ قَالَ لِمَوْلَيَيْنِ لَهُ: احْبِسَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ مَعَكُمَا فِي الرَّحْلِ، فَإِنَّهُ غُلامٌ صَغِيرٌ. قَالَ: ثُمَّ تَوَجَّهَ فَدَخَلَ فِي النَّاسِ، فَلَمَّا اقْتَتَلَ النَّاسُ وَالرَّومُ نَظَرْتُ إِلَى نَاسٍ وُقُوفٍ عَلَى تَلٍّ لا يُقَاتِلُونَ مَعَ النَّاسِ قَالَ: فَأَخَذْتُ فَرَسًا لِلزُّبَيْرِ كَانَ خَلَّفَهُ فِي الرَّحْلِ فَرَكِبْتُهُ، ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى أُولَئِكَ النَّاسِ فَوَقَفْتُ مَعَهُمْ، فَقُلْتُ: أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ النَّاسُ، فَإِذَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فِي مَشْيَخَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ وُقُوفًا لا يُقَاتِلُونَ، فَلَمَّا رَأَوْنِي رَأَوْا غُلامًا حَدَثًا، فَلَمْ يَتَّقُونِي. قَالَ: فَجَعَلُوا وَاللَّهِ إِذَا مَالَ الْمُسْلِمُونَ وَرَكِبَتْهُمُ الْحَرْبُ، لِلرُّومِ يَقُولُونَ: ايه ايه بلا صفر! فَإِذَا مَالَتِ الرُّومُ وَرَكِبَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، قَالَوا: يَا ويح بلا صفر! فَجَعَلْتُ أَعْجَبُ مِنْ قَوْلِهِمْ، فَلَمَّا هَزَمَ اللَّهُ الرُّومَ وَرَجَعَ الزُّبَيْرُ، جَعَلْتُ أُحَدِّثُهُ

خَبَرَهُمْ قَالَ: فَجَعَلَ يَضْحَكُ وَيَقُولُ: قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، أَبَوْا إِلا ضَغَنًا! وَمَاذَا لَهُمْ إِنْ يَظْهَرْ عَلَيْنَا الرُّومُ! لَنَحْنُ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْهُمْ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْزَلَ نَصْرَهُ، فَهُزِمَتِ الرُّومُ وَجُمُوعُ هِرَقْلَ الَّتِي جَمَعَ، فَأُصِيبَ مِنَ الرُّومِ أَهْلُ أَرْمِينِيَةَ وَالْمُسْتَعْرِبَةِ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَقَتَلَ اللَّهُ الصّقلارَ وَبَاهَانَ، وَقَدْ كَانَ هِرَقْلُ قَدَّمَهُ مَعَ الصّقلارِ حِينَ لَحِقَ بِهِ، فَلَمَّا هُزِمَتِ الرُّومُ بَعَثَ أَبُو عُبَيْدَةَ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ فِي طَلَبِهِمْ، فَسَلَكَ الأَعْمَاقَ حَتَّى بَلَغَ مَلَطْيَةَ، فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا عَلَى الْجِزْيَةِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَلَمَّا سَمِعَ هِرَقْلُ بِذَلِكَ بَعَثَ إِلَى مُقَاتِلَتِهَا وَمَنْ فِيهَا، فَسَاقَهُمْ إِلَيْهِ، وَأَمَرَ بِمَلَطْيَةَ فَحُرِقَتْ وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَأَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الأَسَدِ، وَمِنْ بَنِي سَهْمٍ سَعِيدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ. قَالَ: وَفِي آخِرِ سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ، قَتَلَ اللَّهُ رُسْتُمَ بِالْعِرَاقِ، وَشَهِدَ أَهْلُ الْيَرْمُوكِ حِينَ فَرَغُوا مِنْهُ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ مَعَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَذَلِكَ أَنَّ سَعْدًا حِينَ حُسِرَ عَنْهُ الشِّتَاءُ، سَارَ مِنْ شَرَافَ يُرِيدُ الْقَادِسِيَّةَ، فَسَمِعَ بِهِ رُسْتُمُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ سَعْدٌ وَقَفَ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ يَسْتَمِدَّهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ عُمَرُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ الثَّقَفِيَّ فِي أربعمائة رجل مددا من المدينة، وامده بقيس ابن مكشوح المرادى في سبعمائة، فَقَدِمُوا عَلَيْهِ مِنَ الْيَرْمُوكِ وَكَتَبَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ: أَنْ أَمِدَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ أَمِيرَ الْعِرَاقِ بِأَلْفِ رَجُلٍ مِنْ عِنْدِكَ، فَفَعَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ الْفِهْرِيَّ، وَأَقَامَ تِلْكَ الْحُجَّةَ لِلنَّاسِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ. وَقَدْ كَانَ لِكِسْرَى مُرَابِطَةٌ فِي قَصْرِ بَنِي مُقَاتِلٍ، عَلَيْهَا النُّعْمَانُ بْنُ قَبِيصَةَ، وَهُوَ ابْنُ حَيَّةَ الطَّائِيِّ ابْنُ عَمِّ قَبِيصَةَ بْنَ إِيَاسِ بْنِ حَيَّةَ الطَّائِيِّ صَاحِبِ الْحِيرَةِ، فَكَانَ فِي مَنْظَرَةٍ لَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ بِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ سَأَلَ عَنْهُ عبد الله بن سنان ابن جَرِيرٍ الأَسَدِيَّ، ثُمَّ الصَّيْدَاوِيَّ، فَقِيلَ لَهُ: رَجُلٌ من قريش، فقال:

اما إذ كَانَ قُرَشِيًّا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَاللَّهِ لأُجَاهِدَنَّهُ الْقِتَالَ، إِنَّمَا قُرَيْشٌ عَبِيدُ مَنْ غَلَبَ، وَاللَّهِ مَا يَمْنَعُونَ خَفِيرًا، وَلا يَخْرُجُونَ مِنْ بِلادِهِمْ إِلا بِخَفِيرٍ، فَغَضِبَ حِينَ قَالَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سِنَانٍ الأَسَدِيُّ، فَأَمْهَلَهُ حَتَّى إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ، فَوَضَعَ الرُّمْحَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ لَحِقَ بِسَعْدٍ فَأَسْلَمَ وَقَالَ فِي قَتْلِهِ النُّعْمَانَ بْنَ قَبِيصَةَ: لَقَدْ غَادَرَ الأَقْوَامُ لَيْلَةَ أدْلجُوا ... بِقَصْرِ الْعَبَادِي ذَا الْفِعَالِ مُجَدَّلا دَلَفْتُ لَهُ تَحْتَ الْعُجَاجِ بِطَعْنَةٍ ... فَأَصْبَحَ مِنْهَا فِي النَّجِيعِ مُرَمَّلا أَقُولُ لَهُ وَالرُّمْحُ فِي نُغْضِ كَتْفِهِ ... أَبَا عَامِرٍ عَنْكَ الْيَمِينَ تَحَلَّلا سَقَيْتُ بِهَا النُّعْمَانَ كَأْسًا رَوِيَّةً ... وَعَاطَيْتُهُ بِالرُّمْحِ سُمًّا مُثَمَّلا تَرَكْتُ سِبَاعَ الْجَوِّ يَعْرِفْنَ حَوْلَهُ ... وَقَدْ كَانَ عَنْهَا لابْنِ حَيَّةَ مَعْزِلا كَفَيْتُ قُرَيْشًا إِذْ تَغَيَّبَ جَمْعُهَا ... وَهَدَّمْتُ لِلنُّعْمَانِ عِزًّا مُؤَثَّلا وَلَمَّا لَحِقَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ وَقَيْسَ بْنَ مَكْشُوحٍ فِيمَنْ مَعَهُمَا، سَارَ إِلَى رُسْتُمَ حِينَ سَمِعَ بِهِ حَتَّى نَزَلَ قَادِسَ- قَرْيَةً إِلَى جَانِبِ الْعُذَيْبِ- فَنَزَلَ النَّاسُ بِهَا، وَنَزَلَ سَعْدٌ فِي قَصْرِ الْعُذَيْبِ، وَأَقْبَلَ رُسْتُمُ فِي جُمُوعِ فَارِسَ سِتِّينَ أَلْفًا مِمَّا أُحْصِيَ لَنَا فِي دِيوَانِهِ، سِوَى التُّبَّاعِ وَالرَّقِيقِ، حَتَّى نَزَلَ الْقَادِسِيَّةَ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الناس جسر القادسية، وسعد في منزله وَجِعٌ، قَدْ خَرَجَ بِهِ قَرْحٌ شَدِيدٌ، وَمَعَهُ أَبُو مِحْجَنِ بْنُ حَبِيبٍ الثَّقَفِيُّ مَحْبُوسٌ فِي الْقَصْرِ، حَبَسَهُ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ، فَلَمَّا أَنْ نَزَلَ بِهِمْ رُسْتُمُ بَعَثَ إِلَيْهِمْ أَنِ ابْعَثُوا إِلَيَّ رَجُلا مِنْكُمْ جَلِيدًا أُكَلِّمَهُ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِ المغيره بن شعبه، فجاءه وفد فَرَقَ رَأْسَهُ أَرْبَعَ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى قَفَاهُ، وَفِرْقَةٌ إِلَى أُذُنَيْهِ، ثُمَّ عَقَصَ شَعْرَهُ، وَلَبِسَ بُرْدًا لَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى رُسْتُمَ، وَرُسْتُمُ مِنْ وَرَاءِ الْجِسْرِ الْعَتِيقِ مِمَّا يَلِي

الْعِرَاقَ، وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ نَاحِيَتِهِ الأُخْرَى مِمَّا يَلِي الْحِجَازَ فِيمَا بَيْنَ الْقَادِسِيَّةِ وَالْعُذَيْبِ، فَكَلَّمَهُ رُسْتُمُ، فَقَالَ: إِنَّكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ كُنْتُمْ أَهْلَ شَقَاءٍ وَجَهْدٍ، وَكُنْتُمْ تَأْتُونَنَا مِنْ بَيْنَ تَاجِرٍ وَأَجِيرٍ وَوَافِدٍ، فَأَكَلْتُمْ مِنْ طَعَامِنَا، وَشَرِبْتُمْ مِنْ شَرَابِنَا، وَاسْتَظْلَلْتُمْ مِنْ ظِلالِنَا، فَذَهَبْتُمْ فَدَعَوْتُمْ أَصْحَابَكُمْ، ثُمَّ أَتَيْتُمُونَا بِهِمْ، وَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ مَثَلُ رَجُلٍ كَانَ لَهُ حَائِطٌ مِنْ عِنَبٍ، فَرَأَى فِيهِ ثَعْلَبًا وَاحِدًا، فَقَالَ: مَا ثَعْلَبٌ وَاحِدٌ! فَانْطَلَقَ الثَّعْلَبُ، فَدَعَا الثَّعَالِبَ إِلَى الْحَائِطِ، فَلَمَّا اجْتَمَعْنَ فِيهِ جَاءَ الرَّجُلُ فَسَدَّ الْجُحْرَ الَّذِي دَخَلْنَ مِنْهُ، ثُمَّ قَتَلَهُنَّ جَمِيعًا. وَقَدْ أَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي حَمَلَكُمْ عَلَى هَذَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ الْجَهْدُ الَّذِي قَدْ أَصَابَكُمْ، فَارْجِعُوا عَنَّا عَامَكُمْ هَذَا، فَإِنَّكُمْ قَدْ شَغَلْتُمُونَا عَنْ عِمَارَةِ بِلادِنَا، وَعَنْ عَدُوِّنَا، وَنَحْنُ نُوقِرُ لَكُمْ رَكَائِبَكُمْ قَمْحًا وَتَمْرًا، وَنَأْمُرُ لَكُمْ بِكِسْوَةٍ، فَارْجِعُوا عَنَّا عَافَاكُمُ اللَّهُ! فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: لا تَذْكُرْ لَنَا جَهْدًا إِلا وَقَدْ كُنَّا فِي مِثْلِهِ أَوْ أَشَدَّ مِنْهُ، أَفْضَلُنَا فِي أَنْفُسِنَا عَيْشًا الَّذِي يَقْتُلُ ابْنَ عَمِّهِ، وَيَأْخُذُ مَالَهُ فَيَأْكُلُهُ، نَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَالْعِظَامَ، فَلَمْ نَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ فِينَا نَبِيًّا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ وَإِلَى مَا بَعَثَهُ بِهِ، فَصَدَّقَهُ مِنَّا مُصَدِّقٌ، وَكَذَّبَهُ مِنَّا آخَرُ، فَقَاتَلَ مَنْ صَدَّقَهُ مَنْ كَذَّبَهُ، حَتَّى دَخَلْنَا فِي دِينِهِ، مِنْ بَيْنَ مُوقِنٍ بِهِ، وَبَيْنَ مَقْهُورٍ، حَتَّى اسْتَبَانَ لَنَا أَنَّهُ صَادِقٌ، وَأَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. فَأَمَرَنَا أَنْ نُقَاتِلَ مَنْ خَالَفَنَا، وَأَخْبَرَنَا أَنَّ مَنْ قُتِلَ مِنَّا عَلَى دِينِهِ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ عَاشَ مَلِكٌ وَظَهَرَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ، فَنَحْنُ نَدْعُوكَ إِلَى أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَدْخُلَ فِي دِينِنَا، فَإِنْ فَعَلْتَ كَانَتْ لَكَ بِلادُكَ، لا يَدْخُلُ عَلَيْكَ فِيهَا إِلا مَنْ أَحْبَبْتَ، وَعَلَيْكَ الزَّكَاةُ وَالْخُمُسُ، وَإِنْ أَبَيْتَ ذَلِكَ فَالْجِزْيَةُ، وَإِنْ أَبَيْتَ ذَلِكَ قَاتَلْنَاكَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ. قَالَ لَهُ رُسْتُمُ: مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنِّي أَعِيشُ حَتَّى أَسْمَعَ مِنْكُمْ هَذَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ. لا أُمْسِي غَدًا حَتَّى أَفْرَغَ مِنْكُمْ وَأَقْتُلَكُمْ كُلَّكُمْ ثُمَّ أَمَرَ بِالْعَتِيقِ أَنْ يسكر، فَبَاتَ لَيْلَتَهُ يسكر بِالْبَرَاذِعِ وَالتّرَابِ وَالْقَصَبِ حَتَّى أَصْبَحَ، وَقَدْ تَرَكَهُ طَرِيقًا مُهِيعًا، وَتَعَبَّى لَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَجَعَلَ سَعْدٌ عَلَى جَمَاعَةِ النَّاسِ خَالِدَ بْنَ

عُرْفُطَةَ حَلِيفَ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وجعل على ميمنه الناس جرير ابن عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ، وَجَعَلَ عَلَى مَيْسَرَتِهِمْ قَيْسَ بْنَ الْمَكْشُوحِ الْمُرَادِيَّ. ثُمَّ زَحَفَ إِلَيْهِمْ رُسْتُمُ، وَزَحَفَ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَمَا عَامة جننهم- فِيمَا حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله ابن أَبِي بَكْرٍ- غير بَرَاذِعِ الرِّحَالِ، قَدْ عَرَضُوا فِيهَا الْجَرِيدَ، يَتْرُسُونَ بِهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَمَا عَامَّةُ مَا وَضَعُوهُ عَلَى رُءُوسِهِمْ إِلا أَنْسَاعُ الرِّحَالِ، يَطْوِي الرَّجُلُ نِسْعَ رَحْلِهِ عَلَى رَأْسِهِ يَتَّقِي بِهِ، وَالْفُرْسُ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْحَدِيدِ وَالْيَلامِقِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالا شَدِيدًا، وَسَعْدٌ فِي الْقَصْرِ يَنْظُرُ، مَعَهُ سَلْمَى بِنْتُ خَصَفَةَ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ الْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ، فَجَالَتِ الْخَيْلُ، فَرُعِبَتْ سلمى حين رات الخيل جالت، فقالت: وا مثنياه وَلا مُثَنَّى لِي الْيَوْمَ! فَغَارَ سَعْدٌ فَلَطَمَ وَجْهَهَا، فَقَالَتْ: أَغَيْرَةً وَجُبْنًا! فَلَمَّا رَأَى أَبُو مِحْجَنٍ مَا تَصْنَعُ الْخَيْلُ حِينَ جَالَتْ، وَهُوَ يَنْظُرُ مِنْ قَصْرِ الْعُذَيْبِ وَكَانَ مَعَ سَعْدٍ فِيهِ، قَالَ: كَفَى حُزْنًا أَنْ تُرْدِيَ الْخَيْلُ بالقنا ... وأترك مشدودا علي وثاقيا إذا قمت عناني الحديد واغلقت ... مصاريع دوني لا نجيب المناديا وقد كنت ذا مال كثير وإخوة ... فقد تركونى واحدا لا اخاليا فَكَلَّمَ زَبْرَاءَ أُمَّ وَلَدِ سَعْدٍ- وَكَانَ عِنْدَهَا مَحْبُوسًا، وَسَعْدٌ فِي رَأْسِ الْحِصْنِ يَنْظُرُ إِلَى النَّاسِ- فَقَالَ: يَا زَبْرَاءُ، أَطْلِقِينِي وَلَكِ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ، لَئِنْ لَمْ أُقْتَلْ لأَرْجِعَنَّ إِلَيْكِ حَتَّى تَجْعَلِي الْحَدِيدَ فِي رِجْلِي، فَأَطْلَقَتْهُ وَحَمَلَتْهُ عَلَى فَرَسٍ لِسَعْدٍ بَلْقَاءَ وَخَلَّتْ سَبِيلَهُ، فَجَعَلَ يَشُدُّ عَلَى الْعَدُوِّ وَسَعْدٌ يَنْظُرُ فَجَعَلَ سَعْدٌ يَعْرِفُ فَرَسَهُ وَيَنْكِرُهَا، فَلَمَّا أَنْ فَرَغُوا مِنَ الْقِتَالِ، وَهَزَمَ اللَّهُ جُمُوعَ فَارِسَ، رَجَعَ أَبُو مِحْجَنٍ إِلَى زَبْرَاءَ، فَأَدْخَلَ رِجْلَهُ فِي قَيْدِهِ، فَلَمَّا نَزَلَ سَعْدٌ مِنْ رَأْسِ الْحِصْنِ رَأَى فَرَسَهُ تَعْرَقُ، فَعَرَفَ أَنَّهَا قَدْ رُكِبَتْ، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ زَبْرَاءَ، فَأَخْبَرَتْهُ خَبَرَ أَبِي مِحْجَنٍ فَخَلَّى سَبِيلَهُ

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إسحاق، قال: وقد كان عمرو بْن معديكرب شهد القادسية مع الْمُسْلِمِينَ. وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن ابن إسحاق، عن عبد الرحمن بْن الأسود النخعي، عن أبيه، قال: شهدت القادسية، فلقد رأيت غلاما منا من النخع يسوق ستين أو ثمانين رجلا من أبناء الأحرار. فقلت: لقد أذل اللَّه أبناء الأحرار! حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، مَوْلَى بَجِيلَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ الْبَجَلِيِّ- وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْقَادِسِيَّةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ- قَالَ: كَانَ مَعَنَا يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ، فَلَحِقَ بِالْفُرْسِ مُرْتَدًّا، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ بَأْسَ النَّاسِ فِي الْجَانِبِ الَّذِي بِهِ بَجِيلَةُ قَالَ: وَكُنَّا رُبْعَ النَّاسِ، فَوَجَّهُوا إِلَيْنَا سِتَّةَ عَشَرَ فِيلا وَإِلَى سَائِرِ النَّاسِ فِيلَيْنِ، وَجَعَلُوا يُلْقُونَ تَحْتَ أَرْجُلِ خُيُولِنَا حَسَكَ الْحَدِيدِ، وَيَرْشُقُونَنَا بِالنُّشَّابِ، فَكَأَنَّهُ الْمَطَرُ عَلَيْنَا، وَقَرَنُوا خَيْلَهُمْ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ لِئَلا يَفِرُّوا قَالَ: وَكَانَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ يَمُرُّ بِنَا فَيَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، كُونُوا أُسُودًا، فَإِنَّمَا الأَسَدُ مَنْ أَغْنَى شَأْنَهُ، فَإِنَّمَا الفارسي تيمن إِذَا أَلْقَى نَيْزَكَهُ. قَالَ: وَكَانَ إِسْوَارٌ مِنْهُمْ لا يَكَادُ تَسْقُطُ لَهُ نُشَّابَةٌ، فَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا ثَوْرٍ، اتَّقِ ذَلِكَ الْفَارِسِيَّ فَإِنَّهُ لا تَقَعُ لَهُ نُشَّابَةً، فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ وَرَمَاهُ الْفَارِسِيُّ بِنُشَّابَةٍ فَأَصَابَ قَوْسَهُ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ عَمْرٌو فَاعْتَنَقَهُ فَذَبَحَهُ، وَاسْتَلَبَهُ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ وَمِنْطَقَةً مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْمَقًا مِنْ دِيبَاجٍ، وَقَتَلَ اللَّهُ رُسْتُمَ، وَأَفَاءَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عَسْكَرَهُ وَمَا فِيهِ، وَإِنَّمَا الْمُسْلِمُونَ سِتَّةُ آلافٍ أَوْ سَبْعَةُ آلافٍ، وَكَانَ الَّذِي قَتَلَ رُسْتُمَ هِلالُ بْنُ عُلَّفَةَ التَّيْمِيُّ رَآهُ فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ، فَرَمَاهُ رُسْتُمُ بِنُشَّابَةٍ فَأَصَابَ قَدَمَهُ وَهُوَ يَتْبَعُهُ، فَشَكَّهَا إِلَى رِكَابِ سرجه، ورستم يقول بالفارسيه:

بپايه، أَيْ كَمَا أَنْتَ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ هِلالُ بْنُ عُلَّفَةَ فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ احْتَزَّ رَأْسَهُ فَعَلَّقَهُ، وَوَلَّتِ الْفُرْسُ فَاتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَهُمْ، فَلَمَّا بَلَغَتِ الْفُرْسُ الْخَرَّارَةَ نَزَلُوا فَشَرِبُوا مِنَ الْخَمْرِ، وَطَعِمُوا مِنَ الطَّعَامِ، ثُمَّ خَرَجُوا يَتَعَجَّبُونَ مِنْ رَمْيِهِمْ، وَأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ فِي الْعَرَبِ وَخَرَجَ جَالِنُوسُ فَرَفَعُوا لَهُ كُرَةً فَهُوَ يَرْمِيهَا وَيَشُكُّهَا بِالنُّشَّابِ، وَلَحِقَ بِهِمْ فِرْسَانٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ هُنَالِكَ، فَشَدَّ عَلَى جَالِنُوسَ زَهْرَةُ بْنُ حَوِيَّةَ التَّمِيمِيُّ فَقَتَلَهُ، وَانْهَزَمَتِ الْفُرْسُ، فَلَحِقُوا بِدَيْرِ قُرَّةَ وَمَا وَرَاءَهُ، وَنَهَضَ سَعْدٌ بِالْمُسْلِمِينَ حَتَّى نَزَلَ بِدَيْرِ قُرَّةَ عَلَى مَنْ هُنَالِكَ مِنَ الْفُرْسِ، وَقَدْ قَدِمَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ بِدَيْرِ قُرَّةَ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ فِي مَدَدِهِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَهُمْ الف رجل، فأسهم له سعد ولأصحابه مع الْمُسْلِمِينَ فِيمَا أَصَابُوا بِالْقَادِسِيَّةِ، وَسَعْدٌ وَجِعٌ مِنْ قرحته تلك، وقال جرير ابن عَبْدِ اللَّهِ: أَنَا جَرِيرٌ كُنْيَتِي أَبُو عَمْرِو ... قَدْ نَصَرَ اللَّهُ وَسَعْدٌ فِي الْقَصْرِ وَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا: نُقَاتِلُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ ... وَسَعْدٌ بِبَابِ الْقَادِسِيَّةِ مُعْصَمُ فَأُبْنَا وَقَدْ آمَتْ نِسَاءٌ كَثِيرَةٌ ... وَنِسْوَةُ سَعْدٍ لَيْسَ فِيهِنَّ أَيِّمُ قَالَ: وَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا سَعْدًا، خَرَجَ إِلَى النَّاسِ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ، وَأَرَاهُمْ مَا بِهِ مِنَ الْقَرْحِ فِي فَخِذَيْهِ وَأَلْيَتَيْهِ، فَعَذَرَهُ النَّاسُ، وَلَمْ يَكُنْ سَعْدٌ لَعَمْرِي يَجْبُنُ، فَقَالَ سَعْدٌ يُجِيبُ جَرِيرًا فِيمَا قَالَ: وَمَا أَرْجُو بَجِيلَةَ غَيْرَ أَنِّي ... أُؤَمَّلُ أَجْرَهُمْ يَوْمَ الْحِسَابِ فَقَدْ لَقِيَتْ خُيُولُهُمْ خُيُولا ... وَقَدْ وَقَعَ الْفَوَارِسُ فِي ضِرَابِ وَقَدْ دَلَفَتْ بِعَرْصَتِهِمْ فُيُولٌ ... كَأَنَّ زُهَاءَهَا إِبِلٌ جِرَابِ

ثُمَّ إِنَّ الْفُرْسَ هَرَبَتْ مِنْ دَيْرِ قُرَّةَ إِلَى الْمَدَائِنِ يُرِيدُونَ نَهَاوَنْدَ، وَاحْتَمَلُوا مَعَهُمُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَالدِّيبَاجَ وَالْفِرْنَدَ وَالْحَرِيرَ وَالسِّلاحَ وَثِيَابَ كِسْرَى وَبَنَاتَهُ، وَخَلَّوْا مَا سِوَى ذَلِكَ، وَأَتْبَعَهُمْ سَعْدٌ الطَّلَبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ عُرْفُطَةَ حَلِيفَ بَنِي أُمَيَّةَ، وَوَجَّهَ مَعَهُ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ فِي أَصْحَابِهِ، وَجَعَلَ عَلَى مُقَدِّمَةِ النَّاسِ هَاشِمَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِمْ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِمْ زَهْرَةَ بْنَ حَوِيَّةَ التَّمِيمِيَّ، وَتَخَلَّفَ سَعْدٌ لِمَا بِهِ مِنَ الْوَجَعِ، فَلَمَّا أَفَاقَ سَعْدٌ مِنْ وَجَعِهِ ذَلِكَ اتَّبَعَ النَّاسَ بِمَنْ بَقِيَ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى أَدْرَكَهُمْ دُونَ دِجْلَةَ عَلَى بَهُرَسِيرَ، فَلَمَّا وَضَعُوا عَلَى دِجْلَةَ الْعَسْكَرَ وَالأَثْقَالَ طَلَبُوا الْمَخَاضَةَ، فَلَمْ يَهْتَدُوا لَهَا، حَتَّى أَتَى سَعْدًا عِلْجٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدَائِنِ، فَقَالَ: أَدُلُّكُمْ عَلَى طَرِيقٍ تُدْرِكُونَهُمْ قَبْلَ أَنْ يُمْعِنُوا فِي السَّيْرِ! فَخَرَجَ بِهِمْ عَلَى مَخَاضَةٍ بِقُطْرَبُّلَ، فكان أول من خاض المخاضة هاشم ابن عُتْبَةَ فِي رَجْلِهِ، فَلَمَّا جَازَ اتَّبَعَتْهُ خَيْلُهُ، ثُمَّ أَجَازَ خَالِدُ بْنُ عُرْفُطَةَ بِخَيْلِهِ، ثُمَّ أَجَازَ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ بِخَيْلِهِ، ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ فَخَاضُوا حَتَّى أَجَازُوا، فَزَعَمُوا أَنَّهُ لَمْ يُهْتَدَ لِتِلْكَ الْمَخَاضَةِ بَعْدُ ثُمَّ سَارُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى مُظْلِمِ سَابَاطَ، فَأَشْفَقَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ بِهِ كَمِينٌ لِلْعَدُوِّ، فَتَرَدَّدَ النَّاسُ، وَجَبُنُوا عَنْهُ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَهُ بِجَيْشِهِ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ، فَلَمَّا أَجَازَ أَلاحَ لِلنَّاسِ بِسَيْفِهِ، فَعَرَفَ النَّاسُ أَنْ لَيْسَ بِهِ شَيْءٌ يَخَافُونَهُ، فَأَجَازَ بِهِمْ خَالِدُ بْنُ عُرْفُطَةَ، ثُمَّ لَحِقَ سَعْدٌ بِالنَّاسِ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى جَلُولاءَ وَبِهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُرْسِ، فَكَانَتْ وَقْعَةُ جَلُولاءَ بِهَا، فَهَزَمَ اللَّهُ الْفُرْسَ، وَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ بِهَا مِنَ الْفَيْءِ أَفْضَلَ مِمَّا أَصَابُوا بِالْقَادِسِيَّةِ، وَأُصِيبَتِ ابْنَةٌ لِكِسْرَى، يُقَالُ لَهَا مِنْجَانَةَ، وَيُقَالُ: بَلِ ابْنَةُ ابْنِهِ وَقَالَ شَاعِرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: يَا رُبَّ مُهْرٍ حَسَنٍ مُطَهَّمْ ... يَحْمِلُ أَثْقَالَ الْغُلامِ الْمُسْلِمْ يَنْجُو إِلَى الرَّحْمَنِ مِنْ جَهَنَّمْ ... يَوْمَ جَلُولاءَ ويوم رستم ويوم زحف الكوفة المقدم ... ويوم لاقَى ضِيقَةً مُهْزَمْ وَخَرَّ دِينُ الْكَافِرِينَ لِلْفَمْ

ذكر احوال اهل السواد

ثُمَّ كَتَبَ سَعْدٌ إِلَى عُمَرَ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: أَنْ قِفْ وَلا تَطْلُبُوا غَيْرَ ذَلِكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ سعد أيضا: انما هي سربه أَدْرَكْنَاهَا وَالأَرْضُ بَيْنَ أَيْدِينَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: أَنْ قِفْ مَكَانَكَ وَلا تَتْبَعْهُمْ، وَاتَّخِذْ لِلْمُسْلِمِينَ دَارَ هِجْرَةٍ وَمَنْزِلَ جِهَادٍ، وَلا تَجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بَحْرًا فَنَزَلَ سَعْدٌ بِالنَّاسِ الأَنْبَارَ، فَاجْتَوَوْهَا وَأَصَابَتْهُمْ بِهَا الْحُمَّى، فَلَمْ تُوَافِقْهُمْ، فَكَتَبَ سَعْدٌ إِلَى عُمَرَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَى سَعْدٍ أَنَّهُ لا تَصْلُحُ الْعَرَبُ إِلا حَيْثُ يَصْلُحُ الْبَعِيرُ وَالشَّاةُ فِي مَنَابِتِ الْعُشْبِ، فَانْظُرْ فَلاةً فِي جَنْبِ الْبَحْرِ فَارْتَدْ لِلْمُسْلِمِينَ بِهَا مَنْزِلا. قَالَ: فَسَارَ سَعْدٌ حَتَّى نَزَلَ كُوَيْفَةَ عَمْرِو بْنِ سَعْدٍ، فَلَمْ تُوَافِقِ النَّاسَ مَعَ الذُّبَابِ وَالْحُمَّى فَبَعَثَ سَعْدٌ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ الْحَارِثُ بْنُ سَلَمَةَ- وَيُقَالُ: بَلْ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ، أَخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ- فَارْتَادَ لَهُمْ مَوْضِعَ الْكُوفَةِ الْيَوْمَ، فَنَزَلَهَا سَعْدٌ بِالنَّاسِ، وَخَطَّ مَسْجِدَهَا، وَخَطَّ فِيهَا الْخُطَطَ لِلنَّاسِ. وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ خَرَجَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إِلَى الشَّامِ فَنَزَلَ الْجَابِيَةَ، وَفُتِحَتْ عَلَيْهِ إِيلِياءُ، مَدِينَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَبَعَثَ فِيهَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ حَنْظَلَةَ بْنَ الطُّفَيْلِ السُّلَمِيَّ إِلَى حِمْصَ، فَفَتَحَهَا اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ، وَاسْتَعْمَلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَلَى الْمَدَائِنِ رَجُلا مِنْ كِنْدَةَ، يُقَالُ لَهُ شُرَحْبِيلُ بْنُ السِّمْطِ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ الشَّاعِرُ: الا ليتنى والمرء سعد بن مالك ... وربراء وَابْنُ السِّمْطِ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ ذكر أحوال أهل السواد كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنَّا يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ مَعَ الْفَتْحِ:

نُقَاتِلُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ ... وَسَعْدٌ بِبَابِ الْقَادِسِيَّةِ مُعْصَمُ فَأُبْنَا وَقَدْ آمَتْ نِسَاءٌ كَثِيرَةٌ ... وَنِسْوَةُ سَعْدٍ لَيْسَ فِيهِنَّ أَيِّمُ فَبَعَثَ بِهَا فِي النَّاسِ، فَبَلَغَتْ سَعْدًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ كَاذِبًا، أَوْ قَالَ الَّذِي قَالَ رِيَاءً وَسُمْعَةً وَكَذِبًا، فَاقْطَعْ عَنِّي لِسَانَهُ وَيَدَهُ. وَقَالَ قبيصة: فو الله إِنَّهُ لَوَاقِفٌ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ يَوْمَئِذٍ، إِذْ أَقْبَلَتْ نُشَّابَةٌ لِدَعْوَةِ سَعْدٍ، حَتَّى وَقَعَتْ فِي لِسَانِهِ فَيَبُسَ شِقُّهُ، فَمَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ الْحَارِثِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ جَرِيرٌ يَوْمَئِذٍ: أَنَا جَرِيرٌ كُنْيَتِي أَبُو عَمْرِو ... قَدْ نَصَرَ اللَّهُ وَسَعْدٌ فِي الْقَصْرِ فَأَشْرَفَ عَلَيْهِ سَعْدٌ، فَقَالَ: وَمَا أَرْجُو بَجِيلَةَ غَيْرَ أَنِّي ... أُؤَمَّلُ أَجْرَهَا يَوْمَ الْحِسَابِ وَقَدْ لَقِيَتْ خُيُولُهُمْ خُيُولا ... وَقَدْ وَقَعَ الْفَوَارِسُ فِي الضِّرَابِ فَلَوْلا جَمْعُ قَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو ... وَحَمَّالٍ لَلَجُّوا فِي الْكِذَابِ هُمُ مَنَعُوا جُمُوعَكُمُ بِطَعْنٍ ... وَضَرْبٍ مِثْلَ تَشْقِيقِ الإِهَابِ وَلَوْلا ذَاكَ أَلْفَيْتُمْ رِعَاعًا ... تُشَلُّ جُمُوعُكُمْ مِثْلَ الذُّبَابِ كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن القاسم بْن سليم بْن عبد الرحمن السعدي، عن عثمان بْن رجاء السعدي، قال: كان سعد بْن مالك أجرأ الناس وأشجعهم، إنه نزل قصرا غير حصين بين الصفين، فأشرف منه على الناس، ولو أعراه الصف فواق ناقه أخذ برمته، فو الله ما أكرثه هول تلك الأيام ولا أقلقه

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سليمان بْن بشير، عن أم كثير، امرأة همام بْن الحارث النخعي، قالت: شهدنا القادسية مع سعد مع أزواجنا، فلما أتانا أن قد فرغ من الناس شددنا علينا ثيابنا، وأخذنا الهراوى، ثم أتينا القتلى، فما كان من المسلمين سقيناه ورفعناه، وما كان من المشركين أجهزنا عليه، وتبعنا الصبيان نوليهم ذلك، ونصرفهم به. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن عطية- وهو ابن الحارث- عمن أدرك ذلك، قال: لم يكن من قبائل العرب أحد أكثر امرأة يوم القادسية من بجيلة والنخع، وكان في النخع سبعمائة امرأة فارغة، وفي بجيلة ألف، فصاهر هؤلاء الف من احياء العرب، وهؤلاء سبعمائة، وكانت النخع تسمى أصهار المهاجرين، وبجيلة، وإنما جرأهم على الانتقال بأثقالهم توطئة خالد، والمثنى بعد خالد، وأبي عبيد بعد المثنى، وأهل الأيام، فلاقوا بأسا بعد ذلك شديدا. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد والمهلب وطلحة، قالوا: وكان بكير بْن عبد اللَّه الليثي وعتبة بْن فرقد السلمي وسماك بْن خرشة الأنصاري- وليس بأبي دجانة- قد خطبوا امرأة يوم القادسية، وكان مع الناس نساؤهم، وكانت مع النخع سبعمائة امرأة فارغة، وكانوا يسمون أختان المهاجرين حتى كان قريبا، فتزوجهن المهاجرون قبل الفتح وبعد الفتح، حتى استوعبوهن، فصار اليهن سبعمائة رجل من الأفناء، فلما فرغ الناس خطب هؤلاء النفر هذه المرأة- وهي أروى ابنة عامر الهلالية- هلال النخع، وكانت أختها هنيدة تحت القعقاع بْن عمرو التميمي، فقالت لأختها: استشيري زوجك أيهم يراه لنا! ففعلت، وذلك بعد الوقعة وهم بالقادسية، فقال القعقاع: سأصفهم في الشعر فانظري لأختك، وقال: إن كنت حاولت الدراهم فانكحي ... سماكا أخا الأنصار أو ابن فرقد وإن كنت حاولت الطعان فيممي ... بكيرا إذا ما الخيل جالت عن الردي وكلهم في ذروة المجد نازل ... فشأنكم إن البيان عن الغد

وقالوا: وكانت العرب توقع وقعة العرب وأهل فارس في القادسية فيما بين العذيب إلى عدن أبين، وفيما بين الأبلة وأيلة، يرون أن ثبات ملكهم وزواله بها، وكانت في كل بلد مصيخة إليها، تنظر ما يكون من أمرها، حتى إن كان الرجل ليريد الأمر فيقول: لا أنظر فيه حتى أنظر ما يكون من أمر القادسية فلما كانت وقعة القادسية سارت بها الجن، فأتت بها ناسا من الإنس، فسبقت أخبار الإنس إليهم، قالوا: فبدرت امرأة ليلا على جبل بصنعاء، لا يدرى من هي؟ وهي تقول: حييت عنا عكرم ابنة خالد ... وما خير زاد بالقليل المصرد وحيتك عني الشمس عند طلوعها ... وحياك عني كل ناج مفرد وحيتك عني عصبة نخعية ... حسان الوجوه آمنوا بمحمد أقاموا لكسرى يضربون جنوده ... بكل رقيق الشفرتين مهند إذا ثوب الداعي أناخوا بكلكل ... من الموت تسود الغياطل مجرد وسمع أهل اليمامة مجتازا يغني بهذه الأبيات: وجدنا الأكثرين بني تميم ... غداة الروع أصبرهم رجالا هم ساروا بأرعن مكفهر ... إلى لجب فزرتهم رعالا بحور للأكاسر من رجال ... كأسد الغاب تحسبهم جبالا تركن لهم بقادس عز فخر ... وبالخيفين أياما طوالا مقطعة أكفهم وسوق ... بمردى حيث قابلت الرجالا

قال: وسمع بنحو ذلك في عامة بلاد العرب. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَالْمُهَلَّبِ وَطَلْحَةَ، قَالُوا: وَكَتَبَ سَعْدٌ بِالْفَتْحِ وَبِعِدَّةِ مَنْ قُتِلُوا وَبِعِدَّةِ مَنْ أُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَسَمَّى لِعُمَرَ مَنْ يَعْرِفُ مَعَ سَعْدِ بْنِ عُمَيْلَةَ الْفَزَارِيِّ، وَشَارَكَهُمُ النَّضْرُ بْنُ السَّرِيِّ عَنِ ابْنِ الرُّفَيْلِ بْنِ مَيْسُورٍ، وَكَانَ كِتَابُهُ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ نَصَرَنَا عَلَى أَهْلِ فَارِسَ، وَمَنَحَهُمْ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ، بَعْدَ قِتَالٍ طَوِيلٍ وَزِلْزَالٍ شَدِيدٍ، وَقَدْ لَقُوا الْمُسْلِمِينَ بِعِدَّةٍ لَمْ يَرَ الرَّاءُونَ مِثْلَ زُهَائِهَا فَلَمْ يَنْفَعْهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، بَلْ سَلَبَهُمُوهُ وَنَقَلَهُ عَنْهُمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَاتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الأَنْهَارِ وَعَلَى طُفُوفِ الآجَامِ وَفِي الْفِجَاجِ، وَأُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْقَارِئُ، وَفُلانٌ، وَفُلانٌ، وَرِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لا نَعْلَمُهُمْ، اللَّهُ بِهِمْ عَالِمٌ، كَانُوا يَدْوُونَ بِالْقُرْآنِ إِذَا جَنَّ عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ دَوِيَّ النَّحْلِ، وَهُمْ آسَادُ النَّاسِ، لا يَشْبِهُهُمُ الأُسُودُ، وَلَمْ يَفْضُلْ مَنْ مَضَى مِنْهُمْ مَنْ بَقِيَ إِلا بِفَضْلِ الشِّهَادَةِ إِذْ لَمْ تُكْتَبْ لَهُمْ. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُجَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: لَمَّا أَتَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ نُزُولُ رُسْتُمَ الْقَادِسِيَّةَ، كَانَ يَسْتَخْبِرُ الرُّكْبَانَ عَنْ أَهْلِ الْقَادِسِيَّةِ مِنْ حِينَ يُصْبِحُ إِلَى انْتِصَافِ النَّهَارِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ وَمَنْزِلِهِ قَالَ: فَلَمَّا لَقِيَ الْبَشِيرَ سَأَلَهُ مِنْ أَيْنَ؟ فَأَخْبَرَهُ، قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ حَدِّثْنِي، قَالَ: هَزَمَ اللَّهُ الْعَدُوَّ، وَعُمَرُ يَخُبُّ مَعَهُ وَيَسْتَخْبِرُهُ وَالآخَرُ يَسِيرُ عَلَى نَاقَتِهِ وَلا يَعْرِفُهُ، حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ، فَإِذَا النَّاسُ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ بامره المؤمنين، فقال: فَهَلا أَخْبَرْتَنِي رَحِمَكَ اللَّهُ، أَنَّكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ! وَجَعَلَ عُمَرُ يَقُولُ: لا عَلَيْكَ يَا أَخِي! كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ

وَزِيَادٍ، قَالُوا: وَأَقَامَ الْمُسْلِمُونَ فِي انْتِظَارِ بُلُوغِ الْبَشِيرِ وَأَمَرِ عُمَرَ، يَقَوِّمُونَ أَقْبَاضَهُمْ، وَيَحْزُرُونَ جُنْدَهُمْ، وَيَرُمُّونَ أَمُورَهُمْ قَالُوا: وَتَتَابَعَ أَهْلُ الْعِرَاقِ مِنْ أَصْحَابِ الأَيَّامِ الَّذِينَ شَهِدُوا الْيَرْمُوكَ وَدِمَشْقَ، وَرَجِعُوا مِمِدِّينَ لأَهْلِ الْقَادِسِيَّةِ، فَتَوَافَوْا بِالْقَادِسِيَّةِ مِنَ الْغَدِ وَمِنْ بَعْدِ الْغَدِ، وَجَاءَ أَوَّلُهُمْ يَوْمَ أَغْوَاثَ، وَآخِرُهُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَدِ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، وَقَدِمَتْ أَمْدَادٌ فِيهَا مُرَادُ وَهَمْدَانُ، وَمِنْ أَفْنَاءِ النَّاسِ، فَكَتَبُوا فِيهِمْ إِلَى عُمَرَ يَسْأَلُونَهُ عَمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُسَارَ بِهِ فِيهِمْ- وَهَذَا الْكِتَابُ الثَّانِي بَعْدَ الْفَتْحِ- مَعَ نَذِيرِ بْنِ عَمْرٍو وَلَمَّا أَتَى عُمَرَ الْفَتْحُ قَامَ فِي النَّاسِ فَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْفَتْحَ، وَقَالَ: إِنِّي حَرِيصٌ عَلى أَلا أَدَعَ حَاجَةً إِلا سَدَدْتُهَا مَا اتَّسَعَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ، فَإِذَا عَجَزَ ذَلِكَ عَنَّا تَآسَيْنَا فِي عَيْشِنَا حَتَّى نَسْتَوِيَ فِي الْكَفَافِ، وَلَوَدِدْتُ انكم علمتم من نفس مِثْلَ الَّذِي وَقَعَ فِيهَا لَكُمْ، وَلَسْتُ مُعَلِّمَكُمْ إِلا بِالْعَمَلِ، إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَنَا بِمَلِكٍ فَأَسْتَعْبِدَكُمْ، وَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللَّهِ عُرِضَ عَلَيَّ الأَمَانَةُ، فَإِنْ أَبَيْتُهَا وَرَدَدْتُهَا عَلَيْكُمْ وَاتَّبَعْتُكُمْ حَتَّى تَشْبَعُوا فِي بُيُوتِكُمْ، وَتُرْوَوْا سَعِدْتُ، وَإِنْ أَنَا حملتها واستتبعتها إِلَى بَيْتِي شَقِيتُ، فَفَرِحْتُ قَلِيلا، وَحَزِنْتُ طَوِيلا، وَبَقِيتُ لا أُقَالُ وَلا أُرَدُّ فَأُسْتَعْتَبُ قَالُوا: وَكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ مَعَ أَنَسِ بْنِ الْحُلَيْسِ: إِنَّ أَقْوَامًا مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ ادَّعَوْا عُهُودًا، وَلَمْ يَقُمْ عَلَى عَهْدِ أَهْلِ الأَيَّامِ لَنَا، وَلَمْ يَفِ بِهِ أَحَدٌ عَلِمْنَاهُ إِلا أَهْلُ بَانِقْيَا وَبسمَا وَأَهْلُ أُلَّيْسَ الآخِرَةُ وَادَّعَى أَهْلُ السَّوَادِ أَنَّ فَارِسَ أَكْرَهُوهُمْ وَحَشَرُوهُمْ، فَلَمْ يُخَالِفُوا إِلَيْنَا، وَلَمْ يَذْهَبُوا فِي الأَرْضِ. وَكَتَبَ مَعَ أَبِي الْهياجِ الأَسَدِيِّ- يَعْنِي ابْنَ مَالِكٍ- إِنَّ أَهْلَ السَّوَادِ جلوا، فَجَاءَنَا مَنْ أَمْسَكَ بِعَهْدِهِ وَلَمْ يجلبْ عَلَيْنَا، فَتَمَّمْنَا لَهُمْ مَا كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَزَعَمُوا أَنَّ أَهْلَ السَّوَادِ قَدْ لَحِقُوا بِالْمَدَائِنِ، فَأَحْدَثَ إِلَيْنَا فِيمَنْ تَمَّ وَفِيمَنْ جَلا وَفِيمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ

اسْتُكْرِهَ وَحُشِرَ فَهَرَبَ وَلَمْ يُقَاتِلْ، أَوِ اسْتَسْلَمَ، فَإِنَّا بِأَرْضٍ رغيبة، وَالأَرْضُ خَلاءٌ مِنْ أَهْلِهَا، وَعَدَدُنَا قَلِيلٌ، وَقَدْ كَثُرَ أَهْلُ صلحنَا، وَإِنْ أَعْمَرَ لَنَا وَأَوْهَنَ لِعدونا تألفهم فَقَامَ عُمَرُ فِي النَّاسِ فَقَالَ: إِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ بِالْهَوَى وَالْمَعْصِيَةِ يَسْقُطْ حَظُّهُ وَلا يَضُرَّ إِلا نَفْسَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ السُّنَّةَ وَيَنْتَهِ إِلَى الشَّرَائِعِ، وَيَلْزَمِ السَّبِيلَ النَّهجَ ابْتِغَاءَ مَا عِنْدِ اللَّهِ لأَهْلِ الطَّاعَةِ، أَصَابَ أَمْرَهُ، وَظَفَرَ بِحَظِّهِ، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: «وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» ، وَقَدْ ظَفَرَ أَهْلُ الأَيَّامِ وَالْقَوَادِسِ بِمَا يَلِيهِمْ، وَجَلا أَهْلُهُ، وَأَتَاهُمْ مَنْ أَقَامَ عَلَى عَهْدِهِمْ، فَمَا رَأْيُكُمْ فِيمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ اسْتُكْرِهَ وَحُشِرَ، وَفِيمَنْ لَمْ يَدع ذَلِكَ وَلَمْ يَقُمْ وَجِلا، وفيمن أقام ولم يدع شيئا، ولم يجل، وفيمن استسلم فأجمعوا على أن الوفاء لمن أقام وكف لم يزده غلبه إلا خيرا، وأن من ادعى فصدق أو وفي فبمنزلتهم، وإن كذب نبذ إليهم وأعادوا صلحهم، وأن يجعل أمر من جلا إليهم، فإن شاءوا وادعوهم وكانوا لهم ذمة، وإن شاءوا تموا على منعهم من أرضهم ولم يعطوهم إلا القتال، وأن يخيروا من أقام واستسلم: الجزاء، أو الجلاء، وكذلك الفلاح. وكتب جواب كتاب أنس بْن الحليس: أما بعد، فإن اللَّه جل وعلا أنزل في كل شيء رخصة في بعض الحالات إلا في أمرين: العدل في السيرة والذكر، فأما الذكر فلا رخصة فيه في حالة، ولم يرض منه إلا بالكثير، وأما العدل فلا رخصة فيه في قريب ولا بعيد، ولا في شدة ولا رخاء، والعدل- وان رئى لينا- فهو أقوى وأطفأ للجور، وأقمع للباطل من الجور، وان رئى شديدا فهو انكش للكفر، فمن تم على عهده من أهل السواد، ولم يعن عليكم بشيء، فلهم الذمة، وعليهم الجزية، وأما من ادعى أنه استكره ممن لم يخالفهم إليكم أو يذهب في الأرض، فلا تصدقوهم بما ادعوا من ذلك إلا أن تشاءوا، وإن لم تشاءوا فانبذوا إليهم، وابلغوهم مأمنهم

وأجابهم في كتاب أبي الهياج أما من أقام ولم يجل وليس له عهد فلهم ما لأهل العهد بمقامهم لكم وكفهم عنكم إجابة، وكذلك الفلاحون إذا فعلوا ذلك، وكل من ادعى ذلك فصدق فلهم الذمة، وإن كذبوا نبذ إليهم، وأما من أعان وجلا، فذلك أمر جعله اللَّه لكم، فإن شئتم فادعوهم إلى أن يقيموا لكم في أرضهم، ولهم الذمة، وعليهم الجزية، وإن كرهوا ذلك، فاقسموا ما أفاء اللَّه عليكم منهم. فلما قدمت كتب عمر على سعد بْن مالك والمسلمين عرضوا على من يليهم ممن جلا وتنحى عن السواد أن يتراجعوا، ولهم الذمة وعليهم الجزية، فتراجعوا وصاروا ذمة كمن تم ولزم عهده، إلا أن خراجهم أثقل، فأنزلوا من ادعى الاستكراه وهرب منزلتهم وعقدوا لهم، وأنزلوا من أقام منزلة ذي العهد وكذلك الفلاحين، ولم يدخلوا في الصلح ما كان لآل كسرى، ولا ما كان لمن خرج معهم، ولم يجبهم إلى واحدة من اثنتين: الإسلام، أو الجزاء، فصارت فيئا لمن أفاء اللَّه عليه، فهي والصوافي الأولى ملك لمن أفاء اللَّه عليه، وسائر السواد ذمة وأخذوهم بخراج كسرى، وكان خراج كسرى على رءوس الرجال على ما في أيديهم من الحصة والأموال، وكان مما أفاء اللَّه عليهم ما كان لآل كسرى، ومن صوب معهم وعيال من قاتل معهم وماله، وما كان لبيوت النيران والآجام ومستنقع المياه، وما كان للسكك، وما كان لآل كسرى، فلم يتأت قسم ذلك الفيء الذي كان لآل كسرى ومن صوب معهم، لأنه كان متفرقا في كل السواد، فكان يليه لأهل الفيء من وثقوا به، وتراضوا عليه، فهو الذي يتداعاه أهل الفيء لأعظم السواد، وكانت الولاة عند تنازعهم فيها تهاون بقسمه بينهم، فذلك الذي شبه على الجهلة أمر السواد، ولو أن الحلماء جامعوا السفهاء الذين سألوا الولاة قسمه لقسموه بينهم، ولكن الحلماء أبوا، فتابع الولاة الحلماء، وترك قول السفهاء. كذلك صنع علي رحمه اللَّه، وكل من طلب إليه قسم ذلك فإنما تابع

الحلماء، وترك قول السفهاء، وقالوا: لئلا يضرب بعضهم وجوه بعض. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد بن قيس، عن عامر الشعبي، قال: قلت له: السواد ما حاله؟ قال أخذ عنوة، وكذلك كل أرض إلا الحصون، فجلا أهلها، فدعوا إلى الصلح والذمة، فأجابوا وتراجعوا، فصاروا ذمة، وعليهم الجزاء، ولهم المنعة، وذلك هو السنة، كذلك صنع رسول الله ص بدومة، وبقي ما كان لآل كسرى ومن خرج معهم فيئا لمن أفاءه اللَّه عَلَيْهِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن طلحة وسفيان، عن ماهان، قالوا: فتح اللَّه السواد عنوة- وكذلك كل أرض بينها وبين نهر بلخ- إلا حصنا، ودعوا إلى الصلح، فصاروا ذمه، وصارت لهم أرضوهم ولم يدخلوا في ذلك أموال آل كسرى ومن اتبعهم، فصارت فيئا لمن أفاءه اللَّه عليه، ولا يكون شيء من الفتوح فيئا حتى يقسم، وهو قوله: «ما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ» ، مما اقتسمتم. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن بْن أبي الحسن، قال: عامة ما أخذ المسلمون عنوة فدعوهم إلى الرجوع والذمة، وعرضوا عليهم الجزاء فقبلوه ومنعوهم. وعَنْ سَيْفٍ، عن عمرو بْن مُحَمَّد، عن الشعبي، قال: قلت له: إن أناسا يزعمون أن أهل السواد عبيد، فقال: فعلام يؤخذ الجزاء من العبيد؟ أخذ السواد عنوة، وكل أرض علمتها إلا حصنا في جبل أو نحوه. فدعوا إلى الرجوع فرجعوا، وقبل منهم الجزاء، وصاروا ذمة، وإنما يقسم من الغنائم ما تغنم، فأما ما لم يغنم وأجاب أهله إلى الجزاء من قبل أن يتغنم، فلهم جرت السنة بذلك. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن أبي ضمرة، عن عبد اللَّه بْن المستورد، عن مُحَمَّد بْن سيرين، قال: البلدان كلها أخذت عنوة إلا حصون قليلة، عاهدوا قبل أن ينزلوا ثم دعوا- يعني الذين أخذوا عنوة- إلى الرجوع والجزاء، فصاروا ذمة أهل السواد والجبل كله

أمر لم يزل يصنع في أهل الفيء، وإنما عمل عمر والمسلمون في هذا الجزاء والذمة على اجريا ما عمل به رسول الله ص في ذلك، وقد كان بعث خالد بْن الوليد من تبوك إلى دومة الجندل، فأخذها عنوة، وأخذ ملكها أكيدر بْن عبد الملك أسيرا، فدعاه إلى الذمة والجزاء، وقد أخذت بلاده عنوة، وأخذ أسيرا، وكذلك فعل بابني عريض، وقد أخذا فادعيا أنهما أوداؤه، فعقد لهما على الجزاء والذمة، وكذلك كان أمر يحنه ابن رؤبة صاحب أيلة وليس المعمول به من الأشياء كرواية الخاصة، من روى غير ما عمل به الأئمة العدول المسلمون، فقد كذب وطعن عليهم. وعَنْ سَيْفٍ، عن حجاج الصواف، عن مسلم مولى حذيفة، قال: تزوج المهاجرون والأنصار في أهل السواد- يعني في أهل الكتابين منهم، ولو كانوا عبيدا لم يستحلوا ذلك، ولم يحل لهم أن ينكحوا إماء أهل الكتاب، لأن اللَّه تعالى يقول: «وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا » الآية، ولم يقل: فتياتهم من أهل الكتابين. وعَنْ سَيْفٍ، عن عَبْد الْمَلِكِ بْن أبي سُلَيْمَان، عن سعيد بْن جبير، قال: بعث عمر بْن الخطاب إلى حذيفة بعد ما ولاه المدائن وكثر المسلمات: إنه بلغني أنك تزوجت امرأة من أهل المدائن من أهل الكتاب فطلقها فكتب إليه: لا أفعل حتى تخبرني: أحلال أم حرام، وما أردت بذلك! فكتب إليه: لا بل حلال، ولكن في نساء الأعاجم خلابة، فإن أقبلتم عليهن غلبنكم على نسائكم فقال: الآن، فطلقها. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سَوَّارٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: شَهِدْتُ الْقَادِسِيَّةَ مَعَ سَعْدٍ، فَتَزَوَّجْنَا نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَنَحْنُ لا نَجِدُ كَثِيرَ مُسْلِمَاتٍ، فَلَمَّا قَفَلْنَا، فَمِنَّا مَنْ طَلَّقَ، وَمِنَّا مَنْ أَمْسَكَ. وعَنْ سَيْفٍ، عن عَبْد الْمَلِكِ بْن أبي سُلَيْمَان، عن سعيد بْن جبير، قال:

أخذ السواد عنوة، فدعوا إلى الرجوع والجزاء، فأجابوا إليه، فصاروا ذمة، إلا ما كان لآل كسرى، وأتباعهم، فصار فيئا لأهله، وهو الذي يتحجى أهل الكوفة إلى أن جهل ذلك، فحسبوه السواد كله، وأما سوادهم، فذلك. وعَنْ سَيْفٍ، عن المستنير بْن يزيد، عن إبراهيم بْن يزيد النخعي، قال: أخذ السواد عنوة، فدعوا إلى الرجوع، فمن أجاب فعليه الجزية وله الذمة، ومن أبى صار ماله فيئا، فلا يحل بيع شيء من ذلك الفيء فيما بين الجبل إلى العذيب من أرض السواد ولا في الجبل. وعَنْ سَيْفٍ، عن مُحَمَّد بْن قيس، عن الشعبي، بمثله: لا يحل بيع شيء من ذلك الفيء فيما بين الجبل والعذيب. وعَنْ سَيْفٍ، عن عمرو بْن مُحَمَّد، عن عامر، قال: أقطع الزبير وخباب وابن مسعود وابن ياسر وابن هبار أزمان عثمان، فإن يكن عثمان أخطأ فالذين قبلوا منه الْخَطَأَ أَخْطَأُ، وهم الذين أخذنا عنهم ديننا وأقطع عمر طلحة وجرير بْن عبد اللَّه والربيل بْن عمرو، وأقطع أبا مفزر دار الفيل في عدد ممن أخذنا عنهم، وإنما القطائع على وجه النفل من خمس ما أفاء اللَّه. وكتب عمر إلى عثمان بْن حنيف مع جرير: أما بعد، فاقطع جرير ابن عبد اللَّه قدر ما يقوته لا وكس ولا شطط فكتب عثمان إلى عمر: إن جريرا قدم علي بكتاب منك تقطعه ما يقوته، فكرهت أن أمضي ذلك حتى أراجعك فيه فكتب إليه عمر: أن قد صدق جرير، فأنفذ ذلك، وقد أحسنت في مؤامرتي وأقطع أبا موسى وأقطع علي رحمه اللَّه كردوس بْن هانئ الكردوسية، وأقطع سويد بْن غفلة الجعفي. وعَنْ سَيْفٍ، عن ثابت بْن هريم، عن سويد بْن غفلة، قال: استقطعت عليا رحمه اللَّه، فقال: اكتب: هذا ما أقطع علي سويدا أرضا لداذويه، ما بين كذا إلى كذا وما شاء اللَّه. وعَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْمُسْتَنِيرِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: إِذَا

ذكر بناء البصره

عَاهَدْتُمْ قَوْمًا فَأَبْرِءُوا إِلَيْهِمْ مِنْ مَعَرَّةِ الْجُيُوشِ فَكَانُوا يَكْتُبُونَ فِي الصُّلْحِ لِمَنْ عَاهَدُوا: وَنَبْرَأُ إِلَيْكُمْ مِنْ مَعَرَّةِ الْجُيُوشِ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَتْ وَقْعَةُ الْقَادِسِيَّةِ وَافْتِتَاحُهَا سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ، وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ يَقُولُ: كَانَتْ وَقْعَةُ الْقَادِسِيَّةِ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ. قَالَ: وَالثَّبْتُ عِنْدَنَا أَنَّهَا كَانَتْ فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ. وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فَإِنَّهُ قَالَ: كَانَتْ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَقَدْ مَضَى ذِكْرِي الرِّوَايَةَ عَنْهُ بِذَلِكَ ذكر بناء البصرة قال أبو جعفر: وفي سنة أربع عشرة أمر عمر بْن الخطاب رحمه اللَّه- فيما زعم الواقدي- الناس بالقيام في المساجد في شهر رمضان بالمدينة، وكتب إلى الأمصار يأمر المسلمين بذلك. وفي هذه السنة- أعني سنة أربع عشرة- وجه عمر بن الخطاب عتبة ابن غزوان إلى البصرة، وأمره بنزولها بمن معه، وقطع مادة أهل فارس عن الذين بالمدائن ونواحيها منهم في قول المدائني وروايته. وزعم سيف أن البصرة مصرت في ربيع سنة ست عشرة، وأن عتبة بْن غزوان إنما خرج إلى البصرة من المدائن بعد فراغ سعد من جلولاء وتكريت والحصنين، وجهه إليها سعد بأمر عمر. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْهُ فَحَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: قُتِلَ مِهْرَانُ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فِي صَفَر، فَقَالَ عُمَرُ لِعُتْبَةَ- يَعْنِي ابْنَ غَزْوَانَ-: قَدْ فَتَحَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ عَلَى إِخْوَانِكُمُ الْحِيرَةَ وَمَا حَوْلَهَا، وَقُتِلَ عَظِيمٌ مِنْ عُظَمَائِهَا

وَلَسْتُ آمَنُ أَنْ يَمُدَّهُمْ إِخْوَانُهُمْ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُوَجِّهَكَ إِلَى أَرْضِ الْهِنْدِ، لِتَمْنَعَ أَهْلَ تِلْكَ الْجِيزَةِ مِنْ إِمْدَادِ إِخْوَانِهِمْ عَلَى إِخْوَانِكُمْ، وَتُقَاتِلَهُمْ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَفْتَحَ عَلَيْكُمْ فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، وَاتَّقِ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتَ، وَاحْكُمْ بِالْعَدْلِ، وَصَلِّ الصَّلاةَ لِوَقْتِهَا، وَأَكْثِرْ ذِكْرَ اللَّهِ فَأَقْبَلَ عُتْبَةُ فِي ثلاثمائة وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلا، وَضَوى إِلَيْهِ قَوْمٌ مِنَ الاعراب واهل البوادى، فقدم البصره في خمسمائة، يَزِيدُونَ قَلِيلا أَوْ يَنْقُصُونَ قَلِيلا، فَنَزَلَهَا فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ- أَوِ الآخِرِ- سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَالْبَصْرَةُ يَوْمَئِذٍ تُدْعَى أَرْضَ الْهِنْدِ فِيهَا حِجَارَةٌ بِيضٌ خَشِنٌ، فَنَزَلَ الْخُرَيْبَةَ، وَلَيْسَ بِهَا إِلا سَبْعُ دَسَاكِرَ، بِالزَّابُوقَةِ وَالْخُرَيْبَةِ وَمَوْضِعِ بَنِي تَمِيمٍ وَالأَزْدِ: ثِنْتَانِ بِالْخُرَيْبَةِ، وَثِنْتَانِ بِالأَزْدِ، وَثِنْتَانِ فِي مَوْضِعِ بَنِي تَمِيمٍ وَوَاحِدَةٌ بِالزَّابُوقَةِ فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ، وَوَصَفَ لَهُ مَنْزِلَهُ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: اجْمَعْ لِلنَّاسِ مَوْضِعًا وَاحِدًا، وَلا تُفَرِّقْهُمْ، فَأَقَامَ عُتْبَةُ أَشْهُرًا لا يَغْزُو وَلا يَلْقَى أَحَدًا. وأما مُحَمَّد بْن بشار، فإنه حَدَّثَنَا، قَالَ: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى الزُّهْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عِيسَى أَبِو نَعَامَةَ الْعَدَوِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ عُمَيْرٍ وَشُوَيْسًا أَبَا الرُّقَادِ، قَالا: بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ، فَقَالَ لَهُ: انْطَلِقْ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ، حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي أَقْصَى أَرْضِ الْعَرَبِ وَأَدْنَى أَرْضِ الْعَجَمِ، فَأَقِيمُوا فَأَقْبَلُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْمِرْبَدِ وَجَدُوا هَذَا الْكذان قَالُوا: مَا هَذِهِ الْبَصْرَةِ؟ فَسَارُوا حَتَّى بَلَغُوا حِيَالَ الْجِسْرِ الصَّغِيرِ، فَإِذَا فِيهِ حُلَفَاءٌ وَقصب نابتة، فَقَالُوا: هَاهُنَا أُمِرْتُمْ، فَنَزَلُوا دُونَ صَاحِبِ الْفُرَاتِ، فاتوه فقالوا: ان هاهنا قَوْمًا مَعَهُمْ رَايَةٌ، وَهُمْ يُرِيدُونَكَ، فَأَقْبَلَ فِي أَرْبَعَةِ آلافِ إِسْوَارٍ، فَقَالَ: مَا هُمْ إِلا مَا أَرَى، اجْعَلُوا فِي أَعْنَاقِهِمُ الْحِبَالَ، وَأْتُونِي بِهِمْ، فَجَعَلَ عُتْبَةُ يَزْجِلُ، وَقَالَ: إِنِّي شَهِدْتُ الحرب مع النبي ص، حَتَّى إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، قَالَ: احْمِلُوا، فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوهُمْ أَجْمَعِينَ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلا صَاحِبُ الْفُرَاتِ، أَخَذُوهُ

أَسِيرًا، فَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ: ابْغُوا لَنَا مَنْزِلا هُوَ أَنْزَهَ مِنْ هَذَا- وَكَانَ يَوْمَ عِكَاكٍ وَوَمَدٍ- فَرَفَعُوا لَهُ مِنْبَرًا، فَقَامَ يَخْطُبُ، فَقَالَ: إِنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَصَرَّمَتْ وَوَلَّتْ حَذَّاءَ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلا صَبَابَةٌ كَصَبَابَةِ الإِنَاءِ أَلا وَإِنَّكُمْ مُنْتَقِلُونَ مِنْهَا إِلَى دَارِ الْقَرَارِ، فَانْتَقِلُوا بِخَيْرِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ وَقَدْ ذُكِرَ لِي: لَوْ أَنَّ صَخْرَةً أُلْقِيَتْ مِنْ شَفِيرِ جَهَنَّمَ هَوَتْ سَبْعِينَ خَرِيفًا، وَلَتَمْلأَنَّهُ، أَوَعَجِبْتُمْ! وَلَقَدْ ذُكِرَ لِي أَنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ عَامًا، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهِ يَوْمٌ وهو كظيظ بزحام، وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي وَأَنَا سَابِعُ سَبْعَةٍ مَعَ النَّبِيِّ ص، مَا لَنَا طَعَامٌ إِلا وَرَقُ السمرِ، حَتَّى تَقَرَّحَتْ أَشْدَاقُنَا، وَالْتَقَطْتُ بُرْدَةً فَشَقَقْتُهَا بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدٍ، فَمَا مِنَّا مِنْ أُولَئِكَ السَّبْعَةِ مِنْ أَحَدٍ إِلا وَهُوَ أَمِيرُ مِصْرٍ مِنَ الأَمْصَارِ، وَسَيُجَرِّبُونَ النَّاسَ بَعْدَنَا. وعَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ وَعَمْرٍو، قَالُوا: لَمَّا تَوَجَّهَ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ الْمَازِنِيُّ مِنْ بَنِي مَازِنَ بْنِ مَنْصُورٍ مِنَ الْمَدَائِنِ إِلَى فرج الْهِنْدِ، نَزَلَ عَلَى الشَّاطِئِ بِحِيَالِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَأَقَامَ قَلِيلا ثُمَّ أَرَزَ، ثُمَّ شَكَوْا ذَلِكَ حَتَّى أَمَرَهُ عُمَرُ بِأَنْ يُنْزِلَ الْحَجَرَ بَعْدَ ثَلاثَةِ أَوْطَانٍ إِذَا اجْتَوَوُا الطِّينَ، فَنَزَلُوا فِي الرَّابِعَةِ الْبَصْرَةَ- وَالْبَصْرَةُ كُلُّ أَرْضٍ حِجَارَتُهَا جِصٌّ- وَأَمَرَ لَهُمْ بِنَهْرٍ يُجْرَى مِنْ دِجْلَةَ، فَسَاقُوا إِلَيْهَا نَهْرًا لِلشَّفَةِ، وَكَانَ إِيطَانُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ الْبَصْرَةَ الْيَوْمَ وَإِيطَانُ أَهْلِ الْكُوفَةِ الْكُوفَةَ الْيَوْمَ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ فَأَمَّا أَهْلُ الْكُوفَةِ فَكَانَ مَقَامُهُمْ قَبْلَ نُزُولِهَا الْمَدَائِنَ إِلَى أَنْ وَطَنُوهَا، وَأَمَّا أَهْلُ الْبَصْرَةِ فَكَانَ مَقَامُهُمْ عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ ثُمَّ أَرَزُوا مَرَّاتٍ حَتَّى اسْتَقَرُّوا وَبَدَءُوا، فَخَنَسُوا فَرْسَخًا وَجَرُّوا مَعَهُمْ نَهْرًا، ثُمَّ فَرْسَخًا ثُمَّ جَرُّوهُ ثُمَّ فَرْسَخًا، ثُمَّ جَرُّوهُ ثُمَّ أَتَوُا

الْحَجَرَ، ثُمَّ جَرُّوهُ، وَاخْتَطَّتْ عَلَى نَحْوٍ مِنْ خِطَطِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ عَلَى أَنْزَالِ الْبَصْرَةِ أَبُو الْجَرْبَاءِ عَاصِمُ بْنُ الدُّلَفِ، أَحَدُ بَنِي غَيْلانَ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ. وَقَدْ كَانَ قُطْبَةُ بْنُ قَتَادَةَ- فِيمَا حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمَدَائِنِيُّ عَنِ النَّضْرِ بْنِ إِسْحَاقَ السُّلَمِيِّ، عَنْ قُطْبَةَ بْنِ قَتَادَةَ السَّدُوسِيِّ- يُغِيرُ بِنَاحِيَةِ الْخُرَيْبَةِ مِنَ الْبَصْرَةِ، كَمَا كَانَ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِيُّ يُغِيرُ بِنَاحِيَةِ الْحِيرَةِ. فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ يُعْلِمُهُ مَكَانَهُ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَهُ عَدَدٌ يَسِيرٌ ظَفَرَ بِمَنْ قَبْلِهِ مِنَ الْعُجْمِ، فَنَفَاهُمْ مِنْ بِلادِهِمْ وَكَانَتِ الأَعَاجِمُ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ قَدْ هَابُوهُ بَعْدَ وَقْعَةِ خَالِدٍ بِنَهْرِ الْمَرْأَةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِنَّهُ أَتَانِي كِتَابُكَ أَنَّكَ تُغِيرُ عَلَى مَنْ قِبَلَكَ مِنَ الأَعَاجِمِ، وَقَدْ أَصَبْتَ وَوُفِّقْتَ، أَقِمْ مَكَانَكَ، وَاحْذَرْ عَلَى مَنْ مَعَكَ مِنْ أَصْحَابِكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي فَوَجَّهَ عُمَرُ شُرَيْحَ بْنَ عَامِرٍ، أَحَدَ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَقَالَ لَهُ: كُنْ رِدْءًا لِلْمُسْلِمِينَ بِهَذِهِ الْجِيزَةِ، فَأَقْبَلَ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَتَرَكَ بِهَا قُطْبَةَ، وَمَضَى إِلَى الأَهْوَازِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى دَارِسَ، وَفِيهَا مَسْلَحَةٌ لِلأَعَاجِمِ، فَقَتَلُوهُ، وَبَعَثَ عُمَرُ عُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ. حَدَّثَنَا عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، عَنْ عِيسَى بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حُذَيْفَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: إِنَّ عُمَرَ قَالَ لِعُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ إِذْ وَجَّهَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ: يَا عُتْبَةُ، إِنِّي قَدِ اسْتَعْمَلْتُكَ عَلَى أَرْضِ الْهِنْدِ، وَهِيَ حَوْمَةٌ مِنْ حَوْمَةِ الْعَدُوِّ، وَأَرْجُو أَنْ يُكْفِيَكَ اللَّهُ مَا حَوْلَهَا، وَأَنْ يُعِينَكَ عَلَيْهَا وَقَدْ كَتَبْتُ إِلَى الْعَلاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ أَنْ يَمُدَّكَ بِعَرْفَجَةَ بْنِ هَرْثَمَةَ، وَهُوَ ذُو مُجَاهَدَةِ الْعَدُوِّ وَمُكَايَدَتِهِ، فَإِذَا قَدِمَ عَلَيْكَ فَاسْتَشِرْهُ وَقَرِّبْهُ، وَادْعُ إِلَى اللَّهِ، فَمَنْ أَجَابَكَ فَاقْبَلْ مِنْهُ، وَمَنْ أَبَى فَالْجِزْيَةَ عَنْ صَغَارٍ وَذِلَّةٍ، وَإِلا فَالسَّيْفَ فِي غَيْرِ هَوَادَةٍ وَاتَّقِ اللَّهَ فِيمَا وُلِّيتَ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُنَازِعَكَ نَفْسُكَ إِلَى كِبْرٍ يُفْسِدُ عَلَيْكَ اخوتك، وقد صحبت رسول الله ص فَعُزِّزْتَ بِهِ بَعْدَ الذِّلَّةِ، وَقُوِّيتَ بِهِ بَعْدَ الضَّعْفِ، حَتَّى صِرْتَ أَمِيرًا مُسَلَّطًا وَمَلِكًا مُطَاعًا، تَقُولُ فَيُسْمَعُ مِنْكَ، وَتَأْمُرُ فَيُطَاعُ أَمْرُكَ، فَيَا لَهَا نِعْمَةٌ، إِنْ لَمْ تَرْفَعْكَ فَوْقَ قَدْرِكَ وَتُبْطِرْكَ عَلَى مَنْ دُونَكَ! احْتَفِظْ مِنَ النِّعْمَةِ احْتِفَاظَكَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَلَهِيَ أَخْوَفُهُمَا عِنْدِي عَلَيْكَ

أَنْ تَسْتَدْرِجْكَ وَتَخْدَعَكَ، فَتَسْقُطَ سَقْطَةً تَصِيرُ بِهَا إِلَى جَهَنَّمَ، أُعِيذُكَ بِاللَّهِ وَنَفْسِي مِنْ ذَلِكَ إِنَّ النَّاسَ أَسْرَعُوا إِلَى اللَّهِ حِينَ رُفِعَتْ لَهُمُ الدُّنْيَا فَأَرَادُوهَا، فَأَرِدِ اللَّهَ وَلا تُرِدِ الدُّنْيَا، وَاتَّقِ مَصَارِعَ الظَّالِمِينَ. حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْهَمْدَانِيُّ وَأَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ مُجَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: قَدِمَ عُتْبَةُ بْنُ غزوان البصره في ثلاثمائة، فَلَمَّا رَأَى مَنْبَتَ الْقَصَبِ، وَسَمِعَ نَقِيقَ الضَّفَادِعِ قَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَرَنِي أَنْ أَنْزِلَ أَقْصَى الْبَرِّ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ، وَأَدْنَى أَرْضِ الرِّيفِ مِنْ أَرْضِ الْعَجَمِ، فَهَذَا حَيْثُ وَاجِبٌ عَلَيْنَا فِيهِ طَاعَةُ إِمَامِنَا فَنَزَلَ الْخُرَيْبَةَ وَبِالأُبُلَّةِ خمسمائة مِنَ الأَسَاوِرَةِ يَحْمُونَهَا وَكَانَتْ مِرْفَأَ السُّفُنِ مِنَ الصِّينِ وَمَا دُونَهَا، فَسَارَ عُتْبَةُ فَنَزَلَ دُونَ الإِجَانَةِ، فَأَقَامَ نَحْوًا مِنْ شَهْرٍ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُ الأُبُلَّةِ فَنَاهَضَهُمْ عُتْبَةُ، وَجَعَلَ قُطْبَةُ بْنُ قَتَادَةَ السَّدُوسِيُّ وَقَسَامَةُ بْنُ زُهَيْرٍ الْمَازِنِيُّ فِي عَشَرَةِ فَوَارِسَ، وَقَالَ لَهُمَا: كُونَا فِي ظَهْرِنَا، فَتَرُدَّا الْمُنْهَزِمَ، وَتَمْنَعَا مَنْ أَرَادَنَا مِنْ وَرَائِنَا ثُمَّ الْتَقَوْا فَمَا اقْتَتَلُوا مِقْدَارَ جَزْرِ جَزُورٍ وَقَسْمِهَا، حَتَّى مَنَحَهُمُ اللَّهُ أَكْتَافَهُمْ، وَوَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ، حَتَّى دَخَلُوا الْمَدِينَةَ، وَرَجَعَ عُتْبَةُ إِلَى عَسْكَرِهِ، فَأَقَامُوا أَيَّامًا، وَأَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَخَرَجُوا عَنِ الْمَدِينَةِ، وَحَمَلُوا مَا خَفَّ لَهُمْ، وَعَبَرُوا إِلَى الْفُرَاتِ، وَخَلُّوا الْمَدِينَةِ، فَدَخَلَهَا الْمُسْلِمُونَ فَأَصَابُوا مَتَاعًا وَسِلاحًا وَسَبْيًا وَعينًا، فَاقْتَسَمُوا العين، فأصاب كل رجل منهم درهمان، وَوَلَّى عُتْبَةُ نَافِعَ بْنَ الْحَارِثِ أَقْبَاضَ الأُبُلَّةِ، فَأَخْرَجَ خُمُسَهُ، ثُمَّ قَسَّمَ الْبَاقِي بَيْنَ مَنْ أَفَاءَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ مَعَ نَافِعِ بْنِ الْحَارِثِ. وَعَنْ بَشِيرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَتَلَ نَافِعُ بْنُ الْحَارِثِ يَوْمَ الأُبُلَّةِ تسعه، وابو بكر سِتَّةً. وَعَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، قَالَ: أصاب المسلمون بالابله من الدراهم ستمائه دِرْهَمٍ، فَأَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ دِرْهَمَيْنِ، فَفَرَضَ عُمَرُ لأَصْحَابِ الدِّرْهَمَيْنِ مِمَّنْ أَخَذَهُمَا مِنْ فَتْحِ الأُبُلَّةِ في الفين من العطاء، وكانوا ثلاثمائة رَجُلٍ، وَكَانَ فَتْحُ الأُبُلَّةِ فِي رَجَبٍ، أَوْ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ

وَعَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: شَهِدَ فَتْحَ الأُبُلَّةُ مِائَتَانِ وَسَبْعُونَ، فِيهِمْ أَبُو بَكْرَةَ، وَنَافِعُ بْنُ الْحَارِثِ، وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَمُجَاشِعُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو مَرْيَمَ الْبَلَوِيُّ، وَرَبِيعَةُ بْنُ كِلْدَةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيُّ، وَالْحَجَّاجُ. وَعَنْ عَبَايَةَ بْنِ عَبْدِ عَمْرٍو، قَالَ: شَهِدْتُ فَتْحَ الأُبُلَّةِ مَعَ عُتْبَةَ، فَبَعَثَ نَافِعُ بْنُ الْحَارِثِ إِلَى عُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالْفَتْحِ، وَجَمَعَ لَنَا اهل دست ملسان، فَقَالَ عُتْبَةُ: أَرَى أَنْ نَسِيرَ إِلَيْهِمْ، فَسِرْنَا فلقينا مرزبان دست ميسان، فَقَاتَلْنَاهُ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ وَأُخِذَ أَسِيرًا، فَأُخِذَ قِبَاؤُهُ ومنطقته، فبعث به عتبة مع انس ابن حُجَيَّةَ الْيَشْكُرِيِّ. وَعَنْ أَبِي الْمَلِيحِ الْهُذَلِيِّ، قَالَ: بَعَثَ عُتْبَةُ أَنَسَ بْنَ حُجَيَّةَ إِلَى عُمَرَ بمنطقه مرزبان دست ميسان، فقال له: كَيْفَ الْمُسْلِمُونَ؟ قَالَ: انْثَالَتْ عَلَيْهِمُ الدُّنْيَا، فَهُمْ يُهِيلُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ فَرَغِبَ النَّاسُ فِي الْبَصْرَةِ، فَأَتَوْهَا. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: لَمَّا فَرَغَ عُتْبَةُ مِنَ الأُبُلَّةِ، جَمَعَ لَهُ مَرْزُبَانُ دست ميسان، فَسَارَ إِلَيْهِ عُتْبَةُ مِنَ الأُبُلَّةِ، فَقَتَلَهُ، ثُمَّ سَرَّحَ مُجَاشِعَ بْنَ مَسْعُودٍ إِلَى الْفُرَاتِ وَبِهَا مَدِينَةٌ وَوَفَدَ عُتْبَةُ إِلَى عُمَرَ، وَأَمَرَ الْمُغِيرَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ حَتَّى يَقْدَمَ مُجَاشِعُ مِنَ الْفُرَاتِ، فَإِذَا قَدِمَ فَهُوَ الأَمِيرُ فَظَفَرَ مُجَاشِعٌ بِأَهْلِ الْفُرَاتِ، وَرَجَعَ إِلَى الْبَصْرَةِ وَجَمَعَ الْفيلكَانُ، عَظِيمٌ مِنْ عُظَمَاءِ أَبَزْقُبَاذَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَلَقِيَهُ بِالْمَرْغَابِ، فَظَفَرَ بِهِ، فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بِالْفَتْحِ، فَقَالَ عُمَرُ لِعُتْبَةَ: مَنِ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى الْبَصْرَةِ؟ قَالَ: مُجَاشِعُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: تَسْتَعْمِلُ رَجُلا مِنْ أَهْلِ الْوَبَرِ عَلَى أَهْلِ الْمَدَرِ؟ تَدْرِي مَا حَدَثَ! قَالَ: لا، فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْمُغِيرَةِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى عَمَلِهِ، فَمَاتَ عُتْبَةُ في

الطَّرِيقِ، وَاسْتَعْمَلَ عُمَرُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَوْشَنٍ، قَالَ: شَخَصَ عُتْبَةُ بعد ما قتل مرزبان دست ميسان، وَوَجَّهَ مُجَاشِعًا إِلَى الْفُرَاتِ، وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى عَمَلِهِ، وامر المغيره ابن شُعْبَةَ بِالصَّلاةِ حَتَّى يَرْجِعَ مُجَاشِعُ مِنَ الْفُرَاتِ، وَجَمَعَ أَهْلُ مِيسَانَ، فَلَقِيَهُمُ الْمُغِيرَةُ، وَظَهَرَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ قُدُومِ مُجَاشِعٍ مِنَ الْفُرَاتِ، وَبَعَثَ بِالْفَتْحِ إِلَى عُمَرَ. الطبري، بإسناده عن قتادة، قال: جمع أهل ميسان للمسلمين، فسار إليهم المغيرة، وخلف المغيرة الأثقال، فلقي العدو دون دجلة، فقالت أردة بنت الحارث بْن كلدة: لو لحقنا بالمسلمين فكنا معهم! فاعتقدت لواء من خمارها، واتخذ النساء من خمرهن رايات، وخرجن يردن المسلمين، فانتهين إليهم، والمشركون يقاتلونهم، فلما رأى المشركون الرايات مقبلة، ظنوا أن مددا أتى المسلمين فانكشفوا، وأتبعهم المسلمون فقتلوا منهم عدة وعن حارثة بْن مضرب، قال: فتحت الأبلة عنوة، فقسم بينهم عتبة- ككة- يعني خبزا أبيض وعن مُحَمَّد بْن سيرين مثله. قال الطبرى، وَكَانَ مِمَّنْ سُبِيَ مِنْ مِيسَانَ يَسَارٌ أَبُو الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَأَرْطُبَانُ جَدُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنِ بْنِ أَرْطُبَانَ. وَعَنِ الْمُثَنَّى بْنِ مُوسَى بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبَّقِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: شَهِدْتُ فَتْحَ الأُبُلَّةِ، فَوَقَعَ لِي فِي سَهْمِي قِدْرُ نَحَاسٍ، فَلَمَّا نَظَرْتُ إِذَا هِيَ ذَهَبٌ فِيهَا ثَمَانُونَ أَلْفَ مِثْقَالٍ، فَكُتِبَ فِي ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ، فَكَتَبَ أَنْ يُصْبَرَ يَمِينُ سَلَمَةَ بِاللَّهِ لَقَدْ أَخَذَهَا وَهِيَ عِنْدَهُ نَحَاسٌ، فَإِنْ حَلَفَ سُلِّمَتْ إِلَيْهِ، وَإِلا قُسِّمَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ: فَحَلَفْتُ، فَسُلِّمَتْ لِي قَالَ الْمُثَنَّى: فَأُصُولُ أَمْوَالِنَا الْيَوْمَ مِنْهَا

وَعَنْ عَمْرَةَ ابْنَةِ قَيْسٍ، قَالَتْ: لَمَّا خَرَجَ النَّاسُ لِقِتَالِ أَهْلِ الأُبُلَّةِ خَرَجَ زَوْجِي وَابْنِي مَعَهُمْ، فَأَخَذُوا الدِّرْهَمَيْنِ وَمَكُّوكِ زَبِيبٍ، وَإِنَّهُمْ مَضَوْا حَتَّى إِذَا كَانُوا حِيَالَ الأُبُلَّةِ، قَالُوا لِلْعَدُوِّ، نَعْبُرُ إِلَيْكُمْ أَوْ تَعْبُرُونَ إِلَيْنَا؟ قَالَ: بَلِ اعْبُرُوا إِلَيْنَا، فَأَخَذُوا خَشَبَ الْعُشَرِ فَأَوْثَقُوهُ، وَعَبَرُوا إِلَيْهِمْ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: لا تَأْخُذُوا أَوَّلَهُمْ حَتَّى يَعْبُرَ آخِرُهُمْ فَلَمَّا صَارُوا عَلَى الأَرْضِ كَبَّرُوا تَكْبِيرَةً، ثُمَّ كَبَّرُوا الثَّانِيَةَ، فَقَامَتْ دَوَابُّهُمْ عَلَى أَرْجُلِهَا، ثُمَّ كَبَّرُوا الثَّالِثَةَ، فَجَعَلَتِ الدَّابَّةُ تَضْرِبُ بِصَاحِبِهَا الأَرْضَ، وَجَعَلْنَا نَنْظُرُ إِلَى رُءُوسٍ تُنْدَرُ، مَا نَرَى مَنْ يَضْرِبُهَا، وَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ. الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ: كَانَتْ عِنْدَ عُتْبَةَ صَفِيَّةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ، وَكَانَتْ أُخْتُهَا أَردَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ عِنْدَ شِبْلِ بْنِ مَعْبَدٍ الْبَجَلِيِّ، فَلَمَّا وَلِيَ عُتْبَةُ الْبَصْرَةَ انْحَدَرَ مَعَهُ أَصْهَارُهُ: أَبُو بَكْرَةَ، وَنَافِعٌ، وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ، وَانْحَدَرَ مَعَهُمْ زِيَادٌ، فَلَمَّا فَتَحُوا الأُبُلَّةَ لَمْ يَجِدُوا قَاسِمًا يَقْسِمُ بَيْنَهُمْ، فَكَانَ زِيَادٌ قَاسِمَهُمْ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، لَهُ ذُؤَابَةٌ، فَأَجْرَوْا عَلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمَيْنِ. وَقِيلَ: إِنَّ إِمَارَةَ عُتْبَةَ الْبَصْرَةَ كَانَتْ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ سِتَّ عَشْرَةَ، وَالأَوَّلُ أَصَحُّ، فَكَانَتْ إِمَارَتُهُ عَلَيْهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ. وَاسْتَعْمَلَ عُمَرُ عَلَى الْبَصْرَةِ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فَبَقِيَ سَنَتَيْنِ، ثُمَّ رُمِيَ بِمَا رُمِيَ، وَاسْتَعْمَلَ أَبَا مُوسَى، وَقِيلَ اسْتَعْمَلَ بَعْدَ عُتْبَةَ أَبَا مُوسَى، وَبَعْدَهُ الْمُغِيرَةَ. وَفِيهَا- أَعْنِي سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ- ضَرَبَ عُمَرُ ابْنَهُ عُبَيْدَ اللَّهِ وَأَصْحَابَهُ فِي شَرَابٍ شَرِبُوهُ وَأَبَا مِحْجَنٍ. وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الْخَطَّابِ، وَكَانَ عَلَى مَكَّةَ عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ في قول، وعلى اليمن يعلى بن مُنَيَّةَ، وَعَلَى الْكُوفَةِ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَلَى الشَّامِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَعَلَى الْبَحْرَيْنِ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ- وَقِيلَ: الْعَلاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ- وَعَلَى عُمَانَ حُذَيْفَةُ بْنُ مِحْصَنٍ

سنه خمس عشره

ثم دخلت سنة خمس عشرة قال ابن جرير: قال بعضهم: فيها مصر سعد بْن أبي وقاص الكوفة، دلهم عليها ابن بقيلة، قال لسعد: أدلك على أرض ارتفعت عن البق، وانحدرت عن الفلاة! فدلهم على موضع الكوفة اليوم. ذكر الوقعة بمرج الروم وفي هذه السنة كانت الوقعة بمرج الروم، وكان من ذلك أن أبا عبيدة خرج بخالد بْن الوليد من فحل إلى حمص، وانصرف بمن أضيف إليهم من اليرموك، فنزلوا جميعا على ذي الكلاع، وقد بلغ الخبر هرقل، فبعث توذرا البطريق حتى نزل بمرج دمشق وغربها، فبدأ أبو عبيدة بمرج الروم وجمعهم هذا، وقد هجم الشتاء عليهم والجراح فيهم فاشية، فلما نزل على القوم بمرج الروم نازله يوم نزل عليه شنس الرومي، في مثل خيل توذرا، إمدادا لتوذرا وردءا لأهل حمص، فنزل في عسكر على حدة، فلما كان من الليل أصبحت الأرض من توذرا بلاقع، وكان خالد بإزائه وأبو عبيدة بإزاء شنس، وأتى خالدا الخبر أن توذرا قد رحل إلى دمشق، فأجمع رأيه ورأي أبي عبيدة أن يتبعه خالد، فأتبعه خالد من ليلته في جريدة، وقد بلغ يزيد بْن أبي سفيان الذي فعل، فاستقبله فاقتتلوا، ولحق بهم خالد وهم يقتتلون، فأخذهم من خلفهم، فقتلوا من بين أيديهم ومن خلفهم، فأناموهم ولم يفلت منهم إلا الشريد، فأصاب المسلمون ما شاءوا من ظهر وأداة وثياب، وقسم

ذكر فتح حمص

ذلك يزيد بْن أبي سفيان على أصحابه وأصحاب خالد، ثم انصرف يزيد إلى دمشق، وانصرف خالد إلى أبي عبيدة، وقد قتل خالد توذرا، وقال خالد: نحن قتلنا توذرا وشوذرا وقبله ما قد قتلنا حيدرا نحن أزرنا الغيضة الأكيدرا. وقد ناهد أبو عبيدة بعد خروج خالد في أثر توذرا شنس، فاقتتلوا بمرج الروم، فقتلهم مقتلة عظيمة، وقتل أبو عبيدة شنس، وامتلأ المرج من قتلاهم، فأنتنت منهم الأرض، وهرب من هرب منهم، فلم يفلتهم، وركبوا أكساءهم إلى حمص . ذكر فتح حمص حكى الطبري عَنْ سَيْفٍ، في كتابه، عن أبي عثمان، قال: ولما بلغ هرقل الخبر بمقتل أهل المرج، أمر أمير حمص بالسير والمضي إلى حمص، وقال: إنه بلغني أن طعامهم لحوم الإبل، وشرابهم ألبانها، وهذا الشتاء فلا تقاتلوهم إلا في كل يوم بارد، فإنه لا يبقى إلى الصيف منهم أحد، هذا جل طعامه وشرابه وارتحل من عسكره ذلك، فأتى الرهاء، وأخذ عامله بحمص، وأقبل أبو عبيدة حتى نزل على حمص، وأقبل خالد بعده حتى ينزل عليها، فكانوا يغادون المسلمين ويراوحونهم في كل يوم بارد، ولقي المسلمون بها بردا شديدا، والروم حصارا طويلا، فأما المسلمون فصبروا ورابطوا، وأفرغ اللَّه عليهم الصبر، وأعقبهم النصر، حتى اضطرب الشتاء، وإنما تمسك القوم بالمدينة رجاء أن يهلكهم الشتاء. وعن أبي الزهراء القشيري، عن رجل من قومه، قال: كان أهل حمص

يتواصون فيما بينهم، ويقولون: تمسكوا فإنهم حفاة، فإذا أصابهم البرد تقطعت أقدامهم مع ما يأكلون ويشربون، فكانت الروم تراجع، وقد سقطت أقدام بعضهم في خفافهم، وإن المسلمين في النعال ما أصيب أصبع أحد منهم، حتى إذا انخنس الشتاء، قام فيهم شيخ لهم يدعوهم إلى مصالحة المسلمين قالوا: كيف والملك في سلطانه وعزه، ليس بيننا وبينهم شيء! فتركهم، وقام فيهم آخر فقال: ذهب الشتاء، وانقطع الرجاء، فما تنتظرون؟ فقالوا: البرسام، فإنما يسكن في الشتاء ويظهر في الصيف، فقال: إن هؤلاء قوم يعانون، ولأن تأتوهم بعهد وميثاق، خير من أن تؤخذوا عنوة، أجيبوني محمودين قبل أن تجيبوني مذمومين! فقالوا: شيخ خرف، ولا علم له بالحرب. وعن أشياخ من غسان وبلقين، قالوا: أثاب اللَّه المسلمين على صبرهم أيام حمص أن زلزل بأهل حمص، وذلك أن المسلمين ناهدوهم، فكبروا تكبيرة زلزلت معها الروم في المدينة، وتصدعت الحيطان، ففزعوا إلى رؤسائهم وذوي رأيهم، فقالوا: ألا ترون إلى عذاب اللَّه! فأجابوهم: لا يطلب الصلح غيركم، فأشرفوا فنادوا: الصلح الصلح! ولا يشعر المسلمون بما حدث فيهم، فأجابوهم وقبلوا منهم على أنصاف دورهم، وعلى أن يترك المسلمون أموال الروم وبنيانهم، لا ينزلونه عليهم، فتركوه لهم، فصالح بعضهم على صلح دمشق على دينار وطعام، على كل جريب أبدا أيسروا أو أعسروا وصالح بعضهم على قدر طاقته، إن زاد ماله زيد عليه، وإن نقص نقص، وكذلك كان صلح دمشق والأردن، بعضهم على شيء إن أيسروا وإن أعسروا، وبعضهم على قدر طاقته، وولوا معاملة ما جلا ملوكهم عنه. وبعث أبو عبيدة السمط بْن الأسود في بني معاوية، والأشعث بْن مئناس في السكون، معه ابن عابس، والمقداد في بلى، وبلالا وخالدا في الجيش، والصباح

حديث قنسرين

ابن شتير وذهيل بْن عطية وذا شمستان، فكانوا في قصبتها وأقام في عسكره، وكتب إلى عمر بالفتح، وبعث بالأخماس مع عبد اللَّه بْن مسعود، وقد وفده. وأخبر خبر هرقل، وأنه عبر الماء إلى الجزيرة، فهو بالرهاء ينغمس أحيانا، ويطلع أحيانا فقدم ابن مسعود على عمر، فرده، ثم بعثه بعد ذلك إلى سعد بالكوفة، ثم كتب إلى أبي عبيدة: أن أقم في مدينتك وادع أهل القوة والجلد من عرب الشام، فإني غير تارك البعثة إليك بمن يكانفك، إن شاء اللَّه . حديث قنسرين وعن أبي عثمان وجارية، قالا: وبعث أبو عبيدة بعد فتح حمص خالد ابن الوليد إلى قنسرين، فلما نزل بالحاضر زحف إليهم الروم، وعليهم ميناس، وهو رأس الروم وأعظمهم فيهم بعد هرقل، فالتقوا بالحاضر، فقتل ميناس ومن معه مقتلة لم يقتلوا مثلها، فأما الروم فماتوا على دمه حتى لم يبق منهم أحد، وأما أهل الحاضر فأرسلوا إلى خالد أنهم عرب، وأنهم إنما حشروا ولم يكن من رأيهم حربه، فقبل منهم وتركهم ولما بلغ عمر ذلك قال: أمر خالد نفسه، يرحم اللَّه أبا بكر، هو كان أعلم بالرجال مني، وقد كان عزله والمثنى مع قيامه، وقال: إني لم أعزلهما عن ريبة، ولكن الناس عظموهما، فخشيت أن يوكلوا إليهما فلما كان من أمره وأمر قنسرين ما كان، رجع عن رأيه، وسار خالد حتى نزل قنسرين، فتحصنوا منه، فقال: إنكم لو كنتم في السحاب لحملنا اللَّه إليكم أو لأنزلكم اللَّه إلينا قال: فنظروا في أمرهم، وذكروا ما لقي أهل حمص، فصالحوه على صلح حمص، فأبى إلا على إخراب المدينة فأخربها، واتطأت حمص وقنسرين، فعند ذلك خنس هرقل، وإنما كان سبب خنوسه أن خالدا حين قتل ميناس ومات الروم على دمه، وعقد لأهل الحاضر وترك قنسرين، طلع من قبل الكوفه عمر

ذكر خبر ارتحال هرقل إلى القسطنطينية

ابن مالك من قبل قرقيسيا، وعبد اللَّه بْن المعتم من قبل الموصل، والوليد ابن عقبة من بلاد بني تغلب وعرب الجزيرة، وطووا مدائن الجزيرة من نحو هرقل، وأهل الجزيرة في حران والرقة ونصيبين وذواتها لم يغرضوا غرضهم، حتى يرجعوا إليهم، إلا أنهم خلفوا في الجزيرة الوليد لئلا يؤتوا من خلفهم، فأدرب خالد وعياض مما يلي الشام، وأدرب عمر وعبد اللَّه مما يلي الجزيرة، ولم يكونوا أدربوا قبله، ثم رجعوا، فهي أول مدربة كانت في الإسلام سنة ست عشرة فرجع خالد إلى قنسرين فنزلها، وأتته امرأته، فلما عزله قال: إن عمر ولاني الشام حتى إذا صارت بثنية وعسلا عزلني. قال أبو جعفر الطبري: ثم خرج هرقل نحو القسطنطينية، فاختلف في حين شخوصه إليها وتركه بلاد الشام، فقال ابن إسحاق: كان ذلك سنة خمس عشرة، وقال سيف: كان سنة ست عشرة ذكر خبر ارتحال هرقل إلى القسطنطينية ذكر سيف عن أبي الزهراء القشيري، عن رجل من بني قشير، قالوا: لما خرج هرقل من الرهاء واستتبع أهلها، قالوا: نحن هاهنا خير منا معك، وأبوا أن يتبعوه، وتفرقوا عنه وعن المسلمين، وكان أول من أنبح كلابها، وأنفر دجاجها زياد بْن حنظلة، وكان من الصحابه، وكان مع عمر ابن مالك مسانده، وكان حليفا لبني عبد بْن قصي، وقبل ذلك ما قد خرج هرقل حتى شمشاط، فلما نزل القوم الرهاء أدرب فنفذ نحو القسطنطينية، ولحقه رجل من الروم كان أسيرا في أيدي المسلمين، فأفلت، فقال له: أخبرني عن هؤلاء القوم، فقال: أحدثك كأنك تنظر إليهم، فرسان بالنهار ورهبان بالليل، ما يأكلون في ذمتهم إلا بثمن، ولا يدخلون إلا بسلام، يقفون على

ذكر فتح قيساريه وحصر غزه

من حاربهم حتى يأتوا عليه، فقال: لئن كنت صدقتني ليرثن ما تحت قدمي هاتين. وعن عبادة وخالد، أن هرقل كان كلما حج بيت المقدس فخلف سورية، وظعن في أرض الروم التفت فقال: عليك السلام يا سورية تسليم مودع لم يقض منك وطره، وهو عائد فلما توجه المسلمون نحو حمص عبر الماء، فنزل الرهاء، فلم يزل بها حتى طلع أهل الكوفة وفتحت قنسرين وقتل ميناس، فخنس عند ذلك إلى شمشاط، حتى إذا فصل منها نحو الروم علا على شرف، فالتفت ونظر نحو سورية، وقال: عليك السلام يا سورية، سلاما لا اجتماع بعده، ولا يعود إليك رومي أبدا إلا خائفا، حتى يولد المولود المشئوم، ويا ليته لا يولد! ما أحلى فعله، وأمر عاقبته على الروم! وعن أبي الزهراء وعمرو بْن ميمون، قالا: لما فصل هرقل من شمشاط داخلا الروم التفت إلى سورية، فقال: قد كنت سلمت عليك تسليم المسافر، فأما اليوم فعليك السلام يا سورية تسليم المفارق، ولا يعود إليك رومي أبدا إلا خائفا، حتى يولد المولود المشئوم، وليته لم يولد! ومضى حتى نزل القسطنطينية. وأخذ أهل الحصون التي بين إسكندرية وطرسوس معه، لئلا يسير المسلمون في عمارة ما بين أنطاكية وبلاد الروم، وشعث الحصون، فكان المسلمون لا يجدون بها أحدا، وربما كمن عندها الروم، فأصابوا غرة المتخلفين، فاحتاط المسلمون لذلك . ذكر فتح قيسارية وحصر غزة ذَكَرَ سَيْفٌ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ وَأَبِي حَارِثَةَ، عَنْ خَالِدٍ وَعُبَادَةَ، قَالا: لَمَّا انْصَرَفَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَخَالِدٌ إِلَى حِمْصَ مِنْ فحل، نَزَلَ عَمْرٌو وَشُرَحْبِيلٌ عَلَى بَيْسَانَ فَافْتَتَحَاهَا، وَصَالَحَتْهُ الأردن، واجتمع عسكر الروم بالجنادين

وَبِيسَانَ وَغَزَّةَ، وَكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ بِتَفَرُّقِهِمْ، فَكَتَبَ إِلَى يَزِيدَ بِأَنْ يُدَفِّئَ ظُهُورَهُمْ بِالرِّجَالِ، وَأَنْ يُسَرِّحَ مُعَاوِيَةَ إِلَى قَيْسَارِيَةَ وَكَتَبَ إِلَى عَمْرٍو يَأْمُرُهُ بِصَدْمِ الأَرْطَبُونِ، وَإِلَى عَلْقَمَةَ بِصَدْمِ الْفَيْقَارِ. وَكَانَ كِتَابُ عُمَرَ إِلَى مُعَاوِيَةَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ قَيْسَارِيَةَ، فَسِرْ إِلَيْهَا وَاسْتَنْصِرِ اللَّهَ عَلَيْهِمْ، وَأَكْثِرْ مِنْ قَوْلِ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ، اللَّهُ رَبُّنَا وَثِقَتُنَا وَرَجَاؤُنَا وَمَوْلانَا، نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ فَانْتَهَى الرَّجُلانِ إِلَى مَا أَمَرَا بِهِ، وَسَارَ مُعَاوِيَةُ فِي جُنْدِهِ حَتَّى نَزَلَ عَلَى أَهْلِ قَيْسَارِيَةَ وَعَلَيْهِمْ أبنى، فَهَزَمَهُ وَحَصَرَهُ فِي قَيْسَارِيَةَ ثُمَّ إِنَّهُمْ جَعَلُوا يُزَاحِفُونَهُ، وَجَعَلُوا لا يُزَاحِفُونَهُ مِنْ مَرَّةٍ إِلا هَزَمَهُمْ وَرَدَّهُمْ إِلَى حِصْنِهِمْ ثُمَّ زَاحَفُوهُ آخِرَ ذَلِكَ، وَخَرَجُوا مِنْ صَيَاصِيهِمْ، فَاقْتَتَلُوا فِي حَفِيظَةٍ وَاسْتِمَاتَةٍ، فَبَلَغَتْ قَتْلاهُمْ فِي الْمَعْرَكَةِ ثَمَانِينَ أَلْفًا، وَكَمَّلَهَا فِي هَزِيمَتِهِمْ مِائَةَ أَلْفٍ، وَبَعَثَ بِالْفَتْحِ مَعَ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي الضُّبَيْبِ، ثُمَّ خَافَ مِنْهُمَا الضَّعْفَ، فَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلْقَمَةَ الْفِرَاسِيَّ وَزُهَيْرَ بْنَ الْحَلابِ الْخَثْعَمِيَّ، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَتْبَعَاهُمَا وَيَسْبِقَاهُمَا، فَلَحِقَاهُمَا، فَطَوَيَاهُمَا وَهُمَا نَائِمَانِ. وَابْنُ عَلْقَمَةَ يَتَمَثَّلُ وَهِيَ هِجِّيرَاهُ: أَرَّقَ عَيْنِي أَخَوَا جُذَامِ ... كَيْفَ أَنَامُ وَهُمَا أَمَامِي! إِذْ يَرْحَلانِ وَالْهَجِيرُ طَامِي ... أَخُو حَشِيمٍ وَأَخُو حَرَامِ وَانْطَلَقَ عَلْقَمَةُ بْنُ مُجَزِّزٍ، فَحَصَرَ الْفَيْقَارَ بِغَزَّةَ، وَجَعَلَ يُرَاسِلُهُ، فَلَمْ يَشْفِهِ مِمَّا يُرِيدُ أَحَدٌ، فَأَتَاهُ كَأَنَّهُ رَسُولُ عَلْقَمَةَ، فَأَمَرَ الْفَيْقَارُ رَجُلا أَنْ يَقْعُدَ لَهُ بِالطَّرِيقِ، فَإِذَا مَرَّ قَتَلَهُ، فَفَطِنَ عَلْقَمَةُ، فَقَالَ: إِنَّ مَعِي نَفَرًا شُرَكَائِي فِي الرَّأْيِ، فَأَنْطَلِقُ فَآتِيكَ بِهِمْ، فَبَعَثَ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ: لا تَعْرِضْ لَهُ. فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَلَمْ يَعُدْ، وَفَعَلَ كَمَا فَعَلَ عَمْرٌو بِالأَرْطَبُونِ، وَانْتَهَى بَرِيدُ مُعَاوِيَةَ إِلَى عُمَرَ بِالْخَبَرِ، فَجَمَعَ النَّاسَ وَأَبَاتَهُمْ عَلَى الْفَرَحِ لَيْلا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَقَالَ: لِتَحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى فَتْحِ قَيْسَارِيَةَ، وَجَعَلَ مُعَاوِيَةُ قَبْلَ الْفَتْحِ وَبَعْدَهُ يَحْبِسُ الأَسْرَى عِنْدَهُ، وَيَقُولُ: مَا صَنَعَ مِيخَائِيلُ بِأَسْرَانَا صَنَعْنَا بِأَسْرَاهُمْ مِثْلَهُ، فَفَطَمَهُ عَنِ الْعَبَثِ بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى افْتَتَحَهَا

ذكر فتح بيسان ووقعه اجنادين

ذكر فتح بيسان ووقعة أجنادين ولما توجه علقمة إلى غزة وتوجه معاوية إلى قيسارية، صمد عمرو بْن العاص إلى الأرطبون، ومر بإزائه، وخرج معه شرحبيل بْن حسنة على مقدمته، واستخلف على عمل الأردن أبا الأعور، وولى عمرو بْن العاص مجنبتيه عبد اللَّه بْن عمرو وجنادة بْن تميم المالكي، مالك بْن كنانة، فخرج حتى ينزل على الروم بأجنادين، والروم في حصونهم وخنادقهم وعليهم الأرطبون. وكان الأرطبون أدهى الروم وأبعدها غورا، وأنكاها فعلا، وقد كان وضع بالرملة جندا عظيما، وبإيلياء جندا عظيما، وكتب عمرو إلى عمر بالخبر، فلما جاءه كتاب عمرو، قال: قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب، فانظروا عم تتفرج! وجعل عمر رحمه اللَّه من لدن وجه أمراء الشام يمد كل أمير جند ويرميه بالأمداد، حتى إذا أتاه كتاب عمرو بتفريق الروم، كتب إلى يزيد أن يبعث معاوية في خيله إلى قيسارية، وكتب إلى معاوية بإمرته على قتال أهل قيسارية، وليشغلهم عن عمرو، وكان عمرو قد استعمل علقمة ابن حكيم الفراسي ومسروق بْن فلان العكي على قتال أهل إيلياء، فصاروا بإزاء أهل إيلياء، فشغلوهم عن عمرو، وبعث أبا أيوب المالكي إلى الرملة، وعليها التذارق، وكان بإزائهما، ولما تتابعت الأمداد على عمرو، بعث مُحَمَّد بْن عمرو مددا لعلقمة ومسروق، وبعث عمارة بْن عمرو بْن أمية الضمري مددا لأبي أيوب، وأقام عمرو على أجنادين لا يقدر من الأرطبون على سقطة، ولا تشفيه الرسل، فوليه بنفسه، فدخل عليه كأنه رسول، فأبلغه ما يريد، وسمع كلامه، وتأمل حصونه حتى عرف ما أراد وقال أرطبون في نفسه: والله إن هذا لعمرو، أو إنه للذي يأخذ عمرو برأيه، وما كنت لأصيب القوم بأمر أعظم عليهم من قتله ثم دعا حرسيا فساره بقتله، فقال: اخرج فقم مكان كذا وكذا، فإذا مر بك فاقتله، وفطن له عمرو، فقال: قد سمعت مني وسمعت منك، فأما ما قلته فقد وقع مني

موقعا، وأنا واحد من عشرة، بعثنا عمر بْن الخطاب مع هذا الوالي لنكانفه ويشهدنا أموره، فأرجع فآتيك بهم الآن، فإن رأوا في الذي عرضت مثل الذي أرى، فقد رآه أهل العسكر والأمير، وإن لم يروه رددتهم إلى مأمنهم، وكنت على رأس أمرك فقال: نعم، ودعا رجلا فساره، وقال: اذهب إلى فلان فرده إلي، فرجع إليه الرجل وقال لعمرو: انطلق فجيء بأصحابك، فخرج عمرو ورأى ألا يعود لمثلها، وعلم الرومي بأنه قد خدعه، فقال: خدعني الرجل، هذا أدهى الخلق فبلغت عمر، فقال: غلبه عمرو، لله عمرو! وناهده عمرو، وقد عرف مأخذه وعاقبته، والتقوا ولم يجد من ذلك بدا فالتقوا بأجنادين، فاقتتلوا قتالا شديدا كقتال اليرموك، حتى كثرت القتلى بينهم. ثم إن أرطبون انهزم في الناس فأوى إلى إيلياء، ونزل عمرو أجنادين. ولما أتى أرطبون إيلياء أفرج له المسلمون حتى دخلها، ثم أزالهم إلى أجنادين، فانضم علقمة ومسروق ومحمد بْن عمرو وأبو أيوب إلى عمرو بأجنادين، وكتب أرطبون إلى عمرو بأنك صديقي ونظيري، أنت في قومك مثلي في قومي، والله لا تفتتح من فلسطين شيئا بعد أجنادين، فارجع ولا تغر فتلقى ما لقي الذين قبلك من الهزيمة فدعا عمرو رجلا يتكلم بالرومية، فأرسله إلى أرطبون، وأمره أن يغرب ويتنكر، وقال: استمع ما يقول حتى تخبرني به إذا رجعت إن شاء اللَّه. وكتب إليه: جاءني كتابك وأنت نظيري ومثلي في قومك، لو أخطأتك خصلة تجاهلت فضيلتي، وقد علمت أني صاحب فتح هذه البلاد، وأستعدي عليك فلانا وفلانا وفلانا- لوزرائه- فأقرئهم كتابي، ولينظروا فيما بيني وبينك فخرج الرسول على ما أمره به حتى أتى أرطبون فدفع إليه الكتاب بمشهد من النفر، فاقترأه فضحكوا وتعجبوا، وأقبلوا على أرطبون، فقالوا: من أين علمت أنه ليس بصاحبها؟ قال: صاحبها رجل اسمه عمر ثلاثة أحرف، فرجع الرسول إلى عمرو فعرف أنه عمر

ذكر فتح بيت المقدس

وكتب إلى عمر يستمده، ويقول: إني أعالج حربا كئودا ضدوما وبلادا ادخرت لك، فرأيك ولما كتب عمرو إلى عمر بذلك، عرف أن عمرا لم يقل إلا بعلم، فنادى في الناس، ثم خرج فيهم حتى نزل بالجابية وجميع ما خرج عمر إلى الشام أربع مرات، فأما الأولى فعلى فرس، وأما الثانية فعلى بعير، وأما الثالثة فقصر عنها أن الطاعون مستعر، وأما الرابعة فدخلها على حمار فاستخلف عليها، وخرج وقد كتب مخرجه أول مرة إلى أمراء الأجناد أن يوافوه بالجابية- ليوم سماه لهم في المجردة- وأن يستخلفوا على أعمالهم. فلقوه حيث رفعت لهم الجابية، فكان أول من لقيه يزيد ثم أبو عبيدة ثم خالد على الخيول، عليهم الديباج والحرير، فنزل وأخذ الحجارة، فرماهم بها، وقال: سرع ما لفتم عن رأيكم! إياي تستقبلون في هذا الزي، وإنما شبعتم منذ سنتين! سرع ما ندت بكم البطنة! وتالله لو فعلتموها على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنها يلامقة، وإن علينا السلاح، قال: فنعم إذا وركب حتى دخل الجابية وعمرو وشرحبيل بأجنادين لم يتحركا من مكانهما. ذكر فتح بيت المقدس وعن سالم بْن عبد اللَّه، قال: لما قدم عمر رحمه اللَّه الجابية، قال له رجل من يهود: يا أمير المؤمنين، لا ترجع إلى بلادك حتى يفتح اللَّه عليك إيلياء، فبينا عمر بْن الخطاب بها، إذ نظر إلى كردوس من خيل مقبل، فلما دنوا منه سلوا السيوف، فقال عمر: هؤلاء قوم يستأمنون، فأمنوهم، فأقبلوا فإذا هم أهل إيلياء، فصالحوه على الجزية، وفتحوها له، فلما فتحت عليه دعا ذلك اليهودي، فقيل له: إن عنده لعلما قال: فسأله عن الدجال- وكان كثير المسألة عنه- فقال له اليهودي: وما مسألتك عنه يا أمير المؤمنين! فأنتم والله معشر العرب تقتلونه دون باب لد ببضع عشرة ذراعا

وعن سالم، قال: لما دخل عمر الشام تلقاه رجل من يهود دمشق، فقال: السلام عليك يا فاروق! أنت صاحب إيلياء لا والله لا ترجع حتى يفتح اللَّه إيلياء، وكانوا قد أشجوا عمرا وأشجاهم، ولم يقدر عليها ولا على الرملة، فبينا عمر معسكرا بالجابية، فزع الناس إلى السلاح، فقال: ما شأنكم؟ فقالوا: ألا ترى الخيل والسيوف! فنظر، فإذا كردوس يلمعون بالسيوف، فقال عمر: مستأمنة، ولا تراعوا وأمنوهم، فأمنوهم، وإذا هم أهل إيلياء، فأعطوه واكتتبوا منه على إيلياء وحيزها، والرملة وحيزها، فصارت فلسطين نصفين: نصف مع أهل إيلياء، ونصف مع أهل الرملة، وهم عشر كور، وفلسطين تعدل الشام كله، وشهد ذلك اليهودي الصلح، فسأله عمر عن الدجال، فقال: هو من بني بنيامين، وأنتم والله يا معشر العرب تقتلونه على بضع عشرة ذراعا من باب لد وعن خالد وعبادة، قالا: كان الذي صالح فلسطين العوام من أهل إيلياء والرملة، وذلك أن أرطبون والتذارق لحقا بمصر، مقدم عمر الجابية، وأصيبا بعد في بعض الصوائف. وقيل: كان سبب قدوم عمر إلى الشام، أن أبا عبيدة حضر بيت المقدس، فطلب أهله منه أن يصالحهم على صلح أهل مدن الشام، وأن يكون المتولي للعقد عمر بْن الخطاب، فكتب إليه بذلك، فسار عن المدينة وعن عدي بْن سهل، قال: لما استمد أهل الشام عمر على أهل فلسطين، استخلف عليا، وخرج ممدا لهم، فقال علي: أين تخرج بنفسك! إنك تريد عدوا كلبا، فقال: إني أبادر بجهاد العدو موت العباس، إنكم لو قد فقدتم العباس لانتقض بكم الشر كما ينتقض أول الحبل. قال: وانضم عمرو وشرحبيل إلى عمر بالجابية حين جرى الصلح فيما بينهم، فشهد الكتاب. وعن خالد وعبادة، قالا: صالح عمر أهل إيلياء بالجابية، وكتب لهم

فيها الصلح لكل كورة كتابا واحدا، ما خلا أهل إيلياء. بسم اللَّه الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عبد اللَّه عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوت، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بِيَعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم، حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان، فمن شاء منهم قعدوا عليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد اللَّه وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية شهد على ذلك خالد بْن الوليد، وعمرو بْن العاص، وعبد الرحمن بْن عوف، ومعاوية بْن أبي سفيان وكتب وحضر سنة خمس عشرة. فأما سائر كتبهم فعلى كتاب لد بسم اللَّه الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عبد اللَّه عمر أمير المؤمنين أهل لد ومن دخل معهم من أهل فلسطين أجمعين، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبهم وسقيمهم وبريئهم وسائر ملتهم، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا مللها، ولا من صلبهم ولا من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، وعلى أهل لد ومن دخل معهم من أهل فلسطين أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل مدائن الشام، وعليهم إن خرجوا مثل

ذلك الشرط إلى آخره ثم سرح إليهم، وفرق فلسطين على رجلين، فجعل علقمة بْن حكيم على نصفها وأنزله الرملة، وعلقمة بْن مجزز على نصفها وأنزله إيلياء، فنزل كل واحد منهما في عمله في الجنود التي معه. وعن سالم، قال: استعمل علقمة بْن مجزز على إيلياء وعلقمة بْن حكيم على الرملة في الجنود التي كانت مع عمرو وضم عمرا وشرحبيل إليه بالجابية، فلما انتهيا إلى الجابية، وافقا عمر رحمه اللَّه راكبا، فقبلا ركبتيه، وضم عمر كل واحد منهما محتضنهما. وعن عبادة وخالد، قالا: ولما بعث عمر بأمان أهل إيلياء وسكنها الجند، شخص إلى بيت المقدس من الجابية، فرأى فرسه يتوجى، فنزل عنه، وأتي ببرذون فركبه، فهزه فنزل، فضرب وجهه بردائه، ثم قال: قبح اللَّه من علمك هذا! ثم دعا بفرسه بعد ما أجمه أياما يوقحه فركبه، ثم سار حتى انتهى إلى بيت المقدس. وعن أبي صفية، شيخ من بني شيبان، قال: لما أتى عمر الشام أتي ببرذون فركبه، فلما سار جعل يتخلج به، فنزل عنه، وضرب وجهه، وقال: لا علم اللَّه من علمك! هذا من الخيلاء، ولم يركب برذونا قبله ولا بعده وفتحت إيلياء وأرضها كلها على يديه، ما خلا اجنادين فإنها فتحت على يدي عمرو، وقيسارية على يدي معاوية. وعن أبي عثمان وأبي حارثة، قالا: افتتحت إيلياء وأرضها على يدي عمر في ربيع الآخر سنة ست عشرة. وعن أبي مريم مولى سلامة، قال: شهدت فتح إيلياء مع عمر رحمه اللَّه، فسار من الجابية فاصلا حتى يقدم إيلياء، ثم مضى حتى يدخل المسجد، ثم مضى نحو محراب داود، ونحن معه،

فدخله ثم قرأ سجدة داود، فسجد وسجدنا معه. وعن رجاء بْن حيوة، عمن شهد، قال: لما شخص عمر من الجابية إلى إيلياء، فدنا من باب المسجد، قال: ارقبوا لي كعبا، فلما انفرق به الباب، قال: لبيك، اللهم لبيك، بما هو أحب إليك! ثم قصد المحراب، محراب داود ع، وذلك ليلا، فصلى فيه، ولم يلبث أن طلع الفجر، فأمر المؤذن بالإقامة، فتقدم فصلى بالناس، وقرأ بهم ص، وسجد فيها، ثم قام، وقرأ بهم في الثانية صدر بني إسرائيل، ثم ركع ثم انصرف، فقال: علي بكعب، فأتي به، فقال: أين ترى أن نجعل المصلى؟ فقال: إلى الصخرة، فقال: ضاهيت والله اليهودية يا كعب، وقد رأيتك وخلعك نعليك، فقال: أحببت أن أباشره بقدمي، فقال: قد رأيتك، بل نجعل قبلته صدره، كما جعل رسول الله ص قبله مساجدنا صدورها، اذهب إليك، فإنا لم نؤمر بالصخرة، ولكنا أمرنا بالكعبة، فجعل قبلته صدره، ثم قام من مصلاه إلى كناسة قد كانت الروم قد دفنت بها بيت المقدس في زمان بني إسرائيل، فلما صار إليهم أبرزوا بعضها، وتركوا سائرها، وقال: يا أيها الناس، اصنعوا كما أصنع، وجثا في أصلها، وجثا في فرج من فروج قبائه، وسمع التكبير من خلفه، وكان يكره سوء الرعة في كل شيء، فقال: ما هذا؟ فقالوا: كبر كعب وكبر الناس بتكبيره فقال: علي به فأتي به، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه قد تنبأ على ما صنعت اليوم نبي منذ خمسمائة سنة، فقال: وكيف؟ فقال: إن الروم أغاروا على بني إسرائيل فأديلوا عليهم، فدفنوه، ثم أديلوا فلم يفرغوا له حتى أغارت عليهم فارس فبغوا على بني إسرائيل، ثم أديلت الروم عليهم إلى أن وليت، فبعث اللَّه نبيا على الكناسة، فقال: أبشري أورى شلم! عليك الفاروق ينقيك مما فيك وبعث إلى القسطنطينية نبي، فقام على تلها، فقال: يا قسطنطينية، ما فعل أهلك ببيتي! أخربوه وشبهوك كعرشي، وتأولوا علي، فقد قضيت عليك أن أجعلك جلحاء يوما ما، لا يأوي إليك أحد، ولا يستظل فيك

علي أيدي بني القاذر سبأ وودان، فما أمسوا حتى ما بقي منه شيء. وعن ربيعة الشامي بمثله، وزاد: أتاك الفاروق في جندي المطيع، ويدركون لأهلك بثأرك في الروم وقال في قسطنطينية: أدعك جلحاء بارزة للشمس، لا يأوي إليك أحد، ولا تظلينه. وعن أنس بْن مالك، قال: شهدت إيلياء مع عمر، فبينا هو يطعم الناس يوما بها أتاه راهبها وهو لا يشعر أن الخمر محرمة، فقال: هل لك في شراب نجده في كتبنا حلالا إذا حرمت الخمر! فدعاه به فقال: من أي شيء هذا؟ فأخبره أنه طبخه عصيرا، حتى صار إلى ثلثه، فغرف بإصبعه، ثم حركه في الإناء فشطره، فقال: هذا طلاء، فشبهه بالقطران، وشرب منه، وأمر أمراء الأجناد بالشام به، وكتب في الأمصار: إني أتيت بشراب مما قد طبخ من العصير حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه كالطلاء، فاطبخوه وارزقوه المسلمين. وعن أبي عثمان وأبي حارثة، قالا: ولحق أرطبون بمصر مقدم عمر الجابية، ولحق به من أحب ممن أبى الصلح، ثم لحق عند صلح أهل مصر، وغلبهم بالروم في البحر، وبقي بعد ذلك، فكان يكون على صوائف الروم، والتقى هو وصاحب صائفة المسلمين فيختلف هو ورجل من قيس يقال له ضريس، فقطع يد القيسي، وقتله القيسي، فقال: فإن يكن أرطبون الروم أفسدها ... فإن فيها بحمد اللَّه منتفعا بنانتان وجرموز أقيم به ... صدر القناة إذا ما آنسوا فزعا وإن يكن أرطبون الروم قطعها ... فقد تركت بها أوصاله قطعا وقال زياد بْن حنظلة: تذكرت حرب الروم لما تطاولت ... وإذ نحن في عام كثير نزائله وإذ نحن في أرض الحجاز وبيننا ... مسيرة شهر بينهن بلابله وإذ أرطبون الروم يحمي بلاده ... يحاوله قرم هناك يساجله

ذكر فرض العطاء وعمل الديوان

فلما رأى الفاروق أزمان فتحها ... سما بجنود اللَّه كيما يصاوله فلما أحسوه وخافوا صواله ... أتوه وقالوا أنت ممن نواصله وألقت إليه الشام أفلاذ بطنها ... وعيشا خصيبا ما تعد مآكله أباح لنا ما بين شرق ومغرب ... مواريث أعقاب بنتها قرامله وكم مثقل لم يضطلع باحتماله ... تحمل عبئا حين شالت شوائله وقال أيضا: سما عمر لما أتته رسائل ... كأصيد يحمي صرمة الحي أغيدا وقد عضلت بالشام أرض بأهلها ... تريد من الأقوام من كان أنجدا فلما أتاه ما أتاه أجابهم ... بجيش ترى منه الشبائك سجدا وأقبلت الشام العريضة بالذي ... أراد أبو حفص وأزكى وأزيدا فقسط فيما بينهم كل جزية ... وكل رفاد كان أهنا وأحمدا ذكر فرض العطاء وعمل الديوان وفي هذه السنة فرض عمر للمسلمين الفروض، ودون الدواوين، وأعطى العطايا على السابقة، وأعطى صفوان بْن أمية والحارث بْن هشام وسهيل بْن عمرو في أهل الفتح أقل ما أخذ من قبلهم، فامتنعوا من أخذه وقالوا: لا نعترف أن يكون أحد أكرم منا، فقال: إني إنما أعطيتكم على السابقة في الإسلام لا على الأحساب، قالوا: فنعم إذا، وأخذوا، وخرج الحارث وسهيل بأهليهما نحو الشام، فلم يزالا مجاهدين حتى أصيبا في بعض تلك الدروب، وقيل: ماتا في طاعون عمواس

ولما أراد عمر وضع الديوان، قال له علي وعبد الرحمن بْن عوف: ابدأ بنفسك، قال: لا، بل أبدأ بعم رسول اللَّه ص، ثم الأقرب فالأقرب، ففرض للعباس وبدأ به، ثم فرض لأهل بدر خمسة آلاف خمسة آلاف، ثم فرض لمن بعد بدر إلى الحديبية أربعة آلاف أربعة آلاف ثم فرض لمن بعد الحديبية إلى أن أقلع أبو بكر عن اهل الرده ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف، في ذلك من شهد الفتح وقاتل عن أبي بكر، ومن ولى الأيام قبل القادسية، كل هؤلاء ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف ثم فرض لأهل القادسية وأهل الشام ألفين ألفين، وفرض لأهل البلاء البارع منهم الفين وخمسمائة، الفين وخمسمائة، فقيل له: لو ألحقت أهل القادسية بأهل الأيام! فقال: لم أكن لألحقهم بدرجة من لم يدركوا، وقيل له: قد سويت من بعدت داره بمن قربت داره وقاتلهم عن فنائه، فقال: من قربت داره أحق بالزيادة، لأنهم كانوا ردءا للحوق وشجى للعدو، فهلا قال المهاجرون مثل قولكم حين سوينا بين السابقين منهم والأنصار! فقد كانت نصرة الأنصار بفنائهم، وهاجر إليهم المهاجرون من بعد، وفرض لمن بعد القادسية واليرموك ألفا ألفا، ثم فرض للروادف: المثنى خمسمائة خمسمائة، ثم للروادف الثليث بعدهم، ثلاثمائة ثلاثمائة، سوى كل طبقة في العطاء، قويهم وضعيفهم، عربهم وعجمهم، وفرض للروادف الربيع على مائتين وخمسين، وفرض لمن بعدهم وهم أهل هجر والعباد على مائتين، وألحق بأهل بدر أربعة من غير أهلها: الحسن والحسين وأبا ذر وسلمان، وكان فرض للعباس خمسة وعشرين ألفا- وقيل اثني عشر ألفا- وأعطى نساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشرة آلاف عشرة آلاف، إلا من جرى عليها الملك، فقال نسوه رسول الله ص: ما كان رسول الله ص يفضلنا عليهن في القسمة، فسو بيننا، ففعل وفضل عائشة بألفين لمحبه رسول الله ص إياها فلم تأخذ، وجعل نساء أهل بدر في

خمسمائة خمسمائة، ونساء من بعدهم الى الحديبية على أربعمائة أربعمائة، ونساء من بعد ذلك الى الأيام ثلاثمائة ثلاثمائة، ونساء أهل القادسية مائتين مائتين، ثم سوى بين النساء بعد ذلك، وجعل الصبيان سواء على مائة مائة، ثم جمع ستين مسكينا، وأطعمهم الخبز، فأحصوا ما أكلوا، فوجدوه يخرج من جريبتين، ففرض لكل إنسان منهم ولعياله جريبتين في الشهر. وقال عمر قبل موته: لقد هممت أن أجعل العطاء أربعة آلاف أربعة آلاف، وألفا يجعلها الرجل في اهله، وألفا يزدوها معه، وألفا يتجهز بها، ألفا يترفق بها، فمات قبل ان يفعل قال ابو جعفر الطبرى: كتب إلي السري عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ وَزِيَادٍ وَالْمُجَالِدِ وَعَمْرٍو، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَإِسْمَاعِيلَ عَنِ الْحَسَنِ، وَأَبِي ضَمْرَةَ عن عبد الله بن المستورد عن محمد بن سيرين، ويحيى ابن سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْمُسْتَنِيرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَزَهْرَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالُوا: فَرَضَ عُمَرُ الْعَطَاءَ حِينَ فَرَضَ لأَهْلِ الْفَيْءِ الَّذِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ أَهْلُ الْمَدَائِنِ، فَصَارُوا بَعْدُ إِلَى الْكُوفَةِ، انْتَقَلُوا عَنِ الْمَدَائِنِ إِلَى الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَدِمَشْقَ وَحِمْصَ وَالأُرْدُنِ وَفِلَسْطِينَ وَمِصْرَ، وَقَالَ: الْفَيْءُ لأَهْلِ هَؤُلاءِ الأَمْصَارِ وَلِمَنْ لَحِقَ بِهِمْ وَأَعَانَهُمْ، وَأَقَامَ مَعَهُمْ وَلَمْ يَفْرِضْ لِغَيْرِهِمْ، أَلا فَبِهِمْ سُكِنَتِ الْمَدَائِنُ وَالْقُرَى، وَعَلَيْهِمْ جَرَى الصُّلْحُ، وَإِلَيْهِمْ أُدِّيَ الْجَزَاءُ، وَبِهِمْ سُدَّتِ الْفُرُوجُ وَدُوِّخَ الْعَدُوُّ ثُمَّ كَتَبَ فِي إِعْطَاءِ أَهْلِ الْعَطَاءِ أَعْطِيَاتَهُمْ إِعْطَاءً وَاحِدًا سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ. وَقَالَ قَائِلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ تَرَكْتَ فِي بُيُوتِ الأَمْوَالِ عُدَّةً لِكَوْنٍ إِنْ كَانَ! فَقَالَ: كَلِمَةٌ أَلْقَاهَا الشَّيْطَانُ عَلَى فِيكَ وَقَانِي اللَّهُ شَرَّهَا، وَهِيَ فِتْنَةٌ لِمَنْ بَعْدِي، بَلْ أعد لَهُمْ مَا أَمَرَنَا اللَّهُ وَرَسُولَهُ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهُمَا عُدَّتُنَا الَّتِي بِهَا أَفْضَيْنَا إِلَى مَا تَرَوْنَ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَالُ ثَمَنَ دِينِ أَحَدِكُمْ هَلَكْتُمْ

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف عن مُحَمَّد والمهلب وطلحة وعمرو وسعيد، قالوا: لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقُتِلَ رُسْتُمُ، وَقَدِمَتْ عَلَى عُمَرَ الْفُتُوحُ مِنَ الشَّامِ جَمَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: مَا يَحِلُّ لِلْوَالِي مِنْ هَذَا الْمَالِ؟ فَقَالُوا جَمِيعًا: أَمَّا لِخَاصَّتِهِ فَقُوتُهُ وَقُوتُ عِيَالِهِ، لا وَكْسٌ وَلا شَطَطٌ، وَكِسْوَتُهُمْ وَكِسْوَتُهُ لِلشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وَدَابَّتَانِ إِلَى جِهَادِهِ وَحَوَائِجِهِ وَحِمْلانِهِ الى حجه وَعُمْرَتِهِ، وَالْقَسْمُ بِالسَّوِيَّةِ، أَنْ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلاءِ عَلَى قَدْرِ بَلائِهِمْ، وَيَرُمُّ أُمُورَ النَّاسِ بَعْدُ، وَيَتَعَاهَدَهُمْ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالنَّوَازِلِ حَتَّى تُكْشَفَ، وَيَبْدَأُ بِأَهْلِ الْفَيْءِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن محمد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قَالَ: جَمَعَ النَّاسَ عُمَرُ بِالْمَدِينَةِ حِينَ انْتَهَى إِلَيْهِ فَتْحُ الْقَادِسِيَّةِ وَدِمَشْقَ، فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ امْرَأً تَاجِرًا، يُغْنِي اللَّهُ عِيَالِي بِتِجَارَتِي وَقَدْ شَغَلْتُمُونِي بِأَمْرِكُمْ، فَمَاذَا تَرَوْنَ أَنَّهُ يَحِلُّ لِي من هذا المال؟ فاكثر القوم وعلى ع سَاكِتٌ، فَقَالَ: [مَا تَقُولُ يَا عَلِيُّ؟ فَقَالَ: مَا أَصْلَحَكَ وَأَصْلَحَ عِيَالَكَ بِالْمَعْرُوفِ، لَيْسَ لَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ غَيْرُهُ،] فَقَالَ الْقَوْمُ: الْقَوْلُ قَوْلُ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد، عن عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ أَسْلَمَ، قَالَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: مَا يَحِلُّ لَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ؟ فَقَالَ: مَا أَصْلَحَنِي وَأَصْلَحَ عِيَالِي بِالْمَعْرُوفِ، وَحُلَّةُ الشِّتَاءِ وَحُلَّةُ الصَّيْفِ، وَرَاحِلَةُ عُمَرَ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَدَابَّةٌ فِي حَوَائِجِهِ وَجِهَادِهِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن مبشر بن الفضيل، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَمَّا وَلِيَ عُمَرُ قَعَدَ عَلَى رِزْقِ أَبِي بَكْرٍ الَّذِي كَانُوا فَرَضُوا لَهُ، فَكَانَ بِذَلِكَ، فَاشْتَدَّتْ حَاجَتُهُ، فَاجْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: لَوْ قُلْنَا لِعُمَرَ فِي زِيَادَةٍ نَزِيدُهَا إِيَّاهُ فِي رِزْقِهِ! فَقَالَ عَلِيٌّ: وَدِدْنَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَانْطَلِقُوا بِنَا، فقال

عُثْمَانُ: إِنَّهُ عُمَرُ! فَهَلُمُّوا فَلْنَسْتَبْرِئُ مَا عِنْدَهُ مِنْ وَرَاء، نَأْتِي حَفْصَةَ فَنَسْأَلُهَا وَنَسْتَكْتِمُهَا، فَدَخَلُوا عَلَيْهَا وَأَمَرُوهَا أَنْ تُخْبِرَ بِالْخَبَرِ عَنْ نَفَرٍ، وَلا تُسَمِّي لَهُ أَحَدًا، إِلا أَنْ يَقْبَلَ، وَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهَا، فَلَقِيَتْ عُمَرَ فِي ذَلِكَ، فَعَرَفَتِ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، وَقَالَ: مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَتْ: لا سَبِيلَ إِلَى عِلْمِهِمْ حَتَّى أَعْلَمَ رَأْيَكَ، فَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ مَنْ هُمْ لَسُؤْتُ وُجُوهَهُمْ، أَنْتِ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ! أَنْشُدُكِ بِاللَّهِ، مَا افضل ما اقتنى رسول الله ص فِي بَيْتِكِ مِنَ الْمَلْبَسِ؟ قَالَتْ: ثَوْبَيْنِ مُمَشَّقَيْنِ كَانَ يَلْبَسُهُمَا لِلْوَفْدِ، وَيَخْطُبُ فِيهِمَا لِلْجُمَعِ، قَالَ: فَأَيُّ الطَّعَامِ نَالَهُ عِنْدَكِ أَرْفَعُ؟ قَالَتْ: خَبَزْنَا خُبْزَةَ شَعِيرٍ، فَصَبَبْنَا عَلَيْهَا وَهِيَ حَارَّةٌ أَسْفَلَ عُكَّةٍ لَنَا، فَجَعَلْنَاهَا هَشَّةً دَسِمَةً، فَأَكَلَ مِنْهَا وَتَطَعَّمَ مِنْهَا اسْتِطَابَةً لَهَا قَالَ: فَأَيُّ مَبْسَطٍ كَانَ يَبْسُطُهُ عِنْدَكِ كَانَ أَوْطَأَ؟ قَالَتْ: كِسَاءٌ لَنَا ثَخِينٌ كُنَّا نُرْبِعُهُ فِي الصَّيْفِ، فَنَجْعَلُهُ تَحْتَنَا، فَإِذَا كَانَ الشِّتَاءُ بَسَطْنَا نِصْفَهُ وَتَدَثَّرْنَا بِنِصْفِهِ، قَالَ: يَا حَفْصَةُ، فَأَبْلِغِيهِمْ عَنِّي أَنَّ رسول الله ص قدر فوضع الفضول مواضعها، وتبلغ بالتزجيه، وانى قدرت فو الله لاضعن الفضول مواضعها، ولا تبلغن بالتزجيه، وَإِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ صَاحِبَيَّ كِثَلاثَةٍ سَلَكُوا طَرِيقًا، فَمَضَى الأَوَّلُ وَقَدْ تَزَوَّدَ زَادًا فَبَلَغَ، ثُمَّ اتَّبَعَهُ الآخَرُ فَسَلَكَ طَرِيقَهُ، فَأَفْضَى إِلَيْهِ، ثُمَّ اتَّبَعَهُ الثَّالِثُ، فَإِنْ لَزِمَ طَرِيقَهُمَا وَرَضِيَ بِزَادِهِمَا لَحِقَ بِهِمَا وَكَانَ مَعَهُمَا، وَإِنْ سَلَكَ غَيْرَ طَرِيقِهِمَا لَمْ يُجَامِعْهُمَا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَصْحَابِهِ. وَالضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا افْتُتِحَتِ الْقَادِسِيَّةُ وَصَالَحَ مَنْ صَالَحَ مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ وَافْتُتِحَتْ دِمَشْقُ، وَصَالَحَ أَهْلُ دِمَشْقَ، قَالَ عُمَرُ لِلنَّاسِ: اجْتَمِعُوا فَأَحْضِرُونِي عِلْمَكُمْ فِيمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْقَادِسِيَّةِ وَأَهْلِ الشَّامِ فَاجْتَمَعَ

رَأْيُ عُمَرَ وَعَلِيٌّ عَلَى أَنْ يَأْخُذُوا مَنْ قِبَلِ الْقُرْآنِ، فَقَالُوا: «مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى» - يعنى من الخمس- «فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ» ، إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ، مِنَ اللَّهِ الأَمْرُ وَعَلَى الرَّسُولِ الْقَسْمُ «وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ» الآية، ثُمَّ فَسَّرُوا ذَلِكَ بِالآيَةِ الَّتِي تَلِيهَا: «لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ» الآية، فَأَخَذُوا الأَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ عَلَى مَا قُسِّمَ عليه الخمس فيمن بدئ به وثنى وثلاث، وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ لِمَنْ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْمَغْنَمَ ثُمَّ اسْتُشْهِدُوا عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا: «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ» ، فَقَسَّمَ الأَخْمَاسَ عَلَى ذَلِكَ، وَاجْتَمَعَ عَلَى ذَلِكَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ، وَعَمِلَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ، فَبَدَأَ بِالْمُهَاجِرِينَ، ثُمَّ بِالأَنْصَارِ، ثُمَّ التَّابِعِينَ الَّذِينَ شَهِدُوا مَعَهُمْ وَأَعَانُوهُمْ، ثُمَّ فَوَّضَ الأَعْطِيَةَ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى مَنْ صَالَحَ أَوْ دُعِيَ إِلَى الصُّلْحِ مِنْ جَزَائِهِ، مَرْدُودٌ عَلَيْهِمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَيْسَ فِي الْجَزَاءِ أَخْمَاسٌ، وَالْجَزَاءُ لِمَنْ مَنَعَ الذِّمَّةَ وَوَفِيَ لَهُمْ مِمَّنْ وَلِيَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَلِمَنْ لَحِقَ بِهِمْ فَأَعَانَهُمْ، إِلا أَنْ يُؤَاسُوا بِفَضْلَةٍ مِنْ طِيبِ أَنْفُسٍ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَنَلْ مِثْلَ الذى نالوا. قال الطبرى: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ- كَانَتْ وَقَعَاتٍ فِي قَوْلِ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، وَفِي قَوْلِ ابْنِ إِسْحَاقَ: كَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ بِذَلِكَ عَنْهُ قَبْلُ، وَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ الْوَاقِدِيِّ. نَذْكُرُ الآنَ الأَخْبَارَ الَّتِي وَرَدَتْ بِمَا كَانَ بَيْنَ مَا ذَكَرْتُ مِنَ الْحُرُوبِ إِلَى انْقِضَاءِ السَّنَةِ الَّتِي ذَكَرْتُ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا كَانَ فِيهَا مِنْ ذَلِكَ: كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَالْمُهَلَّبِ وَعَمْرٍو وَسَعِيدٍ، قَالُوا: عَهِدَ عُمَرُ إِلَى سَعْدٍ حِينَ أَمَرَهُ بِالسَّيْرِ إِلَى الْمَدَائِنِ أَنْ يُخَلِّفَ النِّسَاءَ وَالْعِيَالَ بِالْعَتِيقِ، وَيَجْعَلَ مَعَهُمْ كَثْفًا مِنَ الْجُنْدِ، ففعل

خبر يوم برس

وَعَهِدَ إِلَيْهِ أَنْ يُشْرِكَهُمْ فِي كُلِّ مَغْنَمٍ مَا دَامُوا يَخْلُفُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي عِيَالاتِهِمْ. قَالُوا: وَكَانَ مَقَامُ سَعْدٍ بِالْقَادِسِيَّةِ بَعْدَ الْفَتْحِ شَهْرَيْنِ فِي مُكَاتَبَةِ عُمَرَ فِي الْعَمَلِ بِمَا يَنْبَغِي، فَقَدِمَ زَهْرَةُ نَحْوَ اللِّسَانِ- وَاللِّسَانُ لِسَانُ الْبَرِّ الَّذِي أَدْلَعَهُ فِي الرِّيفِ، وَعَلَيْهِ الْكُوفَةُ الْيَوْمَ، وَالْحِيرَةُ قَبْلَ الْيَوْمِ- وَالنّخيرجَانُ مُعَسْكِرٌ بِهِ، فَارْفَضَّ وَلَمْ يَثْبُتْ حِينَ سَمِعَ بِمَسِيرِهِمْ إِلَيْهِ، فَلَحِقَ بِأَصْحَابِهِ قَالُوا: فَكَانَ مِمَّا يَلْعَبُ بِهِ الصِّبْيَانُ فِي الْعَسْكَرِ وَتُلْقِيهِ النِّسَاءُ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ عَلَى شَاطِئِ الْعَتِيقِ، أَمْرٌ كَانَ النِّسَاءُ يَلْعَبْنَ بِهِ فِي زَرُودَ وَذِي قَارٍ، وَتِلْكَ الأَمْوَاهُ حِينَ أُمِرُوا بِالسَّيْرِ فِي جُمَادَى إِلَى الْقَادِسِيَّةِ، وَكَانَ كَلامًا أَبَدْنَ فِيهِ كَالأَوَابِدِ مِنَ الشِّعْرِ، لأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ جُمَادَى وَرَجَبٍ شَيْءٌ: الْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبْ ... بَيْنَ جُمَادَى وَرَجَبْ أَمْرٌ قَضَاهُ قَدْ وَجَبْ ... يُخْبِرُهُ مَنْ قَدْ شَجَبْ تَحَتَ غُبَارٍ وَلَجَبْ . خبر يوم برس قال: ثم إن سعدا ارتحل بعد الفراغ من أمر القادسية كله، وبعد تقديم زهرة بْن الحوية في المقدمات إلى اللسان، ثم أتبعه عبد اللَّه بْن المعتم، ثم أتبع عبد اللَّه شرحبيل بْن السمط، ثم أتبعهم هاشم بْن عتبة، وقد ولاه خلافته، عمل خالد بْن عرفطة، وجعل خالدا على الساقة، ثم أتبعهم وكل المسلمين فارس مؤد قد نقل اللَّه إليهم ما كان في عسكر فارس من سلاح وكراع ومال، لأيام بقين من شوال، فسار زهرة حتى ينزل الكوفة- والكوفة كل حصباء حمراء وسهلة حمراء مختلطتين- ثم نزل عليه عبد اللَّه وشرحبيل، وارتحل زهرة حين نزلا عليه نحو المدائن، فلما انتهى إلى برس لقيه بها بصبهرى في جمع فناوشوه فهزمهم، فهرب بصبهرى ومن

يوم بابل

معه إلى بابل وبها فالة القادسية وبقايا رؤسائهم: النخيرجان ومهران الرازي والهرمزان وأشباههم، فأقاموا واستعملوا عليهم الفيرزان، وقدم عليهم بصبهرى وقد نجا بطعنة، فمات منها. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السري، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: طعن زهرة بصبهرى في يوم برس، فوقع في النهر فمات من طعنته بعد ما لحق ببابل، ولما هزم بصبهرى أقبل بسطام دهقان برس، فاعتقد من زهرة وعقد له الجسور، وأتاه بخبر الذين اجتمعوا ببابل . يوم بابل قالوا: ولما أتى بسطام زهرة بالخبر عن الذين اجتمعوا ببابل من فلال القادسية، أقام وكتب إلى سعد بالخبر ولما نزل سعد على من بالكوفة مع هاشم بْن عتبة، وأتاه الخبر عن زهرة باجتماع الفرس ببابل على الفيرزان، قدم عبد اللَّه، وأتبعه شرحبيل وهاشما، ثم ارتحل بالناس، فلما نزل عليهم برس، قدم زهرة فأتبعه عبد اللَّه وشرحبيل وهاشما، واتبعهم فنزلوا على الفيرزان ببابل، وقد قالوا: نقاتلهم دستا قبل أن نفترق، فاقتتلوا ببابل، فهزموهم في أسرع من لفت الرداء، فانطلقوا على وجوههم، ولم يكن لهم همة إلا الافتراق، فخرج الهرمزان متوجها نحو الاهواز، فأخذها فأكلها ومهرجانقذق، وخرج الفيرزان معه حتى طلع على نهاوند، وبها كنوز كسرى، فأخذها وأكل الماهين، وصمد النخيرجان ومهران الرازي للمدائن، حتى عبرا بهرسير إلى جانب دجلة الآخر، ثم قطعا الجسر، وأقام سعد ببابل أياما، وبلغه أن النخيرجان قد

خلف شهريار، دهقانا من دهاقين الباب بكوثى في جمع، فقدم زهرة ثم أتبعه الجنود، فخرج زهرة حتى ينزل على شهريار بكوثى بعد قتل فيومان والفرخان فيما بين سورا والدير. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن النضر بن السري، عن ابن الرُّفَيْلِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ سَعْدٌ قَدِمَ زَهْرَةَ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ فَمَضَى مُتَشَعِّبًا فِي حَرْبِهِ وجنده، ثم لم يلق جمعا فهزمهم الا قدم، فَأَتْبَعَهُمْ لا يَمُرُّونَ بِأَحَدٍ إِلا قَتَلُوهُ مِمَّنْ لَحِقُوا بِهِ مِنْهُمْ أَوْ أَقَامَ لَهُمْ، حَتَّى إِذَا قَدِمَهُ مِنْ بَابِلَ قَدِمَ زَهْرَةَ بُكَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ اللَّيْثِيُّ وَكَثِيرُ بْنُ شِهَابٍ السَّعْدِيُّ أَخَا الْغَلاقِ حِينَ عَبَرَ الصَّرَاةَ، فَيَلْحَقُونَ بِأُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ وَفِيهِمْ فيومَانُ وَالْفرخَانُ، هَذَا مِيسَانِيٌّ وَهَذَا أَهْوَازِيٌّ، فَقَتَلَ بُكَيْرٌ الْفرخَانَ، وَقَتَلَ كَثِيرٌ فيومَانَ بِسُورَا ثُمَّ مَضَى زَهْرَةُ حَتَّى جَاوَزَ سُورَا، ثُمَّ نَزَلَ، وَأَقْبَلَ هَاشِمٌ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ، وَجَاءَ سَعْدٌ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَدِمَ زَهْرَةُ، فَسَارَ تِلْقَاءَ الْقَوْمِ، وَقَدْ أَقَامُوا لَهُ فِيمَا بَيْنَ الدَّيْرِ وَكُوثَى، وَقَدِ اسْتَخْلَفَ النخيرجَانُ وَمِهْرَانُ عَلَى جُنُودِهِمَا شَهْرَيَارَ، دِهْقَانَ الْبَابِ ومضيا الى المدائن، واقام شهريار هُنَالِكَ، فَلَمَّا الْتَقَوْا بِأَكْنَافِ كُوثَى، جَيْشُ شَهْرَيَارِ وَأَوَائِلُ الْخَيْلِ، خَرَجَ فَنَادَى: أَلا رَجُلٌ، أَلا فَارِسٌ مِنْكُمْ شَدِيدٌ عَظِيمٌ يَخْرُجُ إِلَيَّ حَتَّى أَنْكُلَ بِهِ! فَقَالَ زَهْرَةُ: لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ أُبَارِزَكَ، فَأَمَّا إِذْ سَمِعْتُ قَوْلَكَ، فَإِنِّي لا أُخْرِجُ إِلَيْكَ إِلا عَبْدًا، فَإِنْ أَقَمْتَ لَهُ قَتَلَكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِبَغْيِكَ، وَإِنْ فَرَرْتَ مِنْهُ فَإِنَّمَا فَرَرْتَ مِنْ عَبْدٍ، وَكَايَدَهُ، ثُمَّ أَمَرَ أَبَا نُبَاتَةَ نَائِلَ بْنَ جُعْشُمٍ الأَعْرَجِيَّ- وَكَانَ مِنْ شُجْعَانِ بَنِي تَمِيمٍ- فَخَرَجَ إِلَيْهِ، وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّمْحُ، وَكِلاهُمَا وَثِيقُ الْخلقِ، إِلا أَنَّ الشَّهْرَيَارَ مِثْلُ الْجَمَلِ، فَلَمَّا رَأَى نَائِلا أَلْقَى الرُّمْحَ لِيَعْتَنِقَهُ، وَأَلْقَى نَائِلٌ رُمْحَهُ لِيَعْتَنِقَهُ، وَانْتَضَيَا سَيْفَيْهِمَا فَاجْتَلَدَا، ثُمَّ اعْتَنَقَا فَخَرَّا عَنْ دَابَّتَيْهِمَا، فَوَقَعَ عَلَى نَائِلٍ كَأَنَّهُ بَيْتٌ، فَضَغَطَهُ بِفَخْذِهِ، وَأَخَذَ الْخِنْجَرَ وَأَرَاغَ حَلَّ ازرار درعه، فوقعت ابهامه في فم نائل، فحطم عظمهما، وَرَأَى مِنْهُ فُتُورًا، فَثَاوَرَهُ فَجَلَدَ بِهِ الأَرْضَ، ثُمَّ قَعَدَ عَلَى صَدْرِهِ، وَأَخَذَ خِنْجَرَهُ، فَكَشَفَ درعه عن بطنه، فطعنه فِي بَطْنِهِ وَجَنْبِهِ حَتَّى مَاتَ،

حديث بهرسير في ذي الحجه سنه خمس عشره في قول سيف

فَأَخَذَ فَرَسَهُ وَسِوَارَيْهِ وَسَلَبَهُ، وَانْكَشَفَ أَصْحَابُهُ، فَذَهَبُوا فِي الْبِلادِ، وَأَقَامَ زَهْرَةُ بِكُوثَى حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِ سَعْدٌ، فَأَتَى بِهِ سَعْدًا، فَقَالَ سَعْدٌ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ يَا نَائِلُ بْنَ جُعْشُمٍ لَمَا لَبِسْتَ سِوَارَيْهِ وَقِبَاءَهُ وَدِرْعَهُ، وَلَتَرْكَبَنَّ بِرْذَوْنَهُ! وَغَنَّمَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ فَانْطَلَقَ، فَتَدَرَّعَ سَلْبَهُ، ثُمَّ أَتَاهُ فِي سِلاحِهِ عَلَى دَابَّتِهِ، فَقَالَ: اخْلَعْ سِوَارَيْكَ إِلا أَنْ تَرَى حَرْبًا فَتَلْبَسْهُمَا، فَكَانَ أَوَّلَ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سُوِّرَ بِالْعِرَاقِ. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ وَعَمْرٍو وَسَعِيدٍ، قَالُوا: فَأَقَامَ سَعْدٌ بِكُوثَى أَيَّامًا، وَأَتَى الْمَكَانَ الَّذِي جَلَسَ فِيهِ ابراهيم ع بِكُوثَى، فَنَزَلَ جَانِبَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَانُوا يُبَشِّرُونَ إِبْرَاهِيمَ، وَأَتَى الْبَيْتَ الَّذِي كَانَ فِيهِ إِبْرَاهِيمُ ع مَحْبُوسًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَعَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَقَرَأَ: «وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ» . حديث بهرسير في ذي الحجة سنة خمس عشره في قول سيف كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وَعَمْرٍو وَسَعِيدٍ وَالنَّضْرِ، عَنِ ابْنِ الرُّفَيْلِ، قَالُوا: ثُمَّ إِنَّ سَعْدًا قَدِمَ زَهْرَةَ إِلَى بَهُرَسِيرَ، فَمَضَى زَهْرَةُ مِنْ كُوثَى فِي الْمُقَدِّمَاتِ حَتَّى ينزل بهرسير، وقد تلقاه شيرزاد بِسَابَاطَ بِالصُّلْحِ وَتَأْدِيَةِ الْجَزَاءِ، فَأَمْضَاهُ إِلَى سَعْدٍ، فَأَقْبَلَ مَعَهُ وَتَبِعَتْهِ الْمُجَنِّبَاتُ، وَخَرَجَ هَاشِمٌ، وَخَرَجَ سَعْدٌ فِي أَثَرِهِ، وَقَدْ فَلَّ زَهْرَةُ كَتِيبَةَ كِسْرَى بُورَانَ حَوْلَ الْمُظْلِمِ، وَانْتَهَى هَاشِمٌ إِلَى مُظْلِمِ سَابَاطَ، وَوَقَفَ لِسَعْدٍ حَتَّى لَحِقَ بِهِ، فَوَافَقَ ذَلِكَ رُجُوعَ الْمُقَرَّطِ أَسَدٍ كَانَ لِكِسْرَى قَدْ أَلِفَهُ وَتَخَيَّرَهُ مِنْ أُسُودِ الْمُظْلِمِ، وَكَانَتْ بِهِ كَتَائِبُ كِسْرَى الَّتِي تُدْعَى بُورَانَ، وَكَانُوا يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ كُلَّ يَوْمٍ: لا يَزُولُ مُلْكُ فَارِسَ مَا عِشْنَا-، فَبَادَرَ

الْمُقَرَّطُ النَّاسَ حِينَ انْتَهَى إِلَيْهِمْ سَعْدٌ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ هَاشِمٌ فَقَتَلَهُ، وَسَمَّيَ سَيْفَهُ الْمَتْنَ، فَقَبَّلَ سَعْدٌ رَأْسَ هَاشِمٍ، وَقَبَّلَ هَاشِمٌ قَدَمَ سَعْدٍ، فَقَدَّمَهُ سَعْدٌ إِلَى بَهُرَسِيرَ، فَنَزَلَ إِلَى الْمُظْلِمِ وَقَرَأَ: «أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ» ، فَلَمَّا ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ هَدْأَةٌ ارْتَحَلَ، فَنَزَلَ عَلَى النَّاسِ بِبَهُرَسِيرَ، وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ كُلَّمَا قَدِمَتْ خَيْلٌ عَلَى بَهُرَسِيرَ وَقَفُوا ثُمَّ كَبَّرُوا، فَكَذَلِكَ حَتَّى نَجَزَ آخِرُ مَنْ مَعَ سَعْدٍ، فَكَانَ مَقَامُهُ بِالنَّاسِ عَلَى بَهُرَسِيرَ شَهْرَيْنِ، وَعَبَرُوا فِي الثَّالِثِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَكَانَ عَامِلَهُ فِيهَا عَلَى مَكَّةَ عتاب بن اسيد، وعلى الطائف يعلى بن منيه، وعلى اليمامه والبحرين عثمان ابن أبي العاص، وعلى عمان حذيفة بن محصن، وعلى كور الشام ابو عبيده ابن الْجَرَّاحِ، وَعَلَى الْكُوفَةِ وَأَرْضِهَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وقاص، وعلى قضائها أبو قرة، وعلى البصرة وأرضها المغيره بن شعبه

الجزء الرابع

الجزء الرابع بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سنة ست عشرة قال أبو جعفر: ففيها دخل المسلمون مدينة بهرسير، وافتتحوا المدائن، وهرب منها يزدجرد بْن شهريار. ذكر بقية خبر دخول المسلمين مدينة بهرسير كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وَالْمُهَلَّبِ، قَالُوا: لَمَّا نَزَلَ سَعْدٌ عَلَى بَهُرَسِيرَ بَثَّ الْخُيُولَ، فَأَغَارَتْ عَلَى مَا بَيْنَ دِجْلَةَ إِلَى مَنْ لَهُ عَهْدٌ مِنْ أَهْلِ الْفُرَاتِ، فَأَصَابُوا مِائَةَ أَلْفِ فَلاحٍ، فَحَسَبُوا، فَأَصَابَ كُلٌّ مِنْهُمْ فَلاحًا، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّهُمْ فَارِسٌ بِبَهُرَسِيرَ فخندق لهم، فقال له شيرزاد دِهْقَانُ سَابَاطَ: إِنَّكَ لا تَصْنَعُ بِهَؤُلاءِ شَيْئًا، إِنَّمَا هَؤُلاءِ عُلُوجٌ لأَهْلِ فَارِسَ لَمْ يجروا إِلَيْكَ، فَدَعْهُمْ إِلَيَّ حَتَّى يفرق لَكُمُ الرَّأْيُ. فَكَتَبَ عَلَيْهِ بِأَسْمَائِهِمْ، وَدَفَعَهُمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ شِيرَزَاذُ: انْصَرِفُوا إِلَى قُرَاكُمْ. وَكَتَبَ سَعْدٌ إِلَى عُمَرَ: إِنَّا وَرَدْنَا بَهُرَسِيرَ بَعْدَ الَّذِي لَقِينَا فِيمَا بَيْنَ الْقَادِسِيَّةِ وَبَهُرَسِيرَ، فَلَمْ يَأْتِنَا أَحَدٌ لِقِتَالٍ، فَبَثَثْتُ الْخُيُولَ، فَجَمَعْتُ الْفَلاحِينَ مِنَ الْقُرَى وَالآجَامِ، فَرِ رَأْيَكَ. فَأَجَابَهُ: إِنَّ مَنْ أَتَاكُمْ مِنَ الْفَلاحِينَ إِذَا كَانُوا مُقِيمِينَ لَمْ يُعِينُوا عَلَيْكُمْ فَهُوَ أَمَانُهُمْ، وَمَنْ هَرَبَ فَأَدْرَكْتُمُوهُ فَشَأْنُكُمْ بِهِ. فَلَمَّا جَاءَ الْكِتَابُ خَلَّى عَنْهُمْ وَرَاسَلَهُ الدَّهَّاقِينُ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلامِ وَالرُّجُوعِ، أَوِ الْجَزَاءِ وَلَهُمُ الذِّمَّةُ وَالْمَنْعَةُ، فَتَرَاجَعُوا عَلَى الْجَزَاءِ وَالْمَنْعَةِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ مَا كَانَ لآلِ كِسْرَى، وَمَنْ دَخَلَ مَعَهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ فِي غَرْبِي دِجْلَةَ إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ سَوَادِيٌّ إِلا آمَنَ وَاغْتَبَطَ بِمَلِكِ الإِسْلامِ وَاسْتَقْبَلُوا الْخَرَاجَ، وَأَقَامُوا عَلَى بَهُرَسِيرَ شَهْرَيْنِ يَرْمُونَهَا بِالْمَجَانِيقِ وَيَدُبُّونَ إِلَيْهِمْ

بِالدَّبَّابَاتِ، وَيُقَاتِلُونَهُمْ بِكُلِّ عُدَّةٍ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ الْحَارِثِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: نَزَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى بَهُرَسِيرَ، وَعَلَيْهَا خَنَادِقُهَا وَحَرَسُهَا وَعُدَّةُ الْحَرْبِ، فرموهم بالمجانيق والعرادات، فاستصنع سعد شيرزاد الْمَجَانِيقَ، فَنَصَبَ عَلَى أَهْلِ بَهُرَسِيرَ عِشْرِينَ مِنْجَنِيقًا، فَشَغَلُوهُمْ بِهَا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن النضر بن السري، عن ابْنِ الرُّفَيْلِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: فَلَمَّا نَزَلَ سَعْدٌ عَلَى بَهُرَسِيرَ، كَانَتِ الْعَرَبُ مُطِيفَةٌ بِهَا، وَالْعَجَمُ مُتَحَصِّنَةٌ فِيهَا، وَرُبَّمَا خَرَجَ الأَعَاجِمُ يَمْشُونَ عَلَى الْمَسْنِيَّاتِ الْمُشْرِفَةِ عَلَى دِجْلَةَ فِي جَمَاعَتِهِمْ وَعُدَّتِهِمْ لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَلا يَقُومُونَ لَهُمْ، فَكَانَ آخِرُ مَا خَرَجُوا فِي رَجَّالَةٍ وَنَاشِبَةٍ، وَتَجَرَّدُوا لِلْحَرْبِ، وَتَبَايَعُوا عَلَى الصَّبْرِ، فَقَاتَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَلَمْ يَثْبُتُوا لَهُمْ، فَكَذَّبُوا وَتَوَلَوْا، وَكَانَتْ عَلَى زَهْرَةَ بن الجويه دِرْعٌ مَفْصُومَةٌ، فَقِيلَ لَهُ: لَوْ أَمَرْتَ بِهَذَا الْفَصْمِ فَسُرِدَ! فَقَالَ: وَلِمَ؟ قَالُوا: نَخَافُ عَلَيْكَ مِنْهُ، قَالَ: إِنِّي لَكَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، أَنْ تَرَكَ سَهْمَ فَارِسَ الْجُنْدُ كُلُّهُ ثُمَّ أَتَانِي مِنْ هَذَا الْفَصْمِ، حَتَّى يَثْبُتَ فِيَّ! فَكَانَ أَوَّلُ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُصِيبَ يَوْمَئِذٍ بِنُشَّابَةٍ، فثبت فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْفَصْمِ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ: انْزَعُوهَا عَنْهُ، فَقَالَ: دَعُونِي، فَإِنَّ نَفْسِي مَعِي مَا دَامَتْ فِيَّ، لَعَلِّي أَنْ أُصِيبَ مِنْهُمْ بِطَعْنَةٍ أَوْ ضَرْبَةٍ أَوْ خُطْوَةٍ، فَمَضَى نَحْوَ الْعَدُوِّ، فَضَرَبَ بِسَيْفِهِ شَهْرَبرَازَ مِنْ أَهْلِ إِصْطَخْرَ، فَقَتَلَهُ، وَأُحِيطَ بِهِ فَقُتِلَ وَانْكَشَفُوا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد ابن ثَابِتٍ، عَنْ عَمْرَةَ ابْنَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَسْعَدَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتْ: لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَقُتِلَ رُسْتُمُ وَأَصْحَابُهُ بِالْقَادِسِيَّةِ وَفُضَّتْ جُمُوعُهُمْ،

اتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى نَزَلُوا الْمَدَائِنَ، وَقَدِ ارْفَضَّتْ جُمُوعُ فَارِسَ، وَلَحِقُوا بِجِبَالِهِمْ، وَتَفَرَّقَتْ جَمَاعَتُهُمْ وَفِرْسَانُهُمْ، إِلا أَنَّ الْمَلِكَ مُقِيمٌ فِي مَدِينَتِهِمْ، مَعَهُ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ عَلَى أَمْرِهِ. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سماك بْن فلان الهجيمي، عن أبيه ومحمد بْن عبد اللَّه، عن أنس بْن الحليس، قال: بينا نحن محاصرو بهرسير بعد زحفهم وهزيمتهم، أشرف علينا رسول فقال: إن الملك يقول لكم: هل لكم إلى المصالحة على أن لنا ما يلينا من دجلة وجبلنا، ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم؟ أما شبعتم لا أشبع اللَّه بطونكم! فبدر الناس أبو مفزر الأسود بْن قطبة، وقد أنطقه اللَّه بما لا يدري ما هو ولا نحن، فرجع الرجل ورأيناهم يقطعون إلى المدائن، فقلنا: يا أبا مفزر، ما قلت له؟ فقال: لا والذي بعث محمدا بالحق ما أدري ما هو، إلا أن علي سكينة، وأنا أرجو أن أكون قد أنطقت بالذي هو خير، وانتاب الناس يسألونه حتى سمع بذلك سعد، فجاءنا فقال: يا أبا مفزر، ما قلت؟ فو الله إنهم لهراب، فحدثه بمثل حديثه إيانا، فنادى في الناس، ثم نهد بهم، وإن مجانيقنا لتخطر عليهم، فما ظهر على المدينة أحد، ولا خرج إلينا إلا رجل نادى بالأمان فأمناه، فقال: إن بقي فيها أحد فما يمنعكم! فتسورها الرجال، وافتتحناها، فما وجدنا فيها شيئا ولا أحدا، إلا أسارى أسرناهم خارجا منها، فسألناهم وذلك الرجل: لأي شيء هربوا؟ فقالوا: بعث الملك إليكم يعرض عليكم الصلح، فأجبتموه بأنه لا يكون بيننا وبينكم صلح أبدا حتى نأكل عسل أفريذين بأترج كوثى، فقال الملك: وا ويله! ألا إن الملائكة تكلم على ألسنتهم، ترد علينا وتجيبنا عن العرب، والله لئن لم يكن كذلك، ما هذا إلا شيء ألقي علي في هذا الرجل لننتهي، فأرزوا إلى المدينة القصوى. كتب الى السرى عَنْ سَيْفٍ، عن سعيد بْن المرزبان، عن مسلم بمثل حديث سماك

حديث المدائن القصوى التي كان فيها منزل كسرى

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ وَعَمْرٍو وَسَعِيدٍ، قَالُوا: لَمَّا دَخَلَ سَعْدٌ وَالْمُسْلِمُونَ بَهُرَسِيرَ أَنْزَلَ سَعْدٌ النَّاسَ فِيهَا، وَتَحَوَّلَ الْعَسْكَرُ إِلَيْهَا، وَحَاوَلَ الْعُبُورَ فَوَجَدُوهُمْ قَدْ ضَمُّوا السُّفُنَ فِيمَا بَيْنَ الْبَطَائِحِ وَتِكْرِيتَ وَلَمَّا دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ بَهُرَسِيرَ- وَذَلِكَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ- لاحَ لَهُمُ الأَبْيَضُ، فَقَالَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ: اللَّهُ أَكْبَرُ! أَبْيَضُ كِسْرَى، هَذَا مَا وَعَدَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَتَابَعُوا التَّكْبِيرَ حَتَّى أَصْبَحُوا فَقَالَ مُحَمَّدٌ وَطَلْحَةُ: وَذَلِكَ لَيْلَةَ نَزَلُوا عَلَى بَهُرَسِيرَ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن الأعمش، عن حبيب بن صهبان أبي مالك، قال: دفعنا إلى المدائن- يعني بهرسير- وهي المدينة الدنيا، فحصرنا ملكهم وأصحابه، حتى أكلوا الكلاب والسنانير. قال: ثم لم يدخلوا حتى ناداهم مناد: والله ما فيها أحد، فدخلوها وما فيها أحد . حديث المدائن القصوى التي كان فيها منزل كسرى قال سيف: وذلك في صفر سنة ست عشرة، قالوا: ولما نزل سعد بهرسير، وهي المدينة الدنيا، طلب السفن ليعبر بالناس إلى المدينة القصوى، فلم يقدر

على شيء، ووجدهم قد ضموا السفن، فأقاموا ببهرسير أياما من صفر يريدونه على العبور فيمنعه الإبقاء على المسلمين، حتى أتاه أعلاج فدلوه على مخاضة تخاض إلى صلب الوادي، فأبى وتردد عن ذلك، وفجئهم المد، فرأى رؤيا، إن خيول المسلمين اقتحمتها فعبرت وقد أقبلت من المد بأمر عظيم، فعزم لتأويل رؤياه على العبور، وفي سنة جود صيفها متتابع فجمع سعد الناس، فحمد اللَّه وأثنى عليه، وقال: إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر، فلا تخلصون إليه معه، وهم يخلصون إليكم إذا شاءوا، فيناوشونكم في سفنهم، وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه، فقد كفاكموهم أهل الأيام، وعطلوا ثغورهم، وأفنوا ذادتهم، وقد رأيت من الرأي أن تبادروا جهاد العدو بنياتكم قبل أن تحصركم الدنيا ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم فقالوا جميعا: عزم اللَّه لنا ولك على الرشد، فافعل. فندب سعد الناس إلى العبور، ويقول: من يبدأ ويحمي لنا الفراض حتى تتلاحق به الناس لكيلا يمنعوهم من الخروج؟ فانتدب له عاصم بن عمرو ذو الباس، وانتدب بعده ستمائه من أهل النجدات، فاستعمل عليهم عاصما، فسار فيهم حتى وقف على شاطئ دجلة، وقال: من ينتدب معي لنمنع الفراض من عدوكم ولنحميكم حتى تعبروا؟ فانتدب له ستون، منهم أصم بني ولاد وشرحبيل، في أمثالهم، فجعلهم نصفين على خيول إناث وذكوره، ليكون أساسا لعوم الخيل ثم اقتحموا دجلة، واقتحم بقية الستمائة على أثرهم، فكان أول من فصل من الستين أصم التيم، والكلج، وأبو مفزر، وشرحبيل، وجحل العجلي، ومالك بْن كعب الهمداني، وغلام من بني الحارث بْن كعب، فلما رآهم الأعاجم وما صنعوا أعدوا للخيل التي تقدمت سعدا مثلها، فاقتحموا عليهم دجلة، فأعاموها إليهم، فلقوا عاصما في السرعان، وقد دنا من الفراض، فقال عاصم: الرماح الرماح! أشرعوها وتوخوا العيون، فالتقوا فاطعنوا، وتوخى المسلمون عيونهم، فولوا نحو الجد، والمسلمون يشمصون بهم خيلهم، ما يملك رجالها منع

ذلك منها شيئا فلحقوا بهم في الجد، فقتلوا عامتهم، ونجا من نجا منهم عورانا، وتزلزلت بهم خيولهم، حتى انتقضت عن الفراض، وتلاحق الستمائة بأوائلهم الستين غير متعتعين ولما رأى سعد عاصما على الفراض قد منعها، أذن للناس في الاقتحام، وقال: قولوا نستعين بالله، ونتوكل عليه، حسبنا اللَّه ونعم الوكيل، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! وتلاحق عظم الجند، فركبوا اللجة، وإن دجلة لترمي بالزبد، وإنها لمسودة، وإن الناس ليتحدثون في عومهم وقد اقتربوا ما يكترثون، كما يتحدثون في مسيرهم على الأرض، ففجئوا أهل فارس بأمر لم يكن في حسابهم، فأجهضوهم وأعجلوهم عن جمهور أموالهم، ودخلها المسلمون في صفر سنة ست عشرة، واستولوا على ذلك كله مما بقي في بيوت كسرى من الثلاثة آلاف ألف ألف، ومما جمع شيري ومن بعده وفي ذلك يقول أبو بجيد نافع بن الأسود: وأرسلنا على المدائن خيلا ... بحرها مثل برهن أريضا فانتثلنا خزائن المرء كسرى ... يوم ولوا وحاص منا جريضا كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن الوليد بن عبد الله ابن أَبِي طَيْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا أَقَامَ سَعْدٌ عَلَى دِجْلَةَ أَتَاهُ عِلْجٌ، فَقَالَ: مَا يُقِيمُكَ! لا يَأْتِي عَلَيْكَ ثَالِثَةٌ حَتَّى يَذْهَبَ يَزْدَجَرْدُ بِكُلِّ شَيْءٍ فِي الْمَدَائِنِ، فَذَلِكَ مِمَّا هَيَّجَهُ عَلَى الْقِيَامِ بِالدُّعَاءِ إِلَى الْعُبُورِ. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن رَجُلٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ فِي قِيَامِ سَعْدٍ فِي النَّاسِ فِي دُعَائِهِمْ إِلَى الْعُبُورِ بِمِثْلِهِ، وَقَالَ: طَبَّقْنَا دِجْلَةَ خَيْلا وَرَجُلا وَدَوَابَّ حَتَّى مَا يَرَى الْمَاءَ مِنَ الشَّاطِئِ أَحَدٌ، فخرجت

بِنَا خَيْلُنَا إِلَيْهِمْ تَنْفُضُ أَعْرَافَهَا، لَهَا صَهِيلٌ فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ ذَلِكَ انْطَلَقُوا لا يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَصْرِ الأَبْيَضِ، وَفِيهِ قوم قد تحصنوا، فأشرف بعضهم فكلمنا، فَدَعَوْنَاهُمْ وَعَرَضْنَا عَلَيْهِمْ، فَقُلْنَا: ثَلاثٌ تَخْتَارُونَ مِنْهُنَّ ايتهن شئتم، قالوا: ما هُنَّ؟ قُلْنَا: الإِسْلامُ فَإِنْ أَسْلَمْتُمْ فَلَكُمْ مَا لنا وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فالجزية، وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَمُنَاجَزَتُكُمْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فَأَجَابَنَا مُجِيبُهُمْ: لا حَاجَةَ لَنَا فِي الاولى ولا في الآخرة، ولكن الوسطى. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ عَطِيَّةَ بِمِثْلِهِ قَالَ: وَالسَّفِيرُ سَلْمَانُ. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بْن السري، عن ابن الرفيل، قال: لما هزموهم في الماء وأخرجوهم إلى الفراض، ثم كشفوهم عن الفراض أجلوهم عن الأموال، إلا ما كانوا تقدموا فيه- وكان في بيوت أموال كسرى ثلاثة آلاف ألف ألف- فبعثوا مع رستم بنصف ذلك، وأقروا نصفه في بيوت الأموال. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ بَدْرِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ سَعْدٌ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ وَاقِفٌ قَبْلَ أَنْ يُقْحِمَ الْجُمْهُورَ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى حُمَاةِ النَّاسِ وَهُمْ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْفِرَاضِ: وَاللَّهِ أَنْ لَوْ كَانَتِ الْخَرْسَاءِ- يَعْنِي الْكَتِيبَةَ الَّتِي كَانَ فِيهَا الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو وَحَمَّالُ بْنُ مَالِكٍ وَالرَّبِيلُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَاتَلُوا قِتَالَ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ هَذِهِ الْخَيْلِ- لَكَانَتْ قَدْ أَجْزَأَتْ وَأَغْنَتْ، وَكَتِيبَةُ عَاصِمٍ هِيَ كَتِيبَةُ الأَهْوَالِ، فَشَبَّهَ كَتِيبَةَ الأَهْوَالِ- لِمَا رَأَى مِنْهُمْ فِي الْمَاءِ وَالْفِرَاضِ بِكَتِيبَةِ الْخَرْسَاءِ قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُمْ تَنَادَوْا بَعْدَ هَنَاتٍ قَدِ اعْتَوَرُوهَا عَلَيْهِمْ وَلَهُمْ فَخَرَجُوا حَتَّى لَحِقُوا بِهِمْ، فَلَمَّا اسْتَوَوْا عَلَى الْفِرَاضِ هُمْ وَجَمِيعُ كَتِيبَةِ الأَهْوَالِ بِأَسْرِهِمْ، أَقْحَمَ سَعْدٌ النَّاسَ- وَكَانَ الَّذِي يُسَايِرُ سَعْدًا فِي الْمَاءِ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ- فَعَامَتْ بِهِمُ الْخَيْلُ، وَسَعْدٌ

يَقُولُ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلِ! وَاللَّهِ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ وَلِيَّهُ، وَلَيُظْهِرَنَّ اللَّهُ دِينَهُ، وَلَيَهْزِمَنَّ اللَّهُ عَدُوَّهُ، إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْجَيْشِ بَغْيٌ أَوْ ذُنُوبٌ تَغْلِبُ الْحَسَنَاتِ. فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: الإِسْلامُ جَدِيدٌ، ذَلَّلْتَ لَهُمْ وَاللَّهِ الْبُحُورَ كَمَا ذُلِّلَ لَهُمُ الْبَرُّ، أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ لَيَخْرُجُنَّ مِنْهُ أَفْوَاجًا كَمَا دَخَلُوهُ أَفْوَاجًا فَطَبَّقُوا الْمَاءَ حَتَّى مَا يُرَى الْمَاءُ مِنَ الشَّاطِئِ، وَلَهُمْ فِيهِ أَكْثَرُ حَدِيثًا مِنْهُمْ فِي الْبَرِّ لَوْ كَانُوا فِيهِ، فَخَرَجُوا مِنْهُ- كَمَا قَالَ سَلْمَانُ- لَمْ يَفْقِدُوا شَيْئًا، وَلَمْ يَغْرَقْ مِنْهُمْ أَحَدٌ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن أبي عمر دثار، عن أبي عثمان النهدي، أنهم سلموا من عند آخرهم إلا رجلا من بارق يدعى غرقدة، زال عن ظهر فرس له شقراء، كأني أنظر إليها تنفض أعرافها عريا والغريق طاف، فثنى القعقاع بْن عمرو عنان فرسه إليه، فأخذ بيده فجره حتى عبر، فقال البارقي- وكان من أشد الناس: أعجز الأخوات أن يلدن مثلك يا قعقاع! وكان للقعقاع فيهم خؤولة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ وَعَمْرٍو وَسَعِيدٍ، قَالُوا: فما ذهب لهم في الماء يومئذ إلا قدح كانت علاقته رثة، فانقطعت، فذهب به الماء، فقال الرجل الذي كان يعاوم صاحب القدح معيرا له: أصابه القدر فطاح، فقال: والله إني لعلى جديلة ما كان اللَّه ليسلبني قدحي من بين أهل العسكر فلما عبروا إذا رجل ممن كان يحمي الفراض، قد سفل حتى طلع عليه أوائل الناس، وقد ضربته الرياح والأمواج حتى وقع إلى الشاطئ، فتناوله برمحه، فجاء به إلى العسكر فعرفه، فأخذه صاحبه، وقال للذي كان يعاومه: ألم أقل لك! وصاحبه حليف لقريش من عنز، يدعى مالك بْن عامر، والذي قال: طاح يدعى عامر بْن مالك. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن القاسم بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ عُمَيْرٍ الصَّائِدِيِّ، قَالَ: لَمَّا أَقْحَمَ سَعْدٌ النَّاسَ فِي دِجْلَةَ اقْتَرَنُوا، فَكَانَ

سَلْمَانُ قَرِينَ سَعْدٍ إِلَى جَانِبِهِ يُسَايِرُهُ فِي الْمَاءِ، وَقَالَ سَعْدٌ: ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْمَاءُ يَطْمُو بِهِمْ، وَمَا يَزَالُ فَرَسٌ يَسْتَوِي قَائِمًا إِذَا أَعْيَا يَنْشُزُ لَهُ تَلْعَةً فَيَسْتَرِيحُ عَلَيْهَا، كَأَنَّهُ عَلَى الأَرْضِ، فَلَمْ يَكُنْ بِالْمَدَائِنِ أَمْرٌ أَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ يَوْمُ الْمَاءِ، وَكَانَ يُدْعَى يَوْمَ الْجَرَاثِيمِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد والمهلب وطلحة وعمرو وسعيد، قالوا: كان يوم ركوب دجلة يدعى يوم الجراثيم، لا يعيا أحد إلا أنشزت له جرثومة يريح عَلَيْهَا كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قيس بن أبي حازم، قال: خضنا دجلة وهي تطفح، فلما كنا في أكثرها ماء لم يزل فارس واقف ما يبلغ الماء حزامه. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الأعمش، عن حبيب بن صهبان أبي مالك، قَالَ: لَمَّا دَخَلَ سَعْدٌ الْمَدِينَةَ الدُّنْيَا، وَقَطَعَ الْقَوْمُ الْجِسْرَ، وَضَمُّوا السُّفُنَ، قَالَ الْمُسْلِمُونَ: مَا تَنْتَظِرُونَ بِهَذِهِ النُّطْفَةِ! فَاقْتَحَمَ رَجُلٌ، فَخَاضَ النَّاسُ فَمَا غَرِقَ مِنْهُمْ إِنْسَانٌ وَلا ذَهَبَ لَهُمْ مَتَاعٌ، غَيْرَ أَنَّ رَجُلا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَدَ قَدْحًا لَهُ انْقَطَعَتْ عِلاقَتُهُ، فَرَأَيْتُهُ يَطْفَحُ عَلَى الْمَاءِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مُحَمَّد والمهلب وطلحة، قالوا: وما زالت حماة أهل فارس يقاتلون على الفراض حتى أتاهم آت فقال: علام تقتلون أنفسكم! فو الله ما في المدائن أحد. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ وَعَمْرٍو وَسَعِيدٍ، قَالُوا: لَمَّا رَأَى الْمُشْرِكُونَ الْمُسْلِمِينَ وَمَا يَهُمُّونَ بِهِ بَعَثُوا مَنْ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْعُبُورِ، وَتَحَمَّلُوا فَخَرَجُوا هُرَّابًا، وَقَدْ أُخْرِجَ يَزْدَجَرْدُ- قَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَ مَا فُتِحَتْ بَهُرَسِيرَ عِيَالَهُ إِلَى حُلْوَانَ، فَخَرَجَ يَزْدَجَرْدُ بَعْدُ حَتَّى يَنْزِلَ حُلْوَانَ، فَلَحِقَ بِعِيَالِهِ، وَخَلَفَ مِهْرَانَ الرَّازِي وَالنخيرجَانَ- وَكَانَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ- بِالنَّهْرَوَانِ، وَخَرَجُوا مَعَهُمْ بِمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ حَرِّ مَتَاعِهِمْ

وَخَفِيفِهِ، وَمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَبِالنِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ، وَتَرَكُوا فِي الْخَزَائِنِ مِنَ الثِّيَابِ وَالْمَتَاعِ وَالآنِيَةِ وَالْفُضُولِ وَالأَلْطَافِ وَالأَدْهَانِ مَا لا يُدْرَى مَا قِيمَتُهُ، وَخَلَّفُوا مَا كَانُوا أَعَدُّوا لِلْحِصَارِ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالأَطْعِمَةِ وَالأَشْرِبَةِ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ الْمَدَائِنَ كَتِيبَةَ الأَهْوَالِ، ثُمَّ الْخَرْسَاءِ، فَأَخَذُوا فِي سِكَكِهَا لا يُلْقُونَ فِيهَا أَحَدًا وَلا يَحُسُّونَهُ إِلا مَنْ كَانَ فِي الْقَصْرِ الأَبْيَضِ، فَأَحَاطُوا بِهِمْ وَدَعَوْهُمْ، فَاسْتَجَابُوا لِسَعْدٍ عَلَى الْجَزَاءِ وَالذِّمَّةِ، وَتَرَاجَعَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ الْمَدَائِنِ عَلَى مِثْلِ عَهْدِهِمْ، لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا كَانَ لآلِ كِسْرَى وَمَنْ خَرَجَ مَعَهُمْ، وَنَزَلَ سَعْدٌ الْقَصْرَ الأَبْيَضَ، وَسَرَّحَ زَهْرَةَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ فِي آثَارِ الْقَوْمِ إِلَى النَّهْرَوَانِ، فَخَرَجَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى النَّهْرَوَانِ، وَسَرَّحَ مِقْدَارَ ذَلِكَ فِي طَلَبِهِمْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن الأعمش، عن حبيب بن صهبان أبي مالك، قال: لما عبر المسلمون يوم المدائن دجلة، فنظروا إليهم يعبرون، جعلوا يقولون بالفارسية: ديوان آمد وقال بعضهم لبعض: والله ما تقاتلون الإنس وما تقاتلون إلا الجن فانهزموا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن عطية بْن الحارث وعطاء بْن السائب، عن أبي البختري، قال: كان رائد المسلمين سلمان الفارسي، وكان المسلمون قد جعلوه داعية أهل فارس قال عطية: وقد كانوا أمروه بدعاء أهل بهرسير، وأمروه يوم القصر الأبيض، فدعاهم ثلاثا قال عطية وعطاء: وكان دعاؤه إياهم أن يقول: إني منكم في الأصل، وأنا أرق لكم، ولكم في ثلاث أدعوكم إليها ما يصلحكم: أن تسلموا فإخواننا لكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإلا فالجزية، وإلا نابذناكم على سواء، إن اللَّه لا يحب الخائنين قال عطية: فلما كان اليوم الثالث في بهرسير أبوا أن يجيبوا إلى شيء، فقاتلهم المسلمون حين أبوا ولما كان اليوم الثالث في المدائن قبل أهل القصر الأبيض وخرجوا، ونزل سعد القصر الأبيض واتخذ

الإيوان مصلى، وإن فيه لتماثيل جص فما حركها. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مُحَمَّد وطلحة والمهلب، وشاركهم سماك الهجيمي، قالوا: وقد كان الملك سرب عياله حين أخذت بهرسير إلى حلوان، فلما ركب المسلمون الماء خرجوا هرابا، وخيلهم على الشاطئ يمنعون المسلمين وخيلهم من العبور، فاقتتلوا هم والمسلمون قتالا شديدا، حتى ناداهم مناد: علام تقتلون انفسكم! فو الله ما في المدائن من أحد فانهزموا واقتحمتها الخيول عليهم، وعبر سعد في بقية الجيش. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد وطلحة والمهلب، قالوا: أدرك أوائل المسلمين أخريات أهل فارس، فأدرك رجل من المسلمين يدعى ثقيفا احد بنى عدى ابن شريف، رجلا من أهل فارس، معترضا على طريق من طرقها يحمي أدبار أصحابه، فضرب فرسه على الإقدام عليه، فأحجم ولم يقدم، ثم ضربه للهرب فتقاعس حتى لحقه المسلم، فضرب عنقه وسلبه كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن عطية وعمرو ودثار أبي عمر، قالوا: كان فارس من فرسان العجم في المدائن يومئذ مما يلي جازر، فقيل له: قد دخلت العرب وهرب أهل فارس، فلم يلتفت إلى قولهم، وكان واثقا بنفسه، ومضى حتى دخل بيت أعلاج له، وهم ينقلون ثيابا لهم، قال: ما لكم؟ قالوا: أخرجتنا الزنابير، وغلبتنا على بيوتنا، فدعا بجلاهق وبطين، فجعل يرميهن حتى ألزقهن بالحيطان، فأفناهن وانتهى إليه الفزع، فقام وأمر علجا فأسرج له، فانقطع حزامه، فشده على عجل، وركب، ثم خرج فوقف ومر به رجل فطعنه، وهو يقول: خذها وأنا ابن المخارق! فقتله ثم مضى ما يلتفت إليه. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سعيد بْن المرزبان بمثله، وإذا هو ابن المخارق بْن شهاب. قالوا: وأدرك رجل من المسلمين رجلا منهم معه عصابة يتلاومون،

ذكر ما جمع من فيء اهل المدائن

ويقولون: من أي شيء فررنا! ثم قال قائل منهم لرجل منهم: ارفع لي كرة، فرماها لا يخطئ، فلما رأى ذلك عاج وعاجوا معه وهو أمامهم، فانتهى إلى ذلك الرجل، فرماه من أقرب مما كان يرمي منه الكرة ما يصيبه، حتى وقف عليه الرجل، ففلق هامته، وقال: أنا ابن مشرط الحجارة. وتفار عن الفارسي أصحابه. وقالوا جميعا، مُحَمَّد والمهلب وطلحة وعمرو وأبو عمر وسعيد، قالوا: ولما دخل سعد المدائن، فرأى خلوتها، وانتهى إلى إيوان كسرى، أقبل يقرأ: «كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ» وصلى فيه صلاة الفتح- ولا تصلى جماعة- فصلى ثماني ركعات لا يفصل بينهن، واتخذه مسجدا، وفيه تماثيل الجص رجال وخيل، ولم يمتنع ولا المسلمون لذلك، وتركوها على حالها قالوا: وأتم سعد الصلاة يوم دخلها، وذلك انه اراد المقام فيها وكانت أول جمعة بالعراق جمعت جماعة بالمدائن، في صفر سنة ست عشرة . ذكر ما جمع من فيء أهل المدائن كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وَالْمُهَلَّبِ وَعُقْبَةَ وَعَمْرٍو وَأَبِي عُمَرَ وَسَعِيدٍ، قَالُوا: نَزَلَ سَعْدٌ إِيوَانَ كِسْرَى، وَقَدِمَ زَهْرَةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَبْلُغَ النَّهْرَوَانَ فَبَعَثَ فِي كُلِّ وَجْهٍ مِقْدَارَ ذَلِكَ لِنَفِي الْمُشْرِكِينَ وَجَمْعِ الْفُيُوءِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى الْقَصْرِ بَعْدَ ثَالِثَةٍ، وَوَكَّلَ بِالأَقْبَاضِ عمرو بن عمرو ابن مُقَرِّنٍ، وَأَمَرَهُ بِجَمْعِ مَا فِي الْقَصْرِ وَالإِيوَانِ وَالدُّورِ وَإِحْصَاءِ مَا يَأْتِيهِ بِهِ الطَّلَبُ، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْمَدَائِنِ تَنَاهَبُوا عِنْدَ الْهَزِيمَةِ غَارَةً، ثُمَّ طَارُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ، فَمَا أَفْلَتَ احد منهم بشيء لم يكن في عسكر مهران بالنهروان

وَلا بِخَيْطٍ وَأَلَحَّ عَلَيْهِمُ الطَّلَبُ فَتَنَقَّذُوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَرَجَعُوا بِمَا أَصَابُوا مِنَ الأَقْبَاضِ، فَضَمُّوهُ إِلَى مَا قَدْ جُمِعَ، وَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ جُمِعَ يَوْمَئِذٍ مَا فِي الْقَصْرِ الأَبْيَضِ وَمَنَازِلِ كِسْرَى وَسَائِرِ دُورِ الْمَدَائِنِ. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن الأعمش، عن حبيب بْن صهبان، قال: دخلنا المدائن، فأتينا على قباب تركية مملوءة سلالا مختمة بالرصاص، فما حسبناها إلا طعاما، فإذا هي آنية الذهب والفضة فقسمت بعد بين الناس وقال حبيب: وقد رأيت الرجل يطوف ويقول: من معه بيضاء بصفراء؟ وأتينا على كافور كثير، فما حسبناه إلا ملحا، فجعلنا نعجن به حتى وجدنا مرارته في الخبز. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السري، عن ابن الرفيل، عن أبيه الرفيل بْن ميسور، قال: خرج زهرة في المقدمة يتبعهم حتى انتهى إلى جسر النهروان، وهم عليه، فازدحموا، فوقع بغل في الماء فعجلوا وكلبوا عليه، فقال زهرة: إني أقسم بالله إن لهذا البغل لشأنا! ما كلب القوم عليه ولا صبروا للسيوف بهذا الموقف الضنك إلا لشيء بعد ما أرادوا تركه، وإذا الذي عليه حلية كسرى، ثيابه وخرزاته ووشاحه ودرعه التي كان فيها الجوهر، وكان يجلس فيها للمباهاة، وترجل زهرة يومئذ حتى إذا أزاحهم أمر أصحابه بالبغل فاحتملوه، فأخرجوه فجاءوا بما عليه، حتى رده إلى الاقباض، ما يدرون ما عليه، وارتجز يومئذ زهرة: فدى لقومي اليوم أخوالي وأعمامي هم كرهوا بالنهر خذلاني وإسلامي هم فلجوا بالبغل في الخصام بكل قطاع شئون الهام وصرعوا الفرس على الآكام كأنهم نعم من الأنعام كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن هبيرة بْن الأشعث، عن جده الكلج، قال: كنت فيمن خرج في الطلب، فإذا أنا ببغالين قد ردا الخيل عنهما بالنشاب، فما بقي معهما غير نشابتين، فألظظت بهما، فاجتمعا، فقال أحدهما لصاحبه: ارمه وأحميك، أو أرميه وتحميني!

فحمى كل واحد منهما صاحبه حتى رميا بها ثم إني حملت عليهما فقتلتهما وجئت بالبغلين ما أدري ما عليهما، حتى أبلغتهما صاحب الأقباض، وإذا هو يكتب ما يأتيه به الرجال وما كان في الخزائن والدور، فقال: على رسلك حتى ننظر ما معك! فحططت عنهما، فإذا سفطان على أحد البغلين فيهما تاج كسرى مفسخا- وكان لا يحمله إلا أسطوانتان- وفيهما الجوهر، وإذا على الآخر سفطان فيهما ثياب كسرى التي كان يلبس من الديباج المنسوج بالذهب المنظوم بالجوهر وغير الديباج منسوجا منظوما. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب، قالوا: وخرج القعقاع بْن عمرو يومئذ في الطلب، فلحق بفارسي يحمي الناس، فاقتتلا فقتله، وإذا مع المقتول جنيبة عليها عيبتان وغلافان في أحدهما خمسة أسياف وفي الآخر ستة أسياف، وإذا في العيبتين أدراع، فإذا في الأدراع درع كسرى ومغفره وساقاه وساعداه، ودرع هرقل، ودرع خاقان ودرع داهر ودرع بهرام شوبين ودرع سياوخش ودرع النعمان، وكانوا استلبوا ما لم يرثوا، استلبوها أيام غزاتهم خاقان وهرقل وداهر، وأما النعمان وبهرام فحين هربا وخالفا كسرى، وأما أحد الغلافين ففيه سيف كسرى وهرمز وقباذ وفيروز، وإذا السيوف الأخر، سيف هرقل وخاقان وداهر وبهرام وسياوخش والنعمان فجاء به إلى سعد، فقال: اختر أحد هذه الأسياف، فاختار سيف هرقل، وأعطاه درع بهرام، وأما سائرها فنفلها في الخرساء إلا سيف كسرى والنعمان- ليبعثوا بهما إلى عمر لتسمع بذلك العرب لمعرفتهم بهما، وحبسوهما في الأخماس- وحلي كسرى وتاجه وثيابه، ثم بعثوا بذلك إلى عمر ليراه المسلمون، ولتسمع بذلك العرب، وعلى هذا الوجه سلب خالد بْن سعيد عمرو بْن معد يكرب سيفه الصمصامة في الردة والقوم يستحيون من ذلك. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن عبيدة بْن معتب، عن رجل من بني الحارث بْن طريف، عن عصمة بْن الحارث الضبي، قال: خرجت فيمن خرج يطلب، فأخذت طريقا مسلوكا وإذا عليه حمار،

فلما رآني حثه فلحق بآخر قدامه، فمالا، وحثا حماريهما، فانتهيا إلى جدول قد كسر جسره، فثبتا حتى أتيتهما، ثم تفرقا، ورماني أحدهما فألظظت به فقتلته وأفلت الآخر، ورجعت إلى الحمارين، فأتيت بهما صاحب الأقباض، فنظر فيما على أحدهما، فإذا سفطان في أحدهما فرس من ذهب مسرج بسرج من فضة، على ثفره ولببه الياقوت، والزمرد منظوم على الفضة، ولجام كذلك، وفارس من فضة مكلل بالجوهر، وإذا في الآخر ناقة من فضة، عليها شليل من ذهب، وبطان من ذهب ولها شناق- أو زمام- من ذهب، وكل ذلك منظوم بالياقوت، وإذا عليها رجل من ذهب مكلل بالجوهر، كان كسرى يضعهما إلى أسطوانتي التاج. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن هبيرة بْن الأشعث، عن أبي عبيدة العنبري، قال: لما هبط المسلمون المدائن، وجمعوا الأقباض، أقبل رجل بحق معه، فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال والذين معه: ما رأينا مثل هذا قط، ما يعد له ما عندنا ولا يقاربه، فقالوا: هل أخذت منه شيئا؟ فقال: أما والله لولا اللَّه ما أتيتكم به، فعرفوا أن للرجل شأنا، فقالوا: من أنت؟ فقال: لا والله لا أخبركم لتحمدوني، ولا غيركم ليقرظوني، ولكني أحمد اللَّه وأرضى بثوابه فأتبعوه رجلا حتى انتهى إلى أصحابه، فسأل عنه، فإذا هو عامر بْن عبد قيس. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ وَعَمْرٍو وَسَعِيدٍ، قَالُوا: قَالَ سَعْدٌ: وَاللَّهِ إِنَّ الْجَيْشَ لَذُو أَمَانَةٍ، وَلَوْلا مَا سَبَقَ لأَهْلِ بَدْرٍ لَقُلْتُ: وَايْمُ اللَّهِ- عَلَى فَضْلِ أَهْلِ بَدْرٍ- لَقَدْ تَتَبَّعْتُ مِنْ أَقْوَامِ مِنْهُمْ هَنَات وَهَنَات فِيمَا أَحْرَزُوا، مَا أَحْسَبُهَا وَلا أَسْمَعُهَا مِنْ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن مبشر بن الفضيل، عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ، مَا اطَّلَعْنَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقَادِسِيَّةِ، أَنَّهُ يُرِيدُ الدُّنْيَا مَعَ الآخِرَةِ، وَلَقَدِ اتَّهَمْنَا ثَلاثَةَ نَفَرٍ، فَمَا

ذكر صفه قسم الفيء الذى اصيب بالمدائن بين اهله وكانوا - فيما زعم سيف - ستين ألفا

رَأَيْنَا كَالَّذِي هَجَمْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَمَانَتِهِمْ وَزُهْدِهِمْ: طليحة بن خويلد، وعمرو بن معد يكرب، وَقَيْسَ بْنَ الْمَكْشُوحِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن مخلد بن قيس الْعِجْلِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا قُدِمَ بِسَيْفِ كِسْرَى عَلَى عُمَرَ وَمِنْطِقَتِهِ وَزِبْرِجِهِ، قَالَ: إِنَّ أَقْوَامًا أَدَّوْا هَذَا لَذَوُو أَمَانَةٍ! [فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنَّكَ عَفَفْتَ فَعَفَّتِ الرَّعِيَّةُ] . كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَمْرٍو وَالْمُجَالِدِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ حِينَ نَظَرَ إِلَى سِلاحِ كِسْرَى: إِنَّ أَقْوَامًا أَدَّوْا هَذَا لَذُوُو أَمَانَةٍ . ذكر صفة قسم الفيء الذي أصيب بالمدائن بين أهله وكانوا- فيما زعم سيف- ستين ألفا كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو وَسَعِيدٍ وَالْمُهَلَّبِ، قَالُوا: وَلَمَّا بَعَثَ سَعْدٌ بَعْدَ نُزُولِهِ الْمَدَائِنَ فِي طَلَبِ الأَعَاجِمِ، بَلَغَ الطَّلَبُ النَّهْرَوَانَ، ثُمَّ تَرَاجَعُوا، وَمَضَى الْمُشْرِكُونَ نَحْوَ حُلْوَانَ، فَقَسَّمَ سَعْدٌ الْفَيْءَ بَيْنَ النَّاسِ بَعْدَ مَا خَمَسَهُ، فَأَصَابَ الْفَارِسَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا، وَكُلُّهُمْ كَانَ فَارِسًا لَيْسَ فِيهِمْ رَاجِلٌ، وَكَانَتِ الْجَنَائِبُ فِي الْمَدَائِنِ كَثِيرَةً. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن المجالد، عن الشعبي بِمِثْلِهِ، وَقَالُوا جَمِيعًا: وَنَفَلَ مِنَ الأَخْمَاسِ وَلَمْ يَجْهَدْهَا فِي أَهْلِ الْبَلاءِ. وَقَالُوا جَمِيعًا: قَسَّمَ سَعْدٌ دُورَ الْمَدَائِنِ بَيْنَ النَّاسِ، وَأَوْطَنُوهَا، وَالَّذِي وَلِي الْقَبْضَ عَمْرُو بْنُ عَمْرٍو الْمُزَنِيُّ، وَالَّذِي وَلِيَ الْقَسْمَ سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَكَانَ فَتْحُ الْمَدَائِنِ فِي صَفَرٍ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ قَالُوا: وَلَمَّا دَخَلَ سَعْدٌ الْمَدَائِنَ أَتَمَّ الصَّلاةَ وَصَامَ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِإِيوَانِ كِسْرَى فَجَعَلَ مَسْجِدًا لِلأَعْيَادِ، وَنَصَبَ فِيهِ مِنْبَرًا، فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ- وَفِيهِ التَّمَاثِيلُ- وَيَجْمَعُ فِيهِ، فَلَمَّا كَانَ الْفِطْرُ

قِيلَ: ابْرُزُوا، فَإِنَّ السُّنَّةَ فِي الْعِيدَيْنِ الْبَرَازُ فَقَالَ سَعْدٌ: صَلُّوا فِيهِ، قَالَ: فَصُلِّيَ فِيهِ، وَقَالَ: سَوَاءٌ فِي عُقْرِ الْقَرْيَةِ أَوْ فِي بَطْنِهَا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ: عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَ سَعْدٌ الْمَدَائِنَ، وَقَسَّمَ الْمَنَازِلَ، بَعَثَ إِلَى الْعِيَالاتِ، فَأَنْزَلَهُمُ الدُّورَ وَفِيهَا الْمَرَافِقُ، فَأَقَامُوا بِالْمَدَائِنِ حَتَّى فَرَغُوا مِنْ جَلُولاءَ وَتِكْرِيتَ وَالْمَوْصِلِ، ثُمَّ تَحَوَّلُوا إِلَى الْكُوفَةِ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن محمد وطلحة وزياد وَالْمُهَلَّبِ، وَشَارَكَهُمْ عَمْرٌو وَسَعِيدٌ: وَجَمَعَ سَعْدٌ الْخُمُسَ، وَأَدْخَلَ فِيهِ كُلَّ شَيْءٍ أَرَادَ أَنْ يَعْجَبَ مِنْهُ عُمَرُ، مِنْ ثِيَابِ كِسْرَى وَحُلِيِّهِ وَسَيْفِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَا كَانَ يُعْجِبُ الْعَرَبُ أَنْ يَقَعَ إِلَيْهِمْ، وَنَفَلَ مِنَ الأَخْمَاسِ، وَفَضَلَ بَعْدَ الْقَسْمِ بَيْنَ النَّاسِ وَإِخْرَاجِ الْخُمُسِ الْقِطْفُ، فَلَمْ تَعْتَدِلْ قِسْمَتُهُ، فَقَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: هَلْ لَكُمْ فِي أَنْ تَطِيبَ أَنْفُسُنَا عَنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ، فَنَبْعَثُ بِهِ إِلَى عُمَرَ فَيَضَعَهُ حَيْثُ يَرَى، فَإِنَّا لا نَرَاهُ يَتَّفِقُ قِسْمَتَهُ، وَهُوَ بَيْنَنَا قَلِيلٌ، وَهُوَ يَقَعُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَوْقِعًا! فَقَالُوا: نَعَمْ هَا اللَّهِ إِذًا، فَبَعَثَ بِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَكَانَ الْقِطْفُ سِتِّينَ ذِرَاعًا فِي سِتِّينَ ذِرَاعًا، بُسَاطًا وَاحِدًا مِقْدَارُ جَرِيبٍ، فِيهِ طُرُقٌ كَالصُّوَرِ وَفُصُوصٌ كَالأَنْهَارِ، وَخِلالَ ذَلِكَ كَالدَّيْرِ، وَفِي حَافَاتِهِ كَالأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ وَالأَرْضِ الْمَبْقَلَةِ بِالنَّبَاتِ فِي الرَّبِيعِ مِنَ الْحَرِيرِ عَلَى قُضْبَانِ الذَّهَبِ وَنُوَّارُهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ نَفَلَ مِنَ الْخُمُسِ أُنَاسًا، وَقَالَ: إِنَّ الأَخْمَاسَ يُنْفَلُ مِنْهَا مَنْ شَهِدَ وَمَنْ غَابَ مِنْ أَهْلِ الْبَلاءِ فِيمَا بَيْنَ الْخُمُسَيْنِ، وَلا أَرَى الْقَوْمَ جَهَدُوا الْخُمُسَ بِالنَّفْلِ، ثُمَّ قَسَّمَ الْخُمُسَ فِي مَوَاضِعِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي هَذَا الْقِطْفِ! فَأَجْمَعَ مَلَؤُهُمْ عَلَى أَنْ قَالُوا: قَدْ جَعَلُوا ذَلِكَ لَكَ، فَرِ رَأْيَكَ، إِلا مَا كَانَ مِنْ عَلِيٍّ فَإِنَّهُ [قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الأَمْرُ كَمَا قَالُوا، وَلَمْ يَبْقَ إِلا التَّرْوِيَةُ، إِنَّكَ إِنْ تَقْبَلْهُ عَلَى هَذَا الْيَوْمَ لَمْ تَعْدِمْ فِي غَدٍ مَنْ يَسْتَحِقُّ بِهِ مَا لَيْسَ لَهُ] ،

قَالَ: صَدَقْتَنِي وَنَصَحْتَنِي فَقَطَعَهُ بَيْنَهُمْ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن عبد الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: أَصَابَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ الْمَدَائِنِ بُهَارُ كِسْرَى، ثَقُلَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَذْهَبُوا بِهِ، وَكَانُوا يَعُدُّونَهُ لِلشِّتَاءِ إِذَا ذَهَبَتِ الرَّيَاحِينُ، فَكَانُوا إِذَا أَرَادُوا الشُّرْبَ شَرِبُوا عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُمْ فِي رِيَاضٍ بُسَاطُ سِتِّينَ فِي سِتِّينَ، أَرْضُهُ بِذَهَبٍ، وَوَشْيُهُ بِفُصُوصٍ، وَثَمَرُهُ بِجَوْهَرٍ، وَوَرَقُهُ بِحَرِيرٍ وَمَاءِ الذَّهَبِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّيهِ الْقِطْفَ، فَلَمَّا قسم سعد فيئهم فَضَلَ عَنْهُمْ، وَلَمْ يَتَّفِقْ قِسَمْتُهُ، فَجَمَعَ سَعْدٌ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ مَلأَ أَيْدِيَكُمْ، وَقَدْ عَسُرَ قَسْمُ هَذَا الْبِسَاطِ، وَلا يَقْوَى عَلَى شِرَائِهِ أَحَدٌ، فَأَرَى أَنْ تَطِيبُوا بِهِ نَفْسًا لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَضَعُهُ حَيْثُ شَاءَ، فَفَعَلُوا فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ الْمَدِينَةَ رَأَى رُؤْيَا فَجَمَعَ النَّاسَ، فَحَمَدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَاسْتَشَارَهُمْ فِي الْبِسَاطِ، وَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَهُ، فَمِنْ بَيْنَ مُشِيرٍ بِقَبْضِهِ، وَآخَرَ مُفَوِّضٍ إِلَيْهِ، وَآخَرَ مُرَقِّقٍ، [فَقَامَ عَلِيٌّ حِينَ رَأَى عُمَرَ يَأْبَى حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ، فَقَالَ: لِمَ تَجْعَلْ عِلْمَكَ جَهْلا، وَيَقِينَكَ شَكًّا! إِنَّهُ لَيْسَ لَكَ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا أَعْطَيْتَ فَأَمْضَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ] قَالَ: صَدَقْتَنِي فَقَطَعَهَ فَقَسَمَهُ بَيْنَ النَّاسِ، فَأَصَابَ عَلِيًّا قِطْعَةً مِنْهُ، فَبَاعَهَا بِعِشْرِينَ أَلْفًا، وَمَا هِيَ بِأَجْوَدِ تِلْكَ الْقِطَعِ. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ وَعَمْرٍو وَسَعِيدٍ، قَالُوا: وَكَانَ الَّذِي ذَهَبَ بِالأَخْمَاسِ، أَخْمَاسِ الْمَدَائِنِ، بَشِيرُ بْنُ الْخَصَّاصِيَةِ، وَالَّذِي ذَهَبَ بِالْفَتْحِ خُنَيْسُ بْنُ فُلانٍ الأَسَدِيُّ، وَالَّذِي وَلِي الْقَبْضَ عَمْرٌو وَالْقَسْمُ سَلْمَانُ قَالُوا: وَلَمَّا قَسَّمَ الْبُسَاطَ بَيْنَ النَّاسِ أَكْثَرَ النَّاسُ فِي فَضْلِ أَهْلِ الْقَادِسِيَّةِ، فَقَالَ عُمَرُ: أُولَئِكَ أَعْيَانُ الْعَرَبِ وَغُرَرُهَا، اجْتَمَعَ لَهُمْ مَعَ الأَخْطَارِ الدِّينُ، هُمْ أَهْلُ الأَيَّامِ وَأَهْلُ الْقَوَادِسِ. قالوا: ولما اتى بحلى كسرى في المشاهدة فِي غَيْرِ ذَلِكَ- وَكَانَتْ لَهُ عِدَّةُ أَزْيَاءٍ لِكُلِّ حَالَةٍ زِيٌّ- قَالَ: عَلِيَّ بِمُحَلِّمٍ- وَكَانَ أَجْسَمَ عَرَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ

بِأَرْضِ الْمَدِينَةِ فَأُلْبِسَ تَاجَ كِسْرَى عَلَى عَمُودَيْنِ مِنْ خَشَبٍ، وَصُبَّ عَلَيْهِ أَوْشِحَتُهُ وَقَلائِدُهُ وَثِيَابُهُ، وَأُجْلِسَ لِلنَّاسِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ عُمَرُ، وَنَظَرَ إِلَيْهِ النَّاسُ، فَرَأَوْا أَمْرًا عَظِيمًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَفِتْنَتِهَا، ثُمَّ قَامَ عَنْ ذَلِكَ، فَأُلْبِسَ زِيَّهُ الَّذِي يَلِيهِ، فَنَظَرُوا إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ نَوْعٍ، حَتَّى أَتَى عَلَيْهَا كُلِّهَا، ثُمَّ أَلْبَسَهُ سِلاحَهُ، وَقَلَّدَهُ سَيْفَهُ، فَنَظَرُوا إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ وَضَعَهُ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ أَقْوَامًا أَدَّوْا هَذَا لَذَوُو أَمَانَةٍ وَنَفَلَ سَيْفَ كسرى محلما، وقال: احمق بأمري مِنَ الْمُسْلِمِينَ غَرَّتْهُ الدُّنْيَا! هَلْ يَبْلُغَنَّ مَغْرُورٌ مِنْهَا إِلا دُونَ هَذَا أَوْ مِثْلَهُ! وَمَا خَيْرُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ سَبَقَهُ كِسْرَى فِيمَا يَضُرُّهُ وَلا يَنْفَعُهُ! إِنَّ كِسْرَى لَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ تَشَاغَلَ بِمَا أُوتِيَ عَنْ آخِرَتِهِ، فَجَمَعَ لِزَوْجِ امْرَأَتِهِ أَوْ زَوْجِ ابْنَتِهِ، أَوِ امْرَأَةِ ابنه، ولم يقدم لنفسه، فقدم امرؤ لِنَفْسِهِ وَوَضَعَ الْفُضُولَ مَوَاضِعَهَا تُحَصَّلُ لَهُ، وَإِلا حُصِّلَتْ لِلثَّلاثَةِ بَعْدَهُ، وَأَحْمِقْ بِمَنْ جَمَعَ لَهُمْ أَوْ لِعَدُوٍّ جَارِفٍ! كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كُرَيْبٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ مَقْدَمَ الأَخْمَاسِ عَلَيْهِ حِينَ نَظَرَ إِلَى سِلاحِ كِسْرَى وَثِيَابِهِ وَحُلِيِّهِ، مَعَ ذَلِكَ سَيْفُ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، فَقَالَ لِجُبَيْرٍ: إِنَّ أَقْوَامًا أَدَّوْا هَذَا لَذَوُو أَمَانَةٍ! إِلَى مَنْ كُنْتُمْ تَنْسُبُونَ النُّعْمَانَ؟ فَقَالَ جُبَيْرٌ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَنْسُبُهُ إِلَى الأَشْلاءِ، أَشْلاءِ قَنَصٍ، وَكَانَ أَحَدَ بَنِي عُجْمِ بْنِ قَنَصٍ، فَقَالَ: خُذْ سَيْفَهُ فَنَفِّلْهُ إِيَّاهُ، فجهل النَّاسُ عجم، وَقَالُوا لخم وَقَالُوا جَمِيعًا: وَوَلَّى عُمَرُ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ صَلاةَ مَا غَلَبَ عَلَيْهِ وَحَرْبِهِ، فَوَلِيَ ذَلِكَ، وَوَلَّى الْخَرَاجَ النُّعْمَانَ وَسُوَيْدًا ابْنَيْ عَمْرِو بْنِ مُقَرِّنٍ، سُوَيْدًا عَلَى مَا سَقَى الْفُرَاتُ، وَالنُّعْمَانُ عَلَى مَا سَقَتْ دِجْلَةَ، وَعَقَدُوا الْجُسُورَ، ثُمَّ وَلَّى عَمَلَهُمَا، وَاسْتَعْفَيَا حُذَيْفَةَ بْنَ أُسَيْدٍ وَجَابِرَ بْنَ عَمْرٍو الْمُزَنِيَّ، ثُمَّ وَلَّى عَمَلَهُمَا بَعْدُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ وَعُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ. قَالَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ- اعنى سنه ست عشره- كَانَتْ وَقْعَةُ جَلُولاءَ، كَذَلِكَ

ذكر الخبر عن وقعه جلولاء الوقيعه

حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق وكتب إِلَيَّ السَّرِيُّ يَذْكُرُ أَنَّ شُعَيْبًا حَدَّثَهُ عَنْ سَيْفٍ بِذَلِكَ . ذكر الخبر عن وقعة جلولاء الوقيعة كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْن أبي حازم، قال: لما أقمنا بالمدائن حين هبطناها واقتسمنا ما فيها، وبعثنا إلى عمر بالأخماس، وأوطناها، أتانا الخبر بأن مهران قد عسكر بجلولاء، وخندق عليه، وأن أهل الموصل قد عسكروا بتكريت. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن الوليد بن عبد الله ابن أبي طيبة البجلي، عن أبيه بمثله، وزاد فيه: فكتب سعد بذلك إلى عمر، فكتب إلى سعد: أن سرح هاشم بْن عتبة إلى جلولاء في اثني عشر ألفا، واجعل على مقدمته القعقاع بْن عمرو، وعلى ميمنته سعر بْن مالك، وعلى ميسرته عمرو بْن مالك بْن عتبة، واجعل على ساقته عمرو بْن مرة الجهني. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وَزِيَادٍ، قَالُوا: وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى سَعْدٍ: إِنْ هَزَمَ اللَّهُ الْجُنْدَيْنِ: جُنْدَ مِهْرَانَ وَجُنْدَ الأَنْطَاقِ، فَقَدِّمِ الْقَعْقَاعَ حَتَّى يَكُونَ بَيْنَ السَّوَادِ وَبَيْنَ الْجَبَلِ عَلَى حَدِّ سَوَادِكُمْ، وَشَارَكَهُمْ عَمْرٌو وَسَعِيدٌ قَالُوا: وَكَانَ مِنْ حَدِيثِ أَهْلِ جَلُولاءَ، أَنَّ الأَعَاجِمَ لَمَّا انْتَهَوْا بَعْدَ الْهَرَبِ مِنَ الْمَدَائِنِ إِلَى جَلُولاءَ، وَافْتَرَقَتِ الطُّرُقُ بِأَهْلِ أَذْرَبِيجَانَ وَالْبَابِ وَبِأَهْلِ الْجِبَالِ وَفَارِسَ، تَذَامَرُوا وَقَالُوا: إِنِ افْتَرَقْتُمْ لَمْ تَجْتَمِعُوا أَبَدًا، وَهَذَا مَكَانٌ يُفَرِّقُ بَيْنَنَا، فَهَلُمُّوا فَلْنَجْتَمِعْ لِلْعَرَبِ بِهِ وَلْنُقَاتِلْهُمْ، فَإِنْ كَانَتْ لَنَا فَهُوَ الَّذِي نُرِيدُ، وَإِنْ كَانَتِ الأُخْرَى كُنَّا قَدْ قَضَيْنَا الَّذِي عَلَيْنَا، وَأَبْلَيْنَا عُذْرًا فَاحْتَفَرُوا الْخَنْدَقَ، وَاجْتَمَعُوا فِيهِ عَلَى مِهْرَانَ الرَّازِي، وَنَفَذَ يَزْدَجَرْدَ إِلَى حُلْوَانَ فَنَزَلَ بِهَا، وَرَمَاهُمْ بالرجال،

وَخَلَّفَ فِيهِمُ الأَمْوَالَ، فَأَقَامُوا فِي خَنْدَقِهِمْ، وَقَدْ أَحَاطُوا بِهِ الْحَسَكَ مِنَ الْخَشَبِ إِلا طُرُقَهُمْ قَالَ عَمْرٌو، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ لا يَسْتَعِينُ فِي حَرْبِهِ بِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ حَتَّى مَاتَ، وَكَانَ عُمَرُ قَدِ اسْتَعَانَ بِهِمْ، فَكَانَ لا يُؤَمِّرُ مِنْهُمْ أَحَدًا إِلا عَلَى النَّفَرِ وَمَا دُونَ ذَلِكَ، وَكَانَ لا يَعْدِلُ أَنْ يُؤَمِّرَ الصَّحَابَةَ إِذَا وَجَدَ من يجزى عَنْهُ فِي حَرْبِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَفِي التَّابِعِينَ بِإِحْسَانٍ، وَلا يُطْمِعُ مَنِ انْبَعَثَ فِي الرده في الرياسة، وَكَانَ رُؤَسَاءُ أَهْلِ الرِّدَّةِ فِي تِلْكَ الْحُرُوبِ حِشْوَةً إِلَى أَنْ ضَرَبَ الإِسْلامُ بِجِرَانِهِ. ثُمَّ اشْتَرَكَ عَمْرٌو وَمُحَمَّدٌ وَالْمُهَلَّبُ وَطَلْحَةُ وَسَعِيدٌ، فَقَالُوا: ففصل هاشم ابن عُتْبَةَ بِالنَّاسِ مِنَ الْمَدَائِنِ فِي صَفَرٍ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ، فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، مِنْهُمْ وُجُوهِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَأَعْلامِ الْعَرَبِ مِمَّنِ ارْتَدَّ وَمِمَّنْ لَمْ يَرْتَدَّ، فَسَارَ مِنَ الْمَدَائِنِ إِلَى جَلُولاءَ أَرْبَعًا، حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِمْ، وَأَحَاطَ بِهِمْ، فَحَاصَرَهُمْ وَطَاوَلَهُمْ أَهْلُ فَارِسَ، وَجَعَلُوا لا يَخْرُجُونَ عَلَيْهِمْ إِلا إِذَا أَرَادُوا، وَزَاحَفَهُمُ الْمُسْلِمُونَ بِجَلُولاءَ ثَمَانِينَ زَحْفًا، كُلُّ ذَلِكَ يُعْطِي اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمُ الظَّفْرَ، وَغَلَبُوا الْمُشْرِكِينَ عَلَى حَسَكِ الْخَشَبِ، فَاتَّخَذُوا حَسَكَ الْحَدِيدِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن عقبة بْن مكرم، عن بطان بْن بشر، قال: لما نزل هاشم على مهران بجلولاء حصرهم في خندقهم، فكانوا يزاحفون المسلمين في زهاء وأهاويل، وجعل هاشم يقوم في الناس، ويقول: إن هذا المنزل منزل له ما بعده، وجعل سعد يمده بالفرسان حتى إذا كان أخيرا احتفلوا للمسلمين، فخرجوا عليهم، فقام هاشم في الناس، فقال: أبلوا اللَّه بلاء حسنا يتم لكم عليه الأجر والمغنم، واعملوا لله فالتقوا فاقتتلوا، وبعث اللَّه عليهم ريحا أظلمت عليهم البلاد فلم يستطيعوا إلا المحاجزة، فتهافت فرسانهم في الخندق، فلم يجدوا بدا من أن يجعلوا فرضا مما يليهم، تصعد منه خيلهم، فأفسدوا حصنهم، وبلغ ذلك المسلمين، فنظروا إليه، فقالوا: أننهض إليهم ثانية فندخله عليهم

أو نموت دونه! فلما نهد المسلمون الثانية خرج القوم، فرموا حول الخندق مما يلي المسلمين بحسك الحديد لكيلا يقدم عليهم الخيل، وتركوا للمجال. وجها، فخرجوا على المسلمين منه، فاقتتلوا قتالا شديدا لم يقتتلوا مثله إلا ليلة الهرير، إلا أنه كان أكمش وأعجل، وانتهى القعقاع بْن عمرو في الوجه الذي زاحف فيه إلى باب خندقهم، فأخذ به، وأمر مناديا فنادى: يا معشر المسلمين، هذا أميركم قد دخل خندق القوم وأخذ به فأقبلوا إليه، ولا يمنعنكم من بينكم وبينه من دخوله وإنما أمر بذلك ليقوي المسلمين به، فحمل المسلمون ولا يشكون إلا أن هاشما فيه، فلم يقم لحملتهم شيء، حتى انتهوا إلى باب الخندق، فإذا هم بالقعقاع بْن عمرو، وقد أخذ به، وأخذ المشركون في هزيمة يمنة ويسرة عن المجال الذي بحيال خندقهم، فهلكوا فيما أعدوا للمسلمين فعقرت دوابهم، وعادوا رجالة، وأتبعهم المسلمون، فلم يفلت منهم إلا من لا يعد، وقتل اللَّه منهم يومئذ مائة ألف، فجللت القتلى المجال وما بين يديه وما خلفه، فسميت جلولاء بما جللها من قتلاهم، فهي جلولاء الوقيعة كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبيد الله بن محفز، عن أبيه، قال: إني لفي أوائل الجمهور، مدخلهم ساباط ومظلمها، وإني لفي أوائل الجمهور حين عبروا دجلة، ودخلوا المدائن، ولقد أصبت بها تمثالا لو قسم في بكر بْن وائل لسد منهم مسدا، عليه جوهر، فأديته، فما لبثنا بالمدائن إلا قليلا حتى بلغنا أن الأعاجم قد جمعت لنا بجلولاء جمعا عظيما، وقدموا عيالاتهم إلى الجبال، وحبسوا الأموال، فبعث إليهم سعد عمرو بْن مالك بْن عتبة بْن أهيب بْن عبد مناف بْن زهرة، وكان جند جلولاء اثني عشر ألفا من المسلمين، على مقدمتهم القعقاع بْن عمرو، وكان قد خرج فيهم وجوه الناس وفرسانهم، فلما مروا ببابل مهروذ صالحه دهقانها، على أن يفرش له جريب أرض دراهم، ففعل وصالحه ثم مضى حتى قدم عليهم بجلولاء، فوجدهم قد خندقوا وتحصنوا في خندقهم، ومعهم بيت ما لهم، وتواثقوا وتعاهدوا بالنيران ألا يفروا، ونزل المسلمون قريبا منهم، وجعلت

الأمداد تقدم على المشركين كل يوم من حلوان، وجعل يمدهم بكل من أمده من أهل الجبال، واستمد المسلمون سعدا فأمدهم بمائتي فارس، ثم مائتين، ثم مائتين ولما رأى أهل فارس أمداد المسلمين بادروا بقتال المسلمين. وعلى خيل المسلمين يومئذ طليحة بْن فلان، أحد بني عبد الدار، وعلى خيل الأعاجم خرزاذ بْن خرهرمز- فاقتتلوا قتالا شديدا، لم يقاتلوا المسلمين مثله في موطن من المواطن، حتى انفذوا النبل، وحتى أنفدوا النشاب، وقصفوا الرماح حتى صاروا إلى السيوف والطبرزينات فكانوا بذلك صدر نهارهم إلى الظهر، ولما حضرت الصلاة صلى الناس إيماء، حتى إذا كان بين الصلاتين خنست كتيبة وجاءت أخرى فوقفت مكانها، فأقبل القعقاع بْن عمرو على الناس، فقال: أهالتكم هذه؟ قالوا: نعم، نحن مكلون وهم مريحون، والكال يخاف العجز إلا أن يعقب، فقال: إنا حاملون عليهم ومجادوهم وغير كافين ولا مقلعين حتى يحكم الله بيننا وبينهم فاحملوا عليهم حملة رجل واحد حتى تخالطوهم، ولا يكذبن أحد منكم فحمل فانفرجوا، فما نهنه أحد عن باب الخندق، وألبسهم الليل رواقه، فأخذوا يمنة ويسرة، وجاء في الأمداد طليحة وقيس بْن المكشوح وعمرو بْن معد يكرب وحجر بْن عدي، فوافقوهم قد تحاجزوا مع الليل، ونادى منادي القعقاع بْن عمرو: أين تحاجزون وأميركم في الخندق! فتفار المشركون، وحمل المسلمون، فأدخل الخندق، فأتى فسطاطا فيه مرافق وثياب، وإذا فرش على إنسان فأنبشه، فإذا امرأة كالغزال في حسن الشمس، فأخذتها وثيابها، فأديت الثياب، وطلبت في الجارية حتى صارت إلي فاتخذتها أم ولد. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن حماد بْن فلان البرجمي، عن أبيه، أن خارجة بْن الصلت أصاب يومئذ ناقة من ذهب

أو فضة موشحة بالدر والياقوت مثل الجفرة إذا وضعت على الأرض، وإذا عليها رجل من ذهب موشح كذلك، فجاء بها وبه حتى أداهما. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو وَسَعِيدٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْمُجَالِدِ وَعُقْبَةَ بْنِ مُكْرَمٍ، قَالُوا: وَأَمَرَ هَاشِمٌ الْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو بِالطَّلَبِ، فَطَلَبَهُمْ حَتَّى بَلَغَ خَانقِينَ، وَلَمَّا بَلَغَتِ الْهَزِيمَةُ يَزْدَجَرْدَ سَارَ مِنْ حُلْوَانَ نَحْوَ الْجِبَالِ، وَقَدِمَ الْقَعْقَاعُ حُلْوَانَ، وَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ كَتَبَ إِلَى سَعْدٍ: إِنْ هَزَمَ اللَّهُ الْجُنْدَيْنِ، جُنْدَ مِهْرَانَ وَجُنْدَ الأَنْطَاقِ، فَقَدِّمِ الْقَعْقَاعَ، حَتَّى يَكُونَ بَيْنَ السَّوَادِ وَالْجَبَلِ، عَلَى حَدِّ سَوَادِكُمْ فَنَزَلَ الْقَعْقَاعُ بِحُلْوَانَ فِي جُنْدٍ مِنَ الأَفْنَاءِ وَمِنَ الْحَمْرَاءِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهَا إِلَى أَنْ تَحَوَّلَ النَّاسُ مِنَ الْمَدَائِنِ إِلَى الْكُوفَةِ، فَلَمَّا خَرَجَ سَعْدٌ مِنَ الْمَدَائِنِ إِلَى الْكُوفَةِ لَحِقَ بِهِ الْقَعْقَاعُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الثَّغْرِ قُبَاذَ- وكان من الحمراء، واصله من خراسان- ونقل مِنْهَا مَنْ شَهِدَهَا، وَبَعْضَ مَنْ كَانَ بِالْمَدَائِنِ نَائِيًا. وَقَالُوا- وَاشْتَرَكُوا فِي ذَلِكَ: وَكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ بِفَتْحِ جَلُولاءَ وَبِنُزُولِ الْقَعْقَاعِ حُلْوَانَ وَاسْتَأْذَنُوهُ فِي اتِّبَاعِهِمْ، فَأَبَى، وَقَالَ: لَوَدِدْتُ أَنَّ بَيْنَ السَّوَادِ وَبَيْنَ الْجَبَلِ سَدًّا لا يَخْلُصُونَ إِلَيْنَا وَلا نَخْلُصُ إِلَيْهِمْ، حَسْبُنَا مِنَ الرِّيفِ السَّوَادُ، إِنِّي آثَرْتُ سَلامَةَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الأَنْفَالِ، قَالُوا: وَلَمَّا بَعَثَ هَاشِمٌ الْقَعْقَاعَ فِي آثَارِ الْقَوْمِ، ادرك مهران بخانقين، فقتله وادرك الفيرزان فَنَزَلَ، وَتَوَقَّلَ فِي الظِّرَابِ، وَخَلَّى فَرَسَهُ، وَأَصَابَ الْقَعْقَاعُ سَبَايَا، فَبَعَثَ بِهِمْ إِلَى هَاشِمٍ مِنْ سَبَايَاهُمْ، وَاقْتَسَمُوهُمْ فِيمَا اقْتَسَمُوا مِنَ الْفَيْءِ فَاتُّخِذْنَ، فَوَلَدْنَ فِي الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ السَّبْيُ يُنْسَبُ إِلَى جلولاء، فيقال: سَبْيُ جَلُولاءَ، وَمِنْ ذَلِكَ السَّبْيِ أُمُّ الشَّعْبِيِّ، وَقَعَتْ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي عَبْسٍ، فَوَلَدَتْ فَمَاتَ عَنْهَا فَخَلَفَ عَلَيْهَا شَرَاحِيلُ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَامِرًا، وَنَشَأَ فِي بَنِي عَبْسٍ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب،

قالوا: واقتسم في جلولاء على كل فارس تسعة آلاف، تسعة آلاف، وتسعة من الدواب، ورجع هاشم بالأخماس إلى سَعْدٍ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: أفاء اللَّه على المسلمين ما كان في عسكرهم بجلولاء وما كان عليهم، وكل دابة كانت معهم إلا اليسير لم يفلتوا بشيء من الأموال، وولي قسم ذلك بين المسلمين سلمان بْن ربيعة، فكانت إليه يومئذ الأقباض والأقسام، وكانت العرب تسميه لذلك سلمان الخيل، وذلك أنه كان يقسم لها ويقصر بما دونها، وكانت العتاق عنده ثلاث طبقات، وبلغ سهم الفارس بجلولاء مثل سهمه بالمدائن كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن المجالد وعمرو، عن الشعبي، قال: اقتسم الناس فيء جلولاء على ثلاثين ألف ألف، وكان الخمس ستة آلاف ألف. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحه ومحمد والمهلب وسعيد، قالوا: ونفل سعد من أخماس جلولاء من أعظم البلاء ممن شهدها ومن أعظم البلاء ممن كان نائيا بالمدائن، وبعث بالأخماس مع قضاعى ابن عمرو الدؤلي من الأذهاب والأوراق والآنية والثياب، وبعث بالسبي مع أبي مفزر الأسود، فمضيا. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ زَهْرَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، قَالا: بَعَثَ الأَخْمَاسَ مَعَ قُضَاعِيٍّ وَأَبِي مفزرٍ، وَالْحِسَابَ مَعَ زياد ابن أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَ الَّذِي يَكْتُبُ لِلنَّاسِ وَيُدَوِّنُهُمْ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى عُمَرَ كَلَّمَ زِيَادٌ عُمَرَ فِيمَا جَاءَ لَهُ، وَوَصَفَ لَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَقُومَ فِي النَّاسِ بِمِثْلِ الَّذِي كَلَّمْتَنِي بِهِ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا عَلَى الأَرْضِ شَخْصٌ أَهْيَبُ فِي صَدْرِي مِنْكَ، فَكَيْفَ لا أَقْوَى عَلَى هَذَا مِنْ غَيْرِكَ! فَقَامَ فِي النَّاسِ بِمَا

أَصَابُوا وَبِمَا صَنَعُوا، وَبِمَا يَسْتَأْذِنُونَ فِيهِ مِنَ الانْسِيَاحِ فِي الْبِلادِ فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا الْخَطِيبُ الْمِصْقَعُ، فَقَالَ: إِنَّ جُنْدَنَا أَطْلَقُوا بِالْفِعَالِ لِسَانَنَا. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ زَهْرَةَ وَمُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: لَمَّا قُدِمَ عَلَى عُمَرَ بِالأَخْمَاسِ مِنْ جَلُولاءَ، قَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ لا يَجِنُّهُ سَقْفُ بَيْتٍ حَتَّى أَقْسِمَهُ فَبَاتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَرْقَمَ يَحْرُسَانِهِ فِي صَحْنِ الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ فِي النَّاسِ فَكَشَفَ عَنْهُ جَلابِيبَهُ- وَهِيَ الأَنْطَاعُ- فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى يَاقُوتِهِ وَزَبْرَجِدِهِ وَجَوْهَرِهِ بَكَى، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرحمن: ما يبكيك يا امير المؤمنين، فو الله إِنَّ هَذَا لَمَوْطِنُ شُكْرٍ! فَقَالَ: عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا ذَاكَ يُبْكِينِي، وَتَاللَّهِ مَا أَعْطَى اللَّهُ هَذَا قَوْمًا إِلا تَحَاسَدُوا وَتَبَاغَضُوا، وَلا تَحَاسَدُوا إِلا أُلْقِيَ بِأَسْهُمٍ بَيْنَهُمْ وَأُشْكِلَ عَلَى عُمَرَ فِي أَخْمَاسِ الْقَادِسِيَّةِ حَتَّى خَطَرَ عَلَيْهِ مَا أَفَاءَ اللَّهُ يَعْنِي مِنَ الْخُمُسِ- فَوَضَعَ ذَلِكَ في اهله، فأجرى جلولاء مجرى خمس القادسية عن ملا وَتَشَاوُرٍ وَإِجْمَاعٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَنَفَلَ مِنْ ذَلِكَ بَعْضَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وَسَعِيدٍ وَعَمْرٍو، قَالُوا: وَجَمَعَ سَعْدٌ مِنْ وَرَاءِ الْمَدَائِنِ، وَأَمَرَ بِالإِحْصَاءِ فَوَجَدَهُمْ بِضْعَةً وَثَلاثِينَ وَمِائَةَ أَلْفٍ، وَوَجَدَهُمْ بِضْعَةً وَثَلاثِينَ أَلْفَ أَهْلِ بَيْتٍ، وَوَجَدَ قِسْمَتَهُمْ ثَلاثَةً لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِأَهْلِهِمْ، فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: أَنْ أَقِرَّ الْفَلاحِينَ عَلَى حَالِهِمْ، إِلا مَنْ حَارَبَ أَوْ هَرَبَ مِنْكَ إِلَى عَدُوِّكَ فَأَدْرَكْتَهُ، وَأَجْرِ لَهُمْ مَا أَجْرَيْتَ لِلْفَلاحِينَ قَبْلَهُمْ، وَإِذَا كَتَبْتُ إِلَيْكَ فِي قَوْمٍ فَأَجْرُوا أَمْثَالَهُمْ مَجْرَاهُمْ فَكَتَبَ إِلَيْهِ سَعْدٌ فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ فَلاحًا فَأَجَابَهُ: أَمَّا مَنْ سِوَى الْفَلاحِينَ فَذَاكَ إليكم ما لم تغنوه- يَعْنِي تَقْتَسِمُوهُ- وَمَنْ تَرَكَ أَرْضَهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَخَلاهَا فَهِيَ لَكُمْ، فَإِنْ دَعَوْتُمُوهُمْ وَقَبِلْتُمْ مِنْهُمُ الْجَزَاءَ وَرَدَدْتُمُوهُمْ قَبْلَ قِسْمَتِهَا فَذِمَّةٌ، وَإِنْ لَمْ تَدْعُوهُمْ فَفَيْءٌ لَكُمْ لِمَنْ أَفَاءَ اللَّهُ

ذَلِكَ عَلَيْهِ وَكَانَ أَحْظَى بِفَيْءِ الأَرْضِ أَهْلَ جَلُولاءَ، اسْتَأْثَرُوا بِفَيْءِ مَا وَرَاءَ النَّهْرَوَانِ، وَشَارَكُوا النَّاسَ فِيمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَأَقَرُّوا الْفَلاحِينَ وَدَعَوْا مَنْ لَجَّ، وَوَضَعُوا الْخَرَاجَ عَلَى الْفَلاحِينَ وَعَلَى مَنْ رَجَعَ وَقَبِلَ الذِّمَّةَ، وَاسْتَصْفُوا مَا كَانَ لآلِ كِسْرَى وَمَنْ لَجَّ مَعَهُمْ فَيْئًا لِمَنْ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ، لا يُجَازُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ الْجَبَلِ إِلَى الْجَبَلِ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ إِلا مِنْ أَهْلِهِ الَّذِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُجِيزُوا بَيْعَ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ- يَعْنِي فِيمَنْ لَمْ يَفِئْهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِمَّنْ يُعَامِلُهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَفِئْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ- فَأَقَرَّهُ الْمُسْلِمُونَ، لَمْ يَقْتَسِمُوهُ، لأَنَّ قِسْمَتَهُ لَمْ تَتَأَتَّ لَهُمْ، فَمِنْ ذَلِكَ الآجَامُ وَمَغِيضُ الْمِياهِ وَمَا كَانَ لِبُيُوتِ النَّارِ وَلِسِكَكِ الْبُرُدِ، وَمَا كَانَ لِكِسْرَى وَمَنْ جَامَعَهُ، وَمَا كَانَ لِمَنْ قُتِلَ، والأرحاء، فكان بعض مَنْ يَرِقُّ يَسْأَلُ الْوُلاةَ قَسْمَ ذَلِكَ، فَيَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْجُمْهُورُ، أَبَوْا ذَلِكَ، فَانْتَهَوْا إِلَى رَأْيِهِمْ وَلَمْ يُجِيبُوا، وَقَالُوا: لَوْلا أَنْ يَضْرِبَ بَعْضُكُمْ وُجُوهَ بَعْضٍ لَفَعَلْنَا، وَلَوْ كَانَ طَلَبَ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَنْ مَلإٍ لَقَسَمَهَا بَيْنَهُمْ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن طلحة بْن الأعلم، عن ماهان، قال: لم يثبت أحد من أهل السواد على العهد فيما بينهم وبين أهل الأيام إلا أهل قريات، أخذوها عنوة، كلهم نكث، ما خلا أولئك القريات، فلما دعوا إلى الرجوع صاروا ذمة، وعليهم الجزاء، ولهم المنعة، إلا ما كان لآل كسرى ومن معهم، فإنه صافية فيما بين حلوان والعراق، وكان عمر قد رضي بالسواد من الريف. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة، عن مَاهَانَ، قَالَ: كَتَبُوا إِلَى عُمَرَ فِي الصَّوَافِي، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ: أَنِ اعْمَدُوا إِلَى الصَّوَافِي الَّتِي أَصْفَاكُمُوهَا اللَّهُ، فَوَزِّعُوهَا عَلَى مَنْ أَفَاءَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ، أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ لِلْجُنْدِ، وَخُمْسٌ فِي مَوَاضِعِهِ إِلَيَّ، وَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ يَنْزِلُوهَا فَهُوَ الَّذِي لهم فلما

جَعَلَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ رَأَوْا أَلا يَفْتَرِقُوا فِي بِلادِ الْعَجَمِ، وَأَقَرُّوهَا حَبِيسًا لَهُمْ يُوَلُّونَهَا مَنْ تَرَاضَوْا عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقْتَسِمُونَهَا فِي كُلِّ عَامٍ، وَلا يُوَلُّونَهَا إِلا مَنْ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ بِالرِّضَا، وَكَانُوا لا يَجْمَعُونَ إِلا عَلَى الأُمَرَاءِ، كَانُوا بِذَلِكَ فِي الْمَدَائِنِ، وَفِي الْكُوفَةِ حِينَ تَحَوَّلُوا إِلَى الْكُوفَةِ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن الوليد بن عبد الله ابن أَبِي طَيْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ: أَنِ احْتَازُوا فَيْئَكُمْ فَإِنَّكُمْ إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَتَقَادَمَ الأَمْرُ يَلْحَجُ، وَقَدْ قَضَيْتُ الَّذِي عَلَيَّ اللَّهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ عَلَيْهِمْ فَاشْهَدْ. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عَنِ الْوَلِيدِ بْن عَبْدِ اللَّه، عَنْ أَبِيهِ، قال: فكان الفلاحون للطرق والجسور والأسواق والحرث والدلالة مع الجزاء عن أيديهم على قدر طاقتهم، وكانت الدهاقين للجزية عن أيديهم والعمارة، وعلى كلهم الإرشاد وضيافة ابن السبيل من المهاجرين، وكانت الضيافة لمن أفاءها اللَّه خاصة ميراثا. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد العزيز بن سياه، عن حبيب بن أَبِي ثَابِتٍ بِنَحْوٍ مِنْهُ، وَقَالُوا جَمِيعًا: كَانَ فَتْحُ جَلُولاءَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ فِي أَوَّلِهَا، بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدَائِنِ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ. وَقَالُوا جَمِيعًا: كَانَ صُلْحُ عُمَرَ الَّذِي صَالَحَ عَلَيْهِ أَهْلَ الذِّمَّةِ، أَنَّهُمْ إِنْ غَشُّوا الْمُسْلِمِينَ لِعَدُوِّهِمْ بَرِئَتْ مِنْهُمُ الذِّمَّةُ، وَإِنْ سَبُّوا مُسْلِمًا أَنْ يُنْهَكُوا عُقُوبَةً، وَإِنْ قَاتَلُوا مُسْلِمًا أَنْ يُقْتَلُوا، وَعَلَى عُمَرَ مَنَعْتُهُمْ، وَبَرِئَ عُمَرُ إِلَى كُلِّ ذِي عَهْدٍ مِنْ مَعَرَّةِ الْجُيُوشِ. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْمُسْتَنِيرِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بِمِثْلِهِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن طلحة، عن ماهان، قال: كان أشقى أهل فارس بجلولاء أهل الري، كانوا بها حماة أهل

فارس ففنى أهل الري يوم جلولاء وقالوا جميعا: ولما رجع أهل جلولاء إلى المدائن نزلوا قطائعهم، وصار السواد ذمة لهم إلا ما أصفاهم اللَّه به من مال الأكاسرة، ومن لج معهم وقالوا جميعا: ولما بلغ أهل فارس قول عمر ورأيه في السواد وما خلفه، قالوا: ونحن نرضى بمثل الذي رضوا به، لا يرضى أكراد كل بلد أن ينالوا من ريفهم. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن المستنير بن يزيد وحكيم بْن عمير، عن إبراهيم بْن يزيد، قال: لا يحل اشتراء أرض فيما بين حلوان والقادسية، والقادسية من الصوافي، لأنه لمن أفاءه اللَّه عَلَيْهِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن عمرو بن محمد، عن الشعبي مثله. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شِبْلٍ، قَالَ: اشْتَرَى جَرِيرٌ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ صَافِيَةً عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ، فَأَتَى عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ، فَرَدَّ ذَلِكَ الشِّرَاءَ وَكَرِهَهُ، وَنَهَى عَنْ شِرَاءِ شَيْءٍ لَمْ يَقْتَسِمْهُ أَهْلُهُ. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بْن قيس، قال: قلت للشعبي: أخذ السواد عنوة؟ قال: نعم، وكل أرض إلا بعض القلاع والحصون، فإن بعضهم صالح وبعضهم غلب، قلت: فهل لأهل السواد ذمة اعتقدوها قبل الهرب؟ قال: لا، ولكنهم لما دعوا ورضوا بالخراج وأخذ منهم صاروا ذمة. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد العزيز، عن حبيب بْن أبي ثابت، قال: ليس لأحد من أهل السواد عقد إلا بني صلوبا وأهل الحيرة وأهل كلواذى وقرى من قرى الفرات، ثم غدروا، ثم دعوا إلى الذمة بعد ما غدروا وقال هاشم بْن عتبة في يوم جلولاء: يوم جلولاء ويوم رستم ... ويوم زحف الكوفة المقدم ويوم عرض النهر المحرم ... من بين أيام خلون صرم

شيبن أصداغي فهن هرم ... مثل ثغام البلد المحرم وقال أبو بجيد في ذلك: ويوم جلولاء الوقيعة أصبحت ... كتائبنا تردي بأسد عوابس ففضت جموع الفرس ثم أنمتهم ... فتبا لأجساد المجوس النجائس! وأفلتهن الفيرزان بجرعة ... ومهران أردت يوم حز القوانس أقاموا بدار للمنية موعد ... وللترب تحثوها خجوج الروامس كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ وَعَمْرٍو وَسَعِيدٍ، قَالُوا: وَقَدْ كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى سَعْدٍ: إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ جَلُولاءَ فَسَرِّحِ الْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو فِي آثَارِ الْقَوْمِ حَتَّى يَنْزِلَ بِحُلْوَانَ فَيَكُونَ رِدْءًا لِلْمُسْلِمِينَ وَيَحْرِزَ اللَّهُ لَكُمْ سَوَادَكُمْ فَلَمَّا هَزَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَهْلَ جَلُولاءَ، أَقَامَ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ بِجَلُولاءَ، وَخَرَجَ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو فِي آثَارِ الْقَوْمِ إِلَى خَانقِينَ فِي جُنْدٍ مِنْ أَفْنَاءِ النَّاسِ وَمِنَ الْحَمْرَاءِ، فَأَدْرَكَ سَبْيًا مِنْ سَبْيِهِمْ، وَقَتَلَ مُقَاتِلَةَ مَنْ أَدْرَكَ، وَقَتَلَ مِهْرَانَ وَأَفْلَتَ الْفيرزَانُ، فَلَمَّا بَلَغَ يَزْدَجَرْدَ هَزِيمَةُ أَهْلِ جَلُولاءَ وَمُصَابُ مِهْرَانَ، خَرَجَ مِنْ حُلْوَانَ سَائِرًا نَحْوَ الرَّيِّ، وَخَلَّفَ بِحُلْوَانَ خيلا عليها خسرو شنوم، وَأَقْبَلَ الْقَعْقَاعُ حَتَّى إِذَا كَانَ بِقَصْرِ شِيرِينَ عَلَى رَأْسِ فَرْسَخٍ مِنْ حُلْوَانَ خَرَجَ إِلَيْهِ خسرو شنوم، وَقَدِمَ الزَّيْنَبِيُّ دِهْقانُ حُلْوَانَ، فَلَقِيَهُ الْقَعْقَاعُ فَاقْتَتَلُوا فَقُتِلَ الزَّيْنَبِيُّ، وَاحْتق فِيهِ عُمَيْرَةُ بْنُ طَارِقٍ وَعَبْدُ اللَّهِ، فَجَعَلَهُ وَسَلْبَهُ بَيْنَهُمَا، فَعَدَّ عُمَيْرَةُ ذلك حقره وهرب خسرو شنوم، وَاسْتَوْلَى الْمُسْلِمُونَ عَلَى حُلْوَانَ وَأَنْزَلَهَا الْقَعْقَاعُ الْحَمْرَاءَ، وَوَلَّى عَلَيْهِمْ قُبَاذَ، وَلَمْ يَزَلِ الْقَعْقَاعُ هُنَالِكَ عَلَى الثَّغْرِ وَالْجَزَاءُ بَعْدُ مَا دَعَاهُمْ،

ذكر فتح تكريت

فَتَرَاجَعُوا وَأَقَرُّوا بِالْجَزَاءِ إِلَى أَنْ تَحَوَّلَ سَعْدٌ مِنَ الْمَدَائِنِ إِلَى الْكُوفَةِ، فَلَحِقَ بِهِ، وَاسْتَخْلَفَ قباذ على الثغر، وكان اصله خراسانيا . ذكر فتح تكريت وَكَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ فِي رِوَايَةِ سَيْفٍ- فَتْحُ تِكْرِيتَ، وَذَلِكَ فِي جُمَادَى مِنْهَا. ذكر الخبر عن فتحها: كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ وَسَعِيدٍ، وَشَارَكَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَيْبَةَ، قَالُوا: كَتَبَ سَعْدٌ فِي اجْتِمَاعِ أَهْلِ الْمَوْصِلِ إِلَى الأَنْطَاقِ وَإِقْبَالِهِ حَتَّى نَزَلَ بِتِكْرِيتَ، وَخَنْدَقَ فِيهِ عَلَيْهِ لِيَحْمِيَ أَرْضَهُ، وَفِي اجْتِمَاعِ أَهْلِ جَلُولاءَ عَلَى مِهْرَانَ مَعَهُ، فَكَتَبَ فِي جَلُولاءَ مَا قَدْ فَرَغْنَا مِنْهُ، وَكَتَبَ فِي تِكْرِيتَ وَاجْتِمَاعِ أَهْلِ الْمَوْصِلِ إِلَى الأَنْطَاقِ بِهَا: أَنْ سَرِّحْ إِلَى الأَنْطَاقِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُعْتَمِّ، وَاسْتَعْمِلْ على مقدمته ربعي ابن الأَفْكَلِ الْعَنَزِيَّ، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ الْحَارِثَ بْنَ حَسَّانٍ الذُّهْلِيَّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ فُرَاتَ بْنَ حَيَّانَ الْعِجْلِيَّ، وَعَلَى سَاقَتِهِ هَانِئَ بْنَ قَيْسٍ، وَعَلَى الْخَيْلِ عرفجة ابن هَرْثَمَةَ، فَفَصَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَمِّ فِي خَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَدَائِنِ، فَسَارَ إِلَى تِكْرِيتَ أَرْبَعًا، حَتَّى نَزَلَ عَلَى الأَنْطَاقِ، وَمَعَهُ الرُّومُ وَإِيَادٌ وَتَغْلِبُ وَالنَّمِرُ وَمَعَهُ الشَّهَارِجَةُ وَقَدْ خَنْدَقُوا بِهَا، فَحَصَرَهُمْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَتَزَاحَفُوا فِيهَا أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ زَحْفًا، وَكَانُوا أَهْوَنَ شَوْكَةً، وَأَسْرَعَ أَمْرًا مِنْ أَهْلِ جَلُولاءَ، وَوُكِّلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَمِّ بِالْعَرَبِ لِيَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ وَإِلَى نُصْرَتِهِ عَلَى الرُّومِ، فَهُمْ لا يُخْفُونَ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَلَمَّا رَأَتِ الرُّومُ أَنَّهُمْ لا يَخْرُجُونَ خَرْجَةً إِلا كَانَتْ عَلَيْهِمْ، وَيُهْزَمُونَ فِي كُلِّ مَا زَاحَفُوهُمْ، تَرَكُوا أُمَرَاءَهُمْ، وَنَقَلُوا مَتَاعَهُمْ إِلَى السُّفُنِ، وَأَقْبَلَتِ الْعُيُونُ مِنْ تَغْلِبَ وَإِيَادٍ وَالنَّمِرِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَمِّ بِالْخَبَرِ، وَسَأَلُوهُ لِلْعَرَبِ السَّلْمَ، وَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدِ اسْتَجَابُوا لَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: ان كنتم

صَادِقِينَ بِذَلِكَ فَاشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَقِرُّوا بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، ثُمَّ أَعْلِمُونَا رَأْيَكُمْ فَرَجَعُوا إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ، فَرَدُّوهُمْ إِلَيْهِ بِالإِسْلامِ، فَرَدَّهُمْ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ: إِذَا سَمِعْتُمْ تَكْبِيرَنَا فَاعْلَمُوا أَنَّا قَدْ نَهَدْنَا إِلَى الأَبْوَابِ الَّتِي تَلِينَا لِنَدْخُلَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا، فَخُذُوا بِالأَبْوَابِ الَّتِي تَلِي دِجْلَةَ، وَكَبِّرُوا وَاقْتُلُوا مَنْ قَدَرْتُمْ عَلَيْهِ، فَانْطَلِقُوا حَتَّى تُوَاطِئُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَنَهَدَ عَبْدُ اللَّهِ وَالْمُسْلِمُونَ لِمَا يَلِيهِمْ وَكَبَّرُوا، وَكَبَّرَتْ تَغْلِبُ وَإِيَادٌ وَالنَّمِرُ، وَقَدْ أَخَذُوا بِالأَبْوَابِ، فَحَسِبَ الْقَوْمُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَتَوْهُمْ مِنْ خَلْفِهِمْ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِمْ مِمَّا يَلِي دِجْلَةَ، فَبَادَرُوا الأَبْوَابَ الَّتِي عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ، فَأَخَذَتْهُمُ السُّيُوفُ، سُيُوفُ الْمُسْلِمِينَ مُسْتَقْبِلَتُهُمْ، وَسُيُوف الربعيين الذين أسلموا ليتئذ مِنْ خَلْفِهِمْ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْ أَهْلِ الخْنَدْقِ إِلا مَنْ أَسْلَمَ مِنْ تَغْلِبَ وَإِيَادٍ وَالنَّمِرِ وَقَدْ كَانَ عُمَرُ عَهِدَ إِلَى سَعْدٍ، إِنْ هُمْ هُزِمُوا أَنْ يَأْمُرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُعْتَمِّ بِتَسْرِيحِ ابْنِ الأَفْكَلِ الْعَنَزِيِّ إِلَى الْحِصْنَيْنِ، فَسَرَّحَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَمِّ ابْنَ الأَفْكَلِ الْعَنَزِيَّ إِلَى الْحِصْنَيْنِ، فَأَخَذَ بِالطَّرِيقِ، وَقَالَ: اسْبِقِ الخبر، وسر ما دون القيل، واحى اللَّيْلَ وَسَرِّحْ مَعَهُ تَغْلِبَ وَإِيَادَ وَالنَّمِرَ، فَقَدِّمْهُمْ وَعَلَيْهِمْ عُتْبَةُ بْنُ الْوَعْلِ، أَحَدُ بَنِي جُشَمِ بْنِ سَعْدٍ وَذُو الْقِرْطِ وَأَبُو وَدَاعَةَ بْنُ أَبِي كَرِبٍ وَابْنُ ذِي السُّنَيْنَةِ قَتِيلُ الْكِلابِ وَابْنُ الْحُجَيْرِ الإِيَادِيُّ وَبِشْرُ بْنُ أَبِي حَوْطٍ مُتَسَانِدِينَ، فَسَبَقُوا الْخَبَرَ إِلَى الْحِصْنَيْنِ وَلَمَّا كَانُوا منها قريبا قدموا عتبة ابن الْوَعْلِ فَادَّعَى بِالظَّفْرِ وَالنَّفْلِ وَالْقَفْلِ، ثُمَّ ذُو الْقِرْطِ، ثُمَّ ابْنُ ذِي السُّنَيْنَةِ، ثُمَّ ابْنُ الْحَجِيرِ، ثُمَّ بِشْرٌ، وَوَقَفُوا بِالأَبْوَابِ، وَقَدْ أَخَذُوا بِهَا، وَأَقْبَلَتْ سَرَعَانُ الْخَيْلِ مَعَ رِبْعِيِّ بْنِ الأَفْكَلِ حَتَّى اقْتَحَمَتْ عَلَيْهِمُ الْحِصْنَيْنِ، فَكَانَتْ إِيَّاهَا، فَنَادَوْا بِالإِجَابَةِ إِلَى الصُّلْحِ، فَأَقَامَ مَنِ اسْتَجَابَ، وَهَرَبَ مَنْ لَمْ يَسْتَجِبْ، إِلَى أَنْ أَتَاهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَمِّ، فَلَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ دَعَا مَنْ لَجَّ وَذَهَبَ، وَوَفَّى لِمَنْ أَقَامَ، فَتَرَاجَعَ الْهُرَّابُ وَاغْتَبَطَ الْمُقِيمُ، وَصَارَتْ لَهُمْ جَمِيعًا الذِّمَّةُ وَالْمَنْعَةُ، وَاقْتَسَمُوا فِي تِكْرِيتَ عَلَى كُلِّ سَهْمٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، لِلْفَارِسِ ثَلاثَةُ آلافٍ وَلِلرَّاجِلِ أَلْفٌ، وَبَعَثُوا بِالأَخْمَاسِ مَعَ فُرَاتِ بْنِ حَيَّانَ، وَبِالْفَتْحِ

ذكر فتح ماسبذان

مَعَ الْحَارِثِ بْنِ حَسَّانٍ وَوَلَّى حَرْبَ الْمَوْصِلِ ربعي بن الأفكل، والخراج عرفجة ابن هرثمة . ذكر فتح ماسبذان وفي هذه السنة- أعني سنة ست عشرة- كان فتح ماسبذان أيضا. ذكر الخبر عن فتحها: كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ طَلْحَةَ وَمُحَمَّدٍ وَالْمُهَلَّبِ وَعَمْرٍو وَسَعِيدٍ قالوا: ولما رجع هاشم بن عتبة من جَلُولاءَ إِلَى الْمَدَائِنِ، بَلَغَ سَعْدًا أَنَّ آذِينَ بْنَ الْهُرْمُزَانِ قَدْ جَمَعَ جَمْعًا، فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى السَّهْلِ، فَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى عُمَرَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: ابْعَثْ إِلَيْهِمْ ضِرَارَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي جُنْدٍ وَاجْعَلْ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ ابْنَ الْهُذَيْلِ الأَسَدِيَّ، وَعَلَى مُجَنِّبَتَيْهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ وَهْبٍ الرَّاسِبِيَّ حَلِيفَ بَجِيلَةَ، وَالْمُضَارِبَ بْنَ فُلانٍ الْعِجْلِيَّ، فَخَرَجَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَهُوَ أَحَدُ بَنِي مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ فِي الْجُنْدِ، وَقَدِمَ ابْنُ الْهُذَيْلِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَهْلِ مَاسَبَذَانَ، فَالْتَقَوْا بِمَكَانٍ يُدْعَى بَهَنْدَفَ، فَاقْتَتَلُوا بِهَا، فَأَسْرَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَأَخَذَ ضِرَارٌ آذِينَ سَلْمًا، فَأَسَرَهُ فَانْهَزَمَ عَنْهُ جَيْشُهُ فَقَدَّمَهُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ ثُمَّ خَرَجَ فِي الطَّلَبِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى السِّيرَوَانِ فَأَخَذَ مَاسَبَذَانَ عَنْوَةً فَتَطَايَرَ أَهْلُهَا فِي الْجِبَالِ، فَدَعَاهُمْ فَاسْتَجَابُوا لَهُ، وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى تَحَوَّلَ سَعْدٌ مِنَ الْمَدَائِنِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَنَزَلَ الْكُوفَةَ وَاسْتَخْلَفَ ابْنَ الْهُذَيْلِ عَلَى مَاسَبَذَانَ فَكَانَتْ إِحْدَى فروج الكوفه ذكر وقعه قرقيسياء وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ قَرْقِيسِيَاءَ فِي رَجَبٍ. ذكر الخبر عن الوقعة بها: كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ طَلْحَةَ وَمُحَمَّدٍ وَالْمُهَلَّبِ وَعَمْرٍو وَسَعِيدٍ، قَالُوا: وَلَمَّا رَجَعَ هَاشِمُ بن عتبة عن جَلُولاءَ إِلَى الْمَدَائِنِ

وَقَدِ اجْتَمَعَتْ جُمُوعُ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ، فَأَمَدُّوا هِرَقْلَ عَلَى أَهْلِ حِمْصَ، وَبَعَثُوا جُنْدًا إِلَى أَهْلِ هِيتَ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ سَعْدٌ إِلَى عُمَرَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَنِ ابْعَثْ إِلَيْهِمْ عُمَرَ بْنَ مَالِكِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ فِي جُنْدٍ، وَابْعَثْ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ الْحَارَثَ بْنَ يَزِيدَ الْعَامِرِيَّ، وَعَلَى مُجَنِّبَتَيْهِ رِبْعِيَّ بْنَ عامر ومالك ابن حَبِيبٍ، فَخَرَجَ عُمَرُ بْنُ مَالِكٍ فِي جُنْدِهِ سائرا نحو هيت، وقدم الحارث ابن يَزِيدَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى مَنْ بِهِيتَ، وَقَدْ خندقوا عليهم فلما راى عمر ابن مَالِكٍ امْتِنَاعَ الْقَوْمِ بِخَنْدَقِهِمْ وَاعْتِصَامِهِمْ بِهِ، اسْتَطَالَ ذَلِكَ، فَتَرَكَ الأَخْبِيَةَ عَلَى حَالِهَا وَخَلَّفَ عَلَيْهِمُ الْحَارِثَ بْنَ يَزِيدَ مُحَاصِرَهُمْ، وَخَرَجَ فِي نِصْفِ النَّاسِ يُعَارِضُ الطَّرِيقَ حَتَّى يَجِيءَ قَرْقِيسِيَاءَ فِي عره، فَأَخَذَهَا عَنْوَةً، فَأَجَابُوا إِلَى الْجَزَاءِ، وَكَتَبَ إِلَى الحارث بن يزيد ان هم اسْتَجَابُوا فَخَلِّ عَنْهُمْ فَلْيَخْرُجُوا، وَإِلا فَخَنْدِقْ عَلَى خَنْدَقِهِمْ خَنْدَقًا أَبْوَابَهُ مِمَّا يَلِيكَ حَتَّى أَرَى مِنْ رَأْيِي فَسَمَحُوا بِالاسْتِجَابَةِ، وَانْضَمَّ الْجُنْدُ إِلَى عُمَرَ وَالأَعَاجِمُ إِلَى أَهْلِ بِلادِهِمْ وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَرَبَ عُمَرُ أَبَا مِحْجَنٍ الثقفى الى باضع. قال: وَفِيهَا تَزَوَّجَ ابْنُ عُمَرَ صَفِيَّةَ بِنْتَ أَبِي عُبَيْدَةَ. قَالَ: وَفِيهَا مَاتَتْ مَارِيَةُ أُمُّ وَلَدِ رسول الله ص، أُمُّ إِبْرَاهِيمَ، وَصَلَّى عَلَيْهَا عُمَرُ، وَقَبْرُهَا بِالْبَقِيعِ، فِي الْمُحَرَّمِ. قَالَ: وَفِيهَا كُتِبَ التَّأْرِيخُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ. قال: وحدثني ابن أبي سبرة، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رافع، عن ابن المسيب، قال: أول من كتب التأريخ عمر، لسنتين ونصف من خلافته، فكتب لست عشرة من الهجرة بمشورة علي بْن أبي طالب. حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: حدثنا نعيم

ابن حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: جَمَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّاسَ، فَسَأَلَهُمْ مِنْ أَيِّ يَوْمٍ نَكْتُبُ؟ [فَقَالَ عَلِيٌّ: مِنْ يَوْمِ هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ ص، وَتَرَكَ أَرْضَ الشِّرْكِ] فَفَعَلَهُ عُمَرُ. وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي عَبَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ التَّأْرِيخُ فِي السَّنَةِ الَّتِي قَدِمَ فِيهَا رَسُولُ الله ص الْمَدِينَةَ وَفِيهَا وُلِدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ. وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الْخَطَّابِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ- فِيمَا زَعَمَ الْوَاقِدِيُّ- زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَكَانَ عَامِلَ عُمَرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى مَكَّةَ عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ، وَعَلَى الطَّائِفِ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، وَعَلَى اليمن يعلى ابن أُمَيَّةَ، وَعَلَى الْيَمَامَةِ وَالْبَحْرَيْنِ الْعَلاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ، وعلى عمان حذيفة بن محصن، وعلى الشام كُلِّهَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَعَلَى الْكُوفَةِ سعد بن أبي وقاص، وعلى قضائها أبو قُرَّةَ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ وَأَرْضِهَا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَعَلَى حَرْبِ الْمَوْصِلِ رِبْعِيُّ بْنُ الأَفْكَلِ، وَعَلَى الْخَرَاجِ بِهَا عَرْفَجَةُ بْنُ هَرْثَمَةَ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَفِي قَوْلِ آخَرِينَ عُتْبَةُ بْنُ فَرْقَدٍ على الحرب والخراج- وقيل ذَلِكَ كُلِّهِ كَانَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ المعتم- وعلى الجزيرة عياض بن عمرو الأشعري

سنه سبع عشره

سنة سبع عشرة ففيها اختطت الكوفة، وتحول سعد بالناس من المدائن إليها في قول سيف بْن عمر وروايته. ذكر سبب تحول من تحول من المسلمين من المدائن إلى الكوفة وسبب اختطاطهم الكوفة في رواية سيف كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ وَعَمْرٍو وَسَعِيدٍ، قَالُوا: لَمَّا جَاءَ فَتْحُ جَلُولاءَ وَحُلْوَانَ وَنُزُولُ الْقَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو بِحُلْوَانَ فِيمَنْ مَعَهُ، وَجَاءَ فَتْحُ تِكْرِيتَ وَالْحِصْنَيْنِ، وَنُزُولُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَمِّ وَابْنِ الأَفْكَلِ الْحِصْنَيْنِ فِيمَنْ مَعَهُ، وَقَدِمَتِ الْوُفُودُ بِذَلِكَ عَلَى عُمَرَ، فَلَمَّا رَآهُمْ عُمَرَ قَالَ: وَاللَّهِ مَا هَيْئَتُكُمْ بِالْهَيْئَةِ الَّتِي أَبْدَأْتُمْ بِهَا، وَلَقَدْ قَدِمَتْ وُفُودُ الْقَادِسِيَّةِ وَالْمَدَائِنِ وَإِنَّهُمْ لَكَمَا أَبْدَءُوا، وَلَقَدِ انْتَكَيْتُمْ فَمَا غَيَّرَكُمْ؟ قَالُوا: وُخُومَةُ الْبِلادِ فَنَظَرَ فِي حَوَائِجِهِمْ، وَعَجَّلَ سَرَاحَهُمْ، وَكَانَ فِي وُفُودِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَمِّ عُتْبَةُ بْنُ الْوَعْلِ، وَذُو الْقِرْطِ، وَابْنِ ذِي السُّنَيْنَةِ، وَابْنُ الْحُجَيْرِ وَبِشْرٌ، فَعَاقَدُوا عُمَرَ عَلَى بَنِي تَغْلِبَ، فَعَقَدَ لَهُمْ، عَلَى أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فَلَهُ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ، وَمَنْ أَبَى فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَإِنَّمَا الإِجْبَارُ مِنَ الْعَرَبِ عَلَى مَنْ كَانَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَقَالُوا: إِذَا يَهْرَبُونَ وَيَنْقَطِعُونَ فَيَصِيرُونَ عَجَمًا، فأمر أجمل الصدقة، فَقَالَ: لَيْسَ إِلا الْجَزَاءُ، فَقَالُوا: تُجْعَلُ جِزْيَتُهُمْ مِثْلَ صَدَقَةِ الْمُسْلِمِ، فَهُوَ مَجْهُودُهُمْ، فَفَعَلَ عَلَى أَلا يُنَصِّرُوا وَلِيدًا مِمَّنْ أَسْلَمَ آبَاؤُهُمْ، فَقَالُوا: لَكَ ذَلِكَ، فَهَاجَرَ هَؤُلاءِ التَّغْلِبِيُّونَ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ مِنَ النَّمَرِيِّينَ وَالإِيَادِيِّينَ إِلَى سَعْدٍ بِالْمَدَائِنِ وَخَطُّوا مَعَهُ بَعْدُ بِالْكُوفَةِ، وَأَقَامَ مَنْ أَقَامَ فِي بِلادِهِ عَلَى مَا أَخَذُوا لَهُمْ عَلَى عُمَرَ مُسْلِمُهُمْ وَذِمِّيُّهُمْ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن ابن شبرمة، عَنِ الشَّعْبُيِّ، قَالَ: كَتَبَ حُذَيْفَةُ إِلَى عُمَرَ: إِنَّ الْعَرَبَ قَدْ أُتْرِفَتْ بُطُونُهَا،

وَخَفَّتْ أَعْضَادُهَا، وَتَغَيَّرَتْ أَلْوَانُهَا وَحُذَيْفَةُ يَوْمَئِذٍ مَعَ سَعْدٍ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَأَصْحَابِهِمَا، قَالُوا: كَتَبَ عُمَرُ إِلَى سَعْدٍ: أَنْبِئْنِي مَا الَّذِي غَيَّرَ أَلْوَانَ الْعَرَبِ وَلُحُومَهُمْ؟ فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّ الْعَرَبَ خَدَّدَهُمْ وَكَفَى أَلْوَانَهُمْ وُخُومَةُ الْمَدَائِنِ وَدِجْلَةَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّ الْعَرَبَ لا يُوَافِقُهَا إِلا مَا وَافَقَ إِبِلَهَا مِنَ الْبُلْدَانِ، فَابْعَثْ سَلْمَانَ رَائِدًا وَحُذَيْفَةَ- وَكَانَا رَائِدَيِ الْجَيْشِ- فَلْيَرْتَادَا مَنْزِلا بَرِّيًّا بَحْرِيًّا، لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فِيهِ بَحْرٌ وَلا جِسْرٌ، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْ أَمْرِ الْجَيْشِ شَيْءٌ إِلا وَقَدْ أَسْنَدَهُ إِلَى رَجُلٍ، فَبَعَثَ سَعْدٌ حُذَيْفَةَ وَسَلْمَانَ، فَخَرَجَ سَلْمَانُ حَتَّى يَأْتِيَ الأَنْبَارَ، فَسَارَ فِي غَرْبَيِّ الْفُرَاتِ لا يَرْضَى شَيْئًا، حَتَّى أَتَى الْكُوفَةَ. وَخَرَجَ حُذَيْفَةُ فِي شَرْقِيِّ الْفُرَاتِ لا يَرْضَى شَيْئًا حَتَّى أَتَى الْكُوفَةَ، وَالْكُوفَةُ عَلَى حَصْبَاءَ- وَكُلُّ رَمْلَةٍ حَمْرَاءَ يُقَالُ لَهَا سَهْلَةٌ، وَكُلُّ حَصْبَاءَ وَرَمْلٍ هَكَذَا مُخْتَلِطَيْنِ فَهُوَ كُوفَةُ- فَأَتَيَا عَلَيْهَا، وَفِيهَا دَيْرَاتٌ ثَلاثَةٌ: دَيْرُ حُرَقَةَ، وَدَيْرُ أُمِّ عَمْرٍو، وَدَيْرُ سَلسلَةَ، وَخِصَاصٌ خِلالَ ذَلِكَ، فَأَعْجَبَتْهُمَا الْبُقْعَةُ، فَنَزَلا فَصَلَّيَا، وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاءِ وَمَا أَظَلَّتْ، وَرَبَّ الأَرْضِ وَمَا أَقَلَّتْ، وَالرِّيحِ وَمَا ذَرَتْ، وَالنُّجُومِ وَمَا هَوَتْ، وَالْبِحَارِ وَمَا جَرَتْ، وَالشَّيَاطِينِ وَمَا أَضَلَّتْ، وَالْخصاص وَمَا أَجنتْ، بَارِكْ لَنَا فِي هَذِهِ الْكُوفَةِ، وَاجْعَلْهُ مَنْزِلَ ثَبَاتٍ وَكَتَبَ إِلَى سَعْدٍ بِالْخَبَرِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ، قَالَ: حدثنا أمية بن خالد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عبد الرحمن، قال: لَمَّا هُزِمَ النَّاسُ يَوْمَ جَلُولاءَ، رَجَعَ سَعْدٌ بِالنَّاسِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَمَّارٌ خَرَجَ بِالنَّاسِ إِلَى الْمَدَائِنِ فَاجْتَوَوْهَا، قَالَ عَمَّارٌ: هَلْ تَصْلُحُ بِهَا الإِبِلُ؟ قَالُوا: لا، إِنَّ بِهَا الْبَعُوضَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: إِنَّ الْعَرَبَ لا تَصْلُحُ بِأَرْضٍ لا تَصْلُحُ بِهَا الإِبِلُ قَالَ: فَخَرَجَ عَمَّارٌ بِالنَّاسِ حَتَّى نَزَلَ الْكُوفَةَ

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مخلد بْن قيس، عن أبيه، عن النسير بْن ثور، قال: ولما اجتوى المسلمون المدائن بعد ما نزلناها وآذاهم الغبار والذباب، وكتب إلى سعد في بعثه روادا يرتادون منزلا بريا بحريا، فإن العرب لا يصلحها من البلدان إلا ما أصلح البعير والشاة، سأل من قبله عن هذه الصفة فيما بينهم، فأشار عليه من رأى العراق من وجوه العرب باللسان- وظهر الكوفة يقال له اللسان، وهو فيما بين النهرين إلى العين، عين بني الحذاء، كانت العرب تقول: أدلع البر لسانه في الريف، فما كان يلي الفرات منه فهو الملطاط، وما كان يلي الطين منه فهو النجاف- فكتب إلى سعد يأمره به. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ وَعَمْرٍو وَسَعِيدٍ، قَالُوا: وَلَمَّا قَدِمَ سَلْمَانُ وَحُذَيْفَةُ عَلَى سَعْدٍ، وَأَخْبَرَاهُ عَنِ الْكُوفَةِ، وَقَدِمَ كِتَابُ عُمَرَ بِالَّذِي ذَكَرَا لَهُ، كَتَبَ سَعْدٌ إِلَى الْقَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو: أَنْ خَلِّفْ عَلَى النَّاسِ بِجَلُولاءَ قُبَاذَ فِيمَنْ تَبِعَكُمْ إِلَى مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْحَمْرَاءِ فَفَعَلَ وَجَاءَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى سَعْدٍ فِي جُنْدِهِ، وَكَتَبَ سَعْدٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَمِّ: أَنْ خَلِّفْ عَلَى الْمَوْصِلِ مُسْلِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الَّذِي كَانَ أُسِرَ أَيَّامَ الْقَادِسِيَّةِ فِيمَنِ اسْتَجَابَ لَكُمْ مِنَ الأَسَاوِرَةِ، وَمَنْ كَانَ مَعَكُمْ مِنْهُمْ فَفَعَلَ، وَجَاءَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى سَعْدٍ فِي جُنْدِهِ، فَارْتَحَلَ سَعْدٌ بِالنَّاسِ مِنَ الْمَدَائِنِ حَتَّى عَسْكَرَ بِالْكُوفَةِ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَكَانَ بَيْنَ وَقْعَةِ الْمَدَائِنِ وَنُزُولِ الْكُوفَةِ سَنَةٌ وَشَهْرَانِ، وَكَانَ بَيْنَ قِيَامِ عُمَرَ وَاخْتِطَاطِ الْكُوفَةِ ثَلاثُ سِنِينَ وَثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ، اخْتُطَّتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنَ التَّأْرِيخِ، وَأعطوا الْعَطَايَا بِالْمَدَائِنِ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلُوا وفي بهرسير، في المحرم سنه ست عشره، وَاسْتَقَرَّ بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ مَنْزِلُهُمُ الْيَوْمَ بَعْدَ ثَلاثِ نَزَلاتٍ قَبْلَهَا، كُلِّهَا ارْتَحَلُوا عَنْهَا فِي الْمُحَرَّمِ سنه سبع عشره، وَاسْتَقَرَّ بَاقِي قَرَارِهِمَا الْيَوْمَ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مَعْنٍ يَقُولُ: نَزَلَ النَّاسُ الْكُوفَةَ فِي آخِرِ سَنَةِ سَبْعَ عشره

قال: وحدثنى ابن ابى الرقاد، عن أَبِيهِ، قَالَ: نَزَلُوهَا حِينَ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ، فِي أَوَّلِ السَّنَةِ. رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ سَيْفٍ قَالُوا: وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ وَإِلَى عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ أَنْ يَتَرَبَّعَا بِالنَّاسِ فِي كُلِّ حِينٍ رَبِيعٌ فِي أَطْيَبِ أَرْضِهِمْ، وَأَمَرَ لَهُمْ بِمعَاوِنِهِمْ فِي الرَّبِيعِ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ، وَبِإِعْطَائِهِمْ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ، وَبِفَيْئِهِمْ عِنْدَ طُلُوعِ الشعري فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَذَلِكَ عِنْدَ إِدْرَاكِ الْغَلاتِ، وَأَخَذُوا قَبْلَ نُزُولِ الْكُوفَةِ عَطَاءَيْنِ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن مخلد بن قَيْسٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُدْعَى الْمَغْرُورَ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَ سَعْدٌ الْكُوفَةَ، كَتَبَ إِلَى عُمَرَ: إِنِّي قَدْ نَزَلْتُ بِكُوفَة مَنْزِلا بَيْنَ الْحِيرَةِ وَالْفُرَاتِ بَرِيًّا بَحْرِيًّا، يُنْبِتُ الْحُلِيَّ وَالنَّصِيَّ، وَخَيَّرْتُ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَدَائِنِ، فَمَنْ أَعْجَبَهُ الْمُقَامُ فِيهَا تَرَكْتُهُ فِيهَا كَالْمَسْلَحَةِ فَبَقِيَ أَقْوَامٌ مِنَ الأَفْنَاءِ، وَأَكْثَرُهُمْ بَنُو عَبْسٍ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وَعَمْرٍو وَسَعِيدٍ وَالْمُهَلَّبِ، قَالُوا: وَلَمَّا نَزَلَ أَهْلُ الْكُوفَةِ الْكُوفَةَ، وَاسْتَقَرَّتْ بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ الدَّارُ، عَرَفَ الْقَوْمُ أَنْفُسَهُمْ، وَثَابَ إِلَيْهِمْ مَا كَانُوا فَقَدُوا ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ اسْتَأْذَنُوا فِي بُنْيَانِ الْقَصَبِ، وَاسْتَأْذَنَ فِيهِ أَهْلُ الْبَصْرَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: الْعَسْكَرُ أَجَدُّ لِحَرْبِكُمْ وَأَذْكَى لَكُمْ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَكُمْ، وَمَا الْقَصَبُ؟ قَالُوا: الْعِكْرِشُ إِذَا رُوِيَ قصب فَصَارَ قَصَبًا، قَالَ: فَشَأْنُكُمْ، فَابْتَنَى أَهْلُ الْمِصْرَيْنِ بِالْقَصَبِ. ثُمَّ إِنَّ الْحَرِيقَ وَقَعَ بِالْكُوفَةِ وَبِالْبَصْرَةِ، وَكَانَ أَشَدَّهُمَا حَرِيقًا الْكُوفَةُ،

فَاحْتَرَقَ ثَمَانُونَ عَرِيشًا، وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا قَصَبَةٌ فِي شوالٍ، فَمَا زَالَ النَّاسُ يَذْكُرُونَ ذَلِكَ فَبَعَثَ سَعْدٌ مِنْهُمْ نَفَرًا إِلَى عُمَرَ يَسْتَأْذِنُونَ فِي الْبِنَاءِ بِاللَّبِنِ، فَقَدِمُوا عَلَيْهِ بِالْخَبَرِ عَنِ الْحَرِيقِ، وَمَا بَلَغَ مِنْهُمْ- وَكَانُوا لا يَدَعُونَ شَيْئًا وَلا يَأْتُونَهُ إِلا وَآمَرُوهُ فِيهِ- فَقَالَ: افْعَلُوا، وَلا يَزِيدَنَّ أَحَدُكُمْ عَلَى ثَلاثَةِ أَبْيَاتٍ، وَلا تُطَاوِلُوا فِي الْبُنْيَانِ، وَالْزَمُوا السُّنَّةَ تَلْزَمْكُمُ الدَّوْلَةُ فَرَجَعَ الْقَوْمُ إِلَى الْكُوفَةِ بِذَلِكَ وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى عُتْبَةَ وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَعَلَى تَنْزِيلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَبُو الْهَيَّاجِ بْنُ مالك، وعلى تنزيل اهل البصره عاصم ابن الدُّلَفِ أَبُو الْجَرْبَاءِ. قَالَ: وَعَهِدَ عُمَرُ إِلَى الْوَفْدِ وَتَقَدَّمَ إِلَى النَّاسِ أَلا يَرْفَعُوا بُنْيَانًا فَوْقَ الْقَدْرِ. قَالُوا: وَمَا الْقَدْرُ؟ قَالَ: مَا لا يُقَرِّبُكُمْ مِنَ السَّرَفِ، وَلا يُخْرِجُكُمْ مِنَ الْقَصْدِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ وَعَمْرٍو وَسَعِيدٍ، قَالُوا: لَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يَضَعُوا بُنْيَانَ الْكُوفَةِ، أَرْسَلَ سَعْدٌ إِلَى أَبِي الْهَيَّاجِ فَأَخْبَرَهُ بِكِتَابِ عُمَرَ فِي الطُّرُقِ، أَنَّهُ أَمَرَ بِالْمَنَاهِجِ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، وَمَا يَلِيهَا ثَلاثِينَ ذِرَاعًا، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ عِشْرِينَ، وَبِالأَزِقَّةِ سَبْعَ أَذْرُعٍ، لَيْسَ دُونَ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَفِي الْقَطَائِعِ سِتِّينَ ذِرَاعًا إِلا الَّذِي لِبَنِي ضَبَّةَ فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الرَّأْيِ لِلتَّقْدِيرِ، حَتَّى إِذَا أَقَامُوا عَلَى شَيْءٍ قَسَمَ ابو الهياج عليه، فأول شيء خط الكوفه وَبُنِيَ حِينَ عَزَمُوا عَلَى الْبِنَاءِ الْمَسْجِدُ، فَوُضِعَ فِي مَوْضِعِ أَصْحَابِ الصَّابُونِ وَالتَّمَّارِينَ مِنَ السُّوقِ، فَاخْتَطُّوهُ، ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ فِي وَسَطِهِ، رَامٍ شَدِيدُ النَّزْعِ، فَرَمَى عَنْ يَمِينِهِ فَأَمَرَ مَنْ شَاءَ أَنْ يَبْنِيَ وَرَاءَ مَوْقِعِ ذَلِكَ السَّهْمِ، وَرَمَى مَنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، وَأَمَرَ مَنْ شَاءَ أَنْ يَبْنِيَ وَرَاءَ مَوْقِعِ السَّهْمَيْنِ. فترك المسجد في مربعه غلوه مِنْ كُلِّ جَوَانِبِهِ، وَبَنَى ظِلَّةً فِي مُقَدِّمِهِ، لَيْسَتْ لَهَا مُجَنِّبَاتٌ وَلا مَوَاخِيرُ، والمربعة لاجْتِمَاعِ النَّاسِ لِئَلا يَزْدَحِمُوا-

وَكَذَلِكَ كَانَتِ الْمَسَاجِدُ مَا خَلا الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَكَانُوا لا يُشْبِهُونَ بِهِ الْمَسَاجِدَ تَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِ، وَكَانَتْ ظِلَّتُهُ مِائَتَيْ ذِرَاعٍ عَلَى أَسَاطِينَ رُخَامٍ كَانَتْ لِلأَكَاسِرَةِ، سَمَاؤُهَا كَأَسْمِيَةِ الْكَنَائِسِ الرُّومِيَّةِ، وَأَعْلَمُوا عَلَى الصَّحْنِ بِخَنْدَقٍ لِئَلا يَقْتَحِمَهُ أَحَدٌ بِبُنْيَانٍ، وَبَنَوْا لِسَعْدٍ دَارًا بِحِيَالِهِ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ مَنْقَبٌ مِائَتَيْ ذِرَاعٍ، وَجَعَلَ فِيهَا بُيُوتَ الأَمْوَالِ، وَهِيَ قَصْرُ الْكُوفَةِ الْيَوْمَ، بَنَى ذَلِكَ لَهُ روزبه مِنْ آجر بُنْيَانِ الأَكَاسِرَةِ بِالْحِيرَةِ، وَنَهَجَ فِي الْوَدَعَةِ مِنَ الصَّحْنِ خَمْسَةَ مَنَاهِجَ، وَفِي قِبْلَتِهِ أَرْبَعَةُ مَنَاهِجَ، وَفِي شَرْقِيِّهِ ثَلاثَةُ مَنَاهِجَ، وَفِي غَرْبِيِّهِ ثَلاثَةُ مَنَاهِجَ، وَعَلَمُهَا، فَأَنْزَلَ فِي وَدَعَةِ الصَّحْنِ سَلِيمًا وَثَقِيفًا مِمَّا يَلِي الصَّحْنَ عَلَى طَرِيقَيْنِ، وَهَمْدَانُ عَلَى طَرِيقٍ، وَبَجِيلَةَ عَلَى طَرِيقٍ آخَرَ، وَتَيْمِ اللاتِ عَلَى آخِرِهِمْ وَتَغْلِبَ، وَأَنْزَلَ فِي قِبْلَةِ الصَّحْنِ بَنِي أَسَدٍ عَلَى طَرِيقٍ، وَبَيْنَ بَنِي أَسَدٍ وَالنَّخْعِ طَرِيقٌ، وَبَيْنَ النَّخْعِ وَكِنْدَةَ طَرِيقٌ، وَبَيْنَ كِنْدَةَ وَالأَزْدِ طَرِيقٌ، وَأَنْزَلَ فِي شَرْقِيِّ الصَّحْنِ الأَنْصَارَ، وَمُزَيْنَةَ عَلَى طَرِيقٍ، وَتَمِيمًا وَمُحَارِبًا عَلَى طَرِيقٍ، وَأَسَدًا وَعَامِرًا عَلَى طَرِيقٍ، وَأَنْزَلَ فِي غَرْبِيِّ الصَّحْنِ بِجَالَةَ وَبَجَلَةَ عَلَى طَرِيقٍ، وَجديلَةَ وَأَخْلاطًا عَلَى طَرِيقٍ، وَجُهَيْنَةَ واخلاطا عَلَى طَرِيقٍ، فَكَانَ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَلُونَ الصَّحْنَ وَسَائِرُ النَّاسِ بَيْنَ ذَلِكَ وَمِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ وَاقْتَسَمَتْ عَلَى السّهمان، فَهَذِهِ مَنَاهِجُهَا الْعُظْمَى وَبَنَوْا مَنَاهِجَ دُونَهَا تُحَاذِي هَذِهِ ثُمَّ تُلاقِيهَا، وَأُخَرَ تَتْبَعُهَا، وَهِيَ دُونَهَا فِي الذَّرْعِ، وَالْمَحَال من ورائها، وفيما بينها، جعل هذه الطرقات من وراء الصحن، ونزل فيها الأعشار من أهل الأيام والقوادس، وحمى لأهل الثغور والموصل أماكن حتى يوافوا إليها، فلما ردفتهم الروادف، البدء والثناء، وكثروا عليهم، ضيق الناس المحال فمن كانت رادفته كثيرة شخص إليهم وترك محلته، ومن كانت رادفته قليلة أنزلوهم منازل من شخص إلى رادفته لقلته إذا كانوا جيرانهم، وإلا وسعوا على روادفهم وضيقوا على أنفسهم، فكان الصحن على حاله زمان عمر كله، لا تطمع فيه القبائل، ليس فيه إلا المسجد والقصر، والأسواق في غير بنيان ولا أعلام وقال عمر: الأسواق على سنة المساجد، من سبق

إلى مقعد فهو له، حتى يقوم منه إلى بيته أو يفرغ من بيعه، وقد كانوا أعدوا مناخا لكل رادف، فكان كل من يجيء سواء فيه- وذلك المناخ اليوم دور بنى البكاء- حتى يأتوا بالهياج، فيقوم في أمرهم حتى يقطع لهم حيث أحبوا وقد بنى سعد في الذين خطوا للقصر قصرا بحيال محراب مسجد الكوفة اليوم، فشيده، وجعل فيه بيت المال، وسكن ناحيته ثم إن بيت المال نقب عليه نقبا، وأخذ من المال، وكتب سعد بذلك إلى عمر، ووصف له موضع الدار وبيوت المال من الصحن مما يلي ودعة الدار. فكتب إليه عمر: أن انقل المسجد حتى تضعه إلى جنب الدار، واجعل الدار قبلته، فإن للمسجد أهلا بالنهار وبالليل، وفيهم حصن لمالهم، فنقل المسجد وأراغ بنيانه، فقال له دهقان من أهل همذان، يقال له روزبه بْن بزرجمهر: أنا أبنيه لك، وأبني لك قصرا فأصلهما، ويكون بنيانا واحدا فخط قصر الكوفة على ما خط عليه، ثم أنشأه من نقض آجر قصر كان للأكاسرة في ضواحي الحيرة على مساحته اليوم، ولم يسمح به، ووضع المسجد بحيال بيوت الأموال منه إلى منتهى القصر، يمنة على القبلة، ثم مد به عن يمين ذلك إلى منقطع رحبة على بن ابى طالب ع، والرحبة قبلته، ثم مد به فكانت قبلة المسجد إلى الرحبة وميمنة القصر، وكان بنيانه على أساطين من رخام كانت لكسرى بكنائس بغير مجنبات، فلم يزل على ذلك حتى بني أزمان معاوية بْن أبي سفيان بنيانه اليوم، على يدي زياد. ولما أراد زياد بنيانه دعا ببنائين من بنائي الجاهلية، فوصف لهم موضع المسجد وقدره وما يشتهي من طوله في السماء، وقال: أشتهي من ذلك شيئا لا أقع على صفته، فقال له بناء قد كان بناء لكسرى: لا يجيء هذا إلا بأساطين من جبال أهواز، تنقر ثم تثقب، ثم تحشى بالرصاص وبسفافيد الحديد، فترفعه ثلاثين ذراعا في السماء، ثم تسقفه، وتجعل له مجنبات ومواخير، فيكون أثبت له فقال: هذه الصفة التي كانت نفسي تنازعني

إليها ولم تعبرها وغلق باب القصر، وكانت الأسواق تكون في موضعه بين يديه، فكانت غوغاؤهم تمنع سعدا الحديث، فلما بنى ادعى الناس عليه ما لم يقل، وقالوا: قال سعد: سكن عني الصويت وبلغ عمر ذلك، وأن الناس يسمونه قصر سعد، فدعا مُحَمَّد بْن مسلمة، فسرحه إلى الكوفة، وقال: اعمد إلى القصر حتى تحرق بابه، ثم ارجع عودك على بدئك، فخرج حتى قدم الكوفة، فاشترى حطبا، ثم أتى به القصر، فأحرق الباب، وأتي سعد فأخبر الخبر، فقال: هذا رسول أرسل لهذا من الشأن، وبعث لينظر من هو؟ فإذا هو مُحَمَّد بْن مسلمة، فأرسل إليه رسولا بأن أدخل، فأبى فخرج إليه سعد، فأراده على الدخول والنزول، فأبى، وعرض عليه نفقة فلم يأخذ، ودفع كتاب عمر إلى سعد: بلغني أنك بنيت قصرا اتخذته حصنا، ويسمى قصر سعد، وجعلت بينك وبين الناس بابا، فليس بقصرك، ولكنه قصر الخبال، انزل منه منزلا مما يلي بيوت الأموال وأغلقه، ولا تجعل على القصر بابا تمنع الناس من دخوله وتنفيهم به عن حقوقهم، ليوافقوا مجلسك ومخرجك من دارك إذا خرجت، فحلف له سعد ما قال الذي قالوا ورجع مُحَمَّد بْن مسلمة من فوره، حتى إذا دنا من المدينة فنى زاده، فتبلغ بلحاء من لحاء الشجر، فقدم على عمر، وقد سنق فأخبره خبره كله، فقال: فهلا قبلت من سعد! فقال: لو أردت ذلك كتبت لي به، أو أذنت لي فيه، فقال عمر: إن أكمل الرجال رأيا من إذا لم يكن عنده عهد من صاحبه عمل بالحزم، أو قال به، ولم ينكل، وأخبره بيمين سعد وقوله، فصدق سعدا وقال: هو أصدق ممن روى عليه ومن أبلغني. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطاء أبي مُحَمَّد، مولى إسحاق بْن طلحة، قال: كنت أجلس في المسجد الأعظم قبل أن يبنيه زياد، وليست له مجنبات ولا مواخير، فأرى منه دير هند وباب الجسر. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن ابن شبرمة، عن

الشعبي، قال: كان الرجل يجلس في المسجد فيرى منه باب الجسر كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن عمر بْن عياش أخي أبي بكر بْن عياش، عن أبي كثير، أن روزبه بْن بزرجمهر بْن ساسان كان همذانيا، وكان على فرج من فروج الروم، فأدخل عليهم سلاحا، فأخافه الأكاسرة، فلحق بالروم، فلم يأمن حتى قدم سعد بْن مالك، فبنى له القصر والمسجد ثم كتب معه إلى عمر، وأخبره بحاله، فأسلم، وفرض له عمر وأعطاه، وصرفه إلى سعد مع أكريائه- والأكرياء يومئذ هم العباد- حتى إذا كان بالمكان الذي يقال له قبر العبادي مات، فحفروا له، ثم انتظروا به من يمر بهم ممن يشهدونه موته، فمر قوم من الأعراب، وقد حفروا له على الطريق، فأروهموه ليبرءوا من دمه، وأشهدوهم ذلك، فقالوا: قبر العبادي- وقيل قبر العبادي لمكان الأكرياء- قال أبو كثير: فهو والله أبي، قال: فقلت: أفلا تخبر الناس بحاله! قال: لا كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد وزياد، قالوا: ورجح الأعشار بعضهم بعضا رجحانا كثيرا، فكتب سعد الى عمر في تعديلهم، فكتب اليه: ان عد لهم، فأرسل إلى قوم من نساب العرب وذوي رأيهم وعقلائهم منهم سعيد بن نمران ومشعله ابن نعيم، فعدلوهم عن الأسباع، فجعلوهم أسباعا، فصارت كنانة وحلفاؤها من الأحابيش وغيرهم، وجديلة- وهم بنو عمرو بْن قيس عيلان- سبعا، وصارت قضاعة- ومنهم يومئذ غسان بْن شبام- وبجيلة وخثعم وكندة وحضرموت، والأزد سبعا، وصارت مذحج وحمير وهمدان وحلفاؤهم سبعا، وصارت تميم وسائر الرباب وهوازن سبعا، وصارت أسد وغطفان ومحارب والنمر وضبيعة وتغلب سبعا، وصارت إياد وعك وعبد القيس وأهل هجر والحمراء سبعا، فلم يزالوا بذلك زمان عمر وعثمان وعلي، وعامة إمارة معاوية، حتى ربعهم زياد

اعاده تعريف الناس

إعادة تعريف الناس وعرفوهم على مائة ألف درهم، فكانت كل عرافة من القادسية خاصة ثلاثة وأربعين رجلا وثلاثا وأربعين امرأة وخمسين من العيال، لهم مائة ألف درهم، وكل عرافة من أهل الأيام عشرين رجلا على ثلاثة آلاف وعشرين امرأة، وكل عيل على مائة، على مائة ألف درهم، وكل عرافة من الرادفة الأولى ستين رجلا وستين امرأة وأربعين من العيال ممن كان رجالهم ألحقوا على الف وخمسمائة على مائه الف درهم، ثم على هذا من الحساب. وقال عطية بْن الحارث: قد أدركت مائة عريف، وعلى مثل ذلك كان أهل البصرة، كان العطاء يدفع إلى أمراء الأسباع وأصحاب الرايات، والرايات على أيادي العرب، فيدفعونه إلى العرفاء والنقباء والأمناء، فيدفعونه إلى أهله في دورهم . فتوح المدائن قبل الْكُوفَة كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ وَعَمْرٍو وَسَعِيدٍ، قالوا: فتوح المدائن السواد وحلوان وماسبذان وقرقيسيا، فكانت الثغور ثغور الكوفة أربعة: حلوان عليها القعقاع بْن عمرو، وماسبذان عليها ضرار بْن الخطاب الفهري، وقرقيسياء عليها عمر بْن مالك أو عمرو بْن عتبة بْن نوفل بْن عبد مناف، والموصل عليها عبد اللَّه بْن المعتم، فكانوا بذلك، والناس مقيمون بالمدائن بعد ما تحول سعد إلى تمصير الكوفة، وانضمام هؤلاء النفر إلى الكوفة واستخلافهم على الثغور من يمسك بها ويقوم عليها، فكان خليفة القعقاع على حلوان قباذ بْن عبد اللَّه، وخليفة عبد اللَّه على الموصل مسلم بْن عبد اللَّه، وخليفة ضرار رافع بْن عبد اللَّه، وخليفة عمر عشنق بْن عبد اللَّه، وكتب إليهم عمر أن يستعينوا بمن احتاجوا إليه من الأساورة، ويرفعوا عنهم الجزاء، ففعلوا فلما اختطت الكوفة وأذن للناس بالبناء، نقل الناس أبوابهم من المدائن إلى الكوفة فعلقوها على

ذكر خبر حمص حين قصد من فيها من المسلمين صاحب الروم

ما بنوا وأوطنوا الكوفة وهذه ثغورهم، وليس في أيديهم من الريف إلا ذلك. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد عن عامر، قال: كانت الكوفة وسوادها والفروج: حلوان، والموصل، وماسبذان وقرقيسياء ثم وافقهم في الحديث عمرو بْن الريان، عن موسى بْن عيسى الهمداني بمثل حديثهم، ونهاهم عما وراء ذلك، ولم يأذن لهم في الانسياح. وقالوا جميعا: ولي سعد بْن مالك على الكوفه بعد ما اختطت ثلاث سنين ونصفا سوى ما كان بالمدائن قبلها، وعماله ما بين الكوفه وحلوان والموصل وماسبذان وقرقيسياء إلى البصرة، ومات عتبة بْن غزوان وهو على البصرة فظع بعمله، وسعد على الكوفة فولى عمر أبا سبرة مكان عتبة بْن غزوان، ثم عزل أبا سبرة عن البصرة، واستعمل المغيرة، ثم عزل المغيرة، واستعمل أبا موسى الأشعري . ذكر خبر حمص حين قصد من فيها من المسلمين صاحب الروم وفي هذه السنة قصدت الروم أبا عبيدة بْن الجراح ومن معه من جند المسلمين بحمص لحربهم، فكان من أمرهم وأمر المسلمين ما ذكر أبو عبيدة، وهو فيما كتب به إلي السري عن شعيب، عن سيف عن مُحَمَّد وطلحة وعمرو وسعيد- قالوا أول ما اذن عمر للجند بالانسياج، أن الروم خرجوا، وقد تكاتبوا هم وأهل الجزيرة يريدون أبا عبيدة والمسلمين بحمص، فضم أبو عبيدة إليه مسالحه، وعسكروا بفناء مدينة حمص، وأقبل خالد من قنسرين حتى انضم إليهم فيمن انضم من أمراء المسالح، فاستشارهم أبو عبيدة في المناجزة أو التحصن إلى مجيء الغياث، فكان خالد يأمره أن يناجزهم، وكان سائرهم يأمرونه بأن يتحصن، ويكتب إلى عمر، فأطاعهم وعصى خالدا، وكتب إلى عمر يخبره بخروجهم عليه،

وشغلهم أجناد أهل الشام عنه، وقد كان عمر اتخذ في كل مصر على قدره خيولا من فضول أموال المسلمين عدة لكون إن كان، فكان بالكوفة من ذلك أربعة آلاف فرس فلما وقع الخبر لعمر كتب الى سعد ابن مالك: أن اندب الناس مع القعقاع بْن عمرو وسرحهم من يومهم الذي يأتيك فيه كتابي إلى حمص، فإن أبا عبيدة قد أحيط به، وتقدم إليهم في الجد والحث. وكتب أيضا إليه أن سرح سهيل بْن عدي إلى الجزيرة في الجند وليأت الرقة فإن أهل الجزيرة هم الذين استثاروا الروم على أهل حمص، وإن أهل قرقيسياء لهم سلف وسرح عبد اللَّه بْن عبد اللَّه بْن عتبان إلى نصيبين، فإن أهل قرقيسياء لهم سلف، ثم لينفضا حران والرهاء وسرح الوليد بْن عقبة على عرب الجزيرة من ربيعة وتنوخ وسرح عياضا، فإن كان قتال فقد جعلت أمرهم جميعا إلى عياض بْن غنم- وكان عياض من أهل العراق الذين خرجوا مع خالد بْن الوليد ممدين لأهل الشام، وممن انصرف ايام انصرف أهل العراق ممدين لأهل القادسية، وكان يرافد أبا عبيدة- فمضى القعقاع في أربعة آلاف من يومهم الذي أتاهم فيه الكتاب نحو حمص، وخرج عياض بْن غنم وأمراء الجزيرة فأخذوا طريق الجزيرة على الفراض وغير الفراض، وتوجه كل أمير إلى الكورة التي أمر عليها فاتى الرقة، وخرج عمر من المدينة مغيثا لأبي عبيدة يريد حمص حتى نزل الجابية ولما بلغ أهل الجزيرة الذين أعانوا الروم على أهل حمص واستثاروهم وهم معهم مقيمون عن حديث من بالجزيرة منهم بأن الجنود قد ضربت من الكوفة، ولم يدروا: الجزيرة يريدون أم حمص! فتفرقوا إلى بلدانهم

وإخوانهم، وخلوا الروم ورأى أبو عبيدة أمرا لما انفضوا غير الأول، فاستشار خالدا في الخروج، فأمره بالخروج، ففتح اللَّه عليهم وقدم القعقاع بْن عمرو في أهل الكوفة في ثلاث من يوم الوقعة، وقدم عمر فنزل الجابية، فكتبوا إلى عمر بالفتح وبقدوم المدد عليهم في ثلاث، وبالحكم في ذلك فكتب إليهم أن أشركوهم، وقال: جزى اللَّه أهل الكوفة خيرا! يكفون حوزتهم ويمدون أهل الأمصار. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ سِيَاهٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: اسْتَمَدَّ أَبُو عُبَيْدَةَ عُمَرَ، وَخَرَجَتْ عَلَيْهِ الرُّومُ، وَتَابَعَهُمُ النَّصَارَى فَحَصَرُوهُ، فَخَرَجَ وَكَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَنَفَرَ إِلَيْهِمْ فِي غَدَاةٍ أَرْبَعَةُ آلافٍ عَلَى الْبِغَالِ يُجَنِّبُونَ الْخَيْلَ، فَقَدِمُوا عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ فِي ثَلاثٍ بَعْدَ الْوَقْعَةِ، فَكَتَبَ فِيهِمْ إِلَى عُمَرَ، وَقَدِ انْتَهَى إِلَى الْجَابِيَةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَنْ أَشْرِكْهُمْ، فَإِنَّهُمْ قَدْ نَفَرُوا إِلَيْكُمْ، وَتَفَرَّقَ لَهُمْ عَدُوُّكُمْ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن طلحة، عن ماهان، قال: كان لعمر أربعة آلاف فرس عدة لكون إن كان، يشتيها في قبلة قصر الكوفة وميسرته، ومن أجل ذلك يسمى ذلك المكان الآري إلى اليوم، ويربعها فيما بين الفرات والأبيات من الكوفة مما يلي العاقول، فسمته الأعاجم آخر الشاهجان، يعنون معلف الأمراء، وكان قيمه عليها سلمان ابن ربيعة الباهلي في نفر من أهل الكوفة، يصنع سوابقها، ويجريها في كل عام، وبالبصرة نحو منها، وقيمه عليها جزء بْن معاوية، وفي كل مصر من الأمصار الثمانية على قدرها، فإن نابتهم نائبة ركب قوم وتقدموا إلى أن يستعد النَّاسِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن حلام، عن شهر ابن مالك بنحو منه فلما فرغوا رجعوا

ذكر فتح الجزيرة

ذكر فتح الجزيرة وفي هذه السنة- أعني سنة سبع عشرة- افتتحت الجزيرة في رواية سيف وأما ابن إسحاق، فإنه ذكر أنها افتتحت في سنة تسع عشرة من الهجرة، وذكر من سبب فتحها ما حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة عنه، أن عمر كتب إلى سعد بْن أبي وقاص: إن اللَّه قد فتح على المسلمين الشام والعراق، فابعث من عندك جندا إلى الجزيرة، وأمر عليهم أحد الثلاثة: خالد بْن عرفطة، أو هاشم بْن عتبة، أو عياض بْن غنم. فلما انتهى إلى سعد كتاب عمر، قال: ما أخر أمير المؤمنين عياض بْن غنم آخر القوم إلا انه له فيه هوى ان أوليه، وأنا موليه فبعثه وبعث معه جيشا، وبعث أبا موسى الأشعري، وابنه عمر بْن سعد- وهو غلام حدث السن ليس إليه من الأمر شيء- وعثمان بْن أبي العاص بْن بشر الثقفي، وذلك في سنة تسع عشرة فخرج عياض إلى الجزيرة، فنزل بجنده على الرهاء فصالحه أهلها على الجزية، وصالحت حران حين صالحت الرهاء، فصالحه أهلها على الجزية ثم بعث أبا موسى الأشعري إلى نصيبين، ووجه عمر بْن سعد إلى رأس العين في خيل رداء للمسلمين، وسار بنفسه في بقية الناس إلى دارا، فنزل عليها حتى افتتحها، فافتتح أبو موسى نصيبين، وذلك في سنه تسع عشره ثم وجه عثمان بْن أبي العاص إلى أرمينية الرابعة فكان عندها شيء من قتال، أصيب فيه صفوان بْن المعطل السلمي شهيدا. ثم صالح أهلها عثمان بْن أبي العاص على الجزية، على كل أهل بيت دينار ثم كان فتح قيسارية من فلسطين وهرب هرقل. وأما في رواية سيف، فإن الخبر في ذلك، فيما كتب به إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد والمهلب وطلحة وعمرو وسعيد، قالوا: خرج عياض بْن غنم في أثر القعقاع، وخرج القواد- يعني حين كتب عمر إلى سعد بتوجيه القعقاع في أربعة آلاف من جنده مددا لأبي عبيدة حين قصدته الروم وهو بحمص- فسلكوا طريق الجزيرة على الفراض وغيرها،

فسلك سهيل بْن عدي وجنده طريق الفراض حتى انتهى إلى الرقة، وقد ارفض أهل الجزيرة عن حمص إلى كورهم حين سمعوا بمقبل أهل الكوفة، فنزل عليهم، فأقام محاصرهم حتى صالحوه، وذلك أنهم قالوا فيما بينهم: أنتم بين أهل العراق وأهل الشام، فما بقاؤكم على حرب هؤلاء وهؤلاء! فبعثوا في ذلك إلى عياض وهو في منزل واسط من الجزيرة، فرأى أن يقبل منهم، فبايعوه وقبل منهم، وكان الذي عقد لهم سهيل بْن عدي عن أمر عياض، لأنه أمير القتال وأجروا ما أخذوا عنوة، ثم أجابوا مجرى أهل الذمة، وخرج عبد اللَّه بْن عبد اللَّه بْن عتبان، فسلك على دجلة حتى انتهى إلى الموصل، فعبر إلى بلد حتى أتى نصيبين، فلقوه بالصلح، وصنعوا كما صنع أهل الرقة، وخافوا مثل الذي خافوا، فكتبوا إلى عياض، فرأى أن يقبل منهم، فعقد لهم عبد اللَّه بْن عبد اللَّه، وأجروا ما أخذوا عنوة، ثم أجابوا مجرى أهل الذمة، وخرج الوليد بْن عقبة حتى قدم على بني تغلب وعرب الجزيرة، فنهض معه مسلمهم وكافرهم الا اياد ابن نزار، فإنهم ارتحلوا بقليتهم، فاقتحموا أرض الروم، فكتب بذلك الوليد إلى عمر بْن الخطاب ولما أعطى أهل الرقة ونصيبين الطاعة ضم عياض سهيلا وعبد اللَّه إليه فسار بالناس إلى حران، فأخذ ما دونها فلما انتهى إليهم اتقوه بالإجابة إلى الجزية فقبل منهم، وأجرى من أجاب بعد غلبه مجرى أهل الذمة ثم إن عياضا سرح سهيلا وعبد اللَّه إلى الرهاء، فاتقوهما بالإجابة إلى الجزية، وأجرى من دونهم مجراهم، فكانت الجزيرة أسهل البلدان أمرا، وأيسره فتحا، فكانت تلك السهولة مهجنة عليهم وعلى من أقام فيهم من المسلمين، وقال عياض بْن غنم: من مبلغ الأقوام أن جموعنا ... حوت الجزيرة يوم ذات زحام جمعوا الجزيرة والغياث فنفسوا ... عمن بحمص غيابه القدام

إن الأعزة والأكارم معشر ... فضوا الجزيرة عن فراخ الهام غلبوا الملوك على الجزيرة فانتهوا ... عن غزو من يأوي بلاد الشام ولما نزل عمر الجابية، وفرغ أهل حمص أمد عياض بْن غنم بحبيب ابن مسلمة، فقدم على عياض مددا، وكتب أبو عبيدة إلى عمر بعد انصرافه من الجابية يسأله أن يضم إليه عياض بْن غنم إذ ضم خالدا إلى المدينة، فصرفه إليه، وصرف سهيل بْن عدي وعبد اللَّه بْن عبد اللَّه إلى الكوفة ليصرفهما إلى المشرق، واستعمل حبيب بْن مسلمة على عجم الجزيرة وحربها، والوليد بْن عقبة على عرب الجزيرة، فأقاما بالجزيرة على أعمالهما. قالوا: ولما قدم الكتاب من الوليد على عمر كتب عمر إلى ملك الروم: إنه بلغني أن حيا من أحياء العرب ترك دارنا وأتى دارك، فو الله لتخرجنه أو لننبذن إلى النصارى، ثم لنخرجنهم إليك فأخرجهم ملك الروم، فخرجوا فتم منهم على الخروج أربعة آلاف مع أبي عدي بْن زياد، وخنس بقيتهم، فتفرقوا فيما يلي الشام والجزيرة من بلاد الروم، فكل إيادي في أرض العرب من أولئك الأربعة الآلاف، وأبى الوليد بْن عقبة أن يقبل من بني تغلب إلا الإسلام، فقالوا له: أما من نقب على قومه في صلح سعد ومن كان قبله فأنتم وذاك، وأما من لم ينقب عليه أحد ولم يجر ذلك لمن نقب فما سبيلك عليه! فكتب فيهم إلى عمر، فأجابه عمر: إنما ذلك لجزيرة العرب لا يقبل منهم فيها إلا الإسلام، فدعهم على ألا ينصروا وليدا، وأقبل منهم إذا أسلموا فقبل منهم على ألا ينصروا وليدا، ولا يمنعوا أحدا منهم من الإسلام، فأعطى بعضهم ذلك فأخذوا به، وأبى بعضهم إلا الجزاء، فرضي منهم بما رضي من العباد وتنوخ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَيْفٍ التغلبى، قال: كان رسول الله ص قَدْ عَاهَدَ وَفْدَهُمْ

خروج عمر بن الخطاب إلى الشام

عَلَى أَلا يُنَصِّرُوا وَلِيدًا، فَكَانَ ذَلِكَ الشَّرْطُ عَلَى الْوَفْدِ وَعَلَى مَنْ وَفَدهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ زَمَانُ عُمَرَ قَالَ مُسْلِمُوهُمْ: لا تَنْفُرُوهُمْ بِالْخَرَاجِ فَيَذْهَبُوا، وَلَكِنْ أَضْعِفُوا عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةَ الَّتِي تَأْخُذُونَهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَيَكُونَ جَزَاءً، فَإِنَّهُمْ يَغْضَبُونَ مِنْ ذِكْرِ الْجَزَاءِ عَلَى أَلا يُنَصِّرُوا مَوْلُودًا إِذَا أَسْلَمَ آبَاؤُهُمْ. فَخَرَجَ وَفْدُهُمْ فِي ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ، فَلَمَّا بَعَثَ الوليد اليه برءوس النصارى وبديانيهم، قَالَ لَهُمْ عُمَرُ: أَدُّوا الْجِزْيَةَ، فَقَالُوا: لِعُمَرَ: أَبْلِغْنَا مَأْمَنَنَا، وَاللَّهِ لَئِنْ وَضَعْتَ عَلَيْنَا الْجَزَاءَ لَنَدْخُلَنَّ أَرْضَ الرُّومِ، وَاللَّهِ لَتَفْضَحَنَّا مِنْ بَيْنِ الْعَرَبِ، فَقَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ فَضَحْتُمْ أَنْفُسَكُمْ، وَخَالَفْتُمْ أُمَّتَكُمْ فِيمَنْ خَالَفَ وَافْتَضَحَ مِنْ عَرَبِ الضَّاحِيَةِ، وَتَاللَّهِ لتؤدُّنَّه وَأَنْتُمْ صَغَرَةٌ قَمَأَةٌ، وَلَئِنْ هَرَبْتُمْ إِلَى الرُّومِ لأَكْتُبَنَّ فِيكُمْ، ثُمَّ لأُسْبِيَنَّكُمْ قَالُوا: فَخُذْ مِنَّا شَيْئًا وَلا تُسَمِّهِ جَزَاءً، فَقَالَ: أَمَّا نَحْنُ فَنُسَمِّيهِ جَزَاءً، وَسَمُّوهُ أَنْتُمْ مَا شِئْتُمْ [فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَمْ يُضْعِفْ عَلَيْهِمْ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ الصَّدَقَةَ؟] قَالَ: بَلَى، وَأَصْغَى إِلَيْهِ، فَرَضِيَ بِهِ مِنْهُمْ جَزَاءً، فَرَجَعُوا عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ فِي بَنِي تَغْلِبَ عِزٌّ وَامْتِنَاعٌ، وَلا يَزَالُونَ يُنَازِعُونَ الْوَلِيدَ، فَهَمَّ بِهِمُ الْوَلِيدُ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ: إِذَا مَا عَصَبْتُ الرَّأْسَ مِنِّي بِمِشْوَذٍ ... فَغَيّكَ مِنِّي تَغْلِبَ ابْنَةَ وَائِلِ وَبَلَغَتْ عَنْهُ عُمَرَ، فَخَافَ أَنْ يَحْرِجُوهُ وَأَنْ يَضْعُفَ صَبْرُهُ فَيَسْطُو عَلَيْهِمْ، فَعَزَلَهُ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ فُرَاتَ بْنَ حَيَّانَ وَهِنْدَ بْنَ عَمْرٍو الْجَمَلِيَّ، وَخَرَجَ الْوَلِيدُ وَاسْتَوْدَعَ إِبِلا لَهُ حُرَيْثَ بْنَ النُّعْمَانِ، أَحَدُ بَنِي كِنَانَةَ بْنِ تَيْمٍ مِنْ بَنِي تغلب، وكانت مائه من الإبل فاختانها بعد ما خَرَجَ الْوَلِيدُ. وَكَانَ فَتْحُ الْجَزِيرَةِ فِي سَنَةِ سبع عشره في ذي الحجه . خروج عمر بن الخطاب الى الشام وفي هذه السنة- أعني سنة سبع عشرة- خَرَجَ عُمَرُ مِنَ الْمَدِينَةِ يُرِيدُ

الشَّامَ حَتَّى بَلَغَ سَرْغَ، فِي قَوْلِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا بِذَلِكَ ابْنُ حُمَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ عَنْهُ، وَفِي قَوْلِ الْوَاقِدِيِّ. ذكر الخبر عن خروجه إليها: حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّد بْن إسحاق، قال: خرج عمر إلى الشام غازيا في سنة سبع عشرة، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد، فأخبروه أن الأرض سقيمة، فرجع بالناس إلى المدينة. وقد كان عمر- كما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد ابن إسحاق، عن ابن شهاب الزهري، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ، عن عبد الله ابن عَبَّاسٍ- خَرَجَ غَازِيًا، وَخَرَجَ مَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ وَأَوْعَبَ النَّاسَ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا نَزَلَ بِسَرْغَ، لقيه أمراء الأجناد: ابو عبيده ابن الْجَرَّاحِ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَشُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الأَرْضَ سَقِيمَةٌ، فَقَالَ عُمَرُ: اجْمَعْ إِلَيَّ الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ، قَالَ: فَجَمَعْتُهُمْ لَهُ، فَاسْتَشَارَهُمْ، فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ، فَمِنْهُمُ الْقَائِلُ: خَرَجْتَ لِوَجْهٍ تُرِيدُ فِيهِ اللَّهَ وَمَا عِنْدَهُ، وَلا نَرَى أَنْ يَصُدَّكَ عَنْهُ بَلاءٌ عَرَضَ لَكَ وَمِنْهُمُ الْقَائِلُ: إِنَّهُ لَبَلاءٌ وَفَنَاءٌ مَا نَرَى أَنْ تَقْدَمَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ قَالَ: قُومُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: اجْمَعْ لِي مُهَاجِرَةَ الأَنْصَارِ، فَجَمَعْتُهُمْ لَهُ، فَاسْتَشَارَهُمْ فَسَلَكُوا طَرِيقَ الْمُهَاجِرِينَ، فَكَأَنَّمَا سَمِعُوا مَا قَالُوا فَقَالُوا مِثْلَهُ فَلَمَّا اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ قَالَ: قُومُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: اجْمَعْ لِي مُهَاجِرَةَ الْفَتْحِ مِنْ قُرَيْشٍ، فَجَمَعْتُهُمْ لَهُ، فاستشارهم فلم يختلف عليه مِنْهُمُ اثْنَانِ، وَقَالُوا: ارْجِعْ بِالنَّاسِ، فَإِنَّهُ بَلاءٌ وفناء قال: فقال لي عمر: يا بن عَبَّاسٍ، اصْرُخْ فِي النَّاسِ فَقُلْ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظُهْرٍ، فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ قَالَ: فَأَصَبْحَ عُمَرُ عَلَى ظُهْرٍ، وَأَصْبَحَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي رَاجِعٌ فَارْجِعُوا، فَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ! قَالَ: نَعَمْ فِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ

رَجُلا هَبَطَ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ: إِحْدَاهُمَا خَصْبَةٌ وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ يَرْعَى مَنْ رَعَى الْجَدْبَةَ بِقَدَرِ اللَّهِ، وَيَرْعَى مَنْ رَعَى الْخَصْبَةِ بِقَدَرِ اللَّهِ! ثُمَّ قَالَ: لَوْ غَيْرُكَ يَقُولُ هَذَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ! ثُمَّ خَلا بِهِ بِنَاحِيَةٍ دُونَ النَّاسِ، فَبَيْنَا النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ إِذْ أَتَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ- وَكَانَ مُتَخَلِّفًا عَنِ النَّاسِ لَمْ يَشْهَدْهُمْ بِالأَمْسِ- فَقَالَ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ فَأُخْبِرَ الْخَبَرَ، فَقَالَ: عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمٌ، فَقَالَ: عُمَرُ: فَأَنْتَ عِنْدَنَا الأَمِينُ الْمُصَدَّقُ، فَمَاذَا عِنْدَكَ؟ [قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص يَقُولُ: إِذَا سَمِعْتُمْ بِهَذَا الْوَبَاءِ بِبَلَدٍ فَلا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ وَأَنْتُمْ بِهِ فَلا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ،] وَلا يُخْرِجَنَّكُمْ إِلا ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ! انْصَرِفُوا أَيُّهَا النَّاسُ، فَانْصَرَفَ بِهِمْ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة عن محمد بن إسحاق، عن ابن شهاب الزهري، عن عبد اللَّه بْن عامر بْن ربيعة وسالم بْن عبد اللَّه بْن عمر، أنهما حدثاه أن عمر إنما رجع بالناس عن حديث عبد الرحمن بْن عوف، فلما رجع عمر رجع عمال الأجناد إلى أعمالهم وَأَمَّا سَيْفٌ، فَإِنَّهُ رَوَى فِي ذَلِكَ مَا كتب بِهِ إِلَى السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان وَالرَّبِيعِ، قَالُوا: وَقَعَ الطَّاعُونُ بِالشَّامِ وَمِصْرَ وَالْعِرَاقِ، وَاسْتَقَرَّ بِالشَّامِ، وَمَاتَ فِيهِ النَّاسُ الَّذِينَ هُمْ فِي كُلِّ الأَمْصَارِ فِي الْمُحَرَّمِ وَصَفَرٍ، وَارْتَفَعَ عَنِ النَّاسِ وَكَتَبُوا بِذَلِكَ إِلَى عُمَرَ مَا خَلا الشَّامِ، فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْهَا قَرِيبًا بَلَغَهُ أَنَّهُ أَشَدُّ مَا كَانَ، فَقَالَ وقال الصحابه: [قال رسول الله ص: إِذَا كَانَ بِأَرْضٍ وَبَاءٌ فَلا تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلا تَخْرُجُوا مِنْهَا،] فَرَجَعَ حَتَّى ارْتَفَعَ عَنْهَا، وَكَتَبُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ وَبِمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْمَوَارِيثِ، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي جُمَادَى الأُولَى سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، فَاسْتَشَارَهُمْ فِي الْبُلْدَانِ، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ بَدَا لِي أَنْ أَطُوفَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي بِلْدَانِهِمْ لأَنْظُرَ فِي آثَارِهِمْ، فَأَشِيرُوا عَلَيَّ- وَكَعْبُ الأَحْبَارِ

فِي الْقَوْمِ، وَفِي تِلْكَ السَّنَةِ مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ أَسْلَمَ- فَقَالَ كَعْبٌ: بِأَيِّهَا تُرِيدُ أَنْ تَبْدَأَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: بِالْعِرَاقِ، قَالَ: فَلا تَفْعَلْ، فَإِنَّ الشَّرَّ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ وَالْخَيْرُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ، فَجُزْءٌ مِنَ الْخَيْرِ بِالْمَشْرِقِ وَتِسْعَةٌ بِالْمَغْرِبِ، وَإِنَّ جُزْءًا مِنَ الشَّرِّ بِالْمَغْرِبِ وَتِسْعَةً بِالْمَشْرِقِ، وَبِهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ، وَكُلُّ دَاءٍ عُضَالٌ. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ الأَصْبَغِ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَامَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ، فَقَالَ: [يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَاللَّهِ إِنَّ الْكُوفَةَ لِلْهِجْرَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَإِنَّهَا لَقُبَّةُ الإِسْلامِ، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهَا يَوْمٌ لا يَبْقَى مُؤْمِنٌ إِلا أَتَاهَا وَحَنَّ إِلَيْهَا، وَاللَّهِ لَيُنْصَرَنَّ بِأَهْلِهَا كَمَا انْتُصِرَ بِالْحِجَارَةِ مِنْ قَوْمِ لُوطٍ] . كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنِ الْمطرحِ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: وَقَالَ عُثْمَانُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ الْمَغْرِبَ أَرْضُ الشَّرِّ، وَإِنَّ الشَّرَّ قُسِّمَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَجُزْءٌ فِي النَّاسِ وَسَائِرُ الأَجْزَاءِ بِهَا. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن ابى يَحْيَى التَّمِيمِيِّ، عَنْ أَبِي مَاجِدٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: الْكُوفَةُ رُمْحُ اللَّهِ، وَقُبَّةُ الإِسْلامِ، وَجُمْجُمَةُ الْعَرَبِ، يَكُفُّونَ ثُغُورَهُمْ، وَيَمُدُّونَ الأَمْصَارَ، فَقَدْ ضَاعَتْ مَوَارِيثُ أَهْلِ عِمْوَاسَ، فَأَبْدَأُ بِها. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عُثْمَانَ وَأَبِي حَارِثَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ النُّعْمَانِ، قَالُوا: قَالَ عُمَرُ: ضَاعَتْ مَوَارِيثُ النَّاسِ بِالشَّامِ، أَبْدَأُ بِهَا فَأُقَسِّمُ الْمَوَارِيثَ، وَأُقِيمُ لَهُمْ مَا فِي نَفْسِي، ثُمَّ أَرْجِعُ فَأَتَقَلَّبُ فِي الْبِلادِ، وَأَنْبِذُ إِلَيْهِمْ أَمْرِي فَأَتَى عُمَرُ الشَّامَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، مَرَّتَيْنِ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ، وَمَرَّتَيْنِ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ، لَمْ يَدْخُلْهَا فِي الأُولَى مِنَ الآخِرَتَيْنِ. كَتَبَ إِلَى السَّرِيِّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: [قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: قُسِّمَ الْحِفْظُ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ، فَتِسْعَةٌ فِي التُّرْكِ وَجُزْءٌ فِي سَائِرِ النَّاسِ، وَقُسِّمَ الْبُخْلُ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ، فَتِسْعَةٌ فِي فَارِسَ، وَجُزْءٌ فِي سَائِرِ النَّاسِ، وَقُسِّمَ السَّخَاءُ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ،

فَتِسْعَةٌ فِي السُّودَانِ، وَجُزْءٌ فِي سَائِرِ النَّاسِ، وَقُسِّمَ الشَّبَقُ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ، فَتِسْعَةٌ فِي الْهِنْدِ، وَجُزْءٌ فِي سَائِرِ النَّاسِ، وَقُسِّمَ الْحَيَاءُ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ، فَتِسْعَةٌ فِي النِّسَاءِ، وَجُزْءٌ فِي سَائِرِ النَّاسِ، وَقُسِّمَ الْحَسَدُ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ، فَتِسْعَةٌ فِي الْعَرَبِ وَجُزْءٌ فِي سَائِرِ النَّاسِ، وَقُسِّمَ الْكِبْرُ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ، فَتِسْعَةٌ فِي الرُّومِ وَجُزْءٌ فِي سَائِرِ النَّاسِ] . واختلف في خبر طاعون عمواس وفي أي سنة كان، فقال ابن إسحاق ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه، قال: ثم دخلت سنة ثماني عشرة، ففيها كان طاعون عمواس، فتفانى فيها الناس، فتوفى ابو عبيده ابن الجراح، وهو أمير الناس، ومعاذ بْن جبل، ويزيد بن ابى سفيان، والحارث ابن هشام، وسهيل بْن عمرو، وعتبة بْن سهيل، وأشراف الناس. وحدثني أحمد بْن ثابت الرازي، قال: حَدَّثَنَا عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، قال: كان طاعون عمواس والجابية في سنة ثماني عشرة. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عَنْ شُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنِ الْمُخَارِقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ الْبَجَلِيِّ، قَالَ: أَتَيْنَا أَبَا مُوسَى وَهُوَ فِي دَارِهِ بِالْكُوفَةِ لِنَتَحَدَّثَ عِنْدَهُ، فَلَمَّا جَلَسْنَا قَالَ: لا عَلَيْكُمْ أَنْ تخفوا، فقد أصيب في الدار إنسان بهذا السقم، ولا عليكم أن تنزهوا عن هذه القرية، فتخرجوا في فسيح بلادكم ونزهها حتى يرفع هذا الوباء، سأخبركم بما يكره مما يتقى، من ذلك أن يظن من خرج أنه لو أقام مات، ويظن من اقام فاصابه ذلك لو أنه لو خرج لم يصبه، فإذا لم يظن هذا المرء المسلم فلا عليه أن يخرج، وأن يتنزه عنه، إني كنت مع أبي عبيدة بْن الجراح بالشام عام طاعون عمواس، فلما اشتعل الوجع، وبلغ

ذلك عمر، كتب إلى أبي عبيدة ليستخرجه منه: أن سلام عليك، أما بعد، فإنه قد عرضت لي إليك حاجة أريد أن أشافهك فيها، فعزمت عليك إذا نظرت في كتابي هذا ألا تضعه من يدك حتى تقبل إلي قال: فعرف أبو عبيدة أنه إنما أراد أن يستخرجه من الوباء، قال: يغفر اللَّه لأمير المؤمنين! ثم كتب إليه: يا أمير المؤمنين، إني قد عرفت حاجتك إلي، وإني في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم، فلست أريد فراقهم حتى يقضي اللَّه في وفيهم أمره وقضاءه، فحللني من عزمتك يا أمير المؤمنين، ودعني في جندي فلما قرأ عمر الكتاب بكى، فقال الناس: يا أمير المؤمنين، أمات أبو عبيدة؟ قال: لا، وكأن قد قال: ثم كتب إليه: سلام عليك، أما بعد، فإنك أنزلت الناس أرضا غمقه، فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة فلما أتاه كتابه دعاني فقال: يا أبا موسى، إن كتاب أمير المؤمنين قد جاءني بما ترى، فاخرج فارتد للناس منزلا حتى أتبعك بهم، فرجعت إلى منزلي لأرتحل، فوجدت صاحبتي قد أصيبت، فرجعت إليه، فقلت له: والله لقد كان في أهلي حدث، فقال: لعل صاحبتك أصيبت! قلت: نعم، قال: فأمر ببعيره فرحل له، فلما وضع رجله في غرزة طعن، فقال: والله لقد أصبت ثم سار بالناس حتى نزل الجابية، ورفع عن الناس الوباء. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ الأَشْعَرِيِّ، عَنْ رَابةَ- رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، وَكَانَ قَدْ خَلَفَ عَلَى أُمِّهِ بَعْدَ أَبِيهِ، كَانَ شَهِدَ طَاعُونَ عِمْوَاسَ- قَالَ: لَمَّا اشْتَعَلَ الْوَجَعُ قَامَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هذا الوجع رحمه بكم ودعوه نبيكم محمد ص، وَمَوْتُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَقْسِمَ لَهُ مِنْهُ حَظَّهُ فَطُعِنَ فمات،

وَاسْتُخْلِفَ عَلَى النَّاسِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ قَالَ: فَقَامَ خَطِيبًا بَعْدَهُ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ رَحْمَةُ رَبِّكُمْ، وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ وَمَوْتُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّ مُعَاذًا يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَقْسِمَ لآلِ مُعَاذٍ مِنْهُ حَظَّهُمْ، فَطُعِنَ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُعَاذٍ، فَمَاتَ ثُمَّ قَامَ فَدَعَا بِهِ لِنَفْسِهِ، فَطُعِنَ فِي رَاحَتِهِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا ثُمَّ يُقَبِّلُ ظَهْرَ كَفِّهِ، ثُمَّ يَقُولُ: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِمَا فِيكِ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا، فَلَمَّا مَاتَ اسْتُخْلِفَ عَلَى النَّاسِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، فَقَامَ خَطِيبًا فِي النَّاسِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ إِذَا وَقَعَ فَإِنَّمَا يَشْتَعِلُ اشْتِعَالَ النَّارِ، فتجبلوا منه في الجبال فقال ابو وائله الْهُذَلِيُّ: كَذَبْتَ، وَاللَّهِ لَقَدْ صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص وَأَنْتَ شَرٌّ مِنْ حِمَارِي هَذَا! قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرُدُّ عَلَيْكَ مَا تَقُولُ، وَايْمِ اللَّهِ لا نُقِيمُ عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ وَخَرَجَ النَّاسُ فَتَفَرَّقُوا، وَرَفَعَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْ رَأَيِ عَمْرَو بْنِ العاص، فو الله مَا كَرِهَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي قِلابَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْجِرْمِيِّ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: بَلَغَنِي هَذَا مِنْ قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَقَوْلِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: إِنَّ هذا الوجع رحمه بكم وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ، وَمَوْتُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، فَكُنْتُ أَقُولُ: كيف دعا به رسول الله ص لأُمَّتِهِ، حَتَّى حَدَّثَنِي بَعْضُ مَنْ لا أَتَّهِمُ عن رسول الله انه سمعه منه، وجاءه جبريل ع فَقَالَ: إِنَّ فَنَاءَ أُمَّتِكَ يَكُونُ بِالطَّعْنِ أَوِ الطاعون، [فجعل رسول الله ص يَقُولُ: اللَّهُمَّ فَنَاءَ الطَّاعُونِ!] فَعَرَفْتُ أَنَّهَا الَّتِي كَانَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَمُعَاذٌ. حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إِسْحَاقَ، قال: وَلَمَّا انْتَهَى إِلَى عُمَرَ مُصَابُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، أَمَّرَ معاويه ابن أَبِي سُفْيَانَ عَلَى جُنْدِ دِمَشْقَ وَخَرَاجِهَا، وَأَمَّرَ شُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ عَلَى جُنْدِ الأُرْدُنِّ وَخَرَاجِهَا. وَأَمَّا سَيْفٌ، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ طَاعُونَ عَمْوَاسَ كَانَ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ

ذكر الخبر عن سيف في ذلك، والخبر عما ذكره عن عمر في خرجته تلك انه احدث في مصالح المسلمين:

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان وأبي حارثة والربيع بإسنادهم، قالوا: كان ذلك الطاعون- يعنون طاعون عمواس- موتانا لم ير مثله، طمع له العدو في المسلمين، وتخوفت له قلوب المسلمين، كثر موته، وطال مكثه، مكث أشهرا حتى تكلم في ذلك النَّاسِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: أَصَابَ الْبَصْرَةَ مِنْ ذَلِكَ مَوْتٌ ذَرِيعٌ، فَأَمَرَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ غُلامًا لَهُ أَعْجَمِيًّا أَنْ يَحْمِلَ ابْنًا لَهُ صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ غَيْرَهُ عَلَى حِمَارٍ، ثُمَّ يَسُوقَ بِهِ إِلَى سَفَوَانَ، حَتَّى يَلْحَقَهُ فَخَرَجَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ ثُمَّ اتَّبَعَهُ، وَقَدْ أَشْرَفَ عَلَى سَفَوَانَ، وَدَنَا مِنَ ابْنِهِ وَغُلامِهِ، فَرَفَعَ الْغُلامُ عَقِيرَتَهُ يَقُولُ: لَنْ يعجزوا اللَّه على حمار ... ولا على ذي غرة مطار قد يصبح الموت أمام الساري فسكت حتى انتهى إليهم، فإذا هم هم، قال: ويحك، ما قلت! قال: ما أدري، قال: ارجع، فرجع بابنه، وعلم أنه قد أسمع آية وأريها. قال: وعزم رجل على الخروج الى ارض بها الطاعون فتردد بعد ما طعن، فإذا غلام له أعجمي يحدو به: يا ايها المشعر هما لا تهم ... إنك إن تكتب لك الحمى تحم وفي هذه السنة- أعني سنة سبع عشرة- كان خروج عمر إلى الشام الخرجة الأخيرة فلم يعد إليها بعد ذلك في قول سيف، وأما ابن إسحاق فقد مضى ذكره . ذكر الخبر عَنْ سَيْفٍ في ذلك، والخبر عما ذكره عن عمر في خرجته تلك أنه أحدث في مصالح المسلمين: كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن أبي عثمان وأبي حارثة والربيع، قالوا: وخرج عمر وخلف عليا على المدينة، وخرج معه بالصحابة

وأغذوا السير واتخذ أيلة طريقا، حتى إذا دنا منها تنحى عن الطريق، واتبعه غلامه، فنزل فبال، ثم عاد فركب بعير غلامه، وعلى رحله فرو مقلوب، وأعطى غلامه مركبه، فلما تلقاه أوائل الناس، قالوا: أين أمير المؤمنين؟ قال: أمامكم- يعني نفسه- وذهبوا هم إلى أمامهم، فجازوه حتى انتهى هو إلي أيلة فنزلها وقيل للمتلقين: قد دخل أمير المؤمنين أيلة ونزلها. فرجعوا إليه كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَيْلَةَ، وَمَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ دَفَعَ قَمِيصًا لَهُ كَرَابِيسُ قَدِ انْجَابَ مُؤَخِّرُهُ عَنْ قَعْدَتِهِ مِنْ طُولِ السَّيْرِ إِلَى الأُسْقُفِّ، وقال: اغسل هذا وارقعه، فَانْطَلَقَ الأُسْقُفُّ بِالْقَمِيصِ، وَرَقَّعَهُ، وَخَاطَ لَهُ آخَرُ مِثْلَهُ، فَرَاحَ بِهِ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ الأُسْقُفُّ: أَمَّا هَذَا فَقَمِيصُكَ قَدْ غَسَلْتُهُ وَرَقَّعْتُهُ، وَأَمَّا هَذَا فَكِسْوَةٌ لَكَ مِنِّي. فَنَظَرَ إِلَيْهِ عُمَرُ وَمَسَحَهُ، ثُمَّ لَبِسَ قَمِيصَهُ، وَرَدَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْقَمِيصَ، وَقَالَ: هَذَا أَنْشَفُهُمَا لِلْعَرَقِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَطِيَّةَ وَهِلالٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْعَبَّاسَ بِالْجَابِيَةِ يَقُولُ لِعُمَرَ: أَرْبَعٌ مَنْ عَمِلَ بِهِنَّ اسْتَوْجَبَ الْعَدْلَ: الأَمَانَةُ فِي الْمَالِ، وَالتَّسْوِيَّةُ فِي الْقَسْمِ، وَالْوَفَاءُ بالعدة، وَالْخُرُوجُ مِنَ الْعُيُوبِ، نَظِّفْ نَفْسَكَ وَأَهْلَكَ. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أَبِي عُثْمَانَ وَالرَّبِيعِ وَأَبِي حَارِثَةَ بِإِسْنَادِهِمْ، قَالُوا: قَسَّمَ عُمَرُ الأَرْزَاقَ، وَسَمَّى الشَّوَاتِيَ وَالصَّوَائِفَ، وَسَدَّ فُرُوجَ الشَّامِ وَمَسَالِحَهَا، وَأَخَذَ يَدُورُ بِهَا، وَسَمَّى ذَلِكَ فِي كُلِّ كَوْرَةٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ عَلَى السَّوَاحِلِ مِنْ كُلِّ كَوْرَةٍ، وَعَزَلَ شُرَحْبِيلَ، وَاسْتَعْمَلَ مُعَاوِيَةَ، وَأَمَّرَ أَبَا عُبَيْدَةَ وَخَالِدًا تَحْتَهُ، فَقَالَ لَهُ شُرَحْبِيلُ: أَعَنْ

سَخْطَةٍ عَزَلْتَنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: لا، إِنَّكَ لَكَمَا أُحِبُّ، وَلَكِنِّي أُرِيدُ رَجُلا أَقْوَى مِنْ رَجُلٍ، قَالَ: نَعَمْ، فَاعْذُرْنِي فِي النَّاسِ لا تُدْرِكْنِي هُجْنَةٌ، فَقَامَ فِي النَّاسِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسِ، إِنِّي وَاللَّهِ مَا عَزَلْتُ شُرَحْبِيلَ عَنْ سَخْطَةٍ، وَلَكِنِّي أَرَدْتُ رَجُلا أَقْوَى مِنْ رَجُلٍ وَأَمَّرَ عَمْرَو بْنَ عَبْسَةَ عَلَى الأَهْرَاءِ، وَسَمَّى كُلَّ شَيْءٍ، ثُمَّ قَامَ فِي النَّاسِ بِالْوَدَاعِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن أبي ضمرة وأبي عمرو، عن المستورد، عن عدي بْن سهيل، قال: لما فرغ عمر من فروجه وأموره قسم المواريث، فورث بعض الورثة من بعض، ثم أخرجها إلى الأحياء من ورثة كل امرئ منهم. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي: وخرج الحارث بْن هشام في سبعين من أهل بيته، فلم يرجع منهم إلا أربعة، فقال المهاجر بْن خالد بْن الوليد: من يسكن الشام يعرس به ... والشام إن لم يفننا كارب أفنى بنى ريطة فرسانهم ... عشرون لم يقصص لهم شارب ومن بني أعمامهم مثلهم ... لمثل هذا أعجب العاجب طعنا وطاعونا مناياهم ... ذلك ما خط لنا الكاتب قال: وقفل عمر من الشام إلى المدينة في ذي الحجة، وخطب حين أراد القفول، فحمد اللَّه وأثنى عليه، وقال: ألا إني قد وليت عليكم وقضيت الذي علي في الذي ولاني اللَّه من امركم، ان شاء الله قسطنا بينكم فيئكم ومنازلكم ومغازيكم، وأبلغنا ما لديكم، فجندنا لكم الجنود، وهيأنا لكم الفروج، وبوأناكم ووسعنا عليكم ما بلغ فيئكم وما قاتلتم عليه من شامكم، وسمينا لكم اطماعكم، وامرنا لكم باعطياتكم، وأرزاقكم ومغانمكم

ذكر خبر عزل خالد بن الوليد

فمن علم علم شيء ينبغي العمل به فبلغنا نعمل به إن شاء اللَّه، ولا قوة إلا بالله وحضرت الصلاة، وقال الناس: لو أمرت بلالا فأذن! فأمره فأذن، فما بقي احد كان ادرك رسول الله ص وبلال يؤذن له إلا بكى حتى بل لحيته، وعمر أشدهم بكاء، وبكى من لم يدركه ببكائهم، ولذكره ص . ذكر خبر عزل خالد بن الْوَلِيد كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن أبي عثمان وأبي حارثة، قالا: فما زال خالد على قنسرين حتى غزا غزوته التي أصاب فيها، وقسم فيها ما أصاب لنفسه. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن أبي المجالد مثله. قالوا: وبلغ عمر أن خالدا دخل الحمام فتدلك بعد النورة بثخين عصفر معجون بخمر، فكتب إليه: بلغني أنك تدلكت بخمر، وإن اللَّه قد حرم ظاهر الخمر وباطنه، كما حرم ظاهر الإثم وباطنه، وقد حرم مس الخمر إلا أن تغسل كما حرم شربها، فلا تمسوها أجسادكم فإنها نجس، وإن فعلتم فلا تعودوا. فكتب إليه خالد: إنا قتلناها فعادت غسولا غير خمر فكتب إليه عمر: إني أظن آل المغيرة قد ابتلوا بالجفاء، فلا أماتكم اللَّه عليه! فانتهى إليه ذلك. وفي هذه السنة- أعني سنة سبع عشرة- أدرب خالد بن الوليد وعياض ابن غنم في رواية سيف عن شيوخه

ذكر من قال ذلك: كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان وأبي حارثة والمهلب، قالوا: وأدرب سنة سبع عشرة خالد وعياض، فسارا فأصابا أموالا عظيمة، وكانا توجها من الجابية، مرجع عمر إلى المدينة، وعلى حمص أبو عبيدة وخالد تحت يديه على قنسرين، وعلى دمشق يزيد بْن أبي سفيان، وعلى الأردن معاوية، وعلى فلسطين علقمة بْن مجزز، وعلى الأهراء عمرو ابن عبسة، وعلى السواحل عبد اللَّه بْن قيس، وعلى كل عمل عامل. فقامت مسالح الشام ومصر والعراق على ذلك إلى اليوم لم تجز أمة إلى أخرى عملها بعد، إلا أن يقتحموا عليهم بعد كفر منهم، فيقدموا مسالحهم بعد ذلك، فاعتدل ذلك سنة سبع عشرة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سَيْفٍ، عن أبي المجالد وأبي عثمان والربيع وأبي حارثة، قالوا: ولما قفل خالد وبلغ الناس ما أصابت تلك الصائفة انتجعه رجال، فانتجع خالدا رجال من أهل الآفاق، فكان الأشعث بْن قيس ممن انتجع خالدا بقنسرين، فأجازه بعشرة آلاف. وكان عمر لا يخفى عليه شيء في عمله، كتب إليه من العراق بخروج من خرج، ومن الشام بجائزة من أجيز فيها- فدعا البريد، وكتب معه إلى أبي عبيدة أن يقيم خالدا ويعقله بعمامته، وينزع عنه قلنسوته حتى يعلمهم من أين إجازة الأشعث، أمن ماله أم من إصابة أصابها؟ فإن زعم أنها من إصابة أصابها فقد أقر بخيانة، وإن زعم أنها من ماله فقد أسرف. واعزله على كل حال، واضمم إليك عمله فكتب أبو عبيدة إلى خالد، فقدم عليه، ثم جمع الناس وجلس لهم على المنبر، فقام البريد فقال: يا خالد، أمن مالك أجزت بعشرة آلاف أم من إصابة؟ فلم يجبه حتى أكثر عليه، وأبو عبيدة ساكت لا يقول شيئا، فقام بلال إليه، فقال: إن أمير المؤمنين أمر فيك بكذا وكذا، ثم تناول قلنسوته فعقله بعمامته وقال: ما تقول! أمن مالك أم من إصابة؟ قال: لا بل من مالي، فأطلقه وأعاد قلنسوته ثم عممه بيده، ثم قال: نسمع ونطيع لولاتنا، ونفخم ونخدم موالينا قالوا: وأقام خالد متحيرا لا يدري امعزول

ذكر تجديد المسجد الحرام والتوسعه فيه

أم غير معزول؟ وجعل أبو عبيدة لا يخبره حتى إذا طال على عمر أن يقدم ظن الذي قد كان، فكتب إليه بالإقبال، فأتى خالد أبا عبيدة، فقال: رحمك اللَّه، ما أردت إلى ما صنعت! كتمتني أمرا كنت أحب أن أعلمه قبل اليوم! فقال أبو عبيدة: إني والله ما كنت لأروعك ما وجدت لذلك بدا، وقد علمت أن ذلك يروعك قال: فرجع خالد إلى قنسرين، فخطب أهل عمله وودعهم وتحمل، ثم أقبل إلى حمص فخطبهم وودعهم، ثم خرج نحو المدينة حتى قدم على عمر، فشكاه وقال: لقد شكوتك إلى المسلمين، وبالله إنك في أمري غير مجمل يا عمر، فقال عمر: من اين هذا الثراء؟ قال: من الأنفال والسهمان، ما زاد على الستين ألفا فلك فقوم عمر عروضه فخرجت إليه عشرون ألفا، فأدخلها بيت المال ثم قال: يا خالد، والله إنك علي لكريم، وإنك إلي لحبيب، ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُسْتَوْرِدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ سُهَيْلٍ، قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ إِلَى الأَمْصَارِ: إِنِّي لَمْ أَعْزِلْ خَالِدًا عَنْ سَخْطَةٍ وَلا خِيَانَةٍ، وَلَكِنَّ النَّاسَ فُتِنُوا بِهِ، فَخِفْتُ أَنْ يوكلوا إِلَيْهِ وَيُبْتُلُوا بِهِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الصَّانِعُ، وَأَلا يَكُونُوا بِعَرَضِ فِتْنَةٍ. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن مبشر، عَنْ سَالِمٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ خَالِدٍ عَلَى عُمَرَ قَالَ عُمَرُ مُتَمَثِّلا: صَنَعْتَ فَلَمْ يَصْنَعْ كَصُنْعِكَ صَانِعٌ ... وَمَا يَصْنَعُ الأَقْوَامُ فَاللَّهُ يَصْنَعُ فَأَغْرَمَهُ شَيْئًا، ثُمَّ عَوَّضَهُ، وَكَتَبَ فِيهِ إِلَى الناس بهذا الكتاب ليعذره عندهم وليبصرهم . ذكر تجديد المسجد الحرام والتوسعه فيه وفي هذه السنة- أعني سنة سبع عشرة- اعْتَمَرَ عُمَرُ، وَبَنَى الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ- فِيمَا زَعَمَ الْوَاقِدِيُّ- وَوَسَّعَ فِيهِ، وَأَقَامَ بِمَكَّةَ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَهَدَمَ عَلَى أَقْوَامٍ أَبَوْا أَنْ يَبِيعُوا، وَوَضَعَ أَثْمَانَ دُورِهِمْ فِي بَيْتِ الْمَالِ حَتَّى أَخَذُوهَا

ذكر خبر عزل المغيره عن البصره وولايه ابى موسى

قَالَ: وَكَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ الَّذِي اعْتَمَرَ فِيهِ رَجَبَ، وَخَلَّفَ عَلَى الْمَدِينَةِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي عُمْرَتِهِ هَذِهِ أَمَرَ بِتَجْدِيدِ أَنْصَابِ الْحَرَمِ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ مَخْرَمَةَ بْنَ نَوْفَلٍ وَالأَزْهَرَ بْنَ عَبْدِ عَوْفٍ وَحُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى وَسَعِيدَ بْنَ يَرْبُوعٍ. قَالَ: وَحَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَدِمْنَا مَعَ عُمَرَ مَكَّةَ فِي عُمْرَتِهِ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، فَمَرَّ بِالطَّرِيقِ فَكَلَّمَهُ أَهْلُ الْمِيَاهِ أَنْ يَبْتَنُوا مَنَازِلَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ- وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ بِنَاءٌ- فَأَذِنَ لَهُمْ، وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ أَحَقُّ بِالظِّلِّ وَالْمَاءِ. قَالَ: وَفِيهَا تَزَوَّجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أُمَّ كُلْثُومٍ ابْنَةَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَهِيَ ابْنَةُ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ ص، ودخل بها في ذي القعده . ذكر خبر عزل المغيره عن البصره وولايه ابى موسى قَالَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى عُمَرُ أَبَا مُوسَى الْبَصْرَةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُشْخِصَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةَ فِي رَبِيعٍ الأَوَّلِ- فَشَهِدَ عَلَيْهِ- فيما حَدَّثَنِي معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب- أبو بكرة، وشبل بْن معبد البجلي، ونافع بْن كلدة، وزياد. قال: وحدثني مُحَمَّد بْن يعقوب بْن عتبة، عن أبيه، قال: كان يختلف إلى أم جميل، امرأة من بني هلال، وكان لها زوج هلك قبل ذلك من ثقيف، يقال له الحجاج بْن عبيد، فكان يدخل عليها، فبلغ ذلك أهل البصرة، فأعظموه، فخرج المغيرة يوما من الأيام حتى دخل عليها، وقد وضعوا عليها الرصد، فانطلق القوم الذين شهدوا جميعا، فكشفوا الستر، وقد واقعها فوفد أبو بكرة إلى عمر، فسمع صوته وبينه وبينه حجاب، فقال: أبو بكرة؟ قال: نعم، قال: لقد جئت لشر، قال: إنما جاء بي المغيرة، ثم قص عليه القصة، فبعث عمر أبا موسى الأشعري عاملا، وأمره

أن يبعث إليه المغيرة، فأهدى المغيرة لأبي موسى عقيلة، وقال: انى رضيتها لك، فبعث أبو موسى بالمغيرة إلى عمر. قال الواقدي: وحدثني عبد الرحمن بْن محمد بن ابى بكر بن محمد ابن عمرو بْن حزم، عَنْ أَبِيهِ، عن مالك بْن أوس بْن الحدثان، قال: حضرت عمر حين قدم بالمغيرة، وقد تزوج امرأة من بني مرة، فقال له: إنك لفارغ القلب، طويل الشبق، فسمعت عمر يسأل عن المرأة فقال: يقال لها الرقطاء، وزوجها من ثقيف، وهو من بني هلال قال أبو جعفر: وكان سبب ما كان بين أبي بكرة والشهادة عليه- فيما كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مُحَمَّد والمهلب وطلحة وعمرو بإسنادهم، قالوا: كان الذي حدث بين أبي بكرة والمغيرة بْن شعبة أن المغيرة كان يناغيه، وكان أبو بكرة ينافره عند كل ما يكون منه، وكانا بالبصرة، وكانا متجاورين بينهما طريق، وكانا في مشربتين متقابلتين لهما في داريهما في كل واحدة منهما كوة مقابلة الأخرى، فاجتمع إلى أبي بكرة نفر يتحدثون في مشربته، فهبت ريح، ففتحت باب الكوة، فقام أبو بكرة ليصفقه، فبصر بالمغيرة، وقد فتحت الريح باب كوة مشربته، وهو بين رجلي امرأة، فقال للنفر: قوموا فانظروا، فقاموا فنظروا، ثم قال: اشهدوا، قالوا: من هذه؟ قال: أم جميل ابنة الأفقم- وكانت أم جميل إحدى بني عامر بْن صعصعة، وكانت غاشية للمغيرة، وتغشى الأمراء والأشراف- وكان بعض النساء يفعلن ذلك في زمانها- فقالوا: إنما رأينا أعجازا، ولا ندري ما الوجه؟ ثم إنهم صمموا حين قامت، فلما خرج المغيرة إلى الصلاة حال أبو بكرة بينه وبين الصلاة وقال: لا تصل بنا فكتبوا إلى عمر بذلك، وتكاتبوا، فبعث عمر إِلَى أَبِي مُوسَى، فَقَالَ: يَا أَبَا مُوسَى، إني مستعملك، إني أبعثك إلى أرض قد باض بها الشيطان وفرخ، فالزم ما تعرف، ولا تستبدل فيستبدل اللَّه بك فقال: يا أمير المؤمنين،

أعني بعدة من أصحاب رسول اللَّه من المهاجرين والأنصار، فإني وجدتهم في هذه الأمة وهذه الأعمال كالملح لا يصلح الطعام إلا به فاستعن بمن أحببت فاستعان بتسعة وعشرين رجلا، منهم أنس بْن مالك وعمران بْن حصين وهشام بْن عامر ثم خرج أبو موسى فيهم حتى أناخ بالمربد، وبلغ المغيرة أن أبا موسى قد أناخ بالمربد فقال: والله ما جاء أبو موسى زائرا، ولا تاجرا، ولكنه جاء أميرا فإنهم لفي ذلك، إذ جاء أبو موسى حتى دخل عليهم، فدفع إليه أبو موسى كتابا من عمر، وإنه لأوجز كتاب كتب به أحد من الناس، أربع كلم عزل فيها، وعاتب، واستحث، وأمر: أما بعد، فإنه بلغني نبأ عظيم، فبعثت أبا موسى أميرا، فسلم إليه ما في يدك، والعجل وكتب إلى أهل البصرة: أما بعد، فإني قد بعثت أبا موسى أميرا عليكم، ليأخذ لضعيفكم من قويكم، وليقاتل بكم عدوكم، وليدفع عن ذمتكم، وليحصى لكم فيئكم ثم ليقسمه بينكم، ولينقى لكم طرقكم. وأهدى له المغيرة وليدة من مولدات الطائف تدعى عقيلة، وقال: إني قد رضيتها لك- وكانت فارهة- وارتحل: المغيرة وأبو بكرة ونافع بْن كلدة وزياد وشبل بْن معبد البجلي حتى قدموا على عمر، فجمع بينهم وبين المغيرة، فقال المغيرة: سل هؤلاء الأعبد كيف رأوني، مستقبلهم أو مستدبرهم؟ وكيف رأوا المرأة او عرفوها؟ فإن كانوا مستقبلي فكيف لم أستتر، أو مستدبري فبأي شيء استحلوا النظر إلي في منزلي على امرأتي! والله ما أتيت إلا امرأتي- وكانت شبهها- فبدأ بأبي بكرة، فشهد عليه أنه رآه بين رجلي أم جميل وهو يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة، قال: كيف رأيتهما؟ قال مستدبرهما، قال: فكيف استثبت رأسها؟ قال: تحاملت. ثم دعا بشبل بْن معبد، فشهد بمثل ذلك، فقال: استدبرتهما أو استقبلتهما؟

فتح سوق الاهواز ومناذر ونهر تيرى

قال: استقبلتهما وشهد نافع بمثل شهادة أبي بكرة، ولم يشهد زياد بمثل شهادتهم، قال: رأيته جالسا بين رجلي امرأة، فرأيت قدمين مخضوبتين تخفقان، واستين مكشوفتين، وسمعت حفزانا شديدا قال: هل رأيت كالميل في المكحلة؟ قال: لا، قال: فهل تعرف المرأة؟ قال: لا، ولكن أشبهها، قال: فتنح، وأمر بالثلاثة فجلدوا الحد، وقرأ: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ، فقال المغيرة: اشفني من الأعبد، فقال: اسكت اسكت الله نامتك! اما والله لو تمت الشهاده لرجمتك باحجارك . فتح سوق الاهواز ومناذر ونهر تيرى وفي هذه السنة- أعني سنة سبع عشرة- فتحت سوق الأهواز ومناذر ونهر تيرى في قول بعضهم، وفي قول آخرين: كان ذلك في سنة ست عشرة من الهجرة. ذكر الخبر عن سبب فتح ذلك وعلى يدي من جرى: كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، يَذْكُرُ أَنَّ شُعَيْبًا حَدَّثَهُ عَنْ سَيْف بْن عمر، عن مُحَمَّد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: كان الهرمزان أحد البيوتات السبعة في أهل فارس، وكانت امته مهرجانقذق وكور الأهواز، فهؤلاء بيوتات دون سائر أهل فارس، فلما انهزم يوم القادسية كان وجهه إلى أمته، فملكهم وقاتل بهم من أرادهم، فكان الهرمزان يغير على أهل ميسان ودستميسان من وجهين، من مناذر ونهر تيرى، فاستمد عتبة بْن غزوان سعدا، فأمده سعد بنعيم بْن مقرن ونعيم بْن مسعود، وأمرهما أن يأتيا أعلى ميسان ودستميسان حتى يكونا بينهم وبين نهر تيرى ووجه عتبة ابن غزوان سلمى بْن القين وحرملة بْن مريطة- وكانا من المهاجرين مع رسول الله ص، وهما من بني العدوية من بني حنظلة- فنزلا على حدود أرض ميسان ودستميسان، بينهم وبين مناذر، ودعوا

بنى العم، فخرج إليهم غالب الوائلي وكليب بْن وائل الكلينى، فتركا نعيما ونعيما ونكبا عنهما، وأتيا سلمى وحرملة، وقالا: أنتما من العشيرة، وليس لكما مترك، فإذا كان يوم كذا وكذا فانهدا للهرمزان، فإن أحدنا يثور بمناذر والآخر بنهر تيرى، فنقتل المقاتلة، ثم يكون وجهنا إليكم، فليس دون الهرمزان شيء إن شاء اللَّه ورجعا وقد استجابا واستجاب قومهما بنو العم بْن مالك. قال: وكان من حديث العمي، والعمي مرة بْن مالك بْن حنظلة بْن مالك بْن زيد مناة بْن تميم- أنه تنخت عليه وعلى العصية بن امرئ القيس أفناء معد فعماه عن الرشد من لم ير نصره فارس على آل اردوان، فقال في ذلك كعب بْن مالك أخوه- ويقال: صدي بْن مالك: لقد عم عنها مرة الخير فانصمى ... وصم فلم يسمع دعاء العشائر ليتنخ عنا رغبة عن بلاده ... ويطلب ملكا عاليا في الأساور فبهذا البيت سمي العم، فقيل بنو العم، عموه عن الصواب بنصره أهل فارس كقول اللَّه تبارك وتعالى: عَمُوا وَصَمُّوا، وقال يربوع بْن مالك: لقد علمت عليا معد بأننا ... غداة التباهي غر ذاك التبادر تنخنا على رغم العداه ولم ننخ ... بحي تميم والعديد الجماهر نفينا عن الفرس النبيط فلم يزل ... لنا فيهم إحدى الهنات البهاتر إذا العرب العلياء جاشت بحورها ... فخرنا على كل البحور الزواخر وقال أيوب بْن العصية بْن امرئ القيس: لنحن سبقنا بالتنوخ القبائلا ... وعمدا تنخنا حيث جاءوا قنابلا وكنا ملوكا قد عززنا الأوائلا ... وفي كل قرن قد ملكنا الحلائلا

فلما كانت تلك الليلة ليلة الموعد من سلمى وحرملة وغالب وكليب، والهرمزان يومئذ بين نهر تيرى بين دلث، خرج سلمى وحرمله صبيحتها في تعبئة، وأنهضا نعيما ونعيما فالتقوا هم والهرمزان بين دلث ونهر تيرى، وسلمى ابن القين على أهل البصرة، ونعيم بْن مقرن على اهل الكوفه فاقتتلوا فبيناهم في ذلك أقبل المدد من قبل غالب وكليب، وأتى الهرمزان الخبر بأن مناذر ونهر تيرى قد أخذتا، فكسر اللَّه في ذرعه وذرع جنده، وهزمه وإياهم، فقتلوا منهم ما شاءوا، وأصابوا منهم ما شاءوا، وأتبعوهم حتى وقفوا على شاطئ دجيل، وأخذوا ما دونه، وعسكروا بحيال سوق الأهواز، وقد عبر الهرمزان جسر سوق الأهواز، وأقام بها، وصار دجيل بين الهرمزان وحرملة وسلمى ونعيم ونعيم وغالب وكليب. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن عبد اللَّه بْن المغيرة العبدي، عن رجل من عبد القيس يدعى صحارا، قال: قدمت على هرم ابن حيان- فيما بين الدلوث ودجيل- بجلال من تمر، وكان لا يصبر عنه، وكان جل زاده إذا تزود التمر، فإذا فني انتخب له مزاود من جلال وهم ينفرون فيحملها فيأكلها ويطعمها حيثما كان من سهل أو جبل. قالوا: ولما دهم القوم الهرمزان ونزلوا بحياله من الأهواز رأى ما لا طاقة له به، فطلب الصلح، فكتبوا إلى عتبة بذلك يستأمرونه فيه، وكاتبه الهرمزان، فأجاب عتبة الى ذلك على الاهواز كلها ومهرجانقذق، ما خلا نهر تيرى ومناذر، وما غلبوا عليه من سوق الأهواز، فإنه لا يرد عليهم ما تنقذنا. وجعل سلمى بْن القين على مناذر مسلحة وأمرها إلى غالب، وحرملة على نهر تيرى وأمرها إلى كليب، فكانا على مسالح البصرة وقد هاجرت طوائف بني العم، فنزلوا منازلهم من البصرة، وجعلوا يتتابعون على ذلك، وقد كتب بذلك عتبة إلى عمر، ووفد وفدا منهم سلمى، وأمره أن يستخلف على عمله، وحرملة- وكانا من الصحابة- وغالب وكليب، ووفد وفود من البصرة

يومئذ، فأمرهم أن يرفعوا حوائجهم، فكلهم قال: أما العامة فأنت صاحبها، ولم يبق إلا خواص أنفسنا، فطلبوا لأنفسهم، إلا ما كان من الأحنف ابن قيس، فإنه قال: يا أمير المؤمنين، إنك لكما ذكروا، ولقد يعزب عنك ما يحق علينا إنهاؤه إليك مما فيه صلاح العامة، وإنما ينظر الوالي فيما غاب عنه بأعين أهل الخبر، ويسمع بآذانهم، وإنا لم نزل ننزل منزلا بعد منزل حتى أرزنا إلى البر، وإن إخواننا من أهل الكوفة نزلوا في مثل حدقة البعير الغاسقة، من العيون العذاب، والجنان الخصاب، فتأتيهم ثمارهم ولم تُخْضَدْ، وإنا معشر أهل البصرة نزلنا سبخة هشاشة، زعقة نشاشة، طرف لها في الفلاة وطرف لها في البحر الأجاج، يجري إليها ما جرى في مثل مريء النعامة دارنا فعمة، ووظيفتنا ضيقة، وعددنا كثير، وأشرافنا قليل، وأهل البلاء فينا كثير، ودرهمنا كبير، وقفيزنا صغير، وقد وسع اللَّه علينا، وزادنا في أرضنا، فوسع علينا يا أمير المؤمنين، وزدنا وظيفة توظف علينا، ونعيش بها فنظر إلى منازلهم التي كانوا بها إلى أن صاروا إلى الحجر فنفلهموه وأقطعهموه، وكان مما كان لآل كسرى، فصار فيئا فيما بين دجلة والحجر، فاقتسموه، وكان سائر ما كان لآل كسرى في أرض البصرة على حال ما كان في أرض الكوفة ينزلونه من أحبوا، ويقتسمونه بينهم، لا يستأثرون به على بدء ولا ثنى، بعد ما يرفعون خمسة إلى الوالي فكانت قطائع أهل البصرة نصفين: نصفها مقسوم، ونصفها متروك للعسكر وللاجتماع، وكان أصحاب الألفين ممن شهد القادسية ثم أتى البصرة مع عتبة خمسة آلاف، وكانوا بالكوفة ثلاثين ألفا، فألحق عمر أعدادهم من أهل البصرة من أهل البلاء في الألفين حتى ساواهم بهم، ألحق جميع من شهد الأهواز. ثم قال: هذا الغلام سيد أهل البصرة، وكتب إلى عتبة فيه بأن يسمع منه

ويشرب برأيه، ورد سلمى وحرملة وغالبا وكليبا إلى مناذر ونهر تيرى، فكانوا عدة فيه لكون إن كان، وليميزوا خراجها كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: بينا الناس من أهل البصرة وذمتهم على ذلك وقع بين الهرمزان وبين غالب وكليب في حدود الأرضين اختلاف وادعاء، فحضر ذلك سلمى وحرملة لينظرا فيما بينهم، فوجدا غالبا وكليبا محقين والهرمزان مبطلا، فحالا بينه وبينهما، فكفر الهرمزان أيضا ومنع ما قبله، واستعان بالأكراد، فكثف جنده وكتب سلمى وحرملة وغالب وكليب ببغي الهرمزان وظلمه وكفره إلى عتبة بْن غزوان، فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر يأمره بأمره، وأمدهم عمر بحرقوص بْن زهير السعدي، وكانت له صحبه من رسول الله ص، وأمره على القتال وعلى ما غلب عليه فنهد الهرمزان بمن معه وسلمى وحرملة وغالب وكليب، حتى إذا انتهوا إلى جسر سوق الأهواز أرسلوا إلى الهرمزان: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم، فقال: اعبروا إلينا، فعبروا من فوق الجسر، فاقتتلوا فوق الجسر مما يلي سوق الأهواز، حتى هزم الهرمزان ووجه نحو رامهرمز، فأخذ على قنطرة أربك بقرية الشغر حتى حل برامهرمز، وافتتح حرقوص سوق الأهواز، فأقام بها ونزل الجبل، واتسقت له بلاد سوق الأهواز إلى تستر، ووضع الجزية، وكتب بالفتح والأخماس إلى عمر، ووفد وفدا بذلك، فحمد اللَّه، ودعا له بالثبات والزيادة وقال الأسود بْن سريع في ذلك- وكانت له صحبة: لعمرك ما أضاع بنو أبينا ... ولكن حافظوا فيمن يطيع أطاعوا ربهم وعصاه قوم ... أضاعوا أمره فيمن يضيع مجوس لا ينهنهها كتاب ... فلاقوا كبة فيها قبوع وولى الهرمزان على جواد ... سريع الشد يثفنه الجميع

فتح تستر

وخلى سرة الأهواز كرها ... غداة الجسر إذ نجم الربيع وقال حرقوص: غلبنا الهرمزان على بلاد ... لها في كل ناحية ذخائر سواء برهم والبحر فيها ... إذا صارت نواجبها بواكر لها بحر يعج بجانبيه ... جعافر لا يزال لها زواخر فتح تستر وفيها فتحت تستر في قول سيف وروايته- أعني سنة سبع عشرة- وقال بعضهم: فتحت سنة ست عشرة، وبعضهم يقول: في سنة تسع عشرة. ذكر الخبر عن فتحها: كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: لما انهزم الهرمزان يوم سوق الأهواز، وافتتح حرقوص بْن زهير سوق الأهواز، أقام بها، وبعث جزء بْن معاوية في أثره بأمر عمر إلى سرق، وقد كان عهد إليه فيه: إن فتح اللَّه عليهم أن يتبعه جزءا، ويكون وجهه إلى سرق فخرج جزء في أثر الهرمزان، والهرمزان متوجه إلى رامهرمز هاربا، فما زال يقتلهم حتى انتهى إلى قرية الشغر، وأعجزه بها الهرمزان، فمال جزء إلى دورق من قرية الشغر، وهي شاغرة برجلها- ودورق مدينة سرق فيها قوم لا يطيقون منعها- فأخذها صافية، وكتب إلى عمر بذلك وإلى عتبة، وبدعائه من هرب إلى الجزاء والمنعة، وإجابتهم إلى ذلك. فكتب عمر إلى جزء بْن معاوية وإلى حرقوص بْن زهير بلزوم ما غلبا عليه، وبالمقام حتى يأتيهما أمره، وكتب إليه مع عتبة بذلك، ففعلا واستأذن جزء في عمران بلاده عمر، فأذن له، فشق الأنهار، وعمر الموات ولما

نزل الهرمزان رامهرمز وضاقت عليه الأهواز والمسلمون حلال فيها فيما بين يديه، طلب الصلح، وراسل حرقوصا وجزءا في ذلك، فكتب فيه حرقوص إلى عمر، فكتب إليه عمر وإلى عتبة، يأمره أن يقبل منه على ما لم يفتحوا منها على رامهرمز وتستر والسوس وجندي سابور، والبنيان ومهرجانقذق، فأجابهم إلى ذلك، فأقام أمراء الأهواز على ما أسند إليهم، وأقام الهرمزان على صلحة يجبى إليهم ويمنعونه، وإن غاوره أكراد فارس أعانوه وذبوا عنه. وكتب عمر إلى عتبة أن أوفد علي وفدا من صلحاء جند البصرة عشرة، فوفد إلى عمر عشرة، فيهم الأحنف فلما قدم على عمر قال: إنك عندي مصدق، وقد رايتك رجلا، فأخبرني اان ظلمت الذمة، ألمظلمة نفروا أم لغير ذلك؟ فقال: لا بل لغير مظلمة، والناس على ما تحب قال: فنعم إذا! انصرفوا إلى رحالكم فانصرف الوفد إلى رحالهم، فنظر في ثيابهم فوجد ثوبا قد خرج طرفه من عيبة فشمه، ثم قال: لمن هذا الثوب منكم؟ قال الأحنف: لي، قال: فبكم أخذته؟ فذكر ثمنا يسيرا، ثمانية أو نحوها، ونقص مما كان أخذه به- وكان قد أخذه باثني عشر- قال: فهلا بدون هذا، ووضعت فضلته موضعا تغني به مسلما! حصوا وضعوا الفضول مواضعها تريحوا أنفسكم وأموالكم، ولا تسرفوا فتخسروا أنفسكم وأموالكم، إن نظر امرؤ لنفسه وقدم لها يخلف له وكتب عمر إلى عتبة أن أعزب الناس عن الظلم، واتقوا واحذروا أن يدال عليكم لغدر يكون منكم أو بغي، فإنكم إنما أدركتم بالله ما أدركتم على عهد عاهدكم عليه، وقد تقدم إليكم فيما أخذ عليكم. فأوفوا بعهد اللَّه، وقوموا على أمره يكن لكم عونا وناصرا. وبلغ عمر أن حرقوصا نزل جبل الأهواز والناس يختلفون إليه، والجبل كئود يشق على من رامه فكتب إليه: بلغني أنك نزلت منزلا كئودا لا تؤتى فيه إلا على مشقة، فأسهل ولا تشق على مسلم ولا معاهد، وقم في أمرك على رجل تدرك الآخرة وتصف لك الدنيا، ولا تدركنك فترة ولا عجلة، فتكدر دنياك، وتذهب آخرتك

غزو المسلمين فارس من قبل البحرين

ثم إن حرقوصا تحرر يوم صفين وبقي على ذلك، وشهد النهروان مع الحرورية . غزو المسلمين فارس من قبل البحرين وفي هذه السنة- أعني سنة سبع عشرة- غزا المسلمون أرض فارس من قبل البحرين فيما زعم سيف ورواه. ذكر الخبر بذلك: كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، يقول: حَدَّثَنَا شعيب، قال: حَدَّثَنَا سيف، عن مُحَمَّد والمهلب وعمرو، قالوا: كان المسلمون بالبصرة وأرضها- وأرضها يومئذ سوادها، والأهواز على ما هم عليه إلى ذلك اليوم، ما غلبوا عليه منها ففي أيديهم، وما صولحوا عليه منها ففي أيدي أهله، يؤدون الخراج ولا يدخل عليهم، ولهم الذمة والمنعة- وعميد الصلح الهرمزان وقد قال عمر: حسبنا لأهل البصرة سوادهم والأهواز، وددت أن بيننا وبين فارس جبلا من نار لا يصلون إلينا منه ولا نصل إليهم، كما قال لأهل الكوفة: وددت أن بينهم وبين الجبل جبلا من نار لا يصلون إلينا منه، ولا نصل إليهم. وكان العلاء بْن الحضرمي على البحرين أزمان أبي بكر، فعزله عمر، وجعل قدامة بْن المظعون مكانه، ثم عزل قدامة ورد العلاء، وكان العلاء يباري سعدا لصدع صدعه القضاء بينهما، فطار العلاء على سعد في الردة بالفضل، فلما ظفر سعد بالقادسية، وأزاح الأكاسرة عن الدار، وأخذ حدود ما يلي السواد، واستعلى، وجاء بأعظم مما كان العلاء جاء به، سر العلاء أن يصنع شيئا في الأعاجم، فرجا أن يدال كما قد كان أديل، ولم يقدر العلاء ولم ينظر فيما بين فضل الطاعة والمعصية بجد، وكان أبو بكر قد استعمله، وأذن له في قتال أهل الردة، واستعمله عمر، ونهاه عن البحر، فلم يقدر في الطاعة والمعصية وعواقبهما، فندب أهل البحرين إلى فارس، فتسرعوا إلى ذلك، وفرقهم أجنادا، على أحدهما

الجارود بْن المعلى، وعلى الآخر السوار بْن همام، وعلى الآخر خليد بْن المنذر بْن ساوى، وخليد على جماعة الناس، فحملهم في البحر إلى فارس بغير إذن عمر، وكان عمر لا يأذن لأحد في ركوبه غازيا، يكره التغرير بجنده استنانا بالنبي ص وبابى بكر، لم يغز فيه النبي ص ولا أبو بكر فعبرت تلك الجنود من البحرين إلى فارس، فخرجوا في إصطخر، وبإزائهم أهل فارس، وعلى أهل فارس الهربذ، اجتمعوا عليه، فحالوا بين المسلمين وبين سفنهم، فقام خليد في الناس، فقال: أما بعد، فإن اللَّه إذا قضى أمرا جرت به المقادير حتى تصيبه، وإن هؤلاء القوم لم يزيدوا بما صنعوا على أن دعوكم إلى حربهم، وإنما جئتم لمحاربتهم، والسفن والأرض لمن غلب، ف اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ، وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ فأجابوه إلى ذلك فصلوا الظهر، ثم ناهدوهم فاقتتلوا قتالا شديدا في موضع من الأرض يدعى طاوس، وجعل السوار يرتجز يومئذ ويذكر قومه، ويقول: يا آل عبد القيس للقراع ... قد حفل الأمداد بالجراع وكلهم في سنن المصاع ... يحسن ضرب القوم بالقطاع حتى قتل وجعل الجارود يرتجز ويقول: لو كان شيئا أمما أكلته ... أو كان ماء سادما جهرته لكن بحرا جاءنا أنكرته. حتى قتل ويومئذ ولي عبد اللَّه بْن السوار والمنذر بْن الجارود حياتهما إلى أن ماتا وجعل خليد يومئذ يرتجز ويقول: يال تميم أجمعوا النزول ... وكاد جيش عمر يزول وكلكم يعلم ما أقول

انزلوا، فنزلوا فاقتتل القوم فقتل أهل فارس مقتلة لم يقتلوا مثلها قبلها ثم خرجوا يريدون البصرة وقد غرقت سفنهم، ثم لم يجدوا إلى الرجوع في البحر سبيلا ثم وجدوا شهرك قد أخذ على المسلمين بالطرق، فعسكروا وامتنعوا في نشوبهم ولما بلغ عمر الذي صنع العلاء من بعثه ذلك الجيش في البحر ألقي في روعه نحو من الذي كان فاشتد غضبه على العلاء، وكتب إليه يعزله وتوعده، وأمره بأثقل الأشياء عليه، وأبغض الوجوه إليه، بتأمير سعد عليه، وقال: الحق بسعد بْن أبي وقاص فيمن قبلك، فخرج بمن معه نحو سعد وكتب عمر إلى عتبة بْن غزوان: إن العلاء بْن الحضرمي حمل جندا من المسلمين، فأقطعهم أهل فارس، وعصاني، وأظنه لم يرد اللَّه بذلك، فخشيت عليهم ألا ينصروا أن يغلبوا وينشبوا، فاندب إليهم الناس، واضممهم إليك من قبل أن يجتاحوا فندب عتبة الناس، وأخبرهم بكتاب عمر فانتدب عاصم بْن عمرو، وعرفجة بْن هرثمة، وحذيفة بْن محصن، ومجزأة بْن ثور، ونهار بْن الحارث، والترجمان بْن فلان، والحصين بْن أبي الحر، والأحنف بْن قيس، وسعد بْن أبي العرجاء، وعبد الرحمن بْن سهل، وصعصعة بْن معاوية، فخرجوا في اثني عشر ألفا على البغال يجنبون الخيل، وعليهم أبو سبرة بْن أبي رهم أحد بني مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، والمسالح على حالها بالأهواز والذمة، وهم ردء للغازي والمقيم فسار أبو سبرة بالناس، وساحل لا يلقاه أحد، ولا يعرض له، حتى التقى أبو سبرة وخليد بحيث أخذ عليهم بالطرق غب وقعة القوم

بطاوس، وإنما كان ولي قتالهم أهل إصطخر وحدهم، والشذاذ من غيرهم، وقد كان أهل اصطخر حيث أخذوا على المسلمين بالطرق، وأنشبوهم، استصرخوا عليهم أهل فارس كلهم، فضربوا إليهم من كل وجه وكورة، فالتقوا هم وأبو سبرة بعد طاوس، وقد توافت إلى المسلمين أمدادهم وإلى المشركين أمدادهم، وعلى المشركين شهرك، فاقتتلوا، ففتح اللَّه على المسلمين، وقتل المشركين وأصاب المسلمون منهم ما شاءوا- وهي الغزاة التي شرفت فيها نابتة البصرة، وكانوا أفضل نوابت الأمصار، فكانوا أفضل المصرين نابتة- ثم انكفئوا بما أصابوا، وقد عهد إليهم عتبة وكتب إليهم بالحث وقلة العرجة، فانضموا إليه بالبصرة، فخرج أهلها إلى منازلهم منها، وتفرق الذين تنقذوا من أهل هجر إلى قبائلهم، والذين تنقذوا من عبد القيس في موضع سوق البحرين ولما أحرز عتبة الأهواز وأوطأ فارس، استأذن عمر في الحج، فأذن له، فلما قضى حجه استعفاه، فأبى أن يعفيه، وعزم عليه ليرجعن إلى عمله، فدعا اللَّه ثم انصرف، فمات في بطن نخلة، فدفن، وبلغ عمر، فمر به زائرا لقبره، وقال: أنا قتلتك، لولا أنه أجل معلوم وكتاب مرقوم، وأثنى عليه بفضله، ولم يختط فيمن اختط من المهاجرين، وإنما ورث ولده منزلهم من فاختة ابنة غزوان، وكانت تحت عثمان بْن عفان، وكان خباب مولاه قد لزم سمته فلم يختط، ومات عتبة بْن غزوان على رأس ثلاث سنين ونصف من مفارقة سعد بالمدائن، وقد استخلف على الناس أبا سبرة بْن أبي رهم، وعماله على حالهم، ومسالحه على نهر تيرى ومناذر وسوق الاهواز وسرق والهرمزان برامهرمز مصالح عليها، وعلى السوس والبنيان وجندى سابور ومهرجانقذق، وذلك بعد تنقذ الذين كان حمل العلاء في البحر إلى فارس، ونزولهم البصرة. وكان يقال لهم أهل طاوس، نسبوا إلى الوقعة واقر عمر أبا سبره

ذكر فتح رامهرمز وتستر

ابن أبي رهم على البصرة بقية السنة ثم استعمل المغيرة بْن شعبة في السنة الثانية بعد وفاة عتبة، فعمل عليها بقية تلك السنة والسنة التي تليها، لم ينتقض عليه أحد في عمله، وكان مرزوقا السلامة، ولم يحدث شيئا إلا ما كان بينه وبين أبي بكرة. ثم استعمل عمر أبا موسى على البصرة، ثم صرف إلى الكوفة، ثم استعمل عمر بْن سراقة، ثم صرف عمر بْن سراقة إلى الكوفة من البصرة، وصرف أبو موسى إلى البصرة من الكوفة، فعمل عليها ثانيه ذكر فتح رامهرمز وتستر وفي هذه السنة- أعني سنة سبع عشرة- كان فتح رامهرمز والسوس وتستر وفيها أسر الهرمزان في رواية سيف ذكر الخبر عن فتح ذلك من روايته: كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: ولم يزل يزدجرد يثير أهل فارس أسفا على ما خرج منهم، فكتب يزدجرد إلى أهل فارس وهو يومئذ بمرو، يذكرهم الأحقاد ويؤنبهم، أن قد رضيتم يا أهل فارس أن قد غلبتكم العرب على السواد وما والاه، والأهواز. ثم لم يرضوا بذلك حتى توردوكم في بلادكم وعقر داركم، فتحركوا وتكاتبوا: أهل فارس وأهل الأهواز، وتعاقدوا وتعاهدوا وتواثقوا على النصرة، وجاءت الأخبار حرقوص بْن زهير، وجاءت جزءا وسلمى وحرملة عن خبر غالب وكليب، فكتب سلمى وحرملة إلى عمر وإلى المسلمين بالبصرة، فسبق كتاب سلمى حرملة، فكتب عمر إلى سعد: أن ابعث إلى الأهواز بعثا كثيفا مع النعمان بْن مقرن، وعجل وابعث سويد بْن مقرن، وعبد اللَّه بْن ذي السهمين، وجرير بْن عبد اللَّه الحميري، وجرير بْن عبد اللَّه البجلي، فلينزلوا بإزاء الهرمزان حتى يتبينوا أمره وكتب إلى أبي موسى

أن ابعث إلى الأهواز جندا كثيفا وأمر عليهم سهل بن عدى- أخا سهيل ابن عدي- وابعث معه البراء بْن مالك، وعاصم بْن عمرو، ومجزأة بْن ثور، وكعب بْن سور، وعرفجة بْن هرثمة، وحذيفة بْن محصن، وعبد الرحمن ابن سهل، والحصين بْن معبد، وعلى أهل الكوفة واهل البصره جميعا ابو سبره ابن ابى رهم، وكل من أتاه فمدد له. وخرج النعمان بْن مقرن في أهل الكوفة، فأخذ وسط السواد حتى قطع دجلة بحيال ميسان، ثم أخذ البر إلى الأهواز على البغال يجنبون الخيل، وانتهى إلى نهر تيرى فجازها، ثم جاز مناذر، ثم جاز سوق الأهواز، وخلف حرقوصا وسلمى وحرملة، ثم سار نحو الهرمزان- والهرمزان يومئذ برامهرمز- ولما سمع الهرمزان بمسير النعمان إليه بادره الشدة، ورجا أن يقتطعه، وقد طمع الهرمزان في نصر أهل فارس، وقد أقبلوا نحوه، ونزلت أوائل أمدادهم بتستر، فالتقى النعمان والهرمزان بأربك، فاقتتلوا قتالا شديدا ثم إن اللَّه عز وجل هزم الهرمزان للنعمان، وأخلى رامهرمز وتركها ولحق بتستر، وسار النعمان من أربك حتى ينزل برامهرمز، ثم صعد لإيذج، فصالحه عليها تيرويه، فقبل منه وتركه ورجع إلى رامهرمز فأقام بها. قالوا: ولما كتب عمر إلى سعد وأبي موسى، وسار النعمان وسهل، سبق النعمان في أهل الكوفة سهلا وأهل البصرة، ونكب الهرمزان، وجاء سهل في أهل البصرة حتى نزلوا بسوق الأهواز، وهم يريدون رامهرمز، فأتتهم الوقعة وهم بسوق الأهواز، وأتاهم الخبر أن الهرمزان قد لحق بتستر، فمالوا من سوق الأهواز نحوه، فكان وجههم منها إلى تستر، ومال النعمان من رامهرمز إليها، وخرج سلمى وحرملة وحرقوص وجزء، فنزلوا جميعا على تستر والنعمان على أهل الكوفة، وأهل البصرة متساندون، وبها الهرمزان وجنوده من أهل فارس وأهل الجبال والأهواز في الخنادق، وكتبوا بذلك إلى عمر، واستمده أبو سبرة فأمدهم بأبي موسى، فسار نحوهم، وعلى أهل الكوفة النعمان، وعلى أهل البصرة أبو موسى، وعلى الفريقين جميعا أبو سبرة،

فحاصروهم أشهرا، وأكثروا فيهم القتل وقتل البراء بْن مالك فيما بين أول ذلك الحصار إلى أن فتح اللَّه على المسلمين مائة مبارز، سوى من قتل في غير ذلك، وقتل مجزأة بْن ثور مثل ذلك، وقتل كعب بْن سور مثل ذلك، وقتل أبو تميمة مثل ذلك في عدة من أهل البصرة وفي الكوفيين مثل ذلك، منهم حبيب بْن قرة، وربعي بْن عامر، وعامر بْن عبد الأسود- وكان من الرؤساء- في ذلك ما ازدادوا به إلى ما كان منهم، وزاحفهم المشركون في أيام تستر ثمانين زحفا في حصارهم، يكون عليهم مرة ولهم أخرى، حتى إذا كان في آخر زحف منها واشتد القتال قال المسلمون: يا براء، أقسم على ربك ليهزمنهم لنا! فقال: اللهم اهزمهم لنا، واستشهدني. قال: فهزموهم حتى أدخلوهم خنادقهم، ثم اقتحموها عليهم، وأرزوا إلى مدينتهم، وأحاطوا بها، فبيناهم على ذلك وقد ضاقت بهم المدينة، وطالت حربهم، خرج إلى النعمان رجل فاستأمنه على أن يدله على مدخل يؤتون منه، ورمى في ناحية أبي موسى بسهم فقال: قد وثقت بكم وأمنتكم واستأمنتكم على أن دللتكم على ما تأتون منه المدينة، ويكون منه فتحها، فآمنوه في نشابة فرمى إليهم بآخر، وقال: انهدوا من قبل مخرج الماء، فإنكم ستفتحونها، فاستشار في ذلك وندب إليه، فانتدب له عامر بْن عبد قيس، وكعب بْن سور، ومجزأة بْن ثور، وحسكة الحبطي، وبشر كثير، فنهدوا لذلك المكان ليلا، وقد ندب النعمان أصحابه حين جاءه الرجل، فانتدب له سويد بْن المثعبة، وورقاء بْن الحارث، وبشر بن ربيعه الخثعمى، ونافع ابن زيد الحميري، وعبد اللَّه بْن بشر الهلالي، فنهدوا في بشر كثير، فالتقوا هم وأهل البصرة على ذلك المخرج، وقد انسرب سويد وعبد اللَّه بْن بشر، فأتبعهم هؤلاء وهؤلاء، حتى إذا اجتمعوا فيها- والناس على رجل من خارج- كبروا فيها، وكبر المسلمون من خارج، وفتحت الأبواب، فاجتلدوا فيها، فأناموا كل مقاتل، وأرز الهرمزان إلى القلعة، وأطاف به الذين دخلوا من مخرج الماء، فلما عاينوه وأقبلوا قبله قال لهم: ما شئتم!

قد ترون ضيق ما أنا فيه وأنتم، ومعى في جعبتى مائه نشابه، والله ما تصلون إلي ما دام معي منها نشابه، وما يقع لي سهم، وما خير إساري إذا أصبت منكم مائة بين قتيل أو جريح! قالوا: فتريد ماذا؟ قال: أن أضع يدي في أيديكم على حكم عمر يصنع بي ما شاء، قالوا: فلك ذلك، فرمى بقوسه، وأمكنهم من نفسه، فشدوه وثاقا، واقتسموا ما أفاء اللَّه عليهم، فكان سهم الفارس فيها ثلاثة آلاف، والراجل ألفا، ودعا صاحب الرمية بها، فجاء هو والرجل الذي خرج بنفسه، فقالا: من لنا بالأمان الذي طلبنا، علينا وعلى من مال معنا؟ قالوا: ومن مال معكم؟ قالا: من أغلق بابه عليه مدخلكم فأجازوا ذلك لهم، وقتل من المسلمين ليلتئذ أناس كثير، وممن قتل الهرمزان بنفسه مجزأة بْن ثور، والبراء بْن مالك. قالوا: وخرج أبو سبرة في أثر الفل من تستر- وقد قصدوا للسوس- إلى السوس، وخرج بالنعمان وأبي موسى ومعهم الهرمزان، حتى اشتملوا على السوس، وأحاط المسلمون بها، وكتبوا بذلك إلى عمر فكتب عمر إلى عمر بْن سراقة بأن يسير نحو المدينة، وكتب إلى أبي موسى فرده على البصرة، وقد رد أبا موسى على البصرة ثلاث مرات بهذه، ورد عمر عليها مرتين، وكتب إلى زر بْن عبد اللَّه بْن كليب الفقيمي ان يسير الى جندى سابور، فسار حتى نزل عليها، وانصرف أبو موسى إلى البصرة بعد ما أقام إلى رجوع كتاب عمر، وأمر عمر على جند البصرة المقترب، الأسود بْن ربيعة أحد بني ربيعة بْن مالك، وكان الأسود وَزِرٌّ من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المهاجرين- وكان الأسود قد وفد على رسول الله ص وقال: جئت لأقترب إلى اللَّه عز وجل بصحبتك، فسماه المقترب، وكان زر قد وفد على رسول الله ص، وقال: فنى بطني، وكثر إخوتنا، فادع اللَّه لنا، [فقال: اللهم اوف لزرعمره، فتحول إليهم العدد- وأوفد أبو سبرة وفدا،] فيهم أنس بْن مالك والأحنف بْن قيس، وأرسل الهرمزان معهم، فقدموا مع أبي موسى البصرة، ثم خرجوا نحو المدينة،

حتى إذا دخلوا هيئوا الهرمزان في هيئته، فألبسوه كسوته من الديباج الذي فيه الذهب، ووضعوا على رأسه تاجا يدعى الآذين، مكللا بالياقوت، وعليه حليته، كيما يراه عمر والمسلمون في هيئته، ثم خرجوا به على الناس يريدون عمر في منزله فلم يجدوه، فسألوا عنه، فقيل لهم: جلس في المسجد لوفد قدموا عليه من الكوفة، فانطلقوا يطلبونه في المسجد، فلم يروه، فلما انصرفوا مروا بغلمان من أهل المدينة يلعبون، فقالوا لهم: ما تلددكم!؟ تريدون أمير المؤمنين؟ فإنه نائم في ميمنة المسجد، متوسد برنسه- وكان عمر قد جلس لوفد أهل الكوفة في برنس، فلما فرغ من كلامهم وارتفعوا عنه، وأخلوه نزع برنسه ثم توسده فنام- فانطلقوا ومعهم النظارة، حتى إذا رأوه جلسوا دونه، وليس في المسجد نائم ولا يقظان غيره، والدرة في يده معلقة، فقال: الهرمزان: أين عمر؟ فقالوا: هو ذا، وجعل الوفد يشيرون إلى الناس أن اسكتوا عنه، وأصغى الهرمزان إلى الوفد، فقال: أين حرسه وحجابه عنه؟ قالوا: ليس له حارس ولا حاجب، ولا كاتب ولا ديوان، قال: فينبغي له أن يكون نبيا، فقالوا: بل يعمل عمل الأنبياء، وكثر الناس، فاستيقظ عمر بالجلبة، فاستوى جالسا، ثم نظر إلى الهرمزان، فقال: الهرمزان؟ قالوا: نعم، فتأمله، وتأمل ما عليه، وقال: أعوذ بالله من النار، وأستعين اللَّه! وقال: الحمد لله الذي أذل بالإسلام هذا وأشياعه، يا معشر المسلمين، تمسكوا بهذا الدين، واهتدوا بهدى نبيكم، ولا تبطرنكم الدنيا فإنها غرارة فقال الوفد: هذا ملك الأهواز، فكلمه، فقال: لا، حتى لا يبقى عليه من حليته شيء، فرمي عنه بكل شيء عليه إلا شيئا يستره، وألبسوه ثوبا صفيقا، فقال عمر: هيه يا هرمزان! كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر اللَّه! فقال: يا عمر، إنا وإياكم في الجاهلية كان اللَّه قد خلى بيننا وبينكم، فغلبناكم إذ لم يكن معنا ولا معكم، فلما كان معكم

غلبتمونا فقال عمر: إنما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا ثم قال عمر: ما عذرك وما حجتك في انتقاضك مرة بعد مرة؟ فقال: أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك، قال: لا تخف ذلك واستسقى ماء، فأتي به في قدح غليظ، فقال: لو مت عطشا لم أستطع أن أشرب في مثل هذا، فأتى به في إناء يرضاه، فجعلت يده ترجف، وقال: إني أخاف أن أقتل وأنا أشرب الماء، فقال عمر: لا بأس عليك حتى تشربه، فأكفأه، فقال عمر: أعيدوا عليه، ولا تجمعوا عليه القتل والعطش، فقال: لا حاجة لي في الماء، إنما أردت أن أستأمن به، فقال له عمر: إني قاتلك، قال: قد أمنتني! فقال: كذبت! فقال أنس: صدق يا أمير المؤمنين، قد أمنته، قال: ويحك يا أنس! أنا أؤمن قاتل مجزأة والبراء! والله لتأتين بمخرج أو لأعاقبنك! قال: قلت له: لا بأس عليك حتى تخبرني، وقلت: لا بأس عليك حتى تشربه، وقال له من حوله مثل ذلك، فأقبل على الهرمزان، وقال: خدعتني، والله لا أنخدع إلا لمسلم، فأسلم. ففرض له على ألفين، وأنزله الْمَدِينَة كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن ابى سفيان طلحه ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ عِيسَى، قَالَ: كَانَ التَّرْجُمَانَ يَوْمَ الْهُرْمُزَانِ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ إِلَى أَنْ جَاءَ الْمُتَرْجِمُ، وَكَانَ الْمُغِيرَةُ يَفْقَهُ شَيْئًا مِنَ الْفَارِسِيَّةِ، فَقَالَ عُمَرُ لِلْمُغِيرَةِ: قُلْ لَهُ: من اى ارض أنت؟ فقال المغيره: از كدام ارضى؟ فقال: مهرجاني، فقال: تكلم بحجتك، قال: كلام حي أو ميت؟ قال: بل كلام حي، قال: قد أمنتني، قال: خدعتني، إن للمخدوع في الحرب حكمه، لا والله لا أؤمنك حتى تسلم، فأيقن أنه القتل أو الإسلام، فأسلم، ففرض له على ألفين وأنزله المدينة وقال للمغيرة: ما أراك بها حاذقا، ما أحسنها منكم أحد إلا خب، وما خب إلا دق إياكم وإياها، فإنها تنقض الإعراب وأقبل زيد فكلمه، وأخبر عمر بقوله، والهرمزان بقول عمر

ذكر فتح السوس

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحه وعمرو، عن الشعبى وسفيان، عن الحسن، قال: قال عمر للوفد: لعل المسلمين يفضون إلى أهل الذمة بأذى وبأمور لها ما ينتقضون بكم! فقالوا: ما نعلم إلا وفاء وحسن ملكة، قال: فكيف هذا؟ فلم يجد عند أحد منهم شيئا يشفيه ويبصر به مما يقولون، إلا ما كان من الأحنف، فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرك أنك نهيتنا عن الانسياح في البلاد، وأمرتنا بالاقتصار على ما في أيدينا، وإن ملك فارس حي بين أظهرهم، وإنهم لا يزالون يساجلوننا ما دام ملكهم فيهم، ولم يجتمع ملكان فاتفقا حتى يخرج أحدهما صاحبه، وقد رأيت أنا لم نأخذ شيئا بعد شيء إلا بانبعاثهم، وأن ملكهم هو الذي يبعثهم، ولا يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا فلنسح في بلادهم حتى نزيله عن فارس، ونخرجه من مملكته وعز أمته، فهنالك ينقطع رجاء أهل فارس ويضربون جأشا فقال: صدقتني والله، وشرحت لي الأمر عن حقه ونظر في حوائجهم وسرحهم. وقدم الكتاب على عمر باجتماع أهل نهاوند وانتهاء أهل مهرجانقذق، وأهل كور الأهواز إلى رأي الهرمزان ومشيئته، فذلك كان سبب إذن عمر لهم في الانسياح . ذكر فتح السوس اختلف أهل السير في أمرها، فأما المدائني فإنه- فيما حَدَّثَنِي عنه أبو زيد- قال: لما انتهى فل جلولاء إلى يزدجرد وهو بحلوان، دعا بخاصته والموبذ، فقال: إن القوم لا يلقون جمعا إلا فلوه، فما ترون؟ فقال الموبذ: نرى أن تخرج فتنزل إصطخر، فإنها بيت المملكة، وتضم إليك خزائنك، وتوجه الجنود فأخذ برأيه، وسار إلى إصبهان دعا سياه،

فوجهه في ثلاثمائه، فيهم سبعون رجلا من عظمائهم، وأمره أن ينتخب من كل بلدة يمر بها من أحب، فمضى سياه وأتبعه يزدجرد، حتى نزلوا إصطخر وأبو موسى محاصر السوس، فوجه سياه إلى السوس، والهرمزان إلى تستر، فنزل سياه الكلبانية، وبلغ أهل السوس أمر جلولاء ونزول يزدجرد إصطخر منهزما، فسألوا أبا موسى الأشعري الصلح، فصالحهم، وسار إلى رامهرمز وسياه بالكلبانية، وقد عظم أمر المسلمين عنده، فلم يزل مقيما حتى صار أبو موسى إلى تستر، فتحول سياه، فنزل بين رامهرمز وتستر، حتى قدم عمار بْن ياسر، فدعا سياه الرؤساء الذين كانوا خرجوا معه من إصبهان، فقال: قد علمتم أنا كنا نتحدث أن هؤلاء القوم أهل الشقاء والبؤس سيغلبون على هذه المملكة، وتروث دوابهم في إيوانات إصطخر ومصانع الملوك، ويشدون خيولهم بشجرها، وقد غلبوا على ما رأيتم، وليس يلقون جندا إلا فلوه، ولا ينزلون بحصن إلا فتحوه، فانظروا لأنفسكم قالوا: رأينا رأيك، قال: فليكفني كل رجل منكم حشمه والمنقطعين إليه، فإني أرى أن ندخل في دينهم ووجهوا شيرويه في عشرة من الأساورة إلى أبي موسى يأخذ شروطا على أن يدخلوا في الإسلام فقدم شيرويه على أبي موسى، فقال: إنا قد رغبنا في دينكم، فنسلم على أن نقاتل معكم العجم، ولا نقاتل معكم العرب، وإن قاتلنا أحد من العرب منعتمونا منه، وننزل حيث شئنا، ونكون فيمن شئنا منكم، وتلحقونا بأشراف العطاء، ويعقد لنا الأمير الذي هو فوقك بذلك فقال أبو موسى: بل لكم ما لنا، وعليكم ما علينا، قالوا: لا نرضى. وكتب أبو موسى إلى عمر بْن الخطاب، فكتب إلى أبي موسى: أعطهم ما سألوك فكتب أبو موسى لهم، فأسلموا، وشهدوا معه حصار تستر، فلم يكن أبو موسى يرى منهم جدا ولا نكاية، فقال لسياه: يا أعور، ما أنت وأصحابك كما كنا نرى! قال: لسنا مثلكم في هذا الدين ولا بصائرنا كبصائركم، وليس لنا فيكم حرم نحامي عنهم، ولم تلحقنا بأشراف العطاء

ولنا سلاح وكراع وأنتم حسر فكتب أبو موسى إلى عمر في ذلك، فكتب إليه عمر: أن ألحقهم على قدر البلاء في أفضل العطاء وأكثر شيء أخذه أحد من العرب ففرض لمائة منهم في ألفين ألفين، ولستة منهم في الفين، وخمسمائة لسياه وخسرو- ولقبه مقلاص- وشهريار، وشهرويه، وأفروذين فقال الشاعر: ولما رأى الفاروق حسن بلائهم ... وكان بما يأتي من الأمر أبصرا فسن لهم الفين فرضا وقد راى ... ثلاثمئين فرض عك وحميرا قال: فحاصروا حصنا بفارس، فانسل سياه في آخر الليل في زي العجم حتى رمى بنفسه إلى جنب الحصن، ونضح ثيابه بالدم، وأصبح أهل الحصن، فرأوا رجلا في زيهم صريعا، فظنوا أنه رجل منهم أصيبوا به، ففتحوا باب الحصن ليدخلوه، فثار وقاتلهم حتى خلوا عن باب الحصن وهربوا، ففتح الحصن وحده، ودخله المسلمون، وقوم يقولون: فعل هذا الفعل سياه بتستر، وحاصروا حصنا، فمشى خسرو إلى الحصن، فأشرف عليه رجل منهم يكلمه، فرماه خسرو بنشابة فقتله. وأما سيف فإنه قال في روايته مَا كتب بِهِ إِلَى السري، عَنْ شُعَيْبٍ، عنه، عن مُحَمَّد وطلحة وعمرو ودثار أبي عمر، عن أبي عثمان، قالوا: لما نزل أبو سبرة في الناس على السوس، وأحاط المسلمون بها، وعليهم شهريار أخو الهرمزان، ناوشوهم مرات، كل ذلك يصيب أهل السوس في المسلمين، فأشرف عليهم يوما الرهبان والقسيسون، فقالوا: يا معشر العرب، إن مما عهد إلينا علماؤنا وأوائلنا، أنه لا يفتح السوس إلا الدجال أو قوم فيهم الدجال، فإن كان الدجال فيكم فستفتحونها، وإن لم يكن فيكم فلا تعنوا بحصارنا وجاء صرف أبي موسى إلى البصرة، وعمل على أهل البصرة المقترب مكان أبي موسى بالسوس، واجتمع الأعاجم بنهاوند والنعمان على أهل الكوفة محاصرا لأهل السوس مع أبي سبرة، وزر محاصر أهل نهاوند من

وجهه ذلك، وضرب على أهل الكوفة، البعث مع حذيفة، وأمرهم بموافاته بنهاوند، وأقبل النعمان على التهيؤ للسير إلى نهاوند، ثم استقل في نفسه، فناوشهم قبل مضيه، فعاد الرهبان والقسيسون، وأشرفوا على المسلمين، وقالوا: يا معشر العرب، لا تعنوا فإنه لا يفتحها إلا الدجال أو قوم معهم الدجال، وصاحوا بالمسلمين وغاظوهم، وصاف بْن صياد يومئذ مع النعمان في خيله، وناهدهم المسلمون جميعا، وقالوا: نقاتلهم قبل أن نفترق، ولما يخرج أبو موسى بعد وأتى صاف باب السوس غضبان، فدقه برجله، وقال: انفتح فطار فتقطعت السلاسل، وتكسرت الأغلاق، وتفتحت الأبواب، ودخل المسلمون، فألقى المشركون بأيديهم، وتنادوا: الصلح الصلح! وأمسكوا بايديهم، فاجابوهم إلى ذلك بعد ما دخلوها عنوة، واقتسموا ما أصابوا قبل الصلح، ثم افترقوا. فخرج النعمان في أهل الكوفة من الأهواز حتى نزل على ماه، وسرح أبو سبرة المقترب حتى ينزل على جندى سابور مع زر، فأقام النعمان بعد دخول ماه، حتى وافاه أهل الكوفة، ثم نهد بهم إلى أهل نهاوند، فلما كان الفتح رجع صاف إلى المدينة، فأقام بها، ومات بالمدينة. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطية، عمن أورد فتح السوس، قال: وقيل لأبي سبرة: هذا جسد دانيال في هذه المدينة، قال: وما لنا بذلك! فأقره بأيديهم- قال عطية بإسناده: إن دانيال كان لزم أسياف فارس بعد بختنصر، فلما حضرته الوفاة، ولم ير أحدا ممن هو بين ظهريهم على الإسلام، أكرم كتاب اللَّه عمن لم يجبه ولم يقبل منه، فأودعه ربه، فقال لابنه: ائت ساحل البحر، فاقذف بهذا الكتاب فيه، فأخذه الغلام، وضن به، وغاب مقدار ما كان ذاهبا وجائيا، وقال: قد فعلت، قال: فما صنع البحر حين هوى فيه؟ قال: لم أره يصنع شيئا، فغضب وقال: والله ما فَعَلْتَ الَّذِي أَمَرْتُكَ به فخرج من عنده، ففعل مثل فعلته الأولى، ثم أتاه فقال: قد فعلت، فقال: كيف رأيت البحر حين هوى فيه؟ قال: ماج واصطفق، فغضب أشد من غضبه الأول، وقال: والله ما فعلت الذي أمرتك به بعد، فعزم ابنه على إلقائه في البحر الثالثة،

ذكر مصالحه المسلمين اهل جندى سابور

فانطلق إلى ساحل البحر، وألقاه فيه، فانكشف البحر عن الارض حتى بدت، وانفجرت له الأرض عن هواء من نور، فهوى في ذلك النور، ثم انطبقت عليه الأرض، واختلط الماء، فلما رجع إليه الثالثة سأله فأخبره الخبر، فقال: الآن صدقت ومات دانيال بالسوس، فكان هنالك يستسقى بجسده، فلما افتتحها المسلمون أتوا به فأقروه في أيديهم، حتى إذا ولى ابو سبره عنهم الى جندى سابور أقام أبو موسى بالسوس وكتب إلى عمر فيه، فكتب إليه يأمره بتوريته، فكفنه ودفنه المسلمون وكتب أبو موسى إلى عمر بأنه كان عليه خاتم وهو عندنا فكتب إليه أن تختمه، وفي فصه نقش رجل بين اسدين ذكر مصالحه المسلمين اهل جندى سابور وفيها- أعني سنة سبع عشرة- كانت مصالحة المسلمين اهل جندى سابور. ذكر الخبر عن أمرهم وأمرها: كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي عمرو وأبي سفيان والمهلب قالوا: لما فرغ أبو سبرة من السوس خرج في جنده حتى نزل على جندى سابور، وزر بْن عبد اللَّه بْن كليب محاصرهم، فأقاموا عليها يغادونهم ويراوحونهم القتال، فما زالوا مقيمين عليها حتى رمي إليهم بالأمان من عسكر المسلمين، وكان فتحها وفتح نهاوند في مقدار شهرين، فلم يفجا المسلمين إلا وأبوابها تفتح، ثم خرج السرح، وخرجت الاسواق، وانبث أهلها، فأرسل المسلمون: ان ما لكم؟ قالوا: رميتم إلينا بالأمان فقبلناه، وأقررنا لكم بالجزاء على أن تمنعونا فقالوا: ما فعلنا، فقالوا: ما كذبنا، فسأل المسلمون فيما بينهم، فإذا عبد يدعى مكنفا كان أصله منها، هو الذي كتب لهم فقالوا: إنما هو عبد، فقالوا: إنا لا نعرف حركم من عبدكم، قد جاء أمان فنحن عليه قد قبلناه،

أخبار متفرقة

ولم نبدل، فإن شئتم فاغدروا فأمسكوا عنهم، وكتبوا بذلك إلى عمر، فكتب إليهم: إن الله عظم الوفاء، فلا تكونون اوفياء حتى تفوا، ما دمتم في شك أجيزوهم، وفوا لهم فوفوا لهم، وانصرفوا عنهم. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: أذن عمر في الانسياح سنة سبع عشرة في بلاد فارس، وانتهى في ذلك إلى رأي الأحنف بْن قيس، وعرف فضله وصدقه، وفرق الأمراء والجنود، وأمر على أهل البصرة أمراء، وأمر على أهل الكوفة أمراء، وأمر هؤلاء وهؤلاء بأمره، وأذن لهم في الانسياح سنة سبع عشره، فساحوا في سنه ثمان عشره، وأمر أبا موسى أن يسير من البصرة إلى منقطع ذمة البصرة، فيكون هنالك حتى يحدث إليه، وبعث بألوية من ولي مع سهيل بْن عدي حليف بني عبد الأشهل، فقدم سهيل بالألوية، ودفع لواء خراسان إلى الأحنف ابن قيس، ولواء أردشير خره وسابور إلى مجاشع بْن مسعود السلمي، ولواء إصطخر إلى عثمان بْن أبي العاص الثقفي، ولواء فسا ودارابجرد إلى سارية بْن زنيم الكناني، ولواء كرمان مع سهيل بْن عدي، ولواء سجستان الى عاصم ابن عمرو- وكان عاصم من الصحابة- ولواء مكران إلى الحكم بْن عمير التغلبي فخرجوا في سنه سبع عشره، فعسكروا ليخرجوا إلى هذه الكور فلم يستتب مسيرهم، حتى دخلت سنه ثمان عشره، وأمدهم عمر بأهل الكوفة، فأمد سهيل بْن عدي بعبد اللَّه بْن عبد اللَّه بْن عتبان، وأمد الأحنف بعلقمه ابن النضر، وبعبد اللَّه بْن أبي عقيل، وبربعي بْن عامر، وبابن أم غزال. وأمد عاصم بْن عمرو بعبد اللَّه بْن عمير الأشجعي، وأمد الحكم بْن عمير بشهاب بْن المخارق المازني قال بعضهم: كان فتح السوس ورامهرمز وتوجيه الهرمزان إلى عمر من تستر في سنه عشرين . [أخبار متفرقة] وحج بالناس في هذه السنة- أعني سنة سبع عشرة- عمر بْن الخطاب، وكان عامله على مكة عتاب بْن أسيد، وعلى اليمن يعلى بْن أمية، وعلى اليمامة والبحرين عثمان بن أبي العاص وعلى عمان حذيفة بن محصن، وعلى

الشام من قد ذكرت أسماءهم قبل، وعلى الكوفة وأرضها سعد بن أبي وقاص، وعلى قضائها أبو قرة، وعلى البصرة وأرضها أبو موسى الأشعري- وقد ذكرت فيما مضى الوقت الذي عزل فيه عنها، والوقت الذي رد فيه إليها أميرا وعلى القضاء- فيما قيل- أبو مريم الحنفي وقد ذكرت من كان على الجزيرة والموصل قبل

سنه ثمان عشره

سنه ثمان عشرة ذكر الأحداث التي كانت في سنة ثمان عشرة قال أبو جعفر: وفي هذه السنة- أعني سنه ثمان عشرة- أصابت الناس مجاعة شديدة ولزبة، وجدوب وقحوط، وذلك هو العام الذي يسمى عام الرماده. ذكر القحط وعام الرمادة حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّد بْن إسحاق، قال: دخلت سنة ثمان عشرة، وفيها كان عام الرمادة وطاعون عمواس، فتفانى فيها الناس. وحدثني أحمد بْن ثابت الرازي، قال: حدثت عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، قال: كانت الرماده سنه ثمان عشره قال: وكان في ذلك العام طاعون عمواس. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ يقول: حَدَّثَنَا شعيب، عن سيف، عن الربيع وأبي المجالد وأبي عثمان وأبي حارثة، قالوا: وكتب أبو عبيدة إلى عمر: إن نفرا من المسلمين أصابوا الشراب، منهم ضرار، وأبو جندل، فسألناهم فتأولوا، وقالوا: خيرنا فاخترنا، قال: «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» ! ولم يعزم علينا. فكتب إليه عمر: فذلك بيننا وبينهم، «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» ، يعني فانتهوا وجمع الناس، فاجتمعوا على أن يضربوا فيها ثمانين جلده، ويضمنوا الفسق من تأول عليها بمثل هذا، فإن أبى قتل. فكتب عمر إلى أبي عبيدة أن ادعهم، فإن زعموا أنها حلال فاقتلهم، وإن زعموا أنها حرام فاجلدهم ثمانين فبعث إليهم فسألهم على رءوس الناس، فقالوا: حرام، فجلدهم ثمانين ثمانين، وحد القوم، وندموا على لجاجتهم،

وقال: ليحدثن فيكم يا أهل الشام حادث، فحدثت الرمادة. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن شبرمة عن الشعبي بمثله. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن عبيد الله بن عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ كِتَابُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي ضِرَارٍ وَأَبِي جَنْدَلٍ، كَتَبَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ فِي ذَلِكَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهِمْ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ فَيَسْأَلَهُمْ: أَحَرَامٌ الْخَمْرُ أَمْ حَلالٌ؟ فَإِنْ قَالُوا: حرام، فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً، وَاسْتَتِبْهُمْ، وَإِنْ قَالُوا: حَلالٌ، فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ فَدَعَا بِهِمْ فَسَأَلَهُمْ، فَقَالُوا: بَلْ حَرَامٌ، فَجَلَدَهُمْ، فَاسْتَحْيُوا فَلَزِمُوا الْبُيُوتَ وَوَسْوَسَ أَبُو جَنْدَلٍ، فَكَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى عُمَرَ: إِنَّ أَبَا جَنْدَلٍ قَدْ وَسْوَسَ، إِلا أَنْ يَأْتِيَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْكَ بِفَرَجٍ، فَاكْتُبْ إِلَيْهِ وَذَكِّرْهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ وَذَكَّرَهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: مِنْ عُمَرَ إِلَى أَبِي جَنْدَلٍ «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ*» ، فَتُبْ وَارْفَعْ رَأْسَكَ، وَابْرُزْ وَلا تَقْنَطْ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، يَقُولُ: «يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» فَلَمَّا قَرَأَهُ عَلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَةَ تَطَلَّقَ وَأُسْفِرَ عَنْهُ وَكَتَبَ إِلَى الآخَرِينَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَبَرَزُوا، وَكَتَبَ إِلَى النَّاسِ: عَلَيْكُمْ أَنْفُسُكَمْ، وَمَنِ اسْتَوْجَبَ التغيير فغيروا عليه، ولا تعيروا أحدا فيفشوا فِيكُمُ الْبَلاءُ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن محمد بن عبد الله، عن عطاء نحوا منه، إلا أنه لم يذكر أنه كتب إلى الناس ألا يعيروهم، وقال: قالوا: جاشت الروم، دعونا نغزوهم، فإن قضى اللَّه لنا الشهادة فذلك، وإلا عمدت للذي يريد فاستشهد ضرار بْن الأزور في قوم، وبقي الآخرون فحدوا وقال أبو الزهراء القشيري في ذلك: ألم تر أن الدهر يعثر بالفتى ... وليس على صرف المنون بقادر

صبرت ولم أجزع وقد مات إخوتي ... ولست عن الصهباء يوما بصابر رماها أمير المؤمنين بحتفها ... فخلانها يبكون حول المعاصر كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عَنِ الرَّبِيعِ بْن النُّعْمَانِ وَأَبِي الْمُجَالِدِ جَرَادِ بْن عمرو وأبي عثمان يزيد بْن أسيد الغساني، وأبي حارثة محرز العبشمي بإسنادهم، ومحمد بْن عبد اللَّه، عن كريب، قالوا: أصابت الناس في إمارة عمر رضي اللَّه عنه سنة بالمدينة وما حولها، فكانت تسفى إذا ريحت ترابا كالرماد، فسمي ذلك العام عام الرمادة، فآلى عمر ألا يذوق سمنا ولا لبنا ولا لحما حتى يحيى الناس من أول الحيا، فكان بذلك حتى أحيا الناس من أول الحيا، فقدمت السوق عكة من سمن ووطب من لبن، فاشتراهما غلام لعمر بأربعين، ثم أتى عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، قد أبر اللَّه يمينك، وعظم أجرك، قدم السوق وطب من لبن وعكة من سمن، فابتعتهما بأربعين، فقال عمر: أغليت بهما، فتصدق بهما، فإني أكره أن آكل إسرافا وقال عمر: كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسسني ما مسهم! كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ السلمي، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال: كانت في آخر سنة سبع عشرة وأول سنه ثمان عشره، وكانت الرمادة جوعا أصاب الناس بالمدينة وما حولها فأهلكهم حتى جعلت الوحش تأوي إلى الإنس، وحتى جعل الرجل يذبح الشاة فيعافها من قبحها، وإنه لمقفر. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يُوسُفَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كَانَ النَّاسُ بِذَلِكَ وَعُمَرُ كَالْمَحْصُورِ عَنْ أَهْلِ الأَمْصَارِ، حَتَّى أَقْبَلَ بِلالُ بْنُ الْحَارِثِ الْمُزَنِيُّ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ إليك، يقول لك رسول الله ص: لَقَدْ عَهِدْتُكَ كَيِّسًا، وَمَا زِلْتَ عَلَى رَجُلٍ، فَمَا شَأْنُكَ! فَقَالَ: مَتَى رَأَيْتَ هَذَا؟ قَالَ: الْبَارِحَةَ، فَخَرَجَ فَنَادَى فِي النَّاسِ: الصَّلاةُ جَامِعَةٌ! فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ،

ثُمَّ قَامَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ، هَلْ تَعْلَمُونَ مِنِّي أَمْرًا غَيْرَهُ خَيْرٌ مِنْهُ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ لا، قَالَ: فَإِنَّ بِلالَ بْنَ الْحَارِثِ يَزْعُمُ ذِيَّةً وَذِيَّةً، فَقَالُوا: صَدَقَ بِلالٌ، فَاسْتَغِثْ بِاللَّهِ وَبِالْمُسْلِمِينَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ- وَكَانَ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ مَحْصُورًا- فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُ أَكْبَرُ! بَلَغَ الْبَلاءُ مُدَّتَهُ فَانْكَشَفَ، مَا أُذِنَ لِقَوْمٍ فِي الطَّلَبِ إِلا وَقَدْ رُفِعَ عَنْهُمُ الْبَلاءُ، فَكَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ الأَمْصَارِ: أَغِيثُوا أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَ جَهْدُهُمْ، وَأَخْرَجَ النَّاسَ إِلَى الاسْتِسْقَاءِ، فَخَرَجَ وَخَرَجَ مَعَهُ بِالْعَبَّاسِ مَاشِيًا، فَخَطَبَ فَأَوْجَزَ، ثُمَّ صَلَّى، ثُمَّ جَثَا لِرُكْبَتَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَارْضَ عَنَّا ثُمَّ انْصَرَفَ، فَمَا بَلَغُوا الْمَنْزِلَ رَاجِعِينَ حَتَّى خَاضُوا الْغُدْرَانَ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مبشر بْن الفضيل، عن جبير بْن صخر، عن عاصم بْن عمر بْن الخطاب، قال: قحط الناس زمان عمر عاما، فهزل المال، فقال أهل بيت من مزينة من أهل البادية لصاحبهم: قد بلغنا، فاذبح لنا شاة، قال: ليس فيهن شيء، فلم يزالوا به حتى ذبح لهم شاة، فسلخ عن عظم أحمر، فنادى: يا محمداه! فأري فيما يرى النائم ان رسول الله ص أتاه، فقال: أبشر بالحيا! ائت عمر فأقرئه مني السلام، وقل له: إن عهدي بك وأنت وفي العهد، شديد العقد، فالكيس الكيس يا عمر! فجاء حتى أتى باب عمر، فقال لغلامه: استاذن لرسول رسول الله ص، فأتى عمر فأخبره، ففزع وقال: رأيت به مسا! قال: لا، قال: فأدخله، فدخل فأخبره الخبر، فخرج فنادى في الناس، وصعد المنبر، وقال: أنشدكم بالذي هداكم للإسلام، هل رأيتم مني شيئا تكرهونه! قالوا: اللهم لا، قالوا: ولم ذاك؟ فأخبرهم، ففطنوا ولم يفطن، فقالوا: إنما استبطأك في الاستسقاء، فاستسق بنا، فنادى في الناس، فقام فخطب فأوجز، ثم صلى ركعتين فأوجز، ثم قال: اللهم عجزت عنا أنصارنا، وعجز عنا حولنا وقوتنا، وعجزت عنا أنفسنا،

ولا حول ولا قوة إلا بك، اللهم فاسقنا، وأحي العباد والبلاد! كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن الربيع بن النُّعْمَانِ وَجَرَادٍ أَبِي الْمُجَالِدِ وَأَبِي عُثْمَانَ وَأَبِي حَارِثَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ رَجَاءٍ- وَزَادَ أَبُو عُثْمَانَ وَأَبُو حَارِثَةَ: عَنْ عُبَادَةَ وَخَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ- قَالُوا: كَتَبَ عُمَرُ إِلَى أُمَرَاءِ الأَمْصَارِ يَسْتَغِيثَهُمْ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا، وَيَسْتَمِدَّهُمْ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فِي أَرْبَعَةِ آلافِ رَاحِلَةٍ مِنْ طَعَامٍ، فَوَلاهُ قِسْمَتَهَا فِيمَنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا فَرَغَ وَرَجَعَ إِلَيْهِ أَمَرَ لَهُ بِأَرْبَعَةِ آلافِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: لا حَاجَةَ لِي فِيهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا أَرَدْتُ اللَّهَ وَمَا قَبْلَهُ، فَلا تُدْخِلْ عَلَيَّ الدُّنْيَا، فَقَالَ: خُذْهَا فَلا بَأْسَ بِذَلِكَ إِذْ لَمْ تَطْلُبْهُ، فَأَبَى فَقَالَ: خُذْهَا فَإِنِّي قَدْ وَلِيتُ لِرَسُولِ اللَّهِ ص مِثْلَ هَذَا، فَقَالَ لِي مِثْلَ مَا قُلْتُ لَكَ، فَقُلْتُ لَهُ كَمَا قُلْتَ لِي فَأَعْطَانِي فَقَبِلَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَانْصَرَفَ إِلَى عَمَلِهِ، وَتَتَابَعَ النَّاسُ وَاسْتَغْنَى أَهْلُ الْحِجَازِ، وَأحيوا مَعَ أَوَّلِ الحيا. وَقَالُوا بِإِسْنَادِهِمْ: وَجَاءَ كِتَابُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ جَوَابَ كِتَابِ عُمَرَ فِي الاسْتِغَاثَةِ: إِنَّ البحر الشامي حفر لمبعث رسول الله ص حَفِيرًا، فَصَبَّ فِي بَحْرِ الْعَرَبِ، فَسَدَّهُ الرُّومُ وَالْقِبْطُ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ يَقُومَ سعر الطَّعَامِ بِالْمَدِينَةِ كسعره بِمِصْرَ، حَفَرْتُ لَهُ نَهْرًا وَبَنَيْتُ له قناطير فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: أَنِ افْعَلْ وَعَجِّلْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ أَهْلُ مِصْرَ: خَرَاجُكَ زَاجٍ، وَأَمِيرُكَ رَاضٍ، وَإِنْ تَمَّ هَذَا انْكَسَرَ الْخَرَاجُ فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بِذَلِكَ، وَذَكَرَ أَنَّ فِيهِ انْكِسَارَ خَرَاجِ مِصْرَ وَخَرَابَهَا فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: اعْمَلْ فِيهِ وَعَجِّلْ، أَخْرَبَ اللَّهُ مِصْرَ فِي عِمْرَانِ الْمَدِينَةِ وَصَلاحِهَا، فَعَالَجَهُ عَمْرٌو وَهُوَ بِالْقُلْزُمِ، فَكَانَ سعر الْمَدِينَةِ كَسعرِ مِصْرَ، وَلَمْ يَزِدْ ذَلِكَ مِصْرَ إِلا رَخَاءً، وَلَمْ يَرَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بَعْدَ الرَّمَادَةِ مِثْلَهَا، حَتَّى حُبِسَ عَنْهُمُ الْبَحْرُ مع مقتل عثمان رضى الله عنه فذلوا وتقاصروا وخشعوا

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ الرَّقَّةَ وَالرُّهَا وَحَرَّانَ فُتِحَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى يَدَيِ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ، وَأَنَّ عَيْنَ الْوَرْدَةِ فتحت فيها على يدي عمير ابن سَعْدٍ وَقَدْ ذَكَرْتُ قَوْلَ مَنْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ فِيمَا مَضَى، وَزَعَمَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَوَّلَ الْمُقَامَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ إِلَى مَوْضِعِهِ الْيَوْمَ، وَكَانَ مُلْصَقًا بِالْبَيْتِ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَالَ: مَاتَ فِي طَاعُونِ عِمْوَاسَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَقْضَى عمر شريح ابن الْحَارِثِ الْكِنْدِيَّ عَلَى الْكُوفَةِ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ كَعْبَ بْنَ سَوْرٍ الأَزْدِيَّ. قَالَ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هذه السنة عمر بن الخطاب رضي الله عَنْهُ. وَكَانَتْ وُلاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الأمصار الولاه الذين كانوا عليها في سنه سبع عشره

سنه تسع عشره

سنة تسع عشرة ذكر الأحداث التي كانت في سنة تسع عشرة قال أبو جعفر: قَالَ أَبُو معشر- فِيمَا حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت الرازي، عمن حدثه، عن إسحاق بْن عيسى عنه: إن فتح جلولاء كان في سنة تسع عشرة على يدي سعد، وكذلك قال الواقدي. وقال ابن إسحاق: كان فتح الجزيرة والرهاء وحران ورأس العين ونصيبين في سنة تسع عشرة. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا قول من خالفهم في ذلك قبل. وقال أبو معشر: كان فتح قيسارية في هذه السنة- أعني سنة تسع عشرة- وأميرها معاوية بْن أَبِي سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثابت الرازي، عمن حدثه، عن إسحاق بْن عيسى، عنه. وكالذي قال أبو معشر في ذلك قال الواقدي. وأما ابن إسحاق فإنه قال: كان فتح قيسارية من فلسطين وهرب هرقل وفتح مصر في سنة عشرين، حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه. وأما سيف بْن عمر فإنه قال: كان فتحها في سنة ست عشرة. قال: وكذلك فتح مصر. وقد مضى الخبر عن فتح قيسارية قبل، وأنا ذاكر خبر مصر وفتحها بعد في قول، من قال: فتحت سنة عشرين، وفي قول من خالف ذلك. قال أبو جعفر: وفي هذه السنة- أعني سنة تسع عشرة- سالت حرة ليلى نارا- فيما زعم الواقدي- فأراد عمر الخروج إليها بالرجال، ثم أمرهم بالصدقة فانطفأت

وزعم أيضا الواقدي أن المدائن وجلولاء فتحتا في هذه السنة، وقد مضى ذكر من خالفه في ذلك. وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وكان عماله على الأمصار وقضاته فيها الولاة والقضاه الذين كانوا عليها في سنه ثمان عشره

سنه عشرين

عشرين ذكر الخبر عما كان فيها من مغازي المسلمين وغير ذلك من أمورهم قال أبو جعفر: ففي هذه السنة فتحت مصر فِي قَوْلِ ابْنِ إِسْحَاقَ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: فتحت مصر سنة عشرين. وكذلك قال أبو معشر، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر، أنه قال: فتحت مصر سنة عشرين، وأميرها عمرو بْن العاص. وَحَدَّثَنِي أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، قال: فتحت إسكندرية سنة خمس وعشرين. وقال الواقدي- فيما حدثت عن ابن سعد عنه: فتحت مصر والإسكندرية في سنة عشرين. وأما سيف فإنه زعم- فيما كتب به إلي السري، عن شعيب، عن سيف- أنها فتحت والإسكندرية في سنة ست عشرة. ذكر الخبر عن فتحها وفتح الإسكندرية قال أبو جعفر: قد ذكرنا اختلاف أهل السير في السنة التي كان فيها فتح مصر والإسكندرية، ونذكر الآن سبب فتحهما، وعلى يدي من كان، على ما في ذلك من اختلاف بينهم أيضا، فأما ابن إسحاق فإنه قال في ذلك ما حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنْهُ، أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ فَرَغَ مِنَ الشَّامِ كُلِّهَا كَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنْ يَسِيرَ الى مصر في جنده، فخرج حتى فتح باب اليون فِي سَنَةِ عِشْرِينَ. قَالَ: وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي فَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَبَعْضُ النَّاسِ يَزْعُمُ أَنَّهَا فُتِحَتْ

فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَعَلَى سَنَتَيْنِ مِنْ خِلافَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَلَيْهَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني القاسم بْن قزمان- رجل من أهل مصر- عن زياد بْن جزء الزبيدي، أنه حدثه أنه كان في جند عمرو بْن العاص حين افتتح مصر والإسكندرية، قال: افتتحنا الإسكندرية في خلافة عمر بْن الخطاب في سنة إحدى وعشرين- أو سنة اثنتين وعشرين- قال: لما افتتحنا باب اليون تدنينا قرى الريف فيما بيننا وبين الإسكندرية قرية فقرية، حتى انتهينا إلى بلهيب- قرية من قرى الريف، يقال لها قرية الريش- وقد بلغت سبايانا المدينة ومكة واليمن. قال: فلما انتهينا إلى بلهيب أرسل صاحب الإسكندرية الى عمرو ابن العاص: إني قد كنت أخرج الجزية إلى من هو أبغض إلي منكم معشر العرب لفارس والروم، فإن أحببت أن أعطيك الجزية على أن ترد علي ما أصبتم من سبايا أرضي فعلت. قال: فبعث إليه عمرو بْن العاص: إن ورائي أميرا لا أستطيع أن أصنع أمرا دونه، فإن شئت أن أمسك عنك وتمسك عني حتى أكتب إليه بالذي عرضت علي، فإن هو قبل ذلك منك قبلت، وإن أمرني بغير ذلك مضيت لأمره قال: فقال: نعم قال: فكتب عمرو بن العاص الى عمر ابن الخطاب- قال: وكانوا لا يخفون علينا كتابا كتبوا به- يذكر له الذي عرض عليه صاحب الإسكندرية قال: وفي أيدينا بقايا من سبيهم ثم وقفنا ببلهيب، وأقمنا ننتظر كتاب عمر حتى جاءنا، فقرأه علينا عمرو وفيه: أما بعد، فإنه جاءني كتابك تذكر أن صاحب الإسكندرية عرض أن يعطيك الجزية على أن ترد عليه ما أصيب من سبايا أرضه، ولعمري لجزية قائمة تكون لنا ولمن بعدنا من المسلمين أحب إلي من فيء يقسم، ثم كأنه لم يكن، فاعرض على صاحب الإسكندرية أن يعطيك الجزية، على أن تخيروا من في أيديكم من سبيهم بين الإسلام وبين دين قومه، فمن اختار

منهم الإسلام فهو مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لَهُ مَا لَهُمْ وعليه مَا عليهم، ومن اختار دين قومه، وضع عليه من الجزية ما يوضع على أهل دينه، فأما من تفرق من سبيهم بأرض العرب فبلغ مكة والمدينة واليمن فإنا لا نقدر على ردهم، ولا نحب أن نصالحه على أمر لا نفي له به قال: فبعث عمرو إلى صاحب الإسكندرية يعلمه الذي كتب به أمير المؤمنين قال: فقال: قد فعلت. قال: فجمعنا ما في أيدينا من السبايا، واجتمعت النصارى، فجعلنا نأتي بالرجل ممن في أيدينا، ثم نخيره بين الإسلام وبين النصرانية، فإذا اختار الإسلام كبرنا تكبيرة هي أشد من تكبيرنا حين تفتح القرية، قال: ثم نحوزه إلينا، وإذا اختار النصرانية نخرت النصارى، ثم حازوه إليهم، ووضعنا عليه الجزية، وجزعنا من ذلك جزعا شديدا، حتى كأنه رجل خرج منا إليهم قال: فكان ذلك الدأب حتى فرغنا منهم، وقد أتي فيمن أتينا به بأبي مريم عبد اللَّه بْن عبد الرحمن- قال القاسم: وقد أدركته وهو عريف بني زبيد- قال: فوقفناه، فعرضنا عليه الإسلام والنصرانية- وأبوه وأمه وإخوته في النصارى- فاختار الإسلام، فحزناه إلينا، ووثب عليه أبوه وأمه وإخوته يجاذبوننا، حتى شققوا عليه ثيابه، ثم هو اليوم عريفنا كما ترى ثم فتحت لنا الإسكندرية فدخلناها، وإن هذه الكناسة التي ترى يا بن أبي القاسم لكناسة بناحية الإسكندرية حولها أحجار كما ترى، ما زادت ولا نقصت، فمن زعم غير ذلك أن الإسكندرية وما حولها من القرى لم يكن لها جزية ولا لأهلها عهد، فقد والله كذب قال القاسم: وإنما هاج هذا الحديث أن ملوك بني أمية كانوا يكتبون إلى أمراء مصر أن مصر إنما دخلت عنوة، وإنما هم عبيدنا نزيد عليهم كيف شئنا، ونضع ما شئنا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا سَيْفٌ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيمَا كَتَبَ بِهِ إِلَيَّ السَّرِيُّ، يَذْكُرُ أَنَّ شُعَيْبًا حَدَّثَهُ عَنْهُ، عَنِ الرَّبِيعِ أَبِي سَعِيدٍ، وَعَنْ أَبِي عُثْمَانَ وَأَبِي حَارِثَةَ، قَالُوا: أَقَامَ عُمَرُ بِإِيلِيَاءَ بَعْدَ مَا صَالَحَ أَهْلَهَا، وَدَخَلَهَا أياما، فامضى عمرو ابن الْعَاصِ إِلَى مِصْرَ وَأَمَّرَهُ عَلَيْهَا، إِنْ فَتَحَ الله عليه، وبعث في اثره الزبير

ابن الْعَوَّامِ مَدَدًا لَهُ، وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ إِلَى الرَّمَادَةِ، وَأَمَرَهُ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى عَمَلِهِ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ عَنْ خَالِدٍ وَعُبَادَةَ، قَالا: خَرَجَ عَمْرُو بْنُ العاص الى مصر بعد ما رَجَعَ عُمَرُ إِلَى الْمَدِينَةِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى باب اليون، وَاتَّبَعَهُ الزُّبَيْرُ، فَاجْتَمَعَا، فَلَقِيَهُمْ هُنَالِكَ أَبُو مَرْيَمَ جَاثِلِيقُ مِصْرَ وَمَعَهُ الأُسْقُفُّ فِي أَهْلِ النِّيَّاتِ بَعَثَهُ الْمُقَوْقِسُ لِمَنْعِ بِلادِهِمْ فَلَمَّا نَزَلَ بِهِمْ عَمْرٌو قَاتَلُوهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: لا تَعْجَلُونَا لِنَعْذُرَ إِلَيْكُمْ، وَتَرَوْنَ رَأْيَكُمْ بَعْدُ فَكَفُّوا أَصْحَابَهُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَمْرٌو: إِنِّي بَارِزٌ فَلْيَبْرُزْ إِلَيَّ أَبُو مَرْيَمَ وَأَبُو مِرْيَامَ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَمَّنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَقَالَ لَهُمَا عَمْرٌو: أَنْتُمَا رَاهِبَا هَذِهِ الْبَلْدَةِ فَاسْمَعَا، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بعث محمدا ص بالحق وامره به، وامرنا به محمد ص، وَأَدَّى إِلَيْنَا كُلَّ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، ثُمَّ مَضَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَرَحْمَتُهُ وَقَدْ قَضَى الَّذِي عَلَيْهِ، وَتَرَكَنَا عَلَى الْوَاضِحَةِ، وَكَانَ مِمَّا أَمَرَنَا بِهِ الإِعْذَارُ إِلَى النَّاسِ، فَنَحْنُ نَدْعُوكُمْ إِلَى الإِسْلامِ، فَمَنْ أَجَابَنَا إِلَيْهِ فَمِثْلُنَا، وَمَنْ لَمْ يُجِبْنَا عَرَضْنَا عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ، وَبَذَلْنَا لَهُ الْمَنْعَةَ، وَقَدْ أَعْلَمَنَا أَنَّا مُفْتَتِحُوكُمْ، وَأَوْصَانَا بِكُمْ حِفْظًا لِرَحِمِنَا فِيكُمْ، وَإِنَّ لَكُمْ إِنْ أَجَبْتُمُونَا بِذَلِكَ ذِمَّةً إِلَى ذِمَّةٍ وَمِمَّا عَهِدَ إِلَيْنَا أَمِيرُنَا: اسْتَوْصُوا بِالْقِبْطِيِّينَ خَيْرًا، [فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص أوصانا بالقبطين خَيْرًا، لأَنَّ لَهُمْ رَحِمًا وَذِمَّةً،] فَقَالُوا: قَرَابَةٌ بَعِيدَةٌ لا يَصِلُ مِثْلَهَا إِلا الأَنْبِيَاءُ، مَعْرُوفَةٌ شَرِيفَةٌ، كَانَتِ ابْنَةُ مَلِكِنَا، وَكَانَتْ مِنْ أَهْلِ مَنْفَ وَالْمَلِكُ فِيهِمْ، فَأُدِيلَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ عَيْنِ شَمْسٍ، فَقَتَلُوهُمْ وَسَلَبُوا مُلْكَهُمْ وَاغْتَرَبُوا، فَلِذَلِكَ صَارَتْ الى ابراهيم ع مَرْحَبًا بِهِ وَأَهْلا، آمِنَّا حَتَّى نَرْجِعَ إِلَيْكَ فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّ مِثْلِي لا يُخْدَعُ، وَلَكِنِّي أُؤَجِّلُكُمَا ثَلاثًا لِتَنْظُرَا وَلِتُنَاظِرَا قَوْمَكُمَا، وَإِلا نَاجَزْتُكُمْ، قَالا: زِدْنَا، فَزَادَهُمْ يَوْمًا، فَقَالا: زِدْنَا، فَزَادَهُمْ يوما، فرجعا الى المقوقس فهم، فَأَبَى أَرْطَبُونُ أَنْ يُجِيبَهُمَا، وَأَمَرَ بِمُنَاهَدَتِهِمْ،

فَقَالا لأَهْلِ مِصْرَ: أَمَّا نَحْنُ فَسَنَجْهَدُ أَنْ نَدْفَعَ عَنْكُمْ، وَلا نَرْجِعَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ بَقِيَتْ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ، فَلا تُصَابُونَ فِيهَا بِشَيْءٍ إِلا رَجَوْنَا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَمَانٌ فَلَمْ يَفْجَأْ عمر وَالزُّبَيْرَ إِلا الْبياتُ من فرقب، وَعَمْرٌو عَلَى عُدَّةٍ، فَلَقَوْهُ فَقَتَلَ وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ رَكِبُوا أَكْسَاءَهُمْ، وَقَصَدَ عَمْرٌو وَالزُّبَيْرُ لِعَيْنِ شَمْسٍ، وَبِهَا جَمْعُهُمْ، وبَعَثَ إِلَى الْفَرَمَا أَبْرَهَةَ بْنَ الصَّبَّاحِ، فَنَزَلَ عَلَيْهَا، وَبَعَثَ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ إِلَى الإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَنَزَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لأَهْلِ مَدِينَتِهِ: إِنْ تَنْزِلُوا فَلَكُمُ الأَمَانُ، فَقَالُوا: نعم، فراسلوهم، وتربص بِهِمْ أَهْلُ عَيْنِ شَمْسٍ، وَسَبَى الْمُسْلِمُونَ مِنْ بَيْنَ ذَلِكَ وَقَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ: مَا أَحْسَنَ مَدِينَتَكُمْ يَا أَهْلَ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ! فَقَالُوا: إِنَّ الإِسْكَنْدَرَ قَالَ: إِنِّي أَبْنِي مَدِينَةً إِلَى اللَّهِ فَقِيرَةً، وَعَنِ النَّاسِ غَنِيَّةً- أَوْ لأَبْنِيَنَّ مَدِينَةً إِلَى اللَّهِ فَقِيرَةً، وَعَنِ النَّاسِ غَنِيَّةً- فَبَقِيَتْ بَهْجَتُهَا. وَقَالَ أَبْرَهَةُ لأَهْلِ الْفَرَمَا: مَا أَخْلَقَ مَدِينَتَكُمْ يَا أَهْلَ الْفَرَمَا؟ قَالُوا: إِنَّ الْفَرَمَا قَالَ: إِنِّي أَبْنِي مَدِينَةً عَنِ اللَّهِ غَنِيَّةً، وَإِلَى النَّاسِ فَقِيرَةٌ، فَذَهَبَتْ بَهْجَتُهَا. وَكَانَ الإِسْكَنْدَرُ وَالْفَرَمَا أَخَوَيْنِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ الإِسْكَنْدَرُ وَالْفَرَمَا أَخَوَيْنِ، ثُمَّ حَدَّثَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَنُسِبَتَا إِلَيْهِمَا، فَالْفَرَمَا يَنْهَدِمُ فِيهَا كُلَّ يَوْمٍ شَيْءٌ، وَخَلقتْ مرآتها، وَبَقِيَتْ جِدَّةُ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان، قالا: لما نزل عمرو على القوم بعين شمس، وكان الملك بين القبط والنوب، ونزل معه الزبير عليها قال أهل مصر لملكهم: ما تريد الى قوم فلوا كسرى وقيصر، وغيرهم على بلادهم! صالح القوم واعتقد منهم، ولا تعرض لهم، ولا تعرضنا لهم- وذلك في اليوم الرابع- فأبى، وناهدوهم فقاتلوهم، وارتقى الزبير سورها، فلما أحسوه فتحوا الباب لعمرو، وخرجوا إليه مصالحين، فقبل منهم، ونزل الزبير عليهم عنوة، حتى خرج على عمرو من الباب

معهم، فاعتقدوا بعد ما أشرفوا على الهلكة، فأجروا ما أخذ عنوه مجرى ما صالح عليه، فصاروا ذمة، وكان صلحهم: بسم اللَّه الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عمرو بْن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم، وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص، ولا يساكنهم النوب وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح، وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف، وعليهم ما جنى لصوتهم، فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزاء بقدرهم، وذمتنا ممن أبى بريئة، وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك، ومن دخل في صلحهم من الروم والنوب فله مثل ما لهم، وعليه مثل ما عليهم، ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، أو يخرج من سلطاننا عليهم ما عليهم أثلاثا في كل ثلث جباية ثلث ما عليهم، على ما في هذا الكتاب عهد اللَّه وذمته وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين، وعلى النوبة، الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسا، وكذا وكذا فرسا، على ألا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة شهد الزبير وعبد اللَّه ومحمد ابناه وكتب وردان وحضر. فدخل في ذلك أهل مصر كلهم، وقبلوا الصلح، واجتمعت الخيول فمصر عمرو الفسطاط، ونزله المسلمون، وظهر أبو مريم وأبو مريام، فكلما عمرا في السبايا التي أصيبت بعد المعركة، فقال: أولهم عهد وعقد؟ ألم نحالفكما ويغار علينا من يومكما! وطردهما، فرجعا وهما يقولان: كل شيء أصبتموه إلى أن نرجع إليكم ففي ذمة منكم، فقال لهما: أتغيرون علينا وهم في ذمة؟ قالا: نعم، وقسم عمرو ذلك السبي على الناس، وتوزعوه، ووقع في بلدان العرب وقدم البشير على عمر بعد بالأخماس، وبعث الوفود

فسألهم عمر، فما زالوا يخبرونه حتى مروا بحديث الجاثليق وصاحبه، فقال: ألا أراهما يبصران وأنتم تجاهلون ولا تبصرون! من قاتلكم فلا أمان له، ومن لم يقاتلكم فأصابه منكم شيء من أهل القرى فله الأمان في الأيام الخمسة حتى تنصرم، وبعث في الآفاق حتى رد ذلك السبي الذي سبوا ممن لم يقاتل في الأيام الخمسة إلا من قاتل بعد، فترادوهم إلا ما كان من ذلك الضرب، وحضرت القبط باب عمرو، وبلغ عمرا أنهم يقولون: ما أرث العرب وأهون عليهم أنفسهم! ما رأينا مثلنا دان لهم! فخاف أن يستثيرهم ذلك من أمرهم، فأمر بجزر فذبحت، فطبخت بالماء والملح، وأمر أمراء الأجناد أن يحضروا، وأعلموا أصحابهم، وجلس وأذن لأهل مصر، وجيء باللحم والمرق فطافوا به على المسلمين، فأكلوا أكلا عربيا، انتشلوا وحسوا وهم في العباء ولا سلاح، فافترق أهل مصر وقد ازدادوا طمعا وجرأة، وبعث في أمراء الجنود في الحضور بأصحابهم من الغد، وأمرهم أن يجيئوا في ثياب أهل مصر وأحذيتهم، وأمرهم أن يأخذوا أصحابهم بذلك ففعلوا، وأذن لأهل مصر، فرأوا شيئا غير ما رأوا بالأمس، وقام عليهم القوام بألوان مصر، فأكلوا أكل أهل مصر، ونحوا نحوهم، فافترقوا وقد ارتابوا، وقالوا: كدنا وبعث إليهم أن تسلحوا للعرض غدا، وغدا على العرض، وأذن لهم فعرضهم عليهم ثم قال: إني قد علمت أنكم رأيتم في أنفسكم أنكم في شيء حين رأيتم اقتصاد العرب وهون تزجيتهم، فخشيت أن تهلكوا، فأحببت أن أريكم حالهم، وكيف كانت في أرضهم، ثم حالهم في أرضكم، ثم حالهم في الحرب، فظفروا بكم، وذلك عيشهم، وقد كلبوا على بلادكم قبل أن ينالوا منها ما رأيتم في اليوم الثاني، فأحببت أن تعلموا أن من رأيتم في اليوم الثالث غير تارك عيش اليوم الثاني، وراجع إلى عيش اليوم الأول فتفرقوا وهم يقولون: لقد رمتكم العرب برجلهم. وبلغ عمر، فقال لجلسائه: والله إن حربه للينة ما لها سطوة ولا سورة كسورات الحروب من غيره، إن عمرا لعض ثم أمره عليها وقام بها. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الرَّبِيعِ ابن النُّعْمَانِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، قَالَ: لَمَّا الْتَقَى عَمْرٌو وَالْمُقَوْقِسُ بِعَيْنِ شَمْسٍ،

وَاقْتَتَلَتْ خَيْلاهُمَا، جَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَجُولُونَ بَعْدَ الْبُعْدِ فَدَمَّرَهُمْ عَمْرٌو، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ: إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ مِنْ حِجَارَةٍ وَلا حَدِيدٍ! فَقَالَ: اسْكُتْ، فَإِنَّمَا أَنْتَ كَلْبٌ، قَالَ: فَأَنْتَ أَمِيرُ الْكِلابِ، قَالَ: فَلَمَّا جَعَلَ ذَلِكَ يَتَوَاصَلُ نادى عمرو: اين اصحاب رسول الله ص؟ فَحَضَرَ مَنْ شَهِدَهَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ص، فَقَالَ: تَقَدَّمُوا، فَبِكُمْ يَنْصُرُ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ فَتَقَدَّمُوا وَفِيهِمْ يَوْمَئِذٍ أَبُو بُرْدَةَ وَأَبُو بَرْزَةَ، وَنَاهَدَهُمُ النَّاسُ يَتْبَعُونَ الصَّحَابَةَ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَظَفَرُوا أَحْسَنَ الظَّفْرِ. وَافْتُتِحَتْ مِصْرُ فِي رَبِيعٍ الأَوَّلِ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ، وَقَامَ فِيهَا مُلْكُ الإِسْلامِ عَلَى رَجُلٍ، وَجَعَلَ يَفِيضُ عَلَى الأُمَمِ وَالْمُلُوكِ، فَكَانَ أَهْلُ مِصْرَ يَتَدَفَّقُونَ عَلَى الأجلِ، وَأَهْلُ مكران عَلَى رَاسِلَ وَدَاهِرَ، وَأَهْلُ سِجِسْتَانَ عَلَى الشَّاهْ وَذَويه، وَأَهْلُ خُرَاسَانَ وَالْبَابِ عَلَى خَاقَانَ، وَخَاقَانُ وَمَنْ دُونَهُمَا مِنَ الأُمَمِ، فَكَفْكَفَهُمْ عُمَرُ إِبْقَاءً عَلَى أَهْلِ الإِسْلامِ، وَلَوْ خَلَّى سربهم لَبَلَغُوا كُلَّ مَنْهَلٍ. حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْن سهل، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيد بْن مسلم، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن يزيد بْن أبي حبيب، أن المسلمين لما فتحوا مصر غزوا نوبة مصر، فقفل المسلمون بالجراحات، وذهاب الحدق من جودة الرمي، فسموا رماة الحدق، فلما ولي عبد اللَّه بْن سعد بْن أبي سرح مصر، ولاه إياها عثمان بْن عفان رضي اللَّه عنه، صالحهم على هدية عدة رؤوس منهم، يؤدونهم إلى المسلمين في كل سنة، ويهدي إليهم المسلمون في كل سنة طعاما مسمى وكسوه من نحو ذلك. قال علي: قال الوليد: قال ابن لهيعة: وأمضى ذلك الصلح عثمان ومن بعده من الولاة والأمراء، وأقره عمر بْن عبد العزيز نظرا منه للمسلمين، وإبقاء عليهم. قال سيف: ولما كان ذو القعدة من سنة ست عشرة، وضع عمر رضي اللَّه عنه مسالح مصر على السواحل كلها، وكان داعية ذلك أن هرقل أغزى

أخبار متفرقة

مصر والشام في البحر، ونهد لأهل حمص بنفسه، وذلك لثلاث سنين وستة أشهر من اماره عمر رضى الله عنه [أخبار متفرقة] قال أبو جعفر: وفي هذه السنة- أعني سنة عشرين- غزا أرض الروم أبو بحرية الكندي عبد اللَّه بْن قيس، وهو أول من دخلها- فيما قيل وقيل:: أول من دخلها ميسره بن مسروق العبسى، فسلم وغنم. قال: وقال الواقدي: وفي هذه السنة عزل قدامة بْن مظعون عن البحرين، وحده في شرب الخمر. وفيها استعمل عمر أبا هريرة على البحرين واليمامة. قال: وفيها تزوج عمر فاطمة بنت الوليد أم عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام. قال: وفيها توفي بلال بْن رباح رضي اللَّه عنه، ودفن في مقبرة دمشق. وفيها عزل عمر سعدا عن الكوفة لشكايتهم إياه، وقالوا: لا يحسن يصلي. وفيها قسم عمر خيبر بين المسلمين، وأجلى اليهود منها، وبعث أبا حبيبة إلى فدك فأقام لهم نصف، فأعطاهم، ومضى إلى وادي القرى فقسمها. وفيها أجلى يهود نجران إلى الكوفة- فيما زعم الواقدي. قال الواقدي: وفي هذه السنة- أعني سنة عشرين- دون عمر رضي اللَّه عنه الدواوين قال أبو جعفر: قد ذكرنا قول من خالفه. وفيها بعث عمر رضي اللَّه عنه علقمة بْن مجزز المدلجي إلى الحبشة في البحر، وذلك أن الحبشة كانت تطرفت- فيما ذكر- طرفا من أطراف الإسلام، فأصيبوا، فجعل عمر على نفسه الا بحمل في البحر أحدا أبدا

وأما أَبُو معشر فإنه قَالَ- فِيمَا حَدَّثَنِي أحمد بْن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عنه: كانت غزوة الأساودة في البحر سنة إحدى وثلاثين. قال الواقدي: وفيها مات أسيد بْن الحضير في شعبان. وفيها ماتت زينب بنت جحش. وحج في هذه السنة عمر رضي اللَّه عنه. وكانت عماله في هذه السنة على الأمصار عماله عليها في السنة التي قبلها، إلا من ذكرت أنه عزله واستبدل به غيره، وكذلك قضاته فيها كانوا القضاة الذين كانوا في السنه التي قبلها

سنه احدى وعشرين

إحدى وعشرين قال أبو جعفر: وفيها كانت وقعة نهاوند في قول ابن إسحاق، حَدَّثَنَا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه. وكذلك قَالَ أَبُو معشر، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عنه. وكذلك قال الواقدي. وأما سيف بْن عمر فإنه قال: كانت وقعة نهاوند في سنه ثمان عشرة في سنة ست من إمارة عمر، كتب إلي بذلك السري، عن شعيب، عن سيف. ذكر الخبر عن وقعة المسلمين والفرس بنهاوند وكان ابتداء ذلك- فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ- كَانَ مِنْ حَدِيثِ نهاوند أن النعمان بْن مقرن كان عاملا على كسكر، فكتب إلى عمر رضي اللَّه عنه يخبره أن سعد ابن ابى وقاص استعمله على جبابه الخراج، وقد أحببت الجهاد ورغبت فيه. فكتب عمر إلى سعد: إن النعمان كتب إلي يذكر أنك استعملته على جباية الخراج، وأنه قد كره ذلك، ورغب في الجهاد، فابعث به إلى أهم وجوهك، إلى نهاوند. قال: وقد اجتمعت بنهاوند الأعاجم، عليهم ذو الحاجب- رجل من الأعاجم- فكتب عمر إلى النعمان بْن مقرن: بسم اللَّه الرحمن الرحيم من عبد اللَّه عمر أمير المؤمنين إلى النعمان بن

مقرن، سلام عَلَيْك، فإني أحمد إليك اللَّه الَّذِي لا إله إلا هو، أما بعد، فإنه قد بلغني أن جموعا من الأعاجم كثيرة قد جمعوا لكم بمدينة نهاوند، فإذا أتاك كتابي هذا فسر بأمر اللَّه، وبعون اللَّه، وبنصر اللَّه، بمن معك من المسلمين، ولا توطئهم وعرا فتؤذيهم، ولا تمنعهم حقهم فتكفرهم، ولا تدخلنهم غيضة، فإن رجلا من المسلمين أحب إلي من مائة ألف دينار والسلام عليك. فسار النعمان إليه ومعه وجوه أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْهُمْ حذيفة بْن اليمان، وعبد اللَّه بْن عمر بْن الخطاب، وجرير بْن عبد اللَّه البجلي، والمغيرة بْن شعبة، وعمرو بْن معديكرب الزبيدي، وطليحة بْن خويلد الأسدي، وقيس بْن مكشوح المرادي فلما انتهى النعمان بْن مقرن في جنده إلى نهاوند، طرحوا له حسك الحديد، فبعث عيونا، فساروا لا يعلمون بالحسك، فزجر بعضهم فرسه، وقد دخلت في يده حسكة، فلم يبرح، فنزل، فنظر في يده فإذا في حافره حسكة، فأقبل بها، وأخبر النعمان الخبر، فقال النعمان للناس: ما ترون؟ فقالوا: انتقل من منزلك هذا حتى يروا أنك هارب منهم، فيخرجوا في طلبك، فانتقل النعمان من منزله ذلك، وكنست الأعاجم الحسك، ثم خرجوا في طلبه، وعطف عليهم النعمان، فضرب عسكره، ثم عبى كتائبه، وخطب الناس فقال: إن أصبت فعليكم حذيفة بْن اليمان، وإن أصيب فعليكم جرير بْن عبد اللَّه، وإن أصيب جرير بْن عبد اللَّه فعليكم قيس بْن مكشوح، فوجد المغيرة بْن شعبة في نفسه إذ لم يستخلفه، فأتاه، فقال له: ما تريد أن تصنع؟ فقال: إذا أظهرت قاتلتهم، لانى رايت رسول الله ص يستحب ذلك، فقال المغيرة: لو كنت بمنزلتك باكرتهم القتال، قال له النعمان: ربما باكرت القتال، ثم لم يسود اللَّه وجهك وذلك يوم الجمعة فقال النعمان: نصلي إن شاء اللَّه، ثم نلقى عدونا دبر الصلاة، فلما تصافوا قال النعمان للناس: إني مكبر ثلاثا، فإذا كبرت الأولى فشد رجل شسعه، وأصلح

من شأنه، فإذا كبرت الثانية، فشد رجل إزاره، وتهيأ لوجه حملته، فإذا كبرت الثالثة فاحملوا عليهم، فإني حامل وخرجت الأعاجم قد شدوا أنفسهم بالسلاسل لئلا يفروا، وحمل عليهم المسلمون فقاتلوهم، فرمي النعمان بنشابة فقتل رحمه اللَّه، فلفه أخوه سويد بْن مقرن في ثوبه، وكتم قتله حتى فتح اللَّه عليهم، ثم دفع الراية إلى حذيفة بْن اليمان، وقتل اللَّه ذا الحاجب، وافتتحت نهاوند، فلم يكن للأعاجم بعد ذلك جماعة. قال أبو جعفر: وقد كان- فيما ذكر لي- بعث عمر بْن الخطاب رضي اللَّه عنه السائب بْن الأقرع، مولى ثقيف- وكان رجلا كاتبا حاسبا- فقال: الحق بهذا الجيش فكن فيهم، فإن فتح اللَّه عليهم فاقسم على المسلمين فيئهم، وخذ خمس اللَّه وخمس رسوله، وإن هذا الجيش أصيب، فاذهب في سواد الأرض، فبطن الأرض خير من ظهرها. قال السائب: فلما فتح اللَّه على المسلمين نهاوند، أصابوا غنائم عظاما، فو الله إني لأقسم بين الناس، إذ جاءني علج من أهلها فقال: أتؤمنني على نفسي وأهلي وأهل بيتي، على أن أدلك على كنوز النخيرجان- وهي كنوز آل كسرى- تكون لك ولصاحبك، لا يشركك فيها أحد؟ قال: قلت: نعم، قال: فابعث معي من أدله عليها، فبعثت معه، فأتى بسفطين عظيمين ليس فيهما إلا اللؤلؤ والزبرجد والياقوت، فلما فرغت من قسمي بين الناس احتملتهما معي، ثم قدمت على عمر بْن الخطاب، فقال: ما وراءك يا سائب؟ فقلت: خير يا أمير المؤمنين، فتح اللَّه عليك بأعظم الفتح، واستشهد النعمان ابن مقرن رحمه اللَّه فقال عمر: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! قال: ثم بكى فنشج، حتى إني لأنظر إلى فروع منكبيه من فوق كتده قال: فلما رأيت ما لقي قلت: والله يا أمير المؤمنين ما أصيب بعده من رجل يعرف وجهه فقال المستضعفون من المسلمين: لكن الذي أكرمهم بالشهادة يعرف وجوههم وانسابهم، وما يصنعون بمعرفة عمر بن أم عمر! ثم قام ليدخل، فقلت: إن

معي مالا عظيما قد جئت به، ثم أخبرته خبر السفطين، قال: أدخلهما بيت المال حتى ننظر في شأنهما، والحق بجندك قال: فأدخلتهما بيت المال، وخرجت سريعا إلى الكوفة قال: وبات تلك الليلة التي خرجت فيها، فلما اصبح بعث في اثرى رسولا، فو الله ما أدركني حتى دخلت الكوفة، فأنخت بعيري، وأناخ بعيره على عرقوبي بعيري، فقال: الحق بأمير المؤمنين، فقد بعثني في طلبك، فلم أقدر عليك إلا الآن قال: قلت: ويلك! ماذا ولماذا؟ قال: لا أدري والله، قال: فركبت معه حتى قدمت عليه، فلما رآني قال: ما لي ولابن أم السائب! بل ما لابن أم السائب وما لي! قَالَ: قلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: ويحك! والله ما هو إلا أن نمت في الليلة التي خرجت فيها، فباتت ملائكة ربي تسحبني إلى ذينك السفطين يشتعلان نارا، يقولون: لنكوينك بهما، فأقول: إني سأقسمهما بين المسلمين، فخذهما عنى لا ابالك والحق بهما، فبعهما في أعطية المسلمين وأرزاقهم. قال: فخرجت بهما حتى وضعتهما في مسجد الكوفة، وغشيني التجار، فابتاعهما مني عمرو بْن حريث المخزومي بألفي ألف، ثم خرج بهما إلى أرض الأعاجم، فباعهما بأربعة آلاف ألف، فما زال أكثر أهل الكوفة مالا بعد حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عن زياد بن حدير، قال: حدثنى ابى، ان عمر ابن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ لِلْهُرْمُزَانِ حِينَ أمَّنَهُ: لا بَأْسَ، انْصَحْ لِي، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إِنَّ فَارِسَ الْيَوْمَ رَأْسٌ وَجَنَاحَانِ، قَالَ: وَأَيْن الرَّأْسُ؟ قَالَ: بِنَهَاوَنْدَ مَعَ بُنْدَارٍ، فَإِنَّ مَعَهُ أَسَاوِرَةَ كِسْرَى وَأَهْلَ إِصْبَهَانَ، قَالَ: وَأَيْنَ الْجَنَاحَانِ؟ فَذَكَرَ مَكَانًا نَسِيتُهُ، قَالَ: فَاقْطَعِ الْجَنَاحَيْنِ يَهِنَّ الرَّأْسُ. فَقَالُ عُمَرُ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ! بَلْ أَعْمَدُ إِلَى الرَّأْسِ فَأَقْطَعُهُ، فَإِذَا قَطَعَهُ اللَّهُ لَمْ يَعْصِ عَلَيْهِ الْجَنَاحَانِ قَالَ: فَأَرَادَ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، فَقَالُوا: نُذَكِّرُكَ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَسِيرَ بِنَفْسِكَ إِلَى حَلَبَةِ الْعُجْمِ، فَإِنْ أُصِبْتَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ نِظَامٌ، وَلَكِنِ ابْعَثِ الْجُنُودَ، فَبَعَثَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ

عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَفِيهِمُ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارِ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أَنْ سِرْ بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَكَتَبَ إِلَى حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَنْ سِرْ بِأَهْلِ الْكُوفَةِ حَتَّى تَجْتَمِعُوا جَمِيعًا بِنَهَاوَنْدَ، وَكَتَبَ: إِذَا الْتَقَيْتُمْ فَأَمِيرُكْمُ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ الْمُزَنِيُّ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا بِنَهَاوَنْدَ، أَرْسَلَ بُنْدَارٌ الْعلجَ إِلَيْهِمْ: أَنِ أَرْسِلُوا إِلَيْنَا رَجُلا نُكَلِّمَهُ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ قَالَ أَبِي: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، رَجُلا طَوِيلَ الشَّعْرِ أَعْوَرَ، فَأَرْسَلُوهُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا جَاءَ سَأَلْنَاهُ، فَقَالَ: وَجَدْتُهُ قَدِ اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ: بِأَيِّ شَيْءٍ نَأْذَنُ لِهَذَا الْعَرَبِيِّ؟ بِشَارَتِنَا وَبَهْجَتِنَا وَمُلْكِنَا، أَوْ نَتَقَشَّفُ لَهُ فِيمَا قَبِلْنَا حَتَّى يَزْهَدَ؟ فَقَالُوا: لا، بَلْ بِأَفْضَلِ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّارَةِ وَالْعُدَّةِ، فَتَهَيَّئُوا بِهَا، فَلَمَّا أَتَيْنَاهُمْ كَادَتِ الْحِرَابُ وَالنَّيَازِكُ يَلْتَمِعُ مِنْهَا الْبَصَرُ، فَإِذَا هُمْ عَلَى رَأْسِهِ مِثْلُ الشَّيَاطِينِ، وَإِذَا هُوَ عَلَى سَرِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ عَلَى رَأْسِهِ التَّاجُ قَالَ: فَمَضَيْتُ كَمَا أَنَا وَنَكَسْتُ، قَالَ: فَدَفَعْتُ وَنَهْنَهْتُ، فَقُلْتُ: الرُّسُلُ لا يُفْعَلُ بِهِمْ هَذَا، فَقَالُوا: إِنَّمَا أَنْتَ كَلْبٌ، فَقُلْتُ: مَعَاذَ اللَّهِ! لأَنَا أَشْرَفُ فِي قَوْمِي من هذا في قومه، فانتهرونى، وقالوا: اجْلِسْ، فَأَجْلَسُونِي قَالَ- وَتُرْجِمَ لَهُ قَوْلُهُ: إِنَّكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ أَبْعَدُ النَّاسِ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَأَطْوَلُ النَّاسِ جُوعًا، وَأَشْقَى النَّاسِ شَقَاءً، وَأَقْذَرُ النَّاسِ قَذَرًا، وَأَبْعَدُهُ دَارًا، وَمَا مَنَعَنِي أَنْ آمُرَ هَؤُلاءِ الأَسَاوِرَةَ حَوْلِي أَنْ يَنْتَظِمُوكُمْ بِالنُّشَّابِ إِلا تَنَجُّسًا لِجيفِكُمْ، فَإِنَّكُمْ أَرْجَاسٌ، فَإِنْ تَذْهَبُوا نخل عنكم، وان تأتوا نُرِكُمْ مَصَارِعَكُمْ، قَالَ: فَحَمَدْتُ اللَّهَ، وَأَثْنَيْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ مَا أَخْطَأْتَ مِنْ صِفَتِنَا شَيْئًا، وَلا مِنْ نَعْتِنَا، إِنْ كُنَّا لأَبْعَدَ النَّاسِ دَارًا، وَأَشَدَّ النَّاسِ جُوعًا، وَأَشْقَى النَّاسِ شَقَاءً، وَأَبْعَدَ النَّاسِ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، حَتَّى بَعَثَ الله عز وجل إلينا رسوله ص، فَوَعَدَنَا النَّصْرَ فِي الدُّنْيَا، وَالْجَنَّةَ فِي الآخِرَةِ، فو الله مَا زِلْنَا نَتَعَرَّفُ مِنْ رَبِّنَا مُنْذُ جَاءَنَا رَسُولُهُ الْفَتْحَ وَالنَّصْرَ، حَتَّى أَتَيْنَاكُمْ، وَإِنَّا وَاللَّهِ لا نَرْجِعُ إِلَى ذَلِكَ الشَّقَاءِ أَبَدًا حَتَّى نَغْلِبَكُمْ عَلَى مَا فِي أَيْدِيكُمْ، أَوْ نُقْتَلَ بِأَرْضِكُمْ فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنَّ الأَعْوَرَ قَدْ صَدَقَكُمُ الَّذِي فِي نَفْسِهِ قَالَ: فَقُمْتُ وَقَدْ وَاللَّهِ أَرْعَبْتُ الْعلجَ جَهْدِي قَالَ: فَأَرْسَلَ

إِلَيْنَا الْعلجُ: إِمَّا أَنْ تَعْبُرُوا إِلَيْنَا بِنَهَاوَنْدَ، وَإِمَّا أَنْ نَعْبُرَ إِلَيْكُمْ فَقَالَ النُّعْمَانُ: اعْبُرُوا، قَالَ أَبِي: فَلَمْ أَرَ وَاللَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، إِنَّهُمْ يَجِيئُونَ كَأَنَّهُمْ جِبَالُ حَدِيدٍ، قَدْ تَوَاثَقُوا أَلا يَفِرُّوا مِنَ الْعَرَبِ، وَقَدْ قَرَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، سَبْعَةً فِي قِرَانٍ، وَأَلْقَوْا حَسَكَ الْحَدِيدِ خَلْفَهُمْ، وَقَالُوا: مَنْ فَرَّ مِنَّا عَقَرَهُ حَسَكُ الْحَدِيدِ. فَقَالَ الْمُغِيرَةُ حِينَ رَأَى كَثْرَتَهُمْ: لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فَشَلا، إِنَّ عَدُوَّنَا يُتْرَكُونَ يَتَأَهَّبُونَ لا يَعْجَلُونَ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ الأَمْرَ لِي لَقَدْ أَعْجَلْتُهُمْ- وَكَانَ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ رَجُلا لَيِّنًا- فَقَالَ لَهُ: فَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يُشْهِدُكَ أَمْثَالَهَا فَلا يَحْزُنُكَ وَلا يَعِيبُكَ مَوْقِفُكَ، إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا مَنَعَنِي مِنْ أَنْ أُنَاجِزَهُمْ إِلا شَيْءٌ شَهِدْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ إِذَا غَزَا فَلَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ لَمْ يَعْجَلْ حَتَّى تَحْضُرَ الصَّلاةُ، وَتَهُبَّ الأَرْوَاحُ، وَيَطِيبَ الْقِتَالُ، فَمَا مَنَعَنِي إِلا ذَلِكَ. اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تَقَرَّ عَيْنِي الْيَوْمَ بِفَتْحٍ يَكُونُ فِيهِ عِزُّ الإِسْلامِ، وَذُلٌّ يُذَلُّ بِهِ الْكُفَّارُ، ثُمَّ اقْبِضْنِي إِلَيْكَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الشِّهَادَةِ، أَمِّنُوا يَرْحَمْكُمُ اللَّهُ!. فَأَمَّنَّا وَبَكَيْنَا ثُمَّ قَالَ: إِنِّي هَازٌّ لِوَائِي فَتَيَسَّرُوا لِلسِّلاحِ، ثُمَّ هَازٌّ الثَّانِيَةَ، فَكُونُوا مُتَأَهْبِينَ لِقِتَالِ عَدُوِّكُمْ، فَإِذَا هَزَزْتُ الثَّالِثَةَ فَلْيَحْمِلْ كُلُّ قَوْمٍ عَلَى مَنْ يَلِيهِمْ مَنْ عَدُوِّهِمْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ. قَالَ: وَجَاءُوا بِحَسَكِ الْحَدِيدِ قَالَ: فَجَعَلَ يُلْبِثُ حَتَّى إِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ وَهَبَّتِ الأَرْوَاحُ كَبَّرَ وَكَبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ: أَرْجُو أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لِي، وَيَفْتَحَ عَلَيَّ، ثُمَّ هَزَّ اللِّوَاءَ فَتَيَسَّرْنَا لِلْقِتَالِ، ثُمَّ هَزَّهُ الثَّانِيَةَ فَكُنَّا بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ هَزَّهُ الثَّالِثَةَ. قَالَ: فَكَبَّرَ وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ، وَقَالُوا: فَتْحًا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلامَ وَأَهْلَهُ، ثُمَّ قَالَ النُّعْمَانُ: إِنْ أُصِبْتُ فَعَلَى النَّاسِ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَإِنْ أُصِيبَ حُذَيْفَةُ فَفُلانٌ، وَإِنْ أُصِيبَ فُلانٌ فَفُلانٌ، حَتَّى عَدَّ سَبْعَةً آخِرُهُمُ الْمُغِيرَةُ، ثُمَّ هَزَّ اللِّوَاءَ الثَّالِثَةَ، فَحَمَلَ كُلُّ إِنْسَانٌ عَلَى مَنْ يَلِيهِ من العدو قال: فو الله مَا عَلِمْتُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدًا يَوْمَئِذٍ يُرِيدُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ، حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يَظْفُرَ، فَحَمَلْنَا حَمْلَةً وَاحِدَةً، وَثَبَتُوا لَنَا، فَما كُنَّا نَسْمَعُ إِلا وَقْعَ الْحَدِيدِ عَلَى الْحَدِيدِ، حَتَّى أُصِيبَ الْمُسْلِمُونَ بِمَصَائِبَ عَظِيمَةٍ، فَلَمَّا رَأَوْا صَبْرَنَا وَأَنَّا لا نَبْرَحُ

الْعرصةَ انْهَزَمُوا، فَجَعَلَ يَقَعُ الْوَاحِدُ فَيَقَعُ عَلَيْهِ سَبْعَةٌ، بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي قِيَادٍ، فَيُقْتَلُونَ جَمِيعًا، وَجَعَلَ يَعْقِرُهُمْ حَسَكُ الْحَدِيدِ الَّذِي وَضَعُوا خَلْفَهُمْ. فَقَالَ النُّعْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدِّمُوا اللِّوَاءَ، فَجَعَلْنَا نُقَدِّمُ اللِّوَاءَ، وَنَقْتُلُهُمْ وَنَهْزِمُهُمْ فَلَمَّا رَأَى أَنَّ اللَّهَ قَدِ اسْتَجَابَ لَهُ وَرَأَى الْفَتْحَ، جَاءَتْهُ نُشَّابَةٌ فَأَصَابَتْ خَاصِرَتَهُ، فَقَتَلَتْهُ قَالَ: فَجَاءَ أَخُوهُ مَعْقِلُ فَسَجَى عَلَيْهِ ثَوْبًا، وَأَخَذَ اللِّوَاءَ فَقَاتَلَ، ثُمَّ قَالَ: تَقَدَّمُوا نَقْتُلْهُمْ وَنَهْزِمَهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ قَالُوا: أَيْنَ أَمِيرُنَا؟ قَالَ مَعْقِلٌ: هَذَا أَمِيرُكُمْ، قَدْ أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ بِالْفَتْحِ، وَخَتَمَ لَهُ بِالشِّهَادَةِ قَالَ: فَبَايَعَ النَّاسُ حُذَيْفَةَ وَعُمَرُ بِالْمَدِينَةِ يَسْتَنْصِرُ لَهُ، وَيَدْعُو لَهُ مِثْلُ الْحُبْلَى. قَالَ: وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بِالْفَتْحِ مَعَ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ لَهُ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِفَتْحٍ أَعَزَّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلامَ وَأَهْلَهُ، وَأَذَلَّ بِهِ الْكُفْرَ وَأَهْلَهُ قَالَ: فَحَمَدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ قَالَ: النُّعْمَانُ بَعَثَكَ؟ قَالَ: احْتَسَبِ النُّعْمَانَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: فَبَكَى عُمَرُ وَاسْتَرْجَعَ قَالَ: وَمَنْ وَيْحَكَ! قَالَ: فُلانٌ وَفُلانٌ، حَتَّى عَدَّ لَهُ نَاسًا كَثِيرًا، ثُمَّ قَالَ: وَآخَرِينَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لا تَعْرِفُهُمْ، فَقَالَ عُمَرُ وَهُوَ يَبْكِي: لا يَضُرُّهُمْ أَلا يَعْرِفَهُمْ عُمَرُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَعْرِفُهُمْ. وأما سيف، فإنه قال- فيما كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ يذكر أن شعيبا حدثه عنه، وعن مُحَمَّد والمهلب وطلحة وعمر وسعيد- إن الذي هاج أمر نهاوند أن أهل البصرة لما أشجوا الهرمزان، وأعجلوا أهل فارس عن مصاب جند العلاء، ووطئوا أهل فارس، كاتبوا ملكهم، وهو يومئذ بمرو، فحركوه، فكاتب الملك أهل الجبال من بين الباب والسند وخراسان وحلوان، فتحركوا وتكاتبوا، وركب بعضهم إلى بعض، فأجمعوا أن يوافوا نهاوند، ويبرموا فيها أمورهم، فتوافى إلى نهاوند اوائلهم. وبلغ سعد الخبر عن قباذ صاحب حلوان، فكتب إلى عمر بذلك، فنزا بسعد أقوام، وألبوا عليه فيما بين تراسل القوم واجتماعهم إلى نهاوند، ولم يشغلهم

ما دهم المسلمين من ذلك، وكان ممن نهض الجراح بْن سنان الأسدي في نفر، فقال عمر: إن الدليل على ما عندكم من الشر نهوضكم في هذا الأمر، وقد استعد لكم من استعدوا، وايم اللَّه لا يمنعني ذلك من النظر فيما لديكم وإن نزلوا بكم فبعث عمر مُحَمَّد بْن مسلمة، والناس في الاستعداد للأعاجم، والأعاجم في الاجتماع- وكان مُحَمَّد بْن مسلمة هو صاحب العمال الذي يقتص آثار من شكى زمان عمر- فقدم مُحَمَّد على سعد ليطوف به في أهل الكوفة، والبعوث تضرب على أهل الأمصار إلى نهاوند، فطوف به على مساجد أهل الكوفة، لا يتعرض للمسألة عنه في السر، وليست المسألة في السر من شأنهم إذ ذاك، وكان لا يقف على مسجد فيسألهم عن سعد إلا قالوا: لا نعلم إلا خيرا، ولا نشتهي به بدلا، ولا نقول فيه، ولا نعين عليه، إلا من مالأ الجراح بْن سنان وأصحابه، فإنهم كانوا يسكتون لا يقولون سوءا، ولا يسوغ لهم، ويتعمدون ترك الثناء، حتى انتهوا إلى بني عبس، فقال مُحَمَّد: أنشد بالله رجلا يعلم حقا إلا قال! قال أسامة بْن قتادة: اللهم إن نشدتنا فإنه لا يقسم بالسويه، وو لا يعدل في الرعية، ولا يغزو في السرية فقال سعد: اللهم إن كان قالها كاذبا ورئاء وسمعة فأعم بصره، وأكثر عياله، وعرضه لمضلات الفتن فعمي، واجتمع عنده عشر بنات، وكان يسمع بخبر المرأة فيأتيها حتى يجسها، فإذا عثر عليه قال: دعوة سعد الرجل المبارك ثم أقبل على الدعاء على النفر، فقال: اللهم إن كانوا خرجوا أشرا وبطرا وكذبا فاجهد بلاءهم، فجهد بلاؤهم، فقطع الجراح بالسيوف يوم ثاور الحسن بْن علي ليغتاله بساباط، وشدخ قبيصة بالحجارة، وقتل أربد بالوجء وبنعال السيوف وقال سعد: إني لأول رجل أهرق دما من المشركين، ولقد جمع لي رسول الله ص أبويه، وما جمعهما لأحد قبلي، ولقد رأيتني خمس الإسلام، وبنو أسد تزعم أني لا احسن

ان أصلي، وأن الصيد يلهيني وخرج مُحَمَّد به وبهم إلى عمر حتى قدموا عليه، فأخبره الخبر، فقال: يا سعد، ويحك، كيف تصلي! فقال: أطيل الأوليين، وأحذف الأخريين، فقال: هكذا الظن بك! ثم قال: لولا الاحتياط لكان سبيلهم بينا ثم قال: من خليفتك يا سعد على الكوفه؟ قال: عبد الله ابن عبد اللَّه بن عتبان، فأقره واستعمله، فكان سبب نهاوند وبدء مشورتها وبعوثها في زمان سعد، وأما الوقعة ففي زمان عبد اللَّه. قالوا: وكان من حديثهم أنهم نفروا لكتاب يزدجرد الملك، فتوافوا إلى نهاوند، فتوافى إليها من بين خراسان إلى حلوان، ومن بين الباب إلى حلوان، ومن بين سجستان إلى حلوان، فاجتمعت حلبة فارس والفهلوج أهل الجبال من بين الباب إلى حلوان ثلاثون ألف مقاتل، ومن بين خراسان إلى حلوان ستون ألف مقاتل، ومن بين سجستان إلى فارس وحلوان ستون ألف مقاتل، واجتمعوا على الفيرزان، وإليه كانوا توافوا وشاركهم موسى عن حمزة بْن المغيرة بْن شعبة، عن أبي طعمة الثقفي- وكان قد أدرك ذلك- قال: ثم إنهم قالوا: إن محمدا الذي جاء العرب بالدين لم يغرض غرضنا، ثم ملكهم أبو بكر من بعده فلم يغرض غرض فارس، إلا في غارة تعرض لهم فيها، وإلا فيما يلي بلادهم من السواد ثم ملك عمر من بعده، فطال ملكه وعرض، حتى تناولكم وانتقصكم السواد والأهواز، وأوطأها، ثم لم يرض حتى أتى أهل فارس والمملكة في عقر دارهم، وهو آتيكم إن لم تأتوه، فقد اخرب بيت مملكتكم، واقتحم بلاد ملككم، وليس بمنته حتى تخرجوا من في بلادكم من جنوده، وتقلعوا هذين المصرين، ثم تشغلوه في بلاده وقراره وتعاهدوا وتعاقدوا، وكتبوا بينهم على ذلك كتابا، وتمالئوا عليه. وبلغ الخبر سعدا، وقد استخلف عبد اللَّه بْن عبد اللَّه بْن عتبان. ولما شخص لقي عمر بالخبر مشافهة، وقد كان كتب إلى عمر بذلك، وقال: إن أهل الكوفه يستأذنوك في الانسياح قبل أن يبادروهم الشدة- وقد كان عمر منعهم من الانسياح في الجبل

وكتب إليه أيضا عبد اللَّه وغيره بأنه قد تجمع منهم خمسون ومائة ألف مقاتل، فإن جاءونا قبل أن نبادرهم الشدة ازدادوا جرأة وقوة، وإن نحن عاجلناهم كان لنا ذلكم، وكان الرسول بذلك قريب بْن ظفر العبدي. ثم خرج سعد بعده فوافى مشورة عمر، فلما قدم الرسول بالكتاب إلى عمر بالخبر فرآه قال: ما اسمك؟ قال: قريب، قال: ابن من؟ قال: ابن ظفر، فتفاءل إلى ذلك، وقال: ظفر قريب إن شاء اللَّه، ولا قوة إلا بالله! ونودي في الناس: الصلاة جامعة! فاجتمع الناس، ووافاه سعد، فتفاءل إلى سعد بْن مالك، وقام على المنبر خطيبا، فأخبر الناس الخبر، واستشارهم، وقال: هذا يوم له ما بعده من الأيام، ألا وإني قد هممت بأمر وإني عارضه عليكم فاسمعوه، ثم أخبروني وأوجزوا، وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ، ولا تكثروا ولا تطيلوا، فتفشغ بكم الأمور، ويلتوي عليكم الرأي، أفمن الرأي أن أسير فيمن قبلي ومن قدرت عليه، حتى أنزل منزلا واسطا بين هذين المصرين، فأستنفرهم ثم أكون لهم ردءا حتى يفتح اللَّه عليهم، ويقضي ما أحب، فإن فتح الله عليهم ان اضربهم عليهم في بلادهم، وليتنازعوا ملكهم فقام عثمان بْن عفان، وطلحة بْن عبيد اللَّه، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، في رجال من أهل الرأي من أصحاب رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتكلموا كلاما، فقالوا: لا نرى ذلك، ولكن لا يغيبن عنهم رأيك وأثرك، وقالوا: بإزائهم وجوه العرب وفرسانهم وأعلامهم، ومن قد فض جموعهم، وقتل ملوكهم، وباشر من حروبهم ما هو أعظم من هذه، وإنما استأذنوك ولم يستصرخوك، فأذن لهم، واندب إليهم، وادع لهم وكان الذي ينتقد له الرأي إذا عرض عليه العباس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن حمزة، عن أبي طعمة، [قال: فقام علي بْن أبي طالب ع فقال: أصاب القوم يا أمير المؤمنين الرأي، وفهموا ما كتب به إليك، وإن هذا

الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه لكثرة ولا قلة، هو دينه الذي أظهر، وجنده الذي أعز، وأيده بالملائكة، حتى بلغ ما بلغ، فنحن على موعود من اللَّه، والله منجز وعده، وناصر جنده، ومكانك منهم مكان النظام من الخرز، يجمعه ويمسكه، فإن انحل تفرق ما فيه وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فهي كثير عزيز بالإسلام، فأقم واكتب إلى أهل الكوفة فهم أعلام العرب ورؤساؤهم، ومن لم يحفل بمن هو أجمع وأحد وأجد من هؤلاء فليأتهم الثلثان وليقم الثلث، واكتب إلى أهل البصرة أن يمدوهم ببعض من عندهم] . فسر عمر بحسن رأيهم، وأعجبه ذلك منهم وقام سعد فقال: يا أمير المؤمنين، خفض عليك، فإنهم إنما جمعوا لنقمة. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي بكر الهذلي قال: لما أخبرهم عمر الخبر واستشارهم، وقال: أوجزوا في القول، ولا تطيلوا فتفشغ بكم الأمور، واعلموا أن هذا يوم له ما بعده من الأيام، تكلموا، فقام طلحة بْن عبيد اللَّه- وكان من خطباء أصحاب رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فتشهد، ثم قال: أما بعد يا أمير المؤمنين، فقد أحكمتك الأمور، وعجمتك البلايا، واحتنكتك التجارب، وأنت وشأنك، وأنت ورأيك، لا ننبو في يديك، ولا نكل عليك، إليك هذا الأمر، فمرنا نطع، وادعنا نجب، واحملنا نركب، ووفدنا نفد، وقدنا ننقد، فإنك ولي هذا الأمر، وقد بلوت وجربت واختبرت، فلم ينكشف شيء من عواقب قضاء اللَّه لك إلا عن خيار ثم جلس فعاد عمر فقال: إن هذا يوم له ما بعده من الأيام، فتكلموا فقام عثمان بْن عفان، فتشهد، وقال: أرى يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل الشام فيسيروا من شأمهم، وتكتب إلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم،

ثم تسير أنت بأهل هذين الحرمين إلى المصرين: الكوفة والبصرة، فتلقى جمع المشركين بجمع المسلمين، فإنك إذا سرت بمن معك وعندك قل في نفسك ما قد تكاثر من عدد القوم، وكنت أعز عزا وأكثر، يا أمير المؤمنين إنك لا تستبقي من نفسك بعد العرب باقيه، ولا تمتع من الدنيا بعزيز، ولا تلوذ منها بحريز، إن هذا اليوم له ما بعده من الأيام، فاشهده برأيك وأعوانك ولا تغب عنه ثم جلس. فعاد عمر، فقال: إن هذا يوم له ما بعده من الأيام، فتكلموا، [فقام علي بْن أبي طالب فقال: أما بعد يا أمير المؤمنين، فإنك إن أشخصت أهل الشام من شأمهم سارت الروم إلى ذراريهم، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم، وإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك الأرض من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك مما بين يديك من العورات والعيالات، أقرر هؤلاء في أمصارهم، واكتب إلى أهل البصرة فليتفرقوا فيها ثلاث فرق، فلتقم فرقة لهم في حرمهم وذراريهم، ولتقم فرقة في أهل عهدهم، لئلا ينتقضوا عليهم، ولتسر فرقة إلى إخوانهم بالكوفة مددا لهم، إن الأعاجم إن ينظروا إليك غدا قالوا: هذا أمير العرب، وأصل العرب، فكان ذلك أشد لكلبهم، وألبتهم على نفسك وأما ما ذكرت من مسير القوم فإن اللَّه هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره، وأما ما ذكرت من عددهم، فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، ولكنا كنا نقاتل بالنصر] . فقال عمر: أجل والله، لئن شخصت من البلدة لتنتقضن علي الأرض من أطرافها وأكنافها، ولئن نظرت إلي الأعاجم لا يفارقن العرصة، وليمدنهم من لم يمدهم، وليقولن: هذا أصل العرب، فإذا

اقتطعتموه اقتطعتم أصل العرب، فأشيروا علي برجل أوله ذلك الثغر غدا. قالوا: أنت أفضل رأيا، وأحسن مقدرة، قال: أشيروا علي به، واجعلوه عراقيا قالوا: يا أمير المؤمنين، أنت أعلم بأهل العراق وجندك قد وفدوا عليك ورأيتهم وكلمتهم، فقال: أما والله لأولين أمرهم رجلا ليكونن لأول الأسنة إذا لقيها غدا، فقيل: من يا أمير المؤمنين؟ فقال: النعمان بن مقرن المزنى فقالوا: هولها- والنعمان يومئذ بالبصرة معه قواد من قواد أهل الكوفة أمدهم بهم عمر عند انتقاض الهرمزان، فافتتحوا رامهرمز وإيذج، وأعانوهم على تستر وجندى سابور والسوس فكتب إليه عمر مع زر بْن كليب والمقترب الأسود بْن ربيعة بالخبر، وإني قد وليتك حربهم، فسر من وجهك ذلك حتى تأتي ماه، فإني قد كتبت إلى أهل الكوفة أن يوافوك بها، فإذا اجتمع لك جنودك فسر إلى الفيرزان ومن تجمع إليه من الأعاجم من أهل فارس وغيرهم، واستنصروا اللَّه، وأكثروا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله. وروي عن أبي وائل في سبب توجيه عمر النعمان بْن مقرن إلى نهاوند، ما حَدَّثَنِي به مُحَمَّد بن عبد الله بن صفوان الثقفي، قال: حدثنا أمية بن خالد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عبد الرحمن، قال: قال أبو وائل: كان النعمان بْن مقرن على كسكر، فكتب إلى عمر: مثلي ومثل كسكر كمثل رجل شاب والى جنبه مومسة تلون له وتعطر، فأنشدك اللَّه لما عزلتني عن كسكر، وبعثتني إلى جيش من جيوش المسلمين! قال: فكتب إليه عمر: أن ائت الناس بنهاوند، فأنت عليهم قال: فالتقوا، فكان أول قتيل، وأخذ الراية أخوه سويد بْن مقرن، ففتح اللَّه على المسلمين، ولم يكن لهم- يعني للفرس- جماعة بعد يومئذ، فكان أهل كل مصر يغزون عدوهم في بلادهم

رجع الحديث إلى حديث سيف وكتب- يعني عُمَرُ- إِلَى عَبْدِ اللَّه بْن عَبْدِ اللَّه مع ربعي بْن عامر، أن استنفر من أهل الكوفة مع النعمان كذا وكذا، فإني قد كتبت إليه بالتوجه من الأهواز إلى ماه، فليوافوه بها، وليسر بهم إلى نهاوند، وقد أمرت عليهم حذيفة بْن اليمان، حتى ينتهي إلى النعمان بْن مقرن، وقد كتبت إلى النعمان: إن حدث بك حدث فعلى الناس حذيفة بْن اليمان، فإن حدث بحذيفة حدث فعلى الناس نعيم بْن مقرن، ورد قريب ابن ظفر ورد معه السائب بْن الأقرع أمينا وقال: إن فتح اللَّه عليكم فاقسم ما أفاء اللَّه عليهم بينهم، ولا تخدعني ولا ترفع إلي باطلا، وإن نكب القوم فلا تراني ولا أراك فقدما إلى الكوفة بكتاب عمر بالاستحثاث، وكان أسرع أهل الكوفة إلى ذلك الروادف، ليبلوا في الدين، وليدركوا حظا، وخرج حذيفة بْن اليمان بالناس ومعه نعيم حتى قدموا على النعمان بالطزر، وجعلوا بمرج القلعة خيلا عليها النسير وقد كتب عمر إلى سلمى بْن القين وحرملة بْن مريطة وزر بْن كليب والمقترب الأسود بْن ربيعة، وقواد فارس الذين كانوا بين فارس والأهواز، أن اشغلوا فارس عن إخوانكم، وحوطوا بذلك أمتكم وأرضكم، وأقيموا على حدود ما بين فارس والأهواز حتى يأتيكم أمري وبعث مجاشع بْن مسعود السلمي إلى الأهواز، وقال له: انصل منها على ماه، فخرج حتى إذا كان بغضي شجر، أمره النعمان أن يقيم مكانه، فأقام بين غضي شجر ومرج القلعة، ونصل سلمى وحرملة وزر والمقترب، فكانوا في تخوم إصبهان وفارس، فقطعوا بذلك عن أهل نهاوند أمداد فارس ولما قدم أهل الكوفة على النعمان بالطزر جاءه كتاب عمر مع قريب: إن معك حد العرب ورجالهم في الجاهلية، فأدخلهم دون من هو دونهم في العلم بالحرب، واستعن بهم، واشرب برأيهم، وسل طليحة وعمرا وعمرا ولا تولهم شيئا فبعث من الطزر طليحة وعمرا وعمرا طليعة ليأتوه بالخبر، وتقدم

إليهم ألا يغلوا فخرج طليحة بْن خويلد وعمرو بْن أبي سلمى العنزي، وعمرو بْن معد يكرب الزبيدي، فلما ساروا يوما إلى الليل رجع عمرو بْن أبي سلمى، فقالوا: ما رجعك؟ قال: كنت في أرض العجم، وقتلت أرض جاهلها، وقتل أرضا عالمها ومضى طليحة وعمرو حتى إذا كان من آخر الليل رجع عمرو، فقالوا: ما رجعك؟ قال: سرنا يوما وليلة، ولم نر شيئا، وخفت أن يؤخذ علينا الطريق ونفذ طليحة ولم يحفل بهما فقال الناس: ارتد الثانية، ومضى طليحة حتى انتهى إلى نهاوند، وبين الطزر ونهاوند بضعة وعشرون فرسخا فعلم علم القوم، واطلع على الأخبار، ثم رجع حتى إذا انتهى إلى الجمهور كبر الناس، فقال: ما شأن الناس؟ فأخبروه بالذي خافوا عليه، فقال: والله لو لم يكن دين إلا العربية ما كنت لأجزر العجم الطماطم هذه العرب العاربة فأتى النعمان فدخل عليه، فأخبروه الخبر، وأعلمه أنه ليس بينه وبين نهاوند شيء يكرهه، ولا أحد. فنادى عند ذلك النعمان بالرحيل، فأمرهم بالتعبية وبعث إلى مجاشع بْن مسعود أن يسوق الناس، وسار النعمان على تعبيته، وعلى مقدمته نعيم بْن مقرن، وعلى مجنبتيه حذيفة بْن اليمان وسويد بْن مقرن، وعلى المجردة القعقاع ابن عمرو، وعلى الساقة مجاشع، وقد توافى إليه أمداد المدينة، فيهم المغيرة وعبد اللَّه، فانتهوا الى الاسبيذهان والقوم وقوف دون واى خرد على تعبيتهم وأميرهم الفيرزان، وعلى مجنبتيه الزردق وبهمن جاذويه الذي جعل مكان ذي الحاجب، وقد توافى إليهم بنهاوند كل من غاب عن القادسية والأيام من أهل الثغور وأمرائها وأعلام من أعلامهم ليسوا بدون من شهد الأيام والقوادس، وعلى خيولهم أنوشق فلما رآهم النعمان كبر وكبر الناس معه

فتزلزلت الأعاجم، فأمر النعمان وهو واقف بحط الأثقال، وبضرب الفسطاط، فضرب وهو واقف، فابتدره اشراف اهل الكوفه وأعيانهم، فسبق اليه يومئذ عده من اشراف اهل الكوفه تسابقوا فبنوا له فسطاطا سابقوا أكفاءهم فسبقوهم، وهم أربعة عشر، منهم حذيفة بْن اليمان، وعقبة بْن عمرو، والمغيرة بْن شعبة، وبشير بْن الخصاصية، وحنظلة الكاتب بْن الربيع، وابن الهوبر، وربعي بْن عامر، وعامر بْن مطر، وجرير بْن عبد اللَّه الحميري، والأقرع بْن عبد اللَّه الحميري وجرير بْن عبد اللَّه البجلي، والأشعث بْن قيس الكندي، وسعيد بْن قيس الهمداني، ووائل بْن حجر، فلم ير بناء فسطاط بالعراق كهؤلاء وانشب النعمان بعد ما حط الأثقال القتال، فاقتتلوا يوم الأربعاء ويوم الخميس، والحرب بينهم في ذاك سجال في سبع سنين من إمارة عمر، في سنة تسع عشرة، وإنهم انجحروا في خنادقهم يوم الجمعة، وحصرهم المسلمون، فأقاموا عليهم ما شاء اللَّه والأعاجم بالخيار، لا يخرجون إلا إذا أرادوا الخروج، فاشتد ذلك على المسلمين، وخافوا ان يطول امرهم وسرهم ان يناجزهم عدوهم، حتى إذا كان ذات يوم في جمعة من الجمع تجمع أهل الرأي من المسلمين، فتكلموا، وقالوا: نراهم علينا بالخيار وأتوا النعمان في ذلك فأخبروه، فوافقوه وهو يروي في الذي رووا فيه فقال: على رسلكم، لا تبرحوا! وبعث إلى من بقي من أهل النجدات والرأي في الحروب، فتوافوا إليه، فتكلم النعمان، فقال: قد ترون المشركين واعتصامهم بالحصون من الخنادق والمدائن، وأنهم لا يخرجون إلا إذا شاءوا، ولا يقدر المسلمون على إنغاضهم وانبعاثهم قبل مشيئتهم، وقد ترون الذي فيه المسلمون من التضايق بالذي هم فيه وعليه من الخيار عليهم في الخروج، فما الرأي الذي به نحمشهم ونستخرجهم إلى

المنابذة، وترك التطويل؟ فتكلم عمرو بْن ثبي- وكان أكبر الناس يومئذ سنا، وكانوا إنما يتكلمون على الأسنان- فقال: التحصن عليهم أشد من المطاولة عليكم، فدعهم ولا تحرجهم وطاولهم، وقاتل من أتاك منهم، فردوا عليه جميعا رأيه. وقالوا: إنا على يقين من إنجاز ربنا موعده لنا. وتكلم عمرو بن معديكرب، فقال: ناهدهم وكاثرهم ولا تخفهم. فردوا عليه جميعا رأيه، وقالوا: إنما تناطح بنا الجدران، والجدران لهم أعوان علينا. وتكلم طليحة فقال: قد قالا ولم يصيبا ما أرادا، وأما أنا فأرى أن تبعث خيلا مؤدية، فيحدقوا بهم، ثم يرموا لينشبوا القتال، ويحمشوهم، فإذا استحمشوا واختلطوا بهم وأرادوا الخروج أرزوا إلينا استطرادا، فإنا لم نستطرد لهم في طول ما قاتلناهم، وإنا إذا فعلنا ذلك ورأوا ذلك منا طمعوا في هزيمتنا ولم يشكوا فيها، فخرجوا فجادونا وجاددناهم، حتى يقضي اللَّه فيهم وفينا ما أحب. فأمر النعمان القعقاع بْن عمرو- وكان على المجردة- ففعل، وأنشب القتال بعد احتجاز من العجم، فأنغضهم فلما خرجوا نكص، ثم نكص، ثم نكص، واغتنمها الأعاجم، ففعلوا كما ظن طليحة وقالوا: هي هي، فخرجوا فلم يبق أحد إلا من يقوم لهم على الأبواب، وجعلوا يركبونهم حتى أرز القعقاع إلى الناس، وانقطع القوم عن حصنهم بعض الانقطاع، والنعمان ابن مقرن والمسلمون على تعبيتهم في يوم جمعة في صدر النهار، وقد عهد النعمان إلى الناس عهده، وأمرهم أن يلزموا الأرض ولا يقاتلوهم حتى يأذن لهم، ففعلوا واستتروا بالحجف من الرمي، وأقبل المشركون عليهم يرمونهم حتى أفشوا فيهم الجراحات، وشكا بعض الناس ذلك إلى بعض، ثم قالوا للنعمان: ألا ترى ما نحن فيه! ألا ترى إلى ما لقي الناس، فما تنتظر بهم!

ائذن للناس في قتالهم، فقال لهم النعمان: رويدا رويدا! قالوا له ذلك مرارا، فأجابهم بمثل ذلك مرارا: رويدا رويدا، فقال المغيرة: لو أن هذا الأمر إلي علمت ما أصنع! فقال: رويدا ترى أمرك، وقد كنت تلي الأمر فتحسن، فلا يخذلنا اللَّه ولا إياك، ونحن نرجو في المكث مثل الذي ترجو في الحث. وجعل النعمان ينتظر بالقتال إكمال ساعات كانت أحب إلى رسول اللَّه ص في القتال أن يلقى فيها العدو، وذلك عند الزوال وتفيؤ الأفياء ومهب الرياح فلما كان قريبا من تلك الساعة تحشحش النعمان، وسار في الناس على برذون أحوى قريب من الأرض، فجعل يقف على كل راية، ويحمد اللَّه ويثني عليه، ويقول: قد علمتم ما أعزكم اللَّه به من هذا الدين، وما وعدكم من الظهور، وقد أنجز لكم هوادي ما وعدكم وصدوره، وإنما بقيت أعجازه وأكارعه، والله منجز وعده، ومتبع آخر ذلك أوله، واذكروا ما مضى إذ كنتم أذلة، وما استقبلتم من هذا الأمر وأنتم أعزة، فأنتم اليوم عباد اللَّه حقا وأولياؤه، وقد علمتم انقطاعكم من إخوانكم من أهل الكوفة، والذي لهم في ظفركم وعزكم، والذي عليهم في هزيمتكم وذلكم، وقد ترون من أنتم بإزائه من عدوكم، وما أخطرتم وما أخطروا لكم، فأما ما أخطروا لكم فهذه الرثة وما ترون من هذا السواد، وأما ما أخطرتم لهم فدينكم وبيضتكم، ولا سواء ما أخطرتم وما أخطروا، فلا يكونن على دنياهم أحمى منكم على دينكم، واتقى اللَّه عبد صدق اللَّه، وأبلى نفسه فأحسن البلاء، فإنكم بين خيرين منتظرين، إحدى الحسنيين، من بين شهيد حي مرزوق، أو فتح قريب وظفر يسير فكفى كل رجل ما يليه، ولم يكل قرنه إلى أخيه، فيجتمع عليه قرنه وقرن نفسه، وذلك من الملأمة، وقد يقاتل الكلب عن صاحبه، فكل رجل منكم مسلط على ما يليه، فإذا قضيت أمري فاستعدوا فإني مكبر ثلاثا، فإذا كبرت التكبيرة الأولى فليتهيأ من لم يكن تهيأ، فإذا كبرت الثانية فليشد عليه سلاحه،

وليتأهب للنهوض، فإذا كبرت الثالثة، فإني حامل إن شاء اللَّه فاحملوا معا اللهم أعز دينك، وانصر عبادك، واجعل النعمان أول شهيد اليوم على إعزاز دينك ونصر عبادك! فلما فرغ النعمان من التقدم إلى أهل المواقف، وقضى إليهم أمره، رجع إلى موقفه، فكبر الأولى والثانية والثالثة، والناس سامعون مطيعون مستعدون للمناهضة، ينحي بعضهم بعضا عن سننهم، وحمل النعمان وحمل الناس، وراية النعمان تنقض نحوهم انقضاض العقاب، والنعمان معلم ببياض القباء والقلنسوة، فاقتتلوا بالسيوف قتالا شديدا لم يسمع السامعون بوقعه يوم قط كانت أشد قتالا منها، فقتلوا فيها من أهل فارس فيما بين الزوال والإعتام ما طبق أرض المعركة دما يزلق الناس والدواب فيه، وأصيب فرسان من فرسان المسلمين في الزلق في الدماء، فزلق فرس النعمان في الدماء فصرعه، وأصيب النعمان حين زلق به فرسه، وصرع وتناول الراية نعيم بْن مقرن قبل أن تقع، وسجى النعمان بثوب، وأتى حذيفة بالراية فدفعها إليه، وكان اللواء مع حذيفة، فجعل حذيفة نعيم بْن مقرن مكانه، وأتى المكان الذي كان فيه النعمان فأقام اللواء، وقال له المغيرة: اكتموا مصاب أميركم حتى ننظر ما يصنع اللَّه فينا وفيهم، لكيلا يهن الناس، واقتتلوا حتى إذا أظلهم الليل انكشف المشركون وذهبوا، والمسلمون ملظون بهم متلبسون، فعمي عليهم قصدهم، فتركوه وأخذوا نحو اللهب الذي كانوا نزلوا دونه بإسبيذهان، فوقعوا فيه، وجعلوا لا يهوي منهم أحد إلا قال: وايه خرد، فسمي بذلك وايه خرد إلى اليوم، فمات فيه منهم مائة ألف أو يزيدون، سوى من قتل في المعركة منهم اعدادهم لم يفلت إلا الشريد، ونجا الفيرزان بين الصرعى في المعركة، فهرب نحو همدان في ذلك الشريد، فأتبعه نعيم بْن مقرن، وقدم القعقاع قدامه فأدركه حين انتهى إلى ثنية همدان، والثنية مشحونة من بغال وحمير موقرة عسلا، فحبسه الدواب

سنه 21 على أجله، فقتله على الثنية بعد ما امتنع، وقال المسلمون: إن لله جنودا من عسل، واستاقوا العسل وما خالطه من سائر الأحمال، فأقبل بها، وسميت الثنية بذلك ثنية العسل، وإن الفيرزان لما غشيه القعقاع نزل فتوقل في الجبل إذ لم يجد مساغا، وتوقل القعقاع في أثره حتى أخذه، ومضى الفلال حتى انتهوا إلى مدينة همذان والخيل في آثارهم، فدخلوها، فنزل المسلمون عليهم، وحووا ما حولها، فلما راى ذلك خسرو شنوم استأمنهم، وقبل منهم على أن يضمن لهم همذان ودستبي، وألا يؤتى المسلمون منهم، فأجابوهم إلى ذلك وأمنوهم، وأمن الناس، وأقبل كل من كان هرب، ودخل المسلمون بعد هزيمة المشركين يوم نهاوند مدينة نهاوند واحتووا ما فيها وما حولها، وجمعوا الأسلاب والرثاث إلى صاحب الأقباض السائب بْن الأقرع فبيناهم كذلك على حالهم وفي عسكرهم يتوقعون ما يأتيهم من إخوانهم بهمذان، أقبل الهربذ صاحب بيت النار على أمان، فأبلغ حذيفة، فقال: أتؤمنني على أن أخبرك بما أعلم؟ قال: نعم، قال: إن النخيرجان وضع عندي ذخيرة لكسرى، فأنا أخرجها لك على أماني وأمان من شئت، فأعطاه ذلك، فأخرج له ذخيرة كسرى، جوهرا كان أعده لنوائب الزمان، فنظروا في ذلك، فأجمع رأي المسلمين على رفعه إلى عمر، فجعلوه له، فأخروه حتى فرغوا فبعثوا به مع ما يرفع من الأخماس، وقسم حذيفة بْن اليمان بين الناس غنائمهم، فكان سهم الفارس يوم نهاوند ستة آلاف، وسهم الراجل ألفين، وقد نفل حذيفة من الأخماس من شاء من أهل البلاء يوم نهاوند، ورفع ما بقي من الأخماس إلى السائب بْن الأقرع، فقبض السائب الأخماس، فخرج بها إلى عمر وبذخيرة كسرى وأقام حذيفة بعد الكتاب بفتح نهاوند بنهاوند ينتظر جواب عمر وأمره، وكان رسوله بالفتح طريف بْن سهم، أخو بنى ربيعه ابن مالك. فلما بلغ الخبر أهل الماهين بأن همذان قد أخذت، ونزلها نعيم ابن مقرن والقعقاع بْن عمرو اقتدوا بخسروشنوم، فراسلوا حذيفة،

فأجابهم إلى ما طلبوا، فأجمعوا على القبول، وعزموا على إتيان حذيفة، فخدعهم دينار- وهو دون أولئك الملوك، وكان ملكا، إلا أن غيره منهم كان أرفع منه، وكان أشرفهم قارن- وقال: لا تلقوهم في جمالكم ولكن تقهلوا لهم، ففعلوا، وخالفهم فآتاهم في الديباج والحلي، وأعطاهم حاجتهم واحتمل للمسلمين ما أرادوا، فعاقدوه عليهم، ولم يجد الآخرون بدا من متابعته والدخول في أمره، فقيل ماه دينار لذلك فذهب حذيفة بماه دينار، وقد كان النعمان عاقد بهراذان على مثل ذلك، فنسبت إلى بهراذان، ووكل النسير بْن ثور بقلعة قد كان لجأ إليها قوم فجاهدهم، فافتتحها فنسبت إلى النسير، وقسم حذيفة لمن خلفوا بمرج القلعة ولمن أقام بغضي شجر ولأهل المسالح جميعا في فيء نهاوند مثل الذي قسم لأهل المعركة، لأنهم كانوا ردءا للمسلمين لئلا يؤتوا من وجه من الوجوه وتململ عمر تلك الليلة التي كان قدر للقائهم، وجعل يخرج ويلتمس الخبر، فبينا رجل من المسلمين قد خرج في بعض حوائجه، فرجع إلى المدينة ليلا، فمر به راكب في الليلة الثالثة من يوم نهاوند يريد المدينة فقال: يا عبد اللَّه، من أين أقبلت؟ قال: من نهاوند، قال: ما الخبر؟ قال: الخبر خير، فتح اللَّه على النعمان، واستشهد، واقتسم المسلمون فيء نهاوند، فأصاب الفارس ستة آلاف. وطواه الراكب حتى انغمس في المدينة، فدخل الرجل، فبات فأصبح فتحدث بحديثه، ونمى الخبر حتى بلغ عمر، وهو فيما هو فيه، فأرسل إليه، فسأله فأخبره، فقال: صدق وصدقت، هذا عثيم بريد الجن، وقد رأى بريد الإنس، فقدم عليه طريف بالفتح بعد ذلك، فقال: الخبر! فقال: ما عندي أكثر من الفتح، خرجت والمسلمون في الطلب وهم على رجل، وكتمه إلا ما سره. ثم خرج وخرج معه أصحابه، فأمعن، فرفع له راكب، فقال: قولوا، فقال عثمان بْن عفان: السائب، فقال: السائب، فلما دنا منه قال: ما وراءك؟

قال: البشرى والفتح، قال: ما فعل النعمان؟ قال: زلق فرسه في دماء القوم، فصرع فاستشهد، فانطلق راجعا والسائب يسايره، وسأل عن عدد من قتل من المسلمين، فأخبره بعدد قليل، وأن النعمان أول من استشهد يوم فتح الفتوح- وكذلك كان يسميه أهل الكوفة والمسلمون- فلما دخل المسجد حطت الأحمال فوضعت في المسجد، وأمر نفرا من أصحابه- منهم عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن أرقم- بالمبيت فيه، ودخل منزله، وأتبعه السائب بْن الأقرع بذينك السفطين، وأخبره خبرهما وخبر الناس، فقال: يا بن مليكة، والله ما دروا هذا، ولا أنت معهم! فالنجاء النجاء، عودك على بدئك حتى تأتي حذيفة فيقسمهما على من أفاءهما اللَّه عليه، فأقبل راجعا بقبل حتى انتهى إلى حذيفة بماه، فأقامهما فباعهما، فأصاب أربعة آلاف ألف. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مُحَمَّد بْن قيس الأسدي، أن رجلا يقال له جعفر بْن راشد، قال لطليحة وهم مقيمون على نهاوند: لقد أخذتنا خلة، فهل بقي من أعاجيبك شيء تنفعنا به؟ فقال: كما أنتم حتى أنظر، فأخذ كساء فتقنع به غير كثير، ثم قال: البيان البيان، غنم الدهقان، في بستان، مكان أرونان فدخلوا البستان فوجدوا الغنم مسمنة. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن ابى معبد العبسى وعروه ابن الوليد، عمن حدثهم من قومهم، قال: بينما نحن محاصرو أهل نهاوند خرجوا علينا ذات يوم، فقاتلونا فلم نلبثهم أن هزمهم اللَّه، فتبع سماك بْن عبيد العبسي- رجلا منهم- معه نفر ثمانية على أفراس لهم فبارزهم، فلم يبرز له أحد إلا قتله، حتى أتى عليهم ثم حمل على الذي كانوا معه، فأسره وأخذ سلاحه، ودعا له رجلا اسمه عبد، فوكله به، فقال: اذهبوا بي إلى أميركم حتى أصالحه على هذه الأرض، وأؤدي إليه الجزية، وسلني أنت عن إسارك ما شئت، وقد مننت علي إذ لم تقتلني، وإنما أنا عبدك الآن، وإن أدخلتني على الملك، وأصلحت ما بيني وبينه وجدت لي شكرا، وكنت

لي أخا فخلى سبيله وأمنه، وقال: من أنت؟ قال: أنا دينار- والبيت منهم يومئذ في آل قارن- فأتى به حذيفة، فحدثه دينار عن نجدة سماك وما قتل ونظره للمسلمين، فصالحه على الخراج، فنسبت إليه ماه، وكان يواصل سماكا ويهدي له، ويوافي الكوفة كلما كان عمله إلى عامل الكوفة، فقدم الكوفة في إمارة معاوية، فقام في الناس بالكوفة، فقال: يا معشر أهل الكوفة، أنتم أول ما مررتم بنا كنتم خيار الناس، فعمرتم بذلك زمان عمر وعثمان، ثم تغيرتم وفشت فيكم خصال أربع: بخل، وخب، وغدر، وضيق، ولم يكن فيكم واحدة منهن، فرمقتكم، فإذا ذلك في مولديكم، فعلمت من أين أتيتم، فإذا الخب من قبل النبط، والبخل من قبل فارس، والغدر من قبل خراسان، والضيق من قبل الأهواز. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن مُحَمَّد، عن الشعبي، قال: لما قدم بسبي نهاوند إلى المدينة، جعل أبو لؤلؤة فيروز غلام المغيرة بْن شعبة لا يلقى منهم صغيرا إلا مسح رأسه وبكى وقال: أكل عمر كبدي- وكان نهاونديا، فأسرته الروم أيام فارس، وأسره المسلمون بعد، فنسب إلى حيث سبي. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، قال: قتل في اللهب ممن هوى فيه ثمانون ألفا، وفي المعركة ثلاثون ألفا مقترين، سوى من قتل في الطلب، وكان المسلمون ثلاثين ألفا، وافتتحت مدينة نهاوند في أول سنة تسع عشرة، لسبع سنين من إمارة عمر، لتمام سنه ثمان عشرة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سَيْفٍ، عن مُحَمَّد والمهلب وطلحة في كتاب النعمان بْن مقرن وحذيفة لأهل الماهين: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى النعمان بْن مقرن أهل ماه بهراذان،

أعطاهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وأراضيهم، لا يغيرون على ملة، ولا يحال بينهم وبين شرائعهم، ولهم المنعة ما أدوا الجزية في كل سنة إلى من وليهم، على كل حالم في ماله ونفسه على قدر طاقته، وما أرشدوا ابن السبيل، وأصلحوا الطرق، وقروا جنود المسلمين ممن مر بهم فأوى إليهم يوما وليلة، ووفوا ونصحوا، فإن غشوا وبدلوا، فذمتنا منهم بريئة شهد عبد الله ابن ذي السهمين، والقعقاع بْن عمرو، وجرير بْن عبد اللَّه. وكتب في المحرم سنة تسع عشرة. بسم اللَّه الرحمن الرحيم هذا ما أعطى حذيفة بْن اليمان أهل ماه دينار، أعطاهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وأراضيهم، لا يغيرون عن ملة، ولا يحال بينهم وبين شرائعهم، ولهم المنعة ما أدوا الجزية في كل سنة إلى من وليهم من المسلمين، على كل حالم في ماله ونفسه على قدر طاقته، وما أرشدوا ابن السبيل، وأصلحوا الطرق، وقروا جنود المسلمين، من مر بهم، فأوى إليهم يوما وليلة، ونصحوا، فإن غشوا وبدلوا فذمتنا منهم بريئة شهد القعقاع بْن عمرو، ونعيم بْن مقرن، وسويد بْن مقرن وكتب في المحرم. قالوا: وألحق عمر من شهد نهاوند فأبلى من الروادف بلاء فاضلا في ألفين ألفين، ألحقهم بأهل القادسية. وفي هذه السنة أمر عمر جيوش العراق بطلب جيوش فارس حيث كانت، وأمر بعض من كان بالبصرة من جنود المسلمين وحواليها بالمسير إلى أرض فارس وكرمان وإصبهان، وبعض من كان منهم بناحيه الكوفه وما هاتها إلى إصبهان وأذربيجان والري، وكان بعضهم يقول: إنما كان ذلك من فعل عمر في سنه ثمان عشرة وهو قول سيف بْن عمر. ذكر الخبر عما كَانَ فِي هَذِهِ السنة- أعني سنة إحدى وعشرين- من أمر الجندين اللذين ذكرت أن عمر أمرهما بما ذكر أنه أمرهما به: كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ

وعمرو وسعيد، قالوا: لما رأى عمر أن يزدجرد يبعث عليه في كل عام حربا، وقيل له: لا يزال هذا الدأب حتى يخرج من مملكته، أذن للناس في الانسياح في أرض العجم، حتى يغلبوا يزدجرد على ما كان في يدي كسرى، فوجه الأمراء من أهل البصرة بعد فتح نهاوند، ووجه الأمراء من أهل الكوفة بعد فتح نهاوند، وكان بين عمل سعد بْن أبي وقاص وبين عمل عمار بْن ياسر أميران: أحدهما عبد الله بن عبد الله بن عتبان- وفي زمانه كانت وقعة نهاوند- وزياد بْن حنظلة حليف بني عبد بْن قصي- وفي زمانه أمر بالانسياح- وعزل عبد اللَّه بْن عبد اللَّه، وبعث في وجه آخر من الوجوه، وولي زياد بْن حنظلة- وكان من المهاجرين- فعمل قليلا، وألح في الاستعفاء، فأعفي، وولي عمار بْن ياسر بعد زياد، فكان مكانه، وأمد أهل البصرة بعبد اللَّه بْن عبد اللَّه، وأمد أهل الكوفة بأبي موسى، وجعل عمر بْن سراقة مكانه، وقدمت الألوية من عند عمر إلى نفر بالكوفة زمان زياد بْن حنظلة، فقدم لواء منها على نعيم بْن مقرن، وقد كان أهل همذان كفروا بعد الصلح، فأمره بالسير نحو همذان، وقال: فإن فتح اللَّه على يديك فإلى ما وراء ذلك، في وجهك ذلك إلى خراسان وبعث عتبة ابن فرقد وبكير بْن عبد اللَّه وعقد لهما على أذربيجان، وفرقها بينهما، وأمر أحدهما أن يأخذ إليها من حلوان إلى ميمنتها، وأمر الآخر أن يأخذ إليها من الموصل إلى ميسرتها، فتيامن هذا عن صاحبه، وتياسر هذا عن صاحبه وبعث إلى عبد اللَّه بْن عبد اللَّه بلواء، وأمره أن يسير إلى إصبهان، وكان شجاعا بطلا من أشراف الصحابة ومن وجوه الأنصار، حليفا لبني الحبلى من بني أسد، وأمده بأبي موسى من البصرة، وأمر عمر بْن سراقة على البصرة. وكان من حديث عبد اللَّه بْن عبد اللَّه أن عمر حين أتاه فتح نهاوند بدا له أن يأذن في الانسياح فكتب إليه: أن سر من الكوفة حتى تنزل المدائن، فاندبهم ولا تنتخبهم، واكتب إلي بذلك، وعمر يريد توجيهه إلى إصبهان. فانتدب له فيمن انتدب عبد اللَّه بْن ورقاء الرياحي، وعبد اللَّه بن الحارث

ذكر الخبر عن أصبهان

ابن ورقاء الأسدي والذين لا يعلمون يرون أن أحدهما عبد الله بن بديل ابن ورقاء الخزاعي، لذكر ورقاء، وظنوا أنه نسب الى جده، وكان عبد الله ابن بديل بْن ورقاء يوم قتل بصفين ابن أربع وعشرين سنة، وهو أيام عمر صبي ولما أتى عمر انبعاث عبد اللَّه، بعث زياد بْن حنظلة، فلما أتاه انبعاث الجنود وانسياحهم أمر عمارا بعد، وقرأ قول اللَّه عز وجل: «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ» وقد كان زياد صرف في وسط من إمارة سعد إلى قضاء الكوفة بعد إعفاء سلمان وعبد الرحمن ابني ربيعة، ليقضي إلى أن يقدم عبد اللَّه بْن مسعود من حمص، وقد كان عمل لعمر على ما سقى الفرات ودجلة النعمان وسويد ابنا مقرن، فاستعفيا، وقالا: أعفنا من عمل يتغول ويتزين لنا بزينة المومسة. فأعفاهما، وجعل مكانهما حذيفة بْن أسيد الغفاري وجابر بْن عمرو المزني، ثم استعفيا فأعفاهما، وجعل مكانهما حذيفة بْن اليمان وعثمان بْن حنيف، حذيفة على ما سقت دجلة وما وراءها، وعثمان على ما سقى الفرات من السوادين جميعا، وكتب إلى أهل الكوفة: إني بعثت إليكم عمار بْن ياسر أميرا، وجعلت عبد اللَّه بْن مسعود معلما ووزيرا، ووليت حذيفة بْن اليمان ما سقت دجلة وما وراءها، ووليت عثمان بْن حنيف الفرات وما سقى . ذكر الخبر عن إصبهان قالوا: ولما قدم عمار إلى الكوفة أميرا، وقدم كتاب عمر إلى عبد اللَّه: أن سر إلى إصبهان وزياد على الكوفة، وعلى مقدمتك عبد اللَّه بْن ورقاء الرياحي، وعلى مجنبتيك عبد اللَّه بْن ورقاء الأسدي وعصمة بْن عبد اللَّه- وهو عصمة بْن عبد اللَّه بْن عبيدة بن سيف بن عبد الحارث- فسار عبد اللَّه في الناس حتى قدم على حذيفة، ورجع حذيفة إلى عمله، وخرج عبد الله فيمن كان معه ومن انصرف معه من جند النعمان من نهاوند نحو جند

قد اجتمع له من أهل إصبهان عليهم الأستندار، وكان على مقدمته شهر براز جاذويه، شيخ كبير في جمع عظيم، فالتقى المسلمون ومقدمة المشركين برستاق من رساتيق إصبهان، فاقتتلوا قتالا شديدا، ودعا الشيخ إلى البراز، فبرز له عبد اللَّه بْن ورقاء، فقتله وانهزم أهل إصبهان، وسمى المسلمون ذلك الرستاق رستاق الشيخ، فهو اسمه إلى اليوم ودعا عبد الله ابن عبد اللَّه من يليه، فسأل الأستندار الصلح، فصالحهم، فهذا أول رستاق أخذ من إصبهان ثم سار عبد اللَّه من رستاق الشيخ نحو جي حتى انتهى إلى جي والملك بإصبهان يومئذ الفاذوسفان، ونزل بالناس على جي، فحاصرهم، فخرجوا إليه بعد ما شاء اللَّه من زحف، فلما التقوا قال الفاذوسفان لعبد اللَّه: لا تقتل أصحابي، ولا أقتل أصحابك، ولكن ابرز لي، فإن قتلتك رجع أصحابك وإن قتلتني سالمك أصحابي، وإن كان أصحابي لا يقع لهم نشابة فبرز له عبد اللَّه وقال: إما أن تحمل علي، وإما أن أحمل عليك، فقال: أحمل عليك، فوقف له عبد اللَّه، وحمل عليه الفاذوسفان، فطعنه، فأصاب قربوس سرجه فكسره، وقطع اللبب والحزام، وزال اللبد والسرج، وعبد اللَّه على الفرس، فوقع عبد اللَّه قائما، ثم استوى على الفرس عريا، وقال له: اثبت، فحاجزه، وقال: ما أحب أن أقاتلك، فإني قد رأيتك رجلا كاملا ولكن أرجع معك إلى عسكرك فأصالحك، وأدفع المدينة إليك، على أن من شاء أقام ودفع الجزية وأقام على ماله، وعلى أن تجرى من أخذتم أرضه عنوة مجراهم، ويتراجعون، ومن أبى أن يدخل فيما دخلنا فيه ذهب حيث شاء، ولكم أرضه قال: لكم ذلك. وقدم عليه أبو موسى الأشعري من ناحية الأهواز، وقد صالح الفاذوسفان عبد اللَّه فخرج القوم من جي، ودخلوا في الذمة إلا ثلاثين رجلا من أهل إصبهان خالفوا قومهم وتجمعوا فلحقوا بكرمان في حاشيتهم، لجمع كان بها، ودخل عبد اللَّه وأبو موسى جي- وجي مدينة إصبهان- وكتب بذلك

إلى عمر، واغتبط من أقام، وندم من شخص فقدم كتاب عمر على عبد اللَّه: أن سر حتى تقدم على سهيل بْن عدي فتجامعه على قتال من بكرمان، وخلف في جى من بقي عن جي، واستخلف على إصبهان السائب بْن الأقرع. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن نفر من أصحاب الحسن، منهم المبارك بْن فضالة، عن الحسن، عن أسيد بن المتشمس بن أخي الأحنف، قال: شهدت مع أبي موسى فتح إصبهان، وإنما شهدها مددا. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ وَعَمْرٍو وَسَعِيدٍ، قَالُوا: كتاب صلح إصبهان: بسم اللَّه الرحمن الرحيم كتاب من عبد اللَّه للفاذوسفان وأهل إصبهان وحواليها، إنكم آمنون ما أديتم الجزية، وعليكم من الجزية بقدر طاقتكم في كل سنة تؤدونها إلى الذي يلي بلادكم عن كل حالم، ودلالة المسلم وإصلاح طريقه وقراه يوما وليلة، وحملان الراجل إلى مرحلة، لا تسلطوا على مسلم، وللمسلمين نصحكم وأداء ما عليكم، ولكم الأمان ما فعلتم، فإذا غيرتم شيئا او غير مغير منكم ولم تسلموه فلا أمان لكم، ومن سب مسلما بلغ منه، فإن ضربه قتلناه وكتب وشهد عبد اللَّه بْن قيس، وعبد اللَّه بْن ورقاء، وعصمة بْن عبد اللَّه. فلما قدم الكتاب من عمر على عبد اللَّه، وأمر فيه باللحاق بسهيل بْن عدي بكرمان خرج في جريدة خيل، واستخلف السائب، ولحق بسهيل قبل أن يصل إلى كرمان. وقد روي عن معقل بْن يسار أن الذي كان أميرا على جيش المسلمين حين غزوا إصبهان النعمان بْن مقرن. ذكر الرواية بذلك: حَدَّثَنَا يعقوب بْن إبراهيم وعمرو بْن علي، قالا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْن مَهْدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حماد بْن سلمة، عن ابى عمران الجونى، عن علقمه

ابن عبد اللَّه المزني، عن معقل بْن يسار، أن عمر بْن الخطاب شاور الهرمزان، فقال: ما ترى؟ أبدأ بفارس، أم بأذربيجان، أم بإصبهان؟ فقال: إن فارس وأذربيجان الجناحان، وإصبهان الرأس فإن قطعت أحد الجناحين قام الجناح الآخر، فإن قطعت الرأس وقع الجناحان، فابدأ بالرأس. فدخل عمر المسجد والنعمان بْن مقرن يصلي، فقعد إلى جنبه، فلما قضى صلاته، قال: إني أريد أن أستعملك، قال: أما جابيا فلا، ولكن غازيا، قال: فأنت غاز فوجهه إلى إصبهان، وكتب إلى أهل الكوفة ان يمدوه، فأتاها وبينه وبينهم النهر، فأرسل إليهم المغيرة بْن شعبة، فأتاهم، فقيل لملكهم- وكان يقال له ذو الحاجبين: إن رسول العرب على الباب، فشاور أصحابه، فقال: ما ترون؟ أقعد له في بهجة الملك؟ فقالوا: نعم، فقعد على سريره، ووضع التاج على رأسه، وقعد أبناء الملوك نحو السماطين عليهم القرطه واسوره الذهب وثياب الديباج ثم أذن له فدخل ومعه رمحه وترسه، فجعل يطعن برمحه بسطهم ليتطيروا، وقد أخذ بضبعيه رجلان، فقام بين يديه، فكلمه ملكهم، فقال: إنكم يا معشر العرب أصابكم جوع شديد فخرجتم، فإن شئتم أمرناكم ورجعتم إلى بلادكم فتكلم المغيرة، فحمد اللَّه، وأثنى عليه، ثم قال: إنا معاشر العرب، كنا نأكل الجيف والميتة، ويطؤنا الناس ولا نطؤهم، وإن اللَّه عز وجل ابتعث منا نبيا، أوسطنا حسبا، وأصدقنا حديثا- فذكر النبي ص بما هو أهله- وإنه وعدنا أشياء فوجدناها كما قال، وإنه وعدنا أنا سنظهر عليكم، ونغلب على ما هاهنا وإني أرى عليكم بزة وهيئة ما أرى من خلفي يذهبون حتى يصيبوها. قال: ثم قلت في نفسي: لو جمعت جراميزي، فوثبت وثبة، فقعدت مع العلج على سريره لعله يتطير! قال: فوجدت غفله، فوثبت، فإذا انا معه على سريره قال: فأخذوه يتوجئونه ويطئونه بأرجلهم قال: قلت:

هكذا تفعلون بالرسل! فإنا لا نفعل هكذا، ولا نفعل برسلكم هذا فقال الملك: إن شئتم قطعتم إلينا، وإن شئتم قطعنا إليكم قال: فقلت: بل نقطع إليكم قال: فقطعنا إليهم فتسلسلوا كل عشرة في سلسلة، وكل خمسة وكل ثلاثة قال: فصاففناهم، فرشقونا حتى أسرعوا فينا، فقال المغيرة للنعمان: يرحمك اللَّه! إنه قد أسرع في الناس فاحمل، فقال: والله إنك لذو مناقب، لقد شهدت مع رسول الله ص القتال، فكان إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس، وتهب الرياح، وينزل النصر. قال: ثم قال: إني هاز لوائي ثلاث مرات، فأما الهزة الأولى فقضى رجل حاجته وتوضأ، وأما الثانية فنظر رجل في سلاحه وفي شسعه فأصلحه، وأما الثالثة فاحملوا، ولا يلوين أحد على أحد، وإن قتل النعمان فلا يلو عليه أحد، فإني أدعو اللَّه عز وجل بدعوة، فعزمت على كل امرئ منكم لما أمن عليها! اللهم أعط اليوم النعمان الشهادة في نصر المسلمين، وافتح عليهم، وهز لواءه أول مرة، ثم هز الثانيه، ثم هزه الثالثة، ثم شل درعه، ثم حمل فكان أول صريع، فقال معقل: فأتيت عليه، فذكرت عزمته، فجعلت عليه علما، ثم ذهبت- وكنا إذا قتلنا رجلا شغل عنا أصحابه- ووقع ذو الحاجبين عن بغلته فانشق بطنه، فهزمهم اللَّه، ثم جئت إلى النعمان ومعي إداوة فيها ماء، فغسلت عن وجهه التراب، فقال: من أنت؟ قلت: معقل بْن يسار، قال: ما فعل الناس؟ فقلت: فتح اللَّه عليهم، قال: الحمد لله، اكتبوا بذلك إلى عمر، وفاضت نفسه. واجتمع الناس إلى الأشعث بْن قيس، وفيهم ابن عمر وابن الزبير، وعمرو بن معديكرب وحذيفة، فبعثوا إلى أم ولده، فقالوا: أما عهد إليك عهدا؟ فقالت: هاهنا سفط فيه كتاب، فأخذوه، فكان فيه: إن قتل النعمان ففلان، وإن قتل فلان ففلان

أخبار متفرقة

[أخبار متفرقة] وقال الواقدي: في هذه السنة- يعني سنة احدى وعشرين- مات خالد ابن الوليد بحمص، وأوصى إلى عمر بْن الخطاب. قال: وفيها غزا عبد اللَّه وعبد الرحمن ابنا عمرو وأبو سروعة، فقدموا مصر، فشرب عبد الرحمن وأبو سروعة الخمر، وكان من أمرهما ما كان. قال: وفيها: سار عمرو بْن العاص إلى أنطابلس- وهي برقة- فافتتحها، وصالح أهل برقة على ثلاثة عشر ألف دينار، وأن يبيعوا من أبنائهم ما أحبوا في جزيتهم. قال: وفيها ولى عمر بْن الخطاب عمار بْن ياسر على الكوفة، وابن مسعود على بيت المال، وعثمان بْن حنيف على مساحة الأرض، فشكا أهل الكوفة عمارا، فاستعفى عمار عمر بْن الخطاب، فأصاب جبير بْن مطعم خاليا فولاه الكوفة، فقال: لا تذكره لأحد، فبلغ المغيرة بْن شعبة أن عمر خلا بجبير بْن مطعم، فرجع إلى امرأته، فقال: اذهبي إلى امرأة جبير بْن مطعم، فاعرضي عليها طعام السفر، فأتتها فعرضت عليها، فاستعجمت عليها، ثم قالت: نعم، فجيئنى به، فلما استيقن المغيرة بذلك جاء إلى عمر، فقال: بارك اللَّه لك فيمن وليت! قال: فمن وليت؟ فأخبره أنه ولى جبير ابن مطعم، فقال عمر: لا أدري ما أصنع! وولى المغيرة بْن شعبة الكوفة، فلم يزل عليها حتى مات عمر. قال: وفيها بعث عمرو بْن العاص عقبة بْن نافع الفهري، فافتتح زويلة بصلح وما بين برقة وزويلة سلم للمسلمين وحدثنا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كان بالشام في سنة إحدى وعشرين غزوة الأمير معاوية بْن أبي سفيان، وعمير بْن سعد الأنصاري على دمشق والبثنية وحوران وحمص وقنسرين والجزيرة، ومعاوية على البلقاء والأردن وفلسطين والسواحل وأنطاكية ومعره

مصرين وقلقية وعند ذلك صالح أبو هاشم بْن عتبة بْن رَبِيعَة بْن عبد شمس على قلقية وأنطاكية ومعرة مصرين. وقيل: وفيها ولد الحسن البصري وعامر الشعبي. قال الواقدي: وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب، وخلف على المدينة زيد بْن ثابت، وكان عامله على مكة والطائف واليمن واليمامة والبحرين والشام ومصر والبصرة من كان عليها في سنة عشرين، وأما الكوفة فإن عامله عليها كان عمار بْن ياسر، وكان إليه الأحداث، والى عبد الله ابن مسعود بيت المال، وإلى عثمان بْن حنيف الخراج، والى شريح- فيما قيل- القضاء

سنه اثنتين وعشرين

اثنتين وعشرين ذكر فتح همذان قال أبو جعفر: ففيها فتحت أذربيجان، فيما حَدَّثَنِي أحمد بْن ثابت الرازي، عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر، قال: كانت أذربيجان سنة اثنتين وعشرين، وأميرها المغيرة بْن شعبة وكذلك قال الواقدي. وأما سيف بْن عمر، فإنه قال فيما كتب إلي به السري عَنْ شُعَيْبٍ عنه، قال: كان فتح اذربيجان سنه ثمان عشرة من الهجرة بعد فتح همذان والري وجرجان وبعد صلح إصبهبذ طبرستان المسلمين قال: وكل ذلك كان في سنه ثمان عشرة. قال: فكان سبب فتح همذان- فيما زعم- أن محمدا والمهلب وطلحة وعمرا وسعيدا أخبروه أن النعمان لما صرف إلى الماهين لاجتماع الأعاجم إلى نهاوند، وصرف إليه أهل الكوفة وافوه مع حذيفة، ولما فصل أهل الكوفة من حلوان وأفضوا إلى ماه هجموا على قلعه في مرج فيها مسلحه، فاستزلوهم، وكان أول الفتح، وأنزلوا مكانهم خيلا يمسكون بالقلعة، فسموا معسكرهم بالمرج، مرج القلعة، ثم ساروا من مرج القلعة نحو نهاوند، حتى إذا انتهوا إلى قلعة- فيها قوم خلفوا عليها النسير بْن ثور في عجل وحنيفة، فنسبت إليه، وافتتحها بعد فتح نهاوند ولم يشهد نهاوند عجلي ولا حنفي- أقاموا مع النسير على القلعة، فلما جمعوا فيء نهاوند والقلاع أشركوا فيها جميعا، لأن بعضهم قوى بعضا ثم وصفوا ما استقروا فيما بين مرج القلعة وبين نهاوند مما مروا به قبل ذلك فيما استقروا من المرج

إليها بصفاتها، وازدحمت الركاب في ثنية من ثنايا ماه، فسميت بالركاب، فقيل: ثنية الركاب وأتوا على أخرى تدور طريقها بصخرة، فسموها ملويه، فدرست اسماؤها الاولى، وسميت بصفاتها، ومروا بالجبل الطويل المشرف على الجبال، فقال قائل منهم: كأنه سن سميرة- وسميرة امرأة من المهاجرات من بني معاوية، ضبية لها سن مشرفة على أسنانها، فسمي ذلك الجبل بسنها- وقد كان حذيفة أتبع الفالة- فالة نهاوند- نعيم بْن مقرن والقعقاع بْن عمرو، فبلغا همذان، فصالحهم خسروشنوم، فرجعا عنهم، ثم كفر بعده فلما قدم عهده في العهود من عند عمر ودع حذيفة وودعه حذيفة، هذا يريد همذان، وهذا يريد الكوفة راجعا واستخلف على الماهين عمرو بْن بلال بْن الحارث. وكان كتاب عمر إلى نعيم بْن مقرن: أن سر حتى تأتي همذان، وابعث على مقدمتك سويد بْن مقرن، وعلى مجنبتيك ربعي بْن عامر ومهلهل ابن زيد، هذا طائي، وذاك تميمي فخرج نعيم بْن مقرن في تعبيته حتى نزل ثنية العسل- وإنما سميت ثنية العسل بالعسل الذي أصابوا فيها غب وقعة نهاوند حيث أتبعوا الفالة- فانتهى الفيرزان إليها، وهي غاصة بحوامل تحمل العسل وغير ذلك، فحبست الفيرزان حتى نزل، فتوقل في الجبل وغار فرسه فأدرك فأصيب ولما نزلوا كنكور سرقت دواب من دواب المسلمين، فسمي قصر اللصوص. ثم انحدر نعيم من الثنية حتى نزل على مدينة همذان، وقد تحصنوا منهم، فحصرهم فيها، وأخذ ما بين ذلك وبين جرميذان، واستولوا على بلاد همذان كلها فلما رأى ذلك أهل المدينة سألوا الصلح، على أن يجريهم ومن استجاب مجرى واحدا، ففعل، وقبل منهم الجزاء على المنعة، وفرق دستبى بين نفر من أهل الكوفة، بين عصمة بْن عبد اللَّه الضبي ومهلهل بْن زيد الطائي وسماك بْن عبيد العبسي وسماك بْن مخرمة الأسدي،

وسماك بْن خرشة الأنصاري، فكان هؤلاء أول من ولي مسالح دستبي. وقاتل الديلم. وأما الواقدي فإنه قال: كان فتح همذان والري في سنة ثلاث وعشرين. قال: ويقال افتتح الري قرظه بن كعب. وحدثني ربيعة بْن عثمان أن فتح همذان كان في جمادى الأولى، على رأس ستة أشهر من مقتل عمر بْن الخطاب، وكان أميرها المغيرة بْن شعبة. قال: ويقال: كان فتح الري قبل وفاة عمر بسنتين، ويقال: قتل عمر وجيوشه عليها. رجع الحديث إلى حديث سيف قال: فبينما نعيم في مدينة همذان في توطئتها في اثني عشر ألفا من الجند تكاتب الديلم وأهل الري وأهل أذربيجان، ثم خرج موتا في الديلم حتى ينزل بواج روذ، وأقبل الزينبي أبو الفرخان في أهل الري حتى انضم إليه، وأقبل إسفندياذ أخو رستم في أهل أذربيجان، حتى انضم إليه، وتحصن أمراء مسالح دستبي، وبعثوا إلى نعيم بالخبر، فاستخلف يزيد بْن قيس، وخرج إليهم في الناس حتى نزل عليهم بواج الروذ، فاقتتلوا بها قتالا شديدا، وكانت وقعة عظيمة تعدل نهاوند، ولم تكن دونها، وقتل من القوم مقتلة عظيمة لا يحصون ولا تقصر ملحمتهم من الملاحم الكبار، وقد كانوا كتبوا إلى عمر باجتماعهم، ففزع منها عمر، واهتم بحربها، وتوقع ما يأتيه عنهم، فلم يفجأه إلا البريد بالبشارة، فقال: أبشير! فقال: بل عروة، فلما ثنى عليه: أبشير؟ فطن، فقال: بشير، فقال عمر: رسول نعيم؟ قال: رسول نعيم، قال: الخبر؟ قال: البشرى بالفتح والنصر، وأخبره الخبر، فحمد اللَّه، وأمر بالكتاب فقرئ على الناس، فحمدوا اللَّه ثم قدم سماك بْن مخرمة وسماك بْن عبيد وسماك بن خرشه في وفود من وفود أهل الكوفة بالأخماس على عمر، فنسبهم، فانتسب له سماك

وسماك وسماك، فقال: بارك اللَّه فيكم، اللهم اسمك بهم الإسلام وأيدهم بالإسلام فكانت دستبي من همذان ومسالحها إلى همذان، حتى رجع الرسول إلى نعيم بْن مقرن بجواب عمر بْن الخطاب: أما بعد، فاستخلف على همذان، وأمد بكير بْن عبد اللَّه بسماك بْن خرشة، وسر حتى تقدم الري، فتلقى جمعهم، ثم أقم بها، فإنها أوسط تلك البلاد وأجمعها لما تريد فأقر نعيم يزيد بْن قيس الهمذاني على همذان، وسار من واج الروذ بالناس إلى الري. وقال نعيم في واج الروذ: لما أتاني أن موتا ورهطه ... بني باسل جروا جنود الأعاجم نهضت إليهم بالجنود مساميا ... لأمنع منهم ذمتي بالقواصم فجئنا إليهم بالحديد كأننا ... جبال تراءى من فروع القلاسم فلما لقيناهم بها مستفيضة ... وقد جعلوا يسمون فعل المساهم صدمناهم في واج روذ بجمعنا ... غداة رميناهم بإحدى العظائم فما صبروا في حومة الموت ساعة ... لحد الرماح والسيوف الصوارم كأنهم عند انبثاث جموعهم ... جدار تشظى لبنه للهوادم أصبنا بها موتا ومن لف جمعه ... وفيها نهاب قسمه غير عاتم تبعناهم حتى أووا في شعابهم ... نقتلهم قتل الكلاب الجواحم كأنهم في واج روذ وجوه ... ضئين أصابتها فروج المخارم وسماك بْن مخرمة هو صاحب مسجد سماك

فتح الري

وأعاد فيهم نعيم كتاب صلح همذان، وخلف عليها يزيد بْن قيس الهمذاني، وسار بالجنود حتى لحق بالري، وكان أول نسل الديلم من العرب، وقاولهم فيه نعيم . فتح الري قالوا: وخرج نعيم بْن مقرن من واج روذ في الناس- وقد أخربها- إلى دستبى، ففصل منها إلى الري، وقد جمعوا له، وخرج الزينبي أبو الفرخان، فلقيه الزينبي بمكان يقال له قها مسالما ومخالفا لملك الري، وقد رأى من المسلمين ما رأى مع حسد سياوخش وأهل بيته، فأقبل مع نعيم والملك يومئذ بالري سياوخش بْن مهران بْن بهرام شوبين، فاستمد أهل دنباوند وطبرستان وقومس وجرجان وقال: قد علمتم أن هؤلاء قد حلوا بالري، إنه لا مقام لكم، فاحتشدوا له، فناهده سياوخش، فالتقوا في سفح جبل الري إلى جنب مدينتها، فاقتتلوا به، وقد كان الزينبي قال لنعيم: إن القوم كثير، وأنت في قلة، فابعث معي خيلا أدخل بهم مدينتهم من مدخل لا يشعرون به، وناهدهم أنت، فإنهم إذا خرجوا عليهم لم يثبتوا لك فبعث معه نعيم خيلا من الليل، عليهم ابن أخيه المنذر بْن عمرو، فأدخلهم الزينبي المدينة، ولا يشعر القوم، وبيتهم نعيم بياتا فشغلهم عن مدينتهم، فاقتتلوا وصبروا له حتى سمعوا التكبير من ورائهم ثم إنهم انهزموا فقتلوا مقتلة عدوا بالقصب فيها، وأفاء اللَّه على المسلمين بالري نحوا من فيء المدائن، وصالحه الزينبي على أهل الري ومرزبه عليهم نعيم، فلم يزل شرف الري في أهل الزينبي الأكبر، ومنهم شهرام وفرخان، وسقط آل بهرام، وأخرب نعيم مدينتهم، وهي التي يقال لها العتيقة- يعني مدينة الري- وأمر الزينبي فبنى مدينة الري الحدثى وكتب نعيم إلى عمر بالذي فتح اللَّه عليه مع المضارب العجلي، ووفد بالأخماس مع عتيبة بْن النهاس وأبي مفزر في وجوه من وجوه أهل الكوفة، وأمد بكير بْن عبد اللَّه بسماك بْن

فتح قومس

خرشة الأنصاري بعد ما فتح الري، فسار سماك إلى أذربيجان مددا لبكير، وكتب نعيم لأهل الري كتابا: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى نعيم بْن مقرن الزينبي بْن قوله، أعطاه الأمان على أهل الري ومن كان معهم من غيرهم على الجزاء، طاقة كل حالم في كل سنة، وعلى أن ينصحوا ويدلوا ولا يغلوا ولا يسلوا، وعلى أن يقروا المسلمين يوما وليلة، وعلى أن يفخموا المسلم، فمن سب مسلما أو استخف به نهك عقوبة، ومن ضربه قتل، ومن بدل منهم فلم يسلم برمته فقد غير جماعتكم وكتب وشهد وراسله المصمغان في الصلح على شيء يفتدى به منهم من غير أن يسأله النصر والمنعة، فقبل منه، وكتب بينه وبينه كتابا على غير نصر ولا معونة على أحد، فجرى ذلك لهم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ نعيم بْن مقرن لمردانشاه مصمغان دنباوند وأهل دنباوند والخوار واللارز والشرز إنك آمن ومن دخل معك على الكف، أن تكف أهل أرضك، وتتقي من ولي الفرج بمائتي ألف درهم وزن سبعة في كل سنة، لا يغار عليك، ولا يدخل عليك إلا بإذن، ما أقمت على ذلك حتى تغير، ومن غير فلا عهد له ولا لمن لم يسلمه وكتب وشهد فتح قومس قالوا: ولما كتب نعيم بفتح الري مع المضارب العجلي، ووفد بالأخماس كتب إليه عمر: أن قدم سويد بْن مقرن إلى قومس، وابعث على مقدمته سماك بْن مخرمة وعلى مجنبتيه عتيبة بْن النهاس وهند بْن عمرو الجملي، ففصل سويد بْن مقرن في تعبيته من الري نحو قومس، فلم يقم له أحد، فأخذها سلما، وعسكر بها، فلما شربوا من نهر لهم يقال له ملاذ، فشا فيهم القصر، فقال لهم سويد: غيروا ماءكم حتى تعودوا كاهله، ففعلوا،

فتح جرجان

واستمرءوه، وكاتبه الذين لجئوا إلى طبرستان منهم، والذين أخذوا المفاوز، فدعاهم إلى الصلح والجزاء، وكتب لهم: بسم اللَّه الرحمن الرحيم هذا ما أعطى سويد بْن مقرن أهل قومس ومن حشوا من الأمان على أنفسهم ومللهم وأموالهم، على أن يؤدوا الجزية عن يد، عن كل حالم بقدر طاقته، وعلى أن ينصحوا ولا يغشوا، وعلى أن يدلوا، وعليهم نزل من نزل بهم من المسلمين يوما وليلة من أوسط طعامهم، وإن بدلوا واستخفوا بعهدهم فالذمة منهم بريئة وكتب وشهد. فتح جرجان قالوا: وعسكر سويد بْن مقرن ببسطام، وكاتب ملك جرجان رزبان صول ثم سار إليها، وكاتبه رزبان صول، وبادره بالصلح على أن يؤدي الجزاء، ويكفيه حرب جرجان، فإن غلب أعانه فقبل ذلك منه، وتلقاه رزبان صول قبل دخول سويد جرجان، فدخل معه، وعسكر بها حتى جبى إليه الخراج، وسمى فروجها، فسدها بترك دهستان، فرفع الجزاء عمن أقام يمنعها، وأخذ الخراج من سائر أهلها، وكتب بينهم وبينه كتابا: بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ سويد بْن مقرن لرزبان صول ابن رزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان، إن لكم الذمة، وعلينا المنعة، على أن عليكم من الجزاء في كل سنة على قدر طاقتكم، على كل حالم، ومن استعنا به منكم فله جزاؤه في معونته عوضا من جزائه، ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، ولا يغير شيء من ذلك هو إليهم ما أدوا وأرشدوا ابن السبيل ونصحوا وقروا المسلمين، ولم يبد منهم سل ولا غل، ومن أقام فيهم فله مثل ما لهم، ومن خرج فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، وعلى أن من سب مسلما بلغ جهده، ومن ضربه حل دمه شهد سواد بْن قطبة، وهند بْن عمرو، وسماك بْن مخرمة، وعتيبة بْن النهاس وكتب في سنة ثمان عشره

فتح طبرستان

وأما المدائني، فإنه قال- فيما حَدَّثَنَا أبو زيد، عنه: فتحت جرجان في زمن عثمان سنة ثلاثين. فتح طبرستان قالوا: وأرسل الإصبهبذ سويدا في الصلح، على أن يتوادعا، ويجعل له شيئا على غير نصر ولا معونة على أحد، فقبل ذلك منه، وجرى ذلك لهم، وكتب له كتابا: بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ سويد بْن مقرن للفرخان إصبهبذ خراسان على طبرستان وجيل جيلان من أهل العدو، إنك آمن بأمان اللَّه عز وجل على أن تكف لصوتك وأهل حواشي أرضك، ولا تؤوى لنا بغيه، وتنقى من ولى فرج أرضك بخمسمائة ألف درهم من دراهم أرضك، فإذا فعلت ذلك فليس لأحد منا أن يغير عليك، ولا يتطرق أرضك، ولا يدخل عليك إلا بإذنك، سبيلنا عليكم بالإذن آمنة، وكذلك سبيلكم، ولا تؤوون لنا بغية، ولا تسلون لنا إلى عدو، ولا تغلون، فإن فعلتم فلا عهد بيننا وبينكم شهد سواد بْن قطبة التميمي، وهند بْن عمرو المرادي، وسماك بْن مخرمة الأسدي، وسماك بن عبيد العبسى، وعتيبة بن النهاس البكرى وكتب سنه ثمان عشرة. فتح أذربيجان قال: ولما افتتح نعيم همذان ثانية، وسار إلى الري من واج روذ، كتب إليه عمر: أن يبعث سماك بْن خرشة الأنصاري ممدا لبكير بْن عبد اللَّه بأذربيجان، فأخر ذلك حتى افتتح الري، ثم سرحه من الري، فسار سماك نحو بكير بأذربيجان، وكان سماك بْن خرشة وعتبة بن فرقد

من أغنياء العرب، وقدما الكوفة بالغنى، وقد كان بكير سار حين بعث إليها، حتى إذا طلع بحيال جرميذان- طلع عليهم إسفندياذ بن الفرخزاد مهزوما من واج روذ، فكان أول قتال لقيه بأذربيجان، فاقتتلوا، فهزم اللَّه جنده، وأخذ بكير إسفندياذ أسيرا، فقال له إسفندياذ: الصلح أحب إليك أم الحرب؟ قال: بل الصلح، قال: فأمسكني عندك، فإن أهل أذربيجان إن لم اصالح عليهم او أجيء لم يقيموا لك، وجلوا إلى الجبال التي حولها من القبج والروم ومن كان على التحصن تحصن إلى يوم ما، فأمسكه عنده، فأقام وهو في يده، وصارت البلاد إليه إلا ما كان من حصن وقدم عليه سماك بْن خرشة ممدا وإسفندياذ في إساره، وقد افتتح ما يليه، وافتتح عتبة بْن فرقد ما يليه وقال بكير لسماك مقدمه عليه، ومازحه: ما الذي أصنع بك وبعتبة بأغنيين؟ لئن أطعت ما في نفسي لأمضين قدما ولأخلفنكما، فإن شئت أقمت معي، وإن شئت أتيت عتبة فقد أذنت لك، فإني لا أراني إلا تارككما وطالبا وجها هو أكره من هذا. فاستعفى عمر، فكتب إليه بالإذن على أن يتقدم نحو الباب، وأمره أن يستخلف على عمله، فاستخلف عتبة على الذي افتتح منها، ومضى قدما، ودفع إسفندياذ إلى عتبة، فضمه عتبة إليه، وأمر عتبة سماك بْن خرشة- وليس بأبي دجانة- على عمل بكير الذي كان افتتح، وجمع عمر أذربيجان كلها لعتبة بْن فرقد. قالوا: وقد كان بهرام بن الفرخزاد أخذ بطريق عتبة بْن فرقد، وأقام له في عسكره حتى قدم عليه عتبة، فاقتتلوا، فهزمه عتبة، وهرب بهرام. فلما بلغ الخبر بهزيمة بهرام ومهربه إسفندياذ وهو في الإسار عند بكير، قال: الآن تم الصلح، وطفئت الحرب، فصالحه، وأجاب إلى ذلك كلهم، وعادت أذربيجان سلما، وكتب بذلك بكير وعتبة إلى عمر، وبعثوا بما خمسوا مما أفاء اللَّه عليهم، ووفدوا الوفود بذلك، وكان بكير قد سبق عتبة بفتح ما ولي، وتم الصلح بعد ما هزم عتبة بهرام وكتب عتبة بينه

فتح الباب

وبين أهل أذربيجان كتابا حيث جمع له عمل بكير إلى عمله: بسم اللَّه الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عتبة بْن فرقد، عامل عمر بْن الخطاب أمير المؤمنين أهل أذربيجان- سهلها وجبلها وحواشيها وشفارها وأهل مللها- كلهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم، ليس على صبي ولا امرأة ولا زمن ليس في يديه شيء من الدنيا، ولا متعبد متخل ليس في يديه من الدنيا شيء، لهم ذلك ولمن سكن معهم، وعليهم قرى المسلم من جنود المسلمين يوما وليلة ودلالته، ومن حشر منهم في سنة وضع عنه جزاء تلك السنة، ومن أقام فله مثل ما لمن أقام من ذلك، ومن خرج فله الأمان حتى يلجأ إلى حرزه وكتب جندب، وشهد بكير بْن عبد اللَّه الليثي وسماك بْن خرشة الأنصاري وكتب في سنة ثمان عشرة. قالوا: وفيها، قدم عتبة على عمر بالخبيص الذي كان أهداه له، وذلك أن عمر كان يأخذ عماله بموافاة الموسم في كل سنة يحجر عليهم بذلك الظلم، ويحجزهم به عنه فتح الباب وفي هذه السنة كان فتح الباب في قول سيف وروايته، قال: وقالوا- يعني الذين ذكرت أسماءهم قبل: رد عمر أبا موسى الى البصره، ورده سراقة بْن عمرو- وكان يدعى ذا النور- إلى الباب، وجعل على مقدمته عبد الرحمن بْن ربيعة- وكان أيضا يدعى ذا النور- وجعل على إحدى المجنبتين حذيفة بْن أسيد الغفاري، وسمى للأخرى بكير بْن عبد اللَّه الليثي- وكان بإزاء الباب قبل قدوم سراقة بْن عمرو عليه، وكتب إليه أن يلحق به-

وجعل على المقاسم سلمان بْن ربيعة فقدم سراقة عبد الرحمن بْن ربيعة، وخرج في الأثر، حتى إذا خرج من أذربيجان نحو الباب، قدم على بكير في أداني الباب، فاستدف ببكير، ودخل بلاد الباب على ما عباه عمر. وأمده عمر بحبيب بْن مسلمة، صرفه إليه من الجزيرة، وبعث زياد بْن حنظلة مكانه على الجزيرة ولما أطل عبد الرحمن بْن ربيعة على الملك بالباب- والملك بها يومئذ شهربراز، رجل من أهل فارس، وكان على ذلك الفرج، وكان أصله من أهل شهربراز الملك الذي أفسد بني إسرائيل، وأعرى الشام منهم- فكاتبه شهربراز، واستأمنه على أن يأتيه، ففعل فأتاه، فقال: إني بإزاء عدو كلب وأمم مختلفة، لا ينسبون إلى أحساب، وليس ينبغي لذي الحسب والعقل أن يعين أمثال هؤلاء، ولا يستعين بهم على ذوي الأحساب والأصول، وذو الحسب قريب ذي الحسب حيث كان، ولست من القبج في شيء، ولا من الأرمن، وإنكم قد غلبتم على بلادي وأمتي، فأنا اليوم منكم ويدي مع أيديكم، وصغوي معكم، وبارك اللَّه لنا ولكم، وجزيتنا إليكم النصر لكم، والقيام بما تحبون، فلا تذلونا بالجزية فتوهنونا لعدوكم. فقال عبد الرحمن: فوقي رجل قد أظلك فسر إليه، فجوزه، فسار إلى سراقة فلقيه بمثل ذلك، فقال سراقة: قد قبلت ذلك فيمن كان معك على هذا ما دام عليه، ولا بد من الجزاء ممن يقيم ولا ينهض فقبل ذلك، وصار سنة فيمن كان يحارب العدو من المشركين، وفيمن لم يكن عنده الجزاء، إلا أن يستنفروا فتوضع عنهم جزاء تلك السنة وكتب سراقة إلى عمر بْن الخطاب بذلك، فأجازه وحسنه، وليس لتلك البلاد التي في ساحة تلك الجبال نبك لم يقم الأرمن بها إلا على أوفاز، وإنما هم سكان ممن حولها ومن الطراء استأصلت الغارات نبكها من أهل القرار، وأرز أهل الجبال منهم إلى جبالهم، وجلوا عن قرار أرضهم، فكان لا يقيم بها إلا الجنود ومن أعانهم أو تجر إليهم، واكتتبوا من سراقة بْن عمرو كتابا: بسم اللَّه الرحمن الرحيم هذا ما أعطى سراقة بْن عمرو عامل أمير المؤمنين

عمر بن الخطاب شهربراز وسكان أرمينية والأرمن من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وملتهم الا يضاروا ولا ينتقضوا، وعلى اهل أرمينية والأبواب، الطراء منهم والتناء ومن حولهم فدخل معهم أن ينفروا لكل غارة، وينفذوا لكل أمر ناب أو لم ينسب رآه الوالي صلاحا، على أن توضع الجزاء عمن أجاب إلى ذلك إلا الحشر، والحشر عوض من جزائهم ومن استغنى عنه منهم وقعد فعليه مثل ما على أهل أذربيجان من الجزاء والدلالة والنزل يوما كاملا، فإن حشروا وضع ذلك عنهم، وإن تركوا أخذوا به شهد عبد الرحمن بْن ربيعة، وسلمان بْن ربيعة، وبكير بْن عبد اللَّه وكتب مرضي بْن مقرن وشهد ووجه سراقة بعد ذلك بكير بْن عبد اللَّه وحبيب بْن مسلمة وحذيفة بْن أسيد وسلمان بْن ربيعة إلى أهل تلك الجبال المحيطة بأرمينية، فوجه بكيرا إلى موقان، ووجه حبيبا إلى تفليس، وحذيفة بْن أسيد إلى من بجبال اللان، وسلمان بْن ربيعة إلى الوجه الآخر، وكتب سراقة بالفتح وبالذي وجه فيه هؤلاء النفر إلى عمر بْن الخطاب، فأتى عمر أمر لم يكن يرى أنه يستتم له على ما خرج عليه في سريح بغير مئونة وكان فرجا عظيما به جند عظيم، إنما ينتظر أهل فارس صنيعهم، ثم يضعون الحرب أو يبعثونها. فلما استوسقوا واستحلوا عدل الإسلام مات سراقة، واستخلف عبد الرحمن ابن ربيعة، وقد مضى أولئك القواد الذين بعثهم سراقة، فلم يفتح أحد منهم ما وجه له إلا بكير فإنه فض موقان، ثم تراجعوا على الجزية، فكتب لهم: بسم اللَّه الرحمن الرحيم هذا ما أعطى بكير بْن عبد الله اهل موقان من جبال القبج الأمان على أموالهم وأنفسهم وملتهم وشرائعهم على الجزاء، دينار على كل حالم أو قيمته، والنصح، ودلالة المسلم ونزله يومه وليلته، فلهم الأمان ما أقروا ونصحوا، وعلينا الوفاء، والله المستعان فإن تركوا ذلك واستبان منهم غش فلا أمان لهم إلا أن يسلموا الغششة برمتهم، وإلا فهم متمالئون شهد الشماخ بْن ضرار والرسارس بْن جنادب، وحملة بْن جوية. وكتب سنة إحدى وعشرين

قالوا: ولما بلغ عمر موت سراقة واستخلافه عبد الرحمن بْن ربيعة أقر عبد الرحمن على فرج الباب، وأمره بغزو الترك، فخرج عبد الرحمن بالناس حتى قطع الباب، فقال له شهربراز: ما تريد أن تصنع؟ قال: أريد بلنجر، قال: إنا لنرضى منهم أن يدعونا من دون الباب قال: لكنا لا نرضى منهم بذلك حتى نأتيهم في ديارهم، وتالله إن معنا لأقواما لو يأذن لنا أميرنا في الإمعان لبلغت بهم الردم قال: وما هم؟ قال: أقوام صحبوا رسول اللَّه ص ودخلوا في هذا الأمر بنية، كانوا أصحاب حياء وتكرم في الجاهلية، فازداد حياؤهم وتكرمهم، فلا يزال هذا الأمر دائما لهم، ولا يزال النصر معهم حتى يغيرهم من يغلبهم، وحتى يلفتوا عن حالهم بمن غيرهم فغزا بلنجر غزاة في زمن عمر لم تئم فيها امرأة، ولم ييتم فيها صبي، وبلغ خيله في غزاتها البيضاء على رأس مائتي فرسخ من بلنجر، ثم غزا فسلم، ثم غزا غزوات في زمان عثمان، وأصيب عبد الرحمن حين تبدل أهل الكوفة في إمارة عثمان لاستعماله من كان ارتد استصلاحا لهم، فلم يصلحهم ذلك، وزادهم فسادا أن سادهم من طلب الدنيا، وعضلوا بعثمان حتى جعل يتمثل: وكنت وعمرا كالمسمن كلبه ... فخدشه أنيابه وأظافره كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن الغصن بن القاسم، عن رجل، عن سلمان بْن ربيعة، قال: لما دخل عليهم عبد الرحمن بْن ربيعة حال اللَّه بين الترك والخروج عليه، وقالوا: ما اجترأ علينا هذا الرجل الا ومعه الملائكة تمنعه من الموت، فتحصنوا منه وهربوا، فرجع بالغنم والظفر، وذلك في إمارة عمر، ثم إنه غزاهم غزوات في زمن عثمان، ظفر كما كان يظفر، حتى إذا تبدل أهل الكوفة لاستعمال عثمان من كان ارتد فغزاهم بعد ذلك، تذامرت الترك وقال بعضهم لبعض: إنهم لا يموتون، قال: انظروا، وفعلوا فاختفوا لهم في الغياض، فرمى رجل منهم رجلا من

المسلمين على غرة فقتله، وهرب عنه أصحابه، فخرجوا عليه عند ذلك، فاقتتلوا فاشتد قتالهم، ونادى مناد من الجو: صبرا آل عبد الرحمن وموعدكم الجنة! فقاتل عبد الرحمن حتى قتل، وانكشف الناس، وأخذ الراية سلمان بْن ربيعة، فقاتل بها، ونادى المنادي من الجو: صبرا آل سلمان ابن ربيعة! فقال سلمان: أو ترى جزعا! ثم خرج بالناس، وخرج سلمان وأبو هريرة الدوسي على جيلان، فقطعوها إلى جرجان، واجترأ الترك بعدها ولم يمنعهم ذلك من اتخاذ جسد عبد الرحمن، فهم يستسقون به حتى الآن. وحدث عمرو بْن معد يكرب عن مطر بْن ثلج التميمي، قال: دخلت على عبد الرحمن بْن ربيعة بالباب وشهربراز عنده، فأقبل رجل عليه شحوبة، حتى دخل على عبد الرحمن، فجلس إلى شهربراز، وعلى مطر قباء برود يمينية، أرضه حمراء، ووشيه أسود- أو وشيه أحمر- وأرضه سوداء، فتساءلا. ثم إن شهربراز، قال: أيها الأمير، أتدري من أين جاء هذا الرجل؟ هذا الرجل بعثته منذ سنين نحو السد لينظر ما حاله ومن دونه، وزودته مالا عظيما، وكتبت له إلى من يليني، وأهديت له، وسألته أن يكتب له إلى من وراءه، وزودته لكل ملك هدية، ففعل ذلك بكل ملك بينه وبينه، حتى انتهى إليه، فانتهى إلى الملك الذي السد في ظهر أرضه، فكتب له إلى عامله على ذلك البلد، فأتاه فبعث معه بازياره ومعه عقابه، فأعطاه حريرة، قال: فتشكر لي البازيار، فلما انتهينا فإذا جبلان بينهما سد مسدود، حتى ارتفع على الجبلين بعد ما استوى بهما، وإذا دون السد خندق أشد سوادا من الليل لبعده، فنظرت إلى ذلك كله، وتفرست فيه، ثم ذهبت لأنصرف، فقال لي البازيار: على رسلك أكافك! إنه لا يلي ملك بعد ملك إلا تقرب إلى اللَّه بأفضل ما عنده من الدنيا، فيرمي به في هذا اللهب، فشرح بضعة لحم معه، فألقاها في ذلك الهواء، وانقضت عليها العقاب، وقال: إن أدركتها قبل أن تقع فلا شيء، وإن لم تدركها حتى تقع فذلك شيء، فخرجت علينا العقاب باللحم في مخالبها، وإذا فيه ياقوتة، فأعطانيها،

أخبار متفرقة

وها هي هذه فتناولها شهربراز حمراء، فناولها عبد الرحمن، فنظر إليها، ثم ردها إلى شهربراز، وقال شهربراز: لهذه خير من هذا البلد- يعني الباب- وايم اللَّه لأنتم أحب إلي ملكة من آل كسرى، ولو كنت في سلطانهم ثم بلغهم خبرها لانتزعوها مني، وايم اللَّه لا يقوم لكم شيء ما وفيتم ووفى ملككم الأكبر. فأقبل عبد الرحمن على الرسول، وقال: ما حال هذا الردم وما شبهه؟ فقال: هذا الثوب الذي على هذا الرجل، قال: فنظر إلى ثوبي، فقال مطر بْن ثلج لعبد الرحمن بْن ربيعة: صدق والله الرجل، لقد نفذ ورأى، فقال: أجل، وصف صفة الحديد والصفر، وقال: «آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ» إلى آخر الآية. وقال عبد الرحمن لشهربراز: كم كانت هديتك؟ قال: قيمة مائة ألف في بلادي هذه، وثلاثة آلاف ألف أو أكثر في تلك البلدان. وزعم الواقدي أن معاوية غزا الصائفة في هذه السنة، ودخل بلاد الروم في عشرة آلاف من المسلمين . [أخبار متفرقة] وقال بعضهم: في هذه السنة كانت وفاة خالد بْن الوليد. وفيها ولد يزيد بْن معاوية وعبد الملك بْن مروان. وحج بالناس في هذه السنة عمر بْن الخطاب، وكان عامله على مكة عتاب بْن أسيد، وعلى اليمن يعلى بْن أمية، وعلى سائر أمصار المسلمين الذين كانوا عماله في السنة التي قبلها، وقد ذكرناهم قبل . ذكر تعديل الفتوح بين اهل الكوفه والبصره وفي هذه السنة عدل عمر فتوح أهل الكوفة والبصرة بينهم. ذكر الخبر بذلك: كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ وَعَمْرٍو، وَسَعِيدٍ، قَالُوا: أَقَامَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ عَامِلا عَلَى الْكُوفَةِ سَنَةً في اماره

عُمَرَ وَبَعْضَ أُخْرَى وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ سُرَاقَةَ وهو يومئذ على البصره الى عمر ابن الْخَطَّابِ يَذْكُرُ لَهُ كَثْرَةَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَعَجْزَ خَرَاجِهِمْ عَنْهُمْ، وَيَسْأَلُهُ أَنْ يُزِيدَهُمْ أَحَدَ الْمَاهَيْنِ أَوْ مَاسَبَذَانَ وَبَلَغَ ذَلِكَ أَهْلَ الْكُوفَةِ، فَقَالُوا لِعَمَّارٍ: اكْتُبْ لَنَا إِلَى عُمَرَ أَنَّ رَامَهُرْمُزَ وَإِيذَجَ لَنَا دُونَهُمْ، لَمْ يُعِينُونَا عَلَيْهِمَا بِشَيْءٍ، وَلَمْ يَلْحَقُوا بِنَا حَتَّى افْتَتَحْنَاهُمَا، فَقَالَ عَمَّارٌ: مَا لِي وَلِمَا هَاهُنَا! فَقَالَ لَهُ عُطَارِدٌ: فَعَلامَ تَدَعُ فَيْئَنَا أَيُّهَا الْعَبْدُ الأَجْدَعُ! فَقَالَ: لَقَدْ سَبَبْتَ أَحَبَّ أُذُنَيَّ إِلَيَّ وَلَمْ يَكْتُبْ فِي ذَلِكَ فَأَبْغَضُوهُ، وَلَمَّا أَبَى أَهْلُ الْكُوفَةِ إِلا الْخُصُومَةَ فِيهِمَا لأَهْلِ الْبَصْرَةِ شَهِدَ لَهُمْ أَقْوَامٌ عَلَى أَبِي مُوسَى، أَنَّهُ قَدْ كَانَ أَمَّنَ أَهْلَ رَامَهُرْمُزَ وَإِيذَجَ، وَأَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ وَالنُّعْمَانِ رَاسَلُوهُمْ وَهُمْ فِي أَمَانٍ فَأَجَازَ لَهُمْ عُمَرُ ذَلِكَ، وَأَجْرَاهَا لأَهْلِ الْبَصْرَةِ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ وَادَّعَى أَهْلُ الْبَصْرَةِ فِي إِصْبَهَانَ قَرْيَاتٍ افْتَتَحَهَا أَبُو مُوسَى دُونَ جَيٍّ، أَيَّامَ أَمَدَّهُمْ بِهِمْ عُمَرُ إِلَى عَبْدِ اللَّه بْن عَبْدِ اللَّه بْنِ عُتْبَانَ، فَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: أَتَيْتُمُونَا مَدَدًا وَقَدِ افْتَتَحْنَا الْبِلادَ، فَآسَيْنَاكُمْ فِي الْمَغَانِمِ، وَالذِّمَّةُ ذِمَّتُنَا، وَالأَرْضُ أَرْضُنَا، فَقَالَ عُمَرُ: صَدَقُوا ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الأَيَّامِ وَأَهْلَ الْقَادِسِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ أَخَذُوا فِي أَمْرٍ آخَرَ حَتَّى قَالُوا: فَلْيُعْطُونَا نَصِيبَنَا مِمَّا نَحْنُ شُرَكَاؤُهُمْ فِيهِ مِنْ سَوَادِهِمْ وَحَوَاشِيهِ فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: أَتَرْضَوْنَ بِمَاهٍ؟ وَقَالَ لأَهْلِ الْكُوفَةِ: أَتَرْضَوْنَ أَنْ نُعْطِيَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَحَدِ الْمَاهَيْنِ؟ فَقَالُوا: مَا رَأَيْتَ أَنَّهُ يَنْبَغِي فَاعْمَلْ بِهِ، فَأَعْطَاهُمْ مَاهَ دِينَارٍ بِنَصِيبِهِمْ لِمَنْ كَانَ شَهِدَ الأَيَّامَ وَالْقَادِسِيَّةَ مِنْهُمْ إِلَى سواد البصره ومهرجانقذق، وَكَانَ ذَلِكَ لِمَنْ شَهِدَ الأَيَّامَ وَالْقَادِسِيَّةَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَلَمَّا وَلِيَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ- وَكَانَ مُعَاوِيَةُ هُوَ الَّذِي جَنَّدَ قِنَّسْرِينَ من رافضه العراقين ايام على، وانما كانت قنسرين رستاقا مِنْ رَسَاتِيقِ حِمْصَ حَتَّى مَصَّرَهَا مُعَاوِيَةُ وَجَنَّدَهَا بمن ترك الْكُوفَةَ وَالْبَصْرَةَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَأَخَذَ لَهُمْ مُعَاوِيَةُ بِنَصِيبِهِمْ مِنْ فُتُوحِ الْعِرَاقِ أَذْرَبَيْجَانَ وَالْمَوْصِلَ وَالْبَابَ، فَضَمَّهَا فِيمَا ضَمَّ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ وَالْمَوْصِلِ يَوْمَئِذٍ نَاقِلَةً رُمِيَتَا بِكُلِّ مَنْ كَانَ تَرَكَ هِجْرَتَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَلْدَيْنِ، وَكَانَتِ الْبَابُ واذربيجان والجزيرة

وَالْمَوْصِلُ مِنْ فُتُوحِ أَهْلِ الْكُوفَةِ- نَقَلَ ذَلِكَ إِلَى مَنِ انْتَقَلَ مِنْهُمْ إِلَى الشَّامِ أَزْمَانَ عَلِيٍّ، وَإِلَى مَنْ رُمِيَتْ بِهِ الْجَزِيرَةُ وَالْمَوْصِلُ مِمَّنْ كَانَ تَرَكَ هِجْرَتَهُ أَيَّامَ عَلِيٍّ، وَكَفَرَ أَهْلُ أَرْمِينِيَّةَ زَمَانَ مُعَاوِيَةَ، وَقَدْ أَمَّرَ حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ عَلَى الْبَابِ- وَحَبِيبٌ يَوْمَئِذٍ بِجَرْزَانَ- وَكَاتَبَ أَهْلُ تَفْلِيسَ وَتِلْكَ الْجِبَالِ، ثُمَّ نَاجَزَهُمْ، حَتَّى اسْتَجَابُوا وَاعْتَقَدُوا مِنْ حَبِيبٍ وَكَتَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كِتَابًا بَعْدَ مَا كَاتَبَهُمْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ إِلَى اهل تفليس من جرزان ارض الهرمز وسلم أَنْتُمْ، فَإِنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ إِلَيْكُمُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ، فَإِنَّهُ قَدْ قَدِمَ عَلَيْنَا رَسُولُكُمْ تَفَلَّى، فَبَلَّغَ عَنْكُمْ، وَأَدَّى الَّذِي بَعَثْتُمْ وَذَكَرَ تَفَلَّى عَنْكُمْ أَنَّا لَمْ نَكُنْ أُمَّةً فِيمَا تَحْسَبُونَ، وَكَذَلِكَ كُنَّا حَتَّى هَدَانَا اللَّهُ عز وجل بمحمد ص، وَأَعَزَّنَا بِالإِسْلامِ بَعْدَ قِلَّةٍ وَذِلَّةٍ وَجَاهِلِيَّةٍ وَذَكَرَ تفلى أَنَّكُمْ أَحْبَبْتُمْ سِلْمَنَا فَمَا كَرِهْتُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعِي، وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جُزْءٍ السُّلَمِيَّ، وَهُوَ مِنْ أَعْلَمِنَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِاللَّهِ وَأَهْلِ الْقُرْآنِ، وَبَعَثْتُ مَعَهُ بِكِتَابِي بِأَمَانِكُمْ، فَإِنْ رَضِيتُمْ دَفَعَهُ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ كَرِهْتُمْ آذَنَكُمْ بِحَرْبٍ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّه لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ لأَهْلِ تَفْلِيسَ مِنْ جُرْزَانِ أَرْضِ الْهُرْمُزِ، بِالأَمَانِ عَلَى انفسكم وأموالكم وَصَوَامِعِكُمْ وَبِيَعِكُمْ وَصَلَوَاتِكُمْ، عَلَى الإِقْرَارِ بِصِغَارِ الْجِزْيَةِ، عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ دِينَارٌ وَافٍ، وَلَنَا نُصْحُكُمْ وَنَصْرُكُمْ عَلَى عَدُوِّ اللَّهِ وَعَدُوِّنَا، وَقِرَى الْمُجْتَازِ لَيْلَةً مِنْ حَلالِ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَحَلالِ شَرَابِهِمْ، وَهِدَايَةِ الطَّرِيقِ فِي غَيْرِ مَا يَضُرُّ فِيهِ بِأَحَدٍ مِنْكُمْ. فَإِنْ أَسْلَمْتُمْ وَأَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ، فَإِخْوَانُنَا فِي الدِّينِ وَمَوَالِينَا، وَمَنْ تَوَلَّى عَنِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ وَحِزْبِهِ فَقَدْ آذَنَّاكُمْ بِحَرْبٍ عَلَى سَوَاءٍ، إِنَّ اللَّه لا يحب

ذكر عزل عمار عن الكوفه

الْخَائِنِينَ شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، وَالْحَجَّاجُ، وعياض وكتب رياح، وَأُشْهِدُ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا، وَكَفَى بِاللَّهِ شهيدا . ذكر عزل عمار عن الكوفه وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَمَّارًا عَنِ الْكُوفَةِ، وَاسْتَعْمَلَ أَبَا مُوسَى فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرْتُ مَا قَالَ الْوَاقِدِيُّ فِي ذَلِكَ قَبْلُ. ذِكْرُ السَّبَبِ فِي ذَلِكَ: قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرِي بَعْضَ سَبَبِ عَزْلِهِ، وَنَذْكُرُ بَقِيَّتَهُ ذَكَرَ السَّرِيُّ- فِيمَا كَتَبَ بِهِ إِلَيَّ- عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرِي مِنْ شُيُوخِهِ، قَالَ: قَالُوا: وَكَتَبَ أَهْلُ الْكُوفَةِ، عُطَارِدٌ ذَلِكَ وَأُنَاسٌ مَعَهُ إِلَى عُمَرَ فِي عَمَّارٍ، وَقَالُوا: إِنَّهُ لَيْسَ بِأَمِيرٍ، وَلا يَحْتَمِلُ مَا هُوَ فِيهِ، وَنَزَا بِهِ أَهْلُ الْكُوفَةِ فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى عَمَّارٍ: أَنْ أَقْبِلْ، فَخَرَجَ بوفد من اهل الكوفه، ووفد رجالا ممن يرى انهم مَعَهُ، فَكَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهِ مِمَّنْ تَخَلَّفَ، فَجَزِعَ فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ، مَا هَذَا الْجَزَعُ! فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَحْمَدُ نَفْسِي عَلَيْهِ، وَلَقَدِ ابْتُلِيتُ بِهِ- وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ عَمُّ الْمُخْتَارِ، وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَعَهُ- فَسَعِيَا بِهِ، وَأَخْبَرَا عُمَرَ بِأَشْيَاءَ يَكْرَهُهَا، فَعَزَلَهُ عُمَرُ وَلَمْ يُوَلِّهِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ جُمَيْعٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: قِيلَ لِعَمَّارٍ: أَسَاءَكَ الْعَزْلُ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا سَرَّنِي حِينَ اسْتُعْمِلْتُ، وَلَقَدْ سَاءَنِي حِينَ عُزِلْتُ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ وَمُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ لأَهْلِ الْكُوفَةِ: أَيُّ مَنْزِلَيْكُمْ أَعْجَبُ إِلَيْكُمْ؟ - يَعْنِيَ الْكُوفَةَ أَوِ الْمَدَائِنَ- وَقَالَ: إِنِّي لأَسْأَلُكُمْ وَإِنِّي لأَعْرِفُ فَضْلَ أَحَدِهِمَا عَلَى الآخَرِ فِي وُجُوهِكُمْ، فَقَالَ جَرُيرٌ: أَمَّا مَنْزِلُنَا هَذَا الأَدْنَى فَإِنَّهُ أَدْنَى مَحِلَّةً مِنَ السَّوَادِ مِنَ الْبَرِّ، وَأَمَّا الآخَرُ فَوَعْكُ الْبَحْرِ وَغَمُّهُ وَبَعُوضُهُ

فَقَالَ عَمَّارٌ: كَذَبْتَ، فَقَالَ عُمَرُ لِعَمَّارٍ: بَلْ أَنْتَ أَكْذَبُ مِنْهُ، وَقَالَ: مَا تَعْرِفُونَ مَنْ أَمِيرُكُمْ عَمَّارٍ؟ فَقَالَ جَرِيرٌ: هُوَ وَاللَّهِ غَيْرُ كَافٍ وَلا مُجْزٍ وَلا عَالِمٍ بِالسِّيَاسَةِ. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن زَكَرِيَّاءَ بْنِ سِيَاهٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الثَّقَفِيِّ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ مَسْعُودٍ، قَالَ: والله ما يدرى علام استعملته! فَقَالَ عُمَرُ: عَلامَ اسْتَعْمَلْتُكَ يَا عَمَّارُ؟ قَالَ: على الحيرة وأرضها فقال: قد سمعت بِالْحِيرَةِ تُجَّارًا تَخْتَلِفُ إِلَيْهَا، قَالَ: وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: عَلَى بَابِلَ وَأَرْضِهَا، قَالَ: قَدْ سَمِعْتُ بِذِكْرِهَا فِي الْقُرْآنِ. قَالَ: وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: عَلَى الْمَدَائِنِ وَمَا حَوْلَهَا، قَالَ: أَمَدَائِنُ كِسْرَى؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: وَعَلَى أَيِّ شيء؟ قال: على مهرجانقذق وَأَرْضِهَا. قَالُوا: قَدْ أَخْبَرْنَاكَ أَنَّهُ لا يَدْرِي عَلامَ بَعَثْتَهُ! فَعَزَلَهُ عَنْهُمْ، ثُمَّ دَعَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَسَاءَكَ حِينَ عَزَلْتُكَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا فَرِحْتُ بِهِ حِينَ بَعَثْتَنِي، وَلَقَدْ سَاءَنِي حِينَ عَزَلْتَنِي فَقَالَ: لَقَدْ عَلِمْتُ مَا أَنْتَ بِصَاحِبِ عَمَلٍ، وَلَكِنِّي تَأَوَّلْتُ: «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ» . كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ خُلَيْدِ بْنِ ذَفَرَةَ النَّمَرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ بمثله وزياده، فقال: او تحمد نَفْسَكَ بِمَعْرِفَةِ مَنْ تُعَالِجُهُ مُنْذُ قَدِمْت! وَقَالَ: وَاللَّهِ يَا عَمَّارُ لا يَنْتَهِي بِكِ حَدُّكَ حَتَّى يُلْقِيَكَ فِي هَنَةٍ، وَتَاللَّهِ لَئِنْ أَدْرَكَكَ عُمَرُ لَتَرِقَّنَّ، وَلَئِنْ رَقَقْتَ لَتَبْتَلِيَنَّ، فَسَلِ اللَّهَ الْمَوْتَ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ فَقَالَ: مَنْ تُرِيدُونَ يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ؟ فَقَالُوا: أَبَا مُوسَى فَأَمَّرَهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ عَمَّارٍ، فَأَقَامَ عَلَيْهِمْ سَنَةً، فَبَاعَ غُلامَهُ

الْعِلْفَ وَسَمِعَهُ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ، يَقُولُ: ما صحبت قوما قط الا آثرتهم، وو الله مَا مَنَعَنِي أَنْ أُكَذِّبَ شُهُودَ الْبَصْرَةِ إِلا صُحْبَتُهُمْ، وَلَئِنْ صَحِبْتُكُمْ لأَمْنَحَنَّكُمْ خَيْرًا فَقَالَ الْوَلِيدُ: مَا ذَهَبَ بِأَرْضِنَا غَيْرُكَ، وَلا جَرَمَ لا تَعْمَلْ عَلَيْنَا فَخَرَجَ وَخَرَجَ مَعَهُ نَفَرٌ، فَقَالُوا: لا حَاجَةَ لَنَا فِي أَبِي مُوسَى، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالُوا: غُلامٌ لَهُ يَتْجَرُ فِي حَشْرِنَا فَعَزَلَهُ عَنْهُمْ وَصَرَفَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَصَرَفَ عُمَرَ بْنَ سُرَاقَةَ إِلَى الْجَزِيرَةِ وَقَالَ لأَصْحَابِ أَبِي مُوسَى الَّذِينَ شَخَصُوا فِي عَزْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ: أَقَوِيٌّ مُشَدِّدٌ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ أَمْ ضَعِيفٌ مُؤْمِنٌ؟ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُمْ شَيْئًا، فَتَنَحَّى، فَخَلا فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَنَامَ فَأَتَاهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَكَلأَهُ حَتَّى اسْتَيْقَظَ، فَقَالَ: مَا فَعَلْتَ هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِلا مِنْ عَظِيمٍ، فَهَلْ نَابَكَ مِنْ نَائِبٍ؟ قَالَ: وَأَيُّ نَائِبٍ أَعْظَمَ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ لا يَرْضَوْنَ عَنْ أَمِيرٍ، وَلا يَرْضَى عَنْهُمْ أَمِيرٌ! وَقَالَ فِي ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ. وَاخْتَطَّتِ الْكُوفَةُ حِينَ اخْتَطَّتْ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَأَتَاهُ أَصْحَابُهُ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: شَأْنِي أَهْلُ الْكُوفَةِ قَدْ عَضِلُوا بِي. وَأَعَادَ عليهم عمر المشورة التي استشار فيها، فَأَجَابَهُ الْمُغِيرَةُ فَقَالَ: أَمَّا الضَّعِيفُ الْمُسْلِمُ فَضَعْفُهُ عَلَيْكَ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ وَفَضْلُهُ لَهُ، وَأَمَّا الْقَوِيُّ الْمُشَدِّدُ فَقُوَّتُهُ لَكَ وَلِلْمُسْلِمِينَ، وَشِدَادُهُ عَلَيْهِ وَلَهُ فَبَعَثَهُ عَلَيْهِمْ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ عُمَرَ قَالَ قَبْلَ أَنِ اسْتَعْمَلَ الْمُغِيرَةَ: مَا تَقُولُونَ فِي تَوْلِيَةِ رَجُلٍ ضَعِيفٍ مُسْلِمٍ أَوْ رَجُلٍ قَوِيٍّ مُشَدِّدٍ؟ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: أَمَّا الضَّعِيفُ الْمُسْلِمُ فَإِنَّ إِسْلامَهُ لنِفَسْهِ وَضَعْفَهُ عَلَيْكَ، وَأَمَّا الْقَوِيُّ الْمُشَدِّدُ فَإِنَّ شِدَادَهُ لِنَفْسِهِ وَقُوَّتَهُ لِلْمُسْلِمِينَ قَالَ: فَإِنَّا بَاعِثُوكَ يَا مُغِيرَةُ فَكَانَ الْمُغِيرَةُ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَذَلِكَ نَحْوٌ مِنْ سَنَتَيْنِ وَزِيَادَةٍ فَلَمَّا وَدَّعَهُ الْمُغِيرَةُ لِلذَّهَابِ إِلَى الْكُوفَةِ، قَالَ لَهُ: يَا مُغِيرَةُ لِيَأْمَنْكَ الأَبْرَارُ، وَلْيَخَفْكَ الْفُجَّارُ. ثُمَّ أَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَبْعَثَ سَعْدًا عَلَى عَمَلِ الْمُغِيرَةِ فَقُتِلَ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَهُ، فَأَوْصَى بِهِ، وَكَانَ مِنْ سُنَّةِ عُمَرَ وَسِيرَتِهِ أَنْ يَأْخُذَ عُمَّالَهُ بِمُوَافَاةِ الْحَجِّ فِي كُلِّ سَنَةٍ

ذكر مصير يزدجرد إلى خراسان وما كان السبب في ذلك

لِلسِّيَاسَةِ، وَلِيَحْجِزَهُمْ بِذَلِكَ عَنِ الرَّعِيَّةِ، وَلِيَكُونَ لِشَكَاةِ الرعية وقتا وَغَايَةٌ يُنْهُونَهَا فِيهِ إِلَيْهِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا الأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ- فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ خُرَاسَانَ- وَحَارَبَ يَزْدَجَرْدَ، وَأَمَّا فِي رِوَايَةِ سَيْفٍ فَإِنَّ خُرُوجَ الأَحْنَفِ إِلَى خُرَاسَانَ كَانَ فِي سنه ثمان عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ ذكر مصير يزدجرد إلى خراسان وما كان السبب في ذلك اختلف أهل السير في سبب ذلك وكيف كان الأمر فيه، فأما ما ذكره سيف عن أصحابه في ذلك، فإنه فيما كتب به إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: كان يزدجرد بْن شهريار بْن كسرى- وهو يومئذ ملك فارس- لما انهزم أهل جلولاء خرج يريد الري، وقد جعل له محمل واحد يطبق ظهر بعيره، فكان إذا سار نام فيه ولم يعرس بالقوم فانتهوا به إلى مخاضة وهو نائم في محمله، فأنبهوه ليعلم، ولئلا يفزع إذا خاض البعير إن هو استيقظ، فعنفهم وقال: بئسما صنعتم! والله لو تركتموني لعلمت ما مدة هذه الأمة، إني رأيت أني ومحمدا تناجينا عند اللَّه، فقال له: أملكهم مائة سنة، فقال: زدني، فقال: عشرا ومائة سنة، فقال: زدني، فقال: عشرين ومائة سنة، فقال: زدني، فقال: لك. وأنبهتموني، فلو تركتموني لعلمت ما مدة هذه الأمة. فلما انتهى إلى الري، وعليها آبان جاذويه، وثب عليه فأخذه، فقال: يا آبان جاذويه، تغدر بي! قال: لا، ولكن قد تركت ملكك، وصار في يد غيرك، فأحببت أن أكتتب على ما كان لي من شيء، وما أردت غير ذلك وأخذ خاتم يزدجرد ووصل الأدم، واكتتب الصكاك وسجل السجلات بكل ما أعجبه، ثم ختم عليها ورد الخاتم ثم أتى بعد سعدا فرد عليه كل شيء في كتابه ولما صنع آبان جاذويه بيزدجرد ما صنع

خرج يزدجرد من الري إلى إصبهان، وكره آبان جاذويه، فَارًّا مِنْهُ وَلَمْ يَأْمَنْهُ ثُمَّ عَزَمَ على كرمان، فأتاها والنار معه، فأراد أن يضعها في كرمان، ثم عزم على خراسان، فأتى مرو، فنزلها وقد نقل النار، فبنى لها بيتا واتخذ بستانا، وبنى أزجا فرسخين من مرو إلى البستان، فكان على رأس فرسخين من مرو، واطمأن في نفسه وأمن أن يؤتى، وكاتب من مرو من بقي من الأعاجم فيما لم يفتتحه المسلمون، فدانوا له، حتى أثار أهل فارس والهرمزان فنكثوا، وثار أهل الجبال والفيرزان فنكثوا، وصار ذلك داعية إلى إذن عمر للمسلمين في الانسياح، فانساح أهل البصرة وأهل الكوفة حتى أثخنوا في الأرض، فخرج الأحنف إلى خراسان، فاخذ على مهرجانقذق، ثم خرج إلى إصبهان- وأهل الكوفة محاصرو جي- فدخل خراسان من الطبسين، فافتتح هراة عنوة، واستخلف عليها صحار بْن فلان العبدي ثم سار نحو مرو الشاهجان، وأرسل إلى نيسابور- وليس دونها قتال- مطرف بْن عبد اللَّه بْن الشخير والحارث بْن حسان إلى سرخس، فلما دنا الأحنف من مرو الشاهجان خرج منها يزدجرد نحو مرو الروذ حتى نزلها، ونزل الأحنف مرو الشاهجان، وكتب يزدجرد وهو بمرو الروذ إلى خاقان يستمده، وكتب إلى ملك الصغد يستمده، فخرج رسولاه نحو خاقان وملك الصغد، وكتب إلى ملك الصين يستعينه، وخرج الأحنف من مرو الشاهجان، واستخلف عليها حاتم بْن النعمان الباهلي بعد ما لحقت به أمداد أهل الكوفة، على أربعة أمراء: علقمة بْن النضر النضري، وربعي بْن عامر التميمي، وعبد اللَّه بْن أبي عقيل الثقفي، وابن أم غزال الهمذاني، وخرج سائرا نحو مرو الروذ، حتى إذا بلغ ذلك يزدجرد خرج إلى بلخ، ونزل الأحنف مرو الروذ، وقدم أهل الكوفة، فساروا إلى بلخ، واتبعهم الأحنف، فالتقى أهل الكوفة ويزدجرد ببلخ، فهزم اللَّه يزدجرد، وتوجه في أهل فارس إلى النهر فعبر، ولحق الأحنف باهل

الكوفة، وقد فتح اللَّه عليهم، فبلخ من فتوح أهل الكوفة وتتابع أهل خراسان ممن شذ أو تحصن على الصلح فيما بين نيسابور إلى طخارستان ممن كان في مملكة كسرى، وعاد الأحنف إلى مرو الروذ، فنزلها واستخلف على طخارستان ربعي بْن عامر، وهو الذي يقول فيه النجاشي- ونسبه إلى أمه، وكانت من أشراف العرب: ألا رب من يدعى فتى ليس بالفتى ... ألا إن ربعي ابن كأس هو الفتى طويل قعود القوم في قعر بيته ... إذا شبعوا من ثفل جفتته سقى كتب الأحنف إلى عمر بفتح خراسان، فقال: لوددت أني لم أكن بعثت إليها جندا، ولوددت أنه كان بيننا وبينها بحر من نار، فقال علي: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: لأن أهلها سينفضون منها ثلاث مرات، فيجتاحون في الثالثة، فكان أن يكون ذلك بأهلها أحب إلي من أن يكون بالمسلمين. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفَزَارِيِّ، عَنْ أَبِي الْجَنُوبِ اليشكري، [عن على بن ابى طالب ع، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عُمَرُ عَلَى فَتْحِ خُرَاسَانَ، قَالَ: لَوَدِدْتُ أَنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا بَحْرًا مِنْ نَارٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ: وَمَا يَشْتَدُّ عَلَيْكَ مِنْ فَتْحِهَا! فَإِنَّ ذَلِكَ لَمَوْضِعُ سُرُورٍ،] قَالَ: أَجَلْ وَلَكِنِّي حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عِيسَى بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ يُدْعَى الْوَازِعَ بْنَ زَيْدِ بْنِ خُلَيْدَةَ، قَالَ: لَمَّا بَلَغَ عُمَرُ غَلَبَةَ الأَحْنَفِ عَلَى الْمَرْوَيْنِ وَبَلْخَ، قَالَ: وَهُوَ الأَحْنَفُ، وَهُوَ سَيِّدُ أَهْلِ الْمَشْرِقِ الْمُسَمَّى بِغَيْرِ اسْمِهِ وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى الأَحْنَفِ: أَمَّا بَعْدُ، فَلا تَجُوزَنَّ النَّهْرَ وَاقْتَصِرْ عَلَى مَا دُونَهُ، وَقَدْ عَرَفْتُمْ بِأَيِّ شَيْءٍ دَخَلْتُمْ عَلَى خُرَاسَانَ، فَدَاوِمُوا عَلَى الَّذِي دَخَلْتُمْ بِهِ خُرَاسَانَ يَدُمْ لَكُمُ النَّصْرُ، وإياكم ان تعبروا فتفضوا ولما بلغ رسولا يَزْدَجَرْد خَاقَان وَغَوْزَك، لَمْ يَسْتَتِبْ لَهُمَا إِنْجَادُهُ حتى عبر

إِلَيْهِمَا النَّهْرَ مَهْزُومًا، وَقَدِ اسْتَتَبَ فَأَنْجَدَهُ خَاقَانُ- وَالْمُلُوكُ تَرَى عَلَى أَنْفُسِهَا إِنْجَادَ الْمُلُوكِ- فَأَقْبَلَ فِي التُّرْكِ، وَحَشَرَ أَهْلُ فَرْغَانَةَ وَالصُّغْدِ، ثُمَّ خَرَجَ بِهِمْ، وَخَرَجَ يَزْدَجَرْدُ رَاجِعًا إِلَى خُرَاسَانَ، حَتَّى عَبَرَ إِلَى بَلْخَ، وَعَبَرَ مَعَهُ خَاقَانُ، فَأَرَزَ أَهْلُ الْكُوفَةِ إِلَى مَرْوِ الرُّوذِ إِلَى الأَحْنَفِ، وَخَرَجَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ بَلْخَ حَتَّى نَزَلُوا عَلَى الأَحْنَفِ بِمَرْوِ الرُّوذِ وَكَانَ الأَحْنَفُ حِينَ بلغه عبور خاقان والصغد نهر بَلْخَ غَازِيًا لَهُ، خَرَجَ فِي عَسْكَرِهِ لَيْلا يَتَسَمَّعُ: هَلْ يَسْمَعُ بِرَأْيٍ يَنْتَفِعُ بِهِ؟ فَمَرَّ بِرَجُلَيْنِ يُنَقِّيَانِ عَلَفًا، إِمَّا تِبْنًا وَإِمَّا شَعِيرًا، وَأَحَدُهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: لَوْ أَنَّ الأَمِيرَ أَسْنَدَنَا إِلَى هَذَا الْجَبَلِ، فَكَانَ النَّهْرُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَدُوِّنَا خَنْدَقًا، وَكَانَ الْجَبَلُ فِي ظُهُورِنَا مِنْ أَنْ نُؤْتَى مِنْ خَلْفِنَا، وَكَانَ قِتَالُنَا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ رَجَوْتُ أَنْ يَنْصُرَنَا اللَّهُ فَرَجَعَ وَاجْتَزَأَ بِهَا، وَكَانَ فِي لَيْلَةٍ مِظْلِمَةٍ، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَمَعَ النَّاسَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُمْ قَلِيلٌ، وَإِنَّ عَدُوَّكُمْ كَثِيرٌ، فَلا يَهُولَنَّكُمْ، فَ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ، ارْتَحِلُوا مِنْ مَكَانِكُمْ هَذَا، فَأَسْنِدُوا إِلَى هَذَا الْجَبَلِ، فَاجْعَلُوهُ فِي ظُهُورِكُمْ، وَاجْعَلُوا النَّهْرَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّكُمْ، وَقَاتِلُوهُمْ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ فَفَعَلُوا، وَقَدْ أَعَدُّوا مَا يُصْلِحُهُمْ، وَهُوَ فِي عَشَرَةَ آلافٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ نَحْوٌ مِنْهُمْ وَأَقْبَلَتِ التُّرْكُ وَمَنْ أَجْلَبَتْ حَتَّى نَزَلُوا بِهِمْ، فَكَانُوا يُغَادُونَهُمْ وَيُرَاوِحُونَهُمْ وَيَتَنَحَّوْنَ عَنْهُمْ بِاللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ وَطَلَبَ الأَحْنَفُ عِلْمَ مَكَانِهِمْ بِاللَّيْلِ، فَخَرَجَ لَيْلَةً بَعْدَ مَا عَلِمَ عِلْمَهُمْ، طَلِيعَةً لأَصْحَابِهِ حَتَّى كَانَ قَرِيبًا مِنْ عَسْكَرِ خَاقَانَ فَوَقَفَ، فَلَمَّا كَانَ فِي وَجْهِ الصُّبْحِ خَرَجَ فَارِسٌ مِنَ التُّرْكِ بِطَوْقِهِ، وَضَرَبَ بِطَبْلِهِ، ثُمَّ وَقَفَ مِنَ الْعَسْكَرِ مَوْقِفًا يَقِفُهُ مِثْلُهُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ الأَحْنَفُ، فَاخْتَلَفَا طَعْنَتَيْنِ، فَطَعَنَهُ الأَحْنَفُ فَقَتَلَهُ، وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ: إِنَّ عَلَى كُلِّ رَئِيسٍ حَقَّا ... أَنْ يَخْضِبَ الصَّعْدَةَ أَوْ تَنْدَقَّا إِنَّ لَنَا شَيْخًا بِهَا مُلَقَّى ... سَيْفُ أَبِي حَفْصِ الَّذِي تَبَقَّى ثُمَّ وَقَفَ مَوْقِفَ التُّرْكِيِّ وَأَخَذَ طَوْقَهُ، وَخَرَجَ آخَرُ مِنَ التُّرْكِ، فَفَعَلَ

فِعْلَ صَاحِبِهِ الأَوَّلِ، ثُمَّ وَقَفَ دُونَهُ فَحَمَلَ عَلَيْهِ الأَحْنَفُ، فَاخْتَلَفَا طَعْنَتَيْنِ، فَطَعَنَهُ الأَحْنَفُ فَقَتَلَهُ وَهُوَ يَرْتَجِزُ: إِنَّ الرَّئِيسِ يَرْتَبِي وَيَطْلَعُ ... وَيَمْنَعُ الْخَلاءَ إِمَّا أَرْبَعُوا ثُمَّ وَقَفَ مَوْقِفَ التُّرْكِيِّ الثَّانِي، وَأَخَذَ طَوْقَهُ، ثُمَّ خَرَجَ ثَالِثٌ مِنَ التُّرْكِ، فَفَعَلَ فِعْلَ الرَّجُلَيْنِ، وَوَقَفَ دُونَ الثَّانِي مِنْهُمَا، فَحَمَلَ عَلَيْهِ الأَحْنَفُ، فَاخْتَلَفَا طَعْنَتَيْنِ، فَطَعَنَهُ الأَحْنَفُ، فَقَتَلَهُ وَهُوَ يَرْتَجِزُ: جَرْيُ الشُّمُوسِ نَاجِزًا بِنَاجِزِ ... مُحْتَفِلا فِي جَرْيِهِ مُشَارِزِ ثُمَّ انْصَرَفَ الأَحْنَفُ إِلَى عَسْكَرِهِ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَتَّى دَخَلَهُ وَاسْتَعَدَّ وَكَانَ مِنْ شِيمَةِ التُّرْكِ أَنَّهُمْ لا يَخْرُجُونَ حَتَّى يَخْرُجُ ثَلاثَةٌ مِنْ فُرْسَانِهِمْ كَهُؤلاءِ، كُلِّهِمْ يَضْرِبُ بِطَبْلِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ بَعْدَ خُرُوجِ الثَّالِثِ، فَخَرَجَتِ التُّرْكُ لَيْلَتَئِذٍ بَعْدَ الثَّالِثِ، فَأَتَوْا عَلَى فُرْسَانِهِمْ مُقَتَّلِينَ، فَتَشَاءَمَ خَاقَانُ وَتَطَيَّرَ، فَقَالَ: قَدْ طَالَ مُقَامُنَا، وَقَدْ أُصِيبَ هَؤُلاءِ الْقَوْمُ بِمَكَانٍ لَمْ يُصَبْ بِمِثْلِهِ قَطُّ، مَا لَنَا فِي قِتَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ مِنْ خَيْرٍ، فَانْصَرَفُوا بِنَا، فَكَانَ وُجُوهُهُمْ رَاجِعِينَ، وَارْتَفَعَ النَّهَارُ لِلْمُسْلِمِينَ وَلا يَرَوْنَ شَيْئًا، وَأَتَاهُمُ الْخَبَرُ بِانْصِرَافِ خَاقَانَ إِلَى بَلْخَ وَقَدْ كَانَ يَزْدَجَرْدُ بْنُ شَهْرَيَارَ بْنِ كِسْرَى تَرَكَ خَاقَانَ بِمَرْوِ الرُّوذِ، وَخَرَجَ إِلَى مَرْوِ الشَّاهِجَانِ، فَتَحَصَّنَ منه حاتم بْنُ النُّعْمَانِ وَمَنْ مَعَهُ، فَحَصَرَهُمْ وَاسْتَخْرَجَ خَزَائِنَهُ مِنْ مَوْضِعِهَا، وَخَاقَانُ بِبَلْخَ مُقِيمٌ لَهُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ لِلأَحْنَفِ: مَا تَرَى فِي اتِّبَاعِهِمْ؟ فَقَالَ: أَقِيمُوا بِمَكَانِكُمْ وَدَعُوهُمْ وَلَمَّا جَمَعَ يَزْدَجَرْدُ مَا كَانَ فِي يَدَيْهِ مِمَّا وَضَعَ بِمَرْوَ، فَأَعْجَلَ عَنْهُ، وَأَرَادَ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِهِ مِنْهَا، إِذْ هُوَ أَمْرٌ عَظِيمٌ مِنْ خَزَائِنِ أَهْلِ فَارِسَ، وَأَرَادَ اللِّحَاقَ بِخَاقَانَ فَقَالَ لَهُ أَهْلُ فَارِسَ أَيُّ شَيْءٍ تُرِيدُ أَنْ تَصْنَعَ؟ فَقَالَ: أُرِيدُ اللِّحَاقَ بِخَاقَانَ فَأَكُونُ مَعَهُ أَوْ بِالصِّينِ، فَقَالُوا لَهُ: مَهْلا، فَإِنَّ هَذَا رَأْيُ سُوءٍ، إِنَّكَ إِنَّمَا تَأْتِي قَوْمًا فِي مَمْلَكَتِهِمْ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَقَوْمَكَ، وَلَكِنِ ارْجِعْ

بِنَا إِلَى هَؤُلاءِ الْقَوْمِ فَنُصَالِحَهُمْ، فَإِنَّهُمْ أَوْفِيَاءُ وَأَهْلُ دِينٍ، وَهُمْ يَلُونَ بِلادَنَا، وَإِنَّ عَدُوًّا يَلِينَا فِي بِلادِنَا أَحَبُّ إِلَيْنَا مَمْلَكَةً مِنْ عَدُوٍّ يَلِينَا فِي بِلادِهِ وَلا دِينَ لَهُمْ، وَلا نَدْرِي مَا وَفَاؤُهُمْ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ وَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَقَالُوا: فَدَعْ خَزَائِنَنَا نَرُدَّهَا إِلَى بِلادِنَا ومن يليها، ولا تخرجها من بلادها إِلَى غَيْرِهَا، فَأَبَى، فَقَالُوا: فَإِنَّا لا نَدَعُكَ، فَاعْتَزَلُوا وَتَرَكُوهُ فِي حَاشِيَتِهِ، فَاقْتَتَلُوا، فَهَزَمُوهُ وَأَخَذُوا الْخَزَائِنَ، وَاسْتَوْلُوا عَلَيْهَا وَنَكَبُوهُ، وَكَتَبُوا إِلَى الأَحْنَفِ بِالْخَبَرِ، فَاعْتَرَضَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ بِمَرْوَ يَثْفِنُونَهُ، فَقَاتَلُوهَ وَأَصَابُوهُ فِي آخِرِ الْقَوْمِ، وَأَعْجَلُوهُ عَنِ الأَثْقَالِ، وَمَضَى مُوَائِلا حَتَّى قَطَعَ النَّهْرَ إِلَى فَرْغَانَةَ وَالتُّرْكِ، فَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا زَمَانَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّهُ يُكَاتِبُهُمْ وَيُكَاتِبُونَهُ، أَوْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْهُمْ فَكَفَرَ أَهْلُ خُرَاسَانَ زَمَانَ عُثْمَانَ وَأَقْبَلَ أَهْلُ فَارِسَ عَلَى الأَحْنَفِ فَصَالَحُوهُ وَعَاقَدُوهُ، وَدَفَعُوا إِلَيْهِ تِلْكَ الْخَزَائِنَ وَالأَمْوَالَ، وَتَرَاجَعُوا إِلَى بُلْدَانِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ عَلَى أَفْضَلِ مَا كَانُوا فِي زَمَانِ الأَكَاسِرَةِ، فَكَانُوا كَأَنَّمَا هُمْ فِي مُلْكِهِمْ، إِلا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَوْفَى لَهُمْ وَأَعْدَلُ عَلَيْهِمْ، فَاغْتَبَطُوا وَغُبِطُوا، وَأَصَابَ الْفَارِسُ يَوْمَ يَزْدَجَرْدَ كَسَهْمِ الْفَارِسِ يَوْمِ الْقَادِسِيَّةِ. وَلَمَّا خَلَعَ أَهْلُ خُرَاسَانَ زَمَانَ عُثْمَانَ أَقْبَلَ يَزْدَجَرْدُ حَتَّى نَزَلَ بِمَرْوَ، فَلَمَّا اخْتَلَفَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ وَأَهْلُ خُرَاسَانَ أَوَى إِلَى طَاحُونَةٍ، فَأَتَوْا عَلَيْهِ يَأْكُلُ من كرد حول الرحا، فَقَتَلُوهُ ثُمَّ رَمَوْا بِهِ فِي النَّهْرِ. وَلَمَّا أُصِيبَ يَزْدَجَرْدُ بِمَرْوَ- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُخْتَبِئٌ فِي طَاحُونَةٍ يُرِيدُ أَنْ يَطْلُبَ اللِّحَاقَ بِكَرْمَانَ- فَاحْتَوَى فَيْئَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، وَبَلَغَ ذَلِكَ الأَحْنَفَ، فَسَارَ مِنْ فَوْرِهِ ذَلِكَ فِي النَّاسِ إِلَى بَلْخَ يُرِيدُ خَاقَانَ، وَيَتْبَعُ حَاشِيَةَ يَزْدَجَرْدَ وَأَهْلَهُ فِي الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، وَخَاقَانُ وَالتُّرْكُ ببلخ فلما سمع بما القى يَزْدَجَرْدُ وَبِخُرُوجِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الأَحْنَفِ مِنْ مَرْوِ الرُّوذِ نَحْوَهُ، تَرَكَ بَلْخَ وَعَبَرَ النَّهْرَ، وَأَقْبَلَ الأَحْنَفُ حَتَّى نَزَلَ بَلْخَ، وَنَزَلَ أَهْلُ الْكُوفَةِ فِي كُوَرِهَا الأَرْبَعِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَرْوِ الرُّوذِ فَنَزَلَ بِهَا، وَكَتَبَ

بِفَتْحِ خَاقَانَ وَيَزْدَجَرْدَ إِلَى عُمَرَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِالأَخْمَاسِ، وَوَفَدَ إِلَيْهِ الْوُفُودُ. قَالُوا: وَلَمَّا عَبَرَ خَاقَانُ النَّهْرَ، وَعَبَرَتْ مَعَهُ حَاشِيَةُ آلِ كِسْرَى، أَوْ مَنْ أَخَذَ نَحْوَ بَلْخَ مِنْهُمْ مَعَ يَزْدَجَرْدَ، لَقُوا رَسُولَ يَزْدَجَرْدَ الَّذِي كَانَ بُعِثَ الى ملك الصين، واهدى اليه معه هدايا، وَمَعَهُ جَوَابُ كِتَابِهِ مِنْ مَلِكِ الصِّينِ فَسَأَلُوهُ عَمَّا وَرَاءَهُ، فَقَالَ: لَمَّا قَدِمْتُ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ وَالْهَدَايَا كَافَأْنَا بِمَا تَرَوْنَ- وَأَرَاهُمْ هَدِيَّتَهُ وَأَجَابَ يَزْدَجَرْدُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِهَذَا الْكِتَابِ بَعْدَ مَا كَانَ قَالَ لِي: قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ حَقًّا عَلَى الْمُلُوكِ إِنْجَادُ الْمُلُوكِ عَلَى مَنْ غَلَبَهُمْ، فَصِفْ لِي صِفَةَ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ بِلادِكُمْ، فَإِنِّي أَرَاكَ تَذْكُرُ قِلَّةً مِنْهُمْ وَكَثْرَةً مِنْكُمْ، وَلا يَبْلُغُ أَمْثَالُ هَؤُلاءِ الْقَلِيلِ الَّذِينَ تَصِفُ مِنْكُمْ فِيمَا أَسْمَعُ مِنْ كَثْرَتِكُمْ إِلا بِخَيْرٍ عِنْدَهُمْ وَشَرٍّ فِيكُمْ، فَقُلْتُ: سَلْنِي عَمَّا أَحْبَبْتَ، فَقَالَ: أَيُوفُونَ بِالْعَهْدِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: وَمَا يَقُولُونَ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ؟ قُلْتُ: يَدْعُونَنَا إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْ ثَلاثٍ: إِمَّا دِينُهُمْ فَإِنْ أَجَبْنَاهُمْ أَجْرُونَا مُجْرَاهُمْ، أَوِ الْجِزْيَةُ وَالْمَنَعَةُ، أَوِ الْمُنَابَذَةُ قَالَ: فَكَيْفَ طَاعَتُهُمْ أُمَرَاءَهُمْ؟ قُلْتُ: أَطْوَعُ قَوْمٍ لِمُرْشِدِهِمْ، قَالَ: فَمَا يُحِلُّونَ وَمَا يُحَرِّمُونَ؟ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: أَيُحَرِّمُونَ مَا حُلِّلَ لَهُمْ، أَوْ يُحِلُّونَ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ؟ قُلْتُ لا، قَالَ: فَإِنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَهْلِكُونَ أَبَدًا حَتَّى يُحِلُّوا حَرَامَهُمْ وَيُحَرِّمُوا حَلالَهُمْ ثُمَّ قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ لِبَاسِهِمْ، فَأَخْبَرْتُهُ، وَعَنْ مَطَايَاهُمْ، فَقُلْتُ: الْخَيْلُ الْعِرَابُ- وَوَصَفْتُهَا- فَقَالَ: نِعْمَتِ الْحُصُونُ هَذِهِ! وَوَصَفْتُ لَهُ الإِبِلَ وَبُرُوكَهَا وَانْبِعَاثَهَا بِحَمْلِهَا، فَقَالَ: هَذِهِ صِفَةُ دَوَابٍّ طِوَالِ الأَعْنَاقِ. وَكَتَبَ معه الى يزدجرد كتابا: أَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَبْعَثَ إِلَيْكَ بِجَيْشٍ أَوَّلُهُ بِمَرْوَ وَآخِرُهُ بِالصِّينِ الْجَهَالَةُ بِمَا يَحِقُّ عَلَيَّ، وَلَكِنْ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ وَصَفَ لِي رَسُولُكَ صِفَتَهُمْ لَوْ يُحَاوِلُونَ الْجِبَالَ لَهَدُّوَها، وَلَوْ خلى سربهم

أَزَالُونِي مَا دَامُوا عَلَى مَا وَصَفَ، فَسَالِمْهُمْ وارض منهم بالمساكنه، ولا تهجم مَا لَمْ يُهِيجُوكَ وَأَقَامَ يَزْدَجَرْدُ وَآلُ كِسْرَى بِفَرْغَانَةَ، مَعَهُمْ عَهْدٌ مِنْ خَاقَانَ وَلَمَّا وَقَعَ الرَّسُولُ بِالْفَتْحِ وَالْوَفْدُ بِالْخَبَرِ وَمَعَهُمُ الْغَنَائِمُ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ قِبَلِ الأَحْنَفِ، جَمَعَ النَّاسَ وَخَطَبَهُمْ، وَأَمَرَ بِكِتَابِ الْفَتْحِ فَقُرِئَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَكَرَ رسوله ص وَمَا بَعَثَهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى، وَوَعَدَ عَلَى أَتْبَاعِهِ مِنْ عَاجِلِ الثَّوَابِ وَآجِلِهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَقَالَ: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ*» ، فالحمد الَّذِي أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ جُنْدَهُ أَلا إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مُلْكَ الْمَجُوسِيَّةِ، وَفَرَّقَ شَمْلَهُمْ، فَلَيْسُوا يَمْلِكُونَ مِنْ بِلادِهِمْ شِبْرًا يَضُرُّ بِمُسْلِمٍ أَلا وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ، لِيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ! أَلا وَإِنَّ الْمِصْرَيْنِ مِنْ مَسَالِحِهَا الْيَوْمَ كَأَنْتُمْ وَالْمِصْرَيْنِ فِيمَا مَضَى مِنَ الْبُعْدِ، وَقَدْ وَغَلُوا فِي الْبِلادِ، وَاللَّهُ بَالِغٌ أَمْرَهُ، وَمُنْجِزٌ وَعْدَهُ، وَمُتْبِعٌ آخِرَ ذَلِكَ أَوَّلَهُ، فَقُومُوا فِي أَمْرِهِ عَلَى رَجُلٍ يُوفِ لَكُمْ بِعَهْدِهِ، وَيُؤْتِكُمْ وَعْدَهُ، وَلا تَبَدَّلُوا وَلا تُغَيِّرُوا، فَيَسْتَبْدِلَ اللَّهُ بِكُمْ غَيْرَكُمْ، فَإِنِّي لا أَخَافُ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ أَنْ تُؤْتَى إِلا مِنْ قِبَلَكُمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: ثُمَّ إِنْ أَدَّانِي أَهْلُ خُرَاسَانَ وَأَقَاصِيهِ اعْتَرَضُوا زَمَانَ عثمان ابن عَفَّانَ لِسَنَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ إِمَارَتِهِ، وَسَنَذْكُرُ بَقِيَّةَ خَبَرِ انْتِقَاضِهِمْ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَعَ مَقْتَلِ يَزْدَجَرْدَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَكَانَتْ عُمَّالُهُ عَلَى الأَمْصَارِ فِيهَا عُمَّالَهُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَيْهَا فِي سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ غَيْرَ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، فَإِنَّ عَامِلَهُ عَلَى الْكُوفَةِ وَعَلَى الأَحْدَاثِ كَانَ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ

سنه ثلاث وعشرين

ثلاث وعشرين فكان فيها فتح إصطخر في قول أبي معشر، حدثني بذلك أحمد بن ثابت الرازي، قال: حدثنا محدث، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، قال: كانت إصطخر الأولى وهمذان سنة ثلاث وعشرين وقال الواقدي مثل ذلك وقال سيف: كان فتح إصطخر بعد توج الآخرة. ذكر الخبر عن فتح توج كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن محمد، وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: خرج أهل البصرة الذين وجهوا إلى فارس أمراء على فارس، ومعهم سارية بْن زنيم ومن بعث معهم إلى ما وراء ذلك، وأهل فارس مجتمعون بتوج، فلم يصمدوا لجمعهم بجموعهم، ولكن قصد كل أمير كورة منهم قصد إمارته وكورته التي أمر بها، وبلغ ذلك أهل فارس، فافترقوا إلى بلدانهم، كما افترق المسلمون ليمنعوها، وكانت تلك هزيمتهم وتشتت أمورهم وتفريق جموعهم، فتطير المشركون من ذلك، وكأنما كانوا ينظرون إلى ما صاروا إليه، فقصد مجاشع بْن مسعود لسابور وأردشير خرة فيمن معه من المسلمين، فالتقوا بتوج وأهل فارس، فاقتتلوا ما شاء اللَّه ثم إن اللَّه عز وجل هزم أهل توج للمسلمين، وسلط عليهم المسلمين، فقتلوهم كل قتلة، وبلغوا منهم ما شاءوا، وغنمهم ما في عسكرهم فحووه، وهذه توج الآخرة، ولم يكن لها بعدها شوكة، والأولى التي تنقذ فيها جنود العلاء أيام طاوس، الوقعة التي اقتتلوا فيها، والوقعتان الأولى والآخرة كلتاهما متساجلتان. ثم دعوا إلى الجزية والذمة، فراجعوا وأقروا، وخمس مجاشع الغنائم، وبعث

فتح اصطخر

بها، ووفد وفدا، وقد كانت البشراء والوفود يجازون وتقضى لهم حوائجهم، لسنة جرت بذلك من رسول الله ص كتب إلي السري عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن سوقة، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، قال: خرجنا مع مجاشع بن مسعود غازين توج، فحاصرناها، وقاتلناهم ما شاء اللَّه، فلما افتتحناها وحوينا نهبها نهبا كثيرا، وقتلنا قتلى عظيمة، وكان علي قميص قد تخرق، فأخذت إبرة وسلكا وجعلت أخيط قميصي بها ثم إني نظرت إلى رجل في القتلى عليه قميص فنزعته، فأتيت به الماء، فجعلت أضربه بين حجرين حتى ذهب ما فيه، فلبسته، فلما جمعت الرثة، قام مجاشع خطيبا، فحمد اللَّه، وأثنى عليه، فقال: أيها الناس لا تغلوا، فإنه من غل جاء بما غل يوم القيامة ردوا ولو المخيط فلما سمعت ذلك نزعت القميص فألقيته في الأخماس فتح إصطخر قال: وقصد عثمان بْن أبي العاص لإصطخر، فالتقى هو وأهل إصطخر بجور فاقتتلوا ما شاء اللَّه ثم إن اللَّه عز وجل فتح لهم جور، وفتح المسلمون إصطخر، فقتلوا ما شاء اللَّه، وأصابوا ما شاءوا، وفر من فر ثم إن عثمان دعا الناس إلى الجزاء والذمة، فراسلوه وراسلهم، فأجابه الهربذ وكل من هرب أو تنحى، فتراجعوا وباحوا بالجزاء، وقد كان عثمان لما هزم القوم جمع إليه ما أفاء اللَّه عليهم، فخمسه، وبعث بالخمس إلى عمر، وقسم أربعة أخماس المغنم في الناس، وعفت الجند عن النهاب، وأدوا الأمانة، واستدقوا الدنيا فجمعهم عثمان، ثم قام فيهم، وقال: إن هذا الأمر لا يزال مقبلا، ولا يزال أهله معافين مما يكرهون، ما لم يغلوا، فإذا غلوا رأوا ما ينكرون ولم يسد الكثير مسد القليل اليوم

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ يَوْمَ إِصْطَخْرَ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ بِقَوْمٍ خَيْرًا كَفَّهُمْ، وَوَفَّرَ أَمَانَتَهُمْ، فَاحْفَظُوهَا، فَإِنَّ أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الأَمَانَةَ، فَإِذَا فَقَدْتُمُوهَا جُدِّدَ لَكُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ فُقْدَانُ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِكُمْ. ثُمَّ إِنَّ شَهْرَكَ خُلِعَ فِي آخِرِ إِمَارَةِ عُمَرَ وَأَوَّلِ إِمَارَةِ عُثْمَانَ، وَنَشَطَ أَهْلُ فَارِسَ، وَدَعَاهُمْ إِلَى النَّقْضِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي العاص ثانيه، وبعث معه جنود أَمَدَّ بِهِمْ، عَلَيْهِمْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْمَرٍ، وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ الْبَجَلِيُّ، فَالْتَقَوْا بِفَارِسَ، فَقَالَ شَهْرَكُ لابْنِهِ وَهُوَ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قَرْيَةٍ تُدْعَى رِيشَهْرَ ثَلاثَةُ فَرَاسِخَ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قَرَارِهِمُ اثْنَا عَشَرَ فَرْسَخًا: يَا بُنَيَّ، اين يكون غداؤنا؟ هاهنا أَوْ رِيشَهْرَ؟ فَقَالَ: يَا أَبَتِ إِنْ تَرَكُونَا فلا يكون غداؤنا هاهنا وَلا رِيشَهْرَ، وَلا يَكُونَنَّ إِلا فِي الْمَنْزِلِ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا أَرَاهُمْ يَتْرُكُونَنَا فَمَا فَرَغَا مِنْ كَلامِهِمَا حَتَّى أَنْشَبَ الْمُسْلِمُونَ الْقِتَالَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالا شَدِيدًا، قُتِلَ فِيهِ شَهْرَكُ وَابْنُهُ، وَقَتَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً وَوَلِيَ قَتْلَ شَهْرَكَ الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ بِشْرِ بْنِ دُهْمَانَ، أَخُو عُثْمَانَ. وَأَمَّا أَبُو مَعْشَرٍ فَإِنَّهُ قَالَ: كَانَتْ فَارِسُ الأُولَى وَإِصْطَخْرُ الآخِرَةَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ قَالَ: وَكَانَتْ فَارِسُ الآخِرَةَ وَجُورُ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ، حَدَّثَنِي بذلك أحمد بْن ثابت الرازي، قال: حَدَّثَنِي من سمع إسحاق بْن عيسى، يذكر ذلك عن أبي معشر وحدثني عبد اللَّه بْن أحمد بْن شبويه المروزي، قال: حَدَّثَنِي أبي، قال: حدثنا سليمان بن صالح، قال: حدثني عبيد اللَّه، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: كان عثمان بْن أبي العاص أرسل إلى البحرين، فأرسل أخاه الحكم بْن أبي العاص في ألفين إلى توج، وكان كسرى قد فر عن المدائن، ولحق بجور من فارس. قال: فحدثني زياد مولى الحكم بْن أبي العاص، عن الحكم بْن أبي العاص، قال: قصد إلي شهرك- قال عبيد: وكان كسرى أرسله- قال الحكم: فصعد إلي في الجنود فهبطوا من عقبه، عليهم الحديد، فخشيت

ان تعشوا أبصار الناس، فأمرت مناديا، فنادى أن من كان عليه عمامة فليلفها على عينيه، ومن لم يكن عليه عمامة فليغمض بصره، وناديت أن حطوا عن دوابكم فلما رأى شهرك ذلك حط أيضا ثم ناديت: أن اركبوا، فصففنا لهم وركبوا، فجعلت الجارود العبدي على الميمنة وأبا صفرة على الميسرة- يعني أبا المهلب- فحملوا على المسلمين فهزموهم، حتى ما أسمع لهم صوتا، فقال لي الجارود: أيها الأمير، ذهب الجند، فقلت: إنك سترى أمرك، فما لبثنا أن رجعت خيلهم، ليس عليها فرسانها، والمسلمون يتبعونهم يقتلونهم، فنثرت الرءوس بين يدي، ومعي بعض ملوكهم- يقال له المكعبر، فارق كسرى ولحق بي- فأتيت برأس ضخم، فقال المكعبر: هذا رأس الأزدهاق- يعني شهرك- فحوصروا في مدينة سابور، فصالحهم- وملكهم أذربيان- فاستعان الحكم بأذربيان على قتال أهل إصطخر، ومات عمر رضي اللَّه عنه، فبعث عثمان عبيد اللَّه بْن معمر مكانه، فبلغ عبيد اللَّه أن أذربيان يريد أن يغدر بهم، فقال له: إني أحب أن تتخذ لأصحابي طعاما، وتذبح لهم بقرة، وتجعل عظامها في الجفنة التي تليني، فإني أحب أن أتمشش العظام ففعل، فجعل يأخذ العظم الذي لا يكسر الا بالفئوس، فكسره بيده، فيتمخخه- وكان من أشد الناس- فقام الملك، فأخذ برجله، وقال: هذا مقام العائذ فأعطاه عهدا، فاصابت عبيد الله منجنيفه، فأوصاهم، فقال: إنكم ستفتحون هذه المدينة إن شاء اللَّه فاقتلوهم بي فيها ساعة ففعلوا فقتلوا منهم بشرا كثيرا. وكان عثمان بْن أبي العاص لحق الحكم، وقد هزم شهرك، فكتب إلى عمر: أن بيني وبين الكوفة فرجة أخاف أن يأتيني العدو منها وكتب صاحب الكوفة بمثل ذلك: إن بيني وبين كذا فرجة فاتفق عنده الكتابان، فبعث أبا موسى في سبعمائة، فانزلهم البصره

ذكر فتح فسا ودارابجرد

ذكر فتح فسا ودارابجرد كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: وقصد ساريه بن زنيم، فسا ودارابجرد، حتى انتهى إلى عسكرهم، فنزل عليهم وحاصرهم ما شاء اللَّه ثم إنهم استمدوا، فتجمعوا وتجمعت إليهم أكراد فارس، فدهم المسلمين أمر عظيم، وجمع كثير، فرأى عمر في تلك الليلة فيما يرى النائم معركتهم وعددهم في ساعة من النهار، فنادى من الغد: الصلاة جامعة! حتى إذا كان في الساعة التي رأى فيها ما رأى خرج إليهم، وكان أريهم والمسلمون بصحراء، إن أقاموا فيها أحيط بهم، وإن أرزوا إلى جبل من خلفهم لم يؤتوا إلا من وجه واحد ثم قام فقال: يأيها الناس، إني رأيت هذين الجمعين- وأخبر بحالهما- ثم قال: يا سارية، الجبل، الجبل! ثم أقبل عليهم، وقال: إن لله جنودا، ولعل بعضها أن يبلغهم، ولما كانت تلك الساعة من ذلك اليوم أجمع سارية والمسلمون على الإسناد إلى الجبل، ففعلوا وقاتلوا القوم من وجه واحد، فهزمهم اللَّه لهم، وكتبوا بذلك إلى عمر واستيلائهم على البلد ودعاء أهله وتسكينهم. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي عُمَرَ دِثَارِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ وَأَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلاءِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بنى مازن، قال: كَانَ عُمَرُ قَدْ بَعَثَ سَارِيَةَ بْنَ زُنَيْمٍ الدؤلى إِلَى فَسَا وَدَارَابَجِرْدَ، فَحَاصَرَهُمْ ثُمَّ إِنَّهُمْ تَدَاعَوْا فَأَصْحَرُوا لَهُ، وَكَثَرُوهُ فَأَتَوْهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَقَالَ عُمَرُ وَهُوَ يَخْطُبُ فِي يَوْمِ جُمُعَةَ: يَا سَارِيَةُ بْنَ زُنَيْمٍ، الْجَبَلَ، الْجَبَلَ! وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ وَإِلَى جَنْبِ الْمُسْلِمِينَ جَبَلٌ، إِنْ لَجَئُوا إِلَيْهِ لَمْ يُؤْتَوْا إِلا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، فَلَجَئُوا إِلَى الْجَبَلِ، ثُمَّ قَاتَلُوهُمْ فَهَزَمُوهُمْ، فَأَصَابَ مَغَانِمَهُمْ، وَأَصَابَ فِي الْمَغَانِمِ سَفَطًا فِيهِ جَوْهَرٌ، فَاسْتَوْهَبَهُ الْمُسْلِمِينَ لِعُمَرَ، فَوَهَبُوهُ لَهُ،

فَبَعَثَ بِهِ مَعَ رَجُلٍ، وَبِالْفَتْحِ وَكَانَ الرُّسُلُ وَالْوَفْدُ يُجَازُونَ وَتُقْضَى لَهُمْ حَوَائِجُهُمْ، فَقَالَ لَهُ سَارِيَةُ: اسْتَقْرِضْ مَا تَبْلُغُ بِهِ وَمَا تُخْلِفُهَ لأَهْلِكَ عَلَى جَائِزَتِكَ فَقَدِمَ الرَّجُلُ الْبَصْرَةَ، فَفَعَلَ، ثُمَّ خَرَجَ فَقَدِمَ عَلَى عُمَرَ، فَوَجَدَهُ يُطْعِمُ النَّاسَ، وَمَعَهُ عَصَاهُ الَّتِي يَزْجَرُ بِهَا بَعِيرَهُ، فَقَصَدَ لَهُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ بِهَا، فَقَالَ: اجْلِسْ، فَجَلَسَ حَتَّى إِذَا أَكَلَ الْقَوْمُ انْصَرَفَ عُمَرُ، وَقَامَ فَأَتْبَعَهُ، فَظَنَّ عُمَرُ أَنَّهُ رَجُلٌ لَمْ يَشْبَعْ، فَقَالَ حِينَ انْتَهَى إِلَى بَابِ دَارِهِ: ادْخُلْ- وَقَدْ أَمَرَ الْخَبَّازَ أَنْ يَذْهَبَ بِالْخُوَانِ إِلَى مَطْبَخِ الْمُسْلِمِينَ- فَلَمَّا جَلَسَ فِي الْبَيْتِ أُتِيَ بِغَدَائِهِ خُبْزٍ وَزَيْتٍ وَمِلْحِ جَرِيشٍ، فَوُضِعَ وَقَالَ: أَلا تَخْرُجِينَ يَا هَذِهِ فَتَأْكُلِينَ؟ قَالَتْ: إِنِّي لأَسْمَعُ حِسَّ رَجُلٍ، فَقَالَ: أَجَلْ، فَقَالَتْ: لَوْ أَرَدْتَ أَنْ أَبْرُزَ لِلرِّجَالِ اشْتَرَيْتَ لِي غَيْرَ هَذِهِ الْكِسْوَةِ، فَقَالَ: أَوَمَا تَرْضِينَ أَنْ يُقَالَ: أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عَلِيٍّ وَامْرَأَةُ عُمَرَ! فَقَالَتْ: مَا أَقَلَّ غِنَاءَ ذَلِكَ عَنِّي! ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ: ادْنُ فَكُلْ، فَلَوْ كَانَتْ رَاضِيَةً لَكَانَ أَطْيَبَ مِمَّا تَرَى، فَأَكَلا حَتَّى إِذَا فَرَغَ قَالَ: رَسُولُ سَارِيَةَ بْنِ زُنَيْمٍ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: مَرْحَبًا وَأَهْلا، ثُمَّ أَدْنَاهُ حَتَّى مَسَّتْ رُكْبَتُهُ رُكْبَتَهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْ سَارِيَةَ بْنِ زُنَيْمٍ، فاخبره، ثم اخبره بقصة الدرج، فنظر إِلَيْهِ ثُمَّ صَاحَ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: لا وَلا كَرَامَةَ حَتَّى تَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ الْجُنْدِ فَتُقَسِّمَهُ بَيْنَهُمْ فَطَرَدَهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي قَدْ أَنْضَيْتُ إِبِلِي وَاسْتُقْرِضْتُ فِي جَائِزَتِي، فَأَعْطِنِي مَا أَتَبَلَّغُ بِهِ، فَمَا زَالَ عَنْهُ حَتَّى أَبْدَلَهُ بَعِيرًا بِبَعِيرِهِ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، وَأَخَذَ بَعِيرَهُ فَأَدْخَلَهُ فِي إِبِلِ الصَّدَقَةِ، وَرَجَعَ الرَّسُولُ مَغْضُوبًا عَلَيْهِ مَحْرُومًا حَتَّى قَدِمَ الْبَصْرَةَ، فَنَفَذَ لأَمْرِ عُمَرَ، وَقَدْ كَانَ سَأَلَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَنْ سَارِيَةَ، وَعَنِ الْفَتْحِ وَهَلْ سَمِعُوا شَيْئًا يَوْمَ الْوَقْعَةِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، سَمِعْنَا: يَا سَارِيَةُ، الْجَبَلَ، وَقَدْ كِدْنَا نَهْلَكُ، فَلَجَأْنَا إِلَيْهِ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْنَا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْمُجَالِدِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، مِثْلَ حَدِيثِ عَمْرٍو

ذكر فتح كرمان

ذكر فتح كرمان كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: وقصد سهيل بْن عدي إلى كرمان، ولحقه عبد اللَّه بْن عبد اللَّه بْن عتبان، وعلى مقدمة سهيل بْن عدي النسير بْن عمرو العجلي، وقد حشد له أهل كرمان، واستعانوا بالقفس، فاقتتلوا في أدنى أرضهم، ففضهم اللَّه، فأخذوا عليهم بالطريق، وقتل النسير مرزبانها، فدخل سهيل من قبل طريق القرى اليوم إلى جيرفت، وعبد اللَّه بْن عبد اللَّه من مفازة شير، فأصابوا ما شاءوا من بعير أو شاء، فقوموا الإبل والغنم فتحاصوها بالأثمان لعظم البخت على العراب، وكرهوا أن يزيدوا، وكتبوا إلى عمر، فكتب إليهم: إن البعير العربي إنما قوم بتعيير اللحم، وذلك مثله، فإذا رأيتم أن في البخت فضلا فزيدوا فإنما هي من قيمه. وأما المدائني، فإنه ذكر أن علي بْن مجاهد أخبره عن حنبل بْن أبي حريدة- وكان قاضي قهستان- عن مرزبان قهستان، قال: فتح كرمان عبد اللَّه بْن بديل بْن ورقاء الخزاعي في خلافة عمر بْن الخطاب، ثم أتى الطبسين من كرمان، ثم قدم على عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، إني افتتحت الطبسين فأقطعنيهما، فأراد أن يفعل، فقيل لعمر: إنهما رستاقان عظيمان، فلم يقطعه إياهما، وهما بابا خراسان. ذكر فتح سجستان قالوا: وقصد عاصم بْن عمرو لسجستان، ولحقه عبد اللَّه بْن عمير، فاستقبلوهم فالتقوا هم وأهل سجستان في أدنى أرضهم، فهزموهم ثم أتبعوهم، حتى حصروهم بزرنج، ومخروا أرض سجستان ما شاءوا ثم إنهم طلبوا الصلح على زرنج وما احتازوا من الأرضين، فأعطوه، وكانوا قد اشترطوا في صلحهم ان فدا فدها حمى، فكان المسلمون إذا خرجوا تناذروا خشية

فتح مكران

أن يصيبوا منها شيئا، فيخفروا فتم أهل سجستان على الخراج والمسلمون على الإعطاء، فكانت سجستان أعظم من خراسان، وأبعد فروجا، يقاتلون القندهار والترك وأمما كثيرة، وكانت فيما بين السند إلى نهر بلخ بحياله، فلم تزل أعظم البلدين، وأصعب الفرجين، وأكثرهما عددا وجندا، حتى زمان معاوية، فهرب الشاه من أخيه- واسم أخي الشاه يومئذ رتبيل- إلى بلد فيها يدعى آمل، ودانوا لسلم بْن زياد، وهو يومئذ على سجستان، ففرح بذلك وعقد لهم، وأنزلهم بتلك البلاد، وكتب إلى معاوية بذلك يري أنه قد فتح عليه فقال معاوية: إن ابن أخي ليفرح بأمر إنه ليحزنني وينبغي له أن يحزنه، قالوا: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: لأن آمل بلدة بينها وبين زرنج صعوبة وتضايق، وهؤلاء قوم نكر غدر، فيضطرب الحبل غدا، فأهون ما يجيء منهم أن يغلبوا على بلاد آمل بأسرها وتم لهم على عهد ابن زياد، فلما وقعت الفتنة بعد معاوية كفر الشاه، وغلب على آمل، وخاف رتبيل الشاه فاعتصم منه بمكانه الذي هو به اليوم، ولم يرضه ذلك حين تشاغل الناس عنه حتى طمع في زرنج، فغزاها فحصرهم حتى أتتهم الأمداد من البصرة، فصار رتبيل والذين جاءوا معه، فنزلوا تلك البلاد شجا لم ينتزع إلى اليوم، وقد كانت تلك البلاد مذللة إلى أن مات معاوية فتح مكران قالوا: وقصد الحكم بْن عمرو التغلبي لمكران، حتى انتهى إليها، ولحق به شهاب بْن المخارق بْن شهاب، فانضم إليه، وأمده سهيل بْن عدي، وعبد اللَّه بْن عبد اللَّه بْن عتبان بأنفسهما، فانتهوا إلى دوين النهر، وقد انفض أهل مكران إليه حتى نزلوا على شاطئه، فعسكروا، وعبر إليهم راسل ملكهم ملك السند، فازدلف بهم مستقبل المسلمين. فالتقوا فاقتتلوا بمكان من مكران من النهر على أيام، بعد ما كان

قد انتهى إليه أوائلهم، وعسكروا به ليلحق أخراهم، فهزم اللَّه راسل وسلبه، وأباح المسلمين عسكره، وقتلوا في المعركة مقتلة عظيمة، وأتبعوهم يقتلونهم أياما، حتى انتهوا إلى النهر ثم رجعوا فأقاموا بمكران. وكتب الحكم إلى عمر بالفتح، وبعث بالأخماس مع صحار العبدي، واستأمره في الفيلة، فقدم صحار على عمر بالخبر والمغانم، فسأله عمر عن مكران- وكان لا يأتيه أحد إلا سأله عن الوجه الذي يجيء منه- فقال: يا أمير المؤمنين، أرض سهلها جبل، وماؤها وشل، وتمرها دقل، وعدوها بطل، وخيرها قليل، وشرها طويل، والكثير بها قليل، والقليل بها ضائع، وما وراءها شر منها فقال: أسجاع أنت أم مخبر؟ قال: لا بل مخبر، قال: لا، والله لا يغزوها جيش لي ما أطعت، وكتب إلى الحكم بْن عمرو وإلى سهيل ألا يجوزن مكران أحد من جنودكما، واقتصرا على ما دون النهر، وأمره ببيع الفيلة بأرض الإسلام، وقسم أثمانها على من أفاءها اللَّه عليه. وقال الحكم بْن عمرو في ذلك: لقد شبع الأرامل غير فخر ... بفيء جاءهم من مكران أتاهم بعد مسغبة وجهد ... وقد صفر الشتاء من الدخان فإني لا يذم الجيش فعلي ... ولا سيفي يذم ولا سناني

خبر بيروذ من الاهواز

غداة أدفع الأوباش دفعا ... إلى السند العريضة والمداني ومهران لنا فيما أردنا ... مطيع غير مسترخي العنان فلولا ما نهى عنه أميري ... قطعناه إلى البدد الزواني خبر بيروذ من الأهواز قالوا: ولما فصلت الخيول إلى الكور اجتمع ببيروذ جمع عظيم من الأكراد وغيرهم، وكان عمر قد عهد إلى أبي موسى حين سارت الجنود إلى الكور أن يسير حتى ينتهي إلى ذمة البصرة، كي لا يؤتى المسلمون من خلفهم، وخشي أن يستلحم بعض جنوده أو ينقطع منهم طرف، أو يخلفوا في أعقابهم، فكان الذي حذر من اجتماع أهل بيروذ، وقد أبطأ أبو موسى حتى تجمعوا، فخرج أبو موسى حتى ينزل ببيروذ على الجمع الذي تجمعوا بها في رمضان، فالتقوا بين نهر تيرى ومناذر، وقد توافى إليها أهل النجدات من أهل فارس والأكراد، ليكيدوا المسلمين، وليصيبوا منهم عورة، ولم يشكوا في واحده من اثنتين فقام المهاجرين زياد وقد تحنط واستقتل، فقال لأبي موسى: أقم على كل صائم لما رجع فأفطر فرجع أخوه فيمن رجع لإبرار القسم، وإنما أراد بذلك توجيه أخيه عنه لئلا يمنعه من الاستقتال، وتقدم فقاتل حتى قتل، ووهن اللَّه المشركين حتى تحصنوا في قلة وذلة، وأقبل اخوه الربيع، فقال: هيئ يا والع الدنيا، واشتد جزعه عليه، فرق أبو موسى للربيع للذي رآه دخله من مصاب أخيه، فخلفه عليهم في جند، وخرج أبو موسى حتى بلغ إصبهان، فلقي بها جنود أهل الكوفة محاصري جي، ثم انصرف إلى البصرة، بعد

ظفر الجنود، وقد فتح اللَّه على الربيع بْن زياد أهل بيروذ من نهر تيرى، وأخذ ما كان معهم من السبي، فتنقى أبو موسى رجالا منهم ممن كان لهم فداء- وقد كان الفداء أرد على المسلمين من أعيانهم وقيمتهم فيما بينهم- ووفد الوفود والأخماس، فقام رجل من عنزة فاستوفده، فأبى، فخرج فسعى به فاستجلبه عمر، وجمع بينهما فوجد أبا موسى أعذر إلا في أمر خادمه، فضعفه فرده إلى عمله، وفجر الآخر، وتقدم إليه في ألا يعود لمثلها. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد، وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: لما رجع أبو موسى عن إصبهان بعد دخول الجنود الكور، وقد هزم الربيع اهل بيروذ، وجمع السبي والأموال، فغدا على ستين غلاما من أبناء الدهاقين تنقاهم وعزلهم، وبعث بالفتح إلى عمر، ووفد وفدا فجاءه رجل من عنزة، فقال: اكتبني في الوفد، فقال: قد كتبنا من هو أحق منك، فانطلق مغاضبا مراغما، وكتب أبو موسى إلى عمر: إن رجلا من عنزة يقال له ضبة بْن محصن، كان من أمره وقص قصته. فلما قدم الكتاب والوفد والفتح على عمر قدم العنزي فأتى عمر فسلم عليه، فقال: من أنت؟ فأخبره، فقال: لا مرحبا ولا أهلا! فقال: أما المرحب فمن اللَّه، وأما الأهل فلا أهل، فاختلف إليه ثلاثا، يقول له هذا ويرد عليه هذا، حتى إذا كان في اليوم الرابع، دخل عليه، فقال: ماذا نقمت على أميرك؟ قال: تنقى ستين غلاما من أبناء الدهاقين لنفسه، وله جارية تدعى عقيلة، تغدى جفنة وتعشى جفنة، وليس منا رجل يقدر على ذلك، وله قفيزان، وله خاتمان، وفوض الى زياد ابن أبي سفيان- وكان زياد يلي أمور البصرة- وأجاز الحطيئة بألف. فكتب عمر كل ما قال

فبعث إلى أبي موسى، فلما قدم حجبه أياما، ثم دعا به، ودعا ضبة بْن محصن، ودفع إليه الكتاب، فقال: اقرأ ما كتبت، فقرأ: أخذ ستين غلاما لنفسه فقال أبو موسى: دللت عليهم وكان لهم فداء ففديتهم، فأخذته فقسمته بين المسلمين، فقال ضبة: والله ما كذب ولا كذبت، وقال: له قفيزان، فقال أبو موسى: قفيز لأهلي أقوتهم، وقفيز للمسلمين في أيديهم، يأخذون به أرزاقهم، فقال ضبة: والله ما كذب ولا كذبت، فلما ذكر عقيلة سكت أبو موسى ولم يعتذر، وعلم أن ضبة قد صدقه قال: وزياد يلي أمور الناس ولا يعرف هذا ما يلي، قال: وجدت له نبلا ورأيا، فأسندت إليه عملي. قال: وأجاز الحطيئه بألف، قال: سددت قمه بمالي أن يشتمني، فقال: قد فعلت ما فعلت فرده عمر وقال: إذا قدمت فأرسل إلي زيادا وعقيلة، ففعل، فقدمت عقيلة قبل زياد، وقدم زياد فقام بالباب، فخرج عمر وزياد بالباب قائم، وعليه ثياب بياض كتان، فقال له: ما هذه الثياب؟ فأخبره، فقال: كم أثمانها؟ فأخبره بشيء يسير، وصدقه، فقال له: كم عطاؤك؟ قال ألفان، قال: ما صنعت في أول عطاء خرج لك؟ قال: اشتريت والدتي فأعتقتها، واشتريت في الثاني ربيبي عبيدا فأعتقته، فقال: وفقت، وسأله عن الفرائض والسنن والقرآن، فوجده فقيها فرده، وأمر أمراء البصرة أن يشربوا برأيه، وحبس عقيلة بالمدينة وقال عمر: ألا إن ضبة العنزي غضب على أبي موسى في الحق أن أصابه، وفارقه مراغما أن فاته أمر من أمور الدنيا، فصدق عليه وكذب، فأفسد كذبه صدقه، فإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى النار وكان الحطيئة قد لقيه فأجازه في غزاة بيروذ، وكان أبو موسى قد ابتدأ حصارهم وغزاتهم حتى فلهم، ثم جازهم ووكل بهم الربيع، ثم

ذكر خبر سلمه بن قيس الاشجعى والأكراد

رجع إليهم بعد الفتح فولي القسم. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عمرو، عن الحسن، عن أسيد بْن المتشمس بن أخي الأحنف بْن قيس، قال: شهدت مع أبي موسى يوم إصبهان فتح القرى، وعليها عبد اللَّه بْن ورقاء الرياحي وعبد اللَّه بْن ورقاء الأسدي ثم إن أبا موسى صرف إلى الكوفة، واستعمل على البصرة عمر بْن سراقة المخزومي، بدوي. ثم إن أبا موسى رد على البصرة، فمات عمر وأبو موسى على البصرة على صلاتها، وكان عملها مفترقا غير مجموع، وكان عمر ربما بعث إليه فأمد به بعض الجنود، فيكون مددا لبعض الجيوش ذكر خبر سلمة بْن قيس الأشجعي والأكراد حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ الْعَبْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو جَنَابٍ، قال: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُحَجَّلِ الرُّدَيْنِيُّ، عَنْ مَخْلَدٍ الْبَكْرِيِّ وَعَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ إِذَا اجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَيْشٌ مِنْ أَهْلِ الإِيمَانِ أَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَيْشٌ، فَبَعَثَ عَلَيْهِمْ سَلَمَةَ بْنَ قَيْسٍ الأَشْجَعِيَّ فَقَالَ: سِرْ بِاسْمِ اللَّهِ، قَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، فَإِذَا لَقِيتُمْ عَدُوَّكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُوهُمْ إِلَى ثَلاثِ خِصَالٍ: ادْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلامِ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَاخْتَارُوا دَارَهُمْ فَعَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمُ الزَّكَاةُ، وَلَيْسَ لهم في فيء المسلمين نَصِيبٌ، وَإِنِ اخْتَارُوا أَنْ يَكُونُوا مَعَكُمْ فَلَهُمْ مِثْلُ الَّذِي لَكُمْ، وَعَلَيْهِمْ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْكُمْ، فَإِنْ أَبَوْا فَادْعُوهُمْ إِلَى الْخَرَاجِ، فَإِنْ أَقَرُّوا بِالْخَرَاجِ فَقَاتِلُوا عَدُوَّهُمْ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَفَرِّغُوهُمْ لِخَرَاجِهِمْ، وَلا تُكَلِّفُوهُمْ فَوْقَ طَاقَتِهِمْ، فَإِنْ

أَبَوْا فَقَاتِلُوهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُكُمْ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ تَحَصَّنُوا مِنْكُمْ فِي حِصْنٍ فَسَأَلُوكُمْ أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ، فَلا تُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، فَإِنَّكُمْ لا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِيهِمْ! وَإِنْ سَأَلُوكُمْ أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى ذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ فَلا تُعْطُوهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ، وَأَعْطُوهُمْ ذِمَمَ أَنْفُسِكُمْ، فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَلا تَغِلُّوا وَلا تَغْدِرُوا وَلا تُمَثِّلُوا، وَلا تَقْتُلُوا وَلِيدًا قَالَ سَلَمَةُ: فَسِرْنَا حَتَّى لَقِينَا عَدُوَّنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَدَعْوَنَاهُمْ إِلَى مَا أَمَرَ بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَأَبَوْا أَنْ يُسْلِمُوا، فَدَعْوَنَاهُمْ إِلَى الْخَرَاجِ فَأَبَوْا أَنْ يُقِرُّوا، فَقَاتَلْنَاهُمْ فَنَصَرَنَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَقَتَلْنَا الْمُقَاتِلَةَ، وَسَبَيْنَا الذُّرِّيَّةَ، وَجَمَعْنَا الرِّثَّةَ، فَرَأَى سَلَمَةُ بْنُ قَيْسٍ شَيْئًا مِنْ حِلْيَةٍ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لا يبلغ فيكم شيئا، فتطيب أنفسكم أن نَبْعَثَ بِهِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ لَهُ بُرْدًا وَمَئُونَةً؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَدْ طَابَتْ أَنْفُسُنَا قَالَ: فَجَعَلَ تِلْكَ الْحِلْيَةَ فِي سَفَطٍ، ثُمَّ بَعَثَ بِرَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ، فَقَالَ: ارْكَبْ بِهَا، فَإِذَا أَتَيْتَ الْبَصْرَةَ فَاشْتَرِ عَلَى جَوَائِزِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ رَاحِلَتَيْنِ، فَأَوْقِرْهُمَا زَادًا لَكَ وَلِغُلامِكَ، ثُمَّ سِرْ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: فَفَعَلْتُ، فَأَتَيْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ يُغَدِّي النَّاسَ مُتِّكَئًا عَلَى عَصًا كَمَا يَصْنَعُ الرَّاعِي وَهُوَ يَدُورُ عَلَى الْقِصَاعِ، يَقُولُ: يَا يَرْفَأْ، زِدْ هَؤُلاءِ لَحْمًا، زِدْ هَؤُلاءِ خُبْزًا، زِدْ هَؤُلاءِ مَرَقَةً، فَلَمَّا دَفَعْتُ إِلَيْهِ، قَالَ: اجْلِسْ، فَجَلَسْتُ فِي أَدْنَى النَّاسِ، فَإِذَا طَعَامٌ فِيهِ خُشُونَةٌ طَعَامِي، الَّذِي مَعِي أَطْيَبُ مِنْهُ فَلَمَّا فَرَغَ النَّاسُ مِنْ قِصَاعِهِمْ قَالَ: يَا يَرْفأُ، ارْفَعْ قِصَاعَكَ ثُمَّ أَدْبِرْ، فَاتَّبَعْتُهُ فَدَخَل دَارًا، ثُمَّ دَخَلَ حُجْرَةً، فَاسْتَأْذَنْتُ وَسَلَّمْتُ، فَأَذِنَ لِي، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى مَسْحٍ مُتَّكِئٍ عَلَى وِسَادَتَيْنِ مِنْ أَدَمٍ مَحْشُوَّتَيْنِ لِيفًا، فَنَبَذَ إِلَيَّ بِإِحْدَاهُمَا، فَجَلَسْتُ عَلَيْهَا، وَإِذَا بَهْوٌ فِي صُفَّةٍ فِيهَا بَيْتٌ عَلَيْهِ سَتِيرٌ، فَقَالَ: يَا أُمَّ كُلْثُومٍ، غَدَاءَنَا! فَأَخْرَجَتْ إِلَيْهِ خُبْزَةً بِزَيْتٍ فِي عَرَضِهَا مِلْحٌ لَمْ يُدَقَّ، فَقَالَ: يَا أُمَّ كُلْثُومٍ، أَلا تَخْرُجِينَ إِلَيْنَا تَأْكُلِينَ مَعَنَا مِنْ هَذَا؟ قَالَتْ: إِنِّي أَسْمَعُ عِنْدَكَ حِسَّ رَجُلٍ،

قَالَ: نَعَمْ وَلا أَرَاهُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ- قَالَ: فَذَلِكَ حِينَ عَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْنِي- قَالَتْ: لَوْ أَرَدْتَ أَنْ أَخْرُجَ إِلَى الرِّجَالِ لَكَسْوَتَنِي كَمَا كَسَا ابْنُ جَعْفَرٍ امْرَأَتَهُ، وَكَمَا كَسَا الزُّبَيْرُ امْرَأَتَهُ، وَكَمَا كَسَا طَلْحَةُ امْرَأَتَهُ! قال: او ما يَكْفِيكِ أَنْ يُقَالَ: أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَامْرَأَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ! فَقَالَ: كُلْ، فَلَوْ كَانَتْ رَاضِيَةً لأَطْعَمَتْكَ أَطْيَبَ مِنْ هَذَا قَالَ: فَأَكَلْتُ قَلِيلا- وَطَعَامِي الَّذِي مَعِي أَطْيَبُ مِنْهُ- وَأَكَلَ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ أَكْلا مِنْهُ مَا يَتَلَبَّسُ طَعَامُهُ بِيَدِهِ وَلا فَمِهِ، ثُمَّ قَالَ: اسْقُونَا، فَجَاءُوا بِعُسٍّ مِنْ سُلْتٍ فَقَالَ: أَعْطِ الرَّجُلَ، قَالَ: فَشَرِبْتُ قَلِيلا، سُوَيْقِي الَّذِي مَعِي أَطْيَبُ مِنْهُ، ثُمَّ أَخَذَهُ فَشَرِبَهُ حَتَّى قَرَعَ الْقَدَحُ جَبْهَتَهُ، وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا فَأَشْبَعَنَا، وَسَقَانَا فَأَرْوَانَا قَالَ: قُلْتُ: قَدْ أَكَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَشَبِعَ، وشرب فروى، حَاجَتِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! قَالَ: وَمَا حَاجَتُكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَنَا رَسُولُ سَلَمَةَ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: مَرْحَبًا بِسَلَمَةَ بْنِ قَيْسٍ وَرَسُولِهِ، حَدِّثْنِي عَنِ الْمُهَاجِرِينَ كَيْفَ هُمْ؟ قَالَ: قُلْتُ: هُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا تُحِبُّ مِنَ السَّلامَةِ وَالظَّفَرِ عَلَى عَدُوِّهِمْ قَالَ: كَيْفَ أَسْعَارُهُمْ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَرْخَصُ أَسْعَارٍ قَالَ: كَيْفَ اللَّحْمُ فِيهِمْ فَإِنَّهَا شَجَرَةُ الْعَرَبِ وَلا تَصْلُحُ الْعَرَبُ إِلا بِشَجَرَتِهَا؟ قَالَ: قُلْتُ: الْبَقَرَةُ فِيهِمْ بِكَذَا، وَالشَّاةُ فِيهِمْ بِكَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، سِرْنَا حَتَّى لقينا عدونا من المشركين فدعوناهم إلى ما أَمَرْتَنَا بِهِ مِنَ الإِسْلامِ فَأَبَوْا، فَدَعَوْنَاهُمْ إِلَى الْخَرَاجِ فَأَبَوْا، فَقَاتَلْنَاهُمْ فَنَصَرَنَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَقَتَلْنَا المقاتلة، وسبينا الذرية، وجمعنا الرثة، فرأى سلمة فِي الرِّثَّةِ حِلْيَةً، فَقَالَ لِلنَّاسِ: إِنَّ هَذَا لا يبلغ فيكم شيئا، فتطيب أنفسكم أن أَبْعَثَ بِهِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ فَاسْتَخْرَجْتُ سَفَطِي، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى تِلْكَ الْفُصُوصِ مِنْ بَيْنِ أَحْمَرَ وَأَصْفَرَ وَأَخْضَرَ، وَثَبَ ثُمَّ جَعَلَ يَدَهُ فِي خَاصِرَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: لا أَشْبَعَ اللَّهُ إِذًا بَطْنَ عُمَرُ! قَالَ: فَظَنَّ النِّسَاءُ أَنِّي أُرِيدُ أَنْ أَغْتَالَهُ، فَجِئْنَ إِلَى السِّتْرِ، فَقَالَ: كُفَّ مَا جِئْتَ بِهِ، يَا يَرْفَأُ، جَأْ عُنُقَهُ قَالَ: فَأَنَا

أُصْلِحُ سَفَطِي وَهُوَ يَجَأُ عُنُقِي! قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أبدع بِي فَاحْمِلْنِي، قَالَ: يَا يرفا أعطه راحلتين مِنَ الصَّدَقَةِ، فَإِذَا لَقِيتَ أَفْقَرَ إِلَيْهِمَا مِنْكَ فَادْفَعْهُمَا إِلَيْهِ قُلْتُ: أَفْعَلُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ تُفَرَّقِ الْمُسْلِمُونَ فِي مَشَاتِيهِمْ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ هَذَا فِيهِمْ لأَفْعَلَنَّ بِكَ وَبِصَاحِبَكَ الْفَاقِرَةَ. قَالَ: فَارْتَحَلْتُ حَتَّى أَتَيْتَ سَلَمَةَ، فَقُلْتُ: مَا بَارَكَ اللَّهُ لِي فِيمَا اخْتَصَصْتَنِي بِهِ، اقْسِمْ هَذَا فِي النَّاسِ قَبْلَ ان تصيبني وَإِيَّاكَ فَاقِرَةٌ، فَقَسَّمَهُ فِيهِمْ، وَالْفَصُّ يُبَاعُ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَسِتَّةِ دَرَاهِمَ، وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا. وَأَمَّا السَّرِيُّ فَإِنَّهُ ذَكَرَ- فِيمَا كَتَبَ بِهِ إِلَيَّ يَذْكُرُ عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي جَنَابٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ- قال: لقيت رسول سلمه ابن قَيْسٍ الأَشْجَعِيُّ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذَا اجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَيْشٌ مِنَ الْعَرَبِ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِهِ عَنْ شُعَيْبٍ عَنْ سَيْفٍ: وَأَعْطُوهُمْ ذِمَمَ أَنْفُسِكُمْ قَالَ: فَلَقِينَا عَدُوَّنَا مِنَ الأَكْرَادِ، فَدَعَوْنَاهُمْ. وَقَالَ أَيْضًا: وَجَمَعْنَا الرِّثَّةَ، فَوَجَدَ فِيهَا سَلَمَةُ حُقَّتَيْنِ جَوْهَرًا، فَجَعَلَهَا فِي سَفَطٍ. وَقَالَ أيضا: او ما كَفَاكَ أَنْ يُقَالَ: أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ امْرَأَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ! قَالَتْ: إِنَّ ذَلِكَ عَنِّي لَقَلِيلُ الْغَنَاءِ، قَالَ: كُلْ. وَقَالَ أَيْضًا: فَجَاءُوا بِعُسٍّ مِنْ سُلْتٍ، كُلَّمَا حَرَّكُوهُ فَارَ فَوْقَهُ مِمَّا فِيهِ، وَإِذَا تَرَكُوهُ سَكَنَ ثُمَّ قَالَ: اشْرَبْ، فَشَرِبْتُ قَلِيلا، شَرَابِي الَّذِي مَعِي أَطْيَبُ مِنْهُ، فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَضَرَبَ بِهِ جَبْهَتَهُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّكَ لَضَعِيفُ الأَكْلِ، ضَعِيفُ الشُّرْبِ. وَقَالَ أَيْضًا: قُلْتُ: رَسُولُ سَلَمَةَ، قَالَ: مَرْحَبًا بِسَلَمَةَ وَبِرَسُولِهِ، وَكَأَنَّمَا خَرَجْتُ مِنْ صُلْبِهِ، حَدِّثْنِي عَنِ الْمُهَاجِرِينَ

ذكر الخبر عن وفاه عمر

وَقَالَ أَيْضًا: ثُمَّ قَالَ: لا أَشْبَعَ اللَّهُ إِذًا بَطْنَ عُمَرُ! قَالَ: وَظَنَّ النِّسَاءُ أَنِّي قَدِ اغْتَلْتُهُ، فَكَشَفْنَ السِّتْرَ، وَقَالَ: يَا يَرْفَأُ، جَأْ عُنُقَهُ، فَوَجَأَ عُنُقِي وَأَنَا أَصِيحُ، وَقَالَ: النَّجَاءَ، وَأَظُنُّكَ سَتُبْطِئُ وَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ غَيْرُهُ لَئِنْ تُفَرَّقِ النَّاسُ إِلَى مَشَاتِيهِمْ وَسَائِرُ الْحَدِيثِ نَحْوُ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ. وَحَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ خِرَاشٍ الْحَوْشَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ دينار، عن منصور ابن الْمُعْتَمِرِ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ الأَسْدِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الَّذِي جَرَى بَيْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَسَلَمَةَ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: نَدَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّاسَ إِلَى سَلَمَةَ بْنِ قَيْسٍ الأَشْجَعِيِّ بِالْحِيرَةِ، فَقَالَ: انْطَلِقُوا بِاسْمِ اللَّهِ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ جَعْفَرٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَحَجَّ عُمَرُ بِأَزْوَاجِ رسول الله ص فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَهِيَ آخِرُ حَجَّةٍ حَجَّهَا بِالنَّاسِ، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، عن الواقدى . ذكر الخبر عن وفاه عمر وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَفَاتُهُ. ذكر الخبر عن مقتله: حَدَّثَنِي سَلْمُ بْنُ جُنَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عن المسور بن مخرمة. - وكانت أمه عاتكة بِنْتُ عَوْفٍ- قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَوْمًا يَطُوفُ فِي السُّوقِ، فَلَقِيَهُ أَبُو لُؤْلُؤَةَ غُلامُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَعِدْنِي عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، فَإِنَّ عَلَيَّ خَرَاجًا كَثِيرًا،

قَالَ: وَكَمْ خَرَاجُكَ؟ قَالَ: دِرْهَمَانِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، قَالَ: وَأَيْشِ صِنَاعَتُكَ؟ قَالَ: نَجَّارٌ، نَقَّاشٌ، حَدَّادٌ، قَالَ: فَمَا أَرَى خَرَاجَكَ بِكَثِيرٍ عَلَى مَا تَصْنَعُ مِنَ الأَعْمَالِ، قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ تقول: لو اردت ان اعمل رحا تَطْحَنُ بِالرِّيحِ فَعَلْتُ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاعْمَلْ لي رحا، قال: لئن سلمت لاعملن لك رحا يَتَحَدَّثُ بِهَا مَنْ بِالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: لَقَدْ تَوَعَّدَنِيَ الْعَبْدُ آنِفًا! قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفَ عُمَرُ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ جَاءَهُ كَعْبُ الأَحْبَارِ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اعْهَدْ، فَإِنَّكَ مَيِّتٌ فِي ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، قَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ قَالَ: أَجِدُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ التَّوْرَاةِ، قَالَ عُمَرُ: آللَّهِ انك لتجد عمر ابن الْخَطَّابِ فِي التَّوْرَاةِ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ لا، وَلَكِنِّي أَجِدُ صِفَتَكَ وَحِلْيَتَكَ، وَأَنَّهُ قَدْ فَنَى أَجَلُكَ- قَالَ: وَعُمَرُ لا يُحِسُّ وَجَعًا وَلا أَلَمًا- فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ جَاءَهُ كَعْبٌ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ذَهَبَ يَوْمٌ وَبَقِيَ يَوْمَانِ، قَالَ: ثُمَّ جَاءَهُ مِنْ غَدِ الْغَدِ، فَقَالَ: ذَهَبَ يَوْمَانِ وَبَقِيَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَهِيَ لَكَ إِلَى صَبِيحَتِهَا قَالَ: فَلَمَّا كَانَ الصُّبْحُ خَرَجَ عُمَرُ إِلَى الصَّلاةِ، وَكَانَ يُوَكِّلُ بِالصُّفُوفِ رِجَالا، فَإِذَا اسْتَوَتْ جَاءَ هُوَ فَكَبَّرَ قَالَ: وَدَخَلَ أَبُو لُؤْلُؤَةَ فِي النَّاسِ، فِي يَدِهِ خِنْجَرٌ لَهُ رَأْسَانِ نِصَابُهُ فِي وَسَطِهِ، فَضَرَبَ عُمَرَ سِتَّ ضَرَبَاتٍ، إِحْدَاهُنَّ تَحْتَ سُرَّتِهِ، وَهِيَ الَّتِي قتلته، وقتل معه كليب ابن أَبِي الْبُكَيْرِ اللَّيْثِيَّ- وَكَانَ خَلْفَهُ- فَلَمَّا وَجَدَ عُمَرَ حُرَّ السِّلاحِ سَقَطَ، وَقَالَ: أَفِي النَّاسِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هُوَ ذَا، قَالَ: تَقَدَّمْ فَصَلِّ بِالنَّاسِ، قَالَ: فَصَلَّى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَعُمَرُ طَرِيحٌ، ثُمَّ احْتُمِلَ فَأُدْخِلَ دَارَهُ، فَدَعَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَعْهَدَ إِلَيْكَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَعَمْ، إِنْ أَشَرْتَ عَلَيَّ قَبِلْتُ مِنْكَ، قَالَ: وَمَا تُرِيدُ؟ قَالَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ، أَتُشِيرُ عَلَيَّ بِذَلِكَ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ لا، قَالَ: وَاللَّهِ لا أَدْخُلُ فِيهِ أَبَدًا، قَالَ: فَهَبْ لِي صَمْتًا

حتى اعهد الى النفر الذين توفى رسول الله ص وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ ادْعُ لِي عَلِيًّا وَعُثْمَانَ وَالزُّبَيْرَ وَسَعْدًا قَالَ: وَانْتَظِرُوا أَخَاكُمْ طَلْحَةَ ثَلاثًا فَإِنْ جَاءَ وَإِلا فَاقْضُوا أَمْرَكُمْ، أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا عَلِيُّ إِنْ وَلِيتَ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ شَيْئًا أَنْ تَحْمِلَ بَنِي هَاشِمٍ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا عُثْمَانُ إِنْ وَلِيتَ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ شَيْئًا أَنْ تَحْمِلَ بَنِي أَبِي مُعَيْطٍ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا سَعْدُ إِنْ وَلِيتَ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ شَيْئًا أَنْ تَحْمِلَ أَقَارِبَكَ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، قُومُوا فَتَشَاوَرُوا ثُمَّ اقْضُوا أَمْرَكُمْ، وَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ صُهَيْبٌ ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الأَنْصَارِيَّ، فَقَالَ: قُمْ عَلَى بَابِهِمْ، فَلا تَدَعْ أَحَدًا يَدْخُلُ إِلَيْهِمْ، وَأُوصِي الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي بِالأَنْصَارِ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ، أَنْ يُحْسِنَ إِلَى مُحْسِنِهِمْ، وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْ مُسِيئِهِمْ، وَأُوصِي الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي بِالْعَرَبِ، فَإِنَّهَا مَادَّةُ الإِسْلامِ، أَنْ يُؤْخَذَ من صدقاتهم حقها فيوضع فِي فُقَرَائِهِمْ، وَأُوصِي الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي بِذِمَّةِ رسول الله ص أَنْ يُوَفِّيَ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ! تَرَكْتُ الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي عَلَى أَنْقَى مِنَ الرَّاحَةِ، يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ اخْرُجْ فَانْظُرْ مَنْ قَتَلَنِي؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَتَلَكَ أَبُو لُؤْلُؤَةَ غُلامُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ مَنِيَّتِي بِيَدِ رَجُلٍ سَجَدَ لِلَّهِ سَجْدَةً وَاحِدَةً، يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، اذْهَبْ إِلَى عَائِشَةَ فَسَلْهَا أَنْ تَأْذَنَ لِي أَنْ أُدْفَنَ مَعَ النبي ص وَأَبِي بَكْرٍ، يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، إِنِ اخْتَلَفَ الْقَوْمُ فَكُنْ مَعَ الأَكْثَرِ، وَإِنْ كَانُوا ثَلاثَةً وَثَلاثَةً فَاتْبَعِ الْحِزْبَ الَّذِي فِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، يَا عَبْدَ اللَّهِ ائْذَنْ لِلنَّاسِ، قَالَ: فَجَعَلَ يُدْخِلُ عَلَيْهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارَ فَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ لَهُمْ: أَعَنْ مَلإٍ مِنْكُمْ كَانَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: مَعَاذَ اللَّهِ! قَالَ: وَدَخَلَ فِي النَّاسِ كَعْبٌ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَنْشَأَ يَقُولُ: فَأَوْعَدَنِي كَعْبٌ ثَلاثًا أُعِدُّهَا ... وَلا شَكَّ أَنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَ لِي كَعْبُ

وَمَا بِي حِذَارُ الْمَوْتِ إِنِّي لَمَيِّتٌ ... وَلَكِنْ حِذَارُ الذَّنْبِ يَتْبَعُهُ الذَّنْبُ قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ دَعَوْتَ الطَّبِيبَ! قَالَ: فَدُعِيَ طَبِيبٌ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، فَسَقَاهُ نَبِيذًا فَخَرَجَ النَّبِيذُ مُشْكَلا، قَالَ: فَاسْقُوهُ لبنا، قال: فخرج اللبن محضا، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اعْهَدْ، قَالَ: قَدْ فَرَغْتُ. قَالَ: ثُمَّ تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الأَرْبِعَاءِ لثلاث ليال بقين من ذي الحجة سنة ثَلاثٍ وَعِشْرِينَ. قَالَ: فَخَرَجُوا بِهِ بُكْرَةَ يَوْمِ الأَرْبِعَاءِ، فَدُفِنَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ مَعَ النَّبِيِّ ص وَأَبِي بَكْرٍ قَالَ: وَتَقَدَّمَ صُهَيْبٌ فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلانِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله ص: عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ، قَالَ: فَتَقَدَّمَ وَاحِدٌ مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ، وَالآخَرُ مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، مَا أَحْرَصَكُمَا عَلَى الإِمْرَةِ! أَمَا عَلِمْتُمَا أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: لِيُصَلِّ بِالنَّاسِ صُهَيْبٌ! فَتَقَدَّمَ صُهَيْبٌ فَصَلَّى عَلَيْهِ قَالَ: وَنَزَلَ فِي قَبْرِهِ الْخَمْسَةُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّ وَفَاتَهُ كَانَتْ فِي غُرَّةِ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ. ذِكْرُ من قَالَ ذلك: حدثني الحارث، قَالَ: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد ابن عمر، قال: حدثني أبو بكر بن إسماعيل بْن مُحَمَّد بْن سعد، عن أبيه قال: طعن عمر رضى الله تعالى عنه يوم الأربعاء لأربع ليال بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، ودفن يوم الأحد صباح هلال المحرم سنة أربع وعشرين، فكانت ولايته عشر سنين وخمسة أشهر وإحدى وعشرين ليلة، من متوفى أبي بكر، على رأس اثنتين وعشرين سنة وتسعة أشهر وثلاثة عشر يوما من الهجرة وبويع لعثمان بْن عفان يوم الاثنين لثلاث مضين من المحرم قال: فذكرت ذلك لعثمان الأخنسي، فقال: ما أراك إلا وهلت، توفي

عمر رضي اللَّه تعالى عنه لأربع ليال بقين من ذي الحجة، وبويع لعثمان بْن عفان لليلة بقيت من ذي الحجة، فاستقبل بخلافته المحرم سنة أربع وعشرين. وحدثني أحمد بْن ثابت الرازي، قال: حَدَّثَنَا محدث، عن إسحاق ابن عيسى، عن أبي معشر، قال: قتل عمر يوم الأربعاء لأربع ليال بقين من ذي الحجة تمام سنة ثلاث وعشرين، وكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام، ثم بويع عثمان بْن عفان. قال أبو جعفر: وأما المدائني، فإنه قال فيما حَدَّثَنِي عمر عنه، عن شريك، عن الأعمش- أو عن جابر الجعفي- عن عوف بْن مالك الأشجعي وعامر بْن أبي مُحَمَّد، عن أشياخ من قومه، وعثمان بْن عبد الرحمن، عن ابني شهاب الزهري، قالوا: طعن عمر يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي الحجة. قال: وقال غيرهم: لست بقين من ذي الحجة. وأما سيف، فإنه قال فيما كَتَبَ إِلَيَّ به السَّرِيُّ يَذْكُرُ أَنَّ شُعَيْبًا حَدَّثَهُ عَنْهُ، عَنِ خليد بن ذفره ومجالد، قال: استخلف عثمان لثلاث مضين من المحرم سنة أربع وعشرين، فخرج فصلى بالناس العصر، وزاد: ووفد فاستن به. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: اجتمع أهل الشورى على عثمان، لثلاث مضين من المحرم، وقد دخل وقت العصر، وقد أذن مؤذن صهيب، واجتمعوا بين الأذان والإقامة، فخرج فصلى بالناس، وزاد الناس مائة، ووفد أهل الأمصار، وصنع فيهم. وهو أول من صنع ذلك. وحدثت عن هشام بْن مُحَمَّد، قال: قتل عمر لثلاث ليال بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام

ذكر نسب عمر رضى الله عنه

ذِكْرُ نَسَبِ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْن إسحاق. وحدثني الحارث، قَالَ: حَدَّثَنَا ابن سعد، عن محمد بن عمر وهشام ابن مُحَمَّد وحدثني عمر، قال: حَدَّثَنَا علي بْن مُحَمَّد، قالوا جميعا في نسب عمر: هو عمر بْن الْخَطَّاب بْن نفيل بْن عبد العزى بْن رياح بْن عبد اللَّه بْن قرط بْن رزاح بْن عدي بْن كعب بْن لؤي وكنيته أبو حفص، وأمه حنتمة بنت هاشم بْن المغيرة بْن عبد اللَّه بْن عمر بن مخزوم . تسميته بالفاروق قال أبو جعفر: وكان يقال له الفاروق. وقد اختلف السلف فيمن سماه بذلك، فقال بعضهم: سماه بذلك رسول الله ص. ذكر من قَالَ ذلك: حدثني الحارث، قَالَ: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَزْرَةَ يَعْقُوبُ بْنُ مُجَاهِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو ذَكْوَانَ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: مَنْ سَمَّى عمر الفاروق؟ قالت: النبي ص. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَوَّلُ مَنْ سَمَّاهُ بِهَذَا الاسْمِ أَهْلُ الْكِتَابِ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أخبرنا يعقوب بْن إبراهيم بْن سعد، عن أبيه، عن صالح بْن كيسان، قال: قال ابن شهاب: بلغنا أن أهل الكتاب كانوا أول من قال لعمر: الفاروق، وكان المسلمون

ذكر صفته

يأثرون ذلك من قولهم، ولم يبلغنا أن رسول الله ص ذكر من ذلك شيئا . ذكر صفته حَدَّثَنَا هناد بْن السري، قال: حَدَّثَنَا وكيع، عن سفيان، عن عاصم بْن أبي النجود، عن زر بْن حبيش، قال: خرج عمر في يوم عيد- أو في جنازة زينب- آدم طوالا أصلع أعسر يسرا، يمشي كأنه راكب. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ يَأْتِي الْعِيدَ ماشيا حافيا اعمر أَيْسَرَ مُتَلَبِّبًا بُرْدًا قَطَرِيًّا، مُشْرِفًا عَلَى النَّاسِ كَأَنَّهُ عَلَى دَابَّةٍ، وَهُوَ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، هاجروا وَلا تهجروا. وحدثني الحارث، قال: حَدَّثَنَا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبي بكر، عن عاصم بن عُبَيْد اللَّهِ، عن عَبْد اللَّه بْن عامر بْن ربيعة، قال: رأيت عمر رجلا أبيض أمهق، تعلوه حمرة، طوالا أصلع. وحدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَصِفُ عُمَرَ يَقُولُ: رَجُلٌ أَبْيَضُ، تَعْلُوهُ حُمْرَةٌ، طُوَّالٌ، اشيب، اصلع. وحدثني الحارث، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن سعد، قال: أخبرنا محمد ابن عُمَرَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ يُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ، وَيُرَجِّلُ رَأْسَهُ بالحناء

ذكر مولده ومبلغ عمره

ذكر مولده ومبلغ عمره حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حدثنا ابن سعد، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، يَقُولُ: وُلِدْتُ قَبْلَ الْفِجَارِ الأَعْظَمِ الآخَرِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَاخْتَلَفُ السَّلَفُ فِي مَبْلَغِ سِنِي عُمَرَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ يَوْمَ قُتِلَ ابْنَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. ذكر بعض من قال ذلك: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَخْزَمَ الطَّائِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو قتيبة، عن جرير ابن حَازِمٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قُتِلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: حدثنا نعيم ابن حَمَّادٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: تُوُفِّيَ عُمَرُ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. وحدثت عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن ابن شهاب أن عمر توفي على رأس خمس وخمسين سنة. وقال آخرون: كان يوم توفي ابن ثلاث وخمسين سنة وأشهر. ذكر من قال ذلك: حدثت بذلك عن هشام بْن مُحَمَّد بْن الكلبي. وقال آخرون توفي وهو ابن ثلاث وستين سنة

ذكر أسماء ولده ونسائه

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ دَاوُدَ، عن عامر، قال: مات عمر وهو ابن ثلاث وستين سنة. وقال آخرون: توفي وهو ابن إحدى وستين سنة. ذكر من قال ذلك: حدثت بذلك، عن أبي سلمة التبوذكي، عن أبي هلال، عن قتادة. وقال آخرون: توفي وهو ابن ستين سنة. ذكر من قَالَ ذلك: حدثني الحارث، قَالَ: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حَدَّثَنَا هشام بْن سعد، عن زيد بْن أسلم، عن أبيه، قال: توفي عمر وهو ابن ستين سنة. قال مُحَمَّد بْن عمر: وهذا أثبت الأقاويل عندنا، وذكر عن المدائني أنه قال: توفي عمر وهو ابن سبع وخمسين سنة ذكر أسماء ولده ونسائه حَدَّثَنِي ابو زيد عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ والحارث، عن مُحَمَّد بْن سعد، عن مُحَمَّد بْن عمر وحدثت عن هشام بْن مُحَمَّد- اجتمعت معاني أقوالهم، واختلفت الألفاظ بها- قالوا: تزوج عمر في الجاهلية زينب ابنة مظعون بْن حبيب بْن وهب بْن حذافة بْن جمح، فولدت له عبد اللَّه وعبد الرحمن الأكبر وحفصة. وقال علي بْن مُحَمَّد: وتزوج مليكة ابنة جرول الخزاعي في الجاهلية، فولدت له عبيد اللَّه بْن عمر، ففارقها في الهدنة، فخلف عليها بعد عمر أبو الجهم بْن حذيفة

وأما مُحَمَّد بْن عمر، فإنه قال: زيد الأصغر وعبيد اللَّه الذي قتل يوم صفين مع معاوية، أمهما أم كلثوم بنت جرول بْن مالك بْن المسيب بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ ضُبَيْسِ بْنِ حرام بْن حبشية بن سلول بن كعب ابن عمرو بْن خزاعة، وكان الإسلام فرق بينها وبين عمر. قال علي بْن مُحَمَّد: وتزوج قريبة ابنة أبي أمية المخزومي في الجاهلية، ففارقها أيضا في الهدنة، فتزوجها بعده عبد الرحمن بْن أبي بكر الصديق. قالوا: وتزوج أم حَكِيمٍ بِنْتِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بن عبد الله ابن عمرو بْن مخزوم في الإسلام، فولدت له فاطمة فطلقها قال المدائني: وقد قيل: لم يطلقها. وتزوج جميلة أخت عاصم بْن ثابت بْن أبي الأقلح- واسمه قيس بْن عصمة بْن مالك بْن ضبيعة بْن زيد بْن الأوس من الأنصار في الإسلام- فولدت له عاصما، فطلقها وتزوج أم كلثوم بنت علي بْن أبي طالب، وأمها فاطمه بنت رسول الله ص، وأصدقها- فيما قيل- أربعين ألفا، فولدت له زيدا ورقية. وتزوج لهية، امرأة من اليمن، فولدت له عبد الرحمن قال المدائني: ولدت له عبد الرحمن الأصغر قال: ويقال كانت أم ولد قال الواقدي: لهية هذه أم ولد وقال أيضا: ولدت له لهية عبد الرحمن الأوسط وقال: عبد الرحمن الاصغر أمه أم ولد. وكانت عنده فكيهة، وهي أم ولد وفي أقوالهم فولدت له زينب وقال الواقدي: هي أصغر ولد عمر. وتزوج عاتكة ابنه زيد بْن عمرو بْن نفيل، وكانت قبله عند عبد الله ابن أبي بكر، فلما مات عمر تزوجها الزبير بْن العوام. قال المدائني: وخطب أم كلثوم بنت أبي بكر وهي صغيرة، وأرسل فيها إلى عائشة، فقالت: الأمر إليك، فقالت أم كلثوم: لا حاجة لي

ذكر وقت اسلامه

فيه، فقالت لها عائشة: ترغبين عن أمير المؤمنين! قالت: نعم، إنه خشن العيش، شديد على النساء، فأرسلت عائشة إلى عمرو بْن العاص فأخبرته، فقال: أكفيك، فأتى عمر فقال: يا أمير المؤمنين، بلغني خبر أعيذك بالله منه، قال: وما هو؟ قال: خطبت أم كلثوم بنت أبي بكر! قال: نعم، أفرغبت بي عنها، أم رغبت بها عني؟ قال: لا واحدة، ولكنها حدثة نشأت تحت كنف أم المؤمنين في لين ورفق، وفيك غلظة، ونحن نهابك، وما نقدر أن نردك عن خلق من أخلاقك، فكيف بها إن خالفتك في شيء، فسطوت بها! كنت قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحق عليك. قال: فكيف بعائشة وقد كلمتها؟ قال: أنا لك بها، وأدلك على خير منها، أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، تعلق منها بسبب من رسول الله ص. قال المدائني: وخطب أم أبان بنت عتبة بْن ربيعة، فكرهته، وقالت: يغلق بابه، ويمنع خيره، ويدخل عابسا، ويخرج عابسا . ذكر وقت إسلامه قال أبو جعفر: ذكر أنه أسلم بعد خمسة وأربعين رجلا وإحدى وعشرين امرأة. ذكر من قَالَ ذلك: حدثني الحارث، قَالَ: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: ذَكَرْتُ لَهُ حَدِيثَ عُمَرَ، فَقَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ، قَالَ: أَسْلَمَ عُمَرُ بَعْدَ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ رَجُلا وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ امْرَأَةً . ذكر بعض سيره حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ ضِرَارٍ، عَنْ

حصين المري، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: إِنَّمَا مَثَلُ الْعَرَبِ مِثْلُ جَمَلٍ أَنِفٍ اتَّبَعَ قَائِدَهُ، فَلْيَنْظُرْ قَائِدُهُ حَيْثُ يقوده، فاما انا فو رب الْكَعْبَةِ لأَحْمِلَنَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ. وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إبراهيم، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: إِذَا كُنْتُ فِي مَنْزِلَةٍ تَسَعُنِي وَتَعْجَزُ عَنِ النَّاسِ فو الله مَا تِلْكَ لِي بِمَنْزِلَةٍ حَتَّى أَكُونَ أُسْوَةً لِلنَّاسِ. حَدَّثَنَا خَلادُ بْنُ أَسْلَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا قَطَنٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو يَزِيدَ الْمَدِينِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَوْلًى لعثمان ابن عَفَّانَ، قَالَ: كُنْتُ رَدِيفًا لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، حَتَّى أَتَى عَلَى حَظِيرَةِ الصَّدَقَةِ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ شَدِيدِ السَّمُومِ، فَإِذَا رَجُلٌ عَلَيْهِ إِزَارٌ وَرِدَاءٌ، قَدْ لَفَّ رَأْسَهُ بِرِدَاءٍ يَطْرُدُ الإِبِلَ يُدْخِلُهَا الْحَظِيرَةَ، حَظِيرَةَ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ عُثْمَانُ: مَنْ تُرَى هَذَا؟ قَالَ: فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: هَذَا وَاللَّهِ الْقَوِيُّ الأَمِينُ. حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكُوفِيُّ وَعَبَّاسُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو زَكَرِيَّاءَ يَحْيَى بْنُ مُصْعَبٍ الْكَلْبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْعَبْسِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ حَيْرَ الصَّدَقَةِ مَعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: فَجَلَسَ عُثْمَانُ فِي الظِّلِّ يَكْتُبُ، وَقَامَ عَلِيٌّ راسه يمل عَلَيْهِ مَا يَقُولُ عُمَرُ، وَعُمَرُ فِي الشَّمْسِ قَائِمٌ فِي يَوْمٍ حَارٍّ شَدِيدِ الْحَرِّ، عَلَيْهِ بُرْدَانِ أَسْوَدَانِ، مُتَّزِرًا بِوَاحِدٍ، وَقَدْ لَفَّ عَلَى رَأْسِهِ آخَرَ، يَعُدُّ إِبِلَ الصَّدَقَةِ، يَكْتُبُ أَلْوَانَهَا وَأَسْنَانَهَا، فَقَالَ عَلِيٌّ لِعُثْمَانَ- وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: نَعْتَ بِنْتِ شُعَيْبٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ، ثُمَّ أَشَارَ عَلِيٌّ بِيَدِهِ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ: [هَذَا الْقَوِيُّ الأَمِينُ!] حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: لَئِنْ عِشْتُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لأَسِيرَنَّ فِي الرَّعِيَّةِ حَوْلا، فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ لِلنَّاسِ حَوَائِجَ تُقْطَعُ دُونِي، أَمَّا عُمَّالُهُمْ فَلا يَرْفَعُونَهَا إِلَيَّ، وَأَمَّا هُمْ فَلا

يَصِلُونَ إِلَيَّ، فَأَسِيرُ إِلَى الشَّامِ، فَأُقِيمُ بِهَا شَهْرَيْنِ، ثُمَّ أَسِيرُ إِلَى الْجَزِيرَةِ فَأُقِيمُ بِهَا شَهْرَيْنِ، ثُمَّ أَسِيرُ إِلَى مِصْرَ فَأُقِيمُ بِهَا شَهْرَيْنِ، ثُمَّ أَسِيرُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ فَأُقِيمُ بِهَا شَهْرَيْنِ، ثُمَّ أَسِيرُ إِلَى الْكُوفَةِ فَأُقِيمُ بِهَا شَهْرَيْنِ، ثُمَّ أَسِيرُ إِلَى الْبَصْرَةِ فَأُقِيمُ بِهَا شَهْرَيْنِ، وَاللَّهِ لَنِعْمَ الْحَوْلُ هَذَا! حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو المغيرة عبد القدوس بْن الحجاج، قال: حَدَّثَنَا صفوان بْن عمرو، قال: حدثنى ابو المخارق زهير ابن سالم، أن كعب الأحبار، قال: نزلت على رجل يقال له مالك- وكان جارا لعمر بْن الخطاب- فقلت له: كيف بالدخول على أمير المؤمنين؟ فقال: ليس عليه باب ولا حجاب، يصلي الصلاة ثم يقعد فيكلمه من شاء. حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ، عَنْ أَسْلَمَ، قَالَ: بَعَثَنِي عُمَرُ بِإِبِلٍ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ إِلَى الْحِمَى، فَوَضَعْتُ جَهَازِي عَلَى نَاقَةٍ مِنْهَا، فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أُصْدِرَهَا، قَالَ: اعْرِضْهَا عَلَيَّ، فَعَرَضْتُهَا عَلَيْهِ، فَرَأَى مَتَاعِي عَلَى نَاقَةٍ مِنْهَا حَسْنَاءَ، فَقَالَ: لا أُمَّ لَكَ! عَمِدْتَ إِلَى نَاقَةٍ تُغْنِي أَهْلَ بَيْتِ الْمُسْلِمِينَ! فَهَلا ابْنَ لَبُونٍ بَوَّالا، أَوْ نَاقَةً شَصُوصًا! حدثنى عمر بن اسماعيل بن مجالد الهمذاني، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِي حَيَّانَ، عَنْ أَبِي الزِّنْبَاعِ، عَنْ أَبِي الدِّهْقَانَةِ، قَالَ: قيل لعمر بن الخطاب: ان هاهنا رَجُلا مِنْ أَهْلِ الأَنْبَارِ لَهُ بَصَرٌ بِالدِّيوَانِ، لَوِ اتَّخَذْتَهُ كَاتِبًا! فَقَالَ عُمَرُ: لَقَدِ اتَّخَذْتَ إِذًا بِطَانَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ! حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ، لَوْ أَنَّ جَمَلا هَلَكَ

ضَيَاعًا بِشَطِّ الْفُرَاتِ خَشِيتُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهُ عَنْهُ آلَ الْخَطَّابِ قَالَ أَبُو زَيْدٍ: آلَ الخطاب يعنى نفسه، ما يعنى غيرها. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عدي، عن شعبة، عن أبي عمران الجوني، قال: كتب عمر إلى أبي موسى: إنه لم يزل للناس وجوه يرفعون حوائجهم، فأكرم من قبلك من وجوه الناس، وبحسب المسلم الضعيف من العدل، أن ينصف في الحكم وفي القسم. وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُطَرِّفًا، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: أَتَى أَعْرَابِيٌّ عُمَرَ، فَقَالَ: إِنَّ بِبَعِيرِي نُقَبًا وَدَبَرًا فَاحْمِلْنِي، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ، مَا بِبَعِيرِكَ نُقَبٌ وَلا دَبَرٌ، قَالَ: فَوَلَّى وَهُوَ يَقُولُ: أَقْسَمَ بِاللَّهِ أَبُو حَفْصٍ عُمَرْ ... مَا مَسَّهَا مِنْ نُقَبٍ وَلا دَبَرْ فَاغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ فَجَرْ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي! ثُمَّ دَعَا الأَعْرَابِيَّ فَحَمَلَهُ. وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: نُبِّئْتُ أَنَّ رَجُلا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُمَرَ قَرَابَةٌ، فَسَأَلَهُ فَزَبَرَهُ، وَأَخْرَجَهُ فَكُلِّمَ فِيهِ، فَقِيلَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فُلانٌ سَأَلَكَ فَزَبَرْتَهُ وَأَخْرَجْتَهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ سَأَلَنِي مِنْ مَالِ اللَّهِ، فَمَا مَعْذِرَتِي إِنْ لَقِيتُهُ مَلِكًا خَائِنًا! فَلَوْلا سَأَلَنِي مِنْ مَالِي! قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِعَشَرَةِ آلافٍ. وَكَانَ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ إِذَا بَعَثَ عَامِلا لَهُ عَلَى عَمَلٍ يَقُولُ- مَا حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: حدثنا شعبه، عن يحيى بن حضين، سَمِعَ طَارِقَ بْنَ شِهَابٍ يَقُولُ: قَالَ عُمَرُ فِي عُمَّالِهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَمْ أَبْعَثْهُمْ لِيَأْخُذُوا أَمْوَالَهُمْ، وَلا لِيَضْرِبُوا أَبْشَارَهُمْ، مَنْ ظَلَمَهُ أَمِيرُهُ فَلا إِمْرَةَ عَلَيْهِ دُونِي. وَحَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عن شعبة، عن

قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ عَلَى أُمَرَاءِ الأَمْصَارِ أَنِّي إِنَّمَا بَعَثْتُهُمْ لِيُعَلِّمُوا النَّاسَ دِينَهُمْ وسنه نبيهم، وان يقسموا فيهم فيئهم، وَأَنْ يَعْدِلُوا، فَإِنْ أُشْكِلَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ رَفَعُوهُ إِلَيَّ. وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حُصَيْنٍ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ إِذَا اسْتَعْمَلَ الْعُمَّالَ خَرَجَ مَعَهُمْ يُشَيِّعُهُمْ، فَيَقُولُ: إِنِّي لَمْ أَسْتَعْمِلْكُمْ عَلَى أمه محمد ص عَلَى أَشْعَارِهِمْ، وَلا عَلَى أَبْشَارِهِمْ، إِنَّمَا اسْتَعْمَلْتُكُمْ عَلَيْهِمْ لِتُقِيمُوا بِهِمُ الصَّلاةَ، وَتَقْضُوا بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ، وَتَقْسِمُوا بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ، وَإِنِّي لَمْ أُسَلِّطْكُمْ عَلَى أَبْشَارِهِمْ وَلا عَلَى أَشْعَارِهِمْ، وَلا تَجْلِدُوا الْعَرَبَ فَتُذِلُّوهَا، وَلا تَجْمُرُوهَا فَتَفْتِنُوهَا، وَلا تَغْفَلُوا عَنْهَا فَتَحْرِمُوهَا، جَرِّدُوا الْقُرْآنَ، وَأَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ ص، وانا شريككم وكان يقتص مِنْ عُمَّالِهِ، وَإِذَا شُكِيَ إِلَيْهِ عَامِلٌ لَهُ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ شَكَاهُ، فَإِنْ صَحَّ عَلَيْهِ أَمْرٌ يَجِبُ أَخْذُهُ بِهِ أَخَذَهُ بِهِ وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي فِرَاسٍ، قَالَ: خَطَبَ عمر ابن الخطاب، فقال: يا ايها النَّاسُ، إِنِّي وَاللَّهِ مَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ عُمَّالا لِيَضْرِبُوا أَبْشَارَكُمْ، وَلا لِيَأْخُذُوا أَمْوَالَكُمْ، وَلَكِنِّي أُرْسِلُهُمْ إِلَيْكُمْ لِيُعَلِّمُوكُمْ دِينَكُمْ وَسُنَّتَكُمْ، فَمَنْ فُعِلَ بِهِ شيء سوى ذلك فليرفعه الى، فو الذى نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ لأُقِصَّنَّهُ مِنْهُ فَوَثَبَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَرَأَيْتُكَ إِنْ كَانَ رَجُلٌ مِنْ أُمَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَعِيَّةٍ، فَأَدَّبَ بَعْضَ رَعِيَّتِهِ، إِنَّكَ لَتُقِصَّهُ مِنْهُ! قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ إِذًا لأُقِصَّنَّهُ مِنْهُ، وَكَيْفَ لا أُقِصَّهُ مِنْهُ وَقَدْ رايت رسول الله ص يُقِصُّ مِنْ نَفْسِهِ! أَلا لا تَضْرِبُوا الْمُسْلِمِينَ فَتُذِلُّوهُمْ، وَلا تَجْمُرُوهُمْ فَتَفْتِنُوهُمْ، وَلا تَمْنَعُوهُمْ حُقُوقَهُمْ فتكفروهم، وَلا تَنْزِلُوهُمُ الْغِيَاضَ فَتُضَيِّعُوهُمْ

وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ- يَعُسُّ بِنَفْسِهِ، وَيَرْتَادُ مَنَازِلَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَتَفَقَّدُ أَحْوَالَهُمْ بِيَدَيْهِ. ذِكْرُ الْخَبَرِ الْوَارِدِ عَنْهُ بِذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، قَالَ: جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى بَابِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَضَرَبَهُ، فَجَاءَتِ الْمَرْأَةُ فَفَتَحَتْهُ، ثُمَّ قَالَتْ لَهُ: لا تَدْخُلْ حَتَّى أَدْخُلَ الْبَيْتَ وَأَجْلِسَ مَجْلِسِي، فَلَمْ يَدْخُلْ حَتَّى جَلَسَتْ، ثُمَّ قَالَتِ: ادْخُلْ، فَدَخَلَ، ثُمَّ قَالَ: هَلْ مِنْ شَيْءٍ؟ فَأَتَتْهُ بِطَعَامٍ فَأَكَلَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَقَالَ لَهُ: تَجَوَّزْ أَيُّهَا الرَّجُلُ، فَسَلَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ حِينَئِذٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: رُفْقَةٌ نَزَلَتْ فِي نَاحِيَةِ السُّوقِ خَشِيتُ عَلَيْهِمْ سُرَّاقَ الْمَدِينَةِ، فَانْطَلِقْ فَلْنَحْرُسْهُمْ، فَانْطَلَقَا فَأَتَيَا السُّوقَ، فَقَعَدَا عَلَى نَشَزٍ مِنَ الأَرْضِ يَتَحَدَّثَانِ، فَرُفِعَ لَهُمَا مِصْبَاحٌ، فَقَالَ عُمَرُ: أَلَمْ أَنْهَ عَنِ الْمَصَابِيحِ بَعْدَ النَّوْمِ! فَانْطَلَقَا، فَإِذَا هُمْ قَوْمٌ عَلَى شَرَابٍ لَهُمْ، فَقَالَ: انْطَلِقْ فَقَدْ عَرَفْتُهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا فُلانُ، كُنْتَ وَأَصْحَابُكَ الْبَارِحَةَ عَلَى شَرَابٍ؟ قَالَ: وَمَا عِلْمُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: شيء شهدته، فقال: او لم يَنْهَكَ اللَّهُ عَنِ التَّجَسُّسِ! قَالَ: فَتَجَاوَزَ عَنْهُ. قَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ: وَإِنَّمَا نَهَى عُمَرُ عَنِ الْمَصَابِيحِ، لأَنَّ الْفَأْرَةَ تَأْخُذُ الْفَتِيلَةَ فَتَرْمِي بِهَا فِي سَقْفِ الْبَيْتِ فَيَحْتَرِقُ، وَكَانَ إِذْ ذَاكَ سَقْفُ الْبَيْتِ مِنَ الْجَرِيدِ. وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى حَرَّةِ وَاقِمٍ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِصِرَارٍ، إِذَا نَارٌ تُؤَرَّثُ، فَقَالَ: يَا أَسْلَمُ، إِنِّي أَرَى هَؤُلاءِ رُكْبًا قَصُرَ بِهِمُ اللَّيْلُ وَالْبَرْدُ، انْطَلِقْ بِنَا، فَخَرَجْنَا نُهَرْوِلُ حَتَّى دَنَوْنَا مِنْهُمْ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مَعَهَا

صِبْيَانٌ لَهَا، وَقِدْرٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى النَّارِ، وَصِبْيَانُهَا يَتَضَاغَوْنَ، فَقَالَ عُمَرُ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ يَا أَصْحَابَ الضَّوْءِ- وَكَرِهَ أَنْ يَقُولَ: يَا أَصْحَابَ النَّارِ- قَالَتْ: وَعَلَيْكَ السَّلامُ، قَالَ: أَأَدْنُو؟ قَالَتِ: ادْنُ بِخَيْرٍ أَوْ دَعْ، فَدَنَا فَقَالَ: مَا بَالُكُمْ؟ قَالَتْ: قَصُرَ بِنَا اللَّيْلُ وَالْبَرْدُ، قَالَ: فَمَا بَالُ هَؤُلاءِ الصِّبْيَةِ يَتَضَاغَوْنَ؟ قَالَتِ: الْجُوعُ، قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ فِي هَذِهِ الْقِدْرِ؟ قَالَتْ: مَاءٌ أُسْكِتُهُمْ بِهِ حَتَّى يَنَامُوا، اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عُمَرَ! قَالَ: أَيْ رَحِمَكِ اللَّهُ، مَا يُدْرِي عُمَرَ بِكُمْ! قَالَتْ: يَتَوَلَّى أَمْرَنَا وَيَغْفَلُ عَنَّا! فَأَقْبَلَ عَلَيَّ، فَقَالَ: انْطَلِقْ بِنَا، فَخَرَجْنَا نُهَرْوِلُ، حَتَّى أَتَيْنَا دَارَ الدَّقِيقِ، فَأَخْرَجَ عِدْلا فِيهِ كبه شحم، فقال: احمله على، فقلت: أَنَا أَحْمِلُهُ عَنْكَ، قَالَ: احْمِلْهُ عَلَيَّ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا، كُلُّ ذَلِكَ أَقُولُ: أَنَا أَحْمِلُهُ عَنْكَ، فَقَالَ لِي فِي آخِرِ ذَلِكَ: أَنْتَ تَحْمِلُ عَنِّي وِزْرِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لا أُمَّ لَكَ! فَحَمَلْتُهُ عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ مَعَهُ نُهَرْوِلُ، حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا، فَأَلْقَى ذَلِكَ عِنْدَهَا، وَأَخْرَجَ مِنَ الدَّقِيقِ شَيْئًا، فَجَعَلَ يَقُولُ لَهَا: ذُرِّي عَلَيَّ، وَأَنَا أُحَرِّكُ لَكِ، وَجَعَلَ يَنْفُخُ تَحْتَ الْقِدْرِ- وَكَانَ ذَا لِحْيَةٍ عَظِيمَةٍ- فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى الدُّخَانِ مِنْ خِلَلِ لِحْيَتِهِ حَتَّى أَنْضَجَ وَأَدِمَ الْقِدْرُ ثُمَّ أَنْزَلَهَا، وَقَالَ: ابْغِنِي شَيْئًا، فَأَتَتْهُ بِصَحْفَةٍ فَأَفْرَغَهَا فِيهَا، ثُمَّ جَعَلَ يَقُولُ: أَطْعِمِيهِمْ، وَأَنَا أَسْطَحُ لَكِ، فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَلَّى عِنْدَهَا فَضْلَ ذَلِكَ، وَقَامَ وَقُمْتُ مَعَهُ، فَجَعَلَتْ تَقُولُ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا! أَنْتَ أَوْلَى بِهَذَا الأَمْرِ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ! فَيَقُولُ: قُولِي خَيْرًا، إِنَّكِ إِذَا جِئْتِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَجَدْتِنِي هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ تَنَحَّى نَاحِيَةً عَنْهَا، ثُمَّ اسْتَقْبَلَهَا وَرَبَضَ مَرْبَضَ السَّبُعِ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ لَهُ: إِنَّ لَكَ شَأْنًا غَيْرَ هَذَا، وَهُوَ لا يُكَلِّمُنِي حَتَّى رَأَيْتُ الصِّبْيَةَ يَصْطَرِعُونَ وَيَضْحَكُونَ ثُمَّ نَامُوا وَهَدَءُوا، فَقَامَ وَهُوَ يَحْمَدُ اللَّهَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ فَقَالَ: يَا أَسْلَمُ، إِنَّ الْجُوعَ أَسْهَرَهُمْ وَأَبْكَاهُمْ، فَأَحْبَبْتُ أَلا أَنْصَرِفَ حَتَّى أَرَى مَا رَأَيْتُ مِنْهُمْ. وَكَانَ عُمَرُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْمُرَ الْمُسْلِمِينَ بِشَيْءٍ أَوْ يَنْهَاهُمْ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا فِيهِ صَلاحُهُمْ بَدَأَ بِأَهْلِهِ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ بِالْوَعْظِ لَهُمْ، وَالْوَعِيدِ عَلَى خِلافِهِمْ أَمْرَهُ

كَالَّذِي حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بِالْمَدِينَةِ، عَنْ سَالِمٍ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ إِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَنَهَى النَّاسَ عَنْ شَيْءٍ جَمَعَ أَهْلَهُ، فَقَالَ: إِنِّي نَهَيْتُ النَّاسَ عَنْ كَذَا وَكَذَا، وَإِنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ إِلَيْكُمْ نَظَرَ الطَّيْرِ- يَعْنِي إِلَى اللَّحْمِ- وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لا أَجِدُ أَحَدًا مِنْكُمْ فَعَلَهُ إِلا أَضْعَفْتُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَدِيدًا عَلَى أَهْلِ الرَّيْبِ، وَفِي حَقِّ اللَّهِ صَلِيبًا حَتَّى يَسْتَخْرِجَهُ، وَلَيِّنًا سَهْلا فِيمَا يَلْزَمُهُ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ، وَبِالضَّعِيفِ رَحِيمًا رَءُوفًا حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سعيد الزُّهْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلانَ، أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ نَفَرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَلَّمُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَقَالُوا: كَلِّمْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَخْشَانَا حَتَّى وَاللَّهِ مَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُدِيمَ إِلَيْهِ أَبْصَارَنَا. قَالَ: فَذَكَرَ ذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ لِعُمَرَ، فَقَالَ: اوقد قالوا ذلك! فو الله لَقَدْ لِنْتُ لَهُمْ حَتَّى تَخَوَّفْتُ اللَّهَ فِي ذَلِكَ، وَلَقَدِ اشْتَدَدْتُ عَلَيْهِمْ حَتَّى خَشِيتُ اللَّهَ فِي ذَلِكَ، وَايْمُ اللَّهِ لأَنَا أَشَدُّ مِنْهُمْ فَرَقًا مِنْهُمْ مِنِّي! وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ، قَالَ: اسْتَعْمَلَ عُمَرُ رَجُلا عَلَى مِصْرٍ، فَبَيْنَا عُمَرُ يَوْمًا مَارٌّ فِي طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ إِذْ سَمِعَ رَجُلا وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهَ يَا عُمَرُ! تَسْتَعْمِلُ مَنْ يَخُونُ وَتَقُولُ: لَيْسَ عَلَيَّ شَيْءٌ، وَعَامِلُكَ يَفْعَلُ كَذَا! قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا جَاءَهُ أَعْطَاهُ عَصًا وَجُبَّةَ صُوفٍ وَغَنَمًا، فَقَالَ: ارْعَهَا- وَاسْمُهُ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ- فَإِنَّ أَبَاكَ كَانَ رَاعِيًا، قَالَ: ثُمَّ دَعَاهُ، فَذَكَرَ كَلامًا، فَقَالَ: إِنْ أَنَا رَدَدْتُكَ! فَرُدَّهُ إِلَى عَمَلِهِ، وَقَالَ: لِي عَلَيْكَ أَلا تَلْبَسَ رَقِيقًا، وَلا تَرْكَبَ بِرْذَوْنًا! حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ إِذَا اسْتَعْمَلَ عَامِلا كَتَبَ لَهُ عَهْدًا، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ رَهْطًا مِنَ المهاجرين والانصار،

تسميه عمر رضى الله عنه امير المؤمنين

وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَلا يَرْكَبَ بِرْذَوْنًا، وَلا يَأْكُلَ نَقِيًّا، وَلا يَلْبَسَ رَقِيقًا، وَلا يَتَّخِذَ بَابًا دُونَ حَاجَاتِ النَّاسِ. وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَلامِ بْنِ مِسْكِينٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إِذَا احْتَاجَ أَتَى صَاحِبَ بَيْتِ الْمَالِ، فَاسْتَقْرَضَهُ، قَالَ: فَرُبَّمَا أَعْسَرَ فَيَأْتِيَهُ صَاحِبُ بَيْتِ الْمَالِ يَتَقَاضَاهُ فَيَلْزَمُهُ، فَيَحْتَالُ لَهُ عُمَرُ، وَرُبَّمَا خَرَجَ عَطَاؤُهُ فَقَضَاهُ. وَعَنْ أَبِي عَامِرٍ الْعَقَدِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ حَفْصٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ يَوْمًا حَتَّى أَتَى الْمِنْبَرَ، وَقَدْ كَانَ اشْتَكَى شَكْوَى لَهُ، فَنُعِتَ لَهُ الْعَسَلُ، وَفِي بَيْتِ الْمَالِ عُكَّةٌ، فَقَالَ: إِنْ أَذِنْتُمْ لِي فِيهَا أَخَذْتُهَا، وَإِلا فَهِيَ عَلَيَّ حَرَامٌ . تَسْمِيَةُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَوَّلُ مَنْ دُعِيَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، ثُمَّ جَرَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ، وَاسْتَعْمَلَهُ الْخُلَفَاءُ إِلَى الْيَوْمِ. ذِكْرُ الْخَبَرِ بِذَلِكَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عبد الصمد الأنصاري، قال: حدثنى أُمُّ عَمْرٍو بِنْتُ حَسَّانٍ الْكُوفِيَّةُ، عَنْ أَبِيهَا، قَالَ: لَمَّا وَلِيَ عُمَرُ قِيلَ: يَا خَلِيفَةَ خليفه رسول الله، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا أَمْرٌ يَطُولُ، كُلَّمَا جَاءَ خَلِيفَةٌ قَالُوا: يَا خَلِيفَةَ خليفه خليفه رسول الله! بَلْ أَنْتُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَنَا أَمِيرُكُمْ، فَسُمِّيَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ: سَأَلْتُهَا كَمْ أَتَى عَلَيْكِ مِنَ السَّنِينَ؟ قَالَتْ: مِائَةٌ وَثَلاثٌ وَثَلاثُونَ سَنَةً. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا

وضعه التاريخ

أَبُو حَمْزَةَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: يَا خَلِيفَةَ اللَّهِ، قَالَ: خَالَفَ اللَّهُ بِكَ! فَقَالَ: جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ! قال: إذا يهينك اللَّهُ! وضعه التأريخ قَالَ أَبُو جَعْفَر: وَكَانَ أول من وضع التأريخ وكتبه- فِيمَا حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، عن محمد بن عمر- في سنة ست عشرة في شهر ربيع الأول منها، وَقَدْ مضى ذكري سبب كتابه ذلك، وكيف كان الأمر فِيهِ. وعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أول من أرخ الكتب، وختم بالطين. وهو أول من جمع الناس عَلَى إمام يصلي بهم التراويح في شهر رمضان، وكتب بِذَلِكَ إلى البلدان، وأمرهم به، وَذَلِكَ- فيما حَدَّثَنِي به الحارث، قَالَ: حدثنا ابن سعد، عن محمد بن عمر- في سنة أربع عشرة، وجعل لِلنَّاسِ قارئين: قارئا يصلي بالرجال وقارئا يصلي بالنساء حمله الدرة وتدوينه الدواوين وهو أول من حمل الدرة، وضرب بِهَا، وهو أول من دون لِلنَّاسِ في الإِسْلام الدواوين، وكتب الناس عَلَى قبائلهم، وفرض لَهُمُ العطاء. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا محمد بن عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَائِذُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ بْنِ نُقَيْدٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَشَارَ الْمُسْلِمِينَ فِي تَدْوِينِ الدَّوَاوِينِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: تَقْسِمُ كُلَّ سَنَةٍ مَا اجْتَمَعَ إِلَيْكَ مِنْ مَالٍ، فَلا تُمْسِكْ مِنْهُ شَيْئًا وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ: أَرَى مَالا كَثِيرًا يَسَعُ النَّاسَ، وَإِنْ لَمْ يُحْصَوْا حَتَّى تَعْرِفَ مَنْ أَخَذَ مِمَّنْ لَمْ يَأْخُذْ، خَشِيتُ أَنْ يَنْتَشِرَ الأَمْرُ فَقَالَ لَهُ الْوَلِيدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ جِئْتُ الشَّامَ، فَرَأَيْتُ مُلُوكَهَا قَدْ دَوَّنُوا دِيوَانًا، وَجَنَّدُوا جُنْدًا، فَدَوِّنْ دِيوَانًا، وَجَنِّدْ جُنْدًا فَأَخَذَ بِقَوْلِهِ، فَدَعَا عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَمَخْرَمَةَ بْنَ نَوْفَلٍ

وَجُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ، وَكَانُوا مِنْ نُسَّابِ قُرَيْشٍ- فَقَالَ: اكْتُبُوا النَّاسَ عَلَى مَنَازِلِهِمْ، فَكَتَبُوا فَبَدَءُوا بِبَنِي هَاشِمٍ، ثُمَّ أَتْبَعُوهُمْ أَبَا بَكْرٍ وَقَوْمَهُ، ثُمَّ عُمَرَ وَقَوْمَهُ عَلَى الْخِلافَةِ، فَلَمَّا نَظَرَ فِيهِ عُمَرُ قَالَ: لَوَدِدْتُ وَاللَّهِ أَنَّهُ هَكَذَا، ولكن ابدءوا بقرابه رسول الله ص، الأَقْرَبَ فَالأَقْرَبَ، حَتَّى تَضَعُوا عُمَرَ حَيْثُ وَضَعَهُ اللَّهُ حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ عُرِضَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، وَبَنُو تَيْمٍ عَلَى أَثَرِ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنُو عَدِيٍّ عَلَى أَثَرِ بَنِي تَيْمٍ، فَأَسْمَعُهُ يَقُولُ: ضَعُوا عُمَرَ مَوْضِعَهُ، وَابْدَءُوا بِالأَقْرَبِ فَالأَقْرَبِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، فَجَاءَتْ بَنُو عَدِيٍّ إِلَى عُمَرَ، فَقَالُوا: أَنْتَ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: أَوْ خَلِيفَةُ أَبِي بَكْرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ خَلِيفَةُ رَسُولِ الله، قَالُوا: وَذَاكَ، فَلَوْ جَعَلْتَ نَفْسَكَ حَيْثُ جَعَلَكَ هَؤُلاءِ الْقَوْمُ! قَالَ: بَخٍ بَخٍ بَنِي عَدِيٍّ! أَرَدْتُمُ الأَكْلَ عَلَى ظَهْرِي، وَأَنْ أُذْهِبَ حَسَنَاتِي لَكُمْ! لا وَاللَّهِ حَتَّى تَأْتِيَكُمُ الدَّعْوَةُ، وَأَنْ أُطْبِقَ عَلَيْكُمُ الدَّفْتَرَ وَلَوْ أَنْ تُكْتَبُوا فِي آخِرِ النَّاسِ، إِنَّ لِي صَاحِبَيْنِ سَلَكَا طَرِيقًا، فَإِنْ خَالَفْتُهُمَا خُولِفَ بِي، وَاللَّهِ مَا أَدْرَكْنَا الْفَضْلَ فِي الدُّنْيَا، وَلا نَرْجُو مَا نَرْجُو مِنَ الآخِرَةِ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ عَلَى مَا عملنا الا بمحمد ص، فَهُوَ شَرَفُنَا، وَقَوْمُهُ أَشْرَفُ الْعَرَبِ، ثُمَّ الأَقْرَبُ فالأقرب، ان العرب شرفت برسول الله، وَلَعَلَّ بَعْضُهَا يَلْقَاهُ إِلَى آبَاءٍ كَثِيرَةٍ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَنْ نَلْقَاهُ إِلَى نَسَبِهِ ثُمَّ لا نُفَارِقُهُ إِلَى آدَمَ إِلا آبَاءً يَسِيرَةً، مَعَ ذَلِكَ وَاللَّهِ لَئِنْ جَاءَتِ الأَعَاجِمُ بِالأَعْمَالِ، وَجِئْنَا بِغَيْرِ عَمَلٍ، فَهُمْ أَوْلَى بِمُحَمَّدٍ مِنَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلا يَنْظُرُ رَجُلٌ إِلَى قَرَابَةٍ، وَلْيَعْمَلْ لِمَا عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنَّ مَنْ قَصَّرَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ. حَدَّثَنِي الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حِزَامُ بْنُ هِشَامٍ الْكَعْبِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ ابن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَحْمِلُ دِيوَانَ خُزَاعَةَ حَتَّى يَنْزِلَ قَدِيدًا،

فَنَأْتِيَهُ بِقَدِيدٍ، فَلا يَغِيبُ عَنْهُ امْرَأَةٌ بِكْرٌ وَلا ثَيِّبٌ، فَيُعْطِيهِنَّ فِي أَيْدِيهِنَّ، ثُمَّ يَرُوحُ فَيَنْزِلُ عَسَفَانَ، فَيَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ أَيْضًا حَتَّى تُوُفِّيَ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قال: أخبرنا مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الزُّهْرِيُّ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: سَمِعْتُ عمر ابن الْخَطَّابِ، يَقُولُ: وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ، ثَلاثًا، مَا مِنْ أَحَدٍ إِلا لَهُ فِي هَذَا الْمَالِ حَقٌّ أُعْطِيَهُ أَوْ مُنِعَهُ، وَمَا أَحَدٌ أَحَقُّ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، وَمَا أَنَا فِيهِ إِلا كَأَحَدِهِمْ، وَلَكِنَّا عَلَى مَنَازِلِنَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَقَسْمِنَا من رسول الله ص، وَالرَّجُلُ وَبَلاؤُهُ فِي الإِسْلامِ، وَالرَّجُلُ وَقِدَمُهُ فِي الإِسْلامِ، وَالرَّجُلُ وَغِنَاؤُهُ فِي الإِسْلامِ، وَالرَّجُلُ وَحَاجَتُهُ، وَاللَّهِ لَئِنْ بَقِيتُ لَيَأْتِيَنَّ الرَّاعِي بِجَبَلِ صَنْعَاءَ حَظَّهُ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَهُوَ مَكَانُهُ. قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لأَبِي، فَعَرَفَ الْحَدِيثَ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: رَأَيْتُ خَيْلا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَوْسُومَةً فِي أَفْخَاذِهَا: حَبِيسٌ فِي سَبِيلِ اللَّهُ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قَالَ: حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ زَاذَانَ، عَنْ سَلْمَانَ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ لَهُ: أَمَلِكٌ أَنَا أَمْ خَلِيفَةٌ؟ فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنْ أَنْتَ جَبَيْتَ مِنْ أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ دِرْهَمًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، ثُمَّ وَضَعْتَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، فَأَنْتَ مَلِكٌ غَيْرُ خَلِيفَةٍ، فَاسْتَعْبَرَ عُمَرُ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حدثنا ابن سعد، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى آلِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ حَنْتَمَةَ! لَقَدْ رَأَيْتُهُ عَامَ الرَّمَادَةِ، وَإِنَّهُ لَيَحْمِلُ عَلَى ظَهْرِهِ جِرَابَيْنِ وَعُكَّةَ زَيْتٍ فِي يَدِهِ، وَإِنَّهُ لَيَعْتَقِبُ هُوَ وَأَسْلَمُ،

فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: مِنْ أَيْنَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قُلْتُ: قَرِيبًا، فَأَخَذْتُ أَعْقُبُهُ، فَحَمَلْنَاهُ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى صِرَارٍ، فَإِذَا صِرْمٌ نَحْوٌ مِنْ عِشْرِينَ بَيْتًا مِنْ مُحَارِبٍ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَقْدَمَكُمْ؟ قَالُوا: الْجَهْدُ، وَأَخْرَجُوا لَنَا جِلْدَ الْمَيْتَةِ مَشْوِيًّا كَانُوا يَأْكُلُونَهُ، وَرِمَّةَ الْعِظَامِ مَسْحُوقَةً كَانُوا يستفونها، فَرَأَيْتُ عُمَرَ طَرَحَ رِدَاءَهُ، ثُمَّ اتَّزَرَ، فَمَا زَالَ يَطْبُخُ لَهُمْ حَتَّى شَبِعُوا، فَأَرْسَلَ أَسْلَمَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَجَاءَ بِأَبْعِرَةٍ فَحَمَلَهُمْ عَلَيْهَا حَتَّى أَنْزَلَهُمُ الْجَبَّانَةَ، ثُمَّ كَسَاهُمْ وَكَانَ يَخْتَلِفُ إِلَيْهِمْ وَإِلَى غَيْرِهِمْ حَتَّى رَفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ. حَدَّثَنِي الحارث، قَالَ: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ عَمِّهِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَقُولُ: لا تذرن إِحْدَاكُنَّ الدَّقِيقَ حَتَّى يَسْخَنَ الْمَاءُ ثُمَّ تذره قَلِيلا قَلِيلا، وَتَسُوطُهُ بِمُسُوطِهَا، فَإِنَّهُ أَرْيَعُ لَهُ، وَأَحْرَى أَلا يَتَقَرَّدَ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ الْقَرْقَسَانِيُّ، قَالَ: حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أُتِيَ بِمَالٍ، فَجَعَلَ يَقْسِمُهُ بَيْنَ النَّاسِ، فَازْدَحَمُوا عَلَيْهِ، فَأَقْبَلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يُزَاحِمُ النَّاسَ، حَتَّى خَلَصَ إِلَيْهِ، فَعَلاهُ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ، وَقَالَ: إِنَّكَ أَقْبَلْتَ لا تَهَابُ سُلْطَانَ اللَّهِ فِي الأَرْضِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُعَلِّمَكَ أَنَّ سُلْطَانَ اللَّهِ لَنْ يَهَابَكَ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حثمه، عن ابيه، قال: قالت الشفا ابْنَةُ عَبْدِ اللَّهِ- وَرَأَيْتُ فِتْيَانًا يَقْصِدُونَ فِي الْمَشْيِ، وَيَتَكَلَّمُونَ رُوَيْدًا، فَقَالَتْ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: نُسَّاكٌ، فَقَالَتْ: كَانَ وَاللَّهِ عُمَرُ إِذَا تَكَلَّمَ أَسْمَعَ، وَإِذَا مَشَى أَسْرَعَ، وَإِذَا ضَرَبَ أَوْجَعَ، هُوَ وَاللَّهِ النَّاسِكُ حَقًّا. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله

ابن عَامِرٍ، قَالَ: أَعَانَ عُمَرُ رَجُلا عَلَى حَمْلِ شَيْءٍ، فَدَعَا لَهُ الرَّجُلُ، وَقَالَ: نَفَعَكَ بَنُوكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! فَقَالَ: بَلْ أَغْنَانِي اللَّهُ عَنْهُمْ. حَدَّثَنِي عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ عُمَرَ بْنِ مُجَاشِعٍ. قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: الْقُوَّةُ فِي الْعَمَلِ أَلا تُؤَخِّرَ عَمَلَ الْيَوْمِ لِغَدٍ، وَالأَمَانَةُ أَلا تُخَالِفَ سَرِيرَةٌ عَلانِيَةً، وَاتَّقُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّمَا التَّقْوَى بِالتَّوَقِّي، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَقِهْ. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، عَنْ عَوَانَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ- وَغَيْرِ عَوَانَةَ زَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ- أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ يَطُوفُ فِي الأَسْوَاقِ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَيَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ حَيْثُ أَدْرَكَهُ الْخُصُومُ. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مُوسَى بْنَ عُقْبَةَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَهْطًا أَتَوْا عُمَرَ، فَقَالُوا: كَثُرَ الْعِيَالُ، وَاشْتَدَّتِ الْمَئُونَةُ، فَزِدْنَا فِي أَعْطِيَاتِنَا، قَالَ: فَعَلْتُمُوهَا، جَمَعْتُمْ بَيْنَ الضَّرَائِرِ، وَاتَّخَذْتُمُ الْخَدَمَ فِي مَالِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ! أَمَا وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي وَإِيَّاكُمْ فِي سَفِينَةٍ فِي لُجَّة الْبَحْرِ، تَذْهَبُ بِنَا شَرْقًا وَغَرْبًا، فَلَنْ يَعْجَزَ النَّاسُ أَنْ يُوَلُّوا رَجُلا مِنْهُمْ، فَإِنِ اسْتَقَامَ اتَّبَعُوهُ، وَإِنْ جَنَفَ قَتَلُوهُ، فَقَالَ طَلْحَةُ: وَمَا عَلَيْكَ لَوْ قُلْتَ: إِنْ تَعَوَّجَ عَزَلُوهُ! فَقَالَ: لا، الْقَتْلُ أَنْكَلُ لِمَنْ بَعْدَهُ، احْذَرُوا فَتَى قُرَيْشٍ وَابْنَ كَرِيمِهَا الَّذِي لا يَنَامُ إِلا عَلَى الرِّضَا، وَيَضْحَكُ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ مَنْ فَوْقَهُ وَمَنْ تَحْتَهُ. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَاوُدَ الْوَاسِطِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: كُنَّا نَعُدُّ الْمُقْرِضَ بَخِيلا، إِنَّمَا كَانَتِ الْمُوَاسَاةُ. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، عَنِ ابْنِ دَأْبٍ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ الأَسْلَمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِنَاسٍ مِنْ قُرَيْشٍ: بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَتَّخِذُونَ مَجَالِسَ، لا يَجْلِسُ اثْنَانِ مَعًا حَتَّى يُقَالُ: مِنْ صَحَابَةِ فُلانٍ؟ مِنْ

ذكر بعض خطبه رضى الله تعالى عنه

جُلَسَاءِ فُلانٍ؟ حَتَّى تُحُومِيَتِ الْمَجَالِسُ، وَايْمُ اللَّهِ إِنَّ هَذَا لَسَرِيعٌ فِي دِينِكُمْ، سَرِيعٌ فِي شَرَفِكُمْ، سَرِيعٌ فِي ذَاتِ بَيْنِكُمْ، وَلَكَأَنِّي بِمَنْ يَأْتِي بَعْدَكُمْ يَقُولُ: هَذَا رَأْيُ فُلانٍ، قَدْ قَسَمُّوا الإِسْلامَ أَقْسَامًا، أَفِيضُوا مَجَالِسَكُمْ بَيْنَكُمْ، وَتَجَالَسُوا مَعًا، فَإِنَّهُ أَدْوَمُ لأُلْفَتِكُمْ، وَأَهْيَبُ لَكُمْ فِي النَّاسِ اللَّهُمَّ مَلُّونِي وَمَلَلْتُهُمْ، وَأَحْسَسْتُ مِنْ نَفْسِي وَأَحَسُّوا مِنِّي، وَلا أَدْرِي بِأَيِّنَا يَكُونُ الْكَوْنُ، وَقَدْ أَعْلَمُ أَنَّ لَهُمْ قَبِيلا مِنْهُمْ، فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: اتَّخَذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ أَفْرَاسًا بِالْمَدِينَةِ، فَمَنَعَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَكَلَّمُوهُ فِي أَنْ يَأْذَنَ لَهُ، قَالَ: لا آذَنُ لَهُ، إِلا أَنْ يَجِيءَ بِعَلَفِهَا مِنْ غَيْرِ الْمَدِينَةِ فَارْتَبَطَ أَفْرَاسًا، وَكَانَ يَحْمِلُ إِلَيْهَا عَلَفًا مِنْ أَرْضٍ لَهُ بِالْيَمَنِ. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْهَمْدَانِيُّ، عَنْ مُجَالِدٍ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ قَوْمًا ذَكَرُوا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَجُلا، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَاضِلٌ لا يَعْرِفُ مِنَ الشَّرِّ شَيْئًا، قَالَ: ذَاكَ أَوْقَعُ لَهُ فِيهِ! ذِكْرُ بَعْضِ خُطَبِهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حدثنا عَلِيٌّ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ وَغَيْرِهِ، وَأَبِي مُعَاذٍ الأَنْصَارِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَيَزِيدَ بن عياض عن عبد الله ابن أَبِي بَكْرٍ، وَعَلِيِّ بْنِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عِيَاضٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عُمَرَ رضى الله تعالى عَنْهُ خَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ ذَكَّرَ النَّاسَ بِاللَّهِ عَزَّ وجل واليوم الآخر، ثم قال: يا ايها النَّاسُ، إِنِّي قَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ، وَلَوْلا رَجَاءُ أَنْ أَكُونَ خَيْرَكُمْ لَكُمْ، وَأَقْوَاكُمْ عَلَيْكُمْ، وَأَشَدَّكُمُ اسْتِضْلاعًا بِمَا يَنُوبُ مِنْ مُهِمِّ أُمُورِكُمْ، مَا تَوَلَّيْتُ ذَلِكَ مِنْكُمْ، وَلَكَفَى عُمَرَ

مهما مُحْزِنًا انْتِظَارُ مُوَافَقَةِ الْحِسَابِ بِأَخْذِ حُقُوقِكُمْ كَيْفَ آخُذُهَا، وَوَضْعِهَا أَيْنَ أَضَعُهَا، وَبِالسَّيْرِ فِيكُمْ كَيْفَ أَسِيرُ! فَرَبِّي الْمُسْتَعَانُ، فَإِنَّ عُمَرَ أَصْبَحَ لا يَثِقُ بِقُوَّةٍ وَلا حِيلَةٍ إِنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِرَحْمَتِهِ وَعَوْنِهِ وَتَأْيِيدِهِ. ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ وَلانِي أَمْرَكُمْ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنْفَعَ مَا بِحَضْرَتِكُمْ لَكُمْ، وَإِنِّي أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعِينَنِي عَلَيْهِ، وَأَنْ يَحْرُسَنِي عِنْدَهُ، كَمَا حَرَسَنِي عِنْدَ غَيْرِهِ، وَأَنْ يُلْهِمَنِي الْعَدْلَ فِي قَسْمِكُمْ كَالَّذِي أَمَرَ بِهِ، وَإِنِّي امْرُؤٌ مُسْلِمٌ وَعَبْدٌ ضَعِيفٌ، إِلا مَا أَعَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَنْ يُغَيِّرَ الَّذِي وُلِّيتُ مِنْ خِلافَتِكُمْ مِنْ خُلُقِي شَيْئًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، إِنَّمَا الْعَظَمَةُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَيْسَ لِلْعِبَادِ مِنْهَا شَيْءٌ، فَلا يَقُولَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ: إِنَّ عُمَرَ تَغَيَّرَ مُنْذُ وُلِّيَ أَعْقِلُ الْحَقَّ مِنْ نَفْسِي وَأَتَقَدَّمُ، وَأُبَيِّنُ لَكُمْ أَمْرِي، فَأَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ أَوْ ظُلِمَ مَظْلَمَةً، أَوْ عَتَبَ عَلَيْنَا فِي خُلُقٍ، فَلْيُؤْذِنِّي، فَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْكُمْ، فَعَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي سِرِّكُمْ وَعَلانِيَتِكُمْ، وَحُرُمَاتِكُمْ وَأَعْرَاضِكُمْ، وَأَعْطُوا الْحَقَّ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَلا يَحْمِلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا عَلَى أَنْ تَحَاكَمُوا إِلَيَّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ هَوَادَةٌ، وَأَنَا حَبِيبٌ إِلَيَّ صَلاحُكُمْ، عَزِيزٌ عَلَيَّ عَتْبُكُمْ وَأَنْتُمْ أُنَاسٌ عَامَّتُكُمْ حضر فِي بِلادِ اللَّهِ، وَأَهْلُ بلد لا زَرْعَ فِيهِ وَلا ضَرْعَ إِلا مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ إِلَيْهِ. وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ وَعَدَكُمْ كَرَامَةً كَثِيرَةً، وَأَنَا مَسْئُولٌ عَنْ أَمَانَتِي وَمَا أَنَا فِيهِ، وَمُطَّلِعٌ عَلَى مَا بِحَضْرَتِي بِنَفْسِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لا أَكِلُهُ إِلَى أَحَدٍ، وَلا أَسْتَطِيعُ مَا بَعُدَ مِنْهُ إِلا بِالأُمَنَاءِ وَأَهْلِ النُّصْحِ مِنْكُمْ لِلْعَامَّةِ، وَلَسْتُ أَجْعَلُ أَمَانَتِي إِلَى أَحَدٍ سِوَاهُمْ إِنْ شاء الله. وخطب أيضا، فقال بعد ما حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ ص: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ بَعْضَ الطَّمَعِ فَقْرٌ، وَإِنَّ بَعْضَ الْيَأْسِ غِنًى، وَإِنَّكُمْ تَجْمَعُونَ مَا لا تَأْكُلُونَ، وَتَأْمَلُونَ مَا لا تُدْرِكُونَ، وَأَنْتُمْ مُؤَجَّلُونَ فِي دَارِ غَرُورٍ كُنْتُمْ عَلَى

عهد رسول الله ص، تُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ، فَمَنْ أَسَرَّ شَيْئًا أُخِذَ بِسَرِيرَتِهِ، وَمَنْ أَعْلَنَ شَيْئًا أُخِذَ بِعَلانِيَتِهِ، فَأَظْهِرُوا لَنَا أَحْسَنَ أَخْلاقِكُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالسَّرَائِرِ، فَإِنَّهُ مَنْ اظهر شَيْئًا وَزَعَمَ أَنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةً لَمْ نُصَدِّقْهُ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا عَلانِيَةً حَسَنَةً ظَنَنَّا بِهِ حُسْنًا وَاعْلَمُوا أَنَّ بَعْضَ الشُّحِّ شُعْبَةٌ مِنَ النفاق، ف أَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. أَيُّهَا النَّاسُ، أَطِيبُوا مَثْوَاكُمْ، وَأَصْلِحُوا أُمُورَكُمْ، وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ، وَلا تُلْبِسُوا نِسَاءَكُمُ الْقُبَاطِيَّ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَشِفَّ فَإِنَّهُ يَصِفُ. أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي لَوَدِدْتُ أَنْ أَنْجُوَ كَفَافًا لا لِيَ وَلا عَلَيَّ، وَإِنِّي لأَرْجُو إِنْ عُمِّرْتُ فِيكُمْ يَسِيرًا أَوْ كَثِيرًا أَنْ أَعْمَلَ بِالْحَقِّ فِيكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَأَلا يَبْقَى أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ إِلا أَتَاهُ حَقُّهُ وَنَصِيبُهُ مِنْ مَالِ اللَّهِ، وَلا يَعْمَلُ إِلَيْهِ نَفْسَهُ، وَلَمْ يَنْصِبْ إِلَيْهِ يَوْمًا وَأَصْلِحُوا أَمْوَالَكُمُ الَّتِي رَزَقَكُمُ اللَّهُ، وَلَقَلِيلٌ فِي رِفْقٍ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ فِي عُنْفٍ، وَالْقَتْلُ حَتْفٌ مِنَ الْحُتُوفِ، يُصِيبُ الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ، وَالشَّهِيدُ مَنِ احْتَسَبَ نَفْسَهُ وَإِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ بَعِيرًا فَلْيَعْمِدْ إِلَى الطَّوِيلِ الْعَظِيمِ فَلْيَضْرِبْهُ بِعَصَاهُ، فَإِنْ وَجَدَهُ حَدِيدَ الْفُؤَادِ فَلْيَشْتَرِهِ قَالُوا: وَخَطَبَ أَيْضًا فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ قَدِ اسْتَوْجَبَ عَلَيْكُمُ الشُّكْرَ، وَاتَّخَذَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فِيمَا آتَاكُمْ مِنْ كَرَامَةِ الآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ مِنْكُمْ لَهُ، وَلا رَغْبَةٍ مِنْكُمْ فِيهِ إِلَيْهِ، فَخَلَقَكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلَمْ تَكُونُوا شَيْئًا لِنَفْسِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَكَانَ قَادِرًا أَنْ يَجْعَلَكُمْ لأَهْوَنَ خَلْقِهِ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ لَكُمْ عَامَّةَ خَلْقِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْكُمْ لِشَيْءٍ غَيْرِهِ، وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ، وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، وَحَمَلَكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لعلكم تشكرون

ثُمَّ جَعَلَ لَكُمْ سَمْعًا وَبَصَرًا وَمِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ نِعَمٌ عَمَّ بِهَا بَنِي آدَمَ، وَمِنْهَا نِعَمٌ اخْتَصَّ بِهَا أَهْلَ دِينِكُمْ، ثُمَّ صَارَتْ تِلْكَ النِّعَمُ خَوَاصُّهَا وَعَوَامُّهَا فِي دَوْلَتِكُمْ وَزَمَانِكُمْ وَطَبَقَتِكُمْ، وَلَيْسَ مِنْ تِلْكَ النِّعَمِ نِعْمَةٌ وَصَلَتْ إِلَى امْرِئٍ خَاصَّةً إِلا لَوْ قَسَمْ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنْهَا بَيْنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ أَتْعَبَهُمْ شُكْرُهَا، وَفَدَحَهُمْ حَقُّهَا، إِلا بِعَوْنِ اللَّهِ مَعَ الإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأَنْتُمْ مُسْتَخْلَفُونَ فِي الأَرْضِ، قَاهِرُونَ لأَهْلِهَا، قَدْ نَصَرَ اللَّهُ دِينَكُمْ، فَلَمْ تُصْبِحْ أُمَّةٌ مُخَالِفَةً لِدِينِكُمْ إِلا أُمَّتَانِ، أُمَّةٌ مُسْتَعْبَدَةٌ لِلإِسْلامِ وَأَهْلِهِ، يَجْزُونَ لَكُمْ، يَسْتَصِفُّونَ مَعَايِشَهُمْ وَكَدَائِحَهُمْ وَرُشْحٌ جِبَاهُهُمْ، عَلَيْهِمُ الْمَئُونَةُ وَلَكُمُ الْمَنْفَعَةُ، وَأُمَّةٌ تَنْتَظِرُ وَقَائِعَ اللَّهِ وَسَطْوَاتَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، قَدْ مَلأَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ رُعْبًا، فَلَيْسَ لَهُمْ مَعْقِلٌ يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ، وَلا مَهْرَبٌ يَتَّقُونَ بِهِ، قَدْ دَهِمَتْهُمْ جُنُودُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَنَزَلَتْ بِسَاحَتِهِمْ، مَعَ رَفَاغَةِ الْعَيْشِ، وَاسْتِفَاضَةِ الْمَالِ، وَتَتَابُعِ الْبُعُوثِ، وَسَدِّ الثُّغُورِ بِإِذْنِ اللَّهِ، مَعَ الْعَافِيَةِ الْجَلِيلَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الأُمَّةُ عَلَى أَحْسَنَ مِنْهَا مُذْ كَانَ الإِسْلامُ، وَاللَّهُ الْمَحْمُودُ، مَعَ الْفُتُوحِ الْعِظَامِ فِي كُلِّ بَلَدٍ فَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَ مَعَ هَذَا شُكْرُ الشَّاكِرِينَ وَذِكْرُ الذَّاكِرِينَ وَاجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِينَ، مَعَ هَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي لا يُحْصَى عَدَدُهَا، وَلا يُقَدَّرُ قَدْرُهَا، وَلا يُسْتَطَاعُ أَدَاءُ حَقِّهَا إِلا بِعَوْنِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَلُطْفِهِ! فَنَسْأَلُ اللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الَّذِي أَبْلانَا هَذَا، أَنْ يَرْزُقَنَا الْعَمَلَ بِطَاعَتِهِ، وَالْمُسَارَعَةَ إِلَى مَرْضَاتِهِ. وَاذْكُرُوا عِبَادَ اللَّهِ بَلاءَ اللَّهِ عِنْدَكُمْ، وَاسْتَتِمُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَفِي مَجَالِسِكُمْ مَثْنَى وَفُرَادَى، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ لِمُوسَى: «أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ» وقال لمحمد ص: «وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ» فَلَوْ كُنْتُمْ إِذْ كُنْتُمْ مُسْتَضْعَفِينَ مَحْرُومِينَ خَيْرَ الدُّنْيَا عَلَى شُعْبَةٍ مِنَ الْحَقِّ، تُؤْمِنُونَ بِهَا، وَتَسْتَرِيحُونَ إِلَيْهَا، مَعَ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ وَدِينِهِ، وَتَرْجُونَ بِهَا الْخَيْرَ فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، لَكَانَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ أَشَدَّ النَّاسِ مَعِيشَةً، وَأَثْبَتَهُمْ بِاللَّهِ جَهَالَةً فَلَوْ كَانَ هَذَا الَّذِي اسْتَشْلاكُمْ

من ندب عمر ورثاه رضى الله عنه

بِهِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ حَظٌّ فِي دُنْيَاكُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ ثِقَةٌ لَكُمْ فِي آخِرَتِكُمُ الَّتِي إِلَيْهَا الْمَعَادُ وَالْمُنْقَلَبُ، وَأَنْتُمْ مِنْ جَهْدِ الْمَعِيشَةِ عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ أَحْرِيَاءُ أَنْ تَشُحُّوا عَلَى نَصِيبِكُمْ مِنْهُ، وَأَنْ تَظْهَرُوهُ عَلَى غَيْرِهِ، فبله مَا إِنَّهُ قَدْ جُمِعَ لَكُمْ فَضِيلَةُ الدُّنْيَا وَكَرَامَةُ الآخِرَةِ، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يُجْمَعَ لَهُ ذَلِكَ مِنْكُمْ، فَأُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ الْحَائِلَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ الا ما عرفتم حق الله فعلمتم لَهُ، وَقَسَرْتُمْ أَنْفُسَكُمْ عَلَى طَاعَتِهِ، وَجَمَعْتُمْ مَعَ السُّرُورِ بِالنِّعَمِ خَوْفًا لَهَا وَلانْتِقَالِهَا، وَوَجَلا مِنْهَا وَمِنْ تَحْوِيلِهَا، فَإِنَّهُ لا شَيْءَ أَسْلَبُ لِلنِّعَمَةِ مِنْ كُفْرَانِهَا، وَإِنَّ الشُّكْرَ أَمْنٌ لِلْغَيْرِ، وَنَمَاءٌ لِلنِّعْمَةِ، وَاسْتِيجَابٌ لِلزِّيَادَةِ، هَذَا لِلَّهِ عَلَيَّ مِنْ أَمْرِكُمْ وَنَهْيِكُمْ وَاجِبٌ . من ندب عمر ورثاه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذكر بعض مَا رثي بِهِ حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد اللَّهِ البرجمي، عن هِشَام بن عروة، أن باكية بكت عَلَى عمر، فَقَالَتْ: واحرى عَلَى عمر! حر انتشر، فملأ البشر وقالت أخرى: واحرى عَلَى عمر! حر انتشر، حَتَّى شاع فِي البشر. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ دَأْبٍ وَسَعِيدُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: لَمَّا مَاتَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَكَتْهُ ابْنَةُ أَبِي حثمه، فقالت: وا عمراه! أَقَامَ الأَوْدَ، وَأَبْرَأَ الْعَمْدَ، أَمَاتَ الْفِتَنَ، وَأَحْيَا السُّنَنَ، خَرَجَ نَقِيَّ الثَّوْبِ، بَرِيئًا مِنَ الْعَيْبِ. قَالَ: وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: لَمَّا دُفِنَ عُمَرُ أَتَيْتُ عَلِيًّا وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ مِنْهُ فِي عُمَرَ شَيْئًا، فَخَرَجَ يَنْفُضُ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ وَقَدِ اغْتَسَلَ، وَهُوَ مُلْتَحِفٌ بِثَوْبٍ، لا يَشُكُّ أَنَّ الأَمْرَ يَصِيرُ إِلَيْهِ، [فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهَ ابْنَ الْخَطَّابِ! لَقَدْ صَدَقَتِ ابْنَةُ أَبِي حَثْمَةَ، لَقَدْ ذَهَبَ بِخَيْرِهَا، وَنَجَا مِنْ شَرِّهَا، أَمَا وَاللَّهِ مَا قَالَتْ، وَلَكِنْ قُوِّلَتْ] . وَقَالَتْ عَاتِكَةُ ابْنَةُ زَيْدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضى الله عنه:

شيء من سيره مما لم يمض ذكره

فجعنى فَيْرُوزُ لا دَرَّ دَرُّهُ ... بِأَبْيَضَ تَالٍ لِلْكِتَابِ مُنِيبِ رَءُوفٌ عَلَى الأَدْنَى غَلِيظٌ عَلَى الْعِدَا ... أَخِي ثِقَةٍ فِي النَّائِبَاتِ مُجِيبِ مَتَى مَا يَقُلْ لا يَكْذِبُ الْقَوْلَ فِعْلُهُ ... سَرِيعٌ إِلَى الْخَيْرَاتِ غَيْرُ قَطُوبِ وَقَالَتْ أَيْضًا: عَيْنُ جُودِي بِعَبْرَةٍ وَنَحِيبِ ... لا تَمَلِّي عَلَى الإِمَامِ النَّجِيبِ فجعتني المنون بالفارس المعلم ... يوم الهياج والتلبيب عصمه الناس والمعين على الدهر ... وغيث المنتاب وَالْمَحْرُوبِ قُلْ لأَهْلِ السَّرَّاءِ وَالْبُؤْسِ مُوتُوا ... قَدْ سَقَتْهُ الْمَنْونُ كَأْسَ شَعُوبِ وَقَالَتِ امْرَأَةٌ تَبْكِيهِ: سَيَبْكِيكَ نِسَاءُ الْحَيِّ ... يَبْكِينَ شَجِيَّاتِ وَيُخَمِّشْنَ وُجُوهًا ... كَالدَّنَانِيرِ نَقِيَّاتِ وَيَلْبَسْنَ ثِيَابَ الْحُزْنِ ... بَعْدَ الْقَصَبِيَّاتِ شَيْءٌ مِنْ سِيَرِهِ مِمَّا لَمْ يَمْضِ ذِكْرُهُ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُعْدُبَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: حَجَّ عُمَرُ، فَلَمَّا كَانَ بِضَجْنَانَ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْعَلِيُّ، الْمُعْطِي مَا شَاءَ مَنْ شَاءَ! كُنْتُ أَرْعَى إِبِلَ الْخَطَّابِ بِهَذَا الْوَادِي فِي مَدْرَعَةِ صُوفٍ، وَكَانَ فَظًّا يُتْعِبُنِي إِذَا عَمِلْتُ، وَيَضْرِبُنِي إِذَا قَصَّرْتُ، وَقَدْ أَمْسَيْتُ وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ أَحَدٌ، ثُمَّ تَمَثَّلَ: لا شَيْءَ فِيمَا تَرَى تَبْقَى بَشَاشَتُهُ ... يَبْقَى الإِلَهُ وَيُودَى الْمَالُ وَالْوَلَدُ لَمْ تُغْنِ عَنْ هُرْمُزٍ يَوْمًا خَزَائِنُهُ ... وَالْخُلْدُ قَدْ حَاوَلَتْ عَادٌ فَمَا خَلَدُوا

وَلا سُلَيْمَانَ إِذْ تَجْرِي الرِّيَاحُ لَهُ ... وَالإِنْسُ وَالْجِنُّ فِيمَا بَيْنَهَا تَرِدُ أَيْنَ الْمُلُوكُ الَّتِي كَانَتْ نَوَافِلُهَا ... مِنْ كُلِّ أَوْبٍ إِلَيْهَا رَاكِبٌ يَفِدُ حَوْضًا هُنَالِكَ مَوْرُودًا بِلا كَذِبٍ ... لا بُدَّ مِنْ وِرْدِهِ يَوْمًا كَمَا وَرَدُوا حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الْمَكِّيُّ، قَالَ: بَيْنَمَا عُمَرُ جَالِسٌ إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ أَعْرَجُ يَقُودُ نَاقَةً تَظْلَعُ، حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّكَ مُسْتَرْعًى وَإِنَّا رَعِيَّةٌ ... وَإِنَّكَ مَدْعُوٌّ بِسِيمَاكَ يَا عُمَرُ إذا يوم شر شره لشراره ... فَقَدْ حَمَّلَتْكَ الْيَوْمَ أَحْسَابُهَا مُضَرُ فَقَالَ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ. وَشَكَا الرَّجُلُ ظَلْعَ نَاقَتِهِ، فَقَبَضَ عُمَرُ النَّاقَةَ وَحَمَلَهُ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ وَزَوَّدَهُ، وَانْصَرَفَ ثُمَّ خَرَجَ عُمَرُ فِي عَقِبِ ذَلِكَ حَاجًّا، فَبَيْنَا هُوَ يَسِيرُ إِذْ لَحِقَ رَاكِبًا يَقُولُ: مَا سَاسَنَا مِثْلُكَ يا بن الْخَطَّابِ ... أَبَرُّ بِالأَقْصَى وَلا بِالأَصْحَابِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَاحِبِ الْكِتَابِ. فَنَخَسَهُ عُمَرُ بِمِخْصَرَةٍ مَعَهُ، وَقَالَ: فَأَيْنَ أَبُو بَكْرٍ! حَدَّثَنِي عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ، عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق، قَالَ: اسْتَعَمَلَ عُمَرُ عُتْبَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى كِنَانَةَ، فَقَدِمَ مَعَهُ بِمَالٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا عُتْبَةُ؟ قَالَ: مَالٌ خَرَجْتُ بِهِ معى وتجرت فيه، قال: ومالك تُخْرِجُ الْمَالَ مَعَكَ فِي هَذَا الْوَجْهِ! فَصَيَّرَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَلَمَّا قَامَ عُثْمَانُ قَالَ لأَبِي سُفْيَانَ: إِنْ طَلَبْتَ مَا أَخَذَ عُمَرُ مِنْ عُتْبَةَ رَدَدْتُهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إِنَّكَ إِنْ خَالَفْتَ صَاحِبَكَ قَبْلَكَ سَاءَ رَأْيُ النَّاسِ فِيكَ، إِيَّاكَ أَنْ تَرُدَّ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكَ، فَيَرُدَّ عَلَيْكَ مَنْ بَعْدَكَ. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الرَّبِيعِ بْن النُّعْمَانِ

وَأَبِي الْمُجَالِدِ جَرَادِ بْن عَمْرٍو وَأَبِي عُثْمَانَ وَأَبِي حَارِثَةَ وَأَبِي عَمْرٍو مَوْلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالُوا: إِنَّ هِنْدَ ابْنَةَ عُتْبَةَ قَامَتْ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَاسْتَقْرَضَتْهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَرْبَعَةَ آلافٍ تَتْجُرُ فِيهَا وَتَضْمَنُهَا، فَأَقْرَضَهَا، فَخَرَجَتْ فِيهَا إِلَى بِلادِ كَلْبٍ، فَاشْتَرَتْ وَبَاعَتْ، فَبَلَغَهَا أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَعَمْرَو بْنَ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ أَتَيَا مُعَاوِيَةَ، فَعَدَلَتْ إِلَيْهِ مِنْ بِلادِ كَلْبٍ، فَأَتَتْ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَدْ طَلَّقَهَا، قَالَ: مَا أَقْدَمَكِ أَيْ أُمَّهْ؟ قَالَتِ: النَّظَرُ إِلَيْكَ أَيْ بُنَيَّ، إِنَّهُ عُمَرُ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُ لِلَّهِ، وَقَدْ أَتَاكَ أَبُوكَ فَخَشِيتُ أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَهْلُ ذَلِكَ هُوَ، فَلا يَعْلَمُ النَّاسُ مِنْ أَيْنَ أُعْطِيتَهُ فَيُؤَنِّبُونَكَ وَيُؤَنِّبَكَ عُمَرُ، فَلا يَسْتَقِيلُهَا أَبَدًا، فَبَعَثَ إِلَى أَبِيهِ وَإِلَى أَخِيهِ بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَكَسَاهُمَا وَحَمَلَهُمَا، فَتَعَظَّمَهَا عَمْرٌو، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لا تُعَظِّمْهَا، فَإِنَّ هَذَا عَطَاءٌ لَمْ تَغِبْ عَنْهُ هِنْدٌ، وَمَشُورَةٌ قَدْ حَضَرَتْهَا هِنْدٌ، وَرَجَعُوا جَمِيعًا، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِهِنْدٍ: أَرَبِحْتِ؟ فَقَالَتِ: اللَّهُ أَعْلَمُ، مَعِي تِجَارَةٌ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَمَّا أَتَتِ الْمَدِينَةَ وَبَاعَتْ شَكَتِ الْوَضِيعَةَ، فَقَالَ لَهَا عُمَرُ: لَوْ كَانَ مَالِي لَتَرَكْتُهُ لَكِ، وَلَكِنَّهُ مَالُ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذِهِ مَشُورَةٌ لَمْ يَغِبْ عَنْهَا أَبُو سُفْيَانَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ فَحَبَسَهُ حتى اوفته، وَقَالَ لأَبِي سُفْيَانَ: بِكَمْ أَجَازَكَ مُعَاوِيَةُ؟ فَقَالَ: بِمِائَةِ دِينَارٍ وَحَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ مُحَارِبٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنِ الأَحْنَفِ، قَالَ: أَتَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرٍ عُمَرَ، وَهُوَ يَفْرِضُ لِلنَّاسِ- وَاسْتُشْهِدَ أَبُوهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ- فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، افْرِضْ لِي، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، فَنَخَسَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: حِسَّ! وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرٍ، قَالَ: يَا يَرْفَأُ، أَعْطِهِ ستمائه، فاعطاه خمسمائة، فَلَمْ يَقْبَلْهَا، وَقَالَ: أَمَرَ لِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بستمائة، وَرَجَعَ إِلَى عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا يرفا، أعطه ستمائه وَحُلَّةً، فَأَعْطَاهُ فَلَبِسَ

الْحُلَّةَ الَّتِي كَسَاهُ عُمَرُ، وَرَمَى بِمَا كَانَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا بُنَيَّ، خُذْ ثِيَابَكَ هَذِهِ فَتَكُونَ لِمِهْنَةِ أَهْلِكَ، وَهَذِهِ لِزِينَتِكَ. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ حَدَّثَنَا: أَبُو الْوَلِيدِ الْمَكِّيُّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ وَلَدِ طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَإِنَّا لَنَسِيرُ لَيْلَةً، وَقَدْ دَنَوْتُ مِنْهُ، إِذْ ضَرَبَ مُقَدِّمَ رَحْلِهِ بِسَوْطِهِ، وَقَالَ: كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللَّهِ يُقْتَلُ أَحْمَدُ ... وَلَمَّا نُطَاعِنْ دُونَهُ وَنُنَاضِلُ وَنُسْلِمُهُ حَتَّى نُصَرَّعَ حَوْلَهُ ... وَنَذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلائِلِ ثُمَّ قَالَ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، ثُمَّ سَارَ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ قَلِيلا، ثُمَّ قَالَ: وَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا ... أَبَرَّ وَأَوْفَى ذِمَّةً مِنْ مُحَمَّدِ وَأَكْسَى لِبُرْدِ الْخَالِ قَبْلَ ابْتِذَالِهِ ... وَأَعْطَى لِرَأْسِ السَّابِقِ المتجرد ثم قال: استغفر الله، يا بن عَبَّاسٍ، مَا مَنَعَ عَلِيًّا مِنَ الْخُرُوجِ مَعَنَا؟ قلت: لا ادرى، قال: يا بن عباس، ابوك عم رسول الله ص، وَأَنْتَ ابْنُ عَمِّهِ، فَمَا مَنَعَ قَوْمَكُمْ مِنْكُمْ؟ قُلْتُ: لا أَدْرِي، قَالَ: لَكِنِّي أَدْرِي، يَكْرَهُونَ ولايتكم لَهُمْ! قُلْتُ: لِمَ، وَنَحْنُ لَهُمْ كَالْخَيْرِ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ غُفْرًا، يَكْرَهُونَ أَنْ تَجْتَمِعَ فِيكُمُ النُّبُوَّةُ وَالْخِلافَةُ، فَيَكُونُ بَجَحًا بَجَحًا، لَعَلَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ أبا بكر فعل ذَلِكَ، لا وَاللَّهِ وَلَكِنَّ أَبَا بَكْرٍ أَتَى أَحْزَمَ مَا حَضَرَهُ، وَلَوْ جَعَلَهَا لَكُمْ مَا نَفَعَكُمْ مَعَ قُرْبِكُمْ، أَنْشِدْنِي لِشَاعِرِ الشُّعَرَاءِ زُهَيْرٍ قَوْلَهُ: إِذَا ابْتَدَرَتْ قَيْسُ بْنُ عَيْلانَ غَايَةً ... مِنَ الْمَجْدِ مَنْ يَسْبِقْ إِلَيْهَا يُسَوَّدِ فَأَنْشَدْتُهُ وَطَلَعَ الْفَجْرُ، فَقَالَ: اقْرَأ الْوَاقِعَةَ، فَقَرَأْتُهَا، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى، وَقَرَأَ بِالْوَاقِعَةِ. حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ. عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبَعْضُ أَصْحَابِهِ يَتَذَاكَرُونَ الشِّعْرَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فُلانٌ أَشْعَرُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ فُلانٌ أَشْعَرُ، قَالَ: فَأَقْبَلْتُ، فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ جَاءَكُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَا، فَقَالَ عُمَرُ: مَنْ شاعر الشعراء يا بن عَبَّاسٍ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى، فَقَالَ عُمَرُ: هَلُمَّ مِنْ شِعْرِهِ مَا نَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى مَا ذَكَرْتَ، فَقُلْتُ: امْتَدَحَ قَوْمًا مِنْ بَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَطَفَانَ، فَقَالَ: لَوْ كَانَ يَقْعُدُ فَوْقَ الشَّمْسِ مِنْ كَرَمٍ ... قَوْمٌ بِأَوَّلِهِمْ أَوْ مَجْدِهِمْ قَعَدُوا قَوْمٌ أَبُوهُمْ سِنَانٌ حِينَ تَنْسِبُهُمْ ... طَابُوا وَطَابَ مِنَ الأَوْلادِ مَا وَلَدُوا إِنْسٌ إِذَا أَمِنُوا، جِنٌّ إِذَا فزعوا ... مرزءون بها ليل إِذَا حَشَدُوا مُحَسَّدُونَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ نِعَمٍ ... لا يَنْزَعُ اللَّهُ مِنْهُمْ مَالَهُ حُسِدُوا فَقَالَ عُمَرُ: أَحْسَنَ، وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَوْلَى بِهَذَا الشِّعْرِ مِنْ هَذَا الْحَيِّ مِنْ بَنِي هاشم! لفضل رسول الله ص وَقَرَابَتِهِمْ مِنْهُ، فَقُلْتُ: وُفِّقْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ولم تزل موفقا، فقال: يا بن عَبَّاسٍ، أَتَدْرِي مَا مَنَعَ قَوْمَكُمْ مِنْهُمْ بَعْدَ مُحَمَّدٍ؟ فَكَرِهْتُ أَنْ أُجِيبَهُ، فَقُلْتُ: إِنْ لَمْ أَكُنْ أَدْرِي فَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يُدْرِينِي، فَقَالَ عُمَرُ: كَرِهُوا أَنْ يَجْمَعُوا لَكُمُ النُّبُوَّةَ وَالْخِلافَةَ، فَتَبَجَّحُوا عَلَى قَوْمِكُمْ بَجَحًا بَجَحًا، فَاخْتَارَتْ قُرَيْشٌ لأَنُفْسِهَا فَأَصَابَتْ وَوُفِّقَتْ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ تَأْذَنْ لِي فِي الْكَلامِ، وَتُمِطْ عَنِّي الْغَضَبَ تكلمت. فقال: تكلم يا بن عَبَّاسٍ، فَقُلْتُ: أَمَّا قَوْلُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: اخْتَارَتْ قُرَيْشٌ لأَنْفُسِهَا فَأَصَابَتْ وَوُفِّقَتْ، فَلَوْ أَنَّ قُرَيْشًا اخْتَارَتْ لأَنْفُسِهَا حَيْثُ اخْتَارَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهَا لَكَانَ الصَّوَابُ بِيَدِهَا غَيْرَ مَرْدُودٍ وَلا مَحْسُودٍ وَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّهُمْ كَرِهُوا أَنْ تَكُونَ لَنَا النُّبُوَّةُ وَالْخِلافَةُ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَصَفَ قَوْمًا بِالْكَرَاهِيَةِ فَقَالَ: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ» . فقال عمر: هيهات والله يا بن عَبَّاسٍ! قَدْ كَانَتْ تَبْلُغُنِي عَنْكَ أَشْيَاءُ كُنْتُ أَكْرَهُ أَنْ أَفْرُكَ عَنْهَا، فَتُزِيلَ مَنْزِلَتَكَ مِنِّي، فَقُلْتُ: وَمَا هِيَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟

فَإِنْ كَانَتْ حَقًّا فَمَا يَنْبَغِي أَنْ تُزِيلَ مَنْزِلَتِي مِنْكَ، وَإِنْ كَانَتْ بَاطِلا فَمِثْلِي أَمَاطَ الْبَاطِلَ عَنْ نَفْسِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ: إِنَّمَا صَرَفُوهَا عَنَّا حَسَدًا وَظُلْمًا! فَقُلْتُ: أَمَّا قَوْلُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: ظُلْمًا، فَقَدْ تَبَيَّنَ لِلْجَاهِلِ وَالْحَلِيمِ، وَأَمَّا قَوْلُكَ: حَسَدًا، فَإِنَّ إِبْلِيسَ حَسَدَ آدَمَ، فَنَحْنُ وَلَدُهُ الْمَحْسُودُونَ، فَقَالَ عُمَرُ: هَيْهَاتَ! أَبَتْ وَاللَّهِ قُلُوبُكُمْ يَا بَنِي هَاشِمٍ إِلا حَسَدًا مَا يُحَوَّلُ، وَضِغْنًا وَغِشًّا مَا يَزُولُ فَقُلْتُ: مَهْلا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لا تَصِفْ قُلُوبَ قَوْمٍ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهَّرَهُمْ تَطْهِيراً بِالْحَسَدِ وَالْغِشِّ، فَإِنَّ قَلْبَ رسول الله ص مِنْ قُلُوبِ بَنِي هَاشِمٍ فَقَالَ عُمَرُ: إِلَيْكَ عنى يا بن عَبَّاسٍ، فَقُلْتُ: أَفْعَلُ، فَلَمَّا ذَهَبْتُ لأَقُومَ اسْتَحْيَا منى فقال: يا بن عباس، مكانك، فو الله إِنِّي لَرَاعٍ لِحَقِّكَ، مُحِبٌّ لِمَا سَرَّكَ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ لِي عَلَيْكَ حَقًّا وعلى كل مسلم، فمن حفظه فحفظه أَصَابَ، وَمَنْ أَضَاعَهُ فَحَظُّهُ أَخْطَأَ. ثُمَّ قَامَ فمضى. حدثنى احمد بن عمرو، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَرَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي السُّوقِ وَمَعَهُ الدِّرَّةُ، فَخَفَقَنِي بِهَا خَفْقَةً، فَأَصَابَ طَرَفَ ثَوْبِي، فَقَالَ: أَمِطْ عَنِ الطَّرِيقِ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ لَقِيَنِي فَقَالَ: يَا سَلَمَةُ، تُرِيدَ الْحَجَّ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَانْطَلَقَ بِي الى منزله فأعطاني ستمائه دِرْهَمٍ، وَقَالَ: اسْتَعِنْ بِهَا عَلَى حَجِّكَ، وَاعْلَمْ أَنَّهَا بِالْخَفْقَةِ الَّتِي خَفَقْتُكَ، قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا ذَكَرْتُهَا! قَالَ: وَأَنَا مَا نَسِيتُهَا. حَدَّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ، قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابن أَبِي خَالِدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَيُّهَا الرَّعِيَّةُ: إِنَّ لَنَا عَلَيْكُمْ حَقًّا النَّصِيحَةَ بِالْغَيْبِ، وَالْمُعَاوَنَةَ عَلَى الْخَيْرِ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ حِلْمٍ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ وَلا أَعَمَّ نَفْعًا مِنْ حِلْمِ إِمَامٍ وَرِفْقِهِ أَيُّهَا الرَّعِيَّةُ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ جَهْلٍ أَبْغَضَ إِلَى اللَّهِ وَلا أَعَمَّ شَرًّا مِنْ جَهْلِ إِمَامٍ وَخُرْقِهِ أَيُّهَا الرَّعِيَّةُ، إِنَّهُ مَنْ يَأْخُذُ بِالْعَافِيَةِ لِمَنْ بَيْنَ ظهرانيه، يؤتى اللَّهُ الْعَافِيَةَ مِنْ فَوْقِهِ

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يَزِيدَ بْنِ دَأْبٍ، عن عبد الرحمن ابن أَبِي زَيْدٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ سَوَادَةَ، قَالَ: صَلَّيْتُ الصُّبْحَ مَعَ عُمَرَ، فَقَرَأَ: سُبْحانَ وَسُورَةً مَعَهَا، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقُمْتُ مَعَهُ، فَقَالَ: أَحَاجَةً؟ قُلْتُ: حَاجَةً، قَالَ: فَالْحَقْ، قَالَ: فَلَحِقْتُ، فَلَمَّا دَخَلَ أَذِنَ لِي، فَإِذَا هُوَ عَلَى سَرِيرٍ لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، فَقُلْتُ: نَصِيحَةً، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّاصِحِ غُدُوًّا وَعَشِيًّا، قُلْتُ: عَابَتْ أُمَّتُكَ مِنْكَ أَرْبَعًا، قَالَ: فَوَضَعَ رَأْسَ دِرَّتِهِ فِي ذَقْنِهِ، وَوَضَعَ أَسْفَلَهَا عَلَى فَخِذِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَاتِ، قُلْتُ: ذَكَرُوا أَنَّكَ حَرَّمْتَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الحج، ولم يفعل ذلك رسول الله ص وَلا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهِيَ حَلالٌ، قَالَ: هِيَ حَلالٌ، لَوْ أَنَّهُمُ اعْتَمَرُوا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ رَأَوْهَا مُجْزِيَةً مِنْ حَجِّهِمْ، فَكَانَتْ قَائِبَةً قَوْبَ عَامِهَا، فَقَرَعَ حَجَّهُمْ، وَهُوَ بَهَاءٌ مِنْ بَهَاءِ اللَّهِ، وَقَدْ أَصَبْتُ قُلْتُ: وَذَكَرُوا أَنَّكَ حَرَّمْتَ مُتْعَةَ النِّسَاءِ وَقَدْ كَانَتْ رُخْصَةً مِنَ اللَّهِ نَسْتَمْتِعُ بِقَبْضَةٍ وَنُفَارِقُ عَنْ ثلاث. قال: ان رسول الله ص أَحَلَّهَا فِي زَمَانِ ضَرُورَةٍ، ثُمَّ رَجَعَ النَّاسُ إِلَى السِّعَةِ، ثُمَّ لَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَمِلَ بِهَا وَلا عَادَ إِلَيْهَا، فَالآنَ مَنْ شَاءَ نَكَحَ بِقَبْضَةٍ وَفَارَقَ عَنْ ثَلاثٍ بِطَلاقٍ، وَقَدْ أَصَبْتُ قَالَ: قُلْتُ: وَأَعْتَقْتَ الأَمَةَ أَنْ وَضَعَتْ ذَا بَطْنِهَا بِغَيْرِ عِتَاقَةِ سَيِّدِهَا، قَالَ: أَلْحَقْتُ حُرْمَةً بِحُرْمَةٍ، وَمَا أَرَدْتُ إِلا الخير، واستغفر الله قلت: وتشكوا مِنْكَ نَهْرَ الرَّعِيَّةِ وَعُنْفَ السِّيَاقِ قَالَ: فَشَرَعَ الدِّرَّةَ، ثُمَّ مَسَحَهَا حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِهَا، ثُمَّ قَالَ: أَنَا زَمِيلُ مُحَمَّدٍ- وَكَانَ زَامِلَهُ في غزوه قرقره الكدر- فو الله إِنِّي لأَرْتَعُ فَأَشْبَعُ، وَأَسْقِي فَأَرْوِي، وَأَنْهَزُ اللَّفُوتَ، وَأَزْجُرُ الْعَرُوضَ، وَأَذُبُّ

قَدْرِي، وَأَسُوقُ خَطْوِي، وَأَضُمُّ الْعَنُودَ، وَأُلْحِقُ الْقُطُوفَ، وَأُكْثِرُ الزَّجْرَ، وَأُقِلُّ الضَّرْبَ، وَأُشْهِرُ الْعَصَا، وَأَدْفَعُ باليد، لولا ذلك لاغدرت. قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: كَانَ وَاللَّهِ عَالِمًا بِرَعِيَّتِهِمْ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: نُبِّئْتُ أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ: إِنَّ عُمَرَ كَانَ يَمْنَعُ أَهْلَهُ وَأَقْرِبَاءَهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، وَإِنِّي أُعْطِي أَهْلِي وَأَقْرِبَائِي ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، وَلَنْ يَلْقَى مِثْلَ عُمَرَ ثَلاثَةً. وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ بْنُ ربيعة، عن عبد الله ابن أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَدَخَلْتُ دَارًا مِنْ دُورِهَا، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهِ إِزَارٌ قِطْرِيٌّ، يَدْهِنُ إِبِلَ الصَّدَقَةِ بِالْقَطِرَانِ. وَحَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ، لأَخَذْتُ فُضُولَ أَمْوَالِ الأَغْنِيَاءِ، فَقَسَمْتُهَا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ. وَحَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: كَانَ الْوَفْدُ إِذَا قَدِمُوا عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَهُمْ عَنْ أَمِيرِهِمْ، فَيَقُولُونَ خَيْرًا، فَيَقُولُ: هَلْ يَعُودُ مَرْضَاكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: هَلْ يَعُودُ الْعَبْدَ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: كَيْفَ صَنِيعُهُ بِالضَّعِيفِ؟ هَلْ يَجْلِسُ عَلَى بَابِهِ؟ فَإِنْ قَالُوا لِخِصْلَةٍ مِنْهَا: لا، عَزَلَهُ

قصه الشورى

وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ بَشِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: أَرْبَعٌ مِنْ أَمْرِ الإِسْلامِ لَسْتُ مُضَيِّعُهُنَّ وَلا تَارِكُهُنَّ لِشَيْءٍ أَبَدًا: الْقُوَّةُ فِي مَالِ اللَّهِ وَجَمْعِهِ حَتَّى إِذَا جَمَعْنَاهُ وَضَعْنَاهُ حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ، وَقَعَدْنَا آلَ عُمَرَ لَيْسَ فِي أَيْدِينَا وَلا عِنْدَنَا مِنْهُ شَيْءٌ. وَالْمُهَاجِرُونَ الَّذِينَ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ، أَلا يُحْبَسُوا وَلا يُجْمَرُوا، وَأَنْ يُوَفَّرَ فَيْءُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى عِيَالاتِهِمْ، وَأَكُونُ أَنَا لِلْعِيَالِ حَتَّى يَقْدُمُوا وَالأَنْصَارُ الَّذِينَ أَعْطُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَصِيبًا، وَقَاتَلُوا النَّاسَ كَافَّةً، أَنْ يُقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهْمِ، وَيُتَجَاوَزُ عَنْ مُسِيئِهِمْ، وَأَنْ يُشَاوَرُوا فِي الأَمْرِ وَالأَعْرَابُ الَّذِينَ هُمْ أَصْلُ الْعَرَبِ وَمَادَّةُ الإِسْلامِ، أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُمْ صَدَقَتُهُمْ عَلَى وَجْهِهَا، وَلا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ دِينَارٌ وَلا دِرْهَمٌ، وَأَنْ يُرَدَّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ وَمَسَاكِينِهِمْ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: إِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّ النَّاسَ لا يَعْدِلُونَ بهذين الرجلين اللذين كان رسول الله ص يَكُونُ نَجِيًّا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ جِبْرِيلَ يَتَبَلَّغُ عَنْهُ وَيُمْلِ عَلَيْهِمَا . قِصَّةُ الشُّورَى حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شبة، قال: حدثنا علي بن محمد، عن وَكِيعٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عن قتادة، عن شهر بن حوشب وابى مِخْنَفٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ وَمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَيُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الأَوْدِيِّ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّاب لَمَّا طُعِنَ قِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوِ اسْتَخْلَفْتَ! قَالَ: مَنْ أَسْتَخْلِفُ؟ [لَوْ كَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ حَيًّا اسْتَخْلَفْتُهُ، فَإِنْ سَأَلَنِي رَبِّي قُلْتُ: سَمِعْتُ نَبِيَّكَ يَقُولُ: إِنَّهُ أَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةُ، وَلَوْ كَانَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ حَيًّا اسْتَخْلَفْتُهُ، فَإِنْ سَأَلَنِي رَبِّي قُلْتُ: سَمِعْتُ نَبِيَّكَ يَقُولُ: إِنَّ سَالِمًا شَدِيدُ الْحُبِّ لِلَّهِ] فَقَالَ

لَهُ رَجُلٌ: أَدُلُّكَ عَلَيْهِ؟ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَقَالَ: قَاتَلَكَ اللَّهُ، وَاللَّهِ مَا أَرَدْتَ اللَّهَ بِهَذَا، وَيْحَكَ! كَيْفَ أَسْتَخْلِفُ رَجُلا عَجَزَ عَنْ طَلاقِ امْرَأَتِهِ! لا أَرَبَ لَنَا فِي أُمُورِكُمْ، مَا حَمِدْتُهَا فَأَرْغَبُ فِيهَا لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، إِنْ كَانَ خَيْرًا فَقَدْ أَصَبْنَا منه، وان كان شرا فشرعنا آل عُمَرَ، بِحَسْبِ آلِ عُمَرَ أَنْ يُحَاسَبَ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَيُسْأَلَ عَنْ أَمْرِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، أَمَا لَقَدْ جَهِدْتُ نَفْسِي، وَحَرَّمْتُ أَهْلِي، وَإِنْ نَجَوْتُ كَفَافًا لا وِزْرَ وَلا أَجْرَ إِنِّي لَسَعِيدٌ، وَانْظُرْ فَإِنِ اسْتَخْلَفْتُ فَقَدِ اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، وَإِنْ أَتْرُكُ فَقَدْ تَرَكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، وَلَنْ يُضَيِّعَ اللَّهُ دِينَهُ فَخَرَجُوا ثُمَّ رَاحُوا، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ عَهِدْتَ عَهْدًا! فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَجْمَعْتُ بَعْدُ مَقَالَتِي لَكُمْ أَنْ أَنْظُرَ فَأُوَلِّيَ رَجُلا أَمْرَكُمْ، هُوَ أَحْرَاكُمْ أَنْ يَحْمِلَكُمْ عَلَى الْحَقِّ- وَأَشَارَ إِلَى عَلِيٍّ- وَرَهَقَتْنِي غَشْيَةٌ، فَرَأَيْتُ رَجُلا دَخَلَ جَنَّةً قَدْ غَرَسَهَا، فَجَعَلَ يَقْطِفُ كُلَّ غَضَّةٍ وَيَانِعَةٍ فَيَضُمُّهُ إِلَيْهِ وَيُصَيِّرُهُ تَحْتَهُ، فَعَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ غَالِبٌ أَمْرَهُ، وَمُتَوَفٍّ عُمَرَ، فَمَا أُرِيدُ أَنْ أَتَحَمَّلَهَا حَيًّا وَمَيِّتًا، عَلَيْكُمْ هؤلاء الرهط الذين [قال رسول الله ص: إِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ،] سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ مِنْهُمْ، وَلَسْتُ مُدْخِلَهُ، وَلَكِنِ السِّتَّةُ: عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ ابْنَا عَبْدِ مَنَافٍ، وعبد الرحمن وسعد خالا رسول الله ص، والزبير بن العوام حوارى رسول الله ص وَابْنُ عَمَّتِهِ، وَطَلْحَةُ الْخَيْرِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَلْيَخْتَارُوا مِنْهُمْ رَجُلا، فَإِذَا وَلُّوا وَالِيًا فَأَحْسِنُوا مُؤَازَرَتَهُ وَأَعِينُوهُ، إِنِ ائْتَمَنَ أَحَدًا مِنْكُمْ فَلْيُؤَدِّ إِلَيْهِ أَمَانَتَهُ وَخَرَجُوا، فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِعَلِيٍّ: لا تَدْخُلْ مَعَهُمْ، قَالَ: أَكْرَهُ الْخِلافَ، قَالَ: إِذًا تَرَى مَا تَكْرَهُ! فَلَمَّا أَصْبَحَ عُمَرُ دَعَا عَلِيًّا وَعُثْمَانَ وَسَعْدًا وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، فَقَالَ: إِنِّي نَظَرْتُ فَوَجَدْتُكُمْ رُؤَسَاءَ النَّاسِ وَقَادَتَهُمْ، وَلا يَكُونُ هَذَا الأَمْرُ الا فيكم، وقد قبض رسول الله ص وَهُوَ عَنْكُمْ رَاضٍ، إِنِّي لا أَخَافُ النَّاسَ عَلَيْكُمْ إِنِ اسْتَقَمْتُمْ، وَلَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ اخْتِلافَكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَيَخْتَلِفَ النَّاسُ، فَانْهَضُوا إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ بِإِذْنٍ مِنْهَا، فَتَشَاوَرُوا وَاخْتَارُوا رَجُلا مِنْكُمْ ثُمَّ قَالَ: لا تَدْخُلُوا

حُجْرَةَ عَائِشَةَ، وَلَكِنْ كُونُوا قَرِيبًا، وَوَضَعَ رَأْسَهُ وَقَدْ نَزَفَهُ الدَّمُ. فَدَخَلُوا فَتَنَاجَوْا، ثُمَّ ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَمُتْ بَعْدُ، فَأَسْمَعَهُ فَانْتَبَهَ فَقَالَ: أَلا أَعْرِضُوا عَنْ هَذَا أَجْمَعُونَ، فَإِذَا مِتُّ فَتَشَاوَرُوا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، وَلِيُصَلِّ بِالنَّاسِ صُهَيْبٌ، وَلا يَأْتِيَنَّ الْيَوْمُ الرَّابِعُ إِلا وعليكم أميرا مِنْكُمْ، وَيَحْضُرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مُشِيرًا، وَلا شَيْءَ لَهُ مِنَ الأَمْرِ، وَطَلْحَةُ شَرِيكُكُمْ فِي الأَمْرِ، فَإِنْ قَدِمَ فِي الأَيَّامِ الثَّلاثَةِ فَأَحْضِرُوهُ أَمْرَكُمْ، وَإِنْ مَضَتِ الأَيَّامُ الثَّلاثَةُ قَبْلَ قُدُومِهِ فَاقْضُوا أَمْرَكُمْ، وَمَنْ لِي بِطَلْحَةَ؟ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: أَنَا لَكَ بِهِ، وَلا يُخَالِفُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَقَالَ عُمَرُ: أَرْجُو أَلا يُخَالِفَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَمَا أَظُنُّ أَنْ يَلِيَ إِلا أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ: عَلِيٌّ أَوْ عُثْمَانُ، فَإِنْ وُلِّيَ عُثْمَانُ فَرَجُلٌ فِيهِ لِينٌ، وَإِنْ وُلِّيَ عَلِيٌّ فَفِيهِ دُعَابَةٌ، وَأَحَرَّ بِهِ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ، وَإِنْ تُوَلُّوا سَعْدًا فَأَهْلُهَا هُوَ، وَإِلا فَلْيَسْتَعِنْ بِهِ الْوَالِي، فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ عَنْ خِيَانَةٍ وَلا ضَعْفٍ، وَنِعْمَ ذُو الرَّأْيِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ! مُسَّدَدٌ رَشِيدٌ، لَهُ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، فَاسْمَعُوا مِنْهُ. وَقَالَ لأَبِي طَلْحَةَ الأَنْصَارِيِّ: يَا أَبَا طَلْحَةَ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ طَالَمَا أَعَزَّ الإِسْلامَ بِكُمْ، فَاخْتَرْ خَمْسِينَ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ، فَاسْتَحِثَّ هَؤُلاءِ الرَّهْطَ حَتَّى يَخْتَارُوا رَجُلا مِنْهُمْ وَقَالَ لِلْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ: إِذَا وَضَعْتُمُونِي فِي حُفْرَتِي فَاجْمَعْ هَؤُلاءِ الرَّهْطَ فِي بَيْتٍ حَتَّى يَخْتَارُوا رَجُلا مِنْهُمْ، وَقَالَ لِصُهَيْبٍ: صَلِّ بِالنَّاسِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، وَأَدْخِلْ عَلِيًّا وَعُثْمَانَ وَالزُّبَيْرَ وَسَعْدًا وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَطَلْحَةَ إِنْ قَدِمَ، وَأَحْضِرْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَلا شَيْءَ لَهُ مِنَ الأَمْرِ، وَقُمْ عَلَى رُءُوسِهِمْ، فَإِنِ اجْتَمَعَ خَمْسَةٌ وَرَضُوا رَجُلا وَأَبَى وَاحِدٌ فَاشْدَخْ رَأْسَهُ- أَوِ اضْرِبْ رَأْسَهُ بِالسَّيْفِ- وَإِنِ اتَّفَقَ أَرْبَعَةٌ فَرَضُوا رَجُلا مِنْهُمْ وَأَبَى اثْنَانِ، فَاضْرِبْ رُءُوسَهُمَا، فَإِنْ رَضِيَ ثَلاثَةٌ رَجُلا مِنْهُمْ وَثَلاثَةٌ رَجُلا مِنْهُمْ، فَحَكِّمُوا عَبْدَ اللَّهِ ابن عُمَرَ، فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ حَكَمَ لَهُ فَلْيَخْتَارُوا رَجُلا مِنْهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَرْضَوْا بِحُكْمِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَكُونُوا مَعَ الَّذِينَ فِيهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَاقْتُلُوا الْبَاقِينَ إِنْ رَغِبُوا عَمَّا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ. فَخَرَجُوا، [فَقَالَ عَلِيٌّ لِقَوْمٍ كَانُوا مَعَهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ: إِنْ أُطِيعُ فِيكُمْ قَوْمَكُمْ لَمْ تُؤَمَّرُوا أَبَدًا] وَتَلَقَّاهُ الْعَبَّاسُ، فَقَالَ: عَدَلْتَ عَنَّا! فَقَالَ: وَمَا عِلْمُكَ؟

قَالَ: قَرَنَ بِي عُثْمَانَ، وَقَالَ: كُونُوا مَعَ الأَكْثَرِ، فَإِنْ رَضِيَ رَجُلانِ رَجُلا، وَرَجُلانِ رَجُلا فَكُونُوا مَعَ الَّذِينَ فِيهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَسَعْدٌ لا يُخَالِفُ ابْنَ عَمِّهِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ صِهْرُ عُثْمَانَ، لا يَخْتَلِفُونَ، فَيُوَلِّيهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عُثْمَانَ، أَوْ يُوَلِّيهَا عُثْمَانُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَلَوْ كَانَ الآخَرَانِ مَعِي لَمْ ينفعانى، بله إِنِّي لا أَرْجُو إِلا أَحَدَهُمَا فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: لَمْ أَرْفَعْكَ فِي شَيْءٍ إِلا رَجَعْتَ إِلَيَّ مُسْتَأْخِرًا بِمَا أَكْرَهُ، أَشَرْتُ عَلَيْكَ عِنْدَ وفاه رسول الله ص أَنْ تَسْأَلَهُ فِيمَنْ هَذَا الأَمْرُ، فَأَبَيْتَ، وَأَشَرْتُ عَلَيْكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ أَنْ تُعَاجِلَ الأَمْرَ فَأَبَيْتَ، وَأَشَرْتُ عَلَيْكَ حِينَ سَمَّاكَ عُمَرُ فِي الشُّورَى أَلا تَدْخُلَ مَعَهُمْ فَأَبَيْتَ، احْفَظْ عَنِّي وَاحِدَةً، كُلَّمَا عَرَضَ عَلَيْكَ الْقَوْمُ، فَقُلْ: لا، إِلا أَنْ يُوَلُّوكَ، وَاحْذَرْ هَؤُلاءِ الرَّهْطَ، فَإِنَّهُمْ لا يَبْرَحُونَ يَدْفَعُونَنَا عَنْ هَذَا الأَمْرِ حَتَّى يَقُومَ لَنَا بِهِ غَيْرُنَا، وَايْمُ اللَّهِ لا يَنَالُهُ إِلا بِشَرٍّ لا يَنْفَعُ مَعَهُ خَيْرٌ [فَقَالَ عَلِيٌّ: أَمَا لَئِنْ بَقِيَ عُثْمَانُ لأُذَكِّرَنَّهُ مَا أَتَى وَلَئِنْ مَاتَ لَيَتَدَاوَلُنَّهَا بَيْنَهُمْ، وَلَئِنْ فَعَلُوا لَيَجِدُنِّي حَيْثُ يَكْرَهُونَ،] ثُمَّ تَمَثَّلَ: حَلَفْتُ بِرَبِّ الرَّاقِصَاتِ عَشِيَّةً ... غَدَوْنَ خِفَافًا فَابْتَدَرْنَ الْمُحَصَّبَا لِيَخْتَلِيَنَّ رَهَطُ ابْنِ يَعْمُرَ مَارِئَا ... نَجِيعًا بَنُو الشَّدَّاخِ وِرْدًا مُصَلَّبَا وَالْتَفَتَ فَرَأَى أَبَا طَلْحَةَ فَكَرِهَ مَكَانَهُ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: لم ترع أَبَا الْحَسَنِ فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ وَأُخْرِجَتْ جِنَازَتُهُ، تَصَدَّى عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ: أَيُّهُمَا يُصَلِّي عَلَيْهِ، فَقَالَ عَبْدُ الرحمن: كلا كما يُحِبُّ الإِمْرَةَ، لَسْتُمَا مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ، هَذَا إِلَى صُهَيْبٍ، اسْتَخْلَفَهُ عُمَرُ، يُصَلِّي بِالنَّاسِ ثَلاثًا حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى إِمَامٍ فَصَلَّى عَلَيْهِ صُهَيْبٌ، فَلَمَّا دُفِنَ عُمَرُ جَمَعَ الْمِقْدَادُ أَهْلَ الشُّورَى فِي بَيْتِ الْمُسَوَّرِ بْنِ مَخْرَمَةَ- وَيُقَالُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَيُقَالُ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ بِإِذْنِهَا- وَهُمْ خَمْسَةٌ، مَعَهُمُ ابْنُ عُمَرَ، وَطَلْحَةُ غَائِبٌ، وَأَمَرُوا أَبَا طَلْحَةَ أَنْ يَحْجِبَهُمْ، وَجَاءَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَجَلَسَا بِالْبَابِ، فَحَصَبَهُمَا سَعْدٌ وَأَقَامَهُمَا، وَقَالَ: تُرِيدَانِ أَنْ تَقُولا: حَضَرْنَا وَكُنَّا فِي أَهْلِ الشُّورَى! فَتَنَافَسَ الْقَومُ فِي الأَمْرِ، وَكَثُرَ بَيْنَهُمُ الْكَلامُ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَنَا كُنْتُ

لأَنْ تَدْفَعُوهَا أَخْوَفُ مِنِّي لأَنْ تَنَافَسُوهَا! لا وَالَّذِي ذَهَبَ بِنَفْسِ عُمَرَ، لا أُزِيدَكُمْ عَلَى الأَيَّامِ الثَّلاثَةِ الَّتِي أُمِرْتُمْ، ثُمَّ أَجْلِس فِي بَيْتِي، فَأَنْظُر مَا تَصْنَعُونَ! فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَيُّكُمْ يُخْرِجُ مِنْهَا نَفْسَهُ وَيَتَقَلَّدُهَا عَلَى أَنْ يُوَلِّيَهَا أَفْضَلَكُمْ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَقَالَ: فَأَنَا أَنْخَلِعُ مِنْهَا، فَقَالَ عُثْمَانُ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ رضى، فانى [سمعت رسول الله ص يَقُولُ: أَمِينٌ فِي الأَرْضِ أَمِينٌ فِي السَّمَاءِ،] فَقَالَ الْقَوْمُ: قَدْ رَضِينَا- وَعَلِيٌّ سَاكِتٌ-[فَقَالَ: مَا تَقُولُ يَا أَبَا الْحَسَنِ؟ قَالَ: أَعْطِنِي مَوْثِقًا لَتُؤْثِرُنَّ الْحَقَّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى، وَلا تخص ذا رحم، ولا تالوا الأُمَّةَ!] فَقَالَ: أَعْطُونِي مَوَاثِيقَكُمْ عَلَى أَنْ تَكُونُوا مَعِي عَلَى مَنْ بَدَّلَ وَغَيَّرَ، وَأَنْ تَرْضَوْا مَنِ اخْتَرْتُ لَكُمْ، عَلَيَّ مِيثَاقُ اللَّهِ أَلا أَخُصَّ ذَا رَحِمٍ لِرَحِمِهِ، وَلا آلُو الْمُسْلِمِينَ فَأَخَذَ مِنْهُمْ مِيثَاقًا وَأَعْطَاهُمْ مِثْلَهُ، فَقَالَ لِعَلِيٍّ، إِنَّكَ تَقُولُ: إِنِّي أَحَقُّ مَنْ حَضَرَ بِالأَمْرِ لِقَرَابَتِكَ وَسَابِقَتِكَ وَحُسْنِ أَثَرِكَ فِي الدِّينِ وَلَمْ تُبْعَدْ، وَلَكِنْ أَرَأَيْتَ لَوْ صُرِفَ هَذَا الأَمْرُ عَنْكَ فَلَمْ تَحْضُرْ، مَنْ كُنْتَ تَرَى مِنْ هَؤُلاءِ الرَّهْطِ أَحَقَّ بِالأَمْرِ؟ قَالَ: عُثْمَانُ وَخَلا بِعُثْمَانَ، فَقَالَ: تَقُولُ: شَيْخٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ مناف، وصهر رسول الله ص وَابْنُ عَمِّهِ، لِي سَابِقَةٌ وَفَضْلٌ- لَمْ تُبْعَدْ- فَلَنْ يُصْرَفْ هَذَا الأَمْرُ عَنِّي، وَلَكِنْ لَوْ لَمْ تَحْضُرْ فَأَيُّ هَؤُلاءِ الرَّهْطِ تَرَاهُ أَحَقَّ بِهِ؟ قَالَ: عَلِيٌّ ثُمَّ خَلا بِالزُّبَيْرِ، فَكَلَّمَهُ بِمِثْلِ مَا كَلَّمَ بِهِ عَلِيًّا وَعُثْمَانَ، فَقَالَ: عُثْمَانُ ثُمَّ خَلا بِسَعْدٍ، فَكَلَّمَهُ، فَقَالَ: عُثْمَانُ فَلَقِيَ عَلِيٌّ سَعْدًا، فَقَالَ: «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً» ، أَسْأَلُكَ بِرَحِمِ ابْنِي هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص، وَبِرَحِمِ عَمِّي حَمْزَةَ مِنْكَ أَلا تَكُونَ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِعُثْمَانَ ظَهِيرًا عَلَيَّ، فَإِنِّي أُدْلِي بِمَا لا يُدْلِي بِهِ عُثْمَانُ وَدَارَ عَبْدُ الرحمن لياليه يلقى اصحاب رسول الله ص وَمَنْ وَافَى الْمَدِينَةَ مِنْ أُمَرَاءِ الأَجْنَادِ وَأَشْرَافِ النَّاسِ، يُشَاوِرُهُمْ، وَلا يَخْلُو بِرَجُلٍ إِلا أَمَرَهُ بِعُثْمَانَ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَسْتَكْمِلُ فِي صَبِيحَتِهَا الأَجَلُ، أَتَى مَنْزِلَ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ بَعْدَ ابْهِيرَارٍ مِنَ اللَّيْلِ،

فَأَيْقَظَهُ فَقَالَ: أَلا أَرَاكَ نَائِمًا وَلَمْ أَذُقْ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ كَثِيرَ غَمْضٍ! انْطَلِقْ فَادْعُ الزُّبَيْرَ وَسَعْدًا. فَدَعَاهُمَا فَبَدَأَ بِالزُّبَيْرِ فِي مُؤَخِّرِ الْمَسْجِدِ فِي الصُّفَّةِ الَّتِي تَلِي دَارَ مَرْوَانَ، فَقَالَ لَهُ: خَلِّ ابْنَيْ عَبْدِ مَنَافٍ وَهَذَا الأَمْرِ، قَالَ: نَصِيبِي لِعَلِيٍّ، وَقَالَ لِسَعْدٍ: أَنَا وَأَنْتَ كَلالَةٌ، فَاجْعَلْ نَصِيبُكَ لِي فَأَخْتَارُ، قَالَ: إِنِ اخْتَرْتَ نَفْسَكَ فَنَعَمْ، وَإِنِ اخْتَرْتَ عُثْمَانَ فَعَلِيٌّ أَحَبُّ إِلَيَّ، أَيُّهَا الرَّجُلُ بَايِعْ لِنَفْسِكَ وَأَرِحْنَا، وَارْفَعْ رُءُوسَنَا، قَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ، إِنِّي قَدْ خَلَعْتُ نَفْسِي مِنْهَا عَلَى أَنْ أَخْتَارُ، وَلَوْ لَمْ أَفْعَلْ وَجُعِلَ الْخِيَارُ إِلَيَّ لَمْ أَرُدَّهَا، إِنِّي أُرِيتُ كَرَوْضَةٍ خَضْرَاءَ كَثِيرَةِ الْعُشْبِ، فَدَخَلَ فَحْلٌ فَلَمْ أَرَ فَحْلا قَطُّ أَكْرَمَ مِنْهُ، فَمَرَّ كَأَنَّهُ سَهْمٌ لا يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا فِي الرَّوْضَةِ حَتَّى قَطَعَهَا، لَمْ يُعَرِّجْ وَدَخَلَ بَعِيرٌ يَتْلُوهُ فَاتَّبَعَ أَثَرَهُ حَتَّى خَرَجَ مِنَ الرَّوْضَةِ، ثُمَّ دَخَلَ فَحْلٌ عَبْقَرِيٌّ يَجُرُّ خِطَامَهُ، يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالا وَيَمْضِي قَصْدَ الأَوَّلِينَ حَتَّى خَرَجَ، ثُمَّ دَخَلَ بَعِيرٌ رَابِعٌ فَرَتَعَ فِي الرَّوْضَةِ، وَلا وَاللَّهِ لا أَكُونُ الرَّابِعَ، وَلا يَقُومُ مَقَامَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ بَعْدَهُمَا أَحَدٌ فَيَرْضَى النَّاسُ عَنْهُ قَالَ سَعْدٌ: فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ الضَّعْفُ قَدْ أَدْرَكَكَ، فَامْضِ لِرَأْيِكَ، فَقَدْ عَرَفْتَ عَهْدَ عُمَرَ. وَانْصَرَفَ الزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ، وَأَرْسَلَ الْمُسَوَّرَ بْنَ مَخْرَمَةَ إِلَى عَلِيٍّ، فَنَاجَاهُ طَوِيلا، وَهُوَ لا يَشُكُّ أَنَّهُ صَاحِبُ الأَمْرِ، ثُمَّ نَهَضَ، وَأَرْسَلَ الْمُسَوَّرَ إِلَى عُثْمَانَ فَكَانَ فِي نَجِيِّهِمَا، حَتَّى فَرَقَ بَيْنَهُمَا أَذَانُ الصُّبْحِ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: يَا عَمْرُو، مَنْ أَخْبَرَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا كَلَّمَ بِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَلِيًّا وَعُثْمَانَ فَقَدْ قَالَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَوَقَعَ قَضَاءُ رَبِّكَ عَلَى عُثْمَانَ فَلَمَّا صَلَّوُا الصُّبْحَ جَمَعَ الرَّهْطَ، وبَعَثَ إِلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَأَهْلِ السَّابِقَةِ وَالْفَضْلِ مِنَ الأَنْصَارِ، وَإِلَى أُمَرَاءِ الأَجْنَادِ، فَاجْتَمَعُوا حَتَّى الْتَجَّ الْمَسْجِدُ بِأَهْلِهِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَحَبُّوا أَنْ يَلْحَقَ أَهْلُ الأَمْصَارِ بِأَمْصَارِهِمْ وَقَدْ عَلِمُوا مَنْ أَمِيرُهُمْ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ: إِنَّا نَرَاكَ لَهَا أَهْلا، فَقَالَ: أَشِيرُوا عَلَيَّ بِغَيْرِ هَذَا، فَقَالَ عَمَّارٌ: إِنْ أَرَدْتَ أَلا يَخْتَلِفَ الْمُسْلِمُونَ فَبَايِعْ عَلِيًّا فَقَالَ الْمِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ: صَدَقَ عَمَّارٌ، ان إِنْ بَايَعْتَ عَلِيًّا قُلْنَا: سَمِعْنَا

وَأَطَعْنَا قَالَ ابْنُ أَبِي سَرْحٍ: إِنْ أَرَدْتَ أَلا تَخْتَلِفَ قُرَيْشٌ فَبَايِعْ عُثْمَانَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ: صَدَقَ، إِنْ بَايَعْتَ عُثْمَانَ قُلْنَا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. فَشَتَمَ عَمَّارٌ ابْنَ أَبِي سَرْحٍ، وَقَالَ: مَتَّى كُنْتَ تَنْصَحُ الْمُسْلِمِينَ! فَتَكَلَّمَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو أُمَيَّةَ، فَقَالَ عَمَّارٌ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَكْرَمَنَا بِنَبِيِّهِ، وَأَعَّزَنَا بِدِينِهِ، فَأَنَّى تَصْرِفُونَ هَذَا الأَمْرَ عَنْ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ! فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بنى مخزوم: لقد عدوت طورك يا بن سُمَيَّةَ، وَمَا أَنْتَ وَتَأْمِيرُ قُرَيْشٍ لأَنْفُسِهَا! فَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، افْرُغْ قَبْلَ أَنْ يُفْتَتَنَ النَّاسُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ وَشَاوَرْتُ، فَلا تَجْعَلَنَّ أَيُّهَا الرَّهْطُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ سَبِيلا وَدَعَا عَلِيًّا، فَقَالَ: عَلَيْكَ عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَتَعْمَلَنَّ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَسِيرَةِ الْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ؟ قَالَ: أَرْجُو أَنْ أَفْعَلَ وَأَعْمَلَ بِمَبْلِغِ عِلْمِي وَطَاقَتِي، وَدَعَا عُثْمَانَ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِعَلِيٍّ، قَالَ: نَعَمْ، فَبَايَعَهُ، [فَقَالَ عَلِيٌّ: حَبَوْتَهُ حَبْوَ دَهْرٍ، لَيْسَ هَذَا أَوَّلَ يَوْمٍ تَظَاهَرْتُمْ فِيهِ عَلَيْنَا، فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ، وَاللَّهِ مَا وَلَّيْتَ عُثْمَانَ إِلا لِيُرَّدَ الأَمْرَ إِلَيْكَ، وَاللَّهِ كُلُّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ،] فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: يَا عَلِيُّ لا تَجْعَلْ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلا، فَإِنِّي قَدْ نَظَرْتُ وَشَاوَرْتُ النَّاسَ، فَإِذَا هُمْ لا يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ فَخَرَجَ عَلِيٌّ وَهُوَ يَقُولُ: سَيَبْلُغُ الْكِتَابُ أَجَلَهُ فَقَالَ الْمِقْدَادُ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ تَرَكْتَهُ مِنَ الَّذِينَ يَقْضُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ فَقَالَ: يَا مِقْدَادُ، وَاللَّهِ لَقَدِ اجْتَهَدْتُ لِلْمُسْلِمِينَ، قَالَ: إِنْ كُنْتَ أَرَدْتَ بِذَلِكَ اللَّهَ فَأَثَابَكَ اللَّهُ ثَوَابَ الْمُحْسِنِينَ فَقَالَ الْمِقْدَادُ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ إِلَى أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ إِنِّي لأَعْجَبُ مِنْ قُرَيْشٍ أَنَّهُمْ تَرَكُوا رَجُلا مَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَعْلَمَ وَلا أَقْضَى مِنْهُ بِالْعَدْلِ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَجِدُ عَلَيْهِ أَعْوَانًا! فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: يَا مِقْدَادُ، اتَّقِ اللَّهَ، فَإِنِّي خَائِفٌ عَلَيْكَ الْفِتْنَةَ، فَقَالَ رَجُلٌ لِلْمِقْدَادِ: رَحِمَكَ اللَّهُ! مَنْ أَهْلُ هَذَا الْبَيْتِ وَمَنْ هَذَا الرَّجُلُ؟ قَالَ: أَهْلُ الْبَيْتِ بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَالرَّجُلُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ [فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ إِلَى قُرَيْشٍ، وَقُرَيْشٌ تَنْظُرُ إِلَى بَيْتِهَا فَتَقُولُ: إِنْ وُلِّيَ عَلَيْكُمْ بَنُو هَاشِمٍ لَمْ تَخْرُجْ مِنْهُمْ أَبَدًا، وَمَا كَانَتْ فِي غَيْرِهِمْ مِنْ قُرَيْشٍ تَدَاوَلْتُمُوهَا بَيْنَكُمْ] وَقَدِمَ طَلْحَةُ فِي الْيَوْمِ الذى بويع

فِيهِ لِعُثْمَانَ، فَقِيلَ لَهُ: بَايِعْ عُثْمَانَ، فَقَالَ: أَكُلُّ قُرَيْشٍ رَاضٍ بِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَتَى عُثْمَانَ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: أَنْتَ عَلَى رَأْسِ أَمْرِكَ، إِنْ أَبَيْتَ رَدَدْتُهَا، قَالَ: أَتَرُدُّهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَكُلُّ النَّاسِ بَايَعُوكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قال: قد رضيت، لا ارغب عَمَّا قَدْ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَبَايَعَهُ. وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، قَدْ أَصَبْتَ إِذْ بَايَعْتَ عُثْمَانَ! وَقَالَ لِعُثْمَانَ: لَوْ بَايَعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ غَيْرَكَ مَا رَضِينَا، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: كَذَبْتَ يَا أَعْوَرُ، لَوْ بَايَعْتُ غَيْرَهُ لَبَايَعْتَهُ، وَلَقُلْتَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ. وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ، صَلَّى صُهَيْبٌ ثَلاثًا ثُمَّ أَرْسَلَهَا ... عَلَى ابْنِ عَفَّانَ مُلْكًا غَيْرَ مَقْصُورِ خِلافَةً مِنْ أَبِي بِكْرٍ لِصَاحِبِهِ ... كَانُوا أَخِلاءَ مَهْدِيٍّ وَمَأْمُورِ وَكَانَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ رَجُلا بَذَّ قَوْمًا فِيمَا دَخَلُوا فِيهِ بِأَشَدَّ مِمَّا بَذَّهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ، فَإِنَّ الرِّوَايَةَ عِنْدَنَا عَنْهُ مَا حَدَّثَنِي سَلْمُ بْنُ جُنَادَةَ أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عبد العزيز ابن أَبِي ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أبيه، عن المسور بن مخرمة- وكانت أمه عَاتِكَةَ ابْنَةَ عَوْفٍ- فِي الْخَبَرِ الَّذِي قَدْ مَضَى ذِكْرِي أَوَّلَهُ فِي مَقْتَلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: وَنَزَلَ فِي قَبْرِهِ- يَعْنِي فِي قَبْرِ عُمَرَ- الْخَمْسَة، يَعْنِي أَهْلَ الشُّورَى قَالَ: ثُمَّ خَرَجُوا يُرِيدُونَ بُيُوتَهُمْ، فَنَادَاهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إِلَى أَيْنَ؟ هَلُمُّوا! فَتِبِعُوهُ، وَخَرَجَ حَتَّى دَخَلَ بَيْتَ فَاطِمَةَ ابْنَةِ قَيْسٍ الْفِهْرِيَّةِ، أُخْتِ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ الْفِهْرِيِّ- قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: بَلْ كَانَتْ زَوْجَتَهُ، وَكَانَتْ نَجُودًا، يُرِيدُ ذَاتَ رَأْيٍ- قَالَ: فَبَدَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِالْكَلامِ، فَقَالَ: يَا هَؤُلاءِ، إِنَّ عِنْدِي رَأْيًا، وَإِنَّ لَكُمْ نَظَرًا، فَاسْمَعُوا تَعْلَمُوا، وَأَجِيبُوا

تَفْقَهُوا، فَإِنَّ حَابِيًا خَيْرٌ مِنْ زَاهِقٍ، وَإِنَّ جَرْعَةً مِنْ شَرُوبٍ بَارِدٍ أَنْفَعُ مِنْ عَذَبٍ مُوبٍ، أَنْتُمْ أَئِمَةٌ يُهْتَدَى بِكُمْ، وَعُلَمَاءُ يُصْدَرُ إِلَيْكُمْ، فَلا تَفُلُّوا الْمَدَى بِالاخْتِلافِ بَيْنَكُمْ، وَلا تَغْمِدُوا السُّيُوفَ عَنْ أَعْدَائِكُمْ، فَتُوتِرُوا ثَأْرَكُمْ، وَتُؤْلِتُوا أَعْمَالَكُمْ، لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ، وَلِكُلِّ بَيْتٍ إِمَامٌ بِأَمْرِهِ يَقُومُونَ، وَبِنَهْيِهِ يَرْعَوْنَ. قَلِّدُوا أَمْرَكُمْ وَاحِدًا مِنْكُمْ تَمْشُوا الْهُوَيْنَى وَتَلْحَقُوا الطَّلَبَ، لَوْلا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ، وَضَلالَةٌ حَيْرَاءُ، يَقُولُ أَهْلُهَا مَا يَرَوْنَ، وَتَحِلُّهُمُ الْحَبَوْكَرَى مَا عَدَتْ نِيَّاتُكُمْ مَعْرِفَتَكُمْ، وَلا أَعْمَالُكُمْ نِيَاتِكُمْ احْذَرُوا نَصِيحَةَ الْهَوَى، وَلِسَانَ الْفُرْقَةِ، فَإِنَّ الْحِيلَةَ فِي الْمَنْطِقِ أَبْلَغُ مِنَ السُّيُوفِ فِي الْكَلِمِ، عَلِّقُوا أَمْرَكُمْ رَحْبَ الذِّرَاعِ فِيمَا حَلَّ، مَأْمُونُ الْغَيْبِ فِيمَا نَزَلَ، رِضًا مِنْكُمْ وَكُلُّكُمْ رِضًا، وَمُقْتَرَعًا مِنْكُمْ وَكُلُّكُمْ مُنْتَهَى، لا تُطِيعُوا مُفْسِدًا يَنْتَصِحُ، وَلا تُخَالِفُوا مُرْشِدًا يَنْتَصِرُ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. ثم تكلم عثمان بن عفان، فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي اتَّخَذَ مُحَمَّدًا نَبِيًّا، وَبَعَثَهُ رَسُولا، صَدَقَهُ وَعْدَهُ، وَوَهَبَ لَهُ نَصْرَهُ عَلَى كُلِّ مَنْ بَعُدَ نَسَبًا، أَوْ قَرُبَ رَحِمًا، ص، جَعَلَنَا اللَّهُ لَهُ تَابِعِينَ وَبِأَمْرِهِ مُهْتَدِينَ، فَهُوَ لَنَا نُورٌ، وَنَحْنُ بِأَمْرِهِ نَقُومُ، عِنْدَ تَفَرُّقِ الأَهْوَاءِ، وَمُجَادَلَةِ الأَعْدَاءِ، جَعَلَنَا اللَّهُ بِفَضْلِهِ أَئِمَّةً وَبِطَاعَتِهِ أُمَرَاءَ، لا يَخْرُجُ أَمْرُنَا مِنَّا، وَلا يَدْخُلُ عَلَيْنَا غَيْرُنَا إِلا مَنْ سَفِهَ الْحَقَّ، ونكل عن القصد، واحر بها يا بن عوف ان تترك، واحذر بِهَا أَنْ تَكُونَ إِنْ خُولِفَ أَمْرُكَ وَتُرِكَ دُعَاؤُكَ، فَأَنَا أَوَّلُ مُجِيبٍ لَكَ، وَدَاعٍ إِلَيْكَ، وَكَفِيلٍ بِمَا أَقُولُ زَعِيمٌ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ. ثُمَّ تَكَلَّمَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ بَعْدَهُ، فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ دَاعِيَ اللَّهِ لا يُجْهَلُ، وَمُجِيبَهُ لا يُخْذَلُ، عِنْدَ تَفَرُّقِ الأَهْوَاءِ وَلَيِّ الأَعْنَاقِ، وَلَنْ يَقْصُرَ عَمَّا قُلْتُ إِلا غوى،

وَلَنْ يَتْرُكَ مَا دَعَوْتُ إِلَيْهِ إِلا شَقِيٌّ، لَوْلا حُدُودٌ لِلَّهِ فُرِضَتْ، وَفَرَائِضٌ لِلَّهِ حُدَّتْ، تُرَاحُ عَلَى أَهْلِهَا، وَتَحْيَا لا تَمُوتُ، لَكَانَ الْمَوْتُ مِنَ الإِمَارَةِ نَجَاةً، وَالْفِرَارُ مِنَ الْوِلايَةِ عِصْمَةً، وَلَكِنْ لِلَّهِ عَلَيْنَا إِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَإِظْهَارُ السُّنَّةِ، لِئَلا نَمُوتَ مِيتَةً عَمِيَّةً، وَلا نَعْمَى عَمَى جَاهِلِيَّةٍ، فَأَنَا مُجِيبُكَ إِلَى مَا دَعَوْتَ، وَمُعِينُكَ عَلَى مَا أَمَرْتَ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ ثُمَّ تَكَلَّمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ بَدِيئًا كَانَ، وَآخِرًا يَعُودُ، أَحْمَدُهُ لِمَا نَجَّانِي مِنَ الضَّلالَةِ، وَبَصَّرَنِي مِنَ الْغِوَايَةِ، فَبِهُدَى اللَّهِ فَازَ مَنْ نَجَا، وَبِرَحْمَتِهِ أَفْلَحَ من زكا، وبمحمد بن عبد الله ص أَنَارَتِ الطُّرُقُ، وَاسْتَقَامَتِ السُّبُلُ، وَظَهَرَ كُلُّ حَقٍّ، وَمَاتَ كُلُّ بَاطِلٍ، إِيَّاكُمْ أَيُّهَا النَّفَرُ وَقَوْلَ الزُّورِ، وَأُمْنِيَةُ أَهْلِ الْغُرُورِ، فَقَدْ سَلَبَتِ الأَمَانِيُّ قَوْمًا قَبْلَكُمْ وَرِثُوا مَا وَرِثْتُمْ، وَنَالُوا مَا نِلْتُمْ، فَاتَّخَذَهُمُ اللَّهُ عَدُوًّا، وَلَعَنَهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ» «كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ» إِنِّي نَكَبْتُ قَرْنِي فَأَخَذْتُ سَهْمِي الْفَالِجَ، وَأَخَذْتُ لِطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ مَا ارْتَضَيْتُ لِنَفْسِي، فَأَنَا بِهِ كَفِيلٌ، وَبِمَا أُعْطِيتُ عَنْهُ زَعِيمٌ، والأمر إليك يا بن عَوْفٍ، بِجُهْدِ النَّفْسِ، وَقَصْدِ النُّصْحِ، وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ، وَإِلَيْهِ الرُّجُوعُ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ مُخَالَفَتِكُمْ. ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا مِنَّا نَبِيًّا، وَبَعَثَهُ إِلَيْنَا رَسُولا، فَنَحْنُ بَيْتُ النُّبُوَّةِ، وَمَعْدِنُ الْحِكْمَةِ، وَأَمَانُ أَهْلِ الأَرْضِ، وَنَجَاةٌ لِمَنْ طَلَبَ، لَنَا حَقٌّ إِنْ نُعْطَهُ نَأْخُذْهُ، وَإِنْ نُمْنَعْهُ نَرْكَبْ أَعْجَازَ الإِبِلِ وَلَوْ طَالَ السرى، لو عهد إلينا رسول الله ص عَهْدًا لأَنْفَذْنَا عَهْدَهُ، وَلَوْ قَالَ لَنَا قَوْلا لَجَادَلْنَا عَلَيْهِ حَتَّى نَمُوتَ لَنْ يُسْرِعَ أَحَدٌ قَبْلِي إِلَى دَعْوَةِ حَقٍّ وَصِلَةِ رَحِمٍ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ

اسْمَعُوا كَلامِي، وَعُوا مَنْطِقِي، عَسَى أَنْ تَرَوْا هَذَا الأَمْرَ مِنْ بَعْدِ هَذَا الْمَجْمَعِ تُنْتَضَى فِيهِ السُّيُوفُ، وَتُخَانُ فِيهِ الْعُهُودُ، حَتَّى تَكُونُوا جَمَاعَةً، وَيَكُونُ بَعْضُكُمْ أَئِمَةً لأَهْلِ الضَّلالَةِ، وَشِيعَةً لأَهْلِ الْجَهَالَةِ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ: فَإِنْ تَكُ جَاسِمٌ هَلَكَتْ فَإِنِّي ... بِمَا فَعَلَتْ بَنُو عَبْدِ بْنِ ضَخْمِ مُطِيعٌ فِي الْهَوَاجِرِ كُلَّ عِيٍّ ... بَصِيرٌ بِالنَّوَى مِنْ كُلِّ نَجْمِ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَيُّكُمْ يَطِيبُ نَفْسًا أَنْ يُخْرِجَ نَفْسَهُ مِنْ هَذَا الأَمْرِ وَيُوَلِّيَهُ غَيْرَهُ؟ قَالَ: فَأَمْسَكُوا عَنْهُ، قَالَ: فَإِنِّي أُخْرِجُ نَفْسِي وَابْنَ عَمِّي، فَقَلَّدَهُ الْقَوْمُ الأَمْرَ، وَأَحْلَفَهُمْ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، فَحَلَفُوا لَيُبَايِعَنَّ مَنْ بَايَعَ، وَإِنْ بَايَعَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ الأُخْرَى فَأَقَامَ ثَلاثًا فِي دَارِهِ الَّتِي عِنْدَ الْمَسْجِدِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الْيَوْمَ رَحْبَةُ الْقَضَاءِ- وَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ رَحْبَةُ الْقَضَاءِ- فَأَقَامَ ثَلاثًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ صُهَيْبٌ. قَالَ: وَبَعَثَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ لَهُ: إِنْ لَمْ أُبَايِعْكَ فَأَشِرْ عَلَيَّ، فَقَالَ: عُثْمَانُ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ: إِنْ لَمْ أُبَايِعْكَ، فَمَنْ تُشِيرُ عَلَيَّ؟ قَالَ: عَلِيٌّ، ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: انْصَرِفَا فَدَعَا الزُّبَيْرَ، فَقَالَ: إِنْ لَمْ أُبَايِعْكَ، فَمَنْ تُشِيرُ عَلَيَّ، قَالَ: عُثْمَانُ، ثُمَّ دَعَا سَعْدًا، فَقَالَ: مَنْ تُشِيرُ عَلَيَّ؟ فَأَمَّا أَنَا وَأَنْتَ فَلا نُرِيدُهَا، فَمَنْ تُشِيرُ عَلَيَّ؟ قَالَ: عُثْمَانُ فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ، قَالَ: يَا مِسْوَرُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ، قَالَ: إِنَّكَ لَنَائِمٌ، وَاللَّهِ مَا اكْتَحَلْتُ بِغِمَاضٍ مُنْذُ ثَلاثٍ اذْهَبْ فَادْعُ لِي عَلِيًّا وَعُثْمَانَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا خَالُ، بِأَيِّهِمَا أَبْدَأُ؟ قَالَ: بِأَيِّهِمَا شِئْتَ، قَالَ: فَخَرَجْتُ فَأَتَيْتُ عَلِيًّا- وَكَانَ هَوَايَ فِيهِ- فَقُلْتُ: أَجِبْ خَالِي، فَقَالَ: بَعَثَكَ مَعِي إِلَى غَيْرِي؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: إِلَى مَنْ؟ قُلْتُ: إِلَى عُثْمَانَ، قَالَ: فَأَيُّنَا أَمَرَكَ أَنْ تَبْدَأَ بِهِ؟ قُلْتُ: قَدْ سَأَلْتُهُ فَقَالَ: بِأَيِّهِمَا شِئْتَ، فَبَدَأْتُ بِكَ، وَكَانَ هَوَايَ فِيكَ قَالَ: فَخَرَجَ مَعِي حَتَّى أَتَيْنَا الْمَقَاعِدَ، فَجَلَسَ عَلَيْهَا عَلِيٌّ، وَدَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ فَوَجَدَتْهُ يُوتِرُ مَعَ الْفَجْرِ، فَقُلْتُ: أَجِبْ خَالِي، فَقَالَ: بَعَثَكَ مَعِي إِلَى غَيْرِي؟ قُلْتُ: نَعَمْ، إِلَى عَلِيٍّ، قَالَ: بِأَيِّنَا أَمَرَكَ أَنْ تَبْدَأَ؟ قُلْتُ: سَأَلْتُهُ فَقَالَ: بِأَيِّهِمَا شِئْتَ،

وَهَذَا عَلِيٌّ عَلَى الْمَقَاعِدِ، فَخَرَجَ مَعِي حَتَّى دَخَلْنَا جَمِيعًا عَلَى خَالِي وَهُوَ فِي الْقِبْلَةِ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَانْصَرَفَ لَمَّا رَآنَا، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ سَأَلْتُ عَنْكُمَا وَعَنْ غَيْرِكُمَا، فَلَمْ أَجِدِ النَّاسَ يَعْدِلُونَ بِكُمَا، هَلْ أَنْتَ يَا عَلِيُّ مُبَايِعِي عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ وَفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؟ [فَقَالَ: اللَّهُمَّ لا، وَلَكِنْ عَلَى جَهْدِي مِنْ ذَلِكَ وَطَاقَتِي] فَالْتَفَتَ إِلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ: هَلْ أَنْتَ مُبَايِعِي عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ وَفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى كَتِفَيْهِ، وَقَالَ: إِذًا شِئْتُمَا! فَنَهَضْنَا حَتَّى دَخَلْنَا الْمَسْجِدَ، وَصَاحَ صَائِحٌ: الصَّلاةُ جَامِعَةٌ- قَالَ عُثْمَانُ: فَتَأَخَّرْتُ وَاللَّهِ حَيَاءً لِمَا رَأَيْتُ مِنْ إِسْرَاعِهِ إِلَى عَلِيٍّ، فَكُنْتُ فِي آخِرِ الْمَسْجِدِ- قَالَ: وَخَرَجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَعَلَيْهِ عِمَامَتُهُ الَّتِي عَمَّمَهُ بِهَا رسول الله ص، مُتَقَلِّدًا سَيْفَهُ، حَتَّى رَكِبَ الْمِنْبَرَ، فَوَقَفَ وُقُوفًا طَوِيلا، ثُمَّ دَعَا بِمَا لَمْ يَسْمَعْهُ النَّاسُ. ثُمَّ تَكَلَّمَ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ سَأَلْتُكُمْ سِرًّا وَجَهْرًا عَنْ إِمَامِكُمْ، فَلَمْ أَجِدْكُمْ تَعْدِلُونَ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ: إِمَّا عَلِيٌّ وَإِمَّا عُثْمَانُ، فَقُمْ إِلَيَّ يَا عَلِيُّ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ، فَوَقَفَ تَحْتَ الْمِنْبَرِ، فَأَخَذَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِيَدِهِ، فَقَالَ: هَلْ أَنْتَ مُبَايِعِي عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ وَفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ لا، وَلَكِنْ عَلَى جَهْدِي مِنْ ذَلِكَ وَطَاقَتِي، قَالَ: فَأَرْسَلَ يَدَهُ ثُمَّ نَادَى: قُمْ إِلَيَّ يَا عُثْمَانُ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ- وَهُوَ فِي مَوْقِفِ عَلِيٍّ الَّذِي كَانَ فِيهِ- فَقَالَ: هَلْ أَنْتَ مُبَايِعِي عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ وَفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى سَقْفِ الْمَسْجِدِ، وَيَدُهُ فِي يَدِ عُثْمَانَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اسْمَعْ وَاشْهَدِ، اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ جَعَلْتُ مَا فِي رَقَبَتِي مِنْ ذَاكَ فِي رَقَبَةِ عُثْمَانَ قَالَ: وَازْدَحَمَ النَّاسُ يُبَايِعُونَ عُثْمَانَ حَتَّى غَشَوْهُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، فَقَعَدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مَقْعَدَ النَّبِيِّ ص مِنَ الْمِنْبَرِ، وَأَقْعَدَ عُثْمَانَ عَلَى الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يُبَايِعُونَهُ، وَتَلَكَّأَ عَلِيٌّ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: «فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» ، فَرَجَعَ عَلِيٌّ يَشُقُّ النَّاسَ، حَتَّى بَايَعَ وَهُوَ يقول:

خُدْعَةٌ وَأَيُّمَا خُدْعَةٌ! قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: وَإِنَّمَا سَبَبُ قَوْلِ عَلِيٍّ: خُدْعَةٌ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ كَانَ قَدْ لَقِيَ عَلِيًّا فِي لَيَالِي الشُّورَى، فَقَالَ: إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ رَجُلٌ مُجْتَهِدٌ، وَإِنَّهُ مَتَى أَعْطَيْتَهُ الْعَزِيمَةَ كَانَ أَزْهَدَ لَهُ فِيكَ، وَلَكِنِ الْجَهْدُ وَالطَّاقَةُ، فَإِنَّهُ أَرْغَبُ لَهُ فِيكَ قَالَ: ثُمَّ لَقِيَ عُثْمَانَ، فَقَالَ: إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ رَجُلٌ مُجْتَهِدٌ، وَلَيْسَ وَاللَّهِ يُبَايِعُكَ إِلا بِالْعَزِيمَةِ، فَاقْبَلْ، فَلِذَلِكَ قَالَ عَلِيٌّ: خُدْعَةٌ. قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفَ بِعُثْمَانَ إِلَى بَيْتِ فَاطِمَةَ ابْنَةِ قَيْسٍ، فَجَلَسَ وَالنَّاسُ مَعَهُ، فَقَامَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ خَطِيبًا، فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَكَ، وَاللَّهِ مَا كَانَ لَهَا غَيْرُ عُثْمَانَ- وَعَلِيٌّ جَالِسٌ- فَقَالَ عَبْدُ الرحمن: يا بن الدَّبَّاغِ، مَا أَنْتَ وَذَاكَ! وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أُبَايِعُ أَحَدًا إِلا قُلْتَ فِيهِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ! قَالَ: ثُمَّ جَلَسَ عُثْمَانُ فِي جَانِبِ الْمَسْجِدِ، ودعا بعبيد اللَّهِ بْنَ عُمَرَ- وَكَانَ مَحْبُوسًا فِي دَارِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَهُوَ الَّذِي نَزَعَ السَّيْفَ مِنْ يَدِهِ بَعْدَ قَتْلِهِ جُفَيْنَةَ وَالْهُرْمُزَانَ وَابْنَةَ أَبِي لُؤْلُؤَةَ، وَكَانَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لأَقْتُلَنَّ رِجَالا مِمَّنْ شَرِكَ فِي دَمِ أَبِي- يُعَرِّضُ بِالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ- فَقَامَ إِلَيْهِ سَعْدٌ، فَنَزَعَ السَّيْفَ مِنْ يَدِهِ، وَجَذَبَ شَعْرَهُ حَتَّى أَضْجَعَهُ إِلَى الأَرْضِ، وَحَبَسَهُ فِي دَارِهِ حَتَّى أَخْرَجَهُ عُثْمَانُ إِلَيْهِ، فَقَالَ عُثْمَانُ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ: أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي هَذَا الَّذِي فَتَقَ فِي الإِسْلامِ مَا فَتَقَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَرَى أَنْ تَقْتُلَهُ، فَقَالَ بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ: قُتِلَ عُمَرُ أَمْسَ وَيُقْتَلُ ابْنُهُ الْيَوْمَ! فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْفَاكَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدَثُ كَانَ وَلَكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ سُلْطَانٌ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا الْحَدَثُ وَلا سُلْطَانَ لَكَ، قَالَ عُثْمَانُ: أَنَا وَلِيُّهُمْ، وَقَدْ جَعَلْتُهَا دِيَةً، وَاحْتَمَلْتُهَا فِي مَالِي. قَالَ: وَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الْبِيَاضِيُّ إِذَا رَأَى عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عمر، قال: الا يا عبيد الله مالك مَهْرَبٌ ... وَلا مَلْجَأٌ مِنَ ابْنِ أَرْوَى وَلا خفر

أَصَبْتَ دَمًا وَاللَّهِ فِي غَيْرِ حِلِّهِ ... حَرَامًا وَقَتْلُ الْهُرْمُزَانِ لَهُ خَطَرْ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ غَيْرَ أَنْ قَالَ قَائِلٌ ... أَتَتَّهِمُونَ الْهُرْمُزَانَ عَلَى عُمَرْ فَقَالَ سَفِيهٌ- وَالْحَوَادِثُ جَمَّةٌ ... نَعَمْ أَتَّهِمْهُ قَدْ أَشَارَ وَقَدْ أَمَرْ وَكَانَ سِلاحُ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ ... يُقَلِّبُهَا وَالأَمْرُ بِالأَمْرِ يُعْتَبَرْ قَالَ: فَشَكَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إِلَى عُثْمَانَ زِيَادَ بْنَ لَبِيدٍ وَشِعْرَهُ، فَدَعَا عُثْمَانُ زِيَادَ بْنَ لَبِيدٍ، فَنَهَاهُ قَالَ: فَأَنْشَأَ زِيَادٌ يَقُولُ فِي عُثْمَانَ: أَبَا عَمْرٍو عُبَيْدُ اللَّهِ رَهْنٌ ... فَلا تَشْكُكْ بِقَتْلِ الْهُرْمُزَانِ فَإِنَّكَ إِنْ غَفَرْتَ الْجُرْمَ عَنْهُ ... وَأَسْبَابُ الْخَطَا فَرَسَا رِهَانِ أَتَعْفُو إِذْ عَفَوْتَ بِغَيْرِ حَقٍّ ... فَمَا لَكَ بِالَّذِي تَحْكِي يَدَانِ! فَدَعَا عُثْمَانُ زِيَادَ بْنَ لَبِيدٍ فَنَهَاهُ وَشَذَّبَهُ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ قَالَ غَدَاةَ طُعِنَ عُمَرُ: مَرَرْتُ عَلَى أَبِي لُؤْلُؤَةَ عَشِيَّ أَمْسِ، وَمَعَهُ جُفَيْنَةُ وَالْهُرْمُزَانُ، وَهُمْ نَجِيٌّ، فَلَمَّا رَهَقَتْهُمْ ثَارُوا، وَسَقَطَ مِنْهُمْ خِنْجَرٌ لَهُ رَأْسَانِ، نِصَابُهُ فِي وَسَطِهِ، فَانْظُرُوا بِأَيِّ شَيْءٍ قُتِلَ، وَقَدْ تَخَلَّلَ أَهْلَ الْمَسْجِدِ، وَخَرَجَ فِي طَلَبِهِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَرَجَعَ إِلَيْهِمُ التَّمِيمِيُّ، وَقَدْ كَانَ أَلَظَّ بِأَبِي لُؤْلُؤَةَ مُنْصَرَفَهُ عَنْ عُمَرَ، حَتَّى اخذه فقتله، وجاء بالخنجر الذى وصفه عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَأَمْسَكَ حَتَّى مَاتَ عُمَرُ، ثُمَّ اشْتَمَلَ عَلَى السَّيْفِ، فَأَتَى الْهُرْمُزَانَ فَقَتَلَهُ، فَلَمَّا عَضَّهُ السَّيْفُ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى جُفَيْنَةَ- وَكَانَ نَصْرَانِيًّا مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ ظِئْرًا لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، أَقْدَمَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ لِلصُّلْحِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، وَلِيُعَلِّمَ بِالْمَدِينَةِ الْكِتَابَةَ- فَلَمَّا عَلاهُ بِالسَّيْفِ صُلِبَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَبَلَغَ ذَلِكَ صُهَيْبًا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، فَلَمْ يَزَلْ

عمال عمر رضى الله عنه على الأمصار

بِهِ وَعَنْهُ، وَيَقُولُ: السَّيْفُ بِأَبِي وَأُمِّي! حَتَّى نَاوَلَهُ إِيَّاهُ، وَثَاوَرَهُ سَعْدٌ فَأَخَذَ بِشَعْرِهِ، وَجَاءُوا إِلَى صُهَيْبٍ عمال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الأمصار وَكَانَ عامل عُمَر بن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي السنة الَّتِي قتل فِيهَا، وَهِيَ سنة ثلاث وعشرين- عَلَى مكة نافع بن عبد الْحَارِث الخزاعي، وعلى الطائف سُفْيَان بن عَبْدِ اللَّهِ الثقفي، وعلى صنعاء يعلى بن منيه، حليف بنى نوفل ابن عبد مناف، وعلى الجند عَبْد اللَّهِ بن أَبِي رَبِيعَةَ، وعلى الْكُوفَة الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ، وعلى الْبَصْرَةِ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيّ، وعلى مصر عمرو بن العاص، وعلى حمص عمير بن سَعْدٍ، وعلى دمشق مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ، وعلى البحرين وما والاهما عُثْمَان بن أبي العاص الثقفي. وفي هذه السنة- أعني سنة ثلاث وعشرين- توفي، فِيمَا زعم الْوَاقِدِيّ- قَتَادَة ابن النُّعْمَان الظفري، وصلى عَلَيْهِ عُمَر بن الْخَطَّابِ. وفيها غزا مُعَاوِيَة الصائفة حَتَّى بلغ عمورية، ومعه من اصحاب رسول الله ص عبادة بن الصامت وأبو أيوب خَالِد بن زيد وأبو ذر وشداد بن أوس. وفيها فتح مُعَاوِيَة عسقلان عَلَى صلح. وقيل: كَانَ عَلَى قضاء الْكُوفَة فِي السنة الَّتِي توفي فِيهَا عُمَر بن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شريح، وعلى الْبَصْرَة كعب بن سور، وأما مُصْعَب بن عَبْدِ اللَّهِ فإنه ذكر أن مالك بن أنس روى عن ابن شهاب، أن أبا بكر وعمر رضي اللَّه عنهما لم يكن لهما قاض

سنه اربع وعشرين

ثم دخلت ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث المشهورة ففيها بويع لعثمان بن عفان بالخلافة، واختلف فِي الوقت الَّذِي بويع لَهُ فِيهِ، فَقَالَ بعضهم مَا حَدَّثَنِي بِهِ الْحَارِث، قَالَ: حَدَّثَنَا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أبو بكر بن إسماعيل بن محمد بن سعد ابن أبي وقاص، عن عثمان بن محمد الأخنسي قَالَ: وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنِي أبو بكر بْن عبد الله بْن أبي سبرة، عن يعقوب بن زيد عن أبيه، قالا: بويع عُثْمَان بن عَفَّانَ يوم الاثنين لليلة بقيت من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، فاستقبل بخلافته المحرم سنة أربع وعشرين. وَقَالَ آخرون: مَا حَدَّثَنِي بِهِ أَحْمَد بْن ثَابِت الرازي، عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر، قَالَ: بويع لِعُثْمَانَ عام الرعاف سنه اربع وعشرين، قيل: إنما قيل لهذه السنة عام الرعاف، لأنه كثر الرعاف فِيهَا فِي الناس. وَقَالَ آخرون- فيما كتب به إلي السري، عن شعيب، عَنْ سَيْفٍ، عن خليد بن ذفرة ومجالد، قالا: استخلف عثمان لثلاث مضين من المحرم سنة أربع وعشرين، فخرج فصلى بالناس العصر، وزاد: ووفد فاستن بِهِ. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمر، عن الشعبي، قال: اجتمع أهل الشورى على عثمان لثلاث مضين من المحرم، وقد دخل وقت العصر، وقد أذن مؤذن صهيب، واجتمعوا بين الأذان والإقامة، فخرج فصلى بالناس، وزاد الناس مائة، ووفد أهل الأمصار، وَهُوَ أول من صنع ذَلِكَ. وَقَالَ آخرون- فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، عَنِ ابن جريج عن ابن مليكة، قَالَ: بويع لِعُثْمَانَ لعشر مضين من المحرم، بعد مقتل عمر بثلاث ليال

خطبه عثمان رضى الله عنه وقتل عبيد الله بن عمر الهرمزان

خطبة عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وقتل عُبَيْد اللَّهِ بن عُمَرَ الهرمزان كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن بدر بن عُثْمَانَ، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: لَمَّا بَايَعَ أَهْلُ الشُّورَى عُثْمَانَ، خَرَجَ وَهُوَ أَشَدُّهُمْ كَآبَةً، فَأَتَى منبر رسول الله ص، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى على النبي ص، وَقَالَ: إِنَّكُمْ فِي دَارِ قَلِعَةٍ، وَفِي بَقِيَّةِ أَعْمَارٍ، فَبَادِرُوا آجَالَكُمْ بِخَيْرِ مَا تَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، فَلَقَدْ أُتِيتُمْ، صُبِّحْتُمْ أَوْ مُسِّيتُمْ، أَلا وَإِنَّ الدُّنْيَا طُوِيَتْ عَلَى الْغَرُورِ، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ* اعتبروا بمن مضى، ثم وجدوا وَلا تَغْفَلُوا، فَإِنَّهُ لا يُغْفَلُ عَنْكُمْ أَيْنَ أَبْنَاءُ الدُّنْيَا وَإِخْوَانُهَا الَّذِينَ أَثَارُوهَا وَعَمَّرُوهَا، وَمُتِّعُوا بِهَا طَوِيلا، أَلَمْ تَلْفِظْهُمْ! ارْمُوا بِالدُّنْيَا حَيْثُ رَمَى اللَّهُ بِهَا، وَاطْلُبُوا الآخِرَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ قد ضرب لها مثلا، وللذي هُوَ خَيْرٌ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ» - الى قوله- «أَمَلًا» ، وَأَقْبَلَ النَّاسُ يُبَايِعُونَهُ. وكتب إلي السري، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن أبي منصور، قَالَ: سمعت القماذبان يحدث عن قتل أَبِيهِ، قَالَ: كَانَتِ العجم بِالْمَدِينَةِ يستروح بعضها إِلَى بعض، فمر فيروز بأبي، وَمَعَهُ خنجر لَهُ رأسان، فتناوله مِنْهُ، وَقَالَ: مَا تصنع بهذا فِي هذه البلاد؟ فقال: آنس بِهِ، فرآه رجل، فلما أصيب عمر، قَالَ: رأيت هَذَا مع الهرمزان، دفعه إِلَى فيروز. فأقبل عُبَيْد اللَّهِ فقتله، فلما ولي عُثْمَان دعاني فأمكنني مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا بني، هَذَا قاتل أبيك، وأنت أولى بِهِ منا، فاذهب فاقتله، فخرجت بِهِ وما فِي الأرض أحد إلا معي، إلا أَنَّهُمْ يطلبون إلي فِيهِ فقلت لَهُمْ: ألي قتله؟ قَالُوا: نعم- وسبوا عُبَيْد اللَّهِ- فقلت: أفلكم أن تمنعوه؟ قَالُوا: لا، وسبوه

ولايه سعد بن ابى وقاص الكوفه

فتركته لله ولهم فاحتملوني، فو الله مَا بلغت المنزل إلا عَلَى رءوس الرجال وأكفهم . ولاية سعد بن أَبِي وَقَّاص الْكُوفَة وفي هذه السنة عزل عُثْمَان الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ عن الْكُوفَة، وولاها سعد بن أَبِي وَقَّاص- فِيمَا كَتَبَ بِهِ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْمُجَالِدِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ قَالَ: أُوصِي الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي أَنْ يَسْتَعْمِلَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، فانى لم أعز له عَنْ سُوءٍ، وَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَلْحَقَهُ مِنْ ذَلِكَ وَكَانَ أَوَّلَ عَامِلٍ بَعَثَ بِهِ عُثْمَانُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَلَى الْكُوفَةِ، وَعَزَلَ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، وَالْمُغِيرَةُ يَوْمَئِذٍ بِالْمَدِينَةِ، فَعَمِلَ عَلَيْهَا سَعْدٌ سَنَةً وَبَعْضَ أُخْرَى، وَأَقَرَّ أَبَا مُوسَى سَنَوَاتٍ. وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ أَوْصَى أَنْ يُقَرَّ عُمَّالُهُ سَنَةً، فَلَمَّا وَلِيَ عُثْمَانُ أَقَرَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ عَلَى الْكُوفَةِ سَنَةً، ثُمَّ عَزَلَهُ، وَاسْتَعْمَلَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ ثُمَّ عَزَلَهُ، وَاسْتَعْمَلَ الوليد ابن عُقْبَةَ فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا مَا رَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ مِنْ ذَلِكَ، فَوِلايَةُ سَعْدٍ الْكُوفَةَ مِنْ قِبَلِ عُثْمَانَ كَانَتْ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ . كُتُبُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى عُمَّالِهِ وَوُلاتِهِ وَالْعَامَّةِ كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ بِإِسْنَادِهِمَا، قَالا: لَمَّا وَلِيَ عُثْمَانُ بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ إِلَى كَابُلَ- وَهِيَ عِمَالَةُ سِجِسْتَانَ- فَبَلَغَ كَابُلَ حَتَّى اسْتَفْرَغَهَا، فَكَانَتْ عِمَالَةُ سِجِسْتَانَ أَعْظَمَ مِنْ خُرَاسَانَ، حَتَّى مَاتَ مُعَاوِيَةُ، وَامْتَنَعَ أَهْلُ كَابُلَ. قَالُوا: وَكَانَ أَوَّلُ كِتَابٍ كَتَبَهُ عُثْمَانُ إِلَى عُمَّالِهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الأَئِمَّةَ أَنْ يَكُونُوا رُعَاةً، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ إِلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا جُبَاةً، وَإِنَّ صَدْرَ هَذِهِ

الأُمَّةِ خُلِقُوا رُعَاةً، لَمْ يُخْلَقُوا جُبَاةً، وَلَيُوشِكَنَّ أَئِمَّتُكُمْ أَنْ يَصِيرُوا جُبَاةً وَلا يَكُونُوا رُعَاةً، فَإِذَا عَادُوا كَذَلِكَ انْقَطَعَ الْحَيَاءُ وَالأَمَانَةُ وَالْوَفَاءُ أَلا وَإِنَّ أَعْدَلَ السِّيرَةِ أَنْ تَنْظُرُوا فِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا عَلَيْهِمْ فَتُعْطُوهُمْ مَا لَهُمْ، وَتَأْخُذُوهُمْ بِمَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ تُثْنُوا بِالذِّمَّةِ، فَتُعْطُوهُمُ الَّذِي لَهُمْ، وَتَأْخُذُوهُمْ بِالَّذِي عَلَيْهِمْ. ثُمَّ الْعَدُوَّ الَّذِي تَنْتَابُونَ، فَاسْتَفْتِحُوا عَلَيْهِمْ بِالْوَفَاءِ. قَالُوا: وَكَانَ أَوَّلَ كِتَابٍ كَتَبَهُ إِلَى أُمَرَاءِ الأَجْنَادِ فِي الْفُرُوجِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكُمْ حُمَاةُ الْمُسْلِمِينَ وَذَادَتُهُمْ، وَقَدْ وَضَعَ لَكُمْ عُمَرُ مَا لَمْ يَغِبْ عنا، بل كان عن ملامنا، وَلا يَبْلُغُنِي عَنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ تَغْيِيرٌ وَلا تَبْدِيلٌ فَيُغَيِّرَ اللَّهُ مَا بِكُمْ ويَسْتَبْدِلَ بِكُمْ غَيْرَكُمْ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَكُونُونَ، فَإِنِّي أَنْظُرُ فِيمَا أَلْزَمَنِي اللَّهُ النَّظَرَ فِيهِ، وَالْقِيَامَ عَلَيْهِ. قَالُوا: وَكَانَ أَوَّلَ كِتَابٍ كَتَبَهُ إِلَى عُمَّالِ الْخَرَاجِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ بِالْحَقِّ، فَلا يَقْبَلُ إِلا الْحَقَّ، خُذُوا الْحَقَّ وَأَعْطُوا الْحَقَّ بِهِ وَالأَمَانَةَ الأَمَانَةَ، قُومُوا عَلَيْهَا، وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ مَنْ يَسْلُبُهَا، فَتَكُونُوا شُرَكَاءَ مَنْ بَعْدَكُمْ إِلَى مَا اكْتَسَبْتُمْ وَالْوَفَاءَ الْوَفَاءَ، لا تَظْلِمُوا الْيَتِيمَ وَلا الْمُعَاهَدَ، فَإِنَّ اللَّهَ خَصْمٌ لِمَنْ ظَلَمَهُمْ. قَالُوا: وَكَانَ كِتَابُهُ إِلَى الْعَامَّةِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا بَلَغْتُمْ مَا بَلَغْتُمْ بِالاقْتَدَاءِ وَالاتِّبَاعِ، فَلا تَلْفِتَنَّكُمُ الدُّنْيَا عَنْ أَمْرِكُمْ، فَإِنَّ أَمْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ صَائِرٌ إِلَى الابْتِدَاعِ بَعْدَ اجْتِمَاعِ ثَلاثٍ فِيكُمْ: تَكَامُلُ النِّعَمِ، وَبُلُوغُ أَوْلادِكُمْ مِنَ السَّبَايَا، وَقِرَاءَةُ الأَعْرَابِ وَالأَعَاجِمِ الْقُرْآنَ، فان رسول الله ص قَالَ: [الْكُفْرُ فِي الْعُجْمَةِ،] فَإِذَا اسْتُعْجِمَ عَلَيْهِمْ أَمْرٌ تَكَلَّفُوا وَابْتَدَعُوا. وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: أَوَّلُ خَلِيفَةٍ زَادَ النَّاسَ فِي أُعْطِيَاتِهِمْ مِائَةً عُثْمَانُ، فَجَرَتْ. وَكَانَ عُمَرُ يَجْعَلُ لِكُلِّ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ فِي رَمَضَانَ دِرْهَمًا فِي كُلِّ يَوْمٍ، وفرض لازواج رسول الله ص دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، فَقِيلَ لَهُ: لَوْ صَنَعْتَ لَهُمْ طَعَامًا فَجَمَعْتَهُمْ عَلَيْهِ! فَقَالَ: أُشْبِعُ النَّاسَ فِي بيوتهم فاقر

غزوه اذربيجان وأرمينية

عُثْمَانُ الَّذِي كَانَ صَنَعَ عُمَرُ، وَزَادَ فَوَضَعَ طَعَامَ رَمَضَانَ، فَقَالَ: لِلْمُتَعَبِّدِ الَّذِي يَتَخَلَّفُ فِي الْمَسْجِدِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالْمُعْتَرِّينَ بِالنَّاسِ فِي رَمَضَانَ غزوه اذربيجان وأرمينية وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ- غَزَا الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ أَذْرَبِيجَانَ وَأَرْمِينِيَةَ، لِمَنْعِ أَهْلِهَا مَا كَانُوا صَالَحُوا عَلَيْهِ أَهْلَ الإِسْلامِ أَيَّامَ عُمَرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي مِخْنَفٍ، وَأَمَّا فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ. ذكر الخبر عن ذَلِكَ وما كَانَ من أمر الْمُسْلِمِينَ وأمرهم فِي هَذِهِ الغزوة: ذكر هِشَام بن محمد، أن أبا مخنف حدثه عن فروة بن لقيط الأَزْدِيّ، ثُمَّ الغامدي، أن مغازي أهل الْكُوفَة كَانَتِ الري وأذربيجان، وَكَانَ بالثغرين عشرة آلاف مقاتل من أهل الْكُوفَة، ستة آلاف بأذربيجان وأربعة آلاف بالري، وَكَانَ بالكوفة إذ ذاك أربعون ألف مقاتل، وَكَانَ يغزو هَذَيْنِ الثغرين مِنْهُمْ عشرة آلاف فِي كل سنة، فكان الرجل يصيبه فِي كل أربع سنين غزوة، فغزا الْوَلِيد بن عُقْبَةَ فِي إمارته عَلَى الْكُوفَة فِي سلطان عُثْمَان أذربيجان وأرمينية، فدعا سلمان بن رَبِيعَة الباهلي فبعثه أمامه مقدمة لَهُ، وخرج الْوَلِيد فِي جماعة الناس، وَهُوَ يريد أن يمعن فِي أرض أرمينية، فمضى فِي الناس حَتَّى دخل أذربيجان، فبعث عَبْد اللَّهِ بن شبيل بن عوف الأحمسي فِي أربعة آلاف، فأغار عَلَى أهل موقان والببر والطيلسان، فأصاب من أموالهم وغنم، وتحرز القوم مِنْهُ، وسبى مِنْهُمْ سبيا يسيرا، فأقبل إِلَى الْوَلِيدِ بن عُقْبَةَ

اجلاب الروم على المسلمين واستمداد المسلمين من بالكوفه

ثُمَّ إن الْوَلِيد صالح أهل أذربيجان عَلَى ثمانمائه ألف درهم، وَذَلِكَ هُوَ الصلح الَّذِي كَانُوا صالحوا عَلَيْهِ حُذَيْفَة بن الْيَمَانِ سنة اثنتين وعشرين بعد وقعة نهاوند بسنة ثُمَّ إِنَّهُمْ حبسوها عِنْدَ وفاة عمر، فلما ولي عُثْمَان وولى الوليد ابن عُقْبَةَ الْكُوفَة، سار حَتَّى وطئهم بالجيش، فلما رأوا ذَلِكَ انقادوا لَهُ، وطلبوا إِلَيْهِ أن يتم لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الصلح، ففعل، فقبض مِنْهُمُ المال، وبث فيمن حولهم من أعداء الْمُسْلِمِينَ الغارات، فلما رجع إِلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بن شبيل الأحمسي من غارته تِلَكَ- وَقَدْ سلم وغنم- بعث سلمان بن رَبِيعَة الباهلي إِلَى أرمينية فِي اثني عشر ألفا، سنة أربع وعشرين فسار فِي أرض أرمينية فقتل وسبى وغنم ثُمَّ إنه انصرف وَقَدْ ملأ يديه حتى اتى الْوَلِيد فانصرف الْوَلِيد وَقَدْ ظفر وأصاب حاجته . إجلاب الروم عَلَى الْمُسْلِمِينَ واستمداد الْمُسْلِمِينَ من بالكوفة وفي هَذِهِ السنة- فِي رواية أبي مخنف- جاشت الروم، حَتَّى استمد من بِالشَّامِ من جيوش الْمُسْلِمِينَ من عُثْمَان مددا. ذكر الخبر عن ذَلِكَ: قَالَ هِشَامٌ: حَدَّثَنِي أَبُو مِخْنَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي فَرْوَةُ بْنُ لُقَيْطٍ الأَزْدِيُّ، قَالَ: لَمَّا أَصَابَ الْوَلِيدُ حَاجَتَهُ مِنْ أَرْمِينِيَةَ فِي الْغَزْوَةِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا فِي سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ تَأْرِيخِهِ، وَدَخَلَ الْمَوْصِلَ فَنَزَلَ الْحَدِيثَةَ، أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ كَتَبَ إِلَيَّ يُخْبِرُنِي أَنَّ الرُّومَ قَدْ أَجْلَبَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِجُمُوعٍ عَظِيمَةٍ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ يَمُدَّهُمْ إِخْوَانُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا فَابْعَثْ رَجُلا مِمَّنْ تَرْضَى نَجْدَتَهُ وَبَأْسَهُ وَشَجَاعَتَهُ وَإِسْلامَهُ

فِي ثَمَانِيَةِ آلافٍ أَوْ تِسْعَةِ آلافٍ أَوْ عَشَرَةِ آلافٍ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي يَأْتِيكَ فِيهِ رَسُولِي، وَالسَّلامُ. فَقَامَ الْوَلِيدُ فِي النَّاسِ، فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْوَجْهِ بَلاءً حَسَنًا، رَدَّ عَلَيْهِمْ بِلادَهُمُ الَّتِي كَفَرَتْ، وَفَتَحَ بِلادًا لَمْ تَكُنِ افْتُتِحَتْ، وَرَدَّهُمْ سَالِمِينَ غَانِمِينَ مَأْجُورِينَ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَقَدْ كَتَبَ إِلَيَّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَنْدِبَ مِنْكُمْ مَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ الآلافِ إِلَى الثَّمَانِيَةِ الآلافِ، تَمُدُّونَ إِخْوَانَكُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ جَاشَتْ عَلَيْهِمُ الرُّومُ، وَفِي ذَلِكَ الأَجْرُ الْعَظِيمُ، وَالْفَضْلُ الْمُبِينُ، فَانْتَدِبُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ مَعَ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: فَانْتَدَبَ النَّاسُ، فَلَمْ يَمْضِ ثَالِثَةٌ حَتَّى خَرَجَ ثَمَانِيَةُ آلافِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَمَضَوْا حَتَّى دَخَلُوا مَعَ أَهْلِ الشَّامِ إِلَى أَرْضِ الرُّومِ، وَعَلَى جُنْدِ أَهْلِ الشَّامِ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ خَالِدٍ الْفِهْرِيُّ، وَعَلَى جُنْدِ أَهْلِ الْكُوفَةِ سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ [الْبَاهِلِيُّ،] فَشَنُّوا الْغَارَاتِ عَلَى أَرْضِ الرُّومِ، فَأَصَابَ النَّاسُ مَا شَاءُوا مِنْ سَبْيٍ، وَمَلَئُوا أَيْدِيَهُمْ مِنَ الْمَغْنَمِ، وَافْتَتَحُوا بِهَا حُصُونًا كَثِيرَةً. وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ الَّذِي أَمَدَّ حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ بِسَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ كَانَ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَقَالَ: كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عُثْمَانَ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ يَأْمُرُهُ أَنْ يُغْزِيَ حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ فِي أَهْلِ الشَّامِ أَرْمِينِيَةَ، فَوَجَّهَهُ إِلَيْهَا، فَبَلَغَ حَبِيبًا أَنَّ الْمُورِيَانَ الرُّومِيَّ قَدْ تَوَجَّهَ نَحْوَهُ فِي ثَمَانِينَ أَلْفًا مِنَ الرُّومِ وَالتُّرْكِ، فَكَتَبَ بِذَلِكَ حَبِيبٌ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ بِهِ الى عثمان، فكتب عثمان، الى سعيد ابن الْعَاصِ يَأْمُرُهُ بِإِمْدَادِ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ، فَأَمَدَّهُ بِسَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ فِي سِتَّةِ آلافٍ، وَكَانَ حَبِيبٌ صَاحِبَ كَيْدٍ، فَأَجْمَعَ عَلَى أَنْ يُبَيِّتَ الْمُورِيَانَ، فَسَمِعَتْهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بِنْتُ يَزِيدَ الْكَلْبِيَّةُ يَذْكُرُ ذَلِكَ، فَقَالَتْ لَهُ: فَأَيْنَ مَوْعِدُكَ؟ قَالَ: سُرَادِقُ الْمُورِيَانِ أَوِ الْجَنَّةُ، ثُمَّ بَيَّتَهُمْ، فَقَتَلَ مَنْ أَشْرَفَ لَهُ، وَأَتَى السُّرَادِقَ فَوَجَدَ امْرَأَتَهُ قَدْ سَبَقَتْ، وَكَانَتْ أَوَّلَ امْرَأَةٍ من العرب

ضُرِبَ عَلَيْهَا سُرَادِقٌ، وَمَاتَ عَنْهَا حَبِيبٌ، فَخَلَفَ عَلَيْهَا الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ الْفِهْرِيُّ، فَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ. وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِأَمْرِ عُثْمَانَ، كَذَلِكَ قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ وَالْوَاقِدِيُّ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ حَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ. وَأَمَّا الاخْتِلافُ فِي الْفُتُوحِ الَّتِي نَسَبَهَا بَعْضُ النَّاسِ إِلَى أَنَّهَا كَانَتْ فِي عَهْدِ عُمَرَ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا كَانَتْ فِي إِمَارَةِ عُثْمَانَ، فَقَدْ ذَكَرْتُ قَبْلُ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا ذِكْرُ اخْتِلافِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي تَأْرِيخِ كل فتح كان من ذلك

سنه خمس وعشرين

خَمْسٍ وَعِشْرِينَ ذكر الأحداث المشهورة الَّتِي كَانَتْ فِيهَا فَقَالَ أَبُو معشر، فِيمَا حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت الرازي، قَالَ: حَدَّثَنِي محدث، عن إسحاق بن عيسى عنه: كان فتح الإسكندرية سنة خمس وعشرين. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: وفي هَذِهِ السنة نقضت الإسكندرية عهدها، فغزاهم عمرو بن الْعَاصِ فقتلهم، وَقَدْ ذكرنا خبرها قبل فِيمَا مضى، ومن خالف أبا معشر والواقدى فِي تأريخ ذَلِكَ. وفيها كَانَ أَيْضًا- فِي قول الْوَاقِدِيّ- توجيه عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ أبي سرح الخيل إِلَى المغرب. قَالَ: وَكَانَ عمرو بن الْعَاصِ قَدْ بعث بعثا قبل ذَلِكَ إِلَى المغرب، فأصابوا غنائم، فكتب عَبْد اللَّهِ يستأذنه فِي الغزو إِلَى إفريقية، فأذن لَهُ. قَالَ: وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عُثْمَان، واستخلف عَلَى الْمَدِينَة. قَالَ: وفيها فتح الحصون وأميرهم مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ. قَالَ: وفيها ولد يَزِيد بن مُعَاوِيَة. قَالَ: وفيها كانت سابور الاولى فتحت

سنه ست وعشرين

سنه 24 ثُمَّ دخلت سنة ست وعشرين ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث المشهورة فكان فِيهَا- فِي قول أبي معشر والواقدي- فتح سابور، وَقَدْ مضى ذكر الخبر عنها فِي قول من خالفهما فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: فِيهَا أمر عُثْمَان بتجديد أنصاب الحرم وَقَالَ: فِيهَا زاد عُثْمَان فِي المسجد الحرام، ووسعه وابتاع من قوم وأبى آخرون، فهدم عَلَيْهِم، ووضع الأثمان فِي بيت المال، فصيحوا بعثمان، فأمر بهم بالحبس، وَقَالَ: أتدرون مَا جرأكم علي! مَا جرأكم علي إلا حلمي، قَدْ فعل هَذَا بكم عمر فلم تصيحوا بِهِ ثُمَّ كلمه فِيهِمْ عَبْد اللَّهِ بن خَالِد بن أسيد، فأخرجوا. قَالَ: وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عُثْمَان بن عَفَّانَ. وفي هَذِهِ السنة عزل عُثْمَان سعدا عن الْكُوفَة، وولاها الْوَلِيد بن عُقْبَةَ فِي قول الْوَاقِدِيّ، وأما فِي قول سيف فإنه عزله عنها فِي سنة خمس وعشرين. وفيها ولي الْوَلِيد عَلَيْهَا، وَذَلِكَ أنه زعم أنه عزل الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ عن الْكُوفَة حين مات عمر، ووجه سعدا إِلَيْهَا عاملا، فعمل لَهُ عَلَيْهَا سنة وأشهرا ذكر سبب عزل عُثْمَان عن الْكُوفَة سعدا واستعماله عَلَيْهَا الْوَلِيد كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قَالَ: كَانَ أول مَا نزغ بِهِ بين أهل الْكُوفَة- وَهُوَ أول مصر نزغ الشَّيْطَان بينهم فِي الإِسْلام- أن سعد بن أَبِي وَقَّاص استقرض من عَبْد اللَّهِ بن مسعود من بيت المال مالا، فأقرضه، فلما تقاضاه لم يتيسر عَلَيْهِ، فارتفع بينهما الكلام حَتَّى استعان عَبْد اللَّهِ بأناس مِنَ النَّاسِ عَلَى استخراج المال، واستعان

سنه سبع وعشرين

سعد بأناس مِنَ النَّاسِ عَلَى استنظاره، فافترقوا وبعضهم يلوم بعضا، يلوم هؤلاء سعدا ويلوم هَؤُلاءِ عَبْد اللَّهِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ سَعْدٍ، وَعِنْدَهُ ابْنُ أَخِيهِ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ، فَأَتَى ابْنُ مَسْعُودٍ سَعْدًا، فَقَالَ لَهُ: أَدِّ الْمَالَ الَّذِي قِبَلَكَ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: مَا أَرَاكَ إِلا سَتَلْقَى شَرًّا! هَلْ أَنْتَ إِلا ابْنُ مَسْعُودٍ، عَبْدٌ مِنْ هُذَيْلٍ! فَقَالَ: أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنِّي لابْنُ مَسْعُودٍ، وَإِنَّكَ لابْنُ حُمَيْنَةَ، فَقَالَ هَاشِمٌ: أَجَلْ وَاللَّهِ انكما لصاحبا رسول الله ص، يُنْظَرُ إِلَيْكُمَا فَطَرَحَ سَعْدٌ عُودًا كَانَ فِي يده- وكان رجلا فيه جده- وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَيْلُكَ! قُلْ خَيْرًا، وَلا تَلْعَنْ، فَقَالَ سَعْدٌ عِنْدَ ذَلِكَ: أَمَا وَاللَّهِ لولا اتِّقَاءُ اللَّهِ لَدَعَوْتُ عَلَيْكَ دَعْوَةً لا تُخْطِئُكَ فَوَلَّى عَبْدُ اللَّهِ سَرِيعًا حَتَّى خَرَجَ. وَكَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الْقَاسِمِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ عَبْدِ خَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ، قَالَ: لَمَّا وَقَعَ بَيْنَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَسَعْدٍ الْكَلامُ فِي قَرْضٍ أَقْرَضَهُ عَبْدُ اللَّهِ إِيَّاهُ، فَلَمْ يَتَيَسَّرْ عَلَى سَعْدٍ قَضَاؤُهُ، غَضِبَ عَلَيْهِمَا عُثْمَانُ، وَانْتَزَعَهَا مِنْ سَعْدٍ، وَعَزَلَهُ وَغَضِبَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَأَقَرَّهُ، وَاسْتَعْمَلَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ- وَكَانَ عَامِلا لِعُمَرَ عَلَى رَبِيعَةَ بِالْجَزِيرَةِ- فَقَدِمَ الْكُوفَةَ فَلَمْ يَتَّخِذْ لِدَارِهِ بَابًا حَتَّى خَرَجَ مِنَ الْكُوفَةِ. وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، قَالا: لَمَّا بَلَغَ عثمان الذي كان بين عبد الله وسعد فِيمَا كَانَ، غَضِبَ عَلَيْهِمَا وَهَمَّ بِهِمَا، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ، وَعَزَلَ سَعْدًا، وَأَخَذَ مَا عَلَيْهِ، وَأَقَرَّ عَبْدَ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ، وَأَمَّرَ مَكَانَ سَعْدٍ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ- وَكَانَ عَلَى عَرَبِ الْجَزِيرَةِ عَامِلا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- فَقَدِمَ الْوَلِيدُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ إِمَارَةِ عُثْمَانَ، وَقَدْ كَانَ سَعْدٌ عَمِلَ عَلَيْهَا سَنَةً وَبَعْضَ أُخْرَى، فَقَدِمَ الْكُوفَةَ، وَكَانَ أَحَبَّ النَّاسِ فِي النَّاسِ وَأَرْفَقَهُمْ بِهِمْ، فَكَانَ كَذَلِكَ خَمْسَ سِنِينَ وَلَيْسَ على داره باب . سبع وعشرين ذكر الأحداث المشهورة الَّتِي كَانَتْ فِيهَا فِمِمَّا كَانَ فِيهَا من ذَلِكَ فتح إفريقية عَلَى يد عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ أبي سرح، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ ثابت الرازي، قال: حدثنا محدث، عن إسحاق ابن عِيسَى، عن أبي معشر، وَهُوَ قول الْوَاقِدِيّ أَيْضًا. ذكر الخبر عن فتحها، وعن سبب ولايه عبد الله بن سعد ابن أبي سرح مصر، وعزل عُثْمَان عمرو بن الْعَاصِ عنها: كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن مُحَمَّد وَطَلْحَة،. قَالا: مات عمر وعلى مصر عمرو بن الْعَاصِ، وعلى قضائها خارجه بن حذافة السهمي، فولي عُثْمَان، فأقرهما سنتين من إمارته ثم عزل عمرا، واستعمل عبد الله ابن سَعْدِ بْنِ أبي سرح. وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وَأَبِي عُثْمَانَ، قَالا: لَمَّا وَلِيَ عُثْمَانُ أَقَرَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عَلَى عَمَلِهِ، وَكَانَ لا يَعْزِلُ أَحَدًا إِلا عَنْ شَكَاةٍ أَوِ اسْتِعْفَاءٍ مِنْ غَيْرِ شَكَاةٍ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ مِنْ جُنْدِ مِصْرَ، فَأَمَّرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدٍ عَلَى جُنْدِهِ، وَرَمَاهُ بِالرِّجَالِ، وَسَرَّحَهُ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ وَسَرَّحَ مَعَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ نَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْقَيْسِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ نَافِعِ بْنِ الْحُصَيْنِ الْفِهْرِيَّيْنِ، وَقَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ: إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكَ غَدًا إِفْرِيقِيَّةَ، فَلَكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ خُمُسُ الْخُمُسِ مِنَ الْغَنِيمَةِ نَفْلا. وَأَمَرَ الْعَبْدَيْنِ عَلَى الْجُنْدِ، وَرَمَاهُمَا بِالرِّجَالِ، وَسَرَّحَهُمَا إِلَى الأَنْدَلُسِ، وَأَمَرَهُمَا وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدٍ بِالاجْتِمَاعِ عَلَى الأجل، ثُمَّ يُقِيمُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ فِي عَمَلِهِ وَيَسِيرَانِ إِلَى عَمَلِهِمَا

فَخَرَجُوا حَتَّى قَطَعُوا مِصْرَ، فَلَمَّا وَغَلُوا فِي أَرْضِ إِفْرِيقِيَّةَ فَأَمْعَنُوا انْتَهَوْا إِلَى الأجل، وَمَعَهُ الأَفْنَاءُ، فَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ الأجل، قَتَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ وَفَتَحَ إِفْرِيقِيَّةَ سَهْلَهَا وَجَبَلَهَا ثُمَّ اجْتَمَعُوا عَلَى الإِسْلامِ، وَحَسُنَتْ طَاعَتُهُمْ، وَقَسَمَ عَبْدُ اللَّهِ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَلَى الْجُنْدِ، وَأَخَذَ خُمُسَ الْخُمُسِ، وَبَعَثَ بِأَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ إِلَى عُثْمَانَ مَعَ ابْنِ وَثِيمَةَ النَّصْرِيِّ، وَضَرَبَ فُسْطَاطًا فِي مَوْضِعِ الْقَيْرَوَانِ، وَوَفَدَ وَفْدًا، فَشَكَوْا عَبْدَ اللَّهِ فِيمَا أَخَذَ، فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا نَفَلْتُهُ- وَكَذَلِكَ كَانَ يَصْنَعُ- وَقَدْ أَمَرْتُ لَهُ بِذَلِكَ، وَذَاكَ إِلَيْكُمُ الآنَ، فَإِنْ رَضِيتُمْ فَقَدْ جَازَ، وَإِنْ سَخِطْتُمْ فَهُوَ رَدٌّ قَالُوا: فَإِنَّا نَسْخَطُهُ، قَالَ: فَهُوَ رَدٌّ، وَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بِرَدِّ ذَلِكَ وَاسْتِصْلاحِهِمْ، قَالُوا: فَاعْزِلْهُ عَنَّا، فَإِنَّا لا نُرِيدُ أَنْ يَتْأَمَّرَ عَلَيْنَا، وَقَدْ وَقَعَ مَا وَقَعَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنِ اسْتَخْلِفْ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ رَجُلا مِمَّنْ تَرْضَى وَيَرْضَوْنَ وَاقْسِمِ الْخُمُسَ الَّذِي كُنْتُ نَفَلْتُكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ سَخِطُوا النَّفْلَ. فَفَعَلَ، وَرَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ إِلَى مِصْرَ وَقَدْ فَتَحَ إِفْرِيقِيَّةَ، وَقَتَلَ الأجل. فَمَا زَالُوا مِنْ أَسْمَعِ أَهْلِ الْبُلْدَانِ وَأَطْوَعِهِمْ إِلَى زَمَانِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، أَحْسَنَ أُمَّةً سَلامًا وَطَاعَةً، حَتَّى دَبَّ اليهم أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَلَمَّا دَبَّ إِلَيْهِمْ دُعَاةُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَاسْتَثَارُوهُمْ، شَقُّوا عَصَاهُمْ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمْ إِلَى الْيَوْمِ وَكَانَ مِنْ سَبَبِ تَفْرِيقِهِمْ أَنَّهُمْ رَدُّوا عَلَى أَهْلِ الأَهْوَاءِ، فَقَالُوا: إِنَّا لا نُخَالِفُ الأَئِمَّةَ بِمَا تَجْنِي الْعُمَّالُ، وَلا نَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّمَا يَعْمَلُ هَؤُلاءِ بِأَمْرِ أُولَئِكَ، فَقَالُوا لَهُمْ: لا نَقْبَلُ ذَلِكَ حَتَّى نُبَوِّرَهُمْ، فَخَرَجَ مَيْسَرَةُ فِي بِضْعَةَ عَشَرَ إِنْسَانًا حَتَّى يَقْدُمَ عَلَى هِشَامٍ، فَطَلَبُوا الإِذْنَ، فَصَعُبَ عَلَيْهِمْ، فَأَتَوُا الأَبْرَشَ، فَقَالُوا: أَبْلِغْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ أَمِيرَنَا يَغْزُو بِنَا وَبِجُنْدِهِ، فَإِذَا أَصَابَ نَفَلَهُمْ دُونَنَا وَقَالَ: هُمْ أَحَقُّ بِهِ، فَقُلْنَا: هُوَ أَخْلَصُ لِجِهَادِنَا، لأَنَّا لا نَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا، إِنْ كَانَ لَنَا فَهُمْ مِنْهُ فِي حِلٍّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَنَا لَمْ نُرِدْهُ وَقَالُوا: إِذَا حَاصَرْنَا مَدِينَةً قَالَ: تَقَدَّمُوا وَأَخَّرَ جُنْدَهُ، فَقُلْنَا: تَقَدَّمُوا، فَإِنَّهُ ازْدِيَادٌ فِي الْجِهَادِ، وَمِثْلُكُمْ كَفَى إِخْوَانَهُ، فَوَقَيْنَاهُمْ بِأَنْفُسِنَا وَكَفَيْنَاهُمْ ثُمَّ إِنَّهُمْ عَمِدُوا إِلَى

مَاشِيَتِنَا، فَجَعَلُوا يَبْقُرُونَهَا عَلَى السِّخَالِ يَطْلُبُونَ الْفِرَاءَ الْبِيضَ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَقْتُلُونَ أَلْفَ شَاةٍ فِي جِلْدٍ، فَقُلْنَا: مَا أَيْسَرَ هَذَا لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ! فَاحْتَمَلْنَا ذَلِكَ، وَخَلَّيْنَاهُمْ وَذَلِكَ ثُمَّ إِنَّهُمْ سَامُونَا أَنْ يَأْخُذُوا كُلَّ جَمِيلَةٍ مِنْ بَنَاتِنَا فَقُلْنَا: لَمْ نَجِدْ هَذَا فِي كِتَابٍ وَلا سُنَّةٍ، وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ، فَأَحْبَبْنَا أَنْ نَعْلَمَ: أَعَنْ رَأْيِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ أَمْ لا؟ قَالَ: نَفْعَلُ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمْ وَنَفِدَتْ نَفَقَاتُهُمْ، كَتَبُوا أَسْمَاءَهُمْ فِي رِقَاعٍ، وَرَفَعُوهَا إِلَى الْوُزَرَاءِ، وَقَالُوا: هَذِهِ أَسْمَاؤُنَا وَأَنْسَابُنَا، فَإِنْ سَأَلَكُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَنَّا فَأَخْبِرُوهُ، ثُمَّ كَانَ وجههم إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ، فَخَرَجُوا عَلَى عَامِلِ هِشَامٍ فَقَتَلُوهُ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ، وَبَلَغَ هِشَامًا الْخَبَرُ، وَسَأَلَ عَنِ النَّفَرِ، فَرُفِعَتْ إِلَيْهِ أَسْمَاؤُهُمْ، فَإِذَا هُمُ الَّذِينَ جَاءَ الْخَبَرُ أَنَّهُمْ صَنَعُوا. مَا صَنَعُوا. وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قَالا: وَأَرْسَلَ عُثْمَانُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ نَافِعِ بْنِ الْحُصَيْنِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ نَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْقَيْسِ مِنْ فَوْرِهِمَا ذَلِكَ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ إِلَى الأَنْدَلُسِ، فَأَتَيَاهُمَا مِنْ قِبَلِ الْبَحْرِ. وَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَنِ انْتُدِبَ مِنْ أَهْلِ الأَنْدَلُسِ أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ إِنَّمَا تُفْتَحُ مِنْ قِبَلِ الأَنْدَلُسِ، وَإِنَّكُمْ إِنِ افْتَتَحْتُمُوهَا كُنْتُمْ شُرَكَاءَ مَنْ يَفْتَحُهَا فِي الأَجْرِ، وَالسَّلامُ وَقَالَ كَعْبُ الأَحْبَارِ: يَعْبُرُ الْبَحْرَ إِلَى الأَنْدَلُسِ أَقْوَامٌ يَفْتَتِحُونَهَا، يُعْرَفُونَ بِنُورِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قَالا: فخرجوا ومعهم البربر، فأتوها من برها، ففتحها اللَّه عَلَى الْمُسْلِمِينَ وإفرنجة، وازدادوا فِي سلطان الْمُسْلِمِينَ مثل إفريقية، فلما عزل عُثْمَان عبد الله ابن سَعْدِ بْنِ أبي سرح صرف إِلَى عمله عَبْدَ اللَّهِ بْنَ نَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَكَانَ عَلَيْهَا، ورجع عَبْد اللَّهِ بن سَعْد إِلَى مصر، ولم يزل أمر الأندلس كأمر إفريقية حَتَّى كَانَ زمان هِشَام، فمنع البربر أرضهم، وبقي من فِي الأندلس عَلَى حاله

وأما الْوَاقِدِيّ فإنه ذكر أن ابن أبي سبرة حدثه عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أبي حرملة، عن كُرَيْب، قَالَ: لما نزع عُثْمَان عمرو بن الْعَاصِ عن مصر غضب عمرو غضبا شديدا، وحقد عَلَى عُثْمَانَ، فوجه عَبْد اللَّهِ بن سَعْد، وأمره أن يمضي إِلَى إفريقية، وندب عُثْمَان الناس إِلَى إفريقية، فخرج إِلَيْهَا عشرة آلاف من قريش والأنصار والمهاجرين. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيُّ، عَنِ ابْنِ كَعْبٍ، قَالَ: لَمَّا وَجَّهَ عُثْمَانُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدٍ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ، كَانَ الَّذِي صَالَحَهُمْ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ إِفْرِيقِيَّةَ جِرْجِيرُ أَلْفَيْ أَلْفِ دينار وخمسمائة أَلْفِ دِينَارٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَبَعَثَ مَلِكُ الروم رسولا، وامره ان يأخذ منهم ثلاثمائة قِنْطَارٍ، كَمَا أَخَذَ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، فَجَمَعَ رُؤَسَاءُ إِفْرِيقِيَّةَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمَلِكَ قد أمرني ان آخذ منكم ثلاثمائة قنطار ذهب مِثْلَ مَا أَخَذَ مِنْكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، فَقَالُوا: مَا عِنْدَنَا مَالٌ نُعْطِيهِ، فَأَمَّا مَا كَانَ بِأَيْدِينَا فَقَدِ افْتَدَيْنَا بِهِ أَنْفُسَنَا، وَأَمَّا الْمَلِكَ فَإِنَّهُ سَيِّدُنَا فَلْيَأْخُذْ مَا كَانَ لَهُ عِنْدَنَا مِنْ جَائِزَةٍ كَمَا كُنَّا نُعْطِيهِ كُلَّ سَنَةٍ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَمَرَ بِحَبْسِهِمْ، فَبَعَثُوا إِلَى قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِهِمْ، فَقَدِمُوا عَلَيْهِ، فَكَسَرُوا السِّجْنَ فَخَرَجُوا، وَكَانَ الَّذِي صَالَحَهُمْ عَلَيْهِ عبد الله بن سعد ثلاثمائة قنطار ذهب، فامر بها عُثْمَانُ لآلِ الْحَكَمِ قُلْتُ: أَوْ لِمَرْوَانَ؟ قَالَ: لا ادرى. قال ابن عمر: وَحَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، قَالَ: نَزَعَ عُثْمَانُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عَنْ خَرَاجِ مِصْرَ، وَاسْتَعْمَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدٍ عَلَى الْخَرَاجِ، فَتَبَاغَيَا، فَكَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ إِلَى عُثْمَانَ يَقُولُ: إِنَّ عَمْرًا كَسَرَ الْخَرَاجَ وَكَتَبَ عَمْرٌو: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَسَرَ عَلَيَّ حِيلَةَ الْحَرْبِ، فَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى عَمْرٍو: انْصَرِفْ، وَوَلَّى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدٍ الْخَرَاجَ وَالْجُنْدَ، فَقَدِمَ عَمْرٌو مُغْضَبًا، فَدَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ يَمَانِيَّةٌ مَحْشُوَّةً قُطْنًا، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: مَا حَشْوُ جُبَّتِكَ؟ قَالَ: عَمْرٌو، قَالَ عُثْمَانُ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ حَشْوَهَا عَمْرٌو وَلَمْ أُرِدْ هَذَا، إِنَّمَا سَأَلْتُ: أَقُطْنٌ هُوَ أَمْ غَيْرُهُ؟ قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ،

سنه ثمان وعشرين

قَالَ: بَعَثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ إِلَى عُثْمَانَ بِمَالٍ مِنْ مِصْرَ، قَدْ حُشِدَ فِيهِ، فَدَخَلَ عَمْرٌو عَلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ عُثْمَانُ: يَا عَمْرُو، هَلْ تَعْلَمْ أَنَّ تِلْكَ اللِّقَاحُ دُرَّتْ بَعْدَكَ! فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّ فِصَالَهَا هَلَكَتْ. وَحَجَّ بالناس في هذه السنة عثمان بن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ فَتْحُ إِصْطَخَرَ الثَّانِي عَلَى يَدِ عثمان ابن أَبِي الْعَاصِ. قَالَ: وَفِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ قِنَّسْرِينَ ثمان وعشرين ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث المشهورة فمما ذكر أنه كَانَ فِيهَا فتح قبرس، عَلَى يد مُعَاوِيَة، غزاها بأمر عُثْمَان إِيَّاهُ، وَذَلِكَ فِي قول الْوَاقِدِيّ. فأما أَبُو معشر فإنه قَالَ: كَانَتْ قبرس سنة ثلاث وثلاثين، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بن ثَابِت، عمن حدثه، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عنه. وَقَالَ بعضهم: كَانَتْ قبرس سنة سبع وعشرين، غزاها- فِيمَا ذكر- جماعة من أَصْحَاب رسول الله ص، فِيهِمْ أَبُو ذر وعبادة بن الصامت، وَمَعَهُ زوجته أم حرام والمقداد وأبو الدرداء، وشداد بن أوس. ذكر الخبر عن غزوة مُعَاوِيَة إياها: كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ النُّعْمَانِ النَّصْرِيِّ وَأَبِي الْمُجَالِدِ جَرَادِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ وَأَبِي حَارِثَةَ وَأَبِي عُثْمَانَ، عَنْ رَجَاءٍ وَعُبَادَةَ وَخَالِدٍ: قَالُوا: أَلَحَّ مُعَاوِيَةُ فِي زَمَانِهِ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي غَزْوِ الْبَحْرِ وَقُرْبُ الرُّومِ مِنْ حِمْصَ، وَقَالَ: إِنَّ قَرْيَةً مِنْ قُرَى حِمْصَ لَيَسْمَعُ أَهْلُهَا نُبَاحَ كِلابِهِمْ وَصِيَاحَ دَجَاجِهِمْ، حَتَّى كَادَ ذَلِكَ يَأْخُذُ بِقَلْبِ عُمَرَ، فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: صِفْ لِي الْبَحْرَ وَرَاكِبَهُ، فَإِنَّ نَفْسِي تُنَازِعُنِي إِلَيْهِ وَقَالَ عُبَادَةُ وَخَالِدٌ: لَمَّا أَخْبَرَهُ مَا لِلْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ وَمَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَمْرٌو: إِنِّي رَأَيْتُ خَلْقًا كَبِيرًا يَرْكَبُهُ خَلْقٌ صَغِيرٌ، إِنْ رَكَنَ خَرَقَ الْقُلُوبَ، وَإِنْ تَحَرَّكَ أَزَاغَ الْعُقُولَ، يَزْدَادُ فِيهِ الْيَقِينُ قِلَّةً، وَالشَّكُّ كَثْرَةً، هُمْ فِيهِ كَدُودٍ عَلَى عُودٍ، إِنْ مَالَ غَرِقَ، وَإِنْ نجا برق

فَلَمَّا قَرَأَهُ عُمَرُ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ: لا وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ لا أَحْمِلُ فِيهِ مُسْلِمًا أَبَدًا. وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ الأَزْدِيِّ، قَالَ: كَانَ مُعَاوِيَةُ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ كِتَابًا فِي غَزْوِ الْبَحْرِ يُرَغِّبُهُ فِيهِ، ويَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ بِالشَّامِ قَرْيَةً يَسْمَعُ أَهْلُهَا نُبَاحَ كِلابِ الرُّومِ وَصِيَاحَ دُيُوكِهِمْ، وَهُمْ تِلْقَاءُ سَاحِلٍ مِنْ سَوَاحِلِ حِمْصَ، فَاتَّهَمَهُ عُمَرُ لأَنَّهُ الْمُشِيرُ، فَكَتَبَ إِلَى عَمْرٍو: أَنْ صِفْ لِي الْبَحْرَ، ثُمَّ اكْتُبْ إِلَيَّ بِخَبَرِهِ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي رَأَيْتُ خَلْقًا عَظِيمًا، يَرْكَبُهُ خَلْقٌ صَغِيرٌ، لَيْسَ إِلا السَّمَاءُ وَالْمَاءُ، وَإِنَّمَا هُمْ كَدُودٍ عَلَى عُودٍ، إِنْ مَالَ غَرِقَ، وَإِنْ نَجَا بَرَقَ. وَكَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أَبِي عُثْمَانَ وَأَبِي حَارِثَةَ، عَنْ عُبَادَةَ، عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ وَالرَّبِيعِ وَأَبِي الْمُجَالِدِ، قَالُوا: كَتَبَ عُمَرُ إِلَى مُعَاوِيَةَ: إِنَّا سَمِعْنَا أَنَّ بَحْرَ الشَّامِ يُشْرِفُ عَلَى أَطْوَلِ شَيْءٍ عَلَى الأَرْضِ، يَسْتَأْذِنُ اللَّهَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي أَنْ يَفِيضَ عَلَى الأَرْضِ فَيُغْرِقَهَا، فَكَيْفَ أَحْمِلُ الْجُنُودَ فِي هَذَا الْبَحْرِ الْكَافِرِ الْمُسْتَصْعَبِ، وَتَاللَّهِ لَمُسْلِمٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا حَوَتِ الرُّومُ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَعْرِضَ لِي، وَقَدْ تَقَدَّمْتُ إِلَيْكَ، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَقِيَ الْعَلاءُ مِنِّي، وَلَمْ أَتَقَدَّمْ إِلَيْهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ. وَقَالُوا: تَرَكَ مَلِكُ الرُّومِ الْغَزْوَ، وَكَاتَبَ عُمَرَ وَقَارَبَهُ، وَسَأَلَهُ عَنْ كَلِمَةٍ يَجْتَمِعُ فِيهَا الْعِلْمُ كُلُّهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُمْ مَا تَكْرَهُ لَهَا، تَجْتَمِعُ لَكَ الْحِكْمَةُ كُلُّهَا وَاعْتَبِرِ النَّاسَ بِمَا يَلِيكَ، تَجْتَمِعْ لَكَ الْمَعْرِفَةُ كُلُّهَا. وَكَتَبَ إِلَيْهِ مَلِكُ الرُّومِ- وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِقَارُورَةٍ: أَنِ امْلأَ لِي هَذِهِ الْقَارُورَةَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَمَلأَهَا مَاءً، وَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّ هَذَا كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا

وَكَتَبَ إِلَيْهِ مَلِكُ الرُّومِ: مَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ؟ فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَرْبَعُ أَصَابِعٍ الْحَقُّ، فِيمَا يُرَى عِيَانًا، وَالْبَاطِلُ كَثِيرًا يُسْتَمَعُ بِهِ فِيمَا لَمْ يُعَايَنْ. وَكَتَبَ إِلَيْهِ مَلِكُ الرُّومِ يَسْأَلُهُ عَمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَبَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فكتب اليه: مسيره خمسمائة عَامٍ لِلْمُسَافِرِ، لَوْ كَانَ طَرِيقًا مَبْسُوطًا. قَالَ: وبَعَثَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى مَلِكَةِ الرُّومِ بِطِيبٍ وَمَشَارِبَ وَأَحْفَاشٍ مِنْ أَحْفَاشِ النِّسَاءِ، وَدَسَّتْهُ إِلَى الْبَرِيدِ، فَأَبْلَغَهُ لَهَا، وَأَخَذَ مِنْهُ وَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِرَقْل، وَجَمَعَتْ نِسَاءَهَا، وَقَالَتْ: هَذِهِ هَدِيَّةُ امْرَأَةِ مَلِكِ الْعَرَبِ، وَبِنْتِ نَبِيِّهِمْ، وَكَاتَبَتْهَا وَكَافَأَتْهَا، وَأَهْدَتْ لَهَا، وَفِيمَا أَهْدَتْ لَهَا عِقْدٌ فَاخِرٌ فَلَمَّا انْتَهَى بِهِ الْبَرِيدُ إِلَيْهِ أَمَرَهُ بِإِمْسَاكِهِ، وَدَعَا: الصَّلاةُ جَامِعَةٌ، فَاجْتَمَعُوا، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ: إِنَّهُ لا خَيْرَ فِي أَمْرٍ أُبْرِمَ عَنْ غَيْرِ شُورَى مِنْ أُمُورِي، قُولُوا فِي هَدِيَّةٍ أَهْدَتْهَا أُمُّ كُلْثُومٍ لامْرَأَةِ مَلِكِ الرُّومِ، فَأَهْدَتْ لَهَا امْرَأَةُ مَلِكِ الرُّومِ، فَقَالَ قَائِلُونَ: هُوَ لَهَا بِالَّذِي لَهَا، وَلَيْسَتِ امْرَأَةُ الْمَلِكِ بِذِمَّةٍ فَتُصَانِعُ بِهِ، وَلا تَحْتَ يَدِكَ فَتَتَّقِيكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: قَدْ كُنَّا نُهْدِي الثِّيَابَ لِنَسْتَثِيبَ، وَنَبْعَثَ بِهَا لِتُبَاعَ، وَلِنُصِيبَ ثَمَنًا فَقَالَ: وَلَكِنَّ الرَّسُولَ رَسُولُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْبَرِيدَ بَرِيدُهُمْ، وَالْمُسْلِمُونَ عَظَّمُوهَا فِي صَدْرِهَا فَأَمَرَ بِرَدِّهَا إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَرُدَّ عَلَيْهَا بِقَدْرِ نَفَقَتِهَا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي حَارِثَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ غَزَا فِي الْبَحْرِ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ زَمَانَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَقَدْ كَانَ اسْتَأْذَنَ عُمَرَ فِيهِ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ، فَلَمَّا وَلِيَ عُثْمَانُ لَمْ يَزَلْ بِهِ مُعَاوِيَةُ، حَتَّى عَزَمَ عُثْمَانُ عَلَى ذَلِكَ بِآخِرَةٍ، وَقَالَ: لا تَنْتَخِبِ النَّاسَ، وَلا تَقْرَعْ بَيْنَهُمْ، خَيِّرْهُمْ، فَمَنِ اخْتَارَ الْغَزْوَ طَائِعًا فَاحْمِلْهُ وَأَعِنْهُ، فَفَعَلَ وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْبَحْرِ عَبْدَ اللَّهِ بن قيس الجاسي حَلِيفَ بَنِي فَزَارَةَ، فَغَزَا خَمْسِينَ غَزَاةً مِنْ بَيْنِ شَاتِيَةٍ وَصَائِفَةٍ فِي الْبَحْرِ، وَلَمْ يَغْرَقْ فِيهِ أَحَدٌ وَلَمْ يَنْكَبْ،

وَكَانَ يَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَهُ الْعَافِيَةَ فِي جُنْدِهِ، وَأَلا يَبْتَلِيَهُ بِمُصَابِ أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَفَعَلَ، حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُ وَحْدَهُ، خَرَجَ فِي قَارِبِ طَلِيعَةٍ، فَانْتَهَى إِلَى الْمَرْقَى مِنْ أَرْضِ الرُّومِ، وَعَلَيْهِ سُؤَّالٌ يَعْتَرُّونَ بِذَلِكَ الْمَكَانِ، فَتَصَدَّقْ عَلَيْهِمْ، فَرَجَعَتِ امْرَأَةٌ مِنَ السُّؤَّالِ إِلَى قَرْيَتِهَا، فَقَالَتْ لِلرِّجَالِ: هَلْ لَكُمْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ؟ قَالُوا: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَتْ: فِي الْمَرْقَى، قَالُوا: أَيْ عَدُوَّةَ اللَّهِ! وَمِنْ أَيْنَ تَعْرِفِينَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ؟ فَوَبَّخَتْهُمْ، وَقَالَتْ: أَنْتُمْ أَعْجَزُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَبْدَ اللَّهِ عَلَى أَحَدٍ فَثَارُوا إِلَيْهِ، فَهَجَمُوا عَلَيْهِ، فَقَاتَلُوهُ وَقَاتَلَهُمْ، فَأُصِيبَ وَحْدَهُ، وَأَفْلَتَ الْمَلاحُ حَتَّى أَتَى أَصْحَابَهُ، فَجَاءُوا حَتَّى أَرِقُوا، وَالْخَلِيفَةُ مِنْهُمْ سُفْيَانُ بْنُ عَوْفٍ الأَزْدِيُّ، فَخَرَجَ فَقَاتَلَهُمْ، فَضَجَرَ وَجَعَلَ يَعْبَثُ بِأَصْحَابِهِ وَيَشْتُمُهُمْ، فَقَالَتْ جَارِيَةُ عبد الله: وا عبد اللَّهِ، مَا هَكَذَا كَانَ يَقُول حِينَ يُقَاتِلُ! فَقَالَ سُفْيَانُ: وَكَيْفَ كَانَ يَقُولُ؟ قَالَتِ: الْغَمَرَاتُ ثُمَّ يَنْجِلِينَا. فَتَرَكَ مَا كَانَ يَقُولُ، وَلَزِمَ: الْغَمَرَات ثُمَّ يَنْجَلِينَا وَأُصِيبَ فِي الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ، وَذَلِكَ آخِرُ زَمَانِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الجاسي، وَقِيلَ لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ بَعْدُ: بِأَيِّ شَيْءٍ عَرَفْتِيهِ؟ قَالَتْ: بِصَدَقَتِهِ، أَعْطَى كَمَا يُعْطِي الْمُلُوكُ، وَلَمْ يَقْبِضْ قَبْضَ التُّجَّارِ. وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عُثْمَانَ، قَالا: قيل لتلك المرأة الَّتِي استثارت الروم عَلَى عَبْد اللَّهِ بن قيس: كيف عرفته؟ قالت: كَانَ كالتاجر، فلما سألته أعطاني كالملك، فعرفت أنه عَبْد اللَّهِ بن قيس. وكتب إِلَى مُعَاوِيَةَ والعمال: أَمَّا بَعْدُ، فقوموا عَلَى مَا فارقتم عَلَيْهِ عمر، وَلا تبدلوا، ومهما أشكل عَلَيْكُمْ، فردوه إلينا نجمع عَلَيْهِ الأمة، ثُمَّ نرده

عَلَيْكُمْ، وإياكم أن تغيروا، فإني لست قابلا مِنْكُمْ إلا مَا كَانَ عمر يقبل. وَقَدْ كَانَتْ تنتقض فِيمَا بين صلح عمر وولاية عُثْمَان تِلْكَ الناحية فيبعث إِلَيْهَا الرجل فيفتحها اللَّه عَلَى يديه، فيحسب لَهُ ذَلِكَ، وأما الفتوح فلأول من وليها. قَالَ أَبُو جَعْفَر: ولما غزا مُعَاوِيَة قبرس، صالح أهلها- فِيمَا حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْن سهل، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيد بن مسلم، قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَان بن أبي كريمة والليث بن سَعْدٍ وغيرهما من مشيخة ساحل دمشق، أن صلح قبرس وقع عَلَى جزية سبعة آلاف دينار يؤدونها إِلَى الْمُسْلِمِينَ فِي كل سنة، ويؤدون إِلَى الروم مثلها، ليس لِلْمُسْلِمِينَ أن يحولوا بينهم وبين ذَلِكَ، عَلَى أَلا يغزوهم وَلا يقاتلوا من وراءهم ممن أرادهم من خلفهم، وعليهم أن يؤذنوا الْمُسْلِمِينَ بمسير عدوهم من الروم إِلَيْهِم، وعلى أن يبطرق إمام الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِم مِنْهُمْ. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: غزا مُعَاوِيَة فِي سنة ثمان وعشرين قبرس، وغزاها أهل مصر وعليهم عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ أبي سرح، حَتَّى لقوا مُعَاوِيَة، فكان عَلَى الناس. قَالَ: وَحَدَّثَنِي ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عن جبير بن نفير، قَالَ: لما سبيناهم نظرت إِلَى أبي الدرداء يبكي، فقلت لَهُ: مَا يبكيك فِي يوم أعز اللَّه فِيهِ الإِسْلام وأهله، وأذل فِيهِ الكفر وأهله؟ قَالَ: فضرب بيده عَلَى منكبي، وَقَالَ: ثكلتك أمك يَا جبير! مَا أهون الخلق عَلَى اللَّه إذا تركوا أمره! بينا هي أمة ظاهرة قاهرة لِلنَّاسِ لَهُمُ الملك، إذ تركوا أمر اللَّه، فصاروا إِلَى مَا ترى، فسلط عَلَيْهِم السباء، وإذا سلط السباء عَلَى قوم فليس لِلَّهِ فِيهِمْ حاجة. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي أَبُو سَعِيد، أن مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ صالح

أهل قبرس فِي ولاية عُثْمَان، وَهُوَ أول من غزا الروم، وفي العهد الَّذِي بينه وبينهم أَلا يتزوجوا فِي عدونا من الروم إلا بإذننا. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وفي هَذِهِ السنة غزا حبيب بن مسلمة سورية من أرض الروم. وفيها تزوج عُثْمَان نائلة ابنة الْفُرَافِصَة الكلبية وكانت نصرانية، فتحنثت قبل أن يدخل بِهَا. قال: وفيها بنى داره بِالْمَدِينَةِ، الزوراء، وفرغ منها. قَالَ: وفيها كَانَ فتح فارس الأول، وإصطخر الآخر وأميرها هشام ابن عَامِر. قَالَ: وحج بِالنَّاسِ عُثْمَان فِي هَذِهِ السنه

سنه تسع وعشرين

سنة تسع وعشرين ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث المشهورة ففيها عزل عُثْمَان أبا مُوسَى الأَشْعَرِيّ عن الْبَصْرَةِ، وَكَانَ عامله عَلَيْهَا ست سنين، وولاها عَبْد اللَّهِ بن عَامِر بن كريز، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابن خمس وعشرين سنة، فقدمها وَقَدْ قيل: إن أبا مُوسَى إنما عمل لِعُثْمَانَ عَلَى الْبَصْرَة ثلاث سنين. وذكر عَلِيّ بن مُحَمَّدٍ أن محاربا أخبره، عن عوف الأعرابي، قَالَ: خرج غيلان بن خرشة الضبي إِلَى عُثْمَانَ بن عَفَّانَ، فَقَالَ: أما لكم صغير فتستشبوه فتولوه الْبَصْرَة! حَتَّى متى يلي هَذَا الشيخ الْبَصْرَة! يعني أبا مُوسَى، وَكَانَ وليها بعد موت عمر ست سنين. قَالَ: فعزله عُثْمَان عنها، وبعث عَبْد اللَّهِ بن عَامِر بن كريز بن رَبِيعَة ابن حبيب بن عبد شمس، وأمه دجاجة ابنة أسماء السلمي، وَهُوَ ابن خال عُثْمَان بن عَفَّانَ قَالَ مسلمة: فقدم الْبَصْرَة، وَهُوَ ابن خمس وعشرين سنة، سنة تسع وعشرين . ذكر الخبر عن سبب عزل عُثْمَان أبا مُوسَى عن الْبَصْرَة كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، يَذْكُرُ أَنَّ شُعَيْبًا حَدَّثَهُ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، قَالا: لَمَّا وَلِيَ عُثْمَانُ أَقَرَّ أَبَا مُوسَى عَلَى الْبَصْرَةِ ثَلاثَ سِنِينَ، وَعَزَلَهُ فِي الرَّابِعَةِ، وَأَمَّرَ عَلَى خُرَاسَانَ عُمَيْرَ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ سَعْدٍ، وَعَلَى سِجِسْتَانَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَيْرٍ الليثى- وهو من كنانه- فَأَثْخَنَ فِيهَا إِلَى كَابُلَ، وَأَثْخَنَ عُمَيْرٌ فِي خُرَاسَانَ حَتَّى بَلَغَ فَرْغَانَةَ، فَلَمْ يَدَعْ دُونَهَا كُورَةً إِلا أَصْلَحَهَا، وَبَعَثَ إِلَى مُكْرَانَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْمَرٍ التَّيْمِيَّ، فَأَثْخَنَ فِيهَا حَتَّى بلغ النهر

وَبَعَثَ عَلَى كَرْمَانَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ غُبَيْسٍ، وَبَعَثَ إِلَى فَارِسٍ وَالأَهْوَازِ نَفَرًا، وَضَمَّ سَوَادَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْحُصَيْنِ بْنِ أَبِي الْحُرِّ، ثُمَّ عَزَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَيْرٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ فَأَقَرَّهُ عَلَيْهَا سَنَةً ثُمَّ عَزَلَهُ، وَاسْتَعْمَلَ عَاصِمَ بْنَ عَمْرٍو، وَعَزَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ غُبَيْسٍ، وَأَعَادَ عَدِيَّ بْنَ سُهَيْلِ بْنِ عَدِيٍّ. وَلَمَّا كَانَ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ كَفَرَ أَهْلُ إِيذَجَ وَالأَكْرَادِ، فَنَادَى أَبُو مُوسَى فِي النَّاسِ، وَحَضَّهُمْ وَنَدَبَهُمْ، وَذَكَرَ مِنْ فَضْلِ الْجِهَادِ فِي الرَّجْلَةِ، حَتَّى حَمَلَ نَفَرٌ عَلَى دَوَابِّهِمْ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا رِجَالا وَقَالَ آخَرُونَ: لا وَاللَّهِ لا نَعْجَلُ بِشَيْءٍ حَتَّى نَنْظُرَ مَا صَنِيعُهُ؟ فَإِنْ أَشْبَهَ قَوْلَهُ فِعْلُهُ فَعَلْنَا كَمَا فَعَلَ أَصْحَابُنَا. فَلَمَّا كَانَ يَوْمٌ خَرَجَ أَخْرَجَ ثِقَلَهُ مِنْ قَصْرِهِ عَلَى أَرْبَعِينَ بَغْلا، فَتَعَلَّقُوا بِعِنَانِهِ، وَقَالُوا: احْمِلْنَا عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الْفُضُولِ، وَارْغَبْ مِنَ الرَّجْلَةِ فِيمَا رَغَّبْتَنَا فِيهِ، فَقَنَعَ الْقَوْمَ حَتَّى تَرَكُوا دَابَّتَهُ وَمَضَى، فَأَتَوْا عُثْمَانَ، فَاسْتَعْفُوهُ مِنْهُ، وَقَالُوا: مَا كُلُّ مَا نَعْلَمُ نُحِبُّ أَنْ نَقُولَهُ، فَأَبْدِلْنَا بِهِ، فَقَالَ: مَنْ تُحِبُّونَ؟ فَقَالَ غَيْلانُ بْنُ خَرَشَةَ: فِي كُلِّ أَحَدٍ عِوَضٌ مِنْ هَذَا الْعَبْدِ الَّذِي قَدْ أَكَلَ أَرْضَنَا، وَأَحْيَا أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ فِينَا، فَلا نَنْفَكُّ مِنْ أَشْعَرِيٍّ كَانَ يُعَظِّمَ مُلْكَهُ عَنِ الأَشْعَرِينَ، وَيَسْتَصْغِرُ مَلِكَ الْبَصْرَةِ، وَإِذَا أَمَّرْتَ عَلَيْنَا صَغِيرًا كَانَ فِيهِ عِوَضٌ مِنْهُ، أَوْ مُهْتَرًّا كَانَ فِيهِ عِوَضٌ مِنْهُ، وَمَنْ بَيْنَ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ خَيْرٌ مِنْهُ. فَدَعَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ وَأَمَّرَهُ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَصَرَفَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْمَرٍ إِلَى فَارِسٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى عَمَلِهِ عُمَيْرَ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ سَعْدٍ فَاسْتَعْمَلَ عَلَى خُرَاسَانَ فِي سَنَةَ أَرْبَعٍ أَمِينَ بْنَ أَحْمَرَ الْيَشْكُرِيَّ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى سِجِسْتَانَ فِي سَنَةَ أَرْبَعٍ عِمْرَانَ بْنَ الْفَصِيلِ الْبُرْجُمُيَّ، وَعَلَى كَرْمَانَ عَاصِمَ بْنَ عَمْرٍو، فَمَاتَ بِهَا. فَجَاشَتْ فَارِسٌ، وَانْتَقَضَتْ بِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ، فَاجْتَمَعُوا لَهُ بِإِصْطَخَرَ، فَالْتَقَوْا عَلَى بَابِ إِصْطَخَرَ، فَقُتِلَ عُبَيْدُ اللَّهِ وَهُزِمَ جُنْدُهُ، وَبَلَغَ الخبر عبد الله ابن عَامِرٍ، فَاسْتَنْفَرَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ، وَخَرَجَ مَعَهُ النَّاسُ، وعلى مقدمته عثمان ابن أَبِي الْعَاصِ، فَالْتَقَوْا هُمْ وَهُمْ بِإِصْطَخَرَ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ لَمْ يَزَالُوا

مِنْهَا فِي ذُلٍّ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى عُثْمَانَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِإِمْرَةِ هِرَمِ بْنِ حَسَّانٍ الْيَشْكُرِيِّ، وَهَرَمِ بْنِ حَيَّانَ الْعَبْدِيِّ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، والخريت بن راشد من بنى سامه، وَالْمُنْجَابِ بْنِ رَاشِدٍ، وَالتَّرْجُمَانِ الْهُجَيْمِيِّ، عَلَى كُوَرِ فَارِسٍ، وَفَرَّقَ خُرَاسَانَ بَيْنَ نَفَرٍ سِتَّةٍ: الأَحْنَفُ عَلَى الْمُرْوَيْنِ، وَحَبِيبُ بْنُ قُرَّةَ الْيَرْبُوعِيُّ عَلَى بَلْخَ- وَكَانَتْ مِمَّا افْتَتَحَ أَهْلُ الْكُوفَةِ- وَخَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُهَيْرٍ عَلَى هَرَاةَ، وَأَمِينُ بْنُ أَحْمَدَ الْيَشْكُرِيُّ عَلَى طُوسٍ، وَقَيْسُ بن الهيثم السُّلَمِيُّ عَلَى نَيْسَابُورَ- وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَرَجَ- وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّهِ ثُمَّ إِنَّ عُثْمَانَ جَمَعَهَا لَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَمَاتَ وَقَيْسٌ عَلَى خُرَاسَانَ، وَاسْتَعْمَلَ أَمِينَ بْنَ أَحْمَرَ عَلَى سِجِسْتَانَ، ثُمَّ جَعَلَ عَلَيْهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ- وَهُوَ مِنْ آلِ حَبِيبِ ابن عَبْدِ شَمْسٍ، فَمَاتَ عُثْمَانُ وَهُوَ عَلَيْهَا، وَمَاتَ وعمران على كرمان- وعمير ابن عُثْمَانَ بْنِ سَعْدٍ عَلَى فَارِسٍ، وَابْنُ كُنْدِيرٍ الْقُشَيْرِيُّ عَلَى مُكْرَانَ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَشْيَاخِهِ، قَالَ: قَالَ غَيْلانُ بْنُ خَرَشَةَ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: أَمَا مِنْكُمْ خَسِيسٌ فَتَرْفَعُوهُ! أَمَا مِنْكُمْ فَقِيرٌ فَتُجِيرُوهُ! يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، حَتَّى مَتَى يَأْكُلُ هَذَا الشَّيْخُ الأَشْعَرِيُّ هَذِهِ الْبِلادَ! فَانْتَبَهَ لَهَا الشَّيْخُ، فَوَلاهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ، قال: ولى عثمان ابن عَامِرٍ الْبَصْرَةَ، فَقَالَ الْحَسَنُ: قَالَ أَبُو مُوسَى: يَأْتِيكُمْ غُلامٌ خَرَّاجٌ وَلاجٌ كَرِيمُ الْجَدَّاتِ وَالْخَالاتِ وَالْعَمَّاتِ، يُجْمَعُ لَهُ الْجُنْدَانِ قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: فَقَدِمَ ابْنُ عَامِرٍ، فَجُمِعَ لَهُ جُنْدُ أَبِي مُوسَى وَجُنْدُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ، وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ فِيمَنْ عَبَرَ مِنْ عُمَانَ وَالْبَحْرَيْنِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وفد قيس بن هيثم عَبْد اللَّهِ بن خازم إِلَى عَبْد اللَّهِ بن عَامِر فِي زمان عُثْمَان، وَكَانَ عَبْد اللَّهِ بن خازم عَلَى عَبْد اللَّهِ بن عَامِر كريما، فَقَالَ لَهُ: اكتب لي عَلَى خُرَاسَان عهدا إن خرج منها قيس بن الهيثم ففعل، فرجع إِلَى خُرَاسَان، فلما قتل عُثْمَان وبلغ الناس الخبر، وجاش العدو لذلك، قَالَ قيس: مَا ترى يَا عَبْد اللَّهِ؟ قَالَ: أَرَى أن تخلفني وَلا تخلف عن المضي حَتَّى تنظر فِيمَا تنظر ففعل

أخبار متفرقة

واستخلفه، فأخرج عَبْد اللَّهِ عهد خلافته، وثبت عَلَى خُرَاسَان إِلَى أن قام علي رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وكانت أم عَبْد اللَّهِ عجلى، فَقَالَ قيس: أنا كنت أحق أن أكون ابن عجلى من عَبْد اللَّهِ، وغضب مما صنع بِهِ الآخر. وفي هَذِهِ السنة افتتح عَبْد اللَّهِ بْن عَامِر فارس فِي قول الْوَاقِدِيّ وفي قول أبي معشر، حَدَّثَنِي بقول أبي معشر أَحْمَد بن ثَابِت، عمن حدثه، عن إسحاق ابن عِيسَى، عنه وأما قول سيف فقد ذكرناه قبل . [أخبار متفرقة] وفي هَذِهِ السنة- أعني سنة تسع وعشرين- زاد عثمان في مسجد رسول الله ص ووسعه، وابتدأ فِي بنائه فِي شهر ربيع الأول، وكانت القصة تحمل إِلَى عُثْمَانَ من بطن نخل، وبناه بالحجارة المنقوشة، وجعل عمده من حجارة فِيهَا رصاص، وسقفه ساجا، وجعل طوله ستين ومائة ذراع، وعرضه مائة وخمسين ذراعا، وجعل أبوابه عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ عَلَى عهد عمر، ستة أبواب. وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عُثْمَان، فضرب بمنى فسطاطا، فكان أول فسطاط ضربه عُثْمَان بمنى، وأتم الصَّلاة بِهَا وبعرفة. فَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ صَالِحِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْءَمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي عُثْمَانَ ظَاهِرًا أَنَّهُ صَلَّى بِالنَّاسِ بِمِنًى فِي وِلايَتِهِ رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ السَّنَةُ السَّادِسَةُ أَتَمَّهَا، فَعَابَ ذلك غير واحد من اصحاب النبي ص، وَتَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُكْثِرَ عَلَيْهِ، [حَتَّى جَاءَهُ عَلِيٌّ فِيمَنْ جَاءَهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا حَدَثَ أَمْرٌ وَلا قَدِمَ عَهْدٌ، ولقد عهدت نبيك ص يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرَ، وَأَنْتَ صَدْرًا مِنْ وِلايَتِكَ، فَمَا أَدْرِي مَا تَرْجِعُ إِلَيْهِ!] فَقَالَ: رَأْيٌ رَأَيْتُهُ

قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أَبِي سُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: صَلَّى عُثْمَانُ بِالنَّاسِ بمنى أَرْبَعًا، فَأَتَى آتٍ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي أَخِيكَ؟ قَدْ صَلَّى بِالنَّاسِ أَرْبَعًا! فَصَلَّى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِأَصْحَابِهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ لَهُ: أَلَمْ تُصَلِّ فِي هَذَا الْمَكَانِ مَعَ رسول الله ص رَكْعَتَيْنِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَفَلَمْ تُصَلِّ مَعَ أَبِي بَكْرٍ رَكْعَتَيْنِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَفَلَمْ تُصَلِّ مَعَ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَلَمْ تُصَلِّ صَدْرًا مِنْ خِلافَتِكَ رَكْعَتَيْنِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَاسْمَعْ مِنِّي يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، إِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ بَعْضَ مَنْ حَجَّ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ وَجُفَاةِ النَّاسِ قَدْ قَالُوا فِي عَامِنَا الْمَاضِي: إِنَّ الصَّلاةَ لِلْمُقِيمِ رَكْعَتَانِ، هَذَا إِمَامُكُمْ عُثْمَانُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَقَدِ اتَّخَذْتُ بِمَكَّةَ أَهْلا، فَرَأَيْتُ أَنْ أُصَلِّيَ أَرْبَعًا لِخَوْفِ مَا أَخَافُ عَلَى النَّاسِ، وَأُخْرَى قَدِ اتَّخَذْتُ بِهَا زَوْجَةً، وَلِي بِالطَّائِفِ مَالٌ، فَرُبَّمَا أَطْلَعْتُهُ فَأَقَمْتُ فيه بعد الصدر فقال عبد الرحمن ابن عَوْفٍ: مَا مِنْ هَذَا شَيْءٌ لَكَ فِيهِ عُذْرٌ، أَمَّا قَوْلُكَ: اتَّخَذْتَ أَهْلا، فَزَوْجَتُكَ بِالْمَدِينَةِ تَخْرُجُ بِهَا إِذَا شِئْتَ وَتَقْدَمُ بِهَا إِذَا شِئْتَ، إِنَّمَا تَسْكُنُ بِسُكْنَاكَ وَأَمَّا قَوْلُكَ: وَلِي مَالٌ بِالطَّائِفِ، فَإِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الطَّائِفِ مَسِيرَةَ ثَلاثِ لَيَالٍ وَأَنْتَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ وَأَمَّا قَوْلُكَ: يَرْجِعُ مَنْ حَجَّ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ وَغَيْرُهُمْ فَيَقُولُونَ: هَذَا إِمَامُكُمْ عُثْمَانُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ مُقِيمٌ، فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ص يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَالنَّاسُ يَوْمَئِذٍ الإِسْلامُ فِيهِمْ قَلِيلٌ، ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ عُمَرُ، فَضَرَبَ الإِسْلامُ بِجِرَانِهِ، فَصَلَّى بِهِمْ عُمَرُ حَتَّى مَاتَ رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ عُثْمَانُ: هَذَا رَأْيٌ رَأَيْتُهُ. قَالَ: فَخَرَجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَلَقِيَ ابْنَ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: أَبَا مُحَمَّدٍ، غَيَّرَ مَا يَعْلَمُ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَمَا أَصْنَعُ؟ قَالَ: اعْمَلْ أَنْتَ بِمَا تَعْلَمُ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْخِلافُ شَرٌّ، قَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعًا فَصَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي أَرْبَعًا، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: قَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعًا، فَصَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي رَكْعَتَيْنِ، وَأَمَّا الآنَ فَسَوْفَ يَكُونُ الَّذِي تَقُولُ- يعنى نصلى معه أربعا.

سنه ثلاثين

سنة ثَلاثِينَ ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث المشهورة فمما كَانَ فِيهَا غزوة سَعِيد بن الْعَاصِ طبرستان فِي قول أبي معشر، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن حدثه، عن إِسْحَاق بن عِيسَى، عنه. وفي قول الْوَاقِدِيّ وقول عَلِيّ بن مُحَمَّد المدائني: حَدَّثَنِي بِذَلِكَ عُمَر بن شَبَّةَ عنه. وأما سيف بن عمر، فانه ذكر ان اصبهبذها صالح سويد بن مقرن عَلَى أَلا يغزوها، عَلَى مال بذله لَهُ قَدْ مضى ذكري الخبر عن ذَلِكَ قبل فِي أيام عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وأما عَلِيّ بن مُحَمَّد المدائني، فإنه قَالَ- فِيمَا حَدَّثَنِي بِهِ عنه عمر: لم يغزها أحد حَتَّى قام عُثْمَان بن عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فغزاها سَعِيد بن الْعَاصِ سنة ثَلاثِينَ. ذكر الخبر عنه عن غزو سَعِيد بن الْعَاصِ طبرستان حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُجَاهِدٍ، عَنْ حَنَشِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: غَزَا سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ مِنَ الْكُوفَةِ سَنَةَ ثَلاثِينَ يُرِيدُ خُرَاسَانَ، وَمَعَهُ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله ص، وَمَعَهُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وعبد الله ابن عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ ابن عَامِرٍ مِنَ الْبَصْرَةِ يُرِيدُ خُرَاسَانَ، فَسَبَقَ سَعِيدًا وَنَزَلَ أَبْرَشَهْرَ، وَبَلَغَ نُزُولُهُ أَبْرَشَهْرَ سَعِيدًا فَنَزَلَ سَعِيدٌ قُومِسَ، وَهِيَ صُلْحٌ، صَالَحَهُمْ حُذَيْفَةُ بَعْدَ نَهَاوَنْدَ، فَأَتَى جُرْجَانَ، فَصَالَحُوهُ عَلَى مِائَتَيْ أَلْفٍ، ثُمَّ أَتَى طَمِيسَةَ، وَهِيَ كُلُّهَا مِنْ طَبَرِسْتَانِ جُرْجَانَ، وَهِيَ مَدِينَةٌ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، وَهِيَ فِي تُخُومِ جُرْجَانَ، فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا حَتَّى صَلَّى صَلاةَ الْخَوْفِ، فَقَالَ لِحُذَيْفَةَ: كَيْفَ صَلَّى رَسُولُ الله ص؟ فَأَخْبَرَهُ، فَصَلَّى بِهَا سَعِيدٌ صَلاةَ

الْخَوْفِ، وَهُمْ يَقْتَتِلُونَ، وَضَرَبَ يَوْمَئِذٍ سَعِيدٌ رَجُلا مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ، فَخَرَجَ السَّيْفُ مِنْ تَحْتِ مِرْفَقِهِ، وَحَاصَرَهُمْ، فَسَأَلُوا الأَمَانَ، فَأَعْطَاهُمْ عَلَى أَلا يَقْتُلَ مِنْهُمْ رَجُلا وَاحِدًا، فَفَتَحُوا الْحِصْنَ، فَقَتَلَهُمْ جَمِيعًا إِلا رَجُلا وَاحِدًا، وَحَوَى مَا كَانَ فِي الْحِصْنِ، فَأَصَابَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي نَهْدٍ سَفَطًا عَلَيْهِ قُفْلٌ، فَظَنَّ فِيهِ جَوْهَرًا، وَبَلَغَ سَعِيدًا، فَبَعَثَ إِلَى النَّهْدِيِّ، فَأَتَاهُ بِالسَّفَطِ، فَكَسَرُوا قُفْلَهُ، فَوَجَدُوا فِيهِ سَفَطًا، فَفَتَحُوهُ، فَإِذَا فِيهِ خِرْقَةٌ سَوْدَاءُ مُدْرَجَةٌ فَنَشَرُوهَا، فَوَجَدُوا خِرْقَةً حَمْرَاءَ فَنَشَرُوهَا، فَإِذَا خِرْقَةٌ صَفْرَاءُ، وَفِيهَا أَيْرَانِ: كُمَيْتٍ وَوَرْدٍ، فَقَالَ شَاعِرٌ يَهْجُو بَنِي نَهْدٍ: آبَ الْكِرَامُ بِالسَّبَايَا غَنِيمَةً ... وَفَازَ بَنُو نَهْدٍ بِأَيْرَيْنِ فِي سَفَطْ كُمَيْتٍ وَوَرْدٍ وَافِرَيْنِ كِلاهُمَا ... فَظَنُّوهُمَا غُنْمًا فَنَاهِيكَ مِنْ غَلَطْ! وَفَتَحَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ نَامِيَةَ، وَلَيْسَتْ بِمَدِينَةٍ، هِيَ صَحَارَى. وَحَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ مُجَاهِدٍ، عَنْ حَنَشِ بْنِ مَالِكٍ التَّغْلِبِيِّ، قَالَ: غَزَا سَعِيدٌ سَنَةَ ثَلاثِينَ، فَأَتَى جُرْجَانَ وَطَبَرِسْتَانَ، مَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَحَدَّثَنِي عِلْجٌ كَانَ يَخْدُمُهُمْ قال: كنت أتيتهم بِالسُّفْرَةِ، فَإِذَا أَكَلُوا أَمَرُونِي فَنَفَضْتُهَا وَعَلَّقْتُهَا، فَإِذَا أَمْسَوْا أَعْطُونِي بَاقِيَةً قَالَ: وَهَلَكَ مَعَ سَعِيدِ بن العاص محمد بن الحكم ابن أَبِي عَقِيلٍ الثَّقَفِيُّ، جَدُّ يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ، فَقَالَ يُوسُفُ لِقَحْذَمٍ: يَا قَحْذَمُ، أَتَدْرِي أَيْنَ مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ؟ قَالَ: نَعَمْ، اسْتُشْهِدَ مَعَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِطَبَرِسْتَانَ، قَالَ: لا، مَاتَ بِهَا وَهُوَ مَعَ سَعِيدٍ، ثُمَّ قَفَلَ سَعِيدٌ إِلَى الْكُوفَةِ، فَمَدَحَهُ كَعْبُ بْنُ جُعَيْلٍ، فَقَالَ: فَنِعْمَ الْفَتَى إِذْ جَالَ جَيْلانُ دُونَهُ ... وَإِذْ هَبَطُوا مِنْ دَسْتَبَى ثُمَّ أَبْهَرَا تَعَلَّمْ سَعِيدُ الْخَيْرِ أَنَّ مَطِيَّتِي ... إِذَا هَبَطَتْ أَشْفَقْتُ مِنْ أَنْ تُعَقَّرَا كَأَنَّكَ يَوْمَ الشِّعْبِ لَيْثُ خَفِيَّةٍ ... تَحَرَّدَ مِنْ لَيْثِ الْعَرِينِ وَأَصْحَرَا

ذكر السبب في عزل عثمان الوليد عن الكوفه وتوليته سعيدا عليها

تَسُوسُ الَّذِي مَا سَاسَ قَبْلَكَ وَاحِدٌ ... ثَمَانِينَ أَلْفًا دَارِعِينَ وَحُسَّرَا وَحَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، عَنْ كُلَيْبِ بْنِ خَلَفٍ وَغَيْرِهِ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ صَالَحَ أَهْلَ جُرْجَانَ، ثُمَّ امْتَنَعُوا وَكَفَرُوا، فَلَمْ يَأْتِ جُرْجَانَ بَعْدَ سَعِيدٍ أَحَدٌ، وَمَنَعُوا ذَلِكَ الطَّرِيقَ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَسْلُكُ طَرِيقَ خُرَاسَانَ مِنْ نَاحِيَةِ قُومِسَ إِلا عَلَى وَجَلٍ وَخَوْفٍ مِنْ أَهْلِ جُرْجَانَ، وَكَانَ الطَّرِيقُ إِلَى خُرَاسَانَ مِنْ فَارِسٍ إِلَى كَرْمَانَ، فَأَوَّلُ مَنْ صَيَّرَ الطَّرِيقَ مِنْ قُومِسَ قُتَيْبَةُ ابن مُسْلِمٍ حِينَ وَلِيَ خُرَاسَانَ. وَحَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، عَنْ كُلَيْبِ بْنِ خَلَفٍ الْعَمِّيِّ، عَنْ طُفَيْلِ بْنِ مِرْدَاسٍ الْعَمِّيِّ وَإِدْرِيسَ بْنِ حَنْظَلَةَ الْعَمِّيِّ، إِنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ صَالَحَ أَهْلَ جُرْجَانَ، وَكَانُوا يُجْبُونَ أَحْيَانًا مِائَةَ أَلْفٍ وَيَقُولُونَ: هَذَا صُلْحُنَا، وَأَحْيَانًا مِائَتَيْ أَلْفٍ، وَأَحْيَانًا ثلاثمائه أَلْفٍ، وَكَانُوا رُبَّمَا أَعْطَوْا ذَلِكَ وَرُبَّمَا مَنَعُوهُ، ثُمَّ امْتَنَعُوا وَكَفَرُوا، فَلَمْ يُعْطُوا خَرَاجًا حَتَّى أَتَاهُمْ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، فَلَمْ يُعَازِّهِ أَحَدٌ حِينَ قَدِمَهَا، فَلَمَّا صَالَحَ صُولا وَفَتَحَ الْبَحِيرَةَ وَدِهِسُتَانَ صَالَحَ أَهْلَ جُرْجَانَ عَلَى صُلْحِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ ثَلاثِينَ- عَزَلَ عُثْمَانُ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ عَنِ الْكُوفَةِ، وَوَلاهَا سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ فِي قَوْلِ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ . ذِكْرُ السَّبَبِ فِي عَزْلِ عُثْمَانُ الْوَلِيدَ عَنِ الْكُوفَةِ وَتَوْلِيَتِهِ سَعِيدًا عَلَيْهَا كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن محمد وطلحة، قالا: لما بلغ عثمان الَّذِي كَانَ بَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَسَعْدٍ غَضِبَ عَلَيْهِمَا وَهَمَّ بِهِمَا، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ وَعَزَلَ سَعْدًا، وَأَخَذَ مَا عَلَيْهِ، وَأَقَرَّ عَبْدَ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ، وَأَمَّرَ مَكَانَ سَعْدٍ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ- وَكَانَ عَلَى عَرَبِ الْجَزِيرَةِ عَامِلا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- فَقَدِمَ الْوَلِيدُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ إِمَارَةِ عُثْمَانَ، وَقَدْ كَانَ سَعْدٌ عَمِلَ عَلَيْهَا سَنَةً وَبَعْضَ أُخْرَى، فَقَدِمَ الْكُوفَةَ، وَكَانَ أَحَبَّ النَّاسِ فِي النَّاسِ وَأَرْفَقَهُمْ بِهِمْ، فَكَانَ كَذَلِكَ خَمْسَ سِنِينَ، وَلَيْسَ عَلَى دَارِهِ بَابٌ ثُمَّ إِنَّ شَبَابًا مِنْ شَبَابِ أَهْلِ الْكُوفَةِ

نَقَبُوا عَلَى ابْنِ الْحَيْسُمَانِ الْخُزَاعِيِّ، وَكَاثَرُوهُ، فَنَذَرَ بِهِمْ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ بِالسَّيْفِ، فَلَمَّا رَأَى كَثْرَتَهُمُ اسْتَصْرَخَ، فَقَالُوا لَهُ: اسْكُتْ، فَإِنَّمَا هِيَ ضَرْبَةٌ حَتَّى نُرِيحَكَ مِنْ رَوْعَةِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ- وَأَبُو شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيُّ مُشْرِفٌ عَلَيْهِمْ- فَصَاحَ بِهِمْ وَضَرَبُوهُ فَقَتَلُوهُ، وَأَحَاطَ النَّاسُ بِهِمْ فَأَخَذُوهُمْ، وَفِيهِمْ زُهَيْرُ بْنُ جُنْدُبٍ الأَزْدِيُّ وَمُوَرِّعُ بْنُ أَبِي مُوَرِّعٍ الأَسَدِيُّ، وَشُبَيْلُ بْنُ أُبَيٍّ الأَزْدِيُّ، فِي عِدَّةٍ فَشَهِدَ عَلَيْهِمْ أَبُو شُرَيْحٍ وَابْنُهُ أَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَيْهِ، فَمَنَعَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا مِنَ النَّاسِ، فَقَتَلَهُ بَعْضُهُمْ، فَكَتَبَ فِيهِمْ إِلَى عُثْمَانَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ فِي قَتْلِهِمْ، فَقَتَلَهُمْ عَلَى بَابِ الْقَصْرِ فِي الرَّحْبَةِ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ التَّمِيمِيُّ: لا تَأْكُلُوا أَبَدًا جِيرَانَكُمْ سَرَفًا ... أَهْلَ الزَّعَارَةِ فِي مُلْكِ ابْنِ عَفَّانِ وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّ ابْنَ عَفَّانَ الَّذِي جَرَّبْتُمُ ... فَطَمَ اللُّصُوصَ بِمُحْكَمِ الْفُرْقَانِ مَا زَالَ يَعْمَلُ بِالْكِتَابِ مُهَيْمِنًا ... فِي كُلِّ عُنْقٍ مِنْهُمُ وَبِنَانِ وَكَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيُّ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله ص، فَتَحَوَّلَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْكُوفَةِ لِيَدْنُوَ مِنَ الْغَزْوِ، فَبَيْنَا هُوَ لَيْلَةً عَلَى السَّطْحِ، إِذِ اسْتَغَاثَ جَارُهُ، فَأَشْرَفَ فَإِذَا هُوَ بِشَبَابٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ قَدْ بَيَّتُوا جَارَهُ، وَجَعَلُوا يَقُولُونَ لَهُ: لا تُصِحْ، فَإِنَّمَا هِيَ ضَرْبَةٌ حَتَّى نُرِيحَكَ، فَقَتَلُوهُ فَارْتَحَلَ إِلَى عُثْمَانَ، وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَنَقَلَ أَهْلَهُ، وَلِهَذَا الْحَدِيثِ حين كثر أُحْدِثَتِ الْقَسَامَةُ، وَأُخِذَ بِقَوْلِ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ: لِيَفْطِمَ النَّاسَ عَنِ الْقَتْلِ عَنْ مَلإٍ مِنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ. وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كُرَيْبٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ عُثْمَانُ: الْقَسَامَةُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَعَلَى أَوْلِيَائِهِ، يُحَلِّفُ مِنْهُمْ خَمْسُونَ رَجُلا إِذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، فَإِنْ نَقَصَتْ قَسَامَتُهُمْ، أَوْ إِنْ نَكَلَ رَجُلٌ وَاحِدٌ رُدَّتْ قَسَامَتُهُمْ وَوَلِيَهَا الْمُدَّعُونَ، وَأُحْلِفُوا، فَإِنْ حَلَفَ مِنْهُمْ خمسون استحقوا

وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن بن الْقَاسِم، عن عون بن عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَانَ مما أحدث عُثْمَان بالكوفة إِلَى مَا كَانَ من الخبر أنه بلغه أن أبا سمال الأسدي فِي نفر من أهل الْكُوفَة، ينادي مناد لَهُمْ إذا قدم الميار: من كان هاهنا من كلب أو بني فلان ليس لقومهم بها منزل فمنزله على ابى سمال فاتخذ موضع دار عقيل دار الضيفان ودار ابن هبار، وَكَانَ منزل عَبْد اللَّهِ بن مسعود فِي هذيل فِي موضع الرمادة، فنزل موضع داره، وترك داره دار الضيافة، وَكَانَ الأضياف ينزلون داره فِي هذيل إذا ضاق عَلَيْهِم مَا حول المسجد وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن الْمُغِيرَة بن مقسم، عمن أدرك من علماء أهل الْكُوفَة، إن أبا سمال كَانَ ينادي مناديه فِي السوق والكناسة: من كان هاهنا من بني فلان وفلان- لمن ليست لَهُ بِهَا خطة- فمنزله عَلَى أبي سمال، فاتخذ عُثْمَان للأضياف منازل. وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مولى لآل طَلْحَة، عن مُوسَى بن طَلْحَة مثله وَكَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وَطَلْحَةَ، قَالا: كَانَ عُمَر بن الْخَطَّابِ قَدِ استعمل الْوَلِيد بن عُقْبَةَ عَلَى عرب الجزيرة، فنزل فِي بني تغلب وَكَانَ أَبُو زبيد فِي الْجَاهِلِيَّة والإسلام فِي بني تغلب حَتَّى أسلم، وكانت بنو تغلب أخواله، فاضطهده أخواله دينا لَهُ، فأخذ لَهُ الْوَلِيد بحقه، فشكرها لَهُ أَبُو زبيد، وانقطع إِلَيْهِ، وغشيه بِالْمَدِينَةِ، فلما ولي الْوَلِيد الْكُوفَة أتاه مسلما معظما عَلَى مثل مَا كَانَ يأتيه بالجزيرة والمدينة، فنزل دار الضيفان، وآخر قدمة قدمها أَبُو زبيد عَلَى الْوَلِيدِ، وَقَدْ كَانَ ينتجعه ويرجع، وَكَانَ نصرانيا قبل ذَلِكَ، فلم يزل الْوَلِيد بِهِ وعنه حَتَّى أسلم فِي آخر إمارة الْوَلِيد، وحسن إسلامه، فاستدخله الْوَلِيد، وَكَانَ عربيا شاعرا حين قام عَلَى الإِسْلام، فأتى آت أبا زينب وأبا مورع وجندبا، وهم يحقدون

لَهُ مذ قتل أبناءهم، ويضعون لَهُ العيون، فَقَالَ لَهُمْ: هل لكم فِي الْوَلِيدِ يشارب أبا زبيد؟ فثاروا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو زينب وأبو مورع وجندب لأناس من وجوه أهل الْكُوفَة: هَذَا أميركم وأبو زبيد خيرته، وهما عاكفان عَلَى الخمر، فقاموا معهم- ومنزل الْوَلِيد فِي الرحبة مع عمارة بن عُقْبَةَ، وليس عَلَيْهِ باب- فاقتحموا عَلَيْهِ من المسجد وبابه إِلَى الْمَسْجِدِ، فلم يفجأ الْوَلِيد إلا بهم، فنحى شَيْئًا، فأدخله تحت السرير، فأدخل بعضهم يده فأخرجه لا يؤامره، فإذا طبق عَلَيْهِ تفاريق عنب- وإنما نحاه استحياء أن يروا طبقه ليس عَلَيْهِ إلا تفاريق عنب- فقاموا فخرجوا عَلَى الناس، فأقبل بعضهم عَلَى بعض يتلاومون، وسمع الناس بِذَلِكَ، فأقبل الناس عَلَيْهِم يسبونهم ويلعنونهم، ويقولون: أقوام غضب اللَّه لعمله، وبعضهم أرغمه الكتاب، فدعاهم ذَلِكَ إِلَى التحسس والبحث، فستر عَلَيْهِم الْوَلِيد ذَلِكَ، وطواه عن عُثْمَان، ولم يدخل بين الناس فِي ذَلِكَ بشيء، وكره أن يفسد بينهم، فسكت عن ذَلِكَ وصبر. وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن الفيض بن مُحَمَّدٍ، قَالَ: رأيت الشَّعْبِيّ جلس إِلَى مُحَمَّد بن عَمْرو بن الْوَلِيد- يعني ابن عقبة- وَهُوَ خليفة مُحَمَّد بن عَبْد الْمَلِكِ، فذكر مُحَمَّد غزو مسلمة، فَقَالَ: كيف لو أدركتم الْوَلِيد، غزوه وإمارته! إن كَانَ ليغزو فينتهي إِلَى كذا وكذا، مَا قصر وَلا انتقض عَلَيْهِ أحد حَتَّى عزل عن عمله، وعلى الباب يَوْمَئِذٍ عبد الرَّحْمَن بن رَبِيعَة الباهلي، وإن كَانَ مما زاد عُثْمَان بن عَفَّانَ الناس عَلَى يده أن رد عَلَى كل مملوك بالكوفة من فضول الأموال ثلاثة فِي كل شهر، يتسعون بِهَا مِنْ غَيْرِ أن ينقص مواليهم من أرزاقهم. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن الغصن بن الْقَاسِم، عن عون بن عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: جَاءَ جندب ورهط مَعَهُ إِلَى ابن مسعود، فَقَالُوا: الْوَلِيد يعتكف عَلَى الخمر، وأذاعوا ذَلِكَ حَتَّى طرح عَلَى ألسن الناس، فَقَالَ

ابن مسعود: من استتر عنا بشيء لم نتتبع عورته، ولم نهتك ستره، فأرسل إِلَى ابن مسعود فأتاه فعاتبه فِي ذَلِكَ، وَقَالَ: أيرضى من مثلك بأن يجيب قوما موتورين بِمَا أجبت علي! أي شَيْء أستتر بِهِ! إنما يقال هَذَا للمريب، فتلاحيا وافترقا عَلَى تغاضب، لَمْ يَكُنْ بينهما أكثر مِنْ ذَلِكَ. وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، قَالا: وَأُتِيَ الْوَلِيدُ بِسَاحِرٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ يَسْأَلُهُ عَنْ حَدِّهِ، فَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهُ سَاحِرٌ! قَالَ: زَعَمَ هَؤُلاءِ النَّفَرِ- لِنَفَرٍ جَاءُوا بِهِ- أَنَّهُ سَاحِرٌ، قَالَ: وَمَا يُدْرِيكُمْ أَنَّهُ سَاحِرٌ! قَالُوا: يَزْعُمُ ذاك، قَالَ: أَسَاحِرٌ أَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَتَدْرِي مَا السِّحْرُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَثَارَ إِلَى حِمَارٍ، فَجَعَلَ يَرْكَبُهُ مِنْ قِبَلِ ذَنَبِهِ، وَيُرِيهِمْ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ وَاسْتِهِ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَاقْتُلْهُ فَانْطَلَقَ الْوَلِيدُ، فَنَادَوْا فِي الْمَسْجِدِ أَنَّ رَجُلا يَلْعَبُ بِالسِّحْرِ عِنْدَ الْوَلِيدِ، فَأَقْبَلُوا، وَأَقْبَلَ جُنْدُبٌ- وَاغْتَنَمَهَا- يَقُولُ: أَيْنَ هُوَ؟ أَيْنَ هُوَ؟ حَتَّى أُرِيَهُ! فَضَرَبَهُ، فَاجْتَمَعَ عَبْدُ اللَّهِ وَالْوَلِيدُ عَلَى حَبْسِهِ، حَتَّى كَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَجَابَهُمْ عُثْمَانُ أَنِ اسْتَحْلِفُوهُ بِاللَّهِ مَا عَلِمَ بِرَأْيِكُمْ فِيهِ وَإِنَّهُ لَصَادِقٌ بِقَوْلِهِ فِيمَا ظَنَّ مِنْ تَعْطِيلِ حَدِّهِ وَعَزِّرُوهُ، وَخَلُّوا سَبِيلَهُ وَتَقَدَّمْ إِلَى النَّاسِ فِي أَلا يَعْمَلُوا بِالظُّنُونِ، وَأَلا يُقِيمُوا الْحُدُودَ دُونَ السُّلْطَانِ، فَإِنَّا نُقَيِّدُ الْمُخْطِئَ، وَنُؤَدِّبُ الْمُصِيبَ فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِ، وَتُرِكَ لأَنَّهُ أَصَابَ حَدًّا، وَغَضِبَ لِجُنْدُبٍ أَصْحَابُهُ، فَخَرَجُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، فِيهِمْ أَبُو خُشَّةَ الْغِفَارِيُّ وَجَثَّامَةُ بْنُ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ وَمَعَهُمْ جُنْدُبٌ، فَاسْتَعْفَوْهُ مِنَ الْوَلِيدِ، فَقَالَ لَهُمْ عُثْمَانُ: تَعْمَلُونَ بِالظُّنُونِ، وَتُخْطِئُونَ فِي الإِسْلامِ، وَتَخْرُجُونَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، ارْجِعُوا فَرَدَّهُمْ، فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى الْكُوفَةِ، لَمْ يَبْقَ مَوْتُورٌ فِي نَفْسِهِ إِلا أَتَاهُمْ، فَاجْتَمَعُوا عَلَى رَأْيٍ فَأَصْدَرُوهُ، ثُمَّ تَغَفَّلُوا الْوَلِيدَ- وَكَانَ لَيْسَ عَلَيْهِ حِجَابٌ- فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو زَيْنَبَ الأَزْدِيُّ وَأَبُو مُوَرِّعٍ الأَسَدِيُّ، فَسَلا خَاتَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَا إِلَى عُثْمَانَ، فَشَهِدَا عَلَيْهِ، وَمَعَهُمَا نَفَرٌ مِمَّنْ يُعْرَفُ مِنْ أَعْوَانِهِمْ فَبَعَثَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ، فَلَمَّا قَدِمَ أَمَرَ به سعيد ابن الْعَاصِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْشُدُكَ اللَّهَ! فو الله إِنَّهُمَا لَخَصْمَانِ مَوْتُورَانِ

فَقَالَ: لا يَضُرُّكَ ذَلِكَ، إِنَّمَا نَعْمَلُ بِمَا يَنْتَهِي إِلَيْنَا، فَمَنْ ظَلَمَ فَاللَّهُ وَلِيُّ انْتِقَامِهِ، وَمَنْ ظَلَمَ فَاللَّهُ وَلِيُّ جَزَائِهِ. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي غَسَّانَ سَكَنِ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُبَيْشٍ، قَالَ: اجْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَعَمِلُوا فِي عَزْلِ الْوَلِيدِ، فَانْتُدِبَ أَبُو زَيْنَبَ بْنُ عَوْفٍ وَأَبُو مُوَرَّعِ بْنُ فُلانٍ الأَسَدِيُّ لِلشَّهَادَةِ عليه، فغشوا الوليد، وأكبوا عليه، فبيناهم مَعَهُ يَوْمًا فِي الْبَيْتِ وَلَهُ امْرَأَتَانِ فِي الْمَخْدَعِ، بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ سِتْرٌ، إِحْدَاهُمَا بِنْتُ ذِي الْخِمَارِ وَالأُخْرَى بِنْتُ أَبِي عَقِيلٍ، فَنَامَ الْوَلِيدُ، وَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ عَنْهُ، وَثَبُتَ أَبُو زَيْنَبَ وَأَبُو مَوَرَّعٍ، فَتَنَاوَلَ أَحَدُهُمَا خَاتَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَا، فَاسْتَيْقَظَ الْوَلِيدُ وَامْرَأَتَاهُ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَلَمْ يَرَ خَاتَمَهُ، فَسَأَلَهُمَا عَنْهُ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُمَا مِنْهُ عِلْمًا، قَالَ: فَأَيُّ الْقَوْمِ تَخَلَّفَ عَنْهُمْ؟ قَالَتَا: رجلان لا نعرفهما، ما غشياك الا منذ قَرِيبٍ. قَالَ: حَلِّيَاهُمَا، فَقَالَتَا: عَلَى أَحَدِهِمَا خَمِيصَةٌ، وَعَلَى الآخَرِ مِطْرَفٌ، وَصَاحِبُ الْمِطْرَفِ أَبْعَدُهُمَا مِنْكَ، فَقَالَ: الطُّوَالُ؟ قَالَتَا: نَعَمْ، وَصَاحِبُ الْخَمِيصَةِ أَقْرَبُهُمَا إِلَيْكَ، فَقَالَ: الْقَصِيرُ؟ قَالَتَا: نَعَمْ، وَقَدْ رَأَيْنَا يَدَهُ عَلَى يَدِكَ قَالَ: ذَاكَ أَبُو زَيْنَبَ، وَالآخَرُ أَبُو مُوَرَّعٍ، وَقَدْ أَرَادَا دَاهِيَةً، فَلَيْتَ شِعْرِي مَاذَا يُرِيدَانِ! فَطَلَبَهُمَا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِمَا، وَكَانَ وَجْهُهُمَا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقَدِمَا عَلَى عُثْمَانَ، وَمَعَهُمَا نَفَرٌ مِمَّنْ يَعْرِفُ عُثْمَانُ، مِمَّنْ قَدْ عَزَلَ الْوَلِيدُ عَنِ الأَعْمَالِ، فَقَالُوا لَهُ، فَقَالَ: مَنْ يَشْهَدُ؟ قَالُوا: أَبُو زَيْنَبَ وَأَبُو مُوَرَّعٍ، وكاع الآخَرَانِ، فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتُمَا؟ قَالا: كُنَّا مِنْ غَاشِيَتِهِ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ وَهُوَ يَقِيءُ الْخَمْرَ، فَقَالَ: مَا يَقِيءُ الْخَمْرَ إِلا شَارِبُهَا فَبَعَثَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ رَآهُمَا، فَقَالَ مُتَمَثِّلا: مَا إِنْ خَشِيتُ عَلَى أَمْرٍ خَلَوْتُ بِهِ ... فَلَمْ أَخَفْكَ عَلَى أَمْثَالِهَا حَار فَحَلَفَ لَهُ الْوَلِيدُ وَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُمْ، فَقَالَ: نُقِيمُ الْحُدُودَ وَيَبُوءُ شَاهِدُ الزُّورِ بِالنَّارِ، فَاصْبِرْ يَا أُخَيَّ! فَأَمَرَ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ فَجَلَدَهُ، فَأَوْرَثَ ذَلِكَ عَدَاوَةً بَيْنَ وَلَدَيْهِمَا حَتَّى الْيَوْمِ، وَكَانَتْ عَلَى الْوَلِيدِ خَمِيصَةٌ يَوْمَ أُمِرَ بِهِ أَنْ يُجْلَدَ، فنزعها

عنه على بن ابى طالب ع. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيِّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الإِيَادِيِّ، قَالَ: خَرَجَ أَبُو زَيْنَبَ وَأَبُو مُوَرَّعٍ حَتَّى دَخَلا عَلَى الْوَلِيدِ بَيْتَهُ، وَعِنْدَهُ امْرَأَتَانِ: بِنْتُ ذِي الْخِمَارِ وَبِنْتُ أَبِي عَقِيلٍ، وَهُوَ نَائِمٌ، قَالَتْ إِحْدَاهُمَا: فَأَكَبَّ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا فَأَخَذَ خَاتَمَهُ، فَسَأَلَهُمَا حِينَ اسْتَيْقَظَ، فَقَالَتَا: مَا أَخَذْنَاهُ، قَالَ: مَنْ بَقِيَ آخِرَ الْقَوْمِ؟ قَالَتَا: رَجُلانِ، رَجُلٌ قَصِيرٌ عَلَيْهِ خَمِيصَةٌ، وَرَجُلٌ طَوِيلٌ عَلَيْهِ مِطْرَفٌ، وَرَأَيْنَا صَاحِبَ الْخَمِيصَةِ أَكَبَّ عَلَيْكَ، قَالَ: ذَاكَ أَبُو زَيْنَبَ فَخَرَجَ يَطْلُبُهُمَا، فَإِذَا هُوَ وَجْهُهُمَا عَنْ مَلإٍ مِنْ أَصْحَابٍ لَهُمَا، وَلا يَدْرِي الْوَلِيدُ مَا أَرَادَا مِنْ ذَلِكَ فَقَدِمَا عَلَى عُثْمَانَ، فَأَخْبَرَاهُ الْخَبَرَ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْوَلِيدِ، فَقَدِمَ، فَإِذَا هُوَ بِهِمَا وَدَعَا بِهِمَا عُثْمَانُ، فَقَالَ: بِمَ تَشْهَدَانِ؟ أَتَشْهَدَانِ أَنَّكُمَا رَأَيْتُمَاهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ؟ فَقَالا: لا، وَخَافَا، قَالَ: فَكَيْفَ؟ قَالا: اعْتَصَرْنَاهَا مِنْ لِحْيَتِهِ وَهُوَ يَقِيءُ الْخَمْرَ فَأَمَرَ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ فَجَلَدَهُ، فَأَوْرَثَ ذَلِكَ عَدَاوَةً بَيْنَ أَهْلِيهِمَا. وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي الْعَرِيفِ ويزيدِ الْفَقْعَسِيِّ، قَالا: كَانَ النَّاسُ فِي الْوَلِيدِ فِرْقَتَيْنِ: الْعَامَّةُ مَعَهُ وَالْخَاصَّةُ عَلَيْهِ، فَمَا زَالَ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ خُشُوعٌ حَتَّى كَانَتْ صِفِّينَ، فَوَلَّى مُعَاوِيَةَ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: عِيبَ عثمان بالباطل، [فقال لهم على ع: إِنَّكُمْ وَمَا تُعَيِّرُونَ بِهِ عُثْمَانَ كَالطَّاعِنِ نَفْسَهُ لِيَقْتُلَ رِدْفَهُ، مَا ذَنْبُ عُثْمَانَ فِي رَجُلٍ قَدْ ضَرَبَهُ بِفِعْلِهِ، وَعَزَلَهُ عَنْ عَمَلِهِ! وَمَا ذَنْبُ عُثْمَانَ فِيمَا صَنَعَ عَنْ أَمْرِنَا!] وَكَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كُرَيْبٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا جُلِدَ الرَّجُلُ الْحَدَّ ثُمَّ ظَهَرَتْ تَوْبَتُهُ جَازَتْ شَهَادَتُهُ. وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن أبي كبران، عن مولاة لَهُمْ- وأثنى عَلَيْهَا خيرا- قالت: كَانَ الْوَلِيد أدخل عَلَى الناس خيرا،

حَتَّى جعل يقسم للولائد والعبيد، وَلَقَدْ تفجع عَلَيْهِ الأحرار والمماليك، كَانَ يسمع الولائد وعليهن الحداد يقلن: يَا ويلتا قَدْ عزل الْوَلِيد ... وجاءنا مجوعا سَعِيد ينقص فِي الصاع وَلا يَزِيد ... فجوع الإماء والعبيد وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن الغصن بن الْقَاسِم، قَالَ: كَانَ الناس يقولون حين عزل الْوَلِيد وأمر سَعِيد: لا يبعد الملك إذ ولت شمائله ... وَلا الرياسة لما راس كتاب وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ بِإِسْنَادِهِمَا، قَالا: قَدِم سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ فِي سَنَةَ سَبْعٍ مِنْ إِمَارَةِ عُثْمَانَ، وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ بَقِيَّةَ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَكَانَ أَهْلُهُ كَثِيرًا تَتَابَعُوا، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ الشَّامَ قَدِمَهَا، فَأَقَامَ مَعَ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ يَتِيمًا نَشَأَ فِي حِجْرِ عُثْمَانَ، فَتَذَكَّرَ عُمَرُ قُرَيْشًا، وَسَأَلَ عَنْهُ فِيمَا يَتَفَقَّدُ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ، فَقِيلَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هُوَ بِدِمَشْقَ، عَهِدَ الْعَاهِدُ بِهِ وَهُوَ مَأْمُومٌ بِالْمَوْتِ فأرسل الى معاويه: ان ابعث لي سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ فِي مَنْقِلٍ، فَبَعَثَ بِهِ إِلَيْهِ وَهُوَ دَنِفٌ، فَمَا بَلَغَ الْمَدِينَةَ حَتَّى افاق، فقال: يا بن أَخِي، قَدْ بَلَغَنِي عَنْكَ بَلاءٌ وَصَلاحٌ، فَازْدَدْ يَزِدْكَ اللَّهُ خَيْرًا وَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ زَوْجَةٍ؟ قَالَ: لا، قَالَ: يَا أَبَا عَمْرٍو، مَا مَنَعَكَ مِنْ هَذَا الْغُلامِ أَنْ تَكُونَ زَوَّجْتَهُ؟ قَالَ: قَدْ عَرَضْتُ عَلَيْهِ فَأَبَى، فَخَرَجَ يَسِيرُ فِي الْبَرِّ، فَانْتَهَى إِلَى مَاءٍ، فَلَقِيَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ، فَقُمْنَ لَهُ، فَقَالَ: مَا لَكُنَّ؟ وَمَنْ أَنْتُنَّ؟ فَقُلْنَ: بَنَاتُ سُفْيَانَ بْنِ عُوَيْفٍ- وَمَعَهُنَّ أُمُّهُنَّ- فَقَالَتْ: أُمُّهُنَّ: هَلَكَ رِجَالُنَا، وَإِذَا هَلَكَ الرِّجَالُ ضَاعَ النِّسَاءُ، فَضَعْهُنَّ فِي أَكْفَائِهِنَّ، فَزَوَّجَ سَعِيدًا إِحْدَاهُنَّ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ الأُخْرَى، وَالْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ الثَّالِثَةَ، وَأَتَاهُ بِنَاتُ مَسْعُودِ بْنِ نُعَيْمٍ النَّهْشَلِيِّ، فَقُلْنَ: قَدْ هَلَكَ رِجَالُنَا، وَبَقِيَ الصِّبْيَانُ، فَضَعْنَا فِي أَكْفَائِنَا، فَزَوَّجَ سَعِيدًا إِحْدَاهُنَّ، وَجُبَيْرَ بْنَ مُطْعَمٍ إِحْدَاهُنَّ، فَشَارَكَ سَعِيدٌ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ، وَقَدْ كَانَ عُمُومُتُهُ ذَوِي بَلاءٍ فِي الإِسْلامِ، وَسَابِقَةٍ حَسَنَةٍ، وَقِدْمَةٍ مع رسول الله ص، فَلَمْ يَمُتْ عُمَرُ حَتَّى كَانَ سَعِيدٌ مِنْ رجال الناس

فَقَدِمَ سَعِيدٌ الْكُوفَةَ فِي خِلافَةِ عُثْمَانَ أَمِيرًا، وَخَرَجَ مَعَهُ مِنْ مَكَّةَ- أَوِ الْمَدِينَةِ- الأَشْتَرُ وَأَبُو خُشَّةَ الْغِفَارِيُّ وَجُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو مُصْعَبِ بْنُ جَثَّامَةَ- وَكَانُوا فِيمَنْ شَخِصَ مَعَ الْوَلِيدِ يَعِيبُونَهُ، فَرَجَعُوا مَعَ هَذَا- فَصَعِدَ سَعِيدٌ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ بُعِثْتُ إِلَيْكُمْ وَإِنِّي لَكَارِهٌ، وَلَكِنِّي لَمْ أَجِدْ بُدًّا إِذْ أُمِرْتُ أَنْ آتَمِرَ إِلا أَنَّ الْفِتْنَةَ قَدْ أَطْلَعَتْ خَطْمَهَا وَعَيْنَيْهَا، وو الله لأَضْرِبَنَّ وَجْهَهَا حَتَّى أَقْمَعَهَا أَوْ تُعْيِينِي، وَإِنِّي لَرَائِدٌ نَفْسِي الْيَوْمَ وَنَزَلَ. وَسَأَلَ عَنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَأُقِيمَ عَلَى حَالِ أَهْلِهَا. فَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ بِالَّذِي انْتَهَى إِلَيْهِ: إِنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ قَدِ اضَطَرَبَ أَمْرُهُمْ، وَغَلَبَ أَهْلُ الشَّرَفِ مِنْهُمْ وَالْبُيُوتَاتِ وَالسَّابِقَةِ وَالْقِدْمَةِ، وَالْغَالِبُ عَلَى تِلْكَ الْبِلادِ رَوَادِفٌ رَدِفَتْ، وَأَعْرَابٌ لَحِقَتْ، حَتَّى مَا يُنْظَرُ إِلَى ذِي شَرَفٍ وَلا بَلاءٍ مِنْ نَازِلَتِهَا وَلا نَابِتَتِهَا. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ: أَمَّا بَعْدُ، فَفَضِّلْ أَهْلَ السَّابِقَةِ وَالْقِدْمَةِ مِمَّنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْبِلادِ، وَلْيَكُنْ مَنْ نَزَلَهَا بِسَبَبِهِمْ تَبِعًا لَهُمْ، إِلا أَنْ يَكُونُوا تَثَاقَلُوا عَنِ الْحَقِّ، وَتَرَكُوا الْقِيَامَ بِهِ وَقَامَ بِهِ هَؤُلاءِ وَاحْفَظْ لِكُلٍّ مَنْزِلَتَهُ، وَأَعْطِهِمْ جَمِيعًا بِقِسْطِهِمْ مِنَ الْحَقِّ، فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ بِالنَّاسِ بِهَا يُصَابُ الْعَدْلُ. فأرسل سعيدا إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الأَيَّامِ وَالْقَادِسِيَّةِ، فَقَالَ: أَنْتُمْ وُجُوهُ مَنْ وَرَاءَكُمْ، وَالْوَجْهُ يُنْبِئُ عَنِ الْجَسَدِ، فَأَبْلِغُونَا حَاجَةَ ذِي الْحَاجَةِ وَخُلَّةَ ذِي الْخُلَّةِ وَأَدْخَلَ مَعَهُمْ مَنْ يَحْتَمِلُ مِنَ اللَّوَاحِقِ وَالرَّوَادِفِ، وَخَلَصَ بِالْقُرَّاءِ وَالْمُتَسَمِّتِينَ فِي سَمَرِهِ، فَكَأَنَّمَا كَانَتِ الْكُوفَةُ يَبْسًا شَمِلَتْهُ نَارٌ، فَانْقَطَعَ إِلَى ذَلِكَ الضَّرْبِ ضَرْبُهُمْ، وَفَشَتِ الْقَالَةُ وَالإِذَاعَةُ فَكَتَبَ سَعِيدٌ إِلَى عُثْمَانَ بِذَلِكَ، فَنَادَى مُنَادِي عُثْمَانَ: الصَّلاةُ جَامِعَةٌ! فَاجْتَمَعُوا، فَأَخْبَرَهُمْ بِالَّذِي كَتَبَ بِهِ إِلَى سَعِيدٍ، وَبِالَّذِي كَتَبَ بِهِ إِلَيْهِ فِيهِمْ، وَبِالَّذِي جَاءَهُ مِنَ الْقَالَةِ وَالإِذَاعَةِ، فَقَالُوا: اصبت فلا تسعفهم في ذلك، ولا تطعمهم فِيمَا لَيْسُوا لَهُ بِأَهْلٍ، فَإِنَّهُ إِذَا نَهَضَ فِي الأُمُورِ مَنْ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ لَمْ يحتملها وأفسدها

فَقَالَ عُثْمَانُ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ اسْتَعِدُّوا وَاسْتَمْسِكُوا، فَقَدْ دَبَّتْ إِلَيْكُمُ الْفِتَنُ. وَنَزَلَ فَأَوَى إِلَى مَنْزِلِهِ، وَتَمَثَّلَ مَثَلَهُ وَمَثَلَ هَذَا الضَّرْبَ الَّذِينَ شَرَعُوا فِي الْخِلافِ: أَبَنِي عُبَيْدٍ قَدْ أَتَى أَشْيَاعُكُمْ ... عَنْكُمْ مَقَالَتْكُمْ وَشِعْرُ الشَّاعِرِ فَإِذَا أَتَتْكُمْ هَذِهِ فَتَلَبَّسُوا ... إِنَّ الرِّمَاحَ بَصِيرَةٌ بِالْحَاسِرِ كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، قَالَ: كَانَ عُثْمَانُ أَرْوَى النَّاسِ لِلْبَيْتِ وَالْبَيْتَيْنِ وَالثَّلاثَةِ إِلَى الْخَمْسَةِ. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُمَحِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ لأَبِي: إِنَّ عُثْمَانَ جَمَعَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، إِنَّ النَّاسَ يَتَمَخَّضُونَ بِالْفِتْنَةِ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لأَتَخَلَّصَنَّ لَكُمُ الَّذِي لَكُمْ حَتَّى أَنْقِلَهُ إِلَيْكُمْ إِنْ رَأَيْتُمْ ذَلِكَ، فَهَلْ تَرَوْنَهُ حَتَّى يَأْتِيَ مَنْ شَهِدَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ الْفُتُوحَ فِيهِ، فَيُقِيمَ مَعَهُ فِي بِلادِهِ؟ فَقَامَ أُولَئِكَ، وَقَالُوا: كَيْفَ تَنْقِلُ لَنَا مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنَ الأَرْضِينَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: نَبِيعُهَا مِمَّنْ شَاءَ بِمَا كَانَ لَهُ بِالْحِجَازِ فَفَرِحُوا وَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ أَمْرًا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِمْ، فَافْتَرَقُوا وَقَدْ فَرَّجَهَا الله عنهم به وكان طلحه ابن عُبَيْدِ اللَّهِ قَدِ اسْتَجْمَعَ لَهُ عَامَّةٌ سَهْمَانِ خَيْبَرَ إِلَى مَا كَانَ لَهُ سِوَى ذَلِكَ، فَاشْتَرَى طَلْحَةُ مِنْهُ مِنْ نَصِيبِ مَنْ شَهِدَ الْقَادِسِيَّةَ وَالْمَدَائِنَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِمَّنْ أَقَامَ وَلَمْ يُهَاجِرْ إِلَى الْعِرَاقِ النَّشَاسْتَجَ بِمَا كَانَ لَهُ بِخَيْبَرَ وَغَيْرِهَا مِنْ تِلْكَ الأَمْوَالِ، وَاشْتَرَى منه بئر أَرِيسَ شَيْئًا كَانَ لِعُثْمَانَ بِالْعِرَاقِ، وَاشْتَرَى مِنْهُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ بِمَالٍ كَانَ لَهُ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ عُثْمَانُ نَهْرَ مَرْوَانَ- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَجْمَةٌ- وَاشْتَرَى مِنْهُ رِجَالٌ مِنَ الْقَبَائِلِ بِالْعِرَاقِ بِأَمْوَالٍ كَانَتْ لَهُمْ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَالْيَمَنِ وَحَضْرَمَوْتَ، فَكَانَ مِمَّا اشْتَرَى مِنْهُ الأَشْعَثُ بِمَالٍ كَانَ لَهُ فِي حَضْرَمَوْتَ مَا كَانَ لَهُ بِطِيزَنَابَاذَ وَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى أَهْلِ الآفَاقِ فِي ذَلِكَ وَبِعِدَّةِ جِرْبَانِ الْفَيْءِ، وَالْفَيْءُ الَّذِي يَتَدَاعَاهُ أَهْلُ الأَمْصَارِ، فَهُوَ مَا كَانَ لِلْمُلُوكِ نَحْوَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ بِلادِهِمْ فَأَجْلَى

ذكر الخبر عن سبب سقوط الخاتم من يد عثمان في بئر اريس

عَنْهُ، فَأَتَاهُمْ شَيْءٌ عَرَفُوهُ وَأَخَذَ بِقَدْرِ عِدَّةِ مَنْ شَهِدَهَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَبِقَدْرِ نَصِيبِهِمْ، وَضَمَّ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ، فَبَاعُوهُ بِمَا يَلِيهِمْ مِنَ الأَمْوَالِ بِالْحِجَازِ وَمَكَّةَ وَالْيَمَنِ وَحَضْرَمَوْتَ، يُرَدُّ عَلَى أَهْلِهَا الَّذِينَ شَهِدُوا الْفُتُوحَ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَة مثل ذَلِكَ، إلا أنهما قَالا: اشترى هَذَا الضرب رجال من كل قبيلة ممن كَانَ لَهُ هنالك شَيْء، فأراد أن يستبدل بِهِ فِيمَا يليه، فأخذوا، وجاز لَهُمْ عن تراض مِنْهُمْ ومن الناس وإقرار بالحقوق، إلا أن الَّذِينَ لا سابقة لَهُمْ وَلا قدمة لا يبلغون مبلغ أهل السابقة والقدمة فِي المجالس والرياسة والحظوة، ثُمَّ كَانُوا يعيبون التفضيل، ويجعلونه جفوة، وهم فِي ذَلِكَ يختفون بِهِ وَلا يكادون يظهرونه، لأنه لا حجة لَهُمْ والناس عَلَيْهِم، فكان إذا لحق بهم لاحق من ناشئ أو أعرابي أو محرر استحلى كلامهم، فكانوا فِي زيادة، وَكَانَ الناس فِي نقصان حَتَّى غلب الشر. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، قَالا: صرف حُذَيْفَة عن غزو الري إِلَى غزو الباب مددا لعبد الرَّحْمَن بن رَبِيعَة، وخرج مَعَهُ سَعِيد بن الْعَاصِ، فبلغ مَعَهُ أذربيجان- وكذلك كَانُوا يصنعون، يجعلون لِلنَّاسِ ردءا- فأقام حَتَّى قفل حُذَيْفَة ثُمَّ رجعا. وفي هَذِهِ السنة- أعني سنة ثلاثين- سقط خاتم رسول الله ص من يد عُثْمَان فِي بئر أَرِيس وَهِيَ عَلَى ميلين مِنَ الْمَدِينَةِ، وكانت من أقل الآبار ماء، فما أدرك حَتَّى الساعة قعرها . ذكر الخبر عن سبب سقوط الخاتم من يد عُثْمَان فِي بئر أَرِيس حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْحَرَشِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَلَفٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى الْخَزَّازُ قَالَ: وَكَانَ شريك يُونُس بْن عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ ابن أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ان رسول الله ص

أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الأَعَاجِمِ كُتُبًا يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ لا يَقْبَلُونَ كِتَابًا الا مختوما، فامر رسول الله ص أَنْ يُعْمَلَ لَهُ خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ، فَجَعَلَهُ فِي إِصْبَعِهِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ لَهُ: انْبِذْهُ من إصبعك، فنبذه رسول الله ص مِنْ أُصْبُعِهِ، وَأَمَرَ بِخَاتَمٍ آخَرَ يُعْمَلُ لَهُ، فَعُمِلَ لَهُ خَاتَمٌ مِنْ نُحَاسٍ، فَجَعَلَهُ فِي اصبعه، فقال له جبريل ع: انبذه من إصبعك، فنبذه رسول الله ص من اصبعه، وامر رسول الله ص بِخَاتَمٍ مِنْ وَرِقٍ، فَصُنِعَ لَهُ خَاتَمٌ مِنْ وَرِقٍ فَجَعَلَهُ فِي أُصْبُعِهِ، فَأَقَرَّهُ جِبْرِيلُ، وَأَمَرَ ان ينقش عليه: محمد رسول الله، فَجَعَلَ يَتَخَتَّمُ بِهِ، وَيَكْتُبُ إِلَى مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهِ مِنَ الأَعَاجِمِ، وَكَانَ نَقْشُ الْخَاتَمِ ثَلاثَةَ أَسْطُرٍ فَكَتَبَ كِتَابًا إِلَى كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ، فَبَعَثَهُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَتَى بِهِ عُمَرُ كِسْرَى فَقُرِئَ الْكِتَابُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى كِتَابِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ! أَنْتَ عَلَى سَرِيرٍ مَرْمُولٍ بِاللِّيفِ، وَكِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ عَلَى سَرِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَعَلَيْهِ الدِّيبَاجُ! [فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الآخِرَةُ!] فَقَالَ: جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ! قَدْ رَضِيتُ. وَكَتَبَ كِتَابًا آخَرَ، فَبَعَثَ بِهِ مَعَ دَحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيِّ إِلَى هِرَقْلَ مَلِكِ الرُّومِ يَدْعُوهُ إِلَى الإِسْلامِ، فَقَرَأَهُ وَضَمَّهُ إِلَيْهِ، وَوَضَعَهُ عِنْدَهُ، فَكَانَ الْخَاتَمُ فِي أُصْبُعِ رَسُولِ اللَّهِ ص يَتَخَتَّمُ بِهِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ فَتَخَتَّمَ بِهِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ وُلِّيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَعْدُ فَجَعَلَ يَتَخَتَّمُ بِهِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ، ثُمَّ وُلِّيَ مِنْ بَعْدِهِ عُثْمَانُ ابن عَفَّانَ، فَتَخَتَّمَ بِهِ سِتَّ سِنِينَ، فَحَفَرَ بِئْرًا بِالْمَدِينَةِ شُرْبًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَقَعَدَ عَلَى رَأْسِ الْبِئْرِ، فَجَعَلَ يَعْبَثُ بِالْخَاتَمِ، وَيُدِيرُهُ بِأُصْبُعِهِ، فَانْسَلَّ الْخَاتَمُ مِنْ أُصْبُعِهِ فَوَقَعَ فِي الْبِئْرِ، فَطَلَبُوهُ فِي الْبِئْرِ، وَنَزَحُوا مَا فِيهَا مِنَ الْمَاءِ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، فَجَعَلَ فِيهِ مَالا عَظِيمًا لِمَنْ جَاءَ بِهِ، وَاغْتَمَّ لِذَلِكَ غَمًّا شَدِيدًا، فَلَمَّا يَئِسَ مِنَ الْخَاتَمِ أَمَرَ فَصُنِعَ لَهُ خَاتَمٌ آخر مثله، خلقه مِنْ فِضَّةٍ، عَلَى مِثَالِهِ

اخبار ابى ذر رحمه الله تعالى

وَشِبْهِهِ، وَنُقِشَ عَلَيْهِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَجَعَلَهُ فِي أُصْبُعِهِ حَتَّى هَلَكَ، فَلَمَّا قُتِلَ ذَهَبَ الْخَاتَمُ مِنْ يَدِهِ فَلَمْ يُدْرَ مَنْ أَخَذَهُ أخبار أبي ذر رحمه اللَّه تعالى وفي هَذِهِ السنة- أعني سنة ثَلاثِينَ- كَانَ مَا ذكر من أمر أبي ذر ومعاوية، وإشخاص مُعَاوِيَة إِيَّاهُ من الشام إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَدْ ذكر فِي سبب إشخاصه إِيَّاهُ منها إِلَيْهَا أمور كثيرة، كرهت ذكر أكثرها. فأما العاذرون مُعَاوِيَة فِي ذَلِكَ، فإنهم ذكروا فِي ذَلِكَ قصة كَتَبَ إِلَيَّ بِهَا السَّرِيُّ، يَذْكُرُ أَنَّ شُعَيْبًا حَدَّثَهُ عَنْ سَيْف، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ يَزِيدَ الْفَقْعَسِيِّ، قَالَ: لَمَّا وَرَدَ ابْنُ السَّوْدَاءِ الشَّامَ لَقِيَ أَبَا ذَرٍّ، فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، أَلا تَعْجَبُ إِلَى مُعَاوِيَةَ، يَقُولُ: الْمَالُ مَالُ اللَّهِ! أَلا إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ لِلَّهِ كأنه يريد ان يحتجنه دُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَمْحُوَ اسْمَ الْمُسْلِمِينَ فَأَتَاهُ أَبُو ذَرٍّ، فَقَالَ: مَا يَدْعُوكَ إِلَى أَنْ تُسَمِّيَ مَالَ الْمُسْلِمِينَ مَالَ اللَّهِ! قَالَ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ يَا أَبَا ذَرٍّ، أَلَسْنَا عِبَادَ اللَّهِ، وَالْمَالُ مَالُهُ، وَالْخَلْقُ خَلْقُهُ، وَالأَمْرُ أَمْرُهُ! قَالَ: فَلا تَقُلْهُ، قَالَ: فَإِنِّي لا أَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ، وَلَكِنْ سَأَقُولُ: مَالُ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: وَأَتَى ابْنُ السَّوْدَاءِ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ أَظُنُّكَ وَاللَّهِ يَهُودِيًّا! فَأَتَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَتَعَلَقَّ بِهِ، فَأَتَى بِهِ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ: هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي بَعَثَ عَلَيْكَ أَبَا ذَرٍّ، وَقَامَ أَبُو ذَرٍّ بِالشَّامِ وَجَعَلَ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الأَغْنِيَاءِ، وَاسُوا الْفُقَرَاءَ بَشِّرِ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ بمكاو من نار تكوى بها جباهم وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ فَمَا زَالَ حَتَّى وَلِعَ الْفُقَرَاءُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَأَوْجَبُوهُ عَلَى الأَغْنِيَاءِ، وَحَتَّى شَكَا الأَغْنِيَاءُ مَا يَلْقَوْنَ مِنَ النَّاسِ. فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عُثْمَانَ: أَنَّ أَبَا ذَرٍّ قَدْ أَعْضَلَ بِي، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ: أَنَّ الْفِتْنَةَ قَدْ أَخْرَجَتْ خطمها وعينيها،

فَلَمْ يَبْقَ إِلا أَنْ تَثِبَ، فَلا تَنْكَأ الْقَرْحَ، وَجَهِّزْ أَبَا ذَرٍّ إِلَيَّ، وَابْعَثْ مَعَهُ دَلِيلا وَزَوِّدْهُ، وَارْفُقْ بِهِ، وَكَفْكَفِ النَّاسَ وَنَفْسَكَ ما استطعت، فإنما تُمْسَكُ مَا اسْتَمْسَكْتَ فَبَعَثَ بِأَبِي ذَرٍّ وَمَعَهُ دَلِيلٌ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَرَأَى الْمَجَالِسَ فِي أَصْلِ سَلْعٍ، قَالَ: بَشِّرْ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِغَارَةٍ شَعْوَاءَ وَحَرْبٍ مِذْكَارٍ. وَدَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، مَا لأَهْلِ الشَّامِ يَشْكُونَ ذَرَبَكَ! فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: مَالُ اللَّهِ، وَلا يَنْبَغِي لِلأَغْنِيَاءِ أَنْ يَقْتَنُوا مَالا. فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، عَلَيَّ أَنْ أَقْضِيَ مَا عَلَيَّ، وَآخُذَ مَا عَلَى الرَّعِيَّةِ، وَلا أُجْبِرُهُمْ عَلَى الزُّهْدِ، وَأَنْ أَدْعُوهُمْ إِلَى الاجْتِهَادِ وَالاقْتِصَادِ. قَالَ: فَتَأْذَنْ لِي فِي الْخُرُوجِ، فان المدينة ليست لي بدار؟ فقال: او تستبدل بِهَا إِلا شَرًّا مِنْهَا! قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ الله ص أَنْ أَخْرُجَ مِنْهَا إِذَا بَلَغَ الْبِنَاءُ سَلْعًا، قَالَ: فَانْفِذْ لِمَا أَمَرَكَ بِهِ قَالَ: فَخَرَجَ حَتَّى نَزَلَ الرَّبَذَةَ، فَخَطَّ بِهَا مَسْجِدًا، وَأَقْطَعَهُ عُثْمَانُ صِرْمَةً مِنَ الإِبِلِ وَأَعْطَاهُ مَمْلُوكَيْنِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: أَنْ تَعَاهَدَ الْمَدِينَةَ حَتَّى لا تَرْتَدَّ أَعْرَابِيًّا، فَفَعَلَ. وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن محمد بن عون، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ يَخْتَلِفُ مِنَ الرَّبَذَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ مَخَافَةَ الأَعْرَابِيَّةِ، وَكَانَ يُحِبُّ الْوَحْدَةَ وَالْخَلْوَةَ فَدَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ، وَعِنْدَهُ كَعْبُ الأَحْبَارِ، فَقَالَ لِعُثْمَانَ: لا تَرْضَوْا مِنَ النَّاسِ بِكَفِّ الأَذَى حَتَّى يَبْذِلُوا الْمَعْرُوفَ، وَقَدْ يَنْبَغِي لِلْمُؤَدِّي الزَّكَاةَ أَلا يَقْتَصِرَ عَلَيْهَا حَتَّى يُحْسِنَ إِلَى الْجِيرَانِ وَالإِخْوَانِ، وَيَصِلَ الْقَرَابَاتِ فَقَالَ كَعْبٌ: مَنْ أَدَّى الْفَرِيضَةَ فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ فَرَفَعَ أَبُو ذَرٍّ مِحْجَنَهُ فَضَرَبَهُ فَشَجَّهُ، فَاسْتَوْهَبَهُ عُثْمَانُ، فَوَهَبَهُ لَهُ، وَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، اتَّقِ اللَّهَ وَاكْفُفْ يَدَكَ وَلِسَانَكَ، وَقَدْ كَانَ قَالَ لَهُ: يَا بن اليهودية، ما أنت وما هاهنا! وَاللَّهِ لَتَسْمَعَنَّ مِنِّي أَوْ لأَدْخُلَ عَلَيْكَ. وَكَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الأَشْعَثِ بْنِ سَوَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: خَرَجَ أَبُو ذَرٍّ إِلَى الرَّبَذَةِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ لَمَّا رَأَى

عُثْمَانَ لا يَنْزِعُ لَهُ، وَأَخْرَجَ مُعَاوِيَةُ أَهْلَهُ مِنْ بَعْدِهِ، فَخَرَجُوا إِلَيْهِ وَمَعَهُمْ جِرَابٌ يُثَقِّلُ يَدَ الرَّجُلِ، فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الَّذِي يَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا مَا عِنْدَهُ! فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: أَمَا وَاللَّهِ مَا فِيهِ دِينَارٌ وَلا دِرْهَمٌ، ولكنها فلوس كان إذا خرج عطاؤه ابْتَاعَ مِنْهُ فُلُوسًا لِحَوَائِجِنَا. وَلَمَّا نَزَلَ أَبُو ذَرٍّ الرَّبَذَةَ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، وَعَلَيْهَا رَجُلٌ يَلِي الصَّدَقَةَ، فَقَالَ: تَقَدَّمْ يَا أَبَا ذَرٍّ، فَقَالَ: لا، تقدم أنت، [فان رسول الله ص قَالَ لِي: اسْمَعْ وَأَطِعْ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْكَ عَبْدٌ مُجَدَّعٌ،] فَأَنْتَ عَبْدٌ وَلَسْتَ بِأَجْدَعَ- وَكَانَ مِنْ رَقِيقِ الصَّدَقَةِ، وَكَانَ أَسْوَدَ يُقَالُ لَهُ مُجَاشِعٌ. وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مبشر بن الفضيل، عن جابر، قَالَ: أجرى عُثْمَان عَلَى أبي ذر كل يوم عظما، وعلى رافع ابن خديج مثله، وكانا قَدْ تنحيا عن الْمَدِينَةِ لشيء سمعاه لم يفسر لهما، وأبصرا وَقَدْ اخطئا. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن سوقة، عن عاصم بن كُلَيْبٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُبَاتَةَ، قَالَ: خَرَجْنَا مُعْتَمِرِينَ، فَأَتَيْنَا الرَّبَذَةَ، فَطَلَبْنَا أَبَا ذَرٍّ فِي مَنْزِلِهِ، فَلَمْ نَجِدْهُ، وَقَالُوا: ذَهَبَ إِلَى الْمَاءِ. فَتَنَحَّيْنَا، وَنَزَلْنَا قَرِيبًا مِنْ مَنْزِلِهِ، فَمَرَّ وَمَعَهُ عَظْمُ جَزُورٍ يَحْمِلُهُ مَعَهُ غُلامٌ، فَسَلَّمَ ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى مَنْزِلَهُ، فَلَمْ يَمْكُثْ إِلا قَلِيلا حَتَّى جَاءَ، فَجَلَسَ إِلَيْنَا وَقَالَ: [إِنَّ رسول الله ص قَالَ لِي: اسْمَعْ وَأَطِعْ وَإِنْ كَانَ عَلَيْكَ حَبَشِيٌّ مُجْدَعٌ،] فَنَزَلْتُ هَذَا الْمَاءَ وَعَلَيْهِ رَقِيقٌ مِنْ رَقِيقِ مَالِ اللَّهِ، وَعَلَيْهِمْ حَبَشِيٌّ- وَلَيْسَ بِأَجْدَعَ، وَهُوَ مَا عَلِمْتُ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ- وَلَهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ جَزُورٌ، وَلِي مِنْهَا عَظْمٌ آكُلُهُ أَنَا وَعِيَالِي قُلْتُ: مَا لَكَ مِنَ الْمَالِ؟ قَالَ: صِرْمَةٌ مِنَ الْغَنَمِ وَقَطِيعٌ مِنَ الإِبِلِ، فِي أَحَدِهِمَا غُلامِي وَفِي الآخَرِ أَمَتِي، وَغُلامِي حُرٌّ إِلَى رَأْسِ السَّنَةِ قَالَ: قُلْتُ: إِنَّ أَصْحَابَكَ قَبْلَنَا أَكْثَرُ النَّاسِ مَالا، قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ فِي مَالِ اللَّهِ حَقٌّ إِلا وَلِي مِثْلُهُ

ذكر هرب يزدجرد إلى خراسان

وَأَمَّا الآخَرُونَ، فَإِنَّهُمْ رَوَوْا فِي سَبَبِ ذَلِكَ أشياء كثيره، وأمورا شنيعة، كرهت ذكرها . ذكر هرب يزدجرد الى خراسان وفي هَذِهِ السنة، هرب يزدجرد بن شهريار فِي قول بعضهم من فارس إِلَى خُرَاسَان. ذكر من قَالَ ذَلِكَ وما قَالَ فِيهِ: ذكر عَلِيّ بن مُحَمَّدٍ أن مسلمة أخبره عن دَاوُد، قَالَ: قدم ابن عَامِر الْبَصْرَةَ، ثُمَّ خرج إِلَى فارس فافتتحها، وهرب يزدجرد من جوز- وَهِيَ أردشير خرة- فِي سنة ثَلاثِينَ فوجه ابن عَامِر فِي أثره مجاشع بن مسعود السلمي، فأتبعه إِلَى كَرْمَان، فنزل مجاشع السيرجان بالعسكر، وهرب يزدجرد إِلَى خُرَاسَان قَالَ: وعبد القيس تقول: وجه ابن عامر هرم ابن حيان العبدي، وبكر بن وائل تقول: وجه ابن حسان اليشكري قَالَ: وأصحه عندنا مجاشع. قَالَ علي: وأخبرنا سلمة بن عُثْمَانَ- وَكَانَ فاضلا- عن شيخ من أهل كَرْمَان والفضل الكرماني، عن أَبِيهِ، قَالَ: اتبع مجاشع يزدجرد فخرج من السيرجان، فلما كَانَ عِنْدَ القصر فِي بيمند- وَهُوَ الَّذِي يقال لَهُ قصر مجاشع- أصابهم الثلج والدمق، فوقع الثلج، واشتد البرد، وصار الثلج قامة رمح، فهلك الجند، وسلم مجاشع ورجل كَانَتْ مَعَهُ جارية، فشق

بطن بعير، فأدخلها فِيهِ وهرب، فلما كَانَ من الغد، جَاءَ فوجدها حية فحملها، فسمي ذَلِكَ القصر قصر مجاشع، لأن جيشه هلكوا فِيهِ، وَهُوَ عَلَى خمسة فراسخ أو ستة من السيرجان. قَالَ علي: أَخْبَرَنَا أَبُو المقدام، عن بعض مشيخته، قَالَ: خرج مجاشع عَلَى وفد أهل الْبَصْرَةِ من تستر- وفيهم الأحنف- وأخذ فِي غداة واحدة عَلَى لجام واحد خمسين ألفا، سبق عَلَى الصفراء ابنة الغراء ابنة الغبراء، فأخذها مِنْهُ عمر حين قاسم عماله الأموال. قَالَ علي: فقلت للنضر بن إِسْحَاق: أن أبا المقدام ذكر هَذَا الحديث! فَقَالَ: صدق، سمعته من عدة من الحي وغيرهم، وفرسه الصفراء ابنة الغراء ابنة الغبراء وَهُوَ مجاشع بن مسعود بن ثعلبة بن عائذ بن وهب بْن رَبِيعَةَ بْن يربوع بْن سمال بْن عوف بن امرئ القيس بن بهثه بن سلم. ويكنى أبا سُلَيْمَان. قَالَ: وفي هَذِهِ السنة زاد عُثْمَان النداء الثالث عَلَى الزوراء، وصلى بمنى أربعا. وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عثمان رضى الله عنه

سنه احدى وثلاثين

إحدى وثلاثين (ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث المشهورة) فمما كَانَ فِيهَا من ذَلِكَ غزوة الْمُسْلِمِينَ الروم الَّتِي يقال لها: غزوة الصواري فِي قول الْوَاقِدِيّ فأما أَبُو معشر فإنه قال فيما حَدَّثَنِي أحمد بْن ثابت الرازي، عمن ذكره، عن إِسْحَاق بن عِيسَى، عنه: كَانَتْ غزوة الصواري سنة أربع وثلاثين، وَقَالَ: كَانَتْ فِي سنة إحدى وثلاثين الأساودة فِي البحر ووقائع كسرى. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: غزوة الصواري والأساودة كلتاهما كانتا فِي سنة إحدى وثلاثين. (ذكر الخبر عن هاتين الغزوتين:) ذكر الْوَاقِدِيّ أن مُحَمَّد بن صالح حدثه، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، أَنَّ أهل الشام خرجوا، عَلَيْهِم مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ، وكانت الشام قَدْ جمع جمعها لمعاوية بن أَبِي سُفْيَانَ. (ذكر السبب فِي جمعها لَهُ:) كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ وَالرَّبِيعِ وَأَبِي مُجَالِدٍ وَأَبِي عُثْمَانَ وَأَبِي حَارِثَةَ، قَالُوا: لَمَّا حَضَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ اسْتَخْلَفَ عَلَى عَمَلِهِ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ- وَهُوَ خَالُهُ وَابْنُ عَمِّهِ- وَقَدْ كَانَ وَلِيَ بِالْجَزِيرَةِ عَمَلا، فَعَزَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَحِقَ بِأَبِي عُبَيْدَةَ بِالشَّامِ،

وَكَانَ مَعَهُ، وَكَانَ جَوَادًا مَشْهُورًا بِالْجُودِ، لا يَلِيقُ شَيْئًا، وَلا يَمْنَعُ أَحَدًا. فَكُلِّمَ عُمَرُ فِي ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ: عَزَلْتَ خَالِدًا وَعَتَبْتَ عَلَيْهِ الْعَطَاءَ، وَعِيَاضٌ أَجْوَدُ الْعَرَبِ وَأَعْطَاهُمْ، لا يَمْنَعُ شَيْئًا يُسْأَلُهُ، فَقَالَ عُمَرُ: مَتَى سيمه عياض في ماله حتى يخلص الى ما لنا! وَإِنِّي مَعَ ذَلِكَ لَمْ أَكُنْ مُغَيِّرًا أَمْرًا قَضَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَمَاتَ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ بَعْدَ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَأَمَّرَ عُمَرُ عَلَى عَمَلِهِ سَعِيدَ بْنَ حُذَيْمٍ الْجُمَحِيَّ، وَمَاتَ سَعِيدٌ بَعْدُ، فَأَمَّرَ عُمَرُ مَكَانَهُ عُمَيْرَ بْنَ سَعْدٍ الأَنْصَارِيَّ، وَمَاتَ عُمَرُ وَمُعَاوِيَةُ عَلَى دِمَشْقَ وَالأُرْدُنِّ، وَعُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى حِمْصَ وَقِنَّسْرِينَ، وَإِنَّمَا مَصَّرَ قِنَّسْرِينَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ لِمَنْ لَحِقَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقَيْنِ وَمَاتَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَجَعَلَ عُمَرُ مَكَانَهُ مُعَاوِيَةَ وَنَعَاهُ لأَبِي سُفْيَانَ، فَقَالَ: مَنْ جَعَلْتَ عَلَى عَمَلِهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: وَصَلَتْكَ رَحِمٌ، فَاجْتَمَعَتْ لِمُعَاوِيَةَ الأُرْدُنُّ وَدِمَشْقُ، وَمَاتَ عُمَرُ وَمُعَاوِيَةُ عَلَى دِمَشْقَ وَالأُرْدُنِّ وَعُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ على حمص وقنسرين، وعلقمه ابن مُجَزَّزٍ عَلَى فِلَسْطِينَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَلَى مِصْرَ. وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُبَشَّرٍ، عَنْ سَالِمٍ، قَالَ: كَانَ أَوَّلَ عَامِلٍ اسْتَعْمَلَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ وَصِيَّةِ عُمَرَ ثُمَّ إِنَّ عُمَيْرَ بْنَ سَعْدٍ طُعِنَ فَأَضْنَى مِنْهَا، فَاسْتَعْفَى عُثْمَانَ وَاسْتَأْذَنَهُ فِي الرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِهِ، فَأَذِنَ لَهُ، وَضَمَّ حِمْصَ وَقِنَّسْرِينَ إِلَى مُعَاوِيَةَ. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ أَبِي حَارِثَةَ وَأَبِي عُثْمَانَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، قَالَ: لَمَّا وَلِيَ عُثْمَانُ أَقَرَّ عُمَّالَ عُمَرَ عَلَى الشَّامِ، فَلَمَّا مَاتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلْقَمَةَ الْكِنَانِيُّ- وَكَانَ عَلَى فِلَسْطِينَ- ضَمَّ عَمَلَهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَمَرِضَ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ فِي إِمَارَةِ عُثْمَانَ مَرَضًا طَالَ بِهِ، فاستعفاه واستاذنه فَأَذِنَ لَهُ، وَضَمَّ عَمَلَهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَاجْتَمَعَ الشَّامُ عَلَى مُعَاوِيَةَ لِسَنَتَيْنِ

مِنْ إِمَارَةِ عُثْمَانَ وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَلَى مِصْرَ زَمَانَ عُمَرَ، مُجْتَمِعَةً لَهُ، فَأَقَرَّهُ عُثْمَانُ صَدْرًا مِنْ إِمَارَتِهِ. رجع الحديث إِلَى حديث الْوَاقِدِيّ عن خبر الغزوتين اللتين ذكرتهما: أن أهل الشام خرجوا، عليهم معاوية بن أَبِي سُفْيَانَ، وعلى أهل البحر عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ أبي سرح وَقَالَ: وخرج عامئذ قسطنطين بن هرقل لما أصاب الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ بإفريقية، فخرجوا فِي جمع لم يجتمع للروم مثله قط منذ كَانَ الإِسْلام، فخرجوا في خمسمائة مركب، فالتقوا هم وعبد اللَّه بن سَعْدٍ، فأمن بعضهم بعضا حَتَّى قرنوا بين سفن الْمُسْلِمِينَ وأهل الشرك بين صواريها. قَالَ ابن عمر: حَدَّثَنِي عِيسَى بن عَلْقَمَةَ، عن عَبْد اللَّهِ بن أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عن مالك بْن أوس بْن الحدثان، قَالَ: كنت معهم، فالتقينا فِي البحر، فنظرنا إِلَى مراكب مَا رأينا مثلها قط، وكانت الريح علينا، فأرسينا ساعة، وأرسوا قريبا منا، وسكنت الريح عنا، فقلنا: الأمن بيننا وبينكم قَالُوا: ذَلِكَ لكم ولنا مِنْكُمْ، ثُمَّ قلنا: إن أحببتم فالساحل حَتَّى يموت الأعجل منا ومنكم، وإن شئتم فالبحر قَالَ: فنخروا نخرة واحدة، وَقَالُوا: الماء، فدنونا مِنْهُمْ، فربطنا السفن بعضها إِلَى بعض حَتَّى كنا يضرب بعضنا بعضا عَلَى سفننا وسفنهم، فقاتلنا أشد القتال، ووثبت الرجال على الرجال يضطربون بالسيوف عَلَى السفن، ويتواجئون بالخناجر، حَتَّى رجعت الدماء إِلَى الساحل تضربها الأمواج، وطرحت الأمواج جثث الرجال ركاما. قَالَ ابن عمر: فَحَدَّثَنِي هِشَام بن سَعْدٍ، عن زَيْد بن أسلم، عَنْ أَبِيهِ، عمن حضر ذَلِكَ الْيَوْم، قَالَ: رأيت الساحل حَيْثُ تضرب الريح الموج، وإن عَلَيْهِ لمثل الظرب العظيم من جثث الرجال، وإن الدم لغالب عَلَى

الماء، وَلَقَدْ قتل يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بشر كثير، وقتل من الكفار مَا لا يحصى، وصبروا يَوْمَئِذٍ صبرا لم يصبروا فِي موطن قط مثله ثُمَّ أنزل اللَّه نصره عَلَى أهل الإِسْلام، وانهزم القسطنطين مدبرا، فما انكشف إلا لما أصابه من القتل والجراح، وَلَقَدْ أصابه يَوْمَئِذٍ جراحات مكث منها حينا جريحا. قال ابن عمر: حدثنى سالم مولى أم مُحَمَّد، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ حَنَشٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الصنعاني، قَالَ: كَانَ أول مَا سمع من مُحَمَّد بن أبي حُذَيْفَة حين ركب الناس البحر سنة إحدى وثلاثين، لما صلى عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ أبي سرح بِالنَّاسِ العصر، كبر مُحَمَّد بن أبي حُذَيْفَة تكبيرا ورفع صوته حَتَّى فرغ الإمام عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ أبي سرح، فلما انصرف سأل: مَا هَذَا؟ فقيل لَهُ: هَذَا مُحَمَّد بن أبي حُذَيْفَة يكبر، فدعاه عَبْد اللَّهِ بن سَعْدٍ، فَقَالَ لَهُ: مَا هَذِهِ البدعة والحدث؟ فَقَالَ لَهُ: مَا هَذِهِ بدعة وَلا حدث، وما بالتكبير بأس، قَالَ: لا تعودن قَالَ: فأسكت مُحَمَّد بن أبي حُذَيْفَة، فلما صلى المغرب عَبْد اللَّهِ بن سَعْدٍ كبر مُحَمَّد بن أبي حُذَيْفَة تكبيرا أرفع من الأول، فأرسل إِلَيْهِ: إنك غلام أحمق، أما وَاللَّهِ لولا أني لا أدري مَا يوافق أَمِير الْمُؤْمِنِينَ لقاربت بين خطوك فَقَالَ مُحَمَّد بن أبي حُذَيْفَة: وَاللَّهِ مالك إِلَى ذَلِكَ سبيل، ولو هممت بِهِ مَا قدرت عَلَيْهِ قَالَ: فكف خير لك، وَاللَّهِ لا تركب معنا، قَالَ: فأركب مع الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: اركب حَيْثُ شئت قَالَ: فركب فِي مركب وحده مَا مَعَهُ إلا القبط، حَتَّى بلغوا ذات الصواري، فلقوا جموع الروم في خمسمائة مركب او ستمائه فِيهَا القسطنطين بن هرقل، فَقَالَ: أشيروا علي، قَالُوا: ننظر الليلة، فباتوا يضربون بالنواقيس، وبات الْمُسْلِمُونَ يصلون ويدعون اللَّه. ثُمَّ أصبحوا وَقَدْ أجمع القسطنطين أن يقاتل، فقربوا سفنهم، وقرب الْمُسْلِمُونَ فربطوا بعضها إِلَى بعض، وصف عَبْد اللَّهِ بن سَعْد الْمُسْلِمِينَ عَلَى

نواحي السفن، وجعل يأمرهم بقراءة القرآن، ويأمرهم بالصبر، ووثبت الروم فِي سفن الْمُسْلِمِينَ عَلَى صفوفهم حَتَّى نقضوها، فكانوا يقاتلون عَلَى غير صفوف. قَالَ: فاقتتلوا قتالا شديدا ثُمَّ إن اللَّه نصر الْمُؤْمِنِينَ، فقتلوا مِنْهُمْ مقتلة عظيمة لم ينج من الروم إلا الشريد. قَالَ: وأقام عَبْد اللَّهِ بذات الصواري أياما بعد هزيمة القوم، ثُمَّ أقبل راجعا، وجعل مُحَمَّد بن أبي حُذَيْفَة يقول للرجل: أما وَاللَّهِ لقد تركنا خلفنا الجهاد حقا، فيقول الرجل: وأي جهاد؟ فيقول: عُثْمَان بن عَفَّانَ فعل كذا وكذا، وفعل كذا وكذا حَتَّى أفسد الناس فقدموا بلدهم وَقَدْ أفسدهم، وأظهروا من القول مَا لم يكونوا ينطقون بِهِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: فَحَدَّثَنِي معمر بن راشد، عن الزُّهْرِيّ، قَالَ: خرج مُحَمَّد بن أبي حُذَيْفَة ومحمد بن أبي بكر عام خرج عَبْد اللَّهِ بن سَعْدٍ، فأظهرا عيب عُثْمَان وما غير وما خالف بِهِ أبا بكر وعمر، وإن دم عُثْمَان حلال. ويقولان: استعمل عَبْد اللَّهِ بن سَعْد، رجلا كَانَ رَسُول الله ص أباح دمه ونزل القرآن بكفره، وأخرج رَسُول الله ص قوما وادخلهم، ونزع اصحاب رسول الله ص وَاسْتَعْمَلَ سَعِيد بن الْعَاصِ وعبد اللَّه بن عَامِر فبلغ ذَلِكَ عَبْد اللَّهِ بن سَعْدٍ، فَقَالَ: لا تركبا معنا، فركبا فِي مركب مَا فِيهِ أحد مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ولقوا العدو، وكانا اكل الْمُسْلِمِينَ قتالا، فقيل لهما فِي ذَلِكَ، فقالا: كيف نقاتل مع رجل لا ينبغي لنا أن نحكمه! عَبْد اللَّهِ بن سَعْد استعمله عُثْمَان، وعثمان فعل وفعل، فأفسدا أهل تِلْكَ الغزاة، وعابا عُثْمَان أشد العيب فأرسل عَبْد اللَّهِ بن سَعْد إليهما ينهاهما أشد النهي، وَقَالَ: وَاللَّهِ لولا أني لا أدري مَا يوافق أَمِير الْمُؤْمِنِينَ لعاقبتكما وحبستكما. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وفي هَذِهِ السنة توفي أَبُو سُفْيَان بن حرب وَهُوَ ابن ثمان وثمانين سنة. وفي هَذِهِ السنة- أعني سنة إحدى وثلاثين- فتحت فِي قول الْوَاقِدِيّ أرمينية عَلَى يدي حبيب بن مسلمه الفهري

ذكر الخبر عن مقتل يزدجرد ملك فارس

ذكر الخبر عن مقتل يزدجرد ملك فارس وفي هَذِهِ السنة قتل يزدجرد ملك فارس. ذكر الخبر عن سبب مقتله: اختلف فِي سبب مقتله، وكيف كَانَ ذَلِكَ، فَقَالَ عَلِيّ بن مُحَمَّد: أَخْبَرَنَا غياث بن إِبْرَاهِيمَ، عن ابن إِسْحَاق، قَالَ: هرب يزدجرد من كَرْمَان فِي جماعة يسيرة إِلَى مرو، فسأل مرزبانها مالا فمنعه، فخافوا عَلَى أنفسهم، فأرسلوا إِلَى الترك يستنصرونهم عَلَيْهِ، فأتوه فبيتوه، فقتلوا أَصْحَابه، وهرب يزدجرد حَتَّى أتى منزل رجل ينقر الأرحاء عَلَى شط المرغاب، فأوى إِلَيْهِ ليلا، فلما نام قتله. قَالَ علي: وأخبرنا الْهُذَلِيّ، قَالَ: أتى يزدجرد مرو هاربا من كَرْمَان، فسأل مرزبانها وأهلها مالا، فمنعوه وخافوه، فبيتوه ولم يستجيشوا عَلَيْهِ الترك، فقتلوا أَصْحَابه، وخرج هاربا عَلَى رجليه، مَعَهُ منطقته وسيفه وتاجه، حَتَّى انتهى إِلَى منزل نقار عَلَى شط المرغاب، فلما غفل يزدجرد قتله النقار، وأخذ متاعه وألقى جسده فِي المرغاب، وأصبح أهل مرو فاتبعوا أثره، حَتَّى خفي عَلَيْهِم عِنْدَ منزل النقار، فأخذوه، فأقر لَهُمْ بقتله وأخرج متاعه، فقتلوا النقار وأهل بيته، وأخذوا متاعه ومتاع يزدجرد، وأخرجوه من المرغاب فجعلوه فِي تابوت من خشب. قَالَ: فزعم بعضهم أَنَّهُمْ حملوه إِلَى إصطخر فدفن بِهَا فِي أول سنة إحدى وثلاثين، وسميت مرو خذاه دشمن، وقد كان يزدجرد وطيء امرأة بِهَا فولدت لَهُ غلاما ذاهب الشق- وذلك بعد ما قتل يزدجرد- فسمى المخدج، فولد لَهُ أولاد بخراسان، فوجد قُتَيْبَة حين افتتح الصغد أو غيرها جاريتين فقيل لَهُ: إنهما من ولد المخدج، فبعث بهما- أو بإحداهما- إِلَى الحجاج بن يُوسُفَ، فبعث بِهَا إِلَى الْوَلِيدِ بن عَبْد الْمَلِكِ، فولدت للوليد يَزِيد بن الْوَلِيد الناقص. قَالَ علي: وأخبرنا روح بن عَبْدِ اللَّهِ، عن خرداذبة الرازي، أن

يزدجرد أتى خُرَاسَان وَمَعَهُ خرزاذمهر، أخو رستم، فَقَالَ لماهوية مرزبان مرو: إني قَدْ سلمت إليك الملك ثُمَّ انصرف إِلَى العراق وأقام يزدجرد بمرو، وهم بعزل ماهوية، فكتب ماهويه إِلَى الترك يخبرهم بانهزام يزدجرد وبقدومه عَلَيْهِ، وعاهدهم عَلَى مؤازرتهم عَلَيْهِ، وخلى لَهُمُ الطريق. قَالَ: وأقبل الترك إِلَى مرو، وخرج إِلَيْهِم يزدجرد فيمن مَعَهُ من أَصْحَابه، فقاتلهم وَمَعَهُ مَاهويه فِي أساورة مرو، فأثخن يزدجرد فِي الترك، فخشي ماهويه أن ينهزم الترك، فتحول إِلَيْهِم فِي أساورة مرو، فانهزم جند يزدجرد وقتلوا، وعقر فرس يزدجرد عِنْدَ المساء، فمضى ماشيا هاربا حَتَّى انتهى إِلَى بيت فِيهِ رحا عَلَى شط المرغاب، فمكث فِيهِ ليلتين، فطلبه ماهويه فلم يقدر عَلَيْهِ، فلما أصبح اليوم الثانى دخل صاحب الرحا بيته، فلما رَأَى هيئة يزدجرد قَالَ: مَا أنت؟ إنسي أو جني! قَالَ: إنسي، فهل عندك طعام؟ قَالَ: نعم، فأتاه بِهِ، فَقَالَ: إني مزمزم فأتني بِمَا أزمزم بِهِ، فذهب الطحان إِلَى إسوار من الأساورة، فطلب مِنْهُ مَا يزمزم بِهِ، قَالَ: وما تصنع بِهِ؟ قَالَ: عندي رجل لم أر مثله قط، وَقَدْ طلب هَذَا مني فأدخله عَلَى ماهويه، فَقَالَ: هَذَا يزدجرد، اذهبوا فجيئوني برأسه، فَقَالَ لَهُ الموبذ: ليس ذَلِكَ لك، قَدْ علمت أن الدين والملك مقترنان لا يستقيم أحدهما إلا بالآخر، ومتى فعلت انتهكت الحرمة الَّتِي لا بعدها وتكلم الناس وأعظموا ذَلِكَ، فشتمهم ماهويه، وَقَالَ للأساورة: من تكلم فاقتلوه وأمر عدة فذهبوا مع الطحان، وأمرهم أن يقتلوا يزدجرد، فانطلقوا فلما رأوه كرهوا قتله، وتدافعوا ذَلِكَ وَقَالُوا للطحان: ادخل فاقتله، فدخل عَلَيْهِ وَهُوَ نائم وَمَعَهُ حجر فشدخ بِهِ رأسه، ثُمَّ احتز رأسه، فدفعه إِلَيْهِم، وألقى جسده فِي المرغاب فخرج قوم من أهل مرو، فقتلوا الطحان، وهدموا رحاه، وخرج أسقف مرو، فأخرج جسد يزدجرد من المرغاب، فجعله فِي تابوت، وحمله إِلَى إصطخر، فوضعه في ناووس

وَقَالَ آخرون فِي ذَلِكَ مَا ذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، أنه ذكر لَهُ أن يزدجرد هرب بعد وقعة نهاوند، وكانت آخر وقعاتهم حَتَّى سقط إِلَى أرض إصبهان، وبها رجل يقال لَهُ مطيار من دهاقينها- وَهُوَ المنتدب كَانَ لقتال العرب حين نكلت الأعاجم عنها- فدعاهم إِلَى نفسه، فَقَالَ: إن وليت أموركم وسرت بكم إِلَيْهِم مَا تجعلون لي؟ فَقَالُوا: نقر لك بفضلك فسار بهم، فأصاب من العرب شَيْئًا يسيرا، فحظي بِهِ عندهم، ونال بِهِ أفضل الدرجات فِيهِمْ. فلما رَأَى يزدجرد أمر إصبهان ونزلها، أتاه مطيار ذات يوم زائرا، فحجبه بوابه، وَقَالَ لَهُ: قف حَتَّى أستأذن لك عَلَيْهِ، فوثب عَلَيْهِ فشجه أنفة وحمية لحجبه إِيَّاهُ، ودخل البواب عَلَى يزدجرد مدمى، فلما نظر إِلَيْهِ أفظعه ذَلِكَ، وركب من ساعته مرتحلا عن إصبهان، وأشير عَلَيْهِ أن يأتي أقصى مملكته فيكون بِهَا، لاشتغال العرب عنه بِمَا هم فِيهِ إِلَى يوم فسار متوجها إِلَى ناحية الري، فلما قدمها خرج إِلَيْهِ صاحب طبرستان، وعرض عَلَيْهِ بلاده، وأخبره بحصانتها، وَقَالَ لَهُ: إن أنت لم تجبني يومك هَذَا ثُمَّ أتيتني بعد ذَلِكَ لم أقبلك ولم آوك، فأبى عَلَيْهِ يزدجرد، وكتب لَهُ بالأصبهبذية، وَكَانَ لَهُ فِيمَا خلا عَلَيْهِ درجة أوضع منها. وَقَالَ بعضهم: إن يزدجرد مضى من فوره ذَلِكَ إِلَى سجستان، ثُمَّ سار منها إِلَى مرو فِي ألف رجل من الأساورة. وَقَالَ بعضهم: إن يزدجرد وقع إِلَى أرض فارس، فأقام بِهَا أربع سنين، ثُمَّ أتى أرض كَرْمَان، فأقام بِهَا سنتين أو ثلاث سنين، فطلب إِلَيْهِ دهقان كَرْمَان أن يقيم عنده، فلم يفعل، وطلب من الدهقان أن يعطيه رهينة، فلم يعطه دهقان كَرْمَان شَيْئًا، فلم يعطه مَا طلب، فأخذ برجله فسحبه وطرده عن بلاده، فوقع منها إِلَى سجستان، فأقام بِهَا نحوا من خمس سنين. ثُمَّ أجمع أن ينزل خُرَاسَان فيجمع الجموع فِيهَا ويسير بهم إِلَى من غلبه عَلَى مملكته، فسار بمن مَعَهُ إِلَى مرو، وَمَعَهُ الرهن من أولاد الدهاقين، وَمَعَهُ من رؤسائهم فرخزاذ، فلما قدم مرو استغاث مِنْهُمْ بالملوك، وكتب إِلَيْهِم يستمدهم، وإلى صاحب الصين وملك فرغانة وملك كابل وملك الخزر

والدهقان يَوْمَئِذٍ بمرو ماهويه بن مافناه بن فيد أَبُو براز ووكل ماهوية ابنه براز مدينة مرو- وكانت إِلَيْهِ- وأراد يزدجرد دخول الْمَدِينَةِ لينظر إِلَيْهَا وإلى قهندزها- وَكَانَ ماهويه قَدْ تقدم إِلَى ابنه أَلا يفتحها لَهُ إن رام دخولها تخوفا لمكره وغدره- فركب يزدجرد فِي الْيَوْم الَّذِي أراد دخولها، فأطاف بِالْمَدِينَةِ، فلما انتهى إِلَى باب من أبوابها، وأراد دخولها مِنْهُ صاح أَبُو براز ببراز: أن افتح- وَهُوَ فِي ذَلِكَ يشد منطقته، ويومىء إِلَيْهِ أَلا يفعل- وفطن لذلك رجل من أَصْحَاب يزدجرد، فأعلمه ذَلِكَ، واستأذنه فِي ضرب عنق ماهويه، وَقَالَ: إن فعلت صفت لك الأمور بهذه الناحية، فأبى عَلَيْهِ. وَقَالَ بعضهم: بل كَانَ يزدجرد ولى مرو فرخزاذ، وأمر براز أن يدفع القهندز والمدينة إِلَيْهِ، فأبى أهل الْمَدِينَةِ ذَلِكَ، لأن ماهويه أبا براز تقدم إِلَيْهِم بِذَلِكَ، وَقَالَ لَهُمْ: ليس هَذَا لكم بملك، فقد جاءكم مفلولا مجروحا، ومرو لا تحتمل مَا يحتمل غيرها من الكور، فإذا جئتكم غدا فلا تفتحوا الباب فلما أتاهم فعلوا ذَلِكَ، وانصرف فرخزاذ، فجثا بين يدي يزدجرد، وَقَالَ: استصعبت عَلَيْك مرو، وهذه العرب قَدْ أتتك قَالَ: فما الرأي؟ قَالَ: الرأي أن نلحق ببلاد الترك ونقيم بِهَا، حَتَّى يتبين لنا أمر العرب، فإنهم لا يدعون بلدة إلا دخلوها قَالَ: لست أفعل، ولكنى أرجع عودي عَلَى بدئي، فعصاه ولم يقبل رأيه، وسار يزدجرد، فأتى براز دهقان مرو، وأجمع عَلَى صرف الدهقنة إِلَى سنجان ابن أخيه، فبلغ ذَلِكَ ماهوية أبا براز، فعمل فِي هلاك يزدجرد وكتب إِلَى نيزك طرخان يخبره أن يزدجرد وقع إِلَيْهِ مفلولا، ودعاه إِلَى القدوم عَلَيْهِ لتكون أيديهما معا فِي أخذه، والاستيثاق مِنْهُ، فيقتلوه أو يصالحوا عَلَيْهِ العرب، وجعل لَهُ إن هُوَ أراحه مِنْهُ أن يفي لَهُ كل يوم بألف درهم، وسأله أن يكتب إِلَى يزدجرد مماكرا لَهُ لينحي عنه عامة جنده، ويحصل فِي طائفة من عسكره وخواصه، فيكون أضعف لركنه، وأهون لشوكته، وَقَالَ: تعلمه فِي كتابك إِلَيْهِ الَّذِي عزمت عَلَيْهِ، من مناصحته ومعونته عَلَى عدوه من العرب، حتى

بقهرهم، وتطلب إِلَيْهِ أن يشتق لك اسما من أسماء أهل الدرجات بكتاب مختوم بالذهب، وتعلمه أنك لست قادما عَلَيْهِ حَتَّى ينحي عنه فرخزاذ. فكتب نيزك بِذَلِكَ إِلَى يزدجرد، فلما ورد عَلَيْهِ كتابه بعث إِلَى عظماء مرو فاستشارهم، فَقَالَ لَهُ سنجان: لست أَرَى أن تنحي عنك جندك وفرخزاذ لشيء، وَقَالَ أَبُو براز: بل أَرَى أن تتألف نيزك وتجيبه إِلَى مَا سأل فقبل رأيه، وفرق عنه جنده، وامر فرخزاذ ان ياتى اجمه سرخس، فصاح فرخزاذ، وشق جيبه، وتناول عمودا بين يديه يريد ضرب أبي براز بِهِ، وَقَالَ: يَا قتلة الملوك، قتلتم ملكين، وأظنكم قاتلي هَذَا! ولم يبرح فرخزاذ حَتَّى كتب لَهُ يزدجرد بخط يده كتابا: هَذَا كتاب لفرخزاذ، إنك قَدْ سلمت يزدجرد وأهله وولده وحاشيته وما مَعَهُ إِلَى ماهويه دهقان مرو وأشهد عَلَيْهِ بِذَلِكَ. فأقبل نيزك إِلَى موضع بين المروين، يقال له حلسدان، فلما أجمع يزدجرد عَلَى لقائه والمسير إِلَيْهِ، أشار عَلَيْهِ أَبُو براز أَلا يلقاه فِي السلاح فيرتاب بِهِ، وينفر عنه، ولكن يلقاه بالمزامير والملاهي، ففعل فسار فيمن أشار عَلَيْهِ ماهويه، وسمى لَهُ، وتقاعس عنه أَبُو براز، وكردس نيزك أَصْحَابه كراديس. فلما تدانيا استقبله نيزك ماشيا، ويزدجرد عَلَى فرس لَهُ، فأمر لنيزك بجنيبة من جنائبه فركبها، فلما توسط عسكره تواقفا، فَقَالَ لَهُ نيزك فِيمَا يقول: زوجني إحدى بناتك وأناصحك، وأقاتل معك عدوك فَقَالَ لَهُ يزدجرد: وعلي تجترئ أيها الكلب! فعلاه نيزك بمخفقته، وصاح يزدجرد: غدر الغادر! وركض منهزما، ووضع أَصْحَاب نيزك سيوفهم فِيهِمْ، فأكثروا فِيهِمُ القتل وانتهى يزدجرد من هزيمته إِلَى مكان من أرض مرو، فنزل عن فرسه، ودخل بيت طحان فمكث فِيهِ ثلاثة أيام، فَقَالَ لَهُ الطحان: أيها الشقي، اخرج فاطعم شَيْئًا، فإنك قَدْ جعت منذ ثلاث، قال: لست

أصل إِلَى ذَلِكَ إلا بزمزمة وَكَانَ رجل من زمازمة مرو أخرج حنطة لَهُ ليطحنها، فكلمه الطحان أن يزمزم عنده ليأكل، ففعل ذَلِكَ، فلما انصرف سمع أبا براز يذكر يزدجرد، فسألهم عن حليته، فوصفوه لَهُ، فأخبرهم أنه رآه فِي بيت طحان، وَهُوَ رجل جعد مقرون حسن الثنايا، مقرط مسور. فوجه إِلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ رجلا من الأساورة، وأمره إن هُوَ ظفر بِهِ أن يخنقه بوتر، ثُمَّ يطرحه فِي نهر مرو، فلقوا الطحان، فضربوه ليدل عَلَيْهِ فلم يفعل، وجحدهم أن يكون يعرف أين توجه فلما أرادوا الانصراف عنه قَالَ لَهُمْ رجل مِنْهُمْ: إني أجد ريح المسك، ونظر إِلَى طرف ثوبه من ديباج فِي الماء، فاجتذبه إِلَيْهِ، فإذا هُوَ يزدجرد، فسأله أَلا يقتله وَلا يدل عَلَيْهِ، ويجعل لَهُ خاتمه وسواره ومنطقته، قَالَ الآخر: أعطني أربعة دراهم وأخلي عنك، قَالَ يزدجرد: ويحك خاتمي لك، وثمنه لا يحصى! فأبى عَلَيْهِ، قَالَ يزدجرد: قَدْ كنت أخبر أني سأحتاج إِلَى أربعة دراهم، وأضطر إِلَى أن يكون أكلي أكل الهر، فقد عاينت، وجاءني بحقيقته، وانتزع أحد قرطيه فأعطاه الطحان مكافأة لَهُ لكتمانه عَلَيْهِ، ودنا مِنْهُ كأنه يكلمه بشيء، فوصف لَهُ موضعه، وأنذر الرجل أَصْحَابه، فأتوه، فطلب إِلَيْهِم يزدجرد أَلا يقتلوه وَقَالَ: ويحكم! إنا نجد فِي كتبنا أن من اجترأ عَلَى قتل الملوك عاقبه اللَّه بالحريق فِي الدُّنْيَا، مع مَا هُوَ قادم عَلَيْهِ، فلا تقتلوني وآتوني الدهقان أو سرحوني إِلَى العرب، فإنهم يستحيون مثلي من الملوك، فأخذوا مَا كَانَ عَلَيْهِ من الحلي، فجعلوه فِي جراب، وختموا عَلَيْهِ، ثُمَّ خنقوه بوتر، وطرحوه فِي نهر مرو، فجرى بِهِ الماء حَتَّى انتهى إِلَى فوهة الرزيق، فتعلق بعود، فأتاه أسقف مرو، فحمله ولفه فِي طيلسان ممسك، وجعله في تابوت، وحمله الى بائى بابان أسفل ماجان، فوضعه فِي عقد كَانَ يكون مجلس الأسقف فِيهِ وردمه، وسأل أَبُو براز عن أحد القرطين حين افتقده، فأخذ الَّذِي دل عَلَيْهِ فضربه حَتَّى أتى عَلَى نفسه، وبعث بِمَا أصيب لَهُ إِلَى الخليفة يَوْمَئِذٍ، فأغرم الخليفة الدهقان قيمة القرط المفقود

وَقَالَ آخرون: بل سار يزدجرد من كَرْمَان قبل ورود العرب إياها، فأخذ عَلَى طريق الطبسين وقهستان، حَتَّى شارف مرو فِي زهاء أربعة آلاف رجل، ليجمع من أهل خُرَاسَان جموعا، ويكر إِلَى العرب ويقاتلهم، فتلقاه قائدان متباغضان متحاسدان كانا بمرو، يقال لأحدهما براز والآخر سنجان، ومنحاه الطاعة، وأقام بمرو، وخص براز فحسده ذَلِكَ سنجان، وجعل براز يبغي سنجان الغوائل، ويوغل صدر يزدجرد عَلَيْهِ، وسعى بسنجان حَتَّى عزم عَلَى قتله، وأفشى مَا كَانَ عزم عَلَيْهِ من ذَلِكَ إِلَى امرأة من نسائه كَانَ براز واطأها، فأرسلت إِلَى براز بنسوة زعمت بإجماع يزدجرد عَلَى قتل سنجان، وفشا مَا كَانَ عزم عَلَيْهِ يزدجرد من ذَلِكَ فنذر سنجان، وأخذ حذره، وجمع جمعا كنحو أَصْحَاب براز، ومن كَانَ مع يزدجرد من الجند، وتوجه نحو القصر الَّذِي كَانَ يزدجرد نازله وبلغ ذَلِكَ براز، فنكص عن سنجان لكثرة جموعه، ورعب جمع سنجان يزدجرد وأخافه، فخرج من قصره متنكرا، ومضى عَلَى وجهه راجلا لينجو بنفسه، فمشى نحوا من فرسخين حَتَّى وقع إِلَى رحا مَا، فدخل بيت الرحا، فجلس فِيهِ كالا لغبا، فرآه صاحب الرحا ذا هيئة وطرة وبزة كريمة، ففرش لَهُ، فجلس وأتاه بطعام فطعم، ومكث عنده يَوْمًا وليلة، فسأله صاحب الرحا أن يأمر لَهُ بشيء، فبذل لَهُ منطقة مكللة بجوهر كَانَتْ عَلَيْهِ، فأبى صاحب الرحا أن يقبلها، وَقَالَ: إنما كَانَ يرضيني من هَذِهِ المنطقة أربعة دراهم كنت أطعم بِهَا وأشرب، فأخبره أنه لا ورق مَعَهُ، فتملقه صاحب الرحا، حَتَّى إذا غفا قام إِلَيْهِ بفأس لَهُ فضرب بِهَا هامته فقتله، واحتز رأسه، وأخذ مَا كَانَ عَلَيْهِ من ثياب ومنطقة، وألقى جيفته فِي النهر الَّذِي كَانَ تدور بمائه رحاه، وبقر بطنه، وأدخل فِيهِ أصولا من أصول طرفاء كَانَتْ نابتة فِي ذَلِكَ النهر لتحبس جثته فِي الموضع الَّذِي ألقاه فِيهِ، فلا يسفل فيعرف ويطلب قاتله وما أخذ من سلبه، وهرب عَلَى وجهه. وبلغ قتل يزدجرد رجلا من أهل الأهواز كَانَ مطرانا عَلَى مرو،

شخوص عبد الله بن عامر إلى خراسان وما قام به من فتوح

يقال لَهُ إيلياء، فجمع من كَانَ قبله من النصارى، وَقَالَ لَهُمْ: إن ملك الفرس قَدْ قتل، وَهُوَ ابن شهريار بن كسرى، وإنما شهريار ولد شيرين المؤمنة الَّتِي قَدْ عرفتم حقها وإحسانها إِلَى أهل ملتها مِنْ غَيْرِ وجه، ولهذا الملك عنصر فِي النصرانية مع مَا نال النصارى فِي ملك جده كسرى من الشرف، وقبل ذَلِكَ فِي مملكة ملوك من أسلافه من الخير، حَتَّى بنى لَهُمْ بعض البيع، وسدد لَهُمْ بعض ملتهم، فينبغي لنا أن نحزن لقتل هَذَا الملك من كرامته بقدر إحسان أسلافه وجدته شيرين، كَانَ إِلَى النصارى، وَقَدْ رأيت أن أبني لَهُ ناووسا، وأحمل جثته فِي كرامة حَتَّى أواريها فِيهِ. فَقَالَ النصارى: أمرنا لأمرك أيها المطران تبع، ونحن لك عَلَى رأيك هَذَا مواطئون فأمر المطران فبنى فِي جوف بستان المطارنة بمرو ناووسا، ومضى بنفسه وَمَعَهُ نصارى مرو حَتَّى استخرج جثة يزدجرد من النهر وكفنها، وجعلها فِي تابوت، وحمله من كَانَ مَعَهُ من النصارى على عواتقهم حتى أتوا به الناووس الَّذِي أمر ببنائه لَهُ وواروه فِيهِ، وردموا بابه، فكان ملك يزدجرد عشرين سنة، منها أربع سنين فِي دعة وست عشرة سنة فِي تعب من محاربة العرب إِيَّاهُ وغلظتهم عَلَيْهِ. وَكَانَ آخر ملك ملك من آل أردشير بن بابك، وصفا الملك بعده للعرب . شخوص عبد الله بن عامر الى خراسان وما قام به من فتوح وفي هَذِهِ السنة- أعني سنة إحدى وثلاثين- شخص عَبْد اللَّهِ بن عَامِر إِلَى خُرَاسَان ففتح ابرشهر وطوس وبيورد ونسا حَتَّى بلغ سرخس، وصالح فِيهَا أهل مرو. ذكر الخبر عن ذَلِكَ: ذكر أن ابن عَامِر لما فتح فارس قام إِلَيْهِ أوس بن حبيب التميمي، فَقَالَ: أصلح اللَّه الأمير! إن الأرض بين يديك، ولم تفتتح من ذَلِكَ إلا القليل، فسر فإن اللَّه ناصرك، قال: او لم نأمر بالمسير! وكره أن يظهر أنه قبل

رأيه، فذكر عَلِيّ بن مُحَمَّدٍ أن مسلمة بن محارب أخبره عن السكن بن قَتَادَة العريني، قَالَ: فتح ابن عَامِر فارس ورجع إِلَى الْبَصْرَة، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى إصطخر شريك بن الأعور الحارثي، فبنى شريك مسجد إصطخر، فدخل عَلَى ابن عَامِر رجل من بني تميم، قَالَ: كنا نقول: إنه الأحنف- ويقال: أوس بن جابر الجشمي جشم تميم- فَقَالَ لَهُ: إن عدوك مِنْكَ هارب، وَهُوَ لك هائب، والبلاد واسعة، فسر فإن اللَّه ناصرك، ومعز دينه. فتجهز ابن عَامِر، وأمر الناس بالجهاز للمسير، واستخلف عَلَى الْبَصْرَةِ زيادا، وسار إِلَى كَرْمَان، ثُمَّ أخذ إِلَى خُرَاسَان، فقوم يقولون: أخذ طريق إصبهان، ثُمَّ سار إِلَى خُرَاسَان. قَالَ علي: أَخْبَرَنَا المفضل الكرماني، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ أشياخ كَرْمَان يذكرون أن ابن عَامِر نزل المعسكر بالسيرجان، ثُمَّ سار إِلَى خُرَاسَان، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى كَرْمَان مجاشع بن مسعود السلمى، وأخذ ابن عامر على مفازة رابر، وَهِيَ ثمانون فرسخا، ثُمَّ سار إِلَى الطبسين يريد أَبْرَشَهْر، وَهِيَ مدينة نيسابور، وعلى مقدمته الأحنف بن قيس، فأخذ إِلَى قهستان، وخرج إِلَى أَبْرَشَهْر فلقيه الهياطلة، وهم أهل هراة، فقاتلهم الأحنف فهزمهم، ثُمَّ أتى ابن عَامِر نيسابور قَالَ علي: وأخبرنا أَبُو مخنف، عن نمير بن وعلة، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: أخذ ابن عَامِر عَلَى مفازة خبيص، ثُمَّ عَلَى خواست- ويقال: عَلَى يزد- ثُمَّ عَلَى قهستان، فقدم الأحنف فلقيه الهياطلة، فقاتلهم فهزمهم، ثُمَّ أتى أَبْرَشَهْر، فنزلها ابن عَامِر، وَكَانَ سَعِيد بن الْعَاصِ فِي جند أهل الْكُوفَة، فأتى جُرْجَان وَهُوَ يريد خُرَاسَان، فلما بلغه نزول ابن عَامِر أَبْرَشَهْر، رجع إِلَى الْكُوفَةِ. قَالَ علي: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بن مُجَاهِدٍ، قَالَ: نزل ابن عَامِر عَلَى أَبْرَشَهْر فغلب عَلَى نصفها عنوة، وَكَانَ النصف الآخر فِي يد كنارى، ونصف نسا وطوس، فلم يقدر ابن عَامِر أن يجوز إِلَى مرو، فصالح كنارى، فأعطاه ابنه أبا الصلت ابن كنارى وابن أخيه سليما رهنا، ووجه عَبْد اللَّهِ بن خازم إِلَى هراة

وحاتم بن النُّعْمَانِ إِلَى مرو، فأخذ ابن عامر ابنى كنارى، فصارا الى النعمان ابن الأفقم النَّصْرِيّ فأعتقهما. قَالَ علي: وأخبرنا أَبُو حفص الأَزْدِيّ، عن إدريس بن حنظلة العمي، قَالَ: فتح ابن عَامِر مدينة أَبْرَشَهْر عنوة، وفتح مَا حولها طوس وبيورد ونسا وحمران، وَذَلِكَ سنة إحدى وثلاثين. قَالَ علي: أَخْبَرَنَا أَبُو السري المروزي، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سمعت مُوسَى بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خازم يقول: أبي صالح أهل سرخس، بعثه إِلَيْهِم عَبْد اللَّهِ بن عَامِر من أبرشهر وصالح ابن عَامِر أهل أَبْرَشَهْر صلحا، فأعطوه جاريتين من آل كسرى بابونج وطهميج- او طهميج- فاقبل بهما معه، وبعث أمين ابن أحمر اليشكري، ففتح مَا حول أَبْرَشَهْر: طوس وبيورد ونسا وحمران، حَتَّى انتهى إِلَى سرخس. قَالَ علي: وأخبرنا الصلت بن دينار، عن ابن سيرين، قَالَ: بعث ابن عَامِر عَبْد اللَّهِ بن خازم إِلَى سرخس، ففتحها وأصاب ابن عَامِر جاريتين من آل كسرى، فأعطى إحداهما النوشجان، وماتت بابونج. قَالَ علي: وأخبرنا أَبُو الذيال زهير بن هنيد العدوي، عن أشياخ من أهل خُرَاسَان، أن ابن عَامِر سرح الأسود بن كلثوم العدوي- عدي الرباب- إِلَى بيهق، وَهُوَ من أَبْرَشَهْر، بينها وبين مدينة أَبْرَشَهْر ستة عشر فرسخا، ففتحها وقتل الأسود بن كلثوم قَالَ: وَكَانَ فاضلا فِي دينه، كَانَ من أَصْحَاب عَامِر بن عَبْدِ اللَّهِ العنبري وَكَانَ عَامِر يقول بعد مَا أخرج مِنَ الْبَصْرَةِ: مَا آسى من العراق على شيء الا على مماء الهواجر، وتجاوب المؤذنين، وإخوان مثل الأسود بن كلثوم. قَالَ علي: وأخبرنا زهير بن هنيد، عن بعض عمومته، قَالَ: غلب ابن عَامِر عَلَى نيسابور، وخرج إِلَى سرخس، فأرسل إِلَى أهل مرو يطلب

الصلح، فبعث إِلَيْهِم ابن عَامِر حاتم بن النُّعْمَانِ الباهلي، فصالح براز مرزبان مرو عَلَى ألفي ألف ومائتي ألف. قَالَ: فأخبرنا مُصْعَب بن حيان عن أخيه مقاتل بن حيان، قال: صالحهم على سته آلاف الف ومائتي ألف. وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

سنه اثنتين وثلاثين

ثُمَّ دخلت سنة اثنتين وثلاثين (ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث المذكورة) فمن ذَلِكَ غزوة مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ المضيق، مضيق القسطنطينية، وَمَعَهُ زوجته عاتكة ابنة قرطة بن عبد عَمْرو بن نوفل بن عبد مناف. وقيل: فاختة، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إِسْحَاق، عن أبي معشر، وَهُوَ قول الْوَاقِدِيّ. وفي هَذِهِ السنة استعمل سَعِيد بن الْعَاصِ سلمان بن رَبِيعَةَ عَلَى فرج بلنجر، وأمد الجيش الَّذِي كَانَ بِهِ مقيما مع حُذَيْفَة بأهل الشام، عَلَيْهِم حبيب بن مسلمة الفهري- فِي قول سيف- فوقع فيها الاختلاف بين سلمان وحبيب فِي الأمر، وتنازع فِي ذَلِكَ أهل الشام وأهل الْكُوفَة. ذكر الخبر بِذَلِكَ: فَمِمَّا كَتَبَ بِهِ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة قَالا: كَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى سَعِيدٍ: أَنْ أَغْزِ سلمان الباب، وكتب الى عبد الرحمن ابن رَبِيعَةَ وَهُوَ عَلَى الْبَابِ: أَنَّ الرَّعِيَّةَ قَدْ أَبْطَرَ كَثِيرًا مِنْهُمُ الْبِطْنَةُ، فَقَصِّرْ، وَلا تَقْتَحِمْ بِالْمُسْلِمِينَ، فَإِنِّي خَاشٍ أَنْ يُبْتَلَوْا، فَلَمْ يَزْجُرْ ذَلِكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ عَنْ غَايَتِهِ، وَكَانَ لا يُقَصِّرُ عَنْ بَلَنْجَرَ، فَغَزَا سَنَةَ تِسْعٍ مِنْ إِمَارَةِ عُثْمَانَ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَلَنْجَرَ، حَصَرُوهَا ونَصَبُوا عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ وَالْعَرَادَاتِ، فَجَعَلَ لا يَدْنُو مِنْهَا أَحَدٌ إِلا أَعْنَتُوهُ أَوْ قَتَلُوهُ، فَأَسْرَعُوا فِي النَّاسِ، وَقُتِلَ مِعْضَدٌ فِي تِلَكَ الأَيَّامِ. إِنَّ التُّرْكَ اتَّعَدُوا يَوْمًا، فَخَرَجَ أَهْلُ بَلَنْجَرَ، وَتَوَافَتْ إِلَيْهِمُ التُّرْكُ فَاقْتَتَلُوا، فَأُصِيبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رَبِيعَةَ- وَكَانَ يُقَالُ لَهُ ذُو النُّورِ- وَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ فَتَفَرَّقُوا، فَأَمَّا مَنْ أَخَذَ طَرِيقَ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ فَحَمَاهُ حَتَّى خَرَجَ

مِنَ الْبَابِ، وَأَمَّا مَنْ أَخَذَ طَرِيقَ الْخَزَرِ وَبِلادِهَا، فَإِنَّهُ خَرَجَ عَلَى جَيْلانَ وَجَرْجَانَ وَفِيهِمْ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَخَذَ الْقَوْمُ جَسَدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَجَعَلُوهُ فِي سَفَطٍ، فَبَقِيَ فِي أَيْدِيهِمْ، فَهُمْ يَسْتَسْقُونَ بِهِ إِلَى الْيَوْمِ وَيَسْتَنْصِرُونَ به. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن دَاوُد بن يَزِيدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: وَاللَّهِ لسلمان بن رَبِيعَة كَانَ أبصر بالمضارب من الجازر بمفاصل الجزور. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْغُصْنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بني كنانة، قال: لما تتابعت الغزوات على الخزر، وتذامروا وتعايروا وَقَالُوا: كنا أمة لا يقرن لنا أحد حَتَّى جاءت هَذِهِ الأمة القليلة، فصرنا لا نقوم لها فَقَالَ بعضهم لبعض: إن هَؤُلاءِ لا يموتون، ولو كَانُوا يموتون لما اقتحموا علينا وما أصيب فِي غزواتها أحد إلا فِي آخر غزوة عبد الرَّحْمَن، فَقَالُوا: أفلا تجربون! فكمنوا فِي الغياض، فمر بأولئك الكمين مرار من الجند، فرموهم منها، فقتلوهم، فواعدوا رءوسهم، ثُمَّ تداعوا إِلَى حربهم، ثُمَّ اتعدوا يَوْمًا، فاقتتلوا، فقتل عبد الرَّحْمَن، وأسرع فِي الناس فافترقوا فرقين، فرق نحو الباب فحماهم سلمان حَتَّى أخرجهم، وفرق أخذوا نحو الخزر، فطلعوا عَلَى جيلان وجرجان، فِيهِمْ سلمان الفارسي وأبو هُرَيْرَة. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن المستنير بن يَزِيدَ، عن أخيه قيس، عَنْ أَبِيهِ: قَالَ كَانَ يَزِيد بن مُعَاوِيَة وعلقمة بن قيس ومعضد الشيباني وأبو مفزر التميمي فِي خباء، وعمرو بن عتبة وخالد بن رَبِيعَة والحلحال بن ذري والقرثع فِي خباء، وكانوا متجاورين فِي عسكر بلنجر، وَكَانَ القرثع يقول: مَا أحسن لمع الدماء عَلَى الثياب! وَكَانَ عَمْرو بن عتبة يقول لقباء عَلَيْهِ أبيض: مَا أحسن حمرة الدماء فِي بياضك! وغزا أهل الْكُوفَة بلنجر سنين من إمارة عُثْمَان لم تئم فيهن امرأة، ولم ييتم فيهن صبي من قتل، حَتَّى كَانَ سنة تسع، فلما كَانَ سنة تسع قبل

المزاحفة بيومين رَأَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة أن غزالا جيء بِهِ إِلَى خبائه، لم ير غزالا أحسن مِنْهُ حَتَّى لف فِي ملحفته، ثُمَّ أتى بِهِ قبر عَلَيْهِ أربعة نفر لم ير قبرا أشد استواء مِنْهُ وَلا أحسن مِنْهُ، حَتَّى دفن فِيهِ، فلما تغادى الناس عَلَى الترك رمي يَزِيد بحجر، فهشم رأسه، فكأنما زين ثوبه بالدماء زينة، وليس يتلطخ، فكان ذَلِكَ الغزال الَّذِي رَأَى، وَكَانَ بذلك الدم على ذلك القباء الْحسن، فلما كَانَ قبل المزاحفة بيوم تغادوا، فَقَالَ معضد لعلقمة: أعرني بردك أعصب بِهِ رأسي، ففعل، فأتى البرج الَّذِي أصيب فِيهِ يَزِيد، فرماهم فقتل مِنْهُمْ، ورمي بحجر فِي عرادة، ففضخ هامته، واجتره أَصْحَابه فدفنوه إِلَى جنب يَزِيد، وأصاب عَمْرو بن عتبة جراحة، فرأى قباءه كما اشتهى. وقتل، فلما كَانَ يوم المزاحفة قاتل القرثع حَتَّى خرق بالحراب، فكأنما كَانَ قباؤه ثوبا أرضه بيضاء ووشيه أحمر، وما زال الناس ثبوتا حَتَّى أصيب، وكانت هزيمة الناس مع مقتله. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن دَاوُد بن يَزِيدَ، قَالَ: كَانَ يَزِيد بن مُعَاوِيَة النخعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وعمرو بن عتبة ومعضد أصيبوا يوم بلنجر، فأما معضد فإنه اعتجر ببرد لعلقمة، فأتاه شظية من حجر منجنيق فأمه، فاستصغره، ووضع يده عَلَيْهِ فمات فغسل دمه عَلْقَمَة، فلم يخرج، وَكَانَ يحضر فِيهِ الجمعة، وَقَالَ يحرضني عَلَيْهِ: إن فِيهِ دم معضد فأما عَمْرو فلبس قباء أبيض، وَقَالَ: مَا أحسن الدم عَلَى هَذَا! فأتاه حجر فقتله، وملأه دما، وأما يَزِيد فدلي عليه شيء فقتله، وَقَدْ كَانُوا حفروا قبرا فأعدوه، فنظر إِلَيْهِ يَزِيد، فَقَالَ: مَا أحسنه! وأرى فِيمَا يرى النائم أن غزالا لم ير غزال أحسن مِنْهُ، جيء بِهِ حَتَّى دفن فِيهِ، فكان هُوَ ذَلِكَ الغزال وَكَانَ يَزِيد رقيقا جميلا رحمه اللَّه، وبلغ ذَلِكَ عُثْمَان، فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! انتكث أهل الْكُوفَة اللَّهُمَّ تب عَلَيْهِم وأقبل بهم. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وَطَلْحَةَ، قَالا: استعمل سَعِيد عَلَى ذَلِكَ الفرج سلمان بن رَبِيعَة، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الغزو

بأهل الْكُوفَة حُذَيْفَة بن الْيَمَانِ، وَكَانَ عَلَى ذلك الفرج قبل ذلك عبد الرحمن ابن رَبِيعَة، وأمدهم عُثْمَان فِي سنة عشر بأهل الشام، عَلَيْهِم حبيب بن مسلمة القرشي، فتأمر عَلَيْهِ سلمان، وأبى عَلَيْهِ حبيب، حَتَّى قَالَ أهل الشام: لقد هممنا بضرب سلمان، فَقَالَ فِي ذَلِكَ الناس: إذا وَاللَّهِ نضرب حبيبا ونحبسه، وإن أبيتم كثرت القتلى فيكم وفينا. وَقَالَ أوس بن مغراء فِي ذَلِكَ: إن تضربوا سلمان نضرب حبيبكم ... وإن ترحلوا نحو ابن عفان نرحل وإن تقسطوا فالثغر ثغر أميرنا ... وهذا أَمِير فِي الكتائب مقبل ونحن ولاة الثغر كنا حماته ... ليالي نرمي كل ثغر وننكل فأراد حبيب أن يتأمر عَلَى صاحب الباب كما كَانَ يتأمر أَمِير الجيش إذا جَاءَ من الْكُوفَة، فلما أحس حُذَيْفَة اقر وأقروا، فغزاها حذيفة ابن الْيَمَانِ ثلاث غزوات، فقتل عُثْمَان فِي الثالثة، ولقيهم مقتل عُثْمَان، فَقَالَ: اللَّهُمَّ العن قتلة عُثْمَان وغزاة عُثْمَان وشناة عُثْمَان اللَّهُمَّ إنا كنا نعاتبه ويعاتبنا، متى مَا كَانَ من قبله يعاتبنا ونعاتبه! فاتخذوا ذَلِكَ سلما إِلَى الفتنة، اللَّهُمَّ لا تمتهم إلا بالسيوف وفي هَذِهِ السنة مات عبد الرَّحْمَن بن عوف رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، زعم الْوَاقِدِيّ أن عَبْد اللَّهِ بن جَعْفَر حدثه بِذَلِكَ عن يَعْقُوب بن عتبة، وأنه يوم مات كَانَ ابن خمس وسبعين سنة. قَالَ: وفيها مات العباس بن عبد المطلب، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابن ثمان وثمانين سنة، وَكَانَ أسن مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص بثلاث سنين. قَالَ: وفيها مات عَبْد اللَّهِ بن زَيْد بن عبد ربه رحمه اللَّه، الَّذِي أري الأذان

ذكر الخبر عن وفاه ابى ذر

قَالَ: وفيها توفي عَبْد اللَّهِ بن مسعود بِالْمَدِينَةِ، فدفن بالبقيع رحمه اللَّه فَقَالَ قائل: صلى عَلَيْهِ عمار، وَقَالَ قائل: صلى عَلَيْهِ عثمان. وفيها مات ابو طلحه رحمه الله. ذكر الخبر عن وفاه ابى ذر قال: وفيها مات أَبُو ذر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رواية سيف ذكر الخبر عن وفاته: كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطية عن يزيد الفقعسي، قال: لما حَضَرَتْ أَبَا ذَرٍّ الْوَفَاةُ، وَذَلِكَ فِي سَنَةَ ثَمَانٍ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ إِمَارَةِ عُثْمَانَ، نُزِلَ بِأَبِي ذَرٍّ، فَلَمَّا أَشْرَفَ قَالَ لابْنَتِهِ: اسْتَشْرِفِي يَا بُنَيَّةُ فَانْظُرِي هَلْ تَرِينَ أَحَدًا! قَالَتْ: لا، قَالَ: فَمَا جَاءَتْ سَاعَتِي بَعْدُ، ثُمَّ أَمَرَهَا فَذَبَحَتْ شَاةً، ثُمَّ طَبَخَتْهَا، ثُمَّ قال: إذا جاءك الذين يدفنون فَقُولِي لَهُمْ: إِنَّ أَبَا ذَرٍّ يُقْسِمُ عَلَيْكُمْ أَلا تَرْكَبُوا حَتَّى تَأْكُلُوا، فَلَمَّا نَضَجَتْ قَدْرُهَا قَالَ لَهَا: انْظُرِي هَلْ تَرَيْنَ أَحَدًا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، هَؤُلاءِ رَكْبٌ مُقْبِلُونَ، قَالَ: اسْتَقْبِلِي بِي الْكَعْبَةَ فَفَعَلَتْ، وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَبِاللَّهِ، وَعَلَى مله رسول الله ص ثُمَّ خَرَجَتِ ابْنَتُهُ فَتَلَقَّتْهُمْ وَقَالَتْ: رَحِمَكُمُ اللَّهُ! اشْهَدُوا أَبَا ذَرٍّ- قَالُوا: وَأَيْنَ هُوَ؟ فَأَشَارَتْ لَهُمْ إِلَيْهِ وَقَدْ مَاتَ- فَادْفِنُوهُ، قَالُوا: نَعَمْ وَنِعْمَةُ عَيْنٍ! لَقَدْ أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِذَلِكَ، وَإِذَا رَكْبٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِيهِمُ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَمَالُوا إِلَيْهِ وَابْنُ مَسْعُودٍ يَبْكِي وَيَقُولُ: [صَدَقَ رسول الله ص: يَمُوتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ،] فَغَسَّلُوهُ وَكَفَّنُوهُ وَصَلَّوْا عَلَيْهِ وَدَفَنُوهُ، فَلَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَرْتَحِلُوا قَالَتْ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا ذَرٍّ يَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلامَ، وَأَقْسَمَ عَلَيْكُمْ أَلا تَرْكَبُوا حَتَّى تَأْكُلُوا، فَفَعَلُوا، وَحَمَلُوهُمْ حَتَّى أَقْدَمُوهُمْ مَكَّةَ، وَنَعَوْهُ إِلَى عُثْمَانَ، فَضَمَّ ابْنَتَهُ إِلَى عِيَالِهِ، وَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أبا ذر، ويغفر لرافع ابن خَدِيجٍ سُكُونَهُ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ الصَّلْتِ،

فتح مرو روذ والطالقان والفارياب والجوزجان وطخارستان

عَنْ رَجُلٍ، عَنْ كُلَيْبِ بْنِ الْحَلْحَالِ، عَنِ الْحَلْحَالِ بْنِ ذُرَيٍّ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلاثِينَ وَنَحْنُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَاكِبًا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى الرَّبَذَةِ فَإِذَا امْرَأَةٌ قَدْ تَلَقَّتْنَا، فَقَالَتْ: اشْهَدُوا أَبَا ذَرٍّ- وَمَا شَعَرْنَا بِأَمْرِهِ وَلا بَلَغَنَا- فَقُلْنَا: وَأَيْنَ أَبُو ذر؟ فأشارت الى خباء، فَقُلْنَا: مَا لَهُ؟ قَالَتْ: فَارَقَ الْمَدِينَةَ لأَمْرٍ قَدْ بَلَغَهُ فِيهَا، فَفَارَقَهَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا دَعَاهُ إِلَى الأَعْرَابِ؟ فَقَالَتْ: أَمَا إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ كَرِهَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: هِيَ بعد، وَهِيَ مَدِينَةٌ فَمَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ إِلَيْهِ وَهُوَ يَبْكِي، فَغَسَّلْنَاهُ وَكَفَّنَّاهُ، وَإِذَا خِبَاءٌ مَنْضُوخٌ بِمِسْكٍ، فَقُلْنَا لِلْمَرْأَةِ: مَا هَذَا؟ فَقَالَتْ: كَانَتْ مِسْكَةً، فَلَمَّا حُضِرَ قَالَ: إِنَّ الْمَيِّتَ يَحْضُرُهُ شُهُودٌ يَجِدُونَ الرِّيحَ، وَلا يَأْكُلُونَ، فدوفى تِلَكَ الْمِسْكَةِ بِمَاءٍ، ثُمَّ رُشِّي بِهَا الْخِبَاءَ فَاقْرِيهِمْ رِيحَهَا، وَاطْبُخِي هَذَا اللَّحْمَ، فَإِنَّهُ سَيَشْهَدُنِي قَوْمٌ صَالِحُونَ يَلُونَ دَفْنِي، فَاقْرِيهِمْ، فَلَمَّا دَفَنَّاهُ دَعَتْنَا إِلَى الطَّعَامِ فَأَكَلْنَا، وَأَرَدْنَا احْتِمَالَهَا، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قَرِيبٌ، نَسْتَأْمِرْهُ، فَقَدِمْنَا مَكَّةَ فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا ذَرٍّ، وَيَغْفِرُ لَهُ نُزُولَهُ الرَّبْذَةَ! وَلَمَّا صَدَرَ خَرَجَ فَأَخَذَ طَرِيقَ الرَّبَذَةَ، فَضَمَّ عِيَالَهُ إِلَى عِيَالِهِ، وَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْمَدِينَةِ، وَتَوَجَّهْنَا نَحْوَ الْعِرَاقِ، وَعُدَّتُنَا: ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو مِفْزَرٍ التَّمِيمِيُّ، وَبَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ، وَالأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ النخعى وعلقمه بن قيس النخعى، والحلحال ابن ذُرَيٍّ الضَّبِّيُّ وَالْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ التَّمِيمِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ السُّلَمِيُّ، وَابْنُ رَبِيعَةَ السُّلَمِيُّ، وَأَبُو رَافِعٍ الْمُزَنِيُّ، وَسُوَيْدُ بْنُ مَثْعَبَةَ التَّمِيمِيُّ، وَزِيَادُ بْنُ مُعَاوِيَةَ النَّخَعِيُّ، وَأَخُو الْقَرْثَعِ الضبي، وأخو معضد الشيبانى . فتح مرو روذ والطالقان والفارياب والجوزجان وطخارستان وَفِي سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلاثِينَ فَتَحَ ابْنُ عَامِرٍ مرو روذ وَالطَّالَقَانَ وَالْفَارِيَابَ وَالْجَوْزِجَانَ وَطَخَارِسْتَانَ. ذكر الخبر عن ذَلِكَ: قَالَ علي: أَخْبَرَنَا سلمة بن عُثْمَانَ وغيره، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بن مسلم، عن

ابن سيرين، قَالَ: بعث ابن عَامِر الأحنف بن قيس الى مرو روذ، فحصر أهلها، فخرجوا إِلَيْهِم فقاتلوهم، فهزمهم الْمُسْلِمُونَ حَتَّى اضطروهم إِلَى حصنهم، فأشرفوا عَلَيْهِم، فَقَالُوا: يَا معشر العرب، مَا كنتم عندنا كما نرى، ولو علمنا أنكم كما نرى لكانت لنا ولكم حال غير هَذِهِ، فأمهلونا ننظر يومنا، وارجعوا إِلَى عسكركم فرجع الأحنف، فلما أصبح غاداهم وَقَدْ أعدوا لَهُ الحرب، فخرج رجل من العجم مَعَهُ كتاب مِنَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: إني رسول فآمنوني، فآمنوه، فإذا رسول من مرزبان مرو ابن أخيه وترجمانه، وإذا كتاب المرزبان إِلَى الأحنف، فقرأ الكتاب، قَالَ: فإذا هُوَ: إِلَى أَمِير الجيش، إنا نحمد اللَّه الَّذِي بيده الدول، يغير مَا شاء من الملك، ويرفع من شاء بعد الذلة، ويضع من شاء بعد الرفعة. إنه دعاني إِلَى مصالحتك وموادعتك مَا كَانَ من إسلام جدي، وما كَانَ رأي من صاحبكم من الكرامة والمنزلة، فمرحبا بكم وأبشروا، وأنا أدعوكم إِلَى الصلح فِيمَا بينكم وبيننا، عَلَى أن أؤدي إليكم خراجا ستين ألف درهم، وأن تقروا بيدي مَا كَانَ ملك الملوك كسرى أقطع جد أبي حَيْثُ قتل الحية الَّتِي أكلت الناس، وقطعت السبل من الأرضين والقرى بِمَا فِيهَا من الرجال، وَلا تأخذوا من أحد من أهل بيتي شَيْئًا من الخراج، ولا تخرج المرزبه من اهل بيتى الى غيركم، فإن جعلت ذَلِكَ لي خرجت إليك، وَقَدْ بعثت إليك ابن أخي ماهك ليستوثق مِنْكَ بِمَا سألت. قَالَ: فكتب إِلَيْهِ الأحنف: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من صخر بن قيس امير الجيش الى باذان مرزبان مرو روذ ومن مَعَهُ من الأساورة والأعاجم. سلام عَلَى من اتبع الهدى، وآمن واتقى أَمَّا بَعْدُ، فإن ابن أخيك ماهك

قدم علي، فنصح لك جهده، وأبلغ عنك، وَقَدْ عرضت ذَلِكَ عَلَى من معي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وأنا وهم فِيمَا عَلَيْك سواء، وَقَدْ أجبناك إِلَى مَا سألت وعرضت عَلَى أن تؤدي عن أكرتك وفلاحيك والأرضين ستين ألف درهم إلي وإلى الوالي من بعدي من أمراء الْمُسْلِمِينَ، إلا مَا كَانَ من الأرضين الَّتِي ذكرت أن كسرى الظالم لنفسه أقطع جد أبيك لما كَانَ من قتله الحية الَّتِي أفسدت الأرض وقطعت السبل والأرض لِلَّهِ ولرسوله يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وإن عَلَيْك نصرة الْمُسْلِمِينَ وقتال عدوهم بمن معك من الأساورة، إن أحب الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ وأرادوه، وإن لك عَلَى ذَلِكَ نصرة الْمُسْلِمِينَ عَلَى من يقاتل من وراءك من أهل ملتك، جار لك بِذَلِكَ مني كتاب يكون لك بعدي، وَلا خراج عَلَيْك وَلا عَلَى أحد من أهل بيتك من ذوي الأرحام، وإن أنت أسلمت واتبعت الرسول كَانَ لك مِنَ الْمُسْلِمِينَ العطاء والمنزلة والرزق وأنت أخوهم، ولك بِذَلِكَ ذمتي وذمة أبي وذمم الْمُسْلِمِينَ وذمم آبائهم شهد عَلَى مَا فِي هَذَا الكتاب جزء ابن مُعَاوِيَة- أو مُعَاوِيَة بن جزء السعدي- وحمزة بن الهرماس وحميد بن الخيار المازنيان، وعياض بن ورقاء الأسيدي وكتب كيسان مولى بني ثعلبة يوم الأحد من شهر اللَّه المحرم وختم أَمِير الجيش الأحنف بن قيس ونقش خاتم الأحنف: نعبد اللَّه. قَالَ علي: أَخْبَرَنَا مصعب بن حيان، عن أخيه مقاتل بن حيان، قَالَ: صالح ابن عَامِر أهل مرو، وبعث الأحنف فِي أربعة آلاف إِلَى طخارستان فأقبل حَتَّى نزل موضع قصر الأحنف من مرو روذ، وجمع لَهُ أهل طخارستان، وأهل الجوزجان والطالقان والفارياب، فكانوا ثلاثة زحوف، ثَلاثِينَ ألفا. وأتى الأحنف خبرهم وما جمعوا لَهُ، فاستشار الناس فاختلفوا، فبين قائل: نرجع إِلَى مرو، وقائل: نرجع الى ابرشهر، وقائل: نقيم نستمد، وقائل: نلقاهم فنناجزهم. قَالَ: فلما أمسى الأحنف خرج يمشي فِي العسكر، ويستمع حديث الناس، فمر بأهل خباء ورجل يوقد تحت خزيرة أو يعجن، وهم يتحدثون ويذكرون العدو، فَقَالَ بعضهم: الرأي للأمير أن يسير إذا أصبح، حتى

يلقى القوم حَيْثُ لقيهم- فإنه أرعب لَهُمْ- فيناجزهم فَقَالَ صاحب الخزيرة أو العجين: إن فعل ذَلِكَ فقد أخطأ وأخطأتم، أتأمرونه أن يلقى حد العدو مصحرا فِي بلادهم، فيلقى جمعا كثيرا بعدد قليل، فإن جالوا جولة اصطلمونا! ولكن الرأي لَهُ أن ينزل بين المرغاب والجبل، فيجعل المرغاب عن يمينه والجبل عن يساره، فلا يلقاه من عدوه وإن كثروا إلا عدد أَصْحَابه فرجع الأحنف وَقَدِ اعتقد مَا قَالَ، فضرب عسكره، وأقام فأرسل اليه اهل مرو يعرضون عليه ان يقاتلو مَعَهُ، فَقَالَ إني أكره أن أستنصر بالمشركين، فأقيموا عَلَى مَا أعطيناكم، وجعلنا بيننا وبينكم، فإن ظفرنا فنحن عَلَى مَا جعلنا لكم، وإن ظفروا بنا وقاتلوكم فقاتلوا عن أنفسكم. قَالَ: فوافق الْمُسْلِمِينَ صلاة العصر، فعاجلهم المشركون فناهضوهم فقاتلوهم، وصبر الفريقان حَتَّى أمسوا والأحنف يتمثل بشعر ابن جؤية الأعرجي: أحق من لم يكره المنيه ... حزور ليست لَهُ ذريه قَالَ علي: أَخْبَرَنَا أَبُو الأشهب السعدي، عَنْ ابيه، قال: لقى الأحنف اهل مرو روذ والطالقان والفارياب والجوزجان فِي الْمُسْلِمِينَ ليلا، فقاتلهم حَتَّى ذهب عامة الليل، ثُمَّ هزمهم اللَّه، فقتلهم الْمُسْلِمُونَ حَتَّى انتهوا إِلَى رسكن- وَهِيَ على اثنى عشر فرسخا من قصر الأحنف- وَكَانَ مرزبان مرو روذ، قَدْ تربص بحمل مَا كَانُوا صالحوه عَلَيْهِ، لينظر مَا يكون من أمرهم. قَالَ: فلما ظفر الأحنف سرح رجلين إِلَى المرزبان، وأمرهما أَلا يكلماه حَتَّى يقبضاه ففعلا فعلم أَنَّهُمْ لم يصنعوا ذاك بِهِ إلا وَقَدْ ظفروا، فحمل مَا كَانَ عَلَيْهِ. قَالَ علي: وأخبرنا المفضل الضبي، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سار الأقرع بن حابس إِلَى الجوزجان، بعثه الأحنف فِي جريدة خيل إِلَى بقية كَانَتْ بقيت

ذكر صلح الأحنف مع اهل بلخ

من الزحوف الَّذِينَ هزمهم الأحنف، فقاتلهم، فجال الْمُسْلِمُونَ جولة، فقتل فرسان من فرسانهم، ثُمَّ أظفر اللَّه الْمُسْلِمِينَ بهم فهزموهم وقتلوهم، فَقَالَ كثير النهشلي: سقى مزن السحاب إذا استهلت ... مصارع فتية بالجوزجان إِلَى القصرين من رستاق خوط ... اقادهم هناك الاقرعان وهي طويله ذكر صلح الأحنف مع اهل بلخ وفي هَذِهِ السنة، جرى صلح بين الأحنف وبين أهل بلخ. ذكر الخبر بِذَلِكَ: قَالَ علي: أَخْبَرَنَا زهير بن الهنيد، عن إياس بن المهلب، قَالَ: سار الأحنف من مرو الروذ إِلَى بلخ فحاصرهم، فصالحه أهلها عَلَى أربعمائة ألف، فرضي مِنْهُمْ بِذَلِكَ، وَاسْتَعْمَلَ ابن عمه، وَهُوَ أسيد بن المتشمس ليأخذ مِنْهُمْ مَا صالحوه عَلَيْهِ، ومضى إِلَى خارزم، فأقام حَتَّى هجم عَلَيْهِ الشتاء، فَقَالَ لأَصْحَابه: مَا ترون؟ قَالَ لَهُ حصين: قَدْ قَالَ لك عَمْرو بن معديكرب، قَالَ: وما قَالَ؟ قَالَ: قَالَ: إذا لم تستطع أمرا فدعه ... وجاوزه إِلَى مَا تستطيع قَالَ: فأمر الأحنف بالرحيل، ثُمَّ انصرف إِلَى بلخ، وَقَدْ قبض ابن عمه مَا صالحهم عَلَيْهِ، وَكَانَ وافق وَهُوَ يجيبهم المهرجان، فأهدوا إِلَيْهِ هدايا من آنية الذهب والفضة ودنانير ودراهم ومتاع وثياب، فَقَالَ ابن عم الأحنف: هَذَا مَا صالحناكم عَلَيْهِ؟ قَالُوا: لا، ولكن هَذَا شَيْء نصنعه فِي هَذَا الْيَوْم بمن ولينا نستعطفه بِهِ، قَالَ: وما هَذَا الْيَوْم؟ قَالُوا: المهرجان، قَالَ: مَا أدري مَا هَذَا؟ وإني لأكره أن أرده، ولعله من حقي، ولكن أقبضه وأعزله

حتى انظر فيه، فقبضه، وقدم الأحنف فأخبره، فسألهم عنه، فَقَالُوا لَهُ مثل مَا قَالُوا لابن عمه، فَقَالَ: آتي بِهِ الأمير، فحمله إِلَى ابن عَامِر، فأخبره عنه، فَقَالَ: اقبضه يَا أَبَا بحر، فهو لك؟ قَالَ: لا حاجة لي فِيهِ، فَقَالَ ابن عَامِر: ضمه إليك يَا مسمار، قَالَ: قَالَ الْحَسَن: فضمه القرشي وَكَانَ مضما. قَالَ علي: وأخبرنا عَمْرو بن مُحَمَّد المري، عن أشياخ من بني مرة، أن الأحنف استعمل عَلَى بلخ بشر بن المتشمس. قَالَ علي: وأخبرنا صدقة بن حميد، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بعث ابن عَامِر- حين صالح أهل مرو، وصالح الأحنف أهل بلخ- خليد بن عَبْدِ اللَّهِ الحنفي إِلَى هراة وباذغيس، فافتتحهما، ثُمَّ كفروا بعد فكانوا مع قارن. قَالَ على: وأخبرنا مسلمه، عن داود، قال: ولما رجع الأحنف إِلَى ابن عَامِر قَالَ الناس لابن عَامِر: مَا فتح عَلَى أحد مَا قَدْ فتح عَلَيْك، فارس وكرمان وسجستان وعامة خُرَاسَان! قَالَ: لا جرم، لأجعلن شكري لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ أن أخرج محرما معتمرا من موقفي هَذَا فأحرم بعمرة من نيسابور، فلما قدم عَلَى عُثْمَانَ لامه عَلَى إحرامه من خُرَاسَان، وَقَالَ: ليتك تضبط ذَلِكَ من الوقت الَّذِي يحرم مِنْهُ الناس! قَالَ علي: أَخْبَرَنَا مسلمة، عن السكن بن قَتَادَة العريني، قَالَ: استخلف ابن عَامِر عَلَى خُرَاسَان قيس بن الهيثم، وخرج ابن عَامِر منها فِي سنة اثنتين وثلاثين قَالَ: فجمع قارن جمعا كثيرا من ناحية الطبسين وأهل باذغيس وهراة وقهستان، فأقبل فِي أربعين ألفا، فَقَالَ لعبد اللَّه بن خازم: مَا ترى؟ قَالَ: أَرَى أن تخلي البلاد فإني أميرها، ومعي عهد من ابن عَامِر، إذا كَانَتْ حرب بخراسان فأنا أميرها- وأخرج كتابا قَدِ افتعله عمدا- فكره قيس مشاغبته، وخلاه والبلاد، وأقبل إِلَى ابن عَامِر، فلامه ابن عَامِر،

وَقَالَ: تركت البلاد حربا وأقبلت! قَالَ: جاءني بعهد مِنْكَ فَقَالَتْ لَهُ أمه: قَدْ نهيتك أن تدعهما فِي بلد، فإنه يشغب عَلَيْهِ. قَالَ: فسار ابن خازم إِلَى قارن فِي أربعة آلاف، وأمر الناس فحملوا الودك، فلما قرب من عسكره أمر الناس، فَقَالَ: ليدرج كل رجل مِنْكُمْ عَلَى زج رمحه مَا كَانَ مَعَهُ من خرقة أو قطن أو صوف، ثُمَّ أوسعوه من الودك من سمن أو دهن أو زيت أو إهالة ثُمَّ سار حتى إذا امسى قدم مقدمته ستمائه، ثُمَّ أتبعهم، وأمر الناس فأشعلوا النيران فِي أطراف الرماح، وجعل يقتبس بعضهم من بعض قَالَ: وانتهت مقدمته إِلَى عسكر قارن، فأتوهم نصف الليل، ولهم حرس، فناوشوهم، وهاج الناس عَلَى دهش، وكانوا آمنين فِي أنفسهم من البيات، ودنا ابن خازم مِنْهُمْ، فرأوا النيران يمنة ويسرة، وتتقدم وتتأخر، وتتخفض وترتفع، فلا يرون أحدا فهالهم ذَلِكَ، ومقدمة ابن خازم يقاتلونهم، ثُمَّ غشيهم ابن خازم بالمسلمين، فقتل قارن، وانهزم العدو فأتبعوهم يقتلونهم كيف شاءوا، وأصابوا سبيا كثيرا، فزعم شيخ من بني تميم، قَالَ: كَانَتْ أم الصلت بن حريث من سبي قارن، وأم زياد بن الربيع مِنْهُمْ، وأم عون أبي عَبْد اللَّهِ بن عون الفقيه مِنْهُمْ. قَالَ علي: حَدَّثَنَا مسلمة، قَالَ: أخذ ابن خازم عسكر قارن بِمَا كَانَ فِيهِ، وكتب بالفتح إِلَى ابن عَامِر، فرضي وأقره عَلَى خُرَاسَان، فلبث عَلَيْهَا حَتَّى انقضى أمر الجمل، فأقبل إِلَى الْبَصْرَة، فشهد وقعة ابن الحضرمي، وَكَانَ مَعَهُ فِي دار سبيل. قَالَ علي: وأخبرنا الْحَسَن بن رشيد، عن سُلَيْمَان بن كثير العمي الخزاعي، قَالَ: جمع قارن لِلْمُسْلِمِينَ جمعا كثيرا، فضاق المسلمون بامرهم، فقال قيس

ابن الهيثم لعبد اللَّه بن خازم: مَا ترى؟ قَالَ: أَرَى أنك لا تطيق كثرة من قَدْ أتانا، فاخرج بنفسك إِلَى ابن عَامِر فتخبره بكثرة من قَدْ جمعوا لنا، ونقيم نحن فِي هَذِهِ الحصون ونطاولهم حَتَّى تقدم ويأتينا مددكم. قَالَ: فخرج قيس بن الهيثم، فلما أمعن أظهر ابن خازم عهدا، وَقَالَ: قَدْ ولاني ابن عَامِر خُرَاسَان، فسار إِلَى قارن، فظفر بِهِ، وكتب بالفتح إِلَى ابن عَامِر، فأقره ابن عَامِر عَلَى خُرَاسَان، فلم يزل أهل الْبَصْرَةِ يغزون من لَمْ يَكُنْ صالح من أهل خُرَاسَان، فإذا رجعوا خلفوا أربعة آلاف للعقبة، فكانوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى كانت الفتنة

سنه ثلاث وثلاثين

ثُمَّ دخلت سنة ثلاث وثلاثين ففيها كَانَتْ غزوة مُعَاوِيَة حصن المرأة من أرض الروم من ناحية ملطية فِي قول الْوَاقِدِيّ. وفيها كَانَتْ غزوة عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ أبي سرح إفريقية الثانية حين نقض أهلها العهد. وفيها قدم عَبْد اللَّهِ بن عَامِر الأحنف بن قيس إِلَى خُرَاسَان وَقَدِ انتقض أهلها، ففتح المروين: مرو الشاهجان صلحا، ومرو الروذ بعد قتال شديد، وتبعه عَبْد اللَّهِ بن عَامِر، فنزل أَبْرَشَهْر، ففتحها صلحا فِي قول الْوَاقِدِيّ. وأما أَبُو معشر فإنه قَالَ- فيما حَدَّثَنِي أحمد بْن ثابت الرازي، عمن حدثه، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عنه، قَالَ: كَانَتْ قبرس سنة ثلاث وثلاثين، وَقَدْ ذكرنا قول من خالفه فِي ذَلِكَ، والخبر عن قبرس. وفيها: كَانَ تسيير عُثْمَان بن عَفَّانَ من سير من أهل العراق إِلَى الشام ذكر تسيير من سير من أهل الْكُوفَة إِلَيْهَا اختلف أهل السير فِي ذَلِكَ، فأما سَيْفٌ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيمَا كَتَبَ بِهِ إِلَيَّ السَّرِيُّ عَنْ شُعَيْبٍ عَنْهُ، عَنْ مُحَمَّد وَطَلْحَةَ، قَالا: كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ لا يَغْشَاهُ إِلا نَازِلَةُ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَوُجُوهُ أَهْلِ الأَيَّامِ وَأَهْلِ الْقَادِسِيَّةِ وَقُرَّاءُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْمُتَسَمِّتُونَ، وَكَانَ هَؤُلاءِ دخلته إِذَا خَلا، فَأَمَّا إِذَا جَلَسَ للناس

فَإِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ، فَجَلَسَ لِلنَّاسِ يوما، فدخلوا عليه، فبيناهم جُلُوسٌ يَتَحَدَّثُونَ قَالَ خُنَيْسُ بْنُ فُلانٍ: مَا أَجْوَدَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ! فَقَالَ سَعِيدُ ابن الْعَاصِ: إِنَّ مَنْ لَهُ مِثْلُ النَّشَاسْتَجَ لَحَقِيقٌ أَنْ يَكُونَ جَوَادًا، وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَهُ لأَعَاشَكُمُ اللَّهُ عَيْشًا رَغْدًا فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خُنَيْسٍ- وَهُوَ حَدَثٌ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ هَذَا الْمِلْطَاطَ لَكَ- يَعْنِي مَا كَانَ لآلِ كِسْرَى عَلَى جَانِبِ الْفُرَاتِ الَّذِي يَلِي الْكُوفَةَ- قَالُوا: فَضَّ اللَّهُ فَاكَ! وَاللَّهِ لَقَدْ هَمَمْنَا بِكَ، فَقَالَ: خُنَيْسٌ غُلامٌ فَلا تُجَازُوهُ، فَقَالُوا: يَتَمَنَّى لَهُ مِنْ سَوَادِنَا! قَالَ: وَيَتَمَنَّى لَكُمْ أَضْعَافَهُ، قَالُوا: لا يَتَمَنَّى لَنَا وَلا لَهُ، قَالَ: مَا هَذَا بِكُمْ! قَالُوا: أَنْتَ وَاللَّهِ أَمَرْتَهُ بِهَا، فَثَارَ إِلَيْهِ الأَشْتَرُ وَابْنُ ذِي الْحُبْكَةِ وَجُنْدُبٌ وَصَعْصَعَةُ وَابْنُ الْكَوَّاءِ وَكُمَيْلُ بن زياد وعمير بن ضائى، فَأَخَذُوهُ فَذَهَبَ أَبُوهُ لِيَمْنَعَ مِنْهُ فَضَرَبُوهُمَا حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِمَا، وَجَعَلَ سَعِيدٌ يُنَاشِدُهُمْ وَيَأْبَوْنَ، حَتَّى قَضَوْا مِنْهُمَا وَطَرًا، فَسَمِعَتْ بِذَلِكَ بَنُو أَسَدٍ، فجاءوا وفيهم طُلَيْحَةُ فَأَحَاطُوا بِالْقَصْرِ، وَرَكِبَتِ الْقَبَائِلُ، فَعَاذُوا بِسَعِيدٍ، وقالوا: افلتنا وخلصنا. فَخَرَجَ سَعِيدٌ إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، قَوْمٌ تَنَازَعُوا وَتَهَاوَوْا، وَقَدْ رَزَقَ اللَّهُ الْعَافِيَةَ ثم قعدوا وعادوا في حديثهم، وتراجعوا فساءهم وِرْدَهُمْ، وَأَفَاقَ الرَّجُلانِ، فَقَالَ: أَبِكُمَا حَيَاةٌ؟ قَالا: قَتَلَتْنَا غَاشِيَتُكَ، قَالَ: لا يَغْشُونِي وَاللَّهِ أَبَدًا، فَاحْفَظَا عَلَيَّ أَلْسِنَتَكُمَا وَلا تُجَرِّئَا عَلَيَّ النَّاسَ فَفَعَلا وَلَمَّا انْقَطَعَ رَجَاءُ أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ ذَلِكَ قَعَدُوا فِي بُيُوتِهِمْ، وَأَقْبَلُوا عَلَى الإِذَاعَةِ حَتَّى لامَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ فِي أَمْرِهِمْ، فَقَالَ: هَذَا أَمِيرُكُمْ وَقَدْ نَهَانِي أَنْ أُحَرِّكُ شَيْئًا، فَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يُحَرِّكَ شَيْئًا فَلْيُحَرِّكْهُ. فَكَتَبَ أَشْرَافُ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَصُلَحَاؤُهُمْ إِلَى عُثْمَانَ فِي إِخْرَاجِهِمْ، فَكَتَبَ: إِذَا اجْتَمَعَ مَلَؤُكُمْ عَلَى ذَلِكَ فَأَلْحِقُوهُمْ بِمُعَاوِيَةَ فَأَخْرِجُوهُمْ، فَذُلُّوا وَانْقَادُوا حَتَّى أَتَوْهُ- وَهُمْ بِضْعَةَ عَشَرَ- فَكَتَبُوا بِذَلِكَ إِلَى عُثْمَانَ، وَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى مُعَاوِيَةَ: إِنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ قَدْ أَخْرَجُوا إِلَيْكَ نَفَرًا خُلِقُوا لِلْفِتْنَةِ، فَرَعْهُمْ وَقُمْ عَلَيْهِمْ،

فَإِنْ آنَسْتَ مِنْهُمْ رُشْدًا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَإِنْ أَعْيَوْكَ فَارْدُدْهُمْ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ رَحَّبَ بِهِمْ وَأَنْزَلَهُمْ كَنِيسَةً تُسَمَّى مَرْيَمَ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ بِأَمْرِ عُثْمَانَ مَا كَانَ يُجْرَى عَلَيْهِمْ بِالْعِرَاقِ، وَجَعَلَ لا يَزَالُ يَتَغَدَّى وَيَتَعَشَّى مَعَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ يَوْمًا: إِنَّكُمْ قَوْمٌ مِنَ الْعَرَبِ لَكُمْ أَسْنَانٌ وَأَلْسِنَةٌ، وَقَدْ أَدْرَكْتُمْ بِالإِسْلامِ شَرَفًا وَغَلَبْتُمُ الأُمَمَ وَحَوَيْتُمْ مَرَاتِبَهُمْ وَمَوَارِيثَهُمْ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ نَقِمْتُمْ قُرَيْشًا، وَأَنَّ قُرَيْشًا لَوْ لَمْ تَكُنْ عُدْتُمْ أَذِلَّةً كَمَا كُنْتُمْ، إِنَّ أَئِمَّتَكُمْ لكم الى اليوم جنه فلا تشذوا عَنْ جُنَّتِكُمْ، وَإِنَّ أَئِمَّتَكُمُ الْيَوْمَ يَصْبِرُونَ لَكُمْ عَلَى الْجَوْرِ، وَيَحْتَمِلُونَ مِنْكُمُ الْمَئُونَةَ، وَاللَّهِ لَتَنْتَهُنَّ أَوْ لَيَبْتَلِيَنَّكُمُ اللَّهُ بِمَنْ يَسُومُكُمْ، ثُمَّ لا يحمدكم على الصبر، ثم تكونون شركاء لهم فِيمَا جَرَرْتُمْ عَلَى الرَّعِيَّةِ فِي حَيَاتِكُمْ وَبَعْدَ مَوْتِكُمْ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ قُرَيْشٍ فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ أَكْثَرَ الْعَرَبِ وَلا أَمْنَعَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَتُخَوِّفُنَا، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنَ الْجُنَّةِ فَإِنَّ الْجُنَّةَ إِذَا اخْتُرِقَتْ خَلَصَ إِلَيْنَا. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: عَرَفْتُكُمُ الآنَ، عَلِمْتُ أَنَّ الَّذِي أَغْرَاكُمْ عَلَى هَذَا قِلَّةُ الْعُقُولِ، وَأَنْتَ خَطِيبُ الْقَوْمِ، وَلا أَرَى لَكَ عَقْلا، أُعَظِّمُ عَلَيْكَ أَمْرَ الإِسْلامِ، وَأُذَكِّرُكَ بِهِ، وَتُذَكِّرُنِي الْجَاهِلِيَّةَ! وَقَدْ وَعَظْتُكَ وَتَزْعُمُ لِمَا يَجِنُّكَ أَنَّهُ يُخْتَرَقُ، وَلا يُنْسَبُ مَا يُخْتَرَقُ إِلَى الْجُنَّةِ، أَخْزَى اللَّهُ أَقْوَامًا أَعْظَمُوا أَمْرَكُمْ، وَرَفَعُوا إِلَى خَلِيفَتِكُمْ! افْقَهُوا- وَلا أَظُنُّكُمْ تَفْقَهُونَ- أَنَّ قُرَيْشًا لَمْ تَعِزَّ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلا إِسْلامٍ إِلا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَمْ تَكُنْ بِأَكْثَرِ الْعَرَبِ وَلا أَشَدَّهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا أَكْرَمَهُمْ أَحْسَابًا، وَأَمْحَضَهُمْ أَنْسَابًا، وَأَعْظَمَهُمْ أَخْطَارًا، وَأَكْمَلَهُمْ مُرُوءَةً، وَلَمْ يَمْتَنِعُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالنَّاسُ يَأْكُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا بِاللَّهِ الَّذِي لا يُسْتَذَلُّ مَنْ أَعَزَّ، وَلا يُوضَعُ مَنْ رَفَعَ، فَبَوَّأَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُتَخَطَّفُ النَّاسَ مِنْ حَوْلِهِمْ! هَلْ تَعْرِفُونَ عُرْبًا أَوْ عُجْمًا أَوْ سُودًا أَوْ حُمْرًا إِلا قَدْ أَصَابَهُ الدَّهْرُ فِي بَلَدِهِ وَحُرْمَتِهِ بِدَوْلَةٍ، إِلا مَا كَانَ مِنْ قُرَيْشٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْهُمْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ بِكَيْدٍ إِلا جَعَلَ الله

خَدَّهُ الأَسْفَلَ، حَتَّى أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَنَقَّذَ مَنْ أَكْرَمَ وَاتَّبَعَ دِينَهُ مِنْ هَوَانِ الدُّنْيَا وَسُوءِ مَرَدِّ الآخِرَةِ، فَارْتَضَى لِذَلِكَ خَيْرَ خَلْقِهِ، ثُمَّ ارْتَضَى لَهُ أَصْحَابًا فَكَانَ خِيَارُهُمْ قُرَيْشًا، ثُمَّ بَنَى هَذَا الْمُلْكَ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ هَذِهِ الْخِلافَةَ فِيهِمْ، وَلا يَصْلُحُ ذَلِكَ إِلا عَلَيْهِمْ، فَكَانَ اللَّهُ يَحُوطُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ، أَفَتَرَاهُ لا يَحُوطُهُمْ وَهُمْ عَلَى دِينِهِ وَقَدْ حَاطَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْمُلُوكِ الَّذِينَ كَانُوا يَدِينُونَكُمْ! أُفٍّ لَكَ وَلأَصْحَابِكَ! وَلَوْ أَنَّ مُتَكَلِّمًا غَيْرَكَ تَكَلَّمَ، وَلَكِنَّكَ ابْتَدَأْتَ فَأَمَّا أَنْتَ يَا صَعْصَعَةُ فَإِنَّ قَرْيَتَكَ شَرُّ قُرَى عَرَبِيَّةً، أَنْتَنُهَا نَبْتًا، وَأَعْمَقُهَا وَادِيًا، وَأَعْرَفُهَا بِالشَّرِّ، وَأَلأَمُهَا جِيرَانًا، لَمْ يَسْكُنْهَا شَرِيفٌ قَطُّ وَلا وَضِيعٌ إِلا سُبَّ بِهَا، وَكَانَتْ عَلَيْهِ هُجْنَةً، ثُمَّ كَانُوا أَقْبَحَ الْعَرَبِ أَلْقَابًا، وَأَلأَمَهُ أَصْهَارًا، نُزَّاعَ الأُمَمِ، وَأَنْتُمْ جِيرَانُ الْخَطِّ وَفَعَلَةُ فَارِسٍ، حتى أصابتكم دعوه النبي ص وَنَكَبَتْكَ دَعْوَتُهُ، وَأَنْتَ نَزِيعُ شَطِيرٍ فِي عُمَانَ، لَمْ تَسْكُنِ الْبَحْرَيْنَ فَتُشْرِكَهُمْ فِي دَعْوَةِ النَّبِيِّ ص، فَأَنْتَ شَرُّ قَوْمِكَ، حَتَّى إِذَا أَبْرَزَكَ الإِسْلامُ، وَخَلَطَكَ بِالنَّاسِ، وَحَمَلَكَ عَلَى الأُمَمِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْكَ، أَقْبَلْتَ تَبْغِي دِينَ اللَّهِ عِوَجًا، وَتَنْزَعُ إِلَى اللآمة وَالذِّلَّةِ وَلا يَضَعُ ذَلِكَ قُرَيْشًا، وَلَنْ يَضُرَّهُمْ، وَلَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ تَأْدِيَةِ مَا عَلَيْهِمْ، إِنَّ الشَّيْطَانَ عَنْكُمْ غَيْرُ غَافِلٍ، قَدْ عَرَفَكُمْ بِالشَّرِّ مِنْ بَيْنِ أُمَّتِكُمْ، فَأَغْرَى بِكُمُ النَّاسَ، وَهُوَ صَارِعُكُمْ لَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرُدَّ بِكُمْ قَضَاءً قَضَاهُ اللَّهُ، وَلا أَمْرًا أَرَادَهُ اللَّهُ، وَلا تُدْرِكُونَ بِالشَّرِّ أَمْرًا أَبَدًا إِلا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ شَرًّا مِنْهُ وَأَخْزَى. ثُمَّ قَامَ وَتَرَكَهُمْ، فَتَذَامَرُوا فَتَقَاصَرَتْ إِلَيْهِمْ أَنْفُسَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَاهُمْ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ فَاذْهَبُوا حَيْثُ شئتم، لا والله لا ينفع الله بِكُمْ أَحَدًا وَلا يَضُرُّهُ، وَلا أَنْتُمْ بِرِجَالِ مَنْفَعَةٍ وَلا مَضَرَّةٍ، وَلَكِنَّكُمْ رِجَالُ نَكِيرٍ. وَبُعْدٍ، فَإِنْ أَرَدْتُمُ النَّجَاةَ فَالْزَمُوا جَمَاعَتَكُمْ، وَلِيَسَعَكُمْ مَا وَسِعَ الدَّهْمَاءَ، وَلا يَبْطِرَنَّكُمُ الأَنْعَامُ، فَإِنَّ الْبَطَرَ لا يَعْتَرِي الْخِيَارَ، اذْهَبُوا حَيْثُ شِئْتُمْ، فَإِنِّي كَاتِبٌ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِيكُمْ

فَلَمَّا خَرَجُوا دَعَاهُمْ فَقَالَ: إِنِّي مُعِيدٌ عَلَيْكُمْ ان رسول الله ص كَانَ مَعْصُومًا فَوَلانِي، وَأَدْخَلَنِي فِي أَمْرِهِ، ثُمَّ اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَوَلانِي، ثُمَّ اسْتُخْلِفَ عُمَرُ فَوَلانِي، ثُمَّ اسْتُخْلِفَ عُثْمَانُ فَوَلانِي، فَلَمْ أَلِ لأَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَمْ يُوَلِّنِي إِلا وَهُوَ رَاضٍ عَنِّي، وَإِنَّمَا طَلَبَ رَسُولُ الله ص لِلأَعْمَالِ أَهْلَ الْجَزَاءِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَالْغِنَاءِ، وَلَمْ يَطْلُبْ لَهَا أَهْلَ الاجْتِهَادِ وَالْجَهْلِ بِهَا وَالضَّعْفِ عَنْهَا، وَإِنَّ اللَّهَ ذُو سَطَوَاتٍ وَنَقَمَاتٍ يَمْكُرُ بِمَنْ مَكَرَ بِهِ، فَلا تَعْرِضُوا لأَمْرٍ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ غَيْرَ مَا تُظْهِرُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ غَيْرُ تَارِكُكُمْ حَتَّى يَخْتَبِرَكُمْ وَيُبْدِي لِلنَّاسِ سَرَائِرَكُمْ، وَقَدْ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: «الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ» . وَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عُثْمَانَ: إِنَّهُ قَدِمَ عَلَيَّ أَقْوَامٌ لَيْسَتْ لَهُمْ عُقُولٌ وَلا أَدْيَانٌ، أَثْقَلَهُمُ الإِسْلامُ، وَأَضْجَرَهُمُ الْعَدْلُ، لا يُرِيدُونَ اللَّهَ بِشَيْءٍ، وَلا يَتَكَلَّمُونَ بِحُجَّةٍ، إِنَّمَا هَمَّهُمُ الْفِتْنَةُ وَأَمْوَالُ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَاللَّهُ مُبْتَلِيهِمْ وَمُخْتَبِرُهُمْ، ثُمَّ فَاضِحُهُمْ وَمُخْزِيهِمْ، وَلَيْسُوا بِالَّذِينَ يَنْكُونَ أَحَدًا إِلا مَعَ غَيْرِهِمْ، فَانْهَ سَعِيدًا وَمَنْ قِبَلَهُ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ ليسوا لاكثر مِنْ شَغْبٍ أَوْ نَكِيرٍ. وَخَرَجَ الْقَوْمُ مِنْ دِمَشْقَ فَقَالُوا: لا تَرْجِعُوا إِلَى الْكُوفَةِ، فَإِنَّهُمْ يَشْمَتُونَ بِكُمْ، وَمِيلُوا بِنَا إِلَى الْجَزِيرَةِ، وَدَعُوا الْعِرَاقَ وَالشَّامَ فَأَوَوْا إِلَى الْجَزِيرَةِ، وَسَمِعَ بِهِمْ عبد الرحمن بن خالد بن الوليد- وكان مُعَاوِيَةُ قَدْ وَلاهُ حِمْصَ وَوَلَّى عَامِلَ الْجَزِيرَةِ حَرَّانَ وَالرُّقَّةَ- فَدَعَا بِهِمْ، فَقَالَ: يَا آلَةَ الشَّيْطَانِ، لا مَرْحَبًا بِكُمْ وَلا أَهْلا! قَدْ رَجَعَ الشَّيْطَانُ مَحْسُورًا وَأَنْتُمْ بَعْدُ نِشَاطٌ، خَسَّرَ الله عبد الرحمن ان لم يؤد بكم حَتَّى يُحَسِّرْكُمْ يَا مَعْشَرَ مَنْ لا أَدْرِي أَعُرْبٌ أَمْ عُجْمٌ، لِكَيْ لا تَقُولُوا لِي مَا يَبْلُغُنِي أَنَّكُمْ تَقُولُونَ لِمُعَاوِيَةَ، أَنَا ابْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، أَنَا ابْنُ مَنْ قَدْ عَجِمَتْهُ الْعَاجِمَاتُ، أَنَا ابْنُ فَاقِئِ الرِّدَّةِ، وَاللَّهِ لئن بلغنى يا صعصعة ابن ذُلٍّ أَنَّ أَحَدًا مِمَّنْ مَعِي دَقَّ أَنْفَكَ ثم امصك

لأَطِيرَنَّ بِكَ طَيْرَةً بَعِيدَةَ الْمَهْوَى فَأَقَامَهُمْ أَشْهُرًا كُلَّمَا رَكِبَ أَمْشَاهُمْ، فَإِذَا مَرَّ بِهِ صَعْصَعَةُ قال: يا بن الْحُطَيْئَةِ، أَعَلِمْتَ أَنَّ مَنْ لَمْ يُصْلِحْهُ الْخَيْرُ أَصْلَحَهُ الشَّرُّ! مَا لَكَ لا تَقُولُ كَمَا كَانَ يَبْلُغُنِي أَنَّكَ تَقُولُ لِسَعِيدٍ وَمُعَاوِيَةَ! فَيَقُولُ وَيَقُولُونَ: نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ، أَقِلَّنَا أَقَالَكَ اللَّهُ! فَمَا زَالُوا بِهِ حَتَّى قَالَ: تَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ. وَسَرَّحَ الأَشْتَرَ إِلَى عُثْمَانَ، وَقَالَ لَهُمْ: مَا شِئْتُمْ، إِنْ شِئْتُمْ فَاخْرُجُوا، وَإِنْ شِئْتُمْ فَأَقِيمُوا وَخَرَجَ الأَشْتَرُ، فَأَتَى عُثْمَانَ بِالتَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ وَالنُّزُوعِ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: سَلَّمَكُمُ اللَّهُ وَقَدِمَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، فَقَالَ عُثْمَانُ لِلأَشْتَرِ: احْلِلْ حَيْثُ شِئْتَ، فَقَالَ: مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدٍ؟ وَذَكَرَ مِنْ فَضْلِهِ، فَقَالَ: ذَاكَ إِلَيْكُمْ، فَرَجَعَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ وأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ عُثْمَانَ بَعَثَ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ إِلَى الْكُوفَةِ أَمِيرًا عَلَيْهَا، حِينَ شَهِدَ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ الْوَلِيدَ بن عقبه قال: قدم سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ الْكُوفَةَ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْوَلِيدِ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَلْحَقَ بِهِ قَالَ: فَتَضَجَّعَ أَيَّامًا، فَقَالَ لَهُ: انْطَلِقْ إِلَى أَخِيكَ، فَإِنَّهُ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ أَبْعَثَكَ إِلَيْهِ، قَالَ: وَمَا صَعِدَ مِنْبَرَ الْكُوفَةِ حَتَّى أَمَرَ بِهِ أَنْ يُغْسَلَ، فَنَاشَدَهُ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا قَدْ خَرَجُوا مَعَهُ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، وَقَالُوا: إِنَّ هَذَا قَبِيحٌ، وَاللَّهِ لَوْ أَرَادَ هَذَا غَيْرُكَ لَكَانَ حَقًّا أَنْ تَذُبَّ عَنْهُ، يَلْزَمُهُ عَارُ هَذَا أَبَدًا قَالَ: فَأَبَى إِلا أَنْ يَفْعَلَ، فَغَسَلَهُ وَأَرْسَلَ إِلَى الْوَلِيدِ أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنْ دَارِ الإِمَارَةِ، فَتَحَوَّلَ مِنْهَا، وَنَزَلَ دَارَ عُمَارَةَ بْنِ عُقْبَةَ، فَقَدِمَ الْوَلِيدُ عَلَى عُثْمَانَ، فَجَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خُصَمَائِهِ، فَرَأَى أَنْ يَجْلِدَهُ، فَجَلَدَهُ الْحَدَّ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي شَيْبَانُ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: قَدِمَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ الْكُوفَةَ، فَجَعَلَ يَخْتَارُ وجوه الناس يدخلون عليه

وَيَسْمُرُونَ عِنْدَهُ، وَإِنَّهُ سَمَرَ عِنْدَهُ لَيْلَةً وُجُوهُ أَهْلِ الْكُوفَةِ، مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ كَعْبٍ الأَرْحَبِيُّ، وَالأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ وَعَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ النَّخْعِيَّانِ، وَفِيهِمْ مَالِكٌ الأَشْتَرُ فِي رِجَالٍ، فَقَالَ سَعِيدٌ: إِنَّمَا هَذَا السَّوَادُ بُسْتَانٌ لِقُرَيْشٍ، فَقَالَ الأَشْتَرُ: أَتَزْعُمُ أَنَّ السَّوَادَ الَّذِي أَفَاءَهُ اللَّهُ عَلَيْنَا بِأَسْيَافِنَا بُسْتَانٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ! وَاللَّهِ مَا يَزِيدُ أَوْفَاكُمْ فِيهِ نَصِيبًا إِلا أَنْ يَكُونَ كَأَحَدِنَا، وَتَكَلَّمَ مَعَهُ الْقَوْمُ. قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأَسَدِيُّ- وَكَانَ عَلَى شُرْطَةِ سَعِيدٍ: أَتَرُدُّونَ عَلَى الأَمِيرِ مَقَالَتَهُ! وَأَغْلَظَ لَهُمْ، فَقَالَ الأَشْتَرُ: مِنْ هَاهُنَا! لا يَفُوتَنَّكُمُ الرَّجُلَ، فَوَثَبُوا عَلَيْهِ فَوَطَئُوهُ وطأ شَدِيدًا، حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ جُرَّ بِرِجْلِهِ فَأُلْقِيَ، فَنُضِحَ بِمَاءٍ فَأَفَاقَ، فَقَالَ لَهُ سَعِيدٌ: أَبِكَ حَيَاةٌ؟ فَقَالَ: قَتَلَنِي مَنِ انْتَخَبْتُ- زَعَمْت- لِلإِسْلامِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لا يَسْمُرُ مِنْهُمْ عِنْدِي أَحَدٌ أَبَدًا، فَجَعَلُوا يَجْلِسُونَ فِي مَجَالِسِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ يَشْتِمُونَ عُثْمَانَ وَسَعِيدًا، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِمْ، حَتَّى كَثُرَ مَنْ يَخْتَلِفُ إِلَيْهِمْ فَكَتَبَ سَعِيدٌ إِلَى عُثْمَانَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، وَيَقُولُ: إِنَّ رَهْطًا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ- سَمَّاهُمْ لَهُ عَشَرَةً- يُؤَلِّبُونَ وَيَجْتَمِعُونَ عَلَى عَيْبِكَ وَعَيْبِي وَالطَّعْنِ فِي دِينِنَا، وَقَدْ خَشِيتُ إِنْ ثَبُتَ أَمْرُهُمْ أَنْ يَكْثُرُوا، فَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى سَعِيدٍ: أَنْ سَيِّرْهُمْ إِلَى مُعَاوِيَةَ- وَمُعَاوِيَةُ يَوْمَئِذٍ عَلَى الشَّامِ- فَسَيَّرَهُمْ- وَهُمْ تِسْعَةُ نَفَرٍ- إِلَى مُعَاوِيَةَ، فِيهِمْ مَالِكٌ الأَشْتَرُ، وَثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ مُنَقَّعٍ، وَكُمَيْلُ بْنُ زِيَادٍ النَّخَعِيُّ، وَصَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ. ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ السَّرِيِّ، عَنْ شُعَيْبٍ، إِلا أَنَّهُ قَالَ: فقال صعصعة: فان اخترقت الجنه، افليس يَخْلُصُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّ الْجُنَّةَ لا تُخْتَرَقُ، فَضَعْ أَمْرَ قُرَيْشٍ عَلَى أَحْسَنَ مَا يَحْضُرُكَ. وَزَادَ فِيهِ أَيْضًا: إِنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا عَادَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْقَابِلَةِ وَذَكَّرَهُمْ، قَالَ فِيمَا يَقُولُ: وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا آمُرُكُمْ بِشَيْءٍ إِلا قَدْ بَدَأْتُ فِيهِ بِنَفْسِي وَأَهْلِ بَيْتِي وَخَاصَّتِي، وَقَدْ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ أَكْرَمَهَا وَابْنَ أَكْرَمِهَا، إِلا مَا جَعَلَ اللَّهُ لنبيه نبى الرحمه ص، فَإِنَّ اللَّهَ انْتَخَبَهُ وَأَكْرَمَهُ، فَلَمْ يَخْلُقْ فِي أَحَدٍ مِنَ الأَخْلاقِ الصَّالِحَةِ شَيْئًا إِلا أَصْفَاهُ اللَّهُ بِأَكْرَمِهَا وَأَحْسَنِهَا، وَلَمْ يَخْلُقْ مِنَ الأَخْلاقِ السَّيِّئَةِ شَيْئًا فِي أَحَدٍ إِلا أَكْرَمَهُ اللَّهُ عنها وَنَزَّهَهُ، وَإِنِّي لأَظُنُّ أَنَّ

أَبَا سُفْيَانَ لَوْ وُلِدَ النَّاسُ لَمْ يَلِدْ إِلا حَازِمًا قَالَ صَعْصَعَةُ: كَذَبْتَ! قَدْ وَلَدَهُمْ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ، مَنْ خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلائِكَةَ فَسَجَدُوا لَهُ، فَكَانَ فِيهِمُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَالأَحْمَقُ وَالْكَيِّسُ. فَخَرَجَ تِلَكَ اللَّيْلَةَ مِنْ عِنْدِهِمْ، ثُمَّ أَتَاهُمُ الْقَابِلَةَ، فَتَحَدَّثَ عِنْدَهُمْ طَوِيلا، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الْقَوْمُ، رُدُّوا عَلَيَّ خَيْرًا أَوِ اسْكُتُوا وَتَفَكَّرُوا وَانْظُرُوا فِيمَا يَنْفَعُكُمْ وَيَنْفَعُ أَهْلِيكُمْ، وَيَنْفَعُ عَشَائِرَكُمْ، وَيَنْفَعُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، فَاطْلُبُوهُ تَعِيشُوا وَنَعِشْ بِكُمْ فَقَالَ صَعْصَعَةُ: لَسْتَ بِأَهْلِ ذَلِكَ، وَلا كَرَامَةَ لَكَ أَنْ تُطَاعَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ. فقال: او ليس مَا ابْتَدَأَتْكُمْ بِهِ أَنْ أَمَرْتُكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وطاعته وطاعه نبيه ص، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا! قَالُوا: بَلْ أَمَرْتَ بِالْفُرْقَةِ وَخِلافِ مَا جَاءَ بِهِ النبي ص قَالَ: فَإِنِّي آمُرُكُمُ الآنَ، إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ فَأَتُوبُ إِلَى اللَّهِ، وَآمُرُكُمْ بِتَقْوَاهُ وَطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ نبيه ص وَلُزُومِ الْجَمَاعَةِ، وَكَرَاهَةِ الْفُرْقَةِ، وَأَنْ تُوَقِّرُوا أَئِمَّتَكُمْ وَتَدُلُّوهُمْ عَلَى كُلِّ حَسَنٍ مَا قَدَرْتُمْ، وَتَعِظُوهُمْ فِي لِينٍ وَلُطْفٍ فِي شَيْءٍ إِنْ كَانَ مِنْهُمْ. فَقَالَ صَعْصَعَةُ: فَإِنَّا نَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ عَمَلَكَ، فَإِنَّ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْكَ، قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: مَنْ كَانَ أَبُوهُ أَحْسَنَ قَدَمًا مَنْ أَبِيكَ، وَهُوَ بِنَفْسِهِ أَحْسَنَ قَدَمًا مِنْكَ فِي الإِسْلامِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ لِي فِي الإِسْلامِ قَدَمًا، وَلَغَيْرِي كَانَ أَحْسَنَ قَدَمًا مِنِّي، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ فِي زَمَانِي أَحَدٌ أَقْوَى عَلَى مَا أَنَا فِيهِ مِنِّي، وَلَقَدْ رَأَى ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَلَوْ كَانَ غَيْرِي أَقْوَى مِنِّي لَمْ يَكُنْ لِي عِنْدَ عُمَرَ هَوَادَةً وَلا لِغَيْرِي، وَلَمْ أُحْدِثْ مِنَ الْحَدَثِ مَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَعْتَزِلَ عَمَلِي، وَلَوْ رَأَى ذَلِكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَجَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ لَكَتَبَ إِلَيَّ بِخَطِّ يَدِهِ فَاعْتَزَلْتُ عَمَلَهُ، وَلَوْ قَضَى اللَّهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لَرَجَوْتُ أَلا يَعْزِمَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلا وَهُوَ خَيْرٌ، فَمَهْلا فَإِنَّ فِي ذَلِكَ وَأَشْبَاهِهِ مَا يَتَمَنَّى الشَّيْطَانُ وَيَأْمُرُ، وَلَعَمْرِي لَوْ كَانَتِ الأُمُورُ تُقْضَى عَلَى رَأْيِكُمْ وَأَمَانِيِّكُمْ

مَا اسْتَقَامَتِ الأُمُورُ لأَهْلِ الإِسْلامِ يَوْمًا وَلا لَيْلَةً، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَقْضِيهَا وَيُدَبِّرُهَا، وَهُوَ بَالِغُ امره، فعاودوا الخبر وَقُولُوهُ. فَقَالُوا: لَسْتَ لِذَلِكَ أَهْلا، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنَّ لِلَّهِ لَسَطَوَاتٍ وَنَقَمَاتٍ، وَإِنِّي لَخَائِفٌ عليكم ان تتايعوا فِي مُطَاوَعَةِ الشَّيْطَانِ حَتَّى تُحِلَّكُمْ مُطَاوَعَةُ الشَّيْطَانِ وَمَعْصِيَةُ الرَّحْمَنِ دَارَ الْهَوَانِ مِنْ نَقَمِ اللَّهِ فِي عَاجِلِ الأَمْرِ، وَالْخِزْيِ الدَّائِمِ فِي الآجِلِ. فَوَثَبُوا عَلَيْهِ، فَأَخَذُوا بِرَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، فَقَالَ: مَهْ، إِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِأَرْضِ الْكُوفَةِ، وَاللَّهِ لَوْ رَأَى أَهْلُ الشَّامِ مَا صَنَعْتُمْ بِي وَأَنَا إِمَامُهُمْ مَا مَلَكْتُ أَنْ أَنْهَاهُمْ عَنْكُمْ حَتَّى يَقْتُلُوكُمْ فَلَعَمْرِي إِنَّ صَنِيعَكُمْ لَيُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، ثُمَّ أَقَامَ مِنْ عِنْدِهِمْ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لا أَدْخُلُ عَلَيْكُمْ مُدْخَلا مَا بَقِيتُ. ثُمَّ كَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لِعَبْدِ اللَّهِ عُثْمَانَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، أَمَّا بَعْدُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّكَ بَعَثْتَ إِلَيَّ أَقْوَامًا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةِ الشَّيَاطِينِ وَمَا يُمْلُونَ عَلَيْهِمْ، وَيَأْتُونَ النَّاسَ- زَعَمُوا- مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ، فَيُشَبِّهُونَ عَلَى النَّاسِ، وَلَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَعْلَمُ مَا يُرِيدُونَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ فُرْقَةً، وَيُقَرِّبُونَ فِتْنَةً، قَدْ أَثْقَلَهُمُ الإِسْلامُ وَأَضْجَرَهُمْ، وَتَمَكَّنَتْ رُقَى الشَّيْطَانِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، فَقَدْ أَفْسَدُوا كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ مِمَّنْ كَانُوا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَلَسْتُ آمَنُ إِنْ أَقَامُوا وَسْطَ أَهْلِ الشَّامِ أَنْ يُغْرُوهُمْ بِسِحْرِهِمْ وَفُجُورِهِمْ، فَارْدُدْهُمْ إِلَى مِصْرِهِمْ، فَلْتَكُنْ دَارُهُمْ فِي مِصْرِهِمُ الَّذِي نَجَمَ فِيهِ نِفَاقُهُمْ، وَالسَّلامُ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ يَأْمُرُهُ أَنْ يَرُدَّهُمْ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِالْكُوفَةِ، فَرَدَّهُمْ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَكُونُوا إِلا أَطْلَقَ أَلْسِنَةً مِنْهُمْ حِينَ رَجَعُوا. وَكَتَبَ سَعِيدٌ إِلَى عُثْمَانَ يَضِجُّ مِنْهُمْ، فَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى سَعِيدٍ أَنْ سَيِّرْهُمْ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى حِمْصَ

ذكر الخبر عن تسيير عثمان من سير من اهل البصره إلى الشام

وَكَتَبَ إِلَى الأَشْتَرِ وَأَصْحَابِهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ سَيَّرْتُكُمْ إِلَى حِمْصَ، فَإِذَا أَتَاكُمْ كِتَابِي هذا فاخرجوا إليها، فإنكم لستم تالون الإِسْلامَ وَأَهْلَهُ شَرًّا وَالسَّلامُ. فَلَمَّا قَرَأَ الأَشْتَرُ الكتاب، قال: اللهم اسوانا نَظَرًا لِلرَّعِيَّةِ وَأَعْمَلُنَا فِيهِمْ بِالْمَعْصِيَةِ، فَعَجِّلْ لَهُ النِّقْمَةَ. فَكَتَبَ بِذَلِكَ سَعِيدٌ إِلَى عُثْمَانَ، وَسَارَ الأَشْتَرُ وَأَصْحَابُهُ إِلَى حِمْصَ، فَأَنْزَلَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ السَّاحِلَ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ رِزْقًا. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي عِيسَى بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عن أبي إِسْحَاق الهمداني، قَالَ: اجتمع نفر بالكوفة- يطعنون عَلَى عُثْمَانَ- من أشراف أهل العراق: مالك بن الْحَارِث الأَشْتَر، وثابت بن قيس النخعي، وكميل بن زياد النخعي، وزَيْد بن صُوحَانَ العبدي، وجندب بن زهير الغامدي، وجندب بن كعب الأَزْدِيّ، وعروة بن الجعد، وعمرو بن الحمق الخزاعي. فكتب سَعِيد بن الْعَاصِ إِلَى عُثْمَانَ يخبره بأمرهم، فكتب إِلَيْهِ أن سيرهم إِلَى الشام وألزمهم الدروب . ذكر الخبر عن تسيير عُثْمَان من سير من أهل الْبَصْرَةِ إِلَى الشام مما كتب به إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطية، عن يزيد الفقعسي، قال: لما مضى من إمارة ابن عَامِر ثلاث سنين، بلغه أن فِي عبد القيس رجلا نازلا عَلَى حكيم بن جبلة، وَكَانَ حكيم بن جبلة رجلا لصا، إذا قفل الجيوش خنس عَنْهُمْ، فسعى فِي أرض فارس، فيغير عَلَى أهل الذمة، ويتنكر لَهُمْ، ويفسد فِي الأرض، ويصيب مَا شاء ثُمَّ يرجع فشكاه أهل الذمة وأهل القبلة إِلَى عُثْمَانَ فكتب إِلَى عَبْد اللَّهِ بن عَامِر: أن احبسه، ومن كَانَ مثله فلا يخرجن مِنَ الْبَصْرَةِ حَتَّى تأنسوا مِنْهُ رشدا، فحبسه فكان لا يستطيع أن يخرج منها فلما قدم ابن السوداء نزل عَلَيْهِ واجتمع إِلَيْهِ نفر فطرح لَهُمُ ابن السوداء ولم يصرح، فقبلوا مِنْهُ، واستعظموه، وأرسل إِلَيْهِ ابن عَامِر، فسأله: مَا أنت؟ فأخبره إنه رجل من

أهل الكتاب، رغب فِي الإِسْلام، ورغب فِي جوارك، فَقَالَ: مَا يبلغني ذَلِكَ، اخرج عني فخرج حَتَّى أتى الْكُوفَة فأخرج منها فاستقر بمصر، وجعل يكاتبهم ويكاتبونه، ويختلف الرجال بَيْنَهُمْ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، قَالا: إِنَّ حُمْرَانَ بْنَ أَبَانٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي عِدَّتِهَا، فَنَكَّلَ بِهِ عُثْمَانُ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَسَيَّرَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَلَزِمَ ابْنَ عَامِرٍ، فَتَذَاكَرُوا يَوْمًا الرُّكُوبَ وَالْمُرُورَ بِعَامِرِ ابن عَبْدِ قَيْسٍ- وَكَانَ مُنَقَّبَضًا عَنِ النَّاسِ- فَقَالَ حُمْرَانُ: أَلا أَسْبِقُكُمْ فَأُخْبِرُهُ! فَخَرَجَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ، فَقَالَ: الأَمِيرُ أَرَادَ أَنْ يَمُرَّ بِكَ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُخْبِرَكَ، فَلَمْ يَقْطَعْ قِرَاءَتَهُ وَلَمْ يُقْبِلْ عَلَيْهِ، فَقَامَ مِنْ عِنْدِهِ خَارِجًا. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْبَابِ لَقِيَهُ ابْنُ عَامِرٍ، فَقَالَ: جِئْتُكَ مِنْ عِنْدِ امْرِئٍ لا يَرَى لآلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ فَضْلا، وَاسْتَأْذَنَ ابْنُ عَامِرٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، وَجَلَسَ إِلَيْهِ، فَأَطْبَقَ عَامِرٌ الْمُصْحَفَ، وَحَدَّثَهُ سَاعَةً، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَامِرٍ: أَلا تَغْشَانَا؟ فَقَالَ: سَعْدُ بْنُ أَبِي الْعَرْجَاءِ يُحِبُّ الشَّرَفَ، فَقَالَ: أَلا نَسْتَعْمِلُكَ؟ فَقَالَ: حصين ابن أَبِي الْحُرِّ يُحِبُّ الْعَمَلَ، فَقَالَ: أَلا نُزَوِّجُكَ! فَقَالَ: رَبِيعَةُ بْنُ عسلٍ يُعْجِبُهُ النَّسَاءَ، قَالَ: إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّكَ لا تَرَى لآلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْكَ فَضْلا، فَتَصَفَّحَ الْمُصْحَفَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ وافْتَتَحَ مِنْهُ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ» ، فَلَمَّا رُدَّ حُمْرَانَ تَتَبَّعَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَسَعَى بِهِ، وَشَهِدَ لَهُ أَقْوَامٌ فَسَيَّرَهُ إِلَى الشَّامِ، فَلَمَّا عَلِمُوا عِلْمَهُ أَذِنُوا لَهُ فَأَبَى وَلَزِمَ الشَّامِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، أَنَّ عُثْمَانَ سَيَّرَ حُمْرَانَ بْنَ أَبَانٍ، أَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي عِدَّتِهَا، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَضَرَبَهُ وَسَيَّرَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ مَا شَاءَ اللَّهُ، وَأَتَاهُ عَنْهُ الَّذِي يُحِبُّ، أَذِنَ لَهُ. فَقَدِمَ عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ، وَقَدِمَ مَعَهُ قَوْمٌ سَعَوْا بِعَامِرِ بْنِ عَبْدِ قَيْسٍ، إِنَّهُ لا يَرَى التَّزْوِيجَ، وَلا يَأْكُلُ اللَّحْمَ، وَلا يَشْهَدُ الْجُمُعَةَ- وَكَانَ مَعَ عامر انقباض،

وَكَانَ عَمَلُهُ كُلُّهُ خُفْيَةً- فَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ بِذَلِكَ، فَأَلْحَقَهُ بِمُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ وَافَقَهُ وَعِنْدَهُ ثَرِيدَةٌ فَأَكَلَ أَكْلا غَرِيبًا، فَعَرَفَ أَنَّ الرَّجُلَ مَكْذُوبٌ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يا هذا، هل تدرى فيم أُخْرِجْتَ؟ قَالَ: لا، قَالَ: أُبْلِغَ الْخَلِيفَةُ أَنَّكَ لا تَأْكُلُ اللَّحْمَ، وَرَأَيْتُكَ وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ كُذِبَ عَلَيْكَ، وَأَنَّكَ لا تَرَى التَّزْوِيجَ، وَلا تَشْهَدُ الْجُمُعَةَ، قَالَ: أَمَّا الْجُمُعَةُ فَإِنِّي أَشْهَدُهَا فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ أَرْجِعُ فِي أَوَائِلِ النَّاسِ، وَأَمَّا التَّزْوِيجُ فَإِنِّي خَرَجْتُ وَأَنَا يُخْطَبُ عَلَيَّ، وَأَمَّا اللَّحْمُ فَقَدْ رَأَيْتَ، وَلَكِنِّي كُنْتُ امْرَأً لا آكُلُ ذَبَائِحَ الْقَصَّابِينَ مُنْذُ رَأَيْتُ قَصَّابًا يَجُرُّ شَاةً إِلَى مَذْبَحِهَا، ثُمَّ وَضَعَ السِّكِّينَ عَلَى مَذْبَحِهَا، فَمَا زَالَ يَقُولُ: النِّفَاقَ النِّفَاقَ، حَتَّى وَجَبَتْ قَالَ: فَارْجِعْ، قَالَ: لا أَرْجِعُ إِلَى بَلَدٍ اسْتَحَلَّ أَهْلُهُ مِنِّي مَا اسْتَحَلُّوا وَلَكِنِّي أُقِيمُ بِهَذَا الْبَلَدِ الَّذِي اخْتَارَهُ اللَّهُ لِي وَكَانَ يَكُونُ فِي السَّوَاحِلِ، وَكَانَ يَلْقَى مُعَاوِيَةَ، فَيُكْثِرُ مُعَاوِيَةُ أَنْ يَقُولَ: حَاجَتُكَ؟ فَيَقُولُ: لا حَاجَةَ لِي، فَلَمَّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ، قَالَ: تَرُدُّ عَلَيَّ مِنْ حَرِّ الْبَصْرَةِ لَعَلَّ الصَّوْمَ أَنْ يَشْتَدَّ عَلَيَّ شَيْئًا، فَإِنَّهُ يَخْفَ عَلَيَّ فِي بِلادِكُمْ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عُثْمَانَ، قَالا: لَمَّا قَدِمَ مسيرة أَهْلِ الْكُوفَةِ عَلَى مُعَاوِيَةَ، أَنْزَلَهُمْ دَارًا، ثُمَّ خَلا بِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ وَقَالُوا لَهُ، فَلَمَّا فَرَغُوا قَالَ: لَمْ تُؤْتَوْا إِلا مِنَ الْحُمْقِ، وَاللَّهِ مَا أَرَى مَنْطِقًا سَدِيدًا، وَلا عُذْرًا مُبِينًا، وَلا حِلْمًا وَلا قُوَّةً، وَإِنَّكَ يَا صَعْصَعَةُ لأَحْمَقُهُمْ، اصْنَعُوا وَقُولُوا مَا شِئْتُمْ مَا لَمْ تَدَّعُوا شَيْئًا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُحْتَمَلُ لَكُمْ إِلا مَعْصِيَتَهُ، فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فَأَنْتُمْ أُمَرَاءُ أَنْفُسِكُمْ فَرَآهُمْ بَعْدُ وَهُمْ يَشْهَدُونَ الصَّلاةَ، وَيَقِفُونَ مَعَ قَاصِّ الْجَمَاعَةِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ يَوْمًا وَبَعْضُهُمْ يُقْرِئُ بَعْضًا، فَقَالَ: إِنَّ فِي هَذَا لَخَلَفًا مِمَّا قَدِمْتُمْ بِهِ عَلَيَّ مِنَ النِّزَاعِ إِلَى أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، اذْهَبُوا حَيْثُ شِئْتُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِنْ لَزِمْتُمْ جَمَاعَتَكُمْ سَعِدْتُمْ بِذَلِكَ دُونَهُمْ، وَإِنْ لَمْ تَلْزَمُوهَا شَقِيتُمْ بِذَلِكَ دُونَهُمْ، وَلَمْ تَضُرُّوا أَحَدًا، فَجَزَوْهُ خَيْرًا،

واثنوا عليه، فقال: يا بن الْكَوَّاءِ، أَيُّ رَجُلٍ أَنَا؟ قَالَ: بَعِيدُ الثَّرَى، كَثِيرُ الْمَرْعَى، طَيِّبُ الْبَدِيهَةِ، بَعِيدُ الْغَوْرِ، الْغَالِبُ عَلَيْكَ الْحِلْمُ، رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلامِ، سُدَّتْ بِكَ فُرْجَةً مُخَوَّفَةً قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَهْلِ الإحْدَاثِ مِنْ أَهْلِ الأَمْصَارِ فَإِنَّكَ أَعْقَلُ أَصْحَابِكَ، قَالَ: كَاتَبْتُهُمْ وَكَاتَبُونِي، وَأَنْكَرُونِي وَعَرَفْتُهُمْ، فَأَمَّا أَهْلُ الإحْدَاثِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَهُمْ أَحْرَصُ الأُمَّةِ عَلَى الشَّرِّ، وَأَعْجَزُهُ عَنْهُ وَأَمَّا أَهْلُ الإحْدَاثِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَإِنَّهُمْ أَنْظَرُ النَّاسِ فِي صَغِيرٍ، وَأَرْكَبُهُ لِكَبِيرٍ وَأَمَّا أَهْلُ الإحْدَاثِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَإِنَّهُمْ يُرَدُّونَ جَمِيعًا، وَيَصْدُرُونَ شَتَّى، وَأَمَّا أَهْلُ الإحْدَاثِ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ فَهُمْ اوفى الناس بشر، وَأَسْرَعُهُ نَدَامَةً، وَأَمَّا أَهْلُ الإِحْدَاثِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فَأَطْوَعُ النَّاسِ لِمُرْشِدِهِمْ، وَأَعْصَاهُ لِمُغْوِيهِمْ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُثْمَانُ. وَزَعَمَ أَبُو مَعْشَرٍ أَنَّ فَتْحَ قُبْرُسَ كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ مَنْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ

سنه اربع وثلاثين

ثم دخلت (ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث المذكورة) فزعم أَبُو معشر أن غزوة الصواري كَانَتْ فِيهَا، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أحمد، عمن حدثه، عن إِسْحَاق، عنه وَقَدْ مضى الخبر عن هَذِهِ الغزوة وذكر من خالف أبا معشر فِي وقتها. وفيها كَانَ رد أهل الْكُوفَة سَعِيد بن العاص عن الكوفه. ذكر خبر اجتماع المنحرفين على عثمان وفي هَذِهِ السنة تكاتب المنحرفون عن عُثْمَان بن عَفَّانَ للاجتماع لمناظرته فِيمَا كَانُوا يذكرون أَنَّهُمْ نقموا عَلَيْهِ. ذكر الخبر عن صفة اجتماعهم لذلك وخبر الجرعة: مما كَتَبَ إِلَيَّ بِهِ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن المستنير بن يَزِيدَ، عن قيس بن يَزِيدَ النخعي، قَالَ: لما رجع مُعَاوِيَة المسيرين، قَالُوا: إن العراق والشام ليسا لنا بدار، فعَلَيْكُمْ بالجزيرة فأتوها اختيارا. فغدا عَلَيْهِم عبد الرَّحْمَن بن خَالِد، فسامهم الشدة، فضرعوا لَهُ وتابعوه. وسرح الأَشْتَر إِلَى عُثْمَانَ، فدعا بِهِ، وَقَالَ: اذهب حَيْثُ شئت، فَقَالَ: أرجع إِلَى عبد الرَّحْمَن، فرجع ووفد سَعِيد بن الْعَاصِ إِلَى عُثْمَانَ فِي سنة إحدى عشرة من إمارة عُثْمَان وقبل مخرج سَعِيد بن الْعَاصِ من الْكُوفَة بسنة وبعض أخرى بعث الأشعث بن قيس عَلَى أذربيجان، وسعيد بن قيس عَلَى الري، وَكَانَ سَعِيد بن قيس عَلَى همذان، فعزل وجعل عَلَيْهَا النسير العجلي، وعلى إصبهان السَّائِب بن الأقرع، وعلى ماه مالك بن حبيب اليربوعي، وعلى الموصل حكيم بن سلامة الحزامي، وجرير بن عَبْدِ اللَّهِ عَلَى قرقيسياء، وسلمان

ابن رَبِيعَةَ عَلَى الباب، وعلى الحرب القعقاع بن عمرو، وعلى حلوان عتيبة ابن النهاس، وخلت الْكُوفَة من الرؤساء إلا منزوعا أو مفتونا. فخرج يَزِيد بن قيس وَهُوَ يريد خلع عُثْمَان، فدخل المسجد، فجلس فِيهِ، وثاب إِلَيْهِ الَّذِينَ كَانَ فِيهِ ابن السوداء يكاتبهم، فانقض عَلَيْهِ القعقاع، فأخذ يَزِيد بن قيس، فَقَالَ: إنما نستعفي من سَعِيد، قَالَ: هَذَا مَا لا يعرض لكم فِيهِ، لا تجلس لهذا وَلا يجتمعن إليك، واطلب حاجتك، فلعمري لتعطينها فرجع إِلَى بيته واستأجر رجلا، وأعطاه دراهم وبغلا عَلَى أن يأتي المسيرين وكتب إِلَيْهِم: لا تضعوا كتابي من أيديكم حَتَّى تجيئوا، فإن أهل المصر قَدْ جامعونا فانطلق الرجل، فأتى عَلَيْهِم وَقَدْ رجع الأَشْتَر، فدفع إِلَيْهِم الكتاب، فَقَالُوا: مَا اسمك؟ قَالَ: بغثر، قَالُوا: ممن؟ قَالَ: من كلب، قَالُوا: سبع ذليل يبغثر النفوس، لا حاجة لنا بك وخالفهم الأَشْتَر، ورجع عاصيا، فلما خرج قَالَ أَصْحَابه: أخرجنا أخرجه اللَّه، لا نجد بدا مما صنع، إن علم بنا عبد الرَّحْمَن لم يصدقنا ولم يستقلها، فاتبعوه فلم يلحقوه، وبلغ عبد الرَّحْمَن أَنَّهُمْ قَدْ رحلوا فطلبهم فِي السواد، فسار الأَشْتَر سبعا والقوم عشرا، فلم يفجأ الناس فِي يوم جمعة إلا والأشتر عَلَى باب المسجد يقول: أَيُّهَا النَّاسُ، إني قَدْ جئتكم من عِنْدَ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَان، وتركت سعيدا يريده عَلَى نقصان نسائكم إِلَى مائة درهم ورد أهل البلاء مِنْكُمْ إِلَى ألفين ويقول: مَا بال أشراف النساء، وهذه العلاوة بين هَذَيْنِ العدلين! ويزعم ان فيئكم بستان قريش، وَقَدْ سايرته مرحلة، فما زال يرجز بِذَلِكَ حَتَّى فارقته، يقول: ويل لأشراف النساء مني ... صمحمح كأنني من جن فاستخف الناس، وجعل أهل الحجى ينهونه فلا يسمع مِنْهُمْ، وكانت نفجة، فخرج يَزِيد، وأمر مناديا ينادي: من شاء ان يلحق بيزيد

ابن قيس لرد سَعِيد وطلب أَمِير غيره فليفعل وبقي حلماء الناس وأشرافهم ووجوههم فِي المسجد، وذهب من سواهم، وعمرو بن حريث يَوْمَئِذٍ الخليفة، فصعد الْمِنْبَر فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وقال: اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً، بعد ان كنتم عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها، فلا تعودوا فِي شر قَدِ استنقذكم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ أبعد الإِسْلام وهديه وسنته لا تعرفون حقا، وَلا تصيبون بابه! فَقَالَ القعقاع بن عَمْرو: أترد السيل عن عبابه! فاردد الفرات عن أدراجه، هيهات! لا وَاللَّهِ لا تسكن الغوغاء إلا المشرفية ويوشك أن تنتضى، ثُمَّ يعجون عجيج العتدان ويتمنون مَا هم فِيهِ فلا يرده اللَّه عَلَيْهِم أبدا فاصبر، فَقَالَ: أصبر، وتحول إِلَى منزله، وخرج يزيد ابن قيس حَتَّى نزل الجرعة، وَمَعَهُ الأَشْتَر، وَقَدْ كَانَ سَعِيد تلبث فِي الطريق، فطلع عَلَيْهِم سَعِيد وهم مقيمون لَهُ معسكرون، فَقَالُوا: لا حاجة لنا بك. فَقَالَ: فما اختلفتم الآن، إنما كَانَ يكفيكم أن تبعثوا إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ رجلا وتضعوا إلي رجلا وهل يخرج الألف لَهُمْ عقول إِلَى رجل! ثُمَّ انصرف عَنْهُمْ وتحسوا بمولى لَهُ عَلَى بعير قَدْ حسر، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا كَانَ ينبغي لسعيد أن يرجع فضرب الأَشْتَر عنقه، ومضى سَعِيد حَتَّى قدم عَلَى عُثْمَانَ، فأخبره الخبر، فَقَالَ: مَا يريدون؟ أخلعوا يدا من طاعة؟ قَالَ: أظهروا أَنَّهُمْ يريدون البدل قَالَ: فمن يريدون؟ قَالَ: أبا مُوسَى، قَالَ: قَدْ أثبتنا أبا موسى عليهم، وو الله لا نجعل لأحد عذرا، وَلا نترك لَهُمْ حجة، ولنصبرن كما أمرنا حَتَّى نبلغ مَا يريدون ورجع من قرب عمله من الْكُوفَة، ورجع جرير من قرقيسياء وعتيبة من حلوان وقام أَبُو مُوسَى فتكلم بالكوفة فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، لا تنفروا فِي مثل هَذَا، وَلا تعودوا لمثله، الزموا جماعتكم والطاعة، وإياكم والعجلة، اصبروا، فكأنكم بأمير قَالُوا: فصل بنا، قَالَ لا، إلا عَلَى السمع والطاعة لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، قَالُوا: عَلَى السمع والطاعة لِعُثْمَانَ

حدثني جعفر بن عبد الله المحمدي، قال: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادِ بْنِ طَلْحَةَ وَعَلِيُّ بْنُ حُسَيْنِ بْنِ عِيسَى، قَالا: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عِيسَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ هَارُونَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الْعَلاءِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْعَنْبَرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: اجْتَمَعَ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَتَذَاكَرُوا أَعْمَالَ عُثْمَانَ وَمَا صَنَعَ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يَبْعَثُوا إِلَيْهِ رَجُلا يُكَلِّمُهُ، ويخبره بأحداثه، فأرسلوا اليه عامر ابن عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيَّ ثُمَّ الْعَنْبَرِيَّ- وَهُوَ الَّذِي يُدْعَى عَامِرَ بْنَ عَبْدِ قَيْسٍ- فَأَتَاهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ اجْتَمَعُوا فَنَظَرُوا فِي أَعْمَالِكَ، فَوَجَدُوكَ قَدْ رَكِبْتَ أُمُورًا عِظَامًا، فَاتَّقِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَتُبْ إِلَيْهِ، وَانْزَعْ عَنْهَا قَالَ لَهُ عُثْمَانُ: انْظُرْ إِلَى هَذَا، فَإِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ قَارِئٌ، ثم هو يجيء فيكلمني في المحقرات، فو الله مَا يَدْرِي أَيْنَ اللَّهُ! قَالَ عَامِرٌ: أَنَا لا أَدْرِي أَيْنَ اللَّهُ! قَالَ: نَعَمْ، وَاللَّهِ ما تدرى اين الله، قال عامر: بلى وَاللَّهِ إِنِّي لأَدْرِي أَنَّ اللَّهَ بِالْمِرْصَادِ لَكَ فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَإِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَإِلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَإِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، وَإِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، فَجَمَعَهُمْ لِيُشَاوِرَهُمْ فِي أَمْرِهِ وَمَا طَلَبَ إِلَيْهِ، وَمَا بَلَغَهُ عَنْهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا عِنْدَهُ قَالَ لَهُمْ: إِنَّ لِكُلِّ امْرِئٍ وُزَرَاءَ وَنُصَحَاءَ، وَإِنَّكُمْ وُزَرَائِي وَنُصَحَائِي وَأَهْلُ ثِقَتِي، وَقَدْ صَنَعَ النَّاسُ مَا قَدْ رَأَيْتُمْ، وَطَلَبُوا إِلَيَّ أَنْ أَعْزِلَ عُمَّالِي، وَأَنْ أَرْجِعَ عَنْ جَمِيعِ مَا يَكْرَهُونَ إِلَى مَا يُحِبُّونَ، فَاجْتَهِدُوا رَأْيَكُمْ، وَأَشِيرُوا عَلَيَّ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ: رَأْيِي لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَأْمُرَهُمْ بِجِهَادٍ يَشْغَلُهُمْ عَنْكَ، وَأَنْ تَجْمُرَهُمْ فِي الْمَغَازِي حَتَّى يَذِلُّوا لَكَ فَلا يَكُونُ هِمَّةُ أَحَدِهِمْ إِلا نَفْسَهُ، وَمَا هُوَ فِيهِ مِنْ دُبْرَةِ دَابَّتِهِ، وَقَمْلِ فَرْوِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ عُثْمَانُ عَلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ لَهُ: مَا رَأْيُكَ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ كنت ترى رَأْيَنَا فَاحْسِمْ عَنْكَ الدَّاءَ، وَاقْطَعْ عَنْكَ الَّذِي تَخَافُ، وَاعْمَلْ بِرَأْيِي تُصِبْ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ قَادَةً مِتَى تَهْلَكْ يتفرقوا،

وَلا يَجْتَمِعُ لَهُمْ أَمْرٌ، فَقَالَ عُثْمَانُ: إِنَّ هَذَا الرَّأْيُ لَوْلا مَا فِيهِ ثُمَّ أَقْبَلَ مُعَاوِيَةُ فَقَالَ: مَا رَأْيُكَ؟ قَالَ: أَرَى لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَرُدَّ عُمَّالَكَ عَلَى الْكِفَايَةِ لِمَا قِبَلَهُمْ، وَأَنَا ضَامِنٌ لَكَ قِبَلِي. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ، فَقَالَ: مَا رَأْيُكَ؟ قَالَ: أَرَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ النَّاسَ أَهْلُ طَمَعٍ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ تَعْطِفْ عَلَيْكَ قُلُوبُهُمْ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ لَهُ: مَا رَأْيُكَ؟ قَالَ: أَرَى أَنَّكَ قَدْ رَكِبْتَ النَّاسَ بِمَا يَكْرَهُونَ، فَاعْتَزِمْ أَنْ تَعْتِدَلَ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَاعْتَزِمْ أَنْ تَعْتَزِلَ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَاعْتَزِمْ عَزْمًا، وَامْضِ قُدُمًا، فَقَالَ عُثْمَانُ: مَا لَكَ قَمِلَ فَرْوُكَ؟ أَهَذَا الْجَدُّ مِنْكَ! فَأُسْكِتَ عَنْهُ دَهْرًا، حَتَّى إِذَا تَفَرَّقَ الْقُومُ قَالَ عَمْرٌو: لا وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لأَنْتَ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ قَدْ عَلِمْتُ أَنْ سَيَبْلُغَ النَّاسَ قَوْلُ كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا، فَأَرَدْتُ أَنْ يَبْلُغَهُمْ قَوْلِي فَيَثِقُوا بِي، فَأَقُودُ إِلَيْكَ خَيْرًا، أَوْ أَدْفَعُ عَنْكَ شَرًّا حَدَّثَنِي جَعْفَرٌ، قَالَ: حدثنا عمرو بن حماد وعلي بن حسين، قَالا: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بن ابى المقدام، عن عبد الملك ابن عُمَيْرٍ الزُّهْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: جَمَعَ عُثْمَانُ أُمَرَاءَ الأَجْنَادِ: مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، فَقَالَ: أَشِيرُوا عَلَيَّ، فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ تَنَمَّرُوا لِي، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: أُشِيرُ عَلَيْكَ أَنْ تَأْمُرَ أُمَرَاءَ أَجْنَادِكَ فَيَكْفِيكَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا قِبَلَهُ، وَأَكْفِيكَ أَنَا أَهْلَ الشَّامِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ: أَرَى لَكَ أَنْ تَجْمُرَهُمْ فِي هَذِهِ الْبُعُوثِ حَتَّى يَهِمَّ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ دُبُرَ دَابَّتِهِ، وَتَشْغَلُهُمْ عَنِ الإِرْجَافِ بِكَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ: أُشِيرُ عَلَيْكَ أَنْ تَنْظُرَ مَا أَسْخَطَهُمْ فَتُرْضِيهِمْ، ثُمَّ تُخْرِجُ لَهُمْ هَذَا الْمَالَ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمْ. ثُمَّ قَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَقَالَ: يَا عُثْمَانُ، إِنَّكَ قَدْ رَكِبْتَ النَّاسَ بِمِثْلِ بَنِي أُمَيَّةَ، فَقُلْتَ وَقَالُوا، وَزِغْتَ وَزَاغُوا، فَاعْتَدِلْ أَوِ اعْتَزِلْ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَاعْتَزِمْ عَزْمًا، وَامْضِ قدما، فقال له عثمان: مالك قَمِلَ فَرْوُكَ! أَهَذَا الْجَدُّ مِنْكَ! فَأُسْكِتَ عَمْرٌو حَتَّى إِذَا تَفَرَّقُوا قَالَ: لا وَاللَّهِ يَا امير المؤمنين،

لأَنْتَ أَكْرَمُ عَلَيَّ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ بِالْبَابِ قَوْمًا قَدْ عَلِمُوا أَنَّكَ جَمَعْتَنَا لِنُشِيرَ عَلَيْكَ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَبْلُغَهُمْ قَوْلِي، فَأَقُودَ لَكَ خَيْرًا، أَوْ أَدْفَعَ عَنْكَ شَرًّا فَرَدَّ عُثْمَانُ عُمَّالَهُ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّضْيِيقِ عَلَى مَنْ قِبَلَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِتَجْمِيرِ النَّاسِ فِي الْبُعُوثِ، وَعَزَمَ عَلَى تَحْرِيمِ أُعْطِيَاتِهِمْ لِيُطِيعُوهُ، وَيَحْتَاجُوا إِلَيْهِ، وَرَدَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ أَمِيرًا عَلَى الْكُوفَةِ، فَخَرَجَ أَهْلُ الْكُوفَةِ عَلَيْهِ بِالسِّلاحِ، فَتَلَقَّوْهُ فَرَدُّوهُ، وَقَالُوا: لا وَاللَّهِ لا يَلِي عَلَيْنَا حُكْمًا مَا حَمَلْنَا سُيُوفَنَا. حَدَّثَنِي جَعْفَرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو وعلي بن حُسَيْن، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ هَارُونَ بن سَعْدٍ، عن أبي يَحْيَى عمير بن سَعْد النخعي، أنه قَالَ: كأني أنظر إِلَى الأَشْتَر مالك بن الْحَارِث النخعي عَلَى وجهه الغبار، وَهُوَ متقلد السيف، وَهُوَ يقول: وَاللَّهِ لا يدخلها علينا مَا حملنا سيوفنا- يعني سعيدا، وَذَلِكَ يوم الجرعة، والجرعة مكان مشرف قرب القادسية- وهناك تلقاه أهل الْكُوفَة. حَدَّثَنِي جَعْفَرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو وَعَلِيٌّ، قَالا: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ هَارُونَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجَمَلِيِّ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيِّ، عَنْ أَبِي ثَوْرٍ الْحَدَائِيِّ- وَحَدَاءُ حَيٌّ مِنْ مُرَادٍ- أَنَّهُ قَالَ: دَفَعْتُ إِلَى حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَأَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَنْصَارِيِّ وَهُمَا فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ يَوْمَ الْجَرَعَةِ، حَيْثُ صَنَعَ النَّاسُ بِسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ مَا صَنَعُوا، وَأَبُو مَسْعُودٍ يُعَظِّمُ ذَلِكَ، وَيَقُولُ: مَا أَرَى أَنْ تُرَدَّ عَلَى عَقِبَيْهَا حَتَّى يَكُونَ فِيهَا دِمَاءٌ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: وَاللَّهِ لَتُرَدَّنَّ عَلَى عَقِبَيْهَا، وَلا يَكُونُ فِيهَا مَحْجَمَةٌ مِنْ دَمٍ، وَمَا أَعْلَمُ مِنْهَا الْيَوْمَ شيئا الا وقد علمته ومحمد ص حَيٌّ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُصْبِحَ عَلَى الإِسْلامِ ثُمَّ يُمْسِي وَمَا مَعَهُ مِنْهُ شَيْءٌ، ثُمَّ يُقَاتِلُ أَهْلَ الْقِبْلَةِ وَيَقْتُلُهُ اللَّهُ غَدًا، فَيَنْكُصُ قَلْبُهُ، فَتَعْلُوهُ اسْتُهُ فَقُلْتُ لأَبِي ثَوْرٍ: فَلَعَلَّهُ قَدْ كان، قال: لا ولله مَا كَانَ فَلَمَّا رَجَعَ

سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ إِلَى عُثْمَانَ مَطْرُودًا، أَرْسَلَ أَبَا مُوسَى أَمِيرًا عَلَى الْكُوفَةِ، فَأَقَرُّوهُ عَلَيْهَا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عَنْ يَحْيَى بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ عَبْدٍ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ الأَشْجَعِيِّ، قَالَ: قَامَ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْفِتْنَةِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، اسْكُتُوا، [فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله ص يَقُولُ: مَنْ خَرَجَ وَعَلَى النَّاسِ إِمَامٌ- وَاللَّهِ مَا قَالَ: عَادِلٌ- لِيَشُقَّ عَصَاهُمْ، وَيُفَرِّقَ جَمَاعَتَهُمْ، فَاقْتُلُوهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ] . كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قَالا: لَمَّا اسْتَعْوَى يَزِيدُ بْنُ قَيْسٍ النَّاسَ عَلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، خَرَجَ مِنْهُ ذِكْرٌ لِعُثْمَانَ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو حَتَّى أَخَذَهُ، فَقَالَ: مَا تُرِيدُ؟ أَلَكَ عَلَيْنَا فِي أَنْ نَسْتَعْفِيَ سَبِيلٌ؟ قَالَ: لا، فَهَلْ إِلا ذَلِكَ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَاسْتَعْفِ وَاسْتَجْلَبَ يَزِيدُ أَصْحَابَهُ مِنْ حَيْثُ كَانُوا، فَرَدُّوا سَعِيدًا، وَطَلَبُوا أَبَا مُوسَى، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ عُثْمَانُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ أَمَّرْتُ عَلَيْكُمْ مَنِ اخْتَرْتُمْ، وَأَعْفَيْتُكُمْ مِنْ سَعِيدٍ، وَاللَّهِ لأَفْرِشَنَّكُمْ عَرْضِي، وَلأَبْذِلَنَّ لَكُمْ صَبْرِي، وَلأَسْتَصْلِحَنَّكُمْ بِجَهْدِي، فَلا تَدَعُوا شَيْئًا أَحْبَبْتُمُوهُ لا يُعْصَى اللَّهُ فِيهِ إِلا سَأَلْتُمُوهُ، وَلا شَيْئًا كَرِهْتُمُوهُ لا يُعْصَى اللَّهُ فِيهِ إِلا اسْتَعْفَيْتُمْ مِنْهُ، أَنْزِلُ فِيهِ عند ما أَحْبَبْتُمْ، حَتَّى لا يَكُونَ لَكُمْ عَلَيَّ حُجَّةٌ. وَكَتَبَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي الأَمْصَارِ، فَقَدِمَتْ إِمَارَةُ أَبِي مُوسَى وَغَزْوُ حُذَيْفَةَ وَتَأَمَّرَ أَبُو مُوسَى، وَرَجَعَ الْعُمَّالُ إِلَى أَعْمَالِهِمْ، وَمَضَى حُذَيْفَةُ إِلَى الْبَابِ. وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا كَانَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلاثِينَ كَتَبَ أَصْحَابُ رسول الله ص بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ: أَنْ أَقْدِمُوا، فَإِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ الْجِهَادَ فَعِنْدَنَا الْجِهَادُ. وَكَثُرَ النَّاسُ عَلَى عُثْمَانَ، وَنَالُوا مِنْهُ أَقْبَحَ مَا نِيلَ مِنْ احد، واصحاب رسول

الله ص يَرَوْنَ وَيَسْمَعُونَ، لَيْسَ فِيهِمْ أَحَدٌ يَنْهَى وَلا يَذُبُّ إِلا نُفَيْرٌ، مِنْهُمْ، زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، [وَكَلَّمُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ. فَدَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ: النَّاسُ وَرَائِي، وَقَدْ كَلَّمُونِي فِيكَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ، وَمَا أَعْرِفُ شَيْئًا تَجْهَلُهُ، وَلا أَدُلُّكَ عَلَى أَمْرٍ لا تَعْرِفُهُ، إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نَعْلَمُ، مَا سَبَقْنَاكَ إِلَى شَيْءٍ فَنُخْبِرَكَ عَنْهُ، وَلا خَلَوْنَا بِشَيْءٍ فَنِبْلِغَكَهُ، وَمَا خُصِصْنَا بِأَمْرٍ دُونَكَ، وَقَدْ رَأَيْتَ وَسَمِعْتَ، وَصَحِبْتَ رسول الله ص وَنِلْتَ صِهْرَهُ، وَمَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ بِأَوْلَى بِعَمَلِ الْحَقِّ مِنْكَ، وَلا ابْنُ الْخَطَّابِ بِأَوْلَى شيء مِنَ الْخَيْرِ مِنْكَ، وَإِنَّكَ أَقْرَبُ إِلَى رَسُولِ الله ص رَحِمًا، وَلَقَدْ نِلْتَ مِنْ صِهْرِ رَسُولِ اللَّهِ ص مَا لَمْ يَنَالا، وَلا سَبَقَاكَ إِلَى شَيْءٍ فَاللَّهَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ، فَإِنَّكَ وَاللَّهِ مَا تُبْصِرُ مِنْ عَمَى، وَلا تَعْلَمُ مِنْ جَهْلٍ، وَإِنَّ الطَّرِيقَ لَوَاضِحٌ بَيِّنٌ، وَإِنَّ أَعْلامَ الدِّينِ لَقَائِمَةٌ تَعَلَّمْ يَا عُثْمَانُ أَنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللَّهِ عِنْدَ اللَّهِ إِمَامٌ عَادِلٌ، هُدِيَ وَهَدَى، فأقام سنه معلومه، وأمات بدعه متروكه، فو الله إِنَّ كُلا لَبِيِّنٌ، وَإِنَّ السُّنَنَ لَقَائِمَةٌ لَهَا أَعْلامٌ، وَإِنَّ الْبِدَعَ لَقَائِمَةٌ لَهَا أَعْلامٌ، وَإِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ إِمَامٌ جَائِرٌ، ضَلَّ وَضُلَّ بِهِ، فَأَمَاتَ سُنَّةً مَعْلُومَةً، وَأَحْيَا بِدْعَةً متروكه، وانى سمعت رسول الله ص يَقُولُ: يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالإِمَامِ الْجَائِرِ وَلَيْسَ مَعَهُ نَصِيرٌ وَلا عَاذِرٌ، فَيُلْقَى فِي جَهَنَّمَ، فَيَدُورُ فِي جَهَنَّمَ كَمَا تَدُورُ الرَّحَا، ثُمَّ يَرْتَطِمُ فِي غَمْرَةِ جَهَنَّمَ وَإِنِّي أُحَذِّرُكَ اللَّهَ، وَأُحَذِّرُكَ سَطْوَتَهُ وَنَقَمَاتِهِ، فَإِنَّ عَذَابَهُ شَدِيدٌ أَلِيمٌ وَأُحَذِّرُكَ أَنْ تَكُونَ إِمَامَ هَذِهِ الأُمَّةِ الْمُقْتُولُ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: يُقْتَلُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ إِمَامٌ، فَيَفْتَحُ عَلَيْهَا الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَتُلْبَسُ أُمُورُهَا عَلَيْهَا، وَيَتْرُكُهُمْ شِيَعًا، فَلا يُبْصِرُونَ الْحَقَّ لِعُلُوِّ الْبَاطِلِ، يَمُوجُونَ فِيهَا مَوْجًا، وَيَمْرِجُونَ فيها مرجا]

فَقَالَ عُثْمَانُ: قَدْ وَاللَّهِ عَلِمْتُ، لَيَقُولُنَّ الَّذِي قُلْتَ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ مَكَانِي مَا عَنَّفْتُكَ، وَلا أَسْلَمْتُكَ، وَلا عِبْتُ عَلَيْكَ، وَلا جِئْتُ مُنْكَرًا إِنْ وَصَلْتَ رَحِمًا، وَسَدَدْتَ خُلَّةً، وَآوَيْتَ ضَائِعًا، وَوَلَّيْتَ شَبِيهًا بِمَنْ كَانَ عُمَرُ يُوَلِّي أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا عَلِيُّ، هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ لَيْسَ هُنَاكَ! قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَتَعْلَمُ أَنَّ عُمَرَ وَلاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَلِمَ تَلُومُنِي أَنْ وَلَّيْتُ ابْنَ عَامِرٍ فِي رَحِمِهِ وَقَرَابَتِهِ؟ [قَالَ عَلِيٌّ: سَأُخْبِرُكَ، ان عمر ابن الْخَطَّابِ كَانَ كُلُّ مَنْ وَلَّى فَإِنَّمَا يَطَأُ عَلَى صِمَاخِهِ، إِنْ بَلَغَهُ عَنْهُ حَرْفٌ جَلَبَهُ ثُمَّ بَلَغَ بِهِ أَقْصَى الْغَايَةِ، وَأَنْتَ لا تَفْعَلُ، ضَعُفْتَ وَرَفَقْتَ عَلَى أَقْرِبَائِكَ] . قَالَ عُثْمَانُ: هُمْ أَقْرِبَاؤُكَ أَيْضًا [فَقَالَ عَلِيٌّ: لَعَمْرِي إِنَّ رَحِمَهُمْ مِنِّي لَقَرِيبَةٌ، وَلَكِنِ الْفَضْلَ فِي غَيْرِهِمْ،] قَالَ عُثْمَانُ: هَلْ تَعْلَمْ أَنَّ عُمَرَ وَلَّى مُعَاوِيَةَ خِلافَتَهُ كُلَّهَا؟ فَقَدْ وَلَّيْتُهُ [فَقَالَ عَلِيٌّ: أُنْشُدُكَ اللَّهَ هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ أَخْوَفَ مِنْ عُمَرَ مِنْ يَرْفَأَ غُلامِ عُمَرَ مِنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ عَلِيٌّ: فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ يَقْتَطِعُ الأُمُورَ دُونَكَ وَأَنْتَ تَعْلَمُهَا، فَيَقُولُ لِلنَّاسِ: هَذَا أَمْرُ عُثْمَانَ، فَيَبْلُغُكَ وَلا تُغَيِّرُ عَلَى مُعَاوِيَةَ] ثُمَّ خَرَجَ عَلِيٌّ مِنْ عِنْدِهِ، وَخَرَجَ عُثْمَانُ عَلَى أَثَرِهِ، فَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ آفَّةٍ، وَلِكُلِّ أَمْرٍ عَاهَةً، وَإِنَّ آفَّةَ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَعَاهَةَ هَذِهِ النِّعْمَةِ، عَيَّابُونَ طَعَّانُونَ، يَرُونَكُمْ مَا تُحِبُّونَ وَيُسِرُّونَ مَا تَكْرَهُونَ، يَقُولُونَ لَكُمْ وَتَقُولُونَ، أَمْثَالُ النَّعَامِ يَتْبَعُونَ أَوَّلَ نَاعِقٍ، أَحَبُّ مَوَارِدِهَا إِلَيْهَا الْبَعِيدُ، لا يَشْرَبُونَ إِلا نَغَصًا وَلا يَرِدُونَ إِلا عَكِرًا، لا يَقُومُ لَهُمْ رَائِدٌ، وَقَدْ أَعْيَتْهُمُ الأُمُورُ، وَتَعَذَّرَتْ عَلَيْهِمُ الْمَكَاسِبُ أَلا فَقَدْ وَاللَّهِ عِبْتُمْ عَلَيَّ بِمَا أَقْرَرْتُمْ لابْنِ الْخَطَّابِ بِمِثْلِهِ، وَلَكِنَّهُ وَطِئَكُمْ بِرِجْلِهِ، وَضَرَبَكُمْ بِيَدِهِ، وَقَمَعَكُمْ بِلِسَانِهِ، فَدِنْتُمْ لَهُ عَلَى مَا أَحْبَبْتُمْ أَوْ كَرِهْتُمْ، وَلِنْتُ لَكُمْ، وَأَوْطَأْتُ لَكُمْ كَتِفِي، وَكَفَّفْتُ يَدِي وَلِسَانِي عَنْكُمْ، فَاجْتَرَأْتُمْ عَلَيَّ أَمَا وَاللَّهِ لأَنَا أَعَزُّ نَفَرًا، وَأَقْرَبُ نَاصِرًا

وَأَكْثَرُ عَدَدًا، وَأَقْمَنُ إِنْ قُلْتُ هَلُمَّ أُتِيَ إِلَيَّ، وَلَقَدْ أَعْدَدْتُ لَكُمْ أَقْرَانَكُمْ، وَأَفْضَلْتُ عَلَيْكُمْ فُضُولا، وَكَشَّرْتُ لَكُمْ عَنْ نَابِي، وَأَخْرَجْتُمْ مِنِّي خُلُقًا لَمْ أَكُنْ أُحْسِنُهُ، وَمَنْطِقَا لَمْ أَنْطِقْ بِهِ، فَكُفُّوا عَلَيْكُمْ أَلْسِنَتَكُمْ، وَطَعْنَكُمْ وَعَيْبَكُمْ عَلَى وُلاتِكُمْ، فَإِنِّي قَدْ كَفَفْتُ عَنْكُمْ مَنْ لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي يُكَلِّمُكُمْ لَرَضِيتُمْ مِنْهُ بِدُونِ مَنْطِقِي هَذَا أَلا فَمَا تَفْقِدُونَ مِنْ حَقِّكُمْ؟ وَاللَّهِ مَا قَصَّرْتُ فِي بُلُوغِ مَا كَانَ يَبْلُغُ مَنْ كَانَ قَبْلِي، وَمَنْ لَمْ تَكُونُوا تَخْتَلِفُونَ عَلَيْهِ فَضْلَ فَضْلٍ مِنْ مَالٍ، فَمَا لِي لا أَصْنَعُ فِي الْفَضْلِ مَا أُرِيدُ! فلم كنت اماما! فقام مروان ابن الْحَكَمِ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتُمْ حَكَّمْنَا وَاللَّهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ السَّيْفَ، نَحْنُ وَاللَّهِ وَأَنْتُمْ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَرَشْنَا لَكُمْ أَعْرَاضَنَا فَنَبَتْ بِكُمْ ... مَعَارِسُكُمْ تَبْنُونَ فِي دِمْنِ الثَّرَى فَقَالَ عُثْمَانُ: اسْكُتْ لاسكت، دَعْنِي وَأَصْحَابِي، مَا مَنْطِقُكَ فِي هَذَا! أَلَمْ أَتَقَدَّمْ إِلَيْكَ أَلا تَنْطِقَ! فَسَكَتَ مَرْوَانُ، وَنَزَلَ عُثْمَانُ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ أَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ وَمَاتَ أَيْضًا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ، وَعَاقِلُ بْنُ أَبِي الْبُكَيْرِ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ، حَلِيفٌ لِبَنِي عَدِيٍّ، وَهُمَا بَدْرِيَّانِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

سنه خمس وثلاثين

سنة خمس وثلاثين (ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كَانَ فِيهَا من ذَلِكَ نزول أهل مصر ذا خشب، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أحمد بن ثابت، عمن حدثه، عن إسحاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر، قَالَ: كَانَ ذو خشب سنة خمس وثلاثين، وكذلك قَالَ الْوَاقِدِيُّ. ذكر مسير من سار إِلَى ذي خشب من أهل مصر وسبب مسير من سار إِلَى ذي المروة من أهل العراق فيما كتب به إلي السري، عن شعيب، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ يَزِيدَ الْفَقْعَسِيِّ، قَالَ: كَانَ عَبْد اللَّهِ بن سبأ يهوديا من أهل صنعاء، أمه سوداء، فأسلم زمان عُثْمَان، ثُمَّ تنقل فِي بلدان الْمُسْلِمِينَ، يحاول ضلالتهم، فبدأ بالحجاز، ثُمَّ الْبَصْرَةِ، ثُمَّ الْكُوفَة، ثُمَّ الشام، فلم يقدر عَلَى مَا يريد عِنْدَ أحد من أهل الشام، فأخرجوه حَتَّى أتى مصر، فاعتمر فِيهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ فِيمَا يقول: لعجب ممن يزعم أن عِيسَى يرجع، ويكذب بأن محمدا يرجع، وَقَدْ قَالَ اللَّه عز وجل: «إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ» . فمحمد أحق بالرجوع من عِيسَى قَالَ: فقبل ذَلِكَ عنه، ووضع لَهُمُ الرجعة، فتكلموا فِيهَا ثُمَّ قَالَ لَهُمْ بعد ذَلِكَ: إنه كَانَ ألف نبي، ولكل نبي وصي، وَكَانَ علي وصي مُحَمَّد، ثُمَّ قَالَ: مُحَمَّد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء، ثُمَّ قَالَ بعد ذَلِكَ: من أظلم ممن لم يجز وصية رَسُول الله ص، ووثب على وصى رسول الله ص، وتناول أمر الأمة! ثُمَّ قَالَ لَهُمْ بعد ذَلِكَ: إن عُثْمَان أخذها بغير حق، وهذا وصى رسول الله ص،

فانهضوا فِي هَذَا الأمر فحركوه، وابدءوا بالطعن عَلَى أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، تستميلوا الناس، وادعوهم إِلَى هَذَا الأمر. فبث دعاته، وكاتب من كَانَ استفسد فِي الأمصار وكاتبوه، ودعوا فِي السر إِلَى مَا عَلَيْهِ رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلوا يكتبون إِلَى الأمصار بكتب يضعونها فِي عيوب ولاتهم، ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذَلِكَ، ويكتب أهل كل مصر مِنْهُمْ إِلَى مصر آخر بما يصنعون، فيقرؤه أُولَئِكَ فِي أمصارهم وهؤلاء فِي أمصارهم، حَتَّى تناولوا بِذَلِكَ الْمَدِينَة، وأوسعوا الأرض إذاعة، وهم يريدون غير مَا يظهرون، ويسرون غير مَا يبدون، فيقول أهل كل مصر: إنا لفي عافيه مما ابتلي بِهِ هَؤُلاءِ، إلا أهل الْمَدِينَة فإنهم جاءهم ذَلِكَ عن جميع الأمصار، فَقَالُوا: إنا لفي عافية مما فِيهِ الناس، وجامعه مُحَمَّد وَطَلْحَة من هَذَا المكان، قَالُوا: فأتوا عُثْمَان، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أيأتيك عن الناس الَّذِي يأتينا؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ، مَا جاءني إلا السلامة، قَالُوا: فإنا قَدْ أتانا وأخبروه بِالَّذِي أسقطوا إِلَيْهِم، قَالَ: فأنتم شركائي وشهود الْمُؤْمِنِينَ، فأشيروا علي، قَالُوا: نشير عَلَيْك أن تبعث رجالا ممن تثق بهم إِلَى الأمصار حَتَّى يرجعوا إليك بأخبارهم. فدعا مُحَمَّد بن مسلمة فأرسله إِلَى الْكُوفَةِ، وأرسل أُسَامَة بن زَيْد إِلَى الْبَصْرَة، وأرسل عمار بن ياسر إِلَى مصر، وأرسل عَبْد اللَّهِ بن عُمَرَ إِلَى الشام، وفرق رجالا سواهم، فرجعوا جميعا قبل عمار، فَقَالُوا: أَيُّهَا النَّاسُ، مَا أنكرنا شَيْئًا، وَلا أنكره أعلام الْمُسْلِمِينَ وَلا عوامهم، وَقَالُوا جميعا: الأمر أمر الْمُسْلِمِينَ، إلا أن امراءهم يقسطون بينهم، ويقومون عَلَيْهِم واستبطأ الناس عمارا حَتَّى ظنوا أنه قَدِ اغتيل، فلم يفجأهم الا كتاب من عبد الله ابن سَعْدِ بْنِ أبي سرح يخبرهم أن عمارا قَدِ استماله قوم بمصر، وَقَدِ انقطعوا إِلَيْهِ، مِنْهُمْ عَبْد اللَّهِ بن السوداء، وخالد بن ملجم، وسودان بن حمران، وكنانة بن بشر

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَعَطِيَّةَ، قَالُوا: كَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى أَهْلِ الأَمْصَارِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي آخُذُ الْعُمَّالَ بِمُوَافَاتِي فِي كُلِّ مَوْسِمٍ، وَقَدْ سَلَّطْتُ الأُمَّةَ مُنْذُ وُلِّيتُ عَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَلا يُرْفَعُ عَلَيَّ شَيْءٌ وَلا عَلَى أَحَدٍ مِنْ عُمَّالِي إِلا أَعْطَيْتُهُ، وَلَيْسَ لِي وَلِعِيَالِي حَقٌّ قِبَلَ الرَّعِيَّةِ إِلا مَتْرُوكٌ لَهُمْ، وَقَدْ رَفَعَ إِلَيَّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَنَّ أقواما يشتمون، وآخرون يضربون، فيأمن ضَرَبَ سِرًّا، وَشَتَمَ سِرًّا، مَنِ ادَّعَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلِيُوَافِ الْمَوْسِمَ فَلْيَأْخُذْ بِحَقِّهِ حَيْثُ كَانَ، مِنِّي أَوْ مِنْ عُمَّالِي، أَوْ تَصَدَّقُوا فان الله يجزى المتصدقين فَلَمَّا قُرِئَ فِي الأَمْصَارِ أَبْكَى النَّاسَ، وَدَعَوْا لِعُثْمَانَ وَقَالُوا: إِنَّ الأُمَّةَ لَتَمَخَّضُ بِشَرٍّ وَبَعَثَ إِلَى عُمَّالِ الأَمْصَارِ فَقَدِمُوا عَلَيْهِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ، وَمُعَاوِيَةُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، وَأَدْخَلَ مَعَهُمْ فِي الْمَشُورَةِ سَعْيِدًا وَعَمْرًا، فَقَالَ: وَيْحَكُمْ! مَا هَذِهِ الشِّكَايَةُ؟ وَمَا هَذِهِ الإِذَاعَةُ؟ إِنِّي وَاللَّهِ لَخَائِفٌ أَنْ تَكُونُوا مَصْدُوقًا عَلَيْكُمْ، وَمَا يَعْصِبُ هَذَا إِلا بِي، فَقَالُوا لَهُ: أَلَمْ تَبْعَثْ! أَلَمْ نَرْجِعْ إِلَيْكَ الْخَبَرَ عَنِ الْقَوْمِ! أَلَمْ يَرْجِعُوا وَلَمْ يُشَافِهْهُمْ أَحَدٌ بِشَيْءٍ! لا وَاللَّهِ مَا صَدَقُوا وَلا بَرُّوا، وَلا نَعْلَمُ لِهَذَا الأَمْرِ أَصْلا، وَمَا كُنْتَ لِتَأْخُذَ بِهِ أَحَدًا فَيُقِيمُكَ عَلَى شَيْءٍ، وَمَا هِيَ إِلا إِذَاعَةً لا يَحِلُّ الأَخْذُ بِهَا، وَلا الانْتِهَاءُ إِلَيْهَا. قَالَ: فَأَشِيرُوا عَلَيَّ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ: هَذَا أَمْرٌ مَصْنُوعٌ يُصْنَعُ فِي السِّرِّ، فَيُلْقَى بِهِ غَيْرُ ذِي الْمَعْرِفَةِ، فَيُخْبَرُ بِهِ، فَيُتَحَدَّثُ بِهِ فِي مَجَالِسِهِمْ، قَالَ: فَمَا دَوَاءُ ذَلِكَ؟ قَالَ: طَلَبُ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ، ثُمَّ قَتْلُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يخَرْجُ هَذَا مِنْ عِنْدِهِمْ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ: خُذْ مِنَ النَّاسِ الَّذِي عَلَيْهِمْ إِذَا أَعْطَيْتَهُمُ الَّذِي لَهُمْ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعْهُمْ قَالَ مُعَاوِيَةُ: قَدْ وَلَّيْتَنِي فَوَلَّيْتُ قَوْمًا لا يَأْتِيكَ عَنْهُمْ إِلا الْخَيْرَ، وَالرَّجُلانِ أَعْلَمُ بِنَاحِيَتَيْهِمَا، قَالَ: فَمَا الرَّأْيُ؟ قَالَ: حُسْنُ الأَدَبِ، قَالَ: فَمَا تَرَى يَا عَمْرُو؟ قَالَ: أَرَى أَنَّكَ قَدْ لِنْتَ لهم، وتراخيت

عَنْهُمْ، وَزِدْتَهُمْ عَلَى مَا كَانَ يَصْنَعُ عُمَرُ، فَأَرَى أَنْ تَلْزَمَ طَرِيقَةَ صَاحِبَيْكَ، فَتَشْتَدَّ فِي مَوْضِعِ الشِّدَّةِ، وَتَلِينَ فِي مَوْضِعِ اللِّينِ إِنَّ الشِّدَّةَ تَنْبَغِي لِمَنْ لا يَأْلُو النَّاسَ شَرًّا، وَاللِّينُ لِمَنْ يَخْلُفُ النَّاسَ بِالنُّصْحِ، وَقَدْ فَرَشْتَهُمَا جَمِيعًا اللِّينَ. وَقَامَ عُثْمَانُ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: كُلُّ مَا أَشَرْتُمْ بِهِ عَلَيَّ قَدْ سَمِعْتُ، وَلِكُلِّ أَمْرٍ بَابٌ يُؤْتَى مِنْهُ، إِنَّ هَذَا الأَمْرَ الَّذِي يُخَافُ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ كَائِنٌ، وَإِنَّ بَابَهُ الَّذِي يُغْلَقُ عَلَيْهِ فَيُكَفْكَفُ بِهِ اللِّينُ وَالْمُؤَاتَاةُ وَالْمُتَابَعَةُ، إِلا فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، الَّتِي لا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُبَادِيَ بِعَيْبِ أَحَدِهَا، فَإِنْ سَدَّهُ شَيْءٌ فَرَفُقَ، فَذَاكَ وَاللَّهِ لَيُفْتَحَنَّ، وَلَيْسَتْ لأَحَدٍ عَلَيَّ حُجَّةُ حَقٍّ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنِّي لم آل الناس خيرا، ولا نفسي وو الله إِنَّ رَحَا الْفِتْنَةِ لَدَائِرَةٌ، فَطُوبَى لِعُثْمَانَ إِنْ مَاتَ وَلَمْ يُحَرِّكْهَا كَفْكِفُوا النَّاسَ، وَهَبُوا لَهُمْ حُقُوقَهُمْ، وَاغْتَفِرُوا لَهُمْ، وَإِذَا تُعُوطِيَتْ حُقُوقُ اللَّهِ فَلا تُدْهِنُوا فِيهَا. فَلَمَّا نَفَرَ عُثْمَانُ أَشْخَصَ مُعَاوِيَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ ابْنُ عَامِرٍ وَسَعِيدٍ مَعَهُ وَلَمَّا اسْتَقَلَّ عُثْمَانُ رَجَزَ الْحَادِي: قَدْ عَلِمَتْ ضَوَامِرُ الْمَطِيِّ ... وَضَامِرَاتُ عَوَّجَ الْقَسِيُّ أَنَّ الأَمِيرَ بَعْدَهُ عَلِيُّ ... وَفِي الزُّبَيْرِ خَلَفٌ رَضِيُّ وَطَلْحَةَ الْحَامِي لَهَا وَلِيُّ. فَقَالَ كَعْبٌ وَهُوَ يَسِيرُ خَلْفَ عُثْمَانَ: الأَمِيرُ وَاللَّهِ بَعْدَهُ صَاحِبُ الْبَغْلَةِ- وَأَشَارَ إِلَى مُعَاوِيَةَ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن بدر بن الخليل بن عُثْمَانَ بن قطبة الأسدي، عن رجل من بني أسد، قَالَ: مَا زال مُعَاوِيَة يطمع فِيهَا بعد مقدمه عَلَى عُثْمَانَ حين جمعهم، فاجتمعوا إِلَيْهِ بالموسم، ثُمَّ ارتحل، فحدا بِهِ الراجز: أن الأمير بعده علي ... وفي الزبير خلف رضي قَالَ كعب: كذبت! صاحب الشهباء بعده- يعني مُعَاوِيَة- فأخبر مُعَاوِيَة، فسأله عن الَّذِي بلغه، قَالَ: نعم، أنت الأمير بعده، ولكنها وَاللَّهِ لا تصل إليك حَتَّى تكذب بحديثي هَذَا فوقعت فِي نفس مُعَاوِيَة. وشاركهم فِي هَذَا المكان أَبُو حَارِثَة وأبو عُثْمَان، عن رجاء بن حيوة

وغيره قَالُوا: فلما ورد عُثْمَان الْمَدِينَة رد الأمراء إِلَى أعمالهم، فمضوا جميعا، وأقام سَعِيد بعدهم، فلما ودع مُعَاوِيَة عُثْمَان خرج من عنده وعليه ثياب السفر متقلدا سيفه، متنكبا قوسه، فإذا هُوَ بنفر من الْمُهَاجِرِينَ، فِيهِمْ طَلْحَة وَالزُّبَيْر وعلي، فقام عَلَيْهِم، فتوكأ عَلَى قوسه بعد مَا سلم عَلَيْهِم، ثُمَّ قَالَ: إنكم قَدْ علمتم أن هَذَا الأمر كَانَ إذ الناس يتغالبون إِلَى رجال، فلم يكن منكم احد الا وفي فصيلته من يرئسه، ويستبد عَلَيْهِ، ويقطع الأمر دونه، وَلا يشهده، وَلا يؤامره، حَتَّى بعث اللَّه جَلَّ وَعَزَّ نبيه ص، وأكرم بِهِ من اتبعه، فكانوا يرئسون من جَاءَ من بعده، وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ، يتفاضلون بالسابقة والقدمة والاجتهاد، فإن أخذوا بِذَلِكَ وقاموا عَلَيْهِ كَانَ الأمر أمرهم، والناس تبع لَهُمْ، وإن أصغوا إِلَى الدُّنْيَا وطلبوها بالتغالب سلبوا ذلك، ورده الله الى من كان يرئسهم وإلا فليحذروا الغير، فإن اللَّه عَلَى البدل قادر، وله المشيئة فِي ملكه وأمره إني قَدْ خلفت فيكم شيخا فاستوصوا بِهِ خيرا، وكانفوه تكونوا أسعد مِنْهُ بِذَلِكَ ثُمَّ ودعهم ومضى، فَقَالَ علي: مَا كنت أَرَى أن فِي هَذَا خيرا، فَقَالَ الزُّبَيْر: لا وَاللَّهِ، مَا كَانَ قط أعظم فِي صدرك وصدورنا مِنْهُ الغداة حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شَبُّوَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، قَالَ: أَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى طَلْحَةَ يَدْعُوهُ، فَخَرَجْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ، وَإِذْ عَلِيٌّ وَسَعْدٌ وَالزُّبَيْرُ وَعُثْمَانُ وَمُعَاوِيَةُ، فَحَمِدَ اللَّهَ مُعَاوِيَةُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَنْتُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ص، وَخِيرَتُهُ فِي الأَرْضِ، وَوُلاةُ أَمْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ، لا يَطْمَعُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ غَيْرُكُمْ، اخْتَرْتُمْ صَاحِبَكُمْ عَنْ غَيْرِ غَلَبَةٍ وَلا طَمَعٍ، وَقَدْ كَبِرَتْ سِنُّهُ، وَوَلَّى عُمُرُهُ، وَلَوِ انْتَظَرْتُمْ بِهِ الْهِرَمَ كَانَ قَرِيبًا، مَعَ أَنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَبْلُغَ بِهِ ذَلِكَ، وَقَدْ فَشَتْ قَالَةٌ خِفْتُهَا عَلَيْكُمْ، فَمَا عَتَبْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَهَذِهِ يَدِي لَكُمْ به، ولا تطمعوا الناس في امركم، فو الله لَئِنْ طَمِعُوا فِي ذَلِكَ لا رَأَيْتُمْ فِيهَا ابدا الا ادبارا قال على: ومالك وَذَلِكَ! وَمَا أَدْرَاكَ لا أُمَّ لَكَ! قَالَ: دَعْ أُمِّي مَكَانَهَا، لَيْسَتْ بِشَّرِّ أُمَّهَاتِكُمْ، قَدْ اسلمت وبايعت النبي ص

رجع الحديث إلى حديث سيف، عن شيوخه:

، وَأَجِبْنِي فِيمَا أَقُولُ لَكَ فَقَالَ عُثْمَانُ: صَدَقَ ابْنُ أَخِي، إِنِّي أُخْبِرُكُمْ عَنِّي وَعَمَّا وُلِّيتُ، إِنَّ صَاحِبَيَّ اللَّذَيْنِ كَانَا قَبْلِي ظَلَمَا أَنْفُسَهُمَا وَمَنْ كَانَ مِنْهُمَا بِسَبِيلٍ احْتِسَابًا، وَإِنَّ رَسُولَ الله ص كَانَ يُعْطِي قَرَابَتَهُ، وَأَنَا فِي رَهْطِ أَهْلِ عَيْلَةٍ، وَقِلَّةِ مِعَاشٍ، فَبَسَطْتُ يَدِي فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ، لِمَكَانِ مَا أَقُومُ بِهِ فِيهِ، وَرَأَيْتُ أَنَّ ذَلِكَ لِي، فَإِنْ رَأَيْتُمْ ذَلِكَ خَطَأً فَرُدُّوهُ، فَأَمْرِي لأَمْرِكُمْ تَبَعٌ قَالُوا: أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ، قَالُوا: أَعْطَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ وَمَرْوَانَ- وَكَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ أَعْطَى مَرْوَانَ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَابْنَ أُسَيْدٍ خَمْسِينَ أَلْفًا- فَرَدُّوا مِنْهُمَا ذَلِكَ، فَرَضَوْا وَقَبِلُوا، وَخَرَجُوا رَاضِينَ. رجع الحديث إِلَى حديث سيف، عن شيوخه: وَكَانَ مُعَاوِيَة قَدْ قَالَ لِعُثْمَانَ غداة ودعه وخرج: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، انطلق معي إِلَى الشام قبل أن يهجم عَلَيْك من لا قبل لك بِهِ، فإن أهل الشام عَلَى الأمر لم يزالوا فَقَالَ: أنا لا أبيع جوار رسول الله ص بشيء، وإن كَانَ فِيهِ قطع خيط عنقي قَالَ: فأبعث إليك جندا مِنْهُمْ يقيم بين ظهراني أهل الْمَدِينَةِ لنائبة إن نابت الْمَدِينَةِ أو إياك قَالَ: أنا أقتر عَلَى جيران رسول الله ص الأرزاق بجند تساكنهم، وأضيق عَلَى أهل دار الهجرة والنصرة! قَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لتغتالن أو لتغزين، قَالَ: حسبي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَقَالَ مُعَاوِيَة: يَا أيسار الجزور، وأين أيسار الجزور! ثُمَّ خرج حَتَّى وقف عَلَى النفر، ثُمَّ مضى وَقَدْ كَانَ أهل مصر كاتبوا أشياعهم من أهل الْكُوفَة وأهل الْبَصْرَة وجميع من أجابهم أن يثوروا خلاف أمرائهم واتعدوا يَوْمًا حَيْثُ شخص أمراؤهم، فلم يستقم ذَلِكَ لأحد مِنْهُمْ، ولم ينهض إلا أهل الْكُوفَة، فإن يَزِيد بن قيس الأرحبي ثار فِيهَا، واجتمع إِلَيْهِ أَصْحَابه، وعلى الحرب يَوْمَئِذٍ القعقاع بن عَمْرو، فأتاه فأحاط الناس بهم وناشدوهم، فَقَالَ يَزِيد للقعقاع: ما سبيلك على وعلى هؤلاء! فو الله انى لسامع مطيع، وانى للازم لجماعتى إلا أني أستعفي ومن ترى من إمارة سَعِيد، فَقَالَ: استعفى الخاصة من أمر قَدْ رضيته العامة؟ قَالَ:

فذاك إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فتركهم والاستعفاء، ولم يستطيعوا أن يظهروا غير ذَلِكَ، فاستقبلوا سعيدا، فردوه من الجرعة، واجتمع الناس عَلَى أبي مُوسَى، وأقره عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ولما رجع الأمراء لَمْ يَكُنْ للسبئية سبيل إِلَى الخروج إِلَى الأمصار، وكاتبوا أشياعهم من أهل الأمصار أن يتوافوا بِالْمَدِينَةِ لينظروا فِيمَا يريدون، وأظهروا أَنَّهُمْ يأمرون بالمعروف، ويسألون عُثْمَان عن أشياء لتطير فِي الناس، ولتحقق عَلَيْهِ، فتوافوا بِالْمَدِينَةِ، وأرسل عُثْمَان رجلين: مخزوميا وزهريا، فَقَالَ: انظرا مَا يريدون، واعلما علمهم- وكانا ممن قَدْ ناله من عُثْمَان أدب، فاصطبرا للحق، ولم يضطغنا- فلما رأوهما باثوهما وأخبروهما بِمَا يريدون، فقالا: من معكم عَلَى هَذَا من أهل الْمَدِينَة؟ قَالُوا: ثلاثة نفر، فقالا: هل إلا؟ قَالُوا لا! قَالا: فكيف تريدون أن تصنعوا؟ قَالُوا: نريد أن نذكر لَهُ أشياء قَدْ زرعناها فِي قلوب الناس، ثُمَّ نرجع إِلَيْهِم فنزعم لَهُمْ أنا قررناه بِهَا، فلم يخرج منها ولم يتب، ثُمَّ نخرج كأنا حجاج حَتَّى نقدم فنحيط بِهِ فنخلعه، فإن أبى قتلناه وكانت إياها، فرجعا إِلَى عُثْمَانَ بالخبر، فضحك وَقَالَ: اللَّهُمَّ سلم هَؤُلاءِ، فإنك إن لم تسلمهم شقوا. أما عمار فحمل عَلَى عباس بن عتبة بن أبي لهب وعركه واما محمد ابن أبي بكر فإنه أعجب حَتَّى رَأَى أن الحقوق لا تلزمه، وأما ابن سهلة فإنه يتعرض للبلاء فأرسل إِلَى الكوفيين والبصريين، ونادى: الصَّلاة جامعة! وهم عنده فِي أصل الْمِنْبَر، فاقبل اصحاب رسول الله ص حَتَّى أحاطوا بهم، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وأخبرهم خبر القوم، وقام الرجلان، فَقَالُوا جميعا: اقتلهم، [فان رسول الله ص قَالَ: من دعا إِلَى نفسه أو إِلَى أحد وعلى الناس إمام فعليه لعنة اللَّه فاقتلوه] وَقَالَ عُمَر بن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لا أحل لكم إلا مَا قتلتموه وأنا شريككم. فَقَالَ عُثْمَان: بل نعفو ونقبل ونبصرهم بجهدنا، وَلا نحاد أحدا حَتَّى يركب حدا، أو يبدي كفرا إن هَؤُلاءِ ذكروا أمورا قَدْ علموا منها مثل الَّذِي علمتم، إلا أَنَّهُمْ زعموا أَنَّهُمْ يذاكرونيها ليوجبوها علي عِنْدَ من لا يعلم. وَقَالُوا: أتم الصَّلاة فِي السفر، وكانت لا تتم، أَلا وإني قدمت بلدا

فِيهِ أهلي، فأتممت لهذين الأمرين، أو كذلك؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. وَقَالُوا: وحميت حمى، وإني وَاللَّهِ مَا حميت، حمي قبلي، وَاللَّهِ مَا حموا شيئا لأحد ما حموا الا غلب عَلَيْهِ أهل الْمَدِينَة، ثُمَّ لم يمنعوا من رعية أحدا، واقتصروا لصدقات الْمُسْلِمِينَ يحمونها لئلا يكون بين من يليها وبين أحد تنازع، ثُمَّ مَا منعوا وَلا نحوا منها أحدا الا من ساق درهما، وما لي من بعير غير راحلتين، وما لي ثاغية وَلا راغية، وإني قَدْ وليت، وإني أكثر العرب بعيرا وشاء، فمالي الْيَوْم شاة وَلا بعير غير بعيرين لحجي، أكذلك؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. وَقَالُوا: كَانَ القرآن كتبا، فتركتها إلا واحدا أَلا وإن القرآن واحد، جَاءَ من عِنْدَ واحد، وإنما أنا فِي ذَلِكَ تابع لهؤلاء، أكذلك؟ قَالُوا: نعم، وسألوه أن يقيلهم. وَقَالُوا: إني رددت الحكم وَقَدْ سيره رَسُول الله ص. والحكم مكي، سيره رسول الله ص مِنْ مَكَّةَ إِلَى الطائف، ثُمَّ رده رَسُول الله ص، فرسول الله ص سيره، ورسول الله ص رده، أكذلك؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. وَقَالُوا: استعملت الأحداث ولم أستعمل إلا مجتمعا محتملا مرضيا، وهؤلاء أهل عملهم، فسلوهم عنه، وهؤلاء أهل بلده، وَلَقَدْ ولى من قبلي أحدث مِنْهُمْ، وقيل في ذلك لرسول الله ص أشد مما قيل لي فِي استعماله أُسَامَة، أكذلك؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، يعيبون لِلنَّاسِ مَا لا يفسرون. وَقَالُوا: إني أعطيت ابن أبي سرح مَا أفاء اللَّه عَلَيْهِ وإني إنما نفلته خمس مَا أفاء اللَّه عَلَيْهِ من الخمس، فكان مائة ألف، وَقَدْ أنفذ مثل ذَلِكَ أَبُو بَكْر وعمر رضي اللَّه عنهما، فزعم الجند أَنَّهُمْ يكرهون ذَلِكَ، فرددته عَلَيْهِم وليس ذاك لهم، اكذاك؟ قَالُوا: نعم. وَقَالُوا: إني أحب أهل بيتي وأعطيهم، فأما حبي فإنه لم يمل معهم عَلَى جور، بل أحمل الحقوق عَلَيْهِم، وأما إعطاؤهم فإني مَا أعطيهم من مالي، وَلا أستحل أموال الْمُسْلِمِينَ لنفسي، وَلا لأحد مِنَ النَّاسِ، وَلَقَدْ كنت

أعطي العطية الكبيرة الرغيبة من صلب مالي ازمان رسول الله ص وأبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما، وأنا يَوْمَئِذٍ شحيح حريص، أفحين أتيت عَلَى أسنان أهل بيتي، وفني عمري، وودعت الَّذِي لي فِي أهلي، قَالَ الملحدون مَا قَالُوا! وإني وَاللَّهِ مَا حملت عَلَى مصر من الأمصار فضلا فيجوز ذَلِكَ لمن قاله، وَلَقَدْ رددته عَلَيْهِم، وما قدم علي إلا الأخماس، وَلا يحل لي منها شَيْء، فولي الْمُسْلِمُونَ وضعها فِي أهلها دوني، وَلا يتلفت من مال اللَّه بفلس فما فوقه، وما أتبلغ مِنْهُ مَا آكل إلا مالي. وَقَالُوا: أعطيت الأرض رجالا، وإن هَذِهِ الأرضين شاركهم فِيهَا الْمُهَاجِرُونَ والأنصار أيام افتتحت، فمن أقام بمكان من هَذِهِ الفتوح فهو إسوة أهله، ومن رجع إِلَى أهله لم يذهب ذَلِكَ مَا حوى اللَّه لَهُ، فنظرت فِي الَّذِي يصيبهم مما أفاء اللَّه عَلَيْهِم فبعته لَهُمْ بأمرهم من رجال أهل عقار ببلاد العرب فنقلت إِلَيْهِم نصيبهم، فهو فِي أيديهم دوني. وَكَانَ عُثْمَان قَدْ قسم ماله وأرضه فِي بني أُمَيَّة، وجعل ولده كبعض من يعطى، فبدأ ببني أبي العاص، فأعطى آل الحكم رجالهم عشرة آلاف، عشرة آلاف، فأخذوا مائة ألف، وأعطى بني عُثْمَان مثل ذَلِكَ، وقسم فِي بني العاص وفي بني العيص وفي بني حرب، ولانت حاشية عُثْمَان لأولئك الطوائف، وأبى الْمُسْلِمُونَ إلا قتلهم، وأبى إلا تركهم، فذهبوا ورجعوا الى بلادهم على ان يغزوه مع الحجاج كالحجاج، فتكاتبوا وَقَالُوا: موعدكم ضواحي الْمَدِينَة فِي شوال، حَتَّى إذا دخل شوال من سنة اثنتي عشرة، ضربوا كالحجاج فنزلوا قرب الْمَدِينَة. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي حارثة وَأَبِي عُثْمَانَ، قَالُوا: لما كَانَ فِي شوال سنة خمس وثلاثين خرج أهل مصر فِي أربع رفاق عَلَى أربعة أمراء: المقلل يقول: ستمائه، والمكثر يقول: ألف عَلَى الرفاق عبد الرَّحْمَن بن عديس البلوى، وكنانه بن بشر التجيبى، وعروه بن شيبم الليثى، وابو عمرو بن بديل بن ورقاء الخزاعي وسواد بن رومان الأصبحي، وزرع بن يشكر اليافعى، وسودان ابن حمران السكوني، وقتيرة بن فلان السكوني، وعلى القوم جميعا

الغافقي بن حرب العكي، ولم يجترئوا أن يعلموا الناس بخروجهم إِلَى الحرب، وإنما اخرجوا كالحجاج، ومعهم ابن السوداء وخرج أهل الْكُوفَة فِي أربع رفاق، وعلى الرفاق زَيْد بن صُوحَانَ العبدي، والأشتر النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد اللَّه بن الأصم، أحد بني عَامِر بن صعصعة، وعددهم كعدد أهل مصر، وعليهم جميعا سبعا عَمْرو بن الأصم وخرج أهل الْبَصْرَة فِي أربع رفاق، وعلى الرفاق حكيم بن جبلة العبدى، وذريح ابن عباد العبدي، وبشر بن شريح الحطم بن ضبيعه القيسى وابن المحرش ابن عبد بن عَمْرو الحنفي وعددهم كعدد أهل مصر وأميرهم جميعا حرقوص ابن زهير السعدي، سوى من تلاحق بهم مِنَ الناس فاما اهل مصر فإنهم كانوا يشتهون عَلِيًّا، وأما أهل الْبَصْرَة فإنهم كَانُوا يشتهون طَلْحَة، وأما أهل الْكُوفَة فإنهم كَانُوا يشتهون الزُّبَيْر فخرجوا وهم عَلَى الخروج جميع وفي الناس شتى، لا تشك كل فرقة إلا أن الفلج معها، وأن أمرها سيتم دون الأخريين، فخرجوا حَتَّى إذا كَانُوا مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى ثلاث تقدم ناس من أهل الْبَصْرَة فنزلوا ذا خشب، وناس من أهل الْكُوفَة فنزلوا الأعوص، وجاءهم ناس من أهل مصر، وتركوا عامتهم بذي المروة ومشى فِيمَا بين أهل مصر وأهل الْبَصْرَة زياد بن النضر وعبد اللَّه بن الأصم، وقالا: لا تعجلوا وَلا تعجلونا حَتَّى ندخل لكم الْمَدِينَة ونرتاد، فإنه بلغنا أَنَّهُمْ قَدْ عسكروا لنا، فو الله إن كَانَ أهل الْمَدِينَة قَدْ خافونا واستحلوا قتالنا ولم يعلموا علمنا فهم إذا علموا علمنا أشد، وإن أمرنا هَذَا لباطل، وإن لم يستحلوا قتالنا ووجدنا الَّذِي بلغنا باطلا لنرجعن إليكم بالخبر. قَالُوا: اذهبا، فدخل الرجلان فلقيا ازواج النبي ص وعليا وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر، وقالا: إنما نأتم هَذَا البيت، ونستعفي هَذَا الوالي من بعض

عمالنا، مَا جئنا إلا لذلك، واستأذناهم لِلنَّاسِ بالدخول، فكلهم أبى، ونهى وَقَالَ: بيض مَا يفرخن، فرجعا إِلَيْهِم فاجتمع من أهل مصر نفر فأتوا عَلِيًّا ومن أهل الْبَصْرَة نفر فأتوا طَلْحَة، ومن أهل الْكُوفَة نفر فأتوا الزُّبَيْر، وَقَالَ كل فريق مِنْهُمْ: إن بايعوا صاحبنا وإلا كدناهم وفرقنا جماعتهم، ثُمَّ كررنا حَتَّى نبغتهم، فأتى الْمِصْرِيُّونَ عَلِيًّا وَهُوَ فِي عسكر عِنْدَ أحجار الزيت، عَلَيْهِ حلة أفواف معتم بشقيقة حمراء يمانية، متقلد السيف، ليس عَلَيْهِ قميص، وَقَدْ سرح الْحَسَن إِلَى عُثْمَانَ فيمن اجتمع إِلَيْهِ فالحسن جالس عِنْدَ عُثْمَان، وعلي عِنْدَ أحجار الزيت، فسلم عَلَيْهِ الْمِصْرِيُّونَ وعرضوا لَهُ، فصاح بهم واطردهم، وَقَالَ: لقد علم الصالحون أن جيش ذي المروة وذي خشب ملعونون على لسان محمد ص، فارجعوا لاصحبكم اللَّه! قَالُوا: نعم، فانصرفوا من عنده عَلَى ذَلِكَ. وأتى الْبَصْرِيُّونَ طَلْحَة وَهُوَ فِي جماعة أخرى إِلَى جنب علي، وَقَدْ أرسل ابنيه إِلَى عُثْمَانَ، فسلم الْبَصْرِيُّونَ عَلَيْهِ وعرضوا لَهُ، فصاح بهم واطردهم، وَقَالَ: لقد علم المؤمنون أن جيش ذي المروة وذي خشب والأعوص ملعونون على لسان محمد ص. وأتى الْكُوفِيُّونَ الزُّبَيْر وَهُوَ فِي جماعة أخرى، وَقَدْ سرح ابنه عَبْد اللَّهِ إِلَى عُثْمَانَ، فسلموا عَلَيْهِ وعرضوا لَهُ، فصاح بهم واطردهم، وَقَالَ: لقد علم الْمُسْلِمُونَ أن جيش ذي المروة وذي خشب والأعوص ملعونون عَلَى لسان محمد ص، فخرج القوم وأروهم أَنَّهُمْ يرجعون، فانفشوا عن ذي خشب والأعوص، حَتَّى انتهوا إِلَى عساكرهم، وَهِيَ ثلاث مراحل، كي يفترق أهل الْمَدِينَة، ثُمَّ يكروا راجعين فافترق أهل الْمَدِينَة لخروجهم. فلما بلغ القوم عساكرهم كروا بهم، فبغتوهم، فلم يفجأ أهل الْمَدِينَة

إلا والتكبير فِي نواحي الْمَدِينَة، فنزلوا فِي مواضع عساكرهم، وأحاطوا بعثمان، وَقَالُوا: من كف يده فهو آمن. وصلى عُثْمَان بِالنَّاسِ أياما، ولزم الناس بيوتهم، ولم يمنعوا أحدا من كلام، فأتاهم الناس فكلموهم، وفيهم علي، فَقَالَ: مَا ردكم بعد ذهابكم ورجوعكم عن رأيكم؟ قَالُوا: أخذنا مع بريد كتابا بقتلنا، وأتاهم طَلْحَة فَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ مثل ذَلِكَ، وأتاهم الزُّبَيْر فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ مثل ذَلِكَ، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَالْبَصْرِيُّونَ: فنحن ننصر إخواننا ونمنعهم جميعا، كأنما كَانُوا عَلَى ميعاد. فَقَالَ لَهُمْ علي: كيف علمتم يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ ويا أهل الْبَصْرَة بِمَا لقي أهل مصر، وَقَدْ سرتم مراحل، ثُمَّ طويتم نحونا؟ هَذَا وَاللَّهِ أمر أبرم بِالْمَدِينَةِ! قَالُوا: فضعوه عَلَى مَا شئتم، لا حاجة لنا فِي هذا الرجل، ليعتزلنا وَهُوَ فِي ذَلِكَ يصلي بهم، وهم يصلون خلفه، ويغشى من شاء عُثْمَان وهم فِي عينه أدق من التراب، وكانوا لا يمنعون أحدا من الكلام، وكانوا زمرا بِالْمَدِينَةِ، يمنعون الناس من الاجتماع. وكتب عُثْمَان إِلَى أهل الأمصار يستمدهم: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بعث محمدا بالحق بشيرا ونذيرا، فبلغ عن اللَّه مَا أمره بِهِ، ثُمَّ مضى وَقَدْ قضى الَّذِي عَلَيْهِ، وخلف فينا كتابه، فِيهِ حلاله وحرامه، وبيان الأمور الَّتِي قدر، فأمضاها عَلَى مَا أحب العباد وكرهوا، فكان الخليفة أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ أدخلت فِي الشورى عن غير علم وَلا مسألة عن ملإ من الأمة، ثُمَّ أجمع أهل الشورى عن ملإ مِنْهُمْ ومن الناس علي، عَلَى غير طلب مني وَلا محبة، فعملت فِيهِمْ مَا يعرفون وَلا ينكرون، تابعا غير مستتبع، متبعا غير مبتدع، مقتديا غير متكلف. فلما انتهت الأمور، وانتكث الشر بأهله، بدت ضغائن وأهواء عَلَى غير إجرام وَلا ترة فِيمَا مضى إلا إمضاء الكتاب، فطلبوا أمرا وأعلنوا غيره بغير حجة وَلا عذر، فعابوا علي أشياء مما كَانُوا يرضون، وأشياء عن ملإ من أهل الْمَدِينَة لا يصلح غيرها، فصبرت لَهُمْ نفسي وكففتها عَنْهُمْ منذ سنين

وأنا أَرَى وأسمع، فازدادوا عَلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ جرأة، حَتَّى أغاروا علينا فِي جوار رسول الله ص وحرمه وأرض الهجرة، وثابت إِلَيْهِم الأعراب، فهم كالأحزاب أيام الأحزاب أو من غزانا بأحد إلا مَا يظهرون، فمن قدر عَلَى اللحاق بنا فليلحق. فأتى الكتاب أهل الأمصار، فخرجوا عَلَى الصعبة والذلول، فبعث مُعَاوِيَة حبيب بن مسلمة الفهري، وبعث عَبْد اللَّهِ بن سَعْد مُعَاوِيَة بن حديج السكوني، وخرج من أهل الْكُوفَة القعقاع بن عَمْرو. وَكَانَ المحضضين بالكوفة عَلَى إعانة أهل الْمَدِينَة عقبة بن عَمْرو وعبد الله ابن أبي أوفى وحنظلة بن الربيع التميمي، فِي أمثالهم من اصحاب النبي ص وَكَانَ المحضضين بالكوفة من التابعين أَصْحَاب عَبْد اللَّهِ مسروق بن الأجدع، والأسود بن يَزِيدَ، وشريح بن الْحَارِث، وعبد اللَّه بن عكيم، فِي أمثالهم، يسيرون فِيهَا، ويطوفون عَلَى مجالسها، يقولون: يا ايها النَّاسُ، إن الكلام الْيَوْم وليس بِهِ غدا، وإن النظر يحسن الْيَوْم ويقبح غدا، وإن القتال يحل الْيَوْم ويحرم غدا، انهضوا إِلَى خليفتكم، وعصمة أمركم. وقام بِالْبَصْرَةِ عِمْرَان بن حصين وأنس بن مَالِكٍ، وهشام بن عَامِر في أمثالهم من اصحاب النبي ص يقولون مثل ذَلِكَ، ومن التابعين كعب بن سور وهرم بن حيان العبدي، وأشباه لهما يقولون ذَلِكَ! وقام بِالشَّامِ عبادة بن الصامت وأبو الدرداء وأبو أمامة فِي أمثالهم من اصحاب النبي ص يقولون مثل ذَلِكَ، ومن التابعين شريك بن خباشة النميري، وأبو مسلم الخولاني، وعبد الرَّحْمَن بن غنم بمثل ذَلِكَ، وقام بمصر خارجة فِي أشباه لَهُ، وَقَدْ كَانَ بعض المحضضين قَدْ شهد قدومهم، فلما رأوا حالهم انصرفوا إِلَى أمصارهم بِذَلِكَ وقاموا فِيهِمْ. ولما جاءت الجمعة الَّتِي عَلَى أثر نزول المصريين مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج عُثْمَان فصلى بِالنَّاسِ ثُمَّ قام عَلَى الْمِنْبَر فقال: يا هؤلاء

العدى، الله الله! فو الله، إن أهل الْمَدِينَة ليعلمون أنكم ملعونون عَلَى لسان محمد ص، فامحوا الخطايا بالصواب، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يَمْحُو السَّيِّئَ إلا بالحسن. فقام مُحَمَّد بن مسلمة، فَقَالَ: أنا أشهد بِذَلِكَ، فأخذه حكيم بن جبلة فأقعده، فقام زَيْد بن ثَابِت فَقَالَ: ابغني الكتاب، فثار إِلَيْهِ من ناحية أخرى مُحَمَّد بن أبي قتيرة فأقعده، وَقَالَ فأفظع، وثار القوم بأجمعهم، فحصبوا الناس حَتَّى أخرجوهم من المسجد، وحصبوا عُثْمَان حَتَّى صرع عن الْمِنْبَر مغشيا عَلَيْهِ، فاحتمل فأدخل داره، وَكَانَ الْمِصْرِيُّونَ لا يطمعون فِي أحد من أهل الْمَدِينَة أن يساعدهم إلا فِي ثلاثة نفر، فإنهم كَانُوا يراسلونهم: مُحَمَّد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حُذَيْفَة، وعمار بن ياسر، وشمر أناس مِنَ النَّاسِ فاستقتلوا، مِنْهُمْ سعد بن مَالِكٍ، وأبو هُرَيْرَة، وزَيْد بن ثَابِت، والحسن بن علي، فبعث إِلَيْهِم عُثْمَان بعزمه لما انصرفوا فانصرفوا، وأقبل علي ع حَتَّى دخل عَلَى عُثْمَانَ، وأقبل طَلْحَة حَتَّى دخل عَلَيْهِ، وأقبل الزُّبَيْر حَتَّى دخل عَلَيْهِ، يعودونه من صرعته، ويشكون بثهم، ثُمَّ رجعوا إِلَى منازلهم. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن أبي عمرو، عن الحسن، قَالَ: قلت لَهُ: هل شهدت حصر عُثْمَان؟ قَالَ: نعم، وأنا يَوْمَئِذٍ غلام فِي أتراب لي فِي المسجد، فإذا كثر اللغط جثوت عَلَى ركبتي أو قمت، فأقبل القوم حين أقبلوا حَتَّى نزلوا المسجد وما حوله، فاجتمع إِلَيْهِم أناس من أهل الْمَدِينَة، يعظمون مَا صنعوا وأقبلوا عَلَى أهل الْمَدِينَة يتوعدونهم، فبينا هم كذلك فِي لغطهم حول الباب، فطلع عُثْمَان، فكأنما كَانَتْ نار طفئت، فعمد إِلَى الْمِنْبَر فصعده فَحَمِدَ اللَّهَ وأثنى عَلَيْهِ، فثار رجل، فأقعده رجل، وقام آخر فأقعده آخر، ثُمَّ ثار القوم فحصبوا عُثْمَان حَتَّى صرع، فاحتمل فأدخل، فصلى بهم عشرين يَوْمًا، ثُمَّ منعوه من الصَّلاة. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة

وأَبِي حَارِثَةَ وَأَبِي عُثْمَانَ، قَالُوا: صَلَّى عُثْمَانُ بِالنَّاسِ بَعْدَ مَا نَزَلُوا بِهِ فِي الْمَسْجِدِ ثَلاثِينَ يَوْمًا، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَنَعُوهُ الصَّلاةَ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ أَمِيرُهُمُ الْغَافِقِيُّ، دَانَ لَهُ الْمِصْرِيُّونَ وَالْكُوفِيُّونَ وَالْبَصْرِيُّونَ، وَتَفَرَّقَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي حِيطَانِهِمْ، وَلَزِمُوا بُيُوتَهُمْ، لا يَخْرُجُ أَحَدٌ وَلا يَجْلِسُ إِلا وَعَلَيْهِ سَيْفُهُ يَمْتَنِعُ بِهِ مِنْ رَهَقِ الْقَوْمِ وَكَانَ الْحِصَارُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَفِيهِنَّ كَانَ الْقَتْلُ، وَمَنْ تَعَرَّضَ لَهُمْ وَضَعُوا فِيهِ السِّلاحَ، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ ثَلاثِينَ يَوْمًا يَكُفُّونَ وَأَمَّا غَيْرُ سَيْفٍ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَانَتْ مُنَاظَرَةُ الْقَوْمِ عُثْمَانَ وَسَبَبُ حِصَارِهِمْ إِيَّاهُ مَا حَدَّثَنِي بِهِ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدٍ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: سَمِعَ عُثْمَانُ أَنَّ وَفْدَ أَهْلِ مِصْرَ قَدْ أَقْبَلُوا، قَالَ: فَاسْتَقْبَلَهُمْ، وَكَانَ فِي قَرْيَةٍ لَهُ خَارِجَةً مِنَ الْمَدِينَةِ- أَوْ كَمَا قَالَ- فَلَمَّا سَمِعُوا بِهِ، أَقْبَلُوا نَحْوَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ- قَالَ: وَكَرِهَ أَنْ يَقْدَمُوا عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ أَوْ نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ- قَالَ: فَأَتَوْهُ، فَقَالُوا لَهُ: ادْعُ بِالْمُصْحَفِ، قَالَ: فَدَعَا بِالْمُصْحَفِ، قَالَ: فَقَالُوا لَهُ: افْتَحِ التَّاسِعَةَ- قَالَ: وَكَانُوا يُسَمُّونَ سُورَةَ يُونُسَ التَّاسِعَةَ- قَالَ: فَقَرَأَهَا حَتَّى أَتَى عَلَى هَذِهِ الآيةِ: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ» قَالَ: قَالُوا لَهُ: قِفْ، فَقَالُوا لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا حَمَيْتَ مِنَ الْحِمَى؟ آللَّهُ أَذِنَ لَكَ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرِي! قَالَ: فَقَالَ: امْضِهِ، نَزَلَتْ فِي كَذَا وَكَذَا قَالَ: وَأَمَّا الْحِمَى فان عمر حمى الحمى قبلي لا بل الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا وُلِّيتُ زَادَتْ إِبِلُ الصَّدَقَةِ فَزِدْتُ فِي الْحِمَى لِمَا زَادَ فِي إِبِلِ الصَّدَقَةِ، امْضِهِ قَالَ: فَجَعَلُوا يَأْخُذُونَهُ بِالآيَةِ، فَيَقُولُ: امْضِهِ، نَزَلَتْ فِي كَذَا وَكَذَا- قَالَ: وَالَّذِي يَتَوَلَّى كَلامَ عُثْمَانَ يَوْمَئِذٍ فِي سِنِّكَ، قَالَ: يَقُولُ أَبُو نَضْرَةَ، يَقُولُ ذَاكَ لِي أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ أَبُو نَضْرَةَ: وَأَنَا فِي سِنِّكَ

يَوْمَئِذٍ، قَالَ: وَلَمْ يَخْرُجْ وَجْهِي يَوْمَئِذٍ، لا أَدْرِي، وَلَعَلَّهُ قَدْ قَالَ مَرَّةً أُخْرَى: وَأَنَا يَوْمَئِذٍ ابْنُ ثَلاثِينَ سَنَةً- ثُمَّ أَخَذُوهُ بِأَشْيَاءَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْهَا مَخْرَجٌ قَالَ: فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ: مَا تُرِيدُونَ؟ قَالَ: فَأَخَذُوا مِيثَاقَهُ- قَالَ: وَأَحْسَبُهُ قَالَ: وَكَتَبُوا عَلَيْهِ شَرْطًا- قَالَ: وَأَخَذَ عليهم أَلا يَشُقُّوا عَصًا، وَلا يُفَارِقُوا جَمَاعَةً مَا قَامَ لَهُمْ بِشَرْطِهِمْ- أَوْ كَمَا أَخَذُوا عَلَيْهِ- قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ: مَا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ أَلا يَأْخُذَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَطَاءً، فَإِنَّمَا هَذَا الْمَالُ لِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهِ وَلِهَؤُلاءِ الشُّيُوخِ مِنْ اصحاب رسول الله ص قَالَ: فَرَضُوا بِذَلِكَ، وَأَقْبَلُوا مَعَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ رَاضِينَ. قَالَ: فَقَامَ فَخَطَبَ، فَقَالَ: إِنِّي مَا رَأَيْتُ وَاللَّهِ وَفْدًا فِي الأَرْضِ هُمْ خَيْرٌ لِحَوْبَاتِي مِنْ هَذَا الْوَفْدِ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَيَّ وَقَدْ قَالَ مَرَّةً أُخْرَى: خَشِيتُ مِنْ هَذَا الْوَفْدِ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، أَلا مَنْ كَانَ لَهُ زَرْعٌ فَلْيَلْحَقْ بِزَرْعِهِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ ضَرْعٌ فَلْيَحْتَلِبْ، إِلا إِنَّهُ لا مَالَ لَكُمْ عِنْدَنَا، إِنَّمَا هَذَا الْمَالُ لِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهِ ولهؤلاء الشيوخ من اصحاب رسول الله ص قَالَ: فَغَضِبَ النَّاسُ، وَقَالُوا: هَذَا مَكْرُ بَنِي أُمَيَّةَ. قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ الْوَفْدُ الْمِصْرِيُّونَ رَاضِينَ، فَبَيْنَا هُمْ فِي الطَّرِيقِ إِذَا هُمْ بِرَاكِبٍ يَتَعَرَّضُ لَهُمْ ثُمَّ يُفَارِقُهُمْ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ، ثم يفارقهم ويتبينهم قَالَ: قَالُوا لَهُ: مَا لَكَ؟ إِنَّ لَكَ لأَمْرًا! مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى عَامِلِهِ بِمِصْرَ، فَفَتَّشُوهُ، فَإِذَا هُمْ بِالْكِتَابِ عَلَى لِسَانِ عُثْمَانَ، عَلَيْهِ خَاتَمُهُ إِلَى عَامِلِهِ بِمِصْرَ أَنْ يُصَلِّبَهُمْ أَوْ يُقَتِّلَهُمْ أَوْ يُقَطِّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلافٍ. قَالَ: فَأَقْبَلُوا حَتَّى قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، قَالَ: فَأَتَوْا عَلِيًّا، فَقَالُوا: أَلَمْ تَرَ إِلَى عَدُوِّ اللَّهِ! إِنَّهُ كَتَبَ فِينَا بِكَذَا وَكَذَا، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّ دَمَهُ، قُمْ مَعَنَا إِلَيْهِ، قَالَ: وَاللَّهِ لا أَقُومُ مَعَكُمْ، إِلَى أَنْ قَالُوا: فَلِمَ كَتَبْتَ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ كِتَابًا قَطُّ، قَالَ: فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَلِهَذَا تُقَاتِلُونَ، أَوْ لِهَذَا تَغْضَبُونَ! قَالَ: فَانْطَلَقَ عَلِيٌّ، فَخَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى قَرْيَةٍ قَالَ: فَانْطَلَقُوا حَتَّى

دَخَلُوا عَلَى عُثْمَانَ، فَقَالُوا: كَتَبْتَ فِينَا بِكَذَا وَكَذَا! قَالَ: فَقَالَ: إِنَّمَا هُمَا اثْنَتَانِ: أَنْ تُقِيمُوا عَلَيَّ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ يَمِينِي بالله الذي لا إله إلا هو ما كَتَبْتُ وَلا أَمْلَلْتُ وَلا عَلِمْتُ قَالَ: وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْكِتَابَ يُكْتَبُ عَلَى لِسَانِ الرَّجُلِ، وَقَدْ يُنْقَشُ الْخَاتَمُ عَلَى الْخَاتَمِ قَالَ: فَقَالُوا: فَقَدْ وَاللَّهِ أَحَلَّ اللَّهُ دَمَكَ، وَنَقَضْتَ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ قَالَ: فَحَاصَرُوهُ. وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي سَبَبِ مَسِيرِ الْمِصْرِيِّينَ إِلَى عُثْمَانَ وَنُزُولِهِمْ ذَا خَشَبٍ أُمُورًا كَثِيرَةً، مِنْهَا مَا قَدْ تقدم ذكريه، وَمِنْهَا مَا أَعْرَضْتُ عَنْ ذِكْرِهِ كَرَاهَةً مِنِّي لِبَشَاعَتِهِ وَمِنْهَا مَا ذَكَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي عَوْنٍ مَوْلَى الْمسورِ، قَالَ: كَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَلَى مِصْرَ عَامِلا لِعُثْمَانَ، فَعَزَلَهُ عَنِ الْخَرَاجِ، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى الصَّلاةِ، وَاسْتَعْمَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدٍ عَلَى الْخَرَاجِ، ثُمَّ جَمَعَهُمَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ، فَلَمَّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ الْمَدِينَةَ جَعَلَ يَطْعَنُ عَلَى عُثْمَانَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَوْمًا عثمان خاليا به، فقال: يا بن النَّابِغَةِ، مَا أَسْرَعَ مَا قَمِلَ جِرْبَانُ جُبَّتِكَ! إِنَّمَا عَهْدُكَ بِالْعَمَلِ عَاما أَوَّل. أَتَطْعَنُ عَلَيَّ وَتَأْتِينِي بِوَجْهٍ وَتَذْهَبُ عَنِّي بِآخَرَ! وَاللَّهِ لَوْلا أَكْلَةٌ مَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَالَ: فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّ كَثِيرًا مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ وَيَنْقُلُونُ إِلَى وُلاتِهِمْ بَاطِلٌ، فَاتَّقِ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي رَعِيَّتِكَ! فَقَالَ عُثْمَانُ: وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَعْمَلْتُكَ عَلَى ظَلْعِكَ، وَكَثْرَةِ الْقَالَةِ فِيكَ فَقَالَ عَمْرٌو: قَدْ كُنْتُ عَامِلا لِعَمُرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَفَارَقَنِي وَهُوَ عَنِّي رَاضٍ قَالَ: فَقَالَ عُثْمَانُ: وَأَنَا وَاللَّهِ لَوْ آخَذْتُكَ بِمَا آخَذَكَ بِهِ عُمَرُ لاسْتَقَمْتَ، وَلَكِنِّي لِنْتُ عَلَيْكَ فَاجْتَرَأْتَ عَلَيَّ، أَمَا وَاللَّهِ لأَنَا أَعَزُّ مِنْكَ نَفَرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَبْلَ أَنْ أَلِيَ هَذَا السُّلْطَانَ فَقَالَ عَمْرٌو: دَعْ عَنْكَ هَذَا، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَكْرَمَنَا بمحمد ص وَهَدَانَا بِهِ، قَدْ رَأَيْتُ الْعَاصِيَ بْنَ وَائِلٍ ورايت اباك عفان، فو الله لَلْعَاصُ كَانَ أَشْرَفَ مِنْ أَبِيكَ قَالَ: فَانْكَسَرَ عُثْمَانُ، وَقَالَ: مَا لَنَا وَلِذِكْرِ الْجَاهِلِيَّةِ! قَالَ: وَخَرَجَ عَمْرٌو وَدَخَلَ مَرْوَانُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ بَلَغْتَ مَبْلَغًا يَذْكُرُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَبَاكَ! فَقَالَ عُثْمَانُ: دَعْ هَذَا عَنْكَ، مِنْ ذِكْرِ آبَاءِ الرِّجَالِ ذَكَرُوا أَبَاهُ

قَالَ: فَخَرَجَ عَمْرٌو مِنْ عِنْدِ عُثْمَانَ وَهُوَ مُحْتَقِدٌ عَلَيْهِ، يَأْتِي عَلِيًّا مَرَّةً فَيُؤَلِّبُهُ عَلَى عُثْمَانَ، وَيَأْتِي الزُّبَيْرَ مَرَّةً فَيُؤَلِّبُهُ عَلَى عُثْمَانَ، وَيَأْتِي طَلْحَةَ مَرَّةً فَيُؤَلِّبُهُ عَلَى عُثْمَانَ، وَيَعْتَرِضَ الْحَاجَّ فَيُخْبِرُهُمْ بِمَا أَحْدَثَ عُثْمَانُ، فَلَمَّا كَانَ حَصْرُ عُثْمَانَ الأَوَّلُ، خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى أَرْضٍ لَهُ بِفِلَسْطِينَ يُقَالُ لَهَا السَّبْعُ، فَنَزَلَ فِي قَصْرٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ الْعَجْلانُ، وَهُوَ يَقُولُ: الْعَجَبُ مَا يَأْتِينَا عَنِ ابْنِ عَفَّانَ! قَالَ: فَبَيْنَا هُوَ جَالِسٌ فِي قَصْرِهِ ذَلِكَ، وَمَعَهُ ابْنَاهُ مُحَمَّدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ، وسلامه ابن رَوْحٍ الْجُذَامِيُّ، إِذْ مَرَّ بِهِمْ رَاكِبٌ، فَنَادَاهُ عَمْرٌو: مِنْ أَيْنَ قَدِمَ الرَّجُلُ؟ فَقَالَ: مِنَ الْمَدِينَةِ، قَالَ: مَا فَعَلَ الرَّجُلُ؟ يَعْنِي عُثْمَانَ، قَالَ: تَرَكْتُهُ مَحْصُورًا شَدِيدَ الْحِصَارِ قَالَ عَمْرٌو: أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، قَدْ يَضْرُطُ الْعِيرُ وَالْمِكْوَاةُ فِي النَّارِ فَلَمْ يَبْرَحْ مَجْلِسُهُ ذَلِكَ حَتَّى مَرَّ بِهِ رَاكِبٌ آخَرُ، فَنَادَاهُ عَمْرٌو: مَا فَعَلَ الرَّجُلُ؟ يَعْنِي عُثْمَانَ، قَالَ: قُتِلَ، قَالَ: أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، إِذَا حَكَكْتُ قَرْحَةً نَكَأْتُهَا، إِنْ كُنْتُ لأُحَرِّضَ عَلَيْهِ، حَتَّى إِنِّي لأُحَرِّضَ عَلَيْهِ الرَّاعِي فِي غَنَمِهِ فِي رَأْسِ الْجَبَلِ فَقَالَ لَهُ سَلامَةُ بْنُ رَوْحٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّهُ كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْعَرَبِ بَابٌ وَثِيقٌ فَكَسَرْتُمُوهُ، فَمَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَرَدْنَا أَنْ نُخْرِجَ الْحَقَّ مِنْ حَافِرَةِ الْبَاطِلِ، وَأَنْ يَكُونَ النَّاسُ فِي الْحَقِّ شَرْعًا سَوَاءٌ وَكَانَتْ عِنْدَ عَمْرٍو أُخْتُ عُثْمَانَ لأُمِّهِ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، فَفَارَقَهَا حِينَ عَزَلَهُ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عمر: وحدثنى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ بِمِصْرَ يُحَرِّضَانِ عَلَى عُثْمَانَ، فَقَدِمَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَأَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ بِمِصْرَ، فَلَمَّا خَرَجَ الْمِصْرِيُّونَ خَرَجَ عبد الرحمن بن عديس البلوى في خمسمائة، وَأَظْهَرُوا أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْعُمْرَةَ، وَخَرَجُوا فِي رَجَبَ، وَبَعَثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ رَسُولا سَارَ إِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً يُخْبِرُ عُثْمَانَ أَنَّ ابْنَ عُدَيْسٍ وَأَصْحَابَهُ قَدْ وَجَّهُوا نَحْوَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي حُذَيْفَةَ شَيَّعَهُمْ إِلَى عَجْرُودٍ، ثُمَّ رَجَعَ وَأَظْهَرَ مُحَمَّدٌ إِنْ قَالَ: خَرَجَ الْقَوْمُ عَمَّارًا، وَقَالَ فِي السِّرِّ: خَرَجَ الْقَوْمُ إِلَى إِمَامِهِمْ فَإِنْ نَزَعَ وَإِلا قَتَلُوهُ، وَسَارَ

الْقَوْمُ الْمَنَازِلَ لَمْ يَعُدُّوهَا حَتَّى نَزَلُوا ذَا خَشَبٍ وَقَالَ عُثْمَانُ قَبْلَ قُدُومِهِمْ حِينَ جَاءَهُ رَسُولُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ: هَؤُلاءِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ يُرِيدُونَ- بِزَعْمِهِمُ- الْعُمْرَةَ، وَاللَّهِ مَا أَرَاهُمْ يُرِيدُونَهَا، وَلَكِنَّ النَّاسَ قَدْ دَخَلَ بِهِمْ، وَأَسْرَعُوا إِلَى الْفِتْنَةِ، وَطَالَ عَلَيْهِمْ عُمْرَى، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ فَارَقْتُهُمْ لَيَتَمَنَّوْنَ أَنَّ عُمْرَى كَانَ طَالَ عَلَيْهِمْ مَكَانَ كُلَّ يَوْمٍ بِسَنَةٍ مِمَّا يَرَوْنَ مِنَ الدِّمَاءِ الْمَسْفُوكَةِ، وَالإِحَنِ وَالأَثْرَةِ الظَّاهِرَةِ، وَالأَحْكَامِ الْمُغَيِّرَةِ قَالَ: فَلَمَّا نَزَلَ الْقَوْمُ ذَا خَشَبٍ جَاءَ الْخَبَرُ أَنَّ الْقَوْمَ يُرِيدُونَ قَتْلَ عُثْمَانَ إِنْ لَمْ يَنْزَعْ، وَأَتَى رَسُولُهُمْ إِلَى عَلِيٍّ لَيْلا، وَإِلَى طَلْحَةَ، وَإِلَى عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ. وَكَتَبَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ مَعَهُمْ إِلَى عَلِيٍّ كِتَابًا، فَجَاءُوا بِالْكِتَابِ إِلَى عَلِيٍّ، فَلَمْ يَظْهَرَ عَلَى مَا فِيهِ، فَلَمَّا رَأَى عُثْمَانَ مَا رَأَى جَاءَ عَلِيًّا فَدَخَلَ عليه بيته، فقال: يا بن عَمِّ، إِنَّهُ لَيْسَ لِي مترك، وَإِنَّ قَرَابَتِي قَرِيبَةٌ، وَلِي حَقٌّ عَظِيمٌ عَلَيْكَ، وَقَدْ جَاءَ مَا تَرَى مِنْ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ، وَهُمْ مُصَبِّحِي، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ لَكَ عِنْدَ النَّاسِ قَدْرًا، وَأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ مِنْكَ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَرْكَبَ إِلَيْهِمْ فَتَرُدَّهُمْ عَنِّي، فَإِنِّي لا أُحِبُّ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيَّ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَرْأَةً مِنْهُمْ عَلَيَّ، وَلْيَسْمَعْ بِذَلِكَ غَيْرُهُمْ فَقَالَ عَلِيٌّ: عَلامَ أَرُدُّهُمْ؟ قَالَ: عَلَى أَنْ أَصِيرَ إِلَى مَا أَشَرْتَ بِهِ عَلَيَّ وَرَأَيْتَهُ لِي، وَلَسْتُ أَخْرُجُ مِنْ يَدَيْكَ، [فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنِّي قَدْ كُنْتُ كَلَّمْتُكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ نَخْرُجُ فَتَكَلَّمَ، وَنَقُولُ وَتَقُولُ، وَذَلِكَ كُلُّهُ فِعْلُ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ وَسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَابْنِ عَامِرٍ وَمُعَاوِيَةَ، أَطَعْتَهُمْ وَعَصَيْتَنِي. قَالَ عُثْمَانُ: فَإِنِّي أَعْصِيهِمْ وَأُطِيعُكَ] قَالَ: فَأَمَرَ النَّاسَ، فَرَكِبُوا مَعَهُ: الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارِ قَالَ: وَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، يُكَلِّمُهُ أَنْ يَرْكَبَ مَعَ عَلِيٍّ فَأَبَى، فَأَرْسَلَ عثمان الى سعد بن ابى وقاص، فكلمه أَنْ يَأْتِيَ عَمَّارًا فَيُكَلِّمُهُ أَنْ يَرْكَبَ مَعَ عَلِيٍّ، قَالَ: فَخَرَجَ سَعْدٌ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَمَّارٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ، أَلا تَخْرُجُ فِيمَنْ يَخْرُجُ! وَهَذَا عَلِيٌّ يَخْرُجُ فَاخْرُجْ مَعَهُ، وَارْدُدْ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ عَنْ إِمَامِكَ، فَإِنِّي

لأَحْسَبُ أَنَّكَ لَمْ تَرْكَبْ مَرْكَبًا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ. قَالَ: وَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ الْكِنْدِيِّ- وَكَانَ مِنْ أَعْوَانِ عُثْمَانَ- فَقَالَ: انْطَلِقْ فِي إِثْرِ سَعْدٍ فَاسْمَعْ مَا يَقُولُ سَعْدٌ لِعَمَّارٍ، وَمَا يَرُدُّ عَمَّارٌ عَلَى سَعْدٍ، ثُمَّ ائْتِنِي سَرِيعًا. قَالَ: فَخَرَجَ كَثِيرٌ حَتَّى يَجِدَ سَعْدًا عِنْدَ عَمَّارٍ مَخْلِيًّا بِهِ، فَأَلْقَمَ عَيْنَهُ جُحْرَ الْبَابِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَمَّارٌ وَلا يَعْرِفُهُ، وَفِي يَدِهِ قَضِيبٌ، فَأَدْخَلَ الْقَضِيبُ الْجُحْرَ الَّذِي أَلْقَمَهُ كَثِيرٌ عَيْنَهُ، فَأَخْرَجَ كَثِيرٌ عَيْنَهُ مِنَ الْجُحْرِ، وَوَلَّى مُدْبِرًا مُتَقَنِّعًا فَخَرَجَ عَمَّارٌ فَعَرَفَ أَثَرَهُ، وَنَادَى: يَا قَلِيلُ ابْنَ أُمِّ قَلِيلٍ! أَعَلَيَّ تَطَّلِعُ وَتَسْتَمِعُ حَدِيثِي! وَاللَّهِ لَوْ دَرِيتُ أَنَّكَ هُوَ لَفَقَأْتُ عَيْنَكَ بِالْقَضِيبِ، فان رسول الله ص قَدْ أَحَلَّ ذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَ عَمَّارٌ إِلَى سَعْدٍ، فَكَلَّمَهُ سَعْدٌ وَجَعَلَ يَفْتِلُهُ بِكُلِّ وَجْهٍ، فَكَانَ آخَرُ ذَلِكَ أَنْ قَالَ عَمَّارٌ: وَاللَّهِ لا أَرُدُّهُمْ عَنْهُ أَبَدًا فَرَجَعَ سَعْدٌ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ عَمَّارٌ، فَاتَّهَمَ عُثْمَانُ سَعْدًا أَنْ يَكُونَ لَمْ يُنَاصِحْهُ، فَأَقْسَمَ لَهُ سَعْدٌ بِاللَّهِ، لَقَدْ حُرِّضَ فَقَبِلَ مِنْهُ عُثْمَانُ. قَالَ: وركب على ع إِلَى أَهْلِ مِصْرَ، فَرَدَّهُمْ عَنْهُ، فَانْصَرَفُوا رَاجِعِينَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صالح، عن عاصم بن عمر، عن محمود بْنِ لبيد، قَالَ: لما نزلوا ذا خشب، كلم عثمان عليا واصحاب رسول الله ص أن يردوهم عنه، فركب علي وركب مَعَهُ نفر من الْمُهَاجِرِينَ، فِيهِمْ سَعِيد بن زَيْدٍ، وأبو جهم العدوي، وجبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، ومروان بن الحكم، وسعيد بن الْعَاصِ، وعبد الرَّحْمَن بن عتاب بن أسيد، وخرج من الأنصار أَبُو أسيد الساعدي وأبو حميد الساعدي، وزَيْد بن ثَابِت، وحسان بن ثَابِت، وكعب بن مَالِكٍ، ومعهم من العرب نيار بن مكرم وغيرهم ثلاثون رجلا، وكلمهم علي ومحمد بن مسلمة- وهما اللذان قدما- فسمعوا مقالتهما، ورجعوا قَالَ محمود: فأخبرني مُحَمَّد بن مسلمة، قَالَ: مَا برحنا من ذي خشب حَتَّى رحلوا راجعين إِلَى مصر، وجعلوا يسلمون علي، فما أنسى قول عبد الرَّحْمَن بن عديس: أتوصينا يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن بحاجة؟ قَالَ: قلت: تتقي اللَّه وحده لا شريك له،

وترد من قبلك عن إمامه، فإنه قَدْ وعدنا أن يرجع وينزع قَالَ ابن عديس: أفعل إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ: فرجع القوم إِلَى الْمَدِينَةِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لما رجع على ع إِلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ قَدْ رَجَعُوا، وَكَلَّمَهُ عَلِيٌّ كَلامًا فِي نَفْسِهِ، قَالَ لَهُ: اعْلَمْ أَنِّي قَائِلٌ فِيكَ أَكْثَرَ مِمَّا قُلْتُ. قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ إِلَى بَيْتِهِ، قَالَ: فَمَكَثَ عُثْمَانُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ جَاءَهُ مَرْوَانُ، فَقَالَ لَهُ: تَكَلَّمْ وَأَعْلِمِ النَّاسَ أَنَّ أَهْلَ مِصْرَ قَدْ رَجَعُوا، وَأَنَّ مَا بَلَغَهُمْ عَنْ إِمَامِهِمْ كَانَ بَاطِلا، فَإِنَّ خُطْبَتَكَ تَسِيرُ فِي الْبِلادِ قَبْلَ أَنْ يَتَحَلَّبَ النَّاسُ عَلَيْكَ مِنْ أَمْصَارِهِمْ، فَيَأْتِيكَ مَنْ لا تَسْتَطِيعُ دَفْعَهُ قَالَ: فَأَبَى عُثْمَانُ أَنْ يَخْرُجَ قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ بِهِ مَرْوَانُ حَتَّى خَرَجَ فَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ كَانَ بَلَغَهُمْ عَنْ إِمَامِهِمْ أَمْرٌ، فَلَمَّا تَيَقَّنُوا أَنَّهُ بَاطِلٌ مَا بَلَغَهُمْ عَنْهُ رَجَعُوا إِلَى بِلادِهِمْ قَالَ: فَنَادَاهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ: اتَّقِ اللَّهَ يَا عُثْمَانُ، فَإِنَّكَ قَدْ رَكِبْتَ نَهَابِيرَ وَرَكِبْنَاهَا مَعَكَ، فَتُبْ إِلَى اللَّهِ نَتُبْ. قَالَ: فناداه عثمان، وانك هناك يا بن النَّابِغَةِ! قَمِلَتْ وَاللَّهِ جُبَّتُكَ مُنْذُ تَرَكْتُكَ مِنَ الْعَمَلِ قَالَ: فَنُودِيَ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى: تُبْ إِلَى اللَّهِ وَأَظْهِرِ التَّوْبَةَ يَكُفَّ النَّاسُ عَنْكَ قَالَ: فَرَفَعَ عُثْمَانُ يَدَيْهِ مَدًّا وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ تَائِبٍ تَابَ إِلَيْكَ وَرَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ حَتَّى نَزَلَ مَنْزِلَهُ بِفِلَسْطِينَ، فَكَانَ يَقُولُ: وَاللَّهِ انى كُنْتُ لأَلْقَى الرَّاعِيَ فَأُحَرِّضُهُ عَلَيْهِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: فَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّ عَلِيًّا جَاءَ عُثْمَانُ بَعْدَ انْصِرَافِ الْمِصْرِيِّينَ، فَقَالَ لَهُ: تَكَلَّمْ كَلامًا يَسْمَعُهُ النَّاسُ مِنْكَ وَيَشْهَدُونَ عَلَيْهِ، وَيَشْهَدُ اللَّهُ عَلَى مَا فِي قَلْبِكَ مِنَ النُّزُوعِ وَالإِنَابَةِ،

فَإِنَّ الْبِلادَ قَدْ تَمَخَّضَتْ عَلَيْكَ، فَلا آمَنُ رَكْبًا آخَرِينَ يَقْدَمُونَ مِنَ الْكُوفَةِ، فَتَقُولُ: يَا عَلِيُّ، ارْكَبْ إِلَيْهِمْ، وَلا أَقْدِرُ أَنْ أَرْكَبَ إِلَيْهِمْ، وَلا أَسْمَعُ عُذْرًا. وَيَقْدُمُ رَكْبٌ آخَرُونَ مِنَ الْبَصْرَةِ، فَتَقُولُ: يَا عَلِيُّ ارْكَبْ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ رَأَيْتُنِي قَدْ قَطَعْتُ رَحِمَكَ، وَاسْتَخْفَفْتُ بِحَقِّكَ. قَالَ: فَخَرَجَ عُثْمَانُ فَخَطَبَ الْخُطْبَةَ الَّتِي نَزَعَ فِيهَا، وَأَعْطَى النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ التَّوْبَةَ، فَقَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا الناس، فو الله مَا عَابَ مَنْ عَابَ مِنْكُمْ شَيْئًا أَجْهَلُهُ، وَمَا جِئْتُ شَيْئًا إِلا وَأَنَا أَعْرِفُهُ، وَلَكِنِّي مَنَّتْنِي نَفْسِي وَكَذَّبَتْنِي، وَضَلَّ عَنِي رُشْدِي، [وَلَقَدْ سمعت رسول الله ص يَقُولُ: مَنْ زَلَّ فَلْيَتُبْ، وَمَنْ أَخْطَأَ فَلْيَتُبْ، ولا يتماد فِي الْهَلَكَةِ، إِنَّ مَنْ تَمَادَى فِي الْجَوْرِ كَانَ أَبْعَدَ مِنَ الطَّرِيقِ،] فَأَنَا أَوَّلُ مَنِ اتَّعَظَ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِمَّا فَعَلْتُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَمِثْلِي نَزَعَ وَتَابَ، فَإِذَا نَزَلْت فَلْيَأْتِنِي أَشَرَافُكُمْ فليرونى رأيهم، فو الله لَئِنْ رَدَّنِي الْحَقُّ عَبْدًا لأَسْتَنُّ بِسُنَّةِ الْعَبْدِ، وَلأَذِلَّنَّ ذُلَّ الْعَبْدِ، وَلأَكُونَنَّ كَالْمَرْقُوقِ، إِنْ مُلِكَ صَبَرَ، وَإِنْ عُتِقَ شَكَرَ، وَمَا عَنِ اللَّهِ مَذْهَبٌ إِلا إِلَيْهِ، فَلا يَعْجَزَنَّ عَنْكُمْ خِيَارُكُمْ أَنْ يَدْنُوا إِلَيَّ، لَئِنْ أَبَتْ يَمِينِي لِتُتَابِعَنِي شِمَالِي. قَالَ: فَرَقَّ النَّاسُ لَهُ يَوْمَئِذٍ، وَبَكَى من بكى منهم، وقام اليه سعيد ابن زَيْدٍ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَيْسَ بِوَاصِلٍ لَكَ مَنْ لَيْسَ مَعَكَ، اللَّهَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ! فَأَتْمِمْ عَلَى مَا قُلْتَ فَلَمَّا نَزَلَ عُثْمَانُ وَجَدَ فِي مَنْزِلِهِ مَرْوَانَ وَسَعِيدًا وَنَفَرًا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، وَلَمْ يَكُونُوا شَهِدُوا الْخُطْبَةَ، فَلَمَّا جَلَسَ قَالَ مَرْوَانُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَتَكَلَّمُ أَمْ أَصْمُتُ؟ فَقَالَتْ نَائِلَةُ ابْنَةُ الْفُرَافِصَةِ، امْرَأَةُ عُثْمَانَ الْكَلْبِيَّةُ: لا بَلِ اصْمُتْ، فَإِنَّهُمْ وَاللَّهِ قَاتِلُوهُ وَمُؤْثِمُوهُ، إِنَّهُ قَدْ قَالَ مَقَالَةً لا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْزِعَ عَنْهَا فَأَقْبَلَ عليها مروان، فقال: ما أنت وذاك! فو الله لَقَدْ مَاتَ أَبُوكِ وَمَا يُحْسِنُ يتوضأ، فَقَالَتْ لَهُ: مَهْلا يَا مَرْوَانُ عَنْ ذِكْرِ الآبَاءِ، تُخْبِرُ عَنْ أَبِي وَهُوَ غَائِبٌ تَكْذِبُ عَلَيْهِ! وَإِنَّ أَبَاكَ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْلا أَنَّهُ عَمُّهُ، وَأَنَّهُ يَنَالُهُ غَمُّهُ، أَخْبَرْتُكَ عَنْهُ مَا لَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ

قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنْهَا مَرْوَانُ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَتَكَلَّمُ أَمْ أَصْمُتُ؟ قَالَ: بَلْ تَكَلَّمْ، فَقَالَ مَرْوَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ مَقَالَتَكَ هَذِهِ كَانَتْ وَأَنْتَ مُمْتَنِعٌ مَنِيعٌ فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ رَضِيَ بِهَا، وَأَعَانَ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّكَ قُلْتَ مَا قُلْتَ حِينَ بَلَغَ الْحِزَامُ الطُّبْيَيْنِ، وَخَلَفَ السَّيْلُ الزُّبَى، وَحِينَ أَعْطَى الْخُطَّةَ الْذَلِيلَةَ الذَّلِيلُ، وَاللَّهِ لإِقَامَةٌ عَلَى خَطِيئَةٍ تَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهَا أَجْمَلُ مِنْ تَوْبَةٍ تُخَوَّفُ عَلَيْهَا، وَإِنَّكَ إِنْ شِئْتَ تَقَرَّبْتَ بِالتَّوْبَةِ وَلَمْ تُقْرِرْ بِالْخَطِيئَةِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ إِلَيْكَ عَلَى الْبَابِ مِثْلُ الْجِبَالِ مِنَ النَّاسِ فَقَالَ عُثْمَانُ: فَاخْرُجْ اليهم فكلمهم، فانى استحى أَنْ أُكَلِّمَهُمْ قَالَ: فَخَرَجَ مَرْوَانُ إِلَى الْبَابِ وَالنَّاسُ يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ قَدِ اجْتَمَعْتُمْ كَأَنَّكُمْ قَدْ جِئْتُمْ لِنَهْبٍ! شَاهَتِ الْوُجُوهِ! كُلُّ إِنْسَانٍ آخِذٌ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ أَلا مَنْ أُرِيدَ! جِئْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْزَعُوا مُلْكَنَا مِنْ أَيْدِينَا! اخْرُجُوا عَنَّا، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رُمْتُمُونَا لَيَمُرَّنَّ عَلَيْكُمْ مِنَّا أَمْرٌ لا يَسُرُّكُمْ، وَلا تَحْمَدُوا غِبَّ رَأْيِكُمْ ارْجِعُوا إِلَى مَنَازِلِكُمْ، فَإِنَّا وَاللَّهِ مَا نَحْنُ مَغْلُوبِينَ عَلَى مَا فِي أَيْدِينَا قَالَ: فَرَجَعَ النَّاسُ وَخَرَجَ بَعْضُهُمْ حَتَّى أَتَى عَلِيًّا فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، [فَجَاءَ عَلِيٌّ ع مُغْضَبًا، حَتَّى دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ: أَمَا رَضِيتَ مِنْ مَرْوَانَ وَلا رَضِيَ مِنْكَ إِلا بِتَحَرُّفِكَ عَنْ دِينِكَ وَعَنْ عَقْلِكَ، مِثْلَ جَمَلِ الظَّعِينَةِ يُقَادُ حَيْثُ يُسَارُ بِهِ، وَاللَّهِ مَا مَرْوَانُ بِذِي رَأْيٍ فِي دِينِهِ وَلا نَفْسِهِ، وَايْمُ اللَّهِ إِنِّي لأَرَاهُ سَيُورِدُكَ ثُمَّ لا يُصْدِرُكَ، وَمَا أَنَا بِعَائِدٍ بَعْدَ مُقَامِي هَذَا لِمُعَاتَبَتِكَ، أَذْهَبْتَ شَرَفَكَ، وَغَلَبْتَ عَلَى أَمْرِكَ] فَلَمَّا خَرَجَ عَلِيٌّ دَخَلَتْ عَلَيْهِ نَائِلَةُ ابْنَةُ الْفُرَافِصَةِ امْرَأَتُهُ، فَقَالَتْ: أَتَكَلَّمُ أَوْ أَسْكُتُ؟ فَقَالَ: تَكَلَّمِي، فقالت: قد سمعت قول على لك، وانه لَيْسَ يُعَاوِدُكَ، وَقَدْ أَطَعْتَ مَرْوَانَ يَقُودُكَ حَيْثُ شَاءَ قَالَ: فَمَا أَصْنَعُ؟ قَالَتْ: تَتَّقِي اللَّهَ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَتَتَّبِع سُنَّةَ صَاحِبَيْكَ مِنْ قَبْلِكَ، فَإِنَّكَ مَتَى أَطَعْتَ مَرْوَانَ قَتَلَكَ، وَمَرْوَانُ لَيْسَ لَهُ عِنْدَ النَّاسِ قَدْرٌ وَلا هَيْبَةٌ وَلا مَحَبَّةٌ، وَإِنَّمَا تَرَكَكَ النَّاسُ لِمَكَانِ مَرْوَانَ، فَأَرْسِلْ إِلَى عَلِيٍّ فَاسْتَصْلِحْهُ،

فَإِنَّ لَهُ قَرَابَةً مِنْكَ، وَهُوَ لا يُعْصَى قَالَ: فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى عَلِيٍّ، فَأَبَى أَنْ يَأْتِيَهُ، وَقَالَ: قَدْ أَعْلَمْتُهُ أَنِّي لَسْتُ بِعَائِدٍ. قَالَ: فَبَلَغَ مَرْوَانَ مَقَالَةُ نَائِلَةَ فِيهِ، قَالَ: فَجَاءَ إِلَى عُثْمَانَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: أَتَكَلَّمُ أَوْ أَسْكُتُ؟ فَقَالَ: تَكَلَّمْ، فَقَالَ: إِنَّ بِنْتَ الْفُرَافِصَةِ فَقَالَ عُثْمَانُ: لا تَذْكُرَنَّهَا بِحَرْفٍ فاسوى لَكَ وَجْهَكَ، فَهِيَ وَاللَّهِ أَنْصَحُ لِي مِنْكَ. قَالَ: فَكَفَّ مَرْوَانُ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي شُرَحْبِيلُ بْنُ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ يَذْكُرُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، قَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ مَرْوَانَ! خَرَجَ عُثْمَانُ إِلَى النَّاسِ فَأَعْطَاهُمُ الرِّضَا، وَبَكَى عَلَى الْمِنْبَرِ وَبَكَى النَّاسُ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى لِحْيَةِ عُثْمَانَ مُخَضَّلَةً مِنَ الدُّمُوعِ، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَتُوبُ إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَتُوبُ إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَتُوبُ إِلَيْكَ! وَاللَّهِ لَئِنْ رَدَّنِي الْحَقُّ إِلَى أَنْ أَكُونَ عَبْدًا قِنًّا لأَرْضَيَنَّ بِهِ، إِذَا دَخَلْتُ منزلي فادخلوا على، فو الله لا احتجب منكم، وَلأُعْطِيَنَّكُمُ الرِّضَا، وَلأَزِيدَنَّكُمْ عَلَى الرِّضَا، وَلأُنْحِيَنَّ مَرْوَانَ وَذَوِيهِ قَالَ: فَلَمَّا دَخَلَ أَمَرَ بِالْبَابِ فَفُتِحَ، وَدَخَلَ بَيْتَهُ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ مَرْوَانُ، فَلَمْ يَزَلْ يَفْتِلُهُ فِي الذِّرْوَةِ وَالْغَارِبِ حَتَّى فَتَلَهُ عَنْ رَأْيِهِ، وَأَزَالَهُ عَمَّا كَانَ يُرِيدُ، فَلَقَدْ مَكَثَ عُثْمَانُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ مَا خَرَجَ اسْتِحْيَاءً مِنَ النَّاسِ، وَخَرَجَ مَرْوَانُ إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ! أَلا مَنْ أُرِيدَ! ارْجِعُوا إِلَى مَنَازِلِكُمْ، فَإِنْ يَكُنْ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ حَاجَةٌ بِأَحَدٍ مِنْكُمْ يُرْسِلْ إِلَيْهِ، وَإِلا قَرَّ فِي بَيْتِهِ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَجِئْتُ إِلَى عَلِيٍّ فَأَجِدُهُ بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ، وَأَجِدُ عِنْدَهُ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَمُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ وَهُمَا يَقُولانِ: صَنَعَ مَرْوَانُ بِالنَّاسِ وَصَنَعَ قَالَ: [فَأَقْبَلَ عَلَيَّ عَلِيٌّ، فَقَالَ: أَحَضَرْتَ خُطْبَةَ عُثْمَانَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: أَفَحَضَرْتَ مَقَالَةَ مَرْوَانَ لِلنَّاسِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ عَلِيٌّ: عِيَاذُ اللَّهِ، يَا لِلْمُسْلِمِينَ! إِنِّي إِنْ قَعَدْتُ فِي بَيْتِي قَالَ لِي: تَرَكْتَنِي

وَقَرَابَتِي وَحَقِّي، وَإِنِّي إِنْ تَكَلَّمْتُ فَجَاءَ مَا يُرِيدُ يَلْعَبُ بِهِ مَرْوَانُ، فَصَارَ سِيقَةً لَهُ يَسُوقُهُ حَيْثُ شَاءَ بَعْدَ كِبَرِ السِّنِّ وَصُحْبَةِ رسول الله ص] . قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ: فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى جَاءَ رَسُولُ عُثْمَانَ: ائْتِنِي، فَقَالَ عَلِيٌّ بَصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ عَالٍ مُغْضَبٍ: قُلْ لَهُ: مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْكَ وَلا عَائِدٍ. قَالَ: فَانْصَرَفَ الرَّسُولُ قَالَ: فَلَقِيتُ عُثْمَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِلَيْلَتَيْنِ خَائِبًا، فَسَأَلْتُ نَاتِلا غُلامَهُ: مِنْ أَيْنَ جَاءَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: كَانَ عِنْدَ عَلِيٍّ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ: فَغَدَوْتُ فَجَلَسْتُ مَعَ على ع، فَقَالَ لِي: جَاءَنِي عُثْمَانُ الْبَارِحَةَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: إِنِّي غَيْرُ عَائِدٍ، وَإِنِّي فَاعِلٌ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: بَعْدَ مَا تَكَلَّمْتَ بِهِ عَلَى مِنْبَرِ رسول الله ص، وَأَعْطَيْتَ مِنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ دَخَلْتَ بَيْتَكَ، وَخَرَجَ مَرْوَانُ إِلَى النَّاسِ فَشَتَمَهُمْ عَلَى بَابِكَ وَيُؤْذِيهِمْ! قَالَ: فَرَجَعَ وَهُوَ يَقُولُ: قَطَعْتَ رَحِمِي وَخَذَلْتَنِي، وَجَرَّأْتَ النَّاسَ عَلَيَّ. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَذُبُّ الناس عنك، ولكنى كلا جِئْتُكَ بِهَنَةٍ أَظُنُّهَا لَكَ رِضًا جَاءَ بِأُخْرَى، فَسَمِعْتَ قَوْلَ مَرْوَانَ عَلَيَّ، وَاسْتَدْخَلْتَ مَرْوَانَ. قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى بَيْتِهِ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ: فَلَمْ أَزَلْ أَرَى عَلِيًّا مُنْكِبًا عَنْهُ لا يَفْعَلُ مَا كَانَ يَفْعَلُ، إِلا أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ كَلَّمَ طَلْحَةَ حِينَ حُصِرَ فِي أَنْ يُدْخِلَ عَلَيْهِ الرَّوَايَا، وَغَضِبَ فِي ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، حَتَّى دَخَلَتِ الرَّوَايَا عَلَى عُثْمَانَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَنَّ عُثْمَانَ صَعِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَقِمْ كِتَابَ اللَّهِ، فَقَالَ عُثْمَانُ: اجْلِسْ، فَجَلَسَ حَتَّى قَامَ ثَلاثًا، فَأَمَرَ بِهِ عُثْمَانُ فَجَلَسَ، فَتَحَاثَوْا بِالْحَصْبَاءِ حَتَّى مَا تُرَى السَّمَاءُ، وَسَقَطَ عَنِ الْمِنْبَرِ، وَحُمِلَ فَأُدْخِلَ دَارَهُ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْ حُجَّابِ عُثْمَانَ، وَمَعَهُ مُصْحَفٌ فِي يَدِهِ وَهُوَ يُنَادِي: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ» وَدَخَلَ عَلِيُّ بْنُ

ذكر الخبر عن قتل عثمان رضى الله عنه

أَبِي طَالِبٍ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ مَغْشِيٌّ عَلَيْهِ، وَبَنُو أُمَيَّةَ حَوْلَهُ، فَقَالَ: مالك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَأَقْبَلَتْ بَنُو أُمَيَّةَ بِمَنْطِقٍ وَاحِدٍ، فَقَالُوا: يَا عَلِيُّ أَهْلَكْتَنَا وَصَنَعْتَ هَذَا الصَّنِيعَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ! أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ بَلَغْتَ الَّذِي تُرِيدُ لَتَمُرَّنَّ عَلَيْكَ الدُّنْيَا فَقَامَ عَلِيٌّ مغضبا . ذكر الخبر عن قتل عثمان رضى الله عنه وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ عُثْمَانُ بْن عَفَّانَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. ذكر الخبر عن قتله وكيف قتل: قَالَ أَبُو جَعْفَر رحمه اللَّه: قَدْ ذكرنا كثيرا من الأسباب الَّتِي ذكر قاتلوه أَنَّهُمْ جعلوها ذريعة إِلَى قتله، فأعرضنا عن ذكر كثير منها لعلل دعت إِلَى الإعراض عنها، ونذكر الآن كيف قتل، وما كَانَ بدء ذَلِكَ وافتتاحه، ومن كَانَ المبتدئ به والمفتتح للجرأة عَلَيْهِ قبل قتله. ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ حَدَّثَهُ عَنِ أُمِّ بَكْرٍ بِنْتِ الْمُسَوَّرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِيهَا، قَالَ: قَدِمَتْ إِبِلٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ عَلَى عُثْمَانَ، فَوَهَبَهَا لِبَعْضِ بَنِي الْحَكَمِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فأرسل الى المسور ابن مَخْرَمَةَ وَإِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ فَأَخَذَاهَا، فَقَسَمَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي النَّاسِ وَعُثْمَانُ فِي الدَّارِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صالح، عَنْ عُبَيْدِ الله بن رافع ابن نقاخة، عن عُثْمَان بن الشريد، قَالَ: مر عُثْمَان عَلَى جبلة بن عَمْرو الساعدي وَهُوَ بفناء داره، وَمَعَهُ جامعة، فَقَالَ: يَا نعثل، وَاللَّهِ لأقتلنك، ولأحملنك عَلَى قلوص جرباء، ولأخرجنك إِلَى حرة النار ثُمَّ جاءه مرة أخرى وعثمان عَلَى الْمِنْبَر فأنزله عنه. حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنِ اجْتَرَأَ عَلَى عُثْمَانَ بِالْمَنْطِقِ السَّيِّئِ جبله

ابن عَمْرٍو السَّاعِدِيَّ، مَرَّ بِهِ عُثْمَانُ وَهُوَ جَالِسٌ فِي نَدِيِّ قَوْمِهِ، وَفِي يَدِ جَبَلَةَ بْنِ عَمْرٍو جَامِعَةٌ، فَلَمَّا مَرَّ عُثْمَانُ سَلَّمَ، فَرَدَّ الْقَوْمُ، فَقَالَ جَبَلَةُ: لِمَ تَرُدُّونَ عَلَى رَجُلٍ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا! قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لأَطْرَحَنَّ هَذِهِ الْجَامِعَةَ فِي عُنُقِكَ أَوْ لَتَتْرُكَنَّ بِطَانَتَكَ هَذِهِ قَالَ عُثْمَانُ: اى بطانه! فو الله إِنِّي لأَتَخَيَّرُ النَّاسَ، فَقَالَ: مَرْوَانُ تَخَيَّرْتَهُ! وَمُعَاوِيَةُ تَخَيَّرْتَهُ! وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ تَخَيَّرْتَهُ! وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ تَخَيَّرْتَهُ! مِنْهُمْ من نزل القرآن بدمه، وأباح رسول الله ص دَمَهُ. قَالَ: فَانْصَرَفَ عُثْمَانُ، فَمَا زَالَ النَّاسُ مُجْتَرِئِينَ عَلَيْهِ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عمر: وَحَدَّثَنِي ابن أبي الزناد، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي حَبِيبَةَ، قَالَ: خَطَبَ عُثْمَانُ النَّاسَ فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّكَ قَدْ رَكِبْتَ نَهَابِيرَ وَرَكِبْنَاهَا مَعَكَ، فَتُبْ نَتُبْ فَاسْتَقْبَلَ عُثْمَانُ الْقِبْلَةَ وَشَهَرَ يَدَيْهِ- قَالَ أَبُو حَبِيبَةَ: فَلَمْ أَرَ يَوْمًا أَكْثَرَ بَاكِيًا وَلا بَاكِيَةً مِنْ يَوْمَئِذٍ- ثُمَّ لَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ خَطَبَ النَّاسَ، فَقَامَ إِلَيْهِ جَهْجَاهٌ الْغِفَارِيُّ، فَصَاحَ: يَا عُثْمَانُ، أَلا إِنَّ هَذِهِ شَارِفٌ قَدْ جِئْنَا بِهَا، عَلَيْهَا عَبَاءَةٌ وَجَامِعَةٌ، فَانْزِلْ فَلْنُدْرِعْكَ الْعَبَاءَةَ، وَلْنَطْرَحَكَ فِي الْجَامِعَةِ، وَلْنَحْمِلَكَ عَلَى الشَّارِفِ، ثُمَّ نَطْرَحُكَ فِي جَبَلِ الدُّخَانِ فَقَالَ عُثْمَانُ: قَبَّحَكَ اللَّهُ وَقَبَّحَ مَا جِئْتَ بِهِ! قَالَ أَبُو حَبِيبَةَ: وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ إِلا عَنْ مَلإٍ مِنَ النَّاسِ، وَقَامَ إِلَى عُثْمَانَ خِيرَتِهِ وَشِيعَتِهِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ فَحَمَلُوهُ فَأَدْخَلُوهُ الدَّارَ. قَالَ أَبُو حَبِيبَةَ: فَكَانَ آخِرُ مَا رَأَيْتُهُ فِيهِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْد اللَّيْثِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عبد الرحمن ابن خاطب، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أنا أنظر إِلَى عثمان يخطب على عصا النبي ص الَّتِي كَانَ يخطب عَلَيْهَا وأبو بكر وعمر رضي اللَّه عنهما، فَقَالَ لَهُ جَهْجَاه: قم يَا نعثل، فانزل عن هَذَا الْمِنْبَر، وأخذ العصا فكسرها عَلَى ركبته اليمنى، فدخلت شظية منها فِيهَا، فبقي الجرح حَتَّى أصابته الأكلة،

فرأيتها تدود، فنزل عُثْمَان وحملوه وأمر بالعصا فشدوها، فكانت مضببة، فما خرج بعد ذَلِكَ الْيَوْم إلا خرجة أو خرجتين حَتَّى حصر فقتل. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ادريس، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، أن جهجاها الْغِفَارِيّ، أخذ عصا كَانَتْ فِي يد عُثْمَان، فكسرها عَلَى ركبته، فرمي فِي ذَلِكَ المكان بأكلة حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَمَّدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرو، عن مُحَمَّد ابن إِسْحَاق بن يسار المدني، عن عمه عبد الرَّحْمَن بن يسار، أنه قَالَ: لما رَأَى الناس مَا صنع عُثْمَان كتب من بِالْمَدِينَةِ من اصحاب النبي ص إِلَى من بالآفاق مِنْهُمْ- وكانوا قَدْ تفرقوا فِي الثغور: إنكم إنما خرجتم أن تجاهدوا فِي سبيل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، تطلبون دين محمد ص، فإن دين مُحَمَّد قَدْ أفسد من خلفكم وترك، فهلموا فأقيموا دين مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقبلوا من كل أفق حَتَّى قتلوه وكتب عُثْمَان إِلَى عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ أبي سرح عامله عَلَى مصر- حين تراجع الناس عنه، وزعم أنه تائب- بكتاب فِي الَّذِينَ شخصوا من مصر، وكانوا أشد أهل الأمصار عَلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ، فانظر فلانا وفلانا فاضرب أعناقهم إذا قدموا عَلَيْك، فانظر فلانا وفلانا فعاقبهم بكذا وكذا- مِنْهُمْ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنهم قوم من التابعين- فكان رسوله فِي ذَلِكَ أَبُو الأعور بن سُفْيَان السلمي، حمله عُثْمَان عَلَى جمل لَهُ، ثُمَّ أمره أن يقبل حَتَّى يدخل مصر قبل أن يدخلها القوم، فلحقهم أَبُو الأعور ببعض الطريق، فسألوه: أين يريد؟ قَالَ: أريد مصر، وَمَعَهُ رجل من أهل الشام من خولان، فلما رأوه عَلَى جمل عُثْمَان، قَالُوا لَهُ: هل معك كتاب؟ قَالَ: لا، قَالُوا: فيم أرسلت؟ قَالَ: لا علم لي، قَالُوا: ليس معك كتاب وَلا علم لك بِمَا أرسلت! إن أمرك لمريب! ففتشوه، فوجدوا مَعَهُ كتابا فِي إداوة يابسة، فنظروا فِي الكتاب، فإذا فِيهِ قتل بعضهم وعقوبة بعضهم فِي أنفسهم وأموالهم فلما رأوا ذَلِكَ رجعوا إِلَى الْمَدِينَةِ، فبلغ الناس رجوعهم، والذي كَانَ من أمرهم فتراجعوا من الآفاق كلها، وثار أهل الْمَدِينَةِ

حَدَّثَنِي جَعْفَرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو وَعَلِيٌّ، قالا: حدثنا حسين، عن أبيه، عن محمد بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيِّ، قَالَ: إِنَّمَا رَدَّ أَهْلَ مِصْرَ إِلَى عُثْمَانَ بَعْدَ انْصِرَافِهِمْ عَنْهُ أَنَّهُ أَدْرَكَهُمْ غُلامٌ لِعُثْمَانَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ بِصَحِيفَةٍ إِلَى أَمِيرِ مِصْرَ أَنْ يُقَتِّلَ بَعْضَهُمْ، وَأَنْ يُصَلِّبَ بَعْضَهُمْ فَلَمَّا أَتَوْا عُثْمَانَ، قَالُوا: هَذَا غُلامُكَ، قَالَ: غُلامِي انْطَلَقَ بِغَيْرِ عِلْمِي، قَالُوا: جَمَلَكَ، قَالَ: أَخَذَهُ مِنَ الدَّارِ بِغَيْرِ أَمْرِي، قَالُوا: خَاتَمُكَ، قَالَ: نُقِشَ عَلَيْهِ، فَقَالَ عَبْدُ الرحمن ابن عُدَيْسٍ التُّجِيبِيُّ حِينَ أَقْبَلَ أَهْلُ مِصْرَ: أَقْبَلْنَ مِنْ بُلْبَيسَ وَالصَّعِيدْ ... خُوصًا كَأَمْثَالِ الْقِسِيِّ قُودْ مستحقبات حلق الحديد ... يطلبن حق الله في الْوَلِيدْ وَعِنْدَ عُثْمَانَ وَفِي سَعِيدْ ... يَا رَبِّ فَارْجِعْنَا بِمَا نُرِيدْ فَلَمَّا رَأَى عُثْمَانُ مَا قَدْ نَزَلَ بِهِ، وَمَا قَدِ انْبَعَثَ عَلَيْهِ مِنَ النَّاسِ، كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ بِالشَّامِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ قَدْ كَفَرُوا وَأَخْلَفُوا الطَّاعَةَ، وَنَكَثُوا الْبَيْعَةَ، فَابْعَثْ إِلَيَّ مِنْ قِبَلِكَ مِنْ مُقَاتِلَةِ أَهْلِ الشَّامِ عَلَى كُلِّ صَعْبٍ وَذَلُولٍ. فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَةَ الْكِتَابُ تَرَبَّصَ بِهِ، وَكَرِهَ إِظْهَارَ مُخَالَفَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ص، وَقَدْ عَلِمَ اجْتِمَاعَهُمْ، فَلَمَّا أَبْطَأَ أَمْرُهُ عَلَى عُثْمَانَ كَتَبَ إِلَى يَزِيدَ بْنِ أَسَدِ بْنِ كُرْزٍ، وَإِلَى أَهْلِ الشَّامِ يَسْتَنْفِرُهُمْ وَيُعَظِّمُ حَقَّهُ عَلَيْهِمْ، وَيَذْكُرُ الْخُلَفَاءَ وَمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِمْ وَمُنَاصَحَتِهِمْ، وَوَعَدَهُمْ أَنْ يَنْجُدَهُمْ جُنْدٌ أَوْ بِطَانَةٌ دُونَ النَّاسِ، وَذَكَّرَهُمْ بَلاءَهُ عِنْدَهُمْ، وَصَنِيعَهُ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَكُمْ غِيَاثٌ فَالْعَجَلَ الْعَجَلَ، فَإِنَّ الْقَوْمَ مُعَاجِلِيَّ. فَلَمَّا قُرِئَ كِتَابُهُ عَلَيْهِمْ قَامَ يَزِيدُ بْنُ أَسَدِ بْنِ كُرْزٍ الْبَجَلِيُّ ثُمَّ الْقَسْرِيُّ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ عُثْمَانَ، فَعَظَّمَ حَقَّهُ، وَحَضَّهُمْ عَلَى نَصْرِهِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ فَتَابَعَهُ نَاسٌ كَثِيرٌ، وَسَارُوا مَعَهُ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِوَادِي الْقُرَى، بَلَغَهُمْ قَتْلُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَرَجَعُوا. وَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، أَنِ انْدُبْ إِلَيَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ، نُسْخَةَ كِتَابِهِ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ

فَجَمَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ النَّاسَ، فَقَرَأَ كِتَابَهُ عَلَيْهِمْ، فَقَامَتْ خُطَبَاءُ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَحُضُّونَهُ عَلَى نَصْرِ عُثْمَانَ وَالْمَسِيرِ إِلَيْهِ، فِيهِمْ مُجَاشِعُ بْنُ مَسْعُودٍ السُّلَمِيُّ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ قَيْسٍ بِالْبَصْرَةِ وَقَامَ أيضا قيس ابن الْهَيْثَمِ السُّلَمِيُّ، فَخَطَبَ وَحَضَّ النَّاسَ عَلَى نَصْرِ عُثْمَانَ، فَسَارَعَ النَّاسُ إِلَى ذَلِكَ، فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ مُجَاشِعَ بْنَ مَسْعُودٍ فَسَارَ بِهِمْ، حَتَّى إِذَا نَزَلَ النَّاسُ الرَّبَذَةَ، وَنَزَلَتْ مُقَدِّمَتُهُ عِنْدَ صِرَارَ- نَاحِيَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ- أَتَاهُمْ قَتْلُ عُثْمَانَ. حَدَّثَنِي جَعْفَرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو وَعَلِيٌّ، قَالا: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ أَبِيهِ، عن مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن يسار المدني، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كتب أهل مصر بالسقيا- أو بذي خشب- إِلَى عُثْمَانَ بكتاب، فَجَاءَ بِهِ رجل مِنْهُمْ حَتَّى دخل بِهِ عَلَيْهِ، فلم يرد عَلَيْهِ شَيْئًا، فأمر بِهِ فأخرج من الدار، وَكَانَ أهل مصر الذين ساروا الى عثمان ستمائه رجل عَلَى أربعة ألوية لها رءوس أربعة، مع كل رجل مِنْهُمْ لواء، وَكَانَ جماع أمرهم جميعا إِلَى عَمْرو بن بديل بن ورقاء الخزاعي- وكان من اصحاب النبي ص- وإلى عبد الرَّحْمَن بن عديس التُّجِيبِيّ، فكان فِيمَا كتبوا إِلَيْهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَمَّا بَعْدُ، فاعلم إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم، فاللَّه اللَّه! ثُمَّ اللَّه اللَّه! فإنك عَلَى دنيا فاستتم إِلَيْهَا معها آخرة، وَلا تلبس نصيبك من الآخرة، فلا تسوغ لك الدُّنْيَا. واعلم أنا وَاللَّهِ لِلَّهِ نغضب، وفي اللَّه نرضى، وأنا لن نضع سيوفنا عن عواتقنا حتى تأتينا منك توبه مصرحه، اضلاله مجلحة مبلجة، فهذه مقالتنا لك، وقضيتنا إليك، وَاللَّه عذيرنا مِنْكَ والسلام. وكتب أهل الْمَدِينَةِ إِلَى عُثْمَانَ يدعونه إِلَى التوبة، ويحتجون ويقسمون لَهُ بِاللَّهِ لا يمسكون عنه أبدا حَتَّى يقتلوه، أو يعطيهم مَا يلزمه من حق اللَّه. فلما خاف القتل شاور نصحاءه وأهل بيته، فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ صنع القوم مَا قَدْ رأيتم، فما المخرج؟ فأشاروا عَلَيْهِ أن يرسل إِلَى عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ فيطلب إِلَيْهِ أن يردهم عنه، ويعطيهم مَا يرضيهم ليطاولهم حَتَّى يأتيه

أمداد، فَقَالَ: إن القوم لن يقبلوا التعليل، وهم محملي عهدا، وَقَدْ كَانَ مني فِي قدمتهم الأولى مَا كَانَ، فمتى أعطهم ذَلِكَ يسألوني الوفاء بِهِ! فَقَالَ مَرْوَان بن الحكم: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مقاربتهم حَتَّى تقوى أمثل من مكاثرتهم عَلَى القرب، فأعطهم مَا سألوك، وطاولهم مَا طاولوك، فإنما هم بغوا عَلَيْك، فلا عهد لَهُمْ. فأرسل إِلَى علي فدعاه، فلما جاءه قَالَ: يَا أَبَا حسن، إنه قَدْ كَانَ مِنَ النَّاسِ مَا قَدْ رأيت، وَكَانَ مني مَا قَدْ علمت، ولست آمنهم عَلَى قتلي، فارددهم عني، فإن لَهُمُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أن أعتبهم من كل مَا يكرهون، وأن أعطيهم الحق من نفسي ومن غيري، وإن كَانَ فِي ذَلِكَ سفك دمي [فَقَالَ لَهُ علي: الناس إِلَى عدلك أحوج مِنْهُمْ إِلَى قتلك، وإني لأرى قوما لا يرضون إلا بالرضا، وَقَدْ كنت أعطيتهم فِي قدمتهم الأولى عهدا من اللَّه: لترجعن عن جميع مَا نقموا، فرددتهم عنك، ثُمَّ لم تف لَهُمْ بشيء من ذَلِكَ، فلا تغرني هَذِهِ المرة من شَيْء فإني معطيهم عَلَيْك الحق] قال: نعم، فأعطهم، فو الله لأفين لَهُمْ [فخرج علي إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إنكم إنما طلبتم الحق فقد أعطيتموه، إن عُثْمَان قَدْ زعم أنه منصفكم من نفسه ومن غيره، وراجع عن جميع مَا تكرهون، فاقبلوا مِنْهُ ووكدوا عَلَيْهِ قَالَ الناس: قَدْ قبلنا فاستوثق مِنْهُ لنا، فإنا وَاللَّهِ لا نرضى بقول دون فعل] فَقَالَ لَهُمْ علي: ذَلِكَ لكم ثُمَّ دخل عَلَيْهِ فأخبره الخبر، فَقَالَ عُثْمَان: اضرب بيني وبينهم أجلا يكون لي فِيهِ مهلة، فإني لا أقدر عَلَى رد مَا كرهوا فِي يوم واحد، قَالَ لَهُ علي: مَا حضر بِالْمَدِينَةِ فلا أجل فِيهِ، وما غاب فأجله وصول أمرك، قَالَ: نعم، ولكن أجلني فِيمَا بِالْمَدِينَةِ ثلاثة أيام قَالَ علي: نعم، فخرج إِلَى النَّاسِ فأخبرهم بِذَلِكَ، وكتب بينهم وبين عُثْمَان كتابا أجله فِيهِ ثلاثا، عَلَى أن يرد كل مظلمة، ويعزل كل عامل كرهوه، ثُمَّ أخذ عَلَيْهِ فِي الكتاب أعظم مَا أخذ اللَّه عَلَى أحد من خلقه من عهد وميثاق، وأشهد عَلَيْهِ ناسا من وجوه الْمُهَاجِرِينَ والأنصار، فكف الْمُسْلِمُونَ عنه ورجعوا إِلَى أن يفي لَهُمْ بِمَا أعطاهم من نفسه، فجعل يتأهب للقتال، ويستعد بالسلاح- وَقَدْ كَانَ اتخذ جندا عظيما من

رقيق الخمس- فلما مضت الأيام الثلاثة- وَهُوَ عَلَى حاله لم يغير شَيْئًا مما كرهوه، ولم يعزل عاملا- ثار بِهِ الناس وخرج عَمْرو بن حزم الأَنْصَارِيّ حَتَّى أتى المصريين وهم بذي خشب، فأخبرهم الخبر، وسار معهم حَتَّى قدموا الْمَدِينَةَ، فأرسلوا إِلَى عُثْمَانَ: ألم نفارقك عَلَى أنك زعمت أنك تائب من أحداثك، وراجع عما كرهنا مِنْكَ، وأعطيتنا عَلَى ذَلِكَ عهد اللَّه وميثاقه! قَالَ: بلى، أنا عَلَى ذَلِكَ، قَالُوا: فما هَذَا الكتاب الَّذِي وجدنا مع رسولك، وكتبت بِهِ إِلَى عاملك؟ قَالَ: مَا فعلت وَلا لي علم بِمَا تقولون قَالُوا: بريدك عَلَى جملك، وكتاب كاتبك عَلَيْهِ خاتمك، قَالَ: أما الجمل فمسروق، وَقَدْ يشبه الخط الخط، وأما الخاتم فانتقش عَلَيْهِ، قَالُوا: فإنا لا نعجل عَلَيْك، وإن كنا قَدِ اتهمناك، اعزل عنا عمالك الفساق، وَاسْتَعْمَلَ علينا من لا يتهم عَلَى دمائنا وأموالنا، واردد علينا مظالمنا قَالَ عُثْمَان: مَا أراني إذا فِي شَيْءٍ إن كنت أستعمل من هويتم، وأعزل من كرهتم، الأمر إذا أمركم! قَالُوا: وَاللَّهِ لتفعلن أو لتعزلن أو لتقتلن، فانظر لنفسك اودع فأبى عَلَيْهِم وَقَالَ: لم أكن لأخلع سربالا سربلنيه اللَّه، فحصروه أربعين ليلة، وَطَلْحَة يصلي بِالنَّاسِ حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيمَ، عن ابن عون، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن، قَالَ: أنبأني وثاب- قَالَ: وَكَانَ فيمن أدركه عتق أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: ورأيت بحلقه أثر طعنتين، كأنهما كتبان طعنهما يَوْمَئِذٍ يوم الدار- قَالَ: بعثني عُثْمَان، فدعوت لَهُ الأَشْتَر، فَجَاءَ- قَالَ ابن عون: فأظنه قَالَ: فطرحت لأمير الْمُؤْمِنِينَ وسادة وله وسادة- فَقَالَ: يَا أشتر، مَا يريد الناس مني؟ قَالَ: ثلاثا ليس من إحداهن بد، قَالَ: مَا هن؟ قَالَ: يخيرونك بين أن تخلع لَهُمْ أمرهم فتقول: هَذَا أمركم فاختاروا لَهُ من شئتم، وبين أن تقص من نفسك، فإن أبيت هاتين فإن القوم قاتلوك فَقَالَ: أما من إحداهن بد! قَالَ: مَا من إحداهن بد، فَقَالَ: أما أن أخلع لَهُمْ أمرهم فما كنت لأخلع سربالا سربلنيه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ: وَقَالَ غيره: وَاللَّهِ لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إلي من

ان أخلع قميصا قمصنيه اللَّه وأترك أمة مُحَمَّد ص يعد وبعضها عَلَى بعض قَالَ ابن عون: وهذا أشبه بكلامه- واما ان أقص من نفسي، فو الله لقد علمت أن صاحبي بين يدي قَدْ كانا يعاقبان وما يقوم بدني بالقصاص، وإما ان تقتلوني، فو الله لَئِنْ قتلتموني لا تتحابون بعدي أبدا، وَلا تصلون جميعا بعدي أبدا، وَلا تقاتلون بعدي عدوا جميعا أبدا قَالَ: فقام الأَشْتَر فانطلق، فمكثنا أياما قَالَ: ثُمَّ جَاءَ رويجل كأنه ذئب، فاطلع من باب، ثُمَّ رجع وجاء مُحَمَّد بن أبي بكر وثلاثة عشر حَتَّى انتهى إِلَى عُثْمَانَ، فأخذ بلحيته، فَقَالَ بِهَا حَتَّى سمعت وقع أضراسه، وَقَالَ: مَا أغنى عنك مُعَاوِيَة، مَا أغنى عنك ابن عَامِر، مَا أغنت عنك كتبك! قَالَ: أرسل لحيتي يا بن أخي، أرسل لحيتي قَالَ: وأنا رأيته استعدى رجلا من القوم بعينه، فقام إِلَيْهِ بمشقص حَتَّى وجأ بِهِ فِي رأسه قلت: ثُمَّ مه، قَالَ: تغاووا عَلَيْهِ حَتَّى قتلوه. وذكر الْوَاقِدِيّ أن يَحْيَى بن عَبْدِ الْعَزِيزِ حدثه عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مسلمة، قَالَ: خرجت فِي نفر من قومي إِلَى المصريين وَكَانَ رؤساؤهم أربعة: عبد الرَّحْمَن بن عديس البلوي، وسودان بن حمران المرادي، وعمرو بن الحمق الخزاعي- وَقَدْ كَانَ هَذَا الاسم غلب حَتَّى كَانَ يقال: حبيس بن الحمق- وابن النباع قَالَ: فدخلت عَلَيْهِم وهم فِي خباء لَهُمْ أربعتهم، ورأيت الناس لَهُمْ تبعا، قَالَ: فعظمت حق عُثْمَان وما فِي رقابهم من البيعة، وخوفتهم بالفتنة، وأعلمتهم أن فِي قتله اختلافا وأمرا عظيما، فلا تكونوا أول من فتحه، وإنه ينزع عن هَذِهِ الخصال الَّتِي نقمتم منها عَلَيْهِ، وأنا ضامن لذلك قَالَ القوم: فإن لم ينزع؟ قَالَ: قلت: فأمركم إليكم. قَالَ: فانصرف القوم وهم راضون، فرجعت إِلَى عُثْمَانَ، فقلت: أخلني فأخلاني، فقلت: اللَّه اللَّه يَا عُثْمَانُ فِي نفسك! إن هَؤُلاءِ القوم إنما قدموا يريدون دمك، وأنت ترى خذلان أَصْحَابك لك، لا بل هم يقوون عدوك عَلَيْك قَالَ: فأعطاني الرضا، وجزاني خيرا قَالَ: ثُمَّ خرجت من عنده، فأقمت مَا شاء اللَّه أن أقيم

قَالَ: وَقَدْ تكلم عُثْمَان برجوع المصريين، وذكر أَنَّهُمْ جاءوا لأمر، فبلغهم غيره فانصرفوا، فأردت أن آتيه فأعنفه بهما، ثُمَّ سكت فإذا قائل يقول: قَدْ قدم الْمِصْرِيُّونَ وهم بالسويداء، قَالَ: قلت: أحق مَا تقول؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فأرسل إلي عُثْمَان. قَالَ: وإذا الخبر قَدْ جاءه، وَقَدْ نزل القوم من ساعتهم ذا خشب، فَقَالَ: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن، هَؤُلاءِ القوم قَدْ رجعوا، فما الرأي فِيهِمْ؟ قَالَ: قلت: وَاللَّهِ مَا أدري، إلا أني أظن أَنَّهُمْ لم يرجعوا لخير قَالَ: فارجع إِلَيْهِم فارددهم، قَالَ: قلت: لا وَاللَّهِ مَا أنا بفاعل، قَالَ: ولم؟ قَالَ: لأني ضمنت لَهُمْ أمورا تنزع عنها فلم تنزع عن حرف واحد منها قَالَ: فَقَالَ: اللَّه المستعان. قَالَ: وخرجت وقدم القوم وحلوا بالأسواف، وحصروا عُثْمَان. قَالَ: وجاءني عبد الرَّحْمَن بن عديس وَمَعَهُ سودان بن حمران وصاحباه، فَقَالُوا: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن، ألم تعلم أنك كلمتنا ورددتنا وزعمت أن صاحبنا نازع عما نكره؟ فقلت: بلى، قَالَ: فإذا هم يخرجون إلي صحيفة صغيرة. قَالَ: وإذا قصبة من رصاص، فإذا هم يقولون: وجدنا جملا من إبل الصدقة عَلَيْهِ غلام عُثْمَان، فأخذنا متاعه ففتشناه، فوجدنا فِيهِ هَذَا الكتاب، فإذا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَمَّا بَعْدُ، فإذا قدم عليك عبد الرحمن ابن عديس فاجلده مائة جلدة، واحلق رأسه ولحيته، وأطل حبسه حَتَّى يأتيك أمري، وعمرو بن الحمق فافعل بِهِ مثل ذَلِكَ، وسودان بن حمران مثل ذَلِكَ، وعروة بن النباع اللَّيْثِيّ مثل ذَلِكَ قَالَ: فقلت: وما يدريكم أن عُثْمَان كتب بهذا؟ قَالُوا: فيفتات مَرْوَان عَلَى عُثْمَانَ بهذا! فهذا شر، فيخرج نفسه من هَذَا الأمر ثُمَّ قَالُوا: انطلق معنا إِلَيْهِ، فقد كلمنا عَلِيًّا، ووعدنا أن يكلمه إذا صلى الظهر وجئنا سعد بن أَبِي وَقَّاص، فَقَالَ: لا أدخل فِي أمركم وجئنا سَعِيد بن زَيْد بن عَمْرو بن نفيل فَقَالَ مثل هَذَا، فَقَالَ مُحَمَّد: فأين وعدكم علي؟ قَالُوا: وعدنا إذا صلى الظهر أن يدخل عَلَيْهِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: فصليت مع علي، قَالَ: ثُمَّ دخلت أنا وعلي عَلَيْهِ، فقلنا:

إن هَؤُلاءِ المصريين بالباب، فأذن لَهُمْ- قَالَ: ومروان عنده جالس- قَالَ: فَقَالَ مَرْوَان: دعني جعلت فداك أكلمهم! قَالَ: فَقَالَ عُثْمَان: فض اللَّه فاك! اخرج عني، وما كلامك فِي هَذَا الأمر! قَالَ: فخرج مَرْوَان، قَالَ: وأقبل علي عَلَيْهِ- قَالَ: وَقَدْ أنهى الْمِصْرِيُّونَ إِلَيْهِ مثل الَّذِي أنهوا إلي- قَالَ: فجعل علي يخبره مَا وجدوا فِي كتابهم قَالَ: فجعل يقسم بِاللَّهِ مَا كتب وَلا علم وَلا شوور فِيهِ قَالَ: فَقَالَ مُحَمَّد بن مسلمة: وَاللَّهِ إنه لصادق، ولكن هَذَا عمل مَرْوَان، فَقَالَ علي: فأدخلهم عَلَيْك، فليسمعوا عذرك، قَالَ: ثُمَّ أقبل عُثْمَان عَلَى علي، فَقَالَ: إن لي قرابة ورحما، وَاللَّهِ لو كنت فِي هَذِهِ الحلقة لحللتها عنك، فاخرج إِلَيْهِم، فكلمهم، فإنهم يسمعون مِنْكَ قَالَ علي: وَاللَّهِ مَا أنا بفاعل، ولكن أدخلهم حَتَّى تعتذر إِلَيْهِم، قَالَ: فأدخلوا. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مسلمة: فدخلوا يَوْمَئِذٍ، فما سلموا عَلَيْهِ بالخلافة، فعرفت أنه الشر بعينه، قَالُوا: سلام عَلَيْكُمْ، فقلنا: وعَلَيْكُمُ السلام، قَالَ: فتكلم القوم وَقَدْ قدموا فِي كلامهم ابن عديس، فذكر مَا صنع ابن سعد بمصر، وذكر تحاملا مِنْهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وأهل الذمة، وذكر استئثارا مِنْهُ فِي غنائم الْمُسْلِمِينَ، فإذا قيل لَهُ فِي ذَلِكَ، قَالَ: هَذَا كتاب أَمِير الْمُؤْمِنِينَ إلي، ثُمَّ ذكروا أشياء مما أحدث بِالْمَدِينَةِ، وما خالف بِهِ صاحبيه قَالَ: فرحلنا من مصر ونحن لا نريد إلا دمك أو تنزع، فردنا علي ومحمد بن مسلمة، وضمن لنا مُحَمَّد النزوع عن كل مَا تكلمنا فِيهِ- ثُمَّ أقبلوا عَلَى مُحَمَّد بن مسلمة، فَقَالُوا: هل قلت ذاك لنا؟ قَالَ مُحَمَّدٌ: فقلت: نعم- ثُمَّ رجعنا إِلَى بلادنا نستظهر بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْك ويكون حجة لنا بعد حجة حَتَّى إذا كنا بالبويب أخذنا غلامك فأخذنا كتابك وخاتمك إِلَى عَبْد اللَّهِ بن سَعْدٍ، تأمره فِيهِ بجلد ظهورنا، والمثل بنا فِي أشعارنا، وطول الحبس لنا، وهذا كتابك. قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ عُثْمَان وأثنى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا كتبت وَلا أمرت، وَلا شوورت وَلا علمت قَالَ: فقلت وعلي جميعا: قَدْ صدق قَالَ: فاستراح

إِلَيْهَا عُثْمَان، فَقَالَ الْمِصْرِيُّونَ: فمن كتبه؟ قَالَ: لا أدري، قَالَ: أفيجترأ عَلَيْك فيبعث غلامك وجمل من صدقات الْمُسْلِمِينَ، وينقش عَلَى خاتمك، ويكتب إِلَى عاملك بهذه الأمور العظام وأنت لا تعلم! قَالَ: نعم، قَالُوا: فليس مثلك يلي، اخلع نفسك من هَذَا الأمر كما خلعك اللَّه مِنْهُ قَالَ: لا أنزع قميصا ألبسنيه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: وكثرت الأصوات واللغط، فما كنت أظن أَنَّهُمْ يخرجون حَتَّى يواثبوه قَالَ: وقام علي فخرج، قَالَ: فلما قام علي قمت، قَالَ: وَقَالَ للمصريين: اخرجوا، فخرجوا. قَالَ: ورجعت إِلَى منزلي ورجع علي إِلَى منزله، فما برحوا محاصريه حَتَّى قتلوه. قال محمد بن عمر: وحدثني عبد الله بن الحارث بن الفضيل، عن أبيه، عن سُفْيَان بن أبي العوجاء، قَالَ: قدم الْمِصْرِيُّونَ القدمة الأولى، فكلم عُثْمَان مُحَمَّد بن مسلمة، فخرج فِي خمسين راكبا من الأنصار، فأتوهم بذي خشب فردهم، ورجع القوم حَتَّى إذا كَانُوا بالبويب، وجدوا غلاما لِعُثْمَانَ مَعَهُ كتاب إِلَى عَبْد اللَّهِ بن سَعْدٍ، فكروا، فانتهوا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَدْ تخلف بِهَا مِنَ النَّاسِ الأَشْتَر وحكيم بن جبلة، فأتوا بالكتاب، فأنكر عُثْمَان أن يكون كتبه، وَقَالَ: هَذَا مفتعل، قَالُوا: فالكتاب كتاب كاتبك! قَالَ: أجل، ولكنه كتبه بغير أمري، قَالُوا: فإن الرسول الَّذِي وجدنا مَعَهُ الكتاب غلامك، قَالَ: أجل، ولكنه خرج بغير إذني، قَالُوا: فالجمل جملك، قَالَ: أجل، ولكنه أخذ بغير علمي، قَالُوا: مَا أنت إلا صادق أو كاذب، فإن كنت كاذبا فقد استحققت الخلع لما أمرت بِهِ من سفك دمائنا بغير حقها، وإن كنت صادقا فقد استحققت أن تخلع لضعفك وغفلتك وخبث بطانتك، لأنه لا ينبغي لنا أن نترك عَلَى رقابنا من يقتطع مثل هَذَا الأمر دونه لضعفه وغفلته وَقَالُوا لَهُ: إنك ضربت رجالا من اصحاب النبي ص وغيرهم حين يعظونك ويأمرونك بمراجعه الحق عند ما

يستنكرون من اعمالك، فاقدمن نفسك من ضربته وأنت لَهُ ظالم، فَقَالَ: الإمام يخطئ ويصيب، فلا أقيد من نفسي، لأني لو أقدت كل من أصبته بخطإ آتي عَلَى نفسي، قَالُوا: إنك قَدْ أحدثت أحداثا عظاما فاستحققت بِهَا الخلع، فإذا كلمت فِيهَا أعطيت التوبة ثُمَّ عدت إِلَيْهَا وإلى مثلها، ثُمَّ قدمنا عَلَيْك فأعطيتنا التوبة والرجوع الى الحق، ولامنا فيك محمد ابن مسلمة، وضمن لنا مَا حدث من أمر، فأخفرته فتبرأ مِنْكَ، وَقَالَ: لا أدخل فِي أمره، فرجعنا أول مرة لنقطع حجتك ونبلغ أقصى الأعذار إليك، نستظهر بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْك، فلحقنا كتاب مِنْكَ إِلَى عاملك علينا تأمره فينا بالقتل والقطع والصلب وزعمت أنه كتب بغير علمك وَهُوَ مع غلامك وعلى جملك وبخط كاتبك وعليه خاتمك، فقد وقعت عَلَيْك بِذَلِكَ التهمة القبيحة، مع مَا بلونا مِنْكَ قبل ذَلِكَ من الجور فِي الحكم والأثرة فِي القسم والعقوبة للأمر بالتبسط مِنَ النَّاسِ، والإظهار للتوبة، ثُمَّ الرجوع إِلَى الخطيئة، وَلَقَدْ رجعنا عنك وما كَانَ لنا أن نرجع حَتَّى نخلعك ونستبدل بك من أَصْحَاب رسول الله ص من لم يحدث مثل مَا جربنا مِنْكَ، ولم يقع عَلَيْهِ من التُّهْمَة مَا وقع عَلَيْك، فاردد خلافتنا، واعتزل أمرنا، فإن ذَلِكَ أسلم لنا مِنْكَ، وأسلم لك منا فَقَالَ عُثْمَان: فرغتم من جميع مَا تريدون؟ قَالُوا: نعم، قال: الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن بِهِ، وأتوكل عَلَيْهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أرسله بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ* أَمَّا بَعْدُ، فإنكم لم تعدلوا فِي المنطق، ولم تنصفوا فِي القضاء، أما قولكم: تخلع نفسك، فلا أنزع قميصا قمصنيه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وأكرمني بِهِ، وخصني بِهِ عَلَى غيري، ولكني أتوب وأنزع وَلا أعود لشيء عابه الْمُسْلِمُونَ، فإني وَاللَّهِ الفقير إِلَى اللَّهِ الخائف مِنْهُ قَالُوا: إن هَذَا لو كَانَ أول حدث أحدثته ثُمَّ تبت مِنْهُ ولم تقم عَلَيْهِ، لكان علينا أن نقبل مِنْكَ، وأن ننصرف عنك، ولكنه قَدْ كَانَ مِنْكَ من الإحداث قبل هَذَا مَا قَدْ علمت، وَلَقَدِ انصرفنا عنك فِي المرة الأولى، وما نخشى أن تكتب فينا،

وَلا من اعتللت بِهِ بِمَا وجدنا فِي كتابك مع غلامك وكيف نقبل توبتك وَقَدْ بلونا مِنْكَ أنك لا تعطي من نفسك التوبة من ذنب إلا عدت إِلَيْهِ، فلسنا منصرفين حَتَّى نعزلك ونستبدل بك، فإن حال من معك من قومك وذوي رحمك وأهل الانقطاع إليك دونك بقتال قاتلناهم، حَتَّى نخلص إليك فنقتلك أو تلحق أرواحنا بِاللَّهِ فَقَالَ عُثْمَان: أما أن أتبرأ من الإمارة، فأن تصلبوني أحب إلي من أن أتبرأ من أمر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وخلافته وأما قولكم: تقاتلون من قاتل دوني، فإني لا آمر أحدا بقتالكم، فمن قاتل دوني فإنما قاتل بغير أمري، ولعمري لو كنت أريد قتالكم، لقد كنت كتبت إِلَى الأجناد فقادوا الجنود، وبعثوا الرجال، أو لحقت ببعض أطرافي بمصر أو عراق، فاللَّه اللَّه فِي أنفسكم فأبقوا عَلَيْهَا إن لم تبقوا علي، فإنكم مجتلبون بهذا الأمر- إن قتلتموني- دما قَالَ: ثُمَّ انصرفوا عنه وآذنوه بالحرب، وأرسل إِلَى مُحَمَّد بن مسلمة فكلمه أن يردهم، فَقَالَ: وَاللَّهِ لا أكذب اللَّه فِي سنة مرتين. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي حَبِيبَةَ، قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ يَوْمَ قُتِلَ عُثْمَانُ، دَخَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ يَسْتَرْجِعُ مِمَّا يَرَى عَلَى الْبَابِ، فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: الآنَ تَنْدَمُ! أَنْتَ أَشْعَرْتَهُ فَأَسْمَعُ سَعْدًا يَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ النَّاسَ يَجْتَرِئُونَ هَذِهِ الْجُرْأَةَ، وَلا يَطْلُبُونَ دَمَهُ، وَقَدْ دَخَلْتُ عَلَيْهِ الآنَ فَتَكَلَّمَ بِكَلامٍ لَمْ تَحْضُرْهُ أَنْتَ وَلا أَصْحَابُكَ، فَنَزَعَ عَنْ كُلِّ مَا كُرِهَ مِنْهُ، وَأَعْطَى التَّوْبَةَ، وَقَالَ: لا أَتَمَادَى فِي الْهَلَكَةِ، إِنَّ مَنْ تَمَادَى فِي الْجَوْرِ كَانَ أَبْعَدَ مِنَ الطَّرِيقِ، فَأَنَا أَتُوبُ وَأَنْزِعُ فَقَالَ مَرْوَانُ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَذُبَّ عَنْهُ، فَعَلَيْكَ بِابْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنَّهُ مُتَسَتِّرٌ، وَهُوَ لا يُجِبْهُ، فَخَرَجَ سَعْدٌ حَتَّى أَتَى عَلِيًّا وَهُوَ بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ، فَقَالَ: يَا أَبَا حَسَنٍ، قُمْ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي! جِئْتُكَ وَاللَّهِ بِخَيْرِ مَا جَاءَ بِهِ أَحَدٌ قَطُّ إِلَى أَحَدٍ، تَصِلُ رَحِمَ ابْنِ عَمِّكَ، وَتَأْخُذُ بِالْفَضْلِ عَلَيْهِ، وَتَحْقِنُ دَمَهُ، وَيَرْجِعُ الأَمْرُ عَلَى مَا نُحِبُّ، قَدْ أَعْطَى خليفتك

مِنْ نَفْسِهِ الرِّضَا [فَقَالَ عَلِيٌّ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ يَا أَبَا إِسْحَاقَ! وَاللَّهِ مَا زِلْتُ أَذُبُّ عَنْهُ حَتَّى إِنِّي لأَسْتَحِي، وَلَكِنَّ مَرْوَانَ ومعاويه وعبد الله بن عامر وسعيد ابن الْعَاصِ هُمْ صَنَعُوا بِهِ مَا تَرَى، فَإِذَا نَصَحْتُهُ وَأَمَرْتُهُ أَنْ يُنَحِّيهِمْ استغشني حَتَّى جَاءَ مَا تَرَى] قَالَ: فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ جَاءَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، فَسَارَّ عَلِيًّا، فَأَخَذَ عَلِيٌّ بِيَدِي، وَنَهَضَ عَلِيٌ وَهُوَ يَقُولُ: وَأَيُّ خير توبته هذه! فو الله مَا بَلَغْتُ دَارِي حَتَّى سَمِعْتُ الْهَائِعَةَ، أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ، فَلَمْ نَزَلْ وَاللَّهِ فِي شَرٍّ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي شُرَحْبِيلُ بْنُ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عن أبي الخير، قَالَ: لما خرج الْمِصْرِيُّونَ إِلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بعث عَبْد اللَّهِ بن سَعْد رسولا أسرع السير يعلم عُثْمَان بمخرجهم، ويخبره أَنَّهُمْ يظهرون أَنَّهُمْ يريدون العمرة فقدم الرسول على عثمان بن عفان، يخبرهم فتكلم عُثْمَان، وبعث إِلَى أهل مكة يحذر من هُنَاكَ هَؤُلاءِ المصريين، ويخبرهم أَنَّهُمْ قَدْ طعنوا عَلَى إمامهم ثُمَّ إن عَبْد اللَّهِ بن سَعْدٍ خرج إِلَى عُثْمَانَ فِي آثار المصريين- وَقَدْ كَانَ كتب إِلَيْهِ يستأذنه فِي القدوم عَلَيْهِ، فأذن لَهُ- فقدم ابن سعد، حَتَّى إذا كَانَ بأيلة بلغه أن المصريين قَدْ رجعوا إِلَى عُثْمَانَ، وأنهم قَدْ حصروه، ومحمد بن أبي حُذَيْفَة بمصر، فلما بلغ محمدا حصر عُثْمَان وخروج عَبْد اللَّهِ بن سَعْد عنه غلب عَلَى مصر، فاستجابوا لَهُ، فأقبل عَبْد اللَّهِ بن سَعْد يريد مصر، فمنعه ابن أبي حُذَيْفَة، فوجه إِلَى فلسطين، فأقام بِهَا حَتَّى قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وأقبل الْمِصْرِيُّونَ حَتَّى نزلوا بالأسواف، فحصروا عُثْمَان، وقدم حكيم بن جبلة مِنَ الْبَصْرَةِ فِي ركب، وقدم الأَشْتَر فِي أهل الْكُوفَة، فتوافوا بِالْمَدِينَةِ، فاعتزل الأَشْتَر، فاعتزل حكيم بن جبلة، وَكَانَ ابن عديس وأَصْحَابه هم الَّذِينَ يحصرون عثمان، فكانوا خمسمائة، فأقاموا عَلَى حصاره تسعة وأربعين يَوْمًا حَتَّى قتل يوم الجمعة لثمان عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَتَحَدَّثْتُ عِنْدَهُ سَاعَةً، فَقَالَ: يا بن عَيَّاشٍ، تَعَالَ. فَأَخَذَ بِيَدِي، فَأَسْمَعَنِي كَلامَ مَنْ عَلَى بَابِ عُثْمَانَ، فَسَمِعْنَا كَلامًا، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَا تَنْتَظِرُونَ بِهِ؟ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: انْظُرُوا عَسَى أَنْ يُرَاجِعَ، فَبَيْنَا أَنَا وَهُوَ وَاقِفَانِ إِذْ مَرَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَوَقَفَ فَقَالَ: أَيْنَ ابْنُ عُدَيْسٍ؟ فَقِيلَ: هَا هُوَ ذَا، قَالَ: فَجَاءَهُ ابْنُ عُدَيْسٍ، فَنَاجَاهُ بِشَيْءٍ، ثُمَّ رَجَعَ ابْنُ عُدَيْسٍ فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: لا تَتَرْكُوا أَحَدًا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ، وَلا يَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ: فَقَالَ لِي عُثْمَانُ: هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ عُثْمَانُ: اللَّهُمَّ اكْفِنِي طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ حَمَلَ عَلَيَّ هَؤُلاءِ وَأَلَّبَهُمْ، وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَكُونَ مِنْهَا صِفْرًا، وَأَنْ يُسْفَكَ دَمُهُ، إِنَّهُ انْتَهَكَ مِنِّي مَا لا يَحِلُّ لَهُ، [سَمِعْتُ رَسُولَ الله ص يَقُولُ: لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلا فِي إِحْدَى ثَلاثٍ: رَجُلٍ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلامِهِ فَيُقْتَلُ، أَوْ رَجُلٍ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ فَيُرْجَمُ، أَوْ رَجُلٍ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ،] فَفِيمَ أُقْتَلُ! قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ عُثْمَانُ قَالَ ابْنُ عَيَّاشٍ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَخْرُجَ فَمَنَعُونِي حَتَّى مَرَّ بي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: خَلُّوهُ، فَخَلُّونِي. قَالَ مُحَمَّدٌ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَشْعَرِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَأَيْتُ الْيَوْمَ الَّذِي دُخِلَ فِيهِ عَلَى عُثْمَانَ، فَدَخَلُوا مِنْ دَارِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ خَوْخَةٍ هُنَاكَ حَتَّى دَخَلُوا الدَّارَ، فَنَاوَشُوهُمْ شيئا من مناوشه ودخلوا، فو الله مَا نَسِينَا أَنْ خَرَجَ سُودَانُ بْنُ حُمْرَانَ، فَأَسْمَعُهُ يَقُولُ: أَيْنَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ؟ قَدْ قَتَلْنَا ابْنَ عَفَّانَ! قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي شُرَحْبِيلُ بْنُ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، عن أبي حفصة اليماني، قَالَ: كنت لرجل من أهل البادية من العرب، فأعجبته- يعني مَرْوَان- فاشتراني واشترى امرأتي وولدي فأعتقنا جميعا، وكنت أكون مَعَهُ، فلما حصر عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، شمرت مَعَهُ بنو أُمَيَّة، ودخل مَعَهُ مَرْوَان الدار قَالَ: فكنت مَعَهُ فِي الدار، قَالَ: فأنا وَاللَّهِ أنشبت القتال بين

الناس، رميت من فوق الدار رجلا من أسلم فقتلته، وَهُوَ نيار الأسلمي، فنشب القتال، ثُمَّ نزلت، فاقتتل الناس عَلَى الباب، وقاتل مَرْوَان حَتَّى سقط فاحتملته، فأدخلته بيت عجوز، وأغلقت عَلَيْهِ، وألقى الناس النيران فِي أبواب دار عُثْمَان، فاحترق بعضها، فَقَالَ عُثْمَان: مَا احترق الباب إلا لما هُوَ أعظم مِنْهُ، لا يحركن رجل منكم يده، فو الله لو كنت أقصاكم لتخطوكم حَتَّى يقتلوني، ولو كنت أدناكم ما جاوزونى إِلَى غيري، وإني لصابر كما عهد إلي رسول الله ص، لأصرعن مصرعي الَّذِي كتب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ مَرْوَان: وَاللَّهِ لا تقتل وأنا أسمع الصوت، ثُمَّ خرج بالسيف عَلَى الباب يتمثل بهذا الشعر: قَدْ علمت ذات القرون الميل ... والكف والأنامل الطفول أني أروع أول الرعيل ... بفاره مثل قطا الشليل قَالَ مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي عبد الله بن الحارث بن الفضيل، عن أَبِيهِ، عن أبي حفصة، قَالَ: لما كَانَ يوم الخميس دليت حجرا من فوق الدار، فقتلت رجلا من أسلم يقال لَهُ نيار، فأرسلوا إِلَى عُثْمَانَ: أن أمكنا من قاتله قَالَ: وَاللَّهِ مَا أعرف لَهُ قاتلا، فباتوا ينحرفون علينا ليلة الجمعة بمثل النيران، فلما أصبحوا غدوا، فأول من طلع علينا كنانة بن عتاب، فِي يده شعلة من نار عَلَى ظهر سطوحنا، قَدْ فتح لَهُ من دار آل حزم، ثُمَّ دخلت الشعل عَلَى أثره تنضح بالنفط، فقاتلناهم ساعة عَلَى الخشب، وَقَدِ اضطرم الخشب، فأسمع عُثْمَان يقول لأَصْحَابه: مَا بعد الحريق شَيْء! قَدْ أحترق الخشب، واحترقت الأبواب، ومن كَانَتْ لي عَلَيْهِ طاعة فليمسك داره، فإنما يريدني القوم، وسيندمون عَلَى قتلي، وَاللَّهِ لو تركوني لظننت أني لا أحب الحياة، وَلَقَدْ تغيرت حالي، وسقط أسناني، ورق عظمي. قَالَ: ثُمَّ قَالَ لمروان: اجلس فلا تخرج، فعصاه مَرْوَان، فَقَالَ: وَاللَّهِ لا تقتل، وَلا يخلص إليك، وأنا أسمع الصوت، ثُمَّ خرج إِلَى النَّاسِ. فقلت: مَا لمولاي مترك! فخرجت مَعَهُ أذب عنه، ونحن قليل، فأسمع مَرْوَان يتمثل:

قَدْ علمت ذات القرون الميل ... والكف والأنامل الطفول ثُمَّ صاح: من يبارز؟ وَقَدْ رفع أسفل درعه، فجعله فِي منطقته قَالَ: فيثب إِلَيْهِ ابن النباع فضربه ضربة عَلَى رقبته من خلفه فأثبته، حَتَّى سقط، فما ينبض مِنْهُ عرق، فأدخلته بيت فاطمة ابنة أوس جدة إِبْرَاهِيم بن العدي قَالَ: فكان عَبْد الْمَلِكِ وبنو أُمَيَّة يعرفون ذَلِكَ لآل العدي. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شَرِيكٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عتبة بن الأخنس، عن ابن الْحَارِث بن أبي بكر، عَنْ أَبِيهِ أبي بكر بن الْحَارِث بن هِشَام، قَالَ: كأني أنظر إِلَى عبد الرَّحْمَن بن عديس البلوي وَهُوَ مسند ظهره الى مسجد نبى الله ص وعثمان بن عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ محصور، فخرج مَرْوَان بن الحكم، فَقَالَ: من يبارز؟ فقال عبد الرحمن بن عديس لفلان ابن عروة: قم إِلَى هَذَا الرجل، فقام إِلَيْهِ غلام شاب طوال، فأخذ رفرف الدرع فغرزه في منطقته، فاعور لَهُ عن ساقه، فأهوى لَهُ مَرْوَان وضربه ابن عروة عَلَى عنقه، فكأني أنظر إِلَيْهِ حين استدار وقام إِلَيْهِ عبيد بن رفاعة الزرقي ليدفف عَلَيْهِ، قَالَ: فوثبت عَلَيْهِ فاطمة ابنه أوس جده ابراهيم ابن عدي- قَالَ: وكانت أرضعت مَرْوَان وأرضعت لَهُ- فَقَالَتْ: إن كنت إنما تريد قتل الرجل فقد قتل، وإن كنت تريد أن تلعب بلحمه فهذا قبيح. قَالَ: فكف عنه، فما زالوا يشكرونها لها، فاستعملوا ابنها إِبْرَاهِيم بعد وَقَالَ ابن إِسْحَاق: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عديس البلوي حين سار إِلَى الْمَدِينَةِ من مصر: أقبلن من بلبيس والصعيد ... مستحقبات حلق الحديد يطلبن حق اللَّه فِي سَعِيد ... حَتَّى رجعن بِالَّذِي نريد حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ الله المحمدي، قال: حدثنا عمرو بن حماد وعلى

ابن حُسَيْن، قَالا: حَدَّثَنَا حُسَيْن بن عِيسَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لما مضت أيام التشريق أطافوا بدار عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وأبى إلا الإقامة عَلَى أمره، وأرسل إِلَى حشمه وخاصته فجمعهم، فقام رجل من اصحاب النبي ص يقال لَهُ نيار بن عياض- وَكَانَ شيخا كبيرا- فنادى: يَا عُثْمَانُ، فأشرف عَلَيْهِ من أعلى داره، فناشده اللَّه، وذكره اللَّه لما اعتزلهم! فبينا هُوَ يراجعه الكلام إذ رماه رجل من أَصْحَاب عُثْمَان فقتله بسهم، وزعموا أن الَّذِي رماه كثير بن الصلت الكندي، فَقَالُوا لِعُثْمَانَ عِنْدَ ذَلِكَ: ادفع إلينا قاتل نيار بن عياض فلنقتله بِهِ، فَقَالَ: لم أكن لأقتل رجلا نصرني وَأَنْتُمْ تريدون قتلي، فلما رأوا ذَلِكَ ثاروا إِلَى بابه فأحرقوه، وخرج عَلَيْهِم مَرْوَان بن الحكم من دار عُثْمَان فِي عصابة، وخرج سَعِيد بن الْعَاصِ فِي عصابة، وخرج الْمُغِيرَةُ بن الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة فِي عصابة، فاقتتلوا قتالا شديدا، وكان الذى حداهم عَلَى القتال أنه بلغهم أن مددا من أهل الْبَصْرَةِ قَدْ نزلوا صرارا- وَهِيَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى ليلة- وأن أهل الشام قَدْ توجهوا مقبلين، فقاتلوهم قتالا شديدا عَلَى باب الدار، فحمل الْمُغِيرَةُ بن الأخنس الثقفي عَلَى القوم وَهُوَ يقول مرتجزا: قَدْ علمت جارية عطبول ... لها وشاح ولها حجول أني بنصل السيف خنشليل. فحمل عَلَيْهِ عَبْد اللَّه بْن بديل بْن ورقاء الخزاعي، وَهُوَ يقول: إن تك بالسيف كما تقول ... فاثبت لقرن ماجد يصول بمشرفي حده مصقول فضربه عَبْد اللَّهِ فقتله، وحمل رفاعة بن رافع الأَنْصَارِيّ ثُمَّ الزرقي عَلَى مَرْوَان بن الحكم، فضربه فصرعه، فنزل عنه وهو يرى انه قتله، وجرح عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ جراحات، وانهزم القوم حَتَّى لجئوا إِلَى القصر، فاعتصموا

ببابه، فاقتتلوا عَلَيْهِ قتالا شديدا، فقتل فِي المعركة عَلَى الباب زياد بن نعيم الفهري فِي ناس من أَصْحَاب عُثْمَان، فلم يزل الناس يقتتلون حتى فتح عمرو ابن حزم الأَنْصَارِيّ باب داره وَهُوَ إِلَى جنب دار عُثْمَان بن عَفَّانَ، ثُمَّ نادى الناس فأقبلوا عَلَيْهِ من داره، فقاتلوهم فِي جوف الدار حَتَّى انهزموا، وخلى لَهُمْ عن باب الدار، فخرجوا هرابا فِي طرق الْمَدِينَةِ، وبقي عُثْمَان فِي أناس من أهل بيته وأَصْحَابه فقتلوا مَعَهُ، وقتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدٍ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، قَالَ فَمَا سَمِعَ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ رَدَّ عَلَيْهِ إِلا أَنْ يَرُدَّ رَجُلٌ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ عَلِمْتُمْ أَنِّي اشْتَرَيْتُ رُومَةَ مِنْ مَالِي يُسْتَعْذَبُ بِهَا، فَجَعَلْتُ رِشَائِي مِنْهَا كَرِشَاءِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ! قَالَ: قِيلَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَشْرَبَ مِنْهَا حَتَّى أُفْطَرَ عَلَى مَاءِ الْبَحْرِ! قَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ هَلْ عَلِمْتُمْ أَنِّي اشْتَرَيْتُ كَذَا وَكَذَا مِنَ الأَرْضِ فَزِدْتُهُ فِي الْمَسْجِدِ؟ قِيلَ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ عَلِمْتُمْ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ مُنِعَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ قَبْلِي! قَالَ: أَنْشُدُكُمُ الله، هل سمعتم نبى الله ص يذكر كذا وكذا، أشياء في شانه، وَذِكْرِ اللَّهِ إِيَّاهُ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ الْمُفَصَّلِ قَالَ: فَفَشَا النَّهْيُ. قَالَ: فَجَعَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ: مَهْلا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: وَفَشَا النَّهْيُ. قَالَ: وَقَامَ الأَشْتَرُ- قَالَ: وَلا أَدْرِي يَوْمَئِذٍ أَوْ فِي يَوْمٍ آخَرَ- فَقَالَ: لَعَلَّهُ قَدْ مُكِرَ بِهِ وَبِكُمْ! قَالَ: فَوَطِئَهُ النَّاسُ، حَتَّى لَقِيَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَرَأَيْتُهُ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مَرَّةً أُخْرَى، فَوَعَظَهُمْ وَذَكَّرَهُمْ، فَلَمْ تَأْخُذْ فِيهِمُ الْمَوْعِظَةُ. وَكَانَ النَّاسُ تَأْخُذُ فِيهِمُ الْمَوْعِظَةُ أَوَّلَ مَا يَسْمَعُونَهَا، فَإِذَا أُعِيدَتْ عَلَيْهِمْ لَمْ تَأْخُذْ فِيهِمْ قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ فَتَحَ الْبَابَ وَوَضَعَ الْمُصْحَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ: وَذَاكَ أَنَّهُ رَأَى من الليل ان نبى الله ص يَقُولُ: أَفْطِرْ عِنْدَنَا اللَّيْلَةَ. قَالَ أَبُو الْمُعْتَمِرِ: فَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ: أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ دخل عليه

فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ قَالَ: فَقَالَ لَهُ: قَدْ أَخَذْتَ مِنَّا مَأْخَذًا، وَقَعَدْتَ مِنِّي مَقْعَدًا مَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ لِيَقْعُدَهُ أَوْ لِيَأْخُذَهُ قَالَ: فَخَرَجَ وَتَرَكَهُ قَالَ: وَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْمَوْتُ الأَسْوَدُ قَالَ: فَخَنَقَهُ ثُمَّ خَفَقَهُ قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا قَطُّ أَلْيَنَ مِنْ حَلْقِهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ خَنَقْتُهُ حتى رايت نفسه يتردد فِي جَسَدِهِ كَنَفْسِ الْجَانِّ قَالَ: فَخَرَجَ. قَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ رَجُلٌ، فَقَالَ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ كِتَابُ اللَّهِ- قَالَ: وَالْمُصْحَفُ بَيْنَ يَدَيْهِ- قَالَ: فَيَهْوِي لَهُ بِالسَّيْفِ، فَاتَّقَاهُ بِيَدِهِ، فَقَطَعَهَا، فَقَالَ: لا أَدْرِي أَبَانَهَا أَمْ قَطَعَهَا وَلَمْ يَبِنْهَا قَالَ: فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنَّهَا لأَوَّلُ كَفٍّ خَطَّتِ الْمُفَصَّلَ وَقَالَ فِي غَيْرِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: فَدَخَلَ عَلَيْهِ التُّجِيبِيُّ، فَأَشْعَرَهُ مِشْقَصًا فَانْتُضِحَ الدَّمُ عَلَى هَذِهِ الآية: «فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» قَالَ: فَإِنَّهَا فِي الْمُصْحَفِ مَا حُكَّتْ. قَالَ وَأَخَذَتِ ابْنَةُ الْفُرَافِصَةِ- فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ- حُلِيَّهَا فَوَضَعَتْهُ فِي حِجْرِهَا، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ، قَالَ: فَلَمَّا أُشْعِرَ- أَوْ قَالَ: قُتِلَ- نَاحَتْ عَلَيْهِ قَالَ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَاتَلَهَا اللَّهُ! مَا أَعْظَمَ عَجِيزَتَهَا! قَالَ: فَعَلِمْتُ أَنَّ عَدُوَّ اللَّهِ لَمْ يُرِدْ إِلا الدُّنْيَا. وَأَمَّا سَيْفٌ، فَإِنَّهُ قَالَ- فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْهُ: ذَكَرَ عَنْ بَدْرِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: آخِرُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي جَمَاعَةٍ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا أَعْطَاكُمُ الدُّنْيَا لِتَطْلُبُوا بِهَا الآخِرَةَ، وَلَمْ يُعْطِكُمُوهَا لِتَرْكَنُوا إِلَيْهَا، إِنَّ الدُّنْيَا تفنى، والآخرة تبقى، فلا تبطرنكم الفانية، ولا تَشْغَلَنَّكُمْ عَنِ الْبَاقِيَةِ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى، فَإِنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ، وَإِنَّ الْمَصِيرَ إِلَى اللَّهِ اتَّقُوا اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ، فَإِنَّ تَقْوَاهُ جُنَّةٌ مِنْ بَأْسِهِ، وَوَسِيلَةٌ عِنْدَهُ، وَاحْذَرُوا مِنَ اللَّهِ الْغِيَرَ، وَالْزَمُوا جَمَاعَتَكُمْ، لا تَصِيرُوا أَحْزَابًا، «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً»

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، قَالُوا: لَمَّا قَضَى عُثْمَانُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ حاجاته وعزم وَعَزَمَ لَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الصَّبْرِ وَالامْتِنَاعِ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانِ اللَّهِ، قَالَ: اخْرُجُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ فَكُونُوا بِالْبَابِ، وَلْيُجَامِعْكُمْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ حُبِسُوا عَنِّي وَأَرْسَلَ إِلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَعَلِيٍّ وَعِدَّةٍ: أَنِ ادْنُوا فاجتمعوا فأشرف عليهم، فقال: يا ايها النَّاسُ، اجْلِسُوا، فَجَلَسُوا جَمِيعًا، الْمُحَارِبُ الطَّارِئُ، وَالْمُسَالِمُ الْمُقِيمُ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، إِنِّي أَسْتَوْدِعُكُمُ اللَّهَ، وَأَسْأَلُهُ أَنْ يُحْسِنَ عَلَيْكُمُ الْخِلافَةَ مِنْ بعدي، وانى وَاللَّهِ لا أَدْخُلُ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ يَوْمِي هَذَا حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيَّ قَضَاءَهُ، وَلأَدَعَنَّ هَؤُلاءِ وَمَا وَرَاءَ بَابِي غَيْرَ مُعْطِيهِمْ شَيْئًا يَتَّخِذُونَهُ عَلَيْكُمْ دَخَلا فِي دِينِ اللَّهِ أَوْ دُنْيَا حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الصَّانِعَ فِي ذَلِكَ مَا أَحَبَّ وَأَمَرَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِالرُّجُوعِ وَأَقْسَمَ عَلَيْهِمْ، فَرَجَعُوا إِلا الْحَسَنَ وَمُحَمَّدًا وَابْنَ الزُّبَيْرِ وَأَشْبَاهًا لَهُمْ، فَجَلَسُوا بِالْبَابِ عَنْ أَمْرِ آبَائِهِمْ، وَثَابَ إِلَيْهِمْ نَاسٌ كَثِيرٌ، وَلَزِمَ عُثْمَانُ الدَّارَ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان ومحمد وَطَلْحَة، قَالُوا: كَانَ الحصر أربعين ليلة والنزول سبعين، فلما مضت من الأربعين ثمان عشرة، قدم ركبان من الوجوه فأخبروا خبر من قَدْ تهيأ إِلَيْهِم من الآفاق: حبيب من الشام، ومعاوية من مصر، والقعقاع من الْكُوفَة، ومجاشع مِنَ الْبَصْرَةِ، فعندها حالوا بين الناس وبين عُثْمَان، ومنعوه كل شَيْء حَتَّى الماء، وَقَدْ كَانَ يدخل علي بالشيء مما يريد وطلبوا العلل فلم تطلع عَلَيْهِم علة، فعثروا فِي داره بالحجارة ليرموا، فيقولوا: قوتلنا- وَذَلِكَ ليلا- فناداهم: أَلا تتقون اللَّه! أَلا تعلمون أن فِي الدار غيري! قَالُوا: لا وَاللَّهِ مَا رميناك. قَالَ: فمن رمانا؟ قَالُوا: اللَّه، قَالَ: كذبتم، إن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لو رمانا لم يخطئنا وَأَنْتُمْ تخطئوننا وأشرف عُثْمَان عَلَى آل حزم وهم جيرانه، فسرح ابنا لعمرو إِلَى علي بأنهم قَدْ منعونا الماء، فإن قدرتم أن ترسلوا إلينا شَيْئًا من الماء فافعلوا وإلى طَلْحَةَ وإلى الزُّبَيْر، وإلى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وأزواج النَّبِيّ ص، فكان أولهم إنجادا لَهُ علي وأم حبيبة، جاء على

في الغلس، [فقال: يا ايها الناس، إن الَّذِي تصنعون لا يشبه أمر الْمُؤْمِنِينَ وَلا أمر الكافرين، لا تقطعوا عن هَذَا الرجل المادة، فإن الروم وفارس لتأسر فتطعم وتسقي، وما تعرض لكم هَذَا الرجل، فبم تستحلون حصره وقتله!] قَالُوا: لا وَاللَّهِ وَلا نعمة عين، لا نتركه يأكل وَلا يشرب، فرمى بعمامته فِي الدار بأني قَدْ نهضت فِيمَا أنهضتني، فرجع وجاءت أم حبيبة عَلَى بغلة لها برحالة مشتملة عَلَى إداوة، فقيل: أم الْمُؤْمِنِينَ أم حبيبة، فضربوا وجه بغلتها، فَقَالَتْ: إن وصايا بني أُمَيَّة إِلَى هَذَا الرجل، فأحببت أن ألقاه فأسأله عن ذَلِكَ كيلا تهلك أموال أيتام وأرامل قَالُوا: كاذبة، وأهووا لها وقطعوا حبل البغلة بالسيف، فندت بأم حبيبة، فتلقاها الناس، وَقَدْ مالت رحالتها، فتعلقوا بِهَا وأخذوها وَقَدْ كادت تقتل، فذهبوا بِهَا إِلَى بيتها وتجهزت عَائِشَةُ خارجة إِلَى الحج هاربة، واستتبعت أخاها، فأبى، فَقَالَتْ: أما وَاللَّهِ لَئِنِ استطعت أن يحرمهم اللَّه مَا يحاولون لأفعلن. وجاء حنظلة الكاتب حَتَّى قام عَلَى مُحَمَّد بن أبي بكر، فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، تستتبعك أم الْمُؤْمِنِينَ فلا تتبعها، وتدعوك ذؤبان العرب إِلَى مَا لا يحل فتتبعهم! فقال: ما أنت وذاك يا بن التميمية! فقال: يا بن الخثعمية، إن هَذَا الأمر إن صار إِلَى التغالب غلبتك عَلَيْهِ بنو عبد مناف، وانصرف وَهُوَ يقول: عجبت لما يخوض الناس فِيهِ ... يرومون الخلافة أن تزولا ولو زالت لزال الخير عَنْهُمْ ... ولاقوا بعدها ذلا ذليلا وكانوا كاليهود أو النصارى ... سواء كلهم ضلوا السبيلا ولحق بالكوفة وخرجت عَائِشَةُ وَهِيَ ممتلئة غيظا عَلَى أهل مصر، وجاءها مَرْوَان بن الحكم فَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، لو أقمت كَانَ أجدر أن يراقبوا هَذَا الرجل، فَقَالَتْ: أتريد أن يصنع بي كما صنع بأم حبيبة، ثُمَّ لا أجد من يمنعني! لا وَاللَّهِ وَلا أعير وَلا أدري إلام يسلم أمر هَؤُلاءِ! وبلغ طَلْحَةُ

وَالزُّبَيْر مَا لقي علي وأم حبيبة، فلزموا بيوتهم، وبقي عُثْمَان يسقيه آل حزم فِي الغفلات، عَلَيْهِم الرقباء، فأشرف عُثْمَان عَلَى الناس، فقال: يا عبد الله ابن عباس- فدعى لَهُ- فَقَالَ: اذهب فأنت عَلَى الموسم- وَكَانَ ممن لزم الباب- فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لجهاد هَؤُلاءِ أحب إلي من الحج، فأقسم عَلَيْهِ لينطلقن فانطلق ابن عَبَّاس عَلَى الموسم تِلَكَ السنة، ورمى عُثْمَان إِلَى الزُّبَيْر بوصيته، فانصرف بِهَا- وفي الزُّبَيْر اختلاف: أأدرك مقتله أو خرج قبله- وَقَالَ عثمان: «يا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ» الآية، اللَّهُمَّ حل بين الأحزاب وبين مَا يأملون كما فعل بأشياعهم من قبل. وَكَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عَمْرو بن مُحَمَّدٍ، قَالَ: بعثت لَيْلَى ابنة عميس إِلَى مُحَمَّد بن أبي بكر ومحمد بن جَعْفَر، فَقَالَتْ: إن المصباح يأكل نفسه، ويضيء لِلنَّاسِ، فلا تأثما فِي أمر تسوقانه إِلَى من لا يأثم فيكما، فإن هَذَا الأمر الَّذِي تحاولون الْيَوْم لغيركم غدا، فاتقوا أن يكون عملكم الْيَوْم حسرة عَلَيْكُمْ، فلجا وخرجا مغضبين يقولان: لا ننسى مَا صنع بنا عُثْمَان، وتقول: مَا صنع بكما! أَلا الزمكما الله! فلقيهما سعيد ابن الْعَاصِ، وَقَدْ كَانَ بين مُحَمَّد بن أبي بكر وبينه شَيْء، فأنكره حين لقيه خارجا من عِنْدَ لَيْلَى، فتمثل لَهُ فِي تِلَكَ الحال بيتا: استبق ودك للصديق وَلا تكن ... فيئا يعض بخاذل ملجاجا فأجابه سَعِيد متمثلا: ترون إذا ضربا صميما من الَّذِي ... لَهُ جانب ناء عن الجرم معور كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وَطَلْحَةَ وَأَبِي حَارِثَةَ وَأَبِي عُثْمَانَ، قَالُوا: فَلَمَّا بُويِعَ النَّاسُ جَاءَ السَّابِقُ فَقَدِمَ بِالسَّلامَةِ، فَأَخْبَرَهُمْ مِنَ الْمَوْسِمِ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ جَمِيعًا الْمِصْرِيِّينَ وَأَشْيَاعَهُمْ، وَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْمَعُوا ذَلِكَ إِلَى حَجِّهِمْ، فَلَمَّا أَتَاهُمْ ذَلِكَ مَعَ مَا بَلَغَهُمْ مِنْ نُفُورِ أَهْلِ الأَمْصَارِ،

أَعْلَقَهُمُ الشَّيْطَانُ، وَقَالُوا: لا يُخْرِجَنَّا مِمَّا وَقَعْنَا فِيهِ إِلا قَتْلُ هَذَا الرَّجُلِ، فَيَشْتَغِلُ بِذَلِكَ النَّاسُ عَنَّا، وَلَمْ يُبْقَ خَصْلَةٌ يَرْجُونَ بِهَا النَّجَاةَ إِلا قَتْلُهُ فَرَامُوا الْبَابَ، فَمَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْحَسَنُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَمُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ ومروان بن الحكم وسعيد ابن الْعَاصِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ أَقَامَ مَعَهُمْ، وَاجْتَلَدُوا، فَنَادَاهُمْ عُثْمَانُ: اللَّهَ اللَّهَ! أَنْتُمْ فِي حِلٍّ مِنْ نُصْرَتِي فَأَبَوْا، فَفَتَحَ الْبَابَ، وَخَرَجَ وَمَعَهُ التُّرْسُ وَالسَّيْفُ لِيُنَهْنِهَهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ أَدْبَرَ الْمِصْرِيُّونَ، وَرَكْبُهُمْ هَؤُلاءِ، وَنَهْنَهَهُمْ فَتَرَاجَعُوا وَعَظُمَ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَأَقْسَمَ عَلَى الصَّحَابَةِ لَيَدْخُلُنَّ، فَأَبَوْا أَنْ يَنْصَرِفُوا، فَدَخَلُوا فَأَغْلَقَ الْبَابَ دُونَ الْمِصْرِيِّينَ- وَقَدْ كَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ الأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ فِيمَنْ حَجَّ، ثُمَّ تَعَجَّلَ فِي نَفَرٍ حَجُّوا مَعَهُ، فَأَدْرَكَ عُثْمَانَ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ وَشَهِدَ الْمُنَاوَشَةَ، وَدَخَلَ الدَّارَ فِيمَنْ دَخَلَ وَجَلَسَ عَلَى الْبَابِ مِنْ دَاخِلٍ، وَقَالَ: مَا عُذْرُنَا عِنْدَ اللَّهِ إِنْ تَرَكْنَاكَ وَنَحْنُ نَسْتَطِيعُ أَلا نَدَعْهُمْ حَتَّى نَمُوتَ! فَاتَّخَذَ عُثْمَانُ تِلَكَ الأَيَّامَ الْقُرْآنَ نَحْبًا، يُصَلِّي وَعِنْدَهُ الْمُصْحَفُ، فَإِذَا أَعْيَا جَلَسَ فَقَرَأَ فِيهِ- وَكَانُوا يَرَوْنَ الْقِرَاءَةَ فِي الْمُصْحَفِ مِنَ الْعِبَادَةِ- وَكَانَ الْقَوْمُ الَّذِينَ كَفْكَفَهُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَابِ، فَلَمَّا بَقِيَ الْمِصْرِيُّونَ لا يَمْنَعُهُمْ أَحَدٌ مِنَ الْبَابِ وَلا يَقْدِرُونَ عَلَى الدُّخُولِ جَاءُوا بِنَارٍ، فَأَحْرَقُوا الْبَابَ وَالسَّقِيفَةَ، فَتَأَجَّجَ الْبَابُ وَالسَّقِيفَةُ، حَتَّى إِذَا احْتَرَقَ الْخَشَبُ خَرَّتِ السَّقِيفَةُ عَلَى الْبَابِ، فَثَارَ أَهْلُ الدَّارِ وَعُثْمَانُ يُصَلِّي، حَتَّى مَنَعُوهُمُ الدُّخُولَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَرَزَ لَهُمُ الْمُغِيرَةُ بْنُ الأَخْنَسِ، وَهُوَ يَرْتَجِزُ: قَدْ عَلِمَتْ جَارِيَةٌ عُطْبُول ذَاتُ وِشَاحٍ وَلَهَا جَدِيل أَنِّي بِنَصْلِ السَّيْفِ خَنْشَلِيل لأَمْنَعَنَّ مِنْكُمْ خَلِيلِي بِصَارِمٍ لَيْسَ بِذِي فُلُولِ. وَخَرَجَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَهُوَ يَقُولُ: لا دِينُهُمْ دِينِي وَلا أَنَا مِنْهُمُ ... حَتَّى أَسِيرُ إِلَى طَمَارِ شَمَّامٍ وَخَرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا ابْنُ مَنْ حَامَى عَلَيْهِ بِأُحُد ... وَرَدَّ أَحْزَابًا عَلَى رَغْمِ مَعَد

وَخَرَجَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ وَهُوَ يَقُولُ: صَبَرْنَا غَدَاةَ الدَّارِ وَالْمَوْتُ وَاقِبُ ... بِأَسْيَافِنَا دُونَ ابْنِ أَرْوَى نُضَارِبُ وَكُنَّا غَدَاةَ الرَّوْعِ فِي الدَّارِ نُصْرَةً ... نُشَافِهُهُمْ بِالضَّرْبِ وَالْمَوْتُ ثَاقِبُ فَكَانَ آخِرَ من خرج عبد الله بن الزبير، وامره عُثْمَانُ أَنْ يَصِيرَ إِلَى أَبِيهِ فِي وَصِيَّةٍ بِمَا أَرَادَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَ الدَّارِ فَيَأْمُرُهُمْ بِالانْصِرَافِ إِلَى مَنَازِلِهْمِ، فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ آخِرَهُمْ، فَمَا زَالَ يَدَّعِي بِهَا، وَيُحَدِّثُ النَّاسَ عَنْ عُثْمَانَ بِآخِرِ مَا مَاتَ عَلَيْهِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عُثْمَانَ، قَالُوا: وَأَحْرَقُوا الْبَابَ وَعُثْمَانُ فِي الصَّلاةِ، وقد افتتح «طه. ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى» - وَكَانَ سَرِيعَ الْقِرَاءَةِ، فَمَا كَرَثَهُ مَا سَمِعَ، وَمَا يُخْطِئُ وَمَا يَتَتَعْتَعُ حَتَّى أَتَى عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهِ- ثُمَّ عَادَ فَجَلَسَ إِلَى عِنْدِ الْمُصْحَفِ وَقَرَأَ: «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» . وَارْتَجَزَ الْمُغِيرَةُ بْنُ الأَخْنَسِ وَهُوَ دُونَ الدَّارِ فِي أَصْحَابِهِ: قَدْ عَلِمَتْ ذَاتُ الْقُرُونِ الْمِيلِ ... وَالْحُلِيِّ وَالأَنَامِلِ الطَّفُولِ لَتَصْدُقَنَّ بَيْعَتِي خَلِيلِي ... بِصَارِمٍ ذِي رَوْنَقٍ مَصْقُولِ لا أَسْتَقِيلُ إِنْ أُقِلْتُ قَيْلِي. وَأَقْبَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَالنَّاسُ مُحْجِمُونَ عَنِ الدَّارِ إِلا أُولَئِكَ الْعُصْبَةَ، فَدَسَرُوا فَاسْتَقْتَلُوا، فَقَامَ مَعَهُمْ، وَقَالَ: أَنَا أُسْوَتُكُمْ، وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ طَابَ امْضَرْبُ- يَعْنِي أَنَّهُ حَلَّ الْقِتَالُ، وَطَابَ وهذه لغة حمير- ونادى: يا قَوْمِ، مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي الى النار! وَبَادَرَ مَرْوَانُ يَوْمَئِذٍ وَنَادَى: رَجُلٌ رَجُلٌ، فَبَرَزَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ يُدْعَى النَّبَّاعَ، فاختلفا، فضربه

مَرْوَانُ أَسْفَلَ رِجْلَيْهِ، وَضَرَبَهُ الآخَرُ عَلَى أَصْلِ الْعُنُقِ فَقَلَبَهُ، فَانْكَبَّ مَرْوَانُ، وَاسْتَلْقَى، فَاجْتَرَّ هَذَا أَصْحَابَهُ، وَاجْتَرَّ الآخَرُ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ الْمِصْرِيُّونَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْلا أَنْ تَكُونُوا حُجَّةً عَلَيْنَا فِي الأُمَّةِ لَقَدْ قَتَلْنَاكُمْ بَعْدَ تَحْذِيرٍ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَبَرَزَ لَهُ رَجُلٌ فَاجْتَلَدَ، وَهُوَ يَقُولُ: أَضْرِبُهُمْ بِالْيَابِسِ ... ضَرْبَ غُلامٍ بَائِسِ مِنَ الْحَيَاةِ آيِسِ. فَأَجَابَهُ صَاحِبُهُ وَقَالَ النَّاسُ: قُتِلَ الْمُغِيرَةُ بْنُ الأَخْنَسِ، فَقَالَ الَّذِي قَتَلَهُ: إِنَّا لِلَّهِ! فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُدَيْسٍ: مَا لَكَ؟ قَالَ: إِنِّي أُتِيتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، فَقِيلَ لِي: بَشِّرْ قَاتِلَ الْمُغِيرَةِ بْنِ الأَخْنَسِ بِالنَّارِ، فَابْتُلِيتُ بِهِ، وَقَتَلَ قُبَاثٌ الْكِنَانِيُّ نِيَارَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَسْلَمِيَّ، وَاقْتَحَمَ النَّاسُ الدَّارَ مِنَ الدُّورِ الَّتِي حَوْلَهَا حَتَّى مَلَئُوهَا وَلا يَشْعُرُ الَّذِينَ بِالْبَابِ، وَأَقْبَلَتِ الْقَبَائِلُ عَلَى أَبْنَائِهِمْ، فَذَهَبُوا بِهِمْ إِذْ غُلِبُوا عَلَى أَمِيرِهِمْ، وَنَدَبُوا رَجُلا لِقَتْلِهِ، فَانْتُدِبَ لَهُ رَجُلٌ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ الْبَيْتَ، فَقَالَ: اخْلَعْهَا وَنَدَعَكَ، فَقَالَ: وَيْحَكَ! وَاللَّهِ مَا كَشَفْتُ امْرَأَةً فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلا إِسْلامٍ، وَلا تَغَنَّيْتُ وَلا تَمَنَّيْتُ، وَلا وَضَعْتُ يَمِينِي عَلَى عَوْرَتِي مُنْذُ بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص، وَلَسْتُ خَالِعًا قَمِيصًا كَسَانِيهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَا عَلَى مَكَانِي حَتَّى يُكْرِمَ اللَّهُ أَهْلَ السَّعَادَةِ، وَيُهِينَ أَهْلَ الشَّقَاءِ فَخَرَجَ وَقَالُوا: مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: علقنا وَاللَّهِ، وَاللَّهِ مَا يُنْجِينَا مِنَ النَّاسِ إِلا قَتْلُهُ، وَمَا يَحِلُّ لَنَا قَتْلُهُ، فَأَدْخَلُوا عَلَيْهِ رَجُلا مِنْ بَنِي لَيْثٍ، فَقَالَ: مِمَّنِ الرَّجُلُ؟ فَقَالَ: لَيْثِيٌّ، فَقَالَ: لَسْتَ بِصَاحِبِي، قَالَ: وَكَيْفَ؟ فَقَالَ: أَلَسْتَ الَّذِي دَعَا لك النبي ص فِي نَفَرٍ أَنْ تَحْفَظُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَلَنْ تُضَيِّعَ، فَرَجَعَ وَفَارَقَ الْقَوْمَ، فَأَدْخَلُوا عَلَيْهِ رَجُلا مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ: يَا عُثْمَانُ، إِنِّي قَاتِلُكَ، قَالَ: كَلا يَا فُلانُ، لا تَقْتُلْنِي، قَالَ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: إِنَّ رسول الله ص اسْتَغْفَرَ لَكَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَلَنْ تُقَارِفَ دَمًا حَرَامًا فَاسْتَغْفَرَ وَرَجَعَ، وَفَارَقَ أَصْحَابَهُ

فَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ حَتَّى قَامَ عَلَى بَابِ الدَّارِ يَنْهَاهُمْ عَنْ قَتْلِهِ، وَقَالَ: يَا قَوْمِ لا تَسُلُّوا سَيْفَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، فو الله إِنْ سَلَلْتُمُوهُ لا تَغْمِدُوهُ، وَيْلَكُمْ! إِنَّ سُلْطَانَكُمُ اليوم يقوم بالدرة، فان قتلتموه لا يقوم إِلا بِالسَّيْفِ. وَيْلَكُمْ! إِنَّ مَدِينَتَكُمْ مَحْفُوفَةٌ بِمَلائِكَةِ الله، والله لئن قتلتموه لتتركنها، فقالوا: يا بن الْيَهُودِيَّةِ، وَمَا أَنْتَ وَهَذَا! فَرَجَعَ عَنْهُمْ. قَالُوا: وَكَانَ آخِرَ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ مِمَّنْ رَجَعَ إِلَى الْقَوْمِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: وَيْلَكَ! أَعَلَى اللَّهِ تَغْضَبُ! هَلْ لي إليك جرم الا حقه أَخَذْتَهُ مِنْكَ! فَنَكَلَ وَرَجَعَ. قَالُوا: فَلَمَّا خَرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَعَرَفُوا انْكِسَارَهُ، ثَارَ قتيرة وسودان ابن حُمْرَانَ السَّكُونِيَّانِ وَالْغَافِقِيُّ، فَضَرَبَهُ الْغَافِقِيُّ بِحَدِيدَةٍ مَعَهُ، وَضَرَبَ الْمُصْحَفَ بِرِجْلِهِ فَاسْتَدَارَ الْمُصْحَفُ، فَاسْتَقَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسَالَتْ عَلَيْهِ الدِّمَاءُ، وَجَاءَ سُودَانُ بْنُ حُمْرَانَ لِيَضْرِبَهُ، فَانْكَبَّتْ عَلَيْهِ نَائِلَةُ ابْنَةُ الْفُرَافِصَةِ، وَاتَّقَتِ السَّيْفَ بِيَدِهَا، فَتَعَمَّدَهَا، وَنَفَحَ أَصَابِعَهَا، فَأَطَنَّ أَصَابِعَ يَدِهَا وَوَلَّتْ، فَغَمَزَ أَوْرَاكَهَا، وَقَالَ: إِنَّهَا لَكَبِيرَةُ الْعَجِيزَةِ، وَضَرَبَ عُثْمَانَ فَقَتَلَهُ، وَدَخَلَ غُلْمَةٌ لِعُثْمَانَ مَعَ الْقَوْمِ لِيَنْصُرُوهُ- وَقَدْ كَانَ عُثْمَانُ أَعْتَقَ مَنْ كَفَّ مِنْهُمْ- فَلَمَّا رَأَوْا سُودَانَ قَدْ ضَرَبَهُ، أَهْوَى لَهُ بَعْضُهُمْ فَضَرَبَ عُنُقَهُ فَقَتَلَهُ، وَوَثَبَ قُتَيْرَةُ عَلَى الْغُلامِ فَقَتَلَهُ، وَانْتَهَبُوا مَا فِي الْبَيْتِ، وَأَخْرَجُوا مَنْ فِيهِ، ثُمَّ أَغْلَقُوهُ عَلَى ثَلاثَةِ قَتْلَى فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى الدَّارِ، وَثَبَ غُلامٌ لِعُثْمَانَ آخَرُ عَلَى قُتَيْرَةَ فَقَتَلَهُ، وَدَارَ الْقَوْمُ فَأَخَذُوا مَا وَجَدُوا، حَتَّى تَنَاوَلُوا مَا عَلَى النِّسَاءِ، وَأَخَذَ رَجُلٌ مُلاءَةَ نَائِلَةَ- وَالرَّجُلُ يُدْعَى كُلْثُومَ بْنَ تُجِيبَ- فَتَنَحَّتْ نَائِلَةُ، فَقَالَ: وَيْحَ أُمُّكِ مِنْ عَجِيزَةٍ مَا اتمك! وَبَصَرَ بِهِ غُلامٌ لِعُثْمَانَ فَقَتَلَهُ وَقُتِلَ، وَتَنَادَى الْقَوْمُ: أَبْصَرَ رَجُلٌ مَنْ صَاحِبُهُ، وَتَنَادَوْا فِي الدَّارِ: أَدْرِكُوا بَيْتَ الْمَالِ لا تُسْبَقُوا إِلَيْهِ، وَسَمِعَ أَصْحَابُ بَيْتِ الْمَالِ أَصْوَاتَهُمْ، وَلَيْسَ فِيهِ إِلا غِرَارَتَانِ، فَقَالُوا: النَّجَاءَ، فَإِنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا يُحَاوِلُونَ الدُّنْيَا، فَهَرَبُوا وَأَتَوْا بَيْتَ الْمَالِ فَانْتَهَبُوهُ، وماج

النَّاسُ فِيهِ، فَالتَّانِئُ يَسْتَرْجِعُ وَيَبْكِي، وَالطَّارِئُ يَفْرَحُ وَنَدِمَ الْقَوْمُ، وَكَانَ الزُّبَيْرُ قَدْ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَأَقَامَ عَلَى طَرِيقِ مَكَّةَ لِئَلا يَشْهَدَ مَقْتَلَهُ، فَلَمَّا أَتَاهُ الْخَبَرُ بِمَقْتَلِ عُثْمَانَ وَهُوَ بِحَيْثُ هُوَ، قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! رَحِمَ اللَّهُ عُثْمَانَ وَانْتَصَرَ لَهُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْقَوْمَ نَادِمُونَ، فَقَالَ: دَبِّرُوا دَبِّرُوا، «وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ» الآيَةَ وَأَتَى الْخَبَرُ طَلْحَةَ، فَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ عُثْمَانَ! وَانْتَصَرَ لَهُ وَلِلإِسْلامِ، وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ الْقَوْمَ نَادِمُونَ، فَقَالَ تَبًّا لَهُمْ! وَقَرَأَ: «فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ» وَأَتَى عَلِيٌّ فَقِيلَ: قُتِلَ عُثْمَانُ، فَقَالَ رَحِمَ الله عثمان، وخلف علينا بخير! وقيل: ندم الْقَوْمِ، فَقَرَأَ: «كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ» ، الآيَةَ وَطُلِبَ سَعْدٌ، فَإِذَا هُوَ فِي حَائِطِهِ، وَقَدْ قَالَ: لا أَشْهَدُ قَتْلَهُ، فَلَمَّا جَاءَهُ قتله قال: فررنا الى المدينة تدنينا، وَقَرَأَ: «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» اللَّهُمَّ أَنْدِمْهُمْ ثُمَّ خُذْهُمْ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْمُجَالِدِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ مَقْتُولٌ، وَإِنَّهُ إِنْ قُتِلَ وَأَنْتَ بِالْمَدِينَةِ اتَّخَذُوا فِيكَ، فَاخْرُجْ فَكُنْ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ وَكُنْتَ فِي غَارٍ بِالْيَمَنِ طَلَبَكَ النَّاسُ، فَأَبَى وَحُصِرَ عثمان اثنين وَعِشْرِينَ يَوْمًا، ثُمَّ أَحْرَقُوا الْبَابَ، وَفِي الدَّارِ أُنَاسٌ كَثِيرٌ، فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمَرْوَانُ، فَقَالُوا: ائْذَنْ لَنَا، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ الله ص عَهِدَ إِلَيَّ عَهْدًا، فَأَنَا صَابِرٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَحْرِقُوا بَابَ الدَّارِ إِلا وَهُمْ يَطْلُبُونَ مَا هُوَ أَعْظَمَ مِنْهُ، فَأُحَرِّجُ عَلَى رجل يستقتل وَيُقَاتِلُ، وَخَرَجَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَدَعَا بِالْمُصْحَفِ يَقْرَأُ فِيهِ وَالْحَسَنُ عِنْدَهُ، فَقَالَ: إِنَّ أَبَاكَ الآنَ لَفِي أَمْرٍ عَظِيمٍ، فَأَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَمَا خَرَجْتَ! وَأَمَرَ عُثْمَانُ أَبَا كَرِبٍ- رَجُلا مِنْ هَمْدَانَ-

وَآخَرَ مِنَ الأَنْصَارِ أَنْ يَقُومَا عَلَى بَابِ بَيْتِ الْمَالِ، وَلَيْسَ فِيهِ إِلا غِرَارَتَانِ مِنْ وَرَقٍ، فَلَمَّا أُطْفِئَتِ النَّارُ بَعْدَ مَا نَاوَشَهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَمَرْوَانُ، وَتَوَعَّدَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَمَرْوَانَ، فَلَمَّا دُخِلَ عَلَى عُثْمَانَ هَرَبَا وَدَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى عُثْمَانَ، فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، فَقَالَ: أَرْسِلْ لِحْيَتِي، فَلَمْ يَكُنْ أَبُوكَ لِيَتَنَاوَلَهَا فَأَرْسَلَهَا، وَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَجَؤُهُ بِنَعْلِ سَيْفِهِ، وَآخَرُ يَلْكِزُهُ، وَجَاءَهُ رَجُلٌ بِمَشَاقِصَ مَعَهُ، فَوَجَأَهُ فِي تُرقُوَتِهِ، فَسَالَ الدَّمُ عَلَى الْمُصْحَفِ وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَهَابُونَ فِي قَتْلِهِ، وَكَانَ كَبِيرًا، وَغُشِيَ عَلَيْهِ وَدَخَلَ آخَرُونَ فَلَمَّا رَأَوْهُ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ جَرُّوا بِرِجْلِهِ، فَصَاحَتْ نَائِلَةُ وَبَنَاتُهُ، وَجَاءَ التُّجِيبِيُّ مُخْتَرِطًا سَيْفَهُ لِيَضَعَهُ فِي بَطْنِهِ، فَوَقَتْهُ نَائِلَةُ، فَقَطَعَ يَدَهَا، وَاتَّكَأَ بِالسَّيْفِ عَلَيْهِ فِي صَدْرِهِ وَقُتِلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَنَادَى مُنَادٍ: مَا يَحِلُّ دَمُهُ وَيُحَرَّجُ مَالُهُ، فَانْتَهَبُوا كُلَّ شَيْءٍ، ثُمَّ تَبَادَرُوا بَيْتَ الْمَالِ، فَأَلْقَى الرَّجُلانِ الْمَفَاتِيحَ وَنَجَوْا، وَقَالُوا: الْهَرَبَ الْهَرَبَ! هَذَا مَا طَلَبَ الْقَوْمُ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ حدثه عن عبد الرحمن ابن مُحَمَّدٍ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ تَسَوَّرَ عَلَى عُثْمَانَ مِنْ دَارِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَمَعَهُ كِنَانَةُ بْنُ بِشْرِ بْنِ عَتَّابٍ، وَسُودَانُ بْنُ حُمْرَانَ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ، فَوَجَدُوا عُثْمَانَ عِنْدَ امْرَأَتِهِ نَائِلَةَ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَتَقَدَّمَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، فَأَخَذَ بِلِحْيَةِ عُثْمَانَ، فَقَالَ: قَدْ أَخْزَاكَ اللَّهُ يَا نَعْثَلُ! فَقَالَ عُثْمَانُ: لَسْتُ بِنَعْثَلٍ، وَلَكِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ مُحَمَّدٌ: مَا أَغْنَى عَنْكَ مُعَاوِيَةُ وَفُلانُ وَفُلانُ! فَقَالَ عثمان: يا بن أَخِي، دَعْ عَنْكَ لِحْيَتِي، فَمَا كَانَ أَبُوكَ لِيَقْبِضَ عَلَى مَا قَبَضْتَ عَلَيْهِ فَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَوْ رَآكَ أَبِي تَعْمَلُ هَذِهِ الأَعْمَالَ أَنْكَرَهَا عَلَيْكَ، وَمَا أُرِيدُ بِكَ أَشَدَّ مِنْ قَبْضِي عَلَى لِحْيَتِكَ، قَالَ عُثْمَانُ: أَسْتَنْصِرُ اللَّهَ عَلَيْكَ وَأَسْتَعِينُ بِهِ ثُمَّ طَعَنَ جَبِينَهُ بِمِشْقَصٍ فِي يَدِهِ وَرَفَعَ كِنَانَةُ بْنُ بِشْرٍ مَشَاقِصَ كَانَتْ فِي يَدِهِ، فَوَجَأَ بِهَا فِي أَصْلِ أُذُنِ عُثْمَانَ، فَمَضَتْ حَتَّى دَخَلَتْ فِي حَلْقِهِ، ثُمَّ عَلاهُ بِالسَّيْفِ حَتَّى قَتَلَهُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ أَبَا عَوْنٍ يَقُولُ: ضَرَبَ كِنَانَةُ بْنُ بشر جبينه

وَمُقَدَّمِ رَأْسِهِ بِعَمُودِ حَدِيدٍ، فَخَرَّ لِجَبِينِهِ، فَضَرَبَهُ سُودَانُ بْنُ حُمْرَانَ الْمُرَادِيُّ بَعْدَ مَا خَرَّ لِجَبِينِهِ فَقَتَلَهُ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرحمن ابن الْحَارِثِ، قَالَ: الَّذِي قَتَلَهُ كِنَانَةُ بْنُ بِشْرِ بْنِ عَتَّابٍ التُّجِيبِيُّ وَكَانَتِ امْرَأَةُ مَنْظُورِ بْنِ سَيَّارٍ الْفَزَارِيِّ تَقُولُ: خَرَجْنَا إِلَى الْحَجِّ، وَمَا عَلِمْنَا لِعُثْمَانَ بِقَتْلٍ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْعَرْجِ سَمِعْنَا رَجُلا يَتَغَنَّى تَحْتَ اللَّيْلِ: أَلا إِنَّ خير الناس بعد ثلاثة ... قتيل التجيبي الذي جَاءَ مِنْ مِصْرَ قَالَ: وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ فَوَثَبَ عَلَى عُثْمَانَ، فَجَلَسَ عَلَى صَدْرِهِ وَبِهِ رَمَقٌ، فَطَعَنَهُ تِسْعَ طَعْنَاتٍ قَالَ عَمْرٌو: فاما ثلاث منهن فانى طعنتهن اياه الله، وَأَمَّا سِتٌّ فَإِنِّي طَعَنْتُهُنَّ إِيَّاهُ لِمَا كَانَ فِي صَدْرِي عَلَيْهِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بن يحيى، عن موسى بن طلحة، قال: رَأَيْتُ عُرْوَةَ بْنَ شُيَيْمٍ ضَرَبَ مَرْوَانَ يَوْمَ الدَّارِ بِالسَّيْفِ عَلَى رَقَبَتِهِ، فَقَطَعَ إِحْدَى عِلْبَاوَيْهِ، فَعَاشَ مَرْوَانُ أَوْقَصَ، وَمَرْوَانُ الَّذِي يَقُولُ: مَا قُلْتُ يَوْمَ الدَّارِ لِلْقَوْمِ حَاجِزُوا ... رُوَيْدًا وَلا اسْتَبْقُوا الْحَيَاةَ عَلَى الْقَتْلِ وَلَكِنَّنِي قَدْ قُلْتُ لِلْقَوْمِ مَاصِعُوا ... بِأَسْيَافِكُمْ كَيْمَا يَصِلْنَ إِلَى الْكَهْلِ قَالَ مُحَمَّد الْوَاقِدِيّ: وَحَدَّثَنِي يُوسُف بن يَعْقُوب، عن عُثْمَان بن مُحَمَّد الأخنسي، قَالَ: كَانَ حصر عُثْمَان قبل قدوم أهل مصر، فقدم أهل مصر يوم الجمعة، وقتلوه فِي الجمعة الأخرى. وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: حدثني أبي، قال: حدثني سُلَيْمَان، قال: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، عن حرملة بن عِمْرَان، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، قَالَ: ولي قتل عُثْمَان نهران الأصبحي، وَكَانَ قاتل عَبْد اللَّهِ بن بسرة، وَهُوَ رجل من بني عبد الدار. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي الحكم بن الْقَاسِم، عن أبي عون مولى

المسور بن مخرمة، قَالَ: مَا زال الْمِصْرِيُّونَ كافين عن دمه وعن القتال، حَتَّى قدمت أمداد العراق مِنَ الْبَصْرَةِ ومن الْكُوفَة ومن الشام، فلما جاءوا شجعوا القوم، وبلغهم أن البعوث قَدْ فصلت من العراق ومن مصر من عِنْدَ ابن سعد، ولم يكن ابن سعد بمصر قبل ذَلِكَ، كَانَ هاربا قَدْ خرج إِلَى الشام، فَقَالُوا: نعاجله قبل أن تقدم الأمداد قَالَ مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ، قَالَ: أَشْرَفَ عُثْمَانُ عَلَيْهِمْ وَهُوَ مَحْصُورٌ، وَقَدْ أَحَاطُوا بِالدَّارِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ دَعَوْتُمُ اللَّهَ عِنْدَ مُصَابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُخَيِّرَ لَكُمْ، وَأَنْ يَجْمَعَكُمْ عَلَى خَيْرِكُمْ! فَمَا ظَنُّكُمْ بِاللَّهِ! أَتَقُولُونَهُ: لَمْ يَسْتَجِبْ لَكُمْ، وَهُنْتُمْ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَأَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ أَهْلُ حَقِّهِ مِنْ خَلْقِهِ، وَجَمِيعُ أُمُورِكُمْ لَمْ تَتَفَرَّقْ! أَمْ تَقُولُونَ: هَانَ عَلَى اللَّهِ دِينُهُ فَلَمْ يُبَالِ مَنْ وَلاهُ، وَالدِّينُ يَوْمَئِذٍ يُعْبَدُ بِهِ اللَّهُ وَلَمْ يَتَفَرَّقْ أَهْلُهُ، فَتَوَكَّلُوا أَوْ تُخْذَلُوا، وَتُعَاقَبُوا! أَمْ تَقُولُونَ: لَمْ يَكُنْ أُخِذَ عَنْ مَشُورَةٍ، وَإِنَّمَا كَابَرْتُمْ مُكَابَرَةً، فَوَكَّلَ اللَّهُ الأُمَّةَ إِذَا عَصَتْهُ لَمْ تُشَاوِرُوا فِي الإِمَامِ، وَلَمْ تَجْتَهِدُوا فِي مَوْضِعِ كَرَاهَتِهِ! أَمْ تَقُولُونَ: لَمْ يَدْرِ اللَّهُ مَا عَاقِبَةُ أَمْرِي، فَكُنْتُ فِي بَعْضِ أَمْرِي مُحْسِنًا، وَلأَهْلِ الدِّينِ رِضًا، فَمَا أَحْدَثْتُ بَعْدُ فِي أَمْرِي مَا يُسْخِطُ اللَّهَ، وَتَسْخَطُونَ مِمَّا لَمْ يَعْلِمِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَوْمَ اخْتَارَنِي وَسَرْبَلَنِي سِرْبَالَ كَرَامَتِهِ! وَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ، هَلْ تَعْلَمُونَ لِي مِنْ سَابِقَةِ خَيْرٍ وَسَلَفِ خَيْرٍ قَدَّمَهُ اللَّهُ لِي، وَأَشْهَدَنِيهِ مِنْ حَقِّهِ! وَجِهَادِ عَدُوِّهِ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مَنْ جَاءَ بَعْدِي أَنْ يَعْرِفُوا لِي فَضْلَهَا فَمَهْلا، لا تَقْتُلُونِي، فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ إِلا قَتْلُ ثَلاثَةٍ: رَجُلٍ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ، أَوْ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلامِهِ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ فَيُقْتَلُ بِهَا، فَإِنَّكُمْ إِنْ قَتَلْتُمُونِي وَضَعْتُمُ السَّيْفَ عَلَى رِقَابِكُمْ، ثُمَّ لَمْ يَرْفَعْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلا تَقْتُلُونِي فَإِنَّكُمْ إِنْ قَتَلْتُمُونِي لَمْ تصلوا مِنْ بَعْدِي جَمِيعًا أَبَدًا، وَلَمْ تَقْتَسِمُوا بَعْدِي فَيْئًا جَمِيعًا أَبَدًا، وَلَنْ يَرْفَعَ اللَّهُ عَنْكُمُ الاخْتِلافَ أَبَدًا. قَالُوا لَهُ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنَ اسْتِخَارَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ النَّاس بَعْدَ عُمَرَ رَضِيَ

ذكر بعض سير عثمان بن عفان رضى الله عنه

اللَّهُ عَنْهُ فِيمَنْ يُوَلُّونَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ وَلُّوكَ بَعْدَ اسْتِخَارَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا صَنَعَ اللَّهُ الْخِيَرَةُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ أَمْرَكَ بَلِيَّةً ابْتَلَى بِهَا عِبَادَهُ وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ من قدمك وسبقك مع رسول الله ص، فَإِنَّكَ قَدْ كُنْتَ ذَا قَدَمٍ وَسَلَفٍ، وَكُنْتَ أَهْلا لِلْوِلايَةِ، وَلَكِنْ بَدَّلْتَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَحْدَثْتَ مَا قَدْ عَلِمْتَ وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِمَّا يُصِيبُنَا إِنْ نَحْنُ قَتَلْنَاكَ مِنَ الْبَلاءِ، فَإِنَّهُ لا يَنْبَغِي تَرْكُ إِقَامَةِ الْحَقِّ عَلَيْكَ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ عَامًا قَابِلا وَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّهُ لا يَحِلُّ إِلا قَتْلَ ثَلاثَةٍ، فَإِنَّا نَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَتْلُ غَيْرِ الثَّلاثَةِ الَّذِينَ سَمَّيْتَ، قَتْلُ مَنْ سَعَى فِي الأَرْضِ فَسَادًا، وَقَتْلُ مَنْ بَغَى ثُمَّ قَاتَلَ عَلَى بَغْيِهِ، وَقَتْلُ مَنْ حَالَ دُونَ شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ وَمَنَعَهُ ثُمَّ قَاتَلَ دُونَهُ وَكَابَرَ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَغَيْتَ، وَمَنَعْتَ الْحَقَّ، وَحِلْتَ دُونَهُ، وَكَابَرْتَ عَلَيْهِ، تَأْبَى أَنْ تُقِيدَ مِنْ نَفْسِكَ مَنْ ظَلَمْتَ عَمْدًا، وَتَمَسَّكْتَ بِالإِمَارَةِ عَلَيْنَا وَقَدْ جُرْتَ فِي حُكْمِكَ وَقَسْمِكَ! فَإِنْ زَعَمْتَ أَنَّكَ لَمْ تُكَابِرْنَا عَلَيْهِ، وَأَنَّ الَّذِينَ قَامُوا دُونَكَ وَمَنَعُوكَ مِنَّا إِنَّمَا يُقَاتِلُونَ بِغَيْرِ أَمْرِكَ، فَإِنَّمَا يُقَاتِلُونَ لِتَمَسُّكِكَ بِالإِمَارَةِ، فَلَوْ أَنَّكَ خَلَعْتَ نَفْسَكَ لانْصَرَفُوا عَنِ الْقِتَالِ دُونَكَ . ذِكْرُ بَعْضِ سِيَرِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قال: زعم أبو المقدام، عن الحسن بن أبي الحسن، قال: دخلت الْمَسْجِدَ، فَإِذَا أَنَا بِعُثْمَانَ بن عَفَّانَ مُتَّكِئًا عَلَى رِدَائِهِ، فَأَتَاهُ سَقَّاءَانِ يَخْتَصِمَانِ، فَقَضَى بَيْنَهُمَا. وفيما كتب إلي السري، عن شعيب، عن سَيْفٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ حَجَرَ عَلَى أَعْلامِ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْخُرُوجَ فِي الْبِلْدَانِ إِلا بِإِذْنٍ وَأَجَلٍ، فَشَكَوْهُ فَبَلَغَهُ، فَقَامَ فَقَالَ: أَلا إِنِّي قَدْ سَنَنْتُ الإِسْلامَ سَنَّ الْبَعِيرِ، يَبْدَأُ فَيَكُونُ جَذَعًا، ثُمَّ ثَنِيًّا، ثُمَّ رُبَاعِيًّا، ثُمَّ سَدِيسًا، ثُمَّ بَازِلا، أَلا فهل ينتظر بالبازل

إِلا النُّقْصَانَ! أَلا فَإِنَّ الإِسْلامَ قَدْ بَزَلَ أَلا وَإِنَّ قُرَيْشًا يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا مَالَ اللَّهِ مَعُونَاتٍ دُونَ عِبَادَةٍ، أَلا فَأَمَّا وَابْنُ الْخَطَّابِ حَيٌّ فَلا، إِنِّي قَائِمٌ دُونَ شِعْبِ الْحَرَّةِ، آخِذٌ بِحَلاقِيمِ قُرَيْشٍ وَحُجُزِهَا أَنْ يَتَهَافَتُوا فِي النَّارِ. وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، قَالا: فلما ولي عُثْمَان لم يأخذهم بِالَّذِي كَانَ يأخذهم بِهِ عمر، فانساحوا فِي البلاد، فلما رأوها ورأوا الدُّنْيَا، ورآهم الناس، انقطع إليهم من لَمْ يَكُنْ لَهُ طول وَلا مزية فِي الإِسْلام، فكان مغموما فِي الناس، وصاروا أوزاعا إِلَيْهِم وأملوهم، وتقدموا فِي ذَلِكَ فَقَالُوا: يملكون فنكون قَدْ عرفناهم، وتقدمنا فِي التقرب والانقطاع إِلَيْهِم، فكان ذَلِكَ أول وهن دخل عَلَى الإِسْلام، وأول فتنة كَانَتْ فِي العامة، ليس إلا ذَلِكَ. وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن عمرو، عن الشعبي قال: لم يمت عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى ملته قريش، وَقَدْ كَانَ حصرهم بِالْمَدِينَةِ، فامتنع عَلَيْهِم، وَقَالَ: إن أخوف مَا أخاف عَلَى هَذِهِ الأمة انتشاركم فِي البلاد، فإن كَانَ الرجل ليستأذنه فِي الغزو- وَهُوَ ممن حبس بِالْمَدِينَةِ من الْمُهَاجِرِينَ، ولم يكن فعل ذَلِكَ بغيرهم من أهل مكة- فيقول: قَدْ كَانَ في غزوك مع رسول الله ص مَا يبلغك، وخير لك من الغزو الْيَوْم أَلا ترى الدُّنْيَا وَلا تراك، فلما ولي عُثْمَان خلى عَنْهُمْ، فاضطربوا فِي البلاد، وانقطع إِلَيْهِم الناس، فكان أحب إِلَيْهِم من عمر. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُبَشِّرِ بْنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ سَالِمِ بن عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لما ولي عُثْمَان حج سنواته كلها إلا آخر حجة، وحج بأزواج رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كان يصنع عمر، فكان عبد الرحمن ابن عوف فِي موضعه، وجعل فِي موضع نفسه سَعِيد بن زَيْدٍ، هَذَا فِي مؤخر القطار، وهذا فِي مقدمه، وأمن الناس، وكتب فِي الأمصار أن يوافيه العمال فِي كل موسم ومن يشكونهم وكتب إِلَى النَّاسِ إِلَى الأمصار، أن ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، وَلا يذل المؤمن نفسه، فإني مع الضعيف عَلَى القوي مَا دام مظلوما إِنْ شَاءَ اللَّهُ فكان الناس بِذَلِكَ، فجرى ذَلِكَ إِلَى

ان اتخذه اقوام وسيلة إِلَى تفريق الأمة. وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قَالا: لم تمض سنة من إمارة عُثْمَان حَتَّى اتخذ رجال من قريش أموالا فِي الأمصار، وانقطع إِلَيْهِم الناس، وثبتوا سبع سنين، كل قوم يحبون أن يلي صاحبهم. ثُمَّ إن ابن السوداء أسلم، وتكلم وَقَدْ فاضت الدُّنْيَا، وطلعت الأحداث عَلَى يديه، فاستطالوا عمر عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن عُثْمَان بن حكيم ابن عباد بن حنيف، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أول منكر ظهر بِالْمَدِينَةِ حين فاضت الدُّنْيَا، وانتهى وسع الناس طيران الحمام والرمي عَلَى الجلاهقات، فاستعمل عَلَيْهَا عُثْمَان رجلا من بني ليث سنة ثمان، فقصها وكسر الجلاهقات وَكَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد اللَّهِ، عن عَمْرو بن شعيب، قَالَ أول من منع الحمام الطيارة والجلاهقات عُثْمَان، ظهرت بِالْمَدِينَةِ فأمر عَلَيْهَا رجلا، فمنعهم منها. وَكَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ نحوا مِنْهُ، وزاد: وحدث بين الناس النشو. قَالَ: فأرسل عُثْمَان طائفا يطوف عَلَيْهِم بالعصا، فمنعهم من ذَلِكَ، ثُمَّ اشتد ذَلِكَ فأفشى الحدود، ونبأ ذَلِكَ عُثْمَان، وشكاه إِلَى النَّاسِ، فاجتمعوا عَلَى أن يجلدوا فِي النبيذ، فأخذ نفر مِنْهُمْ فجلدوا. وَكَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُبَشِّرِ بْنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لما حدثت الأحداث بِالْمَدِينَةِ خرج منها رجال إِلَى الأمصار مجاهدين، وليدنوا من العرب، فمنهم من أتى الْبَصْرَةَ، ومنهم من أتى الكوفه، ومنهم من أتى الشام، فهجموا جميعا من أبناء الْمُهَاجِرِينَ بالأمصار عَلَى مثل مَا حدث فِي أبناء الْمَدِينَةِ إلا مَا كَانَ من أبناء الشام، فرجعوا جميعا إِلَى الْمَدِينَةِ إلا من كَانَ بِالشَّامِ، فأخبروا عُثْمَان بخبرهم، فقام

عُثْمَان فِي الناس خطيبا، فَقَالَ: يَا أهل الْمَدِينَةِ، أنتم أصل الإِسْلام، وإنما يفسد الناس بفسادكم، ويصلحون بصلاحكم، وَاللَّهِ وَاللَّهِ وَاللَّهِ لا يبلغني عن أحد مِنْكم حدث أحدثه إلا سيرته، أَلا فلا أعرفن أحدا عرض دون أُولَئِكَ بكلام وَلا طلب، فإن من كَانَ قبلكم كَانَتْ تقطع أعضاؤهم دون أن يتكلم أحد مِنْهُمْ بِمَا عَلَيْهِ وَلا لَهُ وجعل عُثْمَان لا يأخذ أحدا مِنْهُمْ عَلَى شر أو شهر سلاح: عصا فما فوقها إلا سيره، فضج آباؤهم من ذَلِكَ حَتَّى بلغه أَنَّهُمْ يقولون: مَا أحدث التسيير إلا أَنَّ رسول الله ص سير الحكم بن أبي العاص، فَقَالَ: إن الحكم كان مكيا، فسيره رسول الله ص منها إِلَى الطائف، ثُمَّ رده إِلَى بلده، فرسول الله ص سيره بذنبه، ورسول الله ص رده بعفوه وَقَدْ سير الخليفة من بعده، وعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ من بعد الخليفة، وايم اللَّه لأخذن العفو من أخلاقكم، ولأبذلنه لكم من خلقي، وَقَدْ دنت أمور، وَلا أحب أن تحل بنا وبكم، وأنا عَلَى وجل وحذر، فاحذروا واعتبروا كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد ابن ثَابِت ويحيى بن سَعِيدٍ، قَالا: سأل سائل سَعِيد بْنُ الْمُسَيِّبِ عن مُحَمَّد بن أبي حُذَيْفَة: مَا دعاه إِلَى الخروج عَلَى عُثْمَانَ؟ فَقَالَ: كَانَ يتيما فِي حجر عُثْمَان، فكان عُثْمَان والي أيتام أهل بيته، ومحتمل كلهم، فسأل عُثْمَان العمل حين ولي، فَقَالَ: يَا بني، لو كنت رضا ثُمَّ سألتني العمل لاستعملتك، ولكن لست هُنَاكَ! قَالَ: فأذن لي فلأخرج فلأطلب مَا يقوتني، قَالَ: اذهب حَيْثُ شئت، وجهزه من عنده، وحمله وأعطاه، فلما وقع إِلَى مصر كَانَ فيمن تغير عَلَيْهِ أن منعه الولاية قيل: فعمار بن ياسر؟ قَالَ: كَانَ بينه وبين عباس بن عتبة بن أبي لهب كلام، فضربهما عُثْمَان، فأورث ذاك بين آل عمار وآل عتبة شرا حَتَّى اليوم، وكنى عما ضربا عَلَيْهِ وفيه. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد ابن ثَابِت، قَالَ: فسألت ابن سُلَيْمَان بن أبي حثمة، فأخبرني أنه تقاذف كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مبشر، قَالَ: سالت

سَالم بن عَبْدِ اللَّهِ عن مُحَمَّد بن أبي بكر: مَا دعاه إِلَى ركوب عُثْمَان؟ فَقَالَ: الغضب والطمع، قلت: مَا الغضب والطمع؟ قَالَ: كَانَ من الإِسْلام بالمكان الَّذِي هُوَ بِهِ، وغره أقوام فطمع وكانت لَهُ دالة فلزمه حق، فأخذه عُثْمَان من ظهره، ولم يدهن، فاجتمع هَذَا إِلَى هَذَا، فصار مذمما بعد أن كَانَ محمدا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن مبشر، عن سالم ابن عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لما ولي عُثْمَان لان لَهُمْ، فانتزع الحقوق انتزاعا، ولم يعطل حقا، فأحبوه عَلَى لينه، فأسلمهم ذَلِكَ إِلَى أمر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن سهل، عَنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: كَانَ مما أحدث عُثْمَان فرضي بِهِ مِنْهُ أنه ضرب رجلا فِي منازعة استخف فِيهَا بالعباس بن عبد المطلب، فقيل لَهُ، فقال: نعم، ايفخم رسول الله ص عمه، وأرخص فِي الاستخفاف بِهِ! لقد خالف رسول الله ص من فعل ذَلِكَ، ومن رضي بِهِ مِنْهُ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عَنْ رُزَيْقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ حُمْرَانَ بْنِ أَبَانٍ، قَالَ: أَرْسَلَنِي عُثْمَانُ إِلَى الْعَبَّاسِ بَعْدَ مَا بُويِعَ، فَدَعَوْتُهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا لَكَ تَعَبَّدْتَنِي! قَالَ: لَمْ أَكُن قَطُّ أَحْوَجَ إِلَيْكَ مِنِّي الْيَوْمَ، قَالَ: الْزَمْ خَمْسًا، لا تُنَازِعُكَ الأُمَّةُ خَزَائِمَهَا مَا لَزِمْتَهَا، قَالَ: وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الصَّبْرُ عَنِ الْقَتْلِ، وَالتَّحُبُّبُ، وَالصَّفْحُ، وَالْمُدَارَاةُ، وَكِتْمَانُ السِّرِّ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْن عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، قَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا كَانَ مَنْ أَسَنَّ مِنْهُمْ مُولَعًا بِأَكْلِ الْخَزِيرَةِ، وَإِنِّي كُنْتُ أَتَعَشَّى مَعَ عُثْمَانَ خَزِيرًا مِنْ طَبْخٍ مِنْ أَجْوَدِ مَا رَأَيْتُ قَطُّ، فِيهَا بُطُونُ الْغَنَمِ، وَأُدْمُهَا اللَّبَنُ وَالسَّمْنُ، فَقَالَ عُثْمَانُ: كَيْفَ تَرَى هَذَا الطَّعَامَ؟ فَقُلْتُ: هَذَا أَطْيَبُ مَا أَكَلْتُ قَطُّ، فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ الْخَطَّابِ! أَكَلْتَ

مَعَهُ هَذِهِ الْخَزِيرَةَ قَطُّ؟ قُلتُ: نَعَمْ، فَكَادَتِ اللُّقْمَةُ تَفْرُثُ فِي يَدِي حِينَ أَهْوِي بِهَا إِلَى فَمِي، وَلَيْسَ فِيهَا لَحْمٌ، وَكَانَ أُدْمَهَا السَّمْنُ وَلا لَبَنَ فِيهَا. فَقَالَ عُثْمَانُ: صَدَقْتَ، إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَتْعَبَ وَاللَّهِ مَنْ تَبِعَ أَثَرَهُ، وَإِنَّهُ كَانَ يَطْلُبُ بِثَنْيِهِ عَنْ هَذِهِ الأُمُورِ ظَلَفًا أَمَا وَاللَّهِ مَا آكُلُهُ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنِّي آكُلُهُ مِنْ مَالِي، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَكْثَرَ قُرَيْشٍ مَالا، وَأَجَدَّهُمْ فِي التِّجَارَةِ، وَلَمْ أَزَلْ آكُلُ مِنَ الطَّعَامِ مَا لانَ مِنْهُ، وَقَدْ بَلَغْتُ سِنًّا فَأَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَيَّ أَلْيَنُهُ، وَلا أَعْلَمُ لأَحَدٍ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ تِبْعَةً. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي ابن أبي سبرة، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله ابن عَامِر، قَالَ: كنت أفطر مع عُثْمَان فِي شهر رمضان، فكان يأتينا بطعام هُوَ ألين من طعام عمر، قَدْ رأيت عَلَى مائدة عُثْمَان الدرمك الجيد وصغار الضأن كل ليلة، وما رأيت عمر قط أكل من الدقيق منخولا، وَلا أكل من الغنم إلا مسانها، فقلت لِعُثْمَانَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: يرحم اللَّه عمر! ومن يطيق مَا كَانَ عمر يطيق! قَالَ مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي عَبْد الْمَلِكِ بن يَزِيدَ بن السَّائِب، عن عَبْد اللَّهِ بن السَّائِب، قَالَ: أَخْبَرَنِي أبي، قَالَ: أول فسطاط رأيته بمنى فسطاط لِعُثْمَانَ، وآخر لعبد اللَّه بن عَامِر بن كريز، وأول من زاد النداء الثالث يوم الجمعة عَلَى الزوراء عُثْمَان، وأول من نخل لَهُ الدقيق من الولاة عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، قَالا: بلغ عُثْمَان أن ابن ذي الحبكة النهدي يعالج نيرنجا- قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سلمة: إنما هُوَ نيرج- فأرسل إِلَى الْوَلِيدِ بن عُقْبَةَ ليسأله عن ذَلِكَ، فإن أقر بِهِ فأوجعه، فدعا بِهِ فسأله، فَقَالَ: إنما هُوَ رفق وأمر يعجب مِنْهُ، فأمر بِهِ فعزر، وأخبر الناس خبره، وقرأ عَلَيْهِم كتاب عُثْمَان: إنه قَدْ جد بكم، فعَلَيْكُمْ بالجد، وإياكم والهزال، فكان الناس عَلَيْهِ، وتعجبوا من وقوف عُثْمَان

عَلَى مثل خبره، فغضب، فنفر فِي الَّذِينَ نفروا، فضرب معهم، فكتب إِلَى عُثْمَانَ فِيهِ، فلما سير إِلَى الشام من سير، سير كعب بن ذي الحبكه ومالك ابن عَبْدِ اللَّهِ- وَكَانَ دينه كدينه- إِلَى دنباوند، لأنها أرض سحرة، فَقَالَ فِي ذَلِكَ كعب بن ذي الحبكة للوليد: لعمري لَئِنْ طردتني مَا إِلَى الَّتِي ... طمعت بِهَا من سقطتي لسبيل رجوت رجوعى يا بن أروى ورجعتي ... إِلَى الحق دهرا غال ذَلِكَ غول وإن اغترابي فِي البلاد وجفوتي ... وشتمي فِي ذات الإله قليل وإن دعائي كل يوم وليله ... عليك بدنباوند كم لطويل فلما ولي سَعِيد أقفله، وأحسن إِلَيْهِ واستصلحه، فكفره، فلم يزدد إلا فسادا واستعار ضابئ بن الْحَارِث البرجمي فِي زمان الْوَلِيد بن عُقْبَةَ من قوم من الأنصار كلبا يدعى قرحان، يصيد الظباء، فحبسه عَنْهُمْ، فنافره الأنصاريون، واستغاثوا عَلَيْهِ بقومه فكاثروه، فانتزعوه مِنْهُ وردوه عَلَى الأنصار، فهجاهم وَقَالَ فِي ذَلِكَ: تحشم دوني وفد قرحان خطة ... تضل لها الوجناء وَهِيَ حسير فباتوا شباعا ناعمين كأنما ... حباهم ببيت المرزبان أَمِير فكلبكم لا تتركوا فهو أمكم ... فإن عقوق الأمهات كبير فاستعدوا عَلَيْهِ عُثْمَان، فأرسل إِلَيْهِ، فعزره وحبسه كما كَانَ يصنع بالمسلمين، فاستثقل ذَلِكَ، فما زال فِي الحبس حَتَّى مات فِيهِ وَقَالَ فِي الفتك يعتذر إِلَى أَصْحَابه: هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... فعلت ووليت البكاء حلائله وقائلة قَدْ مات فِي السجن ضابئ ... أَلا من لخصم لم يجد من يجادله!

وقائلة لا يبعد اللَّه ضابئا ... فنعم الفتى تخلو بِهِ وتحاوله فلذلك صار عمير بن ضابئ سبئيا. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن المستنير، عن أخيه، قَالَ: وَاللَّهِ مَا علمت وَلا سمعت بأحد غزا عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلا ركب إِلَيْهِ إلا قتل، لقد اجتمع بالكوفة نفر، فِيهِمُ الأَشْتَر وزَيْد بن صوحان وكعب ابن ذي الحبكه وابو زينب وأبو مورع وكميل بن زياد وعمير بن ضابئ، فَقَالُوا: لا وَاللَّهِ لا يرفع رأس مَا دام عُثْمَان عَلَى الناس، فَقَالَ عمير بن ضابئ وكميل بن زياد: نحن نقتله فركبا إِلَى الْمَدِينَةِ، فأما عمير فإنه نكل عنه، وأما كميل بن زياد فإنه جسر وثاوره، وَكَانَ جالسا يرصده حَتَّى أتى عَلَيْهِ عُثْمَان، فوجأ عُثْمَان وجهه، فوقع عَلَى استه، وَقَالَ: أوجعتني يا امير المؤمنين! قال: او لست بفاتك! قَالَ: لا وَاللَّهِ الَّذِي لا إله إلا هُوَ، فحلف وَقَدِ اجتمع عَلَيْهِ الناس، فَقَالُوا: نفتشه يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: لا، قَدْ رزق اللَّه العافية، وَلا أشتهي أن أطلع مِنْهُ عَلَى غير مَا قَالَ وَقَالَ: إن كَانَ كما قلت يَا كميل فاقتد منى- وجثا- فو الله مَا حسبتك إلا تريدني، وَقَالَ: إن كنت صادقا فأجزل اللَّه، وإن كنت كاذبا فأذل اللَّه وقعد لَهُ عَلَى قدميه وَقَالَ: دونك! قال: قد تركت فبقيا حَتَّى أكثر الناس فِي نجائهما، فلما قدم الحجاج قَالَ: من كَانَ من بعث المهلب فليواف مكتبه، وَلا يجعل عَلَى نفسه سبيلا. فقام إِلَيْهِ عمير، وَقَالَ: إني شيخ ضعيف، ولي ابنان قويان، فأخرج أحدهما مكاني أو كليهما، فَقَالَ: من أنت؟ قَالَ: أنا عمير بن ضابئ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لقد عصيت اللَّه عز وجل منذ اربعين سنه، وو الله لأنكلن بك الْمُسْلِمِينَ، غضبت لسارق الكلب ظالما، إن أباك إذ غل لَهُمْ، وإنك هممت ونكلت، وإني أهم ثُمَّ لا أنكل فضربت عنقه. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا رجل من بني أسد، قَالَ: كَانَ من حديثه أنه كَانَ قَدْ غزا عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فيمن غزاه، فلما قدم الحجاج ونادى بِمَا نادى بِهِ، عرض رجل عَلَيْهِ مَا عوض

نفسه، فقبل منه، فلما ولى قَالَ أسماء بن خارجة: لقد كَانَ شأن عمير مما يهمني، قَالَ: ومن عمير؟ قَالَ: هَذَا الشيخ، قَالَ: ذكرتني الطعن وكنت ناسيا أليس فيمن خرج إِلَى عُثْمَانَ؟ قَالَ: بلى، قَالَ: فهل بالكوفة أحد غيره؟ قَالَ: نعم، كميل، قَالَ: علي بعمير، فضرب عنقه، ودعا بكميل فهرب، فأخذ النخع بِهِ، فَقَالَ لَهُ الأسود بن الهيثم: مَا تريد من شيخ قَدْ كفاكه الكبر! فَقَالَ: أما وَاللَّهِ لتحبسن عني لسانك أو لأحسن رأسك بالسيف قَالَ: افعل فلما رَأَى كميل مَا لقي قومه من الخوف وهم ألفا مقاتل، قَالَ: الموت خير من الخوف إذا أخيف ألفان من سببي وحرموا. فخرج حَتَّى أتى الحجاج، فَقَالَ لَهُ الحجاج: أنت الَّذِي أردت ثُمَّ لم يكشفك امير المؤمنين، ولم ترض حتى اقعدته للقصاص إذ دفعك عن نفسه؟ فَقَالَ: عَلَى أي ذَلِكَ تقتلني! تقتلني عَلَى عفوه أو عَلَى عافيتي؟ قَالَ: يَا أدهم بن المحرز، اقتله، قَالَ: والأجر بيني وبينك؟ قَالَ: نعم، قَالَ أدهم: بل الأجر لك، وما كَانَ من إثم فعلي وَقَالَ مالك بن عَبْدِ اللَّهِ- وَكَانَ من المسيرين: مضت لابن أروى فِي كميل ظلامة ... عفاها لَهُ والمستقيد يلام وَقَالَ لَهُ لا أقبح الْيَوْم مثلة ... عَلَيْك أبا عَمْرو وأنت إمام رويدك رأسي والذي نسكت لَهُ ... قريش بنا عَلَى الكبير حرام وللعفو أمن يعرف الناس فضله ... وليس علينا فِي القصاص أثام ولو علم الفاروق مَا أنت صانع ... نهى عنك نهيا ليس فِيهِ كلام حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عن سحيم بن حفص، قَالَ: كَانَ رَبِيعَةُ بن الْحَارِث بن عبد المطلب شريك عُثْمَان فِي الْجَاهِلِيَّة، فَقَالَ العباس بن رَبِيعَةَ لِعُثْمَانَ: اكتب لي إِلَى ابن عَامِر يسلفني مائة ألف، فكتب، فأعطاه مائة ألف وصله بِهَا، وأقطعه داره، دار العباس ابن رَبِيعَةَ الْيَوْم. وَحَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، عن إسحاق بن يحيى، عن موسى

ذكر الخبر عن السبب الذى من اجله امر عثمان رضى الله عنه عبد الله ابن عباس رضى الله عنه ان يحج بالناس في هذه السنه

ابن طَلْحَةَ، قَالَ: كَانَ لِعُثْمَانَ عَلَى طَلْحَةَ خَمْسُونَ أَلْفًا، فَخَرَجَ عُثْمَانُ يَوْمًا إِلَى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لَهُ طَلْحَةُ: قَدْ تَهَيَّأَ مَالُكَ فَاقْبِضْهُ، قَالَ: هُوَ لَكَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ مَعُونَةً لَكَ عَلَى مُرُوءَتِكَ. وَحَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابن أَبِي خَالِدٍ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ لِطَلْحَةَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَلا رَدَدْتَ النَّاسَ عَنْ عُثْمَانَ! قَالَ: لا وَاللَّهِ حَتَّى تُعْطِيَ بَنُو أُمَيَّةَ الْحَقَّ مِنْ أَنْفُسِهَا. وَحَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْبَكْرِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ، عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بَاعَ أرضا له من عثمان بسبعمائة أَلْفٍ، فَحَمَلَهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ طَلْحَةُ: إِنَّ رَجُلا تَتَّسِقُ هَذِهِ عِنْدَهُ وَفِي بَيْتِهِ لا يَدْرِي مَا يَطْرُقُهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَغَرِيرٌ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ! فَبَاتَ وَرَسُولُهُ يَخْتَلِفُ بِهَا فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ يَقْسِمُهَا حَتَّى أَصْبَحَ، فَأَصْبَحَ وَمَا عِنْدَهُ مِنْهَا دِرْهَمٌ قَالَ الْحَسَنُ: وَجَاءَ هَاهُنَا يَطْلُبُ الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ- أَوْ قَالَ: الصَّفْرَاءَ وَالْبَيْضَاءَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلاثِينَ- عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ بِأَمْرِ عُثْمَانَ إِيَّاهُ بِذَلِكَ، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَدُ بْن ثابت الرازي، عمن حدثه، عن إسحاق بْن عِيسَى، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ . ذِكْرُ الْخَبَرِ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أَمَرَ عُثْمَانُ رضى الله عنه عبد الله ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَحُجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حَدَّثَهُ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا حُصِرَ عُثْمَانُ الْحَصْرَ الآخِرَ قال

عكرمه: فقلت لابن عباس: او كانا حَصْرَيْنِ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَعَمْ، الْحَصْرُ الأَوَّلُ، حَصْرُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ- وَقَدِمَ الْمِصْرِيُّونَ فَلَقِيَهُمْ عَلِيٌّ بِذِي خَشَبٍ، فَرَدَّهُمْ عَنْهُ، وَقَدْ كَانَ وَاللَّهِ عَلِيٌّ لَهُ صَاحِبُ صِدْقٍ، حَتَّى أَوْغَرَ نَفْسَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ، جَعَلَ مَرْوَانُ وَسَعِيدٌ وَذَوُوهُمَا يَحْمِلُونَهُ عَلَى عَلِيٍّ فَيَتَحَمَّلُ، وَيَقُولُونَ: لَوْ شَاءَ مَا كَلَّمَكَ أَحَدٌ، وَذَلِكَ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يُكَلِّمُهُ وَيَنْصَحُهُ وَيَغْلُظُ عَلَيْهِ فِي الْمَنْطِقِ فِي مَرْوَانَ وَذَوِيهِ، فَيَقُولُونَ لِعُثْمَانَ: هَكَذَا يَسْتَقْبِلُكَ وَأَنْتَ إِمَامُهُ وَسَلَفُهُ وَابْنُ عَمِّهِ وَابْنُ عَمَّتِهِ، فَمَا ظَنُّكَ بِمَا غَابَ عَنْكَ مِنْهُ! فَلَمْ يَزَالُوا بِعَلِيٍّ حَتَّى أَجْمَعَ أَلا يَقُومَ دُونَهُ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ الْيَوْم الَّذِي خَرَجْتُ فِيهِ إِلَى مَكَّةَ، فَذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ عُثْمَانَ دَعَانِي إِلَى الْخُرُوجِ فَقَالَ لِي: مَا يُرِيدُ عُثْمَانُ أَنْ يَنْصَحَهُ أَحَدٌ، اتَّخَذَ بِطَانَةَ أَهْلِ غِشٍّ لَيْسَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلا قَدْ تَسَبَّبَ بِطَائِفَةٍ مِنَ الأَرْضِ يَأْكُلُ خَرَاجَهَا وَيَسْتَذِلُّ أَهْلَهَا، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ لَهُ رَحِمًا وَحَقًّا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَقُومَ دُونَهُ فَعَلْتَ، فَإِنَّكَ لا تُعْذَرُ إِلا بِذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي رَأَيْتُ فِيهِ الانْكِسَارَ وَالرِّقَّةَ لِعُثْمَانَ، ثُمَّ إِنِّي لأَرَاهُ يُؤْتَى إِلَيْهِ عَظِيمٌ ثُمَّ قَالَ عِكْرِمَةُ: وَسَمِعْتُ ابْنَ عباس يقول: قال لي عثمان: يا بن عَبَّاسٍ، اذْهَبْ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْعَاصِ وَهُوَ بِمَكَّةَ، فَقُلْ لَهُ: يَقْرَأُ عَلَيْكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ السَّلامُ، وَيَقُولُ لَكَ: إِنِّي مَحْصُورٌ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا يَوْمًا، لا أَشْرَبُ إِلا مِنَ الأُجَاجِ مِنْ دَارِي، وَقَدْ مُنِعْتُ بِئْرًا اشْتَرَيْتُهَا مِنْ صُلْبِ مَالِي، رُومَةَ، فَإِنَّمَا يَشْرَبُهَا النَّاسُ وَلا أَشْرَبُ مِنْهَا شَيْئًا، وَلا آكُلُ إِلا مِمَّا فِي بَيْتِي، مُنِعْتُ أَنْ آكُلَ مِمَّا فِي السُّوقِ شَيْئًا وَأَنَا مَحْصُورٌ كَمَا تَرَى، فَآمِرْهُ وقل له: فليحج بالناس، وليس بفاعل، فَإِنْ أَبَى فَاحْجُجْ أَنْتَ بِالنَّاسِ. فَقَدِمْتُ الْحَجَّ فِي الْعَشْرِ، فَجِئْتُ خَالِدَ بْنَ الْعَاصِ، فَقُلْتُ لَهُ مَا قَالَ لِي عُثْمَانُ، فَقَالَ لِي: هَلْ طَاقَةٌ بِعَدَاوَةِ مَنْ تَرَى؟ فَأَبَى أَنْ يَحُجَّ وَقَالَ: فَحُجَّ أَنْتَ بِالنَّاسِ: فَأَنْتَ ابْنُ عَمِّ الرَّجُلِ، وَهَذَا الأَمْرُ لا يُفْضِي إِلا إِلَيْهِ- يَعْنِي عَلِيًّا- وَأَنْتَ أَحَقُّ أَنْ تَحْمِلَ لَهُ ذَلِكَ، فَحَجَجْتُ بِالنَّاسِ، ثُمَّ قَفَلْتُ فِي آخِرِ الشَّهْرِ، فَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَإِذَا عُثْمَانُ قَدْ قُتِلَ، وَإِذَا النَّاسُ يَتَوَاثَبُونَ

عَلَى رَقَبَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَلَمَّا رَآنِي عَلِيٌّ تَرَكَ النَّاسَ، وَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَانْتَجَانِي، فَقَالَ: مَا تَرَى فِيمَا وَقَعَ؟ فَإِنَّهُ قَدْ وَقَعَ أَمْرٌ عَظِيمٌ كَمَا تَرَى لا طَاقَةَ لأَحَدٍ بِهِ، فَقُلْتُ: أَرَى أَنَّهُ لا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْكَ الْيَوْمَ، فَأَرَى أَنَّهُ لا يُبَايَعُ الْيَوْمَ أَحَدٌ إِلا اتُّهِمَ بِدَمِ هَذَا الرَّجُلِ، فَأَبَى إِلا أَنْ يُبَايَعَ فَاتُّهِمَ بِدَمِهِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: فَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ لِي عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنِّي قَدِ اسْتَعْمَلْتُ خَالِدَ بْنَ الْعَاصِ بْنِ هِشَامٍ عَلَى مَكَّةَ، وَقَدْ بَلَغَ أَهْلُ مَكَّةَ مَا صَنَعَ النَّاسُ، فَأَنَا خَائِفٌ أَنْ يَمْنَعُوهُ الْمَوْقِفَ فَيَأْبَى، فَيُقَاتِلْهُمْ فِي حَرَمِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ وَأَمْنِهِ وَإِنَّ قَوْمًا جَاءُوا مِنْ كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم، فَرَأَيْتُ أَنْ أُوَلِّيَكَ أَمْرَ الْمَوْسِمِ وَكَتَبَ مَعَهُ إِلَى أَهْلِ الْمَوْسِمِ بِكِتَابٍ يَسْأَلُهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا لَهُ بِالْحَقِّ مِمَّنْ حَصَرَهُ فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فمر بعائشة في الصلصل، فقالت: يا بن عَبَّاسٍ، أَنْشُدُكَ اللَّهَ- فَإِنَّكَ قَدْ أُعْطِيتَ لِسَانًا إِزْعِيلا- أَنْ تُخَذِّلَ عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، وَأَنْ تُشَكِّكَ فِيهِ النَّاسَ، فَقَدْ بَانَتْ لَهُمْ بَصَائِرُهُمْ وَأَنْهَجَتْ، وَرَفَعَتْ لَهُمُ الْمَنَارَ، وَتَحَلَّبُوا مِنَ الْبِلْدَانِ لامر قد حم، وَقَدْ رَأَيْتُ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ قَدِ اتَّخَذَ عَلَى بُيُوتِ الأَمْوَالِ وَالْخَزَائِنِ مَفَاتِيحَ، فَإِنْ يَلِ يَسِرْ بِسِيرَةِ ابْنِ عَمِّهِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: قُلْتُ يَا أُمَّهْ لَوْ حَدَثَ بِالرَّجُلِ حَدَثٌ مَا فَزِعَ النَّاسُ إِلا إِلَى صَاحِبِنَا. فَقَالَتْ: إِيهًا عَنْكَ! إِنِّي لَسْتُ أُرِيدُ مُكَابَرَتَكَ وَلا مُجَادَلَتَكَ. قَالَ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ: فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ سُهَيْلٍ، أَنَّهُ انْتَسَخَ رِسَالَةَ عُثْمَانَ الَّتِي كَتَبَ بِهَا مِنْ عِكْرِمَةَ، فَإِذَا فِيهَا: بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ عَبْدِ اللَّه عُثْمَانَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، سلام عليكم، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإني أُذَكِّرُكُمْ بِاللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ وَعَلَّمَكُمُ الإِسْلامَ، وَهَدَاكُمْ مِنَ الضَّلالَةِ، وَأَنْقَذَكُمْ مِنَ الْكُفْرِ، وَأَرَاكُمُ الْبَيِّنَاتِ، وَأَوْسَعَ عَلَيْكُمْ مِنَ

الرزق، ونصركم على العدو، واسبغ عليكم نعمته، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ: «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» وقال عز وجل: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً» الى قوله: «لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» وقال وقوله الحق: «وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا» وقال وقوله الحق: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ» إِلَى قَوْلِهِ: «فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: «إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا» إِلَى «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» وَقَالَ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» الى «فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» وَقَالَ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ: «وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها» إِلَى قَوْلِهِ: «وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» وَقَالَ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» الى «وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» وَقَالَ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» إِلَى قَوْلِهِ: «وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» وَقَالَ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ: «إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ» الى «فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً»

اما بعد، فان الله عز وجل رَضِيَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ وَالْجَمَاعَةَ، وَحَذَّرَكُمُ الْمَعْصِيَةَ وَالْفُرْقَةَ وَالاخْتِلافَ، وَنَبَّأَكُمْ مَا قَدْ فَعَلَهُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْكُمْ فِيهِ لِيَكُونَ لَهُ الْحُجَّةُ عَلَيْكُمْ إِنْ عَصَيْتُمُوهُ، فَاقْبَلُوا نَصِيحَةَ اللَّهِ عز وجل وَاحْذَرُوا عَذَابَهُ، فَإِنَّكُمْ لَنْ تَجِدُوا أُمَّةً هَلَكَتْ إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ تَخْتَلِفَ، إِلا أَنْ يَكُونَ لَهَا رَأْسٌ يَجْمَعُهَا، وَمَتَى مَا تَفْعَلُوا ذَلِكَ لا تُقِيمُوا الصَّلاةَ جَمِيعًا، وَسَلَّطَ عَلَيْكُمْ عَدُوَّكُمْ، وَيَسْتَحِلُّ بَعْضُكُمْ حُرُمَ بَعْضٍ، وَمَتَى يُفْعَلُ ذَلِكَ لا يَقُمْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ دِينٌ، وَتَكُونُوا شِيَعًا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ لِرَسُولِهِ ص: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ» وَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِمَا أَوْصَاكُمُ اللَّهُ، وَأُحُذِّرُكُمْ عَذَابَهُ، فان شعيبا ص قَالَ لِقَوْمِهِ: «وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ» الى قوله: «رَحِيمٌ وَدُودٌ» . أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ أَقْوَامًا مِمَّنْ كَانَ يَقُولُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، أَظْهَرُوا لِلنَّاسِ أَنَّمَا يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْحَقِّ، وَلا يُرِيدُونَ الدُّنْيَا وَلا مُنَازَعَةً فِيهَا، فَلَمَّا عُرِضَ عَلَيْهِمُ الْحَقُّ إِذَا النَّاسُ فِي ذَلِكَ شَتَّى، مِنْهُمْ آخِذٌ لِلْحَقِّ، وَنَازِعُ عَنْهُ حِينَ يُعْطَاهُ، وَمِنْهُمْ تَارِكٌ لِلْحَقِّ وَنَازِلٌ عَنْهُ فِي الأَمْرِ، يُرِيدُ أَنْ يَبْتَزَّهُ بِغَيْرِ الْحَقِّ، طَالَ عَلَيْهِمْ عُمُرِي، وَرَاثَ عَلَيْهِمْ أَمَلُهُمُ الإِمْرَة، فَاسْتَعْجَلُوا الْقَدَرَ، وَقَدْ كَتَبُوا إِلَيْكُمْ أَنَّهُمْ قَدْ رَجَعُوا بِالَّذِي أَعْطَيْتُهُمْ، وَلا أَعْلَمُ أَنِّي تَرَكْتُ مِنَ الَّذِي عَاهَدْتُهُمْ عَلَيْهِ شَيْئًا، كَانُوا زَعَمُوا أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ الْحُدُودَ، فَقُلْتُ: أَقِيمُوهَا عَلَى مَنْ عَلِمْتُمْ تَعَدَّاهَا في احد، أَقِيمُوهَا عَلَى مَنْ ظَلَمَكُمْ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ. قَالُوا: كِتَابَ اللَّهِ يُتْلَى، فَقُلْتُ: فَلْيَتْلُهُ مِنْ تَلاهُ غَيْرُ غَالٍّ فِيهِ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ وَقَالُوا: الْمَحْرُومُ يُرْزَقُ، وَالْمَالُ يُوفَى لِيُسْتَنَّ فِيهِ السُّنَّةَ الْحَسَنَةَ، وَلا يُعْتَدَى فِي الْخُمُسِ وَلا فِي الصَّدَقَةِ، وَيُؤَمَّرُ ذُو الْقُوَّةِ وَالأَمَانَةِ،

وَتُرَدُّ مَظَالِمُ النَّاسِ إِلَى أَهْلِهَا، فَرَضِيتُ بِذَلِكَ واصطبرت له، وجئت نسوه النبي ص حَتَّى كَلَّمْتُهُنَّ، فَقُلْتُ: مَا تَأْمُرْنَنِي؟ فَقُلْنَ: تُؤَمِّرُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ وَتَدَعُ مُعَاوِيَةَ، فَإِنَّمَا أَمَّرَهُ أَمِيرٌ قَبْلَكَ، فَإِنَّهُ مُصْلِحٌ لأَرْضِهِ، رَاضٍ بِهِ جُنْدَهُ، وَارْدُدْ عَمْرًا، فَإِنَّ جُنْدَهُ رَاضُونَ بِهِ، وَأَمِّرْهُ فَلْيُصْلِحْ أَرْضَهُ، فَكُلُّ ذَلِكَ فَعَلْتُ وَإِنَّهُ اعْتُدِيَ عَلَيَّ بَعْدَ ذلك، وعدى عَلَى الْحَقِّ. كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ وَأَصْحَابِي الَّذِينَ زَعَمُوا فِي الأَمْرِ، اسْتَعْجَلُوا الْقَدَرَ، وَمَنَعُوا مِنِّي الصَّلاةَ، وَحَالُوا بَيْنِي وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ، وَابْتَزُّوا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ. كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ كِتَابِي هَذَا، وَهُمْ يُخَيِّرُونَنِي إِحْدَى ثَلاثٍ: إِمَّا يُقِيدُونَنِي بِكُلِّ رَجُلٍ أَصَبْتُهُ خَطَأً أَوْ صَوَابًا، غَيْرَ مَتْرُوكٍ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِمَّا أَعْتَزِلُ الأَمْرَ فَيُؤَمِّرُونَ آخَرَ غَيْرِي، وَإِمَّا يُرْسِلُونَ إِلَى مَنْ أَطَاعَهُمْ مِنَ الأَجْنَادِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ فَيَتَبَرَّءُونَ مِنَ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِي عَلَيْهِم مِنَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فَقُلْتُ لَهُمْ: أَمَّا إِقَادَتِي مِنْ نَفْسِي فَقَدْ كَانَ مِنْ قَبْلِي خُلَفَاءُ تُخْطِئُ وَتُصِيبُ، فَلَمْ يُسْتَقَدْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّمَا يُرِيدُونَ نَفْسِي، وَأَمَّا أَنْ أَتَبَرَّأَ مِنَ الإِمَارَةِ فَأَنْ يُكَلِّبُونِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَبَرَّأَ مِنْ عَمَلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَخِلافَتِهِ وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: يُرْسِلُونَ إِلَى الأَجْنَادِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ فَيَتَبَرَّءُونَ مِنْ طَاعَتِي، فَلَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ، وَلَمْ أَكُنِ اسْتَكْرَهْتُهُمْ مَنْ قَبْلُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَلَكِنْ أَتَوْهَا طَائِعِينَ، يَبْتَغُونَ مَرْضَاةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِصْلاحَ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَمَنْ يَكُنْ مِنْكُمْ إِنَّمَا يَبْتَغِي الدُّنْيَا فَلَيْسَ بِنَائِلٍ مِنْهَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ، وَمَنْ يَكُنْ إِنَّمَا يُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الآخِرَةَ وَصَلاحَ الأُمَّةِ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالسُّنَّةَ الْحَسَنَةَ التي استن بها رسول الله ص وَالْخَلِيفَتَانِ مِنْ بَعْدِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَإِنَّمَا يُجْزِي بِذَلِكُمُ اللَّهُ، وَلَيْسَ بِيَدِي جَزَاؤُكُمْ، وَلَوْ أَعْطَيْتُكُمُ الدُّنْيَا كُلَّهَا

لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ثَمَنٌ لِدِينِكُمْ، وَلَمْ يُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاحْتَسِبُوا مَا عِنْدَهُ، فَمَنْ يَرْضَ بِالنُّكْثِ مِنْكُمْ فَإِنِّي لا أَرْضَاهُ لَهُ، وَلا يَرْضَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ تنكثوا عهده واما الذى يخيروننى فَإِنَّمَا كُلَّهُ النَّزْعُ وَالتَّأْمِيرُ فَمَلَكْتُ نَفْسِي وَمَنْ مَعِي، وَنَظَرْتُ حُكْمَ اللَّهِ وَتَغْيِيرَ النِّعْمَةِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَكَرِهْتُ سُنَّةَ السُّوءِ وَشِقَاقَ الأُمَّةِ وَسَفْكَ الدِّمَاءِ، فَإِنِّي أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ وَالإِسْلامِ أَلا تَأْخُذُوا إِلا الْحَقَّ وَتُعْطَوْهُ مِنِّي وَتَرْكَ الْبَغْيِ عَلَى أَهْلِهِ، وَخُذُوا بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنِّي أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ الذى جعل عليكم العهد والموازره فِي أَمْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ: «وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا» ، فَإِنَّ هَذِهِ مَعْذِرَةٌ إِلَى اللَّهِ وَلَعَلَّكُمْ تَذْكُرُونَ. أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي لا أُبَرِّئُ نَفْسِي، «إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» ، وَإِنْ عَاقَبْتُ أَقْوَامًا فَمَا أَبْتَغِي بِذَلِكَ إِلا الْخَيْرَ، وَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ من كُلَّ عَمَلٍ عَمِلْتُهُ، وَأَسْتَغْفِرُهُ إِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا هُوَ، إِنَّ رَحْمَةَ رَبِّي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ*، إِنَّهُ لا يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمَ الضَّالُّونَ، وَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ مَا يَفْعَلُونَ وَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَغْفِرَ لِي وَلَكُمْ، وَأَنْ يُؤَلِّفَ قُلُوبَ هَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى الْخَيْرِ، وَيُكَرِّهَ إِلَيْهَا الْفِسْقَ، وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُسْلِمُونَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَرَأْتُ هَذَا الْكِتَابَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِمَكَّةَ بِيَوْمٍ قَالَ: وَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: دَعَانِي عُثْمَانُ، فَاسْتَعْمَلَنِي عَلَى الْحَجِّ قَالَ: فَخَرَجْتُ إِلَى مَكَّةَ، فَأَقَمْتُ لِلنَّاسِ الْحَجَّ، وَقَرَأْتُ عَلَيْهِمْ كِتَابَ عُثْمَانَ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَقَدْ بُويِعَ لِعَلِيٍّ

ذكر الخبر عن الموضع الذى دفن فيه عثمان رضى الله عنه ومن صلى عليه وولى امره بعد ما قتل إلى ان فرغ من امره ودفنه

ذكر الخبر عن الموضع الَّذِي دفن فِيهِ عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ومن صلى عَلَيْهِ وولي أمره بعد مَا قتل إِلَى أن فرغ من أمره ودفنه حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عبد الله المحمدي، قال: حدثنا عمرو بن حماد وعلى ابن حُسَيْن، قَالا: حَدَّثَنَا حُسَيْن بن عِيسَى، عَنْ أبيه، عن أبي ميمونة، عن أبي بشير العابدي، قَالَ: نبذ عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثلاثة أيام لا يدفن، ثُمَّ إن حكيم بن حزام القرشي ثُمَّ أحد بني أسد بن عبد العزى، وجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، كلما عَلِيًّا فِي دفنه، وطلبا إِلَيْهِ أن يأذن لأهله فِي ذَلِكَ، ففعل، وأذن لَهُمْ علي، فلما سمع بِذَلِكَ قعدوا لَهُ فِي الطريق بالحجارة، وخرج بِهِ ناس يسير من أهله، وهم يريدون بِهِ حائطا بِالْمَدِينَةِ، يقال لَهُ: حش كوكب، كَانَتِ اليهود تدفن فِيهِ موتاهم، فلما خرج بِهِ عَلَى الناس رجموا سريره، وهموا بطرحه، فبلغ ذَلِكَ عَلِيًّا، فأرسل إِلَيْهِم يعزم عَلَيْهِم ليكفن عنه، ففعلوا، فانطلق حَتَّى دفن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حش كوكب، فلما ظهر مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ عَلَى الناس أمر بهدم ذَلِكَ الحائط حَتَّى أفضى بِهِ إِلَى البقيع، فأمر الناس أن يدفنوا موتاهم حول قبره حَتَّى اتصل ذَلِكَ بمقابر الْمُسْلِمِينَ. وَحَدَّثَنِي جَعْفَر، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو وَعَلِيٌّ قَالا: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ أَبِيهِ، عن الْمُجَالِد بن سَعِيد الهمداني، عن يسار بن أبي كرب، عَنْ أَبِيهِ. - وَكَانَ أَبُو كرب عاملا عَلَى بيت مال عُثْمَان- قَالَ: دفن عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بين المغرب والعتمة، ولم يشهد جنازته إلا مَرْوَان بن الحكم وثلاثة من مواليه وابنته الخامسة، فناحت ابنته ورفعت صوتها تندبه، وأخذ الناس الحجارة وَقَالُوا: [نعثل نعثل!] وكادت ترجم، فَقَالُوا: الحائط الحائط، فدفن فِي حائط خارجا

وأما الْوَاقِدِيّ فإنه ذكر أن سعد بن راشد حدثه عن صالح بن كيسان، أنه قال: لما قتل عثمان رضي الله عنه قَالَ رجل: يدفن بدير سلع مقبرة اليهود، فَقَالَ حكيم بن حزام: وَاللَّهِ لا يكون هَذَا أبدا وأحد من ولد قصي حي، حَتَّى كاد الشر يلتحم، فَقَالَ ابن عديس البلوي: أيها الشيخ، وما يضرك أين يدفن! فَقَالَ حكيم بن حزام: لا يدفن إلا ببقيع الغرقد حَيْثُ دفن سلفه وفرطه، فخرج بِهِ حكيم بن حزام فِي اثني عشر رجلا، وفيهم الزُّبَيْر، فصلى عَلَيْهِ حكيم بن حزام قَالَ الْوَاقِدِيُّ: الثبت عندنا أنه صلى عَلَيْهِ جبير بن مطعم قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي الضحاك بن عُثْمَانَ، عن مخرمة بن سُلَيْمَانَ الوالبي، قَالَ: قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يوم الجمعة ضحوة، فلم يقدروا عَلَى دفنه، وأرسلت نائلة ابنة الْفُرَافِصَة إِلَى حويطب بن عبد العزى وجبير بن مطعم وأبي جهم بن حُذَيْفَة وحكيم بن حزام ونيار الأسلمي، فَقَالُوا: إنا لا نقدر أن نخرج بِهِ نهارا، وهؤلاء الْمِصْرِيُّونَ عَلَى الباب، فأمهلوا حَتَّى كَانَ بين المغرب والعشاء، فدخل القوم، فحيل بينهم وبينه، فَقَالَ أَبُو جهم: وَاللَّهِ لا يحول بيني وبينه أحد إلا مت دونه، احملوه، فحمل إِلَى البقيع، قَالَ: وتبعتهم نائلة بسراج استسرجته بالبقيع وغلام لِعُثْمَانَ، حَتَّى انتهوا إِلَى نخلات عَلَيْهَا حائط، فدقوا الجدار، ثُمَّ قبروه فِي تِلَكَ النخلات، وصلى عَلَيْهِ جبير ابن مطعم، فذهبت نائلة تريد أن تتكلم، فزبرها القوم، وَقَالُوا: إنا نخاف عَلَيْهِ من هَؤُلاءِ الغوغاء أن ينبشوه، فرجعت نائلة إِلَى منزلها. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْهُذَلِيّ، عن عَبْد اللَّهِ بن ساعدة، قَالَ: لبث عُثْمَان بعد مَا قتل ليلتين لا يستطيعون دفنه، ثُمَّ حمله أربعة: حكيم بن حزام، وجبير بن مطعم، ونيار بن مكرم، وأبو جهم بن حُذَيْفَة، فلما وضع ليصلى عَلَيْهِ، جَاءَ نفر من الأنصار يمنعونهم الصَّلاة عَلَيْهِ، فِيهِمْ أسلم بن أوس بن بجرة الساعدي، وأبو حية المازني، فِي عدة، ومنعوهم أن يدفن بالبقيع، فَقَالَ أَبُو جهم: ادفنوه، فقد صلى اللَّه عَلَيْهِ وملائكته، فَقَالُوا: لا وَاللَّهِ، لا يدفن فِي مقابر الْمُسْلِمِينَ أبدا، فدفنوه فِي حش كوكب فلما ملكت بنو أُمَيَّة أدخلوا ذَلِكَ الحش فِي البقيع، فهو الْيَوْم مقبرة بني أُمَيَّة

قَالَ مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى المخزومي، قَالَ: لما قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أرادوا حز رأسه، فوقعت عَلَيْهِ نائلة وأم البنين، فمنعنهم، وصحن وضربن الوجوه، وخرقن ثيابهن، فَقَالَ ابن عديس: اتركوه، فأخرج عُثْمَان ولم يغسل إِلَى البقيع، وأرادوا أن يصلوا عَلَيْهِ فِي موضع الجنائز، فأبت الأنصار، وأقبل عمير بن ضابئ وعثمان موضوع عَلَى باب، فنزا عَلَيْهِ، فكسر ضلعا من أضلاعه، وَقَالَ: سجنت ضابئا حَتَّى مات فِي السجن. وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي أويس، قَالَ: حَدَّثَنِي عم جدي الربيع بن مالك بن أبي عَامِر، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كنت أحد حملة عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حين قتل: حملناه عَلَى باب، وإن رأسه لتقرع الباب لإسراعنا بِهِ، وإن بنا من الخوف لأمرا عظيما حَتَّى واريناه فِي قبره فِي حش كوكب. وأما سيف، فإنه روى فِيمَا كتب بِهِ إلي السري، عَنْ شُعَيْبٍ، عنه، عَنْ أَبِي حَارِثَةَ وَأَبِي عُثْمَانَ ومحمد وَطَلْحَة، أن عُثْمَان لما قتل أرسلت نائلة إِلَى عبد الرَّحْمَن ابن عديس، فَقَالَتْ لَهُ: إنك أمس القوم رحما، وأولاهم بأن تقوم بأمري، أغرب عني هَؤُلاءِ الأموات قَالَ: فشتمها وزجرها، حَتَّى إذا كَانَ فِي جوف الليل خرج مَرْوَان حَتَّى أتى دار عُثْمَان، فأتاه زَيْد بن ثَابِت وَطَلْحَة بن عُبَيْد اللَّهِ وعلي والحسن وكعب بن مَالِكٍ وعامة من ثُمَّ من صحابه، فتوافى إِلَى موضع الجنائز صبيان ونساء، فأخرجوا عُثْمَان فصلى عَلَيْهِ مَرْوَان، ثُمَّ خرجوا بِهِ حَتَّى انتهوا إِلَى البقيع، فدفنوه فِيهِ مما يلي حش كوكب، حَتَّى إذا أصبحوا أتوا أعبد عُثْمَان الَّذِينَ قتلوا مَعَهُ فأخرجوهم فرأوهم فمنعوهم من ان يدفنوا، فأدخلوهم حش كوكب، فلما أمسوا خرجوا بعبدين مِنْهُمْ فدفنوهما إِلَى جنب عُثْمَان، ومع كل واحد منهما خمسة نفر وامرأة، فاطمة أم إِبْرَاهِيم بن عدي، ثُمَّ رجعوا فأتوا كنانة بن بشر، فَقَالُوا: إنك أمس القوم بنا رحما، فأمر بهاتين الجيفتين اللتين فِي الدار أن تخرجا، فكلمهم فِي ذَلِكَ، فأبوا، فَقَالَ: أنا جار لآل عُثْمَان من أهل مصر ومن لف لفهم، فاخرجوهما فارموا بهما، فجرا بأرجلهما

ذكر الخبر عن الوقت الذى قتل فيه عثمان رضى الله عنه

فرمى بهما على البلاط، فأكلتهما الكلاب، وَكَانَ العبدان اللذان قتلا يوم الدار يقال لهما نجيح وصبيح، فكان اسماهما الغالب عَلَى الرقيق لفضلهما وبلائهما، ولم يحفظ الناس اسم الثالث، ولم يغسل عُثْمَان، وكفن فِي ثيابه ودمائه وَلا غسل غلاماه. وَكَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُجَالِد، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: دفن عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ من الليل، وصلى عَلَيْهِ مَرْوَان بن الحكم، وخرجت ابنته تبكي فِي أثره، ونائلة ابنة الْفُرَافِصَة، رحمهم اللَّه . ذكر الخبر عن الوقت الَّذِي قتل فِيهِ عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اختلف فِي ذَلِكَ بعد إجماع جميعهم عَلَى أنه قتل فِي ذي الحجة، فَقَالَ بعضهم: قتل لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين من الهجرة، فَقَالَ الجمهور مِنْهُمْ: قتل لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين. ذكر الرواية بِذَلِكَ عن بعض من قَالَ إنه قتل فِي سنة ست وثلاثين: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سعد، قال: أخبرنا محمد ابن عمر، قال: حدثني أبو بكر بن إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وقاص، عن عُثْمَان بن مُحَمَّد الأخنسي، قَالَ الْحَارِث: وَحَدَّثَنَا ابن سعد، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْر بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي سبرة، عن يَعْقُوب بن زَيْد، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين بعد العصر، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة غير اثني عشر يَوْمًا، وَهُوَ ابن اثنتين وثمانين سنة. وَقَالَ أَبُو بَكْر: أَخْبَرَنَا مُصْعَب بن عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين بعد العصر

وَقَالَ آخرون: قتل فِي ذي الحجة سنة خمس وثلاثين لثماني عشرة ليلة خلت مِنْهُ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرو بن حماد وعلي، قالا: حدثنا حسين، عن أبيه، عن الْمُجَالِد بن سَعِيد الهمداني، عن عَامِر الشَّعْبِيّ، أنه قَالَ: حصر عُثْمَان بن عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الدار اثنتين وعشرين ليلة، وقتل صبحه ثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وعشرين من وفاة رَسُول اللَّهِ ص. وَحَدَّثَنِي أَحْمَد بْن ثَابِت الرازي، عمن حدثه، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، قَالَ: قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يَوْمًا. وَكَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، قالوا: قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين عَلَى رأس إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرا واثنين وعشرين يَوْمًا من مقتل عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وحدثت عن زكرياء بن عدي، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ ابن عقيل، قَالَ: قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سنة خمس وثلاثين. وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان ومحمد وَطَلْحَة، قَالُوا: قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة يوم الجمعة فِي آخر ساعة. وَقَالَ آخرون: قتل يوم الجمعة ضحوة

ذكر الخبر عن قدر مده حياته

ذكر من قَالَ ذَلِكَ: ذكر عن هِشَام بن الكلبي، أنه قَالَ: قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صبيحة الجمعة لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، فكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلا ثمانية أيام. حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الضحاك بن عُثْمَانَ، عن مخرمة بن سُلَيْمَانَ الوالبي، قَالَ: قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يوم الجمعة ضحوة لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين. وَقَالَ آخرون: قتل فِي أيام التشريق ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي أحمد بْن زهير، قال: حدثنا أبي أبو خيثمة، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: سمعت أبي قال: سمعت يونس بن يَزِيدَ الأيلي، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فزعم بعض الناس أنه قتل فِي أيام التشريق. وَقَالَ بعضهم: قتل يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة . ذكر الخبر عن قدر مدة حياته اختلف السلف قبلنا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بعضهم: كَانَتْ مدة ذَلِكَ اثنتين وثمانين سنة. ذكر من قَالَ ذلك: حدثني الحارث، قَالَ: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عُمَرَ، أن عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قتل وَهُوَ ابن اثنتين وثمانين سنة. قَالَ مُحَمَّد بن عمر: وحدثني الضحاك بن عثمان، عن مخرمة بن سُلَيْمَانَ الوالبي، قَالَ: قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ ابن اثنتين وثمانين سنه

ذكر الخبر عن صفه عثمان

قَالَ مُحَمَّد: وَحَدَّثَنِي سعد بن راشد عن صالح بن كيسان، قَالَ: قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ ابن اثنتين وثمانين سنة وأشهر. وَقَالَ آخرون: قتل وَهُوَ ابن تسعين أو ثمان وثمانين. ذكر من قَالَ ذَلِكَ: حدثت عن الْحَسَن بن مُوسَى الأشيب، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هلال، عن قَتَادَة: أن عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قتل وَهُوَ ابن تسعين أو ثمان وثمانين سنة. وَقَالَ آخرون: قتل وَهُوَ ابن خمس وسبعين سنة، وَذَلِكَ قول ذكر عن هِشَام بن مُحَمَّد. وَقَالَ بعضهم: قتل وَهُوَ ابن ثلاث وستين، وهذا قول نسبه سيف بن عُمَرَ إِلَى جماعة كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، أن أبا حَارِثَةَ وأبا عُثْمَان ومحمدا وَطَلْحَة، قَالُوا: قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ ابن ثلاث وستين سنة. وَقَالَ آخرون: قتل وَهُوَ ابن ست وثمانين. ذكر من قَالَ ذَلِكَ: حدثني محمد بن موسى الحرشي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، عن قَتَادَة، قَالَ: قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ ابن ست وثمانين ذكر الخبر عن صفة عُثْمَان حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قال: زعم أبو المقدام، عن الحسن بن أبي الحسن، قال: دخلت المسجد، فإذا أنا بعثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ متكئا عَلَى ردائه، فنظرت إِلَيْهِ، فإذا رجل حسن الوجه، وإذا بوجهه نكتات من جدري، وإذا شعره قَدْ كسا ذراعيه

ذكر الخبر عن وقت اسلامه وهجرته

حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن عُمَرَ، قَالَ: سألت عَمْرو بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عنبسة وعروة بن خالد بن عبد الله ابن عَمْرو بن عُثْمَانَ وعبد الرَّحْمَن بن أبي الزناد عن صفة عُثْمَان، فلم أر بينهم اختلافا، قَالُوا: كَانَ رجلا ليس بالقصير وَلا بالطويل، حسن الوجه، رقيق البشره، كث اللحية عظيمها، أسمر اللون، عظيم الكراديس، عظيم مَا بين المنكبين، كثير شعر الرأس، يصفر لحيته. وَحَدَّثَنِي أَحْمَد بن زهير، قَالَ: حَدَّثَنَا أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا وهب بن جرير بن حازم، قَالَ: سمعت أبي يقول: سمعت يونس بن يزيد الأيلي، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: كَانَ عُثْمَان رجلا مربوعا، حسن الشعر، حسن الوجه، أصلع، أروح الرجلين . ذكر الخبر عن وقت إسلامه وهجرته حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ إسلام عثمان قديما قبل دخول رسول الله ص دار الأرقم قَالَ: وَكَانَ ممن هاجر مِنْ مَكَّةَ إِلَى أرض الحبشة الهجرة الأولى والهجرة الثانية، وَمَعَهُ فيهما جميعا امرأته رقية بنت رسول الله ص . ذكر الخبر عما كَانَ يكنى بِهِ عُثْمَان بن عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أخبرنا محمد ابن عُمَرَ أن عُثْمَان بن عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يكنى فِي الْجَاهِلِيَّة أبا عَمْرو، فلما كَانَ فِي الإِسْلام ولد لَهُ من رقيه بنت رسول الله ص غلام فسماه عَبْد اللَّهِ، واكتنى بِهِ، فكناه الْمُسْلِمُونَ أبا عَبْد اللَّهِ، فبلغ عَبْد اللَّهِ ست سنين، فنقره ديك عَلَى عينه، فمرض فمات فِي جمادى الأولى سنة أربع من

ذكر نسبه

الهجره، فصلى عليه رسول الله ص، ونزل فِي حفرته عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ هِشَام بن مُحَمَّد: كَانَ يكنى أبا عَمْرو . ذكر نسبه هُوَ عُثْمَان بن عَفَّانَ بْن العاص بْن أُمَيَّة بْن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي وأمه أروى ابنة كريز بن رَبِيعَة بن حبيب بن عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ، وأمها أم حكيم بنت عبد المطلب . ذكر أولاده وأزواجه رقيه وأم كلثوم ابنتا رسول الله ص، ولدت لَهُ رقية عَبْد اللَّهِ. وفاختة ابنة غزوان بن جابر بن نسيب بن وهيب بن زيد بن مالك ابن عبد بن عوف بن الْحَارِث بن مازن بن مَنْصُور بن عِكْرِمَة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر ولدت لَهُ ابنا فسماه عَبْد اللَّهِ، وَهُوَ عَبْد اللَّهِ الأصغر، هلك. وأم عَمْرو بنت جندب بن عَمْرو بن حممة بن الْحَارِث بن رفاعة بن سَعْدِ بْنِ ثعلبة بن لؤي بن عَامِر بن غنم بن دهمان بن منهب بن دوس، من الأزد، ولدت لَهُ عمرا وخالدا وأبانا وعمر ومريم. وفاطمة ابنة الْوَلِيد بن عبد شمس بْن الْمُغِيرَةِ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عُمَرَ بن مخزوم، ولدت لَهُ الْوَلِيد وسعيدا وأم سَعِيد، بني عُثْمَان. وأم البنين بنت عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ الفزاري، ولدت لَهُ عَبْد الْمَلِكِ بن عُثْمَانَ، هلك. ورملة ابنة شيبة بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مناف بن قصي، ولدت لَهُ عَائِشَةَ وأم أبان وأم عَمْرو، بنات عُثْمَان. ونائلة ابنة الْفُرَافِصَة بن الأحوص بن عَمْرو بن ثعلبة بن الْحَارِث بن

ذكر أسماء عمال عثمان رضى الله عنه في هذه السنه على البلدان

حصن بن ضمضم بن عدي بن جناب بن كلب، ولدت لَهُ مريم ابنة عُثْمَان. وَقَالَ هِشَام بن الكلبي: ولدت أم البنين بنت عيينة بن حصن لِعُثْمَانَ عَبْد الْمَلِكِ وعتبة وَقَالَ أَيْضًا: ولدت نائلة عنبسة. وزعم الْوَاقِدِيّ أن لِعُثْمَانَ ابنة تدعى أم البنين بنت عُثْمَان من نائلة، قَالَ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ بن أَبِي سُفْيَانَ. وقتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وعنده رملة ابنة شيبة ونائلة وأم البنين بنت عيينة وفاختة ابنة غزوان، غير أنه- فِيمَا زعم عَلِيّ بن مُحَمَّدٍ- طلق أم البنين وَهُوَ محصور. فهؤلاء أزواجه اللواتي كن لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّة والإسلام، وأولاده: رجالهم ونساؤهم . ذكر أسماء عمال عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذِهِ السنة عَلَى البلدان قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وعماله عَلَى الأمصار- فِيمَا حَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن أبي الزناد- عَلَى مكة عَبْد اللَّهِ بن الحضرمي، وعلى الطائف الْقَاسِم بن رَبِيعَةَ الثقفى، وعلى صنعاء يعلى بن منية، وعلى الجند عَبْد اللَّهِ بن أَبِي رَبِيعَةَ، وعلى الْبَصْرَةِ عَبْد اللَّهِ بن عَامِر بن كريز- خرج منها فلم يول عَلَيْهَا عُثْمَان أحدا- وعلى الْكُوفَة سَعِيد بن الْعَاصِ- أخرج منها فلم يترك يدخلها- وعلى مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح- قدم عَلَى عُثْمَانَ، وغلب مُحَمَّد بن أبي حُذَيْفَة عَلَيْهَا وَكَانَ عَبْد اللَّهِ بن سَعْد استخلف على مصر السائب ابن هِشَام بن عَمْرو العامري، فأخرجه مُحَمَّد بن ابى حذيفة- وعلى الشام معاويه ابن أَبِي سُفْيَانَ. وفيما كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عُثْمَانَ، قَالا: مات عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وعلى الشام مُعَاوِيَة، وعامل مُعَاوِيَة عَلَى حمص عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن الْوَلِيد، وعلى قنسرين حبيب بن مسلمة، وعلى الأردن أَبُو الأعور بن سُفْيَان، وعلى فلسطين عَلْقَمَةُ بن حكيم الكناني، وعلى البحر عَبْد اللَّهِ بن قيس الفزاري وعلى القضاء أَبُو الدرداء

ذكر بعض خطب عثمان رضى الله عنه

وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ عَطِيَّةَ، قَالَ: مات عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وعلى الْكُوفَة، عَلَى صلاتها أَبُو مُوسَى، وعلى خراج السواد جابر بن عمرو المزني- وَهُوَ صاحب المسناة إِلَى جانب الْكُوفَة- وسماك الأَنْصَارِيّ. وعلى حربها القعقاع بن عَمْرو، وعلى قرقيسياء جرير بن عَبْدِ اللَّهِ، وعلى أذربيجان الأشعث بن قيس، وعلى حلوان عتيبة بن النهاس، وعلى ماه مالك بن حبيب، وعلى همذان النسير، وعلى الري سَعِيد بن قيس، وعلى إصبهان السَّائِب بن الأقرع، وعلى ماسبذان حبيش، وعلى بيت المال عقبه ابن عَمْرو وَكَانَ عَلَى قضاء عُثْمَان يَوْمَئِذٍ زَيْد بن ثَابِت . ذكر بعض خطب عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: خَطَبَ عُثْمَانُ النَّاسَ بَعْدَ مَا بُويِعَ، فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ حُمِّلْتُ وَقَدْ قَبِلْتُ، أَلا وَإِنِّي مُتَّبِعٌ وَلَسْتُ بِمُبْتَدِعٍ، أَلا وَإِنَّ لَكُمْ عَلَيَّ بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وسنه نبيه ص ثَلاثًا: اتِّبَاعُ مَنْ كَانَ قَبْلِي فِيمَا اجْتَمَعْتُمْ عَلَيْهِ وَسَنَنْتُمْ، وَسَنُّ سُنَّةَ أَهْلِ الْخَيْرِ فِيمَا لَمْ تَسِنُّوا عَنْ مَلإٍ، وَالْكَفُّ عَنْكُمْ إِلا فِيمَا اسْتَوْجَبْتُمْ أَلا وَإِنَّ الدُّنْيَا خَضِرَةٌ قَدْ شُهِّيَتْ إِلَى النَّاسِ، وَمَالَ إِلَيْهَا كَثِيرٌ مِنْهُمْ، فَلا تَرْكَنُوا إِلَى الدُّنْيَا وَلا تَثِقُوا بِهَا، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِثَقَةٍ، وَاعْلَمُوا أَنَّهَا غَيْرُ تَارِكَةٍ إِلا مَنْ تَرَكَهَا. وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ بَدْرِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: آخِرُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي جَمَاعَةٍ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا أَعْطَاكُمُ الدُّنْيَا لِتَطْلُبُوا بِهَا الآخِرَةَ، وَلَمْ يُعْطِكُمُوهَا لِتَرْكَنُوا إِلَيْهَا، إِنَّ الدُّنْيَا تفنى والآخرة تبقى، فلا تبطرنكم الفانية، ولا تَشْغَلَنَّكُمْ عَنِ الْبَاقِيَةِ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى، فَإِنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ، وَإِنَّ الْمَصِيرَ إِلَى اللَّهِ اتَّقُوا اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ، فَإِنَّ تَقْوَاهُ جُنَّةٌ مِنْ بَأْسِهِ، وَوَسِيلَةٌ عِنْدَهُ، وَاحْذَرُوا

ذكر الخبر عمن كان يصلى بالناس في مسجد رسول الله ص حين حصر عثمان

مِنَ اللَّهِ الْغِيَرَ، وَالْزَمُوا جَمَاعَتَكُمْ لا تَصِيرُوا أَحْزَابًا، «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً» . إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ . ذِكْرُ الْخَبَرِ عَمَّنْ كَانَ يصلى بالناس في مسجد رسول الله ص حِينَ حُصِرَ عُثْمَانُ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ: جَاءَ الْمُؤَذِّنُ، سَعْدٌ الْقَرَظُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَقَالَ: مَنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: نَادِ خَالِدَ بْنَ زَيْدٍ، فَنَادَى خَالِدَ بْنَ زَيْدٍ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ- فَإِنَّهُ لأَوَّلُ يَوْمٍ عَرَفَ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ- فَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ أَيَّامًا، ثُمَّ صَلَّى عَلِيٌّ بَعْدَ ذَلِكَ بِالنَّاسِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، قَالَ: جَاءَ الْمُؤَذِّنُ إِلَى عُثْمَانَ فَآذَنَهُ بِالصَّلاةِ، فَقَالَ: لا أَنْزِلُ أُصَلِّي، اذْهَبْ إِلَى مَنْ يُصَلِّي فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ إِلَى عَلِيٍّ، فَأَمَرَ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ، فَصَلَّى الْيَوْمَ الَّذِي حُصِرَ فِيهِ عُثْمَانُ الْحَصْرَ الآخر، وهو ليله رئى هِلالِ ذِي الْحِجَّةِ، فَصَلَّى بِهِمْ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الْعِيدُ صَلَّى عَلِيٌّ الْعِيدَ، ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ حَتَّى قُتِلَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عن ابن عمر، قَالَ: لما حصر عُثْمَان صلى بِالنَّاسِ أَبُو أيوب أياما، ثُمَّ صلى بهم علي الجمعة والعيد، حَتَّى قتل رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذكر مَا رثي بِهِ من الأشعار وتقاول الشعراء بعد مقتله فِيهِ، فمن مادح وهاج، ومن نائح باك، ومن سار فرح، فكان ممن يمدحه حسان بن ثَابِت وكعب بن مالك الأنصاريان

وتميم بن أبي بن مقبل فِي آخرين غيرهم مما مدحه بِهِ وبكاه حسان وهجا بِهِ قاتله: أتركتم غزو الدروب وراءكم ... وغزوتمونا عِنْدَ قبر مُحَمَّد! فلبئس هدي الْمُسْلِمِينَ هديتم ... ولبئس أمر الفاجر المتعمد! إن تقدموا نجعل قرى سرواتكم ... حول الْمَدِينَةِ كل لين مذود أو تدبروا فلبئس مَا سافرتم ... ولمثل أمر أميركم لم يرشد وكأن أَصْحَاب النَّبِيّ عشية ... بدن تذبح عِنْدَ باب المسجد أبكي أبا عَمْرو لحسن بلائه ... أمسى مقيما فِي بقيع الغرقد. وَقَالَ أَيْضًا: إن تمس دار ابن أروى مِنْهُ خاوية ... باب صريع وباب محرق خرب فقد يصادف باغي الخير حاجته ... فِيهَا ويهوى إليها الذكر والحسب يا ايها الناس أبدوا ذات أنفسكم ... لا يستوي الصدق عِنْدَ اللَّه والكذب قوموا بحق مليك الناس تعترفوا ... بغارة عصب من خلفها عصب فِيهِمْ حبيب شهاب الموت يقدمهم ... مستلئما قَدْ بدا فِي وجهه الغضب وله فِيهِ أشعار كثيرة ... وَقَالَ كعب بن مالك الأَنْصَارِيّ: يَا للرجال للبك المخطوف ... ولدمعك المترقرق المنزوف ويح لأمر قَدْ أتاني رائع ... هد الجبال فأنقضت برجوف قتل الخليفة كَانَ أمرا مفظعا ... قامت لذاك بلية التخويف قتل الإمام لَهُ النجوم خواضع ... والشمس بازغة لَهُ بكسوف يَا لهف نفسي إذ تولوا غدوة ... بالنعش فوق عواتق وكتوف!

ولوا ودلوا فِي الضريح أخاهم ... ماذا أجن ضريحه المسقوف! من نائل او سودد وحمالة ... سبقت لَهُ فِي الناس أو معروف كم من يتيم كَانَ يجبر عظمه ... أمسى بمنزله الضياع يطوف مَا زال يقبلهم ويرأب ظلمهم ... حَتَّى سمعت برنة التلهيف أمسى مقيما بالبقيع وأصبحوا ... متفرقين قَدْ أجمعوا بخفوف النار موعدهم بقتل امامهم ... عثمان ظهرا في البلاد، عفيف جمع الحمالة بعد حلم راجح ... والخير فِيهِ مبين معروف يَا كعب لا تنفك تبكي مالكا ... مَا دمت حيا فِي البلاد تطوف فابكي أبا عَمْرو عتيقا واصلا ... ولواءهم إذ كَانَ غير سخيف وليبكه عِنْدَ الحفاظ لمعظم ... والخيل بين مقانب وصفوف قتلوك يَا عُثْمَانُ غير مدنس ... قتلا لعمرك واقفا بسقيف وَقَالَ حسان: من سره الموت صرفا لا مزاج لَهُ ... فليأت مأسدة فِي دار عثمانا مستشعري حلق الماذي قَدْ شفعت ... قبل المخاطم بيض زان أبدانا صبرا فدى لكم أمي وما ولدت ... قَدْ ينفع الصبر فِي المكروه أحيانا فقد رضينا بأهل الشام نافرة ... وبالأمير وبالإخوان إخوانا إني لمنهم وإن غابوا وإن شهدوا ... مَا دمت حيا وما سميت حسانا لتسمعن وشيكا فِي ديارهم ... اللَّه أكبر يَا ثأرات عثمانا يَا ليت شعري وليت الطير تخبرني ... مَا كَانَ شأن علي وابن عفانا! وَقَالَ الْوَلِيد بن عُقْبَةَ بن أبي معيط يحرض عمارة بن عُقْبَةَ:

ألا إن خير الناس بعد ثلاثة ... قتيل التُّجِيبِيّ الَّذِي جَاءَ من مصر فإن يك ظني بابن أمي صادقا ... عمارة لا يطلب بذحل وَلا وتر يبيت وأوتار ابن عفان عنده ... مخيمة بين الخورنق والقصر فأجابه الفضل بن عباس: أتطلب ثأرا لست مِنْهُ وَلا لَهُ ... وأين ابن ذكوان الصفوري من عَمْرو! كما اتصلت بنت الحمار بأمها ... وتنسى أباها إذ تُسامي أولي الفخر أَلا إن خير الناس بعد مُحَمَّد ... وصي النَّبِيّ المصطفى عِنْدَ ذي الذكر وأول من صلى وصنو نبيه ... وأول من أردى الغواة لدى بدر فلو رأت الأنصار ظلم ابن عمكم ... لكانوا لَهُ من ظلمه حاضري النصر كفى ذاك عيبا أن يشيروا بقتله ... وأن يسلموه للأحابيش من مصر وَقَالَ الحباب بن يَزِيدَ المجاشعي، عم الفرزدق: لعمر أبيك فلا تجزعن ... لقد ذهب الخير إلا قليلا لقد سفه الناس فِي دينهم ... وخلى ابن عفان شرا طويلا أعاذل كل امرئ هالك ... فسيري إِلَى اللَّهِ سيرا جميلا

خلافه امير المؤمنين على بن ابى طالب

خلافة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عَلِيّ بن أبي طالب وفي هَذِهِ السنة بويع لعلي بن أبي طالب بِالْمَدِينَةِ بالخلافة. ذكر الخبر عن بيعة من بايعه، والوقت الَّذِي بويع فِيهِ اختلف السلف من أهل السير فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بعضهم: سأل عَلِيًّا أَصْحَاب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتقلد لَهُمْ وللمسلمين، فأبى عَلَيْهِم، فلما أبوا عَلَيْهِ، وطلبوا إِلَيْهِ، تقلد ذَلِكَ لَهُمْ. ذكر الرواية بِذَلِكَ عمن رواه: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَمَّدِيُّ، قال: حدثنا عمرو بن حماد وعلى ابن حُسَيْنٍ، قَالا: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ الْفَزَارِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ الأَشْجَعِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بن الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي حِينَ قُتِلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَامَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، فأتاه اصحاب رسول الله ص، فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل، ولا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ إِمَامٍ، وَلا نَجِدُ الْيَوْمَ أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْكَ، لا أَقْدَمَ سابقه، ولا اقرب من رسول الله ص [فَقَالَ: لا تَفْعَلُوا، فَإِنِّي أَكُونُ وَزِيرًا خَيْرٌ من ان أَكُونُ أَمِيرًا، فَقَالُوا: لا، وَاللَّهِ مَا نَحْنُ بِفَاعِلِينَ حَتَّى نُبَايِعَكَ، قَالَ: فَفِي الْمَسْجِدِ، فَإِنَّ بَيْعَتِي لا تَكُونُ خَفِيًّا، وَلا تَكُونُ إِلا عَنْ رِضَا الْمُسْلِمِينَ] قَالَ سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: فَلَقَدْ كَرِهْتُ أَنْ يَأْتِيَ الْمَسْجِدَ مَخَافَةَ أَنْ يَشْغَبَ عَلَيْهِ، وَأَبَى هُوَ إِلا الْمَسْجِدَ، فَلَمَّا دَخَلَ دَخَلَ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارِ فَبَايَعُوهُ، ثُمَّ بَايَعَهُ النَّاسُ. وحدثني جعفر، قال: حدثنا عمرو وعلي، قالا: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أَبِي بَشِيرٍ الْعَابِدِيِّ، قَالَ: كُنْتُ بِالْمَدِينَةِ حِينَ قُتِلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ، فِيهِمْ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، فَأَتَوْا عَلِيًّا فَقَالُوا: يَا أَبَا حَسَنٍ، هَلُمَّ نُبَايِعُكَ، فَقَالَ: لا حَاجَةَ لِي فِي أَمْرِكُمْ، أَنَا مَعَكُمْ فَمَنِ اخْتَرْتُمْ فَقَدْ رَضِيتُ بِهِ، فَاخْتَارُوا وَاللَّهِ فَقَالُوا: مَا نَخْتَارُ

غَيْرَكَ، قَالَ: فَاخْتَلَفُوا إِلَيْهِ بَعْدَ مَا قُتِلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِرَارًا، ثُمَّ أَتَوْهُ فِي آخِرِ ذَلِكَ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّهُ لا يَصْلُحُ النَّاسُ إِلا بِإِمْرَةٍ، وَقَدْ طَالَ الأَمْرُ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ قَدِ اخْتَلَفْتُمْ إِلَيَّ وَأَتَيْتُمْ، وَإِنِّي قَائِلٌ لَكُمْ قَوْلا إِنْ قَبِلْتُمُوهُ قَبِلْتُ أَمْرَكُمْ، وَإِلا فَلا حَاجَةَ لِي فِيهِ قَالُوا: مَا قُلْتَ مِنْ شَيْءٍ قَبِلْنَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَجَاءَ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فقال: انى قد كُنْتُ كَارِهًا لأَمْرِكُمْ، فَأَبَيْتُمْ إِلا أَنْ أَكُونَ عَلَيْكُمْ، أَلا وَإِنَّهُ لَيْسَ لِي أَمْرٌ دُونَكُمْ، إِلا أَنَّ مَفَاتِيحَ مَالِكُمْ مَعِي، أَلا وَإِنَّهُ لَيْسَ لِي أَنْ آخُذَ مِنْهُ دِرْهَمًا دُونَكُمْ، رَضِيتُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ بَايَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ أَبُو بَشِيرٍ: وانا يومئذ عند منبر رسول الله ص قَائِمٌ أَسْمَعُ مَا يَقُولُ. وَحَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، قال: لما قتل عثمان رضي الله عنه، خَرَجَ عَلِيٌّ إِلَى السُّوقِ، وَذَلِكَ يَوْمَ السَّبْتِ لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، فَاتَّبَعَهُ النَّاسُ وَبَهَشُوا فِي وَجْهِهِ، فَدَخَلَ حَائِطَ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَبْذُولٍ، وَقَالَ لأَبِي عَمْرَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مِحْصَنٍ: أَغْلِقِ الْبَابَ، فَجَاءَ النَّاسُ فَقَرَعُوا الْبَابَ، فَدَخَلُوا، فِيهِمْ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، فَقَالا: يَا عَلِيُّ ابْسُطْ يَدَكَ فَبَايَعَهُ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، فَنَظَرَ حَبِيبُ بْنُ ذُؤَيْبٍ إِلَى طَلْحَةَ حِينَ بَايَعَ، فَقَالَ: أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْبَيْعَةِ يَدٌ شَلاءُ، لا يَتِمُّ هَذَا الأَمْرُ! وَخَرَجَ عَلِيٌّ إِلَى الْمَسْجِدِ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَعَلَيْهِ إِزَارٌ وَطَاقٌ وَعِمَامَةُ خَزٍّ، وَنَعْلاهُ فِي يَدِهِ، مُتَوَكِّئًا عَلَى قَوْسٍ، فَبَايَعَهُ النَّاسُ وَجَاءُوا بِسَعْدٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ: بَايِعْ، قَالَ: لا أُبَايِعُ حَتَّى يُبَايِعَ النَّاسُ، وَاللَّهِ مَا عَلَيْكَ مِنِّي بَأْسٌ، قَالَ: خَلُّوا سَبِيلَهُ وَجَاءُوا بِابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: بَايِعْ، قَالَ: لا أُبَايِعُ حَتَّى يُبَايِعَ النَّاسُ، قَالَ: ائْتِنِي بِحَمِيلٍ، قَالَ: لا أَرَى حَمِيلا، قَالَ الأَشْتَرُ: خَلِّ عَنِّي أَضْرِبُ عُنُقَهُ، قَالَ عَلِيٌّ: دَعُوهُ، [أَنَا حَمِيلُهُ، إِنَّكَ- مَا عُلِمْتَ- لَسَيِّئَ الْخُلُقِ صَغِيرًا وَكَبِيرًا]

وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاق بن إدريس، قَالَ: حَدَّثَنَا هشيم، قَالَ: أَخْبَرَنَا حميد، عن الْحَسَن، قَالَ: رأيت الزُّبَيْر ابن العوام بايع عَلِيًّا فِي حش من حشان الْمَدِينَةِ. وَحَدَّثَنِي أَحْمَد بن زهير، قَالَ: حَدَّثَنِي ابى، قال: حدثنا وهب ابن جرير، قَالَ: سمعت أبي، قَالَ: سمعت يونس بن يَزِيدَ الأيلي، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: بايع الناس عَلِيَّ بن أَبِي طَالِبٍ، فأرسل إِلَى الزُّبَيْر وَطَلْحَة فدعاهما إِلَى البيعة، فتلكأ طَلْحَةُ، فقام مالك الاشتر وسل سيفه وقال: وَاللَّهِ لتبايعن أو لأضربن بِهِ مَا بين عينيك، فَقَالَ طَلْحَةُ: وأين المهرب عنه! فبايعه، وبايعه الزُّبَيْر والناس وسأل طَلْحَة وَالزُّبَيْر أن يؤمرهما عَلَى الْكُوفَة والبصرة، فَقَالَ: تكونان عندي فأتحمل بكما، فإني وحش لفراقكما قَالَ الزُّهْرِيّ: وَقَدْ بلغنا أنه قَالَ لهما: [إن أحببتما ان تبايعا لي وان أحببتما بايعتكما، فقالا: بل نبايعك،] وقالا بعد ذَلِكَ: إنما صنعنا ذَلِكَ خشية عَلَى أنفسنا، وَقَدْ عرفنا أنه لَمْ يَكُنْ ليبايعنا فظهرا إِلَى مكة بعد قتل عُثْمَان بأربعة أشهر. وَحَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مخنف، عن عَبْد الْمَلِكِ بْن أبي سُلَيْمَان، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مُحَمَّدِ بن الحنفية، قَالَ: كنت أمسي مع أبي حين قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى دخل بيته، فأتاه ناس من أَصْحَاب رَسُولِ اللَّهِ ص، فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل، ولا بد من إمام لِلنَّاسِ، قَالَ: أو تكون شورى؟ قَالُوا: أنت لنا رضا، قَالَ: فالمسجد إذا يكون عن رضا مِنَ النَّاسِ. فخرج إِلَى الْمَسْجِدِ فبايعه من بايعه، وبايعت الأنصار عليا الا نفيرا يسيرا، فقال طلحه: ما لنا من هَذَا الأمر إلا كحسة أنف الكلب. وَحَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شيخ من بني هاشم، عن عَبْد اللَّهِ بن الْحَسَن، قَالَ: لما قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بايعت الأنصار عَلِيًّا إلا نفيرا يسيرا، مِنْهُمْ حسان بن ثَابِت، وكعب بن مالك،

ومسلمة بن مخلد، وأبو سَعِيد الخدري، ومحمد بن مسلمة، والنعمان بن بشير، وزَيْد بن ثَابِت، ورافع بن خديج، وفضالة بن عبيد، وكعب بن عجره، كَانُوا عثمانية فَقَالَ رجل لعبد اللَّه بن حسن: كيف أبى هَؤُلاءِ بيعة علي! وكانوا عثمانية قَالَ: أما حسان فكان شاعرا لا يبالى ما يصنع، واما زيد ابن ثَابِت فولاه عُثْمَان الديوان وبيت المال، فلما حصر عُثْمَان، قَالَ: يَا معشر الأنصار، كونوا أنصارا لِلَّهِ مرتين، فَقَالَ أَبُو أيوب: مَا تنصره إلا أنه أكثر لك من العضدان فأما كعب بن مَالِكٍ فاستعمله عَلَى صدقة مزينة وترك مَا أخذ مِنْهُمْ لَهُ. قَالَ: وَحَدَّثَنِي من سمع الزُّهْرِيّ يقول: هرب قوم مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الشام ولم يبايعوا عَلِيًّا، ولم يبايعه قدامة بن مظعون، وعبد اللَّه بن سلام، والمغيره ابن شُعْبَةَ وَقَالَ آخرون: إنما بايع طَلْحَة وَالزُّبَيْر عَلِيًّا كرها. وَقَالَ بعضهم: لم يبايعه الزُّبَيْر. ذكر من قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بن أحمد المروزي، قَالَ: حدثني أبي، قال: حدثني سُلَيْمَان، قال: حدثني عبد الله، عن جرير بن حازم، قال: حدثنى هشام ابن أبي هِشَام مولى عُثْمَان بن عَفَّانَ، عن شيخ من أهل الْكُوفَة، يحدثه عن شيخ آخر، قَالَ: حصر عُثْمَان وعلي بخيبر، فلما قدم أرسل إِلَيْهِ عُثْمَان يدعوه، فانطلق، فقلت: لأنطلقن مَعَهُ ولأسمعن مقالتهما، فلما دخل عَلَيْهِ كلمه عُثْمَان، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن لي عَلَيْك حقوقا، حق الإِسْلام، وحق الإخاء- وَقَدْ علمت أَنَّ رسول الله ص حين آخى بين الصحابة آخى بيني وبينك- وحق القرابة والصهر، وما جعلت لي فِي عنقك من العهد والميثاق، فو الله لو لَمْ يَكُنْ من هَذَا شَيْء ثُمَّ كنا إنما نحن فِي جاهلية، لكان مبطأ عَلَى بني عبد مناف أن يبتزهم أخو بني تيم ملكهم

[فتكلم علي، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فكل مَا ذكرت من حقك علي عَلَى مَا ذكرت، أما قولك: لو كنا فِي جاهلية لكان مبطأ عَلَى بني عبد مناف أن يبتزهم أخو بني تيم ملكهم فصدقت، وسيأتيك الخبر] . ثُمَّ خرج فدخل المسجد فرأى أُسَامَة جالسا، فدعاه، فاعتمد عَلَى يده، فخرج يمشي إِلَى طَلْحَة وتبعته، فدخلنا دار طَلْحَة بن عُبَيْد اللَّهِ وَهِيَ دحاس مِنَ النَّاسِ، فقام إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا طَلْحَة، مَا هَذَا الأمر الَّذِي وقعت فِيهِ؟ فَقَالَ: يا أبا حسن، بعد ما مس الحزام الطبيين! فانصرف علي ولم يحر إِلَيْهِ شَيْئًا حَتَّى أتى بيت المال، فَقَالَ: افتحوا هَذَا الباب، فلم يقدر عَلَى المفاتيح، فَقَالَ: اكسروه، فكسر باب بيت المال، فَقَالَ: أخرجوا المال، فجعل يعطي الناس فبلغ الَّذِينَ فِي دار طَلْحَة الَّذِي صنع علي، فجعلوا يتسللون إِلَيْهِ حَتَّى ترك طَلْحَة وحده وبلغ الخبر عُثْمَان، فسر بِذَلِكَ، ثُمَّ أقبل طَلْحَة يمشي عائدا إِلَى دار عُثْمَان، فقلت: وَاللَّهِ لأنظرن مَا يقول هَذَا، فتبعته، فاستأذن عَلَى عُثْمَانَ، فلما دخل عَلَيْهِ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أستغفر اللَّه وأتوب إِلَيْهِ، أردت أمرا فحال اللَّه بيني وبينه، فَقَالَ عُثْمَان: إنك وَاللَّهِ مَا جئت تائبا، ولكنك جئت مغلوبا، اللَّه حسيبك يَا طَلْحَة! وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا مُحَمَّد بن عمر، قال: حدثني أبو بكر بن إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وقاص، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ طَلْحَةُ: بَايَعْتُ وَالسَّيْفُ فَوْقَ رَأْسِي- فَقَالَ سَعْدٌ: لا أَدْرِي وَالسَّيْفُ عَلَى رَأْسِهِ أَمْ لا، إِلا أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ بَايَعَ كَارِهًا- قَالَ: وَبَايَعَ النَّاسُ عَلِيًّا بِالْمَدِينَةِ، وَتَرَبَّصَ سَبْعَةُ نَفَرٍ فَلَمْ يُبَايِعُوهُ، مِنْهُمْ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَمِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ، وَصُهَيْبٌ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمُحَمَّدُ ابن مَسْلَمَةَ، وَسَلَمَةُ بْنُ وَقْشٍ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ أَحَدٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِلا بَايَعَ فِيمَا نَعْلَمُ. وَحَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،

قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُصْعَبٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي حَبِيبَةَ مَوْلَى الزُّبَيْرِ، قَالَ: لَمَّا قَتَلَ النَّاسُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبَايَعُوا عَلِيًّا، جَاءَ عَلِيٌّ إِلَى الزُّبَيْرِ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، فَأَعْلَمْتُهُ بِهِ، فَسَلَّ السَّيْفَ وَوَضَعَهُ تَحْتَ فِرَاشِهِ، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لَهُ، فَأَذِنْتُ لَهُ، فَدَخَلَ فَسَلَّمَ عَلَى الزُّبَيْرِ وَهُوَ وَاقِفٌ بِنَحْرِهِ، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ الزُّبَيْرُ: لَقَدْ دَخَلَ المرء مَا أَقْصَاهُ، قُمْ فِي مَقَامِهِ فَانْظُرْ هَلْ تَرَى مِنَ السَّيْفِ شَيْئًا؟ فَقُمْتُ فِي مَقَامِهِ فَرَأَيْتُ ذُبَابَ السَّيْفِ، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: ذَاكَ أَعْجَلَ الرَّجُلَ فَلَمَّا خَرَجَ عَلِيٌّ سَأَلَهُ النَّاسُ، فَقَالَ: وَجَدْتُ أَبَرَّ ابْنَ أُخْتٍ وَأَوْصَلَهُ فَظَنَّ النَّاسُ خَيْرًا، فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنَّهُ بَايَعَهُ. ومما كتب بِهِ إلي السري عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف بن عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّه بْن سواد بْن نويرة، وَطَلْحَة بن الأعلم، وأبو حَارِثَةَ، وأبو عُثْمَان، قَالُوا: بقيت الْمَدِينَةُ بعد قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خمسة أيام، وأميرها الْغَافِقِيّ بن حرب يلتمسون من يجيبهم إِلَى القيام بالأمر فلا يجدونه، يأتي الْمِصْرِيُّونَ عَلِيًّا فيختبئ مِنْهُمْ ويلوذ بحيطان الْمَدِينَةِ، فإذا لقوه باعدهم وتبرأ مِنْهُمْ ومن مقالتهم مرة بعد مرة، ويطلب الْكُوفِيُّونَ الزُّبَيْر فلا يجدونه، فأرسلوا اليه حيث هو رسلا، فباعدهم وتبرأ من مقالتهم، ويطلب الْبَصْرِيُّونَ طَلْحَةَ فإذا لقيهم باعدهم وتبرأ من مقالتهم مرة بعد مرة، وكانوا مجتمعين عَلَى قتل عُثْمَان مختلفين فيمن يهوون، فلما لم يجدوا ممالئا وَلا مجيبا جمعهم الشر عَلَى أول من أجابهم، وَقَالُوا: لا نولي أحدا من هَؤُلاءِ الثلاثة، فبعثوا إِلَى سعد بن أَبِي وَقَّاص وَقَالُوا: إنك من أهل الشورى فرأينا فيك مجتمع، فاقدم نبايعك، فبعث إِلَيْهِم: إني وابن عمر خرجنا منها فلا حاجة لي فِيهَا عَلَى حال، وتمثل: لا تخلطن خبيثات بطيبة ... واخلع ثيابك منها وانج عريانا ثُمَّ إِنَّهُمْ أتوا ابن عمر عَبْد اللَّهِ، فَقَالُوا: أنت ابن عمر فقم بهذا الأمر، فَقَالَ: إن لهذا الأمر انتقاما وَاللَّهِ لا أتعرض لَهُ، فالتمسوا غيري فبقوا حيارى لا يدرون مَا يصنعون والأمر أمرهم

وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: كَانُوا إِذَا لَقَوْا طَلْحَةَ أَبَى وَقَالَ: وَمِنْ عَجَبِ الأَيَّامِ وَالدَّهْرِ أَنَّنِي ... بَقِيتُ وَحِيدًا لا أمر وَلا أحلي فَيَقُولُونَ: إِنَّكَ لَتُوعِدُنَا فَيَقُومُونَ فَيَتْرُكُونَهُ، فَإِذَا لَقُوا الزُّبَيْرَ وَأَرَادُوهُ أَبَى وَقَالَ: مَتَى أَنْتَ عَنْ دَارٍ بِفَيْحَانَ رَاحِلٌ ... وَبَاحَتُهَا تَخْنُو عَلَيْكَ الْكَتَائِبُ فَيَقُولُونَ: إِنَّكَ لَتُوعِدُنَا! فَإِذَا لَقَوْا عَلِيًّا وَأَرَادُوهُ أَبَى، وَقَالَ: لو أن قومي طاوعتني سراتهم ... أمرتهم أمرا يَدِيخُ الأَعَادِيَا فَيَقُولُونَ: إِنَّكَ لَتُوعِدُنَا! فَيَقُومُونَ وَيَتْرُكُونَهُ. وَحَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قال: لما قتل عثمان رضي الله عنه أَتَى النَّاسُ عَلِيًّا وَهُوَ فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ، وَقَالُوا لَهُ: ابْسُطْ يَدَكَ نُبَايِعْكَ، [قَالَ: لا تَعْجَلُوا فَإِنَّ عُمَرَ كَانَ رَجُلا مُبَارَكًا، وَقَدْ أَوْصَى بِهَا شُورَى، فَأَمْهِلُوا يَجْتَمِعُ النَّاسُ وَيَتَشَاوَرُونَ] فَارْتَدَّ النَّاسُ عَنْ عَلِيٍّ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ رَجَعَ النَّاسُ إِلَى أَمْصَارِهِمْ بِقَتْلِ عُثْمَانَ وَلَمْ يَقُمْ بَعْدَهُ قَائِمٌ بِهَذَا الأَمْرِ لَمْ نَأْمَنِ اخْتِلافَ النَّاسِ وَفَسَادَ الأُمَّةِ، فَعَادُوا إِلَى عَلِيٍّ، فَأَخَذَ الأَشْتَرُ بِيَدِهِ فَقَبَضَهَا عَلِيٌّ، فَقَالَ: أَبَعْدَ ثَلاثَةٍ! أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ تَرَكْتَهَا لَتَقْصُرَنَّ عنيتك عَلَيْهَا حِينًا، فَبَايَعَتْهُ الْعَامَّةُ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ يَقُولُونَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَهُ الأَشْتَرُ. وَكَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حَارِثَةَ وَأَبِي عُثْمَانَ، قَالا: لما كَانَ يوم الخميس عَلَى رأس خمسة أيام من مقتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، جمعوا أهل الْمَدِينَةِ فوجدوا سعدا وَالزُّبَيْر خارجين، ووجدوا طَلْحَةَ فِي حائط لَهُ، ووجدوا بني أُمَيَّة قَدْ هربوا إلا من لم يطق الهرب، وهرب الْوَلِيد وسعيد إِلَى مكة فِي أول من خرج، وتبعهم مَرْوَان، وتتابع عَلَى ذَلِكَ من تتابع،

فلما اجتمع لَهُمْ أهل الْمَدِينَةِ قَالَ لَهُمْ أهل مصر: أنتم أهل الشورى، وَأَنْتُمْ تعقدون الإمامة، وأمركم عابر عَلَى الأمة، فانظروا رجلا تنصبونه، ونحن لكم تبع فَقَالَ الجمهور: عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ نحن بِهِ راضون. وَأَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ هِلالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَوْفٍ، قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ يَقُولُ: إِنَّ عَلِيًّا جَاءَ فَقَالَ لِطَلْحَةَ: ابْسُطْ يَدَكَ يَا طَلْحَةَ لأُبَايِعَكَ، فقال طلحه: أنت أحق، وأنت أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَابْسُطْ يَدَكَ، قَالَ: فَبَسَطَ عَلِيٌّ يَدَهُ فَبَايَعَهُ. وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، قَالا: فَقَالُوا لَهُمْ: دُونَكُمْ يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَقَدْ أَجَّلْنَاكُمْ يومين، فو الله لَئِنْ لَمْ تَفْرُغُوا لَنَقْتُلَنَّ غَدًا عَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَأُنَاسًا كَثِيرًا فَغَشَى النَّاسُ عَلِيًّا فَقَالُوا: نُبَايِعُكَ فَقَدْ تَرَى مَا نَزَلَ بِالإِسْلامِ، وَمَا ابْتُلِينَا بِهِ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى، [فَقَالَ عَلِيٌّ: دَعُونِي وَالْتَمِسُوا غَيْرِي فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْرًا لَهُ وُجُوهٌ وَلَهُ أَلْوَانٌ، لا تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ، ولا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ فَقَالُوا: نَنْشُدُكَ اللَّهَ أَلا تَرَى مَا نَرَى! أَلا تَرَى الإِسْلامَ! أَلا تَرَى الْفِتْنَةَ! أَلا تَخَافُ اللَّهَ! فَقَالَ: قَدْ أَجَبْتُكُمْ لِمَا أَرَى، وَاعْلَمُوا إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ، وَإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَإِنَّمَا أَنَا كَأَحَدِكُمْ، إِلا أَنِّي أَسْمَعُكُمْ وَأَطْوَعُكُمْ لِمَنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ] ثُمَّ افْتَرَقُوا عَلَى ذَلِكَ وَاتَّعَدُوا الْغَدَ. وَتَشَاوَرَ النَّاسُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَقَالُوا: إِنْ دَخَلَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ فَقَدِ اسْتَقَامَتْ فَبَعَثَ الْبَصْرِيُّونَ إِلَى الزبير بصريا، وقالوا: احذر لاتحاده- وَكَانَ رَسُولَهُمْ حَكِيمُ بْنُ جَبَلَةَ الْعَبْدِيُّ فِي نَفَرٍ- فَجَاءُوا بِهِ يَحُدُّونَهُ بِالسَّيْفِ وَإِلَى طَلْحَةَ كوفيا وقالوا له: احذر لاتحاده، فَبَعَثُوا الأَشْتَرَ فِي نَفَرٍ فَجَاءُوا بِهِ يَحُدُّونَهُ بِالسَّيْفِ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ شَامِتُونَ بِصَاحِبِهِمْ، وَأَهْلُ مِصْرَ فَرِحُونَ بِمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَقَدْ خَشَعَ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ أَنْ صَارُوا أَتْبَاعًا لأَهْلِ مِصْرَ وَحُشْوَةً فِيهِمْ، وَازْدَادُوا بِذَلِكَ عَلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ غَيْظًا، فَلَمَّا أصبحوا من

يَوْمِ الْجُمُعَةِ حَضَرَ النَّاسُ الْمَسْجِدَ، وَجَاءَ عَلِيٌّ حتى صعد المنبر، فقال: يا ايها النَّاسُ- عَنْ مَلإٍ وَإِذْنٍ- إِنَّ هَذَا أَمْرُكُمْ لَيْسَ لأَحَدٍ فِيهِ حَقٌّ إِلا مَنْ أَمَّرْتُمْ، وَقَدِ افْتَرَقْنَا بِالأَمْسِ عَلَى أَمْرٍ، فَإِنْ شِئْتُمْ قَعَدْتُ لَكُمْ، وَإِلا فَلا أَجِدُ عَلَى أَحَدٍ. فَقَالُوا: نَحْنُ عَلَى مَا فَارَقْنَاكَ عَلَيْهِ بِالأَمْسِ وَجَاءَ الْقَوْمُ بِطَلْحَةَ فَقَالُوا: بَايِعْ، فَقَالَ: إِنِّي إِنَّما أُبَايِعُ كَرْهًا، فَبَايَعَ- وَكَانَ بِهِ شَلَلٌ- أَوَّلَ النَّاسِ، وَفِي النَّاسِ رَجُلٌ يَعْتَافُ، فَنَظَرَ مِنْ بَعِيدٍ، فَلَمَّا رَأَى طَلْحَةَ أَوَّلَ مَنْ بايع قال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! أَوَّلُ يَدٍ بَايَعَتْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَدٌ شَلاءُ، لا يَتِمُّ هَذَا الأَمْرُ! ثُمَّ جِيءَ بِالزُّبَيْرِ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ وَبَايَعَ- وَفِي الزُّبَيْرِ اخْتِلافٌ- ثُمَّ جِيءَ بِقَوْمٍ كَانُوا قَدْ تَخَلَّفُوا فَقَالُوا: نُبَايِعُ عَلَى إِقَامَةِ كِتَابِ اللَّهِ فِي الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَالْعَزِيزِ وَالذَّلِيلِ، فَبَايَعَهُمْ، ثُمَّ قَامَ الْعَامَّةُ فَبَايَعُوا. كَتَبَ إِلَيَّ السري عن شعيب، عن سيف، عن أبي زُهَيْرٍ الأَزْدِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُنْدُبٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى عَلِيٍّ، ذَهَبَ الأَشْتَرُ فَجَاءَ بِطَلْحَةَ، فَقَالَ لَهُ: دَعْنِي أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ النَّاسُ، فَلَمْ يَدَعْهُ وَجَاءَ بِهِ يتله تَلا عَنِيفًا، وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَبَايَعَ. وَكَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ الْحَارِثِ الْوَالِبِيِّ، قَالَ: جَاءَ حَكِيمُ بْنُ جَبَلَةَ بِالزُّبَيْرِ حَتَّى بَايَعَ، فَكَانَ الزُّبَيْرُ يَقُولُ: جَاءَنِي لِصٌّ مِنْ لُصُوصِ عَبْدِ الْقَيْسِ فَبَايَعْتُ وَاللُّجُّ عَلَى عُنُقِي. وَكَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، قَالا: وبايع الناس كلهم. قَالَ أَبُو جَعْفَر: وسمح بعد هَؤُلاءِ الَّذِينَ اشترطوا الذين جيء بهم، وصار لامر أمر أهل الْمَدِينَةِ، وكانوا كما كَانُوا فِيهِ، وتفرقوا إِلَى منازلهم لولا مكان النزاع والغوغاء فيهم

اتساق الأمر في البيعه لعلى بن ابى طالب ع

اتساق الأمر فِي البيعة لعلي بن أبي طالب ع وبويع علي يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة- والناس يحسبون من يوم قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فأول خطبة خطبها علي حين استخلف- فِيمَا كتب بِهِ إلي السري، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن سُلَيْمَان بن أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْن- حمد اللَّه وأثنى عَلَيْهِ، فَقَالَ: إن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أنزل كتابا هاديا بين فِيهِ الخير والشر، فخذوا بالخير ودعوا الشر الفرائض أدوها إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ يؤدكم إِلَى الجنة إن اللَّه حرم حرما غير مجهولة، وفضل حرمة المسلم عَلَى الحرم كلها، وشد بالإخلاص والتوحيد المسلمين و [المسلم من سلم الناس من لسانه ويده إلا بالحق، لا يحل أذى المسلم إلا بِمَا يجب] [بادروا أمر العامة، وخاصة أحدكم الموت، فان الناس امامكم، وان ما خلفكم الساعة تحدوكم تخففوا تلحقوا، فإنما ينتظر الناس أخراهم] [اتقوا اللَّه عباده فِي عباده وبلاده، إنكم مسئولون حَتَّى عن البقاع والبهائم، أطيعوا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَلا تعصوه، وإذا رأيتم الخير فخذوا بِهِ وإذا رأيتم الشر فدعوه، «وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ] » . ولما فرغ علي من خطبته وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَر قَالَ الْمِصْرِيُّونَ: خذها واحذرا أبا حسن ... إنا نمر الأمر إمرار الرسن وإنما الشعر: خذها إليك واحذرا أبا حسن. فَقَالَ علي مجيبا: إني عجزت عجزة مَا أعتذر ... سوف أكيس بعدها وأستمر وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: ولما أراد علي الذهاب إِلَى بيته قالت السبئيه:

خذها إليك واحذرا أبا حسن ... إنا نمر الأمر إمرار الرسن صولة أقوام كأسداد السفن ... بمشرفيات كغدران اللبن ونطعن الملك بلين كالشطن ... حَتَّى يمرن عَلَى غير عنن فَقَالَ علي وذكر تركهم العسكر والكينونة عَلَى عدة مَا منوا حين غمزوهم ورجعوا إِلَيْهِم، فلم يستطيعوا أن يمتنعوا حَتَّى. إني عجزت عجزة لا أعتذر ... سوف أكيس بعدها وأستمر أرفع من ذيلي مَا كنت أجر ... وأجمع الأمر الشتيت المنتشر إن لم يشاغبني العجول المنتصر ... أو يتركوني والسلاح يبتدر واجتمع إِلَى علي بعد مَا دخل طَلْحَةُ وَالزُّبَيْر فِي عدة من الصحابة، فَقَالُوا: يَا علي، إنا قَدِ اشترطنا إقامة الحدود، وإن هَؤُلاءِ القوم قَدِ اشتركوا فِي دم هَذَا الرجل وأحلوا بأنفسهم فَقَالَ لَهُمْ: يَا إخوتاه، إني لست أجهل مَا تعلمون، ولكنى كيف اصنع بقوم يملكوننا وَلا نملكهم! ها هم هَؤُلاءِ قَدْ ثارت معهم عبدانكم، وثابت إِلَيْهِم أعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم مَا شاءوا، فهل ترون موضعا لقدرة عَلَى شَيْء مما تريدون؟ قَالُوا: لا، قَالَ: فلا وَاللَّهِ لا أَرَى إلا رأيا ترونه إِنْ شَاءَ اللَّهُ، إن هَذَا الأمر أمر جاهلية، وإن لهؤلاء القوم مادة، وَذَلِكَ أن الشَّيْطَان لم يشرع شريعة قط فيبرح الأرض من أخذ بِهَا أبدا. إن الناس من هَذَا الأمر إن حرك عَلَى أمور: فرقة ترى مَا ترون، وفرقة ترى مَا لا ترون، وفرقة لا ترى هَذَا وَلا هَذَا حَتَّى يهدأ الناس وتقع القلوب مواقعها وتؤخذ الحقوق، فاهدءوا عني وانظروا ماذا يأتيكم، ثُمَّ عودوا. واشتد عَلَى قريش، وحال بينهم وبين الخروج على حال، وإنما هيجه عَلَى ذَلِكَ هرب بني أُمَيَّة وتفرق القوم، وبعضهم يقول: وَاللَّهِ لَئِنِ ازداد الأمر لا قدرنا عَلَى انتصار من هَؤُلاءِ الأشرار، لترك هَذَا إِلَى مَا قَالَ علي أمثل. وبعضهم يقول: نقضي الَّذِي علينا وَلا نؤخره، وو الله إن عَلِيًّا لمستغن برأيه وأمره عنا، وَلا نراه إلا سيكون عَلَى قريش أشد من غيره فذكر ذَلِكَ لعلي

فقام فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وذكر فضلهم وحاجته إِلَيْهِم ونظره لَهُمْ وقيامه دونهم، وأنه ليس لَهُ من سلطانهم إلا ذَلِكَ، والأجر من اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ، ونادى: برئت الذمة من عبد لم يرجع إِلَى مواليه فتذامرت السبئيه والأعراب، وَقَالُوا: لنا غدا مثلها، وَلا نستطيع نحتج فِيهِمْ بشيء. وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: [خَرَجَ عَلِيٌّ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ عَلَى النَّاسِ، فقال: يا ايها النَّاسُ، أَخْرِجُوا عَنْكُمُ الأَعْرَابَ وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الاعراب، ألحقوا بمياهكم فابت السبئيه وَأَطَاعَهُمُ الأَعْرَابُ] وَدَخَلَ عَلِيٌّ بَيْتَهُ وَدَخَلَ عَلَيْهِ طلحه والزبير وعده من اصحاب النبي ص، فَقَالَ: دُونَكُمْ ثَأْرَكُمْ فَاقْتُلُوهُ، فَقَالُوا: عَشَوْا عَنْ ذَلِكَ، قَالَ: هُمْ وَاللَّهِ بَعْدَ الْيَوْمِ أَعْشَى وَآبَى وَقَالَ: لَوْ أَنَّ قَوْمِي طَاوَعَتْنِي سُرَاتُهُمْ ... أَمَرْتُهُمْ أَمْرًا يَدِيخُ الأَعَادِيَا وَقَالَ طَلْحَةُ: دَعْنِي فلات البصره فلا يفجؤك إِلا وَأَنَا فِي خَيْلٍ، فَقَالَ: حَتَّى أَنْظُرَ فِي ذَلِكَ وَقَالَ الزُّبَيْرُ: دَعْنِي آتِ الْكُوفَةَ فلا يفجؤك إِلا وَأَنَا فِي خَيْلٍ، فَقَالَ: حَتَّى أَنْظُرَ فِي ذَلِكَ، وَسَمِعَ الْمُغِيرَةُ بِذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّ لَكَ حَقُّ الطَّاعَةِ وَالنَّصِيحَةِ، وَإِنَّ الرَّأْيَ الْيَوْمَ تُحْرِزُ بِهِ مَا فِي غَدٍ، وَإِنَّ الضَّيَاعَ الْيَوْمَ تُضَيِّعُ بِهِ مَا فِي غَدٍ، أَقْرِرِ مُعَاوِيَةَ عَلَى عَمَلِهِ، وَأَقْرِرِ ابْنَ عَامِرٍ عَلَى عَمَلِهِ، وَأَقْرِرِ الْعُمَّالَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، حَتَّى إِذَا أَتَتْكَ طَاعَتُهُمْ وَبَيْعَةُ الْجُنُودِ اسْتَبْدَلْتَ أَوْ تَرَكْتَ قَالَ: حَتَّى أَنْظُرَ. فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَعَادَ إِلَيْهِ مِنَ الْغَدِ، فَقَالَ: إِنِّي أَشَرْتُ عَلَيْكَ بِالأَمْسِ بِرَأْيٍ، وَإِنَّ الرَّأْيَ أَنْ تُعَاجِلَهُمْ بِالنُّزُوعِ، فَيَعْرِفُ السَّامِعُ مَنْ غَيْرَهُ وَيَسْتَقْبِلُ أَمْرَكَ، ثُمَّ خَرَجَ وَتَلَقَّاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ خَارِجًا وَهُوَ دَاخِلٌ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى عَلِيٍّ قَالَ: رَأَيْتُ الْمُغِيرَةَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِكَ فَفِيمَ جَاءَكَ؟ قَالَ: جَاءَنِي أَمْسِ بِذِيَّةَ وَذِيَّةَ، وَجَاءَنِي الْيَوْمَ بِذِيَّةَ وَذِيَّةَ، فَقَالَ: أَمَّا أَمْسِ فَقَدْ نَصَحَكَ، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ غَشَّكَ قَالَ: فَمَا الرَّأْيُ؟ قَالَ: كَانَ الرَّأْيُ أَنْ تَخْرُجَ حِينَ قُتِلَ الرَّجُلُ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَتَأْتِيَ مَكَّةَ فَتَدْخُلَ دَارَكَ وَتُغْلِقَ عَلَيْكَ بَابَكَ، فَإِنْ كَانَتِ الْعَرَبُ جَائِلَةً مُضْطَرِبَةً

فِي أَثَرِكَ لا تَجِدُ غَيْرَكَ، فَأَمَّا الْيَوْمُ فَإِنَّ فِي بَنِي أُمَيَّةَ مَنْ يَسْتَحْسِنُونَ الطَّلَبَ بِأَنْ يُلْزِمُوكَ شُعْبَةً مِنْ هَذَا الأَمْرِ، وَيُشَبِّهُونَ عَلَى النَّاسِ، وَيَطْلُبُونَ مِثْلَ مَا طَلَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَلا تَقْدِرُ عَلَى مَا يُرِيدُونَ وَلا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، وَلَوْ صَارَتِ الأُمُورُ إِلَيْهِمْ حَتَّى يَصِيرُوا فِي ذَلِكَ أَمْوَتَ لِحُقُوقِهِمْ، وَأَتْرَكُ لَهَا إِلا مَا يُعَجِّلُونَ مِنَ الشُّبْهَةِ وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: نَصَحْتُهُ وَاللَّهِ، فَلَمَّا لَمْ يَقْبَلْ غَشَشْتُهُ وَخَرَجَ الْمُغِيرَةُ حَتَّى لَحِقَ بِمَكَّةَ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: دَعَانِي عُثْمَانُ فَاسْتَعْمَلَنِي عَلَى الْحَجِّ، فَخَرَجْتُ إِلَى مَكَّةَ فَأَقَمْتُ لِلنَّاسِ الْحَجَّ، وَقَرَأْتُ عَلَيْهِمْ كِتَابَ عُثْمَانَ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَقَدْ بُويِعَ لِعَلِيٍّ، فَأَتَيْتُهُ فِي دَارِهِ فَوَجَدْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ مُسْتَخْلِيًا بِهِ، فَحَبَسَنِي حَتَّى خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَقُلْتُ: مَاذَا قَالَ لَكَ هَذَا؟ فَقَالَ: قَالَ لِي قَبْلَ مَرَّتِهِ هَذِهِ: أَرْسِلْ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ وَإِلَى مُعَاوِيَةَ وَإِلَى عُمَّالِ عُثْمَانَ بِعُهُودِهِمْ تُقِرُّهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَيُبَايِعُونَ لَكَ النَّاسَ، فَإِنَّهُمْ يُهَدِّئُونَ الْبِلادَ وَيُسَكِّنُونَ النَّاسَ، فَأَبَيْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ وَقُلْتُ: [وَاللَّهِ لَوْ كَانَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ لاجْتَهَدْتُ فِيهَا رَأْيِي، وَلا وَلَّيْتُ هَؤُلاءِ وَلا مِثْلَهُمْ يُوَلَّى] قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفَ مِنْ عِنْدِي وَأَنَا أَعْرِفُ فِيهِ أَنَّهُ يَرَى أَنِّي مُخْطِئٌ، ثُمَّ عَادَ إِلَيَّ الآنَ فَقَالَ: إِنِّي أَشَرْتُ عَلَيْكَ أَوَّلَ مَرَّةٍ بِالَّذِي أَشَرْتُ عَلَيْكَ وَخَالَفْتَنِي فِيهِ، ثُمَّ رَأَيْتُ بَعْدَ ذَلِكَ رَأْيًا، وَأَنَا أَرَى أَنْ تَصْنَعَ الَّذِي رَأَيْتُ فَتَنْزَعَهُمْ وَتَسْتَعِينَ بِمَنْ تَثِقُ بِهِ، فَقَدْ كَفَى اللَّهُ، وَهُمْ أَهْوَنُ شَوْكَةً مِمَّا كَانَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُلْتُ لِعَلِيٍّ: أَمَّا الْمَرَّةُ الأُولَى فَقَدْ نَصَحَكَ، وَأَمَّا الْمَرَّةُ الآخِرَةُ فَقَدْ غَشَّكَ، قَالَ لَهُ عَلِيٌّ: وَلِمَ نَصَحَنِي؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لأَنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابَهُ أَهْلَ دُنْيَا، فَمَتَى تُثْبِتْهُمْ لا يُبَالُوا بِمَنْ وُلِّيَ هَذَا الأَمْرَ، وَمَتَى تَعْزِلْهُمْ يَقُولُوا: أَخَذَ هَذَا الأَمْرَ بِغَيْرِ شُورَى، وَهُوَ قَتَلَ صَاحِبَنَا، وَيُؤَلِّبُونَ عَلَيْكَ فَيُنْتَقَضُ عَلَيْكَ أَهْلَ الشَّامِ وَأَهْلَ الْعِرَاقِ، مَعَ أَنِّي لا آمَنُ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ أَنْ يكرا عليك

[فَقَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ إِقْرَارِهِمْ فو الله مَا أَشُكُّ أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا لإِصْلاحِهَا، وَأَمَّا الَّذِي يَلْزَمُنِي مِنَ الْحَقِّ والمعرفة بعمال عثمان فو الله لا أُوَلِّي مِنْهُمْ أَحَدًا أَبَدًا، فَإِنْ أَقْبَلُوا فَذَلِكَ خَيْرٌ لَهُمْ: وَإِنْ أَدْبَرُوا بَذَلْتُ لَهُمُ السَّيْفَ] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَطِعْنِي وَادْخُلْ دَارَكَ، وَالْحَقْ بِمَالِكَ بِيَنْبُعَ، وَأَغْلِقْ بَابَكَ عَلَيْكَ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تَجُولُ جَوْلَةً وَتَضْطَرِبُ وَلا تَجِدُ غَيْرَكَ، فَإِنَّكَ وَاللَّهِ لَئِنْ نَهَضْتَ مَعَ هَؤُلاءِ الْيَوْمَ لَيُحَمِّلَنَّكَ النَّاسُ دَمَ عُثْمَانَ غَدًا فَأَبَى عَلِيٌّ، فَقَالَ لابْنِ عَبَّاسٍ: سِرْ إِلَى الشَّامِ فَقَدْ وَلَّيْتُكَهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا هَذَا بِرَأْيِ، مُعَاوِيَةَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ عُثْمَانَ وَعَامِلُهُ عَلَى الشَّامِ، وَلَسْتُ آمَنُ أَنْ يَضْرِبَ عُنُقِي لِعُثْمَانَ، أَوْ أَدْنَى مَا هُوَ صَانِعٌ أَنْ يَحْبِسَنِي فَيَتَحَكَّمَ عَلَيَّ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِقَرَابَةِ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَإِنَّ كُلَّ مَا حُمِلَ عَلَيْكَ حُمِلَ عَلَيَّ، وَلَكِنِ اكْتُبْ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَمَنِّهِ وَعِدْهُ فَأَبَى عَلَيَّ وَقَالَ: وَاللَّهِ لا كَانَ هَذَا أَبَدًا. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي هِلالٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ، فَجِئْتُ عَلِيًّا أَدْخُلُ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لِي: عِنْدَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَجَلَسْتُ بِالْبَابِ سَاعَةً، فَخَرَجَ الْمُغِيرَةُ فَسَلَّمَ عَلَيَّ فَقَالَ: مَتَى قَدِمْتَ؟ فَقُلْتُ: السَّاعَةَ. فَدَخَلْتُ عَلَى عَلِيٍّ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لِي: لَقِيتَ الزُّبَيْرَ وَطَلْحَةَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَقِيتُهُمَا بِالنَّوَاصِفِ قَالَ: مَنْ مَعَهُمَا؟ قُلْتُ: أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فِي فِئَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ عَلِيٌّ: أَمَا إِنَّهُمْ لَنْ يَدَعُوا أَنْ يَخْرُجُوا يَقُولُونَ: [نَطْلُبُ بِدَمِ عُثْمَانَ،] وَاللَّهِ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ قَتَلَةُ عُثْمَانَ قَالَ ابْنُ عَبَّاس: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْبَرَنِي عَنْ شَأْنِ الْمُغِيرَةِ، وَلِمَ خَلا بِكَ؟ قَالَ: جَاءَنِي بَعْدَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ بِيَوْمَيْنِ، فَقَالَ لِي: أَخْلِنِي، فَفَعَلْتُ، فَقَالَ: إِنَّ النُّصْحَ رَخِيصٌ وَأَنْتَ بَقِيَّةُ النَّاسِ، وَإِنِّي لَكَ نَاصِحٌ، وَإِنِّي أُشِيرُ عَلَيْكَ بِرَدِّ عُمَّالِ عُثْمَانَ عَامَكَ هَذَا، فَاكْتُبْ إِلَيْهِمْ بِإِثْبَاتِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، فَإِذَا بَايَعُوا لَكَ وَاطْمَأَنَّ الأَمْرُ لَكَ عَزَلْتَ مَنْ أَحْبَبْتَ وَأَقْرَرْتَ مَنْ أَحْبَبْتَ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لا أُدْهِنُ فِي دِينِي وَلا أُعْطِي

مسير قسطنطين ملك الروم يريد المسلمين

الدَّنِيَّ فِي أَمْرِي قَالَ: فَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَبَيْتَ عَلَيَّ فَانْزَعْ مَنْ شِئْتَ وَاتْرُكْ مُعَاوِيَةَ، فَإِنَّ لِمُعَاوِيَةَ جُرْأَةً، وَهُوَ فِي أَهْلِ الشَّامِ يُسْمَعُ مِنْهُ، وَلَكَ حُجَّةٌ فِي إِثْبَاتِهِ، كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ وَلاهُ الشَّامَ كُلَّهَا، فَقُلْتُ: لا وَاللَّهِ، لا أَسْتَعْمِلُ مُعَاوِيَةَ يَوْمَيْنِ أَبَدًا فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِي عَلَى مَا أَشَارَ بِهِ، ثُمَّ عَادَ فَقَالَ لِي: إِنِّي أَشَرْتُ عَلَيْكَ بِمَا أَشَرْتُ بِهِ فَأَبَيْتَ عَلَيَّ، ثُمَّ نَظَرْتُ فِي الأَمْرِ فَإِذَا أَنْتَ مُصِيبٌ، لا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَأْخُذَ أَمْرَكَ بِخُدْعَةٍ، وَلا يَكُونُ فِي أَمْرِكَ دُلْسَةٌ. قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُلْتُ لِعَلِيٍّ: أَمَّا أَوَّلُ مَا أَشَارَ بِهِ عَلَيْكَ فَقَدْ نَصَحَكَ، وَأَمَّا الآخِرُ فَغَشَّكَ، وَأَنَا أُشِيرُ عَلَيْكَ بِأَنْ تُثْبِتَ مُعَاوِيَةَ، فَإِنْ بَايَعَ لَكَ فَعَلَيَّ أَنْ أُقْلِعَهُ مِنْ مَنْزِلِهِ [قَالَ عَلِيٌّ: لا وَاللَّهِ، لا أُعْطِيهِ إِلا السَّيْفَ قَالَ] : ثُمَّ تَمَثَّلَ بِهَذَا الْبَيْتِ: مَا مِيتَةٌ إِنْ مِتُّهَا غَيْرُ عَاجِزٍ ... بِعَارٍ إِذَا مَا غَالَتِ النَّفْسَ غَوْلُهَا فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْتَ رَجُلٌ شُجَاعٌ لَسْتَ بِأَرِبٍ بِالْحَرْبِ، اما [سمعت رسول الله ص يَقُولُ: الْحَرْبُ خَدْعَةٌ!] فَقَالَ عَلِيٌّ: بَلَى، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ أَطَعْتَنِي لأَصْدُرَنَّ بِهِمْ بَعْدَ وِرْدٍ، وَلأَتَرْكُنَّهُمْ يَنْظُرُونَ فِي دُبُرِ الأُمُورِ لا يَعْرِفُونَ مَا كَانَ وجهها، فِي غَيْرِ نُقْصَانٍ عَلَيْكَ وَلا إِثْمَ لَكَ فَقَالَ: يا بن عَبَّاسٍ، لَسْتُ مِنْ هَنِيئَاتِكَ وَهَنِيئَاتِ مُعَاوِيَةَ فِي شَيْءٍ، تُشِيرُ عَلَيَّ وَأَرَى، فَإِذَا عَصَيْتُكَ فَأَطِعْنِي قال: فقلت: افعل، ان ايسر مالك عِنْدِي الطَّاعَةُ . مسير قسطنطين ملك الروم يريد الْمُسْلِمِينَ وفي هَذِهِ السنة- أعني سنة خمس وثلاثين- سار قسطنطين بن هرقل- فِيمَا ذكر مُحَمَّد بن عُمَرَ الْوَاقِدِيّ عن هِشَام بن الغاز، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نسي- فِي ألف مركب يريد أرض الْمُسْلِمِينَ، فسلط اللَّه عَلَيْهِم قاصفا من الريح فغرقهم، ونجا قسطنطين بن هرقل، فأتى صقلية، فصنعوا لَهُ حماما فدخله فقتلوه فِيهِ، وَقَالُوا: قتلت رجالنا.

سنه ست وثلاثين

ثم دخلت تفريق علي عماله عَلَى الأمصار ولما دخلت سنة ست وثلاثين فرق علي عماله، فَمِمَّا كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، قَالا: بَعَثَ عَلِيٌّ عُمَّالَهُ عَلَى الأَمْصَارِ، فَبَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَعُمَارَةَ بْنَ شِهَابٍ عَلَى الْكُوفَةِ، وَكَانَتْ لَهُ هِجْرَةٌ، وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الْيَمَنِ، وَقَيْسَ بْنَ سَعْدٍ عَلَى مِصْرَ، وَسَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ عَلَى الشَّامِ، فَأَمَّا سَهْلٌ فَإِنَّهُ خَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِتَبُوكَ لَقِيَتْهُ خَيْلٌ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَمِيرٌ، قَالُوا: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: عَلَى الشَّامِ، قَالُوا: إِنْ كَانَ عُثْمَانُ بَعَثَكَ فَحَيَّهَلا بِكَ، وَإِنْ كَانَ بعثك غيره فارجع! قال: او ما سَمِعْتُمْ بِالَّذِي كَانَ؟ قَالُوا: بَلَى، فَرَجَعَ إِلَى عَلِيٍّ وَأَمَّا قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ فَإِنَّهُ لَمَّا انْتَهَى إِلَى أَيْلَةَ لَقِيَتْهُ خَيْلٌ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ فَالَّةِ عُثْمَانَ، فَأَنَا أَطْلُبُ مَنْ آوِي إِلَيْهِ وَأَنْتَصِرُ بِهِ، قَالُوا: مَنْ أنت؟ قال: قيس ابن سَعْدٍ، قَالُوا: امْضِ، فَمَضَى حَتَّى دَخَلَ مِصْرَ، فَافْتَرَقَ أَهْلُ مِصْرَ فِرَقًا، فِرْقَةٌ دَخَلَتْ فِي الْجَمَاعَةِ وَكَانُوا مَعَهُ، وَفِرْقَةٌ وَقَفَتْ وَاعْتَزَلَتْ إِلَى خَرِبَتَا وَقَالُوا: إِنْ قُتِلَ قَتَلَةُ عُثْمَانَ فَنَحْنُ مَعَكُمْ، وَإِلا فَنَحْنُ عَلَى جَدِيلَتِنَا حَتَّى نُحَرِّكَ أَوْ نُصِيبَ حَاجَتَنَا، وَفِرْقَةٌ قَالُوا: نَحْنُ مَعَ عَلِيٍّ مَا لَمْ يُقِدْ إِخْوَانَنَا، وَهُمْ فِي ذَلِكَ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَكَتَبَ قَيْسٌ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ وَأَمَّا عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ فَسَارَ فَلَمْ يَرُدَّهُ أَحَدٌ عَنْ دُخُولِ الْبَصْرَةِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي ذَلِكَ لابْنِ عَامِرٍ رَأْيٌ وَلا حَزْمٌ وَلا اسْتِقْلالٌ بِحَرْبٍ وَافْتَرَقَ النَّاسُ بِهَا، فَاتَّبَعَتْ فِرْقَةٌ الْقَوْمَ، وَدَخَلَتْ فِرْقَةٌ فِي الْجَمَاعَةِ، وَفِرْقَةٌ قَالَتْ: نَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَنَصْنَعُ كَمَا صَنَعُوا. وَأَمَّا عُمَارَةُ فَأَقْبَلَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِزُبَالَةَ لَقِيَهُ طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ، وَقَدْ كَانَ حِينَ بَلَغَهُمْ خَبَرُ عُثْمَانَ خَرَجَ يَدْعُو إِلَى الطَّلَبِ بِدَمِهِ وَيَقُولُ: لَهْفِي عَلَى أَمْرٍ لَمْ يَسْبِقْنِي وَلَمْ أُدْرِكْهُ!

يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذِعُ ... أَكُرُّ فِيهَا وَأَضَعُ فَخَرَجَ حِينَ رَجَعَ الْقَعْقَاعُ مِنْ إِغَاثَةِ عُثْمَانَ فِيمَنْ أَجَابَهُ حَتَّى دَخَلَ الْكُوفَةَ، فَطَلَعَ عَلَيْهِ عُمَارَةُ قَادِمًا عَلَى الْكُوفَةِ، فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ فَإِنَّ الْقَوْمَ لا يُرِيدُونَ بِأَمِيرِهِمْ بَدَلا، وَإِنْ أَبَيْتَ ضَرَبْتُ عُنُقَكَ فَرَجَعَ عُمَارَةُ وَهُوَ يَقُولُ: احْذَرِ الْخَطَرَ مَا يُمَاسِكُ، الشَّرُّ خَيْرٌ مِنْ شَرٍّ مِنْهُ. فَرَجَعَ إِلَى عَلِيٍّ بِالْخَبَرِ وَغَلَبَ عَلَى عُمَارَةَ بْنِ شِهَابٍ هَذَا الْمَثَلُ مِنْ لَدُنِ اعْتَاصَتْ عَلَيْهِ الأُمُورُ إِلَى أَنْ مَاتَ وَانْطَلَقَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ إِلَى الْيَمَنِ، فَجَمَعَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْجِبَايَةِ وَتَرَكَهُ وَخَرَجَ بِذَلِكَ وَهُوَ سَائِرٌ عَلَى حَامِيَتِهِ إِلَى مَكَّةَ فَقَدِمَهَا بِالْمَالِ وَلَمَّا رَجَعَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ مِنْ طَرِيقِ الشَّامِ وَأَتَتْهُ الأَخْبَارُ وَرَجَعَ مَنْ رَجَعَ، دَعَا عَلِيٌّ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي كُنْتُ أُحَذِّرُكُمْ قَدْ وَقَعَ يَا قَوْمُ، وَإِنَّ الأَمْرَ الَّذِي وَقَعَ لا يُدْرَكُ إِلا بِإِمَاتَتِهِ، وَإِنَّهَا فِتْنَةٌ كَالنَّارِ، كُلَّمَا سُعِرَتِ ازْدَادَتْ وَاسْتَنَارَتْ فَقَالا لَهُ: فَأْذَنْ لَنَا أَنْ نَخْرُجَ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَإِمَّا أَنْ نُكَابِرَ وَإِمَّا أَنْ تَدَعَنَا، فَقَالَ: سَأُمْسِكُ الأَمْرَ مَا اسْتَمْسَكَ، فَإِذا لَمْ أَجِدْ بُدًّا فَآخِرُ الدَّوَاءِ الْكَيُّ. وَكَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَإِلَى أَبِي مُوسَى وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو مُوسَى بِطَاعَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَبَيْعَتِهِمْ، وَبَيَّنَ الْكَارِهَ مِنْهُمْ لِلَّذِي كَانَ، وَالرَّاضِيَ بِالَّذِي قَدْ كَانَ، وَمَنْ بَيْنِ ذَلِكَ حَتَّى كَانَ عَلِيًّا عَلَى الْمُوَاجَهَةِ مِنْ أَمْرِ أَهْلِ الْكُوفَةِ. وَكَانَ رَسُولَ عَلِيٍّ إِلَى أَبِي مُوسَى مَعْبَدٌ الأَسْلَمِيُّ، وَكَانَ رَسُولَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مُعَاوِيَةَ سَبْرَةُ الْجُهَنِيُّ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَكْتُبْ مُعَاوِيَةُ بِشَيْءٍ وَلَمْ يُجُبْهُ وَرَدَّ رَسُولَهُ، وَجَعَلَ كُلَّمَا تَنَجَّزَ جَوَابَهُ لَمْ يُزِدْ عَلَى قوله: أدم إدامة حصن أو خدا بِيَدِي ... حَرْبًا ضَرُوسًا تَشُبُّ الْجَزْلَ وَالضَّرَمَا فِي جَارِكُمْ وَابْنِكُمْ إِذْ كَانَ مَقْتَلَهُ ... شَنْعَاءَ شَيَّبَتِ الأَصْدَاغَ وَاللَّمَمَا أَعْيَا الْمُسَوَّدُ بِهَا وَالسَّيِّدُونَ فَلَمْ ... يُوجَدْ لَهَا غَيْرُنَا مَوْلًى وَلا حَكَمَا وَجَعَلَ الْجُهَنِيُّ كُلَّمَا تَنَجَّزَ الْكِتَابَ لَمْ يُزِدْهُ عَلَى هَذِهِ الأَبْيَاتِ، حَتَّى إِذَا

استئذان طلحه والزبير عليا

كَانَ الشَّهْرُ الثَّالِثُ مِنْ مَقْتَلِ عُثْمَانَ فِي صَفَر، دَعَا مُعَاوِيَةُ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي عَبْسٍ، ثُمَّ أَحَدِ بَنِي رَوَاحَةَ يُدْعَى قَبِيصَةَ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ طُومَارًا مَخْتُومًا، عُنْوَانُهُ: مِنْ مُعَاوِيَةَ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: إِذَا دَخَلْتَ الْمَدِينَةَ فَاقْبِضْ عَلَى اسفل الطُّومَارِ، ثُمَّ أَوْصَاهُ بِمَا يَقُولُ وَسَرَّحَ رَسُولَ على وخرجا فقد ما الْمَدِينَةَ فِي رَبِيعٍ الأَوَّلِ لِغُرَّتِهِ، فَلَمَّا دَخَلا الْمَدِينَةَ رَفَعَ الْعَبْسِيُّ الطُّومَارَ كَمَا أَمَرَهُ، وَخَرَجَ النَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَتَفَرَّقُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مُعَاوِيَةَ مُعْتَرِضٌ، وَمَضَى حَتَّى يَدْخُلَ عَلَى عَلِيٍّ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ الطُّومَارَ، فَفَضَّ خَاتَمَهُ فَلَمْ يَجِدْ فِي جَوْفِهِ كِتَابَةً، فَقَالَ لِلرَّسُولِ: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: آمِنٌ أَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنَّ الرُّسُلَ آمِنَةٌ لا تُقْتَلُ، قَالَ: وَرَائِي أَنِّي تَرَكْتُ قَوْمًا لا يَرْضَوْنَ إِلا بِالْقَوَدِ، قَالَ: مِمَّنْ؟ قَالَ: مِنْ خَيْطِ نَفْسِكَ، وَتَرَكْتُ سِتِّينَ أَلْفَ شَيْخٍ يَبْكِي تَحْتَ قَمِيصِ عُثْمَانَ وَهُوَ مَنْصُوبٌ لَهُمْ، قَدْ أَلْبَسُوهُ مِنْبَرَ دِمَشْقَ فَقَالَ: مِنِّي يَطْلُبُونَ دَمَ عُثْمَانَ! أَلَسْتُ مَوْتُورًا كَتِرَةِ عُثْمَانَ! اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ دَمِ عُثْمَانَ، نَجَا وَاللَّهِ قَتَلَةُ عُثْمَانَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، فَإِنَّهُ إِذَا أَرَادَ أَمْرًا أَصَابَهُ، اخْرُجْ، قَالَ: وَأَنَا آمِنٌ؟ قَالَ: وَأَنْتَ آمن فخرج العبسى وصاحت السبئيه قَالُوا: هَذَا الْكَلْبُ، هَذَا وَافِدُ الْكِلابِ، اقْتُلُوهُ! فَنَادَى: يَا آلَ مُضَرَ، يَا آلَ قَيْسٍ، الْخَيْلَ وَالنَّبْلَ، إِنِّي أَحْلِفُ بِاللَّهِ جَلَّ اسْمُهُ ليردنها عليكم اربعه آلاف خصى، فانظروكم الْفُحُولَةُ وَالرِّكَابُ! وَتَعَاوَوْا عَلَيْهِ وَمَنَعْنَهُ مُضَرَ، وَجَعَلُوا يقولون له: اسْكُتْ، فَيَقُولُ: لا وَاللَّهِ، لا يُفْلِحُ هَؤُلاءِ أَبَدًا، فَلَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يُوعَدُونَ فَيَقُولُونَ لَهُ: اسْكُتْ، فَيَقُولُ: لَقَدْ حَلَّ بِهِمْ مَا يَحْذَرُونَ، انتهت والله اعمالهم، وذهبت ريحههم، فو الله مَا أَمْسَوْا حَتَّى عُرِفَ الذُّلُ فِيهِمْ . اسْتِئْذَانُ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ عَلِيًّا كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: اسْتَأْذَنَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ عَلِيًّا فِي الْعُمْرَةِ، فَأَذِنَ لَهُمَا، فَلَحِقَا بِمَكَّةَ، وَأَحَبَّ أَهْلُ

الْمَدِينَةِ أَنْ يَعْلَمُوا مَا رَأْيُ عَلِيٍّ فِي مُعَاوِيَةَ وَانْتِقَاضِهِ، لِيَعْرِفُوا بِذَلِكَ رَأْيَهُ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، أَيَجْسُرُ عَلَيْهِ أَوْ يَنْكَلُ عَنْهُ! وَقَدْ بَلَغَهُمْ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ دَخَلَ عَلَيْهِ وَدَعَاهُ إِلَى الْقُعُودِ وَتَرْكِ النَّاسِ، فَدَسُّوا إِلَيْهِ زِيَادَ بْنَ حَنْظَلَةَ التَّمِيمِيَّ- وَكَانَ مُنْقَطِعًا إِلَى عَلِيٍّ- فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَجَلَسَ إِلَيْهِ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا زِيَادُ، تَيَسَّرْ، فَقَالَ: لأَيِّ شَيْءٍ؟ فَقَالَ: تَغْزُو الشَّامَ، فَقَالَ زِيَادٌ: الأَنَاةُ وَالرِّفْقُ أَمْثَلُ، فَقَالَ: وَمَنْ لا يصانع في امور كثيره ... يضر من بِأَنْيَابٍ وَيُوطَأْ بِمِنْسَمِ فَتَمَثَّلَ عَلِيٌّ وَكَأَنَّهُ لا يُرِيدُهُ: مَتَى تَجْمَعِ الْقَلْبَ الذَّكِيَّ وَصَارِمًا ... وَأَنْفًا حَمِيًّا تَجْتَنِبْكَ الْمَظَالِمُ فَخَرَجَ زِيَادٌ عَلَى النَّاسِ وَالنَّاسُ يَنْتَظِرُونَهُ، فَقَالُوا: مَا وَرَاءَكَ؟ فَقَالَ: السَّيْفُ يَا قَوْمُ، فَعَرَفُوا مَا هُوَ فَاعِلٌ وَدَعَا على محمد بن الْحَنَفِيَّةِ فَدَفَعَ إِلَيْهِ اللِّوَاءَ، وَوَلَّى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ مَيْمَنَتَهُ، وَعُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ- أو عمرو بن سفيان بن عبد الأسد- وَلاهُ مَيْسَرَتَهُ، وَدَعَا أَبَا لَيْلَى بْنَ عُمَرَ بْنِ الْجَرَّاحِ، ابْنَ أَخِي أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، فَجَعَلَهُ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ قُثَمَ بْنَ عَبَّاسٍ، وَلَمْ يُوَلِّ مِمَّنْ خَرَجَ عَلَى عُثْمَانَ أَحَدًا، وَكَتَبَ إِلَى قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ أَنْ يَنْدُبَ النَّاسَ إِلَى الشَّامِ، وَإِلَى عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ وَإِلَى أَبِي مُوسَى مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَقْبَلَ عَلَى التَّهَيُّؤِ وَالتَّجَهُّزِ، وَخَطَبَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَدَعَاهُمْ إِلَى النُّهُوضِ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْفُرْقَةِ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ رَسُولا هَادِيًا مَهْدِيًّا بِكِتَابٍ نَاطِقٍ وَأَمْرٍ قَائِمٍ وَاضِحٍ، لا يَهْلِكُ عَنْهُ إِلا هَالِكٌ، وَإِنَّ الْمُبْتَدَعَاتِ وَالشُّبُهَاتِ هُنَّ الْمُهْلِكَاتُ إِلا مَنْ حَفِظَ اللَّهُ، وَإِنَّ فِي سُلْطَانِ اللَّهِ عِصْمَةَ أَمْرِكُمْ، فَأَعْطُوهُ طَاعَتَكُمْ غَيْرَ مَلْوِيَّةٍ وَلا مُسْتَكَرَهٍ بِهَا، وَاللَّهِ لَتَفْعَلُنَّ أَوْ لَيَنْقِلَنَّ اللَّهُ عَنْكُمْ سُلْطَانَ الإِسْلامِ ثُمَّ لا يَنْقِلُهُ إِلَيْكُمْ أَبَدًا حَتَّى يَأْرِزَ الأَمْرُ إِلَيْهَا، انْهَضُوا إِلَى

هَؤُلاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ يُفَرِّقُونَ جَمَاعَتَكُمْ، لَعَلَّ اللَّهَ يُصْلِحُ بِكُمْ مَا أَفْسَدَ أَهْلُ الآفَاقِ، وَتَقْضُونَ الَّذِي عَلَيْكُمْ فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ الْخَبَرُ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ بِنَحْوٍ آخَرَ وَتَمَامٍ عَلَى خِلافٍ، فَقَامَ فِيهِمْ بِذَلِكَ، [فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ لِظَالِمِ هَذِهِ الأُمَّةِ الْعَفْوَ وَالْمَغْفِرَةَ، وَجَعَلَ لِمَنْ لَزِمَ الأَمْرَ وَاسْتَقَامَ الْفَوْزَ وَالنَّجَاةَ، فَمَنْ لَمْ يَسَعْهُ الْحَقُّ أَخَذَ بِالْبَاطِلِ أَلا وَإِنَّ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَأُمَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ تَمَالَئُوا عَلَى سُخْطِ إِمَارَتِي، وَدَعَوُا النَّاسَ إِلَى الإِصْلاحِ، وَسَأَصْبِرُ مَا لَمْ أَخْفَ عَلَى جَمَاعَتِكُمْ، وَأَكُفُّ إِنْ كَفُّوا، وَأَقْتَصِرُ عَلَى مَا بَلَغَنِي عَنْهُمْ] . ثُمَّ أَتَاهُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْبَصْرَةَ لِمُشَاهَدَةِ النَّاسِ وَالإِصْلاحِ، فَتَعَبَّى لِلْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ: إِنْ فَعَلُوا هَذَا فَقَدِ انْقَطَعَ نِظَامُ الْمُسْلِمِينَ وَمَا كَانَ عَلَيْهِمْ فِي الْمُقَامِ فِينَا مَئُونَةٌ وَلا إِكْرَاهٌ فَاشْتَدَّ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ الأَمْرُ، فَتَثَاقَلُوا، فَبَعَثَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كُمَيْلا النَّخَعِيَّ، فَجَاءَ بِهِ فَقَالَ: انْهَضْ مَعِي، فَقَالَ: أَنَا مَعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْهُمْ وَقَدْ دَخَلُوا فِي هَذَا الأَمْرِ فَدَخَلْتُ مَعَهُمْ لا أُفَارِقُهُمْ، فَإِنْ يَخْرُجُوا أَخْرُجْ وَإِنْ يَقْعُدُوا أَقْعُدْ قَالَ: فَأَعْطِنِي زَعِيمًا بِأَلا تَخْرُجَ، قَالَ: وَلا أُعْطِيكَ زَعِيمًا، [قَالَ: لَوْلا مَا أَعْرِفُ مِنْ سُوءِ خُلُقِكَ صَغِيرًا وَكَبِيرًا لأَنْكَرْتَنِي، دَعُوهُ فَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ] فَرَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَهُمْ يَقُولُونَ: لا وَاللَّهِ مَا نَدْرِي كَيْفَ نَصْنَعُ، فَإِنَّ هَذَا الأَمْرَ لَمُشْتَبِهٌ عَلَيْنَا، وَنَحْنُ مُقِيمُونَ حَتَّى يُضِيءَ لَنَا وَيُسْفِرَ. فَخَرَجَ مِنْ تَحْتِ لَيْلَتِهِ وَأَخْبَرَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِيٍّ بِالَّذِي سَمِعَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَإِنَّهُ يَخْرُجُ مُعْتَمِرًا مُقِيمًا عَلَى طَاعَةِ عَلِيٍّ مَا خَلا النُّهُوضَ، وَكَانَ صَدُوقًا فَاسْتَقَرَّ عِنْدَهَا، وَأَصْبَحَ عَلِيٌّ فَقِيلَ لَهُ: حَدَثَ الْبَارِحَةَ حَدَثٌ هُوَ أَشَدُّ عَلَيْكَ مِنْ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَمُعَاوِيَةَ قَالَ: وَمَا ذَلِكَ؟ قَالَ: خَرَجَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى الشَّامِ، فَأَتَى عَلِيٌّ السُّوقَ وَدَعَا بِالظُّهْرِ فَحَمَلَ الرِّجَالَ وَأَعَدَّ لِكُلِّ طَرِيقٍ طُلابًا وَمَاجَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَسَمِعَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِالَّذِي هُوَ فِيهِ، فَدَعَتْ بِبَغْلَتِهَا فَرَكِبَتْهَا فِي رَحْلٍ ثُمَّ أَتَتْ عَلِيًّا وَهُوَ وَاقِفٌ فِي السُّوقِ يُفَرِّقُ الرِّجَالَ فِي طَلَبِهِ، فَقَالَتْ: مَا لَكَ لا تُزَنَّدُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ؟ إِنَّ الأَمْرَ

عَلَى خِلافِ مَا بُلِّغْتَهُ وَحُدِّثْتَهُ قَالَتْ: أَنَا ضَامِنَةٌ لَهُ، فَطَابَتْ نَفْسُهُ وَقَالَ: انْصَرِفُوا، لا وَاللَّهِ مَا كَذَبَتْ وَلا كَذَبَ، وَإِنَّهُ عِنْدِي ثِقَةٌ فَانْصَرِفُوا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: ولما رَأَى عَلِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَا رَأَى لَمْ يَرْضَ طَاعَتَهُمْ حَتَّى يَكُونَ مَعَهَا نُصْرَتُهُ، قَامَ فِيهِمْ وَجَمَعَ إِلَيْهِ وُجُوهَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، [وَقَالَ: إِنَّ آخِرَ هَذَا الأَمْرِ لا يَصْلُحُ إِلا بِمَا صَلَحَ أَوَّلُهُ، فَقَدْ رَأَيْتُمْ عَوَاقِبَ قَضَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَنْ مَضَى مِنْكُمْ، فَانْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُصْلِحْ لَكُمْ أَمْرَكُمْ] فَأَجَابَهُ رَجُلانِ مِنْ أَعْلامِ الأَنْصَارِ، أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ- وَهُوَ بَدْرِيٌّ- وَخُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ، وَلَيْسَ بِذِي الشَّهَادَتَيْنِ، مَاتَ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ فِي زمن عثمان رضي اللَّه عنه. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عن عُبَيْد اللَّهِ، عن الحكم، قَالَ: قيل لَهُ: أشهد خزيمة بن ثَابِت ذو الشهادتين الجمل؟ فَقَالَ: ليس بِهِ، ولكنه غيره من الأنصار، مات ذو الشهادتين في زمان عثمان ابن عَفَّانَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مُجَالِد، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: بِاللَّهِ الَّذِي لا إله إلا هُوَ، مَا نهض فِي تِلَكَ الفتنة إلا سته بدريين ما لهم سابع، أو سبعة مَا لَهُمْ ثامن. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عَمْرو بن مُحَمَّدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: بِاللَّهِ الَّذِي لا إله إلا هُوَ مَا نهض فِي ذَلِكَ الأمر إلا ستة بدريين مَا لَهُمْ سابع فقلت: أختلفتما قَالَ: لم نختلف، إن الشَّعْبِيّ شك فِي أبي أيوب: أخرج حَيْثُ أرسلته أم سلمة إِلَى علي بعد صفين، أم لم يخرج! إلا أنه قدم عَلَيْهِ فمضى إِلَيْهِ، وعلي يَوْمَئِذٍ بالنهروان. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد ابن ثَابِتٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: مَا اجْتَمَعَ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ص فَفَازُوا عَلَى النَّاسِ بِخَيْرٍ يَحُوزُونَهُ إِلا

وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَحَدُهُمْ. ثُمَّ إِنَّ زِيَادَ بْنَ حَنْظَلَةَ لَمَّا رَأَى تَثَاقُلَ النَّاسِ عَنْ عَلِيٍّ ابْتَدَرَ إِلَيْهِ وَقَالَ: مَنْ تَثَاقَلَ عَنْكَ فَإِنَّا نَخِفُّ مَعَكَ وَنُقَاتِلُ دُونَكَ وَبَيْنَمَا عَلِيٌّ يَمْشِي فِي الْمَدِينَةِ إِذْ سَمِعَ زَيْنَبَ ابْنَةَ أَبِي سُفْيَانَ وَهِيَ تَقُولُ: ظُلامَتُنَا عِنْدَ مُدَمِّمٍ وَعِنْدَ مُكْحِلَةٍ، فَقَالَ: إِنَّهَا لَتَعْلَمُ مَا هُمَا لَهَا بِثَأْرٍ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، أن عثمان قتل في ذي الحجه لثمان عشرة خلت مِنْهُ، وَكَانَ عَلَى مكة عَبْد اللَّهِ بن عَامِر الحضرمي، وعلى الموسم يَوْمَئِذٍ عَبْد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ، بعثه عُثْمَان وَهُوَ محصور، فتعجل أناس فِي يومين فأدركوا مع ابن عَبَّاس، فقدموا الْمَدِينَةَ بعد مَا قتل وقبل أن يبايع علي، وهرب بنو أُمَيَّة فلحقوا بمكة، وبويع على الخمس بقين من ذي الحجة يوم الجمعة، وتساقط الهراب إِلَى مكة، وعائشة مقيمة بمكة تريد عمرة المحرم، فلما تساقط إِلَيْهَا الهراب استخبرتهم فأخبروها أن قَدْ قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ولم يجبهم إِلَى التأمير أحد، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: ولكن أكياس، هَذَا غب مَا كَانَ يدور بينكم من عتاب الاستصلاح، حَتَّى إذا قضت عمرتها وخرجت فانتهت إِلَى سرف لقيها رجل من أخوالها من بني ليث- وكانت واصلة لَهُمْ، رفيقة عَلَيْهِم- يقال لَهُ عبيد بن أبي سلمة يعرف بأمه أم كلاب، فَقَالَتْ: مهيم! فأصم ودمدم، فَقَالَتْ: ويحك! علينا أو لنا؟ فَقَالَ: لا تدري، قتل عُثْمَان وبقوا ثمانيا، قالت: ثُمَّ صنعوا ماذا؟ فَقَالَ: أخذوا أهل الْمَدِينَةِ بالاجتماع عَلَى علي، والقوم الغالبون عَلَى الْمَدِينَةِ فرجعت إِلَى مكة وَهِيَ لا تقول شَيْئًا وَلا يخرج منها شَيْء، حَتَّى نزلت عَلَى باب المسجد وقصدت للحجر فسترت فِيهِ، واجتمع الناس إليها فقالت: يا ايها النَّاسُ، إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل الْمَدِينَةِ اجتمعوا أن عاب الغوغاء عَلَى هَذَا المقتول بالأمس الإرب واستعمال من حدثت سنه، وَقَدِ استعمل أسنانهم قبله، ومواضع من مواضع الحمى حماها لَهُمْ، وَهِيَ أمور قَدْ سبق بِهَا لا يصلح غيرها، فتابعهم ونزع لهم عنها استصلاحا

لَهُمْ، فلما لم يجدوا حجة وَلا عذرا خلجوا وبادوا بالعدوان ونبا فعلهم عن قولهم، فسفكوا الدم الحرام واستحلوا البلد الحرام وأخذوا المال الحرام، واستحلوا الشهر الحرام وَاللَّهِ لإصبع عُثْمَان خير من طباق الأرض أمثالهم. فنجاة من اجتماعكم عَلَيْهِم حَتَّى ينكل بهم غيرهم ويشرد من بعدهم، وو الله لو أن الَّذِي اعتدوا بِهِ عَلَيْهِ كَانَ ذنبا لخلص مِنْهُ كما يخلص الذهب من خبثه أو الثوب من درنه إذ ماصوه كما يماص الثوب بالماء فَقَالَ عَبْد اللَّهِ ابن عَامِر الحضرمي: هأنذا لها أول طالب- وَكَانَ أول مجيب ومنتدب. حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُحَيْمٌ مَوْلَى وَبْرَةَ التَّمِيمِيَّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عَمْرٍو الْقُرَشِيِّ، قَالَ: خَرَجَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَعُثْمَانُ مَحْصُورٌ، فَقَدِمَ عَلَيْهَا مَكَّةَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَخْضَرُ، فَقَالَتْ: مَا صَنَعَ النَّاسُ؟: فَقَالَ: قَتَلَ عُثْمَانُ الْمِصْرِيِّينَ، قَالَتْ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ! أَيَقْتُلُ قَوْمًا جَاءُوا يَطْلُبُونَ الْحَقَّ وَيُنْكِرُونَ الظُّلْمَ! وَاللَّهِ لا نَرْضَى بِهَذَا ثُمَّ قَدِمَ آخَرُ فَقَالَتْ: مَا صَنَعَ النَّاسُ؟ قَالَ: قَتَلَ الْمِصْرِيُّونَ عُثْمَانَ، قَالَتِ: الْعَجَبُ لأَخْضَرُ، زَعَمَ أَنَّ الْمَقْتُولَ هُوَ الْقَاتِلُ!. فَكَانَ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ: أَكْذَبُ مِنْ أَخْضَرَ. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: خَرَجَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا نَحْوَ الْمَدِينَةِ مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ، فَلَقِيَهَا رَجُلٌ مِنْ أَخْوَالِهَا، فَقَالَتْ: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: قُتِلَ عُثْمَانُ وَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى عَلِيٍّ، وَالأَمْرُ أَمْرُ الْغَوْغَاءِ فَقَالَتْ: مَا أَظُنُّ ذَلِكَ تَامًّا، رُدُّونِي فَانْصَرَفَتْ رَاجِعَةً إِلَى مَكَّةَ، حَتَّى إِذْ دَخَلَتْهَا أَتَاهَا عَبْدُ الله ابن عَامِرٍ الْحَضْرَمِيُّ- وَكَانَ أَمِيرَ عُثْمَانَ عَلَيْهَا- فَقَالَ: مَا رَدُّكِ يَا أَمَّ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَتْ: رَدَّنِي ان عثمان قتل مظلوما، وان الأَمْرَ لا يَسْتَقِيمُ وَلِهَذِهِ الْغَوْغَاءِ أَمْرٌ، فَاطْلُبُوا بِدَمِ عُثْمَانَ تَعِزُّوا الإِسْلامَ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَجَابَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ

الْحَضْرَمِيُّ، وَذَلِكَ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَتْ بَنُو أُمَيَّةَ بِالْحِجَازِ وَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ، وَقَامَ مَعَهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، وَالْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ، وَسَائِرُ بَنِي أُمَيَّةَ وَقَدْ قَدِمَ عَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ مِنَ الْبَصْرَةِ، ويَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ مِنَ الْيَمَنِ، وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَاجْتَمَعَ مَلَؤُهُمْ بَعْدَ نَظَرٍ طَوِيلٍ فِي أَمْرِهِمْ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَقَالَتْ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا حَدَثٌ عَظِيمٌ وَأَمْرٌ مُنْكَرٌ، فَانْهَضُوا فِيهِ إِلَى إِخْوَانِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَأَنْكِرُوهُ، فَقَدْ كَفَاكُمْ أَهْلُ الشَّامِ مَا عِنْدَهُمْ، لَعَلَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُدْرِكُ لِعُثْمَانَ وَلِلْمُسْلِمِينَ بِثَأْرِهِمْ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، قَالا: كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَجَابَ إِلَى ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ وَبَنُو أُمَيَّةَ، وَقَدْ كَانُوا سَقَطُوا إِلَيْهَا بَعْدَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ، ثُمَّ قَدِمَ عَبْدُ الله بن عامر، ثم قدم يعلى ابن اميه، فاتفقا بمكة، ومع يعلى ستمائه بعير وستمائه أَلْفٍ، فَأَنَاخَ بِالأَبْطَحِ مُعَسْكَرًا، وَقَدِمَ مَعَهُمَا طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، فَلَقِيَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَتْ: مَا وَرَاءَكُمَا؟ فَقَالا: وَرَاءَنَا أَنَّا تَحَمَّلْنَا بِقَلْيَتِنَا هَرَابًا مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ غَوْغَاءَ وَأَعْرَابٍ، وَفَارَقْنَا قَوْمًا حَيَارَى لا يَعْرِفُونَ حَقًّا وَلا يُنْكِرُونَ بَاطِلا وَلا يَمْنَعُونَ أَنْفُسَهُمْ قَالَتْ: فَائْتَمِرُوا أَمْرًا، ثم انهضوا الى هذه الغوغاء. وتمثلت: ولو أَنَّ قَوْمِي طَاوَعَتْنِي سُرَاتُهُمْ ... لأَنْقَذْتُهُمْ مِنَ الْحِبَالِ أَوِ الْخَبْلِ وَقَالَ الْقَوْمُ فِيمَا ائْتَمَرُوا بِهِ: الشَّامَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ: قَدْ كَفَاكُمُ الشَّامَ مَنْ يَسْتَمِرُّ فِي حَوْزَتِهِ، فَقَالَ لَهُ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ: فَأَيْنَ؟ قَالَ: الْبَصْرَةَ، فَإِنَّ لي بِهَا صَنَائِعَ وَلَهُمْ فِي طَلْحَةَ هَوًى، قالوا: قبحك الله! فو الله مَا كُنْتَ بِالْمُسَالِمِ وَلا بِالْمُحَارِبِ، فَهَلا أَقَمْتَ كَمَا أَقَامَ مُعَاوِيَةُ فَنَكْتَفِي بِكَ، وَنَأْتِي الْكُوفَةَ فَنَسُدُّ عَلَى هَؤُلاءِ الْقَوْمِ الْمَذَاهِبَ! فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَهُ جَوَابًا مَقْبُولا، حَتَّى إِذَا اسْتَقَامَ لَهُمُ الرَّأْيُ عَلَى الْبَصْرَةِ قَالُوا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، دَعِي الْمَدِينَةَ فَإِنَّ مَنْ مَعَنَا لا يَقْرِنُونَ لِتِلْكَ الْغَوْغَاءِ الَّتِي بِهَا، وَاشْخَصِي مَعَنَا إِلَى الْبَصْرَةِ، فَإِنَّا نَأْتِي بَلَدًا

مُضَيَّعًا، وَسَيَحْتَجُّونَ عَلَيْنَا فِيهِ بِبَيْعَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَتُنَهِّضِينَهُمْ كَمَا أَنْهَضْتِ أَهْلَ مَكَّةَ ثُمَّ تَقْعُدِينَ، فَإِنْ أَصْلَحَ اللَّهُ الأَمْرَ كَانَ الَّذِي تُرِيدِينَ، وَإِلا احْتَسَبْنَا وَدَفَعْنَا عَنْ هَذَا الأمر بجهدنا حتى يقضى الله ما اراد. فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ لَهَا- وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسْتَقِيمًا إِلا بِهَا- قَالَتْ: نَعَمْ، وَقَدْ كَانَ ازواج النبي ص مَعَهَا عَلَى قَصْدِ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا تَحَوَّلَ رَأْيُهَا إِلَى الْبَصْرَةِ تَرَكْنَ ذَلِكَ، وَانْطَلَقَ الْقَوْمُ بَعْدَهَا إِلَى حَفْصَةَ، فَقَالَتْ: رَأْيِي تَبَعٌ لِرَأْيِ عَائِشَةَ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلا الْخُرُوجُ قَالُوا: كَيْفَ نَسْتَقِلُّ وَلَيْسَ مَعَنَا مَالٌ نُجَهِّزُ بِهِ الناس! فقال يعلى بن اميه: معى ستمائه الف وستمائه بَعِيرٍ فَارْكَبُوهَا، وَقَالَ ابْنُ عَامِرٍ: مَعِي كَذَا وَكَذَا فَتَجَهَّزُوا بِهِ فَنَادَى الْمُنَادِي: أَنَّ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ شَاخِصُونَ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَمَنْ كَانَ يُرِيدُ إِعْزَازَ الإِسْلامِ وَقِتَالَ الْمُحِلِّينَ وَالطَّلَبَ بثار عثمان ومن لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَرْكَبٌ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ جهاز فهذا جهاز وهذه نفقه، فحملوا ستمائه رجل على ستمائه نَاقَةٍ سِوَى مَنْ كَانَ لَهُ مَرْكَبٌ- وَكَانُوا جَمِيعًا أَلْفًا- وَتَجَهَّزُوا بِالْمَالِ، وَنَادَوْا بِالرَّحِيلِ وَاسْتَقَلُّوا ذَاهِبِينَ وَأَرَادَتْ حَفْصَةُ الْخُرُوجَ فَأَتَاهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَطَلَبَ إِلَيْهَا أَنْ تَقْعُدَ، فَقَعَدَتْ وَبَعَثَتْ إِلَى عَائِشَةَ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْخُرُوجِ، فَقَالَتْ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِعَبْدِ اللَّهِ! وَبَعَثَتْ أُمُّ الْفَضْلِ بِنْتُ الْحَارِثِ رَجُلا مِنْ جُهَيْنَةَ يُدْعَى ظُفُرًا، فَاسْتَأْجَرَتْهُ عَلَى أَنْ يَطْوِيَ وَيَأْتِيَ عَلِيًّا بِكِتَابِهَا، فَقَدِمَ عَلَى عَلِيٍّ بِكِتَابِ أُمِّ الْفَضْلِ بِالْخَبَرِ. حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ أَبُو قَتَادَةَ لِعَلِيٍّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ رسول الله ص قَلَّدَنِي هَذَا السَّيْفَ وَقَدْ شِمْتُهُ فَطَالَ شَيْمُهُ، وَقَدْ أَنَى تَجْرِيدُهُ عَلَى هَؤُلاءِ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الذين لم يألوا الأُمَّةَ غِشًّا، فَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تُقَدِّمَنِي، فَقَدِّمْنِي وَقَامَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْلا أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنَّكَ لا تَقْبَلُهُ مِنِّي لَخَرَجْتُ مَعَكَ، وَهَذَا ابْنِي عُمَرُ- وَاللَّهِ لَهُوَ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْ نَفْسِي- يَخْرُجُ مَعَكَ فَيَشْهَدُ

مَشَاهِدَكَ فَخَرَجَ فَلَمْ يَزَلْ مَعَهُ، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْبَحْرَيْنِ ثُمَّ عَزَلَهُ، وَاسْتَعْمَلَ النُّعْمَانَ بْنَ عَجْلانَ الزُّرَقِيَّ. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَسْلَمَةُ، عَنْ عَوْفٍ، قَالَ: أَعَانَ يعلى بن اميه الزبير بأربعمائة أَلْفٍ، وَحَمَلَ سَبْعِينَ رَجُلا مِنْ قُرَيْشٍ، وَحَمَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَى جَمَلٍ يُقَالُ لَهُ عَسْكَرٌ، أَخَذَهُ بِثَمَانِينَ دِينَارًا، وَخَرَجُوا فَنَظَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى الْبَيْتِ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَكَ بَرَكَةً طَالِبُ خَيْرٍ، وَلا هَارِبٌ مِنْ شَرٍّ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: خرج المغيره وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ مَعَهُمْ مَرْحَلَة مِنْ مَكَّةَ، فَقَالَ سَعِيدٌ لِلْمُغِيرَةِ: مَا الرَّأْيُ؟ قَالَ: الرَّأْيُ وَاللَّهِ الاعْتِزَالُ، فَإِنَّهُمْ مَا يُفْلِحُ أَمْرُهُمْ، فَإِنْ اظفره الله أتيناه، فقلنا: كان هوانا وصغونا مَعَكَ، فَاعْتَزَلا فَجَلَسَا، فَجَاءَ سَعِيدٌ مَكَّةَ فَأَقَامَ بِهَا، وَرَجَعَ مَعَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زهير، قَالَ: حدثنا أبي، قال: حدثنا وهب بن جرير بن حازم، قال: سمعت أبي، قال: سمعت يونس بن يزيد الأيلي، عن الزهري، قال: ثُمَّ ظهرا- يعني طَلْحَة وَالزُّبَيْر- إِلَى مكة بعد قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بأربعة أشهر وابن عَامِر بِهَا يجر الدُّنْيَا، وقدم يعلى بن أُمَيَّة مَعَهُ بمال كثير، وزيادة على أربعمائة بعير، فاجتمعوا فِي بيت عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عنها فأرادوا الرأي، فَقَالُوا: نسير إِلَى علي فنقاتله، فَقَالَ بعضهم: ليس لكم طاقة بأهل الْمَدِينَة، ولكنا نسير حَتَّى ندخل الْبَصْرَة والكوفة، ولطلحة بالكوفة شيعة وهوى، وللزبير بِالْبَصْرَةِ هوى ومعونة فاجتمع رأيهم عَلَى أن يسيروا إِلَى الْبَصْرَة وإلى الْكُوفَة، فأعطاهم عَبْد اللَّهِ بن عَامِر مالا كثيرا وإبلا، فخرجوا في سبعمائة رجل من أهل الْمَدِينَة ومكة، ولحقهم الناس حَتَّى كَانُوا ثلاثة آلاف رجل، فبلغ عَلِيًّا مسيرهم، فامر على المدينة سهل

ابن حنيف الأنصاري، وخرج فسار حتى نزل ذاقار، وَكَانَ مسيره إِلَيْهَا ثمان ليال، وَمَعَهُ جماعة من أهل الْمَدِينَة. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قال: حدثني يحيى بن معين، قال: حدثنا هشام بن يوسف قاضي صنعاء، عن عبد الله بن مصعب بن ثابت ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عقبة، عن علقمة بن وقاص الليثي، قال: لما خرج طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم عرضوا الناس بذات عرق، واستصغروا عروة بن الزُّبَيْرِ وأبا بكر بن عَبْدِ الرحمن بن الحارث ابن هِشَام فردوهما. حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرو، عن عتبة بن الْمُغِيرَةِ بن الأخنس، قَالَ: لقي سَعِيد بن الْعَاصِ مَرْوَان بن الحكم وأَصْحَابه بذات عرق، فَقَالَ: أين تذهبون وثأركم عَلَى أعجاز الإبل! اقتلوهم ثُمَّ ارجعوا إِلَى منازلكم لا تقتلوا أنفسكم، قَالُوا: بل نسير فلعلنا نقتل قتلة عُثْمَان جميعا فخلا سَعِيد بطلحة وَالزُّبَيْر، فَقَالَ: إن ظفرتما لمن تجعلان الأمر؟ أصدقاني، قَالا: لأحدنا أينا اختاره الناس قَالَ: بل اجعلوه لولد عُثْمَان فإنكم خرجتم تطلبون بدمه، قَالا: ندع شيوخ الْمُهَاجِرِينَ ونجعلها لأبنائهم! قَالَ: أفلا أراني أسعى لأخرجها من بني عبد مناف فرجع ورجع عَبْد اللَّهِ بن خالد بن أسيد، فقال المغيره ابن شُعْبَةَ: الرأي مَا رَأَى سَعِيد، من كَانَ هَاهُنَا من ثقيف فليرجع، فرجع ومضى القوم، معهم أبان بن عُثْمَانَ والوليد بن عُثْمَانَ، فاختلفوا فِي الطريق فَقَالُوا: من ندعو لهذا الأمر؟ فخلا الزُّبَيْر بابنه عَبْد اللَّهِ، وخلا طَلْحَةُ بعلقمة بن وَقَّاصٍ اللَّيْثِيّ- وَكَانَ يؤثره عَلَى ولده- فَقَالَ أحدهما: ائت الشام، وَقَالَ الآخر: ائت العراق، وحاور كل واحد منهما صاحبه ثُمَّ اتفقا عَلَى الْبَصْرَةِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن محمد بن قيس،

عن الأغر، قَالَ: لما اجتمع إِلَى مكة بنو اميه ويعلى بن منيه وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر، ائتمروا أمرهم، وأجمع ملؤهم عَلَى الطلب بدم عُثْمَان وقتال السبئية حَتَّى يثأروا وينتقموا، فأمرتهم عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بالخروج إِلَى الْمَدِينَةِ، واجتمع القوم عَلَى الْبَصْرَةِ وردوها عن رأيها، وَقَالَ لها طَلْحَةُ وَالزُّبَيْر: إنا نأتي أرضا قَدْ أضيعت وصارت إِلَى علي، وَقَدْ أجبرنا علي عَلَى بيعته، وهم محتجون علينا بِذَلِكَ وتاركو أمرنا إلا أن تخرجي فتأمري بمثل مَا أمرت بمكة، ثُمَّ ترجعي فنادى المنادي: إن عَائِشَةَ تريد الْبَصْرَةَ وليس في ستمائه بعير مَا تغنون بِهِ غوغاء وجلبة الأعراب وعبيدا قَدِ انتشروا وافترشوا أذرعهم مسعدين لأول واعية وبعثت إِلَى حفصة، فأرادت الخروج، فعزم عَلَيْهَا ابن عمر فأقامت، فخرجت عَائِشَةُ ومعها طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، وَأَمَّرَتْ عَلَى الصَّلاة عبد الرَّحْمَن ابن عتاب بن أسيد، فكان يصلي بهم فِي الطريق وبالبصرة حَتَّى قتل، وخرج معها مَرْوَان وسائر بني أُمَيَّة إلا من خشع، وتيامنت عن اوطاس، وهم ستمائه راكب سوى من كَانَتْ لَهُ مطية، فتركت الطريق ليلة وتيامنت عنها كأنهم سيارة ونجعة، مساحلين لم يدن من المنكدر وَلا واسط وَلا فلج مِنْهُمْ أحد، حَتَّى أتوا الْبَصْرَةَ فِي عام خصيب وتمثلت: دعي بلاد جموع الظلم إذ صلحت ... فِيهَا المياه وسيري سير مذعور تخيري النبت فارعي ثم ظاهرة ... وبطن واد من الضمار ممطور حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، عن عُمَرَ بْنِ رَاشِدٍ الْيَمَامِيِّ، عَنْ أَبِي كَثِيرٍ السُّحَيْمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَرَجَ أَصْحَابُ الجمل في ستمائه، مَعَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ الْجُمَحِيُّ، فَلَمَّا جَاوَزَا بِئْرَ مَيْمُونٍ إِذَا هُمْ بِجَزُورٍ قَدْ نُحِرَتْ وَنَحْرُهَا يَنْثَعِبُ، فَتَطَيَّرُوا. وَأَذَّنَ مَرْوَانُ حِينَ فَصَلَ مِنْ مَكَّةَ ثُمَّ جَاءَ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِمَا، فَقَالَ: أَيُّكُمَا أُسَلِّمُ بِالإِمْرَةِ وأؤذن بِالصَّلاةِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ: عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ فَأَرْسَلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ

خروج على إلى الربذة يريد البصره

عَنْهَا إِلَى مَرْوَانَ فَقَالَتْ: مَا لَكَ؟ أَتُرِيدُ أَنْ تُفَرِّقَ أَمْرَنَا! لِيُصَلِّ ابْنُ أُخْتِي، فَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ حَتَّى قَدِمَ الْبَصْرَةَ، فَكَانَ مُعَاذُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَوْ ظَفَرْنَا لافْتُتِنَّا مَا خَلَّى الزُّبَيْرُ بَيْنَ طَلْحَةَ وَالأَمْرِ، وَلا خَلَّى طَلْحَةُ بَيْنَ الزُّبَيْرِ وَالأَمْرِ خُرُوجُ عَلِيٍّ إِلَى الرَّبْذَةِ يُرِيدُ الْبَصْرَةِ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: جَاءَ عَلِيًّا الْخَبَرُ عَنْ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَمَّرَ عَلَى الْمَدِينَةِ تَمَّامَ بْنَ الْعَبَّاسِ، وَبَعَثَ إِلَى مَكَّةَ قُثَمَ بْنَ الْعَبَّاسِ، وَخَرَجَ وَهُوَ يَرْجُو أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِالطَّرِيقِ، وَأَرَادَ أَنْ يَعْتَرِضَهُمْ، فَاسْتَبَانَ لَهُ بِالرَّبَذَةِ أَنْ قَدْ فَاتُوهُ، وَجَاءَهُ بِالْخَبَرِ عَطَاءُ بْنُ رِئَابٍ مَوْلَى الْحَارِثِ بْنِ حَزَنٍ. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، قَالا: بلغ عَلِيًّا الخبر- وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ- باجتماعهم عَلَى الخروج إِلَى الْبَصْرَةِ وَبِالَّذِي اجتمع عَلَيْهِ ملؤهم، طَلْحَةُ وَالزُّبَيْر وعائشة ومن تبعهم، وبلغه قول عَائِشَةَ، وخرج علي يبادرهم فِي تعبيته الَّتِي كَانَ تعبى بِهَا إِلَى الشام، وخرج مَعَهُ من نشط من الكوفيين والبصريين متخففين في سبعمائة رجل، وهو يرجو أن يدركهم فيحول بينهم وبين الخروج، فلقيه عَبْد اللَّهِ بن سلام فأخذ بعنانه، وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لا تخرج منها، فو الله لَئِنْ خرجت منها لا ترجع إِلَيْهَا وَلا يعود إِلَيْهَا سلطان الْمُسْلِمِينَ أبدا فسبوه، فَقَالَ: دعوا الرجل، فنعم الرجل من أَصْحَاب مُحَمَّد ص! وسار حَتَّى انتهى إِلَى الرَّبْذَة فبلغه ممرهم، فأقام حين فاتوه يأتمر بالربذة. كتب إِلَى السري، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مهران البجلي، عن مَرْوَان بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ الخميسي، عن طارق بن شهاب، قَالَ: خرجنا من الْكُوفَة معتمرين حين أتانا قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فلما انتهينا إِلَى الرَّبَذَة- وَذَلِكَ فِي وجه الصبح- إذا الرفاق وإذا بعضهم يحدو

شراء الجمل لعائشة رضى الله عنها، وخبر كلاب الحوأب

بعضا، فقلت: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، فقلت: ما له؟ قَالُوا: غلبه طَلْحَةُ وَالزُّبَيْر، فخرج يعترض لهما ليردهما، فبلغه أنهما قَدْ فاتاه، فهو يريد أن يخرج فِي آثارهما، فقلت: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! آتي عَلِيًّا فأقاتل مَعَهُ هَذَيْنِ الرجلين وأم الْمُؤْمِنِينَ أو أخالفه! إن هَذَا لشديد. فخرجت فأتيته، فأقيمت الصَّلاة بغلس، فتقدم فصلى، [فلما انصرف أتاه ابنه الْحَسَن فجلس فَقَالَ: قَدْ أمرتك فعصيتني، فتقتل غدا بمضيعة لا ناصر لك، فَقَالَ علي: إنك لا تزال تخن خنين الجارية! وما الَّذِي أمرتني فعصيتك؟ قَالَ: أمرتك يوم أحيط بعثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن تخرج مِنَ الْمَدِينَةِ فيقتل ولست بِهَا، ثُمَّ أمرتك يوم قتل أَلا تبايع حَتَّى يأتيك وفود أهل الأمصار والعرب وبيعة كل مصر، ثُمَّ أمرتك حين فعل هَذَانِ الرجلان مَا فعلا أن تجلس فِي بيتك حَتَّى يصطلحوا، فإن كَانَ الفساد كَانَ عَلَى يدي غيرك، فعصيتني فِي ذَلِكَ كله قَالَ: أي بني، أما قولك: لو خرجت مِنَ الْمَدِينَةِ حين احيط بعثمان، فو الله لقد أحيط بنا كما أحيط بِهِ وأما قولك: لا تبايع حَتَّى تأتي بيعة الأمصار، فإن الأمر أمر أهل الْمَدِينَةِ، وكرهنا أن يضيع هَذَا الأمر. وأما قولك حين خرج طَلْحَةُ وَالزُّبَيْر، فإن ذَلِكَ كَانَ وهنا عَلَى اهل الاسلام، وو الله مَا زلت مقهورا مذ وليت، منقوصا لا أصل إِلَى شَيْء مما ينبغي وأما قولك: اجلس فِي بيتك، فكيف لي بِمَا قَدْ لزمني! أو من تريدني؟ أتريد أن أكون مثل الضبع الَّتِي يحاط بِهَا ويقال: دباب دباب! ليست هاهنا حَتَّى يحل عرقوباها ثُمَّ تخرج، وإذا لم أنظر فِيمَا لزمني من هَذَا الأمر ويعنيني فمن ينظر فِيهِ! فكف عنك أي بني] . شراء الجمل لعائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وخبر كلاب الحوأب حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى الْفَزَارِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَابِسٍ الأَزْرَقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْخَطَّابِ الْهَجَرِيُّ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ قَبِيصَةَ الأَحْمُسِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْعُرَنِيُّ صَاحِبُ الْجَمَلِ، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ

عَلَى جَمَلٍ إِذْ عَرَضَ لِي رَاكِبٌ فَقَالَ: يَا صَاحِبَ الْجَمَلِ، تَبِيعُ جَمَلَكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: بِكَمْ؟ قُلْتُ: بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، قَالَ: مَجْنُونٌ أَنْتَ! جَمَلٌ يُبَاعُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ! قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، جَمَلِي هَذَا، قَالَ: وَمِمَّ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: مَا طَلَبْتُ عَلَيْهِ أَحَدًا قَطُّ إِلا أَدْرَكْتُهُ، وَلا طَلَبَنِي وَأَنَا عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلا فُتُّهُ قَالَ: لَوْ تَعْلَمُ لِمَنْ نُرِيدُهُ لأَحْسَنْتَ بَيْعَنَا، قَالَ: قُلْتُ: وَلِمَنْ تُرِيدُهُ؟ قَالَ: لأُمِّكَ، قُلْتُ: لَقَدْ تَرَكْتُ أُمِّي فِي بَيْتِهَا قَاعِدَةً مَا تُرِيدُ بَرَاحًا، قَالَ: إِنَّمَا أُرِيدُهُ لأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ، قُلْتُ: فَهُوَ لَكَ، فَخُذْهُ بِغَيْرِ ثَمَنٍ، قَالَ: لا، وَلَكِنِ ارْجِعْ مَعَنَا إِلَى الرَّحْلِ فَلْنُعْطِكَ نَاقَةً مَهْرِيَّةً وَنَزِيدُكَ دَرَاهِمَ، قَالَ: فَرَجَعْتُ فأعطوني ناقه لها مهريه، وزادونى أربعمائة او ستمائه دِرْهَمٍ، فَقَالَ لِي: يَا أَخَا عُرَيْنَةَ، هَلْ لَكَ دَلالَةٌ بِالطَّرِيقِ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، أَنَا مِنْ أَدْرَكِ النَّاسِ، قَالَ: فَسِرْ مَعَنَا، فَسِرْتُ مَعَهُمْ فَلا أَمُرُّ عَلَى وَادٍ وَلا مَاءٍ إِلا سَأَلُونِي عَنْهُ، حَتَّى طَرَقْنَا مَاءَ الحَوْأَبِ فَنَبَحَتْنَا كِلابُهَا، قَالُوا: أَيُّ مَاءٍ هَذَا؟ قُلْتُ: مَاءُ الْحَوْأَبِ، قَالَ: فَصَرَخَتْ عَائِشَةُ بِأَعْلَى صَوْتِهَا، ثُمَّ ضَرَبَتْ عَضُدَ بَعِيرِهَا فَأَنَاخَتْهُ، ثُمَّ قَالَتْ: انا والله صاحبة كِلابِ الْحَوْأَبِ طَرُوقًا، رُدُّونِي! تَقُولُ ذَلِكَ ثَلاثًا فَأَنَاخَتْ وَأَنَاخُوا حَوْلَهَا وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَهِيَ تَأْبَى حَتَّى كَانَتِ السَّاعَةُ الَّتِي أَنَاخُوا فِيهَا مِنَ الْغَدِ قَالَ: فَجَاءَهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: النَّجَاءَ النَّجَاءَ، فَقَدْ أَدْرَكَكُمْ وَاللَّهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ! قَالَ: فَارْتَحَلُوا وَشَتَمُونِي، فَانْصَرَفْتُ، فَمَا سِرْتُ إِلا قَلِيلا وَإِذَا أَنَا بِعَلِيٍّ وَرَكْبٍ معه نحو من ثلاثمائة، فقال لي على: يا ايها الرَّاكِبُ! فَأَتَيْتُهُ فَقَالَ: أَيْنَ أَتَيْتَ الظَّعِينَةَ؟ قُلْتُ: فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، وَهَذِهِ نَاقَتُهَا، وَبِعْتُهُمْ جَمَلِي، قَالَ: وَقَدْ رَكِبَتْهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَسِرْتُ مَعَهُمْ حَتَّى أَتَيْنَا مَاءَ الْحَوْأَبِ فَنَبَحَتْ عَلَيْهَا كَلابُهَا، فَقَالَتْ كَذَا وَكَذَا، فَلَمَّا رَأَيْتُ اخْتِلاطَ أَمْرِهِمْ انْفَتَلْتُ وَارْتَحَلُوا، فَقَالَ عَلِيٌّ: هَلْ لَكَ دِلالَةٌ بِذِي قَارٍ؟ قُلْتُ: لِعَلِيٍّ أَدُلُّ النَّاسَ، قَالَ: فَسِرْ مَعَنَا، فَسِرْنَا حَتَّى نَزَلْنَا ذَا قَارٍ، فَأَمَرَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِجِوَالِقَيْنِ فَضَمَّ أَحَدَهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ جِيءَ بِرَحْلٍ فَوُضِعَ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ جَاءَ يَمْشِي حَتَّى صَعِدَ عَلَيْهِ، وَسَدَلَ رِجْلَيْهِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ حمد الله وأثنى

قول عائشة رضى الله عنها: والله لاطلبن بدم عثمان وخروجها وطلحه والزبير فيمن تبعهم إلى البصره

عليه، وصلى على محمد ص، ثُمَّ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُمْ مَا صَنَعَ هَؤُلاءِ الْقَوْمُ وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ فَقَامَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ فَبَكَى، فقال له على: قد جئت تخن خنين الْجَارِيَةِ! فَقَالَ: أَجَلْ، أَمَرْتُكَ فَعَصَيْتَنِي، فَأَنْتَ الْيَوْمُ تُقْتَلُ بِمَضْيَعَةٍ لا نَاصِرَ لَكَ، قَالَ: حَدِّثِ الْقَوْمَ بِمَا أَمَرْتَنِي بِهِ، قَالَ: أَمَرْتُكَ حِينَ سار الناس الى عثمان أَلا تَبْسُطَ يَدَكَ بِبَيْعَةٍ حَتَّى تَجُولَ جَائِلَةُ الْعَرَبِ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَقْطَعُوا أَمْرًا دُونَكَ، فَأَبَيْتَ عَلَيَّ، وَأَمَرْتُكَ حِينَ سَارَتْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ وَصَنَعَ هَؤُلاءِ الْقَوْمُ مَا صَنَعُوا أَنْ تَلْزَمَ الْمَدِينَةَ وَتُرْسِلَ إِلَى مَنِ اسْتَجَابَ لَكَ مِنْ شِيعَتِكَ، قَالَ عَلِيٌّ: صَدَقَ وَاللَّهِ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ يَا بُنَيَّ مَا كُنْتُ لأَكُونَ كَالضَّبُعِ تَسْتَمِعُ لِلدَّمِ، [ان النبي ص قُبِضَ وَمَا أَرَى أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنِّي، فَبَايَعَ النَّاسُ أَبَا بَكْرٍ، فَبَايَعْتُ كَمَا بَايَعُوا، ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَلَكَ وَمَا أَرَى أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنِّي، فَبَايَعَ النَّاسُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَبَايَعْتُ كَمَا بَايَعُوا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَلَكَ وَمَا أَرَى أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنِّي، فَجَعَلَنِي سَهْمًا مِنْ سِتَّةِ أَسْهُمٍ، فَبَايَعَ النَّاسُ عُثْمَانَ فَبَايَعْتُ كَمَا بَايَعُوا، ثُمَّ سَارَ النَّاسُ إِلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ أَتَوْنِي فَبَايَعُونِي طَائِعِينَ غَيْرُ مُكْرَهِينَ، فَأَنَا مُقَاتِلُ مَنْ خَالَفَنِي بِمَنِ اتَّبَعَنِي حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ] . قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَاللَّهِ لأَطْلُبَنَّ بِدَمِ عُثْمَانَ وَخُرُوجُهَا وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ فِيمَنْ تَبِعَهُمْ إِلَى الْبَصْرَةِ كَتَبَ إِلَيَّ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ الْعِجْلِيُّ أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ نَصْرٍ الْعَطَّارَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي نَصْرُ بْنُ مُزَاحِمٍ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ نُوَيْرَةَ وَطَلْحَةَ بْنِ الأَعْلَمِ الْحَنَفِيِّ قَالَ: وَحَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَمَّنْ أَدْرَكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، إِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا انْتَهَتْ إِلَى سَرِفَ رَاجِعَةً فِي طَرِيقِهَا الى مكة، لقيها عبد بن أُمِّ كِلابٍ- وَهُوَ

عَبْدُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، يُنْسَبُ إِلَى أُمِّهِ- فَقَالَتْ لَهُ: مَهْيَمْ؟ قَالَ: قَتَلُوا عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَمَكَثُوا ثَمَانِيًا، قَالَتْ: ثُمَّ صَنَعُوا مَاذَا؟ قَالَ: أَخَذَهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِالاجْتِمَاعِ، فَجَازَتْ بِهِمُ الأُمُورُ إِلَى خَيْرِ مُجَازٍ، اجْتَمَعُوا عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَيْتَ أَنَّ هَذِهِ انْطَبَقَتْ عَلَى هَذِهِ إِنْ تَمَّ الأَمْرُ لِصَاحِبِكَ! رُدُّونِي رُدُّونِي، فَانْصَرَفَتْ إِلَى مَكَّةَ وَهِيَ تَقُولُ: قُتِلَ وَاللَّهِ عُثْمَانُ مَظْلُومًا، وَاللَّهِ لأَطْلُبَنَّ بِدَمِهِ، فَقَالَ لَهَا ابْنُ أُمِّ كِلابٍ: ولم؟ فو الله إِنَّ أَوَّلُ مَنْ أَمَالَ حَرْفَهُ لأَنْتِ! وَلَقَدْ كُنْتِ تَقُولِينَ: اقْتُلُوا نَعْثَلا فَقَدْ كَفَرَ، قَالَتْ: إِنَّهُمُ اسْتَتَابُوهُ ثُمَّ قَتَلُوهُ، وَقَدْ قُلْتُ وَقَالُوا، وَقَوْلِي الأَخِيرُ خَيْرٌ مِنْ قَوْلِي الأَوَّلِ، فَقَالَ لَهَا ابْنُ أُمِّ كِلابٍ: فَمِنْكِ الْبَدَاءُ وَمِنْكِ الْغِيَرْ ... وَمِنْكِ الرِّيَاحُ وَمِنْكِ الْمَطَرْ وَأَنْتِ أَمَرْتِ بِقَتْلِ الإِمَامِ ... وَقُلْتِ لَنَا إِنَّهُ قَدْ كَفَرْ فَهَبْنَا أَطَعْنَاكِ فِي قَتْلِهِ ... وَقَاتِلُهُ عِنْدَنَا مَنْ أَمَرْ وَلَمْ يَسْقُطِ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِنَا ... وَلَمْ تنكف شَمْسُنَا وَالْقَمَرْ وَقَدْ بَايَعَ النَّاسُ ذَا تَدَرّإٍ ... يُزِيلُ الشَّبَا وَيُقِيمُ الصَّعَرْ وَيَلْبَسُ لِلْحَرْبِ أَثْوَابَهَا ... وَمَا مَنْ وَفَى مِثْلَ مَنْ قَدْ غَدَرْ فَانْصَرَفَتْ إِلَى مَكَّةَ فَنَزَلَتْ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَصَدَتْ لِلْحِجْرِ، فَسُتِرَتْ وَاجْتَمَعَ إِلَيْهَا النَّاسُ، فَقَالَتْ: يا ايها الناس، ان عثمان قتل مظلوما، وو الله لأَطْلُبَنَّ بِدَمِهِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، قَالا: كَانَ عَلِيٌّ فِي هَمٍّ مِنْ تَوَجُّهِ الْقَوْمِ لا يَدْرِي إِلَى أَيْنَ يَأْخُذُونَ! وَكَانَ أَنْ يَأْتُوا الْبَصْرَةَ أَحَبَّ إِلَيْهِ فَلَمَّا تَيَقَّنَ أَنَّ الْقَوْمَ يُعَارِضُونَ طَرِيقَ الْبَصْرَةِ سُرَّ بِذَلِكَ. وَقَالَ: الْكُوفَةُ فِيهَا رِجَالُ الْعَرَبِ وَبُيُوتَاتُهُمْ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عباس: ان الذى يسرك من ذلك ليسوؤنى، إِنَّ الْكُوفَةَ فُسْطَاطٌ فِيهِ أَعْلامٌ مِنْ أَعْلامِ الْعَرَبِ، وَلا يَحْمِلُهُمْ

عُدَّةُ الْقَوْمِ، وَلا يَزَالُ فِيهِمْ مَنْ يَسْمُو إِلَى أَمْرٍ لا يَنَالُهُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ شَغَبَ عَلَيَّ الَّذِي قَدْ نَالَ حَتَّى يَفْثَأَهُ فَيُفْسِدَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنَّ الأَمْرَ لَيُشْبِهُ مَا تَقُولُ، وَلَكِنَّ الأَثَرَةَ لأَهْلِ الطَّاعَةِ وَأَلْحَقَ بِأَحْسَنِهِمْ سَابِقَةً وَقُدْمَةً، فَإِنِ اسْتَوَوْا أَعْفَيْنَاهُمْ وَاجْتَبَرْنَاهُمْ، فَإِنْ أَقْنَعَهُمْ ذَلِكَ كَانَ خَيْرًا لَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُقْنِعْهُمْ كَلَّفُونَا إِقَامَتَهُمْ وَكَانَ شَرًّا عَلَى مَنْ هُوَ شَرٌّ لَهُ] فَقَالَ ابن عباس: ان ذلك لامر لا يُدْرَكُ إِلا بِالْقُنُوعِ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قَالا: لَمَّا اجْتَمَعَ الرَّأْيُ مِنْ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى السَّيْرِ إِلَى الْبَصْرَةِ وَالانْتِصَارِ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، خَرَجَ الزُّبَيْرُ وَطَلْحَةُ حَتَّى لَقِيَا ابْنَ عُمَرَ وَدَعَوَاهُ إِلَى الْخُفُوفِ، فَقَالَ: إِنِّي امْرُؤٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَإِنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى النُّهُوضِ أَنْهَضْ، وَإِنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى الْقُعُودِ أَقْعُدْ، فَتَرَكَاهُ وَرَجَعَا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: جَمَعَ الزُّبَيْرُ بَنِيهِ حِينَ أَرَادَ الرَّحِيلَ، فَوَدَّعَ بَعْضَهُمْ وَأَخْرَجَ بَعْضَهُمْ، وَأَخْرَجَ ابْنَيْ أَسْمَاءَ جَمِيعًا، فَقَالَ: يَا فُلانُ أَقِمْ، يَا عَمْرُو أَقِمْ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، قَالَ: يَا عُرْوَةُ أَقِمْ، وَيَا مُنْذِرُ أَقِمْ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَيْحَكَ! أَسْتَصْحِبُ ابْنَيَّ وَأَسْتَمْتِعُ مِنْهُمَا، فَقَالَ: إِنْ خَرَجْتَ بِهِمْ جَمِيعًا فَاخْرُجْ، وَإِنْ خَلَفْتَ مِنْهُمْ أَحَدًا فَخَلِّفْهُمَا وَلا تُعَرِّضْ أَسْمَاءَ لِلثُّكْلِ مِنْ بَيْنِ نِسَائِكَ فَبَكَى وَتَرَكَهُمَا، فَخَرَجُوا حَتَّى إِذَا انْتَهَوْا إِلَى جِبَالِ أَوْطَاسَ تَيَامَنُوا وَسَلَكُوا طَرِيقًا نَحْوَ الْبَصْرَةِ، وَتَرَكُوا طَرِيقَهَا يَسَارًا، حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْهَا فَدَخَلُوهَا رَكِبُوا الْمُنْكَدِرَ. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن ابْنِ الشَّهِيدِ، عن ابن أبي مليكة، قَالَ: خرج الزُّبَيْر وَطَلْحَة ففصلا، ثُمَّ خرجت عَائِشَةُ فتبعها أمهات الْمُؤْمِنِينَ إِلَى ذات عرق، فلم ير يوم كَانَ أكثر باكيا عَلَى الإِسْلام أو باكيا لَهُ من ذَلِكَ الْيَوْم، كَانَ يسمى يوم النحيب وأمرت

دخولهم البصره والحرب بينهم وبين عثمان بن حنيف

عبد الرَّحْمَن بن عتاب، فكان يصلي بِالنَّاسِ، وَكَانَ عدلا بَيْنَهُمْ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ معن السلمي، قَالَ: لما تيامن عسكرها عن أوطاس أتوا عَلَى مليح بن عوف السلمى، وهو مطلع ما له، فسلم عَلَى الزُّبَيْر، وَقَالَ: يَا أَبَا عَبْد اللَّهِ، مَا هَذَا؟ قَالَ: عدي عَلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فقتل بلا ترة وَلا عذر، قَالَ: ومن؟ قَالَ: الغوغاء من الأمصار ونزاع القبائل، وظاهرهم الأعراب والعبيد، قَالَ: فتريدون ماذا؟ قَالَ: ننهض الناس فيدرك بهذا الدم لئلا يبطل، فإن فِي إبطاله توهين سلطان اللَّه بيننا أبدا، إذا لم يفطم الناس عن أمثالها لم يبق إمام إلا قتله هَذَا الضرب، قَالَ: وَاللَّهِ إن ترك هَذَا لشديد، وَلا تدرون إِلَى أين ذَلِكَ يسير! فودع كل واحد منهما صاحبه، وافترقا ومضى الناس دخولهم البصره والحرب بينهم وبين عُثْمَان بن حنيف كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وَمَضَى النَّاسُ حَتَّى إِذَا عَاجُوا عَنِ الطَّرِيقِ وكانوا بفناء البصره، لقيهم عمير ابن عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ، فَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْشُدُكِ بِاللَّهِ أَنْ تَقْدَمِي الْيَوْمَ عَلَى قَوْمٍ تُرَاسِلِي مِنْهُمْ أَحَدًا فَيَكْفِيكَهُمْ! فَقَالَتْ: جِئْتَنِي بِالرَّأْيِ، امرؤ صالح، قال: فعجلى ابن عامر فليدخل، فَإِنَّ لَهُ صَنَائِعَ فَلْيَذْهَبْ إِلَى صَنَائِعِهِ فَلْيَلْقَوُا النَّاسَ حَتَّى تَقْدُمِي وَيَسْمَعُوا مَا جِئْتُمْ فِيهِ فَأَرْسَلَتْهُ فَانْدَسَّ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَأَتَى الْقَوْمَ وَكَتَبَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَى رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَكَتَبَتْ إِلَى الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ وَصَبْرَةَ بْنِ شَيْمَانَ وَأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْوُجُوهِ، وَمَضَتْ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بِالْحَفِيرِ انْتَظَرَتِ الْجَوَابَ بِالْخَبَرِ، وَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ دَعَا عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ- وَكَانَ رَجُلٌ عَامَّةً- وَأَلَزَّهُ بِأَبِي الأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ- وَكَانَ رَجُلٌ خَاصَّةً- فَقَالَ: انْطَلِقَا إِلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ فَاعْلَمَا علمها وعلم مَنْ مَعَهَا، فَخَرَجَا فَانْتَهَيَا إِلَيْهَا وَإِلَى النَّاسِ وَهُمْ بِالْحَفِيرِ، فَاسْتَأْذَنَا

فَأَذِنَتْ لَهُمَا، فَسَلَّمَا وَقَالا: إِنَّ أَمِيرَنَا بَعَثَنَا إِلَيْكِ نَسْأَلُكِ عَنْ مَسِيرِكِ، فَهَلْ أَنْتِ مُخْبِرَتُنَا؟ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا مِثْلِي يَسِيرُ بِالأَمْرِ الْمَكْتُومِ وَلا يُغَطِّي لِبَنِيهِ الْخَبَرَ إِنَّ الْغَوْغَاءَ مِنْ أَهْلِ الأَمْصَارِ وَنُزَّاعَ الْقَبَائِلِ غَزَوْا حَرَمَ رَسُولِ الله ص وَأَحْدَثُوا فِيهِ الأَحْدَاثَ، وَآوَوْا فِيهِ الْمُحْدِثِينَ، وَاسْتَوْجَبُوا فِيهِ لَعْنَةَ اللَّهِ وَلَعْنَةَ رَسُولِهِ، مَعَ مَا نَالُوا مِنْ قَتْلِ إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ بِلا تِرَةٍ وَلا عُذْرٍ، فَاسْتَحَلُّوا الدَّمَ الْحَرَامَ فَسَفَكُوهُ، وَانْتَهَبُوا الْمَالَ الْحَرَامَ، وَأَحَلُّوا الْبَلَدَ الْحَرَامَ، وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ، وَمَزَّقُوا الأَعْرَاضَ وَالْجُلُودَ، وَأَقَامُوا فِي دَارِ قَوْمٍ كَانُوا كَارِهِينَ لِمُقَامِهِمْ ضَارِّينَ مُضِرِّينَ، غَيْرُ نَافِعِينَ وَلا مُتَّقِينَ، لا يَقْدِرُونَ عَلَى امْتِنَاعٍ وَلا يأمنون، فَخَرَجْتُ فِي الْمُسْلِمِينَ أُعْلِمُهُمْ مَا أَتَى هَؤُلاءِ الْقَوْمُ وَمَا فِيهِ النَّاسُ وَرَاءَنَا، وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَأْتُوا فِي إِصْلاحِ هَذَا وقرأت: «لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ» نَنْهَضُ فِي الإِصْلاحِ مِمَّنْ أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وجل وامر رسول الله ص، الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَالذَّكَرَ وَالأُنْثَى، فَهَذَا شَأْنُنَا إِلَى مَعْرُوفٍ نَأْمُرُكُمْ بِهِ، وَنَحُضُّكُمْ عَلَيْهِ، وَمُنْكَرٍ نَنْهَاكُمْ عَنْهُ، وَنَحُثُّكُمْ عَلَى تَغْيِيرِهِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قَالا: فَخَرَجَ أَبُو الأَسْوَدِ وَعِمْرَانُ مِنْ عِنْدِهَا فَأَتَيَا طَلْحَةَ فَقَالا: مَا أَقْدَمَكَ؟ قَالَ: الطَّلَبُ بدم عثمان، قَالا: أَلَمْ تُبَايِعْ عَلِيًّا؟ قَالَ: بَلَى، وَاللُّجُّ عَلَى عُنُقِي، وَمَا أَسْتَقِيلُ عَلِيًّا إِنْ هُوَ لَمْ يَحُلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَتَلَةِ عُثْمَانَ، ثُمَّ أَتَيَا الزُّبَيْرَ فَقَالا: مَا أَقْدَمَكَ؟ قَالَ: الطَّلَبُ بدم عثمان، قَالا: أَلَمْ تُبَايِعْ عَلِيًّا؟ قَالَ: بَلَى، وَاللُّجُّ عَلَى عُنُقِي، وَمَا أَسْتَقِيلُ عَلِيًّا إِنْ هُوَ لَمْ يَحُلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَتَلَةِ عُثْمَانَ فَرَجَعَا إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَوَدَّعَاهَا فَوَدَّعَتْ عِمْرَانَ، وَقَالَتْ: يَا أَبَا الأَسْوَدِ إِيَّاكَ أَنْ يَقُودَكَ الْهَوَى إِلَى النَّارِ، «كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ» الآيَةَ فَسَرَّحَتْهُمَا، وَنَادَى مُنَادِيهَا بِالرَّحِيلِ، وَمَضَى الرَّجُلانِ حَتَّى دَخَلا عَلَى عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ، فَبَدَرَ ابو الأسود عمران فقال:

يا بن حُنَيْفٍ قَدْ أَتَيْتَ فَانْفِرْ ... وَطَاعِنِ الْقَوْمَ وَجَالِدْ وَاصْبِرْ وَابْرُزْ لَهُمْ مُسْتَلْئِمًا وَشَمِّرْ. فَقَالَ عُثْمَانُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! دَارَتْ رَحَا الإِسْلامُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، فَانْظُرُوا بِأَيِّ زَيَفَانَ تَزِيفُ! فَقَالَ عِمْرَانُ: إِي وَاللَّهِ لَتَعْرُكَنَّكُمْ عَرْكًا طَوِيلا ثُمَّ لا يُسَاوِي مَا بَقِيَ مِنْكُمْ كَثِيرَ شَيْءٍ، قَالَ: فَأَشِرْ عَلَيَّ يَا عِمْرَانُ، قَالَ: إِنِّي قَاعِدٌ فَاقْعُدْ، فَقَالَ عُثْمَانُ: بَلْ أَمْنَعُهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ، قَالَ عِمْرَان: بَلْ يَحْكُمُ اللَّهُ مَا يُرِيدُ، فَانْصَرَفَ إِلَى بَيْتِهِ، وَقَامَ عُثْمَانُ فِي أَمْرِهِ، فَأَتَاهُ هِشَامُ بْنُ عَامِرٍ فَقَالَ: يَا عُثْمَانُ، إِنَّ هَذَا الأَمْرَ الَّذِي تَرُومُ يُسْلِمُ إِلَى شَرٍّ مِمَّا تَكْرَهُ، إِنَّ هَذَا فَتْقٌ لا يُرْتَقُ، وَصَدْعٌ لا يُجْبَرُ، فَسَامِحْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ عَلِيٍّ ولاتحادهم، فَأَبَى وَنَادَى عُثْمَانُ فِي النَّاسِ وَأَمَرَهُمْ بِالتَّهَيُّؤِ، وَلَبِسُوا السِّلاحَ، وَاجْتَمَعُوا إِلَى الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَأَقْبَلَ عُثْمَانُ عَلَى الْكَيْدِ فَكَادَ النَّاسَ لِيَنْظُرَ مَا عِنْدَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّهَيُّؤِ، وَأَمَرَ رَجُلا وَدَسَّهُ إِلَى الناس خدعا كوفيا قيسيا، فقام فقال: يا ايها الناس، انا قيس بن الْعُقْدِيَّةِ الْحُمَيْسِيُّ، إِنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ جَاءُوكُمْ إِنْ كَانُوا جَاءُوكُمْ خَائِفِينَ فَقَدْ جَاءُوا مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي يَأْمَنُ فِيهِ الطَّيْرُ، وَإِنْ كَانُوا جَاءُوا يَطْلُبُونَ بِدَمِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَمَا نَحْنُ بِقَتَلَةِ عُثْمَانَ أَطِيعُونِي فِي هَؤُلاءِ الْقَوْمِ فَرُدُّوهُمْ مِنْ حَيْثُ جَاءُوا فَقَامَ الأَسْوَدُ ابن سريع السعدي، فقال: او زعموا أَنَّا قَتَلَةُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ! فَإِنَّمَا فَزِعُوا إِلَيْنَا يَسْتَعِينُونَ بِنَا عَلَى قَتَلَةِ عُثْمَانَ مِنَّا وَمِنْ غَيْرِنَا، فَإِنْ كَانَ الْقَوْمُ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ كَمَا زَعَمْتَ، فَمَنْ يَمْنَعُهُمْ مِنْ إِخْرَاجِهِمُ الرِّجَالَ أَوِ الْبُلْدَانَ! فَحَصَبَهُ النَّاسُ، فَعَرَفَ عُثْمَانُ أَنَّ لَهُمْ بِالْبَصْرَةِ نَاصِرًا مِمَّنْ يَقُومُ مَعَهُمْ، فَكَسَرَهُ ذَلِكَ وَأَقْبَلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِيمَنْ مَعَهَا، حَتَّى إِذَا انْتَهَوْا إِلَى الْمِرْبَدِ وَدَخَلُوا مِنْ أَعْلاهُ أَمْسَكُوا وَوَقَفُوا حَتَّى خَرَجَ عُثْمَانُ فِيمَنْ مَعَهُ، وَخَرَجَ إِلَيْهَا مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهَا وَيَكُونَ مَعَهَا، فَاجْتَمَعُوا بِالْمِرْبَدِ وَجَعَلُوا يَثُوبُونَ حَتَّى غَصَّ بِالنَّاسِ. فَتَكَلَّمَ طَلْحَةُ وَهُوَ فِي مَيْمَنَةِ الْمِرْبَدِ وَمَعَهُ الزُّبَيْرُ وَعُثْمَانُ فِي مَيْسَرَتِهِ، فَأَنْصَتُوا

لَهُ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَذَكَرَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفَضْلَهُ وَالْبَلَدَ وَمَا اسْتُحِلَّ مِنْهُ، وَعَظَّمَ مَا أُتِيَ إِلَيْهِ، وَدَعَا إِلَى الطَّلَبِ بِدَمِهِ، وَقَالَ: إِنَّ فِي ذَلِكَ إِعْزَازَ دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسُلْطَانِهِ، وَأَمَّا الطَّلَبُ بِدَمِ الْخَلِيفَةِ الْمَظُلُومِ فَإِنَّهُ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، وَإِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ أَصَبْتُمْ وَعَادَ أَمْرُكُمْ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ تَرَكْتُمْ لَمْ يَقُمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ، وَلَمْ يَكُنْ لَكُمْ نِظَامٌ. فَتَكَلَّمَ الزُّبَيْرُ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَقَالَ مَنْ فِي مَيْمَنَةِ الْمِرْبَدِ: صَدَقَا وَبَرَّا، وَقَالا الْحَقَّ، وَأَمَرَا بِالْحَقِّ وَقَالَ مَنْ فِي مَيْسَرَتِهِ: فَجَرَا وَغَدَرَا، وَقَالا الْبَاطِلَ، وَأَمَرَا بِهِ، قَدْ بَايَعَا ثُمَّ جَاءَا يَقُولانِ مَا يَقُولانِ! وَتَحَاثَى النَّاسُ وَتَحَاصَبُوا وَأَرْهَجُوا فَتَكَلَّمَتْ عَائِشَةُ- وَكَانَتْ جَهْوَرِيَّةً يَعْلُو صَوْتُهَا كَثْرَةً كَأَنَّهُ صَوْتُ امْرَأَةٍ جَلِيلَةٍ- فَحَمِدَتِ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ: كَانَ النَّاسُ يَتَجَنَّوْنَ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَزْرُونَ عَلَى عُمَّالِهِ وَيَأْتُونَنَا بِالْمَدِينَةِ فَيَسْتَشِيرُونَنَا فِيمَا يُخْبِرُونَنَا عَنْهُمْ، وَيَرَوْنَ حُسْنًا مِنْ كَلامِنَا فِي صَلاحِ بَيْنِهِمْ، فَنَنْظُرُ فِي ذَلِكَ فَنَجِدُهُ بَرِيًّا تَقِيًّا وَفِيًّا وَنَجِدُهُمْ فَجَرَةً كَذَبَةً يُحَاوِلُونَ غَيْرَ مَا يُظْهِرُونَ فَلَمَّا قَوَوْا عَلَى الْمُكَاثَرَةِ كَاثَرُوهُ فَاقْتَحَمُوا عَلَيْهِ دَارَهُ، وَاسْتَحَلُّوا الدَّمَ الْحَرَامَ، وَالْمَالَ الْحَرَامَ، وَالْبَلَدَ الْحَرَامَ، بِلا تِرَةٍ وَلا عُذْرٍ، أَلا إِنَّ مِمَّا يَنْبَغِي لا يَنْبَغِي لَكُمْ غَيْرُهُ، أَخْذُ قَتَلَةِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِقَامَةُ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ» . فافترق اصحاب عثمان ابن حُنَيْفٍ فِرْقَتَيْنِ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: صَدَقَتْ وَاللَّهِ وَبَرَّتْ، وَجَاءَتْ وَاللَّهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَالَ الآخَرُونَ: كَذَبْتُمْ وَاللَّهِ مَا نَعْرِفُ مَا تَقُولُونَ، فَتَحَاثَوْا وَتَحَاصَبُوا وَأَرْهَجُوا، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ انْحَدَرَتْ وَانْحَدَرَ أَهْلُ الْمَيْمَنَةِ مُفَارِقِينَ لِعُثْمَانَ حَتَّى وَقَفُوا فِي الْمِرْبَدِ فِي مَوْضِعِ الدَّبَّاغِينَ، وَبَقِيَ أَصْحَابُ عُثْمَانَ عَلَى حَالِهِمْ يَتَدَافَعُونَ حَتَّى تَحَاجَزُوا، وَمَالَ بَعْضُهُمْ إِلَى عَائِشَةَ، وَبَقِيَ بَعْضُهُمْ مَعَ عُثْمَانَ عَلَى فَمِ السكة واتى عثمان

ابن حُنَيْفٍ فِيمَنْ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا كَانُوا عَلَى فَمِ السِّكَّةِ، سِكَّةِ الْمَسْجِدِ عَنْ يَمِينِ الدَّبَّاغِينَ اسْتَقْبَلُوا النَّاسَ فَأَخَذُوا عَلَيْهِمْ بِفَمِهَا. وَفِيمَا ذَكَرَ نَصْرُ بْنُ مُزَاحِمٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ سَهْلِ بن يوسف، عن القاسم ابن مُحَمَّدٍ، قَالَ: وَأَقْبَلَ جَارِيَةُ بْنُ قُدَامَةَ السَّعْدِيُّ، فَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، وَاللَّهِ لَقَتْلُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَهْوَنُ مِنْ خُرُوجِكِ مِنْ بَيْتِكِ عَلَى هَذَا الْجَمَلِ الْمَلْعُونِ عُرْضَةً لِلسِّلاحِ! إِنَّهُ قَدْ كَانَ لَكِ مِنَ اللَّهِ سِتْرٌ وَحُرْمَةٌ، فَهَتَكْتِ سِتْرَكِ وَأَبَحْتِ حُرْمَتَكِ، إِنَّهُ مَنْ رَأَى قتالك فانه يرى قتلك، وان كُنْتِ أَتَيْتِنَا طَائِعَةً فَارْجِعِي إِلَى مَنْزِلِكِ، وَإِنْ كُنْتِ أَتَيْتِنَا مُسْتَكْرَهَةً فَاسْتَعِينِي بِالنَّاسِ قَالَ: فَخَرَجَ غُلامٌ شَابٌّ مِنْ بَنِي سَعْدٍ إِلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، فَقَالَ: أَمَّا أَنْتَ يَا زُبَيْرُ فَحَوَارِيُّ رسول الله ص، وَأَمَّا أَنْتَ يَا طَلْحَةُ فَوَقَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ ص بِيَدِكَ، وَأَرَى أُمَّكُمَا مَعَكُمَا فَهَلْ جِئْتُمَا بِنِسَائِكُمَا؟ قَالا: لا، قَالَ: فَمَا أَنَا مِنْكُمَا فِي شَيْءٍ، وَاعْتَزَلَ وَقَالَ السَّعْدِيُّ فِي ذَلِكَ: صُنْتُمْ حَلائِلَكُمْ وَقُدْتُمْ أُمَّكُمْ ... هَذَا لَعْمَرُكَ قِلَّةُ الإِنْصَافِ أُمِرَتْ بِجَرِّ ذُيُولِهَا فِي بَيْتِهَا ... فَهَوَتْ تَشُقُّ الْبِيدَ بِالإِيجَافِ غَرَضًا يُقَاتِلُ دُونَهَا أَبْنَاؤُهَا ... بِالنَّبْلِ وَالْخَطِّيِّ وَالأَسْيَافِ هَتَكَتْ بِطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ سُتُورَهَا ... هَذَا الْمُخَبِّرُ عَنْهُمُ وَالْكَافِي وَأَقْبَلَ غُلامٌ مِنْ جُهَيْنَةَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ- وَكَانَ مُحَمَّدٌ رَجُلا عَابِدًا- فَقَالَ: أَخْبَرَنِي عَنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ! فَقَالَ: نَعَمْ، دَمُ عُثْمَانَ ثَلاثَةُ أَثْلاثٍ، ثُلُثٌ عَلَى صَاحِبَةِ الْهَوْدَجِ- يَعْنِي عَائِشَةَ- وَثُلُثٌ عَلَى صَاحِبِ الْجَمَلِ الأَحْمَرِ- يَعْنِي طَلْحَةَ- وَثُلُثٌ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَضَحِكَ الْغُلامُ وَقَالَ: أَلا أُرَانِي عَلَى ضَلالٍ! وَلَحِقَ بِعَلِيٍّ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا: سَأَلْتُ ابْنَ طَلْحَةَ عَنْ هَالِكٍ ... بِجَوْفِ الْمَدِينَةِ لَمْ يُقْبَرِ فَقَالَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ هُمُ ... أَمَاتُوا ابْنَ عَفَّانَ وَاسْتَعْبِرِ فَثُلْثٌ عَلَى تِلَكَ فِي خِدْرِهَا ... وَثُلْثٌ عَلَى رَاكِبِ الأَحْمَرِ

وَثُلْثٌ عَلَى ابْنِ أَبِي طَالِبٍ ... وَنَحْنُ بَدَوِّيَّةِ قَرْقَرِ فَقُلْتُ صَدَقْتَ عَلَى الأَوَّلَيْنِ ... وَأَخْطَأْتَ فِي الثَّالِثِ الأَزْهَرِ رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ سَيْفٍ عَنْ مُحَمَّدِ وَطَلْحَةَ قَالَ: فَخَرَجَ أَبُو الأَسْوَدِ وَعِمْرَانُ وَأَقْبَلَ حَكِيمُ بْنُ جَبَلَةَ، وَقَدْ خَرَجَ وَهُوَ عَلَى الْخَيْلِ، فَأَنْشَبَ الْقِتَالَ، وَأَشْرَعَ أَصْحَابُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رِمَاحَهُمْ وَأَمْسَكُوا لِيُمْسِكُوا فَلَمْ يَنْتَهِ وَلَمْ يُثْنِ، فَقَاتَلَهُمْ وَأَصْحَابُ عَائِشَةَ كَافُّونَ إِلا مَا دَافَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَحَكِيمٌ يُذَمِّرُ خَيْلَهُ وَيَرْكَبُهُمْ بِهَا، وَيَقُولُ: إِنَّهَا قُرَيْشٌ لَيُرْدِينَّهَا جُبْنُهَا وَالطَّيْشُ، وَاقْتَتَلُوا عَلَى فَمِ السِّكَّةِ، واشرف أَهْلِ الدُّورِ مِمَّنْ كَانَ لَهُ فِي وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ هَوًى، فَرَمَوْا بَاقِيَ الآخَرِينَ بِالْحِجَارَةِ، وَأَمَرَتْ عَائِشَةُ أَصْحَابَهَا فَتَيَامَنُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى مَقْبُرَةِ بَنِي مَازِنٍ، فَوَقَفُوا بِهَا مَلِيًّا، وَثَارَ إِلَيْهِمُ النَّاسُ، فَحَجَزَ اللَّيْلُ بَيْنَهُمْ فَرَجَعَ عُثْمَانُ إِلَى الْقَصْرِ، وَرَجَعَ النَّاسُ إِلَى قَبَائِلِهِمْ، وَجَاءَ أَبُو الْجَرْبَاءِ، أَحَدُ بَنِي عُثْمَانَ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ إِلَى عَائِشَةَ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، فَأَشَارَ عَلَيْهِمْ بِأَمْثَلَ مِنْ مَكَانِهِمْ فَاسْتَنْصَحُوهُ وَتَابَعُوا رَأْيَهُ، فَسَارُوا مِنْ مَقْبُرَةِ بَنِي مَازِنٍ فَأَخَذُوا عَلَى مُسَنَّاةِ الْبَصْرَةِ مِنْ قِبَلِ الْجَبَّانَةِ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الزَّابُوقَةِ، ثُمَّ أَتَوْا مَقْبُرَةَ بَنِي حِصْنٍ وَهِيَ مُتَنَحِّيَةٌ إِلَى دَارِ الرِّزْقِ، فَبَاتُوا يَتَأَهَّبُونَ، وَبَاتَ النَّاسُ يَسِيرُونَ إِلَيْهِمْ، وَأَصْبَحُوا وهم على رجل في ساحه دار الرق، وَأَصْبَحَ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ فَغَادَاهُمْ، وَغَدَا حَكِيمُ بْنُ جَبَلَةَ وَهُوَ يُبَرْبِرُ وَفِي يَدِهِ الرُّمْحُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ: مَنْ هَذَا الَّذِي تَسُبُّ وَتَقُولُ لَهُ مَا أَسْمَعُ؟ قال: عائشة، قال: يا بن الْخَبِيثَةِ، أَلأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ تَقُولُ هَذَا! فَوَضَعَ حَكِيمٌ السِّنَانَ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ فَقَتَلَهُ ثُمَّ مَرَّ بِامْرَأَةٍ وَهُوَ يَسُبُّهَا- يَعْنِي عَائِشَةَ- فَقَالَتْ: مَنْ هَذَا الَّذِي أَلْجَأَكَ إِلَى هَذَا؟ قَالَ: عَائِشَةُ، قَالَتْ: يا بن الْخَبِيثَةِ، أَلأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ تَقُولُ هَذَا! فَطَعَنَهَا بَيْنَ ثَدْيَيْهَا فَقَتَلَهَا ثُمَّ سَارَ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا وَاقَفُوهُمْ، فَاقْتَتَلُوا بِدَارِ الرِّزْقِ قِتَالا شَدِيدًا مِنْ حِينِ بَزَغَتِ الشَّمْسُ إِلَى أَنْ زَالَ النَّهَارُ وَقَدْ كَثُرَ الْقَتْلَى فِي أَصْحَابِ ابْنِ حُنَيْفٍ وَفَشَتِ الْجِرَاحَةُ فِي الْفَرِيقَيْنِ، وَمُنَادِي عَائِشَةَ يُنَاشِدُهُمْ وَيَدْعُوهُمْ

إِلَى الْكَفِّ فَيَأْبَوْنَ، حَتَّى إِذَا مَسَّهُمُ الشَّرُّ وَعَضَّهُمْ نَادَوْا أَصْحَابَ عَائِشَةَ إِلَى الصُّلْحِ وَالْمَتَاتِ فَأَجَابُوهُمْ وَتَوَاعَدُوا، وَكَتَبُوا بَيْنَهُمْ كِتَابًا عَلَى أَنْ يَبْعَثُوا رَسُولا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَحَتَّى يَرْجِعَ الرَّسُولُ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَإِنْ كَانَا أُكْرِهَا خَرَجَ عُثْمَانُ عَنْهُمَا وَأَخْلَى لَهُمَا الْبَصْرَةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا أُكْرِهَا خَرَجَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَمَنْ مَعَهُمَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَعُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ. إِنَّ عُثْمَانَ يُقِيمُ حَيْثُ أَدْرَكَهُ الصُّلْحُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ، وَإِنَّ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ يُقِيمَانِ حَيْثُ أَدْرَكَهُمَا الصُّلْحُ عَلَى مَا فِي أَيْدِيهِمَا، حَتَّى يَرْجِعَ أَمِينُ الْفَرِيقَيْنِ وَرَسُولُهُمْ كَعْبُ بْنُ سُورٍ مِنَ الْمَدِينَةِ وَلا يُضَارُّ وَاحِدٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الآخَرَ فِي مَسْجِدٍ وَلا سُوقٍ وَلا طَرِيقٍ وَلا فُرْضَةٍ، بَيْنَهُمْ عَيْبَةٍ مَفْتُوحَةٍ حَتَّى يَرْجِعَ كَعْبٌ بِالْخَبَرِ، فَإِنْ رَجَعَ بِأَنَّ الْقَوْمَ أَكْرَهُوا طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ فَالأَمْرُ أَمْرُهُمَا، وَإِنْ شَاءَ عُثْمَانُ خَرَجَ حَتَّى يَلْحَقَ بِطِيَّتِهِ، وَإِنْ شَاءَ دَخَلَ مَعَهُمَا، وَإِنْ رَجَعَ بِأَنَّهُمَا لَمْ يُكْرَهَا فَالأَمْرُ أَمْرُ عُثْمَانَ، فَإِنْ شَاءَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ أَقَامَا عَلَى طَاعَةِ عَلِيٍّ وَإِنْ شَاءَا خَرَجَا حَتَّى يَلْحَقَا بِطِيَّتِهِمَا، وَالْمُؤْمِنُونَ أَعْوَانُ الْفَالِحِ مِنْهُمَا. فَخَرَجَ كَعْبٌ حَتَّى يَقْدَمَ الْمَدِينَةَ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ لِقُدُومِهِ، وَكَانَ قُدُومُهُ يَوْمَ جُمُعَةٍ، فَقَامَ كَعْبٌ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، إِنِّي رَسُولُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ إِلَيْكُمْ، أَأَكْرَهَ هَؤُلاءِ الْقَوْمُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ عَلَى بَيْعَةِ عَلِيٍّ، أَمْ أَتَيَاهَا طَائِعَيْنِ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ إِلا مَا كَانَ مِنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَإِنَّهُ قَامَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّهُمَا لَمْ يُبَايِعَا إِلا وَهُمَا كَارِهَانِ فَأَمَرَ بِهِ تَمَّامٌ، فَوَاثَبَهُ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَالنَّاسُ، وَثَارَ صُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ وَأَبُو أَيُّوبَ بْنُ زَيْدٍ، فِي عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ص، فِيهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، حِينَ خَافُوا أَنْ يُقْتَلَ أُسَامَةُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَانْفَرِجُوا عَنِ الرَّجُلِ، فَانْفَرَجُوا عَنْهُ، وَأَخَذَ صُهَيْبٌ بِيَدِهِ حَتَّى أَخْرَجَهُ فَأَدْخَلَهُ مَنْزِلَهُ، وَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ أُمَّ عَامِرٍ حَامِقَةٌ، أَمَا وَسِعَكَ

مَا وَسِعَنَا مِنَ السُّكُوتِ! قَالَ: لا وَاللَّهِ، مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ الأَمْرَ يَتَرَامَى إِلَى ما رايت، وقد ابسلنا لعظيم فَرَجَعَ كَعْبٌ وَقَدِ اعْتَدَّ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ كُلِّهَا كَانَتْ مِمَّا يُعْتَدُّ بِهِ، مِنْهَا أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ طَلْحَةَ- وَكَانَ صَاحِبَ صَلاةٍ- قَامَ مُقَامًا قَرِيبًا مِنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ، فَخَشِيَ بَعْضَ الزُّطِّ وَالسَّيَابِجَةِ أَنْ يَكُونَ جَاءَ لِغَيْرِ مَا جَاءَ لَهُ، فَنَحَّيَاهُ، فَبَعَثَا إِلَى عُثْمَانَ، هَذِهِ وَاحِدَةٌ. وَبَلَغَ عَلِيًّا الْخَبَرُ الَّذِي كَانَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ ذَلِكَ، فَبَادَرَ بِالْكِتَابِ إِلَى عُثْمَانَ يُعْجِزُهُ وَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا أُكْرِهَا إِلا كَرْهًا عَلَى فُرْقَةٍ، وَلَقَدْ أُكْرِهَا عَلَى جَمَاعَةٍ وَفَضْلٍ، فَإِنْ كَانَا يُرِيدَانِ الْخَلْعَ فَلا عُذْرَ لَهُمَا، وَإِنْ كَانَا يُرِيدَانِ غَيْرَ ذَلِكَ نَظَرْنَا وَنَظَرَا فَقَدِمَ الْكِتَابُ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ، وَقَدِمَ كَعْبٌ فَأَرْسَلُوا إِلَى عُثْمَانَ أَنِ اخْرُجْ عَنَّا، فَاحْتَجَّ عُثْمَانُ بِالْكِتَابِ وَقَالَ: هَذَا أَمْرٌ آخَرُ غَيْرُ مَا كُنَّا فِيهِ، فَجَمَعَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ الرِّجَالَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ بَارِدَةٍ ذَاتِ رِيَاحٍ وَنَدًى، ثُمَّ قَصَدَا الْمَسْجِدَ فَوَافَقَا صَلاةَ الْعِشَاءِ- وَكَانُوا يُؤَخِّرُونَهَا- فَأَبْطَأَ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ فَقَدَّمَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَتَّابٍ، فَشَهَرَ الزُّطُّ وَالسَّيَابِجَةُ السِّلاحَ ثُمَّ وَضَعُوهُ فِيهِمْ، فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ فَاقْتَتَلُوا فِي الْمَسْجِدِ وَصَبَرُوا لَهُمْ، فَأَنَامُوهُمْ وَهُمْ أَرْبَعُونَ، وَأَدْخَلُوا الرِّجَالَ عَلَى عُثْمَانَ ليخرجوه إليهما، فلما وصل إليهما توطؤوه وَمَا بَقِيتَ فِي وَجْهِهِ شَعْرَةٌ، فَاسْتَعْظَمَا ذَلِكَ، وَأَرْسَلا إِلَى عَائِشَةَ بِالَّذِي كَانَ، وَاسْتَطْلَعَا رَأْيَهَا، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِمَا أَنْ خَلُّوا سَبِيلَهُ فَلْيَذْهَبْ حَيْثُ شَاءَ وَلا تَحْبِسُوهُ، فَأَخْرَجُوا الْحَرَسَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عُثْمَانَ فِي الْقَصْرِ وَدَخَلُوهُ، وَقَدْ كَانُوا يَعْتَقِبُونَ حَرَسَ عُثْمَانَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَفِي كُلِّ لَيْلَةٍ أَرْبَعُونَ، فَصَلَّى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَتَّابٍ بِالنَّاسِ الْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ، وَكَانَ الرَّسُولُ فِيمَا بَيْنَ عَائِشَةَ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ هُوَ، أَتَاهَا بِالْخَبَرِ، وَهُوَ رَجَعَ إِلَيْهِمَا بِالْجَوَابِ، فَكَانَ رَسُولَ الْقَوْمِ. حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا أبو الْحَسَنِ عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: لَمَّا أَخَذُوا عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ أَرْسَلُوا أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ إِلَى عَائِشَةَ يَسْتَشِيرُونَهَا فِي أَمْرِهِ، قَالَتِ: اقْتُلُوهُ، فَقَالَتْ لَهَا امْرَأَةٌ: نَشَدْتُكِ بِاللَّهِ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي عُثْمَانَ وَصُحْبَتِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! قَالَتْ: رُدُّوا أَبَانًا، فَرَدُّوهُ، فَقَالَتِ: احْبِسُوهُ وَلا تَقْتُلُوهُ، قَالَ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكِ تَدْعِينَنِي لِهَذَا لَمْ أَرْجِعْ، فَقَالَ لَهُمْ مُجَاشِعُ بْنُ مَسْعُودٍ: اضْرُبُوهُ وَانْتِفُوا شَعْرَ لِحْيَتِهِ، فَضَرَبُوهُ أَرْبَعِينَ سَوْطًا، وَنَتَفُوا شَعْرَ لِحْيَتِهِ وَرَأْسِهِ وَحَاجِبَيْهِ وَأَشْفَارِ عَيْنَيْهِ وَحَبَسُوهُ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ يُونُسَ بْنَ يَزِيدَ الأَيْلِيَّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مَنْزِلَ عَلِيٍّ بِذِي قَارٍ انْصَرَفُوا إِلَى الْبَصْرَةِ، فَأَخَذُوا عَلَى الْمُنْكَدِرِ، فَسَمِعَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا نُبَاحَ الْكِلابِ، فَقَالَتْ: أَيُّ مَاءٍ هَذَا؟ فَقَالُوا: الحَوْأَبُ، فَقَالَتْ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! إِنِّي لهيه، [قد سمعت رسول الله ص يَقُولُ وَعِنْدَهُ نِسَاؤُهُ: لَيْتَ شِعْرِي أَيَّتُكُنَّ تَنْبَحُهَا كِلابُ الْحَوْأَبِ!] فَأَرَادَتِ الرُّجُوعَ، فَأَتَاهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَزُعِمَ أَنَّهُ قَالَ: كَذَبَ مَنْ قَالَ إِنَّ هَذَا الْحَوْأَبُ وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى مَضَتْ، فَقَدِمُوا الْبَصْرَةَ وَعَلَيْهَا عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ، فَقَالَ لَهُمْ عُثْمَانُ: مَا نَقِمْتُمْ عَلَى صَاحِبِكُمْ؟ فَقَالُوا: لَمْ نَرَهُ أَوْلَى بِهَا مِنَّا، وَقَدْ صَنَعَ مَا صَنَعَ، قَالَ: فَإِنَّ الرَّجُلَ أَمَرَنِي فَأَكْتُبُ إِلَيْهِ فَأُعْلِمُهُ مَا جِئْتُمْ لَهُ، عَلَى أَنْ أُصَلِّيَ بِالنَّاسِ حَتَّى يَأْتِيَنَا كِتَابُهُ، فَوَقَفُوا عَلَيْهِ وَكَتَبَ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلا يَوْمَيْنِ حَتَّى وَثَبُوا عَلَيْهِ فَقَاتَلُوهُ بِالزَّابُوقَةِ عِنْدَ مَدِينَةِ الرِّزْقِ، فَظَهَرُوا، وَأَخَذُوا عُثْمَانَ فَأَرَادُوا قَتْلَهُ، ثُمَّ خَشُوا غَضَبَ الأَنْصَارِ، فَنَالُوهُ فِي شَعْرِهِ وَجَسَدِهِ فَقَامَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ خَطِيبَيْنِ فَقَالا: يَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ، تَوْبَةٌ بِحَوْبَةٍ، إِنَّما أَرَدْنَا أَنْ يَسْتَعْتِبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ وَلَمْ نُرِدْ قَتْلَهُ، فَغَلَبَ سُفَهَاءُ النَّاسِ الْحُلَمَاءَ حَتَّى قَتَلُوهُ فَقَالَ النَّاسُ لِطَلْحَةَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، قَدْ كَانَتْ كُتُبُكَ تَأْتِينَا بِغَيْرِ هَذَا، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: فَهَلْ جَاءَكُمْ مِنِّي كِتَابٌ فِي شَأْنِهِ؟ ثُمَّ ذَكَرَ قَتْلَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَا أَتَى إِلَيْهِ، وَأَظْهَرَ عَيْبَ عَلِيٍّ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ فَقَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، أَنْصِتْ حَتَّى نَتَكَلَّمَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: وَمَا لَكَ وَلِلْكَلامِ! فَقَالَ الْعَبْدِيُّ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، أَنْتُمْ أول من أجاب رسول الله ص، فَكَانَ لَكُمْ بِذَلِكَ فَضْلٌ، ثُمَّ دَخَلَ النَّاسُ فِي الإِسْلامِ كَمَا دَخَلْتُمْ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ الله ص بَايَعْتُمْ رَجُلا مِنْكُمْ،

وَاللَّهِ مَا اسْتَأْمَرْتُمُونَا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَرَضِينَا وَاتَّبَعْنَاكُمْ، فَجَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُسْلِمِينَ فِي إِمَارَتِهِ بَرَكَةً، ثُمَّ مَاتَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْكُمْ رَجُلا مِنْكُمْ، فَلَمْ تُشَاوِرُونَا فِي ذَلِكَ، فَرَضِينَا وَسَلَّمْنَا، فَلَمَّا تُوُفِّيَ الأَمِيرُ جُعِلَ الأَمْرُ إِلَى سِتَّةِ نَفَرٍ، فَاخْتَرْتُمْ عُثْمَانَ وَبَايَعْتُمُوهُ عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَّا، ثُمَّ أَنْكَرْتُمْ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ شَيْئًا، فَقَتَلْتُمُوهُ عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَّا، ثُمَّ بَايَعْتُمْ عَلِيًّا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَّا، فَمَا الَّذِي نَقِمْتُمْ عَلَيْهِ فَنُقَاتِلُهُ؟ هَلِ اسْتَأْثَرَ بِفَيْءٍ، أَوْ عَمِلَ بِغَيْرِ الْحَقِّ؟ أَوْ عَمِلَ شَيْئًا تُنْكِرُونَهُ فَنَكُونُ مَعَكُمْ عَلَيْهِ! وَإِلا فَمَا هَذَا! فَهَمُّوا بِقَتْلِ ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَقَامَ مِنْ دُونِهِ عَشِيرَتُهُ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ وَثَبُوا عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ كَانَ مَعَهُ، فَقَتَلُوا سَبْعِينَ رَجُلا. رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ وَطَلْحَةَ قَالا: فَأَصْبَحَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَبَيْتُ الْمَالِ وَالْحَرَسُ فِي أَيْدِيهِمَا، وَالنَّاسُ مَعَهُمَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمَا مَغْمُورٌ مُسْتَسِرٌّ، وَبَعَثَا حِينَ أَصْبَحَا بِأَنَّ حَكِيمًا فِي الْجَمْعِ، فَبَعَثَتْ: لا تَحْبِسَا عُثْمَانَ وَدَعَاهُ فَفَعَلا، فَخَرَجَ عُثْمَانُ فَمَضَى لِطَلَبَتِهِ، وَأَصْبَحَ حَكِيمُ بْنُ جَبَلَةَ فِي خَيْلِهِ عَلَى رَجُلٍ فِيمَنْ تَبِعَهُ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ وَمَنْ نَزَعَ إِلَيْهِمْ مِنْ أَفْنَاءِ رَبِيعَةَ، ثُمَّ وَجَّهُوا نَحْوَ دَارِ الرِّزْقِ وَهُوَ يَقُولُ: لَسْتُ بِأَخِيهِ إِنْ لَمْ أَنْصُرْهُ، وَجَعَلَ يَشْتِمُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَسَمِعَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ قومه فقالت: يا بن الْخَبِيثَةِ، أَنْتَ أَوْلَى بِذَلِكَ! فَطَعَنَهَا فَقَتَلَهَا، فَغَضِبَتْ عَبْدُ الْقَيْسِ إِلا مَنْ كَانَ اغْتَمَرَ مِنْهُمْ، فَقَالُوا: فَعَلْتَ بِالأَمْسِ وَعُدْتَ لِمِثْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ! وَاللَّهِ لَنَدَعَنَّكَ حَتَّى يُقِيدَكَ اللَّهُ فَرَجَعُوا وَتَرَكُوهُ، وَمَضَى حَكِيمُ بْنُ جَبَلَةَ فِيمَنْ غَزَا مَعَهُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَحَصَرَهُ مِنْ نُزَّاعِ الْقَبَائِلِ كُلِّهَا، وَعَرَفُوا أَنْ لا مُقَامَ لَهُمْ بِالْبَصْرَةِ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَانْتَهَى بِهِمْ إِلَى الزَّابُوقَةِ عِنْدَ دَارِ الرِّزْقِ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: لا تَقْتُلُوا إِلا مَنْ قَاتَلَكُمْ، وَنَادَوْا مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلْيَكَفُفْ عَنَّا، فَإِنَّا لا نُرِيدُ إِلا قَتَلَةَ عُثْمَانَ وَلا نَبْدَأُ أَحَدًا، فَأَنْشَبَ حَكِيمٌ الْقِتَالَ وَلَمْ يَرْعَ لِلْمُنَادِي، فَقَالَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَمَعَ لَنَا ثَأْرَنَا مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، اللَّهُمَّ لا تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَأَقِدْ مِنْهُمُ الْيَوْمَ فَاقْتُلْهُمْ فَجَادُّوهُمُ الْقِتَالَ فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ

قِتَالٍ وَمَعَهُ أَرْبَعَةُ قُوَّادٍ، فَكَانَ حَكِيمٌ بِحِيَالِ طلحه، وذريج بِحِيَالِ الزُّبَيْرِ، وَابْنُ الْمُحَرِّشِ بِحِيَالِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَتَّابٍ، وَحُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ بِحِيَالِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَزَحَفَ طَلْحَةُ لحكيم وهو في ثلاثمائة رَجُلٍ، وَجَعَلَ حَكِيمٌ يَضْرِبُ بِالسَّيْفِ وَيَقُولُ: اضْرِبْهُمْ بِالْيَابِسْ ... ضَرْبَ غُلامٍ عَابِسْ مِنَ الْحَيَاةِ آيِسْ ... فِي الْغُرُفَاتِ نَافِسْ فَضَرَبَ رَجُلٌ رِجْلَهُ فَقَطَعَهَا، فَحَبَا حَتَّى أَخَذَهَا فَرَمَى بِهَا صَاحِبَهُ، فَأَصَابَ جَسَدَهُ فَصَرَعَهُ، فَأَتَاهُ حَتَّى قَتَلَهُ، ثُمَّ اتَّكَأَ عَلَيْهِ وَقَالَ: يَا فَخِذُ لَنْ تُرَاعِي إِنَّ مَعِي ذِرَاعِي أَحْمِي بِهَا كَرَاعِي وَقَالَ وَهُوَ يَرْتَجِزُ: لَيْسَ عَلَيَّ أَنْ أَمُوتَ عَارْ وَالْعَارُ فِي النَّاسِ هُوَ الْفِرَارْ وَالْمَجْدُ لا يَفْضَحُهُ الدَّمَارْ. فَأَتَى عَلَيْهِ رَجُلٌ وَهُوَ رَثِيثٌ، رَأْسُهُ عَلَى الآخَرِ، فَقَالَ: مَا لَكَ يَا حَكِيمُ؟ قَالَ: قُتِلْتُ، قَالَ: مَنْ قَتَلَكَ؟ قَالَ: وِسَادَتِي، فَاحْتَمَلَهُ فَضَمَّهُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَتَكَلَّمَ يَوْمَئِذٍ حَكِيمٌ وَإِنَّهُ لَقَائِمٌ عَلَى رِجْلٍ، وَإِنَّ السُّيُوفَ لَتَأْخُذُهُمْ فَمَا يُتَعْتِعُ، وَيَقُولُ: إِنَّا خَلَفْنَا هَذَيْنِ وَقَدْ بَايَعَا عَلِيًّا وَأَعْطَيَاهُ الطَّاعَةَ، ثُمَّ أَقْبَلا مُخَالِفَيْنِ مُحَارِبَيْنِ يَطْلُبَانِ بِدَمِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَفَرَّقَا بَيْنَنَا، وَنَحْنُ أَهْلُ دَارٍ وَجِوَارٍ اللَّهُمَّ إِنَّهُمَا لَمْ يُرِيدَا عُثْمَانَ فَنَادَى مُنَادٍ: يَا خَبِيثُ، جَزَعْتَ حِينَ عَضَّكَ نَكَالُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى كَلامِ مَنْ نَصَّبَكَ وَأَصْحَابَكَ بِمَا رَكِبْتُمْ مِنَ الإِمَامِ الْمَظْلُومِ، وَفَرَّقْتُمْ مِنَ الْجَمَاعَةِ، وَأَصَبْتُمْ مِنَ الدِّمَاءِ، وَنِلْتُمْ مِنَ الدُّنْيَا! فَذُقْ وَبَالَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَانْتِقَامَهُ، وَأَقِيمُوا فِيمَنْ أَنْتُمْ. وَقُتِلَ ذُرَيْحٌ وَمَنْ مَعَهُ، وَأَفْلَتَ حُرقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فلجئوا

إِلَى قَوْمِهِمْ، وَنَادَى مُنَادِي الزُّبَيْرِ وَطَلْحَةَ بِالْبَصْرَةِ: أَلا مَنْ كَانَ فِيهِمْ مِنْ قَبَائِلِكُمْ أَحَدٌ مِمَّنْ غَزَا الْمَدِينَةَ فَلْيَأْتِنَا بِهِمْ فَجِيءَ بِهِمْ كَمَا يُجَاءُ بِالْكِلابِ، فَقُتِلُوا فَمَا أَفْلَتَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ جَمِيعًا إِلا حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ، فَإِنَّ بَنِي سَعْدٍ مَنَعُوهُ، وَكَانَ مِنْ بَنِي سَعْدٍ، فَمَسَّهُمْ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ شَدِيدٌ، وَضَرَبُوا لَهُمْ فِيهِ أَجَلا وَخَشَّنُوا صُدُورَ بَنِي سَعْدٍ وَإِنَّهُمْ لَعُثْمَانِيَّةٌ حَتَّى قَالُوا: نَعْتَزِلُ، وَغَضِبَتْ عَبْدُ الْقَيْسِ حِينَ غَضِبَتْ سَعْدٌ لِمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ بَعْدَ الْوَقْعَةِ وَمَنْ كَانَ هَرَبَ إِلَيْهِمْ إِلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ لُزُومِ طَاعَةِ عَلِيٍّ، فَأَمَرَا لِلنَّاسِ بِأُعْطِيَاتِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ وَحُقُوقِهِمْ، وَفَضَّلا بِالْفَضْلِ أَهْلَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فَخَرَجَتْ عَبْدُ الْقَيْسِ وَكَثِيرٌ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ حِينَ زَوَوْا عَنْهُمُ الْفُضُولَ، فَبَادَرُوا إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَأَكَبَّ عَلَيْهِمُ النَّاسُ فَأَصَابُوا مِنْهُمْ، وَخَرَجَ الْقَوْمُ حَتَّى نَزَلُوا عَلَى طَرِيقِ عَلِيٍّ، وَأَقَامَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ لَيْسَ مَعَهُمَا بِالْبَصْرَةِ ثَأْرٌ إِلا حُرْقُوصٌ، وَكَتَبُوا إِلَى أَهْلِ الشَّامِ بِمَا صَنَعُوا وَصَارُوا إِلَيْهِ: إِنَّا خَرَجْنَا لِوَضْعِ الْحَرْبِ، وَإِقَامَةِ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِإِقَامَةِ حُدُودِهِ فِي الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ والكثير وَالْقَلِيلِ، حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الَّذِي يَرُدُّنَا عَنْ ذَلِكَ، فَبَايَعَنَا خِيَارُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَنُجَبَاؤُهُمْ، وَخَالَفَنَا شِرَارُهُمْ وَنُزَّاعُهُمْ، فَرَدُّونَا بِالسِّلاحِ وَقَالُوا فِيمَا قَالُوا: نَأْخُذُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رَهِينَةً، أَنْ أَمَرَتْهُمْ بِالْحَقِّ وَحَثَّتْهُمْ عَلَيْهِ فَأَعْطَاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ حُجَّةٌ وَلا عُذْرٌ اسْتَبْسَلَ قَتَلَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَخَرَجُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ مُخْبَرٌ إِلا حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مُقِيدُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَكَانُوا كَمَا وَصَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّا نُنَاشِدُكُمُ اللَّهَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا نَهَضْتُمْ بِمِثْلِ مَا نَهَضْنَا بِهِ، فَنَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَتَلْقَوْنَهُ وَقَدْ أَعْذَرْنَا وَقَضَيْنَا الَّذِي عَلَيْنَا. وَبَعَثُوا بِهِ مَعَ سَيَّارٍ الْعِجْلِيِّ، وَكَتَبُوا إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ بِمِثْلِهِ مَعَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ أَسَدٍ يُدْعَى مُظَفَّرَ بْنَ مُعَرِّضٍ وَكَتَبُوا الى اهل اليمامه وعليها سبره ابن عمرو العنبري مَعَ الْحَارِثِ السَّدُوسِيِّ وَكَتَبُوا إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَعَ ابْنِ قُدَامَةَ الْقُشَيْرِيِّ، فَدَسَّهُ إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَكَتَبَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ مَعَ رَسُولِهِمْ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَالإِسْلامَ، أَقِيمُوا كِتَابَ اللَّهِ بِإِقَامَةِ مَا فِيهِ، اتَّقُوا اللَّهَ

وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِهِ، وَكُونُوا مَعَ كِتَابِهِ، فَإِنَّا قَدِمْنَا الْبَصْرَةَ فَدَعَوْنَاهُمْ إِلَى إِقَامَةِ كِتَابِ اللَّهِ بِإِقَامَةِ حُدُودِهِ، فَأَجَابَنَا الصَّالِحُونَ إِلَى ذَلِكَ، وَاسْتَقْبَلَنَا مَنْ لا خَيْرَ فِيهِ بِالسِّلاحِ، وَقَالُوا: لَنُتْبِعَنَّكُمْ عُثْمَانَ، ليزيدوا الْحُدُودَ تَعْطِيلا، فَعَانَدُوا فَشَهِدُوا عَلَيْنَا بِالْكُفْرِ وَقَالُوا لَنَا الْمُنْكَرَ، فَقَرَأْنَا عَلَيْهِمْ: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ» فَأَذْعَنَ لِي بَعْضُهُمْ، وَاخْتَلَفُوا بَيْنَهُمْ، فَتَرَكْنَاهُمْ وَذَلِكَ، فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَلَى رَأْيِهِ الأَوَّلِ مِنْ وَضْعِ السِّلاحِ فِي أَصْحَابِي، وَعَزَمَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ إِلا قَاتَلُونِي حَتَّى مَنَعَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالصَّالِحِينَ، فَرَدَّ كَيْدَهُمْ فِي نُحُورِهِمْ، فَمَكَثْنَا سِتًّا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً نَدْعُوهُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَإِقَامَةِ حُدُودِهِ- وَهُوَ حَقْنُ الدِّمَاءِ أَنْ تُهْرَاقَ دُونَ مَنْ قَدْ حَلَّ دَمُهُ- فَأَبَوْا وَاحْتَجُّوا بِأَشْيَاءَ، فَاصْطَلَحْنَا عَلَيْهَا، فخافوا وغدروا وخانوا، فَجَمَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثَأْرَهُمْ، فَأَقَادَهُمْ فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلا رجل، وارد انا الله، ومنعنا منهم بعمير ابن مَرْثَدٍ وَمَرْثَدِ بْنِ قَيْسٍ، وَنَفَرٍ مِنْ قَيْسٍ، وَنَفَرٍ مِنَ الرَّبَابِ وَالأَزْدِ. فَالْزَمُوا الرِّضَا إِلا عَنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ حَتَّى يَأْخُذَ اللَّهُ حَقَّهُ، وَلا تُخَاصِمُوا الْخَائِنِينَ وَلا تَمْنَعُوهُمْ، وَلا تَرْضَوْا بِذَوْيِ حُدُودِ اللَّهِ فَتَكُونُوا مِنَ الظَّالِمِينَ. فَكَتَبَتْ إِلَى رِجَالٍ بِأَسْمَائِهِمْ فَثَبِّطُوا النَّاسَ عَنْ مَنْعِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ وَنُصْرَتِهِمْ وَاجْلِسُوا فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ لَمْ يَرْضَوْا بِمَا صَنَعُوا بِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ جَمَاعَةِ الأُمَّةِ، وَخَالَفُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، حَتَّى شَهِدُوا عَلَيْنَا فِيمَا أَمَرْنَاهُمْ بِهِ، وَحَثَثْنَاهُمْ عَلَيْهِ مِنْ إِقَامَةِ كِتَابِ اللَّهِ وَإِقَامَةِ حُدُودِهِ بِالْكُفْرِ، وَقَالُوا لَنَا الْمُنْكَرَ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ الصَّالِحُونَ وَعَظَّمُوا مَا قَالُوا، وَقَالُوا: مَا رَضِيتُمْ أَنْ قَتَلْتُمُ الإِمَامَ حَتَّى خَرَجْتُمْ عَلَى زَوْجَةِ نَبِيِّكُمْ ص، أَنْ أَمَرَتْكُمْ بِالْحَقِّ لَتَقْتُلُوهَا وَأَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ! فَعَزَمُوا وَعُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ مَعَهُمْ عَلَى مَنْ أَطَاعَهُمْ مِنْ جُهَّالِ النَّاسِ وَغَوْغَائِهِمْ عَلَى زُطِّهِمْ وَسَيَابِجِهِمْ، فَلُذْنَا مِنْهُمْ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْفُسْطَاطِ، فَكَانَ ذَلِكَ الدَّأْبُ سِتَّةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا

نَدْعُوهُمْ إِلَى الْحَقِّ وَأَلا يَحُولُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحَقِّ فَغَدَرُوا وَخَانُوا فَلَمْ نُقَايِسْهُمْ، وَاحْتَجُّوا بِبَيْعَةِ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، فَأَبْرَدُوا بَرِيدًا فَجَاءَهُمْ بِالْحُجَّةِ فَلَمْ يَعْرِفُوا الْحَقَّ، وَلَمْ يَصْبِرُوا عَلَيْهِ، فَغَادَوْنِي فِي الْغَلَسِ لِيَقْتُلُونِي، وَالَّذِي يُحَارِبُهُمْ غَيْرِي، فَلَمْ يَبْرَحُوا حَتَّى بَلَغُوا سُدَّةَ بَيْتِي وَمَعَهُمْ هَادٍ يَهْدِيهِمْ إِلَيَّ، فَوَجَدُوا نَفَرًا عَلَى بَابِ بَيْتِي، مِنْهُمْ عُمَيْرُ بْنُ مَرْثَدٍ، وَمَرْثَدُ بْنُ قَيْسٍ، وَيَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَرْثَدٍ، وَنَفَرٌ مِنْ قَيْسٍ، وَنَفَرٌ مِنَ الرَّبَابِ وَالأَزْدِ، فَدَارَتْ عَلَيْهِمُ الرَّحَا، فَأَطَافَ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ فَقَتَلُوهُمْ، وَجَمَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَلِمَةَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ عَلَى مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الزُّبَيْرُ وَطَلْحَةُ، فَإِذَا قَتَلْنَا بِثَأْرِنَا وَسِعَنَا الْعُذْرُ وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الآخِرِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلاثِينَ وَكَتَبَ عُبَيْدُ بْنُ كَعْبٍ فِي جُمَادَى. حَدَّثَنَا عُمَر بن شبة، قال: حدثنا أبو الحسن، عن عَامِر بن حفص، عن أشياخه، قَالَ: ضرب عنق حكيم بن جبلة رجل من الحدان يقال لَهُ ضخيم، فمال رأسه، فتعلق بجلده، فصار وجهه فِي قفاه قَالَ ابن المثنى الحداني: الَّذِي قتل حكيما يَزِيد بن الأسحم الحداني، وجد حكيم قتيلا بين يَزِيد بن الأسحم وكعب بن الأسحم، وهما مقتولان. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، قَالَ: لَمَّا قُتِلَ حَكِيمُ بْنُ جَبَلَةَ أَرَادُوا أَنْ يَقْتُلُوا عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ، فَقَالَ: مَا شِئْتُمْ، إِمَّا أَنَّ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ وَالٍ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَإِنْ قَتَلْتُمُونِي انْتَصَرَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلاةِ، فَأَمَرَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عبد الله ابن الزُّبَيْرِ فَصَلَّى بِالنَّاسِ، وَأَرَادَ الزُّبَيْرُ أَنْ يُعْطِيَ النَّاسَ أَرْزَاقَهُمْ وَيَقْسِمَ مَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُهُ: إِنِ ارْتَزَقَ النَّاسُ تَفَرَّقُوا وَاصْطَلَحُوا عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَصَيَّرُوهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيٌّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ، عَنِ الْجَارُودِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ، قَالَ: لَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي أُخِذَ فِيهَا عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَفِي رَحْبَةِ مَدِينَةِ الرِّزْقِ طعام يَرْتَزُقُهُ النَّاسُ، فَأَرَادَ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَرْزُقَهُ أَصْحَابَهُ وَبَلَغَ حَكِيمَ بْنَ جَبَلَةَ مَا صُنِعَ بِعُثْمَانَ، فَقَالَ: لَسْتُ أَخَافُ اللَّهَ إِنْ لَمْ انصره،

فَجَاءَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ وَبَكْرِ بْنِ وَائِلٍ وَأَكْثَرُهُمْ عَبْدُ الْقَيْسِ، فَأَتَى ابْنُ الزبير مدينه الرزق، فقال: مالك يَا حَكِيمُ؟ قَالَ: نُرِيدُ أَنْ نَرْتَزِقَ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ، وَأَنْ تُخَلُّوا عُثْمَانَ فَيُقِيمَ فِي دَارِ الإِمَارَةِ عَلَى مَا كَتَبْتُمْ بَيْنَكُمْ حَتَّى يَقْدَمَ عَلِيٌّ، وَاللَّهِ لَوْ أَجِدُ أَعْوَانًا عَلَيْكُمْ أَخْبُطُكُمْ بِهِمْ مَا رَضِيتُ بِهَذِهِ مِنْكُمْ حَتَّى أَقْتُلَكُمْ بِمَنْ قَتَلْتُمْ، وَلَقَدْ أَصْبَحْتُمْ وَإِنَّ دِمَاءَكُمْ لَنَا لَحَلالٌ بِمَنْ قَتَلْتُمْ مِنْ إِخْوَانِنَا، أَمَا تَخَافُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ! بِمَ تَسْتَحِلُّونَ سَفْكَ الدماء! قال: بدم عثمان ابن عفان، قَالَ: فَالَّذِينَ قَتَلْتُمُوهُمْ قَتَلُوا عُثْمَانَ! أَمَا تَخَافُونَ مَقْتَ اللَّهِ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: لا نَرْزُقُكُمْ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ، وَلا نخلى سبيل عثمان ابن حُنَيْفٍ حَتَّى يَخْلَعَ عَلِيًّا، قَالَ حَكِيمٌ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ حَكَمٌ عَدْلٌ فَاشْهَدْ وَقَالَ لأَصْحَابِهِ: إِنِّي لَسْتُ فِي شَكٍّ مِنْ قِتَالِ هَؤُلاءِ، فَمَنْ كَانَ فِي شَكٍّ فَلْيَنْصَرِفْ وَقَاتَلَهُمْ فَاقْتَتَلُوا قِتَالا شديدا، وضرب رجل ساق حكيم فَأَخَذَ حَكِيمٌ سَاقَهُ فَرَمَاهُ بِهَا، فَأَصَابَ عُنُقَهُ فَصَرَعَهُ وَوَقَذَهُ ثُمَّ حَبَا إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ وَاتَّكَأَ عَلَيْهِ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَقَالَ: مَنْ قَتَلَكَ؟ قَالَ: وِسَادَتِي، وَقُتِلَ سَبْعُونَ رَجُلا مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ قَالَ الْهُذَلِيُّ: قَالَ حَكِيمٌ حِينَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ: أَقُولُ لِمَا جَدَّ بِي زِمَاعِي لِلرِّجْلِ يَا رِجْلِي لَنْ تُرَاعِي إِنَّ مَعِي مِنْ نَجْدَةٍ ذِرَاعِي. قَالَ عَامِرٌ وَمَسْلَمَةُ: قُتِلَ مَعَ حَكِيمٍ ابْنَةُ الأَشْرَفِ وَأَخُوهُ الرَّعْلُ بْنُ جَبَلَةَ حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حَدَّثَنَا المثنى بن عَبْدِ اللَّهِ، عن عوف الأعرابي، قَالَ: جَاءَ رجل إِلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْر وهما فِي المسجد بِالْبَصْرَةِ، فَقَالَ: نشدتكما بِاللَّهِ فِي مسيركما! أعهد إليكما فِيهِ رَسُول اللَّهِ ص شَيْئًا! فقام طَلْحَةُ ولم يجبه، فناشد الزُّبَيْر فَقَالَ: لا، ولكن بلغنا أن عندكم دراهم فجئنا نشارككم فِيهَا. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي عَمْرَةَ مَوْلَى الزُّبَيْرِ، قَالَ: لَمَّا بَايَعَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ الزُّبَيْرَ وَطَلْحَةَ، قَالَ الزُّبَيْرُ: أَلا أَلْفُ فَارِسٍ أَسِيرُ بِهِمْ إِلَى عَلِيٍّ، فَإِمَّا بَيَّتُّهُ وَإِمَّا صَبَّحْتُهُ، لَعَلِّي

أَقْتُلُهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْنَا! فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ لَهِيَ الْفَتْنَةُ الَّتِي كُنَّا نُحَدَّثُ عَنْهَا، فَقَالَ لَهُ مَوْلاهُ: أَتُسَمِّيهَا فِتْنَةً وَتُقَاتِلُ فِيهَا! قَالَ: وَيْحَكَ! إِنَّا نُبَصَّرُ وَلا نُبْصِرُ، مَا كَانَ أَمْرٌ قَطُّ إِلا عَلِمْتُ مَوْضِعَ قَدَمِي فِيهِ، غَيْرُ هَذَا الأَمْرِ فَإِنِّي لا أَدْرِي أَمُقْبِلٌ أَنَا فِيهِ أَمْ مُدْبِرٌ! حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يحيى بن معين، قال: حدثنا هشام بن يوسف، قاضي صنعاء، عن عبد الله بن مصعب بن ثابت ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عقبة، عن علقمة بن وقاص الليثي، قال: لما خرج طلحة والزبير وعائشة رضي الله عَنْهُمْ رَأَيْتُ طَلْحَةَ وَأَحَبُّ الْمَجَالِسِ إِلَيْهِ أَخْلاهَا، وَهُوَ ضَارِبٌ بِلِحْيَتِهِ عَلَى زَوْرِهِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، أَرَى أَحَبَّ الْمَجَالِسِ إِلَيْكَ أَخْلاهَا، وَأَنْتَ ضَارِبٌ بِلِحْيَتِكَ عَلَى زَوْرِكَ، إِنْ كَرِهْتَ شَيْئًا فَاجْلِسْ قَالَ: فَقَالَ لِي: يَا عَلْقَمَةُ بْنَ وَقَّاصٍ، بَيْنَا نَحْنُ يَدٌ وَاحِدَةٌ عَلَى مَنْ سِوَانَا، إِذْ صِرْنَا جَبَلَيْنِ مِنْ حَدِيدٍ يَطْلُبُ بَعْضُنَا بَعْضًا، إِنَّهُ كَانَ مِنِّي فِي عُثْمَانَ شَيْءٌ لَيْسَ تَوْبَتِي إِلا أَنْ يُسْفَكَ دَمِي فِي طَلَبِ دَمِهِ قَالَ: قُلْتُ: فَرَدَّ محمد ابن طَلْحَةَ فَإِنَّ لَكَ ضَيْعَةً وَعِيَالا، فَإِنْ يَكُ شَيْءٌ يُخْلِفُكَ، فَقَالَ: مَا أُحِبُّ أَنْ أَرَى أَحَدًا يَخِفُّ فِي هَذَا الأَمْرِ فَأَمْنَعُهُ قَالَ: فَأَتَيْتُ مُحَمَّدَ بْنَ طَلْحَةَ فَقُلْتُ لَهُ: لَوْ أَقَمْتَ، فَإِنْ حَدَثَ بِهِ حَدَثٌ كُنْتَ تَخْلُفُهُ فِي عِيَالِهِ وَضَيْعَتِهِ، قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنْ أَسْأَلَ الرِّجَالَ عَنْ أَمْرِهِ. حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ مُجَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الْبَصْرَةَ كَتَبَتْ إِلَى زَيْدِ بْنِ صُوحَانَ: مِنْ عَائِشَةَ ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ حَبِيبَةِ رَسُولِ الله ص إِلَى ابْنِهَا الْخَالِصِ زَيْدِ بْنِ صُوحَانَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا فَاقْدَمْ، فَانْصُرْنَا عَلَى أَمْرِنَا هَذَا، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَخَذِّلِ النَّاسَ عَنْ عَلِيٍّ. فَكَتَبَ إِلَيْهَا: مِنْ زَيْدِ بْنِ صُوحَانَ إِلَى عَائِشَةَ ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ الصديق

ذكر الخبر عن مسير على بن ابى طالب نحو البصره

حبيبه رسول الله ص، أَمَّا بَعْدُ: فَأَنَا ابْنُكِ الْخَالِصُ إِنِ اعْتَزَلْتِ هَذَا الأَمْرَ وَرَجَعْتِ إِلَى بَيْتِكِ، وَإِلا فَأَنَا أول من نابذك قال: زيد ابن صُوحَانَ: رَحِمَ اللَّهُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ! أُمِرَتْ أَنْ تَلْزَمَ بَيْتَهَا وَأُمِرْنَا أَنْ نُقَاتِلَ، فَتَرَكَتْ مَا أُمِرَتْ بِهِ وَأَمَرَتْنَا بِهِ، وَصَنَعَتْ مَا أُمِرْنَا بِهِ وَنَهَتْنَا عَنْهُ! ذِكْرُ الْخَبَرِ عَنْ مَسِيرِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ نَحْوَ الْبَصْرَةِ مِمَّا كتب به الى السرى، أَنَّ شُعَيْبًا حَدَّثَهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ، عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ مُعَتِّبٍ، عَنْ يَزِيدَ الضَّخْمِ، قَالَ: لَمَّا أَتَى عَلِيًّا الْخَبَرُ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ بِأَمْرِ عَائِشَةَ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ أَنَّهُمْ قَدْ تَوَجَّهُوا نَحْوَ الْعِرَاقِ، خَرَجَ يُبَادِرُ وَهُوَ يَرْجُو أَنْ يُدْرِكَهُمْ وَيَرُدَّهُمْ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الرَّبَذَةِ أَتَاهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ أُمْعِنُوا، فَأَقَامَ بِالرَّبَذَةِ أَيَّامًا، وَأَتَاهُ عَنِ الْقَوْمِ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْبَصْرَةَ، فَسُرِّيَ بِذَلِكَ عَنْهُ، وَقَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ أَشَدُّ إِلَيَّ حبا، وفيهم رؤوس الْعَرَبِ وَأَعْلامُهُمْ فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ: إِنِّي قَدِ اخْتَرْتُكُمْ عَلَى الأَمْصَارِ وَإِنِّي بِالأَثَرَةِ. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حدثنا أبو الحسن، عن بشير بن عاصم، عن محمد ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَتَبَ عَلِيٌّ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي اخْتَرْتُكُمْ وَالنُّزُولَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ لِمَا أَعْرِفُ مِنْ مَوَدَّتِكُمْ وحبكم لله عز وجل ولرسوله ص، فَمَنْ جَاءَنِي وَنَصَرَنِي فَقَدْ أَجَابَ الْحَقَّ وَقَضَى الَّذِي عَلَيْهِ. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى، عَنْ طلحه بن الأعلم وبشر بن عاصم، عن ابن أبي ليلى، عن أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ إِلَى الْكُوفَةِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَوْنٍ، فَجَاءَ النَّاسُ إِلَى أَبِي مُوسَى يَسْتَشِيرُونَهُ فِي الْخُرُوجِ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: أَمَّا سَبِيلُ الآخِرَةِ فَأَنْ تُقِيمُوا، وَأَمَّا سَبِيلُ الدُّنْيَا فَأَنْ تَخْرُجُوا، وَأَنْتُمْ أَعْلَمُ وَبَلَغَ الْمُحَمَّدَيْنِ قَوْلُ أَبِي مُوسَى، فَبَايَنَاهُ وَأَغْلَظَا لَهُ، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنَّ بَيْعَةَ عُثْمَانَ فِي عُنُقِي وَعُنُقِ صَاحِبِكُمَا الَّذِي أَرْسَلَكُمَا، إِنْ أَرَدْنَا أَنْ نُقَاتِلَ لا نُقَاتِلْ حَتَّى لا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ قَتَلَةِ

عُثْمَانَ إِلا قُتِلَ حَيْثُ كَانَ وَخَرَجَ عَلِيٌّ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي آخِرِ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخِرِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلاثِينَ، فَقَالَتْ أُخْتُ عَلِيِّ بْنِ عدى من بنى عبد العزى ابن عبد شمس: لاهم فَاعْقِرْ بِعَلِيٍّ جَمَلَهْ ... وَلا تُبَارِكْ فِي بَعِيرٍ حَمَلَهْ أَلا عَلِيُّ بْنُ عَدِيٍّ لَيْسَ لَهْ حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، عن ابى مخنف، عن نمير ابن وَعْلَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَ عَلِيٌّ بالربذة اتته جماعه من طيّئ، فقيل لعلى: هذه جماعه من طيّئ قَدْ أَتَتْكَ، مِنْهُمْ مَنْ يُرِيدُ الْخُرُوجَ مَعَكَ وَمِنْهُمْ مَنْ يُرِيدُ التَّسْلِيمَ عَلَيْكَ، قَالَ: جَزَى اللَّهُ كُلا خَيْرًا وفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ثُمَّ دَخَلُوا عَلَيْهِ [فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا شَهِدْتُمُونَا بِهِ؟ قَالُوا: شَهِدْنَاكَ بِكُلِّ مَا تُحِبُّ، قَالَ: جَزَاكُمُ اللَّهُ خَيْرًا! فَقَدْ أَسْلَمْتُمْ طَائِعِينَ وَقَاتَلْتُمُ الْمُرْتَدِّينَ وَوَافَيْتُمْ بِصَدَقَاتِكُمُ الْمُسْلِمِينَ] فَنَهَضَ سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّائِيُّ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعَبِّرُ لِسَانُهُ عَمَّا فِي قَلْبِهِ، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا كُلُّ مَا أَجِدُ فِي قَلْبِي يُعَبِّرُ عَنْهُ لِسَانِي وَسَأَجْهَدُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، أَمَّا أَنَا فَسَأَنْصَحُ لَكَ فِي السِّرِّ وَالعَلانِيَةِ وَأُقَاتِلُ عَدُوَّكَ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ وَأَرَى لَكَ مِنَ الْحَقِّ مَا لا أَرَاهُ لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ زَمَانِكَ لِفَضْلِكَ وَقَرَابَتِكَ قَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ! قَدْ أَدَّى لِسَانُكَ عَمَّا يَجُنُّ ضَمِيرُكَ فَقُتِلَ مَعَهُ بِصِفِّينَ رَحِمَهُ اللَّهُ. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وَطَلْحَةَ، قَالا: لَمَّا قَدِمَ عَلِيٌّ الرَّبَذَةَ أَقَامَ بِهَا وَسَرَّحَ مِنْهَا إِلَى الْكُوفَةِ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ وَمُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرٍ، وَكَتَبَ إِلَيْهِمْ: إِنِّي اخْتَرْتُكُمْ عَلَى الأَمْصَارِ وَفَزِعْتُ إِلَيْكُمْ لِمَا حَدَثَ، فَكُونُوا لِدِينِ اللَّهِ أَعْوَانًا وَأَنْصَارًا، وَأَيِّدُونَا وَانْهَضُوا إِلَيْنَا فَالإِصْلاحُ مَا نُرِيدُ، لِتَعُودَ الأُمَّةُ إِخْوَانًا، وَمَنْ أَحَبَّ ذَلِكَ وَآثَرَهُ فَقَدْ أَحَبَّ الْحَقَّ وَآثَرَهُ، وَمَنْ أَبْغَضَ ذَلِكَ فَقَدْ أَبْغَضَ الْحَقَّ وَغَمَصَهُ. فَمَضَى الرَّجُلانِ وَبَقِيَ عَلِيٌّ بِالرَّبَذَةِ يَتَهَيَّأُ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَحِقَهُ مَا أَرَادَ

مِنْ دَابَّةٍ وَسِلاحٍ، وأمر أَمْرَهُ وَقَامَ فِي النَّاسِ فَخَطَبَهُمْ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَعَزَّنَا بِالإِسْلامِ وَرَفَعَنَا بِهِ وَجَعَلَنَا بِهِ إِخْوَانًا بَعْدَ ذِلَّةٍ وَقِلَّةٍ وَتَبَاغُضٍ وَتَبَاعُدٍ، فَجَرَى النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، الإِسْلامُ دِينُهُمْ وَالْحَقُّ فِيهِمْ وَالْكِتَابُ إِمَامُهُمْ، حَتَّى أُصِيبَ هَذَا الرَّجُلُ بِأَيْدِي هَؤُلاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ نَزَغَهُمُ الشَّيْطَانُ لِيَنْزَغَ بَيْنَ هَذِهِ الأُمَّةِ، أَلا إِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ لا بُدَّ مُفْتَرِقَةٌ كَمَا افْتَرَقَتِ الأُمَمُّ قَبْلَهُمْ، فَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ مَا هُوَ كَائِنٌ ثُمَّ عَادَ ثَانِيَةً، فَقَالَ: إِنَّهُ لا بُدَّ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ أَنْ يَكُونَ، أَلا وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، شَرُّهَا فِرْقَةٌ تَنْتَحِلُنِي وَلا تَعْمَلُ بِعَمَلِي، فَقَدْ أَدْرَكْتُمْ وَرَأَيْتُمْ فَالْزَمُوا دِينَكُمْ وَاهْدُوا بِهَدْيِ نبيكم ص، وَاتَّبِعُوا سُنَّتَهُ، وَاعْرِضُوا مَا أُشْكِلَ عَلَيْكُمْ عَلَى الْقُرْآنِ، فَمَا عَرَّفَهُ الْقُرْآنُ فَالْزَمُوهُ وَمَا أَنْكَرَهُ فَرُدُّوهُ، وَارْضَوْا بِاللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ رَبًّا وَبِالإِسْلامِ دينا وبمحمد ص نَبِيًّا، وَبِالْقُرْآنِ حَكَمًا وَإِمَامًا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قَالا: لَمَّا أَرَادَ عَلِيٌّ الْخُرُوجَ مِنَ الرَّبَذَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ قَامَ إِلَيْهِ ابْنٌ لِرِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيَّ شَيْءٍ تُرِيدُ؟ وَإِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ بِنَا؟ فَقَالَ: أَمَّا الَّذِي نُرِيدُ وَنَنْوِي فَالإِصْلاحَ، إِنْ قَبِلُوا مِنَّا واجابونا اليه، قال: فان لم يجيبوا إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَدَعُهُمْ بِعُذْرِهِمْ وَنُعْطِيهِمُ الْحَقَّ وَنَصْبِرُ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَرْضَوْا؟ قَالَ: نَدَعُهُمْ مَا تَرَكُونَا، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَتْرُكُونَا؟ قَالَ: امْتَنَعْنَا مِنْهُمْ، قَالَ: فَنَعَمْ إِذًا وَقَامَ الْحَجَّاجُ بْنُ غَزِيَّةَ الأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: لأُرْضِيَنَّكَ بِالْفِعْلِ كَمَا أَرْضَيْتَنِي بِالْقَوْلِ وَقَالَ: دِرَاكَهَا دِرَاكَهَا قَبْلَ الْفَوْت ... وَانْفُرْ بِنَا وَاسْمُ بِنَا نَحْوَ الصَّوْت لا وَأَلَتْ نَفْسِي إِنْ هِبْتُ الْمَوْت. وَاللَّهِ لأَنْصُرَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا سَمَّانَا أَنْصَارًا فَخَرَجَ أَمِيرُ المؤمنين وعلى

مُقَدِّمَتِهِ أَبُو لَيْلَى بْنُ عُمَرَ بْنِ الْجَرَّاحِ، والراية مع محمد بن الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَى الْمَيْمَنَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ أَوْ عَمْرُو بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الأَسَدِ، وَخَرَجَ على وهو في سبعمائة وَسِتِّينَ، وَرَاجِزُ عَلِيٍّ يَرْجُزُ بِهِ: سِيرُوا أَبَابِيلَ وَحُثُّوا السَّيْرَا إِذْ عُزِمَ السَّيْرُ وَقُولُوا خَيْرًا حَتَّى يُلاقُوا وَتُلاقُوا خَيْرًا نَغْزُو بِهَا طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَا وَهُوَ أَمَامَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ حَمْرَاءَ يَقُودُ فَرَسًا كُمَيْتًا فَتَلَقَّاهُمْ بِفَيْدَ غُلامٌ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَامِرٍ يُدْعَى مُرَّةَ، فَقَالَ: مَنْ هَؤُلاءِ؟ فَقِيلَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: سُفْرَةٌ فَانِيَةٌ فِيهَا دِمَاءٌ مِنْ نُفُوسٍ فَانِيَةٍ، فَسَمِعَهَا عَلِيٌّ فَدَعَاهُ، فَقَالَ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: مُرَّةُ، قال: امر الله عيشك، كاهن سائر اليوم؟ قَالَ: بَلْ عَائِفٌ، فَلَمَّا نَزَلَ بِفَيْدَ أَتَتْهُ اسد وطيّئ فَعَرَضُوا عَلَيْهِ أَنْفُسَهُمْ، فَقَالَ: الْزَمُوا قَرَارَكُمْ، فِي الْمُهَاجِرِينَ كِفَايَةٌ. وَقَدِمَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَيْدَ قَبْلَ خُرُوجِ عَلِيٍّ فَقَالَ: مَنِ الرَّجُلُ؟ قَالَ: عَامِرُ بْنُ مَطَرٍ، قَالَ: اللَّيْثِيُّ؟ قَالَ الشَّيْبَانِيُّ: قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمَّا وَرَاءَكَ، قَالَ: فَأَخْبَرَهُ حَتَّى سَأَلَهُ عَنْ أَبِي مُوسَى، فَقَالَ: إِنْ أَرَدْتَ الصُّلْحَ فَأَبُو مُوسَى صَاحِبُ ذَلِكَ، وَإِنْ أَرَدْتَ الْقِتَالَ فَأَبُو مُوسَى لَيْسَ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ حَتَّى يُرَدَّ عَلَيْنَا، قَالَ: قَدْ أَخْبَرْتُكَ الْخَبَرَ، وَسَكَتَ وَسَكَتَ عَلِيٌّ. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمير، عن محمد بن الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ: قَدِمَ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ عَلَى عَلِيٍّ بِالرَّبَذَةِ وَقَدْ نَتَفُوا شَعْرَ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ وَحَاجِبَيْهِ، [فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بَعَثْتَنِي ذَا لِحْيَةٍ وَجِئْتُكَ أَمْرَدَ، قَالَ: أَصَبْتَ أَجْرًا وَخَيْرًا، إِنَّ النَّاسَ وَلِيَهُمْ قَبْلِي رَجُلانِ، فَعَمِلا بِالْكِتَابِ، ثُمَّ وَلِيَهُمْ ثَالِثٌ، فَقَالُوا وَفَعَلُوا، ثُمَّ بَايَعُونِي، وَبَايَعَنِي طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، ثُمَّ نَكَثَا بَيْعَتِي، وَأَلَّبَا النَّاسَ عَلَيَّ، وَمِنَ الْعَجَبِ انْقِيَادُهُمَا لأَبِي بَكْرٍ وعمر وَخِلافُهُمَا عَلَيَّ، وَاللَّهِ إِنَّهُمَا لَيَعْلَمَانِ أَنِّي لَسْتُ بِدُونِ رَجُل مِمَّنْ قَدْ مَضَى، اللَّهُمَّ فَاحْلُلْ مَا عَقَدَا، وَلا تُبْرِمْ مَا قَدْ أَحْكَمَا فِي أَنْفُسِهِمَا وَأَرِهِمَا الْمَسَاءَةَ فِيمَا قَدْ عَمِلا]

كتب إلي السري عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، قَالا: وَلَمَّا نَزَلَ عَلِيٌّ الثَّعْلَبِيَّةَ أَتَاهُ الَّذِي لَقِيَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ وَحَرَسَهُ، فَقَامَ وَأَخْبَرَ الْقَوْمَ الْخَبَرَ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَافِنِي مِمَّا ابْتَلَيْتَ بِهِ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ مِنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَلِّمْنَا مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الإِسَادِ أَتَاهُ مَا لَقِيَ حَكِيمُ بْنُ جَبَلَةَ وَقَتَلَةُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، [فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، مَا يُنْجِينِي مِنْ طلحه والزبير إذ أصابا ثَأْرَهُمَا أَوْ يُنْجِيهِمَا! وَقَرَأَ: «مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها» وَقَالَ: دَعَا حَكِيمٌ دَعْوَةَ الزِّمَاعِ ... حَلَّ بِهَا مَنْزِلَةَ النزاعِ ] وَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى ذِي قَارٍ انْتَهَى إِلَيْهِ فِيهَا عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ شَعْرٌ، فَلَمَّا رَآهُ عَلِيٌّ نَظَرَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: انْطَلَقَ هَذَا مِنْ عِنْدِنَا وَهُوَ شَيْخٌ، فَرَجَعَ إِلَيْنَا وَهُوَ شَابٌّ فَلَمْ يَزَلْ بِذِي قَارٍ يَتَلَوَّمُ مُحَمَّدًا وَمُحَمَّدًا، وَأَتَاهُ الْخَبَرُ بِمَا لَقِيَتْ رَبِيعَةُ وَخُرُوجِ عَبْدِ الْقَيْسِ وَنُزُولِهِمْ بِالطَّرِيقِ، فَقَالَ: عَبْدُ الْقَيْسِ خَيْرُ رَبِيعَةَ، فِي كُلِّ رَبِيعَةَ خَيْرٌ وَقَالَ: يَا لَهْفَ نَفْسِي عَلَى رَبِيعَةْ ... رَبِيعَةَ السَّامِعَةِ الْمُطِيعَةْ قَدْ سَبَقَتْنِي فِيهِمُ الْوَقِيعَةْ ... دَعَا عَلِيٌّ دَعْوَةً سَمِيعَةْ حُلُّوا بِهَا الْمَنْزِلَةَ الرَّفِيعَةْ. قَالَ: وَعُرِضَتْ عَلَيْهِ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ، فَقَالَ لَهُمْ مِثْلَ مَا قال لطيئ وَأَسَدٍ. وَلَمَّا قَدِمَ مُحَمَّدٌ وَمُحَمَّدٌ عَلَى الْكُوفَةِ وَأَتَيَا أَبَا مُوسَى بِكِتَابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَامَا في الناس بامره، لم يُجَابَا إِلَى شَيْءٍ، فَلَمَّا أَمْسَوْا دَخَلَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْحِجَى عَلَى أَبِي مُوسَى، فَقَالُوا: مَا تَرَى فِي الْخُرُوجِ؟ فَقَالَ: كَانَ الرَّأْيُ بِالأَمْسِ لَيْسَ بِالْيَوْمِ، إِنَّ الَّذِي تَهَاوَنْتُمْ بِهِ فِيمَا مَضَى هُوَ الَّذِي جَرَّ عَلَيْكُمْ مَا تَرَوْنَ، وَمَا بَقِيَ إِنَّمَا هُمَا أَمْرَانِ: الْقُعُودُ سَبِيلُ الآخِرَةِ وَالْخُرُوجُ سَبِيلُ الدُّنْيَا، فَاخْتَارُوا فَلَمْ يَنْفِرْ إِلَيْهِ أَحَدٌ، فَغَضِبَ الرَّجُلانِ وَأَغْلَظَا لأَبِي موسى، فقال

أَبُو مُوسَى: وَاللَّهِ إِنَّ بَيْعَةَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَفِي عُنُقِي وَعُنُقِ صَاحِبِكُمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ قِتَالٍ لا نُقَاتِلُ أَحَدًا حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ حَيْثُ كَانُوا فَانْطَلَقَا إِلَى عَلِيٍّ فَوَافَيَاهُ بِذِي قَارٍ وَأَخْبَرَاهُ الْخَبَرَ، وَقَدْ خَرَجَ مَعَ الأَشْتَرِ وَقَدْ كَانَ يُعَجِّلُ إِلَى الْكُوفَةِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا أَشْتَرُ، أَنْتَ صَاحِبُنَا فِي أَبِي مُوسَى وَالْمُعْتَرِضُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، اذْهَبْ أَنْتَ وَعَبْدُ اللَّهَ بْنُ عَبَّاسٍ فَأَصْلِحْ مَا أَفْسَدْتَ. فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَمَعَهُ الأَشْتَرُ، فَقَدِمَا الْكُوفَةَ وَكَلَّمَا أَبَا مُوسَى وَاسْتَعَانَا عَلَيْهِ بِأُنَاسٍ مِنَ الْكُوفَةِ، فَقَالَ لِلْكُوفِيِّينَ: أَنَا صَاحِبُكُمْ يَوْمَ الْجَرَعَةِ وَأَنَا صَاحِبُكُمُ الْيَوْمَ، فَجَمَعَ النَّاسَ فَخَطَبَهُمْ وَقَالَ: يا ايها النَّاسُ، أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ صَحِبُوهُ فِي الْمَوَاطِنِ أَعْلَمُ بِاللَّهِ جل وعز وبرسوله ص مِمَّنْ لَمْ يَصْحَبْهُ، وَإِنَّ لَكُمْ عَلَيْنَا حَقًّا فَأنَا مُؤَدِّيهِ إِلَيْكُمْ. كَانَ الرَّأْيُ أَلا تَسْتَخِفُّوا بِسُلْطَانِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلا تَجْتَرِئُوا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ الرَّأْيُ الثَّانِي أَنْ تَأْخُذُوا مَنْ قَدِمَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ فَتَرُدُّوهُمْ إِلَيْهَا حَتَّى يَجْتَمِعُوا، وَهُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ تَصْلُحُ لَهُ الإِمَامَةُ مِنْكُمْ، وَلا تُكَلَّفُوا الدَّخُولَ فِي هذا، فاما إذ كَانَ مَا كَانَ فَإِنَّهَا فِتْنَةٌ صَمَّاءُ، النَّائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْيَقْظَانِ، وَالْيَقْظَانُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَاعِدِ، وَالْقَاعِدُ خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ الرَّاكِبِ، فَكُونُوا جُرْثُومَةً مِنْ جَرَاثِيمِ الْعَرَبِ، فَاغْمِدُوا السُّيُوفَ، وَانْصِلُوا الأَسِنَّةَ، وَاقْطَعُوا الأَوْتَارَ، وَآوُوا الْمَظْلُومَ وَالْمُضْطَهَدَ حَتَّى يَلْتَئِمَ هَذَا الأَمْرُ، وَتَنْجَلِي هَذِهِ الْفِتْنَةُ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وَلَمَّا رَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى عَلِيٍّ بِالْخَبَرِ دَعَا الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فَأَرْسَلَهُ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، فَقَالَ لَهُ: انْطَلِقْ فَأَصْلِحْ مَا أَفْسَدْتَ، فَأَقْبَلا حَتَّى دَخَلا الْمَسْجِدَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَتَاهُمَا مَسْرُوقُ بْنُ الأَجْدَعِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمَا، وَأَقْبَلَ عَلَى عَمَّارٍ فَقَالَ: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ، عَلامَ قَتَلْتُمْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؟ قَالَ: عَلَى شَتْمِ أَعْرَاضِنَا وَضَرْبِ أَبْشَارِنَا! فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا عَاقَبْتُمْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَكَانَ خَيْرًا لِلصَّابِرِينَ فَخَرَجَ أَبُو مُوسَى، فَلَقِيَ الْحَسَنَ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، وَأَقْبَلَ عَلَى عَمَّارٍ فَقَالَ: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ، أَعَدَوْتَ فِيمَنْ عَدَا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَحْلَلْتَ

نَفْسَكَ مَعَ الْفُجَّارِ! فَقَالَ: لَمْ أَفْعَلْ، وَلَمْ تسوؤنى؟ [وَقَطَعَ عَلَيْهِمَا الْحَسَنُ، فَأَقْبَلَ عَلَى أَبِي مُوسَى، فَقَالَ: يَا أَبَا مُوسَى، لِمَ تُثَبِّطِ النَّاسَ عنا! فو الله مَا أَرَدْنَا إِلا الإِصْلاحَ، وَلا مِثْلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَخَافُ عَلَى شَيْءٍ] فَقَالَ: صَدَقْتَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! وَلَكِنَّ الْمُسْتَشَارَ مُؤْتَمَنٌ، [سَمِعْتُ رَسُولَ الله ص يَقُولُ: إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي خير من الراكب،] قد جَعَلَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِخْوَانًا، وَحَرَّمَ عَلَيْنَا أموالنا ودماءنا، وقال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ» ، «وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً» وَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ: «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ» . فغضب عمار وساءه وقام وقال: يا ايها النَّاسُ، إِنَّمَا قَالَ لَهُ خَاصَّةً: أَنْتَ فِيهَا قَاعِدًا خَيْرٌ مِنْكَ قَائِمًا وَقَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَ لِعَمَّارٍ: اسْكُتْ أَيُّهَا الْعَبْدُ، أَنْتَ أَمْسِ مَعَ الْغَوْغَاءِ وَالْيَوْمَ تُسَافِهُ أَمِيرَنَا، وَثَارَ زَيْدُ بْنُ صُوحَانَ وَطَبَقَتُهُ وَثَارَ النَّاسُ، وَجَعَلَ أَبُو مُوسَى يُكَفْكِفُ النَّاسَ، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى أَتَى الْمِنْبَرَ، وَسَكَنَ النَّاسُ، وَأَقْبَلَ زَيْدٌ عَلَى حِمَارٍ حَتَّى وَقَفَ بِبَابِ الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ الْكِتَابَانِ مِنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَيْهِ وَإِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَقَدْ كَانَ طَلَبَ كِتَابَ الْعَامَّةِ فَضَمَّهُ إِلَى كِتَابِهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَمَعَهُ كِتَابُ الْخَاصَّةِ وَكِتَابُ الْعَامَّةِ: أَمَّا بَعْدُ، فَثَبِّطُوا أَيُّهَا النَّاسُ وَاجْلِسُوا فِي بُيُوتِكُمْ إِلا عَنْ قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه. فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْكِتَابِ قَالَ: أُمِرَتْ بِأَمْرٍ وَأُمِرْنَا بِأَمْرٍ، أُمِرَتْ أَنْ تَقَرَّ فِي بَيْتِهَا، وَأُمِرْنَا أَنْ نُقَاتِلَ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، فَأَمَرَتْنَا بِمَا أُمِرَتْ بِهِ وَرَكِبَتْ مَا أُمِرْنَا بِهِ فَقَامَ إِلَيْهِ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ فَقَالَ: يَا عُمَانِيُّ- وَزَيْدٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ عُمَانَ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ- سَرَقْتَ بِجَلُولاءَ فَقَطَعَكَ اللَّهُ، وَعَصَيْتَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَتَلَكَ اللَّهُ! مَا أَمَرَتْ إِلا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ بِالإِصْلاحِ بَيْنَ النَّاسِ، فَقُلْتُ: وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، وَتَهَاوَى النَّاسُ وَقَامَ أَبُو مُوسَى فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، أَطِيعُونِي تَكُونُوا جُرْثُومَةً مِنْ جَرَاثِيمِ الْعَرَبِ يَأْوِي إِلَيْكُمُ الْمَظْلُومُ وَيَأْمَنُ فِيكُمُ الْخَائِفُ، إِنَّا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أعلم بِمَا سَمِعْنَا، إِنَّ الْفِتْنَةَ

إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ وَإِذَا أَدْبَرَتْ بَيَّنَتْ، وَإِنَّ هَذِهِ الْفِتْنَةَ بَاقِرَةٌ كَدَاءِ الْبَطْنِ تَجْرِي بِهَا الشَّمَالُ وَالْجَنُوبُ وَالصَّبَا وَالدَّبُورُ، فَتَسْكُنُ أَحْيَانًا فَلا يُدْرَى مِنْ أَيْنَ تُؤْتَى، تَذَرُ الْحَلِيمَ كَابْنِ أَمْسِ، شَيِّمُوا سُيُوفَكُمْ وَقَصِّدُوا رِمَاحَكُمْ، وَأَرْسِلُوا سِهَامَكُمْ، واقطعوا أوتاركم، والزموا بيوتكم خلوا قريشا- إذ أَبَوْا إِلا الْخُرُوجَ مِنْ دَارِ الْهِجْرَةِ وَفِرَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالإِمْرَةِ- تَرْتِقُ فَتْقَهَا، وَتُشْعِبُ صَدْعَهَا، فَإِنْ فَعَلَتْ فَلأَنْفُسِهَا سَعَتْ، وَإِنْ أَبَتْ فَعَلَى أَنْفُسِهَا مَنَّتْ سَمْنَهَا تُهْرِيقُ فِي أَدِيمِهَا، اسْتَنْصِحُونِي وَلا تَسْتَغِشُّونِي، وَأَطِيعُونِي يَسْلَمْ لَكُمْ دِينُكُمْ وَدُنْيَاكُمْ، وَيَشْقَى بحر هَذِهِ الْفِتْنَةِ مَنْ جَنَاهَا. فَقَامَ زَيْدٌ فَشَالَ يَدَهُ الْمَقْطُوعَةَ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ، رُدَّ الْفُرَاتَ عَنْ دِرَاجِهِ، ارْدُدْهُ مِنْ حَيْثُ يَجِيءُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا بَدَأَ، فَإِنْ قَدِرْتَ عَلَى ذَلِكَ فَسَتَقْدِرُ عَلَى مَا تُرِيدُ، فَدَعْ عَنْكَ مَا لَسْتَ مُدْرِكَهُ ثُمَّ قَرَأَ: «الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا» إِلَى آخِرِ الآيَتَيْنِ، سِيرُوا إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَسَيِّدِ الْمُسْلِمِينَ، وَانْفُرُوا إِلَيْهِ أَجْمَعِينَ تُصِيبُوا الْحَقَّ. فَقَامَ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: إِنِّي لَكُمْ نَاصِحٌ، وَعَلَيْكُمْ شَفِيقٌ، أُحِبُّ أَنْ تَرْشُدُوا، وَلأَقُولَنَّ لَكُمْ قَوْلا هُوَ الْحَقُّ، أَمَّا مَا قَالَ الأمير فهو الأَمْرِ لَوْ أَنَّ إِلَيْهِ سَبِيلا، وَأَمَّا مَا قَالَ زَيْدٌ فَزَيْدٌ فِي الأَمْرِ فَلا تَسْتَنْصِحُوهُ فَإِنَّهُ لا يُنْتَزَعُ أَحَدٌ مِنَ الْفِتْنَةِ طَعَنَ فِيهَا وَجَرَى إِلَيْهَا، وَالْقَوْلُ الَّذِي هُوَ الْقَوْلُ إِنَّهُ لا بُدَّ مِنْ إِمَارَةٍ تُنَظِّمُ النَّاسَ وتزع الظَّالِمَ وَتُعِزُّ الْمَظْلُومَ، وَهَذَا عَلِيٌّ يَلِي بِمَا وُلِّيَ، وَقَدْ أَنْصَفَ فِي الدُّعَاءِ وَإِنَّمَا يَدْعُو إِلَى الإِصْلاحِ، فَانْفُرُوا وَكُونُوا مِنْ هَذَا الأَمْرِ بِمَرْأًى وَمْسَمِعٍ. وَقَالَ سَيْحَانُ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لا بُدَّ لِهَذَا الأَمْرِ وَهَؤُلاءِ النَّاسِ مِنْ وَالٍ يَدْفَعُ الظَّالِمَ وَيُعِزُّ الْمَظْلُومَ وَيَجْمَعُ النَّاسَ، وَهَذَا وَالِيكُمْ يَدْعُوكُمْ لِيَنْظُرَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبَيْهِ، وَهُوَ الْمَأْمُونُ عَلَى الأُمَّةِ، الْفَقِيهُ فِي الدِّينِ، فَمَنْ نَهَضَ إِلَيْهِ فَإِنَّا سَائِرُونَ مَعَهُ وَلانَ عَمَّارٌ بَعْدَ نَزْوَتِهِ الأُولَى فَلَمَّا فَرَغَ سَيْحَانُ مِنْ خُطْبَتِهِ، تَكَلَّمَ عَمَّارٌ فَقَالَ: هَذَا ابن عم رسول الله ص يستنفركم

الى زوجه رسول الله ص وَإِلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَانْظُرُوا ثُمَّ انْظُرُوا فِي الْحَقِّ فَقَاتِلُوا مَعَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ، لَهُوَ مَعَ مَنْ شَهِدْتَ لَهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى مَنْ لَمْ تَشْهَدْ لَهُ فَقَالَ الْحَسَنُ: اكْفُفْ عَنَّا يَا عَمَّارُ، فَإِنَّ لِلإِصْلاحِ أَهْلا. وقام الحسن بن على، فقال: يا ايها النَّاسُ، أَجِيبُوا دَعْوَةَ أَمِيرِكُمْ، وَسِيرُوا إِلَى إِخْوَانِكُمْ، فَإِنَّهُ سَيُوجَدُ لِهَذَا الأَمْرِ مَنْ يَنْفُرُ إِلَيْهِ، وَاللَّهِ لأَنْ يَلِيَهُ أُولُو النُّهَى أَمْثَلُ فِي الْعَاجِلَةِ وَخَيْرٌ فِي الْعَاقِبَةِ، فَأَجِيبُوا دَعْوَتَنَا وَأَعِينُونَا عَلَى مَا ابْتُلِينَا بِهِ وَابْتُلِيتُمْ. فَسَامَحَ النَّاسُ وَأَجَابُوا وَرَضُوا بِهِ وَأَتَى قَوْمٌ مِنْ طَيِّئٍ عَدِيًّا فَقَالُوا: مَاذَا تَرَى وَمَاذَا تَأْمُرُ؟ فَقَالَ: نَنْتَظِرُ مَا يَصْنَعُ النَّاسُ، فَأُخْبِرَ بِقِيَامِ الْحَسَنِ وَكَلامِ مَنْ تَكَلَّمَ، فَقَالَ: قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ، وَقَدْ دَعَانَا إِلَى جَمِيلٍ، وَإِلَى هَذَا الْحَدَثِ الْعَظِيمِ لِنَنْظُرَ فِيهِ، وَنَحْنُ سَائِرُونَ وَنَاظِرُونَ. وَقَامَ هِنْدُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ دَعَانَا وَأَرْسَلَ إِلَيْنَا رُسُلَهُ حَتَّى جَاءَنَا ابْنُهُ، فَاسْمَعُوا إِلَى قَوْلِهِ، وَانْتَهُوا إِلَى أَمْرِهِ، وَانْفُرُوا إِلَى أَمِيرِكُمْ فَانْظُرُوا مَعَهُ فِي هَذَا الأَمْرِ وَأَعِينُوهُ بِرَأْيِكُمْ. وَقَامَ حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَجِيبُوا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وانْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا مروا، انا أَوَّلُكُمْ، وَقَامَ الأَشْتَرُ فَذَكَرَ الْجَاهِلِيَّةَ وَشِدَّتَهَا، وَالإِسْلامَ وَرَخَاءَهُ، وَذَكَرَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَامَ إِلَيْهِ الْمُقَطِّعُ بْنُ الْهَيْثَمِ بْنِ فُجَيْعٍ الْعَامِرِيُّ ثُمَّ الْبَكَّائِيُّ، فَقَالَ: اسْكُتْ قَبَّحَكَ اللَّهُ! كَلْبٌ خُلِّيَ وَالنُّبَاحَ، فَثَارَ النَّاسُ فَأَجْلَسُوهُ. وَقَامَ الْمُقَطِّعُ، فَقَالَ: إِنَّا وَاللَّهِ لا نَحْتَمِلُ بَعْدَهَا أَنْ يَبُوءَ أَحَدٌ بِذِكْرِ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّتِنَا، وَإِنَّ عَلِيًّا عِنْدَنَا لَمُقْنَعٌ، وَاللَّهِ لَئِنْ يَكُنْ هَذَا الضَّرْبُ لا يَرْضَى بِعَلِّيٍ، فَعَضَّ امْرُؤٌ عَلَى لِسَانِهِ فِي مَشَاهِدْنَا، فَأَقْبِلُوا عَلَى مَا أَحْثَاكُمْ. فَقَالَ الْحَسَنُ: صَدَقَ الشَّيْخُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: أَيُّهَا الناس، انى غاد فمن شاء منكم أَنْ يَخْرُجَ مَعِي عَلَى الظَّهْرِ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَخْرُجْ فِي الْمَاءِ فَنَفَرَ مَعَهُ تِسْعَةُ آلافٍ، فَأَخَذَ بَعْضُهُمُ الْبَرَّ، وَأَخَذَ بَعْضُهُمُ الْمَاءَ وَعَلَى كُلِّ سَبْعٍ رَجُلٌ، أَخَذَ الْبَرَّ سِتَّةُ آلافٍ ومائتان، وأخذ الماء الفان وثمانمائه وَفِيمَا ذَكَرَ نَصْرُ بْنُ مُزَاحِمٍ الْعَطَّارُ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَسَدِ بْنِ

عَبْدِ اللَّهِ، عَمَّنْ أَدْرَكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ عَبْدَ خَيْرٍ الْخَيْوَانِيَّ قَامَ إِلَى أَبِي مُوسَى فَقَالَ: يَا أَبَا مُوسَى، هَلْ كَانَ هَذَانِ الرَّجُلانِ- يَعْنِي طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ- مِمَّنْ بَايَعَ عَلِيًّا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: هَلْ أَحْدَثَ حَدَثًا يَحِلُّ بِهِ نَقْضَ بَيْعَتِهِ؟ قَالَ: لا أَدْرِي، قَالَ: لا دَرَيْتَ، فَإِنَّا تَارِكُوكَ حَتَّى تَدْرِيَ! يَا أَبَا مُوسَى هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا خَارِجًا من هذه الْفِتْنَةِ الَّتِي تَزْعُمُ إِنَّهَا هِيَ فِتْنَةٌ؟ إِنَّمَا بقي اربع فرق: عَلِيٌّ بِظَهْرِ الْكُوفَةِ، وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ بِالْبَصْرَةِ، وَمُعَاوِيَةُ بِالشَّامِ، وَفِرْقَةٌ أُخْرَى بِالْحِجَازِ، لا يُجْبَى بِهَا فَيْءٌ، وَلا يُقَاتَلُ بِهَا عَدُوٌّ، فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: أُولَئِكَ خَيْرُ النَّاسِ، وَهِيَ فِتْنَةٌ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ خَيْرٍ: يَا أَبَا مُوسَى، غَلَبَ عَلَيْكَ غِشُّكَ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ الأَشْتَرُ قَامَ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي قَدْ بَعَثْتُ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ رَجُلا قَبْلَ هَذَيْنِ فَلَمْ أَرَهْ أَحْكَمَ شَيْئًا وَلا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَهَذَانِ أَخْلَقُ مَنْ بَعَثْتَ أَنْ ينشب بِهِمُ الأَمْرُ عَلَى مَا تَحِبُّ، وَلَسْتُ أَدْرِي مَا يَكُونُ، فَإِنْ رَأَيْتَ- أَكْرَمَكَ اللَّهُ- يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَبْعَثَنِي فِي أَثَرِهِمْ، فَإِنَّ أَهْلَ الْمِصْرِ أَحْسَنُ شَيْءٍ لِي طَاعَةً، وَإِنْ قَدِمْتُ عَلَيْهِمْ رَجَوْتُ أَلا يُخَالِفَنِي مِنْهُمْ أَحَدٌ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: الْحَقْ بِهِمْ، فَأَقْبَلَ الأَشْتَرُ حَتَّى دَخَلَ الْكُوفَةَ وَقَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ الأَعْظَمِ، فَجَعَلَ لا يَمُرُّ بِقَبِيلَةٍ يَرَى فِيهَا جَمَاعَةً فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَسْجِدٍ إِلا دَعَاهُمْ وَيَقُولُ: اتْبَعُونِي إِلَى الْقَصْرِ، فَانْتَهَى إِلَى الْقَصْرِ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ، فَاقْتَحَمَ الْقَصْرَ فَدَخَلَهُ وَأَبُو مُوسَى قَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ يخطب الناس ويثبطهم، يقول: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذِهِ فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ صَمَّاءُ تَطَأُ خِطَامَهَا، النَّائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَاعِدِ، وَالْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، وَالسَّاعِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الرَّاكِبِ، إِنَّهَا فِتْنَةٌ بَاقِرَةٌ كَدَاءِ الْبَطْنِ، أَتَتْكُمْ مِنْ قِبَلِ مَأْمَنِكُمْ، تَدَعُ الْحَلِيمَ فِيهَا حَيْرَانَ كَابْنِ أَمْسِ. انا معاشر اصحاب محمد ص أَعْلَمُ بِالْفِتْنَةِ، إِنَّهَا إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ وَإِذَا أَدْبَرَتْ أَسْفَرَتْ وَعَمَّارٌ يُخَاطِبُهُ وَالْحَسَنُ يَقُولُ لَهُ: اعْتَزِلْ عَمَلَنَا لا أُمَّ لَكَ! وَتَنَحَّ عَنْ مِنْبَرِنَا وَقَالَ لَهُ عَمَّارٌ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا من رسول الله ص

نزول امير المؤمنين ذا قار

؟ فَقَالَ أَبُو مُوسَى: هَذِهِ يَدِي بِمَا قُلْتُ، فَقَالَ لَهُ عَمَّارٌ: إِنَّمَا قَالَ لَكَ رَسُولُ الله ص هَذَا خَاصَّةً، فَقَالَ: أَنْتَ فِيهَا قَاعِدًا خَيْرٌ مِنْكَ قَائِمًا، ثُمَّ قَالَ عَمَّارٌ: غَلَبَ اللَّهُ مَنْ غَالَبَهُ وَجَاحَدَهُ. قَالَ نصر بن مزاحم: حَدَّثَنَا عُمَر بن سَعِيد، قَالَ: حَدَّثَنِي رجل، عن نعيم، عن أبي مريم الثقفي، قَالَ: وَاللَّهِ إني لفي المسجد يَوْمَئِذٍ وعمار يخاطب أبا مُوسَى ويقول لَهُ ذَلِكَ القول، إذ خرج علينا غلمان لأبي مُوسَى يشتدون ينادون: يَا أَبَا مُوسَى، هَذَا الأَشْتَر قَدْ دخل القصر فضربنا وأخرجنا، فنزل أَبُو مُوسَى، فدخل القصر، فصاح بِهِ الأَشْتَر: اخرج من قصرنا لا أم لك! اخرج الله نفسك، فو الله إنك لمن المنافقين قديما، قَالَ: أجلني هَذِهِ العشية، فَقَالَ: هي لك، وَلا تبيتن فِي القصر الليلة ودخل الناس ينتهبون متاع أبي مُوسَى، فمنعهم الأَشْتَر وأخرجهم من القصر، وَقَالَ: إني قَدْ أخرجته، فكف الناس عنه نزول أَمِير الْمُؤْمِنِينَ ذا قار كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشَّعْبِيِّ، قَالَ: لَمَّا الْتَقَوْا بِذِي قَارٍ تَلَقَّاهُمْ عَلِيٌّ فِي أُنَاسٍ، فِيهِمُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَرَحَّبَ بِهِمْ، وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، أَنْتُمْ وَلِيتُمْ شَوْكَةَ الْعَجَمِ وَمُلُوكِهِمْ، وَفَضَضْتُمْ جُمُوعَهُمْ، حَتَّى صَارَتْ إِلَيْكُمْ مَوَارِيثُهُمْ، فَأَغْنَيْتُمْ حَوْزَتَكُمْ، وَأَعَنْتُمُ النَّاسَ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَقَدْ دَعَوْتُكُمْ لِتَشْهَدُوا مَعَنَا إِخْوَانَنَا مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَإِنْ يَرْجِعُوا فَذَاكَ مَا نُرِيدُ وَإِنْ يلجوا دَاوَيْنَاهُمْ بِالرِّفْقِ، وَبَايَنَّاهُمْ حَتَّى يَبْدَءُونَا بِظُلْمٍ، وَلَنْ نَدَعَ أَمْرًا فِيهِ صَلاحٌ إِلا آثَرْنَاهُ عَلَى مَا فِيهِ الْفَسَادُ إِنْ شَاءَ اللَّه، وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ. فَاجْتَمَعَ بِذِي قَارٍ سَبْعَةُ آلافٍ وَمِائَتَانِ، وَعَبْدُ الْقَيْسِ بِأَسْرِهَا فِي الطَّرِيقِ بَيْنَ عَلِيٍّ وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ يَنْتَظِرُونَ مُرُورَ عَلِيٍّ بِهِمْ، وَهُمْ آلافٌ- وَفِي الْمَاءِ الفان وأربعمائة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ بِإِسْنَادِهِمَا، قَالا: لَمَّا نَزَلَ عَلِيٌّ ذَا قَارٍ أَرْسَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَالأَشْتَرَ بعد محمد بن ابى بكر ومحمد

ابن جَعْفَرٍ، وَأَرْسَلَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعَمَّارًا بَعْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالأَشْتَرِ، فَخَفَّ فِي ذَلِكَ الأَمْرِ جَمِيعُ مَنْ كَانَ نَفَرَ فِيهِ، وَلَمْ يَقْدَمْ فِيهِ الْوُجُوهُ أَتْبَاعَهُمْ فَكَانُوا خَمْسَةَ آلافٍ أَخَذَ نِصْفُهُمْ فِي الْبَرِّ وَنِصْفُهُمْ فِي الْبَحْرِ، وَخَفَّ مَنْ لَمْ يَنْفُرْ فِيهَا وَلَمْ يَعْمَلْ لَهَا وَكَانَ عَلَى طَاعَتِهِ مُلازِمًا لِلْجَمَاعَةِ فَكَانُوا أَرْبَعَةَ آلافٍ، فَكَانَ رُؤَسَاءَ الْجَمَاعَةِ: الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو وسعر بن مالك وهند بن عمرو والهيثم ابن شِهَابٍ، وَكَانَ رُؤَسَاءَ النِّفَارِ: زَيْدُ بْنُ صُوحَانَ، وَالأَشْتَرُ مَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ، وَعَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، وَالْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ، ويزيدُ بْنُ قَيْسٍ وَمَعَهُمْ أَتْبَاعُهُمْ وَأَمْثَالٌ لَهُمْ لَيْسُوا دُونَهُمْ إِلا أَنَّهُمْ لَمْ يُؤَمَّرُوا، مِنْهُمْ حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ مَحْدُوجٍ الْبَكْرِيُّ، وَأَشْبَاهٌ لَهُمَا لَمْ يَكُنْ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ الرَّأْيِ غَيْرُهُمْ فَبَادَرُوا فِي الْوَقْعَةِ إِلا قَلِيلا، فَلَمَّا نَزَلُوا عَلَى ذِي قَارٍ دَعَا الْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو فَأَرْسَلَهُ إِلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَقَالَ لَهُ: الْقَ هذين الرجلين يا بن الحنظلية- وكان القعقاع من اصحاب النبي ص- فَادْعُهُمَا إِلَى الأُلْفَةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَعَظِّمْ عَلِيهِمَا الْفُرْقَةَ، وَقَالَ لَهُ: كَيْفَ أَنْتَ صَانِعٌ فِيمَا جَاءَكَ مِنْهُمَا مِمَّا لَيْسَ عِنْدَكَ فِيهِ وَصَاةٌ مِنِّي؟ فَقَالَ: نَلْقَاهُمْ بِالَّذِي أَمَرْتَ بِهِ، فَإِذَا جَاءَ مِنْهُمَا أَمْرٌ لَيْسَ عِنْدَنَا مِنْكَ فِيهِ رَأْيٌ اجْتَهَدْنَا الرَّأْيَ وَكَلَّمْنَاهُمْ عَلَى قَدْرِ مَا نَسْمَعُ وَنَرَى أَنَّهُ يَنْبَغِي. قَالَ: أَنْتَ لَهَا فَخَرَجَ الْقَعْقَاعُ حَتَّى قَدِمَ الْبَصْرَةَ، فَبَدَأَ بِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَسَلَّمَ عَلَيْهَا، وَقَالَ: أَيْ أُمَّهْ، مَا أَشْخَصَكِ وَمَا أَقْدَمَكِ هَذِهِ الْبَلْدَةَ؟ قَالَتْ: أَيْ بُنَيَّ، إِصْلاحٌ بَيْنَ النَّاسِ، قَالَ: فَابْعَثِي إِلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ حَتَّى تَسْمَعِي كَلامِي وَكَلامَهُمَا، فَبَعَثَتْ إِلَيْهِمَا فَجَاءَا، فَقَالَ: إِنِّي سَأَلْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ: مَا أَشْخَصَهَا وَأَقْدَمَهَا هَذِهِ الْبِلادَ؟ فَقَالَتْ: إِصْلاحٌ بَيْنَ النَّاسِ، فَمَا تَقُولانِ أَنْتُمَا؟ أَمُتَابِعَانِ أَمْ مُخَالِفَانِ؟ قَالا: مُتَابِعَانِ، قَالَ: فَأَخْبِرَانِي مَا وجه هذا الإصلاح؟ فو الله لَئِنْ عَرَفْنَا لَنُصْلِحَنَّ، وَلَئِنْ أَنْكَرْنَاهُ لا نُصْلِحُ قَالا: قَتَلَةَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّ هَذَا إِنْ تُرِكَ كَانَ تَرْكًا لِلْقُرْآنِ، وَإِنْ عمل به كان احياء لِلْقُرْآنِ. فَقَالَ: قَدْ قَتَلْتُمَا قَتَلَةَ عُثْمَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَأَنْتُمْ قَبْلَ قَتْلِهِمْ أَقْرَبُ إِلَى الاستقامة منكم اليوم، قتلتم ستمائه إِلا رَجُلا، فَغَضِبَ لَهُمْ سِتَّةُ آلافٍ، وَاعْتَزَلُوكُمْ

وَخَرَجُوا مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ، وَطَلَبْتُمْ ذَلِكَ الَّذِي أَفْلَتَ- يَعْنِي حُرْقُوصَ بْنَ زُهَيْرٍ- فَمَنَعَهُ سِتَّةُ آلافٍ وَهُمْ عَلَى رَجُلٍ، فَإِنْ تَرَكْتُمُوهُ كُنْتُمْ تَارِكِينَ لِمَا تَقُولُونَ، وَإِنْ قَاتَلْتُمُوهُمْ وَالَّذِينَ اعْتَزَلُوكُمْ فَأُدِيلُوا عَلَيْكُمْ فَالَّذِي حَذَرَتْمُ وَقَرَّبْتُمْ بِهِ هَذَا الأَمْرَ أَعْظَمُ مِمَّا أَرَاكُمْ تَكْرَهُونَ، وَأَنْتُمْ أَحْمَيْتُمْ مُضَرَ وَرَبِيعَةَ مِنْ هَذِهِ الْبِلادِ، فَاجْتَمَعُوا عَلَى حَرْبِكُمْ وَخِذْلانِكُمْ نُصْرَةً لِهَؤُلاءِ كَمَا اجْتَمَعَ هَؤُلاءِ لأَهْلِ هَذَا الْحَدَثِ الْعَظِيمِ وَالذَّنْبِ الْكَبِيرِ فَقَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ: فَتَقُولُ أَنْتَ مَاذَا؟ قَالَ: أَقُولُ هَذَا الأَمْرُ دَوَاؤُهُ التَّسْكِينُ، وَإِذَا سَكَنَ اخْتَلَجُوا، فَإِنْ أَنْتُمْ بَايَعْتُمُونَا فَعَلامَةُ خَيْرٍ وَتَبَاشِيرُ رَحْمَةٍ وَدَرْكٌ بِثَأْرِ هَذَا الرَّجُلِ، وَعَافِيَةٌ وَسَلامَةٌ لِهَذِه الأُمَّةِ، وَإِنْ أَنْتُمْ أَبَيْتُمْ إِلا مُكَابَرَةَ هَذَا الأَمْرِ وَاعْتِسَافِهِ، كَانَتْ عَلامَةَ شَرٍّ، وَذَهَابَ هَذَا الثَّأْرِ، وَبَعْثَةَ اللَّهِ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ هَزَاهِزُهَا، فَآثِرُوا الْعَافِيَةَ تُرْزَقُوهَا، وَكُونُوا مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ كَمَا كُنْتُمْ تَكُونُونَ، وَلا تُعَرِّضُونَا لِلْبَلاءِ وَلا تَعْرِضُوا لَهُ فَيَصْرَعَنَا وَإِيَّاكُمْ. وَايْمُ اللَّهِ إِنِّي لأَقُولُ هَذَا وَأَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ وَإِنِّي لَخَائِفٌ أَلا يَتِمَّ حَتَّى يَأْخُذَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَاجَتَهُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ الَّتِي قَلَّ مَتَاعُهَا وَنَزَلَ بِهَا مَا نَزَلَ، فَإِنَّ هَذَا الأَمْرَ الَّذِي حَدَثَ أَمْرٌ لَيْسَ يُقَدَّرُ، وَلَيْسَ كَالأُمُورِ، وَلا كَقَتْلِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ، وَلا النَّفَرِ الرَّجُلَ، وَلا الْقَبِيلَةِ الرَّجُلَ. فَقَالُوا: نَعَمْ، إِذًا قَدْ أَحْسَنْتَ وَأَصَبْتَ الْمَقَالَةَ، فَارْجِعْ فَإِنْ قَدِمَ عَلِيٌّ وَهُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِكَ صَلَحَ هَذَا الأَمْرُ فَرَجَعَ إِلَى عَلِيٍّ فَأَخْبَرَهُ فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ، وَأَشْرَفَ الْقَوْمُ عَلَى الصُّلْحِ، كَرِهَ ذَلِكَ مَنْ كَرِهَهُ، وَرَضِيَهُ مَنْ رَضِيَهُ. وَأَقْبَلَتْ وُفُودُ الْبَصْرَةِ نَحْوَ عَلِيٍّ حِينَ نَزَلَ بِذِي قَارٍ، فَجَاءَتْ وُفُودُ تَمِيمٍ وَبَكْرٍ قَبْلَ رَجُوعِ الْقَعْقَاعِ لِيَنْظُرُوا مَا رَأَى إِخْوَانُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَعَلَى أَيِّ حَالٍ نَهَضُوا إِلَيْهِمْ، وَلِيُعْلِمُوهُمْ أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ رَأْيُهُمُ الإِصْلاحَ، وَلا يَخْطُرُ لَهُمْ قِتَالٌ عَلَى بَالٍ فَلَمَّا لَقُوا عَشَائِرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ بِالَّذِي بَعَثَهُمْ فِيهِ عَشَائِرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَقَالَ لَهُمُ الْكُوفِيُّونَ مِثْلَ مَقَالَتِهِمْ، وَأَدْخَلُوهُمْ عَلَى عَلِيٍّ فَأَخْبَرُوهُ خَبَرَهُمْ، سَأَلَ عَلِيٌّ جرير بْنَ شرسٍ عَنْ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، فَأَخْبَرَهُ عَنْ

دَقِيقِ أَمْرِهِمَا وَجَلِيلِهِ حَتَّى تَمَثَّلَ لَهُ: أَلا أبلغ بني بكر رسولا ... فليس إلى بني كعب سبيل سيرجع ظلمكم منكم عليكم ... طويل السَّاعِدَيْنِ لَهُ فُضُولُ وَتَمَثَّلَ عَلِيٌّ عِنْدَهَا: أَلَمْ تَعْلَمْ أَبَا سَمْعَانَ أَنَّا ... نَرُدُّ الشَّيْخَ مِثْلَكَ ذا الصداع! ويذهل عقله بالحرب حتى ... يقوم فَيَسْتَجِيبَ لِغَيْرِ دَاعِ فَدَافِعْ عَنْ خُزَاعَةَ جَمْعَ بَكْرٍ ... وَمَا بِكَ يَا سُرَاقَةُ مِنْ دِفَاعِ قَالَ أَبُو جَعْفَر: أخرج إلي زياد بن أيوب كتابا فِيهِ أحاديث عن شيوخ ذكر أنه سمعها مِنْهُمْ، قرأ علي بعضها ولم يقرأ علي بعضها، فمما لم يقرأ علي من ذَلِكَ فكتبته مِنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُصْعَب بن سلام التميمي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن سوقة، عن عاصم بن كليب الجرمي، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رأيت فِيمَا يرى النائم فِي زمان عُثْمَان بن عَفَّانَ أن رجلا يلي أمور الناس مريضا عَلَى فراشه وعند رأسه امرأة، والناس يريدونه ويبهشون إِلَيْهِ، فلو نهتهم المرأة لانتهوا، ولكنها لم تفعل، فأخذوه فقتلوه فكنت أقص رؤياي عَلَى الناس فِي الحضر والسفر، فيعجبون وَلا يدرون مَا تأويلها! فلما قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أتانا الخبر ونحن راجعون من غزاتنا، فَقَالَ أَصْحَابنا: رؤياك يَا كليب. فانتهينا إِلَى الْبَصْرَة فلم نلبث إلا قليلا حَتَّى قيل: هَذَا طَلْحَة وَالزُّبَيْر مَعَهُمَا أم الْمُؤْمِنِينَ، فراع ذَلِكَ الناس وتعجبوا، فإذا هم يزعمون لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ إنما خرجوا غضبا لِعُثْمَانَ وتوبة مما صنعوا من خذلانه، وإن أم الْمُؤْمِنِينَ تقول: غضبنا لكم عَلَى عُثْمَانَ فِي ثلاث: إمارة الفتي، وموقع الغمامة، وضربة السوط والعصا، فما أنصفنا إن لم نغضب لَهُ عَلَيْكُمْ فِي ثلاث جررتموها إِلَيْهِ: حرمة الشهر، والبلد، والدم فَقَالَ الناس: أفلم تبايعوا عَلِيًّا وتدخلوا فِي أمره! فَقَالُوا: دخلنا

واللج عَلَى أعناقنا وقيل هَذَا علي قَدْ أظلكم، فَقَالَ قومنا لي ولرجلين معي: انطلقوا حَتَّى تأتوا عَلِيًّا وأَصْحَابه فسلوهم عن هَذَا الأمر الَّذِي قَدِ اختلط علينا، فخرجنا حَتَّى إذا دنونا من العسكر طلع علينا رجل جميل عَلَى بغلة، فقلت لصاحبي: أرأيتم المرأة الَّتِي كنت أحدثكم عنها إنها كَانَتْ عِنْدَ رأس الوالي؟ فإنها أشبه الناس بهذا، ففطن أنا نخوض فِيهِ، فلما انتهى إلينا قَالَ: قفوا، مَا الذي قلتم حين رأيتموني؟ فأبينا عَلَيْهِ، فصاح بنا وَقَالَ: وَاللَّهِ لا تبرحون حَتَّى تخبروني، فدخلتنا مِنْهُ هيبة، فأخبرناه فجاوزنا وَهُوَ يقول: وَاللَّهِ لقد رأيت عجبا، فقلنا لأدنى أهل العسكر إلينا: من هَذَا؟ فَقَالَ: مُحَمَّد بن أبي بكر، فعرفنا أن تِلَكَ المرأة عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فازددنا لأمرها كراهية، وانتهينا إِلَى علي فسلمنا عَلَيْهِ، ثُمَّ سألناه عن هَذَا الأمر، فَقَالَ: [عدا الناس عَلَى هَذَا الرجل وأنا معتزل فقتلوه، ثُمَّ ولوني وأنا كاره ولولا خشية عَلَى الدين لم أجبهم، ثُمَّ طفق هَذَانِ فِي النكث فأخذت عليهما وأخذت عهودهما عِنْدَ ذَلِكَ، وأذنت لهما فِي العمرة، فقدما عَلَى أمهما حليلة رَسُول الله ص فرضيا لها مَا رغبا لنسائهما عنه، وعرضاها لما لا يحل لهما وَلا يصلح، فاتبعتهما لكيلا يفتقوا فِي الإِسْلام فتقا، وَلا يخرقوا جماعة] . ثُمَّ قَالَ أَصْحَابه: وَاللَّهِ مَا نريد قتالهم إلا أن يقاتلوا وما خرجنا إلا لإصلاح فصاح بنا أَصْحَاب علي: بايعوا بايعوا، فبايع صاحبي، وأما أنا فأمسكت وقلت: بعثني قومي لأمر، فلا أحدث شَيْئًا حَتَّى أرجع إِلَيْهِم فَقَالَ علي: فإن لم يفعلوا؟ فقلت: لم أفعل، فَقَالَ: أرأيت لو أَنَّهُمْ بعثوك رائدا فرجعت إِلَيْهِم، فأخبرتهم عن الكلأ والماء فحالوا إِلَى المعاطش والجدوبة مَا كنت صانعا؟ قَالَ: قلت: كنت تاركهم ومخالفهم إِلَى الكلإ والماء، قال: فمد يدك، فو الله مَا استطعت أن أمتنع، فبسطت يدي فبايعته وَكَانَ يقول: علي من أدهى العرب وَقَالَ: مَا سمعت من طَلْحَة وَالزُّبَيْر؟ فقلت: أما الزُّبَيْر فإنه يقول: بايعنا كرها، وأما طَلْحَة فمقبل عَلَى أن يتمثل الأشعار، ويقول:

ألا أبلغ بني بكر رسولا ... فليس إلى بني كعب سبيل سيرجع ظلمكم منكم عليكم ... طويل الساعدين لَهُ فضول فَقَالَ: ليس كذلك، ولكن: ألم تعلم أبا سمعان أنا ... نصم الشيخ مثلك ذا الصداع ويذهل عقله بالحرب حَتَّى ... يقوم فيستجيب لغير داع ثُمَّ سار حَتَّى نزل إِلَى جانب الْبَصْرَة، وَقَدْ خندق طليحة وَالزُّبَيْر، فَقَالَ لنا أَصْحَابنا من أهل الْبَصْرَة: مَا سمعتم إخواننا من أهل الْكُوفَة يريدون ويقولون؟ فقلنا: يقولون خرجنا للصلح وما نريد قتالا، فبينا هم عَلَى ذَلِكَ لا يحدثون أنفسهم بغيره، إذ خرج صبيان العسكرين فتسابوا ثُمَّ تراموا، ثُمَّ تتابع عبيد العسكرين، ثُمَّ ثلث السفهاء، ونشبت الحرب، وألجأتهم إِلَى الخندق، فاقتتلوا عليه حتى اجلوا إِلَى موضع القتال، فدخل مِنْهُ أَصْحَاب علي وخرج الآخرون. [ونادى علي: أَلا لا تتبعوا مدبرا، وَلا تجهزوا عَلَى جريح، وَلا تدخلوا الدور، ونهى الناس، ثُمَّ بعث إِلَيْهِم أن اخرجوا للبيعة، فبايعهم عَلَى الرايات وَقَالَ: من عرف شَيْئًا فليأخذه، حَتَّى مَا بقي فِي العسكرين شَيْء إلا قبض،] فانتهى إِلَيْهِ قوم من قيس شباب، فخطب خطيبهم، فَقَالَ: أين أمراؤكم؟ فَقَالَ الخطيب: أصيبوا تحت نظار الجمل، ثُمَّ أخذ فِي خطبته، فَقَالَ علي: أما إن هَذَا لهو الخطيب السحسح وفرغ من البيعه، واستعمل عبد الله ابن عَبَّاسٍ وَهُوَ يريد أن يقيم حَتَّى يحكم أمرها، فأمرني الأَشْتَر أن أشتري لَهُ أثمن بعير بِالْبَصْرَةِ ففعلت، فَقَالَ: ائت بِهِ عَائِشَة، وأقرئها مني السلام، ففعلت، فدعت عَلَيْهِ وقالت: اردده عَلَيْهِ، فأبلغته، فَقَالَ: تلومني عَائِشَة أن أفلت ابن أختها! وأتاه الخبر باستعمال عَلِيّ ابن عباس فغضب وقال: علام قتلنا الشيخ! إذ اليمن لعبيد اللَّه، والحجاز لقثم، والبصرة لعبد اللَّه، والكوفة لعلي ثُمَّ دعا بدابته فركب راجعا وبلغ ذَلِكَ عَلِيًّا فنادى: الرحيل،

ثُمَّ أجد السير فلحق بِهِ فلم يره أنه قَدْ بلغه عنه وَقَالَ: مَا هَذَا السير؟ سبقتنا! وخشي إن ترك والخروج أن يوقع فِي أنفس الناس شرا. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وَطَلْحَةَ، قَالا: لَمَّا جَاءَتْ وُفُودُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ وَرَجَعَ الْقَعْقَاعُ مِنْ عِنْدِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ بِمِثْلِ رَأْيِهِمْ، جَمَعَ عَلِيٌّ النَّاسَ، ثُمَّ قَامَ عَلَى الْغَرَائِرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى النبي ص وَذَكَرَ الْجَاهِلِيَّةَ وَشَقَاءَهَا وَالإِسْلامَ وَالسَّعَادَةَ وَإِنْعَامِ اللَّهِ عَلَى الأُمَّةِ بِالْجَمَاعَةِ بِالْخَلِيفَةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ص، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، ثُمَّ حَدَثَ هَذَا الْحَدَثُ الَّذِي جَرَّهُ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ أَقْوَامٌ طَلَبُوا هَذِهِ الدُّنْيَا، حَسَدُوا مَنْ أَفَاءَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ عَلَى الْفَضِيلَةِ، وَأَرَادُوا رَدَّ الأَشْيَاءَ عَلَى أَدْبَارِهَا، وَاللَّهُ بَالِغٌ أَمْرَهُ، وَمُصِيبٌ مَا أَرَادَ أَلا وَإِنِّي رَاحِلٌ غَدًا فَارْتَحِلُوا، أَلا وَلا يَرْتَحِلَنَّ غدا احد اعان على عثمان بِشَيْءٍ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ، وَلْيُغْنِ السُّفَهَاءُ عَنِّي أَنْفُسَهُمْ. فَاجْتَمَعَ نَفَرٌ، مِنْهُمْ عِلْبَاءُ بْنُ الْهَيْثَمِ، وَعَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، وَسَالِمُ بْنُ ثَعْلَبَةَ الْعَبْسِيُّ، وَشُرَيْحُ بْنُ أَوْفَى بْنِ ضُبَيْعَةَ، وَالأَشْتَرُ، فِي عِدَّةٍ مِمَّنْ سَارَ إِلَى عُثْمَانَ. ورضى بسير من سار، وجاء معهم الْمِصْرِيُّونَ: ابْنُ السَّوْدَاءِ وَخَالِدُ بْنُ مُلْجِمٍ وَتَشَاوَرُوا، فَقَالُوا: مَا الرَّأْيُ؟ وَهَذَا وَاللَّهِ عَلِيٌّ، وَهُوَ أَبْصَرُ النَّاسِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَقْرَبُ مِمَّنْ يَطْلُبُ قَتَلَةَ عُثْمَانَ وَأَقْرَبُهُمْ إِلَى الْعَمَلِ بِذَلِكَ، وَهُوَ يَقُولُ مَا يَقُولُ، وَلَمْ يَنْفِرْ إِلَيْهِ إِلا هُمْ وَالْقَلِيلُ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَكَيْفَ بِهِ إِذَا شَامَ الْقَوْمَ وَشَامُوهُ، وَإِذَا رَأَوْا قِلَّتَنَا فِي كَثْرَتِهِمْ! أَنْتُمْ وَاللَّهِ تُرَادُونَ، وَمَا أَنْتُمْ بِأَنْجَى مِنْ شَيْءٍ فَقَالَ الأَشْتَرُ: أَمَّا طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ فَقَدْ عَرَفْنَا أَمْرَهُمَا، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَلَمْ نَعْرِفْ أَمْرَهُ حَتَّى كَانَ الْيَوْمُ، وَرَأْيُ النَّاسِ فِينَا وَاللَّهُ وَاحِدٌ، وَإِنْ يَصْطَلِحُوا وَعَلِيٌّ فَعَلَى دِمَائِنَا، فَهَلُمُّوا فَلْنَتَوَاثَبَ عَلَى عَلِيٍّ فَنُلْحِقَهُ بِعُثْمَانَ، فَتَعُودَ فِتْنَةً يُرْضَى مِنَّا فِيهَا بِالسُّكُونِ

فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّوْدَاءِ: بِئْسَ الرَّأْيُ رَأَيْتَ! أَنْتُمْ يَا قَتَلَةَ عُثْمَانَ مِنْ أَهْلِ الكوفه بذى قار الفان وخمسمائة او نحو من ستمائه، وَهَذَا ابْنُ الْحَنْظَلِيَّةِ وَأَصْحَابُهُ فِي خَمْسَةِ آلافٍ بِالأَشْوَاقِ إِلَى أَنْ يَجِدُوا إِلَى قِتَالِكُمْ سَبِيلا، فَارْقَأْ عَلَى ظلعك. وَقَالَ عِلْبَاءُ بْنُ الْهَيْثَمِ: انْصَرِفُوا بِنَا عَنْهُمْ وَدَعُوهُمْ، فَإِنْ قَلُّوا كَانَ أَقْوَى لِعَدُوِّهِمْ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَثُرُوا كَانَ أَحْرَى أَنْ يَصْطَلِحُوا عَلَيْكُمْ، دَعُوهُمْ وَارْجِعُوا فَتَعَلَّقُوا بِبَلَدٍ مِنَ الْبُلْدَانِ حَتَّى يَأْتِيَكُمْ فِيهِ مَنْ تَتَّقُونَ بِهِ، وَامْتَنِعُوا مِنَ النَّاسِ. فَقَالَ ابْنُ السَّوْدَاءِ: بِئْسَ مَا رَأَيْتَ! وَدَّ وَاللَّهِ النَّاسُ أَنَّكُمْ عَلَى جَدِيلَةٍ، وَلَمْ تَكُونُوا مَعَ أَقْوَامٍ براء، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الَّذِي تَقُولُ لَتَخَطَّفَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ. فَقَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: وَاللَّهِ مَا رَضِيتُ وَلا كَرِهْتُ، وَلَقَدْ عَجِبْتُ مِنْ تَرَدُّدِ مَنْ تَرَدَّدَ عَنْ قَتْلِهِ فِي خَوْضِ الْحَدِيثِ، فَأَمَّا إِذْ وَقَعَ مَا وَقَعَ وَنَزَلَ مِنَ النَّاسِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، فَإِنَّ لَنَا عَتَادًا مِنْ خُيُولٍ وَسِلاحٍ مَحْمُودًا، فَإِنْ أَقْدَمْتُمْ أَقْدَمْنَا وَإِنْ أَمْسَكْتُمْ أَحْجَمْنَا فَقَالَ ابْنُ السَّوْدَاءِ: أَحْسَنْتَ! وَقَالَ سَالمُ بْنُ ثَعْلَبَةَ: مَنْ كَانَ أَرَادَ بِمَا أَتَى الدُّنْيَا فَإِنِّي لَمْ أُرِدْ ذَلِكَ، وَاللَّهِ لَئِنْ لَقِيتُهُمْ غَدًا لا أَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي، وَلَئِنْ طَالَ بَقَائِي إِذَا أَنَا لاقَيْتُهُمْ لا يَزِدْ عَلَى جَزْرِ جَزُورٍ وَأَحْلِفُ بِاللَّهِ إِنَّكُمْ لَتَفْرِقُونَ السُّيُوفَ فَرْقَ قَوْمٍ لا تَصِيرُ أُمُورُهُمْ إلا إِلَى السَّيْفِ فَقَالَ ابْنُ السَّوْدَاءِ: قَدْ قَالَ قَوْلا. وَقَالَ شُرَيْحُ بْنُ أَوْفَى: أَبْرِمُوا أُمُورَكُمْ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجُوا، وَلا تُؤَخِّرُوا أَمْرًا يَنْبَغِي لَكُمْ تَعْجِيلُهُ، وَلا تُعَجِّلُوا أَمْرًا يَنْبَغِي لَكُمْ تَأْخِيرُهُ، فَإِنَّا عِنْدَ النَّاسِ بِشَرِّ الْمَنَازِلِ، فَلا أَدْرِي مَا النَّاسُ صَانِعُونَ غَدًا إِذَا ما هم التقوا! وتكلم ابْنُ السَّوْدَاءِ فَقَالَ: يَا قَوْمُ، إِنَّ عِزَّكُمْ فِي خُلْطَةِ النَّاسِ، فَصَانِعُوهُمْ، وَإِذَا الْتَقَى النَّاسُ غَدًا فَأَنْشِبُوا الْقِتَالَ، وَلا تُفَرِّغُوهُمْ لِلنَّظَرِ، فَإِذَا مَنْ أَنْتُمْ مَعَهُ لا يَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ يَمْتَنِعَ، ويشغل اللَّهُ عَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَمَنْ رَأَى رَأْيَهُمْ عَمَّا تَكْرَهُونَ فَأَبْصِرُوا الرَّأْيَ، وَتَفَرَّقُوا عَلَيْهِ وَالنَّاسُ لا يَشْعُرُونَ. وَأَصْبَحَ عَلِيٌّ عَلَى ظَهْرٍ، فَمَضَى وَمَضَى النَّاسُ حَتَّى إِذَا انْتَهَى إِلَى عَبْدِ الْقَيْسِ نَزَلَ بِهِمْ وَبِمَنْ خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَهُمْ أَمَامَ ذَلِكَ، ثم ارتحل

حَتَّى نَزَلَ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ وَهُمْ أَمَامَ ذَلِكَ، وَالنَّاسُ مُتَلاحِقُونَ بِهِ وَقَدْ قَطَعَهُمْ، وَلَمَّا بَلَغَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ رَأْيُهُمْ وَنَزَلَ عَلِيٌّ بِحَيْثُ نزل، قام ابو الجرباء الى الزبير ابن الْعَوَّامِ فَقَالَ: إِنَّ الرَّأْيَ أَنْ تَبْعَثَ الآنَ أَلْفَ فَارِسٍ فَيُمَسُّوا هَذَا الرَّجُلَ وَيُصَبِّحُوهُ قَبْلَ أَنْ يُوَافِيَ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: يَا أَبَا الْجَرْبَاءِ، إِنَّا لَنَعْرِفُ أُمُورَ الْحَرْبِ، وَلَكِنَّهُمْ أَهْلُ دَعْوَتِنَا، وَهَذَا أَمْرٌ حَدَثَ فِي أَشْيَاءَ لَمْ تَكُنْ قَبْلَ الْيَوْمِ، هَذَا أَمْرٌ مَنْ لَمْ يَلْقَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ بِعُذْرٍ انْقَطَعَ عُذْرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ إِنَّهُ قَدْ فَارَقَنَا وَافِدُهُمْ عَلَى أَمْرٍ، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يَتِمَّ لَنَا الصُّلْحُ، فَأَبْشِرُوا وَاصْبِرُوا وَأَقْبَلَ صَبْرَةُ بْنُ شَيْمَانَ فَقَالَ: يَا طَلْحَةُ، يَا زُبَيْرُ، انتهز ابنا هَذَا الرَّجُلَ فَإِنَّ الرَّأْيَ فِي الْحَرْبِ خَيْرٌ مِنَ الشِّدَّةِ فَقَالا: يَا صَبْرَةُ إِنَّا وَهُمْ مُسْلِمُونَ، وَهَذَا أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الْيَوْمِ فَيَنْزِلُ فِيهِ قُرْآنٌ، أَوْ يَكُونُ فِيهِ مِنْ رسول الله ص سُنَّةٌ، إِنَّمَا هُوَ حَدَثٌ وَقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ لا يَنْبَغِي تَحْرِيكُهُ الْيَوْمَ. وَهُمْ عَلِيٌّ وَمَنْ مَعَهُ، فَقُلْنَا: نَحْنُ لا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتْرُكَهُ الْيَوْمَ وَلا نُؤَخِّرَهُ فَقَالَ عَلِيٌّ: هَذَا الَّذِي نَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنْ إِقْرَارِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ شَرٌّ وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ شَرٍّ مِنْهُ، وَهُوَ كَأَمْرٍ لا يُدْرَكُ، وَقَدْ كَادَ أَنْ يَبِينَ لَنَا، وَقَدْ جَاءَتِ الأَحْكَامُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِإِيثَارِ أَعَمِّهَا مَنْفَعَةً وَأَحْوَطِهَا وَأَقْبَلَ كَعْبُ بْنُ سُورٍ فَقَالَ: مَا تَنْتَظِرُونَ يَا قَوْمُ بَعْدُ تُورِدُكُمْ أَوَائِلَهُمْ! اقْطَعُوا هَذَا الْعُنُقَ مِنْ هَؤُلاءِ فَقَالُوا: يَا كَعْبُ، إِنَّ هَذَا أَمْرٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا، وَهُوَ أَمْرٌ مُلْتَبِسٌ، لا وَاللَّهِ ما أخذ اصحاب محمد ص مُذْ بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ طَرِيقًا إِلا عَلِمُوا أَيْنَ مَوَاقِعُ أَقْدَامِهِمْ، حَتَّى حَدَثَ هَذَا فَإِنَّهُمْ لا يَدْرُونَ أَمُقْبِلُونَ هُمْ أَمْ مُدْبِرُونَ! إِنَّ الشَّيْءَ يَحْسُنُ عِنْدَنَا الْيَوْمَ وَيَقْبُحُ عِنْدَ إِخْوَانِنَا، فَإِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ قَبُحَ عِنْدَنَا وَحَسُنَ عِنْدَهُمْ، وَإِنَّا لَنَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِالْحُجَّةِ فَلا يَرَوْنَهَا حُجَّةً، ثُمَّ يَحْتَجُّونَ بِهَا عَلَى أَمْثَالِهَا، وَنَحْنُ نَرْجُو الصُّلْحَ إِنْ أَجَابُوا إِلَيْهِ وَتَمُّوا، وَإِلا فَإِنَّ آخِرَ الدَّوَاءِ الْكَيُّ. وَقَامَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَقْوَامٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ يَسْأَلُونَهُ عَنْ إِقْدَامِهِمْ عَلَى الْقَوْمِ، فَقَامَ إِلَيْهِ فِيمَنْ قَامَ الأَعْوَرُ بْنُ بَنَّانٍ الْمِنْقَرِيُّ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: عَلَى الإِصْلاحِ وَإِطْفَاءِ النَّائِرَةِ، لَعَلَّ اللَّهَ يَجْمَعُ شَمْلَ هَذِهِ الأُمَّةِ بِنَا وَيَضَعُ حَرْبَهُمْ، وَقَدْ أَجَابُونِي، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يُجِيبُونَا؟ قَالَ: تَرَكْنَاهُمْ مَا تَرَكُونَا، قَالَ: فان

لَمْ يَتْرُكُونَا؟ قَالَ: دَفَعْنَاهُمْ عَنْ أَنْفُسِنَا، قَالَ: فَهَلْ لَهُمْ مِثْلُ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ وَقَامَ إِلَيْهِ أَبُو سَلامَةَ الدَّالانِيُّ فَقَالَ: أَتَرَى لِهَؤُلاءِ الْقَوْمِ حُجَّةً فِيمَا طَلَبُوا مِنْ هَذَا الدَّمِ، إِنْ كَانُوا أَرَادُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَتَرَى لَكَ حُجَّةً بِتَأْخِيرِكَ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ لا يُدْرَكُ فَالْحُكْمُ فِيهِ أَحْوَطُهُ وَأَعَمُّهُ نَفْعًا، قَالَ: فَمَا حَالُنَا وَحَالُكُمْ إِنِ ابْتُلِينَا غَدًا؟ قَالَ: إِنِّي لأَرْجُو أَلا يُقْتَلَ أَحَدٌ نَقَّى قَلْبَهُ لِلَّهِ مِنَّا وَمِنْهُمْ إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ. وَقَامَ إِلَيْهِ مَالِكُ بْنُ حَبِيبٍ، فَقَالَ: مَا أَنْتَ صَانِعٌ إِذَا لَقِيتَ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ؟ قَالَ: قَدْ بَانَ لَنَا وَلَهُمْ أَنَّ الإِصْلاحَ الْكَفُّ عَنْ هَذَا الأَمْرِ، فَإِنْ بَايَعُونَا فَذَلِكَ، فَإِنْ أَبَوْا وَأَبَيْنَا إِلا الْقِتَالَ فَصَدْعٌ لا يَلْتَئِمُ، قَالَ: فَإِنِ ابْتُلِينَا فَمَا بَالُ قَتْلانَا؟ قَالَ: مَنْ أَرَادَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَفَعَهُ ذَلِكَ وَكَانَ نَجَاءَهُ وَقَامَ عَلِيٌّ، فَخَطَبَ النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: يَا ايها الناس، املكوا انفسكم، كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَلْسِنَتَكُمْ عَنْ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ، فَإِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَاصْبِرُوا عَلَى مَا يَأْتِيكُمْ، وَإِيَّاكُمْ أَنْ تَسْبِقُونَا فَإِنَّ الْمَخْصُومَ غَدًا مَنْ خُصِمَ الْيَوْمَ. ثُمَّ ارْتَحَلَ وَأَقْدَمَ وَدَفَعَ تَعْبِيتَهُ الَّتِي قَدِمَ فِيهَا حَتَّى إِذَا أَطَلَّ عَلَى الْقَوْمِ بَعَثَ إِلَيْهِمْ حَكِيمَ بْنَ سَلامَةَ وَمَالِكَ بْنَ حَبِيبٍ: إِنْ كُنْتُمْ عَلَى مَا فَارَقْتُمْ عَلَيْهِ الْقَعْقَاعَ ابن عَمْرٍو فَكُفُّوا وَأَقِرُّونَا نَنْزِلُ وَنَنْظُرُ فِي هَذَا الأَمْرِ. فَخَرَجَ إِلَيْهِ الأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ وَبَنُو سعد مشمرين، قد منعوا حرقوص ابن زُهَيْرٍ، وَلا يَرَوْنَ الْقِتَالَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: يَا عَلِيُّ، إِنَّ قَوْمَنَا بِالْبَصْرَةِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ إِنْ ظَهَرْتَ عَلَيْهِمْ غَدًا إِنَّكَ تَقْتُلُ رِجَالَهُمْ وَتُسْبِي نِسَاءَهُمْ. [فَقَالَ: مَا مِثْلِي يُخَافُ هَذَا مِنْهُ، وَهَلْ يَحِلُّ هَذَا إِلا مِمَّنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قول الله عز وجل: «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ. إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ» ، وَهُمْ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ!] هَلْ أَنْتَ مُغْنٍ عَنِّي قَوْمَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ،

وَاخْتَرْ مِنِّي وَاحِدَةً مِنْ ثِنْتَيْنِ، إِمَّا أَنْ أَكُونَ آتِيكَ فَأَكُونَ مَعَكَ بِنَفْسِي، وَإِمَّا أَنْ أَكُفَّ عَنْكَ عَشَرَةَ آلافِ سَيْفٍ فَرَجَعَ إِلَى النَّاسِ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْقُعُودِ وَقَدْ بَدَأَ فَقَالَ: يال خندف، فأجابه ناس، ثم نادى يال تميم! فأجابه ناس، ثم نادى: يال سعد، فَلَمْ يَبْقَ سَعْدِيٌّ إِلا أَجَابَهُ، فَاعْتَزَلَ بِهِمْ، ثُمَّ نَظَرَ مَا يَصْنَعُ النَّاسُ، فَلَمَّا وَقَعَ الْقِتَالُ وَظَفَرَ عَلِيٌّ جَاءُوا وَافِرِينَ، فَدَخَلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْوِيهِ الْمُحَدِّثُونَ مِنْ أَمْرِ الأَحْنَفِ، فَغَيْرُ مَا رَوَاهُ سَيْفٌ عَمَّنْ ذَكَرَ مِنْ شُيُوخِهِ وَالَّذِي يَرْوِيهِ الْمُحَدِّثُونَ مِنْ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ حُصَيْنًا يَذْكُرُ عَنْ عَمْرِو بْنِ جَاوَانَ، عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَنَحْنُ نُرِيدُ الْحَجَّ، فَإِنَّا لَبِمَنَازِلِنَا نَضَعُ رِحَالَنَا إِذْ أَتَانَا آتٍ فَقَالَ: قَدْ فَزِعُوا وَقَدِ اجْتَمَعُوا فِي الْمَسْجِدِ، فَانْطَلَقْنَا فَإِذَا النَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَى نَفَرٍ فِي وَسَطِ الْمَسْجِدِ، وَإِذَا عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ وَطَلْحَةُ وسعد بن ابى وقاص، وانا لكذلك إِذْ جَاءَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، فَقِيلَ: هَذَا عُثْمَانُ قَدْ جَاءَ وَعَلَيْهِ مُلَيْئَةٌ لَهُ صَفْرَاءُ قَدْ قَنَّعَ بِهَا رَأْسَهُ، فَقَالَ: أَهَاهُنَا عَلِيٌّ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: أَهَاهُنَا الزُّبَيْرُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: أَهَاهُنَا طَلْحَةُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ، [أَتَعْلَمُون ان رسول الله ص قَالَ: مَنْ يَبْتَعْ مِرْبَدَ بَنِي فُلانٍ غَفَرَ الله له، فابتعته بعشرين او بخمسه وعشرين ألفا، فأتيت النبي ص فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدِ ابْتَعْتُهُ، قَالَ: اجْعَلْهُ فِي مَسْجِدِنَا وَأَجْرُهُ لَكَ!] قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ قَالَ الأَحْنَفُ: فَلَقِيتُ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ فَقُلْتُ: مَنْ تَأْمُرَانِي بِهِ وَتَرْضَيَانِهِ لِي؟ فَإِنِّي لا أَرَى هَذَا الرَّجُلَ إِلا مَقْتُولا، قَالا: عَلِيٌّ؟ قُلْتُ: أَتَأْمُرَانِي بِهِ وَتَرْضَيَانِهِ لِي؟ قَالا: نَعَمْ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى قَدِمْتُ مَكَّةَ، فَبَيْنَا نَحْنُ بِهَا إِذْ أَتَانَا قَتْلُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِهَا عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَلَقِيتُهَا فَقُلْتُ: مَنْ تَأْمُرِينِي أَنْ أُبَايِعَ؟ قَالَتْ: عَلِيٌّ، قُلْتُ: تَأْمُرِينَنِي بِهِ وَتَرْضِينَهُ

لِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَمَرَرْتُ عَلَى عَلِيٍّ بِالْمَدِينَةِ فَبَايَعْتُهُ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى أَهْلِي بِالْبَصْرَةِ وَلا أَرَى الأَمْرَ إِلا قَدِ اسْتَقَامَ، قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ، إِذْ آتَانِي آتٍ فَقَالَ: هَذِهِ عَائِشَةُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ قَدْ نَزَلُوا جَانِبَ الْخُرَيْبَةِ، فَقُلْتُ: مَا جَاءَ بِهِمْ؟ قَالُوا: أَرْسَلُوا إِلَيْكَ يَدْعُونَكَ يَسْتَنْصِرُونَ بِكَ عَلَى دَمِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَتَانِي أَفْظَعُ أَمْرٍ أَتَانِي قَطُّ! فَقُلْتُ: إِنَّ خُذْلانِي هَؤُلاءِ وَمَعَهُمْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وحوارى رسول الله ص لَشَدِيدٌ، وَإِنَّ قِتَالِي رَجُلا ابْنَ عَمِّ رَسُولَ الله ص قَدْ أَمَرُونِي بِبَيْعَتِهِ لَشَدِيدٌ فَلَمَّا أَتَيْتُهُمْ قَالُوا: جِئْنَا لِنَسْتَنْصِرَ عَلَى دَمِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قُتِلَ مَظْلُومًا، فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْشُدُكِ بِاللَّهِ أَقُلْتُ لَكِ: مَنْ تَأْمُرِينِي بِهِ؟ فقلت: على؟ فقلت: اتامريننى بِهِ وَتَرْضِينَهُ لِي؟ قُلْتِ نَعَمْ! قَالَتْ: نَعَمْ، وَلَكِنَّهُ بَدَّلَ فَقُلْتُ: يَا زُبَيْرُ يَا حَوَارِيَّ رسول الله ص، يَا طَلْحَةُ، أَنْشُدُكُمَا اللَّهَ، أَقُلْتُ لَكُمَا: مَا تَأْمُرَانِي فَقُلْتُمَا: عَلِيٌّ؟ فَقُلْتُ: أَتَأْمُرَانِي بِهِ وَتَرْضَيَانِهِ لِي؟ فَقُلْتُمَا نَعَمْ! قَالا: نَعَمْ، وَلَكِنَّهُ بَدَّلَ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لا أُقَاتِلُكُمْ وَمَعَكُمْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وحوارى رسول الله ص وَلا أُقَاتِلُ رَجُلا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ ص، أَمَرْتُمُونِي بِبَيْعَتِهِ، اخْتَارُوا مِنِّي وَاحِدَةً مِنْ ثَلاثِ خِصَالٍ: إِمَّا أَنْ تَفْتَحُوا لِي الْجِسْرَ فَأَلْحَقَ بِأَرْضِ الأَعَاجِمِ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَمْرِهِ مَا قَضَى، أَوْ أَلْحَقُ بِمَكَّةَ فَأَكُونُ فِيهَا حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَمْرِهِ مَا قَضَى، أَوْ أَعْتَزِلَ فَأَكُونُ قَرِيبًا. قَالُوا: إِنَّا نَأْتَمِرُ، ثُمَّ نُرْسِلُ إِلَيْكَ فَائْتَمَرُوا فَقَالُوا: نَفْتَحُ لَهُ الْجِسْرَ وَيُخْبِرُهُمْ بِأَخْبَارِكُمْ! ليس ذاكم براى، اجعلوه هاهنا قَرِيبًا حَيْثُ تَطَئُونَ عَلَى صِمَاخِهِ وَتَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَاعْتَزَلَ بِالْجَلْحَاءِ مِنَ الْبَصْرَةِ عَلَى فَرْسَخَيْنِ، فَاعْتَزَلَ مَعَهُ زُهَاءً عَلَى سِتَّةِ آلافٍ. ثُمَّ الْتَقَى الْقَوْمُ فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ طَلْحَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَعْبُ بْنُ سُورٍ مَعَهُ الْمُصْحَفُ يُذَكِّرُ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ، حَتَّى قُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، وَلَحِقَ الزُّبَيْرُ بِسَفَوَانَ، مِنَ الْبَصْرَةِ كَمَكَانِ الْقَادِسِيَّةِ مِنْكُمْ، فَلَقِيَهُ النَّعْرُ، رَجُلٌ مِنْ مُجَاشِعٍ، فَقَالَ: اين تذهب يا حوارى رسول الله ص؟ إِلَيَّ فَأَنْتَ فِي ذِمَّتِي لا يُوصَلُ إِلَيْكَ، فَأَقْبَلَ مَعَهُ، فَأَتَى الأَحْنَفَ خَبْرُهُ فَقِيلَ: ذَاكَ الزُّبَيْرُ قَدْ لُقِيَ

بعثه على بن ابى طالب من ذي قار ابنه الحسن وعمار بن ياسر ليستنفرا له اهل الكوفه

بِسَفَوَانَ فَمَا تَأْمُرُ؟ قَالَ: جَمَعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى ضَرَبَ بَعْضَهُمْ حَوَاجِبَ بَعْضٍ بِالسُّيُوفِ ثُمَّ يَلْحَقُ بِبَيْتِهِ، فَسَمِعَهُ عُمَيْرُ بْنُ جُرْمُوزٍ وَفَضَالَةُ بْنُ حَابِسٍ، وَنُفَيْعٌ، فَرَكِبُوا فِي طَلَبِهِ، فَلَقُوهُ مَعَ النَّعْرِ، فَأَتَاهُ عُمَيْرُ بْنُ جُرْمُوزٍ مِنْ خَلْفِهِ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لَهُ ضَعِيفَةٍ، فَطَعَنَهُ طَعْنَةً خَفِيفَةً، وَحَمَلَ عَلَيْهِ الزُّبَيْرُ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ ذُو الْخِمَارِ، حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ قَاتِلُهُ نَادَى عُمَيْرُ بْنُ جُرْمُوزٍ: يَا نَافِعُ، يَا فَضَالَةُ، فَحَمَلُوا عَلَيْهِ فقتلوه. حدثنى يعقوب بن ابراهيم، قال: معتمر بن سليمان، قال: نبانى أَبِي، عَنْ حُصَيْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ جَاوَانَ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، وَذَاكَ أَنِّي قُلْتُ لَهُ: أَرَأَيْتَ اعْتِزَالَ الأَحْنَفِ مَا كَانَ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ الأَحْنَفَ يَقُولُ: أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ وَأَنَا حَاجٌّ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا قَضَى وَحَكَمَ . بَعْثَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ ذِي قَارٍ ابْنَهُ الْحَسَنَ وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ لِيَسْتَنْفِرَا لَهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، قَالَ: حدثنا بشير ابن عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجَ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ إِلَى عَلِيٍّ بِالرَّبَذَةِ، فَأَخْبَرَهُ بِقُدُومِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَقَوْلِ أَبِي مُوسَى، فَقَالَ: لَقَدْ أَرَدْتُ عَزْلَهُ، وَسَأَلَنِي الأَشْتَرُ أَنْ أُقَرَّهُ فَرَدَّ عَلِيٌّ هَاشِمًا إِلَى الْكُوفَةِ وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى: إِنِّي وَجَّهْتُ هَاشِمَ بْنَ عُتْبَةَ لِيَنَهْضَ مَنْ قِبَلَكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيَّ، فَأَشْخِصِ النَّاسَ فَإِنِّي لَمْ أُوَلِّكَ الَّذِي أَنْتَ بِهِ إِلا لِتَكُونَ مِنْ أَعْوَانِي عَلَى الْحَقِّ فَدَعَا أَبُو مُوسَى السَّائِبَ بْنَ مَالِكٍ الأَشْعَرِيَّ، فَقَالَ لَهُ: مَا تَرَى؟ قَالَ: أَرَى أَنْ تَتَّبِعَ مَا كَتَبَ بِهِ إِلَيْكَ، قَالَ: لَكِنِّي لا أَرَى ذَلِكَ فَكَتَبَ هَاشِمٌ إِلَى عَلِيٍّ: إِنِّي قَدْ قَدِمْتُ عَلَى رَجُلٍ غَالٍّ مُشَاقٍّ ظَاهِرِ الْغِلِّ وَالشَّنَآنِ وَبَعَثَ بِالْكِتَابِ مَعَ الْمُحِلِّ بْنِ خَلِيفَةَ الطَّائِيِّ فَبَعَثَ عَلِيٌّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ يَسْتَنْفِرَانِ لَهُ النَّاسَ، وَبَعَثَ قَرَظَةَ بْنَ كَعْبٍ الأَنْصَارِيَّ أَمِيرًا عَلَى الْكُوفَةِ،

نزول على الزاوية من البصره

وَكَتَبَ مَعَهُ: إِلَى أَبِي مُوسَى: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَنَّ بُعْدَكَ مِنْ هَذَا الأَمْرِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَكَ مِنْهُ نَصِيبًا سَيَمْنَعُكَ مِنْ رَدِّ أَمْرِي، وَقَدْ بَعَثْتُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ يَسْتَنْفِرَانِ النَّاسَ، وَبَعَثْتُ قَرَظَةَ بْنَ كَعْبٍ وَالِيًا عَلَى الْمِصْرِ، فَاعْتَزِلْ عَمَلَنَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَإِنِّي قَدْ أَمَرْتُهُ أَنْ ينابذك، فان نابذته فظفر بِكَ أَنْ يُقَطِّعَكَ آرَابًا. فَلَمَّا قَدِمَ الْكِتَابُ عَلَى أَبِي مُوسَى اعْتَزَلَ، وَدَخَلَ الْحَسَنُ وَعَمَّارٌ الْمَسْجِدَ فَقَالا: أَيُّهَا النَّاسُ، [إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُ: إِنِّي خَرَجْتُ مَخْرَجِي هَذَا ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، وَإِنِّي أُذَكِّرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَجُلا رَعَى لِلَّهِ حَقًّا إِلا نَفَرَ، فَإِنْ كُنْتُ مَظْلُومًا أَعَانَنِي، وَإِنْ كُنْتُ ظَالِمًا أَخَذَ مِنِّي، وَاللَّهِ إِنَّ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ لأَوَّلُ مَنْ بَايَعَنِي، وَأَوَّلُ مَنْ غَدَرَ، فَهَلِ اسْتَأْثَرْتُ بِمَالٍ، أَوْ بَدَّلْتُ حُكْمًا! فَانْفُرُوا، فَمُرُوا بِمَعْرُوفٍ وَانْهَوْا عَنْ مُنْكَرٍ] . حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: يَأْتِيكُمْ مِنَ الْكُوفَةِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفِ رَجُلٍ وَرَجُلٌ، فَقَعَدْتُ عَلَى نَجَفَةِ ذِي قَارٍ، فَأَحْصَيْتُهُمْ فَمَا زَادُوا رَجُلا، وَلا نَقَصُوا رَجُلا. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، عَنْ بَشِيرِ بن عاصم، عن ابن أبي ليلى، عن أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجَ إِلَى عَلِيٍّ اثْنَا عَشَرَ أَلْفِ رَجُلٍ، وَهُمْ أَسْبَاعٌ: عَلَى قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ وَأَسَدٍ وَتَمِيمٍ وَالرَّبَابِ وَمُزَيْنَةَ مَعْقَلُ بْنُ يَسَارٍ الرِّيَاحِيُّ، وَسَبْعُ قَيْسٍ عَلَيْهِمْ سَعْدُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَسَبْعُ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ وَتَغْلِبَ عَلَيْهِمْ وعله بن مخدوج الذهلي، وسبع مذحج والاشعرين عليهم حجر ابن عَدِيٍّ، وَسَبْعُ بُجَيْلَةَ وَأَنْمَارٍ وَخَثْعَمٍ وَالأَزْدِ عَلَيْهِمْ مِخْنَفُ بْنُ سُلَيْمٍ الأَزْدِيُّ. نُزُولُ عَلِيٍّ الزَّاوِيَةَ مِنَ الْبَصْرَةِ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، عن مسلمة بن محارب، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: نَزَلَ عَلِيٌّ الزَّاوِيَةَ وَأَقَامَ أَيَّامًا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الأَحْنَفُ: إِنْ

شِئْتَ أَتَيْتُكَ، وَإِنْ شِئْتَ كَفَفْتُ عَنْكَ أَرْبَعَةَ آلافِ سَيْفٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ: كَيْفَ بِمَا أَعْطَيْتَ أَصْحَابَكَ مِنَ الاعْتِزَالِ! قَالَ: إِنَّ مِنَ الْوَفَاءِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قِتَالَهُمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: كُفَّ مَنْ قَدَرْتَ عَلَى كَفِّهِ ثُمَّ سَارَ عَلِيٌّ مِنَ الزَّاوِيَةِ، وسَارَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَائِشَةُ مِنَ الْفُرْضَةِ، فَالْتَقَوْا عِنْدَ مَوْضِعِ قَصْرِ عُبَيْدِ اللَّهِ- أَوْ عَبْدِ اللَّهِ- بْنِ زِيَادٍ، فَلَمَّا نَزَلَ النَّاسُ أَرْسَلَ شَقِيقُ بْنُ ثَوْرٍ إِلَى عمرو بن مرحوم الْعَبْدِيِّ: أَنِ اخْرُجْ، فَإِذَا خَرَجْتَ فَمِلْ بِنَا إِلَى عَسْكَرِ عَلِيٍّ فَخَرَجَا فِي عَبْدِ الْقَيْسِ وَبَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، فَعَدَلُوا إِلَى عَسْكَرِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ النَّاسُ: مَنْ كَانَ هَؤُلاءِ مَعَهُ غَلَبَ، وَدَفَعَ شَقِيقُ بْنُ ثَوْرٍ رَايَتَهُمْ إِلَى مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ: رَشْرَاشَةَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ وَعْلَةُ بْنُ مَحْدُوجٍ الذُّهْلِيُّ: ضَاعَتِ الأَحْسَابُ، دَفَعْتَ مَكْرُمَةَ قَوْمِكَ إِلَى رَشْرَاشَةَ، فَأَرْسَلَ شَقِيقٌ: أَنْ أَغْنِ شَأْنَكَ، فَإِنَّا نُغْنِي شَأْنَنَا فَأَقَامُوا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، يُرْسِلُ إِلَيْهِمْ على، ويكلمهم ويردعهم. حدثنا عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَارَ عَلِيٌّ مِنَ الزَّاوِيَةِ يُرِيدُ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَعَائِشَةَ، وَسَارُوا مِنَ الْفُرْضَةِ يُرِيدُونَ عَلِيًّا، فَالْتَقَوْا عِنْدَ مَوْضِعِ قَصْرِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ فِي النِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلاثِينَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ خَرَجَ الزُّبَيْرُ عَلَى فَرَسٍ عَلَيْهِ سِلاحٌ، فَقِيلَ لِعَلِيٍّ: هَذَا الزُّبَيْرُ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ أَحْرَى الرَّجُلَيْنِ إِنْ ذُكِّرَ بِاللَّهِ أَنْ يَذْكُرَهُ، وَخَرَجَ طَلْحَةُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا عَلِيٌّ، فَدَنَا مِنْهُمَا حَتَّى اخْتَلَفَتْ أَعْنَاقُ دَوَابِّهِمْ، [فَقَالَ عَلِيٌّ: لَعَمْرِي لَقَدْ أَعْدَدْتُمَا سِلاحًا وَخَيْلا وَرِجَالا، إِنْ كُنْتُمَا أَعْدَدْتُمَا عِنْدَ اللَّهِ عُذْرًا فَاتَّقِيَا اللَّهَ سُبْحَانَهُ، وَلا تَكُونَا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً أَلَمْ أَكُنْ أَخَاكُمَا فِي دِينِكُمَا، تُحَرِّمَانِ دَمِي وَأُحَرِّمُ دَمَاءَكُمَا! فَهَلْ مِنْ حَدَثٍ أَحَلَّ لَكُمَا دَمِي؟ قَالَ: طَلْحَةُ: أَلَّبْتَ النَّاسَ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ عَلِيٌّ: «يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ» ، يَا طَلْحَةُ، تَطْلَبُ

بِدَمِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ! فَلَعَنَ اللَّهُ قَتَلَةَ عُثْمَانَ] [يَا زُبَيْرُ، أَتَذْكُرُ يَوْمَ مَرَرْتَ مع رسول الله ص فِي بَنِي غَنْمٍ، فَنَظَرَ إِلَيَّ فَضَحِكَ وَضَحِكْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: لا يَدَعُ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ زهوه، فقال لك رسول الله ص: صَهْ، إِنَّهُ لَيْسَ بِهِ زَهْوٌ، وَلَتُقَاتِلَنَّهُ وَأَنْتَ لَهُ ظَالِمٌ؟] فَقَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، وَلَوْ ذَكَرْتُ مَا سِرْتُ مَسِيرِي هَذَا، وَاللَّهِ لا أُقَاتِلُكَ أَبَدًا. فَانْصَرَفَ عَلِيٌّ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَمَّا الزُّبَيْرُ فَقَدْ أَعْطَى اللَّهَ عَهْدًا أَلا يُقَاتِلَكُمْ، وَرَجَعَ الزُّبَيْرُ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَ لَهَا: مَا كُنْتُ فِي مَوْطِنٍ مُنْذُ عَقِلْتُ إِلا وَأَنَا أَعْرِفُ فِيهِ أَمْرِي غَيْرَ مَوْطِنِي هَذَا، قَالَتْ: فَمَا تُرِيدُ أَنْ تَصْنَعَ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ أَدَعَهُمْ وَأَذْهَبُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ: جَمَعْتَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْغَارَيْنِ، حَتَّى إِذَا حَدَّدَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَرَدْتَ أَنْ تَتْرُكَهُمْ وَتَذْهَبَ! أَحْسَسْتَ رَايَاتِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَلِمْتَ أَنَّهَا تَحْمِلُهَا فِتْيَةٌ أَنْجَادٌ، قَالَ: إِنِّي قَدْ حَلِفْتُ أَلا أُقَاتِلَهُ، وَأَحْفَظُهُ مَا قَالَ لَهُ، فَقَالَ: كَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَقَاتِلْهُ، فَدَعَا بِغُلامٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ مَكْحُولٌ، فَأَعْتَقَهُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ: لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ أَخَا إِخْوَانِ ... أَعْجَبُ مِنْ مُكَفِّرِ الأَيْمَانِ بِالْعِتْقِ فِي مَعْصِيَةِ الرَّحْمَنِ. وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ شُعَرَائِهِمْ: يُعْتِقُ مَكْحُولا لِصَوْنِ دِينِهِ ... كَفَّارَةً لِلَّهِ عَنْ يَمِينِهِ. وَالنَّكْثُ قَدْ لاحَ عَلَى جَبِينِهِ رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ سَيْفٍ عَنْ مُحَمَّدِ وَطَلْحَةَ: فَأَرْسَلَ عِمْرَانَ ابن حُصَيْنٍ فِي النَّاسِ يُخَذِّلُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا، كما صنع

الأَحْنَفُ، وَأَرْسَلَ إِلَى بَنِي عَدِيٍّ فِيمَنْ أَرْسَلَ، فَأَقْبَلَ رَسُولُهُ حَتَّى نَادَى عَلَى بَابِ مَسْجِدِهِمْ: أَلا إِنَّ أَبَا نُجَيْدٍ عِمْرَانَ بْنَ الْحُصَيْنِ يُقْرِئُكُمُ السَّلامَ، وَيَقُولُ لَكُمْ: وَاللَّهِ لأَنْ أَكُونَ في جبل حضن مَعَ أَعْنُزٍ خُضْرٍ وَضَأْنٍ، أَجُزُّ أَصْوَافَهَا، وَأَشْرَبُ أَلْبَانَهَا، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَرْمِيَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَيْنِ الصَّفَّيْنِ بِسَهْمٍ، فَقَالَتْ بَنُو عَدِيٍّ جَمِيعًا بِصَوْتٍ وَاحِدٍ: إِنَّا وَاللَّهِ لا نَدَعُ ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِشَيْءٍ- يَعْنُونَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ. حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نَعَامَةَ الْعَدَوِيُّ، عَنْ حُجَيْرِ بْنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ: سِرْ إِلَى قَوْمِكَ أَجْمِعْ مَا يَكُونُونَ، فَقُمْ فِيهِمْ قَائِمًا، فَقُلْ: أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ عِمْرَانُ ابن حصين صاحب رسول الله ص، يَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلامَ وَرَحْمَةَ اللَّهِ، وَيَحْلِفُ بِاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ، لأَنْ يَكُونَ عبدا حبشيا مجدعا يرعى أعنزا حضنيات فِي رَأْسِ جَبَلٍ حَتَّى يُدْرِكَهُ الْمَوْتُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَرْمِيَ بِسَهْمٍ وَاحِدٍ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، قَالَ: فَرَفَعَ شُيُوخُ الْحَيِّ رُءُوسَهُمْ إِلَيْهِ، فَقَالُوا: إِنَّا لا نَدَعُ ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِشَيْءٍ أَبَدًا. رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ سَيْفٍ عَنْ مُحَمَّدِ وطلحة: وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ فِرَقٌ: فِرْقَةٌ مَعَ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، وَفِرْقَةٌ مَعَ عَلِيٌّ، وَفِرْقَةٌ لا تَرَى الْقِتَالَ مَعَ أَحَدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَجَاءَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِنْ مَنْزِلِهَا الَّذِي كَانَتْ فِيهِ حَتَّى نَزَلَتْ فِي مَسْجِدِ الْحُدَّانِ فِي الأَزْدِ، وَكَانَ الْقِتَالُ فِي سَاحَتِهِمْ، وَرَأْسُ الأَزْدِ يَوْمَئِذٍ صَبْرَةُ بْنُ شَيْمَانَ، فَقَالَ لَهُ كَعْبُ بْنُ سُورٍ: إِنَّ الْجُمُوعَ إِذَا تَرَاءَوْا لَمْ تَسْتَطِعْ، وَإِنَّمَا هِيَ بُحُورٌ تَدَفَّقُ، فَأَطِعْنِي وَلا تَشْهَدْهُمْ، وَاعْتَزِلْ بِقَوْمِكَ، فَإِنِّي أَخَافُ أَلا يَكُونَ صُلْحٌ، وَكُنْ وَرَاءَ هَذِهِ النُّطْفَةِ، وَدَعْ هَذَيْنِ الْغَارَيْنِ مِنْ مُضَرَ وَرَبِيعَةَ، فَهُمَا أَخَوَانِ، فَإِنِ

اصْطَلَحَا فَالصُّلْحُ مَا أَرَدْنَا، وَإِنِ اقْتَتَلا كُنَّا حُكَّامًا عَلَيْهِمْ غَدًا- وَكَانَ كَعْبٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَصْرَانِيًّا- فَقَالَ صَبْرَةُ: أَخْشَى أَنْ يَكُونَ فِيكَ شَيْءٌ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ، أَتَأْمُرَنِي أَنْ أَغِيبَ عَنْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ، وَأَنْ أَخْذُلَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ إِنْ رَدُّوا عَلَيْهِمُ الصُّلْحَ، وَأَدَعَ الطَّلَبَ بِدَمِ عُثْمَانَ! لا وَاللَّهِ لا أَفْعَلُ ذَلِكَ أَبَدًا، فَأَطْبَقَ أَهْلُ الْيَمَنِ عَلَى الْحُضُورِ. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الضريس البجلي، عن ابن يعمر، قَالَ: لما رجع الأحنف بن قيس من عِنْد على لقيه هلال ابن وكيع بن مالك بن عَمْرو، فَقَالَ: مَا رأيك؟ قَالَ: الاعتزال، فما رأيك؟ قَالَ: مكانفة أم الْمُؤْمِنِينَ، أفتدعنا وأنت سيدنا! قَالَ: إنما أكون سيدكم غدا إذا قتلت وبقيت، فَقَالَ هلال: هَذَا وأنت شيخنا! فَقَالَ: أنا الشيخ المعصي، وأنت الشاب المطاع فاتبعت بنو سعد الأحنف، فاعتزل بهم إِلَى وادي السباع، واتبعت بنو حنظلة هلالا، وتابعت بنو عَمْرو أبا الجرباء فقاتلوا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عن أبي عُثْمَان، قال: لما اقبل الأحنف نادى: يا لأدُّ، اعتزلوا هَذَا الأمر، وولوا هَذَيْنِ الفريقين كيسه وعجزه، فقام المنجاب بن راشد فقال: يال الرباب! لا تعتزلوا، واشهدوا هَذَا الأمر، وتولوا كيسه، ففارقوا فلما قال: يال تميم، اعتزلوا هَذَا الأمر وولوا هَذَيْنِ الفريقين كيسه وعجزه، قام أَبُو الجرباء- وَهُوَ من بني عثمان بن مالك بن عمرو بن تميم- فقال: يال عمرو، لا تعتزلوا هَذَا الأمر وتولوا كيسه فكان أَبُو الجرباء عَلَى بني عَمْرو بن تميم، والمنجاب بن راشد عَلَى بني ضبة، فلما قال: يال زيد مناة، اعتزلوا هَذَا الأمر، وولوا هَذَيْنِ الفريقين كيسه وعجزه قَالَ هلال بن وكيع: لا تعتزلوا هذا الأمر، ونادى: يال حنظله تولوا كيسه، فكان هلال عَلَى حنظلة، وطاوعت سعد الأحنف، واعتزلوا إِلَى وادي السباع

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، قَالا: كَانَ عَلَى هوازن وعلى بني سليم والأعجاز مجاشع بن مسعود السلمي، وعلى عَامِر زفر بن الْحَارِث، وعلى غطفان أعصر بن النُّعْمَانِ الباهلي، وعلى بكر ابن وائل مالك بن مسمع، واعتزلت عبد القيس إِلَى علي إلا رجلا فإنه أقام، ومن بكر بن وائل قيام، واعتزل مِنْهُمْ مثل من بقي مِنْهُمْ، عَلَيْهِم سنان، وكانت الأزد عَلَى ثلاثة رؤساء: صبرة بن شيمان، ومسعود، وزياد ابن عَمْرو، والشواذب عَلَيْهِم رجلان: عَلَى مضر الخريت بن راشد، وعلى قضاعة والتوابع الرعبي الجرمي- وَهُوَ لقب- وعلى سائر اليمن ذو الآجرة الحميري فخرج طَلْحَة وَالزُّبَيْر فنزلا بِالنَّاسِ من الزابوقة، فِي موضع قرية الأرزاق، فنزلت مضر جميعا وهم لا يشكون فِي الصلح، ونزلت رَبِيعَة فوقهم جميعا وهم لا يشكون فِي الصلح، ونزلت اليمن جميعا أسفل مِنْهُمْ، وهم لا يشكون فِي الصلح، وعائشة فِي الحدان، والناس فِي الزابوقة، عَلَى رؤسائهم هَؤُلاءِ وهم ثلاثون ألفا، وردوا حكيما ومالكا إِلَى علي، بأنا عَلَى مَا فارقنا عَلَيْهِ القعقاع فاقدم فخرجا حَتَّى قدما عَلَيْهِ بِذَلِكَ، فارتحل حَتَّى نزل عَلَيْهِم بحيالهم، فنزلت القبائل إِلَى قبائلهم، مضر إِلَى مضر، وربيعة إِلَى رَبِيعَة، واليمن إِلَى اليمن، وهم لا يشكون فِي الصلح، فكان بعضهم بحيال بعض، وبعضهم يخرج إِلَى بعض، وَلا يذكرون وَلا ينوون إلا الصلح، وخرج أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فيمن مَعَهُ، وهم عشرون ألفا، وأهل الْكُوفَة عَلَى رؤسائهم الَّذِينَ قدموا معهم ذا قار، وعبد القيس عَلَى ثلاثة رؤساء: جذيمة وبكر عَلَى ابن الجارود، والعمور عَلَى عَبْد اللَّهِ بن السوداء، وأهل هجر عَلَى ابن الأشج، وبكر بن وائل من أهل الْبَصْرَة عَلَى ابن الْحَارِث بن نهار، وعلى دنور بن علي الزط والسيابجة، وقدم علي ذا قار فِي عشرة آلاف، وانضم إِلَيْهِ عشرة آلاف. حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قال: حدثنا أبو الحسن، عن بشير بن عاصم

امر القتال

عن فطر بن خليفة، عن منذر الثوري، عن محمد بن الحنفيه، قال: أقبلنا من المدينة بسبعمائة رجل، وخرج إلينا من الْكُوفَة سبعة آلاف، وانضم إلينا من حولنا ألفان، أكثرهم بكر بن وائل، ويقال: ستة آلاف. رجع الحديث إِلَى حديث مُحَمَّد وَطَلْحَة: قَالا: فلما نزل الناس واطمأنوا، خرج علي وخرج طَلْحَة وَالزُّبَيْر، فتواقفوا، وتكلموا فِيمَا اختلفوا فِيهِ، فلم يجدوا أمرا هُوَ أمثل من الصلح ووضع الحرب حين رأوا الأمر قَدْ أخذ فِي الانقشاع، وأنه لا يدرك، فافترقوا عن موقفهم عَلَى ذَلِكَ، ورجع علي إِلَى عسكره، وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر إِلَى عسكرهما . أمر القتال وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قَالا: وَبَعَثَ عَلِيٌّ مِنَ الْعَشِيِّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ إِلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، وَبَعَثَاهُمَا مِنَ الْعَشِيِّ مُحَمَّدَ بْنَ طَلْحَةَ إِلَى عَلِيٍّ، وَأَنْ يُكَلِّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابَهُ، فَقَالُوا: نَعَمْ، فَلَمَّا أَمْسَوْا- وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الآخِرَةِ- أَرْسَلَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ إِلَى رُؤَسَاءِ أَصْحَابِهِمَا، وَأَرْسَلَ عَلِيٌّ إِلَى رُؤَسَاءِ أَصْحَابِهِ، مَا خَلا أُولَئِكَ الَّذِينَ هَضُّوا عُثْمَانَ، فَبَاتُوا عَلَى الصُّلْحِ، وَبَاتُوا بِلَيْلَةٍ لَمْ يَبِيتُوا بِمِثْلِهَا لِلْعَافِيَةِ مِنَ الَّذِي أَشْرَفُوا عَلَيْهِ، وَالنُّزُوعِ عَمَّا اشْتَهَى الَّذِينَ اشْتَهَوْا، وَرَكِبُوا مَا رَكِبُوا، وَبَاتَ الَّذِينَ أَثَارُوا أَمْرَ عُثْمَانَ بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتُوهَا قَطُّ، قَدْ أَشْرَفُوا عَلَى الْهَلَكَةِ، وَجَعَلُوا يَتَشَاوَرُونَ لَيْلَتَهُمْ كُلَّهَا، حَتَّى اجْتَمَعُوا عَلَى إِنْشَابِ الْحَرْبِ فِي السِّرِّ، وَاسْتَسَرُّوا بِذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ يُفْطَنَ بِمَا حَاوَلُوا مِنَ الشَّرِّ، فَغَدَوْا مَعَ الْغَلَسِ، وَمَا يَشْعُرُ بِهِمْ جِيرَانُهُمْ، انْسَلُّوا إِلَى ذَلِكَ الأَمْرِ انْسِلالا، وَعَلَيْهِمْ ظُلْمَةٌ، فَخَرَجَ مضريهم إِلَى مضريهم، وَرَبَعِيهِمْ إِلَى رَبَعِيهِمْ، وَيَمَانِيهِمْ إِلَى يَمَانِيهِمْ، فَوَضَعُوا فِيهِمُ السِّلاحَ، فَثَارَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ، وَثَارَ كُلُّ قَوْمٍ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِمُ الَّذِينَ بَهَتُوهُمْ،

وَخَرَجَ الزُّبَيْرُ وَطَلْحَةُ فِي وُجُوهِ النَّاسِ مِنْ مضر فبعثا الى الميمنه، وهم ربيعه يعبؤها عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَإِلَى الميسره عبد الرحمن بن عتاب ابن أُسَيْدٍ، وَثَبَتَا فِي الْقَلْبِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: طَرَقَنَا أَهْلُ الْكُوفَةِ لَيْلا، فَقَالا: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ عَلِيًّا غَيْرُ مُنْتَهٍ حَتَّى يَسْفِكَ الدِّمَاءَ، وَيَسْتَحِلَّ الْحُرْمَةَ، وَأَنَّهُ لَنْ يُطَاوِعَنَا، ثُمَّ رَجَعَا بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَقَصَفَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ، أُولَئِكَ حَتَّى رَدُّوهُمْ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، فَسَمِعَ عَلِيٌّ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ الصَّوْتَ، وَقَدْ وَضَعُوا رَجُلا قَرِيبًا مِنْ عَلِيٍّ لِيُخْبِرَهُ بِمَا يُرِيدُونَ، فَلَمَّا قَالَ: مَا هذا؟ قال: ذاك الرجل ما فجئنا إِلا وَقَوْمٌ مِنْهُمْ بَيَّتُونَا، فَرَدَدْنَاهُمْ مِنْ حَيْثُ جَاءُوا، فَوَجَدْنَا الْقَوْمَ عَلَى رَجُلٍ فَرَكِبُونَا، وَثَارَ النَّاسُ، وَقَالَ عَلِيٌّ لِصَاحِبِ مَيْمَنَتِهِ: ائْتِ الْمَيَمَنَةَ، وَقَالَ لِصَاحِبِ مَيْسَرَتِهِ: ائْتِ الْمَيْسَرَةَ، وَلَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ غَيْرَ مُنْتَهِيَيْنِ حَتَّى يَسْفِكَا الدِّمَاءَ، وَيَسْتَحِلا الْحُرْمَةَ، وَأَنَّهُمَا لَنْ يُطَاوِعَانَا، وَالسَّبَئِيَّةُ لا تَفْتُرُ إِنْشَابًا [وَنَادَى عَلِيٌّ فِي النَّاسِ: أَيُّهَا النَّاسُ، كُفُّوا فَلا شَيْءٌ، فَكَانَ مِنْ رَأْيِهِمْ جَمِيعًا فِي تِلَكَ الْفِتْنَةِ أَلا يَقْتَتِلُوا حَتَّى يُبْدَءُوا، يَطْلُبُونَ بِذَلِكَ الْحُجَّةَ، وَيَسْتَحِقُّونَ عَلَى الآخَرِينَ، وَلا يَقْتُلُوا مُدْبِرًا، وَلا يَجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَلا يُتْبِعُوا] فَكَانَ مِمَّا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْفَرِيقَانِ وَنَادَوْا فِيمَا بَيْنَهُمَا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وَأَبِي عَمْرٍو، قَالُوا: وَأَقْبَلَ كَعْبُ بْنُ سُورٍ حَتَّى أَتَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَ: أَدْرِكِي فَقَدْ أَبَى الْقَوْمُ إِلا الْقِتَالَ، لَعَلَّ اللَّهَ يُصْلِحُ بِكِ فَرَكِبَتْ، وَأَلْبَسُوا هَوْدَجَهَا الأَدْرَاعَ، ثُمَّ بَعَثُوا جَمَلَهَا، وَكَانَ جَمَلُهَا يُدْعَى عَسْكَرًا، حَمَلَهَا عَلَيْهِ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ، اشْتَرَاهُ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ، فَلَمَّا بَرَزَتْ مِنَ الْبُيُوتِ- وَكَانَتْ بِحَيْثُ تَسْمَعُ الْغَوْغَاءَ- وَقَفَتْ، فَلَمْ تَلْبَثْ أَنْ سَمِعَتْ غَوْغَاءَ شَدِيدَةً، فَقَالَتْ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: ضَجَّةُ الْعَسْكَرِ، قَالَتْ: بِخَيْرٍ أَوْ بِشَرٍّ؟ قَالُوا: بِشَرٍّ قَالَتْ: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ كَانَتْ مِنْهُمْ هَذِهِ الضَّجَّةُ فهم المهزومون وهي واقفه، فو الله مَا فَجِئَهَا إِلا الْهَزِيمَةُ، فَمَضَى الزُّبَيْرُ مِنْ سُنَنِهِ فِي وَجْهِهِ، فَسَلَكَ وَادِيَ

خبر وقعه الجمل من روايه اخرى

السِّبَاعِ، وَجَاءَ طَلْحَةَ سَهْمُ غَرْبٍ يُخِلُّ رُكْبَتَهُ بِصَفْحَةِ الْفَرَسِ، فَلَمَّا امْتَلأَ مَوْزَجَهُ دَمًا وَثَقُلَ قَالَ لِغُلامِهِ: أَرْدِفْنِي وَأَمْسِكْنِي، وَابْغِنِي مَكَانًا أَنْزِلُ فِيهِ، فَدَخَلَ الْبَصْرَةَ وَهُوَ يَتَمَثَّلُ مِثْلَهُ وَمِثْلَ الزُّبَيْرِ: فَإِنْ تَكُنِ الْحَوَادِثُ أَقْصَدَتْنِي ... وَأَخْطَأَهُنَّ سَهْمِي حِينَ أَرْمِي فَقَدْ ضُيِّعْتُ حِينَ تَبِعْتُ سَهْمًا ... سِفَاهًا مَا سَفِهَتْ وَضَلَّ حَلْمِي نَدِمْتُ نَدَامَةً الْكَسْعِيِّ لَمَّا ... شَرِيتُ رِضَا بَنِي سَهْمٍ بِرُغْمِي أَطَعْتُهُمْ بِفُرْقَةِ آل لأَيّ ... فَأَلْقَوْا لِلسِّبَاعِ دَمِي وَلَحْمِي خَبَرُ وَقْعَةِ الْجَمَلِ مِنْ رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا غَيْرُ سَيْفٍ فَإِنَّهُ ذَكَرَ مِنْ خَبَرِ هَذِهِ الْوَقِعَةِ وَأَمْرِ الزُّبَيْرِ وَانْصِرَافِهِ عَنِ الْمَوْقِفِ الَّذِي كَانَ فِيهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ غَيْر الَّذِي ذَكَرَ سَيْفٌ عَنْ صَاحِبَيْهِ، وَالَّذِي ذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ مَا حَدَّثَنِيهِ أحمد بن زهير، قال: حدثنا أبي أبو خَيْثَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حازم، قال: سمعت أبي قال: سمعت يونس بْنَ يَزِيدَ الأَيْلِيَّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فِي قِصَّةٍ ذَكَرَهَا مِنْ خَبَرِ عَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَعَائِشَةَ فِي مَسِيرِهِمُ الَّذِي نَحْنُ فِي ذِكْرِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَالَ: وَبَلَغَ الْخَبَرُ عَلِيًّا- يَعْنِي خَبَرَ السَّبْعِينَ الَّذِينَ قُتِلُوا مَعَ الْعَبْدِيِّ بِالْبَصْرَةِ- فَأَقْبَلَ- يَعْنِي عَلِيًّا- فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَقَدِمَ الْبَصْرَةَ، وَجَعَلَ يَقُولُ: يَا لَهْفَ نَفْسِي عَلَى رَبِيعَهْ ... رَبِيعَةَ السَّامِعَةَ الْمُطِيعَهْ سَنَتُهَا كَانَتْ بِهَا الْوَقِيعَهْ. فَلَمَّا تَوَاقَفُوا خَرَجَ عَلِيٌّ عَلَى فَرَسِهِ، فَدَعَا الزُّبَيْرَ، فَتَوَاقَفَا، فَقَالَ عَلِيٌّ لِلزُّبَيْرِ: مَا جَاءَ بِكَ؟ قَالَ: أَنْتَ، وَلا أَرَاكَ لِهَذَا الأَمْرِ أَهْلا، وَلا أَوْلَى بِهِ

مِنَّا، [فَقَالَ عَلِيٌّ: لَسْتَ لَهُ أَهْلا بَعْدَ عثمان! قَدْ كُنَّا نَعُدُّكَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حَتَّى بَلَغَ ابْنُكَ ابْنَ السُّوءِ فَفَرَّقَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ، وَعَظَّمَ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ، فَذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ ص مَرَّ عَلَيْهِمَا فَقَالَ لِعَلِيٍّ: مَا يَقُولُ ابْنُ عَمَّتِكَ؟ لَيُقَاتِلَنَّكَ وَهُوَ لَكَ ظَالِمٌ] فَانْصَرَفَ عَنْهُ الزُّبَيْرُ، وَقَالَ: فَإِنِّي لا أُقَاتِلُكَ فَرَجَعَ إِلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: مَا لِي فِي هَذِهِ الْحَرْبِ بَصِيرَةٌ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ: إِنَّكَ قَدْ خَرَجْتَ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ رَايَاتِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَرَفْتَ أَنَّ تَحْتَهَا الْمَوْتَ، فَجَبُنْتَ فأحفظه حَتَّى أَرْعَدَ وَغَضِبَ، وَقَالَ: وَيْحَكَ! إِنِّي قَدْ حَلَفْتُ لَهُ أَلا أُقَاتِلَهُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ: كَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ بِعِتْقِ غُلامِكَ سَرْجِسَ، فَأَعْتَقَهُ، وَقَامَ فِي الصَّفِّ مَعَهُمْ، [وَكَانَ عَلِيٌّ قَالَ لِلزُّبَيْرِ: أَتَطْلُبُ مِنِّي دَمَ عُثْمَانَ وَأَنْتَ قَتَلْتَهُ! سَلَّطَ اللَّهُ عَلَى أَشَدِّنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ مَا يَكْرَهُ وَقَالَ عَلِيٌّ: يَا طَلْحَةُ، جئت بعرس رسول الله ص تُقَاتِلُ بِهَا وَخَبَّأْتَ عُرْسَكَ فِي الْبَيْتِ! أَمَا بَايَعْتَنِي! قَالَ: بَايَعْتُكَ وَعَلَى عُنُقِي اللُّجُّ، فَقَالَ عَلِيٌّ لأَصْحَابِهِ: أَيُّكُمْ يَعْرِضُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْمُصْحَفَ وَمَا فِيهِ، فَإِنْ قُطِعَتْ يَدُهُ أَخَذَهُ بِيَدِهِ الأُخْرَى، وَإِنْ قُطِعَتْ أَخَذَهُ بِأَسْنَانِهِ؟ قَالَ فَتًى شَابٌّ: أَنَا، فَطَافَ عَلِيٌّ عَلَى أَصْحَابِهِ يَعْرِضُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَقْبَلْهُ إِلا ذَلِكَ الْفَتَى، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: اعْرِضْ عَلَيْهِمْ هَذَا، وَقُلْ: هُوَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، والله فِي دِمَائِنَا وَدِمَائِكُمْ] فَحَمَلَ عَلَى الْفَتَى وَفِي يَدِهِ الْمُصْحَفُ، فَقُطِعَتْ يَدَاهُ، فَأَخَذَهُ بِأَسْنَانِهِ حَتَّى قُتِلَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: قَدْ طَابَ لَكُمُ الضِّرَابُ فَقَاتَلُوهُمْ، فَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ سَبْعُونَ رَجُلا، كُلُّهُمْ يَأْخُذُ بِخِطَامِ الْجَمَلِ، فَلَمَّا عُقِرَ الْجَمْلُ وَهُزِمَ النَّاسُ، أَصَابَتْ طَلْحَةَ رَمْيَةٌ فَقَتَلَتْهُ، فَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ رَمَاهُ، وَقَدْ كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَخَذَ بِخِطَامِ جَمَلِ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: مَنْ هَذَا؟ فَأَخْبَرَهَا، فَقَالَتْ: وَاثُكْلَ أَسْمَاءَ! فَجُرِحَ، فَأَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْجَرْحَى، فَاسْتُخْرِجَ فَبَرَأَ مِنْ جِرَاحَتِهِ، وَاحْتَمَلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَائِشَةَ، فَضُرِبَ عَلَيْهَا فُسْطَاطٌ، فَوَقَفَ عَلِيٌّ عَلَيْهَا فَقَالَ: اسْتَفْزَزْتِ النَّاسَ وَقَدْ فَزُّوا، فَأَلَّبْتِ بَيْنَهُمْ، حَتَّى قَتَلَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا فِي كَلامٍ كَثِيرٍ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يا بن ابى طالب،

مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ، نَعَمْ مَا أَبْلَيْتَ قَوْمَكَ الْيَوْمَ! فَسَرَّحَهَا عَلِيٌّ، وَأَرْسَلَ مَعَهَا جَمَاعَةً مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ، وَجَهَّزَهَا، وَأَمَرَ لَهَا بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الْمَالِ، فَاسْتَقَلَّ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، فَأَخْرَجَ لَهَا مَالا عَظِيمًا، وَقَالَ: إِنْ لَمْ يُجِزْهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ عَلَيَّ وَقُتِلَ الزُّبَيْرُ، فَزَعَمُوا أَنَّ ابْنَ جُرْمُوزٍ لَهُوَ الَّذِي قَتَلَهُ، وَأَنَّهُ وَقَفَ بِبَابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ لِحَاجِبِهِ: اسْتَأْذِنْ لِقَاتِلِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: ائْذَنْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالنَّارِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا فُضَيْلٌ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ قُرَّةَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ جَوْنِ بْنِ قَتَادَةَ قَالَ قُرَّةُ بْنُ الْحَارِثِ: كُنْتُ مَعَ الأَحْنَفِ بن قيس، وكان جون ابن قَتَادَةَ ابْنُ عَمِّي مَعَ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، فَحَدَّثَنِي جَوْنُ بْنُ قَتَادَةَ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَجَاءَ فَارِسٌ يَسِيرُ- وَكَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَى الزُّبَيْرِ بِالإِمْرَةِ- فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الأَمِيرُ، قَالَ: وَعَلَيْكَ السَّلامُ، قَالَ: هَؤُلاءِ الْقَوْمُ قَدْ أَتَوْا مَكَانَ كَذَا وَكَذَا، فَلَمْ أَرَ قَوْمًا أَرَثَّ سِلاحًا، وَلا أَقَلَّ عَدَدًا، وَلا أَرْعَبَ قُلُوبًا مِنْ قَوْمٍ أَتَوْكَ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ قَالَ: ثُمَّ جَاءَ فَارِسٌ فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الأَمِيرُ، فَقَالَ: وَعَلَيْكَ السَّلامُ، قَالَ: جَاءَ الْقَوْمُ حَتَّى أَتَوْا مَكَانَ كَذَا وَكَذَا، فَسَمِعُوا بِمَا جَمَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَكُمْ مِنَ الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالْحَدِّ، فَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، قَالَ الزبير: ايها عنك الان، فو الله لَوْ لَمْ يَجِدِ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلا الْعَرْفَجَ لَدَبَّ إِلَيْنَا فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ ثُمَّ جَاءَ فَارِسٌ وَقَدْ كَادَتِ الْخُيُولُ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الرَّهَجِ فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الأَمِيرُ، قَالَ: وَعَلَيْكَ السَّلامُ، قَالَ: هَؤُلاءِ الْقَوْمُ قَدْ أتوك، فلقيت عمار فَقُلْتُ لَهُ وَقَالَ لِي، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: إِنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ، فَقَالَ: بَلَى وَاللَّهِ إِنَّهُ لَفِيهِمْ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهِمْ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهِمْ قَالَ: وَاللَّهِ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهِمْ، فَلَمَّا رَأَى الرَّجُلَ يخالفه

قَالَ لِبَعْضِ أَهْلِهِ: ارْكَبْ فَانْظُرْ: أَحَقٌّ مَا يَقُولُ! فَرَكِبَ مَعَهُ، فَانْطَلَقَا وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِمَا حَتَّى وَقَفَا فِي جَانِبِ الْخَيْلِ قَلِيلا، ثُمَّ رَجَعَا إِلَيْنَا، فَقَالَ الزُّبَيْرُ لِصَاحِبِهِ: مَا عِنْدَكَ؟ قَالَ: صَدَقَ الرَّجُلُ، قَالَ الزُّبَيْرُ: يَا جَدَعَ أَنْفَاهُ- أَوْ يَا قَطَعَ ظَهْرَاهُ؟ - قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ: قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: قَالَ فُضَيْلٌ: لا أَدْرِي أَيُّهُمَا قَالَ- ثُمَّ أَخَذَهُ أَفْكَلٌ، فَجَعَلَ السِّلاحُ يَنْتَفِضُ، فَقَالَ جَوْنٌ: ثَكَلَتْنِي أُمِّي، هَذَا الَّذِي كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَمُوتَ مَعَهُ، أَوْ أَعِيشَ مَعَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَخَذَ هَذَا مَا أَرَى إِلا لِشَيْءٍ قَدْ سَمِعَهُ أَوْ رَآهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا تَشَاغَلَ النَّاسُ انْصَرَفَ فَجَلَسَ عَلَى دَابَّتِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ، فَانْصَرَفَ جَوْنٌ فَجَلَسَ عَلَى دَابَّتِهِ، فَلَحِقَ بِالأَحْنَفِ، ثُمَّ جَاءَ فَارِسَانِ حَتَّى أَتَيَا الأَحْنَفَ وَأَصْحَابَهُ، فَنَزَلا، فَأَتَيَا فَأَكَبَّا عَلَيْهِ، فَنَاجَيَاهُ سَاعَةً، ثُمَّ انْصَرَفَا ثُمَّ جَاءَ عَمْرُو بْنُ جُرْمُوزٍ إِلَى الأَحْنَفِ، فَقَالَ: أَدْرَكْتُهُ فِي وَادِي السِّبَاعِ فَقَتَلْتُهُ، فَكَانَ يَقُولُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ صَاحِبُ الزُّبَيْرِ الأَحْنَفَ. حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الحسن، قال: حدثنا بشير ابن عَاصِمٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الدُّهْنِيِّ- حَيٌّ مِنْ أَحْمُسِ بَجِيلَةَ- قَالَ: أَخَذَ عَلِيٌّ مُصْحَفًا يَوْمَ الْجَمَلِ، فَطَافَ بِهِ فِي أَصْحَابِهِ، وَقَالَ: مَنْ يَأْخُذْ هَذَا الْمُصْحَفَ، يَدْعُوهُمْ إِلَى مَا فِيهِ وَهُوَ مَقْتُولٌ؟ فَقَامَ إِلَيْهِ فَتًى مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ عَلَيْهِ قِبَاءٌ أَبْيَضُ مَحْشُوٌّ، فَقَالَ: أَنَا، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَأْخُذْ هَذَا الْمُصْحَفَ يَدْعُوهُمْ إِلَى مَا فِيهِ وَهُوَ مَقْتُولٌ؟ فَقَالَ الْفَتَى: أَنَا، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَأْخُذْ هَذَا الْمُصْحَفَ يَدْعُوهُمْ إِلَى مَا فِيهِ وَهُوَ مَقْتُولٌ؟ فَقَالَ الْفَتَى: أَنَا، فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ، فَدَعَاهُمْ فَقَطَعُوا يَدَهُ الْيُمْنَى، فَأَخَذَهُ بِيَدِهِ الْيُسْرَى، فَدَعَاهُمْ فَقَطَعُوا يَدَهُ الْيُسْرَى، فَأَخَذَهُ بِصَدْرِهِ وَالدِّمَاءُ تَسِيلُ عَلَى قِبَائِهِ، فَقُتِلَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: الآنَ حَلَّ قِتَالُهُمْ، فَقَالَتْ أُمُّ الْفَتَى بَعْدَ ذَلِكَ فِيمَا تَرْثِي: لا هُمَّ إِنَّ مُسْلِمًا دَعَاهُمْ يَتْلُو كِتَابَ اللَّهِ لا يَخْشَاهُمْ

وأمهم قائمة تراهم يأتمرون الغي لا تنهاهم قَدْ خُضِّبَتْ مِنْ عَلَقٍ لِحَاهُمْ. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: حَمَلَتْ مَيْمَنَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَيْسَرَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَاقْتَتَلُوا، وَلاذَ النَّاسُ بِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَكْثَرُهُمْ ضبة والأزد، وَكَانَ قتالهم من ارتفاع النهار إِلَى قريب من العصر، ويقال: إِلَى أن زالت الشمس، ثُمَّ انهزموا، فنادى رجل من الأزد: كروا، فضربه محمد ابن علي فقطع يده، فنادى: يَا معشر الأزد فروا، واستحر القتل بالأزد، فنادوا: نحن عَلَى دين عَلِيّ بن أبي طالب، فَقَالَ رجل من بني ليث بعد ذَلِكَ: سائل بنا يوم لقينا الأزدا ... والخيل تعدو أشقرا ووردا لما قطعنا كبدهم والزندا ... سحقا لَهُمْ فِي رأيهم وبعدا! حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حدثنا ابو الحسن، قال: حدثنا جعفر ابن سُلَيْمَانَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: حَمَلَ عَمَّارٌ عَلَى الزُّبَيْرِ يَوْمَ الْجَمَلِ، فَجَعَلَ يَحُوزُهُ بِالرُّمْحِ، فَقَالَ: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي؟ قَالَ: لا، انْصَرِفْ، وَقَالَ عَامِرُ بْنُ حَفْصٍ: أَقْبَلَ عَمَّارٌ حَتَّى حَازَ الزُّبَيْرَ يَوْمَ الْجَمَلِ بِالرُّمْحِ، فَقَالَ: أَتَقْتُلُنِي يَا أَبَا الْيَقْظَانِ! قَالَ: لا يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهُ رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّد وَطَلْحَة: قَالا: ولما انهزم الناس فِي صدر النهار، نادى الزُّبَيْر: أنا الزُّبَيْر، هلموا إلي أَيُّهَا النَّاسُ، وَمَعَهُ مولى لَهُ ينادي: أعن حواري رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تنهزمون! وانصرف الزُّبَيْر نحو وادي السباع، واتبعه فرسان، وتشاغل الناس عنه بِالنَّاسِ، فلما رَأَى الفرسان تتبعه عطف عَلَيْهِم، ففرق بينهم،

فكروا عليه، فلما عرفوه قالوا: الزبير! فدعوه، فلما نفر فِيهِمْ علباء بن الهيثم، ومر القعقاع فِي نفر بطلحة وَهُوَ يقول: إلي عباد اللَّه، الصبر الصبر! قَالَ لَهُ: يَا أَبَا مُحَمَّد، إنك لجريح، وإنك عما تريد لعليل، فادخل الأبيات، فَقَالَ: يَا غلام، أدخلني وابغني مكانا فأدخل الْبَصْرَة وَمَعَهُ غلام ورجلان، فاقتتل الناس بعده، فأقبل الناس فِي هزيمتهم تِلْكَ وهم يريدون الْبَصْرَة. فلما رأوا الجمل أطافت بِهِ مضر عادوا قلبا كما كَانُوا حَيْثُ التقوا، وعادوا إِلَى أمر جديد، ووقفت رَبِيعَة الْبَصْرَة، مِنْهُمْ ميمنة ومنهم ميسرة، وقالت عَائِشَة: خل يَا كعب عن البعير، وتقدم بكتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فادعهم إِلَيْهِ، ودفعت إِلَيْهِ مصحفا وأقبل القوم وأمامهم السبئية يخافون أن يجري الصلح، فاستقبلهم كعب بالمصحف، وعلي من خلفهم يزعهم ويأبون إلا إقداما، فلما دعاهم كعب رشقوه رشقا واحدا، فقتلوه، ورموا عَائِشَة فِي هودجها، فجعلت تنادي: يَا بني، البقية البقية- ويعلو صوتها كثرة- اللَّه اللَّه، اذكروا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ والحساب، فيأبون إلا إقداما، فكان أول شَيْء أحدثته حين أبوا أن قالت: أَيُّهَا النَّاسُ، العنوا قتلة عُثْمَان وأشياعهم، وأقبلت تدعو. وضج أهل الْبَصْرَة بالدعاء، وسمع عَلِيّ بن أبي طالب الدعاء فَقَالَ: مَا هَذِهِ الضجة؟ فَقَالُوا: عَائِشَة تدعو ويدعون معها عَلَى قتلة عُثْمَان وأشياعهم، فأقبل يدعو ويقول: اللَّهُمَّ العن قتلة عُثْمَان وأشياعهم وأرسلت إِلَى عبد الرحمن ابن عتاب وعبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث: اثبتا مكانكما، وذمرت الناس حين رأت أن القوم لا يريدون غيرها، وَلا يكفون عن الناس، فازدلفت مضر الْبَصْرَة، فقصفت مضر الْكُوفَة حَتَّى زوحم علي، فنخس علي قفا مُحَمَّد، وَقَالَ: احمل، فنكل، فاهوى على الى الراية ليأخذها مِنْهُ، فحمل، فترك الراية فِي يده، وحملت مضر الْكُوفَة، فاجتلدوا قدام الجمل حَتَّى

ضرسوا، والمجنبات عَلَى حالها، لا تصنع شَيْئًا، ومع علي أقوام غير مضر، فمنهم زَيْد بن صُوحَانَ، فَقَالَ لَهُ رجل من قومه: تنح الى قومك، ما لك ولهذا الموقف! ألست تعلم أن مضر بحيالك، وأن الجمل بين يديك، وأن الموت دونه! فَقَالَ: الموت خير من الحياة، الموت مَا أريد، فأصيب وأخوه سيحان، وارتث صعصعة، واشتدت الحرب فلما رَأَى ذَلِكَ علي بعث إِلَى اليمن وإلى رَبِيعَة: أن اجتمعوا عَلَى من يليكم، فقام رجل من عبد القيس فَقَالَ: ندعوكم إِلَى كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، قَالُوا: وكيف يدعونا إِلَى كتاب اللَّه من لا يقيم حدود اللَّه سُبْحَانَهُ، ومن قتل داعي اللَّه كعب بن سور! فرمته رَبِيعَة رشقا واحدا فقتلوه، وقام مسلم بن عَبْدِ اللَّهِ العجلي مقامه، فرشقوه رشقا واحدا، فقتلوه، ودعت يمن الْكُوفَة يمن الْبَصْرَة فرشقوهم كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وَطَلْحَةَ، قَالا: كَانَ القتال الأول يستحر إِلَى انتصاف النهار، وأصيب فِيهِ طَلْحَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وذهب فِيهِ الزُّبَيْر، فلما أووا إِلَى عَائِشَة وأبى أهل الْكُوفَة إلا القتال، ولم يريدوا إلا عَائِشَة، ذمرتهم عَائِشَة، فاقتتلوا حَتَّى تنادوا فتحاجزوا، فرجعوا بعد الظهر فاقتتلوا، وَذَلِكَ يوم الخميس فِي جمادى الآخرة، فاقتتلوا صدر النهار مع طَلْحَة وَالزُّبَيْر، وفي وسطه مع عَائِشَة، وتزاحف الناس، فهزمت يمن الْبَصْرَة يمن الْكُوفَة، وربيعة الْبَصْرَة رَبِيعَة الْكُوفَة، ونهد علي بمضر الْكُوفَة إِلَى مضر الْبَصْرَة، [وَقَالَ: إن الموت ليس مِنْهُ فوت، يدرك الهارب، وَلا يترك المقيم] . حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد اللَّهِ القرشي، عن يونس بن أَرْقَمَ، عن عَلِيّ بن عَمْرو الكندي، عن زَيْد بن حساس، قَالَ: سمعت محمد بن الحنفية يقول: دفع إلي أبي الراية يوم الجمل، وَقَالَ: تقدم، فتقدمت حَتَّى لم أجد متقدما إلا عَلَى رمح، قَالَ: تقدم لا أم لك! فتكأكأت وقلت: لا أجد متقدما إلا عَلَى سنان رمح،

فتناول الراية من يدي متناول لا أدري من هُوَ! فنظرت فإذا أبي بين يدي وَهُوَ يقول: أنت الَّتِي غرك مني الحسنى ... يَا عيش إن القوم قوم أعدا الخفض خير من قتال الأبناء. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، قَالا: اقتتلت المجنبتان حين تزاحفتا قتالا شديدا، يشبه مَا فِيهِ القلبان، واقتتل أهل اليمن، فقتل عَلَى راية أَمِير الْمُؤْمِنِينَ من أهل الْكُوفَة عشرة، كلما أخذها رجل قتل خمسة من همدان وخمسة من سائر اليمن، فلما رَأَى ذَلِكَ يَزِيد بن قيس أخذها، فثبتت فِي يده وَهُوَ يقول: قَدْ عشت يَا نفس وَقَدْ غنيت ... دهرا فقطك الْيَوْم مَا بقيت أطلب طول العمر مَا حييت. وإنما تمثلها وَهُوَ قول الشاعر قبله وَقَالَ نمران بن أبي نمران الهمداني: جردت سيفي فِي رجال الأزد أضرب فِي كهولهم والمرد كل طويل الساعدين نهد. وأقبلت رَبِيعَة، فقتل عَلَى راية الميسرة من أهل الْكُوفَة زَيْد، وصرع صعصعة، ثُمَّ سيحان، ثُمَّ عَبْد اللَّهِ بن رقبة بن الْمُغِيرَة، ثُمَّ ابو عبيده بن راشد ابن سلمى وَهُوَ يقول: اللَّهُمَّ أنت هديتنا من الضلالة، واستنقذتنا من الجهالة، وابتليتنا بالفتنة، فكنا فِي شبهة وعلى ريبة، حَتَّى قتل، ثُمَّ الحصين ابن معبد بن النُّعْمَانِ، فأعطاها ابنه معبدا، وجعل يقول: يَا معبد، قرب لها بوها تحدب، فثبتت فِي يده. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: لما رأت الكماة من مضر الْكُوفَة ومضر الْبَصْرَة الصبر تنادوا فِي عسكر عَائِشَة وعسكر على: يا ايها النَّاسُ، طرفوا إذا فرغ الصبر، ونزع النصر فجعلوا

يتوجئون الاطراف: الأيدي والارجل، فما رئيت وقعة قط قبلها وَلا بعدها، وَلا يسمع بِهَا أكثر يدا مقطوعة ورجلا مقطوعة منها، لا يدرى من صاحبها وأصيبت يد عبد الرَّحْمَن بن عتاب يَوْمَئِذٍ قبل قتله، وَكَانَ الرجل من هَؤُلاءِ وهؤلاء إذا أصيب شَيْء من أطرافه استقتل إِلَى أن يقتل. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن عطية ابن بِلالٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: اشْتَدَّ الأَمْرُ حَتَّى أَرَزَتْ مَيْمَنَةُ الْكُوفَةِ إِلَى الْقَلْبِ، حَتَّى لَزَقَتْ به، ولزقت مَيْسَرَةَ الْبَصْرَةِ بِقَلْبِهِمْ، وَمَنَعُوا مَيْمَنَةَ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَنْ يَخْتَلِطُوا بِقَلْبِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا إِلَى جَنْبِهِمْ، وَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ مَيْسَرَةُ الْكُوفَةِ وَمَيْمَنَةُ الْبَصْرَةِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- لِمَنْ عَنْ يَسَارِهَا: مَنِ الْقَوْمِ؟ قَالَ صَبْرَةُ بْنُ شَيْمَانَ: بَنُوكِ الأَزْدَ، قَالَتْ: يَا آلَ غَسَّانَ! حَافِظُوا الْيَوْمَ جِلادَكُمُ الَّذِي كُنَّا نَسْمَعُ بِهِ، وَتَمَثَّلَتْ: وَجَالَدَ مِنْ غَسَّانَ أَهْلُ حِفَاظِهَا ... وَهِنْبٌ وَأَوْسٌ جَالَدَتْ وَشَبِيبٌ وَقَالَتْ لِمَنْ عَنْ يَمِينِهَا: مَنِ الْقَوْمُ؟ قَالُوا: بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ، قَالَتْ: لَكُمْ يَقُولُ الْقَائِلُ: وَجَاءُوا إِلَيْنَا فِي الْحَدِيدِ كَأَنَّهُمْ ... مِنَ الْعِزَّةِ الْقَعْسَاءِ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ إِنَّمَا بِإِزَائِكُمْ عَبْدُ الْقَيْسِ فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ الْقِتَالِ مِنْ قِتَالِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَقْبَلَتْ عَلَى كَتِيبَةٍ بَيْنَ يَدَيْهَا، فَقَالَتْ: مَنِ الْقَوْمُ؟ قَالُوا: بَنُو نَاجِيَةَ، قَالَتْ: بَخٍ بَخٍ! سُيُوفٌ أَبْطَحِيَّةٌ، وَسُيُوفٌ قُرَشِيَّةٌ، فَجَالِدُوا جِلادًا يُتَفَادَى مِنْهُ ثُمَّ أَطَافَتْ بِهَا بنو ضبة، فقالت: ويها جَمْرَةُ الْجَمَرَاتِ! حَتَّى إِذَا رَقَوْا خَالَطَهُمْ بَنُو عَدِيٍّ، وَكَثُرُوا حَوْلَهَا، فَقَالَتْ: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: بَنُو عَدِيٍّ، خَالَطْنَا إِخْوَانَنَا، فَقَالَتْ: مَا زَالَ رَأْسُ الْجَمَلِ مُعْتَدِلا حَتَّى قُتِلَتْ بَنُو ضَبَّةَ حَوْلِي، فَأَقَامُوا رَأْسَ الْجَمَلِ، ثُمَّ ضَرَبُوا ضَرْبًا ليس بالتعذير،

وَلا يَعْدِلُونَ بِالتَّطْرِيفِ، حَتَّى إِذَا كَثُرَ ذَلِكَ وَظَهَرَ فِي الْعَسْكَرَيْنِ جَمِيعًا. رَامُوا الْجَمَلَ وَقَالُوا: لا يَزَالُ الْقَوْمُ أَوْ يُصْرَعُ، وَأَرَزَتْ مَجْنَبَتَا عَلِيٍّ فَصَارَتَا فِي الْقَلْبِ، وَفَعَلَ ذَلِكَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ، وَكَرِهَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَتَلاقَوْا جَمِيعًا بِقَلْبَيْهِمْ، وَأَخَذَ ابْنُ يَثْرِبِيٍّ بِرَأْسِ الْجَمَلِ وَهُوَ يرتجز، وادعى قتل علباء ابن الْهَيْثَمِ وَزَيْدَ بْنَ صُوحَانَ وَهِنْدَ بْنَ عَمْرٍو، فَقَالَ: أَنَا لِمَنْ يُنْكِرُنِي ابْنُ يَثْرِبِيِّ قَاتِلُ علباء وهند الجملي وابن لصوحان على دين عَلِيِّ. فَنَادَاهُ عَمَّارٌ: لَقَدْ لَعَمْرِي لُذْتَ بِحَرِيزٍ، وَمَا إِلَيْكَ سَبِيلٌ، فَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَاخْرُجْ مِنْ هَذِهِ الْكَتِيبَةِ إِلَيَّ، فَتَرَكَ الزِّمَامَ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ حَتَّى كَانَ بَيْنَ أَصْحَابِ عَائِشَةَ وَأَصْحَابِ عَلِيٍّ، فَزَحَمَ النَّاسُ عَمَّارًا حَتَّى أَقْبَلَ إِلَيْهِ، فَاتَّقَاهُ عَمَّارٌ بِدَرَقَتِهِ، فَضَرَبَهُ فَانْتَشَبَ سَيْفَهُ فِيهَا، فَعَالَجَهُ فَلَمْ يَخْرُجْ، فَخَرَجَ عَمَّارٌ إِلَيْهِ لا يَمْلِكُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا، فَأَسِفَ عَمَّارٌ لِرِجْلَيْهِ فَقَطَعَهُمَا، فَوَقَعَ عَلَى اسْتِهِ، وَحَمَلَهُ أَصْحَابُهُ، فَارْتُثَّ بَعْدُ، فَأُتِيَ بِهِ عَلِيٌّ، فَأَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ وَلَمَّا أُصِيبَ ابْنُ يَثْرِبِيٍّ تَرَكَ ذَلِكَ الْعَدَوِيُّ الزِّمَامَ، ثُمَّ خَرَجَ فَنَادَى: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَخَنَسَ عَمَّارٌ، وَبَرَزَ إِلَيْهِ رَبِيعَةُ الْعَقِيلِيُّ- وَالْعَدَوِيُّ يُدْعَى عَمْرَةَ بْنَ بُجْرَةَ، أَشَدُّ النَّاسِ صَوْتًا، وَهُوَ يَقُولُ: يَا أُمَّنَا اعق أم نعلم ... والام تغذو وَلَدًا وَتَرْحَمُ أَلا تَرِينَ كَمْ شُجَاعٍ يُكْلَمُ ... وَتُخْتَلَى مِنْهُ يَدٌ وَمِعْصَمُ! ثُمَّ اضْطَرَبَا، فَأَثْخَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، فَمَاتَا. وَقَالَ عَطِيَّةُ بْنُ بِلالٍ: وَلَحِقَ بِنَا مِنْ آخِرِ النَّهَارِ رَجُلٌ يُدْعَى الْحَارِثَ، مِنْ بَنِي ضَبَّةَ، فَقَامَ مَقَامَ الْعَدَوِيِّ، فَمَا رَأَيْنَا رَجُلا قَطُّ أَشَدَّ منه، وجعل يقول:

نحن بنى ضبة أصحاب الجمل ... ننعى ابن عفان بأطراف الأَسَلْ الْمَوْتُ أَحْلَى عِنْدَنَا مِنَ الْعَسَلْ ... رُدُّوا عَلَيْنَا شَيْخَنَا ثُمَّ بَجَلْ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، عن المفضل بن مُحَمَّد، عن عدي بن أبي عدي، عن أبي رجاء العطاردي، قَالَ: إني لأنظر إِلَى رجل يوم الجمل وَهُوَ يقلب سيفا بيده كأنه مخراق، وهو يقول: نحن بنى ضبة أَصْحَاب الجمل ننازل الموت إذا الموت نزل والموت أشهى عندنا من العسل ننعى ابن عفان بأطراف الأسل ردوا علينا شيخنا ثُمَّ بجل. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، عَنِ الْمُفَضَّلِ الضَّبِّيِّ، قَالَ: كَانَ الرَّجُل وَسِيمُ بْنُ عَمْرِو بْنِ ضِرَارٍ الضَّبِّيُّ. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، عَنِ الْهُذَلِيِّ، قَالَ: كَانَ عَمْرُو بْنُ يَثْرِبِيٍّ يُحَضِّضُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْجَمَلِ، وَقَدْ تَعَاوَرُوا الْخِطَامَ يَرْتَجِزُونَ: نَحْنُ بنى ضَبَّةَ لا نَفِرُّ حَتَّى نَرَى جَمَاجِمًا تَخِرُّ يَخِرُّ مِنْهَا الْعَلَقُ الْمُحَمَّرُّ يَا أُمَّنَا يَا عيش لن تراعي ... كل بنيك بطل شجاع يَا أُمَّنَا يَا زَوْجَةَ النَّبِيِّ ... يَا زَوْجَةَ الْمُبَارَكِ الْمَهْدِيِّ حَتَّى قُتِلَ عَلَى الْخِطَامِ أَرْبَعُونَ رَجُلا، وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا زَالَ جَمَلِي مُعْتَدِلا حَتَّى فَقَدْتُ أَصْوَاتَ بَنِي ضَبَّةَ وَقَتَلَ يَوْمَئِذٍ عَمْرُو بْنُ يَثْرِبِيٍّ عِلْبَاءَ بْنَ الْهَيْثَمِ السَّدُوسِيَّ وَهِنْدَ بْنَ عَمْرٍو الْجَمَلِيَّ، وَزَيْدَ بْنَ صُوحَانَ وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ:

أَضْرِبُهُمْ وَلا أَرَى أَبَا حَسَنْ ... كَفَى بِهَذَا حُزْنًا مِنَ الْحزَنْ إِنَّا نَمُرُّ الأَمْرَ إِمْرَارَ الرَّسَنْ. فَزَعَمَ الْهُذَلِيُّ أَنَّ هَذَا الشِّعْرَ تَمَثَّلَ به يوم صفين وعرض عمار لعمرو ابن يَثْرِبِيٍّ- وَعَمَّارٌ يَوْمَئِذٍ ابْنُ تِسْعِينَ سَنَةً، عَلَيْهِ فَرْوٌ قَدْ شَدَّ وَسَطَهُ بِحَبْلٍ مِنْ لِيفٍ- فَبَدَرَهُ عَمْرُو بْنُ يَثْرِبِيٍّ فَنَحَّى لَهُ دَرَقَتَهُ فَنَشَبَ سَيْفَهُ فِيهَا، وَرَمَاهُ النَّاسُ حَتَّى صُرِعَ وَهُوَ يَقُولُ: إِنْ تَقْتُلُونِي فَأَنَا ابْنُ يَثْرِبِيٍّ ... قَاتِلُ عِلْبَاءَ وَهِنْدَ الْجَمَلِيَّ ثُمَّ ابْنَ صُوحَانَ عَلَى دِينِ عَلِيِّ. وَأُخِذَ أَسِيرًا حَتَّى انْتُهِيَ بِهِ إِلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ: اسْتَبْقِنِي فَقَالَ: أَبَعْدَ ثَلاثَةٍ تُقْبِلُ عَلَيْهِمْ بِسَيْفِكَ تَضْرِبُ بِهِ وُجُوهَهُمْ! فامر به فقتل. وَحَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَشَيْتُ يَوْمَ الْجَمَلِ وَبِي سَبْعٌ وَثَلاثُونَ جِرَاحَةً مِنْ ضَرْبَةٍ وَطَعْنَةٍ، وَمَا رَأَيْتُ مِثْلَ يَوْمِ الْجَمَلِ قَطُّ، مَا يَنْهَزِمُ مِنَّا أَحَدٌ، وَمَا نَحْنُ إِلا كَالْجَبَلِ الأَسْوَدِ، وَمَا يَأْخُذُ بِخِطَامِ الْجَمَلِ أَحَدٌ إِلا قُتِلَ، فَأَخَذَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَتَّابٍ فَقُتِلَ، فَأَخَذَهُ الأَسْوَدُ بْنُ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ فَصُرِعَ، وَجِئْتُ فَأَخَذْتُ بِالْخِطَامِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَتْ: وَاثُكْلَ أَسْمَاءَ! وَمَرَّ بِي الأَشْتَرُ، فَعَرَفْتُهُ فَعَانَقْتُهُ، فَسَقَطْنَا جَمِيعًا، وَنَادَيْتُ: اقْتُلُونِي وَمَالِكًا، فَجَاءَ نَاسٌ مِنَّا وَمِنْهُمْ، فَقَاتَلُوا عَنَّا حَتَّى تَحَاجَزْنَا، وَضَاعَ الْخِطَامُ، [وَنَادَى عَلِيٌّ: اعْقِرُوا الْجَمَلَ، فَإِنَّهُ إِنْ عُقِرَ تَفَرَّقُوا،] فَضَرَبَهُ رَجُلٌ فَسَقَطَ، فَمَا سَمِعْتُ صَوْتًا قَطُّ أَشَدَّ مِنْ عَجِيجِ الْجَمَلِ. وَأَمَرَ عَلِيٌّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ فَضَرَبَ عَلَيْهَا قُبَّةً، وَقَالَ: انْظُرْ، هَلْ وَصَلَ إِلَيْهَا شَيْءٌ؟ فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ، فَقَالَتْ: مَنْ أَنْتَ؟ وَيْلُكَ! فَقَالَ: أَبْغَضُ أَهْلِكِ إِلَيْكِ، قَالَتِ: ابْنُ الْخَثْعَمِيَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَاكَ

حَدَّثَنِي إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيمَ بن حبيب بن الشهيد، قال: سمعت أبا بكر ابن عَيَّاش يقول: قَالَ عَلْقَمَة: قلت للأشتر: قَدْ كنت كارها لقتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فما أخرجك بِالْبَصْرَةِ؟ قَالَ: إن هَؤُلاءِ بايعوه، ثُمَّ نكثوا- وَكَانَ ابن الزُّبَيْر هُوَ الَّذِي أكره عَائِشَة عَلَى الخروج- فكنت أدعو اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أن يلقينيه، فلقيني كفة لكفة، فما رضيت بشدة ساعدي أن قمت فِي الركاب فضربته عَلَى رأسه فصرعته. قلنا فهو القائل: اقتلوني ومالكا؟ قَالَ: لا، مَا تركته وفي نفسي مِنْهُ شَيْء، ذاك عبد الرَّحْمَن بن عتاب بن أسيد، لقيني فاختلفنا ضربتين، فصرعني وصرعته، فجعل يقول اقتلوني ومالكا، وَلا يعلمون من مالك، فلو يعلمون لقتلوني. ثُمَّ قَالَ أَبُو بَكْر بن عَيَّاش: هَذَا كتابك شاهده. حَدَّثَنِي بِهِ الْمُغِيرَةُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِلأَشْتَرِ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بن أحمد، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ النَّضْرِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: وَقَفَ عَلَيْنَا شَابٌّ، فَقَالَ: احْذَرُوا هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، فَذَكَرَهُ- وَعَلامَةُ الأَشْتَرِ أَنَّ إِحْدَى قَدَمَيْهِ بَادِيَةٌ مِنْ شَيْءٍ يَجِدُّ بِهَا- قَالَ: لَمَّا الْتَقَيْنَا قَالَ الأَشْتَرُ: لَمَّا قَصَدَ لِي سِوَى رُمْحِهِ لِرِجْلِي، قُلْتُ: هَذَا أَحْمَقُ، وَمَا عَسَى أَنْ يُدْرِكَ مِنِّي لَوْ قَطَعَهَا! أَلَسْتُ قَاتِلَهُ! فَلَمَّا دَنَا مِنِّي جَمَعَ يَدَيْهِ فِي الرُّمْحِ، ثُمَّ الْتَمَسَ بِهِ وَجْهِي، قُلْتُ: أَحَدُ الأَقْرَانِ. حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، عَنِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُنْدُبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: كَانَ عَمْرُو ابن الأَشْرَفِ أَخَذَ بِخِطَامِ الْجَمَلِ، لا يَدْنُو مِنْهُ أَحَدٌ إِلا خَبَطَهُ بِسَيْفِهِ، إِذْ أَقْبَلَ الْحَارِثُ بْنُ زُهَيْرٍ الأَزْدِيُّ وَهُوَ يَقُولُ:

يَا أُمَّنَا يَا خَيْرَ أُمٍّ نَعْلَمُ ... أَمَا تَرَيْنَ كَمْ شُجَاعٍ يَكْلَمُ! وَتُخْتَلَى هَامَتُهُ وَالْمِعْصَمُ! فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ، فَرَأَيْتُهُمَا يَفْحَصَانِ الأَرْضَ بِأَرْجُلِهِمَا حَتَّى مَاتَا. فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَتْ: مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: رَجُلٌ مِنَ الأَزْدِ، أَسْكُنُ الْكُوفَةَ، قَالَتْ: أَشَهِدْتَنَا يَوْمَ الْجَمَلِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَتْ: أَلَنَا أَمْ عَلَيْنَا؟ قُلْتُ: عَلَيْكُمْ، قَالَتْ: أَفَتَعْرِفُ الَّذِي يَقُولُ: يَا أُمَّنَا يَا خَيْرَ أُمٍّ نَعْلَمُ. قُلْتُ: نَعَمْ، ذَاكَ ابْنُ عَمِّي، فَبَكَتْ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهَا لا تَسْكُتُ. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، عن أَبِي لَيْلَى، عن دينار بن العيزار، قَالَ: سمعت الأَشْتَر يقول: لقيت عبد الرَّحْمَن بن عتاب بن أسيد، فلقيت أشد الناس وأروغه، فعانقته، فسقطنا إِلَى الأرض جميعا، فنادى: اقتلوني ومالكا. حَدَّثَنِي عُمَرُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الحسن، عن ابى ليلى، عن دينار ابن العيزار، قَالَ: سمعت الأَشْتَر يقول: رأيت عَبْد الله بن حكيم بن حزام معه راية قريش، وعدي بن حاتم الطَّائِيّ وهما يتصاولان كالفحلين، فتعاورناه فقتلناه- يعني عَبْد اللَّهِ- فطعن عَبْد اللَّهِ عديا ففقأ عينه حَدَّثَنِي عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، عن أبي مخنف، عن عمه مُحَمَّد بن مخنف، قَالَ: حَدَّثَنِي عدة من أشياخ الحي كلهم شهد الجمل، قَالُوا: كَانَتْ راية الأزد من أهل الْكُوفَة مع مخنف بن سليم، فقتل يَوْمَئِذٍ، فتناول الراية من أهل بيته الصقعب وأخوه عَبْد اللَّهِ بن سليم، فقتلوه، فأخذها العلاء بن عروة، فكان الفتح، وَهِيَ فِي يده، وكانت راية عبد القيس من أهل الْكُوفَة مع الْقَاسِم بن مسلم، فقتل وقتل مَعَهُ زيد بن صوحان وسيحان ابن صُوحَانَ، وأخذ الراية عدة مِنْهُمْ فقتلوا، مِنْهُمْ عَبْد اللَّهِ بن رقبة،

وراشد ثُمَّ أخذها منقذ بن النُّعْمَانِ، فدفعها إِلَى ابنه مرة بن منقذ، فانقضى الأمر وَهِيَ فِي يده، وكانت راية بكر بن وائل من أهل الْكُوفَة فِي بني ذهل، كَانَتْ مع الْحَارِث بن حسان بن خوط الذهلي، فَقَالَ أَبُو العرفاء الرقاشي: أبق عَلَى نفسك وقومك، فأقدم وَقَالَ: يَا معشر بكر بن وائل، إنه لَمْ يَكُنْ أحد لَهُ من رسول الله ص مثل منزلة صاحبكم، فانصروه، فأقدم، فقتل وقتل ابنه وقتل خمسة إخوة لَهُ، فَقَالَ لَهُ يومئذ بشر بن خوط وَهُوَ يقاتل: أنا ابن حسان بن خوط وأبي ... رسول بكر كلها إِلَى النَّبِيّ وَقَالَ ابنه: أنعى الرئيس الْحَارِث بن حسان ... لآل ذهل ولآل شيبان وَقَالَ رجل من ذهل: تنعى لنا خير امرئ من عدنان ... عِنْدَ الطعان ونزال الأقران وقتل رجال من بنى محدوج، وكانت الرياسة لَهُمْ من أهل الْكُوفَة، وقتل من بني ذهل خمسة وثلاثون رجلا، فَقَالَ رجل لأخيه وَهُوَ يقاتل: يَا أخي، مَا أحسن قتالنا إن كنا عَلَى حق! قَالَ: فإنا عَلَى الحق، إن الناس أخذوا يمينا وشمالا، وإنما تمسكنا بأهل بيت نبينا، فقاتلا حَتَّى قتلا وكانت رياسة عبد القيس من أهل الْبَصْرَة- وكانوا مع على- لعمرو بن مرحوم، ورياسه بكر بن وائل لشقيق بن ثور، والراية مع رشراشه مولاه، ورياسه الأزد من أهل الْبَصْرَة- وكانوا مع عَائِشَة- لعبد الرَّحْمَن بن جشم بن أبي حنين الحمامي- فِيمَا حَدَّثَنِي عَامِر بن حفص، ويقال لصبرة بن شيمان الحداني- والراية مع عَمْرو بن الأشرف العتكي، فقتل وقتل مَعَهُ ثلاثة عشر رجلا من أهل بيته. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو لَيْلَى، عن أبي عكاشة الهمداني، عن رفاعة البجلي، عن ابى البختري الطائي، قال:

أطافت ضبة والأزد بعائشة يوم الجمل، وإذا رجال من الأزد يأخذون بعر الجمل فيفتونه ويشمونه، ويقولون: بعر جمل أمنا ريحه ريح المسك، ورجل من أَصْحَاب علي يقاتل ويقول: جردت سيفي فِي رجال الأزد ... أضرب فِي كهولهم والمرد كل طويل الساعدين نهد. وماج الناس بعضهم في بعض، فصرخ صارخ: اعقروا الجمل، فضربه بجير بن دلجة الضبي من أهل الْكُوفَة، فقيل لَهُ: لم عقرته؟ فقال: رايت قومى يقتلون، فخفت أن يفنوا، ورجوت إن عقرته أن يبقى لَهُمْ بقية. حَدَّثَنِي عمر، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الصلت بن دينار، قَالَ: انتهى رجل من بني عقيل إِلَى كعب بن سور- رحمه اللَّه- وَهُوَ مقتول، فوضع زج رمحه فِي عينيه، ثُمَّ خضخضه، وَقَالَ: مَا رأيت مالا قط أحكم نقدا مِنْكَ. حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حَدَّثَنَا عوانة، قَالَ: اقتتلوا يوم الجمل يَوْمًا إِلَى الليل، فَقَالَ بعضهم: شفى السيف من زَيْد وهند نفوسنا ... شفاء ومن عيني عدي بن حاتم صبرنا لَهُمْ يَوْمًا إِلَى الليل كله ... بصم القنا والمرهفات الصوارم وَقَالَ ابن صامت: يَا ضب سيري فإن الأرض واسعة ... عَلَى شمالك إن الموت بالقاع كتيبة كشعاع الشمس إذ طلعت ... لها أتي إذا مَا سال دفاع إذا نقيم لكم فِي كل معترك ... بالمشرفية ضربا غير إبداع حَدَّثَنَا العباس بن مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا روح بن عبادة، قَالَ: حَدَّثَنَا روح، عن أبي رجاء، قَالَ: رأيت رجلا قَدِ اصطلمت أذنه، قلت:

أخلقة، أم شَيْء أصابك؟ قَالَ: أحدثك، بينا أنا أمشي بين القتلى يوم الجمل، فإذا رجل يفحص برجله، وَهُوَ يقول: لقد أوردتنا حومة الموت أمنا ... فلم ننصرف إلا ونحن رواء أطعنا قريشا ضلة من حلومنا ... ونصرتنا أهل الحجاز عناء قلت: يَا عَبْد اللَّهِ، قل لا إله إلا اللَّه، قَالَ: ادن مني، ولقني فإن فِي أذني وقرا، فدنوت مِنْهُ، فَقَالَ لي: ممن أنت؟ قلت: رجل من الْكُوفَة، فوثب علي، فاصطلم أذني كما ترى، ثُمَّ قَالَ: إذا لقيت أمك فأخبرها أن عمير بن الأهلب الضبي فعل بك هَذَا. حَدَّثَنِي عمر، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا المفضل الراوية وعامر بن حفص وعبد المجيد الأسدي، قَالُوا: جرح يوم الجمل عمير بن الأهلب الضبي، فمر بِهِ رجل من أَصْحَاب علي وَهُوَ فِي الجرحى، فَقَالَ لَهُ عمير: ادن مني، فدنا مِنْهُ، فقطع أذنه، وَقَالَ عمير بن الأهلب: لقد أوردتنا حومة الموت أمنا ... فلم ننصرف إلا ونحن رواء لقد كَانَ عن نصر ابن ضبة أمه ... وشيعتها مندوحة وغناء أطعنا بني تيم بن مُرَّةَ شقوة ... وهل تيم إلا أعبد وإماء! كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن المقدام الحارثي، قَالَ: كَانَ منا رجل يدعى هانئ بن خطاب، وَكَانَ ممن غزا عُثْمَان، ولم يشهد الجمل، فلما سمع بهذا الرجز- يعنى رجز القائل: نحن بنى ضبة أَصْحَاب الجمل. فِي حديث الناس، نقض عليه وهو بالكوفه: أبت شيوخ مذحج وهمدان ... أَلا يردوا نعثلا كما كَانَ خلقا جديدا بعد خلق الرحمن

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن عطية، عن أبيه، قال: جعل أَبُو الجرباء يَوْمَئِذٍ يرتجز ويقول: أسامع أنت مطيع لعلي ... من قبل أن تذوق حد المشرفي وخاذل فِي الحق أزواج النَّبِيّ ... أعرف قوما لست فِيهِ بعني كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وَطَلْحَةَ، قَالا: كَانَتْ أم الْمُؤْمِنِينَ فِي حلقة من أهل النجدات والبصائر من أفناء مضر، فكان لا يأخذ أحد بالزمام إلا كَانَ يحمل الراية واللواء لا يحسن تركها، وَكَانَ لا يأخذه إلا معروف عِنْدَ المطيفين بالجمل فينتسب لها: انا فلان بن فلان، فو الله إن كَانُوا ليقاتلون عَلَيْهِ، وإنه للموت لا يوصل إِلَيْهِ إلا بطلبة وعنت، وما رامه أحد من أَصْحَاب علي إلا قتل أو أفلت، ثُمَّ لم يعد ولما اختلط الناس بالقلب جَاءَ عدي بن حاتم فحمل عَلَيْهِ، ففقئت عينه ونكل، فَجَاءَ الأَشْتَر فحامله عبد الرَّحْمَن بن عتاب بن أسيد وإنه لأقطع منزوف، فاعتنقه، ثُمَّ جلد بِهِ الأرض عن دابته، فاضطرب تحته، فأفلت وَهُوَ جريض. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ لا يَجِيءُ رَجُلٌ فَيَأْخُذُ بِالزِّمَامِ حَتَّى يَقُولَ: أَنَا فُلانُ بْنُ فُلانٍ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، فَجَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَقَالَتْ حِينَ لَمْ يَتَكَلَّمْ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا عَبْدُ الله، انا ابن أختك، قالت: وا ثكل أَسْمَاءَ! - تَعْنِي أُخْتَهَا- وَانْتَهَى إِلَى الْجَمَلِ الأَشْتَرُ وعدى بن حاتم، فخرج عبد الله ابن حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ إِلَى الأَشْتَرِ، فَمَشَى إِلَيْهِ الأَشْتَرُ، فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ، فَقَتَلَهُ الأَشْتَرُ، وَمَشَى إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَضَرَبَهُ الأَشْتَرُ عَلَى رَأْسِهِ، فَجَرَحَهُ جُرْحًا شَدِيدًا، وَضَرَبَ عَبْدُ اللَّهِ الأَشْتَرَ ضَرْبَةً خَفِيفَةً، وَاعْتَنَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، وَخَرَّا إِلَى الأَرْضِ يَعْتَرِكَانِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: اقْتُلُونِي وَمَالِكًا. وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ: مَا أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ قَالَ: وَالأَشْتَرَ وَأَنَّ لِي حُمُرُ

النَّعَمِ وَشَدَّ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ وَأَصْحَابِ عَائِشَةَ فَافْتَرَقَا، وَتَنَقَّذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ صَاحِبَهُ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن الصعب بن عطية، عن أبيه، قَالَ: وَجَاءَ مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ فَأَخَذَ بِزِمَامِ الْجَمَلِ، فَقَالَ: يَا أُمَّتَاهُ، مُرِينِي بِأَمْرِكِ قَالَتْ: آمُرُكَ أَنْ تَكُونَ كَخَيْرِ بَنِي آدَمَ إِنْ تركت. قَالَ: فَحَمَلَ فَجَعَلَ لا يَحْمِلُ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلا حَمَلَ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: حم لا يُنْصَرُونَ، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ نَفَرٌ، فَكُلُّهُمُ ادَّعَى قَتْلَهُ: الْمُكَعْبَرُ الأَسَدِيُّ، وَالْمُكَعْبَرُ الضَّبِّيُّ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ شَدَّادٍ الْعَبْسِيُّ، وَعَفَّانُ بْنُ الأَشْقَرِ النَّصْرِيُّ، فَأَنْفَذَهُ بَعْضَهُمْ بِالرُّمْحِ، فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ قَاتِلُهُ مِنْهُمْ: وَأَشْعَثَ قَوَّامٍ بِآيَاتِ رَبِّهِ ... قَلِيلُ الأَذَى فِيمَا تَرَى العين مسلم هنكت لَهُ بِالرُّمْحِ جَيْبَ قَمِيصِهِ ... فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ يُذَكِّرُنِي حم وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ ... فَهَلا تَلا حم قَبْلَ التَّقَدُّمِ! عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ غَيْرَ أَنْ لَيْسَ تَابِعًا ... عَلِيًّا وَمَنْ لا يَتْبَعِ الْحَقَّ يَنْدَمِ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن الصعب بن عطية، عن أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ القعقاع بن عَمْرو للأشتر يؤلبه يَوْمَئِذٍ: هل لك فِي العود؟ فلم يجبه فَقَالَ: يَا أشتر، بعضنا أعلم بقتال بعض مِنْكَ فحمل القعقاع، وإن الزمام مع زفر بن الْحَارِث، وَكَانَ آخر من أعقب فِي الزمام، فلا وَاللَّهِ مَا بقي من بني عَامِر يَوْمَئِذٍ شيخ إلا أصيب قدام الجمل، فقتل فيمن قتل يَوْمَئِذٍ رَبِيعَة جد إِسْحَاق بن مسلم، وزفر يرتجز ويقول: يَا أمنا يَا عيش لن تراعي كل بنيك بطل شجاع ليس بوهام وَلا براعي

وقام القعقاع يرتجز ويقول: إذا وردنا آجنا جهرناه ... وَلا يطاق ورد مَا منعناه تمثلها تمثلا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، قَالا: كَانَ من آخر من قاتل ذَلِكَ الْيَوْم زفر بن الْحَارِث، فزحف إِلَيْهِ القعقاع، فلم يبق حول الجمل عامري مكتهل إلا أصيب، يتسرعون إِلَى الموت، وقال القعقاع: يا بحير بن دلجة، صح بقومك فليعقروا الجمل قبل ان يصابوا وتصاب أم المؤمنين، فقال: يال ضبة، يَا عَمْرو بن دلجة، ادع بي إليك، فدعا بِهِ، فَقَالَ: أنا آمن حَتَّى أرجع؟ قَالَ: نعم قَالَ: فاجتث ساق البعير، فرمى بنفسه عَلَى شقه وجرجر البعير وَقَالَ القعقاع لمن يليه: أنتم آمنون واجتمع هُوَ وزفر عَلَى قطع بطان البعير، وحملا الهودج فوضعاه، ثم اطافا به، وتفار من وراء ذَلِكَ مِنَ النَّاسِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن الصعب بن عطية، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لما أمسى الناس وتقدم علي وأحيط بالجمل ومن حوله، وعقره بجير بن دلجة، وَقَالَ: إنكم آمنون، كف بعض الناس عن بعض وَقَالَ علي فِي ذَلِكَ حين أمسى وانخنس عَنْهُمُ القتال: إليك أشكو عجري وبجري ... ومعشرا غشوا علي بصري قتلت مِنْهُمْ مضرا بمضري ... شفيت نفسي وقتلت معشري كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ طَلْحَةُ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ أَعْطِ عُثْمَانَ مِنِّي حَتَّى يَرْضَى، فَجَاءَ سَهْمُ غَرْبٍ وَهُوَ وَاقِفٌ، فَخَلَّ رُكْبَتَهُ بِالسَّرْجِ، وَثَبُتَ حَتَّى امْتَلأَ مَوْزَجُهُ دَمًا، فَلَمَّا ثَقُلَ قَالَ لِمَوْلاهُ: أَرْدِفْنِي وَابْغِنِي مَكَانًا

لا أُعْرَفُ فِيهِ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ شَيْخًا أَضْيَعَ دَمًا مِنِّي فَرَكِبَ مَوْلاهُ وَأَمْسَكَهُ وَجَعَلَ يَقُولُ: قَدْ لَحِقْنَا الْقَوْمَ، حَتَّى انْتَهَى بِهِ إِلَى دَارٍ مِنْ دُورِ الْبَصْرَةِ خَرِبَةٍ، وَأَنْزَلَهُ فِي فَيْئِهَا، فَمَاتَ فِي تِلَكَ الْخَرِبَةِ، وَدُفِنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي بَنِي سَعْدٍ. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الْبَخْتَرِيّ العبدي، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَتْ رَبِيعَة مع علي يوم الجمل ثلث أهل الْكُوفَة، ونصف الناس يوم الوقعة، وكانت تعبيتهم مضر ومضر، وربيعة وربيعة، واليمن واليمن، فَقَالَ بنو صوحان: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ائذن لنا نقف عن مضر، ففعل، فأتى زَيْد فقيل لَهُ: مَا يوقفك حيال الجمل وبحيال مضر! الموت معك وبإزائك، فاعتزل إلينا، فَقَالَ: الْمَوْتَ نُرِيدُ فأصيبوا يَوْمَئِذٍ، وأفلت صعصعة من بَيْنَهُمْ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن الصعب بن عطية، قَالَ: كَانَ رجل منا يدعى الحارث، فقال يومئذ: يال مضر، علام يقتل بعضكم بعضا! تبادرون لا ندري إلا أنا إِلَى قضاء، وما تكفون فِي ذَلِكَ. حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان، قَالَ: حدثني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المبارك، عن جرير، قَالَ: حدثنى الزبير بن الخريت، قَالَ: حَدَّثَنِي شيخ من الحرامين يقال لَهُ أَبُو جبير، قَالَ: مررت بكعب بن سور وَهُوَ آخذ بخطام جمل عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يوم الجمل، فَقَالَ: يَا أَبَا جبير، انا والله كما قالت القائله: بني لا تبن وَلا تقاتل. فَحَدَّثَنِي الزُّبَيْر بن الخريت، [قَالَ: مَرَّ بِهِ علي وَهُوَ قتيل، فقام عَلَيْهِ فَقَالَ: وَاللَّهِ إنك- مَا علمت- كنت لصليبا فِي الحق، قاضيا بالعدل، وكيت وكيت، فاثنى عليه]

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن ابن صعصعة المزني- أو عن صعصعة- عن عَمْرو بن جاوان، عن جرير بن أشرس، قَالَ: كَانَ القتال يَوْمَئِذٍ فِي صدر النهار مع طَلْحَة وَالزُّبَيْر، فانهزم الناس وعائشة توقع الصلح، فلم يفجأها إلا الناس، فأحاطت بِهَا مضر، ووقف الناس للقتال، فكان القتال نصف النهار مع عائشة وعلى كعب بن سور أخذ مصحف عائشة وعلى فبدر بين الصفين يناشدهم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي دمائهم، وأعطي درعه فرمى بِهَا تحته، وأتى بترسه فتنكبه، فرشقوه رشقا واحدا، فقتلوه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ولم يمهلوهم أن شدوا عَلَيْهِم، والتحم القتال، فكان أول مقتول بين يدي عائشة من أهل الْكُوفَة. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مخلد بن كثير، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أرسلنا مسلم بن عَبْدِ اللَّهِ يدعو بني أبينا، فرشقوه- كما صنع القلب بكعب- رشقا واحدا، فقتلوه، فكان أول من قتل بين يدي أَمِير الْمُؤْمِنِينَ وعائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَتْ أم مسلم ترثيه: لا هم إن مسلما أتاهم مستسلما للموت إذ دعاهم إِلَى كتاب اللَّه لا يخشاهم فرملوه من دم إذ جاهم وأمهم قائمة تراهم يأتمرون الغي لا تنهاهم كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن حكيم ابن شَرِيكٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: لَمَّا انْهَزَمَتْ مُجَنَّبَتَا الْكُوفَةِ عَشِيَّةَ الْجَمَلِ، صَارُوا إِلَى الْقَلْبِ- وَكَانَ ابْنُ يَثْرِبِيٍّ قَاضِي الْبَصْرَةِ قَبِلَ كَعْبَ بْنَ سُورٍ، فَشَهِدَهُمْ هُوَ وَأَخُوهُ يَوْمَ الْجَمَلِ، وَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ وَعَمْرٌو، فَكَانَ وَاقِفًا أَمَامَ الْجَمَلِ عَلَى فَرَسٍ- فَقَالَ عَلِيٌّ: مَنْ رَجُلٌ يَحْمِلُ عَلَى الْجَمَلِ؟ فَانْتُدِبَ لَهُ هِنْدُ بْنُ عَمْرٍو الْمُرَادِيُّ، فَاعْتَرَضَهُ ابْنُ يَثْرِبِيٍّ، فَاخْتَلَفَا ضربتين، فقتله ابن يثربى،

ثم حمل سيحان بن صوحان، فَاعْتَرَضَهُ ابْنُ يَثْرِبِيٍّ، فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ فَقَتَلَهُ ابْنُ يَثْرِبِيٍّ، ثُمَّ حَمَلَ عِلْبَاءُ بْنُ الْهَيْثَمِ، فَاعْتَرَضَهُ ابْنُ يَثْرِبِيٍّ، فَقَتَلَهُ، ثُمَّ حَمَلَ صَعْصَعَةُ فَضَرَبَهُ، فَقُتِلَ ثَلاثَةٌ أُجْهِزَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَعْرَكَةِ: عِلْبَاءُ، وَهِنْدٌ، وَسَيْحَانُ، وَارْتَثَّ صَعْصَعَةُ وَزَيْدٌ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا، وَبَقِيَ الآخَرُ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عن الشَّعْبِيِّ، قَالَ: أخذ الخطام يوم الجمل سبعون رجلا من قريش، كلهم يقتل وَهُوَ آخذ بالخطام، وحمل الأَشْتَر فاعترضه عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، فاختلفا ضربتين، ضربه الأَشْتَر فأمه، وواثبه عَبْد اللَّهِ، فاعتنقه فخر بِهِ، وجعل يقول: اقتلوني ومالكا- وَكَانَ الناس لا يعرفونه بمالك، ولو قال: والاشتر، وكانت له ألف نفس مَا نجا منها شَيْء- وما زال يضطرب فِي يدي عَبْد اللَّهِ حَتَّى أفلت، وَكَانَ الرجل إذا حمل عَلَى الجمل ثُمَّ نجا لم يعد. وجرح يَوْمَئِذٍ مَرْوَان وعبد اللَّه بن الزُّبَيْرِ. حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان، قال: حدثني عبد الله، عن جرير بن حازم، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أبي يَعْقُوب وابن عون، عن أبي رجاء، قَالَ: قَالَ يَوْمَئِذٍ عَمْرو بن يثربي الضبي، وَهُوَ أخو عميرة القاضى. نحن بنى ضبة أَصْحَاب الجمل ننزل بالموت إذا الموت نزل وزاد ابن عون- وليس فِي حديث ابن أبي يَعْقُوب: القتل أحلى عندنا من العسل ننعى ابن عفان بأطراف الأسل ردوا علينا شيخنا ثُمَّ بجل. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن دَاوُد بن أبي هند، عن شيخ من بني ضبة، قَالَ: ارتجز يَوْمَئِذٍ ابن يثربي: أنا لمن أنكرني ابن يثربي قاتل علباء وهند الْجَمَلِيّ

وابن لصوحان عَلَى دين علي. وَقَالَ: من يبارز؟ فبرز لَهُ رجل، فقتله، ثُمَّ برز له آخر فقتله، وارتجز وَقَالَ: أقتلهم وَقَدْ أَرَى عَلِيًّا ... ولو أشأ أوجرته عمريا فبرز لَهُ عمار بن ياسر، وإنه لأضعف من بارزه، وإن الناس ليسترجعون حين قام عمار، وأنا أقول لعمار من ضعفه: هَذَا وَاللَّهِ لاحق بأَصْحَابه، وَكَانَ قضيفا، حمش الساقين، وعليه سيف حمائله تشف عنه قريب من إبطه، فيضربه ابن يثربي بسيفه، فنشب في حجفته، وضربه عمار واوهطه، ورمى اصحاب على ابن يثربي بالحجارة حَتَّى أثخنوه وارتثوه. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن حماد البرجمي، عن خارجة بن الصلت، قَالَ: لما قال الضبي يوم الجمل: نحن بنى ضبة أصحاب الجمل ... ننعى ابن عفان بأطراف الأسل ردوا علينا شيخنا ثُمَّ بجل. قَالَ عمير بن أبي الْحَارِث: كيف نرد شيخكم وَقَدْ قحل ... نحن ضربنا صدره حَتَّى انجفل! كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن حكيم، عَنْ أَبِيهِ، عن جده، قَالَ: عقر الْجَمَلَ رَجُلٌ من بني ضبة يقال لَهُ: ابن دلجة- عَمْرو أو بجير- وَقَالَ فِي ذَلِكَ الْحَارِث بن قيس- وَكَانَ من أَصْحَاب عَائِشَة:

شده القتال يوم الجمل وخبر اعين بن ضبيعه واطلاعه في الهودج

نحن ضربنا ساقه فانجدلا ... من ضربة بالنفر كَانَتْ فيصلا لو لم نكون للرسول ثقلا ... وحرمة لاقتسمونا عجلا وَقَدْ نحل ذَلِكَ المثنى بن مخرمة من أَصْحَاب علي . شدة القتال يوم الجمل وخبر أعين بن ضبيعة واطلاعه فِي الهودج كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّد بْن نويرة، عن أبي عُثْمَان، قَالَ: قَالَ القعقاع: مَا رأيت شَيْئًا أشبه بشيء من قتال القلب يوم الجمل بقتال صفين، لقد رأيتنا ندافعهم بأسنتنا ونتكئ عَلَى أزجتنا، وهم مثل ذَلِكَ حَتَّى لو أن الرجال مشت عَلَيْهَا لاستقلت بهم. حدثني عيسى بن عبد الرحمن المروزي، قال: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْعُرَنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَعْلَى الأَسْلَمِيُّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنَ قَرْمٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ الْكَاهِلِيِّ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجَمَلِ تَرَامَيْنَا بِالنَّبْلِ حَتَّى فَنِيَتْ، وَتَطَاعَنَّا بِالرِّمَاحِ حَتَّى تَشَبَّكَتْ فِي صُدُورِنَا وَصُدُورِهِمْ، حَتَّى لَوْ سُيِّرَتْ عَلَيْهَا الْخَيْلُ لَسَارَتْ، ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: السُّيُوفَ يَا أَبْنَاءَ الْمُهَاجِرِينَ. قَالَ الشَّيْخُ: فَمَا دَخَلْتُ دَارَ الْوَلِيدِ إِلا ذَكَرْتُ ذَلِكَ الْيَوْمِ. حَدَّثَنِي عبد الأعلى بن واصل، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو فقيم، قَالَ: حَدَّثَنَا فطر، قَالَ: سمعت أبا بشير قَالَ: كنت مع مولاي زمن الجمل، فما مررت بدار الْوَلِيد قط، فسمعت أصوات القصارين يضربون إلا ذكرت قتالهم. حَدَّثَنِي عِيسَى بن عبد الرحمن المروزي، قال: حدثنا الحسن بن الْحُسَيْن، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بن يعلى، عن عَبْد الْمَلِكِ بن مسلم، عن عِيسَى ابن حطان قَالَ: حاص الناس حيصة، ثُمَّ رجعنا وعائشة عَلَى جمل

أحمر، فِي هودج أحمر، مَا شبهته إلا بالقنفذ من النبل. حَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ بن أحمد، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابن عون، عن أبي رجاء، قَالَ: ذكروا يوم الجمل فقلت: كأني أنظر إِلَى خدر عَائِشَة كأنه قنفذ مما رمي فِيهِ من النبل، فقلت لأبي رجاء: أقاتلت يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: وَاللَّهِ لقد رميت بأسهم فما أدري مَا صنعن. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بْنِ رَاشِدٍ السُّلَمِيِّ، عَنْ مَيْسَرَةَ أَبِي جَمِيلَةَ، إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ أَتَيَا عَائِشَةَ وَقَدْ عُقِرَ الْجَمَلُ، فَقَطَعَا غَرَضَةَ الرَّحْلِ، وَاحْتَمَلا الْهَوْدَجَ، فَنَحَّيَاهُ حَتَّى أَمَرَهُمَا عَلِيٌّ فِيهِ أَمْرَهُ بَعْدُ، قَالَ: أَدْخِلاهَا الْبَصْرَةَ، فَأَدْخَلاهَا دَارَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلَفٍ الْخُزَاعِيِّ. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، قَالا: أَمَرَ عَلِيٌّ نَفَرًا بِحَمْلِ الْهَوْدَجِ مِنْ بَيْنِ الْقَتْلَى، وَقَدْ كَانَ الْقَعْقَاعُ وَزُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ أَنْزَلاهُ عَنْ ظَهْرِ الْبَعِيرِ، فَوَضَعَاهُ إِلَى جَنْبِ الْبَعِيرِ، فَأَقْبَلَ مُحَمَّدُ ابن أَبِي بَكْرٍ إِلَيْهِ وَمَعَهُ نَفَرٌ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ، فَقَالَتْ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: أَخُوكِ الْبَرُّ، قَالَتْ: عُقُوقٌ قَالَ: عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ: كَيْفَ رَأَيْتِ ضَرْبَ بَنِيكِ الْيَوْمَ يَا أُمَّهْ؟ قَالَتْ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا ابْنُكِ الْبَارُّ عَمَّارٌ، قَالَتْ: لَسْتَ لَكَ بِأُمٍّ، قَالَ: بَلَى، وَإِنْ كَرِهْتِ قَالَتْ: فَخَرْتُمْ أَنْ ظَفَرْتُمْ، وَأَتَيْتُمْ مِثْلَ مَا نَقِمْتُمْ، هَيْهَاتَ، وَاللَّهِ لَنْ يَظْفَرَ مَنْ كَانَ هَذَا دَأْبَهُ وَأَبْرَزُوهَا بِهَوْدَجِهَا مِنَ الْقَتْلَى، وَوَضَعُوهَا لَيْسَ قُرْبَهَا أَحَدٌ، وَكَأَنَّ هَوْدَجَهَا فَرْخٌ مقصب مِمَّا فِيهِ مِنَ النَّبْلِ، وَجَاءَ أَعْيَنُ بْنُ ضُبَيْعَةَ الْمُجَاشِعِيُّ حَتَّى اطَّلَعَ فِي الْهَوْدَجِ، فَقَالَتْ: إِلَيْكَ لَعْنَكَ اللَّهُ! فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَى الا حميراء، قَالَتْ: هَتَكَ اللَّهُ سِتْرَكَ، وَقَطَعَ يَدَكَ، وَأَبْدَى عَوْرَتَكَ! فَقُتِلَ بِالْبَصْرَةِ

مقتل الزبير بن العوام رضى الله عنه

وَسُلِبَ، وَقُطِعَتْ يَدَهُ، وَرُمِيَ بِهِ عُرْيَانًا فِي خَرِبَةٍ مِنْ خَرِبَاتِ الأَزْدِ، فَانْتَهَى إِلَيْهَا عَلِيٌّ، فَقَالَ: إِي أُمَّهْ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ، قَالَتْ: غَفَرَ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ. كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن حكيم ابن شَرِيكٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: انْتَهَى مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَمَعَهُ عَمَّارٌ، فَقَطَعَ الأَنْسَاعَ عَنِ الْهَوْدَجِ، وَاحْتَمَلاهُ، فَلَمَّا وَضَعَاهُ أَدْخَلَ مُحَمَّدٌ يَدَهُ وَقَالَ: أَخُوكِ مُحَمَّدٌ، فَقَالَتْ: مُذَمَّمٌ، قَالَ: يَا أُخَيَّةُ، هَلْ أَصَابَكِ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: مَا أَنْتَ مِنْ ذَاكَ؟ قَالَ: فَمَنْ إِذًا! الضُّلالُ؟ قَالَتْ: بَلِ الْهُدَاةُ، وَانْتَهَى إِلَيْهَا عَلِيٌّ، فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا أُمَّهْ؟ قَالَتْ: بِخَيْرٍ، قَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكِ قَالَتْ: وَلَكَ. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد وَطَلْحَة، قَالا: ولما كَانَ من آخر الليل خرج مُحَمَّد بعائشة حَتَّى أدخلها الْبَصْرَة، فأنزلها فِي دار عَبْد اللَّهِ بن خلف الخزاعي عَلَى صفية ابنة الْحَارِث بن طَلْحَة بن ابى طلحه ابن عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ، وَهِيَ أم طَلْحَة الطلحات بن عَبْدِ اللَّهِ ابن خلف. وكانت الوقعة يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، فِي قول الْوَاقِدِيّ مقتل الزُّبَيْر بن العوام رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا انْهَزَمَ النَّاسُ يَوْمَ الجمل عن طلحه والزبير، ومضى الزُّبَيْرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى مَرَّ بِعَسْكَرِ الأَحْنَفِ، فَلَمَّا رَآهُ وَأَخْبَرَ بِهِ قَالَ: وَاللَّهِ مَا هَذَا بِخِيَارٍ، وَقَالَ لِلنَّاسِ: مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِهِ؟ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ جُرْمُوزٍ لأَصْحَابِهِ:

من انهزم يوم الجمل فاختفى ومضى في البلاد

أَنَا، فَأَتْبَعَهُ، فَلَمَّا لَحِقَهُ نَظَرَ إِلَيْهِ الزُّبَيْرُ- وَكَانَ شَدِيدَ الْغَضَبِ- قَالَ: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَكَ، فَقَالَ غُلامٌ لِلزُّبَيْرِ يُدْعَى عَطِيَّةَ كَانَ مَعَهُ: إِنَّهُ مُعْدٍ، فَقَالَ: مَا يَهُولُكَ مِنْ رَجُلٍ! وَحَضُرَتِ الصَّلاةُ، فَقَالَ ابْنُ جُرْمُوزٍ: الصَّلاةَ، فَقَالَ: الزُّبَيْرُ: الصَّلاةَ، فَنَزَلا، وَاسْتَدْبَرَهُ ابْنُ جُرْمُوزٍ فَطَعَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ فِي جُرْبَانِ دِرْعِهِ، فَقَتَلَهُ، وَأَخَذَ فَرَسَهُ وَخَاتَمَهُ وَسِلاحَهُ، وَخَلَّى عَنِ الْغُلامِ، فَدَفَنَهُ بِوَادِي السِّبَاعِ، وَرَجَعَ إِلَى النَّاسِ بِالْخَبَرِ. فَأَمَّا الأَحْنَفُ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَحْسَنْتَ أَمْ أَسَأْتَ! ثُمَّ انْحَدَرَ إِلَى عَلِيٍّ وَابْنُ جُرْمُوزٍ مَعَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَأَخْبَرَهُ، [فَدَعَا بِالسَّيْفِ، فَقَالَ: سَيْفٌ طَالَمَا جَلَّى الكرب عن وجه رسول الله ص! وَبَعَثَ بِذَلِكَ] إِلَى عَائِشَةَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الأَحْنَفِ فَقَالَ: تَرَبَّصْتَ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ أَرَانِي إِلا قَدْ أَحْسَنْتُ، وَبِأَمْرِكَ كَانَ مَا كَانَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَارْفُقْ فَإِنَّ طَرِيقَكَ الَّذِي سَلَكْتَ بَعِيدٌ، وَأَنْتَ إِلَيَّ غَدًا أَحْوَجُ مِنْكَ أَمْسِ، فَاعْرِفْ إِحْسَانِي، وَاسْتَصِفْ مَوَدَّتِي لِغَدٍ، وَلا تَقُولَنَّ مِثْلَ هَذَا، فَإِنِّي لَمْ أَزَلْ لَكَ نَاصِحًا . من انهزم يوم الجمل فاختفى ومضى فِي البلاد كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: ومضى الزُّبَيْر فِي صدر يوم الهزيمة راجلا نحو الْمَدِينَة، فقتله ابن جرموز، قَالا: وخرج عتبة بن أَبِي سُفْيَانَ وعبد الرَّحْمَن ويحيى ابنا الحكم يوم الهزيمة، قد شججوا فِي البلاد، فلقوا عصمة بن أبير التيمي، فَقَالَ: هل لكم فِي الجوار؟ قَالُوا: من أنت؟ قَالَ: عصمة بن أبير قَالُوا: نعم، قَالَ: فأنتم فِي جواري إِلَى الحول، فمضى بهم، ثم حماهم واقام عليهم حتى برءوا، ثُمَّ قَالَ: اختاروا أحب بلد إليكم أبلغكموه، قالوا: الشام، فخرج بهم في أربعمائة راكب من تيم الرباب، حَتَّى إذا وغلوا فِي بلاد كلب بدومة

قَالُوا: قَدْ وفيت ذمتك وذممهم، وقضيت الَّذِي عَلَيْك فارجع، فرجع. وفي ذَلِكَ يقول الشاعر: وفى ابن أبير والرماح شوارع ... بآل أبي العاصي وفاء مذكرا وأما ابن عَامِر فإنه خرج أَيْضًا مشججا، فتلقاه رجل من بني حُرْقُوص يدعى مريا، فدعاه للجوار، فَقَالَ: نعم، فأجاره وأقام عَلَيْهِ، وَقَالَ: أي البلدان أحب إليك؟ قَالَ: دمشق، فخرج بِهِ فِي ركب من بني حُرْقُوص حَتَّى بلغوا بِهِ دمشق وَقَالَ حَارِثَة بن بدر- وَكَانَ مع عَائِشَة، وأصيب فِي الوقعة ابنه أو أخوه زراع: أتاني من الأنباء أن ابن عَامِرٍ ... أناخ وألقى فِي دمشق المراسيا وأوى مَرْوَان بن الحكم إِلَى أهل بيت من عنزة يوم الهزيمة، فَقَالَ لَهُمْ: أعلموا مالك بن مسمع بمكاني، فأتوا مالكا فأخبروه بمكانه، فَقَالَ لأخيه مقاتل: كيف نصنع بهذا الرجل الَّذِي قَدْ بعث إلينا يعلمنا بمكانه؟ قَالَ: ابعث ابن أخي فأجره، والتمسوا لَهُ الأمان من علي، فإن آمنه فذاك الَّذِي نحب وإن لم يؤمنه خرجنا بِهِ وبأسيافنا، فإن عرض لَهُ جالدنا دونه بأسيافنا، فإما إن نسلم، وإما أن نهلك كراما وَقَدِ استشار غيره من أهله من قبل فِي الَّذِي استشار فِيهِ مقاتلا، فنهاه، فأخذ برأي أخيه، وترك رأيهم، فأرسل إِلَيْهِ فأنزله داره، وعزم عَلَى منعه إن اضطر إِلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: الموت دون الجوار وفاء، وحفظ لَهُمْ بنو مَرْوَان ذَلِكَ بعد، وانتفعوا بِهِ عندهم، وشرفوهم بِذَلِكَ، وأوى عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ إِلَى دار رجل من الأزد يدعى وزيرا، وَقَالَ: ائت أم الْمُؤْمِنِينَ فأعلمها بمكاني، وإياك أن يطلع عَلَى هَذَا مُحَمَّد بن أبي بكر، فأتى عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فأخبرها، فَقَالَتْ: علي بمحمد، فَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إنه قَدْ نهاني أن يعلم بِهِ مُحَمَّد، فأرسلت إِلَيْهِ فَقَالَتِ: اذهب مع هَذَا الرجل حَتَّى تجيئني بابن أختك، فانطلق مَعَهُ فدخل بالأزدي

عَلَى ابن الزُّبَيْر، قَالَ: جئتك وَاللَّهِ بِمَا كرهت، وأبت أم الْمُؤْمِنِينَ إلا ذَلِكَ، فخرج عَبْد اللَّهِ ومحمد وهما يتشاتمان، فذكر مُحَمَّد عُثْمَان فشتمه وشتم عَبْد اللَّهِ محمدا حَتَّى انتهى إِلَى عَائِشَة فِي دار عَبْد اللَّهِ بن خلف- وكان عبد الله ابن خلف قبل يوم الجمل مع عَائِشَة، وقتل عُثْمَان أخوه مع علي- وأرسلت عَائِشَة فِي طلب من كَانَ جريحا فضمت مِنْهُمْ ناسا، وضمت مَرْوَان فيمن ضمت، فكانوا فِي بيوت الدار. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، قَالا: وَغَشِيَ الْوُجُوهُ عَائِشَةَ وَعَلِيٌّ فِي عَسْكَرِهِ، وَدَخَلَ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى عَائِشَةَ فِي أَوَّلِ مَنْ دَخَلَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: إِنِّي رَأَيْتُ رَجُلَيْنِ بِالأَمْسِ اجْتَلَدَا بَيْنَ يَدَيْ وَارْتَجَزَا بِكَذَا، فَهَلْ تَعْرِفُ كُوفِيَّكَ مِنْهُمَا؟ قَالَ: نَعَمْ، ذَاكَ الَّذِي قَالَ: أَعَقَّ أُمٍّ نَعْلَمُ، وَكَذَبَ وَاللَّهِ، إِنَّكِ لأَبَرُّ أُمٍّ نَعْلَمُ، وَلَكِنْ لَمْ تُطَاعِي فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَوَدَدْتُ أَنِّي مِتُّ قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ بِعِشْرِينَ سنه وخرج فاتى عليا فَأَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ سَأَلَتْهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ! مَنِ الرَّجُلانِ؟ قَالَ: ذَلِكَ أَبُو هَالَةَ الَّذِي يَقُولُ: كَيْمَا أَرَى صَاحِبُهُ عَلِيًّا. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوَدَدْتُ أَنِّي مِتُّ قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ بِعِشْرِينَ سَنَةً، فَكَانَ قَوْلُهُمَا وَاحِدًا. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وَتَسَلَّلَ الْجَرْحَى فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَدَخَلَ الْبَصْرَةُ مَنْ كَانَ يُطِيقُ الانْبِعَاثَ مِنْهُمْ، وَسَأَلَتْ عَائِشَةُ يَوْمَئِذٍ عَنْ عِدَّةٍ مِنَ النَّاسِ، مِنْهُمْ مَنْ كَانَ مَعَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ عَلَيْهَا، وَقَدْ غَشِيَهَا النَّاسُ، وَهِيَ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلَفٍ، فَكُلَّمَا نُعِيَ لَهَا مِنْهُمْ وَاحِدٌ قَالَتْ: يَرْحَمُهُ اللَّهُ، فَقَالَ لَهَا رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهَا: كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: كَذَلِكَ قَالَ رَسُولُ الله ص: فُلانٌ فِي الْجَنَّةِ، وَفُلانٌ فِي الْجَنَّةِ [وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَئِذٍ: إِنِّي لأَرْجُو أَلا يَكُونَ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلاءِ نَقَّى قَلْبَهُ إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ] كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ [أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: مَا نَزَلَ على النبي ص آيَةً أَفْرَحُ لَهُ مِنْ

توجع على على قتلى الجمل ودفنهم وجمعه ما كان في العسكر والبعث به إلى البصره

قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ] » ، [فقال ص: مَا أَصَابَ الْمُسْلِمَ فِي الدُّنْيَا مِنْ مُصِيبَةٍ فِي نَفْسِهِ فَبِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ أَكْثَرُ، وَمَا أَصَابَهُ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَعَفْوٌ مِنْهُ لا يُعْتَدُّ عَلَيْهِ فِيهِ عُقَوبَةَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَا عَفَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا فَقَدْ عَفَا عَنْهُ، وَاللَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَعُودَ فِي عَفْوِهِ] . تَوَجُّعُ عَلِيٍّ عَلَى قَتْلَى الْجَمَلِ وَدَفْنِهِمْ وَجَمْعُهُ مَا كَانَ فِي الْعَسْكَرِ وَالْبَعْثُ بِهِ إِلَى الْبَصْرَةِ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وَأَقَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي عَسْكَرِهِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ لا يَدْخُلُ الْبَصْرَةَ، وَنَدَبَ النَّاسَ إِلَى مَوْتَاهُمْ، فَخَرَجُوا إِلَيْهِمْ فَدَفَنُوهُمْ، [فَطَافَ عَلِيٌّ مَعَهُمْ فِي الْقَتْلَى، فَلَمَّا أُتِيَ بِكَعْبِ بْنِ سُورٍ قَالَ: زَعَمْتُمْ أَنَّمَا خَرَجَ مَعَهُمُ السُّفَهَاءُ، وَهَذَا الْحِبْرُ قَدْ تَرَوْنَ] [وَأَتَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَتَّابٍ فَقَالَ: هَذَا يَعْسُوبُ الْقَوْمِ- يَقُولُ الَّذِي كَانُوا يُطِيفُونَ بِهِ- يَعْنِي أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَرَضَوْا بِهِ لِصَلاتِهِمْ] وَجَعَلَ عَلِيٌّ كُلَّمَا مَرَّ بِرَجُلٍ فِيهِ خَيْرٌ قَالَ: زَعَمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ إِلَيْنَا إِلا الْغَوْغَاءُ، هَذَا الْعَابِدُ الْمُجْتَهِدُ وَصَلَّى عَلَى قَتْلاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَعَلَى قَتْلاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَصَلَّى عَلَى قُرَيْشٍ مِنْ هؤلاء وهؤلاء، فكانوا مَدَنِيِّينَ وَمَكِّيِّينَ، وَدَفَنَ عَلِيٌّ الأَطْرَافَ فِي قَبْرٍ عظيم، وجمع ما كان في العسكر من شَيْءٍ، ثُمَّ بَعَثَ بِهِ إِلَى مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ، أَنَّ مَنْ عَرَفَ شَيْئًا فَلْيَأْخُذْهُ، إِلا سِلاحًا كَانَ فِي الْخَزَائِنِ عَلَيْهِ سِمَةُ السُّلْطَانِ، فَإِنَّهُ لما بَقِيَ لَمْ يُعْرَفْ، خُذُوا مَا أَجْلَبُوا بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لا يحل لمسلم

عدد قتلى الجمل

مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِ الْمُتَوَفَّى شَيْءٍ، وَإِنَّمَا كَانَ ذلك السلاح في ايديهم من غير تنفيل مِنَ السُّلْطَانِ . عدد قتلى الجمل كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وَطَلْحَةَ، قَالا: كَانَ قتلى الجمل حول الجمل عشرة آلاف، نصفهم من أَصْحَاب علي، ونصفهم من أَصْحَاب عَائِشَة، من الأزد ألفان، ومن سائر اليمن خمسمائة، ومن مضر الفان، وخمسمائة من قيس، وخمسمائة من تميم، والف من بنى ضبة، وخمسمائة من بكر بن وائل وقيل: قتل من أهل الْبَصْرَة فِي المعركة الأولى خمسة آلاف، وقتل من أهل الْبَصْرَة فِي المعركة الثانية خمسة آلاف، فذلك عشرة آلاف قتيل من أهل الْبَصْرَة، ومن أهل الْكُوفَة خمسة آلاف. قَالا: وقتل من بني عدي يَوْمَئِذٍ سبعون شيخا، كلهم قَدْ قرأ القرآن، سوى الشباب ومن لم يقرأ القرآن. وقالت عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا زلت أرجو النصر حَتَّى خفيت أصوات بني عدي . دخول علي عَلَى عَائِشَة وما أمر بِهِ من العقوبة فيمن تناولها كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، قَالا: وَدَخَلَ عَلِيٌّ الْبَصْرَةَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، فَانْتَهَى إِلَى الْمَسْجِدِ، فَصَلَّى فِيهِ، ثُمَّ دَخَلَ الْبَصْرَةَ، فَأَتَاهُ النَّاسُ، ثُمَّ رَاحَ إِلَى عَائِشَةَ عَلَى بَغْلَتِهِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلَفٍ وَهِيَ أَعْظَمُ دَارٍ بِالْبَصْرَةِ، وَجَدَ النِّسَاءَ يَبْكِينَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَعُثْمَانَ ابْنَيْ خَلَفٍ مَعَ عَائِشَةَ، وَصَفِيَّةُ ابْنَةُ الْحَارِثِ مُخْتَمِرَةٌ تَبْكِي، فَلَمَّا

رَأَتْهُ قَالَتْ: يَا عَلِيُّ، يَا قَاتِلَ الأَحِبَّةِ، يَا مُفَرِّقَ الْجَمْعِ، أَيْتَمَ اللَّهُ بَنِيكَ مِنْكَ كَمَا أَيْتَمْتَ وَلَدَ عَبْدِ اللَّهِ مِنْهُ! فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شَيْئًا، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى حَالِهِ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا، وَقَعَدَ عِنْدَهَا، وَقَالَ لَهَا: جَبَهَتْنَا صَفِيَّةُ، أَمَا إِنِّي لَمْ أَرَهَا مُنْذُ كَانَتْ جَارِيَةً حَتَّى الْيَوْمَ، فَلَمَّا خَرَجَ عَلِيٌّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ فَأَعَادَتْ عَلَيْهِ الْكَلامَ، فَكَفَّ بَغْلَتَهُ وَقَالَ: أَمَا لَهَمَمْتُ- وَأَشَارَ إِلَى الأَبْوَابِ مِنَ الدَّارِ- أَنْ أَفْتَحَ هَذَا الْبَابَ وَأَقْتُلَ مَنْ فِيهِ، ثُمَّ هَذَا فَأَقْتُلَ مَنْ فِيهِ، ثُمَّ هَذَا فَأَقْتُلَ مَنْ فِيهِ- وَكَانَ أُنَاسٌ مِنَ الْجَرْحَى قَدْ لَجَئُوا إِلَى عَائِشَةَ، فَأُخْبِرَ عَلِيٌّ بِمَكَانِهِمْ عِنْدَهَا، فَتَغَافَلَ عَنْهُمْ- فَسَكَتَتْ [فَخَرَجَ عَلِيٌّ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَزْدِ: وَاللَّهِ لا تَفْلِتَنَا هَذِهِ الْمَرْأَةُ فَغَضِبَ وَقَالَ: صَه! لا تَهْتِكَنَّ سِتْرًا، وَلا تَدْخُلَنَّ دَارًا، وَلا تُهَيِّجَنَّ امْرَأَةً بِأَذًى، وَإِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ، وسفهن أمراءكم وصلحاءكم، فإنهن ضِعَافٌ، وَلَقَدْ كُنَّا نُؤْمَرُ بِالْكَفِّ عَنْهُنَّ، وَإِنَّهُنَّ لَمُشْرِكَاتٌ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُكَافِئَ الْمَرْأَةَ وَيَتَنَاوَلَهَا بِالضَّرْبِ فَيُعَيَّرَ بِهَا عَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ، فَلا يَبْلُغَنِّي عَنْ أَحَدٍ عَرَضَ لامْرَأَةٍ فَأُنَكِّلَ بِهِ شِرَارَ النَّاسِ] وَمَضَى عَلِيٌّ، فَلَحِقَ بِهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَامَ رَجُلانِ مِمَّنْ لَقِيتَ عَلَى الْبَابِ، فَتَنَاوَلا مَنْ هُوَ أَمض لَكَ شَتِيمَةً مِنْ صَفِيَّةَ قَالَ: وَيْحَكَ! لَعَلَّهَا عَائِشَةُ قَالَ: نَعَمْ، قَامَ رَجُلانِ مِنْهُمْ عَلَى بَابِ الدار فقال أحدهما: جزيت عنا أمنا عَقُوقًا. وَقَالَ الآخَرُ: يَا أُمَّنَا تُوبِي فَقَدْ خَطِيتِ. فَبَعَثَ الْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو إِلَى الْبَابِ، فَأَقْبَلَ بِمَنْ كَانَ عَلَيْهِ، فَأَحَالُوا عَلَى رَجُلَيْنِ، فَقَالَ: أَضْرِبُ أَعْنَاقَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: لأُنْهِكَنَّهُمَا عُقُوبَةً فَضَرَبَهُمَا مِائَةً مِائَةً، وَأَخْرَجَهُمَا مِنْ ثِيَابِهِمَا. كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الحارث بن حصيره، عن ابى الكنود، قال: هما رجلان من أزد الْكُوفَة يقال لهما عجل وسعد ابنا عَبْد اللَّهِ

بيعه اهل البصره عليا وقسمه ما في بيت المال عليهم

بيعة أهل الْبَصْرَة عَلِيًّا وقسمه مَا فِي بيت المال عَلَيْهِم كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: بايع الأحنف من العشي لأنه كَانَ خارجا هُوَ وبنو سعد، ثُمَّ دخلوا جميعا الْبَصْرَة، فبايع أهل الْبَصْرَة عَلَى راياتهم، وبايع علي أهل الْبَصْرَة حَتَّى الجرحى والمستأمنة، فلما رجع مَرْوَان لحق بمعاوية وَقَالَ قائلون: لم يبرح الْمَدِينَة حَتَّى فرغ من صفين. قَالا: [ولما فرغ علي من بيعة أهل الْبَصْرَة نظر في بيت المال فإذا فيه ستمائه ألف وزيادة، فقسمها عَلَى من شهد مَعَهُ الوقعه، فأصاب كل رجل منهم خمسمائة خمسمائة، وَقَالَ: لكم إن أظفركم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِالشَّامِ مثلها إِلَى أعطياتكم] وخاض فِي ذَلِكَ السبئية، وطعنوا عَلَى علي من وراء وراء . سيرة علي فيمن قاتل يوم الجمل كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّدِ بْنِ راشد، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ من سيرة علي أَلا يقتل مدبرا وَلا يذفف عَلَى جريح، وَلا يكشف سترا، وَلا يأخذ مالا، [فَقَالَ قوم يَوْمَئِذٍ: مَا يحل لنا دماءهم، ويحرم علينا أموالهم؟ فَقَالَ علي: القوم أمثالكم، من صفح عنا فهو منا، ونحن مِنْهُ، ومن لج حَتَّى يصاب فقتاله مني عَلَى الصدر والنحر، وإن لكم فِي خمسه لغنى،] فيومئذ تكلمت الخوارج . بعثة الأَشْتَر إِلَى عَائِشَة بجمل اشتراه لها وخروجها مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى مكة حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا فَرَغُوا يوم

ما كتب به على بن ابى طالب من الفتح إلى عامله بالكوفه

الْجَمَلِ أَمَرَنِي الأَشْتَرُ فَانْطَلَقْتُ فَاشْتَرَيْتُ لَهُ جَمَلا بسبعمائة دِرْهَمٍ مِنْ رَجُلٍ مِنْ مِهْرَةَ، فَقَالَ: انْطَلِقْ بِهِ إِلَى عَائِشَةَ فَقُلْ لَهَا: بَعَثَ بِهِ إليك الاشتر مالك ابن الْحَارِثِ، وَقَالَ: هَذَا عِوَضٌ مِنْ بَعِيرِكِ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَيْهَا، فَقُلْتُ: مَالِكٌ يُقْرِئُكِ السَّلامَ وَيَقُولُ: ان هذا البعير مكان بعيرك، قالت: لاسلم اللَّهُ عَلَيْهِ، إِذْ قَتَلَ يَعْسُوبَ الْعَرَبِ- تَعْنِي ابْنَ طَلْحَةَ- وَصَنَعَ بِابْنِ أُخْتِي مَا صَنَعَ! قَالَ: فَرَدْدَتْهُ إِلَى الأَشْتَرِ، وَأَعْلَمَتْهُ، قَالَ: فَأَخْرَجَ ذِرَاعَيْنِ شَعْرَاوَيْنِ، وَقَالَ: أَرَادُوا قَتْلِي فَمَا أَصْنَعُ! كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، قَالا: قَصَدَتْ عَائِشَةُ مَكَّةَ فَكَانَ وَجْهَهَا مِنَ الْبَصْرَةِ، وَانْصَرَفَ مَرْوَانُ وَالأَسْوَدُ بْنُ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنَ الطَّرِيقِ، وَأَقَامَتْ عَائِشَةُ بِمَكَّةَ إِلَى الْحَجِّ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ . مَا كَتَبَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنَ الْفَتْحِ إِلَى عَامِلِهِ بِالْكُوفَةِ كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، قَالا: وَكَتَبَ عَلِيٌّ بِالْفَتْحِ إِلَى عَامِلِهِ بِالْكُوفَةِ حِينَ كَتَبَ فِي أَمْرِهَا وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّا الْتَقَيْنَا فِي النِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الآخِرَةِ بِالْخُرَيْبَةِ- فِنَاءٌ مِنْ أَفْنِيَةِ الْبَصْرَةِ- فَأَعْطَاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَتَلَ مِنَّا وَمِنْهُمْ قَتْلَى كَثِيرَةً، وَأُصِيبَ مِمَّنْ أُصِيبَ مِنَّا ثُمَامَةُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَهِنْدُ بْنُ عَمْرٍو، وَعِلْبَاءُ بْنُ الْهَيْثَمِ، وَسَيْحَانُ وَزَيْدٌ ابْنَا صُوحَانَ، وَمَحْدُوجٌ. وَكَتَبَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ رَافِعٍ وَكَانَ الرَّسُولَ زُفَرُ بْنُ قَيْسٍ إِلَى الْكُوفَةِ بِالْبِشَارَةِ فِي جُمَادَى الآخِرَةِ

أخذ على البيعه على الناس وخبر زياد بن ابى سفيان وعبد الرحمن بن ابى بكره

أخذ علي البيعة عَلَى الناس وخبر زياد بن أَبِي سُفْيَانَ وعبد الرَّحْمَن بن أبي بكرة وَكَانَ فِي البيعة: عَلَيْك عهد اللَّه وميثاقه بالوفاء لتكونن لسلمنا سلما، ولحربنا حربا، ولتكفن عنا لسانك ويدك وَكَانَ زياد بن أَبِي سُفْيَانَ ممن اعتزل ولم يشهد المعركة، قعد وَكَانَ فِي بيت نافع بن الْحَارِث، وجاء عبد الرحمن ابن ابى بكره في المستأمنين مسلما بعد ما فرغ علي من البيعة، فَقَالَ لَهُ علي: وعمك المتربص المقاعد بي! فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنه لك لواد، وإنه عَلَى مسرتك لحريص، ولكنه بلغني أنه يشتكي، فأعلم لك علمه ثُمَّ آتيك. وكتم عَلِيًّا مكانه حَتَّى استأمره، فأمره أن يعلمه فأعلمه، فَقَالَ علي: امش أمامي فاهدني إِلَيْهِ، ففعل، فلما دخل عَلَيْهِ قَالَ: تقاعدت عني، وتربصت- ووضع يده عَلَى صدره، وَقَالَ: هَذَا وجع بين- فاعتذر إِلَيْهِ زياد، فقبل عذره واستشاره وأراده علي عَلَى الْبَصْرَة، فَقَالَ: رجل من أهل بيتك يسكن إِلَيْهِ الناس، فإنه أجدر أن يطمئنوا أو ينقادوا، وسأكفيكه وأشير عَلَيْهِ. فافترقا عَلَى ابن عَبَّاس، ورجع علي إِلَى منزله . تَأْمِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى الْبَصْرَةِ وتَوْلِيَةِ زِيَادٍ الْخَرَاجَ وأمر ابن عَبَّاس عَلَى الْبَصْرَة، وولى زياد الخراج وبيت المال، وأمر ابن عَبَّاس أن يسمع مِنْهُ، فكان ابن عَبَّاس يقول: استشرته عِنْدَ هنة كَانَتْ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ: إن كنت تعلم أنك عَلَى الحق، وأن من خالفك عَلَى الباطل، أشرت عَلَيْك بِمَا ينبغي، وإن كنت لا تدري، أشرت عَلَيْك بِمَا ينبغي كذلك. فقلت: إني عَلَى الحق، وإنهم عَلَى الباطل، فَقَالَ: اضرب بمن أطاعك من عصاك ومن ترك أمرك، فإن كَانَ أعز للإسلام وأصلح لَهُ أن يضرب عنقه فاضرب عنقه فاستكتبته، فلما ولى رأيت مَا صنع، وعلمت أنه قَدِ اجتهد لي رأيه، وأعجلت السبئية عَلِيًّا عن المقام، وارتحلوا بغير إذنه،

تجهيز على ع عائشة رضى الله عنها من البصره

فارتحل فِي آثارهم ليقطع عَلَيْهِم أمرا إن كَانُوا أرادوه، وَقَدْ كَانَ لَهُ فِيهَا مقام. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، قَالا: علم أهل الْمَدِينَة بيوم الجمل يوم الخميس قبل أن تغرب الشمس من نسر مر بِمَا حول الْمَدِينَة، مَعَهُ شَيْء متعلقه، فتأمله الناس فوقع، فإذا كف فِيهَا خاتم، نقشه عبد الرَّحْمَن بن عتاب، وجفل من بين مكة والمدينة من أهل الْبَصْرَة، من قرب مِنَ الْبَصْرَةِ أو بعد، وَقَدْ علموا بالوقعة مما ينقل إِلَيْهِم النسور من الأيدي والاقدام تجهيز على ع عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِنَ الْبَصْرَةِ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن محمد وطلحه، قالا: وجهز على عائشة بِكُلِّ شَيْءٍ يَنْبَغِي لَهَا مِنْ مَرْكَبٍ أَوْ زَادٍ أَوْ مَتَاعٍ، وَأَخْرَجَ مَعَهَا كُلَّ مَنْ نَجَا مِمَّنْ خَرَجَ مَعَهَا إِلا مَنْ أَحَبَّ الْمُقَامَ، وَاخْتَارَ لَهَا أَرْبَعِينَ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ الْمَعْرُوفَاتِ، وَقَالَ: تَجَهَّزْ يَا مُحَمَّدُ، فَبَلِّغْهَا، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي تَرْتَحِلُ فِيهِ، جَاءَهَا حَتَّى وَقَفَ لَهَا، وَحَضَرَ النَّاسُ، فَخَرَجَتْ عَلَى النَّاسِ وَوَدَّعُوهَا وَوَدَّعَتْهُمْ، وَقَالَتْ: يَا بَنِيَّ، تَعْتِبُ بَعْضنا عَلَى بَعْضٍ اسْتِبْطَاءً وَاسْتِزَادَةً، فَلا يعتدن أَحَدٌ مِنْكُمْ عَلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ بَلَغَهُ مِنْ ذَلِكَ، إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا كَانَ بَيْنِي وبين على في القديم إِلا مَا يَكُونُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَأَحْمَائِهَا، وَإِنَّهُ عندي على معتبى من الاخيار [وقال على: يا ايها النَّاسُ، صَدَقَتْ وَاللَّهِ وَبَرَّتْ، مَا كَانَ بَيْنِي وبينها الا ذلك، وانها لزوجه نبيكم ص فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ] . وَخَرَجَتْ يَوْمَ السَّبْتِ لِغُرَّةِ رَجَبَ سَنَةً سِتٍّ وَثَلاثِينَ، وَشَيَّعَهَا عَلِيٌّ أَمْيَالا، وَسَرَّحَ بَنِيهِ مَعَهَا يَوْمًا

ما روى من كثره القتلى يوم الجمل

مَا روي من كثرة القتلى يوم الجمل حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الحسن، قال: حدثنا محمد ابن الفضل بن عطية الخراساني، عن سَعِيد القطعي، قَالَ: كنا نتحدث أن قتلى الجمل يزيدون عَلَى ستة آلاف. حَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ بن أحمد بن شبويه، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا سليمان بن صالح، قال: حدثني عبد اللَّهِ، عن جرير بن حازم، قَالَ: حَدَّثَنِي الزبير بن الخريت، عن أبي لبيد لمازة بن زياد، قَالَ: قلت لَهُ: لم تسب عَلِيًّا؟ قَالَ: أَلا أسب رجلا قتل منا الفين وخمسمائة، والشمس هاهنا! قَالَ جرير بن حازم: وسمعت ابن أبي يَعْقُوب يقول: قتل عَلِيّ بن أبي طالب يوم الجمل الفين وخمسمائة، الف وثلاثمائة وخمسون من الأزد وثمانمائه من بنى ضبة، وثلاثمائة وخمسون من سائر الناس. وَحَدَّثَنِي أبي، عن سُلَيْمَان، عن عَبْد اللَّهِ، عن جرير، قَالَ: قتل المعرض بن علاط يوم الجمل، فَقَالَ أخوه الحجاج: لم أر يَوْمًا كَانَ أكثر ساعيا ... بكف شمال فارقتها يمينها قَالَ معاذ: وَحَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ، قَالَ: قَالَ جرير: قتل المعرض بن علاط يوم الجمل، فَقَالَ أخوه الحجاج: لم أر يَوْمًا كَانَ أكثر ساعيا ... بكف شمال فارقتها يمينها مَا قَالَ عمار بن ياسر لعائشة حين فرغ من الجمل حدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أَبِي، عَنْ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا يَزِيدَ الْمَدِينِيَّ يَقُولُ: قَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ لِعَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- حِينَ فَرَغَ الْقَوْمُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، مَا أَبْعَدَ هَذَا الْمَسِيرُ مِنَ الْعَهْدِ الَّذِي عُهِدَ إِلَيْكِ! قَالَتْ: أَبُو اليقظان! قال:

آخر حديث الجمل بعثه على بن ابى طالب قيس بن سعد بن عباده أميرا على مصر

نَعَمْ، قَالَتْ: وَاللَّهِ إِنَّكَ- مَا عَلِمْتُ- قَوَّالٌ بِالْحَقِّ، قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَضَى لِي عَلَى لِسَانِكِ . آخر حديث الجمل بعثة عَلِيّ بن أبي طالب قيس بن سَعْدِ بْنِ عبادة أميرا عَلَى مصر وفي هَذِهِ السنة- أعني سنة ست وثلاثين- قتل مُحَمَّد بن أبي حُذَيْفَة، وَكَانَ سبب قتله أنه لما خرج الْمِصْرِيُّونَ إِلَى عُثْمَانَ مع مُحَمَّد بن أبي بكر، أقام بمصر، وأخرج عنها عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ أبي سرح، وضبطها، فلم يزل بِهَا مقيما حَتَّى قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وبويع لعلي، وأظهر مُعَاوِيَة الخلاف، وبايعه عَلَى ذَلِكَ عَمْرو بن الْعَاصِ، فسار مُعَاوِيَة وعمرو إِلَى مُحَمَّد بن أبي حُذَيْفَة قبل قدوم قيس بن سَعْد مصر، فعالجا دخول مصر، فلم يقدرا عَلَى ذَلِكَ، فلم يزالا يخدعان مُحَمَّد بن أبي حُذَيْفَة حَتَّى خرج إِلَى عريش مصر فِي ألف رجل، فتحصن بِهَا، وجاءه عَمْرو فنصب المنجنيق عَلَيْهِ حَتَّى نزل فِي ثَلاثِينَ من أَصْحَابه وأخذوا وقتلوا رحمهم اللَّه. وأما هِشَام بن مُحَمَّد فإنه ذكر أن أبا مخنف لوط بن يحيى بن سعيد ابن مخنف بن سليم، حدثه عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُف الأَنْصَارِيّ من بني الْحَارِث بن الخزرج، عن عباس بن سهل الساعدي أن مُحَمَّد بن أبي حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شمس بن عبد مناف هُوَ الَّذِي كَانَ سرب المصريين إِلَى عُثْمَانَ بن عَفَّانَ، وإنهم لما ساروا إِلَى عُثْمَانَ فحصروه وثب هُوَ بمصر عَلَى عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ أبي سرح أحد بني عَامِر بن لؤي القرشي، وَهُوَ عامل عُثْمَان يَوْمَئِذٍ عَلَى مصر، فطرده منها، وصلى بِالنَّاسِ، فخرج عبد الله ابن سَعْد من مصر فنزل عَلَى تخوم أرض مصر مما يلي فلسطين، فانتظر مَا يكون من أمر عُثْمَان، فطلع راكب فَقَالَ: يَا عَبْد اللَّهِ، مَا وراءك؟ خبرنا بخبر الناس خلفك، قَالَ: أفعل، قتل الْمُسْلِمُونَ عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن سَعْد: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» !، يَا عَبْد اللَّهِ، ثُمَّ صنعوا

ماذا؟ قَالَ: ثُمَّ بايعوا ابن عم رَسُول الله ص عَلِيّ بن أبي طالب، قَالَ عَبْد اللَّهِ بن سَعْد: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» ، قَالَ لَهُ الرجل: كأن ولاية عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ عدلت عندك قتل عُثْمَان! قَالَ: أجل قَالَ: فنظر إِلَيْهِ الرجل، فتأمله فعرفه وَقَالَ: كأنك عَبْد اللَّهِ بن أبي سرح أَمِير مصر! قَالَ: أجل، قَالَ لَهُ الرجل: فإن كَانَ لك فِي نفسك حاجة فالنجاء النجاء، فإن رأي أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فيك وفي أَصْحَابك سيئ، إن ظفر بكم قتلكم أو نفاكم عن بلاد الْمُسْلِمِينَ، وهذا بعدي أَمِير يقدم عَلَيْك قَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ: ومن هَذَا الأمير؟ قَالَ: قيس بن سَعْدِ بْنِ عبادة الأَنْصَارِيّ، قَالَ عَبْد اللَّهِ بن سَعْد: أبعد اللَّه مُحَمَّد بن أبي حُذَيْفَة! فإنه بغي عَلَى ابن عمه، وسعى عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ كفله ورباه وأحسن إِلَيْهِ، فأساء جواره، ووثب عَلَى عماله، وجهز الرجال إِلَيْهِ حَتَّى قتل، ثُمَّ ولى عَلَيْهِ من هُوَ أبعد مِنْهُ ومن عُثْمَان، لم يمتعه بسلطان بلاده حولا وَلا شهرا، ولم يره لذلك أهلا، فَقَالَ لَهُ الرجل: انج بنفسك، لا تقتل فخرج عَبْد اللَّهِ بن سَعْد هاربا حَتَّى قدم على معاويه ابن أَبِي سُفْيَانَ دمشق. قَالَ أَبُو جَعْفَر: فخبر هِشَام هَذَا يدل عَلَى أن قيس بن سعد ولى مصر ومحمد بن أبي حُذَيْفَة حي. وفي هَذِهِ السنة بعث عَلِيّ بن أبي طالب عَلَى مصر قيس بن سَعْدِ بْنِ عبادة الأَنْصَارِيّ، فكان من أمره مَا ذكر هِشَام بن مُحَمَّد الكلبي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو مخنف، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُف بن ثَابِت، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: [لما قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وولي عَلِيّ بن أبي طالب الأمر، دعا قيس ابن سَعْد الأَنْصَارِيّ فَقَالَ لَهُ: سر إِلَى مصر فقد وليتكها، واخرج إِلَى

رحلك، واجمع إليك ثقاتك ومن أحببت أن يصحبك حَتَّى تأتيها ومعك جند، فإن ذَلِكَ أرعب لعدوك وأعز لوليك، فإذا أنت قدمتها إِنْ شَاءَ اللَّهُ فأحسن إِلَى المحسن، واشتد عَلَى المريب، وارفق بالعامة والخاصة، فإن الرفق يمن] . فَقَالَ لَهُ قيس بن سَعْد: رحمك اللَّه يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! فقد فهمت مَا قلت، اما قولك: اخرج إليها بجند، فو الله لَئِنْ لم أدخلها إلا بجند آتيها بِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ لا أدخلها أبدا، فأنا أدع ذَلِكَ الجند لك، فإن أنت احتجت إِلَيْهِم كَانُوا مِنْكَ قريبا، وإن أردت أن تبعثهم إِلَى وجه من وجوهك كَانُوا عدة لك، وأنا أصير إِلَيْهَا بنفسي وأهل بيتي وأما مَا أوصيتني بِهِ من الرفق والإحسان، فإن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ هُوَ المستعان عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: فخرج قيس بن سَعْد فِي سبعة نفر من أَصْحَابه حَتَّى دخل مصر، فصعد الْمِنْبَر، فجلس عَلَيْهِ، وأمر بكتاب مَعَهُ من أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فقرئ عَلَى أهل مصر: بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من عَبْد اللَّه علي أَمِير الْمُؤْمِنِينَ إِلَى من بلغه كتابي هَذَا من الْمُؤْمِنِينَ والمسلمين سلام عَلَيْكُمْ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكُمُ اللَّهَ الَّذِي لا إِلَهَ إلا هُوَ أَمَّا بَعْدُ، فإن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بحسن صنعه وتقديره وتدبيره، اختار الإِسْلام دينا لنفسه وملائكته ورسله، وبعث به الرسل ع إِلَى عباده، وخص بِهِ من انتخب من خلقه، فكان مما أكرم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِهِ هَذِهِ الأمة، وخصهم بِهِ من الفضيلة أن بعث إِلَيْهِم محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعلمهم الكتاب والحكمة والفرائض والسنة، لكيما يهتدوا، وجمعهم لكيما لا يتفرقوا، وزكاهم لكيما يتطهروا، ورفههم لكيما لا يجوروا، فلما قضى من ذَلِكَ مَا عَلَيْهِ قبضه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ صلوات اللَّه عَلَيْهِ ورحمته وبركاته ثُمَّ إن الْمُسْلِمِينَ استخلفوا بِهِ أميرين صالحين، عملا بالكتاب والسنة، وأحسنا السيرة، ولم يعدوا السنة، ثُمَّ توفاهما اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، رضي اللَّه عنهما ثُمَّ ولى

بعدهما وال فأحدث أحداثا، فوجدت الأمة عَلَيْهِ مقالا فَقَالُوا، ثُمَّ نقموا عَلَيْهِ فغيروا، ثُمَّ جاءوني فبايعوني، فأستهدي اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بالهدى، واستعينه على التقوى أَلا وإن لكم علينا العمل بكتاب اللَّه وسنه رسوله ص، والقيام عَلَيْكُمْ بحقه والتنفيذ لسنته، والنصح لكم بالغيب، وَاللَّه المستعان، وحسبنا اللَّه ونعم الوكيل وَقَدْ بعثت إليكم قيس بن سَعْدِ بْنِ عبادة أميرا، فوازروه وكانفوه، وأعينوه عَلَى الحق، وَقَدْ أمرته بالإحسان إِلَى محسنكم، والشدة عَلَى مريبكم، والرفق بعوامكم وخواصكم، وَهُوَ ممن أرضى هديه، وأرجو صلاحه ونصيحته أسأل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لنا ولكم عملا زاكيا، وثوابا جزيلا، ورحمة واسعة، والسلام عَلَيْكُمْ ورحمة اللَّه وبركاته. وكتب عبيد اللَّهِ بن أبي رافع فِي صفر سنة ست وثلاثين. قَالَ: ثُمَّ إن قيس بن سَعْد قام خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى محمد ص، وَقَالَ: الحمد لِلَّهِ الَّذِي جَاءَ بالحق، وأمات الباطل، وكبت الظالمين أَيُّهَا النَّاسُ، إنا قَدْ بايعنا خير من نعلم بعد مُحَمَّد نبينا ص، فقوموا أَيُّهَا النَّاسُ فبايعوا عَلَى كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن نحن لم نعمل لكم بِذَلِكَ فلا بيعة لنا عَلَيْكُمْ. فقام الناس فبايعوا، واستقامت لَهُ مصر، وبعث عَلَيْهَا عماله، إلا أن قرية منها يقال لها: خربتا فِيهَا أناس قَدْ أعظموا قتل عُثْمَان بْن عَفَّانَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وبها رجل من كنانة ثُمَّ من بني مدلج يقال لَهُ يَزِيد بن الْحَارِث من بني الْحَارِث بن مدلج فبعث هَؤُلاءِ إِلَى قيس بن سَعْد: إنا لا نقاتلك فابعث عمالك، فالأرض أرضك، ولكن أقرنا عَلَى حالنا حَتَّى ننظر إِلَى مَا يصير أمر الناس. قَالَ: ووثب مسلمة بن مخلد الأَنْصَارِيّ، ثُمَّ من ساعده من رهط قيس ابن سَعْدٍ، فنعى عُثْمَان بن عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ودعا إِلَى الطلب بدمه، فأرسل

إِلَيْهِ قيس بن سَعْد: ويحك، علي تثب! فو الله مَا أحب أن لي ملك الشام إِلَى مصر وأني قتلتك فبعث إِلَيْهِ مسلمة: إني كاف عنك مَا دمت أنت والي مصر. قَالَ: وَكَانَ قيس بن سَعْد لَهُ حزم ورأي، فبعث إِلَى الَّذِينَ بخربتا: إني لا أكرهكم عَلَى البيعة، وأنا أدعكم وأكف عنكم فهادنهم وهادن مسلمه بن مخلد، وجبى الخراج، ليس أحد مِنَ النَّاسِ ينازعه. قَالَ: وخرج أَمِير الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أهل الجمل وَهُوَ عَلَى مصر، ورجع إِلَى الْكُوفَةِ مِنَ الْبَصْرَةِ وَهُوَ بمكانه، فكان أثقل خلق اللَّه عَلَى مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ لقربه من الشام، مخافة أن يقبل إِلَيْهِ علي فِي أهل العراق، ويقبل إِلَيْهِ قيس بن سَعْد فِي أهل مصر، فيقع مُعَاوِيَة بينهما. وكتب مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ إِلَى قيس بن سَعْدٍ- وعلي بن أبي طالب يَوْمَئِذٍ بالكوفة قبل أن يسير إِلَى صفين: من مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ إِلَى قيس بن سَعْدٍ سلام عَلَيْك، أَمَّا بَعْدُ، فإنكم إن كنتم نقمتم على عثمان بن عفان رضي الله عنه فِي أثرة رأيتموها، أو ضربة سوط ضربها، أو شتيمة رجل، أو فِي تسييره آخر، أو فِي استعماله الفتى، فإنكم قَدْ علمتم- إن كنتم تعلمون- أن دمه لَمْ يَكُنْ يحل لكم، فقد ركبتم عظيما من الأمر، وجئتم شَيْئًا إدا، فتب إِلَى اللَّهِ عَزَّ وجل يا قيس ابن سَعْدٍ فإنك كنت فِي المجلبين عَلَى عُثْمَانَ بن عفان- إن كَانَتِ التوبة من قتل المؤمن تغني شَيْئًا- فأما صاحبك فإنا استيقنا أنه الَّذِي أغرى بِهِ الناس، وحملهم عَلَى قتله حَتَّى قتلوه، وأنه لم يسلم من دمه عظم قومك، فإن استطعت يَا قيس أن تكون ممن يطلب بدم عُثْمَان فافعل تابعنا عَلَى أمرنا، ولك سلطان العراقين إذا ظهرت مَا بقيت، ولمن أحببت من أهل بيتك سلطان الحجاز مَا دام لي سلطان، وسلني غير هَذَا مما تحب، فإنك لا تسألني

شَيْئًا إلا أوتيته، واكتب إلي برأيك فِيمَا كتبت بِهِ إليك والسلام. فلما جاءه كتاب مُعَاوِيَة أحب أن يدافعه وَلا يبدي لَهُ أمره، وَلا يتعجل لَهُ حربه، فكتب إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ، فقد بلغني كتابك، وفهمت مَا ذكرت فيه من قتل عثمان، وذلك امر لم اقارفه، ولم أطف بِهِ وذكرت أن صاحبي هُوَ أغرى الناس بعثمان، ودسهم إِلَيْهِ حَتَّى قتلوه، وهذا مَا لم أطلع عَلَيْهِ، وذكرت أن عظم عشيرتي لم تسلم من دم عُثْمَان، فأول الناس كَانَ فِيهِ قياما عشيرتي وأما مَا سألتني من متابعتك، وعرضت علي من الجزاء بِهِ، فقد فهمته، وهذا أمر لي فِيهِ نظر وفكرة، وليس هَذَا مما يسرع إِلَيْهِ، وأنا كاف عنك، ولن يأتيك من قبلي شَيْء تكرهه حَتَّى ترى ونرى إِنْ شَاءَ اللَّهُ، والمستجار اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، والسلام عَلَيْك ورحمة اللَّه وبركاته. قَالَ: فلما قرأ مُعَاوِيَة كتابه، لم يره إلا مقاربا مباعدا، ولم يأمن أن يكون لَهُ فِي ذَلِكَ مباعدا مكايدا، فكتب إِلَيْهِ مُعَاوِيَة أَيْضًا: أَمَّا بَعْدُ، فقد قرأت كتابك، فلم أرك تدنو فأعدك سلما، ولم أرك تباعد فأعدك حربا، أنت فِيمَا هاهنا كحنك الجزور، وليس مثلي يصانع المخادع، وَلا ينتزع للمكايد، وَمَعَهُ عدد الرجال، وبيده أعنة الخيل، والسلام عَلَيْك. فلما قرأ قيس بن سَعْد كتاب مُعَاوِيَة، ورأى أنه لا يقبل مَعَهُ المدافعة والمماطلة، أظهر لَهُ ذات نفسه، فكتب إِلَيْهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من قيس بن سَعْد، إِلَى مُعَاوِيَةَ بن أَبِي سُفْيَانَ. أَمَّا بَعْدُ، فإن العجب من اغترارك بي، وطمعك فِي، واستسقاطك رأيي. أتسومني الخروج من طاعة أولى الناس بالإمرة، وأقولهم للحق، وأهداهم سبيلا، وأقربهم مِنْ رسول الله ص وسيلة، وتأمرني بالدخول فِي طاعتك، طاعة أبعد الناس من هَذَا الأمر، وأقولهم للزور، وأضلهم سبيلا، وأبعدهم من اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ورسوله ص وسيلة، ولد ضالين مضلين، طاغوت من طواغيت إبليس! وأما قولك إني مالئ عَلَيْك مصر خيلا ورجلا

فو الله إن لم أشغلك بنفسك حَتَّى تكون نفسك أهم إليك، إنك لذو جد، والسلام فلما بلغ مُعَاوِيَة كتاب قيس أيس مِنْهُ، وثقل عَلَيْهِ مكانه. حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ المروزي، قَالَ: حدثني أبي قال: حدثني سُلَيْمَان، قال: حدثني عبد الله، عن يونس، عن الزُّهْرِيّ، قَالَ: كَانَتْ مصر من حين علي، عَلَيْهَا قيس بن سَعْدِ بْنِ عبادة، وَكَانَ صاحب رايه الانصار مع رسول الله ص، وَكَانَ من ذوي الرأي والبأس، وَكَانَ مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ وعمرو بن الْعَاصِ جاهدين عَلَى أن يخرجاه من مصر ليغلبا عَلَيْهَا، فكان قَدِ امتنع فِيهَا بالدهاء والمكايدة، فلم يقدرا عَلَيْهِ، وَلا عَلَى أن يفتتحا مصر، حَتَّى كاد مُعَاوِيَة قيس بن سَعْد من قبل علي، وَكَانَ مُعَاوِيَة يحدث رجالا من ذوي الرأي من قريش يقول: مَا ابتدعت مكايدة قط كَانَتْ أعجب عندي من مكايدة كدت بِهَا قيسا من قبل علي وَهُوَ بِالْعِرَاقِ حين امتنع مني قيس. قلت لأهل الشام لا: تسبوا قيس بن سَعْدٍ، وَلا تدعوا إِلَى غزوه، فإنه لنا شيعة، يأتينا كيس نصيحته سرا أَلا ترون مَا يفعل بإخوانكم الَّذِينَ عنده من أهل خربتا يجري عَلَيْهِم أعطياتهم وأرزاقهم، ويؤمن سربهم، ويحسن إِلَى كل راكب قدم عَلَيْهِ مِنْكُمْ، لا يستنكرونه فِي شَيْءٍ! قَالَ مُعَاوِيَة: وهممت أن أكتب بِذَلِكَ إِلَى شيعتي من أهل العراق، فيسمع بِذَلِكَ جواسيس علي عندي وبالعراق فبلغ ذَلِكَ عَلِيًّا، ونماه إِلَيْهِ مُحَمَّد بن أبي بكر ومحمد بن جَعْفَر بن أَبِي طَالِبٍ فلما بلغ ذَلِكَ عَلِيًّا اتهم قيسا، وكتب إِلَيْهِ يأمره بقتال أهل خربتا- وأهل خربتا يَوْمَئِذٍ عشرة آلاف- فأبى قيس بن سَعْد أن يقاتلهم، وكتب إِلَى علي: إِنَّهُمْ وجوه أهل مصر وأشرافهم، وأهل الحفاظ مِنْهُمْ، وَقَدْ رضوا مني أن أؤمن سربهم، وأجري عَلَيْهِم أعطياتهم وأرزاقهم، وَقَدْ علمت أن هواهم مع مُعَاوِيَة، فلست مكايدهم بأمر أهون علي وعليك من الَّذِي أفعل بهم، ولو أني غزوتهم

كَانُوا لي قرنا، وهم أسود العرب، ومنهم بسر بن أبي أرطأة، ومسلمة بن مخلد، ومعاويه بن خديج، فذرني فأنا أعلم بِمَا أداري مِنْهُمْ فأبى علي إلا قتالهم، وأبى قيس أن يقاتلهم. فكتب قيس إِلَى علي: إن كنت تتهمني فاعزلني عن عملك، وابعث إِلَيْهِ غيري فبعث علي الأَشْتَر أميرا إِلَى مصر، حَتَّى إذا صار بالقلزم شرب شربة عسل كَانَ فِيهَا حتفه فبلغ حديثهم مُعَاوِيَة وعمرا، فَقَالَ عَمْرو: إن لِلَّهِ جندا من عسل. فلما بلغ عَلِيًّا وفاة الأَشْتَر بالقلزم بعث مُحَمَّد بن أبي بكر أميرا عَلَى مصر فالزهري يذكر أن عَلِيًّا بعث مُحَمَّد بن أبي بكر أميرا عَلَى مصر بعد مهلك الأَشْتَر بقلزم، واما هشام بن محمد، فانه ذكر فِي خبره أن عَلِيًّا بعث بالأشتر أميرا عَلَى مصر بعد مهلك مُحَمَّد بن أبي بكر رجع الحديث إِلَى حديث هِشَام عن أبي مخنف: ولما أيس مُعَاوِيَة من قيس أن يتابعه عَلَى أمره، شق عَلَيْهِ ذَلِكَ، لما يعرف من حزمه وبأسه، وأظهر لِلنَّاسِ قبله، أن قيس بن سَعْد قَدْ تابعكم، فادعوا اللَّه لَهُ، وقرأ عَلَيْهِم كتابه الَّذِي لان لَهُ فِيهِ وقاربه قَالَ: واختلق مُعَاوِيَة كتابا من قيس بن سَعْدٍ، فقرأه عَلَى أهل الشام. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، للأمير مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ من قيس بن سَعْدٍ، سلام عَلَيْك، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكُمُ اللَّهَ الَّذِي لا إِلَهَ إلا هو، أما بعد، فإني لما نظرت رأيت أنه لا يسعني مظاهره قوم قتلوا امامهم مسلما محرما برا تقيا، فنستغفر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لذنوبنا، ونسأله العصمة لديننا أَلا وإني قَدْ ألقيت إليكم بالسلم، وإني أجبتك إِلَى قتال قتله عثمان، إمام الهدى المظلوم، فعول علي فِيمَا أحببت من الأموال والرجال أعجل عَلَيْك، والسلام. فشاع فِي أهل الشام أن قيس بن سَعْد قَدْ بايع مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ، فسرحت عيون عَلِيّ بن أبي طالب إِلَيْهِ بِذَلِكَ، فلما أتاه ذَلِكَ أعظمه وأكبره،

وتعجب لَهُ، ودعا بنيه، ودعا عَبْد اللَّهِ بن جَعْفَر فأعلمهم ذَلِكَ، فَقَالَ: مَا رأيكم؟ فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن جَعْفَر: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، دع مَا يريبك إِلَى مَا لا يريبك، اعزل قيسا عن مصر قَالَ لَهُمْ علي: إني وَاللَّهِ مَا أصدق بهذا عَلَى قيس، فَقَالَ عَبْد اللَّهِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اعزله، فو الله لَئِنْ كَانَ هَذَا حقا لا يعتزل لك إن عزلته. فإنهم كذلك إذ جَاءَ كتاب من قيس بن سَعْد فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَمَّا بَعْدُ، فإني أخبر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أكرمه اللَّه أن قبلي رجالا معتزلين قَدْ سألوني أن أكف عَنْهُمْ، وأن أدعهم عَلَى حالهم حَتَّى يستقيم أمر الناس، فنرى ويروا رأيهم، فقد رأيت أن أكف عَنْهُمْ، وألا أتعجل حربهم، وأن أتألفهم فِيمَا بين ذَلِكَ لعل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أن يقبل بقلوبهم، ويفرقهم عن ضلالتهم، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن جَعْفَر: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا أخوفني أن يكون هَذَا ممالأة لَهُمْ مِنْهُ، فمره يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بقتالهم، فكتب إِلَيْهِ علي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَمَّا بَعْدُ، فسر إِلَى القوم الَّذِينَ ذكرت، فإن دخلوا فِيمَا دخل فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وإلا فناجزهم إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فلما أتى قيس بن سَعْد الكتاب فقرأه، لم يتمالك أن كتب إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ: أَمَّا بَعْدُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فقد عجبت لأمرك، أتأمرني بقتال قوم كافين عنك، مفرغيك لقتال عدوك! وإنك متى حاربتهم ساعدوا عَلَيْك عدوك، فأطعني يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، واكفف عَنْهُمْ، فإن الرأي تركهم، والسلام. فلما أتاه هَذَا الكتاب قَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ بن جَعْفَر: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ابعث مُحَمَّد بن أبي بكر عَلَى مصر يكفك أمرها، واعزل قيسا، وَاللَّهِ لقد بلغني أن قيسا يقول: وَاللَّهِ إن سلطانا لا يتم إلا بقتل مسلمة بن مخلد لسلطان سوء، وَاللَّهِ مَا أحب أن لي ملك الشام إِلَى مصر وأني قتلت ابن المخلد قال:

ولايه محمد بن ابى بكر مصر

وَكَانَ عَبْد اللَّهِ بن جَعْفَر أخا مُحَمَّد بن أبي بكر لأمه، فبعث علي مُحَمَّد بن أبي بكر عَلَى مصر، وعزل عنها قيسا . ولاية مُحَمَّد بن أبي بكر مصر قَالَ هِشَام، عن ابن مخنف: فَحَدَّثَنِي الْحَارِث بن كعب الوالبي- من والبة الأزد- عَنْ أَبِيهِ، أن عَلِيًّا كتب مَعَهُ إِلَى أهل مصر كتابا، فلما قدم بِهِ عَلَى قيس قَالَ لَهُ قيس: مَا بال أَمِير الْمُؤْمِنِينَ! مَا غيره؟ أدخل أحد بيني وبينه؟ قَالَ لَهُ: لا، وهذا السلطان سلطانك؟! قَالَ: لا، وَاللَّهِ لا أقيم معك ساعة واحدة وغضب حين عزله، فخرج منها مقبلا إِلَى الْمَدِينَة، فقدمها، فجاءه حسان بن ثَابِت شامتا بِهِ- وَكَانَ حسان عثمانيا- فَقَالَ لَهُ: نزعك عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ قتلت عُثْمَان فبقي عَلَيْك الإثم، ولم يحسن لك الشكر! فَقَالَ لَهُ قيس بن سَعْد: يَا أعمى القلب والبصر، وَاللَّهِ لولا أن ألقي بين رهطي ورهطك حربا لضربت عنقك، اخرج عني. ثُمَّ إن قيسا خرج هُوَ وسهل بن حنيف حَتَّى قدما عَلَى علي، فخبره قيس، فصدقه علي ثُمَّ إن قيسا وسهلا شهدا مع علي صفين. وأما الزُّهْرِيّ، فإنه قَالَ فِيمَا حَدَّثَنِي بِهِ عَبْد اللَّهِ بن أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَان، قَالَ: حدثني عَبْدُ اللَّهِ، عن يونس، عن الزُّهْرِيّ، أن مُحَمَّد بن أبي بكر قدم مصر وخرج قيس فلحق بِالْمَدِينَةِ، فأخافه مَرْوَان والأسود بن أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، حَتَّى إذا خاف أن يؤخذ أو يقتل، ركب راحلته، فظهر إِلَى علي فبعث مُعَاوِيَة إِلَى مَرْوَان والأسود يتغيظ عليهما، ويقول: أمددتما عليا بقيس بن سعد ورأيه ومكانه، فو الله لو أنكما أمددتماه بمائة ألف مقاتل مَا كَانَ ذَلِكَ بأغيظ لي من إخراجكما قيس بن سَعْد إِلَى علي فقدم قيس بن سَعْد عَلَى علي، فلما باثه الحديث وجاءهم قتل محمد ابن أبي بكر، عرف أن قيس بن سَعْد كَانَ يقاسي أمورا عظاما من المكايدة، وأن من كَانَ يهزه عَلَى عزل قيس بن سَعْدٍ لم ينصح لَهُ، فأطاع علي قيس ابن سَعْد فِي الأمر كله

قَالَ هِشَامٌ: عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بن كعب الوالبي، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كنت مع مُحَمَّد بن أبي بكر حين قدم مصر، فلما قدم قرأ عَلَيْهِم عهده: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا عَهِدَ عَبْد اللَّهِ علي أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، إِلَى مُحَمَّد بن أبي بكر حين ولاه مصر، وأمره بتقوى اللَّه والطاعة فِي السر والعلانية، وخوف اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي الغيب والمشهد، وباللين عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وبالغلظة عَلَى الفاجر، وبالعدل عَلَى أهل الذمة، وبإنصاف المظلوم، وبالشدة عَلَى الظالم، وبالعفو عن الناس، وبالإحسان مَا استطاع، وَاللَّهِ يجزي المحسنين، ويعذب المجرمين وأمره أن يدعو من قبله إِلَى الطاعة والجماعة، فإن لَهُمْ في ذلك من العاقبه وعظيم المثوبه ما لا يقدرون قدره، وَلا يعرفون كنهه، وأمره أن يجبي خراج الأرض عَلَى مَا كَانَتْ تجبى عَلَيْهِ من قبل، لا ينتقص مِنْهُ وَلا يبتدع فِيهِ، ثُمَّ يقسمه بين أهله عَلَى مَا كَانُوا يقسمون عَلَيْهِ من قبل، وأن يلين لَهُمْ جناحه، وأن يواسي بينهم فِي مجلسه ووجهه، وليكن القريب والبعيد فِي الحق سواء وأمره أن يحكم بين الناس بالحق، وأن يقوم بالقسط، وَلا يتبع الهوى، وَلا يخف فِي اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لومة لائم، فإن اللَّه جل ثناؤه مع من اتقى وآثر طاعته وأمره عَلَى مَا سواه وكتب عبيد اللَّهِ بن أبي رافع مولى رَسُول اللَّهِ ص لغرة شهر رمضان. قَالَ: ثُمَّ إن مُحَمَّد بن أبي بكر قام خطيبا، فَحَمِدَ اللَّهَ وأثنى عليه، ثم قال: الحمد لله الَّذِي هدانا وإياكم لما اختلف فِيهِ من الحق، وبصرنا وإياكم كثيرا مما عمي عنه الجاهلون أَلا إن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ ولاني أموركم، وعهد إلي مَا قَدْ سمعتم، وأوصاني بكثير مِنْهُ مشافهة، ولن آلوكم خيرا مَا استطعت، «وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» ، فإن يكن مَا ترون من إمارتي وأعمالي طاعة لِلَّهِ وتقوى، فاحمدوا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَا كَانَ

من ذَلِكَ، فإنه هُوَ الهادي، وإن رأيتم عاملا عمل غير الحق زائغا، فارفعوه إلي، وعاتبوني فِيهِ، فإني بِذَلِكَ أسعد، وَأَنْتُمْ بِذَلِكَ جديرون وفقنا اللَّه وإياكم لصالح الأعمال برحمته، ثُمَّ نزل. وذكر هِشَام، عن أبي مخنف، قَالَ: وَحَدَّثَنِي يَزِيد بن ظبيان الهمداني، أن مُحَمَّد بن أبي بكر كتب إِلَى مُعَاوِيَةَ بن أَبِي سُفْيَانَ لما ولي، فذكر مكاتبات جرت بينهما كرهت ذكرها لما فِيهِ مما لا يحتمل سماعها العامة قَالَ: ولم يلبث مُحَمَّد بن أبي بكر شهرا كاملا حَتَّى بعث إِلَى أُولَئِكَ القوم المعتزلين الَّذِينَ كَانَ قيس وادعهم فَقَالَ: يَا هَؤُلاءِ، إما أن تدخلوا فِي طاعتنا، وإما أن تخرجوا من بلادنا، فبعثوا إِلَيْهِ: إنا لا نفعل، دعنا حَتَّى ننظر إِلَى مَا تصير إِلَيْهِ أمورنا، وَلا تعجل بحربنا فأبى عَلَيْهِم، فامتنعوا مِنْهُ، وأخذوا حذرهم، فكانت وقعة صفين، وهم لمحمد هائبون، فلما أتاهم صبر مُعَاوِيَة وأهل الشام لعلي، وأن عَلِيًّا وأهل العراق قَدْ رجعوا عن مُعَاوِيَة وأهل الشام، وصار أمرهم إِلَى الحكومة، اجترءوا عَلَى مُحَمَّد بن أبي بكر، وأظهروا لَهُ المبارزة، فلما رَأَى ذَلِكَ مُحَمَّد بعث الْحَارِث بن جمهان الجعفي إِلَى أهل خربتا، وفيها يَزِيد بن الْحَارِث من بني كنانة، فقاتلهم، فقتلوه ثُمَّ بعث إِلَيْهِم رجلا من كلب يدعى ابن مضاهم، فقتلوه. قَالَ أَبُو جَعْفَر: وفي هَذِهِ السنة فِيمَا قيل: قدم ماهويه مرزبان مرو مقرا بالصلح الَّذِي كَانَ جرى بينه وبين ابن عَامِر عَلَى علي. ذكر من قَالَ ذَلِكَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ أَبِي زَكَرِيَّاءَ الْعِجْلانِيِّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَشْيَاخِهِ، قَالَ: قَدِمَ مَاهُوَيْهِ أَبْرَازَ مَرْزُبَانُ مَرْوَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بَعْدَ الْجَمَلِ مُقِرًّا بِالْصُلْحِ، فَكَتَبَ لَهُ عَلِيٌّ كِتَابًا إِلَى دَهَاقِينِ مَرْوَ وَالأَسَاوِرَةِ وَالْجُنْدِ سلارين وَمَنْ كَانَ فِي مَرْوَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، سَلامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ مَاهُوَيْهِ أَبْرَازَ مَرْزُبَانَ مَرْوَ جَاءَنِي، وَإِنِّي رَضِيتُ

توجيه على خليد بن طريف إلى خراسان

عَنْهُ وَكَتَبَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلاثِينَ ثُمَّ إِنَّهُمْ كَفَرُوا وَأَغْلَقُوا أَبْرَشَهْرَ . توجيه علي خليد بن طريف إِلَى خُرَاسَان قَالَ عَلِيّ بن مُحَمَّد المدائني: أَخْبَرَنَا أَبُو مخنف، عن حنظلة بن الأعلم، عن ماهان الحنفي، عن الأصبغ بن نباتة المجاشعي، قَالَ: بعث علي خليد بن قرة اليربوعي- ويقال خليد بن طريف- إِلَى خُرَاسَان . ذكر خبر عَمْرو بن الْعَاصِ ومبايعته مُعَاوِيَة وفي هَذِهِ السنة- أعني سنة ست وثلاثين- بايع عَمْرو بن الْعَاصِ مُعَاوِيَة، ووافقه عَلَى محاربة علي، وَكَانَ السبب فِي ذَلِكَ مَا كَتَبَ بِهِ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي حارثة وَأَبِي عُثْمَانَ، قَالُوا: لما أحيط بعثمان- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- خرج عَمْرو بن الْعَاصِ مِنَ الْمَدِينَةِ متوجها نحو الشام، وَقَالَ: وَاللَّهِ يَا أهل الْمَدِينَة، مَا يقيم بِهَا أحد فيدركه قتل هَذَا الرجل إلا ضربه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بذل، من لم يستطع نصره فليهرب فسار وسار مَعَهُ ابناه عَبْد اللَّهِ ومحمد، وخرج بعده حسان بن ثَابِت، وتتابع عَلَى ذَلِكَ مَا شاء اللَّه. قَالَ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي حَارِثَةَ وَأَبِي عُثْمَانَ، قَالا: بينا عَمْرو بن الْعَاصِ جالس بعجلان وَمَعَهُ ابناه، إذ مر بهم راكب فَقَالُوا: من أين؟ قَالَ: مِنَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ عَمْرو: مَا اسمك؟ قَالَ: حصيرة قَالَ عَمْرو: حصر الرجل، قَالَ: فما الخبر؟ قَالَ: تركت الرجل محصورا، قَالَ عَمْرو: يقتل ثُمَّ مكثوا أياما، فمر بهم راكب، فَقَالُوا: من أين؟ قَالَ: مِنَ الْمَدِينَةِ، قَالَ عَمْرو: مَا اسمك؟ قَالَ: قتال، قَالَ عَمْرو: قتل الرجل، فما الخبر؟ قَالَ: قتل الرجل قَالَ: ثُمَّ لَمْ يَكُنْ إلا ذَلِكَ إِلَى أن خرجت، ثُمَّ مكثوا أياما، فمر بهم راكب، فَقَالُوا: من أين؟ قَالَ: مِنَ الْمَدِينَةِ، قال عمرو: ما اسمك؟ قال: حرب، قال عمرو: يكون حرب، فما الخبر؟ قَالَ: قتل

عُثْمَان بن عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وبويع لعلي بن أبي طالب، قَالَ عَمْرو: أنا أَبُو عَبْد اللَّهِ، تكون حرب من حك فِيهَا قرحة نكأها، رحم اللَّه عُثْمَان ورضي اللَّه عنه، وغفر لَهُ! فَقَالَ سلامة بن زنباع الجذامي: يَا معشر قريش، إنه وَاللَّهِ قَدْ كَانَ بينكم وبين العرب باب، فاتخذوا بابا إذ كسر الباب. فَقَالَ عَمْرو: وذاك الَّذِي نريد وَلا يصلح الباب إلا أشاف تخرج الحق من حافرة البأس، ويكون الناس فِي العدل سواء، ثُمَّ تمثل عَمْرو فِي بعض ذَلِكَ: يَا لهف نفسي عَلَى مالك ... وهل يصرف اللهف حفظ القدر! أنزع من الحر أودى بهم ... فأعذرهم أم بقومي سكر! ثُمَّ ارتحل راجلا يبكي كما تبكي المرأة، ويقول: وا عثماناه! أنعى الحياء والدين! حَتَّى قدم دمشق، وَقَدْ كَانَ سقط إِلَيْهِ من الَّذِي يكون علم، فعمل عَلَيْهِ. كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عن ابى عثمان، قال: كان النبي ص قَدْ بعث عمرا إِلَى عمان، فسمع هنالك من حبر شَيْئًا، فلما رَأَى مصداقه وَهُوَ هُنَاكَ أرسل إِلَى ذَلِكَ الحبر، فَقَالَ: حَدِّثْنِي بوفاه رسول الله ص، وأخبرني من يكون بعده؟ قَالَ: الَّذِي كتب إليك يكون بعده، ومدته قصيرة، قَالَ: ثُمَّ من؟ قَالَ: رجل من قومه مثله فِي المنزلة، قَالَ: فما مدته؟ قَالَ: طويلة، ثُمَّ يقتل قال: غيله أم عن ملا؟ قَالَ: غيلة، قَالَ: فمن يلي بعده؟ قَالَ: رجل من قومه مثله فِي المنزلة، قَالَ: فما مدته؟ قَالَ: طويلة، ثُمَّ يقتل، قَالَ: أغيلة أم عن ملإ؟ قَالَ: عن ملإ قَالَ: ذَلِكَ أشد، فمن يلي بعده؟ قَالَ: رجل من قومه ينتشر عليه الناس، وتكون عَلَى رأسه حرب شديدة بين الناس، ثُمَّ يقتل قبل أن يجتمعوا عَلَيْهِ، قَالَ: أغيلة أم عن ملا؟ قَالَ: غيلة، ثُمَّ لا يرون مثله قَالَ: فمن يلي بعده؟ قَالَ:

أَمِير الأرض المقدسة، فيطول ملكه، فيجتمع أهل تِلَكَ الفرقة وَذَلِكَ الانتشار عَلَيْهِ، ثُمَّ يموت. وأما الْوَاقِدِيّ، فإنه فِيمَا حَدَّثَنِي مُوسَى بن يَعْقُوب، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: لما بلغ عمرا قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أنا عَبْد اللَّهِ، قتلته وأنا بوادي السباع، من يلي هَذَا الأمر من بعده! إن يله طَلْحَة فهو فتى العرب سيبا، وإن يله ابن أبي طالب فلا أراه إلا سيستنظف الحق، وَهُوَ أكره من يليه إلي قَالَ: فبلغه أن عَلِيًّا قَدْ بويع لَهُ، فاشتد عَلَيْهِ، وتربص أياما ينظر مَا يصنع الناس، فبلغه مسير طَلْحَة وَالزُّبَيْر وعائشة وَقَالَ: استأني وأنظر مَا يصنعون، فأتاه الخبر أن طَلْحَة وَالزُّبَيْر قَدْ قتلا، فأرتج عَلَيْهِ أمره، فَقَالَ لَهُ قائل: إن مُعَاوِيَة بِالشَّامِ لا يريد ان يبايع لعلى، فلو قاربت مُعَاوِيَة! فكان مُعَاوِيَة أحب إِلَيْهِ من عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ وقيل لَهُ: إن مُعَاوِيَة يعظم شأن قتل عُثْمَان بن عَفَّانَ، ويحرض عَلَى الطلب بدمه، فَقَالَ عَمْرو: ادعوا لي محمدا وعبد اللَّه، فدعيا لَهُ، فَقَالَ: قَدْ كَانَ مَا قَدْ بلغكما من قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وبيعة الناس لعلي، وما يرصد مُعَاوِيَة من مخالفة علي، وَقَالَ: مَا تريان؟ أما علي فلا خير عنده، وَهُوَ رجل يدل بسابقته، وَهُوَ غير مشركي فِي شَيْءٍ من أمره فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن عمرو: توفى النبي ص وَهُوَ عنك راض، وتوفي أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ عنك راض، وتوفي عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ عنك راض، أَرَى أن تكف يدك، وتجلس فِي بيتك، حَتَّى يجتمع الناس عَلَى إمام فتبايعه وَقَالَ مُحَمَّد بن عَمْرو: أنت ناب من أنياب العرب، فلا أَرَى أن يجتمع هَذَا الأمر وليس لك فِيهِ صوت وَلا ذكر قَالَ عَمْرو: أما أنت يَا عَبْد اللَّهِ فأمرتني بِالَّذِي هو خير لي في آخرتي، وأسلم فِي ديني، وأما أنت يَا مُحَمَّد فأمرتني بِالَّذِي أنبه لي فِي دنياي، وشر لي فِي آخرتي ثُمَّ خرج عَمْرو بن الْعَاصِ وَمَعَهُ ابناه حَتَّى قدم عَلَى مُعَاوِيَة، فوجد أهل الشام يحضون مُعَاوِيَة عَلَى الطلب بدم عُثْمَان، فَقَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ: أنتم عَلَى الحق، اطلبوا بدم الخليفة المظلوم- ومعاويه

توجيه على بن ابى طالب جرير بن عبد الله البجلي إلى معاويه يدعوه إلى الدخول في طاعته

لا يلتفت إِلَى قول عَمْرو- فَقَالَ ابنا عَمْرو لعمرو: أَلا ترى إِلَى مُعَاوِيَةَ لا يلتفت إِلَى قولك! انصرف إِلَى غيره فدخل عَمْرو عَلَى مُعَاوِيَة فَقَالَ: وَاللَّهِ لعجب لك! إني أرفدك بِمَا أرفدك وأنت معرض عني! أما وَاللَّهِ إن قاتلنا معك نطلب بدم الخليفة إن فِي النفس من ذَلِكَ مَا فِيهَا، حَيْثُ نقاتل من تعلم سابقته وفضله وقرابته، ولكنا إنما أردنا هَذِهِ الدُّنْيَا فصالحه مُعَاوِيَة وعطف عَلَيْهِ . توجيه عَلِيّ بن أبي طالب جرير بن عَبْدِ اللَّهِ البجلي إِلَى مُعَاوِيَةَ يدعوه إِلَى الدخول فِي طاعته وفي هَذِهِ السنة وجه علي عِنْدَ منصرفه مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ وفراغه من الجمل جرير بن عَبْدِ اللَّهِ البجلي إِلَى مُعَاوِيَةَ يدعوه إِلَى بيعته، وَكَانَ جرير حين خرج علي إِلَى الْبَصْرَة لقتال من قاتله بِهَا بهمذان عاملا عَلَيْهَا، كَانَ عُثْمَان استعمله عَلَيْهَا، وَكَانَ الأشعث بن قيس عَلَى أذربيجان عاملا عَلَيْهَا، كَانَ عُثْمَان استعمله عَلَيْهَا، فلما قدم علي الْكُوفَة منصرفا إِلَيْهَا مِنَ الْبَصْرَةِ، كتب إليهما يأمرهما بأخذ البيعة لَهُ عَلَى من قبلهما مِنَ النَّاسِ، والانصراف إِلَيْهِ ففعلا ذَلِكَ، وانصرفا إِلَيْهِ. فلما أراد علي توجيه الرسول إِلَى مُعَاوِيَةَ، قَالَ جرير بن عَبْدِ اللَّهِ- فِيمَا حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، عن عوانة-: ابعثني إِلَيْهِ، فإنه لي ود حَتَّى آتيه فأدعوه إِلَى الدخول فِي طاعتك، فقال الاشتر لعلى: لا تبعثه، فو الله إني لأظن هواه مَعَهُ، فَقَالَ علي: دعه حَتَّى ننظر مَا الَّذِي يرجع بِهِ إلينا، فبعثه إِلَيْهِ، وكتب مَعَهُ كتابا يعلمه فِيهِ باجتماع الْمُهَاجِرِينَ والأنصار عَلَى بيعته، ونكث طَلْحَة وَالزُّبَيْر، وما كَانَ من حربه إياهما، ويدعوه إِلَى الدخول فِيمَا دخل فِيهِ الْمُهَاجِرُونَ والأنصار من طاعته، فشخص إِلَيْهِ جرير، فلما قدم عَلَيْهِ ماطله واستنظره، ودعا عمرا فاستشاره فِيمَا كتب بِهِ إِلَيْهِ، فأشار عَلَيْهِ أن يرسل إِلَى وجوه الشام، ويلزم عَلِيًّا دم عُثْمَان، ويقاتله

بهم، ففعل ذَلِكَ مُعَاوِيَة، وَكَانَ أهل الشام- فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ يَذْكُرُ أَنَّ شُعَيْبًا حَدَّثَهُ عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ- لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمُ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ بِقَمِيصِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- الَّذِي قُتِلَ فِيهِ مُخَضَّبًا بِدَمِهِ وَبِأَصَابِعِ نَائِلَةَ زَوْجَتِهِ مَقْطُوعَةً بِالْبَرَاجِمِ، إِصْبَعَانِ مِنْهَا وَشَيْءٌ مِنَ الْكَفِّ، وَإِصْبَعَانِ مَقْطُوعَتَانِ مِنْ أُصُولِهِمَا وَنَصْفُ الإِبْهَامِ- وَضَعَ مُعَاوِيَةُ الْقَمِيصُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَكَتَبَ بِالْخَبَرِ إِلَى الأَجْنَادِ، وَثَابَ إِلَيْهِ النَّاسُ، وَبَكَوْا سَنَةً وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَالأَصَابِعِ مُعَلَّقَةً فِيهِ، وَآلَى الرِّجَالُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ أَلا يَأْتُوا النِّسَاءَ، وَلا يَمَسَّهُمُ الْمَاءَ لِلْغُسْلِ إِلا مِنَ احْتِلامٍ، وَلا يَنَامُوا عَلَى الْفُرُشِ حَتَّى يَقْتُلُوا قَتَلَةَ عُثْمَانَ، وَمَنْ عَرَضَ دُونَهُمْ بِشَيْءٍ أَوْ تَفْنَى أَرْوَاحُهُمْ فَمَكَثُوا حَوْلَ الْقَمِيصِ سَنَةً، وَالْقَمِيصُ يُوضَعُ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ وَيُجَلِّلُهُ أَحْيَانًا فَيَلْبَسُهُ وَعَلَّقَ فِي أَرْدَانِهِ أَصَابِعَ نَائِلَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فلما قدم جرير بن عَبْدِ اللَّهِ عَلَى علي- فِيمَا حَدَّثَنِي عمر بن شبة، قال: حدثنا أبو الحسن، عن عوانة- فأخبره خبر مُعَاوِيَة واجتماع أهل الشام مَعَهُ عَلَى قتاله، وأنهم يبكون عَلَى عُثْمَانَ، ويقولون: إن عَلِيًّا قتله، وآوى قتلته، وانهم لا ينتهون عنه حَتَّى يقتلهم أو يقتلوه فَقَالَ الأَشْتَر لعلي: قَدْ كنت نهيتك أن تبعث جريرا، وأخبرتك بعداوته وغشه، ولو كنت بعثتني كَانَ خيرا من هَذَا الَّذِي أقام عنده حَتَّى لم يدع بابا يرجو فتحه إلا فتحه، وَلا بابا يخاف مِنْهُ إلا أغلقه فَقَالَ جرير: لو كنت ثمّ لقتلوك، لقد ذكروا أنك من قتلة عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ الأَشْتَر: لو أتيتهم وَاللَّهِ يَا جرير لم يعيني جوابهم، ولحملت مُعَاوِيَة عَلَى خطة أعجله فِيهَا عن الفكر، ولو أطاعني فيك أَمِير الْمُؤْمِنِينَ لحبسك وأشباهك فِي محبس لا تخرجون مِنْهُ حَتَّى تستقيم هَذِهِ الأمور. فخرج جرير بن عَبْدِ اللَّهِ إِلَى قرقيسياء، وكتب إِلَى مُعَاوِيَةَ، فكتب إِلَيْهِ يأمره بالقدوم عَلَيْهِ وخرج أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فعسكر بالنخيلة، وقدم عَلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ بمن نهض مَعَهُ من أهل الْبَصْرَةِ

خروج على بن ابى طالب إلى صفين

خروج عَلِيّ بن أبي طالب إِلَى صفين حَدَّثَنِي عبد الله بن أحمد المروزي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ، أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا اسْتَخْلَفَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الْبَصْرَةِ سَارَ مِنْهَا إِلَى الْكُوفَةِ، فَتَهَيَّأَ فِيهَا إِلَى صِفِّينَ، فَاسْتَشَارَ النَّاسَ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ قَوْمٌ أَنْ يَبْعَثَ الْجُنُودَ وَيُقِيمُ، وَأَشَارَ آخَرُونَ بِالْمَسِيرِ فَأَبَى إِلا الْمُبَاشَرَةَ، فَجَهَّزَ النَّاسَ فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ، فَدَعَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فَاسْتَشَارَهُ فَقَالَ: أَمَا إذ بلغك أَنَّهُ يَسِيرُ فَسِرْ بِنَفْسِكَ، وَلا تَغِبْ عَنْهُ بِرَأْيِكَ وَمَكِيدَتِكَ قَالَ: أَمَا إِذًا يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَجَهِّزِ النَّاسَ فَجَاءَ عَمْرٌو فَحَضَّضَ النَّاسَ، وَضَعَّفَ عَلِيًّا وأَصْحَابَهُ، وَقَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ قَدْ فَرَّقُوا جَمْعَهُمْ، وَأَوْهَنُوا شَوْكَتَهُمْ، وَفَلُّوا حَدَّهُمْ. ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ مُخَالِفُونَ لِعَلِيٍّ، قد وَتَرَهُمْ وَقَتَلَهُمْ، وَقَدْ تَفَانَتْ صَنَادِيدُهُمْ وَصَنَادِيدُ أَهْلِ الْكُوفَةِ يَوْمَ الْجَمَلِ، وَإِنَّمَا سَارَ فِي شِرْذِمَةٍ قليله، ومنهم من قد قَتَلَ خَلِيفَتُكُمْ، فَاللَّهَ اللَّهَ فِي حَقِّكُمْ أَنْ تُضَيِّعُوهُ، وَفِي دَمِّكُمْ أَنْ تُبْطِلُوهُ! وَكَتَبَ فِي أَجْنَادِ أَهْلِ الشَّامِ، وَعَقَدَ لِوَاءَهُ لِعَمْرٍو، فَعَقَدَ لِوَرْدَانَ غُلامِهِ فِيمَنْ عَقَدَ، وَلابْنَيْهِ عَبْدِ اللَّهِ وَمُحَمَّدٍ، وَعَقَدَ عَلِيٌّ لِغُلامِهِ قَنْبَرٍ، ثُمَّ قَالَ عَمْرٌو: هَلْ يُغْنِيَنَّ وَرْدَانُ عَنِّي قَنْبَرًا ... وَتُغْنِي السَّكُونُ عَنِّي حَمْيَرَا إِذَا الْكُمَاةُ لَبِسُوا السِّنَّوْرَا. فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَقَالَ: لأُصَبِّحَنَّ الْعَاصِي ابْنَ الْعَاصِي ... سَبْعِينَ أَلْفًا عَاقِدِي النَّوَاصِي مُجَنِّبِينَ الْخَيْلَ بِالْقِلاصِ ... مُسْتَحْقِبِينَ حَلْقَ الدِّلاصِ فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةُ قَالَ: مَا أَرَى ابْنَ أَبِي طَالِبٍ إِلا قَدْ وَفَّى لَكَ، فَجَاءَ مُعَاوِيَةُ يَتَأَنَّى فِي مَسِيرِهِ وَكَتَبَ إِلَى كُلِّ مَنْ كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَخَافُ عَلِيًّا

أَوْ طَعَنَ عَلَيْهِ وَمَنْ أَعْظَمَ دَمَ عُثْمَانَ وَاسْتَعْوَاهُمْ إِلَيْهِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْوَلِيدُ بَعَثَ إِلَيْهِ يَقُولُ: أَلا أَبْلِغْ مُعَاوِيَةَ بْنَ حَرْبٍ ... فَإِنَّكَ مِنْ أَخِي ثِقَةِ مُلِيمُ قَطَعْتَ الدَّهْرَ كَالسَّدَمِ الْمُعَنَّى ... تَهَدَّرْ فِي دِمَشْقَ فَمَا تُرِيمُ وَإِنَّكَ وَالْكِتَابُ إِلَى عَلِيٍّ ... كَدَابِغَةٍ وَقَدْ حَلُمَ الأَدِيمُ يُمَنِّيكَ الإِمَارَةَ كُلُّ رَكْبٍ ... لأَنْقَاضِ الْعِرَاقِ بِهَا رَسِيمُ وَلَيْسَ أَخُو التِّرَاتِ بِمَنْ تَوَانَى ... وَلَكِنْ طَالِبَ التِّرَةِ الْغَشُومُ وَلَوْ كُنْتُ الْقَتِيلَ وَكَانَ حَيًّا ... لَجَرَّدَ، لا أَلِفُّ وَلا سَئُومُ وَلا نَكِلٌ عَنِ الأَوْتَارِ حَتَّى ... يَبِيءَ بِهَا، وَلا بَرِمٌ جَثُومُ وَقَوْمُكَ بِالْمَدِينَةِ قَدْ أُبِيرُوا ... فَهُمْ صَرْعَى كَأَنَّهُمُ الْهَشِيمُ وَقَالَ غَيْرُ أَبِي بَكْرٍ: فَدَعَا مُعَاوِيَةُ شَدَّادَ بْنَ قَيْسٍ كَاتِبَهُ وَقَالَ: ابْغِنِي طُومَارًا، فَأَتَاهُ بِطُومَارٍ، فَأَخَذَ الْقَلَمَ فَكَتَبَ، فَقَالَ: لا تَعْجَلْ، اكْتُبْ: وَمُسْتَعْجِبٍ مِمَّا يَرَى مِنْ أَنَّاتِنَا ... وَلَوْ زَبِنَتْهُ الْحَرْبُ لَمْ يَتَرَمْرَمِ ثُمَّ قَالَ: اطْوِ الطُّومَارَ، فَأَرْسَلَ بِهِ إِلَى الْوَلِيدِ، فَلَمَّا فَتَحَهُ لَمْ يَجِدْ فِيهِ غَيْرَ هَذَا الْبَيْتِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ: وَكَتَبَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ حَيْثُ سَارَ على بن

ما امر به على بن ابى طالب من عمل الجسر على الفرات

أَبِي طَالِبٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ بَيْتَيْنِ: أَبْلِغْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ... أَخَا الْعِرَاقِ إِذَا أَتَيْتَا أَنَّ الْعِرَاقَ وَأَهْلَهَا ... عُنُقٌ إِلَيْكَ فَهَيْتَ هَيْتَا عَاد الحديث إِلَى حديث عوانة فبعث علي زياد بن النضر الحارثي طليعة فِي ثمانية آلاف، وبعث معه شريح بن هاني فِي أربعة آلاف، وخرج علي من النخيلة بمن مَعَهُ، فلما دخل المدائن شخص مَعَهُ من فِيهَا من المقاتلة، وولى عَلَى المدائن سعد بن مسعود الثقفي عم المختار بن أبي عبيد، ووجه علي من المدائن معقل بن قيس فِي ثلاثة آلاف، وأمره أن يأخذ عَلَى الموصل حَتَّى يوافيه . مَا أمر بِهِ عَلِيّ بن أبي طالب من عمل الجسر عَلَى الفرات فلما انتهى علي إِلَى الرقة قَالَ فِيمَا حُدِّثْتُ عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي مخنف، قَالَ: حَدَّثَنِي الحجاج بن علي، عن عَبْد اللَّهِ بن عمار بن عَبْدِ يَغُوثَ البارقي- لأهل الرقة: اجسروا لي جسرا حَتَّى أعبر من هَذَا المكان إِلَى الشام، فأبوا وَقَدْ كَانُوا ضموا إِلَيْهِم السفن، فنهض من عندهم ليعبر من جسر منبج، وخلف عَلَيْهِم الأَشْتَر، وذهب ليمضي بِالنَّاسِ كيما يعبر بهم عَلَى جسر منبج، فناداهم الأَشْتَر، فَقَالَ: يَا أهل هَذَا الحصن، أَلا إني أقسم لكم بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَئِنْ مضى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ ولم تجسروا لَهُ عِنْدَ مدينتكم جسرا حَتَّى يعبر لأجردن فيكم السيف، ثُمَّ لأقتلن الرجال ولأخربن الأرض، ولآخذن الأموال قَالَ: فلقي بعضهم بعضا، فَقَالُوا: أليس الأَشْتَر يفي بِمَا حلف عَلَيْهِ، أو يأتي بشر مِنْهُ؟ قَالُوا: نعم، فبعثوا إِلَيْهِ: إنا ناصبون لكم جسرا، فأقبلوا، وجاء علي فنصبوا لَهُ الجسر، فعبر عَلَيْهِ بالأثقال والرجال ثُمَّ أمر علي الأَشْتَر فوقف فِي ثلاثة آلاف فارس، حتى

لم يبق مِنَ النَّاسِ أحد إلا عبر، ثُمَّ إنه عبر آخر الناس رجلا. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي الحجاج بن علي، عن عَبْد اللَّهِ بن عمار بن عَبْدِ يَغُوثَ، أن الخيل حين عبرت زحم بعضها بعضا، فسقطت قلنسوة عَبْد اللَّهِ بن أبي الحصين الأَزْدِيّ، فنزل فأخذها ثُمَّ ركب، وسقطت قلنسوة عَبْد اللَّهِ بن الحجاج الأَزْدِيّ، فنزل فأخذها، ثُمَّ ركب، وَقَالَ لصاحبه: فإن يك ظن الزاجري الطير صادقا ... كما زعموا أقتل وشيكا وتقتل فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ بن أبي الحصين: مَا شَيْء أوتاه أحب إلي مما ذكرت، فقتلا جميعا يوم صفين. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي خَالِد بن قطن الحارثي، أن عَلِيًّا لما قطع الفرات دعا زياد بن النضر، وشريح بن هانئ، فسرحهما أمامه نحو مُعَاوِيَة عَلَى حالهما الَّتِي كانا خرجا عَلَيْهَا من الْكُوفَة قَالَ: وَقَدْ كانا حَيْثُ سرحهما من الْكُوفَة أخذا عَلَى شاطئ الفرات من قبل البر مما يلي الْكُوفَة حَتَّى بلغا عانات، فبلغهما أخذ علي عَلَى طريق الجزيرة، وبلغهما أن مُعَاوِيَة قَدْ أقبل من دمشق فِي جنود أهل الشام لاستقبال علي، فقالا: لا وَاللَّهِ مَا هَذَا لنا برأي، أن نسير وبيننا وبين الْمُسْلِمِينَ وأمير الْمُؤْمِنِينَ هَذَا البحر! وما لنا خير فِي أن نلقى جنود أهل الشام بقلة من معنا منقطعين من العدد والمدد فذهبوا ليعبروا من عانات، فمنعهم أهل عانات، وحبسوا عَنْهُمُ السفن، فأقبلوا راجعين حَتَّى عبروا من هيت، ثُمَّ لحقوا عَلِيًّا بقرية دون قرقيسياء، وَقَدْ أرادوا أهل عانات، فتحصنوا وفروا، ولما لحقت المقدمة عَلِيًّا قَالَ: مقدمتي تأتيني من ورائي فتقدم إِلَيْهِ زياد بن النضر الحارثي وشريح بن هانئ، فأخبراه بِالَّذِي رأيا حين بلغهما من الأمر مَا بلغهما، فَقَالَ: سددتما ثُمَّ مضى علي، فلما عبر الفرات قدمهما أمامه نحو مُعَاوِيَة، فلما انتهيا إِلَى سور الروم لقيهما أَبُو الأعور السلمي عَمْرو بن سُفْيَان فِي جند من أهل الشام، فأرسلا إِلَى علي: إنا قد لقينا أبا الأعور السلمي فِي جند من

أهل الشام، وَقَدْ دعوناهم فلم يجبنا مِنْهُمْ أحد، فمرنا بأمرك فأرسل علي إِلَى الأَشْتَر، [فَقَالَ: يَا مالك، إن زيادا وشريحا أرسلا إلي يعلماني أنهما لقيا أبا الأعور السلمي فِي جمع من أهل الشام، وأنبأني الرسول أنه تركهم متواقفين، فالنجاء إِلَى أَصْحَابك النجاء، فإذا قدمت عَلَيْهِم فأنت عَلَيْهِم وإياك أن تبدأ القوم بقتال إلا أن يبدءوك حَتَّى تلقاهم فتدعوهم وتسمع، ولا يجرمنك شنآنهم عَلَى قتالهم قبل دعائهم، والإعذار إِلَيْهِم مرة بعد مرة، واجعل عَلَى ميمنتك زيادا، وعلى ميسرتك شريحا، وقف من أَصْحَابك وسطا، وَلا تدن مِنْهُمْ دنو من يريد أن ينشب الحرب، وَلا تباعد مِنْهُمْ بعد من يهاب البأس حَتَّى أقدم عَلَيْك، فإني حثيث السير فِي أثرك إِنْ شَاءَ اللَّهُ] قَالَ: وَكَانَ الرسول الْحَارِث بن جمهان الجعفي، فكتب علي إِلَى زياد وشريح: أَمَّا بَعْدُ، فإني قَدْ أمرت عَلَيْكُمَا مالكا، فاسمعا لَهُ وأطيعا، فإنه ممن لا يخاف رهقه وَلا سقاطه وَلا بطؤه عما الإسراع إِلَيْهِ أحزم، وَلا الإسراع إِلَى مَا الإبطاء عنه أمثل، وَقَدْ أمرته بمثل الَّذِي كنت أمرتكما بِهِ أَلا يبدأ القوم حَتَّى يلقاهم فيدعوهم ويعذر إِلَيْهِم. وخرج الأَشْتَر حَتَّى قدم عَلَى القوم، فاتبع مَا أمره علي وكف عن القتال فلم يزالوا متواقفين حَتَّى إذا كَانَ عِنْدَ المساء حمل عَلَيْهِم أَبُو الأعور السلمي، فثبتوا لَهُ، واضطربوا ساعة ثُمَّ إن أهل الشام انصرفوا، ثُمَّ خرج إِلَيْهِم من الغد هاشم بن عتبة الزُّهْرِيّ فِي خيل ورجال حسن عددها وعدتها، وخرج إِلَيْهِ أَبُو الأعور فاقتتلوا يومهم ذَلِكَ، تحمل الخيل عَلَى الخيل والرجال عَلَى الرجال، وصبر القوم بعضهم لبعض، ثُمَّ انصرفوا، وحمل عَلَيْهِم الأَشْتَر، فقتل عَبْد اللَّهِ بن المنذر التنوخي، قتله يَوْمَئِذٍ ظبيان بن عمار التميمي، وما هُوَ إلا فتى حدث، وإن كَانَ التنوخي لفارس أهل الشام، وأخذ الأَشْتَر يقول: ويحكم! أروني أبا الأعور. ثُمَّ إن أبا الأعور دعا الناس، فرجعوا نحوه، فوقف من وراء المكان الَّذِي كَانَ فِيهِ أول مرة، وجاء الأَشْتَر حَتَّى صف أَصْحَابه فِي المكان الَّذِي كَانَ فِيهِ أَبُو الأعور، فَقَالَ الأَشْتَر لسنان بن مالك النخعي: انطلق إِلَى أبي الأعور

فادعه إِلَى المبارزة، فَقَالَ: إِلَى مبارزتي أو مبارزتك؟ فَقَالَ لَهُ الأَشْتَر: لو أمرتك بمبارزته فعلت؟ قَالَ: نعم، وَاللَّهِ لو أمرتني أن أعترض صفهم بسيفي مَا رجعت أبدا حَتَّى أضرب بسيفي فِي صفهم، قَالَ لَهُ الأَشْتَر: يا بن أخي، أطال اللَّه بقاءك! قَدْ وَاللَّهِ ازددت رغبة فيك، لا أمرتك بمبارزته، إنما أمرتك أن تدعوه إِلَى مبارزتي، إنه لا يبرز إن كَانَ ذَلِكَ من شأنه إلا لذوي الأسنان والكفاءة والشرف، وأنت- لربك الحمد- من أهل الكفاءة والشرف، غير أنك فتى حدث السن، فليس بمبارز الأحداث، ولكن ادعه إِلَى مبارزتي فأتاه فنادى: آمنوني فإني رسول فأومن، فَجَاءَ حَتَّى انتهى إِلَى أبي الأعور. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي النضر بن صالح أَبُو زهير العبسي، قَالَ: حَدَّثَنِي سنان، قَالَ: فدنوت مِنْهُ فقلت: إن الأَشْتَر يدعوك إِلَى مبارزته. قَالَ: فسكت عني طويلا ثُمَّ قَالَ: إن خفة الأَشْتَر وسوء رأيه هُوَ حمله عَلَى إجلاء عمال ابن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ من العراق، وانتزاؤه عَلَيْهِ يقبح محاسنه، ومن خفة الأَشْتَر وسوء رأيه أن سار إِلَى ابن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي داره وقراره حَتَّى قتله فيمن قتله، فأصبح متبعا بدمه، أَلا لا حاجة لي فِي مبارزته. قَالَ: قلت: إنك قَدْ تكلمت، فاسمع حَتَّى أجيبك، فَقَالَ: لا، لا حاجة لي فِي الاستماع مِنْكَ وَلا فِي جوابك، اذهب عني فصاح بي أَصْحَابه فانصرفت عنه، ولو سمع إلي لأخبرته بعذر صاحبي وحجته فرجعت إِلَى الأَشْتَر، فأخبرته أنه قد ابى المبارزه، فقال: لنفسه نظر، فواقفناهم حَتَّى حجز الليل بيننا وبينهم، وبتنا متحارسين، فلما أصبحنا نظرنا فإذا القوم قَدِ انصرفوا من تحت ليلتهم، ويصبحنا عَلِيّ بن أبي طالب غدوة فقدم الأَشْتَر فيمن كَانَ مَعَهُ فِي تِلَكَ المقدمة حَتَّى انتهى إِلَى مُعَاوِيَةَ، فواقفه، وجاء علي فِي أثره فلحق بالأشتر سريعا، فوقف وتواقفوا طويلا. ثُمَّ إن عَلِيًّا طلب موضعا لعسكره، فلما وجده أمر الناس فوضعوا الأثقال، فلما فعلوا ذهب شباب الناس وغلمتهم يستقون، فمنعهم أهل الشام فاقتتل الناس عَلَى الماء، وَقَدْ كَانَ الأَشْتَر قَالَ لَهُ قبل ذَلِكَ: إن القوم قَدْ سبقوا إِلَى الشريعة وإلى سهولة الأرض وسعة المنزل، فإن رأيت سرنا نجوزهم

القتال على الماء

إِلَى القرية الَّتِي خرجوا منها، فإنهم يشخصون فِي أثرنا، فإذا هم لحقونا نزلنا فكنا نحن وهم عَلَى السواء، فكره ذَلِكَ علي، وَقَالَ: ليس كل الناس يقوى عَلَى المسير، فنزل بهم القتال عَلَى الماء قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: وَحَدَّثَنِي تَمِيمُ بْنُ الْحَارِثِ الأَزْدِيُّ، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: إِنَّا لَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى مُعَاوِيَةَ وَجَدْنَاهُ قَدْ عَسْكَرَ فِي مَوْضِعِ سَهْل أُفَيْح قَدِ اخْتَارَهُ قَبْلَ قُدُومِنَا إِلَى جَانِبِ شَرِيعَةٍ فِي الْفُرَاتِ، لَيْسَ فِي ذَلِكَ الصَّقْعُ شَرِيعَةٌ غَيْرُهَا، وَجَعَلَهَا فِي حَيْزِهِ، وَبَعَثَ عَلَيْهَا أَبَا الأَعْوَرِ يَمْنَعُهَا وَيَحْمِيهَا، فَارْتَفَعْنَا عَلَى الْفُرَاتِ رَجَاءَ أَنْ نَجِدَ شَرِيعَةً غَيْرَهَا نَسْتَغْنِي بِهَا عَنْ شَرِيعَتِهِمْ فَلَمْ نَجِدْهَا، فَأَتَيْنَا عَلِيًّا فَأَخْبَرْنَاهُ بِعَطَشِ النَّاسِ، وَأَنَّا لا نَجِدُ غَيْرَ شَرِيعَةِ الْقَوْمِ قَالَ: فَقَاتِلُوهُمْ عَلَيْهَا فَجَاءَهُ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ فَقَالَ: أَنَا أَسِيرُ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: فَسِرْ إِلَيْهِمْ فَسَارَ وَسِرْنَا مَعَهُ، حَتَّى إِذَا دَنَوْنَا مِنَ الْمَاءِ ثَارُوا فِي وُجُوهِنَا يَنْضَحُونَنَا بِالنَّبْلِ، وَرَشَقْنَاهُمْ وَاللَّهِ بِالنَّبْلِ سَاعَةً، ثُمَّ أَطَعْنَا وَاللَّهِ بِالرِّمَاحِ طَوِيلا، ثُمَّ صِرْنَا آخِرَ ذَلِكَ نَحْنُ وَالْقَوْمُ إِلَى السُّيُوفِ فَاجْتَلَدْنَا بِهَا سَاعَةً ثُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ أَتَاهُمْ يَزِيدُ بْنُ أَسَدٍ الْبَجَلِيُّ مُمِدًّا فِي الْخَيْلِ وَالرِّجَالِ، فَأَقْبَلُوا نَحْوَنَا، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: فَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لا يَبْعَثُ إِلَيْنَا بِمَنْ يُغْنِي عَنَّا هَؤُلاءِ، فَذَهَبْتُ فَالْتَفَتُّ فَإِذَا عِدَّةُ الْقَوْمِ أَوْ أَكْثَرُ، قَدْ سَرَّحَهُمْ إِلَيْنَا لَيُغْنُوا عَنَّا يَزِيدَ بْنَ أَسَدٍ وَأَصْحَابَهُ، عَلَيْهِمْ شَبَثُ بْنُ ربعي الرياحي فو الله مَا ازْدَادَ الْقِتَالُ إِلا شِدَّةً وَخَرَجَ إِلَيْنَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِنْ عَسْكَرِ مُعَاوِيَةَ فِي جُنْدٍ كَثِيرٍ، فَأَخَذَ يَمُدُّ أَبَا الأَعْوَرِ وَيَزِيدَ بْنَ أَسَدٍ، وَخَرَجَ الأَشْتَرُ مِنْ قِبَلِ عَلِيٍّ فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ فَلَمَّا رَأَى الأَشْتَرُ عَمْرَو بن العاص

يَمُدُّ أَبَا الأَعْوَرِ وَيَزِيدَ بْنَ أَسَدٍ، أَمَدَّ الأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ وَشَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ، فَاشْتَدَّ قِتَالُنَا وَقِتَالُهُمْ، فَمَا أَنْسَى قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفِ بْنِ الأَحْمَرِ الأَزْدِيِّ: خَلُّوا لَنَا مَاءَ الْفُرَاتِ الْجَارِي ... أَوِ اثْبَتُوا لِجَحْفَلٍ جَرَارِ لِكُلِّ قِرْمٍ مُسْتَمِيتٍ شَارِي ... مُطَاعِنٌ بِرُمْحِهِ كَرَّارِ ضَرَّابُ هَامَاتِ الْعِدَا مِغْوَارِ. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي رجل من آل خارجة بن التميمي ان ظبيان ابن عمارة جعل يَوْمَئِذٍ يقاتل وَهُوَ يقول: هل لك يَا ظبيان من بقاء ... فِي ساكن الأرض بغير ماء لا وإله الأرض والسماء ... فاضرب وجوه الغدر الأعداء بالسيف عِنْدَ حمس الوغاء ... حَتَّى يجيبوك إِلَى السواء قَالَ ظبيان: فضربناهم وَاللَّهِ حَتَّى خلونا وإياه. قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: وَحَدَّثَنِي أَبِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَمِّهِ مُحَمَّدِ بْنِ مِخْنَفٍ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي مِخْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ يَوْمَئِذٍ، وَأَنَا ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَلَسْتُ فِي عَطَاءٍ، فَلَمَّا مُنِعَ النَّاسُ الْمَاءَ قَالَ لِي أَبِي: لا تَبْرَحَنَّ الرَّحْلَ، فَلَمَّا رَأَيْتُ الْمُسْلِمِينَ يَذْهَبُونَ نَحْوَ الْمَاءِ لَمْ أَصْبِرْ، فَأَخَذْتُ سَيْفِي، وَخَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ فَقَاتَلْتُ، قَالَ: وَإِذَا أَنَا بِغُلامٍ مَمْلُوكٍ لِبَعْضِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَمَعَهُ قِرْبَةٌ، فَلَمَّا رَأَى أَهْلَ الشَّامِ قَدْ أَفْرَجُوا عَنِ الشَّرِيعَةِ اشْتَدَّ حَتَّى مَلأَ قِرْبَتَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ، وَيَشُدُّ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فَيَضْرِبُهُ فَيَصْرَعُهُ، وَسَقَطَتِ الْقِرْبَةُ مِنْهُ قَالَ: وَأَشُدُّ عَلَى الشَّامِيِّ فَأَضْرِبُهُ فَأَصْرَعُهُ وَاشْتَدَّ أَصْحَابُهُ فَاسْتَنْقَذُوهُ، فَسَمِعْتُهُمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: لا نَأْمَنُ عَلَيْكَ وَرَجَعْتُ إِلَى الْمَمْلُوكِ فَاحْتَمَلْتُهُ، فَإِذَا هُوَ يُكَلِّمُنِي وَبِهِ جُرْحٌ رَغِيبٌ، فَمَا كَانَ أَسْرَعَ مِنْ أَنْ جَاءَهُ مَوْلاهُ، فَذَهَبَ به، وأخذت قربته وهي مملوءة، وآتى بِهَا أَبِي مِخْنَفًا، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ جِئْتَ بِهَا؟ فَقُلْتُ: اشْتَرَيْتُهَا-

وَكَرِهْتُ أَنْ أُخْبِرَهُ الْخَبَرَ، فَيَجِدُ عَلِيَّ- فَقَالَ: اسْقِ الْقَوْمَ، فَسَقَيْتُهُمْ، ثُمَّ شَرِبَ آخِرَهُمْ، وَنَازَعَتْنِي نَفْسِي وَاللَّهِ إِلَى الْقِتَالِ، فَأَنْطَلِقُ فَأَتَقَدَّمُ فِيمَنْ يُقَاتِلُ، فَقَاتَلْنَاهُمْ سَاعَةً، ثُمَّ أَشْهَدُ أَنَّهُمْ خَلُّوا لَنَا عَنِ الْمَاءِ، فَمَا أَمْسَيْنَا حَتَّى رَأَيْنَا سُقَاتِنَا وَسُقَاتِهِمْ يَزْدَحِمُونَ عَلَى الشَّرِيعَةِ، وَمَا يُؤْذِي إِنْسَانٌ إِنْسَانًا، فَأَقْبَلْتُ رَاجِعًا، فَإِذَا أَنَا بِمَوْلَى صَاحِبِ الْقِرْبَةِ، فَقُلْتُ: هَذِهِ قِرْبَتُكَ عِنْدَنَا، فَأَرْسِلْ مَنْ يَأْخُذُهَا، أَوْ أَعْلِمْنِي مَكَانَكَ حَتَّى أَبْعَثَ بِهَا إِلَيْكَ، فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ! عِنْدَنَا مَا نَكْتَفِي بِهِ، فَانْصَرَفْتُ وَذَهَبَ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ مَرَّ عَلَى أَبِي، فَوَقَفَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَرَآنِي إِلَى جَنْبَتِهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا الْفَتَى مِنْكَ؟ قَالَ: ابْنِي، قَالَ: أَرَاكَ اللَّهُ فِيهِ السُّرُورَ، أَنْقَذَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَمْسِ غُلامِي بِهِ مِنَ الْقَتْلِ، حَدَّثَنِي شَبَابُ الْحَيِّ أَنَّهُ كَانَ أَمْسِ أَشْجَعَ النَّاسِ، فَنَظَرَ إِلَيَّ أَبِي نَظْرَةً عَرَفْتُ مِنْهَا فِي وَجْهِهِ الْغَضَبَ، فَسَكَتَ حَتَّى إِذَا مَضَى الرَّجُلُ قَالَ: هَذَا مَا تَقَدَّمْتُ إِلَيْكَ فِيهِ! فَحَلَّفَنِي أَلا أَخْرُجَ إِلَى قِتَالٍ إِلا بِإِذْنِهِ، فَمَا شَهِدْتُ مِنْ قِتَالِهِمْ إلا ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى كَانَ يومٌ مِنْ أَيَّامِهِمْ. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي يونس بن أبي إِسْحَاق السبيعي، عن مهران مولى يَزِيد بن هانئ، قَالَ: وَاللَّهِ إن مولاي يَزِيد بن هانئ ليقاتل عَلَى الماء، وإن القربة لفي يده، فلما انكشف أهل الشام انكشافة عن الماء، استدرت حَتَّى أسقي، وإني فِيمَا بين ذَلِكَ لأقاتل وأرامي. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي يُوسُف بن يَزِيدَ، عن عَبْد اللَّهِ بن عوف بن الأحمر، قَالَ: لما قدمنا عَلَى مُعَاوِيَة وأهل الشام بصفين، وجدناهم قَدْ نزلوا منزلا اختاروه مستويا بساطا واسعا، أخذوا الشريعة، فهي فِي أيديهم، وَقَدْ صف أَبُو الأعور السلمي عَلَيْهَا الخيل والرجال، وَقَدْ قدم المرامية أمام من مَعَهُ، وصف صفا معهم من الرماح والدرق، وعلى رءوسهم البيض، وَقَدْ أجمعوا عَلَى أن يمنعونا الماء، ففزعنا إِلَى امير المؤمنين، فخبرناه بذلك، فدعا صعصعة ابن صُوحَانَ فَقَالَ لَهُ: ائت مُعَاوِيَة وقل لَهُ: [إنا سرنا مسيرنا هَذَا إليكم، ونحن نكره قتالكم قبل الإعذار إليكم، وإنك قدمت إلينا خيلك ورجالك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك، وبدأتنا بالقتال، ونحن من رأينا الكف عنك حَتَّى ندعوك

ونحتج عَلَيْك، وهذه أخرى قَدْ فعلتموها، قَدْ حلتم بين الناس وبين الماء، والناس غير منتهين أو يشربوا، فابعث إِلَى أَصْحَابك فليخلوا بين الناس وبين الماء، ويكفوا حَتَّى ننظر فِيمَا بيننا وبينكم، وفيما قدمنا لَهُ وقدمتم لَهُ، وإن كَانَ أعجب إليك أن نترك مَا جئنا لَهُ، ونترك الناس يقتتلون عَلَى الماء حَتَّى يكون الغالب هُوَ الشارب] فعلنا فَقَالَ مُعَاوِيَة لأَصْحَابه: مَا ترون؟ فَقَالَ الْوَلِيد ابن عُقْبَةَ: امنعهم الماء كما منعوه عُثْمَان بن عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حصروه أربعين صباحا يمنعونه برد الماء، ولين الطعام، اقتلهم عطشا، قتلهم اللَّه عطشا! فَقَالَ لَهُ عَمْرو بن الْعَاصِ: خل بينهم وبين الماء، فإن القوم لن يعطشوا وأنت ريان، ولكن بغير الماء، فانظر مَا بينك وبينهم. فأعاد الْوَلِيد بن عُقْبَةَ مقالته، وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن أبي سرح: امنعهم الماء إِلَى الليل، فإنهم إن لم يقدروا عَلَيْهِ رجعوا، ولو قَدْ رجعوا كَانَ رجوعهم فلا، أمنعهم الماء منعهم اللَّه يوم الْقِيَامَة! فَقَالَ صعصعة: إنما يمنعه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يوم الْقِيَامَة الكفرة الفسقة وشربة الخمر، ضربك وضرب هَذَا الفاسق- يعني الْوَلِيد بن عُقْبَةَ- قَالَ: فتواثبوا إِلَيْهِ يشتمونه ويتهددونه، فَقَالَ مُعَاوِيَة: كفوا عن الرجل فإنه رسول. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي يُوسُف بن يَزِيدَ، عن عَبْد اللَّهِ بن عوف بن الأحمر، أن صعصعة رجع إلينا فحدثنا عما قَالَ لمعاوية، وما كَانَ مِنْهُ وما رد، فقلنا: فما رد عَلَيْك؟ فَقَالَ: لما أردت الانصراف من عنده قلت: مَا ترد علي؟ قَالَ معاويه: سيأتيكم رأيي، فو الله مَا راعنا إلا تسريته الخيل إِلَى أبي الأعور ليكفهم عن الماء قَالَ: فأبرزنا علي إِلَيْهِم، فارتمينا ثُمَّ أطعنا، ثُمَّ اضطربنا بالسيوف، فنصرنا عَلَيْهِم، فصار الماء فِي أيدينا، فقلنا لا وَاللَّهِ لا نسقيهموه، فأرسل إلينا علي: [أن خذوا من الماء حاجتكم، وارجعوا إِلَى عسكركم، وخلوا عَنْهُمْ، فإن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ نصركم عَلَيْهِم بظلمهم وبغيهم]

دعاء على معاويه إلى الطاعة والجماعه

دعاء علي مُعَاوِيَة إِلَى الطاعة والجماعة قَالَ أبو مخنف: حدثني عبد الملك بن أبي حُرَّةَ الْحَنَفِيُّ، أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: هَذَا يَوْمٌ نُصِرْتُمْ فِيهِ بِالْحَمِيَّةِ، وَجَاءَ النَّاسُ حَتَّى أَتَوْا عَسْكَرَهُمْ، فَمَكَثَ عَلِيٌّ يَوْمَيْنِ لا يُرْسِلُ إِلَى مُعَاوِيَةَ أَحَدًا، وَلا يُرْسِلُ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةَ [ثُمَّ إِنَّ عَلِيًّا دَعَا بَشِيرَ بْنَ عَمْرِو بْنِ مِحْصَنٍ الأَنْصَارِيَّ، وَسَعِيدَ بْنَ قَيْسٍ الْهَمْدَانِيَّ، وَشَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ التَّمِيمِيَّ، فَقَالَ: ائْتُوا هَذَا الرَّجُلَ فَادْعُوهُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ،] فَقَالَ لَهُ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلا تُطْمِعَهُ فِي سُلْطَانٍ تُوَلِّيَهُ إِيَّاهُ، وَمَنْزِلَةٍ يَكُونُ لَهُ بِهَا أَثَرَةٌ عِنْدَكَ إِنْ هُوَ بَايَعَكَ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: ائْتُوهُ فَالْقَوْهُ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ، وَانْظُرُوا مَا رَأْيهُ- وَهَذَا فِي أَوَّلِ ذِي الْحِجَّةِ- فَأَتَوْهُ، وَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ أَبُو عَمْرَةَ بَشِيرُ بْنُ عَمْرٍو، وَقَالَ: يَا مُعَاوِيَةُ، إِنَّ الدُّنْيَا عَنْكَ زَائِلَةٌ، وَإِنَّكَ رَاجِعٌ إِلَى الآخِرَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُحَاسِبُكَ بِعَمِلِكَ، وَجَازِيكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ، وَإِنِّي أَنْشُدُكَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تُفَرِّقَ جَمَاعَةَ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَأَنْ تَسْفِكَ دِمَاءَهَا بَيْنَهَا! فَقَطَعَ عَلَيْهِ الْكَلامَ، وَقَالَ: هَلا أَوْصَيْتَ بِذَلِكَ صَاحِبَكَ؟ فَقَالَ أَبُو عَمْرَةَ: إِنَّ صَاحِبِي لَيْسَ مِثْلَكَ، صَاحِبِي أَحَقُّ الْبَرِيَّةِ كُلِّهَا بِهَذَا الأَمْرِ فِي الْفَضْلِ وَالدِّينِ وَالسَّابِقَةِ فِي الإِسْلامِ، وَالْقَرَابَةِ مِنَ الرسول ص قَالَ: فَيَقُولُ مَاذَا؟ قَالَ: يَأْمُرُكَ بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِجَابَةِ ابْنِ عَمِّكَ إِلَى مَا يَدْعُوكَ إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، فَإِنَّهُ أَسْلَمُ لَكَ فِي دُنْيَاكَ، وَخَيْرٌ لَكَ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِكَ قَالَ مُعَاوِيَةُ: وَنطل دَمَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ! لا وَاللَّهِ لا أَفْعَلُ ذَلِكَ أَبَدًا فَذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ قَيْسٍ يَتَكَلَّمُ، فَبَادَرَهُ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، فَتَكَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُعَاوِيَةُ، إِنِّي قَدْ فَهِمْتُ مَا رَدَدْتَ عَلَى ابْنِ مِحْصَنٍ، إِنَّهُ وَاللَّهِ لا يَخْفَى عَلَيْنَا مَا تَغْزُو وَمَا تَطْلُبُ، إِنَّكَ لَمْ تَجِدْ شَيْئًا تَسْتَغْوِي بِهِ النَّاسَ وَتَسْتَمِيلُ بِهِ أَهْوَاءَهُمْ، وَتَسْتَخْلِصُ بِهِ طَاعَتَهُمْ، إِلا قَوْلَكَ: قُتِلَ إِمَامُكُمْ مَظْلُومًا، فَنَحْنُ نَطْلُبُ بِدَمِهِ، فَاسْتَجَابَ

لَهُ سُفَهَاءُ طَغَامٌ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنْ قَدْ أَبْطَأْتَ عَنْهُ بِالنَّصْرِ، وَأَحْبَبْتَ لَهُ الْقَتْلَ، لِهَذِهِ المنزله التي اصبحت تطلب، ورب متمنى أَمْرٍ وَطَالِبِهِ، اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَحُولُ دُونَهُ بِقُدْرَتِهِ، وَرُبَّمَا أُوتِيَ الْمُتَمَنِّي أُمْنِيَّتَهُ وَفَوْقَ أُمْنِيَّتِهِ، وو الله مَا لَكَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا خَيْرٌ، لَئِنْ أَخْطَأْتَ مَا تَرْجُو إِنَّكَ لَشَرُّ الْعَرَبِ حَالا فِي ذَلِكَ، وَلَئِنْ أَصَبْتَ مَا تَمَنَّى لا تُصِيبَهُ حَتَّى تَسْتَحِقَّ مِنْ رَبِّكَ صَلِيَّ النَّارِ، فَاتَّقِ اللَّهَ يَا مُعَاوِيَةُ، وَدَعْ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ، وَلا تُنَازِعِ الأَمْرَ أَهْلَهُ. فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن أَوَّلُ مَا عَرَفْتُ فِيهِ سَفَهَكَ وَخِفَّةَ حِلْمِكَ، قَطْعُكَ عَلَى هَذَا الْحَسِيبِ الشَّرِيفِ سَيِّدِ قَوْمِهِ مَنْطِقَهُ، ثُمَّ عَنَيْتَ بَعْدُ فِيمَا لا عِلْمَ لك به، فقد كذبت، ولؤمت أَيُّهَا الأَعْرَابِيُّ الْجِلْفُ الْجَافِي فِي كُلِّ مَا ذَكَرْتَ وَوَصَفْتَ انْصَرِفُوا مِنْ عِنْدِي، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِلا السَّيْفَ وَغَضِبَ، وَخَرَجَ الْقَوْمُ وَشَبَثٌ يَقُولُ: أَفَعَلَيْنَا تُهَوِّلُ بِالسَّيْفِ! أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَيُعَجِّلَنَّ بِهَا إِلَيْكَ فَأَتَوْا عَلِيًّا وَأَخْبَرُوهُ بِالَّذِي كَانَ مِنْ قَوْلِهِ، وَذَلِكَ فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَأَخَذَ عَلِيٌّ يَأْمُرُ الرَّجُلَ ذَا الشَّرَفِ، فَيَخْرُجُ مَعَهُ جَمَاعَةٌ، وَيَخْرُجُ إِلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاوِيَةَ آخَرُ مَعَهُ جَمَاعَةٌ، فَيَقْتَتِلانِ فِي خَيْلِهِمَا وَرِجَالِهِمَا ثُمَّ يَنْصَرِفَانِ، وَأَخَذُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَلْقَوْا بِجَمْعٍ أَهْلُ الْعِرَاقِ أَهْلَ الشَّامِ لِمَا يَتَخَوَّفُونَ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ مِنَ الاسْتِئْصَالِ وَالْهَلاكِ، فَكَانَ عَلِيٌّ يُخْرِجُ مَرَّةً الأَشْتَرَ، وَمَرَّةً حُجْرَ بْنَ عَدِيٍّ الْكِنْدِيَّ، وَمَرَّةً شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ، وَمَرَّةً خَالِدَ بْنَ الْمُعَمَّرِ، وَمَرَّةً زِيَادَ بْنَ النَّضْرِ الحارثى، ومره زياد بن خصفه التيمى، وَمَرَّةً سَعِيدَ بْنَ قَيْسٍ، وَمَرَّةً مَعْقِلَ بْنَ قَيْسٍ الرِّيَاحِيَّ، وَمَرَّةً قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ وَكَانَ أَكْثَرَ الْقَوْمِ خُرُوجًا إِلَيْهِمُ الأَشْتَرُ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يُخْرِجُ إِلَيْهِمْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ خَالِدٍ الْمَخْزُومِيَّ، وأبا الأعور السلمى، ومره حبيب ابن مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيَّ، وَمَرَّةً ابْنَ ذِي الْكِلاعِ الْحِمْيَرِيَّ، ومره عبيد الله بن عمر ابن الْخَطَّابِ، وَمَرَّةً شُرَحْبِيلَ بْنَ الْسِمْطِ الْكِنْدِيَّ، وَمَرَّةً حَمْزَةَ بْنَ مَالِكٍ الْهَمْدَانِيَّ، فَاقْتَتَلُوا مِنْ ذِي الْحَجَّةِ كُلِّهَا، وَرُبَّمَا اقْتَتَلُوا فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ مَرَّتَيْنِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ

قال أبو مخنف: حدثني عبد الله بن عاصم الفائشي، قَالَ: حَدَّثَنِي رجل من قومي أن الأَشْتَر خرج يَوْمًا يقاتل بصفين فِي رجال من القراء، ورجال من فرسان العرب، فاشتد قتالهم، فخرج علينا رجل وَاللَّهِ لقلما رأيت رجلا قط هُوَ أطول وَلا أعظم مِنْهُ فدعا إِلَى المبارزة، فلم يخرج إِلَيْهِ أحد إلا الأَشْتَر، فاختلفا ضربتين، فضربه الأَشْتَر، فقتله، وايم اللَّه لقد كنا أشفقنا عَلَيْهِ، وسألناه أَلا يخرج إِلَيْهِ، فلما قتله الأَشْتَر نادى مناد من أَصْحَابه: يَا سهم سهم ابن أبي العيزار ... يَا خير من نعلمه من زار وزارة: حي من الأزد، وَقَالَ: أقسم بِاللَّهِ لأقتلن قاتلك أو ليقتلني، فخرج فحمل على الاشتر، وعطف عليه الاشتر فضربه، فإذا هُوَ بين يدي فرسه، وحمل عَلَيْهِ أَصْحَابه فاستنقذوه جريحا، فَقَالَ أَبُو رفيقة الفهمي: هَذَا كَانَ نارا، فصادف إعصارا، واقتتل الناس ذا الحجه كله، فلما انقضى ذو الحجة تداعى الناس إِلَى أن يكف بعضهم عن بعض المحرم، لعل اللَّه أن يجري صلحا أو اجتماعا، فكف بعضهم عن بعض

أخبار متفرقة

[أخبار متفرقة] وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن العباس بن عبد المطلب بأمر علي إِيَّاهُ بِذَلِكَ، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت الرازي، عمن ذكره، عن إسحاق ابن عِيسَى، عن أبي معشر. وفي هَذِهِ السنة مات قدامة بن مظعون، فِيمَا زعم الْوَاقِدِيّ. تم الجزء الرابع من تاريخ الطبرى ويليه الجزء الخامس واوله: ذكر حوادث سنه سبع وثلاثين

الجزء الخامس

الجزء الخامس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ثم وثلاثين ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث وموادعة الحرب بين علي ومعاوية فكان فِي أول شهر منها- وَهُوَ المحرم- موادعة الحرب بين علي ومعاوية، قَدْ توادعا عَلَى ترك الحرب فِيهِ إِلَى انقضائه طمعا فِي الصلح، فذكر هشام ابن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي سعد أَبُو المجاهد الطَّائِيّ، عن المحل بن خليفة الطَّائِيّ، قَالَ: لما توادع علي ومعاوية يوم صفين، اختلف فِيمَا بينهما الرسل رجاء الصلح، فبعث علي عدي بن حاتم ويزيد ابن قيس الأرحبي وشبث بن ربعي وزياد بن خصفة إِلَى مُعَاوِيَةَ، فلما دخلوا حمد اللَّه عدي بن حاتم، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإنا أتيناك ندعوك إِلَى أمر يجمع اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِهِ كلمتنا وأمتنا، ويحقن بِهِ الدماء، ويومن بِهِ السبل، ويصلح بِهِ ذات البين إن ابن عمك سيد الْمُسْلِمِينَ أفضلها سابقة، وأحسنها فِي الإِسْلام أثرا، وَقَدِ استجمع لَهُ الناس، وَقَدْ أرشدهم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِالَّذِي رأوا، فلم يبق أحد غيرك وغير من معك، فانته يَا مُعَاوِيَة لا يصبك اللَّه وأَصْحَابك بيوم مثل يوم الجمل فَقَالَ مُعَاوِيَة: كأنك إنما جئت متهددا، لم تأت مصلحا! هيهات يَا عدي، كلا وَاللَّهِ إني لابن حرب، مَا يقعقع لي بالشنان، أما وَاللَّهِ إنك لمن المجلبين عَلَى ابن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وإنك لمن قتلته، وإني لأرجو أن تكون ممن يقتل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِهِ هيهات يا عدى ابن حاتم! قَدْ حلبت بالساعد الأشد فَقَالَ لَهُ شبث بن ربعي وزياد بن خصفة- وتنازعا جوابا واحدا: أتيناك فِيمَا يصلحنا وإياك، فأقبلت تضرب لنا الأمثال! دع مَا لا ينتفع بِهِ من القول والفعل، وأجبنا فِيمَا يعمنا وإياك نفعه وتكلم يَزِيد بن قيس، فَقَالَ: إنا لم نأتك إلا لنبلغك مَا بعثنا بِهِ إليك، ولنؤدي عنك مَا سمعنا مِنْكَ، ونحن على ذلك لم ندع أن ننصح لك، وأن نذكر مَا ظننا أن لنا عَلَيْك بِهِ حجة، وإنك راجع بِهِ إِلَى الألفة والجماعة

إن صاحبنا من قَدْ عرفت وعرف الْمُسْلِمُونَ فضله، وَلا أظنه يخفى عَلَيْك، أن أهل الدين والفضل لن يعدلوا بعلي، ولن يميلوا بينك وبينه، فاتق اللَّه يَا مُعَاوِيَة، وَلا تخالف عَلِيًّا، فإنا وَاللَّهِ مَا رأينا رجلا قط أعمل بالتقوى، وَلا أزهد فِي الدُّنْيَا، وَلا أجمع لخصال الخير كلها مِنْهُ. فَحَمِدَ الله معاوية وأثنى عليه، ثم قال: أما بَعْدُ، فإنكم دعوتم إِلَى الطاعة والجماعة، فأما الجماعة الَّتِي دعوتم إِلَيْهَا فمعنا هي، وأما الطاعة لصاحبكم فإنا لا نراها، إن صاحبكم قتل خليفتنا، وفرق جماعتنا، وآوى ثأرنا وقتلتنا، وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله، فنحن لا نرد ذَلِكَ عَلَيْهِ، أرأيتم قتلة صاحبنا؟ ألستم تعلمون أَنَّهُمْ أَصْحَاب صاحبكم؟ فليدفعهم إلينا فلنقتلهم بِهِ، ثُمَّ نحن نجيبكم إِلَى الطاعة والجماعة. فَقَالَ لَهُ شبث: أيسرك يَا مُعَاوِيَة أنك أمكنت من عمار تقتله! فَقَالَ مُعَاوِيَة: وما يمنعني من ذَلِكَ! وَاللَّهِ لو أمكنت من ابن سميه ما قتلته بعثمان، ولكن كنت قاتله بناتل مولى عُثْمَان فَقَالَ له شبث: واله الارض واله السماء، ما عدلت معتدلا، لا والذي لا إله إلا هُوَ لا تصل إِلَى عمار حَتَّى تندر الهام عن كواهل الأقوام، وتضيق الأرض الفضاء عَلَيْك برحبها. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة: إنه لو قَدْ كَانَ ذَلِكَ كَانَتِ الأرض عَلَيْك أضيق. وتفرق القوم عن مُعَاوِيَة، فلما انصرفوا بعث مُعَاوِيَة إِلَى زياد بن خصفة التيمي، فخلا بِهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا أخا رَبِيعَة، فإن عَلِيًّا قطع أرحامنا، وآوى قتلة صاحبنا، وإني أسألك النصر عَلَيْهِ بأسرتك وعشيرتك، ثُمَّ لك عهد اللَّه جَلَّ وَعَزَّ وميثاقه أن أوليك إذا ظهرت أي المصرين أحببت. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي سعد أَبُو المجاهد، عن المحل بن خليفة، قَالَ: سمعت زياد بن خصفة يحدث بهذا الحديث، قَالَ: فلما قضى

مُعَاوِيَة كلامه حمدت اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وأثنيت عَلَيْهِ، ثُمَّ قلت: أَمَّا بَعْدُ، فإني عَلَى بينة من ربي وبما أنعم علي، فلن أكون ظهيرا للمجرمين، ثُمَّ قمت. فَقَالَ مُعَاوِيَة لعمرو بن الْعَاصِ- وَكَانَ إِلَى جنبه جالسا: ليس يكلم رجل منا رجلا مِنْهُمْ فيجيب إِلَى خير مَا لَهُمْ عضبهم اللَّه بشر! مَا قلوبهم إلا كقلب رجل واحد. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي راشد الأزدي، عن عبد الرحمن ابن عبيد أبي الكنود، أن مُعَاوِيَة، بعث إِلَى علي حبيب بن مسلمة الفهري وشُرَحْبِيل بن السمط ومعن بن يَزِيدَ بن الأخنس، فدخلوا عَلَيْهِ وأنا عنده، فَحَمِدَ اللَّهَ حبيب وأثنى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن عُثْمَان بن عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ خليفة مهديا، يعمل بكتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وينيب إِلَى أمر اللَّه تعالى، فاستثقلتم حياته، واستبطأتم وفاته، فعدوتم عليه فقتلتموه، فادفع إلينا قتلة عُثْمَان- إن زعمت أنك لم تقتله- نقتلهم بِهِ، ثُمَّ اعتزل أمر الناس فيكون أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ، يولي الناس أمرهم من أجمع عَلَيْهِ رأيهم. [فَقَالَ لَهُ عَلِيّ بن أبي طالب: وما أنت لا أم لك والعزل وهذا الأمر! اسكت فإنك لست هُنَاكَ وَلا بأهل لَهُ! فقام وَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ لتريني بحيث تكره فَقَالَ علي: وما أنت ولو أجلبت بخيلك ورجلك! لا أبقى اللَّه عَلَيْك إن أبقيت علي، أحقرة وسوءا! اذهب فصوب وصعد مَا بدا لك] . [وَقَالَ شُرَحْبِيل بن السمط: إني إن كلمتك فلعمري مَا كلامي إلا مثل كلام صاحبي قبل، فهل عندك جواب غير الَّذِي أجبته بِهِ؟ فَقَالَ علي: نعم لك ولصاحبك جواب غير الَّذِي أجبته بِهِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن اللَّه جل ثناؤه بعث محمدا ص بالحق، فأنقذ بِهِ من الضلالة، وانتاش بِهِ من الهلكة، وجمع بِهِ من الفرقة، ثُمَّ قبضه اللَّه إِلَيْهِ وَقَدْ أدى مَا عَلَيْهِ ص، ثُمَّ استخلف الناس أبا بكر

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، واستخلف أَبُو بَكْر عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فأحسنا السيرة، وعدلا فِي الأمة، وَقَدْ وجدنا عليهما أن توليا علينا- ونحن آل رسول الله ص- فغفرنا ذَلِكَ لهما، وولي عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فعمل بأشياء عابها الناس عَلَيْهِ، فساروا إِلَيْهِ فقتلوه، ثُمَّ أتاني الناس وأنا معتزل أمورهم، فَقَالُوا لي: بايع، فأبيت عَلَيْهِم، فَقَالُوا لي: بايع، فإن الأمة لا ترضى إلا بك!، وإنا نخاف إن لم تفعل أن يفترق الناس، فبايعتهم، فلم يرعني إلا شقاق رجلين قَدْ بايعاني، وخلاف مُعَاوِيَة الَّذِي لم يجعل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَهُ سابقة فِي الدين، وَلا سلف صدق فِي الإِسْلام، طليق ابن طليق، حزب من هَذِهِ الأحزاب، لم يزل لله عز وجل ولرسوله ص وللمسلمين عدوا هُوَ وأبوه حَتَّى دخلا فِي الإِسْلام كارهين، فلا غرو إلا خلافكم مَعَهُ، وانقيادكم له، وتدعون آل نبيكم ص الَّذِينَ لا ينبغي لكم شقاقهم وَلا خلافهم، وَلا أن تعدلوا بهم مِنَ النَّاسِ أحدا أَلا إني أدعوكم إِلَى كتاب اللَّه عَزَّ وجل وسنة نبيه ص وإماتة الباطل، وإحياء معالم الدين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، ولكل مومن ومؤمنة، ومسلم ومسلمه. فقالا: اشهد أن عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قتل مظلوما، فَقَالَ لهما: لا أقول إنه قتل مظلوما، وَلا إنه قتل ظالما، قَالا: فمن لم يزعم أن عُثْمَان قتل مظلوما فنحن مِنْهُ برآء، ثُمَّ قاما فانصرفا فَقَالَ علي: «إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ» ثُمَّ أقبل علي عَلَى أَصْحَابه فَقَالَ: لا يكن هَؤُلاءِ أولى بالجد فِي ضلالهم مِنْكُمْ بالجد فِي حقكم وطاعة ربكم] . قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ حُذَيْفَة، من آل عَامِر بن جوين،

أن عائذ بن قيس الحزمري واثب عدي بن حاتم فِي الراية بصفين- وكانت حزمر أكثر من بني عدي رهط حاتم- فوثب عَلَيْهِم عَبْد اللَّهِ بن خليفة الطَّائِيّ البولاني عِنْدَ علي، فَقَالَ: يَا بني حزمر، عَلَى عدي تتوثبون! وهل فيكم مثل عدي أو فِي آبائكم مثل أبي عدي! أليس بحامي القربة ومانع الماء يوم روية؟ أليس بابن ذي المرباع وابن جواد العرب؟! أليس بابن المنهب ماله، ومانع جاره؟! أليس من لم يغدر ولم يفجر، ولم يجهل ولم يبخل، ولم يمنن ولم يجبن؟! هاتوا فِي آبائكم مثل ابيه، او هاتوا فيكم مثله. او ليس افضلكم في الاسلام! او ليس وافدكم الى رسول الله ص! أليس برأسكم يوم النخيلة ويوم القادسية ويوم المدائن ويوم جلولاء الوقيعة ويوم نهاوند ويوم تستر؟! فما لكم وله! وَاللَّهِ مَا من قومكم أحد يطلب مثل الَّذِي تطلبون فَقَالَ له على بن ابى طالب: حسبك يا بن خليفة، هلم أيها القوم إلي، وعلي بجماعة طيئ، فأتوه جميعا، فَقَالَ علي: من كَانَ رأسكم فِي هَذِهِ المواطن؟ قالت لَهُ طيئ: عدي فَقَالَ لَهُ ابن خليفة: فسلهم يَا امير المؤمنين، اليسوا راضين مسلمين لعدي الرياسة؟ ففعل، فَقَالُوا: نعم، فَقَالَ لَهُمْ: عدي أحقكم بالراية فسلموها لَهُ، فَقَالَ علي- وضجت بنو الحزمر-: إني أراه رأسكم قبل الْيَوْم، وَلا أَرَى قومه كلهم إلا مسلمين لَهُ غيركم، فاتبع فِي ذَلِكَ الكثرة فأخذها عدي، فلما كَانَ أزمان حجر بن عدي طلب عَبْد اللَّهِ بن خليفة ليبعث بِهِ مع حجر- وَكَانَ من أَصْحَابه- فسير إِلَى الجبلين، وَكَانَ عدى قد مناه أن يرده، وأن يطلب فِيهِ، فطال عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَالَ: وتنسونني يوم الشريعة والقنا ... بصفين فِي أكتافهم قَدْ تكسرا

تكتيب الكتائب وتعبئه الناس للقتال

جزى ربه عني عدي بن حاتم ... برفضي وخذلاني جزاء موفرا اتنسى بلائي سادرا يا بن حاتم ... عشية مَا أغنت عديك حزمرا فدافعت عنك القوم حَتَّى تخاذلوا ... وكنت أنا الخصم الألد العذورا فولوا وما قاموا مقامي كأنما ... رأوني ليثا بالأباءة مخدرا نصرتك إذ خام القريب وأبعط البعيد ... وقد افردت نصرا موزرا فكان جزائي أن أجرد بينكم ... سجينا، وأن أولى الهوان وأوسرا وكم عدة لي مِنْكَ أنك راجعي ... فلم تغن بالميعاد عني حبترا تكتيب الكتائب وتعبئة الناس للقتال [قَالَ: ومكث الناس حَتَّى إذا دنا انسلاخ المحرم أمر علي مرثد بن الْحَارِث الجشمي فنادى أهل الشام عِنْدَ غروب الشمس: أَلا إن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ يقول لكم: إني قَدِ استدمتكم لتراجعوا الحق وتنيبوا إِلَيْهِ، واحتججت عَلَيْكُمْ بكتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، فدعوتكم إِلَيْهِ، فلم تناهوا عن طغيان، ولم تجيبوا إِلَى حق، وإني قَدْ نبذت إليكم عَلَى سواء، إن اللَّه لا يحب الخائنين] . ففزع أهل الشام إِلَى أمرائهم ورؤسائهم، وخرج مُعَاوِيَة وعمرو بن الْعَاصِ فِي الناس يكتبان الكتائب ويعبيان الناس، وأوقدوا النيران، وبات علي ليلته كلها يعبي الناس، ويكتب الكتائب، ويدور فِي الناس يحرضهم. قَالَ أَبُو مخنف: [حدثني عبد الرحمن بن جندب الأزدي، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يَأْمُرُنَا فِي كل موطن لقينا فيه معه عدوا فيقول: لا تُقَاتِلُوا الْقَوْمَ

حَتَّى يَبْدَءُوكُمْ، فَأَنْتُمْ بِحَمْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ على حجه، وترككم إياهم حتى يبدؤكم حُجَّةً أُخْرَى لَكُمْ، فَإِذَا قَاتَلْتُمُوهُمْ فَهَزَمْتُمُوهُمْ فَلا تَقْتُلُوا مُدْبِرًا، وَلا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَلا تَكْشِفُوا عَوْرَةً، وَلا تُمَثِّلُوا بِقَتِيلٍ، فَإِذَا وَصَلْتُمْ إِلَى رِحَالِ الْقَوْمِ فَلا تَهْتِكُوا سِتْرًا وَلا تَدْخُلُوا دَارًا إِلا بِإِذْنٍ، وَلا تَأْخُذُوا شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ إِلا مَا وَجَدْتُمْ فِي عَسْكَرِهِمْ، وَلا تُهَيِّجُوا امْرَأَةً بِأَذًى، وَإِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ، وَسَبَبْنَ أُمَرَاءَكُمْ وَصُلَحَاءَكُمْ، فَإِنَّهُنَّ ضِعَافُ الْقُوَى وَالأَنْفُسِ] . قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: وَحدثني إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي صَادِقٍ، عَنِ الْحَضْرَمِيِّ، قَالَ: [سَمِعْتُ عَلِيًّا يُحَرِّضُ النَّاسَ فِي ثَلاثَةِ مَوَاطِنَ: يُحَرِّضُ النَّاسَ يَوْمَ صِفِّينَ، وَيَوْمَ الْجَمَلِ، وَيَوْمَ النَّهْرِ، يَقُولُ: عِبَادَ اللَّهِ، اتَّقُوا اللَّهَ، وَغُضُّوا الأَبْصَارَ، وَاخْفِضُوا الأَصْوَاتِ، وَأَقِلُّوا الْكَلامَ، وَوَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى المنازله والمجاولة والمبارزه والمناضلة والمجالدة وَالْمُعَانَقَةِ وَالْمُكَادَمَةِ وَالْمُلازَمَةِ، فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ اللَّهُمَّ أَلْهِمْهُمُ الصَّبْرَ، وَأَنْزِلْ عَلَيْهِمُ النَّصْرَ، وَأَعْظِمْ لَهُمُ الأَجْرَ] . فأصبح علي من الغد، فبعث عَلَى الميمنة والميسرة والرجالة والخيل قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي فضيل بن خديج الكندي أن عَلِيًّا بعث عَلَى خيل أهل الْكُوفَة الأَشْتَر، وعلى خيل أهل الْبَصْرَة سَهْل بن حنيف، وعلى رجالة أهل الْكُوفَة عمار بن ياسر، وعلى رجالة اهل البصره قيس بن سعد وهاشم ابن عتبة وَمَعَهُ رايته، ومسعر بن فدكي التميمي عَلَى قراء أهل الْبَصْرَة، وصار أهل الْكُوفَة إِلَى عَبْد اللَّهِ بن بديل وعمار بن ياسر. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بن جابر الأَزْدِيّ، عَنِ الْقَاسِمِ مولى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، أن مُعَاوِيَة بعث عَلَى ميمنته ابن ذي الكلاع الحميري،، وعلى ميسرته حبيب بن مسلمة الفهري، وعلى مقدمته يوم أقبل من دمشق

أبا الأعور السلمي- وَكَانَ عَلَى خيل أهل دمشق- وعمرو بن الْعَاصِ عَلَى خيول أهل الشام كلها، ومسلم بن عُقْبَةَ المري عَلَى رجالة أهل دمشق، والضحاك بن قيس عَلَى رجالة الناس كلها وبايع رجال من أهل الشام عَلَى الموت، فعقلوا أنفسهم بالعمائم فكان المعقلون خمسة صفوف، وكانوا يخرجون ويصفون عشرة صفوف، وخرج أهل العراق أحد عشر صفا فخرجوا أول يوم من صفين فاقتتلوا وعلى من خرج يَوْمَئِذٍ من أهل الْكُوفَة الأَشْتَر، وعلى أهل الشام حبيب بن مسلمة، وَذَلِكَ يوم الأربعاء، فاقتتلوا قتالا شديدا جل النهار، ثُمَّ تراجعوا وَقَدِ انتصف بعضهم من بعض، ثُمَّ خرج هاشم بن عتبة فِي خيل ورجال حسن عددها وعدتها، وخرج إِلَيْهِ أَبُو الأعور، فاقتتلوا يومهم ذَلِكَ، يحمل الخيل عَلَى الخيل، والرجال عَلَى الرجال، ثُمَّ انصرفوا وَقَدْ كَانَ القوم صبر بعضهم لبعض وخرج الْيَوْم الثالث عمار بن ياسر، وخرج إِلَيْهِ عَمْرو بن الْعَاصِ، فاقتتل الناس كأشد القتال، وأخذ عمار يقول: يَا أهل العراق، أتريدون أن تنظروا إِلَى من عادى اللَّه ورسوله وجاهدهما، وبغى عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وظاهر المشركين، فلما رَأَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يعز دينه ويظهر رسوله أتى النَّبِيّ ص فأسلم، وَهُوَ فِيمَا نرى راهب غير راغب، ثم قبض الله عز وجل رسوله ص! فو الله إن زال بعده معروفا بعداوة المسلم، وهوادة المجرم فاثبتوا لَهُ وقاتلوه فإنه يطفئ نور اللَّه، ويظاهر أعداء اللَّه عَزَّ وَجَلَّ. فكان مع عمار زياد بن النضر عَلَى الخيل، فأمره أن يحمل فِي الخيل، فحمل، وقاتله الناس وصبروا لَهُ، وشد عمار فِي الرجال، فأزال عَمْرو بن الْعَاصِ عن موقفه وبارز يَوْمَئِذٍ زياد بن النضر أخا لَهُ لأمه يقال لَهُ عَمْرو بن مُعَاوِيَة بن المنتفق بن عَامِر بن عقيل- وكانت أمهما امرأة من بني يَزِيد- فلما التقيا تعارفا فتواقفا، ثُمَّ انصرف كل واحد منهما عن صاحبه، وتراجع الناس. فلما كَانَ من الغد خرج مُحَمَّد بن علي وعبيد اللَّه بن عُمَرَ فِي جمعين عظيمين، فاقتتلوا كأشد القتال ثُمَّ إن عُبَيْد اللَّهِ بن عُمَرَ أرسل إِلَى ابن الحنفيه:

أن اخرج إلي، فَقَالَ: نعم، ثُمَّ خرج يمشي، فبصر بِهِ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: من هَذَانِ المتبارزان؟ فقيل: ابن الحنفية وعبيد اللَّه بن عُمَرَ، فحرك دابته ثُمَّ نادى مُحَمَّدا، فوقف لَهُ، فَقَالَ: أمسك دابتي، فأمسكها، ثُمَّ مشى إِلَيْهِ علي فَقَالَ: أبرز لك، هلم إلي، فَقَالَ: ليست لي فِي مبارزتك حاجة، فَقَالَ: بلى، فَقَالَ: لا، فرجع ابن عمر فأخذ ابن الحنفية يقول لأبيه: يَا أبت، لم منعتني من مبارزته؟ فو الله لو تركتني لرجوت أن أقتله، فَقَالَ: لو بارزته لرجوت أن تقتله، وما كنت آمن أن يقتلك، فَقَالَ: يَا أبت أو تبرز لهذا الفاسق! وَاللَّهِ لو أبوه سألك المبارزة لرغبت بك عنه، [فَقَالَ علي: يَا بني، لا تقل فِي أَبِيهِ إلا خيرا] ثُمَّ إن الناس تحاجزوا وتراجعوا. قَالَ: فلما كَانَ الْيَوْم الخامس خرج عَبْد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ والوليد بن عُقْبَةَ فاقتتلوا قتالا شديدا، ودنا ابن عَبَّاس من الْوَلِيد بن عُقْبَةَ، فأخذ الْوَلِيد يسب بني عبد المطلب، وأخذ يقول: يا بن عَبَّاس، قطعتم أرحامكم، وقتلتم إمامكم، فكيف رأيتم اللَّه صنع بكم؟! لم تعطوا مَا طلبتم، ولم تدركوا مَا أملتم، وَاللَّهِ إن شاء مهلككم وناصر عَلَيْكُمْ فأرسل إِلَيْهِ ابن عَبَّاس: أن ابرز لي، فأبى. وقاتل ابن عَبَّاس يَوْمَئِذٍ قتالا شديدا، وغشي الناس بنفسه. ثُمَّ خرج قيس بن سَعْد الأَنْصَارِيّ وابن ذي الكلاع الحميري فاقتتلوا قتالا شديدا، ثُمَّ انصرفا، وذلك في الْيَوْم السادس. ثُمَّ خرج الأَشْتَر، وعاد إِلَيْهِ حبيب بن مسلمة الْيَوْم السابع، فاقتتلا قتالا شديدا، ثُمَّ انصرفا عِنْدَ الظهر، وكل غير غالب، وَذَلِكَ يوم الثلاثاء. قَالَ أَبُو مخنف: حدثني مالك بن أعين الجهني عن زيد بن وهب، أن عَلِيًّا قَالَ: حَتَّى متى لا نناهض هَؤُلاءِ القوم بأجمعنا! فقام فِي الناس عشية الثلاثاء، ليلة الأربعاء بعد العصر، فقال: الحمد لله الَّذِي لا يبرم مَا نقض، وما أبرم لا ينقضه الناقضون، لو شاء مَا اختلف اثنان من خلقه، وَلا تنازعت الأمة فِي شَيْءٍ من أمره، وَلا جحد المفضول ذا الفضل فضله، وَقَدْ ساقتنا وهؤلاء القوم الأقدار، فلفت بيننا فِي هَذَا المكان، فنحن من ربنا بمرأى ومسمع، فلو شاء عجل النقمة، وَكَانَ مِنْهُ التغيير، حَتَّى

يكذب اللَّه الظالم، ويعلم الحق أين مصيره، ولكنه جعل الدُّنْيَا دار الأعمال، وجعل الآخرة عنده هي دار القرار، ليجزي الَّذِينَ أساءوا بِمَا عملوا ويجزي الَّذِينَ أحسنوا بالحسنى أَلا انكم لاقو القوم غدا، فأطيلوا الليلة القيام، وأكثروا تلاوة القرآن، وسلوا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ النصر والصبر، والقوهم بالجد والحزم، وكونوا صادقين ثُمَّ انصرف، ووثب الناس إِلَى سيوفهم ورماحهم ونبالهم يصلحونها، ومر بهم كعب بن جعيل التغلبي وَهُوَ يقول: أصبحت الأمة فِي أمر عجب ... والملك مجموع غدا لمن غلب فقلت قولا صادقا غير كذب ... إن غدا تهلك أعلام العرب. [قَالَ: فلما كَانَ من الليل خرج علي فعبى الناس ليلته كلها، حَتَّى إذا أصبح زحف بِالنَّاسِ، وخرج إِلَيْهِ مُعَاوِيَة فِي أهل الشام، فأخذ علي يقول: من هَذِهِ القبيلة؟ ومن هَذِهِ القبيلة؟ فنسبت لَهُ قبائل أهل الشام، حَتَّى إذا عرفهم ورأى مراكزهم قَالَ للأزد: اكفوني الأزد، وَقَالَ لخثعم: اكفوني خثعم] وأمر كل قبيلة من أهل العراق أن تكفيه أختها من أهل الشام إلا أن تكون قبيلة ليس منها بِالشَّامِ أحد فيصرفها إِلَى قبيلة أخرى تكون بِالشَّامِ، ليس مِنْهُمْ بِالْعِرَاقِ واحد، مثل بجيلة لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ بِالشَّامِ إلا عدد قليل، فصرفهم إِلَى لخم ثُمَّ تناهض الناس يوم الأربعاء فاقتتلوا قتالا شديدا نهارهم كله، ثُمَّ انصرفوا عِنْدَ المساء وكل غير غالب، حَتَّى إذا كَانَ غداة الخميس صلى علي بغلس قَالَ أَبُو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب الأزدي، عن أَبِيهِ، قَالَ: مَا رأيت عَلِيًّا غلس بالصلاة أشد من تغليسه يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ خرج بِالنَّاسِ الى اهل الشام فزحف اليهم، فكان يبدوهم فيسير إِلَيْهِم، فإذا رأوه قَدْ زحف إِلَيْهِم استقبلوه بوجوههم. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي مالك بن أعين، عن زَيْد بن وهب الجهني، أن عَلِيًّا خرج إِلَيْهِم غداة الأربعاء فاستقبلهم فَقَالَ: اللَّهُمَّ رب السقف المرفوع، المحفوظ المكفوف، الَّذِي جعلته مغيضا لليل والنهار، وجعلت

فِيهِ مجرى الشمس والقمر ومنازل النجوم، وجعلت سكانه سبطا من الملائكة، لا يسأمون العبادة ورب هَذِهِ الأرض الَّتِي جعلتها قرارا للأنام، والهوام والأنعام، وما لا يحصى مما لا يرى ومما يرى من خلقك العظيم ورب الفلك التي تجري فِي البحر بِمَا ينفع الناس، ورب السحاب المسخر بين السماء والأرض، ورب البحر المسجور المحيط بالعالم، ورب الجبال الرواسي الَّتِي جعلتها للأرض أوتادا، وللخلق متاعا، إن أظهرتنا عَلَى عدونا فجنبنا البغي، وسددنا للحق، وإن أظهرتهم علينا فارزقني الشهادة، واعصم بقية أَصْحَابي من الْفِتْنَة. قَالَ: وازدلف الناس يوم الأربعاء فاقتتلوا كأشد القتال يومهم حَتَّى الليل، لا ينصرف بعضهم عن بعض إلا للصلاة، وكثرت القتلى بينهم، وتحاجزوا عِنْدَ الليل وكل غير غالب، فأصبحوا من الغد، فصلى بهم علي غداة الخميس، فغلس بالصلاة أشد التغليس، ثُمَّ بدأ أهل الشام بالخروج، فلما رأوه قَدْ أقبل إِلَيْهِم خرجوا إِلَيْهِ بوجوههم، وعلى ميمنته عَبْد اللَّهِ بن بديل، وعلى ميسرته عَبْد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ، وقراء أهل العراق مع ثلاثة نفر: مع عمار ابن ياسر، ومع قيس بن سَعْدٍ، ومع عَبْد اللَّهِ بن بديل، والناس عَلَى راياتهم ومراكزهم، وعلي فِي القلب فِي أهل الْمَدِينَة بين أهل الْكُوفَة وأهل الْبَصْرَة، وعظم من مَعَهُ من أهل الْمَدِينَة الأنصار، وَمَعَهُ من خزاعة عدد حسن، ومن كنانة وغيرهم من أهل الْمَدِينَة. ثُمَّ زحف إِلَيْهِم بِالنَّاسِ، ورفع مُعَاوِيَة قبة عظيمة قَدْ ألقى عَلَيْهَا الكرابيس وبايعه عظم الناس من أهل الشام عَلَى الموت، وبعث خيل أهل دمشق فاحتاطت بقبته، وزحف عَبْد اللَّهِ بن بديل فِي الميمنة نحو حبيب بن مسلمة، فلم يزل يحوزه، ويكشف خيله من الميسرة حَتَّى اضطرهم إِلَى قبة مُعَاوِيَة عِنْدَ الظهر

قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي مالك بن أعين، عن زَيْد بن وهب الجهني، أن ابن بديل قام فِي أَصْحَابه فَقَالَ: أَلا إن مُعَاوِيَة ادعى مَا ليس أهله، ونازع هَذَا الأمر من ليس مثله، وجادل بالباطل ليدحض بِهِ الحق، وصال عَلَيْكُمْ بالأعراب والأحزاب، قَدْ زين لَهُمُ الضلالة، وزرع فِي قلوبهم حب الْفِتْنَة، ولبس عَلَيْهِم الأمر، وزادهم رجسا إِلَى رجسهم، وَأَنْتُمْ عَلَى نور من ربكم، وبرهان مبين فقاتلوا الطغاة الجفاة، وَلا تخشوهم، فكيف تخشونهم وفي أيديكم كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ طاهرا مبرورا! «أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ» ، وقد قاتلناهم مع النبي ص مرة، وهذه ثانية، وَاللَّهِ مَا هم فِي هَذِهِ بأتقى وَلا أزكى وَلا أرشد، قوموا إِلَى عدوكم بارك اللَّه عَلَيْكُمْ! فقاتل قتالا شديدا هُوَ وأَصْحَابه. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن أبي عمرة الأَنْصَارِيّ، عَنْ أَبِيهِ ومولى لَهُ، [أن عَلِيًّا حرض الناس يوم صفين، فَقَالَ: إن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ دلكم عَلَى تجارة تنجيكم من عذاب أليم، تشفى بكم عَلَى الخير: الإيمان بِاللَّهِ عز وجل وبرسوله ص، والجهاد فِي سبيل اللَّه تعالى ذكره، وجعل ثوابه مغفرة الذنب، ومساكن طيبة فِي جنات عدن ثُمَّ أخبركم أنه يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بنيان مرصوص، فسووا صفوفكم كالبنيان المرصوص، وقدموا الدارع، وأخروا الحاسر، وعضوا عَلَى الأضراس، فإنه أنبى للسيوف عن الهام، والتووا

الجد في الحرب والقتال

فِي أطراف الرماح، فإنه أصون للأسنة وغضوا الأبصار فإنه أربط للجأش، وأسكن للقلوب، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل، وأولى بالوقار راياتكم فلا تميلوها وَلا تزيلوها، وَلا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم، فإن المانع للذمار، والصابر عِنْدَ نزول الحقائق، هم أهل الحفاظ الَّذِينَ يحفون براياتهم ويكنفونها، يضربون حفافيها خلفها وأمامها، وَلا يضعونها أجزأ امرؤ وقذ قرنه- رحمكم اللَّه- وآسى أخاه بنفسه، ولم يكل قرنه إِلَى أخيه، فيكسب بِذَلِكَ لائمة، ويأتي بِهِ دناءة وأني لا يكون هَذَا هكذا! وهذا يقاتل اثنين، وهذا ممسك بيده يدخل قرنه عَلَى أخيه هاربا مِنْهُ، أو قائما ينظر إِلَيْهِ! من يفعل هَذَا يمقته اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، فلا تعرضوا لمقت اللَّه سُبْحَانَهُ فإنما مردكم إِلَى اللَّهِ، قَالَ اللَّه عز من قائل لقوم: «لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا» وايم اللَّه لَئِنْ سلمتم من سيف العاجلة لا تسلمون من سيف الآخرة واستعينوا بالصدق والصبر، فإن بعد الصبر ينزل اللَّه النصر] . الجد فِي الحرب والقتال قَالَ أَبُو مخنف: حدثنى ابو روق الهمدانى، أن يَزِيد بن قيس الأرحبي حرض الناس فَقَالَ: إن المسلم السليم من سلم دينه ورأيه، وإن هَؤُلاءِ القوم وَاللَّهِ إن يقاتلوننا

عَلَى إقامة دين رأونا ضيعناه، وإحياء حق رأونا أمتناه، وإن يقاتلوننا إلا عَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا ليكونوا جبابرة فِيهَا ملوكا، فلو ظهروا عَلَيْكُمْ- لا أراهم اللَّه ظهورا وَلا سرورا- لزموكم بمثل سَعِيد والوليد وعبد اللَّه بن عَامِر السفيه الضال، يخبر أحدهم فِي مجلسه بمثل ديته ودية أَبِيهِ وجده، يقول: هَذَا لي وَلا إثم علي، كأنما أعطى تراثه عن أَبِيهِ وأمه، وإنما هُوَ مال اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، أفاءه علينا بأسيافنا وأرماحنا، فقاتلوا عباد اللَّه القوم الظالمين، الحاكمين بغير مَا أنزل اللَّه، وَلا يأخذكم فِي جهادهم لوم لائم، فإنهم إن يظهروا عَلَيْكُمْ يفسدوا عَلَيْكُمْ دينكم ودنياكم، وهم من قَدْ عرفتم وخبرتم، وايم اللَّه مَا ازدادوا إِلَى يومهم هَذَا إلا شرا. وقاتلهم عَبْد اللَّهِ بن بديل فِي الميمنة قتالا شديدا حَتَّى انتهى إِلَى قبة مُعَاوِيَة ثُمَّ إن الَّذِينَ تبايعوا عَلَى الموت أقبلوا إِلَى مُعَاوِيَةَ، فأمرهم أن يصمدوا لابن بديل فِي الميمنة، وبعث إِلَى حبيب بن مسلمة فِي الميسرة، فحمل بهم وبمن كَانَ مَعَهُ عَلَى ميمنة الناس فهزمهم، وانكشف أهل العراق من قبل الميمنة حَتَّى لم يبق مِنْهُمْ إلا ابن بديل فِي مائتين او ثلاثمائة من القراء، قَدْ أسند بعضهم ظهره إِلَى بعض، وانجفل الناس، فأمر علي سَهْل بن حنيف فاستقدم فيمن كَانَ مَعَهُ من أهل المدينة، فاستقبلتهم جموع لأهل الشام عظيمة، فاحتملتهم حَتَّى ألحقتهم بالميمنة، وَكَانَ فِي الميمنة إِلَى موقف علي فِي القلب أهل اليمن فلما كشفوا انتهت الهزيمة إِلَى علي، فانصرف يتمشى نحو الميسرة، فانكشفت عنه مضر من الميسرة، وثبتت رَبِيعَة. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي مالك بن أعين الجهني، عن زَيْد بن وهب

الجهني، قَالَ: مر علي مَعَهُ بنوه نحو الميسره، ومعه ربيعه وحدها، وإني لأرى النبل يمر بين عاتقه ومنكبه، وما من بنيه أحد إلا يقيه بنفسه، فيكره على ذلك، فيتقدم عليه، فيحول بين أهل الشام وبينه، فيأخذه بيده إذا فعل ذَلِكَ فيلقيه بين يديه أو من ورائه، فبصر بِهِ أحمر- مولى أبي سُفْيَان، أو عُثْمَان، أو بعض بني أُمَيَّة-[فقال على: ورب الكعبة، قتلني اللَّه إن لم أقتلك أو تقتلني!] فأقبل نحوه، فخرج إِلَيْهِ كيسان مولى علي، فاختلفا ضربتين، فقتله مولى بني أُمَيَّة، وينتهزه علي، فيقع بيده فِي جيب درعه، فيجبذه، ثُمَّ حمله عَلَى عاتقه، فكأني أنظر إِلَى رجيلتيه، تختلفان عَلَى عنق علي، ثُمَّ ضرب بِهِ الأرض فكسر منكبه وعضديه، [وشد ابنا علي عَلَيْهِ: حُسَيْن ومُحَمَّد، فضرباه بأسيافهما، حتى برد، فكأني أنظر إِلَى علي قائما وإلى شبليه يضربان الرجل، حَتَّى إذا قتلاه وأقبلا إِلَى أبيهما، والحسن قائما قَالَ لَهُ: يَا بني، مَا منعك أن تفعل كما فعل أخواك؟ قَالَ: كفياني يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ] ثُمَّ إن اهل الشام دنوا منه وو الله مَا يزيده قربهم مِنْهُ سرعة فِي مشيه، [فَقَالَ لَهُ الْحَسَن: مَا ضرك لو سعيت حَتَّى تنتهي إِلَى هَؤُلاءِ الَّذِينَ قَدْ صبروا لعدوك من أَصْحَابك؟ فَقَالَ: يَا بني، إن لأبيك يَوْمًا لن يعدوه وَلا يبطئ بِهِ عند السعي، وَلا يعجل بِهِ إِلَيْهِ المشي، إن أباك وَاللَّهِ مَا يبالي أوقع عَلَى الموت، أو وقع الموت عَلَيْهِ] . قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي فضيل بن خديج الكندي، [عن مولى للأشتر، قَالَ: لما انهزمت ميمنة العراق وأقبل علي نحو الميسرة، مر بِهِ الأَشْتَر يركض نحو الفزع قبل الميمنة، فَقَالَ لَهُ علي: يَا مالك، قَالَ: لبيك،

قَالَ: ائت هَؤُلاءِ القوم فقل لَهُمْ: أين فراركم من الموت الَّذِي لن تعجزوه، إِلَى الحياة الَّتِي لن تبقى لكم! فمضى فاستقبل الناس منهزمين، فَقَالَ لَهُمْ هَذِهِ الكلمات الَّتِي قالها لَهُ علي] وَقَالَ: إلي أَيُّهَا النَّاسُ، أنا مالك بن الْحَارِث، أنا مالك بن الْحَارِث، ثُمَّ ظن أنه بالأشتر أعرف فِي الناس، فَقَالَ: أنا الأَشْتَر، إلي أَيُّهَا النَّاسُ فأقبلت إِلَيْهِ طائفة، وذهبت عنه طائفة، فنادى: أَيُّهَا النَّاسُ، عضضتم بهن آبائكم! مَا أقبح مَا قاتلتم منذ الْيَوْم! أَيُّهَا النَّاسُ، أخلصوا إلي مذحجا، فأقبلت إِلَيْهِ مذحج، فَقَالَ: عضضتم بصم الجندل! مَا أرضيتم ربكم، وَلا نصحتم لَهُ فِي عدوكم، وكيف بِذَلِكَ وَأَنْتُمْ أبناء الحروب، وأَصْحَاب الغارات، وفتيان الصباح، وفرسان الطراد، وحتوف الأقران، ومذحج الطعان، الَّذِينَ لم يكونوا يسبقون بثأرهم، وَلا تطل دماؤهم، وَلا يعرفون فِي موطن بخسف، وَأَنْتُمْ حد أهل مصركم، وأعد حي فِي قومكم، وما تفعلوا فِي هَذَا الْيَوْم، فإنه مأثور بعد الْيَوْم، فاتقوا مأثور الأحاديث فِي غد، واصدقوا عدوكم اللقاء فإن اللَّه مع الصادقين والذي نفس مالك بيده مَا من هَؤُلاءِ- وأشار بيده إِلَى أهل الشام- رجل عَلَى مثال جناح بعوضة من محمد ص أنتم ما احسنتم القراع، اجلوا سواد وجهي يرجع فِي وجهي دمي. عَلَيْكُمْ بهذا السواد الأعظم، فإن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لو قَدْ فضه تبعه من بجانبيه كما يتبع مؤخر السيل مقدمه قَالُوا: خذ بنا حَيْثُ أحببت وصمد نحو عظمهم فِيمَا يلي الميمنة، فأخذ يزحف إِلَيْهِم، ويردهم، ويستقبله شباب من همدان- وكانوا ثمانمائه مقاتل يَوْمَئِذٍ- وَقَدِ انهزموا آخر الناس، وكانوا قَدْ صبروا فِي الميمنة حَتَّى أصيب مِنْهُمْ ثمانون ومائة رجل، وقتل مِنْهُمْ أحد عشر رئيسا، كلما قتل مِنْهُمْ رجل أخذ الراية آخر، فكان الأول كُرَيْب بن شريح، ثُمَّ شرحبيل ابن شريح، ثُمَّ مرثد بن شريح، ثُمَّ هبيرة بن شريح، ثُمَّ يريم بن شريح،

ثُمَّ سمير بن شريح، فقتل هَؤُلاءِ الإخوة السته جميعا ثم أخذ الراية سفيان ابن زَيْد، ثُمَّ عبد بن زَيْدٍ، ثُمَّ كُرَيْب بن زَيْدٍ، فقتل هَؤُلاءِ الإخوة الثلاثة جميعا، ثُمَّ أخذ الراية عميرة بن بشير، ثُمَّ الْحَارِث بن بشير، فقتلا، ثُمَّ أخذ الراية وهب بن كُرَيْب أخو القلوص، فأراد أن يستقبل، فَقَالَ لَهُ رجل من قومه: انصرف بهذه الراية- رحمك اللَّه- فقد قتل أشراف قومك حولها، فلا تقتل نفسك وَلا من بقي من قومك، فانصرفوا وهم يقولون: ليت لنا عدتنا من العرب يحالفوننا عَلَى الموت، ثُمَّ نستقدم نحن وهم فلا ننصرف حَتَّى نقتل أو نظفر فمروا بالأشتر وهم يقولون هَذَا القول، فَقَالَ لَهُمُ الأَشْتَر: إلي أنا أحالفكم وأعاقدكم عَلَى أَلا نرجع أبدا حَتَّى نظفر أو نهلك فأتوه فوقفوا مَعَهُ، ففي هَذَا القول قَالَ كعب بن جعيل التغلبي: وهمدان رزق تبتغي من تحالف وزحف الأَشْتَر نحو الميمنة، وثاب إِلَيْهِ ناس تراجعوا من أهل الصبر والحياء والوفاء، فأخذ لا يصمد لكتيبة إلا كشفها، وَلا لجمع إلا حازه ورده، فإنه لكذلك إذ مر بزياد بن النضر يحمل إِلَى العسكر، فَقَالَ: من هَذَا؟ فقيل: زياد بن النضر، استلحم عَبْد اللَّهِ بن بديل وأَصْحَابه فِي الميمنة، فتقدم زياد فرفع لأهل الميمنة رايته، فصبروا، وقاتل حَتَّى صرع، ثُمَّ لم يمكثوا إلا كلا شَيْء حَتَّى مر بيزيد بن قيس الأرحبي محمولا نحو العسكر، فَقَالَ الأَشْتَر: من هَذَا؟ فَقَالُوا: يَزِيد بن قيس، لما صرع زياد ابن النضر رفع لأهل الميمنة رايته، فقاتل حَتَّى صرع، فَقَالَ الأَشْتَر: هَذَا وَاللَّهِ الصبر الجميل، والفعل الكريم، أَلا يستحي الرجل أن ينصرف لا يقتل

وَلا يقتل، أو يشفى بِهِ عَلَى القتل! قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو جناب الكلبي، عن الحر بن الصياح النخعي، أن الأَشْتَر يَوْمَئِذٍ كَانَ يقاتل عَلَى فرس لَهُ فِي يده صفيحة يمانية، إذا طأطأها خلت فِيهَا ماء منصبا، وإذا رفعها كاد يعشى البصر شعاعها، وجعل يضرب بسيفه ويقول: الغمرات ثُمَّ ينجلينا قَالَ: فبصر بِهِ الْحَارِث بن جمهان الجعفي والأشتر متقنع فِي الحديد، فلم يعرفه، فدنا مِنْهُ فَقَالَ لَهُ: جزاك اللَّه خيرا منذ الْيَوْم عن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وجماعة المسلمين! فعرفه الاشتر، فقال يا بن جمهان، مثلك يتخلف عن مثل موطني هَذَا الَّذِي أنا فِيهِ! فنظر إِلَيْهِ ابن جمهان فعرفه، فكان من اعظم الرجال واطوله- وكان في لحيته خفه- قليله- فَقَالَ: جعلت فداك! لا وَاللَّهِ مَا علمت بمكانك إلا الساعة، وَلا أفارقك حَتَّى أموت قَالَ: ورآه منقذ وحمير ابنا قيس الناعطيان، فَقَالَ منقذ لحمير: مَا فِي العرب مثل هَذَا، إن كَانَ مَا أَرَى من قتاله على نيته، فَقَالَ لَهُ حمير: وهل النية إلا مَا تراه يصنع! قَالَ: إني أخاف أن يكون يحاول ملكا قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي فضيل بن خديج، عن مولى للأشتر:، إنه

لما اجتمع إِلَيْهِ عظم من كَانَ انهزم عن الميمنة حرضهم، ثُمَّ قَالَ: عضوا عَلَى النواجذ من الأضراس، واستقبلوا القوم بهامكم، وشدوا شدة قوم موتورين ثأرا بآبائهم وإخوانهم، حناقا عَلَى عدوهم، قَدْ وطنوا عَلَى الموت أنفسهم كيلا يسبقوا بوتر، وَلا يلحقوا فِي الدُّنْيَا عارا، وايم اللَّه مَا وتر قوم قط بشيء أشد عَلَيْهِم من أن يوتروا دينهم، وإن هَؤُلاءِ القوم لا يقاتلونكم إلا عن دينكم ليميتوا السنة، ويحيوا البدعة، ويعيدوكم فِي ضلالة قَدْ أخرجكم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ منها بحسن البصيرة فطيبوا عباد اللَّه أنفسا بدمائكم دون دينكم، فإن ثوابكم عَلَى اللَّه، وَاللَّهِ عنده جنات النعيم وإن الفرار من الزحف فِيهِ السلب للعز، والغلبة عَلَى الفيء، وذل المحيا والممات، وعار الدُّنْيَا والآخرة. وحمل عَلَيْهِم حَتَّى كشفهم، فألحقهم بصفوف مُعَاوِيَة بين صلاة العصر والمغرب، وانتهى إِلَى عَبْد اللَّهِ بن بديل وَهُوَ فِي عصبة من القراء بين المائتين والثلثمائه، وَقَدْ لصقوا بالأرض كأنهم جثا فكشف عَنْهُمْ أهل الشام، فأبصروا إخوانهم قَدْ دنوا مِنْهُمْ، فَقَالُوا: مَا فعل أَمِير الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالُوا: حي صالح فِي الميسرة، يقاتل الناس أمامه، فَقَالُوا: الحمد لِلَّهِ، قَدْ كنا ظننا أن قَدْ هلك وهلكتم وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن بديل لأصحابه: استقدموا بنا، فأرسل الاشتر اليه: الا تفعل، أثبت مع الناس فقاتل، فإنه خير لَهُمْ وأبقى لك ولأَصْحَابك فأبى، فمضى كما هُوَ نحو مُعَاوِيَة، وحوله كأمثال الجبال، وفي يده سيفان، وَقَدْ خرج فهو أمام أَصْحَابه، فأخذ كلما دنا مِنْهُ رجل ضربه فقتله، حَتَّى قتل سبعة، ودنا من مُعَاوِيَة فنهض إِلَيْهِ الناس من كل جانب، وأحيط بِهِ وبطائفة من أَصْحَابه، فقاتل حَتَّى قتل، وقتل ناس من اصحابه، ورجعت طائفه قد جرحوا منهزمين، فبعث الاشتر ابن جمهان الجعفي فحمل عَلَى أهل الشام الَّذِينَ يتبعون من نجا من أَصْحَاب ابن بديل حَتَّى نفسوا عَنْهُمْ، وانتهوا إِلَى الأَشْتَر، فَقَالَ لَهُمْ: ألم يكن رأيي لكم خيرا من رأيكم لأنفسكم! الم آمر كم أن تثبتوا مع الناس! وَكَانَ مُعَاوِيَة قَالَ لابن بديل وَهُوَ

يضرب قدما: أترونه كبش القوم! فلما قتل أرسل إِلَيْهِ، فَقَالَ: انظروا من هُوَ؟ فنظر إِلَيْهِ ناس من أهل الشام فَقَالُوا: لا نعرفه، فأقبل إِلَيْهِ حَتَّى وقف عَلَيْهِ، فَقَالَ: بلى، هَذَا عَبْد اللَّهِ بن بديل، وَاللَّهِ لو استطاعت نساء خزاعة أن تقاتلنا فضلا عَلَى رجالها لفعلت، مدوه، فمدوه، فَقَالَ: هَذَا وَاللَّهِ كما قَالَ الشاعر: أخو الحرب إن عضت بِهِ الحرب عضها ... وإن شمرت يَوْمًا بِهِ الحرب شمرا والبيت لحاتم طيئ وإن الأَشْتَر زحف إِلَيْهِم فاستقبله مُعَاوِيَة بعك والأشعرين، فَقَالَ الأَشْتَر لمذحج: اكفونا عكا، ووقف فِي همدان وَقَالَ لكندة: اكفونا الأشعرين، فاقتتلوا قتالا شديدا، وأخذ يخرج إِلَى قومه فيقول: إنما هم عك، فاحملوا عَلَيْهِم، فيجثون عَلَى الركب ويرتجزون: يَا ويل أم مذحج من عك ... هاتيك أم مذحج تبكي فقاتلوهم حَتَّى المساء ثُمَّ إنه قاتلهم فِي همدان وناس من طوائف الناس، فحمل عَلَيْهِم فأزالهم عن مواقفهم حَتَّى ألحقهم بالصفوف الخمسة المعقلة بالعمائم حول مُعَاوِيَة، ثُمَّ شد عَلَيْهِم شدة أخرى فصرع الصفوف الأربعة، - وكانوا معقلين بالعمائم- حَتَّى انتهوا إِلَى الخامس الَّذِي حول مُعَاوِيَة، ودعا مُعَاوِيَة بفرس فركب- وَكَانَ يقول: أردت أن أنهزم فذكرت قول ابن الأطنابة من الأنصار- كَانَ جاهليا، والأطنابة امرأة من بلقين: أبت لي عفتي وحياء نفسي ... وإقدامي عَلَى البطل المشيح وإعطائي عَلَى المكروه مالي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي فمنعني هَذَا القول من الفرار

قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي مالك بن أعين الجهني، عن زَيْد بن وهب، أن عَلِيًّا لما رَأَى ميمنته قَدْ عادت إِلَى مواقعها ومصافها وكشفت من بإزائها من عدوها حَتَّى ضاربوهم فِي مواقفهم ومراكزهم، أقبل حَتَّى انتهى إِلَيْهِم [فَقَالَ: إني قَدْ رأيت جولتكم وانحيازكم عن صفوفكم، يحوزكم الطغاة الجفاة وأعراب أهل الشام، وأنتم لهاميم العرب، والسنام الأعظم، وعمار الليل بتلاوة القرآن وأهل دعوة الحق إذ ضل الخاطئون، فلولا إقبالكم بعد إدباركم، وكركم بعد انحيازكم، وجب عَلَيْكُمْ مَا وجب عَلَى المولي يوم الزحف دبره، وكنتم من الهالكين، ولكن هون وجدي، وشفى بعض أحاح نفسي، أني رأيتكم بأخرة حزتموهم كما حازوكم، وأزلتموهم عن مصافهم كما أزالوكم، تحسونهم بالسيوف، تركب أولاهم أخراهم كالإبل المطرده الهيم، فالآن فاصبروا، نزلت عَلَيْكُمُ السكينة وثبتكم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ باليقين، ليعلم المنهزم أنه مسخط ربه، وموبق نفسه، إن فِي الفرار موجدة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ، والذل اللازم، والعار الباقي، واعتصار الفيء من يده، وفساد العيش عَلَيْهِ وإن الفار مِنْهُ لا يَزِيد فِي عمره، وَلا يرضي ربه، فموت المرء محقا قبل إتيان هَذِهِ الخصال، خير من الرضا بالتأنيس لها، والإقرار عَلَيْهَا] . قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلامِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جابر الأحمسي، أن راية بجيلة بصفين كَانَتْ فِي أحمس بن الغوث بن أنمار مع أبي شداد- وَهُوَ قيس بن مكشوح بن هلال بن الْحَارِث بن عَمْرو بن جابر بن على ابن اسلم بن احمس بن الغوث- وقالت لَهُ بجيلة: خذ رايتنا، فَقَالَ: غيري خير لكم مني، قَالُوا: مَا نريد غيرك، قَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ أعطيتمونيها لا أنتهي بكم دون صاحب الترس المذهب قَالُوا: اصنع مَا شئت،

فأخذها ثُمَّ زحف، حَتَّى انتهى بهم إِلَى صاحب الترس المذهب- وَكَانَ فِي جماعة عظيمة من أَصْحَاب مُعَاوِيَة، وذكروا أنه عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن الْوَلِيد المخزومي- فاقتتل الناس هنالك قتالا شديدا، فشد بسيفه نحو صاحب الترس، فتعرض لَهُ رومي، مولى لمعاوية فيضرب قدم أبي شداد فيقطعها، ويضربه أَبُو شداد فيقتله، وأشرعت إِلَيْهِ الأسنة فقتل، وأخذ الراية عبد الله ابن قلع الأحمسي وَهُوَ يقول: لا يبعد اللَّه أبا شداد ... حَيْثُ أجاب دعوة المنادي وشد بالسيف على الأعادي ... نعم الفتى كان لدى الطراد وفي طعان الرجل والجلاد فقاتل حَتَّى قتل، فأخذ الراية أخوه عبد الرَّحْمَن بن قلع، فقاتل حَتَّى قتل، ثُمَّ أخذها عفيف بن إياس، فلم تزل فِي يده حَتَّى تحاجز الناس، وقتل حازم بن أبي حازم الأحمسي- أخو قيس بن أبي حازم- يَوْمَئِذٍ، وقتل نعيم بن صهيب بن العلية البجلي يَوْمَئِذٍ، فأتى ابن عمه وسميه نعيم بن الحارث ابن العلية مُعَاوِيَة- وَكَانَ مَعَهُ- فَقَالَ: إن هَذَا القتيل ابن عمي، فهبه لي أدفنه، فَقَالَ: لا تدفنه فليس لذلك أهلا، وَاللَّهِ مَا قدرنا عَلَى دفن ابن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلا سرا قَالَ: وَاللَّهِ لتأذنن فِي دفنه أو لألحقن بهم ولأدعنك. قَالَ مُعَاوِيَة: أترى أشياخ العرب قَدْ أحالتهم أمورهم، فأنت تسألني فِي دفن ابن عمك! ادفنه إن شئت أو دع فدفنه. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بن حصيرة الأَزْدِيّ، عن أشياخ من النمر من الأزد، أن مخنف بن سليم لما ندبت الأزد للأزد، حمد اللَّه وأثنى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إن من الخطإ الجليل، والبلاء العظيم، أنا صرفنا إِلَى قومنا وصرفوا إلينا، وَاللَّهِ مَا هي إلا أيدينا نقطعها بأيدينا، وما هي إلا أجنحتنا نجدها بأسيافنا، فإن نحن لم نؤاس جماعتنا، ولم نناصح صاحبنا كفرنا، وان

نحن فعلنا فعزنا أبحنا، ونارنا أخمدنا، فَقَالَ لَهُ جندب بن زهير: وَاللَّهِ لو كنا آباءهم وولدناهم- أو كنا أبناءهم وولدونا- ثُمَّ خرجوا من جماعتنا، وطعنوا عَلَى إمامنا وإذا هم الحاكمون بالجور عَلَى أهل ملتنا وذمتنا، مَا افترقنا بعد أن اجتمعنا حَتَّى يرجعوا عما هم عَلَيْهِ، ويدخلوا فِيمَا ندعوهم إِلَيْهِ، أو تكثر القتلى بيننا وبينهم. فَقَالَ لَهُ مخنف- وَكَانَ ابن خالته: أعز اللَّه بك النيه، وَاللَّهِ مَا علمت صغيرا وكبيرا إلا مشئوما، وَاللَّهِ مَا ميلنا الرأي قط أيهما نأتي أو أيهما ندع- فِي الْجَاهِلِيَّة وَلا بعد أن أسلمنا- إلا اخترت أعسرهما وأنكدهما، اللَّهُمَّ إن تعافي أحب إلينا من أن تبتلي، فأعط كل امرئ منا مَا يسألك. وَقَالَ أَبُو بريدة بن عوف: اللَّهُمَّ احكم بيننا بِمَا هُوَ أرضى لك يَا قوم إنكم تبصرون مَا يصنع الناس، وإن لنا الأسوة بِمَا عَلَيْهِ الجماعة إن كنا عَلَى حق، وإن يكونوا صادقين فإن أسوة فِي الشر- وَاللَّهِ مَا علمنا- ضرر فِي المحيا والممات وتقدم جندب بن زهير، فبارز رأس أزد الشام، فقتله الشامي، وقتل من رهطه عجل وسعد ابنا عَبْد اللَّهِ من بني ثعلبة، وقتل مع مخنف من رهطه عَبْد اللَّهِ وخالد ابنا ناجد، وعمرو وعامر ابنا عويف، وعبد اللَّه بن الحجاج وجندب بن زهير، وأبو زينب بن عوف بن الْحَارِث، وخرج عَبْد اللَّهِ بن أبي الحصين الأَزْدِيّ فِي القراء الذين مع عمار بن الْحَارِث، وخرج عَبْد اللَّهِ بن أبي الحصين الأَزْدِيّ فِي القراء الَّذِينَ مع عمار بن ياسر فأصيب مَعَهُ. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي الْحَارِث بن حصيرة، عن أشياخ النمر، أن عقبة بن حديد النمري قَالَ يوم صفين: أَلا إن مرعى الدُّنْيَا قَدْ أصبح هشيما، وأصبح شجرها خضيدا، وجديدها سملا، وحلوها مر المذاق. أَلا وإني أنبئكم نبأ امرئ صادق: إني قَدْ سئمت الدُّنْيَا وعزفت نفسي عنها،

وَقَدْ كنت أتمنى الشهادة، وأتعرض لها فِي كل جيش وغاره، فأبى الله عز وجل إلا أن يبلغني هَذَا الْيَوْم أَلا وإني متعرض لها من ساعتي هَذِهِ، قَدْ طمعت أَلا أحرمها، فما تنتظرون عباد اللَّه بجهاد من عادى اللَّه؟ خوفا من الموت القادم عَلَيْكُمُ، الذاهب بأنفسكم لا محالة، أو من ضربة كف بالسيف تستبدلون الدُّنْيَا بالنظر فِي وجه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وموافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فِي دار القرار! مَا هَذَا بالرأي السديد ثُمَّ مضى فَقَالَ: يَا إخوتي، قَدْ بعت هَذِهِ الدار بالتي أمامها، وهذا وجهى إليها لا يبرح وجوهكم، وَلا يقطع اللَّه عَزَّ وَجَلَّ رجاءكم فتبعه إخوته: عُبَيْد اللَّهِ وعوف ومالك، وَقَالُوا: لا نطلب رزق الدُّنْيَا بعدك، فقبح اللَّه العيش بعدك! اللَّهُمَّ إنا نحتسب أنفسنا عندك! فاستقدموا فقاتلوا حَتَّى قتلوا قَالَ أَبُو مخنف: حدثنى صلة بن زهير النهدي، عن مسلم بن عَبْدِ اللَّهِ الضبابي، قَالَ: شهدت صفين مع الحي ومعنا شمر بن ذي الجوشن الضبابي، فبارزه أدهم بن محرز الباهلي، فضرب أدهم وجه شمر بالسيف، وضربه شمر ضربة لم تضرره، فرجع شمر إِلَى رحله فشرب شربة- وَكَانَ قَدْ ظمئ- ثُمَّ أخذ الرمح، فأقبل وَهُوَ يقول: إني زعيم لأخي باهله ... بطعنة إن لم أصب عاجله أو ضربة تحت القنا والوغى ... شبيهة بالقتل أو قاتله ثُمَّ حمل عَلَى أدهم فصرعه، ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ بتلك. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي عَمْرو بن عَمْرو بن عوف بن مالك الجشمي أن بشر بن عصمة المزني كَانَ لحق بمعاوية، فلما اقتتل الناس بصفين بصر

بشر بن عصمة بمالك بن العقدية- وَهُوَ مالك بن الجلاح الجشمي، ولكن العقدية غلبت عَلَيْهِ- فرآه بشر وَهُوَ يفري فِي أهل الشام فريا عجيبا، وَكَانَ رجلا مسلما شجاعا، فغاظ بشرا مَا رَأَى مِنْهُ، فحمل عَلَيْهِ فطعنه فصرعه، ثُمَّ انصرف، فندم لطعنته إِيَّاهُ جبارا، فقال: وانى لأرجو من مليكي تجاوزا ... ومن صاحب الموسوم فِي الصدر هاجس دلفت لَهُ تحت الغبار بطعنة ... عَلَى ساعة فِيهَا الطعان تخالس فبلغت مقالته ابن العقدية، فَقَالَ: أَلا أبلغا بشر بن عصمة أنني ... شغلت وألهاني الَّذِينَ أمارس فصادفت مني غرة وأصبتها ... كذلك والأبطال ماض وخالس ثُمَّ حمل عَبْد اللَّهِ بن الطفيل البكائي عَلَى جمع لأهل الشام، فلما انصرف حمل عَلَيْهِ رجل من بني تميم- يقال لَهُ قيس بن قرة، ممن لحق بمعاوية من أهل العراق- فيضع الرمح بين كتفي عبد الله بن الطفيل، ويعترضه يزيد ابن مُعَاوِيَة، ابن عم عَبْد اللَّهِ بن الطفيل، فيضع الرمح بين كتفي التميمي، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ طعنته لأطعننك، فَقَالَ: عَلَيْك عهد اللَّه وميثاقه لئن رفعت السنان على ظهر صاحبك لترفعن سنانك عني! فَقَالَ لَهُ: نعم، لك بِذَلِكَ عهد اللَّه، فرفع السنان عن ابن الطفيل، ورفع يَزِيد السنان عن التميمي، فَقَالَ: ممن أنت؟ قَالَ: من بني عَامِر، فَقَالَ لَهُ: جعلني اللَّه فداكم! أينما إلفكم إلفكم كراما، وإني لحادي عشر رجلا من أهل بيتي ورهطي قتلتموهم الْيَوْم، وأنا كنت آخرهم فلما رجع الناس إِلَى الْكُوفَةِ عتب عَلَى يَزِيد بن الطفيل فِي بعض مَا يعتب فِيهِ الرجل عَلَى ابن عمه، فَقَالَ لَهُ: ألم ترني حاميت عنك مناصحا ... بصفين إذ خلاك كل حميم ونهنهت عنك الحنظلي وَقَدْ أتى ... عَلَى سابح ذي ميعة وهزيم!

قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي فضيل بن خديج، قَالَ: خرج رجل من أهل الشام يدعو إِلَى المبارزة، فخرج إِلَيْهِ عبد الرَّحْمَن بن محرز الكندي، ثُمَّ الطمحي، فتجاولا ساعة ثُمَّ إن عبد الرَّحْمَن حمل عَلَى الشامي فطعنه فِي ثغرة نحره فصرعه، ثُمَّ نزل إِلَيْهِ فسلبه درعه وسلاحه، فإذا هُوَ حبشي، فَقَالَ: إنا لِلَّهِ! لمن أخطرت نفسي! لعبد أسود! وخرج رجل من عك يسأل المبارزة، فخرج إِلَيْهِ قيس بن فهدان الكناني، ثُمَّ البدني، فحمل عَلَيْهِ العكي فضربه واحتمله أَصْحَابه فَقَالَ قيس بن فهدان: لقد علمت عك بصفين أننا ... إذا التقت الخيلان نطعنها شزرا ونحمل رايات الطعان بحقها ... فنوردها بيضا ونصدرها حمرا قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي فضيل بن خديج أن قيس بن فهدان كَانَ يحرض أَصْحَابه فيقول: شدوا إذا شددتم جميعا، وإذا انصرفتم فأقبلوا معا، وغضوا الأبصار، وأقلوا اللفظ، واعتوروا الأقران، وَلا يؤتين من قبلكم العرب قَالَ: وقتل نهيك بن عزير- من بني الْحَارِث بن عدي وعمرو بن يَزِيدَ من بني ذهل، وسعيد بن عَمْرو- وخرج قيس بن يَزِيدَ وَهُوَ ممن فر إِلَى مُعَاوِيَةَ من علي، فدعا إِلَى المبارزة، فخرج إِلَيْهِ أخوه أَبُو العمرطة بن يَزِيدَ، فتعارفا، فتواقفا وانصرفا إِلَى النَّاسِ، فأخبر كل واحد منهما أنه لقي أخاه. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ حُذَيْفَة من آل عَامِر بن جوين الطَّائِيّ، أن طيئا يوم صفين قاتلت قتالا شديدا، فعبيت لَهُمْ جموع كثيرة، فجاءهم حمزة بن مالك الهمداني، فَقَالَ: ممن أنتم، لِلَّهِ أنتم! فقال عبد الله ابن خليفة البولاني- وَكَانَ شيعيا شاعرا خطيبا: نحن طيئ السهل، وطيئ

الرمل، وطيئ الجبل، الممنوع ذي النخل، نحن حماة الجبلين، إِلَى مَا بين العذيب والعين، نحن طيئ الرماح، وطيئ النطاح، وفرسان الصباح. فَقَالَ حمزة بن مالك: بخ بخ! إنك لحسن الثناء عَلَى قومك، فَقَالَ: إن كنت لم تشعر بنجدة معشر ... فأقدم علينا ويب غيرك تشعر ثُمَّ اقتتل الناس أشد القتال، فأخذ يناديهم ويقول: يَا معشر طيئ، فدى لكم طارفي وتالدي! قاتلوا عَلَى الأحساب، وأخذ يقول: أنا الَّذِي كنت إذا الداعي دعا ... مصمما بالسيف ندبا أروعا فأنزل المستلئم المقنعا ... وأقتل المبالط السميدعا وَقَالَ بشر بن العسوس الطَّائِيّ ثُمَّ الملقطي: يَا طيئ السهول والأجبال ... أَلا انهدوا بالبيض والعوالي وبالكماة مِنْكُمُ الأبطال ... فقارعوا أئمة الجهال السالكين سبل الضلال ففقئت يَوْمَئِذٍ عين ابن العسوس، فَقَالَ فِي ذَلِكَ: أَلا ليت عيني هَذِهِ مثل هَذِهِ ... فلم أمش فِي الآناس إلا بقائد ويا ليتني لم أبق بعد مطرف ... وسعد وبعد المستنير بن خَالِد فوارس لم تغذ الحواضن مثلهم ... إذا الحرب أبدت عن خدام الخرائد

ويا ليت رجلي ثُمَّ طنت بنصفها ... ويا ليت كفي ثُمَّ طاحت بساعدي قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو الصلت التيمي، قَالَ: حَدَّثَنِي أشياخ محارب أنه كَانَ مِنْهُمْ رجل يقال لَهُ خنثر بن عبيدة بن خَالِدٍ، وَكَانَ من أشجع الناس، فلما اقتتل الناس يوم صفين، جعل يرى أَصْحَابه منهزمين، فأخذ ينادي: يَا معشر قيس، أطاعة الشَّيْطَان آثر عندكم من طاعة الرحمن! الفرار فِيهِ معصية اللَّه سُبْحَانَهُ وسخطه، والصبر فِيهِ طاعة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ورضوانه، فتختارون سخط اللَّه تعالى عَلَى رضوانه، ومعصيته عَلَى طاعته! فإنما الراحة بعد الموت لمن مات محاسبا لنفسه وقال: لا والت نفس امرى ولى الدبر ... أنا الَّذِي لا ينثني وَلا يفر وَلا يرى مع المعازيل الغدر. فقاتل حتى ارتث: ثم انه خرج مع الخمسمائة الَّذِينَ كَانُوا اعتزلوا مع فروة بن نوفل الأشجعي، فنزلوا بالدسكرة والبندنيجين، فقاتلت النخع يَوْمَئِذٍ قتالا شديدا، فأصيب مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ بكر بن هوذة وحيان بن هوذة وشعيب بن نعيم من بني بكر النخع، وربيعة بن مالك بن وهبيل، وأبي بن قيس أخو عَلْقَمَة بن قيس الفقيه، وقطعت رجل عَلْقَمَة يَوْمَئِذٍ، فكان يقول: مَا أحب أن رجلي أصح مَا كَانَتْ، وإنها لمما أرجو بِهِ حسن الثواب من ربي عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ: لقد كنت أحب أن أَرَى فِي نومي أخي أو بعض إخواني، فرأيت أخي فِي النوم فقلت: يَا أخي، ماذا قدمتم عَلَيْهِ؟ فَقَالَ لي: إنا التقينا نحن والقوم، فاحتججنا عِنْدَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، فحججناهم، فما سررت منذ عقلت سروري بتلك الرؤيا

قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي سويد بن حية الأسدي، عن الحضين ابن المنذر، [أن أناسا كَانُوا أتوا عَلِيًّا قبل الوقعة فَقَالُوا لَهُ: إنا لا نرى خَالِد بن المعمر إلا قَدْ كاتب مُعَاوِيَة، وَقَدْ خشينا أن يتابعه فبعث إِلَيْهِ علي وإلى رجال من أشرافنا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا معشر رَبِيعَة، فأنتم أنصاري ومجيبو دعوتي ومن أوثق حي فِي العرب فِي نفسي، وَقَدْ بلغني أن مُعَاوِيَة قَدْ كاتب صاحبكم خَالِد بن المعمر، وَقَدْ أتيت بِهِ، وجمعتكم لأشهدكم عَلَيْهِ ولتسمعوا أَيْضًا مَا أقوله ثُمَّ أقبل عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا خَالِد بن المعمر، إن كَانَ مَا بلغني حقا فإني أشهد اللَّه ومن حضرني مِنَ الْمُسْلِمِينَ أنك آمن حَتَّى تلحق بأرض العراق أو الحجاز أو أرض لا سلطان لمعاوية فِيهَا، وإن كنت مكذوبا عَلَيْك، فإن صدورنا تطمئن إليك فحلف بِاللَّهِ مَا فعل،] وَقَالَ رجال منا كثير: لو كنا نعلم أنه فعل أمثلناه، فَقَالَ شقيق بن ثور السدوسي: مَا وفق خَالِد بن المعمر أن نصر مُعَاوِيَة وأهل الشام عَلَى علي وربيعة، فَقَالَ زياد بن خصفة التيمي: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، استوثق من ابن المعمر بالإيمان لا يغدرنك. فاستوثق مِنْهُ، ثُمَّ انصرفنا [فلما كَانَ يوم الخميس انهزم الناس من قبل الميمنة، فجاءنا علي حَتَّى انتهى إلينا وَمَعَهُ بنوه، فنادى بصوت عال جهير، كغير المكترث لما فِيهِ الناس: لمن هَذِهِ الرايات؟ قلنا: رايات رَبِيعَة، فَقَالَ: بل هي رايات اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، عصم اللَّه أهلها، فصبرهم، وثبت أقدامهم. ثُمَّ قَالَ لي: يَا فتى، أَلا تدني رايتك هَذِهِ ذراعا؟ قلت: نعم وَاللَّهِ وعشرة أذرع، فقمت بِهَا فأدنيتها، حَتَّى قَالَ: إن حسبك مكانك، فثبت حَيْثُ أمرني، واجتمع أَصْحَابي] . قَالَ ابو مخنف: حدثنا ابو الصلت التيمى، قَالَ: سمعت أشياخ الحي

من تيم اللَّه بن ثعلبة يقولون: إن راية رَبِيعَة، أهل كوفتها وبصرتها، كَانَتْ مع خَالِد بن المعمر من أهل الْبَصْرَة قَالَ: وسمعتهم يقولون: ان خالد ابن المعمر وسفيان بن ثور السدوسي اصطلحا عَلَى أن وليا راية بكر بن وائل من أهل الْبَصْرَة الحضين بن المنذر الذهلي، وتنافسا فِي الراية، وقالا: هَذَا فتى منا لَهُ حسب، نجعلها لَهُ حَتَّى نرى من رأينا. ثُمَّ إن عَلِيًّا ولى خَالِد بن المعمر بعد راية رَبِيعَة كلها قَالَ: وضرب مُعَاوِيَة لحمير بسهمهم عَلَى ثلاث قبائل، لم تكن لأهل العراق قبائل أكثر عددا منها يَوْمَئِذٍ: عَلَى رَبِيعَة وهمدان ومذحج، فوقع سهم حمير عَلَى رَبِيعَة، فَقَالَ ذو الكلاع: قبحك اللَّه من سهم! كرهت الضراب! فأقبل ذو الكلاع فِي حمير ومن تعلقها، ومعهم عُبَيْد اللَّهِ بن عُمَرَ بن الْخَطَّابِ فِي أربعة آلاف من قراء أهل الشام، وعلى ميمنتهم ذو الكلاع، فحملوا عَلَى رَبِيعَة، وهم ميسرة أهل العراق، وفيهم ابن عَبَّاس، وَهُوَ عَلَى الميسرة، فحمل عَلَيْهِم ذو الكلاع وعبيد اللَّه بن عُمَرَ حملة شديدة بخيلهم ورجلهم، فتضعضعت رايات رَبِيعَة إلا قليلا من الأخيار والأبدال قَالَ: ثُمَّ إن أهل الشام انصرفوا، فلم يمكثوا إلا قليلا حَتَّى كروا، وعبيد اللَّه بن عُمَرَ يقول: يَا أهل الشام، إن هَذَا الحي من أهل العراق قتلة عُثْمَان بن عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وأنصار عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ، وإن هزمتم هَذِهِ القبيلة أدركتم ثأركم فِي عُثْمَان وهلك عَلِيّ بن أبي طالب وأهل العراق، فشدوا عَلَى الناس شدة، فثبتت لَهُمْ رَبِيعَة، وصبروا صبرا حسنا إلا قليلا من الضعفاء والفشلة، وثبت أهل الرايات وأهل الصبر مِنْهُمْ والحفاظ، فلم يزولوا، وقاتلوا قتالا شديدا. فلما رَأَى خَالِد بن المعمر ناسا من قومه انصرفوا انصرف، ولما رَأَى أَصْحَاب الرايات قَدْ ثبتوا ورأى قومه قَدْ صبروا رجع وصاح بمن انهزم، وأمرهم بالرجوع،

فَقَالَ: من أراد من قومه أن يتهمه، أراد الانصراف فلما رآنا قَدْ ثبتنا رجع إلينا وَقَالَ هُوَ: لما رأيت رجالا منا انهزموا رأيت أن أستقبلهم وأردهم إليكم، وأقبلت إليكم فيمن أطاعني مِنْهُمْ، فَجَاءَ بأمر مشبه قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي رجل من بكر بن وائل، عن محرز بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ العجلي، أن خالدا قَالَ يَوْمَئِذٍ: يَا معشر رَبِيعَة، إن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أتى بكل رجل مِنْكُمْ من منبته ومسقط رأسه، فجمعكم فِي هَذَا المكان جمعا لم يجمعكم مثله منذ نشر كم فِي الأرض، فإن تمسكوا بأيديكم، وتنكلوا عن عدوكم، وتزولوا عن مصافكم لا يرض اللَّه فعلكم، وَلا تقدموا مِنَ النَّاسِ صغيرا أو كبيرا إلا يقول: فضحت رَبِيعَة الذمار، وحاصت عن القتال، وأتيت من قبلها العرب، فإياكم ان يتشاءم بكم العرب والمسلمون الْيَوْم وإنكم إن تمضوا مقبلين مقدمين، وتصيروا محتسبين فإن الإقدام لكم عاده، والصبر منكم سجيه، واصبروا ونيتكم صادقه أن تؤجروا، فإن ثواب من نوى مَا عِنْدَ اللَّه شرف الدُّنْيَا وكرامة الآخرة، ولن يضيع اللَّه أجر من أحسن عملا. فقام رجل من ربيعه فَقَالَ: ضاع وَاللَّهِ أمر رَبِيعَة حين جعلت إليك أمورها! تأمرنا أَلا نزول وَلا نحول حَتَّى تقتل أنفسنا، وتسفك دماءنا! أَلا ترى الناس قَدِ انصرف جلهم! فقام إِلَيْهِ رجال من قومه فنهروه وتناولوه بألسنتهم فَقَالَ لَهُمْ خَالِد: أخرجوا هَذَا من بينكم، فإن هَذَا إن بقي فيكم

ضركم، وإن خرج مِنْكُمْ لم ينقصكم، هَذَا الَّذِي لا ينقص العدد، وَلا يملأ البلد، برحك اللَّه من خطيب قوم كرام! كيف جنبت السداد! واشتد قتال رَبِيعَة وحمير وعبيد اللَّه بن عُمَرَ حَتَّى كثرت بينهم القتلى، فقتل سمير بن الريان بن الْحَارِث العجلي، وَكَانَ من أشد الناس بأسا قَالَ أَبُو مخنف: حدثنى جعفر بن أبي الْقَاسِم العبدي، عن يَزِيد بن عَلْقَمَة، عن زَيْد بن بدر العبدي، أن زياد بن خصفة أتى عبد القيس يوم صفين وَقَدْ عبيت قبائل حمير مع ذي الكلاع- وفيهم عُبَيْد اللَّهِ بن عُمَرَ بن الْخَطَّابِ- لبكر بن وائل، فقوتلوا قتالا شديدا، خافوا فِيهِ الهلاك. فَقَالَ زياد بن خصفة: يَا عبد القيس، لا بكر بعد الْيَوْم فركبنا الخيول، ثُمَّ مضينا فواقفناهم، فما لبثنا إلا قليلا حَتَّى أصيب ذو الكلاع، وقتل عُبَيْد اللَّهِ بن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَتْ همدان: قتله هانئ بن خطاب الأرحبي، وقالت حضر موت: قتله مالك بن عمرو التنعي، وقالت بكر ابن وائل: قتله محرز بن الصحصح من بني عائش بن مالك بن تيم اللَّه بن ثعلبة، وأخذ سيفه ذا الوشاح، فأخذ بِهِ مُعَاوِيَة بالكوفة بكر بن وائل، فَقَالُوا: إنما قتله رجل منا من أهل الْبَصْرَة، يقال لَهُ: محرز بن الصحصح، فبعث إِلَيْهِ بِالْبَصْرَةِ فأخذ مِنْهُ السيف، وَكَانَ رأس النمر بن قاسط عَبْد اللَّهِ بن عَمْرو من بني تيم الله بن النمر

قَالَ هِشَام بن مُحَمَّد: الَّذِي قتل عُبَيْد اللَّهِ بن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ محرز بن الصحصح، وأخذ سيفه ذا الوشاح، سيف عمر، وفي ذَلِكَ قول كعب بن جعيل التغلبي: أَلا إنما تبكي العيون لفارس ... بصفين أجلت خيله وَهُوَ واقف يبدل من أسماء أسياف وائل ... وَكَانَ فتى لو أخطأته المتالف تركن عُبَيْد اللَّهِ بالقاع مسندا ... تمج دم الخرق العروق الذوارف وَهِيَ أكثر من هَذَا وقتل مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ بشر بن مُرَّةَ بن شُرَحْبِيل، والحارث بن شُرَحْبِيل، وكانت أسماء ابنة عطارد بن حاجب التميمي تحت عُبَيْد اللَّهِ بن عُمَرَ، ثُمَّ خلف عَلَيْهَا الْحَسَن بن علي. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي ابن أخي غياث بن لقيط البكري أن عَلِيًّا حَيْثُ انتهى إِلَى رَبِيعَة، تبارت رَبِيعَة بينها، فَقَالُوا: ان اصيب على فيكم وقد ألجأ إِلَى رايتكم افتضحتم وَقَالَ لَهُمْ شقيق بن ثور: يَا معشر رَبِيعَة، لا عذر لكم فِي العرب إن وصل إِلَى علي فيكم وفيكم رجل حي، وإن منعتموه فمجد الحياة اكتسبتموه فقاتلوا قتالا شديدا حين جاءهم علي لم يكونوا قاتلوا مثله، ففي ذَلِكَ قَالَ علي: لمن راية سوداء يخفق ظلها ... إذا قيل قدمها حضين تقدما يقدمها فِي الموت حَتَّى يزيرها ... حياض المنايا تقطر الموت والدما أذقنا ابن حرب طعننا وضرابنا ... بأسيافنا حَتَّى تولى وأحجما جزى اللَّه قوما صابروا فِي لقائهم ... لدى الموت قوما ما اعف وأكرما!

مقتل عمار بن ياسر

واطيب اخبارا وأكرم شيمة ... إذا كَانَ أصوات الرجال تغمغما رَبِيعَة أعني أَنَّهُمْ أهل نجدة ... وبأس إذا لاقوا جسيما عرمرما مقتل عمار بن ياسر قال أبو مخنف: حدثني عبد الملك بن أبي حرة الحنفي، أن عمار بن ياسر خرج إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك فِي أن أقذف بنفسي فِي هَذَا البحر لفعلته، اللَّهُمَّ إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك فِي أن أضع ظبة سيفي فِي صدري ثُمَّ أنحني عَلَيْهَا حَتَّى تخرج من ظهري لفعلت، وإني لا أعلم الْيَوْم عملا هُوَ أرضى لك من جهاد هَؤُلاءِ الفاسقين، ولو أعلم أن عملا من الأعمال هُوَ أرضى لك مِنْهُ لفعلته. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الصقعب بن زهير الأَزْدِيّ، قَالَ: سمعت عمارا يقول: وَاللَّهِ إني لأرى قوما ليضربنكم ضربا يرتاب مِنْهُ المبطلون، وايم اللَّه لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا عَلَى الحق، وأنهم عَلَى الباطل. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ الأَعْوَرُ، عَنْ حَبَّةَ بْنِ جُوَيْنٍ الْعُرَنِّيِّ، قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو مَسْعُودٍ إِلَى حُذَيْفَةَ بِالْمَدَائِنِ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِكُمَا، مَا خَلَفْتُمَا مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ أَحَدًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْكُمَا فَأَسْنَدْتُهُ إِلَى أَبِي مَسْعُودٍ، فَقُلْنَا: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، حَدِّثْنَا فَإِنَّا نَخَافُ الْفِتَنَ، فَقَالَ: عَلَيْكُمَا بِالْفِئَةِ التي فيها

ابن سميه، [انى سمعت رسول الله ص يَقُولُ: تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ النَّاكِبَةُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَإِنَّ آخِرَ رِزْقِهِ ضَيَاحٌ مِنْ لَبَنٍ] قَالَ حَبَّةُ: فَشَهِدْتُهُ يَوْمَ صِفِّينَ وَهُوَ يَقُولُ: ائْتُونِي بِآخِرِ رِزْقٍ لِي مِنَ الدُّنْيَا، فَأُتِيَ بِضَيَاحٍ مِنْ لَبَنٍ فِي قَدَحٍ أَرْوَحَ لَهُ حَلَقَةٌ حَمْرَاءُ، فَمَا أَخْطَأَ حُذَيْفَةُ مِقْيَاسَ شَعْرَةٍ، فَقَالَ: الْيَوْمُ أَلْقَى الأَحِبَّةَ ... مُحَمَّدًا وَحِزْبَهُ وَاللَّهِ لَوْ ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أَنَّا عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: الْمَوْتُ تَحْتَ الأَسَلِ، وَالْجَنَّةُ تَحْتَ الْبَارِقَةِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، عَنْ خَلَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي نُوَيْرَةَ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ وَحُدِّثْتُ عَنْ هِشَامِ بْنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَعْيَنَ الْجُهَنِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ يَوْمَئِذٍ: أَيْنَ مَنْ يَبْتَغِي رِضْوَانَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَلا يَئُوبُ إِلَى مَالٍ وَلا وَلَدٍ! فَأَتَتْهُ عِصَابَةٌ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، اقْصِدُوا بِنَا نَحْوَ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَبْغُونَ دَمَ ابْنِ عَفَّانَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ قُتِلَ مَظْلُومًا، وَاللَّهِ مَا طَلَبْتُهُمْ بِدَمِهِ، وَلَكِنِ الْقَوْمُ ذَاقُوا الدُّنْيَا فَاسْتَحَبُّوهَا وَاسْتَمْرَءُوهَا وَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ إِذَا لَزِمَهُمْ حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَتَمَرَّغُونَ فِيهِ مِنْ دُنْيَاهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَوْمِ سَابِقَةٌ فِي الإِسْلامِ يَسْتَحِقُّونَ بِهَا طَاعَةَ النَّاسِ وَالْوِلايَةَ عَلَيْهِمْ، فَخَدَعُوا أَتْبَاعَهُمْ أَنْ قَالُوا: إِمَامُنَا قُتِلَ مَظْلُومًا، لِيَكُونُوا بِذَلِكَ جَبَابِرَةً مُلُوكًا، وَتِلْكَ مَكِيدَةٌ بَلَغُوا بِهَا مَا تَرَوْنَ، وَلَوْلا هِيَ ما تبعهم من الناس رَجُلانِ اللَّهُمَّ إِنْ تَنْصُرْنَا فَطَالَمَا نُصِرْتَ، وَإِنْ تَجْعَلْ لَهُمُ الأَمْرَ فَادَّخِرْ لَهُمْ بِمَا أَحْدَثُوا فِي عِبَادِكَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ثُمَّ مَضَى، وَمَضَتْ تِلَكَ الْعِصَابَةُ الَّتِي أَجَابَتْهُ حَتَّى دَنَا مِنْ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا عَمْرُو، بِعْتَ دِينَكَ بِمِصْرَ، تَبًّا لَكَ تَبًّا! طَالَمَا بَغَيْتَ فِي الإِسْلامِ عوجا وقال لعبيد الله ابن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: صَرَعَكَ اللَّهُ! بِعْتَ دِينَكَ مِنْ عَدِوِّ الإِسْلامِ وَابْنِ عَدُوِّهِ،

قَالَ: لا، وَلَكِنْ أَطْلُبُ بِدَمِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ لَهُ: أَشْهَدُ عَلَى عِلْمِي فِيكَ أَنَّكَ لا تَطْلُبُ بِشَيْءٍ مِنْ فِعْلِكَ وَجْهَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُقْتَلِ الْيَوْمَ تَمُتْ غَدًا، فَانْظُرْ إِذَا أُعْطِيَ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ نِيَّاتِهِمْ مَا نِيَّتُكَ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ بِصِفِّينَ وَهُوَ يَقُولُ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: لَقَدْ قَاتَلْتَ صَاحِبَ هَذِهِ الرَّايَةِ ثَلاثًا مَعَ رَسُولِ الله ص، وَهَذِهِ الرَّابِعَةُ مَا هِيَ بِأَبَرَّ وَلا أَتْقَى. حَدَّثَنَا أَحْمَد بن مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيد بن صالح، قَالَ: حَدَّثَنَا عطاء بن مسلم، عَنِ الأَعْمَشِ، قَالَ: قَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن السلمي: كنا مع علي بصفين، فكنا قَدْ وكلنا بفرسه رجلين يحفظانه ويمنعانه من أن يحمل، فكان إذا حانت منهما غفلة يحمل فلا يرجع حَتَّى يخضب سيفه، وإنه حمل ذات يوم فلم يرجع حَتَّى انثنى سيفه، فألقاه إِلَيْهِم، وَقَالَ: لولا أنه انثنى مَا رجعت- فَقَالَ الأعمش: هَذَا وَاللَّهِ ضرب غير مرتاب، فَقَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن: سمع القوم شَيْئًا فأدوه وما كَانُوا بكذابين- قَالَ: ورأيت عمارا لا يأخذ واديا من أودية صفين إلا تبعه من كَانَ هُنَاكَ من أَصْحَاب محمد ص، ورايته جاء الى المرقال هاشم بن عتبة وَهُوَ صاحب راية علي، فَقَالَ: يَا هاشم، أعورا وجبنا! لا خير فِي أعور لا يغشى البأس، فإذا رجل بين الصفين قَالَ: هَذَا وَاللَّهِ ليخلفن إمامه، وليخذلن جنده، وليصبرن جهده، اركب يَا هاشم، فركب، ومضى هاشم يقول: أعور يبغي أهله محلا ... قَدْ عالج الحياة حَتَّى ملا لا بد أن يفل او يفلا

وعمار يقول: تقدم يَا هاشم، الجنة تحت ظلال السيوف، والموت فِي أطراف الأسل، وَقَدْ فتحت أبواب السماء، وتزينت الحور العين. الْيَوْم ألقى الأحبة ... مُحَمَّدا وحزبه فلم يرجعا وقتلا- قال: يفيد لك علمهما من كَانَ هُنَاكَ من أَصْحَاب رَسُولِ اللَّهِ ص، أنهما كانا علما- فلما كَانَ الليل قلت: لأدخلن إِلَيْهِم حَتَّى أعلم: هل بلغ منهم قتل عمار مَا بلغ منا! وكنا إذا توادعنا من القتال تحدثوا إلينا وتحدثنا إِلَيْهِم، فركبت فرسي وَقَدْ هدأت الرجل، ثُمَّ دخلت فإذا أنا بأربعة يتسايرون: مُعَاوِيَة، وأبو الأعور السلمي، وعمرو بن الْعَاصِ، وعبد اللَّه بن عَمْرو- وَهُوَ خير الأربعة- فأدخلت فرسي بينهم مخافة أن يفوتني مَا يقول أحد الشقين، فَقَالَ عَبْد اللَّهِ لأبيه: يَا أبت، قتلتم هَذَا الرجل فِي يومكم هَذَا، [وَقَدْ قَالَ فيه رسول الله ص مَا قَالَ! قَالَ: وما قَالَ؟ قَالَ: ألم تكن معنا ونحن نبني المسجد، والناس ينقلون حجرا حجرا ولبنة لبنة، وعمار ينقل حجرين حجرين ولبنتين لبنتين، فغشي عَلَيْهِ، فأتاه رَسُول الله ص، فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: ويحك يا بن سمية! الناس ينقلون حجرا حجرا، ولبنة لبنة، وأنت تنقل حجرين حجرين ولبنتين لبنتين رغبة مِنْكَ فِي الأجر! وأنت ويحك مع ذَلِكَ تقتلك الفئة الباغية!] فدفع عَمْرو صدر فرسه، ثُمَّ جذب مُعَاوِيَة إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا مُعَاوِيَة، أما تسمع مَا يقول عَبْد اللَّهِ! قَالَ: وما يقول؟ فأخبره الخبر، فَقَالَ مُعَاوِيَة: إنك شيخ أخرق، وَلا تزال تحدث بالحديث وأنت تدحض في بولك! او نحن قتلنا عمارا! إنما قتل عمارا من جَاءَ بِهِ فخرج الناس من فساطيطهم وأخبيتهم يقولون: إنما قتل عمارا من جَاءَ بِهِ، فلا أدري من كَانَ أعجب؟ هُوَ أو هم! قَالَ أَبُو جَعْفَر: [وَقَدْ ذكر أن عمارا لما قتل قَالَ علي لربيعة وهمدان: أنتم درعي ورمحي،] فانتدب لَهُ نحو من اثني عشر ألفا، وتقدمهم علي عَلَى بغلته فحمل وحملوا مَعَهُ حملة رجل واحد، فلم يبق لأهل الشام صف

خبر هاشم بن عتبة المرقال وذكر ليله الهرير

إلا انتقض، وقتلوا كل من انتهوا إِلَيْهِ، حَتَّى بلغوا مُعَاوِيَة، وعلي يقول: أضربهم وَلا أَرَى معاويه ... الجاحظ العين العظيم الحاويه ثُمَّ نادى معاويه، [فقال على: علا م يقتل الناس بيننا! هلم أحاكمك إِلَى اللَّهِ، فأينا قتل صاحبه استقامت لَهُ الأمور، فَقَالَ لَهُ عَمْرو: أنصفك الرجل، فَقَالَ مُعَاوِيَة: مَا أنصف، وإنك لتعلم أنه لم يبارزه رجل قط إلا قتله، قَالَ لَهُ عَمْرو: وما يجمل بك إلا مبارزته، فَقَالَ مُعَاوِيَة: طمعت فِيهَا بعدي] . قَالَ هِشَامٌ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ: قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عبد الرَّحْمَن بْن أبي عمرة، عن سُلَيْمَان الحضرمي، قَالَ: قلت لأبي عمرة: أَلا تراهم، مَا أحسن هيئتهم! يعني أهل الشام، وَلا ترانا مَا أقبح رعيتنا! فَقَالَ: عَلَيْك نفسك فأصلحها، ودع الناس فإن فِيهِمْ مَا فِيهِمْ . خبر هاشم بن عتبة المرقال وذكر ليلة الهرير قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي أَبُو سلمة، أن هاشم بن عتبة الزُّهْرِيّ دعا الناس عِنْدَ المساء: أَلا من كَانَ يريد اللَّه والدار الآخرة فإلي، فأقبل إِلَيْهِ ناس كثير، فشد فِي عصابة من أَصْحَابه عَلَى أهل الشام مرارا، فليس من وجه يحمل عَلَيْهِ إلا صبر لَهُ وقاتل فِيهِ قتالا شديدا، فَقَالَ لأَصْحَابه:

لا يهولنكم ما ترون من صبرهم، فو الله ما ترون فيهم الا حميه العرب وصبرا تحت راياتها، وعند مراكزها، وإنهم لعلى الضلال، وإنكم لعلى الحق يَا قوم اصبروا وصابروا واجتمعوا، وامشوا بنا إِلَى عدونا عَلَى تؤدة رويدا، ثُمَّ اثبتوا وتناصروا، واذكروا اللَّه، وَلا يسأل رجل أخاه، وَلا تكثروا الالتفات، واصمدوا صمدهم، وجاهدوهم محتسبين، حَتَّى يحكم اللَّه بيننا وبينهم وَهُوَ خير الحاكمين. ثُمَّ إنه مضى فِي عصابة مَعَهُ من القراء، فقاتل قتالا شديدا هُوَ وأَصْحَابه عِنْدَ المساء حَتَّى رأوا بعض مَا يسرون بِهِ، قَالَ: فإنهم لكذلك إذ خرج عَلَيْهِم فتى شاب وَهُوَ يقول: أنا ابن أرباب الملوك غسان ... والدائن الْيَوْم بدين عُثْمَان إني أتاني خبر فأشجان ... أن عَلِيًّا قتل ابن عفان ثُمَّ يشد فلا ينثني حتى يضرب بسيفه، ثم يشم ويلعن ويكثر الكلام، فَقَالَ لَهُ هاشم بن عتبة: يَا عَبْد اللَّهِ، إن هَذَا الكلام، بعده الخصام، وان هذا القتال، بعده الحساب، فاتق اللَّه فإنك راجع إِلَى اللَّهِ فسائلك عن هَذَا الموقف وما أردت بِهِ قَالَ: فإني أقاتلكم لأن صاحبكم لا يصلي كما ذكر لي، وَأَنْتُمْ لا تصلون أَيْضًا، وأقاتلكم لأن صاحبكم قتل خليفتنا، وَأَنْتُمْ أردتموه عَلَى قتله فَقَالَ لَهُ هاشم: وما أنت وابن عفان! إنما قتله أَصْحَاب مُحَمَّد وأبناء أَصْحَابه وقراء الناس، حين أحدث الأحداث، وخالف حكم الكتاب، وهم أهل الدين، وأولى بالنظر فِي أمور الناس مِنْكَ ومن أَصْحَابك، وما أظن أمر هَذِهِ الأمة وأمر هَذَا الدين أهمل طرفة عين فَقَالَ لَهُ: أجل، وَاللَّهِ لا أكذب، فإن الكذب يضر وَلا ينفع قَالَ: فإن أهل هَذَا الأمر أعلم بِهِ، فخله وأهل العلم بِهِ قَالَ: مَا أظنك وَاللَّهِ إلا نصحت لي، قَالَ: وأما

قولك: إن صاحبنا لا يصلي، فهو أول من صلى، مع رسول الله وأفقه خلق اللَّه فِي دين اللَّه، وأولى بالرسول. وأما كل من ترى معي فكلهم قارئ لكتاب اللَّه لا ينام الليل تهجدا، فلا يغوينك عن دينك هَؤُلاءِ الأشقياء المغرورون. فَقَالَ الفتى: يَا عَبْد اللَّهِ، إني أظنك امرأ صالحا، فتخبرني: هل تجد لي من توبة؟ فَقَالَ: نعم يَا عَبْد اللَّهِ، تب إِلَى اللَّهِ يتب عَلَيْك، فإنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويحب المتطهرين قَالَ: فجشر وَاللَّهِ الفتى الناس راجعا، فَقَالَ لَهُ رجل من أهل الشام: خدعك العراقي، خدعك العراقي، قَالَ: لا، ولكن نصح لي وقاتل هاشم قتالا شديدا هُوَ وأَصْحَابه، وَكَانَ هاشم يدعى المرقال، لأنه كَانَ يرقل فِي الحرب، فقاتل هُوَ وأَصْحَابه حَتَّى أبروا عَلَى من يليهم، وحتى رأوا الظفر، وأقبلت إِلَيْهِم عِنْدَ المغرب كتيبة لتنوخ فشدوا عَلَى الناس، فقاتلهم وَهُوَ يقول: أعور يبغي أهله محلا ... قَدْ عالج الحياة حَتَّى ملا يتلهم بذي الكعوب تلا. فزعموا أنه قتل يَوْمَئِذٍ تسعة او عشره وحمل عَلَيْهِ الْحَارِث بن المنذر التنوخي فطعنه فسقط، وأرسل إِلَيْهِ علي: أن قدم لواءك، فَقَالَ لِرَسُولِهِ: انظر إِلَى بطني، فإذا هُوَ قَدْ شق، فَقَالَ الأَنْصَارِيّ الحجاج بن غزية: فإن تفخروا بابن البديل وهاشم ... فنحن قتلنا ذا الكلاع وحوشبا ونحن تركنا بعد معترك اللقا ... أخاكم عُبَيْد اللَّهِ لحما ملحبا

ونحن أحطنا بالبعير وأهله ... ونحن سقيناكم سماما مقشبا هِشَامٌ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مالك بن اعين الجهنى، عن زيد ابن وَهْبٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّ عَلِيًّا مَرَّ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الشام فِيهَا الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ، وَهُمْ يَشْتُمُونَهُ، فَخُبِّرَ بِذَلِكَ، فَوَقَفَ فِيمَنْ يَلِيهِمْ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: انْهَدُوا إِلَيْهِمْ، عَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ والوقار، وقار الاسلام، وسيما الصالحين، فو الله لأَقْرَبُ قَوْمٌ مِنَ الْجَهْلِ قَائِدُهُمْ وَمُؤَذِّنُهُمْ مُعَاوِيَةُ وَابْنُ النَّابِغَةِ، وَأَبُو الأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ وَابْنُ أَبِي مُعَيْطٍ شَارِبُ الْخَمْرِ الْمَجْلُودُ حَدًّا فِي الإِسْلامِ، وهم اولى من يقومون فينقصوننى ويجدبوننى، وَقَبْلَ الْيَوْمِ مَا قَاتَلُونِي، وَأَنَا إِذْ ذَاكَ أَدْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلامِ، وَهُمْ يَدْعُونَنِي إِلَى عِبَادَةِ الأصنام، الحمد لله، قديما عاداني الفاسقون قعيدهم الله الم يقبحوا! أَنَّ هَذَا لَهُوَ الْخَطْبُ الْجَلِيلُ، إِنَّ فُسَّاقًا كَانُوا غَيْرَ مَرْضِيِّينَ، وَعَلَى الإِسْلامِ وَأَهْلِهِ مُتَخَوِّفِينَ، خَدَعُوا شَطْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَأَشْرَبُوا قُلُوبَهُمْ حُبَّ الْفِتْنَةِ، وَاسْتَمَالُوا أَهْوَاءَهُمْ بِالإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ، قَدْ نَصَبُوا لَنَا الْحَرْبَ فِي إِطْفَاءِ نُورِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، اللَّهُمَّ فَافْضُضْ خِدْمَتَهُمْ، وَشَتِّتْ كَلِمَتَهُمْ، وَأَبْسِلْهُمْ بِخَطَايَاهُمْ فَإِنَّهُ لا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، وَلا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ. قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: حَدَّثَنِي نُمَيْرُ بْنُ وَعْلَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ عَلِيًّا مَرَّ بِأَهْلِ رَايَةٍ فَرَآهُمْ لا يَزَولُونَ عَنْ مَوْقِفِهِمْ، فَحَرَّضَ عَلَيْهِمُ النَّاسَ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ غَسَّانُ، [فَقَالَ: إِنَّ هَؤُلاءِ لَنْ يَزَولُوا عَنْ مَوْقِفِهِمْ دُونَ طَعْنِ دِرَاكٍ يُخْرِجُ مِنْهُمُ النَّسَمَ، وَضَرْبٌ يُفْلَقُ مِنْهُ الْهَامُ، وَيُطِيحُ بِالْعِظَامِ، وَتَسْقُطُ مِنْهُ المعاصم والأكف، وحتى تصدع جِبَاهُهُمْ بِعُمُدِ الْحَدِيدِ، وَتَنْتَشِرُ حَوَاجِبُهُمْ عَلَى الصُّدُورِ وَالأَذْقَانِ أَيْنَ أَهْلُ الصَّبْرِ، وَطُلابُ الأَجْرِ! فَثَابَ إِلَيْهِ عِصَابَةٌ مِنَ

الْمُسْلِمِينَ، فَدَعَا ابْنَهُ مُحَمَّدًا، فَقَالَ: امْشِ نَحْوَ أَهْلِ هَذِهِ الرَّايَةِ مَشْيًا رُوَيْدًا عَلَى هَيْنَتِكَ، حَتَّى إِذَا أَشْرَعْتَ فِي صُدُورِهِمُ الرِّمَاحَ، فَأَمْسِكْ حَتَّى يَأْتِيَكَ رَأْيِي] . فَفَعَلَ، وَأَعَدَّ عَلِيٌّ مِثْلَهُمْ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُمْ فَأَشْرَعَ بِالرِّمَاحِ فِي صُدُورِهِمْ أَمَرَ عَلِيٌ الَّذِينَ أَعَدَّ فَشَدُّوا عَلَيْهِمْ، وَأَنْهَضَ مُحَمَّدًا بِمَنْ مَعَهُ فِي وُجُوهِهِمْ، فَزَالُوا عَنْ مَوَاقِفِهِمْ، وَأَصَابُوا مِنْهُمْ رِجَالا، ثُمَّ اقْتَتَلَ النَّاسُ بَعْدَ الْمَغْرِبِ قِتَالا شَدِيدًا، فَمَا صَلَّى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا إِيمَاءً. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْر الكندي، أن عَبْد اللَّهِ بن كعب المرادي قتل يوم صفين، فمر بِهِ الأسود بن قيس المرادي، فَقَالَ: يَا أسود، قال: لبيك! وعرفه وهو باخر رمق، فقال: عز والله على مصرعك، أما وَاللَّهِ لو شهدتك لآسيتك، ولدافعت عنك، ولو عرفت الَّذِي أشعرك لأحببت أَلا يتزايل حَتَّى أقتله أو ألحق بك ثُمَّ نزل إِلَيْهِ فَقَالَ: أما وَاللَّهِ إن كَانَ جارك ليأمن بوائقك، وإن كنت لمن الذاكرين اللَّه كثيرا، أوصني رحمك اللَّه! فَقَالَ: أوصيك بتقوى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وأن تناصح أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وتقاتل معه المحلين حتى يظهر أو تلحق بِاللَّهِ قَالَ: وأبلغه عني السلام، وقل لَهُ: قاتل عن المعركة حَتَّى تجعلها خلف ظهرك، فإنه من أصبح غدا والمعركة خلف ظهره كَانَ العالي، ثُمَّ لم يلبث أن مات، [فأقبل الأسود إِلَى علي فأخبره، فَقَالَ رحمه اللَّه! جاهد فينا عدونا فِي الحياة، ونصح لنا فِي الوفاة] . قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاق مولى بني المطلب، ان عبد الرحمن ابن حنبل الْجُمَحِيّ، هُوَ الَّذِي أشار عَلَى علي بهذا الرأي يوم صفين. قَالَ هِشَام: حَدَّثَنِي عوانة، قَالَ: جعل ابن حنبل يقول يَوْمَئِذٍ: إن تقتلوني فأنا ابن حنبل أنا الَّذِي قَدْ قلت فيكم نعثل

رجع الحديث إِلَى حديث أبي مخنف: قَالَ أَبُو مخنف فاقتتل الناس تِلَكَ الليلة كلها حَتَّى الصباح، وَهِيَ ليلة الهرير، حَتَّى تقصفت الرماح ونفد النبل، وصار الناس إِلَى السيوف، وأخذ علي يسير فِيمَا بين الميمنة والميسرة، ويأمر كل كتيبة من القراء أن تقدم عَلَى الَّتِي تليها، فلم يزل يفعل ذَلِكَ بِالنَّاسِ ويقوم بهم حَتَّى أصبح والمعركة كلها خلف ظهره، والأشتر فِي ميمنة الناس، وابن عباس فِي الميسرة، وعلي فِي القلب، والناس يقتتلون من كل جانب، وَذَلِكَ يوم الجمعة، وأخذ الأَشْتَر يزحف بالميمنة ويقاتل فِيهَا، وَكَانَ قَدْ تولاها عشية الخميس وليلة الجمعة إِلَى ارتفاع الضحى، وأخذ يقول لأَصْحَابه: ازحفوا قيد هَذَا الرمح، وَهُوَ يزحف بهم نحو أهل الشام، فإذا فعلوا قَالَ: ازحفوا قاد هَذَا القوس، فإذا فعلوا سألهم مثل ذَلِكَ، حَتَّى مل أكثر الناس الإقدام، فلما رَأَى ذَلِكَ الأَشْتَر قَالَ: أعيذكم بِاللَّهِ أن ترضعوا الغنم سائر الْيَوْم، ثُمَّ دعا بفرسه، وترك رايته مع حيان بن هوذة النخعي، وخرج يسير فِي الكتائب ويقول: من يشتري نفسه من اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، ويقاتل مع الأَشْتَر، حَتَّى يظهر أو يلحق بِاللَّهِ! فلا يزال رجل مِنَ النَّاسِ قَدْ خرج إِلَيْهِ، وحيان بن هوذة. قَالَ أَبُو مخنف: عن أبي جناب الكلبي، عن عمارة بن ربيعة الجرمي، قَالَ: مر بي وَاللَّهِ الأَشْتَر فأقبلت مَعَهُ، واجتمع إِلَيْهِ ناس كثير، فأقبل حَتَّى رجع إِلَى المكان الَّذِي كَانَ بِهِ الميمنة، فقام بأَصْحَابه، فَقَالَ: شدوا شدة، - فدى لكم عمي وخالي- ترضون بِهَا الرب، وتعزون بِهَا الدين، إذا شددت فشدوا، ثُمَّ نزل فضرب وجه دابته، ثُمَّ قَالَ لصاحب رايته: قدم بِهَا، ثُمَّ شد عَلَى القوم، وشد مَعَهُ أَصْحَابه، فضرب أهل الشام حَتَّى انتهى بهم إِلَى عسكرهم، ثُمَّ إِنَّهُمْ قاتلوه عِنْدَ العسكر قتالا شديدا، فقتل صاحب رايته، وأخذ علي- لما رَأَى من الظفر من قبله- يمده بالرجال. حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بن أحمد، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان

ما روى من رفعهم المصاحف ودعائهم إلى الحكومة

قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ، قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ يَوْمَ صِفِّينَ لِوَرْدَانَ: تَدْرِي مَا مَثَلِي وَمَثَلُكَ! مَثَلُ الأَشْقَرِ إِنْ تَقَدَّمَ عُقِرَ، وَإِنْ تَأَخَّرَ نُحِرَ، لَئِنْ تَأَخَّرْتَ لأَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ، ائْتُونِي بِقَيْدٍ، فَوَضَعَهُ فِي رِجْلَيْهِ فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لأُورِدَنَّكَ حِيَاضَ الْمَوْتِ، ضَعْ يَدَكَ عَلَى عَاتِقِي، ثُمَّ جَعَلَ يَتَقَدَّمُ وَيَنْظُرُ إِلَيْهِ أَحْيَانًا، وَيَقُولُ: لأُورِدَنَّكَ: حِيَاضَ الْمَوْتِ. رجع الحديث إِلَى حديث ابى مخنف فلما رَأَى عَمْرو بن الْعَاصِ أن أمر أهل العراق قَدِ اشتد، وخاف فِي ذَلِكَ الهلاك، قَالَ لمعاوية: هل لك فِي أمر اعرضه عليك لا يزيدنا اجتماعا، وَلا يزيدهم إلا فرقة؟ قَالَ: نعم، قَالَ: نرفع المصاحف ثُمَّ نقول: مَا فِيهَا حكم بيننا وبينكم، فإن أبى بعضهم أن يقبلها وجدت فِيهِمْ من يقول: بلى، ينبغي أن نقبل، فتكون فرقة تقع بينهم، وإن قَالُوا: بلى، نقبل مَا فِيهَا، رفعنا هَذَا القتال عنا وهذه الحرب إِلَى أجل أو إِلَى حين فرفعوا المصاحف بالرماح وَقَالُوا: هَذَا كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بيننا وبينكم، من لثغور أهل الشام بعد أهل الشام! ومن لثغور العراق بعد أهل العراق! فلما رَأَى الناس المصاحف قَدْ رفعت، قَالُوا: نجيب إِلَى كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وننيب إِلَيْهِ . مَا روي من رفعهم المصاحف ودعائهم إِلَى الحكومة قَالَ أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب الأَزْدِيّ، [عَنْ أَبِيهِ أن عَلِيًّا قَالَ: عباد اللَّه، امضوا عَلَى حقكم وصدقكم قتال عدوكم، فإن مُعَاوِيَة وعمرو بن الْعَاصِ وابن أبي معيط وحبيب بن مسلمة وابن أبي سرح

والضحاك بن قيس، ليسوا بأَصْحَاب دين وَلا قرآن، أنا أعرف بهم مِنْكُمْ، قَدْ صحبتهم أطفالا، وصحبتهم رجالا، فكانوا شر أطفال وشر رجال، ويحكم! إِنَّهُمْ مَا رفعوها، ثُمَّ لا يرفعونها وَلا يعلمون بِمَا فِيهَا، وما رفعوها لكم إلا خديعة ودهنا ومكيدة، فَقَالُوا لَهُ: مَا يسعنا أن ندعى إِلَى كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فنأبى أن نقبله، فَقَالَ لَهُمْ: فإني إنما قاتلتهم ليدينوا بحكم هَذَا الكتاب، فإنهم قَدْ عصوا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا أمرهم ونسوا عهده، ونبذوا كتابه فَقَالَ لَهُ مسعر بن فدكي التميمي وزَيْد بن حصين الطَّائِيّ ثُمَّ السنبسي، فِي عصابة مَعَهُمَا من القراء الَّذِينَ صاروا خوارج بعد ذَلِكَ: يَا علي، أجب إِلَى كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إذ دعيت إِلَيْهِ، وإلا ندفعك برمتك إِلَى القوم، أو نفعل كما فعلنا بابن عفان، إنه علينا أن نعمل بِمَا فِي كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فقبلناه، وَاللَّهِ لتفعلنها أو لنفعلنها بك قَالَ: فاحفظوا عني نهيي إياكم، واحفظوا مقالتكم لي، أما أنا فإن تطيعوني تقاتلوا، وإن تعصوني فاصنعوا مَا بدا لكم! قَالُوا لَهُ: إما لا فابعث إِلَى الأَشْتَر فليأتك] . قَالَ أَبُو مخنف: حدثني فضيل بن خديج الكندي، عن رجل من النخع، أنه رَأَى إِبْرَاهِيم بن الأَشْتَر دخل عَلَى مُصْعَب بن الزُّبَيْرِ، قَالَ: كنت عِنْدَ علي حين أكرهه الناس عَلَى الحكومة، وَقَالُوا: ابعث إِلَى الأَشْتَر فليأتك، قَالَ: فأرسل على الى الاشتر يزيد بن هاني السبيعي: أن ائتني، فأتاه فبلغه، فَقَالَ: قل لَهُ ليس هَذِهِ الساعة الَّتِي ينبغي لك أن تزيلني فِيهَا عن موقفي، إني قَدْ رجوت أن يفتح لي، فلا تعجلني فرجع يزيد بن هاني إِلَى علي فأخبره، فما هُوَ إلا أن انتهى إلينا، فارتفع الرهج، وعلت الأصوات من قبل الأَشْتَر، فَقَالَ لَهُ القوم: وَاللَّهِ مَا نراك إلا أمرته أن يقاتل، قَالَ: من أين ينبغي أن تروا ذَلِكَ! رأيتموني ساررته؟ اليس انما كلمته على رؤسكم

علانية، وأنتم تسمعوننى! قَالُوا: فابعث إِلَيْهِ فليأتك، وإلا وَاللَّهِ اعتزلناك. قَالَ لَهُ: ويحك يَا يَزِيد! قل لَهُ: أقبل إلي فإن الْفِتْنَة قَدْ وقعت، فأبلغه ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: ألرفع المصاحف؟ قَالَ: نعم، قَالَ: أما وَاللَّهِ لقد ظننت حين رفعت أنها ستوقع اختلافا وفرقة، إنها مشورة ابن العاهرة، أَلا ترى مَا صنع اللَّه لنا! أينبغي أن أدع هَؤُلاءِ وأنصرف عَنْهُمْ! وَقَالَ يَزِيد بن هانئ: فقلت لَهُ: أتحب أنك ظفرت هاهنا، وأن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ بمكانه الَّذِي هُوَ بِهِ يفرج عنه أو يسلم؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ، سبحان اللَّه! قَالَ: فإنهم قَدْ قَالُوا: لترسلن إِلَى الأَشْتَر فليأتينك أو لنقتلنك كما قتلنا ابن عفان فأقبل حَتَّى انتهى إِلَيْهِم فَقَالَ: يَا أهل العراق، يَا أهل الذل والوهن، احين علوتم القوم ظهرا، وظنوا أنكم لَهُمْ قاهرون، رفعوا المصاحف يدعونكم إِلَى مَا فِيهَا! وَقَدْ وَاللَّهِ تركوا مَا أمر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ به فيها، وسنه من انزلت عليه ص، فلا تجيبوهم، أمهلوني عدو الفرس، فإني قَدْ طمعت فِي النصر، قَالُوا: إذا ندخل معك فِي خطيئتك، قَالَ: فحدثوني عنكم، وَقَدْ قتل أماثلكم، وبقي أراذلكم، متى كنتم محقين! أحين كنتم تقاتلون وخياركم يقتلون! فأنتم الان إذ أمسكتم عن القتال مبطلون، أم الآن أنتم محقون، فقتلاكم الَّذِينَ لا تنكرون فضلهم فكانوا خيرا مِنْكُمْ فِي النار إذا! قَالُوا: دعنا مِنْكَ يَا أشتر، قاتلناهم فِي اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وندع قتالهم لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، إنا لسنا مطيعيك وَلا صاحبك، فاجتنبنا، فَقَالَ: خدعتم وَاللَّهِ فانخدعتم، ودعيتم إِلَى وضع الحرب فأجبتم يَا أَصْحَاب الجباه السود، كنا نظن صلواتكم زهادة فِي الدُّنْيَا وشوقا إِلَى لقاء اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، فلا أَرَى فراركم إلا إِلَى الدُّنْيَا من الموت، أَلا قبحا يَا أشباه النيب الجلالة! وما أنتم برائين بعدها عزا أبدا، فابعدوا كما بعد القوم الظالمون! فسبوه، فسبهم، فضربوا وجه دابته بسياطهم، وأقبل يضرب بسوطه وجوه دوابهم، [وصاح بهم علي

فكفوا، وَقَالَ لِلنَّاسِ: قَدْ قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حكما،] فَجَاءَ الأشعث بن قيس إِلَى علي فَقَالَ لَهُ: مَا أَرَى الناس إلا قَدْ رضوا، وسرهم أن يجيبوا القوم إِلَى مَا دعوهم إِلَيْهِ من حكم القرآن، فإن شئت أتيت مُعَاوِيَة فسألته مَا يريد، فنظرت مَا يسأل، قَالَ: ائته إن شئت فسله، فأتاه فَقَالَ: يَا مُعَاوِيَة، لأي شَيْء رفعتم هَذِهِ المصاحف؟ قَالَ: لنرجع نحن وَأَنْتُمْ إِلَى مَا أمر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِهِ فِي كتابه، تبعثون مِنْكُمْ رجلا ترضون بِهِ، ونبعث منا رجلا، ثُمَّ نأخذ عليهما أن يعملا بِمَا فِي كتاب اللَّه لا يعدوانه، ثُمَّ نتبع مَا اتفقا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الأشعث بن قيس: هَذَا الحق، فانصرف إِلَى علي فأخبره بِالَّذِي قَالَ مُعَاوِيَة، فَقَالَ الناس: فإنا قَدْ رضينا وقبلنا، فَقَالَ أهل الشام: فإنا قَدِ اخترنا عَمْرو بن الْعَاصِ، فقال الاشعث وأولئك الَّذِينَ صاروا خوارج بعد: فإنا قَدْ رضينا بأبي مُوسَى الأَشْعَرِيّ، [قَالَ علي: فإنكم قَدْ عصيتموني فِي أول الأمر، فلا تعصوني الآن، إني لا أَرَى أن أولي أبا مُوسَى] . فَقَالَ الأشعث وزَيْد بن حصين الطَّائِيّ ومسعر بن فدكي: لا نرضى إلا بِهِ، فإنه مَا كَانَ يحذرنا مِنْهُ وقعنا فِيهِ، [قَالَ علي: فإنه ليس لي بثقة، قَدْ فارقني، وخذل الناس عني ثُمَّ هرب مني حَتَّى آمنته بعد أشهر، ولكن هَذَا ابن عَبَّاس نوليه ذَلِكَ، قَالُوا: مَا نبالي أنت كنت أم ابن عَبَّاس! لا نريد إلا رجلا هُوَ مِنْكَ ومن مُعَاوِيَة سواء، ليس إِلَى واحد منكما بأدنى مِنْهُ إِلَى الآخر، فَقَالَ علي: فإني أجعل الأَشْتَر] قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو جناب الكلبي، أن الأشعث قَالَ: وهل سعر الأرض غير الأَشْتَر؟! قَالَ أَبُو مخنف، عن عبد الرَّحْمَن بن جندب، عَنْ أَبِيهِ: إن الأشعث قَالَ: وهل نحن إلا فِي حكم الأَشْتَر! قَالَ علي: وما حكمه؟ قَالَ: حكمه أن يضرب بعضنا بعضا بالسيوف حَتَّى يكون مَا أردت وما أراد، قَالَ: فقد أبيتم إلا أبا مُوسَى! قَالُوا: نعم، قَالَ: فاصنعوا مَا أردتم، فبعثوا إِلَيْهِ

وَقَدِ اعتزل القتال، وَهُوَ بعرض، فأتاه مولى لَهُ، فَقَالَ: إن الناس قَدِ اصطلحوا، فَقَالَ: الحمد لِلَّهِ رب العالمين! قَالَ: قَدْ جعلوك حكما؟ قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! وجاء أَبُو مُوسَى حَتَّى دخل العسكر، وجاء الأَشْتَر حَتَّى أتى عَلِيًّا فَقَالَ: ألزني بعمرو بن العاص، فو الله الَّذِي لا إله إلا هُوَ، لَئِنْ ملأت عيني مِنْهُ لأقتلنه، وجاء الأحنف فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنك قَدْ رميت بحجر الأرض، وبمن حارب اللَّه ورسوله أنف الإِسْلام، وإني قَدْ عجمت هَذَا الرجل وحلبت أشطره فوجدته كليل الشفرة، قريب القعر، وإنه لا يصلح لهؤلاء القوم إلا رجل يدنو مِنْهُمْ حَتَّى يصير فِي أكفهم، ويبعد حَتَّى يصير بمنزلة النجم مِنْهُمْ، فإن أبيت أن تجعلني حكما، فاجعلني ثانيا أو ثالثا، فإنه لن يعقد عقدة إلا حللتها، ولن يحل عقدة أعقدها إلا عقدت لك أخرى أحكم منها [فأبى الناس إلا أبا مُوسَى والرضا بالكتاب، فَقَالَ الأحنف: فإن أبيتم إلا أبا مُوسَى فأدفئوا ظهره بالرجال فكتبوا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا ما تقاضى عَلَيْهِ علي أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ عَمْرو: اكتب اسمه واسم أَبِيهِ، هُوَ أميركم فأما أميرنا فلا، وَقَالَ لَهُ الأحنف: لا تمح اسم إمارة الْمُؤْمِنِينَ، فإني أتخوف إن محوتها أَلا ترجع إليك أبدا، لا تمحها وإن قتل الناس بعضهم بعضا، فأبى ذَلِكَ علي مليا من النهار، ثُمَّ إن الأشعث بن قيس قَالَ: امح هَذَا الاسم برحه اللَّه! فمحي وَقَالَ: علي: اللَّه أكبر، سنة بسنة، ومثل بمثل، وَاللَّهِ إني لكاتب بين يدي رَسُول الله ص يوم الحديبية إذ قَالُوا: لست رَسُول اللَّهِ، وَلا نشهد لك بِهِ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فكتبه، فَقَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ: سبحان اللَّه! ومثل هَذَا أن نشبه بالكفار ونحن مؤمنون! فقال على: يا بن النَّابِغَةِ، ومتى لم تكن للفاسقين وليا، وللمسلمين عدوا! وهل تشبه إلا أمك الَّتِي وضعت بك! فقام فَقَالَ: لا يجمع بيني وبينك مجلس أبدا بعد هَذَا الْيَوْم، فَقَالَ لَهُ علي: وإني لأرجو أن يطهر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مجلسي مِنْكَ ومن أشباهك وكتب الكتاب]

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ الطُّوسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حِبَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُبَارَكٌ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الأَحْنَفُ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى عَلِيٍّ أَنِ امْحُ هَذَا الاسْمَ إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يكون صلح، فَاسْتَشَارَ- وَكَانَتْ لَهُ قُبَّةٌ يَأْذَنُ لِبَنِي هَاشِمٍ فِيهَا، وَيَأْذَنُ لِي مَعَهُمْ- قَالَ: مَا تَرَوْنَ فِيمَا كَتَبَ بِهِ مُعَاوِيَةُ أَنِ امْحُ هَذَا الاسم؟ - قال مبارك: يعنى امير المؤمنين-[قال: برحه الله! فان رسول الله ص حِينَ وَادَعَ أَهْلَ مَكَّةَ كَتَبَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَأَبَوْا ذَلِكَ حَتَّى كَتَبَ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقُلْتُ له: ايها الرجل مالك وما لرسول الله ص! إِنَّا وَاللَّهِ مَا حَابَيْنَاكَ بِبَيْعَتِنَا، وَإِنَّا لَوْ عَلِمْنَا أَحَدًا مِنَ النَّاسِ أَحَقَّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْكَ لَبَايَعْنَاهُ، ثُمَّ قَاتَلْنَاكَ، وَإِنِّي أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَئِنْ مَحَوْتَ هَذَا الاسْمَ الَّذِي بَايَعْتَ عَلَيْهِ وَقَاتَلْتَهُمْ لا يَعُودُ إِلَيْكَ أَبَدًا. قَالَ: وَكَانَ وَاللَّهِ كما قَالَ قَالَ: قلما وزن رأيه برأي رجل إلا رجح عَلَيْهِ] . رجع الحديث إِلَى حديث أبي مخنف وكتب الكتاب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا تقاضى عَلَيْهِ عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ ومعاوية بن أَبِي سُفْيَانَ، قاضى علي عَلَى أهل الْكُوفَة ومن معهم من شيعتهم من الْمُؤْمِنِينَ والمسلمين، وقاضى مُعَاوِيَة عَلَى أهل الشام ومن كَانَ معهم من الْمُؤْمِنِينَ والمسلمين، إنا ننزل عِنْدَ حكم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وكتابه، وَلا يجمع بيننا غيره، وإن كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بيننا من فاتحته إِلَى خاتمته، نحيي مَا أحيا، ونميت مَا أمات، فما وجد الحكمان فِي كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ- وهما أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيّ عَبْد اللَّهِ بن قيس وعمرو بن الْعَاصِ القرشي- عملا بِهِ، وما لم يجدا فِي كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين من العهود والميثاق والثقة مِنَ النَّاسِ، أنهما آمنان عَلَى أنفسهما وأهلهما، والأمة لهما أنصار عَلَى الَّذِي يتقاضيان عَلَيْهِ، وعلى الْمُؤْمِنِينَ والمسلمين من الطائفتين كلتيهما عهد اللَّه وميثاقه أنا عَلَى

مَا فِي هَذِهِ الصحيفة، وأن قَدْ وجبت قضيتهما على المؤمنين، فان الا من والاستقامة ووضع السلاح بينهم أينما ساروا عَلَى أنفسهم وأهليهم وأموالهم، وشاهدهم وغائبهم، وعلى عَبْد اللَّهِ بن قيس وعمرو بن الْعَاصِ عهد اللَّه وميثاقه أن يحكما بين هَذِهِ الأمة، وَلا يرداها فِي حرب وَلا فرقة حَتَّى يعصيا، وأجل القضاء إِلَى رمضان وإن أحبا أن يؤخرا ذَلِكَ أخراه عَلَى تراض منهما، وإن توفي أحد الحكمين فإن أَمِير الشيعة يختار مكانه، وَلا يألو من أهل المعدلة والقسط، وإن مكان قضيتهما الَّذِي يقضيان فِيهِ مكان عدل بين أهل الْكُوفَة وأهل الشام، وإن رضيا وأحبا فلا يحضرهما فِيهِ إلا من أرادا، ويأخذ الحكمان من أرادا من الشهود، ثُمَّ يكتبان شهادتهما عَلَى مَا فِي هَذِهِ الصحيفة،. وهم أنصار عَلَى من ترك مَا فِي هَذِهِ الصحيفة، وأراد فِيهِ إلحادا وظلما اللَّهُمَّ إنا نستنصرك عَلَى من ترك مَا فِي هَذِهِ الصحيفة. شهد من أَصْحَاب علي الأشعث بن قيس الكندي، وعبد اللَّه بن عَبَّاسٍ، وسعيد بن قيس الهمدانى، وورقاء بن سمي البجلي، وعبد اللَّه بن محل العجلي، وحجر بن عدي الكندي، وعبد اللَّه بن الطفيل العامري، وعقبه ابن زياد الحضرمي، ويزيد بن حجية التيمي، ومالك بن كعب الهمداني ومن أَصْحَاب مُعَاوِيَة أَبُو الأعور السلمى عمرو بن سفيان، وحبيب مسلمة الفهري، والمخارق بن الْحَارِث الزبيدي، وزمل بن عَمْرو العذري، وحمزة بن مالك الهمداني، وعبد الرَّحْمَن بن خَالِد المخزومي، وسبيع بن يَزِيدَ الأَنْصَارِيّ، وعلقمة بن يَزِيدَ الأَنْصَارِيّ، وعتبة بن أَبِي سُفْيَانَ، ويزيد بن الحر العبسي. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو جناب الكلبي، عن عمارة بن رَبِيعَة الجرمي، قَالَ: لما كتبت الصحيفة دعي لها الأَشْتَر فَقَالَ: لا صحبتني يميني، وَلا نفعتني بعدها شمالي، إن خط لي فِي هَذِهِ الصحيفة اسم عَلَى صلح

ولا موادعه او لست عَلَى بينة من ربي، ومن ضلال عدوي! او لستم قَدْ رأيتم الظفر لو لم تجمعوا عَلَى الجور! فَقَالَ لَهُ الأشعث بن قيس: إنك وَاللَّهِ مَا رأيت ظفرا وَلا جورا، هلم إلينا فإنه لا رغبة بك عنا، فَقَالَ: بلى وَاللَّهِ لرغبة بي عنك فِي الدُّنْيَا للدنيا والآخرة للآخرة، وَلَقَدْ سفك اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بسيفي هَذَا دماء رجال مَا أنت عندي خير مِنْهُمْ، وَلا أحرم دما، قَالَ عمارة: فنظرت إِلَى ذَلِكَ الرجل وكأنما قصع عَلَى أنفه الحمم- يعني الأشعث. قَالَ أَبُو مخنف، عن أبي جناب، قَالَ: خرج الأشعث بِذَلِكَ الكتاب يقرؤه عَلَى الناس، ويعرضه عَلَيْهِم، فيقرءونه، حَتَّى مر بِهِ عَلَى طائفة من بني تميم فِيهِمْ عروة بن أدية، وَهُوَ أخو أبي بلال، فقرأه عَلَيْهِم، فَقَالَ عروة ابن أدية: تحكمون فِي أمر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الرجال! لا حكم إلا لِلَّهِ، ثُمَّ شد بسيفه فضرب بِهِ عجز دابته ضربة خفيفة، واندفعت الدابة، وصاح بِهِ أَصْحَابه، أن أملك يدك، فرجع، فغضب للأشعث قومه وناس كثير من أهل اليمن، فمشى الأحنف بن قيس السعدي ومعقل بن قيس الرياحي، ومسعر بن فدكي، وناس كثير من بني تميم، فتنصلوا إِلَيْهِ واعتذروا، فقبل وصفح. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو زَيْد عَبْد اللَّهِ الأودي، أن رجلا من أود كَانَ يقال لَهُ عَمْرو بن أوس، قاتل مع علي يوم صفين، فاسره معاويه في أسارى كثيرين، فَقَالَ لَهُ عَمْرو بن الْعَاصِ: اقتلهم، فَقَالَ لَهُ عَمْرو بن أوس: إنك خالي، فلا تقتلني، وقامت إِلَيْهِ بنو أود فَقَالُوا: هب لنا أخانا، فَقَالَ: دعوه، لعمري لَئِنْ كَانَ صادقا فلنستغنين عن شفاعتكم، ولئن كَانَ كاذبا لتأتين

شفاعتكم من ورائه، فَقَالَ لَهُ: من أين انا خالك! فو الله مَا كَانَ بيننا وبين أود مصاهرة، قَالَ: فإن أخبرتك فعرفته فهو أماني عندك؟ قَالَ: نعم، قَالَ: ألست تعلم أن أم حبيبة ابنه ابى سفيان زوج النبي ص؟ قال: بلى، قال: فانى ابنها، وأنت أخوها، فأنت خالي، فَقَالَ مُعَاوِيَة: لِلَّهِ أبوك! مَا كَانَ فِي هَؤُلاءِ واحد يفطن لها غيره ثُمَّ قَالَ للأوديين: أيستغني عن شفاعتكم! خلوا سبيله. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي نمير بن وعلة الهمداني، عَنِ الشَّعْبِيِّ، أن أسارى كَانَ أسرهم علي يوم صفين كثير، فخلى سبيلهم، فأتوا مُعَاوِيَة، وإن عمرا ليقول- وَقَدْ أسر أَيْضًا أسارى كثيرة: اقتلهم، فما شعروا إلا بأسرائهم قَدْ خلي سبيلهم، فَقَالَ مُعَاوِيَة: يَا عَمْرو، لو أطعناك فِي هَؤُلاءِ الأسرى وقعنا فِي قبيح من الأمر، أَلا ترى قَدْ خلي سبيل أسارانا! وأمر بتخلية سبيل من فِي يديه من الأسارى. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيل بن يَزِيدَ، عن حميد بن مسلم، عن جندب بن عَبْدِ اللَّهِ، [أن عَلِيًّا قَالَ لِلنَّاسِ يوم صفين: لقد فعلتم فعله ضعضعت قوه، واسقطت منه، وأوهنت وأورثت وهنا وذلة، ولما كنتم الأعلين، وخاف عدوكم الاجتياح، واستحر بهم القتل ووجدوا ألم الجراح، رفعوا المصاحف، ودعوكم إِلَى مَا فِيهَا ليفثئوكم عَنْهُمْ، ويقطعوا الحرب فِيمَا بينكم وبينهم، ويتربصوا بكم ريب المنون خديعة ومكيدة، فأعطيتموهم مَا سألوا، وأبيتم إلا أن تدهنوا وتجوزوا! وايم اللَّه مَا أظنكم بعدها توافقون رشدا، وَلا تصيبون باب حزم] . قَالَ أَبُو جَعْفَر: فكتب كتاب القضية بين علي ومعاوية- فِيمَا قيل- يوم

الأربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين من الهجرة، عَلَى أن يوافي علي ومعاوية موضع الحكمين بدومة الجندل فِي شهر رمضان، مع كل واحد منهما أربعمائة من أَصْحَابه وأتباعه فَحدثني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان بْنُ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: قَالَ صَعْصَعَةُ بْنُ صَوْحَانَ يَوْمَ صِفِّينَ حِينَ رَأَى النَّاسَ يَتَبَارَوْنَ: أَلا اسْمَعُوا وَاعْقِلُوا، تَعْلَمُنَّ وَاللَّهِ لَئِنْ ظَهَرَ عَلِيٌّ لَيَكُونَنَّ مِثْلَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَإِنْ ظَهَرَ مُعَاوِيَةُ لا يَقِرُّ لِقَائِلٍ بِقَوْلِ حَقٍّ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأَصْبَحَ أَهْلُ الشَّامِ قَدْ نَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ، وَدَعَوْا إِلَى مَا فِيهَا، فَهَابَ أَهْلُ الْعِرَاقَيْنِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ حَكَّمُوا الْحَكَمَيْنِ، فَاخْتَارَ أَهْلُ الْعِرَاقِ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ، وَاخْتَارَ أَهْلُ الشَّامِ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، فَتَفَرَّقَ أَهْلُ صِفِّينَ حِينَ حَكَمَ الْحَكَمَانِ، فَاشْتَرَطَا أَنْ يَرْفَعَا مَا رَفَعَ الْقُرْآنُ، وَيَخْفِضَا مَا خَفَضَ الْقُرْآنَ، وَأَنْ يَخْتَارَا لأُمَّةِ محمد ص، وَأَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ، فَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعَا لِذَلِكَ اجْتَمَعَا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ بِأَذْرُحَ. فلما انصرف علي خالفت الحرورية وخرجت- وَكَانَ ذَلِكَ أول مَا ظهرت- فآذنوه بالحرب، وردوا عَلَيْهِ: أن حكم بني آدم فِي حكم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالُوا: لا حكم إلا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ! وقاتلوا، فلما اجتمع الحكمان بأذرح، وافاهم الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ فيمن حضر مِنَ النَّاسِ، فأرسل الحكمان إِلَى عَبْد اللَّهِ بن عُمَرَ ابن الْخَطَّابِ وعبد اللَّه بن الزُّبَيْرِ فِي إقبالهم فِي رجال كثير، ووافى مُعَاوِيَة بأهل الشام، وأبى علي وأهل العراق أن يوافوا، فَقَالَ الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ لرجال من ذوي الرأي من قريش: أترون أحدا مِنَ النَّاسِ برأي يبتدعه يستطيع أن يعلم أيجتمع الحكمان أم يتفرقان؟ قَالُوا: لا نرى أحدا يعلم ذَلِكَ، قال: فو الله إني لأظن أني سأعلمه منهما حين أخلو بهما وأراجعهما فدخل عَلَى عَمْرو بن الْعَاصِ وبدأ بِهِ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْد اللَّهِ، أَخْبَرَنِي عما أسألك عنه، كيف ترانا معشر المعتزلة، فإنا قَدْ شككنا فِي الأمر الَّذِي تبين لكم من هَذَا القتال، ورأينا

أن نستأني ونتثبت حَتَّى تجتمع الأمة! قَالَ: أراكم معشر المعتزله خلف الأبرار، وأمام الفجار! فانصرف الْمُغِيرَة ولم يسأله عن غير ذَلِكَ، حَتَّى دخل عَلَى أبي مُوسَى فَقَالَ لَهُ مثل مَا قَالَ لعمرو، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: أراكم أثبت الناس رأيا، فيكم بقية الْمُسْلِمِينَ، فانصرف الْمُغِيرَة ولم يسأله عن غير ذَلِكَ، فلقي الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ مَا قَالَ من ذوي الرأي من قريش، فَقَالَ: لا يجتمع هَذَانِ عَلَى أمر واحد، فلما اجتمع الحكمان وتكلما قَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ: يَا أَبَا مُوسَى، رأيت أول مَا تقضي بِهِ من الحق أن تقضي لأهل الوفاء بوفائهم، وعلى أهل الغدر بغدرهم، قَالَ أَبُو مُوسَى: وما ذاك؟ قَالَ: ألست تعلم أن مُعَاوِيَة وأهل الشام قَدْ وفوا، وقدموا للموعد الَّذِي واعدناهم إِيَّاهُ؟ قَالَ: بلى، قَالَ عَمْرو: اكتبها، فكتبها أَبُو مُوسَى، قَالَ عَمْرو: يَا أَبَا مُوسَى، أأنت عَلَى أن نسمي رجلا يلي أمر هَذِهِ الأمة؟ فسمه لي، فإن أقدر عَلَى أن أتابعك فلك علي أن أتابعك، وإلا فلي عَلَيْك أن تتابعني! قَالَ أَبُو مُوسَى: أسمي لك عَبْد اللَّهِ بن عُمَرَ، وَكَانَ ابن عمر فيمن اعتزل، قَالَ عَمْرو: إني أسمي لك مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ، فلم يبرحا مجلسهما حَتَّى استبا، ثُمَّ خرجا إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: إني وجدت مثل عَمْرو مثل الَّذِينَ قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها» ، فلما سكت أَبُو مُوسَى تكلم عَمْرو فَقَالَ: ايها الناس وجدت مثل أبي مُوسَى كمثل الَّذِي قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: «مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً» ، وكتب كل واحد منهما مثله الَّذِي ضرب لصاحبه إِلَى الأمصار. قَالَ ابن شهاب: فقام مُعَاوِيَة عشية فِي الناس، فأثنى عَلَى اللَّه جل ثناؤه بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فمن كَانَ متكلما فِي الأمر فليطلع لنا قرنه، قَالَ ابن عمر: فأطلقت حبوتى، فاردت ان اقول قولا يتكلم فِيهِ رجال قاتلوا أباك عَلَى الإِسْلام، ثُمَّ خشيت أن أقول كلمة تفرق الجماعة، أو يسفك فِيهَا دم، أو أحمل فِيهَا عَلَى غير رأي، فكان مَا وعد اللَّه عز وجل

فِي الجنان أحب إلي من ذَلِكَ فلما انصرف إِلَى المنزل جاءني حبيب بن مسلمة فَقَالَ: مَا منعك أن تتكلم حين سمعت الرجل يتكلم؟ قلت: أردت ذَلِكَ، ثُمَّ خشيت أن أقول كلمة تفرق بين جميع، أو يسفك فِيهَا دم، أو أحمل فِيهَا عَلَى غير رأي، فكان مَا وعد اللَّه عَزَّ وَجَلَّ من الجنان أحب إلي من ذَلِكَ قَالَ: قَالَ حبيب: فقد عصمت. رجع الحديث إِلَى حديث أبي مخنف: قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي فضيل بن خديج الكندي، [قَالَ: قيل لعلي بعد مَا كتبت الصحيفة: إن الأَشْتَر لا يقر بِمَا فِي الصحيفة، وَلا يرى إلا قتال القوم، قَالَ علي: وأنا وَاللَّهِ مَا رضيت وَلا أحببت أن ترضوا، فإذ أبيتم إلا أن ترضوا فقد رضيت، فإذ رضيت فلا يصلح الرجوع بعد الرضا، وَلا التبديل بعد الإقرار، إلا أن يعصى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ويتعدى كتابه، فقاتلوا من ترك أمر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ. وأما الَّذِي ذكرتم من تركه أمري وما أنا عَلَيْهِ فليس من أُولَئِكَ، ولست أخافه عَلَى ذَلِكَ، يَا ليت فيكم مثله اثنين! يَا ليت فيكم مثله واحدا يرى فِي عدوي مَا أَرَى، إذا لخفت علي مئونتكم، ورجوت أن يستقيم لي بعض أودكم، وَقَدْ نهيتكم عما أتيتم فعصيتموني، وكنت أنا وَأَنْتُمْ كما قَالَ أخو هوازن: وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد فَقَالَتْ طائفة ممن مَعَهُ: ونحن مَا فعلنا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إلا مَا فعلت، قَالَ: نعم، فلم كَانَتْ إجابتكم إياهم إِلَى وضع الحرب عنا! وأما القضية فقد استوثقنا لكم فِيهَا، وَقَدْ طمعت أَلا تضلوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ رب العالمين] . فكان الكتاب فِي صفر والأجل رمضان إِلَى ثمانية أشهر، إِلَى أن يلتقي الحكمان ثُمَّ إن الناس دفنوا قتلاهم، وأمر علي الأعور فنادى فِي الناس بالرحيل

قال أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لما انصرفنا من صفين أخذنا غير طريقنا الَّذِي أقبلنا فِيهِ، أخذنا عَلَى طريق البر عَلَى شاطئ الفرات، حَتَّى انتهينا إِلَى هيت، ثُمَّ أخذنا عَلَى صندوداء، فخرج الأنصاريون بنو سعد بن حرام، فاستقبلوا عَلِيًّا، فعرضوا عَلَيْهِ النزول، فبات فِيهِمْ ثُمَّ غدا، وأقبلنا مَعَهُ، حَتَّى إذا جزنا النخيلة، ورأينا بيوت الْكُوفَة، إذا نحن بشيخ جالس فِي ظل بيت عَلَى وجهه أثر المرض، فأقبل إِلَيْهِ علي ونحن مَعَهُ حَتَّى سلم عَلَيْهِ وَسَلَّمنا مَعَهُ، فرد ردا حسنا ظننا أن قَدْ عرفه، [قَالَ لَهُ علي: أَرَى وجهك منكفئا فمن مه؟ أمن مرض؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فلعلك كرهته، قَالَ: مَا أحب أنه بغيري، قَالَ أليس احتسابا للخير فِيمَا أصابك مِنْهُ؟ قَالَ: بلى، قَالَ: فأبشر برحمة ربك وغفران ذنبك من أنت يَا عَبْد اللَّهِ؟ قَالَ: أنا صالح بن سليم، قَالَ: ممن؟ قَالَ: أما الأصل فمن سلامان طيئ، وأما الجوار والدعوة ففي بني سليم بن مَنْصُورٍ، فَقَالَ: سبحان اللَّه! مَا أحسن اسمك واسم أبيك واسم أدعيائك واسم من اعتزيت إِلَيْهِ! هل شهدت معنا غزاتنا هَذِهِ؟ قَالَ: لا، وَاللَّهِ مَا شهدتها، وَلَقَدْ أردتها ولكن مَا ترى من أثر لحب الحمى خزلني عنها، فَقَالَ: «لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» . خبرني مَا تقول الناس فِيمَا كَانَ بيننا وبين أهل الشام؟ قَالَ: فِيهِمُ المسرور فِيمَا كَانَ بينك وبينهم- وأولئك أغشاء الناس- وفيهم المكبوت الآسف بِمَا كَانَ من ذَلِكَ- وأولئك نصحاء الناس لك- فذهب لينصرف فَقَالَ: قَدْ صدقت، جعل اللَّه مَا كَانَ من شكواك حطا لسيئاتك، فإن المرض لا أجر فِيهِ، ولكنه لا يدع عَلَى العبد ذنبا] إلا [حطه، وإنما أجر فِي القول باللسان والعمل باليد] والرجل، [وإن اللَّه جل ثناؤه ليدخل بصدق النية والسريرة الصالحة عالما جما من عباده الجنة] قَالَ: ثُمَّ

مضى علي غير بعيد، فلقيه عَبْد اللَّهِ بن وديعة الأَنْصَارِيّ، فدنا مِنْهُ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وسايره، [فَقَالَ لَهُ: مَا سمعت الناس يقولون فِي أمرنا؟ قَالَ: مِنْهُمُ المعجب بِهِ، ومنهم الكاره لَهُ، كما قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: «وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ» فَقَالَ لَهُ: فما قول ذوي الرأي فِيهِ؟ قَالَ: أما قولهم فِيهِ فيقولون إن عَلِيًّا كَانَ لَهُ جمع عظيم ففرقه، وَكَانَ لَهُ حصن حصين فهدمه، فحتى متى يبني مَا هدم، وحتى متى يجمع مَا فرق! فلو أنه كَانَ مضى بمن أطاعه- إذ عصاه من عصاه- فقاتل حَتَّى يظفر أو يهلك إذا كَانَ ذَلِكَ الحزم فَقَالَ علي: أنا هدمت أم هم هدموا! أنا فرقت أم هم فرقوا! أما قولهم: إنه لو كَانَ مضى بمن أطاعه إذ عصاه من عصاه فقاتل حَتَّى يظفر أو يهلك، إذا كَانَ ذلك الحزم، فو الله مَا غبي عن رأيي ذَلِكَ، وإن كنت لسخيا بنفسي عن الدُّنْيَا، طيب النفس بالموت، وَلَقَدْ هممت بالإقدام عَلَى القوم، فنظرت إِلَى هَذَيْنِ قَدِ ابتدراني- يعني الْحَسَن والحسين- ونظرت إِلَى هَذَيْنِ قَدِ استقدماني- يعني عَبْد اللَّهِ بن جَعْفَر ومُحَمَّد بن علي- فعلمت أن هذين ان هلكا انقطع نسل محمد ص من هَذِهِ الأمة، فكرهت ذَلِكَ، وأشفقت عَلَى هَذَيْنِ أن يهلكا، وَقَدْ علمت أن لولا مكاني لم يستقدما- يعني مُحَمَّد بن علي وعبد اللَّه بن جَعْفَر- وايم اللَّه لَئِنْ لقيتهم بعد يومي هَذَا لألقينهم وليسوا معي فِي عسكر وَلا دار] ثُمَّ مضى حَتَّى إذا جزنا بني عوف إذا نحن عن أيماننا بقبور سبعة أو ثمانية، فَقَالَ علي: مَا هَذِهِ القبور؟ فَقَالَ قدامة بن العجلان الأزدي: يا امير المؤمنين، ان خباب ابن الأرت توفي بعد مخرجك، فأوصى بأن يدفن فِي الظهر، وَكَانَ الناس إنما يدفنون فِي دورهم وأفنيتهم، فدفن بالظهر رحمه اللَّه، ودفن الناس [إِلَى جنبه، فَقَالَ علي: رحم اللَّه خبابا، فقد أسلم راغبا، وهاجر طائعا، وعاش مجاهدا، وابتلي فِي جسمه أحوالا! وإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ* مَنْ أَحْسَنَ

عَمَلًا. ثُمَّ جَاءَ حَتَّى وقف عَلَيْهِم فَقَالَ: السلام عَلَيْكُمْ يَا أهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة، من الْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات أنتم لنا سلف فارط، ونحن لكم تبع، بكم عما قليل لاحقون اللَّهُمَّ اغفر لنا ولهم، وتجاوز بعفوك عنا وعنهم! وَقَالَ: الحمد لِلَّهِ الَّذِي جعل منها خلقكم، وفيها معادكم، منها يبعثكم، وعليها يحشركم، طوبى لمن ذكر المعاد، وعمل للحساب، وقنع بالكفاف، ورضي عن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ!] ثُمَّ أقبل حَتَّى حاذى سكة الثوريين، ثُمَّ قَالَ: خشوا، ادخلوا بين هَذِهِ الأبيات. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عاصم الفائشي، قَالَ: [مر علي بالثوريين، فسمع البكاء، فَقَالَ: مَا هَذِهِ الأصوات؟ فقيل لَهُ: هَذَا البكاء عَلَى قتلى صفين، فَقَالَ: أما إني أشهد لمن قتل مِنْهُمْ صابرا محتسبا بالشهادة] ثُمَّ مر بالفائشيين، فسمع الأصوات، فَقَالَ مثل ذَلِكَ، ثُمَّ مضى حَتَّى مر بالشباميين، فسمع رجة شديدة، فوقف، فخرج إِلَيْهِ حرب بن شُرَحْبِيل الشبامي، [فَقَالَ علي: أيغلبكم نساؤكم! أَلا تنهونهن عن هَذَا الرنين! فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لو كَانَتْ دارا أو دارين أو ثلاثا قدرنا عَلَى ذَلِكَ، ولكن قتل من هَذَا الحي ثمانون ومائة قتيل، فليس دار إلا وفيها بكاء، فأما نحن معشر الرجال فإنا لا نبكي، ولكن نفرح لَهُمْ، أَلا نفرح لَهُمْ بالشهادة! قَالَ علي: رحم اللَّه قتلاكم وموتاكم! وأقبل يمشي مَعَهُ وعلي راكب، فَقَالَ لَهُ علي: ارجع، ووقف ثُمَّ قَالَ لَهُ: ارجع، فإن مشي مثلك مع مثلي فتنة للوالي، ومذلة للمؤمن] ثُمَّ مضى حَتَّى مر بالناعطيين- وَكَانَ جلهم عثمانية- فسمع رجلا مِنْهُمْ يقال لَهُ عبد الرَّحْمَن بن يزيد، من بنى عبيد من الناعطيين يقول: وَاللَّهِ مَا صنع علي شَيْئًا، ذهب ثُمَّ انصرف فِي غير شَيْء! فلما نظروا إِلَى علي أبلسوا، فَقَالَ: وجوه قوم ما رأوا الشام

بعثه على جعدة بن هبيرة إلى خراسان

العالم ثُمَّ قَالَ لأَصْحَابه: قوم فارقناهم آنفا خير من هَؤُلاءِ، ثُمَّ أنشأ يقول: أخوك الَّذِي إن أجرضتك ملمة ... من الدهر لم يبرح لبثك واجما وليس أخوك بِالَّذِي إن تشعبت ... عَلَيْك الأمور ظل يلحاك لائما ثُمَّ مضى، فلم يزل يذكر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى دخل القصر. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنَا أَبُو جناب الكلبي، عن عمارة بن رَبِيعَة، قَالَ: خرجوا مع علي إِلَى صفين وهم متوادون أحباء، فرجعوا متباغضين أعداء، مَا برحوا من عسكرهم بصفين حَتَّى فشا فِيهِمُ التحكيم، وَلَقَدْ أقبلوا يتدافعون الطريق كله ويتشاتمون ويضطربون بالسياط، يقول الخوارج: يَا أعداء اللَّه، أدهنتم فِي أمر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وحكمتم! وَقَالَ الآخرون: فارقتم إمامنا وفرقتم جماعتنا فلما دخل علي الْكُوفَة لم يدخلوا مَعَهُ حَتَّى أتوا حروراء، فنزل بِهَا مِنْهُمُ اثنا عشر ألفا، ونادى مناديهم: إن أَمِير القتال شبث بن ربعي التميمي وأمير الصَّلاة عَبْد اللَّهِ بن الكواء اليشكري، والأمر شورى بعد الفتح، والبيعة لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعثة عليٍّ جعدةَ بن هبيرة إِلَى خُرَاسَان وفي هَذِهِ السنة بعث علي جعدة بن هبيرة فِيمَا قيل إِلَى خُرَاسَان. ذكر الخبر عن ذَلِكَ: ذكر عَلِيّ بن مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّهِ بن ميمون، عَنْ عَمْرِو بْنِ شجيرة، عن جابر، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: بعث علي بعد ما رجع من صفين

اعتزال الخوارج عليا واصحابه ورجوعهم بعد ذلك

جعدة بن هبيرة المخزومي إِلَى خُرَاسَان، فانتهى إِلَى أَبْرَشَهْر، وَقَدْ كفروا وامتنعوا، فقدم عَلَى علي فبعث خليد بن قرة اليربوعي، فحاصر أهل نيسابور حَتَّى صالحوه، وصالحه أهل مرو، وأصاب جاريتين من أبناء الملوك نزلتا بأمان، فبعث بهما إِلَى علي، فعرض عليهما الإِسْلام وأن يزوجهما، قالتا: زوجنا ابنيك، فأبى، فَقَالَ لَهُ بعض الدهاقين: ادفعهما إلي، فإنه كرامة تكرمني بِهَا، فدفعهما إِلَيْهِ، فكانتا عنده، يفرش لهما الديباج، ويطعمهما فِي آنية الذهب، ثُمَّ رجعتا إِلَى خُرَاسَان . اعتزال الخوارج عَلِيًّا وأَصْحَابه ورجوعهم بعد ذَلِكَ وفي هَذِهِ السنة اعتزل الخوارج عَلِيًّا وأَصْحَابه، وحكموا، ثُمَّ كلمهم علي فرجعوا ودخلوا الْكُوفَة. ذكر الخبر عن اعتزالهم عَلِيًّا: قَالَ أَبُو مخنف فِي حديثه عن أبي جناب، عن عمارة بن رَبِيعَة، قَالَ: ولما قدم علي الْكُوفَة وفارقته الخوارج، وثبت إِلَيْهِ الشيعة فَقَالُوا: فِي أعناقنا بيعة ثانية، نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت، فَقَالَتِ الخوارج: استبقتم أنتم وأهل الشام إِلَى الكفر كفرسي رهان، بايع أهل الشام مُعَاوِيَة عَلَى مَا أحبوا وكرهوا، وبايعتم أنتم عَلِيًّا عَلَى أنكم أولياء من والى وأعداء من عادى، فَقَالَ لَهُمْ زياد بن النضر: وَاللَّهِ مَا بسط علي يده فبايعناه قط إلا عَلَى كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وسنة نبيه ص، ولكنكم لما خالفتموه جاءته شيعته، فَقَالُوا: نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت، ونحن كذلك، وَهُوَ عَلَى الحق والهدى، ومن خالفه ضال مضل وبعث علي ابن عَبَّاس إِلَيْهِم، فَقَالَ: لا تعجل إِلَى جوابهم وخصومتهم حَتَّى آتيك. فخرج إِلَيْهِم حَتَّى أتاهم، فأقبلوا يكلمونه، فلم يصبر حَتَّى راجعهم، فَقَالَ: مَا نقمتم من الحكمين، وَقَدْ قَالَ اللَّه عز وجل: «إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ

اللَّهُ بَيْنَهُما» ! فكيف بامه محمد ص! فَقَالَتِ الخوارج: قلنا: أما مَا جعل حكمه إلى الناس، وأمر بالنظر فِيهِ والإصلاح لَهُ فهو إِلَيْهِم كما أمر بِهِ، وما حكم فأمضاه فليس للعباد أن ينظروا فِيهِ، حكم فِي الزاني مائة جلدة، وفي السارق بقطع يده، فليس للعباد أن ينظروا فِي هَذَا قَالَ ابن عَبَّاس: فإن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يقول: «يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ» ، فقالوا: أو تجعل الحكم فِي الصيد، والحدث يكون بين المرأة وزوجها كالحكم فِي دماء الْمُسْلِمِينَ! وقالت الخوارج: قلنا لَهُ: فهذه الآية بيننا وبينك، أعدل عندك ابن العاص وَهُوَ بالأمس يقاتلنا ويسفك دماءنا! فإن كَانَ عدلا فلسنا بعدول ونحن أهل حربه وَقَدْ حكمتم فِي أمر اللَّه الرجال، وَقَدْ أمضى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ حكمه فِي مُعَاوِيَة وحزبه أن يقتلوا أو يرجعوا، وقبل ذَلِكَ مَا دعوناهم إِلَى كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فأبوه، ثُمَّ كتبتم بينكم وبينه كتابا، وجعلتم بينكم وبينه الموادعة والاستفاضة، وَقَدْ قطع عَزَّ وَجَلَّ الاستفاضة والموادعة بين الْمُسْلِمِينَ وأهل الحرب منذ نزلت بَراءَةٌ، إلا من أقر بالجزية. وبعث علي زياد بن النضر إِلَيْهِم فَقَالَ: انظر بأي رءوسهم هم أشد إطافة، فنظر فأخبره أنه لم يرهم عِنْدَ رجل أكثر مِنْهُمْ عِنْدَ يَزِيد بن قيس فخرج علي فِي الناس حَتَّى دخل إِلَيْهِم، فأتى فسطاط يَزِيد بن قيس، فدخله فتوضأ فِيهِ وصلى ركعتين، وأمره عَلَى إصبهان والري، [ثُمَّ خرج حَتَّى انتهى إِلَيْهِم وهم يخاصمون ابن عَبَّاس، فَقَالَ: انته عن كلامهم، ألم أنهك رحمك اللَّه! ثُمَّ تكلم فَحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وأثنى عَلَيْهِ ثُمَّ قال: اللهم ان هذا مقام من افلج فيه كان اولى بالفلج يوم الْقِيَامَة، ومن نطق فِيهِ وأوعث فهو فِي الآخرة أعمى وأضل سبيلا ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: من زعيمكم؟ قَالُوا: ابن الكواء. قَالَ علي: فما أخرجكم علينا؟ قَالُوا: حكومتكم يوم صفين قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ، أتعلمون أَنَّهُمْ حَيْثُ رفعوا المصاحف فقلتم: نجيبهم إِلَى كتاب اللَّه قلت لكم: إني أعلم بالقوم مِنْكُمْ، إِنَّهُمْ ليسوا بأَصْحَاب دين

وَلا قرآن، إني صحبتهم وعرفتهم أطفالا ورجالا، فكانوا شر أطفال وشر رجال. امضوا عَلَى حقكم وصدقكم، فإنما رفع القوم هَذِهِ المصاحف خديعة ودهنا ومكيدة فرددتم علي رأيي، وقلتم: لا، بل نقبل مِنْهُمْ فقلت لكم: اذكروا قولي لكم، ومعصيتكم إياي، فلما أبيتم إلا الكتاب اشترطت عَلَى الحكمين أن يحييا مَا أحيا القرآن، وأن يميتا مَا أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف حكما يحكم بِمَا فِي القرآن، وإن أبيا فنحن من حكمهما برآء قَالُوا لَهُ: فخبرنا أتراه عدلا تحكيم الرجال فِي الدماء؟ فَقَالَ: إنا لسنا حكمنا الرجال، إنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هُوَ خط مسطور بين دفتين، لا ينطق، إنما يتكلم بِهِ الرجال، قَالُوا: فخبرنا عن الأجل، لم جعلته فِيمَا بينك وبينهم؟ قَالَ: ليعلم الجاهل، ويتثبت العالم، ولعل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يصلح فِي هَذِهِ الهدنة هَذِهِ الأمة ادخلوا مصركم رحمكم اللَّه! فدخلوا من عِنْدَ آخرهم] . قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن جندب الأَزْدِيّ، عَنْ أَبِيهِ بمثل هَذَا. وأما الخوارج فيقولون: قلنا: صدقت، قَدْ كنا كما ذكرت، وفعلنا مَا وصفت، ولكن ذَلِكَ كَانَ منا كفرا، فقد تبنا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ، فتب كما تبنا نبايعك، وإلا فنحن مخالفون [فبايعنا علي وَقَالَ: ادخلوا فلنمكث ستة أشهر حَتَّى يجبى المال، ويسمن الكراع، ثُمَّ نخرج إِلَى عدونا ولسنا نأخذ بقولهم، وَقَدْ كذبوا] . وقدم معن بن يَزِيدَ بن الأخنس السلمي فِي استبطاء إمضاء الحكومة وَقَالَ لعلي: إن مُعَاوِيَة قَدْ وفى، ففِ أنت لا يلفتنك عن رأيك أعاريب بكر وتميم فأمر علي بإمضاء الحكومة، وَقَدْ كَانُوا افترقوا من صفين عَلَى أن يقدم الحكمان في أربعمائة أربعمائة إِلَى دومة الجندل. وزعم الْوَاقِدِيّ أن سعدا قَدْ شهد مع من شهد الحكمين، وأن ابنه عمر لم يدعه حَتَّى أحضره أذرح، فندم، فأحرم من بيت المقدس بعمرة

اجتماع الحكمين بدومه الجندل

اجتماع الحكمين بدومة الجندل وفي هَذِهِ السنة كَانَ اجتماع الحكمين. ذكر الخبر عن اجتماعهما: قال أبو مخنف: حدثني المجالد بن سعيد، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عن زياد بن النضر الحارثي، ان عليا بعث أربعمائة رجل، عَلَيْهِم شريح بن هانئ الحارثي، وبعث معهم عَبْد اللَّهِ بن عباس، وَهُوَ يصلي بهم، ويلي أمورهم، وأبو مُوسَى الأَشْعَرِيّ معهم وبعث معاويه عمرو بن العاص في أربعمائة من أهل الشام، حَتَّى توافوا بدومة الجندل بأذرح، قَالَ: فكان مُعَاوِيَة إذا كتب إِلَى عَمْرو جَاءَ الرسول وذهب لا يدري بِمَا جَاءَ بِهِ، وَلا بِمَا رجع بِهِ، وَلا يسأله أهل الشام عن شَيْء، وإذا جَاءَ رسول علي جاءوا إِلَى ابن عَبَّاس فسألوه: مَا كتب بِهِ إليك أَمِير الْمُؤْمِنِينَ؟ فإن كتمهم ظنوا بِهِ الظنون فَقَالُوا: مَا نراه كتب إلا بكذا وكذا فَقَالَ ابن عَبَّاس: أما تعقلون! أما ترون رسول مُعَاوِيَة يجيء لا يعلم بِمَا جَاءَ بِهِ، ويرجع لا يعلم مَا رجع بِهِ، وَلا يسمع لَهُمْ صياح وَلا لفظ، وَأَنْتُمْ عندي كل يوم تظنون الظنون! قَالَ: وشهد جماعتهم تِلَكَ عَبْد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير، وعبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام المخزومي وعبد الرَّحْمَن بن عَبْدِ يَغُوثَ الزُّهْرِيّ وأبو جهم بن حُذَيْفَة العدوي والْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ الثقفي، [وخرج عُمَر بن سَعْد حَتَّى أتى أباه عَلَى ماء لبني سليم بالبادية، فَقَالَ: يَا أبت، قَدْ بلغك مَا كَانَ بين الناس بصفين، وَقَدْ حكم الناس أبا مُوسَى الأَشْعَرِيّ وعمرو بن الْعَاصِ، وَقَدْ شهدهم نفر من قريش، فاشهدهم فإنك صاحب رَسُول اللَّهِ ص وأحد الشورى، ولم تدخل فِي شَيْءٍ كرهته هَذِهِ الأمة، فاحضر فإنك أحق الناس بالخلافة فَقَالَ: لا أفعل، إني سمعت رَسُول اللَّهِ ص يقول: انه تكون فتنة، خير الناس فِيهَا الخفي التقي، وَاللَّهِ لا أشهد شَيْئًا من هَذَا الأمر أبدا]

والتقى الحكمان، فَقَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ: يَا أَبَا مُوسَى، ألست تعلم أن عُثْمَان رَضِيَ الله عنه قتل مظلوما؟ قال: اشهد، قال: ألست تعلم أن مُعَاوِيَة وآل مُعَاوِيَة أولياؤه؟ قَالَ: بلى، قَالَ: فإن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: «وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً» ، فما يمنعك من مُعَاوِيَة ولي عُثْمَان يَا أَبَا مُوسَى، وبيته فِي قريش كما قَدْ علمت؟ فإن تخوفت أن يقول الناس: ولي مُعَاوِيَة وليست لَهُ سابقة، فإن لك بِذَلِكَ حجة، تقول: إني وجدته ولي عُثْمَان الخليفة المظلوم والطالب بدمه، الْحَسَن السياسة، الْحَسَن التدبير، وهو أخو أم حبيبه زوجه النبي ص، وَقَدْ صحبه، فهو أحد الصحابة ثُمَّ عرض لَهُ بالسلطان، فَقَالَ: إن ولي أكرمك كرامة لم يكرمها خليفة فَقَالَ أَبُو مُوسَى: يَا عَمْرو، اتق اللَّه عَزَّ وَجَلَّ! فأما مَا ذكرت من شرف مُعَاوِيَة فإن هَذَا ليس عَلَى الشرف يولاه أهله، ولو كَانَ عَلَى الشرف لكان هَذَا الأمر لآل أبرهة بن الصباح، إنما هُوَ لأهل الدين والفضل، مع أني لو كنت معطيه أفضل قريش شرفا أعطيته عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ وأما قولك: ان معاويه ولى دم عثمان فوله هَذَا الأمر، فإني لم أكن لأوليه مُعَاوِيَة وأدع الْمُهَاجِرِينَ الأولين وأما تعريضك لي بالسلطان، فو الله لو خرج لي من سلطانه كله مَا وليته، وما كنت لأرتشي فِي حكم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، ولكنك إن شئت أحيينا اسم عمر بن الخطاب. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو جناب الكلبي، أنه كَانَ يقول: قَالَ أَبُو مُوسَى: أما وَاللَّهِ لَئِنِ استطعت لأحيين اسم عُمَر بن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَقَالَ لَهُ عَمْرو: إن كنت تحب بيعة ابن عمر فما يمنعك من ابني وأنت تعرف فضله وصلاحه! فَقَالَ: إن ابنك رجل صدق، ولكنك قَدْ غمسته فِي هَذِهِ الْفِتْنَة

قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاق، عن نافع مولى ابن عمر، قَالَ: قَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ: إن هَذَا الأمر لا يصلحه إلا رجل لَهُ ضرس يأكل ويطعم، وكانت فِي ابن عمر غفلة، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ: افطن، فانتبه، فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن عُمَرَ: لا وَاللَّهِ لا ارشو عليها شيئا ابدا، وقال: يا بن العاص، إن العرب أسندت إليك أمرها بعد ما تقارعت بالسيوف، وتناجزت بالرماح، فلا تردنهم فِي فتنة. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي النضر بن صالح العبسي، قَالَ: [كنت مع شريح بن هانئ فِي غزوة سجستان، فَحَدَّثَنِي أن عَلِيًّا أوصاه بكلمات إِلَى عَمْرو بن الْعَاصِ، قَالَ: قل لَهُ إذا أنت لقيته: إن عَلِيًّا يقول لك: إن أفضل الناس عِنْدَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ من كَانَ العمل بالحق أحب إِلَيْهِ وإن نقصه وكرثه، من الباطل وإن حن إِلَيْهِ وزاده، يَا عَمْرو، وَاللَّهِ إنك لتعلم أين موضع الحق، فلم تجاهل؟ إن أوتيت طمعا يسيرا كنت بِهِ لِلَّهِ وأوليائه عدوا، فكأن وَاللَّهِ مَا أوتيت قَدْ زال عنك، ويحك! فلا تكن للخائنين خصيما، وَلا للظالمين ظهيرا أما إني أعلم بيومك الَّذِي أنت فِيهِ نادم، وَهُوَ يوم وفاتك، تمنى أنك لم تظهر لمسلم عداوة، ولم تأخذ عَلَى حكم رشوة] . قَالَ: فبلغته ذَلِكَ، فتمعر وجهه، ثُمَّ قَالَ: متى كنت أقبل مشورة علي أو أنتهي إِلَى أمره، أو أعتد برأيه! فقلت له: وما يمنعك يا بن النابغة ان

تقبل من مولاك وسيد الْمُسْلِمِينَ بعد نبيهم مشورته! فقد كَانَ من هُوَ خير مِنْكَ ابو بكر وعمر يستشيرانه، ويعملان برأيه، فَقَالَ: إن مثلي لا يكلم مثلك، فقلت لَهُ: وبأي أبويك ترغب عني! بأبيك الوشيظ أم بأمك النابغة! قَالَ: فقام عن مكانه وقمت مَعَهُ قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو جناب الكلبي أن عمرا وأبا مُوسَى حَيْثُ التقيا بدومة الجندل، أخذ عَمْرو يقدم أبا مُوسَى فِي الكلام، يقول: انك صاحب رسول الله ص وأنت أسن مني، فتكلم وأتكلم فكان عَمْرو قَدْ عود أبا مُوسَى أن يقدمه فِي كل شَيْء، اغتزى بِذَلِكَ كله أن يقدمه فيبدأ بخلع علي قَالَ: فنظر فِي أمرهما وما اجتمعا عَلَيْهِ، فأراده عَمْرو عَلَى مُعَاوِيَة فأبى، وأراده عَلَى ابنه فأبى، وأراد أَبُو موسى عمرا على عبد الله ابن عمر فأبى عليه، فقال له عمرو: خبرني مَا رأيك؟ قَالَ: رأيي أن نخلع هَذَيْنِ الرجلين، ونجعل الأمر شورى بين الْمُسْلِمِينَ، فيختار الْمُسْلِمُونَ لأنفسهم من أحبوا فَقَالَ لَهُ عَمْرو: فإن الرأي مَا رأيت، فأقبلا إِلَى النَّاسِ وهم مجتمعون، فَقَالَ: يَا أَبَا مُوسَى، أعلمهم بأن رأينا قَدِ اجتمع واتفق، فتكلم أَبُو مُوسَى فَقَالَ: إن رأيي ورأي عَمْرو: قَدِ اتفق عَلَى أمر نرجو أن يصلح اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِهِ أمر هَذِهِ الأمة فَقَالَ عَمْرو: صدق وبر، يَا أَبَا مُوسَى، تقدم فتكلم فتقدم أَبُو مُوسَى ليتكلم، فَقَالَ لَهُ ابن عَبَّاس: ويحك! وَاللَّهِ إني لأظنه قَدْ خدعك إن كنتما قَدِ اتفقتما عَلَى أمر، فقدمه فليتكلم بِذَلِكَ الأمر قبلك، ثُمَّ تكلم أنت بعده، فإن عمرا رجل غادر، وَلا آمن أن يكون قَدْ أعطاك الرضا فِيمَا بينك وبينه، فإذا قمت فِي الناس خالفك- وكان ابو موسى مغفلا- فقال له: إنا قَدِ اتفقنا فتقدم أَبُو مُوسَى فَحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وأثنى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إنا قَدْ نظرنا فِي أمر هَذِهِ الأمة فلم نر أصلح

لأمرها، وَلا ألم لشعثها من أمر قَدْ أجمع رأيي ورأي عَمْرو عَلَيْهِ، وَهُوَ أن نخلع عَلِيًّا ومعاوية، وتستقبل هَذِهِ الأمة هَذَا الأمر فيولوا مِنْهُمْ من أحبوا عَلَيْهِم، وإني قَدْ خلعت عَلِيًّا ومعاوية، فاستقبلوا أمركم، وولوا عَلَيْكُمْ من رأيتموه لهذا الأمر أهلا، ثُمَّ تنحى وأقبل عَمْرو بن الْعَاصِ فقام مقامه، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: إِنَّ هَذَا قَدْ قَالَ مَا سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبت صاحبي مُعَاوِيَة، فانه ولى عثمان بن عفان والطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه فَقَالَ أَبُو موسى: مالك لا وفقك اللَّه، غدرت وفجرت! إنما مثلك كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ قَالَ عَمْرو: إنما مثلك كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً وحمل شريح بن هاني عَلَى عَمْرو فقنعه بالسوط، وحمل عَلَى شريح ابنٌ لعمرو فضربه بالسوط، وقام الناس فحجزوا بينهم وَكَانَ شريح بعد ذَلِكَ يقول: مَا ندمت عَلَى شَيْء ندامتي عَلَى ضرب عَمْرو بالسوط أَلا أكون ضربته بالسيف آتيا بِهِ الدهر مَا أتى والتمس أهل الشام أبا مُوسَى، فركب راحلته ولحق بمكة. قَالَ ابن عَبَّاس: قبح اللَّه رأي أبي مُوسَى! حذرته وأمرته بالرأي فما عقل. فكان أَبُو مُوسَى يقول: حذرني ابن عَبَّاس غدرة الفاسق، ولكني اطمأننت إِلَيْهِ، وظننت أنه لن يؤثر شَيْئًا عَلَى نصيحة الأمة ثُمَّ انصرف عَمْرو وأهل الشام إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ بالخلافة، ورجع ابن عَبَّاس وشريح بن هانئ إِلَى علي، [وَكَانَ إذا صلى الغداة يقنت فيقول: اللَّهُمَّ العن مُعَاوِيَة وعمرا وأبا الأعور السلمي وحبيبا وعبد الرَّحْمَن بن خَالِدٍ والضحاك بن قيس والوليد] . فبلغ ذَلِكَ مُعَاوِيَة، فكان إذا قنت لعن عَلِيًّا وابن عباس والأشتر وحسنا وحسينا. وزعم الْوَاقِدِيّ أن اجتماع الحكمين كَانَ فِي شعبان سنة ثمان وثلاثين من الهجرة

ذكر ما كان من خبر الخوارج عند توجيه على الحكم للحكومة وخبر يوم النهر

ذكر مَا كَانَ من خبر الخوارج عِنْدَ توجيه علي الحكم للحكومة وخبر يوم النهر قَالَ أَبُو مخنف: عن أبي المغفل، عن عون بن أبي جحيفة، [أن عَلِيًّا لما أراد أن يبعث أبا مُوسَى للحكومة، أتاه رجلان من الخوارج: زرعة بن البرج الطَّائِيّ وحرقوص بن زهير السعدي، فدخلا عَلَيْهِ، فقالا له: لا حكم الا لله، فقال علي: لا حكم إلا لله، فَقَالَ لَهُ حُرْقُوص: تب من خطيئتك، وارجع عن قضيتك، واخرج بنا إِلَى عدونا نقاتلهم حَتَّى نلقى ربنا. فَقَالَ لَهُمْ علي: قَدْ أردتكم عَلَى ذَلِكَ فعصيتموني، وَقَدْ كتبنا بيننا وبينهم كتابا، وشرطنا شروطا، وأعطينا عَلَيْهَا عهودنا ومواثيقنا، وَقَدْ قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» فَقَالَ لَهُ حُرْقُوص: ذَلِكَ ذنب ينبغي أن تتوب مِنْهُ، فَقَالَ علي: مَا هُوَ ذنب، ولكنه عجز من الرأي، وضعف من الفعل، وَقَدْ تقدمت إليكم فِيمَا كَانَ مِنْهُ، ونهيتكم عنه فَقَالَ لَهُ زرعة بن البرج: أما وَاللَّهِ يَا علي، لَئِنْ لم تدع تحكيم الرجال فِي كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قاتلتك، أطلب بِذَلِكَ وجه اللَّه ورضوانه، فَقَالَ لَهُ علي: بؤسا لك، مَا أشقاك! كأني بك قتيلا تسفى عَلَيْك الريح، قَالَ: وددت أن قَدْ كَانَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ علي: لو كنت محقا كَانَ فِي الموت عَلَى الحق تعزية عن الدُّنْيَا، أن الشَّيْطَان قَدِ استهواكم، فاتقوا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، إنه لا خير لكم فِي دنيا تقاتلون عَلَيْهَا، فخرجا من عنده يحكمان] . قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي عَبْد الْمَلِكِ بن أبي حرة الحنفي، أن عَلِيًّا خرج ذات يوم يخطب، فإنه لفي خطبته إذ حكمت المحكمة فِي جوانب المسجد، فَقَالَ علي: اللَّه أكبر! كلمة حق يراد بِهَا باطل! إن سكتوا عممناهم، وإن تكلموا حججناهم، وإن خرجوا علينا قاتلناهم فوثب يَزِيد بن عاصم

المحاربي، فَقَالَ: الحمد لِلَّهِ غير مودع ربنا وَلا مستغنى عنه اللَّهُمَّ إنا نعوذ بك من إعطاء الدنية فِي ديننا، فإن إعطاء الدنية فِي الدين إدهان فِي أمر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وذل راجع بأهله إِلَى سخط اللَّه يَا علي، أبالقتل تخوفنا! أما وَاللَّهِ إني لأرجو أن نضربكم بِهَا عما قليل غير مصفحات، ثُمَّ لتعلمن أينا أولى بِهَا صليا ثُمَّ خرج بهم هُوَ وإخوة لَهُ ثلاثة هُوَ رابعهم، فأصيبوا مع الخوارج بالنهر، وأصيب أحدهم بعد ذَلِكَ بالنخيلة. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الأجلح بن عَبْدِ اللَّهِ، عن سلمة بن كهيل، عن كثير بن بهز الحضرمي، قَالَ: قام علي فِي الناس يخطبهم ذات يوم، فَقَالَ رجل من جانب المسجد: لا حكم إلا لِلَّهِ، فقام آخر فَقَالَ مثل ذَلِكَ، ثُمَّ توالى عدة رجال يحكمون، فَقَالَ علي: اللَّه أكبر، كلمة حق يلتمس بِهَا باطل! أما إن لكم عندنا ثلاثا مَا صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد اللَّه أن تذكروا فِيهَا اسمه، وَلا نمنعكم الفيء مَا دامت أيديكم مع أيدينا، وَلا نقاتلكم حَتَّى تبدءونا، ثُمَّ رجع إِلَى مكانه الَّذِي كَانَ فِيهِ من خطبته. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنَا عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ الْوَلِيد، أن حكيم بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيد البكائي كَانَ يرى رأي الخوارج، فأتى عَلِيًّا ذات يوم وَهُوَ يخطب، فَقَالَ: «وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» ، فقال علي: «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ» . حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قال: سمعت اسماعيل ابن سُمَيْعٍ الْحَنَفِيَّ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، قَالَ: لَمَّا وَقَعَ التَّحْكِيمُ وَرَجَعَ عَلِيٌّ مِنْ صِفِّينَ رَجَعُوا مُبَايِنِينَ لَهُ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى النَّهْرِ أَقَامُوا بِهِ، فَدَخَلَ عَلِيٌّ فِي النَّاسِ الْكُوفَةَ، وَنَزَلُوا بِحَرُورَاءَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، فَرَجَعَ وَلَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عَلِيٌّ فَكَلَّمَهُمْ حَتَّى وَقَعَ الرِّضَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، فَدَخَلُوا

الْكُوفَةَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ تَحَدَّثُوا إِنَّكَ رَجَعْتَ لَهُمْ عَنْ كُفْرِكَ. فَخَطَبَ النَّاسَ فِي صَلاةِ الظُّهْرِ، فَذَكَرَ أَمْرَهُمْ فَعَابَهُ، فَوَثَبُوا مِنْ نَوَاحِي الْمَسْجِدِ يَقُولُونَ: لا حُكْمَ إِلا لِلَّهِ وَاسْتَقْبَلَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ وَاضِعٌ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، فَقَالَ: «وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» ، فقال علي: «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ» . حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، [قَالَ: سَمِعْتُ لَيْثَ بْنَ أَبِي سُلَيْمٍ يَذْكُرُ عَنْ أَصْحَابِهِ، قَالَ: جَعَلَ عَلِيٌّ يُقَلِّبُ يَدَيْهِ يقول يديه هَكَذَا وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: حُكْمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَنْتَظِرُ فِيكُمْ مَرَّتَيْنِ، إِنَّ لَكُمْ عِنْدَنَا ثَلاثًا: لا نَمْنَعُكُمْ صَلاةً فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، وَلا نَمْنَعُكُمْ نَصِيبَكُمْ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ مَا كَانَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَ أَيْدِينَا، وَلا نُقَاتِلُكُمْ حَتَّى تُقَاتِلُونَا] . قَالَ أَبُو مخنف عن عَبْدِ الْمَلِكِ بن أبي حرة: إن عَلِيًّا لما بعث أبا مُوسَى لإنفاذ الحكومة لقيت الخوارج بعضها بعضا، فاجتمعوا فِي منزل عَبْد اللَّهِ بن وهب الراسبي، فَحَمِدَ اللَّهَ عَبْد اللَّهِ بن وهب وأثنى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بعد، فو الله مَا ينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن، وينيبون إِلَى حكم القرآن، أن تكون هَذِهِ الدُّنْيَا، الَّتِي الرضا بها والركون بها والإيثار إياها عناء وتبار، آثر عندهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقول بالحق، وإن من وضر فإنه من يمن ويضر فِي هَذِهِ الدُّنْيَا فإن ثوابه يوم الْقِيَامَة رضوان اللَّه عَزَّ وَجَلَّ والخلود فِي جناته فاخرجوا بنا إخواننا من هَذِهِ القرية الظالم أهلها إِلَى بعض كور الجبال أو إِلَى بعض هَذِهِ المدائن، منكرين لهذه البدع المضلة. فَقَالَ لَهُ حُرْقُوص بن زهير: إن المتاع بهذه الدُّنْيَا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا تدعونكم زينتها وبهجتها إِلَى المقام بِهَا، وَلا تلفتنكم عن طلب الحق، وإنكار الظلم، ف إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ فقال حمزه

ابن سنان الأسدي: يَا قوم، إن الرأي مَا رأيتم، فولوا أمركم رجلا مِنْكُمْ، فإنه لا بد لكم من عماد وسناد وراية تحفون بِهَا، وترجعون إِلَيْهَا فعرضوها عَلَى زَيْد بن حصين الطَّائِيّ فأبى، وعرضوها عَلَى حُرْقُوص بن زهير فأبى، وعلى حمزة بن سنان وشريح بن أوفى العبسي فأبيا، وعرضوها عَلَى عَبْد الله ابن وهب، فَقَالَ: هاتوها، أما وَاللَّهِ لا آخذها رغبة فِي الدُّنْيَا، وَلا أدعها فرقا من الموت فبايعوه لعشر خلون من شوال- وَكَانَ يقال لَهُ ذو الثفنات- ثُمَّ اجتمعوا فِي منزل شريح بن أوفى العبسي، فَقَالَ ابن وهب: اشخصوا بنا إِلَى بلدة نجتمع فِيهَا لإنفاذ حكم اللَّه، فإنكم أهل الحق قَالَ شريح: نخرج إِلَى المدائن فننزلها، ونأخذ بأبوابها، ونخرج منها سكانها، ونبعث إِلَى إخواننا من أهل الْبَصْرَة فيقدمون علينا فَقَالَ زَيْد بن حصين: إنكم إن خرجتم مجتمعين اتبعتم، ولكن اخرجوا وحدانا مستخفين، فأما المدائن فإن بِهَا من يمنعكم، ولكن سيروا حَتَّى تنزلوا جسر النهروان، وتكاتبوا إخوانكم من أهل الْبَصْرَة قَالُوا: هَذَا الرأي. وكتب عَبْد اللَّهِ بن وهب إِلَى من بِالْبَصْرَةِ مِنْهُمْ يعلمهم مَا اجتمعوا عَلَيْهِ، ويحثهم عَلَى اللحاق بهم، وسير الكتاب إِلَيْهِم، فأجابوه أَنَّهُمْ عَلَى اللحاق بِهِ. فلما عزموا عَلَى المسير تعبدوا ليلتهم- وكانت ليلة الجمعة ويوم الجمعة- وساروا يوم السبت، فخرج شريح بن أوفى العبسي وَهُوَ يتلو قول اللَّه تعالى: «فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ» . وخرج معهم طرفة بن عدي بن حاتم الطَّائِيّ، فاتبعه أبوه فلم يقدر عَلَيْهِ، فانتهى إِلَى المدائن ثُمَّ رجع، فلما بلغ ساباط لقيه عَبْد اللَّهِ بن وهب الراسبي فِي نحو عشرين فارسا، فأراد عَبْد اللَّهِ قتله، فمنعه عَمْرو بن مالك النبهاني وبشر بن زَيْد البولاني وأرسل عدي إِلَى سعد بن مسعود عامل علي عَلَى المدائن يحذره

أمرهم، فحذر، وأخذ أبواب المدائن، وخرج فِي الخيل واستخلف بِهَا ابن أخيه المختار بن أبي عبيد، وسار فِي طلبهم، فأخبر عَبْد اللَّهِ بن وهب خبره فرابأ طريقه، وسار عَلَى بغداد، ولحقهم سعد بن مسعود بالكرخ في خمسمائة فارس عِنْدَ المساء، فانصرف إِلَيْهِم عَبْد اللَّهِ فِي ثَلاثِينَ فارسا، فاقتتلوا ساعة، وامتنع القوم مِنْهُمْ، وَقَالَ أَصْحَاب سعد لسعد: مَا تريد من قتال هَؤُلاءِ ولم يأتك فِيهِمْ أمر! خلهم فليذهبوا، واكتب إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، فإن أمرك باتباعهم اتبعتهم، وإن كفاكهم غيرك كَانَ فِي ذَلِكَ عافية لك فأبى عَلَيْهِم، فلما جن عَلَيْهِم الليل خرج عَبْد اللَّهِ بن وهب فعبر دجلة إِلَى أرض جوخى، وسار إِلَى النهروان، فوصل إِلَى أَصْحَابه وَقَدْ أيسوا مِنْهُ، وَقَالُوا: إن كَانَ هلك ولينا الأمر زَيْد بن حصين أو حُرْقُوص بن زهير، وسار جماعة من أهل الْكُوفَة يريدون الخوارج ليكونوا معهم، فردهم أهلوهم كرها، مِنْهُمُ القعقاع بن قيس الطَّائِيّ عم الطرماح بن حكيم، وعبد اللَّه بن حكيم بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ البكائي، وبلغ عَلِيًّا أن سَالم بن رَبِيعَة العبسي يريد الخروج، فأحضره عنده، ونهاه فانتهى. ولما خرجت الخوارج من الْكُوفَة أتى عَلِيًّا أَصْحَابه وشيعته فبايعوه وَقَالُوا: نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت، فشرط لَهُمْ فِيهِ سنه رسول الله ص، فجاءه رَبِيعَة بن أبي شداد الخثعمي- وَكَانَ شهد مَعَهُ الجمل وصفين، وَمَعَهُ راية خثعم- فَقَالَ لَهُ: بايع عَلَى كتاب اللَّه وسنة رسول الله ص، فَقَالَ رَبِيعَة: عَلَى سنة أبي بكر وعمر، قَالَ لَهُ علي: ويلك! لو أن أبا بكر وعمر عملا بغير كتاب اللَّه وسنة رسول الله ص لم يكونا عَلَى شَيْء من الحق، فبايعه، فنظر إِلَيْهِ علي وَقَالَ: أما وَاللَّهِ لكأني بك وَقَدْ نفرت مع هَذِهِ الخوارج فقتلت، وكأني بك وَقَدْ وطئتك الخيل بحوافرها، فقتل يوم النهر مع خوارج الْبَصْرَة. وأما خوارج البصره فإنهم اجتمعوا في خمسمائة رجل، وجعلوا عليهم مسعر ابن فدكي التميمي، فعلم بهم ابن عَبَّاس، فأتبعهم أبا الأسود الدولى،

فلحقهم بالجسر الاكبر، فتوافقوا حَتَّى حجز بينهم الليل، وأدلج مسعر بأَصْحَابه، وأقبل يعترض الناس وعلى مقدمته الأشرس بن عوف الشيباني، وسار حَتَّى لحق بعبد اللَّه بن وهب بالنهر فلما خرجت الخوارج وهرب أَبُو مُوسَى إِلَى مكة، ورد علي ابن عَبَّاس إِلَى الْبَصْرَة، قام فِي الْكُوفَة فخطبهم فَقَالَ: الحمد لِلَّهِ وإن أتى الدهر بالخطب الفادح، والحدثان الجليل، وأشهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ، أَمَّا بَعْدُ، فإن المعصية تورث الحسرة، وتعقب الندم، وَقَدْ كنت أمرتكم فِي هَذَيْنِ الرجلين وفي هَذِهِ الحكومة أمري، ونحلتكم رأيي، لو كَانَ لقصير أمر! ولكن أبيتم إلا مَا أردتم، فكنت أنا وَأَنْتُمْ كما قَالَ أخو هوازن: أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد أَلا إن هَذَيْنِ الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قَدْ نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما، وأحييا مَا أمات القرآن، واتبع كل واحد منهما هواه بغير هدى من اللَّه، فحكما بغير حجة بينة، وَلا سنة ماضية، واختلفا فِي حكمهما، وكلاهما لم يرشد، فبرئ اللَّه منهما ورسوله وصالح الْمُؤْمِنِينَ. استعدوا وتأهبوا للمسير إِلَى الشام، وأصبحوا فِي معسكركم إِنْ شَاءَ اللَّهُ يوم الاثنين ثُمَّ نزل وكتب إِلَى الخوارج بالنهر: بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من عَبْد اللَّه علي أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، إِلَى زَيْد بن حصين وعبد اللَّه بن وهب ومن مَعَهُمَا مِنَ النَّاسِ. أَمَّا بَعْدُ، فإن هَذَيْنِ الرجلين اللذين ارتضينا حكمهما قَدْ خالفا كتاب اللَّه، واتبعا أهواءهما بغير هدى من اللَّه، فلم يعملا بالسنة، ولم ينفذا للقرآن حكما، فبرئ اللَّه ورسوله منهما والمؤمنون! فإذا بلغكم كتابي هَذَا فأقبلوا فإنا سائرون إِلَى عدونا وعدوكم، ونحن عَلَى الأمر الأول الذى كنا ع

وكتبوا إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ، فإنك لم تغضب لربك، إنما غضبت لنفسك، فإن شهدت عَلَى نفسك بالكفر، واستقبلت التوبة، نظرنا فِيمَا بيننا وبينك، وإلا فقد نابذناك عَلَى سواء إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ فلما قرأ كتابهم أيس مِنْهُمْ، فرأى أن يدعهم ويمضي بِالنَّاسِ إِلَى أهل الشام حَتَّى يلقاهم فيناجزهم. قَالَ ابو مخنف، عن المعلى بن كليب الهمدانى، عن جبر بن نوف أبي الوداك الهمداني: إن عَلِيًّا لما نزل بالنخيلة وأيس من الخوارج، قام فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإنه من ترك الجهاد فِي اللَّه وأدهن فِي أمره كَانَ عَلَى شفا هلكه إلا أن يتداركه اللَّه بنعمة، فاتقوا اللَّه، وقاتلوا من حاد اللَّه، وحاول أن يطفئ نور اللَّه، قاتلوا الخاطئين الضالين، القاسطين المجرمين، الَّذِينَ ليسوا بقراء للقرآن، وَلا فقهاء فِي الدين، وَلا علماء فِي التأويل، وَلا لهذا الأمر بأهل سابقة فِي الإِسْلام، وَاللَّهِ لو ولوا عَلَيْكُمْ لعملوا فيكم بأعمال كسرى وهرقل، تيسروا وتهيئوا للمسير إِلَى عدوكم من أهل المغرب، وَقَدْ بعثنا إِلَى إخوانكم من أهل الْبَصْرَة ليقدموا عَلَيْكُمْ، فإذا قدموا فاجتمعتم شخصنا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلا حول وَلا قوة إلا بِاللَّهِ. وكتب علي إِلَى عَبْد اللَّهِ بن عباس مع عتبة بن الأخنس بن قيس، من بني سعد بن بكر: أَمَّا بَعْدُ، فإنا قَدْ خرجنا إِلَى معسكرنا بالنخيلة، وَقَدْ أجمعنا عَلَى المسير إِلَى عدونا من أهل المغرب، فأشخص بِالنَّاسِ حَتَّى يأتيك رسولي، وأقم حَتَّى يأتيك أمري والسلام. فلما قدم عَلَيْهِ الكتاب قرأه عَلَى الناس، وامرهم بالشخوص مع الأحنف ابن قيس، فشخص معه منهم الف وخمسمائة رجل، فاستقلهم عَبْد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ، فقام في الناس، فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا أهل الْبَصْرَة، فإنه جاءني أمر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ يأمرني بإشخاصكم، فأمرتكم بالنفير إِلَيْهِ مع الأحنف بن قيس، ولم يشخص معه منكم الا الف وخمسمائة،

وَأَنْتُمْ ستون ألفا سوى أبنائكم وعبدانكم ومواليكم! أَلا انفروا مع جارية بن قدامة السعدي، وَلا يجعلن رجل عَلَى نفسه سبيلا، فإني موقع بكل من وجدته متخلفا عن مكتبه، عاصيا لإمامه، وقد امرت أبا الأسود الدولى بحشركم، فلا يلم رجل جعل السبيل عَلَى نفسه إلا نفسه. فخرج جارية فعسكر، وخرج أَبُو الأسود فحشر الناس، فاجتمع إِلَى جارية الف وسبعمائة، ثُمَّ أقبل حَتَّى وافاه علي بالنخيلة، فلم يزل بالنخيلة حَتَّى وافاه هَذَانِ الجيشان مِنَ الْبَصْرَةِ ثلاثة آلاف ومائتا رجل، فجمع إِلَيْهِ رءوس أهل الْكُوفَة، ورءوس الأسباع، ورءوس القبائل، ووجوه الناس. فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، أنتم إخواني وأنصاري، وأعواني عَلَى الحق، وصحابتي عَلَى جهاد عدوي المحلين بكم، أضرب المدبر، وأرجو تمام طاعة المقبل، وَقَدْ بعثت إِلَى أهل الْبَصْرَة فاستنفرتهم إليكم، فلم يأتني مِنْهُمْ إلا ثلاثة آلاف ومائتا رجل، فأعينوني بمناصحة جلية خلية من الغش، إنكم مخرجنا إِلَى صفين، بل استجمعوا بأجمعكم، وإني أسألكم أن يكتب لي رئيس كل قوم مَا فِي عشيرته من المقاتلة وأبناء المقاتلة الَّذِينَ أدركوا القتال وعبدان عشيرته ومواليهم، ثُمَّ يرفع ذَلِكَ إلينا. فقام سَعِيد بن قيس الهمداني، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، سمعا وطاعة، وودا ونصيحة، أنا أول الناس جَاءَ بِمَا سألت، وبما طلبت وقام معقل بن قيس الرياحي فَقَالَ لَهُ نحوا من ذَلِكَ، وقام عدي بن حاتم وزياد بن خصفة وحجر بن عدي وأشراف الناس والقبائل فَقَالُوا مثل ذَلِكَ. ثُمَّ إن الرءوس كتبوا من فِيهِمْ، ثُمَّ رفعوهم إِلَيْهِ، وأمروا أبناءهم وعبيدهم ومواليهم أن يخرجوا معهم، وألا يتخلف مِنْهُمْ عَنْهُمْ أحد، فرفعوا إِلَيْهِ أربعين ألف مقاتل، وسبعة عشر ألفا من الأبناء ممن أدرك، وثمانية آلاف من مواليهم وعبيدهم، وَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أما من عندنا من المقاتلة وأبناء المقاتلة ممن قَدْ بلغ الحلم، وأطاق القتال، فقد رفعنا إليك مِنْهُمْ ذوي القوة والجلد، وأمرناهم بالشخوص معنا، ومنهم ضعفاء، وهم فِي ضياعنا وأشياء مما يصلحنا

وكانت العرب سبعة وخمسين ألفا من أهل الْكُوفَة، ومن مواليهم ومماليكهم ثمانية آلاف، وَكَانَ جميع أهل الْكُوفَة خمسة وستين ألفا، وثلاثة آلاف ومائتي رجل من أهل الْبَصْرَة، وَكَانَ جميع من مَعَهُ ثمانية وستين ألفا ومائتي رجل. قَالَ أَبُو مخنف، عن أبي الصلت التيمى: ان عليا كتب الى سعد ابن مسعود الثقفي- وَهُوَ عامله عَلَى المدائن: أَمَّا بعد، فانى قد بعثت إليك زياد ابن خصفة فأشخص مَعَهُ من قبلك من مقاتلة أهل الْكُوفَة، وعجل ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّه وَلا قوة إلا بِاللَّهِ. قَالَ: وبلغ عَلِيًّا أن الناس يقولون: لو سار بنا إِلَى هَذِهِ الحرورية فبدأنا بهم، فإذا فرغنا مِنْهُمْ وجهنا من وجهنا ذَلِكَ إِلَى المحلين! فقام في الناس فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإنه قَدْ بلغني قولكم: لو أن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ سار بنا إِلَى هَذِهِ الخارجة الَّتِي خرجت عَلَيْهِ فبدأنا بهم، فإذا فرغنا مِنْهُمْ وجهنا إِلَى المحلين، وإن غير هَذِهِ الخارجة أهم إلينا مِنْهُمْ، فدعوا ذكرهم، وسيروا إِلَى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا جبارين ملوكا، ويتخذوا عباد اللَّه خولا. فتنادى الناس من كل جانب: سر بنا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَيْثُ أحببت قَالَ: فقام إِلَيْهِ صيفي بن فسيل الشيباني فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، نحن حزبك وأنصارك، نعادي من عاديت، ونشايع من أناب إِلَى طاعتك، فسر بنا إِلَى عدوك، من كَانُوا وأينما كَانُوا، فإنك ان شاء الله لن تؤتى من قلة عدد، وَلا ضعف نية أتباع وقام اليه محرز بن شهاب التميمى من بني سعد فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، شيعتك كقلب رجل واحد فِي الإجماع

عَلَى نصرتك، والجد فِي جهاد عدوك، فأبشر بالنصر، وسر بنا إِلَى أي الفريقين أحببت، فإنا شيعتك الَّذِينَ نرجو فِي طاعتك وجهاد من خالفك صالح الثواب، ونخاف فِي خذلانك والتخلف عنك شدة الوبال. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلالٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ كَانَ مِنَ الْخَوَارِجِ ثُمَّ فَارَقَهُمْ، قَالَ: دَخَلُوا قَرْيَةً، فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَبَّابٍ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ ذُعْرًا يَجُرُّ رِدَاءَهُ، فَقَالُوا: لَمْ تُرَعْ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ ذَعَّرْتُمُونِي! قَالُوا: أَأَنْتَ عبد الله بن خباب صاحب رسول الله ص؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: فَهَلْ سَمِعْتَ مِنْ أَبِيكَ حديثا يحدث به عن رسول الله ص أَنَّهُ ذَكَرَ فِتْنَةً، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي؟ قَالَ: فَإِنْ أَدْرَكْتُمْ ذَلِكَ فَكُنْ يَا عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ- قَالَ أَيُّوبُ: وَلا أَعْلَمُهُ إِلا قَالَ: وَلا تَكُنْ يَا عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ- قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَقَدَّمُوهُ عَلَى ضِفَّةِ النَّهْرِ، فَضَرَبُوا عُنُقَهُ، فَسَالَ دَمُهُ كَأَنَّهُ شِرَاكُ نَعْلٍ، وَبَقَرُوا بَطْنَ أُمِّ وَلَدِهِ عَمَّا فِي بَطْنِهَا. قَالَ أَبُو مخنف عن عطاء بن عجلان، عن حميد بن هلال: إن الخارجة الَّتِي أقبلت مِنَ الْبَصْرَةِ جاءت حَتَّى دنت من إخوانها بالنهر، فخرجت عصابة مِنْهُمْ، فإذا هم برجل يسوق بامرأة عَلَى حمار، فعبروا إِلَيْهِ، فدعوه فتهددوه وأفزعوه، وَقَالُوا لَهُ: من أنت؟ قَالَ: أنا عَبْد الله بن خباب صاحب رسول الله ص، ثُمَّ أهوى إِلَى ثوبه يتناوله من الأرض- وَكَانَ سقط عنه لما أفزعوه- فَقَالُوا لَهُ: أفزعناك؟ قَالَ: نعم، قَالُوا لَهُ: لا روع عَلَيْك! [فحدثنا عن أبيك بحديث سمعه من النبي ص، لعل اللَّه ينفعنا بِهِ! قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، عن رسول الله ص، أن فتنة تكون، يموت فِيهَا قلب الرجل كما يموت فِيهَا بدنه، يمسي فِيهَا مؤمنا ويصبح فِيهَا كافرا، ويصبح فِيهَا كافرا ويمسي فِيهَا مؤمنا،] فَقَالُوا: لهذا الحديث سألناك، فما تقول فِي أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما خيرا، قَالُوا: مَا تقول

فِي عُثْمَان فِي أول خلافته وفي آخرها؟ قَالَ: إنه كَانَ محقا فِي أولها وفي آخرها، قَالُوا: فما تقول فِي علي قبل التحكيم وبعده؟ قَالَ: إنه أعلم بِاللَّهِ مِنْكُمْ، وأشد توقيا عَلَى دينه، وأنفذ بصيرة فَقَالُوا: إنك تتبع الهوى، وتوالي الرجال عَلَى أسمائها لا عَلَى أفعالها، وَاللَّهِ لنقتلنك قتلة مَا قتلناها أحدا، فأخذوه فكتفوه ثُمَّ أقبلوا بِهِ وبامرأته وَهِيَ حبلى متم حَتَّى نزلوا تحت نخل مواقر، فسقطت مِنْهُ رطبة، فأخذها أحدهم فقذف بِهَا فِي فمه، فَقَالَ أحدهم: بغير حلها، وبغير ثمن! فلفظها وألقاها من فمه، ثم أخذ سيفه فاخذ يمينه، فمر بِهِ خنزير لأهل الذمة فضربه بسيفه، فَقَالُوا: هَذَا فساد فِي الأرض، فأتى صاحب الخنزير فأرضاه من خنزيره، فلما رَأَى ذَلِكَ مِنْهُمُ ابن خباب قَالَ: لَئِنْ كنتم صادقين فِيمَا أَرَى فما علي مِنْكُمْ بأس، إني لمسلم، مَا أحدثت فِي الإِسْلام حدثا، وَلَقَدْ أمنتموني، قلتم: لا روع عَلَيْك! فجاءوا بِهِ فأضجعوه فذبحوه، وسال دمه فِي الماء، وأقبلوا إِلَى المرأة، فَقَالَتْ: إني إنما أنا امرأة، أَلا تتقون اللَّه! فبقروا بطنها، وقتلوا ثلاث نسوة من طيئ، وقتلوا أم سنان الصيداوية، فبلغ ذَلِكَ عَلِيًّا ومن مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ من قتلهم عَبْد اللَّهِ بن خباب، واعتراضهم الناس، فبعث إِلَيْهِم الْحَارِث بن مُرَّةَ العبدي ليأتيهم فينظر فِيمَا بلغه عَنْهُمْ، ويكتب بِهِ إِلَيْهِ عَلَى وجهه، وَلا يكتمه فخرج حَتَّى انتهى إِلَى النهر ليسائلهم، فخرج القوم إِلَيْهِ فقتلوه، وأتى الخبر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ والناس، فقام إِلَيْهِ الناس، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، علام تدع هَؤُلاءِ وراءنا يخلفوننا فِي أموالنا وعيالنا! سر بنا إِلَى القوم فإذا فرغنا مما بيننا وبينهم سرنا إِلَى عدونا من أهل الشام. وقام إِلَيْهِ الأشعث بن قيس الكندي فكلمه بمثل ذَلِكَ وَكَانَ الناس يرون أن الأشعث يرى رأيهم لأنه كَانَ يقول يوم صفين: أنصفنا قوم يدعون إِلَى كتاب اللَّه، فلما أمر عَلِيًّا بالمسير إِلَيْهِم علم الناس أنه لَمْ يَكُنْ يرى رأيهم فأجمع عَلَى ذَلِكَ، فنادى بالرحيل،

وخرج فعبر الجسر فصلى ركعتين بالقنطرة، ثُمَّ نزل دير عبد الرَّحْمَن، ثُمَّ دير أبي مُوسَى، ثُمَّ أخذ عَلَى قرية شاهي، ثُمَّ عَلَى دباها، ثُمَّ عَلَى شاطئ الفرات، فلقيه فِي مسيره ذَلِكَ منجم، أشار عَلَيْهِ بسير وقت من النهار، وَقَالَ لَهُ: إن سرت فِي غير ذَلِكَ الوقت لقيت أنت وأَصْحَابك ضرا شديدا فخالفه، وسار فِي الوقت الَّذِي نهاه عن السير فِيهِ، [فلما فرغ من النهر حمد اللَّه وأثنى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: لو سرنا فِي الساعة الَّتِي أمرنا بِهَا المنجم لقال الجهال الَّذِينَ لا يعلمون: سار فِي الساعة الَّتِي أمره بِهَا المنجم فظفر] . قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي يُوسُف بن يَزِيدَ، عن عَبْد اللَّهِ بن عوف، قَالَ: لما أراد علي المسير إِلَى أهل النهر من الأنبار، قدم قيس بن سَعْدِ بْنِ عبادة وأمره أن يأتي المدائن فينزلها حَتَّى يأمره بأمره، ثُمَّ جَاءَ مقبلا إِلَيْهِم، ووافاه قيس وسعد بن مسعود الثقفي بالنهر، [وبعث إِلَى أهل النهر: ادفعوا إلينا قتلة إخواننا مِنْكُمْ نقتلهم بهم، ثُمَّ أنا تارككم وكاف عنكم حَتَّى ألقى أهل الشام، فلعل اللَّه يقلب قلوبكم، ويردكم إِلَى خير مما أنتم عَلَيْهِ من أمركم فبعثوا إِلَيْهِ، فَقَالُوا: كلنا قتلتهم، وكلنا نستحل دماءهم ودماءكم] . قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي الْحَارِث بن حصيرة، عن عبد الرَّحْمَن بن عبيد أبي الكنود، أن قيس بن سَعْدِ بْنِ عبادة قَالَ لَهُمْ: عباد اللَّه، أخرجوا إلينا طلبتنا مِنْكُمْ، وادخلوا فِي هَذَا الأمر الَّذِي مِنْهُ خرجتم، وعودوا بنا إِلَى قتال عدونا وعدوكم، فإنكم ركبتم عظيما من الأمر، تشهدون علينا بالشرك، والشرك ظلم عظيم، وتسفكون دماء الْمُسْلِمِينَ، وتعدونهم مشركين! فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن شجرة السلمي: إن الحق قَدْ أضاء لنا، فلسنا نتابعكم أو تأتونا بمثل عمر، فَقَالَ: مَا نعلمه فينا غير صاحبنا، فهل تعلمونه فيكم؟ وَقَالَ: نشدتكم بِاللَّهِ فِي أنفسكم أن تهلكوها، فإني لأرى الْفِتْنَة قَدْ غلبت عَلَيْكُمْ!

وخطبهم أَبُو أيوب خَالِد بن زَيْد الأَنْصَارِيّ، فَقَالَ: عباد اللَّه، إنا وإياكم عَلَى الحال الأولى الَّتِي كنا عَلَيْهَا، ليست بيننا وبينكم فرقة، فعلام تقاتلوننا؟ فَقَالُوا: إنا لو بايعناكم الْيَوْم حكمتم غدا قَالَ: فإني أنشدكم اللَّه أن تعجلوا فتنة العام مخافة مَا يأتي فِي قابل. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي مالك بن أعين، عن زَيْد بن وهب، أن عَلِيًّا أتى أهل النهر فوقف عَلَيْهِم فَقَالَ: أيتها العصابة الَّتِي أخرجتها عداوة المراء واللجاجة، وصدها عن الحق الهوى، وطمح بِهَا النزق، وأصبحت فِي اللبس والخطب العظيم، إني نذير لكم أن تصبحوا تلفيكم الأمة غدا صرعى بأثناء هَذَا النهر، وبأهضام هَذَا الغائط، بغير بينة من ربكم، وَلا برهان بين ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة، وأخبرتكم أن طلب القوم إياها مِنْكُمْ دهن ومكيدة لكم! ونبأتكم أن القوم ليسوا بأَصْحَاب دين وَلا قرآن، وأني أعرف بهم مِنْكُمْ، عرفتهم أطفالا ورجالا، فهم أهل المكر والغدر، وأنكم إن فارقتم رأيي جانبتم الحزم! فعصيتموني، حَتَّى أقررت بأن حكمت، فلما فعلت شرطت واستوثقت، فأخذت عَلَى الحكمين أن يحييا مَا أحيا القرآن، وأن يميتا مَا أمات القرآن، فاختلفا وخالفا حكم الكتاب والسنة، فنبذنا أمرهما، ونحن عَلَى أمرنا الأول، فما الَّذِي بكم؟ ومن أين أتيتم! قَالُوا: إنا حكمنا، فلما حكمنا أثمنا، وكنا بِذَلِكَ كافرين، وَقَدْ تبنا فإن تبت كما تبنا فنحن مِنْكَ ومعك، وإن أبيت فاعتزلنا فإنا منابذوك عَلَى سواء إن اللَّه لا يحب الخائنين فَقَالَ علي: أصابكم حاصب، وَلا بقي مِنْكُمْ وابر! [أبعد إيماني برسول الله ص وهجرتي مَعَهُ، وجهادي فِي سبيل اللَّه، أشهد عَلَى نفسي بالكفر! لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ثُمَّ انصرف عَنْهُمْ] . قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو سلمة الزُّهْرِيّ- وكانت أمه بنت انس ابن مالك- أن عَلِيًّا قَالَ لأهل النهر: يَا هَؤُلاءِ، إن أنفسكم قَدْ سولت

لكم فراق هَذِهِ الحكومة الَّتِي أنتم ابتدأتموها وسألتموها وأنا لها كاره، وأنبأتكم أن القوم سالوكموها مكيده ود هنا، فأبيتم علي إباء المخالفين، وعدلتم عني عدول النكداء العاصين، حَتَّى صرفت رأيي إِلَى رأيكم، وَأَنْتُمْ وَاللَّهِ معاشر أخفاء الهام، سفهاء الأحلام، فلم آت- لا أبا لكم- حراما وَاللَّهِ مَا خبلتكم عن أموركم، وَلا أخفيت شَيْئًا من هَذَا الأمر عنكم، وَلا أوطأتكم عشوة، وَلا دنيت لكم الضراء، وإن كَانَ أمرنا لأمر الْمُسْلِمِينَ ظاهرا، فأجمع رأي ملئكم عَلَى أن اختاروا رجلين، فأخذنا عليهما أن يحكما بِمَا فِي القرآن وَلا يعدواه، فتاها وتركا الحق وهما يبصرانه، وَكَانَ الجور هواهما، وَقَدْ سبق استيثاقنا عليهما فِي الحكم بالعدل، والصد للحق سوء رأيهما، وجور حكمهما والثقة فِي أيدينا لأنفسنا حين خالفا سبيل الحق، وأتيا بِمَا لا يعرف، فبينوا لنا بماذا تستحلون قتالنا، والخروج من جماعتنا، إن اختار الناس رجلين أن تضعوا أسيافكم عَلَى عواتقكم، ثُمَّ تستعرضوا الناس، تضربون رقابهم، وتسفكون دماءهم! إن هَذَا لهو الخسران المبين وَاللَّهِ لو قتلتم عَلَى هَذَا دجاجة لعظم عِنْدَ اللَّه قتلها، فكيف بالنفس الَّتِي قتلها عِنْدَ اللَّه حرام! فتنادوا: لا تخاطبوهم، وَلا تكلموهم، وتهيئوا للقاء الرب، الرواح الرواح إِلَى الجنة! فخرج علي فعبأ الناس، فجعل عَلَى ميمنته حجر بن عدي، وعلى ميسرته شبث بن ربعي- أو معقل بن قيس الرياحي- وعلى الخيل أبا أيوب الأَنْصَارِيّ، وعلى الرجالة أبا قَتَادَة الأَنْصَارِيّ، وعلى أهل المدينة- وهم سبعمائة او ثمانمائه رجل- قيس بن سَعْدِ بْنِ عبادة. قَالَ: وعبأت الخوارج، فجعلوا عَلَى ميمنتهم زَيْد بن حصين الطَّائِيّ، وعلى الميسرة شريح بن أوفى العبسي، وعلى خيلهم حمزة بن سنان الأسدي، وعلى الرجالة حُرْقُوص بن زهير السعدي

قَالَ: وبعث علي الأسود بن يَزِيدَ المرادي فِي ألفي فارس، حَتَّى أتى حمزة بن سنان وهو في ثلاثمائة فارس من خيلهم، ورفع علي راية أمان مع أبي أيوب، فناداهم أَبُو أيوب: من جَاءَ هَذِهِ الراية مِنْكُمْ ممن لم يقتل ولم يستعرض فهو آمن، ومن انصرف مِنْكُمْ إِلَى الْكُوفَةِ أو إِلَى المدائن وخرج من هَذِهِ الجماعة فهو آمن، إنه لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة إخواننا مِنْكُمْ فِي سفك دمائكم فَقَالَ فروة بن نوفل الأشجعي: وَاللَّهِ مَا أدري عَلَى أي شَيْء نقاتل عَلِيًّا! لا أَرَى إلا أن أنصرف حَتَّى تنفذ لي بصيرتي فِي قتاله أو اتباعه. وانصرف في خمسمائة فارس، حتى نزل البندنيجين والد سكره، وخرجت طائفة أخرى متفرقين فنزلت الْكُوفَة، وخرج إِلَى علي مِنْهُمْ نحو من مائة، وكانوا أربعة آلاف، فكان الَّذِينَ بقوا مع عَبْد الله بن وهب منهم الفين وثمانمائه، وزحفوا إِلَى علي، وقدم علي الخيل دون الرجال، وصف الناس وراء الخيل صفين، وصف المرامية أمام الصف الأول، وَقَالَ لأَصْحَابه: كفوا عَنْهُمْ حَتَّى يبدءوكم، فإنهم لو قَدْ شدوا عَلَيْكُمْ- وجلهم رجال- لم ينتهوا إليكم إلا لاغبين وَأَنْتُمْ رادون حامون وأقبلت الخوارج، فلما أن دنوا مِنَ النَّاسِ نادوا يَزِيد بن قيس، فكان يَزِيد بن قيس عَلَى أصبهان فَقَالُوا: يَا يَزِيد بن قيس، لا حكم إلا لِلَّهِ، وإن كرهت إصبهان! فناداهم عباس ابن شريك وقبيصة بن ضبيعة العبسيان: يَا أعداء الله، اليس فيكم شريح ابن أوفى المسرف عَلَى نفسه؟ هل أنتم إلا أشباهه! قَالُوا: وما حجتكم عَلَى رجل كَانَتْ فِيهِ فتنة، وفينا توبة! ثُمَّ تنادوا: الرواح الرواح إِلَى الجنة! فشدوا عَلَى الناس والخيل أمام الرجال، فلم تثبت خيل الْمُسْلِمِينَ لشدتهم، وافترقت الخيل فرقتين: فرقة نحو الميمنة، وأخرى نحو الميسرة، وأقبلوا نحو الرجال، فاستقبلت المرامية وجوههم بالنبل، وعطفت عَلَيْهِم الخيل من الميمنة والميسره، ونهض اليهم الرجال بالرماح والسيوف، فو الله مَا لبثوهم أن أناموهم. ثُمَّ إن حمزة بن سنان صاحب خيلهم لما رَأَى الهلاك نادى أَصْحَابه أن انزلوا، فذهبوا لينزلوا فلم يتقاروا حَتَّى حمل عَلَيْهِم الأسود بن قيس المرادي، وجاءتهم الخيل من نحو علي، فأهمدوا في الساعة

قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي عَبْد الْمَلِكِ بن مسلم بن سلام بن ثمامة الحنفي، عن حكيم بن سَعْدٍ، قَالَ: مَا هُوَ إلا أن لقينا أهل الْبَصْرَة، فما لبثناهم، فكأنما قيل لَهُمْ: موتوا، فماتوا قبل أن تشتد شوكتهم، وتعظم نكايتهم. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي أَبُو جناب، أن أبا أيوب أتى عَلِيًّا، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قتلت زَيْد بن حصين، قَالَ: فما قلت لَهُ وما قَالَ لك؟ قَالَ: طعنته بالرمح فِي صدره حَتَّى نجم من ظهره، قَالَ: وقلت لَهُ: أبشر يَا عدو اللَّه بالنار! قَالَ: ستعلم أينا أولى بِهَا صليا، فسكت علي عَلَيْهَا. قَالَ أَبُو مخنف، عن أبي جناب: أن عَلِيًّا قَالَ لَهُ: هُوَ أولى لها صليا. قَالَ: وجاء عائذ بن حملة التميمي، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قتلت كلابا، قَالَ: أحسنت! أنت محق قتلت مبطلا وجاء هاني بن خطاب الأرحبي وزياد بن خصفة يحتجان فِي قتل عَبْد اللَّهِ بن وهب الراسبي، فَقَالَ لهما: كيف صنعتما؟ فقالا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لما رأيناه عرفناه، وابتدرناه فطعناه برمحينا، فَقَالَ علي: لا تختلفا، كلاكما قاتل وشد جيش بن رَبِيعَة أَبُو المعتمر الكناني عَلَى حُرْقُوص بن زهير فقتله، وشد عَبْد اللَّهِ بن زحر الخولاني عَلَى عَبْد اللَّهِ بن شجرة السلمي فقتله، ووقع شريح بن أوفى إِلَى جانب جدار، فقاتل عَلَى ثلمة فِيهِ طويلا من نهار، وَكَانَ قتل ثلاثة من همدان، فأخذ يرتجز ويقول: قَدْ علمت جارية عبسيه ناعمة فِي أهلها مكفيه أني سأحمي ثلمتي العشيه فشد عَلَيْهِ قيس بن مُعَاوِيَة الدهني فقطع رجله، فجعل يقاتلهم، ويقول: القرم يحمي شوله معقولا. ثُمَّ شد عَلَيْهِ قيس بن مُعَاوِيَة فقتله، فَقَالَ الناس: اقتتلت همدان يَوْمًا ورجل اقتتلوا من غدوة حَتَّى الأصل

ففتح اللَّه لهمدان الرجل وَقَالَ شريح: أضربهم ولو أَرَى أبا حسن ضربته بالسيف حَتَّى يطمئن وَقَالَ: أضربهم ولو أَرَى عَلِيًّا ألبسته أبيض مشرفيا قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي عَبْد الْمَلِكِ بن أبي حرة، [أن عَلِيًّا خرج فِي طلب ذي الثدية وَمَعَهُ سُلَيْمَان بن ثمامة الحنفي أَبُو جبرة، والريان بن صبرة ابن هوذة، فوجده الريان بن صبرة بن هوذة فِي حفرة عَلَى شاطئ النهر فِي أربعين أو خمسين قتيلا قَالَ: فلما استخرج نظر إِلَى عضده، فإذا لحم مجتمع عَلَى منكبه كثدي المرأة، لَهُ حلمة عَلَيْهَا شعرات سود، فإذا مدت امتدت حَتَّى تحاذي طول يده الأخرى، ثُمَّ تترك فتعود إِلَى منكبه كثدي المرأة، فلما استخرج قَالَ علي: اللَّه أكبر! وَاللَّهِ مَا كذبت وَلا كذبت، أما وَاللَّهِ لولا أن تنكلوا عن العمل، لأخبرتكم بِمَا قضى الله على لسان نبيه ص لمن قاتلهم مستبصرا فِي قتالهم، عارفا للحق الذى نحن عليه. قال: ثم بر وهم صرعى فَقَالَ: بؤسا لكم! لقد ضركم من غركم، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، من غرهم؟ قَالَ: الشَّيْطَان، وأنفس بالسوء أمارة، غرتهم بالأماني، وزينت لَهُمُ المعاصي، ونبأتهم أَنَّهُمْ ظاهرون] قَالَ: وطلب من بِهِ رمق مِنْهُمْ فوجدناهم أربعمائة رجل، فأمر بهم علي فدفعوا إِلَى عشائرهم، وَقَالَ: احملوهم معكم فداووهم، فإذا برئوا فوافوا بهم الْكُوفَة، وخذوا مَا فِي عسكرهم من شَيْء. قَالَ: وأما السلاح والدواب وما شهدوا بِهِ عَلَيْهِ الحرب فقسمه بين الْمُسْلِمِينَ، وأما المتاع والعبيد والإماء فإنه حين قدم رده عَلَى أهله. وطلب عدي بن حاتم ابنه طرفة فوجده، فدفنه، ثُمَّ قَالَ: الحمد لِلَّهِ الَّذِي ابتلاني بيومك عَلَى حاجتي إليك ودفن رجال مِنَ النَّاسِ قتلاهم،

فَقَالَ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ حين بلغه ذَلِكَ: ارتحلوا إذا، أتقتلونهم ثُمَّ تدفنونهم! فارتحل الناس. قَالَ أَبُو مخنف عن مجاهد، عن المحل بن خليفة: أن رجلا مِنْهُمْ من بني سدوس يقال لَهُ العيزار بن الأخنس كَانَ يرى رأي الخوارج، خرج إِلَيْهِم، فاستقبل وراء المدائن عدي بن حاتم وَمَعَهُ الأسود بن قيس والأسود بن يَزِيدَ المراديان، فَقَالَ لَهُ العيزار حين استقبله: أسالم غانم، أم ظالم آثم؟ فَقَالَ عدي: لا، بل سَالم غانم، فَقَالَ له المراديان: ما قلت هَذَا إلا لشر فِي نفسك، وإنك لنعرفك يَا عيزار برأي القوم، فلا تفارقنا حَتَّى نذهب بك إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فنخبره خبرك فلم يكن بأوشك أن جَاءَ علي فأخبراه خبره، وقالا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنه يرى رأي القوم، قَدْ عرفناه بِذَلِكَ، فَقَالَ: مَا يحل لنا دمه، ولكنا نحبسه، فَقَالَ عدي بن حاتم: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ادفعه الى وانا اضمن الا يأتيك من قبله مكروه فدفعه إِلَيْهِ. قَالَ ابو مخنف: حدثنى عمران بن حدير، عن أبي مجلز، عن عبد الرَّحْمَن بن جندب بن عَبْدِ اللَّهِ، إنه لم يقتل من أَصْحَاب علي إلا سبعة. قَالَ أَبُو مخنف، عن نمير بن وعله اليناعى، عن أبي درداء، قَالَ: كَانَ علي لما فرغ من أهل النهروان حمد اللَّه وأثنى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إن اللَّه قَدْ أحسن بكم، وأعز نصركم، فتوجهوا من فوركم هَذَا إِلَى عدوكم قَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، نفدت نبالنا، وكلت سيوفنا، ونصلت أسنة رماحنا، وعاد أكثرها قصدا، فارجع إِلَى مصرنا، فلنستعد بأحسن عدتنا، ولعل أَمِير الْمُؤْمِنِينَ يَزِيد فِي عدتنا عده من هلك منا، فإنه أوفى لنا عَلَى عدونا وَكَانَ الَّذِي تولى ذَلِكَ الكلام الأشعث بن قيس، فأقبل حَتَّى نزل النخيلة، فأمر الناس أن يلزموا عسكرهم، ويوطنوا عَلَى الجهاد أنفسهم، وأن يقلوا زيارة نسائهم وأبنائهم حَتَّى يسيروا إِلَى عدوهم، فأقاموا فِيهِ أياما، ثم

تسللوا من معسكرهم، فدخلوا إلا رجالا من وجوه الناس قليلا، وترك العسكر خاليا، فلما رَأَى ذَلِكَ دخل الْكُوفَة، وانكسر عَلَيْهِ رأيه فِي المسير. قَالَ أَبُو مخنف عمن ذكره، عن زيد بن وهب: أن عليا قال لِلنَّاسِ- وَهُوَ أول كلام قاله لَهُمْ بعد النهر: أَيُّهَا النَّاسُ، استعدوا للمسير إِلَى عدو فِي جهاده القربة إِلَى اللَّهِ ودرك الوسيلة عنده حيارى فِي الحق، جفاة عن الكتاب، نكب عن الدين، يعمهون فِي الطغيان، ويعكسون في غمره الضلال، ف أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ، وتوكلوا عَلَى اللَّه، وكفى بِاللَّهِ وكيلا، وكفى بالله نصيرا! قال: فلاهم نفروا وَلا تيسروا، فتركهم أياما حَتَّى إذا أيس من أن يفعلوا، دعا رؤساءهم ووجوههم، فسألهم عن رأيهم، وما الَّذِي ينظرهم، فمنهم المعتل، ومنهم المكره، وأقلهم من نشط فقام فِيهِمْ خطيبا، فَقَالَ: عباد اللَّه، مَا لكم إذا أمرتكم أن تنفروا اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ! أرضيتم بالحياة الدُّنْيَا من الآخرة، وبالذل والهوان من العز! أو كلما ندبتكم إِلَى الجهاد دارت أعينكم كأنكم من الموت فِي سكرة، وكأن قلوبكم مألوسة فأنتم لا تعقلون! وكأن أبصاركم كمه فأنتم لا تبصرون لِلَّهِ أنتم! مَا أنتم إلا أسود الشرى فِي الدعة، وثعالب رواغة حين تدعون إِلَى البأس. مَا أنتم لي بثقة سجيس الليالي، مَا أنتم بركب يصال بكم، وَلا ذي عز يعتصم إِلَيْهِ لعمر اللَّه، لبئس حشاش الحرب أنتم! إنكم تكادون وَلا تكيدون، ويتنقص أطرافكم وَلا تتحاشون، وَلا ينام عنكم وَأَنْتُمْ فِي غفلة ساهون، إن أخا الحرب اليقظان ذو عقل، وبات لذل من وادع، وغلب المتجادلون، والمغلوب مقهور ومسلوب ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن لي عليكم

حقا، وإن لكم علي حقا، فأما حقكم على فالنصيحة لكم مَا صحبتكم، وتوفير فيئكم عَلَيْكُمْ، وتعليمكم كيما لا تجهلوا، وتأديبكم كي تعلموا، وأما حقي عَلَيْكُمْ فالوفاء بالبيعة، والنصح لي فِي الغيب والمشهد، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم، فإن يرد اللَّه بكم خيرا انتزعتم عما أكره، وتراجعوا إِلَى مَا أحب، تنالوا مَا تطلبون، وتدركوا مَا تأملون. وَكَانَ غير أبي مخنف يقول: كَانَتِ الوقعة بين علي وأهل النهر سنة ثمان وثلاثين، وهذا القول عَلَيْهِ أكثر أهل السير. ومما يصححه أَيْضًا مَا حَدَّثَنِي بِهِ عُمَارَةَ الأَسَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا نعيم، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو مريم أن شبث بن ربعي وابن الكواء خرجا من الْكُوفَة إِلَى حروراء، فأمر علي الناس أن يخرجوا بسلاحهم، فخرجوا إِلَى الْمَسْجِدِ حَتَّى امتلأ بهم، فأرسل إِلَيْهِم: بئس مَا صنعتم حين تدخلون المسجد بسلاحكم! اذهبوا إِلَى جبانة مراد حَتَّى يأتيكم أمري. قَالَ أَبُو مريم: فانطلقنا إِلَى جبانة مراد فكنا بِهَا ساعة من نهار، ثُمَّ بلغنا أن القوم قَدْ رجعوا وهم زاحفون قَالَ: فقلت: أنطلق أنا حَتَّى أنظر إِلَيْهِم، فانطلقت حَتَّى أتخلل صفوفهم، حَتَّى انتهيت إِلَى شبث بن ربعي وابن الكواء وهما واقفان متوركان عَلَى دابتيهما، وعندهما رسل علي وهم يناشدونهما اللَّه لما رجعا بِالنَّاسِ! ويقولون لَهُمْ: نعيذكم بِاللَّهِ أن تعجلوا بفتنة العام خشية عام قابل. فقام رجل إِلَى بعض رسل علي فعقر دابته، فنزل الرجل وَهُوَ يسترجع، فحمل سرجه، فانطلق بِهِ وهم يقولون: مَا طلبنا إلا منابذتهم، وهم يناشدونهم اللَّه، فمكثنا ساعة، ثُمَّ انصرفوا إِلَى الْكُوفَةِ كأنه يوم فطر أو أضحى. [قَالَ: وَكَانَ علي يحدثنا قبل ذَلِكَ أن قوما يخرجون من الإِسْلام يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، علامتهم رجل مخدج اليد] قَالَ: وسمعت ذَلِكَ مِنْهُ مرارا كثيرة، قَالَ: وسمعه نافع المخدج أَيْضًا- حَتَّى رأيته يتكره طعامه من كثرة مَا سمعه، يقول: وَكَانَ نافع معنا يصلي فِي المسجد بالنهار ويبيت فِيهِ بالليل، وَقَدْ كنت كسوته برنسا، فلقيته من الغد، فسألته: هل كَانَ

خرج مع الناس الَّذِينَ خرجوا إِلَى حروراء؟ فَقَالَ: خرجت أريدهم حَتَّى إذا بلغت إِلَى بني سعد، لقيني صبيان فنزعوا سلاحي، وتلعبوا بي، فرجعت حَتَّى إذا كَانَ الحول أو نحوه خرج أهل النهر، وسار علي إِلَيْهِم، فلم أخرج مَعَهُ وخرج أخي أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ: فأخبرني أَبُو عَبْد اللَّهِ أن عَلِيًّا سار إِلَيْهِم حَتَّى إذا كَانَ حذاءهم عَلَى شط النهروان أرسل إِلَيْهِم يناشدهم اللَّه ويأمرهم أن يرجعوا، فلم تزل رسله تختلف إِلَيْهِم، حَتَّى قتلوا رسوله، فلما رَأَى ذَلِكَ نهض إِلَيْهِم فقاتلهم حَتَّى فرغ مِنْهُمْ، [ثُمَّ أمر أَصْحَابه أن يلتمسوا المخدج، فالتمسوه، فَقَالَ بعضهم: مَا نجده، حَتَّى قَالَ بعضهم: لا، مَا هُوَ فِيهِمْ ثُمَّ إنه جَاءَ رجل فبشره وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ وجدناه تحت قتيلين فِي ساقية فَقَالَ: اقطعوا يده المخدجة، وأتوني بِهَا، فلما أتي بِهَا أخذها ثُمَّ رفعها، وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا كذبت وَلا كذبت] . قَالَ أَبُو جَعْفَر: فقد أنبأ أَبُو مريم بقوله: فرجعت حَتَّى إذا كَانَ الحول أو نحوه، خرج أهل النهر، أن الحرب الَّتِي كَانَتْ بين علي وأهل حروراء كَانَتْ فِي السنة الَّتِي بعد السنة الَّتِي كَانَ فِيهَا إنكار أهل حروراء عَلَى علي التحكيم، وَكَانَ ابتداء ذَلِكَ فِي سنة سبع وثلاثين عَلَى مَا قَدْ ثبت قبل، وإذا كَانَ كذلك، وَكَانَ الأمر عَلَى مَا روينا من الخبر عن أبي مريم، كَانَ معلوما أن الوقعة كَانَتْ بينه وبينهم فِي سنة ثمان وثلاثين. وذكر عَلِيّ بْن مُحَمَّدٍ، عن عَبْد اللَّهِ بن ميمون، عَنْ عَمْرِو بْنِ شجيرة، عن جابر، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: بعث علي بعد ما رجع من صفين جعدة ابن هبيرة المخزومي، وأم جعدة أم هانئ بنت أبي طالب- إِلَى خُرَاسَان، فانتهى إِلَى أَبْرَشَهْر وَقَدْ كفروا وامتنعوا، فقدم عَلَى علي، فبعث خليد بن قرة اليربوعي فحاصر أهل نيسابور حَتَّى صالحوه، وصالحه أهل مرو. وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة- أعني سنة سبع وثلاثين- عبيد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ، وَكَانَ عامل علي عَلَى اليمن ومخاليفها وَكَانَ عَلَى مكة والطائف قثم بن

العباس، وعلى الْمَدِينَة سَهْل بن حنيف الأَنْصَارِيّ، وقيل: كان عليها تمام ابن العباس وَكَانَ عَلَى الْبَصْرَة عَبْد اللَّهِ بن العباس، وعلى قضائها أَبُو الأسود الدؤلي، وعلى مصر مُحَمَّد بن أبي بكر، وعلى خُرَاسَان خليد بن قرة اليربوعي. وقيل: إن عَلِيًّا لما شخص إِلَى صفين استخلف عَلَى الْكُوفَة أبا مسعود الأَنْصَارِيّ، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ لَيْثًا ذَكَرَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ عَلِيٌّ إِلَى صفين استخلف على الكوفة أبا مسعود الأنصاري عُقْبَةَ بْنَ عَمْرٍو وَأَمَّا الشَّامُ فَكَانَ بِهَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ

سنه ثمان وثلاثين

ثُمَّ دخلت سنة ثمان وثلاثين ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث فمما كَانَ فِيهَا مقتل مُحَمَّد بن أبي بكر بمصر، وَهُوَ عامل عَلَيْهَا، وَقَدْ ذكرنا سبب تولية علي إِيَّاهُ مصر، وعزل قيس بن سَعْد عنها، ونذكر الآن سبب قتله، وأين قتل؟ وكيف كَانَ أمره؟ ونبدأ بذكر من تتمة حديث الزُّهْرِيّ الَّذِي قَدْ ذكرنا أوله قبل، وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ، عن يونس، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: لما حدث قيس بن سَعْد بمجيء مُحَمَّد بن أبي بكر، وأنه قادم عَلَيْهِ أميرا، تلقاه وخلا بِهِ وناجاه، فَقَالَ: إنك جئت من عِنْدَ امرئ لا رأي لَهُ، وليس عزلكم إياي بمانعي أن أنصح لكم، وأنا من أمركم هَذَا عَلَى بصيرة، وإني فِي ذَلِكَ عَلَى الَّذِي كنت أكايد بِهِ مُعَاوِيَة وعمرا وأهل خربتا، فكايدهم بِهِ، فإنك إن تكايدهم بغيره تهلك ووصف قيس ابن سَعْد المكايدة الَّتِي كَانَ يكايدهم بِهَا، واغتشه مُحَمَّد بن أبي بكر، وخالف كل شَيْء أمره بِهِ فلما قدم مُحَمَّد بن أبي بكر وخرج قيس قبل الْمَدِينَة بعث مُحَمَّد أهل مصر إِلَى خربتا، فاقتتلوا، فهزم مُحَمَّد بن أبي بكر، فبلغ ذَلِكَ مُعَاوِيَة وعمرا، فسارا بأهل الشام حَتَّى افتتحا مصر، وقتلا مُحَمَّد بن أبي بكر، ولم تزل فِي حيز مُعَاوِيَة، حَتَّى ظهر وقدم قيس بن سَعْد الْمَدِينَة، فأخافه مَرْوَان والأسود بن أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، حَتَّى إذا خاف أن يؤخذ أو يقتل ركب راحلته، وظهر إِلَى علي فكتب مُعَاوِيَة إِلَى مَرْوَان والأسود يتغيظ عليهما ويقول: أمددتما عَلِيًّا بقيس بن سَعْدٍ ورأيه ومكايدته، فو الله لو أنكما أمددتماه بمائة ألف مقاتل مَا كَانَ بأغيظ إلي من إخراجكما قيس بن سَعْد إِلَى علي فقدم قيس بن سَعْد عَلَى علي، فلما باثه الحديث، وجاءهم قتل مُحَمَّد بن أبي بكر، عرف أن قيس بن سَعْد كَانَ يوازي أمورا عظاما من المكايدة، وأن من كَانَ يشير عَلَيْهِ بعزل قيس بن سَعْد لم ينصح لَهُ. وأما مَا قَالَ فِي ابتداء أمر مُحَمَّد بن أبي بكر فِي مصيره إِلَى مصر وولايته

إياها أَبُو مخنف، فقد تقدم ذكرنا لَهُ، ونذكر الآن بقية خبره فِي روايته مَا روي من ذَلِكَ عن يَزِيد بن ظبيان الهمداني، قَالَ: ولما قتل أهل خربتا ابن مضاهم الكلبي الَّذِي وجهه إِلَيْهِم مُحَمَّد بن أبي بكر، خرج مُعَاوِيَة بن حديج الكندي ثُمَّ السكوني، فدعا إِلَى الطلب بدم عُثْمَان، فأجابه ناس آخرون، وفسدت مصر عَلَى مُحَمَّد بن أبي بكر، فبلغ عَلِيًّا وثوب أهل مصر عَلَى مُحَمَّد بن أبي بكر، واعتمادهم إِيَّاهُ، فَقَالَ: مَا لمصر إلا أحد الرجلين! صاحبنا الَّذِي عزلناه عنها- يعني قيسا- أو مالك بن الْحَارِث- يعني الأَشْتَر قَالَ: وَكَانَ علي حين انصرف من صفين رد الأَشْتَر عَلَى عمله بالجزيرة، وَقَدْ كَانَ قَالَ لقيس بن سعد: أقم معى على شرطى حَتَّى نفرغ من أمر هَذِهِ الحكومة، ثُمَّ أخرج إِلَى أذربيجان، فإن قيسا مقيم مع علي عَلَى شرطته فلما انقضى أمر الحكومة كتب علي إِلَى مالك بن الْحَارِث الأَشْتَر، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بنصيبين: أَمَّا بَعْدُ، فإنك ممن استظهرته عَلَى إقامة الدين، وأقمع بِهِ نخوة الأثيم، وأشد بِهِ الثغر المخوف وكنت وليت مُحَمَّد بن أبي بكر مصر، فخرجت عَلَيْهِ بِهَا خوارج، وَهُوَ غلام حدث ليس بذي تجربة للحرب، وَلا بمجرب للأشياء، فاقدم علي لننظر فِي ذَلِكَ فِيمَا ينبغي، واستخلف عَلَى عملك أهل الثقة والنصيحة من أَصْحَابك والسلام. [فأقبل مالك إِلَى علي حَتَّى دخل عَلَيْهِ، فحدثه حديث أهل مصر، وخبره خبر أهلها، وَقَالَ: ليس لها غيرك، اخرج رحمك اللَّه! فإني إن لم أوصك اكتفيت برأيك واستعن بِاللَّهِ عَلَى مَا أهمك، فاخلط الشدة باللين، وارفق مَا كَانَ الرفق أبلغ، واعتزم بالشدة حين لا يغني عنك إلا الشدة] . قَالَ: فخرج الأَشْتَر من عِنْدَ علي فأتى رحله، فتهيأ للخروج إِلَى مصر، وأتت مُعَاوِيَة عيونه، فأخبروه بولاية علي الأَشْتَر، فعظم ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ طمع فِي مصر، فعلم أن الاشتر ان قدمها كان أشد عليه من محمد ابن أبي بكر، فبعث مُعَاوِيَة إِلَى الجايستار- رجل من أهل الخراج- فَقَالَ لَهُ: إن الأَشْتَر قَدْ ولي مصر، فإن أنت كفيتنيه لم آخذ مِنْكَ خراجا مَا بقيت، فاحتل لَهُ بِمَا قدرت عَلَيْهِ فخرج الجايستار حَتَّى أتى القلزم

وأقام بِهِ، وخرج الأَشْتَر من العراق إِلَى مصر، فلما انتهى إِلَى القلزم استقبله الجايستار، فَقَالَ: هَذَا منزل، وهذا طعام وعلف، وأنا رجل من أهل الخراج، فنزل بِهِ الأَشْتَر، فأتاه الدهقان بعلف وطعام، حَتَّى إذا طعم أتاه بشربة من عسل قَدْ جعل فِيهَا سما فسقاه اياه، فلما شربها مات وأقبل مُعَاوِيَة يقول لأهل الشام: إن عَلِيًّا وجه الأَشْتَر إِلَى مصر، فادعوا اللَّه أن يكفيكموه قَالَ: فكانوا كل يوم يدعون اللَّه عَلَى الأَشْتَر، وأقبل الَّذِي سقاه إِلَى مُعَاوِيَةَ فأخبره بمهلك الأَشْتَر، فقام مُعَاوِيَة فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإنه كَانَتْ لعلي بن أبي طالب يدان يمينان، قطعت إحداهما يوم صفين- يعني عمار بن ياسر- وقطعت الأخرى الْيَوْم- يعني الأَشْتَر. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي فضيل بن خديج، عن مولى للأشتر، قَالَ: لما هلك الأَشْتَر وجدنا فِي ثقله رسالة علي إِلَى أهل مصر: بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من عَبْد اللَّه علي أَمِير الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أمة الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ غضبوا لِلَّهِ حين عصي فِي الأرض، وضرب الجور بأرواقه عَلَى البر والفاجر، فلا حق يستراح إِلَيْهِ، وَلا منكر يتناهى عنه سلام عَلَيْكُمْ، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هُوَ [أَمَّا بَعْدُ فقد بعثت إليكم عبدا من عُبَيْد اللَّهِ لا ينام أيام الخوف، وَلا ينكل عن الأعادي حذار الدوائر، أشد عَلَى الكفار من حريق النار، وَهُوَ مالك بن الْحَارِث أخو مذحج، فاسمعوا لَهُ وأطيعوا، فإنه سيف من سيوف اللَّه، لا نابي الضريبة، وَلا كليل الحد، فإن أمركم أن تقدموا فأقدموا، وإن أمركم أن تنفروا فانفروا، فإنه لا يقدم وَلا يحجم إلا بأمري، وَقَدْ آثرتكم بِهِ عَلَى نفسي لنصحه لكم، وشدة شكيمته عَلَى عدوكم، عصمكم اللَّه بالهدى، وثبتكم عَلَى اليقين] والسلام. قَالَ: ولما بلغ محمد بن ابى بكر ان عليا قَدْ بعث الأَشْتَر شق عَلَيْهِ، فكتب علي إِلَى مُحَمَّد بن أبي بكر عِنْدَ مهلك الأَشْتَر، وَذَلِكَ حين بلغه موجدة مُحَمَّد بن أبي بكر لقدوم الأَشْتَر عَلَيْهِ: بِسْمِ اللَّه الرحمن الرحيم،

من عَبْد اللَّهِ علي أَمِير الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مُحَمَّد بن أبي بكر، سلام عَلَيْك، أَمَّا بَعْدُ، فقد بلغني موجدتك من تسريحي الأَشْتَر إِلَى عملك، وإني لم أفعل ذَلِكَ استبطاء لك فِي الجهاد، وَلا ازديادا مني لك في الجد، ولو نزعت مَا تحت يدك من سلطانك لوليتك ما هو ايسر عليك في المئونة، وأعجب إليك ولاية مِنْهُ إن الرجل الَّذِي كنت وليته مصر كَانَ لنا نصيحا، وعلى عدونا شديدا، وَقَدِ استكمل أيامه، ولاقى حمامه، ونحن عنه راضون، فرضي اللَّه عنه، وضاعف لَهُ الثواب، وأحسن لَهُ المآب اصبر لعدوك، وشمر للحرب، وادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وأكثر ذكر اللَّه، والاستعانة بِهِ، والخوف مِنْهُ، يكفك مَا أهمك، ويعنك عَلَى مَا ولاك، أعاننا اللَّه وإياك عَلَى ما لا ينال إلا برحمته والسلام عَلَيْك. فكتب إِلَيْهِ مُحَمَّد بن أبي بكر جواب كتابه: بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله علي أَمِير الْمُؤْمِنِينَ من مُحَمَّد بن أبي بكر، سَلامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ إِلَيْكَ الَّذِي لا إله غيره، أَمَّا بَعْدُ، فإني قَدِ انتهى إلي كتاب أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، ففهمته وعرفت مَا فِيهِ، وليس أحد مِنَ النَّاسِ بأرضى مني برأي أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وَلا أجهد عَلَى عدوه، وَلا أرأف بوليه مني، وَقَدْ خرجت فعسكرت، وآمنت الناس إلا من نصب لنا حربا، وأظهر لنا خلافا، وأنا متبع أمر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ وحافظه، وملتجئ إِلَيْهِ، وقائم بِهِ، وَاللَّهِ المستعان عَلَى كل حال، والسلام عَلَيْك. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو جهضم الأَزْدِيّ- رجل من أهل الشام- عن عَبْد اللَّهِ بن حوالة الأَزْدِيّ، أن أهل الشام لما انصرفوا من صفين كَانُوا ينتظرون مَا يأتي بِهِ الحكمان، فلما انصرفا وتفرقا بايع أهل الشام مُعَاوِيَة بالخلافة، ولم يزدد إلا قوة، واختلف الناس بِالْعِرَاقِ عَلَى علي، فما كَانَ لمعاوية هم إلا مصر، وَكَانَ لأهلها هائبا خائفا، لقربهم مِنْهُ، وشدتهم عَلَى من كَانَ عَلَى رأي عُثْمَان، وَقَدْ كَانَ عَلَى ذَلِكَ علم أن بِهَا قوما قَدْ ساءهم قتل عُثْمَان، وخالفوا عَلِيًّا، وَكَانَ مُعَاوِيَة يرجو أن يكون إذا ظهر عَلَيْهَا ظهر عَلَى حرب علي، لعظم خراجها قَالَ: فدعا مُعَاوِيَة من كان معه من قريش:

عَمْرو بن الْعَاصِ وحبيب بن مسلمة وبسر بن أبي أرطاة والضحاك بن قيس وعبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن الْوَلِيد، ومن غيرهم أبا الأعور عَمْرو بن سُفْيَان السلمي وحمزة بن مالك الهمداني، وشُرَحْبِيل بن السمط الكندي فَقَالَ لَهُمْ: أتدرون لم دعوتكم؟ إني قَدْ دعوتكم لأمر مهم أحب أن يكون اللَّه قَدْ أعان عَلَيْهِ، فَقَالَ القوم كلهم- أو من قَالَ مِنْهُمْ: إن اللَّه لم يطلع عَلَى الغيب أحدا، وما يدرينا مَا تريد! فَقَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ: أَرَى وَاللَّهِ أمر هَذِهِ البلاد الكثير خراجها، والكثير عددها وعدد أهلها، أهمك أمرها، فدعوتنا إذا لتسألنا عن رأينا فِي ذَلِكَ، فإن كنت لذلك دعوتنا، وله جمعتنا، فاعزم وأقدم، ونعم الرأي رأيت! ففي افتتاحها عزك وعز أَصْحَابك، وكبت عدوك، وذل أهل الخلاف عَلَيْك قَالَ لَهُ مُعَاوِيَة مجيبا: أهمك يا بن العاص مَا أهمك- وَذَلِكَ لأن عَمْرو بن الْعَاصِ كَانَ صالح مُعَاوِيَة حين بايعه عَلَى قتال عَلِيّ بن أبي طالب، عَلَى أن لَهُ مصر طعمة مَا بقي- فأقبل مُعَاوِيَة عَلَى أَصْحَابه فَقَالَ: إن هَذَا- يعني عمرا- قَدْ ظن ثُمَّ حقق ظنه، قَالُوا لَهُ: لكنا لا ندري، قَالَ مُعَاوِيَة: فإن أبا عَبْد اللَّهِ قَدْ أصاب، قَالَ عَمْرو: وأنا أَبُو عَبْد اللَّهِ، قَالَ: إن أفضل الظنون مَا أشبه اليقين. ثُمَّ إن مُعَاوِيَة حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بعد، فقد رأيتم كيف صنع اللَّه بكم فِي حربكم عدوكم، جاءوكم وهم لا يرون إلا أَنَّهُمْ سيقيضون بيضتكم، ويخربون بلادكم، مَا كَانُوا يرون إلا أنكم فِي أيديهم، فردهم اللَّه بغيظهم لم ينالوا خيرا مما أحبوا، وحاكمناهم إِلَى اللَّهِ، فحكم لنا عَلَيْهِم ثُمَّ جمع لنا كلمتنا، وأصلح ذات بيننا، وجعلهم أعداء متفرقين يشهد بعضهم عَلَى بعض بالكفر، ويسفك بعضهم دم بعض وَاللَّهِ إني لأرجو أن يتم لنا هَذَا الأمر، وَقَدْ رأيت أن نحاول اهل مصر، فكيف ترون ارتياءنا لها! فَقَالَ عَمْرو: قَدْ أخبرتك عما سألتني عنه، وَقَدْ أشرت عَلَيْك بِمَا سمعت، فَقَالَ مُعَاوِيَة: إن عمرا قَدْ عزم وصرم، ولم يفسر، فكيف لي أن أصنع! قَالَ لَهُ عَمْرو: فإني أشير عَلَيْك كيف تصنع، أَرَى ان تبعث

جيشا كثيفا، عَلَيْهِم رجل حازم صارم تأمنه وتثق بِهِ، فيأتي مصر حَتَّى يدخلها فإنه سيأتيه من كَانَ من أهلها عَلَى رأينا فيظاهره عَلَى من بِهَا من عدونا، فإذا اجتمع بِهَا جندك ومن بِهَا من شيعتك عَلَى من بِهَا من أهل حربك، رجوت أن يعين اللَّه بنصرك، ويظهر فلجك قَالَ لَهُ مُعَاوِيَة: هل عندك شَيْء دون هَذَا يعمل بِهِ فِيمَا بيننا وبينهم؟ قَالَ: مَا أعلمه، قَالَ: بلى، فإن غير هَذَا عندي، أَرَى أن نكاتب من بِهَا من شيعتنا، ومن بِهَا من أهل عدونا، فأما شيعتنا فآمرهم بالثبات عَلَى أمرهم، ثُمَّ أمنيهم قدومنا عَلَيْهِم، وأما من بِهَا من عدونا فندعوهم الى صلحنا، ونمنيهم شكرنا، ونخوفهم حربنا، فان صلح لنا ما قبلهم بغير قتال فذاك ما أحببنا، والا كان حربهم من وراء ذلك كله انك يا بن العاص امرؤ بورك لك فِي العجلة، وأنا امرؤ بورك لي في التوؤده، قال: فاعمل بما أراك الله، فو الله مَا أَرَى أمرك وأمرهم يصير إلا إِلَى الحرب العوان قَالَ: فكتب مُعَاوِيَة عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى مسلمة بن مخلد الأَنْصَارِيّ وإلى مُعَاوِيَة بن خديج الكندي- وكانا قَدْ خالفا عَلِيًّا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَمَّا بَعْدُ، فإن اللَّه قَدِ ابتعثكما لأمر عظيم أعظم بِهِ أجركما، ورفع بِهِ ذكركما، وزينكما بِهِ فِي الْمُسْلِمِينَ، طلبكما بدم الخليفة المظلوم، وغضبكما لِلَّهِ إذ ترك حكم الكتاب، وجاهدتما أهل البغي والعدوان، فأبشروا برضوان اللَّه، وعاجل نصر أولياء اللَّه، والمواساة لكما فِي الدُّنْيَا وسلطاننا حَتَّى ينتهى فِي ذلك ما يرضيكما، ونودى به حقكما الى ما يصير امر كما إِلَيْهِ فاصبروا وصابروا عدوكما، وادعوا المدبر إِلَى هداكما وحفظكما، فإن الجيش قَدْ أضل عَلَيْكُمَا، فانقشع كل مَا تكرهان، وَكَانَ كل مَا تهويان، والسلام عَلَيْكُمَا. وكتب هَذَا الكتاب وبعث بِهِ مع مولى لَهُ يقال لَهُ سبيع. فخرج الرسول بكتابه حَتَّى قدم عليهما مصر ومُحَمَّد بن أبي بكر أميرها، وَقَدْ ناصب هَؤُلاءِ الحرب بِهَا، وَهُوَ غير متخون بِهَا يوم الإقدام عَلَيْهِ فدفع كتابه إِلَى مسلمة بن مخلد وكتاب مُعَاوِيَة بن حديج، فَقَالَ مسلمة: امض بكتاب مُعَاوِيَة إِلَيْهِ حَتَّى يقرأه، ثُمَّ القني بِهِ حَتَّى أجيبه عني وعنه، فانطلق

الرسول بكتاب مُعَاوِيَة بن حديج إِلَيْهِ، فأقرأه اياه، فلما قراه قال: ان مسلمه ابن مخلد قد أمرني ان اراد إِلَيْهِ الكتاب إذا قرأته لكي يجيب مُعَاوِيَة عنك وعنه قَالَ: قل لَهُ فليفعل، ودفع إِلَيْهِ الكتاب، فأتاه ثُمَّ كتب مسلمة عن نفسه وعن مُعَاوِيَة بن حديج: أَمَّا بَعْدُ، فان هذا الأمر الذى بذلنا له نفسنا، واتبعنا أمر اللَّه فِيهِ، أمر نرجو بِهِ ثواب ربنا، والنصر ممن خالفنا، وتعجيل النقمة لمن سعى عَلَى إمامنا، وطأطأ الركض فِي جهادنا، ونحن بهذا الحيز من الأرض قَدْ نفينا من كَانَ بِهِ من أهل البغي، وأنهضنا من كَانَ بِهِ من أهل القسط والعدل، وَقَدْ ذكرت المواساة فِي سلطانك ودنياك، وبالله إن ذَلِكَ لأمر مَا لَهُ نهضنا، وَلا إِيَّاهُ أردنا، فإن يجمع اللَّه لنا مَا نطلب، ويؤتنا مَا تمنينا، فإن الدُّنْيَا والآخرة لِلَّهِ رب العالمين، وَقَدْ يؤتيهما اللَّه معا عالما من خلقه، كما قَالَ فِي كتابه، وَلا خلف لموعوده، قَالَ: «فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» ، عجل علينا خيلك ورجلك، فإن عدونا قَدْ كَانَ علينا حربا، وكنا فِيهِمْ قليلا، فقد أصبحوا لنا هائبين، وأصبحنا لَهُمْ مقرنين، فإن يأتنا اللَّه بمدد من قبلك يفتح اللَّه عَلَيْكُمْ، وَلا حول وَلا قوة إلا بِاللَّهِ، وحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، والسلام عَلَيْك قَالَ: فجاءه هَذَا الكتاب وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بفلسطين، فدعا النفر الَّذِينَ سماهم فِي الكتاب فَقَالَ: ماذا ترون؟ قَالُوا: الرأي أن تبعث جندا من قبلك، فإنك تفتتحها بإذن اللَّه قَالَ مُعَاوِيَة: فتجهز يَا أَبَا عَبْد اللَّهِ إِلَيْهَا- يعني عَمْرو بن الْعَاصِ- قَالَ: فبعثه فِي ستة آلاف رجل، وخرج مُعَاوِيَة وودعه وَقَالَ لَهُ عِنْدَ وداعه إِيَّاهُ: أوصيك يَا عَمْرو بتقوى الله والرفق فانه يمن، وبالمهل والتوؤده، فإن العجلة من الشَّيْطَان، وبأن تقبل ممن أقبل، وأن تعفو عمن أدبر، فإن قبل فبها ونعمت، وإن أبى فإن السطوة بعد المعذرة أبلغ فِي الحجة، وأحسن فِي العاقبة، وادع الناس إِلَى الصلح والجماعة،

فإذا أنت ظهرت فليكن أنصارك آثر الناس عندك، وكل الناس فأول حسنا قَالَ: فخرج عَمْرو يسير حَتَّى نزل أداني أرض مصر، فاجتمعت العثمانية إِلَيْهِ، فأقام بهم، وكتب إِلَى مُحَمَّد بن أبي بكر: أَمَّا بَعْدُ، فتنح عنى بدمك يا بن أبي بكر، فإني لا أحب أن يصيبك مني ظفر، إن الناس بهذه البلاد قَدِ اجتمعوا عَلَى خلافك، ورفض أمرك، وندموا عَلَى اتباعك، فهم مسلموك لو قَدِ التقت حلقتا البطان، فاخرج منها، فإني لك من الناصحين، والسلام. وبعث إِلَيْهِ عَمْرو أَيْضًا بكتاب مُعَاوِيَة إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ، فإن غب البغي والظلم عظيم الوبال، وإن سفك الدم الحرام لا يسلم صاحبه من النقمة فِي الدُّنْيَا، ومن التبعة الموبقة فِي الآخرة، وإنا لا نعلم أحدا كَانَ أعظم عَلَى عُثْمَانَ بغيا، وَلا أسوأ لَهُ عيبا، وَلا أشد عَلَيْهِ خلافا مِنْكَ، سعيت عَلَيْهِ فِي الساعين، وسفكت دمه فِي السافكين، ثُمَّ أنت تظن أني عنك نائم أو ناس لك، حَتَّى تأتي فتأمر عَلَى بلاد أنت فِيهَا جاري، وجل أهلها أنصاري، يرون رأيي، ويرقبون قولي، ويستصرخوني عَلَيْك. وَقَدْ بعثت إليك قوما حناقا عَلَيْك، يستسقون دمك، ويتقربون إِلَى اللَّهِ بجهادك، وَقَدْ أعطوا اللَّه عهدا ليمثلن بك، ولو لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ إليك مَا عدا قتلك مَا حذرتك وَلا أنذرتك، ولأحببت أن يقتلوك بظلمك وقطيعتك وعدوك عَلَى عُثْمَانَ يوم يطعن بمشاقصك بين خششائه وأوداجه، ولكن أكره أن أمثل بقرشي، ولن يسلمك اللَّه من القصاص أبدا أينما كنت والسلام. قَالَ: فطوى مُحَمَّد كتابيهما، وبعث بهما إِلَى علي، وكتب مَعَهُمَا: أَمَّا بَعْدُ، فإن ابن العاص قَدْ نزل أداني أرض مصر، واجتمع إِلَيْهِ أهل البلد جلهم ممن كَانَ يرى رأيهم، وَقَدْ جَاءَ فِي جيش لجب خراب، وَقَدْ رأيت ممن قبلي بعض الفشل، فإن كَانَ لك فِي أرض مصر حاجة فأمدني بالرجال والأموال، والسلام عَلَيْك. فكتب إِلَيْهِ علي:

أَمَّا بَعْدُ، فقد جاءني كتابك تذكر أن ابن العاص قَدْ نزل بأداني أرض مصر فِي لجب من جيشه خراب، وأن من كَانَ بِهَا عَلَى مثل رأيه قَدْ خرج إِلَيْهِ، وخروج من يرى رأيه إِلَيْهِ خير لك من إقامتهم عندك. وذكرت أنك قَدْ رأيت فِي بعض من قبلك فشلا، فلا تفشل، وان فشلوا فحصن قريتك، واضمم إليك شيعتك، واندب إِلَى القوم كنانة بن بشر المعروف بالنصيحة والنجدة والبأس، فإني نادب إليك الناس عَلَى الصعب والذلول، فاصبر لعدوك، وامض عَلَى بصيرتك، وقاتلهم عَلَى نيتك، وجاهدهم صابرا محتسبا، وإن كَانَتْ فئتك أقل الفئتين، فإن اللَّه قَدْ يعز القليل، ويخذل الكثير وَقَدْ قرأت كتاب الفاجر ابن الفاجر مُعَاوِيَة، والفاجر ابن الكافر عَمْرو، المتحابين فِي عمل المعصية، والمتوافقين المرتشيين فِي الحكومة، المنكرين فِي الدُّنْيَا، قَدِ استمتعوا بخلاقهم كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قبلهم بِخَلاقِهِمْ، فلا يهلك إرعادهما وإبراقهما، وأجبهما إن كنت لم تجبهما بِمَا هما أهله، فإنك تجد مقالا مَا شئت، والسلام. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بن يُوسُفَ بن ثَابِت الأَنْصَارِيّ، عن شيخ من أهل الْمَدِينَة، قَالَ: كتب مُحَمَّد بن أبي بكر إِلَى مُعَاوِيَةَ بن أَبِي سُفْيَانَ جواب كتابه: أَمَّا بَعْدُ، فقد أتاني كتابك تذكرني من أمر عُثْمَان أمرا لا أعتذر إليك مِنْهُ، وتأمرني بالتنحي عنك كأنك لي ناصح، وتخوفني المثلة كأنك شفيق، وأنا أرجو أن تكون لي الدائرة عَلَيْكُمْ، فأجتاحكم فِي الوقعة، وإن تؤتوا النصر ويكن لكم الأمر فِي الدُّنْيَا، فكم لعمري من ظالم قَدْ نصرتم، وكم من مؤمن قتلتم ومثلتم بِهِ! وإلى اللَّه مصيركم ومصيرهم، وإلى اللَّه مرد الأمور، وَهُوَ أرحم الراحمين، وَاللَّهِ المستعان عَلَى مَا تصفون. والسلام. وكتب مُحَمَّد إِلَى عَمْرو بن الْعَاصِ: أَمَّا بَعْدُ، فقد فهمت مَا ذكرت في كتابك يا بن العاص، زعمت أنك تكره أن يصيبني مِنْكَ ظفر، وأشهد أنك من المبطلين وتزعم أنك لي

نصيح، وأقسم أنك عندي ظنين، وتزعم أن أهل البلد قَدْ رفضوا رأيي وأمري، وندموا على اتباعى، فأولئك لك وللشيطان الرجيم أولياءه فحسبنا اللَّه رب العالمين، وتوكلنا عَلَى اللَّه رب العرش العظيم، والسلام. قَالَ: أقبل عَمْرو بن الْعَاصِ حَتَّى قصد مصر، فقام مُحَمَّد بن أبي بكر فِي الناس، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى رَسُولِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ معاشر الْمُسْلِمِينَ والمؤمنين، فإن القوم الَّذِينَ كَانُوا ينتهكون الحرمة، وينعشون الضلال، ويشبون نار الْفِتْنَة، ويتسلطون بالجبرية، قَدْ نصبوا لكم العداوة، وساروا إليكم بالجنود عباد اللَّه! فمن اراد الجنه والمغفره فليخرج الى هؤلاء القوم فليجاهدهم فِي اللَّه، انتدبوا إِلَى هَؤُلاءِ القوم رحمكم الله مع كنانه ابن بشر. قَالَ: فانتدب مَعَهُ نحو من ألفي رجل، وخرج مُحَمَّد فِي ألفي رجل. واستقبل عَمْرو بن الْعَاصِ كنانة وَهُوَ عَلَى مقدمة مُحَمَّد، فأقبل عَمْرو نحو كنانة، فلما دنا من كنانة سرح الكتائب كتيبة بعد كتيبة، فجعل كنانة لا تأتيه كتيبة من كتائب أهل الشام إلا شد عَلَيْهَا بمن مَعَهُ، فيضربها حتى يقربها لعمرو بن الْعَاصِ ففعل ذَلِكَ مرارا، فلما رَأَى ذَلِكَ عَمْرو بعث إِلَى مُعَاوِيَةَ بن حديج السكوني، فأتاه فِي مثل الدهم، فأحاط بكنانة وأَصْحَابه، واجتمع أهل الشام عَلَيْهِم من كل جانب، فلما رَأَى ذَلِكَ كنانة بن بشر نزل عن فرسه، ونزل أَصْحَابه وكنانة يقول: «وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ» فصار بهم بسيفه حَتَّى استشهد رحمه اللَّه وأقبل عَمْرو بن الْعَاصِ نحو مُحَمَّد بن أبي بكر، وَقَدْ تفرق عنه أَصْحَابه لما بلغهم قتل كنانة، حَتَّى بقي وما مَعَهُ أحد من أَصْحَابه فلما رَأَى ذَلِكَ مُحَمَّد خرج يمشي فِي الطريق حَتَّى انتهى إِلَى خربة فِي ناحية الطريق، فأوى إِلَيْهَا، وجاء عَمْرو بن الْعَاصِ حَتَّى دخل الفسطاط وخرج مُعَاوِيَة بن حديج في

طلب مُحَمَّد حَتَّى انتهى إِلَى علوج فِي قارعة الطريق، فسألهم: هل مر بكم أحد تنكرونه؟ فَقَالَ أحدهم: لا وَاللَّهِ، إلا أني دخلت تِلَكَ الخربة، فإذا أنا برجل فِيهَا جالس، فَقَالَ ابن حديج: هُوَ هُوَ ورب الكعبة، فانطلقوا يركضون حَتَّى دخلوا عَلَيْهِ، فاستخرجوه وَقَدْ كاد يموت عطشا، فأقبلوا بِهِ نحو فسطاط مصر قَالَ: ووثب أخوه عبد الرَّحْمَن بن أبي بَكْرٍ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ- وَكَانَ فِي جنده فَقَالَ: أتقتل أخي صبرا! ابعث إِلَى مُعَاوِيَةَ بن حديج فانهه، فبعث إِلَيْهِ عَمْرو بن الْعَاصِ يأمره أن يأتيه بمُحَمَّد بن أبي بكر، فَقَالَ مُعَاوِيَة: أكذاك! قتلتم كنانة بن بشر وأخلي أنا عن مُحَمَّد بن أبي بكر! هيهات، «أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ» . فَقَالَ لَهُمْ مُحَمَّد: اسقوني من الماء، قَالَ لَهُ مُعَاوِيَة بن حديج: لا سقاه اللَّه إن سقاك قطرة أبدا! إنكم منعتم عُثْمَان أن يشرب الماء حَتَّى قتلتموه صائما محرما، فتلقاه الله بالرحيق المختوم، والله لأقتلنك يا ابن أبي بكر فيسقيك اللَّه الحميم والغساق! قَالَ له محمد: يا ابن اليهودية النساجة، ليس ذَلِكَ إليك وإلى من ذكرت، إنما ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يسقى أولياءه، ويظمئ اعداءه، أنت وضرباؤك ومن تولاه، أما وَاللَّهِ لو كَانَ سيفي فِي يدي مَا بلغتم مني هَذَا، قَالَ لَهُ مُعَاوِيَة: أتدري مَا أصنع بك؟ أدخلك فِي جوف حمار، ثُمَّ أحرقه عَلَيْك بالنار، فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد: إن فعلتم بي ذَلِكَ، فطالما فعل ذَلِكَ بأولياء اللَّه! وإني لأرجو هَذِهِ النار الَّتِي تحرقني بِهَا أن يجعلها اللَّه علي بردا وسلاما كما جعلها عَلَى خليله إِبْرَاهِيم، وأن يجعلها عَلَيْك وعلى أوليائك كما جعلها عَلَى نمرود وأوليائه، إن اللَّه يحرقك ومن ذكرته قبل وإمامك- يعني مُعَاوِيَة، وهذا- وأشار إِلَى عَمْرو بن الْعَاصِ- بنار تلظى عَلَيْكُمْ، كلما خبت زادها اللَّه سعيرا قَالَ لَهُ مُعَاوِيَة: إني إنما أقتلك بعثمان، قَالَ لَهُ مُحَمَّد: وما أنت وعثمان! إن عُثْمَان عمل بالجور، ونبذ حكم القرآن، وَقَدْ قَالَ اللَّه تعالى: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» ، فنقمنا ذَلِكَ عَلَيْهِ فقتلناه، وحسنت

قتل محمد بن ابى حذيفة بن عتبة بن ربيعه بن عبد شمس

أنت لَهُ ذَلِكَ ونظراؤك، فقد برأنا اللَّه إِنْ شَاءَ اللَّهُ من ذنبه، وأنت شريكه فِي إثمه وعظم ذنبه، وجاعلك عَلَى مثاله قَالَ: فغضب مُعَاوِيَة فقدمه فقتله، ثُمَّ ألقاه فِي جيفة حمار، ثُمَّ أحرقه بالنار، فلما بلغ ذَلِكَ عَائِشَة جزعت عَلَيْهِ جزعا شديدا، وقنتت عَلَيْهِ فِي دبر الصَّلاة تدعو عَلَى مُعَاوِيَة وعمرو، ثُمَّ قبضت عيال مُحَمَّد إِلَيْهَا، فكان الْقَاسِم بن مُحَمَّدِ بْنِ أبي بكر فِي عيالها. وأما الْوَاقِدِيّ فإنه ذكر لي أن سويد بن عَبْدِ الْعَزِيزِ حدثه عن ثابت ابن عجلان، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عبد الرَّحْمَن، أن عَمْرو بن الْعَاصِ خرج فِي أربعة آلاف، فِيهِمْ مُعَاوِيَة بن حديج، وأبو الأعور السلمي، فالتقوا بالمسناة، فاقتتلوا قتالا شديدا، حَتَّى قتل كنانه بن بشر بن عتاب التُّجِيبِيّ، ولم يجد مُحَمَّد بن أبي بكر مقاتلا، فانهزم، فاختبأ عِنْدَ جبلة بن مسروق، فدل عَلَيْهِ مُعَاوِيَة بن حديج، فأحاط بِهِ، فخرج مُحَمَّد فقاتل حَتَّى قتل. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وكانت المسناة فِي صفر سنة ثمان وثلاثين، وأذرح فِي شعبان منها فِي عام واحد. رجع الحديث إِلَى حديث أبي مخنف وكتب عَمْرو بن الْعَاصِ إِلَى مُعَاوِيَةَ عِنْدَ قتله مُحَمَّد بن أبي بكر وكنانة بن بشر: أَمَّا بَعْدُ، فإنا لقينا مُحَمَّد بن أبي بكر وكنانة بن بشر فِي جموع جمة من أهل مصر، فدعوناهم إِلَى الهدى والسنة وحكم الكتاب، فرفضوا الحق، وتوركوا فِي الضلال، فجاهدناهم، واستنصرنا اللَّه عَلَيْهِم، فضرب اللَّه وجوههم وأدبارهم، ومنحونا أكتافهم، فقتل الله محمد بن ابى بكر وكنانه ابن بشر وأماثل القوم، والحمد لِلَّهِ رب العالمين، والسلام عَلَيْك وفيها قتل مُحَمَّد بن أبي حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شمس . (ذكر الخبر عن مقتله) : اختلف أهل السير فِي وقت مقتله، فَقَالَ الْوَاقِدِيّ: قتل في سنه

ست وثلاثين قَالَ: وَكَانَ سبب قتله أن مُعَاوِيَة وعمرا سارا إِلَيْهِ وَهُوَ بمصر قَدْ ضبطها، فنزلا بعين شمس، فعالجا الدخول، فلم يقدروا عَلَيْهِ، فخدعا مُحَمَّد بن أبي حُذَيْفَة عَلَى أن يخرج فِي ألف رجل إِلَى العريش، فخرج وخلف الحكم بن الصلت عَلَى مصر، فلما خرج مُحَمَّد بن أبي حُذَيْفَة إِلَى العريش تحصن، وجاء عَمْرو فنصب المجانيق حَتَّى نزل فِي ثَلاثِينَ من أَصْحَابه، فأخذوا فقتلوا قَالَ: وذاك قبل أن يبعث علي إِلَى مصر قيس بن سَعْد. وأما هِشَام بْن مُحَمَّد الكلبي فإنه ذكر أن مُحَمَّد بن أبي حُذَيْفَة إنما أخذ بعد أن قتل مُحَمَّد بن أبي بكر ودخل عَمْرو بن الْعَاصِ مصر وغلب عَلَيْهَا، وزعم أن عمرا لما دخل هُوَ وأَصْحَابه مصر أصابوا مُحَمَّد بن أبي حُذَيْفَة، فبعثوا بِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَهُوَ بفلسطين، فحبسه فِي سجن لَهُ، فمكث فِيهِ غير كثير، ثُمَّ إنه هرب من السجن- وَكَانَ ابن خال مُعَاوِيَة- فأرى مُعَاوِيَة الناس أنه قَدْ كره انفلاته، فَقَالَ لأهل الشام: من يطلبه؟ قَالَ: وَقَدْ كَانَ مُعَاوِيَة يحب فِيمَا يرون أن ينجو، فَقَالَ رجل من خثعم- يقال له عبد الله ابن عَمْرو بن ظلام، وَكَانَ رجلا شجاعا، وَكَانَ عثمانيا: أنا أطلبه فخرج فِي حالة حَتَّى لحقه بأرض البلقاء بحوران وَقَدْ دخل فِي غار هُنَاكَ، فجاءت حمر تدخله، وَقَدْ أصابها المطر، فلما رأت الحمر الرجل فِي الغار فزعت، فنفرت، فَقَالَ حصادون كَانُوا قريبا من الغار: وَاللَّهِ إن لنفر هَذِهِ الحمر من الغار لشأنا فذهبوا لينظروا، فإذا هم بِهِ، فخرجوا، ويوافقهم عَبْد اللَّهِ بن عَمْرو بن ظلام الخثعمي، فسألهم عنه، ووصفه لَهُمْ، فَقَالُوا له: ها هو ذا فِي الغار، قَالَ: فَجَاءَ حَتَّى استخرجه، وكره أن يرجعه إِلَى مُعَاوِيَةَ فيخلي سبيله فضرب عنقه قَالَ هِشَام، عن أبي مخنف: قَالَ: وَحَدَّثَنِي الْحَارِث بن كعب بن فقيم، عن جندب، عن عَبْد اللَّهِ بن فقيم، عم الْحَارِث بن كعب يستصرخ من قبل مُحَمَّد بن أبي بكر إِلَى علي- ومُحَمَّد يَوْمَئِذٍ أميرهم- فقام علي فِي

الناس وَقَدْ أمر فنودي: الصَّلاة جامعة! فاجتمع الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد ص، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن هَذَا صريخ مُحَمَّد بن أبي بكر وإخوانكم من أهل مصر، قَدْ سار إِلَيْهِم ابن النَّابِغَةَ عدو الله، وولى من عادى اللَّه، فلا يكونن أهل الضلال إِلَى باطلهم والركون إِلَى سبيل الطاغوت أشد اجتماعا مِنْكُمْ عَلَى حقكم هَذَا، فإنهم قَدْ بدءوكم وإخوانكم بالغزو، فاعجلوا إِلَيْهِم بالمؤاساة والنصر عباد اللَّه، إن مصر أعظم من الشام، أكثر خيرا، وخير أهلا، فلا تغلبوا عَلَى مصر، فإن بقاء مصر فِي أيديكم عز لكم، وكبت لعدوكم، اخرجوا إِلَى الجرعة بين الحيرة والكوفة، فوافوني بِهَا هُنَاكَ غدا إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ: فلما كَانَ من الغد خرج يمشي، فنزلها بكرة، فأقام بِهَا حَتَّى انتصف النهار يومه ذَلِكَ، فلم يوافه مِنْهُمْ رجل واحد، فرجع فلما كَانَ من العشي بعث إِلَى أشراف الناس، فدخلوا عَلَيْهِ القصر وَهُوَ حزين كئيب، [فَقَالَ: الحمد لِلَّهِ عَلَى مَا قضى من أمري، وقدر من فعلي، وابتلاني بكم أيتها الفرقة ممن لا يطيع إذا أمرت، وَلا يجيب إذا دعوت، لا أبا لغيركم! مَا تنتظرون بصبركم، والجهاد عَلَى حقكم! الموت والذل لكم فِي هَذِهِ الدُّنْيَا عَلَى غير الحق، فو الله لَئِنْ جَاءَ الموت- وليأتين- ليفرقن بيني وبينكم، وأنا لصحبتكم قَالَ، وبكم غير ضنين، لِلَّهِ أنتم! لا دين يجمعكم، وَلا حمية تحميكم، إذا أنتم سمعتم بعدوكم يرد بلادكم، ويشن الغارة عليكم او ليس عجبا أن مُعَاوِيَة يدعو الجفاة الطغام فيتبعونه عَلَى غير عطاء وَلا معونة! ويجيبونه فِي السنة المرتين والثلاث إِلَى أي وجه شاء، وأنا أدعوكم- وَأَنْتُمْ أولو النهي وبقية الناس- عَلَى المعونة وطائفة مِنْكُمْ عَلَى العطاء، فتقومون عني وتعصونني، وتختلفون علي!] فقام إِلَيْهِ مالك بن كعب الهمداني ثُمَّ الأرحبي، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اندب الناس فإنه لا عطر بعد عروس، لمثل هَذَا الْيَوْم كنت أدخر نفسي، والأجر لا يأتي إلا بالكرة اتقوا اللَّه وأجيبوا إمامكم، وانصروا دعوته،

وقاتلوا عدوه، أنا أسير إِلَيْهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: فأمر علي مناديه سعدا، فنادى فِي الناس: أَلا انتدبوا إِلَى مصر مع مالك بن كعب. ثُمَّ إنه خرج وخرج مَعَهُ علي، فنظر فإذا جميع من خرج نحو الفى رجل، فقال: سر فو الله مَا إخالك تدرك القوم حَتَّى ينقضي أمرهم، قَالَ: فخرج بهم، فسار خمسا ثُمَّ إن الحجاج بن غزية الأَنْصَارِيّ، ثُمَّ النجاري قدم عَلَى علي من مصر، وقدم عبد الرَّحْمَن بن شبيب الفزاري، فأما الفزاري فكان عينه بِالشَّامِ، وأما الأَنْصَارِيّ فكان مع مُحَمَّد بن أبي بكر، فحدثه الأَنْصَارِيّ بِمَا رَأَى وعاين وبهلاك مُحَمَّد، وحدثه الفزاري أنه لم يخرج من الشام حَتَّى قدمت البشراء من قبل عَمْرو بن الْعَاصِ تترى، يتبع بعضها بعضا بفتح مصر وقتل مُحَمَّد بن أبي بكر، وحتى أذن بقتله عَلَى الْمِنْبَر، وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قلما رأيت قوما قط أسر، وَلا سرورا قط أظهر من سرور رأيته بِالشَّامِ حين أتاهم هلاك مُحَمَّد بن أبي بكر [فَقَالَ علي: أما إن حزننا عَلَيْهِ عَلَى قدر سرورهم بِهِ، لا بل يَزِيد أضعافا] قَالَ: وسرح علي عبد الرَّحْمَن بن شريح الشبامي إِلَى مالك بن كعب، فرده من الطريق قَالَ: وحزن علي عَلَى مُحَمَّد بن أبي بكر حتى رئى ذَلِكَ فِي وجهه، وتبين فِيهِ، وقام فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وصلى على رسوله ص، وَقَالَ: أَلا إن مصر قَدِ افتتحها الفجرة أولو الجور والظلم الَّذِينَ صدوا عن سبيل اللَّه، وبغوا الإِسْلام عوجا أَلا وإن مُحَمَّد بن أبي بكر قَدِ استشهد رحمه اللَّه، فعند الله نحتسبه أما وَاللَّهِ إن كَانَ مَا علمت لممن ينتظر القضاء، ويعمل للجزاء، ويبغض شكل الفاجر، ويحب هدى المؤمن، إني وَاللَّهِ مَا ألوم نفسي على التقصير، وانى لمقاساه الحرب لجد خبير، وإني لأقدم عَلَى الأمر وأعرف وجه الحزم، وأقوم فيكم بالرأي المصيب، فأستصرخكم معلنا، وأناديكم نداء المستغيث معربا، فلا تسمعون لي قولا، وَلا تطيعون لي أمرا، حَتَّى تصير بي الأمور إِلَى عواقب المساءة، فأنتم القوم لا يدرك بكم الثأر، وَلا تنقض بكم الأوتار، دعوتكم الى غياث إخوانكم

منذ بضع وخمسين ليلة فتجرجرتم جرجرة الجمل الأشدق، وتثاقلتم إِلَى الأرض تثاقل من ليس لَهُ نية فِي جهاد العدو، وَلا اكتساب الأجر، ثُمَّ خرج الى منكم جنيد متذانب كأنما يساقون إِلَى الموت وهم ينظرون. فأف لكم! ثُمَّ نزل وكتب إِلَى عَبْد اللَّهِ بن عباس وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ: بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من عَبْد اللَّه علي أَمِير الْمُؤْمِنِينَ إِلَى عَبْد اللَّهِ بن عباس، سَلامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ إِلَيْكَ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ مصر قَدِ افتتحت، ومُحَمَّد بن أبي بكر قَدِ استشهد، فعند اللَّه نحتسبه وندخره، وَقَدْ كنت قمت فِي الناس فِي بدئه، وأمرتهم بغياثه قبل الوقعة، ودعوتهم سرا وجهرا، وعودا وبدءا، فمنهم من أتى كارها، ومنهم من اعتل كاذبا، ومنهم القاعد حالا، أسأل اللَّه أن يجعل لي مِنْهُمْ فرجا ومخرجا، وأن يريحني مِنْهُمْ عاجلا وَاللَّهِ لولا طمعي عِنْدَ لقاء عدوى في الشهاده لأحببت الا أبقى مع هَؤُلاءِ يَوْمًا واحدا عزم اللَّه لنا ولك عَلَى الرشد، وعلى تقواه وهداه، إنه عَلَى كل شَيْء قدير والسلام. فكتب إِلَيْهِ ابن عَبَّاس: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لعبد اللَّه عَلِيّ بن أبي طالب أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، من عَبْد اللَّهِ بن عباس سلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، أَمَّا بَعْدُ، فقد بلغني كتابك تذكر فِيهِ افتتاح مصر، وهلاك مُحَمَّد بن أبي بكر، فالله المستعان عَلَى كل حال، ورحم اللَّه مُحَمَّد بن أبي بكر وآجرك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! وَقَدْ سألت اللَّه أن يجعل لك من رعيتك الَّتِي ابتليت بِهَا فرجا ومخرجا، وأن يعزك بالملائكة عاجلا بالنصرة، فإن اللَّه صانع لك ذَلِكَ، ومعزك ومجيب دعوتك وكابت عدوك أخبرك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أن الناس ربما تثاقلوا ثُمَّ ينشطون، فارفق بهم يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وداجنهم ومِنّهم، واستعن بِاللَّهِ عَلَيْهِم، كفاك اللَّه ألمهم والسلام. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي فضيل بن خديج، عن مالك بن الحور،

ذكر الخبر عن امر ابن الحضرمى وزياد واعين وسبب قتل من قتل منهم

[أن عَلِيًّا قَالَ رحم اللَّه مُحَمَّدا! كَانَ غلاما حدثا، أما وَاللَّهِ لقد كنت عَلَى أن أولي المرقال هاشم بن عتبة مصر، أما وَاللَّهِ لو أنه وليها مَا خلى لعمرو بن الْعَاصِ وأعوانه الفجرة العرصة، ولما قتل إلا وسيفه فِي يده، لا بلا دم كمُحَمَّد فرحم اللَّه مُحَمَّدا، فقد اجتهد نفسه، وقضى مَا عَلَيْهِ] . وفي هَذِهِ السنة وجه مُعَاوِيَة بعد مقتل مُحَمَّد بن أبي بكر عبد الله بن عمرو ابن الحضرمي إِلَى الْبَصْرَة للدعاء إِلَى الإقرار بحكم عَمْرو بن الْعَاصِ فِيهِ. وفيها قتل أعين بن ضبيعة المجاشعي، وَكَانَ علي وجهه لإخراج ابن الحضرمي مِنَ الْبَصْرَةِ . ذكر الخبر عن أمر ابن الحضرمي وزياد وأعين وسبب قتل من قتل مِنْهُمْ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الذَّيَّالِ، عَنْ أَبِي نَعَامَةَ، قَالَ: لَمَّا قُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ بِمِصْرَ، خَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى عَلِيٍّ بِالْكُوفَةِ، وَاسْتَخْلَفَ زِيَادًا، وَقَدِمَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ مِنْ قِبَلِ مُعَاوِيَةَ، فَنَزَلَ فِي بَنِي تَمِيمٍ، فَأَرْسَلَ زِيَادٌ إِلَى حُضَيْنِ بْنِ الْمُنْذِرِ وَمَالِكِ بْنِ مِسْمَعٍ، فَقَالَ: أَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ مِنْ أَنْصَارِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَثِقَاتِهِ، وَقَدْ نَزَلَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ حَيْثُ تَرَوْنَ، وَأَتَاهُ مَنْ أَتَاهُ، فَامْنَعُونِي حَتَّى يَأْتِيَنِي رَأْيُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ حضين: نعم، وقال مالك- وكان رايه مائلا إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ، وَكَانَ مَرْوَانُ لَجَأَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْجَمَلِ: هَذَا أَمْرٌ لِي فِيهِ شُرَكَاءُ، أَسْتَشِيرُ وَأَنْظُرُ فَلَمَّا رَأَى زِيَادٌ تَثَاقُلَ مَالِكٍ خَافَ أَنْ تَخْتَلِفَ رَبِيعَةُ، فَأَرْسَلَ إِلَى نَافِعٍ أَنْ أَشِرْ عَلَيَّ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ نَافِعٌ بِصَبْرَةَ بْنِ شَيْمَانَ الْحُدَّانِيِّ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ زِيَادٌ، فَقَالَ: الا تجيرني! وبيت مال المسلمين فانه فيئكم، وَأَنَا أَمِينُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: بَلَى إِنْ حَمَلْتَهُ إِلَيَّ وَنَزَلْتَ دَارِي. قَالَ: فَإِنِّي حَامِلُهُ، فَحَمَلَهُ، وَخَرَجَ زِيَادٌ حَتَّى أَتَى الْحُدَّانَ، وَنَزَلَ في دار

صَبْرَةَ بْنِ شَيْمَانَ، وَحَوَّلَ بَيْتَ الْمَالِ وَالْمِنْبَرَ، فَوَضَعَهُ فِي مَسْجِدِ الْحُدَّانَ، وَتَحَوَّلَ مَعَ زِيَادٍ خَمْسُونَ رَجُلا، مِنْهُمْ أَبُو أَبِي حَاضِرٍ- وَكَانَ زِيَادٌ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ فِي مَسْجِدِ الْحُدَّانَ، وَيُطْعِمُ الطَّعَامَ- فَقَالَ زِيَادٌ لِجَابِرِ بْنِ وَهْبٍ الرَّاسِبِيِّ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، إِنِّي لا أَرَى ابْنَ الحضرمى يكف، لا أَرَاهُ إِلا سَيُقَاتِلُكُمْ، وَلا أَدْرِي مَا عِنْدَ أَصْحَابِكَ فَآمِرْهُمْ، وَانْظُرْ مَا عِنْدَهُمْ فَلَمَّا صَلَّى زِيَادٌ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَقَالَ جَابِرٌ: يَا مَعْشَرَ الأَزْدِ، تَمِيمٌ تَزْعُمُ أَنَّهُمْ هُمُ النَّاسُ، وَأَنَّهُمْ أَصْبَرُ مِنْكُمْ عِنْدَ الْبَأْسِ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَسِيرُوا إِلَيْكُمْ حَتَّى يَأْخُذُوا جَارَكُمْ، وَيُخْرِجُوهُ مِنَ الْمِصْرِ قَسْرًا، فَكَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ وَقَدْ أَجَرْتُمُوهُ وَبَيْتَ مَالِ الْمُسْلِمِينَ! فَقَالَ صَبْرَةُ بْنُ شَيْمَانَ- وَكَانَ مُفْخَمًا: إِنْ جَاءَ الأَحْنَفُ جِئْتُ، وَإِنْ جَاءَ الْحُتَاتُ جِئْتُ، وَإِنْ جَاءَ شَبَّانُ فَفِينَا شَبَّانُ فَكَانَ زِيَادٌ يَقُولُ: إِنَّنِي اسْتَضْحَكْتُ وَنَهَضْتُ، وَمَا كِدْتُ مَكِيدَةً قَطُّ كُنْتُ إِلَى الْفَضِيحَةِ بِهَا أَقْرَبَ مِنِّي لِلْفَضِيحَةِ يَوْمَئِذٍ، لِمَا غَلَبَنِي مِنَ الضَّحِكِ قَالَ: ثُمَّ كَتَبَ زِيَادٌ إِلَى عَلِيٍّ: أَنَّ ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ أَقْبَلَ مِنَ الشَّامِ فَنَزَلَ فِي دَارِ بَنِي تَمِيمٍ، وَنَعَى عُثْمَانَ، وَدَعَا إِلَى الْحَرْبِ، وَبَايَعَتْهُ تَمِيمٌ وَجُلُّ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَلَمْ يَبْقَ مَعِي مَنْ أَمْتَنِعُ بِهِ، فَاسْتَجَرْتُ لِنَفْسِي وَلِبَيْتِ الْمَالِ صَبْرَةَ بْنَ شَيْمَانَ، وَتَحَوَّلْتُ فَنَزَلْتُ مَعَهُمْ، فَشِيعَةُ عُثْمَانَ يَخْتَلِفُونَ إِلَى ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ، فَوَجَّهَ عَلِيٌّ أَعْيَنَ بْنَ ضُبَيْعَةَ الْمُجَاشِعِيَّ لِيُفَرِّقَ قَوْمَهُ عَنِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ، فَانْظُرْ مَا يَكُونُ مِنْهُ، فَإِنْ فَرَّقَ جَمْعَ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ فَذَلِكَ مَا تُرِيدُ، وَإِنْ تَرَقَّتْ بِهِمُ الأُمُورُ إِلَى التَّمَادِي فِي الْعِصْيَانِ فَانْهَضْ إِلَيْهِمْ فَجَاهِدْهُمْ، فَإِنْ رَأَيْتَ مِمَّنْ قَبْلَكَ تَثَاقُلا، وَخِفْتَ أَلا تَبْلُغَ مَا تُرِيدُ، فَدَارِهِمْ وَطَاوِلْهُمْ، ثُمَّ تَسَمَّعْ وَأَبْصِرْ، فَكَأَنَّ جُنُودَ اللَّهِ قَدْ أَظَلَّتْكَ، تَقْتُلُ الظَّالِمِينَ فَقَدِمَ أَعْيَنُ فَأَتَى زِيَادًا، فَنَزَلَ عِنْدَهُ، ثُمَّ أَتَى قَوْمَهُ، وَجَمَعَ رِجَالا وَنَهَضَ إِلَى ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ، فَدَعَاهُمْ، فَشَتَمُوهُ وَنَاوَشُوهُ، فَانْصَرَفَ عَنْهُمْ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ قَوْمٌ فَقَتَلُوهُ، فَلَمَّا قتل اعين ابن ضُبَيْعَةَ، أَرَادَ زِيَادٌ قِتَالَهُمْ، فَأَرَسَلَتْ بَنُو تَمِيمٍ إِلَى الأَزْدِ: إِنَّا لَمْ نَعْرِضْ لِجَارِكُمْ، وَلا لأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَمَاذَا تُرِيدُونَ إِلَى جَارِنَا وَحَرْبِنَا! فَكَرِهَتِ الأَزْدُ الْقِتَالَ، وَقَالُوا: إِنْ عَرَضُوا لِجَارِنَا مَنَعْنَاهُمْ، وَإِنْ يَكُفُّوا عَنْ جَارِنَا كَفَفْنَا عَنْ جَارِهِمْ فَأَمْسِكُوا وَكَتَبَ زِيَادٌ إِلَى عَلِيٍّ: أَنَّ أَعْيَنَ بْنَ ضُبَيْعَةَ

قَدِمَ فَجَمَعَ مَنْ أَطَاعَهُ مِنْ عَشِيرَتِهِ، ثُمَّ نَهَضَ بِهِمْ بِجِدٍّ وَصِدْقِ نِيَّةٍ إِلَى ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ، فَحَثَّهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الْكَفِّ وَالرُّجُوعِ عَنْ شِقَاقِهِمْ، وَوَافَقَتْهُمْ عَامَّةُ قَوْمٍ، فَهَالَهُمْ ذَلِكَ، وَتَصَدَّعَ عَنْهُمْ كَثِيرٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُمْ، يُمَنِّيهِمْ نُصْرَتَهُ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ مُنَاوَشَةٌ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى أَهْلِهِ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَاغْتَالُوهُ فَأُصِيبَ، رَحِمَ اللَّهُ أَعْيَنُ! فَأَرَدْتُ قِتَالَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَخَفْ مَعِي مَنْ أَقْوَى بِهِ عَلَيْهِمْ، وَتَرَاسَلَ الْحَيَّانِ، فَأَمْسَكَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ. فَلَمَّا قَرَأَ عَلِيٌّ كِتَابَهُ دَعَا جَارِيَةَ بْنَ قُدَامَةَ السَّعْدِيَّ، فَوَجَّهَهُ فِي خَمْسِينَ رَجُلا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، وَبَعَثَ مَعَهُ شَرِيكَ بْنَ الأَعْوَرِ- وَيُقَالُ بَعَثَ جاريه خمسمائة رَجُلٍ- وَكَتَبَ إِلَى زِيَادٍ كِتَابًا يُصَوِّبُ رَأْيَهُ فيما صنع، وامره بمعونة جاريه ابن قُدَامَةَ وَالإِشَارَةِ عَلَيْهِ، فَقَدِمَ جَارِيَةُ الْبَصْرَةَ، فَأَتَى زِيَادًا فَقَالَ لَهُ: احْتَفِزْ وَاحْذَرْ أَنْ يُصِيبَكَ مَا أَصَابَ صَاحِبَكَ، وَلا تَثِقَنَّ بِأَحَدٍ مِنَ الْقَوْمِ فَسَارَ جَارِيَةُ إِلَى قَوْمِهِ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ كِتَابَ عَلِيٍّ، وَوَعَدَهُمْ، فَأَجَابَهُ أَكْثَرُهُمْ، فَسَارَ إِلَى ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ فَحَصَرَهُ فِي دَارِ سنبيل، ثُمَّ أَحْرَقَ عَلَيْهِ الدَّارَ وَعَلَى مَنْ مَعَهُ، وَكَانَ مَعَهُ سَبْعُونَ رَجُلا- وَيُقَالُ أَرْبَعُونَ- وَتَفَرَّقَ النَّاسُ، وَرَجَعَ زِيَادٌ إِلَى دَارِ الإِمَارَةِ، وَكَتَبَ إِلَى عَلِيٍّ مَعَ ظَبْيَانَ بْنِ عُمَارَةَ، وَكَانَ مِمَّنْ قَدِمَ مَعَ جَارِيَةَ وَإِنَّ جَارِيَةَ قَدِمَ عَلَيْنَا فَسَارَ إِلَى ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ فَقَتَلَهُ حَتَّى اضْطَرَّهُ إِلَى دَارٍ مِنْ دُورِ بَنِي تَمِيمٍ، فِي عِدَّةِ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِهِ بَعْدَ الإِعْذَارِ وَالإِنْذَارِ، وَالدُّعَاءِ إِلَى الطَّاعَةِ، فَلَمْ يُنِيبُوا وَلَمْ يَرْجِعُوا، فَأَضْرَمَ عَلَيْهِمُ الدَّارَ فَأَحْرَقَهُمْ فِيهَا، وَهُدِمَتْ عَلَيْهِمْ، فَبُعْدًا لِمَنْ طَغَى وَعَصَى! فَقَالَ عَمْرو بن العرندس العودي: رددنا زيادا إِلَى داره ... وجار تميم دخانا ذهب لحى اللَّه قوما شووا جارهم ... وللشاء بالدرهمين الشصب

الخريت بن راشد واظهاره الخلاف على على

ينادي الخناق وخمانها ... وَقَدْ سمطوا رأسه باللهب ونحن أناس لنا عادة ... نحامي عن الجار أن يغتصب حميناه إذ حل أبياتنا ... وَلا يمنع الجار إلا الحسب ولم يعرفوا حرمة للجوار ... إذ أعظم الجار قوم نجب كفعلهم قبلنا بالزبير ... عشية إذ بزه يستلب وَقَالَ جرير بن عطية بن الخطفي: غدرتم بالزبير فما وفيتم ... وفاء الأزد إذ منعوا زيادا فأصبح جارهم بنجاة عز ... وجار مجاشع أمسى رمادا فلو عاقدت حبل أبي سَعِيد ... لذاد القوم مَا حمل النجادا وأدنى الخيل من رهج المنايا ... واغشاها الأسنة والصعادا الخريت بن راشد واظهاره الخلاف على على ومما كَانَ فِي هَذِهِ السنة- أعني سنة ثمان وثلاثين- إظهار الخريت بن راشد فِي بني ناجية الخلاف عَلَى علي وفراقه إِيَّاهُ، كالذي ذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، عن الْحَارِث الأَزْدِيّ، عن عمه عَبْد اللَّهِ بن فقيم، قَالَ: جَاءَ الخريت بن راشد الى على- وكان مع الخريت ثلاثمائة رجل من بني ناجية مقيمين مع علي بالكوفة، قدموا مَعَهُ مِنَ الْبَصْرَةِ، وكانوا قَدْ خرجوا إِلَيْهِ يوم الجمل، وشهدوا مَعَهُ صفين والنهروان- فَجَاءَ إِلَى علي فِي ثَلاثِينَ راكبا من أَصْحَابه يسير بينهم حَتَّى قام بين يدي علي، فَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ يَا علي لا أطيع أمرك، وَلا أصلي خلفك، وإني غدا لمفارقك وَذَلِكَ بعد

تحكيم الحكمين [فَقَالَ لَهُ علي: ثكلتك أمك! إذا تعصي ربك، وتنكث عهدك، وَلا تضر إلا نفسك خبرني لم تفعل ذَلِكَ؟ قَالَ: لأنك حكمت فِي الكتاب، وضعفت عن الحق إذ جد الجد، وركنت إِلَى القوم الَّذِينَ ظلموا أنفسهم، فأنا عَلَيْك زار، وعليهم ناقم، ولكم جميعا مباين. فَقَالَ لَهُ علي: هلم أدارسك الكتاب، وأناظرك فِي السنن، وأفاتحك أمورا من الحق أنا أعلم بِهَا مِنْكَ، فلعلك تعرف مَا أنت لَهُ الآن منكر، وتستبصر مَا أنت عنه الآن جاهل قَالَ: فإني عائد إليك، قَالَ: لا يستهوينك الشَّيْطَان، وَلا يستخفنك الجهل، وو الله لَئِنِ استرشدتني واستنصحتني وقبلت مني لأهدينك سبيل الرشاد] . فخرج من عنده منصرفا إِلَى أهله، فعجلت فِي أثره مسرعا وَكَانَ لي من بني عمه صديق، فأردت أن ألقى ابن عمه ذَلِكَ فأعلمه بشأنه، ويأمره بطاعة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ ومناصحته، ويخبره أن ذَلِكَ خير لَهُ فِي عاجل الدُّنْيَا وآجل الآخرة فخرجت حَتَّى انتهيت إِلَى منزله وَقَدْ سبقني، فقمت عِنْدَ باب داره، وفي داره رجال من أَصْحَابه لم يكونوا شهدوا مَعَهُ دخوله عَلَى علي. قال: فو الله مَا جزم شَيْئًا مما قَالَ، ومما رد عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: يَا هَؤُلاءِ، إني قَدْ رأيت أن أفارق هَذَا الرجل، وَقَدْ فارقته عَلَى أن أرجع إِلَيْهِ من غد، وَلا أراني إلا مفارقه من غد فَقَالَ لَهُ أكثر أَصْحَابه: لا تفعل حَتَّى تأتيه، فإن أتاك بأمر تعرفه قبلت مِنْهُ، وإن كَانَتِ الأخرى فما أقدرك عَلَى فراقه. فَقَالَ لَهُمْ: فنعم مَا رأيتم قَالَ: ثُمَّ إني استأذنت عَلَيْهِ، فأذنوا لي، فدخلت فقلت: أنشدك اللَّه أن تفارق أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وجماعة الْمُسْلِمِينَ، وأن تجعل عَلَى نفسك سبيلا، وأن تقتل من أَرَى من عشيرتك! أن عَلِيًّا لعلى الحق. قَالَ: فأنا أغدو إِلَيْهِ فأسمع مِنْهُ حجته، وأنظر مَا يعرض علي بِهِ ويذكر، فإن رأيت حقا ورشدا قبلت، وإن رأيت غيا وجورا تركت قَالَ: فخلوت بابن عمه ذَلِكَ- قَالَ: وَكَانَ أحد نفره الأدنين، وَهُوَ مدرك بن الريان، وَكَانَ من رجال العرب- فقلت لَهُ: إن لك علي حقا لإخائك وودك ذَلِكَ علي

بعد حق المسلم عَلَى المسلم إن ابن عمك كَانَ مِنْهُ مَا قَدْ ذكر لك، فأجد بِهِ، فاردد عَلَيْهِ رأيه، وعظم عَلَيْهِ مَا أتى، فإني خائف إن فارق أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أن يقتله نفسه وعشيرته فَقَالَ: جزاك اللَّه خيرا من أخ! فقد نصحت وأشفقت، إن أراد صاحبي فراق أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فارقته وخالفته، وكنت أشد الناس عَلَيْهِ. وأنا بعد فإني خال بِهِ، ومشير عَلَيْهِ بطاعة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ ومناصحته والإقامة مَعَهُ، وفي ذَلِكَ حظه ورشده. فقمت من عنده، وأردت الرجوع إِلَى أَمِير المؤمنين لا علمه بِالَّذِي كَانَ، ثُمَّ اطمأننت إِلَى قول صاحبي، فرجعت إِلَى منزلي فبت بِهِ ثُمَّ أصبحت، فلما ارتفع الضحى أتيت أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، فجلست عنده ساعة وأنا أريد أن أحدثه بِالَّذِي كَانَ من قوله لي عَلَى خلوة، فأطلت الجلوس، فلم يزدد الناس إلا كثرة، فدنوت منه، فجلست وراءه، فاصغى الى باذنيه، فخبرته بِمَا سمعت من الخريت بن راشد، وبما قلت لَهُ، وبما رد علي، وبما كَانَ من مقالتي لابن عمه، وبما رد علي، فَقَالَ: دعه، فإن عرف الحق واقبل إِلَيْهِ عرفنا ذَلِكَ وقبلنا مِنْهُ، وإن أبى طلبناه فقلت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ولم لا تأخذه الآن وتستوثق مِنْهُ وتحبسه؟ فَقَالَ: إنا لو فعلنا هَذَا بكل من نتهمه مِنَ النَّاسِ ملأنا سجننا مِنْهُمْ، وَلا أراه- يعني الوثوب عَلَى الناس والحبس والعقوبة- حَتَّى يظهروا لنا الخلاف قَالَ: فسكت عنه، وتنحيت، فجلست مع القوم. ثُمَّ مكث مَا شاء اللَّه ثُمَّ إنه قَالَ: ادن مني، فدنوت مِنْهُ، فَقَالَ لي مسرا: اذهب إِلَى منزل الرجل فاعلم لي مَا فعل، فإنه كل يوم لَمْ يَكُنْ يأتيني فِيهِ إلا قبل هَذِهِ الساعة فأتيت منزله، فإذا ليس فِي منزله مِنْهُمْ ديار، فدعوت عَلَى أبواب دور أخرى كَانَ فِيهَا طائفة من أَصْحَابه، فإذا ليس فِيهَا داع وَلا مجيب، فرجعت فَقَالَ لي حين رآني: وطنوا فأمنوا، أم جنبوا فظعنوا! [فقلت: بل ظعنوا فأعلنوا، فَقَالَ: قَدْ فعلوها! بعدا لَهُمْ كما بعدت ثمود! أما لو قَدْ أشرعت لَهُمُ الأسنة وصببت عَلَى هامهم السيوف،

لقد ندموا أن الشَّيْطَان الْيَوْم قَدِ استهواهم وأضلهم، وهو غدا متبرئ منهم، ومخل عَنْهُمْ] . فقام إِلَيْهِ زياد بن خصفة، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنه لو لَمْ يَكُنْ من مضرة هَؤُلاءِ إلا فراقهم إيانا لم يعظم فقدهم فنأسى عَلَيْهِم، فإنهم قلما يزيدون فِي عددنا لو أقاموا معنا، وقلما ينقصون من عددنا بخروجهم عنا، ولكنا نخاف أن يفسدوا علينا جماعة كثيرة ممن يقدمون عَلَيْهِ من أهل طاعتك، فأذن لي فِي اتباعهم حَتَّى أردهم عَلَيْك إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَالَ لَهُ علي: وهل تدري أين توجه القوم؟ فَقَالَ: لا، ولكني أخرج فأسأل وأتبع الأثر. فَقَالَ لَهُ: اخرج رحمك اللَّه حَتَّى تنزل دير أبي مُوسَى، ثم لا تتوجه حَتَّى يأتيك أمري، فإنهم إن كَانُوا خرجوا ظاهرين لِلنَّاسِ فِي جماعة، فإن عمالي ستكتب إلي بِذَلِكَ، وإن كَانُوا متفرقين مستخفين فذلك أخفى لَهُمْ، وسأكتب إِلَى عمالي فِيهِمْ فكتب نسخة واحدة فأخرجها إِلَى العمال: أَمَّا بَعْدُ، فإن رجالا خرجوا هرابا ونظنهم وجهوا نحو بلاد الْبَصْرَة، فسل عَنْهُمْ أهل بلادك، واجعل عَلَيْهِم العيون فِي كل ناحية من أرضك، واكتب إلي بِمَا ينتهي إليك عَنْهُمْ، والسلام. فخرج زياد بن خصفة حَتَّى أتى داره، وجمع أَصْحَابه، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا معشر بكر بن وائل، فإن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ ندبني لأمر من أمره مهم لَهُ، وأمرني بالانكماش فِيهِ، وَأَنْتُمْ شيعته وأنصاره، وأوثق حي من الأحياء فِي نفسه، فانتدبوا معى الساعة، واعجلوا. قال: فو الله مَا كَانَ إلا ساعة حَتَّى اجتمع لَهُ مِنْهُمْ مائة وعشرون رجلا أو ثلاثون، فَقَالَ: اكتفينا، لا نريد أكثر من هَذَا، فخرجوا حَتَّى قطعوا الجسر، ثُمَّ دير أبي مُوسَى، فنزله، فأقام فِيهِ بقية يومه ذَلِكَ ينتظر أمر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ

قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي أَبُو الصلت الأعور التيمي، عن أبي سَعِيد العقيلي، عن عَبْد اللَّهِ بن وأل التيمي، قَالَ: وَاللَّهِ إني لعند أَمِير الْمُؤْمِنِينَ إذ جاءه فيج، كتاب بيديه، من قبل قرظة بن كعب الأَنْصَارِيّ: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني أخبر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أن خيلا مرت بنا من قبل الْكُوفَة متوجهة نحو نفر، وإن رجلا من دهاقين أسفل الفرات قَدْ صلى يقال لَهُ: زاذان فروخ، أقبل من قبل أخواله بناحية نفر، فعرضوا لَهُ، فَقَالُوا: أمسلم أنت أم كافر؟ فَقَالَ: بل أنا مسلم، قَالُوا: فما قولك فِي علي؟ قَالَ: أقول فِيهِ خيرا، أقول: إنه أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وسيد البشر، فَقَالُوا لَهُ: كفرت يَا عدو اللَّه! ثُمَّ حملت عَلَيْهِ عصابة مِنْهُمْ فقطعوه، ووجدوا معه رجلا من أهل الذمة، فَقَالُوا: مَا أنت؟ قَالَ: رجل من أهل الذمة، قَالُوا: أما هَذَا فلا سبيل عَلَيْهِ، فأقبل إلينا ذَلِكَ الذمي فأخبرنا هَذَا الخبر، وَقَدْ سألت عَنْهُمْ فلم يخبرني أحد عَنْهُمْ بشيء، فليكتب إلي أَمِير الْمُؤْمِنِينَ برأيه فِيهِمْ أنته إِلَيْهِ والسلام. فكتب إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ، فقد فهمت مَا ذكرت من العصابة الَّتِي مرت بك فقتلت البر المسلم، وأمن عندهم المخالف الكافر، وإن أُولَئِكَ قوم استهواهم الشَّيْطَان فضلوا وكانوا كالذين حسبوا الا تكون فتنة فعموا وصموا، فأسمع بهم وأبصر يوم تخبر أعمالهم والزم عملك، وأقبل عَلَى خراجك فإنك كما ذكرت فِي طاعتك ونصيحتك، والسلام قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي أَبُو الصلت الأعور التيمي عن أبي سَعِيد العقيلي، عن عَبْد اللَّهِ بن وأل، قَالَ: كتب علي ع معي كتابا إِلَى زياد بن خصفة، وأنا يَوْمَئِذٍ شاب حدث: أَمَّا بَعْدُ، فإني كنت أمرتك أن تنزل دير أبي مُوسَى حَتَّى يأتيك أمري وَذَلِكَ لأني لم أكن علمت إِلَى أي وجه توجه القوم، وَقَدْ بلغني أَنَّهُمْ أخذوا نحو قرية يقال لها نفر، فاتبع آثارهم، وسل عَنْهُمْ، فإنهم قَدْ قتلوا رجلا من أهل

السواد مصليا، فإذا أنت لحقتهم فارددهم إلي، فإن أبوا فناجزهم، واستعن بِاللَّهِ عَلَيْهِم، فإنهم قَدْ فارقوا الحق، وسفكوا الدم الحرام، وأخافوا السبيل والسلام. [قَالَ: فأخذت الكتاب مِنْهُ، فمضيت بِهِ غير بعيد، ثُمَّ رجعت بِهِ، فقلت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلا أمضي مع زياد بن خصفة إذا دفعت إِلَيْهِ كتابك إِلَى عدوك؟ فقال: يا بن أخي، افعل، فو الله إني أرجو أن تكون من أعواني عَلَى الحق، وأنصاري عَلَى القوم الظالمين، فقلت لَهُ: أنا وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كذلك ومن أُولَئِكَ، وأنا حَيْثُ تحب] . قَالَ ابن وأل: فو الله مَا أحب أن لي بمقالة علي تِلَكَ حمر النعم. قَالَ: ثُمَّ مضيت إِلَى زياد بن خصفة بكتاب علي وأنا عَلَى فرس لي رائع كريم، وعلي السلاح، فَقَالَ لي زياد: يا بن أخي، وَاللَّهِ مَا لي عنك من غناء، وإني لأحب أن تكون معي فِي وجهي هَذَا، فقلت لَهُ: قَدِ استأذنت فِي ذَلِكَ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فأذن لي، فسر بِذَلِكَ. قَالَ: ثُمَّ خرجنا حَتَّى أتينا نفر، فسألنا عَنْهُمْ، فقيل لنا: قَدِ ارتفعوا نحو جرجرايا، فأتبعناهم، فقيل لنا: قَدْ أخذوا نحو المذار، فلحقناهم وهم نزول بالمذار، وَقَدْ أقاموا بِهِ يَوْمًا وليلة، وَقَدِ استراحوا وأعلفوا وهم جامون، فأتيناهم وَقَدْ تقطعنا ولغبنا وشقينا ونصبنا، فلما رأونا وثبوا عَلَى خيولهم فاستووا عَلَيْهَا، وجئنا حَتَّى انتهينا إِلَيْهِم، فواقفناهم، ونادانا صاحبهم الخريت بن راشد: يَا عميان القلوب والأبصار، أمع اللَّه أنتم وكتابه وسنة نبيه، أم مع الظالمين؟ فَقَالَ لَهُ زياد بن خصفة: بل نحن مع اللَّه ومن اللَّه وكتابه ورسوله آثر عنده ثوابا من الدُّنْيَا منذ خلقت إِلَى يوم تفنى، أيها العمي الأبصار، الصم القلوب والأسماع فَقَالَ لنا: أخبروني مَا تريدون؟ فَقَالَ لَهُ زياد- وَكَانَ مجربا رفيقا: قَدْ ترى مَا بنا من اللغوب والسغوب، والذي جئنا لَهُ لا يصلحه الكلام علانية عَلَى رءوس أَصْحَابي وأَصْحَابك، ولكن أنزل وتنزل، ثُمَّ نخلو جميعا فنتذاكر أمرنا هَذَا جميعا وننظر، فإن

رأيت مَا جئناك فِيهِ حظا لنفسك قبلته، وإن رأيت فِيمَا أسمعه مِنْكَ أمرا أرجو فِيهِ العافية لنا ولك لم أردده عَلَيْك قَالَ: فانزل بنا، قَالَ: فأقبل إلينا زياد فَقَالَ: انزلوا بنا عَلَى هَذَا الماء، قَالَ: فأقبلنا حَتَّى إذا انتهينا إِلَى الماء، نزلناه فما هُوَ إلا أن نزلنا فتفرقنا، ثُمَّ تحلقنا من عشرة وتسعة وثمانية وسبعة، يضعون طعامهم بين أيديهم فيأكلون، ثُمَّ يقومون إِلَى ذَلِكَ الماء فيشربون وَقَالَ لنا زياد: علقوا على خيولكم، فعلقنا عليها مخاليها، ووقف زياد بيننا وبين القوم، وانطلق القوم فتنحوا ناحية، ثُمَّ نزلوا، وأقبل إلينا زياد، فلما رَأَى تفرقنا وتحلقنا قَالَ: سبحان اللَّه، أنتم هل حرب؟ وَاللَّهِ لو أن هَؤُلاءِ جاءوكم الساعة عَلَى هَذِهِ الحال مَا أرادوا من غيركم أفضل من حالكم الَّتِي أنتم عَلَيْهَا. اعجلوا، قوموا إِلَى خيلكم، فأسرعنا، فتحشحشنا فمنا من يتنفض، ثُمَّ يتوضأ، ومنا من يشرب، ومنا من يسقي فرسه، حَتَّى إذا فرغنا من ذَلِكَ كله، أتانا زياد وفي يده عرق ينهشه، فنهش مِنْهُ نهشتين أو ثلاثا، وأتى بإداوة فِيهَا ماء، فشرب مِنْهُ، ثُمَّ ألقى العرق من يده ثُمَّ قَالَ: يَا هَؤُلاءِ، انا قد لقينا القوم، وو الله إن عدتكم كعدتهم، وَلَقَدْ حزرتكم وإياهم فما أظن أحد الفريقين يَزِيد عَلَى الآخر بخمسة نفر، وإني وَاللَّهِ مَا أَرَى أمرهم وأمركم إلا يرجع إِلَى القتال، فإن كَانَ إِلَى ذَلِكَ مَا يصير بكم وبهم الأمور فلا تكونوا أعجز الفريقين ثُمَّ قَالَ لنا: ليأخذ كل امرئ مِنْكُمْ بعنان فرسه حَتَّى أدنو منهم، وادعوا إلي صاحبهم فأكلمه، فإن بايعني عَلَى مَا أريد وإلا فإذا دعوتكم فاستووا عَلَى متون الخيل، ثُمَّ أقبلوا إلي معا غير متفرقين. قَالَ: فاستقدم أمامنا وأنا مَعَهُ، فأسمع رجلا من القوم يقول: جاءكم القوم وهم كالون معيون، وَأَنْتُمْ جامون مستريحون، فتركتموهم حَتَّى نزلوا وأكلوا وشربوا واستراحوا، هَذَا وَاللَّهِ سوء الرأي! وَاللَّهِ لا يرجع الأمر بكم وبهم إلا إِلَى القتال فسكتوا، وانتهينا إِلَيْهِم، فدعا زياد بن خصفة صاحبهم، فَقَالَ: اعتزل بنا فلننظر في امرنا هذا، فو الله لقد أقبل إلي زياد فِي خمسة، فقلت لزياد: ادع ثلاثة من أَصْحَابنا حَتَّى نلقاهم فِي عدتهم، فَقَالَ لي: ادع من

أحببت مِنْهُمْ، فدعوت من أَصْحَابنا ثلاثا، فكنا خمسة وخمسة فَقَالَ لَهُ زياد: مَا الَّذِي نقمت عَلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ وعلينا إذ فارقتنا؟ فَقَالَ: لم أرض صاحبكم إماما، ولم أرض سيرتكم سيرة، فرأيت أن أعتزل وأكون مع من يدعو إِلَى الشورى مِنَ النَّاسِ، فإذا اجتمع الناس عَلَى رجل لجميع الأمة رضا كنت مع الناس فَقَالَ لَهُ زياد: ويحك! وهل يجتمع الناس عَلَى رجل مِنْهُمْ يداني صاحبك الَّذِي فارقته علما بِاللَّهِ وبسنن اللَّه وكتابه، مع قرابته من الرسول ص وسابقته فِي الإِسْلام! فَقَالَ لَهُ: ذَلِكَ مَا أقول لك، فَقَالَ لَهُ زياد: ففيم قتلت ذَلِكَ الرجل المسلم؟ قَالَ: مَا أنا قتلته، إنما قتلته طائفة من أَصْحَابي، قَالَ: فادفعهم إلينا، قَالَ: مَا إِلَى ذَلِكَ سبيل، قَالَ: كذلك أنت فاعل؟ قَالَ: هُوَ مَا تسمع، قَالَ: فدعونا أَصْحَابنا ودعا أَصْحَابه، ثُمَّ أقبلنا، فو الله مَا رأينا قتالا مثله منذ خلقني ربي، قَالَ: اطّعنَا وَاللَّهِ بالرماح حَتَّى لم يبق فِي أيدينا رمح، ثُمَّ اضطربنا بالسيوف حَتَّى انحنت وعقر عامة خيلنا وخيلهم، وكثرت الجراح فِيمَا بيننا وبينهم، وقتل منا رجلان: مولى زياد كَانَتْ مَعَهُ رايته يدعى سويدا ورجل من الأبناء يدعى وافد بن بكر، وصرعنا مِنْهُمْ خمسة، وجاء الليل يحجز بيننا وبينهم، وَقَدْ وَاللَّهِ كرهونا وكرهناهم، وَقَدْ جرح زياد وجرحت. قَالَ: ثُمَّ إن القوم تنحوا وبتنا فِي جانب، فمكثوا ساعة من الليل، ثُمَّ انهم ذهبوا واتبعناهم حَتَّى أتينا الْبَصْرَة، وبلغنا أَنَّهُمْ أتوا الأهواز، فنزلوا بجانب منها، وتلاحق بهم أناس من أَصْحَابهم نحو من مائتين كَانُوا معهم بالكوفة، ولم يكن لَهُمْ من القوة مَا ينهضهم معهم حَتَّى نهضوا فاتبعوهم فلحقوهم بأرض الأهواز، فأقاموا معهم وكتب زياد بن خصفة إِلَى علي: أَمَّا بَعْدُ، فإنا لقينا عدو اللَّه الناجي بالمذار، فدعوناهم إِلَى الهدى والحق وإلى كلمة السواء، فلم ينزلوا عَلَى الحق، وأخذتهم العزة بالإثم، وزين لَهُمُ الشَّيْطَان أعمالهم فصدهم عن السبيل، فقصدوا لنا، وصمدنا صمدهم، فاقتتلنا قتالا شديدا مَا بين قائم الظهيرة إِلَى دلوك الشمس، فاستشهد منا رجلان صالحان، وأصيب مِنْهُمْ خمسة نفر، وخلوا لنا المعركة،

وَقَدْ فشت فينا وفيهم الجراح ثُمَّ إن القوم لما لبسهم الليل خرجوا من تحته متنكبين إِلَى أرض الأهواز، فبلغنا أَنَّهُمْ نزلوا منها جانبا ونحن بِالْبَصْرَةِ نداوي جراحنا، وننتظر أمرك رحمك اللَّه، والسلام عَلَيْك. فلما أتيته بكتابه قرأه عَلَى الناس، فقام إِلَيْهِ معقل بن قيس، فَقَالَ: أصلحك اللَّه يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إنما كَانَ ينبغي أن يكون مع من يطلب هَؤُلاءِ مكان كل رجل مِنْهُمْ عشرة مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فإذا لحقوهم استأصلوهم وقطعوا دابرهم، فأما أن يلقاهم أعدادهم فلعمري ليصبرن لَهُمْ، هم قوم عرب، والعدة تصبر للعدة، وتنتصف منها فَقَالَ: تجهز يَا معقل بن قيس إِلَيْهِم وندب مَعَهُ ألفين من أهل الْكُوفَة مِنْهُمْ يَزِيد بن المغفل الأَزْدِيّ وكتب إِلَى ابن عَبَّاس: أَمَّا بَعْدُ، فابعث رجلا من قبلك صليبا شجاعا معروفا بالصلاح فِي ألفي رجل، فليتبع معقلا، فإذا مر ببلاد الْبَصْرَة فهو أَمِير أَصْحَابه حَتَّى يلقى معقلا، فإذا لقي معقلا فمعقل أَمِير الفريقين، وليسمع من معقل وليطعه، وَلا يخالفه، ومر زياد بن خصفة فليقبل، فنعم المرء زياد، ونعم القبيل قبيله! قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي أَبُو الصلت الأعور، عن أبي سَعِيد العقيلي، قَالَ: كتب علي إِلَى زياد بن خصفة: أَمَّا بَعْدُ، فقد بلغني كتابك، وفهمت مَا ذكرت من أمر الناجي وإخوانه الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ، * وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ* فَهُمْ يَعْمَهُونَ، ويَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً، ووصفت مَا بلغ بك وبهم الأمر، فأما أنت وأَصْحَابك فلله سعيكم، وعلى اللَّه تعالى جزاؤكم! فأبشر بثواب اللَّه خير من الدُّنْيَا الَّتِي يقتل الجهال أنفسهم عَلَيْهَا، فإن مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ وأما عدوكم الَّذِينَ لقيتموهم فحسبهم بخروجهم من الهدى إِلَى الضلال، وارتكابهم فِيهِ، وردهم الحق، ولجاجهم فِي الْفِتْنَة، فذرهم وما يفترون، ودعهم فِي طغيانهم يعمهون، فتسمع وتبصر، كأنك

بهم عن قليل بين أسير وقتيل أقبل إلينا أنت وأَصْحَابك مأجورين، فقد أطعتم وسمعتم، وأحسنتم البلاء، والسلام. ونزل الناجي جانبا من الأهواز، واجتمع إِلَيْهِ علوج من أهلها كثير أرادوا كسر الخراج، ولصوص كثيرة، وطائفة أخرى من العرب ترى رأيه. حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَالَ الشَّعْبِيُّ: لَمَّا قَتَلَ على ع أَهْلَ النَّهْرَوَانِ، خَالَفَهُ قَوْمٌ كَثِيرٌ، وَانْتَقَضَتْ عَلَيْهِ أَطْرَافُهُ، وَخَالَفَهُ بَنُو نَاجِيَةَ، وَقَدِمَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ الْبَصْرَةَ، وَانْتَقَضَ أَهْلُ الأَهْوَازِ، وَطَمِعَ أَهْلُ الْخَرَاجِ فِي كَسْرِهِ، ثُمَّ أَخْرَجُوا سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ مِنْ فَارِسَ، وَكَانَ عَامِلَ عَلِيٍّ عَلَيْهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعَلِيٍّ: أَكْفِيكَ فَارِسَ بِزِيَادٍ، فَأَمَرَهُ عَلِيٌّ أَنْ يُوَجِّهَهُ إِلَيْهَا، فَقَدِمَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْبَصْرَةَ، وَوَجَّهَهُ إِلَى فَارِسَ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَوَطِئَ بِهِمْ أَهْلَ فَارِسَ، فَأَدَّوُا الْخَرَاجَ. رجع الحديث إِلَى حديث أبي مخنف قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي الْحَارِث بن كعب، عن عَبْد اللَّهِ بن فقيم الأَزْدِيّ، قَالَ: كنت أنا وأخي كعب فِي ذَلِكَ الجيش مع معقل بن قيس، [فلما أراد الخروج أقبل إِلَى علي فودعه فَقَالَ: يَا معقل، اتق اللَّه مَا استطعت، فإنها وصية اللَّه للمؤمنين، لا تبغ عَلَى أهل القبلة، وَلا تظلم أهل الذمة، ولا تتكبر فإن اللَّه لا يحب المتكبرين فَقَالَ: اللَّه المستعان، فَقَالَ لَهُ علي: خير مستعان،] قَالَ: فخرج وخرجنا مَعَهُ حَتَّى نزلنا الأهواز، فأقمنا ننتظر أهل الْبَصْرَة، وَقَدْ أبطئوا علينا، فقام فينا معقل بن قيس فَقَالَ: يا أيها الناس، إنا قَدِ انتظرنا أهل الْبَصْرَة، وَقَدْ أبطئوا علينا، وليس بحمد اللَّه بنا قلة وَلا وحشة إِلَى النَّاسِ، فسيروا بنا إِلَى هَذَا العدو القليل الذليل، فإني أرجو أن ينصركم اللَّه وأن يهلكهم

قَالَ: فقام إِلَيْهِ أخي كعب بن فقيم، فقال: اصبت- ارشدك الله- رأيك! فو الله إني لأرجو أن ينصرنا اللَّه عَلَيْهِم، وإن كَانَتِ الأخرى فإن فِي الموت عَلَى الحق تعزية عن الدُّنْيَا فَقَالَ: سيروا عَلَى بركة الله، قال: فسرنا وو الله مَا زال معقل لي مكرما وادّا، مَا يعدل بي من الجند أحدا، قَالَ وَلا يزال يقول: وكيف قلت: إن فِي الموت على الحق تعزيه عن الدنيا؟ صدقت والله واحسنت ووفقت! فو الله مَا سرنا يَوْمًا حَتَّى أدركنا فيج يشتد بصحيفة فِي يده من عِنْدَ عَبْد اللَّهِ بن عباس: أَمَّا بَعْدُ، فإن أدركك رسولي بالمكان الَّذِي كنت فِيهِ مقيما، أو أدركك وَقَدْ شخصت مِنْهُ، فلا تبرح المكان الَّذِي ينتهي فِيهِ إليك رسولي، واثبت فِيهِ حَتَّى يقدم عَلَيْك بعثنا الَّذِي وجهناه إليك، فإني قَدْ بعثت إليك خَالِد بن مَعْدَانَ الطَّائِيّ، وَهُوَ من أهل الإصلاح والدين والبأس والنجدة، فاسمع مِنْهُ، واعرف ذَلِكَ لَهُ، والسلام. فقرأ معقل الكتاب عَلَى الناس، وحمد اللَّه، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ الوجه هالهم. قَالَ: فأقمنا حَتَّى قدم الطَّائِيّ علينا، وجاء حَتَّى دخل عَلَى صاحبنا، فسلم عَلَيْهِ بالإمرة، واجتمعا جميعا فِي عسكر واحد قَالَ: ثُمَّ إنا خرجنا فسرنا إِلَيْهِم، فأخذوا يرتفعون نحو جبال رامهرمز يريدون قلعة بِهَا حصينة وجاءنا أهل البلد فأخبرونا بِذَلِكَ، فخرجنا فِي آثارهم نتبعهم، فلحقناهم وَقَدْ دنوا من الجبل، فصففنا لَهُمْ، ثُمَّ أقبلنا إِلَيْهِم، فجعل معقل عَلَى ميمنته يَزِيد بن المغفل، وعلى ميسرته منجاب بن راشد الضبي من أهل الْبَصْرَة، وصف الخريت بن راشد الناجي من مَعَهُ من العرب، فكانوا ميمنة، وجعل أهل البلد والعلوج ومن أراد كسر الخراج وأتباعهم من الأكراد ميسرة. قَالَ: وسار فينا معقل بن قيس يحرضنا ويقول لنا: عباد اللَّه! لا تعدلوا القوم بأبصاركم، غضوا الأبصار، وأقلوا الكلام، ووطنوا أنفسكم عَلَى الطعن والضرب، وأبشروا فِي قتالهم بالأجر العظيم، إنما تقاتلون مارقة مرقت من الدين، وعلوجا منعوا الخراج وأكرادا، انظروني فإذا حملت فشدوا شدة رجل واحد فمر فِي الصف كله يقول لَهُمْ هَذِهِ المقالة، حَتَّى إذا مر بِالنَّاسِ كلهم أقبل حَتَّى وقف وسط الصف فِي القلب، ونظرنا إِلَيْهِ مَا يصنع!

فحرك رايته تحريكتين، فو الله مَا صبروا لنا ساعة حَتَّى ولوا، وشدخنا مِنْهُمْ سبعين عربيا من بني ناجية، ومن بعض من اتبعهم من العرب، وقتلنا نحوا من ثلاثمائة من العلوج والأكراد قَالَ كعب بن فقيم: ونظرت فيمن قتل من العرب، فإذا أنا بصديقي مدرك بن الريان قتيلا، وخرج الخريت ابن راشد وَهُوَ منهزم حَتَّى لحق بأسياف البحر، وبها جماعة من قومه كثير، فما زال بهم يسير فِيهِمْ ويدعوهم إِلَى خلاف علي، ويبين لَهُمْ فراقه، ويخبرهم أن الهدى فِي حربه، حَتَّى اتبعه مِنْهُمْ ناس كثير، وأقام معقل بن قيس بأرض الأهواز، وكتب إِلَى علي معي بالفتح، وكنت أنا الَّذِي قدمت عَلَيْهِ، فكتب إِلَيْهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لعبد اللَّه علي أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، من معقل بن قيس سلام عَلَيْك، فإني أحمد إليك اللَّه الَّذِي لا إله إلا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ، فإنا لقينا المارقين، وَقَدِ استظهروا علينا بالمشركين، فقتلناهم قتل عاد وإرم، مع أنا لم نعد فِيهِمْ سيرتك، ولم نقتل من المارقين مدبرا ولا أسيرا، ولم نذفف مِنْهُمْ عَلَى جريح، وَقَدْ نصرك اللَّه والمسلمين، والحمد لِلَّهِ رب العالمين. قَالَ: فقدمت عَلَيْهِ بهذا الكتاب، فقرأه عَلَى أَصْحَابه، واستشارهم فِي الرأي، فاجتمع رأي عامتهم عَلَى قول واحد، فَقَالُوا لَهُ: نرى أن تكتب إِلَى معقل ابن قيس فيتبع أثر الفاسق، فلا يزال فِي طلبه حَتَّى يقتله أو ينفيه، فإنا لا نأمن أن يفسد عَلَيْك الناس قَالَ: فردني إِلَيْهِ، وكتب معي: أَمَّا بَعْدُ، فالحمد لِلَّهِ عَلَى تأييد أوليائه، وخذلان أعدائه، جزاك اللَّه والمسلمين خيرا، فقد أحسنتم البلاء، وقضيتم مَا عَلَيْكُمْ، وسل عن أخي بني ناجية، فإن بلغك أنه قَدِ استقر ببلد من البلدان فسر إِلَيْهِ حَتَّى تقتله أو تنفيه، فإنه لن يزال لِلْمُسْلِمِينَ عدوا، وللقاسطين وليا، مَا بقي، والسلام عَلَيْك. فسأل معقل عن مستقره، والمكان الَّذِي انتهى إِلَيْهِ، فنبئ بمكانه بالأسياف، وأنه قَدْ رد قومه عن طاعة علي، وأفسد من قبله من عبد القيس ومن والاهم من سائر العرب، وَكَانَ قومه قَدْ منعوا الصدقة عام صفين ومنعوها

فِي ذَلِكَ العام أَيْضًا، فكان عَلَيْهِم عقالان، فسار إِلَيْهِم معقل بن قيس فِي ذَلِكَ الجيش من أهل الْكُوفَة وأهل الْبَصْرَة، فأخذ عَلَى فارس حَتَّى انتهى إِلَى أسياف البحر، فلما سمع الخريت بن راشد بمسيره إِلَيْهِ أقبل عَلَى من كَانَ مَعَهُ من أَصْحَابه ممن يرى رأي الخوارج، فأسر لَهُمْ: إني أَرَى رأيكم، فإن عَلِيًّا لن ينبغي لَهُ أن يحكم الرجال فِي أمر اللَّه وَقَالَ للآخرين منددا لَهُمْ: إن عَلِيًّا حكم حكما ورضي بِهِ، فخلعه حكمه الَّذِي ارتضاه لنفسه، فقد رضيت أنا من قضائه وحكمه مَا ارتضاه لنفسه، وهذا كَانَ الرأي الَّذِي خرج عَلَيْهِ من الْكُوفَة وَقَالَ سرا لمن يرى رأي عُثْمَان: أنا وَاللَّهِ عَلَى رأيكم، قَدْ وَاللَّهِ قتل عُثْمَان مظلوما، فأرضى كل صنف مِنْهُمْ، وأراهم أنه معهم، وَقَالَ لمن منع الصدقة: شدوا أيديكم عَلَى صدقاتكم، وصلوا بِهَا أرحامكم، وعودوا بِهَا إن شئتم عَلَى فقرائكم، وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ نصارى كثير قَدْ أسلموا، فلما اختلف الناس بينهم قَالُوا: وَاللَّهِ لديننا الَّذِي خرجنا مِنْهُ خير وأهدى من دين هَؤُلاءِ الَّذِي هم عَلَيْهِ، مَا ينهاهم دينهم عن سفك الدماء، وإخافة السبيل، وأخذ الأموال فرجعوا إِلَى دينهم، فلقي الخريت أُولَئِكَ، فَقَالَ لَهُمْ: ويحكم! أتدرون حكم علي فيمن أسلم من النصارى، ثُمَّ رجع إِلَى نصرانيته؟ لا وَاللَّهِ مَا يسمع لَهُمْ قولا، وَلا يرى لَهُمْ عذرا، وَلا يقبل مِنْهُمْ توبة وَلا يدعوهم إِلَيْهَا، وإن حكمه فِيهِمْ لضرب العنق ساعة يستمكن مِنْهُمْ. فما زال حَتَّى جمعهم وخدعهم، وجاء من كَانَ من بني ناجية ومن كَانَ فِي تِلَكَ الناحية من غيرهم، واجتمع إِلَيْهِم ناس كثير. فَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَابٍ، عَنِ الْحُرِّ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الطُّفَيْلِ، قَالَ: كُنْتُ فِي الْجَيْشِ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَى بَنِي نَاجِيَةَ، فَقَالَ: فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ، فَوَجَدْنَاهُمْ عَلَى ثَلاثِ فِرَقٍ، فَقَالَ أَمِيرُنَا لِفِرْقَةٍ مِنْهُمْ: مَا أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ قَوْمٌ نَصَارَى، لَمْ نَرَ دينا افضل

مِنْ دِينِنَا، فَثَبُتْنَا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمُ: اعْتَزِلُوا، وَقَالَ لِلْفِرْقَةِ الأُخْرَى: مَا أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ كُنَّا نَصَارَى فَأَسْلَمْنَا، فَثَبُتْنَا عَلَى إِسْلامِنَا، فَقَالَ لَهُمُ: اعْتَزِلُوا، ثُمَّ قَالَ لِلْفِرْقَةِ الأُخْرَى الثَّالِثَةِ: مَا أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ قَوْمٌ كُنَّا نَصَارَى، فَأَسْلَمْنَا، فَلَمْ نَرَ دِينًا هُوَ أَفْضَلَ مِنْ دِينِنَا الأَوَّلِ، فَقَالَ لَهُمْ: أَسْلِمُوا، فَأَبَوْا، فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: إِذَا مَسَحْتُ رَأْسِي ثَلاثَ مَرَّاتٍ فَشُدُّوا عَلَيْهِمْ، فَاقْتُلُوا الْمُقَاتِلَةَ، وَاسْبُوا الذُّرِّيَّةَ فَجِيءَ بِالذُّرِّيَّةِ إِلَى عَلِيٍّ، فَجَاءَ مَصْقَلَةُ بْنُ هُبَيْرَةَ، فَاشْتَرَاهُمْ بِمِائَتَيْ أَلْفٍ، فَجَاءَ بِمِائَةِ أَلْفٍ فَلَمْ يَقْبَلْهَا عَلِيٌّ، فَانْطَلَقَ بِالدَّرَاهِمِ، وَعَمِدَ إِلَيْهِمْ مَصْقَلَةُ فَأَعْتَقَهُمْ وَلَحِقَ بِمُعَاوِيَةَ، فَقِيلَ لِعَلِيٍّ: أَلا تَأْخُذُ الذُّرِّيَّةَ؟ فَقَالَ: لا، فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُمْ. رجع الحديث إِلَى حديث أبي مخنف قَالَ أَبُو مخنف: وحدثنى الحارث ابن كعب، قَالَ: لما رجع إلينا معقل بن قيس قرأ علينا كتابا من علي: بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من عَبْد اللَّه علي أَمِير الْمُؤْمِنِينَ إِلَى من يقرأ عَلَيْهِ كتابي هَذَا من الْمُؤْمِنِينَ والمسلمين، والنصارى والمرتدين سلام عَلَيْكُمْ وعلى من اتبع الهدى وآمن بِاللَّهِ ورسوله وكتابه والبعث بعد الموت وأوفى بعهد اللَّه ولم يكن من الخائنين أَمَّا بَعْدُ، فإني أدعوكم إِلَى كتاب اللَّه، وسنة نبيه، والعمل بالحق، وبما أمر اللَّه فِي الكتاب، فمن رجع إِلَى أهله مِنْكُمْ وكف يده واعتزل هَذَا الهالك الحارب الَّذِي جَاءَ يحارب اللَّه ورسوله والمسلمين، وسعى فِي الأرض فسادا، فله الأمان عَلَى ماله ودمه، ومن تابعه عَلَى حربنا والخروج من طاعتنا، استعنا بِاللَّهِ عَلَيْهِ، وجعلنا اللَّه بيننا وبينه، وكفى بِاللَّهِ نصيرا! وأخرج معقل راية أمان فنصبها، وَقَالَ: من أتاها مِنَ النَّاسِ فهو آمن. إلا الخريت وأَصْحَابه الَّذِينَ حاربونا وبدءونا أول مرة فتفرق عن الخريت جل من كَانَ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ قومه، وعبأ معقل بن قيس أَصْحَابه، فجعل

عَلَى ميمنته يَزِيد بن المغفل الأَزْدِيّ، وعلى ميسرته المنجاب بن راشد الضبي، ثُمَّ زحف بهم نحو الخريت، وحضر مَعَهُ قومه مسلموهم ونصاراهم ومانعة الصدقة مِنْهُمْ. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي الْحَارِث بن كعب، عن أبي الصديق الناجي، أن الخريت يَوْمَئِذٍ كَانَ يقول لقومه: امنعوا حريمكم، وقاتلوا عن نسائكم وأولادكم، فو الله لَئِنْ ظهروا عَلَيْكُمْ ليقتلنكم وليسبنكم. فَقَالَ لَهُ رجل من قومه: هَذَا وَاللَّهِ مَا جنته علينا يداك ولسانك. فَقَالَ: قاتلوا لِلَّهِ أنتم! سبق السيف العذل، إيها وَاللَّهِ لقد أصابت قومي داهية! قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي الْحَارِث بن كعب، عن عَبْد اللَّهِ بن فقيم، قَالَ: سار فينا معقل فحرض الناس فِيمَا بين الميمنة والميسرة يقول: أَيُّهَا النَّاسُ الْمُسْلِمُونَ، مَا تزيدون أفضل مما سيق لكم فِي هَذَا الموقف من الأجر العظيم، إن اللَّه ساقكم إِلَى قوم منعوا الصدقة، وارتدوا عن الإِسْلام، ونكثوا البيعة ظلما وعدوانا، فأشهد لمن قتل مِنْكُمْ بالجنة، ومن عاش فإن اللَّه مقر عينه بالفتح والغنيمة ففعل ذَلِكَ حَتَّى مر بِالنَّاسِ كلهم ثُمَّ إنه جَاءَ حَتَّى وقف فِي القلب برايته، ثُمَّ إنه بعث إِلَى يَزِيد بن المغفل وَهُوَ فِي الميمنة: أن أحمل عَلَيْهِم، فحمل عَلَيْهِم، فثبتوا وقاتلوا قتالا شديدا ثُمَّ إنه انصرف حَتَّى وقف موقفه الَّذِي كَانَ بِهِ فِي الميمنة، ثُمَّ انه بعث الى منجاب ابن راشد الضبي وَهُوَ فِي الميسرة ثُمَّ إن منجابا حمل عَلَيْهِم فثبتوا وقاتلوا قتالا شديدا طويلا، ثُمَّ إنه رجع حَتَّى وقف فِي الميسرة، ثُمَّ إن معقلا بعث إِلَى الميمنة والميسرة: إذا حملت فاحملوا بأجمعكم فحرك رايته وهزها، ثُمَّ إنه حمل وحمل أَصْحَابه جميعا، فصبروا ساعه لهم ثُمَّ إن النُّعْمَان بن صهبان الراسبي من جرم بصر بالخريت بن راشد فحمل عَلَيْهِ، فطعنه فصرعه عن دابته، ثُمَّ نزل وَقَدْ جرحه فأثخنه، فاختلفا ضربتين، فقتله النُّعْمَان بن صهبان، وقتل مَعَهُ فِي المعركة سبعون ومائة، وذهبوا يمينا وشمالا، وبعث معقل بن قيس الخيل إِلَى رحالهم، فسبى من أدرك مِنْهُمْ، فسبى رجالا

كثيرا ونساء وصبيانا ثُمَّ نظر فِيهِمْ، فأما من كَانَ مسلما فخلاه وأخذ بيعته وترك لَهُ عياله، وأما من كَانَ ارتد فعرض عَلَيْهِم الإِسْلام فرجعوا وخلى سبيلهم وسبيل عيالهم إلا شيخا مِنْهُمْ نصرانيا يقال لَهُ: الرماحس بن مَنْصُورٍ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا زللت منذ عقلت إلا فِي خروجي من ديني، دين الصدق إِلَى دينكم دين السوء، لا وَاللَّهِ لا أدع ديني، وَلا أقرب دينكم مَا حييت فقدمه فضرب عنقه، وجمع معقل الناس فَقَالَ: أدوا مَا عَلَيْكُمْ فِي هَذِهِ السنين من الصدقة فأخذ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عقالين، وعمد إِلَى النصارى وعيالهم فاحتملهم مقبلا بهم، وأقبل الْمُسْلِمُونَ معهم يشيعونهم، فأمر معقل بردهم، فلما انصرفوا تصافحوا فبكوا، وبكى الرجال والنساء بعضهم إِلَى بعض قَالَ: فأشهد أني رحمتهم رحمة مَا رحمتها أحدا قبلهم وَلا بعدهم قَالَ: وكتب معقل بن قيس إِلَى علي: أَمَّا بَعْدُ، فإني أخبر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عن جنده وعدوه، أنا دفعنا إِلَى عدونا بالأسياف فوجدنا بِهَا قبائل ذات عدة وحدة وجد، وَقَدْ جمعت لنا، وتحزبت علينا، فدعوناهم إِلَى الطاعة والجماعة، وإلى حكم الكتاب والسنة، وقرأنا عَلَيْهِم كتاب أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، ورفعنا لَهُمْ راية أمان، فمالت إلينا مِنْهُمْ طائفة، وبقيت طائفة أخرى منابذة، فقبلنا من الَّتِي أقبلت، وصمدنا صمدا للتي أدبرت، فضرب اللَّه وجوههم ونصرنا عَلَيْهِم، فأما من كَانَ مسلما فإنا مننا عَلَيْهِ وأخذنا بيعته لأمير الْمُؤْمِنِينَ، وأخذنا مِنْهُمُ الصدقة الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِم، وأما من ارتد فإنا عرضنا عَلَيْهِ الرجوع إِلَى الإِسْلام وإلا قتلناه فرجعوا غير رجل واحد، فقتلناه، وأما النصارى فإنا سبيناهم، وَقَدْ أقبلنا بهم ليكونوا نكالا لمن بعدهم من أهل الذمة، لكيلا يمنعوا الجزية، ولكيلا يجترئوا عَلَى قتال أهل القبلة، وهم أهل الصغار والذل، رحمك اللَّه يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وأوجب لك جنات النعيم، والسلام عَلَيْك! ثُمَّ أقبل بهم حَتَّى مر بهم عَلَى مصقلة بن هبيرة الشيباني، وَهُوَ عامل على على أردشير خره، وهم خمسمائة إنسان، فبكى النساء والصبيان، وصاح

الرجال: يَا أَبَا الفضل، يَا حامي الرجال، وفكاك العناة، أمنن علينا فاشترنا وأعتقنا، فَقَالَ مصقله: اقسم بالله لا تصدقن عَلَيْهِم، إن اللَّه يجزي المتصدقين فبلغها عنه معقل، فَقَالَ: وَاللَّهِ لو أعلم أنه قاله توجعا لهم، وزراء عَلَيْكُمْ، لضربت عنقه، ولو كَانَ فِي ذَلِكَ تفاني تميم وبكر بن وائل ثُمَّ إن مصقلة بعث ذهل بن الْحَارِث الذهلي إِلَى معقل بن قيس فَقَالَ لَهُ: بعني بني ناجية، فَقَالَ: نعم، أبيعكم بألف ألف، ودفعهم إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: عجل بالمال إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: أنا باعث الآن بصدر، ثُمَّ أبعث بصدر آخر كذلك، حَتَّى لا يبقى مِنْهُ شَيْء إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى وأقبل معقل بن قيس إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وأخبره بِمَا كَانَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: أحسنت وأصبت، وانتظر علي مصقلة أن يبعث إِلَيْهِ بالمال، وبلغ عَلِيًّا أن مصقلة خلى سبيل الأسارى ولم يسألهم أن يعينوه فِي فكاك أنفسهم بشيء، فَقَالَ: مَا أظن مصقلة إلا قَدْ تحمل حمالة، أَلا أراكم سترونه عن قريب ملبدا ثُمَّ إنه كتب إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ، فإن من أعظم الخيانة خيانة الأمة، وأعظم الغش عَلَى أهل المصر غش الامام، وعندك من حق المسلمين خمسمائة ألف، فابعث بِهَا إلي ساعة يأتيك رسولي، وإلا فأقبل حين تنظر فِي كتابي، فإني قَدْ تقدمت إِلَى رسولي إليك أَلا يدعك أن تقيم ساعة واحدة بعد قدومه عَلَيْك إلا أن تبعث بالمال، والسلام عَلَيْك. وَكَانَ الرسول أَبُو جرة الحنفي، فَقَالَ لَهُ أَبُو جرة: إن يبعث بالمال الساعة وإلا فاشخص إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فلما قرأ كتابه أقبل حَتَّى نزل الْبَصْرَة، فمكث بِهَا أياما ثُمَّ إن ابن عَبَّاس سأله المال، وَكَانَ عمال الْبَصْرَة يحملون من كور الْبَصْرَة إِلَى ابن عَبَّاس، ويكون ابن عَبَّاس هُوَ الَّذِي يبعث بِهِ إِلَى علي، فَقَالَ لَهُ: نعم، أنظرني أياما، ثم اقبل حتى اتى عليا فأقره أياما، ثُمَّ سأله المال، فأدى إِلَيْهِ مائتي ألف، ثُمَّ إنه عجز فلم يقدر عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي أَبُو الصلت الأعور، عن ذهل بن الْحَارِث

قَالَ: دعاني مصقلة إِلَى رحله فقدم عشاؤه، فطعمنا مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ إن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ يسألني هَذَا المال، وَلا أقدر عَلَيْهِ، فقلت: وَاللَّهِ لو شئت مَا مضت عَلَيْك جمعة حَتَّى تجمع جميع المال، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا كنت لأحملها قومي، وَلا أطلب فِيهَا إِلَى أحد ثُمَّ قَالَ: أما وَاللَّهِ لو أن ابن هند هُوَ طالبني بِهَا أو ابن عفان لتركها لي، ألم تر إِلَى ابن عفان حَيْثُ أطعم الأشعث من خراج أذربيجان مائة ألف فِي كل سنة! فقلت لَهُ: إن هَذَا لا يرى هَذَا الرأي، لا وَاللَّهِ مَا هُوَ بباذل شَيْئًا كنت أخذته، فسكت ساعة، وسكت عنه، [فلا وَاللَّهِ مَا مكث إلا ليلة واحدة بعد هَذَا الكلام حَتَّى لحق بمعاوية وبلغ ذَلِكَ عَلِيًّا فَقَالَ: ما له برحه اللَّه، فعل فعل السيد، وفر فرار العبد، وخان خيانة الفاجر! أما وَاللَّهِ لو أنه أقام فعجز مَا زدنا عَلَى حبسه، فإن وجدنا لَهُ شَيْئًا أخذناه، وإن لم نقدر عَلَى مال تركناه] ثُمَّ سار إِلَى داره فنقضها وهدمها، وَكَانَ أخوه نعيم بن هبيرة شيعيا، ولعلي مناصحا، فكتب إِلَيْهِ مصقلة من الشام مع رجل من النصارى من بني تغلب يقال لَهُ حلوان: أَمَّا بَعْدُ، فإني كلمت مُعَاوِيَة فيك، فوعدك الإمارة، ومناك الكرامة، فأقبل إلي ساعة يلقاك رسولي إِنْ شَاءَ اللَّهُ، والسلام. فأخذه مالك بن كعب الأرحبي، فسرح بِهِ إِلَى علي، فأخذ كتابه فقرأه، فقطع يد النصراني، فمات، وكتب نعيم إِلَى أخيه مصقلة: لا ترمين هداك اللَّه معترضا ... بالظن مِنْكَ فما بالي وحلوانا! ذاك الحريص عَلَى مَا نال من طمع ... وَهْوَ البعيد فلا يحزنك إذ خانا ماذا أردت إِلَى إرساله سفها ... ترجو سقاط امرى لم يلف وسنانا عرضته لعلي إنه أسد ... يمشي العرضنة من آساد خفانا قَدْ كنت فِي منظر عن ذا ومستمع ... تحمي العراق وتدعى خير شيبانا

حَتَّى تقحمت أمرا كنت تكرهه ... للراكبين لَهُ سرا وإعلانا لو كنت أديت مَا للقوم مصطبرا ... للحق أحييت أحيانا وموتانا لكن لحقت باهل الشام ملتمسا ... فضل ابن هند وذاك الرأي أشجانا فاليوم تقرع سن الغرم من ندم ... ماذا تقول وَقَدْ كَانَ الَّذِي كانا! أصبحت تبغضك الأحياء قاطبة ... لم يرفع اللَّه بالبغضاء إنسانا فلما وقع الكتاب إِلَيْهِ علم أن رسوله قَدْ هلك، ولم يلبث التغلبيون إلا قليلا حَتَّى بلغهم هلاك صاحبهم حلوان، فأتوا مصقلة فَقَالُوا: إنك بعثت صاحبنا فأهلكته، فإما أن تحييه وإما أن تديه، فَقَالَ: أما أن أحييه فلا استطيع، ولكنى ساديه، فواداه. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن جندب، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: لما بلغ عَلِيًّا مصاب بني ناجية وقتل صاحبهم قَالَ: هوت أمه! مَا كَانَ أنقص عقله، وأجرأه عَلَى ربه! فإن جائيا جاءني مرة فَقَالَ لي: فِي أَصْحَابك رجال قَدْ خشيت أن يفارقوك، فما ترى فِيهِمْ؟ فقلت لَهُ: إني لا آخذ عَلَى التهمة، وَلا أعاقب عَلَى الظن، وَلا أقاتل إلا من خالفني وناصبني وأظهر لي العداوة، ولست مقاتله حَتَّى أدعوه وأعذر إِلَيْهِ، فإن تاب ورجع إلينا قبلنا مِنْهُ، وَهُوَ أخونا، وإن أبى إلا الاعتزام عَلَى حربنا استعنا عَلَيْهِ اللَّه، وناجزناه فكف عني مَا شاء اللَّه ثُمَّ جاءني مرة أخرى فَقَالَ لي: قَدْ خشيت أن يفسد عَلَيْك عَبْد اللَّهِ بن وهب الراسبي وزَيْد بن حصين، انى سمعتهما يذكر انك بأشياء لو سمعتها لم تفارقهما عَلَيْهَا حَتَّى تقتلهما أو توبقهما، فلا تفارقهما من حبسك أبدا، فقلت: إني مستشيرك فيهما، فماذا تأمرني بِهِ؟ قَالَ: فإني آمرك أن تدعو بهما، فتضرب رقابهما، فعلمت أنه لا ورع وَلا عاقل، فقلت: وَاللَّهِ مَا أظنك ورعا وَلا عاقلا

نافعا، وَاللَّهِ لقد كَانَ ينبغي لك لو أردت قتلهم أن تقول: اتق اللَّه، لم تستحل قتلهم ولم يقتلوا أحدا، ولم ينابذوك، ولم يخرجوا من طاعتك! وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة قثم بن العباس من قبل على ع. حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بن ثَابِت، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر. وَكَانَ قثم يَوْمَئِذٍ عامل علي عَلَى مكة، وَكَانَ عَلَى اليمن عُبَيْد اللَّهِ بن العباس، وعلى الْبَصْرَة عَبْد اللَّهِ بن العباس. واختلف فِي عامله عَلَى خُرَاسَان فقيل: كَانَ خليد بن قرة اليربوعي، وقيل: كَانَ ابن أبزى، وأما الشام ومصر فانه كان بهما معاويه وعماله

سنه تسع وثلاثين

سنة تسع وثلاثين ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث فمما كَانَ فِيهَا من الأحداث المذكورة: تفريق مُعَاوِيَة جيوشه فِي أطراف علي فوجه النُّعْمَان بن بشير- فِيمَا ذكر عَلِيّ بن محمد بن عوانة- فِي ألفي رجل إِلَى عين التمر، وبها مالك بن كعب مسلحة لعلي فِي ألف رجل، فأذن لَهُمْ، فأتوا الْكُوفَة، وأتاه النُّعْمَان، ولم يبق مَعَهُ إلا مائة رجل، فكتب مالك إِلَى علي يخبره بأمر النُّعْمَان ومن مَعَهُ، فخطب علي الناس، وأمرهم بالخروج، فتثاقلوا، وواقع مالك النُّعْمَان، والنعمان فِي ألفي رجل ومالك فِي مائة رجل، وأمر مالك أَصْحَابه أن يجعلوا جدر القرية فِي ظهورهم، واقتتلوا. وكتب إِلَى مخنف بن سليم يسأله أن يمده وَهُوَ قريب مِنْهُ، فقاتلهم مالك بن كعب فِي العصابة الَّتِي مَعَهُ كأشد القتال، ووجه إِلَيْهِ مخنف ابنه عبد الرَّحْمَن فِي خمسين رجلا، فانتهوا إِلَى مالك وأَصْحَابه، وَقَدْ كسروا جفون سيوفهم، واستقتلوا، فلما رآهم أهل الشام وَذَلِكَ عِنْدَ المساء، ظنوا أن لَهُمْ مددا وانهزموا، وتبعهم مالك، فقتل مِنْهُمْ ثلاثة نفر، ومضوا عَلَى وجوههم. حَدَّثَنِي عَبْدُ الله بن أحمد بن شبويه المروزي، قال: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حَسَّانٍ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ، قَالَ: بَعَثَ مُعَاوِيَةُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ فِي أَلْفَيْنِ، فَأَتَوْا عَيْنَ التَّمْرِ، فَأَغَارُوا عَلَيْهَا، وَبِهَا عَامِلٌ لِعَلِيٍّ يُقَالُ لَهُ ابن فلان الارحبى في ثلاثمائة، فَكَتَبَ إِلَى عَلِيٍّ يَسْتَمِدُّهُ، فَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَنْهَضُوا إِلَيْهِ، فَتَثَاقَلُوا، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَقَدْ سَبَقَنِي بِالتَّشَهُّدِ وَهُوَ يَقُولُ:

يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، كُلَّمَا سَمِعْتُمْ بِمِنْسَرٍ مِنْ مناسر اهل الشام اظلكم واغلق بابه انجحر كل امرئ منكم في بيته انْجِحَارَ الضَّبِّ فِي جُحْرِهِ وَالضَّبُعِ فِي وِجَارِهَا، الْمَغْرُورُ مَنْ غَرَرْتُمُوهُ، وَلَمَنْ فَازَ بِكُمْ فَازَ بِالسَّهْمِ الأَخْيَبِ. لا أَحْرَارٌ عِنْدَ النِّدَاءِ، وَلا إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ النَّجَاءِ، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! مَاذَا مُنِيتُ بِهِ مِنْكُمْ! عُمْيٌ لا تُبْصِرُونَ، وَبُكْمٌ لا تَنْطِقُونَ، وَصُمٌّ لا تَسْتَمِعُونَ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. رجع الحديث إِلَى حديث عوانة قَالَ: ووجه مُعَاوِيَة فِي هَذِهِ السنة سُفْيَان بن عوف فِي ستة آلاف رجل، وأمره أن يأتي هيت فيقطعها، وأن يغير عَلَيْهَا، ثُمَّ يمضى حَتَّى يأتي الأنبار والمدائن فيوقع بأهلها، فسار حَتَّى أتى هيت فلم يجد بِهَا أحدا، ثُمَّ اتى الأنبار وبها مسلحه لعلى تكون خمسمائة رجل، وَقَدْ تفرقوا فلم يبق مِنْهُمْ إلا مائة رجل، فقاتلهم، فصبر لَهُمْ أَصْحَاب علي مع قلتهم، ثُمَّ حملت عَلَيْهِم الخيل والرجالة، فقتلوا صاحب المسلحة، وَهُوَ أشرس بن حسان البكري فِي ثَلاثِينَ رجلا، واحتملوا مَا كَانَ فِي الأنبار من الأموال وأموال أهلها، ورجعوا إِلَى مُعَاوِيَةَ [وبلغ الخبر عَلِيًّا، فخرج حَتَّى أتى النخيلة، فَقَالَ لَهُ الناس: نحن نكفيك، قَالَ: مَا تكفونني وَلا أنفسكم،] وسرح سَعِيد ابن قيس فِي أثر القوم، فخرج فِي طلبهم حَتَّى جاز هيت، فلم يلحقهم فرجع. قَالَ: وفيها وجه مُعَاوِيَة أَيْضًا عَبْد اللَّهِ بن مسعده الفزارى في الف وسبعمائة رجل إِلَى تيماء، وأمره أن يصدق من مر بِهِ من أهل البوادي، وأن يقتل من امتنع من عطائه صدقة ماله، ثُمَّ يأتي مكة والمدينة والحجاز،

يفعل ذَلِكَ، واجتمع إِلَيْهِ بشر كثير من قومه، فلما بلغ ذَلِكَ عَلِيًّا وجه المسيب ابن نجبة الفزاري، فسار حَتَّى لحق ابن مسعدة بتيماء، فاقتتلوا ذَلِكَ الْيَوْم حَتَّى زالت الشمس قتالا شديدا، وحمل المسيب عَلَى ابن مسعدة فضربه ثلاث ضربات، كل ذَلِكَ لا يلتمس قتله ويقول لَهُ: النجاء النجاء! فدخل ابن مسعدة وعامة من مَعَهُ الحصن، وهرب الباقون نحو الشام، وانتهب الأعراب إبل الصدقة الَّتِي كَانَتْ مع ابن مسعدة، وحصره ومن كَانَ مَعَهُ المسيب ثلاثة أيام، ثُمَّ ألقى الحطب عَلَى الباب، وألقى النيران فِيهِ، حَتَّى احترق، فلما أحسوا بالهلاك أشرفوا عَلَى المسيب فَقَالُوا: يَا مسيب، قومك! فرق لَهُمْ، وكره هلاكهم، فأمر بالنار فأطفئت، وَقَالَ لأَصْحَابه: قَدْ جاءتني عيون فأخبروني أن جندا قَدْ أقبل إليكم من الشام، فانضموا فِي مكان واحد فخرج ابن مسعدة فِي أَصْحَابه ليلا حَتَّى لحقوا بِالشَّامِ، فَقَالَ لَهُ عبد الرَّحْمَن بن شبيب: سر بنا فِي طلبهم، فأبى ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: غششت أَمِير الْمُؤْمِنِينَ وداهنت فِي أمرهم وفيها أَيْضًا وجه مُعَاوِيَة الضحاك بن قيس، وأمره أن يمر بأسفل واقصة، وأن يغير عَلَى كل من مر بِهِ ممن هُوَ فِي طاعة علي من الأعراب، ووجه مَعَهُ ثلاثة آلاف رجل، فسار فأخذ أموال الناس، وقتل من لقي من الأعراب، ومر بالثعلبية فأغار عَلَى مسالح علي، وأخذ أمتعتهم، ومضى حَتَّى انتهى إِلَى القطقطانة، فأتى عَمْرو بن عميس بن مسعود، وَكَانَ فِي خيل لعلي وأمامه أهله، وَهُوَ يريد الحج، فأغار عَلَى من كَانَ مَعَهُ، وحبسه عن المسير، فلما بلغ ذَلِكَ عَلِيًّا سرح حجر بن عدي الكندي فِي أربعة آلاف، وأعطاهم خمسين خمسين، فلحق الضحاك بتدمر فقتل مِنْهُمْ تسعة عشر رجلا، وقتل من أَصْحَابه رجلان، وحال بينهم الليل، فهرب الضحاك وأَصْحَابه، ورجع حجر ومن معه

وفيها سار مُعَاوِيَة بنفسه إِلَى دجلة حَتَّى شارفها، ثُمَّ نكص راجعا، ذكر ذَلِكَ ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: حدثني ابن جريح، عن ابن أبي مليكة قَالَ: لما كَانَتْ سنة تسع وثلاثين أشرف عَلَيْهَا مُعَاوِيَة. وَحَدَّثَنِي أحمد بْن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عِيسَى، عن أبي معشر مثله. وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فقال بعضهم: حج بِالنَّاسِ فِيهَا عُبَيْد اللَّهِ بن عباس من قبل علي وَقَالَ بعضهم: حج بهم عبد الله ابن عباس، فَحَدَّثَنِي أَبُو زَيْد عُمَر بن شَبَّةَ، قَالَ: يقال إن عَلِيًّا وجه ابن عَبَّاس ليشهد الموسم ويصلي بِالنَّاسِ فِي سنة تسع وثلاثين، وبعث معاويه يزيد ابن شجرة الرهاوي. قَالَ: وزعم أَبُو الْحَسَنِ أن ذَلِكَ باطل، وأن ابن عَبَّاس لم يشهد الموسم في عمل حتى قتل على ع، قَالَ: والذي نازعه يَزِيد بن شجرة قثم ابن العباس، حَتَّى أنهما اصطلحا عَلَى شيبة بن عُثْمَانَ، فصلى بِالنَّاسِ سنة تسع وثلاثين. وكالذي حكيت عن أبي زَيْد عن أبي الْحَسَن، قَالَ أَبُو معشر فِي ذَلِكَ: حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أحمد بْن ثابت الرازي، عمن حدثه، عن إِسْحَاق بن عِيسَى عنه. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: بعث علي عَلَى الموسم فِي سنة تسع وثلاثين عُبَيْد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ، وبعث مُعَاوِيَة يَزِيد بن شجرة الرهاوي ليقيم لِلنَّاسِ الحج، فلما اجتمعا بمكة تنازعا، وأبى كل واحد منهما أن يسلم لصاحبه، فاصطلحا عَلَى شيبة بن عُثْمَانَ بن أبي طَلْحَة. وكانت عمال علي فِي هَذِهِ السنة عَلَى الأمصار الَّذِينَ ذكرنا أَنَّهُمْ كَانُوا عماله فِي سنة ثمان وثلاثين غير ابن عَبَّاس، كَانَ شخص فِي هَذِهِ السنة عن عمله بِالْبَصْرَةِ، واستخلف زيادا- الَّذِي كَانَ يقال لَهُ: زياد بن أَبِيهِ- عَلَى الخراج، وأبا الأسود الدولى على القضاء

ذكر توجيه ابن عباس زيادا الى فارس وكرمان. وفي هَذِهِ السنة وجه ابن عَبَّاس زيادا عن أمر علي إِلَى فارس وكرمان عِنْدَ منصرفه من عِنْدَ علي من الْكُوفَة إِلَى الْبَصْرَة. ذكر سبب توجيهه إِيَّاهُ إِلَى فارس: حدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: لما قتل ابن الحضرمي واختلف الناس عَلَى علي، طمع أهل فارس وأهل كَرْمَان فِي كسر الخراج، فغلب أهل كل ناحية عَلَى مَا يليهم، وأخرجوا عمالهم. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ كَثِيرٍ، أَنَّ عَلِيًّا اسْتَشَارَ النَّاسَ فِي رَجُلٍ يُوَلِّيهِ فَارِسَ حِينَ امْتَنَعُوا مِنْ أَدَاءِ الْخَرَاجِ، فَقَالَ لَهُ جَارِيَةُ بْنُ قُدَامَةَ: أَلا أَدُلُّكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى رَجُلٍ صَلِيبِ الرَّأْيِ، عَالِمٍ بِالسِّيَاسَةِ، كَافٍّ لِمَا وُلِّيَ؟ قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: زِيَادٌ، قَالَ: هُوَ لَهَا، فَوَلاهُ فَارِسَ وَكِرْمَانَ، وَوَجَّهَهُ فِي أَرْبَعَةِ آلافٍ، فَدَوَّخَ تِلْكَ الْبِلادَ حَتَّى اسْتَقَامُوا. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَالَ الشَّعْبِيُّ: لَمَّا انْتَقَضَ أَهْلُ الْجِبَالِ وَطَمِعَ أَهْلُ الْخَرَاجِ فِي كَسْرِهِ، وَأَخْرَجُوا سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ مِنْ فَارِسَ- وَكَانَ عَامِلا عَلَيْهَا لِعَلِيٍّ- قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعَلِيٍّ: أَكْفِيكَ فَارِسَ، فَقَدِمَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْبَصْرَةَ، وَوَجَّهَ زِيَادًا إِلَى فَارِسَ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَوَطِئَ بِهِمْ أَهْلَ فَارِسَ، فَأَدَّوُا الْخَرَاجَ. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ إِصْطَخْرَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: أَدْرَكْتُ زِيَادًا وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى فَارِسَ وَهِيَ تُضْرِمُ نَارًا، فَلَمْ يَزَلْ بِالْمُدَارَاةِ حَتَّى عَادُوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الطَّاعَةِ وَالاسْتِقَامَةِ، لَمْ يَقَفْ مَوْقِفًا لِلْحَرْبِ، وَكَانَ أَهْلُ فَارِسَ يَقُولُونَ: مَا رَأَيْنَا سيره اشبه بسيره كسرى انو شروان مِنْ سِيرَةِ هَذَا الْعَرَبِيِّ فِي اللِّينِ وَالْمُدَارَاةِ وَالْعِلْمِ بِمَا يَأْتِي

قَالَ: ولما قدم زياد فارس بعث إِلَى رؤسائها، فوعد من نصره ومناه، وخوف قوما وتوعدهم، وضرب بعضهم ببعض، ودل بعضهم عَلَى عورة بعض، وهربت طائفة، وأقامت طائفة، فقتل بعضهم بعضا، وصفت لَهُ فارس، فلم يلق فِيهَا جمعا وَلا حربا، وفعل مثل ذَلِكَ بكرمان، ثُمَّ رجع إِلَى فارس، فسار فِي كورها ومناهم، فسكن الناس إِلَى ذَلِكَ، فاستقامت لَهُ البلاد، وأتى إصطخر فنزلها وحصن قلعة بها ما بين بيضاء اصطخر واصطخر، فكلت تسمى قلعة زياد، فحمل إِلَيْهَا الأموال، ثُمَّ تحصن فِيهَا بعد ذَلِكَ منصور اليشكري، فهي اليوم تسمى قلعه منصور

سنه اربعين

سنة أربعين ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث فمما كَانَ فِيهَا من ذَلِكَ توجيه مُعَاوِيَة بسر بن أبي أرطاة فِي ثلاثة آلاف من المقاتلة إِلَى الحجاز. فذكر عن زياد بن عَبْدِ اللَّهِ البكائي، عن عوانة، قال: ارسل معاويه ابن أَبِي سُفْيَانَ بعد تحكيم الحكمين بسر بن أبي أرطاة- وَهُوَ رجل من بني عَامِر بن لؤي فِي جيش- فساروا من الشام حَتَّى قدموا الْمَدِينَة، وعامل علي عَلَى الْمَدِينَة يَوْمَئِذٍ أَبُو أيوب الأَنْصَارِيّ، ففر مِنْهُمْ أَبُو أيوب، فأتى عَلِيًّا بالكوفة، ودخل بسر الْمَدِينَة، قَالَ: فصعد منبرها ولم يقاتله بِهَا أحد، فنادى عَلَى الْمِنْبَر: يَا دينار، ويا نجار، ويا زريق، شيخي شيخي! عهدي بِهِ بالأمس، فأين هُوَ! يعني عُثْمَان، ثُمَّ قَالَ: يَا أهل الْمَدِينَة، وَاللَّهِ لولا مَا عهد إلي مُعَاوِيَة مَا تركت بِهَا محتلما إلا قتلته ثُمَّ بايع أهل الْمَدِينَة، وأرسل إِلَى بني سلمة، فَقَالَ: وَاللَّهِ ما لكم عندي من أمان وَلا مبايعة حَتَّى تأتوني بجابر بن عَبْدِ اللَّهِ، فانطلق جابر إِلَى أم سلمة زوج النبي ص فَقَالَ لها: ماذا ترين؟ إني قَدْ خشيت ان اقتل، وهذه بيعه ضلاله، قالت: أَرَى أن تبايع، فإني قَدْ أمرت ابني عُمَر بن أبي سلمة أن يبايع، وأمرت ختني عَبْد اللَّهِ بن زمعة- وكانت ابنتها زينب ابنة أبي سلمة عِنْدَ عَبْد اللَّهِ بن زمعة- فأتاه جابر فبايعه، وهدم بسر دورا بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ مضى حَتَّى أتى مكة، فخافه أَبُو مُوسَى أن يقتله، فَقَالَ لَهُ بسر: مَا كنت لأفعل بصاحب رَسُول الله ص ذَلِكَ، فخلى عنه، وكتب أَبُو مُوسَى قبل ذَلِكَ إِلَى اليمن: أن خيلا مبعوثة من عِنْدَ مُعَاوِيَة تقتل الناس، تقتل من أبى أن يقر بالحكومة ثُمَّ مضى بسر إِلَى اليمن، وَكَانَ عَلَيْهَا عُبَيْد اللَّهِ بن عباس عاملا لعلي، فلما بلغه مسيره فر إِلَى الْكُوفَةِ حَتَّى أتى عَلِيًّا، واستخلف عَبْد اللَّهِ بن عبد المدان الحارثي عَلَى اليمن، فأتاه بسر

فقتله وقتل ابنه، ولقي بسر ثقل عُبَيْد اللَّهِ بن عباس وفيه ابنان لَهُ صغيران، فذبحهما وَقَدْ قَالَ بعض الناس: إنه وجد ابني عُبَيْد اللَّهِ بن عباس عِنْدَ رجل من بني كنانة من أهل البادية، فلما اراد قتلهما قال الكنانى: علام تقتل هَذَيْنِ وَلا ذنب لهما! فإن كنت قاتلهما فاقتلني، قَالَ: أفعل، فبدأ بالكناني فقتله، ثُمَّ قتلهما ثُمَّ رجع بسر إِلَى الشام وَقَدْ قيل: إن الكناني قاتل عن الطفلين حَتَّى قتل، وَكَانَ اسم أحد الطفلين اللذين قتلهما بسر: عبد الرَّحْمَن، والآخر قثم وقتل بسر فِي مسيره ذَلِكَ جماعة كثيرة من شيعة علي باليمن وبلغ عَلِيًّا خبر بسر، فوجه جارية بن قدامة فِي ألفين، ووهب بن مسعود فِي ألفين، فسار جارية حَتَّى أتى نجران فحرق بِهَا، وأخذ ناسا من شيعة عُثْمَان فقتلهم، وهرب بسر وأَصْحَابه مِنْهُ، واتبعهم حَتَّى بلغ مكة، فَقَالَ لَهُمْ جارية: بايعونا، فَقَالُوا: قَدْ هلك أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، فلمن نبايع؟ قَالَ: لمن بايع لَهُ أَصْحَاب علي، فتثاقلوا، ثُمَّ بايعوا ثُمَّ سار حَتَّى أتى الْمَدِينَة وأبو هُرَيْرَةَ يصلي بهم، فهرب مِنْهُ، فَقَالَ جارية: وَاللَّهِ لو أخذت أبا سنور لضربت عنقه، ثُمَّ قَالَ لأهل الْمَدِينَة: بايعوا الْحَسَن بن علي، فبايعوه وأقام يومه، ثُمَّ خرج منصرفا إِلَى الْكُوفَةِ، وعاد أَبُو هُرَيْرَةَ فصلى بهم. وفي هَذِهِ السنة- فِيمَا ذكر- جرت بين علي وبين مُعَاوِيَة المهادنة- بعد مكاتبات جرت بينهما يطول بذكرها الكتاب- عَلَى وضع الحرب بينهما، ويكون لعلي العراق ولمعاوية الشام، فلا يدخل أحدهما عَلَى صاحبه فِي عمله بجيش وَلا غارة وَلا غزو. قَالَ زياد بن عَبْدِ اللَّهِ، عن أبي إِسْحَاق: لما لم يعط أحد الفريقين صاحبه الطاعة كتب مُعَاوِيَة إِلَى علي: أما إذا شئت فلك العراق ولي الشام، وتكف السيف عن هَذِهِ الأمة، وَلا تهريق دماء الْمُسْلِمِينَ، ففعل ذَلِكَ، وتراضيا عَلَى ذَلِكَ، فأقام مُعَاوِيَة بِالشَّامِ بجنوده يجبيها وما حولها، وعلى بالعراق يجبيها ويقسمها بين جنوده

خروج ابن عباس من البصره إلى مكة

خروج ابن عباس من البصره الى مكة وفيها خرج عَبْد اللَّهِ بن العباس مِنَ الْبَصْرَةِ ولحق مكة فِي قول عامة أهل السير، وَقَدْ أنكر ذَلِكَ بعضهم، وزعم أنه لم يزل بِالْبَصْرَةِ عاملا عَلَيْهَا من قبل امير المؤمنين على ع حَتَّى قتل، وبعد مقتل علي حَتَّى صالح الْحَسَن مُعَاوِيَة، ثُمَّ خرج حينئذ إِلَى مكة. ذكر الخبر عن سبب شخوصه إِلَى مكة وتركه العراق: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَمَاعَةٌ عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ ابن أبي راشد، عن عبد الرحمن بن عبيد أَبِي الْكَنُودِ، قَالَ: مَرَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عباس على ابى الأسود الدولى، فَقَالَ: لَوْ كُنْتَ مِنَ الْبَهَائِمِ كُنْتَ جَمَلا، وَلَوْ كُنْتَ رَاعِيًا مَا بَلَغْتَ مِنَ الْمَرْعَى، وَلا أَحْسَنْتَ مِهْنَتَهُ فِي الْمَشْيِ قَالَ: فَكَتَبَ أَبُو الأَسْوَدِ إِلَى عَلِيٍّ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلا جَعَلَكَ وَالِيًا مُؤْتَمَنًا، وَرَاعِيًا مُسْتَوْلِيًا، وَقَدْ بَلَوْنَاكَ فَوَجَدْنَاكَ عَظِيمَ الأَمَانَةِ، نَاصِحًا للرعية، توفر لهم فيئهم، وَتُظَلِّفُ نَفْسَكَ عَنْ دُنْيَاهُمْ، فَلا تَأْكُلْ أَمْوَالَهُمْ، وَلا تَرْتَشِي فِي أَحْكَامِهِمْ، وَإِنَّ ابْنَ عَمِّكَ قَدْ أَكَلَ مَا تَحْتَ يَدَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمِكَ، فَلَمْ يَسَعَنِي كِتْمَانَكَ ذَلِكَ، فَانْظُرْ رَحِمَكَ اللَّهُ فِيمَا هُنَاكَ، وَاكْتُبْ إِلَيَّ بِرَأْيِكَ فِيمَا أَحْبَبْتُ أَنْتَهِ إِلَيْكَ وَالسَّلامُ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ: أَمَّا بَعْدُ، فَمِثْلُكَ نَصَحَ الإِمَامَ وَالأُمَّةَ، وَأَدَّى الأَمَانَةَ، وَدَلَّ عَلَى الْحَقِّ، وَقَدْ كَتَبْتَ إِلَى صَاحِبِكَ فِيمَا كَتَبْتَ إِلَيَّ فِيهِ مِنْ أَمْرِهِ، وَلَمْ أَعْلَمْهُ أَنَّكَ كَتَبْتَ، فَلا تَدَعْ أَعْلامِي بِمَا يَكُونُ بِحَضْرَتِكَ مِمَّا النَّظَرُ فِيهِ لِلأُمَّةِ صَلاحٌ، فَإِنَّكَ بِذَلِكَ جَدِيرٌ، وَهُوَ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَيْكَ، وَالسَّلامُ. وَكَتَبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الَّذِي بَلَغَكَ بَاطِلٌ، وَإِنِّي لِمَا تَحْتَ يَدِي ضَابِطٌ قَائِمٌ لَهُ وَلَهُ حَافِظٌ، فَلا تُصَدِّقِ الظُّنُونَ، وَالسَّلامُ. قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ: أَمَّا بَعْدُ، فَأَعْلِمْنِي مَا أَخَذْتَ مِنَ الْجِزْيَةِ،

وَمِنْ أَيْنَ أَخَذْتَ؟ وَفِيمَ وَضَعْتَ؟ قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ فَهِمْتُ تَعْظِيمَكَ مَرْزَأَةَ مَا بَلَغَكَ أَنِّي رَزَأْتُهُ مِنْ مَالِ أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ، فَابْعَثْ إِلَى عَمَلِكَ مَنْ أَحْبَبْتَ، فَإِنِّي ظَاعِنٌ عَنْهُ وَالسَّلامُ. ثُمَّ دعا ابن عَبَّاس أخواله بني هلال بن عَامِر، فجاءه الضحاك بن عَبْدِ اللَّهِ وعبد الله بن رزين بن ابى عمرو الهلاليان، ثُمَّ اجتمعت مَعَهُ قيس كلها فحمل مالا. قَالَ أَبُو زَيْد: قَالَ أَبُو عبيدة: كَانَتْ أرزاقا قَدِ اجتمعت، فحمل مَعَهُ مقدار مَا اجتمع لَهُ، فبعثت الأخماس كلها، فلحقوه بالطف، فتواقفوا يريدون أخذ المال، فَقَالَتْ قيس: وَاللَّهِ لا يوصل إِلَى ذَلِكَ وفينا عين تطرف. وَقَالَ صبرة بن شيمان الحداني: يَا معشر الأزد، وَاللَّهِ إن قيسا لإخواننا فِي الإِسْلام، وجيراننا فِي الدار، وأعواننا عَلَى العدو، وإن الَّذِي يصيبكم من هَذَا المال لو رد عَلَيْكُمْ لقليل، وهم غدا خير لكم من المال قَالُوا: فما ترى؟ قَالَ: انصرفوا عَنْهُمْ ودعوهم، فأطاعوه فانصرفوا، فَقَالَتْ بكر وعبد القيس: نعم الرأي رأي صبرة لقومه، فاعتزلوا أَيْضًا، فَقَالَتْ بنو تميم: وَاللَّهِ لا نفارقهم، نقاتلهم عَلَيْهِ فَقَالَ الأحنف: قَدْ ترك قتالهم من هُوَ أبعد مِنْكُمْ رحما، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لنقاتلنهم، فَقَالَ: إذا لا أساعدكم عَلَيْهِم، فاعتزلهم، قَالَ: فرأسوا عَلَيْهِم ابن المجاعة من بني تميم، فقاتلوهم، وحمل الضحاك عَلَى ابن المجاعة فطعنه، واعتنقه عَبْد اللَّهِ بن رزين، فسقطا إِلَى الأرض يعتركان، وكثرت الجراح فِيهِمْ، ولم يكن بينهم قتيل، فَقَالَتِ الأخماس: مَا صنعنا شَيْئًا، اعتزلناهم وتركناهم يتحاربون، فضربوا وجوه بعضهم عن بعض، وقالوا لبنى تميم: لنحن أسخى مِنْكُمْ أنفسا حين تركنا هَذَا المال لبني عمكم، وَأَنْتُمْ تقاتلونهم عَلَيْهِ، إن القوم قَدْ حملوا وحموا، فخلوهم، وإن أحببتم فانصرفوا ومضى ابن عَبَّاس وَمَعَهُ نحو من عشرين رجلا حَتَّى قدم مكة

ذكر الخبر عن مقتل على بن ابى طالب

وَحَدَّثَنِي أَبُو زَيْدٍ، قَالَ: زَعَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ- وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنْهُ- أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يبرح من البصره حتى قتل على ع، فَشَخَصَ إِلَى الْحَسَنِ، فَشَهِدَ الصُّلْحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْبَصْرَةِ وَثِقَلُهُ بِهَا، فَحَمَلَهُ وَمَالا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ قَلِيلا، وَقَالَ: هِيَ أَرْزَاقِي. قَالَ أَبُو زَيْد: ذكرت ذَلِكَ لأبي الْحَسَن فأنكره، وزعم أن عَلِيًّا قتل وابن عباس بمكة، وأن الَّذِي شهد الصلح بين الْحَسَن ومعاوية عُبَيْد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ ذكر الخبر عن مقتل عَلِيّ بن أبي طالب وفي هَذِهِ السنة قتل على بن ابى طالب ع، واختلف فِي وقت قتله، فَقَالَ أَبُو معشر مَا حَدَّثَنِي بِهِ أَحْمَد بْن ثَابِت، قَالَ: حدثت عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، قَالَ: قتل علي فِي شهر رمضان يوم الجمعة لسبع عشرة خلت مِنْهُ سنة أربعين، وكذلك قَالَ الْوَاقِدِيُّ، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ الْحَارِث، عن ابن سعد عنه، وَأَمَّا أَبُو زَيْدٍ فَحَدَّثَنِي عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ أنه قَالَ: قتل عَلِيّ بن أبي طالب بالكوفة يوم الجمعة لإحدى عشرة قَالَ: ويقال: لثلاث عشرة بقيت من شهر رمضان سنة أربعين قَالَ: وَقَدْ قيل فِي شهر ربيع الآخر سنة أربعين. ذكر الخبر عن سبب قتله ومقتله: حدثنى موسى بن عثمان بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ المسروقي، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الرَّحْمَن الحراني أَبُو عبد الرَّحْمَن، قَالَ: أَخْبَرَنَا اسماعيل بن راشد، قال: كان من حديث ابن ملجم وأَصْحَابه أن ابن ملجم والبرك بن عَبْدِ اللَّهِ وعمرو بن بكر التميمي اجتمعوا، فتذاكروا أمر الناس، وعابوا عَلَى ولاتهم، ثُمَّ ذكروا أهل النهر، فترحموا عَلَيْهِم، وَقَالُوا: مَا نصنع بالبقاء بعدهم شَيْئًا! إخواننا الَّذِينَ كَانُوا دعاة الناس لعبادة ربهم، والذين كَانُوا لا يخافون فِي اللَّه لومة لائم، فلو شرينا أنفسنا فأتينا أئمة الضلالة فالتمسنا قتلهم، فأرحنا مِنْهُمُ

البلاد، وثأرنا بهم إخواننا! فَقَالَ ابن ملجم: أنا أكفيكم عَلِيّ بن أبي طالب- وَكَانَ من أهل مصر- وَقَالَ البرك بن عَبْدِ اللَّهِ: أنا أكفيكم مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ، وَقَالَ عَمْرو بن بكر: أنا أكفيكم عَمْرو بن الْعَاصِ فتعاهدوا وتواثقوا بِاللَّهِ لا ينكص رجل منا عن صاحبه الَّذِي توجه إِلَيْهِ حَتَّى يقتله أو يموت دونه فأخذوا أسيافهم، فسموها، واتعدوا لسبع عشرة تخلو من رمضان أن يثب كل واحد مِنْهُمْ عَلَى صاحبه الَّذِي توجه إِلَيْهِ، وأقبل كل رجل مِنْهُمْ إِلَى المصر الَّذِي فِيهِ صاحبه الَّذِي يطلب. فأما ابن ملجم المرادي فكان عداده فِي كندة، فخرج فلقي أَصْحَابه بالكوفة، وكاتمهم أمره كراهة أن يظهروا شَيْئًا من أمره، فإنه رَأَى ذات يوم أَصْحَابا من تيم الرباب- وَكَانَ علي قتل مِنْهُمْ يوم النهر عشرة- فذكروا قتلاهم، ولقي من يومه ذَلِكَ امرأة من تيم الرباب يقال لها: قطام ابنة الشجنه- وَقَدْ قتل أباها وأخاها يوم النهر، وكانت فائقة الجمال- فلما رآها التبست بعقله، ونسي حاجته الَّتِي جَاءَ لها، ثُمَّ خطبها، فَقَالَتْ: لا أتزوجك حَتَّى تشفي لي قَالَ: وما يشفيك؟ قالت: ثلاثة آلاف وعبد وقينة وقتل عَلِيّ بن أبي طالب، قَالَ: هُوَ مهر لك، فأما قتل علي فلا أراك ذكرته لي وأنت تريديني! قالت: بلى، التمس غرته، فإن أصبت شفيت نفسك ونفسي، ويهنئك العيش معي، وإن قتلت فما عِنْدَ اللَّه خير من الدنيا وزينتها وزينه أهلها، قال: فو الله مَا جَاءَ بي إِلَى هَذَا المصر إلا قتل علي، فلك مَا سألت قالت: إني أطلب لك من يسند ظهرك، ويساعدك عَلَى أمرك، فبعثت إِلَى رجل من قومها من تيم الرباب يقال لَهُ: وردان فكلمته فأجابها، وأتى ابن ملجم رجلا من أشجع يقال لَهُ شبيب بن بجرة فَقَالَ لَهُ: هل لك فِي شرف الدُّنْيَا والآخرة؟ قَالَ: وما ذاك؟ قَالَ: قتل عَلِيّ بن أبي طالب، قَالَ: ثكلتك أمك! لقد جئت شَيْئًا إدا، كيف تقدر عَلَى علي! قَالَ: أكمن لَهُ في المسجد، فإذا خرج لصلاة الغداة شد دنا عَلَيْهِ فقتلناه، فإن نجونا شفينا أنفسنا، وأدركنا ثأرنا، وإن قتلنا فما

عِنْدَ اللَّه خير من الدُّنْيَا وما فِيهَا قَالَ: ويحك! لو كَانَ غير علي لكان أهون علي، قَدْ عرفت بلاءه فِي الإِسْلام، وسابقته مع النبي ص وما أجدني أنشرح لقتله قَالَ: أما تعلم أنه قتل أهل النهر العباد الصالحين! قَالَ: بلى، قَالَ: فنقتله بمن قتل من إخواننا، فأجابه- فجاءوا قطام- وَهِيَ فِي المسجد الأعظم معتكفة- فَقَالُوا لها: قَدْ أجمع رأينا عَلَى قتل علي، قالت: فإذا أردتم ذَلِكَ فأتوني، ثُمَّ عاد إِلَيْهَا ابن ملجم فِي ليلة الجمعة الَّتِي قتل فِي صبيحتها علي سنة أربعين- فَقَالَ: هَذِهِ الليلة الَّتِي واعدت فِيهَا صاحبي أن يقتل كل منا صاحبه، فدعت لَهُمْ بالحرير فعصبتهم بِهِ، وأخذوا أسيافهم وجلسوا مقابل السدة الَّتِي يخرج منها علي، فلما خرج ضربه شبيب بالسيف. فوقع سيفه بعضادة الباب أو الطاق، وضربه ابن ملجم فِي قرنه بالسيف. وهرب وردان حَتَّى دخل منزله، فدخل عَلَيْهِ رجل من بني أَبِيهِ وَهُوَ ينزع الحرير عن صدره، فَقَالَ: مَا هَذَا الحرير والسيف؟ فأخبره بِمَا كَانَ وانصرف فَجَاءَ بسيفه فعلا بِهِ وردان حَتَّى قتله، وخرج شبيب نحو أبواب كندة فِي الغلس، وصاح الناس، فلحقه رجل من حضرموت يقال لَهُ عويمر، وفي يد شبيب السيف، فأخذه، وجثم عَلَيْهِ الحضرمي، فلما رَأَى الناس قَدْ أقبلوا فِي طلبه، وسيف شبيب فِي يده، خشي عَلَى نفسه، فتركه، ونجا شبيب فِي غمار الناس، فشدوا عَلَى ابن ملجم فأخذوه، إلا أن رجلا من همدان يكنى أبا أدماء أخذ سيفه فضرب رجله، فصرعه، [وتأخر علي، ورفع فِي ظهره جعدة بن هبيرة بن أبي وهب، فصلى بِالنَّاسِ الغداة، ثُمَّ قَالَ علي: علي بالرجل، فأدخل عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أي عدو اللَّه، ألم أحسن إليك! قَالَ: بلى، قَالَ: فما حملك عَلَى هَذَا؟ قَالَ: شحذته أربعين صباحا، وسألت اللَّه أن يقتل به شر خلقه، فقال ع: لا أراك إلا مقتولا بِهِ، وَلا أراك إلا من شر خلقه] . وذكروا أن ابن ملجم قَالَ قبل أن يضرب عَلِيًّا- وَكَانَ جالسا في بنى بكر ابن وائل إذ مر عَلَيْهِ بجنازة أبجر بن جابر العجلي أبي حجار، وَكَانَ نصرانيا،

والنصارى حوله، وأناس مع حجار لمنزلته فِيهِمْ يمشون في جانب وفيهم شقيق ابن ثور- فَقَالَ ابن ملجم: مَا هَؤُلاءِ؟ فأخبر الخبر، فأنشأ يقول: لَئِنْ كَانَ حجار بن أبجر مسلما ... لقد بوعدت مِنْهُ جنازة أبجر وإن كَانَ حجار بن أبجر كافرا ... فما مثل هَذَا من كفور بمنكر أترضون هَذَا أن قيسا ومسلما ... جميعا لدى نعش، فيا قبح منظر! فلولا الَّذِي أنوي لفرقت جمعهم ... بأبيض مصقول الدياس مشهر ولكنني أنوي بذاك وسيلة ... إِلَى اللَّهِ أو هَذَا فخذ ذاك او ذر وذكر ان محمد بن الحنفيه، قال: كنت والله انى لا صلى تِلَكَ الليلة الَّتِي ضرب فِيهَا علي فِي المسجد الأعظم، فِي رجال كثير من أهل المصر، يصلون قريبا من السدة، مَا هم إلا قيام وركوع وسجود، وما يسأمون من أول الليل إِلَى آخره، إذ خرج علي لصلاة الغداة، فجعل ينادي: أَيُّهَا النَّاسُ، الصَّلاة الصَّلاة! فما أدري أخرج من السدة فتكلم بهذه الكلمات أم لا! فنظرت إِلَى بريق، وسمعت: الحكم لِلَّهِ يَا علي لا لك وَلا لأَصْحَابك، فرأيت سيفا، ثُمَّ رأيت ثانيا، ثُمَّ سمعت عَلِيًّا يقول: لا يفوتنكم الرجل، وشد الناس عَلَيْهِ من كل جانب [قَالَ: فلم أبرح حَتَّى أخذ ابن ملجم وأدخل عَلَى علي، فدخلت فيمن دخل مِنَ النَّاسِ، فسمعت عَلِيًّا يقول: النفس بالنفس، إن أنا مت فاقتلوه كما قتلني، وإن بقيت رأيت فِيهِ رأيي] وذكر أن الناس دخلوا عَلَى الْحَسَن فزعين لما حدث من أمر علي، فبينما هم عنده وابن ملجم مكتوف بين يديه، إذ نادته أم كلثوم بنت علي وَهِيَ تبكي: أي عدو اللَّه، لا بأس عَلَى أبي، وَاللَّهِ مخزيك! قَالَ: فعلى من تبكين؟ وَاللَّهِ لقد اشتريته بألف، وسممته بألف، ولو كَانَتْ هَذِهِ الضربة عَلَى جميع أهل المصر مَا بقي مِنْهُمْ أحد. [وذكر أن جندب بن عَبْدِ اللَّهِ دخل عَلَى علي فسأله، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إن فقدناك- وَلا نفقدك- فنبايع الْحَسَن؟ فَقَالَ: مَا آمركم

وَلا أنهاكم، أنتم أبصر فرد عَلَيْهِ مثلها، فدعا حسنا وحسينا، فَقَالَ: أوصيكما بتقوى اللَّه، وألا تبغيا الدُّنْيَا وإن بغتكما، وَلا تبكيا عَلَى شَيْء زوي عنكما، وقولا الحق، وارحما اليتيم، وأغيثا الملهوف، واصنعا للآخرة، وكونا للظالم خصما، وللمظلوم ناصرا، واعملا بِمَا فِي الكتاب، ولا تأخذ كما فِي اللَّه لومة لائم ثُمَّ نظر إِلَى محمد بن الحنفية، فَقَالَ: هل حفظت] [مَا أوصيت بِهِ أخويك؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فإني أوصيك بمثله، وأوصيك بتوقير أخويك، لعظيم حقهما عَلَيْك، فاتبع أمرهما، وَلا تقطع أمرا دونهما. ثُمَّ قَالَ: أوصيكما بِهِ، فإنه شقيقكما، وابن أبيكما، وَقَدْ علمتما أن أباكما كَانَ يحبه] [وَقَالَ للحسن: أوصيك أي بني بتقوى اللَّه، وإقام الصَّلاة لوقتها، وإيتاء الزكاة عِنْدَ محلها، وحسن الوضوء، فإنه لا صلاة إلا بطهور، وَلا تقبل صلاه من مانع زكاه، وأوصيك بغفر الذنب، وكظم الغيظ، وصلة الرحم، والحلم عِنْدَ الجهل، والتفقه فِي الدين، والتثبت فِي الأمر، والتعاهد للقرآن، وحسن الجوار، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، واجتناب الفواحش] . فلما حضرته الوفاة أوصى، فكانت وصيته: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*، هَذَا مَا أوصى بِهِ عَلِيّ بن أبي طالب، أوصى أنه يشهد أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ* ثُمَّ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ أوصيك يَا حسن وجميع ولدي وأهلي بتقوى اللَّه ربكم، وَلا تموتن إلا وَأَنْتُمْ مسلمون، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا، فإني سمعت أبا القاسم ص يقول: [إن صلاح ذات البين أفضل من عامة الصَّلاة والصيام!] [انظروا إِلَى ذوي أرحامكم فصلوهم يهون اللَّه عَلَيْكُمُ الحساب، اللَّه اللَّه فِي الأيتام، فلا تعنوا أفواههم، وَلا يضيعن بحضرتكم. وَاللَّهِ اللَّه فِي جيرانكم، فإنهم وصية نبيكم ص، مَا زال يوصي

بِهِ حَتَّى ظننا أنه سيورثه وَاللَّهِ اللَّه فِي القرآن، فلا يسبقنكم إِلَى العمل بِهِ غيركم، وَاللَّهِ اللَّه فِي الصَّلاة، فإنها عمود دينكم وَاللَّهِ اللَّه فِي بيت ربكم فلا تخلوه مَا بقيتم، فإنه إن ترك لم يناظر، وَاللَّهِ اللَّه فِي الجهاد فِي سبيل اللَّه بأموالكم وأنفسكم، وَاللَّهِ اللَّه فِي الزكاة، فإنها تطفئ غضب الرب، وَاللَّهِ اللَّه فِي ذمة نبيكم، فلا يظلمن بين أظهركم، وَاللَّهِ اللَّه فِي أَصْحَاب نبيكم، فإن رَسُول اللَّهِ أوصى بهم، وَاللَّهِ اللَّه فِي الْفُقَرَاء والمساكين فأشركوهم فِي معايشكم، وَاللَّهِ اللَّه فِيمَا ملكت أيمانكم الصَّلاة الصَّلاة لا تخافن فِي اللَّه لومة لائم، يكفيكم من أرادكم وبغى عَلَيْكُمْ وقولوا لِلنَّاسِ حسنا كما أمركم اللَّه،] [وَلا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولي الأمر شراركم، ثُمَّ تدعون فلا يستجاب لكم] [وَعَلَيْكُمْ بالتواصل والتباذل، وإياكم والتدابر والتقاطع والتفرق، وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى، وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ حفظكم اللَّه من أهل بيت، وحفظ فيكم نبيكم أستودعكم اللَّه، وأقرأ عَلَيْكُمُ السلام ورحمة اللَّه] . ثُمَّ لم ينطق إلا بلا إله إلا اللَّه حَتَّى قبض رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ فِي شهر رمضان سنة أربعين، وغسله ابناه الْحَسَن والحسين وعبد اللَّه بن جَعْفَر، وكفن فِي ثلاثة أثواب ليس فِيهَا قميص، وكبر عَلَيْهِ الْحَسَن تسع تكبيرات، ثُمَّ ولي الْحَسَن ستة أشهر. [وَقَدْ كَانَ علي نهى الْحَسَن عن المثلة، وَقَالَ: يَا بني عبد المطلب، لا ألفينكم تخوضون دماء الْمُسْلِمِينَ، تقولون: قتل أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، قتل أَمِير الْمُؤْمِنِينَ! أَلا لايقتلن الا قاتلى انظر يا حسن، ان انامت من ضربته هَذِهِ فاضربه ضربة بضربة، وَلا تمثل بالرجل،] [فانى سمعت رسول الله ص: يقول: إياكم والمثلة، ولو أنها بالكلب العقور] فلما قبض ع بعث الْحَسَن إِلَى ابن ملجم، فَقَالَ للحسن: هل لك فِي خصلة؟ إني وَاللَّهِ مَا أعطيت اللَّه عهدا إلا وفيت بِهِ، إني كنت قَدْ أعطيت اللَّه عهدا عِنْدَ الحطيم أن أقتل عَلِيًّا ومعاوية أو أموت دونهما، فإن شئت خليت بيني وبينه، ولك اللَّه علي إن لم أقتله- أو قتلته ثُمَّ بقيت- أن آتيك

حَتَّى أضع يدي فِي يدك [فَقَالَ لَهُ الْحَسَن: أما وَاللَّهِ حَتَّى تعاين النار فلا ثُمَّ قدمه فقتله، ثُمَّ أخذه الناس فأدرجوه فِي بواري، ثُمَّ أحرقوه بالنار] . وأما البرك بن عَبْدِ اللَّهِ، فإنه فِي تِلَكَ الليلة الَّتِي ضرب فِيهَا علي قعد لمعاوية، فلما خرج ليصلي الغداة شد عَلَيْهِ بسيفه، فوقع السيف فِي أليته، فأخذ، فَقَالَ: إن عندي خيرا أسرك بِهِ، فإن أخبرتك فنافعي ذَلِكَ عندك؟ قَالَ: نعم، قَالَ: إن أخا لي قتل عَلِيًّا فِي مثل هَذِهِ الليلة، قَالَ: فلعله لم يقدر عَلَى ذَلِكَ! قَالَ: بلى، إن عَلِيًّا يخرج ليس مَعَهُ من يحرسه، فأمر بِهِ مُعَاوِيَة فقتل وبعث مُعَاوِيَة إِلَى الساعدي- وَكَانَ طبيبا- فلما نظر إِلَيْهِ قَالَ: اختر إحدى خصلتين: إما أن أحمي حديدة فأضعها موضع السيف، وإما أن أسقيك شربة تقطع مِنْكَ الولد، وتبرأ منها، فإن ضربتك مسمومة، فَقَالَ مُعَاوِيَة: أما النار فلا صبر لي عَلَيْهَا، وأما انقطاع الولد فإن فِي يَزِيد وعبد اللَّه مَا تقر به عيني فسقاه تِلَكَ الشربة فبرأ، ولم يولد لَهُ بعدها، وأمر مُعَاوِيَة عِنْدَ ذَلِكَ بالمقصورات وحرس الليل وقيام الشرطه عَلَى رأسه إذا سجد. وأما عَمْرو بن بكر فجلس لعمرو بن الْعَاصِ تِلَكَ الليلة، فلم يخرج، وَكَانَ اشتكى بطنه، فأمر خارجة بن حذافة، وَكَانَ صاحب شرطته، وَكَانَ من بني عَامِر بن لؤي، فخرج ليصلي، فشد عَلَيْهِ وَهُوَ يرى أنه عَمْرو، فضربه فقتله، فأخذه الناس، فانطلقوا بِهِ إِلَى عَمْرو يسلمون عَلَيْهِ بالإمرة، فَقَالَ: من هَذَا؟ قَالُوا: عَمْرو، قَالَ: فمن قتلت؟ قَالُوا: خارجة بن حذافة، قَالَ: أما وَاللَّهِ يَا فاسق مَا ظننته غيرك، فَقَالَ عَمْرو: أردتني وأراد اللَّه خارجة، فقدمه عَمْرو فقتله، فبلغ ذَلِكَ مُعَاوِيَة، فكتب إِلَيْهِ: وقتل وأسباب المنايا كثيرة ... منية شيخ من لوى بن غالب فيا عَمْرو مهلا إنما أنت عمه ... وصاحبه دون الرجال الأقارب نجوت وَقَدْ بل المرادي سيفه ... من ابن أبي شيخ الأباطح طالب

ويضربني بالسيف آخر مثله ... فكانت علينا تِلَكَ ضربة لازب وأنت تناغي كل يوم وليلة ... بمصرك بيضا كالظباء السوارب ولما انتهى إِلَى عَائِشَة قتل علي- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قالت: فألقت عصاها واستقرت بِهَا النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر فمن قتله؟ فقيل: رجل من مراد، فَقَالَتْ: فإن يك نائيا فلقد نعاه ... غلام ليس فِي فِيهِ التراب فَقَالَتْ زينب ابنة أبي سلمة: ألعلي تقولين هَذَا؟ فَقَالَتْ: إني أنسى، فإذا نسيت فذكروني وَكَانَ الَّذِي ذهب بنعيه سُفْيَان بن عبد شمس بن أَبِي وَقَّاص الزُّهْرِيّ: وَقَالَ ابن ابى عباس المرادي فِي قتل علي ونحن ضربنا يَا لك الخير حيدرا ... أبا حسن مأمومة فتفطرا ونحن خلعنا ملكه من نظامه ... بضربة سيف إذ علا وتجبرا ونحن كرام فِي الصباح أعزة ... إذا الموت بالموت ارتدى وتأزرا وَقَالَ أَيْضًا: ولم أر مهرا ساقه ذو سماحة ... كمهر قطام من فصيح وأعجم ثلاثة آلاف وعبد وقينة ... وضرب علي بالحسام المصمم فلا مهر أغلى من علي وإن غلا ... وَلا قتل إلا دون قتل ابن ملجم وَقَالَ أَبُو الأسود الدؤلي: أَلا أبلغ مُعَاوِيَة بن حرب ... فلا قرت عيون الشامتينا أفي شهر الصيام فجعتمونا ... بخير الناس طرا أجمعينا!

قتلتم خير من ركب المطايا ... ورحلها ومن ركب السفينا ومن لبس النعال ومن حذاها ... ومن قرأ المثاني والمبينا إذا استقبلت وجه أبي حُسَيْن ... رأيت البدر راع الناظرينا لقد علمت قريش حَيْثُ كَانَتْ ... بأنك خيرها حسبا ودينا واختلف فِي سنة يوم قتل، فَقَالَ بعضهم: قتل وَهُوَ ابن تسع وخمسين سنة. [وحدثت عن مُصْعَب بن عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَانَ الْحَسَن بن علي يقول: قتل أبي وَهُوَ ابن ثمان وخمسين سنة] . وَحَدَّثَنَا عن بعضهم، قَالَ: قتل وَهُوَ ابن خمس وستين سنة. وَحَدَّثَنِي أَبُو زيد، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أيوب بن عُمَرَ بن أبي عَمْرو، [عن جَعْفَر بن مُحَمَّدٍ، قَالَ: قتل علي وَهُوَ ابن ثلاث وستين سنة قَالَ: وَذَلِكَ أصح مَا قيل فِيهِ] حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قال: قتل على ع وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً. وَقَالَ هِشَامٌ: ولى على وهو ابن ثمان وخمسين سنه واشهر، وكانت خلافته خمس سنين الا ثلاثة اشهر، ثُمَّ قَتَلَهُ ابْنُ مُلْجَمٍ- وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابن عَمْرٍو- فِي رَمَضَانَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْهُ، وَكَانَتْ وِلايَتُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَقُتِلَ سنة أربعين وهو ابن ثلاث وستين سنة. وَحَدَّثَنِي الْحَارِث، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قتل على ع وَهُوَ ابن ثلاث وستين سنة صبيحة ليلة الجمعه لسبع

ذكر الخبر عن قدر مده خلافته

عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة أربعين، ودفن عِنْدَ مسجد الجماعة فِي قصر الإمارة. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن عُمَرَ، قَالَ: ضرب على ع ليلة الجمعة، فمكث يوم الجمعة وليلة السبت، وتوفي ليلة الأحد لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة أربعين وَهُوَ ابن ثلاث وستين سنة. وَحدثني الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابن سعد، قال: أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ وَأَبُو بَكْرٍ السَّبْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ، قَالَ: سمعت محمد بن الحنفيه يقول سنه الجحاف حين دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَمَانِينَ هَذِهِ وَلِي خَمْسٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، قَدْ جَاوَزْتُ سِنَّ أَبِي، قِيلَ: وَكَمْ كَانَتْ سِنُّهُ يَوْمَ قُتِلَ؟ قَالَ: قُتِلَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً. وَقَالَ الْحَارِثُ: قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ كَذَلِكَ، وَهُوَ الثَّبْتُ عِنْدَنَا . ذكر الخبر عن قدر مدة خلافته حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ ثَابِتٍ، قال: حدثت عن إسحاق بْن عيسى، عن أَبِي مَعْشَرٍ، قَالَ: كَانَتْ خِلافَةُ عَلِيٍّ خَمْسَ سِنِينَ إِلا ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ. وَحَدَّثَنِي الْحَارِث، قَالَ: حَدَّثَنِي ابن سعد قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْن عُمَرَ: كَانَتْ خلافة علي خمس سنين إلا ثلاثة اشهر

ذكر الخبر عن صفته

حدثنى أَبُو زَيْد، قَالَ: قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: كَانَتْ ولاية علي أربع سنين وتسعة أشهر، ويوما أو غير يوم . ذكر الخبر عن صفته حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا أبو بكر بْن عبد الله بْن أبي سبرة، [عن إسحاق بن عبد الله ابن أَبِي فَرْوَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ، قُلْتُ: مَا كَانَتْ صِفَةُ عَلِيٍّ ع؟ قَالَ: رَجُلٌ آدَمُ شَدِيدُ الأَدَمَةِ ثَقِيلُ الْعَيْنَيْنِ عَظِيمُهُمَا، ذُو بَطْنٍ، أَصْلَعُ، هُوَ إِلَى الْقِصَرِ اقرب] . ذكر نسبه ع هُوَ عَلِيّ بن أبي طالب، واسم أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف، وأمه فاطمه بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف . ذكر الخبر عن أزواجه وأولاده فأول زوجة تزوجها فاطمه بنت رسول الله ص، ولم يتزوج عَلَيْهَا حَتَّى توفيت عنده، وَكَانَ لها مِنْهُ من الولد: الْحَسَن والحسين، ويذكر أنه كَانَ لها مِنْهُ ابن آخر يسمى محسنا توفي صغيرا، وزينب الكبرى، وأم كلثوم الكبرى. ثُمَّ تزوج بعد أم البنين بنت حزام- وَهُوَ أَبُو المجل بن خَالِد بن ربيعه ابن الوحيد بن كعب بن عَامِر بن كلاب- فولد لها مِنْهُ العباس، وجعفر، وعبد اللَّه، وعثمان، قتلوا مع الحسين ع بكربلاء، وَلا بقية لَهُمْ غير العباس. وتزوج لَيْلَى ابنة مسعود بن خَالِد بن مالك بن ربعي بن سلمى بن جندل

ابن نهشل بن دارم بْن مالك بْن حنظلة بْن مالك بْن زَيْد مناة بن تميم، فولدت لَهُ عُبَيْد اللَّهِ وأبا بكر فزعم هِشَام بن مُحَمَّد أنهما قتلا مع الْحُسَيْن بالطف وأما مُحَمَّد بن عُمَرَ فإنه زعم أن عُبَيْد اللَّهِ بن علي قتله المختار بن أبي عبيد بالمذار، وزعم أنه لا بقية لعبيد اللَّه وَلا لأبي بكر ابني على ع. وتزوج أسماء ابنة عميس الخثعمية، فولدت لَهُ- فِيمَا حدثت عن هِشَام بن مُحَمَّد- يَحْيَى ومُحَمَّدا الأصغر، وَقَالَ: لا عقب لهما. وأما الْوَاقِدِيّ فإنه قَالَ فِيمَا حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْوَاقِدِيّ أن أسماء ولدت لعلي يَحْيَى وعونا ابني علي ويقول بعضهم: محمد الاصغر لام ولد، وكذلك قَالَ الْوَاقِدِيّ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ: قتل مُحَمَّد الأصغر مع الْحُسَيْن. وله من الصهباء- وَهِيَ أم حبيب بنت رَبِيعَة بن بجير بن العبد بن علقمه ابن الْحَارِث بن عتبة بن سَعْدِ بْنِ زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو ابن غنم بن تغلب بن وائل، وَهِيَ أم ولد من السبى الذين أصابهم خالد ابن الْوَلِيد حين أغار عَلَى عين التمر عَلَى بني تغلب بِهَا- عُمَر بن علي، ورقية ابنة علي، فعمر عُمَر بن علي حَتَّى بلغ خمسا وثمانين سنة، فحاز نصف ميراث على ع، ومات بينبع. وتزوج أمامة بنت أبي العاصي بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عَبْدِ شمس ابن عبد مناف وأمها زينب بنت رَسُول اللَّهِ ص، فولدت لَهُ مُحَمَّدا الأوسط. وله مُحَمَّد بن على الاكبر، الذى يقال له: محمد بن الحنفية، أمه خولة ابنة جَعْفَر بن قيس بن مسلمة بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبه بن الدول ابن حنيفة بن لجيم بن صعب بن عَلِيّ بن بكر بن وائل، توفي بالطائف فصلى عَلَيْهِ ابن عَبَّاس. وتزوج أم سَعِيد بنت عروة بن مسعود بن معتب بن مالك الثقفي، فولدت لَهُ أم الْحَسَن ورملة الكبرى

ذكر ولاته

وَكَانَ لَهُ بنات من أمهات شتى لم يسم لنا أسماء أمهاتهن، منهن أم هاني، وميمونة، وزينب الصغرى، ورملة الصغرى، وأم كلثوم الصغرى وفاطمة، وأمامة، وخديجة، وأم الكرام، وأم سلمة، وأم جَعْفَر، وجمانة، ونفيسة بنات علي ع، أمهاتهن أمهات أولاد شتى وتزوج محياة ابنة امرئ القيس بن عدي بن أوس بن جابر بن كعب ابن عليم من كلب، فولدت لَهُ جارية، هلكت وَهِيَ صغيرة قَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَتْ تخرج إِلَى الْمَسْجِدِ وَهِيَ جارية فيقال لها: من أخوالك؟ فتقول وه، وه- تعني كلبا. فجميع ولد علي لصلبه أربعة عشر ذكرا، وسبع عشرة امرأة. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ عن الْوَاقِدِيّ، قَالَ: كَانَ النسل من ولد علي لخمسة: الْحَسَن، والحسين، ومحمد بن الحنفيه، والعباس بن الكلابية، وعمر بن التغلبية . ذكر ولاته وَكَانَ واليه عَلَى الْبَصْرَة فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن العباس، وَقَدْ ذكرنا اختلاف المختلفين فِي ذَلِكَ، وإليه كَانَتِ الصدقات والجند والمعاون أيام ولايته كلها، وَكَانَ يستخلف بِهَا إذا شخص عنها على ما قد بينت قبل. وَكَانَ عَلَى قضائها من قبل علي أَبُو الأسود الدؤلي، وَقَدْ ذكرت مَا كَانَ من توليته زيادا عَلَيْهَا، ثُمَّ إشخاصه إِيَّاهُ إِلَى فارس لحربها وخراجها، فقتل وَهُوَ بفارس، وعلى مَا كَانَ وجهه عَلَيْهِ. وَكَانَ عامله عَلَى البحرين وما يليها واليمن ومخاليفها عُبَيْد اللَّهِ بن العباس، حَتَّى كَانَ من أمره وأمر بسر بن أبي أرطاة مَا قَدْ مضى ذكره. وَكَانَ عامله عَلَى الطائف ومكة وما اتصل بِذَلِكَ قثم بن العباس

ذكر بعض سيره ع

وَكَانَ عامله عَلَى الْمَدِينَة أَبُو أيوب الأَنْصَارِيّ، وقيل: سَهْل بن حنيف، حَتَّى كَانَ من أمره عِنْدَ قدوم بسر مَا قَدْ ذكر قبل . ذكر بعض سيره ع حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، [عَنْ عَبَّاسِ بْنِ الْفَضْلِ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ ابْنِ أَبِي رَافِعٍ، أَنَّهُ كان خازنا لعلى ع عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، قَالَ: فَدَخَلَ يَوْمًا وَقَدْ زُيِّنَتِ ابْنَتُهُ، فَرَأَى عَلَيْهَا لُؤْلُؤَةً مِنْ بَيْتِ الْمَالِ قَدْ كَانَ عَرَفَهَا، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَهَا هَذِهِ؟ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَقْطَعَ يَدَهَا، قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُ جِدَّهُ فِي ذَلِكَ قُلْتُ: أَنَا وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ زَيَّنْتُ بِهَا ابْنَةَ أَخِي، وَمِنْ أَيْنَ كَانَتْ تَقْدِرُ عَلَيْهَا لَوْ لَمْ أَعْطِهَا! فَسَكَتَ] . حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى الْفَزَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلامِ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ نَاجِيَةَ الْقُرَشِيِّ، عَنْ عَمِّهِ يَزِيدَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عُثْمَانَ، [قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا ع خَارِجًا مِنْ هَمْدَانَ، فَرَأَى فِئَتَيْنِ يَقْتَتِلانِ، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ مَضَى فَسَمِعَ صَوْتًا يَا غَوْثًا بِاللَّهِ! فَخَرَجَ يَحْضُرُ نَحْوَهُ حَتَّى سَمِعْتُ خَفْقَ نَعْلِهِ وَهُوَ يَقُولُ: أَتَاكَ الْغَوْثُ، فَإِذَا رَجُلٌ يُلازِمُ رَجُلا، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بِعْتُ هذا ثوبا بتسعه دراهم، وشرطت عليه الا يُعْطِيَنِي مَغْمُوزًا وَلا مَقْطُوعًا- وَكَانَ شَرْطَهُمْ يَوْمَئِذٍ- فَأَتَيْتُهُ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ لِيُبَدِّلَهَا لِي فَأَبَى، فَلَزِمْتُهُ فَلَطَمَنِي، فَقَالَ: أَبْدِلْهُ، فَقَالَ: بَيِّنَتُكَ عَلَى اللَّطْمَةِ، فَأَتَاهُ بِالْبَيِّنَةِ، فَأَقْعَدَهُ ثُمَّ قَالَ: دُونَكَ فَاقْتَصَّ، فقال: انى

قَدْ عَفَوْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَحْتَاطَ فِي حَقِّكَ، ثُمَّ ضَرَبَ الرَّجُلَ تِسْعَ دِرَّاتٍ، وَقَالَ: هَذَا حَقُّ السُّلْطَانَ] . حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ الأَسَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَصْبَهَانِيُّ، قَالَ: [حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ نَاجِيَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنَّا قِيَامًا عَلَى بَابِ الْقَصْرِ، إِذْ خَرَجَ عَلِيٌّ عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَأَيْنَاهُ تَنَحَّيْنَا عَنْ وَجْهِهِ هَيْبَةً لَهُ، فَلَمَّا جَازَ صِرْنَا خَلْفَهُ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ نَادَى رَجُلٌ يَا غَوْثًا بِاللَّهِ! فَإِذَا رَجُلانِ يَقْتَتِلانِ، فَلَكَزَ صَدْرَ هَذَا وَصَدْرَ هَذَا، ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: تَنَحَّيَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ هَذَا اشْتَرَى مِنِّي شَاةً، وَقَدْ شَرَطْتُ عَلَيْهِ أَلا يُعْطِيَنِي مَغْمُوزًا وَلا مُحْذَفًا، فَأَعْطَانِي دِرْهَمًا مَغْمُوزًا، فَرَدَدْتُهُ عَلَيْهِ فَلَطَمَنِي، فَقَالَ لِلآخَرِ: مَا تَقُولُ؟ قَالَ: صَدَقَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: فَأَعْطِهِ شَرْطَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلاطِمِ اجْلِسْ، وَقَالَ لِلْمَلْطُومِ: اقْتَصَّ قَالَ: أَوْ أَعْفُو يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: ذَاكَ إِلَيْكَ، قَالَ: فَلَمَّا جَازَ الرَّجُلُ قَالَ عَلِيٌّ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، خُذُوهُ، قَالَ: فَأَخَذُوهُ، فَحُمِلَ عَلَى ظَهْرِ رَجُلٍ كَمَا يُحْمَلُ صِبْيَانُ الْكُتَّابِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ دِرَّةٍ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا نَكَالٌ لِمَا انْتُهِكَتْ مِنْ حُرْمَتِهِ] . حَدَّثَنِي ابْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قال: حدثنا سكين ابن عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حَفْصُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي خَالِدُ بْنُ جَابِرٍ، قَالَ: سمعت الحسن يقول: لما قتل على ع وَقَدْ قَامَ خَطِيبًا، فَقَالَ: لَقَدْ قَتَلْتُمُ اللَّيْلَةَ رَجُلا فِي لَيْلَةٍ فِيهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ، وَفِيهَا رفع عيسى بن مريم ع، وَفِيهَا قُتِلَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ فَتَى مُوسَى ع وَاللَّهِ مَا سَبَقَهُ أَحَدٌ كَانَ قَبْلَهُ، وَلا يُدْرِكُهُ أَحَدٌ يَكُونُ بَعْدَهُ، وَاللَّهِ إِنْ كَانَ رسول الله ص لَيَبْعَثُهُ فِي السَّرِيَّةِ وَجِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِهِ، وَمِيكَائِيلُ عَنْ يَسَارِهِ، وَاللَّهِ مَا تَرَكَ صَفْرَاءَ وَلا بيضاء الا ثمانمائه- او سبعمائة- ارصدها لخادمه

ذكر بيعه الحسن بن على

ذكر بيعة الْحَسَن بن علي وفي هَذِهِ السنة- أعني سنة أربعين- بويع للحسن بن على ع بالخلافة، [وقيل: إن أول من بايعه قيس بن سَعْدٍ، قَالَ لَهُ: ابسط يدك أبايعك عَلَى كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وسنة نبيه، وقتال المحلين، فَقَالَ لَهُ الْحَسَن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَلَى كتاب اللَّه وسنة نبيه، فإن ذَلِكَ يأتي من وراء كل شرط، فبايعه وسكت، وبايعه الناس] . وَحدثني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شَبَّوَيْهِ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: جَعَلَ عَلِيٌّ ع قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ إِلَى قِبَلِ أَذْرَبِيجَانَ، وَعَلَى أَرْضِهَا وَشُرْطَةِ الخميس الذى ابتدعه من العرب، وكانوا اربعين ألفا، بايعوا عليا ع على الموت، ولم يزل قيس يدارى ذلك البعث حتى قتل على ع، واستخلف اهل العراق الحسن بن على ع عَلَى الْخِلافَةِ، وَكَانَ الْحَسَنُ لا يَرَى الْقِتَالَ، وَلَكِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ لِنَفْسِهِ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ مُعَاوِيَةَ، ثُمَّ يَدْخُلَ فِي الْجَمَاعَةِ، وَعَرَفَ الْحَسَنُ أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ لا يُوَافِقُهُ على رايه، فنزعه وامر عبيد اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، فَلَمَّا عَلِمَ عَبْدُ اللَّهِ بن عباس بالذي يريد الحسن ع أَنْ يَأْخُذَهُ لِنَفْسِهِ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ يَسْأَلُهُ الأَمَانَ، وَيَشْتَرِطُ لِنَفْسِهِ عَلَى الأَمْوَالِ الَّتِي أَصَابَهَا، فَشَرَطَ ذَلِكَ لَهُ مُعَاوِيَةُ

وَحدثني مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ أَوِ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَرَّانِيُّ الْخُزَاعِيُّ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ رَاشِدٍ، قَالَ: بَايَعَ الناس الحسن بن على ع بِالْخِلافَةِ، ثُمَّ خَرَجَ بِالنَّاسِ حَتَّى نَزَلَ الْمَدَائِنَ، وَبَعَثَ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَأَقْبَلَ مُعَاوِيَةُ فِي أَهْلِ الشام حتى نزل مسكين، فَبَيْنَا الْحَسَنُ فِي الْمَدَائِنِ إِذْ نَادَى مُنَادٍ فِي الْعَسْكَرِ: أَلا إِنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ قَدْ قُتِلَ، فَانْفِرُوا، فَنَفَرُوا وَنَهَبُوا سُرَادِقَ الْحَسَنِ ع حَتَّى نَازَعُوهُ بِسَاطًا كَانَ تَحْتَهُ، وَخَرَجَ الْحَسَنُ حَتَّى نَزَلَ الْمَقْصُورَةَ الْبَيْضَاءَ بِالْمَدَائِنِ، وَكَانَ عَمُّ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَامِلا عَلَى الْمَدَائِنِ، وَكَانَ اسْمُهُ سَعْدَ بْنَ مَسْعُودٍ، فَقَالَ لَهُ الْمُخْتَارُ وَهُوَ غُلامٌ شَابٌّ: هَلْ لَكَ فِي الْغِنَى وَالشَّرَفِ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: تُوثِقُ الْحَسَنَ، وَتَسْتَأْمِنُ بِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللَّهِ، أَثِبُ عَلَى ابْنِ بنت رسول الله ص فَأُوثِقُهُ! بِئْسَ الرَّجُلُ أَنْتَ! فَلَمَّا رَأَى الْحَسَنُ ع تَفَرُّقَ الأَمْرِ عَنْهُ بَعَثَ إِلَى مُعَاوِيَةَ يَطْلُبُ الصُّلْحَ، وَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَيْهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عامر وعبد الرحمن ابن سمره بن حبيب بن عبد شمس، فقد ما عَلَى الْحَسَنِ بِالْمَدَائِنِ، فَأَعْطَيَاهُ مَا أَرَادَ، وَصَالَحَاهُ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْكُوفَةِ خَمْسَةَ آلافِ أَلْفٍ فِي أَشْيَاءَ اشْتَرَطَهَا [ثُمَّ قَامَ الْحَسَنُ فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ فَقَالَ: يَا أهل العراق، إنه سخى بنفسي عنكم ثلاث: قَتْلُكُمْ أَبِي، وَطَعْنُكُمْ إِيَّايَ، وَانْتِهَابُكُمْ مَتَاعِي]

وَدَخَلَ النَّاسُ فِي طَاعَةِ مُعَاوِيَةَ، وَدَخَلَ مُعَاوِيَةُ الْكُوفَةَ، فَبَايَعَهُ النَّاسُ قَالَ زياد بن عَبْدِ اللَّهِ، عن عوانة، وذكر نحو حديث المسروقي، عن عُثْمَان بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا، وزاد فِيهِ: وكتب الْحَسَن إِلَى مُعَاوِيَةَ فِي الصلح، وطلب الأمان، وَقَالَ الْحَسَن للحسين ولعبد اللَّه بن جَعْفَر: إني قَدْ كتبت إِلَى مُعَاوِيَةَ فِي الصلح وطلب الأمان، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: نشدتك اللَّه أن تصدق أحدوثة مُعَاوِيَة، وتكذب أحدوثة علي! فَقَالَ لَهُ الْحَسَن: اسكت، فأنا أعلم بالأمر مِنْكَ فلما انتهى كتاب الْحَسَن بن على ع إِلَى مُعَاوِيَةَ، أرسل مُعَاوِيَة عَبْد اللَّهِ بن عامر وعبد الرحمن بن سمره، فقد ما المدائن، وأعطيا الْحَسَن مَا أراد، فكتب الْحَسَن إِلَى قيس بن سَعْد وَهُوَ عَلَى مقدمته فِي اثني عشر ألفا يأمره بالدخول فِي طاعة مُعَاوِيَة، فقام قيس بن سَعْد فِي الناس فَقَالَ: يا أيها الناس، اختاروا الدخول فِي طاعة إمام ضلالة، أو القتال مع غير إمام، قَالُوا: لا، بل نختار أن ندخل فِي طاعة إمام ضلالة. فبايعوا لمعاوية، وانصرف عَنْهُمْ قيس بن سَعْد، وَقَدْ كَانَ صالح الْحَسَن مُعَاوِيَة عَلَى أن جعل لَهُ ما في بيت ماله وخراج دارا بجرد على الا يشتم علي وَهُوَ يسمع فأخذ مَا فِي بيت ماله بالكوفة، وَكَانَ فِيهِ خمسة آلاف ألف وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ حَدَّثَنِي مُوسَى بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَان بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ الخزاعي أَبُو عبد الرَّحْمَن، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل بن راشد قَالَ: لما حضر الموسم- يعني فِي العام الذى قتل فيه على ع- كتب الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ كتابا افتعله عَلَى لسان مُعَاوِيَة، فأقام لِلنَّاسِ الحج سنة أربعين، ويقال: إنه عرف يوم التروية، ونحر يوم عرفة، خوفا أن يفطن بمكانه وَقَدْ قيل: إنه إنما فعل ذَلِكَ الْمُغِيرَة لأنه بلغه أن عتبة بن أَبِي سُفْيَانَ مصبحه واليا على

الموسم، فعجل الحج من أجل ذَلِكَ. وفي هَذِهِ السنة بويع لمعاوية بالخلافة بإيلياء، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ مُوسَى بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَان بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل ابن راشد- وَكَانَ قبلُ يدعى بِالشَّامِ أميرا- وحدثت عن أبي مسهر، عن سَعِيد بن عَبْدِ العزيز، قال: كان على ع يدعى بِالْعِرَاقِ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ مُعَاوِيَة يدعى بالشام: الأمير، فلما قتل على ع دعى معاويه: امير المؤمنين

سنه احدى واربعين

ثم سنة إحدى وأربعين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كَانَ فِيهَا من ذلك تسليم الحسن بن على ع الأمر إِلَى مُعَاوِيَةَ ودخول مُعَاوِيَة الْكُوفَة، وبيعة أهل الْكُوفَة مُعَاوِيَة بالخلافة. ذكر الخبر بِذَلِكَ: حَدَّثَنِي عبد الله بن أحمد المروزي، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عبد الله، عن يونس، عن الزهري، قال: بَايَعَ أَهْلُ الْعِرَاقِ الْحَسَن بْنَ عَلِيٍّ بِالْخِلافَةِ، فَطَفِقَ يَشْتَرِطُ عَلَيْهِمُ الْحَسَنُ: إِنَّكُمْ سَامِعُونَ مُطِيعُونَ، تُسَالِمُونَ مَنْ سَالَمْتُ، وَتُحَارِبُونَ مَنْ حَارَبْتُ، فَارْتَابَ أَهْلُ الْعِرَاقِ فِي أَمْرِهِمْ حِينَ اشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ هَذَا الشَّرْطَ، وَقَالُوا: مَا هَذَا لَكُمْ بِصَاحِبٍ، وَمَا يُرِيدُ هَذَا الْقِتَالَ، فَلَمْ يَلْبَثِ الْحَسَنُ ع بَعْدَ مَا بَايَعُوهُ إِلا قَلِيلا حَتَّى طُعِنَ طَعْنَةً أَشْوَتْهُ، فَازْدَادَ لَهُمْ بُغْضًا، وَازْدَادَ مِنْهُمْ ذُعْرًا، فَكَاتَبَ مُعَاوِيَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِشُرُوطٍ، قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي هَذَا فَأَنَا سَامِعٌ مُطِيعٌ، وَعَلَيْكَ أَنْ تَفِيَ لِي بِهِ وَوَقَعَتْ صَحِيفَةُ الْحَسَنِ فِي يَدِ مُعَاوِيَةَ، وَقَدْ أَرْسَلَ مُعَاوِيَةُ قَبْلَ هَذَا إِلَى الْحَسَنِ بِصَحِيفَةٍ بَيْضَاءَ، مَخْتُومٌ عَلَى أَسْفَلِهَا، وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنِ اشْتَرِطْ فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ الَّتِي خَتَمْتُ أَسْفَلَهَا مَا شِئْتَ فَهُوَ لَكَ. فَلَمَّا أَتَتِ الْحَسَنَ اشْتَرَطَ أَضْعَافَ الشُّرُوطِ الَّتِي سَأَلَ مُعَاوِيَةَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَمْسَكَهَا عِنْدَهُ، وامسك معاويه صحيفه الحسن ع الَّتِي كَتَبَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ مَا فِيهَا، فَلَمَّا التقى معاويه والحسن ع، سَأَلَهُ الْحَسَنُ أَنْ يُعْطِيَهُ الشُّرُوطَ الَّتِي شَرَطَ فِي السِّجِلِ الَّذِي خَتَمَ مُعَاوِيَةُ فِي أَسْفَلِهِ، فَأَبَى مُعَاوِيَةُ أَنْ يُعْطِيَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَكَ ما كنت كتبت الى او لا تَسْأَلُنِي أَنْ أُعْطِيَكَهُ، فَإِنِّي قَدْ أَعْطَيْتُكَ حِينَ جاءني كتابك قال الحسن ع: وانا قد

ذكر خبر الصلح بين معاويه وقيس بن سعد

اشْتَرَطْتُ حِينَ جَاءَنِي كِتَابُكَ، وَأَعْطَيْتَنِي الْعَهْدَ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا فِيهِ فَاخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ، فَلَمْ ينفذ للحسن ع مِنَ الشُّرُوطِ شَيْئًا، وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ حِينَ اجْتَمَعُوا بِالْكُوفَةِ قَدْ كَلَّمَ مُعَاوِيَةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْمُرَ الْحَسَنَ أَنْ يَقُومَ وَيَخْطُبَ النَّاسَ، فَكَرِهَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةُ، وَقَالَ: مَا تُرِيدُ إِلَيَّ ان يخطب النَّاسَ! فَقَالَ عَمْرٌو: لَكِنِّي أُرِيدُ أَنْ يَبْدُوَ عِيُّهُ لِلنَّاسِ، فَلَمْ يَزَلْ عَمْرٌو بِمُعَاوِيَةَ حَتَّى أَطَاعَهُ، فَخَرَجَ مُعَاوِيَةُ فَخَطَبَ النَّاسَ، ثُمَّ أَمَرَ رجلا فنادى الحسن بن على ع، فَقَالَ: قُمْ يَا حَسَنُ فَكَلِّمِ النَّاسَ، فَتَشْهَدْ فِي بَدِيهَةِ أَمْرٍ لَمْ يُرَوِّ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ هَدَاكُمْ بِأَوَّلِنَا، وَحَقَنَ دِمَاءَكُمْ بِآخِرِنَا، وَإِنَّ لِهَذَا الأَمْرِ مُدَّةٌ، وَالدُّنْيَا دُوَلٌ، وَإِنَّ الله تعالى قال لنبيه ص: «وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ» ، فَلَمَّا قَالَهَا قَالَ مُعَاوِيَةُ: اجْلِسْ، فَلَمْ يَزَلْ ضَرَمًا عَلَى عَمْرٍو، وَقَالَ: هَذَا مِنْ رَأْيِكَ ولحق الحسن ع بِالْمَدِينَةِ. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّد، قال: سلم الحسن بن على ع إِلَى مُعَاوِيَةَ الْكُوفَة، ودخلها مُعَاوِيَة لخمس بقين من ربيع الأول، ويقال من جمادى الأولى سنه احدى واربعين. ذكر خبر الصلح بين معاويه وقيس بن سعد وفي هَذِهِ السنة جرى الصلح بين مُعَاوِيَة وقيس بن سَعْد بعد امتناع قيس من بيعته. ذكر الخبر بِذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان ابن الْفَضْلِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: لَمَّا كَتَبَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ حِينَ عَلِمَ مَا يُرِيدُ الْحَسَنُ مِنْ مُعَاوِيَةَ مِنْ طَلَبِ الأَمَانِ لِنَفْسِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ يَسْأَلُهُ الأَمَانَ، وَيَشْتَرِطُ لِنَفْسِهِ عَلَى الأَمْوَالِ الَّتِي قَدْ أَصَابَ،

فشرط ذلك له معاويه، بعث اليه معاويه ابن عَامِرٍ فِي خَيْلٍ عَظِيمَةٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عُبَيْدُ اللَّهِ لَيْلا حَتَّى لَحِقَ بِهِمْ، وَنَزَلَ وَتَرَكَ جُنْدَهُ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ لا أَمِيرَ لَهُمْ، فيهم قيس بن سعد، واشترط الحسن ع لِنَفْسِهِ، ثُمَّ بَايَعَ مُعَاوِيَةَ، وَأَمَّرَتْ شُرْطَةُ الْخَمِيسِ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ عَلَى أَنْفُسُهِمْ، وَتَعَاهَدُوا هُوَ وَهُمْ عَلَى قِتَالِ مُعَاوِيَةَ حَتَّى يَشْتَرِطَ لِشِيعَةِ على ع وَلِمَنْ كَانَ اتَّبَعَهُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَدِمَائِهِمْ وَمَا أَصَابُوا فِي الْفِتْنَةِ، فَخَلَصَ مُعَاوِيَةُ حِينَ فَرَغَ من عبيد الله ابن عباس والحسن ع إِلَى مُكَايَدَةِ رَجُلٍ هُوَ أَهَمُّ النَّاسِ عِنْدَهُ مُكَايَدَةً، وَمَعَهُ أَرْبَعُونَ أَلْفًا، وَقَدْ نَزَلَ مُعَاوِيَةُ بِهِمْ وَعَمْرٌو وَأَهْلُ الشَّامِ، وَأَرْسَلَ مُعَاوِيَةُ إِلَى قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ يُذَكِّرُهُ اللَّهَ وَيَقُولُ: عَلَى طَاعَةِ مَنْ تُقَاتِلُ، وَقَدْ بَايَعَنِي الَّذِي أَعْطَيْتُهُ طَاعَتَكَ؟ فَأَبَى قَيْسٌ أَنْ يَلِينَ لَهُ، حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ بِسِجِلٍّ قَدْ خَتَمَ عَلَيْهِ فِي أَسْفَلِهِ، فَقَالَ: اكْتُبْ فِي هَذَا السِّجِلِ مَا شِئْتَ، فَهُوَ لَكَ. قَالَ عَمْرٌو لِمُعَاوِيَةَ: لا تُعْطِهِ هَذَا، وَقَاتِلْهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: عَلَى رسلك! فانا لا نخلص الى قتل هؤلاء حتى يقتلوا أَعْدَادُهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَمَا خَيْرُ الْعَيْشِ بَعْدَ ذَلِكَ! وَإِنِّي وَاللَّهِ لا أُقَاتِلُهُ أَبَدًا حَتَّى لا أَجِدُ مِنْ قِتَالِهِ بُدًّا فَلَمَّا بَعَثَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ بِذَلِكَ السِّجِلِ اشْتَرَطَ قَيْسٌ فِيهِ لَهُ وَلِشِيعَةِ عَلِيٍّ الأَمَانَ عَلَى مَا أَصَابُوا مِنَ الدِّمَاءِ وَالأَمْوَالِ، وَلَمْ يَسْأَلْ مُعَاوِيَةَ فِي سِجِّلِهِ ذَلِكَ مَالا، وَأَعْطَاهُ مُعَاوِيَةُ مَا سَأَلَ، فَدَخَلَ قَيْسٌ وَمَنْ مَعَهُ فِي طَاعَتِهِ، وَكَانُوا يَعِدُّونَ دُهَاةَ النَّاسِ حِينَ ثَارَتِ الْفِتْنَةُ خَمْسَةَ رَهْطٍ، فَقَالُوا: ذَوُو رَأْيِ الْعَرَبِ وَمَكِيدَتُهُمْ: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، وَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ الْخُزَاعِيُّ، وَكَانَ قيس وابن بديل مع على ع، وَكَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَعَمْرٌو مَعَ مُعَاوِيَةَ، إِلا أَنَّ الْمُغِيرَةَ كَانَ مُعْتَزِلا بِالطَّائِفِ حَتَّى حُكِّمَ الْحَكَمَانِ، فَاجْتَمَعُوا بِأَذْرُحَ. وَقِيلَ: إِنَّ الصُّلْحَ تم بين الحسن ع وَمُعَاوِيَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الآخَرِ، وَدَخَلَ مُعَاوِيَةُ الْكُوفَةَ فِي غُرَّةِ جُمَادَى الأُولَى مِنْ هَذِهِ

دخول الحسن والحسين المدينة منصرفين من الكوفه

السَّنَةِ، وَقِيلَ: دَخَلَهَا فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الآخِرِ، وهذا قول الواقدى . دخول الحسن والحسين المدينة منصرفين من الكوفه وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ ابْنَا على ع مُنْصَرِفِينَ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ ذكر الخبر بذلك: ولما وقع الصلح بين الحسن ع وبين مُعَاوِيَة بمسكن، قام- فِيمَا حدثت عن زياد البكائي، عن عوانة- خطيبا فِي الناس فقال: يا أهل العراق، إنه سخى بنفسي عنكم ثلاث: قتلكم أبي، وطعنكم إياي، وانتهابكم متاعي قَالَ: ثُمَّ إن الْحَسَن والحسين وعبد اللَّه بن جَعْفَر خرجوا بحشمهم وأثقالهم حَتَّى أتوا الْكُوفَة، فلما قدمها الْحَسَن وبرأ من جراحته، خرج إِلَى مسجد الْكُوفَة فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، اتقوا اللَّه فِي جيرانكم وضيفانكم، وفي اهل بيت نبيكم ص الَّذِينَ أذهب اللَّه عَنْهُمُ الرجس وطهرهم تَطْهِيراً فجعل الناس يبكون، ثُمَّ تحملوا إِلَى الْمَدِينَة قَالَ: وحال أهل الْبَصْرَة بينه وبين خراج دارابجرد، وقالوا: فيئنا، فلما خرج إِلَى الْمَدِينَة تلقاه ناس بالقادسية فقالوا: يا مذل العرب! ذكر خروج الخوارج على معاويه وفيها خرجت الخوارج الَّتِي اعتزلت أيام علي ع بشهرزور عَلَى مُعَاوِيَة. ذكر خبرهم: حدثت عن زياد، عن عوانة، قَالَ: قدم مُعَاوِيَة قبل أن يبرح الْحَسَن من الْكُوفَة حَتَّى نزل النخيله، فقالت الحرورية الخمسمائة الَّتِي كَانَتِ اعتزلت

بشهرزور مع فروة بن نوفل الأشجعي: قَدْ جَاءَ الآن مَا لا شك فِيهِ، فسيروا إِلَى مُعَاوِيَةَ فجاهدوه فأقبلوا وعليهم فروة بن نوفل حَتَّى دخلوا الْكُوفَة، فأرسل إِلَيْهِم مُعَاوِيَة خيلا من خيل أهل الشام، فكشفوا أهل الشام، فَقَالَ مُعَاوِيَة لأهل الْكُوفَة: لا أمان لكم وَاللَّهِ عندي حَتَّى تكفوا بوائقكم، فخرج أهل الْكُوفَة إِلَى الخوارج فقاتلوهم، فَقَالَتْ لَهُمُ الخوارج: ويلكم! مَا تبغون منا! أليس مُعَاوِيَة عدونا وعدوكم! دعونا حَتَّى نقاتله، وإن أصبناه كنا قَدْ كفيناكم عدوكم، وإن أصابنا كنتم قَدْ كفيتمونا، قَالُوا: لا وَاللَّهِ حَتَّى نقاتلكم، فَقَالُوا: رحم اللَّه إخواننا من أهل النهر، هم كَانُوا أعلم بكم يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ وأخذت أشجع صاحبهم فروة بن نوفل- وَكَانَ سيد القوم- واستعملوا عَلَيْهِم عَبْد اللَّهِ بن أبي الحر- رجلا من طيئ- فقاتلوهم، فقتلوا، وَاسْتَعْمَلَ مُعَاوِيَة عَبْد اللَّهِ بن عَمْرو بن الْعَاصِ عَلَى الْكُوفَة، فأتاه الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ وَقَالَ لمعاوية: استعملت عَبْد اللَّهِ بن عَمْرو عَلَى الْكُوفَة وعمرا عَلَى مصر، فتكون أنت بين لحيي الأسد! فعزل عبد الله، وَاسْتَعْمَلَ الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ عَلَى الْكُوفَة، وبلغ عمرا مَا قَالَ الْمُغِيرَة لمعاوية، فدخل عَمْرو عَلَى مُعَاوِيَة فَقَالَ: استعملت الْمُغِيرَة عَلَى الْكُوفَة؟ فَقَالَ: نعم، فَقَالَ: أجعلته عَلَى الخراج؟ فَقَالَ: نعم، قَالَ: تستعمل الْمُغِيرَة عَلَى الخراج فيغتال المال، فيذهب فلا تستطيع أن تأخذ مِنْهُ شَيْئًا، استعمل عَلَى الخراج من يخافك ويهابك ويتقيك فعزل الْمُغِيرَة عن الخراج، واستعمله عَلَى الصَّلاة، فلقي الْمُغِيرَة عمرا فَقَالَ: أنت المشير عَلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أشرت بِهِ فِي عَبْد اللَّهِ؟ قَالَ: نعم، قَالَ: هَذِهِ بتلك، ولم يكن عَبْد اللَّهِ بن عَمْرو بن الْعَاصِ مضى فِيمَا بلغني الى الكوفه ولا أتاها

ذكر ولايه بسر بن ابى ارطاه على البصره

ذكر ولايه بسر بن ابى ارطاه على البصره وفي هَذِهِ السنة غلب حمران بن أبان عَلَى الْبَصْرَة، فوجه إِلَيْهِ مُعَاوِيَة بسرا، أمره بقتل بني زياد. ذكر الخبر عما كَانَ من أمره فِي ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: لما صالح الحسن بن على ع مُعَاوِيَة أول سنة إحدى وأربعين، وثب حمران ابن أبان عَلَى الْبَصْرَة فأخذها، وغلب عَلَيْهَا، فأراد مُعَاوِيَة أن يبعث رجلا من بني القين إليها، فكلمه عبيد الله بن عباس الا يفعل ويبعث غيره، فبعث بسر بن أبي أرطاة، وزعم أنه أمره بقتل بني زياد. فَحَدَّثَنِي مسلمة بن محارب، قَالَ: أخذ بعض بني زياد فحبسه- وزياد يَوْمَئِذٍ بفارس، كَانَ على ع بعثه إِلَيْهَا إِلَى أكراد خرجوا بِهَا، فظفر بهم زياد، وأقام بإصطخر- قَالَ: فركب أَبُو بكرة إِلَى مُعَاوِيَةَ وَهُوَ بالكوفة، فاستأجل بسرا، فأجله أسبوعا ذاهبا وراجعا، فسار سبعة أيام، فقتل تحته دابتين، فكلمه، فكتب مُعَاوِيَة بالكف عَنْهُمْ. قَالَ: وَحَدَّثَنِي بعض علمائنا، أن أبا بكرة أقبل فِي الْيَوْم السابع وَقَدْ طلعت الشمس، وأخرج بسر بني زياد ينتظر بهم غروب الشمس ليقتلهم إذا وجبت، فاجتمع الناس لذلك وأعينهم طامحة ينتظرون أبا بكرة، إذ رفع علم عَلَى نجيب أو برذون يكده ويجهده، فقام عَلَيْهِ، فنزل عنه، وألاح بثوبه، وكبر وكبر الناس، فأقبل يسعى عَلَى رجليه حَتَّى أدرك بسرا قبل أن يقتلهم، فدفع إِلَيْهِ كتاب مُعَاوِيَة، فأطلقهم. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: خطب بسر عَلَى منبر

البصره، فشتم عليا ع، ثم قال: نشدت الله رجلا علم أني صادق إلا صدقني، أو كاذب إلا كذبني! قَالَ: فَقَالَ أَبُو بكرة: اللَّهُمَّ إنا لا نعلمك إلا كاذبا، قَالَ: فأمر بِهِ فخنق، قَالَ: فقام أَبُو لؤلؤة الضبي فرمى بنفسه عَلَيْهِ، فمنعه، فأقطعه أَبُو بكرة بعد ذَلِكَ مائة جريب. قَالَ: وقيل لأبي بكرة: مَا أردت إِلَى مَا صنعت! قَالَ: أيناشدنا بِاللَّهِ ثُمَّ لا نصدقه! قَالَ: فأقام بسر بِالْبَصْرَةِ ستة أشهر، ثُمَّ شخص لا نعلمه ولى شرطته أحدا. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلالٍ، عَنِ الْجَارُودِ بْنِ أَبِي سبره، قال: صالح الحسن ع مُعَاوِيَةَ، وَشَخَصَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ بُسْرَ بْنَ أَبِي أَرْطَاةَ إِلَى الْبَصْرَةِ فِي رَجَبٍ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَزِيَادٌ مُتَحَصِّنٌ بِفَارِسَ، فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى زِيَادٍ: إِنَّ فِي يَدَيْكَ مَالا مِنْ مَالِ اللَّهِ، وَقَدْ وُلِّيتَ وِلايَةً فَأَدِّ مَا عِنْدَكَ مِنَ الْمَالِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ زِيَادٌ: أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عِنْدِي شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ، وَقَدْ صَرَفْتُ مَا كَانَ عِنْدِي فِي وَجْهِهِ، وَاسْتَوْدَعْتُ بَعْضَهُ قَوْمًا لِنَازِلَةٍ إِنْ نَزَلَتْ، وَحَمَلْتُ مَا فَضُلَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ: أَنْ أَقْبِلْ إِلَيَّ نَنْظُرُ فِيمَا وُلِّيتَ، وَجَرَى عَلَى يَدَيْكَ، فَإِنِ اسْتَقَامَ بَيْنَنَا أَمْرٌ فَهُوَ ذَاكَ، وَإِلا رَجَعْتَ الى ما منك، فَلَمْ يَأْتِهِ زِيَادٌ، فَأَخَذَ بُسْرٌ بَنِي زِيَادٍ الأَكَابِرِ مِنْهُمْ، فَحَبَسَهُمْ: عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَعُبَيْدَ اللَّهِ، وَعَبَّادًا، وَكَتَبَ إِلَى زِيَادٍ: لَتَقْدَمَنَّ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ لأَقْتُلَنَّ بَنِيكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ زِيَادٌ: لَسْتُ بَارِحًا مِنْ مَكَانِي الَّذِي أَنَا بِهِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَ صَاحِبِكَ، فَإِنْ قَتَلْتَ مَنْ فِي يَدَيْكَ مِنْ وَلَدِي فَالْمَصِيرُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَمِنْ وَرَائِنَا وَوَرَائِكُمُ الْحِسَابُ، «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» فَهَمَّ بِقَتْلِهِمْ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ: أَخَذْتَ وَلَدِي وَوَلَدَ أَخِي غِلْمَانًا بِلا ذَنْبٍ، وَقَدْ صَالَحَ الْحَسَنُ مُعَاوِيَةَ عَلَى أَمَانِ أَصْحَابِ عَلِيٍّ حَيْثُ كَانُوا، فَلَيْسَ لَكَ عَلَى هَؤُلاءِ وَلا عَلَى أَبِيهِمْ سَبِيلٌ، قَالَ: إِنَّ عَلَى أَخِيكَ أَمْوَالا قَدْ أَخَذَهَا فَامْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا، قَالَ: مَا عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَاكْفُفْ

عَنْ بَنِي أَخِي حَتَّى آتِيكَ بِكِتَابٍ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِتَخْلِيَتِهِمْ فَأَجِّلْهُ أَيَّامًا، قَالَ لَهُ: إِنْ أَتَيْتَنِي بِكِتَابِ مُعَاوِيَةَ بِتَخْلِيَتِهِمْ وَإِلا قَتَلْتُهُمْ أَوْ يُقْبِلُ زِيَادٌ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: فَأَتَى أَبُو بَكْرَةَ مُعَاوِيَةَ فَكَلَّمَهُ فِي زِيَادٍ وَبَنِيهِ، وكتب معاويه الى بسر بالكف عنه وَتَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ، فَخَلاهُمْ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي شَيْخٌ مِنْ ثَقِيفٍ، عَنْ بُسْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: خَرَجَ أَبُو بَكْرَةَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالْكُوفَةِ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: يَا أَبَا بَكْرَةَ، أَزَائِرًا جِئْتَ أَمْ دَعَتْكَ إِلَيْنَا حَاجَةٌ؟ قَالَ: لا أَقُولُ بَاطِلا، مَا أَتَيْتُ إِلا فِي حَاجَةٍ! قَالَ: تَشَفَّعْ يَا أَبَا بَكْرَةَ وَنَرَى لَكَ بِذَلِكَ فضلا، وأنت لذلك أَهْلٌ، فَمَا هُوَ؟ قَالَ: تُؤَمِّنُ أَخِي زِيَادًا، وَتَكْتُبُ إِلَى بُسْرٍ بِتَخْلِيَةِ وَلَدِهِ وَبِتَرْكِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ، فَقَالَ: أَمَّا بَنُو زِيَادٍ فَنَكْتُبُ لَكَ فِيهِمْ مَا سَأَلْتَ، وَأَمَّا زِيَادٌ فَفِي يَدِهِ مَالٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا أَدَّاهُ فَلا سَبِيلَ لَنَا عَلَيْهِ، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلَيْسَ يَحْبِسُهُ عَنْكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ لأَبِي بَكْرَةَ إِلَى بُسْرٍ أَلا يَتَعَرَّضَ لأَحَدٍ مِنْ وَلَدِ زِيَادٍ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لأَبِي بَكْرَةَ: أَتَعْهَدُ إِلَيْنَا عَهْدًا يَا أَبَا بَكْرَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَعْهَدُ إِلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَنْظُرَ لِنَفْسِكَ وَرَعِيَّتِكَ، وَتَعْمَلَ صَالِحًا فَإِنَّكَ قَدْ تَقَلَّدْتَ عَظِيمًا، خِلافَةَ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، فَاتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّ لَكَ غَايَةً لا تَعْدُوهَا، وَمِنْ وَرَائِكَ طَالِبٌ حَثِيثٌ، فَأَوْشِكْ أَنْ تَبْلُغَ الْمَدَى، فَيَلْحَقَ الطَّالِبُ، فَتَصِيرَ إِلَى مَنْ يَسْأَلُكَ عَمَّا كُنْتَ فِيهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْكَ، وَإِنَّمَا هِيَ مُحَاسَبَةٌ وَتَوْقِيفٌ، فَلا تؤثرن على رضا اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُثْمَانَ، قَالَ: كَتَبَ بُسْرٌ إِلَى زِيَادٍ: لَئِنْ لَمْ تُقْدِمْ لأَصْلُبَنَّ بَنِيكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنْ تَفْعَلْ فَأَهْلُ ذلك أَنْتَ، إِنَّمَا بَعَثَ بِكَ ابْنُ آكِلَةِ الأَكْبَادِ فَرَكِبَ أَبُو بَكْرَةَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: يَا مُعَاوِيَةُ، إِنَّ النَّاسَ لَمْ يُعْطُوكَ بَيْعَتَهُمْ عَلَى قَتْلِ الأَطْفَال، قَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا أَبَا بَكْرَةَ؟ قَالَ: بُسْرٌ يُرِيدُ قَتْلَ أَوْلادِ زِيَادٍ، فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى

ولايه عبد الله بن عامر البصره وحرب سجستان وخراسان

بُسْرٍ: أَنْ خَلِّ مَنْ بِيَدِكَ مِنْ وَلَدِ زِيَادٍ وَكَانَ مُعَاوِيَةُ قَدْ كَتَبَ إِلَى زِيَادٍ بعد قتل على ع يتوعده. فحدثني عمر بن شبة، قال: حدثني علي، عَنْ حِبَّانَ بْنِ مُوسَى، عَنِ الْمُجَالِدِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ حِينَ قُتِلَ عَلِيٌّ ع إِلَى زِيَادٍ يَتَهَدَّدُهُ، فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: الْعَجَبُ مِنَ ابْنِ آكِلَةِ الأَكْبَادِ، وَكَهْفِ النِّفَاقِ، وَرَئِيسِ الأحزاب، كَتَبَ إِلَيَّ يَتَهَدَّدُنِي وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ ابْنَا عَمِّ رسول الله ص- يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ- فِي تِسْعِينَ أَلْفًا، وَاضِعِي سُيُوفِهِمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ، لا يَنْثَنُونَ، لَئِنْ خَلَصَ إِلَيَّ الأَمْرُ لَيَجِدُنِي أَحْمَزَ ضَرَّابًا بِالسَّيْفِ فَلَمْ يَزَلْ زِيَادٌ بِفَارِسَ وَالِيًا حتى صالح الحسن ع مُعَاوِيَةَ، وَقَدِمَ مُعَاوِيَةُ الْكُوفَةَ، فَتَحَصَّنَ زِيَادٌ فِي القلعة التي يقال لها قلعه زياد . ولايه عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ الْبَصْرَةَ وَحَرْبُ سِجِسْتَانَ وخراسان وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ الْبَصْرَةَ وَحَرْبُ سِجِسْتَانَ وَخُرَاسَانَ. ذكر الخبر عن سبب ولاية ذَلِكَ وبعض الكائن فِي أيام عمله لمعاوية بِهَا: حَدَّثَنِي أَبُو زَيْد، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ قَالَ: أراد مُعَاوِيَة توجيه عتبة. ابن أَبِي سُفْيَانَ عَلَى الْبَصْرَة، فكلمه ابن عَامِر وَقَالَ: إن لي بِهَا أموالا وودائع، فإن لم توجهني عَلَيْهَا ذهبت فولاه الْبَصْرَة، فقدمها فِي آخر سنة إحدى وأربعين وإليه خُرَاسَان وسجستان، فأراد زَيْد بن جبلة عَلَى ولاية شرطته فأبى، فولى حبيب بن شهاب الشامي شرطته- وقد قيل: قيس ابن الهيثم السلمي- واستقضى عميرة بن يثربي الضبي، أخا عَمْرو بن يثربي الضبي. حَدَّثَنِي أَبُو زَيْد، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: خرج فِي ولاية

ابن عامر لمعاوية يزيد مالك الباهلي، وَهُوَ الخطيم- وإنما سمي الخطيم لضربة أصابته عَلَى وجهه- فخرج هُوَ وسهم بن غالب الهجيمي فأصبحوا عِنْدَ الجسر، فوجدوا عبادة بن قرص اللَّيْثِيّ أحد بني بجير- وكانت لَهُ صحبة- يصلي عِنْدَ الجسر، فأنكروه فقتلوه، ثُمَّ سألوه الأمان بعد ذَلِكَ، فآمنهم ابن عامر، وكتب الى معاويه: قَدْ جعلت لَهُمْ ذمتك فكتب إِلَيْهِ مُعَاوِيَة: تِلَكَ ذمة لو أخفرتها لا سئلت عنها، فلم يزالوا آمنين حَتَّى عزل ابن عَامِر. وفي هَذِهِ السنة ولد عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ- وقيل: ولد فِي سنة اربعين قبل ان يقتل على ع، وهذا قول الْوَاقِدِيّ. وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عتبة بن أَبِي سُفْيَانَ فِي قول أبي معشر، حَدَّثَنِي بذلك أحمد بْن ثابت عمن حدثه، عن إِسْحَاق بن عِيسَى، عنه. وأما الْوَاقِدِيّ فإنه ذكر عنه أنه كَانَ يقول: حج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة- أعني سنة إحدى وأربعين- عنبسة بن أَبِي سُفْيَانَ

سنه اثنتين واربعين

ثُمَّ دخلت سنة اثنتين وأربعين (ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففيها غزا الْمُسْلِمُونَ اللان، وغزوا أَيْضًا الروم، فهزموهم هزيمة منكرة- فِيمَا ذكروا- وقتلوا جماعة من بطارقتهم. وقيل: في هذه السنه ولدا الحجاج بن يُوسُفَ. وولى مُعَاوِيَة فِي هَذِهِ السنة مَرْوَان بن الحكم الْمَدِينَة، فاستقضى مَرْوَان عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث بن نوفل وعلى مكة خَالِد بن الْعَاصِ بن هِشَام، وَكَانَ عَلَى الْكُوفَة من قبله الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ، وعلى القضاء شريح، وعلى الْبَصْرَة عَبْد اللَّهِ بن عَامِر، وعلى قضائها عَمْرو بن يثربي، وعلى خُرَاسَان قيس بن الهيثم من قبل عَبْد اللَّهِ بن عَامِر. وذكر عَلِيّ بن مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الفضل العبسي، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بعث عَبْد اللَّهِ بن عَامِر قيس بن الهيثم عَلَى خُرَاسَان حين ولاه مُعَاوِيَة الْبَصْرَة وخراسان، فأقام قيس بخراسان سنتين. وَقَدْ قيل فِي أمر ولاية قيس مَا ذكره حمزة بن أبي صالح السلمي، عن زياد بن صالح، قَالَ: بعث مُعَاوِيَة حين استقامت له الأمور قيس ابن الهيثم إِلَى خُرَاسَان، ثُمَّ ضمها إِلَى ابن عامر، فترك قيسا عليها. ذكر الخبر عن تحرك الخوارج وفي هَذِهِ السنة تحركت الخوارج الَّذِينَ انحازوا عمن قتل مِنْهُمْ بالنهروان ومن كَانَ ارتث من جرحاهم بالنهروان، فبرءوا، وعفا عَنْهُمْ عَلِيّ بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

ذكر الخبر عما كَانَ مِنْهُمْ فِي هَذِهِ السنة: ذكر هِشَام بْن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، قال: حدثنى النضر بن صالح ابن حبيب، عن جرير بن مالك بن زهير بن جذيمة العبسي، عن أبيّ بن عمارة العبسي، أن حيان بن ظبيان السلمي كَانَ يرى رأي الخوارج، وَكَانَ ممن ارتث يوم النهروان، فعفا عنه على ع في الاربعمائه الَّذِينَ كَانَ عفا عَنْهُمْ من المرتثين يوم النهر، فكان فِي أهله وعشيرته، فلبث شهرا أو نحوه ثُمَّ إنه خرج إِلَى الري فِي رجال كَانُوا يرون ذَلِكَ الرأي، فلم يزالوا مقيمين بالري حَتَّى بلغهم قتل علي كرم اللَّه وجهه، فدعا أَصْحَابه أُولَئِكَ- وكانوا بضعة عشر رجلا، أحدهم سَالم بن رَبِيعَة العبسي- فأتوه، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الإخوان مِنَ الْمُسْلِمِينَ، إنه قَدْ بلغني أن أخاكم ابن ملجم أخا مراد قعد لقتل عَلِيّ بن أبي طالب عِنْدَ أغباش الصبح مقابل السدة الَّتِي فِي المسجد مسجد الجماعة، فلم يبرح راكدا ينتظر خروجه حَتَّى خرج عَلَيْهِ حين أقام المقيم الصَّلاة صلاة الصبح، فشد عَلَيْهِ فضرب رأسه بالسيف، فلم يبق إلا ليلتين حَتَّى مات، فَقَالَ سَالم بن رَبِيعَة العبسي: لا يقطع اللَّه يمينا علت قذاله بالسيف، قَالَ: فأخذ القوم يحمدون الله على قتله ع ورضي اللَّه عنه وَلا رضي عَنْهُمْ وَلا رحمهم! قَالَ النضر بن صالح: فسألت بعد ذَلِكَ سَالم بن رَبِيعَة فِي إمارة مُصْعَب ابن الزبير عن قوله ذلك في على ع، فأقر لي بِهِ، وَقَالَ: كنت أَرَى رأيهم حينا، ولكن قَدْ تركته، قَالَ: فكان فِي أنفسنا أنه قَدْ تركه، قَالَ: فكان إذا ذكروا لَهُ ذَلِكَ يرمضه قَالَ: ثُمَّ إن حيان بن ظبيان قَالَ لأَصْحَابه: إنه وَاللَّهِ ما يبقى على الدهر باق، وما تلبث الليالي والأيام والسنون والشهور عَلَى ابن آدم حَتَّى تذيقه الموت، فيفارق الإخوان الصالحين، ويدع الدُّنْيَا الَّتِي لا يبكي عَلَيْهَا إلا العجزة، ولم تزل ضارة لمن كَانَتْ

لَهُ هما وشجنا، فانصرفوا بنا رحمكم اللَّه إِلَى مصرنا، فلنأت إخواننا فلندعهم إِلَى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلى جهاد الأحزاب، فإنه لا عذر لنا فِي القعود، وولاتنا ظلمة، وسنة الهدى متروكة، وثأرنا الَّذِينَ قتلوا إخواننا فِي المجالس آمنون، فإن يظفرنا اللَّه بهم نعمد بعد إِلَى الَّتِي هي أهدى وأرضى وأقوم، ويشفي اللَّه بِذَلِكَ صدور قوم مؤمنين، وإن نقتل فإن فِي مفارقة الظالمين راحة لنا، ولنا بأسلافنا أسوة فَقَالُوا لَهُ: كلنا قائل مَا ذكرت، وحامد رأيك الَّذِي رأيت، فرد بنا المصر فإنا معك راضون بهداك وأمرك، فخرج وخرجوا مَعَهُ مقبلين إِلَى الْكُوفَةِ، فذلك حين يقول: خليلي مَا بي من عزاء وَلا صبر ... وَلا إربة بعد المصابين بالنهر سوى نهضات فِي كتائب جمة ... إِلَى اللَّهِ مَا تدعو وفي اللَّه مَا تفري إذا جاوزت قسطانة الري بغلتي ... فلست بسار نحوها آخر الدهر ولكنني سار وإن قل ناصري ... قريبا فلا أخزيكما مع من يسري قَالَ: وأقبل حَتَّى نزل الْكُوفَة، فلم يزل بِهَا حَتَّى قدم مُعَاوِيَة، وبعث الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ واليا عَلَى الْكُوفَة، فأحب العافية، وأحسن فِي الناس السيرة، ولم يفتش أهل الأهواء عن أهوائهم، وَكَانَ يؤتى فيقال لَهُ: إن فلانا يرى رأي الشيعة، وإن فلانا يرى رأي الخوارج وَكَانَ يقول: قضى اللَّه أَلا تزالون مختلفين، وسيحكم اللَّه بين عباده فِيمَا كَانُوا فِيهِ يختلفون فأمنه الناس، وكانت الخوارج يلقى بعضهم بعضا، ويتذاكرون مكان إخوانهم بالنهروان ويرون أن فِي الإقامة الغبن والوكف، وأن فِي جهاد أهل القبلة الفضل والأجر. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي النضر بن صالح، عن أبي بن عمارة، أن الخوارج فِي أيام الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ فزعوا إِلَى ثلاثة نفر، مِنْهُمُ المستورد بن علفة، فخرج فِي ثلاثة رجل مقبلا نحو جرجرايا عَلَى شاطئ دجلة. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي جَعْفَر بن حُذَيْفَة الطَّائِيّ من آل عَامِر بن

جوين، عن المحل بن خليفة، أن الخوارج فِي أيام الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ فزعوا إِلَى ثلاثة نفر، منهم المستورد بن علفه التميمى من تيم الرباب، وإلى حيان بن ظبيان السلمي، وإلى معاذ بن جوين بن حصين الطَّائِيّ السنبسي- وَهُوَ ابن عم زَيْد بن حصين، وكان زيد ممن قتله على ع يوم النهروان، وَكَانَ معاذ بن جوين هَذَا في الاربعمائه الذين ارتثوا من قتلى الخوارج، فعفا عنهم على ع- فاجتمعوا فِي منزل حيان بن ظبيان السلمي، فتشاوروا فيمن يولون عَلَيْهِم قَالَ: فَقَالَ لَهُمُ المستورد: يا أيها الْمُسْلِمُونَ والمؤمنون، أراكم اللَّه مَا تحبون، وعزل عنكم مَا تكرهون، ولوا عليكم من احببتم، فو الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور مَا أبالي من كَانَ الوالي علي مِنْكُمْ! وما شرف الدُّنْيَا نريد، وما إِلَى البقاء فِيهَا من سبيل، وما نريد إلا الخلود فِي دار الخلود فَقَالَ حيان بن ظبيان: أما أنا فلا حاجة لي فِيهَا وأنا بك وبكل امرئ من إخواني راض، فانظروا من شئتم مِنْكُمْ فسموه، فأنا أول من يبايعه فَقَالَ لَهُمْ معاذ بن جوين بن حصين: إذا قلتما أنتما هَذَا وأنتما سيدا الْمُسْلِمِينَ وذوا أنسابهم فِي صلاحكما ودينكما وقدركما، فمن يرئس الْمُسْلِمِينَ، وليس كلكم يصلح لهذا الأمر! وإنما ينبغي أن يلي عَلَى الْمُسْلِمِينَ إذا كَانُوا سواء فِي الفضل أبصرهم بالحرب، وأفقههم فِي الدين، وأشدهم اضطلاعا بِمَا حمل، وأنتما بحمد الله ممن يرضى بهذا الأمر، فليتوله أحدكما قَالا: فتوله أنت، فقد رضيناك، فأنت والحمد لِلَّهِ الكامل فِي دينك ورأيك، فَقَالَ لهما: أنتما أسن مني، فليتوله أحدكما، فَقَالَ حينئذ جماعة من حضرهما من الخوارج: قَدْ رضينا بكم أيها الثلاثة، فولوا أيكم أحببتم، فليس فِي الثلاثة رجل إلا قَالَ لصاحبه: تولها أنت، فإني بك راض، وإني فِيهَا غير ذي رغبة. فلما كثر ذَلِكَ بينهم قَالَ حيان بن ظبيان، فإن معاذ بن جوين قَالَ: إني لا ألي عَلَيْكُمَا وأنتما أسن مني، وأنا أقول لك مثل مَا قَالَ لي ولك، لا ألي عَلَيْك وأنت أسن مني، ابسط يدك أبايعك فبسط يده فبايعه، ثُمَّ بايعه معاذ بن جوين، ثُمَّ بايعه القوم جميعا، وَذَلِكَ فِي جمادى الآخرة فاتعد القوم أن يتجهزوا ويتيسروا ويستعدوا، ثُمَّ يخرجوا فِي غرة الهلال هلال

ذكر قدوم زياد على معاويه

شعبان سنة ثلاث وأربعين، فكانوا فِي جهازهم وعدتهم. وقيل: فِي هَذِهِ السنة سار بسر بن أبي أرطاة العامري إِلَى الْمَدِينَة ومكة واليمن، وقتل من قتله فِي مسيره ذَلِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَذَلِكَ قول الْوَاقِدِيّ، وَقَدْ ذكرت من خالفه فِي وقت مسيره هَذَا السير. وزعم الْوَاقِدِيّ أن دَاوُد بن حيان حدثه، عن عطاء بن أبي مَرْوَان، قَالَ: أقام بسر بن أبي أرطأة بِالْمَدِينَةِ شهرا يستعرض الناس، ليس أحد ممن يقال هَذَا أعان عَلَى عُثْمَانَ إلا قتله. وَقَالَ عطاء بن أبي مَرْوَان: أَخْبَرَنِي حنظلة بن علي الأسلمي، قال: وجد قوما من بنى كعب وغلمانهم على بئر لهم فالقاهم في البئر ذكر قدوم زياد على معاويه وفي هَذِهِ السنة قدم زياد- فِيمَا حَدَّثَنِي عُمَرُ- قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، عن سُلَيْمَان بن أَرْقَمَ، قدم عَلَى مُعَاوِيَة من فارس، فصالحه عَلَى مال يحمله إِلَيْهِ. وَكَانَ سبب قدومه بعد امتناعه بقلعة من قلاع فارس، مَا حَدَّثَنِي عمر قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، عن مسلمة بن محارب، قَالَ: كَانَ عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرة يلي مَا كَانَ لزياد بِالْبَصْرَةِ، فبلغ مُعَاوِيَة أن لزياد أموالا عِنْدَ عبد الرَّحْمَن، وخاف زياد عَلَى أشياء كَانَتْ فِي يد عبد الرَّحْمَن لزياد، فكتب إِلَيْهِ يأمره بإحرازها، وبعث مُعَاوِيَة إِلَى الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ لينظر فِي أموال زياد، فقدم الْمُغِيرَة، فأخذ عبد الرَّحْمَن، فَقَالَ: لَئِنْ كَانَ أساء إلي أبوك لقد أحسن زياد وكتب إِلَى مُعَاوِيَةَ: إني لم أصب فِي يد عبد الرَّحْمَن شَيْئًا يحل لي أخذه فكتب مُعَاوِيَة إِلَى الْمُغِيرَة أن عذبه قَالَ: وَقَالَ بعض المشيخة: إنه عذب عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرة إذ كتب إِلَيْهِ مُعَاوِيَة، وأراد أن يعذر ويبلغ مُعَاوِيَة ذَلِكَ، فَقَالَ: احتفظ بِمَا أمرك بِهِ عمك، فألقى عَلَى وجهه حريرة ونضحها بالماء، فكانت تلتزق بوجهه، فغشي عَلَيْهِ، ففعل ذَلِكَ

ثلاث مرات، ثُمَّ خلاه، وكتب إِلَى مُعَاوِيَةَ: إني عذبته، فلم أصب عنده شَيْئًا، فحفظ لزياد يده عنده. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ ثَقِيفٍ، قَالُوا: دَخَلَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ حِينَ نَظَرَ إِلَيْهِ. إِنَّمَا مَوْضِعُ سِرِّ الْمَرْءِ إِنْ ... بَاحَ بِالسِّرِّ أَخُوهُ لَمُنْتَصِحْ فَإِذَا بُحْتَ بِسِرٍّ فَإِلَى ... نَاصِحٍ يَسْتُرْهُ أَوْ لا تَبُحْ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ تَسْتَوْدِعْنِي تَسْتَوْدِعْ نَاصِحًا شَفِيقًا وَرِعًا وَثِيقًا، فَمَا ذَاكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: ذَكَرْتُ زِيَادًا وَاعْتِصَامَهُ بِأَرْضِ فَارِسٍ، وَامْتِنَاعَهُ بِهَا، فَلَمْ أَنَمْ لَيْلَتِي، فَأَرَادَ الْمُغِيرَةُ أَنْ يُطَأْطِئَ مِنْ زِيَادٍ، فَقَالَ: مَا زِيَادٌ هُنَاكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! فَقَالَ معاويه: بئس الوطء الْعَجْزَ، دَاهِيَةُ الْعَرَبِ مَعَهُ الأَمْوَالُ، مُتَحَصِّنٌ بِقِلاعِ فَارِسَ، يُدْبِرُ وَيُرَبِّصُ الْحِيَلَ، مَا يُؤَمِّنُنِي أَنْ يُبَايِعَ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ أَعَادَ عَلَيَّ الْحَرْبُ خُدْعَةٌ. فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: أَتَأْذَنُ لِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي اتيانه؟ قال: نعم، فاته وتلطف لَهُ، فَأَتَى الْمُغِيرَةُ زِيَادًا، فَقَالَ زِيَادٌ حِينَ بَلَغَهُ قُدُومُ الْمُغِيرَةَ: مَا قَدِمَ إِلا لأَمْرٍ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي بَهْوٍ لَهُ مُسْتَقْبِلٌ الشَّمْسَ، فَقَالَ زِيَادٌ: أَفْلَحَ رَائِدٌ! فَقَالَ: إِلَيْكَ يَنْتَهِي الْخَبَرُ أَبَا الْمُغِيرَةِ، إِنَّ مُعَاوِيَةَ اسْتَخَفَّهُ الْوَجَلُ حَتَّى بَعَثَنِي إِلَيْكَ، وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَحَدًا يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى هَذَا الأَمْرِ غَيْرَ الْحَسَنِ، وَقَدْ بَايَعَ مُعَاوِيَةَ، فخذ لنفسك قبل التوطين، فيستغنى عنك معاويه، قَالَ: أَشِرْ عَلَيَّ، وَارْمِ الْغَرَضَ الأَقْصَى، وَدَعْ عَنْكَ الْفُضُولَ، فَإِنَّ الْمُسْتَشَارَ مُؤْتَمَنٌ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: فِي مَحْضِ الرَّأْيِ بَشَاعَةٌ، وَلا خَيْرَ فِي الْمَذِيقِ، أَرَى أَنْ تَصِلَ حَبْلَكَ بِحَبْلِهِ، وَتَشْخَصَ إِلَيْهِ، قَالَ: أَرَى وَيَقْضِي اللَّهُ. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ مُحَارِبٍ، قال:

أَقَامَ زِيَادٌ فِي الْقَلْعَةِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ، فكتب اليه معاويه: علام تهلك نفسك؟ إِلَيَّ فَأَعْلِمْنِي عِلْمَ مَا صَارَ إِلَيْكَ مِمَّا اجْتَبَيْتَ مِنَ الأَمْوَالِ، وَمَا خَرَجَ مِنْ يَدَيْكَ، وَمَا بَقِيَ عِنْدَكَ، وَأَنْتَ آمِنٌ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ الْمُقَامَ عِنْدَنَا أَقَمْتَ، وَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تَرْجِعَ الى ما منك رَجَعْتَ فَخَرَجَ زِيَادٌ مِنْ فَارِسَ، وَبَلَغَ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ أَنَّ زِيَادًا قَدْ أَجْمَعَ عَلَى إِتْيَانِ مُعَاوِيَةَ، فَشَخَصَ الْمُغِيرَةُ إِلَى مُعَاوِيَةَ قَبْلَ شُخُوصِ زِيَادٍ مِنْ فَارِسَ، وَأَخَذَ زِيَادٌ مِنْ اصطخر الى ارجان، فاتى ماه بهزاذان، ثُمَّ أَخَذَ طَرِيقَ حُلْوَانَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدَائِنَ، فَخَرَجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِلَى مُعَاوِيَةَ يُخْبِرُهُ بِقُدُومِ زِيَادٍ، ثُمَّ قَدِمَ زِيَادٌ الشَّامَ، وَقَدِمَ الْمُغِيرَةُ بَعْدَ شَهْرٍ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: يَا مُغِيرَةُ، زِيَادٌ أَبْعَدُ مِنْكَ بِمَسِيرَةِ شَهْرٍ، وَخَرَجْتَ قَبْلَهُ وَسَبَقَكَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ الأَرِيبَ إِذَا كَلَّمَ الأَرِيبَ أَفْحَمَهُ، قَالَ: خُذْ حِذْرَكَ، واطو عنى سرك، فقال: ان زيادا قدم يَرْجُو الزِّيَادَةَ، وَقَدِمْتُ أَتَخَوَّفُ النُّقْصَانَ، فَكَانَ سَيْرُنَا عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ، قَالَ: فَسَأَلَ مُعَاوِيَةُ زِيَادًا عَمَّا صَارَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ فَارِسَ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا حَمَلَ مِنْهَا إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَا أَنْفَقَ مِنْهَا فِي الْوُجُوهِ الَّتِي يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى النَّفَقَةِ، فَصَدَّقَهُ مُعَاوِيَةُ عَلَى مَا أَنْفَقَ، وَمَا بَقِيَ عِنْدَهُ، وَقَبَضَهُ مِنْهُ، وَقَالَ: قَدْ كُنْتَ أَمِينَ خُلَفَائِنَا. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مِخْنَفٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَصْبَهَانِيُّ وَسَلَمَةُ بْنُ عُثْمَانَ وَشَيْخٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يُوثَقُ بِهِمْ، قَالَ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى زِيَادٍ وَهُوَ بِفَارِسَ يَسْأَلَهُ الْقُدُومَ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ زِيَادٌ مِنْ فَارِسَ مَعَ الْمِنْجَابِ بْنِ رَاشِدٍ الضَّبِّيِّ وَحَارِثَةَ بْنِ بَدْرٍ الْغُدَانِيِّ، وَسَرَّحَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ فِي جَمَاعَةٍ إِلَى فَارِسَ، فَقَالَ: لَعَلَّكَ تَلْقَى زِيَادًا فِي طَرِيقِكَ فَتَأْخُذُهُ فَسَارَ ابْنُ خَازِمٍ إِلَى فَارِسَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَقِيَهُ بِسُوقِ الأَهْوَازِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَقِيَهُ بِأَرَّجَانَ، فَأَخَذَ ابْنُ خَازِمٍ بِعِنَانِ زِيَادٍ، فَقَالَ: انْزِلْ يَا زِيَادُ، فصاح به المنجاب بن راشد: تنح يا بن سَوْدَاءَ، وَإِلا عَلَّقْتُ يَدَكَ بِالْعِنَانِ قَالَ: وَيُقَالُ: انْتَهَى إِلَيْهِمُ ابْنُ خَازِمٍ وَزِيَادٌ

جَالِسٌ، فَأَغْلَظَ لَهُ ابْنُ خَازِمٍ، فَشَتَمَ الْمِنْجَابُ بْنُ خَازِمٍ، فَقَالَ لَهُ زِيَادٌ: مَا تُرِيدُ يا بن خَازِمٍ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ تَجِيءَ إِلَى الْبَصْرَةِ، قَالَ: فَإِنِّي آتِيهَا، فَانْصَرَفَ ابْنُ خَازِمٍ اسْتِحْيَاءً مِنْ زِيَادٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْتَقَى زِيَادٌ وَابْنُ خَازِمٍ بِأَرَّجَانَ، فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ مُنَازَعَةٌ، فَقَالَ زِيَادٌ لابْنِ خَازِمٍ قَدْ أَتَانِي أَمَانُ مُعَاوِيَةَ، فَأَنَا أُرِيدُهُ، وَهَذَا كِتَابُهُ إِلَيَّ. قَالَ: فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَلا سَبِيلَ عَلَيْكَ، فمضى ابن خازم إِلَى سابور، ومضى زياد إِلَى ماه بهزاذان، وقدم عَلَى مُعَاوِيَة، فسأله عن أموال فارس، فَقَالَ: دفعتها يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أرزاق وأعطيات وحمالات، وبقيت بقية أودعتها قوما، فمكث بِذَلِكَ يردده، وكتب زياد كتبا إِلَى قوم مِنْهُمْ شعبة بن القلعم: قَدْ علمتم مَا لي عندكم من الأمانة، فتدبروا كتاب اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ» الآية، فاحتفظوا بِمَا قبلكم وسمى فِي الكتب بالمبلغ الَّذِي اقربه لمعاوية، ودس الكتب مع رسوله، وأمره أن يعرض لبعض من يبلغ ذَلِكَ مُعَاوِيَة، فتعرض رسوله حَتَّى انتشر ذَلِكَ، وأخذ فأتي بِهِ مُعَاوِيَة، فَقَالَ مُعَاوِيَة لزياد: لَئِنْ لم تكن مكرت بي إن هَذِهِ الكتب من حاجتي فقرأها، فإذا هي بمثل مَا أقر بِهِ، فَقَالَ مُعَاوِيَة: أخاف أن تكون قَدْ مكرت بي، فصالحني عَلَى مَا شئت، فصالحه عَلَى شَيْء مما ذكره إنه عنده، فحمله، وَقَالَ زياد: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ كَانَ لي مال قبل الولاية، فوددت أن ذَلِكَ المال بقي، وذهب مَا أخذت من الولاية ثُمَّ سأل زياد مُعَاوِيَة أن يأذن لَهُ فِي نزول الْكُوفَة فأذن لَهُ، فشخص إِلَى الْكُوفَةِ، فكان الْمُغِيرَة يكرمه ويعظمه، فكتب مُعَاوِيَة إِلَى الْمُغِيرَة: خذ زيادا وسُلَيْمَان بن صرد وحجر بن عدي وشبث بن ربعي وابن الكواء وعمرو بن الحمق بالصلاة فِي الجماعة، فكانوا يحضرون مَعَهُ فِي الصَّلاة. حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، عن سُلَيْمَان بن أَرْقَمَ، قَالَ: بلغني أن زيادا قدم الْكُوفَة، فحضرت الصَّلاة، فَقَالَ لَهُ الْمُغِيرَة: تقدم

فصل، فَقَالَ: لا أفعل، أنت أحق مني بالصلاة فِي سلطانك قَالَ: ودخل عَلَيْهِ زياد وعند الْمُغِيرَة أم أيوب بنت عمارة بن عُقْبَةَ بن أبي معيط، فأجلسها بين يديه، وقال: لا تسترى من أَبِي الْمُغِيرَةِ، فلما مات الْمُغِيرَة تزوجها زياد وَهِيَ حدثة، فكان زياد يأمر بفيل كَانَ عنده، فيوقف، فتنظر إِلَيْهِ أم أيوب، فسمي باب الفيل. وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عنبسة بن أَبِي سُفْيَانَ، كذلك حَدَّثَنِي أحمد بْن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عِيسَى، عن أبي معشر

سنه ثلاث واربعين

ثُمَّ دخلت سنة ثلاث وأربعين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذَلِكَ غزوة بسر بن أبي أرطاة الروم ومشتاه بأرضهم حَتَّى بلغ القسطنطينية- فِيمَا زعم الْوَاقِدِيّ- وَقَدْ أنكر ذاك قوم من أهل الأخبار، فَقَالُوا: لَمْ يَكُنْ لبسر بأرض الروم مشتى قط. وفيها مات عَمْرو بن الْعَاصِ بمصر يوم الفطر، وقبل كَانَ عمل عَلَيْهَا لعمر ابن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أربع سنين، ولعثمان أربع سنين إلا شهرين، ولمعاوية سنتين إلا شهرا. وفيها ولى مُعَاوِيَة، عَبْد اللَّهِ بن عَمْرو بن الْعَاصِ مصر بعد موت أَبِيهِ، فوليها لَهُ- فِيمَا زعم الْوَاقِدِيّ- نحوا من سنتين وفيها مات مُحَمَّد بن مسلمة فِي صفر بِالْمَدِينَةِ، وصلى عَلَيْهِ مَرْوَان بن الحكم. خبر قتل المستورد بن علفه الخارجي وفيها قتل المستورد بن علفة الخارجي، فِيمَا زعم هِشَام بن مُحَمَّدٍ وَقَدْ زعم بعضهم أنه قتل فِي سنة اثنتين وأربعين. ذكر الخبر عن مقتله: قَدْ ذكرنا مَا كَانَ من اجتماع بقايا الخوارج الَّذِينَ كَانُوا ارتثوا يوم النهر، ومن كَانَ مِنْهُمُ انحاز إِلَى الري وغيرهم إِلَى النفر الثلاثة الَّذِينَ سميت قبل، الَّذِينَ أحدهم المستورد بن علفة، وذكرنا بيعتهم المستورد، واجتماعهم عَلَى الخروج فِي غرة هلال شعبان من سنة ثلاث وأربعين. فذكر هِشَام، عن أبي مخنف، أن جَعْفَر بن حُذَيْفَة الطَّائِيّ حدثه عن المحل بن خليفة، أن قبيصة بن الدمون أتى الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ- وَكَانَ عَلَى شرطته- فَقَالَ: إن شمر بن جعونة الكلابي جاءني فخبرني أن الخوارج قَدِ اجتمعوا فِي منزل حيان بن ظبيان السلمي، وَقَدِ اتعدوا أن يخرجوا إليك

فِي غرة شعبان، فَقَالَ الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ لقبيصة بن الدمون- وَهُوَ حليف لثقيف، وزعموا أن أصله كَانَ من حضرموت من الصدف: سر بالشرطة حَتَّى تحيط بدار حيان بن ظبيان فأتني بِهِ، وهم لا يرون إلا أنه أَمِير تِلَكَ الخوارج فسار قبيصة فِي الشرطة وفي كثير مِنَ النَّاسِ، فلم يشعر حيان بن ظبيان إلا والرجال مَعَهُ فِي داره نصف النهار، وإذا مَعَهُ معاذ بن جوين ونحو من عشرين رجلا من أَصْحَابهما، وثارت امرأته، أم ولد لَهُ، فأخذت سيوفا كَانَتْ لَهُمْ، فألقتها تحت الفراش، وفزع بعض القوم إِلَى سيوفهم فلم يجدوها، فاستسلموا، فانطلق بهم الى المغيره ابن شُعْبَةَ، فَقَالَ لَهُمُ الْمُغِيرَة: مَا حملكم عَلَى مَا أردتم من شق عصا الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالُوا: مَا أردنا من ذَلِكَ شَيْئًا، قَالَ: بلى، قَدْ بلغني ذَلِكَ عنكم، ثُمَّ قَدْ صدق ذَلِكَ عندي جماعتكم، قَالُوا لَهُ: أما اجتماعنا في هذا المنزل فان حيان ابن ظبيان أقرأنا القرآن، فنحن نجتمع عنده فِي منزله فنقرأ القرآن عَلَيْهِ. فَقَالَ: اذهبوا بهم إِلَى السجن، فلم يزالوا فِيهِ نحوا من سنة، وسمع إخوانهم بأخذهم فحذروا، وخرج صاحبهم المستورد بن علفة فنزل دارا بالحيرة إِلَى جنب قصر العدسيين من كلب، فبعث إِلَى إخوانه، وكانوا يختلفون إِلَيْهِ ويتجهزون، فلما كثر اختلاف أَصْحَابه إِلَيْهِ قَالَ لَهُمْ صاحبهم المستورد بن علفة التيمي: تحولوا بنا عن هَذَا المكان، فإني لا آمن أن يُطَّلَعَ عَلَيْكُمْ فإنهم فِي ذَلِكَ يقول بعضهم لبعض: نأتي مكان كذا وكذا، ويقول بعضهم: نأتي مكان كذا وكذا، إذ أشرف عَلَيْهِم حجار بن أبجر من دار كَانَ هُوَ فِيهَا وطائفة من أهله، فإذا هم بفارسين قَدْ أقبلا حَتَّى دخلا تِلَكَ الدار الَّتِي فِيهَا القوم، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ بأسرع من أن جَاءَ آخران فدخلا، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ إلا قليل حَتَّى جَاءَ آخر فدخل، ثُمَّ آخر فدخل، وَكَانَ ذَلِكَ يعنيه، وَكَانَ خروجهم قَدِ اقترب، فَقَالَ حجار لصاحبة الدار الَّتِي كَانَ فِيهَا نازلا وَهِيَ ترضع صبيا لها: ويحك! مَا هَذِهِ الخيل الَّتِي أراها تدخل هَذِهِ الدار؟ قالت: والله

مَا أدري مَا هم! إلا أن الرجال يختلفون إِلَى هَذِهِ الدار رجالا وفرسانا لا ينقطعون، وَلَقَدْ أنكرنا ذَلِكَ منذ أيام، وَلا ندري من هم! فركب حجار فرسه، وخرج مَعَهُ غلام لَهُ، فأقبل حَتَّى انتهى إِلَى باب دارهم، فإذا عَلَيْهِ رجل مِنْهُمْ، فكلما أتى إنسان مِنْهُمْ إِلَى الباب دخل إِلَى صاحبه فأعلمه، فأذن لَهُ، فإن جاءه رجل من معروفيهم دخل ولم يستأذن، فلما انتهى إِلَيْهِ حجار لم يعرفه الرجل، فَقَالَ: من أنت رحمك اللَّه؟ وما تريد؟ قَالَ: أردت لقاء صاحبي، قَالَ لَهُ: وما اسمك؟ قَالَ لَهُ: حجار بن أبجر، قَالَ: فكما أنت حَتَّى أوذنهم بك ثُمَّ أخرج إليك فَقَالَ لَهُ حجار: ادخل راشدا! فدخل الرجل، واتبعه حجار مسرعا، فانتهى إِلَى باب صفة عظيمة هم فِيهَا، وَقَدْ دخل إِلَيْهِم الرجل فَقَالَ: هَذَا رجل يستأذن عَلَيْك أنكرته فقلت لَهُ: من أنت؟ فَقَالَ: أنا حجار بن أبجر، فسمعهم يتفزعون ويقولون: حجار بن أبجر! وَاللَّهِ مَا جَاءَ حجار بن أبجر بخير فلما سمع القول مِنْهُمْ أراد أن ينصرف ويكتفي بِذَلِكَ من الاسترابة بأمرهم، ثُمَّ أبت نفسه أن ينصرف حَتَّى يعاينهم، فتقدم حَتَّى قام بين سجفي باب الصفة وَقَالَ: السلام عَلَيْكُمْ، فنظر فإذا هُوَ بجماعة كثيرة، وإذا سلاح ظاهر ودروع، فَقَالَ حجار: اللَّهُمَّ اجمعهم عَلَى خير، من أنتم عافاكم اللَّه؟ فعرفه عَلِيّ بن ابى شمر ابن الحصين، من تيم الرباب- وَكَانَ أحد الثمانية الَّذِينَ انهزموا من الخوارج يوم النهر، وَكَانَ من فرسان العرب ونساكهم وخيارهم- فَقَالَ لَهُ: يا حجار ابن أبجر، إن كنت إنما جَاءَ بك التماس الخبر فقد وجدته، وإن كنت إنما جَاءَ بك أمر غير ذَلِكَ فادخل، وأخبرنا مَا أتى بك، فَقَالَ: لا حاجة لي فِي الدخول، فانصرف، فَقَالَ بعضهم لبعض: أدركوا هَذَا فاحبسوه، فإنه مؤذن بكم، فخرجت مِنْهُمْ جماعة فِي إثره- وَذَلِكَ عِنْدَ تطفيل الشمس للإياب- فانتهوا إِلَيْهِ وَقَدْ ركب فرسه، فَقَالُوا لَهُ: أَخْبِرْنَا خبرك، وما جَاءَ بك؟ قَالَ: لم آت لشيء يروعكم وَلا يهولكم، فَقَالُوا لَهُ: انتظر حَتَّى ندنو مِنْكَ ونكلمك، أو تدنو منا، أَخْبِرْنَا فنعلمك أمرنا، ونذكر حاجتنا، فَقَالَ لَهُمْ: مَا أنا بدان مِنْكُمْ، وَلا أريد أن يدنو مني مِنْكُمْ أحد، فَقَالَ لَهُ

عَلِيّ بن أبي شمر بن الحصين: أفمؤمننا أنت من الإذن بنا هَذِهِ الليلة وأنت محسن، فإن لنا قرابة وحقا؟ قَالَ: نعم، أنتم آمنون من قبلي هَذِهِ الليلة وليالي الدهر كلها، ثُمَّ انطلق حَتَّى دخل الْكُوفَة وأدخل أهله مَعَهُ وَقَالَ الآخرون بعضهم لبعض: إنا لا نأمن أن يؤذن بنا هَذَا، فأخرجوا بنا من هَذَا الموضع ساعتنا هَذِهِ، قَالَ: فصلوا المغرب، ثُمَّ خرجوا من الحيرة متفرقين، فَقَالَ لَهُمْ صاحبهم: الحقوا بي فِي دار سليم بن محدوج العبدي من بني سلمة، فخرج من الحيرة، فمضى حَتَّى أتى عبد القيس، فأتى بني سلمة، فبعث إِلَى سليم بن محدوج- وَكَانَ لَهُ صهرا- فأتاه، فأدخله وأَصْحَابا لَهُ خمسة أو ستة، ورجع حجار بن أبجر إِلَى رحله، فأخذوا ينتظرون مِنْهُ أن يبلغهم مِنْهُ ذكر لَهُمْ عِنْدَ السلطان أو الناس، فما ذكرهم عِنْدَ أحد مِنْهُمْ، وَلا بلغهم عنه فِي ذَلِكَ شَيْء يكرهونه فبلغ الخبر الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ أن الخوارج خارجة عَلَيْهِ فِي أيامه تِلَكَ، وأنهم قَدِ اجتمعوا عَلَى رجل مِنْهُمْ، فقام الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ فِي الناس، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فقد علمتم أَيُّهَا النَّاسُ أني لم أزل أحب لجماعتكم العافية، وأكف عنكم الأذى، وإني وَاللَّهِ لقد خشيت أن يكون ذَلِكَ أدب سوء لسفهائكم، فأما الحلماء الأتقياء فلا، وايم اللَّه لقد خشيت الا أجد بدا من أن يعصب الحليم التقي بذنب السفيه الجاهل، فكفوا أَيُّهَا النَّاسُ سفهاءكم قبل أن يشمل البلاء عوامكم وَقَدْ ذكر لي أن رجالا مِنْكُمْ يريدون أن يظهروا فِي المصر بالشقاق والخلاف، وايم اللَّه لا يخرجون فِي حي من أحياء العرب فِي هَذَا المصر إلا أبدتهم وجعلتهم نكالا لمن بعدهم، فنظر قوم لأنفسهم قبل الندم، فقد قمت هَذَا المقام إرادة الحجة والإعذار. فقام إِلَيْهِ معقل بن قيس الرياحي فَقَالَ: أيها الأمير، هل سمي لك أحد من هَؤُلاءِ القوم؟ فإن كَانُوا سموا لك فأعلمنا من هم؟ فإن كَانُوا منا كفيناكهم، وإن كَانُوا من غيرنا أمرت أهل الطاعة من أهل

مصرنا، فأتتك كل قبيلة بسفهائها، فَقَالَ: مَا سمي لي أحد مِنْهُمْ، ولكن قَدْ قيل لي: إن جماعة يريدون أن يخرجوا بالمصر، فَقَالَ لَهُ معقل: أصلحك اللَّه! فإني أسير فِي قومي، وأكفيك مَا هم فِيهِ، فليكفك كل امرئ من الرؤساء قومه فنزل الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ، وبعث إِلَى رؤساء الناس فدعاهم، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: إنه قَدْ كَانَ من الأمر مَا قَدْ علمتم، وَقَدْ قلت مَا قَدْ سمعتم، فليكفني كل امرئ من الرؤساء قومه، والا فو الذى لا اله الا غيره لا تحولن عما كنتم تعرفون إِلَى مَا تنكرون، وعما تحبون إِلَى مَا تكرهون، فلا يلم لائم إلا نفسه، وَقَدْ أعذر من أنذر فخرجت الرؤساء إِلَى عشائرهم، فناشدوهم اللَّه والإسلام إلا دلوهم عَلَى من يرون أنه يريد أن يهيج فتنة، أو يفارق جماعة، وجاء صعصعة بن صُوحَانَ فقام فِي عبد القيس. قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي الأسود بن قيس العبدي، عن مرة بن النُّعْمَانِ، قَالَ: قام فينا صعصعة بن صُوحَانَ وَقَدْ وَاللَّهِ جاءه من الخبر بمنزل التيمي وأَصْحَابه فِي دار سليم بن محدوج، ولكنه كره عَلَى فراقه إياهم وبغضه لرأيهم، أن يؤخذوا فِي عشيرته، وكره مساءة أهل بيت من قومه، فَقَالَ: قولا حسنا، ونحن يَوْمَئِذٍ كثير أشرافنا، حسن عددنا، قَالَ: فقام فينا بعد مَا صلى العصر، فَقَالَ: يَا معشر عباد اللَّه، إن اللَّه- وله الحمد كثيرا- لما قسم الفضل بين الْمُسْلِمِينَ خصكم مِنْهُ بأحسن القسم، فأجبتم إِلَى دين اللَّه الَّذِي اختاره اللَّه لنفسه، وارتضاه لملائكته ورسله، ثُمَّ أقمتم عَلَيْهِ حتى قبض الله رسوله ص، ثُمَّ اختلف الناس بعده فثبتت طائفة، وارتدت طائفة، وأدهنت طائفة، وتربصت طائفة، فلزمتم دين اللَّه إيمانا بِهِ وبرسوله، وقاتلتم المرتدين حَتَّى قام الدين، وأهلك اللَّه الظالمين، فلم يزل اللَّه يزيدكم بِذَلِكَ خيرا فِي كل شَيْء، وعلى كل حال، حَتَّى اختلفت الأمة بينها، فَقَالَتْ طائفة: نريد طَلْحَة وَالزُّبَيْر وعائشة، وقالت طائفه:

نريد أهل المغرب، وقالت طائفة: نريد عَبْد اللَّهِ بن وهب الراسبي، راسب الأزد، وقلتم أنتم: لا نريد إلا أهل البيت الَّذِينَ ابتدأنا اللَّه من قبلهم بالكرامة، تسديدا من اللَّه لكم وتوفيقا، فلم تزالوا عَلَى الحق لازمين لَهُ، آخذين بِهِ، حَتَّى أهلك اللَّه بكم وبمن كَانَ عَلَى مثل هداكم ورأيكم الناكثين يوم الجمل، والمارقين يوم النهر- وسكت عن ذكر أهل الشام، لأن السلطان كَانَ حينئذ سلطانهم- وَلا قوم أعدى لِلَّهِ ولكم ولأهل بيت نبيكم ولجماعة الْمُسْلِمِينَ من هَذِهِ المارقة الخاطئة، الَّذِينَ فارقوا إمامنا، واستحلوا دماءنا، وشهدوا علينا بالكفر، فإياكم ان تووهم فِي دوركم، أو تكتموا عَلَيْهِم، فإنه ليس ينبغي لحي من أحياء العرب أن يكون أعدى لهذه المارقة مِنْكُمْ، وَقَدْ وَاللَّهِ ذكر لي أن بعضهم فِي جانب من الحي، وأنا باحث عن ذَلِكَ وسائل، فإن كَانَ حكي لي ذَلِكَ حقا تقربت إِلَى اللَّهِ تعالى بدمائهم، فإن دماءهم حلال ثُمَّ قَالَ: يَا معشر عبد القيس، إن ولاتنا هَؤُلاءِ هم أعرف شَيْء بكم وبرأيكم، فلا تجعلوا لَهُمْ عَلَيْكُمْ سبيلا، فإنهم أسرع شَيْء إليكم وإلى أمثالكم ثُمَّ تنحى فجلس، فكل قومه قَالَ: لعنهم اللَّه! وَقَالَ: برئ اللَّه مِنْهُمْ، فلا وَاللَّهِ فلا نؤويهم، ولئن علمنا بمكانهم لنطلعنك عَلَيْهِم، غير سليم بن محدوج، فإنه لم يقل شَيْئًا، فرجع إِلَى قومه كئيبا واجما، يكره أن يخرج أَصْحَابه من منزله فيلوموه، وَقَدْ كَانَتْ بينهم مصاهرة، وَكَانَ لَهُمْ ثقة، ويكره أن يطلبوا فِي داره فيهلكوا ويهلك وجاء فدخل رحله، وأقبل أَصْحَاب المستورد يأتونه، فليس مِنْهُمْ رجل إلا يخبره بِمَا قام بِهِ الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ فِي الناس وبما جاءهم رؤساؤهم، وقاموا فِيهِمْ، وَقَالُوا لَهُ: اخرج بنا، فو الله مَا نأمن أن نؤخذ فِي عشائرنا قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ: أما ترون رأس عبد القيس قام فِيهِمْ كما قامت رؤساء العشائر فِي عشائرهم؟ قالوا:

بلى وَاللَّهِ نرى قَالَ: فإن صاحب منزلي لم يذكر لي شَيْئًا، قَالُوا: نرى وَاللَّهِ انه استحياء منك، فدعاه فأتاه، فقال: يا بن محدوج، إنه قَدْ بلغني أن رؤساء العشائر قاموا اليهم، وتقدموا إِلَيْهِم فِيَّ وفي أَصْحَابي، فهل قام فيكم أحد يذكر لكم شَيْئًا من ذَلِكَ؟ قَالَ: فَقَالَ: نعم، قَدْ قام فينا صعصعة ابن صوحان، فتقدم إلينا في الا نؤوي أحدا من طلبتهم، وَقَالُوا أقاويل كثيرة كرهت أن أذكرها لكم فتحسبوا أنه ثقل علي شَيْء من أمركم، فَقَالَ لَهُ المستورد: قَدْ أكرمت المثوى، وأحسنت الفعل، ونحن إِنْ شَاءَ اللَّهُ مرتحلون عنك، ثُمَّ قَالَ: أما وَاللَّهِ لو أرادوك فِي رحلي مَا وصلوا إليك وَلا إِلَى أحد من أَصْحَابك حَتَّى أموت دونكم، قَالَ: أعاذك اللَّه من ذَلِكَ! وبلغ الَّذِينَ فِي محبس الْمُغِيرَة مَا أجمع عَلَيْهِ أهل المصر من الرأي فِي نفي من كَانَ بينهم من الخوارج وأخذهم، فَقَالَ معاذ بن جوين بن حصين فِي ذَلِكَ: أَلا أيها الشارون قَدْ حان لامرئ ... شرى نفسه لِلَّهِ أن يترحلا أقمتم بدار الخاطئين جهالة ... وكل امرئ مِنْكُمْ يصاد ليقتلا فشدوا على القوم العداه فإنما ... أقامتكمُ للذبح رأيا مضللا أَلا فاقصدوا يَا قوم للغاية الَّتِي ... إذا ذكرت كَانَتْ أبر وأعدلا فيا ليتني فيكم عَلَى ظهر سابح ... شديد القصيرى دارعا غير أعزلا ويا ليتني فيكم أعادي عدوكم ... فيسقيَني كأس المنية أولا يعز علي أن تخافوا وتطردوا ... ولما أجردْ فِي المحلين منصلا ولما يفرقْ جمعهم كل ماجد ... إذا قلت قَدْ ولى وأدبر أقبلا مشيحا بنصل السيف فِي حمس الوغى ... يرى الصبر فِي بعض المواطن أمثلا وعز علي أن تضاموا وتنقصوا ... وأصبح ذا بث أسيرا مكبلا

ولو أنني فيكم وَقَدْ قصدوا لكم ... أثرت إذًا بين الفريقين قسطلا فيا رُبّ جمع قَدْ فللتُ وغارة ... شهدتُ وقرن قَدْ تركت مجدلا فبعث المستورد إِلَى أَصْحَابه فَقَالَ لَهُمُ: اخرجوا من هَذِهِ القبيلة لا يصب امرأ مسلما فِي سببنا بغير علم معرة وَكَانَ فِيهِمْ بعض من يرى رأيهم، فاتعدوا سورا، فخرجوا إِلَيْهَا متقطعين من أربعة وخمسة وعشرة، فتتاموا بها ثلاثمائة رجل، ثُمَّ ساروا إِلَى الصراة، فباتوا بِهَا ليله. ثم إن الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ أخبر خبرهم، فدعا رؤساء الناس، فَقَالَ: إن هَؤُلاءِ الأشقياء قَدْ أخرجهم الحين وسوء الرأي، فمن ترون أبعث إِلَيْهِم؟ قَالَ: فقام إِلَيْهِ عدي بن حاتم، فَقَالَ: كلنا لَهُمْ عدو، ولرأيهم مسفه، وبطاعتك مستمسك، فأينا شئت سار إِلَيْهِم. فقام معقل بن قيس، فَقَالَ: إنك لا تبعث إِلَيْهِم أحدا ممن ترى حولك من أشراف المصر إلا وجدته سامعا مطيعا، ولهم مفارقا، ولهلاكهم محبا، وَلا أَرَى أصلحك اللَّه أن تبعث إِلَيْهِم أحدا مِنَ النَّاسِ أعدى لَهُمْ وَلا أشد عَلَيْهِم مني، فابعثني إِلَيْهِم فإني أكفيكهم بإذن اللَّه، فَقَالَ اخرج عَلَى اسم اللَّه، فجهز مَعَهُ ثلاثة آلاف رجل. وَقَالَ الْمُغِيرَة لقبيصة بن الدمون: الصق لي بشيعة علي، فأخرجهم مع معقل بن قيس، فإنه كَانَ من رءوس أَصْحَابه، فإذا بعثت بشيعته الَّذِينَ كَانُوا يعرفون فاجتمعوا جميعا، استأنس بعضهم ببعض وتناصحوا، وهم أشد استحلالا لدماء هَذِهِ المارقة، وأجرأ عَلَيْهِم من غيرهم، وَقَدْ قاتلوا قبل هَذِهِ المرة. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي الأسود بن قيس، عن مرة بن منقذ بن النُّعْمَانِ، قَالَ: كنت أنا فيمن ندب مَعَهُ يومئذ، قال: لقد كان صعصعة ابن صُوحَانَ قام بعد معقل بن قيس وَقَالَ: ابعثني إِلَيْهِم أيها الأمير،

فأنا وَاللَّهِ لدمائهم مستحل، وبحملها مستقل، فَقَالَ: اجلس، فإنما أنت خطيب، فكان أحفظه ذَلِكَ، وإنما قَالَ ذَلِكَ لأنه بلغه أنه يعيب عُثْمَان بن عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ويكثر ذكر علي ويفضله، وَقَدْ كَانَ دعاه، فَقَالَ: إياك أن يبلغني عنك أنك تعيب عُثْمَان عِنْدَ أحد مِنَ النَّاسِ، وإياك أن يبلغني عنك أنك تظهر شَيْئًا من فضل علي علانية، فإنك لست بذاكر من فضل علي شَيْئًا أجهله، بل أنا أعلم بِذَلِكَ، ولكن هَذَا السلطان قَدْ ظهر، وَقَدْ أخذنا بإظهار عيبه لِلنَّاسِ، فنحن ندع كثيرا مما أمرنا بِهِ، ونذكر الشيء الَّذِي لا نجد مِنْهُ بدا، ندفع بِهِ هَؤُلاءِ القوم عن أنفسنا تقية، فإن كنت ذاكرا فضله فاذكره بينك وبين أَصْحَابك وفي منازلكم سرا، وأما علانية فِي المسجد فإن هَذَا لا يحتمله الخليفة لنا، ولا يعذرنا به، فكان يقول لَهُ: نعم أفعل، ثُمَّ يبلغه أنه قَدْ عاد إِلَى مَا نهاه عنه، فلما قام إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: ابعثني إِلَيْهِم، وجد الْمُغِيرَة قَدْ حقد عَلَيْهِ خلافه إِيَّاهُ، فَقَالَ: اجلس فإنما أنت خطيب، فأحفظه، فَقَالَ لَهُ: أوما أنا إلا خطيب فقط! أجل وَاللَّهِ، إني للخطيب الصليب الرئيس، أما وَاللَّهِ لو شهدتني تحت راية عبد القيس يوم الجمل حَيْثُ اختلفت القنا، فشئون تفرى، وهامة تختلى، لعلمت أني أنا الليث الهزبر، فَقَالَ: حسبك الآن، لعمري لقد أوتيت لسانا فصيحا، ولم يلبث قبيصة بن الدمون أن أخرج الجيش مع معقل، وهم ثلاثة آلاف نقاوة الشيعة وفرسانهم. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي النضر بن صالح، عن سَالم بن رَبِيعَة، قَالَ: إني جالس عِنْدَ الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ حين أتاه معقل بن قيس يسلم عَلَيْهِ ويودعه، فَقَالَ لَهُ الْمُغِيرَة: يَا معقل بن قيس، إني قَدْ بعثت معك فرسان أهل المصر، أمرت بهم فانتخبوا انتخابا، فسر إِلَى هَذِهِ العصابة المارقة الذين فارقوا جماعتنا، وشهدوا عليها بالكفر، فادعهم إِلَى التوبة، وإلى الدخول فِي الجماعة، فإن فعلوا فاقبل مِنْهُمْ، واكفف عَنْهُمْ، وإن هم لم يفعلوا فناجزهم، واستعن بِاللَّهِ عليهم

فَقَالَ معقل بن قيس: سندعوهم ونعذر، وايم اللَّه مَا أَرَى أن يقبلوا، ولئن لم يقبلوا الحق لا نقبل مِنْهُمُ الباطل، هل بلغك- أصلحك اللَّه- أين منزل القوم؟ قَالَ: نعم، كتب إلي سماك بن عبيد العبسي- وَكَانَ عاملا لَهُ عَلَى المدائن- يخبرني أَنَّهُمُ ارتحلوا من الصراة، فأقبلوا حَتَّى نزلوا بهرسير، وأنهم أرادوا أن يعبروا إِلَى الْمَدِينَة العتيقة الَّتِي بِهَا منازل كسرى وأبيض المدائن، فمنعهم سماك أن يجوزوا، فنزلوا بمدينة بهرسير مقيمين، فاخرج إِلَيْهِم، وانكمش فِي آثارهم حَتَّى تلحقهم، وَلا تدعهم والإقامة فِي بلد ينتهي إِلَيْهِم فِيهِ أكثر من الساعة الَّتِي تدعوهم فِيهَا، فإن قبلوا وإلا فناهضهم، فإنهم لن يقيموا ببلد يومين إلا أفسدوا كل من خالطهم. فخرج من يومه فبات بسورا، فأمر الْمُغِيرَة مولاه ورادا، فخرج إِلَى النَّاسِ فِي مسجد الجماعة، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إن معقل بن قيس قَدْ سار إِلَى هَذِهِ المارقة، وَقَدْ بات الليلة بسورا، فلا يتخلفن عنه أحد من أَصْحَابه. أَلا وأن الأمير يخرج عَلَى كل رجل مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ، ويعزم عَلَيْهِم أن يبيتوا بالكوفة، أَلا وأيما رجل من هَذَا البعث وجدناه بعد يومنا بالكوفة فقد أحل بنفسه. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن جندب، عن عَبْد اللَّهِ بن عُقْبَةَ الغنوي، قَالَ: كنت فيمن خرج مع المستورد بن علفة، وكنت أحدث رجل فِيهِمْ قَالَ: فخرجنا حَتَّى أتينا الصراة، فأقمنا بِهَا حَتَّى تتامت جماعتنا، ثُمَّ خرجنا حَتَّى انتهينا إِلَى بهرسير، فدخلناها ونذر بنا سماك بن عبيد العبسي، وَكَانَ فِي الْمَدِينَة العتيقة، فلما ذهبنا لنعبر الجسر إِلَيْهِم قاتلنا عَلَيْهِ، ثُمَّ قطعه علينا، فأقمنا ببهرسير قَالَ: فدعاني المستورد بن علفه، فقال: اتكتب يا بن أخي؟ قلت: نعم، فدعا لي برق ودواة، وَقَالَ: اكتب: من عَبْد اللَّهِ

المستورد أَمِير الْمُؤْمِنِينَ إِلَى سماك بن عبيد، أَمَّا بَعْدُ، فقد نقمنا عَلَى قومنا الجور فِي الأحكام، وتعطيل الحدود، والاستئثار بالفيء، وإنا ندعوك إِلَى كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وسنة نبيه ص، وولاية أبي بكر وعمر رضوان اللَّه عليهما، والبراءة من عُثْمَان وعلي، لإحداثهما فِي الدين، وتركهما حكم الكتاب، فإن تقبل فقد أدركت رشدك، والا تقبل فقد بالغنا فِي الإعذار إليك، وَقَدْ آذناك بحرب، فنبذنا إليك عَلَى سواء، إن اللَّه لا يحب الخائنين قَالَ: فَقَالَ المستورد: انطلق إِلَى سماك بهذا الكتاب فادفعه إِلَيْهِ، واحفظ مَا يقول لك، والقَني قَالَ: وكنت فتى حدثا حين أدركت، لم أجرب الأمور، وَلا علم لي بكثير منها، فقلت: أصلحك اللَّه! لو أمرتني أن أستعرض دجلة فألقي نفسي فِيهَا مَا عصيتك، ولكن تأمن علي سماكا أن يتعلق بي، فيحبسني عنك، فإذا أنا قَدْ فاتني ما اترجاه من الجهاد! فتبسم وقال: يا بن أخي، إنما أنت رسول، والرسول لا يعرض لَهُ، ولو خشيت ذَلِكَ عَلَيْك لم أبعثك، وما أنت عَلَى نفسك بأشفق مني عَلَيْك قَالَ: فخرجت حَتَّى عبرت إِلَيْهِم فِي معبر، فأتيت سماك بن عبيد، وإذا الناس حوله كثير قَالَ: فلما أقبلت نحوهم أبدوني أبصارهم، فلما دنوت مِنْهُمُ ابتدرني نحو من عشرة، وظننت وَاللَّهِ أن القوم يريدون أخذي، وأن الأمر عندهم ليس كما ذكر لي صاحبي، فانتضيت سيفي، وقلت: كلا، والذي نفسي بيده، لا تصلون إلي حَتَّى أعذر إِلَى اللَّهِ فيكم، قَالُوا لي: يَا عَبْد اللَّهِ، من أنت؟ قلت: أنا رسول أَمِير الْمُؤْمِنِينَ المستورد بن علفة،، قَالُوا: فلم انتضيت سيفك؟ قلت: لابتداركم إلي، فخفت أن توثقوني وتغدروا بي قَالُوا: فأنت آمن، وإنما أتيناك لنقوم إِلَى جنبك، ونمسك بقائم سيفك، وننظر مَا جئت له، وما تسال، قال: فقلت لهم: لست آمنا حَتَّى تردوني إِلَى أَصْحَابي؟ قَالُوا: بلى، فشِمْتُ سيفي، ثُمَّ أتيت حَتَّى قمت عَلَى راس سماك بن عبيد واصحابه

قد ائتشبوا بي، فمنهم ممسك بقائم سيفي، ومنهم ممسك بعضدي، فدفعت إِلَيْهِ كتاب صاحبي، فلما قرأه رفع رأسه إلي، فَقَالَ: مَا كَانَ المستورد عندي خليقا لما كنت أَرَى من إخباته وتواضعه أن يخرج عَلَى الْمُسْلِمِينَ بسيفه، يعرض عَلَيَّ المستورد البراءة من علي وعثمان، ويدعوني إِلَى ولايته! فبئس وَاللَّهِ الشيخ أنا إذا! قَالَ: ثُمَّ نظر إلي فَقَالَ: يَا بني، اذهب إِلَى صاحبك فقل لَهُ: اتق اللَّه وارجع عن رأيك، وادخل فِي جماعة الْمُسْلِمِينَ، فإن أردت أن أكتب لك فِي طلب الأمان إِلَى الْمُغِيرَة فعلت، فإنك ستجده سريعا إِلَى الإصلاح، محبا للعافية: قَالَ: قلت لَهُ، وإن لي فِيهِمْ يَوْمَئِذٍ بصيرة، هيهات! إنما طلبنا بهذا الأمر الَّذِي أخافنا فيكم فِي عاجل الدُّنْيَا الأمن عِنْدَ اللَّه يوم الْقِيَامَة، فَقَالَ لي: بؤسا لك! كيف أرحمك! ثُمَّ قَالَ لأَصْحَابه: إِنَّهُمْ خلوا بهذا ثُمَّ جعلوا يقرءون عَلَيْهِ القرآن ويتخضعون ويتباكون، فظن بهذا أَنَّهُمْ عَلَى شَيْء من الحق، إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا، وَاللَّهِ مَا رأيت قوما كَانُوا أظهر ضلالة، وَلا أبين شؤما، من هَؤُلاءِ الَّذِينَ ترون! قلت: يَا هَذَا إنني لم آتك لأشاتمك وَلا أسمع حديثك وحديث أَصْحَابك، حَدّثني، أنت تجيبني إِلَى مَا فِي هَذَا الكتاب أم لا تفعل فارجع إِلَى صاحبي؟ فنظر إلي ثُمَّ قَالَ لأَصْحَابه: أَلا تعجبون إِلَى هَذَا الصبي! وَاللَّهِ إني لأراني أكبر من أَبِيهِ، وَهُوَ يقول لي: أتجيبني إِلَى مَا فِي هَذَا الكتاب! انطلق يَا بني إِلَى صاحبك، إنما تندم لو قَدِ اكتنفتكم الخيل، وأشرعت فِي صدوركم الرماح، هُنَاكَ تمنى لو كنت فِي بيت أمك! قَالَ: فانصرفت من عنده فعبرت إِلَى أَصْحَابي، فلما دنوت من صاحبي قَالَ: مَا رد عَلَيْك؟ قلت: مَا رد خيرا، قلت لَهُ: كذا وَقَالَ لي: كذا، فقصصت عَلَيْهِ القصة، قَالَ: فَقَالَ المستورد: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ»

قَالَ: فلبثنا بمكاننا ذاك يومين أو ثلاثة ايام، ثم استبان لنا مسير معقل ابن قيس إلينا قَالَ: فجمعنا المستورد، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن هذا الخرق معقل بن قيس قَدْ وجه إليكم وَهُوَ من السبئيه المفترين الكاذبين، وَهُوَ لِلَّهِ ولكم عدو، فأشيروا علي برأيكم قَالَ: فَقَالَ لَهُ بعضنا: وَاللَّهِ مَا خرجنا نريد إلا اللَّه، وجهاد من عادى اللَّه، وَقَدْ جاءونا فأين نذهب عَنْهُمْ! بل نقيم حَتَّى يحكم اللَّه بيننا وبينهم وَهُوَ خير الحاكمين وقالت طائفة أخرى: بل نعتزل ونتنحى، ندعو الناس ونحتج عَلَيْهِم بالدعاء. فَقَالَ: يَا معشر الْمُسْلِمِينَ، إني وَاللَّهِ مَا خرجت ألتمس الدُّنْيَا وَلا ذكرها وَلا فخرها وَلا البقاء، وما أحب أنها لي بحذافيرها، وأضعاف مَا يتنافس فِيهِ منها بقبال نعلي! وما خرجت إلا التماس الشهادة، وأن يهديني اللَّه إِلَى الكرامة بهوان بعض أهل الضلالة، وإني قَدْ نظرت فِيمَا استشرتكم فِيهِ فرأيت الا اقيم لهم حتى يقدموا على وهم جامون متوافرون، ولكن رأيت أن أسير حَتَّى أمعن، فإنهم إذا بلغهم ذَلِكَ خرجوا فِي طلبنا، فتقطعوا وتبددوا، فعلى تِلَكَ الحال ينبغي لنا قتالهم، فاخرجوا بنا عَلَى اسم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: فخرجنا فمضينا عَلَى شاطئ دجلة حَتَّى انتهينا إِلَى جرجرايا، فعبرنا دجلة، فمضينا كما نحن فِي أرض جوخى حَتَّى بلغنا المذار، فأقمنا فِيهَا، وبلغ عَبْد اللَّهِ بن عَامِر مكاننا الَّذِي كنا فِيهِ، فسأل عن الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ، كيف صنع فِي الجيش الَّذِي بعث إِلَى الخوارج؟ وكم عدتهم؟ فأخبر بعدتهم، وقيل لَهُ: إن الْمُغِيرَة نظر إِلَى رجل شريف رئيس قَدْ كَانَ قاتل الخوارج مع على ع، وَكَانَ من أَصْحَابه، فبعثه وبعث مَعَهُ شيعة علي لعداوتهم لَهُمْ، فَقَالَ: أصاب الرأي، فبعث إِلَى شريك بن الأعور الحارثي- وَكَانَ يرى راى على ع- فَقَالَ لَهُ: اخرج إِلَى هَذِهِ المارقة فانتخب ثلاثة آلاف رجل مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ أتبعهم حتى تخرجهم

من أرض الْبَصْرَة أو تقتلهم وَقَالَ لَهُ بينه وبينه: اخرج إِلَى أعداء اللَّه بمن يستحل قتالهم من أهل الْبَصْرَة، فظن شريك به انما يعنى شيعه على ع، ولكنه يكره أن يسميهم، فانتخب الناس، وألح عَلَى فرسان رَبِيعَة الَّذِينَ كَانَ رأيهم فِي الشيعة، وَكَانَ تجيبه العظماء مِنْهُمْ ثُمَّ إنه خرج فِيهِمْ مقبلا إِلَى المستورد بن علفة بالمذار. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي حصيرة بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِث، عَنْ أَبِيهِ عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث، قَالَ: كنت فِي الَّذِينَ خرجوا مع معقل بن قيس، فأقبلت مَعَهُ، فو الله مَا فارقته ساعة من نهار منذ خرجت، فكان أول منزل نزلناه سورا. قَالَ: فمكثنا يَوْمًا حَتَّى اجتمع إِلَيْهِ جل أَصْحَابه، ثُمَّ خرجنا مسرعين مبادرين لعدونا أن يفوتنا، فبعثنا طليعة، فارتحلنا فنزلنا كوثى، فأقمنا بِهَا يَوْمًا حَتَّى لحق بنا من تخلف، ثُمَّ أدلج بنا من كوثى، وَقَدْ مضى من الليل هزيع، فأقبلنا حَتَّى دنونا من المدائن، فاستقبلنا الناس فأخبرونا أَنَّهُمْ قَدِ ارتحلوا، فشق علينا وَاللَّهِ ذَلِكَ، وأيقنا بالعناء وطول الطلب. قَالَ: وجاء معقل بن قيس حَتَّى نزل باب مدينة بهرسير، ولم يدخلها، فخرج إِلَيْهِ سماك بن عبيد، فسلم عَلَيْهِ، وأمر غلمانه ومواليه فأتوه بالجزر والشعير وألقت، فجاءوه من ذَلِكَ بكل مَا كفاه وكفى الجند الَّذِينَ كَانُوا معه. ثُمَّ إن معقل بن قيس بعد أن أقام بالمدائن ثلاثا جمع أَصْحَابه فَقَالَ: إن هَؤُلاءِ المارقة الضلال إنما خرجوا فذهبوا عَلَى وجوههم إرادة أن تتعجلوا فِي آثارهم، فتقطعوا وتبددوا، وَلا تلحقوا بهم إلا وَقَدْ تعبتم ونصبتم، وأنه ليس شَيْء يدخل عَلَيْكُمْ من ذَلِكَ إلا وَقَدْ يدخل عَلَيْهِم مثله، فخرج بنا من المدائن، فقدم بين يديه ابو الرواغ الشاكري في ثلاثمائة فارس، فاتبع آثارهم، فخرج معقل فِي أثره، فاخذ ابو الرواع يسأل عَنْهُمْ، ويركب الوجه الَّذِي أخذوا فِيهِ، حَتَّى عبروا جرجرايا فِي آثارهم، ثُمَّ سلك الوجه

الَّذِي أخذوا فِيهِ، فاتبعهم، فلم يزل ذَلِكَ دأبه حَتَّى لحقهم بالمذار مقيمين، فلما دنا مِنْهُمُ استشار أَصْحَابه فِي لقائهم وقتالهم قبل قدوم معقل عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ بعضهم: أقدم بنا عَلَيْهِم فلنقاتلهم، وَقَالَ بعضهم: وَاللَّهِ مَا نرى أن تعجل إِلَى قتالهم حَتَّى يأتينا أميرنا، ونلقاهم بجماعتنا. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي تليد بن زَيْد بن راشد الفائشي أن أباه كَانَ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ قَالَ: فَقَالَ لنا أَبُو الرواغ: إن معقل بن قيس حين سرحني أمامه أمرني أن أتبع آثارهم، فإذا لحقتهم لم أعجل إِلَى قتالهم حَتَّى يأتيني. قَالَ: فَقَالَ لَهُ جميع أَصْحَابه: فالرأي الآن بيّن، تنح بنا فلنكن قريبا مِنْهُمْ حَتَّى يقدم علينا صاحبنا، فتنحينا- وَذَلِكَ عِنْدَ المساء- قَالَ: فبتنا ليلتنا كلها متحارسين حَتَّى أصبحنا، فارتفع الضحى، وخرجوا علينا، قَالَ: فخرجنا إِلَيْهِم وعدتهم ثلاثمائة ونحن ثلاثمائة، فلما اقتربوا شدوا علينا، فلا وَاللَّهِ مَا ثبت لَهُمْ منا إنسان، قَالَ: فانهزمنا ساعة، ثُمَّ إن أبا الرواغ صاح بنا وَقَالَ: يَا فرسان السوء، قبحكم اللَّه سائر الْيَوْم! الكرة الكرة! قَالَ: فحمل وحملنا مَعَهُ، حَتَّى إذا دنونا من القوم كر بنا، فانصرفنا وكروا علينا، وكشفونا طويلا، ونحن عَلَى خيل معلمة جياد، ولم يصب منا أحد، وَقَدْ كَانَتْ جراحات يسيرة، فَقَالَ لنا أَبُو الرواغ: ثكلتكم أمهاتكم! انصرفوا بنا فلنكر قريبا مِنْهُمْ، لا نزايلهم حَتَّى يقدم علينا أميرنا، فما أقبح بنا أن نرجع إِلَى الجيش، وَقَدِ انهزمنا من عدونا ولم نصبر لَهُمْ حَتَّى يشتد القتال وتكر القتلى قَالَ: فَقَالَ رجل منا يجيبه: إن اللَّه لا يستحيي من الحق، قَدْ وَاللَّهِ هزمونا، قَالَ أَبُو الرواغ: لا أكثر اللَّه فينا ضربك! إنا مَا لم ندع المعركة فلم نهزم، وإنا متى عطفنا عَلَيْهِم وكنا قريبا مِنْهُمْ فنحن عَلَى حال حسنة حَتَّى يقدم علينا الجيش، ولم نرجع عن وجهنا، إنه وَاللَّهِ لو كَانَ يقال: انهزم أَبُو حمران حمير بن بجير الهمداني، مَا باليت، أنما

يقال: انهزم أَبُو الرواغ، فقفوا قريبا، فإن أتوكم فعجزتم عن قتالهم فانحازوا، فإن حملوا عَلَيْكُمْ فعجزتم عن قتالهم فتأخروا وانحازوا إِلَى حامية، فإذا رجعوا عنكم فاعطفوا عَلَيْهِم، وكونوا قريبا مِنْهُمْ، فإن الجيش آتيكم إِلَى ساعة قَالَ: فأخذت الخوارج كلما حملت عَلَيْهِم انحازوا وهم كَانُوا حامية، وإذا أخذوا فِي الكرة عَلَيْهِم فتفرق جماعتهم قرب أَبُو الرواغ وأَصْحَابه عَلَى خيلهم فِي آثارهم، فلما رأوا أَنَّهُمْ لا يفارقونهم، وَقَدْ طاردوهم هكذا من ارتفاع الضحى إِلَى الأولى فلما حضرت صلاة الظهر نزل المستورد للصلاة، واعتزل أَبُو الرواغ وأَصْحَابه عَلَى رأس ميل مِنْهُمْ أو ميلين، ونزل أَصْحَابه فصلوا الظهر، وأقاموا رجلين ربيئة، وأقاموا مكانهم حَتَّى صلوا العصر ثُمَّ إن فتى جاءهم بكتاب معقل بن قيس الى ابن الرواغ، وكان اهل القرى وعابر والسبيل يمرون عَلَيْهِم ويرونهم يقتتلون، فمن مضى مِنْهُمْ عَلَى الطريق نحو الوجه الَّذِي يأتي من قبله معقل استقبل معقلا فأخبره بالتقاء أَصْحَابه والخوارج، فيقول: كيف رأيتموهم يصنعون؟ فيقولون: رأينا الحرورية تطرد أَصْحَابك، فيقول: أما رأيتم أَصْحَابي يعطفون عَلَيْهِم ويقاتلونهم؟ فيقولون: بلى، يعطفون عَلَيْهِم وينهزمون: فَقَالَ: إن كَانَ ظني بأبي الرواغ صادقا لا يقدم عَلَيْكُمْ منهزما أبدا ثُمَّ وقف عَلَيْهِم، فدعا محرز بن شهاب بن بجير بن سُفْيَان بن خَالِد بن منقر التميمي فَقَالَ لَهُ: تخلف فِي ضعفة الناس، ثُمَّ سر بهم عَلَى مهل، حَتَّى تقدم بهم علي، ثُمَّ ناد فِي أهل القوة: ليتعجل كل ذي قوة معي، اعجلوا إِلَى إخوانكم، فإنهم قَدْ لاقوا عدوهم، وإني لأرجو أن يهلكهم اللَّه قبل أن تصلوا إِلَيْهِم. قَالَ: فاستجمع من أهل القوة والشجاعة وأهل الخيل الجياد نحو من سبعمائة، وسار فأسرع، فلما دنا من أبي الرواغ قَالَ أَبُو الرواغ: هَذِهِ

غبرة الخيل، تقدموا بنا إِلَى عدونا حَتَّى يقدم علينا الجند، ونحن مِنْهُمْ قريب، فلا يرون اننا تنحينا عنهم ولاهبناهم قَالَ: فاستقدم أَبُو الرواغ حَتَّى وقف مقابل المستورد وأَصْحَابه، وغشيهم معقل فِي أَصْحَابه، فلما دنا مِنْهُمْ غربت الشمس، فنزل فصلى بأَصْحَابه، ونزل أَبُو الرواغ فصلى بأَصْحَابه فِي جانب آخر، وصلى الخوارج أَيْضًا ثُمَّ إن معقل بن قيس أقبل بأَصْحَابه حَتَّى إذا دنا من أبي الرواغ دعاه فأتاه، فَقَالَ لَهُ: أحسنت أبا الرواغ! هكذا الظن بك، الصبر والمحافظة فَقَالَ: أصلحك اللَّه! إن لَهُمْ شدات منكرات، فلا تكن أنت تليها بنفسك، ولكن قدم بين يديك من يقاتلهم، وكن أنت من وراء الناس ردءا لَهُمْ، فَقَالَ: نعم ما رايت! فو الله مَا كَانَ إلا ريثما قالها حَتَّى شدوا عَلَيْهِ وعلى أَصْحَابه، فلما غشوه انجفل عنه عامة أَصْحَابه، وثبت ونزل، وَقَالَ: الأرض الأرض يَا أهل الإِسْلام! ونزل مَعَهُ أَبُو الرواغ الشاكري وناس كثير من الفرسان وأهل الحفاظ نحو مائتي رجل، فلما غشيهم المستورد وأَصْحَابه استقبلوهم بالرماح والسيوف، وانجفلت خيل معقل عنه ساعة، ثُمَّ ناداهم مسكين بن عَامِر بن أنيف بن شريح بن عَمْرو بن عدس- وَكَانَ يَوْمَئِذٍ من أشجع الناس وأشدهم بأسا- فَقَالَ: يَا أهل الإِسْلام، أين الفرار، وَقَدْ نزل أميركم! ألا تستحيون! أن الفرار مخزاة وعار ولؤم، ثُمَّ كر راجعا، ورجعت مَعَهُ خيل عظيمة، فشدوا عَلَيْهِم ومعقل بن قيس يضاربهم تحت رايته مع ناس نزلوا مَعَهُ من أهل الصبر، فضربوهم حَتَّى اضطروهم إِلَى البيوت، ثُمَّ لم يلبثوا إلا قليلا حَتَّى جاءهم محرز بن شهاب فيمن تخلف مِنَ النَّاسِ، فلما أتوهم أنزلهم ثُمَّ صف لَهُمْ، وجعل ميمنة وميسرة، فجعل أبا الرواغ عَلَى ميمنته ومحرز بن بجير بن سُفْيَان عَلَى ميسرته ومسكين بن عَامِر عَلَى الخيل، ثُمَّ قَالَ لهم: لا تبرحوا مصافكم حَتَّى تصبحوا، فإذا أصبحتم ثرنا إِلَيْهِم فناجزناهم، فوقف الناس مواقفهم عَلَى مصافهم. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن جندب، عن عَبْد اللَّهِ بن

عُقْبَةَ الغنوي، قَالَ: لما انتهى إلينا معقل بن قيس قَالَ لنا المستورد: لا تدعوا معقلا حَتَّى يعبي لكم الخيل والرجل، شدوا عَلَيْهِم شدة صادقة، لعل اللَّه يصرعه فِيهَا قَالَ: فشددنا عَلَيْهِم شدة صادقة، فانكشفوا فانفضوا ثُمَّ انجفلوا ووثب معقل عن فرسه حين رَأَى إدبار أَصْحَابه عنه، فرفع رايته، ونزل مَعَهُ ناس من أَصْحَابه، فقاتلوا طويلا، فصبروا لنا، ثُمَّ إِنَّهُمْ تداعوا علينا، فعطفوا علينا من كل جانب، فانحزنا حَتَّى جعلنا البيوت فِي ظهورنا، وَقَدْ قاتلناهم طويلا، وكانت بيننا جراحة وقتل يسير قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي حصيرة بن عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ أن عمير بن أبي أشاءة الأَزْدِيّ قتل يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ فيمن نزل مع معقل بن قيس، وَكَانَ رئيسا. قَالَ: وكنت أنا فيمن نزل معه، فو الله مَا أنسى قول عمير بن أبي أشاءة ونحن نقتتل وَهُوَ يضاربهم بسيفه قدما: قَدْ علمت أني إذا مَا أقشعوا ... عني والتاث اللئام الوضع أحوس عِنْدَ الروع ندب أروع. وقاتل قتالا شديدا مَا رأيت أحدا قاتل مثله، فجرح رجالا كثيرا، وقتل وما أدري أنه قتل، مَا عدا واحدا وَقَدْ علمت أنه اعتنقه، فخر عَلَى صدره فذبحه، فما حز رأسه حَتَّى حمل عَلَيْهِ رجل مِنْهُمْ فطعنه بالرمح فِي ثغرة نحره، فخر عن صدره، وانجدل ميتا، وشددنا عَلَيْهِم، وحزناهم إِلَى القرية، ثُمَّ انصرفنا إِلَى معركتنا، فأتيته وأنا أرجو أن يكون بِهِ رمق، فإذا هُوَ قَدْ فاظ، فرجعت إِلَى أَصْحَابي فوقفت فِيهِمْ قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن جندب، عن عَبْد اللَّهِ بن عُقْبَةَ

الغنوي، قَالَ: إنا لمتواقفون أول الليل إذ أتانا رجل كنا بعثناه أول الليل، وَكَانَ بعض من يمر الطريق قَدْ أَخْبَرَنَا أن جيشا قَدْ أقبل إلينا مِنَ الْبَصْرَةِ، فلم نكترث، وقلنا لرجل من أهل الأرض وجعلنا لَهُ جعلا: اذهب فاعلم هل أتانا من قبل الْبَصْرَة جيش؟ فَجَاءَ ونحن مواقفو أهل الْكُوفَة، وَقَالَ لنا: نعم، قَدْ جاءكم شريك بن الأعور، وَقَدِ استقبلت طائفة عَلَى رأس فرسخ عِنْدَ الأولى، وَلا أَرَى القوم إلا نازلين بكم الليلة، او مصبحيكم غدوه فأسقط فِي أيدينا. وَقَالَ المستورد لأَصْحَابه: ماذا ترون؟ قلنا: نرى مَا رأيت، قَالَ: فإني لا أَرَى أن أقيم لهؤلاء جميعا، ولكن نرجع إِلَى الوجه الَّذِي جئنا مِنْهُ، فإن أهل الْبَصْرَة لا يتبعونا إِلَى أرض الْكُوفَة، وَلا يتبعنا حينئذ إلا أهل مصرنا، فقلنا لَهُ: ولم ذاك؟ فَقَالَ: قتال أهل مصر واحد أهون علينا من قتال أهل المصرين، قَالُوا: سر بنا حَيْثُ أحببت، قَالَ: فانزلوا عن ظهور دوابكم فأريحوا ساعة، وأقضموها، ثُمَّ انظروا مَا آمركم بِهِ، قَالَ: فنزلنا عنها، فأقضمناها، قَالَ: وبيننا وبينهم حينئذ ساعة قَدِ ارتفعوا عن القرية مخافة أن نبيتهم، قَالَ: فلما أرحناها وأقضمناها أمرنا فاستوينا عَلَى متونها، ثُمَّ قَالَ: ادخلوا القرية، ثُمَّ اخرجوا من ورائها، وانطلقوا معكم بعلج يأخذ بكم من ورائها، ثُمَّ يعود بكم حَتَّى يردكم إِلَى الطريق الَّذِي مِنْهُ أقبلتم، ودعوا هَؤُلاءِ مكانهم، فإنهم لم يشعروا بكم عامة الليل، أو حَتَّى تصبحوا قَالَ: فدخلنا القرية وأخذنا علجا، ثُمَّ خرجنا بِهِ أمامنا، فقلنا: خذ بنا من وراء هَذَا الصف حَتَّى نعود إِلَى الطريق الَّذِي مِنْهُ أقبلنا ففعل ذَلِكَ، فَجَاءَ بنا حَتَّى أقامنا عَلَى الطريق الَّذِي مِنْهُ أقبلنا، فلزمناه راجعين، ثُمَّ أقبلنا حَتَّى نزلنا جرجرايا. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي حصيرة بن عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ عَبْد اللَّهِ بن الحارث، قَالَ: إني أول من فطن لذهابهم، قَالَ: فقلت: أصلحك

اللَّه! لقد رابني أمر هَذَا العدو منذ ساعة طويلة، إِنَّهُمْ كَانُوا مواقفين نرى سوادهم، ثُمَّ لقد خفي علي ذَلِكَ السواد منذ ساعة، وإني لخائف أن يكونوا زالوا من مكانهم ليكيدوا الناس، فَقَالَ: وما تخاف أن يكون من كيدهم؟ قلت: أخاف أن يبيتوا الناس، قَالَ، وَاللَّهِ مَا آمن ذَلِكَ، قَالَ: فقلت لَهُ: فاستعد لذلك، قَالَ: كما أنت حَتَّى أنظر يَا عتاب، انطلق فيمن أحببت حَتَّى تدنو من القرية فتنظر هل ترى منهم أحدا او تسمع لهم ركزا! وسل أهل القرية عَنْهُمْ. فخرج فِي خمس الغزاة يركض حَتَّى نظر القرية فأخذ لا يرى أحدا يكلمه، وصاح بأهل القرية، فخرج إِلَيْهِ مِنْهُمْ ناس، فسألهم عَنْهُمْ، فَقَالُوا: خرجوا فلا ندري كيف ذهبوا! فرجع إِلَيْهِ عتاب فأخبره الخبر، فَقَالَ معقل: لا آمن البيات، فأين مضر؟ فجاءت مضر فقال: قفوا هاهنا، وَقَالَ: أين رَبِيعَة؟ فجعل رَبِيعَة فِي وجه وتميما فِي وجه وهمدان فِي وجه، وبقية أهل اليمن فِي وجه آخر، وَكَانَ كل ربع من هَؤُلاءِ فِي وجه وظهره مما يلي ظهر الربع الآخر، وجال فِيهِمْ معقل حَتَّى لم يدع ربعا إلا وقف عَلَيْهِ، وقال: ايها الناس، لو أتوكم فبدءوا بغيركم فقاتلوهم فلا تبرحوا أنتم مكانكم أبدا حَتَّى يأتيكم أمري، وليغن كل رجل مِنْكُمُ الوجه الَّذِي هُوَ فِيهِ، حَتَّى نصبح فنرى رأينا فمكثوا متحارسين يخافون بياتهم حَتَّى أصبحوا، فلما أصبحوا نزلوا فصلوا، وأتوا فأخبروا أن القوم قَدْ رجعوا فِي الطريق الَّذِي أقبلوا مِنْهُ عودهم عَلَى بدئهم، وجاء شريك بن الأعور فِي جيش من أهل الْبَصْرَة حَتَّى نزلوا بمعقل بن قيس فلقيه، فتساءلا ساعة، ثُمَّ إن معقلا قَالَ لشريك: أنا متبع آثارهم حَتَّى ألحقهم لعل اللَّه أن يهلكهم، فإني لا آمن إن قصرت فِي طلبهم أن يكثروا فقام شريك فجمع رجالا من وجوه أَصْحَابه، فِيهِمْ خَالِد بن مَعْدَانَ الطَّائِيّ وبيهس بن صهيب الجرمي، فَقَالَ لَهُمْ: يَا هَؤُلاءِ، هل لكم فِي خير؟ هل لكم فِي أن تسيروا مع إخواننا من أهل الْكُوفَة فِي طلب هَذَا العدو الَّذِي هُوَ عدو لنا ولهم حَتَّى يستأصلهم

اللَّه ثُمَّ نرجع؟ فَقَالَ خَالِد بن مَعْدَانَ وبيهس الجرمي: لا وَاللَّهِ، لا نفعل، إنما أقبلنا نحوهم لننفيهم عن أرضنا، ونمنعهم من دخولها، فان كفانا الله مئونتهم فإنا منصرفون إِلَى مصرنا، وفي أهل الْكُوفَة من يمنعون بلادهم من هَؤُلاءِ الأكلب، فَقَالَ لَهُمْ: ويحكم! أطيعوني فِيهِمْ، فإنهم قوم سوء، لكم فِي قتالهم أجر وحظوة عِنْدَ السلطان، فقال له بيهس الجرمي: نحن وَاللَّهِ إذا كما قَالَ أخو بني كنانة: كمرضعة أولاد أخرى وضيعت ... بنيها فلم ترقع بِذَلِكَ مرقعا أما بلغك أن الأكراد قَدْ كفروا بجبال فارس! قَالَ: قَدْ بلغني، قَالَ: فتأمرنا أن ننطلق معك نحمي بلاد أهل الْكُوفَة، ونقاتل عدوهم، ونترك بلادنا، فَقَالَ لَهُ: وما الأكراد! إنما يكفيهم طائفة مِنْكُمْ، فَقَالَ لَهُ: وهذا العدو الَّذِي تندبنا إِلَيْهِ إنما يكفيه طائفة من أهل الْكُوفَة، إِنَّهُمْ لعمري لو اضطروا إِلَى نصرتنا لكان علينا نصرتهم، ولكنهم لم يحتاجوا إلينا بعد، وفي بلادنا فتق مثل الفتق الَّذِي فِي بلادهم، فليغنوا مَا قبلهم، وعلينا أن نغني مَا قبلنا، ولعمري لو أنا أطعناك فِي اتباعهم فاتبعتهم كنت قَدِ اجترأت عَلَى أميرك، وفعلت مَا كَانَ ينبغي لك أن تطلع فِيهِ رأيه، مَا كَانَ ليحتملها لك فلما رَأَى ذَلِكَ قَالَ لأَصْحَابه: سيروا فارتحلوا، وجاء حَتَّى لقي معقلا- وكانا متحابين عَلَى رأي الشيعة متوادين عَلَيْهِ- فَقَالَ: أما وَاللَّهِ لقد جهدت بمن معي أن يتبعوني حَتَّى أسير معكم إِلَى عدوكم فغلبوني، فَقَالَ لَهُ معقل: جزاك اللَّه من أخ خيرا! إنا لم نحتج إِلَى ذَلِكَ، أما وَاللَّهِ إني أرجو أن لو قَدْ جهدوا لا يفلت مِنْهُمْ مخبر. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الصقعب بن زهير، عن ابى امامه عبيد الله

ابن جُنَادَة، عن شريك بن الأعور، قَالَ: حَدَّثَنَا بهذا الحديث شريك ابن الأعور قَالَ: فلما قَالَ: وَاللَّهِ إني لأرجو أن لو جهدوا لا يفلت مِنْهُمْ مخبر، كرهتها وَاللَّهِ لَهُ، وأشفقت عَلَيْهِ، وحسبت أن يكون شبه كلام البغي، قَالَ: وايم اللَّه مَا كَانَ من أهل البغي. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي حصيرة بن عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث الأَزْدِيّ، قَالَ: لما أتانا أن المستورد بن علفة وأَصْحَابه قَدْ رجعوا عن طريقهم سررنا بِذَلِكَ، وقلنا: نتبعهم ونستقبلهم بالمدائن، وإن دنوا من الْكُوفَة كَانَ أهلك لَهُمْ، ودعا معقل بن قيس أبا الرواغ فَقَالَ لَهُ: اتبعه فِي أَصْحَابك الَّذِينَ كَانُوا معك حَتَّى تحبسه علي حَتَّى ألحقك، فَقَالَ لَهُ: زدني مِنْهُمْ فإنه أقوى لي عَلَيْهِم إن هم أرادوا مناجزتي قبل قدومك، فإنا كنا قَدْ لقينا مِنْهُمْ برحا، فزاده ثلاثمائة، فاتبعهم في سمائه، وأقبلوا سراعا حَتَّى نزلوا جرجرايا، وأقبل أَبُو الرواغ فِي إثرهم مسرعا حَتَّى لحقهم بجرجرايا، وَقَدْ نزلوا، فنزل بهم عِنْدَ طلوع الشمس، فلما نظروا إذا هم بأبي الرواغ فِي المقدمة، فَقَالَ بعضهم لبعض: إن قتالكم هَؤُلاءِ أهون من قتال من يأتي بعدهم. قَالَ: فخرجوا إلينا، فأخذوا يخرجون لنا العشرة فرسان مِنْهُمْ والعشرين فارسا، فنخرج لَهُمْ مثلهم، فتطارد الخيلان ساعة ينتصف بعضنا من بعض، فلما رأوا ذَلِكَ اجتمعوا فشدوا علينا شدة واحدة صدقوا فِيهَا الحملة. قَالَ: فصرفونا حَتَّى تركنا لَهُمُ العرصة ثُمَّ إن أبا الرواغ نادى فِيهِمْ، فَقَالَ: يَا فرسان السوء، يَا حماة السوء، بئس مَا قاتلتم القوم! إليّ إليّ!

فعالج نحوا من مائة فارس، فعطف عَلَيْهِم، وَهُوَ يقول: إن الفتى كل الفتى من لم يهل ... إذا الجبان حاد عن وقع الأسل. قَدْ علمت أني إذا البأس نزل ... أروع يوم الهيج مقدام بطل ثُمَّ عطف عَلَيْهِم فقاتلهم طويلا، ثُمَّ عطف أَصْحَابه من كل جانب، فصدقوهم القتال حَتَّى ردوهم إِلَى مكانهم الَّذِي كَانُوا فِيهِ، فلما رَأَى ذَلِكَ المستورد وأَصْحَابه ظنوا أن معقلا إن جاءهم على تفئه ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ دون قتله لَهُمْ شَيْء، فمضى هُوَ وأَصْحَابه حَتَّى قطعوا دجلة، ووقعوا فِي أرض بهرسير، وقطع أَبُو الرواغ فِي آثارهم فاتبعهم، وجاء معقل بن قيس فاتبع إثر أبي الرواغ، فقطع فِي أثره دجلة، ومضى المستورد نحو الْمَدِينَة العتيقة، وبلغ ذَلِكَ سماك بن عبيد، فخرج حَتَّى عبر إِلَيْهَا، ثُمَّ خرج بأَصْحَابه وبأهل المدائن، فصف عَلَى بابها، وأجلس رجالا رماة عَلَى السور، فبلغهم ذَلِكَ، فانصرفوا حَتَّى نزلوا ساباط، وأقبل أَبُو الرواغ فِي طلب القوم حَتَّى مر بسماك ابن عبيد بالمدائن، فخبره بوجههم الَّذِي أخذوا فِيهِ، فاتبعهم حَتَّى نزل بهم ساباط. قَالَ أَبُو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب، عن عَبْد اللَّهِ بن عُقْبَةَ الغنوي، قَالَ: لما نزل بنا أَبُو الرواغ دعا المستورد أَصْحَابه، فَقَالَ: إن هَؤُلاءِ الَّذِينَ نزلوا بكم مع أبي الرواغ هم حر أَصْحَاب معقل، وَلا وَاللَّهِ مَا قدم إليكم إلا حماته وفرسانه، والله لو اعلم انى إذا بادرت أَصْحَابه هَؤُلاءِ إِلَيْهِ أدركته قبل أن يفارقوه بساعة لبادرتهم إِلَيْهِ، فليخرج مِنْكُمْ خارج فيسأل عن معقل أين هُوَ؟ وأين بلغ؟ قَالَ: فخرجت أنا فاستقبلت علوجا أقبلوا من المدائن، فقلت لَهُمْ: مَا بلغكم عن معقل بن قيس؟ قَالُوا: جَاءَ فيج لسماك بن عبيد من قبله كَانَ سرحه ليستقبل معقلا فينظر أين انتهى؟ وأين يريد أن ينزل؟ فجاءه فَقَالَ: تركته نزل ديلمايا- وَهِيَ قرية من قرى

إستان بهرسير إِلَى جانب دجلة، كَانَتْ لقدامة بن العجلان الأزدي- قال: لَهُ:: كم بيننا وبينهم من هَذَا المكان؟ قَالُوا: ثلاثة فراسخ، أو نحو ذَلِكَ. قَالَ: فرجعت إِلَى صاحبي فأخبرته الخبر، فَقَالَ لأَصْحَابه: اركبوا، فركبوا، فأقبل حَتَّى انتهى بهم إِلَى جسر ساباط- وَهُوَ جسر نهر الملك، وَهُوَ من جانبه الَّذِي يلي الْكُوفَة- وأبو الرواغ وأَصْحَابه مما يلي المدائن، قَالَ: فجئنا حَتَّى وقفنا عَلَى الجسر، قَالَ: ثُمَّ قَالَ لنا: لتنزل طائفة مِنْكُمْ: قَالَ: فنزل منا نحو من خمسين رجلا، فَقَالَ: اقطعوا هَذَا الجسر، فنزلنا فقطعناه، قَالَ: فلما رأونا وقوفا عَلَى الخيل ظنوا أنا نريد أن نعبر إِلَيْهِم، قَالَ: فصفوا لنا، وتعبوا، واشتغلوا بِذَلِكَ عنا فِي قطعنا الجسر ثُمَّ إنا أخذنا من أهل ساباط دليلا فقلنا لَهُ: احضر بين أيدينا حَتَّى ننتهي إِلَى ديلمايا، فخرج بين أيدينا يسعى، وخرجنا تلمع بنا خيلنا، فكان الخبب والوجيف، فما كَانَ إلا ساعة حَتَّى أطللنا عَلَى معقل وأَصْحَابه وهم يتحملون، فما هو الا أن بصر بنا وَقَدْ تفرق أَصْحَابه عنه، ومقدمته ليست عنده، وأَصْحَابه قَدِ استقدم طائفة مِنْهُمْ، وطائفة تزحل، وهم غارون لا يشعرون فلما رآنا نصب رايته، ونزل ونادى: يَا عباد اللَّه، الأرض الأرض! فنزل مَعَهُ نحو من مائتي رجل، قَالَ: فأخذنا نحمل عَلَيْهِم فيستقبلونا بأطراف الرماح جثاة عَلَى الركب فلا نقدر عَلَيْهِم فَقَالَ لنا: المستورد: دعوا هَؤُلاءِ إذا نزلوا وشدوا عَلَى خيلهم حَتَّى تحولوا بينها وبينهم، فإنكم إن أصبتم خيلهم فإنهم لكم عن ساعة جزر، قَالَ: فشددنا عَلَى خيلهم، فحلنا بينهم وبينها، وقطعنا أعنتها، وَقَدْ كَانُوا قرنوها، فذهبت فِي كل جانب، قَالَ: ثُمَّ ملنا عَلَى الناس المتزحلين والمتقدمين، فحملنا عَلَيْهِم حَتَّى فرقنا

بينهم، ثُمَّ أقبلنا إِلَى معقل بن قيس وأَصْحَابه جثاة عَلَى الركب عَلَى حالهم الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، فحملنا عَلَيْهِم، فلم يتحلحلوا، ثُمَّ حملنا عَلَيْهِم أخرى، ففعلوا مثلها، فَقَالَ لنا المستورد: نازلوهم، لينزل إِلَيْهِم نصفكم، فنزل نصفنا، وبقي نصفنا مَعَهُ عَلَى الخيل، وكنت فِي أَصْحَاب الخيل. قَالَ: فلما نزل إِلَيْهِم رجالتنا قاتلتهم، وأخذنا نحمل عَلَيْهِم بالخيل، وطمعنا وَاللَّهِ فيهم قال: فو الله إنا لنقاتلهم ونحن نرى أن قَدْ علوناهم إذ طلعت علينا مقدمة أَصْحَاب أبي الرواغ، وهم حر أَصْحَابه وفرسانهم، فلما دنوا منا حملوا علينا، فعند ذَلِكَ نزلنا بأجمعنا فقاتلناهم حَتَّى أصيب صاحبنا وصاحبهم قَالَ: فما علمته نجا مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ أحد غيري قَالَ: وإني أحدثهم رجلا فِيمَا أَرَى. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن جندب، عن عَبْد اللَّهِ بن عُقْبَةَ الغنوي، قَالَ: وَحَدَّثَنَا بهذا الحديث مرتين من الزمن، مرة فِي إمارة مصعب ابن الزُّبَيْرِ بباجميرا، ومرة ونحن مع عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّدِ بْنِ الأشعث بدير الجماجم قَالَ: فقتل وَاللَّهِ يَوْمَئِذٍ بدير الجماجم يوم الهزيمة، وإنه لمقبل عَلَيْهِم يضاربهم بسيفه وأنا أراه، قَالَ: فقلت لَهُ بدير الجماجم: إنك قَدْ حدثتني بهذا الحديث بباجميرا مع مُصْعَب بن الزُّبَيْرِ، فلم أسألك كيف نجوت من بين أَصْحَابك؟ قَالَ: أحدثك، وَاللَّهِ إن صاحبنا لما أصيب قتل أَصْحَابه إلا خمسة نفر أو ستة، قَالَ: فشددنا عَلَى جماعة من أَصْحَابه نحو من عشرين رجلا، فانكشفوا. قَالَ: وانتهيت إِلَى فرس واقف عَلَيْهِ سرجه ولجامه، وما أدري مَا قصة صاحبه أقتل أم نزل عنه صاحبه يقاتل وتركه! قَالَ: فأقبلت حَتَّى أخذت بلجامه، وأضع رجلي فِي الركاب وأستوي عَلَيْهِ قَالَ: وشد وَاللَّهِ أَصْحَابه علي، فانتهوا إلي، وغمزت فِي جنب الفرس، فإذا هُوَ وَاللَّهِ أجود مَا سخر، وركض مِنْهُمْ ناس فِي أثري فلم يعلقوا بي، فأقبلت

أركض الفرس، وَذَلِكَ عِنْدَ المساء، فلما علمت أني قَدْ فتهم وأمنت، أخذت أسير عَلَيْهِ خببا وتقريبا ثُمَّ إني سرت عَلَيْهِ بِذَلِكَ من سيره، ولقيت علجا فقلت لَهُ: اسع بين يدي حَتَّى تخرجني الطريق الأعظم، طريق الْكُوفَة، ففعل، فو الله مَا كَانَتْ إلا ساعة حَتَّى انتهيت إِلَى كوثى، فجئت حَتَّى انتهيت إِلَى مكان من النهر واسع عريض، فأقحمت الفرس فِيهِ، فعبرته، ثُمَّ أقبلت عَلَيْهِ حَتَّى آتى دير كعب، فنزلت فعقلت فرسي وأرحته وهومت تهويمة، ثُمَّ انى هببت سريعا، فخلت فِي ظهر الفرس، ثُمَّ سرت فِي قطع من الليل فاتخذت بقية الليل جملا، فصليت الغداة بالمزاحمية عَلَى رأس فرسخين من قبين، ثُمَّ أقبلت حَتَّى أدخل الْكُوفَة حين متع الضحى، فآتى من ساعتي شريك بن نملة المحاربي، فأخبرته خبري وخبر أَصْحَابه، وسألته أن يلقى الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ فيأخذ لي مِنْهُ أمانا، فَقَالَ لي: قَدْ أصبت الأمان إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقَدْ جئت ببشارة، وَاللَّهِ لقد بت الليلة وإن أمر الناس ليهمني قَالَ: فخرج شريك بن نملة المحاربي حَتَّى أتى الْمُغِيرَة مسرعا فاستأذن عَلَيْهِ، فأذن لَهُ، فَقَالَ: إن عندي بشرى، ولي حاجة، فاقض حاجتي حَتَّى أبشرك ببشارتي، فَقَالَ لَهُ: قضيت حاجتك، فهات بشراك، قَالَ: تؤمن عَبْد اللَّهِ بن عُقْبَةَ الغنوي، فإنه كَانَ مع القوم، قَالَ: قَدْ آمنته، وَاللَّهِ لوددت أنك أتيتني بهم كلهم فآمنتهم قَالَ: فأبشر، فإن القوم كلهم قَدْ قتلوا، كَانَ صاحبي مع القوم، ولم ينج مِنْهُمْ فِيمَا حَدَّثَنِي غيره قَالَ: فما فعل معقل بن قيس؟ قَالَ: أصلحك اللَّه! ليس لَهُ بأَصْحَابنا علم قَالَ: فما فرغ من منطقه حَتَّى قدم عَلَيْهِ أَبُو الرواغ ومسكين بن عَامِر بن أنيف مبشرين بالفتح، فأخبروا أن معقل بن قيس والمستورد بن علفة مشى كل واحد منهما إِلَى صاحبه، بيد المستورد الرمح وبيد معقل السيف، فالتقيا، فأشرع المستورد الرمح فِي صدر معقل حَتَّى خرج السنان من

ظهره، فضربه معقل بالسيف عَلَى رأسه حَتَّى خالط السيف أم الدماغ، فخرا ميتين. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي حصيرة بن عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لما رأينا المستورد بن علفة وَقَدْ نزلنا بِهِ ساباط أقبل إِلَى الجسر فقطعه، كنا نظن أنه يريد أن يعبر إلينا قَالَ: فارتفعنا عن مظلم ساباط إِلَى الصحراء الَّتِي بين المدائن وساباط فتعبأنا وتهيأنا، فطال علينا أن نراهم يخرجون إلينا. قَالَ: فَقَالَ أَبُو الرواغ: إن لهؤلاء لشأنا، أَلا رجل يعلم لنا علم هَؤُلاءِ؟ فقلت: أنا ووهيب بن أبي أشاءة الأَزْدِيّ: نحن نعلم لك علم ذَلِكَ، ونأتيك بخبرهم، فقربنا عَلَى فرسينا إِلَى الجسر فوجدناه مقطوعا، فظننا القوم لم يقطعوه إلا هيبة لنا ورعبا منا، فرجعنا نركض سراعا حَتَّى انتهينا إِلَى صاحبنا، فأخبرناه بِمَا رأينا، فَقَالَ: مَا ظنكم؟ قَالَ: فقلنا: لم يقطعوا الجسر إلا لهيبتنا ولما أدخل اللَّه فِي قلوبهم من الرعب منا. قَالَ: لعمري مَا خرج القوم وهم يريدون الفرار، ولكن القوم قَدْ كادوكم، أتسمعون! وَاللَّهِ مَا أراهم إلا قَالُوا: إن معقلا لم يبعث إليكم أبا الرواغ إلا فِي حر أَصْحَابه، فإن استطعتم فاتركوا هَؤُلاءِ بمكانهم هذا، ووجدوا في السير نحو معقل وأَصْحَابه، فإنكم تجدونهم غارين آمنين إن تأتوهم، فقطعوا الجسر لكيما يشغلوكم بِهِ عن لحاقكم إياهم حَتَّى يأتوا أميركم على غره، النجاء النجاء فِي الطلب! قَالَ: فوقع فِي أنفسنا أن الَّذِي قَالَ لنا كما قَالَ قَالَ: فصحنا باهل القرية، قال: فجاءوا سراعا: فقلنا لَهُمْ: عجلوا عقد الجسر، واستحثثناهم فما لبثوا أن فرغوا مِنْهُ، ثُمَّ عبرنا عَلَيْهِ، فاتبعناهم سراعا مَا نلوي عَلَى شَيْء، فلزمنا آثارهم، فو الله ما زلنا نسأل عنهم، فيقال: هم الآن أمامكم، لحقتموهم، مَا أقربكم منهم، فو الله مَا زلنا فِي طلبهم حرصا عَلَى لحاقهم حَتَّى كَانَ أول من استقبلنا مِنَ النَّاسِ فلهم وهم منهزمون لا يلوي أحد عَلَى أحد فاستقبلهم أَبُو الرواغ، ثُمَّ صاح بِالنَّاسِ: إلي إلي، فأقبل الناس إِلَيْهِ، فلاذوا بِهِ، فَقَالَ: ويلكم! مَا وراءكم؟ فَقَالُوا: لا ندري، لم يرعنا إلا والقوم معنا فِي عسكرنا ونحن متفرقون، فشدوا علينا،

ففرقوا بيننا، قَالَ: فما فعل الأمير؟ فقائل يقول: نزل وَهُوَ يقاتل، وقائل يقول: مَا نراه إلا قتل، فَقَالَ لَهُمْ: أَيُّهَا النَّاسُ، ارجعوا معي، فإن ندرك أميرنا حيا نقاتل مَعَهُ، وإن نجده قَدْ هلك قاتلناهم، فنحن فرسان أهل المصر المنتخبون لهذا العدو، فلا يفسدن فيكم رأي أميركم بالمصر، وَلا رأي أهل المصر، وايم اللَّه لا ينبغي لكم إن عاينتموه وَقَدْ قتلوا معقلا أن تفارقوهم حتى تبيروهم أو تباروا، سيروا عَلَى بركة اللَّه فساروا وسرنا، فأخذ لا يستقبل أحدا مِنَ النَّاسِ إلا صاح بِهِ ورده، ونادى وجوه أَصْحَابه وَقَالَ: اضربوا وجوه الناس وردوهم قَالَ: فأقبلنا نرد الناس حَتَّى انتهينا إِلَى العسكر، فإذا نحن براية معقل بن قيس منصوبة، فإذا مَعَهُ مائتا رجل أو أكثر فرسان الناس ووجوههم ليس فِيهِمْ إلا راجل، وإذا هم يقتتلون أشد قتال سمع الناس بِهِ، فلما طلعنا عَلَيْهِم إذا نحن بالخوارج قَدْ كادوا يعلون أَصْحَابنا، وإذا أَصْحَابنا عَلَى ذَلِكَ صابرون يجالدونهم، فلما رأونا كروا ثُمَّ شدوا عَلَى الخوارج، فارتفعت الخوارج عَنْهُمْ غير بعيد، وانتهينا إِلَيْهِم، فنظر أَبُو الرواغ إِلَى معقل فإذا هو مستقدم يذمر أَصْحَابه ويحرضهم، فَقَالَ لَهُ: أحي أنت فداك عمي وخالي! قَالَ: نعم، فشد القوم، فنادى أَبُو الرواغ أَصْحَابه: أَلا ترون أميركم حيا،! شدوا عَلَى القوم، قَالَ: فحمل وحملنا عَلَى القوم بأجمعنا، قَالَ: فصدمنا خيلهم صدمة منكرة، وشد عَلَيْهِم معقل وأَصْحَابه، فنزل المستورد، وصاح بأَصْحَابه: يَا معشر الشراة، الأرض الأرض، فإنها وَاللَّهِ الجنة! والذي لا إله غيره لمن قتل صادق النية فِي جهاد هَؤُلاءِ الظلمة وجلاحهم، فتنازلوا من عِنْدَ آخرهم، فنزلنا من عِنْدَ آخرنا، ثُمَّ مضينا إِلَيْهِ منصلتين بالسيوف، فاضطربنا بِهَا طويلا من النهار كأشد قتال اقتتله الناس قط، غير أن المستورد نادى معقلا

ذكر ولايه عبد الله بن خازم خراسان

فَقَالَ: يَا معقل، ابرز لي، فخرج إِلَيْهِ معقل، فقلنا لَهُ: ننشدك أن تخرج إِلَى هَذَا الكلب الَّذِي قَدْ آيسه اللَّه من نفسه! قَالَ: لا وَاللَّهِ لا يدعوني رجل إِلَى مبارزة أبدا فأكون أنا الناكل، فمشى إِلَيْهِ بالسيف، وخرج الآخر إِلَيْهِ بالرمح، فناديناه أن ألقه برمح مثل رمحه، فأبى، وأقبل عَلَيْهِ المستورد فطعنه حَتَّى خرج سنان الرمح من ظهره، وضربه معقل بالسيف حَتَّى خالط سيفه أم الدماغ، فوقع ميتا، وقتل معقل، وَقَالَ لنا حين برز إِلَيْهِ: إن هلكت فأميركم عَمْرو بن محرز بن شهاب السعدي ثُمَّ المنقري: قَالَ: فلما هلك معقل أخذ الراية عَمْرو بن محرز، وَقَالَ عَمْرو: إن قتلت فعَلَيْكُمْ أَبُو الرواغ، فإن قتل أَبُو الرواغ فأميركم مسكين بن عَامِر بن أنيف، وإنه يَوْمَئِذٍ لفتى حدث، ثُمَّ شد برايته، وأمر الناس أن يشدوا عَلَيْهِم، فما لبثوهم ان قتلوهم . ذكر ولايه عبد الله بن خازم خراسان ومما كَانَ فِي هَذِهِ السنة تولية عَبْد اللَّهِ بن عَامِر عَبْد اللَّهِ بن خازم بن ظبيان خُرَاسَان وانصراف قيس بن الهيثم عنه، وَكَانَ السبب فِي ذَلِكَ- فِيمَا ذكر أَبُو مخنف عن مقاتل بن حيان- أن ابن عَامِر استبطأ قيس بن الهيثم بالخراج، فأراد أن يعزله، فَقَالَ لَهُ ابن خازم: ولني خُرَاسَان فأكفيكها وأكفيك قيس بن الهيثم فكتب لَهُ عهده أو هم بِذَلِكَ، فبلغ قيسا أن ابن عَامِر وجد عَلَيْهِ لاستخفافه بِهِ، وإمساكه عن الهدية، وأنه قَدْ ولى ابن خازم، فخاف ابن خازم أن يشاغبه ويحاسبه، فترك خُرَاسَان، وأقبل فازداد عَلَيْهِ ابن عَامِر غضبا، وَقَالَ: ضيعت الثغر! فضربه وحبسه، وبعث رجلا من بني يشكر عَلَى خُرَاسَان. قَالَ أَبُو مخنف: بعث ابن عَامِر أسلم بن زرعه الكلابى حين عزل قيس

ابن الهيثم، قَالَ عَلِيّ بن مُحَمَّد: أَخْبَرَنَا أَبُو عبد الرَّحْمَن الثقفي، عن أشياخه، أن ابن عَامِر استعمل قيس بن الهيثم عَلَى خُرَاسَان أيام مُعَاوِيَة، فَقَالَ لَهُ ابن خازم: إنك وجهت إِلَى خُرَاسَان رجلا ضعيفا، وإني أخاف إن لقي حربا أن ينهزم بِالنَّاسِ، فتهلك خُرَاسَان، وتفتضح أخوالك. قَالَ ابن عَامِر: فما الرأي؟ قَالَ: تكتب لي عهدا: إن هُوَ انصرف عن عدوك قمت مقامه فكتب لَهُ، فجاشت جماعه من طخارستان، فشاور قيس ابن الهيثم فأشار عَلَيْهِ ابن خازم أن ينصرف حَتَّى يجتمع إِلَيْهِ أطرافه، فانصرف، فلما سار من مكانه مرحلة أو مرحلتين أخرج ابن خازم عهده، وقام بأمر الناس، ولقي العدو فهزمهم، وبلغ الخبر المصرين والشام فغضب القيسية وَقَالُوا: خدع قيسا وابن عَامِر، فأكثروا فِي ذَلِكَ حَتَّى شكوا إِلَى مُعَاوِيَةَ، فبعث إِلَيْهِ فقدم، فاعتذر مما قيل فِيهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة: قم فاعتذر إِلَى النَّاسِ غدا، فرجع ابن خازم إِلَى أَصْحَابه فَقَالَ: إني قَدْ أمرت بالخطبة، ولست بصاحب كلام، فاجلسوا حول الْمِنْبَر، فإذا تكلمت فصدقوني، فقام من الغد، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إنما يتكلف الخطبة إمام لا يجد منها بدا، أو أحمق يهمر من رأسه لا يبالي مَا خرج مِنْهُ، ولست بواحد منهما، وَقَدْ علم من عرفني أني بصير بالفرص، وثاب عَلَيْهَا، وقاف عِنْدَ المهالك، أنفذ بالسرية، وأقسم بالسوية، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ من كَانَ يعرف ذَلِكَ مني لما صدقني! قَالَ أَصْحَابه حول الْمِنْبَر: صدقت، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنك ممن نشدت فقل بِمَا تعلم، قَالَ: صدقت. قَالَ علي: أَخْبَرَنَا شيخ من بني تميم يقال لَهُ معمر، عن بعض أهل العلم أن قيس بن الهيثم قدم عَلَى ابن عَامِر من خُرَاسَان مراغما لابن خازم، قَالَ: فضربه ابن عَامِر مائة وحلقه وحبسه، قَالَ: فطلبت اليه أمه، فاخرجه

وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة- فِيمَا قيل- مَرْوَان بن الحكم، وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَة، وَكَانَ عَلَى مكة خَالِد بن الْعَاصِ بن هِشَام، وعلى الْكُوفَة الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ، وعلى قضائها شريح، وعلى الْبَصْرَة وفارس وسجستان وخراسان عَبْد اللَّهِ بن عَامِر، وعلى قضائها عمير بن يثربي

سنه اربع واربعين

ثُمَّ دخلت سنة أربع وأربعين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كَانَ فِيهَا من ذَلِكَ دخول الْمُسْلِمِينَ مع عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن الْوَلِيد بلاد الروم ومشتاهم بِهَا، وغزو بسر بن أبي أرطاة البحر. عزل عبد الله بن عامر عن البصره وفي هَذِهِ السنة عزل مُعَاوِيَة عَبْد اللَّهِ بن عَامِر عن الْبَصْرَة. ذكر الخبر عن سبب عزله: كَانَ سبب ذَلِكَ أن ابن عَامِر كَانَ رجلا لينا كريما، لا يأخذ عَلَى أيدي السفهاء، ففسدت الْبَصْرَة بسبب ذَلِكَ أيام عمله بِهَا لمعاوية فَحَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: شَكَا ابْنُ عَامِرٍ إِلَى زِيَادٍ فَسَادَ النَّاسِ وَظُهُورَ الْخَبَثِ، فَقَالَ: جَرِّدْ فِيهِمُ السَّيْفَ، فَقَالَ: إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُصْلِحَهُمْ بِفَسَادِ نَفْسِي. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: كَانَ ابن عَامِر لينا سهلا، سهل الولاية، لا يعاقب فِي سلطانه، وَلا يقطع لصا، فقيل لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أنا أتألف الناس، فكيف أنظر الى رجل قد قطعت أباه وأخاه! حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ، قَالَ: وَفَدَ ابْنُ الْكَوَّاءِ، وَاسْمُ ابْنُ الْكَوَّاءِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَسَأَلَهُ عَنِ النَّاسِ، فَقَالَ ابْنُ الْكَوَّاءِ: أَمَّا أَهْلُ الْبَصْرَةِ فَقَدْ غَلَبَ عَلَيْهَا سُفَهَاؤُهَا، وَعَامِلُهَا ضَعِيفٌ، فَبَلَغَ ابْنَ عَامِرٍ قول ابن الكواء، فاستعمل طفيل

ابن عَوْفٍ الْيَشْكُرِيَّ عَلَى خُرَاسَانَ، وَكَانَ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ الْكَوَّاءِ مُتَبَاعِدًا، فَقَالَ ابْنُ الْكَوَّاءِ: إِنَّ ابْنَ دَجَاجَةَ لَقَلِيلُ الْعِلْمِ فِيَّ، أَظُنُّ أَنَّ وِلايَةَ طُفَيْلٍ خُرَاسَانَ تَسُوءُنِي! لَوَدَدْتُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي الأَرْضِ يَشْكُرِيٌّ إِلا عَادَانِي، وَأَنَّهُ وَلاهُمْ فَعَزَلَ مُعَاوِيَةُ ابْنَ عَامِرٍ، وَبَعَثَ الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَزْدِيَّ قَالَ: وَقَالَ الْقَحْذَمِيُّ: قَالَ ابْنُ عَامِرٍ: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ عَدَاوَةً لابْنِ الْكَوَّاءِ؟ قَالُوا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْخٍ، فَوَلاهُ خُرَاسَانَ، فَقَالَ ابْنُ الْكَوَّاءِ مَا قَالَ. وَذُكِرَ عَنْ عُمَرَ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ ثَقِيفٍ وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَصْبَهَانِيِّ، أَنَّ ابْنَ عَامِرٍ أَوْفَدَ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَفْدًا، فَوَافَقُوا عِنْدَهُ وَفْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَفِيهِمُ ابْنُ الْكَوَّاءِ الْيَشْكُرِيُّ، فَسَأَلَهُمْ مُعَاوِيَةُ عَنِ الْعِرَاقِ وَعَنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ خَاصَّةً، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْكَوَّاءِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ أَكَلَهُمْ سُفَهَاؤُهُمْ، وَضَعُفَ عَنْهُمْ سُلْطَانُهُمْ، وَعَجَزَ ابْنُ عَامِرٍ وَضَعَّفَهُ. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: تَكَلَّمُ عَنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَهُمْ حُضُورٌ! فَلَمَّا انْصَرَفَ الْوَفْدُ إِلَى الْبَصْرَةِ بَلَّغُوا ابْنَ عَامِرٍ ذَلِكَ، فَغَضِبَ، فَقَالَ: أَيُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَشَدُّ عَدَاوَةً لابْنِ الْكَوَّاءِ! فَقِيلَ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْخٍ الْيَشْكُرِيُّ، فَوَلاهُ خُرَاسَانَ، وَبَلَغَ ابْنَ الْكَوَّاءِ ذَلِكَ فَقَالَ مَا قَالَ. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: لَمَّا ضَعُفَ ابْنُ عَامِرٍ عَنْ عَمَلِهِ، وَانْتَشَرَ الأَمْرُ بِالْبَصْرَةِ عَلَيْهِ، كَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ يَسْتَزِيرُهُ، قَالَ عُمَرُ: فَحَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ، وَأَنَّهُ اسْتَخْلَفَ عَلَى الْبَصْرَةِ قَيْسَ ابن الْهَيْثَمِ، فَقَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَرَدَّهُ عَلَى عَمَلِهِ، فَلَمَّا وَدَّعَهُ قَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: إِنِّي سَائِلُكَ ثَلاثًا، فَقُلْ: هُنَّ لَكَ قَالَ: هُنَّ لَكَ وَأَنَا ابْنُ أُمِّ حَكِيمٍ، قَالَ: تَرُدَّ عَلَيَّ عَمَلِي وَلا تَغْضَبْ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، قَالَ: وَتَهَبُ لِي مَالَكَ بِعَرَفَةَ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ قَالَ: وَتَهَبُ لِي دُورَكَ بِمَكَّةَ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، قَالَ: وَصَلَتْكَ رَحِمٌ! قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَامِرٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي سَائِلُكَ ثَلاثًا فَقُلْ: هُنَّ لَكَ، قَالَ: هُنَّ لَكَ وَأَنَا ابْنُ هِنْدٍ، قَالَ: تَرُدَّ عَلَيَّ مَالِي

استلحاق معاويه نسب زياد ابن سميه بابيه

بِعَرَفَةَ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، قَالَ: وَلا تُحَاسِبْ لِي عَامِلا، وَلا تَتَّبِعْ لِي أَثَرًا. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، قَالَ: وَتُنْكِحَنِي ابْنَتَكَ هِنْدًا، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. قَالَ: وَيُقَالُ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ لَهُ: اخْتَرْ بَيْنَ أَنْ أَتَتَبَّعَ أَثَرَكَ وَأُحَاسِبَكَ بِمَا صَارَ إِلَيْكَ، وَأَرُدَّكَ إِلَى عَمَلِكَ، وَبَيْنَ أَنْ أُسَوِّغَكَ مَا أَصَبْتَ، وَتَعْتَزِلَ، فَاخْتَارَ أَنْ يسوغه ذلك ويعتزل استلحاق معاويه نسب زياد ابن سميه بابيه وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَلْحَقَ مُعَاوِيَةُ نَسَبَ زِيَادِ بن سُمَيَّةَ بِأَبِيهِ أَبِي سُفْيَانَ فِيمَا قِيلَ. حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: زَعَمُوا أَنَّ رَجُلا مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ كَانَ مَعَ زِيَادٍ لَمَّا وَفَدَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ لِزِيَادٍ: إِنَّ لابْنِ عَامِرٍ عِنْدِي يَدًا، فَإِنْ أَذِنْتَ لِي أَتَيْتُهُ، قَالَ: عَلَى أَنْ تُحَدِّثَنِي مَا يَجْرِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، قَالَ: نَعَمْ، فَأَذِنَ لَهُ فَأَتَاهُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَامِرٍ: هِيهٍ هِيهٍ! وَابْنُ سُمَيَّةَ يُقَبِّحُ آثَارِي، وَيُعَرِّضُ بِعُمَّالِي! لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آتِيَ بِقَسَامَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ يَحْلِفُونَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَمْ يَرَ سُمَيَّةَ، قَالَ: فَلَمَّا رَجَعَ سَأَلَهُ زِيَادٌ، فَأَبَى أَنْ يُخْبِرَهُ، فَلَمْ يَدَعْهُ حَتَّى أَخْبَرَهُ، فَأَخْبَرَ ذَلِكَ زِيَادٌ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِحَاجِبِهِ: إِذَا جَاءَ ابْنُ عَامِرٍ فَاضْرِبْ وَجْهَ دَابَّتِهِ عَنْ أَقْصَى الأَبْوَابِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِ، فَأَتَى ابْنُ عَامِرٍ يَزِيدَ، فَشَكَا إِلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ ذَكَرْتَ زِيَادًا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَرَكِبَ مَعَهُ يَزِيدُ حَتَّى أَدْخَلَهُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ قَامَ فَدَخَلَ، فَقَالَ يَزِيدُ لابْنِ عَامِرٍ: اجْلِسْ فَكَمْ عَسَى أَنْ تَقْعُدَ فِي الْبَيْتِ عَنْ مَجْلِسِهِ! فَلَمَّا أَطَالا خَرَجَ مُعَاوِيَةُ وَفِي يَدِهِ قَضِيبٌ يَضْرِبُ بِهِ الأَبْوَابَ، ويتمثل:

سنه خمس واربعين

لَنَا سِيَاقٌ وَلَكُمْ سِيَاقُ ... قَدْ عَلِمَتْ ذَلِكُمُ الرفاق ثم قعد فقال: يا بن عَامِرٍ، أَنْتَ الْقَائِلُ فِي زِيَادٍ مَا قُلْتَ! أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَتِ الْعَرَبُ أَنِّي كُنْتُ أَعَزُّهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَنَّ الإِسْلامَ لَمْ يَزِدْنِي إِلا عِزًّا، وَأَنِّي لَمْ أَتَكَثَّرْ بِزِيَادٍ مِنْ قِلَّةٍ، وَلَمْ أَتَعَزَّزْ بِهِ مِنْ ذِلَّةٍ، وَلَكِنْ عَرَفْتُ حَقًّا لَهُ فَوَضَعْتُهُ مَوْضِعَهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، نَرْجِعُ إِلَى مَا يُحِبُّ زِيَادٌ، قَالَ: إِذًا نَرْجِعُ إِلَى مَا تُحِبُّ، فَخَرَجَ ابْنُ عَامِرٍ إِلَى زِيَادٍ فَتَرَضَّاهُ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ هَاشِمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ بَشِيرٍ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، أَنَّ زِيَادًا لَمَّا قَدِمَ الْكُوفَةَ، قَالَ: قَدْ جئتكم في امر ما طلبته الا إليكم، قَالُوا: ادْعُنَا إِلَى مَا شِئْتَ، قَالَ: تُلْحِقُونَ نَسَبِي بِمُعَاوِيَةَ، قَالُوا: أَمَّا بِشَهَادَةِ الزُّورِ فَلا، فَأَتَى الْبَصْرَةَ، فَشَهِدَ لَهُ رَجُلٌ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُعَاوِيَةُ. وَفِيهَا عَمِلَ مَرْوَانُ الْمَقْصُورَةَ، وَعَمِلَهَا- أَيْضًا فِيمَا ذُكِرَ- مُعَاوِيَةُ بِالشَّامِ. وَكَانَتِ الْعُمَّالُ فِي الأَمْصَارِ فِيهَا الْعُمَّالُ الَّذِينَ ذَكَرْنَا قَبْلُ أَنَّهُمْ كَانُوا الْعُمَّالَ فِي سَنَةَ ثَلاثٍ وَأَرْبَعِينَ ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ (ذِكْرُ الأَحْدَاثِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) فَمِنْ ذَلِكَ اسْتِعْمَالُ مُعَاوِيَةَ الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَزْدِيَّ فِيهَا عَلَى الْبَصْرَةِ. فَحَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حدثني علي بن مُحَمَّد، قال: عزل معاوية ابْنَ عَامِرٍ وَوَلَّى الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَزْدِيَّ الْبَصْرَةَ فِي أَوَّلِ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، فَأَقَامَ بِالْبَصْرَةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ عَزَلَهُ قَالَ: وَقَدْ قِيلَ: هُوَ الْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو وَابْنُ عبد عَمْرٍو، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ عَزَلَ ابْنَ عَامِرٍ لِيُوَلِّيَ زِيَادًا، فَوَلَّى الْحَارِثَ كَالْفَرَسِ الْمُحَلَّلِ، فَوَلَّى الْحَارِثُ شُرْطَتَهُ عَبْدَ اللَّهِ بن عمرو بن غَيْلانَ الثَّقَفِيَّ، ثُمَّ عَزَلَهُ مُعَاوِيَةُ وَوَلاهَا زِيَادًا. ذِكْرُ الْخَبَرِ عَنْ وِلايَةِ زِيَادٍ الْبَصْرَةَ حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ زِيَادًا لَمَّا قَدِمَ الْكُوفَةَ ظَنَّ الْمُغِيرَةُ أَنَّهُ قَدِمَ وَالِيًا عَلَى الْكُوفَةِ، فَأَقَامَ زِيَادٌ فِي دَارِ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيِّ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةُ وَائِلَ بْنَ حُجْرٍ الْحَضْرَمِيَّ أَبَا هُنَيْدَةَ، وَقَالَ لَهُ: اعْلَمْ لِي عِلْمَهُ فَأَتَاهُ فَلَمْ يَقْدِرْ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ يُرِيدُ الْمُغِيرَةَ، وَكَانَ زَاجِرًا، فَرَأَى غُرَابًا يَنْعِقُ، فَرَجَعَ إِلَى زِيَادٍ فَقَالَ: يَا أَبَا الْمُغِيرَةِ، هَذَا الْغُرَابُ يُرَحِّلُكَ عَنِ الْكُوفَةِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمُغِيرَةِ، وَقَدِمَ رَسُولُ مُعَاوِيَةَ عَلَى زِيَادٍ مِنْ يَوْمِهِ: أَنْ سِرْ إِلَى الْبَصْرَةِ. وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَرْوَزِيُّ فَحَدَّثَنِي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْحَاقَ- يَعْنِي ابْنَ يَحْيَى-

عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ الْجَدَلِيِّ، قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا زِيَادٌ- الَّذِي يُقَالُ لَهُ ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ- مِنْ عِنْدِ مُعَاوِيَةَ، فَنَزَلَ دَارَ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيِّ يَنْتَظِرُ أَمْرَ مُعَاوِيَةَ. قَالَ: فَبَلَغَ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ- وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الْكُوفَةِ- أَنَّ زِيَادًا يَنْتَظِرُ أَنْ تَجِيءَ إِمَارَتُهُ عَلَى الْكُوفَةِ، فَدَعَا قَطَنَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثِيَّ فَقَالَ: هَلْ فِيكَ مِنْ خَيْرٍ؟ تَكْفِينِي الْكُوفَةَ حَتَّى آتِيكَ مِنْ عِنْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: مَا أَنَا بِصَاحِبِ ذَا، فَدَعَا عُتَيْبَةَ بْنَ النَّهَّاسِ الْعِجْلِيَّ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ فَقَبِلَ، فَخَرَجَ الْمُغِيرَةُ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ سَأَلَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ، وَأَنْ يَقْطَعَ لَهُ مَنَازِلَ بِقَرْقِيسِيَا بَيْنَ ظَهْرَيْ قَيْسٍ، فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ مُعَاوِيَةُ خَافَ بَائِقَتَهُ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَتَرْجِعَنَّ إِلَى عَمَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَأَبَى عَلَيْهِ، فَلَمْ يَزِدْهُ ذَلِكَ إِلا تُهْمَةً، فَرَدَّهُ إِلَى عَمَلِهِ، فَطَرَقْنَا لَيْلا، وَإِنِّي لَفَوْقَ الْقَصْرِ أَحْرُسُهُ، فَلَمَّا قَرَعَ الْبَابَ أَنْكَرْنَاهُ، فَلَمَّا خَافَ أَنْ نُدْلِيَ عَلَيْهِ حَجَرًا تَسَمَّى لَنَا، فَنَزَلْتُ إِلَيْهِ فَرَحَّبْتُ لَهُ وَسَلَّمْتُ، فَتَمَثَّلَ: بِمِثْلِي فَافْزَعِي يَا أُمَّ عَمْرٍو ... إِذَا مَا هَاجَنِي السَّفَرَ النُّعُورُ اذْهَبْ إِلَى ابْنِ سُمَيَّةَ فَرَحِّلْهُ حَتَّى لا يُصْبِحَ إِلا مِنْ وَرَاءِ الْجِسْرِ فَخَرَجْنَا فَأَتَيْنَا زِيَادًا، فاخرجناه حتى طرحناه من وَرَاءَ الْجِسْرِ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ. فَحَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَسْلَمَةُ وَالْهُذَلِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ مُعَاوِيَةَ اسْتَعْمَلَ زِيَادًا عَلَى الْبَصْرَةِ وَخُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ، ثُمَّ جَمَعَ لَهُ الْهِنْدَ وَالْبَحْرَيْنِ وَعُمَانَ، وَقَدِمَ الْبَصْرَةَ فِي آخِرِ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخِرِ- أَوْ غُرَّةِ جُمَادَى الأُولَى- سَنَةَ خَمْسٍ، وَالْفِسْقُ بِالْبَصْرَةِ ظَاهِرٌ، فَاشٍ، فَخَطَبَ خُطْبَةً بَتْرَاءَ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ فِيهَا، وَقِيلَ: بَلْ حَمِدَ الله فقال:

الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِفْضَالِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَنَسْأَلُهُ الْمَزِيدَ مِنْ نِعَمِهِ، اللَّهُمَّ كَمَا رَزَقْتَنَا نِعَمًا، فَأَلْهِمْنَا شُكْرًا عَلَى نِعْمَتِكَ عَلَيْنَا. أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْجَهَالَةَ الْجَهْلاءَ، وَالضَّلالَةَ الْعَمْيَاءَ، وَالْفُجْرَ الْمُوقِدَ لآهِلِهِ النَّارَ، الْبَاقِي عَلَيْهِمْ سَعِيرَهَا، مَا يَأْتِي سُفَهَاؤُكُمْ، وَيَشْتَمِلُ عَلَيْهِ حُلَمَاؤُكُمْ، مِنَ الأُمُورِ الْعِظَامِ، يَنْبُتُ فِيهَا الصَّغِيرُ، وَلا يُتَحَاشَى مِنْهَا الْكَبِيرُ، كَأَنْ لَمْ تَسْمَعُوا بِآيِ اللَّهِ، وَلَمْ تَقْرَءُوا كِتَابَ اللَّهِ، وَلَمْ تَسْمَعُوا مَا أَعَدَّ اللَّهُ مِنَ الثَّوَابِ الْكَرِيمِ لأَهْلِ طَاعَتِهِ، وَالْعَذَابِ الأَلِيمِ لأَهْلِ مَعْصِيَتِهِ، فِي الزَّمَنِ السَّرْمَدِ الَّذِي لا يَزُولُ أَتَكُونُونَ كَمَنْ طَرَفَتْ عَيْنَهُ الدُّنْيَا، وَسَدَّتْ مَسَامِعَهُ الشَّهْوَاتُ، وَاخْتَارَ الْفَانِيَةَ عَلَى الْبَاقِيَةِ، وَلا تَذْكُرُونَ أَنَّكُمْ أَحْدَثْتُمْ فِي الإِسْلامِ الْحَدَثَ الَّذِي لَمْ تُسْبَقُوا بِهِ، مِنْ تَرْكِكُمْ هَذِهِ الْمَوَاخِيرَ الْمَنْصُوبَةَ، وَالضَّعِيفَةَ الْمَسْلُوبَةَ، فِي النَّهَارِ الْمُبْصِرِ، وَالْعَدَدُ غَيْرُ قَلِيلٍ! أَلَمْ تَكُنْ مِنْكُمْ نُهَاةٌ تَمْنَعُ الْغُوَاةَ عَنْ دُلَجِ اللَّيْلِ وَغَارَةِ النَّهَارِ! قَرَّبْتُمُ الْقَرَابَةَ، وَبَاعَدْتُمُ الدِّينَ، تَعْتَذِرُونَ بِغَيْرِ الْعُذْرِ، وَتُغَطُّونَ عَلَى الْمُخْتَلِسِ، كُلُّ امْرِئٍ مِنْكُمْ يَذُبُّ عَنْ سَفِيهِهِ، صَنِيعُ مَنْ لا يَخَافُ عِقَابًا،

وَلا يَرْجُو مَعَادًا مَا أَنْتُمْ بِالْحُلَمَاءِ، وَلَقَدِ اتَّبَعْتُمُ السُّفَهَاءَ، وَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ مَا تَرَوْنَ مِنْ قِيَامِكُمْ دُونَهُمْ، حَتَّى انْتَهَكُوا حُرُمَ الإِسْلامِ، ثُمَّ أَطْرَقُوا وَرَاءَكُمْ كُنُوسًا فِي مَكَانِسِ الرَّيْبِ ... حَرُمَ عَلَيَّ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ حَتَّى أُسَوِّيَهَا بِالأَرْضِ هَدْمًا وَإِحْرَاقًا ... إِنِّي رَأَيْتُ آخِرَ هَذَا الأَمْرِ لا يَصْلُحُ إلا بِمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُهُ، لين في غير ضعف، وشدة في غير جَبْرِيَّةٍ وَعُنْفٍ وَإِنِّي أُقْسِمُ بِاللَّهِ لآخُذَنَّ الْوَلِيَّ بِالْوَلِيِّ، وَالْمُقِيمَ بِالظَّاعِنِ، وَالْمُقْبِلَ بِالْمُدْبِرِ، وَالصَّحِيحَ مِنْكُمْ بِالسَّقِيمِ، حَتَّى يَلْقَى الرَّجُلُ مِنْكُمْ أَخَاهُ فَيَقُولُ: انْجُ سَعْدٌ فَقَدْ هَلَكَ سَعِيدٌ، أَوْ تَسْتَقِيمَ لِي قَنَاتُكُمْ إِنَّ كِذْبَةَ الْمِنْبَرِ تَبْقَى مَشْهُورَةً، فَإِذَا تَعَلَّقْتُمْ عَلَيَّ بِكِذْبَةٍ فَقَدْ حَلَّتْ لَكُمْ معصيتي، وإذا سمعتموها منى فاغتمزوها في واعلموا ان عندي أمثالها مَنْ بَيَّتَ مِنْكُمْ فَأَنَا ضَامِنٌ لِمَا ذَهَبَ لَهُ إِيَّايَ وَدُلَجِ اللَّيْلِ، فَإِنِّي لا أُوتَى بِمُدْلِجٍ إِلا سَفَكْتُ دَمَهُ، وَقَدْ أَجَّلْتُكُمْ فِي ذَلِكَ بِقَدْرِ مَا يَأْتِي الْخَبَرُ الْكُوفَةِ وَيَرْجِعُ الى وإياي ودعوى

الجاهلية، فانى لا أجد أَحَدًا دَعَا بِهَا إِلا قَطَعْتُ لِسَانَهُ وَقَدْ أَحْدَثْتُمْ أَحْدَاثًا لَمْ تَكُنْ، وَقَدْ أَحْدَثْنَا لِكُلِّ ذَنْبٍ عُقُوبَةً، فَمَنْ غَرَّقَ قَوْمًا غَرَّقْتُهُ، وَمَنْ حَرَّقَ عَلَى قَوْمٍ حَرَّقْنَاهُ، وَمَنْ نَقَبَ بَيْتًا نَقَبْتُ عَنْ قَلْبِهِ، وَمَنْ نَبَشَ قَبْرًا دَفَنْتُهُ فِيهِ حَيًّا، فَكُفُّوا عَنِّي أَيْدِيَكُمْ وَأَلْسِنَتَكُمْ أَكْفُفْ يَدِي وَأَذَايَ، لا يَظْهَرُ مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ خِلافُ مَا عَلَيْهِ عَامَّتُكُمْ إِلا ضَرَبْتُ عُنُقَهُ. وَقَدْ كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَقْوَامٍ إِحَنٌ، فَجَعَلْتُ ذَلِكَ دُبُرَ أُذُنِي وَتَحْتَ قَدَمِي، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُحْسِنًا فَلْيَزْدَدْ إِحْسَانًا، وَمَنْ كَانَ مُسِيئًا فَلْيَنْزَعْ عَنْ إِسَاءَتِهِ إِنِّي لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ أَحَدَكُمْ قَدْ قَتَلَهُ السُّلُّ مِنْ بُغْضِي لَمْ أَكْشِفْ لَهُ قِنَاعًا، وَلَمْ أَهْتِكْ لَهُ سِتْرًا، حَتَّى يُبْدِيَ لِي صَفْحَتَهُ، فَإِذَا فَعَلَ لَمْ أُنَاظِرْهُ، فَاسْتَأْنِفُوا أُمُورَكُمْ، وَأَعِينُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَرُبَّ مُبْتَئِسٍ بِقُدُومِنَا سَيُسَرُّ، وَمَسْرُورٍ بِقُدُومِنَا سَيُبْتَئَسُ. أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا أَصْبَحْنَا لَكُمْ سَاسَةً، وَعَنْكُمْ ذَادَةً، نَسُوسُكُمْ بِسُلْطَانِ اللَّهِ الَّذِي أَعْطَانَا، وَنَذُودُ عَنْكُمْ بِفَيْءِ اللَّهِ الَّذِي خَوَّلَنَا، فَلَنَا عَلَيْكُمُ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ فِيمَا أَحْبَبْنَا، وَلَكُمْ عَلَيْنَا الْعَدْلُ فِيمَا ولينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بِمُنَاصَحَتِكُمْ وَاعْلَمُوا أَنِّي مَهْمَا قَصَرْتُ عَنْهُ فَإِنِّي لا أُقَصِّرُ عَنْ ثَلاثٍ: لَسْتُ مُحْتَجِبًا عَنْ طَالِبِ حَاجَةٍ مِنْكُمْ وَلَوْ أَتَانِي طَارِقًا بِلَيْلٍ، وَلا حَابِسًا رِزْقًا وَلا عَطَاءً عَنْ إِبَّانِهِ، وَلا مُجَمِّرًا لَكُمْ بَعَثًا فَادْعُوا اللَّهَ بِالصَّلاحِ لأَئِمَّتِكُمْ، فَإِنَّهُمْ سَاسَتُكُمُ الْمُؤَدِّبُونَ لَكُمْ، وَكَهْفُكُمُ الَّذِي إِلَيْهِ تَأْوُونَ، وَمَتَى تَصْلُحُوا يَصْلُحُوا وَلا تُشْرِبُوا قُلُوبَكُمْ بُغْضَهُمْ، فَيَشْتَدَّ لِذَلِكَ غَيْظُكُمْ، وَيَطُولَ

لَهُ حُزْنُكُمْ، وَلا تُدْرِكُوا حَاجَتَكُمْ، مَعَ أَنَّهُ لَوِ اسْتُجِيبَ لَكُمْ كَانَ شَرًّا لَكُمْ. أَسْأَلُ الله ان يعين كلا على كل، وإذا رَأَيْتُمُونِي أُنْفِذُ فِيكُمُ الأَمْرَ فَأَنْفِذُوهُ عَلَى إِذْلالِهِ، وَايْمُ اللَّهِ إِنَّ لِي فِيكُمْ لَصَرْعَى كَثِيرَةً، فَلْيَحْذَرْ كُلُّ امْرِئٍ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ مِنْ صَرْعَايَ. قَالَ: فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الأَهْتَمِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَيُّهَا الأَمِيرُ أَنَّكَ قَدْ أُوتِيتَ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ، فَقَالَ: كَذَبْتَ، ذَاكَ نَبِيُّ الله داود ع. قَالَ الأَحْنَفُ: قَدْ قُلْتَ فَأَحْسَنْتَ أَيُّهَا الأَمِيرُ، وَالثَّنَاءُ بَعْدَ الْبَلاءِ، وَالْحَمْدُ بَعْدَ الْعَطَاءِ، وَإِنَّا لَنْ نُثْنِيَ حَتَّى نُبْتَلَى، فَقَالَ زِيَادٌ: صَدَقْتَ. فَقَامَ أَبُو بِلالٍ مِرْدَاسُ بْنُ أُدَيَّةَ يَهْمِسُ وَهُوَ يَقُولُ: أَنْبَأَ اللَّهُ بِغَيْرِ مَا قُلْتَ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى. أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى» ، فَأَوْعَدَنَا اللَّهُ خَيْرًا مِمَّا وَاعَدْتَ يَا زِيَادُ، فَقَالَ زِيَادٌ: إِنَّا لا نَجِدُ إِلَى مَا تُرِيدُ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ سَبِيلا حَتَّى نَخُوضَ إِلَيْهَا الدِّمَاءَ. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَلادُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: سَمِعْتُ مَنْ يُخْبِرُ عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: مَا سَمِعْتُ مُتَكَلِّمًا قَطُّ تَكَلَّمَ فَأَحْسَنَ إِلا أَحْبَبْتُ أَنْ يَسْكُتَ خَوْفًا أَنْ يُسِيءَ إِلا زِيَادًا، فَإِنَّهُ كَانَ كُلَّمَا أَكْثَرَ كَانَ أَجْوَدَ كَلامًا. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، عَنْ مَسْلَمَةَ، قَالَ: اسْتَعْمَلَ زِيَادٌ

عَلَى شُرْطَتِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حِصْنٍ، فَأَمْهَلَ النَّاسَ حَتَّى بَلَغَ الْخَبَرُ الْكُوفَةَ، وَعَادَ إِلَيْهِ وُصُولُ الْخَبَرِ إِلَى الْكُوفَةِ، وَكَانَ يُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ حَتَّى يَكُونَ آخِرَ مَنْ يُصَلِّي ثُمَّ يُصَلِّي، يَأْمُرُ رَجُلا فَيَقْرَأُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَمِثْلَهَا، يُرَتِّلُ الْقُرْآنَ، فَإِذَا فَرَغَ أَمْهَلَ بِقَدْرِ مَا يَرَى أَنَّ إِنْسَانًا يَبْلُغُ الْخُرَيْبَةَ، ثُمَّ يَأْمُرُ صَاحِبَ شُرْطَتِهِ بِالْخُرُوجِ، فَيَخْرُجُ وَلا يَرَى إِنْسَانًا إِلا قَتَلَهُ قَالَ: فَأَخَذَ لَيْلَةً أَعْرَابِيًّا، فَأَتَى بِهِ زِيَادًا فَقَالَ: هَلْ سَمِعْتَ النِّدَاءَ؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ، قَدِمْتُ بِحَلُوبَةٍ لِي، وَغَشِيَنِي اللَّيْلُ، فَاضْطَرَرْتُهَا إِلَى مَوْضِعٍ، فَأَقَمْتُ لأُصْبِحَ، وَلا عِلْمَ لِي بِمَا كَانَ مِنَ الأَمِيرِ قَالَ: أَظُنُّكَ وَاللَّهِ صَادِقًا، وَلَكِنْ فِي قَتْلِكَ صَلاحُ هَذِهِ الأُمَّةِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ. وَكَانَ زِيَادٌ أَوَّلَ مَنْ شَدَّ أَمْرَ السُّلْطَانِ، وَأَكَّدَ الْمُلْكَ لِمُعَاوِيَةَ، وَأَلْزَمَ النَّاسَ الطَّاعَةَ، وَتَقَدَّمَ فِي الْعُقُوبَةِ، وَجَرَّدَ السَّيْفَ، وَأَخَذَ بِالظِّنَّةِ، وَعَاقَبَ عَلَى الشُّبْهَةِ، وَخَافَهُ النَّاسُ فِي سُلْطَانِهِ خَوْفًا شَدِيدًا، حَتَّى أَمِنَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى كَانَ الشَّيْءُ يَسْقُطُ مِنَ الرَّجُلِ أَوِ الْمَرْأَةِ فَلا يَعْرِضُ لَهُ أَحَدٌ حَتَّى يَأْتِيَهُ صَاحِبُهُ فَيَأْخُذَهُ، وَتَبِيتُ الْمَرْأَةُ فَلا تُغْلِقُ عَلَيْهَا بَابَهَا، وَسَاسَ النَّاسَ سِيَاسَةً لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، وَهَابَهُ النَّاسُ هَيْبَةً لَمْ يَهَابُوهَا أَحَدًا قَبْلَهُ، وَأَدَرَّ الْعَطَاءَ، وَبَنَى مَدِينَةَ الرِّزْقِ. قَالَ: وَسَمِعَ زِيَادٌ جَرَسًا مِنْ دَارِ عُمَيْرٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: مُحْتَرِسٌ قَالَ: فَلْيَكُفَّ عَنْ هَذَا، أَنَا ضَامِنٌ لِمَا ذَهَبَ لَهُ، مَا أَصَابَ مِنْ إِصْطَخَرَ. قَالَ: وَجَعَلَ زِيَادٌ الشُّرَطَ أَرْبَعَةَ آلافٍ، عَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حِصْنٍ، أَحَدُ بَنِي عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ صَاحِبُ مَقْبُرَةِ ابْنِ حِصْنٍ، وَالْجَعْدُ بْنُ قيس النميرى

صَاحِبُ طَاقِ الْجَعْدِ، وَكَانَا جَمِيعًا عَلَى شُرَطِهِ، فَبَيْنَا زِيَادٌ يَوْمًا يَسِيرُ وَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَسِيرَانِ بِحَرْبَتَيْنِ، تَنَازَعَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ زِيَادٌ: يَا جَعْدُ، أَلْقِ الْحَرْبَةَ، فَأَلْقَاهَا، وَثَبَتَ ابْنُ حِصْنٍ عَلَى شُرَطِهِ حَتَّى مَاتَ زِيَادٌ. وَقِيلَ: انه ولى الجعد امر الفساق، وكان يتبعهم، وَقِيلَ لِزِيَادٍ: إِنَّ السُّبُلَ مَخُوفَةٌ، فَقَالَ: لا أُعَانِي شَيْئًا سِوَى الْمِصْرِ حَتَّى أَغْلِبَ عَلَى الْمِصْرِ وَأُصْلِحَهُ، فَإِنْ غَلَبَنِي الْمِصْرُ فَغَيْرُهُ أَشَدُّ غَلَبَةً، فَلَمَّا ضَبَطَ الْمِصْرَ تَكَلَّفَ مَا سِوَى ذَلِكَ فَأَحْكَمَهُ وَكَانَ يَقُولُ: لَوْ ضَاعَ حَبْلٌ بَيْنِي وَبَيْنَ خُرَاسَانَ عَلِمْتُ مَنْ أَخَذَهُ. وَكَتَبَ خمسمائة مِنْ مَشْيَخَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فِي صَحَابَتِهِ، فَرَزَقَهُمْ ما بين الثلثمائه الى الخمسمائة، فَقَالَ فِيهِ حَارِثَةُ بْنُ بَدْرٍ الْغُدَانِيُّ: أَلا مِنْ مُبْلِغٍ عَنِّي زِيَادًا ... فَنِعْمَ أَخُو الْخَلِيفَةِ وَالأَمِيرُ! فَأَنْتَ إِمَامُ مَعْدَلَةٍ وَقَصْدٍ ... وَحَزْمٍ حِينَ تَحْضُرُكَ الأُمُورُ أَخُوكَ خَلِيفَةُ اللَّهِ ابْنُ حَرْبٍ ... وَأَنْتَ وَزِيرُهُ، نِعْمَ الْوَزِيرُ! تُصِيبُ عَلَى الْهَوَى مِنْهُ وَتَأْتِي ... مُحِبَّكَ مَا يَجُنُّ لَنَا الضَّمِيرُ بِأَمْرِ اللَّهِ مَنْصُورٌ مُعَانٌ ... إِذَا جَارَ الرَّعِيَّةُ لا تَجُورُ يُدِرُّ عَلَى يَدَيْكَ لِمَا أَرَادُوا ... مِنَ الدُّنْيَا لَهُمْ حَلَبٌ غَزِيرُ وَتَقْسِمُ بِالسَّوَاءِ فَلا غَنِيٌّ ... لِضَيْمٍ يَشْتَكِيكَ وَلا فَقِيرُ وَكُنْتَ حَيَا وَجِئْتَ عَلَى زَمَانٍ ... خَبِيثٍ، ظَاهِرٌ فِيهِ شُرُورُ تَقَاسَمَتِ الرِّجَالُ بِهِ هَوَاهَا ... فَمَا تُخْفِي ضغائنها الصدور

وَخَافَ الْحَاضِرُونَ وَكُلُّ بَادٍ ... يُقِيمُ عَلَى الْمَخَافَةِ أَوْ يَسِيرُ فَلَمَّا قَامَ سَيْفُ اللَّهِ فِيهِمْ ... زِيَادٌ قَامَ أَبْلَجُ مُسْتَنِيرُ قَوِيٌّ لا مِنَ الْحَدَثَانِ غِرٌّ ... وَلا جَزَعٌ وَلا فَانٍ كَبِيرُ حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا علي بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: اسْتَعَانَ زِيَادٌ بِعِدَّةٍ مِنْ اصحاب النبي ص، مِنْهُمْ عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ الْخُزَاعِيُّ وَلاهُ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ، وَالْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ وَلاهُ خُرَاسَانَ، وسمره ابن جُنْدُبٍ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ، فَاسْتَعْفَاهُ عِمْرَانُ فَأَعْفَاهُ وَاسْتَقْضَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ فَضَالَةَ اللَّيْثِيَّ، ثُمَّ أَخَاهُ عَاصِمَ بْنَ فَضَالَةَ، ثُمَّ زُرَارَةَ بْنَ أَوْفَى الْحَرَشِيَّ، وَكَانَتْ أُخْتُهُ لُبَابَةُ عِنْدَ زِيَادٍ. وَقِيلَ: إِنَّ زِيَادًا أَوَّلُ مَنْ سِيرَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِالْحِرَابِ، وَمُشِيَ بين يديه بالعمد، واتخذ الحرس رابطه خمسمائة، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ شَيْبَانَ صَاحِبَ مَقْبُرَةِ شَيْبَانَ، مِنْ بَنِي سَعْدٍ، فَكَانُوا لا يَبْرَحُونَ الْمَسْجِدِ حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: جَعَلَ زِيَادٌ خُرَاسَانَ أَرْبَاعًا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى مَرْوَ أَمِيرَ بْنَ أَحْمَرَ الْيَشْكُرِيَّ، وَعَلَى أَبْرَشَهْرَ خُلَيْدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَنَفِيَّ، وَعَلَى مَرْوَ الرَّوْذِ وَالْفَارِيَابِ وَالطَّالْقَانِ قيس بن الهيثم، وعلى هراة وباذ غيس وَقَادِسَ وَبُوشَنْجَ نَافِعَ بْنَ خَالِدٍ الطَّاحِيَّ. حَدَّثَنِي عمر، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا مسلمة بْنُ مُحَارِبٍ وَابْنُ أَبِي عَمْرٍو، شَيْخٌ مِنَ الأَزْدِ، أَنَّ زِيَادًا عَتَبَ عَلَى نَافِعِ بْنِ خَالِدٍ الطَّاحِيَّ، فَحَبَسَهُ، وَكَتَبَ عَلَيْهِ كِتَابًا بِمِائَةِ الف، وقال بعضهم: ثمانمائه أَلْفٍ، وَكَانَ سَبَبُ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ بَعَثَ بِخُوَانٍ بَازَهْر قَوَائِمُهُ مِنْهُ، فَأَخَذَ نَافِعٌ قَائِمَةً، وجعل مكانها قَائِمَةً مِنْ ذَهَبٍ، وَبَعَثَ بِالْخُوَانِ إِلَى زِيَادٍ مَعَ غُلامٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ زَيْدٌ، كَانَ قَيِّمَهُ عَلَى أَمْرِهِ كُلِّهِ، فَسَعَى زَيْدٌ بِنَافِعٍ، وقال لزياد:

إِنَّهُ قَدْ خَانَكَ، وَأَخَذَ قَائِمَةً مِنْ قَوَائِمِ الْخُوَانِ، وَجَعَلَ مَكَانَهَا قَائِمَةً مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: فَمَشَى رِجَالٌ مِنْ وُجُوهِ الأَزْدِ إِلَى زِيَادٍ، فِيهِمْ سَيْفُ بْنُ وَهْبٍ الْمَعْوَلِيُّ، وَكَانَ شَرِيفًا، وَلَهُ يَقُولُ الشَّاعِرُ: اعْمِدْ بِسَيْفٍ لِلسَّمَاحَةِ وَالنَّدَى ... وَاعْمِدْ بِصَبْرَةَ لِلْفِعَالِ الأَعْظَمِ قَالَ: فَدَخَلُوا عَلَى زِيَادٍ وَهُوَ يَسْتَاكُ، فَتَمَثَّلَ زِيَادٌ حِينَ رَآهُمْ: اذْكُرْ بِنَا مَوْقِفَ أَفْرَاسِنَا ... بِالْحِنْوِ إِذْ أَنْتَ إِلَيْنَا فَقِيرْ قَالَ: وَأَمَّا الأَزْدُ فَيَقُولُونَ: بَلْ تَمَثَّلَ سَيْفُ بْنُ وَهْبٍ أَبُو طَلْحَةَ الْمَعْوَلِيُّ بِهَذَا الْبَيْتِ حِينَ دَخَلَ عَلَى زِيَادٍ، فَقَالَ: نَعَمْ قَالَ: وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ أَيَّامَ أَجَارَهُ صَبْرَةُ، فَدَعَا زِيَادٌ بِالْكِتَابِ فَمَحَاهُ بِسِوَاكِهِ وَأَخْرَجَ نَافِعًا. حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا علي، عن مسلمة، أن زيادا عزل نافع بن خَالِد الطاحي وخليد بن عَبْدِ اللَّهِ الحنفي وأمير بن أحمر اليشكري، فاستعمل الحكم بن عَمْرو بن مجدع بن حذيم بن الْحَارِث بن نعيلة بن مليك- ونعيلة أخو غفار بن مليك- ولكنهم قليل، فصاروا إِلَى غفار. قَالَ مسلمة: أمر زياد حاجبه فَقَالَ: ادع لي الحكم- وهو يريد الحكم ابن أبي العاص الثقفي- فخرج الحاجب فرأى الحكم بن عَمْرو الْغِفَارِيّ فأدخله، فَقَالَ: زياد: رجل لَهُ شرف وله صحبة مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص، فعقد لَهُ عَلَى خُرَاسَان، ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا أردتك، ولكن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أرادك. حَدَّثَنِي عُمَرُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عبد الرَّحْمَن الثقفي ومُحَمَّد بن الفضل، عَنْ أَبِيهِ، أن زيادا لما ولي العراق استعمل الحكم بن

عَمْرو الْغِفَارِيّ عَلَى خُرَاسَان، وجعل مَعَهُ رجالا عَلَى كور، وأمرهم بطاعته، فكانوا عَلَى جباية الخراج، وهم أسلم بن زرعة، وخليد بن عَبْدِ اللَّهِ الحنفي، ونافع بن خَالِد الطاحي، وربيعة بن عسل اليربوعي، وأمير بن أحمر اليشكري، وحاتم بن النُّعْمَانِ الباهلي، فمات الحكم بن عَمْرو، وَكَانَ قَدْ غزا طخارستان، فغنم غنائم كثيرة، واستخلف أنس بن أبي أناس بن زنيم، وَكَانَ كتب إِلَى زياد: أني قَدْ رضيته لِلَّهِ وللمسلمين ولك، فَقَالَ زياد: اللَّهُمَّ إني لا أرضاه لدينك وَلا لِلْمُسْلِمِينَ وَلا لي وكتب زياد إِلَى خليد بن عَبْدِ اللَّهِ الحنفي بولاية خُرَاسَان، ثُمَّ بعث الربيع بن زياد الحارثي إِلَى خُرَاسَان فِي خمسين ألفا، مِنَ الْبَصْرَةِ خمسة وعشرين ألفا، ومن الْكُوفَة خمسة وعشرين ألفا، عَلَى أهل الْبَصْرَة الربيع، وعلى أهل الْكُوفَة عَبْد اللَّهِ ابن أبي عقيل، وعلى الجماعة الربيع بن زياد. وقيل: حج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة مَرْوَان بن الحكم وَهُوَ عَلَى الْمَدِينَة، وكانت الولاة والعمال عَلَى الأمصار فِي هَذِهِ السنة من تقدم ذكره قبل، المغيره ابن شُعْبَةَ عَلَى الْكُوفَة، وشريح عَلَى القضاء بِهَا، وزياد عَلَى الْبَصْرَة، والعمال من قَدْ سميت قبل. وفي هَذِهِ السنة كَانَ مشتى عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن الْوَلِيد بأرض الروم

سنه ست واربعين

ثُمَّ دخلت سنة ست وأربعين (ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كَانَ فِيهَا من ذلك مشتى مالك بن عبد اللَّهِ بأرض الروم، وقيل: بل كَانَ ذَلِكَ عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن الْوَلِيد، وقيل بل كان مالك بن هبيرة السكوني. خبر انصراف عبد الرحمن بن خالد الى حمص وهلاكه وفيها انصرف عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن الْوَلِيد من بلاد الروم إِلَى حمص، فدس ابن أثال النصراني إِلَيْهِ شربة مسمومة- فِيمَا قيل- فشربها فقتلته. ذكر الخبر عن سبب هلاكه: وَكَانَ السبب فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي عمر، قال: حدثنى على، عن مسلمه ابن محارب، أن عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن الْوَلِيد كَانَ قَدْ عظم شأنه بِالشَّامِ، ومال إِلَيْهِ أهلها، لما كَانَ عندهم من آثار أَبِيهِ خَالِد بن الْوَلِيد، ولغنائه عن الْمُسْلِمِينَ فِي أرض الروم وبأسه، حَتَّى خافه مُعَاوِيَة، وخشي عَلَى نفسه مِنْهُ، لميل الناس إِلَيْهِ، فأمر ابن أثال أن يحتال فِي قتله، وضمن لَهُ إن هُوَ فعل ذَلِكَ أن يضع عنه خراجه مَا عاش، وأن يوليه جباية خراج حمص، فلما قدم عبد الرَّحْمَن بن خَالِد حمص منصرفا من بلاد الروم دس إِلَيْهِ ابن أثال شربة مسمومة مع بعض مماليكه، فشربها فمات بحمص، فوفى لَهُ مُعَاوِيَة بِمَا ضمن لَهُ، وولاه خراج حمص، ووضع عنه خراجه. قَالَ: وقدم خَالِد بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِد بن الْوَلِيد الْمَدِينَة، فجلس يَوْمًا إِلَى عروة بن الزُّبَيْرِ، فسلم عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ عروة: من أنت؟ قَالَ: انا خَالِد بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِد بن الْوَلِيد، فَقَالَ لَهُ عروة: مَا فعل ابن أثال؟ فقام خَالِد من عنده، وشخص متوجها إِلَى حمص، ثُمَّ رصد بِهَا

ذكر خروج سهم والخطيم

ابن أثال، فرآه يَوْمًا راكبا، فاعترض لَهُ خَالِد بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فضربه بالسيف، فقتله، فرفع إِلَى مُعَاوِيَةَ، فحبسه أياما، وأغرمه ديته، ولم يقده مِنْهُ ورجع خَالِد إِلَى الْمَدِينَة، فلما رجع إِلَيْهَا أتى عروة فسلم عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ عروة: مَا فعل ابن أثال؟ فَقَالَ: قَدْ كفيتك ابن أثال، ولكن مَا فعل ابن جرموز؟ فسكت عروة وَقَالَ خَالِد بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ حين ضرب ابن أثال: أنا ابن سيف اللَّه فاعرفوني ... لم يبق الا حسبي وديني وصارم صل به يميني . ذكر خروج سهم والخطيم وفيها خرج الخطيم وسهم بن غالب الهجيمي، فحكما، وَكَانَ من أمرهما مَا حَدَّثَنِي بِهِ عمر، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: لما ولي زياد خافه سهم ابن غالب الهجيمي والخطيم- وَهُوَ يَزِيد بن مالك الباهلي- فأما سهم فخرج إِلَى الأهواز فأحدث وحكم، ثُمَّ رجع فاختفى وطلب الأمان، فلم يؤمنه زياد، وطلبه حَتَّى أخذه وقتله وصلبه عَلَى بابه وأما الخطيم فإن زيادا سيره إِلَى البحرين، ثُمَّ أذن لَهُ فقدم، فَقَالَ له: الزم مصرك، وقال لمسلم ابن عَمْرو: اضمنه، فأبى وَقَالَ: إن بات عن بيته أعلمتك ثُمَّ أتاه مسلم فَقَالَ: لم يبت الخطيم الليلة فِي بيته، فأمر بِهِ فقتل، وألقي فِي باهلة. وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عتبة بن أَبِي سُفْيَانَ وَكَانَ العمال والولاة فِيهَا العمال والولاة فِي السنة التي قبلها

سنه سبع واربعين

ثُمَّ دخلت سنة سبع وأربعين (ذكر الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) ففيها كَانَ مشتى مالك بن هبيرة بأرض الروم، ومشتى أبي عبد الرحمن القينى بأنطاكية. ذكر عزل عبد الله بن عمرو عن مصر وولايه ابن حديج وفيها عزل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ مصر، ووليها معاويه ابن حديج، وسار- فِيمَا ذكر الْوَاقِدِيّ- فِي المغرب، وَكَانَ عثمانيا. قَالَ: ومر بِهِ عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر وَقَدْ جَاءَ من الإسكندرية، فَقَالَ لَهُ: يَا مُعَاوِيَة، قَدْ لعمري أخذت من مُعَاوِيَة جزاءك، قتلت مُحَمَّد بن أبي بكر لأن تلي مصر، فقد وليتها قَالَ: مَا قتلت مُحَمَّد بن أبي بكر إلا بِمَا صنع بعثمان، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فلو كنت إنما تطلب بدم عُثْمَان لم تشرك مُعَاوِيَة فِيمَا صنع حَيْثُ صنع عَمْرو بن الْعَاصِ بالأشعري مَا صنع، فوثبت أول الناس فبايعته . ذكر غزو الغور وَقَالَ بعض أهل السير: وفي هَذِهِ السنة وجه زياد الحكم بن عَمْرو الْغِفَارِيّ إِلَى خُرَاسَان أميرا، فغزا جبال الغور وفراونده، فقهرهم بالسيف عنوة ففتحها، وأصاب فِيهَا مغانم كثيرة وسبايا، وسأذكر من خالف هَذَا القول بعد إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى. وذكر قائل هَذَا القول أن الحكم بن عَمْرو قفل من غزوته هذه،

فمات بمرو. واختلفوا فِيمَنْ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَقَالَ الْوَاقِدِيّ: أقام الحج فِي هَذِهِ السنة عتبة بن أَبِي سُفْيَانَ وَقَالَ غيره: بل الَّذِي حج فِي هَذِهِ السنة عنبسة بن أَبِي سُفْيَانَ. وكانت الولاة والعمال عَلَى الأمصار الَّذِينَ ذكرت أَنَّهُمْ كَانُوا العمال والولاة فِي السنة الَّتِي قبلها

سنه ثمان واربعين

ثُمَّ دخلت سنة ثمان وأربعين (ذكر الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) وَكَانَ فِيهَا مشتى أبي عبد الرَّحْمَن القيني أنطاكية، وصائفة عَبْد اللَّهِ ابن قيس الفزاري وغزوة مالك بن هبيرة السكوني البحر، وغزوة عقبة بن عَامِر الجهني بأهل مصر البحر، وبأهل الْمَدِينَة، وعلى أهل الْمَدِينَة المنذر بن الزهير، وعلى جميعهم خَالِد بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِد بن الْوَلِيد. وَقَالَ بعضهم: فِيهَا وجه زياد غالب بن فضالة الليثى عَلَى خُرَاسَان، وكانت لَهُ صحبة مِنْ رَسُولِ الله ص. وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة مَرْوَان بن الحكم فِي قول عامة أهل السير، وَهُوَ يتوقع العزل لموجدة كَانَتْ من مُعَاوِيَة عَلَيْهِ، وارتجاعه مِنْهُ فدك، وَقَدْ كَانَ وهبها لَهُ. وكانت ولاة الأمصار وعمالها فِي هَذِهِ السنة الَّذِينَ كَانُوا فِي السنة الَّتِي قبلها

سنه تسع واربعين

ثُمَّ دخلت سنة تسع وأربعين (ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) فكان فِيهَا مشتى مالك بن هبيرة السكوني بأرض الروم. وفيها كَانَتْ غزوة فضالة بن عبيد جربة، وشتا بجربة، وفتحت عَلَى يديه، وأصاب فِيهَا سبيا كثيرا. وفيها كَانَتْ صائفة عَبْد اللَّهِ بن كرز البجلي. وفيها كَانَتْ غزوة يَزِيد بن شجرة الرهاوي فِي البحر، فشتا بأهل الشام. وفيها كَانَتْ غزوة عقبة بن نافع البحر، فشتا بأهل مصر. وفيها كَانَتْ غزوة يَزِيد بن مُعَاوِيَة الروم حَتَّى بلغ قسطنطينية، وَمَعَهُ ابن عَبَّاس وابن عمر وابن الزُّبَيْر وأبو أيوب الأَنْصَارِيّ. وفيها عزل مُعَاوِيَة مَرْوَان بن الحكم عن الْمَدِينَة فِي شهر ربيع الأول. وأمر فِيهَا سَعِيد بن الْعَاصِ عَلَى الْمَدِينَة فِي شهر ربيع الآخر، وقيل فِي شهر ربيع الأول. وكانت ولاية مَرْوَان كلها بِالْمَدِينَةِ لمعاوية ثمان سنين وشهرين. وَكَانَ عَلَى قضاء الْمَدِينَة لمروان- فِيمَا زعم الْوَاقِدِيّ- حين عزل عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث بن نوفل، فلما ولي سَعِيد بن الْعَاصِ عزله عن القضاء، واستقضى أبا سلمة بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عوف. وقيل: فِي هَذِهِ السنة وقع الطاعون بالكوفة، فهرب الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ من الطاعون، فلما ارتفع الطاعون قيل لَهُ: لو رجعت إِلَى الْكُوفَةِ! فقدمها فطعن فمات، وَقَدْ قيل: مات الْمُغِيرَة سنة خمسين، وضم مُعَاوِيَة الْكُوفَة إِلَى زياد، فكان أول من جمع لَهُ الكوفه والبصره

وحج بالناس في هذه السنة سعيد بن الْعَاصِ وكانت الولاة والعمال فِي هَذِهِ السنة الَّذِينَ كَانُوا فِي السنة الَّتِي قبلها، إلا عامل الْكُوفَة فإن فِي تاريخ هلاك الْمُغِيرَة اختلافا، فَقَالَ: بعض أهل السير: كَانَ هلاكه فِي سنة تسع وأربعين، وَقَالَ بعضهم: فِي سنه خمسين

سنه خمسين

ثُمَّ دخلت سنة خمسين (ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففيها كَانَتْ غزوة بسر بن أبي أرطاة وسفيان بن عوف الأَزْدِيّ أرض الروم. وقيل: كَانَتْ فِيهَا غزوة فضالة بن عبيد الأنصاري البحر. ذكر وفاه المغيره بن شعبه وولايه زياد الكوفه وفيها- فِي قول الْوَاقِدِيّ والمدائني- كَانَتْ وفاة الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أبي مُوسَى الثقفي، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ رجلا طوالا، مصاب العين، أصيب باليرموك، توفي فِي شعبان سنة خمسين وَهُوَ ابن سبعين سنة. وأما عوانة فإنه قَالَ- فِيمَا حدثت عن هشام بن محمد، عنه: هلك الْمُغِيرَة سنة إحدى وخمسين. وَقَالَ بعضهم: بل هلك سنة تسع وأربعين. حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: كَانَ زياد عَلَى الْبَصْرَة وأعمالها إِلَى سنة خمسين، فمات الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ بالكوفة وَهُوَ أميرها، فكتب مُعَاوِيَة إِلَى زياد بعهده عَلَى الْكُوفَة والبصرة، فكان أول من جمع لَهُ الْكُوفَة والبصرة، فاستخلف عَلَى الْبَصْرَة سمرة بن جندب، وشخص إِلَى الْكُوفَةِ، فكان زياد يقيم ستة أشهر بالكوفة، وستة أشهر بِالْبَصْرَةِ. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، عن مسلمة بن محارب، قَالَ: لما مات الْمُغِيرَة جمعت العراق لزياد، فأتى الْكُوفَة فصعد الْمِنْبَر، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إن هَذَا الأمر أتاني وأنا بِالْبَصْرَةِ، فأردت أن أشخص

إليكم فِي ألفين من شرطة الْبَصْرَة، ثُمَّ ذكرت أنكم أهل حق، وأن حقكم طالما دفع الباطل، فأتيتكم فِي أهل بيتي، فالحمد لِلَّهِ الَّذِي رفع مني مَا وضع الناس، وحفظ مني مَا ضيعوا حَتَّى فرغ من الخطبة، فحُصِبَ عَلَى الْمِنْبَر، فجلس حَتَّى أمسكوا، ثُمَّ دعا قوما من خاصته، وأمرهم، فأخذوا أبواب المسجد، ثُمَّ قَالَ: ليأخذ كل رجل مِنْكُمْ جليسه، وَلا يقولن: لا أدري من جليسي؟ ثُمَّ أمر بكرسي فوضع لَهُ عَلَى باب المسجد، فدعاهم أربعة أربعة يحلفون بِاللَّهِ مَا منا من حصبك، فمن حلف خلاه، ومن لم يحلف حبسه وعزله، حَتَّى صار إِلَى ثَلاثِينَ، ويقال: بل كَانُوا ثمانين، فقطع ايديهم على المكان. قال الشعبى: فو الله مَا تعلقنا عَلَيْهِ بكذبة، وما وعدنا خيرا وَلا شرا إلا أنفذه. حَدَّثَنِي عُمَرُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُثْمَانَ، قَالَ: بَلَغَنِي عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ رَجُلٍ قَتَلَهُ زِيَادٌ بِالْكُوفَةِ أَوْفَى بْنُ حِصْنٍ، بَلَغَهُ عَنْهُ شَيْءٌ فَطَلَبَهُ فَهَرَبَ، فَعَرَضَ النَّاسَ زِيَادٌ، فَمَرَّ بِهِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: أَوْفَى بْنُ حِصْنٍ الطَّائِيُّ، فَقَالَ زِيَادٌ: أَتَتْكَ بِحَائِنٍ رِجْلاهُ، فَقَالَ أَوْفَى: إِنَّ زِيَادًا أَبَا الْمُغِيرَةِ لا ... يعجل وَالنَّاسُ فِيهِمُ عَجَلَهْ خِفْتُكَ وَاللَّهِ فَاعْلَمَنْ حَلَفِي ... خَوْفَ الْحَفَافِيثِ صَوْلَةَ الأَصَلَهْ فَجِئْتُ إِذْ ضَاقَتِ الْبِلادُ فَلَمْ ... يَكُنْ عَلَيْهَا لِخَائِفٍ وَأَلَهْ قَالَ: مَا رَأْيُكَ فِي عُثْمَانَ؟ قَالَ خَتَنُ رَسُولِ الله ص عَلَى ابْنَتَيْهِ، وَلَمْ أُنْكِرْهُ، وَلِي مَحْصُولُ رَأْيٍ، قَالَ: فَمَا تَقُولُ فِي مُعَاوِيَةَ؟ قَالَ:

جَوَادٌ حَلِيمٌ، قَالَ: فَمَا تَقُولُ فِيَّ؟ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّكَ قُلْتَ بِالْبَصْرَةِ: وَاللَّهِ لآخُذَنَّ الْبَرِيءَ بِالسَّقِيمِ، وَالْمُقْبِلَ بِالْمُدْبِرِ، قَالَ: قَدْ قُلْتُ ذَاكَ، قال: خبطتها عَشْوَاءُ، قَالَ زِيَادٌ: لَيْسَ النَّفَّاخُ بِشَرِّ الزُّمْرَةِ، فَقَتَلَهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَمَّامٍ السَّلُولِيُّ: خَيَّبَ اللَّهُ سَعْيَ أَوْفَى بْنِ حِصْنٍ ... حِينَ أَضْحَى فَرُّوجَةَ الرَّقَّاءِ قَادَهُ الْحَيْنُ وَالشَّقَاءُ إِلَى لَيْثِ ... عَرِينٍ وَحَيَّةٍ صَمَّاءِ قَالَ: وَلَمَّا قَدِمَ زِيَادٌ الْكُوفَةَ أَتَاهُ عُمَارَةُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، فَقَالَ: إِنَّ عَمْرَو بْنَ الْحَمِقِ يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ مِنْ شِيعَةِ أَبِي تُرَابٍ، فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ: مَا يَدْعُوكَ إِلَى رَفْعِ مَا لا تَيَقَّنُهُ وَلا تَدْرِي مَا عاقبته! فقال زياد: كلا كما لَمْ يُصِبْ، أَنْتَ حَيْثُ تُكَلِّمُنِي فِي هَذَا عَلانِيَةً وَعَمْرٌو حِينَ يَرُدُّكَ عَنْ كَلامِكَ، قُومَا إِلَى عَمْرِو بْنِ الْحَمِقِ فَقُولا لَهُ: مَا هَذِهِ الزَّرَافَاتُ الَّتِي تَجْتَمِعُ عِنْدَكَ! مَنْ أَرَادَكَ أَوْ أَرَدْتَ كَلامَهُ فَفِي الْمَسْجِدِ. قَالَ: وَيُقَالُ: إِنَّ الَّذِي رَفَعَ عَلَى عَمْرِو بْنِ الْحَمِقِ وَقَالَ لَهُ: قَدْ أَنْغَلُ الْمِصْرَيْنِ، يَزِيدُ بْنُ رُوَيْمٍ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْحُرَيْثِ: مَا كَانَ قَطُّ أَقْبَلَ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، فَقَالَ زِيَادٌ لِيَزِيدَ بْنِ رُوَيْمٍ: أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَشَطْتَ بِدَمِهِ، وَأَمَّا عَمْرٌو فَقَدْ حَقَنَ دَمَهُ، وَلَوْ عَلِمْتُ أَنَّ مُخَّ سَاقِهِ قَدْ سَالَ مِنْ بُغْضِي مَا هِجْتُهُ حَتَّى يَخْرُجَ عَلَيَّ. وَاتَّخَذَ زِيَادٌ الْمَقْصُورَةَ حِينَ حَصَبَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ. وَوَلَّى زِيَادٌ حِينَ شَخَصَ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدَبٍ فَحَدَّثَنِي عمر، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاق بن إدريس، قَالَ: حَدَّثَنِي محمد ابن سليم قَالَ: سألت أنس بن سيرين: هل كَانَ سمرة قتل أحدا؟ قَالَ:

خروج قريب وزحاف

وهل يحصى من قتل سمرة بن جندب! استخلفه زياد عَلَى الْبَصْرَة، وأتى الْكُوفَة، فَجَاءَ وَقَدْ قتل ثمانية آلاف مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ: هل تخاف أن تكون قَدْ قتلت أحدا بريئا؟ قَالَ: لو قتلت إِلَيْهِم مثلهم مَا خشيت- أو كما قَالَ. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قال: حدثني موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا نُوحُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ أَشْعَثَ الْحَدَّانِيِّ، عَنْ أَبِي سَوَّارٍ الْعَدَوِيِّ، قَالَ: قَتَلَ سَمُرَةُ مِنْ قَوْمِي فِي غَدَاةٍ سَبْعَةً وَأَرْبَعِينَ رَجُلا قَدْ جَمَعَ الْقُرْآنَ. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ جَعْفَرٍ الصَّدَفِيِّ، عَنْ عَوْفٍ، قَالَ: أَقْبَلَ سَمُرَةُ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ دُورِ بَنِي أَسَدٍ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَعْضِ أَزِقَّتِهِمْ، فَفَجَأَ أَوَائِلَ الْخَيْلِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَأَوْجَرَهُ الْحَرْبَةَ قَالَ: ثُمَّ مَضَتِ الْخَيْلُ، فَأَتَى عَلَيْهِ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ، وَهُوَ مُتَشَحِّطٌ فِي دَمِهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قِيلَ: أَصَابَتْهُ أَوَائِلُ خَيْلِ الأَمِيرِ، قَالَ: إِذَا سمعتم بنا قد ركبنا فاتقوا أسنتنا خروج قريب وزحاف حدثني عمر قَالَ: حَدَّثَنِي زهير بن حرب، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا غَسَّانُ بْنُ مُضَرَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: خَرَجَ قَرِيبٌ وَزحاف، وَزِيَادٌ بِالْكُوفَةِ، وَسَمُرَةُ بالبصرة، فخرجا ليلا، فنزلا بَنِي يَشْكُرَ، وَهُمْ سَبْعُونَ رَجُلا، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ، فَأَتَوْا بَنِي ضُبَيْعَةَ وَهُمْ سَبْعُونَ رَجُلا، فَمَرُّوا بِشَيْخٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ حكاك، فَقَالَ حِينَ رَآهُمْ: مَرْحَبًا بِأَبِي الشَّعْثَاءِ! فَرَآهُ ابْنُ حُصَيْنٍ فَقَتَلُوهُ، وَتَفَرَّقُوا فِي مَسَاجِدِ الأَزْدِ، وَأَتَتْ فرقه

ذكر اراده معاويه نقل المنبر من المدينة

مِنْهُمْ رَحْبَةَ بَنِي عَلِيٍّ، وَفِرْقَةُ مَسْجِدَ المعادل، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ سَيْفُ بْنُ وَهْبٍ فِي أَصْحَابٍ لَهُ، فَقَتَلَ مَنْ أَتَاهُ، وَخَرَجَ عَلَى قَرِيبٍ وَزِحَافٍ شَبَابٌ مِنْ بَنِي عَلِيٍّ وَشَبَابٌ مِنْ بَنِي رَاسِبٍ، فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ قَالَ قَرِيبٌ: هَلْ فِي الْقَوْمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَوْسٍ الطَّاحِيُّ؟ وَكَانَ يُنَاضِلُهُ، قِيلَ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَلُمَّ إِلَى الْبَرَّازِ، فَقَتَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ وَجَاءَ بِرَأْسِهِ، وَأَقْبَلَ زِيَادٌ مِنَ الْكُوفَةِ فَجَعَلَ يُؤَنِّبُهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ طَاحِيَةَ، لَوْلا أَنَّكُمْ أَصَبْتُمْ فِي الْقَوْمِ لَنَفَيْتُكُمْ إِلَى السِّجْنِ قَالَ: وَكَانَ قَرِيبٌ مِنْ إِيَادٍ، وَزحاف مِنْ طَيِّئٍ، وَكَانَا ابْنَيْ خَالَةٍ، وَكَانَا أَوَّلَ مَنْ خَرَجَ بَعْدَ أَهْلِ النَّهْرِ. قَالَ غَسَّانُ: سَمِعْتُ سَعِيدًا يَقُولُ: إِنَّ أَبَا بِلالٍ قَالَ: قَرِيبٌ لا قَرَّبَهُ اللَّهُ، وَايْمُ اللَّهِ لأَنْ أَقَعُ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَصْنَعَ مَا صَنَعَ- يَعْنِي الاسْتِعْرَاضَ. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا زهير، قَالَ: حدثنى وهب، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي أن زيادا اشتد فِي أمر الحرورية بعد قريب وزحاف، فقتلهم وأمر سمرة بِذَلِكَ، وَكَانَ يستخلفه عَلَى الْبَصْرَة إذا خرج إِلَى الْكُوفَةِ، فقتل سمرة مِنْهُمْ بشرا كثيرا. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عبيدة، قَالَ: قَالَ زياد يَوْمَئِذٍ عَلَى الْمِنْبَر: يَا أهل الْبَصْرَة، وَاللَّهِ لتكفني هَؤُلاءِ أو لأبدأن بكم، وَاللَّهِ لَئِنْ أفلت مِنْهُمْ رجل لا تأخذون العام من عطائكم درهما، قَالَ: فثار الناس بهم فقتلوهم . ذكر اراده معاويه نقل المنبر من المدينة قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وفي هَذِهِ السنة امر معاويه بمنبر رسول الله ص، أن يحمل إِلَى الشام، فحرك، فكسفت الشمس حَتَّى رئيت النجوم بادية يَوْمَئِذٍ، فأعظم الناس ذَلِكَ، فَقَالَ: لم أرد حمله، إنما خفت أن يكون قَدْ أرض، فنظرت إِلَيْهِ ثُمَّ كساه يومئذ

وذكر مُحَمَّد بن عُمَرَ، أنه حدثه بِذَلِكَ خَالِد بن الْقَاسِم، عن شعيب بن عَمْرو الأموي. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بن سعيد بن دينار، عن أبيه، قال: قَالَ مُعَاوِيَة: إني رأيت أن منبر رَسُول الله ص وعصاه لا يتركان بِالْمَدِينَةِ، وهم قتلة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَان وأعداؤه، فلما قدم طلب العصا وَهِيَ عِنْدَ سعد القرظ، فجاءه أَبُو هُرَيْرَةَ وجابر بن عَبْدِ اللَّهِ، فقالا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، نذكرك اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أن تفعل هَذَا، فإن هَذَا لا يصلح، تخرج منبر رسول الله ص من موضع وضعه، وتخرج عصاه إِلَى الشام، فانقل المسجد، فأقصر وزاد فِيهِ ست درجات، فهو اليوم ثماني درجات، واعتذر إِلَى النَّاسِ مما صنع. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ أَبَانِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَدْ هَمَّ بِالْمِنْبَرِ، فَقَالَ لَهُ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ: أُذَكِّرُكَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَفْعَلَ هَذَا، وَأَنْ تُحَوِّلَهُ! إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مُعَاوِيَةَ حَرَّكَهُ فَكَسَفَتِ الشمس، [وقال رسول الله ص: مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي آثِمًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ،] فَتَخَرَّجَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَهُوَ مُقَطِّعُ الْحُقُوقِ بَيْنَهُمْ بِالْمَدِينَةِ! فَأَقْصَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ ذَلِكَ، وَكَفَّ عَنْ أَنْ يَذْكُرَهُ فَلَمَّا كَانَ الْوَلِيدُ وَحَجَّ هَمَّ بِذَلِكَ وَقَالَ: خَبِّرَانِي عَنْهُ، وَمَا أَرَانِي إِلا سَأَفْعَلُ: فَأَرْسَلَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ إِلَى عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ: كَلِّمْ صَاحِبَكَ يَتَّقِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَلا يَتَعَرَّضْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَلِسَخَطِهِ، فَكَلَّمَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَأَقْصَرَ وَكَفَّ عَنْ ذِكْرِهِ، فَلَمَّا حَجَّ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَخْبَرَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِمَا كَانَ الْوَلِيدُ هَمَّ بِهِ وَإِرْسَالِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ إِلَيْهِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: مَا كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يُذْكَرَ هَذَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ وَلا عَنِ الْوَلِيدِ، هَذَا مُكَابَرَةٌ، وَمَا لَنَا وَلِهَذَا! أَخَذْنَا الدُّنْيَا فَهِيَ فِي أَيْدِينَا، وَنُرِيدُ أَنْ نَعْمِدَ إِلَى عَلَمٍ مِنْ أَعْلامِ الإِسْلامِ يُوفَدُ

إِلَيْهِ، فَنَحْمِلُهُ إِلَى مَا قَبِلْنَا! هَذَا مَا لا يَصْلُحُ. وَفِيهَا عُزِلَ مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ عَنْ مِصْرَ وَوُلِّيَ مَسْلَمَةُ بْنُ مَخْلَدٍ مِصْرَ وَأَفْرِيقِيَّةَ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ بَعَثَ قَبْلَ أَنْ يُوَلَّى مَسْلَمَةُ مِصْرَ وَأَفْرِيقِيَّةَ عُقْبَةَ بْنَ نَافِعٍ الْفِهْرِيَّ إِلَى أَفْرِيقِيَّةِ، فَافْتَتَحَهَا، وَاخْتَطَّ قَيْرَوَانَهَا، وَكَانَ مَوْضِعَهُ غَيْضَةٌ- فِيمَا زَعَمَ محمد بن عمر- لا ترام مِنَ السِّبَاعِ وَالْحَيَّاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الدَّوَابِّ فَدَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهَا فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ إِلا خَرَجَ هَارِبًا، حَتَّى أَنَّ السِّبَاعَ كَانَتْ تَحْمِلُ أَوْلادَهَا. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، قال: نادى عقبه بن نافع: انا نازلونا فاظعنوا عزينا. فخرجن من جحرتهن هَوَارِبَ. قَالَ: وَحَدَّثَنِي المفضل بن فضالة، عن زَيْد بن أَبِي حَبِيبٍ، عن رجل من جند مصر، قَالَ: قدمنا مع عقبة بن نافع، وَهُوَ أول الناس اختطها وأقطعها لِلنَّاسِ مساكن ودورا، وبنى مسجدها فأقمنا مَعَهُ حَتَّى عزل، وَهُوَ خير وال وخير أَمِير. ثُمَّ عزل مُعَاوِيَة فِي هَذِهِ السنة- أعني سنة خمسين- مُعَاوِيَة بن حديج عن مصر، وعقبة بن نافع عن أفريقية، وولى مسلمة بن مخلد ومصر والمغرب كله، فهو أول من جمع لَهُ المغرب كله ومصر وبرقة وأفريقية وطرابلس، فولى مسلمة بن مخلد مولى لَهُ يقال لَهُ: ابو المهاجر إفريقية، وعزل عقبه ابن نافع، وكشفه عن أشياء، فلم يزل واليا عَلَى مصر والمغرب، وأبو المهاجر عَلَى أفريقية من قبله حَتَّى هلك مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ. وفي هَذِهِ السنة مات أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيّ، وَقَدْ قيل: كَانَتْ وفاة أبي مُوسَى سنة اثنتين وخمسين. وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَقَالَ بعضهم: حج بهم مُعَاوِيَة، وَقَالَ بعضهم: بل حج بهم ابنه يَزِيد، وَكَانَ الوالي فِي هَذِهِ السنة

ذكر هرب الفرزدق من زياد

عَلَى الْمَدِينَة سَعِيد بن الْعَاصِ، وعلى الْبَصْرَة والكوفه والمشرق سجستان وفارس والسند والهند زياد . ذكر هرب الفرزدق من زياد وفي هَذِهِ السنة طلب زياد الفرزدق، واستعدت عَلَيْهِ بنو نهشل وفقيم، فهرب مِنْهُ إِلَى سَعِيد بن الْعَاصِ- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ والي الْمَدِينَة من قبل مُعَاوِيَة- مستجيرا بِهِ، فأجاره. ذكر الخبر عن ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عبيدة وأبو الْحَسَن المدائني وغيرهما، أن الفرزدق لما هجا بني نهشل وبني فقيم لم يزد أَبُو زَيْد فِي إسناد خبره عَلَى مَا ذكرت، وأما مُحَمَّد بن علي فإنه حَدَّثَنِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سعد، عن أبي عبيدة، قَالَ: حَدَّثَنِي أعين بن لبطة بن الفرزدق، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لما هاجيت الأشهب بن رميلة والبعيث فسقطا، استعدت علي بنو نهشل وبنو فقيم زياد بن أَبِي سُفْيَانَ وزعم غيره أن يَزِيد بن مسعود بن خالد بن مالك بن ربعي بن سلمى بن جندل بن نهشل استعدى أَيْضًا عَلَيْهِ فَقَالَ أعين: فلم يعرفه زياد حَتَّى قيل لَهُ: الغلام الأعرابي الَّذِي أنهب ورقه وألقى ثيابه، فعرفه. قَالَ أَبُو عبيدة: أَخْبَرَنِي أعين بن لبطة، قَالَ: أَخْبَرَنِي أبي، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بعثني أبي غالب فِي عير لَهُ وجلب ابيعه وامتار له واشترى لأهله كسا، فقدمت البصره، فبعث الجلب، فأخذت ثمنه فجعلته فِي ثوبي أزاوله، إذ عرض لي رجل أراه كأنه شيطان، فَقَالَ: لشد مَا تستوثق منها! فقلت: وما يمنعني! قَالَ: أما لو كَانَ مكانك رجل أعرفه مَا صبر عَلَيْهَا، فقلت: ومن هُوَ؟ قَالَ: غالب بن صعصعة، قَالَ: فدعوت أهل المربد

فقلت: دونكموها- ونثرتها عَلَيْهِم- فَقَالَ لي قائل: الق رداءك يا بن غالب، فألقيته وَقَالَ آخر: ألق قميصك، فألقيته، وقال آخر: الق عمامتك فألقيتها حَتَّى بقيت فِي إزار، فَقَالُوا: ألق إزارك، فقلت: لن ألقيه وأمشي مجردا، إني لست بمجنون فبلغ الخبر زيادا، فأرسل خيلا إِلَى المربد ليأتوه بي، فَجَاءَ رجل من بني الهجيم عَلَى فرس، قَالَ: أتيت فالنجاء! وأردفني خلفه، وركض حَتَّى تغيب، وجاءت الخيل وَقَدْ سبقت، فأخذ زياد عمين لي: ذهيلا والزحاف ابني صعصعة- وكانا فِي الديوان عَلَى ألفين ألفين، وكانا مَعَهُ- فحبسهما فأرسلت إليهما: إن شئتما أتيتكما، فبعثا إلي: لا تقربنا، إنه زياد! وما عسى أن يصنع بنا، ولم نذنب ذنبا! فمكثا أياما ثُمَّ كلم زياد فيهما، فَقَالُوا: شيخان سامعان مطيعان، ليس لهما ذنب مما صنع غلام أعرابي من أهل البادية، فخلي عنهما، فقالا لي: أَخْبَرَنَا بجميع مَا أمرك أبوك من ميرة أو كسوة، فخبرتهما بِهِ أجمع، فاشترياه وانطلقت حَتَّى لحقت بغالب، وحملت ذَلِكَ معي أجمع، فأتيته وَقَدْ بلغه خبري، فسألني: كيف صنعت؟ فأخبرته بِمَا كَانَ، قَالَ: وإنك لتحسن مثل هَذَا! ومسح رأسي ولم يكن يَوْمَئِذٍ يقول الشعر، وإنما قَالَ الشعر بعد ذَلِكَ، فكانت فِي نفس زياد عَلَيْهِ. ثُمَّ وفد الأحنف بن قيس وجارية بن قدامة، من بني رَبِيعَة بن كعب ابن سَعْد والجون بن قَتَادَة العبشمي والحتات بن يَزِيدَ أَبُو منازل، أحد بني حوي بن سُفْيَان بن مجاشع إِلَى مُعَاوِيَةَ بن أَبِي سُفْيَانَ، فأعطى كل رجل مِنْهُمْ مائة ألف، وأعطى الحتات سبعين ألفا، فلما كَانُوا فِي الطريق سأل بعضهم بعضا، فأخبروه بجوائزهم، فكان الحتات أخذ سبعين ألفا، فرجع إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: مَا ردك يَا أَبَا منازل؟ قَالَ: فضحتني فِي بني تميم،

أما حسبي بصحيح! أوَلست ذا سن! أوَلست مطاعا فِي عشيرتي! فَقَالَ مُعَاوِيَة: بلى، قَالَ: فما بالك خسست بي دون القوم! فَقَالَ: إني اشتريت من القوم دينهم ووكلتك إِلَى دينك ورأيك فِي عُثْمَان بن عَفَّانَ- وَكَانَ عثمانيا- فَقَالَ: وأنا فاشتر مني ديني، فأمر لَهُ بتمام جائزة القوم. وطعن فِي جائزته، فحبسها مُعَاوِيَة، فَقَالَ الفرزدق فِي ذَلِكَ: أبوك وعمي يَا معاوي أورثا ... تراثا فيحتاز التراث أقاربه فما بال ميراث الحتات أخذته ... وميراث حرب جامد لك ذائبه! فلو كَانَ هَذَا الأمر فِي جاهلية ... علمت من المرء القليل حلائبه ولو كَانَ فِي دين سوى ذا شنئتم ... لنا حقنا أو غص بالماء شاربه ولو كَانَ إذ كنا وفي الكف بسطة ... لصمم عضب فيك ماض مضاربه - وأنشد مُحَمَّد بن علي وفي الكف مبسط- وَقَدْ رمت شَيْئًا يَا معاوي دونه ... خياطف علود صعاب مراتبه وما كنت أعطى النصف مِنْ غَيْرِ قدرة ... سواك، ولو مالت علي كتائبه ألست أعز الناس قوما وأسرة ... وأمنعهم جارا إذا ضيم جانبه وما ولدت بعد النَّبِيّ وآله ... كمثلي حصان فِي الرجال يقاربه أبي غالب والمرء ناجية الَّذِي ... إِلَى صعصع ينمي، فمن ذا يناسبه! وبيتي إِلَى جنب الثريا فناؤه ... ومن دونه البدر المضيء كواكبه أنا ابن الجبال الصم فِي عدد الحصى ... وعرق الثرى عرقي، فمن ذا يحاسبه!

أنا ابن الَّذِي أحيا الوئيد وضامن ... عَلَى الدهر إذ عزت لدهر مكاسبه وكم من أب لي يَا معاوي لم يزل ... أغر يباري الريح مَا ازور جانبه نمته فروع المالكين ولم يكن ... أبوك الَّذِي من عبد شمس يقاربه تراه كنصل السيف يهتز للندى ... كريما يلاقي المجد مَا طر شاربه طويل نجاد السيف مذ كَانَ لَمْ يَكُنْ ... قصي وعبد الشمس ممن يخاطبه فرد ثَلاثِينَ ألفا عَلَى أهله، وكانت أَيْضًا قَدْ أغضبت زيادا عَلَيْهِ. قَالَ: فلما استعدت عَلَيْهِ نهشل وفقيم ازداد عَلَيْهِ غضبا، فطلبه فهرب، فأتى عِيسَى بن خصيلة بن معتب بن نصر بن خَالِد البهزي، ثُمَّ أحد بني سليم، والحجاج بن علاط بن خَالِد السلمي. قَالَ ابن سعد: قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي أَبُو مُوسَى الفضل بن موسى ابن خصيلة، قَالَ: لما طرد زياد الفرزدق جَاءَ الى عمى عيسى بن خصيله ليلا فَقَالَ: يَا أَبَا خصيلة، إن هَذَا الرجل قَدْ أخافني، وإن صديقي وجميع من كنت أرجو قَدْ لفظوني، وإني قَدْ أتيتك لتغيبني عندك، قَالَ: مرحبا بك! فكان عنده ثلاث ليال، ثُمَّ قَالَ: إنه قَدْ بدا لي أن ألحق بِالشَّامِ، فَقَالَ: مَا أحببت، أن أقمت معي ففي الرحب والسعة، وإن شخصت فهذه ناقة أرحبية أمتعك بِهَا قَالَ: فركب بعد ليل، وبعث عِيسَى مَعَهُ حَتَّى جاوز البيوت، فأصبح وَقَدْ جاوز مسيرة ثلاث ليال، فَقَالَ الفرزدق فِي ذَلِكَ: حباني بِهَا البهزي حملان من أبى ... مِنَ النَّاسِ والجاني تخاف جرائمه ومن كَانَ يَا عِيسَى يونب ضيفه ... فضيفك محبور هني مطاعمه وَقَالَ تعلم أنها أرحبية ... وأن لها الليل الَّذِي أنت جاشمه فأصبحت والملقى ورائي وحنبل ... وما صدرت حَتَّى علا النجم عاتمه

تزاور عن أهل الحفير كأنها ... ظليم تباري جنح ليل نعائمه رأت بين عينيها دوية وانجلى ... لها الصبح عن صعل أسيل مخاطمه كأن شراعا فِيهِ مجرى زمامها ... بدجلة إلا خطمه وملاغمه إذا أنت جاوزت الغريين فاسلمي ... وأعرض من فلج ورائي مخارمه وَقَالَ أَيْضًا: تداركني أسباب عِيسَى من الردى ... ومن يك مولاه فليس بواحد وَهِيَ قصيدة طويلة. قَالَ: وبلغ زيادا أنه قَدْ شخص، فأرسل عَلِيّ بن زهدم، أحد بني نولة بن فقيم فِي طلبه. قَالَ أعين: فطلبه فِي بيت نصرانية يقال لها ابنة مرار، من بني قيس ابن ثعلبه تنزل قصيمه كاظمه، قال: فسلته من كسر بيتها، فلم يقدر عَلَيْهِ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ الفرزدق: أتيت ابنة المرار أهبلت تبتغي ... وما يبتغى تحت السوية أمثالي ولكن بغائي لو أردت لقاءنا ... فضاء الصحاري لا ابتغاء بأدغال وقيل: إنها رَبِيعَة بنت المرار بن سلامة العجلي أم أبي النجم الراجز. قَالَ أَبُو عبيدة: قَالَ مسمع بن عَبْد الْمَلِكِ: فأتى الروحاء، فنزل فِي بكر بن وائل، فأمن، فَقَالَ يمدحهم: وَقَدْ مثلت أين المسير فلم تجد ... لفورتها كالحي بكر بن وائل أعف وأوفى ذمة يعقدونها ... إذا وازنت شم الذرا بالكواهل

وهي قصيده طويله ومدحهم بقصائد اخر غيرها. قَالَ: فكان الفرزدق إذا نزل زياد الْبَصْرَة نزل الْكُوفَة، وإذا نزل زياد الْكُوفَة نزل الفرزدق الْبَصْرَة، وَكَانَ زياد ينزل الْبَصْرَة ستة أشهر والكوفة ستة أشهر، فبلغ زيادا اما صنع الفرزدق، فكتب إِلَى عامله عَلَى الْكُوفَة عبد الرحمن ابن عبيد: إنما الفرزدق فحل الوحوش يرعى القفار، فإذا ورد عَلَيْهِ الناس ذعر ففارقهم إِلَى أرض أخرى فرتع، فاطلبه حَتَّى تظفر بِهِ قَالَ الفرزدق: فطلبت أشد طلب، حَتَّى جعل من كَانَ يؤويني يخرجني من عنده، فضاقت علي الأرض، فبينا أنا ملفف رأسي فِي كسائي عَلَى ظهر الطريق، إذ مر بي الَّذِي جَاءَ فِي طلبي، فلما كَانَ الليل أتيت بعض أخوالي من بني ضبة وعندهم عرس- ولم أكن طعمت قبل ذَلِكَ طعاما، فقلت: آتيهم فأصيب من الطعام- قَالَ: فبينا أنا قاعد إذ نظرت إِلَى هادي فرس وصدر رمح قَدْ جاوز باب الدار داخلا إلينا، فقاموا إِلَى حائط قصب فرفعوه، فخرجت مِنْهُ، وألقوا الحائط فعاد مكانه، ثُمَّ قَالُوا: مَا رأيناه، وبحثوا ساعة ثُمَّ خرجوا، فلما أصبحنا جاءوني فَقَالُوا: أخرج إِلَى الحجاز عن جوار زياد لا يظفر بك، فلو ظفر بك البارحة أهلكتنا، وجمعوا ثمن راحلتين، وكلموا لي مقاعسا احد بنى تيم الله ابن ثعلبة- وَكَانَ دليلا يسافر للتجار- قَالَ: فخرجنا إِلَى بانقيا حَتَّى انتهينا إِلَى بعض القصور الَّتِي تنزل، فلم يفتح لنا الباب، فألقينا رحالنا إِلَى جنب الحائط والليلة مقمرة، فقلت: يَا مقاعس، أرأيت إن بعث زياد بعد مَا نصبح إِلَى العتيق رجالا، أيقدرون علينا؟ قَالَ: نعم، يرصدوننا- ولم يكونوا جاوزوا العتيق وَهُوَ خندق كَانَ للعجم- قَالَ: فقلت: مَا تقول العرب؟ قَالَ: يقولون: أمهله يَوْمًا وليلة ثُمَّ خذه فارتحل، فَقَالَ إني أخاف السباع، فقلت: السباع أهون من زياد، فارتحلنا لا نرى شَيْئًا إلا خلفناه، ولزمنا شخص لا يفارقنا، فقلت: يَا مقاعس، أترى هَذَا الشخص! لم نمرر

بشيء إلا جاوزناه غيره، فإنه يسايرنا منذ الليلة قَالَ: هَذَا السبع، قَالَ: فكأنه فهم كلامنا، فتقدم حَتَّى ربض عَلَى متن الطريق، فلما رأينا ذَلِكَ نزلنا فشددنا أيدي ناقتينا بثنايين وأخذت قوسي وَقَالَ مقاعس: يَا ثعلب، أتدري ممن فررنا إليك؟ من زياد، فأحصب بذنبه حَتَّى غشينا غباره وغشي ناقتينا، قَالَ: فقلت: أرميه، فَقَالَ: لا تهجه، فإنه إذا أصبح ذهب، قَالَ: فجعل يرعد ويبرق ويزئر، ومقاعس يتوعده حَتَّى انشق الصبح، فلما رآه ولى، وأنشأ الفرزدق يقول: مَا كنت أحسبني جبانا بعد مَا ... لاقيت ليلة جانب الأنهار ليثا كأن عَلَى يديه رحالة ... شثن البراثن مؤجد الأظفار لما سمعت لَهُ زمازم أجهشت ... نفسي إلي وقلت أين فراري! وربطت جروتها وقلت لها اصبري ... وشددت فِي ضيق المقام إزاري فلأنت أهون من زياد جانبا ... إذهب إليك مخرم الأسفار قَالَ ابن سعد: قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي أعين بن لبطة، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، عن شبث بن ربعي الرياحي، قَالَ: فأنشدت زيادا هَذِهِ الأبيات فكأنه رق لَهُ، وَقَالَ: لو أتاني لآمنته وأعطيته، فبلغ ذَلِكَ الفرزدق، فَقَالَ: تذكر هَذَا القلب من شوقه ذكرا ... تذكر شوقا ليس ناسيه عصرا تذكر ظمياء الَّتِي ليس ناسيا ... وإن كَانَ أدنى عهدها حججا عشرا وما مغزل بالغور غور تهامة ... ترعى أراكا فِي منابته نضرا من الادم حواء المدامع ترعوى ... الى رشاء طفل تخال بِهِ فترا

أصابت بوادي الولولان حبالة ... فما استمسكت حَتَّى حسبن بِهَا نفرا بأحسن من ظمياء يوم تعرضت ... وَلا مزنة راحت غمامتها قصرا وكم دونها من عاطف فِي صريمة ... وأعداء قوم ينذرون دمي نذرا! إذا أوعدوني عِنْدَ ظمياء ساءها ... وعيدي وقالت لا تقولوا لَهُ هجرا دعاني زياد للعطاء ولم أكن ... لآتيه مَا ساق ذو حسب وفرا وعند زياد لو يريد عطاءهم ... رجال كثير قَدْ يري بهم فقرا قعود لدى الأبواب طلاب حاجة ... غوان من الحاجات أو حاجة بكرا فلما خشيت أن يكون عطاؤه ... أداهم سودا أو محدرجة سمرا نميت إِلَى حرف أضر بنيها ... سرى الليل واستعراضها البلد القفرا تنفس فِي بهو من الجوف واسع ... إذا مد حيزوما شراسيفها الضفرا تراها إذا صام النهار كأنما ... تسامي فنيقا أو تخالسه خطرا تخوض إذا صاح الصدى بعد هجعة ... من الليل ملتجا غياطله خضرا فإن أعرضت زوراء أو شمرت بِهَا ... فلاة ترى منها مخارمها غبرا تعادين عن صهب الحصى وكأنما ... طحن بِهِ من كل رضراضة جمرا وكم من عدو كاشح قَدْ تجاوزت ... مخافته حتى تكون لها جسرا يوم بِهَا الموماة من لا يرى لَهُ ... إِلَى ابن أبي سُفْيَان جاها وَلا عذرا وَلا تعجلاني صاحبي فربما ... سبقت بورد الماء غادية كدرا وحضنين من ظلماء ليل سريته ... بأغيد قَدْ كَانَ النعاس لَهُ سكرا رماه الكرى فِي الرأس حَتَّى كأنه ... أميم جلاميد تركن بِهِ وقرا من السير والإدلاج تحسب أنما ... سقاه الكرى فِي كل منزلة خمرا جررنا وفديناه حَتَّى كأنما ... يرى بهوادي الصبح قنبلة شقرا

قال: فمضينا وقد منا الْمَدِينَة وسعيد بن الْعَاصِ بن أُمَيَّة عَلَيْهَا، فكان فِي جنازة، فتبعته فوجدته قاعدا والميت يدفن حَتَّى قمت بين يديه، فقلت: هَذَا مقام العائذ من رجل لم يصب دما وَلا مالا! فَقَالَ: قَدْ أجرت إن لم تكن أصبت دما وَلا مالا، وَقَالَ: من أنت؟ قلت: أنا همام بن غالب بن صعصعة، وَقَدْ أثنيت عَلَى الأمير، فإن رَأَى أن يأذن لي فأسمعه فليفعل، قَالَ: هات، فأنشدته: وكوم تنعم الأضياف عينا ... وتصبح فِي مباركها ثقالا حَتَّى أتيت إِلَى آخرها، قَالَ: فَقَالَ مَرْوَان: قعودا ينظرون إِلَى سَعِيد. قلت: وَاللَّهِ إنك لقائم يَا أَبَا عَبْد الْمَلِكِ. قَالَ: وَقَالَ كعب بن جعيل: هَذِهِ وَاللَّهِ الرؤيا الَّتِي رأيت البارحة، قَالَ سَعِيد: وما رأيت؟ قَالَ: رأيت كأني أمشي فِي سكة من سكك المدينة، فإذا انا بابن قتره فِي جحر، فكأنه أراد أن يتناولني، فاتقيته، قَالَ: فقام الحطيئة فشق مَا بين رجلين حَتَّى تجاوز إلي، فَقَالَ: قل مَا شئت فقد أدركت من مضى، وَلا يدركك من بقي وَقَالَ لسعيد: هَذَا وَاللَّهِ الشعر، لا يعلل بِهِ منذ الْيَوْم قَالَ: فلم نزل بِالْمَدِينَةِ مرة وبمكة مرة وَقَالَ الفرزدق فِي ذَلِكَ: أَلا من مبلغ عني زيادا ... مغلغلة يخب بِهَا البريد بأني قَدْ فررت إِلَى سَعِيد ... وَلا يسطاع مَا يحمي سَعِيد فررت اليه من ليث هزبر ... تفادى عن فريسته الأسود فإن شئت انتسبت إِلَى النصارى ... وان شئت انتسبت الى اليهود

ذكر الخبر عن غزوه الحكم بن عمرو جبل الأشل وسبب هلاكه

وإن شئت انتسبت إِلَى فقيم ... وناسبني وناسبت القرود ويروى: وناسبنى وناسبت اليهود. ... وأبغضهم إلي بنو فقيم ولكن سوف آتي مَا تريد وَقَالَ أَيْضًا: أتاني وعيد من زياد فلم أنم ... وسيل اللوى دوني فهضب التهائم فبت كأني مشعر خيبرية ... سرت فِي عظامي او سمام الاراقم زياد بن حرب لن أظنك تاركي ... وذا الضغن قَدْ خشمته غير ظالم قَالَ: وأنشدنيه عَمْرو: وبالضغن قَدْ خشمتني غير ظالم. ... وَقَدْ كافحت مني العراق قصيدة رجوم مع الماضي رءوس المخارم ... خفيفة أفواه الرواة ثقيلة عَلَى قرنها نزالة بالمواسم وَهِيَ طويلة فلم نزل بين مكة والمدينة حَتَّى هلك زياد. وفي هَذِهِ السنة كَانَتْ وفاة الحكم بن عَمْرو الْغِفَارِيّ بمرو منصرفه من غزوة أهل جبل الأشل . ذكر الخبر عن غزوة الحكم بن عمرو جبل الأشل وسبب هلاكه حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَاتِمُ بْنُ قَبِيصَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا غَالِبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صُبْحٍ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو بِخُرَاسَانَ، فَكَتَبَ زِيَادٌ إِلَى عَمْرٍو: أَنَّ أَهْلَ جَبَلِ الأَشَلِّ سِلاحُهُمُ

اللُّبُودُ، وَآنِيَتُهُمُ الذَّهَبُ فَغَزَاهُمْ حَتَّى تَوَسَّطُوا، فَأَخَذُوا بِالشِّعَابِ وَالطُّرُقِ، فَأَحْدَقُوا بِهِ، فَعَيَّ بِالأَمْرِ، فَوَلَّى الْمُهَلَّبَ الْحَرْبَ، فَلَمْ يَزَلِ الْمُهَلَّبُ يَحْتَالُ حَتَّى أَخَذَ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ، فَقَالَ لَهُ: اخْتَرْ بَيْنَ أَنْ أَقْتُلَكَ، وَبَيْنَ أَنْ تُخْرِجَنَا مِنْ هَذَا الْمَضِيقِ، فَقَالَ لَهُ: أَوْقِدِ النَّارَ حِيَالَ الطَّرِيقِ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ، وَمُرْ بِالأَثْقَالِ فَلْتُوَجَّهْ نَحْوَهُ، حَتَّى إِذَا ظَنَّ الْقَوْمُ أَنَّكُمْ قَدْ دَخَلْتُمُ الطَّرِيقَ لِتَسْلُكُوهُ فَإِنَّهُمْ يَسْتَجْمِعُونَ لَكُمْ، وَيَعِرُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الطُّرُقِ، فَبَادِرْهُمْ إِلَى غَيْرِهِ فَإِنَّهُمْ لا يُدْرِكُونَكَ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْهُ فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَنَجَا وَغَنِمُوا غَنِيمَةً عَظِيمَةً. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: لما قفل الحكم بن عَمْرو من غزوة جبل الأشل ولي المهلب ساقته، فسلكوا فِي شعاب ضيقة، فعارضه الترك فأخذوا عَلَيْهِم بالطرق، فوجدوا فِي بعض تِلَكَ الشعاب رجلا يتغنى من وراء حائط ببيتين: تعز بصبر لا وجدك لا ترى ... سنام الحمى أخرى الليالي الغوابر كأن فؤادي من تذكري الحمى ... وأهل الحمى يهفو بِهِ ريش طائر فأتى بِهِ الحكم، فسأله عن أمره، فَقَالَ: غايرت ابن عم لي، فخرجت ترفعني أرض وتخفضني أخرى، حَتَّى هبطت هَذِهِ البلاد فحمله الحكم إِلَى زياد بِالْعِرَاقِ. قَالَ: وتخلص الحكم من وجهه حَتَّى أتى هراة، ثُمَّ رجع إِلَى مرو. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَاتِمُ بْنُ قَبِيصَةَ، قَالَ: حدثنا غالب ابن سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صُبْحٍ، قَالَ: كَتَبَ إِلَيْهِ زِيَادٌ: وَاللَّهِ لَئِنْ بَقِيتُ لَكَ لأَقْطَعَنَّ مِنْكَ طَابَقًا سُحْتًا، وَذَلِكَ أَنَّ زِيَادًا كَتَبَ إِلَيْهِ لِمَا وَرَدَ بِالْخَبَرِ عَلَيْهِ بِمَا غَنِمَ: أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَتَبَ إِلَيَّ أَنْ أَصْطَفِيَ لَهُ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ وَالرَّوَائِعَ فَلا تُحَرِّكَنَّ شَيْئًا حَتَّى تُخْرِجَ ذَلِكَ

فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَكَمُ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ كِتَابَكَ وَرَدَ، تَذْكُرُ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَتَبَ إِلَيَّ أَنْ أَصْطَفِيَ لَهُ كُلَّ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ وَالرَّوَائِعَ، وَلا تُحَرِّكَنَّ شَيْئًا، فَإِنَّ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ كِتَابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ لو كانت السماوات وَالأَرْضُ رِتْقًا عَلَى عَبْدٍ اتَّقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُ مَخْرَجاً. وَقَالَ لِلنَّاسِ: اغْدُوا عَلَى غَنَائِمِكُمْ، فَغَدَا النَّاسُ، وَقَدْ عَزَلَ الْخُمُسَ، فَقَسَّمَ بَيْنَهُمْ تِلْكَ الْغَنَائِمَ، قَالَ: فَقَالَ الْحَكَمُ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ لِي عِنْدَكَ خَيْرٌ فَاقْبِضْنِي، فَمَاتَ بِخُرَاسَانَ بِمَرْوَ. قَالَ عُمَرُ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ: لَمَّا حَضَرَتِ الْحَكَمَ الْوَفَاةُ بِمَرْوَ، اسْتَخْلَفَ أَنَسَ بْنَ أَبِي أُنَاسٍ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ خَمْسِينَ

سنه احدى وخمسين

ثُمَّ دخلت سنة إحدى وخمسين (ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كَانَ فِيهَا مشتى فضالة بن عبيد بأرض الروم، وغزوة بسر بن أبي أرطاة الصائفة، ومقتل حجر بن عدى واصحابه. ذكر مقتل حجر بن عدي وأَصْحَابه ذكر سبب مقتله: قال هشام بن مُحَمَّد، عن أبي مخنف، عن المجالد بن سعيد، والصقعب ابن زهير، وفضيل بن خديج، والحسين بن عُقْبَةَ المرادي، قَالَ: كُلٌّ قَدْ حَدَّثَنِي بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ، فَاجَتْمَعَ حديثهم فِيمَا سقت من حديث حجر ابن عدي الكندي وأَصْحَابه: أن مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ لما ولي الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ الْكُوفَة فِي جمادى سنة إحدى وأربعين دعاه، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فإن لذي الحلم قبل الْيَوْم مَا تقرع العصا، وَقَدْ قَالَ المتلمس: لذي الحلم قبل الْيَوْم مَا تقرع العصا ... وما علم الإنسان إلا ليعلما وَقَدْ يجزي عنك الحكيم بغير التعليم، وَقَدْ أردت إيصاءك بأشياء كثيرة، فأنا تاركها اعتمادا عَلَى بصرك بِمَا يرضيني ويسعد سلطاني، ويصلح بِهِ رعيتي، ولست تاركا إيصاءك بخصلة: لا تتحم عن شتم علي وذمه، والترحم عَلَى عُثْمَانَ والاستغفار لَهُ، والعيب عَلَى أَصْحَاب علي، والإقصاء لَهُمْ، وترك الاستماع مِنْهُمْ، وبإطراء شيعة عُثْمَان رضوان اللَّه عَلَيْهِ، والإدناء لهم،

والاسماع مِنْهُمْ فَقَالَ الْمُغِيرَة: قَدْ جربت وجربت، وعملت قبلك لغيرك، فلم يذمم بي دفع وَلا رفع وَلا وضع، فستبلو فتحمد أو تذم قَالَ: بل نحمد إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ أَبُو مخنف: قَالَ الصقعب بن زهير: سمعت الشَّعْبِيّ يقول: مَا ولينا وال بعده مثله، وإن كَانَ لاحقا بصالح من كَانَ قبله من العمال. وأقام الْمُغِيرَة عَلَى الْكُوفَة عاملا لمعاوية سبع سنين وأشهرا، وَهُوَ من أحسن شَيْء سيرة، وأشده حبا للعافية، غير أنه لا يدع ذم علي والوقوع فِيهِ والعيب لقتلة عُثْمَان، واللعن لَهُمْ، والدعاء لِعُثْمَانَ بالرحمة والاستغفار لَهُ، والتزكية لأَصْحَابه، فكان حجر بن عدي إذا سمع ذَلِكَ قَالَ: بل إياكم فذمم اللَّه ولعن! ثُمَّ قام فَقَالَ: إن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يقول: «كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ» ، وأنا أشهد أن من تذمون وتعيرون لأحق بالفضل، وأن من تزكون وتطرون أولى بالذم فيقول الْمُغِيرَة: يَا حجر، لقد رمي بسهمك، إذ كنت أنا الوالي عَلَيْك، يَا حجر ويحك! اتق السلطان، اتق غضبه وسطوته، فإن غضبة السلطان أحيانا مما يهلك أمثالك كثيرا ثُمَّ يكف عنه ويصفح. فلم يزل حَتَّى كَانَ فِي آخر إمارته قام المغيرة فَقَالَ فِي علي وعثمان كما كَانَ يقول، وكانت مقالته: اللَّهُمَّ ارحم عُثْمَان بن عَفَّانَ وتجاوز عنه، وأجزه بأحسن عمله، فإنه عمل بكتابك، واتبع سنه نبيك ص، وجمع كلمتنا، وحقن دماءنا، وقتل مظلوما، اللَّهُمَّ فارحم أنصاره وأولياءه ومحبيه والطالبين بدمه! ويدعو عَلَى قتلته فقام حجر بن عدي فنعر نعرة بالْمُغِيرَة سمعها كل من كَانَ فِي المسجد وخارجا مِنْهُ، وَقَالَ: إنك لا تدري بمن تولع من هرمك! أيها الإنسان، مر لنا بأرزاقنا وأعطياتنا، فإنك قَدْ حبستها عنا، وليس ذَلِكَ لك، ولم يكن يطمع فِي ذَلِكَ من كَانَ قبلك، وَقَدْ أصبحت مولعا بذم أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وتقريظ المجرمين قَالَ: فقام مَعَهُ أكثر من ثلثي الناس يقولون: صدق وَاللَّهِ حجر وبر، مر لنا

بأرزاقنا وأعطياتنا، فإنا لا ننتفع بقولك هَذَا، وَلا يجدي علينا شَيْئًا، وأكثروا فِي مثل هَذَا القول ونحوه فنزل الْمُغِيرَة، فدخل واستأذن عَلَيْهِ قومه، فأذن لَهُمْ، فَقَالُوا: علام تترك هَذَا الرجل يقول هَذِهِ المقالة، ويجترئ عَلَيْك فِي سلطانك هَذِهِ الجرأة! إنك تجمع عَلَى نفسك بهذا خصلتين: أما أولهما فتهوين سلطانك، وأما الأخرى فإن ذَلِكَ إن بلغ مُعَاوِيَة كان اسخط له عليه- وَكَانَ أشدهم لَهُ قولا فِي أمر حجر والتعظيم عَلَيْهِ عَبْد اللَّهِ أبي عقيل الثقفي- فَقَالَ لَهُمُ الْمُغِيرَة: إني قَدْ قتلته، إنه سيأتي أَمِير بعدي فيحسبه مثلي فيصنع بِهِ شبيها بِمَا ترونه يصنع بي، فيأخذه عِنْدَ أول وهلة فيقتله شر قتلة، إنه قَدِ اقترب أجلي، وضعف عملي، وَلا أحب أن أبتدئ أهل هَذَا المصر بقتل خيارهم، وسفك دمائهم، فيسعدوا بِذَلِكَ وأشقى، ويعز فِي الدُّنْيَا مُعَاوِيَة، ويذل يوم الْقِيَامَة الْمُغِيرَة، ولكني قابل من محسنهم، وعاف عن مسيئهم، وحامد حليمهم، وواعظ سفيههم، حَتَّى يفرق بيني وبينهم الموت، وسيذكروننى لو قَدْ جربوا العمال بعدي قَالَ أَبُو مخنف: سمعت عُثْمَان بن عُقْبَةَ الكندي، يقول: سمعت شيخا للحي يذكر هَذَا الحديث يقول: قد والله جربناهم فوجدناه خيرهم، احمدهم للبرىء، وأغفرهم للمسيء، وأقبلهم للعذر. قَالَ هِشَام: قَالَ عوانة: فولي الْمُغِيرَة الْكُوفَة سنة إحدى وأربعين فِي جمادى، وهلك سنة إحدى وخمسين، فجمعت الْكُوفَة والبصرة لزياد بن أَبِي سُفْيَانَ، فأقبل زياد حَتَّى دخل القصر بالكوفة، ثُمَّ صعد المنبر فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإنا قَدْ جربنا وجربنا، وسسنا وساسنا السائسون، فوجدنا هَذَا الأمر لا يصلح آخره إلا بِمَا صلح أوله، بالطاعة اللينة المشبه سرها بعلانيتها، وغيب أهلها بشاهدهم، وقلوبهم بألسنتهم، ووجدنا الناس لا يصلحهم إلا لين فِي غير ضعف، وشدة فِي غير عنف، وإني وَاللَّهِ لا أقوم فيكم بأمر إلا أمضيته عَلَى أذلاله، وليس من كذبة

الشاهد عَلَيْهَا من اللَّه والناس أكبر من كذبة إمام عَلَى الْمِنْبَر ثُمَّ ذكر عُثْمَان وأَصْحَابه فقرظهم، وذكر قتلته ولعنهم فقام حجر ففعل مثل الَّذِي كَانَ يفعل بالْمُغِيرَة، وَقَدْ كَانَ زياد قَدْ رجع إِلَى الْبَصْرَة وولي الْكُوفَة عَمْرو بن الحريث، ورجع إِلَى الْبَصْرَة فبلغه أن حجرا يجتمع إِلَيْهِ شيعة علي، ويظهرون لعن مُعَاوِيَة والبراءة مِنْهُ، وأنهم حصبوا عَمْرو بن الحريث، فشخص إِلَى الْكُوفَةِ حَتَّى دخلها، فأتى القصر فدخله، ثُمَّ خرج فصعد الْمِنْبَر وعليه قباء سندس ومطرف خز أخضر، قَدْ فرق شعره، وحجر جالس فِي المسجد حوله أَصْحَابه أكثر مَا كَانُوا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن غب البغي والغي وخيم، إن هَؤُلاءِ جموا فأشروا، وأمنوني فاجترءوا علي، وايم اللَّه لَئِنْ لم تستقيموا لأداوينكم بدوائكم، وَقَالَ: مَا أنا بشيء إن لم أمنع باحة الْكُوفَة من حجر وأدعه نكالا لمن بعده! ويل أمك يَا حجر! سقط العشاء بك عَلَى سرحان، ثُمَّ قَالَ: أبلغ نصيحة أن راعي إبلها ... سقط العشاء بِهِ عَلَى سرحان وأما غير عوانة، فإنه قَالَ فِي سبب أمر حجر مَا حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حَسَنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ الْجَرَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: خَطَبَ زِيَادٌ يَوْمًا فِي الْجُمُعَةِ فَأَطَالَ الْخُطْبَةَ وَأَخَّرَ الصَّلاةَ، فَقَالَ لَهُ حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ: الصَّلاةَ! فَمَضَى فِي خُطْبَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: الصَّلاةَ! فَمَضَى فِي خُطْبَتِهِ، فَلَمَّا خَشِيَ حُجْرٌ فَوْتَ الصَّلاةِ ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى كَفٍّ مِنَ الْحَصَا، وَثَارَ إِلَى الصَّلاةِ وَثَارَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ زِيَادٌ نَزَلَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلاتِهِ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ فِي أَمْرِهِ، وَكَثَّرَ عَلَيْهِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ أَنْ شُدَّهْ فِي الْحَدِيدِ، ثُمَّ احْمِلْهُ إِلَيَّ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ كِتَابُ مُعَاوِيَةَ أَرَادَ قَوْمُ حُجْرٍ أَنْ يَمْنَعُوهَ، فَقَالَ: لا، وَلَكِنْ سَمْعٌ وَطَاعَةٌ، فشد

فِي الْحَدِيدِ، ثُمَّ حُمِلَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ! أَمَا وَاللَّهِ لا أُقِيلُكَ وَلا أَسْتَقِيلُكَ، أَخْرِجُوهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ، فَأُخْرِجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالَ حُجْرٌ لِلَّذِينَ يَلُونَ أَمْرَهُ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، فَقَالُوا: صَلِّ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفَّفَ فِيهِمَا، ثُمَّ قَالَ: لَوْلا أَنْ تَظُنُّوا بِي غير الذى انا عليه لا حببت أَنْ تَكُونَا أَطْوَلَ مِمَّا كَانَتَا، وَلَئِنْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا مَضَى مِنَ الصَّلاةِ خَيْرٌ فَمَا فِي هَاتَيْنِ خَيْرٌ، ثُمَّ قَالَ لِمَنْ حَضَرَهُ مِنْ أَهْلِهِ: لا تُطْلِقُوا عَنِّي حَدِيدًا، وَلا تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا، فَإِنِّي أُلاقِي مُعَاوِيَةَ غَدًا عَلَى الْجَادَّةِ ثُمَّ قَدِمَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ. قَالَ مخلد: قَالَ هِشَام: كَانَ مُحَمَّد إذا سئل عن الشهيد يغسل، حدثهم حديث حجر. قَالَ مُحَمَّدٌ: فلقيت عَائِشَة أم الْمُؤْمِنِينَ مُعَاوِيَة- قَالَ مخلد: أظنه بمكة- فَقَالَتْ: يَا مُعَاوِيَة، أين كَانَ حلمك عن حجر! فَقَالَ لها: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، لم يحضرني رشيد! قَالَ ابن سيرين: فبلغنا أنه لما حضرته الوفاة جعل يغرغر بالصوت ويقول: يومي مِنْكَ يَا حجر يوم طويل! قَالَ هِشَامٌ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيل بن نعيم النمري، عن حُسَيْن بن عَبْدِ اللَّهِ الهمداني، قَالَ: كنت فِي شرط زياد، فَقَالَ زياد: لينطلق بعضكم إِلَى حجر فليدعه، قَالَ: فَقَالَ لي أمير الشرطه- وهو شداد ابن الهيثم الهلالي: اذهب إِلَيْهِ فادعه، قَالَ: فأتيته، فقلت: أجب الأمير، فَقَالَ أَصْحَابه: لا يأتيه وَلا كرامة! قَالَ: فرجعت إِلَيْهِ فأخبرته، فأمر صاحب الشرطة أن يبعث معي رجالا، قَالَ: فبعث نفرا، قَالَ: فأتيناه فقلنا: أجب الأمير، قَالَ: فسبونا وشتمونا، فرجعنا إِلَيْهِ فأخبرناه الخبر، قَالَ: فوثب زياد بأشراف أهل الْكُوفَة، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، أتشجون بيد وتأسون بأخرى! أبدانكم معي وأهواؤكم مع حجر! هَذَا الهجهاجة الأحمق المذبوب

أنتم معي وإخوانكم وأبناؤكم وعشائركم مع حجر! هَذَا وَاللَّهِ من دحسكم وغشكم! وَاللَّهِ لتظهرن لي براءتكم أو لآتينكم بقوم أقيم بهم أودكم وصعركم! فوثبوا إِلَى زياد، فَقَالُوا: معاذ اللَّه سُبْحَانَهُ ان يكون لنا فيما هاهنا رأي إلا طاعتك وطاعة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وكل مَا ظننا أن فِيهِ رضاك، وما يستبين بِهِ طاعتنا وخلافنا لحجر فمرنا بِهِ، قَالَ: فليقم كل امرئ مِنْكُمْ إِلَى هَذِهِ الجماعة حول حجر فليدع كل رجل مِنْكُمْ أخاه وابنه وذا قرابته ومن يطيعه من عشيرته، حَتَّى تقيموا عنه كل من استطعتم أن تقيموه ففعلوا ذَلِكَ، فأقاموا جل من كَانَ مع حجر بن عدي، فلما رَأَى زياد أن جل من كَانَ مع حجر أقيم عنه، قَالَ لشداد بن الهيثم الهلالي- ويقال: هيثم بن شداد أَمِير شرطته-: انطلق إِلَى حجر، فإن تبعك فأتني بِهِ، وإلا فمر من معك فلينتزعوا عمد السوق، ثُمَّ يشدوا بِهَا عَلَيْهِم حَتَّى يأتوني بِهِ ويضربوا من حال دونه فأتاه الهلالي فَقَالَ: أجب الأمير، قَالَ: فَقَالَ أَصْحَاب حجر: لا وَلا نعمة عين! لا نجيبه فَقَالَ لأَصْحَابه: شدوا عَلَى عمد السوق، فاشتدوا إِلَيْهَا، فأقبلوا بِهَا قَدِ انتزعوها، فَقَالَ عمير بن يَزِيدَ الكندي من بنى هند- وهو ابو العمر: إنه ليس معك رجل مَعَهُ سيف غيري، وما يغني عنك! قَالَ: فما ترى؟ قَالَ: قم من هَذَا المكان فالحق بأهلك يمنعك قومك فقام زياد ينظر إِلَيْهِم وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَر، فغشوا بالعمد، فضرب رجل من الحمراء- يقال له بكر ابن عبيد- رأس عَمْرو بن الحمق بعمود فوقع، وأتاه أَبُو سُفْيَان بن عويمر والعجلان بن رَبِيعَة- وهما رجلان من الأزد- فحملاه، فأتيا بِهِ دار رجل من الأزد- يقال لَهُ عُبَيْد اللَّهِ بن مالك- فخبأه بِهَا، فلم يزل بِهَا متواريا حَتَّى خرج منها. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي يُوسُف بن يَزِيدَ، عن عَبْد اللَّهِ بن عوف بن الأحمر، قَالَ: لما انصرفنا من غزوة باجميرا قبل مقتل مصعب بعام، فإذا انا باحمرى يسايرنى- وو الله مَا رأيته من ذَلِكَ الْيَوْم الَّذِي ضرب فِيهِ عَمْرو بن الحمق، وما كنت أَرَى لو رأيته أن أعرفه- فلما رأيته ظننت

أنه هُوَ هُوَ، وذاك حين نظرنا إِلَى أبيات الْكُوفَة، فكرهت أن أسأله: أنت الضارب عَمْرو بن الحمق؟ فيكابرني، فقلت لَهُ: مَا رأيتك من الْيَوْم الَّذِي ضربت فِيهِ رأس عَمْرو بن الحمق بالعمود فِي المسجد إِلَى يومي هَذَا، وَلَقَدْ عرفتك الآن حين رأيتك، فَقَالَ لي: لا تعدم بصرك، مَا أثبت نظرك! كَانَ ذَلِكَ أمر الشَّيْطَان، أما إنه قَدْ بلغني أنه كَانَ امرأ صالحا، وَلَقَدْ ندمت عَلَى تِلَكَ الضربة، فأستغفر اللَّه فقلت له: الا ترى وَاللَّهِ لا أفترق أنا وأنت حَتَّى أضربك عَلَى رأسك مثل الضربة الَّتِي ضربتها عَمْرو بن الحمق أو أموت أو تموت! فناشدني اللَّه وسألني اللَّه، فأبيت عَلَيْهِ، ودعوت غلاما لي يدعى رشيدا من سبي أصبهان مَعَهُ قناة لَهُ صلبة، فأخذتها مِنْهُ، ثُمَّ أحمل عَلَيْهِ بِهَا، فنزل عن دابته، وألحقه حين استوت قدماه بالأرض، فأصفع بِهَا هامته، فخر لوجهه، ومضيت وتركته، فبرأ بعد، فلقيته مرتين من الدهر، كل ذَلِكَ يقول: اللَّه بيني وبينك! وأقول: اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بينك وبين عَمْرو بن الحمق! ثُمَّ رجع إِلَى أول الحديث قَالَ: فلما ضرب عمرا تِلَكَ الضربة وحمله ذانك الرجلان، انحاز أَصْحَاب حجر إِلَى أبواب كندة، ويضرب رجل من جذام كَانَ فِي الشرطة رجلا يقال لَهُ عَبْد اللَّهِ بن خليفة الطَّائِيّ بعمود، فضربه ضربة فصرعه، فَقَالَ وَهُوَ يرتجز: قَدْ علمت يوم الهياج خلتي ... أني إذا مَا فِئتي تولت وكثرت عداتها أو قلت ... أنيَ قتال غداة بلت وضربت يد عائذ بن حملة التميمي وكسرت نابه، فَقَالَ: إن تكسروا نابي وعظم ساعدي ... فإن فيّ سورة المناجد وبعض شغب البطل المبالد. وينتزع عمودا من بعض الشرطة، فقاتل بِهِ وحمى حجرا وأَصْحَابه، حَتَّى خرجوا من تلقاء أبواب كندة، وبغلة حجر موقوفة، فأتى بِهَا أَبُو العمرطة إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: اركب لا أب لغيرك! فو الله مَا أراك إلا قَدْ قتلت نفسك،

وقتلتنا معك، فوضع حجر رجله فِي الركاب، فلم يستطع أن ينهض، فحمله أَبُو العمرطة عَلَى بغلته، ووثب أَبُو العمرطة عَلَى فرسه، فما هُوَ إلا أن استوى عَلَيْهِ حَتَّى انتهى إِلَيْهِ يَزِيد بن طريف المسلي- وَكَانَ يغمز- فضرب أبا العمرطة بالعمود عَلَى فخذه، ويخترط أَبُو العمرطة سيفه، فضرب بِهِ رأس يَزِيد بن طريف، فخر لوجهه ثُمَّ إنه برأ بعد، فله يقول عَبْد اللَّهِ بن همام السلولي: الؤم ابن لؤم مَا عدا بك حاسرا ... إِلَى بطل ذي جراه وشكيم! معاود ضرب الدار عين بسيفه ... عَلَى الهام عِنْدَ الروع غير لئيم إِلَى فارس الغارين يوم تلاقيا ... بصفين قرم خير نجل قروم حسبت ابن برصاء الحتار قتاله ... قتالك زَيْدا يوم دار حكيم وَكَانَ ذَلِكَ السيف أول سيف ضرب بِهِ فِي الْكُوفَة فِي الاختلاف بين الناس ومضى حجر وأبو العمرطة حَتَّى انتهيا إِلَى دار حجر، واجتمع إِلَى حجر ناس كثير من أَصْحَابه، وخرج قيس بن فهدان الكندي عَلَى حمار لَهُ يسير فِي مجالس كندة، يقول: يَا قوم حجر دافعوا وصاولوا ... وعن أخيكم ساعة فقاتلوا لا يلفيا مِنْكُمْ لحجر خاذل ... أليس فيكم رامح ونابل وفارس مستلئم وراجل ... وضارب بالسيف لا يزايل! فلم يأته من كندة كثير أحد وَقَالَ زياد وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَر: ليقم همدان وتميم وهوازن وأبناء أعصر ومذحج وأسد وغطفان فليأتوا جبانة كندة، فليمضوا من ثمَّ إِلَى حجر فليأتوني بِهِ ثُمَّ إنه كره أن يسير طائفة من مضر مع طائفة من أهل اليمن فيقع بينهم شغب واختلاف، وتفسد مَا بينهم الحمية، فَقَالَ: لتقم تميم وهوازن وأبناء أعصر وأسد وغطفان، ولتمض

مذحج وهمدان إِلَى جبانة كندة، ثُمَّ لينهضوا إِلَى حجر فليأتوني بِهِ، وليسر سائر أهل اليمن حَتَّى ينزلوا جبانة الصائديين فليمضوا إِلَى صاحبهم، فليأتوني بِهِ فخرجت الأزد وبجيلة وخثعم والأنصار وخزاعة وقضاعة، فنزلوا جبانة الصائديين، ولم تخرج حضرموت مع أهل اليمن لمكانهم من كندة، وَذَلِكَ أن دعوة حضرموت مع كندة، فكرهوا الخروج فِي طلب حجر. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيد بن مخنف، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مخنف، قَالَ: إني لمع أهل اليمن فِي جبانة الصائديين إذ اجتمع رءوس أهل اليمن يتشاورون فِي أمر حجر، فَقَالَ لَهُمْ عبد الرَّحْمَن بن مخنف: أنا مشير عَلَيْكُمْ برأي إن قبلتموه رجوت أن تسلموا من اللائمة والإثم، أَرَى لكم أن تلبثوا قليلا فإن سرعان شباب همدان ومذحج يكفونكم مَا تكرهون أن تلوا من مساءة قومكم فِي صاحبكم قَالَ: فأجمع رأيهم عَلَى ذلك، قال: فو الله مَا كَانَ إلا كلا وَلا حَتَّى أتينا، فقيل لنا: إن مذحج وهمدان قَدْ دخلوا فأخذوا كل من وجدوا من بني جبلة قَالَ: فمر أهل اليمن فِي نواحي دور كنده معذره، فبلغ ذَلِكَ زيادا، فأثنى عَلَى مذحج وهمدان وذم سائر أهل اليمن وإن حجرا لما انتهى إِلَى داره فنظر إِلَى قلة من مَعَهُ من قومه، وبلغه أن مذحج وهمدان نزلوا جبانة كندة وسائر أهل اليمن جبانة الصائديين قال لأصحابه: انصرفوا فو الله ما لكم طاقة بمن قَدِ اجتمع عَلَيْكُمْ من قومكم، وما أحب أن أعرضكم للهلاك، فذهبوا لينصرفوا، فلحقتهم

أوائل خيل مذحج وهمدان فعطف عَلَيْهِم عمير بن يَزِيدَ وقيس بن يَزِيدَ وعبيدة بن عَمْرو البدي وعبد الرَّحْمَن بن محرز الطمحي وقيس ابن شمر، فتقاتلوا معهم، فقاتلوا عنه ساعة فجرحوا، وأسر قيس بن يَزِيدَ، وأفلت سائر القوم، فَقَالَ لَهُمْ حجر: لا أبا لكم! تفرقوا لا تقاتلوا فإني آخذ فِي بعض السكك ثُمَّ آخذ طريقا نحو بني حرب، فسار حَتَّى انتهى إِلَى دار رجل مِنْهُمْ يقال لَهُ سليم بن يَزِيدَ، فدخل داره، وجاء القوم فِي طلبه حَتَّى انتهوا إِلَى تِلَكَ الدار، فأخذ سليم بن يَزِيدَ سيفه، ثُمَّ ذهب ليخرج إِلَيْهِم، فبكت بناته، فَقَالَ لَهُ حجر: مَا تريد؟ قَالَ: أريد وَاللَّهِ أسألهم أن ينصرفوا عنك، فإن فعلوا وإلا ضاربتهم بسيفي هَذَا مَا ثبت قائمه فِي يدي دونك، فَقَالَ حجر: لا أبا لغيرك! بئس مَا دخلت بِهِ إذا عَلَى بناتك! قَالَ: انى والله ما اموتهن، وَلا رزقهن إلا عَلَى الحي الَّذِي لا يموت، وَلا أشتري العار بشيء أبدا، وَلا تخرج من داري أسيرا أبدا وأنا حي أملك قائم سيفي، فإن قتلت دونك فاصنع مَا بدا لك قَالَ حجر: أما فِي دارك هَذِهِ حائط أقتحمه، أو خوخة أخرج منها، عسى أن يسلمني اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُمْ ويسلمك، فإذا القوم لم يقدروا علي عندك لم يضروك! قَالَ: بلى هَذِهِ خوخة تخرجك إِلَى دور بني العنبر وإلى غيرهم من قومك، فخرج حَتَّى مر ببني ذهل، فَقَالُوا لَهُ: مر القوم آنفا فِي طلبك يقفون أثرك. فَقَالَ: مِنْهُمْ أهرب، قَالَ: فخرج وَمَعَهُ فتية مِنْهُمْ يتقصون بِهِ الطريق، ويسلكون بِهِ الأزقة حَتَّى أفضى إِلَى النخع، فَقَالَ لَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ: انصرفوا رحمكم اللَّه! فانصرفوا عنه، وأقبل إِلَى دار عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث أخي الأَشْتَر فدخلها، فإنه لكذلك قَدْ ألقى لَهُ الفرش عَبْد اللَّهِ، وبسط لَهُ البسط، وتلقاه ببسط الوجه، وحسن البشر، إذ أتى فقيل لَهُ: إن الشرط تسأل عنك فِي النخع- وَذَلِكَ أن أمة سوداء يقال لها: أدماء، لقيتهم، فَقَالَتْ: من تطلبون؟

قالوا: نطلب حجرا، قالت: ها هو ذا قَدْ رأيته فِي النخع، فانصرفوا نحو النخع- فخرج من عِنْدَ عَبْد اللَّهِ متنكرا، وركب مَعَهُ عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث ليلا حَتَّى أتى دار رَبِيعَة بن ناجد الأَزْدِيّ فِي الأزد، فنزلها يَوْمًا وليلة، فلما أعجزهم أن يقدروا عَلَيْهِ دعا زياد بمُحَمَّد بن الأشعث فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا ميثاء، أما وَاللَّهِ لتأتيني بحجر أو لا أدع لك نخلة إلا قطعتها، وَلا دارا إلا هدمتها ثُمَّ لا تسلم مني حَتَّى أقطعك إربا إربا، قَالَ: أمهلني حَتَّى أطلبه، قَالَ: قَدْ أمهلتك ثلاثا، فإن جئت بِهِ وإلا عد نفسك مع الهلكى وأخرج مُحَمَّد نحو السجن منتقع اللون يتل تلا عنيفا، فَقَالَ حجر بن يَزِيدَ الكندي لزياد: ضمنيه وخل سبيله يطلب صاحبه، فإنه مخلى سربه- أحرى أن يقدر عَلَيْهِ مِنْهُ إذا كَانَ محبوسا فَقَالَ أتضمنه؟ قَالَ: نعم، قَالَ: أما وَاللَّهِ لَئِنْ حاص عنك لأزيرنك شعوب، وإن كنت الآن علي كريما. قَالَ: إنه لا يفعل، فخلي سبيله ثُمَّ إن حجر بن يَزِيدَ كلمه فِي قيس بن يَزِيدَ، وَقَدْ أتي بِهِ أسيرا، فَقَالَ لَهُمْ: مَا عَلَى قيس بأس، قَدْ عرفنا رأيه فِي عُثْمَان، وبلاءه يوم صفين مع أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أرسل إِلَيْهِ فأتي بِهِ، فَقَالَ لَهُ: إني قَدْ علمت إنك لم تقاتل مع حجر، أنك ترى رأيه، ولكن قاتلت مَعَهُ حمية قَدْ غفرتها لك لما أعلم من حسن رأيك، وحسن بلائك، ولكن لن أدعك حَتَّى تأتيني بأخيك عمير، قَالَ: أجيئك بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: فهات من يضمنه لي معك، قَالَ: هَذَا حجر بن يَزِيدَ يضمنه لك معي، قَالَ حجر بن يَزِيدَ: نعم أضمنه لك، عَلَى أن تؤمنه عَلَى ماله ودمه، قَالَ: ذَلِكَ لك، فانطلقا فأتيا بِهِ وَهُوَ جريح، فأمر بِهِ فأوقر حديدا، ثُمَّ أخذته الرجال ترفعه، حتى إذا بلغ سررها ألقوه، فوقع عَلَى الأرض، ثُمَّ رفعوه وألقوه، ففعلوا بِهِ ذَلِكَ مرارا، فقام إِلَيْهِ حجر بن يَزِيدَ فَقَالَ: ألم تؤمنه عَلَى ماله ودمه أصلحك اللَّه! قَالَ: بلى، قَدْ آمنته عَلَى ماله ودمه، ولست أهريق لَهُ دما، ولا آخذ

لَهُ مالا قَالَ: أصلحك اللَّه! يشفى بِهِ عَلَى الموت، ودنا مِنْهُ وقام من كَانَ عنده من أهل اليمن، فدنوا مِنْهُ وكلموه، فَقَالَ: أتضمنونه لي بنفسه، فمتى مَا أحدث حدثا أتيتموني بِهِ؟ قَالُوا: نعم، قَالَ: وتضمنون لي أرش ضربة المسلي، قَالُوا: ونضمنها، فخلي سبيله. ومكث حجر بن عدي فِي منزل رَبِيعَة بن ناجد الأَزْدِيّ يَوْمًا وليلة، ثُمَّ بعث حجر إِلَى مُحَمَّد بن الأشعث غلاما لَهُ يدعى رشيدا من أهل أصبهان: إنه قَدْ بلغني مَا استقبلك بِهِ هَذَا الجبار العنيد، فلا يهولنك شَيْء من أمره، فإني خارج إليك، أجمع نفرا من قومك ثُمَّ أدخل عَلَيْهِ فأسأله أن يؤمنني حَتَّى يبعث بي إِلَى مُعَاوِيَةَ فيرى فِي رأيه. فخرج ابن الأشعث إِلَى حجر بن يَزِيدَ وإلى جرير بن عَبْدِ اللَّهِ وإلى عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث أخي الأَشْتَر، فأتاهم فدخلوا إِلَى زياد فكلموه وطلبوا إِلَيْهِ أن يؤمنه حَتَّى يبعث بِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ فيرى فِيهِ رأيه، ففعل، فبعثوا إِلَيْهِ رسوله ذَلِكَ يعلمونه أن قَدْ أخذنا الَّذِي تسأل، وأمروه أن يأتي، فأقبل حَتَّى دخل عَلَى زياد فَقَالَ زياد: مرحبا بك أبا عبد الرَّحْمَن! حرب فِي أيام الحرب، وحرب وَقَدْ سَالم الناس! عَلَى أهلها تجني براقش قَالَ: مَا خالعت طاعة، وَلا فارقت جماعة، وإني لعلى بيعتي، فَقَالَ: هيهات هيهات يَا حجر! تشج بيد وتأسو بأخرى، وتريد إذا أمكن اللَّه مِنْكَ أن نرضى! كلا وَاللَّهِ. قَالَ: ألم تؤمني حَتَّى آتى مُعَاوِيَة فيرى فِي رأيه! قَالَ: بلى قَدْ فعلنا، انطلقوا بِهِ إِلَى السجن، فلما قفي بِهِ من عنده قَالَ زياد: أما وَاللَّهِ لولا أمانة مَا برح أو يلفظ مهجة نفسه. قَالَ هِشَام بن عروة: حَدَّثَنِي عوانة، قَالَ: قَالَ زياد: والله لا حرصن عَلَى قطع خيط رقبته. قَالَ هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، وَحَدَّثَنِي الْمُجَالِد بن سعيد، عن

الشَّعْبِيِّ وزكرياء بن أبي زائدة، عن أبي إِسْحَاق، أن حجرا لما قفي بِهِ من عِنْدَ زياد نادى بأعلى صوته: اللَّهُمَّ إني عَلَى بيعتي، لا أقيلها وَلا أستقيلها، سماع اللَّه والناس وَكَانَ عَلَيْهِ برنس فِي غداة باردة، فحبس عشر ليال، وزياد ليس لَهُ عمل إلا طلب رؤساء أَصْحَاب حجر، فخرج عَمْرو بن الحمق ورفاعة بن شداد حَتَّى نزلا المدائن، ثُمَّ ارتحلا حَتَّى أتيا أرض الموصل، فأتيا جبلا فكمنا فِيهِ، وبلغ عامل ذَلِكَ الرستاق أن رجلين قَدْ كمنا فِي جانب الجبل، فاستنكر شأنهما- وَهُوَ رجل من همدان يقال لَهُ عَبْد اللَّهِ بن أبي بلتعة- فسار إليهما فِي الخيل نحو الجبل وَمَعَهُ أهل البلد، فلما انتهى إليهما خرجا، فأما عَمْرو بن الحمق فكان مريضا، وَكَانَ بطنه قَدْ سقى، فلم يكن عنده امتناع، وأما رفاعة بن شداد- وَكَانَ شابا قويا- فوثب عَلَى فرس لَهُ جواد، فَقَالَ لَهُ: أقاتل عنك؟ قَالَ: وما ينفعني أن تقاتل! انج بنفسك إن استطعت، فحمل عَلَيْهِم، فأفرجوا لَهُ، فخرج تنفر بِهِ فرسه، وخرجت الخيل فِي طلبه- وَكَانَ راميا- فأخذ لا يلحقه فارس إلا رماه فجرحه أو عقره، فانصرفوا عنه، وأخذ عَمْرو بن الحمق، فسألوه: من أنت؟ فَقَالَ: من إن تركتموه كَانَ أسلم لكم، وإن قتلتموه كَانَ أضر لكم، فسألوه: فأبى أن يخبرهم، فبعث بِهِ ابن أبي بلتعة إِلَى عامل الموصل- وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ الثقفي- فلما رَأَى عَمْرو بن الحمق عرفه، وكتب إِلَى مُعَاوِيَةَ بخبره، فكتب إِلَيْهِ مُعَاوِيَة: أنه زعم انه طعن عثمان ابن عَفَّانَ تسع طعنات بمشاقص كَانَتْ مَعَهُ، وإنا لا نريد أن نعتدي عَلَيْهِ، فأطعنه تسع طعنات كما طعن عُثْمَان، فأخرج فطعن تسع طعنات، فمات فِي الأولى منهن أو الثانية

قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي الْمُجَالِد، عَنِ الشَّعْبِيِّ وزكرياء بن أبي زائدة، عن أبي إِسْحَاق قَالَ: وجه زياد فِي طلب أَصْحَاب حجر، فأخذوا يهربون مِنْهُ، ويأخذ من قدر عَلَيْهِ مِنْهُمْ، فبعث إِلَى قبيصة بن ضبيعة بن حرملة العبسي صاحب الشرطة- وَهُوَ شداد بن الهيثم- فدعا قبيصة فِي قومه، وأخذ سيفه، فأتاه ربعي بن خراش بن جحش العبسي ورجال من قومه ليسوا بالكثير، فاراد ان يقاتل، فقال له صاحب الشرطة: أنت آمن عَلَى دمك ومالك، فلم تقتل نفسك؟ فَقَالَ لَهُ أَصْحَابه: قَدْ أومنت، فعلام تقتل نفسك وتقتلنا معك! قَالَ: ويحكم! إن هَذَا الدعي ابن العاهرة، وَاللَّهِ لَئِنْ وقعت فِي يده لا أفلت مِنْهُ أبدا أو يقتلني، قَالُوا: كلا، فوضع يده فِي أيديهم، فأقبلوا بِهِ إِلَى زياد، فلما دخلوا عليه قال زياد: وحى عبس تعزوني عَلَى الدين، أما وَاللَّهِ لأجعلن لك شاغلا عن تلقيح الفتن، والتوثب عَلَى الأمراء، قَالَ: إني لم آتك إلا عَلَى الأمان، قَالَ: انطلقوا بِهِ إِلَى السجن، وجاء قيس بن عباد الشيباني إِلَى زياد فَقَالَ لَهُ: إن امرأ منا من بني همام يقال لَهُ: صيفي بن فسيل من رءوس أَصْحَاب حجر، وَهُوَ أشد الناس عَلَيْك، فبعث إِلَيْهِ زياد، فأتي بِهِ، فَقَالَ لَهُ زياد: يَا عدو اللَّه، مَا تقول فِي أبي تراب؟ قَالَ: مَا أعرف أبا تراب، قَالَ: مَا أعرفك بِهِ! قَالَ: مَا أعرفه، قَالَ: أما تعرف عَلِيّ بن أبي طالب؟ قَالَ: بلى، قَالَ: فذاك أَبُو تراب، قَالَ: كلا، ذاك أَبُو الحسن والحسين، فَقَالَ لَهُ صاحب الشرطة: يقول لك الأمير: هُوَ أَبُو تراب، وتقول أنت: لا! قَالَ: وإن كذب الأمير أتريد أن أكذب وأشهد لَهُ عَلَى باطل كما شهد! قَالَ لَهُ زياد: وهذا أَيْضًا مع ذنبك! علي بالعصا، فاتى بها، فقال: ما قولك في على؟، قَالَ: أحسن قول أنا قائله فِي عبد من عباد الله اقوله فِي الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: اضربوا عاتقه بالعصا

حَتَّى يلصق بالأرض، فضرب حَتَّى لزم الأرض ثُمَّ قَالَ: اقلعوا عنه، إيه، مَا قولك في على؟ قال: والله لو شرحتني بالمواسي والمدى مَا قلت إلا مَا سمعت مني، قَالَ لتلعننه أو لأضربن عنقك، قَالَ: إذا تضربها وَاللَّهِ قبل ذَلِكَ، فإن أبيت إلا أن تضربها رضيت بِاللَّهِ، وشقيت أنت، قَالَ: ادفعوا فِي رقبته، ثُمَّ قَالَ: أوقروه حديدا، وألقوه فِي السجن. ثُمَّ بعث إِلَى عَبْد اللَّهِ بن خليفة الطَّائِيّ- وَكَانَ شهد مع حجر وقاتلهم قتالا شديدا- فبعث إِلَيْهِ زياد بكير بن حمران الأحمري- وَكَانَ تبيع العمال- فبعثه فِي أناس من أَصْحَابه، فأقبلوا فِي طلبه فوجدوه فِي مسجد عدي بن حاتم، فأخرجوه، فلما أرادوا أن يذهبوا بِهِ- وَكَانَ عزيز النفس- امتنع مِنْهُمْ فحاربهم وقاتلهم، فشجوه ورموه بالحجارة حَتَّى سقط، فنادت ميثاء أخته: يَا معشر طيئ، أتسلمون ابن خليفة لسانكم وسنانكم! فلما سمع الأحمري نداءها خشي أن تجتمع طيئ فيهلك، فهرب وخرج نسوة من طيئ فأدخلنه دارا، وينطلق الأحمري حَتَّى أتى زيادا فَقَالَ: إن طيئا اجتمعت إلي فلم أطقهم، فأتيتك، فبعث زياد إِلَى عدي- وَكَانَ فِي المسجد- فحبسه وَقَالَ: جئني بِهِ- وَقَدْ أخبر عدي بخبر عَبْد اللَّهِ- فَقَالَ عدي: كيف آتيك برجل قَدْ قتله القوم؟ قَالَ: جئني حَتَّى أَرَى أن قَدْ قتلوه، فاعتل لَهُ وَقَالَ: لا أدري أين هُوَ، وَلا مَا فعل! فحبسه، فلم يبق رجل من أهل المصر من أهل اليمن وربيعة ومضر إلا فزع لعدي، فأتوا زيادا فكلموه فِيهِ، وأخرج عَبْد اللَّهِ فتغيب فِي بحتر، فأرسل إِلَى عدي: إن شئت أن أخرج حَتَّى أضع يدي فِي يدك فعلت، فبعث إِلَيْهِ عدي: وَاللَّهِ لو كنت تحت قدمي مَا رفعتهما عنك فدعا زياد عديا، فَقَالَ لَهُ: إني أخلي سبيلك عَلَى ان تجعل

لي لتنفيه من الْكُوفَة، ولتسير بِهِ إِلَى الجبلين، قَالَ: نعم، فرجع وأرسل إِلَى عَبْد اللَّهِ بن خليفة: اخرج، فلو قَدْ سكن غضبه لكلمته فيك حَتَّى ترجع إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فخرج إِلَى الجبلين. وأتي زياد بكريم بن عفيف الخثعمي فقال: ما اسمك؟ قال: انا كريم ابن عفيف، قَالَ: ويحك، أو ويلك! مَا أحسن اسمك واسم أبيك، وأسوأ عملك ورأيك! قَالَ: أما وَاللَّهِ إن عهدك برأيي لمنذ قريب، ثُمَّ بعث زياد إِلَى أَصْحَاب حجر حَتَّى جمع اثني عشر رجلا فِي السجن ثُمَّ إنه دعا رءوس الأرباع، فَقَالَ: اشهدوا عَلَى حجر بِمَا رأيتم مِنْهُ- وَكَانَ رءوس الأرباع يَوْمَئِذٍ: عَمْرو بن حريث عَلَى ربع أهل الْمَدِينَة، وخالد بن عرفطة عَلَى ربع تميم وهمدان، وقيس بن الْوَلِيد بن عبد شمس بن الْمُغِيرَة عَلَى ربع رَبِيعَة وكندة، وأبو بردة بن أبي مُوسَى عَلَى مذحج وأسد- فشهد هَؤُلاءِ الأربعة أن حجرا جمع إِلَيْهِ الجموع، وأظهر شتم الخليفة، ودعا إِلَى حرب أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وزعم أن هَذَا الأمر لا يصلح إلا فِي آل أبي طالب، ووثب بالمصر وأخرج عامل أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وأظهر عذر أبي تراب والترحم عَلَيْهِ، والبراءة من عدوه وأهل حربه، وأن هَؤُلاءِ النفر الَّذِينَ مَعَهُ هم رءوس أَصْحَابه، وعلى مثل رأيه وأمره ثُمَّ أمر بهم ليخرجوا، فأتاه قيس بن الْوَلِيد فَقَالَ: إنه قَدْ بلغني أن هَؤُلاءِ إذا خرج بهم عرض لَهُمْ فبعث زياد إِلَى الكناسة فابتاع إبلا صعابا، فشد عَلَيْهَا المحامل، ثُمَّ حملهم عَلَيْهَا فِي الرحبة أول النهار، حَتَّى إذا كَانَ العشاء قَالَ زياد: من شاء فليعرض، فلم يتحرك مِنَ النَّاسِ أحد، ونظر زياد فِي شهادة الشهود فَقَالَ: مَا أظن هَذِهِ الشهادة قاطعة، وإني لأحب أن يكون الشهود أكثر من أربعة. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي الْحَارِث بن حصيرة، عن أبي الكنود- وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن عبيد- وأبو مخنف، عن عبد الرَّحْمَن بن جندب وسُلَيْمَان بن أبي راشد، عن أبي الكنود بأسماء هَؤُلاءِ الشهود:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا شهد عَلَيْهِ أَبُو بردة بن أبي مُوسَى لِلَّهِ رب العالمين، شهد أن حجر بن عدي خلع الطاعة، وفارق الجماعة، ولعن الخليفة، ودعا إِلَى الحرب والفتنة، وجمع إِلَيْهِ الجموع يدعوهم إِلَى نكث البيعة وخلع أَمِير الْمُؤْمِنِينَ مُعَاوِيَة، وكفر بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كفرة صلعاء. فَقَالَ زياد: عَلَى مثل هَذِهِ الشهادة فاشهدوا، أما وَاللَّهِ لأجهدن عَلَى قطع خيط عنق الخائن الأحمق، فشهد رءوس الارباع الثلاثة الآخرون عَلَى مثل شهادته- وكانوا أربعة- ثُمَّ إن زيادا دعا الناس فَقَالَ: اشهدوا عَلَى مثل شهادة رءوس الأرباع فقرأ عَلَيْهِم الكتاب، فقام أول الناس عناق بن شُرَحْبِيل بن أبي دهم التيمي تيم اللَّه بن ثعلبة، فَقَالَ: بينوا اسمي، فَقَالَ زياد: ابدءوا بأسامي قريش، ثُمَّ اكتبوا اسم عناق فِي الشهود، ومن نعرفه ويعرفه أَمِير الْمُؤْمِنِينَ بالنصيحة والاستقامة. فشهد إِسْحَاق بن طَلْحَة بن عُبَيْد اللَّهِ، وموسى بن طلحه، واسماعيل بن طلحه ابن عُبَيْد اللَّهِ، والمنذر بن الزُّبَيْرِ، وعمارة بن عقبه بن ابى معيط، وعبد الرحمن ابن هناد، وعمر بن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاص، وعامر بن مسعود بن أُمَيَّة بن خلف، ومحرز بن جارية بن رَبِيعَة بن عبد العزى بن عبد شمس، وعبيد اللَّه بن مسلم ابن شُعْبَةَ الحضرمي، وعناق بن شُرَحْبِيل بن أبي دهم، ووائل بن حجر الحضرمي، وكثير بن شهاب بن حصين الحارثي، وقطن بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حصين، والسري بن وَقَّاص الحارثي- وكتب شهادته وَهُوَ غائب فِي عمله- والسائب بن الأقرع الثقفى، وشبث بن ربعي، وعبد اللَّه بن أبي عقيل الثقفي، ومصقلة بن هبيرة الشيباني، والقعقاع بن شور الذهلي، وشداد بن المنذر بن الْحَارِث بن وعلة الذهلي- وَكَانَ يدعى ابن بزيعة، فَقَالَ: مَا لهذا أب ينسب إِلَيْهِ! ألقوا هَذَا من الشهود، فقيل لَهُ: إنه أخو الحضين، وَهُوَ ابن المنذر، قَالَ: فانسبوه إِلَى أَبِيهِ، فنسب إِلَى أَبِيهِ، فبلغت شدادا، فَقَالَ: ويلي على ابن الزانية! او ليست أمه أعرف من أَبِيهِ! وَاللَّهِ

مَا ينسب إلا إِلَى أمه سمية وحجار بن أبجر العجلي فغضبت رَبِيعَة عَلَى هَؤُلاءِ الشهود الَّذِينَ شهدوا من رَبِيعَة وَقَالُوا لَهُمْ: شهدتم عَلَى أوليائنا وحلفائنا! فَقَالُوا: مَا نحن إلا مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ شهد عَلَيْهِم ناس من قومهم كثير- وعمرو بن الحجاج الزبيدي ولبيد بن عطارد التميمي، ومُحَمَّد بن عمير بن عطارد التميمي، وسويد بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ التميمي من بني سعد، وأسماء بن خارجة الفزاري- كَانَ يعتذر من أمره- وشمر بن ذي الجوشن العامري، وشداد ومروان ابنا الهيثم الهلاليان، ومحفز بن ثعلبة من عائذة قريش، والهيثم بن الأَسْوَدِ النخعي- وَكَانَ يعتذر إِلَيْهِم- وعبد الرَّحْمَن بن قيس الأسدي، والحارث وشداد ابنا الأزمع الهمدانيان، ثُمَّ الوادعيان، وكريب بن سلمة بن يَزِيدَ الجعفي، وعبد الرَّحْمَن بن أبي سبرة الجعفي، وزحر بن قيس الجعفي، وقدامة بن العجلان الأَزْدِيّ وعزرة بن عزرة الأحمسي- ودعا المختار بن أبي عبيد وعروة بن الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ ليشهدوا عَلَيْهِ، فراغا- وعمر بن قيس ذي اللحية وهانئ بن أبي حية الوادعيان. فشهد عَلَيْهِ سبعون رجلا، فَقَالَ زياد: ألقوهم إلا من قَدْ عرف بحسب وصلاح فِي دينه، فألقوا حَتَّى صيروا إِلَى هَذِهِ العدة، وألقيت شهادة عَبْد اللَّهِ بن الحجاج الثعلبى، وكتبت شهادة هَؤُلاءِ الشهود فِي صحيفة، ثُمَّ دفعها إِلَى وائل بن حجر الحضرمي وكثير بن شهاب الحارثي، وبعثهما عَلَيْهِم، وأمرهما أن يخرجا بهم وكتب في الشهود شريح ابن الْحَارِث القاضي وشريح بن هانئ الحارثي، فأما شريح فَقَالَ: سألني عنه، فأخبرته أنه كَانَ صواما قواما، واما شريح بن هاني الحارثي فكان يقول: مَا شهدت، وَلَقَدْ بلغني أن قَدْ كتبت شهادتي، فأكذبته ولمته، وجاء وائل بن حجر وكثير بن شهاب فأخرج القوم عشية، وسار معهم صاحب الشرطة حَتَّى أخرجهم من الْكُوفَة. فلما انتهوا إِلَى جبانة عرزم نظر قبيصة بن ضبيعة العبسي إِلَى داره وَهِيَ فِي جبانة عرزم، فإذا بناته مشرفات، فَقَالَ لوائل وكثير: ائذنا لي فأوصي أهلي، فأذنا لَهُ، فلما دنا منهن وهن يبكين، سكت عنهن ساعة ثُمَّ

تسميه الذين بعث بهم إلى معاويه

قَالَ: اسكتن، فسكتن، فَقَالَ: اتقين اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، واصبرن، فإني أرجو من ربي فِي وجهي هَذَا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ: إما الشهادة، وَهِيَ السعادة، وإما الانصراف إليكن فِي عافية، وإن الذى كان يرزقكن ويكفيني مئونتكن هُوَ اللَّه تعالى- وَهُوَ حي لا يموت- أرجو أَلا يضيعكن وأن يحفظني فيكن ثُمَّ انصرف فمر بقومه، فجعل القوم يدعون اللَّه لَهُ بالعافية، فَقَالَ: إنه لمما يعدل عندي خطر مَا أنا فِيهِ هلاك قومي يقول: حيث لا ينصرونني، وكان رجاء ان يتخلصوه. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي النضر بن صالح العبسي، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الحر الجعفي، قَالَ: وَاللَّهِ إني لواقف عِنْدَ باب السري بن أَبِي وَقَّاص حين مروا بحجر وأَصْحَابه، قَالَ: فقلت: أَلا عشرة رهط استنقذ بهم هَؤُلاءِ! أَلا خمسة! قَالَ: فجعل يتلهف، قَالَ: فلم يجبني أحد مِنَ النَّاسِ، قَالَ: فمضوا بهم حَتَّى انتهوا بهم إِلَى الغريين، فلحقهم شريح بن هانئ مَعَهُ كتاب، فَقَالَ لكثير: بلغ كتابي هَذَا إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: مَا فِيهِ؟ قَالَ: لا تسألني فِيهِ حاجتي، فأبى كثير وَقَالَ: مَا أحب أن آتي أَمِير الْمُؤْمِنِينَ بكتاب لا أدري مَا فِيهِ، وعسى الا يوافقه! فأتى بِهِ وائل بن حجر فقبله مِنْهُ ثُمَّ مضوا بهم حَتَّى انتهوا بهم إِلَى مرج عذراء، وبينها وبين دمشق اثنا عشر ميلا. تسمية الَّذِينَ بعث بهم إِلَى مُعَاوِيَةَ حجر بن عدي بن جبلة الكندي، والأرقم بن عَبْدِ اللَّهِ الكندي من بني الأرقم، وشريك بن شداد الحضرمي، وصيفي بن فسيل، وقبيصة بن ضبيعة بن حرملة العبسي، وكريم بن عفيف الخثعمي، من بني عَامِر بن شهران ثُمَّ من قحافة، وعاصم بن عوف البجلي، وورقاء بن سمي البجلي، وكدام بن حيان، وعبد الرَّحْمَن بن حسان العنزيان من بني هميم، ومحرز بن شهاب التميمي من بني منقر، وعبد اللَّه بن حوية السعدي من

بني تميم، فمضوا بهم حَتَّى نزلوا مرج عذراء، فحبسوا بها ثم ان زيادا أتبعهم برجلين آخرين مع عَامِر بن الأَسْوَدِ العجلي، بعتبة بن الأخنس من بني سعد بن بكر بن هوازن، وسعيد بن نمران الهمداني ثُمَّ الناعطي، فتموا أربعة عشر رجلا، فبعث مُعَاوِيَة إِلَى وائل بن حجر وكثير بن شهاب فأدخلهما، وفض كتابهما، فقرأه عَلَى أهل الشام، فإذا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لعبد اللَّه مُعَاوِيَة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ من زياد بن أَبِي سُفْيَانَ أَمَّا بَعْدُ، فإن اللَّه قَدْ أحسن عِنْدَ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ البلاء، فكاد لَهُ عدوه، وكفاه مؤنة من بغى عليه ان طواغيت من هذه الترابية السبئيه، رأسهم حجر بن عدي خالفوا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وفارقوا جماعة الْمُسْلِمِينَ، ونصبوا لنا الحرب، فأظهرنا اللَّه عَلَيْهِم، وأمكننا مِنْهُمْ، وَقَدْ دعوت خيار أهل المصر وأشرافهم وذوي السن والدين مِنْهُمْ، فشهدوا عَلَيْهِم بِمَا رأوا وعملوا، وَقَدْ بعثت بهم إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وكتبت شهادة صلحاء أهل المصر وخيارهم فِي أسفل كتابي هَذَا. فلما قرأ الكتاب وشهادة الشهود عَلَيْهِم، قَالَ: ماذا ترون فِي هَؤُلاءِ النفر الَّذِينَ شهد عَلَيْهِم قومهم بِمَا تستمعون؟ فَقَالَ لَهُ يَزِيد بن أسد البجلي: أَرَى أن تفرقهم فِي قرى الشام فيكفيكهم طواغيتها. ودفع وائل بن حجر كتاب شريح بن هانئ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فقرأه فإذا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لعبد اللَّه مُعَاوِيَة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ من شريح بن هانئ أَمَّا بَعْدُ، فإنه بلغني أن زيادا كتب إليك بشهادتي عَلَى حجر بن عدي، وأن شهادتي عَلَى حجر أنه ممن يقيم الصَّلاة، ويؤتي الزكاة، ويديم الحج والعمرة، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، حرام الدم والمال، فإن شئت فاقتله، وإن شئت فدعه فقرأ كتابه عَلَى وائل بن حجر وكثير، فَقَالَ: مَا أَرَى هَذَا إلا قَدْ أخرج نفسه من شهادتكم فحبس القوم بمرج عذراء، وكتب مُعَاوِيَة إِلَى زياد: أَمَّا بَعْدُ، فقد فهمت مَا اقتصصت بِهِ من أمر حجر وأَصْحَابه، وشهادة من قبلك عَلَيْهِم، فنظرت فِي ذَلِكَ، فأحيانا أَرَى قتلهم أفضل من تركهم،

وأحيانا أَرَى العفو عَنْهُمْ أفضل من قتلهم والسلام. فكتب إِلَيْهِ زياد مع يَزِيد بن حجية بن رَبِيعَة التيمي: أَمَّا بَعْدُ، فقد قرأت كتابك، وفهمت رأيك فِي حجر وأَصْحَابه، فعجبت لاشتباه الأمر عَلَيْك فِيهِمْ، وَقَدْ شهد عَلَيْهِم بِمَا قَدْ سمعت من هُوَ أعلم بهم، فإن كَانَتْ لك حاجة فِي هَذَا المصر فلا تردن حجرا وأَصْحَابه إلي. فأقبل يَزِيد بن حجية حَتَّى مر بهم بعذراء فَقَالَ: يَا هَؤُلاءِ، أما وَاللَّهِ مَا أَرَى براءتكم، وَلَقَدْ جئت بكتاب فِيهِ الذبح، فمروني بِمَا أحببتم مما ترون أنه لكم نافع أعمل بِهِ لكم وأنطق بِهِ فَقَالَ حجر: أبلغ مُعَاوِيَة أنا عَلَى بيعتنا، لا نستقيلها وَلا نقيلها، وأنه إنما شهد علينا الأعداء والأظناء. فقدم يَزِيد بالكتاب إِلَى مُعَاوِيَةَ فقرأه، وبلغه يَزِيد مقالة حجر، فَقَالَ مُعَاوِيَة: زياد أصدق عندنا من حجر، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن أم الحكم الثقفي- ويقال: عُثْمَان بن عمير الثقفي: جذاذها جذاذها، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة: لا تعن أبرا فخرج أهل الشام وَلا يدرون مَا قَالَ مُعَاوِيَة وعبد الرَّحْمَن، فأتوا النُّعْمَان بن بشير فَقَالُوا لَهُ مقالة ابن أم الحكم، فَقَالَ النُّعْمَان: قتل القوم، وأقبل عَامِر بن الأَسْوَدِ العجلي وَهُوَ بعذراء يريد مُعَاوِيَة ليعلمه علم الرجلين اللذين بعث بهما زياد، فلما ولى ليمضي قام إِلَيْهِ حجر بن عدي يرسف فِي القيود، فَقَالَ: يَا عَامِر، اسمع مني، أبلغ مُعَاوِيَة أن دماءنا عَلَيْهِ حرام، وأخبره أنا قَدْ أومنا وصالحناه، فليتق اللَّه، ولينظر فِي أمرنا فَقَالَ لَهُ نحوا من هَذَا الكلام، فأعاد عَلَيْهِ حجر مرارا، فكان الآخر عرض، فَقَالَ قَدْ فهمت لك- أكثرت، فَقَالَ لَهُ حجر: إني مَا سمعت بعيب، وعلى أية تلوم! إنك وَاللَّهِ تحبى وتعطى، وأن حجرا يقدم ويقتل، فلا ألومك ان تستقل كلامي، اذهب عنك، فكأنه استحيا، فَقَالَ: لا والله ما ذلك بي، ولابلغن ولا جهدن، وكأنه يزعم أنه قَدْ فعل، وأن الآخر ابى

فدخل عَامِر عَلَى مُعَاوِيَة فأخبره بأمر الرجلين قَالَ: وقام يَزِيد بن أسد البجلي فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هب لي ابني عمي- وَقَدْ كَانَ جرير بن عَبْدِ اللَّهِ كتب فيهما: ان امرءين من قومي من أهل الجماعة والرأي الْحَسَن، سعى بهما ساع ظنين إِلَى زياد، فبعث بهما فِي النفر الكوفيين الَّذِينَ وجه بهم زياد إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ وهما ممن لا يحدث حدثا فِي الإِسْلام وَلا بغيا عَلَى الخليفة، فلينفعهما ذَلِكَ عِنْدَ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ- فلما سألهما يَزِيد ذكر مُعَاوِيَة كتاب جرير، فَقَالَ: قَدْ كتب إلي ابن عمك فيهما جرير، محسنا عليهما الثناء، وَهُوَ أهل أن يصدق قوله، وتقبل نصيحته، وَقَدْ سألتني ابني عمك، فهما لك وطلب وائل بن حجر فِي الأرقم فتركه لَهُ، وطلب أَبُو الأعور السلمي فِي عتبة بن الأخنس فوهبه لَهُ، وطلب حمرة بن مالك الهمدانى في سعيد ابن نمران الهمداني فوهبه لَهُ، وكلمه حبيب بن مسلمة فِي ابن حوية، فخلى سبيله. وقام مالك بن هبيرة السكوني، فَقَالَ لمعاوية: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، دع لي ابن عمي حجرا، فَقَالَ: إن ابن ابن عمك حجرا رأس القوم، وأخاف إن خليت سبيله أن يفسد علي مصري، فيضطرنا غدا إِلَى أن نشخصك وأَصْحَابك إِلَيْهِ بِالْعِرَاقِ فَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ مَا أنصفتني يَا مُعَاوِيَة، قاتلت معك ابن عمك فتلقاني مِنْهُمْ يوم كيوم صفين، حَتَّى ظفرت كفك، وعلا كعبك ولم تخف الدوائر، ثُمَّ سألتك ابن عمي فسطوت وبسطت من القول بِمَا لا أنتفع بِهِ، وتخوفت فِيمَا زعمت عاقبة الدوائر! ثُمَّ انصرف فجلس فِي بيته، فبعث مُعَاوِيَة هدبة بن فياض القضاعي من بنى سلامان بن سعد والحصين ابن عَبْدِ اللَّهِ الكلابي وأبا شريف البدي، فأتوهم عِنْدَ المساء، فَقَالَ الخثعمي حين رَأَى الأعور مقبلا: يقتل نصفنا وينجو نصفنا، فَقَالَ سَعِيد بن نمران: اللَّهُمَّ اجعلني ممن ينجو وأنت عني راض، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن حسان العنزي: اللهم اجعلنى ممن يكرم بهوانهم وأنت عني راض، فطالما

عرضت نفسي للقتل، فأبى اللَّه إلا مَا أراه! فَجَاءَ رسول مُعَاوِيَة إِلَيْهِم بتخلية ستة وبقتل ثمانية، فَقَالَ لَهُمْ رسول مُعَاوِيَة: إنا قَدْ أمرنا أن نعرض عَلَيْكُمُ البراءة من علي واللعن لَهُ، فإن فعلتم تركناكم، وإن أبيتم قتلناكم، وإن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ يزعم أن دماءكم قَدْ حلت لَهُ بشهادة أهل مصركم عَلَيْكُمْ، غير أنه قَدْ عفا عن ذَلِكَ، فابرءوا من هَذَا الرجل نخل سبيلكم قَالُوا: اللَّهُمَّ إنا لسنا فاعلي ذَلِكَ فأمر بقبورهم فحفرت، وأدنيت أكفانهم، وقاموا الليل كله يصلون، فلما أصبحوا قَالَ أَصْحَاب مُعَاوِيَة: يَا هَؤُلاءِ، لقد رأيناكم البارحة قَدْ أطلتم الصَّلاة، وأحسنتم الدعاء، فأخبرونا مَا قولكم فِي عُثْمَان؟ قَالُوا: هُوَ أول من جار فِي الحكم، وعمل بغير الحق، فَقَالَ أَصْحَاب مُعَاوِيَة: أَمِير الْمُؤْمِنِينَ كَانَ أعلم بكم، ثُمَّ قاموا إِلَيْهِم فَقَالُوا: تبرءون من هَذَا الرجل! قَالُوا: بل نتولاه ونتبرأ ممن تبرأ مِنْهُ، فأخذ كل رجل مِنْهُمْ رجلا ليقتله، ووقع قبيصة بن ضبيعة فِي يدي أبي شريف البدي، فَقَالَ لَهُ قبيصة: ان الشربين قومي وقومك أمن، فليقتلني سواك، فَقَالَ لَهُ: برتك رحم! فأخذ الحضرمي فقتله، وقتل القضاعي قبيصة بن ضبيعة. قَالَ: ثُمَّ إن حجرا قَالَ لَهُمْ: دعوني أتوضأ، قَالُوا لَهُ: توضأ، فلما أن توضأ قَالَ لَهُمْ: دعوني أصل ركعتين فايمن اللَّه مَا توضأت قط إلا صليت ركعتين، قالوا: لتصل، فصلى، ثُمَّ انصرف فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا صليت صلاة قط أقصر منها، ولولا أن تروا أن مَا بي جزع من الموت لأحببت أن أستكثر منها ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إنا نستعديك عَلَى أمتنا، فإن أهل الْكُوفَة شهدوا علينا، وإن أهل الشام يقتلوننا، أما وَاللَّهِ لَئِنْ قتلتموني بِهَا إني لأول فارس مِنَ الْمُسْلِمِينَ هلك فِي واديها، وأول رجل مِنَ الْمُسْلِمِينَ نبحته كلابها فمشى إِلَيْهِ الأعور هدبة بن فياض بالسيف، فأرعدت خصائله، فَقَالَ: كلا، زعمت

أنك لا تجزع من الموت، فأنا أدعك فابرأ من صاحبك، فَقَالَ: ما لي لا أجزع وأنا أَرَى قبرا محفورا، وكفنا منشورا، وسيفا مشهورا، وإني وَاللَّهِ إن جزعت من القتل لا أقول مَا يسخط الرب فقتله، وأقبلوا يقتلونهم واحدا واحدا حَتَّى قتلوا ستة فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن حسان العنزي وكريم بن عفيف الخثعمي: ابعثوا بنا إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، فنحن نقول فِي هَذَا الرجل مثل مقالته، فبعثوا إِلَى مُعَاوِيَةَ يخبرونه بمقالتهما، فبعث إِلَيْهِم أن ائتوني بهما. فلما دخلا عَلَيْهِ قَالَ الخثعمي: اللَّه اللَّه يَا مُعَاوِيَة، فإنك منقول من هَذِهِ الدار الزائلة إِلَى الدار الآخرة الدائمة، ثُمَّ مسئول عما أردت بقتلنا، وفيم سفكت دماءنا، فَقَالَ مُعَاوِيَة: مَا تقول فِي علي؟ قَالَ: أقول فِيهِ قولك، قَالَ: أتبرأ من دين علي الَّذِي كَانَ يدين اللَّه بِهِ؟ فسكت، وكره مُعَاوِيَة أن يجيبه وقام شمر بن عَبْدِ اللَّهِ من بني قحافة، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هب لي ابن عمي، قَالَ: هُوَ لك، غير أني حابسه شهرا، فكان يرسل إِلَيْهِ بين كل يومين فيكلمه، وَقَالَ لَهُ: إني لأنفس بك عَلَى العراق أن يكون فِيهِمْ مثلك. ثُمَّ إن شمرا عاوده فِيهِ الكلام، فَقَالَ: نمرك عَلَى هبة ابن عمك، فدعاه فخلى سبيله على الا يدخل إِلَى الْكُوفَةِ مَا كَانَ لَهُ سلطان، فَقَالَ: تخير أي بلاد العرب أحب إليك أن أسيرك إِلَيْهَا، فاختار الموصل، فكان يقول: لو قَدْ مات مُعَاوِيَة قدمت المصر، فمات قبل مُعَاوِيَة بشهر. ثُمَّ أقبل عَلَى عبد الرَّحْمَن العنزي فَقَالَ: إيه يَا أخا رَبِيعَة! مَا قولك فِي علي؟ قَالَ: دعني وَلا تسألني فإنه خير لك، قَالَ: وَاللَّهِ لا أدعك حَتَّى تخبرني عنه، قَالَ: أشهد أنه كَانَ من الذاكرين اللَّه كثيرا، ومن الآمرين بالحق، والقائمين بالقسط، والعافين عن الناس، قَالَ: فما قولك

تسميه من قتل من اصحاب حجر رحمه الله

فِي عُثْمَان؟ قَالَ: هُوَ أول من فتح باب الظلم، وأرتج أبواب الحق، قَالَ: قتلت نفسك، قَالَ: بل إياك قتلت، وَلا رَبِيعَة بالوادي- يقول حين كلم شمر الخثعمي فِي كريم بن عفيف الخثعمي، ولم يكن لَهُ أحد من قومه يكلمه فِيهِ- فبعث بِهِ مُعَاوِيَة إِلَى زياد، وكتب إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ، فإن هَذَا العنزي شر من بعثت، فعاقبه عقوبته الَّتِي هُوَ أهلها واقتله شر قتلة. فلما قدم بِهِ عَلَى زياد بعث بِهِ زياد إِلَى قس الناطف، فدفن بِهِ حيا. قَالَ: ولما حمل العنزي والخثعمي إِلَى مُعَاوِيَةَ قَالَ العنزي لحجر: يَا حجر، لا يبعدنك اللَّه، فنعم أخو الإِسْلام كنت! وَقَالَ الخثعمي: لا تبعد وَلا تفقد، فقد كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ثُمَّ ذهب بهما وأتبعهما بصره، وَقَالَ: كفى بالموت قطاعا لحبل القرائن! فذهب بعتبة بن الأخنس وسعيد بن نمران بعد حجر بأيام، فخلى سبيلهما . تسمية من قتل من أَصْحَاب حجر رحمه اللَّه حجر بن عدي، وشريك بن شداد الحضرمي، وصيفي بن فسيل الشيباني، وقبيصة بن ضبيعة العبسي، ومحرز بن شهاب السعدي ثُمَّ المنقري، وكدام بن حيان العنزي، وعبد الرَّحْمَن بن حسان العنزي، فبعث بِهِ إِلَى زياد فدفن حيا بقس الناطف، فهم سبعة قتلوا وكفنوا وصلى عَلَيْهِم. [قَالَ: فزعموا أن الْحَسَن لما بلغه قتل حجر وأَصْحَابه، قَالَ: صلوا عَلَيْهِم، وكفنوهم، واستقبلوا بهم القبلة، قَالُوا: نعم، قَالَ: حجوهم ورب الكعبة!] تسمية من نجا مِنْهُمْ كريم بن عفيف الخثعمي، وعبد اللَّه بن حوية التميمي، وعاصم بن

عوف البجلي، وورقاء بن سمي البجلي، والأرقم بن عَبْدِ اللَّهِ الكندي، وعتبة بن الأخنس، من بني سَعِيد بن بكر، وسعيد بن نمران الهمداني فهم سبعة. وَقَالَ مالك بن هبيرة السكوني حين أبى مُعَاوِيَة أن يهب لَهُ حجرا وَقَدِ اجتمع إِلَيْهِ قومه من كندة والسكون وناس من اليمن كثير، فَقَالَ: وَاللَّهِ لنحن أغنى عن مُعَاوِيَة من مُعَاوِيَة عنا، وإنا لنجد فِي قومه مِنْهُ بدلا، وَلا يجد منا فِي الناس خلفا، سيروا إِلَى هَذَا الرجل فلنخله من أيديهم، فأقبلوا يسيرون ولم يشكوا أَنَّهُمْ بعذراء لم يقتلوا، فاستقبلتهم قتلتهم قَدْ خرجوا منها، فلما رأوه فِي الناس ظنوا إنما جَاءَ بهم ليخلص حجرا من أيديهم، فَقَالَ لَهُمْ: مَا وراءكم؟ قَالَ: تاب القوم، وجئنا لنخبر مُعَاوِيَة. فسكت عَنْهُمْ، ومضى نحو عذراء، فاستقبله بعض من جَاءَ منها فأخبره أن القوم قَدْ قتلوا، فَقَالَ: علي بالقوم! وتبعتهم الخيل وسبقوهم حَتَّى دخلوا عَلَى مُعَاوِيَة فأخبروه خبر مَا أتى لَهُ مالك بن هبيرة ومن مَعَهُ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ لَهُمْ مُعَاوِيَة: اسكنوا، فإنما هي حرارة يجدها فِي نفسه، وكأنها قَدْ طفئت، ورجع مالك حَتَّى نزل فِي منزله، ولم يأت مُعَاوِيَة، فأرسل إِلَيْهِ مُعَاوِيَة فأبى أن يأتيه، فلما كَانَ الليل بعث إِلَيْهِ بمائة ألف درهم، وَقَالَ لَهُ: إن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ لم يمنعه أن يشفعك فِي ابن عمك إلا شفقة عَلَيْك وعلى أَصْحَابك أن يعيدوا لكم حربا أخرى، وأن حجر بن عدي لو قَدْ بقي خشيت أن يكلفك وأَصْحَابك الشخوص إِلَيْهِ، وأن يكون ذَلِكَ من البلاء عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا هُوَ أعظم من قتل حجر، فقبلها، وطابت نفسه، وأقبل إِلَيْهِ من غده فِي جموع قومه حَتَّى دخل عَلَيْهِ ورضي عنه. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عَبْد الملك بن نوفل بن مساحق، أن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بعثت عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام إِلَى مُعَاوِيَةَ فِي حجر

وأَصْحَابه، فقدم عَلَيْهِ وَقَدْ قتلهم، فَقَالَ لَهُ عبد الرَّحْمَن: أين غاب عنك حلم أبي سفيان؟ قَالَ: غاب عني حين غاب عني مثلك من حلماء قومي، وحملني ابن سمية فاحتملت. قَالَ أَبُو مخنف: قَالَ عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل: كَانَتْ عَائِشَة تقول: لولا أنا لم تغير شَيْئًا إلا آلت بنا الأمور إِلَى أشد مما كنا فِيهِ لغيرنا قتل حجر، أما وَاللَّهِ إن كَانَ مَا علمت لمسلما حجاجا معتمرا قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل، عن سَعِيد المقبري، أن مُعَاوِيَة حين حج مر عَلَى عَائِشَة- رضوان اللَّه عَلَيْهَا- فاستأذن عَلَيْهَا، فأذنت لَهُ، فلما قعد قالت لَهُ: يَا مُعَاوِيَة، أأمنت أن أخبأ لك من يقتلك؟ قَالَ: بيت الأمن دخلت، قالت: يَا مُعَاوِيَة، أما خشيت اللَّه فِي قتل حجر وأَصْحَابه؟ قَالَ: لست أنا قتلتهم، إنما قتلهم من شهد عَلَيْهِم. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي زكرياء بن أبي زائدة، عن أبي إِسْحَاق، قَالَ: أدركت الناس وهم يقولون: إن أول ذل دخل الْكُوفَة موت الْحَسَن بن علي وقتل حجر بن عدي، ودعوة زياد. قَالَ أَبُو مخنف: وزعموا أن مُعَاوِيَة قَالَ عِنْدَ موته: يوم لي من ابن الأدبر طويل! ثلاث مرات- يعني حجرا. قَالَ أَبُو مخنف: عن الصقعب بن زهير، عن الْحَسَن، قَالَ: أربع خصال كن فِي مُعَاوِيَة، لو لَمْ يَكُنْ فِيهِ منهن إلا واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه عَلَى هَذِهِ الأمة بالسفهاء حَتَّى ابتزها أمرها بغير مشورة مِنْهُمْ وفيهم بقايا الصحابة وذو الفضيلة، واستخلافه ابنه بعده سكيرا خميرا، يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زيادا، وقد [قال رسول الله ص: الولد للفراش، وللعاهر الحجر،] وقتله حجرا، ويلا لَهُ من حجر! مرتين

وقالت هند ابنة زَيْد بن مخرمة الأنصارية، وكانت تشيع ترثي حجرا: ترفع أيها القمر المنير ... تبصر هل ترى حجرا يسير يسير إِلَى مُعَاوِيَةَ بن حرب ... ليقتله كما زعم الأمير تجبرت الجبابر بعد حجر ... وطاب لها الخورنق والسدير واصبحت البلاد بها محولا ... كأن لم يحيها مزن مطير أَلا يَا حجر حجر بني عدي ... تلقتك السلامة والسرور أخاف عَلَيْك مَا أردى عديا ... وشيخا فِي دمشق لَهُ زئير يرى قتل الخيار عَلَيْهِ حقا ... لَهُ من شر أمته وزير أَلا يَا ليت حجرا مات موتا ... ولم ينحر كما نحر البعير! فان تهلك فكل زعيم قوم ... من الدُّنْيَا إِلَى هلك يصير وقالت الكندية ترثي حجرا- ويقال: بل قائلها هَذِهِ الأنصارية: دموع عيني ديمة تقطر ... تبكي عَلَى حجر وما تفتر لو كَانَتِ القوس عَلَى أسره ... مَا حمل السيف لَهُ الأعور وَقَالَ الشاعر يحرض بني هند من بني شيبان عَلَى قيس بن عباد حين سعى بصيفي بن فسيل: دعا ابن فسيل يال مرة دعوة ... ولاقى ذباب السيف كفا ومعصما فحرض بني هند إذا مَا لقيتهم ... وقل لغياث وابنه يتكلما لتبك بني هند قتيلة مثل مَا ... بكت عرس صيفي وتبعث مأتما غياث بن عِمْرَان بن مُرَّةَ بن الْحَارِث بن دب بن مُرَّةَ بن ذهل بن شيبان، وَكَانَ شريفا، وقتيلة أخت قيس بن عباد، فعاش قيس بن عباد حَتَّى

قاتل مع ابن الأشعث فِي مواطنه، فَقَالَ حوشب للحجاج بن يُوسُفَ: إن منا امرأ صاحب فتن ووثوب عَلَى السلطان، لم تكن فتنة فِي العراق قط إلا وثب فِيهَا، وَهُوَ ترابي، يلعن عُثْمَان، وَقَدْ خرج مع ابن الأشعث فشهد مَعَهُ فِي مواطنه كلها، يحرض الناس حَتَّى إذا أهلكهم اللَّه، جَاءَ فجلس فِي بيته، فبعث إِلَيْهِ الحجاج فضرب عنقه، فَقَالَ بنو أَبِيهِ لآل حوشب: إنما سعيتم بنا سعيا، فَقَالُوا لَهُمْ: وَأَنْتُمْ إنما سعيتم بصاحبنا سعيا. فَقَالَ أَبُو مخنف: وَقَدْ كَانَ عَبْد اللَّهِ بن خليفة الطَّائِيّ شهد مع حجر ابن عدي، فطلبه زياد فتوارى، فبعث إِلَيْهِ الشرط، وهم أهل الحمراء يَوْمَئِذٍ، فأخذوه، فخرجت أخته النوار فَقَالَتْ: يَا معشر طيئ، أتسلمون سنانكم ولسانكم عَبْد اللَّهِ بن خليفة! فشد الطائيون عَلَى الشرط فضربوهم وانتزعوا مِنْهُمْ عَبْد اللَّهِ بن خليفة، فرجعوا إِلَى زياد، فأخبروه، فوثب على عدى ابن حاتم وَهُوَ فِي المسجد، فَقَالَ: ائتني بعبد اللَّه بن خليفة، قَالَ: وما لَهُ! فأخبره، قَالَ: فهذا شَيْء كَانَ فِي الحي لا علم لي بِهِ، قَالَ: وَاللَّهِ لتأتيني بِهِ، قَالَ: لا، وَاللَّهِ لا آتيك بِهِ أبدا، أجيئك بابن عمي تقتله! وَاللَّهِ لو كان تحت قدمي مَا رفعتهما عنه قَالَ: فأمر بِهِ إِلَى السجن، قَالَ: فلم يبق بالكوفة يماني وَلا ربعي إلا أتاه وكلمه، وَقَالُوا: تفعل هَذَا بعدي بن حاتم صاحب رَسُول الله ص! قَالَ: فإني أخرجه عَلَى شرط، قَالُوا: مَا هُوَ؟ قَالَ: يخرج ابن عمه عني فلا يدخل الْكُوفَة مَا دام لي بِهَا سلطان فأتى عدي فأخبر بِذَلِكَ، فَقَالَ: نعم، فبعث عدى الى عبد الله ابن خليفه فقال: يا بن أخي، إن هَذَا قَدْ لج فِي أمرك، وَقَدْ أبى إلا إخراجك عن مصرك مَا دام لَهُ سلطان، فالحق بالجبلين، فخرج، فجعل عبد الله ابن خليفة يكتب إِلَى عدي، وجعل عدي يمنيه، فكتب إِلَيْهِ: تذكرت لَيْلَى والشبيبة أعصرا ... وذكر الصبا برح عَلَى من تذكرا وولى الشباب فافتقدت غضونه ... فيا لك من وجد بِهِ حين ادبرا!

فدع عنك تذكار الشباب وفقده ... وآثاره إذ بان مِنْكَ فأقصرا وبك عَلَى الخلان لما تخرموا ... ولم يجدوا عن منهل الموت مصدرا دعتهم مناياهم ومن حان يومه ... مِنَ النَّاسِ فاعلم أنه لن يؤخرا أُولَئِكَ كَانُوا شيعة لي وموئلا ... إذا الْيَوْم ألفي ذا احتدام مذكرا وما كنت أهوى بعدهم متعللا ... بشيء من الدُّنْيَا وَلا أن أعمرا أقول وَلا وَاللَّهِ أنسى ادكارهم ... سجيس الليالي أو أموت فأقبرا عَلَى أهل عذراء السلام مضاعفا ... من اللَّه وليسق الغمام الكنهورا ولاقى بِهَا حجر من اللَّه رحمة ... فقد كَانَ أرضى اللَّه حجر وأعذرا وَلا زال تهطال ملث وديمة ... عَلَى قبر حجر أو ينادى فيحشرا فيا حجر من للخيل تدمى نحورها ... وللملك المغزي إذا مَا تغشمرا ومن صادع بالحق بعدك ناطق ... بتقوى ومن إن قيل بالجور غيرا فنعم أخو الإِسْلام كنت وإنني ... لأطمع أن تؤتى الخلود وتحبرا وَقَدْ كنت تعطي السيف فِي الحرب حقه ... وتعرف معروفا وتنكر منكرا فيا أخوينا من هميم عصمتما ... ويسرتما للصالحات فأبشرا ويا أخوي الخندفيين أبشرا ... فقد كنتما حييتما أن تبشرا ويا إخوتا من حضرموت وغالب ... وشيبان لقيتم حسابا ميسرا

سعدتم فلم أسمع بأصوب مِنْكُمْ ... حجاجا لدى الموت الجليل وأصبرا سأبكيكم مَا لاح نجم وغرد ... الحمام ببطن الواديين وقرقرا فقلت ولم أظلم أغوث بن طيئ ... متى كنت أخشى بينكم أن أسيرا! هبلتم أَلا قاتلتم عن أخيكم ... وَقَدْ ذب حَتَّى مال ثُمَّ تجورا ففرجتم عني فغودرت مسلما ... كأني غريب فِي إياد وأعصرا فمن لكم مثلي لدى كل غارة ... ومن لكم مثلي إذا البأس أصحرا ومن لكم مثلي إذا الحرب قلصت ... وأوضع فيها المستميت وشمرا فها انا ذا داري بأجبال طيئ ... طريدا ولو شاء الإله لغيرا نفاني عدوي ظالما عن مهاجري ... رضيت بِمَا شاء الإله وقدرا وأسلمني قومي لغير جناية ... كأن لم يكونوا لي قبيلا ومعشرا فإن ألف فِي دار بأجبال طيئ ... وَكَانَ معانا من عصير ومحضرا فما كنت أخشى أن أَرَى متغربا ... لحا اللَّه من لاحى عَلَيْهِ وكثرا لحا اللَّه قتل الحضرميين وائلا ... ولاقى الفنا من السنان الموفرا ولاقى الردى القوم الَّذِينَ تحزبوا ... علينا وَقَالُوا قول زور ومنكرا فلا يدعني قوم لغوث بن طيئ ... لأن دهرهم أشقى بهم وتغيرا

فلم اغزهم فِي المعلمين ولم أثر ... عَلَيْهِم عجاجا بالكويفة أكدرا فبلغ خليلي أن رحلت مشرقا ... جديلة والحيين معنا وبحترا ونبهان والأفناء من جذم طيئ ... ألم أك فيكم ذا الغناء العشنزرا! الم تذكروا يوم العذيب أليتي ... امامكم الا أَرَى الدهر مدبرا! وكري عَلَى مهران والجمع حاسر ... وقتلي الهمام المستميت المسورا ويوم جلولاء الوقيعة لم ألم ... ويوم نهاوند الفتوح وتسترا وتنسونني يوم الشريعة والقنا ... بصفين فِي أكتافهم قَدْ تكسرا جزى ربه عني عدي بن حاتم ... برفضي وخذلاني جزاء موفرا أتنسى بلائي سادرا يا بن حاتم ... عشية مَا أغنت عديك حزمرا! فدافعت عنك القوم حَتَّى تخاذلوا ... وكنت أنا الخصم الألد العذورا فولوا وما قاموا مقامي كأنما ... رأوني ليثا بالأباءة مخدرا نصرتكم إذ خام القريب وأبعط ... البعيد وَقَدْ أفردت نصرا مؤزرا فكان جزائي أن أجرد بينكم ... سجينا وأن أولى الهوان وأوسرا وكم عدة لي مِنْكَ انك راجعي ... فلم تعن بالميعاد عني حبترا فأصبحت أرعى النيب طورا وتارة ... أهرهر إن راعي الشويهات هرهرا كأنيَ لم أركب جوادا لغارة ... ولم أترك القرن الكمي مقطرا

ذكر استعمال الربيع بن زياد على خراسان

ولم أعترض بالسيف خيلا مغيرة ... إذا النكس مشى القهقرى ثُمَّ جرجرا ولم أستحث الركض فِي إثر عصبة ... ميممة عُليا سجاس وأبهرا ولم أذعر الإبلام مني بغارة ... كورد القطا ثُمَّ انحدرت مظفرا ولم أر فِي خيل تطاعن بالقنا ... بقزوين أو شروين أو أغز كندرا فذلك دهر زال عني حميده ... وأصبح لي معروفه قَدْ تنكرا فلا يبعدن قومي وإن كنت غائبا ... وكنت المضاع فِيهِمْ والمكفرا وَلا خير فِي الدُّنْيَا وَلا العيش بعدهم ... وإن كنت عَنْهُمْ نائي الدار محصرا فمات بالجبلين قبل موت زياد. وَقَالَ عبيدة الكندي ثُمَّ البدي، وَهُوَ يعير مُحَمَّد بن الأشعث بخذلانه حجرا: أسلمت عمك لم تقاتل دونه ... فرقا ولولا أنت كَانَ منيعا وقتلت وافد آل بيت مُحَمَّد ... وسلبت أسيافا لَهُ ودروعا لو كنت من أسد عرفت كرامتي ... ورأيت لي بيت الحباب شفيعا ذكر استعمال الربيع بن زياد على خراسان وفي هَذِهِ السنة وجه زياد الربيع بن زياد الحارثي أميرا عَلَى خُرَاسَان بعد موت الحكم بن عَمْرو الْغِفَارِيّ، وَكَانَ الحكم قَدِ استخلف عَلَى عمله بعد موته أنس بن أبي أناس، وأنس هُوَ الَّذِي صلى عَلَى الحكم حين مات فدفن فِي دار خَالِد بن عَبْدِ اللَّهِ أخي خليد بن عَبْدِ اللَّهِ الحنفي، وكتب بِذَلِكَ الحكم إِلَى زياد، فعزل زياد أنسا، وولى مكانه خليد بن عَبْدِ اللَّهِ الحنفي

فحدثني عمر، قال: حدثني علي بن مُحَمَّد، قَالَ: لما عزل زياد أنسا وولي مكانه خليد بن عَبْدِ اللَّهِ الحنفي قَالَ أنس: أَلا من مبلغ عني زيادا ... مغلغلة يخب بِهَا البريد أتعزلني وتطعمها خليدا ... لقد لاقت حنيفة مَا تريد عَلَيْكُمْ باليمامة فاحرثوها ... فأولكم وآخركم عبيد فولى خليدا شهرا ثُمَّ عزله، وولى خُرَاسَان ربيع بن زياد الحارثي فِي أول سنة إحدى وخمسين، فنقل الناس عيالاتهم إِلَى خُرَاسَان، ووطنوا بِهَا، ثُمَّ عزل الربيع. فَحدثني عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، عَنْ مَسْلَمَةَ بن محارب وعبد الرحمن ابن أَبَانٍ الْقُرَشِيِّ، قَالا: قَدِمَ الرَّبِيعُ خُرَاسَانَ فَفَتَحَ بَلْخَ صُلْحًا، وَكَانُوا قَدْ أَغْلَقُوهَا بَعْدَ مَا صَالَحَهُمُ الأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، وَفَتَحَ قُهُسْتَانَ عَنْوَةً، وَكَانَتْ بِنَاحِيَتِهَا أَتْرَاكٌ، فَقَتَلَهُمْ وَهَزَمَهُمْ، وَكَانَ مِمَّنْ بَقِيَ مِنْهُمْ نَيْزَكُ طَرْخَانَ، فَقَتَلَهُ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ فِي وِلايَتِهِ. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا علي، قَالَ: غزا الربيع فقطع النهر وَمَعَهُ غلامه فروخ وجاريته شريفة، فغنم وَسَلَّمَ، فأعتق فروخا، وَكَانَ قَدْ قطع النهر قبله الحكم بن عَمْرو فِي ولايته ولم يفتح. فَحَدَّثَنِي عمر، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: كَانَ أول الْمُسْلِمِينَ شرب من النهر مولى للحكم، اغترف بترسه فشرب، ثُمَّ ناول الحكم فشرب، وتوضأ وصلى من وراء النهر ركعتين، وَكَانَ أول الناس فعل ذَلِكَ، ثُمَّ قفل. وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة يَزِيد بْن مُعَاوِيَة، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر، وكذلك قَالَ الْوَاقِدِيُّ. وَكَانَ العامل فِي هَذِهِ السنة على المدينة سعيد بن العاص، وعلى الكوفة والبصرة والمشرق كله زياد، وعلى قضاء الْكُوفَة شريح، وعلى قضاء الْبَصْرَة عميرة بن يثربي

سنه اثنتين وخمسين

ثُمَّ دخلت سنة اثنتين وخمسين فزعم الْوَاقِدِيّ أن فِيهَا كَانَتْ غزوة سُفْيَان بن عوف الأَزْدِيّ، ومشتاه بأرض الروم، وأنه توفي بِهَا، واستخلف عَبْد اللَّهِ بن مسعدة الفزاري. وَقَالَ غيره: بل الَّذِي شتا بأرض الروم فِي هَذِهِ السنة بِالنَّاسِ بسر بن أبي أرطاة، وَمَعَهُ سُفْيَان بن عوف الأَزْدِيّ، وغزا الصائفة فِي هَذِهِ السنة مُحَمَّد بن عَبْدِ اللَّهِ الثقفي. وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة سَعِيد بن الْعَاصِ فِي قول أبي معشر والواقدي وغيرهما. وكانت عمال الأمصار فِي هَذِهِ السنة هم العمال عَلَيْهَا كَانُوا فِي سنة إحدى وخمسين

سنه ثلاث وخمسين

ثُمَّ دخلت سنة ثلاث وخمسين (ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كَانَ فِيهَا من ذلك مشتى عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي بأرض الروم. وفيها فتحت رودس، جزيرة فِي البحر، ففتحها جُنَادَة بن ابى اميه الأزدي، فنزلها الْمُسْلِمُونَ- فِيمَا ذكر مُحَمَّد بن عُمَرَ- وزرعوا واتخذوا بِهَا أموالا ومواشي يرعونها حولها، فإذا أمسوا أدخلوها الحصن، ولهم ناطور يحذرهم مَا فِي البحر ممن يريدهم بكيد، فكانوا عَلَى حذر مِنْهُمْ، وكانوا أشد شَيْء عَلَى الروم، فيعترضونهم فِي البحر فيقطعون سفنهم، وَكَانَ مُعَاوِيَة يدر لَهُمُ الأرزاق والعطاء، وَكَانَ العدو قَدْ خافهم، فلما مات مُعَاوِيَة أقفلهم يَزِيد بن معاويه. وفيها كانت وفاه زياد بن سمية، حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ فِيلٍ مَوْلَى زِيَادٍ، قَالَ: مَلَكَ زِيَادٌ الْعِرَاقَ خَمْسَ سِنِينَ، ثُمَّ مَاتَ سَنَةَ ثَلاثٍ وَخَمْسِينَ. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: لما نزل زياد عَلَى العراق بقي إِلَى سنة ثلاث وخمسين، ثُمَّ مات بالكوفة فِي شهر رمضان وخليفته عَلَى الْبَصْرَة سمرة بن جندب. ذكر سبب مهلك زياد بن سمية حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَوْذَبٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ زِيَادٍ، أَنَّ زِيَادًا كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ: إِنِّي ضَبَطْتُ الْعِرَاقَ بِشِمَالِي،

وَيَمِينِي فَارِغَةٌ فَضَمَّ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ الْعَرُوضَ- وَهِيَ الْيَمَامَةُ وَمَا يَلِيهَا- فَدَعَا عَلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ، فَطُعِنَ وَمَاتَ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ حِينَ بَلَغَهُ الْخَبَرُ: اذْهَبْ إِلَيْكَ ابْنَ سُمَيَّةَ، فَلا الدُّنْيَا بَقِيَتْ لَكَ، وَلا الآخِرَةَ أَدْرَكْتَ. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: كَتَبَ زِيَادٌ إِلَى مُعَاوِيَةَ: قَدْ ضَبَطْتُ لَكَ الْعِرَاقَ بِشِمَالِي وَيَمِينِي فَارِغَةٌ، فَاشْغَلْهَا بِالْحِجَازِ، وَبَعَثَ فِي ذَلِكَ الْهَيْثَمَ بْنَ الأَسْوَدِ النَّخَعِيَّ، وَكَتَبَ لَهُ عَهْدَهُ مَعَ الْهَيْثَمِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أَهْلَ الْحِجَازِ أَتَى نَفَرٌ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: ادْعُوا اللَّهَ عَلَيْهِ يَكْفِيكُمُوهُ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَاسْتَقْبَلُوهَا فَدَعَوْا وَدَعَا، فَخَرَجَتْ طَاعُونَةٌ عَلَى أُصْبُعِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى شُرَيْحٍ- وَكَانَ قَاضِيهِ- فَقَالَ: حَدَثَ بِي مَا تَرَى، وَقَدْ أُمِرْتُ بِقَطْعِهَا، فَأَشِرْ عَلَيَّ، فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ الْجِرَاحُ عَلَى يَدِكَ، وَالأَلَمُ عَلَى قَلْبِكَ، وَأَنْ يَكُونَ الأَجَلُ قَدْ دَنَا، فَتَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَجْذَمَ، وَقَدْ قَطَعْتَ يَدَكَ كَرَاهِيَةً لِلِقَائِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ فِي الأَجَلِ تَأْخِيرٌ وَقَدْ قَطَعْتَ يَدَكَ فَتَعِيشُ أَجْذَمَ وَتُعَيَّرُ وَلَدُكَ. فَتَرَكَهَا، وَخَرَجَ شُرَيْحٌ فَسَأَلُوهُ، فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا أَشَارَ بِهِ، فَلامُوهُ وَقَالُوا: هَلا أَشَرْتَ عَلَيْهِ بِقَطْعِهَا! [فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ص: الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ] . حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ المروزي، قَالَ: حدثني أبي، قال: حدثني سُلَيْمَان، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَمِعْتُ بَعْضَ مَنْ يُحَدِّثُ أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى شُرَيْحٍ يَسْتَشِيرُهُ فِي قَطْعِ يَدِهِ، فَقَالَ: لا تَفْعَلْ، إِنَّكَ إِنْ عِشْتَ صِرْتَ أَجْذَمَ، وَإِنْ هَلَكْتَ إِيَّاكَ جَانِيًا عَلَى نَفْسِكَ، قَالَ: أَنَامُ وَالطَّاعُونَ فِي لِحَافٍ! فَعَزَمَ أَنْ يَفْعَلَ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى النَّارِ وَالْمَكَاوِي جَزِعَ وَتَرَكَ ذَلِكَ. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الْمَلِكِ بن قريب الأصمعي، قَالَ: حَدَّثَنِي ابن أبي زياد، قَالَ: لما حضرت زيادا الوفاة قَالَ لَهُ ابنه: يَا أبت، قَدْ هيأت لك ستين ثوبا أكفنك فِيهَا، قَالَ: يَا بني، قَدْ دنا من أبيك

لباس خير من لباسه هَذَا، أو سلب سريع، فمات فدفن بالثوية إِلَى جانب الْكُوفَة، وَقَدْ توجه يَزِيد إِلَى الحجاز واليا عَلَيْهَا، فَقَالَ مسكين بن عَامِر بن شريح بن عَمْرو بن عدس بن زَيْد بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دارم: رأيت زيادة الإِسْلام ولت ... جهارا حين ودعنا زياد وَقَالَ الفرزدق لمسكين- ولم يكن هجا زيادا حَتَّى مات: أمسكين أبكى اللَّه عينك إنما ... جرى فِي ضلال دمعها فتحدرا بكيت امرأ من آل ميسان كافرا ... ككسرى عَلَى عدانه أو كقيصرا أقول لَهُ لما أتاني نعيه ... بِهِ لا بظبي بالصريمة أعفرا فأجابه مسكين، فَقَالَ: أَلا أيها المرء الَّذِي لست ناطقا ... وَلا قاعدا فِي القوم إلا انبرى ليا فجئني بعم مثل عمي أو أب ... كمثل أبي أو خال صدق كخاليا كعمرو بن عَمْرو أو زرارة والدا ... أو البشر من كل فرعت الروابيا وما زال بي مثل القناة وسابح ... وخطارة غب السرى من عياليا فهذا لأيام الحفاظ وهذه ... لرحلي وهذا عدة لارتحاليا! وَقَالَ الفرزدق: أبلغ زيادا إذا لاقيت مصرعه ... أن الحمامة قَدْ طارت من الحرم طارت فما زال ينميها قوادمها ... حَتَّى استغاثت إِلَى الأنهار والأجم حَدَّثَنِي عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، عَنْ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: رَأَيْتُ زِيَادًا فِيهِ حُمْرَةٌ، فِي عَيْنِهِ الْيُمْنَى انْكِسَارٌ، أَبْيَضُ اللِّحْيَةِ مَخْرُوطُهَا، عَلَيْهِ قَمِيصٌ مَرْقُوعٌ، وَهُوَ عَلَى بَغْلَةٍ عَلَيْهَا لِجَامُهَا قَدْ أرسنها

ذكر الخبر عن وفاه الربيع بن زياد الحارثى

ذكر الخبر عن وفاه الربيع بن زياد الحارثى وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَفَاةُ الرَّبِيعِ بْنُ زِيَادٍ الْحَارِثِيُّ، وَهُوَ عَامِلُ زِيَادٍ عَلَى خُرَاسَانَ. (ذكر الخبر عن سبب وفاته:) حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ولي الربيع بن زياد خُرَاسَان سنتين وأشهرا، ومات فِي العام الَّذِي مات فِيهِ زياد، واستخلف ابنه عَبْد اللَّهِ بن الربيع، فولي شهرين، ثُمَّ مات عَبْد اللَّهِ قَالَ: فقدم عهده من قبل زياد عَلَى خُرَاسَان وَهُوَ يدفن، واستخلف عَبْد اللَّهِ بن الربيع عَلَى خُرَاسَان خليد بن عَبْدِ اللَّهِ الحنفي. قَالَ علي: وأخبرني مُحَمَّد بن الفضل، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بلغنى ان الربيع ابن زياد ذكر يَوْمًا بخراسان حجر بن عدي، فَقَالَ: لا تزال العرب تقتل صبرا بعده، ولو نفرت عِنْدَ قتله لم يقتل رجل مِنْهُمْ صبرا، ولكنها أقرت فذلت، فمكث بعد هَذَا الكلام جمعة، ثُمَّ خرج فِي ثياب بياض فِي يوم جمعة، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إني قَدْ مللت الحياة، وإني داع بدعوة فأمنوا ثُمَّ رفع يده بعد الصَّلاة، وَقَالَ: اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك عاجلا وأمن الناس فخرج، فما توارت ثيابه حَتَّى سقط فحمل إِلَى بيته، واستخلف ابنه عَبْد اللَّهِ، ومات من يومه، ثُمَّ مات ابنه، فاستخلف خليد بن عَبْدِ اللَّهِ الحنفي، فأقره زياد، فمات زياد وخليد عَلَى خُرَاسَان، وهلك زياد وَقَدِ استخلف عَلَى عمله عَلَى الْكُوفَة عَبْد اللَّهِ بن خَالِد بن أسيد، وعلى الْبَصْرَة سمرة بن جندب الفزاري. فحدثني عمر بن شبة، قال: حدثني علي، قَالَ: مات زياد وعلى الْبَصْرَة سمرة بن جندب خليفة لَهُ، وعلى الْكُوفَة عَبْد اللَّهِ بن خَالِد بن أسيد، فأقر سمرة عَلَى الْبَصْرَة ثمانية عشر شهرا. قَالَ عمر: وبلغني عن جَعْفَر بن سُلَيْمَانَ الضبعي، قَالَ: أقر مُعَاوِيَة سمرة بعد زياد ستة أشهر، ثُمَّ عزله، فَقَالَ سمرة: لعن اللَّه مُعَاوِيَة! وَاللَّهِ لو أطعت اللَّه كما أطعت مُعَاوِيَة مَا عذبني ابدا

حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قال: حدثنى سليمان ابن مُسْلِمٍ الْعِجْلِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: مَرَرْتُ بِالْمَسْجِدِ، فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى سَمُرَةَ فَأَدَّى زَكَاةَ مَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ فَجَعَلَ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَضَرَبَ عُنُقَهُ، فَإِذَا رَأْسُهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَبَدَنُهُ نَاحِيَةً، فَمَرَّ أَبُو بَكْرَةَ، فَقَالَ: يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى» ، قَالَ أَبِي: فَشَهِدْتُ ذَاكَ، فَمَا مَاتَ سَمُرَةُ حَتَّى أَخَذَهُ الزَّمْهَرِيرُ، فَمَاتَ شَرَّ مِيتَةٍ، قَالَ: وَشَهِدْتُهُ وَأُتِيَ بِنَاسٍ كَثِيرٍ وَأُنَاسٌ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَقُولُ لِلرَّجُلِ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنِّي بَرِيءٌ مِنَ الْحَرُورِيَّةِ، فَيَقْدَمُ فَيَضْرِبُ عُنُقَهُ حَتَّى مَرَّ بِضْعَةٌ وَعِشْرُونَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سعيد بن العاص في قول أبي معشر والواقدى وَغَيْرُهُمَا. وَكَانَ الْعَامِلُ فِيهَا عَلَى الْمَدِينَةِ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَعَلَى الْكُوفَةِ بَعْدَ مَوْتِ زِيَادٍ عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى الْبَصْرَةِ بَعْدَ مَوْتِ زِيَادٍ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ، وَعَلَى خُرَاسَانَ خُلَيْدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَنَفِيَّ.

سنه اربع وخمسين

ثُمَّ دخلت سنة أربع وخمسين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففيها كَانَ مشتى مُحَمَّد بن مالك أرض الروم، وصائفة معن بن يَزِيدَ السلمي. وفيها- فِيمَا زعم الْوَاقِدِيّ- فتح جُنَادَة بن أَبِي أُمَيَّةَ جزيرة فِي البحر قريبة من قسطنطينية يقال لها أرواد. وذكر مُحَمَّد بن عُمَرَ أن الْمُسْلِمِينَ أقاموا بِهَا دهرا، فِيمَا يقال سبع سنين، وَكَانَ فِيهَا مجاهد بن جبر قَالَ: وَقَالَ تبيع ابن امرأة كعب: ترون هَذِهِ الدرجة؟ إذا انقلعت جاءت قفلتنا قَالَ: فهاجت ريح شديدة فقلعت الدرجة، وجاء نعي مُعَاوِيَة وكتاب يَزِيد بالقفل فقفلنا، فلم تعمر بعد ذَلِكَ وخربت، وامن الروم. ذكر عزل سعيد بن العاص عن المدينة واستعمال مروان وفيها عزل مُعَاوِيَة سَعِيد بن الْعَاصِ عن الْمَدِينَة، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا مَرْوَان بن الحكم. (ذكر سبب عزل مُعَاوِيَة سعيدا واستعمال مَرْوَان:) حَدَّثَنِي عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ جويرة بْنِ أَسْمَاءَ، عَنْ أَشْيَاخِهِ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ يُغْرِي بَيْنَ مَرْوَانَ وَسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، فَكَتَبَ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَهُوَ عَلَى الْمَدِينَةِ: أَهْدِمْ دَارَ مَرْوَانَ، فَلَمْ يَهْدِمْهَا، فَأَعَادَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ بِهَدْمِهَا، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَعَزَلَهُ وَوَلَّى مَرْوَانَ. وأما محمد بْن عمر، فإنه ذكر أن مُعَاوِيَة كتب إِلَى سَعِيد بن الْعَاصِ يأمره بقبض أموال مَرْوَان كلها فيجعلها صافية، ويقبض فدك منه- وكان

وهبها لَهُ، فراجعه سَعِيد بن الْعَاصِ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ: قرابته قريبة فكتب إِلَيْهِ ثانية يأمره باصطفاء أموال مَرْوَان، فأبى، وأخذ سَعِيد بن الْعَاصِ الكتابين فوضعهما عِنْدَ جارية، فلما عزل سَعِيد عن الْمَدِينَة فوليها مَرْوَان، كتب مُعَاوِيَة إِلَى مَرْوَان بن الحكم يأمره بقبض اموال سعيد بن العاص بالحجار، وأرسل إِلَيْهِ بالكتاب مع ابنه عَبْد الْمَلِكِ، فخبره أنه لو كَانَ شَيْئًا غير كتاب أَمِير الْمُؤْمِنِينَ لتجافيت، فدعا سَعِيد بن الْعَاصِ بالكتابين اللذين كتب بهما مُعَاوِيَة إِلَيْهِ فِي أموال مَرْوَان يأمره فيهما بقبض أمواله، فذهب بهما إِلَى مَرْوَان، فَقَالَ: هُوَ كَانَ أوصل لنا منا لَهُ! وكف عن قبض أموال سَعِيد. وكتب سَعِيد بن الْعَاصِ إِلَى مُعَاوِيَةَ: العجب مما صنع أَمِير الْمُؤْمِنِينَ بنا فِي قرابتنا، أن يضغن بعضنا عَلَى بعض! فأمير الْمُؤْمِنِينَ فِي حلمه وصبره عَلَى مَا يكره من الاجنبين، وعفوه وإدخاله القطيعة بيننا والشحناء، وتوارث الأولاد ذلك، فو الله لو لم نكن بني أب واحد إلا بِمَا جمعنا اللَّه عَلَيْهِ من نصر الخليفة المظلوم، واجتماع كلمتنا، لكان حقا علينا أن نرعى ذَلِكَ، والذي أدركنا بِهِ خير فكتب إِلَيْهِ يتنصل من ذَلِكَ، وأنه عائد إِلَى أحسن مَا يعهده. عاد الحديث إِلَى حديث عمر، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: فلما ولى مَرْوَان كتب إِلَيْهِ: اهدم دار سَعِيد، فأرسل الفعلة، وركب ليهدمها، فَقَالَ لَهُ سَعِيد: يَا أَبَا عَبْد الْمَلِكِ، أتهدم داري! قَالَ: نعم، كتب إلي أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، ولو كتب فِي هدم داري لفعلت، قَالَ: مَا كنت لأفعل، قَالَ: بلى، وَاللَّهِ لو كتب إليك لهدمتها، قَالَ: كلا أبا عَبْد الْمَلِكِ وَقَالَ لغلامه: انطلق فجئني بكتاب مُعَاوِيَة، فَجَاءَ بكتاب مُعَاوِيَة إِلَى سَعِيد بن الْعَاصِ فِي هدم دار مَرْوَان بن الحكم، قَالَ: مَرْوَان كتب إليك يَا أَبَا عُثْمَان فِي هدم داري، فلم تهدم ولم تعلمني قَالَ: مَا كنت لأهدم دارك، وَلا أمن، عَلَيْك، وإنما أراد مُعَاوِيَة أن يحرض بيننا، فَقَالَ

ذكر توليه معاويه عبيد الله بن زياد على خراسان

مروان: فداك ابى وأمي! أنت وَاللَّهِ أكثر منا ريشا وعقبا ورجع مَرْوَان ولم يهدم دار سَعِيد. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ ذَكْوَانَ الْقُرَشِيُّ، قَالَ: قَدِمَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عُثْمَانَ، كَيْفَ تَرَكْتَ أَبَا عَبْدِ الْمَلِكِ؟ قَالَ: تَرَكْتُهُ ضَابِطًا لِعَمَلِكَ، مُنَفِّذًا لأَمْرِكَ قَالَ: إِنَّهُ كَصَاحِبِ الْخُبْزَةِ كُفِيَ نُضْجَهَا فَأَكَلَهَا، قَالَ: كَلا، وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ لَمَعَ قَوْمٍ لا يَحْمِلُ بِهِمُ السَّوْطَ، وَلا يَحِلُّ لَهُمُ السَّيْفَ، يَتَهَادُونَ كَوَقْعِ النَّبْلِ، سَهْمٌ لَكَ وَسَهْمٌ عَلَيْكَ، قَالَ: مَا بَاعَدَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ؟ قَالَ: خَافَنِي عَلَى شَرَفِهِ، وَخِفْتُهُ عَلَى شَرَفِي، قَالَ: فَمَاذَا لَهُ عِنْدَكَ؟ قَالَ: أُسِرُّهُ غَائِبًا، وَأُسِرُّهُ شَاهِدًا، قَالَ: تَرَكْتَنَا يَا أَبَا عُثْمَانَ فِي هَذِهِ الْهَنَاتِ، قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَتَحَمَّلْتُ الثِّقَلَ، وَكُفِيتُ الْحَزْمَ، وَكُنْتُ قَرِيبًا لَوْ دَعَوْتُ أُجِبْتُ، وَلَوْ ذَهَبْتُ رُفِعْتُ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ عَزْلُ مُعَاوِيَةَ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ عَنِ الْبَصْرَةِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ غَيْلانَ فَحَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: عَزَلَ مُعَاوِيَةُ سَمُرَةَ وَوَلَّى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ غَيْلانَ، فَأَقَرَّهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَوَلَّى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو شرطته عبد الله بن حصن . ذكر توليه معاويه عبيد الله بن زياد على خراسان وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى مُعَاوِيَةُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ خُرَاسَانَ. (ذِكْرُ سَبَبِ وِلايَةِ ذَلِكَ) : حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبَانٍ الْقُرَشِيُّ، قَالا: لَمَّا مَاتَ زِيَادٌ وَفَدَ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لَهُ: مَنِ اسْتَخْلَفَ أَخِي عَلَى عَمَلِهِ بِالْكُوفَةِ؟ قَالَ: عَبْدُ الله بن خالد

ابن أُسَيْدٍ، قَالَ: فَمَنِ اسْتُعْمِلَ عَلَى الْبَصْرَةِ؟ قَالَ: سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ الْفَزَارِيُّ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: لَوِ اسْتَعْمَلَكَ أَبُوكَ اسْتَعْمَلْتُكَ، فَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَنْ يَقُولَهَا إِلَيَّ أَحَدٌ بعدك: لو ولاك ابوك وعمك لوليتك! قالا: وَكَانَ مُعَاوِيَةُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوَلِّيَ رَجُلا مِنْ بَنِي حَرْبٍ وَلاهُ الطَّائِفَ، فَإِنْ رَأَى منه خيرا وما يُعْجِبُهُ وَلاهُ مَكَّةَ مَعَهَا، فَإِنْ أَحْسَنَ الْوِلايَةَ وَقَامَ بِمَا وُلِّيَ قِيَامًا حَسَنًا جَمَعَ لَهُ مَعَهُمَا الْمَدِينَةَ، فَكَانَ إِذَا وُلِّيَ الطَّائِفُ رَجُلا قِيلَ: هُوَ فِي أَبِي جَادٍ، فَإِذَا وَلاهُ مَكَّةَ قِيلَ: هُوَ فِي الْقُرْآنِ، فَإِذَا وَلاهُ المدينة قيل: هو قد حذق. قَالا: فَلَمَّا قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ مَا قَالَ وَلاهُ خُرَاسَانَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ حِينَ وَلاهُ: إِنِّي قَدْ عَهِدْتُ إِلَيْكَ مِثْلَ عَهْدِي إِلَى عُمَّالِي، ثُمَّ أُوصِيكَ وَصِيَّةَ الْقَرَابَةِ لِخَاصَّتِكَ عِنْدِي: لا تَبِيعَنَّ كَثِيرًا بِقَلِيلٍ، وَخُذْ لِنَفْسِكَ مِنْ نَفْسِكَ، وَاكْتَفِ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَدُوِّكَ بِالْوَفَاءِ تَخِفَّ عَلَيْكَ الْمَئُونَةُ وَعَلَيْنَا مِنْكَ، وَافْتَحْ بَابَكَ لِلنَّاسِ تَكُنْ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ أَنْتَ وَهُمْ سَوَاءً، وَإِذَا عَزَمْتَ عَلَى أَمْرٍ فَأَخْرِجْهُ إِلَى النَّاسِ، وَلا يَكُنْ لأَحَدٍ فِيهِ مَطْمَعٌ، وَلا يَرْجِعَنَّ عَلَيْكَ وَأَنْتَ تَسْتَطِيعُ، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ فَغَلَبُوكَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ فَلا يَغْلِبُوكَ عَلَى بطنها، وان احتاج أصحابك الى ان تؤاسيهم بِنَفْسِكَ فَأْسُهُمْ. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: اسْتَعْمَلَ مُعَاوِيَةُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ وَقَالَ: اسْتَمْسِكِ الْفَسْفَاسَ إِنْ لَمْ يَقْطَعْ. وَقَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُؤْثِرَنَّ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ شَيْئًا، فَإِنَّ فِي تَقْوَاهُ عِوَضًا، وَقِ عِرْضَكَ مِنْ أَنْ تُدَنِّسَهُ، وَإِذَا أَعْطَيْتَ عَهْدًا فَفِ بِهِ، وَلا تَبِيعَنَّ كَثِيرًا بِقَلِيلٍ، وَلا تُخْرِجَنَّ مِنْكَ أَمْرًا حَتَّى تُبْرِمَهُ، فَإِذَا خَرَجَ فَلا يُرَدَنَّ عَلَيْكَ، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ فكن اكثر من معك، وقاسمهم عَلَى كِتَابِ اللَّهِ،

وَلا تُطْمِعَنَّ أَحَدًا فِي غَيْرِ حَقِّهِ، وَلا تُؤْيِسَنَّ أَحَدًا مِنْ حَقٍّ لَهُ ثُمَّ وَدَّعَهُ. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مسلمة، قَالَ: سار عُبَيْد اللَّهِ إِلَى خُرَاسَان فِي آخر سنة ثلاث وخمسين وَهُوَ ابن خمس وعشرين سنة من الشام وقدم إِلَى خراسان اسلم بن زرعه الكلابى، فخرج، فخرج مَعَهُ من الشام الجعد بن قيس النمري يرجز بين يديه بمرثية زياد يقول فِيهَا: وَحَدَّثَنِي عُمَرُ مرة أخرى فِي كتابه الَّذِي سماه كتاب أخبار أهل الْبَصْرَة، فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ المدائني قَالَ: لما عقد مُعَاوِيَة لعبيد اللَّه بن زياد عَلَى خُرَاسَان خرج وعليه عمامة- وَكَانَ وضيئا- والجعد بن قيس ينشده مرثية زياد: أبق علي عاذلي من اللوم ... فِيمَا أزيلت نعمتي قبل الْيَوْم قَدْ ذهب الكريم والظل الدوم ... والنعم المؤثل الدثر الحوم والماشيات مشية بعد النوم ... ليت الجياد كلها مع القوم سقين سم ساعة قبل الْيَوْم ... لأربع مضين من شهر الصوم ومنها: يوم الثلاثاء الَّذِي كَانَ مضى ... يوم قضى فِيهِ المليك مَا قضى وفاة بر ماجد جلد القوى ... حر به نوال جعد والتظى كَانَ زياد جبلا صعب الذرى ... شهما إذا شئتم نقيصات أبي لا يبعد اللَّه زيادا إذ ثوى. وبكى عُبَيْد اللَّهِ يَوْمَئِذٍ حَتَّى سقطت عمامته عن رأسه، قَالَ: وقدم عُبَيْد اللَّهِ خُرَاسَان ثُمَّ قطع النهر إِلَى جبال بخارى عَلَى الإبل، فكان هُوَ أول من قطع إليهم جبال بخارى في جند، ففتح راميثن ونصف بيكند- وهما من بخارى- فمن ثُمَّ أصاب البخارية. قَالَ علي: أَخْبَرَنَا الْحَسَن بن رشيد، عن عمه، قَالَ: لقي عُبَيْد اللَّهِ بن

زياد الترك ببخارى ومع ملكهم امرأته قبج خاتون، فلما هزمهم اللَّه أعجلوها عن لبس خفيها، فلبست أحدهما وبقي الآخر، فأصابه الْمُسْلِمُونَ، فقوم الجورب بمائتي ألف درهم. قَالَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حفص، عن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد بن معمر، عن عبادة بن حصن، قَالَ: مَا رأيت أحدا أشد بأسا من عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، لقينا زحف من الترك بخراسان، فرأيته يقاتل فيحمل عَلَيْهِم فيطعن فِيهِمْ ويغيب عنا، ثُمَّ يرفع رايته تقطر دما. قَالَ علي: وأخبرنا مسلمة أن البخارية الَّذِينَ قدم بهم عُبَيْد اللَّهِ بن زياد الْبَصْرَة ألفان، كلهم جيد الرمي بالنشاب قَالَ مسلمة: كَانَ زحف الترك ببخارى أيام عُبَيْد اللَّهِ بن زياد من زحوف خُرَاسَان الَّتِي تعد، قَالَ: وأخبرنا الْهُذَلِيّ، قَالَ: كَانَتْ زحوف خُرَاسَان خمسة: أربعة لقيها الأحنف بن قيس، الذى لقيه بين قهستان وأبرشهر، والزحوف الثلاثة الَّتِي لقيها بالمرغاب، والزحف الخامس زحف قارن، فضه عَبْد اللَّهِ بن خازم. قَالَ علي: قَالَ مسلمة: أقام عُبَيْد اللَّهِ بن زياد بخراسان سنتين. وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة مَرْوَان بن الحكم، كذلك حدثنى احمد ابن ثَابِت، عمن حدثه، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي وغيره. وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَة فِي هَذِهِ السنة مَرْوَان بن الحكم، وعلى الكوفه عبد الله خَالِد بن أسيد، وَقَالَ بعضهم: كَانَ عَلَيْهَا الضحاك بن قيس، وعلى الْبَصْرَة عَبْد اللَّهِ بن عَمْرو بن غيلان

سنه خمس وخمسين

ثُمَّ دخلت سنة خمس وخمسين (ذكر الخبر عن الكائن فِيهَا من الأحداث) فمما كَانَ فِيهَا من ذَلِكَ مشتى سُفْيَان بن عوف الأَزْدِيّ بأرض الروم فِي قول الْوَاقِدِيّ. وَقَالَ بعضهم: بل الَّذِي كَانَ شتا بأرض الروم في هذه السنه عمرو ابن محرز. وَقَالَ بعضهم: بل الَّذِي شتا بِهَا عَبْد اللَّهِ بن قيس الفزاري. وَقَالَ بعضهم: بل ذَلِكَ مالك بن عَبْدِ اللَّهِ. وفيها عزل مُعَاوِيَة عَبْد اللَّهِ بن عَمْرو بن غيلان عن الْبَصْرَة وولاها عُبَيْد اللَّهِ بن زياد. ذكر الخبر عن سبب عزل مُعَاوِيَة عَبْد اللَّهِ بن عَمْرو بن غيلان وتوليته عُبَيْد اللَّهِ الْبَصْرَة حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ هِشَامٍ وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ- قَالَ: وَاخْتَلَفَا فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ- قَالا: خَطَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ غَيْلانَ عَلَى مِنْبَرِ الْبَصْرَةِ، فَحَصَبَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي ضَبَّةَ- قَالَ عُمَرُ: قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: يُدْعَى جُبَيْرَ بْنَ الضَّحَّاكِ أَحَدَ بَنِي ضِرَارٍ- فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، فَقَالَ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ وَالتَّسْلِيمْ ... خَيْرٌ وَأَعْفَى لِبَنِي تَمِيمْ فَأَتَتْهُ بَنُو ضَبَّةَ، فَقَالُوا: إِنَّ صَاحِبَنَا جَنَى مَا جَنَى عَلَى نَفْسِهِ، وَقَدْ بَالَغَ الأَمِيرُ فِي عُقُوبَتِهِ، وَنَحْنُ لا نَأْمَنُ أَنْ يَبْلُغَ خَبَرُهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَأْتِي مِنْ قِبَلِهِ عُقُوبَةً تَخُصُّ أَوْ تَعُمُّ، فَإِنْ رَأَى الأَمِيرُ أَنْ يَكْتُبَ لَنَا كِتَابًا يَخْرُجُ

بِهِ أَحَدُنَا إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يُخْبِرُهُ أَنَّهُ قَطَعَهُ عَلَى شُبْهَةٍ وَأَمْرٍ لَمْ يَضِحْ، فَكَتَبَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَأَمْسَكُوا الْكِتَابَ حَتَّى بَلَغَ رَأْسَ السَّنَةِ- وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ: لَمْ يَزِدْ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ- فَوَجَّهَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَوَافَاهُ الضَّبِّيُّونَ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ قَطَعَ صَاحِبَنَا ظُلْمًا، وَهَذَا كِتَابُهُ إِلَيْكَ، وَقَرَأَ الْكِتَابَ، فَقَالَ: أَمَّا الْقَوَدُ مِنْ عُمَّالِي فَلا يَصِحُّ، وَلا سَبِيلَ إِلَيْهِ، وَلَكِنْ إِنْ شئتم وديت صاحبكم، قالوا: فده، فوداه مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَعَزَلَ عَبْدَ اللَّهِ، وَقَالَ لَهُمُ: اخْتَارُوا مَنْ تُحِبُّونَ أَنْ أُوَلِّيَ بَلَدَكُمْ، قَالُوا: يَتَخَيَّرُ لَنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ عَلِمَ رَأْيَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فِي ابْنِ عَامِرٍ، فَقَالَ: هَلْ لَكُمْ فِي ابْنِ عَامِرٍ؟ فَهُوَ مَنْ قَدْ عَرَفْتُمْ فِي شَرَفِهِ وَعَفَافِهِ وَطَهَارَتِهِ، قَالُوا: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَعْلَمُ، فَجَعَلَ يُرَدِّدُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ لِيَسْبِرَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ وَلَّيْتُ عَلَيْكُمُ ابْنَ أَخِي عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ. قَالَ عمر: حدثني علي بن محمد، قال: عزل معاوية عَبْد اللَّهِ بن عَمْرو وولى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد الْبَصْرَة فِي سنة خمس وخمسين وولى عبيد الله اسلم ابن زرعة خُرَاسَان فلم يغز ولم يفتح بِهَا شَيْئًا، وولى شرطة عَبْد اللَّهِ بن حصن، والقضاء زرارة بن أوفى ثُمَّ عزله، وولي القضاء ابن أذينة العبدي. وفي هَذِهِ السنة عزل مُعَاوِيَة عَبْد اللَّهِ بن خَالِد بن أسيد عن الْكُوفَة وولاها الضحاك بن قيس الفهري. وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة مَرْوَان بن الحكم، حدثنى بذلك احمد ابن ثَابِت، عمن حدثه، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر.

سنه ست وخمسين

ثُمَّ دخلت سنة ست وخمسين (ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففيها كَانَ مشتى جُنَادَة بن أَبِي أُمَيَّةَ بأرض الروم، وقيل: عبد الرحمن ابن مسعود. وقيل غزا فِيهَا فِي البحر يَزِيد بن شجره الرهاوى، وفي البر عياض ابن الْحَارِث. وحج بِالنَّاسِ- فِيمَا حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ ثابت عمن حدثه، عن إسحاق ابن عِيسَى، عن أبي معشر- الْوَلِيد بن عتبة بن أَبِي سُفْيَانَ. وفيها اعتمر مُعَاوِيَة فِي رجب. ذكر خبر البيعه ليزيد بولاية العهد وفيها دعا مُعَاوِيَة الناس إِلَى بيعة ابنه يَزِيد من بعده، وجعله ولي العهد. ذكر السبب فِي ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ الهمداني وعلي بن مُجَاهِدٍ، قَالا: قَالَ الشَّعْبِيّ: قدم الْمُغِيرَة عَلَى مُعَاوِيَة واستعفاه وشكا إِلَيْهِ الضعف، فأعفاه، وأراد أن يولي سَعِيد بن الْعَاصِ، وبلغ كاتب الْمُغِيرَة ذَلِكَ، فأتى سَعِيد بن الْعَاصِ فأخبره وعنده رجل من أهل الْكُوفَة يقال لَهُ رَبِيعَة- أو الربيع- من خزاعة، فأتى الْمُغِيرَة فَقَالَ: يَا مغيرة، مَا أَرَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ إلا قَدْ قلاك، رأيت ابن خنيس كاتبك عند سعيد ابن الْعَاصِ يخبره أن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ يوليه الْكُوفَة، قَالَ الْمُغِيرَة: أفلا يقول كما قَالَ الأعشى:

أم غاب ربك فاعترتك خصاصة ... ولعل ربك أن يعود مؤيدا رويدا! أدخل عَلَى يَزِيد، فدخل عَلَيْهِ فعرض لَهُ بالبيعة، فأدى ذَلِكَ يَزِيد إِلَى أَبِيهِ، فرد مُعَاوِيَة الْمُغِيرَة إِلَى الْكُوفَةِ، فأمره أن يعمل فِي بيعة يَزِيد، فشخص الْمُغِيرَة إِلَى الْكُوفَةِ، فأتاه كاتبه ابن خنيس، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا غششتك وَلا خنتك، وَلا كرهت ولايتك، ولكن سعيدا كَانَتْ لَهُ عندي يد وبلاء، فشكرت ذَلِكَ لَهُ، فرضي عنه وأعاده إِلَى كتابته، وعمل الْمُغِيرَة فِي بيعة يَزِيد، وأوفد فِي ذَلِكَ وافدا إِلَى مُعَاوِيَةَ. حَدَّثَنِي الْحَارِث، قَالَ: حَدَّثَنَا علي، عن مسلمة، قَالَ: لما أراد مُعَاوِيَة أن يبايع ليزيد كتب إِلَى زياد يستشيره، فبعث زياد إِلَى عبيد بن كعب النميري، فَقَالَ: إن لكل مستشير ثقة، ولكل سر مستودع، وإن الناس قَدْ أبدعت بهم خصلتان: إذاعة السر، وإخراج النصيحة إِلَى غير أهلها، وليس موضع السر إلا أحد رجلين: رجل آخرة يرجو ثوابا، ورجل دنيا لَهُ شرف فِي نفسه وعقل يصون حسبه، وَقَدْ عجمتهما مِنْكَ، فأحمدت الَّذِي قبلك، وَقَدْ دعوتك لأمر اتهمت عَلَيْهِ بطون الصحف، إن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ كتب إلي يزعم أنه قَدْ عزم عَلَى بيعة يَزِيد، وَهُوَ يتخوف نفرة الناس، ويرجو مطابقتهم، ويستشيرني، وعلاقة أمر الإِسْلام وضمانه عظيم، ويزيد صاحب رسلة وتهاون، مع مَا قَدْ أولع بِهِ من الصيد، فَالْقَ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ مؤديا عني، فأخبره عن فعلات يَزِيد، فَقَالَ لَهُ: رويدك بالأمر، فأقمن أن يتم لك مَا تريد، وَلا تعجل فإن دركا فِي تأخير خير من تعجيل عاقبته الفوت فَقَالَ عبيد لَهُ: أفلا غير هَذَا! قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: لا تفسد عَلَى مُعَاوِيَة رأيه، وَلا تمقت إِلَيْهِ ابنه، وألقى أنا يَزِيد سرا من مُعَاوِيَة فأخبره عنك أن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ كتب إليك يستشيرك فِي بيعته،

وأنك تخوف خلاف الناس لهنات ينقمونها عَلَيْهِ، وأنك ترى لَهُ ترك مَا ينقم عَلَيْهِ، فيستحكم لأمير الْمُؤْمِنِينَ الحجة عَلَى الناس، ويسهل لك مَا تريد، فتكون قَدْ نصحت يَزِيد وأرضيت أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، فسلمت مما تخاف من علاقة أمر الأمة فَقَالَ زياد: لقد رميت الأمر بحجره، اشخص عَلَى بركة اللَّه، فإن أصبت فما لا ينكر، وإن يكن خطأ فغير مستغش وأبعد بك إِنْ شَاءَ اللَّهُ من الخطإ، قَالَ: تقول بِمَا ترى، ويقضي اللَّه بغيب مَا يعلم فقدم عَلَى يَزِيد فذاكره ذَلِكَ وكتب زياد إِلَى مُعَاوِيَةَ يأمره بالتؤده، والا يعجل، فقبل ذَلِكَ مُعَاوِيَة، وكف يَزِيد عن كثير مما كَانَ يصنع، ثُمَّ قدم عبيد عَلَى زياد فأقطعه قطيعة. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: لما مات زياد دعا مُعَاوِيَة بكتاب فقرأه عَلَى الناس باستخلاف يَزِيد، أن حدث بِهِ حدث الموت فيزيد ولي عهد، فاستوسق لَهُ الناس عَلَى البيعة ليزيد غير خمسة نفر. فَحَدَّثَنِي يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابن عون، قَالَ: حَدَّثَنِي رجل بنخلة، قَالَ: بايع الناس ليزيد بن مُعَاوِيَة غير الْحُسَيْن بن علي وابن عمر وابن الزُّبَيْر وعبد الرَّحْمَن بن أبي بكر وابن عباس، فلما قدم مُعَاوِيَة ارسل الى الحسين بن على، فقال: يا بن أخي، قد استوسق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم، يا بن أخي، فما إربك إِلَى الخلاف؟ قَالَ: أنا أقودهم! قَالَ: نعم، أنت تقودهم، قَالَ: فأرسل إِلَيْهِم، فإن بايعوا كنت رجلا مِنْهُمْ، وإلا لم تكن عجلت علي بأمر، قَالَ: وتفعل؟ قال: نعم، قال: فاخذ عليه الا يخبر بحديثهم أحدا قَالَ: فالتوى عَلَيْهِ، ثُمَّ أعطاه ذَلِكَ، فخرج وَقَدْ أقعد لَهُ ابن الزبير

ذكر عزل ابن زياد عن خراسان واستعمال سعيد بن عثمان

رجلا بالطريق قَالَ: يقول لك أخوك ابن الزُّبَيْر: مَا كَانَ؟ فلم يزل بِهِ حَتَّى استخرج مِنْهُ شَيْئًا. ثُمَّ أرسل بعده إِلَى ابن الزبير، فقال له: قد استوسق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم، يا بن أخي! فما إربك إِلَى الخلاف؟ قَالَ: أنا أقودهم! قَالَ: نعم، أنت تقودهم، قَالَ: فأرسل إِلَيْهِم فإن بايعوا كنت رجلا مِنْهُمْ، وإلا لم تكن عجلت علي بأمر، قَالَ: وتفعل؟ قال: نعم، قال: فاخذ عليه الا يخبر بحديثهم أحدا، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، نحن فِي حرم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وعهد اللَّه سُبْحَانَهُ ثقيل، فأبى عَلَيْهِ، وخرج. ثُمَّ أرسل بعده إِلَى ابن عمر فكلمه بكلام هُوَ ألين من كلام صاحبه، فَقَالَ: إني أرهب أن أدع أمة مُحَمَّد بعدي كالضأن لا راعى لها، وقد استوسق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم، فما إربك إِلَى الخلاف! قَالَ: هل لك فِي أمر يذهب الذم، ويحقن الدم، وتدرك بِهِ حاجتك؟ قَالَ: وددت! قَالَ: تبرز سريرك، ثُمَّ أجيء فأبايعك، عَلَى أني أدخل بعدك فِيمَا تجتمع عَلَيْهِ الأمة، فو الله لو أن الأمة اجتمعت بعدك عَلَى عبد حبشي لدخلت فِيمَا تدخل فِيهِ الأمة، قَالَ: وتفعل؟ قَالَ: نعم، ثُمَّ خرج فأتى منزله فأطبق بابه، وجعل الناس يجيئون فلا يأذن لَهُمْ. فأرسل إِلَى عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، فقال: يا بن أبي بكر، بأية يد أو رجل تقدم عَلَى معصيتي! قَالَ: أرجو أن يكون ذَلِكَ خيرا لي، فَقَالَ: وَاللَّهِ لقد هممت أن أقتلك، قَالَ: لو فعلت لأتبعك اللَّه بِهِ لعنة فِي الدُّنْيَا، وأدخلك بِهِ فِي الآخرة النار. قال: ولم يذكر ابن عباس . ذكر عزل ابن زياد عن خراسان واستعمال سعيد بن عثمان وَكَانَ العامل عَلَى الْمَدِينَة فِي هَذِهِ السنة مَرْوَان بن الحكم، وعلى الْكُوفَة الضحاك بن قيس، وعلى الْبَصْرَة عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، وعلى خراسان سعيد ابن عثمان

وَكَانَ سبب ولايته خُرَاسَان مَا حَدَّثَنِي عمر، قَالَ: حَدَّثَنِي علي، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّد بن حفص، قَالَ: سأل سَعِيد بن عُثْمَانَ مُعَاوِيَة أن يستعمله عَلَى خُرَاسَان، فَقَالَ: إن بِهَا عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فَقَالَ: أما لقد اصطنعك أبي ورفاك حَتَّى بلغت باصطناعه المدى الَّذِي لا يجارى إِلَيْهِ وَلا يسامى، فما شكرت بلاءه، وَلا جازيته بآلائه، وقدمت علي هَذَا- يعني يَزِيد بن مُعَاوِيَة- وبايعت لَهُ، وو الله لأنا خير منه أبا واما ونفسا، فقال: فَقَالَ مُعَاوِيَة: أما بلاء أبيك فقد يحق عَلَيَّ الجزاء بِهِ، وَقَدْ كَانَ من شكري لذلك أني طلبت بدمه حَتَّى تكشفت الأمور، ولست بلائم لنفسي فِي التشمير، وأما فضل أبيك عَلَى أَبِيهِ فأبوك وَاللَّهِ خير مني واقرب برسول الله ص، وأما فضل أمك عَلَى أمه فما ينكر، امرأة من قريش خير من امرأة من كلب، واما فضلك عليه فو الله مَا أحب أن الغوطة دحست ليزيد رجالا مثلك. فَقَالَ لَهُ يَزِيد: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ابن عمك، وأنت أحق من نظر فِي امره، وقد عتب عليك فأعتبه، قَالَ: فولاه حرب خُرَاسَان، وولى إِسْحَاق ابن طَلْحَة خراجها، وَكَانَ إِسْحَاق ابن خالة مُعَاوِيَة، أمه أم ابان ابنه عتبة ابن رَبِيعَة، فلما صار بالري مات إِسْحَاق بن طَلْحَة فولي سَعِيد خراج خُرَاسَان وحربها. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي علي، قَالَ: أَخْبَرَنَا مسلمة، قَالَ: خرج سَعِيد إِلَى خُرَاسَان وخرج مَعَهُ أوس بن ثعلبة التيمي صاحب قصر أوس، وطلحه ابن عبد الله بن خلف الخزاعي والمهلب بن أبي صفرة وربيعة بن عسل أحد بني عَمْرو بن يربوع، قَالَ: وَكَانَ قوم من الأعراب يقطعون الطريق عَلَى الحاج ببطن فلج، فقيل لسعيد: ان هاهنا قوما يقطعون

الطريق عَلَى الحاج ويخيفون السبيل، فلو أخرجتهم معك! قَالَ: فأخرج قوما من بني تميم، مِنْهُمْ مالك بن الريب المازني فِي فتيان كَانُوا مَعَهُ، وفيهم يقول الراجز: ألله أنجاك من القصيم ... ومن أبي حردبة الأثيم ومن غويث فاتح العكوم ... ومالك وسيفه المسموم قَالَ علي: قَالَ مسلمة: قدم سَعِيد بن عُثْمَانَ، فقطع النهر إِلَى سمرقند، فخرج إِلَيْهِ أهل الصغد، فتواقفوا يَوْمًا إِلَى الليل ثُمَّ انصرفوا مِنْ غَيْرِ قتال، فَقَالَ مالك بن الريب يذم سعيدا: ما زلت يوم الصغد ترعد واقفا ... من الجبن حَتَّى خفت أن تتنصرا وما كَانَ فِي عُثْمَان شَيْء علمته ... سوى نسله فِي رهطه حين أدبرا ولولا بنو حرب لظلت دماؤكم ... بطون العظايا من كسير وأعورا قَالَ: فلما كَانَ الغد خرج إِلَيْهِم سَعِيد بن عُثْمَانَ، وناهضه الصغد، فقاتلهم فهزمهم وحصرهم فِي مدينتهم، فصالحوه وأعطوه رهنا مِنْهُمْ خمسين غلاما يكونون فِي يده من أبناء عظمائهم، وعبر فأقام بالترمذ، ولم يف لَهُمْ، وجاء بالغلمان الرهن مَعَهُ إِلَى الْمَدِينَة. قَالَ: وقدم سَعِيد بن عُثْمَانَ خُرَاسَان وأسلم بن زرعة الكلابي بِهَا من قبل عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فلم يزل أسلم بن زرعة بِهَا مقيما حَتَّى كتب إِلَيْهِ عُبَيْد اللَّهِ بن زياد بعهده عَلَى خُرَاسَان الثانية، فلما قدم كتاب عُبَيْد اللَّهِ عَلَى أسلم طرق سَعِيد بن عُثْمَانَ ليلا، فأسقطت جارية لَهُ غلاما، فكان سَعِيد

يقول: لأقتلن بِهِ رجلا من بني حرب، وقدم عَلَى مُعَاوِيَة فشكا أسلم إِلَيْهِ، وغضبت القيسية، قَالَ: فدخل همام بن قبيصة النمري فنظر إِلَيْهِ مُعَاوِيَة محمر العينين، فَقَالَ: يَا همام، إن عينيك لمحمرتان، قَالَ همام: كانتا يوم صفين أشد حمرة، فغم مُعَاوِيَة ذَلِكَ، فلما رَأَى ذَلِكَ سَعِيد كف عن أسلم، فأقام أسلم بن زرعة عَلَى خُرَاسَان واليا لعبيد اللَّه بن زياد سنتين

سنه سبع وخمسين

ثُمَّ دخلت سنة سبع وخمسين وَكَانَ فِيهَا مشتى عَبْد اللَّهِ بن قيس بأرض الروم. وفيها صرف مَرْوَان عن الْمَدِينَة فِي ذي القعدة فِي قول الْوَاقِدِيّ، وَقَالَ غيره: كَانَ مروان اليه الْمَدِينَة فِي هَذِهِ السنة. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: استعمل مُعَاوِيَة عَلَى الْمَدِينَة حين صرف عنها مَرْوَان الْوَلِيد بن عتبة بن أَبِي سُفْيَانَ. وكالذي قَالَ الْوَاقِدِيُّ قَالَ أَبُو معشر، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أحمد بْن ثابت الرازي، عمن حدثه، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عنه. وَكَانَ العامل عَلَى الْكُوفَة فِي هَذِهِ السنة الضحاك بن قيس، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى خُرَاسَان سَعِيد بن عُثْمَانَ بن عَفَّانَ.

سنه ثمان وخمسين

ثُمَّ دخلت سنة ثمان وخمسين (ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث) ففيها نزع مُعَاوِيَة مَرْوَان عن الْمَدِينَة فِي ذي القعدة فِي قول أبي معشر، وأمر الْوَلِيد بن عتبة بن أَبِي سُفْيَانَ عَلَيْهَا، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إِسْحَاق بن عِيسَى، عنه. وفيها غزا مالك بن عَبْدِ اللَّهِ الخثعمي أرض الروم. وفيها قتل يَزِيد بن شجرة فِي البحر فِي السفن فِي قول الْوَاقِدِيّ قَالَ: ويقال عَمْرو بن يَزِيدَ الجهني، وَكَانَ الَّذِي شتا بأرض الروم، وقد قيل: ان الَّذِي غزا فِي البحر فِي هَذِهِ السنة جُنَادَة بن أَبِي أُمَيَّةَ. وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة الْوَلِيد بن عتبة بن أَبِي سُفْيَانَ، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر، وكذلك قَالَ الواقدى وغيره. عزل الضحاك عن الكوفه واستعمال عبد الرحمن بن أم الحكم وفي هَذِهِ السنة ولى مُعَاوِيَة الْكُوفَة عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْن عُثْمَانَ بن رَبِيعَة الثقفي، وَهُوَ ابن أم الحكم أخت مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ، وعزل عنها الضحاك بن قيس، ففي عمله فِي هَذِهِ السنة خرجت الطائفة الَّذِينَ كَانَ الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ حبسهم فِي السجن من الخوارج الَّذِينَ كَانُوا بايعوا المستورد بن علفة، فظفر بهم فاستودعهم السجن، فلما مات الْمُغِيرَة خرجوا من السجن. فذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ أن أبا مخنف، حدثه عن عبد الرَّحْمَن بن جندب، عن عَبْد اللَّهِ بن عُقْبَةَ الغنوي أن حيان بن ظبيان السلمي جمع إِلَيْهِ أَصْحَابه، ثُمَّ إنه حمد اللَّه وأثنى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَمَّا بَعْدُ، فإن الله عز

وَجَلَّ كتب علينا الجهاد، فمنا مَنْ قَضى نَحْبَهُ، ومنا مَنْ يَنْتَظِرُ، وأولئك الأبرار الفائزون بفضلهم، ومن يكن منا من ينتظر فهو من سلفنا القاضين نحبهم، السابقين بإحسان، فمن كَانَ مِنْكُمْ يريد اللَّه وثوابه فليسلك سبيل أَصْحَابه وإخوانه يؤته اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ مع الْمُحْسِنِينَ. قَالَ معاذ بن جوين الطَّائِيّ: يَا أهل الإِسْلام، إنا وَاللَّهِ لو علمنا أنا إذا تركنا جهاد الظلمة وإنكار الجور، كَانَ لنا بِهِ عِنْدَ اللَّه عذر، لكان تركه أيسر علينا، وأخف من ركوبه، ولكنا قَدْ علمنا واستيقنا أنه لا عذر لنا، وَقَدْ جعل لنا القلوب والأسماع حَتَّى ننكر الظلم، ونغير الجور، ونجاهد الظالمين، ثُمَّ قَالَ: ابسط يدك نبايعك، فبايعه وبايعه القوم، فضربوا عَلَى يد حيان بن ظبيان، فبايعوه، وَذَلِكَ فِي إمارة عبد الرَّحْمَن بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ الثقفي، وَهُوَ ابن أم الحكم، وَكَانَ عَلَى شرطته زائدة بن قدامة الثقفي. ثُمَّ إن القوم اجتمعوا بعد ذَلِكَ بأيام إِلَى منزل معاذ بن جوين بن حصين الطَّائِيّ فَقَالَ لَهُمْ حيان بن ظبيان: عباد اللَّه، أشيروا برأيكم، أين تأمروني أن أخرج؟ فَقَالَ لَهُ معاذ: إني أَرَى أن تسير بنا إِلَى حلوان حَتَّى ننزلها، فإنها كورة بين السهل والجبل، وبين المصر والثغر- يعني بالثغر الري- فمن كَانَ يرى رأينا من أهل المصر والثغر والجبال والسواد لحق بنا فَقَالَ لَهُ حيان: عدوك معاجلك قبل اجتماع الناس إليك، لعمري لا يتركونكم حَتَّى يجتمعوا إليكم، ولكن قَدْ رأيت أن أخرج معكم فِي جانب الْكُوفَة والسبخة أو زرارة والحيرة، ثُمَّ نقاتلهم حَتَّى نلحق بربنا، فإني وَاللَّهِ لقد علمت أنكم لا تقدرون وَأَنْتُمْ دون المائة رجل أن تهزموا عدوكم، ولا ان تشتد نكايتكم فِيهِمْ، ولكن متى علم اللَّه أنكم قَدْ أجهدتم أنفسكم فِي جهاد عدوه وعدوكم كَانَ لكم بِهِ العذر، وخرجتم من الإثم قالوا: رأينا رأيك، فقال لهم عتريس ابن عرقوب أَبُو سُلَيْمَان الشيباني: ولكن لا أَرَى راى جماعتكم، فانظروا في راى لكم، إني لا إخالكم تجهلون معرفتي بالحرب، وتجربتي بالأمور، فَقَالُوا لَهُ: أجل، أنت كما ذكرت، فما رأيك؟ قَالَ: مَا أَرَى أن تخرجوا عَلَى الناس بالمصر، إنكم قليل فِي كثير، وَاللَّهِ مَا تزَيْدون عَلَى أن تجزروهم أنفسكم، وتقروا أعينهم بقتلكم، وليس هكذا تكون المكايدة إذ آثرتم أن

تخرجوا عَلَى قومكم، فكيدوا عدوكم مَا يضرهم، قَالُوا: فما الرأي؟ قَالَ: تسيرون إِلَى الكورة الَّتِي أشار بنزولها معاذ بن جوين بن حصين- يعني حلوان- أو تسيرون بنا إِلَى عين التمر فنقيم بِهَا، فإذا سمع بنا إخواننا أتونا من كل جانب وأوب، فَقَالَ لَهُ حيان بن ظبيان: إنك وَاللَّهِ لو سرت بنا أنت وجميع أَصْحَابك نحو أحد هَذَيْنِ الوجهين مَا اطمأننتم بِهِ حَتَّى يلحق بكم خيول أهل المصر، فأنى تشفون أنفسكم! فو الله مَا عدتكم بالكثيرة الَّتِي ينبغي أن تطمعوا معها بالنصر فِي الدُّنْيَا عَلَى الظالمين المعتدين، فاخرجوا بجانب من مصركم هَذَا فقاتلوا عن أمر اللَّه من خالف طاعة اللَّه، وَلا تربصوا وَلا تنتظروا فإنكم إنما تبادرون بِذَلِكَ إِلَى الجنة، وتخرجون أنفسكم بِذَلِكَ من الْفِتْنَة قَالُوا: أما إذا كَانَ لا بد لنا فإنا لن نخالفك، فاخرج حَيْثُ أحببت. فمكث حَتَّى إذا كَانَ آخر سنة من سني ابن أم الحكم فِي أول السنة- وَهُوَ أول يوم من شهر ربيع الآخر- اجتمع أَصْحَاب حيان بن ظبيان إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ: يَا قوم، إن اللَّه قَدْ جمعكم لخير وعلى خير، وَاللَّهِ الَّذِي لا إله غيره مَا سررت بشيء قط فِي الدُّنْيَا بعد ما أسلمت سروري لمخرجي هَذَا عَلَى الظلمة الاثمه، فو الله مَا أحب أن الدُّنْيَا بحذافيرها لي وأن اللَّه حرمني فِي مخرجي هَذَا الشهادة وأني قَدْ رأيت أن نخرج حَتَّى ننزل جانب دار جرير، فإذا خرج إليكم الأحزاب ناجزتموهم فَقَالَ عتريس بن عرقوب البكري: أما إن نقاتلهم فِي جوف المصر فإنه يقاتلنا الرجال، وتصعد النساء والصبيان والإماء فيرموننا بالحجارة، فَقَالَ لَهُمْ رجل مِنْهُمُ: انزلوا بنا إذا من وراء المصر الجسر- وَهُوَ موضع زرارة، وإنما بنيت زرارة بعد ذَلِكَ إلا أبياتا يسيرة كَانَتْ منها قبل ذَلِكَ- فَقَالَ لَهُمْ معاذ بن جوين بن حصين الطَّائِيّ: لا، بل سيروا بنا فلننزل بانقيا فما أسرع مَا يأتيكم عدوكم، فإذا كَانَ ذَلِكَ استقبلنا القوم بوجوهنا، وجعلنا البيوت فِي ظهورنا، فقاتلناهم من وجه واحد فخرجوا، فبعث إِلَيْهِم جيش، فقتلوا جميعا

ذكر قتل عروه بن اديه وغيره من الخوارج

ثم ان عبد الرحمن بن أم الحكم طرده أهل الْكُوفَة، فحدثت عن هشام ابن مُحَمَّدٍ، قَالَ: استعمل مُعَاوِيَة ابن أم الحكم عَلَى الْكُوفَة فأساء السيرة فِيهِمْ، فطردوه، فلحق بمعاوية وَهُوَ خاله، فَقَالَ لَهُ: أوليك خيرا منها، مصر، قَالَ: فولاه، فتوجه إِلَيْهَا، وبلغ مُعَاوِيَة بن حديج السكوني الخبر، فخرج فاستقبله عَلَى مرحلتين من مصر، فَقَالَ: ارجع إِلَى خالك فلعمري لا تسير فينا سيرتك فِي إخواننا من أهل الْكُوفَة. قَالَ: فرجع إِلَى معاويه، واقبل معاويه بن حديج وافدا، قال: وَكَانَ إذا جَاءَ قلست لَهُ الطريق- يعني ضربت لَهُ قباب الريحان- قَالَ: فدخل عَلَى مُعَاوِيَة وعنده أم الحكم، فَقَالَتْ: من هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: بخ! هَذَا مُعَاوِيَة بن حديج، قالت: لا مرحبا بِهِ! تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فَقَالَ: عَلَى رسلك يَا أم الحكم! أما وَاللَّهِ لقد تزوجت فما أكرمت، وولدت فما أنجبت، أردت أن يلي ابنك الفاسق علينا فيسير فينا كما سار فِي إخواننا من أهل الْكُوفَة، مَا كَانَ اللَّه ليريه ذَلِكَ، ولو فعل ذَلِكَ لضربناه ضربا يطأطئ مِنْهُ، وإن كره ذَلِكَ الجالس فالتفت إِلَيْهَا مُعَاوِيَة، فَقَالَ: كفي . ذكر قتل عروه بن اديه وغيره من الخوارج . وفي هَذِهِ السنة اشتد عُبَيْد اللَّهِ بن زياد عَلَى الخوارج، فقتل مِنْهُمْ صبرا جماعة كثيرة، وفي الحرب جماعة أخرى، وممن قتل مِنْهُمْ صبرا عروة بن أدية، أخو أبي بلال مِرْدَاس بن أدية. (ذكر سبب قتله إياهم:) حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حرب، قَالَ: حَدَّثَنَا وهب بن جرير، قال: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ عَاصِمٍ الأَسَدِيُّ، أَنَّ ابْنَ زِيَادٍ خَرَجَ فِي رِهَانٍ لَهُ، فَلَمَّا جَلَسَ يَنْتَظِرُ الْخَيْلَ اجْتَمَعَ النَّاسُ وَفِيهِمْ عُرْوَةُ بْنُ أُدَيَّةَ أَخُو أَبِي بِلالٍ، فَأَقْبَلَ عَلَى ابْنِ زِيَادٍ فَقَالَ: خَمْسٌ كُنَّ

فِي الأُمَمِ قَبْلَنَا، فَقَدْ صِرْنَ فِينَا: «أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ» وَخَصْلَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ لَمْ يَحْفَظْهُمَا جَرِيرٌ فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ ظَنَّ ابْنُ زِيَادٍ أَنَّهُ لَمْ يَجْتَرِئْ عَلَى ذَلِكَ إِلا وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَامَ وَرَكِبَ وَتَرَكَ رِهَانَهُ، فَقِيلَ لِعُرْوَةَ: مَا صَنَعْتَ! تَعْلَمَنَّ وَاللَّهِ لَيَقْتُلَنَّكَ قَالَ: فَتَوَارَى، فَطَلَبَهُ ابْنُ زِيَادٍ، فَأَتَى الْكُوفَةَ، فَأَخَذَ بِهَا، فَقَدِمَ بِهِ عَلَى ابْنِ زِيَادٍ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلاهُ، ثُمَّ دَعَا بِهِ فَقَالَ: كَيْفَ تَرَى؟ قَالَ: أَرَى أَنَّكَ أَفْسَدْتَ دُنْيَايَ وَأَفْسَدْتَ آخِرَتَكَ، فَقَتَلَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى ابْنَتِهِ فَقَتَلَهَا. وَأَمَّا مِرْدَاسُ بْنُ أُدَيَّةَ فَإِنَّهُ خَرَجَ بِالأَهْوَازِ وَقَدْ كَانَ ابْنُ زِيَادٍ قَبْلَ ذَلِكَ حَبَسَهُ- فِيمَا حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي خَلادُ بْنُ يَزِيدَ الْبَاهِلِيُّ، قَالَ-: حَبَسَ ابْنُ زِيَادٍ- فِيمَنْ حَبَسَ- مِرْدَاسَ بْنَ أُدَيَّةَ، فَكَانَ السَّجَّانُ يَرَى عِبَادَتَهُ وَاجْتِهَادَهُ، وَكَانَ يَأْذَنُ لَهُ فِي اللَّيْلِ، فَيَنْصَرِفُ، فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ أَتَاهُ حَتَّى يَدْخُلَ السِّجْنَ، وَكَانَ صَدِيقٌ لِمِرْدَاسٍ يُسَامِرُ ابْنَ زِيَادٍ، فَذَكَرَ ابْنُ زِيَادٍ الْخَوَارِجَ لَيْلَةً فَعَزَمَ عَلَى قَتْلِهِمْ إِذَا أَصْبَحَ، فَانْطَلَقَ صَدِيقُ مِرْدَاسٍ إِلَى مَنْزِلِ مِرْدَاسٍ فَأَخْبَرَهُمْ، وَقَالَ: أَرْسِلُوا إِلَى أَبِي بِلالٍ فِي السِّجْنِ فَلْيَعْهَدْ فَإِنَّهُ مَقْتُولٌ، فَسَمِعَ ذَلِكَ مِرْدَاسٌ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ صَاحِبَ السِّجْنِ، فَبَاتَ بِلَيْلَةِ سُوءٍ إِشْفَاقًا مِنْ أَنْ يَعْلَمَ الْخَبَرَ مِرْدَاسٌ فَلا يَرْجِعُ، فَلَمَّا كَانَ الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ يَرْجِعُ فِيهِ إِذَا بِهِ قَدْ طَلَعَ، فَقَالَ لَهُ السَّجَّانُ: هَلْ بَلَغَكَ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ الأَمِيرُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: ثُمَّ غَدَوْتَ! قَالَ: نَعَمْ، وَلَمْ يَكُنْ جَزَاؤُكَ مَعَ إِحْسَانِكَ أَنْ تعاقب بسبي، وَأَصْبَحَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَجَعَلَ يَقْتُلُ الْخَوَارِجَ، ثُمَّ دَعَا بِمِرْدَاسٍ، فَلَمَّا حَضَرَ وَثَبَ السَّجَّانُ- وَكَانَ ظِئْرًا لِعُبَيْدِ اللَّهِ- فَأَخَذَ بِقَدَمِهِ، ثُمَّ قَالَ: هب هَذَا، وَقَصَّ عَلَيْهِ قِصَّتَهُ، فَوَهَبَهُ لَهُ وَأَطْلَقَهُ. حدثني عمر، قَالَ: حَدَّثَنَا زهير بن حرب، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: خرج

مِرْدَاسٌ أَبُو بِلالٍ- وَهُوَ مِنْ بَنِي رَبِيعَةَ بْنِ حَنْظَلَةَ- فِي أَرْبَعِينَ رَجُلا إِلَى الأَهْوَازِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمُ ابْنُ زِيَادٍ جَيْشًا عَلَيْهِمُ ابْنُ حِصْنٍ التَّمِيمِيُّ، فَقَتَلُوا فِي أَصْحَابِهِ وَهَزَمُوهُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ: أَأَلْفَا مُؤْمِنٍ مِنْكُمْ زَعَمْتُمْ ... وَيَقْتُلُهُمْ بِآسِكَ أَرْبَعُونَا كَذَبْتُمْ لَيْسَ ذَاكَ كَمَا زَعَمْتُمْ ... وَلَكِنَّ الْخَوَارِجَ مُؤْمِنُونَا هِيَ الْفِئَةُ الْقَلِيلَةُ قَدْ عَلِمْتُمْ ... عَلَى الْفِئَةِ الْكَثِيرَةِ يُنْصَرُونَا قَالَ عُمَرُ: الْبَيْتُ الأَخِيرُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ، أَنْشَدَنِيهِ خَلادُ بْنُ يَزِيدَ الْبَاهِلِيُّ. وَقِيلَ: مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُمَيْرَةُ بْنُ يَثْرِبِيٍّ قَاضِي الْبَصْرَةِ، وَاسْتُقْضِيَ مَكَانَهُ عَلَيْهَا هِشَامُ بْنُ هُبَيْرَةَ. وَكَانَ عَلَى الْكُوفَةِ فِي هذه السنه عبد الرحمن بن أُمِّ الْحَكَمِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ عَلَيْهَا الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ الْفِهْرِيُّ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ شُرَيْحٌ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، كَذَلِكَ قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ وَالْوَاقِدِيُّ

سنه تسع وخمسين

ثُمَّ دخلت سنة تسع وخمسين (ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففيها كَانَ مشتى عَمْرو بن مُرَّةَ الجهني أرض الروم فِي البر، قَالَ الْوَاقِدِيّ: لَمْ يَكُنْ عامئذ غزو فِي البحر وَقَالَ غيره: بل غزا فِي البحر جُنَادَة بن أبي أمية. وفيها عزل عبد الرحمن بن أم الحكم عن الْكُوفَة، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا النُّعْمَان بن بشير الأَنْصَارِيّ، وَقَدْ ذكرنا قبل سبب عزل ابن أم الحكم عن الكوفه. ذكر ولايه عبد الرحمن بن زياد خراسان وفي هَذِهِ السنة ولى مُعَاوِيَة عبد الرَّحْمَن بن زياد بن سمية خُرَاسَان. ذكر سبب استعمال مُعَاوِيَة إِيَّاهُ عَلَى خُرَاسَان: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو، قَالَ: سَمِعْتُ أَشْيَاخَنَا يَقُولُونَ: قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ وَافِدًا عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَمَا لَنَا حَقٌّ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَمَاذَا تُوَلِّيَنِي؟ قَالَ: بِالْكُوفَةِ النُّعْمَانُ رشيد، وهو رجل من اصحاب النبي ص، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ عَلَى الْبَصْرَةِ وَخُرَاسَانَ، وَعَبَّادُ بْنُ زِيَادٍ عَلَى سِجِسْتَانَ، وَلَسْتُ أَرَى عَمَلا يُشْبِهُكَ إِلا أَنْ أُشْرِكَكَ فِي عَمَلِ أَخِيكَ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ أَشْرِكْنِي، فَإِنَّ عَمَلَهُ وَاسِعٌ يَحْتَمِلُ الشِّرْكَةَ، فَوَلاهُ خُرَاسَانَ. قَالَ عَلِيٌّ: وَذَكَرَ أَبُو حَفْصٍ الأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا قَيْسُ بْنُ الْهَيْثَمِ السُّلَمِيُّ، وَقَدْ وَجَّهَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ، فَأَخَذَ اسلم بن

ذكر وفود عبيد الله بن زياد على معاويه

زُرْعَةَ فَحَبَسَهُ، ثُمَّ قَدِمَ عَبْدُ الرَّحَمْنِ، فَأَغْرَمَ اسلم بن زرعه ثلاثمائة أَلْفِ دِرْهَمٍ. قَالَ: وَذَكَرَ مُصْعَبُ بْنُ حَيَّانَ، عَنْ أَخِيهِ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، قَالَ: قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ خُرَاسَانَ، فَقَدِمَ رَجُلٌ سَخِيٌّ حَرِيصٌ ضَعِيفٌ لَمْ يَغْزُ غَزْوَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ أَقَامَ بِخُرَاسَانَ سَنَتَيْنِ. قَالَ عَلِيٌّ: قَالَ عَوَانَةَ: قَدِمَ عَبْدُ الرَّحَمْنِ بْنُ زِيَادٍ عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ مِنْ خُرَاسَانَ بَعْدَ قَتْلِ الحسين ع، واستخلف على خراسان قيس ابن الهيثم. قال: وحدثنى مسلمه بْنُ مُحَارِبٍ وَأَبُو حَفْصٍ، قَالا: قَالَ يَزِيدُ لعبد الرحمن ابن زِيَادٍ: كَمْ قَدِمْتُ بِهِ مَعَكَ مِنَ الْمَالِ مِنْ خُرَاسَانَ؟ قَالَ: عِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، قَالَ: إِنْ شِئْتَ حَاسَبْنَاكَ وَقَبَضْنَاهَا مِنْكَ، وَرَدَدْنَاكَ عَلَى عَمَلِكَ، وَإِنْ شِئْتَ سَوَّغْنَاكَ وَعَزَلْنَاكَ، وَتُعْطِي عبد الله بن جعفر خمسمائة أَلْفِ دِرْهَمٍ، قَالَ: بَلْ تُسَوِّغُنِي مَا قُلْتَ، وَيُسْتَعْمَلُ عَلَيْهَا غَيْرِي وَبَعَثَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ بِأَلْفِ الف درهم، وقال: خمسمائة الف من قبل امير المؤمنين، وخمسمائة الف من قبلي . ذكر وفود عبيد الله بن زياد على معاويه وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَفَدَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ فِي أَشْرَافِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَعَزَلَهُ عَنِ الْبَصْرَةِ، ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهَا وَجَدَّدَ له الولاية. ذكر من قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: وفد عُبَيْد اللَّهِ بن زياد فِي أهل العراق إِلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لَهُ: ائذن لوفدك عَلَى منازلهم وشرفهم، فأذن لهم،

ذكر هجاء يزيد بن مفرغ الحميرى بنى زياد

ودخل الأحنف فِي آخرهم، وَكَانَ سيئ المنزلة من عُبَيْد اللَّهِ، فلما نظر إِلَيْهِ مُعَاوِيَة رحب بِهِ، وأجلسه مَعَهُ عَلَى سريرة، ثُمَّ تكلم القوم فأحسنوا الثناء عَلَى عُبَيْد اللَّهِ، والأحنف ساكت، فَقَالَ: ما لك يَا أَبَا بحر لا تتكلم! قَالَ: إن تكلمت خالفت القوم فَقَالَ: انهضوا فقد عزلته عنكم، واطلبوا واليا ترضونه، فلم يبق فِي القوم أحد إلا أتى رجلا من بني أُمَيَّة أو من أشراف أهل الشام، كلهم يطلب، وقعد الأحنف فِي منزله، فلم يأت أحدا، فلبثوا أياما، ثُمَّ بعث إِلَيْهِم مُعَاوِيَة فجمعهم، فلما دخلوا عَلَيْهِ قَالَ: من اخترتم؟ فاختلفت كلمتهم، وسمى كل فريق مِنْهُمْ رجلا والأحنف ساكت، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة: ما لك يَا أَبَا بحر لا تتكلم! قَالَ: إن وليت علينا أحدا من أهل بيتك لم نعدل بعبيد اللَّه أحدا، وإن وليت من غيرهم فانظر فِي ذَلِكَ، قَالَ مُعَاوِيَة: فإني قَدْ أعدته عَلَيْكُمْ، ثُمَّ أوصاه بالأحنف، وقبح رأيه فِي مباعدته، فلما هاجت الْفِتْنَة لم يف لعبيد الله غير الأحنف. ذكر هجاء يزيد بن مفرغ الحميرى بنى زياد وفي هَذِهِ السنة كَانَ مَا كَانَ من أمر يَزِيد بن مفرغ الحميري وعباد بن زياد وهجاء يزيد بنى زياد. ذكر سبب ذَلِكَ: حدثت عن أبي عبيدة معمر بْن المثنى أن يَزِيد بن رَبِيعَة بن مفرغ الحميري كَانَ مع عباد بن زياد بسجستان، فاشتغل عنه بحرب الترك، فاستبطأه، فأصاب الجند مع عباد ضيق فِي إعلاف دوابهم، فَقَالَ ابن مفرغ: أَلا ليت اللحى عادت حشيشا ... فنعلفها خيول المسلمينا! وَكَانَ عباد بن زياد عظيم اللحية، فأنهي شعره إِلَى عباد، وقيل: مَا أراد غيرك، فطلبه عباد، فهرب مِنْهُ، وهجاه بقصائد كثيرة، فكان مما هجاه بِهِ قوله:

إذا أودى مُعَاوِيَة بن حرب ... فبشر شعب قعبك بانصداع فأشهد أن أمك لم تباشر ... أبا سُفْيَان واضعة القناع ولكن كَانَ أمرا فِيهِ لبس ... عَلَى وجل شديد وارتياع وقوله: أَلا أبلغ مُعَاوِيَة بن حرب ... مغلغلة من الرجل اليماني أتغضب أن يقال أبوك عف ... وترضى ان يقال ابوك زان! فأشهد أن رحمك من زياد ... كرحم الفيل من ولد الأتان فَحَدَّثَنِي أَبُو زَيْد، قَالَ: لما هجا ابن المفرغ عبادا فارقه مقبلا إِلَى الْبَصْرَة، وعبيد اللَّه يَوْمَئِذٍ وافد عَلَى مُعَاوِيَة، فكتب عباد إِلَى عُبَيْد اللَّهِ ببعض مَا هجاه بِهِ، فلما قرأ عُبَيْد اللَّهِ الشعر دخل عَلَى مُعَاوِيَة فأنشده إِيَّاهُ، واستأذنه فِي قتل ابن مفرغ، فأبى عَلَيْهِ أن يقتله، وَقَالَ: أدبه وَلا تبلغ بِهِ القتل، وقدم ابن مفرغ الْبَصْرَة، فاستجار بالأحنف بن قيس، فَقَالَ: إنا لا نجير عَلَى ابن سمية، فإن شئت كفيتك شعراء بني تميم، قَالَ: ذاك مَا لا أبالي أن أكفاه، فأتى خَالِد بن عَبْدِ اللَّهِ فوعده، وأتى أُمَيَّة فوعده، ثُمَّ أتى عُمَر بن عُبَيْد اللَّهِ بن معمر فوعده، ثُمَّ أتى المنذر بن الجارود فأجاره، وأدخله داره، وكانت بحرية بنت المنذر عِنْدَ عُبَيْد اللَّهِ، فلما قدم عُبَيْد اللَّهِ الْبَصْرَة أخبر بمكان ابن مفرغ عِنْدَ المنذر، وأتى المنذر عُبَيْد اللَّهِ مسلما، فأرسل عُبَيْد اللَّهِ الشرط إِلَى دار المنذر، فأخذوا ابن مفرغ، فلم يشعر المنذر وَهُوَ عِنْدَ عُبَيْد اللَّهِ إلا بابن مفرغ قَدْ أقيم عَلَى رأسه، فقام إِلَى عُبَيْد اللَّهِ وَقَالَ: أيها الأمير، إني قَدْ أجرته، قَالَ: وَاللَّهِ يَا منذر ليمدحنك وأباك ويهجوني أنا وأبي، ثُمَّ تجيره علي! فأمر بِهِ فسقي دواء، ثُمَّ حمل عَلَى حمار عَلَيْهِ إكاف فجعل يطاف بِهِ وَهُوَ يسلح

فِي ثيابه، فيمر بِهِ فِي الأسواق، فمر بِهِ فارسي فرآه، فسأل عنه، فَقَالَ: اين جيست؟ ففهمها ابن مفرغ، فقال: آب است نبيذ است ... عصارات زبيب است سميه رو سپيد است ثم هجا المنذر بن الجارود: تركت قريشا أن أجاور فِيهِمُ ... وجاورت عبد القيس أهل المشقر أناس أجارونا فكان جوارهم ... أعاصير من فسو العراق المبذر فأصبح جاري من جذيمة نائما ... وَلا يمنع الجيران غير المشمر وَقَالَ لعبيد اللَّه: يغسل الماء مَا صنعت وقولي ... راسخ مِنْكَ فِي العظام البوالي ثُمَّ حمله عُبَيْد اللَّهِ إِلَى عباد بسجستان، فكلمت اليمانية فِيهِ بِالشَّامِ مُعَاوِيَة، فأرسل رسولا إِلَى عباد، فحمل ابن مفرغ من عنده حَتَّى قدم عَلَى مُعَاوِيَة، فَقَالَ فِي طريقه: عدسْ مَا لعبّاد عَلَيْك إمارة ... نجوت وهذا تحملين طليق لعمري لقد نجاك من هوة الردى ... إمام وحبل للأنام وثيق

سأشكر مَا أوليت من حسن نعمة ... ومثلي بشكر المنعمين حقيق فلما دخل عَلَى مُعَاوِيَة بكى، وَقَالَ: ركب مني مَا لم يركب من مسلم عَلَى غير حدث وَلا جريرة! قَالَ: أولست القائل: أَلا أبلغ مُعَاوِيَة بن حرب ... مغلغلة من الرجل اليماني! القصيدة- قَالَ: لا والذي عظم حق أَمِير الْمُؤْمِنِينَ مَا قلت هَذَا، قَالَ: أفلم تقل: فأشهد أن أمك لم تباشر ... أبا سُفْيَان واضعة القناع فِي أشعار كثيرة هجوت بِهَا ابن زياد! اذهب فقد عفونا لك عن جرمك، أما لو إيانا تعامل لَمْ يَكُنْ مما كَانَ شَيْء، فانطلق، وفي أي أرض شئت فانزل. فنزل الموصل، ثُمَّ إنه ارتاح إِلَى الْبَصْرَة، فقدمها، ودخل عَلَى عُبَيْد اللَّهِ فآمنه. وأما أَبُو عبيدة فإنه قَالَ فِي نزول ابن مفرغ الموصل عن الَّذِي أَخْبَرَنِي بِهِ أَبُو زَيْد، قَالَ: ذكر أن مُعَاوِيَة لما قَالَ لَهُ: ألست القائل: أَلا أبلغ مُعَاوِيَة بن حرب ... مغلغلة من الرجل اليماني الأبيات، حلف ابن مفرغ أنه لم يقله، وأنه إنما قاله عبد الرحمن بن أم الحكم أخو مَرْوَان، واتخذني ذريعة إِلَى هجاء زياد، وَكَانَ عتب عَلَيْهِ قبل ذَلِكَ، فغضب معاويه على عبد الرحمن بن أم الحكم وحرمه عطاءه، حتى اضربه، فكلم فِيهِ، فَقَالَ: لا أرضى عنه حَتَّى يرضى عُبَيْد اللَّهِ، فقدم العراق عَلَى عُبَيْد اللَّهِ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لَهُ: لأنت زيادة فِي آل حرب ... أحب إلي من إحدى بناني أراك أخا وعما وابن عم ... وَلا أدري بغيب مَا تراني

فَقَالَ: أراك وَاللَّهِ شاعر سوء! فرضي عنه، فَقَالَ مُعَاوِيَة لابن مفرغ: ألست القائل: فأشهد أن أمك لم تباشر ... أبا سُفْيَان واضعة القناع الأبيات! لا تعودن إِلَى مثلها، عفونا عنك فأقبل حَتَّى نزل الموصل، فتزوج امرأة، فلما كَانَ فِي ليلة بنائها خرج حين أصبح إِلَى الصيد، فلقي دهانا أو عطارا عَلَى حمار لَهُ، فَقَالَ لَهُ ابن مفرغ: من أين أقبلت؟ قَالَ: من الأهواز، قَالَ: وما فعل ماء مسرقان؟ قَالَ: عَلَى حاله، قَالَ: فخرج ابن مفرغ فتوجه قبل الْبَصْرَة، ولم يعلم أهله بمسيره، ومضى حَتَّى قدم عَلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد بِالْبَصْرَةِ، فدخل عَلَيْهِ فآمنه، ومكث عنده حَتَّى استأذنه فِي الخروج إِلَى كَرْمَان، فأذن لَهُ فِي ذَلِكَ، وكتب الى عامله هنالك بالوصاية والإكرام لَهُ، فخرج إِلَيْهَا وَكَانَ عامل عُبَيْد الله يومئذ على كرمان شريك ابن الأعور الحارثي. وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عُثْمَان بن مُحَمَّدِ بْن أَبِي سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن حدثه، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر، وكذلك قَالَ الْوَاقِدِيُّ وغيره. وَكَانَ الوالي عَلَى الْمَدِينَة الْوَلِيد بن عتبة بن أَبِي سُفْيَانَ، وعلى الْكُوفَة النُّعْمَان بن بشير، وعلى قضائها شريح، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الرحمن بن زياد، وعلى سجستان عباياد بن زياد، وعلى كَرْمَان شريك بن الأعور من قبل عُبَيْد اللَّهِ بن زياد

سنه ستين

ثُمَّ دخلت سنة ستين (ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففي هَذِهِ السنة كَانَتْ غزوة مالك بن عَبْدِ اللَّهِ سورية ودخول جناده ابن ابى اميه رودس، وهدمه مدينتها، في قول الواقدى. ذكر عهد معاويه لابنه يزيد وفيها كَانَ أخذ مُعَاوِيَة عَلَى الوفد الَّذِينَ وفدوا إِلَيْهِ مع عُبَيْد اللَّهِ بن زياد البيعة لابنه يَزِيد، وعهد إِلَى ابنه يَزِيد حين مرض فِيهَا مَا عهد إِلَيْهِ فِي النفر الَّذِينَ امتنعوا من البيعة ليزيد حين دعاهم إِلَى البيعة. وَكَانَ عهده الَّذِي عهد، مَا ذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل بن مساحق بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مخرمة، أن مُعَاوِيَة لما مرض مرضته الَّتِي هلك فِيهَا دعا يَزِيد ابنه، فَقَالَ: يَا بني، إني قَدْ كفيتك الرحلة والترحال، ووطأت لك الأشياء، وذللت لك الأعداء، وأخضعت لك أعناق العرب، وجمعت لك من جمع واحد، وإني لا أتخوف أن ينازعك هَذَا الأمر الَّذِي استتب لك إلا أربعة نفر من قريش: الْحُسَيْن بن علي، وعبد اللَّه بن عُمَرَ، وعبد اللَّه بن الزُّبَيْرِ، وعبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، فأما عَبْد اللَّهِ بن عُمَرَ فرجل قَدْ وقذته العبادة، وإذا لم يبق أحد غيره بايعك، وأما الْحُسَيْن بن علي فإن أهل العراق لن يدعوه حَتَّى يخرجوه، فإن خرج عَلَيْك فظفرت بِهِ فاصفح عنه فإن لَهُ رحما ماسة وحقا عظيما، وأما ابن أبي بكر فرجل إن رَأَى أَصْحَابه صنعوا شَيْئًا صنع مثلهم، ليس لَهُ همة إلا فِي النساء واللهو، وأما الَّذِي يجثم لك جثوم الأسد، ويراوغك مراوغة

ذكر وفاه معاويه بن ابى سفيان

الثعلب، فإذا أمكنته فرصة وثب، فذاك ابن الزُّبَيْر، فإن هُوَ فعلها بك فقدرت عَلَيْهِ فقطعه إربا إربا. قَالَ هِشَام: قَالَ عوانة: قَدْ سمعنا فِي حديث آخر أن مُعَاوِيَة لما حضره الموت- وَذَلِكَ فِي سنة ستين- وَكَانَ يَزِيد غائبا، فدعا بالضحاك بن قيس الفهري- وَكَانَ صاحب شرطته- ومسلم بن عُقْبَةَ المري، فأوصى إليهما فَقَالَ: بلغا يَزِيد وصيتي، أنظر أهل الحجاز فإنهم أصلك، فأكرم من قدم عَلَيْك مِنْهُمْ، وتعاهد من غاب، وأنظر أهل العراق، فإن سألوك أن تعزل عَنْهُمْ كل يوم عاملا فافعل، فإن عزل عامل أحب إلي من أن تشهر عَلَيْك مائة ألف سيف، وأنظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك، فإن نابك شَيْء من عدوك فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إِلَى بلادهم، فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم أخذوا بغير أخلاقهم، وإني لست أخاف من قريش إلا ثلاثة: حُسَيْن بن علي، وعبد اللَّه بن عمر، وعبد الله ابن الزُّبَيْرِ، فأما ابن عمر فرجل قَدْ وقذه الدين، فليس ملتمسا شَيْئًا قبلك، وأما الْحُسَيْن بن علي فإنه رجل خفيف، وأرجو أن يكفيكه اللَّه بمن قتل أباه، وخذل أخاه، وإن لَهُ رحما ماسة، وحقا عظيما، وقرابة من محمد ص، وَلا أظن أهل العراق تاركيه حَتَّى يخرجوه، فإن قدرت عَلَيْهِ فاصفح عنه، فإني لو أني صاحبه عفوت عنه، وأما ابن الزُّبَيْر فإنه خب ضب، فإذا شخص لك فألبد لَهُ، إلا أن يلتمس مِنْكَ صلحا، فإن فعل فاقبل، واحقن دماء قومك مَا استطعت . ذكر وفاه مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ وفي هَذِهِ السنة هلك مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ بدمشق، فاختلف فِي وقت وفاته بعد إجماع جميعهم عَلَى أن هلاكه كَانَ فِي سنة ستين من الهجره،

ذكر الخبر عن مده ملكه

وفي رجب منها، فَقَالَ هِشَام بن مُحَمَّد: مات مُعَاوِيَة لهلال رجب من سنة ستين. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: مات مُعَاوِيَة للنصف من رجب. وَقَالَ عَلِيّ بن مُحَمَّد: مات مُعَاوِيَة بدمشق سنة ستين يوم الخميس لثمان بقين من رجب، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ الْحَارِث عنه . ذكر الخبر عن مدة ملكه حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ ثَابِت الرازي، قال: حدثني من سمع إسحاق بن عِيسَى يذكر عن أبي معشر، قَالَ: بويع لمعاوية بأذرح، بايعه الْحَسَن بن علي فِي جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين، وتوفي مُعَاوِيَة فِي رجب سنة ستين، وكانت خلافته تسع عشره سنه وثلاثة اشهر. وحدثني الحارث، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن سعد، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ دِينَارٍ السَّعْدِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالُوا: تُوُفِّيَ مُعَاوِيَةُ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِلنِّصْفِ مِنْ رجب سنة ستين، وكانت خلافته تسع عشرة سَنَةً وَثَلاثَةَ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَحَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: بايع أهل الشام مُعَاوِيَة بالخلافة فِي سنة سبع وثلاثين فِي ذي القعدة حين تفرق الحكمان، وكانوا قبل بايعوه عَلَى الطلب بدم عُثْمَان، ثُمَّ صالحه الْحَسَن بن علي، وَسَلَّمَ لَهُ الأمر سنة إحدى وأربعين، لخمس بقين من شهر ربيع الأول، فبايع الناس جميعا مُعَاوِيَة، فقيل: عام الجماعة، ومات بدمشق سنة ستين، يوم الخميس لثمان بقين من رجب وكانت ولايته تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وسبعة وعشرين يَوْمًا. قَالَ: ويقال: كَانَ بين موت علي ع وموت مُعَاوِيَة تسع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاث ليال

ذكر مده عمره

وَقَالَ هِشَام بن مُحَمَّد: بويع لمعاوية بالخلافة فِي جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين، فولى تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر إلا أياما، ثُمَّ مات لهلال رجب من سنة ستين ذكر مده عمره واختلفوا فِي مدة عمره، وكم عاش؟ فَقَالَ بعضهم: مات يوم مات وَهُوَ ابن خمس وسبعين سنة. ذكر من قال ذلك: حدثني عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ: سَأَلَنِي الْوَلِيدُ عَنْ أَعْمَارِ الْخُلَفَاءِ، فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ مَاتَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، فَقَالَ: بَخٍ بَخٍ! إِنَّ هَذَا لَعُمْرٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وسبعين سنة. ذكر من قال ذلك: حدثني عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زهير قَالَ: قَالَ عَلِيّ بن مُحَمَّد: مات مُعَاوِيَة وَهُوَ ابن ثلاث وسبعين، قَالَ: ويقال ابن ثمانين سنة. وَقَالَ آخرون: توفي وَهُوَ ابن ثمان وسبعين سنة. ذكر من قَالَ ذلك: حدثني الحارث، قَالَ: حدثنا محمد بن سعد، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بن سعيد بن دينار، عن أبيه، قال: تُوُفِّيَ مُعَاوِيَةُ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً. وَقَالَ آخَرُونَ: تُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، حُدِّثْتُ بِذَلِكَ عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ عَنْ أَبِيهِ

ذكر العله التي كانت فيها وفاته

ذكر العلة الَّتِي كَانَتْ فِيهَا وفاته حَدَّثَنِي الحارث، قال: حدثنا مُحَمَّد بن سعد، قال: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي يَعْقُوبَ الثَّقَفِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: لَمَّا ثَقُلَ مُعَاوِيَةُ وَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّهُ الْمَوْتُ، قَالَ لأَهْلِهِ: احْشُوا عَيْنِي إِثْمِدًا، وَأَوْسِعُوا رَأْسِي دُهْنًا، فَفَعَلُوا، وَبَرَّقُوا وَجْهَهُ بِالدُّهْنِ، ثُمَّ مُهِّدَ لَهُ، فَجَلَسَ وَقَالَ: أَسْنِدُونِي، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنُوا لِلنَّاسِ فَلْيُسَلِّمُوا قِيَامًا، وَلا يَجْلِسْ أَحَدٌ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَدْخُلُ فَيُسَلِّمُ قَائِمًا فَيَرَاهُ مُكْتَحِلا مُدَّهِنًا فَيَقُولُ: يَقُولُ النَّاسُ: هُوَ لِمَآبِهِ، وَهُوَ أَصَحُّ النَّاسِ، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ مُعَاوِيَةُ: وَتَجَلُّدِي لِلشَّامِتِينَ أُريهم ... أَنِّي لِرَيْبِ الدَّهْرِ لا أَتَضَعْضَعُ وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا ... أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لا تَنْفَعُ قَالَ: وَكَانَ بِهِ النُّفَاثَاتُ، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زهير، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، عن إِسْحَاق بن أيوب، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بن ميناس الكلبي، قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَة، لابنتيه فِي مرضه الَّذِي مات فِيهِ وهما تقلبانه: تقلبان حولا قلبا، جمع المال من شب إِلَى دب إن لم يدخل النار، ثُمَّ تمثل: لقد سعيت لكم من سعي ذي نصب ... وَقَدْ كفيتكم التطواف والرحلا ويقال: من جمع ذي حسب. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَيُّوبَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ وَعَلِيِّ بْنِ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ فِي

ذكر الخبر عمن صلى على معاويه حين مات

مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص كَسَانِي قَمِيصًا فَرَفَعْتُهُ. وَقَلَّمَ أَظْفَارَهُ يَوْمًا، فَأَخَذْتُ قُلامَتَهُ فَجَعَلْتُهَا فِي قَارُورَةٍ، فَإِذَا مِتُّ فَأَلْبِسُونِي ذَلِكَ الْقَمِيصَ، وَقَطِّعُوا تِلَكَ الْقُلامَةَ، وَاسْحَقُوهَا وَذَرُوهَا فِي عَيْنِي، وَفِي فِيَّ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْحَمَنِي بِبَرَكَتِهَا! ثُمَّ قَالَ مُتَمَثِّلا بِشِعْرِ الأَشْهَبِ بْنِ رُمَيْلَةَ النَّهْشَلِيِّ يَمْدَحُ بِهِ الْقُبَاعَ: إِذَا مِتَّ مَاتَ الْجُودُ وَانْقَطَعَ النَّدَى ... مِنَ النَّاسِ إِلا مِنْ قَلِيلٍ مُصَرَّدِ وَرُدَّتْ أَكُفُّ السَّائِلِينَ وَأَمْسَكُوا ... مِنَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِخَلَفٍ مُجَدَّدِ فَقَالَتْ إِحْدَى بَنَاتِهِ- أَوْ غَيْرُهَا: كَلا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ يَدْفَعُ اللَّهُ عَنْكَ، فَقَالَ مُتَمَثِّلا: وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا ... أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لا تَنْفَعُ ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: لِمَنْ حَضَرَهُ مِنْ أَهْلِهِ: اتَّقُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقِي مَنِ اتَّقَاهُ، وَلا وَاقِيَ لِمَنْ لا يَتَّقِي اللَّهَ، ثم قضى. حدثنا أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا حُضِرَ أَوْصَى بِنِصْفِ مَالِهِ أَنْ يُرَدَّ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، كَانَ أَرَادَ أَنْ يَطِيبَ لَهُ الْبَاقِي، لأَنَّ عُمَرَ قَاسَمَ عُمَّالَهُ . ذكر الخبر عمن صلى عَلَى مُعَاوِيَة حين مات حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زهير، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: صلى عَلَى مُعَاوِيَة الضحاك بن قيس الفهري، وَكَانَ يَزِيد غائبا حين مات مُعَاوِيَة. وحدثت عن هشام بْن مُحَمَّد، عن أبي مخنف، قال: حدثنى عبد الملك ابن نوفل بن مساحق بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مخرمة، قَالَ: لما مات مُعَاوِيَة خرج

ذكر الخبر عن نسبه وكنيته

الضحاك بن قيس حَتَّى صعد الْمِنْبَر وأكفان مُعَاوِيَة عَلَى يديه تلوح، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إن مُعَاوِيَة كَانَ عود العرب، وحد العرب، قطع اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِهِ الْفِتْنَة، وملكه عَلَى العباد، وفتح بِهِ البلاد أَلا إنه قَدْ مات، فهذه أكفانه، فنحن مدرجوه فِيهَا، ومدخلوه قبره، ومخلون بينه وبين عمله، ثُمَّ هُوَ البرزخ إِلَى يوم الْقِيَامَة، فمن كَانَ مِنْكُمْ يريد أن يشهده فليحضر عِنْدَ الأولى وبعث البريد إِلَى يَزِيد بوجع مُعَاوِيَة، فَقَالَ يَزِيد فِي ذَلِكَ: جَاءَ البريد بقرطاس يخب بِهِ ... فأوجس القلب من قرطاسه فزعا قلنا: لك الويل ماذا فِي كتابكمُ؟ ... قَالُوا: الخليفة أمسى مثبتا وجعا فمادت الأرض أو كادت تميد بنا ... كأن أغبر من أركانها انقطعا من لا تزل نفسه توفي عَلَى شرف ... توشك مقاليد تِلَكَ النفس أن تقعا لما انتهينا وباب الدار منصفق ... وصوت رملة ريع القلب فانصدعا حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، عن إِسْحَاق بن خليد، عن خليد ابن عجلان مولى عباد، قَالَ: مات مُعَاوِيَة ويزيد بحوارين، وكانوا كتبوا إِلَيْهِ حين مرض، فأقبل وَقَدْ دفن، فأتى قبره فصلى عَلَيْهِ، ودعا لَهُ، ثُمَّ أتى منزله، فَقَالَ: جَاءَ البريد بقرطاس الأبيات . ذكر الخبر عن نسبه وكنيته أما نسبه فإنه ابن أبي سُفْيَان، واسم أبي سُفْيَان صخر بن حرب بن أُمَيَّة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، وأمه هند بنت عتبة ابن رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ بن قصي، وكنيته أَبُو عبد الرَّحْمَن

ذكر نسائه وولده

ذكر نسائه وولده من نسائه ميسون بنت بحدل بن أنيف بن ولجة بن قنافة بن عدى ابن زهير بن حَارِثَة بن جناب الكلبي، ولدت لَهُ يَزِيد بن مُعَاوِيَة قَالَ علي: ولدت ميسون لمعاوية مع يَزِيد أمة- رب المشارق- فماتت صغيرة، ولم يذكرها هِشَام فِي أولاد مُعَاوِيَة. ومنهن فاختة ابنة قرظة بن عبد عَمْرو بن نوفل بن عبد مناف ولدت له عبد الرحمن وعبد الله بنى مُعَاوِيَة، وَكَانَ عَبْد اللَّهِ محمقا ضعيفا، وَكَانَ يكنى أبا الخير حَدَّثَنِي أحمد، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: مر عَبْد اللَّهِ بن مُعَاوِيَة يَوْمًا بطحان قَدْ شد بغله فِي الرحا للطحن، وجعل فِي عنقه جلاجل، فَقَالَ لَهُ: لم جعلت فِي عنق بغلك هَذِهِ الجلاجل؟ فَقَالَ الطحان: جعلتها فِي عنقه لأعلم إن قد قام فلم تدر الرحا، فَقَالَ لَهُ: أرأيت إن هُوَ قام وحرك راسه كيف تعلم انه لا يدير الرحا؟ فَقَالَ لَهُ الطحان: إن بغلي هَذَا- أصلح اللَّه الأمير- ليس لَهُ عقل مثل عقل الأمير! وأما عبد الرَّحْمَن فإنه مات صغيرا. ومنهن نائلة بنت عمارة الكلبية، تزوجها، فَحَدَّثَنِي أحمد، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لما تزوج مُعَاوِيَة نائلة قَالَ لميسون: انطلقي فانظري إِلَى ابنة عمك، فنظرت إِلَيْهَا، فَقَالَ: كيف رأيتها؟ فَقَالَتْ: جميلة كاملة، ولكن رأيت تحت سرتها خالا ليوضعن رأس زوجها فِي حجرها، فطلقها مُعَاوِيَة، فتزوجها حبيب بن مسلمة الفهري، ثُمَّ خلف عَلَيْهَا بعد حبيب النُّعْمَان بن بشير الأَنْصَارِيّ، فقتل، ووضع رأسه فِي حجرها. ومنهن كتوة بنت قرظه اخت فاخته، فغزا قبرس وَهِيَ مَعَهُ، فماتت هنالك ذكر بعض مَا حضرنا من ذكر أخباره وسيره حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زهير، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: لما بويع لمعاوية بالخلافة صير

عَلَى شرطته قيس بن حمزة الهمداني، ثُمَّ عزله، وَاسْتَعْمَلَ زميل بن عَمْرو العذري- ويقال السكسكى وكان كاتبه وصاحب امره سر جون بن مَنْصُور الرومي، وعلى حرسه رجل من الموالي يقال لَهُ المختار، وقيل: رجل يقال لَهُ مالك، ويكنى أبا المخارق، مولى لحمير وَكَانَ أول من اتخذ الحرس وَكَانَ عَلَى حجابه سعد مولاه، وعلى القضاء فضالة بن عبيد الأَنْصَارِيّ، فمات فاستقضى أبا إدريس عائذ الله بن عبد الله الخولاني الى هاهنا حديث أحمد، عَنْ عَلِيٍّ. وَقَالَ غير علي: وَكَانَ عَلَى ديوان الخاتم عَبْد اللَّهِ بن محصن الحميري، وَكَانَ أول من اتخذ ديوان الخاتم قَالَ: وَكَانَ سبب ذَلِكَ أن مُعَاوِيَة أمر لعمرو بن الزُّبَيْرِ فِي معونته وقضاء دينه بمائة ألف درهم، وكتب بِذَلِكَ إِلَى زياد بن سمية وَهُوَ عَلَى العراق، ففض عَمْرو الكتاب وصير المائة مائتين، فلما رفع زياد حسابه أنكرها مُعَاوِيَة، فأخذ عمرا بردها وحبسه، فأداها عنه أخوه عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، فأحدث معاويه عند ذلك ديوان الخاتم وخزم الكتب، ولم تكن تخزم. حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: تَذْكُرُونَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَدَهَاءَهُمَا وَعِنْدَكُمْ مُعَاوِيَةُ! حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي سليمان، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ فُلَيْحٍ، قَالَ: اخبرت ان عمرو ابن الْعَاصِ وَفَدَ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَمَعَهُ أَهْلُ مِصْرَ، فَقَالَ لَهُمْ عَمْرٌو: انْظُرُوا، إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَى ابْنِ هِنْدٍ فَلا تُسَلِّمُوا عَلَيْهِ بِالْخِلافَةِ، فَإِنَّهُ اعظم لكم في عينه، وصغروه وَقَدْ صَغَّرَ أَمْرِي عِنْدَ الْقَوْمِ، فَانْظُرُوا إِذَا دَخَلَ الْوَفْدُ فَتَعْتِعُوهُمْ أَشَدَّ تَعْتَعَةً

تَقْدِرُونَ عَلَيْهَا، فَلا يَبْلُغُنِي رَجُلٌ مِنْهُمْ إِلا وَقَدْ هَمَّتْهُ نَفْسُهُ بِالتَّلَفِ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ يُقَالُ لَهُ ابْنَ الْخَيَّاطِ، فَدَخَلَ وَقَدْ تُعْتِعَ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَتَتَابَعَ الْقَوْمُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا خَرَجُوا قَالَ لَهُمْ عَمْرٌو: لَعَنَكُمُ اللَّهُ! نَهَيْتُكُمْ أَنْ تُسَلِّمُوا عَلَيْهِ بِالإِمَارَةِ، فَسَلَّمْتُمْ عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ! قَالَ: وَلَبِسَ مُعَاوِيَةُ يَوْمًا عِمَامَتَهُ الْحُرْقَانِيَّةَ وَاكْتَحَلَ، وَكَانَ مِنْ أَجْمَلِ النَّاسِ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ شَكَّ عَبْدُ اللَّهِ فِيهِ سَمِعَهُ أَوْ لَمْ يَسْمَعْهُ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الأُمَوِيُّ، قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى الشَّامِ، فَرَأَى مُعَاوِيَةَ فِي مَوْكِبٍ يَتَلَقَّاهُ، وَرَاحَ إِلَيْهِ فِي مَوْكِبٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا مُعَاوِيَةُ، تَرُوحُ فِي مَوْكِبٍ وَتَغْدُو فِي مِثْلِهِ، وَبَلَغَنِي أَنَّكَ تُصْبِحُ فِي مَنْزِلِكَ وَذَوُو الْحَاجَاتِ بِبَابِكَ! قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ الْعَدُوَّ بِهَا قَرِيبٌ مِنَّا، وَلَهُمْ عُيُونٌ وَجَوَاسِيسُ، فَأَرَدْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَرَوْا لِلإِسْلامِ عِزًّا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إِنَّ هَذَا لَكَيْدُ رَجُلٍ لَبِيبٍ، أَوْ خُدْعَةُ رَجُلٍ أَرِيبٍ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مُرْنِي بِمَا شِئْتَ أَصِرْ إِلَيْهِ، قَالَ: وَيْحَكَ! مَا نَاظَرْتُكَ فِي أَمْرٍ أَعِيبُ عَلَيْكَ فِيهِ إِلا تَرَكْتَنِي مَا أَدْرِي آمُرُكَ أَمْ أَنْهَاكَ! حَدَّثَنِي عَبْدُ الله بن أحمد، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان، قَالَ: حدثني عبد الله، عن مَعْمَرٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ، أَنَّ الْمُغِيرَةَ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ كَبِرَتْ سِنِّي، وَدَقَّ عَظْمِي، وَشَنِفَتْ لِي قُرَيْشٌ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَعْزِلَنِي فَاعْزِلْنِي. فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ: جَاءَنِي كِتَابَكَ تَذْكُرُ فِيهِ أَنَّهُ كَبِرَتْ سِنُّكَ، فَلَعَمْرِي مَا أَكَلَ عُمُرُكَ غَيْرَكَ، وَتَذْكُرُ أَنَّ قُرَيْشًا شَنِفَتْ لَكَ، وَلَعَمْرِي مَا أَصَبْتَ خَيْرًا إِلا مِنْهُمْ وَتَسْأَلُنِي أَنْ أَعْزِلَكَ، فَقَدْ فَعَلْتُ، فَإِنْ تَكُ صَادِقًا فَقَدْ شَفَعْتُكَ، وَإِنْ تَكُ مُخَادِعًا فَقَدْ خَدَعْتُكَ

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: إِذَا لم يكن الاموى مصلحا لما له، حَلِيمًا، لَمْ يُشْبِهْ مَنْ هُوَ مِنْهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْهَاشِمِيُّ سَخِيًّا جَوَادًا لَمْ يُشْبِهْ مَنْ هُوَ مِنْهُ، وَلا يَقْدُمُكَ مِنَ الْهَاشِمِيِّ اللِّسَانُ وَالسَّخَاءُ وَالشَّجَاعَةُ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ عَوَانَةَ وَخَلادِ بْنِ عُبَيْدَةَ، قَالَ: تَغَدَّى مُعَاوِيَةُ يَوْمًا وَعِنْدَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، وَمَعَهُ ابْنُهُ بَشِيرٌ- وَيُقَالُ: غَيْرُ بَشِيرٍ- فَأَكْثَرَ مِنَ الأَكْلِ، فَلَحَظَهُ مُعَاوِيَةُ، وَفَطِنَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، فَأَرَادَ أَنْ يَغْمِزَ ابْنَهُ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ، وَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ حَتَّى فَرَغَ، فَلَمَّا خَرَجَ لامَهُ عَلَى مَا صَنَعَ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ وَلَيْسَ مَعَهُ ابْنُهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا فَعَلَ ابْنُكَ التِّلِقَّامَةُ؟ قَالَ: اشْتَكَى، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُ أَنْ أَكْلَهُ سَيُورِثُهُ دَاءً حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ بْنِ أَسْمَاءَ، قَالَ: قَدِمَ أَبُو مُوسَى عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فِي بُرْنُسٍ أَسْوَدَ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا أَمِينَ اللَّهِ، قَالَ: وَعَلَيْكَ السَّلامُ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ مُعَاوِيَةُ: قَدِمَ الشَّيْخُ لأُوَلِّيهِ، وَلا وَاللَّهِ لا أُوَلِّيهِ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بن أحمد، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو صَالِحٍ سُلَيْمَانُ بْنُ صَالِحٍ قال: حدثني عبد الله بن المبارك، عن سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلالٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى مُعَاوِيَةَ حيث اصابته قرحته، فقال: هلم يا بن أَخِي، نَحْوِي فَانْظُرْ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا هِيَ قَدْ سُبِرَتْ، فَقُلْتُ: لَيْسَ عَلَيْكَ بَأْسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَدَخَلَ يَزِيدُ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنْ وَلِيتَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ شَيْئًا فَاسْتَوْصِ بِهَذَا، فَإِنَّ أَبَاهُ كَانَ لِي خَلِيلا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ غَيْرَ أَنِّي رَأَيْتُ فِي الْقِتَالِ مَا لَمْ يَرَهُ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ شِهَابِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ سُوَيْدٍ، قَالَ: أَذِنَ مُعَاوِيَةُ لِلأَحْنَفِ وَكَانَ يَبْدَأُ بِإِذْنِهِ، ثُمَّ دَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ الأَشْعَثِ فَجَلَسَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَالأَحْنَفِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّا لَمْ نَأْذَنْ لَهُ قَبْلَكَ فَتَكُونَ دُونَهُ، وَقَدْ فعلت فعال من احس مِنْ نَفْسِهِ ذُلا، إِنَّا كَمَا نَمْلِكُ أُمُورَكُمْ

نَمْلِكُ إِذْنَكُمْ، فَأَرِيدُوا مِنَّا مَا نُرِيدُ مِنْكُمْ، فَإِنَّهُ أَبْقَى لَكُمْ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ سُحَيْمِ بْنِ حَفْصٍ، قَالَ: خَطَبَ رَبِيعَةُ بْنُ عِسْلٍ الْيَرْبُوعِيُّ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: اسْقُوهُ سَوِيقًا، وَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: يَا رَبِيعَةُ، كَيْفَ النَّاسُ عِنْدَكُمْ؟ قَالَ: مُخْتَلِفُونَ عَلَى كَذَا وَكَذَا فِرْقَةٍ، قَالَ: فَمِنْ أَيِّهِمْ أَنْتَ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَرَاهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا قُلْتَ، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَعِنِّي فِي بِنَاءِ دَارِي بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفِ جَذَعٍ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: أَيْنَ دَارَكَ؟ قَالَ بِالْبَصْرَةِ، وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ فَرْسَخَيْنِ فِي فَرْسَخَيْنِ، قَالَ: فَدَارُكَ فِي الْبَصْرَةِ، أَوِ الْبَصْرَةُ فِي دَارِكَ! فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ وَلَدِهِ عَلَى ابْنِ هُبَيْرَةَ فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الأَمِيرَ! أَنَا ابْنُ سَيِّدِ قَوْمِهِ، خَطَبَ أَبِي إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ لِسَلْمِ بْنِ قُتَيْبَةَ: مَا يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا ابْنُ أَحْمَقِ قَوْمِهِ، قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: هَلْ زَوَّجَ أَبَاكَ مُعَاوِيَةُ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَلا أَرَى أَبَاكَ صَنَعَ شَيْئًا. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ ذَكْوَانَ الْقُرَشِيِّ، قَالَ: تَنَازَعَ عُتْبَةُ وَعَنْبَسَةُ ابْنَا أَبِي سُفْيَانَ- وَأُمُّ عُتْبَةَ هِنْدٌ وَأُمُّ عَنْبَسَةَ ابْنَةُ أَبِي أُزَيْهِرٍ الدَّوْسِيِّ- فَأَغْلَظَ مُعَاوِيَةُ لِعَنْبَسَةَ، وَقَالَ عَنْبَسَةُ: وَأَنْتَ أَيْضًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! فَقَالَ: يَا عَنْبَسَةُ، إِنَّ عُتْبَةَ ابن هند، فقال عنبسة: كنا بِخَيْرٍ صَالِحَا ذَاتِ بَيْنِنَا ... قَدِيمًا فَأَمْسَتْ فَرَّقَتْ بَيْنَنَا هِنْدُ فَإِنْ تَكُ هِنْدٌ لَمْ تَلِدْنِي فَإِنَّنِي ... لِبَيْضَاءَ يُنْمِيهَا غَطَارِفَةٌ نُجْدُ أَبُوهَا أَبُو الأَضْيَافِ فِي كُلِّ شِتْوَةٍ ... وَمَأْوَى ضِعَافٌ لا تُنُوءُ مِنَ الْجَهْدِ جُفَيْنَاتُهُ مَا إِنْ تَزَالُ مُقِيمَةً ... لِمَنْ خَافَ مِنْ غَوْرِي تُهَامَةُ أَوْ نَجْدُ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لا أُعِيدُهَا عَلَيْكَ أَبَدًا. حدثني عبد الله بن أحمد، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان، قَالَ: حدثني عبد اللَّهِ، عن حرملة بن عِمْرَان، قَالَ: أتى معاوية في ليلة أن

قيصر قصد لَهُ فِي الناس، وأن ناتل بن قيس الجذامي غلب فلسطين وأخذ بيت مالها، وان المصريين الذين كان سجنهم هربوا، وأن عَلِيّ بن أبي طالب قصد لَهُ فِي الناس، فَقَالَ لمؤذنه: أذن هَذِهِ الساعة- وَذَلِكَ نصف الليل- فجاءه عَمْرو بن الْعَاصِ، فَقَالَ: لم أرسلت إلي؟ قَالَ: أنا مَا أرسلت إليك، قَالَ: مَا أذن المؤذن هَذِهِ الساعة إلا من أجلي، قَالَ: رميت بالقسي الأربع، قَالَ عَمْرو: أما هَؤُلاءِ الَّذِينَ خرجوا من سجنك، فإنهم إن خرجوا من سجنك فهم فِي سجن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وهم قوم شراة لا رحلة بهم، فاجعل لمن أتاك برجل مِنْهُمْ أو برأسه ديته، فإنك ستؤتى بهم، وانظر قيصر فوادعه، وأعطه مالا وحللا من حلل مصر، فإنه سيرضى منك بذاك، وانظر ناتل ابن قيس، فلعمري مَا أغضبه الدين، وَلا أراد إلا مَا أصاب، فاكتب إِلَيْهِ، وهب لَهُ ذَلِكَ، وهنئه إِيَّاهُ، فإن كَانَتْ لك قدرة عَلَيْهِ، وإن لم تكن لك فلا تأس عَلَيْهِ، واجعل حدك وحديدك لهذا الَّذِي عنده دم ابن عمك. قَالَ: وَكَانَ القوم كلهم خرجوا من سجنه غير أبرهة بن الصباح، قَالَ مُعَاوِيَة: مَا منعك من أن تخرج مع أَصْحَابك؟ قَالَ: مَا منعني مِنْهُ بغض لعلي، وَلا حب لك، ولكني لم أقدر عَلَيْهِ، فخلى سبيله. حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان، قَالَ: حدثني عبد الله بن المبارك، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الزُّبَيْرِ يُحَدِّثُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعَدَةَ بْنِ حَكَمَةَ الْفَزَارِيُّ مِنْ بَنِي آلِ بَدْرٍ، قَالَ: انْتَقَلَ مُعَاوِيَةُ مِنْ بَعْضِ كُوَرِ الشَّامِ إِلَى بَعْضِ عَمَلِهِ، فَنَزَلَ مَنْزِلا بِالشَّامِ، فَبُسِطَ لَهُ عَلَى ظَهْرِ أَجَارٍّ مِشْرَفٌ عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَذِنَ لِي، فَقَعَدْتُ مَعَهُ، فَمَرَّتِ القطرات والرحائل والجوارى والخيول، فقال: يا بن مَسْعَدَةَ، رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ! لَمْ يُرِدِ الدُّنْيَا وَلَمْ تُرِدْهُ الدُّنْيَا، وَأَمَّا عُمَرَ- أَوْ قَالَ: ابْنُ حَنْتَمَةَ- فَأَرَادَتْهُ الدُّنْيَا وَلَمْ يُرِدْهَا، وَأَمَّا عُثْمَانُ فَأَصَابَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَصَابَتْ مِنْهُ، وَأَمَّا نَحْنُ فَتَمَرَّغْنَا فِيهَا، ثُمَّ كَأَنَّهُ نَدِمَ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمُلْكٌ آتَانَا اللَّهُ إِيَّاهُ

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَتَبَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى مُعَاوِيَةَ يَسْأَلُهُ لابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَا كَانَ أَعْطَاهُ أَبَاهُ مِنْ مِصْرَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَرَادَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنْ يَكْتُبَ فَهَدَرَ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي إِنْ بَقِيتُ بَعْدَهُ فَقَدْ خَلَعْتُ عَهْدَهُ قَالَ: وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: مَا رَأَيْتُ مُعَاوِيَةَ مُتَّكِئًا قَطُّ وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى كَاسِرًا عَيْنَهُ يَقُولُ لِرَجُلٍ: تَكَلَّمْ، إِلا رَحْمَتُهُ قَالَ أَحْمَدُ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ: قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِمُعَاوِيَةَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَسْتُ أَنْصَحَ النَّاسِ لَكَ؟ قَالَ: بِذَلِكَ نِلْتَ مَا نِلْتَ. قَالَ أَحْمَدُ: قَالَ عَلِيٌّ: عَنْ جُوَيْرِيَةَ بْنِ أَسْمَاءَ، أَنَّ بُسْرَ بْنَ أَبِي أَرْطَاةَ نَالَ مِنْ عَلِيٍّ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ وَزَيْدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ جَالِسٌ، فَعَلاهُ بِعَصًا فَشَجَّهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِزَيْدٍ: عَمَدْتَ إِلَى شَيْخٍ مِنْ قُرَيْشٍ سَيَّدِ أَهْلِ الشَّامِ فَضَرَبْتَهُ! وَأَقْبَلَ عَلَى بسر فقال: تشم عَلِيًّا وَهُوَ جَدُّهُ وَابْنُ الْفَارُوقِ عَلَى رُءُوسِ الناس، او كنت تَرَى أَنَّهُ يَصْبِرُ عَلَى ذَلِكَ! ثُمَّ أَرْضَاهُمَا جَمِيعًا. قَالَ: وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنِّي لأَرْفَعُ نَفْسِي مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَنْبٌ أَعْظَمَ مِنْ عَفْوِي، وَجَهْلٌ أَكْثَرَ مِنْ حِلْمِي، أَوْ عَوْرَةٌ لا أُوَارِيهَا بِسِتْرِي، أَوْ إِسَاءَةٌ أَكْثَرَ مِنْ إِحْسَانِي قَالَ: وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: زَيْنُ الشَّرِيفِ الْعَفَافُ، قَالَ: وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا مِنْ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ عَيْنٍ خَرَّارَةٍ، فِي أَرْضٍ خَوَّارَةٍ، فَقَالَ عمرو بن العاص: ما من شيء أحب إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَبِيتَ عَرُوسًا بِعَقِيلَةٍ مِنْ عَقَائِلِ الْعَرَبِ، فَقَالَ وَرْدَانُ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ العاص: ما من شيء أحب إلي من الإِفْضَالِ عَلَى الإِخْوَانِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَنَا أَحَقُّ بِهَذَا مِنْكَ، قَالَ: مَا تُحِبُّ فَافْعَلْ. حَدَّثَنِي أحمد، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ عامل مُعَاوِيَة عَلَى الْمَدِينَة إذا أراد أن يبرد بريدا إِلَى مُعَاوِيَةَ أمر مناديه فنادى: من لَهُ حاجة يكتب إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، فكتب زر بن حبيش- أو أيمن بن خريم- كتابا لطيفا ورمى بِهِ فِي الكتب، وفيه: إذا الرجال ولدت أولادها ... واضطربت من كبر أعضادها وجعلت أسقامها تعتادها ... فهي زروع قَدْ دنا حصادها

فلما وردت الكتب عَلَيْهِ فقرأ هَذَا الكتاب، قَالَ: نعى إلي نفسي. قَالَ: وَقَالَ مُعَاوِيَة: مَا من شَيْء ألذ عندي من غيظ أتجرعه. قَالَ: وَقَالَ مُعَاوِيَة لعبد الرَّحْمَن بن الحكم بن ابى العاص: يا بن أخي، إنك قَدْ لهجت بالشعر، فإياك والتشبيب بالنساء فتعر الشريفة، والهجاء فتعر كريما، وتستثير لئيما، والمدح، فإنه طعمة الوقاح، ولكن افخر بمفاخر قومك، وقل من الأمثال مَا تزين بِهِ نفسك، وتؤدب بِهِ غيرك. حَدَّثَنِي أحمد، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ الْحَسَنِ بن حماد: نظر معاويه الى الثما فِي عباءة، فازدراه، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إن العباءة لا تكلمك، وإنما يكلمك من فِيهَا. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ سُلَيْمَانَ، قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: رَجُلانِ إِنْ مَاتَا لَمْ يَمُوتَا، وَرَجُلٌ إِنْ مَاتَ مَاتَ، أَنَا إِنْ مِتُّ خَلَفَنِي ابْنِي، وَسَعِيدٌ إِنْ مَاتَ خَلَفَهُ عمرو، وعبد الله بن عامر إِنْ مَاتَ مَاتَ، فَبَلَغَ مَرْوَانَ، فَقَالَ: أَمَا ذَكَرَ ابْنَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ؟ قَالُوا: لا، قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِابْنِي ابْنَيْهُمَا. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِمُعَاوِيَةَ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: أَشَدُّهُمْ لِي تَحْبِيبًا إِلَى النَّاسِ قَالَ: وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: الْعَقْلُ وَالْحِلْمُ أَفْضَلُ مَا أُعْطِيَ الْعَبْدُ، فَإِذَا ذُكِّرَ ذَكَرَ، وَإِذَا أُعْطِيَ شَكَرَ، وَإِذَا ابْتُلِيَ صَبَرَ، وَإِذَا غَضِبَ كَظَمَ، وَإِذَا قَدَرَ غَفَرَ، وَإِذَا أَسَاءَ اسْتَغْفَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَنْجَزَ. حَدَّثَنِي أحمد، عَنْ عَلِيٍّ، عن عَبْد اللَّهِ، وهشام بن سَعْدٍ، عن عبد الملك ابن عمير، قَالَ: أغلظ رجل لمعاوية فأكثر، فقيل لَهُ: أتحلم عن هَذَا؟ فَقَالَ: إني لا أحول بين الناس وألسنتهم مَا لم يحولوا بيننا وبين ملكنا. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: لامَ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ عَلَى الْغِنَاءِ، فَدَخَلَ يَوْمًا عَلَى مُعَاوِيَةَ وَمَعَهُ بُدَيْحٌ، وَمُعَاوِيَةُ وَاضِعٌ رِجْلا عَلَى رِجْلٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لِبُدَيْحٍ: إِيهًا يَا بُدَيْحُ! فَتَغَنَّى،

فَحَرَّكَ مُعَاوِيَةُ رِجْلَهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَهْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّ الْكَرِيمَ طُرُوبٌ. قَالَ: وَقَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَمَعَهُ سَائِبُ خَاثِرٍ- وَكَانَ مَوْلًى لِبَنِي لَيْثٍ، وَكَانَ فَاجِرًا- فَقَالَ لَهُ: ارْفَعْ حَوَائِجَكَ، فَفَعَلَ، وَرَفَعَ فِيهَا حَاجَةَ سَائِبِ خَاثِرٍ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَنْ هَذَا؟ فَخَبَّرَهُ، فَقَالَ: أَدْخِلْهُ، فلما قام على باب المجلس غنى: لمن الدِّيَارَ رُسُومُهَا قَفْرُ ... لَعِبَتْ بِهَا الأَرْوَاحُ وَالْقَطْرُ! وَخِلالُهَا مِنْ بُعْدِ سَاكِنِهَا ... حِجَجٌ خَلَوْنَ ثَمَانِ أَوْ عَشْرُ وَالزَّعْفَرَانُ عَلَى تَرَائِبِهَا ... شَرِقَا بِهِ اللُّبَّاتُ وَالنَّحْرُ فَقَالَ أَحْسَنْتَ، وَقَضَى حَوَائِجَهُ حَدَّثَنِي عبد الله بن أحمد، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان، قَالَ: حدثني عبد الله، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَخْلَقَ لِلْمُلْكِ مِنْ مُعَاوِيَةَ، إِنْ كَانَ لَيَرِدُ النَّاسَ مِنْهُ عَلَى أَرْجَاءِ وَادٍ رَحْبٍ، وَلَمْ يكن كالضيق الخضخض، الْحَصَرِ- يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ. حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي سليمان، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، عن سُفْيَان بن عيينة، عن مُجَالِد، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عن قبيصة بن جابر الأسدي قَالَ: أَلا أخبركم من صحبت؟ صحبت عُمَر بن الْخَطَّابِ فما رأيت رجلا أفقه فقها، وَلا أحسن مدارسة مِنْهُ، ثُمَّ صحبت طَلْحَة بن عُبَيْد اللَّهِ، فما رأيت رجلا أعطى للجزيل مِنْ غَيْرِ مسألة مِنْهُ، ثُمَّ صحبت مُعَاوِيَة فما رأيت رجلا أحب رفيقا، وَلا أشبه سريرة بعلانية مِنْهُ، ولو أن الْمُغِيرَة جعل فِي مدينة لا يخرج من أبوابها كلها إلا بالغدر لخرج منها.

خلافه يزيد بن معاويه

خلافة يَزِيد بن مُعَاوِيَة وفي هَذِهِ السنة بويع ليزيد بن مُعَاوِيَة بالخلافة بعد وفاة أَبِيهِ، للنصف من رجب فِي قول بعضهم، وفي قول بعض: لثمان بقين مِنْهُ- عَلَى مَا ذكرنا قبل من وفاة والده مُعَاوِيَة- فأقر عُبَيْد اللَّهِ بن زياد عَلَى الْبَصْرَة، والنعمان بن بشير عَلَى الْكُوفَة. وَقَالَ هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، ولي يَزِيد فِي هلال رجب سنة ستين، وأمير الْمَدِينَة الْوَلِيد بن عتبة بن أَبِي سُفْيَانَ، وأمير الكوفه النعمان ابن بشير الأَنْصَارِيّ، وأمير الْبَصْرَة عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، وأمير مكة عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ، ولم يكن ليزيد همة حين ولي إلا بيعة النفر الَّذِينَ أبوا عَلَى مُعَاوِيَة الإجابة إِلَى بيعة يَزِيد حين دعا الناس إِلَى بيعته، وأنه ولي عهده بعده، والفراغ من أمرهم، فكتب إِلَى الْوَلِيدِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من يَزِيد أَمِير الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْوَلِيدِ بن عتبة، أَمَّا بَعْدُ، فإن مُعَاوِيَة كَانَ عبدا من عباد اللَّه، أكرمه اللَّه واستخلفه، وخوله، ومكن لَهُ، فعاش بقدر، ومات بأجل، فرحمه اللَّه، فقد عاش محمودا، ومات برا تقيا، والسلام. وكتب إِلَيْهِ فِي صحيفة كأنها أذن فأرة: أَمَّا بَعْدُ، فخذ حسينا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزُّبَيْرِ بالبيعة أخذا شديدا ليست فِيهِ رخصة حَتَّى يبايعوا، والسلام. فلما أتاه نعي مُعَاوِيَة فظع بِهِ، وكبر عَلَيْهِ، فبعث إِلَى مَرْوَان بن الحكم فدعاه إِلَيْهِ- وَكَانَ الْوَلِيد يوم قدم الْمَدِينَة قدمها مَرْوَان متكارها- فلما رَأَى ذَلِكَ الْوَلِيد مِنْهُ شتمه عِنْدَ جلسائه، فبلغ ذَلِكَ مَرْوَان، فجلس عنه وصرمه، فلم يزل كذلك حَتَّى جَاءَ نعي مُعَاوِيَة إِلَى الْوَلِيدِ، فلما عظم عَلَى الْوَلِيدِ هلاك مُعَاوِيَة وما أمر بِهِ من أخذ هَؤُلاءِ الرهط بالبيعة، فزع عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى مَرْوَان، ودعاه، فلما قرأ عَلَيْهِ كتاب يَزِيد، استرجع وترحم عَلَيْهِ، واستشاره

الْوَلِيد فِي الأمر وَقَالَ: كيف ترى أن نصنع؟ قَالَ: فإني أَرَى أن تبعث الساعة إِلَى هَؤُلاءِ النفر فتدعوهم إِلَى البيعة والدخول فِي الطاعة، فإن فعلوا قبلت مِنْهُمْ، وكففت عَنْهُمْ، وإن أبوا قدمتهم فضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بموت مُعَاوِيَة، فإنهم إن علموا بموت مُعَاوِيَة وثب كل امرئ مِنْهُمْ فِي جانب، وأظهر الخلاف والمنابذة، ودعا إِلَى نفسه لا أدري، أما ابن عمر فإني لا أراه يرى القتال، وَلا يحب أنه يولى عَلَى الناس، إلا أن يدفع إِلَيْهِ هَذَا الأمر عفوا فأرسل عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو بْن عُثْمَانَ- وَهُوَ إذ ذاك غلام حدث- إليهما يدعوهما، فوجدهما فِي المسجد وهما جالسان، فأتاهما فِي ساعة لَمْ يَكُنِ الْوَلِيد يجلس فِيهَا لِلنَّاسِ، وَلا يأتيانه فِي مثلها، فَقَالَ: أجيبا، الأمير يدعوكما، فقال لَهُ: انصرف، الآن نأتيه ثُمَّ أقبل أحدهما عَلَى الآخر، فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ للحسين: ظن فيما تراه بعث إلينا فِي هَذِهِ الساعة الَّتِي لَمْ يَكُنْ يجلس فِيهَا! فَقَالَ حُسَيْن: قَدْ ظننت، أرى طاغيتهم قَدْ هلك، فبعث إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يفشو فِي الناس الخبر، فَقَالَ: وأنا مَا أظن غيره قَالَ: فما تريد أن تصنع؟ قَالَ: أجمع فتياني الساعة، ثُمَّ أمشي إِلَيْهِ، فإذا بلغت الباب احتبستهم عَلَيْهِ، ثُمَّ دخلت عَلَيْهِ. قَالَ: فإني أخافه عَلَيْك إذا دخلت، قَالَ: لا آتيه إلا وأنا عَلَى الامتناع قادر فقام فجمع إِلَيْهِ مواليه وأهل بيته، ثُمَّ أقبل يمشي حَتَّى انتهى إِلَى باب الْوَلِيد وَقَالَ لأَصْحَابه: إني داخل، فإن دعوتكم أو سمعتم صوته قَدْ علا فاقتحموا علي بأجمعكم، وإلا فلا تبرحوا حَتَّى أخرج إليكم، فدخل فسلم عَلَيْهِ بالإمرة ومروان جالس عنده، فَقَالَ حُسَيْن، كأنه لا يظن مَا يظن من موت مُعَاوِيَة: الصلة خير من القطيعة، أصلح اللَّه ذات بينكما! فلم يجيباه فِي هَذَا بشيء، وجاء حَتَّى جلس، فأقرأه الْوَلِيد الكتاب، ونعى لَهُ مُعَاوِيَة، ودعاه إِلَى البيعة، [فَقَالَ حُسَيْن: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! ورحم اللَّه مُعَاوِيَة، وعظم لك الأجر! أما مَا سألتني من البيعة فإن مثلي لا يعطي بيعته سرا،

وَلا أراك تجتزئ بِهَا مني سرا دون أن نظهرها عَلَى رءوس الناس علانية، قَالَ: أجل،] قَالَ: فإذا خرجت إِلَى النَّاسِ فدعوتهم إِلَى البيعة دعوتنا مع الناس فكان أمرا واحدا، فَقَالَ لَهُ الْوَلِيد- وَكَانَ يحب العافية: فانصرف عَلَى اسم اللَّه حَتَّى تأتينا مع جماعة الناس، فَقَالَ لَهُ مَرْوَان: وَاللَّهِ لَئِنْ فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت مِنْهُ عَلَى مثلها أبدا حَتَّى تكثر القتلى بينكم وبينه، احبس الرجل، وَلا يخرج من عندك حَتَّى يبايع أو تضرب عنقه، فوثب عِنْدَ ذلك الحسين، [فقال: يا بن الزرقاء، أنت تقتلني أم هُوَ! كذبت وَاللَّهِ وأثمت،] ثُمَّ خرج فمر بأَصْحَابه، فخرجوا مَعَهُ حَتَّى أتى منزله فَقَالَ مَرْوَان للوليد: عصيتني، لا وَاللَّهِ لا يمكنك من مثلها من نفسه أبدا، قَالَ الْوَلِيد: وبخ غيرك يَا مَرْوَان، إنك اخترت لي الَّتِي فِيهَا هلاك ديني، وَاللَّهِ مَا أحب أن لي مَا طلعت عَلَيْهِ الشمس وغربت عنه من مال الدُّنْيَا وملكها، وأني قتلت حسينا، سبحان اللَّه! أقتل حسينا إن قَالَ: لا أبايع! وَاللَّهِ إني لا أظن امرأً يحاسب بدم حُسَيْن لخفيف الميزان عِنْدَ اللَّه يوم الْقِيَامَة فَقَالَ لَهُ مَرْوَان: فإذا كَانَ هَذَا رأيك فقد أصبت فِيمَا صنعت، يقول هَذَا لَهُ وَهُوَ غير الحامد لَهُ عَلَى رأيه. وأما ابن الزُّبَيْر، فَقَالَ: الآن آتيكم، ثُمَّ أتى داره فكمن فِيهَا، فبعث الْوَلِيد إِلَيْهِ فوجده مجتمعا فِي أَصْحَابه متحرزا، فألح عَلَيْهِ بكثرة الرسل والرجال فِي إثر الرجال، فأما حُسَيْن فَقَالَ: كف حَتَّى تنظر وننظر، وترى ونرى، وأما ابن الزُّبَيْر فَقَالَ: لا تعجلوني فإني آتيكم، أمهلوني، فألحوا عليهما عشيتهما تِلَكَ كلها وأول ليلهما، وكانوا عَلَى حُسَيْن أشد إبقاء، وبعث الْوَلِيد إِلَى ابن الزُّبَيْر موالي لَهُ فشتموه وصاحوا به: يا بن الكاهلية، وَاللَّهِ لتأتين الأمير أو ليقتلنك، فلبث بِذَلِكَ نهاره كله وأول ليله يقول: الآن أجيء، فإذا استحثوه قَالَ: وَاللَّهِ لقد استربت بكثرة الإرسال، وتتابع هَذِهِ الرجال، فلا تعجلوني حَتَّى أبعث إِلَى الأمير من يأتيني برأيه وأمره، فبعث إِلَيْهِ أخاه جَعْفَر بن الزُّبَيْرِ فَقَالَ: رحمك اللَّه! كف عن عَبْد اللَّهِ فإنك قَدْ أفزعته وذعرته بكثرة رسلك، وَهُوَ آتيك غدا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فمر رسلك فلينصرفوا عنا فبعث إِلَيْهِم فانصرفوا، وخرج ابن الزُّبَيْر من تحت الليل فأخذ طريق

الفرع هُوَ وأخوه جَعْفَر، ليس مَعَهُمَا ثالث، وتجنب الطريق الأعظم مخافة الطلب، وتوجه نحو مكة، فلما أصبح بعث إِلَيْهِ الْوَلِيد فوجده قَدْ خرج، فَقَالَ مَرْوَان: وَاللَّهِ إن أخطأ مكة فسرح فِي إثره الرجال، فبعث راكبا من موالي بني أُمَيَّة فِي ثمانين راكبا، فطلبوه فلم يقدروا عَلَيْهِ، فرجعوا، فتشاغلوا عن حُسَيْن بطلب عَبْد اللَّهِ يومهم ذَلِكَ حَتَّى أمسوا، ثُمَّ بعث الرجال إِلَى حُسَيْن عِنْدَ المساء فَقَالَ: أصبحوا ثُمَّ ترون ونرى، فكفوا عنه تِلَكَ الليلة، ولم يلحوا عَلَيْهِ، فخرج حُسَيْن من تحت ليلته، وَهِيَ ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب سنة ستين. وَكَانَ مخرج ابن الزُّبَيْر قبله بليلة، خرج ليلة السبت فأخذ طريق الفرع، فبينا عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ يساير أخاه جعفرا إذ تمثل جَعْفَر بقول صبرة الحنظلي: وكل بني أم سيمسون ليلة ... ولم يبق من أعقابهم غير واحد فَقَالَ عَبْد اللَّهِ! سبحان اللَّه، مَا أردت إِلَى مَا أسمع يَا أخي! قَالَ: وَاللَّهِ يَا أخي مَا أردت بِهِ شَيْئًا مما تكره، فَقَالَ: فذاك وَاللَّهِ أكره إلي أن يكون جَاءَ عَلَى لسانك مِنْ غَيْرِ تعمد- قَالَ: وكأنه تطير مِنْهُ- وأما الْحُسَيْن فإنه خرج ببنيه وإخوته وبني أخيه وجل اهل بيته، الا محمد بن الحنفية فإنه قَالَ لَهُ: يَا أخي، أنت أحب الناس إلي، وأعزهم علي، ولست أدخر النصيحة لأحد من الخلق أحق بِهَا مِنْكَ، تنح بتبعتك عن يَزِيد بن مُعَاوِيَة وعن الأمصار مَا استطعت، ثُمَّ ابعث رسلك إِلَى النَّاسِ فادعهم إِلَى نفسك فإن بايعوا لك حمدت اللَّه عَلَى ذَلِكَ، وإن أجمع الناس عَلَى غيرك لم ينقص اللَّه بِذَلِكَ دينك وَلا عقلك، وَلا يذهب بِهِ مروءتك وَلا فضلك، إني أخاف أن تدخل مصرا من هَذِهِ الأمصار وتأتي جماعة مِنَ النَّاسِ، فيختلفون بينهم، فمنهم طائفة معك، وأخرى عَلَيْك، فيقتتلون فتكون لأول الأسنة، فإذا خير هَذِهِ الأمة كلها نفسا وأبا، وأما أضيعها دما وأذلها أهلا، قَالَ

لَهُ الْحُسَيْن: فإني ذاهب يَا أخي، قَالَ: فانزل مكة فإن اطمأنت بك الدار فسبيل ذَلِكَ، وإن نبت بك لحقت بالرمال، وشعف الجبال، وخرجت من بلد إِلَى بلد حَتَّى تنظر إِلَى مَا يصير أمر الناس، وتعرف عند ذلك الرأي، فإنك اصوب ما تكون رأيا وأحزمه عملا حين تستقبل الأمور استقبالا، وَلا تكون الأمور عَلَيْك أبدا أشكل منها حين تستدبرها استدبارا، [قَالَ: يَا أخي، قَدْ نصحت فأشفقت، فأرجو أن يكون رأيك سديدا موفقا] . قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل بن مساحق، عن أبي سعد المقبري، قَالَ: نظرت إِلَى الْحُسَيْن داخلا مسجد الْمَدِينَة وإنه ليمشي وَهُوَ معتمد عَلَى رجلين، يعتمد عَلَى هَذَا مرة وعلى هَذَا مرة، وَهُوَ يتمثل بقول ابن مفرغ: لا ذعرت السوام فِي فلق الصبح ... مغيرا وَلا دعيت يزيدا يوم أعطى من المهابة ضيما ... والمنايا يرصدنني أن أحيدا قَالَ: فقلت فِي نفسي: وَاللَّهِ مَا تمثل بهذين البيتين إلا لشيء يريد، قَالَ: فما مكث إلا يومين حَتَّى بلغني أنه سار إِلَى مكة. ثُمَّ إن الْوَلِيد بعث إِلَى عَبْد اللَّهِ بن عُمَرَ فَقَالَ: بايع ليزيد، فَقَالَ: إذا بايع الناس بايعت، فَقَالَ رجل: مَا يمنعك أن تبايع؟ انما تريد ان يختلف الناس فيقتتلوا ويتفانوا، فإذا جهدهم ذَلِكَ قَالُوا: عَلَيْكُمْ بعبد اللَّه بن عُمَرَ، لم يبق غيره، بايعوه! قَالَ عَبْد اللَّهِ: مَا أحب أن يقتتلوا وَلا يختلفوا وَلا يتفانوا، ولكن إذا بايع الناس ولم يبق غيري بايعت، قَالَ: فتركوه وكانوا لا يتخوفونه

ذكر عزل الوليد عن المدينة وولايه عمر بن سعيد

قَالَ: ومضى ابن الزُّبَيْر حَتَّى أتى مكة وعليها عَمْرو بن سَعِيد، فلما دخل مكة قَالَ: إنما أنا عائذ، ولم يكن يصلي بصلاتهم، وَلا يفيض بإفاضتهم، كَانَ يقف هُوَ وأَصْحَابه ناحية، ثُمَّ يفيض بهم وحده، ويصلي بهم وحده، قَالَ: [فلما سار الْحُسَيْن نحو مكة، قال: «فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» فلما دخل مكة قَالَ: «وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ] » ذكر عزل الوليد عن المدينة وولايه عمر بن سعيد وفي هَذِهِ السنة عزل يَزِيد الْوَلِيد بن عتبة عن الْمَدِينَة، عزله فِي شهر رمضان، فأقر عَلَيْهَا عَمْرو بن سَعِيد الأشدق. وفيها قدم عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ الْمَدِينَة فِي رمضان، فزعم الْوَاقِدِيّ أن ابن عمر لَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ حين ورد نعي مُعَاوِيَة وبيعة يَزِيد عَلَى الْوَلِيدِ، وأن ابن الزُّبَيْر والحسين لما دعيا إِلَى البيعة ليزيد أبيا وخرجا من ليلتهما إِلَى مكة، فلقيهما ابن عَبَّاس وابن عمر جائيين مِنْ مَكَّةَ، فسألاهما، مَا وراءكما؟ قَالا: موت مُعَاوِيَة والبيعة ليزيد، فَقَالَ لهما ابن عمر: اتقيا اللَّه وَلا تفرقا جماعة الْمُسْلِمِينَ، وأما ابن عمر فقدم فأقام أياما، فانتظر حَتَّى جاءت البيعة من البلدان، فتقدم إِلَى الْوَلِيدِ بن عتبة فبايعه، وبايعه ابن عَبَّاس. وفي هَذِهِ السنة وجه عَمْرو بن سَعِيد عَمْرو بن الزُّبَيْرِ إِلَى أخيه عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ لحربه. (ذكر الخبر عن ذَلِكَ:) ذكر مُحَمَّد بن عُمَرَ أن عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ الأشدق قدم الْمَدِينَة فِي رمضان سنة ستين فدخل عَلَيْهِ أهل الْمَدِينَة، فدخلوا عَلَى رجل عظيم الكبر مفوه

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنَا هِشَام بن سَعِيد، عن شيبة بن نصاح، قَالَ: كَانَتِ الرسل تجري بين يَزِيد بن مُعَاوِيَة وابن الزبير في البيعه، فحلف يزيد الا يقبل مِنْهُ حَتَّى يؤتى بِهِ فِي جامعة، وَكَانَ الْحَارِث بن خَالِد المخزومي عَلَى الصَّلاة، فمنعه ابن الزُّبَيْر، فلما منعه كتب يَزِيد إِلَى عَمْرو بن سَعِيد، أن ابعث جيشا إِلَى ابن الزُّبَيْر، وَكَانَ عَمْرو بن سَعِيد لما قدم الْمَدِينَة ولى شرطته عَمْرو بن الزُّبَيْرِ، لما كَانَ يعلم مَا بينه وبين عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ من البغضاء، فأرسل إِلَى نفر من أهل الْمَدِينَة فضربهم ضربا شديدا. قَالَ مُحَمَّد بن عُمَرَ: حَدَّثَنِي شُرَحْبِيل بن أَبِي عَوْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: نظر إِلَى كل من كَانَ يهوى هوى ابن الزبير فضربه، وكان ممن ضرب المنذر ابن الزُّبَيْرِ، وابنه مُحَمَّد بن المنذر، وعبد الرَّحْمَن بن الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ، وعثمان بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حكيم بن حزام، وخبيب بن عبد الله بن الزبير، ومحمد ابن عمار بن ياسر، فضربهم الأربعين إِلَى الخمسين إِلَى الستين، وفر مِنْهُ عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَانَ وعبد الرَّحْمَن بن عَمْرو بن سهل فِي أناس إِلَى مكة، فَقَالَ عَمْرو بن سَعِيد لعمرو بن الزُّبَيْرِ: من رجل نوجه إِلَى أخيك؟ قَالَ: لا توجه إِلَيْهِ رجلا أبدا أنكأ لَهُ مني، فأخرج لأهل الديوان عشرات، وخرج من موالي أهل الْمَدِينَة ناس كثير، وتوجه مَعَهُ أنيس بن عَمْرو الأسلمي في سبعمائة، فوجهه فِي مقدمته، فعسكر بالجرف، فَجَاءَ مَرْوَان بن الحكم إِلَى عَمْرو بن سَعِيدٍ فَقَالَ: لا تغز مكة، واتق اللَّه، وَلا تحل حرمة البيت، وخلوا ابن الزُّبَيْر فقد كبر، هَذَا لَهُ بضع وستون سنة، وَهُوَ رجل لجوج، وَاللَّهِ لَئِنْ لم تقتلوه ليموتن، فَقَالَ عَمْرو بن الزُّبَيْرِ وَاللَّهِ لنقاتلنه ولنغزونه فِي جوف الكعبة عَلَى رغم أنف من رغم، فَقَالَ مَرْوَان: وَاللَّهِ إن ذَلِكَ ليسوءني، فسار أنيس بن عَمْرو الأسلمي حَتَّى نزل بذي طوى، وسار عَمْرو بن الزُّبَيْرِ حَتَّى نزل بالأبطح، فأرسل عَمْرو بن الزُّبَيْرِ إِلَى أخيه: بريمين الخليفة، واجعل فِي عنقك جامعة من فضة لا ترى، لا يضرب الناس بعضهم بعضا، واتق اللَّه فإنك فِي بلد حرام. قَالَ ابن الزُّبَيْر: موعدك المسجد، فأرسل ابن الزُّبَيْر عَبْد اللَّهِ بن صفوان

الْجُمَحِيّ إِلَى أنيس بن عَمْرو من قبل ذي طوى، وَكَانَ قَدْ ضوى إِلَى عَبْد الله ابن صفوان قوم ممن نزل حول مكة، فقاتلوا انيس بن عمرو، فهزم انيس ابن عمرو اقبح هزيمه، وتفرق عن عَمْرو جماعة أَصْحَابه، فدخل دار عَلْقَمَة، فأتاه عبيدة بن الزُّبَيْرِ فأجاره، ثُمَّ جَاءَ إِلَى عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ فَقَالَ: إني قَدْ أجرته، فَقَالَ: أتجير من حقوق الناس! هَذَا مَا لا يصلح. قَالَ مُحَمَّد بن عُمَرَ: فحدثت هَذَا الحديث مُحَمَّد بن عبيد بن عمير فَقَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرو بن دينار، قَالَ: كتب يَزِيد بن مُعَاوِيَة إِلَى عَمْرو ابن سَعِيد: أن استعمل عَمْرو بن الزُّبَيْرِ عَلَى جيش، وابعثه إِلَى ابن الزُّبَيْر، وابعث مَعَهُ أنيس بن عَمْرو، قَالَ: فسار عَمْرو بن الزُّبَيْرِ حَتَّى نزل فِي داره عِنْدَ الصفا، ونزل أنيس بن عَمْرو بذي طوى، فكان عَمْرو بن الزُّبَيْرِ يصلي بِالنَّاسِ، ويصلي خلفه عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، فإذا انصرف شبك أصابعه فِي أصابعه، ولم يبق أحد من قريش إلا أتى عَمْرو بن الزُّبَيْرِ، وقعد عَبْد اللَّهِ بن صفوان فَقَالَ: ما لي لا أَرَى عَبْد اللَّهِ بن صفوان! أما وَاللَّهِ لَئِنْ سرت إِلَيْهِ ليعلمن أن بني جمح ومن ضوى إِلَيْهِ من غيرهم قليل، فبلغ عَبْد اللَّهِ بن صفوان كلمته هَذِهِ، فحركته، فَقَالَ لعبد اللَّه بن الزُّبَيْرِ: إني أراك كأنك تريد البقيا عَلَى أخيك، فَقَالَ عبد الله: أنا أبقي عَلَيْهِ يَا أَبَا صفوان! وَاللَّهِ لو قدرت عَلَى عون الذر عَلَيْهِ لاستعنت بِهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ ابن صفوان: فأنا أكفيك أنيس بن عَمْرو، فاكفني أخاك، قَالَ ابن الزُّبَيْر: نعم، فسار عَبْد اللَّهِ ابن صفوان إِلَى أنيس بن عَمْرو وَهُوَ بذي طوى، فلاقاه فِي جمع كثير من أهل مكة وغيرهم من الأعوان، فهزم أنيس بن عمرو ومن معه، وقتلوا مدبرهم، واجهزوا على جريحهم، وسار معصب بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى عَمْرو، وتفرق عنه أَصْحَابه حَتَّى تخلص إِلَى عَمْرو بن الزُّبَيْرِ، فَقَالَ عبيدة بن الزُّبَيْرِ لعمرو: تعال أنا أجيرك فَجَاءَ عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: قَدْ أجرت عمرا، فأجره لي، فأبى أن يجيره، وضربه بكل من كَانَ ضرب بِالْمَدِينَةِ، وحبسه بسجن عارم

قَالَ الْوَاقِدِيّ: قَدِ اختلفوا علينا فِي حديث عَمْرو بن الزُّبَيْرِ، وكتبت كل ذَلِكَ. حَدَّثَنِي خَالِد بن إلياس، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي الجهم، قَالَ: لما قدم عَمْرو بن سَعِيد الْمَدِينَة واليا، قدم فِي ذي القعدة سنة ستين، فولى عَمْرو ابن الزُّبَيْرِ شرطته، وَقَالَ: قَدْ أقسم أَمِير الْمُؤْمِنِينَ الا يقبل بيعة ابن الزُّبَيْر إلا أن يؤتى بِهِ فِي جامعة، فليبر يمين أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، فإني أجعل جامعة خفيفة من ورق أو ذهب، ويلبس عَلَيْهَا برنسا، وَلا ترى إلا أن يسمع صوتها، وَقَالَ: خذها فليست للعزيز بخطة ... وفيها مقال لامرئ متذلل أعامر إن القوم ساموك خطة ... ومالك فِي الجيران عذل معذل قَالَ مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي رِيَاحُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو شُرَيْحٍ: [لا تَغْزُ مَكَّةَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رسول الله ص يَقُولُ: إِنَّمَا أَذِنَ اللَّهُ لِي فِي الْقِتَالِ بِمَكَّةَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ كَحُرْمَتِهَا،] فَأَبَى عَمْرٌو أَنْ يَسْمَعَ قَوْلَهُ، وَقَالَ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِحُرْمَتِهَا مِنْكَ أَيُّهَا الشَّيْخُ، فَبَعَثَ عَمْرٌو جيشا مع عمرو ومعه انيس ابن عَمْرٍو الأَسْلَمِيُّ، وَزَيْدٌ غُلامُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، - وَكَانُوا نَحْوَ أَلْفَيْنِ- فَقَاتَلَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ، فَقُتِلَ أُنَيْسُ بْنُ عَمْرٍو وَالْمُهَاجِرُ مَوْلَى الْقَلَمَّسِ فِي نَاسٍ كَثِيرٍ، وَهُزِمَ جَيْشُ عَمْرٍو، فَجَاءَ عُبَيْدَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لأَخِيهِ عَمْرٍو: أَنْتَ فِي ذِمَّتِي، وَأَنَا لَكَ جَارٌ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَدَخَلَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: مَا هَذَا الدَّمُ الَّذِي فِي وَجْهِكَ يَا خَبِيثُ! فَقَالَ عَمْرٌو: لَسْنَا عَلَى الأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا ... وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا تَقْطُرُ الدَّمَا فَحَبَسَهُ وَأَخْفَرَ عُبَيْدَةَ، وَقَالَ: أَمَرْتُكَ أَنْ تُجِيرَ هَذَا الْفَاسِقَ الْمُسْتَحِلَّ لِحُرُمَاتِ اللَّهِ، ثُمَّ أَقَادَ عَمْرًا مِنْ كُلِّ مَنْ ضَرَبَهُ إِلا الْمُنْذِرَ وَابْنَهُ، فَإِنَّهُمَا أَبَيَا

ذكر الخبر عن مراسله الكوفيين الحسين ع للمصير إلى ما قبلهم وامر مسلم بن عقيل رضى الله عنه

أَنْ يَسْتَقِيدَا، وَمَاتَ تَحْتَ السِّيَاطِ قَالَ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ سِجْنُ عَارِمٍ لِعَبْدٍ كَانَ يُقَالُ لَهُ: زيد عَارِمٍ، فَسُمِّيَ السِّجْنُ بِهِ، وَحَبَسَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَخَاهُ عَمْرًا فِيهِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ بن أبي يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ مع أنيس بن عَمْرو ألفان. وفي هَذِهِ السنة وجه أهل الْكُوفَة الرسل إِلَى الحسين ع وَهُوَ بمكة يدعونه إِلَى القدوم عَلَيْهِم، فوجه إِلَيْهِم ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . ذكر الخبر عن مراسله الكوفيين الحسين ع للمصير إِلَى مَا قبلهم وأمر مسلم بن عقيل رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَنِي زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى الضَّرِيرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بن جناب المصيصي- ويكنى أبا الْوَلِيد- قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِد بن يَزِيدَ بن أسد بن عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عمار الدهني، قَالَ: [قلت لأبي جَعْفَر: حَدَّثَنِي بمقتل الْحُسَيْن حَتَّى كأني حضرته، قَالَ: مات مُعَاوِيَة والوليد بن عتبة بن أَبِي سُفْيَانَ عَلَى الْمَدِينَة، فأرسل إِلَى الْحُسَيْن بن علي ليأخذ بيعته، فَقَالَ لَهُ: أخرني وارفق، فأخره، فخرج إِلَى مكة، فأتاه أهل الْكُوفَة ورسلهم: إنا قَدْ حبسنا أنفسنا عَلَيْك، ولسنا نحضر الجمعة مع الوالي، فأقدم علينا- وَكَانَ النُّعْمَان بن بشير الأَنْصَارِيّ عَلَى الْكُوفَة، قَالَ: فبعث الْحُسَيْن إِلَى مسلم بن عقيل بن أبي طالب ابن عمه فَقَالَ لَهُ: سر إِلَى الْكُوفَةِ فانظر مَا كتبوا بِهِ إلي، فإن كَانَ حقا خرجنا إِلَيْهِم فخرج مسلم حَتَّى أتى الْمَدِينَة، فأخذ منها دليلين، فمرا بِهِ فِي البرية، فأصابهم عطش، فمات أحد الدليلين، وكتب مسلم إِلَى الْحُسَيْن يستعفيه، فكتب إِلَيْهِ الْحُسَيْن: أن امض إِلَى الْكُوفَةِ] . فخرج حَتَّى قدمها، ونزل عَلَى رجل من أهلها يقال لَهُ ابن عوسجة، قَالَ: فلما تحدث أهل الْكُوفَة بمقدمه دبوا إِلَيْهِ فبايعوه، فبايعه مِنْهُمُ

اثنا عشر ألفا قَالَ: فقام رجل ممن يهوى يَزِيد بن مُعَاوِيَة إِلَى النُّعْمَان بن بشير، فَقَالَ لَهُ: إنك ضعيف أو متضعف، قَدْ فسد البلاد! فَقَالَ لَهُ النُّعْمَان: أن أكون ضعيفا وأنا فِي طاعة اللَّه أحب إلي من أن أكون قويا فِي معصية اللَّه، وما كنت لأهتك سترا ستره اللَّه. فكتب بقول النُّعْمَان إِلَى يَزِيد، فدعا مولى لَهُ يقال لَهُ: سرجون، - وَكَانَ يستشيره- فأخبره الخبر، فَقَالَ لَهُ: أكنت قابلا من مُعَاوِيَة لو كَانَ حيا؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فاقبل مني، فإنه ليس للكوفة إلا عُبَيْد اللَّهِ ابن زياد، فولها إِيَّاهُ- وَكَانَ يَزِيد عَلَيْهِ ساخطا، وَكَانَ هم بعزله عن الْبَصْرَة- فكتب إِلَيْهِ برضائه، وأنه قَدْ ولاه الْكُوفَة مع الْبَصْرَة، وكتب إِلَيْهِ أن يطلب مسلم بن عقيل فيقتله إن وجده. قَالَ: فأقبل عُبَيْد اللَّهِ فِي وجوه أهل الْبَصْرَة حَتَّى قدم الْكُوفَة متلثما، وَلا يمر عَلَى مجلس من مجالسهم فيسلم الا قالوا: عليك السلام يا بن بنت رَسُول اللَّهِ- وهم يظنون أنه الْحُسَيْن بن على ع- حَتَّى نزل القصر، فدعا مولى لَهُ فأعطاه ثلاثة آلاف، وَقَالَ لَهُ: اذهب حَتَّى تسأل عن الرجل الَّذِي يبايع لَهُ أهل الْكُوفَة فأعلمه أنك رجل من أهل حمص جئت لهذا الأمر، وهذا مال تدفعه إِلَيْهِ ليتقوى فلم يزل يتلطف ويرفق بِهِ حَتَّى دل عَلَى شيخ من أهل الْكُوفَة يلي البيعة، فلقيه فأخبره، فَقَالَ لَهُ الشيخ: لقد سرني لقاؤك إياي، وَقَدْ ساءني، فأما مَا سرني من ذَلِكَ فما هداك اللَّه لَهُ، وأما مَا ساءني فإن أمرنا لم يستحكم بعد فأدخله إِلَيْهِ، فأخذ مِنْهُ المال وبايعه، ورجع إِلَى عُبَيْد اللَّهِ فأخبره. فتحول مسلم حين قدم عُبَيْد اللَّهِ بن زياد من الدار الَّتِي كَانَ فِيهَا إِلَى منزل هانئ بن عروة المرادي، وكتب مسلم بن عقيل إِلَى الحسين بن على ع يخبره ببيعة اثني عشر ألفا من أهل الْكُوفَة، ويأمره بالقدوم. وَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ لوجوه أهل الْكُوفَة: ما لي أَرَى هانئ بن عروة لم يأتني فيمن أتاني! قَالَ: فخرج إِلَيْهِ مُحَمَّد بن الأشعث فِي ناس من قومه وَهُوَ عَلَى باب

داره، فَقَالُوا: إن الأمير قَدْ ذكرك واستبطأك، فانطلق إِلَيْهِ، فلم يزالوا بِهِ حَتَّى ركب معهم وسار حَتَّى دخل عَلَى عُبَيْد اللَّهِ وعنده شريح القاضي، فلما نظر إِلَيْهِ قَالَ لشريح: أتتك بحائن رجلاه، فلما سلم عَلَيْهِ قَالَ: يَا هانئ، أين مسلم؟ قَالَ: مَا أدري، فأمر عُبَيْد اللَّهِ مولاه صاحب الدراهم فخرج إِلَيْهِ، فلما رآه قطع بِهِ، فَقَالَ: أصلح اللَّه الأمير! وَاللَّهِ مَا دعوته إِلَى منزلي ولكنه جَاءَ فطرح نفسه علي، قَالَ: ائتني بِهِ، قَالَ: وَاللَّهِ لو كَانَ تحت قدمي مَا رفعتهما عنه، قَالَ: أدنوه إلي، فأدني فضربه عَلَى حاجبه فشجه، قَالَ: وأهوى هانئ إِلَى سيف شرطي ليسله، فدفع عن ذَلِكَ، وَقَالَ: قَدْ أحل اللَّه دمك، فأمر بِهِ فحبس فِي جانب القصر. وَقَالَ غير ابى جعفر: الذى جاء بهانىء بن عروة إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد عَمْرو بن الحجاج الزبيدي: ذكر من قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابو قتيبة، قال: حدثنا يونس ابن أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْعَيْزَارِ بْنِ حُرَيْثٍ، قَالَ: حدثنا عماره بن عقبه ابن أَبِي مُعَيْطٍ، فَجَلَسَ فِي مَجْلِسِ ابْنِ زِيَادٍ فَحَدَّثَ، قَالَ: طَرَدْتُ الْيَوْمَ حُمُرًا فَأَصَبْتُ مِنْهَا حِمَارًا فَعَقَرْتُهُ، فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْحَجَّاجِ الزُّبَيْدِيُّ: إِنَّ حِمَارًا تَعْقِرُهُ أَنْتَ لَحِمَارٌ حَائِنٌ، فَقَالَ: أَلا أُخْبِرُكَ بِأَحْيَنَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ! رَجُلٌ جِيءَ بِأَبِيهِ كَافِرًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ص، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ فَمَنْ لِلصِّبْيَةِ؟ قَالَ: النَّارُ، فَأَنْتَ مِنَ الصِّبْيَةِ، وَأَنْتَ فِي النَّارِ، قَالَ: فَضَحِكَ ابْنُ زِيَادٍ رجع الحديث إِلَى حديث عمار الدهني، عن أبي جَعْفَر قَالَ: فبينا هُوَ

كذلك إذ خرج الخبر إِلَى مذحج، فإذا عَلَى باب القصر جلبة سمعها عُبَيْد اللَّهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: مذحج، فَقَالَ لشريح: اخرج إِلَيْهِم فأعلمهم أني إنما حبسته لأسائله، وبعث عينا عَلَيْهِ من مواليه يسمع مَا يقول، فمر بهانىء بن عروة، فَقَالَ لَهُ هانئ: اتق اللَّه يَا شريح، فإنه قاتلي، فخرج شريح حَتَّى قام عَلَى باب القصر، فَقَالَ: لا بأس عَلَيْهِ، إنما حبسه الأمير ليسائله، فَقَالُوا: صدق، ليس عَلَى صاحبكم بأس، فتفرقوا، فأتى مسلما الخبر، فنادى بشعاره، فاجتمع إِلَيْهِ أربعة آلاف من أهل الْكُوفَة، فقدم مقدمته، وعبى ميمنته وميسرته، وسار فِي القلب إِلَى عُبَيْد اللَّهِ، وبعث عُبَيْد اللَّهِ إِلَى وجوه أهل الْكُوفَة فجمعهم عنده فِي القصر، فلما سار إِلَيْهِ مسلم فانتهى إِلَى باب القصر أشرفوا عَلَى عشائرهم فجعلوا يكلمونهم ويردونهم، فجعل أَصْحَاب مسلم يتسللون حتى امسى في خمسمائة، فلما اختلط الظلام ذهب أُولَئِكَ أَيْضًا. فلما رَأَى مسلم أنه قَدْ بقي وحده يتردد في الطرق أتى بابا فنزل عَلَيْهِ، فخرجت إِلَيْهِ امرأة، فَقَالَ لها: اسقيني، فسقته، ثُمَّ دخلت فمكثت مَا شاء اللَّه، ثُمَّ خرجت فإذا هُوَ عَلَى الباب، قالت: يَا عَبْد اللَّهِ، إن مجلسك مجلس ريبة، فقم، قَالَ: إني أنا مسلم بن عقيل، فهل عندك مأوى؟ قالت: نعم، ادخل، وَكَانَ ابنها مولى لمُحَمَّد بن الأشعث، فلما علم بِهِ الغلام انطلق إِلَى مُحَمَّد فأخبره، فانطلق مُحَمَّد إِلَى عُبَيْد اللَّهِ فأخبره، فبعث عُبَيْد اللَّهِ عَمْرو بن حريث المخزومي- وَكَانَ صاحب شرطه- إِلَيْهِ، وَمَعَهُ عبد الرحمن ابن مُحَمَّدِ بْنِ الأشعث، فلم يعلم مسلم حَتَّى أحيط بالدار، فلما رَأَى ذَلِكَ مسلم خرج إِلَيْهِم بسيفه فقاتلهم، فأعطاه عبد الرَّحْمَن الأمان، فأمكن من يده، فَجَاءَ بِهِ إِلَى عُبَيْد اللَّهِ، فأمر بِهِ فأصعد إِلَى أعلى القصر فضربت عنقه، وألقى جثته إِلَى النَّاسِ، وأمر بهانىء فسحب إِلَى الكناسة، فصلب هنالك، وَقَالَ شاعرهم فِي ذَلِكَ: فإن كنت لا تدرين مَا الموت فانظري ... إِلَى هانئ فِي السوق وابن عقيل

أصابهما أمر الإمام فأصبحا ... أحاديث من يسعى بكل سبيل أيركب أسماء الهماليج آمنا ... وَقَدْ طلبته مذحج بذحول! وأما أَبُو مخنف فإنه ذكر من قصة مسلم بن عقيل وشخوصه إِلَى الْكُوفَةِ ومقتله قصة هي أشبع وأتم من خبر عمار الدهني عن أبي جَعْفَر الَّذِي ذكرناه، مَا حدثت عن هِشَام بن مُحَمَّد، عنه، قَالَ: حَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن جندب، قَالَ: حَدَّثَنِي عقبة بن سمعان مولى الرباب ابنة امرئ القيس الكلبية امرأة حُسَيْن- وكانت مع سكينة ابنة حُسَيْن، وَهُوَ مولى لأبيها، وَهِيَ إذ ذاك صغيرة- قَالَ: خرجنا فلزمنا الطريق الأعظم، [فَقَالَ للحسين أهل بيته: لو تنكبت الطريق الأعظم كما فعل ابن الزُّبَيْر لا يلحقك الطلب، قَالَ: لا، وَاللَّهِ لا أفارقه حَتَّى يقضي اللَّه مَا هُوَ أحب إِلَيْهِ، قَالَ: فاستقبلنا عَبْد اللَّهِ بن مطيع فَقَالَ للحسين: جعلت فداك! أين تريد؟ قَالَ: أما الآن فإني أريد مكة، وأما بعدها فانى أستخير اللَّه،] قَالَ: خار اللَّه لك، وجعلنا فداك، فإذا أنت أتيت مكة فإياك أن تقرب الْكُوفَة، فإنها بلدة مشئومة، بِهَا قتل أبوك، وخذل أخوك، واغتيل بطعنة كادت تأتي عَلَى نفسه، الزم الحرم، فإنك سيد العرب، لا يعدل بك وَاللَّهِ أهل الحجاز أحدا، ويتداعى إليك الناس من كل جانب، لا تفارق الحرم فداك عمى وخالي، فو الله لَئِنْ هلكت لنسترقن بعدك فأقبل حَتَّى نزل مكة، فأقبل أهلها يختلفون إِلَيْهِ ويأتونه ومن كَانَ بِهَا من المعتمرين وأهل الآفاق، وابن الزُّبَيْر بِهَا قَدْ لزم الكعبة، فهو قائم يصلي عندها عامة النهار ويطوف، ويأتي حسينا فيمن يأتيه، فيأتيه اليومين المتواليين، ويأتيه بين كل يومين مرة، وَلا يزال يشير عَلَيْهِ بالرأي وَهُوَ أثقل خلق اللَّه عَلَى ابن الزُّبَيْر، قَدْ عرف أن أهل الحجاز لا يبايعونه وَلا يتابعونه أبدا مَا دام حُسَيْن بالبلد، وإن حسينا أعظم فِي أعينهم وأنفسهم مِنْهُ،. وأطوع فِي الناس مِنْهُ. فلما بلغ أهل الْكُوفَة هلاك مُعَاوِيَة أرجف أهل العراق بيزيد، وَقَالُوا: قَدِ امتنع حُسَيْن وابن الزُّبَيْر، ولحقا بمكة، فكتب أهل

الْكُوفَة إِلَى حُسَيْن، وعليهم النُّعْمَان بن بشير. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي الحجاج بن علي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بشر الهمداني، قَالَ: اجتمعت الشيعة فِي منزل سُلَيْمَان بن صرد، فذكرنا هلاك مُعَاوِيَة، فحمدنا اللَّه عَلَيْهِ، فَقَالَ لنا سُلَيْمَان بن صرد: إن مُعَاوِيَة قَدْ هلك، وإن حسينا قَدْ تقبض عَلَى القوم ببيعته، وَقَدْ خرج إِلَى مكة، وَأَنْتُمْ شيعته وشيعة أَبِيهِ، فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوه فاكتبوا إِلَيْهِ، وإن خفتم الوهل والفشل فلا تغروا الرجل من نفسه، قَالُوا: لا، بل نقاتل عدوه ونقتل أنفسنا دونه، قَالَ: فاكتبوا إِلَيْهِ، فكتبوا إِلَيْهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لحسين بن علي من سُلَيْمَان بن صرد والمسيب ابن نجبة ورفاعة بن شداد وحبيب بن مظاهر وشيعته من الْمُؤْمِنِينَ والمسلمين من أهل الْكُوفَة سلام عَلَيْك، فإنا نحمد إليك اللَّه الَّذِي لا إله إلا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ، فالحمد لِلَّهِ الَّذِي قصم عدوك الجبار العنيد الَّذِي انتزى عَلَى هَذِهِ الأمة فابتزها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمر عَلَيْهَا بغير رضا منها، ثُمَّ قتل خيارها، واستبقى شرارها، وجعل مال اللَّه دولة بين جبابرتها وأغنيائها، فبعدا لَهُ كما بعدت ثمود! إنه ليس علينا إمام، فأقبل لعل اللَّه أن يجمعنا بك عَلَى الحق والنعمان ابن بشير فِي قصر الإمارة لسنا نجتمع مَعَهُ فِي جمعة، وَلا نخرج مَعَهُ إِلَى عيد، ولو قَدْ بلغنا أنك قَدْ أقبلت إلينا أخرجناه حَتَّى نلحقه بِالشَّامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، والسلام ورحمة اللَّه عَلَيْك. قَالَ: ثُمَّ سرحنا بالكتاب مع عَبْد اللَّهِ بن سبع الهمداني وعبد اللَّه بن وال، وأمرناهما بالنجاء، فخرج الرجلان مسرعين حَتَّى قدما عَلَى حُسَيْن لعشر مضين من شهر رمضان بمكة، ثُمَّ لبثنا يومين، ثم سرحنا اليه قيس ابن مسهر الصيداوي وعبد الرَّحْمَن بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الكدن الأرحبي وعمارة بن عبيد السلولي، فحملوا معهم نحوا من ثلاثة وخمسين صحيفة، الصحيفة من الرجل والاثنين والأربعة

قَالَ: ثُمَّ لبثنا يومين آخرين، ثُمَّ سرحنا إِلَيْهِ هانئ بن هانئ السبيعي وسعيد بن عبد الله الحتفى، وكتبنا مَعَهُمَا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لحسين بن علي من شيعته من الْمُؤْمِنِينَ والمسلمين، اما بعد، فحيهلا، فإن الناس ينتظرونك، وَلا رأي لَهُمْ فِي غيرك، فالعجل العجل، والسلام عَلَيْك. وكتب شبث بن ربعي وحجار بن أبجر ويزيد بن الحارث بن يزيد بن رويم وعزرة بن قيس وعمرو بن الحجاج الزبيدي ومُحَمَّد بن عمير التميمي: أَمَّا بَعْدُ، فقد اخضر الجناب، وأينعت الثمار، وطمت الجمام، فإذا شئت فاقدم عَلَى جند لك مجند، والسلام عَلَيْك. وتلاقت الرسل كلها عنده، فقرأ الكتب، وسأل الرسل عن أمر الناس، ثُمَّ كتب مع هانئ بن هانئ السبيعي وسعيد بن عَبْدِ اللَّهِ الحنفي، وكانا آخر الرسل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من حُسَيْن بن علي إِلَى الملإ من الْمُؤْمِنِينَ والمسلمين، أَمَّا بَعْدُ، فإن هانئا وسعيدا قدما علي بكتبكم، وكانا آخر من قدم علي من رسلكم، وَقَدْ فهمت كل الَّذِي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جلكم: إنه ليس علينا إمام، فأقبل لعل اللَّه أن يجمعنا بك عَلَى الهدى والحق وقد بعثت إليكم أخي وابن عمى وثقتي من أهل بيتي، وأمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب إلي أنه قَدْ أجمع رأي ملئكم وذوي الفضل والحجى مِنْكُمْ عَلَى مثل مَا قدمت علي بِهِ رسلكم، وقرأت فِي كتبكم، أقدم عَلَيْكُمْ وشيكا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فلعمري مَا الإمام إلا العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحق، والحابس نفسه عَلَى ذات اللَّه والسلام. قَالَ أَبُو مخنف: وذكر أَبُو المخارق الراسبي، قَالَ: اجتمع ناس من الشيعة بِالْبَصْرَةِ فِي منزل امرأة من عبد القيس يقال لها مارية ابنة سعد- أو منقذ- أياما، وكانت تشيع، وَكَانَ منزلها لَهُمْ مألفا يتحدثون فِيهِ، وَقَدْ بلغ ابن زياد إقبال الْحُسَيْن، فكتب إِلَى عامله بالبصرة ان يضع المناظر ويأخذ

قَالَ: فأجمع يَزِيد بن نبيط الخروج- وَهُوَ من عبد القيس- إِلَى الْحُسَيْن، وَكَانَ لَهُ بنون عشرة، فَقَالَ: أيكم يخرج معي؟ فانتدب مَعَهُ ابنان لَهُ: عَبْد اللَّهِ وعبيد اللَّه، فَقَالَ لأَصْحَابه فِي بيت تِلَكَ المرأة: إني قَدْ أزمعت عَلَى الخروج، وأنا خارج، فَقَالُوا لَهُ: إنا نخاف عَلَيْك أَصْحَاب ابن زياد، فقال: انى والله لو قد استوت اخفافهما بالجدد لهان علي طلب من طلبني. قَالَ: ثم خرج فتقدى في الطريق حتى انتهى الى حسين ع، فدخل فِي رحله بالأبطح، وبلغ الْحُسَيْن مجيئه، فجعل يطلبه، وجاء الرجل إِلَى رحل الْحُسَيْن، فقيل لَهُ: قَدْ خرج إِلَى منزلك، فأقبل فِي أثره، ولما لم يجده الْحُسَيْن جلس فِي رحله ينتظره، وجاء البصري فوجده فِي رحله جالسا، فَقَالَ: «بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا» قَالَ: فسلم عَلَيْهِ، وجلس إِلَيْهِ، فخبره بِالَّذِي جَاءَ لَهُ، فدعا لَهُ بخير، ثُمَّ أقبل مَعَهُ حَتَّى أتى فقاتل مَعَهُ، فقتل مَعَهُ هُوَ وابناه ثُمَّ دعا مسلم بن عقيل فسرحه مع قيس بن مسهر الصيداوي وعمارة بن عبيد السلولي وعبد الرَّحْمَن بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الكدن الأرحبي، فأمره بتقوى اللَّه وكتمان أمره، واللطف، فإن رَأَى الناس مجتمعين مستوسقين عجل إِلَيْهِ بِذَلِكَ. فأقبل مسلم حَتَّى أتى الْمَدِينَة فصلى فِي مسجد رَسُول اللَّهِ ص، وودع من أحب من أهله، ثُمَّ استأجر دليلين من قيس، فأقبلا بِهِ، فضلا الطريق وجارا، وأصابهم عطش شديد، وَقَالَ الدليلان: هَذَا الطريق حتى تنتهي إِلَى الماء، وَقَدْ كادوا أن يموتوا عطشا فكتب مسلم بن عقيل مع قيس بن مسهر الصيداوي إِلَى حُسَيْن، وَذَلِكَ بالمضيق من بطن الخبيت: أَمَّا بَعْدُ، فإني أقبلت مِنَ الْمَدِينَةِ معي دليلان لي، فجارا عن الطريق وضلا، واشتد علينا العطش، فلم يلبثا أن ماتا، وأقبلنا حَتَّى انتهينا إِلَى الماء، فلم ننج إلا بحشاشة أنفسنا، وَذَلِكَ الماء بمكان يدعى المضيق من بطن الخبيت، وَقَدْ تطيرت من وجهي هَذَا، فإن رأيت أعفيتني مِنْهُ، وبعثت غيري، والسلام

فكتب إِلَيْهِ حُسَيْن: أَمَّا بَعْدُ، فقد خشيت أَلا يكون حملك عَلَى الكتاب إلي فِي الاستعفاء من الوجه الَّذِي وجهتك لَهُ إلا الجبن، فامض لوجهك الَّذِي وجهتك لَهُ، والسلام عَلَيْك. فَقَالَ مسلم لمن قرأ الكتاب: هَذَا مَا لست أتخوفه عَلَى نفسي، فأقبل كما هُوَ حَتَّى مر بماء لطيئ، فنزل بهم، ثُمَّ ارتحل مِنْهُ، فإذا رجل يرمي الصيد، فنظر إِلَيْهِ قَدْ رمى ظبيا حين أشرف لَهُ، فصرعه، فَقَالَ مسلم: يقتل عدونا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أقبل مسلم حَتَّى دخل الكوفه، فنزل دار المختار ابن أبي عبيد- وَهِيَ الَّتِي تدعى الْيَوْم دار مسلم بن المسيب- وأقبلت الشيعة تختلف إِلَيْهِ، فلما اجتمعت إِلَيْهِ جماعة مِنْهُمْ قرأ عَلَيْهِم كتاب حُسَيْن، فأخذوا يبكون. فقام عابس بن أبي شبيب الشاكري، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإني لا أخبرك عن الناس، وَلا أعلم مَا فِي أنفسهم، وما أغرك مِنْهُمْ، وَاللَّهِ لأحدثنك عما أنا موطن نفسي عَلَيْهِ، وَاللَّهِ لأجيبنكم إذا دعوتم، ولأقاتلن معكم عدوكم، ولأضربن بسيفي دونكم حَتَّى ألقى اللَّه، لا أريد بِذَلِكَ إلا مَا عند الله. فقام حبيب بن مظاهر الفقعسي، فَقَالَ: رحمك اللَّه! قَدْ قضيت مَا فِي نفسك، بواجز من قولك، ثُمَّ قَالَ: وأنا وَاللَّهِ الَّذِي لا إله إلا هُوَ عَلَى مثل مَا هَذَا عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ الحنفي مثل ذَلِكَ فَقَالَ الحجاج بن علي: فقلت لمُحَمَّد بن بشر: فهل كان منك أنت قول؟ فقال: إن كنت لأحب أن يعز اللَّه أَصْحَابي بالظفر، وما كنت لأحب أن أقتل، وكرهت أن أكذب. واختلفت الشيعة إِلَيْهِ حَتَّى علم مكانه، فبلغ ذَلِكَ النُّعْمَان بن بشير. قَالَ أبو مخنف: حدثني نمير بن وعلة، عن أبي الوداك، قَالَ: خرج إلينا النُّعْمَان بن بشير فصعد الْمِنْبَر، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فاتقوا اللَّه عباد اللَّه وَلا تسارعوا إِلَى الْفِتْنَة والفرقة، فإن فيهما يهلك

الرجال، وتسفك الدماء، وتغصب الأموال- وَكَانَ حليما ناسكا يحب العافية- قَالَ: إني لم أقاتل من لم يقاتلني، وَلا أثب عَلَى من لا يثب علي، وَلا أشاتمكم، وَلا أتحرش بكم، وَلا أخذ بالقرف وَلا الظنة وَلا التهمة، ولكنكم إن أبديتم صفحتكم لي، ونكثتم بيعتكم، وخالفتم امامكم، فو الله الَّذِي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي مَا ثبت قائمه فِي يدي، ولو لَمْ يَكُنْ لي مِنْكُمْ ناصر أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق مِنْكُمْ أكثر ممن يرديه الباطل. قَالَ: فقام إِلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بن مسلم بن سَعِيد الحضرمي حليف بني أُمَيَّة فَقَالَ: إنه لا يصلح مَا ترى إلا الغشم، إن هَذَا الَّذِي أنت عَلَيْهِ فِيمَا بينك وبين عدوك رأي المستضعفين، فَقَالَ: أن أكون من المستضعفين فِي طاعة اللَّه أحب إلي من أن أكون من الأعزين فِي معصية اللَّه، ثُمَّ نزل. وخرج عَبْد اللَّهِ بن مسلم، وكتب إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة: أَمَّا بَعْدُ، فإن مسلم بن عقيل قَدْ قدم الْكُوفَة فبايعته الشيعة للحسين بن علي فإن كَانَ لك بالكوفة حاجة فابعث إِلَيْهَا رجلا قويا ينفذ أمرك، ويعمل مثل عملك فِي عدوك، فإن النُّعْمَان بن بشير رجل ضعيف، أو هُوَ يتضعف فكان أول من كتب إِلَيْهِ. ثُمَّ كتب إِلَيْهِ عمارة بن عُقْبَةَ بنحو من كتابه، ثُمَّ كتب اليه عمر بن سعد ابن أَبِي وَقَّاص بمثل ذَلِكَ. قَالَ هِشَام: قَالَ عوانة: فلما اجتمعت الكتب عِنْدَ يَزِيد ليس بين كتبهم إلا يومان، دعا يَزِيد بن مُعَاوِيَة سرجون مولى مُعَاوِيَة فَقَالَ: مَا رأيك؟ فإن حسينا قَدْ توجه نحو الْكُوفَة، ومسلم بن عقيل بالكوفة يبايع للحسين، وَقَدْ بلغني عن النُّعْمَان ضعف وقول سيئ- وأقرأه كتبهم- فما ترى من أستعمل عَلَى الْكُوفَة؟ وَكَانَ يَزِيد عاتبا عَلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فَقَالَ سرجون: أرأيت مُعَاوِيَة لو نشر لك، أكنت آخذا برأيه؟ قَالَ: نعم، فأخرج عهد عُبَيْد اللَّهِ عَلَى الْكُوفَة فَقَالَ: هَذَا رأي مُعَاوِيَة، ومات وَقَدْ أمر بهذا الكتاب فأخذ برأيه وضم المصرين إِلَى عُبَيْد اللَّهِ، وبعث إِلَيْهِ بعهده عَلَى الْكُوفَة

ثُمَّ دعا مسلم بن عَمْرو الباهلي- وَكَانَ عنده- فبعثه إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بعهده إِلَى الْبَصْرَة، وكتب إِلَيْهِ مَعَهُ: أَمَّا بَعْدُ، فإنه كتب إلي شيعتي من أهل الْكُوفَة يخبرونني أن ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشق عصا المسلمين، فسر حين قرأ كتابي هَذَا حَتَّى تأتي أهل الْكُوفَة فتطلب ابن عقيل كطلب الحرزه حَتَّى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه، والسلام. فأقبل مسلم بن عَمْرو حَتَّى قدم عَلَى عُبَيْد اللَّهِ بِالْبَصْرَةِ، فأمر عُبَيْد اللَّهِ بالجهاز والتهيؤ والمسير إِلَى الْكُوفَةِ من الغد. وَقَدْ كَانَ حُسَيْن كتب إِلَى أهل الْبَصْرَة كتابا، قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الصقعب بن زهير، عن أبي عُثْمَان النهدي، قَالَ: كتب حُسَيْن مع مولى لَهُمْ يقال لَهُ: سُلَيْمَان، وكتب بنسخة إِلَى رءوس الأخماس بِالْبَصْرَةِ وإلى الأشراف، فكتب إِلَى مالك بن مسمع البكري، وإلى الأحنف بن قيس، وإلى المنذر بن الجارود، وإلى مسعود بن عَمْرو، والى قيس ابن الهيثم، والى عمرو بن عُبَيْد اللَّهِ بن معمر، فجاءت مِنْهُ نسخة واحدة إِلَى جميع أشرافها: أَمَّا بَعْدُ، فان الله اصطفى محمدا ص عَلَى خلقه، وأكرمه بنبوته، واختاره لرسالته، ثُمَّ قبضه اللَّه إِلَيْهِ وَقَدْ نصح لعباده، وبلغ ما ارسل به ص، وكنا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته وأحق الناس بمقامه فِي الناس، فاستأثر علينا قومنا بِذَلِكَ، فرضينا وكرهنا الفرقة، وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنا أحق بِذَلِكَ الحق المستحق علينا ممن تولاه، وَقَدْ أحسنوا وأصلحوا، وتحروا الحق، فرحمهم اللَّه، وغفر لنا ولهم. وَقَدْ بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إِلَى كتاب الله وسنه نبيه ص، فإن السنة قَدْ أميتت، وإن البدعة قَدْ أحييت، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد، والسلام عَلَيْكُمْ ورحمة اللَّه. فكل من قرأ ذَلِكَ الكتاب من أشراف الناس كتمه، غير المنذر بن الجارود، فإنه خشي بزعمه أن يكون دسيسا من قبل عُبَيْد اللَّهِ، فجاءه بالرسول من العشية

الَّتِي يريد صبيحتها أن يسبق إِلَى الْكُوفَةِ، وأقرأه كتابه، فقدم الرسول فضرب عنقه وصعد عُبَيْد اللَّهِ منبر الْبَصْرَة فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فو الله مَا تقرن بي الصعبة، وَلا يقعقع لي بالشنان، وإني لنكل لمن عاداني، وسم لمن حاربني، أنصف القارة من راماها يَا أهل البصره، ان امير المؤمنين ولانى الكوفه وأنا غاد إِلَيْهَا الغداة، وَقَدِ استخلفت عَلَيْكُمْ عُثْمَان بن زياد بن أَبِي سُفْيَانَ، وإياكم والخلاف والارجاف، فو الذى لا إله غيره لَئِنْ بلغني عن رجل مِنْكُمْ خلاف لأقتلنه وعريفه ووليه، ولآخذن الأدنى بالأقصى حَتَّى تستمعوا لي، وَلا يكون فيكم مخالف وَلا مشاق، أنا ابن زياد، أشبهته من بين من وطيء الحصى ولم ينتزعني شبه خال وَلا ابن عم. ثُمَّ خرج مِنَ الْبَصْرَةِ واستخلف أخاه عُثْمَان بن زياد، وأقبل إِلَى الْكُوفَةِ وَمَعَهُ مسلم بن عَمْرو الباهلي، وشريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته، حَتَّى دخل الْكُوفَة وعليه عمامة سوداء، وَهُوَ متلثم والناس قَدْ بلغهم إقبال حُسَيْن إِلَيْهِم، فهم ينتظرون قدومه، فظنوا حين قدم عُبَيْد اللَّهِ أنه الْحُسَيْن، فأخذ لا يمر عَلَى جماعة مِنَ النَّاسِ الا سلموا عليه، وقالوا: مرحبا بك يا بن رَسُول اللَّهِ! قدمت خير مقدم، فرأى من تباشيرهم بالحسين ع مَا ساءه، فَقَالَ مسلم بن عَمْرو لما أكثروا: تأخروا، هَذَا الأمير عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فاخذ حين أقبل عَلَى الظهر، وإنما مَعَهُ بضعة عشر رجلا، فلما دخل القصر وعلم الناس أنه عُبَيْد اللَّهِ بن زياد دخلهم من ذَلِكَ كآبة وحزن شديد، وغاظ عُبَيْد اللَّهِ مَا سمع مِنْهُمْ، وَقَالَ: أَلا أَرَى هَؤُلاءِ كما أَرَى. قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي المعلى بن كليب، عن أبي وداك، قَالَ: لما نزل القصر نودي: الصَّلاة جامعة، قَالَ: فاجتمع الناس، فخرج إلينا فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أصلحه اللَّه ولاني مصركم وثغركم، وأمرني بإنصاف مظلومكم، وإعطاء محرومكم، وبالإحسان إِلَى سامعكم ومطيعكم، وبالشدة عَلَى مريبكم وعاصيكم، وانا

متبع فيكم أمره، ومنفذ فيكم عهده، فأنا لمحسنكم ومطيعكم كالوالد البر، وسوطي وسيفي عَلَى من ترك أمري، وخالف عهدي، فليبق امرؤ على نفسه. الصدق ينبئ عنك لا الوعيد، ثُمَّ نزل فأخذ العرفاء والناس أخذا شديدا، فَقَالَ: اكتبوا إلي الغرباء، ومن فيكم من طلبة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، ومن فيكم من الحرورية وأهل الريب الَّذِينَ رأيهم الخلاف والشقاق، فمن كتبهم لنا فبرئ، ومن لم يكتب لنا أحدا، فيضمن لنا ما في عرافته الا يخالفنا مِنْهُمْ مخالف، وَلا يبغي علينا مِنْهُمْ باغ، فمن لم يفعل برئت مِنْهُ الذمة، وحلال لنا ماله وسفك دمه، وأيما عريف وجد فِي عرافته من بغية أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أحد لم يرفعه إلينا صلب عَلَى باب داره، والقيت تِلَكَ العرافة من العطاء، وسير إِلَى موضع بعمان الزارة. وأما عِيسَى بن يَزِيدَ الكناني فإنه قَالَ- فِيمَا ذكر عُمَر بن شَبَّةَ، عن هَارُون بن مسلم، عَنْ عَلِيِّ بْنِ صالح، عنه- قَالَ: لما جَاءَ كتاب يَزِيد إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، انتخب من اهل البصره خمسمائة، فِيهِمْ عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث بن نوفل، وشريك بن الأعور- وَكَانَ شيعة لعلي، فكان أول من سقط بِالنَّاسِ شريك، فيقال: إنه تساقط غمرة وَمَعَهُ ناس- ثُمَّ سقط عَبْد الله ابن الْحَارِث وسقط مَعَهُ ناس، ورجوا أن يلوي عَلَيْهِم عُبَيْد اللَّهِ ويسبقه الْحُسَيْن إِلَى الْكُوفَةِ، فجعل لا يلتفت إِلَى من سقط، ويمضي حَتَّى ورد القادسية، وسقط مهران مولاه، فَقَالَ: أيا مهران، عَلَى هَذِهِ الحال، إن أمسكت عنك حَتَّى تنظر إِلَى القصر فلك مائة ألف، قَالَ: لا، وَاللَّهِ مَا أستطيع فنزل عُبَيْد اللَّهِ فأخرج ثيابا مقطعة من مقطعات اليمن، ثُمَّ اعتجر بمعجرة يمانية، فركب بغلته، ثُمَّ انحدر راجلا وحده، فجعل يمر بالمحارس فكلما نظروا إِلَيْهِ لم يشكوا أنه الْحُسَيْن، فيقولون: مرحبا بك يا بن رَسُول اللَّهِ! وجعل لا يكلمهم، وخرج إِلَيْهِ الناس من دورهم وبيوتهم، وسمع بهم النُّعْمَان بن بشير فغلق عَلَيْهِ وعلى خاصته، وانتهى إِلَيْهِ عُبَيْد اللَّهِ وَهُوَ لا يشك أنه الْحُسَيْن، وَمَعَهُ الخلق يضجون، فكلمه النُّعْمَان، فَقَالَ: أنشدك

اللَّه ألا تنحيت عني! مَا أنا بمسلم إليك أمانتي، وما لي فِي قتلك من أرب، فجعل لا يكلمه ثُمَّ إنه دنا وتدلى الآخر بين شرفين، فجعل يكلمه فَقَالَ: افتح لا فتحت، فقد طال ليلك، فسمعها إنسان خلفه، فتكفى إِلَى القوم، فَقَالَ: أي قوم، ابن مرجانة، والذي لا إله غيره! فَقَالُوا: ويحك! إنما هُوَ الْحُسَيْن، ففتح لَهُ النُّعْمَان، فدخل، وضربوا الباب فِي وجوه الناس، فانفضوا، وأصبح فجلس عَلَى الْمِنْبَر فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إني لأعلم أنه قَدْ سار معي، وأظهر الطاعة لي من هُوَ عدو للحسين حين ظن أن الْحُسَيْن قد دخل البلد وغلب عليه، والله مَا عرفت مِنْكُمْ أحدا، ثُمَّ نزل وأخبر أن مسلم بن عقيل قدم قبله بليلة، وأنه بناحية الْكُوفَة، فدعا مولى لبني تميم فأعطاه مالا، وَقَالَ: انتحل هَذَا الأمر، وأعنهم بالمال، واقصد لهانئ ومسلم وانزل عَلَيْهِ، فَجَاءَ هانئا فأخبره أنه شيعة، وأن مَعَهُ مالا وقدم شريك بن الأعور شاكيا، فَقَالَ لهانئ: مر مسلما يكن عندي، فإن عُبَيْد اللَّهِ يعودني، وَقَالَ شريك لمسلم: أرأيتك إن أمكنتك من عُبَيْد اللَّهِ أضاربه أنت بالسيف؟ قَالَ: نعم وَاللَّهِ وجاء عُبَيْد اللَّهِ شريكا يعوده فِي منزل هانئ- وَقَدْ قَالَ شريك لمسلم: إذا سمعتني أقول: اسقوني ماء فاخرج عَلَيْهِ فاضربه- وجلس عُبَيْد اللَّهِ عَلَى فراش شريك، وقام عَلَى رأسه مهران، فَقَالَ: اسقوني ماء، فخرجت جارية بقدح، فرأت مسلما، فزالت، فَقَالَ شريك: اسقوني ماء، ثُمَّ قَالَ الثالثة: ويلكم تحموني الماء! اسقونيه ولو كَانَتْ فِيهِ نفسي، ففطن مهران فغمز عُبَيْد اللَّهِ، فوثب، فَقَالَ شريك: أيها الأمير، إني أريد أن أوصي إليك، قَالَ: أعود إليك، فجعل مهران يطرد بِهِ، وَقَالَ: أراد وَاللَّهِ قتلك، قَالَ: وكيف مع إكرامي شريكا وفي بيت هانئ ويد أبي عنده يد! فرجع فأرسل إِلَى أسماء بن خارجة ومُحَمَّد بن الأشعث فَقَالَ: ائتياني بهانىء، فقالا لَهُ: إنه لا يأتي إلا بالأمان، قَالَ: وما لَهُ وللأمان! وهل أحدث حدثا! انطلقا فإن لم يأت إلا بأمان فآمناه، فأتياه فدعواه، فَقَالَ: إنه إن أخذني قتلني، فلم يزالا بِهِ حَتَّى جاءا بِهِ وعبيد اللَّه يخطب يوم الجمعة، فجلس فِي المسجد، وَقَدْ رجل هانئ

غديرتيه، فلما صلى عُبَيْد اللَّهِ، قَالَ: يَا هانئ، فتبعه، ودخل فسلم، فَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ: يَا هانئ، أما تعلم أن أبي قدم هَذَا البلد فلم يترك أحدا من هَذِهِ الشيعة إلا قتله غير أبيك وغير حجر، وَكَانَ من حجر مَا قَدْ علمت، ثُمَّ لم يزل يحسن صحبتك، ثُمَّ كتب إِلَى أَمِير الْكُوفَة: إن حاجتي قبلك هانئ؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فكان جزائي أن خبأت فِي بيتك رجلا ليقتلني! قَالَ: مَا فعلت، فأخرج التميمي الَّذِي كَانَ عينا عَلَيْهِم، فلما رآه هانئ علم أن قَدْ أخبره الخبر، فَقَالَ: أيها الأمير، قَدْ كَانَ الَّذِي بلغك، ولن أضيع يدك عني، فأنت آمن وأهلك، فسر حَيْثُ شئت. فكبا عُبَيْد اللَّهِ عندها، ومهران قائم عَلَى رأسه فِي يده معكزة، فَقَالَ: وا ذلاه! هَذَا العبد الحائك يؤمنك فِي سلطانك! فَقَالَ: خذه، فطرح المعكزة، وأخذ بضفيرتي هانئ، ثُمَّ أقنع بوجهه، ثُمَّ أخذ عُبَيْد اللَّهِ المعكزة فضرب بِهَا وجه هانئ، وندر الزج، فارتز فِي الجدار، ثُمَّ ضرب وجهه حَتَّى كسر أنفه وجبينه، وسمع الناس الهيعة، وبلغ الخبر مذحج، فأقبلوا، فأطافوا بالدار، وأمر عُبَيْد اللَّهِ بهانىء فألقي فِي بيت، وصيح المذحجيون، وأمر عُبَيْد اللَّهِ مهران أن يدخل عَلَيْهِ شريحا، فخرج، فأدخله عَلَيْهِ، ودخلت الشرط مَعَهُ، فَقَالَ: يَا شريح، قَدْ ترى مَا يصنع بي! قَالَ: أراك حيا، قَالَ: وحي أنا مع مَا ترى! أخبر قومي أَنَّهُمْ إن انصرفوا قتلني، فخرج إِلَى عُبَيْد اللَّهِ فَقَالَ: قَدْ رأيته حيا، ورأيت أثرا سيئا، قَالَ: وتنكر أن يعاقب الوالي رعيته! اخرج إِلَى هَؤُلاءِ فأخبرهم، فخرج، وأمر عُبَيْد اللَّهِ الرجل فخرج مَعَهُ، فَقَالَ لَهُمْ شريح: مَا هَذِهِ الرعة السيئة! الرجل حي، وَقَدْ عاتبه سلطانه بضرب لم يبلغ نفسه، فانصرفوا وَلا تحلوا بأنفسكم وَلا بصاحبكم. فانصرفوا. وذكر هِشَام، عن أبي مخنف، عن المعلى بن كليب، عن أبي الوداك، قَالَ: نزل شريك بن الأعور عَلَى هانئ بن عروة المرادي، وَكَانَ شريك شيعيا، وَقَدْ شهد صفين مع عمار

وسمع مسلم بن عقيل بمجيء عُبَيْد اللَّهِ ومقالته الَّتِي قالها، وما أخذ بِهِ العرفاء والناس، فخرج من دار المختار- وَقَدْ علم بِهِ- حَتَّى انتهى إِلَى دار هانئ بن عروة المرادي، فدخل بابه، وأرسل إِلَيْهِ أن اخرج، فخرج إِلَيْهِ هانئ، فكره هانئ مكانه حين رآه، فَقَالَ لَهُ مسلم: أتيتك لتجيرني وتضيفني، فَقَالَ: رحمك اللَّه! لقد كلفتني شططا، ولولا دخولك داري وثقتك لأحببت ولسألتك أن تخرج عني، غير أنه يأخذني من ذَلِكَ ذمام، وليس مردود مثلي عَلَى مثلك عن جهل، أدخل. فآواه، وأخذت الشيعة تختلف إِلَيْهِ فِي دار هانئ بن عروة، ودعا ابن زياد مولى لَهُ يقال لَهُ معقل، فَقَالَ لَهُ: خذ ثلاثة آلاف درهم، ثُمَّ اطلب مسلم ابن عقيل، واطلب لنا أَصْحَابه، ثُمَّ أعطهم هَذِهِ الثلاثة آلاف، فقل لَهُمُ: استعينوا بِهَا عَلَى حرب عدوكم، وأعلمهم أنك مِنْهُمْ، فإنك لو قَدْ أعطيتها إياهم اطمأنوا إليك، ووثقوا بك، ولم يكتموك شَيْئًا من أخبارهم، ثُمَّ اغد عَلَيْهِم ورح ففعل ذَلِكَ، فَجَاءَ حَتَّى أتى إِلَى مسلم بن عوسجة الأسدي من بني سعد بن ثعلبة فِي المسجد الأعظم وَهُوَ يصلي، وسمع الناس يقولون: إن هَذَا يبايع للحسين، فَجَاءَ فجلس حَتَّى فرغ من صلاته ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْد اللَّهِ، إني امرؤ من أهل الشام، مولى لذي الكلاع، أنعم اللَّه علي بحب أهل هَذَا البيت وحب من أحبهم، فهذه ثلاثة آلاف درهم أردت بِهَا لقاء رجل مِنْهُمْ بلغني أنه قدم الكوفه يبايع لابن بنت رسول الله ص، وكنت أريد لقاءه فلم أجد أحدا يدلني عَلَيْهِ وَلا يعرف مكانه، فإني لجالس آنفا فِي المسجد إذ سمعت نفرا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يقولون: هَذَا رجل لَهُ علم بأهل هَذَا البيت، وإني أتيتك لتقبض هَذَا المال وتدخلني عَلَى صاحبك فأبايعه، وإن شئت أخذت بيعتي لَهُ قبل لقائه، فَقَالَ: أحمد اللَّه عَلَى لقائك إياي، فقد سرني ذَلِكَ لتنال مَا تحب، ولينصر اللَّه بك أهل بيت نبيه، وَلَقَدْ ساءني معرفتك إياي بهذا الأمر من قبل أن ينمى مخافة هَذَا الطاغية وسطوته. فأخذ بيعته قبل أن يبرح، وأخذ عَلَيْهِ المواثيق المغلظة ليناصح

وليكتمن، فأعطاه من ذَلِكَ مَا رضي بِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اختلف إلي أياما فِي منزلي، فأنا طالب لك الإذن عَلَى صاحبك فأخذ يختلف مع الناس، فطلب لَهُ الإذن فمرض هانئ بن عروة، فَجَاءَ عُبَيْد اللَّهِ عائدا لَهُ، فَقَالَ لَهُ عمارة بن عبيد السلولي: إنما جماعتنا وكيدنا قتل هَذَا الطاغية، فقد أمكنك اللَّه مِنْهُ فاقتله، قَالَ هانئ: مَا أحب أن يقتل فِي داري، فخرج فما مكث إلا جمعة حَتَّى مرض شريك بن الأعور- وَكَانَ كريما عَلَى ابن زياد وعلى غيره من الأمراء، وَكَانَ شديد التشيع- فأرسل إِلَيْهِ عُبَيْد اللَّهِ: أني رائح إليك العشية، فَقَالَ لمسلم: إن هَذَا الفاجر عائدي العشية، فإذا جلس فاخرج إِلَيْهِ فاقتله، ثُمَّ اقعد فِي القصر، ليس أحد يحول بينك وبينه، فإن برئت من وجعي هَذَا أيامي هَذِهِ سرت إِلَى الْبَصْرَة وكفيتك أمرها. فلما كَانَ من العشي أقبل عُبَيْد اللَّهِ لعيادة شريك، فقام مسلم بن عقيل ليدخل، وَقَالَ لَهُ شريك: لا يفوتنك إذا جلس، فقام هانئ بن عروة إِلَيْهِ فَقَالَ: إني لا أحب أن يقتل فِي داري- كأنه استقبح ذلك- فجاء عبيد الله ابن زياد فدخل فجلس، فسأل شريكا عن وجعه، وَقَالَ: مَا الَّذِي تجد؟ ومتى أشكيت؟ فلما طال سؤاله إِيَّاهُ، ورأى أن الآخر لا يخرج، خشي أن يفوته، فأخذ يقول: مَا تنتظرون بسلمى أن تحيوها أسقنيها وإن كَانَتْ فِيهَا نفسي، فَقَالَ ذَلِكَ مرتين أو ثلاثا، فَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ، وَلا يفطن مَا شأنه: أترونه يهجر؟ فَقَالَ لَهُ هانئ: نعم أصلحك اللَّه! مَا زال هَذَا ديدنه قبيل عماية الصبح حَتَّى ساعته هَذِهِ ثُمَّ إنه قام فانصرف، فخرج مسلم، فَقَالَ لَهُ شريك: مَا منعك من قتله؟ فَقَالَ: خصلتان: أما إحداهما فكراهة هانئ أن يقتل فِي داره، [وأما الأخرى فحديث حدثه الناس عن النبي ص: أن الإيمان قيد الفتك، وَلا يفتك مؤمن،] فَقَالَ هانئ: أما وَاللَّهِ لو قتلته لقتلت فاسقا فاجرا كافرا غادرا، ولكن كرهت أن يقتل فِي داري ولبث شريك بن الأعور بعد

ذَلِكَ ثلاثا ثُمَّ مات، فخرج ابن زياد فصلى عَلَيْهِ، وبلغ عُبَيْد اللَّهِ بعد مَا قتل مسلما وهانئا أن ذَلِكَ الَّذِي كنت سمعت من شريك فِي مرضه إنما كَانَ يحرض مسلما، ويأمره بالخروج إليك ليقتلك، فَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ: وَاللَّهِ لا أصلي عَلَى جنازة رجل من اهل العراق ابدا، وو الله لولا أن قبر زياد فِيهِمْ لنبشت شريكا. ثُمَّ إن معقلا مولى ابن زياد الَّذِي دسه بالمال إِلَى ابن عقيل وأَصْحَابه، اختلف إِلَى مسلم بن عوسجة أياما ليدخله عَلَى ابن عقيل، فأقبل بِهِ حَتَّى أدخله عَلَيْهِ بعد موت شريك بن الأعور، فأخبره خبره كله، فأخذ ابن عقيل بيعته، وأمر أبا ثمامة الصائدي، فقبض ماله الَّذِي جَاءَ بِهِ- وَهُوَ الَّذِي كَانَ يقبض أموالهم، وما يعين بِهِ بعضهم بعضا، يشتري لَهُمُ السلاح، وَكَانَ بِهِ بصيرا، وَكَانَ من فرسان العرب ووجوه الشيعة- وأقبل ذَلِكَ الرجل يختلف إِلَيْهِم، فهو أول داخل وآخر خارج، يسمع أخبارهم، ويعلم أسرارهم، ثُمَّ ينطلق بِهَا حَتَّى يقرها فِي أذن ابن زياد قَالَ: وَكَانَ هانئ يغدو ويروح إِلَى عُبَيْد اللَّهِ، فلما نزل بِهِ مسلم انقطع من الاختلاف وتمارض، فجعل لا يخرج، فَقَالَ ابن زياد لجلسائه: ما لي لا أَرَى هانئا! فَقَالُوا: هُوَ شاك، فَقَالَ: لو علمت بمرضه لعدته! قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي الْمُجَالِد بن سَعِيدٍ، قَالَ: دعا عُبَيْد اللَّهِ مُحَمَّد بن الأشعث وأسماء بن خارجة. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الْحَسَن بن عُقْبَةَ المرادي أنه بعث مَعَهُمَا عَمْرو بن الحجاج الزبيدي. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي نمير بن وعلة، عن أبي الوداك، قَالَ: كَانَتْ روعة أخت عَمْرو بن الحجاج تحت هانئ بن عروة، وَهِيَ أم يَحْيَى بن هانئ فَقَالَ لَهُمْ: مَا يمنع هانئ بن عروة من إتياننا؟ قَالُوا: مَا ندري أصلحك اللَّه!

وإنه ليتشكى، قَالَ: قَدْ بلغني أنه قَدْ برأ، وَهُوَ يجلس عَلَى باب داره، فالقوه، فمروه الا يدع مَا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ من الحق، فإني لا أحب أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب فأتوه حَتَّى وقفوا عَلَيْهِ عشية وَهُوَ جالس عَلَى بابه، فَقَالُوا: مَا يمنعك من لقاء الأمير، فإنه قَدْ ذكرك، وَقَدْ قَالَ: لو أعلم أنه شاك لعدته؟ فَقَالَ لَهُمُ: الشكوى تمنعني، فَقَالُوا لَهُ: يبلغه أنك تجلس كل عشية عَلَى باب دارك، وَقَدِ استبطأك، والإبطاء والجفاء لا يحتمله السلطان، أقسمنا عَلَيْك لما ركبت معنا! فدعا بثيابه فلبسها، ثُمَّ دعا ببغلة فركبها حَتَّى إذا دنا من القصر، كأن نفسه أحست ببعض الذى كان، فقال لحسان ابن أسماء بن خارجه: يا بن أخي، إني وَاللَّهِ لهذا الرجل لخائف، فما ترى؟ قَالَ: أي عم، وَاللَّهِ مَا أتخوف عَلَيْك شَيْئًا، ولم تجعل عَلَى نفسك سبيلا وأنت بريء؟ وزعموا أن أسماء لم يعلم فِي أي شَيْء بعث إِلَيْهِ عُبَيْد اللَّهِ، فأما مُحَمَّد فقد علم بِهِ، فدخل القوم عَلَى ابن زياد، ودخل معهم، فلما طلع قَالَ عُبَيْد اللَّهِ: أتتك بحائن رجلاه! وَقَدْ عرس عُبَيْد اللَّهِ إذ ذاك بأم نافع ابنة عمارة بن عُقْبَةَ، فلما دنا من ابن زياد وعنده شريح القاضي التفت نحوه، فَقَالَ: أريد حباءه ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد وَقَدْ كَانَ لَهُ أول مَا قدم مكرما ملطفا، فَقَالَ لَهُ هانئ: وما ذاك أيها الأمير؟ قَالَ: إيه يَا هانئ بن عروة! مَا هَذِهِ الأمور الَّتِي تربص فِي دورك لأمير الْمُؤْمِنِينَ وعامة الْمُسْلِمِينَ! جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك، وجمعت لَهُ السلاح والرجال فِي الدور حولك، وظننت أن ذَلِكَ يخفى علي لك! قَالَ: مَا فعلت، وما مسلم عندي، قَالَ: بلى قَدْ فعلت، قَالَ: مَا فعلت، قَالَ: بلى، فلما كثر ذَلِكَ بينهما، وأبى هانئ إلا مجاحدته ومناكرته، دعا ابن زياد معقلا ذَلِكَ العين، فَجَاءَ حَتَّى وقف بين يديه فَقَالَ: أتعرف هَذَا؟ قَالَ: نعم، وعلم هانئ عِنْدَ ذَلِكَ أنه كَانَ عينا عَلَيْهِم، وأنه قَدْ أتاه باخبارهم،

فسقط فِي خلده ساعة ثُمَّ إن نفسه راجعته، فَقَالَ لَهُ: اسمع مني، وصدق مقالتي، فو الله لا أكذبك، وَاللَّهِ الَّذِي لا إله غيره مَا دعوته إِلَى منزلي، وَلا علمت بشيء من أمره، حَتَّى رأيته جالسا عَلَى بابي، فسألني النزول علي، فاستحييت من رده، ودخلني من ذَلِكَ ذمام، فأدخلته داري وضفته وآويته، وَقَدْ كَانَ من أمره الَّذِي بلغك، فإن شئت أعطيت الآن موثقا مغلظا وما تطمئن اليه الا أبغيك سوءا، وإن شئت أعطيتك رهينة تكون فِي يدك حَتَّى آتيك، وأنطلق إِلَيْهِ فأمره أن يخرج من داري إِلَى حَيْثُ شاء من الأرض، فأخرج من ذمامه وجواره، فَقَالَ: لا وَاللَّهِ لا تفارقني أبدا حَتَّى تأتيني به، فقال: لا، والله لا أجيئك أبدا، أنا أجيئك بضيفي تقتله! قَالَ: وَاللَّهِ لتأتيني بِهِ، قَالَ: وَاللَّهِ لا آتيك بِهِ. فلما كثر الكلام بينهما قام مسلم بن عَمْرو الباهلي- وليس بالكوفة شامي وَلا بصري غيره- فَقَالَ: أصلح اللَّه الأمير! خلني وإياه حَتَّى أكلمه، لما رَأَى لجاجته وتأبيه عَلَى ابن زياد أن يدفع إِلَيْهِ مسلما، فَقَالَ لهانئ: قم الى هاهنا حَتَّى أكلمك، فقام فخلا بِهِ ناحية من ابن زياد، وهما مِنْهُ عَلَى ذَلِكَ قريب حَيْثُ يراهما، إذا رفعا أصواتهما سمع مَا يقولان، وإذا خفضا خفي عَلَيْهِ مَا يقولان، فَقَالَ لَهُ مسلم: يَا هانئ، إني أنشدك اللَّه أن تقتل نفسك، وتدخل البلاء عَلَى قومك وعشيرتك! فو الله إني لأنفس بك عن القتل، وَهُوَ يرى أن عشيرته ستحرك فِي شأنه أن هَذَا الرجل ابن عم القوم، وليسوا قاتليه وَلا ضائريه، فادفعه إِلَيْهِ فإنه ليس عَلَيْك بِذَلِكَ مخزاة وَلا منقصة، إنما تدفعه إِلَى السلطان، قَالَ: بلى، وَاللَّهِ إن علي فِي ذَلِكَ للخزي والعار، أنا أدفع جاري وضيفي وأنا حي صحيح أسمع وأرى، شديد الساعد، كثير الأعوان! وَاللَّهِ لو لم أكن إلا واحدا ليس لي ناصر لم أدفعه حَتَّى أموت دونه. فأخذ يناشده وَهُوَ يقول: وَاللَّهِ لا أدفعه إِلَيْهِ أبدا، فسمع ابن زياد ذَلِكَ، فَقَالَ: أدنوه مني، فأدنوه مِنْهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لتأتيني بِهِ أو لأضربن عنقك،

قَالَ: إذا تكثر البارقة حول دارك، فَقَالَ: والهفا عليك! أبا لبارقه تخوفني! وَهُوَ يظن أن عشيرته سيمنعونه، فَقَالَ ابن زياد: أدنوه مني، فأدني، فاستعرض وجهه بالقضيب، فلم يزل يضرب أنفه وجبينه وخده حَتَّى كسر أنفه، وسيل الدماء عَلَى ثيابه، ونثر لحم خديه وجبينه عَلَى لحيته حَتَّى كسر القضيب، وضرب هانئ بيده إِلَى قائم سيف شرطي من تِلَكَ الرجال، وجابذه الرجل ومنع، فقال عبيد الله: احروري سائر الْيَوْم! أحللت بنفسك، قَدْ حل لنا قتلك، خذوه فألقوه فِي بيت من بيوت الدار، وأغلقوا عَلَيْهِ بابه، واجعلوا عَلَيْهِ حرسا، ففعل ذلك به، فقام اليه أسماء ابن خارجة فَقَالَ: أرسل غدر سائر الْيَوْم! أمرتنا أن نجيئك بالرجل حَتَّى إذا جئناك بِهِ وأدخلناه عَلَيْك هشمت وجهه، وسيلت دمه عَلَى لحيته، وزعمت أنك تقتله! فَقَالَ لَهُ عُبَيْد الله: وانك لهاهنا! فأمر بِهِ فلهز وتعتع بِهِ، ثُمَّ ترك فحبس. وأما مُحَمَّد بن الأشعث فَقَالَ: قَدْ رضينا بِمَا رَأَى الأمير، لنا كَانَ أم علينا، إنما الأمير مؤدب وبلغ عَمْرو بن الحجاج أن هانئا قَدْ قتل، فأقبل فِي مذحج حَتَّى أحاط بالقصر وَمَعَهُ جمع عظيم، ثُمَّ نادى: أنا عَمْرو بن الحجاج، هَذِهِ فرسان مذحج ووجوهها، لم تخلع طاعه، ولم تفارق جماعة، وَقَدْ بلغهم أن صاحبهم يقتل، فأعظموا ذَلِكَ، فقيل لعبيد اللَّه: هَذِهِ مذحج بالباب، فَقَالَ لشريح القاضي: ادخل عَلَى صاحبهم فانظر إِلَيْهِ، ثُمَّ اخرج فأعلمهم أنه حي لم يقتل، وأنك قَدْ رأيته، فدخل إِلَيْهِ شريح فنظر إِلَيْهِ. فَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي الصَّقْعَبُ بْنُ زُهَيْرٍ، عَنْ عبد الرَّحْمَن بن شريح، قَالَ: سمعته يحدث إِسْمَاعِيل بن طَلْحَة، قَالَ: دخلت عَلَى هانئ، فلما رآني قَالَ: يَا لله يا للمسلمين! اهلكت عشيرتي؟ فأين أهل الدين! وأين أهل المصر! تفاقدوا! يخلوني، وعدوهم وابن عدوهم! والدماء

تسيل عَلَى لحيته، إذ سمع الرجة عَلَى باب القصر، وخرجت واتبعني، فَقَالَ: يَا شريح، إني لأظنها أصوات مذحج وشيعتي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، إن دخل علي عشرة نفر أنقذوني، قَالَ: فخرجت إِلَيْهِم ومعي حميد بن بكير الأحمري- أرسله معي ابن زياد، وَكَانَ من شرطه ممن يقوم عَلَى رأسه- وايم اللَّه لولا مكانه معي لكنت أبلغت أَصْحَابه مَا أمرني بِهِ، فلما خرجت إِلَيْهِم قلت: إن الأمير لما بلغه مكانكم ومقالتكم فِي صاحبكم أمرني بالدخول إِلَيْهِ، فأتيته فنظرت إِلَيْهِ، فأمرني أن ألقاكم، وأن أعلمكم أنه حي، وأن الَّذِي بلغكم من قتله كَانَ باطلا فَقَالَ عَمْرو واصحابه: فاما إذ لم يقتل فالحمد لِلَّهِ، ثُمَّ انصرفوا. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الحجاج بن علي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بشر الهمداني، قَالَ: لما ضرب عُبَيْد اللَّهِ هانئا وحبسه خشي أن يثب الناس بِهِ، فخرج فصعد الْمِنْبَر وَمَعَهُ أشراف الناس وشرطه وحشمه، فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فاعتصموا بطاعة اللَّه وطاعة أئمتكم، وَلا تختلفوا وَلا تفرقوا فتهلكوا وتذلوا وتقتلوا وتجفوا وتحرموا، إن أخاك من صدقك، وَقَدْ أعذر من أنذر قَالَ: ثُمَّ ذهب لينزل، فما نزل عن الْمِنْبَر حَتَّى دخلت النظارة المسجد من قبل التمارين يشتدون ويقولون: قَدْ جَاءَ ابن عقيل! قَدْ جَاءَ ابن عقيل! فدخل عُبَيْد اللَّهِ القصر مسرعا، وأغلق أبوابه. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي يُوسُف بن يَزِيدَ، عن عَبْد اللَّهِ بن خازم، قَالَ: أنا وَاللَّهِ رسول ابن عقيل إِلَى القصر لأنظر إِلَى مَا صار أمر هانئ، قَالَ: فلما ضرب وحبس ركبت فرسي وكنت أول أهل الدار دخل عَلَى مسلم بن عقيل بالخبر، وإذا نسوة لمراد مجتمعات ينادين: يَا عثرتاه! يَا ثكلاه! فدخلت عَلَى مسلم بن عقيل بالخبر، فأمرني أن أنادي فِي أَصْحَابه وَقَدْ ملأ مِنْهُمُ الدور حوله، وَقَدْ بايعه ثمانية عشر ألفا، وفي الدور أربعة آلاف رجل، فَقَالَ لي: ناد: يَا منصور أمت، فناديت: يَا منصور أمت، وتنادى أهل الْكُوفَة

فاجتمعوا إِلَيْهِ، فعقد مسلم لعبيد اللَّه بن عمرو بن عزيز الكندي عَلَى ربع كندة وربيعة، وَقَالَ: سر أمامي فِي الخيل، ثُمَّ عقد لمسلم بن عوسجة الأسدي عَلَى ربع مذحج وأسد، وَقَالَ: انزل فِي الرجال فأنت عَلَيْهِم، وعقد لأبي ثمامة الصائدي عَلَى ربع تميم وهمدان، وعقد لعباس بن جعدة الجدلي عَلَى ربع الْمَدِينَة، ثُمَّ أقبل نحو القصر، فلما بلغ ابن زياد إقباله تحرز فِي القصر، وغلق الأبواب قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي يونس بن أبي إِسْحَاق، عن عباس الجدلي قَالَ: خرجنا مع ابن عقيل أربعة آلاف، فما بلغنا القصر الا ونحن ثلاثمائة. قَالَ: وأقبل مسلم يسير فِي الناس من مراد حَتَّى أحاط بالقصر، ثُمَّ إن الناس تداعوا إلينا واجتمعوا، فو الله مَا لبثنا إلا قليلا حَتَّى امتلأ المسجد مِنَ النَّاسِ والسوق، وما زالوا يثوبون حَتَّى المساء، فضاق بعبيد اللَّه ذرعه، وَكَانَ كبر أمره أن يتمسك بباب القصر، وليس مَعَهُ إلا ثلاثون رجلا من الشرط وعشرون رجلا من أشراف الناس وأهل بيته ومواليه، وأقبل أشراف الناس يأتون ابن زياد من قبل الباب الَّذِي يلي دار الروميين، وجعل من بالقصر مع ابن زياد يشرفون عَلَيْهِم، فينظرون إِلَيْهِم فيتقون أن يرموهم بالحجارة، وأن يشتموهم وهم لا يفترون عَلَى عُبَيْد اللَّهِ وعلى أَبِيهِ ودعا عُبَيْد اللَّهِ كثير بن شهاب ابن الحصين الحارثي فأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج، فيسير بالكوفة، ويخذل الناس عن ابن عقيل ويخوفهم الحرب، ويحذرهم عقوبة السلطان، وأمر مُحَمَّد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت، فيرفع راية أمان لمن جاءه مِنَ النَّاسِ، وَقَالَ مثل ذَلِكَ للقعقاع بن شور الذهلي وشبث بن ربعي التميمي وحجار بن أبجر العجلي وشمر بن ذي الجوشن العامري، وحبس سائر وجوه الناس عنده استيحاشا إِلَيْهِم لقلة عدد من مَعَهُ مِنَ النَّاسِ، وخرج كثير بن شهاب يخذل الناس عن ابن عقيل. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي أَبُو جناب الكلبي أن كثيرا ألفى رجلا من

كلب يقال لَهُ عبد الأعلى بن يَزِيدَ، قَدْ لبس سلاحه يريد ابن عقيل فِي بني فتيان، فأخذه حَتَّى أدخله عَلَى ابن زياد، فأخبره خبره، فَقَالَ لابن زياد: إنما أردتك، قَالَ: وكنت وعدتني ذَلِكَ من نفسك، فأمر بِهِ فحبس، وخرج مُحَمَّد بن الأشعث حَتَّى وقف عِنْدَ دور بني عمارة، وجاءه عمارة بن صلخب الأَزْدِيّ وَهُوَ يريد ابن عقيل، عَلَيْهِ سلاحه، فأخذه فبعث بِهِ إِلَى ابن زياد فحبسه، فبعث ابن عقيل إِلَى مُحَمَّد بن الأشعث من المسجد عبد الرَّحْمَن ابن شريح الشبامي، فلما رَأَى مُحَمَّد بن الأشعث كثرة من أتاه، أخذ يتنحى ويتأخر، وأرسل القعقاع بن شور الذهلي إِلَى مُحَمَّد بن الأشعث: قَدْ جلت عَلَى ابن عقيل من العرار، فتأخر عن موقفه، فأقبل حَتَّى دخل عَلَى ابن زياد من قبل دار الروميين، فلما اجتمع عِنْدَ عُبَيْد اللَّهِ كثير بن شهاب ومُحَمَّد والقعقاع فيمن أطاعهم من قومهم، قال لَهُ كثير- وكانوا مناصحين لابن زياد: أصلح اللَّه الأمير! معك فِي القصر ناس كثير من أشراف الناس ومن شرطك وأهل بيتك ومواليك، فاخرج بنا إِلَيْهِم، فأبى عُبَيْد اللَّهِ، وعقد لشبث بن ربعي لواء، فأخرجه، وأقام الناس مع ابن عقيل يكبرون ويثوبون حَتَّى المساء، وأمرهم شديد، فبعث عُبَيْد اللَّهِ إِلَى الأشراف فجمعهم إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أشرفوا عَلَى الناس فمنوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة، وخوفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة، وأعلموهم فصول الجنود من الشام إِلَيْهِم. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي راشد، عن عَبْد اللَّهِ بن خازم الكثيري من الأزد، من بني كثير، قَالَ: أشرف علينا الأشراف، فتكلم كثير بن شهاب أول الناس حَتَّى كادت الشمس أن تجب، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، الحقوا بأهاليكم، وَلا تعجلوا الشر، وَلا تعرضوا أنفسكم للقتل، فإن هَذِهِ جنود أَمِير الْمُؤْمِنِينَ يَزِيد قَدْ أقبلت، وَقَدْ أعطى اللَّه الأمير عهدا: لَئِنْ أتممتم عَلَى حربه ولم تنصرفوا من عشيتكم أن يحرم ذريتكم العطاء، ويفرق مقاتلتكم فِي مغازي أهل الشام عَلَى غير طمع، وأن يأخذ البريء بالسقيم، والشاهد بالغائب، حَتَّى لا يبقى لَهُ فيكم بقية من أهل المعصية إلا أذاقها وبال

مَا جرت أيديها، وتكلم الأشراف بنحو من كلام هَذَا، فلما سمع مقالتهم الناس أخذوا يتفرقون، وأخذوا ينصرفون. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي الْمُجَالِد بن سَعِيد، أن المرأة كَانَتْ تأتي ابنها أو أخاها فتقول: انصرف، الناس يكفونك، ويجيء الرجل إِلَى ابنه أو أخيه فيقول: غدا يأتيك أهل الشام، فما تصنع بالحرب والشر! انصرف فيذهب بِهِ، فما زالوا يتفرقون ويتصدعون حَتَّى أمسى ابن عقيل وما مَعَهُ ثلاثون نفسا فلما رَأَى إنه قَدْ أمسى وليس مَعَهُ إلا أُولَئِكَ النفر خرج متوجها نحو أبواب كندة، وبلغ الأبواب وَمَعَهُ مِنْهُمْ عشرة، ثُمَّ خرج من الباب وإذا ليس مَعَهُ إنسان، والتفت فإذا هُوَ لا يحس أحدا يدله عَلَى الطريق، وَلا يدله عَلَى منزل وَلا يواسيه بنفسه إن عرض لَهُ عدو، فمضى عَلَى وجهه يتلدد فِي أزقة الْكُوفَة لا يدري أين يذهب! حَتَّى خرج إِلَى دور بني جبلة من كندة، فمشى حَتَّى انتهى إِلَى باب امرأة يقال لها طوعة- أم ولد كَانَتْ للأشعث بن قيس، فأعتقها، فتزوجها أسيد الحضرمي فولدت لَهُ بلالا، وَكَانَ بلال، قَدْ خرج مع الناس وأمه قائمة تنتظره- فسلم عَلَيْهَا ابن عقيل، فردت عَلَيْهِ، فَقَالَ لها: يَا أمة اللَّه، اسقيني ماء، فدخلت فسقته، فجلس وأدخلت الإناء، ثُمَّ خرجت فَقَالَتْ: يَا عَبْد اللَّهِ ألم تشرب! قَالَ: بلى، قالت: فاذهب إِلَى أهلك، فسكت، ثُمَّ عادت فَقَالَتْ مثل ذَلِكَ، فسكت، ثُمَّ قالت له: في الله، سبحان اللَّه يَا عَبْد اللَّهِ! فمر إِلَى أهلك عافاك اللَّه، فإنه لا يصلح لك الجلوس عَلَى بابي، وَلا أحله لك، فقام فَقَالَ: يَا أمة اللَّه، مَا لي فِي هَذَا المصر منزل وَلا عشيرة، فهل لك إِلَى أجر ومعروف، ولعلي مكافئك بِهِ بعد الْيَوْم! فَقَالَتْ: يَا عَبْد اللَّهِ، وما ذاك؟ قَالَ: أنا مسلم بن عقيل، كذبني هَؤُلاءِ القوم وغروني، قالت: أنت مسلم! قَالَ: نعم قالت: ادخل، فأدخلته بيتا فِي دارها غير البيت الَّذِي تكون فِيهِ، وفرشت لَهُ، وعرضت عَلَيْهِ العشاء فلم يتعش، ولم يكن بأسرع من أن جَاءَ ابنها فرآها تكثر الدخول فِي البيت والخروج مِنْهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إنه

ليريبني كثرة دخولك هَذَا البيت منذ الليلة وخروجك مِنْهُ! إن لك لشأنا، قالت: يَا بني، اله عن هَذَا، قَالَ لها: وَاللَّهِ لتخبرني: قالت: أقبل عَلَى شأنك وَلا تسألني عن شَيْء، فألح عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: يَا بني، لا تحدثن أحدا مِنَ النَّاسِ بِمَا أخبرك بِهِ، وأخذت عَلَيْهِ الأيمان، فحلف لها، فأخبرته، فاضطجع وسكت- وزعموا أنه قَدْ كَانَ شريدا مِنَ النَّاسِ وَقَالَ بعضهم: كَانَ يشرب مع أَصْحَاب لَهُ- ولما طال عَلَى ابن زياد، وأخذ لا يسمع لأَصْحَاب ابن عقيل صوتا كما كَانَ يسمعه قبل ذَلِكَ قَالَ لأَصْحَابه: أشرفوا فانظروا هل ترون مِنْهُمْ أحدا! فأشرفوا فلم يروا أحدا، قَالَ: فانظروا لعلهم تحت الظلال قَدْ كمنوا لكم، ففرعوا بحابح المسجد، وجعلوا يخفضون شعل النار فِي أيديهم، ثُمَّ ينظرون: هل فِي الظلال أحد؟ وكانت أحيانا تضيء لَهُمْ، وأحيانا لا تضيء لَهُمْ كما يريدون، فدلوا القناديل وأنصاف الطنان تشد بالحبال، ثُمَّ تجعل فِيهَا النيران، ثُمَّ تدلى، حَتَّى تنتهي إِلَى الأرض ففعلوا ذَلِكَ فِي أقصى الظلال وأدناها وأوسطها حَتَّى فعلوا ذَلِكَ بالظلة الَّتِي فِيهَا الْمِنْبَر، فلما لم يروا شَيْئًا أعلموا ابن زياد، ففتح باب السدة الَّتِي فِي المسجد ثُمَّ خرج فصعد الْمِنْبَر، وخرج أَصْحَابه مَعَهُ، فأمرهم فجلسوا حوله قبيل العتمة، وأمر عَمْرو بن نافع فنادى: أَلا برئت الذمة من رجل من الشرطة والعرفاء أو المناكب أو المقاتلة صلى العتمة إلا فِي المسجد، فلم يكن لَهُ إلا ساعة حَتَّى امتلأ المسجد مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ أمر مناديه فأقام الصَّلاة، فَقَالَ الحصين بن تميم: إن شئت صليت بِالنَّاسِ، أو يصلي بهم غيرك، ودخلت أنت فصليت فِي القصر، فإني لا آمن أن يغتالك بعض أعدائك! فَقَالَ: مر حرسي فليقوموا ورائي كما كَانُوا يقفون، ودر فِيهِمْ فإني لست بداخل إذا. فصلى بِالنَّاسِ، ثُمَّ قام فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن ابن عقيل السفيه الجاهل، قَدْ أتى مَا قَدْ رأيتم من الخلاف والشقاق، فبرئت ذمة اللَّه من رجل وجدناه فِي داره، ومن جَاءَ بِهِ فله ديته اتقوا اللَّه عباد اللَّه، والزموا طاعتكم وبيعتكم، وَلا تجعلوا عَلَى أنفسكم سبيلا يَا حصين

ابن تميم، ثكلتك أمك إن صاح باب سكة من سكك الْكُوفَة، أو خرج هَذَا الرجل ولم تأتني بِهِ، وَقَدْ سلطتك عَلَى دور أهل الْكُوفَة، فابعث مراصدة عَلَى أفواه السكك، وأصبح غدا واستبر الدور وجس خلالها حَتَّى تأتيني بهذا الرجل- وَكَانَ الحصين عَلَى شرطه، وَهُوَ من بني تميم- ثُمَّ نزل ابن زياد فدخل وَقَدْ عقد لعمرو بن حريث راية وأمره عَلَى الناس، فلما أصبح جلس مجلسه وأذن لِلنَّاسِ فدخلوا عَلَيْهِ، وأقبل مُحَمَّد بن الأشعث فَقَالَ: مرحبا بمن لا يستغش ولايتهم! ثُمَّ أقعده إِلَى جنبه، وأصبح ابن تِلَكَ العجوز وَهُوَ بلال بن أسيد الَّذِي آوت أمه ابن عقيل، فغدا إِلَى عبد الرَّحْمَن بن محمد ابن الأشعث فأخبره بمكان ابن عقيل عِنْدَ أمه، قَالَ: فأقبل عبد الرَّحْمَن حَتَّى أتى أباه وَهُوَ عِنْدَ ابن زياد، فساره، فَقَالَ لَهُ ابن زياد: مَا قَالَ لك؟ قَالَ: أَخْبَرَنِي أن ابن عقيل فِي دار من دورنا، فنخس بالقضيب فِي جنبه ثُمَّ قَالَ: قم فأتني بِهِ الساعة. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي قدامة بن سَعِيد بن زائدة بن قدامة الثقفي، أن ابن الأشعث حين قام ليأتيه بابن عقيل بعث إِلَى عَمْرو بن حريث وَهُوَ فِي المسجد خليفته عَلَى الناس، أن ابعث مع ابن الأشعث ستين أو سبعين رجلا كلهم من قيس- وإنما كره أن يبعث مَعَهُ قومه لأنه قَدْ علم أن كل قوم يكرهون أن يصادف فِيهِمْ مثل ابن عقيل- فبعث مَعَهُ عَمْرو بن عُبَيْد اللَّهِ بن عباس السلمي فِي ستين أو سبعين من قيس، حَتَّى أتوا الدار الَّتِي فِيهَا ابن عقيل، فلما سمع وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال عرف أنه قَدْ أتي، فخرج إِلَيْهِم بسيفه، واقتحموا عَلَيْهِ الدار، فشد عَلَيْهِم يضربهم بسيفه حَتَّى أخرجهم من الدار، ثُمَّ عادوا إِلَيْهِ، فشد عَلَيْهِم كذلك، فاختلف هُوَ وبكير بن حمران الأحمري ضربتين، فضرب بكير فم مسلم فقطع شفته العليا، وأشرع السيف فِي السفلى، ونصلت لها ثنيتاه، فضربه مسلم ضربة فِي رأسه منكرة، وثنى بأخرى عَلَى حبل العاتق كادت تطلع عَلَى جوفه فلما رأوا ذَلِكَ أشرفوا عَلَيْهِ من فوق ظهر البيت، فأخذوا يرمونه بالحجارة، ويلهبون النار فِي أطنان القصب، ثُمَّ يقلبونها عَلَيْهِ من فوق

البيت، فلما رَأَى ذَلِكَ خرج عَلَيْهِم مصلتا بسيفه فِي السكة فقاتلهم، فأقبل عَلَيْهِ مُحَمَّد بن الأشعث فَقَالَ: يَا فتى، لك الأمان، لا تقتل نفسك، فأقبل يقاتلهم، وَهُوَ يقول: أقسمت لا أقتل إلا حرا ... وإن رأيت الموت شَيْئًا نكرا كل امرئ يَوْمًا ملاق شرا ... ويخلط البارد سخنا مرا رد شعاع الشمس فاستقر ... أخاف أن أكذب أو أغرا فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد بن الأشعث: إنك لا تكذب وَلا تخدع وَلا تغر، إن القوم بنو عمك، وليسوا بقاتليك وَلا ضاربيك، وَقَدْ أثخن بالحجارة، وعجز عن القتال وانبهر، فأسند ظهره إِلَى جنب تلك الدار، فدنا محمد ابن الأشعث فَقَالَ: لك الأمان، فَقَالَ: آمن أنا؟ قَالَ: نعم، وَقَالَ القوم: أنت آمن، غير عَمْرو بن عُبَيْد اللَّهِ بن العباس السلمي فإنه قَالَ: لا ناقة لي فِي هَذَا وَلا جمل، وتنحى. وَقَالَ ابن عقيل: أما لو لم تؤمنوني مَا وضعت يدي فِي أيديكم وأتي ببغلة فحمل عَلَيْهَا، واجتمعوا حوله، وانتزعوا سيفه من عنقه، فكأنه عِنْدَ ذَلِكَ آيس من نفسه، فدمعت عيناه، ثُمَّ قَالَ: هذا أول الغدر، قال محمد ابن الاشعث: أرجو الا يكون عَلَيْك بأس، قَالَ: مَا هُوَ إلا الرجاء، أين أمانكم! إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! وبكى، فَقَالَ لَهُ عَمْرو بن عُبَيْد اللَّهِ بن عباس: إن من يطلب مثل الَّذِي تطلب إذا نزل بِهِ مثل الَّذِي نزل بك لم يبك، قَالَ: إني وَاللَّهِ مَا لنفسي أبكي، وَلا لها من القتل أرثي، وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفا، ولكن أبكي لأهلي المقبلين إلي، أبكي لحسين وآل حُسَيْن! ثُمَّ أقبل عَلَى مُحَمَّد بن الأشعث فَقَالَ: يَا عَبْد اللَّهِ، إني أراك وَاللَّهِ ستعجز عن أماني، فهل عندك خير! تستطيع أن تبعث من عندك رجلا عَلَى لساني يبلغ حسينا، فإني لا أراه إلا قَدْ خرج إليكم الْيَوْم مقبلا، او هو خرج غدا هُوَ وأهل بيته، وإن مَا ترى من جزعي لذلك،

فيقول: إن ابن عقيل بعثني إليك، وَهُوَ فِي أيدي القوم أسير لا يرى أن تمشي حَتَّى تقتل، وَهُوَ يقول: ارجع بأهل بيتك، وَلا يغرك أهل الْكُوفَة فإنهم أَصْحَاب أبيك الَّذِي كَانَ يتمنى فراقهم بالموت أو القتل، إن أهل الْكُوفَة قَدْ كذبوك وكذبوني، وليس لمكذب رأي، فَقَالَ ابن الأشعث: وَاللَّهِ لأفعلن، ولأعلمن ابن زياد أني قَدْ أمنتك قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي جَعْفَر بن حُذَيْفَة الطائي- وقد عرف سعيد ابن شيبان الحديث- قَالَ: دعا مُحَمَّد بن الأشعث إياس بن العثل الطَّائِيّ من بني مالك ابن عَمْرو بن ثمامة، وَكَانَ شاعرا، وَكَانَ لمُحَمَّد زوارا، فَقَالَ لَهُ: الق حسينا فأبلغه هَذَا الكتاب، وكتب فِيهِ الَّذِي أمره ابن عقيل، وَقَالَ لَهُ: هَذَا زادك وجهازك، ومتعة لعيالك، فَقَالَ: من أين لي براحلة، فإن راحلتي قَدْ أنضيتها؟ قَالَ: هَذِهِ راحلة فاركبها برحلها ثُمَّ خرج فاستقبله بزبالة لأربع ليال، فأخبره الخبر، وبلغه الرسالة، [فَقَالَ لَهُ حُسَيْن: كل مَا حم نازل، وعند اللَّه نحتسب أنفسنا وفساد أمتنا] . وَقَدْ كَانَ مسلم بن عقيل حَيْثُ تحول إِلَى دار هانئ بن عروة وبايعه ثمانية عشر ألفا، قدم كتابا إِلَى حُسَيْن مع عابس بن أبي شبيب الشاكري: أَمَّا بَعْدُ، فإن الرائد لا يكذب أهله، وَقَدْ بايعني من أهل الْكُوفَة ثمانية عشر ألفا، فعجل الإقبال حين يأتيك كتابي، فإن الناس كلهم معك، ليس لَهُمْ فِي آل مُعَاوِيَة رأي وَلا هوى، والسلام. وأقبل مُحَمَّد بن الأشعث بابن عقيل إِلَى باب القصر، فاستأذن فأذن لَهُ، فأخبر عُبَيْد اللَّهِ خبر ابن عقيل وضرب بكير إِيَّاهُ، فَقَالَ: بعدا لَهُ! فأخبره مُحَمَّد بن الأشعث بِمَا كَانَ مِنْهُ وما كَانَ من أمانه إِيَّاهُ، فَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ: مَا أنت والأمان! كأنا أرسلناك تؤمنه! انما أرسلناك لتأتينا بِهِ، فسكت وانتهى ابن عقيل إِلَى باب القصر وَهُوَ عطشان، وعلى باب القصر ناس جلوس ينتظرون الإذن، مِنْهُمْ عمارة بن عُقْبَةَ بن أبي معيط، وعمرو بن حريث، ومسلم بن عمرو، وكثير بن شهاب. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي قدامة بن سَعْد أن مسلم بن عقيل حين

انتهى إِلَى باب القصر فإذا قلة باردة موضوعة عَلَى الباب، فَقَالَ ابن عقيل: اسقوني من هَذَا الماء، فَقَالَ لَهُ مسلم بن عَمْرو: أتراها مَا أبردها! لا وَاللَّهِ لا تذوق منها قطرة أبدا حَتَّى تذوق الحميم فِي نار جهنم! قَالَ لَهُ ابن عقيل: ويحك! من أنت؟ قَالَ: أنا ابن من عرف الحق إذ أنكرته، ونصح لإمامه إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيته وخالفت، أنا مسلم بن عَمْرو الباهلي، فَقَالَ ابن عقيل: لأمك الثكل! مَا أجفاك، وما أفظك، وأقسى قلبك واغلظك! أنت يا بن باهلة أولى بالحميم والخلود فِي نار جهنم مني، ثُمَّ جلس متساندا إِلَى حائط. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي قدامة بن سَعْد أن عَمْرو بن حريث بعث غلاما يدعى سُلَيْمَان، فجاءه بماء فِي قلة فسقاه. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي سَعِيد بن مدرك بن عمارة، أن عمارة بن عُقْبَةَ بعث غلاما لَهُ يدعى قيسا، فجاءه بقلة عَلَيْهَا منديل وَمَعَهُ قدح فصب فِيهِ ماء، ثُمَّ سقاه، فأخذ كلما شرب امتلأ القدح دما، فلما ملأ القدح المرة الثالثة ذهب ليشرب فسقطت ثنيتاه فِيهِ، فَقَالَ: الحمد لِلَّهِ! لو كَانَ لي من الرزق المقسوم شربته وأدخل مسلم عَلَى ابن زياد فلم يسلم عَلَيْهِ بالإمرة، فَقَالَ لَهُ الحرسي: أَلا تسلم عَلَى الأمير! فَقَالَ لَهُ: إن كَانَ يريد قتلي فما سلامي عَلَيْهِ! وإن كَانَ لا يريد قتلي فلعمري ليكثرن سلامي عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ ابن زياد: لعمري لتقتلن، قَالَ: كذلك؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فدعني أوص إِلَى بعض قومي، فنظر إِلَى جلساء عُبَيْد اللَّهِ وفيهم عُمَر بن سَعْدٍ، فقال: يا عمر، ان بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وَقَدْ يجب لي عَلَيْك نجح حاجتي، وَهُوَ سر، فأبى أن يمكنه من ذكرها، فَقَالَ لَهُ عبيد اللَّهِ: لا تمتنع أن تنظر فِي حاجة ابن عمك، فقام مَعَهُ فجلس حَيْثُ ينظر إِلَيْهِ ابن زياد، فَقَالَ لَهُ: إن علي بالكوفة دينا استدنته منذ قدمت الْكُوفَة، سبعمائة درهم، فاقضها عني، وانظر جثتي فاستوهبها من ابن زياد، فوارها، وابعث إِلَى حُسَيْن من يرده، فإني قَدْ كتبت إِلَيْهِ أعلمه أن الناس مَعَهُ، وَلا

أراه إلا مقبلا، فَقَالَ عمر لابن زياد: أتدري مَا قَالَ لي؟ إنه ذكر كذا وكذا، قَالَ لَهُ ابن زياد: إنه لا يخونك الأمين، ولكن قَدْ يؤتمن الخائن، أما مالك فهو لك، ولسنا نمنعك أن تصنع فِيهِ مَا أحببت، وأما حُسَيْن فإنه إن لم يردنا لم نرده، وإن أرادنا لم نكف عنه، وأما جثته فإنا لن نشفعك فِيهَا، إنه ليس بأهل منا لذلك، قَدْ جاهدنا وخالفنا، وجهد عَلَى هلاكنا. وزعموا أنه قال: اما جثته فانا لا نبالى إذ قتلناه مَا صنع بِهَا ثُمَّ إن ابن زياد قال: ايه يا بن عقيل! أتيت الناس وأمرهم جميع، وكلمتهم واحدة، لتشتتهم، وتفرق كلمتهم، وتحمل بعضهم عَلَى بعض! قَالَ: كلا، لست أتيت، ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم، وسفك دماءهم، وعمل فِيهِمْ أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إِلَى حكم الكتاب، قَالَ: وما أنت وذاك يا فاسق! او لم نكن نعمل بذاك فِيهِمْ إذ أنت بِالْمَدِينَةِ تشرب الخمر! قَالَ: أنا أشرب الخمر! وَاللَّهِ إن اللَّه ليعلم أنك غير صادق، وأنك قلت بغير علم، وأني لست كما ذكرت وان أحق بشرب الخمر مني وأولى بِهَا من يلغ فِي دماء الْمُسْلِمِينَ ولغا، فيقتل النفس الَّتِي حرم اللَّه قتلها، ويقتل النفس بغير النفس، ويسفك الدم الحرام، ويقتل عَلَى الغضب والعداوة وسوء الظن، وَهُوَ يلهو ويلعب كأن لم يصنع شَيْئًا فَقَالَ لَهُ ابن زياد: يَا فاسق، إن نفسك تمنيك مَا حال اللَّه دونه، ولم يرك أهله، قَالَ: فمن اهله يا بن زياد؟ قَالَ: أَمِير الْمُؤْمِنِينَ يَزِيد فَقَالَ: الحمد لِلَّهِ عَلَى كل حال، رضينا بِاللَّهِ حكما بيننا وبينكم، قَالَ: كأنك تظن أن لكم فِي الأمر شَيْئًا! قَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ بالظن، ولكنه اليقين، قَالَ: قتلني اللَّه إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد فِي الإِسْلام! قَالَ: أما إنك أحق من أحدث فِي الإِسْلام مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ، أما إنك لا تدع سوء القتلة، وقبح المثلة، وخبث السيرة، ولؤم الغلبة، وَلا أحد مِنَ النَّاسِ أحق بِهَا مِنْكَ وأقبل ابن سمية يشتمه ويشتم حسينا وعليا وعقيلا، وأخذ مسلم لا يكلمه وزعم أهل العلم أن عُبَيْد اللَّهِ أمر لَهُ بماء فسقي بخزفة، ثُمَّ قَالَ لَهُ: إنه لم يمنعنا أن نسقيك فِيهَا إلا كراهة أن تحرم بالشرب فِيهَا،

ثُمَّ نقتلك، ولذلك سقيناك فِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: اصعدوا بِهِ فوق القصر فاضربوا عنقه، ثم اتبعوا جسده راسه، فقال: يا بن الأشعث، أما وَاللَّهِ لولا أنك آمنتني مَا استسلمت، قم بسيفك دوني فقد أخفرت ذمتك، ثم قال: يا بن زياد، أما وَاللَّهِ لو كَانَتْ بيني وبينك قرابة مَا قتلتني، ثُمَّ قَالَ ابن زياد: أين هَذَا الَّذِي ضرب ابن عقيل رأسه بالسيف وعاتقه؟ فدعي، فَقَالَ: اصعد فكن أنت الَّذِي تضرب عنقه، فصعد بِهِ وَهُوَ يكبر ويستغفر ويصلي عَلَى ملائكة اللَّه ورسله وَهُوَ يقول: اللَّهُمَّ احكم بيننا وبين قوم غرونا وكذبونا وأذلونا وأشرف بِهِ عَلَى موضع الجزارين الْيَوْم، فضربت عنقه، وأتبع جسده رأسه. قَالَ أبو مخنف: حدثني الصقعب بن زهير، عن عون بن أبي جحيفة قَالَ: نزل الأحمري بكير بن حمران الَّذِي قتل مسلما، فَقَالَ لَهُ ابن زياد: قتله؟ قال: نعم، قَالَ: نعم، قَالَ: فما كَانَ يقول وَأَنْتُمْ تصعدون بِهِ؟ قَالَ: كَانَ يكبر ويسبح ويستغفر، فلما أدنيته لأقتله قَالَ: اللَّهُمَّ احكم بيننا وبين قوم كذبونا وغرونا وخذلونا وقتلونا، فقلت له: ادن منى، الحمد لله الَّذِي أقادني مِنْكَ، فضربته ضربة لم تغن شَيْئًا، فَقَالَ أما ترى فِي خدش تخدشنيه وفاء من دمك أيها العبد! فَقَالَ ابن زياد: او فخرا عِنْدَ الموت! قَالَ: ثُمَّ ضربته الثانية فقتلته. قَالَ: وقام مُحَمَّد بن الأشعث إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد فكلمه فِي هانئ بن عروة، وَقَالَ: إنك قَدْ عرفت منزلة هانئ بن عروة فِي المصر، وبيته فِي العشيرة، وَقَدْ علم قومه أني وصاحبي سقناه إليك، فأنشدك اللَّه لما وهبته لي، فإني أكره عداوة قومه، هم أعز أهل المصر، وعدد أهل اليمن! قَالَ: فوعده أن يفعل، فلما كَانَ من أمر مسلم بن عقيل مَا كَانَ، بدا لَهُ فِيهِ، وأبى أن يفي له بما قال. قال: فامر بهانىء بن عروة حين قتل مسلم بن عقيل فقال: اخرجوا الى السوق فاضربوا عنقه، قال: فاخرج بهانىء حَتَّى انتهى إِلَى مكان من

السوق كَانَ يباع فِيهِ الغنم وَهُوَ مكتوف، فجعل يقول: وا مذحجاه! ولا مذحج لي اليوم! وا مذحجاه، وأين مني مذحج! فلما رَأَى أن أحدا لا ينصره جذب يده فنزعها من الكتاف، ثُمَّ قَالَ: أما من عصا أو سكين أو حجر أو عظم يجاحش بِهِ رجل عن نفسه! قَالَ: ووثبوا إِلَيْهِ فشدوه وثاقا، ثُمَّ قيل لَهُ: امدد عنقك، فَقَالَ: مَا أنا بِهَا مجد سخي، وما أنا بمعينكم عَلَى نفسي. قَالَ: فضربه مولى لعبيد اللَّه بن زياد- تركي يقال لَهُ رشيد- بالسيف، فلم يصنع سيفه شَيْئًا، فَقَالَ هانئ: إِلَى اللَّهِ المعاد! اللَّهُمَّ إِلَى رحمتك ورضوانك! ثُمَّ ضربه أخرى فقتله. قَالَ: فبصر بِهِ عبد الرَّحْمَن بن الحصين المرادي بخازر، وَهُوَ مع عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فَقَالَ الناس: هَذَا قاتل هانئ بن عروة، فَقَالَ ابن الحصين: قتلني اللَّه إن لم أقتله أو أقتل دونه! فحمل عَلَيْهِ بالرمح فطعنه فقتله ثُمَّ إن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد لما قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة دعا بعبد الأعلى الكلبي الَّذِي كَانَ أخذه كثير بن شهاب فِي بني فتيان، فأتي بِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَخْبَرَنِي بأمرك، فَقَالَ: أصلحك اللَّه! خرجت لأنظر مَا يصنع الناس، فأخذني كثير بن شهاب، فَقَالَ لَهُ: فعليك وعليك، من الأيمان المغلظة، إن كَانَ أخرجك إلا مَا زعمت! فأبى أن يحلف، فَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ: انطلقوا بهذا إِلَى جبانة السبيع فاضربوا عنقه بِهَا، قَالَ: فانطلق بِهِ فضربت عنقه، قَالَ: وأخرج عمارة بن صلخب الأَزْدِيّ- وَكَانَ ممن يريد أن يأتي مسلم بن عقيل بالنصرة لينصره- فأتي بِهِ أَيْضًا عُبَيْد اللَّهِ فَقَالَ لَهُ: ممن أنت؟ قَالَ: من الأزد. قَالَ: انطلقوا بِهِ إِلَى قومه، فضربت عنقه فِيهِمْ، فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ الأسدي فِي قتلة مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة المرادى- ويقال: قاله الفرزدق: ان كنت لا تدرين مَا الموت فانظري ... إِلَى هانئ فِي السوق وابن عقيل

إِلَى بطل قَدْ هشم السيف وجهه ... وآخر يهوي من طمار قتيل أصابهما أمر الأمير فأصبحا ... أحاديث من يسري بكل سبيل ترى جسدا قَدْ غير الموت لونه ... ونضح دم قَدْ سال كل مسيل فتى هُوَ أحيا من فتاة حيية ... وأقطع من ذي شفرتين صقيل أيركب أسماء الهماليج آمنا ... وَقَدْ طلبته مذحج بذحول! تطيف حواليه مراد وكلهم ... عَلَى رقبه من سائل ومسول فان أنتم لم تثأروا بأخيكمُ ... فكونوا بغايا أرضيت بقليل قَالَ أَبُو مخنف: عن أبي جناب يَحْيَى بن أبي حية الكلبي، قَالَ: ثُمَّ إن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد لما قتل مسلما وهانئا بعث برءوسهما مع هانئ بن أبي حية الوادعي وَالزُّبَيْر بن الأروح التميمي إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، وأمر كاتبه عَمْرو بن نافع أن يكتب إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة بِمَا كَانَ من مسلم وهانئ، فكتب إِلَيْهِ كتابا أطال فِيهِ- وَكَانَ أول من أطال فِي الكتب- فلما نظر فِيهِ عُبَيْد اللَّهِ بن زياد كرهه، وَقَالَ: مَا هَذَا التطويل وهذه الفضول؟ اكتب: أَمَّا بَعْدُ، فالحمد لِلَّهِ الَّذِي أخذ لأمير الْمُؤْمِنِينَ بحقه، وكفاه مؤنة عدوه أخبر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أكرمه اللَّه أن مسلم بن عقيل لجأ إِلَى دار هانئ بن عروة المرادي، وأني جعلت عليهما العيون، ودسست إليهما الرجال، وكدتهما حَتَّى استخرجتهما، وأمكن اللَّه منهما، فقدمتهما فضربت أعناقهما، وَقَدْ بعثت إليك برءوسهما مع هانئ بن أبي حية الهمداني وَالزُّبَيْر بن الأروح التميمي- وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة- فليسألهما أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عما أحب من أمر، فإن عندهما علما وصدقا، وفهما وورعا، والسلام. فكتب إِلَيْهِ يَزِيد: أَمَّا بَعْدُ، فإنك لم تعد أن كنت كما أحب، عملت عمل الحازم، وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش، فقد أغنيت وكفيت، وصدقت ظني بك، ورأيي فيك، وَقَدْ دعوت رسوليك فسألتهما، وناجيتهما

فوجدتهما فِي رأيهما وفضلهما كما ذكرت، فاستوص بهما خيرا، وإنه قَدْ بلغني أن الْحُسَيْن بن علي قَدْ توجه نحو العراق، فضع المناظر والمسالح، واحترس عَلَى الظن، وخذ عَلَى التهمه، غير الا تقتل إلا من قاتلك، واكتب إلي فِي كل مَا يحدث من الخبر، والسلام عَلَيْك ورحمة اللَّه. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الصقعب بن زهير، عن عون بن أبي جحيفة، قَالَ: كَانَ مخرج مسلم بن عقيل بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان ليال مضين من ذي الحجة سنة ستين- ويقال يوم الأربعاء لسبع مضين سنة ستين من يوم عرفة بعد مخرج الْحُسَيْن مِنْ مَكَّةَ مقبلا إِلَى الْكُوفَةِ بيوم- قَالَ: وَكَانَ مخرج الْحُسَيْن مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مكة يوم الأحد لليلتين بقيتا من رجب سنة ستين، ودخل مكة ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان، فأقام بمكة شعبان وشهر رمضان وشوالا وذا القعدة، ثُمَّ خرج منها لثمان مضين من ذي الحجة يوم الثلاثاء يوم التروية فِي الْيَوْم الَّذِي خرج فِيهِ مسلم بن عقيل. وذكر هَارُون بن مسلم، عَنْ عَلِيِّ بْنِ صالح، عن عِيسَى بن يَزِيدَ، أن المختار بن أبي عبيد وعبد اللَّه بن الْحَارِث بن نوفل كانا خرجا مع مسلم، خرج المختار براية خضراء، وخرج عَبْد اللَّهِ براية حمراء، وعليه ثياب حمر، وجاء المختار برايته فركزها عَلَى باب عَمْرو بن حريث، وَقَالَ: إنما خرجت لأمنع عمرا، وإن ابن الأشعث والقعقاع بن شور وشبث بن ربعي قاتلوا مسلما وأَصْحَابه عشية سار مسلم إِلَى قصر ابن زياد قتالا شديدا، وأن شبثا جعل يقول: انتظروا بهم الليل يتفرقوا، فَقَالَ لَهُ القعقاع: إنك قَدْ سددت عَلَى الناس وجه مصيرهم، فافرج لَهُمْ ينسربوا، وإن عُبَيْد اللَّهِ أمر أن يطلب المختار وعبد اللَّه بن الْحَارِث، وجعل فيهما جعلا، فاتى بهما فحبسا.

ذكر مسير الحسين إلى الكوفه

ذكر مسير الحسين الى الكوفه وفي هذه السنه كان خروج الحسين ع مِنْ مَكَّةَ متوجها إِلَى الْكُوفَةِ. ذكر الخبر عن مسيره إِلَيْهَا وما كَانَ من أمره فِي مسيره ذَلِكَ: قَالَ هِشَام عن أبي مخنف: حَدَّثَنِي الصَّقْعَبُ بْنُ زُهَيْرٍ، عَنْ عُمَر بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ المخزومي، قَالَ: لما قدمت كتب أهل العراق إِلَى الْحُسَيْن وتهيأ للمسير إِلَى العراق، أتيته فدخلت عَلَيْهِ وَهُوَ بمكة، فحمدت اللَّه وأثنيت عَلَيْهِ، ثُمَّ قلت: أَمَّا بَعْدُ، فإني أتيتك يا بن عم لحاجة أريد ذكرها لك نصيحة، فإن كنت ترى أنك تستنصحني وإلا كففت عما اريد ان اقول، فقال: قل، فو الله ما اظنك بسيئ الرأي، ولا هو للقبيح من الأمر والفعل، قَالَ: قلت لَهُ: إنه قَدْ بلغني أنك تريد المسير إِلَى العراق، وإني مشفق عَلَيْك من مسيرك، إنك تأتي بلدا فِيهِ عماله وأمراؤه، ومعهم بيوت الأموال، وإنما الناس عبيد لهذا الدرهم والدينار، وَلا آمن عَلَيْك أن يقاتلك من وعدك نصره، ومن أنت أحب إِلَيْهِ ممن يقاتلك مَعَهُ، [فقال الحسين: جزاك الله خيرا يا بن عم، فقد وَاللَّهِ علمت أنك مشيت بنصح، وتكلمت بعقل، ومهما يقض من أمر يكن، أخذت برأيك أو تركته، فأنت عندي أحمد مشير، وأنصح ناصح] . قَالَ: فانصرفت من عنده فدخلت عَلَى الْحَارِث بن خَالِد بن الْعَاصِ بن هِشَام، فسألني: هل لقيت حسينا؟ فقلت له: نعم، قال: فما قَالَ لك، وما قلت لَهُ؟ قَالَ: فقلت لَهُ: قلت كذا وكذا، وَقَالَ كذا وكذا، فَقَالَ: نصحته ورب المروة الشهباء، أما ورب البنية إن الرأي لما رأيته، قبله أو تركه، ثُمَّ قَالَ: رب مستنصح يغش ويردي ... وظنين بالغيب يلفى نصيحا

قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي الْحَارِث بن كعب الوالبي، عن عقبة بن سمعان، أن حسينا لما أجمع المسير إِلَى الْكُوفَةِ أتاه عَبْد الله بن عباس فقال: يا بن عم، إنك قَدْ أرجف الناس إنك سائر إِلَى العراق، فبين لي مَا أنت صانع؟ قَالَ: إني قَدْ أجمعت المسير فِي أحد يومي هَذَيْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى، فَقَالَ لَهُ ابن عَبَّاس: فإني أعيذك بِاللَّهِ من ذَلِكَ، أَخْبَرَنِي رحمك اللَّه! أتسير إِلَى قوم قَدْ قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم، ونفوا عدوهم؟ فإن كَانُوا قَدْ فعلوا ذَلِكَ فسر إِلَيْهِم، وإن كَانُوا إنما دعوك إِلَيْهِم وأميرهم عَلَيْهِم قاهر لَهُمْ، وعماله تجبي بلادهم، فإنهم إنما دعوك إِلَى الحرب والقتال، وَلا آمن عَلَيْك أن يغروك ويكذبوك، ويخالفوك ويخذلوك، وأن يستنفروا إليك فيكونوا أشد الناس عَلَيْك، [فَقَالَ لَهُ حُسَيْن: وإني أستخير اللَّه وأنظر مَا يكون] . قَالَ: فخرج ابن عَبَّاس من عنده، وأتاه ابن الزُّبَيْر فحدثه ساعة، ثُمَّ قَالَ: مَا أدري مَا تركنا هَؤُلاءِ القوم وكفنا عَنْهُمْ، ونحن أبناء الْمُهَاجِرِينَ، وولاة هَذَا الأمر دونهم! خبرني مَا تريد أن تصنع؟ [فَقَالَ الْحُسَيْن: وَاللَّهِ لقد حدثت نفسي بإتيان الْكُوفَة، وَلَقَدْ كتب إلي شيعتي بِهَا وأشراف أهلها، وأستخير اللَّه،] فَقَالَ لَهُ ابن الزُّبَيْر: أما لو كَانَ لي بِهَا مثل شيعتك مَا عدلت بِهَا، قَالَ: ثُمَّ إنه خشي أن يتهمه فَقَالَ: أما إنك لو أقمت بالحجاز ثُمَّ اردت هذا الأمر هاهنا مَا خولف عَلَيْك إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قام فخرج من عنده، [فَقَالَ الْحُسَيْن: ها إن هَذَا ليس شَيْء يؤتاه من الدُّنْيَا أحب إِلَيْهِ من أن أخرج من الحجاز إِلَى العراق، وَقَدْ علم أنه ليس لَهُ من الأمر معي شَيْء، وأن الناس لم يعدلوه بي، فود أني خرجت منها لتخلو لَهُ] . قَالَ: فلما كَانَ من العشي أو من الغد، أتى الْحُسَيْن عَبْد اللَّهِ بن العباس فقال: يا بن عم إني أتصبر وَلا أصبر، إني أتخوف عَلَيْك فِي هَذَا الوجه الهلاك والاستئصال، إن أهل العراق قوم غدر، فلا تقربنهم، أقم بهذا البلد فإنك سيد أهل الحجاز، فإن كَانَ أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إِلَيْهِم فلينفوا عدوهم، ثُمَّ أقدم عَلَيْهِم، فإن أبيت الا انه تخرج فسر إِلَى اليمن

فإن بِهَا حصونا وشعابا، وَهِيَ أرض عريضة طويلة، ولأبيك بِهَا شيعة، وأنت عن الناس فِي عزلة، فتكتب إِلَى النَّاسِ وترسل، وتبث دعاتك، فإني أرجو أن يأتيك عِنْدَ ذَلِكَ الَّذِي تحب فِي عافية، [فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: يا بن عم، إني وَاللَّهِ لأعلم أنك ناصح مشفق، ولكني قَدْ أزمعت وأجمعت عَلَى المسير،] فَقَالَ لَهُ ابن عَبَّاس: فإن كنت سائرا فلا تسر بنسائك وصبيتك، فو الله إني لخائف أن تقتل كما قتل عُثْمَان ونساؤه وولده ينظرون إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ ابن عَبَّاس: لقد أقررت عين ابن الزُّبَيْر بتخليتك إِيَّاهُ والحجاز والخروج منها، وَهُوَ الْيَوْم لا ينظر إِلَيْهِ أحد معك، وَاللَّهِ الَّذِي لا إله إلا هُوَ لو أعلم أنك إذا أخذت بشعرك وناصيتك حَتَّى يجتمع علي وعليك الناس أطعتني لفعلت ذَلِكَ قَالَ: ثُمَّ خرج ابن عَبَّاس من عنده، فمر بعبد اللَّه بن الزبير، فقال: قرت عينك يا بن الزبير! ثم قال: يا لك من قبره بمعمر ... خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقري مَا شئت أن تنقري. هَذَا حُسَيْن يخرج إِلَى العراق، وعليك بالحجاز. قَالَ أَبُو مخنف: قَالَ أَبُو جناب يَحْيَى بن أبي حية، عن عدي بن حرملة الأسدي، عن عَبْد الله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديين قَالا: خرجنا حاجين من الْكُوفَة حَتَّى قدمنا مكة، فدخلنا يوم التروية، فإذا نحن بالحسين وعبد اللَّه بن الزُّبَيْرِ قائمين عِنْدَ ارتفاع الضحى فِيمَا بين الحجر والباب، قَالا: فتقربنا منهما، فسمعنا ابن الزُّبَيْر وَهُوَ يقول للحسين: إن شئت أن تقيم أقمت فوليت هَذَا الأمر، فآزرناك وساعدناك، ونصحنا لك وبايعناك، [فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: إن أبي حَدَّثَنِي أن بِهَا كبشا يستحل حرمتها، فما أحب أن أكون أنا ذَلِكَ الكبش،] فَقَالَ لَهُ ابن الزُّبَيْر: فأقم إن شئت وتوليني أنا الأمر فتطاع وَلا تعصى، فَقَالَ: وما أريد هَذَا أَيْضًا، قَالا: ثُمَّ إنهما أخفيا

كلامهما دوننا، فما زالا يتناجيان حَتَّى سمعنا دعاء الناس رائحين متوجهين إِلَى منى عِنْدَ الظهر، قَالا: فطاف الْحُسَيْن بالبيت وبين الصفا والمروة، وقص من شعره، وحل من عمرته، ثُمَّ توجه نحو الْكُوفَة، وتوجهنا نحو الناس إِلَى منى. قَالَ أَبُو مخنف: عن أبي سَعِيد عقيصى، عن بعض أَصْحَابه، [قَالَ: سمعت الْحُسَيْن بن علي وَهُوَ بمكة وَهُوَ واقف مع عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهُ ابن الزبير الى يا بن فاطمة، فأصغى إِلَيْهِ، فساره، قَالَ: ثُمَّ التفت إلينا الْحُسَيْن فَقَالَ: أتدرون مَا يقول ابن الزُّبَيْر؟ فقلنا: لا ندري، جعلنا اللَّه فداك! فَقَالَ: قَالَ: أقم فِي هَذَا المسجد أجمع لك الناس، ثُمَّ قَالَ الْحُسَيْن: وَاللَّهِ لأن أقتل خارجا منها بشبر أحب إلي من أن أقتل داخلا منها بشبر، وايم اللَّه لو كنت فِي جحر هامة من هَذِهِ الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا في حاجتهم، وو الله ليعتدن علي كما اعتدت اليهود فِي السبت] . قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بن كعب الوالبي، عن عقبة بن سمعان قَالَ: لما خرج الْحُسَيْن مِنْ مَكَّةَ اعترضه رسل عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ، عَلَيْهِم يَحْيَى بن سَعِيدٍ، فَقَالُوا لَهُ: انصرف، أين تذهب! فأبى عَلَيْهِم ومضى، وتدافع الفريقان، فاضطربوا بالسياط ثُمَّ ان الحسين واصحابه امتنعوا امتناعا قويا، ومضى الحسين ع عَلَى وجهه، فنادوه: يَا حُسَيْن، أَلا تتقي اللَّه! تخرج من الجماعة، وتفرق بين هَذِهِ الأمة! [فتأول حُسَيْن قول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: «لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ] » . قَالَ: ثُمَّ إن الْحُسَيْن أقبل حَتَّى مر بالتنعيم، فلقي بِهَا عيرا قَدْ أقبل بِهَا من اليمن، بعث بِهَا بحير بن ريسان الحميري إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، - وَكَانَ عامله على اليمن- وعلى العمير الورس والحلل ينطلق بِهَا إِلَى يَزِيد

فأخذها الْحُسَيْن، فانطلق بِهَا، [ثُمَّ قَالَ لأَصْحَاب الإبل: لا أكرهكم، من أحب أن يمضي معنا إِلَى العراق أوفينا كراءه وأحسنا صحبته، ومن أحب أن يفارقنا من مكاننا هَذَا أعطيناه من الكراء عَلَى قدر مَا قطع من الأرض، قَالَ: فمن فارقه مِنْهُمْ حوسب فأوفي حقه، ومن مضى مِنْهُمْ مَعَهُ أعطاه كراءه وكساه] . قَالَ أَبُو مخنف، عن أبي جناب، عن عدي بن حرملة، عن عبد الله ابن سليم والمذري قَالا: [أقبلنا حَتَّى انتهينا إِلَى الصفاح، فلقينا الفرزدق بن غالب الشاعر، فواقف حسينا فَقَالَ لَهُ: أعطاك اللَّه سؤلك وأملك فِيمَا تحب، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: بين لنا نبأ الناس خلفك، فَقَالَ لَهُ الفرزدق: من الخبير سألت، قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أُمَيَّة، والقضاء ينزل من السماء، واللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ، * فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: صدقت، لِلَّهِ الأمر، واللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ*، وكُلَّ يَوْمٍ ربنا فِي شَأْنٍ، أن نزل القضاء بِمَا نحب فنحمد اللَّه عَلَى نعمائه، وَهُوَ المستعان عَلَى أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء، فلم يعتد من كَانَ الحق نيته، والتقوى سريرته، ثُمَّ حرك الْحُسَيْن راحلته فَقَالَ: السلام عَلَيْك، ثُمَّ افترقا] . قَالَ هِشَام، عن عوانة بن الحكم، عن لبطة بن الفرزدق بن غالب، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حججت بأمي، فأنا أسوق بعيرها حين دخلت الحرم فِي أيام الحج، وَذَلِكَ فِي سنة ستين، إذ لقيت الْحُسَيْن بن علي خارجا مِنْ مَكَّةَ مَعَهُ أسيافه وتراسه، فقلت: لمن هَذَا القطار؟ فقيل: للحسين بن علي، فأتيته فقلت: بابى وأمي يا بن رَسُول اللَّهِ! مَا أعجلك عن الحج؟ فَقَالَ: لو لم أعجل لأخذت، قَالَ: ثُمَّ سألني: ممن أنت؟ فقلت لَهُ: امرؤ من العراق، قال: فو الله مَا فتشني عن أكثر من ذَلِكَ، واكتفى بِهَا مني، [فَقَالَ: أَخْبَرَنِي عن الناس خلفك؟ قَالَ: فقلت لَهُ: القلوب معك، والسيوف مع بني أُمَيَّة، والقضاء بيد اللَّه، قَالَ: فَقَالَ لي: صدقت،] قَالَ: فسألته عن أشياء، فأخبرني بِهَا من نذور ومناسك، قَالَ: وإذا هُوَ ثقيل اللسان من

برسام أصابه بِالْعِرَاقِ، قَالَ: ثُمَّ مضيت فإذا بفسطاط مضروب فِي الحرم، وهيئته حسنة، فأتيته فإذا هُوَ لعبد اللَّه بن عَمْرو بن الْعَاصِ، فسألني، فأخبرته بلقاء الْحُسَيْن بن علي، فقال لي: ويلك! فهلا اتبعته، فو الله ليملكن، وَلا يجوز السلاح فِيهِ وَلا فِي أَصْحَابه، قَالَ: فهممت وَاللَّهِ أن ألحق بِهِ، ووقع فِي قلبي مقالته، ثُمَّ ذكرت الأنبياء وقتلهم، فصدني ذَلِكَ عن اللحاق بهم، فقدمت على اهلى بعسفان، قال: فو الله إني لعندهم إذ أقبلت عير قَدِ امتارت من الْكُوفَة، فلما سمعت بهم خرجت فِي آثارهم حَتَّى إذا أسمعتهم الصوت وعجلت عن إتيانهم صرخت بهم: أَلا مَا فعل الْحُسَيْن ابن علي؟ قَالَ: فردوا علي: أَلا قَدْ قتل، قَالَ: فانصرفت وأنا ألعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: وَكَانَ أهل ذَلِكَ الزمان يقولون ذَلِكَ الأمر، وينتظرونه فِي كل يوم وليلة قَالَ: وَكَانَ عَبْد اللَّهِ بن عَمْرو يقول: لا تبلغ الشجرة وَلا النخلة وَلا الصغير حَتَّى يظهر هَذَا الأمر، قَالَ: فقلت لَهُ: فما يمنعك أن تبيع الوهط؟ قَالَ: فَقَالَ لي: لعنة اللَّه عَلَى فلان- يعني مُعَاوِيَة- وعليك، قَالَ: فقلت: لا، بل عَلَيْك لعنة اللَّه، قَالَ: فزادني من اللعن ولم يكن عنده من حشمه أحد فألقى مِنْهُمْ شرا، قَالَ: فخرجت وَهُوَ لا يعرفني- والوهط حائط لعبد اللَّه بن عَمْرو بالطائف، قَالَ: وَكَانَ مُعَاوِيَة قَدْ ساوم بِهِ عَبْد اللَّهِ بن عَمْرو، وأعطاه بِهِ مالا كثيرا، فأبى أن يبيعه بشيء- قَالَ: وأقبل الْحُسَيْن مغذا لا يلوي عَلَى شَيْء حَتَّى نزل ذات عرق. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بن كعب الوالبي، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْن ابن عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لما خرجنا مِنْ مَكَّةَ كتب عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى الْحُسَيْن بن علي مع ابنيه: عون ومُحَمَّد: أَمَّا بَعْدُ، فإني أسألك بِاللَّهِ لما انصرفت حين تنظر فِي كتابي، فإني مشفق عَلَيْك من الوجه الَّذِي توجه لَهُ أن يكون فِيهِ هلاكك واستئصال أهل بيتك، إن هلكت الْيَوْم طفئ نور الأرض، فإنك علم المهتدين، ورجاء الْمُؤْمِنِينَ، فلا تعجل بالسير

فإني فِي أثر الكتاب، والسلام. قَالَ: وقام عَبْد اللَّهِ بن جَعْفَر إِلَى عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ فكلمه. وَقَالَ: اكتب إِلَى الْحُسَيْن كتابا تجعل لَهُ فِيهِ الأمان، وتمنيه فِيهِ البر والصلة، وتوثق لَهُ فِي كتابك، وتسأله الرجوع لعله يطمئن إِلَى ذَلِكَ فيرجع، فقال عمرو ابن سَعِيد: اكتب مَا شئت وأتني بِهِ حَتَّى أختمه، فكتب عَبْد اللَّهِ بن جَعْفَر الكتاب، ثُمَّ أتى بِهِ عَمْرو بن سَعِيدٍ فَقَالَ له: اختمه، وابعث بِهِ مع أخيك يَحْيَى بن سَعِيد، فإنه أحرى أن تطمئن نفسه إِلَيْهِ، ويعلم أنه الجد مِنْكَ، ففعل، وَكَانَ عَمْرو بن سَعِيد عامل يَزِيد بن مُعَاوِيَة عَلَى مكة، قَالَ: فلحقه يَحْيَى وعبد اللَّه بن جَعْفَر، ثُمَّ انصرفا بعد أن أقرأه يَحْيَى الكتاب، فقالا: أقرأناه الكتاب، وجهدنا بِهِ، وَكَانَ مما اعتذر بِهِ إلينا أن قَالَ: إني رايت رؤيا فيها رسول الله ص، وأمرت فِيهَا بأمر أنا ماض لَهُ، علي كان اولى، فقالا لَهُ: فما تِلَكَ الرؤيا؟ قَالَ: مَا حدثت أحدا بِهَا، وما أنا محدث بِهَا حَتَّى ألقى ربي. قَالَ: وَكَانَ كتاب عَمْرو بن سَعِيد إِلَى الْحُسَيْن بن علي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من عَمْرو بن سَعِيد إِلَى الْحُسَيْن بن علي، أَمَّا بَعْدُ، فإني اسال الله ان يصرفك عما يوبقك، وأن يهديك لما يرشدك، بلغني أنك قَدْ توجهت إِلَى العراق، وإني أعيذك بِاللَّهِ من الشقاق، فإني أخاف عَلَيْك فِيهِ الهلاك، وَقَدْ بعثت إليك عَبْد اللَّهِ بن جَعْفَر ويحيى بن سَعِيد، فأقبل إلي مَعَهُمَا، فإن لك عندي الأمان والصلة والبر وحسن الجوار لك، اللَّه علي بِذَلِكَ شهيد وكفيل، ومراع ووكيل، والسلام عَلَيْك. قَالَ: وكتب إِلَيْهِ الْحُسَيْن: أَمَّا بَعْدُ، فإنه لم يشاقق اللَّه ورسوله من دعا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وعمل صالحا وَقَالَ إنني مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ دعوت إِلَى الأمان والبر والصلة، فخير الأمان أمان اللَّه، ولن يؤمن اللَّه يوم الْقِيَامَة من لم يخفه فِي الدُّنْيَا، فنسأل اللَّه مخافة فِي الدُّنْيَا توجب لنا أمانة يوم

القيامه، فان كنت نويت بالكتاب صلى وبري، فجزيت خيرا فِي الدُّنْيَا والآخرة، والسلام. رجع الحديث إِلَى حديث عمار الدهني عن أبي جَعْفَر فَحَدَّثَنِي زكرياء بن يَحْيَى الضرير، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بن جناب المصيصي قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِد بن يَزِيدَ بن عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيّ قَالَ: [حَدَّثَنَا عمار الدهني قَالَ: قلت لأبي جَعْفَر: حَدَّثَنِي عن مقتل الْحُسَيْن حَتَّى كأني حضرته، قَالَ: فأقبل حُسَيْن بن علي بكتاب مسلم بن عقيل كَانَ إِلَيْهِ، حَتَّى إذا كَانَ بينه وبين القادسية ثلاثة أميال، لقيه الحر بن يَزِيدَ التميمي، فَقَالَ لَهُ: أين تريد؟ قَالَ: أريد هَذَا المصر، قَالَ لَهُ: ارجع فإني لم أدع لك خلفي خيرا أرجوه، فهم أن يرجع، وَكَانَ مَعَهُ إخوة مسلم بن عقيل، فَقَالُوا: والله لا نرجع حَتَّى نصيب بثأرنا أو نقتل، فَقَالَ: لا خير فِي الحياة بعدكم! فسار فلقيته أوائل خيل عُبَيْد اللَّهِ، فلما رَأَى ذَلِكَ عدل إِلَى كربلاء فأسند ظهره إِلَى قصباء وخلا كيلا يقاتل إلا من وجه واحد، فنزل وضرب أبنيته، وَكَانَ أَصْحَابه خمسة وأربعين فارسا ومائة راجل، وَكَانَ عُمَر بن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاص قَدْ ولاه عُبَيْد اللَّهِ بن زياد الري وعهد إِلَيْهِ عهده فَقَالَ: اكفني هَذَا الرجل، قَالَ: أعفني، فأبى أن يعفيه، قَالَ: فأنظرني الليلة، فأخره، فنظر فِي أمره فلما أصبح غدا عَلَيْهِ راضيا بِمَا أمر بِهِ، فتوجه إِلَيْهِ عُمَر بن سَعْد، فلما أتاه قَالَ لَهُ الْحُسَيْن: اختر واحدة من ثلاث: إما أن تدعوني فأنصرف من حَيْثُ جئت، وإما أن تدعوني فأذهب إِلَى يَزِيد، وإما أن تدعوني فألحق بالثغور، فقبل ذَلِكَ عمر، فكتب إِلَيْهِ عُبَيْد اللَّهِ: لا وَلا كرامة حَتَّى يضع يده فِي يدي!] [فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: لا وَاللَّهِ لا يكون ذَلِكَ أبدا] [، فقاتله فقتل أَصْحَاب الْحُسَيْن كلهم، وفيهم بضعة عشر شابا من أهل بيته، وجاء سهم فأصاب ابنا لَهُ مَعَهُ فِي حجره، فجعل يمسح الدم عنه ويقول: اللَّهُمَّ احكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا، ثُمَّ أمر بحبرة فشققها، ثُمَّ

لبسها وخرج بسيفه، فقاتل حتى قتل ص، قتله رجل من مذحج وحز رأسه، وانطلق بِهِ إِلَى عُبَيْد اللَّهِ وَقَالَ: أوقر ركابي فضة وذهبا ... فقد قتلت الملك المحجبا قتلت خير الناس أما وأبا ... وخيرهم إذ ينسبون نسبا وأوفده إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة وَمَعَهُ الرأس، فوضع رأسه بين يديه وعنده أَبُو برزة الأسلمي، فجعل ينكت بالقضيب عَلَى فِيهِ ويقول: يفلقن هاما من رجال أعزة ... علينا وهم كَانُوا أعق وأظلما فَقَالَ لَهُ أَبُو برزه: ارفع قضيبك، فو الله لربما رايت فا رسول الله ص عَلَى فِيهِ يلثمه! وسرح عُمَر بن سَعْد بحرمه وعياله إِلَى عُبَيْد اللَّهِ، ولم يكن بقي من أهل بيت الْحُسَيْن بن علي ع إلا غلام كَانَ مريضا مع النساء، فأمر بِهِ عُبَيْد اللَّهِ ليقتل، فطرحت زينب نفسها عَلَيْهِ وقالت: وَاللَّهِ لا يقتل حَتَّى تقتلوني! فرق لها، فتركه وكف عنه قَالَ: فجهزهم وحملهم إِلَى يَزِيد، فلما قدموا عَلَيْهِ جمع من كَانَ بحضرته من أهل الشام، ثُمَّ أدخلوهم، فهنئوه بالفتح، قَالَ رجل مِنْهُمْ أزرق أحمر ونظر إِلَى وصيفة من بناتهم فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هب لي هَذِهِ، فَقَالَتْ زينب: لا وَاللَّهِ وَلا كرامة لك وَلا لَهُ إلا أن يخرج من دين اللَّه، قَالَ: فأعادها الأزرق، فَقَالَ لَهُ يَزِيد: كف عن هَذَا، ثُمَّ أدخلهم عَلَى عياله، فجهزهم وحملهم إِلَى الْمَدِينَة، فلما دخلوها خرجت امرأة من بني عبد المطلب ناشرة شعرها، واضعة كمها عَلَى رأسها تلقاهم وَهِيَ تبكي وتقول: ماذا تقولون إن قَالَ النَّبِيّ لكم ... ماذا فعلتم وَأَنْتُمْ آخر الأمم! بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي ... مِنْهُمْ أسارى وقتلى ضرجوا بدم مَا كَانَ هَذَا جزائي إذ نصحت لكم ... أن تخلفوني بسوء فِي ذوي رحمي !]

حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو رَبِيعَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ الْحُسَيْنَ ع. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارٍ الرَّازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ قَالَ: حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ، أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ على ع كَتَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْكُوفَةِ: إِنَّهُ مَعَكَ مِائَةُ أَلْفٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ، فَقَدِمَ الْكُوفَةَ، فَنَزَلَ دَارَ هَانِئِ بْنِ عُرْوَةَ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ، فَأُخْبِرَ ابْنُ زِيَادٍ بِذَلِكَ زَادَ الْحُسَيْنُ بْنُ نَصْرٍ فِي حَدِيثِهِ: فَأَرْسَلَ إِلَى هَانِئٍ فَأَتَاهُ، فَقَالَ: أَلَمْ أُوَقِّرْكَ! أَلَمْ أُكْرِمْكَ! أَلَمْ أَفْعَلْ بِكَ! قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَما جَزَاءُ ذَلِكَ؟ قَالَ: جَزَاؤُهُ أَنْ أَمْنَعَكَ، قَالَ: تَمْنَعُنِي! قَالَ: فَأَخَذَ قَضِيبًا مَكَانَهُ فَضَرَبَهُ بِهِ، وَأَمَرَ فَكُتِفَ ثُمَّ ضَرَبَ عُنُقَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ، فَخَرَجَ وَمَعَهُ نَاسٌ كَثِيرٌ، فَبَلَغَ ابْنَ زِيَادٍ ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِبَابِ الْقَصْرِ فَأُغْلِقَ، وَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي، فَلا أَحَدٌ يُجُيبُهُ، فَظَنَّ أَنَّهُ فِي مَلإٍ مِنَ النَّاسِ. قَالَ حصين: فَحَدَّثَنِي هلال بن يساف قَالَ: لقيتهم تِلَكَ الليلة فِي الطريق عِنْدَ مسجد الأنصار، فلم يكونوا يمرون في طريق يمينا ولا شمالا الا وذهبت مِنْهُمْ طائفة، الثلاثون والأربعون، ونحو ذَلِكَ قَالَ: فلما بلغ السوق، وَهِيَ ليلة مظلمة، ودخلوا المسجد، قيل لابن زياد: وَاللَّهِ مَا نرى كثير أحد، وَلا نسمع أصوات كثير أحد، فأمر بسقف المسجد فقلع، ثُمَّ أمر بحرادي فِيهَا النيران، فجعلوا ينظرون، فإذا قريب خمسين رجلا. قَالَ: فنزل فصعد الْمِنْبَر وَقَالَ لِلنَّاسِ: تميزوا أرباعا أرباعا، فانطلق كل قوم إِلَى رأس ربعهم، فنهض إِلَيْهِم قوم يقاتلونهم، فجرح مسلم جراحة ثقيلة، وقتل ناس من أَصْحَابه، وانهزموا، فخرج مسلم فدخل دارا من دور كندة، فَجَاءَ رجل إِلَى مُحَمَّد بن الأشعث وَهُوَ جالس إِلَى ابن زياد، فساره، فَقَالَ لَهُ: إن مسلما فِي دار فلان، فَقَالَ ابن زياد: مَا قَالَ لك؟ قَالَ: إن مسلما فِي دار فلان، قَالَ ابن زياد لرجلين: انطلقا فأتياني بِهِ، فدخلا عَلَيْهِ وَهُوَ عِنْدَ امرأة قَدْ أوقدت لَهُ النار، فهو يغسل عنه الدماء، فقالا

لَهُ: انطلق، الأمير يدعوك، فَقَالَ: اعقدا لي عقدا، فقالا: مَا نملك ذاك، فانطلق مَعَهُمَا حَتَّى أتاه فأمر بِهِ فكتف ثُمَّ قَالَ: هيه هيه يا بن خليه- قال الحسين في حديثه: يا بن كذا- جئت لتنزع سلطاني! ثُمَّ أمر بِهِ فضربت عنقه قَالَ حصين: فَحَدَّثَنِي هلال بن يساف أن ابن زياد أمر بأخذ مَا بين واقصة إِلَى طريق الشام إِلَى طريق الْبَصْرَة، فلا يدعون أحدا يلج وَلا أحدا يخرج، فأقبل الْحُسَيْن وَلا يشعر بشيء حَتَّى لقي الأعراب، فسألهم، فَقَالُوا: لا وَاللَّهِ مَا ندري، غير أنا لا نستطيع أن نلج وَلا نخرج، قَالَ: فانطلق يسير نحو طريق الشام نحو يَزِيد، فلقيته الخيول بكربلاء، فنزل يناشدهم اللَّه والإسلام، قَالَ: وَكَانَ بعث إِلَيْهِ عُمَر بن سَعْدٍ وشمر بن ذي الجوشن وحصين ابن نميم، فناشدهم الْحُسَيْن اللَّه والإسلام أن يسيروه إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، فيضع يده فِي يده، فَقَالُوا: لا، إلا عَلَى حكم ابن زياد، وَكَانَ فيمن بعث إِلَيْهِ الحر بن يَزِيدَ الحنظلي ثُمَّ النهشلي عَلَى خيل، فلما سمع مَا يقول الْحُسَيْن قَالَ لَهُمْ: ألا تقبلون من هَؤُلاءِ مَا يعرضون عَلَيْكُمْ! وَاللَّهِ لو سألكم هَذَا الترك والديلم مَا حل لكم أن تردوه! فأبوا إلا عَلَى حكم ابن زياد، فصرف الحر وجه فرسه، وانطلق إِلَى الْحُسَيْن وأَصْحَابه، فظنوا أنه إنما جَاءَ ليقاتلهم، فلما دنا مِنْهُمْ قلب ترسه وَسَلَّمَ عَلَيْهِم، ثُمَّ كر عَلَى أَصْحَاب ابن زياد فقاتلهم، فقتل مِنْهُمْ رجلين، ثُمَّ قتل رحمة اللَّه عَلَيْهِ وذكر أن زهير بن القين البجلي لقي الْحُسَيْن وَكَانَ حاجا، فأقبل مَعَهُ، وخرج إِلَيْهِ ابن ابى بحريه المرادي ورجلان آخران وعمرو بن الحجاج ومعن السلمي، قَالَ الحصين: وَقَدْ رأيتهما. قَالَ الحصين: وَحَدَّثَنِي سعد بن عبيدة، قَالَ: إن أشياخا من أهل الْكُوفَة لوقوف عَلَى التل يبكون ويقولون: اللَّهُمَّ أنزل نصرك، قَالَ: قلت: يَا أعداء اللَّه، أَلا تنزلون فتنصرونه! قَالَ: فأقبل الْحُسَيْن يكلم من بعث إِلَيْهِ ابن زياد، قَالَ: وإني لأنظر إِلَيْهِ وعليه جبة من برود، فلما كلمهم انصرف، فرماه رجل من بني تميم يقال لَهُ: عمر الطهوي بسهم، فإني لأنظر إِلَى السهم بين كتفيه متعلقا فِي جبته، فلما أبوا عَلَيْهِ رجع إِلَى مصافه، وإني لأنظر إِلَيْهِم،

وانهم لقريب من مائه رجل، فيهم لصلب على بن ابى طالب ع خمسة، ومن بني هاشم ستة عشر، ورجل من بني سليم حليف لَهُمْ، ورجل من بني كنانة حليف لَهُمْ، وابن عُمَر بن زياد. قَالَ: وَحَدَّثَنِي سعد بن عبيدة، قَالَ: إنا لمستنقعون فِي الماء مع عُمَر بن سَعْد، إذ أتاه رجل فساره وَقَالَ لَهُ: قَدْ بعث إليك ابن زياد جويرية بن بدر التميمي، وأمره إن لم تقاتل القوم أن يضرب عنقك، قَالَ: فوثب إِلَى فرسه فركبه، ثُمَّ دعا سلاحه فلبسه، وإنه عَلَى فرسه، فنهض بِالنَّاسِ إِلَيْهِم فقاتلوهم، فجيء برأس الْحُسَيْن إِلَى ابن زياد، فوضع بين يديه، فجعل ينكت بقضيبه، ويقول: إن أبا عَبْد اللَّهِ قَدْ كَانَ شمط، قَالَ: وجيء بنسائه وبناته وأهله، وَكَانَ أحسن شَيْء صنعه أن أمر لهن بمنزل فِي مكان معتزل، وأجرى عليهن رزقا، وأمر لهن بنفقة وكسوة قَالَ: فانطلق غلامان مِنْهُمْ لعبد اللَّه بن جَعْفَر- أو ابن ابن جَعْفَر- فأتيا رجلا من طيئ فلجأ إِلَيْهِ، فضرب أعناقهما، وجاء برءوسهما حَتَّى وضعهما بين يدي ابن زياد، قَالَ: فهم بضرب عنقه، وأمر بداره فهدمت. قَالَ: وَحَدَّثَنِي مولى لمعاوية بن أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: لما أتي يَزِيد برأس الْحُسَيْن فوضع بين يديه، قَالَ: رأيته يبكي، وَقَالَ: لو كَانَ بينه وبينه رحم مَا فعل هَذَا. قَالَ حصين: فلما قتل الْحُسَيْن لبثوا شهرين أو ثلاثة، كأنما تلطخ الحوائط بالدماء ساعة تطلع الشمس حَتَّى ترتفع. قَالَ: وَحَدَّثَنِي العلاء بن أبي عاثة قَالَ: حَدَّثَنِي رأس الجالوت، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَا مررت بكربلاء إلا وأنا أركض دابتي حَتَّى أخلف المكان، قَالَ: قلت: لم؟ قَالَ: كنا نتحدث أن ولد نبي مقتول فِي ذَلِكَ المكان، قَالَ: وكنت أخاف أن أكون أنا، فلما قتل الْحُسَيْن قلنا: هَذَا الَّذِي كنا نتحدث قَالَ: وكنت بعد ذَلِكَ إذا مررت بِذَلِكَ المكان أسير وَلا أركض. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قال: حدثني علي بن محمد،

عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ الضُّبَعِيِّ قَالَ: [قَالَ الْحُسَيْنُ: وَاللَّهِ لا يَدْعُونِي حَتَّى يَسْتَخْرِجُوا هَذِهِ الْعَلَقَةَ مِنْ جَوْفِي، فَإِذَا فَعَلُوا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَنْ يُذِلَّهُمْ حَتَّى يَكُونُوا أَذَلَّ مَنْ فرم الامه،] فقدم للعراق فَقَتَلَ بِنِينَوَى يَوْمَ عَاشُورَاءَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ. قَالَ الْحَارِث: قَالَ ابن سعد: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن عُمَرَ، قَالَ: قتل الْحُسَيْن بن علي ع فِي صفر سنة إحدى وستين وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابن خمس وخمسين. حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أفلح بن سَعِيدٍ، عن ابن كعب القرظي، قَالَ الْحَارِث: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عُمَرَ، عن أبي معشر، قَالَ: قتل الْحُسَيْن لعشر خلون من المحرم قَالَ الْوَاقِدِيّ: هَذَا أثبت. قَالَ الْحَارِث: قَالَ ابن سعد: أَخْبَرَنَا محمد بن عمر، قال: أخبرنا عطاء ابن مسلم، عمن أخبره، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، قَالَ: أول رأس رفع عَلَى خشبة، رأس الْحُسَيْن رَضِيَ الله عنه وصلى اللَّه عَلَى روحه. قَالَ أَبُو مخنف: عن هِشَام بن الْوَلِيد، عمن شهد ذَلِكَ، قال: اقبل الحسين ابن على باهله من مكة ومحمد بن الحنفية بِالْمَدِينَةِ، قَالَ: فبلغه خبره وَهُوَ يتوضأ فِي طست، قَالَ: فبكى حَتَّى سمعت وكف دموعه فِي الطست. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي يونس بن أبي إِسْحَاق السبيعي، قَالَ: ولما بلغ عُبَيْد اللَّهِ إقبال الْحُسَيْن مِنْ مَكَّةَ الى الكوفه، بعث الحصين بن تميم صاحب شرطه حَتَّى نزل القادسية ونظم الخيل مَا بين القادسية إِلَى خفان، وما بين القادسية إِلَى القطقطانة وإلى لعلع، وَقَالَ الناس: هَذَا الْحُسَيْن يريد العراق. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قيس أن الْحُسَيْن أقبل حَتَّى إذا بلغ الحاجر من بطن الرمة بعث قيس بن مسهر الصيداوي إِلَى أهل الْكُوفَة، وكتب مَعَهُ إِلَيْهِم:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من الْحُسَيْن بن علي إِلَى إخوانه من الْمُؤْمِنِينَ والمسلمين، سلام عَلَيْكُمْ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكُمُ اللَّهَ الَّذِي لا إِلَهَ إلا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ، فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فِيهِ بحسن رأيكم، واجتماع ملئكم عَلَى نصرنا، والطلب بحقنا، فسألت اللَّه أن يحسن لنا الصنع، وأن يثيبكم عَلَى ذَلِكَ أعظم الأجر، وَقَدْ شخصت إليكم مِنْ مَكَّةَ يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية،، فإذا قدم عليكم رسولي فاكمشوا امركم ووجدوا، فإني قادم عَلَيْكُمْ فِي أيامي هَذِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، والسلام عَلَيْكُمْ ورحمة اللَّه وبركاته. وكان مسلم ابن عقيل قَدْ كَانَ كتب إِلَى الْحُسَيْن قبل أن يقتل لسبع وعشرين ليلة: أَمَّا بَعْدُ، فإن الرائد لا يكذب أهله، إن جمع أهل الْكُوفَة معك، فأقبل حين تقرأ كتابي، والسلام عَلَيْك. قَالَ: فأقبل الْحُسَيْن بالصبيان والنساء مَعَهُ لا يلوي عَلَى شَيْء، وأقبل قيس بن مسهر الصيداوي إِلَى الْكُوفَةِ بكتاب الْحُسَيْن، حَتَّى إذا انتهى إِلَى القادسية أخذه الحصين بن تميم فبعث بِهِ إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فَقَالَ لَهُ عُبَيْد اللَّهِ: اصعد إِلَى القصر فسب الكذاب ابن الكذاب، فصعد ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إن هَذَا الْحُسَيْن بن علي خير خلق اللَّه، ابن فاطمة بنت رَسُول اللَّهِ، وأنا رسوله إليكم، وَقَدْ فارقته بالحاجر، فأجيبوه، ثُمَّ لعن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد وأباه، واستغفر لعلي بن أَبِي طَالِبٍ قَالَ: فامر به عبيد الله ابن زياد أن يرمى بِهِ من فوق القصر، فرمي بِهِ، فتقطع فمات ثُمَّ أقبل الْحُسَيْن سيرا إِلَى الْكُوفَةِ، فانتهى إِلَى ماء من مياه العرب، فإذا عَلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بن مطيع العدوى، وهو نازل هاهنا، فلما رَأَى الْحُسَيْن قام إِلَيْهِ، فَقَالَ: بأبي أنت وأمي يا بن رَسُول اللَّهِ! مَا أقدمك! واحتمله فأنزله، [فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: كَانَ من موت مُعَاوِيَة مَا قَدْ بلغك، فكتب إلي أهل العراق يدعونني إِلَى أنفسهم،] فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ بن مطيع: اذكرك الله يا بن رَسُول اللَّهِ وحرمة الإِسْلام أن تنتهك! أنشدك الله في حرمه رسول الله ص! أنشدك الله في حرمه العرب! فو الله لَئِنْ طلبت مَا فِي أيدي بني أُمَيَّة ليقتلنك، ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحدا أبدا وَاللَّهِ إنها لحرمة الإِسْلام تنتهك، وحرمة قريش

وحرمة العرب، فلا تفعل، وَلا تأت الْكُوفَة، وَلا تعرض لبني أُمَيَّة، قَالَ: فأبى إلا ان يمضى، قال: فاقبل الحسين حتى كَانَ بالماء فوق زرود. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي السدي، عن رجل من بني فزارة قَالَ: لما كَانَ زمن الحجاج بن يُوسُفَ كنا فِي دار الْحَارِث بن أَبِي رَبِيعَةَ الَّتِي فِي التمارين، الَّتِي أقطعت بعد زهير بن القين، من بني عَمْرو بن يشكر من بجيلة، وَكَانَ أهل الشام لا يدخلونها، فكنا مختبئين فِيهَا، قَالَ: فقلت للفزاري: حَدَّثَنِي عنكم حين أقبلتم مع الْحُسَيْن بن علي، قَالَ: كنا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا مِنْ مَكَّةَ نساير الْحُسَيْن، فلم يكن شَيْء أبغض إلينا من أن نسايره فِي منزل، فإذا سار الْحُسَيْن تخلف زهير بن القين، وإذا نزل الْحُسَيْن تقدم زهير، حَتَّى نزلنا يَوْمَئِذٍ فِي منزل لم نجد بدا من أن ننازله فِيهِ، فنزل الْحُسَيْن فِي جانب، ونزلنا فِي جانب، فبينا نحن جلوس نتغدى من طعام لنا، إذ أقبل رسول الْحُسَيْن حَتَّى سلم، ثُمَّ دخل فَقَالَ: يَا زهير بن القين، إن أبا عَبْد اللَّهِ الْحُسَيْن بن علي بعثني إليك لتأتيه، قَالَ: فطرح كل إنسان مَا فِي يده حَتَّى كأننا عَلَى رءوسنا الطير. قَالَ أَبُو مخنف: فحدثتني دلهم بنت عَمْرو امرأة زهير بن القين، قالت: فقلت لَهُ: أيبعث إليك ابن رَسُول اللَّهِ ثُمَّ لا تأتيه! سبحان اللَّه! لو أتيته فسمعت من كلامه! ثُمَّ انصرفت، قالت: فأتاه زهير بن القين، فما لبث أن جَاءَ مستبشرا قَدْ أسفر وجهه، قالت: فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه فقدم، وحمل إِلَى الْحُسَيْن، ثُمَّ قَالَ لامرأته: أنت طالق، الحقي بأهلك، فإني لا أحب أن يصيبك من سببي إلا خير، ثُمَّ قَالَ لأَصْحَابه: من أحب مِنْكُمْ أن يتبعني وإلا فإنه آخر العهد، إني سأحدثكم حديثا، غزونا بلنجر، ففتح اللَّه علينا، وأصبنا غنائم، فَقَالَ لنا سلمان الباهلي: أفرحتم بِمَا فتح اللَّه عَلَيْكُمْ، وأصبتم من الغنائم! فقلنا: نعم، فَقَالَ لنا: إذا أدركتم شباب آل مُحَمَّد فكونوا أشد فرحا بقتالكم معهم منكم بِمَا أصبتم من الغنائم، فأما

أنا فإني أستودعكم اللَّه، قَالَ: ثُمَّ وَاللَّهِ مَا زال فِي أول القوم حَتَّى قتل. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو جناب الكلبي، عن عدي بن حرملة الأسدي، عن عَبْد الله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديين قَالا: لما قضينا حجنا لَمْ يَكُنْ لنا همة إلا اللحاق بالحسين فِي الطريق لننظر مَا يكون من أمره وشأنه، فأقبلنا ترقل بنا ناقتانا مسرعين حَتَّى لحقناه بزرود، فلما دنونا مِنْهُ إذا نحن برجل من أهل الْكُوفَة قَدْ عدل عن الطريق حين رَأَى الْحُسَيْن، قَالا: فوقف الْحُسَيْن كأنه يريده، ثُمَّ تركه، ومضى ومضينا نحوه، فَقَالَ أحدنا لصاحبه: اذهب بنا إِلَى هَذَا فلنسأله، فإن كَانَ عنده خبر الْكُوفَة علمناه، فمضينا حَتَّى انتهينا إِلَيْهِ، فقلنا: السلام عَلَيْك، قَالَ: وعَلَيْكُمُ السلام ورحمة اللَّه، ثُمَّ قلنا: فمن الرجل؟ قَالَ: أسدي: فقلنا: فنحن أسديان فمن أنت؟ قَالَ: أنا بكير بن المثعبة، فانتسبنا لَهُ، ثُمَّ قلنا: أَخْبَرَنَا عن الناس وراءك، قَالَ: نعم، لم أخرج من الْكُوفَة حَتَّى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، فرأيتهما يجران بأرجلهما فِي السوق، قَالا: فأقبلنا حَتَّى لحقنا بالحسين، فسايرناه حَتَّى نزل الثعلبية ممسيا، فجئناه حين نزل، فسلمنا عَلَيْهِ فرد علينا، فقلنا لَهُ: يرحمك اللَّه، إن عندنا خبرا، فإن شئت حَدَّثَنَا علانية، وإن شئت سرا، [قَالَ: فنظر إِلَى أَصْحَابه وَقَالَ: مَا دون هَؤُلاءِ سر،] فقلنا لَهُ: أرأيت الراكب الَّذِي استقبلك عشاء أمس؟ قَالَ: نعم، وَقَدْ أردت مسألته، فقلنا: قَدِ استبرأنا لك خبره، وكفيناك مسألته، وَهُوَ امرؤ من أسد منا، ذو رأي وصدق، وفضل وعقل، وإنه حدثنا أنه لم يخرج من الكوفة حَتَّى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، وحتى رآهما يجران فِي السوق بأرجلهما، [فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! رحمة اللَّه عليهما، فردد ذَلِكَ مرارا،] فقلنا: ننشدك اللَّه فِي نفسك وأهل بيتك إلا انصرفت من مكانك هَذَا، فإنه ليس لك بالكوفة ناصر وَلا شيعة، بل نتخوف أن تكون عَلَيْك! قَالَ: فوثب عِنْدَ ذَلِكَ بنو عقيل بن أَبِي طَالِبٍ. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ خَالِدٍ، عن زَيْد بن عَلِيّ بن حُسَيْن، وعن دَاوُد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس، أن بني عقيل قَالُوا: لا وَاللَّهِ لا نبرح حَتَّى ندرك ثأرنا، أو نذوق مَا ذاق أخونا

قَالَ أَبُو مخنف: عن أبي جناب الكلبي، عن عدي بن حرملة، [عن عبد الله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديين، قالا: فنظر إلينا الْحُسَيْن فَقَالَ: لا خير فِي العيش بعد هَؤُلاءِ،] قَالا: فعلمنا أنه قَدْ عزم لَهُ رأيه عَلَى المسير، قَالا: فقلنا: خار اللَّه لك! قَالا: فَقَالَ: رحمكما اللَّه! قَالا: فَقَالَ لَهُ بعض أَصْحَابه: إنك وَاللَّهِ مَا أنت مثل مسلم بن عقيل، ولو قدمت الْكُوفَة لكان الناس إليك أسرع، [قَالَ الأسديان: ثُمَّ انتظر حَتَّى إذا كَانَ السحر قَالَ لفتيانه وغلمانه: أكثروا من الماء فاستقوا وأكثروا، ثُمَّ ارتحلوا وساروا حَتَّى انتهوا إِلَى زبالة] قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو علي الأَنْصَارِيّ، عن بكر بن مصعب المزني، قَالَ: كَانَ الْحُسَيْن لا يمر بأهل ماء إلا اتبعوه حتى إذا انتهى إِلَى زبالة سقط إِلَيْهِ مقتل أخيه من الرضاعة، مقتل عَبْد اللَّهِ بن بقطر، وَكَانَ سرحه إِلَى مسلم بن عقيل من الطريق وَهُوَ لا يدري أنه قَدْ أصيب، فتلقاه خيل الحصين بن تميم بالقادسية، فسرح بِهِ إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فَقَالَ: اصعد فوق القصر فالعن الكذاب ابن الكذاب، ثُمَّ انزل حَتَّى أَرَى فيك رأيي! قَالَ: فصعد، فلما أشرف عَلَى الناس قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إني رسول الْحُسَيْن ابن فاطمه بنت رسول الله ص لتنصروه وتوازروه عَلَى ابن مرجانة ابن سمية الدعي فأمر بِهِ عُبَيْد اللَّهِ فألقي من فوق القصر إِلَى الأرض، فكسرت عظامه، وبقي بِهِ رمق، فأتاه رجل يقال لَهُ عَبْد الْمَلِكِ بن عمير اللخمي فذبحه، فلما عيب ذَلِكَ عَلَيْهِ قَالَ: إنما أردت أن أريحه. قَالَ هِشَام: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بن عَيَّاش عمن أخبره، قَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ عَبْد الْمَلِكِ بن عمير الَّذِي قام إِلَيْهِ فذبحه، ولكنه قام إِلَيْهِ رجل جعد طوال يشبه عَبْد الْمَلِكِ بن عمير قَالَ: فأتى ذَلِكَ الخبر حسينا وَهُوَ بزبالة، فأخرج لِلنَّاسِ كتابا، فقرأ عَلَيْهِم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَمَّا بَعْدُ، فإنه قَدْ أتانا خبر فظيع، قتل مسلم ابن عقيل وهانئ بن عروة وعبد اللَّه بن بقطر، وَقَدْ خذلتنا شيعتنا، فمن

أحب مِنْكُمُ الانصراف فلينصرف، ليس عَلَيْهِ منا ذمام. قَالَ: فتفرق الناس عنه تفرقا، فأخذوا يمينا وشمالا حَتَّى بقي فِي أَصْحَابه الَّذِينَ جاءوا مَعَهُ من الْمَدِينَة، وإنما فعل ذَلِكَ لأنه ظن أنما اتبعه الأعراب، لأنهم ظنوا أنه يأتي بلدا قَدِ استقامت لَهُ طاعة أهله، فكره أن يسيروا مَعَهُ إلا وهم يعلمون علام يقدمون، وَقَدْ علم أَنَّهُمْ إذا بين لَهُمْ لم يصحبه إلا من يريد مواساته والموت مَعَهُ قَالَ: فلما كَانَ من السحر أمر فتيانه فاستقوا الماء وأكثروا، ثُمَّ سار حَتَّى مر ببطن العقبة، فنزل بِهَا قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي لوذان أحد بني عِكْرِمَة إن أحد عمومته سأل الحسين ع أين تريد؟ فحدثه، فَقَالَ لَهُ: إني أنشدك الله لما انصرفت، فو الله لا تقدم إلا عَلَى الأسنة وحد السيوف، فإن هَؤُلاءِ الَّذِينَ بعثوا إليك لو كَانُوا كفوك مؤنة القتال، ووطئوا لك الأشياء فقدمت عَلَيْهِم كَانَ ذَلِكَ رأيا، فأما عَلَى هَذِهِ الحال الَّتِي تذكرها فإني لا أَرَى لَكَ أن تفعل. قَالَ: [فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْد اللَّهِ، إنه ليس يخفى علي، الرأي مَا رأيت، ولكن اللَّه لا يغلب عَلَى أمره، ثُمَّ ارتحل منها] . ونزع يَزِيد بن مُعَاوِيَة فِي هَذِهِ السنة الْوَلِيد بن عتبة عن مكة، وولاها عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ، وَذَلِكَ فِي شهر رمضان منها، فحج بِالنَّاسِ عمرو ابن سَعِيد فِي هَذِهِ السنة، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر. وَكَانَ عامله عَلَى مكة والمدينة فِي هَذِهِ السنة بعد ما عزل الْوَلِيد بن عتبة عَمْرو بن سَعِيدٍ، وعلى الْكُوفَة والبصرة وأعمالهما عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، وعلى قضاء الْكُوفَة شريح بن الْحَارِث، وعلى قضاء الْبَصْرَة هِشَام بن هبيرة

سنه احدى وستين

ثُمَّ دخلت سنة إحدى وستين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذَلِكَ مقتل الْحُسَيْن رضوان اللَّه عَلَيْهِ، قتل فِيهَا فِي المحرم لعشر خلون مِنْهُ، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ ثَابِت، قَالَ: حَدَّثَنِي محدث، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر وكذلك قَالَ الْوَاقِدِيُّ وهشام بن الكلبي، وَقَدْ ذكرنا ابتداء أمر الْحُسَيْن فِي مسيره نحو العراق وما كَانَ مِنْهُ فِي سنة ستين، ونذكر الآن مَا كَانَ من أمره فِي سنة إحدى وستين وكيف كَانَ مقتله. حُدِّثْتُ عَنْ هشام، عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو جناب، عن عدي بن حرملة، عن عبد الله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديين قالا: اقبل الحسين ع حَتَّى نَزَلَ شِرَافَ، فَلَمَّا كَانَ فِي السَّحَرِ أَمَرَ فِتْيَانَهُ فَاسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ فَأَكْثَرُوا، ثُمَّ سَارُوا مِنْهَا، فَرَسَمُوا صَدْرَ يَوْمِهِمْ حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ [ثُمَّ إِنَّ رَجُلا قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ! فَقَالَ الْحُسَيْنُ: اللَّهُ أَكْبَرُ مَا كَبَّرْتَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ النَّخْلَ، فَقَالَ لَهُ الأَسَدِيَّانِ: إِنَّ هَذَا الْمَكَانَ مَا رَأَيْنَا بِهِ نَخْلَةٍ قَطُّ، قَالا: فقال لنا الحسين: فما تريانه رَأَى؟ قُلْنَا: نَرَاهُ رَأَى هَوَادِيَ الْخَيْلِ، فَقَالَ: وَأَنَا وَاللَّهِ أَرَى ذَلِكَ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: أَمَا لَنَا مَلْجَأٌ نَلْجَأُ إِلَيْهِ، نَجْعَلُهُ فِي ظُهُورِنَا، وَنَسْتَقْبِلُ الْقَوْمَ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ؟] فَقُلْنَا لَهُ: بَلَى، هَذَا ذُو حُسَمَ إِلَى جَنْبِكَ، تَمِيلُ إِلَيْهِ عَنْ يَسَارِكَ، فَإِنْ سَبَقْتَ الْقَوْمَ إِلَيْهِ فهو كما تريد، قالا: فاخذ اليه ذات اليسار، قالا: وَمِلْنَا مَعَهُ فَمَا كَانَ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ طَلَعَتْ عَلَيْنَا هَوَادِيَ الْخَيْلِ، فَتَبَيَّنَّاهَا، وَعُدْنَا، فَلَمَّا رَأَوْنَا وَقَدْ عَدَلْنَا عَنِ الطَّرِيقِ عَدَلُوا إِلَيْنَا كَأَنَّ أَسِنَّتَهُمُ الْيَعَاسِيبُ، وَكَأَنَّ رَايَاتِهِمْ أَجْنَحَةُ الطَّيْرِ، قال: فَاسْتَبَقْنَا إِلَى ذِي حُسَمَ، فَسَبَقْنَاهُمْ إِلَيْهِ، فَنَزَلَ الْحُسَيْنُ، فَأَمَرَ بِأَبْنِيَتِهِ فَضُرِبَتْ، وَجَاءَ الْقَوْمُ وَهُمْ أَلْفُ فَارِسٍ مَعَ الْحُرِّ بْنِ يَزِيدَ التَّمِيمِيِّ الْيَرْبُوعِيِّ حَتَّى وَقَفَ هُوَ وَخَيْلُهُ مُقَابِلَ الْحُسَيْنِ فِي حَرِّ الظَّهِيرَةِ، وَالْحُسَيْنُ وَأَصْحَابُهُ مُعَتَّمُونَ مُتَقَلِّدُو أسيافهم، [فقال

الْحُسَيْنُ لِفِتْيَانِهِ: اسْقُوا الْقَوْمَ وَارْوُوهُمْ مِنَ الْمَاءِ وَرَشِّفُوا الْخَيْلَ تَرْشِيفًا،] فَقَامَ فِتْيَانُهُ فَرَشَّفُوا الْخَيْلَ تَرْشِيفًا، فَقَامَ فِتْيَةٌ وَسَقَوُا الْقَوْمَ مِنَ الْمَاءِ حَتَّى أَرْوَوْهُمْ، وَأَقْبَلُوا يَمْلَئُونَ الْقِصَاعَ وَالأَتْوَارَ وَالطِّسَاسَ مِنَ الْمَاءِ ثُمَّ يُدْنُونَهَا مِنَ الْفَرَسِ، فَإِذَا عَبَّ فِيهِ ثَلاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا عُزِلَتْ عَنْهُ، وَسَقَوْا آخَرَ حَتَّى سَقَوُا الْخَيْلَ كُلَّهَا. قَالَ هِشَام: حَدَّثَنِي لقيط، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الطعان المحاربي: كنت مع الحر بن يَزِيدَ، فجئت فِي آخر من جَاءَ من أَصْحَابه، فلما رَأَى الْحُسَيْن مَا بي وبفرسي من العطش قَالَ: أنخ الراوية- والراوية عندي السقاء- ثم قال: يا بن أخ، أنخ الجمل، فأنخته، فَقَالَ: اشرب، فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء، فَقَالَ الْحُسَيْن: اخنث السقاء- أي اعطفه- قَالَ: فجعلت لا أدري كيف أفعل! قَالَ: فقام الْحُسَيْن فخنثه، فشربت وسقيت فرسي قَالَ: وَكَانَ مجيء الحر بن يَزِيدَ ومسيره إِلَى الْحُسَيْن من القادسية، وَذَلِكَ أن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد لما بلغه اقبال الحسين بعث الحصين ابن تميم التميمي- وَكَانَ عَلَى شرطه- فأمره أن ينزل القادسية، وأن يضع المسالح فينظم مَا بين القطقطانة إِلَى خفان، وقدم الحر بن يَزِيدَ بين يديه فِي هَذِهِ الألف من القادسية، فيستقبل حسينا قَالَ: فلم يزل موافقا حسينا حَتَّى حضرت الصَّلاة صلاة الظهر، فأمر الْحُسَيْن الحجاج بن مسروق الجعفي أن يؤذن، فأذن، فلما حضرت الإقامة خرج الْحُسَيْن فِي إزار ورداء ونعلين، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إنها معذرة إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وإليكم، إني لم آتكم حَتَّى أتتني كتبكم، وقدمت علي رسلكم: أن أقدم علينا، فإنه ليس لنا إمام، لعل اللَّه يجمعنا بك عَلَى الهدى، فإن كنتم عَلَى ذلك فقد جئتكم، فان تعطونى ما اطمان إِلَيْهِ من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إِلَى المكان الَّذِي أقبلت مِنْهُ إليكم قَالَ: فسكتوا عنه وَقَالُوا للمؤذن: أقم، فأقام الصَّلاة، فقال الحسين ع للحر: أتريد أن تصلي بأَصْحَابك؟ قَالَ: لا، بل

تصلي أنت ونصلي بصلاتك، قَالَ: فصلى بهم الْحُسَيْن، ثُمَّ إنه دخل واجتمع إِلَيْهِ أَصْحَابه، وانصرف الحر إِلَى مكانه الَّذِي كَانَ بِهِ، فدخل خيمة قَدْ ضربت لَهُ، فاجتمع إِلَيْهِ جماعة من أَصْحَابه، وعاد أَصْحَابه إِلَى صفهم الَّذِي كَانُوا فِيهِ، فأعادوه، ثُمَّ أخذ كل رجل مِنْهُمْ بعنان دابته وجلس فِي ظلها، فلما كَانَ وقت العصر أمر الْحُسَيْن أن يتهيئوا للرحيل ثُمَّ إنه خرج فأمر مناديه فنادى بالعصر، وأقام فاستقدم الْحُسَيْن فصلى بالقوم ثُمَّ سلم، وانصرف إِلَى القوم بوجهه فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فإنكم إن تتقوا وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لِلَّهِ، ونحن أهل البيت أولى بولاية هَذَا الأمر عَلَيْكُمْ من هَؤُلاءِ المدعين مَا ليس لَهُمْ، والسائرين فيكم بالجور والعدوان، وإن أنتم كرهتمونا، وجهلتم حقنا، وَكَانَ رأيكم غير مَا أتتني كتبكم، وقدمت بِهِ علي رسلكم، انصرفت عنكم، فَقَالَ لَهُ الحر بن يَزِيدَ: إنا وَاللَّهِ مَا ندري مَا هَذِهِ الكتب الَّتِي تذكر! فَقَالَ الْحُسَيْن: يَا عقبة بن سمعان، أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إلي، فأخرج خرجين مملوءين صحفا، فنشرها بين أيديهم، فَقَالَ الحر: فإنا لسنا من هَؤُلاءِ الَّذِينَ كتبوا إليك، وَقَدْ أمرنا إذا نحن لقيناك الا نفارقك حَتَّى نقدمك عَلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، [فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: الموت أدنى إليك من ذَلِكَ،] ثُمَّ قَالَ لأَصْحَابه: قوموا فاركبوا، فركبوا وانتظروا حَتَّى ركبت نساؤهم، فَقَالَ لأَصْحَابه: انصرفوا بنا، فلما ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف، فَقَالَ الْحُسَيْن للحر: ثكلتك أمك! مَا تريد؟ قَالَ: أما وَاللَّهِ لو غيرك من العرب يقولها لي وَهُوَ عَلَى مثل الحال الَّتِي أنت عَلَيْهَا مَا تركت ذكر أمه بالثكل أن أقوله كائنا من كَانَ، ولكن وَاللَّهِ مَا لي إِلَى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن مَا يقدر عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: فما تريد؟ قَالَ الحر: أريد وَاللَّهِ أن أنطلق بك إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، قَالَ لَهُ الْحُسَيْن: إذن وَاللَّهِ لا أتبعك، فَقَالَ لَهُ الحر: إذن وَاللَّهِ لا أدعك، فترادا القول ثلاث مرات، ولما كثر الكلام بينهما قَالَ لَهُ الحر: إني لم أومر بقتالك، وإنما أمرت الا أفارقك حَتَّى أقدمك الْكُوفَة، فإذا أبيت فخذ طريقا لا تدخلك الْكُوفَة، وَلا تردك إِلَى المدينة،

تكون بيني وبينك نصفا حَتَّى أكتب إِلَى ابن زياد، وتكتب أنت الى يزيد ابن مُعَاوِيَة إن أردت أن تكتب إِلَيْهِ، أو إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد إن شئت، فلعل اللَّه إِلَى ذاك أن يأتي بأمر يرزقني فِيهِ العافية من أن أبتلى بشيء من امرك، قال: فخذ هاهنا فتياسر عن طريق العذيب والقادسية، وبينه وبين العذيب ثمانية وثلاثون ميلا ثُمَّ إن الْحُسَيْن سار فِي أَصْحَابه والحر يسايره. قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: عَنْ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي الْعَيْزَارِ، إِنَّ الْحُسَيْنَ خَطَبَ أَصْحَابَهُ وَأَصْحَابَ الْحَرِّ بِالْبَيْضَةِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الناس، ان رسول الله ص قَالَ: [مَنْ رَأَى سُلْطَانًا جَائِرًا مُسْتَحِلا لِحَرَمِ اللَّهِ، نَاكِثًا لِعَهْدِ اللَّهِ، مُخَالِفًا لِسُنَّةِ رَسُولِ الله، يَعْمَلُ فِي عِبَادِ اللَّهِ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، فَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهِ بِفِعْلٍ وَلا قَوْلٍ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ مُدْخَلَهُ] أَلا وَإِنَّ هَؤُلاءِ قَدْ لَزِمُوا طَاعَةَ الشَّيْطَانِ، وَتَرَكُوا طَاعَةَ الرَّحْمَنِ، وَأَظْهَرُوا الْفَسَادَ، وَعَطَّلُوا الْحُدُودَ، وَاسْتَأْثَرُوا بِالْفَيْءِ، وَأَحَلُّوا حَرَامَ اللَّهِ، وَحَرَّمُوا حَلالَهُ، وَأَنَا أَحَقُّ من غير، قَدْ أَتَتْنِي كُتُبُكُمْ، وَقَدِمَتْ عَلِيَّ رُسُلُكُمْ بِبَيْعَتِكُمْ، أَنَّكُمْ لا تُسْلِمُونِي وَلا تَخْذَلُونِي، فَإِنْ تَمَمْتُمْ عَلَى بَيْعَتِكُمْ تُصِيبُوا رُشْدَكُمْ، فَأَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ على، وابن فاطمه بنت رسول الله ص، نَفْسِي مَعَ أَنْفُسِكُمْ، وَأَهْلِي مَعَ أَهْلِيكُمْ، فَلَكُمْ فِيَّ أُسْوَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَنَقَضْتُمْ عَهْدَكُمْ، وَخَلَعْتُمْ بَيْعَتِي مِنْ أَعْنَاقِكُمْ، فَلَعَمْرِي مَا هِيَ لَكُمْ بِنُكْرٍ، لَقَدْ فَعَلْتُمُوهَا بِأَبِي وَأَخِي وَابْنِ عَمِّي مُسْلِمٍ، وَالْمَغْرُورُ مَنِ اغْتَرَّ بِكُمْ، فَحَظَّكُمْ أَخْطَأْتُمْ، وَنَصِيبَكُمْ ضَيَّعْتُمْ، وَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ، وَسَيُغْنِي اللَّهُ عَنْكُمْ، وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. وَقَالَ عقبة بن أبي العيزار: قام حسين ع بذي حسم، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إنه قَدْ نزل من الأمر مَا قَدْ ترون، وإن الدُّنْيَا قَدْ تغيرت وتنكرت، وأدبر معروفها واستمرت جدا، فلم يبق منها الا صبابه

كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل أَلا ترون أن الحق لا يعمل بِهِ، وأن الباطل لا يتناهى عنه! ليرغب المؤمن فِي لقاء اللَّه محقا، [فإني لا أَرَى الموت إلا شهادة، وَلا الحياة مع الظالمين إلا برما] . قَالَ: فقام زهير بن القين البجلي فَقَالَ لأَصْحَابه: تكلمون أم أتكلم؟ قَالُوا: لا، بل تكلم، فَحَمِدَ اللَّهَ فأثنى عَلَيْهِ ثُمَّ قال: قد سمعنا هداك الله يا بن رَسُول اللَّهِ مقالتك، وَاللَّهِ لو كَانَتِ الدُّنْيَا لنا باقية، وكنا فِيهَا مخلدين، إلا أن فراقها فِي نصرك ومواساتك، لآثرنا الخروج معك عَلَى الإقامة فِيهَا. قَالَ: فدعا لَهُ الْحُسَيْن ثُمَّ قَالَ لَهُ خيرا، وأقبل الحر يسايره وَهُوَ يقول لَهُ: يَا حُسَيْن، إني أذكرك اللَّه فِي نفسك، فإني أشهد لَئِنْ قاتلت لتقتلن، ولئن قوتلت لتهلكن فِيمَا أَرَى، [فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: أفبالموت تخوفني! وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني! مَا أدري مَا أقول لك! ولكن أقول كما قَالَ أخو الأوس لابن عمه، ولقيه وَهُوَ يريد نصرة رَسُول الله ص، فَقَالَ لَهُ: أين تذهب؟ فإنك مقتول، فَقَالَ: سأمضي وما بالموت عار عَلَى الفتى ... إذا مَا نوى حقا وجاهد مسلما وآسى الرجال الصالحين بنفسه ... وفارق مثبورا يغش ويرغما ] قَالَ: فلما سمع ذَلِكَ مِنْهُ الحر تنحى عنه، وَكَانَ يسير بأَصْحَابه فِي ناحية وحسين فِي ناحية أخرى، حَتَّى انتهوا إِلَى عذيب الهجانات، وَكَانَ بِهَا هجائن النُّعْمَان ترعى هنالك، فإذا هم بأربعة نفر قَدْ أقبلوا من الْكُوفَة عَلَى رواحلهم، يجنبون فرسا لنافع بن هلال يقال لَهُ الكامل، ومعهم دليلهم الطرماح بن عدي عَلَى فرسه، وَهُوَ يقول:

يَا ناقتي لا تذعري من زجري ... وشمري قبل طلوع الفجر بخير ركبان وخير سفر ... حَتَّى تحلي بكريم النجر الماجد الحر رحيب الصدر ... أتى بِهِ اللَّه لخير أمر ثمت أبقاه بقاء الدهر. قَالَ: فلما انتهوا إِلَى الْحُسَيْن أنشدوه هَذِهِ الأبيات، [فَقَالَ: أما وَاللَّهِ إني لأرجو أن يكون خيرا مَا أراد اللَّه بنا، قتلنا أم ظفرنا،] قَالَ: وأقبل إِلَيْهِم الحر بن يَزِيدَ فَقَالَ: إن هَؤُلاءِ النفر الَّذِينَ من أهل الْكُوفَة ليسوا ممن أقبل معك، وأنا حابسهم أو رادهم، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: لأمنعنهم مما أمنع مِنْهُ نفسي، إنما هَؤُلاءِ أنصاري وأعواني، وَقَدْ كنت أعطيتني الا تعرض لي بشيء حَتَّى يأتيك كتاب من ابن زياد، فَقَالَ: أجل، لكن لم يأتوا معك، قَالَ: هم أَصْحَابي، وهم بمنزلة من جَاءَ معي، فإن تممت عَلَى مَا كَانَ بيني وبينك وإلا ناجزتك، قَالَ: فكف عَنْهُمُ الحر، قَالَ: ثُمَّ قَالَ لَهُمُ الْحُسَيْن: أخبروني خبر الناس وراءكم، فَقَالَ لَهُ مجمع بن عَبْدِ اللَّهِ العائذي، وَهُوَ أحد النفر الأربعة الَّذِينَ جاءوه: أما أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم، وملئت غرائرهم، يستمال ودهم، ويستخلص بِهِ نصيحتهم، فهم ألب واحد عَلَيْك، وأما سائر الناس بعد، فإن أفئدتهم تهوي إليك، وسيوفهم غدا مشهورة عَلَيْك، قَالَ: أخبروني، فهل لكم برسولي إليكم؟ قَالُوا: من هُوَ؟ قَالَ: قيس بن مسهر الصيداوي، فَقَالُوا: نعم، أخذه الحصين ابن تميم فبعث بِهِ إِلَى ابن زياد، فأمره ابن زياد أن يلعنك ويلعن أباك، فصلى عَلَيْك وعلى أبيك، ولعن ابن زياد وأباه، ودعا إِلَى نصرتك، وأخبرهم بقدومك، فأمر بِهِ ابن زياد فألقي من طمار القصر، [فترقرقت عينا حسين ع ولم يملك دمعه، ثم قال: «مِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا» اللَّهُمَّ اجعل لنا ولهم الجنة نزلا، وأجمع بيننا وبينهم فِي مستقر من رحمتك، ورغائب مذخور ثوابك!]

قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي جميل بن مرثد من بنى معن، عن الطرماح ابن عدي، أنه دنا من الْحُسَيْن فَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ إني لأنظر فما أَرَى معك أحدا، ولو لم يقاتلك إلا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أراهم ملازميك لكان كفي بهم، وَقَدْ رأيت قبل خروجي من الْكُوفَة إليك بيوم ظهر الْكُوفَة وفيه مِنَ النَّاسِ مَا لم تر عيناي فِي صعيد واحد جمعا أكثر مِنْهُ، فسألت عَنْهُمْ، فقيل: اجتمعوا ليعرضوا، ثُمَّ يسرحون إِلَى الْحُسَيْن، فأنشدك الله ان قدرت على الا تقدم عَلَيْهِم شبرا إلا فعلت! فإن أردت أن تنزل بلدا يمنعك اللَّه بِهِ حَتَّى ترى من رأيك، ويستبين لك مَا أنت صانع، فسر حَتَّى أنزلك مناع جبلنا الَّذِي يدعى أجأ، امتنعنا وَاللَّهِ بِهِ من ملوك غسان وحمير ومن النُّعْمَان بن المنذر، ومن الأسود والأحمر، وَاللَّهِ إن دخل علينا ذل قط، فأسير معك حَتَّى أنزلك القرية، ثُمَّ نبعث إِلَى الرجال ممن بأجأ وَسَلمَى من طيّئ، فو الله لا ياتى عليك عشره ايام حتى تأتيك طيئ رجالا وركبانا، ثُمَّ أقم فينا مَا بدا لك، فإن هاجك هيج فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائي يضربون بين يديك بأسيافهم، وَاللَّهِ لا يوصل إليك أبدا ومنهم عين تطرف، [فَقَالَ لَهُ: جزاك اللَّه وقومك خيرا! إنه قَدْ كَانَ بيننا وبين هَؤُلاءِ القوم قول لسنا نقدر مَعَهُ عَلَى الانصراف، وَلا ندري علام تنصرف بنا وبهم الأمور فِي عاقبه!] قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي جميل بن مرثد، قال: حدثنى الطرماح ابن عدي، قَالَ: فودعته وقلت لَهُ: دفع اللَّه عنك شر الجن والإنس، إني قَدِ امترت لأهلي من الْكُوفَة ميرة، ومعي نفقة لَهُمْ، فآتيهم فأضع ذَلِكَ فِيهِمْ، ثُمَّ أقبل إليك ان شاء الله، فان الحقك فو الله لأكونن من أنصارك، قَالَ: فإن كنت فاعلا فعجل رحمك اللَّه، قَالَ: فعلمت أنه مستوحش إِلَى الرجال حَتَّى يسألني التعجيل، قَالَ: فلما بلغت أهلي وضعت عندهم مَا يصلحهم، وأوصيت، فأخذ أهلي يقولون: إنك لتصنع مرتك هَذِهِ شَيْئًا مَا كنت

تصنعه قبل الْيَوْم، فأخبرتهم بِمَا أريد، وأقبلت فِي طريق بني ثعل حَتَّى إذا دنوت من عذيب الهجانات، استقبلني سماعة بن بدر، فنعاه الى، فرجعت، قال: ومضى الحسين ع حَتَّى انتهى إِلَى قصر بني مقاتل، فنزل بِهِ، فإذا هُوَ بفسطاط مضروب. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الْمُجَالِد بن سَعِيدٍ، عن عَامِر الشَّعْبِيّ، أن الْحُسَيْن بْن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لمن هَذَا الفسطاط؟ فقيل: لعبيد الله ابن الحر الجعفي، قَالَ: ادعوه لي، وبعث إِلَيْهِ، فلما أتاه الرسول، قَالَ: هَذَا الْحُسَيْن بن علي يدعوك، فَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ بن الحر: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! وَاللَّهِ مَا خرجت من الْكُوفَة إلا كراهة أن يدخلها الْحُسَيْن وأنا بِهَا، وَاللَّهِ مَا أريد أن أراه وَلا يراني، فأتاه الرسول فأخبره، فأخذ الْحُسَيْن نعليه فانتعل، ثُمَّ قام فجاءه حَتَّى دخل عَلَيْهِ، فسلم وجلس، ثُمَّ دعاه إِلَى الخروج مَعَهُ، فأعاد إِلَيْهِ ابن الحر تِلَكَ المقاله، [فقال: فالا تنصرنا فاتق اللَّه أن تكون ممن يقاتلنا، فو الله لا يسمع واعيتنا أحد ثُمَّ لا ينصرنا إلا هلك،] قَالَ: أما هَذَا فلا يكون أبدا إِنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ قام الْحُسَيْن ع من عنده حَتَّى دخل رحله. قَالَ أَبُو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب، عن عقبة بن سمعان قَالَ: لما كَانَ فِي آخر الليل أمر الْحُسَيْن بالاستقاء من الماء، ثُمَّ أمرنا بالرحيل، ففعلنا، قَالَ: فلما ارتحلنا من قصر بني مقاتل وسرنا ساعة خفق الْحُسَيْن برأسه خفقة ثُمَّ انتبه وَهُوَ يقول: إنا لِلَّهِ وإنا إِلَيْهِ راجعون والحمد لِلَّهِ رب العالمين، قَالَ: ففعل ذَلِكَ مرتين أو ثلاثا، قَالَ: فأقبل إِلَيْهِ ابنه عَلِيّ بن الْحُسَيْن عَلَى فرس لَهُ فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، والحمد لِلَّهِ رب العالمين، يَا أبت، جعلت فداك! مم حمدت اللَّه واسترجعت؟ قَالَ: يَا بني، إني خفقت برأسي خفقة فعن لي فارس عَلَى فرس فَقَالَ: القوم يسيرون والمنايا تسري إِلَيْهِم، فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا، قَالَ لَهُ: يَا أبت،

لا أراك اللَّه سوءا، ألسنا عَلَى الحق! [قَالَ: بلى والذي إِلَيْهِ مرجع العباد، قَالَ: يَا أبت، إذا لا نبالي، نموت محقين، فَقَالَ لَهُ: جزاك اللَّه من ولد خير مَا جزى ولدا عن والده،] قَالَ: فلما أصبح نزل فصلى الغداة، ثُمَّ عجل الركوب، فأخذ يتياسر بأَصْحَابه يريد أن يفرقهم، فيأتيه الحر بن يَزِيدَ فيردهم فيرده، فجعل إذا ردهم إِلَى الْكُوفَةِ ردا شديدا امتنعوا عَلَيْهِ فارتفعوا، فلم يزالوا يتسايرون حَتَّى انتهوا إِلَى نينوى، المكان الَّذِي نزل بِهِ الْحُسَيْن، قَالَ: فإذا راكب عَلَى نجيب لَهُ وعليه السلاح متنكب قوسا مقبل من الْكُوفَة، فوقفوا جميعا ينتظرونه، فلما انتهى إِلَيْهِم سلم عَلَى الحر بن يَزِيدَ وأَصْحَابه، ولم يسلم عَلَى الْحُسَيْن ع وأَصْحَابه، فدفع إِلَى الحر كتابا من عُبَيْد الله ابن زياد فإذا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي، ويقدم عَلَيْك رسولي، فلا تنزله إلا بالعراء فِي غير حصن وعلى غير ماء، وَقَدْ أمرت رسولي أن يلزمك وَلا يفارقك حَتَّى يأتيني بإنفاذك أمري، والسلام. قَالَ: فلما قرأ الكتاب قَالَ لَهُمُ الحر: هَذَا كتاب الأمير عُبَيْد اللَّهِ بن زياد يأمرني فِيهِ أن أجعجع بكم فِي المكان الَّذِي يأتيني فِيهِ كتابه، وهذا رسوله، وَقَدْ امره الا يفارقني حَتَّى أنفذ رأيه وأمره، فنظر إِلَى رسول عبيد الله يزيد ابن زياد بن المهاصر أَبُو الشعثاء الكندي ثُمَّ البهدلي فعن لَهُ، فَقَالَ: أمالك بن النسير البدي؟ قَالَ: نعم- وَكَانَ أحد كندة- فَقَالَ له يزيد ابن زياد: ثكلتك أمك! ماذا جئت فِيهِ؟ قَالَ: وما جئت فِيهِ! أطعت إمامي، ووفيت ببيعتي، فَقَالَ لَهُ أَبُو الشعثاء: عصيت ربك، وأطعت إمامك فِي هلاك نفسك، كسبت العار والنار، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: «وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ» ، فهو إمامك قَالَ: وأخذ الحر بن يَزِيدَ القوم بالنزول فِي ذَلِكَ المكان عَلَى غير ماء وَلا فِي قرية، فَقَالُوا: دعنا ننزل فِي هَذِهِ القرية، يعنون نينوى-

أو هَذِهِ القرية- يعنون الغاضرية- أو هَذِهِ الاخرى- يعنون شفيه. فَقَالَ: لا وَاللَّهِ مَا أستطيع ذَلِكَ، هَذَا رجل قَدْ بعث إلي عينا، فَقَالَ لَهُ زهير بن القين: يا بن رَسُول اللَّهِ، إن قتال هَؤُلاءِ أهون من قتال من يأتينا من بعدهم، فلعمري ليأتينا من بعد من ترى مَا لا قبل لنا بِهِ، [فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: مَا كنت لأبدأهم بالقتال،] فَقَالَ لَهُ زهير بن القين: سر بنا الى هذه القرية حتى تنزلها فإنها حصينة، وَهِيَ عَلَى شاطئ الفرات، فإن منعونا قاتلناهم، فقتالهم أهون علينا من قتال من يجيء من بعدهم، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: وأية قرية هي؟ قَالَ: هي العقر، فَقَالَ الْحُسَيْن: اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من العقر، ثُمَّ نزل، وَذَلِكَ يوم الخميس، وَهُوَ الْيَوْم الثاني من المحرم سنة إحدى وستين فلما كَانَ من الغد قدم عَلَيْهِم عُمَر بن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاص من الْكُوفَة فِي أربعة آلاف قَالَ: وَكَانَ سبب خروج ابن سعد الى الحسين ع أن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد بعثه عَلَى أربعة آلاف من أهل الْكُوفَة يسير بهم إِلَى دَسْتَبَى، وكانت الديلم قَدْ خرجوا إِلَيْهَا وغلبوا عَلَيْهَا، فكتب إِلَيْهِ ابن زياد عهده عَلَى الري، وأمره بالخروج. فخرج معسكرا بِالنَّاسِ بحمام أعين، فلما كَانَ من أمر الْحُسَيْن مَا كَانَ وأقبل إِلَى الْكُوفَةِ دعا ابن زياد عُمَر بن سَعْدٍ، فَقَالَ: سر إِلَى الْحُسَيْن، فإذا فرغنا مما بيننا وبينه سرت إِلَى عملك، فَقَالَ لَهُ عُمَر بن سَعْد: إن رأيت رحمك اللَّه أن تعفيني فافعل، فَقَالَ لَهُ عُبَيْد اللَّهِ: نعم، عَلَى أن ترد لنا عهدنا، قَالَ: فلما قَالَ لَهُ ذَلِكَ قَالَ عُمَر بن سَعْد: أمهلني الْيَوْم حتى انظر، قال: فانصرف عمر يستشير نصحاءه، فلم يكن يستشير أحدا إلا نهاه، قَالَ: وجاء حمزه ابن الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ- وَهُوَ ابن أخته- فَقَالَ: أنشدك اللَّه يَا خال أن تسير إِلَى الحسين فتأثم بربك، وتقطع رحمك! فو الله لان تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض كلها لو كَانَ لك، خير لك من أن تلقى اللَّه بدم الْحُسَيْن! فَقَالَ لَهُ عُمَر بن سَعْد: فإني أفعل إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ هِشَام: حَدَّثَنِي عوانة بن الحكم، عن عمار بن عَبْدِ اللَّهِ بن يسار

الجهني، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دخلت عَلَى عُمَر بن سَعْد، وَقَدْ أمر بالمسير إِلَى الْحُسَيْن، فَقَالَ لي: إن الأمير أمرني بالمسير إِلَى الْحُسَيْن، فأبيت ذَلِكَ عَلَيْهِ، فقلت لَهُ: أصاب اللَّه بك، أرشدك اللَّه، أحل فلا تفعل وَلا تسر إِلَيْهِ. قَالَ: فخرجت من عنده، فأتاني آت وَقَالَ: هَذَا عُمَر بن سَعْد يندب الناس إِلَى الْحُسَيْن، قَالَ: فأتيته فإذا هُوَ جالس، فلما رآني أعرض بوجهه فعرفت أنه قَدْ عزم عَلَى المسير إِلَيْهِ، فخرجت من عنده، قال: فاقبل عمر ابن سَعْد إِلَى ابن زياد فَقَالَ: أصلحك اللَّه! إنك وليتني هَذَا العمل، وكتبت لي العهد، وسمع بِهِ الناس، فإن رأيت أن تنفذ لي ذَلِكَ فافعل وابعث إِلَى الْحُسَيْن فِي هَذَا الجيش من أشراف الْكُوفَة من لست بأغنى وَلا أجزأ عنك فِي الحرب مِنْهُ، فسمى لَهُ أناسا، فَقَالَ لَهُ ابن زياد: لا تعلمني بأشراف أهل الْكُوفَة، ولست أستأمرك فيمن أريد أن أبعث إن سرت بجندنا، وإلا فابعث إلينا بعهدنا، فلما رآه قَدْ لج قَالَ: فإني سائر، قَالَ: فأقبل فِي أربعة آلاف حَتَّى نزل بالحسين من الغد من يوم نزل الْحُسَيْن نينوى. قَالَ: فبعث عمر بن سعد الى الحسين ع عزره بن قيس الأحمسي، فَقَالَ: ائته فسله مَا الَّذِي جَاءَ بِهِ؟ وماذا يريد؟ وَكَانَ عزرة ممن كتب إِلَى الْحُسَيْن فاستحيا مِنْهُ أن يأتيه قَالَ: فعرض ذَلِكَ عَلَى الرؤساء الَّذِينَ كاتبوه، فكلهم أبى وكرهه قَالَ: وقام إِلَيْهِ كثير بن عَبْدِ اللَّهِ الشَّعْبِيّ- وَكَانَ فارسا شجاعا ليس يرد وجهه شَيْء- فَقَالَ: أنا أذهب إِلَيْهِ، وَاللَّهِ لَئِنْ شئت لأفتكن بِهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَر بن سَعْد: مَا أريد أن يفتك بِهِ، ولكن ائته فسله مَا الَّذِي جَاءَ بِهِ؟ قَالَ: فأقبل إِلَيْهِ، فلما رآه أَبُو ثمامة الصائدي قَالَ للحسين: أصلحك اللَّه أبا عَبْد اللَّهِ! قَدْ جاءك شر أهل الأرض وأجرؤه عَلَى دم وأفتكه، فقام إِلَيْهِ، فَقَالَ: ضع سيفك، قَالَ: لا وَاللَّهِ وَلا كرامة، إنما أنا رسول، فإن سمعتم مني أبلغتكم مَا أرسلت بِهِ إليكم، وإن أبيتم انصرفت عنكم، فَقَالَ لَهُ: فإني آخذ بقائم سيفك، ثُمَّ تكلم بحاجتك، قَالَ: لا وَاللَّهِ، لا تمسه فَقَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي مَا جئت بِهِ وأنا أبلغه عنك، وَلا أدعك تدنو مِنْهُ، فإنك فاجر، قَالَ: فاستبا، ثُمَّ انصرف إِلَى عُمَر بن سَعْد فأخبره الخبر، قَالَ:

فدعا عمر قرة بن قيس الحنظلي فَقَالَ لَهُ: ويحك يَا قرة! الق حسينا فسله مَا جَاءَ بِهِ؟ وماذا يريد؟ قَالَ: فأتاه قرة بن قيس، فلما رآه الْحُسَيْن مقبلا قَالَ: أتعرفون هَذَا؟ فَقَالَ حبيب بن مظاهر: نعم، هَذَا رجل من حنظلة تميمي، وَهُوَ ابن أختنا، وَلَقَدْ كنت أعرفه بحسن الرأي، وما كنت أراه يشهد هَذَا المشهد، قَالَ: فَجَاءَ حَتَّى سلم عَلَى الْحُسَيْن، وأبلغه رساله عمر بن سعد اليه له، [فقال الْحُسَيْن: كتب إلي أهل مصركم هَذَا إن اقدم، فاما إذ كرهوني فأنا أنصرف عَنْهُمْ،] قَالَ: ثُمَّ قَالَ لَهُ حبيب بن مظاهر: ويحك يَا قرة ابن قيس! أنى ترجع إِلَى القوم الظالمين! انصر هَذَا الرجل الَّذِي بآبائه أيدك اللَّه بالكرامة وإيانا معك، فَقَالَ لَهُ قرة: ارجع إِلَى صاحبي بجواب رسالته، وأرى رأيي، قَالَ: فانصرف إِلَى عُمَر بن سَعْد فأخبره الخبر، فَقَالَ لَهُ عُمَر بن سَعْد: إني لأرجو أن يعافيني اللَّه من حربه وقتاله. قَالَ هِشَامٌ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي النضر بن صالح بن حبيب ابن زهير العبسي، عن حسان بن فائد بن بكير العبسي، قَالَ: أشهد أن كتاب عُمَر بن سَعْد جَاءَ إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد وأنا عنده فإذا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَمَّا بَعْدُ، فإني حَيْثُ نزلت بالحسين بعثت إِلَيْهِ رسولي، فسألته عما أقدمه، وماذا يطلب ويسأل، فَقَالَ: كتب إلي أهل هذه البلاد وأتتني به رسلهم، فسألوني القدوم ففعلت، فاما إذ كرهوني فبدا لَهُمْ غير مَا أتتني بِهِ رسلهم فأنا منصرف عَنْهُمْ، فلما قرئ الكتاب عَلَى ابن زياد قَالَ: الآن إذ علقت مخالبنا بِهِ ... يرجو النجاة ولات حين مناص! قَالَ: وكتب إِلَى عُمَر بن سَعْد: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَمَّا بَعْدُ، فقد بلغني كتابك، وفهمت مَا ذكرت، فاعرض عَلَى الْحُسَيْن أن يبايع ليزيد بن مُعَاوِيَة هُوَ وجميع أَصْحَابه، فإذا فعل ذَلِكَ رَأَيْنَا رَأْيَنَا، والسلام

قَالَ: فلما أتى عُمَر بن سَعْد الكتاب، قال: قد حسبت الا يقبل ابن زياد العافية. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم الأَزْدِيّ، قَالَ: جَاءَ من عُبَيْد اللَّهِ بن زياد كتاب إِلَى عُمَر بن سَعْد: أَمَّا بَعْدُ، فحل بين الْحُسَيْن وأَصْحَابه وبين الماء، وَلا يذوقوا مِنْهُ قطرة، كما صنع بالتقي الزكي المظلوم أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَان بن عَفَّانَ قَالَ: فبعث عُمَر بن سَعْد عمرو بن الحجاج على خمسمائة فارس، فنزلوا عَلَى الشريعة، وحالوا بين حُسَيْن وأَصْحَابه وبين الماء أن يسقوا مِنْهُ قطرة، وَذَلِكَ قبل قتل الْحُسَيْن بثلاث. قَالَ: ونازله عَبْد اللَّهِ بن أبي حصين الأَزْدِيّ- وعداده فِي بجيلة- فَقَالَ: يَا حُسَيْن، أَلا تنظر إِلَى الماء كأنه كبد السماء! وَاللَّهِ لا تذوق مِنْهُ قطرة حَتَّى تموت عطشا، فَقَالَ حُسَيْن: اللَّهُمَّ اقتله عطشا، وَلا تغفر لَهُ أبدا. قَالَ حميد بن مسلم: وَاللَّهِ لعدته بعد ذلك في مرضه، فو الله الَّذِي لا إله إلا هُوَ لقد رأيته يشرب حَتَّى بغر، ثُمَّ يقيء، ثُمَّ يعود فيشرب حَتَّى يبغر فما يروى، فما زال ذلك دابه حتى لفظ عصبه يعني نفسه- قَالَ: ولما اشتد عَلَى الْحُسَيْن وأَصْحَابه العطش دعا العباس بن عَلِيّ بن أبي طالب أخاه، فبعثه فِي ثَلاثِينَ فارسا وعشرين راجلا، وبعث معهم بعشرين قربة، فجاءوا حَتَّى دنوا من الماء ليلا واستقدم أمامهم باللواء نافع بن هلال الْجَمَلِيّ، فَقَالَ عَمْرو بن الحجاج الزبيدى: من الرجل؟ فجيء فقال: مَا جَاءَ بك؟ قَالَ: جئنا نشرب من هَذَا الماء الَّذِي حلأتمونا عنه، قَالَ: فاشرب هنيئا، قَالَ: لا وَاللَّهِ، لا أشرب مِنْهُ قطرة وحسين عطشان ومن ترى من أَصْحَابه، فطلعوا عَلَيْهِ، فَقَالَ: لا سبيل إِلَى سقي هَؤُلاءِ، إنما وضعنا بهذا المكان لنمنعهم الماء، فلما دنا مِنْهُ أَصْحَابه قَالَ لرجاله: املئوا قربكم، فشد الرجالة فملئوا قربهم، وثار إِلَيْهِم عَمْرو بن الحجاج وأَصْحَابه، فحمل عَلَيْهِم العباس بن علي ونافع بن هلال فكفوهم، ثُمَّ انصرفوا إِلَى رحالهم، فَقَالُوا: امضوا، ووقفوا دونهم، فعطف

عَلَيْهِم عَمْرو بن الحجاج وأَصْحَابه واطردوا قليلا ثُمَّ إن رجلا من صداء طعن من أَصْحَاب عَمْرو بن الحجاج، طعنه نافع بن هلال، فظن أنها ليست بشيء، ثُمَّ إنها انتقضت بعد ذَلِكَ، فمات منها، وجاء أَصْحَاب حُسَيْن بالقرب فأدخلوها عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو جناب، عن هانئ بن ثبيت الحضرمي- وَكَانَ قَدْ شهد قتل الْحُسَيْن، قَالَ: بعث الحسين ع إِلَى عُمَر بن سَعْد عَمْرو بن قرظة بن كعب الأنصاري: ان القنى الليل بين عسكري وعسكرك. قَالَ: فخرج عُمَر بن سَعْد فِي نحو من عشرين فارسا، وأقبل حُسَيْن فِي مثل ذَلِكَ، فلما التقوا أمر حُسَيْن أَصْحَابه أن يتنحوا عنه، وأمر عُمَر بن سَعْد أَصْحَابه بمثل ذَلِكَ، قَالَ: فانكشفنا عنهما بحيث لا نسمع أصواتهما وَلا كلامهما، فتكلما فأطالا حَتَّى ذهب من الليل هزيع، ثُمَّ انصرف كل واحد منهما إِلَى عسكره بأَصْحَابه، وتحدث الناس فِيمَا بينهما، ظنا يظنونه أن حسينا قَالَ لعمر بن سَعْد: اخرج معي إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة وندع العسكرين، قَالَ عمر: إذن تهدم داري، قَالَ: أنا أبنيها لك، قَالَ: إذن تؤخذ ضياعي، قَالَ: إذن أعطيك خيرا منها من مالي بالحجاز قَالَ: فتكره ذَلِكَ عمر، قَالَ: فتحدث الناس بِذَلِكَ، وشاع فِيهِمْ مِنْ غَيْرِ أن يكونوا سمعوا من ذَلِكَ شَيْئًا وَلا علموه. قَالَ أَبُو مخنف: وأما مَا حَدَّثَنَا بِهِ الْمُجَالِدُ بن سَعِيدٍ والصقعب بن زهير الأَزْدِيّ وغيرهما من المحدثين، فهو مَا عَلَيْهِ جماعة المحدثين، قَالُوا: إنه قَالَ: اختاروا مني خصالا ثلاثا: إما أن أرجع إِلَى المكان الَّذِي أقبلت مِنْهُ، وإما أن أضع يدي فِي يد يَزِيد بن مُعَاوِيَة فيرى فِيمَا بيني وبينه رأيه، وإما أن تسيروني إِلَى أي ثغر من ثغور الْمُسْلِمِينَ شئتم، فأكون رجلا من أهله، لي مَا لَهُمْ وعلي مَا عَلَيْهِم. قَالَ أَبُو مخنف: فأما عبد الرَّحْمَن بن جندب فَحَدَّثَنِي عن عقبة بن سمعان قَالَ: صحبت حسينا فخرجت مَعَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مكة، ومن مكة إِلَى

العراق، ولم أفارقه حَتَّى قتل، وليس من مخاطبته الناس كلمة بِالْمَدِينَةِ وَلا بمكة وَلا فِي الطريق وَلا بِالْعِرَاقِ وَلا فِي عسكر إِلَى يوم مقتله إلا وَقَدْ سمعتها أَلا وَاللَّهِ مَا أعطاهم مَا يتذاكر الناس وما يزعمون، من أن يضع يده فِي يد يَزِيد بن مُعَاوِيَة، وَلا أن يسيروه إِلَى ثغر من ثغور الْمُسْلِمِينَ، ولكنه قَالَ: دعوني فلأذهب فِي هَذِهِ الأرض العريضة حَتَّى ننظر مَا يصير أمر الناس. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الْمُجَالِد بن سَعِيد الهمداني والصقعب بن زهير، أنهما كانا التقيا مرارا ثلاثا أو أربعا، حُسَيْن وعمر بن سَعْدٍ، قَالَ: فكتب عمر ابن سَعْد إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد: أَمَّا بَعْدُ، فإن اللَّه قَدْ أطفأ النائرة، وجمع الكلمة، وأصلح أمر الأمة، هَذَا حُسَيْن قَدْ أعطاني أن يرجع إِلَى المكان الَّذِي مِنْهُ أتى، أو أن نسيره إِلَى أي ثغر من ثغور الْمُسْلِمِينَ شئنا، فيكون رجلا مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَهُ مَا لَهُمْ، وعليه مَا عَلَيْهِم، أو أن يأتي يَزِيد أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فيضع يده فِي يده، فيرى فِيمَا بينه وبينه رأيه، وفي هَذَا لكم رضا، وللأمة صلاح قَالَ: فلما قرأ عُبَيْد اللَّهِ الكتاب قَالَ: هَذَا كتاب رجل ناصح لأميره، مشفق عَلَى قومه، نعم قَدْ قبلت قَالَ: فقام إِلَيْهِ شمر بن ذي الجوشن، فَقَالَ: أتقبل هَذَا مِنْهُ وَقَدْ نزل بأرضك إِلَى جنبك! وَاللَّهِ لَئِنْ رحل من بلدك، ولم يضع يده فِي يدك، ليكونن أولى بالقوة والعزة ولتكونن أولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هَذِهِ المنزلة فإنها من الوهن، ولكن لينزل عَلَى حكمك هُوَ وأَصْحَابه، فإن عاقبت فأنت ولي العقوبة، وإن غفرت كَانَ ذَلِكَ لك، وَاللَّهِ لقد بلغني أن حسينا وعمر بن سَعْد يجلسان بين العسكرين فيتحدثان عامة الليل، فَقَالَ لَهُ ابن زياد: نعم مَا رأيت! الرأي رأيك. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قَالَ: ثُمَّ إن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد دعا شمر بن ذي الجوشن فَقَالَ لَهُ: اخرج بهذا الكتاب إِلَى عُمَر بن سَعْد فليعرض عَلَى الْحُسَيْن وأَصْحَابه النزول عَلَى حكمي، فإن فعلوا فليبعث بهم إلي سلما، وإن هم أبوا فليقاتلهم، فإن فعل فاسمع لَهُ وأطع، وإن هُوَ أبى فقاتلهم، فأنت أَمِير الناس، وثب عَلَيْهِ فاضرب عنقه، وابعث إلي برأسه

قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو جناب الكلبي، قال: ثم كتب عبيد الله ابن زياد إِلَى عُمَر بن سَعْد: أَمَّا بَعْدُ، فإني لم أبعثك إِلَى حُسَيْن لتكف عنه وَلا لتطاوله، وَلا لتمنيه السلامة والبقاء، وَلا لتقعد لَهُ عندي شافعا انظر، فإن نزل حُسَيْن وأَصْحَابه عَلَى الحكم واستسلموا، فابعث بهم إلي سلما، وإن أبوا فازحف إِلَيْهِم حَتَّى تقتلهم وتمثل بهم، فإنهم لذلك مستحقون، فإن قتل حُسَيْن فأوطئ الخيل صدره وظهره، فإنه عاق مشاق، قاطع ظلوم، وليس دهري فِي هَذَا أن يضر بعد الموت شَيْئًا، ولكن علي قول لو قَدْ قتلته فعلت هَذَا بِهِ إن أنت مضيت لأمرنا فِيهِ جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا، وخل بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر، فإنا قَدْ أمرناه بأمرنا، والسلام قَالَ أَبُو مخنف: عن الْحَارِث بن حصيرة، عن عَبْد اللَّهِ بن شريك العامري، قَالَ: لما قبض شمر بن ذي الجوشن الكتاب قام هُوَ وعبد اللَّه بن أبي المحل- وكانت عمته أم البنين ابنة حزام عِنْدَ على بن ابى طالب ع، فولدت لَهُ العباس وعبد اللَّه وجعفرا وعثمان- فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن أبي المحل بن حزام بن خَالِد بن رَبِيعَة بن الوحيد بن كعب بن عَامِر بن كلاب: أصلح اللَّه الأمير! إن بني أختنا مع الْحُسَيْن، فإن رأيت أن تكتب لَهُمْ أمانا فعلت، قَالَ: نعم ونعمة عين فأمر كاتبه، فكتب لَهُمْ أمانا، فبعث بِهِ عَبْد اللَّهِ بن أبي المحل مع مولى لَهُ يقال لَهُ: كزمان، فلما قدم عَلَيْهِم دعاهم، فَقَالَ: هَذَا أمان بعث بِهِ خالكم، فَقَالَ لَهُ الفتية: أقرئ خالنا السلام، وقل له: أن لا حاجة لنا فِي أمانكم، أمان اللَّه خير من أمان ابن سمية قَالَ: فأقبل شمر بن ذي الجوشن بكتاب عُبَيْد اللَّهِ بن زياد الى عمر ابن سَعْد، فلما قدم بِهِ عَلَيْهِ فقرأه قَالَ لَهُ عمر: مَا لك ويلك! لا قرب اللَّه دارك، وقبح اللَّه مَا قدمت بِهِ علي! وَاللَّهِ إني لأظنك أنت ثنيته أن يقبل مَا كتبت بِهِ إِلَيْهِ، أفسدت علينا أمرا كنا رجونا أن يصلح، لا يستسلم وَاللَّهِ حُسَيْن، إن نفسا أبية لبين جنبيه، فَقَالَ لَهُ شمر: أَخْبِرْنِي مَا أنت صانع؟ أتمضي لأمر أميرك وتقتل عدوه، وإلا فخل بيني وبين الجند

والعسكر، قَالَ: لا وَلا كرامة لك، وأنا أتولى ذَلِكَ، قَالَ: فدونك، وكن أنت عَلَى الرجال، قَالَ: فنهض إِلَيْهِ عشية الخميس لتسع مضين من المحرم، قَالَ: وجاء شمر حَتَّى وقف عَلَى أَصْحَاب الْحُسَيْن، فَقَالَ: أين بنو أختنا؟ فخرج إِلَيْهِ العباس وجعفر وعثمان بنو على، فقالوا له: مالك وما تريد؟ قَالَ: أنتم يَا بني أختي آمنون، قَالَ لَهُ الفتية: لعنك اللَّه ولعن أمانك! لَئِنْ كنت خالنا أتؤمننا وابن رَسُول اللَّهِ لا أمان لَهُ! قَالَ: ثُمَّ إن عُمَر بن سَعْد نادى: يَا خيل اللَّه اركبي وأبشري فركب فِي الناس، ثُمَّ زحف نحوهم بعد صلاة العصر، وحسين جالس أمام بيته محتبيا بسيفه، إذ خفق برأسه عَلَى ركبتيه، وسمعت أخته زينب الصيحة فدنت من أخيها، فَقَالَتْ: يَا أخي، أما تسمع الأصوات قَدِ اقتربت! قَالَ: [فرفع الْحُسَيْن رأسه فَقَالَ: انى رايت رسول الله ص فِي المنام فَقَالَ لي: إنك تروح إلينا، قَالَ] : فلطمت أخته وجهها وقالت: يَا ويلتا! فَقَالَ: ليس لك الويل يَا أخية، اسكني رحمك الرحمن! وَقَالَ العباس بن علي: يَا أخي، أتاك القوم، قَالَ: فنهض، ثُمَّ قَالَ: يَا عباس، اركب بنفسي أنت يَا أخي حَتَّى تلقاهم فتقول لَهُمْ: مَا لكم؟ وما بدا لكم؟ وتسألهم عما جَاءَ بهم؟ فأتاهم العباس، فاستقبلهم فِي نحو من عشرين فارسا فيهم زهير بن القين وحبيب ابن مظاهر، فَقَالَ لَهُمُ العباس: مَا بدا لكم؟ وما تريدون؟ قَالُوا: جَاءَ أمر الأمير بأن نعرض عَلَيْكُمْ أن تنزلوا عَلَى حكمه أو ننازلكم، قَالَ: فلا تعجلوا. حَتَّى أرجع إِلَى أبي عَبْد اللَّهِ فأعرض عَلَيْهِ مَا ذكرتم، قَالَ: فوقفوا ثُمَّ قَالُوا: القه فأعلمه ذَلِكَ، ثُمَّ القنا بِمَا يقول، قَالَ: فانصرف العباس راجعا يركض الى الحسين يخبره بالخبر، ووقف أَصْحَابه يخاطبون القوم، فَقَالَ حبيب ابن مظاهر لزهير بن القين: كلم القوم إن شئت وإن شئت كلمتهم، فَقَالَ لَهُ زهير: أنت بدأت بهذا، فكن أنت تكلمهم، فَقَالَ لَهُ حبيب بن مظاهر: أما وَاللَّهِ لبئس القوم عِنْدَ اللَّه غدا قوم يقدمون عَلَيْهِ قَدْ قتلوا ذرية نبيه عَلَيْهِ السلام وعترته واهل بيته ص وعباد أهل هَذَا المصر المجتهدين بالأسحار، والذاكرين اللَّه كثيرا، فَقَالَ لَهُ عزرة بن قيس: انك لتزكى

نفسك مَا استطعت، فَقَالَ لَهُ زهير: يَا عزرة، إن اللَّه قَدْ زكاها وهداها، فاتق اللَّه يَا عزرة فإني لك من الناصحين، أنشدك اللَّه يَا عزرة أن تكون ممن يعين الضلال عَلَى قتل النفوس الزكية! قَالَ: يَا زهير، مَا كنت عندنا من شيعة أهل هَذَا البيت، إنما كنت عثمانيا، قَالَ: أفلست تستدل بموقفي هَذَا أني مِنْهُمْ! أما وَاللَّهِ مَا كتبت إِلَيْهِ كتابا قط، وَلا أرسلت إِلَيْهِ رسولا قط، وَلا وعدته نصرتي قط، ولكن الطريق جمع بيني وبينه، فلما رايته ذكرت به رسول الله ص ومكانه مِنْهُ، وعرفت مَا يقدم عَلَيْهِ من عدوه وحزبكم، فرأيت أن أنصره، وأن أكون فِي حزبه، وأن أجعل نفسي دون نفسه، حفظا لما ضيعتم من حق اللَّه وحق رسوله ع قَالَ: وأقبل العباس بن علي يركض حَتَّى انتهى إِلَيْهِم، فَقَالَ: يَا هَؤُلاءِ، إن أبا عبد الله يسألكم ان تنصرفوا هَذِهِ العشية حَتَّى ينظر فِي هَذَا الأمر، فإن هَذَا أمر لم يجر بينكم وبينه فِيهِ منطق، فإذا أصبحنا التقينا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فإما رضيناه فأتينا بالأمر الَّذِي تسألونه وتسومونه، أو كرهنا فرددناه، وإنما أراد بِذَلِكَ أن يردهم عنه تِلَكَ العشية حَتَّى يأمر بأمره، ويوصي أهله، فلما أتاهم العباس بن علي بِذَلِكَ قَالَ عُمَر بن سَعْد: مَا ترى يَا شمر؟ قَالَ: مَا ترى أنت، أنت الأمير والرأي رأيك، قَالَ: قَدْ أردت الا أكون، ثُمَّ أقبل عَلَى الناس فَقَالَ: ماذا ترون؟ فَقَالَ عَمْرو بن الحجاج بن سلمة الزبيدي: سبحان اللَّه! وَاللَّهِ لو كَانُوا من الديلم ثُمَّ سألوك هَذِهِ المنزلة لكان ينبغي لك أن تجيبهم إِلَيْهَا، وَقَالَ قيس بن الأشعث: أجبهم إِلَى مَا سألوك، فلعمري ليصبحنك بالقتال غدوة، فَقَالَ: وَاللَّهِ لو أعلم أن يفعلوا مَا أخرجتهم العشية، قَالَ: وَكَانَ العباس بن علي حين أتى حسينا بِمَا عرض عَلَيْهِ عُمَر بن سَعْدٍ [قَالَ: ارجع إِلَيْهِم، فإن استطعت أن تؤخرهم إِلَى غدوة وتدفعهم عند العشية لعلنا نصلي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أني قَدْ كنت أحب الصَّلاة لَهُ وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار!] قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بن حصيرة، عن عَبْد اللَّهِ بن شريك

العامري، [عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْن قَالَ: أتانا رسول من قبل عُمَر بن سَعْد فقام مثل حَيْثُ يسمع الصوت فَقَالَ: إنا قَدْ أجلناكم إِلَى غد، فإن استسلمتم سرحنا بكم إِلَى أميرنا عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، وإن أبيتم فلسنا تاركيكم] . قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عاصم الفائشي، عن الضحاك بن عَبْدِ اللَّهِ المشرقي- بطن من همدان- ان الحسين بن على ع جمع أَصْحَابه. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي أَيْضًا الحارث بن حصيرة، عن عبد الله بن شريك العامري، [عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْن، قَالا: جمع الحسين اصحابه بعد ما رجع عُمَر بن سَعْد، وَذَلِكَ عِنْدَ قرب المساء، قَالَ عَلِيّ بن الْحُسَيْن: فدنوت مِنْهُ لأسمع وأنا مريض، فسمعت أبي وَهُوَ يقول لأَصْحَابه: أثني عَلَى اللَّه تبارك وتعالى أحسن الثناء، وأحمده عَلَى السراء والضراء، اللَّهُمَّ إني أحمدك عَلَى أن أكرمتنا بالنبوة، وعلمتنا القرآن، وفقهتنا فِي الدين، وجعلت لنا أسماعا وأبصارا وأفئدة، ولم تجعلنا من المشركين، أَمَّا بَعْدُ، فإني لا أعلم أَصْحَابا أولى وَلا خيرا من أَصْحَابي، وَلا أهل بيت أبر وَلا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم اللَّه عني جميعا خيرا، أَلا وإني أظن يومنا من هَؤُلاءِ الأعداء غدا، أَلا وإني قَدْ رأيت لكم فانطلقوا جميعا فِي حل، ليس عَلَيْكُمْ مني ذمام، هَذَا ليل قَدْ غشيكم، فاتخذوه جملا] . قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ بن عاصم الفائشي- بطن من همدان- عن الضحاك بن عَبْدِ اللَّهِ المشرقي، قَالَ: قدمت ومالك بن النضر الأرحبي عَلَى الْحُسَيْن، فسلمنا عَلَيْهِ، ثُمَّ جلسنا إِلَيْهِ، فرد علينا، ورحب بنا، وسألنا عما جئنا لَهُ، فقلنا: جئنا لنسلم عَلَيْك، وندعو اللَّه لك بالعافية، ونحدث بك عهدا، ونخبرك خبر الناس، وإنا نحدثك أَنَّهُمْ قَدْ جمعوا عَلَى حربك فر رأيك [فقال الحسين ع: حسبي اللَّه ونعم الوكيل!] قَالَ: فتذممنا وَسَلَّمنا عَلَيْهِ، ودعونا اللَّه لَهُ، قَالَ: فما يمنعكما من نصرتي؟ فقال مالك ابن النضر: عليّ دين، ولي عيال، فقلت لَهُ: إن علي دينا، وإن لي لعيالا، ولكنك إن جعلتني فِي حل من الانصراف إذا لم أجد مقاتلا قاتلت

عنك مَا كَانَ لك نافعا، وعنك دافعا! قَالَ: قَالَ: فأنت فِي حل، فأقمت مَعَهُ، فلما كَانَ الليل قَالَ: [هَذَا الليل قَدْ غشيكم، فاتخذوه جملا، ثُمَّ ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من اهل بيتى، تفرقوا فِي سوادكم ومدائنكم حَتَّى يفرج اللَّه، فإن القوم إنما يطلبوني، ولو قَدْ أصابوني لهوا عن طلب غيري،] فَقَالَ لَهُ إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عَبْد اللَّهِ بن جَعْفَر: لم نفعل لنبقى بعدك، لا أرانا اللَّه ذَلِكَ أبدا، بدأهم بهذا القول العباس بن علي ثُمَّ إِنَّهُمْ تكلموا بهذا ونحوه، [فقال الحسين ع: يَا بني عقيل، حسبكم من القتل بمسلم،] اذهبوا قَدْ أذنت لكم، قَالُوا: فما يقول الناس! يقولون إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، وَلا ندري مَا صنعوا! لا وَاللَّهِ لا نفعل، ولكن تفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا، ونقاتل معك حَتَّى نرد موردك، فقبح اللَّه العيش بعدك! قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ بن عاصم، عن الضحاك بن عَبْدِ اللَّهِ المشرقي، قَالَ: فقام إِلَيْهِ مسلم بن عوسجة الأسدي فَقَالَ: أنحن نخلي عنك ولما نعذر إِلَى اللَّهِ فِي أداء حقك! أما وَاللَّهِ حَتَّى أكسر فِي صدورهم رمحي، وأضربهم بسيفي مَا ثبت قائمه فِي يدي، وَلا أفارقك، ولو لَمْ يَكُنْ معي سلاح أقاتلهم بِهِ لقذفتهم بالحجارة دونك حَتَّى أموت معك. قَالَ: وَقَالَ سَعِيد بن عَبْدِ اللَّهِ الحنفي: وَاللَّهِ لا نخليك حَتَّى يعلم اللَّه أنا حفظنا غيبه رسول الله ص فيك، وَاللَّهِ لو علمت أني أقتل ثُمَّ أحيا ثُمَّ أحرق حيا ثُمَّ أذر، يفعل ذَلِكَ بي سبعين مرة مَا فارقتك حَتَّى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذَلِكَ! وإنما هي قتلة واحدة، ثُمَّ هي الكرامة الَّتِي لا انقضاء لها أبدا. قَالَ: وَقَالَ زهير بن القين: وَاللَّهِ لوددت أني قتلت ثُمَّ نشرت ثُمَّ قتلت حَتَّى أقتل كذا ألف قتلة، وأن اللَّه يدفع بِذَلِكَ القتل عن نفسك وعن أنفس

هَؤُلاءِ الفتية من أهل بيتك قَالَ: وتكلم جماعة أَصْحَابه بكلام يشبه بعضه بعضا فِي وجه واحد، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لا نفارقك، ولكن أنفسنا لك الفداء، نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا، فإذا نحن قتلنا كنا وفينا، وقضينا مَا علينا. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بن كعب وابو الضحاك، [عن على ابن الْحُسَيْن بن علي قَالَ: إني جالس فِي تِلَكَ العشية الَّتِي قتل أبي صبيحتها، وعمتي زينب عندي تمرضني، إذ اعتزل أبي بأَصْحَابه فِي خباء لَهُ، وعنده حوي، مولى أبي ذر الْغِفَارِيّ، وَهُوَ يعالج سيفه ويصلحه وأبي يقول: يَا دهر أف لك من خليل ... كم لك بالإشراق والأصيل من صاحب أو طالب قتيل ... والدهر لا يقنع بالبديل وإنما الأمر إِلَى الجليل ... وكل حي سالك السبيل قال: فأعادها مرتين او ثلاثا حَتَّى فهمتها، فعرفت مَا أراد، فخنقتني عبرتي، فرددت دمعي ولزمت السكون، فعلمت أن البلاء قَدْ نزل،] [فأما عمتي فإنها سمعت مَا سمعت، وَهِيَ امرأة، وفي النساء الرقة والجزع، فلم تملك نفسها أن وثبت تجر ثوبها، وانها لحاسره حتى انتهت اليه، فقالت: وا ثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة! الْيَوْم ماتت فاطمة أمي وعلي أبي وحسن أخي، يَا خليفة الماضي، وثمال الباقي، قَالَ: فنظر إِلَيْهَا الْحُسَيْن ع فَقَالَ: يَا أخية، لا يذهبن حلمك الشَّيْطَان،] قالت: بأبي أنت وأمي يَا أَبَا عَبْد اللَّهِ! استقتلت نفسي فداك، فرد غصته، وترقرقت عيناه، وَقَالَ: لو ترك القطا ليلا لنام، قالت: يا ويلتى، افتغصب نفسك اغتصابا، فذلك أقرح لقلبي، وأشد عَلَى نفسي! ولطمت وجهها، وأهوت إِلَى جيبها وشقته، وخرت مغشيا عَلَيْهَا، فقام إِلَيْهَا الْحُسَيْن فصب عَلَى وجهها الماء، [وَقَالَ لها: يَا أخية، اتقي اللَّه وتعزي بعزاء اللَّه،، واعلمي أن أهل الأرض يموتون، وأن أهل السماء لا يبقون، وأن كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ

إلا وجه اللَّه الَّذِي خلق الأرض بقدرته، ويبعث الخلق فيعودون، وَهُوَ فرد وحده، أبي خير مني، وأمي خير مني، وأخي خير مني، ولي ولهم ولكل مسلم برسول اللَّه أسوة، قَالَ: فعزاها بهذا ونحوه، وَقَالَ لها: يَا أخية، إني أقسم عَلَيْك فأبري قسمي، لا تشقي علي جيبا، وَلا تخمشي علي وجها، وَلا تدعي علي بالويل والثبور إذا أنا هلكت،] قَالَ: ثُمَّ جَاءَ بِهَا حَتَّى أجلسها عندي، وخرج إِلَى أَصْحَابه فأمرهم أن يقربوا بعض بيوتهم من بعض، وأن يدخلوا الأطناب بعضها فِي بعض، وأن يكونوا هم بين البيوت إلا الوجه الَّذِي يأتيهم مِنْهُ عدوهم. قَالَ أَبُو مخنف: عن عَبْد اللَّهِ بن عاصم، عن الضحاك بن عَبْدِ اللَّهِ المشرقي، قَالَ: فلما أمسى حُسَيْن وأَصْحَابه قاموا الليل كله يصلون ويستغفرون، ويدعون ويتضرعون، قَالَ: فتمر بنا خيل لَهُمْ تحرسنا، وإن حسينا ليقرأ: «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» فسمعها رجل من تِلَكَ الخيل الَّتِي كَانَتْ تحرسنا، فَقَالَ: نحن ورب الكعبة الطيبون، ميزنا مِنْكُمْ. قَالَ: فعرفته فقلت لبرير بن حضير: تدري من هَذَا؟ قَالَ: لا، قلت هَذَا أَبُو حرب السبيعي عَبْد اللَّهِ بن شهر- وَكَانَ مضحاكا بطالا، وَكَانَ شريفا شجاعا فاتكا، وَكَانَ سَعِيد بن قيس ربما حبسه فِي جناية- فَقَالَ لَهُ برير بن حضير: يَا فاسق، أنت يجعلك اللَّه فِي الطيبين! فَقَالَ لَهُ: من أنت؟ قَالَ: أنا برير بن حضير، قَالَ: إنا لِلَّهِ! عز علي! هلكت وَاللَّهِ، هلكت وَاللَّهِ يَا برير! قَالَ: يَا أَبَا حرب، هل لك أن تتوب إِلَى الله من ذنوبك العظام! فو الله إنا لنحن الطيبون، ولكنكم لأنتم الخبيثون، قَالَ: وأنا عَلَى ذَلِكَ من الشاهدين، قلت: ويحك! أفلا ينفعك معرفتك! قَالَ: جعلت فداك! فمن ينادم يَزِيد بن عذرة العنزي من عنز بن وائل! قال: ها هو ذا معي، قَالَ: قبح اللَّه رأيك عَلَى كل حال! أنت سفيه قَالَ: ثُمَّ انصرف

عنا، وَكَانَ الَّذِي يحرسنا بالليل فِي الخيل عزرة بن قيس الأحمسي، وَكَانَ عَلَى الخيل، قَالَ: فلما صلى عُمَر بن سَعْد الغداة يوم السبت- وَقَدْ بلغنا أَيْضًا أنه كَانَ يوم الجمعة، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْم يوم عاشوراء- خرج فيمن مَعَهُ مِنَ النَّاسِ. قَالَ: وعبأ الْحُسَيْن أَصْحَابه، وصلى بهم صلاة الغداة، وَكَانَ مَعَهُ اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا، فجعل زهير بن القين فِي ميمنة أَصْحَابه، وحبيب بن مظاهر فِي ميسرة أَصْحَابه، وأعطى رايته العباس بن علي أخاه، وجعلوا البيوت فِي ظهورهم، وأمر بحطب وقصب كَانَ من وراء البيوت يحرق بالنار مخافة أن يأتوهم من ورائهم قال: وكان الحسين ع أتي بقصب وحطب إِلَى مكان من ورائهم منخفض كأنه ساقية، فحفروه فِي ساعة من الليل، فجعلوه كالخندق، ثُمَّ ألقوا فِيهِ ذَلِكَ الحطب والقصب، وقالوا: إذا عدوا علينا فقاتلونا ألقينا فِيهِ النار كيلا نؤتى من ورائنا، وقاتلنا القوم من وجه واحد ففعلوا، وَكَانَ لَهُمْ نافعا. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي فضيل بن خديج الكندي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بشر، عن عَمْرو الحضرمي، قَالَ: لما خرج عُمَر بن سَعْد بِالنَّاسِ كَانَ عَلَى ربع أهل الْمَدِينَة يَوْمَئِذٍ عَبْد اللَّهِ بن زهير بن سليم الأَزْدِيّ، وعلى ربع مذحج وأسد عبد الرَّحْمَن بن أبي سبرة الجعفي، وعلى ربع رَبِيعَة وكندة قيس بن الأشعث بن قيس، وعلى ربع تميم وهمدان الحر بن يَزِيدَ الرياحي، فشهد هَؤُلاءِ كلهم مقتل الْحُسَيْن إلا الحر بن يَزِيدَ فإنه عدل إِلَى الْحُسَيْن، وقتل مَعَهُ وجعل عمر عَلَى ميمنته عَمْرو بن الحجاج الزبيدي، وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن بن شُرَحْبِيل بن الأعور بن عُمَرَ بن مُعَاوِيَة- وَهُوَ الضباب بن كلاب- وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسي، وعلى الرجال شبث بن ربعي الرياحي، وأعطى الراية ذويدا مولاه. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي عَمْرو بن مُرَّةَ الْجَمَلِيّ، عن أبي صالح الحنفي،

عن غلام لعبد الرَّحْمَن بن عبد ربه الأَنْصَارِيّ، قَالَ: كنت مع مولاي، فلما حضر الناس وأقبلوا إِلَى الْحُسَيْن، أمر الْحُسَيْن بفسطاط فضرب، ثُمَّ أمر بمسك فميث فِي جفنة عظيمة أو صحفة، قَالَ: ثُمَّ دخل الْحُسَيْن ذَلِكَ الفسطاط فتطلى بالنورة قَالَ: ومولاي عبد الرحمن بن عبد ربه وبرير ابن حضير الهمداني عَلَى باب الفسطاط تحتك مناكبهما، فازدحما أيهما يطلي عَلَى أثره، فجعل برير يهازل عبد الرَّحْمَن، فَقَالَ لَهُ عبد الرَّحْمَن: دعنا، فو الله مَا هَذِهِ بساعة باطل، فَقَالَ لَهُ برير: وَاللَّهِ لقد علم قومي أني مَا أحببت الباطل شابا وَلا كهلا، ولكن وَاللَّهِ إني لمستبشر بِمَا نحن لاقون، وَاللَّهِ إن بيننا وبين الحور العين إلا أن يميل هَؤُلاءِ علينا بأسيافهم، ولوددت أَنَّهُمْ قَدْ مالوا علينا بأسيافهم قَالَ: فلما فرغ الْحُسَيْن دخلنا فاطلينا، قَالَ: ثُمَّ إن الْحُسَيْن ركب دابته ودعا بمصحف فوضعه أمامه، قَالَ: فاقتتل أَصْحَابه بين يديه قتالا شديدا، فلما رأيت القوم قَدْ صرعوا أفلت وتركتهم قَالَ أَبُو مخنف، عن بعض أَصْحَابه، عن أبي خَالِد الكاهلي، قَالَ: لما صبحت الخيل الْحُسَيْن رفع الْحُسَيْن يديه، فَقَالَ: [اللَّهُمَّ أنت ثقتي فِي كل كرب، ورجائي فِي كل شدة، وأنت لي فِي كل أمر نزل بي ثقة وعدة، كم من هم يضعف فِيهِ الفؤاد، وتقل فِيهِ الحيلة، ويخذل فِيهِ الصديق، ويشمت فِيهِ العدو، أنزلته بك، وشكوته إليك، رغبة مني إليك عمن سواك، ففرجته وكشفته، فأنت ولي كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل رغبة] . قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عاصم، قَالَ: حَدَّثَنِي الضحاك المشرقي، قَالَ: لما أقبلوا نحونا فنظروا إِلَى النار تضطرم فِي الحطب والقصب الَّذِي كنا ألهبنا فِيهِ النار من ورائنا لئلا يأتونا من خلفنا، إذ أقبل إلينا مِنْهُمْ رجل يركض عَلَى فرس كامل الأداة، فلم يكلمنا حَتَّى مر عَلَى أبياتنا، فنظر إِلَى أبياتنا فإذا هُوَ لا يرى إلا حطبا تلتهب النار فِيهِ، فرجع راجعا، فنادى بأعلى صوته: يَا حُسَيْن، استعجلت النار فِي الدُّنْيَا قبل يوم الْقِيَامَة! [فَقَالَ

الْحُسَيْن: من هَذَا؟ كأنه شمر بن ذي الجوشن! فَقَالُوا: نعم، أصلحك اللَّه! هُوَ هُوَ، فقال: يا بن راعية المعزى، أنت أولى بِهَا صليا،] فَقَالَ له مسلم بن عوسجة: يا بن رَسُول اللَّهِ، جعلت فداك! أَلا أرميه بسهم! فإنه قَدْ أمكنني، وليس يسقط مني سهم، فالفاسق من أعظم الجبارين، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: لا ترمه، فإني أكره أن أبدأهم، وَكَانَ مع الْحُسَيْن فرس لَهُ يدعى لاحقا حمل عَلَيْهِ ابنه عَلِيّ بن الْحُسَيْن، قَالَ: فلما دنا منه القوم عاد براحلته فركبها، ثم نادى باعلى صوته دعاء يسمع جل الناس: أَيُّهَا النَّاسُ، اسمعوا قولي، وَلا تعجلوني حَتَّى أعظكم بِمَا لحق لكم علي، وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عَلَيْكُمْ، فإن قبلتم عذري، وصدقتم قولي، وأعطيتموني النصف، كنتم بِذَلِكَ أسعد، ولم يكن لكم علي سبيل، وإن لم تقبلوا مني العذر، ولم تعطوا النصف من أنفسكم «فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ» ، «إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ» قَالَ: فلما سمع أخواته كلامه هَذَا صحن وبكين، وبكى بناته فارتفعت أصواتهن، فأرسل إليهن أخاه العباس ابن علي وعليا ابنه، وَقَالَ لهما: أسكتاهن، فلعمري ليكثرن بكاؤهن، قَالَ: فلما ذهبا ليسكتاهن قَالَ: لا يبعد ابن عَبَّاس، قَالَ: فظننا أنه إنما قالها حين سمع بكاؤهن، لأنه قَدْ كَانَ نهاه أن يخرج بهن، فلما سكتن حمد اللَّه وأثنى عَلَيْهِ، وذكر اللَّه بِمَا هو اهله، وصلى على محمد ص وعلى ملائكته وأنبيائه، فذكر من ذَلِكَ مَا اللَّه أعلم وما لا يحصى ذكره. قَالَ: فو الله مَا سمعت متكلما قط قبله وَلا بعده أبلغ فِي منطق مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فانسبوني فانظروا من أنا، ثُمَّ ارجعوا إِلَى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا، هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم ص وابن وصيه وابن عمه، وأول الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ والمصدق لِرَسُولِهِ بِمَا جَاءَ بِهِ من عِنْدَ ربه! او ليس حمزة سيد الشهداء عم أبي! أوليس جَعْفَر الشهيد الطيار

ذو الجناحين عمى! [او لم يبلغكم قول مستفيض فيكم: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص قَالَ لي ولأخي: هَذَانِ سيدا شباب أهل الجنة!] فإن صدقتموني بِمَا أقول- وَهُوَ الحق- فو الله مَا تعمدت كذبا مذ علمت أن اللَّه يمقت عَلَيْهِ أهله، ويضر بِهِ من اختلقه، وإن كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذَلِكَ أخبركم، سلوا جابر بن عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيّ، أو أبا سَعِيد الخدري، أو سَهْل بن سَعْد الساعدي، أو زَيْد بن أَرْقَمَ، أو أنس بن مالك، يخبروكم أَنَّهُمْ سمعوا هذه المقاله من رسول الله ص لي ولأخي. أفما فِي هَذَا حاجز لكم عن سفك دمي! فَقَالَ لَهُ شمر بن ذي الجوشن: هُوَ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ ان كان يدرى ما يقول! فَقَالَ لَهُ حبيب بن مظاهر: وَاللَّهِ إني لأراك تعبد اللَّه عَلَى سبعين حرفا، وأنا أشهد أنك صادق مَا تدري مَا يقول، قَدْ طبع اللَّه عَلَى قلبك، ثُمَّ قَالَ لَهُمُ الْحُسَيْن: فإن كنتم فِي شك من هَذَا القول أفتشكون أثرا مَا أني ابن بنت نبيكم! فو الله مَا بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري مِنْكُمْ وَلا من غيركم، أنا ابن بنت نبيكم خاصة. أخبروني، أتطلبوني بقتيل مِنْكُمْ قتلته، أو مال لكم استهلكته، أو بقصاص من جراحة؟ قَالَ: فأخذوا لا يكلمونه، قَالَ: فنادى: يَا شبث بن ربعي، ويا حجار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يَزِيد بن الْحَارِث، ألم تكتبوا إلي أن قَدْ أينعت الثمار، واخضر الجناب، وطمت الجمام، وإنما تقدم عَلَى جند لك مجند، فأقبل! قَالُوا لَهُ: لم نفعل، فَقَالَ: سبحان اللَّه! بلى وَاللَّهِ، لقد فعلتم، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إذ كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إِلَى مأمني من الأرض، قَالَ: فَقَالَ لَهُ قيس بن الاشعث: او لا تنزل عَلَى حكم بني عمك، فإنهم لن يروك إلا مَا تحب، ولن يصل إليك منهم مكروه؟ فقال الْحُسَيْن: أنت أخو أخيك، أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل، [لا وَاللَّهِ لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، وَلا أقر إقرار العبيد عباد اللَّه، إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ

أعوذ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يؤمن بيوم الحساب، قَالَ:] ثُمَّ إنه أناخ راحلته، وأمر عقبة بن سمعان فعقلها، وأقبلوا يزحفون نحوه. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حنظلة بن أسعد الشامي، عن رجل من قومه شهد مقتل الْحُسَيْن حين قتل يقال لَهُ كثير بن عَبْدِ اللَّهِ الشَّعْبِيّ، قَالَ: لما زحفنا قبل الحسين خرج إلينا زهير بن قين عَلَى فرس لَهُ ذنوب، شاك فِي السلاح، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، نذار لكم من عذاب اللَّه نذار! إن حقا عَلَى المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حَتَّى الآن إخوة، وعلى دين واحد وملة واحدة، مَا لم يقع بيننا وبينكم السيف، وَأَنْتُمْ للنصيحة منا أهل، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنا أمة وَأَنْتُمْ أمة، إن اللَّه قَدِ ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد ص لينظر مَا نحن وَأَنْتُمْ عاملون، إنا ندعوكم إِلَى نصرهم وخذلان الطاغية عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فإنكم لا تدركون منهما إلا بسوء عمر سلطانهما كله، ليسملان أعينكم، ويقطعان أيديكم وأرجلكم، ويمثلان بكم، ويرفعانكم عَلَى جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقراءكم، أمثال حجر بن عدي وأَصْحَابه، وهانئ بن عروة وأشباهه، قَالَ: فسبوه، وأثنوا عَلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، ودعوا لَهُ، وَقَالُوا: وَاللَّهِ لا نبرح حَتَّى نقتل صاحبك ومن مَعَهُ، أو نبعث بِهِ وبأَصْحَابه إِلَى الأمير عُبَيْد اللَّهِ سلما، فَقَالَ لَهُمْ: عباد اللَّه، إن ولد فاطمة رضوان اللَّه عَلَيْهَا أحق بالود والنصر من ابن سمية، فإن لم تنصروهم فأعيذكم بِاللَّهِ أن تقتلوهم، فخلوا بين الرجل وبين ابن عمه يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فلعمري إن يَزِيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الْحُسَيْن، قَالَ: فرماه شمر بن ذي الجوشن بسهم وَقَالَ: اسكت أسكت اللَّه نأمتك، أبرمتنا بكثرة كلامك! فَقَالَ لَهُ زهير: يا بن البوال عَلَى عقبيه، مَا إياك أخاطب، إنما أنت بهيمة، وَاللَّهِ مَا أظنك تحكم من كتاب اللَّه آيتين، فأبشر بالخزي يوم الْقِيَامَة والعذاب الأليم، فَقَالَ لَهُ شمر: إن اللَّه قاتلك وصاحبك عن ساعة، قَالَ: أفبالموت تخوفني!

فو الله للموت مَعَهُ أحب إلي من الخلد معكم، قَالَ: ثُمَّ أقبل عَلَى الناس رافعا صوته، فَقَالَ: عباد اللَّه، لا يغرنكم من دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه، فو الله لا تنال شفاعه محمد ص قوما هراقوا دماء ذريته وأهل بيته، وقتلوا من نصرهم وذب عن حريمهم، قَالَ: فناداه رجل فَقَالَ لَهُ: إن أبا عَبْد اللَّهِ يقول لك: أقبل، فلعمري لَئِنْ كَانَ مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ فِي الدعاء، لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لو نفع النصح والإبلاغ! قَالَ أَبُو مخنف: عن أبي جناب الكلبي، عن عدي بن حرملة، قَالَ: ثُمَّ إن الحر بن يَزِيدَ لما زحف عُمَر بن سَعْدٍ قَالَ لَهُ: أصلحك اللَّه! مقاتل أنت هَذَا الرجل؟ قَالَ: إي وَاللَّهِ قتالا أيسره أن تسقط الرءوس وتطيح الأيدي، قَالَ: أفما لكم فِي واحدة من الخصال الَّتِي عرض عَلَيْكُمْ رضا؟ قَالَ عُمَر بن سَعْد: أما وَاللَّهِ لو كَانَ الأمر إلي لفعلت، ولكن أميرك قَدْ أبى ذَلِكَ، قَالَ: فأقبل حَتَّى وقف مِنَ النَّاسِ موقفا، وَمَعَهُ رجل من قومه يقال لَهُ قرة بن قيس، فَقَالَ: يَا قرة، هل سقيت فرسك الْيَوْم؟ قَالَ: لا، قَالَ: إنما تريد أن تسقيه؟ قَالَ: فظننت وَاللَّهِ أنه يريد أن يتنحى فلا يشهد القتال، وكره أن أراه حين يصنع ذَلِكَ، فيخاف أن أرفعه عَلَيْهِ، فقلت لَهُ: لم أسقه، وأنا منطلق فساقيه، قَالَ: فاعتزلت ذَلِكَ المكان الَّذِي كَانَ فِيهِ، قَالَ: فو الله لو أنه أطلعني عَلَى الَّذِي يريد لخرجت مَعَهُ إِلَى الْحُسَيْن، قَالَ: فأخذ يدنو من حُسَيْن قليلا قليلا، فَقَالَ لَهُ رجل من قومه يقال له المهاجر ابن أوس: ما تريد يا بن يَزِيدَ؟ أتريد أن تحمل؟ فسكت وأخذه مثل العرواء، فقال له يا بن يَزِيدَ؟ أتريد أن تحمل؟ فسكت وأخذه مثل العرواء، فقال له يا بن يَزِيدَ، وَاللَّهِ إن أمرك لمريب، وَاللَّهِ مَا رأيت مِنْكَ فِي موقف قط مثل شَيْء أراه الآن، ولو قيل لي: من أشجع أهل الْكُوفَة رجلا مَا عدوتك، فما هَذَا الَّذِي أَرَى مِنْكَ! قَالَ: إني وَاللَّهِ أخير نفسي بين الجنه والنار، وو الله لا أختار عَلَى الجنة شَيْئًا ولو قطعت وحرقت، ثم ضرب فرسه فلحق بحسين ع، فقال له: جعلني الله فداك يا بن رَسُول اللَّهِ! أنا صاحبك الَّذِي حبستك عن الرجوع، وسايرتك فِي الطريق،

وجعجعت بك فِي هَذَا المكان، وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ مَا ظننت أن القوم يردون عَلَيْك مَا عرضت عَلَيْهِم أبدا، وَلا يبلغون مِنْكَ هَذِهِ المنزلة فقلت فِي نفسي: لا أبالي أن أطيع القوم فِي بعض أمرهم، وَلا يرون أني خرجت من طاعتهم وأما هم فسيقبلون من حُسَيْن هَذِهِ الخصال التي يعرض عليهم، وو الله لو ظننت أَنَّهُمْ لا يقبلونها مِنْكَ مَا ركبتها مِنْكَ، وإني قَدْ جئتك تائبا مما كَانَ مني إِلَى ربي، ومواسيا لك بنفسي حَتَّى أموت بين يديك، أفترى ذَلِكَ لي توبة؟ قَالَ: نعم، يتوب اللَّه عَلَيْك، ويغفر لك، مَا اسمك؟ قَالَ: أنا الحر بن يَزِيدَ، [قَالَ: أنت الحر كما سمتك أمك، أنت الحر إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا والآخرة، انزل، قَالَ: أنا لك فارسا خير مني راجلا، أقاتلهم عَلَى فرسي ساعة، وإلى النزول مَا يصير آخر أمري قَالَ الْحُسَيْن: فاصنع يرحمك اللَّه مَا بدا لك] فاستقدم أمام أَصْحَابه ثُمَّ قَالَ: أيها القوم، أَلا تقبلون من حُسَيْن خصلة من هَذِهِ الخصال الَّتِي عرض عَلَيْكُمْ فيعافيكم اللَّه من حربه وقتاله؟ قَالُوا: هَذَا الأمير عُمَر بن سَعْد فكلمه، فكلمه بمثل مَا كلمه بِهِ قبل، وبمثل ما كلم بِهِ أَصْحَابه، قَالَ عمر: قَدْ حرصت، لو وجدت إِلَى ذَلِكَ سبيلا فعلت، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، لأمكم الهبل والعبر إذ دعوتموه حتى إذا أتاكم اسلمتموه، وزعمتم انكم قاتلو أنفسكم دونه، ثُمَّ عدوتم عَلَيْهِ لتقتلوه، أمسكتم بنفسه، وأخذتم بكظمه، وأحطتم بِهِ من كل جانب، فمنعتموه التوجه فِي بلاد اللَّه العريضة حَتَّى يأمن ويأمن أهل بيته، وأصبح فِي أيديكم كالأسير لا يملك لنفسه نفعا، وَلا يدفع ضرا، وحلأتموه ونساءه وأصيبيته وأَصْحَابه عن ماء الفرات الجاري الَّذِي يشربه اليهودي والمجوسي والنصراني، وتمرغ فِيهِ خنازير السواد وكلابه، وها هم أولاء قَدْ صرعهم العطش، بئسما خلفتم مُحَمَّدا فِي ذريته! لا سقاكم اللَّه يوم الظمإ إن لم تتوبوا وتنزعوا عما أنتم عَلَيْهِ من يومكم هَذَا فِي ساعتكم هَذِهِ فحملت عَلَيْهِ رجالة

لَهُمْ ترميه بالنبل، فأقبل حَتَّى وقف أمام الْحُسَيْن. قَالَ أَبُو مخنف، عن الصقعب بن زهير وسُلَيْمَان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قَالَ: وزحف عُمَر بن سَعْد نحوهم، ثم نادى: يا ذويد، أدن رايتك، قَالَ: فأدناها ثُمَّ وضع سهمه فِي كبد قوسه، ثُمَّ رمى فَقَالَ: اشهدوا أني أول من رمى. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو جناب، قَالَ: كَانَ منا رجل يدعى عَبْد اللَّهِ بن عمير، من بني عليم، كَانَ قَدْ نزل الْكُوفَة، واتخذ عِنْدَ بئر الجعد من همدان دارا، وكانت مَعَهُ امراه له من النمر بن قاسط يقال لها أم وهب بنت عبد، فرأى القوم بالنخيلة يعرضون ليسرحوا إِلَى الْحُسَيْن، قَالَ: فسأل عَنْهُمْ، فقيل لَهُ: يسرحون إِلَى حُسَيْن بن فاطمة بنت رسول الله ص، فَقَالَ: وَاللَّهِ لقد كنت عَلَى جهاد أهل الشرك حريصا، وإني لأرجو أَلا يكون جهاد هَؤُلاءِ الَّذِينَ يغزون ابن بنت نبيهم أيسر ثوابا عِنْدَ اللَّه من ثوابه إياي فِي جهاد المشركين، فدخل إِلَى امرأته فأخبرها بِمَا سمع، وأعلمها بِمَا يريد، فَقَالَتْ: أصبت أصاب اللَّه بك أرشد أمورك، افعل وأخرجني معك، قَالَ: فخرج بِهَا ليلا حَتَّى أتى حسينا، فأقام مَعَهُ، فلما دنا مِنْهُ عُمَر بن سَعْدٍ ورمى بسهم ارتمى الناس، فلما ارتموا خرج يسار مولى زياد بن أَبِي سُفْيَانَ وسالم مولى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فقالا: من يبارز؟ ليخرج إلينا بعضكم، قَالَ: فوثب حبيب بن مظاهر وبرير بن حضير، فَقَالَ لهما حُسَيْن: اجلسا، فقام عَبْد اللَّهِ بن عمير الكلبي فَقَالَ: أبا عَبْد اللَّهِ، رحمك اللَّه! ائذن لي فلأخرج إليهما، فرأى حُسَيْن رجلا آدم طويلا شديد الساعدين بعيد مَا بين المنكبين، فَقَالَ حُسَيْن: إني لأحسبه للأقران قتالا، اخرج إن شئت، قَالَ: فخرج إليهما، فقالا لَهُ: من أنت؟ فانتسب لهما، فقالا: لا نعرفك، ليخرج إلينا زهير بن القين أو حبيب بن مظاهر أو برير بن حضير، ويسار مستنتل أمام سَالم، فَقَالَ لَهُ الكلبى: يا بن الزانية، وبك رغبة عن مبارزة أحد مِنَ النَّاسِ، وما يخرج إليك أحد مِنَ النَّاسِ الا وهو

خير مِنْكَ، ثُمَّ شد عَلَيْهِ فضربه بسيفه حَتَّى برد، فإنه لمشتغل بِهِ يضربه بسيفه إذ شد عَلَيْهِ سَالم، فصاح بِهِ: قَدْ رهقك العبد، قَالَ: فلم يأبه لَهُ حَتَّى غشيه فبدره الضربة، فاتقاه الكلبي بيده اليسرى، فأطار أصابع كفه اليسرى، ثُمَّ مال عَلَيْهِ الكلبي فضربه حَتَّى قتله، وأقبل الكلبي مرتجزا وَهُوَ يقول، وَقَدْ قتلهما جميعا: إن تنكروني فانا ابن كلب حسبي بيتى في عليم حسبي انى امرو ذو مرة وعصب ولست بالخوار عِنْدَ النكب إني زعيم لك أم وهب بالطعن فِيهِمْ مقدما والضرب ضرب غلام مؤمن بالرب. فأخذت أم وهب امرأته عمودا، ثُمَّ أقبلت نحو زوجها تقول لَهُ: فداك أبي وأمي! قاتل دون الطيبين ذرية مُحَمَّد، فأقبل إِلَيْهَا يردها نحو النساء فأخذت تجاذب ثوبه، ثُمَّ قالت: إني لن أدعك دون أن أموت معك، [فناداها حُسَيْن، فَقَالَ: جزيتم من أهل بيت خيرا، ارجعي رحمك اللَّه إِلَى النساء فاجلسي معهن، فإنه ليس عَلَى النساء قتال، فانصرفت إليهن] . قَالَ: وحمل عَمْرو بن الحجاج وَهُوَ عَلَى ميمنة الناس فِي الميمنة، فلما أن دنا من حُسَيْن جثوا لَهُ عَلَى الركب، وأشرعوا الرماح نحوهم، فلم تقدم خيلهم عَلَى الرماح، فذهبت الخيل لترجع، فرشقوهم بالنبل، فصرعوا مِنْهُمْ رجالا، وجرحوا مِنْهُمْ آخرين. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي حُسَيْن أَبُو جَعْفَر، قَالَ: ثُمَّ إن رجلا من بني تميم- يقال لَهُ عَبْد اللَّهِ بن حوزة- جَاءَ حَتَّى وقف أمام الْحُسَيْن، فَقَالَ: يَا حُسَيْن، يَا حُسَيْن! فَقَالَ حُسَيْن: مَا تشاء؟ قَالَ: أبشر بالنار، [قَالَ: كلا، إني أقدم عَلَى رب رحيم، وشفيع مطاع، من هَذَا؟ قَالَ لَهُ أَصْحَابه: هَذَا ابن حوزة، قَالَ: رب حزه إِلَى النار،] قَالَ: فاضطرب بِهِ فرسه فِي

جدول فوقع فِيهِ، وتعلقت رجله بالركاب، ووقع راسه في الارض، ونفر الفرس، فاخذ يمر بِهِ فيضرب برأسه كل حجر وكل شجرة حَتَّى مات. قَالَ أَبُو مخنف: وأما سويد بن حية، فزعم لي أن عَبْد اللَّهِ بن حوزة حين وقع فرسه بقيت رجله اليسرى فِي الركاب، وارتفعت اليمنى فطارت، وعدا بِهِ فرسه يضرب رأسه كل حجر وأصل شجرة حَتَّى مات قَالَ أَبُو مخنف عن عطاء بن السَّائِب، عن عبد الجبار بن وائل الحضرمي، عن أخيه مسروق بن وائل، قَالَ: كنت فِي أوائل الخيل ممن سار إِلَى الْحُسَيْن، فقلت: أكون فِي أوائلها لعلي أصيب رأس الْحُسَيْن، فأصيب بِهِ منزلة عِنْدَ عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، قَالَ: فلما انتهينا إِلَى حُسَيْن تقدم رجل من القوم يقال لَهُ ابن حوزة، فَقَالَ: أفيكم حُسَيْن؟ قَالَ: فسكت حُسَيْن، فقالها ثانية، فأسكت حَتَّى إذا كَانَتِ الثالثة قَالَ: قولوا لَهُ: نعم، هَذَا حُسَيْن، فما حاجتك؟ قَالَ: يَا حُسَيْن، أبشر بالنار، قَالَ: كذبت، [بل أقدم عَلَى رب غفور وشفيع مطاع، فمن أنت؟] قَالَ: ابن حوزة، قَالَ، فرفع الْحُسَيْن يديه حَتَّى رأينا بياض إبطيه من فوق الثياب ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حزه إِلَى النار، قَالَ: فغضب ابن حوزة، فذهب ليقحم إِلَيْهِ الفرس وبينه وبينه نهر، قَالَ: فعلقت قدمه بالركاب، وجالت بِهِ الفرس فسقط عنها، قَالَ: فانقطعت قدمه وساقه وفخذه، وبقي جانبه الآخر متعلقا بالركاب قَالَ: فرجع مسروق وترك الخيل من ورائه، قَالَ: فسألته، فَقَالَ: لقد رأيت من أهل هَذَا البيت شَيْئًا لا أقاتلهم أبدا، قَالَ: ونشب القتال. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي يُوسُف بن يَزِيدَ، عن عفيف بن زهير بن أبي الأخنس- وَكَانَ قَدْ شهد مقتل الْحُسَيْن- قَالَ: وخرج يَزِيد بن معقل من بني عميرة بن رَبِيعَة وَهُوَ حليف لبني سليمة من عبد القيس، فقال: يا برير ابن حضير، كيف ترى اللَّه صنع بك! قَالَ: صنع اللَّه وَاللَّهِ بي خيرا،

وصنع اللَّه بك شرا، قَالَ: كذبت، وقبل الْيَوْم مَا كنت كذابا، هل تذكر وأنا أماشيك فِي بني لوذان وأنت تقول: إن عُثْمَان بن عَفَّانَ كَانَ عَلَى نفسه مسرفا، وإن مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ ضال مضل، وإن إمام الهدى والحق عَلِيّ بن أبي طالب؟ فَقَالَ لَهُ برير: أشهد أن هَذَا رأيي وقولي، فَقَالَ لَهُ يَزِيد بن معقل: فإني أشهد أنك من الضالين، فَقَالَ لَهُ برير بن حضير: هل لك فلا باهلك، ولندع اللَّه أن يلعن الكاذب وأن يقتل المبطل، ثُمَّ اخرج فلأبارزك، قَالَ: فخرجا فرفعا أيديهما إِلَى اللَّهِ يدعوانه أن يلعن الكاذب، وأن يقتل المحق المبطل، ثُمَّ برز كل واحد منهما لصاحبه، فاختلفا ضربتين، فضرب يَزِيد بن معقل برير بن حضير ضربة خفيفة لم تضره شَيْئًا، وضربه برير بن حضير ضربة قدت المغفر، وبلغت الدماغ، فخر كأنما هوى من حالق، وان سيف ابن حضير لثابت فِي رأسه، فكأني أنظر إِلَيْهِ ينضنضه من رأسه، وحمل عَلَيْهِ رضي بن منقذ العبدي فاعتنق بريرا، فاعتركا ساعة ثُمَّ إن بريرا قعد عَلَى صدره فَقَالَ رضي: أين أهل المصاع والدفاع؟ قَالَ: فذهب كعب بن جابر بن عَمْرو الأَزْدِيّ ليحمل عَلَيْهِ، فقلت: إن هَذَا برير بن حضير القارئ الَّذِي كَانَ يقرئنا القرآن فِي المسجد، فحمل عَلَيْهِ بالرمح حَتَّى وضعه فِي ظهره، فلما وجد مس الرمح برك عَلَيْهِ فعض بوجهه، وقطع طرف انفه، فطعنه كعب ابن جابر حَتَّى ألقاه عنه، وَقَدْ غيب السنان فِي ظهره، ثُمَّ أقبل عَلَيْهِ يضربه بسيفه حَتَّى قتله، قَالَ عفيف: كأني أنظر إِلَى العبدي الصريع قام ينفض التراب عن قبائه، ويقول: أنعمت علي يَا أخا الأزد نعمة لن أنساها أبدا، قَالَ: فقلت: أنت رأيت هَذَا؟ قَالَ: نعم، رأي عيني وسمع أذني. فلما رجع كعب بن جابر قالت لَهُ امرأته، أو أخته النوار بنت جابر:

أعنت عَلَى ابن فاطمة، وقتلت سيد القراء، لقد أتيت عظيما من الأمر، وَاللَّهِ لا أكلمك من رأسي كلمة أبدا. وَقَالَ كعب بن جابر: سلي تخبري عني وأنت ذميمة ... غداة حُسَيْن والرماح شوارع ألم آت أقصى مَا كرهت ولم يخل ... علي غداة الروع مَا أنا صانع معي يزني لم تخنه كعوبه ... وأبيض مخشوب الغرارين قاطع فجردته فِي عصبة ليس دينهم ... بديني وإني بابن حرب لقانع ولم تر عيني مثلهم فِي زمانهم ... وَلا قبلهم فِي الناس إذ أنا يافع أشد قراعا بالسيوف لدى الوغى ... أَلا كل من يحمي الذمار مقارع وَقَدْ صبروا للطعن والضرب حسرا ... وَقَدْ نازلوا لو أن ذَلِكَ نافع فأبلغ عُبَيْد اللَّهِ إما لقيته ... بأني مطيع للخليفة سامع قتلت بريرا ثُمَّ حملت نعمة ... أبا منقذ لما دعا: من يماصع؟ قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن جندب، قَالَ: سمعته فِي إمارة مُصْعَب بن الزُّبَيْرِ، وَهُوَ يقول: يَا رب إنا قَدْ وفينا، فلا تجعلنا يَا رب كمن قَدْ غدر، فَقَالَ لَهُ أبي: صدق، ولقد وفى وكرم، وكسبت لنفسك شرا، قَالَ: كلا، إني لم أكسب لنفسي شرا، ولكني كسبت لها خيرا. قَالَ: وزعموا أن رضي بن منقذ العبدي رد بعد عَلَى كعب بن جابر جواب قوله، فَقَالَ: لو شاء ربي مَا شهدت قتالهم ... وَلا جعل النعماء عندي ابن جابر لقد كَانَ ذاك الْيَوْم عارا وسبة ... يعيره الأبناء بعد المعاشر فيا ليت أني كنت من قبل قتله ... ويوم حُسَيْن كنت فِي رمس قابر

قَالَ: وخرج عَمْرو بن قرظة الأَنْصَارِيّ يقاتل دون حُسَيْن وَهُوَ يقول: قَدْ علمت كتيبة الأنصار ... أني سأحمي حوزة الذمار ضرب غلام غير نكس شاري ... دون حُسَيْن مهجتي وداري قَالَ أَبُو مخنف: عن ثَابِت بن هبيرة، فقتل عَمْرو بن قرظة بن كعب، وَكَانَ مع الْحُسَيْن، وَكَانَ علي أخوه مع عُمَر بن سعد، فنادى على بن قريظة: يَا حُسَيْن، يَا كذاب ابن الكذاب، أضللت أخي وغررته حتى قتله [قَالَ: إن اللَّه لم يضل أخاك، ولكنه هدى أخاك وأضلك،] قَالَ: قتلني اللَّه إن لم أقتلك أو أموت دونك، فحمل عَلَيْهِ، فاعترضه نافع بن هلال المرادي، فطعنه فصرعه، فحمله أَصْحَابه فاستنقذوه، فدووي بعد فبرأ. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي النضر بن صالح أَبُو زهير العبسي أن الحر بن يَزِيدَ لما لحق بحسين قَالَ رجل من بني تميم من بني شقرة وهم بنو الْحَارِث بن تميم، يقال لَهُ يَزِيد بن سُفْيَان: أما وَاللَّهِ لو أني رأيت الحر بن يَزِيدَ حين خرج لأتبعته السنان، قَالَ: فبينا الناس يتجاولون ويقتتلون والحر بن يَزِيدَ يحمل عَلَى القوم مقدما ويتمثل قول عنترة: مَا زلت أرميهم بثغرة نحره ... ولبانه حَتَّى تسربل بالدم قَالَ: وإن فرسه لمضروب عَلَى أذنيه وحاجبه، وإن دماءه لتسيل، فَقَالَ الحصين بن تميم- وَكَانَ عَلَى شرطة عُبَيْد اللَّهِ، فبعثه إِلَى الْحُسَيْن، وَكَانَ مع عُمَر بن سَعْدٍ، فولاه عمر مع الشرطة المجففة- ليزيد بن سُفْيَان: هَذَا الحر بن يَزِيدَ الَّذِي كنت تتمنى، قَالَ: نعم فخرج إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: هل لك يَا حر بن يَزِيدَ فِي المبارزة؟ قَالَ: نعم قَدْ شئت، فبرز لَهُ، قَالَ: فأنا سمعت الحصين بن تميم يقول: وَاللَّهِ لأبرز لَهُ، فكأنما كَانَتْ نفسه فِي يده،

فما لبثه الحر حين خرج إِلَيْهِ أن قتله. قال هشام بن مُحَمَّد، عن أبي مخنف، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ هانئ بن عروة، أن نافع بن هلال كَانَ يقاتل يَوْمَئِذٍ وَهُوَ يقول: أنا الْجَمَلِيّ، أنا عَلَى دين علي. قَالَ: فخرج إِلَيْهِ رجل يقال لَهُ مزاحم بن حريث، فَقَالَ: أنا عَلَى دين عُثْمَان، فَقَالَ لَهُ: أنت عَلَى دين شيطان، ثم حمل عليه فقتله، فصاح عمرو ابن الحجاج بِالنَّاسِ: يَا حمقى، أتدرون من تقاتلون! فرسان المصر، قوما مستميتين، لا يبرزن لَهُمْ منكم احد، فإنهم قليل، وقلما يبقون، وَاللَّهِ لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم، فَقَالَ عُمَر بن سَعْد: صدقت، الرأي مَا رأيت، وأرسل إِلَى النَّاسِ يعزم عَلَيْهِم أَلا يبارز رجل مِنْكُمْ رجلا مِنْهُمْ. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الْحُسَيْن بن عُقْبَةَ المرادي، قَالَ: الزبيدي: إنه سمع عَمْرو بن الحجاج حين دنا من أَصْحَاب الْحُسَيْن يقول: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، الزموا طاعتكم وجماعتكم، وَلا ترتابوا فِي قتل من مرق من الدين، وخالف الإمام، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: يَا عَمْرو بن الحجاج، أعلي تحرض الناس؟ أنحن مرقنا وَأَنْتُمْ ثبتم عَلَيْهِ؟ أما وَاللَّهِ لتعلمن لو قَدْ قبضت أرواحكم، ومتم عَلَى أعمالكم، أينا مرق من الدين، ومن هُوَ أولى بصلي النار! قَالَ: ثُمَّ إن عَمْرو بن الحجاج حمل عَلَى الْحُسَيْن فِي ميمنة عُمَر بن سَعْد من نحو الفرات، فاضطربوا ساعة، فصرع مسلم بن عوسجة الأسدي أول أَصْحَاب الْحُسَيْن، ثُمَّ انصرف عَمْرو بن الحجاج وأَصْحَابه، وارتفعت الغبرة، فإذا هم بِهِ صريع، فمشى إِلَيْهِ الْحُسَيْن فإذا بِهِ رمق، [فَقَالَ: رحمك ربك يَا مسلم بن عوسجة، «فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا] » . ودنا مِنْهُ حبيب بن مظاهر فَقَالَ: عز علي مصرعك يَا مسلم، أبشر بالجنة، فَقَالَ لَهُ مسلم قولا ضعيفا: بشرك اللَّه بخير! فَقَالَ لَهُ حبيب: لولا أني

أعلم أني فِي أثرك لاحق بك من ساعتي هَذِهِ لأحببت أن توصيني بكل مَا أهمك حَتَّى أحفظك فِي كل ذَلِكَ بِمَا أنت أهل لَهُ فِي القرابة والدين، قَالَ: بل أنا أوصيك بهذا رحمك اللَّه- وأهوى بيده إِلَى الْحُسَيْن- أن تموت دونه، قَالَ: أفعل ورب الكعبة، قَالَ: فما كَانَ بأسرع من أن مات فِي أيديهم، وصاحت جارية له فقالت: يا بن عوسجتاه! يَا سيداه! فتنادى أَصْحَاب عَمْرو بن الحجاج: قتلنا مسلم بن عوسجة الأسدي، فَقَالَ شبث لبعض من حوله من أَصْحَابه: ثكلتكم أمهاتكم! إنما تقتلون أنفسكم بأيديكم، وتذللون أنفسكم لغيركم، تفرحون أن يقتل مثل مسلم بن عوسجة! أما والذي أسلمت لَهُ لرب موقف لَهُ قَدْ رأيته فِي الْمُسْلِمِينَ كريم! لقد رأيته يوم سلق أذربيجان قتل ستة من المشركين قبل تتام خيول الْمُسْلِمِينَ، أفيقتل مِنْكُمْ مثله وتفرحون! قَالَ: وَكَانَ الَّذِي قتل مسلم بن عوسجة مسلم بن عَبْدِ اللَّهِ الضبابي وعبد الرَّحْمَن بن أبي خشكارة البجلي قَالَ: وحمل شمر بن ذي الجوشن فِي الميسرة عَلَى أهل الميسرة فثبتوا لَهُ، فطاعنوه وأَصْحَابه، وحمل عَلَى حُسَيْن وأَصْحَابه من كل جانب، فقتل الكلبي وَقَدْ قتل رجلين بعد الرجلين الأولين، وقاتل قتالا شديدا، فحمل عَلَيْهِ هانئ بن ثبيت الحضرمى وبكير ابن حي التيمي من تيم اللَّه بن ثعلبة، فقتلاه، وَكَانَ القتيل الثاني من أَصْحَاب الْحُسَيْن، وقاتلهم أَصْحَاب الْحُسَيْن قتالا شديدا، وأخذت خيلهم تحمل وإنما هم اثنان وثلاثون فارسا، وأخذت لا تحمل عَلَى جانب من خيل أهل الْكُوفَة إلا كشفته، فلما رَأَى ذَلِكَ عزرة بن قيس- وَهُوَ عَلَى خيل أهل الْكُوفَة- أن خيله تنكشف من كل جانب، بعث الى عمر بن سعد عبد الرحمن ابن حصن، فَقَالَ: أما ترى مَا تلقى خيلي مذ الْيَوْم من هَذِهِ العدة اليسيرة! أبعث إِلَيْهِم الرجال والرماة، فَقَالَ لشبث بن ربعي: أَلا تقدم إِلَيْهِم! فَقَالَ: سبحان اللَّه! أتعمد الى شيخ مضر وأهل المصر عامة تبعثه فِي الرماة! لم تجد من تندب لهذا ويجزى عنك غيري! قَالَ: وما زالوا يرون من شبث الكراهة لقتاله قَالَ: وَقَالَ أَبُو زهير العبسي: فأنا سمعته فِي إمارة مصعب

يقول: لا يعطي اللَّه أهل هَذَا المصر خيرا أبدا، وَلا يسددهم لرشد، أَلا تعجبون أنا قاتلنا مع عَلِيّ بن أبي طالب ومع ابنه من بعده آل أبي سُفْيَان خمس سنين، ثُمَّ عدونا عَلَى ابنه وَهُوَ خير أهل الأرض نقاتله مع آل مُعَاوِيَة وابن سمية الزانية! ضلال يَا لك من ضلال! قَالَ: ودعا عُمَر بن سَعْد الحصين بن تميم فبعث معه المجففة وخمسمائة من المرامية، فأقبلوا حَتَّى إذا دنوا من الْحُسَيْن وأَصْحَابه رشقوهم بالنبل، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم، وصاروا رجالة كلهم. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي نمير بن وعلة أن أيوب بن مشرح الخيواني كَانَ يقول: أنا وَاللَّهِ عقرت بالحر بن يَزِيدَ فرسه، حشأته سهما، فما لبث أن أرعد الفرس واضطرب وكبا، فوثب عنه الحر كأنه ليث والسيف فِي يده وَهُوَ يقول: إن تعقروا بي فأنا ابن الحر ... أشجع من ذي لبد هزبر قَالَ: فما رأيت أحدا قط يفري فريه، قَالَ: فَقَالَ لَهُ أشياخ من الحي: أنت قتلته؟ قال: لا والله ما انا قتلته، ولكن قتله غيري، وما أحب أني قتلته، فَقَالَ لَهُ أَبُو الوداك: ولم؟ قَالَ: إنه كان زعموا من الصالحين، فو الله لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ إثما لأن ألقى اللَّه بإثم الجراحة والموقف أحب إلي من أن ألقاه بإثم قتل أحد مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُ أَبُو الوداك: مَا أراك إلا ستلقى اللَّه بإثم قتلهم أجمعين، أرأيت لو أنك رميت ذا فعقرت ذا، ورميت آخر، ووقفت موقفا، وكررت عَلَيْهِم، وحرضت أَصْحَابك، وكثرت أَصْحَابك، وحمل عَلَيْك فكرهت أن تفر، وفعل آخر من أَصْحَابك كفعلك، وآخر وآخر، كَان هَذَا وأَصْحَابه يقتلون! أنتم شركاء كلكم فِي دمائهم، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الوداك، إنك لتقنطنا من رحمة اللَّه، إن كنت ولي حسابنا يوم الْقِيَامَة فلا غفر اللَّه لك إن غفرت لنا! قَالَ: هُوَ مَا أقول لك، قَالَ: وقاتلوهم حَتَّى انتصف

النهار أشد قتال خلقه اللَّه، وأخذوا لا يقدرون عَلَى أن يأتوهم إلا من وجه واحد لاجتماع أبنيتهم وتقارب بعضها من بعض قَالَ: فلما رَأَى ذَلِكَ عُمَر بن سَعْد أرسل رجالا يقوضونها عن أيمانهم وعن شمائلهم ليحيطوا بهم، قَالَ: فأخذ الثلاثة والأربعة من أَصْحَاب الْحُسَيْن يتخللون البيوت فيشدون عَلَى الرجل وَهُوَ يقوض وينتهب فيقتلونه ويرمونه من قريب ويعقرونه فأمر بِهَا عُمَر بن سَعْد عِنْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: أحرقوها بالنار، وَلا تدخلوا بيتا وَلا تقوضوه، فجاءوا بالنار، فأخذوا يحرقون، فَقَالَ حُسَيْن: دعوهم فليحرقوها، فإنهم لو قَدْ حرقوها لم يستطيعوا أن يجوزوا إليكم منها، وَكَانَ ذَلِكَ كذلك، وأخذوا لا يقاتلونهم إلا من وجه واحد قَالَ: وخرجت امرأة الكلبي تمشي إِلَى زوجها حَتَّى جلست عِنْدَ رأسه تمسح عنه التراب وتقول: هنيئا لك الجنة! فَقَالَ شمر بن ذي الجوشن لغلام يسمى رستم: اضرب رأسها بالعمود، فضرب رأسها فشدخه، فماتت مكانها، قَالَ: وحمل شمر بن ذي الجوشن حَتَّى طعن فسطاط الْحُسَيْن برمحه، ونادى: علي بالنار حَتَّى أحرق هَذَا البيت عَلَى أهله، قَالَ: فصاح النساء وخرجن من الفسطاط، قَالَ: [وصاح به الحسين: يا بن ذي الجوشن، أنت تدعو بالنار لتحرق بيتي عَلَى أهلي، حرقك اللَّه بالنار!] قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قَالَ: قلت لشمر بن ذي الجوشن: سبحان اللَّه! إن هَذَا لا يصلح لك، أتريد أن تجمع عَلَى نفسك خصلتين تعذب بعذاب اللَّه، وتقتل الولدان والنساء! وَاللَّهِ إن فِي قتلك الرجال لما ترضي بِهِ أميرك، قَالَ: فَقَالَ: من أنت؟ قَالَ: قلت: لا أخبرك من أنا، قَالَ: وخشيت وَاللَّهِ أن لو عرفني أن يضرني عِنْدَ السلطان، قَالَ: فجاءه رجل كَانَ أطوع لَهُ مني، شبث بن ربعي فَقَالَ: مَا رأيت مقالا أسوأ من قولك، وَلا موقفا أقبح من موقفك، أمرعبا للنساء صرت! قَالَ: فأشهد أنه استحيا، فذهب لينصرف وحمل عَلَيْهِ زهير ابن القين فِي رجال من أَصْحَابه عشرة، فشد عَلَى شمر بن ذي الجوشن

وأَصْحَابه، فكشفهم عن البيوت حَتَّى ارتفعوا عنها، فصرعوا أبا عزة الضبابي فقتلوه، فكان من أَصْحَاب شمر، وتعطف الناس عَلَيْهِم فكثروهم، فلا يزال الرجل من أَصْحَاب الْحُسَيْن قَدْ قتل، فإذا قتل مِنْهُمُ الرجل والرجلان تبين فِيهِمْ، وأولئك كثير لا يتبين فِيهِمْ مَا يقتل مِنْهُمْ، قَالَ: فلما رَأَى ذَلِكَ أَبُو ثمامة عَمْرو بن عَبْدِ اللَّهِ الصائدي قَالَ للحسين: يَا أَبَا عَبْد اللَّهِ، نفسي لك الفداء! إني أَرَى هَؤُلاءِ قَدِ اقتربوا مِنْكَ، وَلا وَاللَّهِ لا تقتل حَتَّى أقتل دونك إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وأحب أن ألقى ربي وَقَدْ صليت هَذِهِ الصَّلاة الَّتِي دنا وقتها، قَالَ: [فرفع الْحُسَيْن رأسه ثُمَّ قَالَ: ذكرت الصَّلاة، جعلك اللَّه من المصلين الذاكرين! نعم، هَذَا أول وقتها، ثُمَّ قَالَ: سلوهم أن يكفوا عنا حَتَّى نصلي،] فَقَالَ لَهُمُ الحصين بن تميم: إنها لا تقبل، فَقَالَ لَهُ حبيب بن مظاهر: لا تقبل زعمت! الصَّلاة من آل رسول الله ص لا تقبل وتقبل مِنْكَ يَا حمار! قَالَ: فحمل عَلَيْهِم حصين بن تميم، وخرج إِلَيْهِ حبيب بن مظاهر، فضرب وجه فرسه بالسيف، فشب ووقع عنه، وحمله أَصْحَابه فاستنقذوه، وأخذ حبيب يقول: أقسم لو كنا لكم أعدادا أو شطركم وليتم أكتادا يَا شر قوم حسبا وآدا. قَالَ: وجعل يقول يَوْمَئِذٍ: أنا حبيب وأبي مظاهر فارس هيجاء وحرب تسعر أنتم أعد عدة وأكثر ونحن أوفى مِنْكُمُ وأصبر ونحن أعلى حجة وأظهر حقا وأتقى مِنْكُمُ وأعذر وقاتل قتالا شديدا، فحمل عَلَيْهِ رجل من بني تميم فضربه بالسيف عَلَى رأسه فقتله- وَكَانَ يقال لَهُ: بديل بن صريم من بني عقفان- وحمل

عَلَيْهِ آخر من بني تميم فطعنه فوقع، فذهب ليقوم، فضربه الحصين بن تميم عَلَى رأسه بالسيف، فوقع، ونزل إِلَيْهِ التميمي فاحتز رأسه، فَقَالَ لَهُ الحصين: إني لشريكك فِي قتله، فَقَالَ الآخر: وَاللَّهِ مَا قتله غيري، فَقَالَ الحصين: أعطنيه أعلقه فِي عنق فرسي كيما يرى الناس ويعلموا أني شركت فِي قتله، ثُمَّ خذه أنت بعد فامض بِهِ إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فلا حاجة لي فِيمَا تعطاه عَلَى قتلك إِيَّاهُ قَالَ: فأبى عَلَيْهِ، فأصلح قومه فِيمَا بينهما عَلَى هَذَا، فدفع إِلَيْهِ رأس حبيب بن مظاهر، فجال بِهِ فِي العسكر قَدْ علقه فِي عنق فرسه، ثُمَّ دفعه بعد ذَلِكَ إِلَيْهِ، فلما رجعوا إِلَى الْكُوفَةِ أخذ الآخر رأس حبيب فعلقه فِي لبان فرسه، ثُمَّ أقبل بِهِ إِلَى ابن زياد فِي القصر فبصر بِهِ ابنه الْقَاسِم بن حبيب، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ قَدْ راهق، فأقبل مع الفارس لا يفارقه، كلما دخل القصر دخل مَعَهُ، وإذا خرج خرج مَعَهُ، فارتاب بِهِ، فَقَالَ: ما لك يَا بني تتبعني! قَالَ: لا شَيْء، قَالَ: بلى، يَا بني أَخْبِرْنِي، قَالَ لَهُ: إن هَذَا الرأس الَّذِي معك رأس أبي، أفتعطينيه حَتَّى أدفنه؟ قَالَ: يَا بني، لا يرضى الأمير أن يدفن، وأنا أريد أن يثيبني الأمير عَلَى قتله ثوابا حسنا، قَالَ لَهُ الغلام: لكن اللَّه لا يثيبك عَلَى ذَلِكَ إلا أسوأ الثواب، أما وَاللَّهِ لقد قتلت خيرا مِنْكَ، وبكى فمكث الغلام حَتَّى إذا أدرك لَمْ يَكُنْ لَهُ همة إلا اتباع أثر قاتل أَبِيهِ ليجد مِنْهُ غرة فيقتله بأبيه، فلما كَانَ زمان مُصْعَب بن الزُّبَيْرِ وغزا مصعب باجميرا دخل عسكر مصعب فإذا قاتل أَبِيهِ فِي فسطاطه، فأقبل يختلف فِي طلبه والتماس غرته، فدخل عَلَيْهِ وَهُوَ قائل نصف النهار فضربه بسيفه حَتَّى برد. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قيس، قَالَ: [لما قتل حبيب بن مظاهر هد ذَلِكَ حسينا وَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: أحتسب نفسي وحماة أَصْحَابي،] قَالَ: فأخذ الحر يرتجز ويقول: أليت لا أقتل حَتَّى أقتلا ولن أصاب الْيَوْم الا مقبلا

أضربهم بالسيف ضربا مقصلا لا ناكلا عَنْهُمْ وَلا مهللا وأخذ يقول أَيْضًا: أضرب فِي أعراضهم بالسيف عن خير من حل منى والخيف فقاتل هُوَ وزهير بن القين قتالا شديدا، فكان إذا شد أحدهما، فإن استلحم شد الآخر حَتَّى يخلصه، ففعلا ذَلِكَ ساعة ثُمَّ إن رجالة شدت عَلَى الحر بن يَزِيدَ فقتل، وقتل أَبُو ثمامة الصائدي ابن عم لَهُ كَانَ عدوا لَهُ، ثُمَّ صلوا الظهر، صلى بهم الْحُسَيْن صلاة الخوف، ثُمَّ اقتتلوا بعد الظهر فاشتد قتالهم، ووصل إِلَى الْحُسَيْن، فاستقدم الحنفي أمامه، فاستهدف لَهُمْ يرمونه بالنبل يمينا وشمالا قائما بين يديه، فما زال يرمى حَتَّى سقط وقاتل زهير بن القين قتالا شديدا، وأخذ يقول: أنا زهير وأنا ابن القين أذودهم بالسيف عن حُسَيْن قَالَ: وأخذ يضرب عَلَى منكب حُسَيْن ويقول: أقدم هديت هاديا مهديا فاليوم تلقى جدك النبيا وحسنا والمرتضى عَلِيًّا وذا الجناحين الفتى الكميا وأسد اللَّه الشهيد الحيا. قَالَ: فشد عَلَيْهِ كثير بن عَبْدِ اللَّهِ الشَّعْبِيّ ومهاجر بن أوس فقتلاه، قَالَ: وَكَانَ نافع بن هلال الْجَمَلِيّ قَدْ كتب اسمه عَلَى أفواق نبله، فجعل يرمي بِهَا مسومة وَهُوَ يقول: أنا الْجَمَلِيّ، أنا عَلَى دين علي. فقتل اثني عشر من أَصْحَاب عُمَر بن سَعْد سوى من جرح، قَالَ: فضرب حَتَّى كسرت عضداه وأخذ أسيرا، قَالَ: فأخذه شمر بن ذي الجوشن

وَمَعَهُ أَصْحَاب لَهُ يسوقون نافعا حَتَّى أتي بِهِ عُمَر بن سَعْدٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَر بن سَعْد: ويحك يَا نافع! مَا حملك عَلَى مَا صنعت بنفسك! قَالَ: إن ربي يعلم مَا أردت، قَالَ: والدماء تسيل عَلَى لحيته وَهُوَ يقول: وَاللَّهِ لقد قتلت مِنْكُمُ اثني عشر سوى من جرحت، وما ألوم نفسي عَلَى الجهد، ولو بقيت لي عضد وساعد مَا أسرتموني، فَقَالَ لَهُ شمر: اقتله أصلحك اللَّه! قَالَ: أنت جئت بِهِ، فإن شئت فاقتله، قَالَ: فانتضى شمر سيفه، فَقَالَ لَهُ نافع: أما وَاللَّهِ إن لو كنت مِنَ الْمُسْلِمِينَ لعظم عَلَيْك أن تلقى اللَّه بدمائنا، فالحمد لِلَّهِ الَّذِي جعل منايانا عَلَى يدي شرار خلقه، فقتله. قَالَ: ثُمَّ أقبل شمر يحمل عَلَيْهِم وَهُوَ يقول: خلوا عداة اللَّه خلوا عن شمر يضربهم بسيفه وَلا يفر وَهْوَ لكم صاب وسم ومقر. قَالَ: فلما رَأَى أَصْحَاب الْحُسَيْن أنَّهُمْ قَدْ كثروا، وأنهم لا يقدرون عَلَى أن يمنعوا حسينا وَلا أنفسهم، تنافسوا فِي أن يقتلوا بين يديه، فجاءه عَبْد اللَّهِ وعبد الرَّحْمَن ابنا عزرة الغفاريان، فقالا: يَا أَبَا عَبْد اللَّهِ، عَلَيْك السلام، حازنا العدو إليك، فأحببنا أن نقتل بين يديك، نمنعك وندفع عنك، قَالَ: مرحبا بكما! ادنوا مني، فدنوا مِنْهُ، فجعلا يقاتلان قريبا مِنْهُ، وأحدهما يقول: قَدْ علمت حقا بنو غفار وخندف بعد بني نزار لنضربن معشر الفجار بكل عضب صارم بتار يَا قوم ذودوا عن بني الأحرار بالمشرفي والقنا الخطار قَالَ: وجَاءَ الفتيان الجابريان: سيف بن الحارث بن سريع، ومالك ابن عبد بن سريع، وهما ابنا عم، وأخوان لأم، فأتيا حسينا فدنوا مِنْهُ وهما

يبكيان، فَقَالَ: أي ابني أخي، مَا يبكيكما؟ فو الله إني لأرجو أن تكونا عن ساعة قريري عين، قَالا: جعلنا اللَّه فداك! لا وَاللَّهِ مَا عَلَى أنفسنا نبكي، ولكنا نبكي عَلَيْك، نراك قَدْ أحيط بك، وَلا نقدر عَلَى ان نمنعك، فقال: جزاكما الله يا بنى أخي بوحدكما من ذَلِكَ ومواساتكما إياي بأنفسكما أحسن جزاء المتقين، قَالَ: وجاء حنظلة بن أسعد الشبامي فقام بين يدي حُسَيْن، فأخذ ينادي: «يَا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ. مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» يا قوم تقتلوا حسينا فيسحتكم اللَّه بعذاب «وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى» [فقال له حسين: يا بن اسعد، رحمك اللَّه، إِنَّهُمْ قَدِ استوجبوا العذاب حين ردوا عَلَيْك مَا دعوتهم إِلَيْهِ من الحق، ونهضوا إليك ليستبيحوك وأَصْحَابك، فكيف بهم الآن وَقَدْ قتلوا إخوانك الصالحين! قَالَ: صدقت، جعلت فداك! أنت أفقه مني وأحق بِذَلِكَ، أفلا نروح إِلَى الآخرة ونلحق بإخواننا؟ فَقَالَ: رح إِلَى خير من الدُّنْيَا وما فِيهَا، وإلى ملك لا يبلى، فَقَالَ: السلام عَلَيْك أبا عَبْد اللَّهِ، صلى اللَّه عَلَيْك وعلى أهل بيتك، وعرف بيننا وبينك فِي جنته، فَقَالَ: آمين آمين، فاستقدم فقاتل حَتَّى قتل] . قَالَ: ثُمَّ استقدم الفتيان الجابريان يلتفتان إِلَى حُسَيْن ويقولان: السلام عليك يا بن رَسُول اللَّهِ، فَقَالَ: وعَلَيْكُمَا السلام ورحمة اللَّه، فقاتلا حَتَّى قتلا، قَالَ: وجاء عابس بن أبي شبيب الشاكري وَمَعَهُ شوذب مولى شاكر، فَقَالَ: يَا شوذب، مَا فِي نفسك أن تصنع؟ قَالَ: مَا أصنع! أقاتل معك دون ابن بنت رسول الله ص حَتَّى أقتل، قَالَ: ذَلِكَ الظن بك، إما لا فتقدم بين يدي أبي عَبْد اللَّهِ حَتَّى يحتسبك كما احتسب غيرك من أَصْحَابه، وحتى أحتسبك أنا، فإنه لو كَانَ معي الساعة أحد أنا أولى

بِهِ مني بك لسرني أن يتقدم بين يدي حَتَّى أحتسبه، فإن هَذَا يوم ينبغي لنا أن نطلب الأجر فِيهِ بكل مَا قدرنا عَلَيْهِ، فإنه لا عمل بعد الْيَوْم، وإنما هُوَ الحساب، قَالَ: فتقدم فسلم عَلَى الحسين، ثم مضى فقاتل حتى قتل ثُمَّ قَالَ عابس بن أبي شبيب: يَا أَبَا عَبْد اللَّهِ، أما وَاللَّهِ مَا أمسى عَلَى ظهر الأرض قريب وَلا بعيد أعز علي وَلا أحب إلي مِنْكَ، ولو قدرت عَلَى أن أدفع عنك الضيم والقتل بشيء أعز علي من نفسي ودمي لفعلته، السلام عَلَيْك يَا أَبَا عَبْد اللَّهِ، أشهد اللَّه أني عَلَى هديك وهدي أبيك، ثُمَّ مشى بالسيف مصلتا نحوهم وبه ضربة عَلَى جبينه. قال أبو مخنف: حدثني نمير بن وعلة، عن رجل من بني عبد من همدان يقال لَهُ ربيع بن تميم شهد ذَلِكَ الْيَوْم، قَالَ: لما رأيته مقبلا عرفته وَقَدْ شاهدته فِي المغازي، وَكَانَ أشجع الناس، فقلت: أَيُّهَا النَّاسُ، هَذَا الأسد الأسود، هَذَا ابن أبي شبيب، لا يخرجن إِلَيْهِ أحد مِنْكُمْ، فأخذ ينادي: أَلا رجل لرجل! فَقَالَ عُمَر بن سَعْد: أرضخوه بالحجارة، قَالَ: فرمي بالحجارة من كل جانب، فلما رَأَى ذَلِكَ ألقى درعه ومغفره، ثم شد على الناس، فو الله لرأيته يكرد أكثر من مائتين مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ تعطفوا عَلَيْهِ من كل جانب، فقتل، قَالَ: فرأيت رأسه فِي أيدي رجال ذوي عدة، هَذَا يقول: أنا قتلته، وهذا يقول: أنا قتلته، فأتوا عُمَر بن سَعْدٍ فَقَالَ: لا تختصموا، هَذَا لم يقتله سنان واحد، ففرق بينهم بهذا القول. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ بن عاصم، عن الضحاك بن عَبْدِ اللَّهِ المشرقي، قَالَ: لما رأيت أَصْحَاب الْحُسَيْن قَدْ أصيبوا، وَقَدْ خلص إِلَيْهِ وإلى أهل بيته، ولم يبق مَعَهُ غير سويد بن عَمْرو بن أبي المطاع الخثعمى وبشير ابن عمرو الحضرمى، قلت له: يا بن رَسُول اللَّهِ، قَدْ علمت مَا كَانَ بيني وبينك، قلت لك: أقاتل عنك مَا رأيت مقاتلا، فإذا لم أر مقاتلا فأنا فِي حل من الانصراف، فقلت لي: نعم، قَالَ: فقال: صدقت، وكيف لك

بالتجاء! إن قدرت عَلَى ذَلِكَ فأنت فِي حل، قَالَ: فأقبلت إِلَى فرسي وَقَدْ كنت حَيْثُ رأيت خيل أَصْحَابنا تعقر، أقبلت بِهَا حَتَّى أدخلتها فسطاطا لأَصْحَابنا بين البيوت، وأقبلت أقاتل معهم راجلا، [فقتلت يَوْمَئِذٍ بين يدي الْحُسَيْن رجلين، وقطعت يد آخر، وَقَالَ لي الْحُسَيْن يَوْمَئِذٍ مرارا: لا تشلل، لا يقطع اللَّه يدك، جزاك اللَّه خيرا عن أهل بيت نبيك ص!] فلما أذن لي استخرجت الفرس من الفسطاط، ثُمَّ استويت عَلَى متنها، ثُمَّ ضربتها حَتَّى إذا قامت عَلَى السنابك رميت بِهَا عرض القوم، فأفرجوا لي، واتبعني مِنْهُمْ خمسة عشر رجلا حَتَّى انتهيت إِلَى شفية، قرية قريبة من شاطئ الفرات، فلما لحقوني عطفت عَلَيْهِم، فعرفني كثير بن عَبْدِ اللَّهِ الشَّعْبِيّ وأيوب بن مشرح الخيواني وقيس بن عَبْدِ اللَّهِ الصائدي، فَقَالُوا: هَذَا الضحاك بن عَبْدِ اللَّهِ المشرقي، هَذَا ابن عمنا، ننشدكم اللَّه لما كففتم عنه! فَقَالَ ثلاثة نفر من بني تميم كَانُوا معهم: بلى وَاللَّهِ لنجيبن إخواننا وأهل دعوتنا إِلَى مَا أحبوا من الكف عن صاحبهم، قَالَ: فلما تابع التميميون أَصْحَابي كف الآخرون، قَالَ: فنجاني اللَّه. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي فضيل بن خديج الكندي أن يَزِيد بن زياد، وَهُوَ أَبُو الشعثاء الكندي من بني بهدلة جثا عَلَى ركبتيه بين يدي الْحُسَيْن، فرمى بمائة سهم مَا سقط منها خمسة أسهم، وَكَانَ راميا، فكان كلما رمى قَالَ: أنا ابن بهدلة، فرسان العرجلة، ويقول حُسَيْن: [اللَّهُمَّ سدد رميته، واجعل ثوابه الجنة، فلما رمى] بِهَا قام فَقَالَ: مَا سقط منها إلا خمسة أسهم، وَلَقَدْ تبين لي أني قَدْ قتلت خمسة نفر، وَكَانَ فِي أول من قتل، وَكَانَ رجزه يَوْمَئِذٍ: أنا يَزِيد وأبي مهاصر أشجع من ليث بغيل خادر يَا رب إني للحسين ناصر ولابن سعد تارك وهاجر وَكَانَ يَزِيد بن زياد بن المهاصر ممن خرج مع عُمَر بن سَعْد إِلَى الْحُسَيْن،

فلما ردوا الشروط عَلَى الْحُسَيْن مال إِلَيْهِ فقاتل مَعَهُ حَتَّى قتل، فأما الصيداوي عُمَر بن خَالِدٍ، وجابر بن الْحَارِث السلماني، وسعد مولى عُمَر بن خَالِدٍ، ومجمع بن عَبْدِ اللَّهِ العائذي، فإنهم قاتلوا فِي أول القتال، فشدوا مقدمين بأسيافهم عَلَى الناس، فلما وغلوا عطف عَلَيْهِم الناس فأخذوا يحوزونهم، وقطعوهم من أَصْحَابهم غير بعيد، فحمل عَلَيْهِم العباس بن علي فاستنقذهم، فجاءوا قَدْ جرحوا، فلما دنا مِنْهُمْ عدوهم شدوا بأسيافهم فقاتلوا فِي أول الأمر حَتَّى قتلوا فِي مكان واحد قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي زهير بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زهير الخثعمي، قَالَ: كَانَ آخر من بقي مع الْحُسَيْن من أَصْحَابه سويد بن عَمْرو بن أبي المطاع الخثعمي، قَالَ: وَكَانَ أول قتيل من بني أبي طالب يَوْمَئِذٍ علي الأكبر بن الْحُسَيْن بن علي، وأمه لَيْلَى ابنة أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفي، وَذَلِكَ أنه أخذ يشد عَلَى الناس وَهُوَ يقول: أنا عَلِيّ بن حُسَيْن بن علي ... نحن ورب البيت أولى بالنبي تالله لا يحكم فينا ابن الدعي. قَالَ: ففعل ذَلِكَ مرارا، فبصر بِهِ مرة بن منقذ بن النُّعْمَانِ العبدي ثُمَّ اللَّيْثِيّ، فَقَالَ: علي آثام العرب إن مر بي يفعل مثل مَا كَانَ يفعل إن لم أثكله أباه، فمر يشد عَلَى الناس بسيفه، فاعترضه مرة بن منقذ، فطعنه فصرع، واحتوله الناس فقطعوه بأسيافهم. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم الأَزْدِيّ، قَالَ: [سماع أذني يَوْمَئِذٍ من الْحُسَيْن يقول: قتل اللَّه قوما قتلوك يَا بني! مَا أجرأهم عَلَى الرحمن، وعلى انتهاك حرمة الرسول! عَلَى الدُّنْيَا بعدك العفاء] . قَالَ: وكأني أنظر إِلَى امرأة خرجت مسرعة كأنها الشمس الطالعه تنادى: يا اخياه! ويا بن أخياه! قَالَ: فسألت عَلَيْهَا، فقيل: هَذِهِ زينب ابنه فاطمه ابنه رسول الله ص، فجاءت حَتَّى أكبت عَلَيْهِ، فجاءها

الْحُسَيْن فأخذ بيدها فردها إِلَى الفسطاط، [وأقبل الْحُسَيْن إِلَى ابنه، وأقبل فتيانه إِلَيْهِ، فَقَالَ: احملوا أخاكم،] فحملوه من مصرعه حَتَّى وضعوه بين يدي الفسطاط الَّذِي كَانُوا يقاتلون أمامه قَالَ: ثُمَّ إن عَمْرو بن صبيح الصدائي رمى عَبْد اللَّهِ بن مسلم بن عقيل بسهم فوضع كفه عَلَى جبهته، فأخذ لا يستطيع أن يحرك كفيه، ثُمَّ انتحى لَهُ بسهم آخر ففلق قلبه، فاعتورهم الناس من كل جانب، فحمل عَبْد اللَّهِ بن قطبة الطَّائِيّ ثُمَّ النبهاني عَلَى عون بن عَبْدِ الله ابن جَعْفَر بن أبي طالب فقتله، وحمل عَامِر بن نهشل التيمي عَلَى مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فقتله، قال: وشد عثمان بن خالد ابن أسير الجهني، وبشر بن سوط الهمداني ثُمَّ القابضى على عبد الرحمن ابن عقيل بن أبي طالب فقتلاه، ورمى عَبْد الله بن عزره الخثعمى جعفر ابن عقيل بن أبي طالب فقتله. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قَالَ: خرج إلينا غلام كأن وجهه شقة قمر، فِي يده السيف، عَلَيْهِ قميص وإزار ونعلان قَدِ انقطع شسع أحدهما، مَا أنسى أنها اليسرى، فَقَالَ لي عمرو ابن سَعْدِ بْنِ نفيل الأَزْدِيّ: وَاللَّهِ لأشدن عَلَيْهِ، فقلت لَهُ: سبحان اللَّه! وما تريد إِلَى ذَلِكَ! يكفيك قتل هَؤُلاءِ الَّذِينَ تراهم قَدِ احتولوهم، قَالَ: فَقَالَ: وَاللَّهِ لأشدن عَلَيْهِ، فشد عَلَيْهِ فما ولى حَتَّى ضرب رأسه بالسيف، فوقع الغلام لوجهه، فَقَالَ: يَا عماه! قَالَ: فجلى الْحُسَيْن كما يجلى الصقر، ثُمَّ شد شده ليث غضب، فضرب عمرا بالسيف، فاتقاه بالساعد، فأطنها من لدن المرفق، فصاح، ثُمَّ تنحى عنه، وحملت خيل لأهل الْكُوفَة ليستنقذوا عمرا من حُسَيْن، فاستقبلت عمرا بصدورها، فحركت حوافرها وجالت الخيل بفرسانها عليه، فوطئته حَتَّى مات، وانجلت الغبرة، [فإذا أنا بالحسين قائم عَلَى رأس الغلام، والغلام يفحص برجليه، وحسين يقول: بعدا لقوم قتلوك، ومن خصمهم يوم الْقِيَامَة فيك جدك! ثُمَّ قَالَ: عز وَاللَّهِ عَلَى عمك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك ثُمَّ لا ينفعك! صوت وَاللَّهِ كثر واتره، وقل ناصره] ثُمَّ احتمله فكأني أنظر إِلَى رجلي الغلام يخطان فِي الأرض،

وَقَدْ وضع حُسَيْن صدره عَلَى صدره، قَالَ: فقلت فِي نفسي: مَا يصنع بِهِ! فَجَاءَ بِهِ حَتَّى ألقاه مع ابنه عَلِيّ بن الْحُسَيْن وقتلى قَدْ قتلت حوله من أهل بيته، فسألت عن الغلام، فقيل: هُوَ الْقَاسِم بن الحسن بن علي بن أبي طالب. قَالَ: ومكث الْحُسَيْن طويلا من النهار كلما انتهى إِلَيْهِ رجل مِنَ النَّاسِ انصرف عنه، وكره أن يتولى قتله وعظيم إثمه عَلَيْهِ، قَالَ: [وإن رجلا من كندة يقال لَهُ مالك بن النسير من بني بداء، أتاه فضربه عَلَى رأسه بالسيف، وعليه برنس لَهُ، فقطع البرنس، وأصاب السيف رأسه، فأدمى رأسه، فامتلأ البرنس دما، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: لا أكلت بِهَا وَلا شربت، وحشرك اللَّه مع الظالمين! قَالَ:] فألقى ذَلِكَ البرنس، ثُمَّ دعا بقلنسوة فلبسها، واعتم، وَقَدْ أعيا وبلد، وجاء الكندي حَتَّى أخذ البرنس- وَكَانَ من خز- فلما قدم بِهِ بعد ذَلِكَ عَلَى امرأته أم عَبْد اللَّهِ ابنة الحر أخت حُسَيْن بن الحر البدي، أقبل يغسل البرنس من الدم، فَقَالَتْ لَهُ امرأته: أسلب ابن بنت رسول الله ص تدخل بيتي! أخرجه عني، فذكر أَصْحَابه أنه لم يزل فقيرا بشر حَتَّى مات قَالَ: ولما قعد الْحُسَيْن أتى بصبي لَهُ فأجلسه فِي حجره زعموا أنه عَبْد اللَّهِ بن الْحُسَيْن. قَالَ أَبُو مخنف: قَالَ عقبة بن بشير الأسدي: [قَالَ لي أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد ابن عَلِيّ بن الْحُسَيْن: إن لنا فيكم يَا بني أسد دما، قَالَ: قلت: فما ذنبي أنا فِي ذَلِكَ رحمك اللَّه يَا أَبَا جَعْفَر! وما ذَلِكَ؟ قَالَ: أتي الْحُسَيْن بصبي لَهُ، فهو فِي حجره، إذ رماه أحدكم يَا بني أسد بسهم فذبحه، فتلقى الْحُسَيْن دمه، فلما ملأ كفيه صبه فِي الأرض ثُمَّ قَالَ: رب إن تك حبست عنا النصر من السماء فاجعل ذَلِكَ لما هُوَ خير، وانتقم لنا من هَؤُلاءِ الظالمين،] قَالَ: ورمى عَبْد اللَّهِ بن عُقْبَةَ الغنوي أبا بكر بن الْحُسَيْن بن علي بسهم فقتله، فلذلك يقول الشاعر، وَهُوَ ابن أبي عقب: وعند غني قطرة من دمائنا ... وفي أسد أخرى تعد وتذكر قَالَ: وزعموا أن العباس بن علي قَالَ لإخوته من أمه: عَبْد الله، وجعفر

وعثمان: يَا بني أمي، تقدموا حَتَّى أرثكم، فإنه لا ولد لكم، ففعلوا، فقتلوا. وشد هانئ بن ثبيت الحضرمي عَلَى عَبْد اللَّهِ بْن عَلِيّ بْن أَبِي طَالِبٍ فقتله، ثُمَّ شد عَلَى جَعْفَر بن علي فقتله وجاء برأسه، ورمى خولي بن يَزِيدَ الأصبحي عُثْمَان بن عَلِيّ بن أبي طالب بسهم، ثُمَّ شد عَلَيْهِ رجل من بني أبان بن دارم فقتله، وجاء برأسه، ورمى رجل من بني أبان بن دارم مُحَمَّد بن عَلِيّ بن أبي طالب فقتله وجاء برأسه. قَالَ هِشَام: حَدَّثَنِي أَبُو الهذيل- رجل من السكون- عن هانئ بن ثبيت الحضرمي، قَالَ: رأيته جالسا فِي مجلس الحضرميين فِي زمان خَالِد بن عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ شيخ كبير، قَالَ: فسمعته وَهُوَ يقول: كنت ممن شهد قتل الحسين، قال: فو الله إني لواقف عاشر عشرة ليس منا رجل إلا عَلَى فرس، وَقَدْ جالت الخيل وتصعصعت، إذ خرج غلام من آل الْحُسَيْن وَهُوَ ممسك بعود من تِلَكَ الأبنية، عَلَيْهِ إزار وقميص، وَهُوَ مذعور، يتلفت يمينا وشمالا، فكأني أنظر إِلَى درتين فِي أذنيه تذبذبان كلما التفت، إذ أقبل رجل يركض، حَتَّى إذا دنا مِنْهُ مال عن فرسه، ثُمَّ اقتصد الغلام فقطعه بالسيف. قَالَ هِشَام: قَالَ السكوني: هانئ بن ثبيت هُوَ صاحب الغلام، فلما عتب عَلَيْهِ كنى عن نفسه. قَالَ هِشَام: حَدَّثَنِي عَمْرو بن شمر، عن جابر الجعفي، قَالَ: عطش الْحُسَيْن حَتَّى اشتد عَلَيْهِ العطش، فدنا ليشرب من الماء، فرماه حصين بن تميم بسهم، فوقع فِي فمه، فجعل يتلقى الدم من فمه، ويرمي بِهِ إِلَى السماء، ثُمَّ حمد اللَّه وأثنى عَلَيْهِ، ثُمَّ جمع يديه فَقَالَ: اللَّهُمَّ أحصهم عددا، واقتلهم بددا، وَلا تذر عَلَى الأرض مِنْهُمْ أحدا. قَالَ هِشَام، عن أَبِيهِ مُحَمَّد بن السَّائِب، عَنِ القاسم بن الأصبغ بن نباته، قَالَ: حَدَّثَنِي من شهد الْحُسَيْن فِي عسكره أن حسينا حين غلب عَلَى عسكره ركب المسناة يريد الفرات، قَالَ: فَقَالَ رجل من بنى ابان بن دارم: ويلكم! حولوا بينه وبين الماء لا تتام إِلَيْهِ شيعته، قَالَ: وضرب

فرسه، وأتبعه الناس حَتَّى حالوا بينه وبين الفرات، فَقَالَ الْحُسَيْن: اللَّهُمَّ أَظْمِهِ، قَالَ: وينتزع الأباني بسهم، فأثبته فِي حنك الْحُسَيْن، قَالَ: [فانتزع الْحُسَيْن السهم، ثُمَّ بسط كفيه فامتلأت دما، ثُمَّ قَالَ الْحُسَيْن: اللَّهُمَّ إني أشكو إليك مَا يفعل بابن بنت نبيك، قَالَ:] فو الله إن مكث الرجل إلا يسيرا حَتَّى صب اللَّه عَلَيْهِ الظمأ، فجعل لا يروى. قَالَ الْقَاسِم بن الأصبغ: لقد رأيتني فيمن يروح عنه والماء يبرد لَهُ فِيهِ السكر وعساس فِيهَا اللبن، وقلال فِيهَا الماء، وإنه ليقول: ويلكم! اسقوني قتلني الظمأ، فيعطى القلة أو العس كَانَ مرويا أهل البيت فيشربه، فإذا نزعه من فِيهِ اضطجع الهنيهة ثُمَّ يقول: ويلكم! اسقونى قتلني الظما، قال: فو الله مَا لبث إلا يسيرا حَتَّى انقد بطنه انقداد بطن البعير. قَالَ أَبُو مخنف فِي حديثه: ثُمَّ إن شمر بن ذي الجوشن أقبل فِي نفر نحو من عشرة من رجالة أهل الْكُوفَة قبل منزل الْحُسَيْن الَّذِي فِيهِ ثقله وعياله، فمشى نحوه، فحالوا بينه وبين رحله، [فَقَالَ الْحُسَيْن: ويلكم! إن لَمْ يَكُنْ لكم دين، وكنتم لا تخافون يوم المعاد، فكونوا فِي أمر دُنْيَاكُمْ أحرارا ذوي أحساب، امنعوا رحلي وأهلي من طغامكم وجهالكم، فقال ابن ذي الجوشن] : ذلك لك يا بن فاطمة، قَالَ: وأقدم عَلَيْهِ بالرجالة، مِنْهُمْ أَبُو الجنوب- واسمه عبد الرَّحْمَن الجعفي- والقشعم بن عَمْرو بن يَزِيدَ الجعفي، وصالح بن وهب اليزني، وسنان بن أنس النخعي، وخولي بن يزيد الأصبحي، فجعل شمر ابن ذي الجوشن يحرضهم، فمر بأبي الجنوب وَهُوَ شاك فِي السلاح فَقَالَ لَهُ: أقدم عَلَيْهِ، قَالَ: وما يمنعك أن تقدم عَلَيْهِ أنت! فَقَالَ لَهُ شمر: ألي تقول ذا! قَالَ: وأنت لي تقول ذا! فاستبا، فَقَالَ لَهُ أَبُو الجنوب- وَكَانَ شجاعا: وَاللَّهِ لهممت أن أخضخض السنان فِي عينك، قَالَ: فانصرف عنه شمر وَقَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ قدرت عَلَى أن أضرك لأضرنك قَالَ: ثُمَّ إن شمر بن ذي الجوشن أقبل فِي الرجالة نحو الْحُسَيْن، فأخذ الْحُسَيْن يشد عَلَيْهِم فينكشفون عنه. ثُمَّ إِنَّهُمْ أحاطوا بِهِ إحاطة، وأقبل إِلَى الْحُسَيْن غلام من أهله، فأخذته أخته

زينب ابنة علي لتحبسه، [فَقَالَ لها الْحُسَيْن: احبسيه، فأبى الغلام، وجاء يشتد إِلَى الْحُسَيْن، فقام إِلَى جنبه، قَالَ: وَقَدْ أهوى بحر بن كعب بن عُبَيْد اللَّهِ- من بني تيم اللَّه بن ثعلبة بن عكابة- إِلَى الحسين بالسيف، فقال الغلام: يا بن الخبيثة، أتقتل عمي! فضربه بالسيف، فاتقاه الغلام بيده فأطنها إلا الجلدة، فإذا يده معلقة، فنادى الغلام: يَا أمتاه! فأخذه الْحُسَيْن فضمه الى صدره، وقال: يا بن أخي، اصبر عَلَى مَا نزل بك، واحتسب فِي ذَلِكَ الخير، فإن اللَّه يلحقك بآبائك الصالحين، برسول الله ص وعلي بن أَبِي طَالِبٍ وحمزة وجعفر والحسن بن علي، صلى اللَّه عَلَيْهِم أجمعين] . قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قَالَ: سمعت الْحُسَيْن يَوْمَئِذٍ وَهُوَ يقول: [اللَّهُمَّ أمسك عَنْهُمْ قطر السماء، وامنعهم بركات الأرض، اللَّهُمَّ فإن متعتهم إِلَى حين ففرقهم فرقا، واجعلهم طرائق قددا، وَلا ترض عَنْهُمُ الولاة أبدا، فإنهم دعونا لينصرونا، فعدوا علينا فقتلونا] قَالَ: وضارب الرجالة حَتَّى انكشفوا عنه، [قَالَ: ولما بقي الْحُسَيْن فِي ثلاثة رهط أو أربعة، دعا بسراويل محققة يلمع فِيهَا البصر، يماني محقق، ففزره ونكثه لكيلا يسلبه، فَقَالَ لَهُ بعض أَصْحَابه: لو لبست تحته تبانا! قَالَ: ذَلِكَ ثوب مذلة، وَلا ينبغي لي أن ألبسه،] قَالَ: فلما قتل أقبل بحر بن كعب فسلبه إِيَّاهُ فتركه مجردا. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي عَمْرو بن شعيب، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عبد الرَّحْمَن أن يدي بحر بن كعب كانتا في الشتاء تنضحان الماء، وفي الصيف تيبسان كأنهما عود. قَالَ أَبُو مخنف: عن الحجاج، عن عَبْد اللَّهِ بن عمار بن عَبْدِ يغوث البارقى،

وعتب عَلَى عَبْد اللَّهِ بن عمار بعد ذَلِكَ مشهده قتل الْحُسَيْن، فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن عمار: إن لي عِنْدَ بني هاشم ليدا، قلنا لَهُ: وما يدك عندهم؟ قَالَ: حملت على حسين بالرمح فانتهيت اليه، فو الله لو شئت لطعنته، ثُمَّ انصرفت عنه غير بعيد، وقلت: مَا أصنع بأن أتولى قتله! يقتله غيري قَالَ: فشد عَلَيْهِ رجالة ممن عن يمينه وشماله، فحمل عَلَى من عن يمينه حَتَّى ابذعروا، وعلى من عن شماله حَتَّى ابذعروا، وعليه قميص لَهُ من خز وهو معتم، قال: فو الله مَا رأيت مكسورا قط قَدْ قتل ولده وأهل بيته وأَصْحَابه أربط جأشا، وَلا أمضى جنانا وَلا أجرأ مقدما مِنْهُ، وَاللَّهِ مَا رأيت قبله ولا بعده مثله، ان كانت الرجالة لتنكشف من عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب، قال: فو الله إنه لكذلك إذ خرجت زينب ابنة فاطمة أخته، وكأني أنظر إِلَى قرطها يجول بين أذنيها وعاتقها وَهِيَ تقول: ليت السماء تطابقت عَلَى الأرض! وَقَدْ دنا عُمَر بن سَعْد من حُسَيْن، فَقَالَتْ: يَا عُمَر بن سَعْدٍ، أيقتل أَبُو عَبْد اللَّهِ وأنت تنظر إِلَيْهِ! قَالَ: فكأني أنظر إِلَى دموع عمر وَهِيَ تسيل عَلَى خديه ولحيته، قَالَ: وصرف بوجهه عنها. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الصقعب بن زهير، عن حميد بن مسلم، قَالَ: كَانَتْ عَلَيْهِ جبة من خز، وَكَانَ معتما، وَكَانَ مخضوبا بالوسمة، قَالَ: وسمعته يقول قبل أن يقتل، وَهُوَ يقاتل عَلَى رجليه قتال الفارس الشجاع يتقى الرميه، ويفترض العورة، ويشد عَلَى الخيل، [وَهُوَ يقول: أعلى قتلي تحاثون! أما وَاللَّهِ لا تقتلون بعدي عبدا من عباد الله اللَّه أسخط عَلَيْكُمْ لقتله مني، وايم اللَّه إني لأرجو أن يكرمني اللَّه بهوانكم، ثُمَّ ينتقم لي مِنْكُمْ من حَيْثُ لا تشعرون، أما وَاللَّهِ أن لو قَدْ قتلتموني لقد ألقى اللَّه بأسكم بينكم، وسفك دماءكم، ثُمَّ لا يرضى لكم حَتَّى يضاعف لكم العذاب الأليم] قَالَ: وَلَقَدْ مكث طويلا من النهار ولو شاء الناس أن يقتلوه لفعلوا، ولكنهم كَانَ يتقي بعضهم ببعض، ويحب هَؤُلاءِ أن يكفيهم هَؤُلاءِ، قَالَ:

فنادى شمر فِي الناس: ويحكم، ماذا تنظرون بالرجل! اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم! قَالَ: فحمل عَلَيْهِ من كل جانب، فضربت كفه اليسرى ضربة، ضربها زرعة بن شريك التميمي، وضرب عَلَى عاتقه، ثُمَّ انصرفوا وَهُوَ ينوء ويكبو، قَالَ: وحمل عَلَيْهِ فِي تِلَكَ الحال سنان بن أنس بن عَمْرو النخعي فطعنه بالرمح فوقع، ثُمَّ قَالَ لخولي بن يَزِيدَ الأصبحي: احتز رأسه، فأراد أن يفعل، فضعف فأرعد، فَقَالَ لَهُ سنان بن أنس: فت اللَّه عضديك، وأبان يديك! فنزل إِلَيْهِ فذبحه واحتز رأسه، ثُمَّ دفع إِلَى خولي بن يَزِيدَ، وَقَدْ ضرب قبل ذَلِكَ بالسيوف. قَالَ أَبُو مخنف، [عن جَعْفَر بن مُحَمَّدِ بْنِ علي، قَالَ: وجد بالحسين ع حين قتل ثلاث وثلاثون طعنة وأربع وثلاثون ضربة،] قَالَ: وجعل سنان بن أنس لا يدنو أحد من الْحُسَيْن إلا شد عَلَيْهِ مخافة أن يغلب عَلَى رأسه، حَتَّى أخذ رأس الْحُسَيْن فدفعه إِلَى خولي، قَالَ: وسلب الْحُسَيْن مَا كَانَ عَلَيْهِ، فأخذ سراويله بحر بن كعب، وأخذ قيس بن الأشعث قطيفته- وكانت من خز، وَكَانَ يسمى بعد قيس قطيفة- وأخذ نعليه رجل من بني أود يقال لَهُ الأسود، وأخذ سيفه رجل من بني نهشل بن دارم، فوقع بعد ذَلِكَ إِلَى أهل حبيب بن بديل، قَالَ: ومال الناس عَلَى الورس والحلل والإبل وانتهبوها، قَالَ: ومال الناس عَلَى نساء الْحُسَيْن وثقله ومتاعه، فإن كَانَتِ المرأة لتنازع ثوبها عن ظهرها حَتَّى تغلب عَلَيْهِ فيذهب بِهِ منها. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي زهير بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ الخثعمي، أن سويد بن عَمْرو بن أبي المطاع كَانَ صرع فأثخن، فوقع بين القتلى مثخنا، فسمعهم يقولون: قتل الْحُسَيْن، فوجد إفاقة، فإذا مَعَهُ سكين وَقَدْ أخذ سيفه، فقاتلهم بسكينه ساعة، ثُمَّ إنه قتل، قتله عروة بن بطار التغلبي، وزَيْد بن رقاد الجنبي، وَكَانَ آخر قتيل. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم،

قَالَ، انتهيت إِلَى عَلِيّ بن الْحُسَيْن بن علي الأصغر وَهُوَ منبسط عَلَى فراش لَهُ، وَهُوَ مريض، وإذا شمر بن ذي الجوشن فِي رجالة مَعَهُ يقولون: أَلا نقتل هَذَا؟ قَالَ: فقلت: سبحان اللَّه! أنقتل الصبيان! إنما هَذَا صبي، قَالَ: فما زال ذَلِكَ دأبي أدفع عنه كل من جَاءَ حَتَّى جَاءَ عُمَر بن سَعْد، فَقَالَ: أَلا لا يدخلن بيت هَؤُلاءِ النسوة أحد، وَلا يعرضن لهذا الغلام المريض، ومن أخذ من متاعهم شَيْئًا فليرده عليهم قال: فو الله مَا رد أحد شَيْئًا، قَالَ: [فَقَالَ عَلِيّ بن الحسين: جزيت من رجل خيرا! فو الله لقد دفع اللَّه عني بمقالتك شرا،] قَالَ: فَقَالَ الناس لسنان بن أنس: قتلت حُسَيْن بن علي وابن فاطمة ابنة رَسُول اللَّهِ ص، قتلت أعظم العرب خطرا، جَاءَ إِلَى هَؤُلاءِ يريد أن يزيلهم عن ملكهم، فأت أمراءك فاطلب ثوابك منهم، لو أعطوك بيوت أموالهم فِي قتل الْحُسَيْن كَانَ قليلا، فأقبل عَلَى فرسه، وَكَانَ شجاعا شاعرا، وكانت بِهِ لوثة، فأقبل حَتَّى وقف عَلَى باب فسطاط عُمَر بن سَعْدٍ، ثُمَّ نادى بأعلى صوته: أوقر ركابي فضة وذهبا ... أنا قتلت الملك المحجبا قتلت خير الناس أما وأبا ... وخيرهم إذ ينسبون نسبا فَقَالَ عُمَر بن سَعْد: أشهد إنك لمجنون مَا صححت قط، أدخلوه علي، فلما أدخل حذفه بالقضيب ثُمَّ قَالَ: يَا مجنون، أتتكلم بهذا الكلام! أما وَاللَّهِ لو سمعك ابن زياد لضرب عنقك، قَالَ: وأخذ عُمَر بن سَعْد عقبة بن سمعان- وَكَانَ مولى للرباب بنت امرئ القيس الكلبية، وَهِيَ أم سكينة بنت الْحُسَيْن- فَقَالَ لَهُ: مَا أنت؟ قَالَ: أنا عبد مملوك، فخلي سبيله، فلم ينج مِنْهُمْ أحد غيره، إلا أن المرقع بن ثمامة الأسدي كَانَ قَدْ نثر نبله وجثا عَلَى ركبتيه، فقاتل، فجاءه نفر من قومه، فَقَالُوا لَهُ: أنت آمن، أخرج إلينا، فخرج إِلَيْهِم، فلما قدم بهم عُمَر بن سَعْد عَلَى ابن زياد وأخبره خبره سيره إِلَى الزارة قَالَ: ثُمَّ إن عُمَر بن سَعْد نادى فِي أَصْحَابه: من ينتدب للحسين ويوطئه فرسه؟ فانتدب عشرة: مِنْهُمْ إِسْحَاق بن حيوة الحضرمي،

وَهُوَ الَّذِي سلب قميص الْحُسَيْن- فبرص بعد- واحبش بن مرثد بن علقمه ابن سلامة الحضرمي، فأتوا فداسوا الْحُسَيْن بخيولهم حَتَّى رضوا ظهره وصدره، فبلغني أن أحبش بن مرثد بعد ذَلِكَ بزمان أتاه سهم غرب، وَهُوَ واقف فِي قتال ففلق قلبه، فمات، قال: فقتل من اصحاب الحسين ع اثنان وسبعون رجلا، ودفن الْحُسَيْن وأَصْحَابه أهل الغاضرية من بني أسد بعد ما قتلوا بيوم، وقتل من أَصْحَاب عُمَر بن سَعْد ثمانية وثمانون رجلا سوى الجرحى، فصلى عَلَيْهِم عُمَر بن سَعْد ودفنهم، قَالَ: وما هُوَ إلا أن قتل الْحُسَيْن، فسرح برأسه من يومه ذَلِكَ مع خولي بن يَزِيدَ وحميد بن مسلم الأَزْدِيّ إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فأقبل بِهِ خولي فأراد القصر، فوجد باب القصر مغلقا، فأتى منزله فوضعه تحت إجانة فِي منزله، وله امرأتان: امرأة من بني أسد، والأخرى من الحضرميين يقال لها النوار ابنة مالك بن عقرب، وكانت تِلَكَ الليلة ليلة الحضرمية قَالَ هِشَام: فَحَدَّثَنِي أبي، عن النوار بنت مالك، قالت: أقبل خولي برأس الْحُسَيْن فوضعه تحت إجانة فِي الدار، ثُمَّ دخل البيت، فأوى إِلَى فراشه، فقلت لَهُ: مَا الخبر؟ مَا عندك؟ قَالَ: جئتك بغنى الدهر، هَذَا رأس الْحُسَيْن معك فِي الدار، قالت: فقلت: ويلك- جَاءَ الناس بالذهب والفضه وجئت برأس ابن رسول الله ص! لا وَاللَّهِ لا يجمع رأسي ورأسك بيت أبدا، قالت: فقمت من فراشي، فخرجت إِلَى الدار، فدعا الأسدية فأدخلها إِلَيْهِ، وجلست أنظر، قالت: فو الله مَا زلت أنظر إِلَى نور يسطع مثل العمود من السماء إِلَى الإجانة، ورأيت طيرا بيضا ترفرف حولها. قَالَ: فلما أصبح غدا بالرأس إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، وأقام عُمَر بن سَعْد يومه ذَلِكَ والغد، ثُمَّ أمر حميد بن بكير الأحمري فأذن فِي الناس بالرحيل إِلَى الْكُوفَةِ، وحمل مَعَهُ بنات الْحُسَيْن وأخواته ومن كَانَ مَعَهُ من الصبيان، وعلى ابن الْحُسَيْن مريض. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي أَبُو زهير العبسي، عن قرة بن قيس التميمي،

قَالَ: نظرت إِلَى تِلَكَ النسوة لما مررن بحسين وأهله وولده صحن ولطمن وجوههن قَالَ: فاعترضتهن عَلَى فرس، فما رأيت منظرا من نسوة قط كَانَ أحسن من منظر رأيته منهن ذَلِكَ الْيَوْم، وَاللَّهِ لهن أحسن من مهايبرين. قال: فما نسيت من الأشياء لا انس قول زينب ابنة فاطمة حين مرت بأخيها الْحُسَيْن صريعا وَهِيَ تقول: يَا مُحَمَّداه، يَا مُحَمَّداه! صلى عَلَيْك ملائكة السماء، هَذَا الْحُسَيْن بالعراء، مرمل بالدماء، مقطع الأعضاء، يَا مُحَمَّداه! وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة، تسفي عَلَيْهَا الصبا قَالَ: فأبكت وَاللَّهِ كل عدو وصديق، قَالَ: وقطف رءوس الباقين، فسرح باثنين وسبعين رأسا مع شمر بن ذي الجوشن وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجاج وعزرة بن قيس، فأقبلوا حَتَّى قدموا بِهَا عَلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قَالَ: دعاني عُمَر بن سَعْد فسرحني إِلَى أهله لأبشرهم بفتح اللَّه عَلَيْهِ وبعافيته، فأقبلت حَتَّى أتيت أهله، فأعلمتهم ذَلِكَ، ثُمَّ أقبلت حَتَّى أدخل فأجد ابن زياد قَدْ جلس لِلنَّاسِ، وأجد الوفد قَدْ قدموا عَلَيْهِ، فأدخلهم، وأذن لِلنَّاسِ، فدخلت فيمن دخل، فإذا رأس الْحُسَيْن موضوع بين يديه، وإذا هُوَ ينكت بقضيب بين ثنيتيه ساعة، فلما رآه زَيْد بن أَرْقَمَ: لا ينجم عن نكته بالقضيب، قَالَ لَهُ: اعل بهذا القضيب عن هاتين الثنيتين، فو الذى لا إله غيره لقد رأيت شفتي رَسُول الله ص عَلَى هاتين الشفتين يقبلهما، ثُمَّ انفضخ الشيخ يبكي، فَقَالَ لَهُ ابن زياد: أبكى اللَّه عينيك! فو الله لولا أنك شيخ قَدْ خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك، قَالَ: فنهض فخرج، فلما خرج سمعت الناس يقولون: وَاللَّهِ لقد قَالَ زَيْد بن أَرْقَمَ قولا لو سمعه ابن زياد لقتله، قَالَ: فقلت: مَا قَالَ؟ قَالُوا: مر بنا وَهُوَ يقول: ملك عبد عبدا، فاتخذهم تلدا، أنتم يَا معشر العرب العبيد بعد الْيَوْم، قتلتم ابن فاطمة، وأمرتم ابن مرجانة، فهو يقتل خياركم، ويستعبد شراركم، فرضيتم بالذل، فبعدا لمن رضي بالذل!

قَالَ: فلما دخل برأس حُسَيْن وصبيانه وأخواته ونسائه عَلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد لبست زينب ابنة فاطمة أرذل ثيابها، وتنكرت، وحفت بِهَا إماؤها، فلما دخلت جلست، فَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ بن زياد: من هَذِهِ الجالسة؟ فلم تكلمه، فَقَالَ ذَلِكَ ثلاثا، كل ذَلِكَ لا تكلمه، فَقَالَ بعض إمائها: هَذِهِ زينب ابنة فاطمة، قَالَ: فَقَالَ لها عُبَيْد اللَّهِ: الحمد لِلَّهِ الَّذِي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم! فَقَالَتِ: الحمد لله الذى أكرمنا بمحمد ص وطهرنا تطهيرا، لا كما تقول أنت، إنما يفتضح الفاسق، ويكذب الفاجر، قَالَ: فكيف رأيت صنع اللَّه بأهل بيتك! قالت: كتب عَلَيْهِم القتل، فبرزوا إِلَى مضاجعهم، وسيجمع اللَّه بينك وبينهم، فتحاجون إِلَيْهِ، وتخاصمون عنده، قَال: فغضب ابن زياد واستشاط، قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَمْرو ابن حريث: أصلح اللَّه الأمير! إنما هي امرأة، وهل تؤاخذ المرأة بشيء من منطقها! إنها لا تؤاخذ بقول، وَلا تلام عَلَى خطل، فَقَالَ لها ابن زياد: قَدْ أشفى اللَّه نفسي من طاغيتك، والعصاة المردة من أهل بيتك، قَالَ: فبكت ثُمَّ قالت: لعمري لقد قتلت كهلي، وأبرت أهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن يشفك هَذَا فقد اشتفيت، فَقَالَ لها عُبَيْد اللَّهِ: هَذِهِ شجاعة، قَدْ لعمري كَانَ أبوك شاعرا شجاعا، قالت: مَا للمرأة والشجاعة! إن لي عن الشجاعة لشغلا، ولكن نفثي مَا أقول. قَالَ أَبُو مخنف، عَنِ الْمُجَالِدِ بن سَعِيد: إن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد لما نظر إِلَى عَلِيّ بن الْحُسَيْن قَالَ لشرطي: انظر هل أدرك مَا يدرك الرجال؟ فكشط إزاره عنه، فَقَالَ: نعم، قَالَ انطلقوا بِهِ فاضربوا عنقه، فَقَالَ لَهُ على: إن كَانَ بينك وبين هَؤُلاءِ النسوة قرابة فابعث معهن رجلا يحافظ عليهن، فَقَالَ لَهُ ابن زياد: تعال أنت، فبعثه معهن. قَالَ أَبُو مخنف: وأما سُلَيْمَان بن أبي راشد، فَحَدَّثَنِي عن حميد بن مسلم

[قَالَ: إني لقائم عِنْدَ ابن زياد حين عرض عَلَيْهِ عَلِيّ بن الْحُسَيْن فَقَالَ لَهُ: مَا اسمك؟ قَالَ: أنا عَلِيّ بن الْحُسَيْن، قال: او لم يقتل اللَّه عَلِيّ بن الْحُسَيْن! فسكت، فَقَالَ لَهُ ابن زياد: مَا لك لا تتكلم! قَالَ: قَدْ كَانَ لي أخ يقال لَهُ أَيْضًا علي، فقتله الناس، قَالَ: إن اللَّه قَدْ قتله، قَالَ: فسكت علي، فَقَالَ لَهُ: مَا لك لا تتكلم! قَالَ: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها» «وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» ، قَالَ: أنت وَاللَّهِ مِنْهُمْ، ويحك! انظروا هل أدرك؟ وَاللَّهِ إني لأحسبه رجلا، قَالَ: فكشف عنه مري بن معاذ الأحمري، فَقَالَ: نعم قَدْ أدرك، فَقَالَ: اقتله، فَقَالَ عَلِيّ بن الْحُسَيْن: من توكل بهؤلاء النسوة؟ وتعلقت بِهِ زينب عمته فقالت: يا بن زياد، حسبك منا، أما رويت من دمائنا! وهل أبقيت منا أحدا! قَالَ: فاعتنقته فَقَالَتْ: أسألك بِاللَّهِ إن كنت مؤمنا إن قتلته لما قتلتني مَعَهُ! قَالَ: وناداه علي فَقَالَ: يا بن زياد، إن كَانَتْ بينك وبينهن قرابة فابعث معهن رجلا تقيا يصحبهن بصحبة الإِسْلام،] قَالَ: فنظر إِلَيْهَا ساعة، ثُمَّ نظر إِلَى القوم فَقَالَ: عجبا للرحم! وَاللَّهِ إني لأظنها ودت لو أني قتلته أني قتلتها مَعَهُ، دعوا الغلام، انطلق مع نسائك. قَالَ حميد بن مسلم: لما دخل عُبَيْد اللَّهِ القصر ودخل الناس، نودي: الصَّلاة جامعة! فاجتمع الناس فِي المسجد الأعظم، فصعد الْمِنْبَر ابن زياد فَقَالَ: الحمد لِلَّهِ الَّذِي أظهر الحق وأهله، ونصر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ يَزِيد بن مُعَاوِيَة وحزبه، وقتل الكذاب ابن الكذاب، الْحُسَيْن بن علي وشيعته، فلم يفرغ ابن زياد من مقالته حَتَّى وثب إِلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بن عفيف الأَزْدِيّ ثُمَّ الغامدي، ثُمَّ أحد بني والبة- وَكَانَ من شيعة علي كرم اللَّه وجهه، وكانت عينه اليسرى ذهبت يوم الجمل مع علي، فلما كَانَ يوم صفين ضرب عَلَى رأسه ضربة، وأخرى عَلَى حاجبه، فذهبت عينه الأخرى، فكان لا يكاد يفارق المسجد الأعظم يصلي فِيهِ إِلَى الليل ثُمَّ ينصرف- قَالَ: فلما سمع مقاله ابن زياد، قال:

يا بن مرجانة، إن الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك والذى ولاك وأبوه، يا بن مرجانة، أتقتلون أبناء النبيين، وتكلمون بكلام الصديقين! فَقَالَ ابن زياد: علي بِهِ، قَالَ: فوثبت عَلَيْهِ الجلاوزة فأخذوه، قَالَ: فنادى بشعار الأزد: يَا مبرور- قَالَ: وعبد الرَّحْمَن بن مخنف الأَزْدِيّ جالس- فَقَالَ: ويح غيرك! أهلكت نفسك، وأهلكت قومك، قَالَ: وحاضر الْكُوفَة يَوْمَئِذٍ من الأزد سبعمائة مقاتل، قَالَ: فوثب إِلَيْهِ فتية من الأزد فانتزعوه فأتوا بِهِ أهله، فأرسل إِلَيْهِ من أتاه بِهِ، فقتله وأمر بصلبه فِي السبخة، فصلب هنالك. قَالَ أَبُو مخنف: ثُمَّ إن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد نصب رأس الْحُسَيْن بالكوفة، فجعل يدار بِهِ فِي الْكُوفَة، ثُمَّ دعا زحر بن قيس فسرح مَعَهُ برأس الْحُسَيْن ورءوس أَصْحَابه إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، وَكَانَ مع زحر أَبُو بردة بن عوف الأَزْدِيّ وطارق بن أبي ظبيان الأَزْدِيّ، فخرجوا حَتَّى قدموا بِهَا الشام عَلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة. قَالَ هِشَام: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بْن روح بْن زنباع الجذامي، عَنْ أَبِيهِ، عن الغاز بن رَبِيعَة الجرشي، من حمير، قال: والله انا لعند يزيد ابن مُعَاوِيَة بدمشق إذ أقبل زحر بن قيس حَتَّى دخل عَلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فَقَالَ لَهُ يَزِيد: ويلك! مَا وراءك؟ وما عندك؟ فَقَالَ: أبشر يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بفتح اللَّه ونصره، ورد علينا الْحُسَيْن بن علي فِي ثمانية عشر من أهل بيته وستين من شيعته، فسرنا إِلَيْهِم، فسألناهم أن يستسلموا وينزلوا عَلَى حكم الأمير عُبَيْد اللَّهِ بن زياد أو القتال، فاختاروا القتال عَلَى الاستسلام، فعدونا عَلَيْهِم مع شروق الشمس، فأحطنا بهم من كل ناحية، حَتَّى إذا أخذت السيوف مأخذها من هام القوم، يهربون إِلَى غير وزر، ويلوذون منا بالآكام والحفر، لواذا كما لاذ الحمائم من صقر، فو الله يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا كَانَ إلا جزر

جزور أو نومة قائل حَتَّى أتينا عَلَى آخرهم، فهاتيك أجسادهم مجردة، وثيابهم مرملة، وخدودهم معفرة، تصهرهم الشمس، وتسفى عَلَيْهِم الريح، زوارهم العقبان والرخم بقي سبسب قَالَ: فدمعت عين يَزِيد، وَقَالَ: قَدْ كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الْحُسَيْن، لعن اللَّه ابن سمية! أما وَاللَّهِ لو أني صاحبه لعفوت عنه، فرحم اللَّه الْحُسَيْن! ولم يصله بشيء. قَالَ: ثُمَّ إن عُبَيْد اللَّهِ أمر بنساء الْحُسَيْن وصبيانه فجهزن، وامر بعلى ابن الْحُسَيْن فغل بغل إِلَى عنقه، ثُمَّ سرح بهم مع محفز بن ثعلبة العائذي، عائذة قريش ومع شمر بن ذي الجوشن، فانطلقا بهم حَتَّى قدموا عَلَى يَزِيد، فلم يكن عَلِيّ بن الْحُسَيْن يكلم أحدا منهما فِي الطريق كلمة حَتَّى بلغوا، فلما انتهوا إِلَى باب يَزِيد رفع محفز بن ثعلبة صوته، فَقَالَ: هَذَا محفز بن ثعلبة أتى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ باللئام الفجرة، قَالَ: فأجابه يَزِيد بن مُعَاوِيَة: مَا ولدت أم محفز شر وألأم. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الصقعب بن زهير، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عبد الرَّحْمَن مولى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، قَالَ: لما وضعت الرءوس بين يدي يَزِيد- رأس الْحُسَيْن وأهل بيته وأَصْحَابه- قَالَ يَزِيد: يفلقن هاما من رجال أعزة ... علينا وهم كَانُوا أعق وأظلما أما وَاللَّهِ يَا حُسَيْن، لو أنا صاحبك مَا قتلتك. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَر العبسي، عن أبي عمارة العبسي، قَالَ: فَقَالَ يَحْيَى بن الحكم أخو مَرْوَان بن الحكم: لهام بجنب الطف أدنى قرابة ... من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل سمية أمسى نسلها عدد الحصى ... وبنت رسول الله ليس لها نسل

قَالَ: فضرب يَزِيد بن مُعَاوِيَة فِي صدر يَحْيَى بن الحكم وَقَالَ: اسكت. [قَالَ: ولما جلس يَزِيد بن مُعَاوِيَة دعا أشراف أهل الشام فأجلسهم حوله، ثُمَّ دعا بعلي بن الْحُسَيْن وصبيان الْحُسَيْن ونسائه، فأدخلوا عَلَيْهِ والناس ينظرون، فَقَالَ يَزِيد لعلي: يَا علي، أبوك الَّذِي قطع رحمي، وجهل حقي، ونازعني سلطاني، فصنع اللَّه بِهِ مَا قَدْ رأيت! قَالَ: فَقَالَ علي: «مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها» ، فَقَالَ يَزِيد لابنه خَالِد: اردد عَلَيْهِ، قَالَ: فما درى خَالِد مَا يرد عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ يَزِيد: قل: «وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» ، ثُمَّ سكت عنه،] قَالَ: ثُمَّ دعا بالنساء والصبيان فأجلسوا بين يديه، فرأى هيئة قبيحة، فَقَالَ: قبح اللَّه ابن مرجانة! لو كَانَتْ بينه وبينكم رحم أو قرابة مَا فعل هَذَا بكم، وَلا بعث بكم هكذا. قَالَ أَبُو مخنف، عن الْحَارِث بن كعب، عن فاطمة بنت علي، قالت: لما أجلسنا بين يدي يَزِيد بن مُعَاوِيَة رق لنا، وأمر لنا بشيء، وألطفنا، قالت: ثُمَّ إن رجلا من أهل الشام أحمر قام إِلَى يَزِيد فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هب لي هَذِهِ- يعنيني، وكنت جارية وضيئة- فأرعدت وفرقت، وظننت أن ذَلِكَ جائز لَهُمْ، وأخذت بثياب أختي زينب، قالت: وكانت أختي زينب أكبر مني وأعقل، وكانت تعلم أن ذَلِكَ لا يكون، فَقَالَتْ: كذبت وَاللَّهِ ولؤمت! مَا ذَلِكَ لك وله، فغضب يَزِيد، فَقَالَ: كذبت وَاللَّهِ، إن ذَلِكَ لي، ولو شئت أن أفعله لفعلت، قالت: كلا وَاللَّهِ، مَا جعل اللَّه ذَلِكَ لك إلا أن تخرج من ملتنا، وتدين بغير ديننا، قالت: فغضب يزيد واستطار، ثُمَّ قَالَ: إياي تستقبلين بهذا! إنما خرج من الدين ابوك

وأخوك، فَقَالَتْ زينب: بدين اللَّه ودين أبي ودين أخي وجدي اهتديت أنت وأبوك وجدك، قَالَ: كذبت يَا عدوة اللَّه، قالت: أنت أَمِير مسلط، تشتم ظالما، وتقهر بسلطانك، قالت: فو الله لكأنه استحيا، فسكت، ثُمَّ عاد الشامي فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هب لي هَذِهِ الجارية، قَالَ: اعزب، وهب اللَّه لك حتفا قاضيا! قالت: ثُمَّ قَالَ يَزِيد بن مُعَاوِيَة: يَا نعمان بن بشير: جهزهم بِمَا يصلحهم، وابعث معهم رجلا من أهل الشام أمينا صالحا، وابعث مَعَهُ خيلا وأعوانا فيسير بهم إِلَى الْمَدِينَة، ثُمَّ أمر بالنسوة أن ينزلن فِي دار عَلَى حدة، معهن مَا يصلحهن، وأخوهن معهن عَلِيّ بن الْحُسَيْن، فِي الدار الَّتِي هن فِيهَا قَالَ: فخرجن حَتَّى دخلن دار يَزِيد فلم تبق من آل مُعَاوِيَة امرأة إلا استقبلتهن تبكي وتنوح عَلَى الْحُسَيْن، فأقاموا عَلَيْهِ المناحة ثلاثا، وَكَانَ يَزِيد لا يتغدى وَلا يتعشى إلا دعا عَلِيّ بن الْحُسَيْن إِلَيْهِ، قال: فدعاه ذات يوم، ودعا عمر بن الْحَسَن بن علي وَهُوَ غلام صغير، فقال لعمر بن الْحَسَن: أتقاتل هَذَا الفتى؟ يعني خالدا ابنه، قَالَ: لا، ولكن أعطني سكينا وأعطه سكينا، ثُمَّ أقاتله، فَقَالَ لَهُ يَزِيد، وأخذه فضمه إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: شنشنة أعرفها من أخزم، هل تلد الحية إلا حية! قَالَ: ولما أرادوا أن يخرجوا دعا يَزِيد عَلِيّ بن الْحُسَيْن ثُمَّ قَالَ: لعن اللَّه ابن مرجانة، أما وَاللَّهِ لو أني صاحبه مَا سألني خصلة أبدا إلا أعطيتها إِيَّاهُ، ولدفعت الحتف عنه بكل مَا استطعت ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن اللَّه قضى مَا رأيت، كاتبني وأنه كل حاجة تكون لك، قَالَ: وكساهم وأوصى بهم ذَلِكَ الرسول، قَالَ: فخرج بهم وَكَانَ يسايرهم بالليل فيكونون أمامه حَيْثُ لا يفوتون طرفه، فإذا نزلوا تنحى عَنْهُمْ وتفرق هُوَ وأَصْحَابه حولهم كهيئة الحرس لَهُمْ، وينزل مِنْهُمْ بحيث إذا أراد إنسان مِنْهُمْ وضوءا أو قضاء حاجة لم يحتشم، فلم يزل ينازلهم فِي الطريق هكذا، ويسألهم عن حوائجهم، ويلطفهم حَتَّى دخلوا الْمَدِينَة. وَقَالَ الْحَارِث بن كعب: فَقَالَتْ لي فاطمة بنت علي: قلت لأختي زينب: يَا أخية، لقد أحسن هَذَا الرجل الشامي إلينا فِي صحبتنا، فهل لك أن نصله؟ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا معنا شَيْء نصله بِهِ إلا حلينا، قالت

لها: فنعطيه حلينا، قالت: فأخذت سواري ودملجي وأخذت أختي سوارها ودملجها، فبعثنا بِذَلِكَ إِلَيْهِ، واعتذرنا إِلَيْهِ، وقلنا لَهُ: هَذَا جزاؤك بصحبتك إيانا بالحسن من الفعل، قَالَ: فَقَالَ: لو كَانَ الَّذِي صنعت إنما هُوَ للدنيا كَانَ فِي حليكن مَا يرضيني ودونه، ولكن وَاللَّهِ مَا فعلته إلا لِلَّهِ، ولقرابتكم مِنْ رَسُولِ الله ص قَالَ هِشَام: وأما عوانة بن الحكم الكلبي فإنه قَالَ: لما قتل الْحُسَيْن وجيء بالأثقال والأسارى حَتَّى وردوا بهم الْكُوفَة إِلَى عُبَيْد اللَّهِ، فبينا القوم محتبسون إذ وقع حجر فِي السجن، مَعَهُ كتاب مربوط، وفي الكتاب خرج البريد بأمركم فِي يوم كذا وكذا إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، وَهُوَ سائر كذا وكذا يَوْمًا، وراجع فِي كذا وكذا، فإن سمعتم التكبير فأيقنوا بالقتل، وإن لم تسمعوا تكبيرا فهو الأمان إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: فلما كَانَ قبل قدوم البريد بيومين أو ثلاثة إذا حجر قَدْ ألقي فِي السجن، وَمَعَهُ كتاب مربوط وموسى، وفي الكتاب: أوصوا واعهدوا فإنما ينتظر البريد يوم كذا وكذا فَجَاءَ البريد ولم يسمع التكبير، وجاء كتاب بأن سرح الأسارى إلي قَالَ: فدعا عُبَيْد الله ابن زياد محفز بن ثعلبة وشمر بن ذي الجوشن، فَقَالَ: انطلقوا بالثقل والرأس إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ يَزِيد بن مُعَاوِيَة، قَالَ: فخرجوا حَتَّى قدموا عَلَى يَزِيد، فقام محفز بن ثعلبة فنادى بأعلى صوته: جئنا برأس أحمق الناس وألأمهم، فَقَالَ يَزِيد: مَا ولدت أم محفز ألأم وأحمق، ولكنه قاطع ظالم، قَالَ: فلما نظر يَزِيد إِلَى رأس الْحُسَيْن، قَالَ: يفلقن هاما من رجال أعزة ... علينا وهم كَانُوا أعق وأظلما ثُمَّ قَالَ: أتدرون من أين أتي هَذَا؟ قَالَ: أبي علي خير من أَبِيهِ، وأمي فاطمة خير من أمه، وجدي رسول الله خير من جده، وأنا خير مِنْهُ وأحق

بهذا الأمر مِنْهُ، فأما قوله: أبوه خير من أبي، فقد حاج أبي أباه، وعلم الناس أيهما حكم لَهُ، وأما قوله: أمي خير من أمه، فلعمري فاطمة ابنة رَسُول الله ص خير من أمي، وأما قوله: جدي خير من جده، فلعمري مَا أحد يؤمن بِاللَّهِ واليوم الآخر يرى لرسول اللَّه فينا عدلا وَلا ندا، ولكنه إنما أتي من قبل فقهه، ولم يقرأ: «قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ثُمَّ أدخل نساء الْحُسَيْن عَلَى يَزِيد، فصاح نساء آل يَزِيد وبنات مُعَاوِيَة وأهله وولولن. ثُمَّ إنهن أدخلن عَلَى يَزِيد، فَقَالَتْ فاطمة بنت الْحُسَيْن- وكانت أكبر من سكينة: أبنات رَسُول اللَّهِ سبايا يَا يَزِيد! فَقَالَ يَزِيد: يَا ابنة أخي، أنا لهذا كنت أكره، قالت: وَاللَّهِ مَا ترك لنا خرص، قَالَ: يا ابنه أخي ما آت إليك أعظم مما أخذ مِنْكَ، ثُمَّ أخرجن فأدخلن دار يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فلم تبق امرأة من آل يَزِيد إلا أتتهن، وأقمن المأتم، وأرسل يَزِيد إِلَى كل امرأة: ماذا أخذ لك؟ وليس منهن امرأة تدعي شَيْئًا بالغا مَا بلغ إلا قَدْ أضعفه لها، فكانت سكينة تقول: مَا رأيت رجلا كافرا بالله خيرا من يزيد ابن مُعَاوِيَة [ثُمَّ أدخل الأسارى إِلَيْهِ وفيهم عَلِيّ بن الْحُسَيْن، فَقَالَ لَهُ يَزِيد: إيه يَا علي! فَقَالَ علي: «مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ] » فَقَالَ يَزِيد: «وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» ثُمَّ جهزه وأعطاه مالا، وسرحه إِلَى الْمَدِينَة

قَالَ هِشَامٌ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حمزة الثمالي، عن عَبْد اللَّهِ الثمالي، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ بخيت، قَالَ: لما أقبل وفد أهل الْكُوفَة برأس الْحُسَيْن دخلوا مسجد دمشق، فَقَالَ لَهُمْ مَرْوَان بن الحكم: كيف صنعتم؟ قَالُوا: ورد علينا مِنْهُمْ ثمانية عشر رجلا، فأتينا وَاللَّهِ عَلَى آخرهم، وهذه الرءوس والسبايا، فوثب مَرْوَان فانصرف، وأتاهم أخوه يَحْيَى بن الحكم، فَقَالَ: مَا صنعتم؟ فأعادوا عَلَيْهِ الكلام، فَقَالَ: حجبتم عن مُحَمَّد يوم الْقِيَامَة، لن أجامعكم عَلَى أمر أبدا ثُمَّ قام فانصرف، ودخلوا عَلَى يَزِيد فوضعوا الرأس بين يديه، وحدثوه الحديث قَالَ: فسمعت دور الحديث هند بنت عبد الله ابن عَامِر بن كريز- وكانت تحت يَزِيد بن مُعَاوِيَة- فتقنعت بثوبها، وخرجت فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أرأس الْحُسَيْن بن فاطمة بنت رَسُول اللَّهِ! قَالَ: نعم فأعولي عَلَيْهِ، وحدي عَلَى ابن بنت رسول الله ص وصريحة قريش، عجل عَلَيْهِ ابن زياد فقتله قتله اللَّه! ثُمَّ أذن لِلنَّاسِ فدخلوا والرأس بين يديه، ومع يَزِيد قضيب فهو ينكت بِهِ فِي ثغره، ثُمَّ قَالَ: إن هَذَا وإيانا كما قَالَ الحصين بن الحمام المري: يفلقن هاما من رجال أحبة ... إلينا وهم كَانُوا أعق وأظلما قَالَ: فَقَالَ رجل من اصحاب رسول الله ص يقال لَهُ أَبُو برزة الأسلمي: أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين! اما لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذا، لربما رأيت رَسُول الله ص يرشفه، أما إنك يَا يَزِيد تجيء يوم الْقِيَامَة وابن زياد شفيعك، ويجيء هَذَا يوم القيامه ومحمد ص شفيعه، ثُمَّ قام فولى. قَالَ هِشَام: حَدَّثَنِي عوانة بن الحكم، قَالَ: لما قتل عُبَيْد اللَّهِ بن زياد الْحُسَيْن بن علي وجيء برأسه إِلَيْهِ، دعا عَبْد الْمَلِكِ بن أبي الْحَارِث السلمي فَقَالَ: انطلق حَتَّى تقدم الْمَدِينَة عَلَى عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ فبشره بقتل الْحُسَيْن- وَكَانَ عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ أَمِير الْمَدِينَة يَوْمَئِذٍ- قَالَ: فذهب

ليعتل لَهُ، فزجره- وَكَانَ عُبَيْد اللَّهِ لا يصطلى بناره- فَقَالَ: انطلق حَتَّى تأتي الْمَدِينَة، وَلا يسبقك الخبر، وأعطاه دنانير، وَقَالَ: لا تعتل، وإن قامت بك راحلتك فاشتر راحلة، قَالَ عَبْد الْمَلِكِ: فقدمت الْمَدِينَة، فلقيني رجل من قريش، فَقَالَ: مَا الخبر؟ فقلت: الخبر عِنْدَ الأمير، فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! قتل الحسين بن على، فدخلت عَلَى عَمْرو بن سَعِيدٍ فَقَالَ: مَا وراءك؟ فقلت: مَا سر الأمير، قتل الْحُسَيْن بن علي، فَقَالَ: ناد بقتله، فناديت بقتله، فلم أسمع وَاللَّهِ واعية قط مثل واعية نساء بني هاشم فِي دورهن عَلَى الْحُسَيْن، فَقَالَ عَمْرو بن سَعِيد وضحك: عجت نساء بني زياد عجة ... كعجيج نسوتنا غداة الأرنب والأرنب: وقعة كَانَتْ لبني زبيد عَلَى بني زياد من بني الْحَارِث بن كعب، من رهط عبد المدان، وهذا البيت لعمرو بن معديكرب، ثُمَّ قَالَ عَمْرو: هَذِهِ واعية بواعية عُثْمَان بن عَفَّانَ، ثُمَّ صعد الْمِنْبَر فأعلم الناس قتله. قَالَ هِشَام، عن أبي مخنف، عن سليمان بن أبي راشد، عن عبد الرحمن ابن عبيد أبي الكنود، قَالَ: لما بلغ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مقتل ابنيه مع الْحُسَيْن، دخل عَلَيْهِ بعض مواليه والناس يعزونه- قَالَ: وَلا أظن مولاه ذَلِكَ إلا أبا اللسلاس- فَقَالَ: هَذَا مَا لقينا ودخل علينا من الْحُسَيْن! قَالَ: فحذفه عَبْد الله بن جعفر بنعله، ثم قال: يا بن اللخناء، أللحسين تقول هَذَا! وَاللَّهِ لو شهدته لأحببت الا أفارقه حَتَّى أقتل مَعَهُ، وَاللَّهِ إنه لمما يسخي بنفسي عنهما، ويهون علي المصاب بهما، أنهما أصيبا مع أخي وابن عمي مواسيين لَهُ، صابرين مَعَهُ ثُمَّ أقبل عَلَى جلسائه فَقَالَ: الحمد لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مصرع الحسين، الا تكن آست حسينا يدي، فقد آساه ولدي قَالَ: ولما أتى أهل الْمَدِينَة مقتل الْحُسَيْن خرجت ابنة عقيل بن أبي طالب ومعها نساؤها وَهِيَ حاسرة تلوي بثوبها وَهِيَ تقول:

ذكر أسماء من قتل من بنى هاشم مع الحسين ع وعدد من قتل من كل قبيله من القبائل التي قاتلته

ماذا تقولون إن قَالَ النَّبِيّ لكم ... ماذا فعلتم وَأَنْتُمْ آخر الأمم بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي ... مِنْهُمْ أسارى ومنهم ضرجوا بدم! قَالَ هِشَام: عن عوانة، قَالَ: قَالَ عُبَيْد اللَّهِ بن زياد لعمر بن سَعْد بعد قتله الْحُسَيْن: يَا عمر، أين الكتاب الَّذِي كتبت بِهِ إليك فِي قتل الْحُسَيْن؟ قَالَ: مضيت لأمرك وضاع الكتاب، قَالَ: لتجيئن بِهِ، قَالَ: ضاع، قَالَ: وَاللَّهِ لتجيئني بِهِ، قَالَ: ترك وَاللَّهِ يقرأ عَلَى عجائز قريش اعتذارا إليهن بِالْمَدِينَةِ، أما وَاللَّهِ لقد نصحتك فِي حُسَيْن نصيحه لو نصحتها ابى سعد ابن أَبِي وَقَّاص كنت قَدْ أديت حقه، قَالَ عُثْمَان بن زياد أخو عُبَيْد اللَّهِ: صدق وَاللَّهِ، لوددت أنه ليس من بني زياد رجل إلا وفي أنفه خزامة إِلَى يوم القيامه وان حسينا لم يقتل، قال: فو الله مَا أنكر ذَلِكَ عَلَيْهِ عُبَيْد اللَّهِ. قَالَ هِشَام: حَدَّثَنِي بعض أَصْحَابنا، عن عَمْرو بن أبي المقدام، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرو بن عِكْرِمَة، قَالَ: أصبحنا صبيحة قتل الْحُسَيْن بِالْمَدِينَةِ، فإذا مولى لنا يحدثنا، قَالَ: سمعت البارحة مناديا ينادي وَهُوَ يقول: أيها القاتلون جهلا حسينا ... أبشروا بالعذاب والتنكيل كل أهل السماء يدعو عَلَيْكُمْ ... من نبي وملاك وقبيل قَدْ لعنتم عَلَى لسان ابن دَاوُد ... وموسى وحامل الإنجيل قَالَ هِشَام: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ حيزوم الكلبي، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سمعت هَذَا الصوت. ذكر أسماء من قتل من بني هاشم مع الحسين ع وعدد من قتل من كل قبيلة من القبائل الَّتِي قاتلته قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: ولما قتل الحسين بن على ع جيء

برءوس من قتل مَعَهُ من أهل بيته وشيعته وأنصاره إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فجاءت كندة بثلاثة عشر رأسا، وصاحبهم قيس بن الأشعث، وجاءت هوازن بعشرين رأسا وصاحبهم شمر بن ذي الجوشن، وجاءت تميم بسبعة عشر رأسا، وجاءت بنو أسد بستة أرؤس، وجاءت مذحج بسبعة أرؤس، وجاء سائر الجيش بسبعة أرؤس، فذلك سبعون رأسا. قَالَ: وقتل الحسين- وأمه فاطمه بنت رسول الله ص قتله سنان بن أنس النخعي ثُمَّ الأصبحي وجاء برأسه خولي بن يَزِيدَ، وقتل العباس بن عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ- وأمه أم البنين ابنة حزام بن خَالِد بن رَبِيعَة بن الوحيد، قتله زَيْد بن رقاد الجنبي- وحكيم بن الطفيل السنبسي، وقتل جَعْفَر بن عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ- وأمه أم البنين أيضا- وقتل عبد الله بن على ابن أَبِي طَالِبٍ- وأمه أم البنين أَيْضًا- وقتل عُثْمَان بن عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ- وأمه أم البنين أَيْضًا- رماه خولي بن يَزِيدَ بسهم فقتله، وقتل مُحَمَّد بن عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ- وأمه أم ولد- قتله رجل من بني أبان بن دارم، وقتل أَبُو بَكْر بن عَلِيّ بن أبي طالب- وأمه لَيْلَى ابنة مسعود بن خَالِد بن مالك بن ربعي بن سلمى بن جندل بن نهشل بن دارم، وَقَدْ شك فِي قتله- وقتل على ابن الْحُسَيْن بن علي- وأمه لَيْلَى ابنة أبي مرة بن عروة بن مسعود بن معتب الثقفي، وأمها مَيْمُونَة ابنة أبي سُفْيَان بن حرب- قتله مرة بن منقذ بن النُّعْمَانِ العبدي، وقتل عَبْد اللَّهِ بن الْحُسَيْن بن على- وأمه الرباب ابنه إمرئ القيس ابن عدي بن أوس بن جابر بن كعب بن عليم من كلب- قتله هانئ ابن ثبيت الحضرمي، واستصغر عَلِيّ بن الْحُسَيْن بن علي فلم يقتل، وقتل أَبُو بَكْر بن الْحَسَن بن عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ- وأمه أم ولد- قتله عَبْد اللَّهِ بن عُقْبَةَ الغنوي، وقتل عَبْد اللَّهِ بن الْحَسَن بن عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ- وأمه أم ولد- قتله حرملة بن الكاهن، رماه بسهم، وقتل الْقَاسِم بن الْحَسَن بن علي- وأمه أم ولد- قتله سعد بن عَمْرو بن نفيل الأزدي، وقتل عون بن عبد الله

ابن جَعْفَر بن أَبِي طَالِبٍ- وأمه جمانة ابنة المسيب بن نجبة بن رَبِيعَة بن رياح من بني فزارة- قتله عَبْد اللَّهِ بن قطبه الطائي ثم النبهاني، وقتل محمد ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- وأمه الخوصاء ابنة خصفة بن ثقيف بن رَبِيعَة بن عائذ بن الْحَارِث بن تيم اللَّه بن ثعلبة من بكر بن وائل- قتله عامر ابن نهشل التيمي، وقتل جَعْفَر بن عقيل بن أَبِي طَالِبٍ- وأمه أم البنين ابنة الشقر بن الهضاب- قتله بشر بن حوط الهمداني، وقتل عبد الرحمن ابن عقيل- وأمه أم ولد- قتله عُثْمَان بن خَالِد بن أسير الجهني، وقتل عَبْد اللَّهِ بن عقيل بن أبي طالب- وأمه أم ولد- رماه عَمْرو بن صبيح الصدائي فقتله، وقتل مسلم بن عقيل بن أَبِي طَالِبٍ- وأمه أم ولد، ولد بالكوفة- وقتل عَبْد اللَّهِ بن مسلم بن عقيل بن أَبِي طَالِبٍ- وأمه رقية ابنة عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ وأمها أم ولد- قتله عَمْرو بن صبيح الصدائي، وقيل: قتله اسيد بن مالك الحضرمي، وقتل مُحَمَّد بن أبي سَعِيد بن عقيل- وأمه أم ولد- قتله لقيط بن ياسر الجهني، واستصغر الْحَسَن بن الْحَسَن بن علي، وأمه خولة ابنة منظور بن زبان بن سيار الفزارى، واستصغر عمر بن الحسن بن على فترك فلم يقتل- وأمه أم ولد- وقتل من الموالي سُلَيْمَان مولى الْحُسَيْن بن علي، قتله سُلَيْمَان بن عوف الحضرمي، وقتل منجح مولى الْحُسَيْن بن علي، وقتل عَبْد اللَّهِ بن بقطر رضيع الْحُسَيْن بن علي. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن جندب الأَزْدِيّ، أن عُبَيْد الله ابن زياد بعد قتل الْحُسَيْن تفقد أشراف أهل الْكُوفَة، فلم ير عُبَيْد اللَّهِ بن الحر، ثُمَّ جاءه بعد أيام حَتَّى دخل عَلَيْهِ، فقال: اين كنت يا بن الحر؟ قَالَ: كنت مريضا، قَالَ: مريض القلب، أو مريض البدن! قَالَ: أما قلبي فلم يمرض، وأما بدني فقد من اللَّه علي بالعافية، فَقَالَ لَهُ ابن زياد: كذبت، ولكنك كنت مع عدونا، قَالَ: لو كنت مع عدوك لرئى مكاني، وما كَانَ مثل مكاني يخفى، قَالَ: وغفل عنه ابن زياد غفلة، فخرج ابن الحر فقعد

ذكر خبر مقتل مرداس بن عمرو بن حدير

عَلَى فرسه، فَقَالَ ابن زياد: أين ابن الحر؟ قَالُوا: خرج الساعة، قَالَ: علي بِهِ، فأحضرت الشرط فَقَالُوا لَهُ: أجب الأمير، فدفع فرسه ثُمَّ قَالَ: أبلغوه أني لا آتيه وَاللَّهِ طائعا أبدا، ثُمَّ خرج حَتَّى أتى منزل أحمر بن زياد الطَّائِيّ فاجتمع إِلَيْهِ فِي منزله أَصْحَابه، ثُمَّ خرج حَتَّى أتى كربلاء فنظر إِلَى مصارع القوم، فاستغفر لَهُمْ هُوَ وأَصْحَابه، ثُمَّ مضى حَتَّى نزل المدائن، وَقَالَ فِي ذَلِكَ: يقول أَمِير غادر حق غادر: ... أَلا كنت قاتلت الشهيد ابن فاطمه! فيا ندمي أَلا أكون نصرته ... أَلا كل نفس لا تسدد نادمه وإني لأني لم أكن من حماته ... لذو حسرة مَا إن تفارق لازمه سقى اللَّه أرواح الَّذِينَ تأزروا ... عَلَى نصره سقيا من الغيث دائمه وقفت على أجداثهم ومجالهم ... فكاد الحشا ينفض والعين ساجمه لعمري لقد كَانُوا مصاليت فِي الوغى ... سراعا إِلَى الهيجا حماة خضارمه تآسوا عَلَى نصر ابن بنت نبيهم ... بأسيافهم آساد غيل ضراغمه فإن يقتلوا فكل نفس تقية ... عَلَى الأرض قَدْ أضحت لذلك واجمه وما إن رَأَى الراءون أفضل مِنْهُمُ ... لدى الموت سادات وزهرا قماقمه أتقتلهم ظلما وترجو ودادنا ... فدع خطة ليست لنا بملائمه! لعمري لقد راغمتمونا بقتلهم ... فكم ناقم منا عَلَيْكُمْ وناقمه أهم مرارا أن أسير بجحفل ... إِلَى فئة زاغت عن الحق ظالمه فكفوا وإلا ذدتكم فِي كتائب ... أشد عَلَيْكُمْ من زحوف الديالمة. ذكر خبر مقتل مرداس بن عمرو بن حدير وفي هَذِهِ السنة قتل أَبُو بلال مِرْدَاس بن عَمْرو بن حدير، من رَبِيعَة بن حنظله

ذكر خبر ولايه سلم بن زياد على خراسان وسجستان

ذكر سبب مقتله: قَالَ أَبُو جَعْفَر الطبري: قَدْ تقدم ذكر سبب خروجه، وما كَانَ من توجيه عُبَيْد اللَّهِ بن زياد إِلَيْهِ أسلم بن زرعة الكلابي فِي ألفي رجل، والتقائهم بآسك وهزيمة أسلم وجيشه مِنْهُ ومن أَصْحَابه فِيمَا مضى من كتابنا هَذَا. ولما هزم مِرْدَاس أَبُو بلال أسلم بن زرعة، وبلغ عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، سرح إِلَيْهِ- فِيمَا حُدِّثْتُ عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي مخنف، قال: حدثنى ابو المخارق الراسبى- ثلاثة آلاف، عَلَيْهِم عباد بن الأخضر التميمي، فأتبعه عباد يطلبه حَتَّى لحقه بتوج، فصف لَهُ، فحمل عَلَيْهِم أَبُو بلال وأَصْحَابه، فثبتوا وتعطف الناس عَلَيْهِم فلم يكونوا شَيْئًا وَقَالَ أَبُو بلال لأَصْحَابه: من كَانَ مِنْكُمْ إنما خرج للدنيا فليذهب، ومن كَانَ مِنْكُمْ إنما أراد الآخرة ولقاء ربه فقد سبق ذَلِكَ إِلَيْهِ، وقرأ: «مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ» ، فنزل ونزل أَصْحَابه مَعَهُ لم يفارقه مِنْهُمْ إنسان، فقتلوا من عِنْدَ آخرهم، ورجع عباد بن الأخضر، وَذَلِكَ الجيش الَّذِي كَانَ مَعَهُ إِلَى الْبَصْرَة، وأقبل عبيدة بن هلال مَعَهُ ثلاثة نفر هُوَ رابعهم، فرصد عباد بن الأخضر، فأقبل يريد قصر الإمارة وَهُوَ مردف ابنا لَهُ غلاما، صغيرا، فَقَالُوا: يَا عَبْد اللَّهِ، قف حَتَّى نستفتيك، فوقف، فَقَالُوا: نحن إخوة أربعة، قتل أخونا، فما ترى؟ قَالَ: استعدوا الأمير، قَالُوا: قَدِ استعديناه فلم يعدنا، قَالَ: فاقتلوه، قتله اللَّه! فوثبوا عَلَيْهِ فحكموا، والقى ابنه فقتلوه . ذكر خبر ولايه سلم بن زياد على خراسان وسجستان وفي هَذِهِ السنة ولى يَزِيد بن مُعَاوِيَة سلم بن زياد سجستان وخراسان. ذكر سبب توليته إِيَّاهُ: حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بن مُحَمَّد، قال: حدثنا مسلمة بن

مُحَارِبِ بْنِ سَلْمِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: وَفَدَ سَلْمُ بْنُ زِيَادٍ عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: يَا أَبَا حَرْبٍ، أُوَلِّيكَ عَمَلَ أَخَوَيْكَ: عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَبَّادٍ؟ فَقَالَ: مَا أَحَبَّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَوَلاهُ خُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ، فَوَجَّهَ سَلْمٌ الْحَارِثَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الْحَارِثِيَّ جَدَّ عِيسَى بْنَ شَبِيبٍ مِنَ الشَّامِ إِلَى خُرَاسَانَ، وقَدِمَ سَلْمٌ الْبَصْرَةَ، فَتَجَهَّزَ وَسَارَ إِلَى خُرَاسَانَ، فَأَخَذَ الْحَارِثَ بْنَ قَيْسِ بْنِ الْهَيْثَمِ السُّلَمِيَّ فَحَبَسَهُ، وَضَرَبَ ابْنَهُ شَبِيبًا، وَأَقَامَهُ فِي سَرَاوِيلَ، وَوَجَّهَ أَخَاهُ يَزِيدَ بْنَ زِيَادٍ إِلَى سِجِسْتَانَ فَكَتَبَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ إِلَى عَبَّادٍ أَخِيهِ- وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا- يُخْبِرُهُ بِوِلايَةِ سَلْمٍ، فَقَسَّمَ عَبَّادٌ مَا فِي بَيْتِ الْمَالِ فِي عَبِيدِهِ، وَفَضَلَ فَضْلٌ فَنَادَى مُنَادِيهِ: مَنْ أَرَادَ سَلَفًا فَلْيَأْخُذْ، فَأَسْلَفَ كُلَّ مَنْ أَتَاهُ، وَخَرَجَ عَبَّادٌ عَنْ سِجِسْتَانَ فَلَمَّا كَانَ بِجِيرُفْتَ بَلَغَهُ مَكَانُ سَلْمٍ- وَكَانَ بَيْنَهُمَا جَبَلٌ- فَعَدَلَ عَنْهُ، فَذَهَبَ لِعَبَّادٍ تِلَكَ اللَّيْلَةِ أَلْفُ مَمْلُوكٍ، أَقَلُّ مَا مَعَ أَحَدِهِمْ عَشَرَةُ آلافٍ قَالَ: فَأَخَذَ عَبَّادٌ عَلَى فَارِسَ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَى يَزِيدَ، فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: أَيْنَ الْمَالَ؟ قَالَ كُنْتُ صَاحِبَ ثَغْرٍ، فَقَسَّمْتُ مَا أَصَبْتُ بَيْنَ النَّاسِ قَالَ: وَلَمَّا شَخَصَ سَلْمٌ إِلَى خُرَاسَانَ شَخَصَ مَعَهُ عِمْرَانُ بْنُ الْفَصِيلِ الْبُرْجِمُيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ السُّلَمِيُّ، وطلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي وَالْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ، وَحَنْظَلَةُ بْنُ عَرَادَةَ، وابو حزابه الْوَلِيدُ بْنُ نَهِيكٍ أَحَدُ بَنِي رَبِيعَةَ بْنِ حَنْظَلَةَ، وَيَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ الْعَدَوَانِيُّ حَلِيفُ هُذَيْلٍ، وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ فِرْسَانِ الْبَصْرَةِ وَأَشْرَافِهِمْ، فَقَدِمَ سَلْمُ بْنُ زِيَادٍ بِكِتَابِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ بِنُخْبَةِ أَلْفَيْ رَجُلٍ يَنْتَخِبُهُمْ- وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ نُخْبَةُ سِتَّةِ آلافٍ- قَالَ: فَكَانَ سَلْمٌ يَنْتَخِبُ الْوُجُوهَ وَالْفِرْسَانَ وَرَغِبَ قَوْمٌ فِي الْجِهَادِ فَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَهُمْ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَخْرَجَهُ سَلْمٌ حَنْظَلَةُ بْنُ عَرَادَةَ، فَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ: دَعْهُ لِي، قَالَ: هُوَ بَيْنِي وَبَيْنَك، فَإِنِ اخْتَارَكَ فَهُوَ لَكَ، وَإِنِ اخْتَارَنِي فَهُوَ لِي، قَالَ: فَاخْتَارَ سَلْمًا، وَكَانَ النَّاسُ يُكَلِّمُونَ سَلْمًا وَيَطْلُبُونَ إِلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَهُمْ مَعَهُ، وَكَانَ صِلَةُ بْنُ أَشْيَمَ الْعَدَوِيُّ يَأْتِي الدِّيوَانَ فَيَقُولُ لَهُ الْكَاتِبُ: يَا أَبَا الصَّهْبَاءِ، أَلا أُثْبِتُ اسمك، فانه وجه فيه جهاد وفضل؟ فَيَقُولُ لَهُ: أَسْتَخِيرُ اللَّهَ وَأَنْظُرُ، فَلَمْ يَزَلْ يدافع حتى

فَرَغَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ مُعَاذَةُ ابْنَةُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيَّةُ: أَلا تَكْتُبُ نَفْسَكَ؟ قَالَ: حَتَّى أَنْظُرَ، ثُمَّ صَلَّى وَاسْتَخَارَ اللَّهَ، قَالَ: فَرَأَى فِي مَنَامِهِ آتِيًا أَتَاهُ، فَقَالَ لَهُ: اخْرُجْ فَإِنَّكَ تَرْبَحُ وَتُفْلِحُ وَتَنْجَحُ، فَأَتَى الْكَاتِبَ فَقَالَ لَهُ: أَثْبِتْنِي، قَالَ: قَدْ فَرَغْنَا وَلَنْ أَدَعَكَ، فَأَثْبَتَهُ وَابْنَهُ، فَخَرَجَ سَلْمٌ فَصَيَّرَهُ سَلْمٌ مَعَ يَزِيدَ بْنَ زِيَادٍ فَسَارَ إِلَى سِجِسْتَانَ. قَالَ: وَخَرَجَ سَلْمٌ وَأَخْرَجَ مَعَهُ أُمَّ مُحَمَّدٍ ابْنَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ، وَهِيَ أَوَّلُ امْرَأَةٍ مِنَ الْعَرَبِ قُطِعَ بِهَا النَّهْرُ. قَالَ: وَذَكَرَ مَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ وَأَبُو حَفْصٍ الأَزْدِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَفْصٍ الْكِرْمَانِيِّ أَنَّ عُمَّالَ خُرَاسَانَ كَانُوا يَغْزُونَ، فَإِذَا دَخَلَ الشِّتَاءُ قَفَلُوا مِنْ مَغَازِيهِمْ إِلَى مَرْوَ الشَّاهِجَانَ، فَإِذَا انْصَرَفَ الْمُسْلِمُونَ اجْتَمَعَ مُلُوكُ خُرَاسَانَ فِي مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ خراسان مما يلى خارزم، فيتعاقدون الا يَغْزُوَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلا يُهَيِّجُ أَحَدٌ أَحَدًا، وَيَتَشَاوَرُونَ فِي أُمُورِهِمْ، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَطْلُبُونَ إِلَى أُمَرَائِهِمْ فِي غَزْوِ تِلَكَ الْمَدِينَةِ فَيَأْبَوْنَ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا قَدِمَ خُرَاسَانَ غَزَا فَشَتَا فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، قَالَ: فَأَلَحَّ عَلَيْهِ الْمُهَلَّبُ، وَسَأَلَهُ أَنْ يُوَجِّهَهُ إِلَى تِلَكَ الْمَدِينَةِ، فَوَجَّهَهُ فِي سِتَّةِ آلافٍ- وَيُقَالُ أَرْبَعَةِ آلافٍ- فَحَاصَرَهُمْ، فَسَأَلَهُمْ أَنْ يُذْعِنُوا لَهُ بِالطَّاعَةِ، فَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى أَنْ يُفْدُوا أَنْفُسَهُمْ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَصَالَحُوهُ عَلَى نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، قَالَ: وَكَانَ فِي صُلْحِهِمْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ عُرُوضًا، فَكَانَ يَأْخُذُ الرَّأْسَ بِنِصْفِ ثَمَنِهِ، وَالدَّابَةَ بِنِصْفِ ثَمَنِهَا، وَالْكَيْمَخْتَ بِنِصْفِ ثَمَنِهِ، فَبَلَغَتْ قِيمَةُ مَا أَخَذَ مِنْهُمْ خَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، فَحَظِيَ بِهَا الْمُهَلَّبُ عِنْدَ سَلْمٍ، وَاصْطَفَى سَلْمٌ مِنْ ذَلِكَ مَا أَعْجَبَهُ، وَبَعَثَ بِهِ إِلَى يَزِيدَ مَعَ مَرْزُبَانَ مَرْوَ، وَأَوْفَدَ فِي ذَلِكَ وَفْدًا. قَالَ مَسْلَمَةُ وَإِسْحَاقُ بْنُ أَيُّوبَ: غَزَا سَلْمٌ سَمَرْقَنْدَ بِامْرَأَتِهِ أُمِّ مُحَمَّدٍ ابْنَةِ عَبْدِ اللَّهِ، فَوَلَدَتْ لِسَلْمٍ ابْنًا، فَسَمَّاهُ صُغْدِي. قَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ: ذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ رُشَيْدٍ الْجُوزْجَانِيُّ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ خُزَاعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ سَلْمِ بْنِ زِيَادٍ خُوَارَزْمَ،

ذكر سبب عزل يزيد عمرو بن سعيد عن المدينة وتوليته عليها الوليد بن عتبة

فَصَالَحُوهُ عَلَى مَالٍ كَثِيرٍ، ثُمَّ عَبَرَ إِلَى سَمَرْقَنْدَ فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا، وَكَانَتْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ مُحَمَّدٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ فِي غَزَاتِهِ تِلَكَ ابْنًا، وَأَرْسَلَتْ إِلَى امْرَأَةِ صَاحِبِ الصُّغْدِ تَسْتَعِيرُ مِنْهَا حُلِيًّا، فَبَعَثَتْ إِلَيْهَا بِتَاجِهَا، وَقَفَلُوا، فَذَهَبَتْ بِالتَّاجِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ يَزِيدُ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ عَنِ الْمَدِينَةِ وَوَلاهَا الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بن ثَابِت، عمن حدثه، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، قَالَ: نزع يَزِيد بن مُعَاوِيَة عَمْرو بن سَعِيد، لهلال ذي الحجة، وأمر الْوَلِيد بن عتبة عَلَى الْمَدِينَة، فحج بِالنَّاسِ حجتين سنة إحدى وستين. وسنة اثنتين وستين. وَكَانَ عامل يَزِيد بن مُعَاوِيَة فِي هَذِهِ السنة عَلَى الْبَصْرَة والكوفة عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، وعلى الْمَدِينَة فِي آخرها الْوَلِيد بن عتبة، وعلى خُرَاسَان وسجستان سلم بن زياد، وعلى قضاء الْبَصْرَة هِشَام بن هبيرة، وعلى قضاء الْكُوفَة شريح. وفيها أظهر ابن الزُّبَيْر الخلاف عَلَى يَزِيد وخلعه وفيها بويع لَهُ . ذكر سبب عزل يزيد عمرو بن سعيد عن المدينة وتوليته عَلَيْهَا الْوَلِيد بن عتبة وَكَانَ السبب فِي ذَلِكَ وسبب إظهار عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ الدعاء إِلَى نفسه- فِيمَا ذكر هِشَام، عن أبي مخنف، عن عبد الملك بن نوفل- قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، 4 قَالَ: لما قتل الحسين ع قام ابن الزُّبَيْر فِي أهل مكة وعظم مقتله، وعاب عَلَى أهل الْكُوفَة خاصة، ولام أهل العراق عامة، فَقَالَ بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد ص: إن أهل العراق غدر فجر إلا قليلا، وإن أهل الْكُوفَة شرار أهل العراق، وإنهم دعوا حسينا لينصروه ويولوه عَلَيْهِم، فلما قدم عَلَيْهِم ثاروا إِلَيْهِ، فَقَالُوا لَهُ: إما أن تضع يدك فِي أيدينا فنبعث بك إِلَى ابن زياد بن سمية سلما فيمضي فيك حكمه، وإما أن تحارب، فراى وَاللَّهِ أنه هُوَ وأَصْحَابه قليل فِي كثير، وان

كَانَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لم يطلع عَلَى الغيب أحدا أنه مقتول، ولكنه اختار الميتة الكريمة عَلَى الحياة الذميمة، فرحم اللَّه حسينا، وأخزى قاتل حُسَيْن! لعمري لقد كَانَ من خلافهم إِيَّاهُ وعصيانهم مَا كَانَ فِي مثله واعظ وناه عَنْهُمْ، ولكنه مَا حم نازل، وإذا أراد اللَّه أمرا لن يدفع أفبعد الْحُسَيْن نطمئن إِلَى هَؤُلاءِ القوم ونصدق قولهم ونقبل لَهُمْ عهدا! لا، وَلا نراهم لذلك أهلا، أما وَاللَّهِ لقد قتلوه طويلا بالليل قيامه، كثيرا فِي النهار صيامه، أحق بِمَا هم فِيهِ مِنْهُمْ وأولى بِهِ فِي الدين والفضل، أما وَاللَّهِ مَا كَانَ يبدل بالقرآن الغناء، وَلا بالبكاء من خشية اللَّه الحداء، وَلا بالصيام شرب الحرام، وَلا بالمجالس فِي حلق الذكر الركض فِي تطلاب الصيد- يعرض بيزيد- فسوف يلقون غيا. فثار إِلَيْهِ أَصْحَابه فَقَالُوا لَهُ: أيها الرجل أظهر بيعتك، فإنه لم يبق أحد إذ هلك حُسَيْن ينازعك هَذَا الأمر وَقَدْ كَانَ يبايع الناس سرا، ويظهر أنه عائذ بالبيت، فَقَالَ لَهُمْ: لا تعجلوا- وعمرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ يَوْمَئِذٍ عامل مكة، وَقَدْ كَانَ أشد شَيْء عَلَيْهِ وعلى أَصْحَابه، وَكَانَ مع شدته عَلَيْهِم يداري ويرفق- فلما استقر عِنْدَ يَزِيد بن مُعَاوِيَة مَا قَدْ جمع ابن الزُّبَيْر من الجموع بمكة، أعطى اللَّه عهدا ليوثقنه فِي سلسلة، فبعث بسلسلة من فضة، فمر بِهَا البريد على مروان بن الحكم بالمدينة، فاخبر خبر مَا قدم لَهُ وبالسلسلة الَّتِي مَعَهُ، فَقَالَ مَرْوَان: خذها فليست للعزيز بخطة ... وفيها مقال لامرئ متضعف ثُمَّ مضى من عنده حَتَّى قدم عَلَى ابن الزُّبَيْر، فأتى ابن الزُّبَيْر فأخبره بممر البريد عَلَى مَرْوَان، وتمثل مَرْوَان بهذا البيت، فَقَالَ ابن الزُّبَيْر: لا وَاللَّهِ لا أكون أنا ذَلِكَ المتضعف، ورد ذَلِكَ البريد ردا رقيقا. وعلا أمر ابن الزُّبَيْر بمكة، وكاتبه أهل الْمَدِينَة، وَقَالَ الناس: أما إذ هلك الْحُسَيْن ع فليس أحد ينازع ابن الزُّبَيْر

حَدَّثَنَا نُوحُ بْنُ حَبِيبٍ الْقُومِسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَدِينِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ- وَاللَّفْظُ لِحَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ- قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُصْعَبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ، قَالَ: لَمَّا بَعَثَ يَزِيدُ بن معاويه بن عَضَاهٍ الأَشْعَرِيَّ وَمَسْعَدَةَ وَأَصْحَابَهُمَا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ لِيُؤْتَى بِهِ فِي جَامِعَةٍ لِتُبَرَّ يَمِينُ يَزِيدَ، بَعَثَ مَعَهُمْ بِجَامِعَةٍ مِنْ وَرَقٍ وَبُرْنُسِ خَزٍّ، فَأَرْسَلَنِي أَبِي وَأَخِي مَعَهُمْ وَقَالَ: إِذَا بَلَّغَتْهُ رُسُلُ يَزِيدَ الرِّسَالَةَ فَتَعَرَّضَا لَهُ، ثُمَّ لِيَتَمَثَّلَ أَحَدُكُمَا: فَخُذْهَا فَلَيْسَتْ لِلْعَزِيزِ بخطة ... وفيها مقال لامرئ متذلل أعامر إن الْقَوْمَ سَامُوكَ خُطَّةً ... وَذَلِكَ فِي الْجِيرَانِ غَزْلٌ بِمَغْزَلِ أَرَاكَ إِذًا مَا كُنْتَ لِلْقَوْمِ نَاصِحًا ... يُقَالُ لَهُ بِالدِّلْوِ أَدْبِرْ وَأَقْبِلِ قَالَ: فَلَمَّا بلغته الرسل الرسالة تعرضنا، فقال لي أَخِي: اكْفِنِيهَا، فَسَمِّعْنِي، فَقَالَ: أَيِ ابْنَيْ مَرْوَانَ، قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتُمَا، وَعَلِمْتُ مَا سَتُقُولانِهِ، فَأَخْبِرَا أَبَاكُمَا: إِنِّي لِمِنْ نَبَعَةٍ صُمٍّ مَكَاسِرُهَا ... إِذَا تَنَاوَحَتِ الْقَصْبَاءُ وَالْعُشَرَ فَلا أَلْيَنَ لِغَيْرِ الْحَقِّ أَسْأَلُهُ ... حَتَّى يَلِينَ لِضِرْسِ الْمَاضِغِ الْحَجَرَ قَالَ: فَمَا أَدْرِي أَيُّهُمَا كَانَ أَعْجَبُ! زَادَ عَبْدُ اللَّهِ فِي حَدِيثِهِ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ، قَالَ: فَذَاكَرْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مُصْعَبَ بْنَ عَبْدِ الله بْن مصعب بْن ثابت بْن عبد اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: قَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي عَلِيٍّ نَحْوَ الَّذِي ذَكَرْتُ لَهُ، وَلَمْ أَحْفَظْ إِسْنَادَهُ. قَالَ هِشَامٌ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ لَمَّا رَأَى النَّاسَ قَدِ اشْرَأَبُّوا إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَمَدُّوا إِلَيْهِ أَعْنَاقَهُمْ، ظَنَّ أَنَّ تِلَكَ الأُمُورَ تَامَّةٌ لَهُ، فَبَعَثَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بن العاص-

وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، وَكَانَ مَعَ أَبِيهِ بِمِصْرَ، وَكَانَ قَدْ قَرَأَ كُتُبَ دَانْيَالَ هُنَالِكَ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ إِذْ ذَاكَ تَعُدُّهُ عَالِمًا- فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ: أَخْبِرْنِي عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، أَتَرَى مَا يَطْلُبُ تَامًّا لَهُ؟ وَأَخْبِرْنِي عَنْ صَاحِبِي إِلَى مَا تَرَى أَمْرَهُ صَائِرًا إِلَيْهِ؟ فَقَالَ: لا أَرَى صَاحِبُكَ إِلا أَحَدَ الْمُلُوكِ الَّذِينَ تَتِمُّ لَهُمْ أُمُورُهُمْ حَتَّى يَمُوتُوا وَهُمْ مُلُوكٌ فَلَمْ يَزْدَدْ عِنْدَ ذَاكَ إِلا شِدَّةً عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَأَصْحَابِهِ، مَعَ الرِّفْقِ بِهِمْ، وَالْمُدَارَاةِ لَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ وَنَاسًا مَعَهُ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ قَالُوا ليزيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ: لَوْ شَاءَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ لأَخَذَ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَبَعَثَ بِهِ إِلَيْكَ، فَسَرَّحَ الوليد بن عتبة على الحجاز أميرا، وعزل عَمْرًا. وَكَانَ عَزَلَ يَزِيدُ عَمْرًا عَنِ الْحِجَازِ وَتَأْمِيرِهِ عَلَيْهَا الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ، قَالَ أَبُو جَعْفَر: حدثت عن مُحَمَّد بن عُمَرَ قَالَ: نزع يَزِيد عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ لهلال ذي الحجة سنة إحدى وستين وولى الْوَلِيد بن عتبة، فأقام الحجة سنة إحدى وستين بِالنَّاسِ، وأعاد ابن رَبِيعَة العامري عَلَى قضائه. وَحَدَّثَنِي أَحْمَد بن ثَابِت، قَالَ: حدثت عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، قَالَ: حج بِالنَّاسِ فِي سنة إحدى وستين الْوَلِيد بن عتبة، وهذا مما لا اختلاف فِيهِ بين أهل السير. وَكَانَ الوالي فِي هَذِهِ السنة عَلَى الْكُوفَة والبصرة عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، وعلى قضاء الْكُوفَة شريح، وعلى قضاء الْبَصْرَة هِشَام بن هبيرة، وعلى خُرَاسَان سلم بن زياد.

سنه اثنتين وستين

ثُمَّ دخلت سنة اثنتين وستين (ذكر الخبر عما كَانَ فِي هَذِهِ السنة من الأحداث) فمن ذَلِكَ مقدم وفد أهل الْمَدِينَة عَلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة. ذكر الخبر عن سبب مقدمهم عَلَيْهِ: وَكَانَ السبب فِي ذَلِكَ- فِيمَا ذكر لوط بن يَحْيَى، عن عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل ابن مساحق، عن عَبْد اللَّهِ بن عروة- أن يزيد بن معاويه لما سرح الوليد ابن عتبة عَلَى الحجاز أميرا، وعزل عَمْرو بن سَعِيد، قدم الْوَلِيد الْمَدِينَة فأخذ غلمانا كثيرا لعمرو وموالي لَهُ، فحبسهم، فكلمه فِيهِمْ عَمْرو، فأبى أن يخليهم، وَقَالَ لَهُ: لا تجزع يَا عَمْرو، فَقَالَ أخوه أبان بن سَعِيد بن الْعَاصِ: أعمرو يجزع! وَاللَّهِ لو قبضتم عَلَى الجمر وقبض عَلَيْهِ مَا تركه حَتَّى تتركوه، وخرج عَمْرو سائرا حَتَّى نزل مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى ليلتين، وكتب إِلَى غلمانه ومواليه وهم نحو من ثلاثمائة رجل: أني باعث إِلَى كل رجل مِنْكُمْ جملا وحقيبه وأداته، وتناخ لكم الإبل فِي السوق، فإذا أتاكم رسولي فاكسروا باب السجن، ثُمَّ ليقم كل رجل مِنْكُمْ إِلَى جمله فليركبه، ثُمَّ أقبلوا علي حَتَّى تأتوني، فَجَاءَ رسوله حَتَّى اشترى الإبل، ثُمَّ جهزها بِمَا ينبغي لها، ثُمَّ أناخها فِي السوق، ثُمَّ أتاهم حَتَّى أعلمهم ذَلِكَ، فكسروا باب السجن، ثُمَّ خرجوا إِلَى الإبل فاستووا عَلَيْهَا، ثُمَّ أقبلوا حَتَّى انتهوا إِلَى عَمْرو بن سَعِيد فوجدوه حين قدم عَلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة فلما دخل عَلَيْهِ رحب بِهِ وأدنى مجلسه. ثُمَّ إنه عاتبه فِي تقصيره فِي أشياء كَانَ يأمره بِهَا فِي ابن الزُّبَيْر، فلا ينفذ منها إلا مَا أراد، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، وإن جل أهل مكة وأهل الْمَدِينَة قَدْ كَانُوا مالوا إِلَيْهِ وهووه وأعطوه الرضا، ودعا بعضهم بعضا سرا وعلانية، ولم يكن معي جند أقوى بهم عَلَيْهِ لو ناهضته، وَقَدْ كَانَ يحذرني ويتحرز مني، وكنت أرفق بِهِ وأداريه

لأستمكر مِنْهُ فأثب عَلَيْهِ، مع أني قَدْ ضيقت عَلَيْهِ، ومنعته من أشياء كثيرة لو تركته وإياها مَا كَانَتْ لَهُ إلا معونة، وجعلت عَلَى مكة وطرقها وشعابها رجالا لا يدعون أحدا يدخلها حَتَّى يكتبوا إلي باسمه واسم أَبِيهِ، ومن أي بلاد اللَّه هُوَ، وما جَاءَ بِهِ وما يريد، فإن كَانَ من أَصْحَابه أو ممن أَرَى أنه يريده رددته صاغرا، وإن كَانَ ممن لا أتهم، خليت سبيله وَقَدْ بعثت الْوَلِيد، وسيأتيك من عمله وأثره مَا لعلك تعرف بِهِ فضل مبالغتي فِي أمرك، ومناصحتي لك إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَاللَّهِ يصنع لك، ويكبت عدوك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ لَهُ يَزِيد: أنت أصدق ممن رقى هَذِهِ الأشياء عنك، وحملني بِهَا عَلَيْك، وأنت ممن أثق بِهِ، وأرجو معونته، وأدخره لرأب الصدع، وكفاية المهم، وكشف نوازل الأمور العظام، فَقَالَ لَهُ عَمْرو: وما أَرَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أن أحدا أولى بالقيام بتشديد سلطانك، وتوهين عدوك، والشدة عَلَى من نابذك مني وأقام الْوَلِيد بن عتبة يريد ابن الزُّبَيْر فلا يجده إلا متحذرا متمنعا، وثار نجدة بن عَامِر الحنفي باليمامة حين قتل الْحُسَيْن 4، وثار ابن الزُّبَيْر، فكان الْوَلِيد يفيض من المعرف، وتفيض مَعَهُ عامة الناس، وابن الزُّبَيْر واقف وأَصْحَابه، ونجدة واقف فِي أَصْحَابه، ثُمَّ يفيض ابن الزُّبَيْر بأَصْحَابه ونجدة بأَصْحَابه، لا يفيض واحد مِنْهُمْ بإفاضة صاحبه. وَكَانَ نجدة يلقى ابن الزُّبَيْر فيكثر حَتَّى ظن الناس أنه سيبايعه ثُمَّ إن ابن الزُّبَيْر عمل بالمكر فِي أمر الْوَلِيد بن عتبة، فكتب إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة: إنك بعثت إلينا رجلا أخرق، لا يتجه لأمر رشد، وَلا يرعوي لعظة الحكيم، ولو بعثت إلينا رجلا سهل الخلق، لين الكتف، رجوت أن يسهل من الأمور مَا استوعر منها، وأن يجتمع مَا تفرق، فانظر فِي ذَلِكَ، فإن فِيهِ صلاح خواصنا وعوامنا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، والسلام. فبعث يَزِيد بن مُعَاوِيَة إِلَى الْوَلِيدِ فعزله وبعث عُثْمَان بن مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ- فِيمَا ذكر أَبُو مخنف، عَنْ عبد الملك ابن نوفل بن مساحق، عن حميد ابن حمزة، مولى لبني أُمَيَّة- قَالَ: فقدم فتى غر حدث غمر لم يجرب

الأمور، ولم يحنكه السن، ولم تضرسه التجارب، وَكَانَ لا يكاد ينظر فِي شَيْءٍ من سلطانه وَلا عمله، وبعث إِلَى يَزِيد وفدا من أهل الْمَدِينَة فِيهِمْ عَبْد اللَّهِ بن حنظلة الغسيل الأَنْصَارِيّ وعبد اللَّه بن أبي عَمْرو بن حفص بن الْمُغِيرَة المخزومي، والمنذر بن الزُّبَيْرِ، ورجالا كثيرا من أشراف أهل الْمَدِينَة، فقدموا عَلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فأكرمهم، وأحسن إِلَيْهِم، وأعظم جوائزهم ثُمَّ انصرفوا من عنده، وقدموا المدينة كلهم الا المنذر ابن الزُّبَيْرِ فإنه قدم عَلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد بِالْبَصْرَةِ- وَكَانَ يَزِيد قَدْ أجازه بمائة ألف درهم- فلما قدم أُولَئِكَ النفر الوفد الْمَدِينَة قاموا فِيهِمْ فأظهروا شتم يَزِيد وعتبة، وَقَالُوا: إنا قدمنا من عِنْدَ رجل ليس لَهُ دين، يشرب الخمر، ويعزف بالطنابير، ويضرب عنده القيان، ويلعب بالكلاب، ويسامر الخراب والفتيان، وإنا نشهدكم أنا قَدْ خلعناه، فتابعهم الناس. قَالَ لوط بن يَحْيَى: فَحَدَّثَنِي عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل بن مساحق، أن الناس أتوا عَبْد اللَّهِ بن حنظلة الغسيل فبايعوه وولوه عَلَيْهِم. قَالَ لوط: وَحَدَّثَنِي أَيْضًا مُحَمَّد بن عَبْدِ الْعَزِيزِ بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عوف: ورجع المنذر من عِنْدَ يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فقدم عَلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد الْبَصْرَة، فأكرمه وأحسن ضيافته، وَكَانَ لزياد صديقا، إذ سقط إِلَيْهِ كتاب من يَزِيد بن مُعَاوِيَة حَيْثُ بلغه أمر أَصْحَابه بِالْمَدِينَةِ أن أوثق المنذر بن الزُّبَيْرِ واحبسه عندك حَتَّى يأتيك فِيهِ امرى، فكره ذلك عبيد الله ابن زياد لأنه ضيفه، فدعاه فأخبره بالكتاب وأقرأه إِيَّاهُ، وَقَالَ لَهُ: إنك كنت لزياد ودا وَقَدْ أصبحت لي ضيفا، وَقَدْ آتيت إليك معروفا، فأنا أحب أن أسدي ذَلِكَ كله بإحسان، فإذا اجتمع الناس عندي فقم فقل: ائذن لي فلأنصرف إِلَى بلادي، فإذا قلت: لا بل أقم عندي فإن لك الكرامة والمواساة والأثرة، فقل: لي ضيعة وشغل، لا أجد من الانصراف بدا فأذن لي، فإني آذن لك عِنْدَ ذَلِكَ، فالحق بأهلك. فلما اجتمع الناس عِنْدَ عُبَيْد اللَّهِ قام إِلَيْهِ فاستأذنه فَقَالَ: لا بل أقم عندي فإني مكرمك ومواسيك ومؤثرك، فَقَالَ لَهُ: إن لي ضيعه وشغلا،

وَلا أجد من الانصراف بدا فأذن لي، فأذن لَهُ فانطلق حَتَّى لحق بالحجاز، فأتى أهل الْمَدِينَة، فكان فيمن يحرض الناس عَلَى يَزِيد، وَكَانَ من قوله يَوْمَئِذٍ: إن يَزِيد وَاللَّهِ لقد أجازني بمائة ألف درهم، وإنه لا يمنعني مَا صنع إلي أن أخبركم خبره، وأصدقكم عنه، وَاللَّهِ إنه ليشرب الخمر، وإنه ليسكر حَتَّى يدع الصَّلاة، وعابه بمثل مَا عابه بِهِ أَصْحَابه الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ وأشد، فكان سَعِيد بن عَمْرو يحدث بالكوفة أن يَزِيد بن مُعَاوِيَة بلغه قوله فِيهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إني آثرته وأكرمته، ففعل مَا قَدْ رأيت، فاذكره بالكذب والقطيعة. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي سَعِيد بن زَيْد أَبُو المثلم أن يَزِيد بن مُعَاوِيَة بعث النُّعْمَان بن بشير الأنصاري فقال له: ائت الناس وقومك فافثأهم عما يريدون، فإنهم إن لم ينهضوا فِي هَذَا الأمر لم يجترئ الناس عَلَى خلافي، وبها من عشيرتي من لا أحب أن ينهض فِي هَذِهِ الْفِتْنَة فيهلك فأقبل النُّعْمَان بن بشير فأتى قومه، ودعا الناس إِلَيْهِ عامة، وأمرهم بالطاعة ولزوم الجماعة، وخوفهم الْفِتْنَة، وَقَالَ لَهُمْ: إنه لا طاقة لكم بأهل الشام، فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن مطيع العدوي: مَا يحملك يَا نعمان عَلَى تفريق جماعتنا، وفساد مَا أصلح اللَّه من أمرنا! فَقَالَ النُّعْمَان: أما وَاللَّهِ لكأني بك لو قَدْ نزلت تِلَكَ الَّتِي تدعو إِلَيْهَا، وقامت الرجال عَلَى الركب تضرب مفارق القوم وجباههم بالسيوف، ودارت رحا الموت بين الفريقين قَدْ هربت عَلَى بغلتك تضرب جنبيها إِلَى مكة، وَقَدْ خلفت هَؤُلاءِ المساكين- يعني الأنصار- يقتلون فِي سككهم ومساجدهم، وعلى أبواب دورهم! فعصاه الناس، فانصرف وَكَانَ وَاللَّهِ كما قَالَ. وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة الْوَلِيد بن عتبة وكانت العمال فِي هَذِهِ السنة عَلَى العراق وخراسان العمال الَّذِينَ ذكرت فِي سنة إحدى وستين. وفي هَذِهِ السنة ولد- فِيمَا ذكر- مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ العباس

سنه ثلاث وستين

ثُمَّ دخلت سنة ثلاث وستين (ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) فمن ذَلِكَ مَا كَانَ من إخراج أهل الْمَدِينَة عامل يَزِيد بن مُعَاوِيَة عُثْمَان بن مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ مِنَ الْمَدِينَةِ، وإظهارهم خلع يَزِيد بن مُعَاوِيَة، وحصارهم من كَانَ بِهَا من بني أُمَيَّة، ذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق، عن حبيب بن كرة، أن أهل الْمَدِينَة لما بايعوا عَبْد اللَّهِ بن حنظلة الغسيل عَلَى خلع يَزِيد بن مُعَاوِيَة، وثبوا على عثمان ابن مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ومن بِالْمَدِينَةِ من بنى اميه ومواليهم ومن رَأَى رأيهم من قريش، فكانوا نحوا من الف رجل، فخرجوا بجماعتهم حَتَّى نزلوا دار مَرْوَان بن الحكم، فحاصرهم الناس فِيهَا حصارا ضعيفا قَالَ: فدعت بنو أُمَيَّة حبيب بن كرة، وَكَانَ الَّذِي بعث إِلَيْهِ مِنْهُمْ مَرْوَان بن الحكم وعمرو ابن عُثْمَانَ بن عَفَّانَ، وَكَانَ مَرْوَان هُوَ يدبر أمرهم فأما عُثْمَان بن مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فإنما كَانَ غلاما حدثا لَمْ يَكُنْ لَهُ رأي قَالَ عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل: فَحَدَّثَنِي حبيب بن كرة، قَالَ: كنت مع مَرْوَان، فكتب معي هُوَ وجماعة من بني أُمَيَّة كتابا إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فأخذ الكتاب عَبْد الْمَلِكِ بن مَرْوَان حَتَّى خرج معي إِلَى ثنية الوداع، فدفع إلي الكتاب وَقَالَ: قَدْ أجلتك اثنتي عشرة ليلة ذاهبا واثنتي عشرة ليلة مقبلا، فوافني لأربع وعشرين ليلة فِي هَذَا المكان تجدني إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الساعة جالسا أنتظرك وَكَانَ الكتاب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: أَمَّا بَعْدُ، فإنه قَدْ حصرنا فِي دار مَرْوَان بن الحكم، ومنعنا العذب، ورمينا بالجبوب، فيا غوثاه يَا غوثاه! قَالَ: فأخذت الكتاب ومضيت بِهِ حَتَّى قدمت عَلَى يَزِيد وَهُوَ جالس عَلَى كرسي، واضع قدميه فِي ماء طست من وجع كَانَ يجده فيهما- ويقال: كَانَ بِهِ النقرس- فقرأه ثُمَّ قَالَ فِيمَا بلغنا متمثلا:

لقد بدلوا الحلم الَّذِي من سجيتي ... فبدلت قومي غلظة بليان ثُمَّ قَالَ: أما يكون بنو أُمَيَّة ومواليهم ألف رجل بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: قلت: بلى، وَاللَّهِ وأكثر، قَالَ: فما استطاعوا أن يقاتلوا ساعة من نهار! قَالَ: فقلت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أجمع الناس كلهم عَلَيْهِم، فلم يكن لَهُمْ بجمع الناس طاقة، قَالَ: فبعث إِلَى عَمْرو بن سَعِيد فأقرأه الكتاب، وأخبره الخبر، وأمره أن يسير إِلَيْهِم فِي الناس، فَقَالَ لَهُ: قَدْ كنت ضبطت لك البلاد، وأحكمت لك الأمور، فأما الآن إذ صارت إنما هي دماء قريش تهراق بالصعيد، فلا أحب أن أكون أنا أتولى ذَلِكَ، يتولاها مِنْهُمْ من هُوَ أبعد مِنْهُمْ مني قَالَ: فبعثني بِذَلِكَ الكتاب إِلَى مسلم بن عُقْبَةَ المري- وَهُوَ شيخ كبير ضعيف مريض- فدفعت إِلَيْهِ الكتاب، فقرأه، وسألني عن الخبر فأخبرته، فَقَالَ لي مثل مقالة يَزِيد: أما يكون بنو أُمَيَّة ومواليهم وأنصارهم بِالْمَدِينَةِ ألف رجل! قَالَ: قلت: بلى يكونون، قَالَ: فما استطاعوا أن يقاتلوا ساعة من نهار! ليس هَؤُلاءِ بأهل أن ينصروا حَتَّى يجهدوا أنفسهم فِي جهاد عدوهم، وعز سلطانهم، ثُمَّ جَاءَ حَتَّى دخل عَلَى يَزِيد فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لا تنصر هَؤُلاءِ فإنهم الأذلاء، أما استطاعوا أن يقاتلوا يَوْمًا واحدا أو شطره أو ساعة مِنْهُ! دعهم يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى يجهدوا أنفسهم فِي جهاد عدوهم، وعز سلطانهم، ويستبين لك من يقاتل مِنْهُمْ عَلَى طاعتك، ويصبر عَلَيْهَا أو يستسلم، قَالَ: ويحك! إنه لا خير فِي العيش بعدهم، فاخرج فأنبئني نبأك، وسر بِالنَّاسِ، فخرج مناديه فنادى: أن سيروا إِلَى الحجاز عَلَى أخذ أعطياتكم كملا ومعونة مائة دينار توضع فِي يد الرجل من ساعته، فانتدب لذلك اثنا عشر ألف رجل حَدَّثَنَا ابن حميد قَالَ: حَدَّثَنَا جرير، عن مغيرة، قَالَ: كتب يَزِيد إِلَى ابن مرجانة: أن اغز ابن الزُّبَيْر، فَقَالَ: لا أجمعهما للفاسق أبدا،

اقتل ابن بنت رسول الله ص، وأغزو البيت! قَالَ: وكانت مرجانة امرأة صدق، فقالت لعبيد الله حين قتل الحسين ع: ويلك! ماذا صنعت! وماذا ركبت! رجع الحديث إِلَى حديث حبيب بن كرة قَالَ: فأقبلت حَتَّى أوافي عَبْد الْمَلِكِ بن مَرْوَان فِي ذَلِكَ المكان فِي تِلَكَ الساعة أو بعيدها شَيْئًا. قَالَ: فوجدته جالسا متقنعا تحت شجرة، فأخبرته بِالَّذِي كَانَ، فسر بِهِ، فانطلقنا حَتَّى دخلنا دار مَرْوَان عَلَى جماعة بني أُمَيَّة، فنبأتهم بِالَّذِي قدمت بِهِ، فحمدوا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل: حَدَّثَنِي حبيب، أنه بلغه فِي عشرة قَالَ: فلم أبرح حَتَّى رأيت يَزِيد بن مُعَاوِيَة خرج إِلَى الخيل يتصفحها وينظر إِلَيْهَا، قَالَ: فسمعته وَهُوَ يقول وَهُوَ متقلد سيفا، متنكب قوسا عربية: أبلغ أبا بكر إذا الليل سرى ... وهبط القوم عَلَى وادي القرى عشرون ألفا بين كهل وفتى ... أجمع سكران من القوم ترى! أم جمع يقظان نفي عنه الكرى! ... يَا عجبا من ملحد يَا عجبا! مخادع فِي الدين يقفو بالعرى قَالَ عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل: وفصل ذَلِكَ الجيش من عِنْدَ يَزِيد وعليهم مسلم بن عُقْبَةَ، وَقَالَ لَهُ: إن حدث بك حدث فاستخلف عَلَى الجيش حصين بن نمير السكوني، وَقَالَ لَهُ: ادع القوم ثلاثا، فإن هم أجابوك وإلا فقاتلهم، فإذا اظهرت عليهم فأبحها ثلاثا، فما فِيهَا من مال أو رقة أو سلاح أو طعام فهو للجند، فإذا مضت الثلاث فاكفف عن الناس، وأنظر عَلِيّ بن الْحُسَيْن، فاكفف عنه،، واستوص بِهِ خيرا،

وأدن مجلسه، فإنه لم يدخل فِي شَيْءٍ مما دخلوا فِيهِ، وَقَدْ أتاني كتابه وعلي لا يعلم بشيء مما أوصى بِهِ يَزِيد بن مُعَاوِيَة مسلم بن عُقْبَةَ، وَقَدْ كَانَ عَلِيّ بن الْحُسَيْن لما خرج بنو أُمَيَّة نحو الشام أوى إِلَيْهِ ثقل مَرْوَان بن الحكم، وامرأته عَائِشَة بنت عُثْمَان بن عَفَّانَ، وَهِيَ أم أبان بن مَرْوَان. وَقَدْ حدثت عن محمد بن سعد، عن محمد بن عُمَرَ، قَالَ: لما أخرج أهل الْمَدِينَة عُثْمَان بن مُحَمَّد مِنَ الْمَدِينَةِ، كلم مَرْوَان بن الحكم ابن عُمَرَ أن يغيب أهله عنده، فأبى ابن عمر أن يفعل، وكلم عَلِيّ بن الْحُسَيْن، وَقَالَ: يَا أَبَا الْحَسَن، إن لي رحما، وحرمي تكون مع حرمك، فَقَالَ: افعل، فبعث بحرمه إِلَى عَلِيّ بن الْحُسَيْن، فخرج بحرمه وحرم مَرْوَان حَتَّى وضعهم بينبع، وَكَانَ مَرْوَان شاكرا لعلي بن الْحُسَيْن، مع صداقة كَانَتْ بينهما قديمة. رجع الحديث إِلَى حديث أبي مخنف عن عبد الملك بن نوفل، قال: وأقبل مسلم بن عُقْبَةَ بالجيش حَتَّى إذا بلغ أهل الْمَدِينَة إقباله وثبوا عَلَى من معهم من بني أُمَيَّة، فحصروهم فِي دار مَرْوَان، وَقَالُوا: وَاللَّهِ لا نكف عنكم حَتَّى نستنزلكم ونضرب أعناقكم، أو تعطونا عهد اللَّه وميثاقه لا تبغونا غائلة، وَلا تدلوا لنا عَلَى عورة، وَلا تظاهروا علينا عدوا، فنكف عنكم ونخرجكم عنا، فأعطوهم عهد اللَّه وميثاقه لا نبغيكم غائلة، وَلا ندل لكم عَلَى عورة، فأخرجوهم مِنَ الْمَدِينَةِ، فخرجت بنو أُمَيَّة بأثقالهم حَتَّى لقوا مسلم بن عُقْبَةَ بوادي القرى، وخرجت عَائِشَة بنت عُثْمَان بن عَفَّانَ إِلَى الطائف، فتمر بعلي بن حُسَيْن وَهُوَ بمال لَهُ إِلَى جنب الْمَدِينَة قَدِ اعتزلها كراهية أن يشهد شَيْئًا من أمرهم، فَقَالَ لها: احملي ابني عَبْد اللَّهِ معك إِلَى الطائف، فحملته إِلَى الطائف حَتَّى نقضت أمور أهل الْمَدِينَة. ولما قدمت بنو أُمَيَّة عَلَى مسلم بن عُقْبَةَ بوادي القرى دعا بعمرو بن

عُثْمَانَ بن عَفَّانَ أول الناس فَقَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي خبر مَا وراءك، وأشر علي، قَالَ: لا أستطيع أن أخبرك، أخذ علينا العهود والمواثيق أَلا ندل عَلَى عورة، وَلا نظاهر عدوا، فانتهره ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لولا أنك ابن عُثْمَان لضربت عنقك، وايم اللَّه لا أقيلها قرشيا بعدك فخرج بِمَا لقي من عنده إِلَى أَصْحَابه، فَقَالَ مَرْوَان بن الحكم لابنه عَبْد الْمَلِكِ: ادخل قبلي لعله يجتزئ بك عني، فدخل عَلَيْهِ عَبْد الْمَلِكِ، فَقَالَ: هات مَا عندك، أَخْبِرْنِي خبر الناس، وكيف ترى؟ فَقَالَ لَهُ: نعم أَرَى أن تسير بمن معك، فتنكب هَذَا الطريق إِلَى الْمَدِينَة، حَتَّى إذا انتهيت إِلَى أدنى نخل بِهَا نزلت، فاستظل الناس فِي ظله، وأكلوا من صقره، حَتَّى إذا كَانَ الليل أذكيت الحرس الليل كله عقبا بين أهل العسكر، حَتَّى إذا أصبحت صليت بِالنَّاسِ الغداة، ثُمَّ مضيت بهم وتركت الْمَدِينَة ذات اليسار، ثُمَّ أدرت بِالْمَدِينَةِ حَتَّى تأتيهم من قبل الحرة مشرقا، ثُمَّ تستقبل القوم، فإذا استقبلتهم وَقَدْ أشرقت عَلَيْهِم وطلعت الشمس طلعت بين أكتاف أَصْحَابك، فلا تؤذيهم، وتقع فِي وجوههم فيؤذيهم حرها، ويصيبهم أذاها، ويرون مَا دمتم مشرقين من ائتلاق بيضكم وحرابكم، وأسنة رماحكم وسيوفكم ودروعكم وسواعدكم مَا لا ترونه أنتم لشيء من سلاحهم مَا داموا مغربين، ثُمَّ قاتلهم واستعن بِاللَّهِ عَلَيْهِم، فإن اللَّه ناصرك، إذ خالفوا الإمام، وخرجوا من الجماعة فَقَالَ لَهُ مسلم: لِلَّهِ أبوك! أي امرئ ولد إذ ولدك! لقد رَأَى بك خلفا ثُمَّ إن مَرْوَان دخل عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: إيه! قَالَ: أليس قَدْ دخل عَلَيْك عَبْد الْمَلِكِ! قَالَ: بلى، وأي رجل عَبْد الْمَلِكِ! قلما كلمت من رجال قريش رجلا بِهِ شبيها، فَقَالَ لَهُ مَرْوَان: إذا لقيت عبد الملك فقد لقيتني، قَالَ: أجل، ثُمَّ ارتحل من مكانه ذَلِكَ، وارتحل الناس مَعَهُ حَتَّى نزل المنزل الَّذِي أمره بِهِ عَبْد الْمَلِكِ، فصنع فِيهِ مَا أمره بِهِ، ثُمَّ مضى فِي الحرة حَتَّى نزلها، فأتاهم من قبل المشرق ثُمَّ دعاهم مسلم بن عُقْبَةَ، فَقَالَ: يَا أهل الْمَدِينَة، إن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ

يَزِيد بن مُعَاوِيَة يزعم أنكم الأصل، وأني أكره هراقة دمائكم، وأني أؤجلكم ثلاثا، فمن ارعوى وراجع الحق قبلنا مِنْهُ، وانصرفت عنكم، وسرت إِلَى هَذَا الملحد الَّذِي بمكة، وإن أبيتم كنا قَدْ أعذرنا إليكم- وَذَلِكَ فِي ذي الحجة من سنة أربع وستين، هكذا وجدته فِي كتابي، وَهُوَ خطأ، لأن يَزِيد هلك فِي شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، وكانت وقعة الحرة فِي ذي الحجة من سنة ثلاث وستين يوم الأربعاء لليلتين بقيتا مِنْهُ ولما مضت الأيام الثلاثة قَالَ: يَا أهل الْمَدِينَة، قَدْ مضت الأيام الثلاثة، فما تصنعون؟ أتسالمون أم تحاربون؟ فَقَالُوا: بل نحارب، فَقَالَ لَهُمْ: لا تفعلوا، بل ادخلوا فِي الطاعة، ونجعل حدنا وشوكتنا عَلَى هَذَا الملحد الَّذِي قَدْ جمع إِلَيْهِ المراق والفساق من كل أوب فَقَالُوا لَهُمْ: يَا أعداء اللَّه، وَاللَّهِ لو أردتم أن تجوزوا إِلَيْهِم مَا تركناكم حَتَّى نقاتلكم، نحن ندعكم أن تأتوا بيت اللَّه الحرام، وتخيفوا أهله، وتلحدوا فِيهِ، وتستحلوا حرمته! لا وَاللَّهِ لا نفعل. وَقَدْ كَانَ أهل الْمَدِينَة اتخذوا خندقا فِي جانب الْمَدِينَة، ونزله جمع مِنْهُمْ عظيم، وَكَانَ عَلَيْهِم عبد الرَّحْمَن بن زهير بن عبد عوف ابن عم عبد الرحمن ابن عوف الزُّهْرِيّ، وَكَانَ عَبْد اللَّهِ بن مطيع عَلَى ربع آخر فِي جانب الْمَدِينَة، وَكَانَ معقل بن سنان الأشجعي عَلَى ربع آخر فِي جانب الْمَدِينَة، وَكَانَ أَمِير جماعتهم عَبْد اللَّهِ بن حنظلة الغسيل الأَنْصَارِيّ، فِي أعظم تِلَكَ الأرباع وأكثرها عددا. قَالَ هِشَام: وأما عوانة بن الحكم الكلبي، فذكر أن عَبْد اللَّهِ بن مطيع كَانَ عَلَى قريش من أهل الْمَدِينَة، وعبد اللَّه بن حنظلة الغسيل عَلَى الأنصار، ومعقل بن سنان عَلَى الْمُهَاجِرِينَ. قَالَ هِشَام، عن أبي مخنف: قَالَ عَبْد الملك بن نوفل: وصمد مسلم ابن عُقْبَةَ بجميع من مَعَهُ، فأقبل من قبل الحرة حَتَّى ضرب فسطاطه عَلَى

طريق الْكُوفَة، ثُمَّ وجه الخيل نحو ابن الغسيل، فحمل ابن الغسيل عَلَى الخيل فِي الرجال الَّذِينَ مَعَهُ حَتَّى كشف الخيل، حَتَّى انتهوا إِلَى مسلم بن عُقْبَةَ، فنهض فِي وجوههم بالرجال، وصاح بهم، فانصرفوا فقاتلوا قتالا شديدا. ثُمَّ إن الفضل بْن عباس بْن رَبِيعَة بْن الْحَارِث بْن عبد المطلب جَاءَ الى عبد الله ابن حنظلة الغسيل فقاتل فِي نحو من عشرين فارسا قتالا شديدا حسنا، ثُمَّ قَالَ لعبد اللَّه: مر من معك فارسا فليأتني فليقف معى، فإذا حملت فليحملوا، فو الله لا أنتهي حَتَّى أبلغ مسلما، فإما أن أقتله، وإما أن أقتل دونه فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن حنظلة لعبد اللَّه بن الضحاك من بني عبد الأشهل من الأنصار: ناد فِي الخيل فلتقف مع الفضل بن العباس، فنادى فيهم فجمعهم إِلَى الفضل، فلما اجتمعت الخيل إِلَيْهِ حمل عَلَى أهل الشام فانكشفوا، فَقَالَ لأَصْحَابه: الا ترونهم كشفا لئاما! احملوا اخرى جعلت فداكم! فو الله لَئِنْ عاينت أميرهم، لأقتلنه أو لأقتلن دونه، ان صبر ساعه معقب سرور أبد، إنه ليس بعد لصبرنا إلا النصر ثُمَّ حمل وحمل أَصْحَابه مَعَهُ، فانفرجت خيل أهل الشام عن مسلم بن عُقْبَةَ فِي نحو من خمسمائة راجل جثاة عَلَى الركب، مشرعي الأسنة نحو القوم، ومضى كما هُوَ نحو رايته حَتَّى يضرب رأس صاحب الراية، وإن عَلَيْهِ لمغفرا، فقط المغفر، وفلق هامته فخر ميتا، فَقَالَ: خذها مني وأنا ابن عبد المطلب! فظن أنه قتل مسلما، فَقَالَ: قتلت طاغية القوم ورب الكعبة، فَقَالَ مسلم: أخطأت استك الحفرة! وإنما كَانَ ذَلِكَ غلاما لَهُ، يقال لَهُ: رومي، وَكَانَ شجاعا. فأخذ مسلم رايته ونادى: يَا أهل الشام، أهذا القتال قتال قوم يريدون أن يدفعوا بِهِ عن دينهم، وأن يعزوا بِهِ نصر إمامهم! قبح اللَّه قتالكم منذ الْيَوْم! مَا أوجعه لقلبي، وأغيظه لنفسي! اما والله ما جزاؤكم عليه الا ان تحرموا العطاء، وأن تجمروا فِي أقاصي الثغور شدوا مع هَذِهِ الراية، ترح اللَّه وجوهكم إن لم تعتبوا! فمشى برايته، وشدت تِلَكَ الرجال أمام الراية، فصرع الفضل بن عباس، فقتل وما بينه وبين اطناب مسلم بن عقبه الا نحو

من عشر أذرع، وقتل مَعَهُ زَيْد بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عوف، وقتل معه ابراهيم ابن نعيم العدوي، فِي رجال من أهل الْمَدِينَة كثير. قَالَ هِشَام، عن عوانة: وَقَدْ بلغنا فِي حديث آخر أن مسلم بن عُقْبَةَ كَانَ مريضا يوم القتال، وأنه أمر بسرير وكرسي فوضع بين الصفين، ثُمَّ قَالَ: يَا أهل الشام، قاتلوا عن أميركم أو دعوا ثُمَّ زحفوا نحوهم فأخذوا لا يصمدون لربع من تِلَكَ الأرباع إلا هزموه، وَلا يقاتلون إلا قليلا حَتَّى تولوا. ثُمَّ إنه أقبل إِلَى عَبْد اللَّهِ بن حنظلة فقاتله أشد القتال، واجتمع من أراد القتال من تِلَكَ الأرباع إِلَى عَبْد اللَّهِ بن حنظلة، فاقتتلوا قتالا شديدا، فحمل الفضل ابن العباس بن ربيعه في جماعه من وجوه النَّاسِ وفرسانهم يريد مسلم بن عُقْبَةَ، ومسلم عَلَى سريره مريض، فَقَالَ: احملوني فضعوني فِي الصف، فوضعوه بعد مَا حملوه أمام فسطاطه فِي الصف، وحمل الفضل بن العباس هُوَ وأَصْحَابه أُولَئِكَ حَتَّى انتهى إِلَى السرير، وَكَانَ الفضل أحمر، فلما رفع السيف ليضربه صاح بأَصْحَابه: إن العبد الأحمر قاتلي، فأين أنتم يَا بني الحرائر! اشجروه بالرماح، فوثبوا إِلَيْهِ فطعنوه حَتَّى سقط. قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: ثُمَّ إن خيل مسلم ورجاله أقبلت نحو عبد الله ابن حنظلة الغسيل ورجاله بعده- كما حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ منقذ- حَتَّى دنوا مِنْهُ، وركب مسلم بن عُقْبَةَ فرسا لَهُ، فأخذ يسير فِي أهل الشام ويحرضهم ويقول: يَا أهل الشام، إنكم لستم بأفضل العرب فِي أحسابها وَلا أنسابها، وَلا أكثرها عددا، وَلا أوسعها بلدا، ولم يخصصكم اللَّه بِالَّذِي خصكم بِهِ من النصر عَلَى عدوكم، وحسن المنزلة عِنْدَ أئمتكم، إلا بطاعتكم واستقامتكم، وإن هَؤُلاءِ القوم وأشباههم من العرب غيروا فغير اللَّه بهم، فتموا عَلَى أحسن مَا كنتم عَلَيْهِ من الطاعة يتمم اللَّه لكم أحسن مَا ينيلكم من النصر والفلج ثُمَّ جَاءَ حَتَّى انتهى إِلَى مكانه الَّذِي كَانَ فِيهِ، وأمر الخيل أن تقدم عَلَى ابن الغسيل وأَصْحَابه، فأخذت الخيل إذا أقدمت عَلَى الرجال فثاروا فِي وجوهها بالرماح

والسيوف نفرت وابذعرت وأحجمت، فنادى فِيهِمْ مسلم بن عُقْبَةَ: يَا أهل الشام، مَا جعلهم اللَّه أولى بالأرض مِنْكُمْ، يَا حصين بن نمير، انزل فِي جندك، فنزل فِي أهل حمص، فمشى إِلَيْهِم، فلما رآهم قَدْ أقبلوا يمشون تحت راياتهم نحو ابن الغسيل قام فِي أَصْحَابه فَقَالَ: يَا هَؤُلاءِ، إن عدوكم قَدْ أصابوا وجه القتال الَّذِي كَانَ ينبغي أن تقاتلوهم بِهِ، وإني قَدْ ظننت أَلا تلبثوا إلا ساعة حَتَّى يفصل اللَّه بينكم وبينهم إما لكم وإما عَلَيْكُمْ أما إنكم أهل البصيرة ودار الهجرة، وَاللَّهِ مَا أظن ربكم أصبح عن أهل بلد من بلدان الْمُسْلِمِينَ بأرضى مِنْهُ عنكم، وَلا عَلَى أهل بلد من بلدان العرب بأسخط مِنْهُ عَلَى هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم ان لكل امرئ مِنْكُمْ ميتة هُوَ ميت بِهَا، وَاللَّهِ مَا من ميتة بأفضل من ميتة الشهادة، وقد ساقها الله إليكم فاغتنموها، فو الله مَا كل مَا أردتموها وجدتموها ثُمَّ مشى برايته غير بعيد، ثُمَّ وقف، وجاء ابن نمير برايته حَتَّى أدناها، وأمر مسلم بن عُقْبَةَ عَبْد اللَّهِ بن عضاه الأَشْعَرِيّ فمشى في خمسمائة مرام حَتَّى دنوا من ابن الغسيل وأَصْحَابه، فأخذوا ينضحونهم بالنبل، فَقَالَ ابن الغسيل: علام تستهدفون لَهُمْ! من أراد التعجل إِلَى الجنة فليلزم هَذِهِ الراية، فقام إِلَيْهِ كل مستميت، فقال: الغدو الى ربكم، فو الله إني لأرجو أن تكونوا عن ساعة قريري عين، فنهض القوم بعضهم إِلَى بعض فاقتتلوا أشد قتال رئى فِي ذَلِكَ الزمان ساعة من نهار، وأخذ يقدم بنيه أمامه واحدا واحدا حَتَّى قتلوا بين يديه، وابن الغسيل يضرب بسيفه، ويقول: بعدا لمن رام الفساد وطغى ... وجانب الحق وآيات الهدى لا يبعد الرحمن إلا من عصى. فقتل، وقتل مَعَهُ أخوه لأمه مُحَمَّد بن ثَابِتِ بْنِ قيس بن شماس، استقدم فقاتل حَتَّى قتل، وَقَالَ: مَا أحب أن الديلم قتلوني مكان هَؤُلاءِ القوم، ثُمَّ قاتل حَتَّى قتل وقتل مَعَهُ مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم الأنصاري، فمر عليه مروان

ابن الحكم وكأنه برطيل من فضة، فَقَالَ: رحمك اللَّه! فرب سارية قَدْ رأيتك تطيل القيام فِي الصَّلاة إِلَى جنبها. قَالَ هِشَام: فَحَدَّثَنِي عوانة، قَالَ: فبلغنا أن مسلم بن عُقْبَةَ كَانَ يجلس عَلَى كرسي ويحمله الرجال وَهُوَ يقاتل ابن الغسيل يوم الحرة وَهُوَ يقول: أحيا أباه هاشم بن حرمله ... يوم الهباتين ويوم اليعمله كل الملوك عنده مغربله ... ورمحه للوالدات مثكله لا يلبث القتيل حَتَّى يجدله ... يقتل ذا الذنب ومن لا ذنب لَهُ قَالَ هِشَام، عن أبي مخنف: وخرج مُحَمَّد بن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاص يَوْمَئِذٍ يقاتل، فلما انهزم الناس مال عَلَيْهِم يضربهم بسيفه حَتَّى غلبته الهزيمة، فذهب فيمن ذهب مِنَ النَّاسِ وأباح مسلم الْمَدِينَة ثلاثا يقتلون الناس ويأخذون الأموال، فأفزع ذَلِكَ من كَانَ بِهَا من الصحابة، فخرج أَبُو سَعِيد الخدري حَتَّى دخل فِي كهف فِي الجبل، فبصر بِهِ رجل من أهل الشام، فَجَاءَ حَتَّى اقتحم عَلَيْهِ الغار. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي الْحَسَن بن عطية العوفي، عن أبي سَعِيد الخدري، قَالَ: دخل إلي الشامي يمشي بسيفه، قَالَ: فانتضيت سيفي فمشيت إِلَيْهِ لأرعبه لعله ينصرف عني، فأبى إلا الإقدام علي، فلما رأيت أن قَدْ جد شمت سيفي، ثُمَّ قلت لَهُ: «لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ» ، فَقَالَ لي: من أنت لِلَّهِ أبوك! فقلت: أنا أَبُو سَعِيد الخدري، قَالَ: صاحب رَسُول الله ص؟ قلت: نعم، فانصرف عني. قَالَ هِشَام: حَدَّثَنِي عوانة، قَالَ: دعا الناس مسلم بن عُقْبَةَ بقباء إِلَى البيعة، وطلب الأمان لرجلين من قريش: ليزيد بن عَبْدِ اللَّهِ بْن زمعة بْن الأسود بْن

المطلب بن أسد بن عبد العزى ومُحَمَّد بن أبي الجهم بن حُذَيْفَة العدوي ولمعقل ابن سنان الأشجعي، فأتي بهما بعد الوقعة بيوم فقال: بايعا، فَقَالَ القرشيان: نبايعك عَلَى كتاب اللَّه وسنة نبيه، فَقَالَ: لا وَاللَّهِ لا أقيلكم هَذَا ابدا، فقد مهما فضرب أعناقهما، فَقَالَ لَهُ مَرْوَان: سبحان اللَّه! أتقتل رجلين من قريش أتيا ليؤمنا فضربت أعناقهما! فنخس بالقضيب فِي خاصرته ثُمَّ قَالَ: وأنت وَاللَّهِ لو قلت بمقالتهما مَا رأيت السماء إلا برقة. قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: وجاء معقل بن سنان، فجلس مع القوم، فدعا بشراب ليسقى، فَقَالَ لَهُ مسلم: أي الشراب أحب إليك؟ قَالَ: العسل، قَالَ: اسقوه، فشرب حَتَّى ارتوى، فَقَالَ لَهُ: أقضيت ريك من شرابك؟ قَالَ: نعم، قَالَ: لا وَاللَّهِ لا تشرب بعده شرابا أبدا إلا الحميم فِي نار جهنم، أتذكر مقالتك لأمير الْمُؤْمِنِينَ: سرت شهرا، ورجعت شهرا، وأصبحت صفرا، اللَّهُمَّ غَيّر- تعني يَزِيد! فقدمه فضرب عنقه. قَالَ هِشَام: وأما عوانة بن الحكم فذكر أن مسلم بن عُقْبَةَ بعث عَمْرو بن محرز الأشجعي فأتاه بمعقل بن سنان فَقَالَ لَهُ مسلم: مرحبا بأبي مُحَمَّد! أراك عطشان! قَالَ: أجل، قَالَ: شوبوا لَهُ عسلا بالثلج الَّذِي حملتموه معنا- وَكَانَ لَهُ صديقا قبل ذَلِكَ- فشابوه لَهُ، فلما شرب معقل قَالَ لَهُ: سقاك اللَّه من شراب الجنة، فَقَالَ لَهُ مسلم: أما وَاللَّهِ لا تشرب بعدها شرابا أبدا حَتَّى تشرب من شراب الحميم، قال: أنشدك الله والرحيم! فَقَالَ لَهُ مسلم: أنت الَّذِي لقيتني بطبرية ليلة خرجت من عِنْدَ يَزِيد، فقلت: سرنا شهرا ورجعنا من عِنْدَ يَزِيد صفرا، نرجع إِلَى الْمَدِينَة فنخلع هَذَا الفاسق، ونبايع لرجل من أبناء المهاجرين! فيم غطفان وأشجع من الخلع والخلافة! إني آليت بيمين لا ألقاك فِي حرب أقدر فِيهِ عَلَى ضرب عنقك إلا فعلت،

ثُمَّ أمر بِهِ فقتل. قَالَ هِشَام: قَالَ عوانه: واتى يزيد بن وهب بن زمعة، فَقَالَ: بايع، قَالَ: أبايعك عَلَى سنة عمر، قَالَ: اقتلوه، قَالَ: أنا أبايع، قَالَ: لا وَاللَّهِ لا أقيلك عثرتك، فكلمه مَرْوَان بن الحكم- لصهر كَانَ بينهما- فأمر بمروان فوجئت عنقه، ثُمَّ قَالَ: بايعوا عَلَى أنكم خول ليزيد بن مُعَاوِيَة، ثُمَّ أمر بِهِ فقتل. قَالَ هِشَام: قَالَ عوانة، عن أبي مخنف قَالَ: قَالَ عَبْد الملك بن نوفل ابن مساحق: ثُمَّ إن مَرْوَان أتي بعلي بن الْحُسَيْن، وَقَدْ كَانَ عَلِيّ بن الْحُسَيْن حين أخرجت بنو أُمَيَّة منع ثقل مَرْوَان وامرأته وآواها، ثُمَّ خرجت إِلَى الطائف، فهي أم أبان ابنة عُثْمَان بن عَفَّانَ، فبعث ابنه عَبْد اللَّهِ معها، فشكر ذَلِكَ لَهُ مَرْوَان- وأقبل عَلِيّ بن الْحُسَيْن يمشي بين مَرْوَان وعبد الملك يلتمس بهما عِنْدَ مسلم الأمان، فَجَاءَ حَتَّى جلس عنده بينهما، فدعا مَرْوَان بشراب ليتحرم بِذَلِكَ من مسلم، فأتي لَهُ بشراب، فشرب مِنْهُ مَرْوَان شَيْئًا يسيرا، ثُمَّ ناوله عَلِيًّا، فلما وقع فِي يده قَالَ له مسلم: لا تشرب من شرابنا، فأرعدت كفه، ولم يأمنه عَلَى نفسه، وأمسك القدح بكفه لا يشربه وَلا يضعه، فَقَالَ: إنك إنما جئت تمشي بين هَؤُلاءِ لتأمن عندي، وَاللَّهِ لو كَانَ هَذَا الأمر إليهما لقتلتك، ولكن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أوصاني بك، وأخبرني أنك كاتبته، فذلك نافعك عندي، فإن شئت فاشرب شرابك الَّذِي فِي يدك، وإن شئت دعونا بغيره، فَقَالَ: هَذِهِ الَّتِي في كفى اريد، قال: اشربها، ثم قال: الى هاهنا، فأجلسه مَعَهُ. قَالَ هِشَام: وَقَالَ عوانة بن الحكم: لما أتي بعلي بن الْحُسَيْن إِلَى مسلم، قَالَ: من هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا عَلِيّ بن الْحُسَيْن، قَالَ: مرحبا وأهلا، ثُمَّ أجلسه مَعَهُ عَلَى السرير والطنفسة، ثُمَّ قَالَ: إن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أوصاني بك قبلا، وَهُوَ يقول: إن هَؤُلاءِ الخبثاء شغلوني عنك وعن وصلتك، ثم قال

لعلي: لعل أهلك فزعوا! قَالَ: إي وَاللَّهِ، فأمر بدابته فأسرجت، ثُمَّ حمله فرده عَلَيْهَا. قَالَ هِشَام: وذكر عوانة أن عَمْرو بن عُثْمَانَ لَمْ يَكُنْ فيمن خرج من بني أُمَيَّة، وأنه أتى بِهِ يَوْمَئِذٍ إِلَى مسلم بن عُقْبَةَ فَقَالَ: يَا أهل الشام، تعرفون هَذَا؟ قَالُوا: لا، قَالَ: هَذَا الخبيث ابن الطيب، هَذَا عَمْرو بن عُثْمَانَ بن عَفَّانَ امير المؤمنين، هيه يَا عَمْرو! إذا ظهر أهل الْمَدِينَة قلت: أنا رجل مِنْكُمْ، وإن ظهر أهل الشام قلت: أنا ابن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَان بن عَفَّانَ، فأمر بِهِ فنتفت لحيته، ثُمَّ قَالَ: يَا أهل الشام، إن أم هَذَا كَانَتْ تدخل الجعل فِي فِيهَا ثُمَّ تقول: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حاجيتك، مَا فِي فمي؟ وفي فمها مَا ساءها وناءها، فخلى سبيله، وكانت أمه من دوس. قَالَ أَبُو جَعْفَر الطبري: فَحَدَّثَنِي أَحْمَد بن ثَابِت، عمن حدثه، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر وَحَدَّثَنِي الحارث، قَالَ: حدثنا ابن سعد، عن محمد بن عُمَرَ، قَالا: كَانَتْ وقعة الحرة يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين وَقَالَ بعضهم: لثلاث ليال بقين مِنْهُ. وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابن سعد، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بن جَعْفَر، عن ابن عوف، قَالَ: حج ابن الزُّبَيْر بِالنَّاسِ سنة ثلاث وستين، وَكَانَ يسمى يَوْمَئِذٍ العائذ، ويرون الأمر شورى قَالَ: فلما كَانَتْ ليلة هلال المحرم ونحن فِي منزلنا إذ قدم علينا سَعِيد مولى المسور بن مخرمة، فخبرنا بِمَا أوقع مسلم بأهل الْمَدِينَة وما نيل مِنْهُمْ، فجاءهم امر عظيم، فرايت القوم شهروا ووجدوا وأعدوا وعرفوا أنه نازل بهم

وَقَدْ ذكر من أمر وقعة الحرة ومقتل ابن الغسيل أمر غير الَّذِي روي عن أبي مخنف، عن الَّذِينَ روى ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ قَالَ: حدثنا أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَشْيَاخَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُحَدِّثُونَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَعَا يَزِيدَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ لك من اهل الدنيا يَوْمًا، فَإِنْ فَعَلُوا فَارْمِهِمْ بِمُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ قَدْ عَرَفْتُ نَصِيحَتَهُ فَلَمَّا هَلَكَ مُعَاوِيَةُ وَفَدَ إِلَيْهِ وَفْدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ مِمَّنْ وَفَدَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ، وَكَانَ شَرِيفًا فَاضِلا سَيِّدًا عَابِدًا، مَعَهُ ثَمَانِيةُ بَنِينَ لَهُ، فَأَعْطَاهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَعْطَى بَنِيهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةَ آلافٍ سِوَى كِسْوَتِهِمْ وَحِمْلانِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ أَتَاهُ النَّاسُ فَقَالُوا: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ رَجُلٍ وَاللَّهِ لَوْ لَمْ أَجِدْ إِلا بَنِيَّ هَؤُلاءِ لَجَاهَدْتُهُ بِهِمْ، قَالُوا: قَدْ بَلَغَنَا أَنَّهُ أَجْدَاكَ وَأَعْطَاكَ وَأَكْرَمَكَ، قَالَ: قَدْ فَعَلَ، وَمَا قَبِلْتُ مِنْهُ إِلا لأَتَقَوَّى بِهِ، وَحَضَّضَ النَّاسَ فَبَايَعُوهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ يَزِيدَ، فَبَعَثَ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ بَعَثَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَى كُلِّ مَاءٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّامِ، فَصَبُّوا فِيهِ زُقًّا مِنْ قَطِرَانٍ، وَعُوِّرَ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَسْتَقُوا بِدَلْوٍ حَتَّى وَرَدُوا الْمَدِينَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، بِجُمُوعٍ كَثِيرَةٍ، وَهَيْئَةٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا فَلَمَّا رَآهُمْ أَهْلُ الشَّامِ هَابُوهُمْ وَكَرِهُوا قِتَالَهُمْ، وَمُسْلِمٌ شَدِيدُ الْوَجَعِ، فَبَيْنَمَا النَّاسُ فِي قِتَالِهِمْ إِذْ سَمِعُوا التَّكْبِيرَ مِنْ خَلْفِهِمْ فِي جَوْفِ الْمَدِينَةِ، وَأَقْحَمَ عَلَيْهِمْ بَنُو حَارِثَةَ أَهْلَ الشَّامِ، وَهُمْ عَلَى الْجُدِّ، فَانْهَزَمَ النَّاسُ، فَكَانَ مَنْ أُصِيبَ فِي الْخَنْدَقِ أَكْثَرَ مِمَّنْ قُتِلَ مِنَ النَّاسِ، فَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ، وَهُزِمَ النَّاسُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ مُسْتَنِدٌ إِلَى أَحَدِ بَنِيهِ يَغُطُّ نَوْمًا، فَنَبَّهَهُ ابْنُهُ، فَلَمَّا فَتَحَ عَيْنَيْهِ فَرَأَى مَا صَنَعَ النَّاسُ أَمَرَ أَكْبَرَ بَنِيهِ، فَتَقَدَّمَ حَتَّى قُتِلَ، فَدَخَلَ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ الْمَدِينَةَ، فَدَعَا النَّاسَ لِلْبَيْعَةِ عَلَى أَنَّهُمْ خَوَلٌ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، يَحْكُمْ فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ مَا شَاءَ.

سنه اربع وستين

ثُمَّ دخلت سنة أربع وستين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) قَالَ أَبُو جَعْفَر: فمن ذَلِكَ مسير أهل الشام إِلَى مكة لحرب عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ ومن كَانَ عَلَى مثل رأيه فِي الامتناع عَلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة. ولما فرغ مسلم بن عُقْبَةَ من قتال أهل الْمَدِينَة وإنهاب جنده أموالهم ثلاثا، شخص بمن مَعَهُ من الجند متوجها الى مكة، كالذي ذكر هشام ابن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل، أن مسلما خرج بِالنَّاسِ إِلَى مكة يريد ابن الزُّبَيْر، وخلف عَلَى الْمَدِينَة روح بن زنباع الجذامي. وأما الْوَاقِدِيّ فإنه قَالَ: خلف عَلَيْهَا عَمْرو بن محرز الأشجعي، قَالَ: ويقال: خلف عَلَيْهَا روح بن زنباع الجذامي. ذكر موت مسلم بن عُقْبَةَ ورمي الكعبة وإحراقها رجع الحديث إِلَى أبي مخنف قَالَ: حَتَّى إذا انتهى إِلَى المشلل- ويقال: إِلَى قفا المشلل- نزل بِهِ الموت، وَذَلِكَ فِي آخر المحرم من سنة أربع وستين، فدعا حصين بن نمير السكوني فَقَالَ له: يا بن برذعة الحمار، أما وَاللَّهِ لو كَانَ هَذَا الأمر إلي مَا وليتك هَذَا الجند، ولكن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ ولاك بعدي، وليس لأمر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ مرد، خذ عني أربعا: أسرع السير، وعجل الوقاع، وعم الأخبار، وَلا تمكن قرشيا من أذنك ثُمَّ إنه مات، فدفن بقفا المشلل. قَالَ هِشَام بن مُحَمَّد الكلبي: وذكر عوانة أن مسلم بن عُقْبَةَ شخص يريد ابن الزُّبَيْر، حَتَّى إذا بلغ ثنية هرشا نزل بِهِ الموت، فبعث إِلَى رءوس الأجناد، فَقَالَ: إن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عهد إلي إن حدث بي حدث الموت أن أستخلف عَلَيْكُمْ حصين بن نمير السكوني، وَاللَّهِ لو كَانَ الأمر إلي مَا فعلت،

ولكن أكره معصية أمر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الموت، ثُمَّ دعا بِهِ فَقَالَ: انظر يَا برذعة الحمار فاحفظ مَا أوصيك بِهِ، عم الأخبار، وَلا ترع سمعك قريشا أبدا، وَلا تردن أهل الشام، عن عدوهم، وَلا تقيمن إلا ثلاثا حَتَّى تناجز ابن الزُّبَيْر الفاسق، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إني لم أعمل عملا قط بعد شِهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عبده ورسوله أحب إلي من قتلي أهل الْمَدِينَة، وَلا أرجي عندي فِي الآخرة ثُمَّ قَالَ لبني مرة: زراعتي الَّتِي بحوران صدقة عَلَى مرة، وما أغلقت عَلَيْهِ فلانة بابها فهو لها- يعني أم ولده- ثُمَّ مات. ولما مات خرج حصين بن نمير بِالنَّاسِ، فقدم عَلَى ابن الزُّبَيْر مكة وَقَدْ بايعه أهلها وأهل الحجاز. قَالَ هِشَام: قَالَ عوانة: قَالَ مسلم قبل الوصية: إن ابني يزعم أن أم ولدي هَذِهِ سقتني السم، وَهُوَ كاذب، هَذَا داء يصيبنا فِي بطوننا أهل البيت قَالَ: وقدم عَلَيْهِ- يعني ابن الزُّبَيْر- كل أهل الْمَدِينَة، وَقَدْ قدم عَلَيْهِ نجدة بن عَامِر الحنفي فِي أناس من الخوارج يمنعون البيت، فَقَالَ لأخيه المنذر: مَا لهذا الأمر ولدفع هَؤُلاءِ القوم غيري وغيرك- وأخوه المنذر ممن شهد الحرة، ثُمَّ لحق بِهِ- فجرد إِلَيْهِم أخاه فِي الناس، فقاتلهم ساعة قتالا شديدا. ثُمَّ إن رجلا من أهل الشام دعا المنذر إِلَى المبارزة- قَالَ: والشامي عَلَى بغلة لَهُ- فخرج إِلَيْهِ المنذر، فضرب كل واحد منهما صاحبه ضربة خر صاحبه لها ميتا، فجثا عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ عَلَى ركبتيه وَهُوَ يقول: يَا رب أبرها من أصلها وَلا تشدها، وَهُوَ يدعو عَلَى الَّذِي بارز أخاه ثُمَّ ان اهل الشام شدوا عليهم شدة منكرة، وانكشف أَصْحَابه انكشافة، وعثرت بغلته فَقَالَ: تعسا! ثُمَّ نزل وصاح بأَصْحَابه: إلي، فأقبل إِلَيْهِ المسور بن مخرمة بن نوفل بْن أهيب بْن عبد مناف بْن زهرة، ومصعب بن عبد الرحمن ابن عوف الزُّهْرِيّ، فقاتلوا حَتَّى قتلوا جميعا وصابرهم ابن الزُّبَيْر يجالدهم

ذكر الخبر عن حرق الكعبه

حَتَّى الليل، ثُمَّ انصرفوا عنه، وهذا فِي الحصار الأول ثُمَّ إِنَّهُمْ أقاموا عَلَيْهِ يقاتلونه بقية المحرم وصفر كله، حَتَّى إذا مضت ثلاثة أيام من شهر ربيع الأول يوم السبت سنة أربع وستين قذفوا البيت بالمجانيق، وحرقوه بالنار، وأخذوا يرتجزون ويقولون: خطارة مثل الفنيق المزبد ... نرمي بِهَا أعواد هَذَا المسجد قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو عوانة: جعل عَمْرو بن حوط السدوسي يقول: كيف ترى صنيع أم فروه ... تأخذهم بين الصفا والمروه يعني بأم فروة المنجنيق. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: سار الحصين بن نمير حين دفن مسلم بن عُقْبَةَ بالمشلل لسبع بقين من المحرم، وقدم مكة لأربع بقين من المحرم، فحاصر ابن الزُّبَيْر أربعا وستين يَوْمًا حَتَّى جاءهم نعي يَزِيد بن معاويه لهلال ربيع الآخر . ذكر الخبر عن حرق الكعبه وفي هَذِهِ السنة حرقت الكعبة. ذكر السبب فِي إحراقها: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: احترقت الكعبة يوم السبت لثلاث ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين قبل أن يأتي نعي يَزِيد بن مُعَاوِيَة بتسعة وعشرين يَوْمًا، وجاء نعيه لهلال ربيع الآخر ليلة الثلاثاء. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنَا رياح بن مسلم، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانُوا يوقدون حول الكعبة، فأقبلت شررة هبت بِهَا الريح، فاحترقت ثياب الكعبة، واحترق خشب البيت يوم السبت لثلاث ليال خلون من ربيع الأول. قَالَ مُحَمَّد بن عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ بن زَيْد، قَالَ: حَدَّثَنِي عروة بن

ذكر خبر وفاه يزيد بن معاويه

أذينة، قَالَ: قدمت مكة مع أمي يوم احترقت الكعبة قَدْ خلصت إِلَيْهَا النار، ورأيتها مجردة من الحرير، ورأيت الركن قَدِ اسود وانصدع في ثلاثة أمكنة، فقلت: مَا أصاب الكعبة؟ فأشاروا إِلَى رجل من أَصْحَاب عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، قَالُوا: هَذَا احترقت بسببه، أخذ قبسا فِي رأس رمح لَهُ فطيرت الريح بِهِ، فضربت أستار الكعبة مَا بين الركن اليماني والأسود . ذكر خبر وفاه يزيد بن معاويه وفيها هلك يَزِيد بن مُعَاوِيَة، وكانت وفاته بقرية من قرى حمص يقال لها حوارين من أرض الشام، لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة أربع وستين وَهُوَ ابن ثمان وثلاثين سنة فِي قول بعضهم. حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن يَحْيَى، عن هِشَام بن الْوَلِيد المخزومي، أن الزُّهْرِيّ، كتب لجده أسنان الخلفاء، فكان فِيمَا كتب من ذَلِكَ: ومات يَزِيد بن مُعَاوِيَة وَهُوَ ابن تسع وثلاثين، وكانت ولايته ثلاث سنين وستة أشهر فِي قول بعضهم، ويقال: ثمانية أشهر. وَحَدَّثَنِي أَحْمَد بن ثَابِت عمن حدثه، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، أنه قَالَ: توفي يَزِيد بن مُعَاوِيَة يوم الثلاثاء لأربع عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، وكانت خلافته ثلاث سنين وثمانية اشهر الا ثمان ليال، وصلى عَلَى يَزِيد ابنه مُعَاوِيَة بن يَزِيدَ. وأما هِشَام بن مُحَمَّد الكلبي فإنه قَالَ فِي سن يَزِيد خلاف الَّذِي ذكره الزُّهْرِيّ، والذي قَالَ هِشَام فِي ذَلِكَ- فِيمَا حدثنا عنه-: استخلف ابو خالد يزيد ابن مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ ابن اثنتين وثلاثين سنة وأشهر فِي هلال رجب سنة ستين، وولي سنتين وثمانية أشهر، وتوفي لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة ثلاث وستين وَهُوَ ابن خمس وثلاثين، وأمه ميسون بنت بحدل بن أنيف بن ولجة بن قنافة بن عدي بن زهير بن حارثة الكلبى

ذكر عدد ولده فمنهم مُعَاوِيَة بن يَزِيدَ بن مُعَاوِيَة، يكنى أبا لَيْلَى، وَهُوَ الَّذِي يقول فِيهِ الشاعر: إني أَرَى فتنة قَدْ حان أولها ... والملك بعد أَبِي لَيْلَى لمن غلبا وخالد بن يَزِيدَ- وَكَانَ يكنى أبا هاشم، وَكَانَ يقال: إنه أصاب عمل الكيمياء- وأبو سُفْيَان، وأمهما أم هاشم بنت أبي هاشم بْن عتبة بْن رَبِيعَة بْن عبد شمس، تزوجها بعد يَزِيد مَرْوَان، وَهِيَ الَّتِي يقول لها الشاعر: انعمي أم خَالِد ... رب ساع لقاعد وعبد اللَّه بن يَزِيدَ، قيل: إنه من أرمى العرب فِي زمانه، وأمه أم كلثوم بنت عَبْد اللَّهِ بن عَامِر، وَهُوَ الأسوار، وله يقول الشاعر: زعم الناس ان خير قريش ... كلهم حين يذكر الأسوار وعبد اللَّه الأصغر، وعمر، وأبو بكر، وعتبة، وحرب، وعبد الرَّحْمَن، والربيع، ومُحَمَّد، لأمهات اولاد شتى

خلافه معاويه بن يزيد

خلافة مُعَاوِيَة بن يَزِيدَ وفي هَذِهِ السنة بويع لمعاوية بْن يَزِيدَ بْن مُعَاوِيَة بْن أَبِي سُفْيَانَ بِالشَّامِ بالخلافة، ولعبد اللَّه بن الزُّبَيْرِ بالحجاز. ولما هلك يَزِيد بن مُعَاوِيَة مكث الحصين بن نمير وأهل الشام يقاتلون ابن الزُّبَيْر وأَصْحَابه بمكة- فِيمَا ذكر هِشَام عن عوانة- أربعين يَوْمًا، قَدْ حصروهم حصارا شديدا، وضيقوا عَلَيْهِم ثُمَّ بلغ موته ابن الزُّبَيْر وأَصْحَابه، ولم يبلغ الحصين بن نمير وأَصْحَابه، فَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ خَالِدِ بْنِ رُسْتُمَ الصَّنْعَانِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ جِيلٍ، قَالَ: بَيْنَا حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ يُقَاتِلُ ابْنَ الزُّبَيْرِ، إِذْ جَاءَ مَوْتُ يَزِيدَ، فَصَاحَ بِهِمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: إِنَّ طَاغِيَتَكُمْ قَدْ هَلَكَ، فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَدْخُلَ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَلْيَفْعَلْ، فَمَنْ كَرِهَ فَلْيَلْحَقْ بِشَامِهِ، فَغَدَوْا عَلَيْهِ يُقَاتِلُونَهُ. قَالَ: فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لِلْحُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ: ادْنُ مِنِّي أُحَدِّثْكَ، فَدَنَا مِنْهُ فَحَدَّثَهُ، فَجَعَلَ فَرَسُ أَحَدِهِمَا يَجْفَلُ- وَالْجَفْلُ: الرَّوَثُ- فَجَاءَ حَمَامُ الْحَرَمِ يَلْتَقِطُ مِنَ الْجَفْلِ، فَكَفَّ الْحُصَيْنُ فَرَسَهُ عَنْهُنَّ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: مَا لَكَ؟ قَالَ: أَخَافُ أَنْ يَقْتُلُ فَرَسِي حَمَامِ الْحَرَمِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزبير: اتتحرج مِنْ هَذَا وَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَ الْمُسْلِمِينَ! فَقَالَ لَهُ: لا أُقَاتِلُكَ، فَأْذَنْ لَنَا نَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَنَنْصَرِفْ عَنْكَ، فَفَعَلَ فَانْصَرَفُوا وَأَمَّا عَوَانَةُ بْنُ الْحَكَمِ فَإِنَّهُ قَالَ- فِيمَا ذَكَرَ هِشَامٌ، عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا بَلَغَ ابْنَ الزُّبَيْرِ مَوْتُ يَزِيدَ- وَأَهْلُ الشَّامِ لا يَعْلَمُونَ بِذَلِكَ، قَدْ حَصَرُوهُ حِصَارًا شَدِيدًا وَضَيَّقُوا عَلَيْهِ- أَخَذَ يُنَادِيهِمْ هُوَ وَأَهْلُ مَكَّةَ: عَلامَ تُقَاتِلُونَ؟ قَدْ هَلَكَ طَاغِيَتُكُمْ، وَأَخَذُوا لا يُصَدِّقُونَهُ حَتَّى قَدِمَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الْمُنَقِّعِ النَّخَعِيُّ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي رُءُوسِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَمَرَّ بِالْحُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ- وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا، وَكَانَ بَيْنَهُمَا صِهْرٌ، وَكَانَ يَرَاهُ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ، فَكَانَ يَعْرِفُ فَضْلَهُ

وَإِسْلامَهُ وَشَرَفَهُ- فَسَأَلَ عَنِ الْخَبَرِ، فَأَخْبَرَهُ بِهَلاكِ يزيد، فبعث الحصين ابن نُمَيْرٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: مَوْعِدٌ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ اللَّيْلَةُ الأَبْطَحَ، فَالْتَقَيَا، فَقَالَ لَهُ الْحُصَيْنُ: إِنْ يَكُ هَذَا الرَّجُلُ قَدْ هَلَكَ فَأَنْتَ أَحَقُّ النَّاسِ بِهَذَا الأَمْرِ، هَلُمَّ فَلْنُبَايِعْكَ، ثُمَّ اخْرُجْ مَعِي إِلَى الشَّامِ، فَإِنَّ هَذَا الْجُنْدَ الَّذِينَ مَعِي هُمْ وُجُوهُ اهل الشام وفرسانهم، فو الله لا يَخْتَلِفُ عَلَيْكَ اثْنَانِ، وَتُؤَمِّنُ النَّاسَ وَتَهْدِرُ هَذِهِ الدِّمَاءَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ، وَالَّتِي كَانَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَهْلِ الْحَرَّةِ، فَكَانَ سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو يَقُولُ: مَا مَنَعَهُ أَنْ يُبَايِعَهُمْ وَيَخْرُجَ إِلَى الشَّامِ إِلا تَطَيُّرٌ، لأَنَّ مَكَّةَ الَّتِي مَنَعَهُ اللَّهُ بِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ جُنْدِ مَرْوَانَ، وَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ وَاللَّهِ لَوْ سَارَ مَعَهُمْ حَتَّى يَدْخُلَ الشَّامَ مَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ مِنْهُمُ اثْنَانِ فَزَعَمَ بَعْضُ قُرَيْشٍ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا أَهْدِرُ تِلَكَ الدِّمَاءَ! أَمَا وَاللَّهِ لا أَرْضَى أَنْ أَقْتُلَ بِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَشَرَةً، وَأَخَذَ الْحُصَيْنُ يُكَلِّمُهُ سِرًّا، وَهُوَ يَجْهَرُ جَهْرًا، وَأَخَذَ يَقُولُ: لا وَاللَّهِ لا أَفْعَلُ، فَقَالَ لَهُ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ: قَبَّحَ اللَّهُ مَنْ يَعُدُّكَ بَعْدَ هَذِهِ دَاهِيًا قَطُّ أَوْ أَدِيبًا! قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ لَكَ رَأْيًا أَلا أَرَانِي أُكَلِّمُكَ سِرًّا وَتُكَلِّمُنِي جَهْرًا، وَأَدْعُوكَ إِلَى الْخِلافَةِ، وَتَعِدُنِي الْقَتْلَ وَالْهَلَكَةَ! ثُمَّ قَامَ فَخَرَجَ وَصَاحَ فِي النَّاسِ، فَأَقْبَلَ فِيهِمْ نَحْوَ الْمَدِينَةِ، وَنَدِمَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى الَّذِي صَنَعَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: أَمَا أَنْ أَسِيرَ إِلَى الشَّامِ فَلَسْتُ فَاعِلا، وَأَكْرَهُ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ، وَلَكِنْ بَايِعُوا لِي هُنَالِكَ فَإِنِّي مُؤَمِّنُكُمْ وَعَادِلٌ فِيكُمْ. فَقَالَ لَهُ الْحُصَيْنُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ تُقْدِمْ بِنَفْسِكَ، وَوَجَدْتُ هُنَالِكَ أُنَاسًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ يَطْلُبُونَهَا يُجِيبُهُمُ النَّاسُ، فَمَا أَنَا صَانِعٌ؟ فَأَقْبَلَ بِأَصْحَابِهِ وَمَنْ مَعَهُ نَحْوَ الْمَدِينَةِ، فَاسْتَقْبَلَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمَعَهُ قَتٌّ وَشَعِيرٌ، وَهُوَ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ، فَسَلَّمَ عَلَى الْحُصَيْنِ، فَلَمْ يَكَدْ يلتفت

إِلَيْهِ، وَمَعَ الْحُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ فَرَسٌ لَهُ عَتِيقٌ، وَقَدْ فَنِيَ قَتُّهُ وَشَعِيرُهُ، فَهُوَ غَرَضٌ، وَهُوَ يَسُبُّ غُلامَهُ وَيَقُولُ: مِنْ أَيْنَ نَجِدُ هُنَا لِدَابَّتِنَا عَلَفًا! فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: هَذَا عَلَفٌ عِنْدَنَا، فَاعْلِفْ مِنْهُ دَابَّتَكَ، فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ عِنْدَ ذَلِكَ بِوَجْهِهِ، فَأَمَرَ له بما كان عِنْدِهِ مِنْ عَلَفٍ، وَاجْتَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْحِجَازِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ فَذُلُّوا حَتَّى كَانَ لا يَنْفَرِدُ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلا أَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّتِهِ ثُمَّ نَكَسَ عَنْهَا، فَكَانُوا يَجْتَمِعُونَ فِي مُعَسْكَرِهِمْ فَلا يَفْتَرِقُونَ. وَقَالَتْ لَهُمْ بَنُو أُمَيَّةَ: لا تَبْرَحُوا حَتَّى تَحْمِلُونَا مَعَكُمْ إِلَى الشَّامِ، فَفَعَلُوا، وَمَضَى ذَلِكَ الْجَيْشُ حَتَّى دَخَلَ الشَّامَ، وَقَدْ أَوْصَى يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بِالْبَيْعَةِ لابْنِهِ معاويه ابن يَزِيدَ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلا ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ حَتَّى مَاتَ. وَقَالَ عَوَانَةُ: اسْتَخْلَفَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ ابْنَهُ مُعَاوِيَةَ بْنَ يَزِيدَ، فَلَمْ يَمْكُثْ إِلا أَرْبَعِينَ يَوْمًا حَتَّى مَاتَ. وَحَدَّثَنِي عُمَرُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: لما استخلف مُعَاوِيَة بن يَزِيدَ وجمع عمال أَبِيهِ، وبويع لَهُ بدمشق، هلك بِهَا بعد أربعين يَوْمًا من ولايته. ويكنى أبا عبد الرَّحْمَن، وَهُوَ أَبُو لَيْلَى، وأمه أم هاشم بنت أبي هاشم ابن عتبة بن رَبِيعَة، وتوفي وَهُوَ ابن ثلاث عشرة سنة وثمانية عشر يَوْمًا. وفي هَذِهِ السنة بايع أهل الْبَصْرَة عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، عَلَى أن يقوم لَهُمْ بأمرهم حَتَّى يصطلح الناس عَلَى إمام يرتضونه لأنفسهم، ثُمَّ أرسل عُبَيْد اللَّهِ رسولا إِلَى الْكُوفَةِ يدعوهم إِلَى مثل الَّذِي فعل من ذَلِكَ أهل الْبَصْرَة، فأبوا عَلَيْهِ، وحصبوا الوالي الَّذِي كَانَ عَلَيْهِم، ثُمَّ خالفه أهل الْبَصْرَة أَيْضًا، فهاجت بِالْبَصْرَةِ فتنة، ولحق عُبَيْد اللَّهِ بن زياد بالشام.

ذكر الخبر عما كان من امر عبيد الله بن زياد وامر اهل البصره معه بها بعد موت يزيد

ذكر الخبر عما كَانَ من أمر عُبَيْد اللَّهِ بن زياد وأمر أهل الْبَصْرَة مَعَهُ بِهَا بعد موت يَزِيد وَحَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سلمة، عن عَلِيّ بن زيد، عن الحسن، قال: كتب الضحاك ابن قيس إِلَى قيس بن الهيثم حين مات يَزِيد بن مُعَاوِيَة: سلام عَلَيْك، أَمَّا بَعْدُ، فإن يَزِيد بن مُعَاوِيَة قَدْ مات، وَأَنْتُمْ إخواننا، فلا تسبقونا بشيء حَتَّى نختار لأنفسنا. حدثني عمر، قَالَ: حَدَّثَنَا زهير بن حرب، قَالَ: حَدَّثَنَا وهب بن حماد، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن أبي عيينة، قَالَ: حَدَّثَنِي شهرك، قَالَ: شهدت عُبَيْد اللَّهِ بن زياد حين مات يَزِيد بن مُعَاوِيَة قام خطيبا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: يَا أهل البصره، انسبوني، فو الله لتجدن مهاجر والدي ومولدي فيكم، وداري، وَلَقَدْ وليتكم وما أحصى ديوان مقاتلتكم إلا سبعين ألف مقاتل وَلَقَدْ أحصى الْيَوْم ديوان مقاتلتكم ثمانين ألفا، وما أحصى ديوان عمالكم إلا تسعين ألفا، وَلَقَدْ أحصي الْيَوْم مائة وأربعين ألفا، وما تركت لكم ذا ظنة أخافه عَلَيْكُمْ إلا وَهُوَ فِي سجنكم هَذَا وإن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ يَزِيد بن مُعَاوِيَة قَدْ توفي، وَقَدِ اختلف أهل الشام، وَأَنْتُمُ الْيَوْم أكثر الناس عددا، وأعرضه فناء، وأغناه عن الناس، وأوسعه بلادا، فاختاروا لأنفسكم رجلا ترتضونه لدينكم وجماعتكم، فأنا أول راض من رضيتموه وتابع، فإن اجتمع أهل الشام عَلَى رجل ترتضونه، دخلتم فِيمَا دخل فِيهِ الْمُسْلِمُونَ، وإن كرهتم ذَلِكَ كنتم عَلَى جديلتكم حَتَّى تعطوا حاجتكم، فما بكم إِلَى أحد من أهل البلدان حاجة، وما يستغني الناس عنكم

فقامت خطباء أهل الْبَصْرَة فَقَالُوا: قَدْ سمعنا مقالتك أيها الأمير، وإنا وَاللَّهِ مَا نعلم أحدا أقوى عَلَيْهَا مِنْكَ، فهلم فلنبايعك، فَقَالَ: لا حاجة لي فِي ذَلِكَ، فاختاروا لأنفسكم، فأبوا عَلَيْهِ، وأبى عَلَيْهِم، حَتَّى كرروا ذَلِكَ عَلَيْهِ ثلاث مرات، فلما أبوا بسط يده فبايعوه، ثُمَّ انصرفوا بعد البيعة وهم يقولون: لا يظن ابن مرجانة أنا نستقاد لَهُ فِي الجماعة والفرقة، كذب وَاللَّهِ! ثُمَّ وثبوا عَلَيْهِ. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ زهير: قَالَ: حَدَّثَنَا وهب، قال وحدثنا الأسود ابن شيبان، عن خَالِد بن سمير، أن شقيق بن ثور ومالك بن مسمع وحضين ابن المنذر أتوا عُبَيْد اللَّهِ ليلا وَهُوَ فِي دار الإمارة، فبلغ ذَلِكَ رجلا من الحي من بني سدوس، قَالَ: فانطلقت فلزمت دار الإمارة، فلبثوا مَعَهُ حَتَّى مضى عَلَيْهِ الليل، ثُمَّ خرجوا ومعهم بغل موقر مالا، قَالَ: فأتيت حضينا فقلت: مر لي من هَذَا المال بشيء، فَقَالَ: عَلَيْك ببني عمك، فأتيت شقيقا فقلت: مر لي من هَذَا المال بشيء- قَالَ: وعلى المال مولى لَهُ يقال لَهُ: أيوب- فَقَالَ: يَا أيوب، أعطه مائة درهم، قلت: أما مائة درهم وَاللَّهِ لا أقبلها، فسكت عني ساعة، وسار هنيهة، فأقبلت عَلَيْهِ فقلت: مر لي من هَذَا المال بشيء، فَقَالَ: يَا أيوب، أعطه مائتي درهم، قلت: لا اقبل والله مائتين، ثم امر بثلاثمائة ثم أربعمائة، فلما انتهينا إِلَى الطفاوة قلت: مر لي بشيء، قَالَ: أرأيت إن لم أفعل مَا أنت صانع؟ قلت: أنطلق وَاللَّهِ حَتَّى إذا توسطت دور الحي وضعت إصبعي فِي أذني، ثُمَّ صرخت بأعلى صوتي: يَا معشر بكر بن وائل، هَذَا شقيق بن ثور وحضين بن المنذر ومالك بن المسمع، قَدِ انطلقوا إِلَى ابن زياد، فاختلفوا فِي دمائكم، قَالَ: مَا لَهُ فعل اللَّه بِهِ وفعل! ويلك أعطه خمسمائة درهم، قَالَ: فأخذتها ثُمَّ صبحت غاديا عَلَى مالك- قَالَ وهب: فلم أحفظ مَا أمر له به مالك- قال:

ثم رايت حضينا فدخلت عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا صنع ابن عمك؟ فأخبرته وقلت: أعطني من هَذَا المال، فَقَالَ: إنا قَدْ أخذنا هَذَا المال ونجونا بِهِ، فلن نخشى مِنَ النَّاسِ شَيْئًا، فلم يعطني شَيْئًا. قَالَ أَبُو جَعْفَر: وَحَدَّثَنِي أَبُو عبيدة معمر بن المثنى أن يونس بن حبيب الجرمي حدثه، قَالَ: لما قتل عُبَيْد اللَّهِ بن زياد الحسين بن على ع وبني أَبِيهِ، بعث برءوسهم إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فسر بقتلهم أولا، وحسنت بِذَلِكَ منزلة عُبَيْد اللَّهِ عنده، ثُمَّ لم يلبث إلا قليلا حَتَّى ندم عَلَى قتل الْحُسَيْن، فكان يقول: وما كَانَ علي لو احتملت الأذى وأنزلته معي فِي داري، وحكمته فِيمَا يريد، وإن كَانَ علي فِي ذَلِكَ وكف ووهن في سلطاني، حفظا لرسول الله ص ورعاية لحقه وقرابته! لعن اللَّه ابن مرجانة، فإنه أخرجه واضطره، وَقَدْ كَانَ سأله أن يخلي سبيله ويرجع فلم يفعل، أو يضع يده فِي يدي، أو يلحق بثغر من ثغور الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يتوفاه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فلم يفعل، فأبى ذَلِكَ ورده عَلَيْهِ وقتله، فبغضنى بقتله الى المسلمين، وزرع لي في قلوبهم العداوة، فبغضني البر والفاجر، بِمَا استعظم الناس من قتلي حسينا، مَا لي ولابن مرجانة لعنه اللَّه وغضب عَلَيْهِ! ثُمَّ إن عبيد الله بعث مولى يقال لَهُ أيوب بن حمران إِلَى الشام ليأتيه بخبر يَزِيد، فركب عُبَيْد اللَّهِ ذات يوم حَتَّى إذا كَانَ فِي رحبة القصابين، إذا هُوَ بأيوب بن حمران قَدْ قدم، فلحقه فأسر إِلَيْهِ موت يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فرجع عُبَيْد اللَّهِ من مسيره ذَلِكَ فأتى منزله، وأمر عَبْد اللَّهِ بن حصن أحد بني ثعلبة بن يربوع فنادى: الصَّلاة جامعة. قَالَ أَبُو عبيدة: وأما عمير بن معن الكاتب، فَحَدَّثَنِي قَالَ: الَّذِي بعثه عُبَيْد اللَّهِ، حمران مولاه، فعاد عُبَيْد اللَّهِ عَبْد اللَّهِ بن نافع أخي زياد لأمه، ثُمَّ خرج عُبَيْد اللَّهِ ماشيا من خوخة كَانَتْ فِي دار نافع إِلَى الْمَسْجِدِ، فلما كَانَ فِي صحنه إذا هُوَ بمولاه حمران أدنى ظلمة عِنْدَ المساء- وَكَانَ حمران رسول عُبَيْد اللَّهِ بن زياد إِلَى مُعَاوِيَةَ حياته وإلى يَزِيد- فلما رآه ولم يكن آن

لَهُ أن يقدم- قَالَ: مهيم! قَالَ: خير، قَالَ: وما وراءك؟ قَالَ: أدنو مِنْكَ؟ قَالَ: نعم- وأسر إِلَيْهِ موت يَزِيد واختلاف أمر الناس بِالشَّامِ، وَكَانَ يَزِيد مات يوم الخميس للنصف من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين- فأقبل عُبَيْد اللَّهِ من فوره، فأمر مناديا فنادى: الصَّلاة جامعة، فلما اجتمع الناس صعد الْمِنْبَر فنعى يَزِيد، وعرض بثلبه لقصد يَزِيد إِيَّاهُ قبل موته حَتَّى يخافه عُبَيْد اللَّهِ، فَقَالَ الأحنف لعبيد اللَّه: إنه قَدْ كَانَتْ ليزيد فِي أعناقنا بيعة، وَكَانَ يقال: أعرض عن ذي فنن، فأعرض عنه، ثُمَّ قام عُبَيْد اللَّهِ يذكر اختلاف أهل الشام، وَقَالَ: إني قَدْ وليتكم ثُمَّ ذكر نحو حديث عُمَر بن شَبَّةَ، عن زهير بن حرب إِلَى: فبايعوه عن رضا مِنْهُمْ ومشورة. ثُمَّ قَالَ: فلما خرجوا من عنده جعلوا يمسحون أكفهم بباب الدار وحيطانه، ويقولون: ظن ابن مرجانة أنا نوليه أمرنا فِي الفرقة! قَالَ: فأقام عُبَيْد اللَّهِ أميرا غير كثير حَتَّى جعل سلطانه يضعف، ويأمرنا بالأمر فلا يقضى، ويرى الرأي فيرد عَلَيْهِ، ويأمر بحبس المخطئ فيحال بين أعوانه وبينه. قَالَ أَبُو عبيدة: فسمعت غيلان بن مُحَمَّد يحدث عن عُثْمَان البتي، قَالَ: حَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن جوشن، قَالَ: تبعت جنازة فلما كَانَ فِي سوق الإبل إذا رجل عَلَى فرس شهباء متقنع بسلاح وفي يده لواء، وَهُوَ يقول: أَيُّهَا النَّاسُ، هلموا إلي أدعكم إِلَى مَا لم يدعكم إِلَيْهِ أحد، أدعوكم إِلَى العائذ بالحرم- يعني عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ قَالَ: فتجمع إِلَيْهِ نويس، فجعلوا يصفقون عَلَى يديه، ومضينا حَتَّى صلينا عَلَى الجنازة، فلما رجعنا إذا هُوَ قَدِ انضم إِلَيْهِ أكثر من الأولين، ثُمَّ أخذ بين دار قيس بن الهيثم بن أسماء بن الصلت السلمي ودار الحارثيين قبل بني تميم فِي الطريق الَّذِي يأخذ عَلَيْهِم، فَقَالَ: أَلا من أرادني فأنا سلمة بن ذؤيب- وَهُوَ سلمة بن ذؤيب بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ محكم بن زَيْد بن رياح بن يربوع بن حنظلة- قَالَ: فلقيني عبد الرَّحْمَن بن بكر عِنْدَ الرحبة،

فأخبرته بخبر سلمة بعد رجوعي، فأتى عبد الرَّحْمَن عُبَيْد اللَّهِ فحدثه بالحديث عني، فبعث إلي، فأتيته، فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي خبر بِهِ عنك أَبُو بحر؟ قَالَ: فاقتصصت عَلَيْهِ القصة حَتَّى أتيت عَلَى آخرها، فأمر فنودي عَلَى المكان: الصَّلاة جامعة، فتجمع الناس، فأنشأ عبيد الله يقص أمره وأمرهم، وما قَدْ كَانَ دعاهم إِلَى من يرتضونه، فيبايعه معهم، وإنكم أبيتم غيري، وإنه بلغني أنكم مسحتم أكفكم بالحيطان وباب الدار، وقلتم مَا قلتم، وإني آمر بالأمر فلا ينفذ، ويرد علي رأيي، وتحول القبائل بين أعواني وطلبتي، ثُمَّ هَذَا سلمة بن ذؤيب يدعو إِلَى الخلاف عَلَيْكُمْ، إرادة أن يفرق جماعتكم، ويضرب بعضكم جباه بعض بالسيف فقال الأحنف صخر بن قيس ابن مُعَاوِيَة بن حصين بن عبادة بن النزال بن مُرَّةَ بن عبيد بن الْحَارِث بن عَمْرو بن كعب بن سَعْدِ بْنِ زَيْد مناة بن تميم، والناس جميعا: نحن نأتيك بسلمة، فأتوا سلمة، فإذا جمعه قَدْ كثف، وإذا الفتق قَدِ اتسع عَلَى الراتق، وامتنع عَلَيْهِم، فلما رأوا ذَلِكَ قعدوا عن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد فلم يأتوه. قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي غير واحد، عن سبرة بن الجارود الْهُذَلِيّ، عَنْ أَبِيهِ الجارود، قَالَ: وَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ فِي خطبته: يَا أهل الْبَصْرَة، وَاللَّهِ لقد لبسنا الخز واليمنة واللين من الثياب حَتَّى لقد أجمنا ذَلِكَ وأجمته جلودنا، فما بنا إِلَى أن نعقبها الحديد! يَا أهل الْبَصْرَة، وَاللَّهِ لو اجتمعتم عَلَى ذنب عير لتكسروه ما كسرتموه قال الجارود: فو الله مَا رمي بجماح حَتَّى هرب، فتوارى عِنْدَ مسعود فلما قتل مسعود لحق بِالشَّامِ. قَالَ يونس: وَكَانَ فِي بيت مال عُبَيْد اللَّهِ يوم خطب الناس قبل خروج سلمة ثمانية آلاف ألف أو أقل- وَقَالَ عَلِيّ بن مُحَمَّد: تسعة عشر ألف

الف- فقال للناس: ان هذا فيئكم، فخذوا أعطياتكم وأرزاق ذراريكم مِنْهُ، وأمر الكتبة بتحصيل الناس وتخريج الأسماء، واستعجل الكتاب فِي ذَلِكَ حَتَّى وكل بهم من يحبسهم بالليل فِي الديوان، وأسرجوا بالشمع. قَالَ: فلما صنعوا مَا صنعوا وقعدوا عنه، وَكَانَ من خلاف سلمة عَلَيْهِ مَا كَانَ، كف عن ذَلِكَ، ونقلها حين هرب، فهي إِلَى الْيَوْم تردد فِي آل زياد، فيكون فِيهِمُ العرس أو المأتم فلا يرى فِي قريش مثلهم، وَلا فِي قريش أحسن مِنْهُمْ فِي الغضارة والكسوة فدعا عُبَيْد اللَّهِ رؤساء خاصة السلطان، فأرادهم أن يقاتلوا مَعَهُ، فَقَالُوا: إن أمرنا قوادنا قاتلنا معك، فَقَالَ إخوة عُبَيْد اللَّهِ لعبيد اللَّه: وَاللَّهِ مَا من خليفة فتقاتل عنه فإن هزمت فئت إِلَيْهِ وإن استمددته أمدك، وَقَدْ علمت أن الحرب دول، فلا ندري لعلها تدول عَلَيْك، وَقَدِ اتخذنا بين أظهر هَؤُلاءِ القوم أموالا، فإن ظفروا أهلكونا وأهلكوها، فلم تبق لك باقية وَقَالَ لَهُ أخوه عَبْد اللَّهِ لأبيه وأمه مرجانة: وَاللَّهِ لَئِنْ قاتلت القوم لأعتمدن عَلَى ظبة السيف حَتَّى يخرج من صلبي فلما رَأَى ذَلِكَ عُبَيْد اللَّهِ أرسل إِلَى حارث بن قيس بن صهبان بن عون بن علاج بن مازن بن أسود بن جهضم بن جذيمة بن مالك بن فهم، فَقَالَ لَهُ: يَا حار، إن أبي كَانَ أوصاني إن احتجت إِلَى الهرب يَوْمًا أن اختاركم، وإن نفسي تأبى غيركم، فَقَالَ الْحَارِث: قَدْ أبلوك فِي أبيك ما قد علمت، وابلوه فلم يجدوا عنده وَلا عندك مكافأة، وما لك مرد إذا اخترتنا، وما أدري كيف أتاني لك إن أخرجتك نهارا! إني أخاف أَلا أصل بك إِلَى قومي حَتَّى تقتل وأقتل، ولكني أقيم معك حَتَّى إذا وارى دمس دمسا وهدأت القدم، ردفت خلفي لئلا تعرف، ثُمَّ أخذتك عَلَى أخوالي بني ناجية،

قَالَ عُبَيْد اللَّهِ: نعم مَا رأيت، فأقام حتى إذا قيل: أخوك أم الذئب، حمله خلفه، وَقَدْ نقل تِلَكَ الأموال فأحرزها، ثُمَّ انطلق بِهِ يمر بِهِ عَلَى الناس، وكانوا يتحارسون مخافة الحرورية فيسأل عُبَيْد اللَّهِ أين نحن؟ فيخبره، فلما كَانُوا فِي بني سليم قَالَ عُبَيْد اللَّهِ: أين نحن؟ قَالَ: فِي بني سليم، قَالَ: سلمنا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فلما أتى بني ناجيه قال: اين نحن؟ قال: في بني ناجية، قَالَ: نجونا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فقال بنو ناجية: من أنت؟ قَالَ: الْحَارِث بن قيس، قَالُوا: ابن أختكم، وعرف رجل مِنْهُمْ عُبَيْد اللَّهِ فَقَالَ: ابن مرجانة! فأرسل سهما فوقع فِي عمامته، ومضى بِهِ الْحَارِث حَتَّى ينزله دار نفسه فِي الجهاضم، ثُمَّ مضى إِلَى مسعود بن عَمْرو بن عدي بن محارب بن صنيم بن مليح بن شرطان بن معن بن مالك بن فهم، فَقَالَتِ الأزد ومُحَمَّد بن أبي عيينة، فلما رآه مسعود قَالَ: يَا حار، قَدْ كَانَ يتعوذ من سوء طوارق الليل، فنعوذ بِاللَّهِ من شر مَا طرقتنا بِهِ، قَالَ الْحَارِث: لم أطرقك إلا بخير، وَقَدْ علمت أن قومك قَدْ أنجوا زيادا فوفوا لَهُ، فصارت لَهُمْ مكرمة فِي العرب يفتخرون بِهَا عَلَيْهِم، وَقَدْ بايعتم عُبَيْد اللَّهِ بيعة الرضا، رضا عن مشورة، وبيعة أخرى قَدْ كَانَتْ فِي أعناقكم قبل البيعة- يعني بيعة الجماعة- فَقَالَ لَهُ مسعود: يَا حار، أترى لنا أن نعادي أهل مصرنا فِي عُبَيْد اللَّهِ، وَقَدْ أبلينا فِي أَبِيهِ مَا أبلينا، ثُمَّ لم نكافأ عَلَيْهِ، ولم نشكر! مَا كنت أحسب أن هَذَا من رأيك، قَالَ الْحَارِث: إنه لا يعاديك أحد عَلَى الوفاء ببيعتك حَتَّى تبلغه مأمنه. قَالَ أَبُو جَعْفَر: وأما عمر فَحَدَّثَنِي قَالَ: حَدَّثَنِي زهير بن حرب، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبي، عن الزُّبَيْر بن الخريت، عن أبي لبيد الجهضمي، عن الْحَارِث بن قيس، قَالَ: عرض نفسه- يعني عُبَيْد اللَّهِ بن زياد- علي، فَقَالَ: أما وَاللَّهِ إني لأعرف سوء رأي كَانَ فِي قومك، قال: فوقفت لَهُ، فأردفته عَلَى بغلتي- وَذَلِكَ ليلا- فأخذت عَلَى بني سليم، فَقَالَ: من هَؤُلاءِ؟ قلت: بنو سليم، قَالَ: سلمنا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ مررنا ببني ناجية وهم جلوس ومعهم السلاح- وَكَانَ الناس

يتحارسون إذ ذاك فِي مجالسهم- فَقَالُوا: من هَذَا؟ قلت: الْحَارِث بن قيس، قَالُوا: امض راشدا، فلما مضينا قَالَ رجل مِنْهُمْ: هَذَا وَاللَّهِ ابن مرجانة خلفه، فرماه بسهم، فوضعه فِي كور عمامته، فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّد، من هَؤُلاءِ؟ قَالَ: الَّذِينَ كنت تزعم أَنَّهُمْ من قريش، هَؤُلاءِ بنو ناجية، قَالَ: نجونا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا حارث، إنك قَدْ أحسنت وأجملت، فهل أنت صانع ما أشير عَلَيْك؟ قَدْ علمت منزلة مسعود بن عَمْرو فِي قومه وشرفه وسنه وطاعة قومه لَهُ، فهل لك أن تذهب بي إِلَيْهِ فأكون فِي داره، فهي وسط الأزد، فإنك إن لم تفعل صدع عَلَيْك أمر قومك، قلت: نعم، فانطلقت بِهِ، فما شعر مسعود بشيء حَتَّى دخلنا عَلَيْهِ وَهُوَ جالس ليلتئذ يوقد بقضيب عَلَى لبنة، وَهُوَ يعالج خفيه قَدْ خلع أحدهما وبقي الآخر، فلما نظر فِي وجوهنا عرفنا وَقَالَ: إنه كَانَ يتعوذ من طوارق السوء، فقلت لَهُ: أفتخرجه بعد ما دخل عَلَيْك بيتك! قَالَ: فأمره فدخل بيت عبد الغافر بن مسعود- وامرأة عبد الغافر يَوْمَئِذٍ خيرة بنت خفاف بن عَمْرو- قَالَ: ثُمَّ ركب مسعود من ليلته وَمَعَهُ الْحَارِث وجماعة من قومه، فطافوا فِي الأزد ومجالسهم، فَقَالُوا: إن ابن زياد قَدْ فقد، وإنا لا نأمن أن تلطخوا بِهِ، فأصبحوا فِي السلاح، وفقد الناس ابن زياد فَقَالُوا: أين توجه؟ فَقَالُوا: مَا هُوَ إلا فِي الأزد. قَالَ وهب: فحدثنا أَبُو بَكْر بن الفضل، عن قبيصة بن مروان انهم جعلوا يقولون: أين ترونه توجه؟ فَقَالَتْ عجوز من بني عقيل: أين ترونه توجه! اندحس وَاللَّهِ فِي أجمة أَبِيهِ. وكانت وفاة يَزِيد حين جاءت ابن زياد وفي بيوت مال الْبَصْرَة ستة عشر ألف ألف، ففرق ابن زياد طائفة منها فِي بني أَبِيهِ، وحمل الباقي مَعَهُ، وَقَدْ كَانَ دعا البخارية إِلَى القتال مَعَهُ، ودعا بني زياد إِلَى ذَلِكَ فأبوا عَلَيْهِ. حدثني عمر، قَالَ: حَدَّثَنِي زهير بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بْنُ شَيْبَانَ، عن عَبْد اللَّهِ بن جرير المازني، قَالَ: بعث إلي شقيق بن ثور فَقَالَ لي: إنه قَدْ بلغني أن ابن منجوف هَذَا وابن مسمع يدلجان بالليل إِلَى دار

مسعود ليردا ابن زياد إِلَى الدار ليصلوا بين هذين الغارين، فيهريقوا دماءكم، ويعزوا أنفسهم، وَلَقَدْ هممت أن أبعث إِلَى ابن منجوف فأشده وثاقا، وأخرجه عنى، فاذهب الى مسعود فاقرا ع مني، وَقل لَهُ: إن ابن منجوف وابن مسمع يفعلان كذا وكذا، فأخرج هَذَيْنِ الرجلين عنك قَالَ: وَكَانَ مَعَهُ عُبَيْد اللَّهِ وعبد اللَّه ابنا زياد قَالَ: فدخلت عَلَى مسعود وابنا زياد عنده: أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، فقلت: السلام عَلَيْك أبا قيس، قَالَ: وعليك السلام، قلت: بعثني إليك شقيق بن ثور يقرأ عَلَيْك السلام ويقول لك: إنه بلغني، فرد الكلام بعينه إلي فأخرجهما عنك، قال مسعود: والله فعلت ذاك، فقال عبيد اللَّهِ: كيف أبا ثور- ونسي كنيته، إنما كان يكنى أبا الفضل- فَقَالَ أخوه عَبْد اللَّهِ: إنا وَاللَّهِ لا نخرج عنكم، قَدْ أجرتمونا، وعقدتم لنا ذمتكم، فلا نخرج حَتَّى نقتل بين أظهركم، فيكون عارا عَلَيْكُمْ إِلَى يوم الْقِيَامَة. قَالَ وهب: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بن الخريت، عن أبي لبيد، أن أهل الْبَصْرَة اجتمعوا فقلدوا أمرهم النُّعْمَان بن صهبان الراسبي ورجلا من مضر ليختارا لَهُمْ رجلا فيولوه عَلَيْهِم، وَقَالُوا: من رضيتما لنا فقد رضيناه وَقَالَ غير أبي لبيد: الرجل المضري قيس بن الهيثم السلمي قَالَ أَبُو لبيد: ورأي المضري فِي بني أُمَيَّة، ورأي النُّعْمَان فِي بني هاشم، فَقَالَ النُّعْمَان: مَا أَرَى أحدا أحق بهذا الأمر من فلان- لرجل من بني أُمَيَّة- قَالَ: وَذَلِكَ رأيك؟ قَالَ: نعم، قَالَ: قَدْ قلدتك أمري، ورضيت من رضيت ثُمَّ خرجا إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ المضري: قَدْ رضيت من رضي النُّعْمَان، فمن سمى لكم فأنا بِهِ راض، فَقَالُوا للنعمان: مَا تقول! فَقَالَ: مَا أَرَى أحدا غير عبد الله ابن الْحَارِث- وَهُوَ ببة- فَقَالَ المضري: مَا هَذَا الَّذِي سميت لي؟ قَالَ: بلى، لعمري إنه لهو، فرضي الناس بعبد اللَّه وبايعوه. قَالَ أَصْحَابنا: دعت مضر إِلَى العباس بن الأَسْوَدِ بْنِ عوف الزُّهْرِيّ، ابن أخي عبد الرَّحْمَن بن عوف، ودعت اليمن إِلَى عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث بن نوفل، فتراضى الناس إن حكموا قيس بن الهيثم والنعمان بن صهبان الراسبي لينظرا فِي أمر الرجلين، فاتفق

رأيهما على أن يوليا المضري الهاشمي إِلَى أن يجتمع أمر الناس عَلَى إمام، فقيل فِي ذَلِكَ: نزعنا وولينا وبكر بن وائل ... تجر خصاها تبتغي من تحالف فلما أمروا ببة عَلَى الْبَصْرَة ولى شرطته هميان بن عدي السدوسي. قَالَ أَبُو جَعْفَر: وأما أَبُو عبيدة فإنه- فِيمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن علي، عن أبي سعدان، عنه- قص من خبر مسعود وعبيد اللَّه بن زياد وأخيه غير القصة الَّتِي قصها وهب بن جرير، عمن روى عَنْهُمْ خبرهم، قال: حدثنى مسلمه ابن محارب بن سلم بن زياد وغيره من آل زياد، عمن أدرك ذَلِكَ مِنْهُمْ ومن مواليهم والقوم أعلم بحديثهم، أن الْحَارِث بن قيس لم يكلم مسعودا، ولكنه آمن عُبَيْد اللَّهِ، فحمل مَعَهُ مائة ألف درهم، ثُمَّ أتى بِهَا إِلَى أم بسطام امرأة مسعود، وَهِيَ بنت عمه، وَمَعَهُ عُبَيْد اللَّهِ وعبد اللَّه ابنا زياد، فاستأذن عَلَيْهَا، فأذنت لَهُ، فَقَالَ لها الْحَارِث: قَدْ أتيتك بأمر تسودين بِهِ نساءك وتتمين بِهِ شرف قومك، وتعجلين غنى ودنيا لك خاصة، هَذِهِ مائة ألف درهم فاقبضيها، فهي لك، وضمي عُبَيْد اللَّهِ قالت، إني أخاف أَلا يرضى مسعود بِذَلِكَ وَلا يقبله، فَقَالَ الْحَارِث: ألبسيه ثوبا من أثوابي، وأدخليه بيتك، وخلي بيننا وبين مسعود، فقبضت المال، وفعلت، فلما جَاءَ مسعود أخبرته، فأخذ برأسها، فخرج عُبَيْد اللَّهِ والحارث من حجلتها عَلَيْهِ، فَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ: قَدْ أجارتني ابنة عمك عَلَيْك، وهذا ثوبك علي، وطعامك فِي بطني، وَقَدِ التف علي بيتك، وشهد لَهُ عَلَى ذَلِكَ الْحَارِث، وتلطفا لَهُ حَتَّى رضي. قَالَ أَبُو عبيدة: وأعطى عُبَيْد اللَّهِ الْحَارِث نحوا من خمسين ألفا، فلم يزل عُبَيْد اللَّهِ فِي بيت مسعود حَتَّى قتل مسعود، قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي يَزِيد بن سمير الجرمي، عن سوار بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيد الجرمي، قَالَ: فلما هرب عُبَيْد اللَّهِ غبر أهل الْبَصْرَة بغير أَمِير، فاختلفوا فيمن يؤمرون عَلَيْهِم، ثُمَّ تراضوا برجلين يختاران لَهُمْ خيرة، فيرضون بِهَا إذا اجتمعا عَلَيْهَا، فتراضوا بقيس بن الهيثم السلمي، وبنعمان بن سفيان الراسبى- راسب بن جرم

ابن ربان بن حلوان بن عِمْرَان بن الحاف بن قضاعة- أن يختارا من يرضيان لَهُمْ، فذكرا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِث بْن عبد المطلب- وأمه هند بنت أبي سُفْيَان بن حرب بن أُمَيَّة- وكان يلقب ببه، وهو جد سليمان ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِث، وذكرا عَبْد اللَّهِ بن الأَسْوَدِ الزُّهْرِيّ فلما أطبقا عليهما اتعدا المربد، وواعدا الناس أن تجتمع آراؤهم عَلَى أحد هَذَيْنِ. قَالَ: فحضر الناس، وحضرت معهم قارعه المربد، اى اعلاه، فجاء قيس ابن الهيثم، ثُمَّ جَاءَ النُّعْمَان بعد، فتجاول قيس والنعمان، فأرى النُّعْمَان قيسا أن هواه فِي ابن الأسود، ثُمَّ قَالَ: إنا لا نستطيع أن نتكلم معا، وأراده أن يجعل الكلام إِلَيْهِ، ففعل قيس وَقَدِ اعتقد أحدهما عَلَى الآخر، فأخذ النُّعْمَان عَلَى الناس عهدا ليرضون بِمَا يختار قَالَ: ثُمَّ أتى النُّعْمَان عَبْد الله ابن الأَسْوَدِ فأخذ بيده، وجعل يشترط عَلَيْهِ شرائط حَتَّى ظن الناس أنه مبايعه، ثُمَّ تركه، وأخذ بيد عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث، فاشترط عَلَيْهِ مثل ذَلِكَ، ثُمَّ حمد اللَّه تعالى واثنى عليه، وذكر النبي ص وحق أهل بيته وقرابته، ثُمَّ قَالَ: يا أيها الناس، مَا تنقمون من رجل من بنى عم نبيكم ص، وأمه هند بنت أبي سُفْيَان! فإن كَانَ فِيهِمْ فهو ابن أختكم، ثُمَّ صفق عَلَى يده وَقَالَ: أَلا إني قَدْ رضيت لكم بِهِ، فنادوا: قَدْ رضينا، فأقبلوا بعبد اللَّه بن الْحَارِث إِلَى دار الإمارة حَتَّى نزلها، وَذَلِكَ فِي أول جمادى الآخرة سنة أربع وستين، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى شرطته هيمان بن عدي السدوسي، ونادى فِي الناس: أن احضروا البيعة، فحضروا فبايعوه، فَقَالَ الفرزدق حين بايعه: وبايعت أقواما وفيت بعهدهم ... وبَبَّة قَدْ بايعته غير نادم قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي زهير بن هنيد، عن عَمْرو بن عِيسَى، قَالَ: كَانَ منزل مالك بن مسمع الجحدري فِي الباطنة عِنْدَ باب عَبْد اللَّهِ الإصبهاني فِي خط بنى جحدر، الَّذِي عِنْدَ مسجد الجامع، فكان مالك يحضر المسجد، فبينا هُوَ قاعد فِيهِ- وَذَلِكَ بعد يسير من أمر ببة- وافى الحلقة

رجل من ولد عَبْد اللَّهِ عَامِر بن كريز القرشي يريد ببة، وَمَعَهُ رسالة من عبد الله ابن خازم، وبيعته بهراة، فتنازعوا، فأغلظ القرشي لمالك، فلطم رجل من بكر بن وائل القرشي، فتهايج من ثُمَّ من مضر وربيعة، وكثرتهم رَبِيعَة الَّذِينَ فِي الحلقة، فنادى رجل: يال تميم! فسمعت الدعوة عصبه من ضبة ابن أد- كَانُوا عِنْدَ القاضي- فأخذوا رماح حرس من المسجد وترستهم، ثُمَّ شدوا عَلَى الربعيين فهزموهم، وبلغ ذَلِكَ شقيق بن ثور السدوسي- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ رئيس بكر بن وائل- فأقبل إِلَى الْمَسْجِدِ فَقَالَ: لا تجدن مضريا إلا قتلتموه، فبلغ ذَلِكَ مالك بن مسمع، فأقبل متفضلا يسكن الناس، فكف بعضهم عن بعض، فمكث الناس شهرا أو أقل، وَكَانَ رجل من بني يشكر يجالس رجلا من بني ضبة فِي المسجد، فتذاكرا لطمة البكري القرشي، ففخر اليشكري قال: ثم قال: ذهبت ظلفا فأحفظ الضبي بِذَلِكَ، فوجأ عنقه، فوقذه الناس فِي الجمعة، فحمل إِلَى أهله ميتا- أعني اليشكري- فثارت بكر إِلَى رأسهم أشيم بن شقيق، فَقَالُوا: سر بنا، فَقَالَ: بل أبعث إِلَيْهِم رسولا، فإن سيبوا لنا حقنا وإلا سرنا إِلَيْهِم، فأبت ذَلِكَ بكر، فأتوا مالك بن مسمع- وَقَدْ كَانَ قبل ذَلِكَ مملكا عليهم قبل اشيم، فغلب اشيم على الرياسة حين شخص أشيم إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فكتب لَهُ إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد أن ردوا الرياسة إِلَى أشيم، فأبت اللهازم، وهم بنو قيس بن ثعلبة وحلفاؤهم عنزة وشيع اللات وحلفاؤها عجل حتى توافوهم وآل ذهل بن شيبان وحلفاؤها يشكر، وذهل بن ثعلبة وحلفاؤها ضبيعة بن رَبِيعَة بن نزار، أربع قبائل وأربع قبائل، وَكَانَ هَذَا الحلف فِي أهل الوبر فِي الْجَاهِلِيَّة، فكانت حنيفة بقيت من قبائل بكر لم تكن دخلت فِي الْجَاهِلِيَّة فِي هَذَا الحلف، لأنهم أهل مدر، فدخلوا فِي الإِسْلام مع أخيهم عجل، فصاروا لهزمة، ثُمَّ تراضوا بحكم عِمْرَان بن عصام العنزي أحد بني هميم، وردها إِلَى أشيم، فلما كَانَتْ هَذِهِ الْفِتْنَة استخفت بكر مالك بن مسمع، فخف وجمع وأعد،

فطلب إِلَى الأزد أن يجددوا الحلف الَّذِي كَانَ بينهم قبل ذَلِكَ فِي الجماعة عَلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فَقَالَ حَارِثَة بن بدر فِي ذَلِكَ: نزعنا وأمرنا وبكر بن وائل ... تجر خصاها تبتغي من تحالف وما بات بكريّ من الدهر ليلة ... فيصبح إلا وَهْوَ للذل عارف قَالَ: فبلغ عُبَيْد اللَّهِ الخبر- وَهُوَ فِي رحل مسعود- من تباعد مَا بين بكر وتميم، فَقَالَ لمسعود: الق مالكا فجدد الحلف الأول، فلقيه، فترادا ذَلِكَ، وتأبى عليهما نفر من هَؤُلاءِ وأولئك، فبعث عُبَيْد اللَّهِ أخاه عَبْد اللَّهِ مع مسعود، فأعطاه جزيلا من المال، حَتَّى أنفق فِي ذَلِكَ أكثر من مائتي ألف درهم عَلَى أن يبايعوهما، وَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ لأخيه: استوثق من القوم لأهل اليمن، فجددوا الحلف وكتبوا بينهم كتابا سوى الكتابين اللذين كانا كتبا بينهما فِي الجماعة، فوضعوا كتابا عِنْدَ مسعود بن عَمْرو. قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي بعض ولد مسعود، أن أول تسمية من فِيهِ، الصلت بن حريث بن جابر الحنفي، ووضعوا كتابا عِنْدَ الصلت بن حريث أول تسميته ابن رجاء العوذي، من عوذ بن سود، وَقَدْ كَانَ بينهم قبل هَذَا حلف. قَالَ أَبُو عبيدة: وزعم مُحَمَّد بن حفص ويونس بن حبيب وهبيرة بن حدير وزهير بن هنيد، أن مضر كَانَتْ تكثر رَبِيعَة بِالْبَصْرَةِ، وكانت جماعة الأزد آخر من نزل بِالْبَصْرَةِ، كَانُوا حَيْثُ مصرت الْبَصْرَة، فحول عُمَر بن الْخَطَّابِ رحمه اللَّه من تنوخ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْبَصْرَة، وأقامت جماعة الأزد لم يتحولوا، ثُمَّ لحقوا بِالْبَصْرَةِ بعد ذَلِكَ فِي آخر خلافة مُعَاوِيَة، وأول خلافة يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فلما قدموا قالت بنو تميم للأحنف: بادر إِلَى هَؤُلاءِ قبل أن تسبقنا إِلَيْهِم رَبِيعَة، وَقَالَ الأحنف: إن أتوكم فاقبلوهم، وإلا لا تأتوهم فإنكم إن أتيتموهم صرتم لَهُمْ أتباعا فأتاهم مالك بن مسمع ورئيس الأزد يَوْمَئِذٍ مسعود بن عَمْرو المعني، فَقَالَ مالك: جددوا حلفنا وحلف كندة فِي الْجَاهِلِيَّة، وحلف بني ذهل بن ثعلبة فِي طيئ بن أدد من ثعل،

فقال الأحنف: اما إذ أتوهم فلن يزالوا لَهُمْ أتباعا أذنابا. قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي هبيرة بن حدير، عن إِسْحَاق بن سويد، قَالَ: فلما أن جرت بكر إِلَى نصر الأزد عَلَى مضر، وجددوا الحلف الأول، وأرادوا أن يسيروا، قالت الأزد: لا نسير معكم إلا أن يكون الرئيس منا، فرأسوا مسعودا عَلَيْهِم. قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي مسلمة بن محارب، قَالَ: قَالَ مسعود لعبيد اللَّه: سر معنا حَتَّى نعيدك فِي الدار، فَقَالَ: مَا أقدر عَلَى ذَلِكَ، امض أنت، وأمر برواحله فشدوا عَلَيْهَا أدواتها وسوادها، وتزمل فِي أهبة السفر، وألقوا لَهُ كرسيا عَلَى باب مسعود، فقعد عَلَيْهِ، وسار مسعود، وبعث عُبَيْد اللَّهِ غلمانا لَهُ عَلَى الخيل مع مسعود، وَقَالَ لَهُمْ: إني لا أدري مَا يحدث فأقول: إذا كَانَ كذا، فليأتني بعضكم بالخبر، ولكن لا يحدثن خير وَلا شر إلا أتاني بعضكم بِهِ، فجعل مسعود لا يأتي عَلَى سكة، وَلا يتجاوز قبيلة إلا أتى بعض أُولَئِكَ الغلمان بخبر ذَلِكَ، وقدم مسعود رَبِيعَة، وعليهم مالك بن مسمع، فأخذوا جميعا سكة المربد، فَجَاءَ مسعود حَتَّى دخل المسجد، فصعد الْمِنْبَر، وعبد اللَّه بن الْحَارِث فِي دار الإمارة، فقيل لَهُ: إن مسعودا وأهل اليمن وربيعة قَدْ ساروا، وسيهيج بين الناس شر، فلو أصلحت بينهم أو ركبت في بنى تميم عليهم! فقال: أبعدهم اللَّه! لا وَاللَّهِ لا أفسدت نفسي فِي إصلاحهم، وجعل رجل من أَصْحَاب مسعود يقول: لأنكحن ببه ... جارية فِي قبه تمشط رأس لعبه. فهذا قول الأزد وربيعة، فأما مضر فيقولون: إن أمه هند بنت أبي سُفْيَان كَانَتْ ترقصه وتقول هَذَا، فلما لم يحل أحد بين مسعود وبين صعود الْمِنْبَر، خرج مالك بن مسمع فِي كتيبته حَتَّى علا الجبان من سكة المربد، ثُمَّ جعل يمر بعداد دور بني تميم حَتَّى دخل سكة بني العدوية من قبل الجبان، فجعل يحرق دورهم للشحناء الَّتِي فِي صدورهم، لقتل الضبي اليشكري، ولاستعراض ابن خازم رَبِيعَة بهراة، قَالَ: فبينا هُوَ فِي ذَلِكَ إذ أتوه فقالوا: قتلوا

مسعودا، وَقَالُوا: سارت بنو تميم إِلَى مسعود، فاقبل حتى إذا كَانَ عِنْدَ مسجد بني قيس فِي سكة المربد، وبلغه قتل مسعود، وقف. قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي زهير بن هنيد، قَالَ: حَدَّثَنَا الضحاك- أو الوضاح بن خيثمة أحد بني عَبْد اللَّهِ بن دارم- قَالَ: حَدَّثَنِي مالك بن دينار، قَالَ: ذهبت فِي الشباب الَّذِينَ ذهبوا إِلَى الأحنف ينظرون، قَالَ: فأتيته وأتته بنو تميم، فَقَالُوا: إن مسعودا قَدْ دخل الدار وأنت سيدنا، فَقَالَ: لست بسيدكم، إنما سيدكم الشَّيْطَان. وأما هبيرة بن حدير، فَحَدَّثَنِي عن إسحاق بن سويد العدوى، قال: اتيت منزل الأحنف فِي النظارة، فأتوا الأحنف فَقَالُوا: يا أبا بحر، وان رَبِيعَة والأزد قَدْ دخلوا الرحبة، فَقَالَ: لستم بأحق بالمسجد مِنْهُمْ، ثُمَّ أتوه فَقَالُوا: قَدْ دخلوا الدار، فقال: لستم بأحق بالدار مِنْهُمْ، فتسرع سلمة بن ذؤيب الرياحي، فَقَالَ: إلي يَا معشر الفتيان، فإنما هَذَا جبس لا خير لكم عنده، فبدرت ذؤبان بني تميم فانتدب معه خمسمائة، وهم مع ماه أفريذون، فَقَالَ لَهُمْ سلمة: أين تريدون؟ قَالُوا: إياكم أردنا، قَالَ: فتقدموا. قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي زهير بن هنيد، عن ابى نعامة، عن ناشب ابن الحسحاس وحميد بن هلال، قَالا: أتينا منزل الأحنف بحضرة المسجد، قَالا: فكنا فيمن ينظر، فأتته امرأة بمجمر فَقَالَتْ: مَا لك وللرئاسة! تجمر فإنما أنت امرأة، فَقَالَ: است المرأة أحق بالمجمر، فأتوه فَقَالُوا: إن علية بنت ناجية الرياحي- وَهِيَ أخت مطر، وَقَالَ آخرون: عزة بنت الحر الرياحية- قَدْ سلبت خلاخيلها من ساقيها، وَكَانَ منزلها شارعا فِي رحبة بني تميم عَلَى الميضأة، وَقَالُوا: قتلوا الصباغ الَّذِي عَلَى طريقك، وقتلوا المقعد الَّذِي كَانَ عَلَى باب المسجد، وَقَالُوا: إن مالك بن مسمع قَدْ دخل سكة بني العدوية من قبل الجبان، فحرق دورا، فَقَالَ الأحنف: أقيموا البينة عَلَى هَذَا، ففي دون هَذَا مَا يحل قتالهم، فشهدوا عنده عَلَى ذَلِكَ،

فَقَالَ الأحنف: أجاء عباد؟ وَهُوَ عباد بن حصين بن يَزِيدَ بن عَمْرو بن أوس بن سيف بن عزم بن حلزة بن بيان بن سَعْدِ بْنِ الْحَارِث الحبطة بن عمرو ابن تميم، قَالُوا: لا، ثُمَّ مكث غير طويل، فَقَالَ: أجاء عباد؟ قَالُوا: لا، قَالَ: فهل هاهنا عبس بن طلق بن رَبِيعَة بن عَامِر بن بسطام بن الحكم ابن ظالم بن صريم بن الْحَارِث بن عَمْرو بن كعب بن سَعْد؟ فَقَالُوا: نعم، فدعاه، فانتزع معجرا فِي رأسه، ثُمَّ جثا عَلَى ركبتيه، فعقده فِي رمح ثُمَّ دفعه إِلَيْهِ، فَقَالَ: سر قَالا: فلما ولي قَالَ: اللَّهُمَّ لا تخزها الْيَوْم، فإنك لم تخزها فِيمَا مضى وصاح الناس: هاجت زبراء- وزبراء أمة للأحنف، وإنما كنوا بِهَا عنه- قَالا: فلما سار عبس جَاءَ عباد فِي ستين فارسا فسأل، مَا صنع الناس؟ فَقَالُوا: ساروا، قَالَ: ومن عَلَيْهِم؟ قَالُوا: عبس بن طلق الصريمي، فَقَالَ عباد: أنا أسير تحت لواء عبس! فرجع والفرسان إِلَى أهله. فَحَدَّثَنِي زهير، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو ريحانة العريني، قَالَ: كنت يوم قتل مسعود تحت بطن فرس الزرد بن عَبْدِ اللَّهِ السعدي أعدو حَتَّى بلغنا شريعة القديم. قَالَ إِسْحَاق بن سويد: فأقبلوا، فلما بلغوا أفواه السكك وقفوا، فَقَالَ لَهُمْ ماه أفريذون بالفارسية: ما لكم يَا معشر الفتيان؟ قَالُوا: تلقونا بأسنة الرماح، فَقَالَ لَهُمْ بالفارسية: صكوهم بالفنجقان- أي بخمس نشابات فِي رميه، بالفارسيه- والأساورة أربعمائة، فصكوهم بألفي نشابة فِي دفعة، فأجلوا عن أبواب السكك، وقاموا عَلَى باب المسجد، ودلفت التميمية إِلَيْهِم، فلما بلغوا الأبواب وقفوا، فسألهم ماه أفريذون: ما لكم؟ قَالُوا: أسندوا إلينا أطراف رماحهم، قَالَ: ارموهم أَيْضًا، فرموهم بألفي نشابة، فأجلوهم عن الأبواب، فدخلوا المسجد، فأقبلوا ومسعود يخطب عَلَى الْمِنْبَر ويحضض، فجعل غطفان بن أنيف بن يَزِيدَ بن فهدة، أحد بني كعب بن عَمْرو بن

تميم، وَكَانَ يَزِيد بن فهدة فارسا فِي الجاهلية يقاتل ويحض قومه ويرتحز: يال تميم إنها مذكوره ... إن فات مسعود بِهَا مشهوره فاستمسكوا بجانب المقصوره. أي لا يهرب فيفوت. قَالَ إِسْحَاق بن يَزِيدَ: فأتوا مسعودا وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَر يحض، فاستنزلوه فقتلوه، وَذَلِكَ فِي أول شوال سنة أربع وستين، فلم يكن القوم شَيْئًا، فانهزموا. وبادر أشيم بن شقيق القوم بباب المقصورة هاربا، فطعنه أحدهم، فنجا بِهَا، ففي ذَلِكَ يقول الفرزدق: لو أن أشيم لم يسبق أسنتنا ... وأخطأ الباب إذ نيراننا تقد إذا لصاحب مسعودا وصاحبه ... وَقَدْ تهافتت الأعفاج والكبد قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي سلام بن أبي خيرة، وسمعته أَيْضًا من أبي الخنساء كسيب العنبري يحدث فِي حلقه يونس، قالا: سمعنا الحسن ابن أبي الْحَسَن يقول فِي مجلسه فِي مسجد الأمير: فاقبل مسعود من هاهنا- وأشار بيده إِلَى منازل الأزد فِي أمثال الطير- معلما بقباء ديباج أصفر مغير بسواد، يأمر الناس بالسنة، وينهى عن الْفِتْنَة: أَلا إن من السنة أن تأخذ فوق يديك، وهم يقولون: القمر القمر، فو الله مَا لبثوا إلا ساعة حَتَّى صار قمرهم قميرا، فأتوه فاستنزلوه عن الْمِنْبَر وَهُوَ عَلَيْهِ- قَدْ علم اللَّه- فقتلوه. قَالَ سلام فِي حديثه: قال الحسن: وجاء الناس من هاهنا- وأشار بيده إِلَى دور بني تميم

قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي مسلمة بن محارب، قَالَ: فأتوا عُبَيْد اللَّهِ فَقَالُوا: قَدْ صعد مسعود المنبر، ولم يرم دون الدار بكثاب، فبيناه فِي ذَلِكَ يتهيأ ليجيء إِلَى الدار، إذ جاءوا فَقَالُوا: قَدْ قتل مسعود، فاغترز فِي ركابه فلحق بِالشَّامِ، وَذَلِكَ فِي شوال سنة أربع وستين قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي رواد الكعبي، قَالَ: فأتى مالك بن مسمع أناس من مضر، فحصروه فِي داره، وحرقوا، ففي ذَلِكَ يقول غطفان بن أنيف الكعبي فِي أرجوزة: وأصبح ابن مسمع محصورا ... يبغي قصورا دونه ودورا حَتَّى شببنا حوله السعيرا. ولما هرب عُبَيْد اللَّهِ بن زياد اتبعوه، فأعجز الطلبه، فانتهبوا مَا وجدوا لَهُ، ففي ذَلِكَ يقول وافد بن خليفة بن أسماء، أحد بني صخر بن منقر بن عبيد بن الْحَارِث بن عَمْرو بن كعب بن سَعْد: يَا رب جبار شديد كلبه ... قَدْ صار فينا تاجه وسلبه مِنْهُمْ عُبَيْد اللَّهِ حين نسلبه ... جياده وبزه وننهبه يوم التقى مقنبنا ومقنبه ... لو لم ينج ابن زياد هربه وَقَالَ جرهم بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قيس، أحد بني العدوية فِي قتل مسعود فِي كلمة طويلة: ومسعود بن عَمْرو إذ أتانا ... صبحنا حد مطرور سنينا رجا التأمير مسعود فأضحى ... صريعا قَدْ أزرناه المنونا قَالَ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن جرير: وأما عمر، فإنه حَدَّثَنِي فِي أمر خروج عُبَيْد اللَّهِ إِلَى الشام، قَالَ: حَدَّثَنِي زهير، قَالَ: حَدَّثَنَا وهب بن جرير بن حازم، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بن الخريت، قَالَ: بعث مسعود مع ابن زياد

مائة من الأزد، عَلَيْهِم قرة بن عَمْرو بن قيس، حَتَّى قدموا بِهِ الشام. وَحَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عاصم النبيل، عَنْ عَمْرِو بْنِ الزُّبَيْرِ وخلاد بن يَزِيدَ الباهلي والوليد بن هِشَام، عن عمه، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ هبيرة، عن يساف بن شريح اليشكري، قَالَ، وحدثنيه عَلِيّ بن مُحَمَّدٍ، قَالَ- قَدِ اختلفوا فزاد بعضهم عَلَى بعض- إن ابن زياد خرج مِنَ الْبَصْرَةِ، فَقَالَ ذات ليلة: إنه قَدْ ثقل علي ركوب الإبل، فوطئوا لي عَلَى ذي حافر، قَالَ: فألقيت لَهُ قطيفة عَلَى حمار، فركبه وإن رجليه لتكادان تخدان فِي الأرض قَالَ اليشكري: فإنه ليسير أمامي إذ سكت سكتة فأطالها، فقلت فِي نفسي: هَذَا عُبَيْد اللَّهِ أَمِير العراق أمس نائم الساعة عَلَى حمار، لو قَدْ سقط مِنْهُ أعنته، ثُمَّ قلت: وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ نائما لأنغصن عَلَيْهِ نومه، فدنوت مِنْهُ، فقلت: أنائم أنت؟ قَالَ: لا، قلت: فما أسكتك؟ قَالَ: كنت أحدث نفسي، قلت: أفلا أحدثك مَا كنت تحدث بِهِ نفسك؟ قَالَ: هات، فو الله مَا أراك تكيس وَلا تصيب، قَالَ: قلت: كنت تقول: ليتني لم أقتل الْحُسَيْن، قَالَ: وماذا؟ قلت: تقول: ليتني لم أكن قتلت من قتلت، قَالَ: وماذا؟ قلت: كنت تقول: ليتني لم أكن بنيت البيضاء، قَالَ: وماذا؟ قلت: تقول: ليتني لم أكن استعملت الدهاقين، قال: وماذا؟ قلت: تقول: ليتني كنت أسخى مما كنت، قَالَ: فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا نطقت بصواب، وَلا سكت عن خطإ، أما الْحُسَيْن فإنه سار إلي يريد قتلي، فاخترت قتله عَلَى أن يقتلني، وأما البيضاء فإني اشتريتها من عَبْد اللَّهِ بن عُثْمَانَ الثقفي، وأرسل يَزِيد بألف ألف فأنفقتها عَلَيْهَا، فإن بقيت فلأهلي، وإن هلكت لم آس عَلَيْهَا مما لم أعنف فِيهِ، وأما استعمال الدهاقين فإن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرة وزاذان فروخ وقعا فِيّ عِنْدَ مُعَاوِيَة حَتَّى ذكرا قشور الأرز، فبلغا بخراج العراق مائه الف الف، فخيرني معاويه بين الضمان والعزل، فكرهت العزل،

ذكر الخبر عن عزلهم عمرو بن حريث وتأميرهم عامرا

فكنت إذا استعملت الرجل من العرب فكسر الخراج، فتقدمت إِلَيْهِ أو أغرمت صدور قومه، أو أغرمت عشيرته أضررت بهم، وإن تركته تركت مال اللَّه وأنا أعرف مكانه، فوجدت الدهاقين أبصر بالجباية، وأوفى بالأمانة، وأهون فِي المطالبه منكم، مع انى قد جعلتكم أمناء عَلَيْهِم لئلا يظلموا أحدا وأما قولك في السخاء، فو الله مَا كَانَ لي مال فأجود بِهِ عَلَيْكُمْ، ولو شئت لأخذت بعض مالكم فخصصت بِهِ بعضكم دون بعض، فيقولون: مَا أسخاه! ولكني عممتكم، وَكَانَ عندي أنفع لكم وأما قولك: ليتني لم أكن قتلت من قتلت، فما عملت بعد كلمة الإخلاص عملا هُوَ أقرب إِلَى اللَّهِ عندي من قتلي من قتلت من الخوارج، ولكني سأخبرك بِمَا حدثت بِهِ نفسي، قلت: ليتني كنت قاتلت أهل الْبَصْرَة، فإنهم بايعوني طائعين غير مكرهين، وايم اللَّه لقد حرصت عَلَى ذَلِكَ، ولكن بني زياد أتوني فَقَالُوا: إنك إذا قاتلتهم فظهروا عَلَيْك لم يبقوا منا أحدا، وان تركتهم تغيب الرجل منا عِنْدَ أخواله وأصهاره، فرفقت لَهُمْ فلم أقاتل وكنت أقول: ليتني كنت أخرجت اهل السجن فضربت أعناقهم، فاما إذ فاتت هاتان فليتني كنت أقدم الشام ولم يبرموا أمرا. قَالَ بعضهم: فقدم الشام ولم يبرموا أمرا، فكأنما كَانُوا مَعَهُ صبيانا، وَقَالَ بعضهم: قدم الشام وَقَدْ أبرموا، فنقض مَا أبرموا إِلَى رأيه. وفي هَذِهِ السنة طرد أهل الْكُوفَة عَمْرو بن حريث وعزلوه عَنْهُمْ، واجتمعوا عَلَى عَامِر بن مسعود . ذكر الخبر عن عزلهم عَمْرو بن حريث وتأميرهم عامرا قَالَ أَبُو جَعْفَر: ذكر الهيثم بن عدي، قَالَ: حَدَّثَنَا ابن عَيَّاش، قَالَ:

كَانَ أول من جمع لَهُ المصران: الْكُوفَة والبصرة زيادا وابنه، فقتلا من الخوارج ثلاثة عشر ألفا، وحبس عُبَيْد اللَّهِ مِنْهُمْ أربعة آلاف، فلما هلك يَزِيد قام خطيبا، فَقَالَ: إن الَّذِي كنا نقاتل عن طاعته قَدْ مات، فان أمرتموني جبيت فيئكم، وقاتلت عدوكم وبعث بِذَلِكَ إِلَى أهل الْكُوفَة مقاتل ابن مسمع وسعيد بن قرحا، أحد بني مازن، وخليفته عَلَى الْكُوفَة عَمْرو بن حريث، فقاما بِذَلِكَ، فقام يَزِيد بن الْحَارِث بن رويم الشيباني فَقَالَ: الحمد لِلَّهِ الَّذِي أراحنا من ابن سمية، لا وَلا كرامة! فأمر بِهِ عَمْرو فلبب ومضي بِهِ إِلَى السجن، فحالت بكر بينهم وبينه، فانطلق يَزِيد إِلَى أهله خائفا، فأرسل إِلَيْهِ مُحَمَّد بن الأشعث: أنك عَلَى رأيك، وتتابعت عَلَيْهِ الرسل بِذَلِكَ، وصعد عَمْرو الْمِنْبَر فحصبوه، فدخل داره، واجتمع الناس فِي المسجد فَقَالُوا: نؤمر رجلا إِلَى أن يجتمع الناس على خليفه، فاجمعوا على عمر بن سعد، فجاءت نساء همدان يبكين حسينا، ورجالهم متقلدو السيوف، فأطافوا بالمنبر، فَقَالَ مُحَمَّد بن الأشعث: جَاءَ أمر غير مَا كنا فِيهِ، وكانت كنده تقوم بأمر عمر بن سعد لانهم أخواله، فاجتمعوا على عامر ابن مسعود، وكتبوا بِذَلِكَ إِلَى ابن الزُّبَيْر، فأقره. وأما عوانة بن الحكم، فإنه قال فيما ذكر هِشَام بن مُحَمَّد عنه: لما بايع أهل الْبَصْرَة عُبَيْد اللَّهِ بن زياد بعث وافدين من قبله إِلَى الْكُوفَةِ: عَمْرو بن مسمع، وسعد بن القرحا التميمي، ليعلم أهل الْكُوفَة مَا صنع أهل الْبَصْرَة، ويسألانهم البيعة لعبيد اللَّه بن زياد، حَتَّى يصطلح الناس، فجمع الناس عَمْرو بن حريث، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إن هَذَيْنِ الرجلين قَدْ أتياكم من قبل أميركم يدعوانكم إِلَى أمر يجمع اللَّه بِهِ كلمتكم، ويصلح بِهِ ذات بينكم، فاسمعوا منهما، واقبلوا عنهما، فإنهما برشد مَا أتياكم. فقام عَمْرو بن مسمع، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وذكر أهل الْبَصْرَة واجتماع رأيهم عَلَى تأمير عُبَيْد اللَّهِ بن زياد حَتَّى يرى الناس رأيهم فيمن يولون عليهم،

وَقَدْ جئناكم لنجمع أمرنا وأمركم فيكون أميرنا وأميركم واحدا، فإنما الْكُوفَة مِنَ الْبَصْرَةِ والبصرة من الْكُوفَة، وقام ابن القرحا فتكلم نحوا من كلام صاحبه. قَالَ: فقام يَزِيد بن الْحَارِث بن يَزِيدَ الشيباني- وَهُوَ ابن رويم- فحصبهما أول الناس، ثُمَّ حصبهما الناس بعد، ثُمَّ قَالَ: أنحن نبايع لابن مرجانة! لا وَلا كرامة، فشرفت تِلَكَ الفعلة يَزِيد فِي المصر ورفعته، ورجع الوفد إِلَى الْبَصْرَة فأعلم الناس الخبر فَقَالُوا: أهل الْكُوفَة يخلعونه، وَأَنْتُمْ تولونه وتبايعونه! فوثب بِهِ الناس، وَقَالَ: مَا كَانَ فِي ابن زياد وصمة إلا استجارته بالأزد. قَالَ: فلما نابذه الناس استجار بمسعود بن عَمْرو الأَزْدِيّ، فأجاره ومنعه، فمكث تسعين يَوْمًا بعد موت يَزِيد، ثُمَّ خرج إِلَى الشام، وبعثت الأزد وبكر ابن وائل رجالا مِنْهُمْ مَعَهُ حَتَّى أوردوه الشام، فاستخلف حين توجه إِلَى الشام مسعود بن عَمْرو عَلَى الْبَصْرَة، فَقَالَتْ بنو تميم وقيس: لا نرضى وَلا نجيز وَلا نولي إلا رجلا ترضاه جماعتنا، فَقَالَ مسعود: فقد استخلفني فلا أدع ذَلِكَ أبدا، فخرج فِي قومه حَتَّى انتهى إِلَى القصر فدخله، واجتمعت تميم إِلَى الأحنف بن قيس فَقَالُوا لَهُ: إن الأزد قد دخلوا المسجد، قَالَ: ودخل المسجد فمه! إنما هُوَ لكم ولهم، وَأَنْتُمْ تدخلونه، قَالُوا: فإنه قَدْ دخل القصر، فصعد الْمِنْبَر وكانت خوارج قَدْ خرجوا، فنزلوا بنهر الأساورة حين خرج عُبَيْد اللَّهِ بن زياد إِلَى الشام، فزعم الناس أن الأحنف بعث إِلَيْهِم إن هَذَا الرجل الَّذِي قَدْ دخل القصر لنا ولكم عدو، فما يمنعكم من أن تبدءوا بِهِ! فجاءت عصابة مِنْهُمْ حَتَّى دخلوا المسجد، ومسعود بن عَمْرو عَلَى الْمِنْبَر يبايع من أتاه، فيرميه علج يقال لَهُ: مسلم من أهل فارس، دخل الْبَصْرَة فأسلم ثُمَّ دخل فِي الخوارج، فأصاب قلبه فقتله وخرج، وجال الناس بعضهم فِي بعض فَقَالُوا: قتل مسعود بن عَمْرو، قتلته الخوارج، فخرجت الأزد إِلَى تِلَكَ الخوارج فقتلوا مِنْهُمْ وجرحوا، وطردوهم عن الْبَصْرَة، ودفنوا مسعودا، فجاءهم الناس فَقَالُوا لَهُمْ: تعلمون أن بني تميم يزعمون أَنَّهُمْ قتلوا مسعود بن عَمْرو، فبعثت الأزد تسأل عن ذَلِكَ، فإذا أناس مِنْهُمْ يقولونه، فاجتمعت الأزد عِنْدَ ذَلِكَ فرأسوا عَلَيْهِم زياد بن عَمْرو العتكي، ثُمَّ ازدلفوا إِلَى بني تميم

وخرجت مع بني تميم قيس، وخرج مع الأزد مالك بن مسمع وبكر بن وائل فأقبلوا نحو بني تميم وأقبلت تميم إِلَى الأحنف يقولون: قَدْ جَاءَ القوم، اخرج وَهُوَ متمكث، إذ جاءته امرأة من قومه بمجمر فَقَالَتْ: يَا أحنف اجلس عَلَى هَذَا، أي إنما أنت امرأة، فَقَالَ: استك أحق بِهَا، فما سمع منه بعد كلمه كانت رافث منها، وَكَانَ يعرف بالحلم ثُمَّ إنه دعا برايته فَقَالَ: اللَّهُمَّ انصرها وَلا تذللها، وإن نصرتها أَلا يظهر بِهَا وَلا يظهر عَلَيْهَا، اللَّهُمَّ احقن دماءنا، وأصلح ذات بيننا ثُمَّ سار وسار ابن أخيه إياس بن مُعَاوِيَة بين يديه، فالتقى القوم فاقتتلوا أشد القتال، فقتل من الفريقين قتلى كثيرة، فَقَالَتْ لَهُمْ بنو تميم: اللَّه اللَّه يَا معشر الأزد فِي دمائنا ودمائكم! بيننا وبينكم القرآن ومن شئتم من أهل الإِسْلام، فإن كَانَتْ لكم علينا بينة أنا قتلنا صاحبكم، فاختاروا أفضل رجل فينا فاقتلوه بصاحبكم، وإن لم تكن لكم بينه فانا نحلف بِاللَّهِ مَا قتلنا وَلا أمرنا، وَلا نعلم لصاحبكم قاتلا، وإن لم تريدوا ذَلِكَ فنحن ندي صاحبكم بمائة ألف درهم فاصطلحوا، فأتاهم الأحنف بن قيس فِي وجوه مضر إِلَى زياد بن عَمْرو العتكي، فَقَالَ: يَا معشر الأزد، أنتم جيرتنا فِي الدار، وإخوتنا عِنْدَ القتال، وَقَدْ آتيناكم فِي رحالكم لإطفاء حشيشتكم، وسل سخيمتكم، ولكم الحكم مرسلا، فقولوا عَلَى أحلامنا وأموالنا، فإنه لا يتعاظمنا ذهاب شَيْء من أموالنا كَانَ فِيهِ صلاح بيننا، فَقَالُوا: أتدون صاحبنا عشر ديات؟ قَالَ: هي لكم، فانصرف الناس واصطلحوا، فَقَالَ الهيثم بن الأَسْوَدِ: أعلى بمسعود الناعي فقلت لَهُ ... نعم اليماني تجروا عَلَى الناعي أوفى ثمانين مَا يسطيعه أحد ... فتى دعاه لرأس العده الداعي آوى ابن حرب وَقَدْ سدت مذاهبه ... فأوسع السرب مِنْهُ أي إيساع حَتَّى توارت بِهِ أرض وعامرها ... وَكَانَ ذا ناصر فِيهَا وأشياع

وقال عبيد الله بن الحر: ما زلت أرجو الأزد حَتَّى رأيتها ... تقصر عن بنيانها المتطاول أيقتل مسعود ولم يثأروا بِهِ ... وصارت سيوف الأزد مثل المناجل وما خير عقل أورث الأزد ذلة ... تسب بِهِ أحياؤهم فِي المحافل عَلَى أَنَّهُمْ شمط كأن لحاهمُ ... ثعالب فِي أعناقها كالجلاجل واجتمع أهل الْبَصْرَة عَلَى أن يجعلوا عَلَيْهِم مِنْهُمْ أميرا يصلي بهم حَتَّى يجتمع الناس عَلَى إمام، فجعلوا عَبْد الْمَلِكِ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِر شهرا، ثُمَّ جعلوا ببة- وَهُوَ عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث بن عبد المطلب- فصلى بهم شهرين، ثُمَّ قدم عَلَيْهِم عُمَر بن عُبَيْد اللَّهِ بن معمر من قبل ابن الزُّبَيْر، فمكث شهرا، ثُمَّ قدم الْحَارِث بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ المخزومي بعزله، فوليها الْحَارِث وَهُوَ القباع. قَالَ أَبُو جَعْفَر: وأما عُمَر بن شَبَّةَ، فإنه حَدَّثَنِي فِي أمر عَبْد الْمَلِكِ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِر بن كريز وأمر ببة ومسعود وقتله، وأمر عُمَر بن عُبَيْد اللَّهِ غير مَا قَالَ هِشَام عن عوانة والذي حَدَّثَنِي عُمَر بن شَبَّةَ فِي ذَلِكَ أنه قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عن أبي مقرن عُبَيْد اللَّهِ الدهني، قَالَ: لما بايع الناس ببة ولى ببة شرطته هميان بن عدي، وقدم عَلَى ببة بعض أهل الْمَدِينَة، وأمر هميان بن عدي بإنزاله قريبا مِنْهُ، فأتى هميان دارا للفيل مولى زياد الَّتِي فِي بني سليم وهم بتفريغها لينزلها إِيَّاهُ، وَقَدْ كَانَ هرب وأقفل أبوابه، فمنعت بنو سليم هميان حَتَّى قاتلوه، واستصرخوا عَبْد الْمَلِكِ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِر بن كريز، فأرسل بخاريته ومواليه فِي السلاح حَتَّى طردوا هميان ومنعوه الدار، وغدا عَبْد الْمَلِكِ من الغد إِلَى دار الإمارة ليسلم عَلَى ببة، فلقيه عَلَى الباب رجل من بني قيس بن ثعلبة، فَقَالَ: أنت المعين علينا بالأمس! فرفع يده فلطمه، فضرب قوم من البخارية يد القيسي فأطارها، ويقال: بل سلم القيسي، وغضب ابن عَامِر فرجع، وغضبت لَهُ مضر فاجتمعت وأتت بكر بن

وائل أشيم بن شقيق بن ثور فاستصرخوه، فأقبل وَمَعَهُ مالك بن مسمع حَتَّى صعد الْمِنْبَر فَقَالَ: أي مضري وجدتموه فاسلبوه وزعم بنو مسمع أن مالكا جَاءَ يَوْمَئِذٍ متفضلا فِي غير سلاح ليرد أشيم عن رأيه ثُمَّ انصرفت بكر وَقَدْ تحاجزوا هم والمضرية، واغتنمت الأزد ذَلِكَ، فحالفوا بكرا، وأقبلوا مع مسعود إِلَى الْمَسْجِدِ الجامع، وفزعت تميم إِلَى الأحنف، فعقد عمامته عَلَى قناة، ودفعها إِلَى سلمة بن ذؤيب الرياحي، فأقبل بين يديه الأساورة حَتَّى دخل المسجد ومسعود يخطب، فاستنزلوه فقتلوه، وزعمت الأزد أن الأزارقة قتلوه، فكانت الْفِتْنَة، وسفر بينهم عُمَر بن عُبَيْد الله بن معمر وعبد الرحمن ابن الْحَارِث بن هِشَام حَتَّى رضيت الأزد من مسعود بعشر ديات، ولزم عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث بيته، وَكَانَ يتدين، وَقَالَ: مَا كنت لأصلح الناس بفساد نفسي. قَالَ عمر: قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: فكتب أهل الْبَصْرَة إِلَى ابن الزُّبَيْر، فكتب إِلَى أنس بن مالك يأمره بالصلاة بِالنَّاسِ، فصلى بهم أربعين يَوْمًا. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: كتب ابن الزبير الى عمر ابن عُبَيْد اللَّهِ بن معمر التيمي بعهده عَلَى الْبَصْرَة، ووجه بِهِ إِلَيْهِ، فوافقه وَهُوَ متوجه يريد العمرة، فكتب إِلَى عُبَيْد اللَّهِ يأمره أن يصلي بِالنَّاسِ، فصلى بهم حَتَّى قدم عمر. حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي زهير بن حرب، قَالَ: حَدَّثَنَا وهب بن جرير، قال: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: سمعت مُحَمَّد بن الزُّبَيْرِ، قَالَ: كَانَ الناس اصطلحوا عَلَى عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث الهاشمي، فولى أمرهم أربعة أشهر، وخرج نافع بن الأزرق إِلَى الأهواز، فَقَالَ الناس لعبد اللَّه: إن الناس قَدْ أكل بعضهم بعضا، تؤخذ المرأة من الطريق فلا يمنعها أحد حَتَّى تفضح، قَالَ: فتريدون ماذا؟ قَالُوا: تضع سيفك، وتشد عَلَى الناس، قَالَ: مَا كنت لأصلحهم بفساد نفسي، يَا غلام، ناولني نعلي، فانتعل ثُمَّ لحق بأهله، وأمر الناس عَلَيْهِم عُمَر بن عُبَيْد اللَّهِ بن معمر التيمي، قَالَ أبي، عن الصعب بن زيد:

ذكر الخبر عن ولايه عامر بن مسعود على الكوفه

أن الجارف وقع وعبد اللَّه عَلَى الْبَصْرَة، فماتت أمه فِي الجارف، فما وجدوا لها من يحملها حَتَّى استأجروا لها أربعة أعلاج فحملوها إِلَى حفرتها، وَهُوَ الأمير يَوْمَئِذٍ. حَدَّثَنِي عمر، قال: حدثني علي بن مُحَمَّد، قال: كَانَ ببة قَدْ تناول فِي عمله عَلَى الْبَصْرَة أربعين ألفا من بيت المال، فاستودعها رجلا، فلما قدم عُمَر بن عُبَيْد اللَّهِ أميرا أخذ عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث فحبسه، وعذب مولى لَهُ فِي ذَلِكَ المال حَتَّى أغرمه إِيَّاهُ. حَدَّثَنِي عُمَرُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بن مُحَمَّد، عن القافلانى، عن يزيد ابن عَبْدِ اللَّهِ بن الشخير، قَالَ: قلت لعبد اللَّه بن الْحَارِث بن نوفل: رأيتك زمان استعملت علينا أصبت من المال، واتقيت الدم، فَقَالَ: إن تبعة المال أهون من تبعة الدم . ذكر الخبر عن ولايه عامر بن مسعود على الكوفه وفي هَذِهِ السنة ولى أهل الْكُوفَة عَامِر بن مسعود امرهم، فذكر هشام ابن مُحَمَّد الكلبي، عن عوانة بن الحكم، أَنَّهُمْ لما ردوا وافدي أهل الْبَصْرَة اجتمع أشراف أهل الْكُوفَة، فاصطلحوا عَلَى أن يصلي بهم عَامِر بن مسعود- وَهُوَ عَامِر بن مسعود بن خلف القرشي، وَهُوَ دحروجة الجعل الَّذِي يقول فِيهِ عَبْد اللَّهِ بن همام السلولي: اشدد يديك بزَيْد إن ظفرت بِهِ ... واشف الأرامل من دحروجة الجعل وَكَانَ قصيرا- حَتَّى يرى الناس رأيهم، فمكث ثلاثة أشهر من مهلك يَزِيد بن مُعَاوِيَة، ثُمَّ قدم عَلَيْهِم عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ الأَنْصَارِيّ ثُمَّ الخطمي عَلَى الصَّلاة، وإبراهيم بن مُحَمَّد بْنِ طَلْحَة بن عُبَيْد اللَّهِ عَلَى الخراج، فاجتمع

خلافه مروان بن الحكم

لابن الزُّبَيْر أهل الْكُوفَة وأهل الْبَصْرَة ومن بالقبلة من العرب وأهل الشام، وأهل الجزيرة الا اهل الأردن. خلافه مروان بن الحكم وفي هَذِهِ السنة بويع لمروان بن الحكم بالخلافة بِالشَّامِ. ذكر السبب فِي البيعة لَهُ: حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا بُويِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَلَّى الْمَدِينَةَ عُبَيْدَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جَحْدَمٍ الْفِهْرِيَّ مِصْرَ، وَأَخْرَجَ بَنِي أُمَيَّةَ وَمَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ إِلَى الشَّامِ- وَعَبْدُ الْمَلِكِ يَوْمَئِذٍ ابْنُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ- فَلَمَّا قَدِمَ حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى الشَّامِ أَخْبَرَ مَرْوَانَ بِمَا خَلَفَ عَلَيْهِ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَأَنَّهُ دَعَاهُ إِلَى الْبَيْعَةِ، فأبى فقال له ولبنى اميه: نَرَاكُمْ فِي اخْتِلاطٍ شَدِيدٍ، فَأَقِيمُوا أَمْرَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْكُمْ شَامَكُمْ، فَتَكُونَ فِتْنَةً عَمْيَاءَ صَمَّاءَ، فَكَانَ مِنْ رَأْيِ مَرْوَانَ أَنْ يَرْحَلَ فَيَنْطَلِقَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فَيُبَايِعَهُ، فَقَدِمَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ وَاجْتَمَعَتْ عِنْدَهُ بَنُو أُمَيَّةَ، وَكَانَ قَدْ بَلَغَ عُبَيْدَ اللَّهِ مَا يُرِيدُ مَرْوَانَ، فَقَالَ لَهُ: اسْتَحْيَيْتُ لَكَ مِمَّا تُرِيدُ! أَنْتَ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيِّدُهَا، تَصْنَعُ مَا تَصْنَعُهُ! فَقَالَ: مَا فَاتَ شَيْءٌ بَعْدُ، فَقَامَ مَعَهُ بَنُو أُمَيَّةَ وَمَوَالِيهِمْ، وَتَجَمَّعَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْيَمَنِ، فَسَارَ وَهُوَ يَقُولُ: مَا فَاتَ شَيْءٌ بَعْدُ، فَقَدِمَ دِمَشْقَ وَمَنْ مَعَهُ، وَالضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ الْفِهْرِيُّ قَدْ بَايَعَهُ أَهْلُ دِمَشْقَ عَلَى أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ، وَيُقِيمَ لَهُمْ أَمْرَهُمْ حَتَّى يَجْتَمِعَ أَمْرُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ. وَأَمَّا عَوَانَةُ فَإِنَّهُ قَالَ- فِيمَا ذَكَرَ هِشَامٌ عَنْهُ- إِنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ لَمَّا مَاتَ وَابْنُهُ مُعَاوِيَةُ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ- فِيمَا بَلَغَنِي- أَمَرَ بَعْدَ وِلايَتِهِ فَنُودِيَ بِالشَّامِ: الصَّلاةُ جَامِعَةٌ! فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِكُمْ فَضَعُفْتُ عَنْهُ، فَابْتَغَيْتُ لَكُمْ رَجُلا مِثْلَ عُمَرَ بن

الْخَطَّابِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ حِينَ فَزِعَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ أَجِدْهُ، فَابْتَغَيْتُ لَكُمْ سِتَّةً فِي الشُّورَى مِثْلَ سِتَّةَ عُمَرَ، فَلَمْ أَجِدْهَا، فَأَنْتُمْ أَوْلَى بِأَمْرِكُمْ، فَاخْتَارُوا لَهُ مَنْ أَحْبَبْتُمْ ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى النَّاسِ، وَتَغَيَّبَ حَتَّى مَاتَ فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: دُسَّ إِلَيْهِ فَسُقِيَ سُمًّا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: طُعِنَ. رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ عَوَانَةَ ثُمَّ قَدِمَ عُبَيْدُ الله بن زياد دمشق وعليها الضحاك ابن قَيْسٍ الْفِهْرِيُّ، فَثَارَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الْكِلابِيُّ بِقِنَّسْرِينَ يُبَايِعُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَبَايَعَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ الأَنْصَارِيُّ بِحِمْصَ لابْنِ الزُّبَيْرِ، وكان حسان ابن مَالِكِ بْنِ بَحْدَلٍ الْكَلْبِيُّ بِفِلَسْطِينَ عَامِلا لِمُعَاوِيَةَ بن ابى سفيان، ثم ليزيد ابن مُعَاوِيَةَ بَعْدَهُ، وَكَانَ يَهْوَى هَوَى بَنِي أُمَيَّةَ، وَكَانَ سَيِّدَ أَهْلِ فِلَسْطِينَ، فَدَعَا حَسَّانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ بَحْدَلٍ الْكَلْبِيُّ رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيَّ، فَقَالَ: إِنِّي مُسْتَخْلِفُكَ عَلَى فِلَسْطِينَ، وَأَدْخُلَ هَذَا الْحَيَّ مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامٍ، وَلَسْتَ بِدُونِ رجل إذ كنت عينهم قَاتَلْتَ بِمَنْ مَعَكَ مِنْ قَوْمِكَ وَخَرَجَ حَسَّانُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى الأُرْدُنِّ وَاسْتَخْلَفَ رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ عَلَى فِلَسْطِينَ، فَثَارَ نَاتِلُ بْنُ قَيْسٍ بِرَوْحِ بْنِ زِنْبَاعٍ فَأَخْرَجَهُ، فَاسْتَوْلَى عَلَى فِلَسْطِينَ، وَبَايَعَ لابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ بِالْمَدِينَةِ أَنْ يَنْفِيَ بَنِي أُمَيَّةَ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَنُفُوا بِعِيَالاتِهِمْ وَنِسَائِهِمْ إِلَى الشَّامِ، فَقَدِمَتْ بَنُو أُمَيَّةَ دِمَشْقَ وَفِيهَا مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، فَكَانَ النَّاسُ فَرِيقَيْنِ: حَسَّانُ بْنُ مَالِكٍ بِالأُرْدُنِّ يَهْوَى هَوَى بَنِي اميه، ويدعو اليهم، والضحاك ابن قَيْسٍ الْفِهْرِيُّ بِدِمَشْقَ يَهْوَى هَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَيَدْعُو إِلَيْهِ. قَالَ: فَقَامَ حَسَّانُ بْنُ مَالِكٍ بِالأُرْدُنِّ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الأُرْدُنِّ، مَا شَهَادَتُكُمْ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَعَلَى قَتْلَى أَهْلِ الْحَرَّةِ؟ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ مُنَافِقٌ وَأَنَّ قَتْلَى أَهْلِ الْحَرَّةِ فِي النَّارِ، قَالَ: فَمَا شَهَادَتُكُمْ عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَقَتْلاكُمْ بِالْحَرَّةِ؟ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّ يَزِيدَ عَلَى الْحَقِّ، وَأَنَّ قَتْلانَا فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: وَأَنَا أَشْهَدُ لَئِنْ كَانَ دِينُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ حَيٌّ حَقًّا يَوْمَئِذٍ إِنَّهُ الْيَوْمَ وَشِيعَتَهُ عَلَى حَقٍّ، وَإِنْ كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَوْمَئِذٍ وَشِيعُتُهُ عَلَى بَاطِلٍ إِنَّهُ الْيَوْمَ عَلَى بَاطِلٍ وَشِيعَتَهُ، قَالُوا لَهُ: قَدْ صَدَقْتَ، نَحْنُ نُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ نُقَاتِلَ مَنْ

خَالَفَكَ مِنَ النَّاسِ، وَأَطَاعَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، عَلَى أَنْ تُجَنِّبْنَا هَذَيْنِ الْغُلامَيْنِ، فَإِنَّا نَكْرَهُ ذَلِكَ- يَعْنُونَ ابْنَيْ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَبْدَ اللَّهِ وَخَالِدًا- فَإِنَّهُمَا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمَا، وَنَحْنُ نَكْرَهُ أَنْ يَأْتِيَنَا النَّاسُ بِشَيْخٍ وَنَأْتِيَهُمْ بِصَبِيٍّ وَقَدْ كَانَ الضحاك ابن قَيْسٍ بِدِمَشْقَ يَهْوَى هَوَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ يَمْنَعُهُ مِنْ إِظْهَارِ ذَلِكَ أَنَّ بَنِي أُمَيَّةَ كَانُوا بِحَضْرَتِهِ، وَكَانَ يَعْمَلُ فِي ذَلِكَ سِرًّا، فبلغ ذلك حسان بن مالك ابن بَحْدَلٍ، فَكَتَبَ إِلَى الضَّحَّاكِ كِتَابًا يُعَظِّمُ فِيهِ حَقَّ بَنِي أُمَيَّةَ، وَيَذْكُرُ الطَّاعَةَ وَالْجَمَاعَةَ وَحُسْنَ بَلاءِ بَنِي أُمَيَّةَ عِنْدَهُ وَصَنِيعَهُمْ إِلَيْهِ، وَيَدْعُوهُ إِلَى طَاعَتِهِمْ، وَيَذْكُرُ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَيَقَعُ فِيهِ وَيَشْتُمُهُ، وَيَذْكُرُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ، قَدْ خَلَعَ خَلِيفَتَيْنِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ كِتَابَهُ عَلَى النَّاسِ وَدَعَا رَجُلا مِنْ كَلْبٍ يُدْعَى نَاغِضَةَ فَسَرَّحَ بِالْكِتَابِ مَعَهُ إِلَى الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ، وَكَتَبَ حَسَّانُ بْنُ مَالِكٍ نُسْخَةَ ذَلِكَ الْكِتَابِ، وَدَفَعَهُ إِلَى نَاغِضَةَ، وَقَالَ: إِنْ قَرَأَ الضَّحَّاكُ كِتَابِي عَلَى النَّاسِ وَإِلا فَقُمْ فَاقْرَأْ هَذَا الْكِتَابَ عَلَى النَّاسِ، وَكَتَبَ حَسَّانٌ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَحْضُرُوا ذَلِكَ، فَقَدِمَ نَاغِضَةُ بِالْكِتَابِ عَلَى الضَّحَّاكِ فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ وَدَفَعَ كِتَابَ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ صَعِدَ الضَّحَّاكُ الْمِنْبَرَ فَقَامَ إِلَيْهِ نَاغِضَةُ، فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الأَمِيرَ! ادْعُ بِكِتَابِ حَسَّانٍ فَاقْرَأْهُ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ الضَّحَّاكُ: اجْلِسْ، فَجَلَسَ، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ الثَّانِيَةَ فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ الثَّالِثَةَ فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ، فَلَمَّا رَآهُ نَاغِضَةُ لا يَفْعَلْ أَخْرَجَ الْكِتَابَ الَّذِي مَعَهُ فَقَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ، فَقَامَ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَصَدَّقَ حَسَّانًا وَكَذَّبَ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَشَتَمَهُ، وَقَامَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي النَّمَسِ الْغَسَّانِيُّ، فَصَدَّقَ مَقَالَةَ حَسَّانٍ وَكِتَابَهُ، وَشَتَمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَقَامَ سُفْيَانُ بْنُ الأَبْرَدِ الْكَلْبِيُّ فَصَدَّقَ مَقَالَةَ حَسَّانٍ وَكِتَابَهُ، وَشَتَمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ. وَقَامَ عمرو بن يزيد الحكمي فشتم حسان وَأَثْنَى عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَاضْطَرَبَ النَّاسُ تَبَعًا لَهُمْ، ثُمَّ أَمَرَ الضَّحَّاكُ بِالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ ويزيد بن ابى النمس وسفيان

ابن الأَبْرَدِ الَّذِينَ كَانُوا صَدَّقُوا مَقَالَةَ حَسَّانٍ وَشَتَمُوا ابْنَ الزُّبَيْرِ فَحُبِسُوا، وَجَالَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، وَوَثَبَتْ كَلْبٌ عَلَى عَمْرِو بْنِ يَزِيدَ الْحَكَمِيِّ فَضَرَبُوهُ وَحَرَّقُوهُ بِالنَّارِ، وَخَرَّقُوا ثِيَابَهُ. وَقَامَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَصَعِدَ مِرْقَاتَيْنِ مِنَ الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ غُلامٌ، وَالضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَتَكَلَّمَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بِكَلامٍ أَوْجَزَ فِيهِ لَمْ يُسْمَعْ مِثْلُهُ، وَسَكَنَ النَّاسُ وَنَزَلَ الضَّحَّاكُ فَصَلَّى بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ، ثُمَّ دَخَلَ فَجَاءَتْ كَلْبٌ فَأَخْرَجُوا سُفْيَانَ بْنَ الأَبْرَدِ، وَجَاءَتْ غَسَّانُ فَأَخْرَجُوا يَزِيدَ بْنَ أَبِي النَّمَسِ، فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ: لَوْ كُنْتُ مِنْ كَلْبٍ أَوْ غَسَّانَ أُخْرِجْتُ. قَالَ: فَجَاءَ ابْنَا يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ: خَالِدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ، مَعَهُمَا أَخْوَالُهُمَا مِنْ كَلْبٍ فَأَخْرَجُوهُ مِنَ السِّجْنِ، فَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمَ يُسَمِّيهِ أَهْلُ الشَّامِ يَوْمَ جَيْرُونَ الأَوَّلِ. وَأَقَامَ النَّاسُ بِدِمَشْقَ، وَخَرَجَ الضَّحَّاكُ إِلَى مَسْجِدِ دِمَشْقَ، فَجَلَسَ فِيهِ فَذَكَرَ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، فَوَقَعَ فِيهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ شَابٌّ مِنْ كَلْبٍ بِعَصًا مَعَهُ فَضَرَبَهُ بِهَا، وَالنَّاسُ جُلُوسٌ فِي الْحَلَقِ مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، فَقَامَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَاقْتَتَلُوا، قَيْسٌ تَدْعُو إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَنُصْرَةِ الضَّحَّاكِ، وَكَلْبٌ تَدْعُو إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ ثُمَّ إِلَى خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، وَيَتَعَصَّبُونَ لِيَزِيدَ، وَدَخَلَ الضَّحَّاكُ دَارَ الإِمَارَةِ، وَأَصْبَحَ النَّاسُ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى صَلاةِ الْفَجْرِ، وَكَانَ مِنَ الأَجْنَادِ نَاسٌ يَهْوَوْنَ هَوَى بَنِي أُمَيَّةَ، وَنَاسٌ يَهْوَوْنَ هَوَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَبَعَثَ الضَّحَّاكُ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ مِنَ الْغَدِ، فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ، وَذَكَرَ حُسْنَ بَلائِهِمْ عِنْدَ مَوَالِيهِ وَعِنْدَهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ يُرِيدُ شَيْئًا يَكْرَهُونَهُ. قَالَ: فَتَكْتُبُونَ إِلَى حَسَّانٍ وَنَكْتُبُ، فَيَسِيرُ مِنَ الأُرْدُنِّ حَتَّى يَنْزِلَ الْجَابِيَةَ، وَنَسِيرُ نَحْنُ وَأَنْتُمْ حَتَّى نُوَافِيَهُ بِهَا، فَنُبَايِعَ لِرَجُلٍ مِنْكُمْ، فَرَضِيَتْ بِذَلِكَ بَنُو أُمَيَّةَ، وَكَتَبُوا إِلَى حَسَّانٍ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ الضَّحَّاكُ، وَخَرَجَ النَّاسُ وَخَرَجَتْ بَنُو أُمَيَّةَ وَاسْتُقْبِلَتِ الرَّايَاتُ، وَتَوَجَّهُوا يُرِيدُونَ الْجَابِيَةَ، فَجَاءَ ثَوْرُ بْنُ معن بن يزيد ابن الأَخْنَسِ السُّلَمِيُّ إِلَى الضَّحَّاكِ، فَقَالَ: دَعَوْتَنَا إِلَى طَاعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَبَايَعْنَاكَ

عَلَى ذَلِكَ، وَأَنْتَ تَسِيرُ إِلَى هَذَا الأَعْرَابِيِّ من كلب تستخلف ابن أخيه خالد ابن يَزِيدَ! فَقَالَ لَهُ الضَّحَّاكُ: فَمَا الرَّأْيُ؟ قَالَ: الرَّأْيُ أَنْ نُظْهِرَ مَا كُنَّا نُسِرُّ وَنَدْعُو إِلَى طَاعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَنُقَاتِلُ عَلَيْهَا، فَمَالَ الضَّحَّاكُ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ النَّاسِ فَعَطَفَهُمْ، ثُمَّ أَقْبَلَ يَسِيرُ حَتَّى نَزَلَ بِمَرْجِ رَاهِطٍ. وَاخْتُلِفَ فِي الْوَقْعَةِ الَّتِي كَانَتْ بِمَرْجِ رَاهِطٍ بَيْنَ الضحاك بن قيس ومروان ابن الْحَكَمِ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ: بُويِعَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، وَكَانَ مَرْوَانُ بِالشَّامِ لا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِهَذَا الأَمْرِ حَتَّى أَطْمَعَهُ فِيهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ مِنَ الْعِرَاقِ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَرَئِيسُهَا، يَلِي عَلَيْكَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ! فَذَلِكَ حِينَ كَانَ مَا كَانَ، فَخَرَجَ إِلَى الضَّحَّاكِ فِي جَيْشٍ، فَقَتَلَهُمْ مَرْوَانُ وَالضَّحَّاكُ يَوْمَئِذٍ فِي طَاعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقُتِلَتْ قَيْسٌ بِمَرْجِ رَاهِطٍ مَقْتَلَةً لَمْ يُقْتَلْ مِثْلَهَا فِي مَوْطِنٍ قَطُّ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، قَالَ: قتل الضحاك يوم مَرْجِ رَاهِطٍ عَلَى أنه يدعو إِلَى عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، وكتب بِهِ إِلَى عَبْد اللَّهِ لما ذكر عنه من طاعته وحسن رأيه. وَقَالَ غير واحد: كَانَتِ الوقعة بمرج راهط بين الضحاك ومروان فِي سنة أربع وستين. وَقَدْ حدثت عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، قال: حدثنى موسى ابن يَعْقُوب، عن أبي الحويرث، قَالَ: قَالَ أهل الأردن وغيرهم لمروان: أنت شيخ كبير، وابن يَزِيدَ غلام وابن الزُّبَيْر كهل، وإنما يقرع الحديد بعضه ببعض، فلا تباره بهذا الغلام، وارم بنحرك فِي نحره، ونحن نبايعك، ابسط يدك، فبسطها، فبايعوه بالجابية يوم الأربعاء لثلاث خلون من ذي القعدة سنة أربع وستين. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عمر: وَحَدَّثَنِي مُصْعَب بن ثَابِت، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أن الضحاك لما بلغه أن مَرْوَان قَدْ بايعه من بايعه عَلَى الخلافة، بايع من معه

ذكر الخبر عن الوقعه بمرج راهط بين الضحاك بن قيس ومروان بن الحكم وتمام الخبر عن الكائن من جليل الاخبار والاحداث في سنه اربع وستين

لابن الزُّبَيْر، ثُمَّ سار كل واحد منهما إِلَى صاحبه، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل الضحاك وأَصْحَابه. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عمر: وَحَدَّثَنِي ابن أبي الزناد، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لما ولى الْمَدِينَة عبد الرَّحْمَن بن الضحاك كَانَ فتى شابا، فقال: ان الضحاك ابن قيس قَدْ كَانَ دعا قيسا وغيرها إِلَى البيعة لنفسه، فبايعهم يَوْمَئِذٍ عَلَى الخلافة، فَقَالَ لَهُ زفر بن عقيل الفهري: هَذَا الَّذِي كنا نعرف ونسمع، وإن بني الزُّبَيْر يقولون: إنما كَانَ بايع لعبد اللَّه بن الزُّبَيْرِ، وخرج فِي طاعته حَتَّى قتل، الباطل وَاللَّهِ يقولون، كَانَ أول ذاك أن قريشا دعته إِلَيْهَا، فأبى عَلَيْهَا حَتَّى دخل فِيهَا كارها . ذكر الخبر عن الوقعة بمرج راهط بين الضحاك بن قيس ومروان بن الحكم وتمام الخبر عن الكائن من جليل الأخبار والأحداث فِي سنة أربع وستين قَالَ أَبُو جَعْفَر: حَدَّثَنَا نوح بن حبيب، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن عوانة بن الحكم الكلبي، قَالَ: مال الضحاك بن قيس بمن مَعَهُ مِنَ النَّاسِ حين سار يريد الجابية للقاء حسان بن مَالِكٍ، فعطفهم، ثُمَّ أقبل يسير حَتَّى نزل بمرج راهط، وأظهر البيعة لابن الزُّبَيْر وخلع بني أُمَيَّة، وبايعه عَلَى ذَلِكَ جل أهل دمشق من أهل اليمن وغيرهم. قَالَ: وسارت بنو أُمَيَّة ومن تبعهم حَتَّى وافوا حسان بالجابية، فصلى بهم حسان أربعين يَوْمًا، والناس يتشاورون، وكتب الضحاك إِلَى النُّعْمَان بن بشير وَهُوَ عَلَى حمص، وإلى زفر بن الْحَارِث وَهُوَ عَلَى قنسرين، وإلى ناتل ابن قيس وَهُوَ عَلَى فلسطين يستمدهم، وكانوا عَلَى طاعة ابن الزُّبَيْر، فأمده النُّعْمَان بشُرَحْبِيل بن ذي الكلاع، وأمده زفر بأهل قنسرين، وأمده ناتل بأهل فلسطين، فاجتمعت الأجناد إِلَى الضحاك بالمرج. وَكَانَ الناس بالجابية لَهُمْ أهواء مختلفة، فأما مالك بن هبيرة السكوني فكان يهوى هوى بني يَزِيد بن مُعَاوِيَة، ويحب أن تكون الخلافة فِيهِمْ، وأما الحصين بن نمير السكوني فكان يهوى أن تكون الخلافة لمروان بن الحكم،

فَقَالَ مالك بن هبيرة لحصين بن نمير: هلم فلنبايع لهذا الغلام الَّذِي نحن ولدنا أباه، وَهُوَ ابن أختنا، فقد عرفت منزلتنا كَانَتْ من أَبِيهِ، فإنه يحملنا عَلَى رقاب العرب غدا- يعني خَالِد بن يَزِيدَ- فَقَالَ الحصين: لا، لعمر اللَّه، لا تأتينا العرب بشيخ ونأتيهم بصبي، فَقَالَ مالك: هَذَا ولم تردى تهامه ولما يبلغ الحزام الطبيين، فَقَالُوا: مهلا يَا أَبَا سُلَيْمَان! فَقَالَ لَهُ مالك: وَاللَّهِ لَئِنِ استخلفت مَرْوَان وآل مَرْوَان ليحسدنك عَلَى سوطك وشراك نعلك وظل شجرة تستظل بِهَا، إن مَرْوَان أَبُو عشيرة، وأخو عشيرة، وعم عشيرة، فإن بايعتموه كنتم عبيدا لَهُمْ، ولكن عَلَيْكُمْ بابن أختكم خَالِد، فَقَالَ حصين: إني رأيت فِي المنام قنديلا معلقا من السماء، وإن من يمد عنقه إِلَى الخلافة تناوله فلم ينله، وتناوله مَرْوَان فناله، وَاللَّهِ لنستخلفنه، فَقَالَ لَهُ مالك: ويحك يَا حصين! أتبايع لمروان وآل مَرْوَان وأنت تعلم أَنَّهُمْ أهل بيت من قيس! فلما اجتمع رأيهم للبيعة لمروان بن الحكم قام روح بن زنباع الجذامي، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إنكم تذكرون عَبْد اللَّهِ بن عمر ابن الخطاب وصحبته من رسول الله ص، وقدمه فِي الإِسْلام، وَهُوَ كما تذكرون، ولكن ابن عمر رجل ضعيف، وليس بصاحب أمة مُحَمَّد الضعيف، وأما مَا يذكر الناس من عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ ويدعون إِلَيْهِ من أمره فهو وَاللَّهِ كما يذكرون بأنه لابن الزبير حوارى رسول الله ص وابن أسماء ابنة أبي بكر الصديق ذات النطاقين، وَهُوَ بعد كما تذكرون فِي قدمه وفضله، ولكن ابن الزُّبَيْر منافق، قَدْ خلع خليفتين: يزيد وابنه معاويه ابن يَزِيدَ، وسفك الدماء، وشق عصا الْمُسْلِمِينَ، وليس صاحب امر أمه محمد ص المنافق، واما مروان بن الحكم، فو الله مَا كَانَ فِي الإِسْلام صدع قط إلا كَانَ مَرْوَان ممن يشعب ذَلِكَ الصدع، وَهُوَ الَّذِي قاتل عن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَان بن عَفَّانَ يوم الدار، والذي قاتل عَلِيّ بن أبي طالب يوم الجمل، وإنا نرى لِلنَّاسِ أن يبايعوا الكبير ويستشبوا الصغير-

يعني بالكبير مَرْوَان بن الحكم، وبالصغير خَالِد بن يَزِيدَ بن مُعَاوِيَة قَالَ: فأجمع رأي الناس عَلَى البيعة لمروان، ثُمَّ لخالد بن يزيد من بعده، ثم لعمرو ابن سَعِيد بن الْعَاصِ من بعد خَالِد، عَلَى ان اماره دمشق لعمرو بن سعيد ابن الْعَاصِ، وإمارة حمص لخالد بن يَزِيدَ بن معاويه قال: فدعا حسان ابن مالك بن بحدل خَالِد بن يَزِيدَ فَقَالَ: أبني أختي، إن الناس قَدْ أبوك لحداثة سنك، وإني وَاللَّهِ مَا أريد هَذَا الأمر إلا لك ولأهل بيتك، وما أبايع مَرْوَان إلا نظرا لكم، فَقَالَ لَهُ خَالِد بن يَزِيدَ: بل عجزت عنا، قَالَ: لا وَاللَّهِ مَا عجزت عنك، ولكن الرأي لك مَا رأيت ثُمَّ دعا حسان بمروان فَقَالَ: يَا مَرْوَان، إن الناس وَاللَّهِ مَا كلهم يرضى بك، فَقَالَ لَهُ مَرْوَان: إن يرد اللَّه أن يعطنيها لا يمنعني إياها أحد من خلقه، وإن يرد أن يمنعنيها لا يعطنيها أحد من خلقه قَالَ: فَقَالَ لَهُ حسان: صدقت، وصعد حسان الْمِنْبَر يوم الاثنين، فَقَالَ: يا أيها الناس، إنا نستخلف يوم الخميس إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فلما كَانَ يوم الخميس بايع لمروان، وبايع الناس لَهُ، وسار مَرْوَان إِلَى الجابية فِي الناس حَتَّى نزل مرج راهط عَلَى الضحاك فِي أهل الأردن من كلب، وأتته السكاسك والسكون وغسان، وربع حسان بن مالك بن بحدل إِلَى الأردن. قَالَ: وعلى ميمنته- أعني مَرْوَان- عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ، وعلى ميسرته عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، وعلى ميمنة الضحاك زياد بن عَمْرو بن مُعَاوِيَة العقيلي وعلى ميسرته رجل آخر لم أحفظ اسمه، وَكَانَ يَزِيد بن أبي النمس الغساني لم يشهد الجابية، وَكَانَ مختبئا بدمشق، فلما نزل مَرْوَان مرج راهط ثار يزيد ابن أبي نمس بأهل دمشق فِي عبيدها، فغلب عَلَيْهَا، وأخرج عامل الضحاك منها، وغلب عَلَى الخزائن وبيت المال، وبايع لمروان وأمده بالأموال والرجال والسلاح، فكان أول فتح فتح عَلَى بني أُمَيَّة قَالَ: وقاتل مَرْوَان الضحاك عشرين ليلة كَانَ، ثُمَّ هزم أهل المرج، وقتلوا وقتل الضحاك، وقتل يَوْمَئِذٍ من أشراف الناس من أهل الشام ممن كَانَ مع الضحاك ثمانون رجلا كلهم كَانَ يأخذ القطيفة، والذي كَانَ يأخذ القطيفة يأخذ ألفين فِي العطاء، وقتل أهل الشام يَوْمَئِذٍ مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها قط من القبائل كلها، وقتل مع الضحاك

يَوْمَئِذٍ رجل من كلب من بني عليم يقال لَهُ مالك بن يَزِيدَ بن مالك بن كعب، وقتل يَوْمَئِذٍ صاحب لواء قضاعة حيث دخلت قضاعه الشام، وهو جد مدلج ابن المقدام بن زمل بن عَمْرو بن رَبِيعَة بن عَمْرو الجرشي، وقتل ثور بن معن بن يَزِيدَ السلمي، وَهُوَ الَّذِي كَانَ رد الضحاك عن رأيه قَالَ: وجاء برأس الضحاك رجل من كلب، وذكروا أن مَرْوَان حين أتي برأسه ساءه ذَلِكَ وَقَالَ: الآن حين كبرت سني ودق عظمي وصرت فِي مثل ظمء الحمار، أقبلت بالكتائب أضرب بعضها ببعض! قَالَ: وذكروا أنه مر يَوْمَئِذٍ برجل قتيل فَقَالَ: وما ضرهم غير حين النفوس ... أي أميري قريش غلب وَقَالَ مَرْوَان حين بويع لَهُ ودعا إِلَى نفسه: لما رأيت الأمر أمرا نهبا ... سيرت غسان لَهُمْ وكلبا والسكسكيين رجالا غلبا ... وطيئا تأباه إلا ضربا والقين تمشي فِي الحديد نكبا ... ومن تنوخ مشمخرا صعبا لا تأخذون الملك إلا غصبا ... وإن دنت قيس فقل لا قربا قَالَ هِشَام بن مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنِي أَبُو مخنف لوط بن يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنِي رجل من بني عبد ود من أهل الشام، قَالَ: حَدَّثَنِي من شهد مقتل الضحاك ابن قيس، قَالَ: مر بنا رجل من كلب يقال لَهُ زحنة بن عَبْدِ اللَّهِ، كأنما يرمي بالرجال الجداء، مَا يطعن رجلا إلا صرعه، وَلا يضرب رجلا إلا قتله، فجعلت أنظر إِلَيْهِ أتعجب من فعله ومن قتله الرجال، إذ حمل عَلَيْهِ رجل فصرعه زحنة وتركه، فأتيته فنظرت إِلَى المقتول فإذا هُوَ الضحاك بن قيس، فأخذت رأسه فأتيت بِهِ إِلَى مَرْوَان، فَقَالَ: أنت قتلته؟ فقلت: لا، ولكن قتله زحنة بن عَبْدِ اللَّهِ الكلبي، فاعجبه صدقى اياه، وتركي ادعائه، فأمر لي بمعروف، وأحسن إِلَى زحنة

قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل بن مساحق، عن حبيب بن كرة، قَالَ: وَاللَّهِ إن راية مَرْوَان يَوْمَئِذٍ لمعي، وإنه ليدفع بنعل سيفه فِي ظهري، وَقَالَ: ادن برايتك لا أبا لك! إن هَؤُلاءِ لو قَدْ وجدوا لَهُمْ حد السيوف انفرجوا انفراج الرأس، وانفراج الغنم عن راعيها قَالَ: وَكَانَ مَرْوَان فِي ستة آلاف، وَكَانَ عَلَى خيله عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، وَكَانَ عَلَى الرجال مالك ابن هبيرة، قَالَ عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل: وذكروا أن بشر بن مَرْوَان كَانَتْ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ راية يقاتل بِهَا وَهُوَ يقول: إن عَلَى الرئيس حقا حقا ... أن يخضب الصعدة أو تندقا قَالَ: وصرع يَوْمَئِذٍ عَبْد الْعَزِيزِ بن مَرْوَان، قَالَ: ومر مَرْوَان يَوْمَئِذٍ برجل من محارب وَهُوَ فِي نفر يسير تحت راية يقاتل عن مَرْوَان، فَقَالَ مَرْوَان: يرحمك اللَّه! لو أنك انضممت بأَصْحَابك، فإني أراك فِي قلة! فَقَالَ: إن معنا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ من الملائكة مددا أضعاف من تأمرنا ننضم إِلَيْهِ، قَالَ: فسر بِذَلِكَ مَرْوَان وضحك، وضم أناسا إِلَيْهِ ممن كَانَ حوله، قَالَ: وخرج الناس منهزمين من المرج إِلَى أجنادهم، فانتهى أهل حمص إِلَى حمص والنعمان بن بشير عَلَيْهَا، فلما بلغ النُّعْمَان الخبر خرج هاربا ليلا وَمَعَهُ امرأته نائلة بنت عمارة الكلبية، وَمَعَهُ ثقله وولده، فتحير ليلته كلها، وأصبح أهل حمص فطلبوه، وَكَانَ الَّذِي طلبه رجل من الكلاعيين يقال لَهُ عَمْرو بن الخلي فقتله، وأقبل برأس النُّعْمَان بن بشير وبنائلة امرأته وولدها، فألقى الرأس فِي حجر أم أبان ابنة النُّعْمَان الَّتِي كَانَتْ تحت الحجاج بن يُوسُفَ بعد. قَالَ: فَقَالَتْ نائلة: ألقوا الرأس إلي فأنا أحق بِهِ منها، فألقي الرأس فِي حجرها، ثُمَّ أقبلوا بهم وبالرأس حَتَّى انتهوا بهم إِلَى حمص، فجاءت كلب من أهل حمص فأخذوا نائلة وولدها، قَالَ: وخرج زفر بن الْحَارِث من قنسرين هاربا فلحق بقرقيسيا، فلما انتهى إِلَيْهَا وعليها عياض الجرشي وَهُوَ ابن أسلم بن كعب بن مالك بن لغز بن أسود بن كعب بن

حدس بن أسلم- وَكَانَ يَزِيد بن مُعَاوِيَة ولاه قرقيسيا، فحال عياض بين زفر وبين دخول قرقيسيا، فَقَالَ لَهُ زفر: أوثق لك بالطلاق والعتاق إذا أنا دخلت حمامها أن أخرج منها، فلما انتهى إِلَيْهَا ودخلها لم يدخل حمامها وأقام بِهَا، وأخرج عياضا منها، وتحصن زفر بِهَا وثابت إِلَيْهِ قيس. قَالَ: وخرج ناتل بن قيس الجذامي صاحب فلسطين هاربا، فلحق بابن الزُّبَيْر بمكة، وأطبق أهل الشام عَلَى مَرْوَان، واستوثقوا لَهُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا عماله. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي رجل من بني عبد ود من أهل الشام- يعني الشرقي- قَالَ: وخرج مَرْوَان حَتَّى أتى مصر بعد ما اجتمع لَهُ أمر الشام، فقدم مصر وعليها عبد الرَّحْمَن بن جحدم القرشي يدعو إِلَى ابن الزُّبَيْر، فخرج إِلَيْهِ فيمن مَعَهُ من بني فهر، وبعث مَرْوَان عَمْرو بن سَعِيد الأشدق من ورائه حَتَّى دخل مصر، وقام عَلَى منبرها يخطب الناس، وقيل لَهُمْ: قَدْ دخل عَمْرو مصر، فرجعوا، وأمر الناس مَرْوَان وبايعوه، ثُمَّ أقبل راجعا نحو دمشق، حَتَّى إذا دنا منها بلغه أن ابن الزُّبَيْر قَدْ بعث أخاه مُصْعَب بن الزُّبَيْرِ نحو فلسطين، فسرح إِلَيْهِ مَرْوَان عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ فِي جيش، واستقبله قبل أن يدخل الشام، فقاتله فهزم أَصْحَاب مصعب، وَكَانَ مَعَهُ رجل من بني عذرة يقال لَهُ مُحَمَّد بن حريث بن سليم، وَهُوَ خال بني الأشدق، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا رأيت مثل مُصْعَب بن الزُّبَيْرِ رجلا قط أشد قتالا فارسا وراجلا، وَلَقَدْ رأيته فِي الطريق يترجل فيطرد بأَصْحَابه، ويشد عَلَى رجليه، حَتَّى رأيتهما قَدْ دميتا قَالَ: وانصرف مَرْوَان حَتَّى استقرت بِهِ دمشق، ورجع إِلَيْهِ عَمْرو بن سَعِيد. قَالَ: ويقال: إنه لما قدم عُبَيْد اللَّهِ بن زياد من العراق، فنزل الشام أصاب بني أُمَيَّة بتدمر، قَدْ نفاهم ابن الزُّبَيْر مِنَ الْمَدِينَةِ ومكة، ومن الحجاز كله، فنزلوا بتدمر، وأصابوا الضحاك بن قيس أميرا عَلَى الشام لعبد اللَّه بن الزُّبَيْرِ، فقدم ابن زياد حين قدم ومروان يريد أن يركب إِلَى ابن الزُّبَيْر فيبايعه بالخلافة، فيأخذ مِنْهُ الأمان لبني أُمَيَّة، فَقَالَ لَهُ ابن زياد: أنشدك الله

تفعل، ليس هَذَا برأي أن تنطلق وأنت شيخ قريش إِلَى أبي خبيب بالخلافة، ولكن ادع أهل تدمر فبايعهم، ثُمَّ سر بهم وبمن معك من بني أُمَيَّة إِلَى الضحاك بن قيس حَتَّى تخرجه من الشام، فَقَالَ عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ: صدق وَاللَّهِ عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، ثُمَّ أنت سيد قريش وفرعها، وأنت أحق الناس بالقيام بهذا الأمر، إنما ينظر الناس إِلَى هَذَا الغلام- يعني خَالِد بن يَزِيدَ بن مُعَاوِيَة- فتزوج أمه فيكون فِي حجرك، قَالَ: ففعل مَرْوَان ذَلِكَ، فتزوج أم خَالِد بن يَزِيدَ، وَهِيَ فاختة ابنة أبي هاشم بْن عتبة بْن رَبِيعَة بْن عبد شمس ثُمَّ جمع بني أُمَيَّة فبايعوه بالإمارة عَلَيْهِم، وبايعه أهل تدمر ثُمَّ سار فِي جمع عظيم إِلَى الضحاك بن قيس، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بدمشق، فلما بلغ الضحاك مَا صنع بنو أُمَيَّة ومسيرتهم إِلَيْهِ، خرج بمن تبعه من أهل دمشق وغيرهم، فِيهِمْ زفر بن الْحَارِث، فالتقوا بمرج راهط، فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل الضحاك بن قيس الفهري وعامة أَصْحَابه، وانهزم بقيتهم، فتفرقوا، وأخذ زفر بن الْحَارِث وجها من تِلَكَ الوجوه، هُوَ وشابان من بني سليم فجاءت خيل مَرْوَان تطلبهم، فلما خاف السلميان أن تلحقهم خيل مَرْوَان قَالا لزفر: يَا هَذَا، انج بنفسك، فأما نحن فمقتولان، فمضى زفر وتركهما حَتَّى أتى قرقيسيا، فاجتمعت إِلَيْهِ قيس، فرأسوه عَلَيْهِم، فذلك حَيْثُ يقول زفر بن الْحَارِث: أريني سلاحي لا أبا لك إنني ... أَرَى الحرب لا تزداد إلا تماديا أتاني عن مَرْوَان بالغيب أنه ... مقيد دمي أو قاطع من لسانيا ففي العيس منجاة وفي الأرض مهرب ... إذا نحن رفعنا لهن المثانيا فلا تحسبوني إن تغيبت غافلا ... وَلا تفرحوا إن جئتكم بلقائيا

فقد ينبت المرعى عَلَى دمن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كماهيا أتذهب كلب لم تنلها رماحنا ... وتترك قتلى راهط هي ماهيا! لعمري لقد أبقت وقيعة راهط ... لحسان صدعا بينا متنائيا أبعد ابن عَمْرو وابن معن تتابعا ... ومقتل همام أمني الأمانيا! فلم تر مني نبوة قبل هَذِهِ ... فراري وتركي صاحبي ورائيا عشية أعدو بالقران فلا أَرَى ... مِنَ النَّاسِ إلا من علي وَلا ليا أيذهب يوم واحد إن أسأته ... بصالح أيامي وحسن بلائيا! فلا صلح حَتَّى تنحط الخيل بالقنا ... وتثأر من نسوان كلب نسائيا أَلا ليت شعري هل تصيبن غارتي ... تنوخا وحيي طيئ من شفائيا فأجابه جواس بن قعطل: لعمري لقد أبقت وقيعة راهط ... عَلَى زفر داء من الداء باقيا مقيما ثوى بين الضلوع محله ... وبين الحشا أعيا الطبيب المداويا تبكي عَلَى قتلي سليم وعامر ... وذبيان معذورا وتبكي البواكيا دعا بسلاح ثُمَّ أحجم إذ رَأَى ... سيوف جناب والطوال المذاكيا

عَلَيْهَا كأسد الغاب فتيان نجدة ... إذا شرعوا نحو الطعان العواليا فأجابه عمر بن المخلاة الكلبي من تيم اللات بن رفيدة، فَقَالَ: بكى زفر القيسي من هلك قومه ... بعبرة عين مَا يجف سجومها يبكي عَلَى قتلى أصيبت براهط ... تجاوبه هام القفار وبومها أبحنا حمى للحي قيس براهط ... وولت شلالا واستبيح حريمها يبكيهم حران تجري دموعه ... يرجي نزارا أن تئوب حلومها فمت كمدا أو عش ذليلا مهضما ... بحسرة نفس لا تنام همومها إذا خطرت حولي قضاعة بالقنا ... تخبط فعل المصعبات قرومها خبطت بهم من كادني من قبيلة ... فمن ذا إذا عز الخطوب يرومها وَقَالَ زفر بن الْحَارِث أَيْضًا: افي الله اما بحدل وابن بحدل ... فيحيا وأما ابن الزُّبَيْر فيقتل! كذبتم وبيت اللَّه لا تقتلونه ... ولما يكن يوم أغر محجل ولما يكن للمشرفية فوقكم ... شعاع كقرن الشمس حين ترجل

فأجابه عبد الرَّحْمَن بن الحكم، أخو مَرْوَان بن الحكم، فَقَالَ: أتذهب كلب قَدْ حمتها رماحها ... وتترك قتلى راهط مَا أجنت! لحا اللَّه قيسا قيس عيلان إنها ... أضاعت ثغور الْمُسْلِمِينَ وولت فباه بقيس فِي الرخاء وَلا تكن ... أخاها إذا مَا المشرفية سلت قَالَ أَبُو جَعْفَر: ولما بايع حصين بن نمير مروان بن الحكم وعصا مالك بن هبيرة فِيمَا أشار بِهِ عَلَيْهِ من بيعة خَالِد بن يَزِيدَ بن مُعَاوِيَة، واستقر لمروان بن الحكم الملك، وَقَدْ كَانَ الحصين بن نمير اشترط عَلَى مَرْوَان أن ينزل البلقاء من كَانَ بِالشَّامِ من كندة، وأن يجعلها لَهُمْ مأكلة، فأعطاه ذَلِكَ، وإن بني الحكم لما استوثق الأمر لمروان، وَقَدْ كَانُوا اشترطوا لخالد بن يَزِيدَ بن مُعَاوِيَة شروطا، قَالَ مَرْوَان ذات يوم وَهُوَ جالس فِي مجلسه ومالك بن هبيرة جالس عنده: إن قوما يدعون شروطا مِنْهُمْ عطارة مكحلة- يعني مالك بن هبيرة وَكَانَ رجلا يتطيب ويكتحل- فَقَالَ مالك بن هبيرة: هَذَا ولما تردي تهامة، ولما يبلغ الحزام الطبيين، فَقَالَ مَرْوَان: مهلا يَا أَبَا سُلَيْمَان، إنما داعبناك، فَقَالَ مالك: هُوَ ذاك وَقَالَ عويج الطَّائِيّ يمتدح كلبا وحميد بن بحدل: لقد علم الأقوام وقع ابن بحدل ... وأخرى عَلَيْهِم إن بقي سيعيدها يقودون أولاد الوجيه ولاحق ... من الريف شهرا مَا يني من يقودها فهذا لهذا ثم انى لنافض ... على الناس أقواما كثيرا حدودها فلولا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ لأصبحت ... قضاعة أربابا وقيس عبيدها وفي هَذِهِ السنة بايع جند خُرَاسَان لسلم بن زياد بعد موت يَزِيد بن مُعَاوِيَة، عَلَى أن يقوم بأمرهم حتى يجتمع الناس على خليفه

ذكر الخبر عن فتنه عبد الله بن خازم وبيعه سلم بن زياد

ذكر الخبر عن فتنه عبد الله بن خازم وبيعه سلم بن زياد وفيها كَانَتْ فتنة عَبْد اللَّهِ بن خازم بخراسان. ذكر الخبر عن ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قال: أخبرنا مسلمه ابن محارب، قَالَ: بعث سلم بن زياد بِمَا أصاب من هدايا سمرقند وخوارزم إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة مع عَبْد اللَّهِ بن خازم، وأقام سلم واليا عَلَى خُرَاسَان حَتَّى مات يَزِيد بن مُعَاوِيَة ومعاوية بن يَزِيدَ، فبلغ سلما موته، وأتاه مقتل يَزِيد بن زياد فِي سجستان وأسر أبي عبيدة بن زياد، وكتم الخبر سلم، فَقَالَ ابن عرادة: يَا أَيُّهَا الملك المغلق بابه ... حدثت أمور شأنهن عظيم قتلى بجنزة والذين بكابل ... ويزيد أعلن شأنه المكتوم أبني أُمَيَّة إن آخر ملككم ... جسد بحوارين ثُمَّ مقيم طرقت منيته وعند وساده ... كوب وزق راعف مرثوم ومرنة تبكي عَلَى نشوانه ... بالصنج تقعد تارة وتقوم قَالَ مسلمة: فلما ظهر شعر ابن عرادة أظهر سلم موت يَزِيد بن مُعَاوِيَة ومعاوية بن يَزِيدَ، ودعا الناس إِلَى البيعة عَلَى الرضا حَتَّى يستقيم أمر الناس عَلَى خليفة، فبايعوه، ثُمَّ مكثوا بِذَلِكَ شهرين، ثُمَّ نكثوا بِهِ. قَالَ عَلِيّ بن مُحَمَّد: وَحَدَّثَنَا شيخ من أهل خُرَاسَان، قَالَ: لم يحب أهل خُرَاسَان أميرا قط حبهم سلم بن زياد، فسمي فِي تِلَكَ السنين الَّتِي كَانَ بِهَا سلم أكثر من عشرين ألف مولود بسلم، من حبهم سلما

قَالَ: وأخبرنا أَبُو حفص الأَزْدِيّ، عن عمه قَالَ: لما اختلف الناس بخراسان ونكثوا بيعة سلم، خرج سلم عن خُرَاسَان وخلف عَلَيْهَا المهلب بن أبي صفرة، فلما كَانَ بسرخس لقيه سُلَيْمَان بن مرثد أحد بني قيس بن ثعلبة، فَقَالَ لَهُ: من خلفت عَلَى خُرَاسَان؟ قَالَ: المهلب، فَقَالَ: ضاقت عَلَيْك نزار حَتَّى وليت رجلا من أهل اليمن! فولاه مرو الروذ والفارياب والطالقان والجوزجان، وولى أوس بن ثعلبة بن زفر- وَهُوَ صاحب قصر أوس بِالْبَصْرَةِ- هراة، ومضى فلما صار بنيسابور لقيه عَبْد اللَّهِ بن خازم فَقَالَ: من وليت خُرَاسَان؟ فأخبره، فَقَالَ: أما وجدت فِي مضر رجلا تستعمله حَتَّى فرقت خُرَاسَان بين بكر بن وائل ومزون عمان! وَقَالَ لَهُ: اكتب لي عهدا عَلَى خُرَاسَان، قَالَ: أوالي خُرَاسَان أنا! قَالَ: اكتب لي عهدا وخلاك ذم. قَالَ: فكتب لَهُ عهدا عَلَى خُرَاسَان، قَالَ: فأعني الآن بمائة ألف درهم فأمر لَهُ بِهَا، وأقبل إِلَى مرو، وبلغ الخبر المهلب بن أبي صفرة،، فأقبل واستخلف رجلا من بني جشم بن سَعْدِ بْنِ زَيْد مناة بن تميم. قَالَ: وأخبرنا المفضل بن مُحَمَّد الضبي، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لما صار عَبْد اللَّهِ بن خازم إِلَى مرو بعهد سلم بن زياد، منعه الجشمي، فكانت بينهما مناوشة، فأصابت الجشمي رمية بحجر فِي جبهته، وتحاجزوا وخلى الجشمي بين مرو الروذ وبينه، فدخلها ابن خازم، ومات الجشمي بعد ذَلِكَ بيومين. قَالَ عَلِيّ بن مُحَمَّد المدائني: حَدَّثَنَا الْحَسَن بن رشيد الجوزجاني، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لما مات يَزِيد بن مُعَاوِيَة ومعاوية بن يَزِيدَ وثب أهل خُرَاسَان بعمالهم فأخرجوهم، وغلب كل قوم عَلَى ناحية، ووقعت الْفِتْنَة، وغلب ابن خازم عَلَى خُرَاسَان، ووقعت الحرب. قَالَ أَبُو جَعْفَر: وأخبرنا أَبُو الذيال زهير بن هنيد، عن أبي نعامة، قَالَ: أقبل عَبْد اللَّهِ بن خازم فغلب عَلَى مرو، ثُمَّ سار إِلَى سُلَيْمَان بن مرثد فلقيه

بمرو الروذ، فقاتله أياما، فقتل سُلَيْمَان بن مرثد، ثُمَّ سار عَبْد اللَّهِ بن خازم إِلَى عَمْرو بن مرثد وَهُوَ بالطالقان فِي سبعمائة، وبلغ عمرا إقبال عَبْد اللَّهِ إِلَيْهِ وقتله أخاه سُلَيْمَان، فأقبل إِلَيْهِ، فالتقوا عَلَى نهر قبل أن يتوافى إِلَى ابن خازم أَصْحَابه، فأمر عَبْد اللَّهِ من كَانَ مَعَهُ فنزلوا، فنزل وسال عن زهير بن ذؤيب العدوى، فقالوا: لم يجيء حَتَّى أقبل وَهُوَ عَلَى حاله، فلما أقبل قيل لَهُ: هَذَا زهير قَدْ جَاءَ، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ: تقدم، فالتقوا فاقتتلوا طويلا، فقتل عَمْرو بن مرثد، وانهزم أَصْحَابه، فلحقوا بهراة بأوس بن ثعلبة، ورجع عَبْد اللَّهِ ابن خازم إِلَى مرو قَالَ: وَكَانَ الَّذِي ولي قتل عَمْرو بن مرثد زهير بن حيان العدوى فيما يروون فَقَالَ الشاعر: أتذهب أيام الحروب ولم تبئ ... زهير بن حيان بعمرو بن مرثد! قال: وَحَدَّثَنَا أَبُو السري الخراساني- وَكَانَ من أهل هراة- قَالَ: قتل عَبْد اللَّهِ بن خازم سُلَيْمَان وعمرا ابني مرثد المرثديين من بني قيس بن ثعلبة ثُمَّ رجع إِلَى مرو، وهرب من كَانَ بمرو الروذ من بكر بن وائل إِلَى هراة، وانضم إِلَيْهَا من كَانَ بكور خُرَاسَان من بكر بن وائل، فكان لَهُمْ بِهَا جمع كثير عَلَيْهِم أوس بن ثعلبة، قَالَ: فَقَالُوا لَهُ نبايعك عَلَى أن تسير إِلَى ابن خازم، وتخرج مضر من خُرَاسَان كلها، فَقَالَ لَهُمْ: هَذَا بغي، وأهل البغي مخذولون، أقيموا مكانكم هَذَا، فإن ترككم ابن خازم- وما أراه يفعل- فارضوا بهذه الناحية، وخلوه وما هُوَ فِيهِ، فَقَالَ بنو صهيب- وهم موالي بني جحدر: لا وَاللَّهِ لا نرضى أن نكون نحن ومضر فِي بلد، وَقَدْ قتلوا ابني مرثد، فإن أجبتنا إِلَى هَذَا وإلا أمرنا علينا غيرك، قَالَ: إنما أنا رجل مِنْكُمْ، فاصنعوا مَا بدا لكم، فبايعوه، وسار إِلَيْهِم ابن خازم، واستخلف ابنه مُوسَى، وأقبل حَتَّى نزل عَلَى واد بين عسكره وبين هراة، قَالَ: فَقَالَ البكريون لأوس: اخرج فخندق خندقا دون الْمَدِينَة فقاتلهم فِيهِ، وتكون الْمَدِينَة من ورائنا، فَقَالَ لَهُمْ أوس: الزموا الْمَدِينَة فإنها حصينة، وخلوا ابن خازم ومنزله الَّذِي هُوَ فِيهِ، فإنه إن طال مقامه ضجر فأعطاكم مَا ترضون

بِهِ، فإن اضطررتم إِلَى القتال قاتلتم، فأبوا وخرجوا مِنَ الْمَدِينَةِ فخندقوا خندقا دونها، فقاتلهم ابن خازم نحوا من سنة. قَالَ وزعم الأحنف بن الأشهب الضبي، وأخبرنا أَبُو الذيال زهير بن الهنيد، سار ابن خازم إِلَى هراة وفيها جمع كثير لبكر بن وائل قَدْ خندقوا عَلَيْهِم، وتعاقدوا عَلَى إخراج مضر إن ظفروا بخراسان، فنزل بهم ابن خازم، فَقَالَ لَهُ هلال الضبي أحد بني ذهل، ثُمَّ أحد بني أوس: إنما تقاتل إخوتك من بني أبيك، وَاللَّهِ إن نلت مِنْهُمْ فما تريد مَا فِي العيش بعدهم من خير، وَقَدْ قتلت بمرو الروذ مِنْهُمْ من قتلت، فلو أعطيتهم شَيْئًا يرضون بِهِ، أو أصلحت هَذَا الأمر! قَالَ: وَاللَّهِ لو خرجت لَهُمْ عن خُرَاسَان مَا رضوا بِهِ، ولو استطاعوا أن يخرجوكم من الدُّنْيَا لأخرجوكم، قَالَ لا، وَاللَّهِ لا أرمي معك بسهم، وَلا رجل يطيعني من خندف حَتَّى تعذر إِلَيْهِم، قَالَ: فأنت رسولي إِلَيْهِم فأرضهم، فأتى هلال إِلَى أوس بن ثعلبة فناشده اللَّه والقرابة، وَقَالَ: أذكرك اللَّه فِي نزار أن تسفك دماءها، وتضرب بعضها ببعض! قَالَ: لقيت بني صهيب؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ، قَالَ: فالقهم، فخرج فلقي أرقم بن مطرف الحنفي، وضمضم بن يَزِيدَ- أو عَبْد اللَّهِ بن ضمضم بن يَزِيدَ- وعاصم بن الصلت بن الحريث الحنفيين، وجماعة من بكر بن وائل وكلمهم بمثل مَا كلم بِهِ أوسا، فَقَالُوا: هل لقيت بني صهيب؟ فَقَالَ: لقد عظم اللَّه أمر بني صهيب عندكم، لا لم ألقهم، قَالُوا: القهم، فأتى بني صهيب فكلمهم، فَقَالُوا: لولا أنك رسول لقتلناك، قَالَ: أفما يرضيكم شَيْء؟ قَالُوا: واحدة من اثنتين، إما أن تخرجوا عن خُرَاسَان وَلا يدعو فِيهَا لمضر داع، وإما أن تقيموا وتنزلوا لنا عن كل كراع وسلاح وذهب وفضة، قَالَ: أفما شَيْء غير هاتين؟ قَالُوا: لا، قَالَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ! فرجع إِلَى ابن خازم، فَقَالَ: مَا عندك؟ قَالَ: وجدت إخوتنا قطعا للرحم، قَالَ: قَدْ أخبرتك أن رَبِيعَة لم تزل غضابا عَلَى ربها منذ بعث الله النبي ص من مضر

قَالَ أَبُو جَعْفَر: وأخبرنا سُلَيْمَان بن مُجَالِد الضبي، قَالَ: أغارت الترك عَلَى قصر إسفاد وابن خازم بهراة، فحصروا أهله، وفيه ناس من الأزد هم أكثر من فِيهِ، فهزمتهم، فبعثوا إِلَى من حولهم من الأزد فجاءوا لينصروهم فهزمتهم الترك، فأرسلوا إِلَى ابن خازم، فوجه إِلَيْهِم زهير بن حيان فِي بني تميم وَقَالَ لَهُ: إياك ومشاولة الترك، إذا رأيتموهم فاحملوا عَلَيْهِم، فأقبل فوافاهم فِي يوم بارد، قَالَ: فلما التقوا شدوا عَلَيْهِم فلم يثبتوا لَهُمْ، وانهزمت الترك واتبعوهم حَتَّى مضى عامة الليل حَتَّى انتهوا إِلَى قصر فِي المفازة، فأقامت الجماعة ومضى زهير فِي فوارس يتبعهم، وَكَانَ عالما بالطريق، ثُمَّ رجع فِي نصف من الليل، وَقَدْ يبست يده عَلَى رمحه من البرد، فدعا غلامه كعبا، فخرج إِلَيْهِ، فأدخله، وجعل يسخن لَهُ الشحم فيضعه عَلَى يده، ودهنوه وأوقدوا لَهُ نارا حَتَّى لان ودفى، ثُمَّ رجع إِلَى هراة، فَقَالَ فِي ذَلِكَ كعب بن مَعْدَانَ الأشقري: أتاك أتاك الغوث فِي برق عارض ... دروع وبيض حشوهن تميم أبوا أن يضموا حشو مَا تجمع القرى ... فضمهمُ يوم اللقاء صميم ورزقهمُ من رائحات تزينها ... ضروع عريضات الخواصر كوم وَقَالَ ثَابِت قطنة: فدت نفسي فوارس من تميم ... عَلَى مَا كَانَ من ضنك المقام بقصر الباهلي وَقَدْ أراني ... أحامي حين قل بِهِ المحامي بسيفي بعد كسر الرمح فِيهِمْ ... أذودهمُ بذي شطب حسام أكر عَلَيْهِم اليحموم كرا ... ككر الشرب آنية المدام فلولا اللَّه ليس لَهُ شريك ... وضربي قونس الملك الهمام

إذا فاظت نساء بني دثار ... أمام الترك بادية الخدام قَالَ أَبُو جَعْفَر: وَحَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ الخراساني، عن أبي حماد السلمي قَالَ: أقام ابن خازم بهراة يقاتل أوس بن ثعلبة أكثر من سنة، فَقَالَ يوما لأَصْحَابه: قَدْ طال مقامنا عَلَى هَؤُلاءِ، فنادوهم: يَا معشر رَبِيعَة، إنكم قَدِ اعتصمتم بخندقكم، أفرضيتم من خُرَاسَان بهذا الخندق! فأحفظهم ذَلِكَ، فتنادى الناس للقتال، فَقَالَ لَهُمْ أوس بن ثعلبة: الزموا خندقكم وقاتلوهم كما كنتم تقاتلونهم، وَلا تخرجوا إِلَيْهِم بجماعتكم، قَالَ: فعصوه وخرجوا إِلَيْهِم، فالتقى الناس، فَقَالَ ابن خازم لأَصْحَابه: اجعلوه يومكم فيكون الملك لمن غلب، فإن قتلت فأميركم شماس بن دثار العطاردي، فإن قتل فأميركم بكير بن وشاح الثقفي. قَالَ علي: وَحَدَّثَنَا أَبُو الذيال زهير بن هنيد، عن أبي نعامة العدوي عن عبيد بن نقيد، عن إياس بن زهير بن حيان: لما كَانَ الْيَوْم الَّذِي هرب فِيهِ أوس بن ثعلبة وظفر ابن خازم ببكر بن وائل، قَالَ ابن خازم لأَصْحَابه حين التقوا: إني قلع، فشدوني عَلَى السرج، واعلموا أن علي من السلاح مَا لا أقتل قدر جزر جزورين، فان قيل لكم: انى قد قتلت فلا تصدقوا. قَالَ: وكانت راية بني عدي مع أبي وأنا عَلَى فرس محزم، وَقَدْ قَالَ لنا ابن خازم: إذا لقيتم الخيل فاطعنوها فِي مناخرها، فإنه لن يطعن فرس فِي نخرته إلا أدبر أو رمى بصاحبه، فلما سمع فرسي قعقعة السلاح وثب بي واديا كَانَ بيني وبينهم، قَالَ: فتلقاني رجل من بكر بن وائل فطعنت فرسه فِي نخرته، فصرعه، وحمل أبي ببني عدي، وأتبعته بنو تميم من كل وجه، فاقتتلوا ساعة، فانهزمت بكر بن وائل حَتَّى انتهوا الى خندقهم

ذكر الخبر عن تحرك الشيعة للطلب بدم الحسين

وأخذوا يمينا وشمالا، وسقط ناس فِي الخندق فقتلوا قتلا ذريعا، وهرب أوس ابن ثعلبة وبه جراحات، وحلف ابن خازم لا يؤتى بأسير إلا قتله حَتَّى تغيب الشمس، فكان آخر من أتي بِهِ رجل من بني حنيفة يقال لَهُ محمية فَقَالُوا لابن خازم: قَدْ غابت الشمس، قَالَ: وفوا بِهِ القتلى، فقتل. قَالَ: فأخبرني شيخ من بني سعد بن زَيْد مناة أن أوس بن ثعلبه هرب وبه جراحات إِلَى سجستان، فلما صار بِهَا أو قريبا منها مات. وفي مقتل ابن مرثد وأمر أوس بن ثعلبة يقول الْمُغِيرَة بن حبناء، أحد بني رَبِيعَة بن حنظلة: وفي الحرب كنتم فِي خُرَاسَان كلها ... قتيلا ومسجونا بِهَا ومسيرا ويوم احتواكم فِي الحفير ابن خازم ... فلم تجدوا إلا الخنادق مقبرا ويوم تركتم فِي الغبار ابن مرثد ... وأوسا تركتم حَيْثُ سار وعسكرا قَالَ: وأخبرني أَبُو الذيال زهير بن هنيد، عن جده أبي أمه، قَالَ: قتل من بكر بن وائل يَوْمَئِذٍ ثمانية آلاف. قَالَ: وَحَدَّثَنَا التميمي، رجل من أهل خُرَاسَان، عن مولى لابن خازم، قَالَ: قاتل ابن خازم أوس بن ثعلبة وبكر بن وائل، فظفر بهراة، وهرب أوس وغلبه ابن خازم عَلَى هراة، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا ابنه مُحَمَّدا، وضم إِلَيْهِ شماس بن دثار العطاردي، وجعل بكير بن وشاح عَلَى شرطته، وَقَالَ لهما: ربياه فإنه ابن أختكما، فكانت أمه من بني سعد يقال لها صفية، وَقَالَ لَهُ: لا تخالفهما، ورجع ابن خازم إِلَى مرو . ذكر الخبر عن تحرك الشيعة للطلب بدم الحسين قَالَ أَبُو جَعْفَر: وفي هَذِهِ السنة تحركت الشيعة بالكوفة، واتعدوا الاجتماع بالنخيلة فِي سنة خمس وستين للمسير إِلَى أهل الشام للطلب بدم الْحُسَيْن بن علي، وتكاتبوا فِي ذَلِكَ

ذكر الخبر عن مبدإ أمرهم فِي ذَلِكَ: قَالَ هِشَام بن مُحَمَّد: حَدَّثَنَا أَبُو مخنف، قَالَ: حَدَّثَنِي يُوسُف بن يَزِيدَ عن عَبْد اللَّهِ بن عوف بن الأحمر الأَزْدِيّ، قَالَ: لما قتل الْحُسَيْن بن علي ورجع ابن زياد من معسكره بالنخيلة، فدخل الْكُوفَة، تلاقت الشيعة بالتلاوم والتندم، ورأت أنها قَدْ أخطأت خطأ كبيرا بدعائهم الْحُسَيْن إِلَى النصرة وتركهم إجابته، ومقتله إِلَى جانبهم لم ينصروه، ورأوا أنه لا يغسل عارهم والإثم عَنْهُمْ فِي مقتله إلا بقتل من قتله، أو القتل فِيهِ، ففزعوا بالكوفة إِلَى خمسة نفر من رءوس الشيعة إِلَى سُلَيْمَان بن صرد الخزاعي، وكانت له صحبه مع النبي ص، وإلى المسيب بن نجبة الفزاري، وَكَانَ من أَصْحَاب علي وخيارهم، وإلى عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ نفيل الأَزْدِيّ، وإلى عَبْد اللَّهِ بن وال التيمي، وإلى رفاعة بن شداد البجلي. ثُمَّ إن هَؤُلاءِ النفر الخمسة اجتمعوا فِي منزل سُلَيْمَان بن صرد، وكانوا من خيار أَصْحَاب علي، ومعهم أناس من الشيعة وخيارهم ووجوههم. قَالَ: فلما اجتمعوا إِلَى منزل سُلَيْمَان بن صرد بدأ المسيب بن نجبة القوم بالكلام، فتكلم فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وصلى على نبيه ص ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإنا قَدِ ابتلينا بطول العمر، والتعرض لأنواع الفتن فنرغب إِلَى ربنا أَلا يجعلنا ممن يقول لَهُ غدا: «أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ» ، فإن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: [العمر الَّذِي أعذر اللَّه فِيهِ إِلَى ابن آدم ستون سنة، وليس] فينا رجل إلا وَقَدْ بلغه، وَقَدْ كنا مغرمين بتزكية أنفسنا، وتقريظ شيعتنا، حَتَّى بلا اللَّه أخيارنا فوجدنا كاذبين فِي موطنين من مواطن ابن ابنه نبينا ص، وَقَدْ بلغتنا قبل ذَلِكَ كتبه، وقدمت علينا رسله، وأعذر إلينا يسألنا نصره عودا

وبدءا، وعلانية وسرا، فبخلنا عنه بأنفسنا حَتَّى قتل إِلَى جانبنا، لا نحن نصرناه بأيدينا، وَلا جادلنا عنه بألسنتنا، وَلا قويناه بأموالنا، وَلا طلبنا لَهُ النصرة إِلَى عشائرنا، فما عذرنا الى ربنا وعند لقاء نبينا ص وَقَدْ قتل فينا ولده وحبيبه، وذريته ونسله! لا وَاللَّهِ، لا عذر دون أن تقتلوا قاتله والموالين عَلَيْهِ، أو تقتلوا فِي طلب ذَلِكَ، فعسى ربنا أن يرضى عنا عِنْدَ ذَلِكَ، وما أنا بعد لقائه لعقوبته بآمن أيها القوم، ولوا عَلَيْكُمْ رجلا مِنْكُمْ فإنه لا بد لكم من أَمِير تفزعون إِلَيْهِ، وراية تحفون بِهَا، أقول قولي هَذَا وأستغفر اللَّه لي ولكم. قَالَ: فبدر القوم رفاعة بن شداد بعد المسيب الكلام، فَحَمِدَ اللَّهَ وأثنى عليه وصلى على النبي ص ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن اللَّه قَدْ هداك لأصوب القول، ودعوت إِلَى أرشد الأمور، بدأت بحمد اللَّه والثناء عَلَيْهِ، والصلاة عَلَى نبيه ص، ودعوت إِلَى جهاد الفاسقين وإلى التوبة من الذنب العظيم، فمسموع مِنْكَ، مستجاب لك، مقبول قولك، قلت: ولوا أمركم رجلا مِنْكُمْ تفزعون إِلَيْهِ، وتحفون برايته، وَذَلِكَ رأي قَدْ رأينا مثل الَّذِي رأيت، فإن تكن أنت ذَلِكَ الرجل تكن عندنا مرضيا، وفينا متنصحا، وفي جماعتنا محبا، وإن رأيت رأي أَصْحَابنا ذَلِكَ ولينا هَذَا الأمر شيخ الشيعة صاحب رَسُول الله ص، وذا السابقه والقدم سليمان ابن صرد المحمود فِي بأسه ودينه، والموثوق بحزمه أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. قَالَ: ثُمَّ تكلم عَبْد اللَّهِ بن وال وعبد اللَّه بن سَعْد، فحمدا ربهما وأثنيا عَلَيْهِ، وتكلما بنحو من كلام رفاعة بن شداد، فذكرا المسيب بن نجبة بفضله، وذكرا سُلَيْمَان بن صرد بسابقته، ورضاهما بتوليته، فَقَالَ المسيب ابن نجبة: أصبتم ووفقتم، وأنا أَرَى مثل الَّذِي رايتم، فولوا امركم سليمان ابن صرد

قَالَ أَبُو مخنف: فحدثت سُلَيْمَان بن أبي راشد بهذا الحديث، فَقَالَ: حَدَّثَنِي حميد بن مسلم، قَالَ: وَاللَّهِ إني لشاهد بهذا الْيَوْم، يوم ولوا سليمان ابن صرد، وإنا يَوْمَئِذٍ لأكثر من مائة رجل من فرسان الشيعة ووجوههم فِي داره. قَالَ: فتكلم سُلَيْمَان بن صرد فشدد، وما زال يردد ذَلِكَ القول فِي كل جمعة حَتَّى حفظته، بدأ فَقَالَ: أثني عَلَى اللَّه خيرا، وأحمد آلاءه وبلاءه، وأشهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسوله، أَمَّا بَعْدُ، فإني وَاللَّهِ لخائف أَلا يكون آخرنا إِلَى هَذَا الدهر الَّذِي نكدت فِيهِ المعيشة، وعظمت فِيهِ الرزية وشمل فِيهِ الجور أولي الفضل من هَذِهِ الشيعة لما هُوَ خير، أنا كنا نمد أعناقنا إِلَى قدوم آل نبينا، ونمنيهم النصر، ونحثهم عَلَى القدوم، فلما قدموا ونينا وعجزنا، وأدهنا، وتربصنا، وانتظرنا مَا يكون حتى قتل فينا ولد نبينا وسلالته وعصارته وبضعة من لحمه ودمه، إذ جعل يستصرخ فلا يصرخ، ويسأل النصف فلا يعطاه، اتخذه الفاسقون غرضا للنبل، ودرية للرماح حَتَّى أقصدوه، وعدوا عَلَيْهِ فسلبوه أَلا انهضوا فقد سخط ربكم، وَلا ترجعوا إِلَى الحلائل والأبناء حَتَّى يرضى اللَّه، وَاللَّهِ مَا أظنه راضيا دون أن تناجزوا من قتله، أو تبيروا أَلا لا تهابوا الموت فو الله مَا هابه امرؤ قط إلا ذل، كونوا كالأولى من بني إسرائيل إذ قَالَ لَهُمْ نبيهم: «إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ» ، فما فعل القوم؟ جثوا عَلَى الركب وَاللَّهِ، ومدوا الأعناق ورضوا بالقضاء حَتَّى حين علموا أنه لا ينجيهم من عظيم الذنب إلا الصبر عَلَى القتل، فكيف بكم لو قَدْ دعيتم إِلَى مثل مَا دعي القوم إِلَيْهِ! اشحذوا السيوف، وركبوا الأسنة، «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ» ، حَتَّى تدعوا حين تدعون وتستنفرون

قَالَ: فقام خَالِد بن سَعْدِ بْنِ نفيل، فقال: اما انا فو الله لو أعلم أن قتلي نفسي يخرجني من ذنبي ويرضي ربي لقتلتها، ولكن هَذَا أمر بِهِ قوم كَانُوا قبلنا ونهينا عنه، فأشهد اللَّه ومن حضر مِنَ الْمُسْلِمِينَ أن كل مَا أصبحت أملكه سوى سلاحي الَّذِي أقاتل بِهِ عدوي صدقة عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أقويهم بِهِ عَلَى قتال القاسطين وقام أَبُو المعتمر حنش بن رَبِيعَة الكناني فَقَالَ: وأنا أشهدكم عَلَى مثل ذَلِكَ. فَقَالَ سُلَيْمَان بن صرد: حسبكم، من أراد من هَذَا شَيْئًا فليأت بماله عَبْد اللَّهِ بن وال التيمي تيم بكر بن وائل، فإذا اجتمع عنده كل مَا تريدون إخراجه من أموالكم جهزنا بِهِ ذوي الخلة والمسكنة من أشياعكم. قَالَ أَبُو مخنف لوط بن يَحْيَى، عن سُلَيْمَان بن أبي راشد، قَالَ: فحدثنا حميد بن مسلم الأَزْدِيّ أن سُلَيْمَان بن صرد قَالَ لخالد بن سَعْدِ بْنِ نفيل حين قَالَ لَهُ: وَاللَّهِ لو علمت أن قتلي نفسي يخرجني من ذنبي ويرضى عني ربي لقتلتها، ولكن هَذَا أمر بِهِ قوم غيرنا كَانُوا من قبلنا ونهينا عنه، قَالَ: أخوكم هَذَا غدا فريس أول الأسنة، قَالَ: فلما تصدق بماله عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَالَ لَهُ: أبشر بجزيل ثواب اللَّه للذين لأنفسهم يمهدون. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الحصين بن يَزِيدَ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ نفيل قَالَ: أخذت كتابا كَانَ سُلَيْمَان بن صرد كتب بِهِ إِلَى سعد بن حُذَيْفَة بن الْيَمَانِ بالمدائن، فقرأته زمان ولي سُلَيْمَان، قَالَ: فلما قرأته أعجبني، فتعلمته فما نسيته، كتب إِلَيْهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من سُلَيْمَان بن صرد إِلَى سعد بن حُذَيْفَة ومن قبله من الْمُؤْمِنِينَ سلام عَلَيْكُمْ، أَمَّا بَعْدُ، فإن الدُّنْيَا دار قَدْ أدبر منها مَا كَانَ معروفا، وأقبل منها مَا كَانَ منكرا، وأصبحت قَدْ تشنأت إِلَى ذوي الألباب، وأزمع بالترحال منها عباد اللَّه الأخيار، وباعوا قليلا من الدُّنْيَا

لا يبقى بجزيل مثوبة عِنْدَ اللَّه لا تفنى ان أولياء من إخوانكم، وشيعة آل نبيكم نظروا لأنفسهم فِيمَا ابتلوا بِهِ من أمر ابن بنت نبيهم الَّذِي دعي فأجاب، ودعا فلم يجب، وأراد الرجعة فحبس، وسأل الأمان فمنع، وترك الناس فلم يتركوه، وعدوا عَلَيْهِ فقتلوه، ثُمَّ سلبوه وجردوه ظلما وعدوانا وغرة بِاللَّهِ وجهلا، وبعين الله ما يعملون، وإلى اللَّه مَا يرجعون، «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» ، فلما نظروا إخوانكم وتدبروا عواقب مَا استقبلوا رأوا أن قَدْ خطئوا بخذلان الزكي الطيب وإسلامه وترك مواساته، والنصر لَهُ خطأ كبيرا ليس لَهُمْ مِنْهُ مخرج وَلا توبة، دون قتل قاتليه أو قتلهم حَتَّى تفنى عَلَى ذَلِكَ أرواحهم، فقد جد إخوانكم فجدوا، وأعدوا واستعدوا، وَقَدْ ضربنا لإخواننا أجلا يوافوننا إِلَيْهِ، وموطنا يلقوننا فِيهِ، فأما الأجل فغرة شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين، وأما الموطن الَّذِي يلقوننا فِيهِ فالنخيلة. أنتم الَّذِينَ لم تزالوا لنا شيعة وإخوانا، وإلا وَقَدْ رأينا أن ندعوكم إِلَى هَذَا الأمر الَّذِي أراد اللَّه بِهِ إخوانكم فِيمَا يزعمون، ويظهرون لنا أَنَّهُمْ يتوبون، وإنكم جدراء بتطلاب الفضل، والتماس الأجر، والتوبة إِلَى ربكم من الذنب، ولو كَانَ فِي ذَلِكَ حز الرقاب، وقتل الأولاد، واستيفاء الأموال، وهلاك العشائر، مَا ضر أهل عذراء الَّذِينَ قتلوا أَلا يكونوا الْيَوْم أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، شهداء قَدْ لقوا اللَّه صابرين محتسبين، فأثابهم ثواب الصابرين- يعني حجرا واصحابه- وما ضر إخوانكم المقتلين صبرا، المصلبين ظلما، والمثل بهم، المعتدى عَلَيْهِم، أَلا يكونوا أحياء مبتلين بخطاياكم، قَدْ خير لَهُمْ فلقوا ربهم، ووفاهم اللَّه إِنْ شَاءَ اللَّهُ أجرهم، فاصبروا رحمكم اللَّه عَلَى البأساء والضراء وحين البأس، وتوبوا الى الله عن قريب، فو الله انكم لأحرياء الا يكون أحد من إخوانكم صبر عَلَى شَيْء من البلاء إرادة ثوابه إلا صبرتم التماس الأجر فِيهِ عَلَى مثله، وَلا يطلب رضاء اللَّه طالب بشيء من الأشياء ولو أنه القتل إلا طلبتم رضا اللَّه بِهِ إن التقوى أفضل الزاد فِي الدُّنْيَا، وما سوى ذَلِكَ يبور ويفنى، فلتعزف عنها أنفسكم، ولتكن رغبتكم فِي دار عافيتكم، وجهاد عدو اللَّه وعدوكم، وعدو أهل بيت نبيكم

حَتَّى تقدموا عَلَى اللَّه تائبين راغبين، أحيانا اللَّه وإياكم حياة طيبة، وأجارنا وإياكم من النار، وجعل منايانا قتلا فِي سبيله عَلَى يدي أبغض خلقه إِلَيْهِ وأشدهم عداوة لَهُ، إنه القدير عَلَى مَا يشاء، والصانع لأوليائه فِي الأشياء، والسلام عَلَيْكُمْ. قَالَ: وكتب ابن صرد الكتاب وبعث بِهِ إِلَى سعد بن حُذَيْفَة بن الْيَمَانِ مع عَبْد اللَّهِ بن مالك الطَّائِيّ، فبعث بِهِ سعد حين قرأ كتابه إِلَى من كَانَ بالمدائن من الشيعة، وَكَانَ بِهَا أقوام من أهل الْكُوفَة قَدْ أعجبتهم فأوطنوها وهم يقدمون الْكُوفَة فِي كل حين عطاء ورزق، فيأخذون حقوقهم، وينصرفون إِلَى أوطانهم، فقرأ عَلَيْهِم سعد كتاب سُلَيْمَان بن صرد ثُمَّ إنه حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإنكم قَدْ كنتم مجتمعين مزمعين عَلَى نصر الْحُسَيْن وقتال عدوه، فلم يفجأكم أول من قتله، وَاللَّهِ مثيبكم عَلَى حسن النية وما أجمعتم عَلَيْهِ من النصر أحسن المثوبة، وَقَدْ بعث إليكم إخوانكم يستنجدونكم ويستمدونكم، ويدعونكم إِلَى الحق وإلى مَا ترجون لكم بِهِ عِنْدَ اللَّه أفضل الأجر والحظ، فماذا ترون؟ وماذا تقولون؟ فَقَالَ القوم بأجمعهم: نجيبهم ونقاتل معهم، ورأينا فِي ذَلِكَ مثل رأيهم. فقام عَبْد اللَّهِ بن الحنظل الطَّائِيّ ثُمَّ الحزمري، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإنا قَدْ أجبنا إخواننا إِلَى مَا دعونا إِلَيْهِ، وَقَدْ رأينا مثل الَّذِي قَدْ رأوا، فسرحني إِلَيْهِم فِي الخيل، فَقَالَ لَهُ: رويدا، لا تعجل، استعدوا للعدو، وأعدوا لَهُ الحرب، ثُمَّ نسير وتسيرون. وكتب سعد بن حُذَيْفَة بن الْيَمَانِ إِلَى سُلَيْمَان بن صرد مع عَبْد اللَّهِ بن مالك الطَّائِيّ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِلَى سُلَيْمَان بن صرد، من سعد بن حُذَيْفَة ومن قبله من الْمُؤْمِنِينَ، سلام عَلَيْكُمْ، أَمَّا بَعْدُ، فقد قرأنا كتابك، وفهمنا الَّذِي دعوتنا إِلَيْهِ من الأمر الَّذِي عَلَيْهِ رأي الملأ من إخوانك، فقد هديت لحظك، ويسرت لرشدك، ونحن جادون مجدون، معدون مسرجون ملجمون ننتظر الأمر، ونستمع الداعي، فإذا جَاءَ الصريخ أقبلنا ولم نعرج إِنْ شَاءَ اللَّهُ، والسلام

فلما قرأ كتابه سُلَيْمَان بن صرد قرأه على اصحابه، فسروا بذلك. قالوا: وكتب الى المثنى بن مخربه العبدي نسخة الكتاب الَّذِي كَانَ كتب بِهِ إِلَى سعد بن حُذَيْفَة بن الْيَمَانِ وبعث بِهِ مع ظبيان بن عمارة التميمي من بني سعد، فكتب إِلَيْهِ المثنى: أَمَّا بَعْدُ، فقد قرأت كتابك، وأقرأته إخوانك، فحمدوا رأيك، واستجابوا لك، فنحن موافوك إِنْ شَاءَ اللَّهُ للأجل الَّذِي ضربت وفي الموطن الَّذِي ذكرت، والسلام عَلَيْك وكتب فِي أسفل كتابه: تبصر كأني قَدْ أتيتك معلما ... عَلَى أتلع الهادي اجش هزيم طويل القرا نهد الشواه مقلص ... ملح عَلَى فأس اللجام أزوم بكل فتى لا يملأ الروع نحره ... محس لعض الحرب غير سئوم أخي ثقة ينوي الإله بسعيه ... ضروب بنصل السيف غير أثيم قَالَ أَبُو مخنف لوط بن يَحْيَى، عن الْحَارِث بن حصيرة، عن عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ نفيل، قَالَ: كَانَ أول مَا ابتدعوا بِهِ من أمرهم سنة إحدى وستين، وَهِيَ السنة الَّتِي قتل فِيهَا الْحُسَيْن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فلم يزل القوم فِي جمع آلة الحرب والاستعداد للقتال، ودعاء الناس فِي السر من الشيعة وغيرها إِلَى الطلب بدم الْحُسَيْن، فكان يجيبهم القوم بعد القوم، والنفر بعد النفر. فلم يزالوا كذلك وفي ذَلِكَ حَتَّى مات يَزِيد بن مُعَاوِيَة يوم الخميس لأربع عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ سنة أربع وستين، وَكَانَ بين قتل الْحُسَيْن وهلاك يَزِيد بن مُعَاوِيَة ثلاث سنين وشهران وأربعة أيام، وهلك يَزِيد وأمير العراق عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ، وخليفته بالكوفة عَمْرو بن حريث المخزومي، فَجَاءَ إِلَى سُلَيْمَان أَصْحَابه من الشيعة، فَقَالُوا: قَدْ مات هَذَا الطاغية، والأمر الآن ضعيف، فإن شئت وثبنا عَلَى عَمْرو بن حريث فأخرجناه من القصر، ثُمَّ أظهرنا الطلب بدم الْحُسَيْن، وتتبعنا قتلته، ودعونا الناس إِلَى أهل هَذَا البيت المستأثر عَلَيْهِم، المدفوعين عن حقهم، فَقَالُوا فِي ذَلِكَ فأكثروا، فَقَالَ لَهُمْ سُلَيْمَان بن صرد: رويدا، لا تعجلوا، إني قَدْ نظرت فِيمَا تذكرون، فرأيت أن قتلة الْحُسَيْن هم أشراف أهل الْكُوفَة، وفرسان العرب وهم المطالبون بدمه، ومتى علموا مَا تريدون، وعلموا أَنَّهُمُ المطلوبون، كَانُوا

أشد عَلَيْكُمْ ونظرت فيمن تبعني مِنْكُمْ فعلمت أَنَّهُمْ لو خرجوا لم يدركوا ثأرهم، ولم يشفوا أنفسهم، ولم ينكوا فِي عدوهم، وكانوا لَهُمْ جزرا، ولكن بثوا دعاتكم فِي المصر، فادعوا إِلَى أمركم هَذَا، شيعتكم وغير شيعتكم، فإني أرجو أن يكون الناس الْيَوْم حَيْثُ هلك هَذَا الطاغية أسرع إِلَى أمركم استجابة مِنْهُمْ قبل هلاكه ففعلوا، وخرجت طائفة مِنْهُمْ دعاة يدعون الناس، فاستجاب لَهُمْ ناس كثير بعد هلاك يَزِيد بن مُعَاوِيَة أضعاف من كَانَ استجاب لَهُمْ قبل ذَلِكَ. قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنَا الحصين بن يَزِيدَ، عن رجل من مزينة قَالَ: مَا رأيت من هَذِهِ الأمة أحدا كَانَ أبلغ من عُبَيْد اللَّهِ بن عَبْدِ اللَّهِ المري فِي منطق وَلا عظة، وَكَانَ من دعاة أهل المصر زمان سُلَيْمَان بن صرد، وَكَانَ إذا اجتمعت إِلَيْهِ جماعة مِنَ النَّاسِ فوعظهم بدأ بحمد اللَّه والثناء عَلَيْهِ والصلاة عَلَى رَسُول الله ص، ثُمَّ يقول: أَمَّا بَعْدُ، فإن اللَّه اصطفى محمدا ص عَلَى خلقه بنبوته، وخصه بالفضل كله، وأعزكم بأتباعه وأكرمكم بالإيمان بِهِ، فحقن بِهِ دماءكم المسفوكة، وأمن بِهِ سبلكم المخوفة، «وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» فهل خلق ربكم فِي الأولين والآخرين أعظم حقا عَلَى هَذِهِ الأمة من نبيها؟ وهل ذرية أحد من النبيين والمرسلين أو غيرهم أعظم حقا عَلَى هَذِهِ الأمة من ذرية رسولها؟ لا وَاللَّهِ، مَا كَانَ وَلا يكون لِلَّهِ أنتم! ألم تروا ويبلغكم مَا اجترم إِلَى ابن بنت نبيكم! أما رأيتم إِلَى انتهاك القوم حرمته، واستضعافهم وحدته، وترميلهم إِيَّاهُ بالدم، وتجرارهموه عَلَى الأرض! لم يرقبوا فِيهِ ربهم ولا قرابته من الرسول ص، اتخذوه للنبل غرضا، وغادروه للضباع جزرا، فلله عينا من رَأَى مثله! ولله حُسَيْن بن علي، ماذا غادروا بِهِ ذا صدق وصبر، وذا أمانة ونجدة وحزم! ابن أول الْمُسْلِمِينَ إسلاما، وابن بنت رسول رب العالمين، قلت حماته، وكثرت عداته حوله، فقتله عدوه، وخذله وليه فويل للقاتل، وملامة

للخاذل! إن اللَّه لم يجعل لقاتله حجة، وَلا لخاذله معذرة، إلا أن يناصح لِلَّهِ فِي التوبة، فيجاهد القاتلين، وينابذ القاسطين، فعسى اللَّه عِنْدَ ذَلِكَ أن يقبل التوبة، ويقيل العثرة، إنا ندعوكم إِلَى كتاب اللَّه وسنة نبيه، والطلب بدماء أهل بيته، وإلى جهاد المحلين والمارقين، فإن قتلنا فما عِنْدَ اللَّه خير للأبرار، وإن ظهرنا رددنا هَذَا الأمر إِلَى أهل بيت نبينا. قَالَ: وَكَانَ يعيد هَذَا الكلام علينا فِي كل يوم حَتَّى حفظه عامتنا. قَالَ: ووثب الناس عَلَى عَمْرو بن حريث عِنْدَ هلاك يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فأخرجوه من القصر، واصطلحوا عَلَى عَامِر بن مسعود بن أُمَيَّة بن خلف الْجُمَحِيّ. وَهُوَ دحروجة الجعل الَّذِي قَالَ لَهُ ابن همام السلولي: اشدد يديك بزَيْد إن ظفرت بِهِ ... واشف الأرامل من دحروجة الجعل وَكَانَ كأنه إبهام قصرا، وزَيْد مولاه وخازنه، فكان يصلي بِالنَّاسِ. وبايع لابن الزُّبَيْر، ولم يزل أَصْحَاب سُلَيْمَان بن صرد يدعون شيعتهم وغيرهم من أهل مصرهم حَتَّى كثر تبعهم، وَكَانَ الناس الى اتباعهم بعد هلاك يزيد ابن مُعَاوِيَة أسرع مِنْهُمْ قبل ذَلِكَ، فلما مضت سته اشهر من هلاك يزيد ابن مُعَاوِيَة، قدم المختار بن أبي عبيد الْكُوفَة، فقدم فِي النصف من شهر رمضان يوم الجمعة قَالَ: وقدم عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ الأَنْصَارِيّ ثُمَّ الخطمي من قبل عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ أميرا عَلَى الْكُوفَة عَلَى حربها وثغرها، وقدم مَعَهُ من قبل ابن الزُّبَيْر إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بْنِ طَلْحَة بن عُبَيْد اللَّهِ الأعرج أميرا على خراج الْكُوفَة، وَكَانَ قدوم عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ الأَنْصَارِيّ ثُمَّ الخطمي يوم الجمعة لثمان بقين من شهر رمضان سنة أربع وستين. قَالَ: وقدم المختار قبل عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ وإبراهيم بن مُحَمَّد بثمانية أيام، ودخل المختار الْكُوفَة، وَقَدِ اجتمعت رءوس الشيعة ووجوهها مع سُلَيْمَان بن صرد فليس يعدلونه بِهِ، فكان المختار إذا دعاهم إِلَى نفسه وإلى الطلب بدم الْحُسَيْن قالت لَهُ الشيعة: هَذَا سُلَيْمَان بن صرد شيخ الشيعة، قَدِ انقادوا لَهُ واجتمعوا

عَلَيْهِ، فأخذ يقول للشيعة: إني قَدْ جئتكم من قبل المهدي مُحَمَّد بن عَلِيّ ابن الحنفيه مؤتمنا مأمونا، منتجبا ووزيرا، فو الله مَا زال بالشيعة حَتَّى انشعبت إِلَيْهِ طائفة تعظمه وتجيبه، وتنتظر أمره، وعظم الشيعة مع سليمان ابن صرد، فسُلَيْمَان أثقل خلق اللَّه عَلَى المختار. وَكَانَ المختار يقول لأَصْحَابه: أتدرون مَا يريد هَذَا؟ يعني سُلَيْمَان بن صرد- إنما يريد أن يخرج فيقتل نفسه ويقتلكم، ليس لَهُ بصر بالحروب، وَلا لَهُ علم بِهَا. قَالَ: وأتى يَزِيد بن الْحَارِث بن يَزِيدَ بن رويم الشيباني عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ الأَنْصَارِيّ فَقَالَ: إن الناس يتحدثون أن هَذِهِ الشيعة خارجة عَلَيْك مع ابن صرد، ومنهم طائفة أخرى مع المختار، وَهِيَ أقل الطائفتين عددا، والمختار فِيمَا يذكر الناس لا يريد أن يخرج حَتَّى ينظر إِلَى مَا يصير إِلَيْهِ أمر سُلَيْمَان بن صرد، وَقَدِ اجتمع لَهُ أمره، وَهُوَ خارج من أيامه هَذِهِ، فإن رأيت أن تجمع الشرط والمقاتلة ووجوه الناس، ثُمَّ تنهض إِلَيْهِم، وننهض معك، فإذا دفعت الى منزله دعوته، فان أجابك فحسبه، وإن قاتلك قاتلته، وَقَدْ جمعت لَهُ وعبأت وَهُوَ مغتر، فإني أخاف عَلَيْك إن هُوَ بدأك وأقررته حَتَّى يخرج عَلَيْك أن تشتد شوكته، وأن يتفاقم أمره. فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ: اللَّه بيننا وبينهم، إن هم قاتلونا قتلناهم، وإن تركونا لم نطلبهم، حَدِّثْنِي مَا يريد الناس؟ قَالَ: يذكر الناس أَنَّهُمْ يطلبون بدم الْحُسَيْن بن علي، قَالَ: فأنا قتلت الْحُسَيْن! لعن اللَّه قاتل الْحُسَيْن! قَالَ: وَكَانَ سُلَيْمَان بن صرد وأَصْحَابه يريدون أن يثبوا بالكوفة، فخرج عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ حَتَّى صعد الْمِنْبَر، ثُمَّ قام فِي الناس فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فقد بلغني أن طائفة من أهل هَذَا المصر أرادوا أن يخرجوا علينا، فسألت عن الَّذِي دعاهم إِلَى ذَلِكَ مَا هُوَ؟ فقيل لي: زعموا أَنَّهُمْ يطلبون بدم الْحُسَيْن بن علي، فرحم اللَّه هَؤُلاءِ القوم، قَدْ وَاللَّهِ دللت على أماكنهم، وامرت بأخذهم، وقيل: ابداهم قبل

أن يبدءوك، فأبيت ذَلِكَ، فقلت: إن قاتلوني قاتلتهم، وإن تركوني لم أطلبهم، وعلام يقاتلونني! فو الله مَا أنا قتلت حسينا، وَلا أنا ممن قاتله، وَلَقَدْ أصبت بمقتله رحمة اللَّه عَلَيْهِ! فإن هَؤُلاءِ القوم آمنون، فليخرجوا ولينتشروا ظاهرين ليسيروا إِلَى من قاتل الْحُسَيْن، فقد أقبل إِلَيْهِم، وأنا لَهُمْ عَلَى قاتله ظهير، هَذَا ابن زياد قاتل الْحُسَيْن، وقاتل خياركم وأماثلكم، قَدْ توجه إليكم، عهد العاهد بِهِ عَلَى مسيرة ليلة من جسر منبج، فقتاله والاستعداد لَهُ أولى وأرشد من أن تجعلوا بأسكم بينكم، فيقتل بعضكم بعضا، ويسفك بعضكم دماء بعض، فيلقاكم ذَلِكَ العدو غدا وَقَدْ رققتم، وتلك وَاللَّهِ أمنية عدوكم، وإنه قَدْ أقبل إليكم أعدى خلق اللَّه لكم، من ولي عَلَيْكُمْ هُوَ وأبوه سبع سنين، لا يقلعان عن قتل أهل العفاف والدين، هُوَ الَّذِي قتلكم، ومن قبله اتيتم، والذي قتل من تثأرون بدمه، قَدْ جاءكم فاستقبلوه بحدكم وشوكتكم، واجعلوها بِهِ، وَلا تجعلوها بأنفسكم، إني لم آلكم نصحا، جمع اللَّه لنا كلمتنا، وأصلح لنا أئمتنا! قَالَ: فَقَالَ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَة: أَيُّهَا النَّاسُ، لا يغرنكم من السيف والغشم مقالة هَذَا المداهن الموادع، وَاللَّهِ لَئِنْ خرج علينا خارج لنقتلنه، ولئن استقينا أن قوما يريدون الخروج علينا لنأخذن الوالد بولده، والمولود بوالده، ولنأخذن الحميم بالحميم، والعريف بِمَا فِي عرافته حَتَّى يدينوا للحق، ويذلوا للطاعة فوثب إِلَيْهِ المسيب بن نجبة فقطع عَلَيْهِ منطقه ثُمَّ قَالَ: يا بن الناكثين، أنت تهددنا بسيفك وغشمك! أنت وَاللَّهِ أذل من ذَلِكَ، إنا لا نلومك عَلَى بغضنا، وَقَدْ قتلنا أباك وجدك، وَاللَّهِ إني لأرجو الا يخرجك اللَّه من بين ظهراني أهل هَذَا المصر حَتَّى يثلثوا بك جدك وأباك، وأما أنت أيها الأمير فقد قلت قولا سديدا، وإني وَاللَّهِ لأظن من يريد هَذَا الأمر مستنصحا لك، وقابلا قولك. فَقَالَ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَة: إي وَاللَّهِ، ليقتلن وَقَدْ أدهن ثُمَّ أعلن

ذكر الخبر عن فراق الخوارج عبد الله بن الزبير

فقام إِلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بن وال التيمي، فَقَالَ: مَا اعتراضك يَا أخا بني تيم بن مره فيما بيننا وبين أميرنا! فو الله مَا أنت علينا بأمير، وَلا لك علينا سلطان، إنما أنت أَمِير الجزية، فأقبل عَلَى خراجك، فلعمر اللَّه لَئِنْ كنت مفسدا مَا أفسد أمر هَذِهِ الأمة إلا والدك وجدك الناكثان، فكانت بهما اليدان، وكانت عليهما دائرة السوء قَالَ: ثُمَّ أقبل مسيب بن نجبة وعبد اللَّه بن وال عَلَى عَبْد اللَّهِ بن يزيد فقالا: اما رأيك ايها الأمير فو الله إنا لنرجو أن تكون بِهِ عِنْدَ العامة محمودا وأن تكون عِنْدَ الَّذِي عنيت واعتريت مقبولا فغضب أناس من عمال إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَة وجماعة ممن كَانَ مَعَهُ، فتشاتموا دونه، فشتمهم الناس وخصموهم. فلما سمع ذَلِكَ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ نزل ودخل، وانطلق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّدٍ وَهُوَ يقول: قَدْ داهن عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ أهل الْكُوفَة، وَاللَّهِ لأكتبن بِذَلِكَ إِلَى عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، فأتى شبث بن ربعي التميمي عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ فأخبره بِذَلِكَ، فركب بِهِ وبيزيد بن الْحَارِث بن رويم حَتَّى دخل عَلَى إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَة، فحلف لَهُ بِاللَّهِ مَا أردت بالقول الَّذِي سمعت إلا العافية وصلاح ذات البين، إنما أتاني يَزِيد بن الْحَارِث بكذا وكذا، فرأيت أن اقوم فيهم بما سمعت اراده الا تختلف الكلمة، وَلا تتفرق الألفة، وألا يقع بأس هَؤُلاءِ القوم بينهم فعذره وقبل مِنْهُ. قَالَ: ثُمَّ إن أَصْحَاب سُلَيْمَان بن صرد خرجوا ينشرون السلاح ظاهرين، ويتجهزون يجاهرون بجهازهم وما يصلحهم . ذكر الخبر عن فراق الخوارج عبد الله بن الزبير وفي هَذِهِ السنة فارق عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ الخوارج الَّذِينَ كَانُوا قدموا عَلَيْهِ مكة، فقاتلوا مَعَهُ حصين بن نمير السكوني، فصاروا إِلَى الْبَصْرَة، ثُمَّ افترقت كلمتهم فصاروا أحزابا

ذكر الخبر عن فراقهم ابن الزُّبَيْر والسبب الَّذِي من أجله فارقوه والذي من أجله افترقت كلمتهم: حدثت عن هِشَام بْن مُحَمَّد الكلبي، عن أبي مخنف لوط بن يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو المخارق الراسبي، قَالَ: لما ركب ابن زياد من الخوارج بعد قتل أبي بلال مَا ركب، وَقَدْ كَانَ قبل ذَلِكَ لا يكف عَنْهُمْ وَلا يستبقيهم غير أنه بعد قتل أبي بلال تجرد لاستئصالهم وهلاكهم، واجتمعت الخوارج حين ثار ابن الزُّبَيْر بمكة، وسار اليه اهل الشام، فتذاكروا أتى إِلَيْهِم، فَقَالَ لَهُمْ نافع بن الأزرق: إن اللَّه قَدْ أنزل عَلَيْكُمُ الكتاب، وفرض عَلَيْكُمْ فِيهِ الجهاد، واحتج عَلَيْكُمْ بالبيان، وَقَدْ جرد فيكم السيوف أهل الظلم وأولو العدا والغشم، وهذا من قَدْ ثار بمكة، فاخرجوا بنا نأت البيت ونلق هَذَا الرجل، فإن يكن عَلَى رأينا جاهدنا مَعَهُ العدو، وإن يكن عَلَى غير رأينا دافعنا عن البيت مَا استطعنا، ونظرنا بعد ذَلِكَ فِي أمورنا فخرجوا حتى قدموا على عبد الله ابن الزبير، فسر بمقدمهم، ونبأهم أنه عَلَى رأيهم، وأعطاهم الرضا مِنْ غَيْرِ توقف وَلا تفتيش، فقاتلوا مَعَهُ حَتَّى مات يَزِيد بن مُعَاوِيَة، وانصرف أهل الشام عن مكة ثُمَّ إن القوم لقي بعضهم بعضا، فَقَالُوا: إن هَذَا الَّذِي صنعتم أمس بغير رأي وَلا صواب من الأمر، تقاتلون مع رجل لا تدرون لعله ليس عَلَى رأيكم، إنما كَانَ أمس يقاتلكم هُوَ وأبوه ينادي: يال ثأرات عُثْمَان! فأتوه وسلوه عن عُثْمَان، فإن برئ مِنْهُ كَانَ وليكم، وإن أبى كَانَ عدوكم. فمشوا نحوه فَقَالُوا لَهُ: أيها الإنسان، إنا قَدْ قاتلنا معك، ولم نفتشك عن رأيك حَتَّى نعلم أمنا أنت أم من عدونا! خبرنا مَا مقالتك فِي عُثْمَان؟ فنظر فإذا من حوله من أَصْحَابه قليل، فَقَالَ لَهُمْ: إنكم أتيتموني فصادفتموني حين أردت القيام، ولكن روحوا إلي العشية حَتَّى أعلمكم من ذَلِكَ الَّذِي تريدون. فانصرفوا، وبعث إِلَى أَصْحَابه فَقَالَ: البسوا السلاح، وأحضروني بأجمعكم العشية، ففعلوا، وجاءت الخوارج، وَقَدْ أقام أَصْحَابه حوله سماطين عليهم

السلاح، وقامت جماعة مِنْهُمْ عظيمة عَلَى رأسه بأيديهم الأعمدة، فَقَالَ ابن الأزرق لأَصْحَابه: خشي الرجل غائلتكم، وَقَدْ أزمع بخلافكم واستعد لكم، مَا ترون؟ فدنا مِنْهُ ابن الأزرق، فَقَالَ له: يا بن الزُّبَيْر، اتق اللَّه ربك، وأبغض الخائن المستأثر، وعاد أول من سن الضلالة، وأحدث الأحداث، وخالف حكم الكتاب، فإنك إن تفعل ذَلِكَ ترض ربك، وتنج من العذاب الأليم نفسك، وإن تركت ذَلِكَ فأنت من الَّذِينَ استمتعوا بِخَلاقِهِمْ، وأذهبوا فِي الحياة الدُّنْيَا طيباتهم. يَا عبيدة بن هلال، صف لهذا الإنسان ومن مَعَهُ أمرنا الَّذِي نحن عَلَيْهِ، والذي ندعو الناس إِلَيْهِ، فتقدم عبيدة بن هلال. قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي أَبُو عَلْقَمَة الخثعمى، عن قبيصة بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ القحافي، من خثعم، قَالَ: أنا وَاللَّهِ شاهد عبيدة بن هلال، إذ تقدم فتكلم، فما سمعت ناطقا قط ينطق كَانَ أبلغ وَلا أصوب قولا مِنْهُ، وَكَانَ يرى رأي الخوارج. قَالَ: وإن كَانَ ليجمع القول الكثير، فِي المعنى الخطير، فِي اللفظ اليسير. قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن اللَّه بعث محمدا ص يدعو إِلَى عبادة اللَّه، وإخلاص الدين، فدعا إِلَى ذَلِكَ، فأجابه الْمُسْلِمُونَ، فعمل فِيهِمْ بكتاب الله وامره، حتى قبضه الله اليه ص، واستخلف الناس أبا بكر، واستخلف أَبُو بَكْر عمر، فكلاهما عمل بالكتاب وسنة رَسُول اللَّهِ، فالحمد لِلَّهِ رب العالمين ثُمَّ إن الناس استخلفوا عثمان بن عفان، فحمى الاحماء، وآثر القربى، وَاسْتَعْمَلَ الفتى ورفع الدرة، ووضع السوط، ومزق الكتاب، وحقر المسلم

وضرب منكري الجور، وآوى طريد الرسول ص، وضرب السابقين بالفضل، وسيرهم وحرمهم ثُمَّ أخذ فيء اللَّه الَّذِي أفاءه عَلَيْهِم فقسمه بين فساق قريش، ومجان العرب، فسارت إِلَيْهِ طائفة مِنَ الْمُسْلِمِينَ أخذ اللَّه ميثاقهم عَلَى طاعته، لا يبالون فِي اللَّه لومة لائم، فقتلوه، فنحن لَهُمْ أولياء، ومن ابن عفان وأوليائه برآء، فما تقول أنت يا بن الزُّبَيْر؟ قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ ابن الزُّبَيْر وأثنى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فقد فهمت الذى ذكرتم، وذكرت به النبي ص، فهو كما قلت صلى الله عليه وفوق مَا وصفته، وفهمت مَا ذكرت بِهِ أبا بكر وعمر، وَقَدْ وفقت وأصبت، وَقَدْ فهمت الَّذِي ذكرت بِهِ عُثْمَان بن عَفَّانَ رحمة اللَّه عَلَيْهِ، وإني لا أعلم مكان أحد من خلق اللَّه الْيَوْم أعلم بابن عفان وأمره مني، كنت مَعَهُ حَيْثُ نقم القوم عَلَيْهِ، واستعتبوه فلم يدع شَيْئًا استعتبه القوم فِيهِ إلا أعتبهم مِنْهُ ثُمَّ إِنَّهُمْ رجعوا إِلَيْهِ بكتاب لَهُ يزعمون أنه كتبه فِيهِمْ، يأمر فِيهِ بقتلهم فَقَالَ لَهُمْ: مَا كتبته، فإن شئتم فهاتوا بينتكم، فإن لم تكن حلفت لكم، فو الله مَا جاءوه ببينة، وَلا استحلفوه ووثبوا عَلَيْهِ فقتلوه، وَقَدْ سمعت مَا عبته بِهِ، فليس كذلك، بل هُوَ لكل خير أهل، وأنا أشهدكم ومن حضر أني ولي لابن عفان فِي الدُّنْيَا والآخرة، وولي أوليائه، وعدو أعدائه، قَالُوا: فبرئ اللَّه مِنْكَ يَا عدو اللَّه، قَالَ: فبرئ اللَّه مِنْكُمْ يَا أعداء اللَّه. وتفرق القوم، فأقبل نافع بن الأزرق الحنظلي، وعبد اللَّه بن صفار السعدي من بني صريم بن مقاعس، وعبد اللَّه بن إباض أَيْضًا من بني صريم، وحنظلة بن بيهس، وبنو الماحوز: عَبْد اللَّهِ، وعبيد اللَّه، وَالزُّبَيْر، من بنى سليط ابن يربوع، حَتَّى أتوا الْبَصْرَة، وانطلق أَبُو طالوت من بني زمان بن مالك بن صعب بن عَلِيّ بن مالك بن بكر بن وائل وعبد اللَّه بن ثور أَبُو فديك من بني قيس بن ثعلبة وعطية بن الأَسْوَدِ اليشكري إِلَى اليمامة، فوثبوا باليمامة مع أبي طالوت، ثُمَّ أجمعوا بعد ذَلِكَ عَلَى نجده ابن عَامِر الحنفي، فأما الْبَصْرِيُّونَ

مِنْهُمْ فإنهم قدموا الْبَصْرَة وهم مجمعون عَلَى رأي أبي بلال. قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف لوط بن يَحْيَى: فَحَدَّثَنِي أَبُو المثنى، عن رجل من إخوانه من أهل الْبَصْرَة، أَنَّهُمُ اجتمعوا فَقَالَتِ العامة مِنْهُمْ: لو خرج منا خارجون فِي سبيل اللَّه، فقد كَانَتْ منا فترة منذ خرج أَصْحَابنا، فيقوم علماؤنا فِي الأرض فيكونون مصابيح الناس يدعونهم إِلَى الدين، ويخرج أهل الورع والاجتهاد فيلحقون بالرب، فيكونون شهداء مرزوقين عِنْدَ اللَّه أحياء. فانتدب لها نافع بن الأزرق، فاعتقد على ثلاثمائة رجل، فخرج، وَذَلِكَ عِنْدَ وثوب الناس بعبيد اللَّه بن زياد، وكسر الخوارج أبواب السجون وخروجهم منها، واشتغل الناس بقتال الأزد وربيعة وبني تميم وقيس فِي دم مسعود بن عَمْرو، فاغتنمت الخوارج اشتغال الناس بعضهم ببعض، فتهيئوا واجتمعوا، فلما خرج نافع بن الأزرق تبعوه، واصطلح أهل الْبَصْرَة عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِث بْن عبد المطلب يصلي بهم، وخرج ابن زياد إِلَى الشام، واصطلحت الأزد وبنو تميم، فتجرد الناس للخوارج، فأتبعوهم وأخافوهم حَتَّى خرج من بقي مِنْهُمْ بِالْبَصْرَةِ، فلحق بابن الأزرق، إلا قليلا مِنْهُمْ ممن لَمْ يَكُنْ أراد الخروج يومه ذَلِكَ، مِنْهُمْ عَبْد اللَّهِ بن صفار، وعبد الله ابن إباض، ورجال مَعَهُمَا عَلَى رأيهما ونظر نافع بن الأزرق ورأى أن ولاية من تخلف عنه لا تنبغي، وأن من تخلف عنه لا نجاة لَهُ، فَقَالَ لأَصْحَابه: إن اللَّه قَدْ أكرمكم بمخرجكم، وبصركم مَا عمي عنه غيركم، ألستم تعلمون أنكم إنما خرجتم تطلبون شريعته وأمره! فأمره لكم قائد، والكتاب لكم إمام، وإنما تتبعون سننه وأثره، فَقَالُوا: بلى، فَقَالَ: أليس حكمكم فِي وليكم حكم النَّبِيّ ص فِي وليه، وحكمكم فِي عدوكم حكم النَّبِيّ ص فِي عدوه، وعدوكم الْيَوْم عدو اللَّه وعدو النبي ص، كما ان عدو النبي ص يَوْمَئِذٍ هُوَ عدو اللَّه وعدوكم الْيَوْم! فَقَالُوا: نعم، قَالَ: فقد أنزل اللَّه تبارك وتعالى: «بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ»

وقال: «وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ» ، فقد حرم اللَّه ولايتهم، والمقام بين أظهرهم، وإجازة شهادتهم، وأكل ذبائحهم وقبول علم الدين عَنْهُمْ، ومناكحتهم، ومواريثهم، وَقَدِ احتج اللَّه علينا بمعرفة هَذَا، وحق علينا أن نعلم هَذَا الدين الَّذِينَ خرجنا من عندهم، وَلا نكتم مَا أنزل اللَّه، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يقول: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ» ، فاستجاب لَهُ إِلَى هَذَا الرأي جميع أَصْحَابه. فكتب: من عبيد اللَّهِ نافع بن الأزرق إِلَى عَبْد اللَّهِ بن صفار وعبد الله ابن إباض ومن قبلهما مِنَ النَّاسِ سلام عَلَى أهل طاعة اللَّه من عباد اللَّه، فإن من الأمر كيت وكيت، فقص هَذِهِ القصة، ووصف هَذِهِ الصفة، ثُمَّ بعث بالكتاب إليهما فأتيا بِهِ، فقرأه عَبْد اللَّهِ بن صفار، فأخذه فوضعه خلفه، فلم يقرأه عَلَى الناس خشية أن يتفرقوا ويختلفوا، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ بن إباض: مَا لك لِلَّهِ أبوك! اى شيء اصبت! اان قَدْ أصيب إخواننا، أو أسر بعضهم! فدفع الكتاب إِلَيْهِ، فقرأه، فَقَالَ: قاتله اللَّه!، أي راى راى! صدق نافع ابن الأزرق، لو كَانَ القوم مشركين كَانَ أصوب الناس رأيا وحكما فِيمَا يشير بِهِ، وكانت سيرته كسيره النبي ص فِي المشركين، ولكنه قَدْ كذب وكذبنا فِيمَا يقول، إن القوم كفار بالنعم والأحكام، وهم برآء من الشرك، وَلا تحل لنا إلا دماؤهم، وما سوى ذَلِكَ من أموالهم فهو علينا حرام، فقال ابن صفار: برئ اللَّه مِنْكَ، فقد قصرت، وبرئ اللَّه من ابن الأزرق فقد غلا، برئ اللَّه منكما جميعا، وَقَالَ الآخر: فبرئ اللَّه مِنْكَ ومنه. وتفرق القوم، واشتدت شوكة ابن الأزرق، وكثرت جموعه، وأقبل

ذكر الخبر عن مقدم المختار بن ابى عبيد الكوفه

نحو الْبَصْرَة حَتَّى دنا من الجسر، فبعث إِلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث مسلم بن عبيس بن كريز بن رَبِيعَة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف فِي اهل البصره . ذكر الخبر عن مقدم المختار بن ابى عبيد الكوفه قَالَ أَبُو جَعْفَر: وفي النصف من شهر رمضان من هَذِهِ السنة كَانَ مقدم المختار بن أبي عبيد الْكُوفَة. ذكر الخبر عن سبب مقدمه إِلَيْهَا: قَالَ هِشَام بن مُحَمَّد الكلبي: قَالَ أَبُو مخنف: قَالَ النضر بن صالح: كَانَتِ الشيعة تشتم المختار وتعتبه لما كَانَ مِنْهُ فِي أمر الْحَسَن بن علي يوم طعن فِي مظلم ساباط، فحمل إِلَى أبيض المدائن، حَتَّى إذا كَانَ زمن الْحُسَيْن، وبعث الْحُسَيْن مسلم بن عقيل إِلَى الْكُوفَةِ، نزل دار المختار، وَهِيَ الْيَوْم دار سلم بن المسيب، فبايعه المختار بن أبي عبيد فيمن بايعه من أهل الْكُوفَة، وناصحه ودعا إِلَيْهِ من أطاعه، حَتَّى خرج ابن عقيل يوم خرج والمختار فِي قرية لَهُ بخطرنية تدعى لقفا، فجاءه خبر ابن عقيل عِنْدَ الظهر أنه قَدْ ظهر بالكوفة، فلم يكن خروجه يوم خرج عَلَى ميعاد من أَصْحَابه، إنما خرج حين قيل لَهُ: إن هانئ بن عروة المرادي قَدْ ضرب وحبس، فأقبل المختار فِي موال لَهُ حَتَّى انتهى إِلَى باب الفيل بعد الغروب، وَقَدْ عقد عُبَيْد اللَّهِ بن زياد لعمرو بن حريث راية عَلَى جميع الناس، وأمره أن يقعد لَهُمْ في المسجد، فلما كان المختار وقف عَلَى باب الفيل مر بِهِ هانئ بن أبي حية الوادعي، فَقَالَ للمختار: مَا وقوفك هاهنا! لا أنت مع الناس، وَلا

أنت فِي رحلك، قَالَ: أصبح رأيي مرتجا لعظم خطيئتكم، فَقَالَ لَهُ: أظنك وَاللَّهِ قاتلا نفسك، ثُمَّ دخل عَلَى عَمْرو بن حريث فأخبره بِمَا قَالَ للمختار وما رد عَلَيْهِ المختار. قَالَ أَبُو مخنف: فأخبرني النضر بن صالح، عن عبد الرَّحْمَن بن أبي عمير الثقفي، قَالَ: كنت جالسا عِنْدَ عَمْرو بن حريث حين بلغه هانئ بن أبي حية عن المختار هَذِهِ المقالة، فَقَالَ لي: قم إِلَى ابن عمك فأخبره أن صاحبه لا يدري أين هُوَ! فلا يجعلن عَلَى نفسه سبيلا، فقمت لآتيه، ووثب إِلَيْهِ زائدة بن قدامة بن مسعود، فَقَالَ لَهُ: يأتيك عَلَى أنه آمن؟ فَقَالَ لَهُ عَمْرو بن حريث: أما مني فهو آمن، وإن رقي إِلَى الأمير عُبَيْد اللَّهِ بن زياد شَيْء من أمره أقمت لَهُ بمحضره الشهادة، وشفعت لَهُ أحسن الشفاعة، فَقَالَ لَهُ زائدة بن قدامة: لا يكونن مع هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ إلا خير. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فخرجت، وخرج معي زائدة إِلَى المختار، فأخبرناه بمقالة ابن أبي حية وبمقالة عَمْرو بن حريث، وناشدناه بالله الا يجعل عَلَى نفسه سبيلا، فنزل إِلَى ابن حريث، فسلم عَلَيْهِ، وجلس تحت رايته حَتَّى أصبح، وتذاكر الناس أمر المختار وفعله، فمشى عمارة بن عُقْبَةَ بن أبي معيط بِذَلِكَ إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فذكر لَهُ، فلما ارتفع النهار فتح باب عُبَيْد اللَّهِ ابن زياد وأذن لِلنَّاسِ، فدخل المختار فيمن دخل، فدعاه عُبَيْد اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ: أنت المقبل فِي الجموع لتنصر ابن عقيل! فَقَالَ لَهُ: لم أفعل، ولكني أقبلت ونزلت تحت راية عَمْرو بن حريث، وبت مَعَهُ وأصبحت، فَقَالَ لَهُ عَمْرو: صدق أصلحك اللَّه! قَالَ: فرفع القضيب، فاعترض بِهِ وجه المختار فخبط بِهِ عينه فشترها وَقَالَ: أولى لك! أما وَاللَّهِ لولا شهادة عَمْرو لك لضربت عنقك، انطلقوا به الى السجن فانطلقوا به الى فحبس فيه فلم يزل فِي السجن حَتَّى قتل الْحُسَيْن ثُمَّ إن المختار بعث إِلَى زائدة بن قدامة، فسأله أن يسير إِلَى عَبْد اللَّهِ بن عُمَرَ بِالْمَدِينَةِ فيسأله أن يكتب لَهُ إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فيكتب

إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد بتخلية سبيله، فركب زائدة إِلَى عَبْد اللَّهِ بن عُمَرَ فقدم عَلَيْهِ، فبلغه رسالة المختار، وعلمت صفية أخت المختار بمحبس أخيها وَهِيَ تحت عَبْد اللَّهِ بن عُمَرَ، فبكت وجزعت، فلما رَأَى ذَلِكَ عَبْد اللَّهِ بن عُمَرَ كتب مع زائدة إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة: أَمَّا بَعْدُ، فإن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد حبس المختار، وَهُوَ صهري، وأنا أحب أن يعافى ويصلح من حاله، فإن رأيت رحمنا اللَّه وإياك أن تكتب إِلَى ابن زياد فتأمره بتخليته فعلت. والسلام عَلَيْك. فمضى زائدة عَلَى رواحله بالكتاب حَتَّى قدم بِهِ عَلَى يَزِيد بِالشَّامِ، فلما قرأه ضحك ثُمَّ قَالَ: يشفع أَبُو عبد الرَّحْمَن، وأهل ذَلِكَ هُوَ فكتب لَهُ إِلَى ابن زياد: أَمَّا بَعْدُ، فخل سبيل المختار بن أبي عبيد حين تنظر فِي كتابي، والسلام عَلَيْك. فأقبل بِهِ زائدة حَتَّى دفعه، فدعا ابن زياد بالمختار، فأخرجه، ثُمَّ قَالَ لَهُ قَدْ أجلتك ثلاثا، فإن أدركتك بالكوفه بعدها قد برئت مِنْكَ الذمة. فخرج إِلَى رحله وَقَالَ ابن زياد: وَاللَّهِ لقد اجترأ علي زائدة حين يرحل إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى يأتيني بالكتاب فِي تخلية رجل قَدْ كَانَ من شأني أن أطيل حبسه، علي بِهِ فمر بِهِ عَمْرو بن نافع أَبُو عُثْمَان- كاتب لابن زياد- وَهُوَ يطلب، وَقَالَ لَهُ: النجاء بنفسك، واذكرها يدا لي عندك. قَالَ: فخرج زائدة، فتوارى يومه ذَلِكَ ثُمَّ إنه خرج فِي أناس من قومه حَتَّى أتى القعقاع بن شور الذهلي، ومسلم بن عَمْرو الباهلي، فأخذا لَهُ من ابن زياد الأمان. قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: ولما كَانَ الْيَوْم الثالث خرج المختار إِلَى الحجاز، قَالَ: فَحَدَّثَنِي الصقعب بن زهير، عن ابن العرق، مولى لثقيف. قَالَ: أقبلت من الحجاز حَتَّى إذا كنت بالبسيطة من وراء واقصة استقبلت المختار بن أبي عبيد خارجا يريد الحجاز حين خلى سبيله ابن زياد، فلما استقبلته رحبت بِهِ، وعطفت إِلَيْهِ، فلما رأيت شتر عينه استرجعت لَهُ، وقلت لَهُ بعد ما توجعت لَهُ: مَا بال عينك، صرف اللَّه عنك السوء!

فَقَالَ: خبط عيني ابن الزانية بالقضيب خبطة صارت إِلَى مَا ترى فقلت لَهُ: مَا لَهُ شلت أنامله! فَقَالَ المختار: قتلني اللَّه ان لم اقطع أنامله واباجله وأعضائه إربا إربا، قَالَ: فعجبت لمقالته، فقلت لَهُ: مَا علمك بِذَلِكَ رحمك اللَّه؟ فَقَالَ لي: مَا أقول لك فاحفظه عني حَتَّى ترى مصداقه. قَالَ: ثُمَّ طفق يسألني عن عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، فقلت لَهُ: لجأ إِلَى البيت، فَقَالَ: إنما أنا عائذ برب هَذِهِ البنية، والناس يتحدثون أنه يبايع سرا، وَلا أراه إلا لو قَدِ اشتدت شوكته واستكثف من الرجال إلا سيظهر الخلاف، قَالَ: أجل، لا شك فِي ذَلِكَ، أما إنه رجل العرب الْيَوْم، أما إنه إن يخطط فِي أثري، ويسمع قولي أكفه أمر الناس، وإلا يفعل فو الله ما انا بدون احد من العرب، يا بن العرق، إن الْفِتْنَة قَدْ أرعدت وأبرقت، وكأن قَدِ انبعثت فوطئت فِي خطامها، فإذا رأيت ذَلِكَ وسمعت بِهِ بمكان قَدْ ظهرت فِيهِ فقل: إن المختار فِي عصائبه مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يطلب بدم المظلوم الشهيد المقتول بالطف، سيد المسلمين، وابن سيدها، الحسين ابن على، فو ربك لأقتلن بقتله عدة القتلى الَّتِي قتلت عَلَى دم يحيى بن زكرياء ع، قَالَ: فقلت لَهُ: سبحان اللَّه! وهذه أعجوبة مع الأحدوثة الأولى، فَقَالَ: هُوَ مَا أقول لك فاحفظه عني حَتَّى ترى مصداقه. ثُمَّ حرك راحلته، فمضى ومضيت مَعَهُ ساعة أدعو اللَّه لَهُ بالسلامة، وحسن الصحابة قَالَ: ثُمَّ إنه وقف فأقسم علي لما انصرفت، فأخذت بيده! فودعته، وَسَلَّمَت عَلَيْهِ، وانصرفت عنه، فقلت فِي نفسي: هَذَا الَّذِي يذكر لي هَذَا الإنسان، - يعني المختار- مما يزعم أنه كائن، اشيء حدث به نفسه! فو الله مَا أطلع اللَّه عَلَى الغيب أحدا، وإنما هُوَ شَيْء يتمناه فيرى أنه كائن، فهو يوجب رايه، فهذا والله الرأي الشعاع، فو الله مَا كل مَا يرى الإنسان أنه كائن يكون، قال: فو الله مَا مت حَتَّى رأيت كل مَا قاله قال: فو الله

لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ من علم ألقى إِلَيْهِ لقد أثبت لَهُ، ولئن كَانَ ذَلِكَ رأيا رآه، وشيئا تمناه، لقد كَانَ. قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي الصَّقْعَبُ بْنُ زُهَيْرٍ، عن ابن العرق، قَالَ: فحدثت بهذا الحديث الحجاج بن يُوسُفَ، فضحك ثُمَّ قَالَ لي: إنه كَانَ يقول أيضا: ورافعه ذيلها ... وداعية ويلها بدجلة أو حولها فقلت لَهُ: أترى هَذَا شَيْئًا كَانَ يخترعه، وتخرصا يتخرصه، أم هُوَ من علم كَانَ أوتيه؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أدري مَا هَذَا الَّذِي تسألني عنه، ولكن لِلَّهِ دره! أي رجل دينا، ومسعر حرب، ومقارع أعداء كَانَ! قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي أَبُو سيف الأَنْصَارِيّ من بني الخزرج، عن عباس بن سَهْل بن سَعْدٍ، قَالَ: قدم المختار علينا مكة، فَجَاءَ الى عبد الله ابن الزُّبَيْرِ وأنا جالس عنده، فسلم عَلَيْهِ، فرد عَلَيْهِ ابن الزُّبَيْر، ورحب بِهِ، وأوسع لَهُ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي عن حال الناس بالكوفة يَا أَبَا إِسْحَاق، قَالَ: هم لسلطانهم فِي العلانية أولياء، وفي السر أعداء، فَقَالَ لَهُ ابن الزُّبَيْر: هَذِهِ صفة عبيد السوء، إذا رأوا أربابهم خدموهم وأطاعوهم، فإذا غابوا عَنْهُمْ شتموهم ولعنوهم، قَالَ: فجلس معنا ساعة، ثُمَّ إنه مال إِلَى ابن الزُّبَيْر كأنه يساره، فَقَالَ لَهُ: مَا تنتظر! ابسط يدك أبايعك، وأعطنا مَا يرضينا، وثب عَلَى الحجاز فإن أهل الحجاز كلهم معك وقام المختار فخرج، فلم ير حولا، ثُمَّ إني بينا أنا جالس مع ابن الزُّبَيْر إذ قَالَ لي ابن الزُّبَيْر: متى عهدك بالمختار بن أبي عبيد؟ فقلت لَهُ: مَا لي بِهِ عهد منذ رأيته عندك عاما أول، فَقَالَ: أين تراه ذهب! لو كان بمكة، لقد رئى بِهَا بعد، فقلت لَهُ: إني انصرفت إِلَى الْمَدِينَة بعد إذ رأيته عندك بشهر أو شهرين، فلبثت بِالْمَدِينَةِ أشهرا، ثُمَّ إني قدمت عَلَيْك، فسمعت نفرا من أهل الطائف جاءوا معتمرين

يزعمون أنه قدم عَلَيْهِم الطائف، وَهُوَ يزعم أنه صاحب الغضب، ومبير الجبارين، قَالَ: قاتله اللَّه! لقد انبعث كذابا متكهنا، إن اللَّه ان يهلك الجبارين يكن المختار احدهم فو الله مَا كَانَ إلا ريث فراغنا من منطقنا حَتَّى عن لنا فِي جانب المسجد، فَقَالَ ابن الزُّبَيْر: اذكر غائبا تره، أين تظنه يهوي؟ فقلت: أظنه يريد البيت، فأتى البيت فاستقبل الحجر، ثُمَّ طاف بالبيت أسبوعا، ثُمَّ صلى ركعتين عِنْدَ الحجر، ثُمَّ جلس، فما لبث أن مر بِهِ رجال من معارفه من أهل الطائف وغيرهم من أهل الحجاز، فجلسوا إِلَيْهِ، واستبطأ ابن الزُّبَيْر قيامه إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا ترى شأنه لا يأتينا! قلت: لا ادرى، وساعلم لك علمه، فقال: مَا شئت، وكأن ذَلِكَ أعجبه. قَالَ: فقمت فمررت بِهِ كأني أريد الخروج من المسجد، ثُمَّ التفت إِلَيْهِ، فأقبلت نحوه ثُمَّ سلمت عَلَيْهِ، ثُمَّ جلست إِلَيْهِ، وأخذت بيده، فقلت له: اين كنت؟ واين بلغت بعدي؟ أبا لطائف كنت؟ فَقَالَ لي: كنت بالطائف وغير الطائف، وعمس علي أمره، فملت إِلَيْهِ، فناجيته، فقلت لَهُ: مثلك يغيب عن مثل مَا قَدِ اجتمع عَلَيْهِ أهل الشرف وبيوتات العرب من قريش والأنصار وثقيف! لم يبق أهل بيت وَلا قبيلة إلا وَقَدْ جَاءَ زعيمهم وعميدهم فبايع هَذَا الرجل، فعجبا لك ولرأيك أَلا تكون أتيته فبايعته، وأخذت بحظك من هَذَا الأمر! فَقَالَ لي: وما رأيتني؟ أتيته العام الماضي، فأشرت عَلَيْهِ بالرأي، فطوى أمره دوني، وإني لما رأيته استغنى عني أحببت أن أريه أني مستغن عنه، إنه وَاللَّهِ لهو أحوج إلي مني إِلَيْهِ، فقلت لَهُ: إنك كلمته بِالَّذِي كلمته وَهُوَ ظاهر فِي المسجد، وهذا الكلام لا ينبغي أن يكون إلا والستور دونه مرخاة والأبواب دونه مغلقة، القه الليلة إن شئت وأنا معك، فَقَالَ لي: فانى فاعل

إذا صلينا العتمة أتيناه، واتعدنا الحجر. قَالَ: فنهضت من عنده، فخرجت ثُمَّ رجعت إِلَى ابن الزُّبَيْر، فأخبرته بِمَا كَانَ من قولي وقوله، فسر بِذَلِكَ، فلما صلينا العتمة، التقينا بالحجر، ثُمَّ خرجنا حَتَّى أتينا منزل ابن الزُّبَيْر، فاستأذنا عَلَيْهِ، فأذن لنا، فقلت: أخليكما؟ فقالا جميعا: لا سر دونك، فجلست، فإذا ابن الزُّبَيْر قَدْ أخذ بيده، فصافحه ورحب بِهِ، فسأله عن حاله وأهل بيته، وسكتا جميعا غير طويل. فَقَالَ لَهُ المختار وأنا أسمع بعد أن تبدأ فِي أول منطقه، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إنه لا خير فِي الإكثار من المنطق، وَلا فِي التقصير عن الحاجة، إني قَدْ جئتك لأبايعك على أَلا تقضي الأمور دوني، وعلى أن أكون فِي أول من تأذن لَهُ، وإذا ظهرت استعنت بي عَلَى أفضل عملك فَقَالَ لَهُ ابن الزُّبَيْر: أبايعك عَلَى كتاب اللَّه وسنة نبيه ص، فَقَالَ: وشر غلماني أنت مبايعه عَلَى كتاب اللَّه وسنة نبيه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا لي فِي هَذَا الأمر من الحظ مَا ليس لأقصى الخلق مِنْكَ، لا وَاللَّهِ لا أبايعك أبدا إلا عَلَى هَذِهِ الخصال. قَالَ عباس بن سهل: فالتقمت أذن ابن الزُّبَيْر، فقلت لَهُ: اشتر مِنْهُ دينه حَتَّى ترى من رأيك، فَقَالَ لَهُ ابن الزُّبَيْر: فإن لك مَا سألته، فبسط يده فبايعه، ومكث مَعَهُ حَتَّى شاهد الحصار الأول حين قدم الحصين بن نمير السكوني مكة، فقاتل فِي ذَلِكَ الْيَوْم، فكان من أحسن الناس يَوْمَئِذٍ بلاء، وأعظمهم غناء فلما قتل المنذر بن الزُّبَيْرِ والمسور بن مخرمة ومُصْعَب بن عبد الرحمن ابن عوف الزُّهْرِيّ، نادى المختار: يَا أهل الإِسْلام، الى الى! انا ابن ابى عبيد ابن مسعود، وأنا ابن الكرار لا الفرار، أنا ابن المقدمين غير المحجمين، إلي يَا أهل الحفاظ وحماة الأوتار فحمى الناس يَوْمَئِذٍ، وأبلى وقاتل قتالا حسنا

ثُمَّ أقام مع ابن الزُّبَيْر فِي ذَلِكَ الحصار حَتَّى كَانَ يوم أحرق البيت، فإنه أحرق يوم السبت لثلاث مضين من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، فقاتل المختار يومئذ في عصابه معه نحو من ثلاثمائة أحسن قتال قاتله أحد مِنَ النَّاسِ، إن كَانَ ليقاتل حَتَّى يتبلد، ثُمَّ يجلس ويحيط بِهِ أَصْحَابه، فإذا استراح نهض فقاتل، فما كَانَ يتوجه نحو طائفة من أهل الشام إلا ضاربهم حَتَّى يكشفهم. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي أَبُو يُوسُف مُحَمَّد بن ثابط، عن عباس بن سَهْل بن سَعْدٍ، قَالَ: تولى قتال أهل الشام يوم تحريق الكعبة عَبْد اللَّهِ بن مطيع وأنا والمختار، قَالَ: فما كَانَ فينا يَوْمَئِذٍ رجل أحسن بلاء من المختار. قَالَ: وقاتل قبل أن يطلع أهل الشام عَلَى موت يَزِيد بن مُعَاوِيَة بيوم قتالا شديدا، وَذَلِكَ يوم الأحد لخمس عشرة ليلة مضت من ربيع الآخر سنة أربع وستين، وَكَانَ أهل الشام قَدْ رجوا أن يظفروا بنا، وأخذوا علينا سكك مكة. قَالَ: وخرج ابن الزُّبَيْر، فبايعه رجال كثير عَلَى الموت، قَالَ: فخرجت فِي عصابة معي أقاتل فِي جانب، والمختار فِي عصابة أخرى يقاتل فِي جميعة من أهل اليمامة فِي جانب، وهم خوارج، وانما قاتلوا ليدفعوا عن البيت، فهم فِي جانب، وعبد اللَّه بن المطيع فِي جانب. قَالَ: فشد أهل الشام علي، فحازوني فِي أَصْحَابي حَتَّى اجتمعت أنا والمختار وأَصْحَابه فِي مكان واحد، فلم أكن أصنع شَيْئًا إلا صنع مثله، وَلا يصنع شَيْئًا إلا تكلفت أن أصنع مثله، فما رأيت أشد مِنْهُ قط، قَالَ: فإنا لنقاتل إذ شدت علينا رجال وخيل من خيل أهل الشام، فاضطروني وإياه فِي نحو من سبعين رجلا من أهل الصبر إِلَى جانب دار من دور أهل مكة، فقاتلهم المختار يومئذ، وأخذ يقول رجل لرجل: لا وألت نفس امرئ يفر. قَالَ: فخرج المختار، وخرجت مَعَهُ، فقلت: ليخرج مِنْكُمْ إلي رجل

فخرج إلي رجل وإليه رجل آخر، فمشيت إِلَى صاحبي فأقتله، ومشى المختار إِلَى صاحبه فقتله، ثم صحنا باصحابنا، وشددنا عليهم، فو الله لضربناهم حَتَّى أخرجناهم من السكك كلها، ثُمَّ رجعنا إِلَى صاحبينا اللذين قتلنا قَالَ: فإذا الَّذِي قتلت رجل أحمر شديد الحمرة كأنه رومي، وإذا الَّذِي قتل المختار رجل أسود شديد السواد، فَقَالَ لي المختار: تعلم وَاللَّهِ أني لأظن قتيلينا هَذَيْنِ عبدين، ولو أن هَذَيْنِ قتلانا لفجع بنا عشائرنا ومن يرجونا، وما هَذَانِ وكلبان من الكلاب عندي إلا سواء، وَلا أخرج بعد يومي هَذَا لرجل أبدا إلا لرجل أعرفه، فقلت لَهُ: وأنا وَاللَّهِ لا أخرج إلا لرجل أعرفه. وأقام المختار مع ابن الزُّبَيْر حَتَّى هلك يَزِيد بن مُعَاوِيَة، وانقضى الحصار، ورجع أهل الشام إِلَى الشام، واصطلح أهل الْكُوفَة عَلَى عَامِر بن مسعود، بعد ما هلك يَزِيد يصلي بهم حَتَّى يجتمع الناس عَلَى إمام يرضونه، فلم يلبث عَامِر إلا شهرا حَتَّى بعث ببيعته وبيعة أهل الْكُوفَة إِلَى ابن الزُّبَيْر، وأقام المختار مع ابن الزُّبَيْر خمسة أشهر بعد مهلك يَزِيد وأياما. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل بن مساحق، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ، قَالَ: وَاللَّهِ إني لمع عَبْد اللَّهِ بن الزبير ومعه عبد الله ابن صفوان بن أُمَيَّة بن خلف، ونحن نطوف بالبيت، إذ نظر ابن الزُّبَيْر فإذا هُوَ بالمختار، فقال لابن صفوان: انظر اليه، فو الله لهو أحذر من ذئب قَدْ أطافت بِهِ السباع، قَالَ: فمضى ومضينا مَعَهُ، فلما قضينا طوافنا وصلينا الركعتين بعد الطواف لحقنا المختار، فَقَالَ لابن صفوان: مَا الَّذِي ذكرني بِهِ ابن الزُّبَيْر؟ قَالَ: فكتمه، وَقَالَ: لم يذكرك إلا بخير، قَالَ: بلى ورب هَذِهِ البنية إن كنت لمن شأنكما، أما وَاللَّهِ ليخطن فِي أثري أو لأقدنها عَلَيْهِ سعرا فأقام مَعَهُ خمسة أشهر، فلما رآه لا يستعمله جعل لا يقدم عَلَيْهِ أحد من الْكُوفَة إلا سأله عن حال الناس وهيئتهم. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي عطية بن الْحَارِث أَبُو روق الهمدانى، ان هانئ ابن أبي حية الوادعي قدم مكة يريد عمرة رمضان، فسأله المختار عن حاله

وحال الناس بالكوفة وهيئتهم، فأخبره عَنْهُمْ بصلاح واتساق عَلَى طاعة ابن الزُّبَيْر، إلا أن طائفة مِنَ النَّاسِ إِلَيْهِم عدد أهل المصر لو كَانَ لَهُمْ رجل يجمعهم عَلَى رأيهم أكل بهم الأرض إِلَى يوم مَا، فَقَالَ لَهُ المختار: أنا أَبُو إِسْحَاق أنا وَاللَّهِ لَهُمْ! أنا أجمعهم عَلَى مر الحق، وأنفي بهم ركبان الباطل، وأقتل بهم كل جبار عنيد، فَقَالَ لَهُ هانئ بن أبي حية: ويحك يا بن أبي عبيد! إن استطعت أَلا توضع فِي الضلال ليكن صاحبهم غيرك، فإن صاحب الْفِتْنَة أقرب شَيْء أجلا، وأسوأ الناس عملا، فَقَالَ لَهُ المختار: إني لا أدعو إِلَى الْفِتْنَة إنما أدعو إِلَى الهدى والجماعة، ثُمَّ وثب فخرج وركب رواحله، فأقبل نحو الْكُوفَة حَتَّى إذا كَانَ بالقرعاء لقيه سلمة بن مرثد أخو بنت مرثد القابضي من همدان- وَكَانَ من أشجع العرب، وَكَانَ ناسكا- فلما التقيا تصافحا وتساءلا، فخبره المختار، ثُمَّ قَالَ لسلمة بن مرثد: حَدَّثَنِي عن الناس بالكوفة، قَالَ: هم كغنم ضل راعيها، فَقَالَ المختار بن أبي عبيد: أنا الَّذِي أحسن رعايتها، وأبلغ نهايتها، فَقَالَ لَهُ سلمة: اتق اللَّه واعلم أنك ميت ومبعوث، ومحاسب ومجزي بعملك إن خيرا فخير وإن شرا فشر، ثُمَّ افترقا وأقبل المختار حَتَّى انتهى إِلَى بحر الحيرة يوم الجمعة، فنزل فاغتسل فِيهِ، وادهن دهنا يسيرا، ولبس ثيابه واعتم، وتقلد سيفه، ثُمَّ ركب راحلته فمر بمسجد السكون وجبانة كندة، لا يمر بمجلس إلا سلم عَلَى أهله، وَقَالَ: أبشروا بالنصر والفلج، أتاكم مَا تحبون، وأقبل حَتَّى مر بمسجد بني ذهل وبني حجر، فلم يجد ثَمَّ أحدا، ووجد الناس قَدْ راحوا إِلَى الجمعة، فأقبل حَتَّى مر ببني بداء، فوجد عبيدة بن عَمْرو البدى من كنده، فسلم عليه، ثُمَّ قَالَ: أبشر بالنصر واليسر والفلج، إنك أبا عَمْرو عَلَى رأي حسن، لن يدع اللَّه لك مَعَهُ مأثما إلا غفره، وَلا ذنبا إلا ستره- قَالَ: وَكَانَ عبيدة من أشجع الناس وأشعرهم، وأشدهم حبا لعلي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ لا يصبر عن الشراب- فلما قَالَ لَهُ المختار هَذَا القول قَالَ لَهُ عبيدة: بشرك اللَّه بخير

إنك قَدْ بشرتنا، فهل أنت مفسر لنا؟ قَالَ: نعم، فالقني فِي الرحل الليلة ثُمَّ مضى. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي فضيل بن خديج، عن عبيدة بن عَمْرو قَالَ: قَالَ لي المختار هَذِهِ المقالة، ثُمَّ قَالَ لي: القني فِي الرحل، وبلغ أهل مسجدكم هَذَا عنى أَنَّهُمْ قوم أخذ اللَّه ميثاقهم عَلَى طاعته، يقتلون المحلين، ويطلبون بدماء أولاد النبيين، ويهديهم للنور المبين، ثُمَّ مضى فَقَالَ لي: كيف الطريق إِلَى بني هند؟ فقلت لَهُ: أنظرني أدلك، فدعوت بفرسي وَقَدْ أسرج لي فركبته، قَالَ: ومضيت مَعَهُ إِلَى بني هند، فَقَالَ: دلتنى عَلَى منزل إِسْمَاعِيل بن كثير قَالَ: فمضيت بِهِ إِلَى منزله، فاستخرجته، فحياه ورحب بِهِ، وصافحه وبشره، وَقَالَ لَهُ: القني أنت وأخوك الليلة وأبو عَمْرو فإني قَدْ أتيتكم بكل مَا تحبون، قَالَ: ثُمَّ مضى ومضينا مَعَهُ حَتَّى مر بمسجد جهينة الباطنة، ثُمَّ مضى إِلَى باب الفيل، فأناخ راحلته، ثُمَّ دخل المسجد واستشرف لَهُ الناس، وَقَالُوا: هَذَا المختار قَدْ قدم، فقام المختار إِلَى جنب سارية من سواري المسجد، فصلى عندها حَتَّى أقيمت الصَّلاة، فصلى مع الناس ثُمَّ ركد إِلَى سارية أخرى فصلى مَا بين الجمعة والعصر، فلما صلى العصر مع الناس انصرف. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي الْمُجَالِد بن سَعِيدٍ، عن عَامِر الشَّعْبِيّ، أن المختار مر عَلَى حلقة همدان وعليه ثياب السفر، فَقَالَ: أبشروا، فإني قَدْ قدمت عَلَيْكُمْ بِمَا يسركم، ومضى حَتَّى نزل داره، وَهِيَ الدار الَّتِي تدعى دار سلم ابن المسيب، وكانت الشيعة تختلف إِلَيْهَا وإليه فِيهَا. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي فضيل بن خديج، عن عبيد بْنِ عَمْرو، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ كَثِيرٍ مِنْ بَنِي هند، قَالا: أتيناه من الليل كما وعدنا، فلما دخلنا عَلَيْهِ وجلسنا ساءلنا عن أمر الناس وعن حال الشيعة، فقلنا لَهُ: إن الشيعة قَدِ اجتمعت لسُلَيْمَان بن صرد الخزاعي، وإنه لن يلبث إلا يسيرا حَتَّى يخرج، قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وصلى عَلَى النبي ص ثم قال:

أَمَّا بَعْدُ، فإن المهدي ابن الوصي، مُحَمَّد بن علي، بعثني إليكم أمينا ووزيرا ومنتخبا وأميرا، وأمرني بقتال الملحدين، والطلب بدماء أهل بيته والدفع عن الضعفاء. قَالَ أَبُو مخنف: قَالَ فضيل بن خديج: فَحَدَّثَنِي عبيدة بن عَمْرو وإسماعيل بن كثير، أنهما كانا أول خلق اللَّه إجابة وضربا عَلَى يده، وبايعاه. قَالَ: وأقبل المختار يبعث إِلَى الشيعة وَقَدِ اجتمعت عِنْدَ سُلَيْمَان بن صرد، فيقول لَهُمْ: إني قَدْ جئتكم من قبل ولي الأمر، ومعدن الفضل، ووصي الوصي والإمام المهدي، بأمر فِيهِ الشفاء، وكشف الغطاء، وقتل الأعداء، وتمام النعماء، أن سُلَيْمَان بن صرد يرحمنا اللَّه وإياه إنما هُوَ عشمة من العشم وحفش بال، ليس بذي تجربة للأمور، وَلا لَهُ علم بالحروب، إنما يريد أن يخرجكم فيقتل نفسه ويقتلكم إني إنما أعمل عَلَى مثال قَدْ مثل لي، وأمر قَدْ بين لي، فِيهِ عز وليكم، وقتل عدوكم، وشفاء صدوركم، فاسمعوا مني قولي، وأطيعوا أمري، ثُمَّ أبشروا وتباشروا، فإني لكم بكل مَا تأملون خير زعيم. قال: فو الله مَا زال بهذا القول ونحوه حَتَّى استمال طائفة من الشيعة، وكانوا يختلفون إِلَيْهِ ويعظمونه، وينظرون أمره، وعظم الشيعة يَوْمَئِذٍ ورؤساؤهم مع سُلَيْمَان بن صرد، وَهُوَ شيخ الشيعة وأسنهم، فليس يعدلون بِهِ أحدا، إلا أن المختار قَدِ استمال مِنْهُمْ طائفة ليسوا بالكثير، فسُلَيْمَان بن صرد أثقل خلق اللَّه عَلَى المختار، وَقَدِ اجتمع لابن صرد يَوْمَئِذٍ أمره، وَهُوَ يريد الخروج والمختار لا يريد أن يتحرك، وَلا أن يهيج أمرا حَتَّى ينظر إِلَى مَا يصير إِلَيْهِ أمر سُلَيْمَان، رجاء أن يستجمع لَهُ أمر الشيعة، فيكون أقوى لَهُ عَلَى درك مَا يطلب، فلما خرج سُلَيْمَان بن صرد ومضى نحو الجزيرة قَالَ عُمَر بن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاص وشبث بن ربعي ويزيد بن الْحَارِث بن رويم لعبد الله ابن يَزِيدَ الخطمي وإبراهيم بن مُحَمَّد بْنِ طَلْحَة بن عُبَيْد اللَّهِ: إن المختار أشد

عَلَيْكُمْ من سُلَيْمَان بن صرد، إن سُلَيْمَان إنما خرج يقاتل عدوكم، ويذللهم لكم، وَقَدْ خرج عن بلادكم، وإن المختار إنما يريد أن يثب عَلَيْكُمْ فِي مصركم، فسيروا إِلَيْهِ فأوثقوه فِي الحديد، وخلدوه فِي السجن حَتَّى يستقيم أمر الناس، فخرجوا إِلَيْهِ فِي الناس، فما شعر بشيء حَتَّى أحاطوا بِهِ وبداره فاستخرجوه، فلما رَأَى جماعتهم قَالَ: مَا بالكم! فو الله بعد مَا ظفرت أكفكم! قَالَ: فَقَالَ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بْنِ طَلْحَة بن عُبَيْد اللَّهِ لعبد اللَّه بن يَزِيدَ: شده كتافا، ومشه حافيا، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ: سبحان اللَّه! مَا كنت لأمشيه وَلا لأحفيه وَلا كنت لأفعل هَذَا برجل لم يظهر لنا عداوة وَلا حربا، وإنما أخذناه عَلَى الظن فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد: ليس بعشك فادرجي، مَا أنت وما يبلغنا عنك يا بن أبي عبيد! فَقَالَ لَهُ: مَا الَّذِي بلغك عني إلا باطل، وأعوذ بِاللَّهِ من غش كغش ابيك وجدك! قال: قال فضيل: فو الله إني لأنظر إِلَيْهِ حين أخرج وأسمع هَذَا القول حين قَالَ لَهُ، غير أني لا أدري أسمعه مِنْهُ إِبْرَاهِيم أم لم يسمعه، فسكت حين تكلم بِهِ، قَالَ: وأتى المختار ببغلة دهماء يركبها، فَقَالَ إِبْرَاهِيم لعبد اللَّه بن يَزِيدَ: أَلا تشد عَلَيْهِ القيود؟ فَقَالَ: كفى لَهُ بالسجن قيدا. قَالَ أَبُو مخنف: وأما يَحْيَى بن أبي عِيسَى فَحَدَّثَنِي أنه قَالَ: دخلت إِلَيْهِ مع حميد بن مسلم الأَزْدِيّ نزوره ونتعاهده، فرأيته مقيدا، قَالَ: فسمعته يقول: أما ورب البحار، والنخيل والأشجار، والمهامه والقفار، والملائكة الأبرار، والمصطفين الأخيار، لأقتلن كل جبار، بكل لدن خطار، ومهند بتار، فِي جموع من الأنصار، ليسوا بميل أغمار، وَلا بعزل أشرار، حَتَّى إذا أقمت عمود الدين، ورأبت شعب صدع الْمُسْلِمِينَ، وشفيت

ذكر الخبر عن هدم ابن الزبير الكعبه

غليل صدور الْمُؤْمِنِينَ، وأدركت بثأر النبيين، ولم يكبر علي زوال الدُّنْيَا ولم أحفل بالموت إذا أتى. قَالَ: فكان إذا أتيناه وَهُوَ فِي السجن ردد علينا هَذَا القول حَتَّى خرج مِنْهُ، قَالَ: وَكَانَ يتشجع لأَصْحَابه بعد ما خرج ابن صرد. ذكر الخبر عن هدم ابن الزبير الكعبه قَالَ أَبُو جَعْفَر: وفي هَذِهِ السنة هدم ابن الزُّبَيْر الكعبة، وكانت قَدْ مال حيطانها مما رميت بِهِ من حجارة المجانيق، فذكر مُحَمَّد بن عُمَرَ الْوَاقِدِيّ أن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى حدثه عَنْ عِكْرِمَةَ بن خَالِدٍ، قَالَ: هدم ابن الزُّبَيْر البيت حَتَّى سواه بالأرض، وحفر أساسه وأدخل الحجر فِيهِ، وَكَانَ الناس يطوفون من وراء الأساس، ويصلون إِلَى موضعه، وجعل الركن الأسود عنده فِي تابوت فِي سرقة من حرير، وجعل مَا كَانَ من حلي البيت وما وجد فِيهِ من ثياب أو طيب عِنْدَ الحجبة فِي خزانة البيت، حَتَّى أعادها لما أعاد بناءه. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عمر: وَحَدَّثَنِي معقل بن عَبْدِ اللَّهِ، عن عطاء، قَالَ: رأيت ابن الزُّبَيْر هدم البيت كله حَتَّى وضعه بالأرض. وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ. وَكَانَ عامله عَلَى الْمَدِينَة فِيهَا أخوه عبيدة بن الزبير، وعلى الكوفه عبد الله ابن يَزِيدَ الخطمي، وعلى قضائها سَعِيد بن نمران. وأبى شريح أن يقضي فِيهَا، وَقَالَ فِيمَا ذكر عنه: أنا لا أقضي فِي الْفِتْنَة. وعلى الْبَصْرَة عُمَر بن عُبَيْد اللَّهِ بن معمر التيمي، وعلى قضائها هِشَام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله ابن خازم

سنه خمس وستين

سنة خمس وستين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث الجليلة) فمن ذَلِكَ مَا كَانَ من أمر التوابين وشخوصهم للطلب بدم الْحُسَيْن بن علي إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد. قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو يُوسُف، عن عَبْد اللَّهِ بن عوف الأحمري، قَالَ: بعث سُلَيْمَان بن صرد إِلَى وجوه أَصْحَابه حين أراد الشخوص وَذَلِكَ فِي سنة خمس وستين، فأتوه، فلما استهل الهلال هلال شهر ربيع الآخر، خرج فِي وجوه أَصْحَابه، وَقَدْ كَانَ واعد أَصْحَابه عامة للخروج في تلك الليلة للمعسكر بالنخيلة فخرج حَتَّى أتى عسكره، فدار فِي الناس ووجوه أَصْحَابه، فلم يعجبه عدة الناس، فبعث حكيم بن منقذ الكندي في خيل، وبعث الوليد بن غصين الكناني فِي خيل، وَقَالَ: اذهبا حَتَّى تدخلا الْكُوفَة فناديا: يَا لثأرات الْحُسَيْن! وابلغا المسجد الأعظم فناديا بِذَلِكَ، فخرجا، وكانا أول خلق اللَّه دعوا: يَا لثأرات الْحُسَيْن! قَالَ: فأقبل حكيم بن منقذ الكندي فِي خيل والوليد بن غصين فِي خيل، حَتَّى مرا ببني كثير، وأن رجلا من بني كثير من الأزد يقال لَهُ عَبْد اللَّهِ بن خازم مع امرأته سهلة بنت سبرة بن عَمْرو من بني كثير، وكانت من أجمل الناس وأحبهم إِلَيْهِ، سمع الصوت: يَا لثأرات الْحُسَيْن! وما هُوَ ممن كَانَ يأتيهم، وَلا استجاب لَهُمْ فوثب إِلَى ثيابه فلبسها، ودعا بسلاحه، وأمر بإسراج فرسه، فَقَالَتْ لَهُ امرأته: ويحك! أجننت! قَالَ: لا وَاللَّهِ، ولكني سمعت داعي اللَّه، فأنا مجيبه، أنا طالب بدم هَذَا الرجل حَتَّى أموت، أو يقضي اللَّه من أمري مَا هُوَ أحب إِلَيْهِ، فَقَالَتْ لَهُ: إِلَى من تدع بنيك هَذَا؟ قَالَ: إِلَى اللَّهِ وحده لا شريك لَهُ، اللَّهُمَّ إني أستودعك أهلي وولدى،

اللَّهُمَّ احفظني فِيهِمْ، وَكَانَ ابنه ذَلِكَ يدعى عزرة، فبقي حَتَّى قتل بعد مع مُصْعَب بن الزُّبَيْرِ، وخرج حَتَّى لحق بهم، فقعدت امرأته تبكيه واجتمع إِلَيْهَا نساؤها، ومضى مع القوم، وطافت تِلَكَ الليلة الخيل بالكوفة، حَتَّى جاءوا المسجد بعد العتمة، وفيه ناس كثير يصلون، فنادوا: يَا لثارات الْحُسَيْن! وفيهم أَبُو عزة القابضي وكرب بن نمران يصلي، فَقَالَ: يَا لثارات الْحُسَيْن! أين جماعة القوم؟ قيل: بالنخيلة، فخرج حَتَّى أتى أهله، فأخذ سلاحه، ودعا بفرسه ليركبه، فجاءته ابنته الرواع- وكانت تحت ثبيت بن مرثد القابضي، فَقَالَتْ: يَا أبت، مَا لي أراك قَدْ تقلدت سيفك، ولبست سلاحك! فَقَالَ لها: يَا بنية، إن أباك يفر من ذنبه إِلَى ربه، فأخذت تنتحب وتبكي، وجاءه أصهاره وبنو عمه، فودعهم، ثُمَّ خرج فلحق بالقوم، قَالَ: فلم يصبح سُلَيْمَان بن صرد حَتَّى أتاه نحو ممن كَانَ فِي عسكره حين دخله، قَالَ: ثُمَّ دعا بديوانه لينظر فِيهِ إِلَى عدة من بايعه حين أصبح، فوجدهم ستة عشر ألفا، فَقَالَ: سبحان اللَّه! مَا وافانا إلا أربعة آلاف من ستة عشر ألفا. قَالَ أَبُو مخنف: عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ الْحَارِث، عن حميد بن مسلم، قَالَ: قلت لسُلَيْمَان بن صرد: إن المختار وَاللَّهِ يثبط الناس عنك، إني كنت عنده أول ثلاث، فسمعت نفرا من أَصْحَابه يقولون: قَدْ كملنا ألفي رجل، فَقَالَ: وهب أن ذَلِكَ كَانَ، فأقام عنا عشرة آلاف، أما هَؤُلاءِ بمؤمنين! أما يخافون اللَّه! أما يذكرون اللَّه، وما أعطونا من أنفسهم من العهود والمواثيق ليجاهدن ولينصرن! فأقام بالنخيلة ثلاثا يبعث ثقاته من أَصْحَابه إِلَى من تخلف عنه يذكرهم اللَّه وما أعطوه من أنفسهم، فخرج إِلَيْهِ نحو من ألف رجل، فقام المسيب بن نجبة إِلَى سُلَيْمَان بن صرد، فَقَالَ: رحمك

اللَّه، إنه لا ينفعك الكاره، وَلا يقاتل معك الا من اخرجته النيه، فلا ننتظرن أحدا، واكمش فِي أمرك قَالَ: فإنك وَاللَّهِ لنعما رأيت! فقام سُلَيْمَان بن صرد فِي الناس متوكئا عَلَى قوس لَهُ عربية فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، من كَانَ إنما أخرجته إرادة وجه اللَّه وثواب الآخرة فذلك منا ونحن مِنْهُ، فرحمة اللَّه عَلَيْهِ حيا وميتا، ومن كان انما يريد الدنيا وحرثها فو الله مَا نأتي فيئا نستفيئه، وَلا غنيمة نغنمها، مَا خلا رضوان اللَّه رب العالمين، وما معنا من ذهب وَلا فضة، وَلا خز وَلا حرير وما هي إلا سيوفنا فِي عواتقنا، ورماحنا فِي أكفنا، وزاد قدر البلغة إِلَى لقاء عدونا، فمن كَانَ غير هَذَا ينوي فلا يصحبنا. فقام صخير بن حُذَيْفَة بن هلال بن مالك المزني، فَقَالَ: آتاك اللَّه رشدك، ولقاك حجتك، وَاللَّهِ الَّذِي لا إله غيره ما لنا خير فِي صحبة من الدُّنْيَا همته ونيته أَيُّهَا النَّاسُ، إنما أخرجتنا التوبة من ذنبنا، والطلب بدم من نبينا، ص ليس معنا دينار وَلا درهم، إنما نقدم عَلَى حد السيوف وأطراف الرماح، فتنادى الناس من كل جانب: إنا لا نطلب الدُّنْيَا، وليس لها خرجنا. قَالَ أَبُو مخنف: عن إِسْمَاعِيل بن يَزِيدَ الأَزْدِيّ، عن السري بن كعب الأَزْدِيّ، قَالَ: أتينا صاحبنا عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ نفيل نودعه، قَالَ: فقام فقمنا مَعَهُ، فدخل عَلَى سُلَيْمَان ودخلنا مَعَهُ، وَقَدْ أجمع سُلَيْمَان بالمسير، فأشار عَلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ نفيل أن يسير إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فَقَالَ هُوَ ورءوس أَصْحَابه: الرأي مَا أشار بِهِ عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ نفيل أن نسير إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد قاتل صاحبنا، ومن قبله أتينا، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ بن سَعْدٍ وعنده رءوس أَصْحَابه جلوس حوله: إني قَدْ رأيت رأيا إن يكن صوابا فالله

وفق، وأن يكن ليس بصواب فمن قبلي، فإني مَا آلوكم ونفسي نصحا، خطأ كَانَ أم صوابا، إنما خرجنا نطلب بدم الْحُسَيْن، وقتلة الْحُسَيْن كلهم بالكوفة، مِنْهُمْ عُمَر بن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاص، ورءوس الأرباع وأشراف القبائل، فانى نذهب هاهنا وندع الأقتال والأوتار! فَقَالَ سُلَيْمَان بن صرد: فماذا ترون؟ فَقَالُوا: وَاللَّهِ لقد جَاءَ برأي، وان ما ذكر لكما ذكر، والله مَا نلقى من قتلة الْحُسَيْن إن نحن مضينا نحو الشام غير ابن زياد، وما طلبتنا الا هاهنا بالمصر، فَقَالَ سُلَيْمَان بن صرد: لكن أنا مَا أَرَى ذَلِكَ لكم، إن الَّذِي قتل صاحبكم، وعبا الجنود إِلَيْهِ، وَقَالَ: لا أمان لَهُ عندي دون أن يستسلم فأمضي فِيهِ حكمي هَذَا الفاسق ابن الفاسق ابن مرجانة، عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فسيروا إِلَى عدوكم عَلَى اسم اللَّه، فإن يظهركم اللَّه عَلَيْهِ رجونا أن يكون من بعده أهون شوكة مِنْهُ، ورجونا أن يدين لكم من وراءكم من أهل مصركم فِي عافية، فتنظرون إِلَى كل من شرك فِي دم الْحُسَيْن فتقاتلونه وَلا تغشموا، وإن تستشهدوا فإنما قاتلتم المحلين، وما عِنْدَ اللَّه خير للأبرار والصديقين، إني لأحب أن تجعلوا حدكم وشوكتكم بأول المحلين القاسطين وَاللَّهِ لو قاتلتم غدا أهل مصركم مَا عدم رجل أن يرى رجلا قَدْ قتل أخاه وأباه وحميمه، أو رجلا لَمْ يَكُنْ يريد قتله، فاستخيروا اللَّه وسيروا فتهيأ الناس للشخوص قَالَ: وبلغ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ وإبراهيم بن مُحَمَّد بْنِ طَلْحَة خروج ابن صرد وأَصْحَابه، فنظرا فِي أمرهما، فرأيا أن يأتياهم فيعرضا عَلَيْهِم الإقامة، وأن تكون أيديهم واحدة، فإن أبوا إلا الشخوص سألوهم النظرة حَتَّى يعبوا معهم جيشا فيقاتلوا عدوهم بكشف وحد، فبعث عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ وإبراهيم بن مُحَمَّد بْنِ طَلْحَة سويد بن عَبْدِ الرحمن الى سليمان ابن صرد، فَقَالَ لَهُ: إن عَبْد اللَّهِ وإبراهيم يقولان: إنا نريد أن نجيئك

الآن لأمر عسى اللَّه أن يجعل لنا ولك فِيهِ صلاحا، فَقَالَ: قل لهما فليأتيانا، وَقَالَ سُلَيْمَان لرفاعة بن شداد البجلي: قم أنت فأحسن تعبئة الناس، فإن هَذَيْنِ الرجلين قَدْ بعثا بكيت وكيت، فدعا رءوس أَصْحَابه فجلسوا حوله فلم يمكثوا إلا ساعة حَتَّى جَاءَ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ فِي أشراف أهل الْكُوفَة والشرط وكثير من المقاتلة، وإبراهيم بن مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَة فِي جماعة من أَصْحَابه، فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ لكل رجل معروف قَدْ علم أنه قَدْ شرك فِي دم الْحُسَيْن: لا تصحبني إِلَيْهِم مخافة أن ينظروا إِلَيْهِ فيعدوا عَلَيْهِ، وَكَانَ عُمَر بن سَعْد تِلَكَ الأيام الَّتِي كَانَ سُلَيْمَان معسكرا فِيهَا بالنخيلة لا يبيت إلا فِي قصر الإمارة مع عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ مخافة أن يأتيه القوم فِي داره، ويذمروا عليه في بيته وهو فاعل لا يعلم فيقتل وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ: يَا عَمْرو بن حريث، إن أنا أبطأت عنك فصل بِالنَّاسِ الظهر. فلما انتهى عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ وإبراهيم بن مُحَمَّد إِلَى سُلَيْمَان بن صرد دخلا عَلَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ وأثنى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إن المسلم أخو المسلم لا يخونه، وَلا يغشه، وَأَنْتُمْ إخواننا، وأهل بلدنا، وأحب أهل مصر خلقه اللَّه إلينا، فلا تفجعونا بأنفسكم، وَلا تستبدوا علينا برأيكم، وَلا تنقصوا عددنا بخروجكم من جماعتنا، أقيموا معنا حَتَّى نتيسر ونتهيأ، فإذا علمنا أن عدونا قَدْ شارف بلدنا خرجنا إِلَيْهِم بجماعتنا فقاتلناهم وتكلم إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بنحو من هَذَا الكلام قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ سُلَيْمَان بن صرد وأثنى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ لهما: إني قَدْ علمت أنكما قَدْ محضتما فِي النصيحة، واجتهدتما فِي المشورة، فنحن بِاللَّهِ وله، وَقَدْ خرجنا لأمر، ونحن نسأل اللَّه العزيمة عَلَى الرشد والتسديد لأصوبه، وَلا نرانا إلا شاخصين إِنْ شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ. فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ: فأقيموا حَتَّى نعبئ معكم جيشا كثيفا، فتلقوا عدوكم بكثف وجمع وحد فقال سُلَيْمَان: تنصرفون، ونرى فِيمَا بيننا، وسيأتيكم إِنْ شَاءَ اللَّهُ رأي

قَالَ أَبُو مخنف: عن عبد الجبار- يعني ابن عباس الهمدانى- عن عون ابن أبي جحيفة السوائي، قَالَ: ثُمَّ إن عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ وإبراهيم بن مُحَمَّد ابن طَلْحَة عرضا عَلَى سُلَيْمَان أن يقيم مَعَهُمَا حَتَّى يلقوا جموع أهل الشام عَلَى أن يخصاه وأَصْحَابه بخراج جوخى خاصة لَهُمْ دون الناس، فَقَالَ لهما سُلَيْمَان: إنا ليس للدنيا خرجنا، وإنما فعلا ذَلِكَ لما قَدْ كَانَ بلغهما من إقبال عُبَيْد اللَّهِ بن زياد نحو العراق وانصرف إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد وعبد اللَّه بن يَزِيدَ إِلَى الْكُوفَةِ، وأجمع القوم عَلَى الشخوص واستقبال ابن زياد، ونظروا فإذا شيعتهم من أهل الْبَصْرَة لم يوافوهم لميعادهم وَلا أهل المدائن، فأقبل ناس من أَصْحَابه يلزمونهم، فقال سليمان: لا تلزموهم فإني لا أراهم إلا سيسرعون إليكم، لو قَدِ انتهى إِلَيْهِم خبركم وحين مسيركم، وَلا أراهم خلفهم وَلا أقعدهم إلا قلة النفقة وسوء العدة، فأقيموا ليتيسروا ويتجهزوا ويلحقوا بكم وبهم قوة، وما أسرع القوم فِي آثاركم قَالَ: ثُمَّ إن سُلَيْمَان بن صرد قام فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّ اللَّه قَدْ علم مَا تنوون، وما خرجتم تطلبون، وإن للدنيا تجارا، وللآخرة تجارا، فأما تاجر الآخرة فساع إِلَيْهَا، متنصب بتطلابها، لا يشتري بِهَا ثمنا، لا يرى إلا قائما وقاعدا، وراكعا وساجدا، لا يطلب ذهبا وَلا فضة، وَلا دنيا وَلا لذة، وأما تاجر الدُّنْيَا فمكب عَلَيْهَا، راتع فِيهَا، لا يبتغي بِهَا بدلا، فعَلَيْكُمْ يرحمكم اللَّه فِي وجهكم هَذَا بطول الصَّلاة فِي جوف الليل، وبذكر اللَّه كثيرا عَلَى كل حال، وتقربوا إِلَى اللَّهِ جل ذكره بكل خير قدرتم عَلَيْهِ، حتى تلقوا هذا العدو والمحل القاسط فتجاهدوه، فان تتوسلوا إِلَى ربكم بشيء هُوَ أعظم عنده ثوابا من الجهاد والصلاة، فإن الجهاد سنام العمل جعلنا اللَّه وإياكم من العباد الصالحين، المجاهدين الصابرين عَلَى اللأواء! وإنا مدلجون الليلة من منزلنا هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فادلجوا. فادلج عشية الجمعة لخمس مضين من شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين للهجرة

قَالَ: فلما خرج سُلَيْمَان وأَصْحَابه من النخيلة دعا سليمان بن صرد حكيم ابن منقذ فنادى فِي الناس: أَلا لا يبيتن رجل مِنْكُمْ دون دير الأعور. فبات الناس بدير الأعور، وتخلف عنه ناس كثير، ثُمَّ سار حَتَّى نزل الأقساس، أقساس مالك عَلَى شاطئ الفرات، فعرض الناس، فسقط مِنْهُمْ نحو من ألف رجل، فَقَالَ ابن صرد: مَا أحب أن من تخلف عنكم معكم، ولو خرجوا معكم مَا زادوكم إلا خبالا، إن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ كره انبعاثهم فثبطهم، وخصكم بفضل ذَلِكَ، فاحمدوا ربكم ثُمَّ خرج من منزله ذلك دلجه، فصبحوا قبر الْحُسَيْن، فأقاموا بِهِ ليلة ويوما يصلون عَلَيْهِ، ويستغفرون لَهُ، قَالَ: فلما انتهى الناس إِلَى قبر الْحُسَيْن صاحوا صيحة واحدة، وبكوا، فما رئي يوم كَانَ أكثر باكيا مِنْهُ. قَالَ أَبُو مخنف: وَقَدْ حدث عبد الرحمن بن جندب، عن عبد الرحمن ابن غزية، قَالَ: لما انتهينا إِلَى قبر الْحُسَيْن ع بكى الناس بأجمعهم، وسمعت جل الناس يتمنون أَنَّهُمْ كَانُوا أصيبوا مَعَهُ، فَقَالَ سُلَيْمَان: اللَّهُمَّ ارحم حسينا الشهيد ابن الشهيد، المهدي ابن المهدي، الصديق ابن الصديق، اللَّهُمَّ إنا نشهدك أنا عَلَى دينهم وسبيلهم، وأعداء قاتليهم، وأولياء محبيهم ثم انصرف ونزل، ونزل أَصْحَابه. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنَا الأعمش، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة بن كهيل، عن أبي صادق، قَالَ: لما انتهى سُلَيْمَان بن صرد وأَصْحَابه إِلَى قبر الْحُسَيْن نادوا صيحة واحدة: يَا رب إنا قَدْ خذلنا ابن بنت نبينا، فاغفر لنا مَا مضى منا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وارحم حسينا وأَصْحَابه الشهداء الصديقين، وإنا نشهدك يَا رب أنا عَلَى مثل مَا قتلوا عَلَيْهِ، فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، قَالَ: فأقاموا عنده يَوْمًا وليلة يصلون عَلَيْهِ ويبكون ويتضرعون، فما انفك الناس من يومهم ذَلِكَ يترحمون عَلَيْهِ وعلى

أَصْحَابه، حَتَّى صلوا الغداة من الغد عِنْدَ قبره، وزادهم ذَلِكَ حنقا ثُمَّ ركبوا، فأمر سُلَيْمَان الناس بالمسير، فجعل الرجل لا يمضي حَتَّى يأتي قبر الْحُسَيْن فيقوم عَلَيْهِ، فيترحم عليه، ويستغفر له، قال: فو الله لرأيتهم ازدحموا عَلَى قبره أكثر من ازدحام الناس عَلَى الحجر الأسود قَالَ: ووقف سُلَيْمَان عِنْدَ قبره، فكلما دعا لَهُ قوم وترحموا عَلَيْهِ قَالَ لَهُمُ المسيب بن نجبة وسُلَيْمَان بن صرد: الحقوا بإخوانكم رحمكم اللَّه! فما زال كذلك حَتَّى بقي نحو من ثَلاثِينَ من أَصْحَابه، فأحاط سُلَيْمَان بالقبر هُوَ وأَصْحَابه، فَقَالَ سُلَيْمَان: الحمد لِلَّهِ الَّذِي لو شاء أكرمنا بالشهادة مع الْحُسَيْن، اللَّهُمَّ إذ حرمتناها مَعَهُ فلا تحرمناها فِيهِ بعده وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن وال: أما وَاللَّهِ إني لأظن حسينا وأباه وأخاه افضل أمه محمد ص وسيلة عِنْدَ اللَّه يوم الْقِيَامَة، أفما عجبتم لما ابتليت بِهِ هَذِهِ الأمة مِنْهُمْ! إِنَّهُمْ قتلوا اثنين، وأشفوا بالثالث عَلَى القتل، قَالَ: يقول المسيب بن نجبة: فأنا من قتلتهم ومن كَانَ عَلَى رأيهم بريء، إياهم أعادي وأقاتل قَالَ: فأحسن الرءوس كلهم المنطق، وَكَانَ المثنى بن مخربه صاحب أحد الرءوس والأشراف، فساءني حَيْثُ لم أسمعه تكلم مع القوم بنحو مَا تكلموا به، قال: فو الله مَا لبث إن تكلم بكلمات مَا كن بدون كلام أحد من القوم، فَقَالَ: إن الله جعل هؤلاء الذين ذكرتم بمكانهم من نبيهم ص أفضل ممن هُوَ دون نبيهم، وَقَدْ قتلهم قوم نحن لَهُمْ أعداء، ومنهم برآء، وَقَدْ خرجنا من الديار والأهلين والأموال إرادة استئصال من قتلهم، فو الله لو أن القتال فِيهِمْ بمغرب الشمس أو بمنقطع التراب يحق علينا طلبه حَتَّى نناله، فإن ذَلِكَ هُوَ الغنم، وَهِيَ الشهادة الَّتِي ثوابها الجنة، فقلنا لَهُ: صدقت وأصبت ووفقت. قَالَ: ثُمَّ إن سُلَيْمَان بن صرد سار من موضع قبر الْحُسَيْن وسرنا مَعَهُ، فأخذنا عَلَى الحصاصة، ثُمَّ عَلَى الأنبار، ثُمَّ عَلَى الصدود، ثُمَّ عَلَى القيارة. قَالَ أَبُو مخنف: عن الْحَارِث بن حصيرة وغيره: أن سُلَيْمَان بعث على

مقدمته كُرَيْب بن يَزِيدَ الحميري. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الحصين بن يَزِيدَ، عن السري بن كعب، قَالَ: خرجنا مع رجال الحي نشيعهم، فلما انتهينا إِلَى قبر الْحُسَيْن وانصرف سُلَيْمَان بن صرد وأَصْحَابه عن القبر، ولزموا الطريق، استقدمهم عبد الله ابن عوف بن الأحمر عَلَى فرس لَهُ مهلوب كميت مربوع، يتأكل تأكلا، وَهُوَ يرتجز ويقول: خرجن يلمعن بنا أرسالا ... عوابسا يحملننا أبطالا نريد أن نلقى بِهِ الأقتالا ... القاسطين الغدر الضلالا وَقَدْ رفضنا الأهل والأموالا ... والخفرات البيض والحجالا نرضي بِهِ ذا النعم المفضالا. قَالَ أَبُو مخنف: عن سعد بن مجاهد الطَّائِيّ، عن المحل بن خليفة الطَّائِيّ، أن عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ كتب إِلَى سُلَيْمَان بن صرد، أحسبه قَالَ: بعثني بِهِ، فلحقته بالقيارة، واستقدم أَصْحَابه حَتَّى ظن أن قَدْ سبقهم، قَالَ: فوقف وأشار إِلَى النَّاسِ، فوقفوا عَلَيْهِ، ثُمَّ أقرأهم كتابه، فإذا فِيهِ: بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من عَبْد اللَّه بن يَزِيدَ إِلَى سُلَيْمَان بن صرد ومن مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سلام عَلَيْكُمْ، أَمَّا بَعْدُ فإن كتابي هَذَا إليكم كتاب ناصح ذي إرعاء، وكم من ناصح مستغش، وكم من غاش مستنصح محب، إنه بلغني أنكم تريدون المسير بالعدد اليسير إِلَى الجمع الكثير، وإنه من يرد أن ينقل الجبال عن مراتبها تكل معاوله، وينزع وَهُوَ مذموم العقل والفعل. يَا قومنا لا تطمعوا عدوكم فِي أهل بلادكم، فإنكم خيار كلكم، ومتى مَا يصبكم عدوكم يعلموا أنكم أعلام مصركم، فيطمعهم ذَلِكَ فيمن وراءكم

يَا قومنا، «إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً» ، يَا قوم، إن أيدينا وأيديكم الْيَوْم واحدة، وإن عدونا وعدوكم واحد، ومتى تجتمع كلمتنا نظهر عَلَى عدونا، ومتى تختلف تهن شوكتنا عَلَى من خالفنا، يَا قومنا لا تستغشوا نصحي، وَلا تخالفوا أمري، وأقبلوا حين يقرأ عَلَيْكُمْ كتابي، أقبل اللَّه بكم إِلَى طاعته، وأدبر بكم عن معصيته، والسلام. قَالَ: فلما قرئ الكتاب عَلَى ابن صرد وأَصْحَابه قَالَ لِلنَّاسِ: مَا ترون؟ قَالُوا: ماذا ترى؟ قَدْ أبينا هَذَا عَلَيْكُمْ وعليهم، ونحن فِي مصرنا وأهلنا، فالآن خرجنا ووطنا أنفسنا عَلَى الجهاد، ودنونا من أرض عدونا! مَا هَذَا برأي ثُمَّ نادوه أن أَخْبِرْنَا برأيك، قَالَ: رأيي وَاللَّهِ أنكم لم تكونوا قط أقرب من إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ مِنْكُمْ يومكم هَذَا، الشهادة والفتح، وَلا أَرَى أن تنصرفوا عما جمعكم اللَّه عَلَيْهِ من الحق، وأردتم بِهِ من الفضل، أنا وهؤلاء مختلفون، إن هَؤُلاءِ لو ظهروا دعونا إِلَى الجهاد مع ابن الزُّبَيْر، وَلا أَرَى الجهاد مع ابن الزُّبَيْر إلا ضلالا، وإنا إن نحن ظهرنا رددنا هَذَا الأمر إِلَى أهله، وإن أصبنا فعلى نياتنا، تائبين من ذنوبنا، إن لنا شكلا، وإن لابن الزُّبَيْر شكلا، إنا وإياهم كما قَالَ أخو بني كنانة: أَرَى لَكَ شكلا غير شكلي فأقصري ... عن اللوم إذ بدلت واختلف الشكل قَالَ: فانصرف الناس مَعَهُ حَتَّى نزل هيت، فكتب سُلَيْمَان: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ للأمير عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ، من سُلَيْمَان بن صرد ومن مَعَهُ من الْمُؤْمِنِينَ، سلام عَلَيْك، اما بعد، فقد قرأنا كتابك، وفهمنا ما نويت، فنعم وَاللَّهِ الوالي، ونعم الأمير، ونعم أخو العشيرة، أنت وَاللَّهِ من نأمنه بالغيب، ونستنصحه فِي المشورة، ونحمده عَلَى كل حال، إنا سمعنا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يقول فِي كتابه: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ» - إِلَى قَوْلِهِ: «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» إن القوم قَدِ استبشروا ببيعتهم

الَّتِي بايعوا، أَنَّهُمْ قَدْ تابوا من عظيم جرمهم، وَقَدْ توجهوا إِلَى اللَّهِ، وتوكلوا عَلَيْهِ ورضوا بِمَا قضى اللَّه، «رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» ، والسلام عَلَيْك فلما أتاه هَذَا الكتاب قَالَ: استمات القوم، أول خبر يأتيكم عَنْهُمْ قتلهم، وايم اللَّه ليقتلن كراما مسلمين، وَلا والذي هُوَ ربهم لا يقتلهم عدوهم حَتَّى تشتد شوكتهم، وتكثر القتلى فِيمَا بينهم. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي يُوسُف بن يَزِيدَ، عن عَبْد اللَّهِ بن عوف بن الأحمر، وعبد الرَّحْمَن بن جندب، عن عبد الرَّحْمَن بن غزية، قَالا: خرجنا من هيت حَتَّى انتهينا إِلَى قرقيسيا، فلما دنونا منها وقف سُلَيْمَان بن صرد فعبانا تعبئة حسنة حَتَّى مررنا بجانب قرقيسيا، فنزلنا قريبا منها، وبها زفر بن الْحَارِث الكلابي قَدْ تحصن بِهَا من القوم، ولم يخرج إِلَيْهِم، فبعث سُلَيْمَان المسيب بن نجبة، فَقَالَ: ائت ابن عمك هَذَا فقل لَهُ: فليخرج إلينا سوقا، فإنا لسنا إِيَّاهُ نريد، إنما صمدنا لهؤلاء المحلين فخرج المسيب بن نجبة حَتَّى انتهى إِلَى باب قرقيسيا، فَقَالَ: افتحوا، ممن تحصنون؟ فَقَالُوا: من أنت؟ قَالَ: أنا المسيب بن نجبة، فأتى الهذيل بن زفر أباه فَقَالَ: هَذَا رجل حسن الهيئة، يستأذن عَلَيْك، وسألناه من هُوَ؟ فَقَالَ: المسيب بن نجبة- قَال: وأنا إذ ذاك لا علم لي بِالنَّاسِ، وَلا أعلم أي الناس هُوَ- فَقَالَ لي أبي: أما تدري أي بني من هَذَا؟ هَذَا فارس مضر الحمراء كلها، وإذا عد من أشرافها عشرة كان أحدهم، وهو بعد رجل ناسك له دين، ائذن له فأذنت له، فأجلسه أبي إلى جانبه، وساءله والطفه في المسألة، فقال المسيب ابن نجبه: ممن تتحصن؟ إنا والله ما إياكم نريد، وما اعترينا إلى شيء إلا أن تعيننا عَلَى هَؤُلاءِ القوم الظلمة المحلين، فأخرج لنا سوقا، فإنا لا نقيم بساحتكم إلا يَوْمًا أو بعض يوم، فَقَالَ لَهُ زفر بن الْحَارِث: إنا لم نغلق أبواب هَذِهِ الْمَدِينَة إلا لنعلم إيانا اعتريتم أم غيرنا! إنا وَاللَّهِ مَا بنا عجز عن الناس مَا لم تدهمنا حيلة، وما نحب أنا بلينا بقتالكم، وَقَدْ بلغنا عنكم

صلاح، وسيرة حسنة جميلة. ثُمَّ دعا ابنه فأمره أن يضع لَهُمْ سوقا، وأمر للمسيب بألف درهم وفرس، فَقَالَ لَهُ المسيب: أما المال فلا حاجة لي فِيهِ، وَاللَّهِ مَا لَهُ خرجنا، وَلا إِيَّاهُ طلبنا، وأما الفرس فإني أقبله لعلي أحتاج إِلَيْهِ إن ظلع فرسي، أو غمز تحتي فخرج بِهِ حَتَّى أتى أَصْحَابه وأخرجت لَهُمُ السوق، فتسوقوا، وبعث زفر بن الْحَارِث إِلَى المسيب بن نجبة بعد إخراج الأسواق والأعلاف والطعام الكثير بعشرين جزورا، وبعث إِلَى سُلَيْمَان بن صرد مثل ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ زفر أمر ابنه أن يسأل عن وجوه أهل العسكر، فسمي لَهُ عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ نفيل وعبد اللَّه بن وال ورفاعة بن شداد، وسمي لَهُ أمراء الأرباع. فبعث إِلَى هَؤُلاءِ الرءوس الثلاثة بعشر جزائر عشر جزائر، وعلف كثير وطعام، وأخرج للعسكر عيرا عظيمة وشعيرا كثيرا، فَقَالَ غلمان زفر: هَذِهِ عير فاجتزروا منها مَا أحببتم، وهذا شعير فاحتملوا مِنْهُ مَا أردتم، وهذا دقيق فتزودوا مِنْهُ مَا أطقتم، فظل القوم يومهم ذَلِكَ مخصبين لم يحتاجوا الى شراء شيء من هذه الاسواق الَّتِي وضعت، وَقَدْ كفوا اللحم والدقيق والشعير إلا أن يشتري الرجل ثوبا أو سوطا ثُمَّ ارتحلوا من الغد، وبعث إِلَيْهِم زفر: إني خارج إليكم فمشيعكم، فأتاهم وَقَدْ خرجوا على تعبئة حسنة، فسايرهم، فَقَالَ زفر لسُلَيْمَان: إنه قَدْ بعث خمسة أمراء قَدْ فصلوا من الرقة فِيهِمُ الحصين بن نمير السكوني، وشُرَحْبِيل بن ذي كلاع، وأدهم بن محرز الباهلي وأبو مالك بن أدهم، وربيعة بن المخارق الغنوي، وجبلة بن عَبْدِ اللَّهِ الخثعمي، وَقَدْ جاءوكم فِي مثل الشوك والشجر، أتاكم عدد كثير، وحد حديد، وايم اللَّه لقل مَا رأيت رجالا هم أحسن هيئة وَلا عدة، وَلا أخلق لكل خير من رجال أراهم معك، ولكنه قَدْ بلغني أنه قَدْ أقبلت إليكم عدة لا تحصى، فَقَالَ ابن صرد: عَلَى اللَّه توكلنا، وعليه فليتوكل المتوكلون، ثُمَّ قَالَ زفر: فهل لكم فِي أمر أعرضه عَلَيْكُمْ، لعل اللَّه أن يجعل لنا ولكم فِيهِ خيرا؟ إن شئتم فتحنا لكم مدينتنا فدخلتموها فكان أمرنا واحدا وأيدينا واحدة، وإن شئتم نزلتم عَلَى باب مدينتنا، وخرجنا فعسكرنا إِلَى جانبكم، فإذا جاءنا هَذَا العدو

قاتلناهم جميعا فَقَالَ سُلَيْمَان لزفر: قَدْ أرادنا أهل مصرنا عَلَى مثل مَا أردتنا عَلَيْهِ، وذكروا مثل الَّذِي ذكرت، وكتبوا إلينا بِهِ بعد ما فصلنا، فلم يوافقنا ذَلِكَ، فلسنا فاعلين، فَقَالَ زفر: فانظروا مَا أشير بِهِ عَلَيْكُمْ فاقبلوه، وخذوا بِهِ، فإني للقوم عدو، وأحب أن يجعل اللَّه عَلَيْهِم الدائرة، وأنا لكم واد، أحب أن يحوطكم اللَّه بالعافية، إن القوم قَدْ فصلوا من الرقة، فبادروهم إِلَى عين الوردة، فاجعلوا الْمَدِينَة فِي ظهوركم، ويكون الرستاق والماء والماد فِي أيديكم، وما بين مدينتنا ومدينتكم فأنتم لَهُ آمنون، وَاللَّهِ لو أن خيولي كرجالي لأمددتكم، اطووا المنازل الساعة إِلَى عين الوردة، فإن القوم يسيرون سير العساكر، وَأَنْتُمْ عَلَى خيول، وَاللَّهِ لقل مَا رأيت جماعة خيل قط أكرم منها، تأهبوا لها من يومكم هَذَا فإني أرجو أن تسبقوهم إِلَيْهَا، وإن بدرتموهم إِلَى عين الوردة فلا تقاتلوهم فِي فضاء ترامونهم وتطاعنونهم، فأنهم أكثر مِنْكُمْ فلا آمن أن يحيطوا بكم، فلا تقفوا لَهُمْ ترامونهم وتطاعنونهم، فإنه ليس لكم مثل عددهم، فإن استهدفتم لَهُمْ لم يلبثوكم أن يصرعوكم، وَلا تصفوا لَهُمْ حين تلقونهم، فإني لا ارى معكم رجاله، ولا أراكم كلكم إلا فرسانا، والقوم لاقوكم بالرجال والفرسان، فالفرسان تحمي رجالها، والرجال تحمي فرسانها، وَأَنْتُمْ ليس لكم رجال تحمي فرسانكم، فالقوهم فِي الكتائب والمقانب، ثُمَّ بثوها مَا بين ميمنتهم وميسرتهم، واجعلوا مع كل كتيبة كتيبة إِلَى جانبها فإن حمل عَلَى إحدى الكتيبتين ترجلت الأخرى فنفست عنها الخيل والرجال، ومتى مَا شاءت كتيبة ارتفعت، ومتى مَا شاءت كتيبة انحطت، ولو كنتم فِي صف واحد فزحفت إليكم الرجال فدفعتم عن الصف انتقض وكانت الهزيمة، ثُمَّ وقف فودعهم، وسأل اللَّه أن يصحبهم وينصرهم فأثنى الناس عَلَيْهِ، ودعوا لَهُ، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَان بن صرد: نعم المنزول بِهِ أنت! أكرمت النزول، وأحسنت الضيافة، ونصحت في المشورة ثم ان القوم وجدوا فِي المسير، فجعلوا يجعلون كل مرحلتين مرحلة، قَالَ: فمررنا بالمدن حَتَّى

بلغنا ساعا ثُمَّ إن سُلَيْمَان بن صرد عبى الكتائب كما أمره زفر، ثُمَّ أقبل حَتَّى انتهى إِلَى عين الوردة فنزل فِي غربيها، وسبق القوم إِلَيْهَا، فعسكروا، وأقام بِهَا خمسا لا يبرح، واستراحوا واطمأنوا، وأراحوا خيلهم. قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ الْحَارِث، عن عَبْد اللَّهِ بن غزية، قَالَ: أقبل أهل الشام فِي عساكرهم حَتَّى كَانُوا من عين الوردة عَلَى مسيرة يوم وليلة، قَالَ عَبْد اللَّهِ بن غزية: فقام فينا سُلَيْمَان فَحَمِدَ اللَّهَ فأطال، وأثنى عَلَيْهِ فأطنب، ثُمَّ ذكر السماء والأرض، والجبال والبحار وما فيهن من الآيات، وذكر آلاء اللَّه ونعمه، وذكر الدنيا فزهد فيها، وذكر الآخرة فرغب فِيهَا، فذكر من هَذَا مَا لم أحصه، ولم أقدر عَلَى حفظه، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فقد أتاكم اللَّه بعدوكم الَّذِي دابتم فِي المسير إِلَيْهِ آناء الليل والنهار، تريدون فِيمَا تظهرون التوبة النصوح، ولقاء اللَّه معذرين، فقد جاءوكم بل جئتموهم أنتم فِي دارهم وحيزهم، فإذا لقيتموهم فاصدقوهم، واصبروا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ، وَلا يولينهم امرؤ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ: لا تَقْتُلُوا مُدْبِرًا، وَلا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَلا تقتلوا أسيرا من أهل دعوتكم، إلا أن يقاتلكم بعد أن تأسروه، أو يكون من قتلة إخواننا بالطف رحمة اللَّه عَلَيْهِم، فإن هَذِهِ كَانَتْ سيرة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عَلِيّ بن أبي طالب فِي أهل هَذِهِ الدعوة ثُمَّ قَالَ سُلَيْمَان: إن أنا قتلت فأمير الناس المسيب بن نجبة فإن أصيب المسيب فأمير الناس عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ نفيل، فان قتل عبد الله ابن سَعْد فأمير الناس عَبْد اللَّهِ بن وال، فإن قتل عَبْد اللَّهِ بن وال فأمير الناس رفاعة بن شداد، رحم اللَّه امرأ صدق مَا عاهد اللَّه عَلَيْهِ! ثُمَّ بعث المسيب ابن نجبه في أربعمائة فارس، ثُمَّ قَالَ: سر حَتَّى تلقى أول عسكر من عساكرهم فشن فِيهِمُ الغارة، فإذا رأيت مَا تحبه وإلا انصرفت إلي فِي أَصْحَابك، وإياك أن تنزل أو تدع أحدا من أَصْحَابك أن ينزل، أو يستقبل آخر ذَلِكَ، حَتَّى لا تجد مِنْهُ بدا

قال ابو مخنف: فحدثني أبي عن حميد بن مسلم أنه قَالَ: اشهد انى في خيل المسيب بن نجبة تِلَكَ، إذ أقبلنا نسير آخر يومنا كله وليلتنا، حَتَّى إذا كَانَ فِي آخر السحر نزلنا فعلقنا عَلَى دوابنا مخاليها، ثُمَّ هومنا تهويمة بمقدار تكون مقدار قضمها ثُمَّ ركبناها، حَتَّى إذا انبلج لنا الصبح نزلنا فصلينا، ثُمَّ ركب فركبنا فبعث أبا الجويرية العبدي بن الأحمر فِي مائة من أَصْحَابه، وعبد اللَّه بن عوف بن الأحمر فِي مائة وعشرين، وحنش بن رَبِيعَة أبا المعتمر الكناني فِي مثلها، وبقي هُوَ فِي مائة، ثُمَّ قَالَ: انظروا أول من تلقون فأتوني بِهِ، فكان أول من لقينا أعرابي يطرد أحمرة وَهُوَ يقول: يَا مال لا تعجل إِلَى صحبي ... واسرح فإنك آمن السرب قَالَ: يقول عَبْد اللَّهِ بن عوف بن الأحمر: يَا حميد بن مسلم، أبشر بشرى ورب الكعبة، فَقَالَ لَهُ ابن عوف بن الأحمر: ممن أنت يَا أعرابي؟ قَالَ: أنا من بني تغلب، قَالَ: غلبتم ورب الكعبة إِنْ شَاءَ اللَّهُ فانتهى إلينا المسيب بن نجبة، فأخبرناه بِالَّذِي سمعنا من الأعرابي وأتيناه به، فقال المسيب ابن نجبة أما لقد سررت بقولك: أبشر، وبقولك: يَا حميد بن مسلم، وإني لأرجو أن تبشروا بِمَا يسركم، وإنما سركم أن تحمدوا أمركم، وأن تسلموا من عدوكم، وإن هَذَا الفأل لهو الفأل الْحَسَن، وَقَدْ كَانَ رَسُول الله ص يعجبه الفأل ثُمَّ قَالَ المسيب بن نجبة للأعرابي: كم بيننا وبين أدنى هَؤُلاءِ القوم منا؟ قَالَ: أدنى عسكر من عساكرهم مِنْكَ عسكر ابن ذي الكلاع، وَكَانَ بينه وبين الحصين اختلاف، ادعى الحصين أنه عَلَى جماعة الناس، وَقَالَ ابن ذي الكلاع: مَا كنت لتولى علي، وَقَدْ تكاتبا إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فهما ينتظران أمره، فهذا عسكر ابن ذي الكلاع مِنْكُمْ عَلَى رأس ميل، قال: فتركنا الرجل، فخرجنا نحوهم مسرعين، فو الله مَا شعروا حَتَّى أشرفنا عَلَيْهِم وهم غارون، فحملنا في جانب عسكرهم فو الله مَا قاتلوا كثير قتال حَتَّى انهزموا، فأصبنا مِنْهُمْ رجالا، وجرحنا فِيهِمْ

فأكثرنا الجراح، وأصبنا لَهُمْ دواب، وخرجوا عن عسكرهم وخلوه لنا، فأخذنا مِنْهُ مَا خف علينا، فصاح المسيب فينا: الرجعة، إنكم قَدْ نصرتم، وغنمتم وَسَلَّمَتم، فانصرفوا، فانصرفنا حَتَّى أتينا سُلَيْمَان. قَالَ: فأتى الخبر عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فسرح إلينا الحصين بن نمير مسرعا حَتَّى نزل فِي اثني عشر ألفا، فخرجنا إِلَيْهِم يوم الأربعاء لثمان بقين من جمادى الأولى، فجعل سُلَيْمَان بن صرد عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ نفيل عَلَى ميمنته، وعلى ميسرته المسيب بن نجبة، ووقف هُوَ فِي القلب، وجاء حصين بن نمير وَقَدْ عبأ لنا جنده، فجعل عَلَى ميمنته جبلة بن عَبْدِ اللَّهِ، وعلى ميسرته رَبِيعَة بن المخارق الغنوي ثُمَّ زحفوا إلينا، فلما دنوا دعونا إِلَى الجماعة عَلَى عَبْد الْمَلِكِ بن مَرْوَان وإلى الدخول فِي طاعته، ودعوناهم إِلَى أن يدفعوا إلينا عُبَيْد اللَّهِ بن زياد فنقتله ببعض من قتل من إخواننا، وأن يخلعوا عَبْد الْمَلِكِ بن مَرْوَان، وإلى أن يخرج من ببلادنا من آل ابن الزُّبَيْر، ثُمَّ نرد هَذَا الأمر إِلَى أهل بيت نبينا الَّذِينَ آتانا اللَّه من قبلهم بالنعمة والكرامة، فأبى القوم وأبينا. قَالَ حميد بن مسلم: فحملت ميمنتنا عَلَى ميسرتهم وهزمتهم، وحملت ميسرتنا عَلَى ميمنتهم، وحمل سُلَيْمَان فِي القلب عَلَى جماعتهم، فهزمناهم حَتَّى اضطررناهم إِلَى عسكرهم، فما زال الظفر لنا عَلَيْهِم حَتَّى حجز الليل بيننا وبينهم، ثم انصرفنا عنهم وقد حجزناهم فِي عسكرهم، فلما كَانَ الغد صبحهم ابن ذي الكلاع فِي ثمانية آلاف، أمدهم بهم عبيد الله ابن زياد، وبعث إِلَيْهِ يشتمه، ويقع فِيهِ، ويقول: إنما عملت عمل الأغمار، تضيع عسكرك ومسالحك! سر إِلَى الحصين بن نمير حَتَّى توافيه وَهُوَ عَلَى الناس، فجاءه، فغدوا علينا وغاديناهم، فقاتلناهم قتالا لم ير الشيب والمرد مثله قط يومنا كله، لا يحجز بيننا وبين القتال إلا الصَّلاة حَتَّى أمسينا فتحاجزنا، وَقَدْ وَاللَّهِ أكثروا فينا الجراح، وأفشيناها فِيهِمْ، قَالَ: وَكَانَ فينا قُصّاص ثلاثة: رفاعة بن شداد البجلي، وصحير بن حُذَيْفَة بن هلال بن مالك المري، وأبو الجويرية العبدي، فكان رفاعة يقص ويحضض الناس في الميمنه، لا يبرحها، وجرح أَبُو الجويرية الْيَوْم الثاني فِي أول النهار، فلزم الرحال، وَكَانَ صحير ليلته كلها يدور

فينا ويقول: أبشروا عباد اللَّه بكرامة اللَّه ورضوانه، فحق وَاللَّهِ لمن ليس بينه وبين لقاء الأحبة ودخول الجنة والراحة من إبرام الدُّنْيَا وأذاها إلا فراق هَذِهِ النفس الأمارة بالسوء أن يكون بفراقها سخيا، وبلقاء ربه مسرورا، فمكثنا كذلك حَتَّى أصبحنا، وأصبح ابن نمير وأدهم بن محرز الباهلي فِي نحو من عشرة آلاف، فخرجوا إلينا، فاقتتلنا الْيَوْم الثالث يوم الجمعة قتالا شديدا إِلَى ارتفاع الضحى ثُمَّ إن أهل الشام كثرونا وتعطفوا علينا من كل جانب، ورأى سُلَيْمَان بن صرد مَا لقي أَصْحَابه، فنزل فنادى: عباد اللَّه، من أراد البكور إِلَى ربه، والتوبة من ذنبه، والوفاء بعهده، فإلي، ثُمَّ كسر جفن سيفه، ونزل مَعَهُ ناس كثير، فكسروا جفون سيوفهم، ومشوا مَعَهُ، وانزوت خيلهم حَتَّى اختلطت مع الرجال، فقاتلوهم حَتَّى نزلت الرجال تشتد مصلتة بالسيوف، وَقَدْ كسروا الجفون، فحمل الفرسان عَلَى الخيل وَلا يثبتون، فقاتلوهم وقتلوا من أهل الشام مقتلة عظيمة، وجرحوا فِيهِمْ فأكثروا الجراح فلما رَأَى الحصين بن نمير صبر القوم وبأسهم، بعث الرجال ترميهم بالنبل، واكتنفتهم الخيل والرجال، فقتل سُلَيْمَان بن صرد رحمه اللَّه، رماه يَزِيد بن الحصين بسهم فوقع، ثُمَّ وثب ثُمَّ وقع، قَالَ: فلما قتل سُلَيْمَان بن صرد أخذ الراية المسيب بن نجبة، وَقَالَ لسُلَيْمَان بن صرد: رحمك اللَّه يَا أخي! فقد صدقت ووفيت بِمَا عَلَيْك، وبقي مَا علينا، ثُمَّ أخذ الراية فشد بِهَا، فقاتل ساعة ثُمَّ رجع، ثُمَّ شد بِهَا فقاتل ثُمَّ رجع، ففعل ذَلِكَ مرارا يشد ثُمَّ يرجع، ثُمَّ قتل رحمه اللَّه. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنَا فروة بن لقيط، عن مولى للمسيب بن نجبة الفزاري، قَالَ: لقيته بالمدائن وَهُوَ مع شبيب بن يَزِيدَ الخارجي، فجرى الحديث حَتَّى ذكرنا أهل عين الوردة. قَالَ هِشَام عن أبي مخنف، قَالَ: حَدَّثَنَا هَذَا الشيخ، عن المسيب بن نجبة، قَالَ: وَاللَّهِ مَا رأيت أشجع مِنْهُ إنسانا قط، وَلا من العصابة الَّتِي كَانَ فِيهِمْ، وَلَقَدْ رأيته يوم عين الوردة يقاتل قتالا شديدا، مَا ظننت أن

رجلا واحدا يقدر أن يبلى مثل مَا أبلى، وَلا ينكأ فِي عدوه مثل مَا نكأ، لقد قتل رجالا، قَالَ: وسمعته يقول قبل أن يقتل وَهُوَ يقاتلهم: قَدْ علمت ميالة الذوائب ... واضحة اللبات والترائب أني غداة الروع والتغالب ... أشجع من ذي لبد مواثب قطاع أقران مخوف الجانب. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أبي وخالي، عن حميد بن مسلم وعبد اللَّه بن غزية قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي يُوسُف بن يَزِيدَ، عن عَبْد اللَّهِ بن عوف، قَالَ: لما قتل المسيب بن نجبة أخذ الراية عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ نفيل، ثُمَّ قَالَ رحمه اللَّه: أخوي مِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا وأقبل بمن كَانَ مَعَهُ من الأزد، فحفوا برايته، فو الله إنا لكذلك إذ جاءنا فرسان ثلاثة: عَبْد اللَّهِ بن الخضل الطَّائِيّ، وكثير بن عَمْرو المزني، وسعر بن أبي سعر الحنفي، كَانُوا خرجوا مع سعد بن حُذَيْفَة بن الْيَمَانِ فِي سبعين ومائة من أهل المدائن، فسرحهم يوم خرج فِي آثارنا عَلَى خيول مقلمة مقدحة، فَقَالَ لَهُمُ: اطووا المنازل حَتَّى تلحقوا بإخواننا فتبشروهم بخروجنا إِلَيْهِم لتشتد بِذَلِكَ ظهورهم، وتخبروهم بمجيء أهل الْبَصْرَة أَيْضًا، كَانَ المثنى بن مخربه العبدى اقبل في ثلاثمائة من أهل الْبَصْرَة، فَجَاءَ حَتَّى نزل مدينة بهرسير بعد خروج سعد بن حُذَيْفَة من المدائن لخمس ليال، وَكَانَ خروجه مِنَ الْبَصْرَةِ قبل ذَلِكَ قَدْ بلغ سعد بن حُذَيْفَة قبل أن يخرج من المدائن، فلما انتهوا إلينا قَالُوا: أبشروا فقد جاءكم إخوانكم من أهل المدائن وأهل الْبَصْرَة، فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ نفيل: ذَلِكَ لو جاءونا ونحن أحياء، قَالَ: فنظروا إلينا، فلما رأوا مصارع إخوانهم وما بنا من الجراح، بكى القوم وَقَالُوا: وَقَدْ بلغ مِنْكُمْ مَا نرى! إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! قَالَ: فنظروا والله

إِلَى مَا ساء أعينهم، فَقَالَ لَهُمْ عَبْد اللَّهِ بن نفيل: إنا لهذا خرجنا، ثُمَّ اقتتلنا فما اضطربنا إلا ساعة حَتَّى قتل المزني، وطعن الحنفي فوقع بين القتلى، ثُمَّ ارتث بعد ذَلِكَ فنجا، وطعن الطَّائِيّ فجزم أنفه، فقاتل قتالا شديدا، وَكَانَ فارسا شاعرا، فأخذ يقول: قَدْ علمت ذات القوام الرود ... أن لست بالواني وَلا الرعديد يَوْمًا وَلا بالفرق الحيود. قَالَ: فحمل علينا رَبِيعَة بن المخارق حملة منكرة، فاقتتلنا قتالا شديدا. ثُمَّ إنه اختلف هُوَ وعبد اللَّه بن سَعْدِ بْنِ نفيل ضربتين، فلم يصنع سيفاهما شَيْئًا، واعتنق كل واحد منهما صاحبه، فوقعا إِلَى الأرض، ثُمَّ قاما فاضطربا، ويحمل ابن أخي رَبِيعَة بن المخارق عَلَى عَبْد اللَّهِ بن سَعْدٍ، فطعنه فِي ثغرة نحره، فقتله، ويحمل عَبْد اللَّهِ بن عوف بن الأحمر عَلَى رَبِيعَة بن المخارق، فطعنه فصرعه فلم يصب مقتلا، فقام فكر عَلَيْهِ الثانية، فطعنه أَصْحَاب رَبِيعَة فصرعوه، ثُمَّ إن أَصْحَابه استنقذوه وَقَالَ خَالِد بن سَعْدِ بْنِ نفيل: أروني قاتل أخي، فأريناه ابن أخي رَبِيعَة بن المخارق، فحمل عَلَيْهِ فقنعه بالسيف واعتنقه الآخر فخر إِلَى الأرض، فحمل أَصْحَابه وحملنا، وكانوا أكثر منا فاستنقذوا صاحبهم، وقتلوا صاحبنا، وبقيت الراية ليس عندها أحد. قَالَ: فنادينا عَبْد اللَّهِ بن وال بعد قتلهم فرساننا، فإذا هُوَ قَدِ استلحم فِي عصابة مَعَهُ إِلَى جانبنا، فحمل عَلَيْهِ رفاعة بن شداد، فكشفهم عنه، ثُمَّ أقبل إِلَى رايته وَقَدْ أمسكها عَبْد الله بن خازم الكثيرى، فَقَالَ لابن وال: أمسك عني رايتك، قَالَ: أمسكها عني رحمك اللَّه، فإني بي مثل حالك فَقَالَ لَهُ: أمسك عني رايتك، فإني أريد أن أجاهد، قَالَ: فإن هَذَا الَّذِي أنت فِيهِ جهاد وأجر، قَالَ: فصحنا: يَا أَبَا عزة، أطع أميرك يرحمك اللَّه! قَالَ: فأمسكها قليلا، ثُمَّ إن ابن وال أخذها مِنْهُ. قَالَ أَبُو مخنف: قَالَ أَبُو الصلت التيمي الأعور: حَدَّثَنِي شيخ للحي

كَانَ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: قَالَ لنا ابن وال: من أراد الحياة الَّتِي ليس بعدها موت، والراحة الَّتِي ليس بعدها نصب، والسرور الَّذِي ليس بعده حزن، فليتقرب إِلَى ربه بجهاد هَؤُلاءِ المحلين، والرواح إِلَى الجنة رحمكم اللَّه! وَذَلِكَ عِنْدَ العصر، فشد عَلَيْهِم، وشددنا مَعَهُ، فأصبنا وَاللَّهِ مِنْهُمْ رجالا، وكشفناهم طويلا، ثُمَّ إِنَّهُمْ بعد ذَلِكَ تعطفوا علينا من كل جانب، فحازونا حَتَّى بلغوا بنا المكان الَّذِي كنا فِيهِ، وكنا بمكان لا يقدرون أن يأتونا فِيهِ إلا من وجه واحد، وولي قتالنا عِنْدَ المساء أدهم بن محرز الباهلي، فشد علينا فِي خيله ورجاله، فقتل عَبْد اللَّهِ بن وال التيمي. قَالَ أَبُو مخنف، عن فروة بن لقيط، قَالَ: سمعت أدهم بن محرز الباهلي فِي إمارة الحجاج بن يُوسُفَ وَهُوَ يحدث ناسا من أهل الشام، قَالَ: دفعت إِلَى أحد أمراء العراق، رجل مِنْهُمْ يقولون لَهُ عَبْد اللَّهِ بن وال وَهُوَ يقول: «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ» ، الآيات الثلاث، قَالَ: فغاظني، فقلت فِي نفسي: هَؤُلاءِ يعدوننا بمنزلة أهل الشرك، يرون أن من قتلنا مِنْهُمْ كَانَ شهيدا. فحملت عَلَيْهِ أضرب يده اليسرى فأطننتها، وتنحيت قريبا، فقلت لَهُ: أما إني أراك وددت أنك فِي أهلك، فَقَالَ: بئسما رأيت! أما وَاللَّهِ مَا أحب أنها يدك الآن إلا أن يكون لي فِيهَا من الأجر مثل مَا فِي يدي، قَالَ: فقلت لَهُ: لم؟ قَالَ: لكيما يجعل اللَّه عَلَيْك وزرها، ويعظم لي أجرها، قَالَ: فغاظني فجمعت خيلي ورجالي، ثُمَّ حملنا عَلَيْهِ وعلى أَصْحَابه، فدفعت إِلَيْهِ فطعنته فقتلته، وإنه لمقبل إلي مَا يزول، فزعموا بعد أنه كَانَ من فقهاء أهل العراق الَّذِينَ كَانُوا يكثرون الصوم والصلاة ويفتون الناس. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي الثقة، عن حميد بن مسلم وعبد اللَّه بن غزية

قَالَ: لما هلك عَبْد اللَّهِ بن وال نظرنا، فإذا عبد الله بن خازم قتيل إِلَى جنبه، ونحن نرى أنه رفاعة بن شداد البجلي، فقال له رجل من بني كنانة يقال لَهُ الْوَلِيد بن غضين: أمسك رايتك، قَالَ: لا أريدها، فقلت لَهُ: إنا لِلَّهِ! مَا لك! فَقَالَ: ارجعوا بنا لعل اللَّه يجمعنا ليوم شر لَهُمْ، فوثب عَبْد اللَّهِ بن عوف بن الأحمر إِلَيْهِ، فَقَالَ: أهلكتنا، وَاللَّهِ لَئِنِ انصرفت ليركبن أكتافنا فلا نبلغ فرسخا حَتَّى نهلك من عِنْدَ آخرنا، فإن نجا منا ناج أخذه الأعراب وأهل القرى، فتقربوا إِلَيْهِم بِهِ فيقتل صبرا، أنشدك اللَّه أن تفعل، هَذِهِ الشمس قَدْ طفلت للمغيب، وهذا الليل قَدْ غشينا، فنقاتلهم عَلَى خيلنا هَذِهِ فإنا الآن ممتنعون، فإذا غسق الليل ركبنا خيولنا أول الليل فرمينا بِهَا، فكان ذَلِكَ الشأن حَتَّى نصبح ونسير ونحن عَلَى مهل، فيحمل الرجل منا جريحه وينتظر صاحبه، وتسير العشرة والعشرون معا، ويعرف الناس الوجه الَّذِي يأخذون، فيتبع فِيهِ بعضهم بعضا، ولو كَانَ الَّذِي ذكرت لم تقف أم عَلَى ولدها، ولم يعرف رجل وجهه، وَلا أين يسقط، وَلا أين يذهب! ولم نصبح إلا ونحن بين مقتول ومأسور فَقَالَ لَهُ رفاعة بن شداد: فإنك نعم مَا رأيت، قَالَ: ثُمَّ أقبل رفاعة عَلَى الكناني فَقَالَ لَهُ: أتمسكها أم آخذها مِنْكَ؟ فَقَالَ لَهُ الكناني: إني لا أريد مَا تريد، إني أريد لقاء ربي، واللحاق بإخواني، والخروج من الدُّنْيَا إِلَى الآخرة، وأنت تريد ورق الدُّنْيَا، وتهوى البقاء، وتكره فراق الدنيا، اما والله انى لاحب لك أن ترشد، ثُمَّ دفع إِلَيْهِ الراية، وذهب ليستقدم فَقَالَ لَهُ ابن أحمر: قاتل معنا ساعة رحمك اللَّه وَلا تلق بيدك إِلَى التهلكة، فما زال بِهِ يناشده حَتَّى احتبس عَلَيْهِ، وأخذ أهل الشام يتنادون: إن اللَّه قَدْ أهلكهم، فأقدموا عَلَيْهِم فافرغوا مِنْهُمْ قبل الليل فأخذوا يقدمون عَلَيْهِم، فيقدمون عَلَى شوكة شديدة، ويقاتلون فرسانا شجعانا ليس فِيهِمْ سقط رجل، وليسوا لَهُمْ بمضجرين فيتمكنوا مِنْهُمْ، فقاتلوهم حَتَّى العشاء قتالا شديدا، وقتل الكناني قبل المساء، وخرج عَبْد اللَّهِ بن عزيز الكندي وَمَعَهُ ابنه مُحَمَّد غلام صغير، فَقَالَ: يَا أهل الشام، هل فيكم أحد من كندة؟ فخرج إِلَيْهِ مِنْهُمْ رجال، فَقَالُوا: نعم، نحن هؤلاء،

فَقَالَ لَهُمْ: دونكم أخوكم فابعثوا بِهِ إِلَى قومكم بالكوفة، فأنا عَبْد اللَّهِ بن عزيز الكندي، فَقَالُوا لَهُ: أنت ابن عمنا، فإنك آمن، فَقَالَ لَهُمْ: وَاللَّهِ لا أرغب عن مصارع إخواني الَّذِينَ كَانُوا للبلاد نورا، وللأرض أوتادا، وبمثلهم كَانَ اللَّه يذكر، قَالَ: فأخذ ابنه يبكي فِي أثر أَبِيهِ، فَقَالَ: يَا بني، لو أن شَيْئًا كَانَ آثر عندي من طاعة ربي إذا لكنت أنت، وناشده قومه الشاميون لما رأوا من جزع ابنه وبكائه فِي أثره، وأروا الشاميون لَهُ ولابنه رقة شديدة حَتَّى جزعوا وبكوا، ثُمَّ اعتزل الجانب الَّذِي خرج إِلَيْهِ مِنْهُ قومه، فشد عَلَى صفهم عِنْدَ المساء، فقاتل حَتَّى قتل قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي فضيل بن خديج، قَالَ: حَدَّثَنِي مسلم بن زحر الخولاني، أن كُرَيْب بن زَيْد الحميري مشى إِلَيْهِم عِنْدَ المساء وَمَعَهُ راية بلقاء فِي جماعة، قلما تنقص من مائة رجل إن نقصت، وَقَدْ كَانُوا تحدثوا بِمَا يريد رفاعة أن يصنع إذا أمسى، فقام لَهُمُ الحميري وجمع إِلَيْهِ رجالا من حمير وهمدان، فَقَالَ: عباد اللَّه! روحوا إِلَى ربكم، وَاللَّهِ مَا فِي شَيْءٍ من الدُّنْيَا خلف من رضاء اللَّه والتوبة إِلَيْهِ، إنه قَدْ بلغني أن طائفة مِنْكُمْ يريدون أن يرجعوا إِلَى مَا خرجوا مِنْهُ إِلَى دنياهم، وإن هم ركنوا إِلَى دنياهم رجعوا الى خطاياهم، فاما انا فو الله لا أولي هَذَا العدو ظهري حَتَّى أرد موارد إخواني، فأجابوه وَقَالُوا: رأينا مثل رأيك ومضى برايته حَتَّى دنا من القوم، فَقَالَ ابن ذي الكلاع: وَاللَّهِ إني لأرى هَذِهِ الراية حميرية أو همدانية، فدنا مِنْهُمْ فسألهم، فأخبروه، فَقَالَ لَهُمْ: إنكم آمنون، فَقَالَ لَهُ صاحبهم: إنا قَدْ كنا آمنين فِي الدُّنْيَا، وإنما خرجنا نطلب أمان الآخرة، فقاتلوا القوم حتى قتلوا، ومشى صخير بن حُذَيْفَة بن هلال بن مالك المزني فِي ثَلاثِينَ من مزينة، فَقَالَ لَهُمْ: لا تهابوا الموت فِي اللَّه، فإنه لاقيكم، وَلا ترجعوا إِلَى الدُّنْيَا الَّتِي خرجتم منها إِلَى اللَّهِ فإنها لا تبقى لكم، وَلا تزهدوا فِيمَا رغبتم فِيهِ من ثواب اللَّه فإن مَا عِنْدَ اللَّه خير لكم، ثُمَّ مضوا فقاتلوا حَتَّى قتلوا، فلما أمسى الناس ورجع أهل الشام إِلَى معسكرهم، نظر رفاعة إِلَى كل رجل قَدْ عقر بِهِ، وإلى

كل جريح لا يعين عَلَى نفسه، فدفعه إِلَى قومه، ثُمَّ سار بِالنَّاسِ ليلته كلها حَتَّى أصبح بالتنينير فعبر الخابور، وقطع المعابر، ثُمَّ مضى لا يمر بمعبر إلا قطعه، وأصبح الحصين بن نمير فبعث فوجدهم قَدْ ذهبوا، فلم يبعث فِي آثارهم أحدا، وسار بِالنَّاسِ فأسرع، وخلف رفاعة وراءهم أبا الجويرية العبدي فِي سبعين فارسا يسترون الناس، فإذا مروا برجل قَدْ سقط حمله، أو بمتاع قَدْ سقط قبضه حَتَّى يعرفه، فإن طلب او ابتغى بعث اليه فاعمله، فلم يزالوا كذلك حَتَّى مروا بقرقيسيا من جانب البر، فبعث إِلَيْهِم زفر من الطعام والعلف مثل مَا كَانَ بعث إِلَيْهِم فِي المرة الأولى، وأرسل إِلَيْهِم الأطباء وَقَالَ: أقيموا عندنا مَا أحببتم، فإن لكم الكرامة والمواساة، فأقاموا ثلاثا، ثُمَّ زود كل امرئ مِنْهُمْ مَا أحب من الطعام والعلف، قَالَ: وجاء سعد بن حُذَيْفَة بن الْيَمَانِ حَتَّى انتهى إِلَى هيت، فاستقبله الأعراب فأخبروه بِمَا لقي الناس، فانصرف، فتلقى المثنى بن مخربة العبدي بصندوداء، فأخبره، فأقاموا حَتَّى جاءهم الخبر: أن رفاعة قَدْ أظلكم، فخرجوا حين دنا من القرية، فاستقبلوه فسلم الناس بعضهم عَلَى بعض، وبكى بعضهم إِلَى بعض، وتناعوا إخوانهم فأقاموا بِهَا يَوْمًا وليلة، فانصرف أهل المدائن إِلَى المدائن، وأهل الْبَصْرَة إِلَى الْبَصْرَة، وأقبل أهل الْكُوفَة إِلَى الْكُوفَةِ، فإذا المختار محبوس. قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف، عن عبد الرَّحْمَن بن يَزِيدَ بن جابر، عن أدهم بن محرز الباهلي، أنه أتى عَبْد الْمَلِكِ بن مَرْوَان ببشارة الفتح، قَالَ: فصعد الْمِنْبَر، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن اللَّه قَدْ أهلك من رءوس أهل العراق ملقح فتنة، ورأس ضلالة، سُلَيْمَان بن صرد، أَلا وإن السيوف تركت رأس المسيب بن نجبة خذاريف، أَلا وَقَدْ قتل اللَّه من رءوسهم رأسين عظيمين ضالين مضلين: عَبْد اللَّهِ بن سَعْد أخا الأزد، وعبد اللَّه بن وال أخا بكر بن وائل، فلم يبق بعد هَؤُلاءِ أحد عنده دفاع وَلا امتناع. قَالَ هِشَام، عن أبي مخنف: وحدثت أن المختار مكث نحوا من خمس

عشرة ليلة ثُمَّ قَالَ لأَصْحَابه: عدوا لغازيكم هَذَا أكثر من عشر، ودون الشهر، ثُمَّ يجيئكم نبأ هتر، من طعن نتر، وضرب هبر، وقتل جم، وأمر رجم. فمن لها؟ أنا لها، لا تكذبن، أنا لها. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنَا الحصين بن يَزِيدَ، عن أبان بن الْوَلِيد، قَالَ: كتب المختار وَهُوَ فِي السجن إِلَى رفاعة بن شداد حين قدم من عين الوردة: أَمَّا بَعْدُ، فمرحبا بالعصب الذين اعظم اللَّه لَهُمُ الأجر حين انصرفوا، ورضي انصرافهم حين قفلوا اما ورب البنيه التي بنى مَا خطا خاط مِنْكُمْ خطوة، وَلا رتا رتوة، إلا كَانَ ثواب اللَّه لَهُ أعظم من ملك الدُّنْيَا إن سُلَيْمَان قَدْ قضى مَا عَلَيْهِ، وتوفاه اللَّه فجعل روحه مع أرواح الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، ولم يكن بصاحبكم الَّذِي بِهِ تنصرون، إني أنا الأمير المأمور، والأمين المأمون، وأمير الجيش، وقاتل الجبارين، والمنتقم من أعداء الدين، والمقيد من الأوتار، فأعدوا واستعدوا، وأبشروا واستبشروا، أدعوكم إِلَى كتاب الله، وسنه نبيه ص، وإلى الطلب بدماء أهل البيت والدفع عن الضعفاء، وجهاد المحلين، والسلام. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي أَبُو زهير العبسي، أن الناس تحدثوا بهذا من أمر المختار، فبلغ ذَلِكَ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ وإبراهيم بن مُحَمَّد، فخرجا فِي الناس حَتَّى أتيا المختار، فأخذاه. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم قَالَ: لما تهيأنا للانصراف قام عَبْد اللَّهِ بن غزية ووقف عَلَى القتلى فَقَالَ: يرحمكم اللَّه، فقد صدقتم وصبرتم، وكذبنا وفررنا، قَالَ: فلما سرنا وأصبحنا إذا عَبْد اللَّهِ بن غزية فِي نحو من عشرين قَدْ أرادوا الرجوع إِلَى العدو والاستقتال، فَجَاءَ رفاعة وعبد اللَّه بن عوف بن الأحمر وجماعة الناس فَقَالُوا لَهُمْ: ننشدكم اللَّه أَلا تزيدونا فلولا ونقصانا، فإنا لا نزال بخير مَا كَانَ فينا مثلكم من ذوي النيات، فلم يزالوا بهم كذلك يناشدونهم حَتَّى ردوهم غير

رجل من مزينة يقال لَهُ عبيدة بن سُفْيَان، رحل مع الناس، حَتَّى إذا غفل عنه انصرف حَتَّى لقي أهل الشام، فشد بسيفه يضاربهم حَتَّى قتل. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي الحصين بن يَزِيدَ الأَزْدِيّ، عن حميد بن مسلم الأَزْدِيّ، قَالَ: كَانَ ذَلِكَ المزني صديقا لي، فلما ذهب لينصرف ناشدته اللَّه، فَقَالَ: أما إنك لم تكن لتسألني شَيْئًا من الدُّنْيَا إلا رأيت لك من الحق علي إيتاءكه، وهذا الَّذِي تسألني أريد اللَّه بِهِ، قَالَ: ففارقني حَتَّى لقي القوم فقتل، قال: فو الله مَا كَانَ شَيْء بأحب إلي من أن ألقى إنسانا يحدثني عنه كيف صنع حين لقي القوم! قَالَ: فلقيت عَبْد الْمَلِكِ بن جزء بن الحدرجان الأَزْدِيّ بمكة، فجرى حديث بيننا، جرى ذكر ذَلِكَ الْيَوْم، فَقَالَ: أعجب مَا رأيت يوم عين الوردة بعد هلاك القوم أن رجلا أقبل حَتَّى شد علي بسيفه، فخرجنا نحوه، قَالَ: فانتهى إِلَيْهِ وَقَدْ عقر بِهِ وَهُوَ يقول: إني من اللَّه إِلَى اللَّهِ أفر ... رضوانك اللَّهُمَّ أبدي وأسر قَالَ: فقلنا لَهُ: ممن أنت؟ قَالَ: من بني آدم، قَالَ: فقلنا: ممن؟ قَالَ: لا أحب أن أعرفكم وَلا أن تعرفوني يَا مخربى البيت الحرام، قال: فتزل إِلَيْهِ سُلَيْمَان بن عَمْرو بن محصن الأَزْدِيّ من بني الخيار، قَالَ: وَهُوَ يَوْمَئِذٍ من أشد الناس، قَالَ: فكلاهما أثخن صاحبه، قَالَ: وشد الناس عَلَيْهِ من كل جانب، فقتلوه، قال: فو الله مَا رأيت واحدا قط هُوَ أشد مِنْهُ، قَالَ: فلما ذكر لي، وكنت أحب أن أعلم علمه، دمعت عيناي، فَقَالَ: أبينك وبينه قرابة؟ فقلت لَهُ: لا، ذَلِكَ رجل من مضر كَانَ لي ودا وأخا، فَقَالَ لي: لا أرقأ اللَّه دمعك، أتبكي عَلَى رجل من مضر قتل عَلَى ضلالة! قَالَ: قلت: لا، وَاللَّهِ مَا قتل عَلَى ضلالة، ولكنه قتل عَلَى بينة من ربه وهدى، فَقَالَ لي: أدخلك اللَّه مدخله، قلت: آمين، وأدخلك اللَّه مدخل حصين بن نمير، ثُمَّ لا ارقا الله لك عَلَيْهِ دمعا، ثُمَّ قمت وقام. وَكَانَ مما قيل من الشعر فِي ذَلِكَ قول أعشى همدان، وَهِيَ إحدى المكتمات، كن يكتمن فِي ذَلِكَ الزمان:

ألم خيال مِنْكَ يَا أم غالب ... فحييت عنا من حبيب مجانب وما زلت لي شجوا وما زلت مقصدا ... لِهَمٍّ عراني من فراقك ناصب فما أنس لا أنس انفتالك فِي الضحى ... إلينا مع البيض الوسام الخراعب تراءت لنا هيفاء مهضومة الحشا ... لطيفة طي الكشح ريا الحقائب مبتلة غراء، رود شبابها ... كشمس الضحى تنكل بين السحائب فلما تغشاها السحاب وحوله ... بدا حاجب منها وضنت بحاجب فتلك الهوى وَهْيَ الجوى لي والمنى ... فأحبب بِهَا من خلة لم تصاقب وَلا يبعد اللَّه الشباب وذكره ... وحب تصافي المعصرات الكواعب ويزداد مَا أحببته من عتابنا ... لعابا وسقيا للخدين المقارب فإني وإن لم أنسهن لذاكر ... رزيئة مخبات كريم المناصب توسل بالتقوى إِلَى اللَّهِ صادقا ... وتقوى الإله خير تكساب كاسب وخلى عن الدُّنْيَا فلم يلتبس بِهَا ... وتاب إِلَى اللَّهِ الرفيع المراتب تخلى عن الدُّنْيَا وَقَالَ اطّرحتها ... فلست إِلَيْهَا مَا حييت بآيب وما أنا فِيمَا يكبر الناس فقده ... ويسعى لَهُ الساعون فِيهَا براغب فوجهه نحو الثوية سائرا ... إِلَى ابن زياد فِي الجموع الكباكب بقوم همُ أهل التقية والنهى ... مصاليت أنجاد سراة مناجب مضوا تاركي رأي ابن طَلْحَة حسبه ... ولم يستجيبوا للأمير المخاطب فساروا وهم من بين ملتمس التقى ... وآخر مما جر بالأمس تائب

فلاقوا بعين الوردة الجيش فاصلا ... إِلَيْهِم فحسوهم ببيض قواضب يمانيه تذرى الأكف وتارة ... بخيل عتاق مقربات سلاهب فجاءهمُ جمع من الشام بعده ... جموع كموج البحر من كل جانب فما برحوا حَتَّى أبيدت سراتهم ... فلم ينج مِنْهُمْ ثَمَّ غير عصائب وغودر أهل الصبر صرعى فأصبحوا ... تعاورهم ريح الصبا والجنائب فاضحى الخزاعي الرئيس مجدلا ... كأن لم يقاتل مرة ويحارب وراس بنى شمخ وفارس قومه ... شنوءه والتيمي هادي الكتائب وعمرو بن بشر والوليد وخالد ... وزَيْد بن بكر والحليس بن غالب وضارب من همدان كل مشيع ... إذا شد لم ينكل كريم المكاسب ومن كل قوم قَدْ أصيب زعيمهم ... وذو حسب فِي ذروة المجد ثاقب أبوا غير ضرب يفلق الهام وقعه ... وطعن بأطراف الأسنة صائب وإن سعيدا يوم يدمر عامرا ... لأشجع من ليث بدرنى مواثب فيا خير جيش للعراق وأهله ... سقيتم روايا كل أسحم ساكب فلا يبعدَنْ فرساننا وحماتنا ... إذا البيض أبدت عن خدام الكواعب فإن يقتلوا فالقتل أكرم ميتة ... وكل فتى يَوْمًا لإحدى الشواعب وما قتلوا حَتَّى أثاروا عصابة ... محلين ثورا كالليوث الضوارب وقتل سُلَيْمَان بن صرد ومن قتل مَعَهُ بعين الوردة من التوابين في شهر ربيع الآخر

ذكر الخبر عن بيعه عبد الملك وعبد العزيز ابنى مروان

ذكر الخبر عن بيعه عبد الملك وعبد العزيز ابنى مروان وفي هَذِهِ السنة أمر مَرْوَان بن الحكم أهل الشام بالبيعة من بعده لابنيه عَبْد الْمَلِكِ وعبد العزيز، وجعلهما ولي العهد. ذكر الخبر عن سبب عقد مروان ذلك لها: قَالَ هِشَام، عن عوانة قَالَ: لما هزم عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ الأشدق مُصْعَب بن الزُّبَيْرِ حين وجهه أخوه عَبْد اللَّهِ إِلَى فلسطين وانصرف راجعا إِلَى مَرْوَان، ومروان يَوْمَئِذٍ بدمشق، قَدْ غلب عَلَى الشام كلها ومصر، وبلغ مَرْوَان أن عمرا يقول: إن هَذَا الأمر لي من بعد مَرْوَان، ويدعي أنه قَدْ كَانَ وعده وعدا، فدعا مَرْوَان حسان بن مالك بن بحدل فأخبره أنه يريد أن يبايع لعبد الملك وعبد العزيز ابنيه من بعده، واخبره بما بلغه عن عَمْرو بن سَعِيدٍ، فَقَالَ: أنا أكفيك عمرا، فلما اجتمع الناس عِنْدَ مَرْوَان عشيا قام ابن بحدل فَقَالَ: إنه قَدْ بلغنا أن رجالا يتمنون أماني، قوموا فبايعوا لعبد الملك ولعبد العزيز من بعده، فقام الناس، فبايعوا من عند آخرهم . ذكر الخبر عن موت مروان بن الحكم وفي هَذِهِ السنة مات مَرْوَان بن الحكم بدمشق مستهل شهر رمضان. ذكر الخبر عن سبب هلاكه: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سعد، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بن يَعْقُوب، عن أبي الحويرث، قال: لما حضرت معاويه ابن يَزِيدَ أبا لَيْلَى الوفاة، أبى أن يستخلف أحدا، وَكَانَ حسان بن مالك بن بحدل يريد أن يجعل الأمر بعد مُعَاوِيَة بن يَزِيدَ لأخيه خَالِد بن يَزِيدَ بن مُعَاوِيَة، وَكَانَ صغيرا، وَهُوَ خال أَبِيهِ يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فبايع لمروان، وَهُوَ يريد أن يجعل الأمر بعده لخالد بن يَزِيدَ، فلما بايع لمروان وبايعه مَعَهُ أهل الشام قيل لمروان: تزوج أم خَالِد- وأمه أم خَالِد ابنة أبي هِشَام بن عتبة حَتَّى تصغر

ذكر خبر مقتل حبيش بن دلجه

شأنه، فلا يطلب الخلافة، فتزوجها، فدخل خَالِد يَوْمًا عَلَى مَرْوَان وعنده جماعة كثيرة، وَهُوَ يمشي بين الصفين، فَقَالَ: إنه وَاللَّهِ مَا علمت لاحمق، تعال يا بن الرطبة الاست- يقصر بِهِ ليسقطه من أعين أهل الشام- فرجع إِلَى أمه فأخبرها، فَقَالَتْ لَهُ أمه: لا يعرفن ذَلِكَ مِنْكَ، واسكت فإني أكفيكه، فدخل عَلَيْهَا مَرْوَان، فَقَالَ لها: هل قَالَ لك خَالِد فِيّ شَيْئًا؟ فَقَالَتْ: وخالد يقول فيك شَيْئًا! خَالِد أشد لك إعظاما من أن يقول فيك شَيْئًا، فصدقها، ثُمَّ مكثت أياما، ثُمَّ إن مَرْوَان نام عندها، فغطته بالوسادة حَتَّى قتلته. قَالَ أَبُو جَعْفَر: وَكَانَ هلاك مَرْوَان فِي شهر رمضان بدمشق، وَهُوَ ابن ثلاث وستين سنة فِي قول الْوَاقِدِيّ، وأما هِشَام بن مُحَمَّد الكلبي فإنه قَالَ: كَانَ يوم هلك ابن إحدى وستين سنة، وقيل: توفي وَهُوَ ابن إحدى وسبعين سنة، وقيل: ابن إحدى وثمانين سنة، وَكَانَ يكنى أبا عَبْد الْمَلِكِ، وَهُوَ مَرْوَان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، وأمه آمنة بنت عَلْقَمَة ابن صفوان بن أُمَيَّة الكناني، وعاش بعد أن بويع لَهُ بالخلافة تسعة أشهر، وقيل: عاش بعد أن بويع لَهُ بالخلافة عشرة أشهر إلا ثلاث ليال، وَكَانَ قبل هلاكه قَدْ بعث بعثين: أحدهما إِلَى الْمَدِينَة، عَلَيْهِم حبيش بن دلجة القيني، والآخر منهما إِلَى العراق، عليهم عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فأما عُبَيْد الله ابن زياد فسار حَتَّى نزل الجزيرة، فأتاه الخبر بِهَا بموت مَرْوَان، وخرج إِلَيْهِ التوابون من أهل الْكُوفَة طالبين بدم الْحُسَيْن، فكان من أمرهم مَا قَدْ مضى ذكره، وسنذكر إِنْ شَاءَ اللَّهُ باقي خبره إِلَى أن قتل . ذكر خبر مقتل حبيش بن دلجه وفي هَذِهِ السنة قتل حبيش بن دلجة وأما حبيش بن دلجة، فإنه سار حَتَّى انتهى- فِيمَا ذكر عن هِشَام، عن عوانة بن الحكم- الى المدينة، وعليهم جابر ابن الأَسْوَدِ بْنِ عوف، ابن أخي عبد الرَّحْمَن بن عوف، من قبل عَبْد اللَّهِ بن

ذكر خبر حدوث الطاعون الجارف

الزُّبَيْرِ، فهرب جابر من حبيش ثُمَّ إن الْحَارِث بن أَبِي رَبِيعَةَ- وَهُوَ أخو عُمَر بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ- وجه جيشا مِنَ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ قَدْ ولاه الْبَصْرَة، عَلَيْهِم الحنيف بن السجف التميمى لحرب حبيش ابن دلجه، فلما سمع حبيش بن دلجه سار إِلَيْهِم مِنَ الْمَدِينَةِ، وسرح عَبْد اللَّهِ ابن الزُّبَيْرِ عباس بن سَهْل بن سَعْد الأَنْصَارِيّ عَلَى الْمَدِينَة، وأمره أن يسير فِي طلب حبيش بن دلجة حَتَّى يوافي الجند من أهل الْبَصْرَة الَّذِينَ جاءوا ينصرون ابن الزُّبَيْر، عليهم الحنيف، واقبل عباس فِي آثارهم مسرعا حَتَّى لحقهم بالربذة، وَقَدْ قَالَ أَصْحَاب ابن دلجة لَهُ: دعهم، لا تعجل إِلَى قتالهم، فَقَالَ: لا أنزل حَتَّى آكل من مقندهم، - يعني السويق الَّذِي فِيهِ القند- فجاءه سهم غرب فقتله، وقتل مَعَهُ المنذر بن قيس الجذامى، وابو عتاب مولى أبي سُفْيَان، وَكَانَ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ يُوسُف بن الحكم، والحجاج بن يُوسُفَ، وما نجوا يَوْمَئِذٍ إلا عَلَى جمل واحد، وتحرز مِنْهُمْ نحو من خمسمائة في عمود المدينة، فقال لهم عباس: انزلوا عَلَى حكمي، فنزلوا عَلَى حكمه فضرب أعناقهم، ورجع فل حبيش إِلَى الشام. حَدَّثَنِي أحمد بن زهير، عن علي بن محمد انه قال: الذى قتل حبيش ابن دلجة يوم الرَّبَذَة يَزِيد بن سياه الأسواري، رماه بنشابة فقتله، فلما دخلوا الْمَدِينَة وقف يَزِيد بن سياه عَلَى برذون أشهب وعليه ثياب بياض، فما لبث أن اسودت ثيابه، ورايته مما مسح الناس بِهِ ومما صبوا عليه من الطيب ذكر خبر حدوث الطاعون الجارف قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وقع بِالْبَصْرَةِ الطاعون الَّذِي يقال لَهُ الطاعون الجارف، فهلك بِهِ خلق كثير من أهل الْبَصْرَة. حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي زهير بن حرب، قَالَ: حَدَّثَنَا وهب بن جرير، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، عن المُصْعَب بن زَيْد، ان الجارف وقع وعبيد الله بن

مقتل نافع بن الأزرق واشتداد امر الخوارج

معمر عَلَى الْبَصْرَة، فماتت أمه فِي الجارف، فما وجدوا لها من يحملها حَتَّى استأجروا لها أربعة علوج فحملوها إِلَى حفرتها وَهُوَ الأمير يومئذ . مقتل نافع بن الأزرق واشتداد امر الخوارج وفي هَذِهِ السنة اشتدت شوكة الخوارج بِالْبَصْرَةِ، وقتل فِيهَا نافع بن الأزرق. ذكر الخبر عن مقتله: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زهير بن حرب، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبي، عن مُحَمَّد بن الزُّبَيْرِ، أن عُبَيْد اللَّهِ بن عُبَيْد اللَّهِ بن معمر بعث أخاه عُثْمَان بن عُبَيْد اللَّهِ إِلَى نافع بن الأزرق فِي جيش، فلقيهم بدولاب، فقتل عُثْمَان وهزم جيشه. قَالَ عمر: قَالَ زهير: قَالَ وهب: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بن أبي عيينة، عن سبرة بن نخف، أن ابن معمر عُبَيْد اللَّهِ بعث أخاه عُثْمَان إِلَى ابن الأزرق، فهزم جنده وقتل، قَالَ وهب: فحدثنا أبي أن أهل الْبَصْرَة بعثوا جيشا عَلَيْهِم حَارِثَة بن بدر، فلقيهم، فَقَالَ لأَصْحَابه: كرنبوا ودولبوا ... وحيث شئتم فاذهبوا حَدَّثَنَا عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا زهير، قَالَ: حَدَّثَنَا وهب، قَالَ: حَدَّثَنَا أبي ومُحَمَّد بن أبي عيينة، قَالا: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَة بن قرة، قَالَ: خرجنا مع ابن عبيس فلقيناهم، فقتل ابن الأزرق وابنان أو ثلاثة للماحوز، وقتل ابن عبيس. قَالَ أَبُو جَعْفَر: وأما هِشَام بن محمد فإنه ذكر عن أبي مخنف، عن أبي المخارق الراسبي من قصة ابن الأزرق، وبني الماحوز قصة هي غير مَا ذكره عمر، عن زهير بن حرب، عن وهب بن جرير، والذي ذكر من خبرهم أن نافع بن الأزرق اشتدت شوكته باشتغال أهل الْبَصْرَة بالاختلاف الَّذِي كَانَ بين الأزد وربيعة وتميم بسبب مسعود بن عَمْرو، وكثرت جموعه، فأقبل نحو الْبَصْرَة حَتَّى دنا من الجسر، فبعث إِلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث مسلم ابن عبيس بن كريز بن رَبِيعَة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف فِي اهل

الْبَصْرَة، فخرج إِلَيْهِ، فأخذ يحوزه عن الْبَصْرَة، ويدفعه عن أرضها، حَتَّى بلغ مكانا من أرض الأهواز يقال لَهُ: دولاب، فتهيأ الناس بعضهم لبعض وتزاحفوا، فجعل مسلم بن عبيس عَلَى ميمنته الحجاج بن باب الحميري، وعلى ميسرته حَارِثَة بن بدر التميمي، ثُمَّ الغداني، وجعل ابن الأزرق على ميمنته عبيده بن هلال اليشكري، وعلى ميسرته الزُّبَيْر بن الماحوز التميمي، ثُمَّ التقوا فاضطربوا، فاقتتل الناس قتالا لم ير قتال قط أشد مِنْهُ، فقتل مسلم ابن عبيس أَمِير أهل الْبَصْرَة، وقتل نافع بن الأزرق رأس الخوارج، وأمر أهل الْبَصْرَة عَلَيْهِم الحجاج بن باب الحميري، وأمرت الأزارقة عَلَيْهِم عبد الله ابن الماحوز، ثُمَّ عادوا فاقتتلوا أشد قتال، فقتل الحجاج بن باب الحميري أَمِير أهل الْبَصْرَة، وقتل عَبْد اللَّهِ بن الماحوز أَمِير الأزارقة ثُمَّ إن أهل الْبَصْرَة أمروا عَلَيْهِم رَبِيعَة الأجذم التميمي، وأمرت الخوارج عَلَيْهِم عُبَيْد اللَّهِ بن الماحوز، ثُمَّ عادوا فاقتتلوا حَتَّى أمسوا، وَقَدْ كره بعضهم بعضا، وملوا القتال، فإنهم لمتواقفون متحاجزون حَتَّى جاءت الخوارج سرية لَهُمْ جامة لم تكن شهدت القتال، فحملت عَلَى الناس من قبل عبد القيس، فانهزم الناس، وقاتل امير البصره ربيعه الاجذم، فقتل، وأخذ راية أهل الْبَصْرَة حَارِثَة بن بدر، فقاتل ساعة وَقَدْ ذهب الناس عنه، فقاتل من وراء الناس فِي حماتهم، وأهل الصبر مِنْهُمْ، ثُمَّ أقبل بِالنَّاسِ حَتَّى نزل بهم منزلا بالأهواز ففي ذَلِكَ يقول الشاعر من الخوارج: يا كبدا مِنْ غَيْرِ جوع وَلا ظما ... ويا كبدي من حب أم حكيم ولو: شهدتني يوم دولاب أبصرت ... طعان امرئ فِي الحرب غير لئيم

غداة طفت فِي الماء بكر بن وائل ... وعجنا صدور الخيل نحو تميم وَكَانَ لعبد القيس أول حدنا ... وذلت شيوخ الأزد وَهْيَ تعوم وبلغ ذَلِكَ أهل الْبَصْرَة، فهالهم وأفزعهم، وبعث ابن الزبير الحارث ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ القرشي عَلَى تلك الحره، فقدم، وعزل عبد الله ابن الْحَارِث، فأقبلت الخوارج نحو الْبَصْرَة، وقدم المهلب بن أبي صفرة عَلَى تِلَكَ من حال الناس من قبل عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، مَعَهُ عهده عَلَى خُرَاسَان، فَقَالَ الأحنف للحارث بن أَبِي رَبِيعَةَ وللناس عامة: لا وَاللَّهِ، ما لهذا الأمر الا المهلب بن ابى صفره، فخرج أشراف الناس، فكلموه أن يتولى قتال الخوارج، فَقَالَ: لا أفعل، هَذَا عهد أَمِير الْمُؤْمِنِينَ معي عَلَى خُرَاسَان، فلم أكن لأدع عهده وأمره، فدعاه ابن أَبِي رَبِيعَةَ فكلمه فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ مثل ذَلِكَ، فاتفق رأي ابن أَبِي رَبِيعَةَ ورأي أهل الْبَصْرَة عَلَى أن كتبوا عَلَى لسان ابن الزُّبَيْر: بسم اللَّه الرحمن الرحيم من عبد اللَّه بن الزُّبَيْرِ إِلَى المهلب بن أبي صفرة، سلام عَلَيْك، فإني أحمد إليك اللَّه الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْحَارِث بن عَبْدِ اللَّهِ كتب إلي أن الأزارقة المارقة أصابوا جندا

لِلْمُسْلِمِينَ كَانَ عددهم كثيرا، وأشرافهم كثيرا، وذكر أَنَّهُمْ قَدْ أقبلوا نحو الْبَصْرَة، وَقَدْ كنت وجهتك إِلَى خُرَاسَان، وكتبت لك عَلَيْهَا عهدا، وقد رايت حيث ذكر هَذِهِ الخوارج أن تكون أنت تلي قتالهم، فقد رجوت أن يكون ميمونا طائرك، مباركا عَلَى أهل مصرك، والأجر فِي ذَلِكَ أفضل من المسير إِلَى خُرَاسَان، فسر إِلَيْهِم راشدا، فقاتل عدو اللَّه وعدوك، ودافع عن حقك وحقوق أهل مصرك، فإنه لن يفوتك من سلطاننا خُرَاسَان وَلا غير خُرَاسَان إِنْ شَاءَ اللَّهُ، والسلام عَلَيْك ورحمة اللَّه فأتي بِذَلِكَ الكتاب، فلما قرأه قَالَ: فإني وَاللَّهِ لا أسير إِلَيْهِم إلا أن تجعلوا لي مَا غلبت عَلَيْهِ، وتعطوني من بيت المال مَا أقوي بِهِ من معي، وأنتخب من فرسان الناس ووجوههم وذوي الشرف من أحببت، فَقَالَ جميع أهل الْبَصْرَة: ذَلِكَ لك، قَالَ: فاكتبوا لي عَلَى الأخماس بِذَلِكَ كتابا ففعلوا، إلا مَا كَانَ من مالك بن مسمع وطائفة من بكر بن وائل، فاضطغنها عَلَيْهِم المهلب، وَقَالَ الأحنف وعبيد اللَّه بن زياد بن ظبيان وأشراف أهل الْبَصْرَة للمهلب: وما عليك الا يكتب لك مالك بن مسمع وَلا من تابعه من أَصْحَابه، إذا أعطاك الَّذِي أردت من ذَلِكَ جميع أهل الْبَصْرَة! ويستطيع مالك خلاف جماعه الناس اوله ذَلِكَ! انكمش أيها الرجل، واعزم عَلَى أمرك، وسر إِلَى عدوك، ففعل ذَلِكَ المهلب، وأمر عَلَى الأخماس، فأمر عُبَيْد اللَّهِ بن زياد بن ظبيان عَلَى خمس بكر بن وائل، وامر الحريش ابن هلال السعدي عَلَى خمس بني تميم، وجاءت الخوارج حَتَّى انتهت إِلَى الجسر الأصغر، عَلَيْهِم عُبَيْد اللَّهِ بن الماحوز، فخرج إِلَيْهِم فِي أشراف الناس وفرسانهم ووجوههم، فحازهم عن الجسر، ودفعهم عنه، فكان أول شَيْء دفعهم عنه أهل الْبَصْرَة، ولم يكن بقي لَهُمْ إلا أن يدخلوا، فارتفعوا إِلَى الجسر الأكبر ثُمَّ انه عبا لَهُمْ، فسار إِلَيْهِم فِي الخيل والرجال، فلما أن رأوا أن قَدْ أظل عَلَيْهِم، وانتهى إِلَيْهِم، ارتفعوا فوق ذَلِكَ مرحلة أخرى، فلم يزل يحوزهم ويرفعهم مرحلة بعد مرحلة، ومنزلة بعد منزلة، حَتَّى انتهوا إِلَى منزل

من منازل الأهواز يقال لَهُ سلى وسلبرى، فأقاموا بِهِ، ولما بلغ حَارِثَة بن بدر الغداني أن المهلب قَدْ أمر عَلَى قتال الأزارقة، قَالَ لمن مَعَهُ مِنَ النَّاسِ: كرنبوا ودولبوا ... وحيث شئتم فاذهبوا قَدْ أمر المهلب. فأقبل من كَانَ مَعَهُ نحو الْبَصْرَة، فصرفهم الْحَارِث بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ إِلَى المهلب، ولما نزل المهلب بالقوم خندق عَلَيْهِ، ووضع المسالح، وأذكى العيون، وأقام الأحراس، ولم يزل الجند عَلَى مصافهم، والناس عَلَى راياتهم وأخماسهم، وأبواب الخنادق عَلَيْهَا رجال موكلون بها، فكانت الخوارج إذا أرادوا ابيات المهلب ووجدوا أمرا محكما، فرجعوا، فلم يقاتلهم إنسان قط كَانَ أشد عَلَيْهِم وَلا أغيظ لقلوبهم مِنْهُ. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي يُوسُف بن يَزِيدَ، عن عَبْد اللَّهِ بن عوف بن الأحمر، أن رجلا كَانَ فِي تِلَكَ الخوارج حدثه ان الخوارج بعثت عبيده ابن هلال وَالزُّبَيْر بن الماحوز فِي خيلين عظيمين ليلا إِلَى عسكر المهلب، فَجَاءَ الزُّبَيْر من جانبه الأيمن، وجاء عبيدة من جانبه الأيسر، ثُمَّ كبروا وصاحوا بِالنَّاسِ، فوجدوهم عَلَى تعبيتهم ومصافهم حذرين مغذين، فلم يصيبوا للقوم غرة، ولم يظفروا مِنْهُمْ بشيء، فلما ذهبوا ليرجعوا ناداهم عُبَيْد اللَّهِ ابن زياد بن ظبيان فَقَالَ: وجدتمونا وقرا أنجادا ... لا كشفا خورا وَلا أوغادا هيهات! إنا إذا صيح بنا أتينا، يَا أهل النار، أَلا ابكروا إِلَيْهَا غدا، فإنها مأواكم ومثواكم، قَالُوا: يَا فاسق، وهل تدخر النار إلا لك ولأشباهك! إنها أعدت للكافرين وأنت مِنْهُمْ، قَالَ: أتسمعون! كل مملوك لي حر

إن دخلتم أنتم الجنة إن بقي فِيمَا بين سفوان إِلَى أقصى حجر من أرض خُرَاسَان مجوسي ينكح أمه وابنته وأخته إلا دخلها، قَالَ لَهُ عبيدة: اسكت يَا فاسق فإنما أنت عبد للجبار العنيد، ووزير للظالم الكفور، قَالَ: يَا فاسق، وأنت عدو المؤمن التقي، ووزير الشَّيْطَان الرجيم، فَقَالَ الناس لابن ظبيان: وفقك الله يا بن ظبيان، فقد وَاللَّهِ أجبت الفاسق بجوابه، وصدقته فلما أصبح الناس أخرجهم المهلب عَلَى تعبيتهم وأخماسهم، ومواقفهم الأزد، وتميم ميمنة الناس، وبكر بن وائل وعبد القيس ميسرة الناس، وأهل العالية فِي القلب وسط الناس. وخرجت الخوارج عَلَى ميمنتهم عبيدة بن هلال اليشكري، وعلى ميسرتهم الزُّبَيْر بن الماحوز، وجاءوا وهم أحسن عدة، وأكرم خيولا، وأكثر سلاحا من أهل الْبَصْرَة، وَذَلِكَ لأنهم مخروا الأرض وجردوها، وأكلوا مَا بين كَرْمَان إِلَى الأهواز، فجاءوا عَلَيْهِم مغافر تضرب إِلَى صدورهم، وعليهم دروع يسحبونها، وسوق من زرد يشدونها بكلاليب الحديد إِلَى مناطقهم، فالتقى الناس فاقتتلوا كأشد القتال، فصبر بعضهم عامة النهار ثُمَّ إن الخوارج شدت عَلَى الناس بأجمعها شدة منكرة، فأجفل الناس وانصاعوا منهزمين لا تلوى أم عَلَى ولد حَتَّى بلغ الْبَصْرَة هزيمة الناس، وخافوا السباء، وأسرع المهلب حَتَّى سبقهم إِلَى مكان يفاع فِي جانب عن سنن المنهزمين. ثُمَّ إنه نادى الناس: إلي إلي عباد اللَّه، فثاب إِلَيْهِ جماعة من قومه، وثابت إِلَيْهِ سرية عمان فاجتمع إِلَيْهِ مِنْهُمْ نحو من ثلاثة آلاف، فلما نظر إِلَى من قَدِ اجتمع رضي جماعتهم، فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن اللَّه ربما يكل الجمع الكثير إِلَى أنفسهم فيهزمون، وينزل النصر عَلَى الجمع اليسير فيظهرون، ولعمري مَا بكم الآن من قلة، إني لجماعتكم لراض، وإنكم لأنتم أهل الصبر، وفرسان أهل المصر، وما أحب أن أحدا ممن انهزم معكم، فإنهم لو كَانُوا فيكم مَا زادوكم إلا خبالا عزمت عَلَى كل امرئ مِنْكُمْ لما أخذ عشرة أحجار مَعَهُ، ثُمَّ امشوا بنا نحو

عسكرهم، فإنهم الآن آمنون، وَقَدْ خرجت خيلهم في طلب إخوانكم، فو الله انى لأرجو الا ترجع إِلَيْهِم خيلهم حَتَّى تستبيحوا عسكرهم، وتقتلوا أميرهم ففعلوا، ثُمَّ أقبل بهم راجعا، فلا وَاللَّهِ مَا شعرت الخوارج إلا بالمهلب يضاربهم بالمسلمين فِي جانب عسكرهم ثُمَّ استقبلوا عُبَيْد اللَّهِ بن الماحوز وأَصْحَابه، وعليهم الدروع والسلاح كاملا، فأخذ الرجل من أَصْحَاب المهلب يستقبل الرجل مِنْهُمْ، فيستعرض وجهه بالحجارة فيرميه حَتَّى يثخنه، ثُمَّ يطعنه بعد ذَلِكَ برمحه، أو يضربه بسيفه، فلم يقاتلهم إلا ساعة حَتَّى قتل عبيد الله ابن الماحوز، وضرب اللَّه وجوه أَصْحَابه، وأخذ المهلب عسكر القوم وما فِيهِ، وقتل الأزارقة قتلا ذريعا، وأقبل من كَانَ فِي طلب أهل الْبَصْرَة مِنْهُمْ راجعا، وَقَدْ وضع لَهُمُ المهلب خيلا ورجالا في الطريق تختطفهم وتقتلهم، فانكفئوا راجعين مفلولين، مقتولين محروبين، مغلوبين، فارتفعوا إِلَى كَرْمَان وجانب أصفهان، وأقام المهلب بالأهواز، ففي ذَلِكَ الْيَوْم يقول الصلتان العبدي: بسلى وسلبرى مصارع فتية ... كرام وقتلى لم توسد خدودها وانصرفت الخوارج حين انصرفت، وإن أَصْحَاب النيران الخمس والست ليجتمعون عَلَى النار الواحدة من الفلول وقلة العدد، حَتَّى جاءتهم مادة لَهُمْ من قبل البحرين، فخرجوا نحو كَرْمَان وأصبهان، فأقام المهلب بالأهواز فلم يزل ذَلِكَ مكانه حَتَّى جَاءَ مصعب الْبَصْرَة، وعزل الْحَارِث بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ عنها ولما ظهر المهلب عَلَى الأزارقة كتب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ للأمير الْحَارِث بن عَبْدِ اللَّهِ، من المهلب بن أبي صفرة سلام عَلَيْك، فإني أحمد إليك اللَّه الَّذِي لا إله إلا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ فالحمد لِلَّهِ الَّذِي نصر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وهزم الفاسقين، وأنزل بهم نقمته، وقتلهم كل قتلة، وشردهم كل مشرد أخبر الأمير أصلحه اللَّه أنا لقينا الأزارقة

بأرض من أرض الأهواز يقال لها سلى وسلبرى، فزحفنا إِلَيْهِم ثُمَّ ناهضناهم، فاقتتلنا كأشد القتال مليا من النهار ثُمَّ إن كتائب الأزارقة اجتمع بعضها إِلَى بعض، ثُمَّ حملوا عَلَى طائفة مِنَ الْمُسْلِمِينَ فهزموهم، وكانت فِي الْمُسْلِمِينَ جولة قَدْ كنت أشفقت أن تكون هي الاصرى مِنْهُمْ فلما رأيت ذَلِكَ عمدت إِلَى مكان يفاع فعلوته، ثُمَّ دعوت إلي عشيرتي خاصة والمسلمين عامة، فثاب إلي أقوام شروا أنفسهم ابتغاء مرضاة اللَّه من أهل الدين والصبر والصدق والوفاء، فقصدت بهم إِلَى عسكر القوم، وفيه جماعتهم وحدهم وأميرهم قَدْ أطاف بِهِ أولو فضلهم فِيهِمْ، وذوو النيات مِنْهُمْ، فاقتتلنا ساعة رميا بالنبل، وطعنا بالرماح. ثُمَّ خلص الفريقان إِلَى السيوف، فكان الجلاد بِهَا ساعة من النهار مبالطة ومبالدة ثُمَّ إن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أنزل نصره عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وضرب وجوه الكافرين ونزل طاغيتهم فِي رجال كثير من حماتهم وذوي نياتهم، فقتلهم اللَّه فِي المعركة. ثُمَّ اتبعت الخيل شرادهم فقتلوا فِي الطريق والآخاذ والقري، والحمد لِلَّهِ رب العالمين، والسلام عَلَيْك ورحمة اللَّه. فلما أتى هَذَا الكتاب الْحَارِث بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ بعث به الى الزُّبَيْر فقرئ عَلَى الناس بمكة. وكتب الْحَارِث بن أَبِي رَبِيعَةَ إِلَى المهلب: أَمَّا بَعْدُ، فقد بلغني كتابك، تذكر فِيهِ نصر اللَّه إياك، وظفر الْمُسْلِمِينَ، فهنيئا لك يَا أخا الأزد بشرف الدُّنْيَا وعزها، وثواب الآخرة وفضلها، والسلام عَلَيْك ورحمة اللَّه. فلما قرأ المهلب كتابه ضحك ثُمَّ قَالَ: أما تظنونه يعرفني إلا بأخي الأزد! مَا أهل مكة إلا أعراب. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي أَبُو المخارق الراسبي أن أبا عَلْقَمَة اليحمدي قاتل يوم سلى وسلبرى قتالا لم يقاتله أحد مِنَ النَّاسِ، وأنه أخذ ينادي فِي

شباب الأزد وفتيان اليحمد: أعيرونا جماجمكم ساعة من نهار، فأخذ فتيان مِنْهُمْ يكرون، فيقاتلون ثُمَّ يرجعون إِلَيْهِ، يضحكون ويقولون: يَا أَبَا عَلْقَمَة، القدور تستعار! فلما ظهر المهلب ورأى من بلائه مَا رَأَى وفاه مائة ألف وَقَدْ قيل: إن أهل الْبَصْرَة قَدْ كَانُوا سألوا الأحنف قبل المهلب أن يقاتل الأزارقة، وأشار عَلَيْهِم بالمهلب، وَقَالَ: هُوَ أقوى عَلَى حربهم مني، وإن المهلب إذ أجابهم إِلَى قتالهم شرط عَلَى أهل الْبَصْرَة أن مَا غلب عَلَيْهِ من الأرض فهو لَهُ ولمن خف مَعَهُ من قومه وغيرهم ثلاث سنين، وإنه ليس لمن تخلف عنه مِنْهُ شَيْء فأجابوه إِلَى ذَلِكَ، وكتب بِذَلِكَ عَلَيْهِم كتابا، وأوفدوا بِذَلِكَ وفدا إِلَى ابن الزُّبَيْر. وإن ابن الزُّبَيْر أمضى تِلَكَ الشروط كلها للمهلب وأجازها لَهُ، وإن المهلب لما أجيب إِلَى ما سال وجه ابنه حبيبا في ستمائه فارس إِلَى عَمْرو القنا، وَهُوَ معسكر خلف الجسر الاصغر في ستمائه فارس، فأمر المهلب بعقد الجسر الأصغر، فقطع حبيب الجسر إِلَى عَمْرو ومن مَعَهُ، فقاتلهم حَتَّى نفاهم عما بين الجسر، وانهزموا حَتَّى صاروا من ناحية الفرات، وتجهز المهلب فيمن خف من قومه مَعَهُ، وهم اثنا عشر ألف رجل، ومن سائر الناس سبعون رجلا، وسار المهلب حَتَّى نزل الجسر الأكبر، وعمرو القنا بازائه في ستمائه. فبعث الْمُغِيرَة بن المهلب فِي الخيل والرجالة، فهزمتهم الرجالة بالنبل، واتبعتهم الخيل، وأمر المهلب بالجسر فعقد، فعبر هُوَ وأَصْحَابه، فلحق عَمْرو القنا حينئذ بابن الماحوز وأَصْحَابه، وَهُوَ بالمفتح، فأخبروهم الخبر، فساروا فعسكروا دون الأهواز بثمانية فراسخ، وأقام المهلب بقية سنته، فجبى كور دجلة، ورزق أَصْحَابه، وأتاه المدد من أهل الْبَصْرَة لما بلغهم ذَلِكَ، فأثبتهم فِي الديوان وأعطاهم حَتَّى صاروا ثَلاثِينَ ألفا قَالَ أَبُو جَعْفَر: فعلى قول هَؤُلاءِ كَانَتِ الوقعة الَّتِي كَانَتْ فِيهَا هزيمة الأزارقة وارتحالهم عن نواحي الْبَصْرَة والأهواز إِلَى ناحية أصبهان وكرمان فِي

ذكر خبر بناء عبد الله بن الزبير البيت الحرام

سنه ست وستين وقيل: انهم ارتحلوا عن الأهواز وهم ثلاثة آلاف، وإنه قتل مِنْهُمْ فِي الوقعة الَّتِي كَانَتْ بينهم وبين المهلب بسلى وسلبرى سبعة آلاف. قَالَ أَبُو جَعْفَر: وفي هَذِهِ السنة وجه مَرْوَان بن الحكم قبل مهلكه ابنه مُحَمَّدا إِلَى الجزيرة، وَذَلِكَ قبل مسيره إِلَى مصر. وفي هَذِهِ السنة عزل عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ عَبْد اللَّهِ بن يزيد عن الْكُوفَة، وولاها عَبْد اللَّهِ بن مطيع، ونزع عن الْمَدِينَة أخاه عبيدة بن الزُّبَيْرِ، وولاها أخاه مُصْعَب بن الزُّبَيْرِ، وَكَانَ سبب عزله أخاه عبيدة عنها أنه- فِيمَا ذكر الْوَاقِدِيّ- خطب الناس فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ رأيتم مَا صنع بقوم فِي ناقه قيمتها خمسمائة درهم، فسمي مقوم الناقة، وبلغ ذَلِكَ ابن الزبير فقال: ان هذا لهو التكلف . ذكر خبر بناء عبد الله بن الزبير البيت الحرام وفي هَذِهِ السنة بنى عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ البيت الحرام، فأدخل الحجر فِيهِ. أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ خَالِدِ بْنِ رُسْتُمَ الصَّنْعَانِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ جِيلٍ أَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ يَوْمَ غُلِبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَسَمِعَهُ يَقُولُ: إِنَّ أُمِّي أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ حدثتني ان رسول الله ص قَالَ لِعَائِشَةَ: [لَوْلا حَدَاثَةُ عَهْدِ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ رَدَدْتُ الْكَعْبَةَ عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ، فَأَزِيدُ فِي الْكَعْبَةِ مِنَ الْحَجَرِ فَأَمَرَ بِهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَحُفِرَ،] فَوَجَدُوا قِلاعًا أَمْثَالَ الإِبِلِ، فَحَرَّكُوا مِنْهَا صَخْرَةً، فَبَرَقَتْ بَارِقَةٌ فَقَالَ: أَقِرُّوهَا عَلَى أَسَاسِهَا، فَبَنَاهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَجَعَلَ لَهَا بَابَيْنِ: يَدْخُلُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَخْرُجُ مِنَ الآخَرِ. قَالَ أَبُو جعفر: وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَخُوهُ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَلَى الْكُوفَةِ فِي آخِرِ السَّنَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ الْحَارِث بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ، وَهُوَ الَّذِي

خروج بنى تميم بخراسان على عبد الله بن خازم

يُقَالُ لَهُ الْقُبَاعُ وَعَلَى قَضَائِهَا هِشَام بْنُ هبيرة، وعلى خُرَاسَان عبد الله بن خازم . خروج بنى تميم بخراسان على عبد الله بن خازم 4 وفي هذه السنة خالف من كَانَ بخراسان من بني تميم عَبْد اللَّهِ بن خازم حَتَّى وقعت بينهم حروب. ذكر الخبر عن سبب ذَلِكَ: وَكَانَ السبب فِي ذَلِكَ- فِيمَا ذكر- أن من كَانَ بخراسان من بني تميم أعانوا عَبْد اللَّهِ بن خازم عَلَى من كَانَ بِهَا من رَبِيعَة، وعلى حرب أوس بن ثعلبة حَتَّى قتل من قتل مِنْهُمْ، وظفر بِهِ، وصفا لَهُ خُرَاسَان، فلما صفا لَهُ ولم ينازعه بِهِ أحد جفاهم وَكَانَ قَدْ ضم هراة إِلَى ابنه مُحَمَّد واستعمله عَلَيْهَا، وجعل بكير بن وشاح عَلَى شرطته، وضم إِلَيْهِ شماس بن دثار العطاردي، وكانت أم ابنه مُحَمَّد امرأة من تميم تدعى صفية، فلما جفا ابن خازم بني تميم أتوا ابنه مُحَمَّدا بهراة، فكتب ابن خازم إِلَى بكير وشماس يأمرهما بمنع بني تميم من دخول هراة، فأما شماس بن دثار فأبى ذَلِكَ، وخرج من هراة، فصار من بني تميم، وأما بكير فمنعهم من الدخول. فذكر عَلِيّ بن مُحَمَّدٍ أن زهير بن الهنيد حدثه أن بكير بن وشاح لما منع بني تميم من دخول هراة أقاموا ببلاد هراة، وخرج إِلَيْهِم شماس بن دثار فأرسل بكير إِلَى شماس: إني أعطيك ثَلاثِينَ ألفا، وأعطي كل رجل من بني تميم ألفا عَلَى أن ينصرفوا، فأبوا، فدخلوا الْمَدِينَة، وقتلوا مُحَمَّد بن عبد الله ابن خازم قَالَ علي: فأخبرنا الْحَسَن بن رشيد، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عزيز الكندي قَالَ: خرج مُحَمَّد بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خازم يتصيد بهراة، وَقَدْ منع بني تميم من دخولها، فرصدوه، فأخذوه فشدوه وثاقا، وشربوا ليلتهم، وجعل كلما أراد رجل مِنْهُمُ البول بال عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ شماس بن دثار: أما إذ بلغتم هَذَا مِنْهُ فاقتلوه بصاحبيكما اللذين قتلهما بالسياط قَالَ: وَقَدْ كَانَ أخذ قبيل

ذَلِكَ رجلين من بني تميم، فضربهما بالسياط حَتَّى ماتا قَالَ: فقتلوه، قَالَ: فزعم لنا عمن شهد قتله من شيوخهم أن جيهان بن مشجعة الضبي نهاهم عن قتله، وألقى نفسه عَلَيْهِ، فشكر لَهُ ابن خازم ذَلِكَ، فلم يقتله فيمن قتل يوم فرتنا قَالَ: فزعم عَامِر بن أبي عمر أنه سمع أشياخهم من بني تميم يزعمون أن الَّذِي ولى قتل مُحَمَّد بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خازم رجلان من بني مالك بن سَعْدٍ، يقال لأحدهما: عجلة، وللآخر كسيب فَقَالَ ابن خازم: بئس مَا اكتسب كسيب لقومه، وَلَقَدْ عجل عجلة لقومه شرا. قَالَ علي: وَحَدَّثَنَا أَبُو الذيال زهير بن هنيد العدوي، قَالَ: لما قتل بنو تميم مُحَمَّد بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خازم انصرفوا إِلَى مرو، فطلبهم بكير بن وشاح فأدرك رجلا من بني عطارد يقال لَهُ شميخ، فقتله، وأقبل شماس وأَصْحَابه إِلَى مرو، فَقَالُوا لبني سعد: قَدْ أدركنا لكم بثأركم، قتلنا مُحَمَّد بن عَبْدِ الله ابن خازم بالجشمي الَّذِي أصيب بمرو، فأجمعوا عَلَى قتال ابن خازم، وولوا عَلَيْهِم الحريش بن هلال القريعي. قَالَ: فأخبرني أَبُو الفوارس عن طفيل بن مِرْدَاس، قَالَ: أجمع أكثر بني تميم عَلَى قتال عَبْد اللَّهِ بن خازم، قَالَ: وَكَانَ مع الحريش فرسان لم يدرك مثلهم، إنما الرجل مِنْهُمْ كتيبة، مِنْهُمْ شماس بن دثار، وبحير بن ورقاء الصريمي، وشعبة بن ظهير النهشلي، وورد بن الفلق العنبري، والحجاج بن ناشب العدوي- وَكَانَ من أرمى الناس- وعاصم بن حبيب العدوي، فقاتل الحريش بن هلال عَبْد اللَّهِ بن خازم سنتين. قَالَ: فلما طالت الحرب والشر بينهم ضجروا، قَالَ: فخرج الحريش فنادى ابن خازم، فخرج إِلَيْهِ فَقَالَ: قَدْ طالت الحرب بيننا، فعلام تقتل قومي وقومك! ابرز لي، فأينا قتل صاحبه صارت الأرض لَهُ، فَقَالَ ابن خازم: وأبيك لقد أنصفتني، فبرز لَهُ، فتصاولا تصاول الفحلين، لا يقدر أحد

منهما عَلَى مَا يريد وتغفل ابن خازم غفلة، وضربه الحريش عَلَى رأسه، فرمى بفروة رأسه عَلَى وجهه، وانقطع ركابا الحريش، وانتزع السيف قَالَ: فلزم ابن خازم عنق فرسه راجعا إِلَى أَصْحَابه وبه ضربة قَدْ أخذت من رأسه، ثُمَّ غاداهم القتال، فمكثوا بِذَلِكَ بعد الضربة أياما، ثُمَّ مل الفريقان فتفرقوا ثلاث فرق، فمضى بحير بن ورقاء إِلَى أَبْرَشَهْر فِي جماعة، وتوجه شماس بن دثار العطاردي ناحية أخرى، وقيل: أتى سجستان، وأخذ عُثْمَان بن بشر بن المحتفز إِلَى فرتنا، فنزل قصرا بِهَا، ومضى الحريش إِلَى ناحية مرو الروذ، فاتبعه ابن خازم، فلحقه بقرية من قراها يقال لها قرية الملحمة- أو قصر الملحمة- والحريش بن هلال فِي اثني عشر رجلا، وَقَدْ تفرق عنه أَصْحَابه، فهم فِي خربة، وَقَدْ نصب رماحا كَانَتْ مَعَهُ وترسة. قَالَ: وانتهى إِلَيْهِ ابن خازم، فخرج إِلَيْهِ فِي أَصْحَابه، ومع ابن خازم مولى لَهُ شديد البأس، فحمل عَلَى الحريش فضربه فلم يصنع شَيْئًا، فَقَالَ رجل من بني ضبة للحريش: أما ترى مَا يصنع العبد! فَقَالَ لَهُ الحريش: عَلَيْهِ سلاح كثير، وسيفي لا يعمل فِي سلاحه، ولكن انظر لي خشبة ثقيلة، فقطع لَهُ عودا ثقيلا من عناب- ويقال: أصابه فِي القصر- فأعطاه إِيَّاهُ، فحمل بِهِ عَلَى مولى ابن خازم، فضربه فسقط وقيذا ثُمَّ أقبل عَلَى ابن خازم، فَقَالَ: مَا تريد إلي وَقَدْ خليتك والبلاد! قَالَ: إنك تعود إِلَيْهَا، قَالَ: فإني لا أعود، فصالحه عَلَى أن يخرج لَهُ من خُرَاسَان وَلا يعود إِلَى قتاله، فوصله ابن خازم بأربعين ألفا قَالَ: وفتح لَهُ الحريش باب القصر، فدخل ابن خازم، فوصله وضمن لَهُ قضاء دينه، وتحدثا طويلا قَالَ:: وطارت قطنة كَانَتْ عَلَى رأس ابن خازم ملصقة عَلَى الضربة الَّتِي كَانَ الحريش ضربه، فقام الحريش فتناولها، فوضعها عَلَى رأسه، فَقَالَ لَهُ ابن خازم: مسك الْيَوْم يَا أَبَا قدامة ألين من مسك أمس، قَالَ: معذرة إِلَى اللَّهِ وإليك، أما وَاللَّهِ لولا أن ركابي انقطعا لخالط السيف أضراسك فضحك ابن خازم، وانصرف عنه، وتفرق

جمع بني تميم، فَقَالَ بعض شعراء بني تميم: فلو كنتمُ مثل الحريش صبرتمُ ... وكنتم بقصر الملح خير فوارس إذا لسقيتم بالعوالي ابن خازم ... سجال دم يورثن طول وساوس قَالَ: وَكَانَ الأشعث بن ذؤيب أخو زهير بن ذؤيب العدوي قتل فِي تِلَكَ الحرب، فَقَالَ لَهُ أخوه زهير وبه رمق: من قتلك؟ قَالَ: لا أدري، طعنني رجل عَلَى برذون أصفر، قَالَ: فكان زهير لا يرى أحدا عَلَى برذون أصفر إلا حمل عَلَيْهِ، فمنهم من يقتله، ومنهم من يهرب، فتحامى أهل العسكر البراذين الصفر، فكانت مخلاة فِي العسكر لا يركبها أحد وَقَالَ الحريش فِي قتاله ابن خازم: أزال عظم يميني عن مركبه ... حمل الرديني فِي الإدلاج والسحر حولين مَا اغتمضت عيني بمنزلة ... إلا وكفي وساد لي عَلَى حجر بزي الحديد وسربالي إذا هجعت ... عنى العيون محال القارح الذكر تم الجزء الخامس من تاريخ الطبرى ويليه الجزء السادس، واوله: ذكر حوادث سنه ست وستين.

الجزء السادس

الجزء السادس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ثُمَّ دخلت سنة ست وستين (ذكر الخبر عن الكائن الَّذِي كَانَ فِيهَا من الأمور الجليلة) فمما كَانَ فِيهَا من ذَلِكَ وثوب المختار بن أبي عبيد بالكوفة طالبا بدم الْحُسَيْن بن عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ وإخراجه منها عامل ابن الزُّبَيْر عَبْد اللَّهِ بن مطيع العدوي. ذكر الخبر عما كَانَ من أمرهما فِي ذَلِكَ وظهور المختار للدعوة إِلَى مَا دعا إِلَيْهِ الشيعة بالكوفة: ذَكَرَ هِشَام بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، أَنَّ فُضَيْلَ بْنَ خَدِيجٍ، حَدَّثَهُ عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ عَمْرو وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ كَثِيرٍ مِنْ بَنِي هِنْدٍ أَنَّ أَصْحَابَ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ لَمَّا قَدِمُوا كَتَبَ إِلَيْهِمُ الْمُخْتَارُ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ أَعْظَمَ لَكُمُ الأَجْرَ، وَحَطَّ عَنْكُمُ الْوِزْرَ، بِمُفَارَقَةِ الْقَاسِطِينَ، وَجِهَادِ الْمُحِلِّينَ، إِنَّكُمْ لَمْ تُنْفِقُوا نَفَقَةً، وَلَمْ تَقْطَعُوا عُقْبَةً، وَلَمْ تَخْطُوا خُطْوَةً إِلَّا رَفَعَ اللَّهُ لَكُمْ بِهَا دَرَجَةً، وَكَتَبَ لَكُمْ بِهَا حَسَنَةً، إِلَى مَا لا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ مِنَ التَّضْعِيفِ، فَأَبْشِرُوا فَإِنِّي لو قَدْ خَرَجْتُ إِلَيْكُمْ قَدْ جَرَّدْتُ فِيمَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فِي عَدُوِّكُمُ السَّيْفَ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَجَعَلْتُهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ رُكَامًا، وَقَتَلْتُهُمْ فَذًّا وَتُؤَامًا، فَرَحَّبَ اللَّهُ بِمَنْ قَارَبَ مِنْكُمْ وَاهْتَدَى، وَلا يُبْعِدُ اللَّهُ إِلَّا مَنْ عَصَى وَأَبَى، وَالسَّلامُ يَا أَهْلَ الْهُدَى. فَجَاءَهُمْ بِهَذَا الْكِتَابِ سَيْحَانُ بْنُ عَمْرٍو، مِنْ بَنِي لَيْثٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ قَدْ أَدْخَلَهُ فِي قُلُنْسُوَتِهِ فِيمَا بَيْنَ الظِّهَارَةِ وَالْبِطَانَةِ، فَأَتَى بِالْكِتَابِ رِفَاعَةَ بْنَ شَدَّادٍ

وَالْمُثَنَّى بْنَ مَخْرَبَةَ الْعَبْدِيَّ وَسَعْدَ بْنَ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَيَزِيدَ بْنَ أَنَسٍ وَأَحْمَرَ بْنَ شُمَيْطٍ الأَحْمَسِيَّ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ شَدَّادٍ الْبَجْلِيَّ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَامِلٍ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِ ابْنَ كَامِلٍ، فَقَالُوا: قُلْ لَهُ: قَدْ قَرَأْنَا الْكِتَابَ، وَنَحْنُ حَيْثُ يَسُرُّكَ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ نَأْتِيَكَ حَتَّى نُخْرِجَكَ فَعَلْنَا. فَأَتَاهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ السِّجْنَ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا أُرْسِلَ إِلَيْهِ بِهِ، فُسَرَّ بِاجْتِمَاعِ الشِّيعَةِ لَهُ، وَقَالَ لَهُمْ: لا تُرِيدُوا هَذَا، فَإِنِّي أَخْرُجُ فِي أَيَّامِي هَذِهِ. قَالَ: وَكَانَ الْمُخْتَارُ قَدْ بَعَثَ غُلامًا يُدْعَى زُرَبْيًا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ابن الْخَطَّابِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي قَدْ حُبِسْتُ مَظْلُومًا، وَظَنَّ بِيَ الْوُلَاةُ ظُنُونًا كَاذِبَةً، فَاكْتُبْ فِيَّ يَرْحَمُكَ اللَّهُ إِلَى هَذَيْنِ الظَّالِمَيْنِ كِتَابًا لَطِيفًا، عَسَى اللَّهَ أَنْ يُخَلِّصَنِي مِنْ أيديهما بلطفك وبركتك ويمنك، وَالسَّلامُ عَلَيْكَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ عَلِمْتُمَا الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ مِنَ الصَّهْرِ، والَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمَا مِنَ الْوُدِّ، فَأَقْسَمْتُ عَلَيْكُمَا بِحَقِّ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمَا لَمَا خَلَّيْتُمَا سَبِيلَهُ حِينَ تَنْظُرَانِ فِي كِتَابِي هَذَا، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمَا وَرَحْمَةُ اللَّهِ. فَلَمَّا أَتَى عَبْد اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّد بْنِ طَلْحَةَ كِتَابُ عبد الله ابن عُمَرَ دَعَوَا لِلْمُخْتَارِ بِكُفَلَاءَ يَضْمَنُونَهُ بِنَفْسِهِ، فَأَتَاهُ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَثِيرٌ، فَقَالَ يَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُؤَيْمٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ: مَا تَصْنَعُ بِضَمَانِ هَؤُلاءِ كُلِّهِمْ! ضَمِّنْهُ عَشَرَةً مِنْهُمْ أَشْرَافًا مَعْرُوفِينَ، وَدَعْ سَائِرَهُمْ. فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا ضَمِنُوهُ، دَعَا بِهِ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ وإبراهيم بن مُحَمَّد بن طَلْحَةَ فَحَلَّفَاهُ بِاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لا يَبْغِيهِمَا غَائِلَةً، وَلا يَخرُجُ عَلَيْهِمَا مَا كَانَ لَهُمَا سُلْطَانٌ، فَإِنْ هُوَ فَعَلَ فَعَلَيْهِ أَلْفُ بدنه

يَنْحَرُهَا لَدَى رَتَاجِ الْكَعْبَةِ، وَمَمَالِيكُهُ كُلُّهُمْ ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ أَحْرَارٌ فَحَلَفَ لَهُمَا بِذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجَ فَجَاءَ دَارَهُ فَنَزَلَهَا. قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي يحيى بن أبي عيسى، عن حميد بن مُسْلِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْمُخْتَارَ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: قَاتَلَهُمُ اللَّهُ! مَا أَحْمَقَهُمْ حِينَ يَرَوْنَ أَنِّي أَفِي لَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ هَذِهِ! أَمَّا حَلِفِي لَهُمْ بِاللَّهِ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِي إِذَا حَلَفْتُ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتُ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا أَنْ أَدَعَ مَا حَلَفْتُ عَلَيْهِ وَآتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَأُكَفِّرَ يَمِينِي، وَخُرُوجِي عَلَيْهِمْ خَيْرٌ مِنْ كفى عنهم، واكفر يميني، وَأَمَّا هَدْيُ أَلْفِ بَدَنَةٍ فَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ بَصْقَةٍ، وَمَا ثَمَنُ أَلْفِ بَدَنَةٍ فَيَهُولُنِي! واما عتق مماليكى فو الله لَوَدِدْتُ أَنَّهُ قَدِ اسْتَتَبَّ لِي أَمْرِي، ثُمَّ لَمْ أَمْلِكْ مَمْلُوكًا أَبَدًا. قَالَ: وَلَمَّا نَزَلَ الْمُخْتَارُ دَارَهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنَ السِّجْنِ، اخْتَلَفَ إِلَيْهِ الشِّيعَةُ وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ، وَاتَّفَقَ رَأْيُهَا عَلَى الرِّضَا بِهِ، وَكَانَ الَّذِي يُبَايِعُ لَهُ النَّاسَ وَهُوَ فِي السِّجْنِ خَمْسَةُ نَفَرٍ: السَّائِبُ بْنُ مَالِكٍ الأَشْعَرِيُّ، وَيَزِيدُ بْنُ أَنَسٍ، وَأَحْمَرُ بْنُ شُمَيْطٍ، وَرِفَاعَةُ بْنُ شَدَّادٍ الْفِتْيَانِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بن شداد الجشمى. قال: فلم تزل أَصْحَابُهُ يَكْثُرُونَ، وَأَمْرُهُ يَقْوَى وَيَشْتَدُّ حَتَّى عَزَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَبْد اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ وَإِبْرَاهِيمَ بن مُحَمَّد بن طلحه، وَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُطِيعٍ عَلَى عَمَلِهِمَا إِلَى الْكُوفَةِ. قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي الصَّقْعَبُ بْنُ زُهَيْرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابن الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: دَعَا ابْنُ الزُّبَيْرِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُطِيعٍ أَخَا بَنِي عَدِيِّ ابن كَعْبٍ وَالْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيَّ، فَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُطِيعٍ عَلَى الْكُوفَةِ، وَبَعَثَ الْحَارِث بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ عَلَى الْبَصْرَةِ قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ بَحِيرَ بْنَ رَيْسَانَ الْحِمْيَرِيَّ، فَلَقِيَهُمَا، فَقَالَ لَهُمَا: يَا هَذَانِ، إِنَّ الْقَمَرَ اللَّيْلَةَ بِالنَّاطِحِ، فَلا تَسِيرَا فَأَمَّا ابْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، فَأَطَاعَهُ، فأقام يسيرا

ثُمَّ شَخَصَ إِلَى عَمَلِهِ فَسَلِمَ، وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ فَقَالَ لَهُ: وَهَلْ نَطْلُبُ إِلَّا النَّطْحَ! قَالَ: فَلَقِيَ وَاللَّهِ نَطْحًا وَبَطْحًا، قَالَ: يَقُولُ عُمَرُ: وَالْبَلاءُ مُوَكَّلٌ بِالْقَوْلِ. قال عُمَر بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ: بلغ عبد الملك بن مروان أن ابن الزبير بعث عمالا على البلاد، فقال: من بعث على البصرة؟ فقيل بعث عليها الْحَارِث بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، قال: لا حر بوادي عوف، بعث عوفا وجلس! ثم قال: من بعث على الكوفة؟ قالوا: عبد الله بن مطيع، قال: حازم وكثيرا ما يسقط، وشجاع وما يكره أن يفر، قال: من بعث على المدينة؟ قالوا: بعث أخاه مصعب بن الزبير، قال: ذاك الليث النهد، وهو رجل أهل بيته. قال هشام: قال أبو مخنف: وقدم عبد الله بن مطيع الكوفة في رمضان سنة خمس وستين يوم الخميس لخمس بقين من شهر رمضان، فقال لعبد الله ابن يزيد: إن أحببت أن تقيم معي أحسنت صحبتك، وأكرمت مثواك، وإن لحقت بأمير المؤمنين عبد الله بن الزبير فبك عليه كرامة، وعلى من قبله من المسلمين وقال لإبراهيم بن مُحَمَّد بن طلحة: الحق بأمير المؤمنين، فخرج إبراهيم حتى قدم المدينة، وكسر على ابن الزبير الخراج، وقال: إنما كانت فتنة، فكف عنه ابن الزبير. قال: وأقام ابن مطيع على الكوفة على الصلاة والخراج، وبعث على شرطته إياس بن مضارب العجلي، وأمره أن يحسن السيرة والشدة على المريب. قال أبو مخنف: فحدثني حصيرة بن عبد الله بن الحارث بن دريد الأزدي- وكان قد أدرك ذلك الزمان، وشهد قتل مصعب بن الزبير- قال: إني لشاهد المسجد حيث قدم عبد الله بن مطيع، فصعد الْمِنْبَر، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير بعثني على مصركم وثغوركم، وأمرني بجباية فيئكم، والا أحمل فضل فيئكم عنكم إلا برضا منكم، ووصية عمر بن الخطاب التي أوصى بها عند وفاته، وبسيره عثمان ابن عفان التي سار بها في المسلمين، فاتقوا الله واستقيموا ولا تختلفوا، وخذوا

على أيدي سفهائكم، وإلا تفعلوا فلوموا أنفسكم ولا تلوموني، فو الله لاوقعن بالسقيم العاصي، ولأقيمن درء الأصعر المرتاب فقام إليه السائب بن مالك الأشعري، فقال: أما أمر ابن الزبير إياك الا تحمل فضل فيئنا عنا إلا برضانا فإنا نشهدك أنا لا نرضى أن تحمل فضل فيئنا عنا، والا يقسم إلا فينا، وألا يسار فينا إلا بسيرة علي بن أبي طالب التي سار بها في بلادنا هذه حتى هلك رحمة الله عليه، ولا حاجة لنا في سيرة عثمان في فيئنا ولا في أنفسنا، فإنها إنما كانت أثرة وهوى، ولا في سيرة عمر بن الخطاب في فيئنا، وإن كانت أهون السيرتين علينا ضرا، وقد كان لا يألو الناس خيرا فقال يزيد ابن أنس: صدق السائب بن مالك وبر، رأينا مثل رأيه، وقولنا مثل قوله. فقال ابن مطيع: نسير فيكم بكل سيره احببتموها وهو يتموها ثم نزل فقال: يزيد بن أنس الأسدي: ذهبت بفضلها يا سائب، لا يعدمك المسلمون! أما والله لقد قمت وإني لأريد أن أقوم فأقول له نحوا من مقالتك، وما أحب أن الله ولى الرد عليه رجلا من أهل المصر ليس من شيعتنا. وجاء إياس بن مضارب إلى ابن مطيع، فقال له: إن السائب بن مالك من رءوس أصحاب المختار، ولست آمن المختار، فابعث إليه فليأتك، فإذا جاءك فاحبسه في سجنك حتى يستقيم أمر الناس، فإن عيوني قد أتتني فخبرتني أن أمره قد استجمع له، وكأنه قد وثب بالمصر قال: فبعث إليه ابن مطيع زائدة بن قدامة وحسين بن عبد الله البرسمي من همدان، فدخلا عليه، فقالا: أجب الأمير، فدعا بثيابه وامر باسراج دابته وتحشخش للذهاب معهما، فلما رأى زائدة بن قدامة ذلك قرأ قول الله تبارك وتعالى: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» ، ففهمها المختار، فجلس ثم ألقى ثيابه عنه، ثم قال: ألقوا علي القطيفة، ما أراني إلا قد وعكت، إني لأجد قفقفة

شديدة، ثم تمثل قول عبد العزى بن صهل الأزدي: إذا ما معشر تركوا نداهم ... ولم يأتوا الكريهة لم يهابوا ارجعا إلى ابن مطيع، فأعلماه حالي التي أنا عليها فقال له زائدة بن قدامة: أما أنا ففاعل، فقال: وأنت يا أخا همدان فاعذرني عنده فإنه خير لك. قال أبو مخنف: فحدثني إسماعيل بن نعيم الهمداني، عن حسين بن عبد الله، قال: قلت في نفسي: والله إن أنا لم أبلغ عن هذا ما يرضيه ما أنا بآمن من أن يظهر غدا فيهلكني قال: فقلت له، نعم، انا أضع عند ابن مطيع عذرك، وأبلغه كل ما تحب، فخرجنا من عنده، فإذا أصحابه على بابه، وفي داره منهم جماعة كثيرة قال: فأقبلنا نحو ابن مطيع، فقلت لزائدة بن قدامة: أما إني قد فهمت قولك حين قرأت تلك الآية، وعلمت ما أردت بها، وقد علمت أنها هي ثبطته عن الخروج معنا بعد ما كان قد لبس ثيابه، وأسرج دابته، وعلمت حين تمثل البيت الذي تمثل إنما أراد يخبرك أنه قد فهم عنك ما أردت أن تفهمه، وأنه لن يأتيه قال: فجاحدني أن يكون أراد شيئا من ذلك، فقلت له: لا تحلف، فو الله ما كنت لأبلغ عنك ولا عنه شيئا تكرهانه، ولقد علمت أنك مشفق عليه، تجد له ما يجد المرء لابن عمه فأقبلنا الى ابن مطيع، فأخبرناه بعلته وشكواه، فصد قنا ولها عنه. قال: وبعث المختار إلى أصحابه، فأخذ يجمعهم في الدور حوله، وأراد أن يثب بالكوفة في المحرم، فجاء رجل من أصحابه من شبام- وكان عظيم الشرف يقال له عبد الرحمن بن شريح- فلقي سعيد بن منقذ الثوري وسعر ابن أبي سعر الحنفي والأسود بن جراد الكندي وقدامة بن مالك الجشمي، فاجتمعوا في منزل سعر الحنفي، فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن المختار يريد أن يخرج بنا، وقد بايعناه ولا ندري أرسله إلينا ابن الحنفية أم لا، فانهضوا بنا إلى ابن الحنفية فلنخبره بما قدم علينا به

وبما دعانا إليه، فإن رخص لنا في اتباعه اتبعناه، وان نهانا عنه اجتنبناه، فو الله ما ينبغي أن يكون شيء من أمر الدنيا آثر عندنا من سلامة ديننا. فقالوا له: أرشدك الله! فقد أصبت ووفقت، اخرج بنا إذا شئت. فاجمع رأيهم على أن يخرجوا من أيامهم، فخرجوا، فلحقوا بابن الحنفية، وكان أمامهم عبد الرحمن بن شريح، فلما قدموا عليه سألهم عن حال الناس فخبروه عن حالهم وما هم عليه قال أبو مخنف: فحدثني خليفة بن ورقاء، عن الأسود بن جراد الكندي قال: قلنا لابن الحنفية، إن لنا إليك حاجة، قال: فسر هي أم علانية؟ قال: قلنا: لا، بل سر، قال: فرويدا إذا، قال: فمكث قليلا، ثم تنحى جانبا فدعانا فقمنا إليه، فبدأ عبد الرحمن بن شريح، فتكلم، فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإنكم أهل بيت خصكم الله بالفضيلة، وشرفكم بالنبوة، وعظم حقكم على هذه الأمة، فلا يجهل حقكم إلا مغبون الرأي، مخسوس النصيب، قد أصبتم بحسين رحمه الله عليه عظمت مصيبه اختصصتم بها، بعد ما عم بها المسلمون وقد قدم علينا المختار بن أبي عبيد يزعم لنا أنه قد جاءنا من تلقائكم، وقد دعانا إلى كتاب الله وسنه نبيه ص، والطلب بدماء أهل البيت، والدفع عن الضعفاء، فبايعناه على ذلك ثم إنا رأينا أن نأتيك فنذكر لك ما دعانا إليه، وندبنا له، فإن أمرتنا باتباعه اتبعناه، وإن نهيتنا عنه اجتنبناه. ثم تكلمنا واحدا واحدا بنحو مما تكلم به صاحبنا، وهو يسمع، حتى إذا فرغنا حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ ص، ثم قال: أما بعد، فأما ما ذكرتم مما خصصنا الله به من فضل، فإن اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ العظيم، فلله الحمد! وأما ما ذكرتم من مصيبتنا بحسين، فإن ذلك كان في الذكر الحكيم

وهي ملحمة كتبت عليه، وكرامة أهداها الله له، رفع بما كان منها درجات قوم عنده، ووضع بها آخرين، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً. وأما ما ذكرتم من دعاء من دعاكم إلى الطلب بدمائنا، فو الله لوددت أن الله انتصر لنا من عدونا بمن شاء من خلقه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. قال: فخرجنا من عنده، ونحن نقول: قد أذن لنا، قد قال: لوددت أن الله انتصر لنا من عدونا بمن شاء من خلقه، ولو كره لقال: لا تفعلوا. قال: فجئنا وأناس من الشيعة ينتظرون مقدمنا ممن كنا قد أعلمناه بمخرجنا وأطلعناه على ذات أنفسنا، ممن كان على رأينا من إخواننا، وقد كان بلغ المختار مخرجنا، فشق ذلك عليه، وخشي أن نأتيه بأمر يخذل الشيعة عنه، فكان قد أرادهم على أن ينهض بهم قبل قدومنا، فلم يتهيأ ذلك له، فكان المختار يقول: إن نفيرا منكم ارتابوا وتحيروا وخابوا، فإن هم أصابوا أقبلوا وأنابوا، وإن هم كبوا وهابوا، واعترضوا وانجابوا، فقد ثبروا وخابوا، فلم يكن الا شهرا وزياده شيء، حتى اقبل القوم على رواحلهم، حتى دخلوا على المختار قبل دخولهم إلى رحالهم، فقال لهم: ما وراءكم؟ فقد فتنتم وارتبتم، فقالوا له: قد أمرنا بنصرتك فقال: الله أكبر! أنا أبو إسحاق، اجمعوا إلي الشيعة، فجمع له منهم من كان منه قريبا فقال: يا معشر الشيعة، إن نفرا منكم أحبوا أن يعلموا مصداق ما جئت به، فرحلوا إلى إمام الهدى، والنجيب المرتضى ابن خير من طشى ومشى، حاشا النبي المجتبى، فسألوه عما قدمت به عليكم، فنبأهم أني وزيره وظهيره، ورسوله وخليله، وأمركم باتباعي وطاعتي فيما دعوتكم إليه من قتال المحلين، والطلب بدماء أهل بيت نبيكم المصطفين. فقام عبد الرحمن بن شريح، فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ يا معشر الشيعة، فإنا قد كنا أحببنا أن نستثبت لأنفسنا خاصة ولجميع إخواننا عامة، فقدمنا على المهدي بن علي، فسألناه عن حربنا هذه، وعما دعانا إليه المختار منها، فأمرنا بمظاهرته ومؤازرته وإجابته إلى ما دعانا إليه،

فأقبلنا طيبة أنفسنا، منشرحة صدورنا، قد أذهب الله منها الشك والغل والريب، واستقامت لنا بصيرتنا في قتال عدونا، فليبلغ ذلك شاهدكم، غائبكم، واستعدوا وتأهبوا ثم جلس وقمنا رجلا فرجلا، فتكلمنا بنحو من كلامه، فاستجمعت له الشيعة وحدبت عليه. قال أبو مخنف: فحدثني نمير بن وعلة والمشرقي، عن عامر الشعبي، قال: كنت أنا وأبي أول من أجاب المختار قال: فلما تهيأ أمره ودنا خروجه، قال له أحمر بن شميط ويزيد بن أنس وعبد الله بن كامل وعبد الله بن شداد: إن أشراف أهل الكوفة مجتمعون على قتالك مع ابن مطيع، فإن جامعنا على أمرنا إبراهيم بن الأشتر رجونا بإذن الله القوه على عدونا، والا يضرنا خلاف من خالفنا، فإنه فتى بئيس، وابن رجل شريف بعيد الصيت، وله عشيرة ذات عز وعدد قال لهم المختار: فألقوه فادعوه، وأعلموه الذي أمرنا به من الطلب بدم الحسين وأهل بيته. قال الشعبي: فخرجوا إليه وأنا فيهم، وأبي، فتكلم يزيد بن أنس، فقال له: إنا قد أتيناك في أمر نعرضه عليك، وندعوك إليه، فإن قبلته كان خيرا لك، وإن تركته فقد أدينا إليك فيه النصيحة، ونحن نحب أن يكون عندك مستورا. فقال لهم إبراهيم بن الأشتر: وإن مثلي لا تخاف غائلته ولا سعايته، ولا التقرب إلى سلطانه باغتياب الناس، إنما أولئك الصغار الأخطار الدقاق همما. فقال له: إنما ندعوك إلى أمر قد أجمع عليه رأي الملإ من الشيعة، إِلَى كتاب اللَّه وسنة نبيه صَلَّى اللَّه عليه، والطلب بدماء أهل البيت، وقتال المحلين، والدفع عن الضعفاء قال: ثم تكلم أحمر بن شميط، فقال له: إني لك ناصح، ولحظك محب وإن أباك قد هلك وهو سيد الناس وفيك منه إن رعيت حق الله خلف، قد دعوناك إلى أمر إن أجبتنا إليه عادت لك منزلة أبيك في الناس، وأحييت من ذلك أمرا قد مات، إنما يكفي مثلك اليسير حتى تبلغ الغاية التي لا مذهب وراءها، إنه قد بنى لك أولك مفتخرا واقبل القوم

كلهم عليه يدعونه إلى أمرهم ويرغبونه فيه فقال لهم إبراهيم بن الأشتر: فإني قد أجبتكم إلى ما دعوتموني إليه من الطلب بدم الحسين وأهل بيته، على أن تولوني الأمر، فقالوا: أنت لذلك أهل، ولكن ليس إلى ذلك سبيل، هذا المختار قد جاءنا من قبل المهدي، وهو الرسول والمأمور بالقتال، وقد أمرنا بطاعته فسكت عنهم ابن الأشتر ولم يجبهم فانصرفنا من عنده إلى المختار فأخبرناه بما رد علينا، قال: فغبر ثلاثا، ثم إن المختار دعا بضعة عشر رجلا من وجوه أصحابه- قال الشعبي: أنا وأبي فيهم- قال: فسار بنا ومضى أمامنا يقد بنا بيوت الكوفة قدا لا ندري أين يريد، حتى وقف على باب إبراهيم بن الأشتر، فاستأذنا عليه فأذن لنا، وألقيت لنا وسائد، فجلسنا عليها وجلس المختار معه على فراشه، فقال المختار: الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وصلى الله على مُحَمَّد، والسلام عليه، أما بعد، فإن هذا كتاب إليك من المهدى محمد بن أمير المؤمنين الوصي، وهو خير أهل الأرض اليوم، وابن خير أهل الأرض كلها قبل اليوم بعد أنبياء الله ورسله، وهو يسألك أن تنصرنا وتؤازرنا، فإن فعلت اغتبطت، وإن لم تفعل فهذا الكتاب حجة عليك، وسيغني الله المهدي مُحَمَّدا وأولياءه عنك. قال الشعبي: وكان المختار قد دفع الكتاب إلي حين خرج من منزله، فلما قضى كلامه قال لي: ادفع الكتاب إليه، فدفعته إليه، فدعا بالمصباح وفض خاتمه، وقرأه فإذا هو: بسم الله الرحمن الرحيم من مُحَمَّد المهدي إلى إبراهيم بن مالك الأشتر، سلام عَلَيْك، فإني أحمد إليك اللَّه الَّذِي لا إله إلا هو، أما بعد فإني قد بعثت إليكم بوزيرى وأميني ونجيي الذي ارتضيته لنفسي، وقد أمرته بقتال عدوي والطلب بدماء أهل بيتي، فانهض معه بنفسك وعشيرتك ومن أطاعك، فإنك إن نصرتني وأجبت دعوتي وساعدت وزيري كانت لك عندي بذلك فضيلة، ولك بذلك أعنة الخيل وكل جيش غاز، وكل مصر ومنبر وثغر ظهرت عليه فيما بين الكوفة وأقصى بلاد أهل

الشام، على الوفاء بذلك علي عهد الله، فإن فعلت ذلك نلت به عند الله أفضل الكرامة، وإن أبيت هلكت هلاكا لا تستقيله أبدا، والسلام عليك. فلما قضى إبراهيم قراءة الكتاب، قال: لقد كتب إلي ابن الحنفية، وقد كتبت إليه قبل اليوم، فما كان يكتب إلي إلا باسمه واسم أبيه، قال له 2 المختار: إن ذلك زمان وهذا زمان، قال إبراهيم: فمن يعلم أن هذا كتاب ابن الحنفية إلي؟ فقال له: يزيد بن أنس وأحمر بن شميط وعبد الله بن كامل وجماعتهم- قال الشعبي: إلا أنا وأبي- فقالوا: نشهد أن هذا كتاب مُحَمَّد ابن علي إليك، فتأخر إبراهيم عند ذلك عن صدر الفراش فأجلس المختار عليه، فقال: ابسط يدك أبايعك، فبسط المختار يده فبايعه إبراهيم، ودعا لنا بفاكهة، فأصبنا منها، ودعا لنا بشراب من عسل فشربنا ثم نهضنا، وخرج معنا ابن الأشتر، فركب مع المختار حتى دخل رحله، فلما رجع إبراهيم منصرفا أخذ بيدي، فقال: انصرف بنا يا شعبي، قال: فانصرفت معه ومضى بي حتى دخل بي رحله، فقال: يا شعبي، إني قد حفظت أنك لم تشهد أنت ولا أبوك، أفترى هؤلاء شهدوا على حق؟ قال: قلت له: قد شهدوا على ما رأيت وهم سادة القراء ومشيخة المصر وفرسان العرب، ولا أرى مثل هؤلاء يقولون إلا حقا قال: فقلت له هذه المقالة، وأنا والله لهم على شهادتهم متهم، غير أني يعجبني الخروج وأنا أرى رأي القوم، وأحب تمام ذلك الأمر، فلم أطلعه على ما في نفسي من ذلك، فقال لي ابن الأشتر: اكتب لي أسماءهم فإني ليس كلهم أعرف ودعا بصحيفة ودواة، وكتب فيها: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا شهد عليه السائب بن مالك الأشعري، ويزيد بن أنس الأسدي وأحمر بن شميط الأحمسي ومالك بن عمرو النهدي، حتى أتى على أسماء القوم، ثم كتب: شهدوا أن مُحَمَّد بن علي كتب إلى إبراهيم بن الاشتر يأمره بموازره المختار ومظاهرته على قتال المحلين، والطلب بدماء أهل البيت، وشهد على هؤلاء النفر الذين شهدوا على هذه الشهاده شراحيل ابن عبد- وهو أبو عامر الشعبي الفقيه- وعبد الرحمن بن عبد الله النخعي،

وعامر بن شراحيل الشعبي فقلت له: ما تصنع بهذا رحمك الله؟ فقال: دعه يكون قال: ودعا إبراهيم عشيرته وإخوانه ومن أطاعه، وأقبل يختلف إلى المختار. قال هشام بن مُحَمَّد: قال أبو مخنف: حدثني يحيى بن أبي عيسى الأزدي، قال: كان حميد بن مسلم الأسدي صديقا لإبراهيم بن الأشتر، وكان يختلف إليه، ويذهب به معه، وكان إبراهيم يروح في كل عشية عند المساء، فيأتي المختار، فيمكث عنده حتى تصوب النجوم ثم ينصرف، فمكثوا بذلك يدبرون أمورهم، حتى اجتمع رأيهم على أن يخرجوا ليلة الخميس لأربع عشرة من ربيع الأول سنة ست وستين ووطن على ذلك شيعتهم ومن أجابهم فلما كان عند غروب الشمس، قام إبراهيم بن الأشتر، فأذن، ثم إنه استقدم، فصلى بنا المغرب، ثم خرج بنا بعد المغرب حين قلت: أخوك أو الذئب- وهو يريد المختار، - فأقبلنا علينا السلاح، وقد أتى إياس بن مضارب عبد الله بن مطيع فقال: إن المختار خارج عليك إحدى الليلتين، قال: فخرج إياس في الشرط، فبعث ابنه راشدا إلى الكناسة، وأقبل يسير حول السوق في الشرط ثم إن إياس بن مضارب دخل على ابن مطيع، فقال له: إني قد بعثت ابني إلى الكناسة، فلو بعثت في كل جبانة بالكوفة عظيمة رجلا من أصحابك في جماعة من أهل الطاعة، هاب المريب الخروج عليك قال: فبعث ابن مطيع عبد الرحمن بن سعيد بن قيس إلى جبانة السبيع، وقال: اكفني قومك، لا أوتين من قبلك، وأحكم أمر الجبانة التي وجهتك إليها، لا يحدثن بها حدث، فاوليك العجز والوهن وبعث كعب بن أبي كعب الخثعمي إلى جبانة بشر، وبعث زحر بن قيس إلى جبانة كندة، وبعث شمر بن ذي الجوشن إلى جبانة سالم، وبعث عبد الرحمن بن مخنف بن سليم إلى جبانة الصائديين، وبعث يزيد بن الحارث بن رؤيم أبا حوشب الى جبانه مراد

واوصى كل رجل ان يكفيه قومه، والا يؤتى من قبله، وأن يحكم الوجه الذي وجهه فيه، وبعث شبث بن ربعي إلى السبخة، وقال: إذا سمعت صوت القوم فوجه نحوهم، فكان هؤلاء قد خرجوا يوم الاثنين، فنزلوا هذه الجبابين، وخرج إبراهيم بن الأشتر من رحله بعد المغرب يريد إتيان المختار، وقد بلغه أن الجبابين قد حشيت رجالا، وأن الشرط قد أحاطت بالسوق والقصر. قال أبو مخنف: فحدثني يحيى بن أبي عيسى، عن حميد بن مسلم، قال: خرجت مع إبراهيم من منزله بعد المغرب ليلة الثلاثاء حتى مررنا بدار عمرو بن حريث، ونحن مع ابن الأشتر كتيبة نحو من مائة، علينا الدروع، قد كفرنا عليها بالاقبيه، ونحو متقلد والسيوف، ليس معنا سلاح إلا السيوف في عواتقنا، والدروع قد سترناها بأقبيتنا، فلما مررنا بدار سعيد بن قيس فجزناها إلى دار أسامة، قلنا: مر بنا على دار خالد بن عرفطة، ثم امض بنا إلى بجيلة، فلنمر في دورهم حتى نخرج إلى دار المختار- وكان إبراهيم فتى حدثا شجاعا، فكان لا يكره أن يلقاهم- فقال: والله لأمرن على دار عمرو بن حريث إلى جانب القصر وسط السوق، ولأرعبن به عدونا ولأرينهم هوانهم علينا قال: فأخذنا على باب الفيل على دار ابن هبار، ثم أخذ ذات اليمين على دار عمرو بن حريث، حتى إذا جاوزها ألفينا إياس بن مضارب في الشرط مظهرين السلاح، فقال لنا: من أنتم؟ ما أنتم؟ فقال له إبراهيم: أنا إبراهيم بن الأشتر، فقال له ابن مضارب: ما هذا الجمع معك؟ وما تريد؟ والله إن أمرك لمريب! وقد بلغني أنك تمر كل عشية هاهنا، وما أنا بتاركك حتى آتي بك الأمير فيرى فيك رأيه فقال إبراهيم: لا أبا لغيرك! خل سبيلنا، فقال: كلا والله لا أفعل- ومع إياس بن مضارب رجل من همدان، يقال له أبو قطن، كان يكون مع إمرة الشرطة فهم يكرمونه ويؤثرونه، وكان لابن الأشتر صديقا- فقال له ابن الأشتر: يا أبا قطن، ادن مني- ومع أبي قطن رمح له طويل-، فدنا منه أبو قطن، ومعه الرمح،

وهو يرى أن ابن الأشتر يطلب إليه أن يشفع له إلى ابن مضارب ليخلي سبيله، فقال إبراهيم- وتناول الرمح من يده: إن رمحك هذا لطويل، فحمل به إبراهيم على ابن مضارب، فطعنه في ثغرة نحره فصرعه، وقال لرجل من قومه: انزل عليه، فاحتز رأسه، فنزل إليه فاحتز رأسه، وتفرق أصحابه ورجعوا إلى ابن مطيع فبعث ابن مطيع ابنه راشد بن إياس مكان أبيه على الشرطة، وبعث مكان راشد بن إياس إلى الكناسة تلك الليلة سويد بن عبد الرحمن المنقري أبا القعقاع بن سويد وأقبل إبراهيم بن الأشتر إلى المختار ليلة الأربعاء، فدخل عليه فقال له إبراهيم: إنا اتعدنا للخروج للمقابله ليلة الخميس، وقد حدث أمر لا بد من الخروج الليلة، قال المختار: ما هو؟ قال: عرض لي إياس بن مضارب في الطريق ليحبسني بزعمه، فقتلته، وهذا رأسه مع أصحابي على الباب فقال المختار: فبشرك الله بخير! فهذا طير صالح، وهذا أول الفتح ان شاء الله ثم قال المختار: قم يا سعيد بن منقذ، فأشعل في الهرادي النيران ثم ارفعها للمسلمين، وقم أنت يا عبد الله بن شداد، فناد: يا منصور أمت، وقم أنت يا سفيان بن ليل، وأنت يا قدامه ابن مالك، فناد: يا لثأرات الحسين! ثم قال المختار: علي بدرعي وسلاحي، فأتي به، فأخذ يلبس سلاحه ويقول: قد علمت بيضاء حسناء الطلل ... واضحة الخدين عجزاء الكفل أني غداة الروع مقدام بطل. ثم إن إبراهيم قال للمختار: إن هؤلاء الرءوس الذين وضعهم ابن مطيع في الجبابين يمنعون إخواننا أن يأتونا، ويضيقون عليهم، فلو أني خرجت بمن معي من أصحابي حتى آتي قومي، فيأتيني كل من قد بايعني من قومي، ثم سرت بهم في نواحي الكوفة، ودعوت بشعارنا، فخرج إلي من أراد الخروج إلينا، ومن قدر على إتيانك من الناس، فمن أتاك حبسته عندك إلى من

معك ولم تفرقهم، فإن عوجلت فأتيت كان معك من تمتنع به، وأنا لو قد فرغت من هذا الأمر عجلت إليك في الخيل والرجال قال له إما لا فاعجل وإياك أن تسير إلى أميرهم تقاتله، ولا تقاتل أحدا وأنت تستطيع الا تقاتل، واحفظ ما أوصيتك به إلا أن يبدأك أحد بقتال فخرج إبراهيم بن الأشتر من عنده في الكتيبة التي أقبل فيها، حتى أتى قومه، واجتمع إليه جل من كان بايعه وأجابه ثم إنه سار بهم في سكك الكوفة طويلا من الليل، وهو في ذلك يتجنب السكك التي فيها الأمراء، فجاء إلى الذين معهم الجماعات الذين وضع ابن مطيع في الجبابين وأفواه الطرق العظام، حتى انتهى إلى مسجد السكون، وعجلت إليه خيل من خيل زحر بن قيس الجعفي ليس لهم قائد ولا عليهم أمير فشد عليهم ابراهيم بن اشتر وأصحابه، فكشفوهم حتى دخلوا جبانة كندة، فقال إبراهيم: من صاحب الخيل في 2 جبانة كندة فشد إبراهيم وأصحابه عليهم، وهو يقول: اللهم إنك تعلم أنا غضبنا لأهل بيت نبيك، وثرنا لهم، فانصرنا عليهم، وتمم لنا دعوتنا، حتى انتهى إليهم هو وأصحابه، فخالطوهم وكشفوهم فقيل له: زحر بن قيس، فقال: انصرفوا بنا عنهم، فركب بعضهم بعضا كلما لقيهم زقاق دخل منهم طائفة، فانصرفوا يسيرون. ثم خرج إبراهيم يسير حتى انتهى إلى جبانة أثير، فوقف فيها طويلا، ونادى أصحابه بشعارهم، فبلغ سويد بن عبد الرحمن المنقري مكانهم في جبانة أثير، فرجا أن يصيبهم فيحظى بذلك عند ابن مطيع، فلم يشعر ابن الأشتر إلا وهم معه في الجبانة، فلما رأى ذلك ابن الأشتر قال لأصحابه: يا شرطة الله، انزلوا فإنكم أولى بالنصر من الله من هؤلاء الفساق الذين خاضوا دماء اهل بيت رسول الله ص فنزلوا ثم شد عليهم إبراهيم، فضربهم حتى أخرجهم من الصحراء، وولوا منهزمين يركب بعضهم بعضا، وهم يتلاومون، فقال قائل منهم: إن هذا الأمر يراد، ما يلقون لنا جماعة

إلا هزموهم! فلم يزل يهزمهم حتى أدخلهم الكناسة وقال أصحاب إبراهيم لإبراهيم: أتبعهم واغتنم ما قد دخلهم من الرعب، فقد علم الله إلى من ندعو وما نطلب، وإلى من يدعون وما يطلبون! قال: لا، ولكن سيروا بنا إلى صاحبنا حتى يؤمن الله بنا وحشته، ونكون من أمره على علم، ويعلم هو أيضا ما كان من عنائنا، فيزداد هو وأصحابه قوة وبصيرة إلى قواهم وبصيرتهم، مع أني لا آمن أن يكون قد اتى. فاقبل ابراهيم في أصحابه حتى مر بمسجد الأشعث، فوقف به ساعة، ثم مضى حتى أتى دار المختار، فوجد الأصوات عالية، والقوم يقتتلون، وقد جاء شبث بن ربعي من قبل السبخة، فعبى له المختار يزيد بن أنس، وجاء حجار بن أبجر العجلي، فجعل المختار في وجهه في وجهه أحمر بن شميط، فالناس يقتتلون، وجاء إبراهيم من قبل القصر، فبلغ حجارا وأصحابه أن إبراهيم قد جاءهم من ورائهم، فتفرقوا قبل أن يأتيهم إبراهيم، وذهبوا في الأزقة والسكك، وجاء قيس بن طهفة في قريب من مائة رجل من بني نهد من أصحاب المختار، فحمل على شبث بن ربعي وهو يقاتل يزيد بن أنس، فخلى لهم الطريق حتى اجتمعوا جميعا ثم إن شبث بن ربعي ترك لهم السكة، وأقبل حتى لقي ابن مطيع، فقال: ابعث إلى أمراء الجبابين فمرهم فليأتوك، فاجمع إليك جميع الناس، ثم انهد إلى هؤلاء القوم فقاتلهم وابعث إليهم من تثق به فليكفك قتالهم، فإن أمر القوم قد قوي، وقد خرج المختار وظهر، واجتمع له أمره فلما بلغ ذلك المختار من مشورة شبث بن ربعي على ابن مطيع خرج المختار في جماعة من أصحابه حتى نزل في ظهر دير هند مما يلي بستان زائدة في السبخة. قال: وخرج أبو عثمان النهدي فنادى في شاكر وهم مجتمعون في دورهم، يخافون أن يظهروا في الميدان لقرب كعب بن أبي كعب الخثعمي منهم، وكان كعب في جبانة بشر، فلما بلغه ان شاكرا تخرج جاء يسير حتى نزل بالميدان، وأخذ عليهم بأفواه سككهم وطرقهم قال: فلما أتاهم أبو عثمان النهدي

في عصابة من أصحابه، نادى: يا لثأرات الحسين! يا منصور أمت! يايها الحي المهتدون، ألا إن أمير آل مُحَمَّد ووزيرهم قد خرج فنزل دير هند، وبعثني إليكم داعيا ومبشرا، فاخرجوا إليه يرحمكم الله! قال: فخرجوا من الدور يتداعون: يا لثأرات الحسين! ثم ضاربوا كعب بن أبي كعب حتى خلى لهم الطريق، فأقبلوا إلى المختار حتى نزلوا معه في عسكره، وخرج عبد الله بن قراد الخثعمي في جماعة من خثعم نحو المائتين حتى لحق بالمختار، فنزلوا معه في عسكره، وقد كان عرض له كعب بن أبي كعب فصافه، فلما عرفهم ورأى أنهم قومه خلى عنهم ولم يقاتلهم. وخرجت شبام من آخر ليلتهم فاجتمعوا إلى جبانة مراد، فلما بلغ ذلك عبد الرحمن بن سعيد بن قيس بعث إليهم: إن كنتم تريدون اللحاق بالمختار فلا تمروا على جبانة السبيع، فلحقوا بالمختار، فتوافى إلى المختار ثلاثة آلاف وثمانمائه من اثني عشر ألفا كانوا بايعوه، فاستجمعوا له قبل انفجار الفجر، فأصبح قد فرغ من تعبيته. قال أبو مخنف: فحدثني الوالبي قال: خرجت أنا وحميد بن مسلم، والنعمان بن أبي الجعد إلى المختار ليلة خرج، فأتيناه في داره وخرجنا معه إلى معسكره، قال: فو الله ما انفجر الفجر حتى فرغ من تعبيته، فلما 2 أصبح استقدم، فصلى بنا الغداة بغلس، ثم قرأ وَالنَّازِعاتِ وعَبَسَ وَتَوَلَّى، قال: فما سمعنا إماما أمّ قوما أفصح لهجة منه. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي حصيرة بن عَبْدِ الله، أن ابن مطيع بعث إلى أهل الجبابين، فأمرهم أن ينضموا إلى المسجد، وقال لراشد بن إياس بن مضارب: ناد في الناس فليأتوا المسجد، فنادى المنادي: ألا برئت الذمة من رجل لم يحضر المسجد الليلة! فتوافى الناس في المسجد، فلما اجتمعوا بعث ابن مطيع شبث بن ربعي في نحو من ثلاثة آلاف إلى المختار، وبعث راشد بن إياس في أربعة آلاف من الشرط. قال أبو مخنف: فحدثني أبو الصلت التيمي عن أبي سعيد الصيقل

قال: لما صلى المختار الغداة ثم انصرف سمعنا أصواتا مرتفعة فيما بين بني سليم وسكة البريد، فقال المختار: من يعلم لنا علم هؤلاء ما هم؟ فقلت له: أنا أصلحك الله! فقال المختار: أما لا فألق سلاحك وانطلق حتى تدخل فيهم كأنك نظار، ثم تأتيني بخبرهم قال: ففعلت، فلما دنوت منهم إذا مؤذنهم يقيم، فجئت حتى دنوت منهم فإذا شبث بن ربعي معه خيل عظيمة، وعلى خيله شيبان بن حريث الضبي، وهو في الرجالة معه منهم كثرة، فلما أقام مؤذنهم تقدم فصلى بأصحابه، فقرأ: «إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها» ، فقلت في نفسي: أما والله إني لأرجو أن يزلزل الله بكم، وقرأ: «وَالْعادِياتِ ضَبْحاً» ، فقال أناس من أصحابه: لو كنت قرأت سورتين هما أطول من هاتين شيئا! فقال شبث: ترون الديلم قد نزلت بساحتكم، وأنتم تقولون: لو قرات سوره البقرة وآل عمران! قال: وكانوا ثلاثة آلاف، قال: فأقبلت سريعا حتى أتيت المختار فأخبرته بخبر شبث وأصحابه، وأتاه معي ساعة أتيته سعر بن أبي سعر الحنفي يركض من قبل مراد، وكان ممن بايع المختار فلم يقدر على الخروج معه ليلة خرج مخافة الحرس، فلما أصبح أقبل على فرسه، فمر بجبانة مراد، وفيها راشد بن إياس، فقالوا: كما أنت! ومن أنت؟ فراكضهم حتى جاء المختار، فأخبره خبر راشد، وأخبرته أنا خبر شبث، قال: فسرح إبراهيم بن الأشتر قبل راشد بن اياس في تسعمائة- ويقال ستمائة فارس وستمائة راجل- وبعث نعيم بن هبيرة أخا مصقلة بن هبيرة في ثلاثمائة فارس وستمائه راجل، وقال لهما: امضيا حتى تلقيا عدو كما، فإذا لقيتماهم فانزلا في الرجال وعجلا الفراغ وابدءاهم بالاقدام، ولا تستهد فالهم، فإنهم أكثر منكم، ولا ترجعا إلي حتى تظهرا أو تقتلا فتوجه إبراهيم إلى راشد، وقدم المختار يزيد بن أنس في موضع مسجد شبث في تسعمائة أمامه. وتوجه نعيم بن هبيرة قبل شبث قال أبو مخنف: قال أبو سعيد الصيقل: كنت انا فيمن توجه مع نعيم

ابن هبيرة إلى شبث ومعي سعر بن أبي سعر الحنفي، فلما انتهينا إليه قاتلناه قتالا شديدا، فجعل نعيم بن هبيرة سعر بن أبي سعر الحنفي على الخيل، ومشى هو في الرجال فقاتلهم حتى أشرقت الشمس وانبسطت، فضربناهم حتى أدخلناهم البيوت، ثم إن شبث بن ربعي ناداهم: يا حماة السوء! بئس فرسان الحقائق أنتم! أمن عبيدكم تهربون! قال: فثابت إليه منهم جماعة فشد علينا وقد تفرقنا فهزمنا، وصبر نعيم بن هبيرة فقتل، ونزل سعر فأسر وأسرت أنا وخليد مولى حسان بن محدوج، فقال شبث لخليد- وكان وسيما جسيما: من أنت؟ فقال: خليد مولى حسان بن محدوج الذهلي، فقال له شبث: يا بن المتكاء، تركت بيع الصحناة بالكناسة وكان جزاء من أعتقك أن تعدو عليه بسيفك تضرب رقابه! اضربوا عنقه، فقتل، ورأى سعرا الحنفي فعرفه، فقال: أخو بني حنيفة؟ فقال له: نعم، فقال: ويحك! ما أردت إلى اتباع هذه السبئيه! قبح الله رأيك، دعوا ذا فقلت في نفسي: قتل المولى وترك العربي، إن علم والله إني مولى قتلني فلما عرضت عليه قال: من أنت؟ فقلت: من بني تيم الله، قال: أعربي أنت أو مولى؟ فقلت: لا بل عربي، أنا من آل زياد بن خصفة، فقال: بخ بخ! ذكرت الشريف المعروف، الْحَقْ بأهلك قال: فأقبلت حتى انتهيت إلى الحمراء، وكانت لي في قتال القوم بصيرة، فجئت حتى انتهيت إلى المختار، وقلت في نفسي: والله لاتين اصحابى فلا واسينهم بنفسي، فقبح الله العيش بعدهم! قال: فأتيتهم وقد سبقني إليهم سعر الحنفي، وأقبلت إليه خيل شبث، وجاءه قتل نعيم بن هبيرة، فدخل من ذلك أصحاب المختار أمر كبير، قال: فدنوت من المختار، فأخبرته بالذي كان من أمري، فقال لي: اسكت، فليس هذا بمكان الحديث وجاء شبث حتى أحاط بالمختار وبيزيد بن أنس

وبعث ابن مطيع يزيد بن الحارث بن رؤيم في ألفين من قبل سكة لحام جرير، فوقفوا في أفواه تلك السكك، وولى المختار يزيد بن أنس خيله، وخرج هو في الرجالة. قال أبو مخنف: فحدثني الحارث بن كعب الوالبي، والبة الأزد، قال: حملت علينا خيل شبث بن ربعي حملتين، فما يزول منا رجل من مكانه، فقال يزيد بن أنس لنا: يا معشر الشيعة، قد كنتم تقتلون وتقطع أيديكم وأرجلكم، وتسمل أعينكم، وترفعون على جذوع النخل في حب أهل بيت نبيكم، وأنتم مقيمون في بيوتكم، وطاعة عدوكم، فما ظنكم بهؤلاء القوم إن ظهروا عليكم اليوم! إذا والله لا يدعون منكم عينا تطرف، وليقتلنكم صبرا، ولترون منهم في أولادكم وأزواجكم وأموالكم ما الموت خير منه، والله لا ينجيكم منهم إلا الصدق والصبر، والطعن الصائب في أعينهم، والضرب الدراك على هامهم فتيسروا للشدة، وتهيئوا للحملة، فإذا حركت رايتي مرتين فاحملوا قال الحارث: فتهيأنا وتيسرنا، وجثونا على الركب، وانتظرنا أمره. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي فضيل بن خديج الكندي أن إبراهيم بن الأشتر كان حين توجه الى راشد بن اياس، مضى حتى لقمه في مراد، فإذا معه أربعة آلاف، فقال ابراهيم لأصحابه: لا يهولنكم كثره هؤلاء، فو الله لرب رجل خير من عشرة، ولرب فئة قليلة قد غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصابرين، ثم قال يا خزيمة بن نصر، سر إليهم في الخيل، ونزل هو يمشي في الرجال، ورايته مع مزاحم بن طفيل، فأخذ إبراهيم يقول له: ازدلف برايتك، امض بها قد ما قد ما واقتتل الناس، فاشتد قتالهم، وبصر خزيمة بن نصر العبسي براشد بن إياس، فحمل عليه

فطعنه، فقتله، ثم نادى: قتلت راشدا ورب الكعبة وانهزم أصحاب راشد، وأقبل إبراهيم بن الأشتر وخزيمة بن نصر ومن كان معهم بعد قتل راشد نحو المختار، وبعث النعمان بن أبي الجعد يبشر المختار بالفتح عليه وبقتل راشد، فلما أن جاءهم البشير بذلك كبروا، واشتدت أنفسهم ودخل أصحاب ابن مطيع الفشل، وسرح ابن مطيع حسان بن فائد بن بكير العبسي في جيش كثيف نحو من ألفين فاعترض إبراهيم بن الأشتر فويق الحمراء ليرده عمن في السبخة من أصحاب ابن مطيع، فقدم إبراهيم خزيمة بن نصر إلى حسان بن فائد في الخيل، ومشى إبراهيم نحوه في الرجال. فقال: والله ما أطعنا برمح، ولا اضطربنا بسيف حتى انهزموا وتخلف حسان بن فائد في أخريات الناس يحميهم وحمل عليه خزيمة بن نصر، فلما رآه عرفه فقال له: يا حسان بن فائد أما والله لولا القرابة لعرفت أني سألتمس قتلك بجهدي، ولكن النجاء فعثر بحسان فرسه فوقع. فقال: تعسا لك، أبا عبد الله! وابتدره الناس فأحاطوا به فضاربهم ساعة بسيفه، فناداه خزيمة بن نصر قال: إنك آمن يا أبا عبد الله لا تقتل نفسك وجاء حتى وقف عليه ونهنه الناس عنه ومر به إبراهيم، فقال له خزيمة: هذا ابن عمي وقد آمنته، فقال له إبراهيم: أحسنت، فأمر خزيمة بطلب فرسه حتى أتي به، فحمله عليه، وقال: الحق بأهلك. قال: وأقبل إبراهيم نحو المختار، وشبث محيط بالمختار ويزيد بن أنس. فلما رآه يزيد بن الحارث وهو على أفواه سكك الكوفة التي تلي السبخة. وإبراهيم مقبل نحو شبث، أقبل نحوه ليصده عن شبث وأصحابه، فبعث إبراهيم طائفة من أصحابه مع خزيمة بن نصر، فقال: أغن عنا يزيد بن الحارث، وصمد هو في بقية أصحابه نحو شبث بن ربعي. قال أبو مخنف: فحدثني الحارث بن كعب أن إبراهيم لما أقبل نحونا رأينا شبثا وأصحابه ينكصون وراءهم رويدا رويدا، فلما دنا إبراهيم من شبث وأصحابه، حمل عليهم، وأمرنا يزيد بن أنس بالحملة عليهم،

فحملنا عليهم، فانكشفوا حتى انتهوا إلى أبيات الكوفه، وحمل خزيمة ابن نصر على يزيد بن الحارث بن رؤيم فهزمه، وازدحموا على أفواه السكك، وقد كان يزيد بن الحارث وضع رامية على أفواه السكك فوق البيوت، وأقبل المختار في جماعة الناس إلى يزيد بن الحارث، فلما انتهى، أصحاب المختار إلى أفواه السكك رمته تلك الرامية بالنبل، فصدوهم عن دخول الكوفة من ذلك الوجه، ورجع الناس من السبخة منهزمين إلى ابن مطيع، وجاءه قتل راشد بن إياس، فأسقط في يده. قال أبو مخنف: فحدثني يحيى بن هانئ، قال: قال عمرو بن الحجاج الزبيدي لابن مطيع: أيها الرجل لا يسقط في خلدك، ولا تلق بيدك، اخرج إلى الناس فاندبهم إلى عدوك فاغزهم، فإن الناس كثير عددهم، وكلهم معك إلا هذه الطاغية التي خرجت على الناس، والله مخزيها ومهلكها، وأنا أول منتدب، فاندب معي طائفة، ومع غيري طائفة، قال: فخرج ابن مطيع، فقام فِي الناس، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الناس، إن من أعجب العجب عجزكم عن عصبة منكم قليل عددها، خبيث دينها، ضالة مضلة، اخرجوا إليهم فامنعوا منهم حريمكم وقاتلوهم عن مصركم، وامنعوا منهم فيئكم، وإلا والله ليشاركنكم في فيئكم من لا حق له فيه والله لقد بلغني أن فيهم خمسمائة رجل من محرريكم عليهم أمير منهم وإنما ذهاب عزكم وسلطانكم وتغير دينكم حين يكثرون ثم نزل. قال: ومنعهم يزيد بن الحارث أن يدخلوا الكوفة قال: ومضى المختار من السبخة حتى ظهر على الجبانة، ثم ارتفع إلى البيوت، بيوت مزينة وأحمس وبارق، فنزل عند مسجدهم وبيوتهم، وبيوتهم شاذة منفردة من بيوت أهل الكوفة، فاستقبلوه بالماء، فسقى أصحابه، وأبى المختار أن يشرب قال: فظن أصحابه أنه صائم، وقال أحمر بن هديج من همدان

لابن كامل: اترى الأمير الأمير صائما؟ فقال له: نعم، هو صائم، فقال له: فلو أنه كان في هذا اليوم مفطرا كان أقوى له، فقال له: إنه معصوم، وهو أعلم بما يصنع، فقال له: صدقت، أستغفر الله وقال المختار: نعم مكان المقاتل هذا، فقال له: إبراهيم بن الأشتر: قد هزمهم الله وفلهم وأدخل الرعب قلوبهم، وتنزل هاهنا! سربنا، فو الله ما دون القصر أحد يمنع. ولا يمتنع كبير امتناع، فقال المختار: ليقم هاهنا كل شيخ ضعيف وذي علة، وضعوا ما كان لكم من ثقل ومتاع بهذا الموضع حتى تسيروا إلى عدونا ففعلوا، فاستخلف المختار عليهم أبا عثمان النهدي، وقدم إبراهيم بن الأشتر أمامه، وعبى أصحابه على الحال التي كانوا عليها في السبخة. قال: وبعث عبد الله بن مطيع عمرو بن الحجاج في ألفي رجل. فخرج عليهم من سكة الثوريين، فبعث المختار إلى إبراهيم أن اطوه ولا تقم عليه فطواه إبراهيم، ودعا المختار يزيد بن أنس، فأمره أن يصمد لعمرو بن الحجاج، فمضى نحوه، وذهب المختار في أثر إبراهيم، فمضوا جميعا حتى إذا انتهى المختار إلى موضع مصلى خالد بن عبد الله وقف، وأمر إبراهيم أن يمضي على وجهه حتى يدخل الكوفة من قبل الكناسة، فمضى، فخرج إليه من سكة ابن محرز، وأقبل شمر بن ذي الجوشن في ألفين، فسرح المختار إليه سعيد بن منقذ الهمذاني فواقعه، وبعث إلى إبراهيم أن اطوه، وامض على وجهك فمضى حتى انتهى إلى سكة شبث، وإذا نوفل بن مساحق بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مخرمة في نحو من ألفين- أو قال: خمسة آلاف. وهو الصحيح- وقد أمر ابن مطيع سويد بن عبد الرحمن فنادى في الناس: أن الحقوا بابن مساحق قال: واستخلف شبث بن ربعي على القصر، وخرج ابن مطيع حتى وقف بالكناسة. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي حصيرة بن عَبْدِ الله، قال: إني لأنظر إلى ابن الأشتر حين أقبل في أصحابه، حتى إذا دنا منهم قال لهم: انزلوا، فنزلوا، فقال:

قربوا خيولكم بعضها إلى بعض، ثم امشوا إليهم مصلتين بالسيوف، ولا يهولنكم أن يقال: جاءكم شبث بن ربعي وآل عتيبة بن النهاس وآل الأشعث وآل فلان وآل يزيد بن الحارث قال: فسمى بيوتات من بيوتات أهل الكوفة، ثم قال: إن هؤلاء لو قد ووجدوا لهم حر السيوف قد انصفقوا عن ابن مطيع انصفاق المعزى عن الذئب، قال حصيرة: فإني لأنظر إليه وإلى أصحابه حين قربوا خيولهم وحين أخذ ابن الأشتر أسفل قبائه فرفعه فأدخله في منطقة له حمراء من حواشي البرود، وقد شد بها على القباء، وقد كفر بالقباء على الدرع، ثم قال لأصحابه: شدوا عليهم فدى لكم عمي وخالي! قال: فو الله ما لبثهم أن هزمهم، فركب بعضهم بعضا على فم السكة وازدحموا، وانتهى ابن الأشتر إلى ابن مساحق، فأخذ بلجام دابته، ورفع السيف عليه، فقال له ابن مساحق: يا بن الأشتر، أنشدك الله، أتطلبني بثأر! هل بيني وبينك من إحنة! فخلى ابن الأشتر سبيله، وقال له: اذكرها، فكان بعد ذلك ابن مساحق يذكرها لابن الأشتر، وأقبلوا يسيرون حتى دخلوا الكناسة في آثار القوم حتى دخلوا السوق والمسجد، وحصروا ابن مطيع ثلاثا. قال أبو مخنف: وحدثني النضر بن صالح أن ابن مطيع مكث ثلاثا، يرزق أصحابه في القصر حيث حصر الدقيق، ومعه أشراف الناس، إلا ما كان من عمرو بن حريث، فإنه أتى داره ولم يلزم نفسه الحصار، ثم خرج حتى نزل البر وجاء المختار حتى نزل جانب السوق، وولى حصار القصر إبراهيم بن الأشتر، ويزيد بن أنس، وأحمر بن شميط، فكان ابن الأشتر مما يلي المسجد وباب القصر، ويزيد بن أنس مما يلي بني حذيفة وسكة دار الروميين، وأحمر بن شميط مما يلي دار عمارة ودار أبي موسى. فلما اشتد الحصار على ابن مطيع وأصحابه كلمه الأشراف، فقام إليه شبث فقال: أصلح الله الأمير انظر لنفسك ولمن معك، فو الله ما عندهم غناء عنك ولا عن أنفسهم قال ابن مطيع: هاتوا، أشيروا علي برأيكم،

قال شبث: الرأي أن تأخذ لنفسك من هذا الرجل أمانا ولنا، وتخرج ولا تهلك نفسك ومن معك قال ابن مطيع: والله إني لأكره أن آخذ منه أمانا والأمور مستقيمة لأمير المؤمنين بالحجاز كله وبأرض البصرة، قال: فتخرج لا يشعر بك أحد حتى تنزل منزلا بالكوفة عند من تستنصحه وتثق به، ولا يعلم بمكانك حتى تخرج فتلحق بصاحبك، فقال لأسماء بن خارجة وعبد الرحمن بن مخنف وعبد الرحمن بن سعيد بن قيس وأشراف أهل الكوفة: ما ترون في هذا الرأي الذي أشار به علي شبث؟ فقالوا: ما نرى الرأي إلا ما أشار به عليك، قال: فرويدا حتى أمسي قال أبو مخنف: فحدثني أبو المغلس الليثي، أن عبد الله بن عبد الله الليثي أشرف على أصحاب المختار من القصر من العشي يشتمهم، وينتحي له مالك بن عمرو أبو نمران النهدي بسهم، فيمر بحلقه، فقطع جلدة من حلقه فمال فوقع، قال: ثم إنه قام وبرأ بعد، وقال النهدي حين أصابه: خذها من مالك، من فاعل كذا. قال أبو مخنف: وحدثني النضر بن صالح، عن حسان بن فائد بن بكير، قال: لما أمسينا في القصر في اليوم الثالث، دعانا ابن مطيع، فذكر الله بما هو أهله، وصلى عَلَى نبيه صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: أما بعد، فقد علمت الذين صنعوا هذا منكم من هم، وقد علمت أنما هم أراذلكم وسفهاؤكم وطغامكم وأخساؤكم، ما عدا الرجل أو الرجلين، وأن أشرافكم وأهل الفضل منكم لم يزالوا سامعين مطيعين مناصحين، وأنا مبلغ ذلك صاحبي، ومعلمه طاعتكم وجهادكم عدوه، حتى كان الله الغالب على أمره، وقد كان من رأيكم وما أشرتم به علي ما قد علمتم، وقد رأيت أن أخرج الساعة فقال له شبث: جزاك الله من أمير خيرا! فقد والله عففت عن أموالنا، وأكرمت أشرافنا، ونصحت لصاحبك، وقضيت الذي عليك، والله ما كنا لنفارقك أبدا إلا ونحن منك في إذن، فقال: جزاكم الله خيرا، أخذ امرؤ حيث أحب، ثم خرج من نحو دروب الروميين حتى أتى دار أبي موسى، وخلى القصر، وفتح اصحابه

الباب، فقالوا: يا بن الأشتر، آمنون نحن؟ قال: أنتم آمنون، فخرجوا فبايعوا المختار. قال أبو مخنف: فحدثني موسى بن عامر العدوي، من عدي جهينة- وهو أبو الأشعر- أن المختار جاء حتى دخل القصر، فبات به، وأصبح أشراف الناس في المسجد وعلى باب القصر، وخرج المختار فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، فقال: الحمد لله الذي وعد وليه النصر، وعدوه الخسر، وجعله فيه إلى آخر الدهر، وعدا مفعولا، وقضاء مقضيا، وقد خاب من افترى أيها الناس، إنه رفعت لنا راية، ومدت لنا غاية، فقيل لنا في الراية: أن ارفعوها ولا تضعوها، وفي الغاية: أن اجروا إليها ولا تعدوها، في معنا دعوة الداعي، ومقالة الواعي، فكم من ناع وناعية، لقتلى في الواعية! وبعدا لمن طغى وأدبر، وعصى وكذب وتولى، ألا فادخلوا أيها الناس فبايعوا بيعة هدى، فلا والذي جعل السماء سقفا مكفوفا، والأرض فجاجا سبلا، ما بايعتم بعد بيعة علي بن أبي طالب وآل علي أهدى منها. ثم نزل فدخل، ودخلنا عليه وأشراف الناس، فبسط يده، وابتدره الناس فبايعوه، وجعل يقول: تبايعوني على كتاب اللَّه وسنة نبيه، والطلب بدماء أهل البيت، وجهاد المحلين، والدفع عن الضعفاء، وقتال من قاتلنا، وسلم من سالمنا، والوفاء ببيعتنا، لا نقيلكم ولا نستقيلكم، فإذا قال الرجل: نعم بايعه قال: فكأني والله أنظر إلى المنذر بن حسان بن ضرار الضبي إذ أتاه حتى سلم عليه بالإمرة، ثم بايعه وانصرف عنه، فلما خرج من القصر استقبل سعيد بن منقذ الثوري في عصابة من الشيعة واقفا عند المصطبة، فلما رأوه ومعه ابنه حيان بن المنذر، قال رجل من سفهائهم: هذا والله من رءوس الجبارين، فشدوا عليه وعلى ابنه، فقتلوهما، فصاح بهم سعيد بن منقذ: لا تعجلوا، لا تعجلوا حتى ننظر ما رأي أميركم فيه قال: وبلغ المختار ذلك، فكرهه حتى رئى ذلك في وجهه، وأقبل المختار يمني الناس، ويستجر مودتهم ومودة الأشراف، ويحسن السيرة جهده

قال: وجاءه ابن كامل فقال للمختار، أعلمت أن ابن مطيع في دار أبي موسى؟ فلم يجبه بشيء، فأعادها عليه ثلاث مرات فلم يجبه، ثم أعادها فلم يجبه، فظن ابن كامل أن ذلك لا يوافقه، وكان ابن مطيع قبل للمختار صديقا، فلما أمسى بعث إلى ابن مطيع بمائة ألف درهم، فقال له: تجهز بهذه واخرج، فإني قد شعرت بمكانك، وقد ظننت أنه لم يمنعك من الخروج إلا أنه ليس في يديك ما يقويك على الخروج وأصاب 2 المختار تسعة آلاف ألف في بيت مال الكوفة، فأعطى أصحابه الذين قاتل بهم حين حصر ابن مطيع في القصر- وهم ثلاثة آلاف وثمانمائه رجل- كل رجل خمسمائة درهم خمسمائة درهم، وأعطى ستة آلاف من أصحابه أتوه بعد ما أحاط بالقصر، فأقاموا معه تلك الليلة وتلك الثلاثة الأيام حتى دخل القصر مائتين مائتين، واستقبل الناس بخير، ومناهم العدل وحسن السيرة، وأدنى الأشراف، فكانوا جلساءه وحداثه، واستعمل على شرطته عبد الله بن كامل الشاكري، وعلى حرسه كيسان أبا عمرة مولى عرينة، فقام ذات يوم على رأسه، فرأى الأشراف يحدثونه، ورآه قد أقبل بوجهه وحديثه عليهم، فقال لأبي عمرة بعض أصحابه من الموالي: أما ترى أبا إسحاق قد أقبل على العرب ما ينظر إلينا! فدعاه المختار فقال له: ما يقول لك أولئك الذين رأيتهم يكلمونك؟ فقال له- وأسر إليه: شق عليهم أصلحك الله صرفك وجهك عنهم إلى العرب، فقال له: قل لهم: لا يشقن ذلك عليكم، فأنتم مني وأنا منكم ثم سكت طويلا، ثم قرأ: «إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ» قال: فحدثني أبو الأشعر موسى بن عامر قال: ما هو إلا أن سمعها الموالي منه، فقال بعضهم لبعض: أبشروا، كأنكم والله به قد قتلهم. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي حصيرة بن عَبْدِ الله الأزدي وفضيل بن خديج الكندي والنضر بن صالح العبسي، قالوا: أول رجل عقد له المختار

راية عبد الله بن الحارث أخو الأشتر، عقد له على أرمينية، وبعث محمد ابن عمير بن عطارد على أذربيجان، وبعث عبد الرحمن بن سعيد بن قيس على الموصل، وبعث إسحاق بن مسعود على المدائن وأرض جوخى، وبعث قدامة بن أبي عيسى بن ربيعة النصري، وهو حليف لثقيف على بهقباذ الأعلى، وبعث مُحَمَّد بن كعب بن قرظة على بهقباذ الأوسط، وبعث حبيب بن منقذ الثوري على بهقباذ الأسفل، وبعث سعد بن حذيفة بن اليمان على حلوان، وكان مع سعد بن حذيفة ألفا فارس بحلوان قال: ورزقه ألف درهم في كل شهر، وأمره بقتال الأكراد، وبإقامة الطرق، وكتب إلى عماله على الجبال يأمرهم أن يحملوا أموال كورهم إلى سعد بن حذيفة بحلوان، وكان عبد الله بن الزبير قد بعث مُحَمَّد بن الأشعث بن قيس على الموصل، وأمره بمكاتبة ابن مطيع وبالسمع له والطاعة، غير أن ابن مطيع لا يقدر على عزله إلا بأمر ابن الزبير، وكان قبل ذلك في إمارة عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ، وإبراهيم بن مُحَمَّد منقطعا بإمارة الموصل، لا يكاتب أحدا دون ابن الزبير. فلما قدم عليه عبد الرحمن بن سعيد بن قيس من قبل المختار أميرا تنحى له عن الموصل، وأقبل حتى نزل تكريت، وأقام بها مع أناس من أشراف قومه وغيرهم، وهو معتزل ينظر ما يصنع الناس، وإلى ما يصير أمرهم، ثم شخص إلى المختار فبايع له، ودخل فيما دخل فيه أهل بلده. قال أبو مخنف: وحدثني صلة بن زهير النهدي، عن مسلم بن عبد الله الضبابي، قال: لما ظهر المختار واستمكن، ونفى ابن مطيع وبعث عماله، أقبل يجلس للناس غدوة وعشية، فيقضي بين الخصمين، ثم قال: والله إن لي فيما أزاول وأحاول لشغلا عن القضاء بين الناس، قال: فأجلس للناس شريحا، وقضى بين الناس، ثم انه خافهم فمارض، وكانوا يقولون: إنه عثماني، وإنه ممن شهد على حجر بن عدي، وإنه لم يبلغ عن هانئ ابن عروة ما أرسله به- وقد كان علي بن أبي طالب عزله عن القضاء- فلما

أن سمع بذلك ورآهم يذمونه ويسندون إليه مثل هذا القول تمارض، وجعل المختار مكانه عبد الله بن عتبة بن مسعود ثم إن عبد الله مرض، فجعل مكانه عبد الله بن مالك الطائي قاضيا. قال مسلم بن عبد الله: وكان عبد الله بن همام سمع أبا عمرة يذكر الشيعة وينال من عثمان بن عفان، فقنعه بالسوط، فلما ظهر المختار كان معتزلا حتى استأمن له عبد الله بن شداد، فجاء إلى المختار ذات يوم فقال: ألا انتسأت بالود عنك وأدبرت ... معالنة بالهجر أم سريع وحملها واش سعى غير مؤتل ... فأبت بهم في الفؤاد جميع فخفض عليك الشأن لا يردك الهوى ... فليس انتقال خلة ببديع وفي ليلة المختار ما يذهل الفتى ... ويلهيه عن رؤد الشباب شموع دعا يا لثارات الحسين فأقبلت ... كتائب من همدان بعد هزيع ومن مذحج جاء الرئيس ابن مالك ... يقود جموعا عبيت بجموع ومن أسد وافى يزيد لنصره ... بكل فتى حامي الذمار منيع وجاء نعيم خير شيبان كلها ... بأمر لدى الهيجا أحد جميع وما ابن شميط إذ يحرض قومه ... هناك بمخذول ولا بمضيع ولا قيس نهد لا ولا ابن هوازن ... وكل أخو إخباتة وخشوع وسار أبو النعمان لله سعيه ... إلى ابن إياس مصحرا لوقوع بخيل عليها يوم هيجا دروعها ... وأخرى حسورا غير ذات دروع فكر الخيول كرة ثقفتهمُ ... وشد بأولاها على ابن مطيع فولى بضرب يشدخ الهام وقعه ... وطعن غداة السكتين وجيع فحوصر في دار الإمارة بائيا ... بذل وإرغام له وخضوع فمن وزير ابن الوصي عليهم ... وكان لهم في الناس خير شفيع

وآب الهدى حقا الى مستقره ... خير إياب آبه ورجوع إلى الهاشمي المهتدي المهتدى به ... فنحن له من سامع ومطيع قال: فلما أنشدها المختار قال المختار لأصحابه: قد أثنى عليكم كما تسمعون، وقد أحسن الثناء عليكم، فأحسنوا له الجزاء ثم قام المختار، فدخل وقال لأصحابه: لا تبرحوا حتى أخرج إليكم، قال: وقال عبد الله ابن شداد الجشمى: يا بن همام: إن لك عندي فرسا ومطرفا، وقال قيس بن طهفة النهدي- وكانت عنده الرباب بنت الأشعث: فإن لك عندي 6 فرسا ومطرفا، واستحيا أن يعطيه صاحبه شيئا لا يعطي مثله، فقال ليزيد بن أنس: فما تعطيه؟ فقال يزيد: إن كان ثواب الله أراد بقوله فما عند الله خير له، وإن كان انما اعترى بهذا القول أموالنا، فو الله ما في أموالنا ما يسعه، قد كانت بقيت من عطائي بقية فقويت بها إخواني، فقال أحمر بن شميط مبادرا لهم قبل ان يكلموه: يا بن همام، إن كنت أردت بهذا القول وجه الله فاطلب ثوابك من الله، وإن كنت إنما اعتريت به رضا الناس وطلب أموالهم، فاكدم الجندل، فو الله ما من قال قولا لغير الله وفي غير ذات الله بأهل أن ينحل، ولا يوصل، فقال له: عضضت بأير أبيك! فرفع يزيد بن انس السوط وقال لابن همام: تقول هذا القول يا فاسق! وقال لابن شميط: اضربه بالسيف، فرفع ابن شميط عليه السيف ووثب ووثب أصحابهما يتفلتون على ابن همام وأخذ بيده إبراهيم بن الأشتر فألقاه وراءه، وقال: أنا له جار، لم تأتون إليه ما ارى! فو الله إنه لواصل الولاية، راض بما نحن عليه، حسن الثناء، فإن أنتم لم تكافئوه بحسن ثنائه، فلا تشتموا عرضه، ولا تسفكوا دمه ووثبت مذحج فحالت دونه، وقالوا: أجاره ابن الأشتر، لا والله لا يوصل إليه قال: وسمع لغطهم المختار، فخرج إليهم، وأومأ بيده إليهم، أن اجلسوا، فجلسوا، فقال لهم: إذا قيل لكم خير فاقبلوه، وإن قدرتم على مكافأة فافعلوا، وإن لم تقدروا

على مكافأة فتنصلوا، واتقوا لسان الشاعر، فإن شره حاضر، وقوله فاجر، وسعيه بائر، وهو بكم غدا غادر فقالوا: أفلا نقتله؟ قال: إنا قد آمناه وأجرناه، وقد أجاره أخوكم إبراهيم بن الأشتر، فجلس مع الناس قال: ثم إن إبراهيم قام فانصرف إلى منزله فأعطاه ألفا وفرسا ومطرفا فرجع بها وقال: لا والله، لا جاورت هؤلاء أبدا وأقبلت هوازن وغضبت واجتمعت في المسجد غضبا لابن همام، فبعث إليهم المختار فسألهم أن يصفحوا عما اجتمعوا له، ففعلوا، وقال ابن همام لابن الأشتر يمدحه: أطفأ عني نار كلبين ألبا ... علي الكلاب ذو الفعال ابن مالك فتى حين يلقى الخيل يفرق بينها ... بطعن دراك أو بضرب مواشك وقد غضبت لي من هوازن عصبه ... طوال الذرا فيها عراض المبارك إذا ابن شميط أو يزيد تعرضا ... لها وقعا في مستحار المهالك وثبتم علينا يا موالي طيئ ... مع ابن شميط شر ماش وراتك وأعظم ديّار على الله فرية ... وما مفتر طاغ كآخر ناسك فيا عجبا من أحمس ابنة أحمس ... توثب حولي بالقنا والنيازك كأنكم في العز قيس وخثعم ... وهل أنتمُ إلا لئام عوارك وأقبل عبد الله بن شداد من الغد فجلس في المسجد يقول: علينا توثب بنو أسد وأحمس! والله لا نرضى بهذا أبدا فبلغ ذلك المختار، فبعث إليه فدعاه، ودعا بيزيد بن أنس وبابن شميط، فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا بن شداد، إن الذي فعلت نزغة من نزغات الشيطان، فتب إلى الله، قال: قد تبت، وقال: إن هذين أخواك، فأقبل إليهما، واقبل منهما، وهب لي هذا الأمر، قال: فهو لك، وكان ابن همام قد قال قصيدة

ذكر الخبر عن امر المختار مع قتله الحسين بالكوفه

أخرى في أمر المختار، فقال: أضحت سليمى بعد طول عتاب ... وتجرم ونفاد غرب شباب قد ازمعت بصريمتى وتجنبى ... وتهوك مذ ذاك في إعتاب لما رأيت القصر أغلق بابه ... وتوكلت همدان بالأسباب ورأيت أصحاب الدقيق كأنهم ... حول البيوت ثعالب الأسراب ورأيت أبواب الأزقة حولنا ... دربت بكل هراوة وذباب أيقنت أن خيول شيعة راشد ... لم يبق منها فيش أير ذباب ذكر الخبر عن امر المختار مع قتله الحسين بالكوفه قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وثب المختار بمن كان بالكوفة من قتلة الحسين والمشايعين على قتله، فقتل من قدر عليه منهم، وهرب من الكوفة بعضهم، فلم يقدر عليه. ذكر الخبر عن سبب وثوبه بهم وتسمية من قتل منهم ومن هرب فلم يقدر عليه منهم: وكان سبب ذلك- فيما ذكره هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن عوانة بن الحكم- ان مروان بن الحكم لما استوسقت له الشام بالطاعة، بعث جيشين أحدهما إلى الحجاز عليه حبيش بن دلجة القيني- وقد ذكرنا أمره وخبر مهلكه قبل- والآخر منهما إلى العراق عليهم عبيد الله بن زياد- وقد ذكرنا ما كان من أمره وأمر التوابين من الشيعة بعين الوردة- وكان مروان جعل لعبيد الله بن زياد إذ وجهه إلى العراق ما غلب عليه، وأمره أن ينهب الكوفة إذا هو ظفر بأهلها ثلاثا. قال عوانة: فمر بأرض الجزيرة فاحتبس بها وبها قيس عيلان على

طاعة ابن الزبير، وقد كان مروان أصاب قيسا يوم مرج راهط وهم مع الضحاك بن قيس مخالفين على مروان، وعلى ابنه عبد الملك من بعده، فلم يزل عبيد الله مشتغلا بهم عن العراق نحوا من سنة ثم إنه أقبل إلى الموصل، فكتب عبد الرحمن بن سعيد بن قيس عامل المختار على الموصل إلى المختار: أما بعد، فإني أخبرك أيها الأمير أن عبيد الله بن زياد قد دخل أرض الموصل، وقد وجه قبلي خيله ورجاله، وإني انحزت إلى تكريت حتى يأتيني رأيك وأمرك، والسلام عليك. فكتب إليه المختار: أما بعد، فقد بلغني كتابك، وفهمت كل ما ذكرت فيه، فقد أصبت بانحيازك إلى تكريت، فلا تبرحن مكانك الذي أنت به حتى يأتيك أمري إن شاء الله، والسلام عليك. قال هشام، عن أبي مخنف: حدثني موسى بن عامر، أن كتاب عبد الرحمن بن سعيد لما ورد على المختار بعث إلى يزيد بن أنس فدعاه، فقال له: يا يزيد بن أنس، إن العالم ليس كالجاهل، وإن الحق ليس كالباطل، وإني أخبرك خبر من لم يكذب ولم يكذب، ولم يخالف ولم يرتب، وإنا المؤمنون الميامين، الغالبون المساليم، وإنك صاحب الخيل التي تجر جعابها، وتضفر أذنابها، حتى توردها منابت الزيتون، غائرة عيونها، لاحقة بطونها اخرج إلى الموصل حتى تنزل أدانيها، فإني ممدك بالرجال بعد الرجال فقال له يزيد بن أنس: سرح معي ثلاثة آلاف فارس 2 أنتخبهم، وخلني والفرج الذي توجهنا إليه، فإن احتجت إلى الرجال فسأكتب إليك، قال له المختار: فاخرج فانتخب على اسم الله من أحببت. فخرج فانتخب ثلاثة آلاف فارس، فجعل على ربع المدينة النعمان بن عوف بن أبي جابر الأزدي، وعلى ربع تميم وهمدان عاصم بن قيس بن حبيب الهمداني، وعلى مذحج وأسد ورقاء بن عازب الأسدي، وعلى ربع ربيعة وكندة سعر بن أبي سعر الحنفي. ثم إنه فصل من الكوفة، فخرج وخرج معه المختار والناس يشيعونه، فلما

بلغ دير أبي موسى ودعه المختار وانصرف، ثم قال له: إذا لقيت عدوك فلا تناظرهم، وإذا أمكنتك الفرصة فلا تؤخرها، وليكن خبرك في كل يوم عندي، وإن احتجت إلى مدد فاكتب إلي، مع أني ممدك ولو لم تستمدد، فإنه أشد لعضدك، وأعز لجندك، وأرعب لعدوك فقال له يزيد بن أنس: لا تمدني إلا بدعائك، فكفى به مددا وقال له الناس: صحبك الله وأداك وأيدك، وودعوه: فقال لهم يزيد: سلوا الله لي الشهادة، وايم الله لئن لقيتهم ففاتني النصر لا تفتني الشهادة إن شاء الله فكتب المختار إلى عبد الرحمن بن سعيد بن قيس: أما بعد، فخل بين يزيد وبين البلاد إن شاء الله، والسلام عليك فخرج يزيد بن أنس بالناس حتى بات بسورا، ثم غدا بهم سائرا حتى بات بهم بالمدائن، فشكا الناس إليه ما دخلهم من شدة السير عليهم، فأقام بها يوما وليلة ثم إنه اعترض بهم أرض جوخى حتى خرج بهم في الراذانات، حتى قطع بهم الى ارض الموصل، فنزلت ببنات تلي، وبلغ مكانه ومنزله الذي نزل به عبيد الله بن زياد، فسأل عن عدتهم، فأخبرته عيونه أنه خرج معه من الكوفة ثلاثة آلاف فارس، فقال عبيد الله: فأنا أبعث إلى كل ألف ألفين ودعا ربيعة بن المخارق الغنوي وعبد الله بن حمله الخثعمى، فبعثهما في ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف، وبعث ربيعة بن المخارق أولا، ثم مكث يوما، ثم بعث خلفه عبد الله بن حملة، ثم كتب إليهما: أيكما سبق فهو أمير على صاحبه، وإن انتهيتما جميعا فاكبر كما سنا أمير على صاحبه والجماعة قال: فسبق ربيعة بن المخارق فنزل بيزيد بن أنس وهو ببنات تلي، فخرج إليه يزيد بن أنس وهو مريض مضنى. قال أبو مخنف: فحدثني أبو الصلت، عن أبي سعيد الصيقل، قال: خرج علينا يزيد بن أنس وهو مريض على حمار يمشي معه الرجال يمسكونه عن يمينه وعن شماله، بفخذيه وعضديه وجنبيه، فجعل يقف على الأرباع:

ربع ربع ويقول: يا شرطة الله، اصبروا تؤجروا، وصابروا عدوكم تظفروا، وقاتلوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ، إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً، إن هلكت فأميركم ورقاء بن عازب الأسدي، فإن هلك فأميركم عبد الله بن ضمرة العذري، فإن هلك فأميركم سعر بن أبي سعر الحنفي قال: وأنا والله فيمن يمشي معه ويمسك بعضده ويده، وإني لأعرف في وجهه أن الموت قد نزل به قال: فجعل يزيد بن أنس عبد الله بن ضمرة العذري على ميمنته، وسعر بن أبي سعر على ميسرته، وجعل ورقاء بن عازب الأسدي على الخيل، ونزل هو فوضع بين الرجال على السرير، ثم قال لهم: ابرزوا لهم بالعراء، وقدموني في الرجال، ثم إن شئتم فقاتلوا عن أميركم، وإن شئتم ففروا عنه قال: فأخرجناه في ذي الحجة يوم عرفة سنة ست وستين، فأخذنا نمسك أحيانا بظهره فيقول: اصنعوا كذا، اصنعوا كذا، وافعلوا كذا، فيأمر بأمره، ثم لا يكون بأسرع من أن يغلبه الوجع فيوضع هنيهة ويقتتل الناس، وذلك عند شفق الصبح قبل شروق الشمس قال: فحملت ميسرتهم على ميمنتنا، فاشتد قتالهم، وتحمل ميسرتنا على ميمنتهم فتهزمها، ويحمل ورقاء بن عازب الأسدي في الخيل فهزمهم، فلم يرتفع الضحى حتى هزمناهم، وحوينا عسكرهم. قال أبو مخنف: وحدثني موسى بن عامر العدوي، قال: انتهينا الى ربيعه ابن المخارق صاحبهم، وقد انهزم عنه أصحابه وهو نازل ينادي: يا أولياء الحق، ويا أهل السمع والطاعة، إلي أنا ابن المخارق، قال موسى: فأما أنا فكنت غلاما حدثا، فهبته ووقفت، ويحمل عليه عبد الله بن ورقاء الأسدي وعبد الله بن ضمرة العذري، فقتلاه. قال أبو مخنف: وحدثني عمرو بن مالك أبو كبشة القيني، قال: كنت غلاما حين راهقت مع أحد عمومتي في ذلك العسكر، فلما نزلنا بعسكر الكوفيين عبأنا ربيعة بن المخارق فاحسن التعبئه، وجعل على ميمنته ابن

أخيه، وعلى ميسرته عبد ربه السلمي، وخرج هو في الخيل والرجال وقال: يا أهل الشام، إنكم إنما تقاتلون العبيد الأباق، وقوما قد تركوا الإسلام وخرجوا منه، ليست لهم تقيه، ولا ينطقون بالعربية، قال: فو الله إن كنت لأحسب أن ذلك كذلك حتى قاتلناهم، قال: فو الله ما هو إلا أن اقتتل الناس إذا رجل من أهل العراق يعترض الناس بسيفه وهو يقول: برئت من دين المحكمينا ... وذاك فينا شر دين دينا ثم إن قتالنا وقتالهم اشتد ساعة من النهار، ثم إنهم هزمونا حين ارتفع الضحى فقتلوا صاحبنا، وحووا عسكرنا، فخرجنا منهزمين حتى تلقانا عبد الله بن حملة على مسيرة ساعة من تلك القرية التي يقال لها بنات تلي، فردنا، فأقبلنا معه حتى نزل بيزيد بن أنس، فبتنا متحارسين حتى أصبحنا فصلينا الغداة، ثم خرجنا على تعبئه حسنة، فجعل على ميمنته الزبير بن خزيمة، من خثعم، وعلى ميسرته ابن أقيصر القحافي من خثعم، وتقدم في الخيل والرجال، وذلك يوم الأضحى، فاقتتلنا قتالا شديدا، ثم إنهم هزمونا هزيمة قبيحة، وقتلونا قتالا ذريعا، وحووا عسكرنا، وأقبلنا حتى انهينا إلى عبيد الله بن زياد فحدثناه بما لقينا. قال أبو مخنف: وحدثني موسى بن عامر، قال: أقبل إلينا عبد الله بن حملة الخثعمي، فاستقبل فل ربيعة بن المخارق الغنوي فردهم، ثم جاء حتى نزل ببنات تلي، فلما أصبح غادوا وغادينا، فتطاردت الخيلان من أول النهار، ثم انصرفوا وانصرفنا، حتى إذا صلينا الظهر خرجنا فاقتتلنا، ثم هزمناهم. قال: ونزل عبد الله بن حملة فأخذ ينادي أصحابه: الكرة بعد الفرة، يا أهل السمع والطاعة، فحمل عليه عبد الله بن قراد الخثعمي فقتله، وحوينا عسكرهم وما فيه، وأتي يزيد بن انس بثلاثمائة اسير وهو في السوق، فاخذ يومىء بيده أن اضربوا أعناقهم، فقتلوا من عند آخرهم. وقال يزيد بن أنس: إن هلكت فأميركم ورقاء بن عازب الأسدي، فما أمسى حتى مات، فصلى عليه ورقاء بن عازب ودفنه، فلما رأى ذلك أصحابه أسقط في أيديهم، وكسر موته قلوب أصحابه، وأخذوا في دفنه،

فقال لهم ورقاء: يا قوم، ماذا ترون؟ إنه قد بلغني أن عبيد الله بن زياد قد أقبل إلينا في ثمانين ألفا من أهل الشام، فأخذوا يتسللون ويرجعون ثم إن ورقاء دعا رءوس الأرباع وفرسان أصحابه فقال لهم: يا هؤلاء، ماذا ترون فيما أخبرتكم؟ إنما أنا رجل منكم، ولست بأفضلكم رأيا، فأشيروا علي، فإن ابن زياد قد جاءكم في جند أهل الشام الأعظم، وبجلتهم وفرسانهم وأشرافهم، ولا أرى لنا ولكم بهم طاقة على هذه الحال، وقد هلك يزيد بن أنس أميرنا، وتفرقت عنا طائفة منا، فلو انصرفنا اليوم من تلقاء أنفسنا قبل أن نلقاهم وقبل أن نبلغهم، فيعلموا أنا انما ردنا عنهم هلاك صاحبنا، فلا يزالوا لنا هائبين لقتلنا منهم أميرهم! ولأنا إنما نعتل لانصرافنا بموت صاحبنا وإنا إن لقيناهم اليوم كنا مخاطرين، فإن هزمنا اليوم لم تنفعنا هزيمتنا إياهم من قبل اليوم قالوا: فإنك نعما رأيت، انصرف رحمك الله فانصرف، فبلغ منصرفهم ذلك المختار وأهل الكوفة، فأرجف الناس، ولم يعلموا كيف كان الأمر أن يزيد بن أنس هلك، وأن الناس هزموا، فبعث إلى المختار عامله على المدائن عينا له من أنباط السواد فأخبره الخبر، فدعا المختار إبراهيم بن الأشتر فعقد له على سبعة آلاف رجل، ثم قال له: سر حتى إذا أنت لقيت جيش ابن أنس فارددهم معك، ثم سر حتى تلقى عدوك فتناجزهم فخرج إبراهيم فوضع عسكره بحمام أعين قال أبو مخنف: فحدثني أبو زهير النضر بن صالح، قال: لما مات يزيد أنس التقى أشراف الناس بالكوفة فأرجفوا بالمختار وقالوا: قتل يزيد بن أنس، ولم يصدقوا أنه مات، وأخذوا يقولون: والله لقد تأمر علينا هذا الرجل بغير رضا منا، ولقد أدنى موالينا، فحملهم على الدواب، وأعطاهم وأطعمهم فيئنا، ولقد عصتنا عبيدنا، فحرب بذلك أيتامنا وأراملنا فاتعدوا منزل شبث بن ربعي وقالوا: نجتمع في منزل شيخنا- وكان شبث جاهليا إسلاميا- فاجتمعوا فأتوا منزله، فصلى بأصحابه، ثم تذاكروا هذا النحو من الحديث قال: ولم يكن فيما أحدث المختار عليهم شيء هو أعظم من أن جعل للموالي

الفيء نصيبا- فقال لهم شبث: دعوني حتى ألقاه، فذهب فلقيه، فلم يدع شيئا مما أنكره أصحابه إلا وقد ذاكره إياه، فأخذ لا يذكر خصلة إلا قال له المختار: أرضيهم في هذه الخصلة، وآتي كل شيء أحبوا، قال: فذكر المماليك، قال: فأنا أرد عليهم عبيدهم، فذكر له الموالي، فقال: عمدت إلى موالينا، وهم فيء أفاءه الله علينا وهذه البلاد جميعا فأعتقنا رقابهم، نأمل الأجر في ذلك والثواب والشكر، فلم ترض لهم بذلك حتى جعلتهم شركاءنا في فيئنا، فقال لهم المختار: إن أنا تركت لكم مواليكم، وجعلت فيئكم فيكم، أتقاتلون معي بني أمية وابن الزبير، وتعطون على الوفاء بذلك عهد الله وميثاقه، وما أطمئن إليه من الإيمان؟ فقال شبث ما أدري حتى أخرج إلى أصحابي فأذاكرهم ذلك، فخرج فلم يرجع إلى المختار. قال: وأجمع رأي أشراف أهل الكوفة على قتال المختار. قال أبو مخنف: فحدثني قدامة بن حوشب، قال: جاء شبث ابن ربعي وشمر بن ذي الجوشن ومُحَمَّد بن الأشعث وعبد الرحمن بن سعيد بن قيس حتى دخلوا على كعب بن أبي كعب الخثعمي، فتكلم شبث، فحمد الله وأثنى عليه، ثم أخبره باجتماع رأيهم على قتال المختار، وسأله أن يجيبهم إلى ذلك، وقال فيما يعيب به المختار: إنه تأمر علينا بغير رضا منا، وزعم أن ابن الحنفية بعثه إلينا، وقد علمنا أن ابن الحنفية لم يفعل، واطعم موالينا فيئنا، وأخذ عبيدنا، فحرب بهم يتامانا وأراملنا، وأظهر هو وسبئيته البراءة من أسلافنا الصالحين قال: فرحب بهم كعب بن أبي كعب، وأجابهم إلى ما دعوه إليه. قال أبو مخنف: حدثني أبي يحيى بن سعيد أن أشراف أهل الكوفة قد كانوا دخلوا على عبد الرحمن بن مخنف، فدعوه إلى أن يجيبهم إلى قتال المختار، فقال لهم: يا هؤلاء، إنكم إن أبيتم إلا أن تخرجوا لم أخذ لكم، وإن أنتم أطعتموني لم تخرجوا فقالوا: لم؟ قال: لأني أخاف أن تتفرقوا وتختلفوا وتتخاذلوا، ومع الرجل والله شجعاؤكم وفرسانكم من أنفسكم، اليس

معه فلان وفلان! ثم معه عبيد كم ومواليكم، وكلمة هؤلاء واحدة، وعبيدكم ومواليكم أشد حنقا عليكم من عدوكم، فهو مقاتلكم بشجاعة العرب، وعداوة العجم، وإن انتظرتموه قليلا كفيتموه بقدوم أهل الشام أو بمجيء، أهل البصرة، فتكونوا قد كفيتموه بغيركم، ولم تجعلوا بأسكم بينكم، قالوا: ننشدك الله أن تخالفنا، وأن تفسد علينا رأينا وما قد اجتمعت عليه جماعتنا قال: فأنا رجل منكم، فإذا شئتم فاخرجوا، فسار بعضهم إلى بعض وقالوا: انتظروا حتى يذهب عنه إبراهيم بن الأشتر، قال: فأمهلوا حتى إذا بلغ ابن الأشتر ساباط، وثبوا بالمختار قال: فخرج عبد الرحمن ابن سعيد بن قيس الهمداني في همدان في جبانة السبيع، وخرج زحر بن قيس الجعفي وإسحاق بن مُحَمَّد بن الأشعث في جبانة كندة. قال هشام: فحدثني سُلَيْمَان بن مُحَمَّد الحضرمي، قال: خرج إليهما جبير الحضرمي فقال لهما: اخرجا عن جبانتنا، فإنا نكره أن نعرى بشر، فقال له إسحاق بن مُحَمَّد: وجبانتكم هي؟ قال: نعم، فانصرفوا عنه، وخرج كعب بن أبي كعب الخثعمي في جبانة بشر، وسار بشير بن جرير بن عبد الله إليهم في بجيلة، وخرج عبد الرحمن بن مخنف في جبانة مخنف، وسار إسحاق بن مُحَمَّد وزحر بن قيس إلى عبد الرحمن ابن سعيد بن قيس بجبانة السبيع، وسارت بجيلة وخثعم الى عبد الرحمن ابن مخنف وهو بالأزد وبلغ الذين في جبانة السبيع ان المختار قد عبا لهم خيلا ليسير اليهم فبعثوا الرسل يتلو بعضها بعضا إلى الأزد وبجيلة وخثعم، يسألونهم بالله والرحم لما عجلوا إليهم فساروا إليهم واجتمعوا جميعا في جبانة السبيع، ولما أن بلغ ذلك المختار سره اجتماعهم في مكان واحد، وخرج شمر بن ذي الجوشن حتى نزل بجبانة بني سلول في قيس، ونزل شبث بن ربعي وحسان بن فائد العبسي وربيعة بن ثروان الضبي في مضر بالكناسة، ونزل حجار بن أبحر ويزيد بن الحارث بن رؤيم في ربيعة فيما بين التمارين والسبخة، ونزل عمرو بن الحجاج الزبيدي في جبانة مراد بمن تبعه من مذحج، فبعث إليه أهل اليمن أن ائتنا، فأبى أن يأتيهم

وقال لهم: وجدوا، فكأني قد أتيتكم قال: وبعث المختار رسولا من يومه يقال له عمرو بن توبة بالركض إلى إبراهيم بن الأشتر وهو بساباط الا تضع كتابي من يدك حتى تقبل بجميع من معك إلي قال: وبعث إليهم المختار في ذلك اليوم: أخبروني ما تريدون؟ فإني صانع كل ما أحببتم، فقالوا: فإنا نريد أن تعتزلنا، فإنك زعمت أن ابن الحنفية بعثك ولم يبعثك. فأرسل إليهم المختار أن ابعثوا إليه من قبلكم وفدا، وابعث إليه من قبلي وفدا، ثم انظروا في ذلك حتى تتبينوه، وهو يريد ان يريثهم بهذه المقالة ليقدم عليه إبراهيم بن الأشتر، وقد أمر أصحابه فكفوا أيديهم، وقد أخذ أهل الكوفة عليهم بأفواه السكك، فليس شيء يصل إلى المختار ولا إلى أصحابه من الماء إلا القليل الوتح، يجيئهم إذا غفلوا عنه قال: وخرج عبد الله بن سبيع في الميدان، فقاتله شاكر قتالا شديدا، فجاءه عقبة بن طارق الجشمي فقاتل معه ساعة حتى رد عاديتهم عنه، ثم أقبلا على حاميتهما يسيران حتى نزل عقبة بن طارق مع قيس في جبانة بني سلول، وجاء عبد الله بن سبيع حتى نزل مع أهل اليمن في جبانة السبيع. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي يونس بن أبي إسحاق، أن شمر بن ذي الجوشن أتى أهل اليمن فقال لهم: إن اجتمعتم في مكان نجعل فيه مجنبتين ونقاتل من وجه واحد فأنا صاحبكم، وإلا فلا، والله لا أقاتل في مثل هذا المكان في سكك ضيقة، ونقاتل من غير وجه فانصرف إلى جماعة قومه في جبانة بني سلول قال: ولما خرج رسول المختار إلى ابن الأشتر بلغه من يومه عشية، فنادى في الناس: أن ارجعوا إلى الكوفة، فسار بقية عشيته تلك، ثم نزل حين أمسى، فتعشى أصحابه، وأراحوا الدواب شيئا كلا شيء، ثم نادى في الناس، فسار ليلته كلها، ثم صلى الغداة بسورا، ثم سار من يومه فصلى العصر على باب الجسر من الغد، ثم إنه جاء حتى بات ليلته في المسجد ومعه من أصحابه أهل القوة والجلد، حتى إذا كان صبيحة اليوم الثالث من مخرجهم على المختار، خرج المختار إلى

المنبر فصعده. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي أَبُو جناب الكلبي أن شبث بن ربعي بعث اليه ابنه عبد المؤمن فقال: إنما نحن عشيرتك، وكف يمينك، لا والله لا نقاتلك، فثق بذلك منا، وكان رأيه قتاله، ولكنه كاده ولما أن اجتمع أهل اليمن بجبانة السبيع حضرت الصلاة، فكره كل رأس من رءوس أهل اليمن أن يتقدمه صاحبه، فقال لهم عبد الرحمن بن مخنف: هذا أول الاختلاف، قدموا الرضا فيكم، فإن في عشيرتكم سيد قراء أهل المصر، فليصل بكم رفاعة بن شداد الفتياني من بجيلة، ففعلوا، فلم يزل يصلي بهم حتى كانت الوقعة قال أبو مخنف: وحدثني وازع بن السري أن أنس بن عمرو الأزدي انطلق فدخل في أهل اليمن، وسمعهم وهم يقولون: إن سار المختار إلى إخواننا من مضر سرنا إليهم، وإن سار إلينا ساروا إلينا، فسمعها منهم رجل، وأقبل جوادا حتى صعد إلى المختار على المنبر، فأخبره بمقالتهم، فقال: أما هم فخلقاء لو سرت إلى مضر أن يسيروا إليهم، وأما أهل اليمن فأشهد لئن سرت إليهم لا تسير إليهم مضر، فكان بعد ذلك يدعو ذلك الرجل ويكرمه ثم ان المختار نزل فعبا أصحابه في السوق- والسوق إذ ذاك ليس فيها هذا البناء- فقال لإبراهيم بن الأشتر: إلى أي الفريقين أحب إليك أن تسير؟ فقال: إلى أي الفريقين أحببت، فنظر المختار- وكان ذا رأي، فكره أن يسير إلى قومه فلا يبالغ في قتالهم- فقال: سر إلى مضر بالكناسة وعليهم شبث بن ربعي ومُحَمَّد بن عمير بن عطارد، وأنا أسير إلى أهل اليمن. قال: ولم يزل المختار يعرف بشدة النفس، وقلة البقيا على أهل اليمن وغيرهم إذا ظفر، فسار إبراهيم بن الأشتر إلى الكناسة، وسار المختار إلى جبانة السبيع، فوقف المختار عند دار عمر بن سعد بن أبي وقاص، وسرح بين أيديه أحمر بن شميط البجلي ثم الأحمسي، وسرح عبد الله بن كامل الشاكري، وقال لابن شميط: الزم هذه السكة حتى تخرج إلى اهل

جبانة السبيع من بين دور قومك وقال لعبد الله بن كامل: الزم هذه السكة حتى تخرج على جبانة السبيع من دار آل الأخنس بن شريق، ودعاهما فأسر إليهما أن شباما قد بعثت تخبرني أنهم قد أتوا القوم من ورائهم، فمضيا فسلكا الطريقين اللذين أمرهما بهما، وبلغ أهل اليمن مسير هذين الرجلين إليهم، فاقتسموا تينك السكتين، فأما السكة التي في دبر مسجد أحمس فإنه وقف فيها عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني وإسحاق بن الأشعث وزحر بن قيس، وأما السكة التي تلي الفرات فإنه وقف فيها عبد الرحمن بن مخنف، وبشير بن جرير بن عبد الله، وكعب بن أبي كعب ثم إن القوم اقتتلوا كأشد قتال اقتتله قوم ثم إن أصحاب أحمر بن شميط انكشفوا وأصحاب عبد الله بن كامل أيضا، فلم يرع المختار إلا وقد جاءه الفل قد أقبل، فقال: ما وراءكم؟ قالوا: هزمنا، قال: فما فعل أحمر بن شميط؟ قالوا: تركناه قد نزل عند مسجد القصاص- يعنون مسجد أبي داود في وادعة، وكان يعتاده رجال أهل ذلك الزمان يقصون فيه، وقد نزل معه أناس من أصحابه- وقال أصحاب عبد الله: ما ندري ما فعل ابن كامل! فصاح بهم: أن انصرفوا ثم أقبل بهم حتى انتهى إلى دار أبي عبد الله الجدلي، وبعث عبد الله بن قراد الخثعمى- وكان على أربعمائة رجل من أصحابه- فقال: سر في أصحابك إلى ابن كامل، فإن يك هلك فأنت مكانه، فقاتل القوم بأصحابك وأصحابه، وإن تجده حيا صالحا فسر في مائة من أصحابك كلهم فارس، وادفع إليه بقية أصحابك، ومر بالجد معه والمناصحة له، فإنهم إنما يناصحونني، ومن ناصحني فليبشر، ثم امض في المائة حتى تأتي أهل جبانة السبيع مما يلي حمام قطن ابن عبد الله فمضى فوجد ابن كامل واقفا عند حمام عمرو بن حريث

معه أناس من أصحابه قد صبروا، وهو يقاتل القوم، فدفع اليه ثلاثمائة من أصحابه ثم مضى حتى نزل إلى جبانة السبيع. ثم أخذ في تلك السكك حتى انتهى إلى مسجد عبد القيس، فوقف عنده، وقال لأصحابه: ما ترون؟ قالوا: أمرنا لأمرك تبع وكل من كان معه من حاشد من قومه وهم مائة، فقال لهم: والله انى لاحب ان يظهر المختار، وو الله إني لكاره أن يهلك أشراف عشيرتي اليوم، وو الله لأن أموت أحب إلي من أن يحل بهم الهلاك على يدي، ولكن قفوا قليلا فإني قد سمعت شباما يزعمون أنهم سيأتونهم من ورائهم، فلعل شباما تكون هي تفعل ذلك، ونعافى نحن منه قال له أصحابه: فرأيك فثبت كما هو عند مسجد عبد القيس وبعث المختار مالك بن عمرو النهدي في مائتي رجل- وكان من أشد الناس بأسا- وبعث عبد الله بن شريك النهدي في مائتي فارس إلى أحمر بن شميط، وثبت مكانه، فانتهوا إليه وقد علاه القوم وكثروه، فاقتتلوا عند ذلك كأشد القتال، ومضى ابن الأشتر حتى لقي شبث بن ربعي وأنا سامعه من مضر كثيرا، وفيهم حسان بن فائد العبسي، فقال لهم إبراهيم: ويحكم! انصرفوا، فو الله ما أحب أن يصاب أحد من مضر على يدي، فلا تهلكوا أنفسكم، فأبوا، فقاتلوه فهزمهم، واحتمل حسان بن فائد إلى أهله، فمات حين أدخل إليهم، وقد كان وهو على فراشه قبل موته أفاق إفاقة فقال: أما والله ما كنت أحب أن أعيش من جراحتي هذه، وما كنت أحب أن تكون منيتي إلا بطعنة رمح، أو بضربة بالسيف، فلم يتكلم بعدها كلمة حتى مات وجاءت البشرى إلى المختار من قبل إبراهيم بهزيمة مضر، فبعث المختار البشرى من قبله إلى أحمر بن شميط وإلى ابن كامل، فالناس على أحوالهم كل أهل سكة منهم قد أغنت ما يليها. قال: فاجتمعت شبام وقد رأسوا عليهم أبا القلوص، وقد أجمعوا

واجتمعوا بأن يأتوا أهل اليمن من ورائهم، فقال بعضهم لبعض: أما والله لو جعلتم جدكم هذا على من خالفكم من غيركم لكان أصوب، فسيروا إلى مضر أو إلى ربيعة فقاتلوهم- وشيخهم أبو القلوص ساكت لا يتكلم- فقالوا: يا أبا القلوص، ما رأيك؟ فقال: قال الله جل ثناؤه: «قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً» قوموا، فقاموا، فمشى بهم قيس رمحين أو ثلاثة ثم قال لهم: اجلسوا فجلسوا، ثم مشى بهم أنفس من ذلك شيئا، ثم قعد بهم، ثم قال لهم: قوموا، ثم مشى بهم الثالثة أنفس من ذلك شيئا، ثم قعد بهم، فقالوا له: يا أبا القلوص، والله إنك عندنا لأشجع العرب، فما يحملك على الذي تصنع! قال: إن المجرب ليس كمن لم يجرب، إني أردت أن ترجع إليكم أفئدتكم، وأن توطنوا على القتال أنفسكم، وكرهت أن أقحمكم على القتال وأنتم على حال دهش، قالوا: أنت أبصر بما صنعت فلما خرجوا إلى جبانة السبيع استقبلهم على فم السكة الأعسر الشاكري، فحمل عليه الجندعي وأبو الزبير بن كريب فصرعاه، ودخلا الجبانة، ودخل الناس الجبانة في آثارهم، وهم ينادون: يا لثارات الحسين! فأجابهم أصحاب ابن شميط يا لثارات الحسين! فسمعها يزيد بن عمير بن ذي مران من همدان فقال: يا لثارات عثمان! فقال لهم رفاعة بن شداد: ما لنا ولعثمان! لا أقاتل مع قوم يبغون دم عثمان، فقال له أناس من قومه: جئت بنا وأطعناك، حتى إذا رأينا قومنا تأخذهم السيوف قلت: انصرفوا ودعوهم! فعطف عليهم وهو يقول: أنا ابن شداد على دين علي ... لست لعثمان بن أروى بولي لأصلين اليوم فيمن يصطلي ... بحر نار الحرب غير مؤتل فقاتل حتى قتل، وقتل يزيد بن عمير بن ذي مران، وقتل النعمان ابن صهبان الجرمي ثم الراسبي- وكان ناسكا- ورفاعة بن شداد بن عوسجة

الفتياني عند حمام المهبذان الذي بالسبخة- وكان ناسكا- وقتل الفرات ابن زحر بن قيس الجعفي، وارتث زحر بن قيس، وقتل عبد الرحمن ابن سعيد بن قيس، وقتل عمر بن مخنف، وقاتل عبد الرحمن بن مخنف حتى ارتث، وحملته الرجال على أيديها وما يشعر، وقاتل حوله رجال من الأزد، فقال حميد بن مسلم: لأضربن عن أبي حكيم ... مفارق الأعبد والصميم وقال سراقة بن مرداس البارقي: يا نفس إلا تصبري تليمي ... لا تتولي عن ابى حكيم واستخرج من دور الوادعيين خمسمائة أسير، فأتي بهم المختار مكتفين، فأخذ رجل من بني نهد وهو من رؤساء أصحاب المختار يقال له: عبد الله ابن شريك، لا يخلو بعربي إلا خلى سبيله، فرفع ذلك إلى المختار درهم مولى لبني نهد، فقال له المختار: اعرضوهم علي، وانظروا كل من شهد منهم قتل الحسين فأعلموني به، فأخذوا لا يمر عليه برجل قد شهد قتل الحسين إلا قيل له: هذا ممن شهد قتله، فيقدمه فيضرب عنقه، حتى قتل منهم قبل أن يخرج مائتين وثمانية وأربعين قتيلا، وأخذ أصحابه كلما رأوا رجلا قد كان يؤذيهم او يماريهم او يضربهم خلوا به فقتلوه حتى قتل ناس كثير منهم وما يشعر بهم المختار، فأخبر بذلك المختار بعد، فدعا بمن بقي من الأسارى فأعتقهم، وأخذ عليهم المواثيق الا يجامعوا عليه عدوا، ولا يبغوه ولا أصحابه غائلة، إلا سراقة بن مرداس البارقي، فإنه أمر به أن يساق معه إلى المسجد قال: ونادى منادي المختار: إنه من أغلق بابه فهو آمن، إلا رجلا شرك في دم آل محمد ص

قال أبو مخنف: حدثني المجالد بن سعيد، عن عامر الشعبى، ان يزيد ابن الحارث بن يزيد بن رؤيم وحجار بن أبجر بعثا رسلا لهما، فقالا لهم: كونوا من أهل اليمن قريبا، فإن رأيتموهم قد ظهروا فأيكم سبق إلينا فليقل صرفان، وإن كانوا هزموا فليقل جمزان، فلما هزم أهل اليمن أتتهم رسلهم، فقال لهم أول من انتهى إليهم: جمزان، فقام الرجلان فقالا لقومهما: انصرفوا إلى بيوتكم، فانصرفوا، وخرج عمرو بن الحجاج الزبيدي- وكان ممن شهد قتل الحسين- فركب راحلته، ثم ذهب عليها، فأخذ طريق شراف وواقصة، فلم ير حتى الساعة، ولا يدرى أرض بخسته، أم سماء حصبته! وأما فرات بن زحر بن قيس فإنه لما قتل بعثت عائشة بنت خليفة بن عبد الله الجعفية- وكانت امرأة الحسين بن علي- إلى المختار تسأله أن يأذن لها أن تواري جسده، ففعل، فدفنته. وبعث المختار غلاما له يدعى زربيا في طلب شمر بن ذي الجوشن. قال أبو مخنف: فحدثني يونس بن أبي إسحاق، عن مسلم بن عبد الله الضبابي، قال: تبعنا زربي غلام المختار، فلحقنا وقد خرجنا من الكوفة على خيول لنا ضمر، فأقبل يتمطر به فرسه، فلما دنا منا قال لنا شمر: اركضوا وتباعدوا عني لعل العبد يطمع في، قال: فركضنا، فأمعنا، وطمع العبد في شمر، وأخذ شمر ما يستطرد له، حتى إذا انقطع من أصحابه حمل عليه شمر فدق ظهره، وأتى المختار فأخبر بذلك، فقال: بؤسا لزربي، أما لو يستشيرني ما أمرته أن يخرج لأبي السابغة. قال أبو مخنف: حدثني أبو مُحَمَّد الهمداني، عن مسلم بن عبد الله الضبابي، قال: لما خرج شمر بن ذي الجوشن وأنا معه حين هزمنا المختار، وقتل أهل اليمن بجبانة السبيع، ووجه غلامه زربيا في طلب شمر، وكان من قتل شمر إياه ما كان، مضى شمر حتى ينزل ساتيدما، ثم مضى حتى ينزل إلى جانب قرية يقال لها الكلتانية على شاطئ نهر، إلى جانب تل،

ثم أرسل إلى تلك القرية فأخذ منها علجا فضربه، ثم قال: النجاء بكتابي هذا إلى المصعب بن الزبير وكتب عنوانه: للأمير المصعب بن الزبير من شمر بن ذي الجوشن قال: فمضى العلج حتى يدخل قرية فيها بيوت، وفيها أبو عمرة، وقد كان المختار بعثه في تلك الأيام إلى تلك القرية لتكون مسلحة فيما بينه وبين أهل البصرة، فلقي ذلك العلج علجا من تلك القرية، فأقبل يشكو إليه ما لقي من شمر، فإنه لقائم معه يكلمه إذ مر به رجل من أصحاب أبي عمرة، فرأى الكتاب مع العلج، وعنوانه: لمصعب من شمر، فسألوا العلج عن مكانه الذي هو به، فأخبرهم، فإذا ليس بينهم وبينه إلا ثلاثة فراسخ قال: فأقبلوا يسيرون إليه. قال أبو مخنف: فحدثني مسلم بن عبد الله، قال: وأنا والله مع شمر تلك الليلة، فقلنا: لو أنك ارتحلت بنا من هذا المكان فإنا نتخوف به! فقال: أو كل هذا فرقا من الكذاب! والله لا أتحول منه ثلاثة أيام، ملأ الله قلوبكم رعبا! قال: وكان بذلك المكان الذي كنا فيه دبى كثير، فو الله إني لبين اليقظان والنائم، إذ سمعت وقع حوافر الخيل، فقلت في نفسي: هذا صوت الدبى، ثم إني سمعته أشد من ذلك، فانتبهت ومسحت عيني، وقلت: لا والله، ما هذا بالدبي قال: وذهبت لأقوم، فإذا أنا بهم قد أشرفوا علينا من التل، فكبروا، ثم أحاطوا بأبياتنا، وخرجنا نشتد على أرجلنا، وتركنا خيلنا قال: فأمر على شمر، وإنه لمتزر ببرد محقق- وكان أبرص- فكأني أنظر إلى بياض كشحيه من فوق البرد، فإنه ليطاعنهم بالرمح، قد أعجلوه أن يلبس سلاحه وثيابه، فمضينا وتركناه قال: فما هو إلا أن أمعنت ساعة، إذ سمعت: الله أكبر، قتل الله الخبيث! قال أبو مخنف: حدثني المشرقي، عن عبد الرحمن بن عبيد أبي الكنود، قال: أنا والله صاحب الكتاب الذي رأيته مع العلج، وأتيت به أبا عمرة وأنا قتلت شمرا، قال: قلت: هل سمعته يقول شيئا ليلتئذ؟ قال: نعم،

خرج علينا فطاعننا برمحه ساعة، ثم ألقى رمحه، ثم دخل بيته فأخذ سيفه، ثم خرج علينا وهو يقول: نبهتمُ ليث عرين ... جهما محياه يدق الكاهلا لم ير يوما عن عدو ناكلا ... إلا كذا مقاتلا أو قاتلا يبرحهم ضربا ويروي العاملا. قال أبو مخنف، عن يونس بن أبي إسحاق: ولما خرج المختار من جبانة السبيع، وأقبل إلى القصر، أخذ سراقة بن مرداس يناديه بأعلى صوته: امنن علي اليوم يا خير معد ... وخير من حل بشحر والجند وخير من حيا ولبى وسجد. فبعث به المختار إلى السجن، فحبسه ليلة، ثم أرسل إليه من الغد فأخرجه، فدعا سراقة، فأقبل إلى المختار وهو يقول: ألا أبلغ أبا إسحاق أنا ... نزونا نزوة كانت علينا خرجنا لا نرى الضعفاء شيئا ... وكان خروجنا بطرا وحينا نراهم في مصافهم قليلا ... هم مثل الدبى حين التقينا برزنا إذ رأيناهم فلما ... رأينا القوم قد برزوا إلينا لقينا منهمُ ضربا طلحفا ... وطعنا صائبا حتى انثنينا نصرت على عدوك كل يوم ... بكل كتيبة تنعى حسينا كنصر مُحَمَّد في يوم بدر ... ويوم الشعب إذ لاقى حنينا فأسجح إذ ملكت فلو ملكنا ... لجرنا في الحكومة واعتدينا تقبل توبة مني فإني ... سأشكر إن جعلت النقد دينا

قال: فلما انتهى إلى المختار، قال له: اصلحك الله ايها الأمير! سراقه ابن مرداس يحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد رأى الملائكة تقاتل على الخيول البلق بين السماء والأرض، فقال له المختار: فاصعد المنبر فأعلم ذلك المسلمين، فصعد فأخبرهم بذلك ثم نزل، فخلا به المختار، فقال: إني قد علمت أنك لم تر الملائكة، وانما اردت ما قد عرفت الا أقتلك، 2 فاذهب عني حيث أحببت، لا تفسد علي أصحابي. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي الحجاج بن علي البارقي عن سراقة بن مرداس، قال: ما كنت في أيمان حلفت بها قط أشد اجتهادا ولا مبالغة في الكذب مني في أيماني هذه التي حلفت لهم بها أني قد رأيت الملائكة معهم تقاتل فخلوا سبيله فهرب، فلحق بعبد الرحمن بن مخنف عند المصعب بن الزبير بالبصرة، وخرج أشراف أهل الكوفة والوجوه فلحقوا بمصعب بن الزبير بالبصرة، وخرج سراقة بن مرداس من الكوفة وهو يقول: ألا أبلغ أبا إسحاق أني ... رأيت البلق دهما مصمتات كفرت بوحيكم وجعلت نذرا ... علي قتالكم حتى الممات أري عيني ما لم تبصراه ... كلانا عالم بالترهات إذا قالوا أقول لهم كذبتم ... وإن خرجوا لبست لهم أداتي حدثني أبو السائب سلم بن جنادة، قال: حدثنا مُحَمَّد بن براد، من ولد أبي موسى الأشعري، عن شيخ، قال: لما أسر سراقة البارقي، قال: وأنتم أسرتموني! ما أسرني إلا قوم على دواب بلق، عليهم ثياب بيض قال: فقال المختار: أولئك الملائكة، فأطلقه، فقال: ألا أبلغ أبا إسحاق أني ... رأيت البلق دهما مصمتات أري عيني ما لم ترأياه ... كلانا عالم بالترهات

قال أبو مخنف: حدثني عمير بن زياد أن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني قال يوم جبانة السبيع: ويحكم! من هؤلاء الذين أتونا من ورائنا؟ قيل له: شبام، فقال: يا عجبا! يقاتلني بقومي من لا قوم له. قال أبو مخنف: وحدثني أبو روق أن شرحبيل بن ذي بقلان من الناعطيين قتل يومئذ، وكان من بيوتات همدان، فقال يومئذ قبل أن يقتل: يا لها قتلة، ما أضل مقتولها! قتال مع غير إمام، وقتال على غير نية، وتعجيل فراق الأحبة، ولو قتلناهم إذا لم نسلم منهم، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! أما والله ما خرجت الا مواسيا لقومي بنفسي مخافة أن يضطهدوا، وايم الله ما نجوت من ذلك ولا أنجوا، ولا أغنيت عنهم ولا أغنوا قال: ويرميه رجل من الفائشيين من همدان يقال له أحمر بن هديج بسهم فيقتله. قال: واختصم في عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني نفر ثلاثة: سعر ابن أبي سعر الحنفي، وأبو الزبير الشبامي: ورجل آخر، فقال سعر: طعنته طعنة، وقال أبو الزبير: لكن ضربته أنا عشر ضربات أو أكثر، وقال لي ابنه: يا أبا الزبير، أتقتل عبد الرحمن بن سعيد سيد قومك! فقلت: «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ. » فقال المختار: كلكم محسن وانجلت الوقعة عن سبعمائة وثمانين قتيلا من قومه. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي النضر بن صالح أن القتل إذ ذاك كان استحر في أهل اليمن، وأن مضر أصيب منهم بالكناسة بضعة عشر رجلا، ثم مضوا حتى مروا بربيعة، فرجع حجار بن أبجر، ويزيد بن الحارث بن رؤيم وشداد بن المنذر- أخو حضين- وعكرمة بن ربعي، فانصرف جميع هؤلاء إلى رحالهم، وعطف عليهم عكرمة فقاتلهم قتالا شديدا، ثم انصرف عنهم وقد خرج، فجاء حتى دخل منزله، فقيل له: قد مرت خيل في

ناحية الحي، فخرج فأراد أن يثب من حائط داره إلى دار أخرى إلى جانبه فلم يستطع حتى حمله غلام له وكانت وقعة جبانة السبيع يوم الأربعاء لست ليال بقين من ذي الحجة سنة ست وستين. قال: وخرج أشراف الناس فلحقوا بالبصرة، وتجرد المختار لقتلة الحسين فقال: ما من ديننا ترك قوم قتلوا الحسين يمشون أحياء في الدنيا آمنين، بئس ناصر آل مُحَمَّد أنا إذا في الدنيا! أنا إذا الكذاب كما سموني، فانى بالله استعين عليهم، الحمد الله الذي جعلني سيفا ضربهم به، ورمحا طعنهم به، وطالب وترهم، والقائم بحقهم، إنه كان حقا على الله أن يقتل من قتلهم، وأن يذل من جهل حقهم، فسموهم لي ثم اتبعوهم حتى تفنوهم. قال أبو مخنف: فحدثني موسى بن عامر أن المختار قال لهم: اطلبوا لي قتلة الحسين، فإنه لا يسوغ لي الطعام والشراب حتى أطهر الأرض منهم، وانفى المصر منهم قال أبو مخنف: وحدثني مالك بن أعين الجهني أن عبد الله بن دباس، وهو الذي قتل محمد بن عمار بن ياسر الذي قال الشاعر: قتيل ابن دباس أصاب قذاله. هو الذي دل المختار على نفر ممن قتل الحسين، منهم عبد الله بن أسيد بن النزال الجهني من حرقة، ومالك بن النسير البدي، وحمل بن مالك المحاربى، فبعث اليهم المختار أبا نمران مالك بن عمرو النهدي- وكان من رؤساء أصحاب المختار- فأتاهم وهم بالقادسية، فأخذهم فأقبل بهم حتى أدخلهم عليه عشاء، فقال لهم المختار: يا أعداء الله وأعداء كتابه وأعداء رسوله وآل رسوله، أين الحسين بن علي؟ أدوا إلي الحسين، قتلتم من أمرتم بالصلاة عليه في الصلاة، فقالوا: رحمك الله! بعثنا ونحن كارهون، فامنن علينا واستبقنا، قال المختار: فهلا مننتم على الحسين ابن بنت

نبيكم واستبقيتموه وسقيتموه! ثم قال المختار للبدِّي: أنت صاحب برنسه؟ فقال له عبد الله بن كامل: نعم، هو هو، فقال المختار، اقطعوا يدي هذا ورجليه، ودعوه فليضطرب حتى يموت، ففعل ذلك به وترك، فلم يزل ينزف الدم حتى مات، وأمر بالآخرين فقدما، فقتل عبد الله بن كامل عبد الله الجهني، وقتل سعر بن أبي سعر حمل بن مالك المحاربي. قال أبو مخنف: وحدثني أبو الصلت التيمي، قال: حدثني أبو سعيد الصيقل أن المختار دل على رجال من قتلة الحسين، دله عليهم سعر الحنفي، قال: فبعث المختار عبد الله بن كامل، فخرجنا معه حتى مر ببني ضبيعة، فأخذ منهم رجلا يقال له زياد بن مالك، قال: ثم مضى إلى عنزة فأخذ منهم رجلا يقال له عمران بن خالد قال: ثم بعثني في رجال معه يقال لهم الدبابة إلى دار في الحمراء، فيها عبد الرحمن بن أبي خشكارة البجلي وعبد الله بن قيس الخولاني، فجئنا بهم حتى أدخلناهم عليه، فقال لهم: يا قتلة الصالحين، وقتلة سيد شباب أهل الجنة، ألا ترون الله قد أقاد منكم اليوم! لقد جاءكم الورس، بيوم نحس- وكانوا قد أصابوا من الورس الذي كان مع الحسين- أخرجوهم إلى السوق فضربوا رقابهم ففعل ذلك بهم، فهؤلاء أربعة نفر. قال أبو مخنف: وحدثني سُلَيْمَان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قال: جاءنا السائب بن مالك الأشعري في خيل المختار، فخرجت نحو عبد القيس، وخرج عبد الله وعبد الرحمن ابنا صلخب في أثري، وشغلوا بالاحتباس عليهما عني، فنجوت وأخذوهما، ثم مضوا بهما حتى مروا على منزل رجل يقال له عبد الله بن وهب بن عمرو ابن عم أعشى همدان من بني عبد، فأخذوه، فانتهوا بهم إلى المختار، فأمر بهم فقتلوا في السوق، فهؤلاء ثلاثة فقال حميد بن مسلم في ذلك حيث نجا منهم: ألم ترني على دهش نجوت ولم أكد انجو

رجاء الله أنقذني ولم أك غيره أرجو قال أبو مخنف: حدثني موسى بن عامر العدوي من جهينة- وقد عرف ذلك الحديث شهم بن عبد الرحمن الجهني- قال: بعث المختار عبد الله ابن كامل إلى عثمان بن خالد بن أسير الدهماني من جهينة، وإلى أبي أسماء بشر بن سوط القابضي- وكانا ممن شهدا قتل الحسين، وكانا اشتركا في دم عبد الرَّحْمَن بن عقيل بن أبي طالب وفي سلبه- فأحاط عبد الله بن كامل عند العصر بمسجد بني دهمان، ثم قال: علي مثل خطايا بني دهمان منذ يوم خلقوا إلى يوم يبعثون إن لم أوت بعثمان بن خالد بن أسير، إن لم أضرب أعناقكم من عند آخركم فقلنا له: أمهلنا نطلبه، فخرجوا مع الخيل في طلبه، فوجدوهما جالسين في الجبانة- وكانا يريدان أن يخرجا إلى الجزيرة- فأتى بهما عبد الله بن كامل، فقال: الحمد لله الذي كفى المؤمنين القتال، لو لم يجدوا هذا مع هذا عنانا إلى منزله في طلبه، فالحمد لله الذي حينك حتى أمكن منك فخرج بهما حتى إذا كان في موضع بئر الجعد ضرب أعناقهما، ثم رجع فأخبر المختار خبرهما، فأمره أن يرجع إليهما فيحرقهما بالنار، وقال: لا يدفنان حتى يحرقا فهذان رجلان، فقال أعشى همدان يرثي عثمان الجهني: يا عين بكّي فتى الفتيان عثمانا لا يبعدن الفتى من آل دهمانا واذكر فتى ماجدا حلوا شمائله ما مثله فارس في آل همدانا قال موسى بن عامر: وبعث معاذ بن هانئ بن عدي الكندي ابن أخي حجر، وبعث أبا عمرة صاحب حرسه، فساروا حتى أحاطوا بدار خولي بن يزيد الأصبحي وهو صاحب راس الحسين الذى جاء به، فاختبا في مخرجه، فأمر معاذ أبا عمرة أن يطلبه في الدار، فخرجت امرأته إليهم، فقالوا لها: أين زوجك؟ فقالت: لا أدري أين هو- وأشارت بيدها إلى المخرج، فدخلوا فوجدوه قد وضع على رأسه قوصرة، فأخرجوه، وكان المختار يسير

بالكوفة ثم إنه أقبل في أثر أصحابه وقد بعث أبو عمرة إليه رسولا، فاستقبل المختار الرسول عند دار بلال، ومعه ابن كامل، فأخبره الخبر، فأقبل المختار نحوهم، فاستقبل به، فردده حتى قتله إلى جانب أهله، ثم دعا بنار فحرقه بها، ثم لم يبرح حتى عاد رمادا، ثم انصرف عنه وكانت امرأته من حضرموت يقال لها العيوف بنت مالك بن نهار بن عقرب، وكانت نصبت له العداوة حين جاء برأس الحسين. قال أبو مخنف: وحدثني موسى بن عامر أبو الأشعر أن المختار قال ذات يوم وهو يحدث جلساءه: لأقتلن غدا رجلا عظيم القدمين، غائر العينين، مشرف الحاجبين يسر مقتله المؤمنين والملائكة المقربين قال: وكان الهيثم بن الأسود النخعي عند المختار حين سمع هذه المقالة، فوقع في نفسه أن الذي يريد عمر بن سعد بن أبي وقاص، فلما رجع إلى منزله دعا ابنه العريان فقال: الق ابن سعد الليلة فخبره بكذا وكذا، وقل له: خذ حذرك، فإنه لا يريد غيرك قال: فأتاه فاستخلاه، ثم حدثه الحديث، فقال له عمر بن سعد: جزى الله أباك والإخاء خيرا! كيف يريد هذا بي بعد الذي أعطاني من العهود والمواثيق! وكان المختار أول ما ظهر أحسن شيء سيرة وتألفا للناس، وكان عبد الله بن جعدة بن هبيرة أكرم خلق الله على المختار لقرابته بعلي، فكلم عمر بن سعد عبد الله بن جعدة وقال له: إني لا آمن هذا الرجل- يعني المختار- فخذ لي منه أمانا، ففعل، قال: فانا رايت امانه وقراته وهو: بسم الله الرحمن الرحيم هذا أمان من المختار بن أبي عبيد لعمر بن سعد ابن أبي وقاص، إنك آمن بأمان الله على نفسك ومالك وأهلك وأهل بيتك وولدك، لا تؤاخذ بحدث كان منك قديما ما سمعت وأطعت ولزمت رحلك وأهلك ومصرك، فمن لقي عمر بن سعد من شرطة الله وشيعة آل محمد

ومن غيرهم من الناس، فلا يعرض له إلا بخير شهد السائب بن مالك وأحمر بن شميط وعبد الله بن شداد وعبد الله بن كامل وجعل المختار على نفسه عهد الله وميثاقه ليفين لعمر بن سعد بما أعطاه من الأمان، إلا أن يحدث حدثا، وأشهد الله على نفسه، وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً* قال: فكان أبو جعفر مُحَمَّد بن علي يقول: أما أمان المختار لعمر بن سعد: إلا أن يحدث حدثا، فإنه كان يريد به إذا دخل الخلاء فأحدث. قال: فلما جاءه العريان بهذا خرج من تحت ليلته حتى أتى حمامه، ثم قال في نفسه: انزل داري، فرجع فعبر الروحاء، ثم أتى داره غدوة، وقد أتى حمامه، فأخبر مولى له بما كان من أمانه وبما أريد به، فقال له مولاه: وأي حدث أعظم مما صنعت! إنك تركت رحلك وأهلك واقبلت الى هاهنا، ارجع إلى رحلك، لا تجعلن للرجل عليك سبيلا فرجع إلى منزله، وأتى المختار بانطلاقه، فقال: كلا إن في عنقه سلسلة سترده، لو جهد أن ينطلق ما استطاع قال: وأصبح المختار فبعث إليه أبا عمرة، وأمره أن يأتيه به، فجاءه حتى دخل عليه فقال: أجب الأمير، فقام عمر: فعثر في جبة له، ويضربه أبو عمرة بسيفه، فقتله، وجاء برأسه في أسفل قبائه حتى وضعه بين يدي المختار، فقال المختار لابنه حفص بن عمر بن سعد وهو جالس عنده: أتعرف هذا الرأس؟ فاسترجع وقال: نعم، ولا خير في العيش بعده، قال له المختار: صدقت، فإنك لا تعيش بعده، فأمر به فقتل، وإذا رأسه مع رأس أبيه ثم إن المختار قال: هذا بحسين وهذا بعلي بن حسين، ولا سواء، والله لو قتلت به ثلاثة أرباع قريش ما وفوا أنملة من أنامله، فقالت حميدة بنت عمر بن سعد تبكي أباها: لو كان غير أخي قسي غره أو غير ذي يمن وغير الأعجم سخى بنفسي ذاك شيئا فاعلموا عنه وما البطريق مثل الألأم أعطى ابن سعد في الصحيفة وابنه عهدا يلين له جناح الارقم

فلما قتل المختار عمر بن سعد وابنه بعث برأسيهما مع مسافر بن سعيد ابن نمران الناعطي وظبيان بن عمارة التميمي، حتى قدما بهما على مُحَمَّد ابن الحنفية، وكتب إلى ابن الحنفية في ذلك بكتاب. قال أبو مخنف: وحدثني موسى بن عامر، قال: إنما كان هيج المختار على قتل عمر بن سعد أن يزيد بن شراحيل الأنصاري اتى محمد بن الحنفية، فسلم عليه، فجرى الحديث إلى أن تذاكروا المختار وخروجه وما يدعوا إليه من الطلب بدماء أهل البيت، فقال محمد بن الحنفية: على أهون رسله يزعم أنه لنا شيعة، وقتلة الحسين جلساؤه على الكراسي يحدثونه! قال: فوعاها الآخر منه، فلما قدم الكوفة أتاه فسلم عليه، فسأله المختار: هل لقيت المهدي؟ فقال له: نعم، فقال: ما قال لك وماذا كرك؟ قال: فخبره الخبر قال: فما لبث المختار عمر بن سعد وابنه أن قتلهما، ثم بعث برأسيهما إلى ابن الحنفية مع الرسولين اللذين سمينا، وكتب معهما إلى ابن الحنفية: بسم الله الرحمن الرحيم للمهدي مُحَمَّد بن علي من المختار بن أبي عبيد سلام عليك يايها المهدي، فإني أحمد إليك اللَّه الَّذِي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن الله بعثني نقمة على أعدائكم، فهم بين قتيل وأسير، وطريد وشريد، فالحمد لله الذي قتل قاتليكم، ونصر مؤازريكم. وقد بعثت إليك برأس عمر بن سعد وابنه، وقد قتلنا من شرك في دم الحسين وأهل بيته- رحمة الله عليهم- كل من قدرنا عليه، ولن يعجز الله من بقي، ولست بمنجم عنهم حتى لا يبلغني أن على أديم الأرض منهم أرميا. فاكتب إلي أيها المهدي برأيك أتبعه وأكون عليه، والسلام عليك أيها المهدي ورحمة الله وبركاته. ثم إن المختار بعث عبد الله بن كامل إلى حكيم بن طفيل الطائي السنبسي- وقد كان أصاب صلب العباس بن علي، ورمى

حسينا بسهم، فكان يقول: تعلق سهمي بسر باله وما ضره- فأتاه عبد الله ابن كامل، فأخذه ثم أقبل به، وذهب أهله فاستغاثوا بعدي بن حاتم، فلحقهم في الطريق، فكلم عبد الله بن كامل فيه، فقال: ما إلي من أمره شيء، إنما ذلك إلى الأمير المختار قال: فإني آتيه، قال: فأته راشدا فمضى عدي نحو المختار، وكان المختار قد شفعه في نفر من قومه أصابهم يوم جبانة السبيع، لم يكونوا نطقوا بشيء من أمر الحسين ولا أهل بيته، فقالت الشيعة لابن كامل: إنا نخاف أن يشفع الأمير عدي بن حاتم في هذا الخبيث، وله من الذنب ما قد علمت، فدعنا نقتله قال: شأنكم به، فلما انتهوا به إلى دار العنزيين وهو مكتوف نصبوه غرضا، ثم قالوا له: سلبت ابن علي ثيابه، والله لنسلبن ثيابك وأنت حي تنظر! فنزعوا ثيابه، ثم قالوا له: رميت حسينا، واتخذته غرضا لنبلك، وقلت: تعلق سهمي بسر باله ولم يضره، وايم الله لنرمينك كما رميته بنبال ما تعلق بك منها أجزاك قال: فرموه رشقا واحدا، فوقعت به منهم نبال كثيرة فخر ميتا. قال أبو مخنف: فحدثني أبو الجارود، عمن رآه قتيلا كأنه قنفذ لما فيه من كثرة النبل: ودخل عدي بن حاتم على المختار فأجلسه معه على مجلسه، فأخبره عدي عما جاء له، فقال له المختار: أتستحل يا أبا طريف أن تطلب في قتلة الحسين! قال: إنه مكذوب عليه أصلحك الله! قال: إذا ندعه لك قال: فلم يكن بأسرع من أن دخل ابن كامل فقال له المختار: ما فعل الرجل؟ قال: قتلته الشيعة: قال: وما أعجلك إلى قتله قبل أن تأتيني به وهو لا يسره أنه لم يقتله- وهذا عدي قد جاء فيه، وهو أهل أن يشفع ويؤتى ما سره! قال: غلبتني والله الشيعة، قال له عدي: كذبت يا عدو الله، ولكن ظننت أن من هو خير منك سيشفعني فيه، فبادرتني

فقتلته، ولم يكن خطر يدفعك عما صنعت قال: فاسحنفر إليه ابن كامل بالشتيمة، فوضع المختار أصبعه على فيه، يأمر ابن كامل بالسكوت والكف عن عدي، فقام عدي راضيا عن المختار ساخطا على ابن كامل، يشكوه عند من لقي من قومه وبعث المختار إلى قاتل علي بن الحسين عبد الله ابن كامل، وهو رجل من عبد القيس يقال له مرة بن منقذ بن النعمان العبدي وكان شجاعا، فأتاه ابن كامل فأحاط بداره، فخرج إليهم وبيده الرمح، وهو على فرس جواد، فطعن عبيد الله بن ناجية الشبامي، فصرعه ولم يضره قال: ويضربه ابن كامل بالسيف فيتقيه بيده اليسرى، فأسرع فيها السيف، وتمطرت به الفرس، فأفلت ولحق بمصعب، وشلت يده بعد ذلك قال: وبعث المختار أيضا عبد الله الشاكري إلى رجل من جنب يقال له زيد بن رقاد، كان يقول: لقد رميت فتى منهم بسهم وإنه لواضع كفه على جبهته يتقي النبل فأثبت كفه في جبهته، فما استطاع أن يزيل كفه عن جبهته قال أبو مخنف: فحدثني أبو عبد الأعلى الزبيدي أن ذلك الفتى عبد الله ابن مسلم بن عقيل، وأنه قال حيث أثبت كفه في جبهته: اللهم إنهم استقلونا واستذلونا، اللهم فاقتلهم كما قتلونا، وأذلهم كما استذلونا ثم إنه رمى الغلام بسهم آخر فقتله، فكان يقول: جئته ميتا فنزعت سهمي الذي قتلته به من جوفه، فلم أزل أنضنض السهم من جبهته حتى نزعته، وبقي النصل في جبهته مثبتا ما قدرت على نزعه. قال: فلما أتى ابن كامل داره أحاط بها، واقتحم الرجال عليه، فخرج مصلتا بسيفه- وكان شجاعا- فقال ابن كامل: لا تضربوه بسيف، ولا تطعنوه برمح، ولكن ارموه بالنبل، وارجموه بالحجارة، ففعلوا ذلك به، فسقط، فقال ابن كامل: إن كان به رمق فأخرجوه، فاخرجوه وبه

رمق، فدعا بنار فحرقه بها وهو حي لم تخرج روحه، وطلب المختار سنان ابن أنس الذي كان يدعي قتل الحسين، فوجده قد هرب إلى البصرة، فهدم داره وطلب المختار عبد الله بن عقبة الغنوي فوجده قد هرب، ولحق بالجزيرة، فهدم داره، وكان ذلك الغنوي قد قتل منهم غلاما، وقتل رجل آخر من بني أسد يقال له حرملة بن كاهل رجلا من آل الحسين، ففيهما يقول ابن أبي عقب الليثي: وعند غني قطرة من دمائنا ... وفي أسد أخرى تعد وتذكر وطلب رجلا من خثعم يقال لَهُ عَبْد اللَّهِ بن عروة الخثعمي- كان يقول: رميت فيهم باثني عشر سهما ضيعة- ففاته ولحق بمصعب، فهدم داره، وطلب رجلا من صداء يقال له عمرو بن صبيح، وكان يقول: لقد طعنت بعضهم وجرحت فيهم وما قتلت منهم أحدا، فأتي ليلا وهو على سطحه وهو لا يشعر بعد ما هدأت العيون، وسيفه تحت رأسه، فأخذوه أخذا، وأخذوا سيفه، فقال: قبحك الله سيفا، ما أقربك وأبعدك! فجيء به إلى المختار، فحبسه معه في القصر، فلما أن أصبح أذن لأصحابه، وقيل: ليدخل من شاء أن يدخل، ودخل الناس، وجيء به مقيدا، فقال: أما والله يا معشر الكفرة الفجرة إن لو بيدي سيفي لعلمتم أني بنصل السيف غير رعش ولا رعديد ما يسرني إذ كانت منيتي فتلا أنه قتلني من الخلق أحد غيركم لقد علمت أنكم شرار خلق الله، غير أني وددت أن بيدي سيفا أضرب به فيكم ساعة، ثم رفع يده فلطم عين ابن كامل وهو إلى جنبه، فضحك ابن كامل، ثم أخذ بيده وأمسكها، ثم قال: إنه يزعم أنه قد جرح في آل مُحَمَّد وطعن، فمرنا بأمرك فيه، فقال المختار: علي بالرماح، فأتي بها، فقال: اطعنوه حتى يموت، فطعن بالرماح حتى مات. قال أبو مخنف: حدثني هشام بن عبد الرحمن وابنه الحكم بن هشام

ذكر الخبر عن البيعه للمختار بالبصرة

أن أصحاب المختار مروا بدار بني أبي زرعة بن مسعود، فرموهم من فوقها، فأقبلوا حتى دخلوا الدار، فقتلوا الهبياط بن عثمان بن أبي زرعة الثقفي وعبد الرحمن بن عثمان بن أبي زرعة الثقفي، وأفلتهم عبد المالك بن أبي زرعة بضربة في رأسه، فجاء يشتد حتى دخل على المختار، فأمر امرأته أم ثابت ابنة سمرة بن جندب، فداوت شجته، ثم دعاه، فقال: لا ذنب لي، أنكم رميتم القوم فأغضبتموهم وكان مُحَمَّد بن الأشعث بن قيس في قرية الأشعث إلى جنب القادسية، فبعث المختار إليه حوشبا سادن الكرسي في مائة، فقال: انطلق إليه فإنك تجده لاهيا متصيدا، أو قائما متلبدا، أو خائفا متلددا، أو كامنا متغمدا، فإن قدرت عليه فأتني برأسه فخرج حتى أتى قصره فأحاط به، وخرج منه مُحَمَّد بن الأشعث فلحق بمصعب، وأقاموا على القصر وهم يرون انه فيه، ثم دخلوا فعلموا أنه قد فاتهم، فانصرفوا إلى المختار، فبعث إلى داره فهدمها، وبنى بلبنها وطينها دار حجر بن عدي الكندي، وكان زياد بن سميه قد هدمها ذكر الخبر عن البيعه للمختار بالبصرة قال أبو جعفر: وفي هذه السنة دعا المثنى بن مخربة العبدي إلى البيعة للمختار بالبصرة أهلها، فحدثني أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، عن عبد الله بن عطية الليثي وعامر بن الأسود، أن المثنى بن مخربة العبدي كان ممن شهد عين الوردة مع سُلَيْمَان بن صرد، ثم رجع مع من رجع ممن بقي من التوابين إلى الكوفة، والمختار محبوس، فأقام حتى خرج المختار من السجن، فبايعه المثنى سرا، وقال له المختار: الحق ببلدك بالبصرة فارع الناس، وأسر أمرك، فقدم البصرة فدعا، فأجابه رجال من قومه وغيرهم فلما أخرج المختار ابن مطيع من الكوفة ومنع عمر بن عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام من الكوفة خرج المثنى بن مخربة فاتخذ مسجدا، واجتمع إليه

قومه، ودعا إلى المختار، ثم أتى مدينة الرزق فعسكر عندها، وجمعوا الطعام في المدينة، ونحروا الجزر، فوجه إليهم القباع عباد بن حصين وهو على شرطته، وقيس بن الهيثم في الشرط والمقاتلة، فأخذوا في سكة الموالي حتى خرجوا إلى السبخة، فوقفوا، ولزم الناس دورهم، فلم يخرج أحد، فجعل عباد ينظر هل يرى أحدا يسأله! فلم ير أحدا، فقال: اما هاهنا رجل من بني تميم؟ فقال خليفة الأعور مولى بني عدي، عدي الرباب: هذه دار وراد مولى بني عبد شمس، قال: دق الباب، فدقه، فخرج إليه وراد، فشتمه عباد وقال: ويحك! انا واقف هاهنا، لم لم تخرج إلي! قال: لم أدر ما يوافقك، قال: شد عليك سلاحك واركب، ففعل، ووقفوا، وأقبل أصحاب المثنى فواقفوهم، فقال عباد لوراد،: قف مكانك مع قيس، فوقف قيس بن الهيثم ووراد، ورجع عباد فأخذ في طريق الذباحين، والناس وقوف في السبخة، حتى اتى الكلا، ولمدينة الرزق أربعة أبواب: باب مما يلي البصرة، وباب إلى الخلالين، وباب إلى المسجد، وباب إلى مهب الشمال، فأتى الباب الذي يلي النهر مما يلي أصحاب السقط، وهو باب صغير، فوقف ودعا بسلم فوضعه مع حائط المدينة، فصعد ثلاثون رجلا، وقال لهم: الزموا السطح، فإذا سمعتم التكبير فكبروا على السطوح، ورجع عباد إلى قيس بن الهيثم وقال لوراد: حرش القوم، فطارد هم وراد، ثم التبس القتال فقتل أربعون رجلا من أصحاب المثنى، وقتل رجل من أصحاب عباد، وسمع الذين على السطوح في دار الرزق الضجة والتكبير، فكبروا، فهرب من كان في المدينة، وسمع المثنى وأصحابه التكبير من ورائهم، فانهزموا، وأمر عباد وقيس بن الهيثم الناس بالكف عن اتباعهم وأخذوا مدينة الرزق وما كان فيها، وأتى المثنى وأصحابه عبد القيس ورجع عباد وقيس ومن معهما إلى القباع فوجههما إلى عبد القيس، فأخذ قيس بن الهيثم من ناحية الجسر، وأتاهم عباد من طريق المربد، فالتقوا فأقبل زياد بن عمرو العتكي إلى القباع وهو في المسجد جالس على المنبر،

فدخل زياد المسجد على فرسه، فقال: أيها الرجل، لتردن خيلك عن إخواننا أو لنقاتلنها فأرسل القباع الأحنف بن قيس وعمر بن عبد الرحمن المخزومي ليصلحا أمر الناس، فأتيا عبد القيس، فقال الأحنف لبكر والأزد وللعامة: ألستم على بيعة ابن الزبير! قالوا: بلى، ولكنا لا نسلم إخواننا. قال: فمروهم فليخرجوا إلى أي بلاد أحبوا، ولا يفسدوا هذا المصر على أهله، وهم آمنون فليخرجوا حيث شاءوا فمشى مالك بن مسمع وزياد بن عمرو ووجوه أصحابهم إلى المثنى، فقالوا له ولأصحابه: إنا والله ما نحن على رأيكم، ولكنا كرهنا أن تضاموا، فالحقوا بصاحبكم، فإن من أجابكم إلى رأيكم قليل، وأنتم آمنون فقبل المثنى قولهما وما أشارا به، وانصرف. ورجع الأحنف وقال: ما غبنت رأيي إلا يومي هذا، إني أتيت هؤلاء القوم وخلفت بكرا والأزد ورائي، ورجع عباد وقيس إلى القباع، وشخص المثنى إلى المختار بالكوفة في نفر يسير من أصحابه، وأصيب في تلك الحرب سويد بن رئاب الشني، وعقبة بن عشيرة الشني، قتله رجل من بني تميم وقتل التميمي فولغ أخوه عقبة بن عشيرة في دم التميمي، وقال: ثأري وأخبر المثنى المختار حين قدم عليه بما كان من أمر مالك بن مسمع وزياد بن عمرو ومسيرهما إليه، وذبهما عنه حتى شخص عن البصرة، فطمع المختار فيهما، فكتب إليهما: أما بعد، فاسمعا وأطيعا أوتكما من الدنيا ما شئتما، وأضمن لكما الجنة فقال، مالك لزياد: يا أبا المغيرة، قد أكثر لنا أبو إسحاق اعطاءنا الدنيا والآخرة! فقال زياد لمالك مازحا: يا أبا غسان، أما أنا فلا أقاتل نسيئة من أعطانا الدراهم قاتلنا معه وكتب المختار إلى الأحنف بن قيس: من المختار إلى الأحنف ومن قبله فسلم أنتم، أما بعد، فويل أم ربيعة من مضر، فإن الأحنف مورد قومه سقر، حيث لا يستطيع لهم الصدر، وإني لا أملك ما خط في القدر، وقد بلغني أنكم تسمونني كذابا،

وقد كذب الأنبياء من قبلي، ولست بخير من كثير منهم. وكتب إلى الأحنف: إذا اشتريت فرسا من مالكا ... ثم أخذت الجوب في شمالكا فاجعل مصاعا حذما من بالكا. حدثني أبو السائب سلم بن جنادة، قال: حدثنا الحسن بن حماد، عن حبان بن علي، عن المجالد، عن الشعبي، قال: دخلت البصرة فقعدت إلى حلقة فيها الأحنف بن قيس، فقال لي بعض القوم: من أنت؟ قلت: رجل من أهل الكوفة، قال: أنتم موال لنا، قلت: وكيف؟ قال: قد أنقذناكم من أيدي عبيدكم من أصحاب المختار، قلت: تدري ما قال شيخ همدان فينا وفيكم؟ فقال الأحنف بن قيس: وما قال؟ قلت: قال: أفخرتم إن قتلتم أعبدا ... وهزمتم مرة آل عزل وإذا فاخرتمونا فاذكروا ... ما فعلنا بكم يوم الجمل بين شيخ خاضب عثنونه ... وفتى أبيض وضاح رفل جاءنا يهدج في سابغة ... فذبحناه ضحى ذبح الحمل وعفونا فنسيتم عفونا ... وكفرتم نعمة الله الأجل وقتلتم خشبيين بهم ... بدلا من قومكم شر بدل فغضب الأحنف، فقال: يا غلام، هات تلك الصحيفة، فأتي بصحيفة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم من المختار بن أبي عبيد إلى الأحنف بن قيس، أما بعد، فويل أم ربيعة ومضر، فإن الأحنف مورد قومه سقر، حيث لا يقدرون على الصدر، وقد بلغني أنكم تكذبوني، وإن كذبت

فقد كذب رسل من قبلي، ولست أنا خيرا منهم فقال: هذا منا أو منكم! وَقَالَ هِشَام بن مُحَمَّدٍ عن أبي مخنف، قال: حدثني منيع بن العلاء السعدي أن مسكين بن عَامِر بن أنيف بن شريح بن عمرو بن عدس كان فيمن قاتل المختار، فلما هزم الناس لحق بأذربيجان بمُحَمَّد بن عمير بن عطارد، وقال: عجبت دختنوس لما رأتني ... قد علاني من المشيب خمار فأهلت بصوتها وأرنت ... لا تهالي قد شاب مني العذار إن تريني قد بان غرب شبابي ... وأتى دون مولدي أعصار فابن عامين وابن خمسين عاما ... أي دهر إلا له أدهار! ليت سيفي لها وجوبتها لي ... يوم قالت ألا كريم يغار! ليتنا قبل ذلك اليوم متنا ... أو فعلنا ما تفعل الأحرار فعل قوم تقاذف الخير عنهم ... لم نقاتل وقاتل العيزار وتوليت عنهم وأصيبوا ... ونفاني عنهم شنار وعار لهف نفسي على شهاب قريش ... يوم يؤتى برأسه المختار! وقال المتوكل: قتلوا حسينا ثم هم ينعونه ... إن الزمان بأهله أطوار لا تبعدن بالطف قتلى ضيعت ... وسقى مساكن هامها الأمطار ما شرطة الدجال تحت لوائه ... بأضل ممن غره المختار أبني قسي أوثقوا دجالكم ... يجل الغبار وأنتم أحرار لو كان علم الغيب عند أخيكمُ ... لتوطأت لكم به الأحبار ولكان أمرا بينا فيما مضى ... تأتي به الأنباء والاخبار

ذكر الخبر عن بعث المختار جيشه للمكر بابن الزبير

إني لأرجو أن يكذب وحيكم ... طعن يشق عصاكمُ وحصار ويجيئكم قوم كأن سيوفهم ... بأكفهم تحت العجاجة نار لا ينثنون إذا همُ لاقوكم ... الا وهام كماتكم اعشار ذكر الخبر عن بعث المختار جيشه للمكر بابن الزبير قال أبو جعفر: وفي هذه السنة بعث المختار جيشا إلى المدينة للمكر بابن الزبير، وهو مظهر له أنه وجههم معونة له لحرب الجيش الذي كان عبد الملك بن مروان وجهه إليه لحروبه، فنزلوا وادي القرى. ذكر الخبر عن السبب الداعي كان للمختار إلى توجيه ذلك الجيش وإلى ما صار أمرهم: قال هشام بن مُحَمَّد: قال أبو مخنف: حدثني موسى بن عامر، قال: لما اخرج المختار ابن مطيع من الكوفة لحق بالبصرة وكره أن يقدم ابن الزبير بمكة وهو مهزوم مفلول، فكان بالبصرة مقيما حتى قدم عليه عمر بن عبد الرحمن بن هشام، فصارا جميعا بالبصرة وكان سبب قدوم عمر البصرة أن المختار حين ظهر بالكوفة واستجمع له الأمر وهو عند الشيعة إنما يدعو إلى ابن الحنفية والطلب بدماء أهل البيت، أخذ يخادع ابن الزبير ويكتب إليه، فكتب إليه: أما بعد، فقد عرفت مناصحتي إياك وجهدي على أهل عداوتك، وما كنت أعطيتني إذا أنا فعلت ذلك من نفسك فلما وفيت لك، وقضيت الذي كان لك علي، خست بي، ولم تف بما عاهدتني عليه، ورأيت مني ما قد رأيت، فإن ترد مراجعتي أراجعك، وإن ترد مناصحتي أنصح لك وهو يريد بذلك كفه عنه، حتى يستجمع له الأمر، وهو لا يطلع الشيعة على شيء من هذا الأمر، وإذا بلغهم شيء منه أراهم أنه أبعد الناس عن ذلك قال: فأراد ابن الزبير أن يعلم أسلم هو أم حرب! فدعا عُمَر بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ المخزومي

فقال له: تجهز إلى الكوفة فقد وليناكها، فقال: كيف وبها المختار! قال: إنه يزعم أنه سامع مطيع قال: فتجهز بما بين الثلاثين الألف درهم إلى الأربعين ألفا، ثم خرج مقبلا إلى الكوفة قال: ويجيء عين المختار من مكة حتى أخبره الخبر، فقال له: بكم تجهز؟ قال: بما بين الثلاثين ألفا إلى الأربعين ألفا قال: فدعا المختار زائدة بن قدامة وقال له: احمل معك سبعين ألف درهم ضعف ما أنفق هذا في مسيره إلينا وتلقه في المفاوز، واخرج معك مسافر بن سعيد بن نمران الناعطي في خمسمائة فارس دارع رامح، عليهم البيض، ثم قل له: خذ هذه النفقة فإنها ضعف نفقتك، فإنه قد بلغنا أنك تجهزت وتكلفت قدر ذلك، فكرهنا أن تغرم، فخذها وانصرف، فإن فعل وإلا فأره الخيل وقل له: إن وراء هؤلاء مثلهم مائة كتيبة. قال: فأخذ زائدة المال، وأخرج معه الخيل، وتلقاه بالمفاوز، وعرض عليه المال، وأمره بالانصراف، فقال له: إن أمير المؤمنين قد ولاني الكوفة ولا بد من إنفاذ أمره فدعا زائدة بالخيل وقد أكمنها في جانب، فلما رآها قد أقبلت قال: هذا الآن أعذر لي وأجمل بي، هات المال، فقال له زائدة: أما إنه لم يبعث به إليك إلا لما بينك وبينه، فدفعه إليه فأخذه، ثم مضى راجعا نحو البصرة، فاجتمع بها هو وابن مطيع في إمارة الْحَارِث بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وذلك قبل وثوب المثنى بن مخربة العبدي بالبصرة قال أبو مخنف: فحدثني إسماعيل بن نعيم أن المختار أخبر أن أهل الشام قد أقبلوا نحو العراق، فعرف أنه به يبدأ، فخشي أن يأتيه أهل الشام من قبل المغرب، ويأتيه مصعب بن الزبير من قبل البصرة، فوادع ابن الزبير وداراه وكايده، وكان عبد الملك بن مروان قد بعث عبد الملك ابن الحارث بن الحكم بن أبي العاص إلى وادي القرى، والمختار لابن الزبير مكايد موادع، فكتب المختار إلى ابن الزبير:

أما بعد، فقد بلغني أن عبد الملك بن مروان قد بعث إليك جيشا، فإن أحببت أن أمدك بمدد أمددتك. فكتب إليه عبد الله بن الزبير: أما بعد، فإن كنت على طاعتي فلست أكره أن تبعث الجيش إلى بلادي وتبايع لي الناس قبلك، فإذا أتتني بيعتك صدقت مقالتك، وكففت جنودي عن بلادك، وعجل علي بتسريح الجيش الذي أنت باعثه، ومرهم فليسيروا إلى من بوادي القرى من جند ابن مروان فليقاتلوهم. والسلام. فدعا المختار شرحبيل بن ورس من همدان، فسرحه في ثلاثة آلاف أكثرهم الموالي، ليس فيهم من العرب الا سبعمائة رجل، فقال له: سر حتى تدخل المدينة، فإذا دخلتها فاكتب إلي بذلك حتى يأتيك أمري، وهو يريد إذا دخلوا المدينة أن يبعث عليهم أميرا من قبله، ويأمر ابن ورس أن يمضي إلى مكة حتى يحاصر ابن الزبير ويقاتله بمكة، فخرج الآخر يسير قبل المدينة، وخشي ابن الزبير أن يكون المختار إنما يكيده، فبعث من مكة إلى المدينة عباس بن سهل بن سعد في ألفين، وأمره أن يستنفر الأعراب، وقال له ابن الزبير: إن رأيت القوم في طاعتي فاقبل منهم، وإلا فكايدهم حتى تهلكهم ففعلوا، وأقبل عباس بن سهل حتى لقي ابن ورس بالرقيم، وقد عبى ابن ورس أصحابه، فجعل على ميمنته سلمان ابن حمير الثوري من همدان، وعلى ميسرته عياش بن جعدة الجد لي، وكانت خيله كلها في الميمنة والميسرة، فدنا فسلم عليه، ونزل هو يمشي في الرجالة، وجاء عباس في أصحابه وهم منقطعون على غير تعبئة، فيجد ابن ورس على الماء قد عبى اصحابه تعبئة القتال، فدنا منهم فسلم عليهم، ثم قال: اخل معى هاهنا، فخلا به، فقال له: رحمك الله! ألست في طاعة ابن الزبير! فقال له ابن ورس: بلى، قال: فسر بنا إلى عدوه هذا الذي بوادي القرى، فإن ابن الزبير حدثني أنه إنما أشخصكم صاحبكم إليهم، قال ابن ورس: ما أمرت بطاعتك، إنما أمرت أن أسير حتى آتي المدينة، فإذا نزلتها رأيت رأيي قال له عباس بن سهل: فإن كنت في طاعة ابن الزبير فقد

أمرني أن أسير بك وبأصحابك إلى عدونا الذين بوادي القرى، فقال له ابن ورس: ما أمرت بطاعتك، وما أنا بمتبعك دون أن أدخل المدينة، ثم أكتب إلى صاحبي فيأمرني بأمره فلما رأى عباس بن سهل لجاجته عرف خلافه، فكره أن يعلمه أنه قد فطن له، فقال: فرأيك أفضل، اعمل بما بدا لك، فأما أنا فإني سائر إلى وادي القرى ثم جاء عباس بن سهل فنزل بالماء، وبعث إلى ابن ورس بجزائر كانت معه، فأهداها له، وبعث إليه بدقيق وغنم مسلخة- وكان ابن ورس وأصحابه قد هلكوا جوعا- فبعث عباس بن سهل إلى كل عشرة منهم شاة، فذبحوها، واشتغلوا بها، واختلطوا على الماء، وترك القوم تعبيتهم، وأمن بعضهم بعضا، فلما رأى عباس بن سهل ما هم فيه من الشغل جمع من أصحابه نحوا من ألف رجل من ذوي البأس والنجدة ثم أقبل نحو فسطاط شرحبيل بن ورس، فلما رآهم ابن ورس مقبلين إليه نادى في أصحابه، فلم يتواف إليه مائة رجل حتى انتهى إليه عباس بن سهل وهو يقول: يا شرطة الله، إلي إلي! قاتلوا المحلين، أولياء الشيطان الرجيم، فإنكم على الحق والهدى، قد غدروا وفجروا. قال أبو مخنف: فحدثني أبو يوسف أن عباسا انتهى إليهم، وهو يقول: أنا ابن سهل فارس غير وكل ... أروع مقدام إذا الكبش نكل وأعتلي رأس الطرماح البطل ... بالسيف يوم الروع حتى ينخزل قال: فو الله ما اقتتلنا إلا شيئا ليس بشيء حتى قتل ابن ورس في سبعين من أهل الحفاظ، ورفع عباس بن سهل راية أمان لأصحاب ابن ورس، فأتوها إلا نحوا من ثلاثمائة رجل انصرفوا مع سلمان بن حمير الهمداني وعياش بن جعدة الجدلي، فلما وقعوا في يد عباس بن سهل أمر بهم فقتلوا إلا نحوا من مائتي رجل، كره ناس من الناس ممن دفعوا إليهم قتلهم، فخلوا سبيلهم، فرجعوا، فمات أكثرهم في الطريق، فلما

ذكر الخبر عن قدوم الخشبيه مكة وموافاتهم الحج

بلغ المختار أمرهم، ورجع من رجع منهم، قام خطيبا فقال: ألا إن الفجار الأشرار، قتلوا الأبرار الأخيار إلا إنه كان أمرا مأتيا، وقضاء مقضيا وكتب المختار إلى ابن الحنفية مع صالح بن مسعود الخثعمي: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإني كنت بعثت إليك جندا ليذلوا لك الأعداء، وليحوزوا لك البلاد، فساروا إليك حتى إذا أظلوا على طيبة، لقيهم جند الملحد، فخدعوهم بالله، وغروهم بعهد الله، فلما اطمأنوا إليهم، ووثقوا بذلك منهم، وثبوا عليهم فقتلوهم، فإن رأيت أن أبعث إلى أهل المدينة من قبلي جيشا كثيفا، وتبعث إليهم من قبلك رسلا، حتى يعلم أهل المدينة أني في طاعتك، وإنما بعثت الجند إليهم عن أمرك، فافعل، فإنك ستجد عظمهم بحقكم أعرف، وبكم أهل البيت اراف لهم بآل الزبير الظلمة الملحدين، والسلام عليك. فكتب إليه ابن الحنفية: أما بعد، فإن كتابك لما بلغني قرأته، وفهمت تعظيمك لحقي، وما تنوي به من سروري وإن أحب الأمور كلها إلي ما أطيع الله فيه، فأطع الله ما استطعت فيما أعلنت وأسررت، واعلم انى لو اردت لوجدت الناس إلي سراعا، والأعوان لي كثيرا، ولكني أعتزلهم، وأصبر حتى يحكم الله لي وهو خير الحاكمين. فأقبل صالح بن مسعود إلى ابن الحنفية فودعه وَسَلَّمَ عليه، وأعطاه الكتاب وقال له: قل للمختار فليتق الله، وليكفف عن الدماء، قال: فقلت له: أصلحك الله! او لم تكتب بهذا اليه! قال له ابن الحنفية: قد أمرته بطاعة الله، وطاعة الله تجمع الخير كله، وتنهى عن الشر كله فلما قدم كتابه على المختار أظهر للناس أني قد أمرت بأمر يجمع البر واليسر، ويضرح الكفر والغدر . ذكر الخبر عن قدوم الخشبيه مكة وموافاتهم الحج قال أبو جعفر: وفي هذه السنة قدمت الخشبية مكة، ووافوا الحج وأميرهم أبو عبد الله الجدلي. ذكر الخبر عن سبب قدومهم مكة: وكان السبب في ذلك- فيما ذكر هشام، عن أبي مخنف وعلي بن مُحَمَّد،

عن مسلمه ابن محارب- أن عبد الله بن الزبير حبس محمد بن الحنفية ومن معه من أهل بيته وسبعة عشر رجلا من وجوه أهل الكوفة بزمزم، وكرهوا البيعة لمن لم تجتمع عليه الأمة، وهربوا إلى الحرم، وتوعدهم بالقتل والإحراق، وأعطى الله عهدا إن لم يبايعوا أن ينفذ فيهم ما توعدهم به، وضرب لهم في ذلك أجلا، فأشار بعض من كان مع ابن الحنفية عليه أن يبعث إلى المختار وإلى من بالكوفة رسولا يعلمهم حالهم وحال من معهم، وما توعدهم به ابن الزبير فوجه ثلاثة نفر من أهل الكوفة حين نام الحرس على باب زمزم، وكتب معهم إلى المختار وأهل الكوفة يعلمهم حاله وحال من معه، وما توعدهم به ابن الزبير من القتل والتحريق بالنار، ويسألهم الا يخذلوه كما خذلوا الحسين وأهل بيته فقدموا على المختار، فدفعوا إليه الكتاب فنادى في الناس وقرأ عليهم الكتاب وقال: هذا كتاب مهديكم وصريح أهل بيت نبيكم وقد تركوا محظورا عليهم كما يحظر على الغنم ينتظرون القتل والتحريق بالنار في آناء الليل وتارات النهار، ولست أبا إسحاق إن لم أنصرهم نصرا مؤزرا، وإن لم أسرب إليهم الخيل في أثر الخيل، كالسيل يتلوه السيل، حتى يحل بابن الكاهلية الويل. ووجه أبا عبد الله الجدلي في سبعين راكبا من أهل القوه، ووجه ظبيان ابن عماره أخا بنى تميم ومعه أربعمائة، وأبا المعتمر في مائة، وهانئ بن قيس في مائة، وعمير بن طارق في أربعين، ويونس بن عمران في أربعين، وكتب إلى مُحَمَّد بن علي مع الطفيل بن عامر ومُحَمَّد بن قيس بتوجيه الجنود إليه، فخرج الناس بعضهم في أثر بعض، وجاء أبو عبد الله حتى نزل ذات عرق في سبعين راكبا، ثم لحقه عمير بن طارق في اربعين راكبا، ويونس ابن عمران في أربعين راكبا، فتموا خمسين ومائة، فسار بهم حتى دخلوا المسجد الحرام، ومعهم الكافر كوبات، وهم ينادون: يا لثأرات الحسين! حتى انتهوا إلى زمزم، وقد أعد ابن الزبير الحطب ليحرقهم، وكان قد

ذكر الخبر عن حصار بنى تميم بخراسان

بقي من الأجل يومان، فطردوا الحرس، وكسروا أعواد زمزم، ودخلوا على ابن الحنفية، فقالوا له: خل بيننا وبين عدو الله ابن الزبير، فقال لهم: إني لا أستحل القتال في حرم الله فقال ابن الزبير: أتحسبون أني مخل سبيلهم دون أن يبايع ويبايعوا! فقال أبو عبد الله الجدلي: أي ورب الركن والمقام، ورب الحل والحرام، لتخلين سبيله أو لنجالدنك بأسيافنا جلادا يرتاب منه المبطلون فقال ابن الزبير: والله ما هؤلاء إلا أكلة رأس، والله لو أذنت لأصحابي ما مضت ساعة حتى تقطف رءوسهم، فقال له قيس بن مالك: أما والله إني لأرجو إن رمت ذلك أن يوصل إليك قبل أن ترى فينا ما تحب فكف ابن الحنفية أصحابه وحذرهم الفتنة، ثم قدم أبو المعتمر في مائة، وهانئ بن قيس في مائة، وظبيان بن عمارة في مائتين، ومعه مال حتى دخلوا المسجد، فكبروا: يا لثأرات الحسين! فلما رآهم ابن الزبير خافهم، فخرج مُحَمَّد بن الحنفية ومن معه إلى شعب علي وهم يسبون ابن الزبير، ويستأذنون ابن الحنفية فيه، فيأبى عليهم، فاجتمع مع محمد ابن علي في الشعب أربعة آلاف رجل، فقسم بينهم ذلك المال . ذكر الخبر عن حصار بنى تميم بخراسان قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كان حصار عبد الله بن خازم من كان بخراسان من رجال بني تميم بسبب قتل من قتل منهم ابنه مُحَمَّدا. قال علي بن مُحَمَّد: حدثنا الحسن بن رشيد الجوزجاني عن الطفيل ابن مرداس العمي، قال: لما تفرقت بنو تميم بخراسان أيام ابن خازم، أتى قصر فرتنا عدة من فرسانهم ما بين السبعين إلى الثمانين، فولوا أمرهم عثمان بن بشر بن المحتفز المزني، ومعه شعبة بن ظهير النهشلي، وورد بن الفلق العنبري وزهير بن ذؤيب العدوي، وجيهان بن مشجعة الضبي، والحجاج بن ناشب العدوي، ورقبة بن الحر في فرسان بني تميم، قال: فأتاهم ابن خازم، فحصرهم وخندق خندقا حصينا قال: وكانوا يخرجون إليه

فيقاتلونه، ثم يرجعون إلى القصر قال: فخرج ابن خازم يوما على تعبئة من خندقه في ستة آلاف، وخرج أهل القصر إليه، فقال لهم عثمان بن بشر بن المحتفز: انصرفوا اليوم عن ابن خازم، فلا أظن لكم به طاقة، فقال زهير بن ذؤيب العدوي: امرأته طالق إن رجع حتى ينقض صفوفهم- وإلى جنبهم نهر يدخله الماء في الشتاء، ولم يكن يومئذ فيه ماء، فاستبطنه زهير، فسار فيه، فلم يشعر به أصحاب ابن خازم حتى حمل عليهم، فحطم أولهم على آخرهم، واستداروا وكر راجعا، واتبعوه على جنبتي النهر يصيحون به: لا ينزل إليه أحد، حتى انتهى إلى الموضع الذي انحدر فيه، فخرج فحمل عليهم، فأفرجوا له حتى رجع، قال: فقال ابن خازم لأصحابه: إذا طاعنتم زهيرا فاجعلوا في رماحكم كلاليب فأعلقوها في أداته إن قدرتم عليه، فخرج إليهم يوما وفي رماحهم كلاليب قد هيئوها له، فطاعنوه، فأعلقوا في درعه أربعة أرماح، فالتفت إليهم ليحمل عليهم، فاضطربت أيديهم، فخلوا رماحهم، فجاء يجر أربعة أرماح حتى دخل القصر، قال: فأرسل ابن خازم غزوان بن جزء العدوي إلى زهير فقال: قل له: أرأيتك إن آمنتك وأعطيتك مائة ألف، وجعلت لك باسار طعمة تناصحني، فقال زهير لغزوان: ويحك! كيف اناصح قوما قتلوا الاشعث ابن ذؤيب! فأسقط بها غزوان عند موسى بن عبد الله بن خازم. قال: فلما طال عليهم الحصار أرسلوا إلى ابن خازم أن خلنا نخرج فنتفرق، فقال: لا إلا أن تنزلوا على حكمي، قالوا: فإنا ننزل على حكمك، فقال لهم زهير: ثكلتكم أمهاتكم! والله ليقتلنكم عن آخركم، فإن طبتم بالموت أنفسا فموتوا كراما، اخرجوا بنا جميعا فإما أن تموتوا جميعا وإما أن ينجو بعضكم ويهلك بعضكم، وايم الله لئن شددتم عليهم

شدة صادقة ليفرجن لكم عن مثل طريق المربد، فإن شئتم كنت أمامكم، وإن شئتم كنت خلفكم قال: فأبوا عليه، فقال: أما إني سأريكم، ثم خرج هو ورقبة بن الحر ومع رقبة غلام له تركي وشعبة بن ظهير قال: فحملوا على القوم حملة منكرة، فأفرجوا لهم، فمضوا، فأما زهير فرجع إلى أصحابه حتى دخل القصر فقال لأصحابه: قد رأيتم فأطيعوني، ومضى رقبة وغلامه وشعبة، قالوا: إن فينا من يضعف عن هذا ويطمع في الحياة، قال: أبعدكم الله! أتخلون عن أصحابكم! والله لا أكون أجزعكم عند الموت قال: ففتحوا القصر ونزلوا، فأرسل فقيدهم، ثم حملوا إليه رجلا رجلا، فأراد أن يمن عليهم، فأبى ابنه موسى، وقال: والله لئن عفوت عنهم لأتكئن على سيفي حتى يخرج من ظهري، فقال له عبد الله: أما والله إني لأعلم أن الغي فيما تأمرني به، ثم قتلهم جميعا إلا ثلاثة، قال: أحدهم الحجاج بن ناشب العدوي- وكان رمى ابن خازم وهو محاصرهم فكسر ضرسه، فحلف لئن ظفر به ليقتلنه أو ليقطعن يده، وكان حدثا، فكلمه فيه رجال من بني تميم كانوا معتزلين، من عمرو بن حنظلة، فقال رجل منهم: ابن عمي وهو غلام حدث جاهل، هبه لي، قال: فوهبه له، وقال: النجاء! لا أرينك. قال: وجيهان بن مشجعة الضبي الذي ألقى نفسه على ابنه مُحَمَّد يوم قتل، فقال ابن خازم: خلوا عن هذا البغل الدارج، ورجل من بني سعد، وهو الذي قال يوم لحقوا ابن خازم: انصرفوا عن فارس مضر قال: وجاءوا بزهير بن ذؤيب فأرادوا حمله وهو مقيد، فأبى وأقبل يحجل حتى جلس بين يديه، فقام له ابن خازم: كيف شكرك ان اطلقتك وجعلت لك باسار طعمة؟ قال: لو لم تصنع بي إلا حقن دمي لشكرتك، فقام ابنه موسى فقال: تقتل الضبع وتترك الذيخ! تقتل اللبؤة وتترك الليث! قال: ويحك! نقتل مثل زهير! من لقتال عدو المسلمين! من لنساء العرب! قال: والله لو شركت في دم أخي أنت لقتلتك، فقام رجل من بني

سليم إلى ابن خازم، فقال: أذكرك الله في زهير! فقال له موسى: اتخذه فحلا لبناتك، فغضب ابن خازم، فأمر بقتله، فقال له زهير: إن لي حاجة، قال: وما هي؟ قال: تقتلني على حدة، ولا تخلط دمي بدماء هؤلاء اللئام، فقد نهيتهم عما صنعوا وأمرتهم أن يموتوا كراما، وأن يخرجوا عليكم مصلتين، وايم الله أن لو فعلوا لذعروا بنيك هذا، وشغلوه بنفسه عن طلب الثأر بأخيه فأبوا، ولو فعلوا ما قتل منهم رجل حتى يقتل رجالا. فأمر به فنحي ناحية فقتل. قال مسلمة بن محارب: فكان الأحنف بن قيس إذا ذكرهم قال: قبح الله ابن خازم! قتل رجالا من بني تميم بابنه، صبي وغد أحمق لا يساوي علقا، ولو قتل منهم رجلا به لكان وفى. قال: وزعمت بنو عدي أنهم لما أرادوا حمل زهير بن ذؤيب أبى واعتمد على رمحه وجمع رجليه فوثب الخندق، فلما بلغ الحريش بن هلال قتلهم قال: أعاذل إني لم ألم في قتالهم ... وقد عض سيفي كبشهم ثم صمما أعاذل ما وليت حتى تبددت ... رجال وحتى لم أجد متقدما أعاذل أفناني السلاح ومن يطل ... مقارعة الأبطال يرجع مكلما أعيني إن أنزفتما الدمع فاسكبا ... دما لازما لي دون أن تسكبا الدما أبعد زهير وابن بشر تتابعا ... وورد أرجي في خراسان مغنما أعاذل كم من يوم حرب شهدته ... أكر إذا ما فارس السوء أحجما يعني بقوله: أبعد زهير، زهير بن ذؤيب، وابن بشر، عثمان بن بشر المحتفز المازني، وورد بن الفلق العنبري، قتلوا يومئذ، وقتل سُلَيْمَان بن المحتفز أخو بشر. قال أبو جعفر: وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن الزبير، وكان على المدينة مصعب بن الزبير من قبل أخيه عبد الله، وعلى البصره الحارث

شخوص ابراهيم بن الاشتر لحرب عبيد الله بن زياد

ابن عبد الله بن أبي ربيعة، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وكانت الكوفة بها المختار غالبا عليها، وبخراسان عبد الله بن خازم. شخوص ابراهيم بن الاشتر لحرب عبيد الله بن زياد وفي هذه السنة شخص إبراهيم بن الأشتر متوجها الى عبيد الله ابن زياد لحربه، وذلك لثمان بقين من ذي الحجة. قَالَ هِشَام بن مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنِي أَبُو مخنف، قال: حدثني النضر بن صالح- وكان قد أدرك ذلك- قال: حدثني فضيل بن خديج- وكان قد شهد ذلك- وغيرهما، قالوا: ما هو إلا أن فرغ المختار من أهل السبيع وأهل الكناسة، فما نزل إبراهيم بن الأشتر إلا يومين حتى أشخصه إلى الوجه الذي كان وجهه له لقتال أهل الشام، فخرج يوم السبت لثمان بقين من ذي الحجة سنة ست وستين، وأخرج المختار معه من وجوه أصحابه وفرسانهم وذوي البصائر منهم: ممن قد شهد الحرب وجربها، وخرج معه قيس بن طهفة النهدي على ربع أهل المدينة، وأمر عبد الله بن حية الأسدي على ربع مذجج وأسد، وبعث الأسود بن جراد الكندي على ربع كندة وربيعة، وبعث حبيب بن منقذ الثوري من همدان على ربع تميم وهمدان، وخرج معه المختار يشيعه حتى إذا بلغ دير عبد الرحمن بن أم الحكم، إذا أصحاب المختار قد استقبلوه قد حملوا الكرسي على بغل أشهب كانوا يحملونه عليه، فوقفوا به على القنطرة، وصاحب امر الكرسي حوشب البرسمي، وهو يقول: يا رب عمرنا في طاعتك، وانصرنا على الأعداء، واذكرنا ولا تنسنا واسترنا، قال: وأصحابه يقولون: آمين آمين، قال فضيل: فأنا سمعت ابن نوف الهمداني يقول: قال المختار: أما ورب المرسلات عرفا ... لنقتلن بعد صف صفا وبعد ألف قاسطين ألفا. قال: فلما انتهى إليهم المختار وابن الأشتر ازدحموا ازدحاما شديدا

ذكر امر الكرسي الذى كان المختار يستنصر به!

على القنطرة، ومضى المختار مع إبراهيم إلى قناطر رأس الجالوت- وهي إلى جنب دير عبد الرحمن- فإذا أصحاب الكرسي قد وقفوا على قناطر رأس الجالوت يستنصرون، فلما صار المختار بين قنطرة دير عبد الرحمن وقناطر رأس الجالوت وقف، وذلك حين أراد أن ينصرف، فقال لابن الأشتر: خذ عني ثلاثا: خف الله في سر أمرك وعلانيته، وعجل السير، وإذا لقيت عدوك فناجزهم ساعة تلقاهم، وان لقيتهم ليلا فاستطعت الا تصبح حتى تناجزهم، وإن لقيتهم نهارا فلا تنتظر بهم الليل حتى تحاكمهم إلى الله، ثم قال: هل حفظت ما أوصيتك به؟ قال: نعم، قال: صحبك الله، ثم انصرف وكان موضع عسكر إبراهيم بموضع حمام أعين، ومنه شخص بعسكره . ذكر امر الكرسي الذى كان المختار يستنصر به! قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي فضيل بن خديج قال: لما انصرف المختار مضى إبراهيم ومعه أصحابه حتى انتهى إلى أصحاب الكرسي وقد عكفوا حوله وهم رافعوا أيديهم إلى السماء يستنصرون، فقال إبراهيم: اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء- سنة بني إسرائيل، والذي نفسي بيده إذ عكفوا على عجلهم- فلما جاز القنطرة إبراهيم وأصحابه انصرف أصحاب الكرسي. ذكر الخبر عن سبب كرسي المختار الذي يستنصر به هو وأصحابه: قال أبو جعفر: وكان بدء سببه ما حدثني به عبد الله بن أحمد بن شبويه، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان، قَالَ: حدثني عبد الله ابن المبارك، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة، قال: حدثني معبد بن خالد، قال: حدثني طفيل بن جعدة بن هبيرة، قال: أعدمت مره من الورق، فانى لكذلك إذا خرجت يوما فإذا زيات جار لي، له كرسي قد ركبه وسخ شديد، فخطر على بالي ان لو قلب للمختار في هذا! فرجعت فأرسلت إلى

الزيات: أرسل إلي بالكرسي، فأرسل إلي به، فأتيت المختار، فقلت: إني كنت أكتمك شيئا لم أستحل ذلك، فقد بدا لي أن أذكره لك، قال: وما هو؟ قلت: كرسي كان جعدة بن هبيرة يجلس عليه كأنه يرى أن فيه أثرة من علم، قال: سبحان الله! فأخرت هذا إلى اليوم! ابعث إليه، ابعث إليه، قال: وقد غسل وخرج عود نضار، وقد تشرب الزيت، فخرج يبص، فجيء به وقد غشي، فأمر لي باثني عشر ألفا، ثم دعا: الصلاة جامعة. فحدثني معبد بن خالد الجدلي قال: انطلق بي وبإسماعيل بن طلحه ابن عبيد الله وشبث بن ربعي والناس يجرون إلى المسجد، فقال المختار: إنه لم يكن في الأمم الخالية أمر إلا وهو كائن في هذه الأمة مثله، وإنه كان في بني إسرائيل التابوت فيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وإن هذا فينا مثل التابوت، اكشفوا عنه، فكشفوا عنه أثوابه، وقامت السبئيه فرفعوا أيديهم، وكبروا ثلاثا، فقام شبث بن ربعي وقال: يا معشر مضر، لا تكفرن، فنحوه فذبوه وصدوه واخرجوه، قال إسحاق: فو الله إني لأرجو أنها لشبث، ثم لم يلبث أن قيل: هذا عبيد الله بن زياد قد نزل باهل الشام باجميرا، فخرج بالكرسي على بغل وقد غشي، يمسكه عن يمينه سبعة وعن يساره سبعة، فقتل أهل الشام مقتلة لم يقتلوا مثلها، فزادهم ذلك فتنة، فارتفعوا فيه حتى تعاطوا الكفر، فقلت: إنا لله! وندمت على ما صنعت، فتكلم الناس في ذلك، فغيب، فلم أره بعد. حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: قال أبو صالح: فقال في ذلك أعشى همدان كما حدثني غير عبد الله: شهدت عليكم انكم سبئيه ... وإني بكم يا شرطة الشرك عارف وأقسم ما كرسيكم بسكينة ... وإن كان قد لفت عليه اللفائف وأن ليس كالتابوت فينا وإن سعت ... شبام حواليه ونهد وخارف

وإني امرؤ أحببت آل مُحَمَّد ... وتابعت وحيا ضمنته المصاحف وتابعت عبد الله لما تتابعت ... عليه قريش: شمطها والغطارف وقال المتوكل الليثي: أبلغ أبا إسحاق إن جئته ... أني بكرسيكم كافر تنزو شبام حول أعواده ... وتحمل الوحي له شاكر محمرة أعينهم حوله ... كأنهن الحمص الحادر فأما أبو مخنف: فإنه ذكر عن بعض شيوخه قصة هذا الكرسي غير الذي ذكره عبد الله بن أحمد بالإسناد الذي حدثنا به، عن طفيل بن جعدة والذي ذكر من ذلك ما حدثنا به، عن هشام بن مُحَمَّد، عنه، قال: حدثنا هشام بن عبد الرحمن وابنه الحكم بن هشام، أن المختار قال لآل جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي- وكانت أم جعدة أم هانئ بنت أبي طالب أخت علي بن ابى طالب ع لأبيه وأمه: ائتوني بكرسي علي بن أبي طالب، فقالوا: لا والله ما هو عندنا، وما ندري من أين نجيء به! قال: لا تكونن حمقى، اذهبوا فأتوني به، قال: فظن القوم عند ذلك أنهم لا يأتون بكرسي، فيقولون: هو هذا إلا قبله منهم، فجاءوا بكرسي فقالوا: هو هذا فقبله، قال: فخرجت شبام وشاكر ورءوس أصحاب المختار وقد عصبوه بالحرير والديباج. قال أبو مخنف، عن موسى بن عامر أبي الأشعر الجهني: إن الكرسي لما بلغ ابن الزبير أمره قال: أين بعض جنادبة الأزد عنه! قال أبو الأشعر: لما جيء بالكرسي كان أول من سدنه موسى بن أبي موسى الأشعري، وكان يأتي المختار أول ما جاء ويحف به، لأن أمه أم كلثوم بنت الفضل بن العباس بن عبد المطلب ثم إنه بعد ذلك عتب عليه فاستحيا

منه، فدفعه إلى حوشب البرسمي، فكان صاحبه حتى هلك المختار قال: وكان أحد عمومة الأعشى رجلا يكنى أبا أمامة يأتي مجلس أصحابه فيقول: قد وضع لنا اليوم وحي ما سمع الناس بمثله، فيه نبأ ما يكون من شيء. قال أبو مخنف: حدثنا موسى بن عامر أنه إنما كان يصنع ذلك لهم عبد الله بن نوف، ويقول: المختار أمرني به، ويتبرأ المختار منه

سنه سبع وستين

ثم دخلت سنة سبع وستين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك مقتل عبيد الله بن زياد ومن كان معه من أهل الشام. ذكر الخبر عن صفة مقتله: ذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو الصلت، عن أبي سعيد الصيقل، قال: مضينا مع إبراهيم بن الأشتر ونحن نريد عبيد الله بن زياد ومن معه من اهل الشام، فخرجنا مسرعين لاننثنى، نريد أن نلقاه قبل أن يدخل أرض العراق قال: فسبقناه إلى تخوم أرض العراق سبقا بعيدا، ووغلنا في أرض الموصل، فتعجلنا إليه، وأسرعنا السير، فنلقاه بخازر إلى جنب قرية يقال لها باربيثا، بينها وبين مدينة الموصل خمسة فراسخ، وقد كان ابن الأشتر جعل على مقدمته الطفيل بن لقيط، من وهبيل من النخع رجلا من قومه، وكان شجاعا بئيسا، فلما أن دنا من ابن زياد ضم حميد بن حريث إليه، وأخذ ابن الاشتر لا يسير الا على تعبئة، وضم أصحابه كلهم إليه بخيله ورجاله، فأخذ يسير بهم جميعا لا يفرقهم، إلا أنه يبعث الطفيل بن لقيط في الطلائع حتى نزل تلك القرية. قال: وجاء عبيد الله بن زياد حتى نزل قريبا منهم على شاطئ خازر. وأرسل عمير بن الحباب السلمي إلى ابن الأشتر: إني معك، وأنا أريد الليلة لقاءك، فأرسل إليه ابن الأشتر: أن القني إذا شئت، وكانت قيس كلها بالجزيرة، فهم أهل خلاف لمروان وآل مروان، وجند مروان يومئذ كلب وصاحبهم ابن بحدل فأتاه عمير ليلا فبايعه، وأخبره أنه على ميسرة صاحبه، وواعده أن ينهزم بالناس، وقال ابن الأشتر: ما رأيك؟ أخندق علي وأتلوم يومين أو ثلاثة؟ قال عمير بن الحباب: لا تفعل، انا

لله! هل يريد القوم إلا هذه! إن طاولوك وماطلوك فهو خير لهم، هم كثير أضعافكم، وليس يطيق القليل الكثير في المطاولة، ولكن ناجز القوم فإنهم قد ملئوا منكم رعبا، فأتهم فإنهم إن شاموا أصحابك وقاتلوهم يوما بعد يوم، ومرة بعد مرة أنسوا بهم، واجترءوا عليهم، قال إبراهيم: الآن علمت أنك لي مناصح، صدقت، الرأي ما رأيت، أما إن صاحبي بهذا أوصاني، وبهذا الرأي أمرني قال عمير: فلا تعدون رأيه، فإن الشيخ قد ضرسته الحروب، وقاسى منها ما لم نقاس، أصبح فناهض الرجل. ثم إن عميرا انصرف، وأذكى ابن الأشتر حرسه تلك الليلة الليل كله، ولم يدخل عينه غمض، حتى إذا كان في السحر الأول عبى أصحابه، وكتب كتائبه، وأمر أمراءه فبعث سفيان بن يزيد بن المغفل الأزدي على ميمنته، وعلي بن مالك الجشمي على ميسرته، وهو أخو أبي الأحوص. وبعث عبد الرحمن بن عبد الله- وهو أخو إبراهيم بن الأشتر لأمه- على الخيل، وكانت خيله قليلة، فضمها إليه، وكانت في الميمنة والقلب، وجعل على رجالته الطفيل بن لقيط، وكانت رايته مع مزاحم بن مالك قال: فلما انفجر الفجر صلى بهم الغداة بغلس، ثم خرج بهم فصفهم، ووضع أمراء الأرباع في مواضعهم، وألحق أمير الميمنة بالميمنة، وأمير الميسرة بالميسرة، وأمير الرجالة بالرجالة، وضم الخيل إليه، وعليها أخوه لأمه عبد الرحمن بن عبد الله، فكانت وسطا من الناس، ونزل إبراهيم يمشي، وقال للناس: ازحفوا، فزحف الناس معه على رسلهم رويدا رويدا حتى أشرف على تل عظيم مشرف على القوم، فجلس عليه، وإذا أولئك لم يتحرك منهم أحد بعد- فسرح عبد الله بن زهير السلولي وهو على فرس له يتأكل تأكلا، فقال: قرب علي فرسك حتى تأتيني بخبر هؤلاء، فانطلق، فلم يلبث إلا يسيرا حتى جاء، فقال: قد خرج القوم على دهش وفشل، لقيني رجل منهم فما كان له هجيرى إلا يا شيعة أبي تراب، يا شيعة المختار الكذاب! فقلت: ما بيننا وبينكم أجل من الشتم، فقال لي: يا عدو الله، الام

تدعوننا! أنتم تقاتلون مع غير إمام، فقلت له: بل يا لثأرات الحسين، ابن رسول الله! ادفعوا إلينا عبيد الله بن زياد، فإنه قتل ابن رسول الله وسيد شباب أهل الجنة حتى نقتله ببعض موالينا الذين قتلهم مع الحسين، فانا لا نراه الحسين ندا فنرضى أن يكون منه قودا، وإذا دفعتموه إلينا فقتلناه ببعض موالينا الذين قتلهم جعلنا بيننا وبينكم كتاب الله، أو أي صالح من المسلمين شئتم حكما، فقال لي: قد جربناكم مرة أخرى في مثل هذا- يعني الحكمين- فغدرتم، فقلت له: وما هو؟ فقال: قد جعلنا بيننا وبينكم حكمين فلم ترضوا بحكمهما، فقلت له: ما جئت بحجة، إنما كان صلحنا على أنهما إذا اجتمعا على رجل تبعنا حكمهما، ورضينا به وبايعناه، فلم يجتمعا على واحد، وتفرقا، فكلاهما لم يوفقه الله لخير ولم يسدده، فقال: من أنت؟ فأخبرته، فقلت له: من أنت؟ فقال: عدس- لبغلته يزجرها- فقلت له: ما أنصفتني، هذا أول غدرك! قال: ودعا ابن الأشتر بفرس له فركبه، ثم مر بأصحاب الرايات كلها، فكلما مر على راية وقف عليها، ثم قال: يا أنصار الدين، وشيعة الحق، وشرطة الله، هذا عبيد الله بن مرجانة قاتل الحسين بن علي، ابن فاطمة بنت رسول الله، حال بينه وبين بناته ونسائه وشيعته وبين ماء الفرات أن يشربوا منه، وهم ينظرون إليه، ومنعه أن يأتي ابن عمه فيصالحه، ومنعه أن ينصرف إلى رحله وأهله، ومنعه الذهاب في الأرض العريضة حتى قتله وقتل اهل بيته، فو الله ما عمل فرعون بنجباء بني إسرائيل ما عمل ابن مرجانة بأهل بيت رسول الله ص الَّذِينَ أذهب اللَّه عَنْهُمُ الرجس وطهرهم تَطْهِيراً قد جاءكم الله به، وجاءه بكم، فو الله انى لأرجو الا يكون الله جمع بينكم في هذا الموطن وبينه إلا ليشفي صدوركم بسفك دمه على أيديكم، فقد علم الله أنكم خرجتم غضبا لأهل بيت نبيكم فسار فيما بين الميمنة والميسرة، وسار في الناس كلهم فرغبهم في الجهاد، وحرضهم على القتال، ثم رجع حتى نزل تحت رايته، وزحف القوم إليه، وقد جعل ابن زياد على

ميمنته الحصين بن نمير السكوني، وعلى ميسرته عمير بن الحباب السلمى، وشر حبيل بن ذي الكلاع على الخيل وهو يمشي في الرجال، فلما تدانى الصفان حمل الحصين بن نمير في ميمنة أهل الشام على ميسرة أهل الكوفة، وعليها علي بن مالك الجشمي، فثبت له هو بنفسه فقتل، ثم أخذ رايته قرة بن علي، فقتل أيضا من في رجال من أهل الحفاظ قتلوا وانهزمت الميسرة، فأخذ راية علي بن مالك الجشمي عبد الله بن ورقاء بن جنادة السلولي ابن أخي حبشي بن جنادة صاحب رسول الله ص، فاستقبل أهل الميسرة حين انهزموا، فقال: إلي يا شرطة الله، فأقبل إليه جلهم، فقال: هذا أميركم يقاتل، سيروا بنا إليه، فأقبل حتى أتاه وإذا هو كاشف عن رأسه ينادي: يا شرطة الله، إلي أنا ابن الأشتر! إن خير فراركم كراركم، ليس مسيئا من أعتب فثاب إليه أصحابه، وأرسل إلى صاحب الميمنة: احمل على ميسرتهم- وهو يرجو حينئذ ان ينهزم لهم عمير ابن الحباب كما زعم، فحمل عليهم صاحب الميمنة، وهو سفيان بن يزيد ابن المغفل، فثبت له عمير بن الحباب وقاتله قتالا شديدا، فلما رأى إبراهيم ذلك قال لأصحابه: أموا هذا السواد الأعظم، فو الله لو قد فضضناه لا نجفل من ترون منهم يمنة ويسرة انجفال طير ذعرتها فطارت. قال أبو مخنف: فحدثني إبراهيم بن عبد الرحمن الأنصاري، عن ورقاء بن عازب، قال: مشينا إليهم حتى إذا دنونا منهم أطعنا بالرماح قليلا، ثم صرنا إلى السيوف والعمد، فاضطر بنا بها مليا من النهار، فو الله ما شبهت ما سمعت بيننا وبينهم من وقع الحديد على الحديد إلا مياجن قصاري دار الوليد بن عقبة بن أبي معيط قال: فكان ذلك كذلك، ثم إن الله هزمهم، ومنحنا أكتافهم. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي الْحَارِث بن حصيرة، عن أبي صادق أن إبراهيم بن الأشتر كان يقول لصاحب رايته: انغمس برايتك فيهم، فيقول له: إنه- جعلت فداك- ليس لي متقدم، فيقول: بلى، فإن أصحابك

يقاتلون، وإن هؤلاء لا يهربون إن شاء الله، فإذا تقدم صاحب رايته برايته شد إبراهيم بسيفه فلا يضرب به رجلا إلا صرعه وكرد إبراهيم الرجال من بين يديه كأنهم الحملان، وإذا حمل برايته شد أصحابه شدة رجل واحد. قال أبو مخنف: حدثني المشرقي أنه كان مع عبيد الله بن زياد يومئذ حديدة لا تليق شيئا مرت به، وأنه لما هزم أصحابه حمل عيينة ابن أسماء أخته هند بنت أسماء- وكانت امرأة عبيد الله بن زياد- فذهب بها وأخذ يرتجز ويقول: إن تصرمي حبالنا فربما أرديت في الهيجا الكمي المعلما قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي فضيل بن خديج أن إبراهيم لما شد على ابن زياد وأصحابه انهزموا بعد قتال شديد وقتلى كثيرة بين الفريقين، وإن عمير بن الحباب لما رأى أصحاب إبراهيم قد هزموا أصحاب عبيد الله بعث إليه: أجيئك الان؟ فقال: لا تأتيني حتى تسكن فورة شرطة الله، فإني أخاف عليك عاد يتهم. وقال ابن الأشتر: قتلت رجلا وجدت منه رائحة المسك، شرقت يداه وغربت رجلاه، تحت راية منفردة، على شاطئ نهر خازر فالتمسوه فإذا هو عبيد الله بن زياد قتيلا، ضربه فقده بنصفين، فذهبت رجلاه في المشرق، ويداه في المغرب وحمل شريك بن جدير التغلبي على الحصين بن نمير السكوني وهو يحسبه عبيد الله بن زياد، فاعتنق كل واحد منهما صاحبه، ونادى التغلبي: اقتلوني وابن الزانية، فقتل ابن نمير. وحدثني عبد الله بن أحمد، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان، قَالَ: حدثني عبد الله بن المبارك، قال: حدثني الحسن بن كثير، قال: كان شريك بن جدير التغلبى مع على ع، أصيبت عينه معه، فلما انقضت حرب علي لحق ببيت المقدس، فكان به، فلما جاءه

قتل الحسين، قال: أعاهد الله أن قدرت على كذا وكذا- يطلب بدم الحسين- لأقتلن ابن مرجانة أو لأموتن دونه فلما بلغه أن المختار خرج يطلب بدم الحسين أقبل إليه قال: فكان وجهه مع إبراهيم بن الأشتر، وجعل على خيل ربيعة، فقال لأصحابه: إني عاهدت الله على كذا وكذا، فبايعه ثلاثمائة على الموت، فلما التقوا حمل فجعل يهتكها صفا صفا مع أصحابه حتى وصلوا إليه، وثار الرهج فلا يسمع إلا وقع الحديد والسيوف، فانفرجت عن الناس وهما قتيلان ليس بينهما احد، التغلبى وعبيد الله ابن زياد، قال: وهو الذي يقول: كل عيش قد أراه قذرا ... غير ركز الرمح في طل الفرس قال هشام: قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي فضيل بن خديج، قال: قتل شرحبيل بن ذي الكلاع، فادعى قتله ثلاثة: سفيان بن يزيد بن المغفل الأزدي، وورقاء بن عازب الأسدي، وعبيد الله بن زهير السلمي قال: ولما هزم أصحاب عبيد الله تبعهم أصحاب إبراهيم بن الأشتر، فكان من غرق أكثر ممن قتل، وأصابوا عسكرهم فيه من كل شيء، وبلغ المختار وهو يقول لأصحابه: يأتيكم الفتح أحد اليومين إن شاء الله من قبل ابراهيم ابن الأشتر وأصحابه، قد هزموا أصحاب عبيد الله بن مرجانة قال: فخرج المختار من الكوفة، واستخلف عليها السائب بن مالك الأشعري، وخرج بالناس، ونزل ساباط. قال أبو مخنف: حدثني المشرقي، عن الشعبي، قال: كنت أنا وأبي ممن خرج معه، قال: فلما جزنا ساباط قال للناس: أبشروا فإن شرطة الله قد حسوهم بالسيوف يوما إلى الليل بنصيبين أو قريبا من نصيبين، ودوين منازلهم، إلا أن جلهم محصور بنصيبين قال: ودخلنا المدائن، واجتمعنا اليه، فصعد المنبر، فو الله إنه ليخطبنا ويأمرنا بالجد وحسن

الرأي والاجتهاد والثبات على الطاعة، والطلب بدماء اهل البيت ع، إذ جاءته البشرى تترى يتبع بعضها بعضا بقتل عبيد الله بن زياد وهزيمة أصحابه، وأخذ عسكره، وقتل أشراف أهل الشام، فقال المختار: يا شرطة الله، ألم أبشركم بهذا قبل أن يكون! قالوا: بلى والله لقد قلت ذلك، قال: فيقول لي رجل من بعض جيراننا من الهمدانيين: اتؤمن الآن يا شعبي؟ قال: قلت بأي شيء أومن؟ أومن بأن المختار يعلم الغيب! لا أومن بذلك ابدا قال: او لم يقل لنا: إنهم قد هزموا! فقلت له: إنما زعم لنا أنهم هزموا بنصيبين من أرض الجزيرة، وإنما هو بخازر من أرض الموصل، فقال: والله لا تؤمن يا شعبي حتى ترى العذاب الأليم، فقلت له: من هذا الهمداني الذي يقول لك هذا؟ فقال: رجل لعمري كان شجاعا- قتل مع المختار بعد ذلك يوم حروراء- يقال له: سلمان بن حمير من الثوريين من همدان، قال: وانصرف المختار إلى الكوفة، ومضى ابن الأشتر من عسكره إلى الموصل، وبعث عماله عليها، فبعث أخاه عبد الرحمن بن عبد الله على نصيبين، وغلب على سنجار ودارا، وما والاها من أرض الجزيرة، وخرج أهل الكوفة الذين كان المختار قاتلهم فهزمهم، فلحقوا بمصعب بن الزبير بالبصرة وكان فيمن قدم على مصعب شبث بن ربعي، فقال سراقه ابن مرداس البارقي يمدح إبراهيم بن الأشتر وأصحابه في قتل عبيد الله ابن زياد: أتاكم غلام من عرانين مذحج ... جري على الأعداء غير نكول فيا بن زياد بؤ بأعظم مالك ... وذق حد ماضي الشفرتين صقيل ضربناك بالعضب الحسام بحدة ... إذا ما أبأنا قاتلا بقتيل جزى الله خيرا شرطة الله إنهم ... شفوا من عبيد الله أمس غليلى

ذكر الخبر عن عزل القباع عن البصره

ذكر الخبر عن عزل القباع عن البصره وفي هذه السنة عزل عبد الله بن الزبير القباع عن البصرة، وبعث عليها أخاه مصعب بن الزبير، فحدثني عمر بن شبة، قال: حدثني علي ابن مُحَمَّد، قال: حدثنا الشعبي، قال: حدثني وافد بن أبي ياسر، قال: كان عمرو بن سرح مولى الزبير يأتينا فيحدثنا، قال: كنت والله في الرهط الذين قدموا مع المصعب بن الزبير من مكة إلى البصرة، قال: فقدم متلثما حتى أناخ على باب المسجد، ثم دخل فصعد المنبر، فقال الناس: أمير أمير قال: وجاء الْحَارِث بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ- وهو أميرها قبله- فسفر المصعب فعرفوه، وقالوا: مصعب بن الزبير! فقال: للحارث: أظهر أظهر، فصعد حتى جلس تحته من المنبر درجة، قال: ثم قام المصعب فحمد الله واثنى عليه قال: فو الله ما أكثر الكلام، ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم: «طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى» إلى قوله: «إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» - وأشار بيده نحو الشام- «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ» - وأشار بيده نحو الحجاز- «وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ» - وأشار بيده نحو الشام. حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بن مُحَمَّد، عن عوانة، قال: لما قدم مصعب البصرة خطبهم فقال: يا أهل البصرة، بلغني أنكم تلقبون أمراءكم، وقد سميت نفسي الجزار . ذكر خبر قتل مصعب المختار بن ابى عبيد وفي هذه السنة سار مصعب بن الزبير إلى المختار فقتله. ذكر الخبر عن سبب مسير مصعب إليه والخبر عن مقتل المختار:

قال هشام بن مُحَمَّد، عن أبي مخنف، حدثني حبيب بن بديل، قال: لما قدم شبث على مصعب بن الزبير البصرة وتحته بغلته له قد قطع ذنبها، وقطع طرف أذنها وشق قباءه، وهو ينادي: يا غوثاه يا غوثاه! فأتى مصعب، فقيل له: إن بالباب رجلا ينادي: يا غوثاه يا غوثاه! مشقوق القباء، من صفته كذا وكذا، فقال لهم: نعم، هذا شبث بن ربعي لم يكن ليفعل هذا غيره، فأدخلوه، فأدخل عليه، وجاءه أشراف الناس من أهل الكوفة فدخلوا عليه، فأخبروه بما اجتمعوا له، وبما أصيبوا به ووثوب عبيدهم ومواليهم عليهم، وشكوا إليه، وسألوه النصر لهم، والمسير إلى المختار معهم وقدم عليهم مُحَمَّد بن الأشعث بن قيس- ولم يكن شهد وقعة الكوفة، كان في قصر له مما يلي القادسية بطيزناباذ- فلما بلغه هزيمه الناس تهيأ الشخوص، وسأل عنه المختار، فأخبر بمكانه، فسرح إليه عبد الله بن قراد الخثعمي في مائة، فلما ساروا إليه، وبلغه أن قد دنوا منه، خرج في البرية نحو المصعب حتى لحق به، فلما قدم على المصعب استحثه بالخروج، وأدناه مصعب وأكرمه لشرفه قال: وبعث المختار إلى دار مُحَمَّد بن الأشعث فهدمها قال أبو مخنف: فحدثني أبو يوسف بن يزيد أن المصعب لما أراد المسير إلى الكوفة حين أكثر الناس عليه، قال لمُحَمَّد بن الأشعث: إني لا أسير حتى يأتيني المهلب بن أبي صفرة فكتب المصعب إلى المهلب- وهو عامله على فارس: أن أقبل إلينا لتشهد أمرنا، فإنا نريد المسير إلى الكوفة فأبطأ عليه المهلب وأصحابه، واعتل بشيء من الخراج، لكراهة الخروج، فأمر مصعب مُحَمَّد بن الأشعث في بعض ما يستحثه أن يأتي المهلب فيقبل به، وأعلمه أنه لا يشخص دون أن يأتي المهلب، فذهب مُحَمَّد بن الأشعث بكتاب المصعب إلى المهلب، فلما قرأه قال له: مثلك يا مُحَمَّد يأتي بريدا! أما وجد المصعب بريدا غيرك! قال مُحَمَّد: إني والله ما أنا ببريد أحد، غير أن نساءنا وأبناءنا وحرمنا غلبنا عليهم عبداننا وموالينا فخرج المهلب،

وأقبل بجموع كثيرة وأموال عظيمة معه في جموع وهيئة ليس بها أحد من أهل البصرة ولما دخل المهلب البصرة أتى باب المصعب ليدخل عليه وقد أذن للناس، فحجبه الحاجب وهو لا يعرفه، فرفع المهلب يده فكسر أنفه، فدخل إلى المصعب وأنفه يسيل دما، فقال له: مالك؟ فقال: ضربني رجل ما أعرفه، ودخل المهلب فلما رآه الحاجب قال: هو ذا، قال له المصعب: عد إلى مكانك، وأمر المصعب الناس بالمعسكر عند الجسر الأكبر، ودعا عبد الرحمن بن مخنف فقال له: ائت الكوفة فأخرج إلي جميع من قدرت عليه أن تخرجه، وادعهم إلى بيعتي سرا، وخذل أصحاب المختار، فانسل من عنده حتى جلس في بيته مستترا لا يظهر، وخرج المصعب فقدم أمامه عباد بن الحصين الحبطي من بني تميم على مقدمته، وبعث عمر بن عبيد الله بن معمر على ميمنته، وبعث المهلب بن أبي صفرة على ميسرته، وجعل مالك بن مسمع على خمس بكر بن وائل، ومالك بن المنذر على خمس عبد القيس، والأحنف بن قيس على خمس تميم وزياد بن عمرو الأزدي على خمس الأزد، وقيس بن الهيثم على خمس أهل العالية، وبلغ ذلك المختار، فقام في أَصْحَابه فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: يَا أهل الكوفة، يا أهل الدين، وأعوان الحق، وأنصار الضعيف، وشيعة الرسول، وآل الرسول، إن فراركم الذين بغوا عليكم أتوا أشباههم من الفاسقين فاستغووهم عليكم ليمصح الحق، وينتعش الباطل، ويقتل أولياء الله، والله لو تهلكون ما عبد الله في الأرض إلا بالفري على الله واللعن لأهل بيت نبيه انتدبوا مع أحمر بن شميط فإنكم لو قد لقيتموهم لقد قتلتموهم إن شاء الله قتل عاد وإرم. فخرج أحمر بن شميط، فعسكر بحمام أعين، ودعا المختار رءوس الأرباع الذين كانوا مع ابن الأشتر، فبعثهم مع أحمر بن شميط، كما كانوا مع ابن الأشتر، فإنهم إنما فارقوا ابن الأشتر، لأنهم رأوه كالمتهاون بأمر المختار، فانصرفوا عنه، وبعثهم المختار مع ابن شميط، وبعث معه جيشا كثيفا،

فخرج ابن شميط، فبعث على مقدمته ابن كامل الشاكري، وسار أحمر بن شميط حتى ورد المذار، وجاء المصعب حتى عسكر منه قريبا. ثم إن كل واحد منهما عبى جنده، ثم تزاحفا، فجعل أحمر بن شميط على ميمنته عبد الله بن كامل الشاكري، وعلى ميسرته عبد الله ابن وهب بن نضلة الجشمي، وعلى الخيل رزين عبد السلولي، وعلى الرجالة كثير بن إسماعيل الكندي- وكان يوم خازر مع ابن الأشتر- وجعل كيسان أبا عمرة- وكان مولى لعرينة- على الموالي، فجاء عبد الله بن وهب بن أنس الجشمي إلى ابن شميط وقد جعله على ميسرته، فقال له: إن الموالي والعبيد آل خور عند المصدوقة، وإن معهم رجالا كثيرا على الخيل، وأنت تمشي، فمرهم فلينزلوا معك، فإن لهم بك أسوة، فإني اتخوف ان طوردوا ساعه، وطوعنوا وضوربوا أن يطيروا على متونها ويسلموك، وإنك إن أرجلتهم لم يجدوا من الصبر بدا، وإنما كان هذا منه غشا للموالي والعبيد، لما كانوا لقوا منهم بالكوفة، فأحب إن كانت عليهم الدبرة أن يكونوا رجالا لا ينجو منهم أحد، ولم يتهمه ابن شميط، وظن أنه إنما أراد بذلك نصحه ليصبروا ويقاتلوا، فقال: يا معشر الموالي، انزلوا معي فقاتلوا، فنزلوا معه، ثم مشوا بين يديه وبين يدي رايته، وجاء مصعب بن الزبير وقد جعل عباد 2؟ 72 ابن الحصين على الخيل، فجاء عباد حتى دنا من ابن شميط وأصحابه فقال: إنما ندعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، وإلى بيعة امير المؤمنين عبد الله ابن الزبير، وقال الآخرون: إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، وإلى بيعة الأمير المختار، وإلى أن نجعل هذا الأمر شورى في آل الرسول، فمن زعم من الناس أن أحدا ينبغي له أن يتولى عليهم برئنا منه وجاهدناه. فانصرف عباد إلى المصعب فأخبره، فقال له: ارجع فاحمل عليهم، فرجع فحمل على ابن شميط وأصحابه فلم يزل منهم أحد، ثم انصرف إلى موفقه وحمل المهلب على ابن كامل، فجال أصحابه بعضهم في بعض، فنزل ابن كامل، ثم انصرف عنه المهلب، فقام مكانه، فوقفوا ساعة

ثم قال المهلب لأصحابه: كروا كرة صادقة، فإن القوم قد أطمعوكم، وذلك بجولتهم التي جالوا، فحمل عليهم حملة منكرة فولوا، وصبر ابن كامل في رجال من همدان، فأخذ المهلب يسمع شعار القوم: أنا الغلام الشاكري، انا الغلام الشبامي، أنا الغلام الثوري، فما كان إلا ساعة حتى هزموا، وحمل عمر بن عبيد الله بن معمر على عبد الله ابن أنس، فقاتل ساعة ثم انصرف، وحمل الناس جميعا على ابن شميط، فقاتل حتى قتل، وتنادوا: يا معشر بجيلة وخثعم، الصبر الصبر! فناداهم المهلب: الفرار الفرار! اليوم أنجى لكم، علام تقتلون أنفسكم مع هذه العبدان، أضل الله سعيكم ثم نظر إلى أصحابه فقال: والله ما أرى استحرار القتل اليوم إلا في قومي ومالت الخيل على رجالة ابن شميط، فافترقت فانهزمت وأخذت الصحراء، فبعث المصعب عباد بن الحصين على الخيل، فقال: أيما أسير أخذته فاضرب عنقه. وسرح مُحَمَّد بن الاشعث في خيل عظيمه أهل الكوفة ممن كان المختار طردهم، فقال: دونكم ثأركم! فكانوا حيث انهزموا أشد عليهم من أهل البصرة، لا يدركون منهزما إلا قتلوه، ولا يأخذون أسيرا فيعفون عنه قال: فلم ينج من ذلك الجيش إلا طائفة من أصحاب الخيل، وأما رجالتهم فأبيدوا إلا قليلا. قال أبو مخنف: حدثني ابن عياش المنتوف، عن معاوية بن قرة المزني، قال: انتهيت إلى رجل منهم، فأدخلت سنان الرمح في عينه، فأخذت أخضخض عينه بسنان رمحي، فقلت له: وفعلت به هذا؟ قال: نعم، إنهم كانوا أحل عندنا دماء من الترك والديلم، وكان معاوية بن قرة قاضيا لأهل البصره، ففي ذلك يقول الأعشى: الأهل اتَاكَ والأنباء تنمى ... بما لاقت بجيلة بالمذار اتيح لهم بها ضرب طلحف ... وطعن صائب وجه النهار كأن سحابة صعقت عليهم ... فعمتهم هنالك بالدمار

فبشر شيعة المختار إما ... مررت على الكويفة بالصغار أقر العين صرعاهم وفل ... لهم جم يقتل بالصحاري وما إن سرني إهلاك قومي ... وإن كانوا وجدك في خيار ولكني سررت بما يلاقي ... أبو إسحاق من خزي وعار وأقبل المصعب حتى قطع من تلقاء واسط القصب، ولم تك واسط هذه بنيت حينئذ بعد، فأخذ في كسكر، ثم حمل الرجال وأثقالهم وضعفاء الناس في السفن، فأخذوا في نهر يقال له: نهر خرشاذ، ثم خرجوا من ذلك النهر إلى نهر يقال له قوسان، ثم أخرجهم من ذلك النهر إلى الفرات. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي فضيل بن خديج الكندي، إن أهل البصرة كانوا يخرجون فيجرون سفنهم ويقولون: عودنا المصعب جر القلس ... والزنبريات الطوال القعس قال: فلما بلغ من مع المختار من تلك الأعاجم ما لقي إخوانهم مع ابن شميط قالوا بالفارسية: أين بار دروغ كفت، يقولون: هذه المرة كذب. قال أبو مخنف: وحدثني هشام بن عبد الرحمن الثقفي، عن عبد الرَّحْمَن بن أبي عمير الثقفي، قال: والله إني لجالس عند المختار حين أتاه هزيمة القوم وما لقوا، قال: فأصغى إلي، فقال: قتلت والله العبيد قتلة ما سمعت بمثلها قط ثم قال: وقتل ابن شميط وابن كامل وفلان وفلان، فسمى رجالا من العرب أصيبوا، كان الرجل منهم في الحرب خيرا من فئام من الناس قال: فقلت له: فهذه والله مصيبة، فقال لي: ما من الموت بد، وما من ميتة أموتها أحب إلي من مثل ميتة ابن

شميط، حبذا مصارع الكرام! قال: فعلمت أن الرجل قد حدث نفسه إن لم يصب حاجته أن يقاتل حتى يموت. ولما بلغ المختار أنهم قد أقبلوا إليه في البحر، وعلى الظهر، سار حتى نزل بهم السيلحين، ونظر إلى مجتمع الأنهار نهر الحيرة ونهر السيلحين ونهر القادسية، ونهر يوسف، فسكر الفرات على مجتمع الأنهار، فذهب ماء الفرات كله في هذه الأنهار، وبقيت سفن أهل البصرة في الطين، فلما رأوا ذلك خرجوا من السفن يمشون، وأقبلت خيلهم تركض حتى أتوا ذلك السكر، فكسروه وصمدوا صمد الكوفة، فلما رأى ذلك المختار أقبل إليهم حتى نزل حر وراء، وحال بينهم وبين الكوفه، قد كان حصن قصره والمسجد، وأدخل في قصره عدة الحصار، وجاء المصعب يسير إليه وهو بحروراء وقد استعمل على الكوفة عبد الله ابن شداد، وخرج إليه المختار وقد جعل على ميمنته سليم بن يزيد الكندي، وجعل على ميسرته سعيد بن منقذ الهمداني ثم الثوري، وكان على شرطته يومئذ عبد الله بن قراد الخثعمي، وبعث على الخيل عمر بن عبد الله النهدي، وعلى الرجال مالك بن عمرو النهدي، وجعل مصعب على ميمنته المهلب بن أبي صفرة، وعلى ميسرته عُمَر بن عُبَيْد اللَّهِ بن معمر التيمي، وعلى الخيل عباد بن الحصين الحبطى، على الرجال مقاتل بن مسمع البكري، ونزل هو يمشي متنكبا قوسا له. قال: وجعل على أهل الكوفة مُحَمَّد بن الأشعث، فجاء مُحَمَّد حتى نزل بين المصعب والمختار مغربا ميامنا قال: فلما رأى ذلك المختار بعث إلى كل خمس من أخماس أهل البصرة رجلا من اصحابه، فبعث الى بكر ابن وائل سعيد بن منقذ صاحب ميسرته، وعليهم مالك بن مسمع البكري، وبعث إلى عبد القيس وعليهم مالك بن المنذر عبد الرحمن بن

شريح الشبامي، وكان على بيت ماله، وبعث الى اهل العاليه وعليهم قيس ابن الهيثم السلمي عبد الله بن جعدة القرشي، ثم المخزومي، وبعث إلى الأزد وعليهم زياد بن عمرو العتكي مسافر بن سعيد بن نمران الناعطي، وبعث إلى بني تميم وعليهم الأحنف بن قيس سليم بن يزيد الكندي، وكان صاحب ميمنته، وبعث إلى مُحَمَّد بن الأشعث السائب بن مالك الأشعري، ووقف في بقية أصحابه، وتزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض، ويحمل سعيد بن منقذ وعبد الرحمن بن شريح على بكر بن وائل، وعبد القيس، وهم في الميسرة وعليهم عمر بن عبيد الله بن معمر، فقاتلتهم ربيعة قتالا شديدا، وصبروا لهم، وأخذ سعيد بن منقذ وعبد الرحمن بن شريح لا يقلعان، إذا حمل واحد فانصرف حمل الآخر، وربما حملا جميعا، قال: فبعث المصعب إلى المهلب: ما تنتظر أن تحمل على من بإزائك! ألا ترى ما يلقى هذان الخمسان منذ اليوم! احمل بأصحابك، فقال: أي لعمري ما كنت لأجزر الأزد وتميما خشية أهل الكوفة حتى أرى فرصتي قال: وبعث المختار إلى عبد الله بن جعدة أن احمل على من بإزائك، فحمل على أهل العالية فكشفهم حتى انتهوا إلى المصعب، فجثا المصعب على ركبتيه- ولم يكن فرارا- فرمى بأسهمه. ونزل الناس عنده فقاتلوا ساعة، ثم تحاجزوا قال: وبعث المصعب إلى المهلب وهو في خمسين جامين كثيري العدد والفرسان: لا أبا لك! ما تنتظر أن تحمل على القوم! فمكث غير بعيد، ثم إنه قال لأصحابه: قد قاتل الناس منذ اليوم وأنتم وقوف، وقد أحسنوا، وقد بقي ما عليكم، احملوا واستعينوا بالله واصبروا، فحمل على من يليه حملة منكرة، فحطموا أصحاب المختار حطمة منكرة، فكشفوهم وقال عبد الله ابن عمرو النهدي- وكان من أصحاب صفين: اللهم إني على ما كنت عليه ليلة الخميس بصفين، اللهم إني أبرأ إليك من فعل هؤلاء لأصحابه حين انهزموا، وأبرأ إليك من أنفس هؤلاء- يعني أصحاب المصعب- ثم جالد بسيفه حتى قتل، وأتى مالك بن عمرو أبو نمران النهدي وهو

على الرجاله بفرسه، وانقصف أصحاب المختار انقصافة شديدة كأنهم أجمة فيها حريق، فقال مالك حين ركب: ما اصنع بالركوب! والله لان اقتل هاهنا أحب إلي من أن أقتل في بيتي، أين أهل البصائر؟ أين أهل الصبر؟ فثاب إليه نحو من خمسين رجلا، وذلك عند المساء، فكر على أصحاب مُحَمَّد بن الأشعث، فقتل مُحَمَّد بن الأشعث إلى جانبه هو وعامة أصحابه، فبعض الناس يقول: هو قتل مُحَمَّد بن الأشعث، ووجد أبو نمران قتيلا إلى جانبه- وكندة تزعم أن عبد الملك بن أشاءة الكندي هو الذي قتله- فلما مر المختار في أصحابه على مُحَمَّد بن الأشعث قتيلا قال: يا معشر الأنصار، كروا على الثعالب الرواغة، فحملوا عليهم، فقتل، خثعم تزعم أن عبد الله بن قراد هو الذي قتله قال أبو مخنف: وسمعت عوف بن عمرو الجشمي يزعم أن مولى لهم قتله، فادعى قتله أربعة نفر، كلهم يزعم أنه قتله، وانكشف أصحاب سعيد بن منقذ، فقاتل في عصابة من قومه نحو من سبعين رجلا فقتلوا، وقاتل سليم بن يزيد الكندي في تسعين رجلا من قومه، وغيرهم ضارب حتى قتل، وقاتل المختار على فم سكه شبث، ونزل وهو يريد الا يبرح، فقاتل عامة ليلته حتى انصرف عنه القوم، وقتل معه ليلتئذ رجال من أصحابه من أهل الحفاظ، منهم عاصم بن عبد الله الأزدي، وعياش بن خازم الهمداني، ثم الثوري، وأحمر بن هديج الهمداني ثم الفايشي. قال أبو مخنف: حدثنا أبو الزبير أن همدان تنادوا ليلتئذ: يا معشر همدان، سيفوهم فقاتلوهم أشد القتال، فلما أن تفرقوا عن المختار قال له أصحابه: أيها الأمير، قد ذهب القوم فانصرف إلى منزلك إلى القصر، فقال المختار: أما والله ما نزلت وأنا اريد ان آتى القصر، فاما إذا انصرفوا فاركبوا بنا على اسم الله، فجاء حتى دخل القصر فقال الأعشى في قتل مُحَمَّد بن الأشعث: تأَوَّب عينك عوارها ... وعاد لنفسك تذكارها

واحدى لياليك راجعتها ... ارقت ولوم سمارها وما ذاقت العين طعم الرقاد ... حتى تبلج إسفارها وقام نعاة أبي قاسم ... فأسبل بالدمع تحدارها فحق العيون على ابن الأشج ... الا يفتر تقطارها وألا تزال تبكي له ... وتبتل بالدمع أشفارها عليك مُحَمَّدُ لما ثويت ... تبكي البلاد وأشجارها وما يذكرونك إلا بكوا ... إذا ذمة خانها جارها وعارية من ليالي الشتاء ... لا يتمنح أيسارها ولا ينبح الكلب فيها العقور ... إلا الهرير وتختارها ولا ينفع الثوب فيها الفتى ... ولا ربة الخدر تخدارها فأنت مُحَمَّدُ في مثلها ... مهين الجزائر نحارها تظل جفانك موضوعة ... تسيل من الشحم أصبارها وما في سقائك مستنطف ... إذا الشول روح أغبارها فيا واهب الوصفاء الصباح ... ان شبرت تم إشبارها ويا واهب الجرد مثل القداح ... قد يعجب الصف شوارها ويا واهب البكرات الهجان ... عوذا تجاوب أبكارها وكنت كدجلة إذ ترتمي ... فيقذف في البحر تيارها وكنت جليدا وذا مرة ... إذا يبتغى منك إمرارها وكنت إذا بلدة أصفقت ... وآذن بالحرب جبارها بعثت عليها ذواكي العيون ... حتى تواصل أخبارها بإذن من الله والخيل قد ... أعد لذلك مضمارها وقد تطعم الخيل منك الوجيف ... حتى تنبذ أمهارها

وقد تعلم البازل العيسجور ... أنك بالخبت حسارها فيا أسفي يوم لاقيتهم ... وخانت رجالك فرارها واقبلت الخيل مهزومه ... عثارا تضرب أدبارها بشط حروراء واستجمعت ... عليك الموالي وسحارها فأخطرت نفسك من دونهم ... فحاز الرزيئة أخطارها فلا تبعدن أبا قاسم ... فقد يبلغ النفس مقدارها وأفنى الحوادث ساداتنا ... ومر الليالي وتكرارها قال هشام: قال أبي: كان السائب أتى مع مصعب بن الزبير، فقتله ورقاء النخعى من وهبيل، فقال ورقاء:. من مبلغ عني عبيدا بأنني ... علوت أخاه بالحسام المهند فإن كنت تبغي العلم عنه فإنه ... صريع لدى الديرين غير موسد وعمدا علوت الرأس منه بصارم ... فأثكلته سفيان بعد مُحَمَّد قَالَ هِشَامٌ عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي حصيره بن عبد الله، ان هندا بنت المتكلفة الناعطية كان يجتمع إليها كل غال من الشيعة فيتحدث في بيتها وفي بيت ليلى بنت قمامة المزنية، وكان أخوها رفاعة ابن قمامة من شيعة علي، وكان مقتصدا، فكانت لا تحبه، فكان أبو عبد الله الجدلي ويزيد بن شراحيل قد أخبرا ابن الحنفية خبر هاتين المرأتين وغلوهما وخبر أبي الأحراس المرادي والبطين الليثي وأبي الحارث الكندي. قَالَ هِشَامٌ عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يحيى بن أبي عيسى، قال: فكان ابن الحنفية قد كتب مع يزيد بن شراحيل إلى الشيعة بالكوفة يحذرهم هؤلاء، فكتب إليهم: من مُحَمَّد بن علي إلى من بالكوفة من شيعتنا أما بعد، فاخرجوا إلى المجالس والمساجد فاذكروا الله علانية وسرا ولا تتخذوا من دون المؤمنين

بطانة، فإن خشيتم على أنفسكم فاحذروا على دينكم الكذابين، وأكثروا الصلاة والصيام والدعاء فإنه ليس أحد من الخلق يملك لأحد ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله، وكُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، * والله قائم على كل نفس بما كسبت، فاعملوا صالحا، وقدموا لأنفسكم حسنا، ولا تكونوا من الغافلين، والسلام عليكم. قال أبو مخنف: فحدثني حصيرة بن عبد الله، أن عبد الله بن نوف خرج من بيت هند بنت المتكلفة حين خرج الناس إلى حروراء وهو يقول: يوم الأربعاء، ترفعت السماء، ونزل القضاء، بهزيمة الأعداء، فاخرجوا على اسم الله إلى حروراء فخرج، فلما التقى الناس للقتال ضرب على وجهه ضربة، ورجع الناس منهزمين، ولقيه عبد الله بن شريك النهدي، وقد سمع مقالته، فقال له: الم تزعم لنا يا بن نوف انا سنهزمهم! قال: او ما قرات في كتاب الله: «يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ» ! قال: فلما أصبح المصعب أقبل يسير بمن معه من أهل البصرة ومن خرج إليه من أهل الكوفة، فأخذ بهم نحو السبخة، فمر بالمهلب، فقال له المهلب: يا له فتحا ما أهنأه لو لم يكن مُحَمَّد بن الأشعث قتل! قال: صدقت، فرحم الله مُحَمَّدا ثم سار غير بعيد، ثم قال: يا مهلب، قال: لبيك أيها الأمير، قال: هل علمت أن عبيد الله بن علي بن أبي طالب قد قتل! قال: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» ، قال: المصعب: إما أنه كان ممن أحب أن يرى هذا الفتح، ثم لا نجعل أنفسنا أحق بشيء مما نحن فيه منه، أتدري من قتله؟ قال: لا، قال: إنما قتله من يزعم أنه لأبيه شيعة، أما إنهم قد قتلوه وهم يعرفونه. قال: ثم مضى حتى نزل السبخة فقطع عنهم الماء والمادة، وبعث عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الاشعث فنزل الكناسة، وبعث عبد الرحمن ابن مخنف بن سليم إلى جبانة السبيع، وقد كان قال لعبد الرحمن بن مخنف: ما كنت صنعت فيما كنت وكلتك به؟ قال: أصلحك الله! وجدت

الناس صنفين، أما من كان له فيك هوى فخرج إليك، وأما من كان يرى رأي المختار، فلم يكن ليدعه، ولا ليؤثر أحدا عليه، فلم أبرح بيتي حتى قدمت، قال: صدقت، وبعث عباد بن الحصين إلى جبانة كندة، فكل هؤلاء كان يقطع عن المختار وأصحابه الماء والمادة، وهم في قصر المختار، وبعث زحر بن قيس إلى جبانة مراد، وبعث عبيد الله بن الحر إلى جبانة الصائديين. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي فضيل بن خديج، قال: لقد رأيت عبيد الله ابن الحر، وإنه ليطارد أصحاب خيل المختار، يقاتلهم في جبانة الصائديين ولربما رأيت خيلهم تطرد خيله، وإنه لوراء خيله يحميها حتى ينتهي إلى دار عكرمة، ثم يكر راجعا هو وخيله، فيطردهم حتى يلحقهم بجبانة الصائديين، ولربما رأيت خيل عبيد الله قد أخذت السقاء والسقاءين فيضربون، وإنما كانوا يأتونهم بالماء إنهم كانوا يعطونهم بالراوية الدينار والدينارين لما أصابهم من الجهد وكان المختار ربما خرج هو وأصحابه فقاتلوا قتالا ضعيفا، ولا نكاية لهم، وكانت لا تخرج له خيل إلا رميت بالحجارة من فوق البيوت، ويصب عليهم الماء القذر. واجترأ عليهم الناس، فكانت معايشهم أفضلها من نسائهم، فكانت المرأة تخرج من منزلها معها الطعام واللطف والماء، قد التحفت عليه، فتخرج كأنما تريد المسجد الأعظم للصلاة، وكأنها تأتي أهلها وتزور ذات قرابة لها، فإذا دنت من القصر فتح لها، فدخلت على زوجها وحميمها بطعامه وشرابه ولطفه وإن ذلك بلغ المصعب وأصحابه، فقال له المهلب- وكان مجربا: اجعل عليهم دروبا حتى تمنع من يأتيهم من أهليهم وأبنائهم، وتدعهم في حصنهم حتى يموتوا فيه وكان القوم إذا اشتد عليهم العطش في قصرهم استقوا من ماء البئر ثم أمر لهم المختار بعسل فصب فيه ليغير طعمه فيشربوا منه، فكان ذلك أيضا مما يروي أكثرهم ثم إن مصعبا أمر أصحابه فاقتربوا من القصر، فجاء عباد بن الحصين الحبطي حتى نزل عند مسجد جهينة، وكان ربما تقدم حتى ينتهي إلى مسجد

بني مخزوم، وحتى يرمي أصحابه من أشرف عليهم من أصحاب المختار من القصر، وكان لا يلقى امرأة قريبا من القصر إلا قال لها: من أنت؟ ومن أين جئت؟ وما تريدين؟ فأخذ في يوم ثلاث نسوة للشباميين وشاكر أتين أزواجهن في القصر، فبعث بهن إلى مصعب، وإن الطعام لمعهن، فردهن مصعب ولم يعرض لهن، وبعث زحر بن قيس، فنزل عند الحدادين حيث تكرى الدواب، وبعث عبيد الله بن الحر فكان موقفه عند دار بلال، وبعث مُحَمَّد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس فكان موقفه عند دار أبيه، وبعث حوشب بن يزيد فوقف عند زقاق البصريين عند فم سكة بني جذيمة بن مالك من بني أسد بن خزيمة، وجاء المهلب يسير حتى نزل چهار سوج خنيس، وجاء عبد الرحمن بن مخنف من قبل دار السقاية، وابتدر السوق أناس من شباب أهل الكوفة وأهل البصرة، أغمار ليس لهم علم بالحرب، فأخذوا يصيحون- وليس لهم امير: يا بن دومه، يا بن دومة! فأشرف عليهم المختار فقال: أما والله لو أن الذي يعيرني بدومة كان من القريتين عظيما ما عيرني بها وبصر بهم وبتفرقهم وهيئتهم وانتشارهم، فطمع فيهم، فقال لطائفة من أصحابه: اخرجوا معي، فخرج معه منهم نحو من مائتي رجل، فكر عليهم، فشدخ نحوا من مائة، وهزمهم، فركب بعضهم بعضا، وأخذوا على دار فرات بن حيان العجلي ثم إن رجلا من بني ضبة من أهل البصرة يقال له يحيى بن ضمضم، كانت رجلاه تكادان تخطان الأرض إذا ركب من طوله، وكان أقتل شيء للرجال وأهيبه عندهم إذا رأوه، فأخذ يحمل على أصحاب المختار فلا يثبت له رجل صمد صمده، وبصر به المختار، فحمل عليه فضربه ضربة على جبهته فأطار جبهته وقحف رأسه، وخر ميتا ثم إن تلك الأمراء وتلك الرءوس أقبلوا من كل جانب، فلم تكن لأصحابه بهم طاقة، فدخلوا القصر، فكانوا فيه، فاشتد عليهم الحصار فقال لهم المختار: ويحكم! إن الحصار لا يزيدكم إلا ضعفا، انزلوا بنا فلنقاتل حتى نقتل كراما إن نحن قتلنا، والله ما أنا بآيس إن صدقتموهم

أن ينصركم الله، فضعفوا وعجزوا، فقال لهم المختار: اما انا فو الله لا أعطي بيدي ولا أحكمهم في نفسي ولما رأى عبد الله بن جعدة بن هبيرة ابن أبي وهب ما يريد المختار تدلى من القصر بحبل، فلحق بأناس من اخوانه، فاختبا عندهم ثم إن المختار أزمع بالخروج إلى القوم حين رأى من أصحابه الضعف، ورأى ما بأصحابه من الفشل، فأرسل إلى امرأته أم ثابت بنت سمرة بن جندب الفزاري، فأرسلت اليه بطيب كثير، فاغتسل ونحنط، ثم وضع ذلك الطيب على رأسه ولحيته، ثم خرج في تسعة عشر رجلا، فيهم السائب بن مالك الأشعري- وكان خليفته على الكوفة إذا خرج إلى المدائن- وكانت تحته عمرة بنت أبي موسى الأشعري، فولدت له غلاما، فسماه مُحَمَّدا، فكان مع أبيه في القصر، فلما قتل أبوه وأخذ من في القصر وجد صبيا فترك، ولما خرج المختار من القصر قال للسائب: ماذا ترى؟ قال: الرأي لك، فماذا ترى؟ قال: أنا أرى أم الله يرى! قال: الله يرى، قال: ويحك! أحمق أنت! إنما أنا رجل من العرب رأيت ابن الزبير انتزى على الحجاز، ورأيت نجدة انتزى على اليمامة، ومروان على الشام، فلم أكن دون أحد من رجال العرب، فأخذت هذه البلاد، فكنت كأحدهم، إلا أني قد طلبت بثأر اهل بيت النبي ص إذ نامت عنه العرب، فقتلت من شرك في دمائهم، وبالغت في ذلك إلى يومي هذا، فقاتل على حسبك إن لم تكن لك نية، فقال: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» ، وما كنت أصنع أن أقاتل على حسبي! فقال المختار عند ذلك يتمثل بقول غيلان بن سلمة بن معتب الثقفي: ولو يراني أبو غيلان إذ حسرت ... عني الهموم بأمر ما له طبق لقال رهبا ورعبا يجمعان معا ... غنم الحياة وهول النفس والشفق إما تسف على مجد ومكرمة ... أو أسوة لك فيمن تهلك الورق فخرج في تسعة عشر رجلا فقال لهم: أتؤمنوني وأخرج إليكم؟ فقالوا: لا، إلا على الحكم، فقال: لا أحكمكم في نفسي أبدا، فضارب بسيفه حتى قتل، وقد كان قال لأصحابه حين أبوا أن يتابعوه على الخروج معه:

إذا أنا خرجت إليهم فقتلت لم تزدادوا إلا ضعفا وذلا، فإن نزلتم على حكمهم وثب أعداؤكم الذين قد وترتموهم، فقال كل رجل منهم لبعضكم: هذا عنده ثأري فيقتل، وبعضكم ينظر إلى مصارع بعض فيقولون: يا ليتنا أطعنا المختار وعملنا برأيه! ولو أنكم خرجتم معي كنتم إن أخطأتم الظفر متم كراما، وإن هرب منكم هارب فدخل في عشيرته اشتملت عليه عشيرته، أنتم غدا هذه الساعة أذل من على ظهر الأرض، فكان كما قال قال: وزعم الناس أن المختار قتل عند موضع الزياتين اليوم، قتله رجلان من بني حنيفة أخوان يدعى أحدهما طرفة والآخر طرافا، ابنا عبد الله بن دجاجة من بني حنيفة ولما كان من الغد من قتل المختار قال بجير بن عبد الله المسلي: يا قوم، قد كان صاحبكم أمس أشار عليكم بالرأي لو أطعتموه يا قوم، إنكم إن نزلتم على حكم القوم ذبحتم كما تذبح الغنم، اخرجوا بأسيافكم فقاتلوا حتى تموتوا كراما فعصوه وقالوا: لقد أمرنا بهذا من كان أطوع عندنا وأنصح لنا منك، فعصيناه، أفنحن نطيعك! فأمكن القوم من أنفسهم، ونزلوا على الحكم فبعث إليهم مصعب عباد بن الحصين الحبطي فكان هو يخرجهم مكتفين، وأوصى عبد الله بن شداد الجشمي إلى عباد بن الحصين، وطلب عبد الله ابن قراد عصا أو حديدة أو شيئا يقاتل به فلم يجده، وذلك أن الندامة أدركته بعد ما دخلوا عليه، فأخذوا سيفه، وأخرجوه مكتوفا، فمر به عبد الرحمن وهو يقول: ما كنت أخشى أن أرى أسيرا ... إن الذين خالفوا الأميرا قد رغموا وتبروا تتبيرا. فقال عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث: علي بذا، قدموه إلي أضرب عنقه، فقال له: أما إني على دين جدك الذي آمن ثم كفر، إن لم أكن ضربت أباك بسيفي حتى فاظ فنزل ثم قال: أدنوه مني، فأدنوه منه،

فقتله، فغضب عباد، فقال: قتلته ولم تؤمر بقتله! ومر بعبد الله بن شداد الجشمي وكان شريفا، فطلب عبد الرحمن إلى عباد أن يحبسه حتى يكلم فيه الأمير، فأتى مصعبا، فقال: إني أحب أن تدفع إلي عبد الله بن شداد فأقتله، فإنه من الثأر، فأمر له به، فلما جاءه أخذه فضرب عنقه، فكان عباد يقول: أما والله لو علمت أنك إنما تريد قتله لدفعته إلى غيرك فقتله، ولكني حسبت أنك تكلمه فيه فتخلي سبيله وأتي بابن عبد الله بن شداد، وإذا اسمه شداد، وهو رجل محتلم، وقد اطلى بنورة، فقال: اكشفوا عنه هل أدرك! فقالوا: لا، إنما هو غلام، فخلوا سبيله، وكان الأسود بن سعيد قد طلب الى مصعب يعرض على أخيه الأمان، فإن نزل تركه له، فأتاه فعرض عليه الأمان، فأبى أن ينزل، وقال: أموت مع أصحابي أحب إلي من حياة معكم، وكان يقال له قيس، فأخرج فقتل فيمن قتل، وقال بجير بن عبد الله المسلي- ويقال: كان مولى لهم حين أتي به مصعب ومعه منهم ناس كثير- فقال له المسلي: الحمد لله الذي ابتلانا بالإسار، وابتلاك بأن تعفو عنا، وهما منزلتان إحداهما رضا الله، والأخرى سخطه، من عفا عفا الله عنه، وزاده عزا، ومن عاقب لم يامن القصاص يا بن الزبير، نحن أهل قبلتكم، وعلى ملتكم، ولسنا تركا ولا ديلما، فإن خالفنا إخواننا من أهل مصرنا فإما أن نكون أصبنا وأخطئوا، وإما أن نكون أخطأنا وأصابوا، فاقتتلنا كما اقتتل أهل الشام بينهم، فقد اختلفوا واقتتلوا ثم اجتمعوا، وكما اقتتل أهل البصرة بينهم فقد اختلفوا واقتتلوا ثم اصطلحوا واجتمعوا، وقد ملكتم فأسجحوا، وقد قدرتم فاعفوا فما زال بهذا القول ونحوه حتى رق لهم الناس، ورق لهم مصعب، وأراد أن يخلي سبيلهم، فقام عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث فقال: تخلى سبيلهم! اخترنا يا بن الزبير أو اخترهم ووثب مُحَمَّد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني

فقال: قتل ابى وخمسمائة من همدان وأشراف العشيرة وأهل المصر ثم تخلي سبيلهم، ودماؤنا ترقرق في أجوافهم! اخترنا أو اخترهم ووثب كل قوم وأهل بيت كان أصيب منهم رجل فقالوا نحوا من هذا القول. فلما رأى مصعب بن الزبير ذلك امر بقتلهم، فنادوه باجمعهم: يا بن الزبير، لا تقتلنا، اجعلنا مقدمتك إلى أهل الشام غدا، فو الله ما بك ولا بأصحابك عنا غدا غنى، إذا لقيتم عدوكم فإن قتلنا لم نقتل حتى نرقهم لكم، وإن ظفرنا بهم كان ذلك لك ولمن معك فأبى عليهم وتبع رضا العامة، فقال بجير المسلي: إن حاجتي إليك الا اقتل مع هؤلاء القوم إني أمرتهم أن يخرجوا بأسيافهم فيقاتلوا حتى يموتوا كراما فعصوني، فقدم فقتل. قال أبو مخنف: وحدثني أبي، قال: حدثني أبو روق أن مسافر بن سعيد بن نمران قال لمصعب بن الزبير: يا بن الزبير، ما تقول لله إذا قدمت عليه وقد قتلت أمة من المسلمين صبرا! حكموك في دمائهم، فكان الحق في دمائهم الا تقتل نفسا مسلمة بغير نفس مسلمة، فإن كنا قتلنا عدة رجال منكم فاقتلوا عدة من قتلنا منكم، وخلوا سبيل بقيتنا، وفينا الآن رجال كثير لم يشهدوا موطنا من حربنا وحربكم يوما واحدا، كانوا في الجبال والسواد يجبون الخراج، ويؤمنون السبيل، فلم يستمع له، فقال: قبح الله قوما أمرتهم أن يخرجوا ليلا على حرس سكة من هذه السكك فنطردهم، ثم نلحق بعشائرنا، فعصوني حتى حملوني على أن أعطيت التي هي أنقص وأدنى وأوضع، وأبوا أن يموتوا إلا ميتة العبيد، فانا اسالك الا تخلط دمي بدمائهم فقدم فقتل ناحية. ثم إن المصعب أمر بكف المختار فقطعت ثم سمرت بمسمار حديد إلى جنب المسجد، فلم يزل على ذلك حتى قدم الحجاج بن يوسف، فنظر إليها فقال: ما هذه؟ قالوا: كف المختار، فأمر بنزعها وبعث مصعب عماله على الجبال والسواد،

ثم إنه كتب إلى ابن الأشتر يدعوه إلى طاعته، ويقول له: إن أنت أجبتني ودخلت في طاعتي فلك الشام وأعنة الخيل، وما غلبت عليه من أرض المغرب ما دام لآل الزبير سلطان وكتب عبد الملك بن مروان من الشام إليه يدعوه إلى طاعته، ويقول: إن أنت أجبتني ودخلت في طاعتي فلك العراق فدعا إبراهيم أصحابه فقال: ما ترون؟ فقال بعضهم: تدخل في طاعة عبد الملك، وقال بعضهم: تدخل مع ابن الزبير في طاعته، فقال ابن الأشتر: ذاك لو لم أكن أصبت عبيد الله بن زياد ولا رؤساء أهل الشام تبعت عبد الملك، مع أني لا أحب أن أختار على أهل مصري مصرا، ولا على عشيرتي عشيرة فكتب إلى مصعب، فكتب إليه مصعب أن أقبل، فأقبل إليه بالطاعة. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو جناب الكلبي أن كتاب مصعب قدم على ابن الأشتر وفيه: أما بعد، فإن الله قد قتل المختار الكذاب وشيعته الذين دانوا بالكفر، وكادوا بالسحر، وإنا ندعوك إلى كتاب الله وسنة نبيه، وإلى بيعة أمير المؤمنين، فإن أجبت إلى ذلك فأقبل إلي، فإن لك أرض الجزيرة وأرض المغرب كلها ما بقيت وبقي سلطان آل الزبير، لك بذلك عهد الله وميثاقه وأشد ما أخذ الله على النبيين من عهد أو عقد، والسلام. وكتب إليه عبد الملك بن مروان: أما بعد، فإن آل الزبير انتزوا على أئمة الهدى، ونازعوا الأمر أهله، وألحدوا في بيت الله الحرام والله ممكن منهم، وجاعل دائرة السوء عليهم، وانى ادعوك الى الله وإلى سنة نبيه، فإن قبلت وأجبت فلك سلطان العراق ما بقيت وبقيت، علي بالوفاء بذلك عهد الله وميثاقه. قال: فدعا أصحابه فأقرأهم الكتاب، واستشارهم في الرأي، فقائل

يقول عبد الملك، وقائل يقول: ابن الزبير، فقال لهم: ورأيي اتباع أهل الشام، ولكن كيف لي بذلك، وليس قبيلة تسكن الشام إلا وقد وترتها، ولست بتارك عشيرتي وأهل مصري! فأقبل إلى مصعب، فلما بلغ مصعبا إقباله بعث المهلب إلى عمله، وهي السنة التي نزل فيها المهلب على الفرات. قال أبو مخنف: حدثني أبو علقمة الخثعمي أن المصعب بعث إلى أم ثابت بنت سمرة بن جندب امرأة المختار وإلى عمرة بنت النعمان بن بشير الأنصاري- وهي امرأة المختار- فقال لهما: ما تقولان في المختار؟ فقالت أم ثابت: ما عسينا أن نقول! ما نقول فيه إلا ما تقولون فيه أنتم، فقالوا لها: اذهبي، وأما عمرة فقالت: رحمة الله عليه، إنه كان عبدا من عباد الله الصالحين، فرفعها مصعب إلى السجن، وكتب فيها إلى عبد الله بن الزبير أنها تزعم أنه نبي، فكتب إليه أن أخرجها فاقتلها. فأخرجها بين الحيرة والكوفة بعد العتمة، فضربها مطر ثلاث ضربات بالسيف- ومطر تابع لآل قفل من بني تيم الله بن ثعلبة، كان يكون مع الشرط- فقالت: يا أبتاه، يا أهلاه، يا عشيرتاه! فسمع بها بعض الأنصار، وهو أبان بن النعمان بن بشير، فأتاه فلطمه وقال له: يا بن الزانية، قطعت نفسها قطع الله يمينك! فلزمه حتى رفعه إلى مصعب، فقال: إن أمي مسلمة، وادعى شهادة بني قفل، فلم يشهد له أحد، فقال مصعب: خلوا سبيل الفتى فإنه رأى أمرا فظيعا، فقال عمر بن أبي ربيعة القرشي في قتل مصعب عمرة بنت النعمان بن بشير: إن من أعجب العجائب عندي ... قتل بيضاء حرة عطبول قتلت هكذا على غير جرم ... إن لله درها من قتيل كتب القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات جر الذيول قال ابو مخنف: حدثنى مُحَمَّد بن يوسف، أن مصعبا لقي عبد الله بن

عمر فسلم عليه، وقال له: أنا ابن أخيك مصعب، فقال له ابن عمر: نعم، أنت القاتل سبعة آلاف من أهل القبلة في غداة واحدة! عش ما استطعت! فقال مصعب: إنهم كانوا كفرة سحرة، فقال ابن عمر: والله لو قتلت عدتهم غنما من تراث أبيك لكان ذلك سرفا، فقال سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانِ بْنِ ثابت في ذلك: أتى راكب بالأمر ذي النبإ العجب ... بقتل ابنة النعمان ذي الدين والحسب بقتل فتاة ذات دل ستيرة ... مهذبة الأخلاق والخيم والنسب مطهرة من نسل قوم أكارم ... من المؤثرين الخير في سالف الحقب خليل النبي المصطفى ونصيره ... وصاحبه في الحرب والنكب والكرب أتاني بأن الملحدين توافقوا ... على قتلها لاجنبوا القتل والسلب فلا هنأت آل الزبير معيشة ... وذاقوا لباس الذل والخوف والحرب كأنهمُ إذ أبرزوها وقطعت ... بأسيافهم فازوا بمملكة العرب ألم تعجب الأقوام من قتل حرة ... من المحصنات الدين محمودة الأدب من الغافلات المؤمنات، بريئة ... من الذم والبهتان والشك والكذب علينا كتاب القتل والبأس واجب ... وهن العفاف في الحجال وفي الحجب على دين أجداد لها وأبوة ... كرام مضت لم تخز أهلا ولم ترب من الخفرات لا خروج بذيه ... ملائمه تبغي على جارها الجنب ولا الجار ذي القربى ولم تدر ما الخنا ... ولم تزدلف يوما بسوء ولم تحب عجبت لها إذ كفنت وهي حية ... ألا إن هذا الخطب من أعجب العجب حدثت عن علي بن حرب الموصلي، قال: حدثني إبراهيم بن سُلَيْمَان الحنفي، ابن أخي أبي الأحوص، قال: حدثنا مُحَمَّد بن أبان، عن علقمة بن مرثد، عن سويد بن غفلة، قال: بينا أنا اسير بظهر النجف إذ لحقني رجل فطعنني بمخصرة من خلفي، فالتفت إليه، فقال:

ما قولك في الشيخ؟ قلت: أي الشيوخ؟ قال: علي بن أبي طالب، قلت: إني أشهد أني أحبه بسمعي وبصري وقلبي ولساني، قال: وأنا أشهدك أني أبغضه بسمعي وبصري وقلبي ولساني فسرنا حتى دخلنا الكوفة، فافترقنا، فمكث بعد ذلك سنين- أو قال: زمانا- قال: ثم إني لفي المسجد الأعظم إذ دخل رجل معتم يتصفح وجوه الخلق، فلم يزل ينظر فلم ير لحى أحمق من لحى همدان، فجلس إليهم، فتحولت فجلست معهم، فقالوا: من أين أقبلت؟ قال: من عند أهل بيت نبيكم، قالوا: فماذا جئتنا به؟ قال: ليس هذا موضع ذلك، فوعدهم من الغد موعدا، فغدا وغدوت، فإذا قد أخرج كتابا معه في أسفله طابع من رصاص، فدفعه الى غلام، فقال له: يا غلام، اقرأه- وكان أميا لا يكتب- فقال الغلام: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب للمختار بن أبي عبيد كتبه له وصي آل مُحَمَّد، أما بعد فكذا وكذا فاستفرغ القوم البكاء، فقال:: يا غلام، ارفع كتابك حتى يفيق القوم، قلت: معاشر همدان، أنا أشهد بالله لقد أدركني هذا بظهر النجف، فقصصت عليهم قصته، فقالوا: أبيت والله إلا تثبيطا عن آل مُحَمَّد، وتزيينا لنعثل شقاق المصاحف قال: قلت: معاشر همدان، لا أحدثكم إلا ما سمعته أذناي، ووعاه قلبي من على بن ابى طالب ع، سمعته يقول: [لا تسموا عثمان شقاق المصاحف، فو الله ما شققها إلا عن ملإ منا أصحاب مُحَمَّد، ولو وليتها لعملت فيها مثل الذي عمل،] قالوا: آلله أنت سمعت هذا من علي؟ قلت: والله لأنا سمعته منه، قال: فتفرقوا عنه، فعند ذلك مال إلى العبيد، واستعان بهم، وصنع ما صنع قال أبو جعفر: واقتص الواقدي من خبر المختار بن أبي عبيد بعض ما ذكرنا، فخالف فيه من ذكرنا خبره، فزعم أن المختار إنما أظهر الخلاف لابن الزبير عند قدوم مصعب البصرة، وأن مصعبا لما

سار إليه فبلغه مسيره إليه بعث إليه احمر بن شميط البجلي، وامره ان بواقعه بالمذار، وقال: إن الفتح بالمذار، قال: وإنما قال ذلك المختار لأنه قيل: إن رجلا من ثقيف يفتح عليه بالمذار فتح عظيم، فظن أنه هو، وإنما كان ذلك للحجاج بن يوسف في قتاله عبد الرحمن بن الأشعث وأمر مصعب صاحب مقدمته عباد الحبطي أن يسير إلى جمع المختار فتقدم وتقدم معه عبيد الله بن علي بن أبي طالب، ونزل مصعب، نهر البصريين على شط الفرات، وحفر هنالك نهرا فسمي نهر البصريين من أجل ذلك قال: وخرج المختار في عشرين ألفا حتى وقف بإزائهم وزحف مصعب ومن معه، فوافوه مع الليل على تعبئة، فأرسل إلى أصحابه حين أمسى: لا يبرحن أحد منكم موقفه حتى يسمع مناديا ينادي: يا محمد، فإذا اسمعتموه فاحملوا فقال رجل من القوم من أصحاب المختار: هذا والله كذا. على الله، وانحاز ومن معه إلى المصعب، فأمهل المختار حتى إذا طلع القمر أمر مناديا، فنادى: يا مُحَمَّد، ثم حملوا على مصعب وأصحابه فهزموهم، فأدخلوه عسكره، فلم يزالوا يقاتلونهم حتى أصبحوا وأصبح المختار وليس عنده أحد، وإذا أصحابه قد وغلوا في أصحاب مصعب، فانصرف المختار منهزما حتى دخل قصر الكوفة، فجاء أصحاب المختار حين أصبحوا، فوقفوا مليا، فلم يروا المختار، فقالوا: قد قتل، فهرب منهم من أطاق الهرب، واختفوا في دور الكوفة، وتوجه منهم نحو القصر ثمانية آلاف لم يجدوا من يقاتل بهم، ووجدوا المختار في القصر، فدخلوا معه، وكان أصحاب المختار، قتلوا في تلك الليلة من أصحاب مصعب بشرا كثيرا، فيهم مُحَمَّد بن الأشعث، وأقبل مصعب حين أصبح حتى أحاط بالقصر، فأقام مصعب يحاصره اربعه اشهر يخرج اليهم في كل يوم فيقاتلهم في سوق الكوفة من وجه واحد، ولا يقدر عليه حتى قتل المختار، فلما قتل المختار بعث من في القصر يطلب الأمان، فأبى مصعب حتى نزلوا على حكمه، فلما نزلوا على حكمه قتل من العرب سبعمائة أو نحو ذلك، وسائرهم

من العجم، قال: فلما خرجوا أراد مصعب أن يقتل العجم ويترك العرب، فكلمه من معه، فقالوا: أي دين هذا؟ وكيف ترجو النصر وأنت تقتل العجم وتترك العرب ودينهم واحد! فقد مهم فضرب أعناقهم قال أبو جعفر: وَحَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بن مُحَمَّد، قال: لما قتل المختار شاور مصعب أصحابه في المحصورين الذين نزلوا على حكمه، فقال عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث ومُحَمَّد بن عبد الرحمن ابن سعيد بن قيس وأشباههم ممن وترهم المختار: اقتلهم، وضجت ضبة، وقالوا: دم منذر بن حسان، فقال عبيد الله بن الحر: أيها الأمير، ادفع كل رجل في يديك إلى عشيرته تمن عليهم بهم، فإنهم إن كانوا قتلونا فقد قتلناهم، ولا غنى بنا عنهم في ثغورنا، وادفع عبيدنا الذين في يديك إلى مواليهم فإنهم لأيتامنا وأراملنا وضعفائنا، يردونهم إلى أعمالهم، واقتل هؤلاء الموالي، فإنهم قد بدا كفرهم، وعظم كبرهم، وقل شكرهم. فضحك مصعب وقال للأحنف: ما ترى يا أبا بحر؟ قال: قد أرادني زياد فعصيته- يعرض بهم- فأمر مصعب بالقوم جميعا فقتلوا، وكانوا ستة آلاف، فقال عقبة الأسدي: قتلتم ستة الآلاف صبرا ... مع العهد الموثق مكتفينا جعلتم ذمة الحبطي جسرا ... ذلولا ظهره للواطئينا وما كانوا غداة دعوا فغروا ... بعهدهمُ بأول خائنينا وكنت أمرتهم لو طاوعوني ... بضرب في الأزقة مصلتينا وقتل المختار- فيما قيل- وهو ابن سبع وستين سنة، لأربع عشرة خلت من شهر رمضان في سنة سبع وستين فلما فرغ مصعب من أمر المختار وأصحابه، وصار اليه ابراهيم ابن الأشتر وجه المهلب بن أبي صفرة على الموصل والجزيرة وآذربيجان وأرمينية واقام بالكوفه

خبر عزل عبد الله بن الزبير أخاه المصعب

خبر عزل عبد الله بن الزبير أخاه المصعب وفي هذه السنة عزل عبد الله بن الزبير أخاه مصعب بن الزبير عن البصرة، وبعث اليه بابنه حمزة بن عبد الله إليها، فاختلف في سبب عزله إياه عنها، وكيف كان الأمر في ذلك فقال بعضهم في ذلك مَا حَدَّثَنِي بِهِ عمر، قال: حدثني علي بن مُحَمَّد قال: لم يزل المصعب على البصرة حتى سار منها إلى المختار، واستخلف على البصرة عبيد الله بن معمر، فقتل المختار، ثم وفد إلى عبد الله بن الزبير فعزله وحبسه عنده، واعتذر إليه من عزله، وقال: والله إني لأعلم أنك أحرى وأكفى من حمزة، ولكني رأيت فيه رأي عثمان في عبد الله بن عامر حين عزل أبا موسى الأشعري وولاه وحدثني عمر، قال: حدثني علي بن مُحَمَّد، قال: قدم حمزة البصرة واليا، وكان جوادا سخيا مخلطا، يجود أحيانا حتى لا يدع شيئا يملكه، ويمنع أحيانا ما لا يمنع مثله، فظهرت منه بالبصرة خفة وضعف، فيقال: إنه ركب يوما إلى فيض البصرة، فلما رآه قال: إن هذا الغدير إن رفقوا به ليكفينهم صيفهم، فلما كان بعد ذلك ركب إليه فوافقه جازرا، فقال: قد رأيت هذا ذات يوم، وظننت أن لن يكفيهم، فقال له الأحنف: إن هذا ماء يأتينا ثم يغيض عنا وشخص إلى الأهواز، فلما رأى جبلها قال: هذا قعيقعان- لموضع بمكة- فسمي الجبل قعيقعان، وبعث الى مرد انشاه فاستحثه بالخراج، فأبطأ به، فقام إليه بسيفه فضربه فقتله، فقال الأحنف: ما أحد سيف الأمير! حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قال: لما خلط حمزة بالبصرة وظهر منه ما ظهر، وهم بعبد العزيز بن بشر أن يضربه، كتب الأحنف إلى ابن الزبير بذلك، وسأله أن يعيد مصعبا قال: وحمزة الذي عقد لعبد الله بن عمير الليثي على قتال النجدية بالبحرين

حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قال: لما عزل ابن الزبير حمزة احتمل مالا كثيرا من مال البصرة، فعرض له مالك بن مسمع، فقال: لا ندعك تخرج باعطياتنا فضمن له عبيد الله بن عبيد بن معمر العطاء، فكف، وشخص حمزة بالمال، فترك أباه وأتى المدينة، فأودع ذلك المال رجالا، فذهبوا به إلا يهوديا كان أودعه فوفى له، وعلم ابن الزبير بما صنع، فقال: أبعده الله! أردت أن أباهي به بني مروان فنكص وأما هشام بن مُحَمَّد فإنه ذكر عن أبي مخنف في أمر مصعب وعزل أخيه إياه عن البصرة ورده إياه إليها غير هذه القصة، والذي ذكر من ذلك عنه في سياق خبر حدثت به عنه، عن أبي المخارق الراسبي، أن مصعبا لما ظهر على الكوفة أقام بها سنة معزولا عن البصرة، عزله عنها عبد الله، وبعث ابنه حمزة، فمكث بذلك سنة، ثم إنه وفد على أخيه عبد الله بمكة، فرده على البصرة وقيل: إن مصعبا لما فرغ من أمر المختار انصرف إلى البصرة وولى الكوفة الْحَارِث بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ قال: وقال مُحَمَّد بن عمر: لما قتل مصعب المختار ملك الْكُوفَة والبصرة وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ وَكَانَ عامله عَلَى الكوفة مصعب، وقد ذكرت اختلاف أهل السير في العامل على البصرة وكان على قضاء الكوفة عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة، وبالشام عبد الملك بن مروان وكان على خراسان عبد الله بن خازم السلمي

سنه ثمان وستين.

ثم دخلت سنة ثمان وستين. (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأمور الجليلة) فمن ذلك ما كان من رد عبد الله أخاه مصعبا إلى العراق أميرا، وقد ذكرنا السبب في رد عبد الله أخاه مصعبا إلى العراق أميرا بعد عزله إياه، ولما رده عليها أميرا بعث مصعب الحارث بن أبي ربيعة على الكوفة أميرا، وذلك أنه بدأ بالبصرة مرجعه إلى العراق أميرا بعد العزل، فصار إليها. ذكر الخبر عن رجوع الازارقه من فارس الى العراق وفي هذه السنة كان مرجع الأزارقة من فارس إلى العراق حتى صاروا إلى قرب الكوفة، ودخلوا المدائن. ذكر الخبر عن أمرهم ومسيرهم ومرجعهم إلى العراق: ذكر هشام، عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو المخارق الراسبي، أن مصعبا وجه عمر بن عبيد الله بن معمر على فارس أميرا، وكانت الأزارقة لحقت بفارس وكرمان ونواحي أصبهان بعد ما أوقع بهم المهلب بالأهواز، فلما شخص المهلب عن ذلك الوجه ووجه إلى الموصل ونواحيها عاملا عليها، وعمر بن عبيد الله بن معمر على فارس، انحطت الأزارقة مع الزبير بن الماحوز على عمر بن عبيد الله بفارس، فلقيهم بسابور، فقاتلهم قتالا شديدا، ثم إنه ظفر بهم ظفرا بينا، غير أنه لم يكن بينهم كثير قتلى، وذهبوا كأنهم على حامية، وقد تركوا على ذلك المعركة. قال أبو مخنف: فحدثني شيخ للحي بالبصرة، قال: إني لأسمع قراءة كتاب عمر بن عبيد الله:

بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإني اخبر الأمير اصلحه الله ابى لقيت الأزارقة التي مرقت من الدين واتبعت أهواءها بغير هدى من الله، فقاتلتهم بالمسلمين ساعة من النهار أشد القتال ثم إن الله ضرب وجوههم وأدبارهم، ومنحنا أكتافهم، فقتل الله منهم من خاب وخسر، وكل إلى خسران فكتبت إلى الأمير كتابي هذا وأنا على ظهر فرسي في طلب القوم، أرجو أن يجذهم الله إن شاء الله، والسلام. ثم إنه تبعهم ومضوا من فورهم ذلك حتى نزلوا إصطخر، فسار إليهم حتى لقيهم على قنطرة طمستان، فقاتلهم قتالا شديدا، وقتل ابنه. ثم إنه ظفر بهم، فقطعوا قنطرة طمستان، وارتفعوا إلى نحو من أصبهان وكرمان، فأقاموا بها حتى اجتبروا وقووا، واستعدوا وكثروا، ثم أقبلوا حتى مروا بفارس وبها عمر بن عبيد الله بن معمر، فقطعوا أرضه من غير الوجه الذي كان فيه أخذوا على سابور، ثم خرجوا على أرجان، فلما رأى عمر بن عبيد الله أن قد قطعت الخوارج ارضه متوجهه الى البصره خشي الا يحتملها له مصعب بن الزبير، فشمر في آثارهم مسرعا حتى أتى أرجان، فوجدهم حين خرجوا منها متوجهين قبل الأهواز، وبلغ مصعبا إقبالهم، فخرج فعسكر بالناس بالجسر الأكبر، وقال: والله ما أدري ما الذي أغنى عني أن وضعت عمر بن عبيد الله بفارس، وجعلت معه جندا أجري عليهم أرزاقهم في كل شهر، وأوفيهم أعطياتهم في كل سنة، وآمر لهم من المعاون في كل سنة بمثل الأعطيات، تقطع أرضه الخوارج إلي! وقد قطعت علته فأمددته بالرجال وقويتهم، والله لو قاتلهم ثم فر كان أعذر له عندي، وإن كان الفار غير مقبول العذر، ولا كريم الفعل. وأقبلت الخوارج وعليهم الزبير بن الماحوز حتى نزلوا الأهواز، فأتتهم عيونهم أن عمر بن عبيد الله في أثرهم، وأن مصعب بن الزبير قد خرج من البصرة إليهم، فقام فيهم الزبير فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن

من سوء الرأي والحيرة وقوعكم فيما بين هاتين الشوكتين، وانهضوا بنا إلى عدونا نلقهم من وجه واحد فسار بهم حتى قطع بهم أرض جوخى، ثم أخذ على النهر وانات، ثم لزم شاطئ دجلة حتى خرج على المدائن وبها كردم بن مرثد بن نجبة الفزاري، فشنوا الغارة على أهل المدائن، يقتلون الولدان والنساء والرجال، ويبقرون الحبالى، وهرب كردم، فأقبلوا إلى ساباط فوضعوا أسيافهم في الناس، فقتلوا أم ولد لربيعه ابن ماجد، وقتلوا بنانة ابنة أبي يزيد بن عاصم الأزدي، وكانت قد قرأت القرآن، وكانت من أجمل الناس، فلما غشوها بالسيوف قالت: ويحكم! هل سمعتم بأن الرجال كانوا يقتلون النساء! ويحكم! تقتلون من لا يبسط إليكم يدا، ولا يريد بكم ضرا، ولا يملك لنفسه نفعا! أتقتلون من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين! فقال بعضهم: اقتلوها، وقال رجل منهم: لو أنكم تركتموها! فقال بعضهم: أعجبك جمالها يا عدو الله! قد كفرت وافتتنت، فانصرف الآخر عنهم وتركهم، فظننا أنه فارقهم، وحملوا عليها فقتلوها، فقالت ريطة بنت يزيد: سبحان الله! أترون الله يرضى بما تصنعون! تقتلون النساء والصبيان ومن لم يذنب إليكم ذنبا! ثم انصرفت وحملوا عليها وبين يديها الرواع بنت إياس بن شريح الهمداني، وهي ابنة أخيها لأمها، فحملوا عليها فضربوها على رأسها، بالسيف، ويصيب ذباب السيف رأس الرواع فسقطتا جميعا إلى الأرض، وقاتلهم إياس بن شريح ساعة، ثم صرع فوقع بين القتلى، فنزعوا عنه وهم يرون أنهم قد قتلوه، وصرع منهم رجل من بكر ابن وائل يقال له رزين بن المتوكل. فلما انصرفوا عنهم لم يمت غير بنانة بنت ابى يزيد، وأم ولد ربيعه ابن ناجد، وأفاق سائرهم، فسقى بعضهم بعضا من الماء، وعصبوا جراحاتهم ثم استأجروا دواب، ثم أقبلوا نحو الكوفة. قال أبو مخنف: فحدثتني الرواع ابنة إياس، قالت: ما رأيت

رجلا قط كان أجبن من رجل كان معنا وكانت معه ابنته، فلما غشينا ألقاها إلينا وهرب عنها وعنا ولا رأينا رجلا قط كان أكرم من رجل كان معنا، ما نعرفه ولا يعرفنا، لما غشينا قاتل دوننا حتى صرع بيننا، وهو رزين بن المتوكل البكري وكان بعد ذلك يزورنا ويواصلنا ثم إنه هلك في إمارة الحجاج، فكانت ورثته الأعراب، وكان من العباد الصالحين. قال هشام بن مُحَمَّد- وذكره عن أبي مخنف- قال: حدثني أبي، عن عمه أن مصعب بن الزبير كان بعث أبا بكر بن مخنف على إستان العال، فلما قدم الحارث بن أبي ربيعة أقصاه، ثم أقره بعد ذلك على عمله السنة الثانية، فلما قدمت الخوارج المدائن سرحوا إليه عصابة منهم، عليها صالح بن مخراق، فلقيه بالكرخ فقاتله ساعة، ثم تنازلوا فنزل أبو بكر ونزلت الخوارج، فقتل أبو بكر ويسار مولاه وعبد الرحمن بن أبي جعال، ورجل من قومه، وانهزم سائر أصحابه، فقال سراقة بن مرداس البارقي في بطن من الأزد: ألا يا لقومي للهموم الطوارق ... وللحدث الجائي بإحدى الصفائق ومقتل غطريف كريم نجاره ... من المقدمين الذائدين الأصادق أتاني دوين الخيف قتل ابن مخنف ... وقد غورت أولى النجوم الخوافق فقلت: تلقاك الإله برحمة ... وصلى عليك الله رب المشارق لحا الله قوما عردوا عنك بكرة ... ولم يصبروا للامعات البوارق تولوا فأجلوا بالضحى عن زعيمنا ... وسيدنا في المأزق المتضايق فأنت متى ما جئتنا في بيوتنا ... سمعت عويلا من عوان وعاتق

يبكين محمود الضريبة ماجدا ... صبورا لدى الهيجاء عند الحقائق لقد أصبحت نفسي لذاك حزينة ... وشابت لما حملت منه مفارقي قال أبو مخنف: فحدثني حدرة بن عبد الله الأزدي، والنضر ابن صالح العبسي، وفضيل بن خديج، كلهم أخبرنيه ان الحارث بن ابى ربيعه الملقب بالقباع أتاه أهل الكوفة، فصاحوا إليه وقالوا له: اخرج فإن هذا عدو لنا قد أظل علينا ليست له بقية، فخرج وهو يكد كدا حتى نزل النخيلة فأقام بها أياما، فوثب إليه إبراهيم بن الأشتر، فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإنه سار إلينا عدو ليست له تقيه، يقتل الرجل والمرأة والمولود، ويخيف السبيل، ويخرب البلاد، فانهض بنا إليه، فأمر بالرحيل فخرج فنزل دير عبد الرحمن، فأقام فيه حتى دخل إليه شبث بن ربعي، فكلمه بنحو مما كلمه به ابن الأشتر، فارتحل ولم يكد، فلما رأى الناس بطء سيره رجزوا به فقالوا: سار بنا القباع سيرا نكرا ... يسير يوما ويقيم شهرا فأشخصوه من ذلك المكان، فكلما نزل بهم منزلا أقام بهم حتى يضج الناس به من ذلك، ويصيحوا به حول فسطاطه، فلم يبلغ الصراة إلا في بضعة عشر يوما، فأتى الصراة وقد انتهى إليها طلائع العدو وأوائل الخيول، فلما أتتهم العيون بأنه قد أتاهم جماعة أهل المصر قطعوا الجسر بينهم وبين الناس، وأخذ الناس يرتجزون: إن القباع سار سيرا ملسا بين دبيرى ودباها خمسا قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، أن رجلا من السبيع كان به لمم، وكان بقرية يقال لها جوبر عند الخرارة،

وكان يدعى سماك بن يزيد، فأتت الخوارج قريته فأخذوه وأخذوا ابنته، فقدموا ابنته فقتلوها، وزعم لي أبو الربيع السلولي أن اسم ابنته أم يزيد، وأنها كانت تقول لهم: يا أهل الإسلام، إن أبي مصاب فلا تقتلوه، وأما أنا فإنما أنا جارية، والله ما أتيت فاحشة قط، ولا آذيت جارة لي قط، ولا تطلعت ولا تشرفت قط فقدموها ليقتلوها، فأخذت تنادي: ما ذنبي ما ذنبي! ثم سقطت مغشيا عليها أو ميتة، ثم قطعوها، بأسيافهم قال أبو الربيع: حدثتني بهذا الحديث ظئر لها نصرانية من أهل الخورنق كانت معها حين قتلت. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، أن الأزارقة جاءت بسماك بن يزيد معهم حتى أشرفوا على الصراة قال: فاستقبل عسكرنا، فرأى جماعة الناس وكثرتهم، فأخذ ينادينا ويرفع صوته: اعبروا اليهم فإنهم فل خبيث، فضربوا عند ذلك عنقه وصلبوه ونحن ننظر إليه قال: فلما كان الليل عبرت إليه وأنا رجل من الحي. فأنزلناه فدفناه قال أبو مخنف: حدثني أبي أن إبراهيم بن الأشتر قال للحارث بن أبي ربيعة: اندب معي الناس حتى أعبر إلى هؤلاء الأكلب، فأجيئك برءوسهم الساعة، فقال شبث بن ربعي وأسماء بن خارجه ويزيد ابن الحارث ومُحَمَّد بن الحارث ومُحَمَّد بن عمير: أصلح الله الأمير! دعهم فليذهبوا، لا تبدأهم، قال: وكأنهم حسدوا ابراهيم ابن الأشتر. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي حصيرة بن عَبْدِ الله وأبو زهير العبسي أن الأزارقة لما انتهوا إلى جسر الصراة فرأوا أن جماعة أهل المصر قد خرجوا إليهم قطعوا الجسر، واغتنم ذلك الحارث، فتحبس ثم إنه جلس للناس فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فان أول القتال الرميه بالنبل، ثم أشراع الرماح، ثم الطعن بها شزرا، ثم السلة آخر ذلك كله

قال: فقام إليه رجل فقال، قد أحسن الأمير اصلحه الله الصفة، ولكن حتام نصنع هذا وهذا البحر بيننا وبين عدونا! مر بهذا الجسر فليعد كما كان، ثم اعبر بنا إليهم، فإن الله سيريك فيهم ما تحبه، فأمر بالجسر فأعيد، ثم عبر الناس إليهم فطاروا حتى انتهوا إلى المدائن، وجاء المسلمون حتى انتهوا إلى المدائن، وجاءت خيل لهم فطاردت خيلا للمسلمين طردا ضعيفا عند الجسر ثم إنهم خرجوا منها فأتبعهم الحارث بن أبي ربيعة عبد الرحمن بن مخنف في ستة آلاف ليخرجهم من أرض الكوفة، فإذا وقعوا في أرض البصرة خلاهم فأتبعهم حتى إذا خرجوا من أرض الكوفة ووقعوا إلى أصبهان انصرف عنهم ولم يقاتلهم، ولم يكن بينه وبينهم قتال، ومضوا حتى نزلوا بعتاب بن ورقاء بحى، فأقاموا عليه وحاصروه، فخرج إليهم فقاتلهم فلم يطقهم، وشدوا على أصحابه حتى دخلوا المدينة، وكانت أصبهان يومئذ طعمة لإسماعيل بن طلحة من مصعب بن الزبير، فبعث عليها عتابا، فصبر لهم عتاب، وأخذ يخرج إليهم في كل أيام فيقاتلهم على باب المدينة، ويرمون من السور بالنبل والنشاب والحجارة، وكان مع عتاب رجل من حضرموت يقال له أبو هُرَيْرَةَ بن شريح، فكان يخرج مع عتاب، وكان شجاعا، فكان يحمل عليهم ويقول: كيف ترون يا كلاب النار شد أبي هُرَيْرَةَ الهرار يهركم بالليل والنهار يا بن أبي الماحوز والأشرار كيف ترى جي على المضمار. فلما طال ذلك على الخوارج من قوله كمن له رجل من الخوارج يظنون أنه عبيدة بن هلال، فخرج ذات يوم فصنع كما كان يصنع، ويقول كما كان يقول، إذ حمل عليه عبيدة بن هلال فضربه بالسيف ضربة على حبل عاتقه فصرعه، وحمل أصحابه عليه فاحتملوه فأدخلوه

وداووه، وأخذت الأزارقة بعد ذلك تناديهم يقولون: يا أعداء الله، ما فعل أبو هُرَيْرَةَ الهرار؟ فينادونهم: يا أعداء الله، والله ما عليه من بأس، ولم يلبث أبو هُرَيْرَةَ أن برئ، ثم خرج عليهم بعد، فأخذوا يقولون: يا عدو الله، أما والله لقد رجونا أن نكون قد أزرناك أمك، فقال لهم: يا فساق، ما ذكركم أمي! فأخذوا يقولون: إنه ليغضب لأمه، وهو آتيها عاجلا فقال له أصحابه: ويحك! إنما يعنون النار، ففطن فقال: يا أعداء الله، ما أعقكم بأمكم حين تنتفون منها! إنما تلك أمكم، وإليها مصيركم. ثم إن الخوارج أقامت عليهم أشهرا حتى هلك كراعهم، ونفذت أطعمتهم، واشتد عليهم الحصار، وأصابهم الجهد الشديد، فدعاهم عتاب بن ورقاء فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أيها الناس، فإنه قد أصابكم من الجهد ما قد ترون، فو الله إن بقي إلا أن يموت أحدكم على فراشه فيجيء أخوه فيدفنه إن استطاع، وبالحري أن يضعف عن ذلك، ثم يموت هو فلا يجد من يدفنه، ولا يصلي عليه، فاتقوا الله، فو الله ما أنتم بالقليل الذين تهون شوكتهم على عدوهم، وإن فيكم لفرسان أهل المصر، وإنكم لصلحاء من أنتم منه! اخرجوا بنا إلى هؤلاء القوم وبكم حياه وقوه قبل الا يستطيع رجل منكم أن يمشي إلى عدوه من الجهد، وقبل الا يستطيع رجل أن يمتنع من امرأة لو جاءته، فقاتل رجل عن نفسه وصبر وصدق، فو الله انى لأرجو ان صدقتموه أن يظفركم الله بهم، وأن يظهركم عليهم فناداه الناس من كل جانب: وفقت وأصبت، اخرج بنا إليهم، فجمع إليه الناس من الليل، فأمر لهم بعشاء كثير، فعشي الناس عنده، ثم إنه خرج بهم حين أصبح على راياتهم، فصبحهم في عسكرهم وهم آمنون من أن يؤتوا في عسكرهم، فشدوا عليهم في جانبه، فضاربوهم فاخلوا عن وجه العسكر حتى انتهوا إلى الزبير بن الماحوز، فنزل في عصابة من أصحابه فقاتل حتى قتل، وانحازت الأزارقة إلى قطري، فبايعوه،

وجاء عتاب حتى دخل مدينته، وقد أصاب من عسكرهم ما شاء، وجاء قطري في أثره كأنه يريد أن يقاتله، فجاء حتى نزل في عسكر الزبير بن الماحوز، فتزعم الخوارج أن عينا لقطري جاءه فقال: سمعت عتابا يقول: إن هؤلاء القوم إن ركبوا بنات شحاج، وقادوا بنات صهال، ونزلوا اليوم أرضا وغدا أخرى، فبالحري أن يبقوا، فلما بلغ ذلك قطريا خرج فذهب وخلاهم. قال أبو مخنف: قال أبو زهير العبسي وكان معهم: خرجنا إلى قطري من الغد مشاة مصلتين بالسيوف، قال: فارتحلوا والله فكان آخر العهد بهم قال: ثم ذهب قطري حتى أتى ناحية كرمان فأقام بها حتى اجتمعت إليه جموع كثيرة، وأكل الأرض واجتبى المال وقوي، ثم أقبل حتى أخذ في أرض أصبهان ثم إنه خرج من شعب ناشط إلى إيذج، فأقام بأرض الأهواز والحارث بن ابى ربيعه عامل المصعب بن الزبير على البصرة، فكتب إلى مصعب يخبره أن الخوارج قد تحدرت إلى الأهواز، وأنه ليس لهم إلا المهلب، فبعث إلى المهلب وهو على الموصل والجزيرة. فأمره بقتال الخوارج والمسير اليهم، وبعث الى عمله إبراهيم بن الأشتر، وجاء المهلب حتى قدم البصرة، وانتخب الناس، وسار بمن أحب، ثم توجه نحو الخوارج، وأقبلوا إليه حتى التقوا بسولاف، فاقتتلوا بها ثانيه أشهر أشد قتال رآه الناس، لا ينقع بعضهم لبعض. من الطعن والضرب ما يصد بعضهم عن بعض قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كان القحط الشديد بالشام حتى لم يقدروا من شدته على الغزو. وفيها عسكر عبد الملك بن مروان ببطنان حبيب من أرض قنسرين، فمطروا بها، فكثر الوحل فسموها بطنان الطين، وشتا بها عبد الملك، ثم انصرف منها إلى دمشق. وفيها قتل عبيد الله بن الحر

ذكر الخبر عن مقتل عبد الله بن الحر

ذكر الخبر عن مقتل عبد الله بن الحر ذكر الخبر عن مقتله والسبب الذي جر ذلك عليه: روى أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، عن علي بن مجاهد، أن عبيد الله بن الحر كان رجلا من خيار قومه صلاحا وفضلا، وصلاة واجتهادا، فلما قتل عثمان وهاج الهيج بين علي ومعاوية، قال: أما إن الله ليعلم أني أحب عثمان، ولأنصرنه ميتا فخرج إلى الشام، فكان مع معاوية، وخرج مالك بن مسمع إلى معاوية على مثل ذلك الرأي في العثمانية، فأقام عبيد الله عند معاوية، وشهد معه صفين، ولم يزل معه حتى قتل على ع، فلما قتل علي قدم الكوفة فأتى إخوانه ومن قد خف في الفتنة، فقال لهم: يا هؤلاء، ما أرى أحدا ينفعه اعتزاله، كنا بالشام، فكان من أمر معاوية كيت وكيت فقال له القوم: وكان من أمر علي كيت وكيت، فقال: يا هؤلاء، إن تمكننا الأشياء فاخلعوا عذركم، واملكوا أمركم، قالوا: سنلتقي، فكانوا يلتقون على ذلك فلما مات معاوية هاج ذلك الهيج في فتنة ابن الزبير، قال: ما أرى قريشا تنصف، أين أبناء الحرائر! فأتاه خليع كل قبيلة، فكان معه سبعمائة فارس، فقالوا: مرنا بأمرك، فلما هرب عبيد الله بن زياد ومات يزيد بن معاوية، قال عبيد الله بن الحر لفتيانه: قد بين الصبح لذي عينين، فإذا شئتم! فخرج إلى المدائن فلم يدع مالا قدم من الجبل للسلطان إلا أخذه، فأخذ منه عطاءه وأعطية أصحابه، ثم قال: إن لكم شركاء بالكوفة في هذا المال قد استوجبوه، ولكن تعجلوا عطاء قابل سلفا، ثم كتب لصاحب المال براءة بما قبض من المال، ثم جعل يتقصى الكور على مثل ذلك قال: قلت: فهل كان يتناول أموال الناس والتجار؟ قال لي: إنك لغير عالم بأبي الأشرس، والله ما كان في الأرض

عربي اغير عن حرة ولا أكف عن قبيح وعن شراب منه، ولكن إنما وضعه عند الناس شعره، وهو من أشعر الفتيان فلم يزل على ذلك من الأمر حتى ظهر المختار، وبلغه ما يصنع بالسواد، فأمر بامرأته أم سلمة الجعفية فحبست، وقال: والله لأقتلنه أو لأقتلن أصحابه، فلما بلغ ذلك عبيد الله بن الحر أقبل في فتيانه حتى دخل الكوفة ليلا، فكسر باب السجن، وأخرج امرأته وكل امرأة ورجل كان فيه، فبعث إليه المختار من يقاتله، فقاتلهم حتى خرج من المصرم، فقال حين أخرج امرأته من السجن: ألم تعلمي يا أم توبة أنني ... أنا الفارس الحامي حقائق مذحج وأني صبحت السجن في سوره الضحى ... بكل فتى حامي الذمار مدجج فما إن برحن السجن حتى بدا لنا ... جبين كقرن الشمس غير مشنج وخد أسيل عن فتاه حييه ... إلينا سقاها كل دان مثجج فما العيش إلا أن أزورك آمنا ... كعادتنا من قبل حربي ومخرجي وما أنت إلا همة النفس والهوى ... عليك السلام من خليط مسحج وما زلت محبوسا لحبسك واجما ... وإني بما تلقين من بعده شج فبالله هل أبصرت مثليَ فارسا ... وقد ولجوا في السجن من كل مولج! ومثلي يحامي دون مثلك إنني ... أشد إذا ما غمرة لم تفرج أضاربهم بالسيف عنك لترجعي ... إلى الأمن والعيش الرفيع المخرفج إذا ما أحاطوا بي كررت عليهم ... ككر أبي شبلين في الخيس محرج دعوت إلي الشاكري ابن كامل ... فولى حثيثا ركضه لم يعرج وإن هتفوا باسمي عطفت عليهمُ ... خيول كرام الضرب أكثرها الوجي فلا غرو إلا قول سلمى ظعينى: ... اما أنت يا بن الحر بالمتحرج!

دع القوم لا تقتلهمُ وانج سالما ... وشمر هداك الله بالخيل فاخرج وإني لأرجو يا ابنة الخير أن أرى ... على خير أحوال المؤمل فارتجي ألا حبذا قولي لأحمر طيئ ... ولابن خبيب قد دنا الصبح فادلج وقولي لهذا سر وقولي لذا ارتحل ... وقولي لذا من بعد ذلك اسرج وجعل يعبث بعمال المختار وأصحابه، ووثبت همدان مع المختار فأحرقوا داره، وانتهبوا ضيعته بالجبة والبداة، فلما بلغه ذلك سار إلى ماه إلى ضياع عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، فأنهبها وأنهب ما كان لهمدان بها، ثم أقبل إلى السواد فلم يدع مالا لهمداني إلا أخذه، ففي ذلك يقول: وما ترك الكذاب من جل مالنا ... ولا الزرق من همدان غير شريد أفي الحق أن ينهب ضياعي شاكر ... وتأمن عندي ضيعة ابن سعيد! ألم تعلمي يا أم توبة أنني ... على حدثان الدهر غير بليد أشد حيازيمي لكل كريهة ... وإني على ما ناب جد جليد فإن لم أصبح شاكرا بكتيبة ... فعالجت بالكفين غل حديد همُ هدموا داري وقادوا حليلتي ... إلى سجنهم والمسلمون شهودي وهم أعجلوها أن تشد خمارها ... فيا عجبا هل الزمان مقيدي! فما أنا بابن الحر إن لم أرعهمُ ... بخيل تعادى بالكماة أسود وما جبنت خيلي ولكن حملتها ... على جحفل ذي عدة وعديد وهي طويلة قال: وكان يأتي المدائن فيمر بعمال جوخى فيأخذ ما معهم من الأموال، ثم يميل إلى الجبل، فلم يزل على ذلك حتى قتل المختار، فلما قتل المختار قال الناس لمصعب في ولايته الثانية: إن ابن الحر شاق ابن زياد والمختار، ولا نأمنه أن يثب بالسواد كما كان يفعل، فحبسه مصعب فقال ابن الحر:

من مبلغ الفتيان أن أخاهمُ ... أتى دونه باب شديد وحاجبه بمنزلة ما كان يرضى بمثلها ... إذا قام عنته كبول تجاوبه على الساق فوق الكعب أسود صامت ... شديد يداني خطوه ويقاربه وما كان ذا من عظم جرم جنيته ... ولكن سعى الساعي بما هو كاذبه وقد كان في الأرض العريضة مسلك ... وأي امرئ ضاقت عليه مذاهبه! وفي الدهر والأيام للمرء عبرة ... وفيما مضى إن ناب يوما نوائبه فكلم عبيد الله قوما من مذحج أن يأتوا مصعبا في أمره، وأرسل إلى وجوههم، فقال: ائتوا مصعبا فكلموه في أمري ذاته، فإنه حبسني على غير جرم، سعى بي قوم كذبة وخوفوه ما لم أكن لأفعله، وما لم يكن من شأني وأرسل إلى فتيان من مذحج وقال: البسوا السلاح، وخذوا عدة القتال، فقد أرسلت قوما إلى مصعب يكلمونه في أمري، فأقيموا بالباب، فإن خرج القوم وقد شفعهم فلا تعرضوا لأحد، وليكن سلاحكم مكفرا بالثياب، فجاء قوم من مذجح فدخلوا على مصعب فكلموه، فشفعهم، فأطلقه وكان ابن الحر قال لأصحابه: إن خرجوا ولم يشفعهم فكابروا السجن فإني أعينكم من داخل، فلما خرج ابن الحر قال لهم: أظهروا السلاح، فأظهروه، ومضى لم يعرض له أحد، فأتى منزله، وندم مصعب على إخراجه، فأظهر ابن الحر الخلاف، وأتاه الناس يهنئونه، فقال: هذا الأمر لا يصلح إلا لمثل خلفائكم الماضين، وما نرى لهم فينا ندا ولا شبيها فنلقي إليه أزمتنا، ونمحضه نصيحتنا، فإن كان إنما هو من عز بز، فعلام: نعقد لهم في أعناقنا بيعة، وليسوا بأشجع منا لقاء، ولا اعظم منا غناء! [وقد عهد إلينا رسول الله ص: ألا طاعة لمخلوق في معصية الخالق،] وما رأينا بعد الأربعة الماضين إماما صالحا، ولا وزيرا تقيا، كلهم عاص مخالف، قوي الدنيا، ضعيف

الآخرة، فعلا م تستحل حرمتنا، ونحن أصحاب النخيلة والقادسية وجلولاء ونهاوند! نلقى الأسنة بنحورنا والسيوف بجباهنا، ثم لا يعرف لنا حقنا وفضلنا، فقاتلوا عن حريمكم، فأي الأمر ما كان فلكم فيه الفضل، وإني قد قلبت ظهر المجن، وأظهرت لهم العداوة، ولا قوة إلا بالله وحاربهم فأغار فأرسل إليه مصعب سيف بن هانئ المرادي، فقال له: إن مصعبا يعطيك خراج بادوريا على أن تبايع وتدخل في طاعته، قال: أوليس لي خراج بادوريا وغيرها! لست قابلا شيئا، ولا آمنهم على شيء، ولكني أراك يا فتى- وسيف يومئذ حدث- حدثا، فهل لك أن تتبعني وأمولك! فأبى عليه، فقال ابن الحر حين خرج من الحبس: لا كوفة أمي ولا بصرة أبي ... ولا أنا يثنيني عن الرحلة الكسل - قال أبو الحسن: يروي هذا البيت لسحيم بن وثيل الرياحي- فلا تحسبني ابن الزبير كناعس ... إذا حل أغفى أو يقال له ارتحل فإن لم أزرك الخيل تردي عوابسا ... بفرسانها لا أدع بالحازم البطل وإن لم تر الغارات من كل جانب ... عليك فتندم عاجلا أيها الرجل فلا وضعت عندي حصان قناعها ... ولا عشت إلا بالأماني والعلل وهي طويلة. فبعث إليه مصعب الأبرد بن قرة الرياحي في نفر، فقاتله فهزمه ابن الحر، وضربه ضربة على وجهه، فبعث اليه مصعب حريث ابن زيد- أو يزيد- فبارزه، فقتله عبيد الله بن الحر، فبعث إليه مصعب الحجاج بن جاريه الخثعمي ومسلم بن عمرو، فلقياه بنهر صرصر، فقاتلهم فهزمهم، فأرسل إليه مصعب قوما يدعونه إلى أن يؤمنه ويصله، ويوليه أي بلد شاء، فلم يقبل، وأتى نرسى ففر دهقانها ظيز جشنس بمال الفلوجة، فتبعه ابن الحر حتى مر بعين التمر وعليها بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيباني، فتعوذ بهم الدهقان، فخرجوا إليه فقاتلوه- وكانت خيل بسطام خمسين ومائة فارس- فقال يونس بن

هاعان الهمداني من خيوان، ودعاه ابن الحر إلى المبارزة: شر دهر آخره، ما كنت أحسبني أعيش حتى يدعوني إنسان إلى المبارزة! فبارزه فضربه ابن الحر ضربة أثخنته، ثم اعتنقا فخرا جميعا عن فرسيهما، وأخذ ابن الحر عمامة يونس وكتفه بها ثم ركب، ووافاهم الحجاج بن حارثة الخثعمي، فحمل عليه الحجاج فأسره أيضا عبيد الله، وبارز بسطام بن مصقلة المجشر، فاضطربا حتى كره كل واحد منهما صاحبه، وعلاه بسطام، فلما رأى ذلك ابن الحر حمل على بسطام واعتنقه بسطام، فسقطا إلى الأرض، وسقط ابن الحر على صدر بسطام فأسره، وأسر يومئذ ناسا كثيرا، فكان الرجل يقول: أنا صاحبك يوم كذا، ويقول الآخر: أنا نازل فيكم، ويمت كل واحد منهم بما يرى إنه ينفعه، فيخلي سبيله، وبعث فوارس من أصحابه عليهم دلهم المرادي يطلبون الدهقان، فأصابوه، فأخذوا المال قبل القتال، فقال ابن الحر: لو أن لي مثل جرير أربعه ... صبحت بيت المال حتى أجمعه ولم يهلني مصعب ومن معه ... نعم الفتى ذلكم ابن مشجعه ثم إن عبيد الله أتى تكريت، فهرب عامل المهلب عن تكريت، فأقام عبيد الله يجبي الخراج، فوجه إليه مصعب الأبرد بن قرة الرياحي والجون بن كعب الهمداني في ألف، وأمدهما المهلب بيزيد بن المغفل في خمسمائة، فقال رجل من جعفي لعبيد الله: قد أتاك عدد كثير، فلا تقاتلهم، فقال: يخوفني بالقتل قومي وإنما ... أموت إذا جاء الكتاب المؤجل لعل القنا تدني بأطرافها الغنى ... فنحيا كراما أو نكر فنقتل فقال للمجشر ودفع إليه رايته، وقدم معه دلهما المرادي، فقاتلهم يومين وهو في ثلاثمائه، فخرج جرير بن كريب، وقتل عمرو بن جندب الأزدي وفرسان كثير من فرسانه، وتحاجزوا عند المساء،

وخرج عبيد الله من تكريت فقال لأصحابه: انى سائر بكم الى عبد الملك ابن مروان، فتهيئوا، وقال: إني أخاف أن أفارق الحياة ولم أذعر مصعبا وأصحابه، فارجعوا بنا إلى الكوفة قال: فسار إلى كسكر فنفى عاملها، وأخذ بيت ما لها، ثم أتى الكوفة فنزل لحام جرير، فبعث إليه مصعب عمر بن عبيد الله بن معمر، فقاتله، فخرج إلى دير الأعور، فبعث إليه مصعب حجار بن أبجر، فانهزم حجار، فشتمه مصعب ورده، وضم إليه الجون بن كعب الهمداني وعمر بن عبيد الله بن معمر، فقاتلوه بأجمعهم، وكثرت الجراحات في أصحاب ابن الحر وعقرت خيولهم، وجرح المجشر، وكان معه لواء ابن الحر، فدفعه إلى أحمر طيئ، فانهزم حجار بن أبجر ثم كر، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى أمسوا، فقال ابن الحر: لو أن لي مثل الفتى المجشر ... ثلاثة بيتهم لا أمتري ساعدني ليلة دير الأعور ... بالطعن والضرب وعند المعبر لطاح فيها عمر بن معمر. وخرج ابن الحر من الكوفة، فكتب مصعب إلى يزيد بن الحارث بن رؤيم الشيباني- وهو بالمدائن- يأمره بقتال ابن الحر، فقدم ابنه حوشبا فلقيه بباجسري، فهزمه عبيد الله وقتل فيهم، وأقبل ابن الحر فدخل المدائن، فتحصنوا، فخرج عبيد الله فوجه إليه الجون بن كعب الهمداني وبشر بن عبد الله الأسدي، فنزل الجون حولايا، وقدم بشر إلى تامرا فلقي ابن الحر، فقتله ابن الحر، وهزم أصحابه، ثم لقي الجون بن كعب بحولايا، فخرج إليه عبد الرحمن بن عبد الله، فحمل عليه ابن الحر فطعنه فقتله وهزم أصحابه، وتبعهم، فخرج إليه بشير بن عبد الرحمن بن بشير العجلي، فالتقوا بسورا فاقتتلوا قتالا شديدا، فانحاز بشير عنه، فرجع إلى عمله، وقال: قد هزمت ابن الحر،

فبلغ قوله مصعبا، فقال: هذا من الذين يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا وأقام عبيد الله في السواد يغير ويجبي الخراج، فقال ابن الحر في ذلك:. سلوا ابن رؤيم عن جلادي وموقفي ... بإيوان كسرى لا أوليهمُ ظهري أكر عليهم معلما وتراهمُ ... كمعزى تحنى خشية الذئب بالصخر وبيتهم في حصن كسرى بن هرمز ... بمشحوذة بيض وخطية سمر فاجزيتهم طعنا وضربا تراهمُ ... يلوذون منا موهنا بذرا القصر يلوذون متى رهبة ومخافة ... لواذا كما لاذ الحمائم من صقر ثم إن عبيد الله بن الحر- فيما ذكر- لحق بعبد الملك بن مروان، فلما صار إليه وجهه في عشرة نفر نحو الكوفة، وأمره بالمسير نحوها حتى تلحقه الجنود، فسار بهم، فلما بلغ الأنبار وجه إلى الكوفة من يخبر أصحابه بقدومه، ويسألهم أن يخرجوا إليه، فبلغ ذلك القيسية، فأتوا الْحَارِث بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ عامل ابن الزبير على الكوفة، فسألوه أن يبعث معهم جيشا، فوجه معهم، فلما لقوا عبيد الله قاتلهم ساعة، ثم غرقت فرسه، وركب معبرا فوثب عليه رجل من الأنباط فأخذ بعضديه وضربه الباقون بالمرادي، وصاحوا: إن هذا طلبة أمير المؤمنين، فاعتنقا فغرقا، ثم استخرجوه فجزوا رأسه، فبعثوا به إلى الكوفة ثم إلى البصرة. قال أبو جعفر: وقد قيل في مقتله غير ذلك من القول، قيل: كان سبب مقتل عبيد الله ابن الحر أنه كان يغشى بالكوفة مصعبا، فرآه يقدم عليه أهل البصرة، فكتب إلى عبد الله بن الزبير- فيما ذكر- قصيدة يعاتب بها مصعبا ويخوفه مسيره إلى عبد الملك بن مروان، يقول فيها:

ابلغ أمير المؤمنين رسالة ... فلست على رأي قبيح أواربه أفي الحق أن أجفى ويجعل مصعب ... وزيريه من قد كنت فيه أحاربه! فكيف وقد أبليتكم حق بيعتي ... وحقي يلوى عندكم واطالبه وابليتكم مالا يضيّع مثله ... وآسيتكم والأمر صعب مراتبه فلما استنار الملك وانقادت العدا ... وأدرك من مال العراق رغائبه جفا مصعب عني ولو كان غيره ... لأصبح فيما بيننا لا أعاتبه لقد رابني من مصعب أن مصعبا ... أرى كل ذي غش لنا هو صاحبه وما أنا إن حلأتموني بوارد ... على كدر قد غص بالصفو شاربه وما لا مرى إلا الذي الله سائق ... إليه وما قد خط في الزبر كاتبه إذا قمت عند الباب أدخل مسلم ... ويمنعني أن أدخل الباب حاجبه وهي طويلة. وقال لمصعب وهو في حبسه، وكان قد حبس معه عطية بن عمرو البكري، فخرج عطية، فقال عبيد الله: أقول له صبرا عطي فإنما ... هو السجن حتى يجعل الله مخرجا أرى الدهر لي يومين يوما مطردا ... شريدا ويوما في الملوك متوجا أتطعن في ديني غداة أتيتكم ... وللدين تدنى الباهلي وحشرجا! ألم تر أن الملك قد شين وجهه ... ونبع بلاد الله قد صار عوسجا! وهي طويلة. وقال أيضا يعاتب مصعبا في ذلك، ويذكر له تقريبه سويد ابن منجوف، وكان سويد خفيف اللحية: بأي بلاء أم بأية نعمة ... تقدم قبلي مسلم والمهلب

ويدعى ابن منجوف أمامي كأنه ... خصي أتى للماء والعير يسرب وشيخ تميم كالثغامة رأسه ... وعيلان عنا خائف مترقب جعلت قصور الأزد ما بين منبج ... إلى الغاف من وادي عمان تصوب بلاد نفى عنها العدو سيوفنا ... وصفره عنها نازح الدار أجنب وقال قصيدة يهجو فيها قيس عيلان، يقول فيها: أنا ابن بني قيس فإن كنت سائلا ... بقيس تجدهم ذروة في القبائل ألم تر قيسا قيس عيلان برقعت ... لحاها وباعت نبلها بالمغازل! وما زلت أرجو الأزد حتى رأيتها ... تقصر عن بنيانها المتطاول فكتب زفر بن الحارث إلى مصعب: قد كفيتك قتال ابن الزرقاء وابن الحر يهجو قيسا ثم إن نفرا من بني سليم أخذوا ابن الحر فأسروه، فقال: إني إنما قلت: ألم تر قيسا قيس عيلان أقبلت ... إلينا وسارت بالقنا والقنابل فقتله رجل منهم يقال له عياش فقال زفر بن الحارث: لما رأيت الناس أولاد علة ... وأغرق فينا نزغة كل قائل تكلم عنا مشينا بسيوفنا ... إلى الموت واستنشاط حبل المراكل فلو يسأل ابن الحر أخبر أنها ... يمانية لا تشترى بالمغازل وأخبر أنا ذات علم سيوفنا ... بأعناق ما بين الطلى والكواهل وقال عبد الله بن همام: ترنمت يا بن الحر وحدك خاليا ... بقول امرئ نشوان أو قول ساقط أتذكر قوما أوجعتك رماحهم ... وذبوا عن الأحساب عند المآقط وتبكي لما لاقت ربيعة منهم ... وما أنت في أحساب بكر بواسط! فهلا بجعفي طلبت ذحولها ... ورهطك دنيا في السنين الفوارط! تركناهمُ يوم الثري أذلة يلوذون ... من أسيافنا بالعرافط

وخالطكم يوم النخيل بجمعه ... عمير فما استبشرتمُ بالمخالط ويوم شراحيل جدعنا أنوفكم ... وليس علينا يوم ذاك بقاسط ضربنا بحد السيف مفرق رأسه ... وكان حديثا عهده بالمواشط فإن رغمت من ذاك آنف مذحج ... فرغما وسخطا للأنوف السواخط قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وافت عرفات أربعة ألوية، قال مُحَمَّد بن عمر: حدثنى شر حبيل بن أبي عون، عن أبيه، قال: وقفت في سنة ثمان وستين بعرفات أربعة ألوية: ابن الحنفية في أصحابه في لواء قام عند جبل المشاة، وابن الزبير في لواء، فقام مقام الإمام اليوم، ثم تقدم ابن الحنفية بأصحابه حتى وقفوا حذاء ابن الزبير، ونجدة الحروري خلفهما، ولواء بني أمية عن يسارهما، فكان أول لواء انفض لواء مُحَمَّد ابن الحنفية، ثم تبعه نجدة، ثم لواء بني أمية، ثم لواء ابن الزبير، واتبعه الناس. قال مُحَمَّد: حدثني ابن نافع، عن أبيه، قال: كان ابن عمر لم يدفع تلك العشية إلا بدفعه ابن الزبير، فلما أبطأ ابن الزبير وقد مضى ابن الحنفية ونجدة وبنو أمية- قال ابن عمر: ينتظر ابن الزبير أمر الجاهلية- ثم دفع، فدفع ابن الزبير على أثره. قال مُحَمَّد: حدثني هشام بن عمارة، عن سعيد بن مُحَمَّد بن جبير، عن أبيه، قال: خفت الفتنة، فمشيت إليهم جميعا، فجئت مُحَمَّد بن علي في الشعب، فقلت: يا أبا القاسم، اتق الله فإنا في مشعر حرام، وبلد حرام، والناس وفد الله إلى هذا البيت، فلا تفسد عليهم حجهم، فقال: والله ما أريد ذلك، وما أحول بين أحد وبين هذا البيت، ولا يؤتى أحد من الحاج من قبلي، ولكني رجل أدفع عن نفسي من ابن الزبير، وما يروم مني، وما أطلب هذا الأمر الا الا يختلف علي فيه اثنان! ولكن ائت ابن الزبير فكلمه، وعليك بنجدة، قال

مُحَمَّد: فجئت ابن الزبير فكلمته بنحو ما كلمت به ابن الحنفية، فقال: أنا رجل قد اجتمع علي الناس وبايعوني، وهؤلاء أهل خلاف، فقلت: أرى خيرا لك الكف، قال: أفعل، ثم جئت نجدة الحروري فأجده في أصحابه، وأجد عكرمة غلام ابن عباس عنده، فقلت له: استأذن لي على صاحبك، قال: فدخل، فلم ينشب أن أذن لي، فدخلت فعظمت عليه، وكلمته كما كلمت الرجلين، فقال: اما ان ابتدى أحدا بقتال فلا، ولكن من بدأ بقتال قاتلته، قلت: فإني رأيت الرجلين لا يريدان قتالك، ثم جئت شيعة بني أمية فكلمتهم بنحو ما كلمت به القوم، فقالوا: نحن على الا نقاتل أحدا إلا أن يقاتلنا، فلم أر في تلك الألوية قوما أسكن ولا أسلم دفعة من ابن الحنفية. قال أبو جعفر: وكان العامل لابن الزبير في هذه السنة على المدينة جابر ابن الأسود بن عوف الزهري، وعلى البصرة والكوفة أخوه مصعب، وعلى قضاء الْبَصْرَة هِشَام بن هبيرة، وعلى قضاء الكوفة عبد الله بن عقبة بن مسعود، وعلى خراسان عبد الله بن خازم السلمى، وبالشام عبد الملك ابن مروان.

سنه تسع وستين

ثم دخلت سنه تسع وستين ذكر خبر قتل عبد الملك سعيد بن عمرو ففيها كان خروج عبد الملك بن مروان- فيما زعم الواقدي- إلى عين وردة، واستخلف عمرو بن سعيد بن العاص على دمشق فتحصن بها، فبلغ ذلك عبد الملك، فرجع إلى دمشق، فحاصره- قال: ويقال: خرج معه- فلما كان ببطنان حبيب، رجع إلى دمشق فتحصن فيها، ورجع عبد الملك إلى دمشق. وأما عوانة بن الحكم فإنه قال- فيما ذكر هشام بن مُحَمَّد عنه: - إن عبد الملك بن مروان لما رجع من بطنان حبيب إلى دمشق مكث بدمشق ما شاء الله، ثم سار يريد قرقيسياء، وفيها زفر بن الحارث الكلابي ومعه عمرو بن سعيد، حتى إذا كان ببطنان حبيب فتك عمرو بن سعيد، فرجع ليلا ومعه حميد بن حريث بن بحدل الكلبي وزهير بن الأبرد الكلبي، حتى أتى دمشق وعليها عبد الرحمن ابن أم الحكم الثقفي قد استخلفه عبد الملك، فلما بلغه رجوع عمرو ابن سعيد هرب وترك عمله، ودخلها عمرو فغلب عليها وعلى خزائنها. وقال غيرهما: كانت هذه القصة في سنة سبعين وقال: كان مسير عبد الملك من دمشق نحو العراق يريد مصعب بن الزبير، فقال له عمرو بن سعيد بن العاص: إنك تخرج إلى العراق، وقد كان أبوك وعدني هذا الأمر من بعده، وعلى ذلك جاهدت معه، وقد كان من بلائي معه ما لم يخف عليك، فاجعل لي هذا الأمر من بعدك، فلم يجبه عبد الملك إلى شيء، فانصرف عنه عمرو راجعا إلى دمشق، فرجع عبد الملك في أثره حتى انتهى إلى دمشق

رجع الحديث إلى حديث هشام، عن عوانة، قال: ولما غلب عمرو على دمشق طلب عبد الرحمن بن أم الحكم فلم يصبه، فأمر بداره فهدمت واجتمع الناس، وصعد المنبر فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الناس، إنه لم يقم أحد من قريش قبلي على هذا المنبر إلا زعم أن له جنة ونارا، يدخل الجنة من أطاعه، والنار من عصاه، وإني أخبركم أن الجنة والنار بيد الله، وإنه ليس إلي من ذلك شيء، غير أن لكم علي حسن المؤاساة والعطية ونزل. واصبح عبد الملك، ففقد عمرو وسعيد، فسأل عنه، فأخبر خبره، فرجع عبد الملك إلى دمشق، فإذا عمرو قد جلل دمشق المسوح فقاتله بها أياما، وكان عمرو بن سعيد إذا أخرج حميد بن حريث الكلبي على الخيل أخرج إليه عبد الملك سفيان بن الأبرد الكلبي، وإذا أخرج عمرو بن سعيد زهير بن الأبرد الكلبي أخرج إليه عبد الملك حسان بن مالك بن بحدل الكلبي. قال هشام حدثني عوانة، أن الخيلين تواقفتا ذات يوم، وكان مع عمرو بن سعيد رجل من كلب يقال له رجاء بن سراج، فقال رجاء: يا عبد الرحمن بن سليم، ابرز- وكان عبد الرحمن مع عبد الملك- فقال عبد الرحمن: قد أنصف القارة من راماها، وبرز له، فاطعنا وانقطع ركاب عبد الرحمن، فنجا منه ابن سراج، فقال عبد الرحمن: والله لولا انقطاع الركاب لرميت بما في بطنك من تبن، وما اصطلح عمرو وعبد الملك أبدا، فلما طال قتالهم جاء نساء كلب وصبيانهم فبكين وقلن لسفيان بن الأبرد ولابن بحدل الكلبي: علام تقتلون أنفسكم لسلطان قريش! فحلف كل واحد منهما الا يرجع حتى يرجع صاحبه، فلما أجمعوا على الرجوع نظروا فوجدوا سفيان أكبر من حريث، فطلبوا إلى حريث، فرجع ثم إن عبد الملك وعمرا اصطلحا، وكتبا بينهما كتابا، وآمنه عبد الملك وذلك عشية الخميس. قال هشام: فحدثني عوانة أن عمرو بن سعيد خرج في الخيل

متقلدا قوسا سوداء، فأقبل حتى أوطأ فرسه أطناب سرادق عبد الملك، فانقطعت الأطناب وسقط السرادق، ونزل عمرو فجلس وعبد الملك مغضب، فقال لعمرو: يا أبا أمية، كأنك تشبه بتقلدك هذه القوس بهذا الحي من قيس! قال: لا، ولكني أتشبه بمن هو خير منهم، العاص بن أمية. ثم قام مغضبا والخيل معه حتى دخل دمشق، ودخل عبد الملك دمشق يوم الخميس، فبعث إلى عمرو أن أعط الناس أرزاقهم، فأرسل إليه عمرو: أن هذا لك ليس ببلد فاشخص عنه فلما كان يوم الاثنين وذلك بعد دخول عبد الملك دمشق بأربع بعث إلى عمرو أن ائتني- وهو عند امرأته الكلبية، وقد كان عبد الملك دعا كريب بن أبرهة بن الصباح الحميري فاستشاره في أمر عمرو بن سعيد، فقال له: في هذا هلكت حمير، لا أرى لك ذلك، لا ناقتي في ذا ولا جملي- فلما أتى رسول عبد الملك عمرا يدعوه صادق الرسول عبد الله بن يزيد بن معاوية عند عمرو، فقال عبد الله لعمرو بن سعيد: يا أبا أمية، والله لأنت أحب إلي من سمعي وبصري، وقد أرى هذا الرجل قد بعث إليك أن تأتيه، وأنا ارى لك الا تفعل، فقال له عمرو: ولم؟ قال: لأن تبيع ابن امرأة كعب الأحبار. قال: إن عظيما من عظماء ولد إسماعيل يرجع فيغلق أبواب دمشق، ثم يخرج منها، فلا يلبث أن يقتل، فقال له عمرو: والله لو كنت نائما ما تخوفت أن ينبهني ابن الزرقاء، ولا كان ليجترئ على ذلك مني، مع أن عثمان بن عفان أتاني البارحة في المنام فألبسني قميصه- وكان عبد الله بن يزيد زوج أم موسى بنت عمرو بن سعيد- فقال عمرو للرسول: أبلغه السلام، وقل له: أنا رائح إليك العشية إن شاء الله فلما كان العشي لبس عمرو درعا حصينة بين قباء قوهي وقميص قوهي، وتقلد سيفه وعنده امرأته الكلبية، وحميد بن حريث بن بحدل الكلبي، فلما نهض متوجها، عثر بالبساط، فقال له حميد: أما والله لئن أطعتني لم تأته، وقالت له امرأته تلك المقالة، فلم يلتفت إلى قولهم، ومضى في مائة رجل من مواليه، وقد بعث عبد الملك إلى بني مروان فاجتمعوا عنده، فلما بلغ عبد الملك

أنه بالباب أمر أن يحبس من كان معه، وأذن له فدخل، ولم تزل أصحابه يحبسون عند كل باب حتى دخل عمرو قاعة الدار، وما معه إلا وصيف له، فرمى عمرو ببصره نحو عبد الملك، فإذا حوله بنو مروان، وفيهم حسان ابن مالك بن بحدل الكلبي وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي، فلما رأى جماعتهم أحس بالشر، فالتفت إلى وصيفه فقال: انطلق ويحك إلى يحيى بن سعيد، فقل له يأتيني فقال له الوصيف ولم يفهم ما قال له: لبيك! فقال له: اغرب عني في حرق الله وناره وقال عبد الملك لحسان وقبيصة: إذا شئتما فقوما فالتقيا وعمرا في الدار، فقال عبد الملك لهما كالمازح ليطمئن عمرو بن سعيد: أيكما أطول؟ فقال حسان: قبيصة يا أمير المؤمنين أطول مني بالإمرة، وكان قبيصة على الخاتم ثم التفت عمرو إلى وصيفه فقال: انطلق إلى يحيى فمره أن يأتيني، فقال له: لبيك، ولم يفهم عنه، فقال له عمرو: اغرب عني، فلما خرج حسان وقبيصة أمر بالأبواب فغلقت، ودخل عمرو فرحب به عبد الملك، وقال: هاهنا يا أبا أمية، يرحمك الله! فأجلسه معه على السرير، وجعل يحدثه طويلا، ثم قال: يا غلام، خذ السيف عنه، فقال عمرو: إنا لله يا أمير المؤمنين! فقال عبد الملك: أو تطمع أن تجلس معي متقلدا سيفك! فأخذ السيف عنه، ثم تحدثا ما شاء الله، ثم قال له عبد الملك: يا أبا أمية، قال: لبيك يا أمير المؤمنين، فقال: إنك حيث خلعتني آليت بيمين إن أنا ملأت عيني منك وأنا مالك لك أن أجمعك في جامعة، فقال له بنو مروان: ثم تطلقه يا أمير المؤمنين؟ قال: ثم أطلقه، وما عسيت أن أصنع بأبي أمية! فقال بنو مروان: أبر قسم أمير المؤمنين، فقال عمرو: قد أبر الله قسمك يا أمير المؤمنين، فأخرج من تحت فراشه جامعة فطرحها إليه، ثم قال: يا غلام، قم فاجمعه فيها، فقام الغلام فجمعه فيها، فقال عمرو: أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رءوس الناس! فقال عبد الملك: أمكرا أبا أمية عند الموت! لاها الله إذا! ما كنا

لنخرجك في جامعة على رءوس الناس، ولما نخرجها منك إلا صعدا. ثم اجتبذه اجتباذة أصاب فمه السرير فكسر ثنيته، فقال عمرو: أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن يدعوك إلى كسر عظم مني أن تركب ما هو أعظم من ذلك فقال له عبد الملك: والله لو أعلم أنك تبقي علي إن أبقي عليك وتصلح قريش لأطلقتك، ولكن ما اجتمع رجلان قط في بلدة على مثل ما نحن عليه إلا أخرج أحدهما صاحبه فلما رأى عمرو أن ثنيته قد اندقت وعرف الذي يريد عبد الملك، قال: أغدرا يا بن الزرقاء! وقيل: إن عبد الملك لما جذب عمرا فسقطت ثنيته جعل عمرو يمسها، فقال عبد الملك له: أرى ثنيتك قد وقعت منك موقعا لا تطيب نفسك بعدها فأمر به فضرب عنقه. رجع الحديث إلى حديث عوانة وأذن المؤذن العصر، فخرج عبد الملك يصلي بالناس، وأمر عبد العزيز بن مروان أن يقتله، فقام إليه عبد العزيز بالسيف، فقال له عمرو: أذكرك الله والرحم أن تلي أنت قتلي، وليتول ذلك من هو أبعد رحما منك! فألقى عبد العزيز السيف وجلس، وصلى عبد الملك صلاة خفيفة، ودخل، وغلقت الأبواب ورأى الناس عبد الملك حيث خرج وليس عمرو معه، فذكروا ذلك ليحيى بن سعيد فأقبل في الناس حتى حل بباب عبد الملك ومعه ألف عبد لعمرو، وأناس بعد من أصحابه كثير، فجعل من كان معه يصيحون: أسمعنا صوتك يا أبا أمية! وأقبل مع يحيى بن سعيد حميد بن حريث وزهير بن الأبرد فكسروا باب المقصورة، وضربوا الناس بالسيوف، وضرب عبد لعمرو بن سعيد يقال له مصقلة الوليد بن عبد الملك ضربة على رأسه، واحتمله ابراهيم ابن عربي صاحب الديوان فأدخله بيت القراطيس، ودخل عبد الملك حين صلى فوجد عمرا حيا، فقال لعبد العزيز: ما منعك من أن تقتله! قال:

منعني أنه ناشدني الله والرحم فرققت له فقال له عبد الملك: أخزى الله أمك البوالة على عقبيها، فإنك لم تشبه غيرها- وأم عبد الملك عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية، وكانت أم عبد العزيز ليلى، وذلك قول ابن الرقيات: ذاك ابن ليلى عبد العزيز ... ببابليون تغدو جفانه رذما ثم إن عبد الملك قال: يا غلام، ائتني بالحربة فأتاه بالحربة فهزها، ثم طعنه بها فلم تجز، ثم ثنى فلم تجز، فضرب بيده إلى عضد عمرو، فوجد مس الدرع، فضحك، ثم قال: ودارع أيضا يا أبا أمية! إن كنت لمعدا! يا غلام، ائتني بالصمصامة، فأتاه بسيفه، ثم أمر بعمرو فصرع، وجلس على صدره فذبحه وهو يقول: يا عمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حيث تقول الهامة اسقوني وانتفض عبد الملك رعدة- وكذلك الرجل زعموا يصيبه إذا قتل ذا قرابة له- فحمل عبد الملك عن صدره فوضع على سريره، فقال: ما رأيت مثل هذا قط، قتله صاحب دنيا ولا طالب آخره ودخل يحيى ابن سعيد ومن معه على بني مروان الدار فجرحوهم ومن كان معهم من مواليهم، فقاتلوا يحيى واصحابه، وجاء عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي فدفع إليه الرأس، فألقاه إلى الناس، وقام عبد العزيز بن مروان فأخذ المال في البدور، فجعل يلقيها إلى الناس، فلما نظر الناس إلى الأموال ورأوا الرأس انتهبوا الأموال وتفرقوا وقد قيل: إن عبد الملك ابن مروان لما خرج إلى الصلاة أمر غلامه أبا الزعيزعة بقتل عمرو، فقتله وألقى رأسه إلى الناس وإلى أصحابه. قال هشام: قال عوانة: فحدثت أن عبد الملك أمر بتلك الأموال التي طرحت إلى الناس فجبيت حتى عادت كلها إلى بيت المال، ورمي يحيى بن سعيد يومئذ في رأسه بصخرة، وأمر عبد الملك بسريره فأبرز إلى

المسجد، وخرج فجلس عليه، وفقد الوليد بن عبد الملك فجعل يقول: ويحكم! أين الوليد؟ وأبيهم لئن كانوا قتلوه لقد أدركوا ثأرهم، فأتاه إبراهيم بن عربي الكناني فقال: هذا الوليد عندي، قد أصابته جراحة، وليس عليه بأس، فأتي عبد الملك بيحيى بن سعيد، فأمر به أن يقتل، فقام إليه عبد العزيز، فقال: جعلني الله فداك يا أمير المؤمنين! أتراك قاتلا بني أمية في يوم واحد! فأمر بيحيى فحبس، ثم أتي بعنبسة بن سعيد، فأمر به أن يقتل، فقام اليه عبد العزيز فقال: أذكرك الله يا أمير المؤمنين في استئصال بني أمية وهلاكها! فأمر بعنبسه فحبس، ثم أتي بعنبسة بن سعيد فأمر به أن يقتل، فقام إليه عبد العزيز بن مروان، فقال: اذكرك لك الله يا أمير المؤمنين في استئصال بني أمية وهلاكها! فأمر بعنبسة فحبس، ثم أتي بعامر بن الأسود الكلبي فضرب رأسه عبد الملك بقضيب خيزران كان معه، ثم قال: أتقاتلني مع عمرو وتكون معه علي! قال: نعم، لأن عمرا أكرمني وأهنتني، وأدناني وأقصيتني، وقربني وأبعدتني، وأحسن إلي وأسأت إلي، فكنت معه عليك فأمر به عبد الملك أن يقتل، فقام عبد العزيز فقال: أذكرك الله يا أمير المؤمنين في خالي! فوهبه له وأمر ببني سعيد فحبسوا، ومكث يحيى في الحبس شهرا أو أكثر ثم إن عبد الملك صعد الْمِنْبَر، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ استشار الناس في قتله، فقام بعض خطباء الناس فقال: يا أمير المؤمنين، هل تلد الحية إلا حية! نرى والله أن تقتله فإنه منافق عدو ثم قام عبد الله بن مسعدة الفزاري، فقال: يا أمير المؤمنين، إن يحيى ابن عمك، وقرابته ما قد علمت، وقد صنعوا ما صنعوا، وصنعت بهم ما قد صنعت، ولست لهم بآمن، ولا أرى لك قتلهم، ولكن سيرهم إلى عدوك، فإن هم قتلوا كنت قد كفيت أمرهم بيد غيرك، وإن هم سلموا ورجعوا رأيت فيهم رأيك. فأخذ برأيه، وأخرج آل سعيد فألحقهم بمصعب بن الزبير، فلما قدموا عليه دخل يحيى بن سعيد، فقال له ابن الزبير: انفلت وانحص الذنب، فقال: والله إن الذنب لبهلبه ثم إن عبد الملك بعث إلى امرأة عمرو الكلبية: ابعثي إلي بالصلح الذي كنت كتبته

لعمرو، فقالت لرسوله: ارجع إليه فأعلمه أني قد لففت ذلك الصلح معه في أكفانه ليخاصمك به عند ربه، وكان عمرو بن سعيد وعبد الملك يلتقيان في النسب إلى أمية، وكانت أم عمرو أم البنين ابنة الحكم ابن أبي العاص عمة عبد الملك قال هشام: فحدثنا عوانة أن الذي كان بين عبد الملك وعمرو كان شرا قديما، وكان ابنا سعيد أمهما أم البنين، وكان عبد الملك ومعاوية ابني مروان، فكانوا وهم غلمان لا يزالون يأتون أم مروان بن الحكم الكنانية يتحدثون عندها، فكان ينطلق مع عبد الملك ومعاوية غلام لهم أسود، وكانت أم مروان إذا أتوها هيأت لهم طعاما، ثم تأتيهم به فتضع بين يدي كل رجل صحفة على حدة، وكانت لا تزال تؤرش بين معاويه ابن مروان ومُحَمَّد بن سعيد، وبين عبد الملك وعمرو بن سعيد، فيقتتلون ويتصارمون الحين، لا يكلم بعضهم بعضا، وكانت تقول: إن لم يكن عند هذين عقل فعند هذين، فكان ذلك دأبها كلما أتوها حتى أثبتت الشحناء في صدورهم. وذكر أن عبد الله بن يزيد القسري أبا خالد كان مع يحيى ابن سعيد حيث دخل المسجد فكسر باب المقصورة، فقاتل بني مروان، فلما قتل عمرو وأخرج رأسه إلى الناس ركب عبد الله وأخوه خالد فلحقوا بالعراق، فأقام مع ولد سعيد وهم مع مصعب حتى اجتمعت الجماعة على عبد الملك، وقد كانت عين عبد الله بن يزيد فقئت يوم المرج، وكان مع ابن الزبير يقاتل بني أمية، وإنه دخل على عبد الملك بعد الجماعة، فقال: كيف أنتم آل يزيد؟ فقال عبد الله: حرباء حرباء، فقال عبد الملك: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ*، وما الله بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ*. قال هشام عن عوانة: إن ولد عمرو بن سعيد دخلوا على عبد الملك بعد الجماعة وهم أربعة: أمية، وسعيد، وإسماعيل، ومُحَمَّد، فلما نظر إليهم عبد الملك قال لهم: إنكم أهل بيت لم تزالوا ترون لكم على جميع قومكم فضلا لم يجعله الله لكم، وإن الذي كان بيني وبين أبيكم لم

يكن حديثا، بل كان قديما في أنفس أوليكم على أولينا في الجاهلية. فأقطع بأمية بن عمرو- وكان أكبرهم- فلم يقدر أن يتكلم، وكان أنبلهم وأعقلهم، فقام سعيد بن عمرو وكان الأوسط فقال: يا أمير المؤمنين، ما تنعي علينا أمرا كان في الجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام فهدم ذلك، فوعدنا جنة، وحذرنا نارا! وأما الذي كان بينك وبين عمرو فان عمرا ابن عملك، وأنت أعلم وما صنعت، وقد وصل عمرو الى الله، وكفى بالله حسيبا، ولعمري لئن أخذتنا بما كان بينك وبينه لبطن الأرض خير لنا من ظهرها فرق لهم عبد الملك رقة شديدة، وقال: إن أباكم خيرني بين أن يقتلني أو أقتله، فاخترت قتله على قتلي، وأما أنتم فما أرغبني فيكم، وأوصلني لقرابتكم، وأرعاني لحقكم! فأحسن جائزتهم، ووصلهم وقربهم. وذكر أن خالد بن يزيد بن معاوية قال لعبد الملك ذات يوم: عجب منك ومن عمرو بن سعيد، كيف أصبت غرته فقتلته! فقال عبد الملك: دانيته مني ليسكن روعه ... فأصول صولة حازم مستمكن غضبا ومحمية لديني أنه ... ليس المسيء سبيله كالمحسن قال عوانة: لقي رجل سعيد بن عمرو بن سعيد بمكة، فقال له: ورب هذه البنية، ما كان في القوم مثل أبيك، ولكنه نازع القوم ما في أيديهم فعطب. وكان الواقدي يقول: إنما كان في سنة تسع وستين بين عبد الملك ابن مروان وعمرو بن سعيد الحصار، وذلك أن عمرو بن سعيد تحصن بدمشق فرجع عبد الملك إليه من بطنان حبيب، فحاصره فيها، وأما قتله إياه فإنه كان في سنة سبعين. وفي هذه السنة حكم محكم من الخوارج بالخيف من منى فقتل عند الجمرة، ذكر محمد بن عمر أن يحيى بن سعيد بن دينار حدثه عن

أبيه، قال: رأيته عند الجمرة سل سيفه، وكانوا جماعة فأمسك الله بأيديهم، وبدر هو من بينهم، فحكم، فمال الناس عليه فقتلوه. وأقام الحج للناس فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ. وكان عامله فيها على المصرين: الكوفة والبصرة أخوه مصعب بن الزبير وكان على قضاء الْكُوفَة شريح وعلى قضاء الْبَصْرَة هِشَام بن هبيرة، وعلى خُرَاسَان عَبْد اللَّهِ بن خازم.

سنه سبعين

ثم دخلت سنه سبعين (ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففي هذه السنة ثارت الروم، واستجاشوا على من بالشام من ذلك من المسلمين، فصالح عبد الملك ملك الروم، على أن يؤدي إليه في كل جمعة ألف دينار خوفا منه على المسلمين. وفيها شخص- فيما ذكر مُحَمَّد بن عمر- مصعب بن الزبير إلى مكة فقدمها بأموال عظيمة، فقسمها في قومه وغيرهم، وقدم بدواب كثيرة وظهر وأثقال، فأرسل إلى عبد الله بن صفوان وجبير بن شيبة، وعبد الله بن مطيع مالا كثيرا، ونحر بدنا كثيرة. وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن الزبير. وكان عماله على الأمصار في هذه السنة عماله في السنة التي قبلها على المعاون والقضاء.

سنه احدى وسبعين

ثم دخلت سنه إحدى وسبعين ذكر ما كان فيها من الأحداث فمن ذلك مسير عبد الملك بن مروان فيها إلى العراق لحرب مصعب بن الزبير، وكان عبد الملك- فيما قيل- لا يزال يقرب من مصعب، حتى يبلغ بطنان حبيب، ويخرج مصعب إلى باجميرا، ثم تهجم الشتاء فيرجع كل واحد منهما إلى موضعه، ثم يعودان، فقال عدي بن زيد بن عدي بن الرقاع العاملي: لعمري لقد أصحرت خيلنا ... بأكناف دجلة للمصعب إذا ما منافق أهل العراق ... عوتب ثمت لم يعتب دلفنا إليه بذي تدرإ ... قليل التفقد للغيب يهزون كل طويل القناة ... ملتئم النصل والثعلب كأن وعاهم إذا ما غدوا ... ضجيج قطا بلد مخصب فقدمنا واضح وجهه ... كريم الضرائب والمنصب أعين بنا ونصرنا به ... ومن ينصر الله لم يغلب

فحدثني عمر بن شبة، قال: حدثني علي بن مُحَمَّد، قال: أقبل عبد الملك من الشام يريد مصعبا- وذلك قبل هذه السنة، في سنة سبعين- ومعه خالد بن عَبْد اللَّهِ بن خَالِد بن أسيد، فَقَالَ خالد لعبد الملك: إن وجهتني إلى البصرة وأتبعتني خيلا يسيرة رجوت أن أغلب لك عليها، فوجهه عبد الملك، فقدمها مستخفيا في مواليه وخاصته، حتى نزل على عمرو بن أصمع الباهلي. قال عمر: قال أبو الحسن: قال مسلمة بن محارب: أجار عمرو بن أصمع خالدا، وأرسل إلى عباد بن الحصين وهو على شرطة ابن معمر- وكان مصعب إذا شخص عن البصرة استخلف عليها عبيد الله بن عبيد الله بن معمر- ورجا عمرو بن أصمع ان يبايعه عباد بن الحصين- باتى قد اجرت خالدا فأحببت أن تعلم ذلك لتكون لي ظهرا فوافاه رسوله حين نزل عن فرسه، فقال له عباد: قل له: والله لا أضع لبد فرسي حتى آتيك في الخيل فقال عمرو لخالد: إني لا أغرك، هذا عباد يأتينا الساعة، ولا والله ما أقدر على منعك، ولكن عليك بمالك بن مسمع قال أبو زيد: قال أبو الحسن: ويقال إنه نزل على علي بن أصمع، فبلغ ذلك عبادا فأرسل إليه عباد: أني سائر إليك. حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بن محمد، عن مسلمة وعوانة أن خالدا خرج من عند ابن أصمع يركض، عليه قميص قوهي رقيق، قد حسره عن فخذيه، وأخرج رجليه من الركابين، حتى أتى مالكا، فقال: إني قد اضطررت إليك، فأجرني، قال: نعم، وخرج هو وابنه، وأرسل إلى بكر بن وائل والأزد، فكانت أول راية أتته راية بني يشكر وأقبل عباد في الخيل، فتواقفوا، ولم يكن بينهم، فلما كان من الغد غدوا الى حفره نافع بن الحارث التي نسبت بعد إلى خالد، ومع خالد رجال من بني تميم قد أتوه، منهم صعصعة بن معاوية، وعبد العزيز بن

بشر، ومرة بن محكان، في عدد منهم، وكان أصحاب خالد جفرية ينسبون إلى الجفرة، وأصحاب ابن معمر زبيرية، فكان من الجفرية عبيد الله بن أبي بكرة وحمران والمغيرة بن المهلب، ومن الزبيرية قيس بن الهيثم السلمي، وكان يستأجر الرجال يقاتلون معه، فتقاضاه رجل أجرة فقال: غدا أعطيكها، فقال غطفان بن أنيف، أحد بن كعب بن عمرو: لبئس ما حكمت يا جلاجل ... النقد دين والطعان عاجل وأنت بالباب سمير آجل. وكان قيس يعلق في عنق فرسه جلاجل، وكان على خيل بني حنظله عمرو بن وبرة القحيفي، وكان له عبيد يؤاجرهم بثلاثين ثلاثين كل يوم، فيعطيهم عشرة عشرة، فقيل له: لبئس ما حكمت يا بن وبره ... تعطى ثلاثين وتعطي عشره ووجه المصعب زحر بن قيس الجعفي مددا لابن معمر في ألف، ووجه عبد الملك عبيد الله بن زياد بن ظبيان مددا لخالد، فكره أن يدخل البصرة، وأرسل مطر بن التوءم فرجع إليه فأخبره بتفرق الناس، فلحق بعبد الملك. قال أبو زيد: قال أبو الحسن: فحدثني شيخ من بني عرين، عن السكن بن قتادة، قال: اقتتلوا أربعة عشرين يوما، وأصيبت عين مالك، فضجر من الحرب، ومشت السفراء، بينهم يوسف بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، فصالحه، على أن يخرج خالدا وهو آمن، فأخرج خالدا من البصره، وخاف الا يجيز المصعب أمان عبيد الله، فلحق مالك بثأج، فقال الفرزدق يذكر مالكا ولحوق التميمية به وبخالد: عجبت لأقوام تميم أبوهمُ ... وهم في بني سعد عظام المبارك

وكانوا أعز الناس قبل مسيرهم ... إلى الأزد مصفرا لحاها ومالك فما ظنكم بابن الحواري مصعب ... إذا افتر عن أنيابه غير ضاحك ونحن نفينا مالكا عن بلاده ... ونحن فقأنا عينه بالنيازك قال أبو زيد: قال أبو الحسن: حدثني مسلمة أن المصعب لما انصرف عبد الملك إلى دمشق لم يكن له همة إلا البصرة، وطمع أن يدرك بها خالدا، فوجده قد خرج، وأمن ابن معمر الناس، فأقام أكثرهم، وخاف بعضهم مصعبا فشخص، فغضب مصعب على ابن معمر، وحلف الا يوليه، وأرسل إلى الجفرية فسبهم وأنبهم. قال أبو زيد: فزعم المدائني وغيره من رواة أهل البصرة أنه أرسل إليهم فأتي بهم، فأقبل على عبيد الله بن أبي بكرة، فقال: يا بن مسروح، إنما أنت ابن كلبة تعاورها الكلاب، فجاءت بأحمر وأسود وأصفر من كل كلب بما يشبهه، وإنما كان أبوك عبدا نزل الى رسول الله ص من حصن الطائف، ثم أقمتم البينة تدعون أن أبا سفيان زنى بأمكم، أما والله لئن بقيت لألحقنكم بنسبكم ثم دعا بحمران فقال: يا بن اليهودية، إنما أنت علج نبطي سبيت من عين التمر ثم قال للحكم بن المنذر بن الجارود: يا بن الخبيث، أتدري من أنت ومن الجارود! إنما كان الجارود علجا بجزيرة ابن كاوان فارسيا، فقطع إلى ساحل البحر، فانتمى إلى عبد القيس، ولا والله ما أعرف حيا أكثر اشتمالا على سوءة منهم ثم أنكح أخته المكعبر الفارسي فلم يصب شرفا قط أعظم منه، فهؤلاء ولدها يا بن قباذ ثم أتي بعبد الله بن فضالة الزهراني فقال: ألست من أهل هجر ثم من أهل سماهيج! أما والله لآردنك إلى نسبك ثم أتي بعلي بن أصمع، فقال: أعبد لبني تميم مرة وعزي من باهلة! ثم أتي بعبد العزيز بن بشر بن حناط فقال: يا بن المشتور، ألم يسرق عمك عنزا في عهد عمر، فأمر به فسير ليقطعه! أما والله ما أعنت إلا

من ينكح أختك- وكانت أخته تحت مقاتل بن مسمع- ثم أتي بأبي حاضر الأسدي فقال: يا بن الإصطخرية، ما أنت والأشراف! وإنما أنت من أهل قطر دعي في بني أسد، ليس لك فيهم قريب ولا نسيب ثم أتي بزياد بن عمرو فقال: يا بن الكرماني، إنما أنت علج من أهل كرمان قطعت الى فارس فصرت ملاحا، مالك وللحرب! لأنت بجر القلس أحذق ثم أتي بعبد الله بن عثمان بن أبي العاص فقال: أعلي تكثر وأنت علج من أهل هجر، لحق أبوك بالطائف وهم يضمون من تأشب إليهم يتعززون به! أما والله لأردنك إلى أصلك ثم أتي بشيخ بن النعمان فقال: يا بن الخبيث، انما أنت علج من اهل زند ورد، هربت أمك وقتل أبوك، فتزوج أخته رجل من بني يشكر، فجاءت بغلامين، فألحقناك بنسبهما، ثم ضربهم مائة مائة، وحلق رءوسهم ولحاهم، وهدم دورهم، وصهرهم في الشمس ثلاثا، وحملهم على طلاق نسائهم، وجمر أولادهم في البعوث، وطاف بهم في أقطار البصرة، وأحلفهم ألا ينكحوا الحرائر وبعث مصعب خداش بن يزيد الأسدي في طلب من هرب من أصحاب خالد، فأدرك مرة بن محكان فأخذه، فقال مرة: بني أسد إن تقتلوني تحاربوا ... تميما إذا الحرب العوان اشمعلت بني أسد هل فيكمُ من هوادة ... فتعفون إن كانت بي النعل زلت فلا تحسب الأعداء إذ غبت عنهمُ ... وأوريت معنا أن حربيَ كلت تمشى خداش في الأسكة آمنا ... وقد نهلت مني الرماح وعلت فقربه خداش فقتله- وكان خداش على شرطة مصعب يومئذ- وأمر مصعب سنان بن ذهل أحد بني عمرو بن مرثد بدار مالك بن

مسمع فهدمها، وأخذ مصعب ما كان في دار مالك، فكان فيما أخذ جارية ولدت له عمر بن مصعب قال: وأقام مصعب بالبصرة حتى شخص إلى الكوفة، ثم لم يزل بالكوفة حتى خرج لحرب عبد الملك، ونزل عبد الملك مسكن، وكتب عبد الملك إلى المروانية من أهل العراق، فأجابه كلهم وشرط عليه ولاية أصبهان، فأنعم بها لهم كلهم، منهم حجار ابن أبجر، والغضبان بن القبعثرى، وعتاب بن ورقاء، وقطن بن عبد الله الحارثي، ومُحَمَّد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، وزحر بن قيس، ومحمد ابن عمير، وعلى مقدمته مُحَمَّد بن مروان، وعلى ميمنته عبد الله بن يزيد بن معاوية، وعلى ميسرته خالد بن يزيد، وسار إليه مصعب وقد خذله أهل الكوفة. قال عروة بن المغيرة بن شعبة: فخرج يسير متكئا على معرفة دابته، ثم تصفح الناس يمينا وشمالا فوقعت عينه علي، فقال: يا عروة، إلي، فدنوت منه، فقال: أخبرني عن الحسين بن علي، كيف صنع بإبائه النزول على حكم ابن زياد وعزمه على الحرب؟ فقال: إن الألى بالطف من آل هاشم ... تأسوا فسنوا للكرام التأسيا قال: فعلمت أنه لا يريم حتى يقتل، وكان عبد الملك- فيما ذكر محمد بن عمر عن عبد الله بْن محمد بْن عبد الله بن أبي قره، عن إسحاق ابن عبد الله بن أبي فروة، عن رجاء بن حيوة- قال: لما قتل عمرو بن سعيد وضع السيف فقتل من خالفه، فلما أجمع بالمسير إلى مصعب وقد صفت له الشام وأهلها خطب الناس وأمرهم بالتهيؤ إلى مصعب، فاختلف عليه رؤساء أهل الشام من غير خلاف لما يريده، ولكنهم أحبوا أن يقيم ويقدم الجيوش، فإن ظفروا فذاك، وإن لم يظفروا أمدهم بالجيوش خشية على الناس إن أصيب في لقائه مصعبا لم يكن وراءه ملك، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو أقمت مكانك وبعثت على هؤلاء الجيوش رجلا من أهل بيتك، ثم

سرحته إلى مصعب! فقال عبد الملك: إنه لا يقوم بهذا الأمر إلا قرشي له رأي، ولعلي أبعث من له شجاعة ولا رأي له، وإني أجد في نفسي أني بصير بالحرب، شجاع بالسيف إن ألجئت إلى ذلك ومصعب في بيت شجاعة، أبوه أشجع قريش، وهو شجاع ولا علم له بالحرب يحب الخفض، ومعه من يخالفه ومعي من ينصح لي فسار عبد الملك حتى نزل مسكن، وسار مصعب إلى باجميرا، وكتب عبد الملك إلى شيعته من أهل العراق، فأقبل إبراهيم بن الأشتر بكتاب عبد الملك مختوما لم يقرأه، فدفعه إلى مصعب، فقال: ما فيه؟ فقال: ما قرأته، فقرأه مصعب فإذا هو يدعوه إلى نفسه، ويجعل له ولاية العراق، فقال لمصعب: إنه والله ما كان من أحد آيس منه مني، ولقد كتب إلى أصحابك كلهم بمثل الذي كتب إلي، فأطعني فيهم فاضرب أعناقهم قال: إذا لا تناصحنا عشائرهم قال: فأوقرهم حديدا وابعث بهم إلى أبيض كسرى فاحبسهم هنالك، ووكل بهم من إن غلبت ضرب أعنقهم، وإن غلبت مننت بهم على عشائرهم فقال: يا أبا النعمان، إني لفي شغل عن ذلك، يرحم الله أبا بحر، إن كان ليحذرني غدر أهل العراق، كأنه كان ينظر إلى ما نحن فيه! حدثني عمر، قال: حدثنا مُحَمَّد بن سلام، عن عبد القاهر بن السري، قال: هم أهل العراق بالغدر بمصعب، فقال قيس بن الهيثم: ويحكم! لا تدخلوا أهل الشام عليكم، فو الله لئن تطعموا بعيشكم ليصفين عليكم منازلكم، والله لقد رأيت سيد أهل الشام على باب الخليفة يفرح إن أرسله في حاجة، ولقد رأيتنا في الصوائف وأحدنا على ألف بعير، وإن الرجل من وجوههم ليغزو على فرسه وزاده خلفه. قال: ولما تدانى العسكران بدير الجاثليق من مسكن، تقدم إبراهيم بن الأشتر فحمل على مُحَمَّد بن مروان فأزاله عن موضعه، فوجه عبد الملك بن مروان عبد الله بن يزيد بن معاوية، فقرب من محمد بن

مروان والتقى القوم فقتل مسلم بن عمرو الباهلى، وقتل يحيى ابن مبشر، أحد بني ثعلبة بن يربوع، وقتل ابراهيم بن الاشتر، فهرب عتاب ابن ورقاء- وكان على الخيل مع مصعب- فقال مصعب لقطن بن عبد الله الحارثي: أبا عثمان، قدم خيلك، قَالَ: ما أرى ذلك، قَالَ: ولم؟ قَالَ: أكره أن تقتل مذحج في غير شيء، فقال لحجار بن أبجر: أبا أسيد، قدم رايتك، قال: إلى هذه العذرة! قال: ما تتأخر إليه والله أنتن وألأم، فقال لمُحَمَّد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس مثل ذلك، فقال: ما أرى أحدا فعل ذلك فأفعله، فقال مصعب: يا إبراهيم ولا إبراهيم لي اليوم! حدثني أبو زيد، قال: حدثني مُحَمَّد بن سلام، قال: أخبر ابن خازم بمسير مصعب إلى عبد الملك، فقال: أمعه عمر بن عبيد الله بن معمر؟ قيل: لا، استعمله على فارس، قال: افمعه المهلب بن ابى صفره؟ قيل: لا، استعمله على الموصل، قال: أفمعه عباد بن الحصين؟ قيل: لا، استخلفه على البصرة، فقال: وأنا بخراسان! خذيني فجريني جعار وابشرى ... بلحم امرى لم يشهد اليوم ناصره فقال مصعب لابنه عيسى بن مصعب: يا بني، اركب أنت ومن معك إلى عمك بمكة فأخبره ما صنع أهل العراق، ودعني فإني مقتول. فقال ابنه: والله لا أخبر قريشا عنك أبدا، ولكن إن أردت ذلك فالحق بالبصرة فهم على الجماعة، أو الحق بأمير المؤمنين قال مصعب: والله لا تتحدث قريش أني فررت بما صنعت ربيعة من خذلانها حتى أدخل الحرم منهزما، ولكن أقاتل، فإن قتلت فلعمري ما السيف بعار، وما الفرار لي بعادة ولا خلق، ولكن إن أردت أن ترجع فارجع فقاتل فرجع فقاتل حتى قتل. قال علي بن مُحَمَّد عن يحيى بن إسماعيل بن أبي المهاجر، عن أبيه

أن عبد الملك أرسل إلى مصعب مع أخيه مُحَمَّد بن مروان: أن ابن عمك يعطيك الأمان، فقال مصعب: إن مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلا غالبا أو مغلوبا. وقال الهيثم بن عدي: حدثنا عبد الله بن عياش، عن أبيه، قال: إنا لوقوف مع عبد الملك بن مروان وهو يحارب مصعبا إذ دنا زياد بن عمرو، فقال: يا أمير المؤمنين، إن إسماعيل بن طلحة كان لي جار صدق، قلما أرادني مصعب بسوء إلا دفعه عني، فإن رأيت أن تؤمنه على جرمه! قال: هو آمن، فمضى زياد- وكان ضخما على ضخم- حتى صار بين الصفين، فصاح: أين أبو البختري إسماعيل بن طلحة؟ فخرج إليه، فقال: إني أريد أن أذكر لك شيئا، فدنا حتى اختلفت أعناق دوابهما- وكان الناس ينتطقون بالحواشي المحشوة- فوضع زياد يده في منطقة إسماعيل، ثم اقتلعه عن سرجه- وكان نحيفا- فقال: أنشدك الله يا أبا المغيرة، إن هذا ليس بالوفاء لمصعب، فقال: هذا أحب الى من أن أراك غدا مقتولا. ولما أبى مصعب قبول الأمان نادى مُحَمَّد بن مروان عيسى بن مصعب وقال له: يا بن أخي، لا تقتل نفسك، لك الأمان، فقال له مصعب: قد آمنك عمك فامض إليه، قال: لا تتحدث نساء قريش أني أسلمتك للقتل، قال: فتقدم بين يدي أحتسبك، فقاتل بين يديه حتى قتل، وأثخن مصعب بالرمي، ونظر إليه زائدة بن قدامة فشد عليه فطعنه، وقال: يا لثأرات المختار! فصرعه، ونزل اليه عبيد الله ابن زياد بن ظبيان، فاحتز رأسه، وقال: إنه قتل أخي النابئ بن زياد فأتي به عبد الملك بن مروان فأثابه ألف دينار، فأبى أن يأخذها، وقال: إني لم أقتله على طاعتك، إنما قتلته على وتر صنعه بي، ولا آخذ في حمل رأس مالا فتركه عند عبد الملك. وكان الوتر الذي ذكره عبيد الله بن زياد بن ظبيان أنه قتل عليه مصعبا أن مصعبا كان ولي في بعض ولايته شرطه مطرف بن سيدان الباهلي ثم أحد بني جأوة

فحدثني عمر بن شبة، قال: حدثني أبو الحسن المدائني ومخلد بن يحيى بن حاضر، ان مطرفا اتى بالنابى بن زياد بن ظبيان ورجل من بني نمير قد قطعا الطريق، فقتل النابئ، وضرب النميري بالسياط فتركه، فجمع له عبيد الله بن زياد بن ظبيان جمعا بعد أن عزله مصعب عن البصرة وولاه الأهواز، فخرج يريده، فالتقيا فتواقفا وبينهما نهر، فعبر مطرف إليه النهر، وعاجله ابن ظبيان فطعنه فقتله، فعبث مصعب مكرم بن مطرف في طلب ابن ظبيان، فسار حتى بلغ عسكر مكرم، فنسب إليه، ولم يلق ابن ظبيان ولحق ابن ظبيان بعبد الملك لما قتل أخوه، فقال البعيث اليشكري بعد قتل مصعب يذكر ذلك: ولما رأينا الأمر نكسا صدوره ... وهم الهوادي أن تكن تواليا صبرنا لأمر الله حتى يقيمه ... ولم نرض إلا من أمية واليا ونحن قتلنا مصعبا وابن مصعب ... أخا أسد والنخعي اليمانيا ومرت عقاب الموت منا بمسلم ... فأهوت له نابا فأصبح ثاويا سقينا ابن سيدان بكأس روية ... كفتنا، وخير الأمر ما كان كافيا حدثني أبو زيد، قال: حدثني علي بن مُحَمَّد، قال: مر ابن ظبيان بابنة مطرف بالبصرة، فقيل لها: هذا قاتل أبيك، فقالت: في سبيل الله أبي، فقال ابن ظبيان: فلا في سبيل الله لاقى حمامه ... أبوك ولكن في سبيل الدراهم فلما قتل مصعب دعا عبد الملك بن مروان أهل العراق إلى البيعة، فبايعوه، وكان مصعب قتل على نهر يقال له الدجيل عند دير الجاثليق فلما قتل أمر به عبد الملك وبابنه عيسى فدفنا ذكر الواقدي عن عثمان بن مُحَمَّد، عن أبي بكر بن عمر، عن عروة

قال: قال عبد الملك حين قتل مصعب: واروه فقد والله كانت الحرمة بيننا وبينه قديمة، ولكن هذا الملك عقيم. قال أبو زيد: وحدثني أبو نعيم، قال: حدثني عبد الله بن الزبير أبو أبي أحمد، عن عَبْد اللَّهِ بن شريك العامري، قَالَ: إني لواقف إلى جنب مصعب بن الزبير فأخرجت له كتابا من قبائي، فقلت له: هذا كتاب عبد الملك، فقال: ما شئت، قال: ثم جاء رجل من أهل الشام فدخل عسكره، فاخرج جاريه فصاحت: وا ذلاه! فنظر إليها مصعب، ثم أعرض عنها. قال: وأتي عبد الملك برأس مصعب، فنظر إليه فقال: متى تغدو قريش مثلك! وكانا يتحدثان إلى حبى، وهما بالمدينة، فقيل لها: قتل مصعب، فقالت: تعس قاتله، قيل: قتله عبد الملك بن مروان، قالت: بأبي القاتل والمقتول! قال: وحج عبد الملك بعد ذلك، فدخلت عليه حبى، فقالت: أقتلت أخاك مصعبا؟ فقال: من يذق الحرب يجد طعمها ... مرا وتتركه بجعجاع وقال ابن قيس الرقيات: لقد أورث المصرين خزيا وذلة ... قتيل بدير الجاثليق مقيم فما نصحت لله بكر بن وائل ... ولا صبرت عند اللقاء تميم ولو كان بكريا تعطف حوله ... كتائب يغلي حميها ويدوم ولكنه ضاع الذمام ولم يكن ... بها مضري يوم ذاك كريم جزى الله كوفيا هناك ملامة ... وبصريهم إن المليم مليم وإن بني العلات أخلوا ظهورنا ... ونحن صريح بينهم وصميم

ذكر الخبر عن دخول عبد الملك بن مروان الكوفه

فان نفن لا يبقوا ولا يك بعدنا ... لذي حرمة في المسلمين حريم قال أبو جعفر: وقد قيل: إن ما ذكرت من مقتل مصعب والحرب التي جرت بينه وبين عبد الملك كانت في سنة اثنتين وستين، وان امر خالد ابن عبد الله بن خالد بن أسيد ومصيره إلى البصرة من قبل عبد الملك كان في سنة إحدى وسبعين، وقتل مصعب في جمادى الآخرة . ذكر الخبر عن دخول عبد الملك بن مروان الكوفه وفي هذه السنة دخل عبد الملك بن مروان الكوفة وفرق أعمال العراق والمصرين الكوفة والبصرة على عماله في قول الواقدي، وأما أبو الحسن فإنه ذكر أن ذلك في سنة اثنتين وسبعين. وحدثني عمر، قال: حدثني علي بن مُحَمَّد، قال: قتل مصعب يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من جمادى الأولى أو الآخرة سنة اثنتين وسبعين. ولما أتي عبد الملك الكوفة- فيما ذكر- نزل النخيلة، ثم دعا الناس إلى البيعة، فجاءت قضاعة، فرأى قلة، فقال: يا معشر قضاعة، كيف سلمتم من مضر مع قلتكم! فقال: عبد الله بن يعلى النهدي: نحن أعز منهم وأمنع، قال: بمن؟ قال: بمن معك منا يا امير المؤمنين. ثم جاءت مذجح وهمدان فقال: ما أرى لأحد مع هؤلاء بالكوفة شيئا ثم جاءت جعفي، فلما نظر إليهم عبد الملك قال: يا معشر جعفي، اشتملتم على ابن أختكم، وواريتموه؟ يعني يحيى بن سعيد بن العاص- قالوا: نعم، قال: فهاتوه، قالوا: وهو آمن؟ قال: وتشترطون أيضا! فقال رجل منهم: إنا والله ما نشترط جهلا بحقك، ولكنا نتسحب عليه تسحب الولد على والده، فقال: أما والله لنعم الحي أنتم، إن كنتم لفرسانا في الجاهلية والاسلام، هو آمن، فجاءوا به وكان يكنى أبا أيوب، فلما نظر إليه عبد الملك قال أبا قبيح، بأي وجه تنظر إلى ربك وقد

خلعتني! قال: بالوجه الذي خلقه، فبايع ثم ولى فنظر عبد الملك في قفاه فقال: لله دره! أي ابن زوملة هو! يعني غريبة. وقال علي بن مُحَمَّد: حدثني القاسم بن معن وغيره أن معبد بن خالد الجدلي قال: ثم تقدمنا إليه معشر عدوان، قال: فقدمنا رجلا وسيما جميلا، وتأخرت- وكان معبد دميما- فقال عبد الملك: من؟ فقال الكاتب: عدوان، فقال عبد الملك: عذير الحي من عدوان ... كانوا حية الأرض بغى بعضهم بعضا ... فلم يرعوا على بعض ومنهم كانت السادات ... والموفون بالقرض ثم أقبل على الجميل فقال: إيه! فقال: لا أدري، فقلت من خلفه: ومنهم حكم يقضي ... فلا ينقض ما يقضي ومنهم من يجيز ... الحج بالسنة والفرض وهم مذ ولدوا شبوا ... بسر النسب المحض قال: فتركني عبد الملك، ثم أقبل على الجميل فقال: من هو؟ قال: لا أدري، فقلت من خلفه: ذو الإصبع، قال: فأقبل على الجميل فقال: ولم سمى ذا الإصبع؟ فقال: لا أدري، فقلت من خلفه: لأن حية عضت إصبعه فقطعتها، فأقبل على الجميل فقال: ما كان اسمه؟ فقال: لا أدري، فقلت من خلفه: حرثان بن الحارث، فأقبل على الجميل، فقال: من أيكم كان؟ قال: لا أدري، فقلت من خلفه: من بني ناج، فقال: أبعد بني ناج وسعيك بينهم ... فلا تتبعن عينيك ما كان هالكا

إذا قلت معروفا لأصلح بينهم ... يقول وهيب: لا أصالح ذلكا فأضحى كظهر العير جب سنامه ... تطيف به الولدان أحدب باركا ثم أقبل على الجميل، فقال: كم عطاؤك؟ قال: سبعمائة، فقال لي: في كم أنت؟ قلت: في ثلاثمائة، فأقبل على الكاتبين، فقال: حطا من عطاء هذا أربعمائة، وزيداها في عطاء هذا، فرجعت وأنا في سبعمائة، وهو في ثلاثمائة ثم جاءت كندة فنظر إلي عبد الله بن إسحاق بن الأشعث، فأوصى به بشرا أخاه، وقال: اجعله في صحابتك وأقبل داود بن قحذم في مائتين من بكر بن وائل، عليهم الأقبية الداودية، وبه سميت، فجلس مع عبد الملك على سريره، فأقبل عليه عبد الملك، ثم نهض ونهضوا معه فأتبعهم عبد الملك بصره، فقال: هؤلاء الفساق، والله لولا أن صاحبهم جاءني ما أعطاني أحد منهم طاعة. ثم إنه ولى- فيما قيل- قطن بن عبد الله الحارثي الكوفة أربعين يوما ثم عزله، وولى بشر بن مروان وصعد منبر الكوفة فخطب فقال: إن عبد الله بن الزبير لو كان خليفة كما يزعم لخرج فآسى بنفسه، ولم يغرز ذنبه في الحرم ثم قال: إني قد استعملت عليكم بشر بن مروان، وأمرته بالإحسان إلى أهل الطاعة، والشدة على أهل المعصية، فاسمعوا له وأطيعوا. 817 واستعمل مُحَمَّد بن عمير على همذان، ويزيد بن رؤيم على الري، وفرق العمال، ولم يف لأحد شرط عليه ولاية أصبهان، ثم قال: علي هؤلاء الفساق الذين انغلوا الشام، وأفسدوا العراق، فقيل: قد أجارهم رؤساء عشائرهم، فقال: وهل يجير علي أحد! وكان عبد الله بن يزيد بن أسد لجأ إلى علي بن عبد الله بن عباس، ولجأ إليه أيضا يحيى بن معيوف الهمداني، ولجأ الهذيل بن زفر بن الحارث وعمرو بن زيد الحكمي إلى خالد بن يزيد بن معاوية، فآمنهم عبد الملك، فظهروا

ذكر خبر ولايه خالد بن عبد الله على البصره

قال أبو جعفر: وفي هذه السنة تنازع الرياسة بالبصرة عبيد الله بن أبي بكرة وحمران بن أبان، فحدثني عمر بن شبة قال: حدثني علي بن مُحَمَّد قال: لما قتل المصعب وثب حمران بن أبان وعبيد الله بن أبي بكرة فتنازعا في ولاية البصرة، فقال ابن أبي بكرة: أنا أعظم غناء منك، أنا كنت أنفق على أصحاب خالد يوم الجفرة فقيل لحمران: إنك لا تقوى على ابن أبي بكرة، فاستعن بعبد الله بن الأهتم، فإنه إن أعانك لم يقو عليك ابن أبي بكرة، ففعل، وغلب حمران على البصرة وابن الأهتم على شرطها. وكان لحمران منزلة عند بني أمية، حدثني أبو زيد قال: حدثني أبو عاصم النبيل قال: أخبرني رجل قال: قدم شيخ أعرابي فرأى حمران فقال: من هذا؟ فقالوا: حمران، فقال: لقد رأيت هذا وقد مال رداؤه عن عاتقه فابتدره مروان وسعيد بن العاص أيهما يسويه قال أبو زيد: قال أبو عاصم: فحدثت بذلك رجلا من ولد عبد الله بن عامر، فقال: حدثني أبي أن حمران مد رجله فابتدر معاوية وعبد الله بن عامر أيهما يغمزها . ذكر خبر ولايه خالد بن عبد الله على البصره وفي هذه السنة بعث عبد الملك خالد بن عبد الله على البصرة واليا، حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قال: مكث حمران على البصرة يسيرا، وخرج ابن أبي بكرة حتى قدم على عبد الملك الكوفة بعد مقتل مصعب، فولى عبد الملك خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد على البصرة وأعمالها، فوجه خالد عبيد الله بن أبي بكرة خليفته على البصرة، فلما قدم على حمران، قال: أقد جئت لا جئت! فكان ابن أبي بكرة على البصرة حتى قدم خالد. وفي هذه السنة رجع عبد الملك- فيما زعم الواقدي- إلى الشام

خطبه عبد الله بن الزبير بعد مقتل مصعب

قال: وفيها نزع ابن الزبير جابر بن الأسود بن عوف عن المدينة، واستعمل عليها طلحة بن عبد الله بن عوف قال: وهو آخر وال لابن الزبير على المدينة، حتى قدم عليها طارق بن عمرو مولى عثمان، فهرب طلحة، وأقام طارق بالمدينة حتى كتب إليه عبد الملك. وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن الزبير في قول الواقدى . خطبه عبد الله بن الزبير بعد مقتل مصعب وذكر أبو زيد عن أبي غسان مُحَمَّد بن يحيى، قال: حدثنى مصعب ابن عثمان، قال: لما انتهى إلى عبد الله بن الزبير قتل مصعب قام في الناس فقال: الحمد لله الذي له الخلق والأمر، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء ألا وإنه لم يذلل الله من كان الحق معه، وإن كان فردا، ولم يعزز من كان وليه الشيطان وحزبه وإن كان معه الأنام طرا ألا وإنه قد أتانا من العراق خبر حزننا وأفرحنا، أتانا قتل مصعب رحمة الله عليه، فأما الذي أفرحنا فعلمنا أن قتله له شهادة، وأما الذي حزننا فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه عند المصيبة، ثم يرعوي من بعدها ذو الرأي إلى جميل الصبر وكريم العزاء، ولئن أصبت بمصعب لقد أصبت بالزبير قبله، وما أنا من عثمان بخلو مصيبة، وما مصعب إلا عبد من عبيد الله وعون من أعواني إلا أن أهل العراق أهل الغدر والنفاق، أسلموه وباعوه بأقل الثمن، فإن يقتل فإنا والله ما نموت على مضاجعنا كما تموت بنو أبي العاص، والله ما قتل منهم رجل في زحف في الجاهلية ولا الإسلام، وما نموت إلا قعصا بالرماح، وموتا تحت ظلال السيوف ألا انما الدنيا عارية من الملك الأعلى الذي لا يزول سلطانه، ولا يبيد ملكه، فإن تقبل لا آخذها أخذ الأشر البطر، وإن تدبر لا ابك عليها بكاء الحرق المهين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم

وذكر أن عبد الملك لما قتل مصعبا ودخل الكوفة أمر بطعام كثير فصنع، وأمر به إلى الخورنق، وأذن إذنا عاما، فدخل الناس فأخذوا مجالسهم، فدخل عمرو بن حريث المخزومي فقال: إلي وعلى سريري، فأجلسه معه، ثم قال: أي الطعام أكلت أحب إليك وأشهى عندك؟ قال: عناق حمراء قد أجيد تمليحها، وأحكم نضجها، قال: ما صنعت شيئا، فأين أنت من عمروس راضع قد أجيد سمطه، وأحكم نضجه، اختلجت إليك رجله، فأتبعتها يده، غذي بشريجين من لبن وسمن ثم جاءت الموائد فأكلوا، فقال عبد الملك بن مروان: ما ألذ عيشنا لو أن شيئا يدوم! ولكنا كما قال الأول: وكل جديد يا أميم إلى بلى ... وكل امرئ يوما يصير إلى كان فلما فرغ من الطعام طاف عبد الملك في القصر يقول لعمرو بن حريث: لمن هذا البيت؟ ومن بنى هذا البيت؟ وعمرو يخبره، فقال عبد الملك: وكل جديد يا أميم إلى بلى ... وكل امرئ يوما يصير إلى كان ثم أتى مجلسه فاستلقى، وقال: اعمل على مهل فإنك ميت ... واكدح لنفسك أيها الإنسان فكأن ما قد كان لم يك إذ مضى ... وكأن ما هو كائن قد كان وفي هذه السنة افتتح عبد الملك- في قول الواقدي- قيساريه.

سنه اثنتين وسبعين

ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث الجليلة) قال أبو جعفر: فمن ذلك ما كان من امر الخوارج وامر المهلب بن ابى ضفره وعبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد. ذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف أن حصيرة بن عبد الله وأبا زهير العبسي حدثاه أن الأزارقة والمهلب بعد ما اقتتلوا بسولاف ثمانية أشهر أشد القتال، أتاهم أن مصعب بن الزبير قد قتل، فبلغ ذلك الخوارج قبل أن يبلغ المهلب وأصحابه، فناداهم الخوارج: ألا تخبروننا ما قولكم في مصعب؟ قالوا: إمام هدى، قالوا: فهو وليكم في الدنيا والآخرة؟ قالوا: نعم، قالوا: وأنتم أولياؤه أحياء وأمواتا؟ قالوا: ونحن أولياؤه أحياء وأمواتا، قالوا: فما قولكم في عبد الملك بن مروان؟ قالوا: ذلك ابن اللعين، نحن إلى الله منه برآء، هو عندنا أحل دما منكم، قالوا: فأنتم منه برآء في الدنيا والآخرة؟ قالوا: نعم كبراءتنا منكم، قالوا: وأنتم له أعداء أحياء وأمواتا؟ قالوا: نعم نحن له أعداء كعداوتنا لكم، قالوا: فان امامكم مصعبا قد قتله عبد الملك بن مروان، ونراكم ستجعلون غدا عبد الملك إمامكم، وأنتم الآن تتبرءون منه، وتلعنون أباه! قالوا: كذبتم يا أعداء الله فلما كان من الغد تبين لهم قتل مصعب، فبايع المهلب الناس لعبد الملك بن مروان فأتتهم الخوارج فقالوا: ما تقولون في مصعب؟ قالوا: يا أعداء الله، لا نخبركم ما قولنا فيه، وكرهوا أن يكذبوا أنفسهم عندهم، قالوا: فقد أخبرتمونا أمس أنه وليكم في الدنيا والآخرة، وأنكم أولياؤه أحياء وأمواتا، فأخبرونا ما قولكم في عبد الملك؟ قالوا: ذاك إمامنا وخليفتنا- ولم يجدوا إذ بايعوه بدا من أن يقولوا هذا القول- قالت لهم الأزارقة: يا أعداء الله، أنتم أمس تتبرءون منه في الدنيا والآخرة، وتزعمون انكم له أعداء احياء وأمواتا، وهو اليوم إمامكم وخليفتكم، وقد قتل إمامكم الذي كنتم

تولونه! فأيهما المحق، وأيهما المهتدي، وأيهما الضال! قالوا لهم: يا أعداء الله، رضينا بذاك إذ كان ولي أمورنا، ونرضى بهذا كما رضينا بذاك، قالوا: لا والله ولكنكم إخوان الشياطين، وأولياء الظالمين، وعبيد الدنيا وبعث عبد الملك بن مروان بشر بن مروان على الكوفة، وخالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد على البصرة فلما قدم خالد أثبت المهلب على خراج الأهواز ومعونتها، وبعث عامر بن مسمع على سابور، ومقاتل بن مسمع على أردشير خرة، ومسمع بن مالك بن مسمع على فسا ودرابجرد، والمغيرة بن المهلب على إصطخر. ثم إنه بعث إلى مقاتل فبعثه على جيش، وألحقه بناحية عبد العزيز فخرج يطلب الأزارقة، فانحطوا عليه من قبل كرمان حتى أتوا درابجرد، فسار نحوهم وبعث قطري مع صالح بن مخراق تسعمائة فارس، فأقبل يسير بهم حتى استقبل عبد العزيز وهو يسير بالناس ليلا، يجرون على غير تعبئة، فهزم الناس، ونزل مقاتل بن مسمع فقاتل حتى قتل، وانهزم عبد العزيز بن عبد الله وأخذت امرأته ابنة المنذر بن الجارود، فأقيمت فيمن يزيد، فبلغت مائة ألف- وكانت جميلة- فغار رجل من قومها كان من رءوس الخوارج يقال له: أبو الحديد الشني، فقال: تنحوا هكذا، ما أرى هذه المشركة إلا قد فتنتكم، فضرب عنقها ثم زعموا أنه لحق بالبصرة، فرآه آل منذر فقالوا: والله ما ندري أنحمدك أم نذمك! فكان يقول: ما فعلته إلا غيرة وحمية وجاء عبد العزيز حتى انتهى إلى رامهرمز، وأتى المهلب فأخبر به، فبعث إليه شيخا من أشياخ قومه كان أحد فرسانه، فقال: ائته فإن كان منهزما فعزه وأخبره أنه لم يفعل شيئا لم يفعله الناس قبله، وأخبره أن الجنود تأتيه عاجلا، ثم يعزه الله وينصره فأتاه ذلك الرجل، فوجدوه نازلا في نحو من ثلاثين رجلا كئيبا حزينا، فسلم عليه الأزدي، وأخبره أنه رسول المهلب، وبلغه ما أمره به، وعرض عليه أن يذكر له ما كانت له من حاجة ثم انصرف إلى المهلب فأخبره الخبر، فقال له المهلب: الحق الآن بخالد بالبصرة فأخبره الخبر،

فقال: أنا آتيه أخبره أن أخاه هزم! والله لا آتيه، فقال المهلب: لا والله لا يأتيه غيرك، أنت الذي عاينته ورأيته، وأنت كنت رسولي إليه، قال: هو إذا بهديك يا مهلب إن ذهب إليه العام، ثم خرج قال المهلب: أما أنت والله فإنك لي آمن، أما والله لو أنك مع غيري، ثم أرسلك على رجليك خرجت تشتد! قال له وأقبل عليه: كأنك إنما تمن علينا بحلمك! فنحن والله نكافئك بل نزيد، أما تعلم أنا نعرض أنفسنا للقتل دونك، ونحميك من عدوك! ولو كنا والله مع من يجهل علينا، ويبعثنا في حاجاته على أرجلنا، ثم احتاج إلى قتالنا ونصرتنا جعلناه بيننا وبين عدونا، ووقينا به أنفسنا قال له المهلب: صدقت صدقت ثم دعا فتى من الأزد كان معه فسرحه إلى خالد يخبره خبر أخيه، فأتاه الفتى الأزدي وحوله الناس، وعليه جبة خضراء ومطرف أخضر، فسلم عليه، فرد عليه، فقال: ما جاء بك؟ قال: أصلحك الله! أرسلني إليك المهلب لأخبرك خبر ما عاينته، قال: وما عاينت؟ قال: رأيت عبد العزيز برامهرمز مهزوما، قال: كذبت، قال: لا، والله ما كذبت، وما قلت لك إلا الحق، فإن كنت كاذبا فاضرب عنقي، وإن كنت صادقا فأعطني أصلحك الله جبتك ومطرفك قال: ويحك! ما أيسر ما سألت، ولقد رضيت مع الخطر العظيم إن كنت كاذبا بالخطر الصغير إن كنت صادقا. فحبسه وأمر بالإحسان إليه حتى تبينت له هزيمة القوم، فكتب إلى عبد الملك: أَمَّا بَعْدُ، فإني أخبر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أكرمه الله أني بعثت عبد العزيز بن عبد الله في طلب الخوارج، وأنهم لقوه بفارس، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم عبد العزيز لما انهزم عنه الناس، وقتل مقاتل بن مسمع، وقدم الفل إلى الأهواز أحببت أن أعلم أمير المؤمنين ذلك ليأتيني رأيه وأمره أنزل عنده إن شاء الله، والسلام عليك ورحمة الله

فكتب إليه: أما بعد، فقد قدم رسولك في كتابك، تعلمني فيه بعثتك أخاك على قتال الخوارج، وبهزيمة من هزم، وقتل من قتل، وسألت رسولك عن مكان المهلب، فحدثني أنه عامل لك على الأهواز، فقبح الله رأيك حين تبعث أخاك أعرابيا من أهل مكة على القتال، وتدع المهلب إلى جنبك يجبي الخراج، وهو الميمون النقيبة، الحسن السياسة، البصير بالحرب، المقاسي لها، ابنها وابن أبنائها! انظر ان تنهض بالناس حتى تستقبلهم بالأهواز ومن وراء الأهواز وقد بعثت إلى بشر أن يمدك بجيش من أهل الكوفة، فإذا أنت لقيت عدوك فلا تعمل فيهم برأي حتى تحضره المهلب، وتستشيره فيه إن شاء الله والسلام عليك ورحمة الله فشق عليه انه فيل رأيه في بعثة أخيه وترك المهلب، وفي أنه لم يرض رأيه خالصا حتى قال: أحضره المهلب واستشره فيه وكتب عبد الملك إلى بشر بن مروان: أما بعد، فإني قد كتبت إلى خالد بن عبد الله. آمره بالنهوض إلى الخوارج، فسرح إليه خمسة آلاف رجل، وابعث عليهم رجلا من قبلك ترضاه، فإذا قضوا غزاتهم تلك صرفتهم إلى الري فقاتلوا عدوهم، وكانوا في مسالحهم، وجبوا فيئهم حتى تأتي أيام عقبهم فتعقبهم وتبعث آخرين مكانهم. فقطع على أهل الكوفة خمسة آلاف، وبعث عليهم عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث، وقال: إذا قضيت غزاتك هذه فانصرف إلى الري. وكتب له عليها عهدا وخرج خالد بأهل البصرة حتى قدم الأهواز، وجاء عبد الرحمن بن مُحَمَّد ببعث أهل الكوفة حتى وافاهم بالأهواز،

وجاءت الأزارقة حتى دنوا من مدينة الأهواز ومن معسكر القوم، وقال المهلب لخالد بن عبد الله: انى ارى هاهنا سفنا كثيره، فضمها إليك، فو الله ما أظن القوم إلا محرقيها فما لبث إلا ساعة حتى ارتفعت خيل من خيلهم إليها فحرقتها وبعث خالد بن عبد الله على ميمنته المهلب، وعلى ميسرته داود بن قحذم من بني قيس بن ثعلبة، ومر المهلب على عبد الرحمن بن مُحَمَّد ولم يخندق، فقال: يا بن أخي، ما يمنعك من الخندق! فقال: والله لهم أهون علي من ضرطة الجمل، قال: فلا يهونوا عليك يا بن أخي، فإنهم سباع العرب، لا أبرح أو تضرب عليك خندقا، ففعل وبلغ الخوارج قول عبد الرحمن بن مُحَمَّد لهم: أهون علي من ضرطة الجمل، فقال شاعرهم: يا طالب الحق لا تستهو بالأمل ... فإن من دون ما تهوى مدى الأجل واعمل لربك واسأله مثوبته ... فإن تقواه فاعلم أفضل العمل واغز المخانيث في الماذي معلمة ... كيما تصبّح غدوا ضرطة الجمل فأقاموا نحوا من عشرين ليلة ثم إن خالدا زحف إليهم بالناس، فرأوا أمرا هالهم من عدد الناس وعدتهم، فأخذوا ينحازون، واجترأ عليهم الناس، فكرت عليهم الخيل، وزحف إليهم فانصرفوا كأنهم على حامية وهم مولون لا يرون لهم طاقة بقتال جماعة الناس، واتبعهم خالد بن عبد الله داود بن قحذم في جيش من أهل البصرة، وانصرف خالد إلى البصرة، وانصرف عبد الرحمن بن مُحَمَّد إلى الري وأقام المهلب بالأهواز، فكتب خالد بن عبد الله إلى عبد الملك: أما بعد، فإني أخبر أمير المؤمنين أصلحه الله أني خرجت إلى الأزارقة الذين مرقوا من الدين، وخرجوا من ولاية المسلمين، فالتقينا بمدينة الأهواز

فتناهضنا فاقتتلنا كأشد قتال كان في الناس ثم إن الله أنزل نصره على المؤمنين والمسلمين، وضرب الله وجوه أعدائه، فأتبعهم المسلمون يقتلونهم، ولا يمنعون ولا يمتنعون، وأفاء الله ما في عسكرهم على المسلمين، ثم أتبعتهم داود بن قحذم، والله ان شاء مهلكهم ومستأصلهم، والسلام عليك. فلما قدم هذا الكتاب على عبد الملك كتب عبد الملك الى بشر ابن مروان: أما بعد، فابعث من قبلك رجلا شجاعا بصيرا بالحرب في أربعة آلاف فارس، فليسيروا إلى فارس في طلب المارقة، فإن خالدا كتب إلي يخبرني أنه قد بعث في طلبهم داود بن قحذم، فمر صاحبك الذى تبعث الا يخالف داود بن قحذم إذا ما التقيا، فإن اختلاف القوم بينهم عون لعدوهم عليهم والسلام عليك. فبعث بشر بن مروان عتاب بن ورقاء في أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة، فخرجوا حتى التقوا هم وداود بن قحذم بأرض فارس، ثم اتبعوا القوم يطلبونهم حتى نفقت خيول عامتهم، وأصابهم الجهد والجوع، ورجع عامة ذينك الجيشين مشاة إلى الأهواز، فقال ابن قيس الرقيات- من بني مخزوم- في هزيمة عبد العزيز وفراره عن امرأته: عبد العزيز فضحت جيشك كلهم ... وتركتهم صرعى بكل سبيل من بين ذي عطش يجود بنفسه ... وملحب بين الرجال قتيل هلا صبرت مع الشهيد مقاتلا ... إذ رحت منتكث القوى بأصيل وتركت جيشك لا أمير عليهمُ ... فارجع بعار في الحياه طويل نسيت عرسك إذ تقاد سبية ... تبكي العيون برنة وعويل

خروج ابى فديك الخارجي وغلبته على البحرين

خروج ابى فديك الخارجي وغلبته على البحرين وفي هذه السنة كان خروج أبي فديك الخارجي، وهو من بنى قيس ابن ثعلبة، فغلب على البحرين، وقتل نجدة بن عامر الحنفي، فاجتمع على خالد بن عبد الله نزول قطري الأهواز وأمر أبي فديك، فبعث أخاه أمية بن عبد الله على جند كثيف إلى أبي فديك، فهزمه أبو فديك، وأخذ جارية له فاتخذها لنفسه، وسار أمية على فرس له حتى دخل البصرة في ثلاثة أيام، فكتب خالد إلى عبد الملك بحاله وحال الازارقه . خبر توجيه عبد الملك الحجاج لقتال ابن الزبير وفي هذه السنة وجه عبد الملك الحجاج بن يوسف إلى مكة لقتال عبد الله ابن الزبير، وكان السبب في توجيهه الحجاج إليه دون غيره- فيما ذكر- أن عبد الملك لما أراد الرجوع إلى الشام، قام إليه الحجاج بن يوسف فقال. يا أمير المؤمنين، إني رأيت في منامي أني أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته، فابعثني إليه، وولني قتاله فبعثه في جيش كثيف من أهل الشام، فسار حتى قدم مكة، وقد كتب إليهم عبد الملك بالأمان إن دخلوا في طاعته. فحدثني الحارث، قال: حدثني مُحَمَّد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا مصعب بن ثابت، عن أبي الأسود، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قال: بعث عبد الملك بن مروان حين قتل مصعب ابن الزبير الحجاج بن يوسف إلى ابن الزبير بمكة، فخرج في ألفين من جند أهل الشام في جمادى من سنة اثنتين وسبعين، فلم يعرض للمدينة، وسلك طريق العراق، فنزل بالطائف، فكان يبعث البعوث إلى عرفة في الخيل، ويبعث ابن الزبير بعثا فيقتتلون هنالك، فكل ذلك تهزم خيل ابن الزبير وترجع خيل الحجاج بالظفر ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه في حصار ابن الزبير ودخول الحرم عليه، ويخبره أن

شوكته قد كلت، وتفرق عنه عامة أصحابه، ويسأله أن يمده برجال، فجاءه كتاب عبد الملك، وكتب عبد الملك إلى طارق بن عمرو يأمره أن يلحق بمن معه من الجند بالحجاج، فسار في خمسة آلاف من أصحابه حتى لحق بالحجاج وكان قدوم الحجاج الطائف في شعبان سنة اثنتين وسبعين فلما دخل ذو القعدة رحل الحجاج من الطائف حتى نزل بئر ميمون وحصر ابن الزبير. وحج الحجاج بالناس في هذه السنة، وابن الزبير محصور، وكان قدوم طارق مكة لهلال ذي الحجة، ولم يطف بالبيت، ولم يصل إليه وهو محرم، وكان يلبس السلاح، ولا يقرب النساء ولا الطيب إلى أن قتل عبد الله بن الزبير ونحر ابن الزبير بدنا بمكة يوم النحر، ولم يحج ذلك العام ولا أصحابه لأنهم لم يقفوا بعرفة. قال محمد بن عمر: حدثني سعيد بن مسلم بن بابك، عن أبيه، قال: حججت في سنة اثنتين وسبعين فقدمنا مكة، فدخلناها من أعلاها، فنجد أصحاب الحجاج وطارق فيما بين الحجون إلى بئر ميمون، فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حج بالناس الحجاج، فرأيته واقفا بالهضبات من عرفة على فرس، وعليه الدرع والمغفر، ثم صدر فرأيته عدل إلى بئر ميمون، ولم يطف بالبيت وأصحابه متسلحون، ورأيت الطعام عندهم كثيرا، ورأيت العير تأتي من الشام تحمل الطعام، الكعك والسويق والدقيق، فرأيت أصحابه مخاصيب، ولقد ابتعنا من بعضهم كعكا بدرهم، فكفانا إلى أن بلغنا الجحفة وإنا لثلاثة نفر. قال مُحَمَّد بن عمر: حدثني مصعب بن ثابت، عن نافع مولى بني أسد، قال- وكان عالما بفتنة ابن الزبير- قال: حصر ابن الزبير ليلة هلال ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين

امر عبد الله بن خازم السلمى مع عبد الملك

امر عبد الله بن خازم السلمى مع عبد الملك وفي هذه السنة كتب عبد الملك إلى عبد الله بن خازم السلمي يدعوه إلى بيعته ويطعمه خراسان سبع سنين، فذكر علي بن مُحَمَّد أن المفضل بن مُحَمَّد ويحيى بن طفيل وزهير بن هنيد حدثوه- قال: وفي خبر بعضهم زيادة على خبر بعض- أن مصعب بن الزبير قتل سنة اثنتين وسبعين وعبد الله بن خازم بأبرشهر يقاتل بحير بن ورقاء الصريمي صريم بن الحارث، فكتب عبد الملك بن مروان إلى ابن خازم مع سوره بن أشيم النميري: أن لك خراسان سبع سنين على أن تبايع لي فقال ابن خازم لسورة: لولا أن أضرب بين بني سليم وبني عامر لقتلتك ولكن كل هذه الصحيفة، فأكلها قال: وقال أبو بكر بن مُحَمَّد بن واسع: بل قدم بعهد عبد الله بن خازم سوادة بن عبيد الله النميري وقال بعضهم: بعث عبد الملك إلى. ابن خازم سنان بن مكمل الغنوي، وكتب إليه: أن خراسان طعمة لك، فقال له ابن خازم: إنما بعثك أبو الذبان لأنك من غني، وقد علم أني لا أقتل رجلا من قيس، ولكن كل كتابه. قال: وكتب عبد الملك إلى بكير بن وشاح أحد بني عوف بن سعد- وكان خليفة ابن خازم على مرو- بعهده على خراسان ووعده ومناه، فخلع بكير بن وشاح عبد الله بن الزبير، ودعا إلى عبد الملك بن مروان، فأجابه أهل مرو، وبلغ ابن خازم فخاف أن يأتيه بكير بأهل مرو، فيجتمع عليه أهل مرو وأهل أبرشهر، فترك بحيرا، وأقبل إلى مرو يريد أن يأتي ابنه بالترمذ، فأتبعه بحير، فلحقه بقرية يقال لها بالفارسية: شاهميغد، بينها وبين مرو ثمانية فراسخ. قال: فقاتله ابن خازم، فقال مولى لبني ليث: كنت قريبا من معترك

القوم في منزل، فلما طلعت الشمس تهايج العسكران، فجعلت أسمع وقع السيوف، فلما ارتفع النهار خفيت الأصوات، فقلت: هذا لارتفاع النهار، فلما صليت الظهر- أو قبل الظهر- خرجت، فتلقاني رجل من بني تميم، فقلت: ما الخبر؟ قال: قتلت عدو الله ابن خازم وها هو ذا، وإذا هو محمول على بغل، وقد شدوا في مذاكيره حبلا وحجرا وعدلوه به على البغل. قال: وكان الذي قتله وكيع بن عميرة القريعي وهو ابن الدورقية. اعتور عليه بحير بن ورقاء وعمار بن عبد العزيز الجشمي ووكيع، فطعنوه فصرعوه، فقعد وكيع على صدره فقتله، فقال بعض الولاة لوكيع: كيف قتلت ابن خازم؟ قال: غلبته بفضل القنا، فلما صرع قعدت على صدره، فحاول القيام فلم يقدر عليه، وقلت: يا لثأرات دويلة! ودويلة أخ لوكيع لأمه، قتل قبل ذلك في غير تلك الأيام. قال وكيع: فتنخم في وجهي وقال: لعنك الله! تقتل كبش مضر، بأخيك علج لا يساوي كفا من نوى- أو قال: من تراب- فما رأيت أحدا أكثر ريقا منه على تلك الحال عند الموت. قال: فذكر ابن هبيرة يوما هذا الحديث فقال: هذه والله البسالة. قال: وبعث بحير ساعة قتل ابن خازم رجلا من بني غدانة إلى عبد الملك ابن مروان يخبره بقتل ابن خازم، ولم يبعث بالرأس، وأقبل بكير بن وشاح في أهل مرو فوافاهم حين قتل ابن خازم، فأراد أخذ رأس ابن خازم، فمنعه بحير، فضربه بكير بعمود، وأخذ الرأس وقيد بحيرا وحبسه، وبعث بكير بالرأس إلى عبد الملك، وكتب إليه يخبره أنه هو الذي قتله، فلما قدم بالرأس على عبد الملك دعا الغداني رسول بحير وقال: ما هذا؟ قال: لا أدري، وما فارقت القوم حتى قتل، فقال رجل من بني سليم: أليلتنا بنيسابور ردي ... علي الصبح ويحك أو أنيري كواكبها زواحف لا غبات ... كأن سماءها بيدي مدير

فصل نذكر فيه الكتاب من بدء امر الاسلام

تلوم على الحوادث أم زيد ... وهل لك في الحوادث من نكير! جهلن كرامتي وصددن عني ... إلى أجل من الدنيا قصير فلو شهد الفوارس من سليم ... غداة يطاف بالأسد العقير لنازل حوله قوم كرام ... فعز الوتر في طلب الوتور فقد بقيت كلاب نابحات ... وما في الأرض بعدك من زئير فولي الحج بالناس في هذه السنة الحجاج بن يوسف. وكان العامل على المدينة طارق مولى عثمان من قبل عبد الملك، وعلى الكوفة بشر بن مروان، وعلى قضائها عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بن مسعود. وعلى البصرة خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى قضائها هشام ابن هبيرة وعلى خراسان في قول بعضهم عبد الله بن خازم السلمى، في قول بعض: بكير بن وشاح وزعم من قال: كان على خراسان في سنة اثنتين وسبعين عبد الله بن خازم أن عبد الله بن خازم إنما قتل بعد ما قتل عبد الله بن الزبير، وأن عبد الملك إنما كتب إلى عبد الله بن خازم يدعوه إلى الدخول في طاعته على أن يطعمه خراسان عشر سنين بعد ما قتل عبد الله بن الزبير، وبعث برأسه إليه، وأن عبد الله بن خازم حلف لما ورد عليه رأس عبد الله بن الزبير الا يعطيه طاعة أبدا، وأنه دعا بطست فغسل رأس ابن الزبير، وحنطه وكفنه، وصلى عليه، وبعث به إلى أهل عبد الله بن الزبير بالمدينة، وأطعم الرسول الكتاب، وقال: لولا أنك رسول لضربت عنقك وقال بعضهم: قطع يديه ورجليه وضرب عنقه . فصل نذكر فيه الكتاب من بدء أمر الإسلام روى هشام وغيره أن أول من كتب من العرب حرب بن أمية بن عبد شمس بالعربية، وأن أول من كتب بالفارسية بيوراسب، وكان في زمان إدريس وكان أول من صنف طبقات الكتاب وبين منازلهم لهراسب ابن كاوغان بن كيموس

أسماء من كتب للنبي ص

وحكي أن أبرويز قال لكاتبه: إنما الكلام أربعة أقسام: سؤالك الشيء، وسؤالك عن الشيء، وأمرك بالشيء، وخبرك عن الشيء، فهذه دعائم المقالات إن التمس لها خامس لم يوجد، وإن نقص منها رابع لم تتم، فإذا طلبت فأسجح، وإذا سألت فأوضح، وإذا أمرت فاحتم، وإذا أخبرت فحقق. وقال أبو موسى الأشعري: أول من قال: أما بعد داود، وهي فصل الخطاب الذي ذكره الله عنه. وقال الهيثم بن عدي: أول من قال: أما بعد قس بن ساعدة الإيادي . أسماء من كتب للنبي ص على بن ابى طالب ع وعثمان بن عفان، كانا يكتبان الوحي، فإن غابا كتبه أبي بن كعب وزيد بن ثابت. وكان خالد بن سعيد بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان يكتبان بين يديه في حوائجه. وكان عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث والعلاء بن عقبة يكتبان بين القوم في حوائجهم، وكان عبد الله بن الأرقم ربما كتب إلى الملوك عن النبي ص . أسماء من كان يكتب للخلفاء والولاه وكتب لأبي بكر عثمان، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن الأرقم وعبد الله بن خلف الخزاعي، وحنظلة بن الربيع. وكتب لعمر بن الخطاب زيد بن ثابت، وعبد الله بن الأرقم، وعبد الله بن خلف الخزاعي أبو طلحة الطلحات على ديوان البصرة، وكتب له على ديوان الكوفة أبو جبيرة بن الضحاك الأنصاري. وقال عمر بن الخطاب لكتابه وعماله: ان القوه على العمل الا

تؤخروا عمل اليوم لغد، فإنكم إذا فعلتم ذلك تذاءبت عليكم الأعمال، فلا تدرون بأيها تبدءون، وأيها تأخذون وهو أول من دون الدواوين في العرب في الإسلام. وكان يكتب لعثمان مروان بن الحكم، وكان عبد الملك يكتب له على ديوان المدينة، وأبو جبيرة الأنصاري على ديوان الكوفة، وكان أبو غطفان ابن عوف بن سعد بن دينار من بني دهمان من قيس عيلان يكتب له، وكان يكتب له أهيب مولاه، وحمران مولاه. وكان يكتب لعلى ع سعيد بن نمران الهمداني، ثم ولي قضاء الكوفة لابن الزبير وكان يكتب له عبد الله بن مسعود، وروي أن عبد الله بن جبير كتب له وكان عبيد الله بن أبي رافع يكتب له واختلف في اسم أبي رافع، فقيل: اسمه إبراهيم، وقيل: أسلم، وقيل: سنان، وقيل: عبد الرحمن وكان يكتب لمعاوية على الرسائل عبيد بن أوس الغساني. وكان يكتب له على ديوان الخراج سرجون بن منصور الرومي وكتب له عبد الرحمن بن دراج، وهو مولى معاوية، وكتب على بعض دواوينه عبيد الله بن نصر بن الحجاج بن علاء السلمي. وكان يكتب لمعاوية بن يزيد الريان بن مسلم، ويكتب له على الديوان سرجون ويروى أنه كتب له أبو الزعيزعة. وكتب لعبد الملك بن مروان قبيصة بن ذؤيب بن حلحلة الخزاعي، ويكنى أبا إسحاق وكتب على ديوان الرسائل أبو الزعيزعة مولاه. وكان يكتب للوليد القعقاع بن خالد- أو خليد العبسي، وكتب له على ديوان الخراج سُلَيْمَان بن سعد الخشني، وعلى ديوان الخاتم شعيب

العماني مولاه، وعلى ديوان الرسائل جناح مولاه، وعلى المستغلات نفيع ابن ذؤيب مولاه. وكان يكتب لسُلَيْمَان سُلَيْمَان بن نعيم الحميري. وكان يكتب لمسلمة سميع مولاه، وعلى ديوان الرسائل الليث بن أبي رقية مولى أم الحكم بنت أبي سفيان، وعلى ديوان الخراج سُلَيْمَان بن سعد الخشني، وعلى ديوان الخاتم نعيم بن سلامة مولى لأهل اليمن من فلسطين، وقيل: بل رجاء بن حيوة كان يتقلد الخاتم. وكان يكتب ليزيد بن المهلب المغيرة بن أبي فروة. وكان يكتب لعمر بن عبد العزيز الليث بن أبي رقية مولى أم الحكم بنت أبي سفيان، ورجاء بن حيوة وكتب له إسماعيل بن أبي حكيم مولى الزبير، وعلى ديوان الخراج سُلَيْمَان بن سعد الخشني، وقلد مكانه صالح بن جبير الغساني- وقيل: الغداني- وعدي بن الصباح بن المثنى، ذكر الهيثم بن عدي أنه كان من جلة كتابه. وكتب ليزيد بن عبد الملك قبل الخلافة رجل يقال له يزيد بن عبد الله، ثم استكتب أسامة بن يزيد السليحي. وكتب لهشام سعيد بن الوليد بن عمرو بن جبلة الكلبى الابرش، ويكنى أبا مخاشع، وكان نصر بن سيار يتقلد ديوان خراج خراسان لهشام وكان من كتابه بالرصافة شعيب بن دينار. وكان يكتب للوليد بن يزيد بكير بن الشماخ، وعلى ديوان الرسائل سالم مولى سعيد بن عبد الملك، ومن كتابه عبد الله بن أبي عمرو، ويقال: عبد الأعلى بن أبي عمرو، وكتب له على الحضرة عمرو بن عتبة وكتب ليزيد بن الوليد الناقص عبد الله بن نعيم، وكان عمرو ابن الحارث مولى بني جمح يتولى له ديوان الخاتم، وكان يتقلد له ديوان

الرسائل ثابت بن سُلَيْمَان بن سعد الخشني- ويقال الربيع بن عرعرة الخشني- وكان يتقلد له الخراج والديوان الذي للخاتم الصغير النضر بن عمرو من أهل اليمن. وكتب لإبراهيم بن الوليد ابن أبي جمعة، وكان يتقلد له الديوان بفلسطين، وبايع الناس إبراهيم- أعني ابن الوليد- سوى أهل حمص، فإنهم بايعوا مروان بن مُحَمَّد الجعدي وكتب لمروان عبد الحميد بن يحيى مولى العلاء بن وهب العامري، ومصعب بن الربيع الخثعمي، وزياد بن أبي الورد وعلى ديوان الرسائل عثمان بن قيس مولى خالد القسري وكان من كتابه مخلد بن مُحَمَّد بن الحارث- ويكنى أبا هاشم- ومن كتابه مصعب بن الربيع الخثعمي، ويكنى أبا موسى وكان عبد الحميد بن يحيى من البلاغة في مكان مكين، ومما اختير له من الشعر: ترحل ما ليس بالقافل ... وأعقب ما ليس بالزائل فلهفي على الخلف النازل ... ولهفي على السلف الراحل أبكّي على ذا وأبكي لذا ... بكاء مولهة ثاكل تبكّي من ابن لها قاطع ... وتبكي على ابن لها واصل فليست تفتر عن عبرة ... لها في الضمير ومن هامل تقضت غوايات سكر الصبى ... ورد التقى عنن الباطل وكتب لأبي العباس خالد بن برمك، ودفع أبو العباس ابنته ريطة إلى خالد بن برمك حتى أرضعتها زوجته أم خالد بنت يزيد بلبان بنت لخالد تدعى أم يحيى، وأرضعت أم سلمة زوجة أبي العباس أم يحيى بنت خالد بلبان ابنتها ريطة وقلد ديوان الرسائل صالح بن الهيثم مولى ريطة بنت أبي العباس

وكتب لأبي جعفر المنصور عبد الملك بن حميد مولى حاتم بن النعمان الباهلي من أهل خراسان، وكتب له هاشم بن سعيد الجعفي وعبد الأعلى بن أبي طلحة من بني تميم بواسط وروي أن سُلَيْمَان بن مخلد كان يكتب لأبي جعفر، ومما كان يتمثل به أبو جعفر المنصور: وما إن شفى نفسا كأمر صريمة ... إذا حاجة في النفس طال اعتراضها وكتب له الربيع وكان عمارة بن حمزة من نبلاء الرجال، وله: لا تشكون دهرا صححت به ... إن الغنى في صحة الجسم هبك الإمام أكنت منتفعا ... بغضارة الدنيا مع السقم! وكان يتمثل بقول عبد بني الحسحاس: أمن أمية دمع العين مذروف ... لو أن ذا منك قبل اليوم معروف لا تبك عينك إن الدهر ذو غير ... فيه تفرق ذو إلف ومألوف وكتب للمهدي أبو عبيد الله وأبان بن صدقة على ديوان رسائله، ومُحَمَّد بن حميد الكاتب على ديوان جنده ويعقوب بن داود، وكان اتخذه على وزارته وأمره، وله: عجبا لتصريف الأمور ... محبة وكراهية والدهر يلعب بالرجال ... له دوائر جاريه ولابنه عبد الله بن يعقوب- وكان له مُحَمَّد ويعقوب، كلاهما شاعر مجيد: وزع المشيب شراستى وغرامى ... ومرى الجفون بمسبل سجام

ولقد حرصت بأن أو ارى شخصه ... عن مقلتي فرمت غير مرام وصبغت ما صبغ الزمان فلم يدم ... صبغي ودامت صبغة الأيام لا تبعدن شبيبة ذيالة ... فارقتها في سالف الأعوام ما كان ما استصحبت من أيامها ... إلا كبعض طوارق الأحلام ولأبيه: طلق الدنيا ثلاثا ... واتخذ زوجا سواها إنها زوجة سوء ... لا تبالي من أتاها واستوزر بعده الفيض بن أبي صالح، وكان جوادا. وكتب للهادي موسى عبيد الله بْن زياد بْن أبي ليلى ومُحَمَّد بن حميد. وسأل المهدي يوما أبا عبيد الله عن أشعار العرب، فصنفها له، فقال: أحكمها قول طرفة بن العبد: أرى قبر نحام بخيل بماله ... كقبر غوي في البطالة مفسد ترى جثوتين من تراب عليهما ... صفائح صم من صفيح مصمد أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدد أرى العيش كنزا ناقصا كل ليلة ... وما تنقص الأيام والدهر ينفد لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطول المرخى وثنياه باليد وقوله: وقد أرانا كلانا هم صاحبه ... لو أن شيئا إذا ما فاتنا رجعا وكان شيء إلى شيء ففرقه ... دهر يكر على تفريق ما جمعا

وقول لبيد: ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... أنحب فيقضى أم ضلال وباطل ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم ... بلى كل ذي رأي إلى الله واسل وكقول النابغة الجعدي: وقد طال عهدي بالشباب وأهله ... ولاقيت روعات تشيب النواصيا فلم أجد الإخوان إلا صحابة ... ولم أجد الأهلين إلا مثاويا ألم تعلمي أن قد رزئت محاربا ... فما لك منه اليوم شيء ولا ليا وكقول هدبة بن خشرم: ولست بمفراح إذا الدهر سرني ... ولا جازع من صرفه المتقلب ولا أتبغى الشر والشر تاركي ... ولكن متى أحمل على الشر أركب وما يعرف الأقوام للدهر حقه ... وما الدهر مما يكرهون بمعتب وللدهر في أهل الفتى وتلاده ... نصيب كحز الجازر المتشعب وكقول زيادة بن زيد، وتمثل به عبد الملك بن مروان: تذكر عن شحط أميمة فارعوى ... لها بعد إكثار وطول نحيب وإن امرأ قد جرب الدهر لم يخف ... تقلب عصريه لغير لبيب هل الدهر والأيام إلا كما ترى ... رزيئة مال أو فراق حبيب وكل الذي يأتي فأنت نسيبه ... ولست لشيء ذاهب بنسيب

وليس بعيد ما يجيء كمقبل ... ولا ما مضى من مفرح بقريب وكقول ابن مقبل: لما رأت بدل الشباب بكت له ... والشيب أرذل هذه الأبدال والناس همهم الحياة ولا أرى ... طول الحياة يزيد غير خبال وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخرا يكون كصالح الأعمال ووزر له يحيى بن خالد ووزر للرشيد ابنه جعفر بن يحيى بن خالد، فمن مليح كلامه: الخط سمة الحكمة، به تفصل شذورها، وينظم منثورها قال ثمامة: قلت لجعفر بن يحيى: ما البيان؟ فقال: أن يكون الاسم محيطا بمعناك، مخبرا عن مغزاك، مخرجا من الشركة، غير مستعان عليه بالفكرة قال الأصمعي: سمعت يحيى بن خالد يقول: الدنيا دول، والمال عارية، ولنا بمن قبلنا أسوة، وفينا لمن بعدنا عبرة. ونأتي بتسمية باقي كتاب خلفاء بني العباس إذا انتهينا إلى الدولة العباسية ان شاء الله تعالى.

سنه ثلاث وسبعين

ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ذكر الكائن الذي كان فيها من الأمور الجليلة فمن ذلك مقتل عبد الله بن الزبير. ذكر الخبر عن صفة ذَلِكَ: حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر. قال: حدثني إسحاق بن يحيى، عن عبيد الله بن القبطية، قال: كانت الحرب بين ابن الزبير والحجاج ببطن مكة ستة أشهر وسبع عشرة ليلة. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عمر: وَحَدَّثَنِي مُصْعَب بن ثابت، عن نافع مولى بني أسد- وكان عالما بفتنة ابن الزبير- قال: حصر ابن الزبير ليلة هلال ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين وقتل لسبع عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين، وكان حصر الحجاج لابن الزبير ثمانية أشهر وسبع عشرة ليلة. حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قال: أخبرنا محمد ابن عمر: قال: حدثني إسحاق بن يحيى، عن يوسف بن ماهك، قال: رأيت المنجنيق يرمى به، فرعدت السماء وبرقت، وعلا صوت الرعد والبرق على الحجارة، فاشتمل عليها، فأعظم ذلك أهل الشام، فأمسكوا بأيديهم، فرفع الحجاج بركة قبائه فغرزها في منطقته، ورفع حجر المنجنيق فوضعه فيه، ثم قال: أرموا، ورمى معهم قال: ثم أصبحوا، فجاءت صاعقة تتبعها أخرى، فقتلت من أصحابه اثني عشر رجلا، فانكسر أهل الشام، فقال الحجاج: يا أهل الشام، لا تنكروا هذا فإني ابن تهامة، هذه صواعق تهامة، هذا الفتح قد حضر فأبشروا، إن القوم يصيبهم مثل ما أصابكم، فصعقت من الغد فأصيب من أصحاب ابن الزبير عدة، فقال الحجاج: ألا ترون أنهم يصابون وأنتم على الطاعة، وهم على خلاف

الطاعة! فلم تزل الحرب بين ابن الزبير والحجاج حتى كان قبيل مقتله وقد تفرق عنه أصحابه، وخرج عامة أهل مكة إلى الحجاج في الأمان. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنى إسحاق بن عبد الله، عن المنذر بن جهم الأسدي، قال: رأيت ابن الزبير يوم قتل وقد تفرق عنه أصحابه وخذله من معه خذلانا شديدا، وجعلوا يخرجون إلى الحجاج حتى خرج إليه نحو من عشرة آلاف. وذكر أنه كان ممن فارقه وخرج إلى الحجاج ابناه حمزة وخبيب، فأخذا منه لأنفسهما أمانا، فدخل على أمه أسماء- كما ذكر مُحَمَّد بن عمر عن أبي الزناد، عن مخرمة بن سُلَيْمَان الوالبي، قال: دخل ابن الزبير على أمه حين رأى من الناس ما رأى من خذلانهم، فقال: يا أمه، خذلني الناس حتى ولدي وأهلي، فلم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع اكثر من صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: أنت والله يا بني أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك يتلعب بها غلمان أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت! أهلكت نفسك، وأهلكت من قتل معك، وإن قلت: كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا! القتل أحسن فدنا ابن الزبير فقبل رأسها وقال: هذا والله رأيي، والذي قمت به داعيا إلى يومي هذا ما ركنت إلى الدنيا، ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمه، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فزدتيني، بصيرة مع بصيرتي. فانظري يا أمه فإني مقتول من يومي هذا، فلا يشتد حزنك، وسلمى الأمر لله، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر، ولا عملا بفاحشة، ولم يجر في

حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته، ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي اللهم إني لا أقول هذا تزكية مني لنفسي، أنت أعلم بي، ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني فقالت أمه: إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسنا إن تقدمتني، وإن تقدمتك ففي نفسي، أخرج حتى أنظر إلى ما يصير أمرك قال: جزاك الله يا أمه خيرا، فلا تدعي الدعاء لي قبل وبعد فقالت: لا أدعه أبدا، فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبره بأبيه وبي اللهم قد سلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين. قال مصعب بن ثابت: فما مكثت بعده إلا عشرا، ويقال: خمسة أيام. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ يعقوب بن عبد الله، عن عمه قال: دخل ابن الزبير على أمه وعليه الدرع والمغفر، فوقف فسلم، ثم دنا فتناول يدها فقبلها فقالت: هذا وداع فلا تبعد، قال ابن الزبير: جئت مودعا، إني لأرى هذا آخر يوم من الدنيا يمر بي، واعلمي يا أمه أني إن قتلت فإنما أنا لحم لا يضرني ما صنع بي، قالت: صدقت يا بني، أتمم على بصيرتك، ولا تمكن ابن أبي عقيل منك، وادن مني أودعك، فدنا منها فقبلها وعانقها، وقالت حيث مست الدرع: ما هذا صنيع من يريد ما تريد! قال: ما لبست هذا الدرع إلا لأشد منك، قالت العجوز: فإنه لا يشد مني، فنزعها ثم أدرج كميه، وشد أسفل قميصه، وجبة خز تحت القميص فأدخل أسفلها في المنطقة، وأمه تقول: البس ثيابك مثمره ثم انصرف ابن الزبير وهو يقول:

إني إذا أعرف يومي أصبر ... إذ بعضهم يعرف ثم ينكر فسمعت العجوز قوله، فقالت: تصبر والله إن شاء الله، أبوك أبو بكر والزبير، وأمك صفية بنت عبد المطلب. حدثني الحارث، قال: حدثني ابن سعد، قال: أخبرني مُحَمَّد بن عمر، قال: أخبرنا ثور بن يزيد، عن شيخ من أهل حمص شهد وقعة ابن الزبير مع أهل الشام، قال: رأيته يوم الثلاثاء وإنا لنطلع عليه اهل حمص خمسمائة خمسمائة من باب لنا ندخله، لا يدخله غيرنا، فيخرج إلينا وحده في أثرنا، ونحن منهزمون منه، فما أنسى أرجوزة له: إني إذا أعرف يومي أصبر وإنما يعرف يوميه الحر إذ بعضهم يعرف ثم ينكر. فأقول: أنت والله الحر الشريف، فلقد رأيته يقف في الأبطح ما يدنو منه أحد حتى ظننا أنه لا يقتل. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا مصعب بن ثابت، عن نافع مولى بني أسد، قال: رأيت الأبواب قد شحنت من أهل الشام يوم الثلاثاء، وأسلم أصحاب ابن الزبير المحارس، وكثرهم القوم فأقاموا على كل باب رجالا وقائدا وأهل بلد، فكان لأهل حمص الباب الذي يواجه باب الكعبة، ولأهل دمشق باب بني شيبة، ولأهل الأردن باب الصفا، ولأهل فلسطين باب بني جمح، ولأهل قنسرين باب بني سهم، وكان الحجاج وطارق بن عمرو جميعا في ناحية الأبطح إلى المروة، فمرة يحمل ابن الزبير في هذه الناحية، ومرة في هذه الناحية فلكأنه أسد في أجمة ما يقدم عليه الرجال، فيعدو في أثر القوم وهم على الباب حتى يخرجهم وهو يرتجز: إني إذا أعرف يومي أصبر وإنما يعرف يوميه الحر ثم يصيح: يا أبا صفوان، ويل أمه فتحا لو كان له رجال!

لو كان قرني واحدا كفيته. قال ابن صفوان: إي والله وألف. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: فحدثني ابن أبي الزناد وأبو بكر بن عبد الله بن مصعب، عن ابى المنذر، وحدثنا نافع مولى بني أسد، قالا: لما كان يوم الثلاثاء صبيحة سبع عشرة من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين وقد أخذ الحجاج على ابن الزبير بالأبواب، بات ابن الزبير يصلي عامة الليل، ثم احتبى بحمائل سيفه فأغفى، ثم انتبه بالفجر فقال: أذن يا سعد، فأذن عند المقام، وتوضأ ابن الزبير، وركع ركعتي الفجر، ثم تقدم، وأقام المؤذن فصلى بأصحابه، فقرأ «ن وَالْقَلَمِ» حرفا حرفا، ثم سلم، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: اكشفوا وجوهكم حتى أنظر، وعليهم المغافر والعمائم، فكشفوا وجوههم فقال: يا آل الزبير، لو طبتم لي نفسا عن أنفسكم كنا أهل بيت من العرب اصطلمنا في الله لم تصبنا زباء بتة أما بعد يا آل الزبير، فلا يرعكم وقع السيوف، فإني لم أحضر موطنا قط الا ارتثثت فيه من القتل، وما أجد من أدواء جراحها أشد مما أجد من ألم وقعها صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم، لا أعلم امرأ كسر سيفه، واستبقى نفسه، فإن الرجل إذا ذهب سلاحه فهو كالمرأة أعزل، غضوا أبصاركم عن البارقه، وليشغل كل امرى قرنه، ولا يلهينكم السؤال عني، ولا تقولن: أين عبد الله بن الزبير؟ ألا من كان سائلا عني فإني في الرعيل الأول. ابى لابن سلمى أنه غير خالد ... ملاقي المنايا أي صرف تيمما فلست بمبتاع الحياة بسبة ... ولا مرتق من خشية الموت سلما

احملوا على بركة الله. ثم حمل عليهم حتى بلغ بهم الحجون، فرمي بأجرة فأصابته في وجهه فأرعش لها، ودمى وجهه، فلما وجد سخونة الدم يسيل على وجهه ولحيته قال: فلسنا عَلَى الأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا ... وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا تقطر الدما وتغاووا عليه. قالا: وصاحت مولاه لنا مجنونه: وا امير المؤمنيناه! قالا: وقد رأته حيث هوى، فأشارت لهم إليه، فقتل وإن عليه ثياب خز وجاء الخبر إلى الحجاج، فسجد وسار حتى وقف عليه وطارق بن عمرو، فقال طارق: ما ولدت النساء أذكر من هذا، فقال الحجاج: تمدح من يخالف طاعة أمير المؤمنين! قال: نعم، هو أعذر لنا، ولولا هذا ما كان لنا عذر، أنا محاصروه وهو في غير خندق ولا حصن ولا منعة منذ سبعة أشهر ينتصف منا، بل يفضل علينا في كل ما التقينا نحن وهو، فبلغ كلامهما عبد الملك، فصوب طارقا. حدثنا عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، عن رجاله، قال: كأني أنظر إلى الزبير وقد قتل غلاما أسود، ضربه فعرقبه، وهو يمر في حملته عليه ويقول: صبرا يا بن حام، ففي مثل هذه المواطن تصبر الكرام! حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد ابن عمر، قال: حدثني عبد الجبار بن عمارة، عن عبد الله بن ابى بكر ابن مُحَمَّد بن عمرو بن حزم، قال: بعث الحجاج برأس ابن الزبير ورأس عبد الله بن صفوان ورأس عمارة بن عمرو بن حزم إلى المدينة فنصبت بها، ثم ذهب بها إلى عبد الملك بن مروان، ثم دخل الحجاج

أخبار متفرقة

مكة، فبايع من بها من قريش لعبد الملك بن مروان [أخبار متفرقة] قال أبو جعفر: وفي هذه السنة ولى عبد الملك طارقا مولى عثمان المدينة فوليها خمسة أشهر. وفي هذه السنة توفي بشر بن مروان في قول الواقدي، وأما غيره فإنه قال: كانت وفاته في سنة أربع وسبعين. وفيها أيضا وجه- فيما ذكر- عبد الملك بن مروان عمر بن عبيد الله بن معمر لقتال أبي فديك، وأمره أن يندب معه من أحب من أهل المصرين، فقدم الكوفه فندب أهلها، فانتدب معه عشرة آلاف، ثم قدم البصرة فندب أهلها، فانتدب معه عشرة آلاف، فأخرج لهم أرزاقهم وأعطياتهم، فأعطوها ثم سار بهم عمر بن عبيد الله، فجعل أهل الكوفة على الميمنة وعليهم مُحَمَّد بن موسى بن طلحة، وجعل أهل البصرة على الميسرة وعليهم ابن أخيه عمر بن موسى بن عبيد الله، وجعل خيله في القلب، حتى انتهوا إلى البحرين، فصف عمر بن عبيد الله أصحابه، وقدم الرجالة في أيديهم الرماح قد ألزموها الأرض، واستتروا بالبراذع فحمل أبو فديك وأصحابه حملة رجل واحد، فكشفوا ميسرة عمر بن عبيد الله حتى ذهبوا في الأرض إلا المغيرة بن المهلب ومعن بن المغيرة ومجاعة ابن عبد الرحمن وفرسان الناس فإنهم مالوا إلى صف أهل الكوفة وهم ثابتون، وارتث عمر بن موسى بن عبيد الله، فهو في القتلى قد أثخن جراحة. فلما رأى أهل البصرة أهل الكوفة لم ينهزموا تذمموا ورجعوا وقاتلوا وما عليهم أمير حتى مروا بعمر بن موسى بن عبيد الله جريحا فحملوه حتى أدخلوه عسكر الخوارج وفيه تبن كثير فأحرقوه، ومالت عليهم الريح، وحمل أهل الكوفة وأهل البصرة حتى استباحوا عسكرهم وقتلوا أبا فديك، وحصروهم في المشقر، فنزلوا على الحكم، فقتل عمر بن عبيد الله منهم- فيما ذكر- نحوا من سته آلاف، واسر ثمانمائه، وأصابوا جاريه اميه بن عبد الله حبلى من أبي فديك وانصرفوا إلى البصرة

وفي هذه السنة عزل عبد الملك خالد بن عبد الله عن البصرة وولاها أخاه بشر بن مروان، فصارت ولايتها وولاية الكوفة إليه، فشخص بشر لما ولي مع الكوفة البصرة إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث. وفيها غزا مُحَمَّد بن مروان الصائفة، فهزم الروم وقيل: إنه كان في هذه السنة وقعة عثمان بن الوليد بالروم في ناحية أرمينية وهو في أربعة آلاف والروم في ستين ألفا، فهزمهم وأكثر القتل فيهم. وأقام الحج في هذه السنة للناس الحجاج بن يوسف وهو على مكة واليمن واليمامة، وعلى الكوفة والبصرة- في قول الواقدي- بشر بن مروان، وفي قول غيره على الكوفة بشر بن مروان، وعلى البصرة خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى قضاء الْكُوفَة شريح بن الْحَارِث، وعلى قضاء البصره هشام ابن هبيرة، وعلى خراسان بكير بن وشاح

سنه اربع وسبعين

ثم دخلت سنة أربع وسبعين (ذكر ما كان فيها من الأحداث الجليلة) قال أبو جعفر: فمما كان فيها من ذلك عزل عبد الملك طارق بن عمرو عن المدينة، واستعماله عليها الحجاج بن يوسف، فقدمها- فيما ذكر- فأقام بها شهرا ثم خرج معتمرا. وفيها كان- فيما ذكر- نقض الحجاج بن يوسف بنيان الكعبة الذي كان ابن الزبير بناه، وكان إذ بناه أدخل في الكعبة الحجر، وجعل لها بابين، فأعادها الحجاج على بنائها الأول في هذه السنة، ثم انصرف إلى المدينة في صفر، فأقام بها ثلاثة أشهر يتعبث بأهل المدينة ويتعنتهم، وبنى بها مسجدا في بني سلمة، فهو ينسب إليه. واستخف فيها باصحاب رسول الله ص، فختم في أعناقهم، فذكر مُحَمَّد بن عمران بن أبي ذئب، حدثه عمن رأى جابر بن عبد الله مختوما في يده. وعن ابن أبي ذئب، عن إسحاق بن يزيد، أنه رأى أنس بن مالك مختوما في عنقه، يريد أن يذله بذلك. قال ابن عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي شُرَحْبِيلُ بْنُ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ أبيه، قال: رأيت الحجاج أرسل إلى سهل بن سعد فدعاه، فقال: ما منعك أن تنصر أمير المؤمنين عثمان بن عفان! قال: قد فعلت قال: كذبت، ثم أمر به فختم في عنقه برصاص. وفيها استقضى عبد الملك أبا إدريس الخولاني- فيما ذكر الواقدي. وفي هذه السنة شخص في قول بعضهم بشر بن مروان من الكوفة إلى البصرة واليا عليها. ذكر الخبر عن حرب المهلب للازارقه وفي هذه السنة ولي المهلب حرب الأزارقة من قبل عبد الملك

ذكر الخبر عن أمره وأمرهم فيها: ولما صار بشر بالبصرة كتب عبد الملك إليه- فِيمَا ذكر هِشَام عن أبي مخنف، عن يونس بْن أبي إسحاق، عن أبيه: أما بعد، فابعث المهلب في أهل مصره إلى الأزارقة، ولينتخب من أهل مصره وجوههم وفرسانهم وأولي الفضل والتجربة منهم، فإنه أعرف بهم، وخله ورأيه في الحرب، فإني أوثق شيء بتجربته ونصيحته للمسلمين، وابعث من أهل الكوفة بعثا كثيفا، وابعث عليهم رجلا معروفا شريفا، حسيبا صليبا، يعرف بالبأس والنجدة والتجربة للحرب، ثم أنهض إليهم أهل المصرين فليتبعوهم أي وجه ما توجهوا حتى يبيدهم الله ويستأصلهم والسلام عليك. فدعا بشر المهلب فأقرأه الكتاب، وأمره أن ينتخب من شاء، فبعث بجديع بن سعيد بن قبيصة بن سراق الأزدي- وهو خال يزيد ابنه- فأمره أن يأتي الديوان فينتخب الناس، وشق على بشر أن أمرة المهلب جاءت من قبل عبد الملك، فلا يستطيع أن يبعث غيره، فأوغرت صدره عليه حتى كأنه كان له إليه ذنب ودعا بشر بن مروان عبد الرحمن بن مخنف فبعثه على أهل الكوفة، وأمره أن ينتخب فرسان الناس ووجوههم وأولي الفضل منهم والنجدة. قال أبو مخنف: فحدثني أشياخ الحي، عن عبد الرحمن بن مخنف قال: دعاني بشر بن مروان فقال لي: انك قد عرفت منزلتك منى، واثرتك عندي، وقد رأيت أن أوليك هذا الجيش للذي عرفت من جزئك وغنائك وشرفك وبأسك، فكن عند أحسن ظني بك أنظر هذا الكذا كذا- يقع في المهلب- فاستبد عليه بالأمر، ولا تقبلن له مشورة ولا رأيا، وتنقصه وقصر به. قال: فترك أن يوصيني بالجند، وقتال العدو، والنظر لأهل

الإسلام، وأقبل يغريني بابن عمى كأني من السفهاء أو ممن يستصبي ويستجهل، ما رأيت شيخا مثلي في مثل هيئتي ومنزلتي طمع منه في مثل ما طمع فيه هذا الغلام مني، شب عمرو عن الطوق. قال: ولما رأى أني لست بالنشيط إلى جوابه قال لي: مالك؟ قلت: أصلحك الله! وهل يسعني إلا إنفاذ أمرك في كل ما أحببت وكرهت! قال: امض راشدا قال: فودعته وخرجت من عنده، وخرج المهلب بأهل البصرة حتى نزل رام مهرمز فلقي بها الخوارج، فخندق عليه، وأقبل عبد الرحمن بن مخنف بأهل الكوفة على ربع أهل المدينة معه بشر بن جرير، وعلى ربع تميم وهمدان مُحَمَّد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، وعلى ربع كندة وربيعة إسحاق بن مُحَمَّد بن الأشعث، وعلى ربع مذحج، وأسد زحر بن قيس فأقبل عبد الرحمن حتى نزل من المهلب على ميل أو ميل ونصف حيث تراءى العسكران برام مهرمز، فلم يلبث الناس إلا عشرا حتى أتاهم نعي بشر بن مروان، وتوفي بالبصرة، فارفض ناس كثير من أهل البصرة وأهل الكوفة، واستخلف بشر خالد بن عبد الله ابن أسيد، وكان خليفته على الكوفة عمرو بن حريث، وكان الذين انصرفوا من أهل الكوفة زحر بن قيس وإسحاق بن مُحَمَّد بن الاشعث ومحمد بن ابن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، فبعث عبد الرحمن بن مخنف ابنه جعفرا في آثارهم، فرد إسحاق ومُحَمَّدا، وفاته زحر بن قيس، فحبسهما يومين، ثم أخذ عليهما الا يفارقاه، فلم يلبثا إلا يوما حتى انصرفا، فأخذا غير الطريق، وطلبا فلم يحلقا، وأقبلا حتى لحقا زحر بن قيس بالأهواز، فاجتمع بها ناس كثير ممن يريد البصرة، فبلغ ذلك خالد بن عبد الله، فكتب إلى الناس كتابا وبعث رسولا يضرب وجوه الناس ويردهم، فقدم بكتابه مولى له، فقرأ الكتاب على الناس، وقد جمعوا له:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ خَالِدِ بْنِ عبد الله، إِلَى من بلغه كتابي هَذَا من الْمُؤْمِنِينَ والمسلمين سلام عَلَيْكُمْ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكُمُ اللَّهَ الَّذِي لا إِلَهَ إلا هو أما بعد، فإن الله كتب على عباده الجهاد، وفرض طاعة ولاة الأمر، فمن جاهد فإنما يجاهد لنفسه، ومن ترك الجهاد في الله كان الله عنه أغنى، ومن عصى ولاة الأمر والقوام بالحق أسخط الله عليه، وكان قد استحق العقوبة في بشره، وعرض نفسه لاستفاءة ماله وإلقاء عطائه، والتسيير إلى أبعد الأرض وشر البلدان أيها المسلمون، اعلموا على من اجترأتم ومن عصيتم! إنه عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين، الذي ليست فيه غميزة، ولا لأهل المعصية عنده رخصة، سوطه على من عصى، وعلى من خالف سيفه، فلا تجعلوا على أنفسكم سبيلا، فإني لم آلكم نصيحه عباد الله، ارجعوا إلى مكتبكم وطاعة خليفتكم، ولا ترجعوا عاصين مخالفين فيأتيكم ما تكرهون أقسم بالله لا أثقف عاصيا بعد كتابي هذا إلا قتلته إِنْ شَاءَ اللَّهُ. والسلام عَلَيْكُمْ ورحمة اللَّه وأخذ كلما قرأ عليهم سطرا أو سطرين قال له زحر: أوجز، فيقول له مولى خالد: والله إني لأسمع كلام رجل ما يريد أن يفهم ما يسمع أشهد لا يعيج، بشيء مما في هذا الكتاب فقال له: اقرأ أيها العبد الأحمر ما أمرت به، ثم ارجع إلى أهلك، فإنك لا تدري ما في أنفسنا فلما فرغ من قراءته لم يلتفت الناس إلى ما في كتابه، وأقبل زحر وإسحاق بن مُحَمَّد ومُحَمَّد بن عبد الرحمن حتى نزلوا قرية لآل الأشعث إلى جانب الكوفة، وكتبوا إلى عمرو بن حريث: أما بعد، فإن الناس لما بلغهم وفاة الأمير رحمة الله عليه تفرقوا فلم يبق معنا أحد، فأقبلنا الى الأمير والى مصرنا، وأحببنا الا ندخل الكوفة إلا بإذن الأمير وعلمه

عزل بكير بن وشاح عن خراسان وولايه اميه بن عبد الله عليها

فكتب إليهم: أما بعد، فإنكم تركتم مكتبكم وأقبلتم عاصين مخالفين، فليس لكم عندنا إذن ولا أمان. فلما أتاهم ذلك انتظروا حتى إذا كان الليل دخلوا إلى رحالهم، فلم يزالوا مقيمين حتى قدم الحجاج بن يوسف . عزل بكير بن وشاح عن خراسان وولايه اميه بن عبد الله عليها وفي هذه السنة عزل عبد الملك بكير بن وشاح عن خراسان وولاها أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد. ذكر الخبر عن سبب عزل بكير وولاية أمية: وكانت ولاية بكير بن وشاح خراسان إلى حين قدم أمية عليها واليا سنتين في قول أبي الحسن، وذلك أن ابن خازم قتل سنة ثلاث وسبعين وقدم أمية سنة أربع وسبعين. وكان سبب عزل بكير عن خراسان أن بحيرا- فيما ذكر علي عن المفضل- حبسه بكير بن وشاح لما كان منه فيما ذكرت في رأس ابن خازم حين قتله، فلم يزل محبوسا عنده حتى استعمل عبد الملك أمية بن عبد الله ابن خالد بن أسيد، فلما بلغ ذلك بكيرا أرسل إلى بحير ليصالحه، فأبى عليه وقال: ظن بكير أن خراسان تبقى له في الجماعة! فمشت السفراء بينهم، فأبى بحير، فدخل عليه ضرار بن حصين الضبي، فقال: ألا أراك مائقا! يرسل إليك ابن عمك يعتذر إليك وأنت أسيره، والمشرفي في يده- ولو قتلك ما حبقت فيك عنز- ولا تقبل منه! ما أنت بموفق اقبل الصلح، واخرج وأنت على أمرك فقبل مشورته، وصالح بكيرا، فأرسل إليه بكير بأربعين ألفا، وأخذ على بحير الا يقاتله وكانت تميم قد اختلفت بخراسان، فصارت مقاعس والبطون يتعصبون له، فخاف أهل خراسان أن تعود الحرب وتفسد البلاد، ويقهرهم عدوهم من المشركين، فكتبوا إلى

عبد الملك بن مروان: أن خراسان لا تصلح بعد الفتنة إلا على رجل من قريش لا يحسدونه ولا يتعصبون عليه، فقال عبد الملك: خراسان ثغر المشرق، وقد كان به من الشر ما كان، وعليه هذا التميمي، وقد تعصب الناس وخافوا أن يصيروا إلى ما كانوا عليه، فيهلك الثغر ومن فيه، وقد سألوا أن أولي أمرهم رجلا من قريش فيسمعوا له ويطيعوا، فقال أمية بن عبد الله: يا أمير المؤمنين، تداركهم برجل منك، قال: لولا انحيازك عن أبي فديك كنت ذلك الرجل قال: يا أمير المؤمنين، والله ما انحزت حتى لم أجد مقاتلا، وخذلني الناس، فرأيت أن انحيازي إلى فئة أفضل من تعريضي عصبة بقيت من المسلمين للهلكة، وقد علم ذلك مرار بن عبد الرحمن بن أبي بكرة، وكتب إليك خالد بن عبد الله بما بلغه من عذري- قال: وكان خالد كتب إليه بعذره، ويخبره أن الناس قد خذلوه- فقال مرار: صدق أمية يا أمير المؤمنين، لقد صبر حتى لم يجد مقاتلا، وخذله الناس. فولاه خراسان، وكان عبد الملك يحب أمية، ويقول: نتيجتي، أي لدتي، فقال الناس: ما رأينا أحدا عوض من هزيمة ما عوض أمية، فر من أبي فديك فاستعمل على خراسان، فقال رجل من بكر بن وائل في محبس بكير بن وشاح: أتتك العيس تنفخ في براها ... تكشف عن مناكبها القطوع كأن مواقع الأكوار منها ... حمام كنائس بقع وقوع بأبيض من أمية مضرحي ... كأن جبينه سيف صنيع وبحير يومئذ بالسنج يسأل عن مسير أمية، فلما بلغه انه قد قارب ابرشهر قال الرجل من عجم أهل مرو يقال له رزين- أو زرير: دلني

أخبار متفرقة

على طريق قريب لألقى الأمير قبل قدومه، ولك كذا وكذا، وأجزل لك العطية، وكان عالما بالطريق، فخرج به فسار من السنج إلى أرض سرخس في ليلة، ثم مضى به إلى نيسابور فوافى أمية حين قدم أبرشهر، فلقيه فأخبره عن خراسان وما يصلح أهلها وتحسن به طاعتهم، ويخف على الوالي مئونتهم، ورفع على بكير أموالا أصابها، وحذره غدره. قال: وسار معه حتى قدم مرو، وكان أمية سيدا كريما، فلم يعرض لبكير ولا لعماله، وعرض عليه أن يوليه شرطته، فأبى بكير، فولاها بحير بن ورقاء، فلام بكيرا رجال من قومه، فقالوا: أبيت أن تلي، فولى بحيرا وقد عرفت ما بينكما! قال: كنت أمس والي خراسان تحمل الحراب بين يدي، فأصير اليوم على الشرطة أحمل الحربة! وقال أمية لبكير: اختر ما شئت من عمل خراسان، قال: طخارستان، قال: هي لك قال: فتجهز بكير وأنفق مالا كثيرا، فقال بحير لأمية: إن أتى بكير طخارستان خلعك، فلم يزل يحذره حتى حذر، فأمره بالمقام عنده [أخبار متفرقة] وحج بالناس في هذه السنة الحجاج بن يوسف وكان ولي قضاء المدينة عبد الله بن قيس بن مخرمة قبل شخوصه إلى المدينة كذلك، ذكر ذلك عن مُحَمَّد بن عمر. وكان على المدينة ومكة الحجاج بن يوسف، وعلى الكوفة والبصرة بشر بن مروان، وعلى خراسان أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى قضاء الْكُوفَة شريح بن الْحَارِث، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة، وقد ذكر أن عبد الملك بن مروان اعتمر في هذه السنة، ولا نعلم صحة ذلك.

سنه خمس وسبعين

ثم دخلت سنة خمس وسبعين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك غزوة مُحَمَّد بن مروان الصائفة حين خرجت الروم من قبل مرعش. وفي هذه السنة ولى عبد الملك يحيى بن الحكم بن أبي العاص المدينة. وفي هذه السنة ولى عبد الملك الحجاج بن يوسف العراق دون خراسان وسجستان. سنه 75 ولايه الحجاج على الكوفه وخطبته في أهلها وفيها قدم الحجاج الكوفة فحدثني أبو زيد، قال: حدثنى محمد ابن يحيى أبو غسان، عن عبد الله بْن أبي عبيدة بْن محمد بن عمار ابن ياسر، قال: خرج الحجاج بن يوسف من المدينة حين أتاه كتاب عبد الملك بن مروان بولاية العراق بعد وفاة بشر بن مروان في اثني عشر راكبا على النجائب حتى دخل الكوفة حين انتشر النهار فجاءة، وقد كان بشر بعث المهلب إلى الحرورية، فبدأ بالمسجد فدخله، ثم صعد المنبر وهو متلثم بعمامة خر حمراء، فقال: علي بالناس، فحسبوه وأصحابه خارجة، فهموا به، حتى إذا اجتمع إليه الناس قام فكشف عن وجهه وقال: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامه تعرفوني

اما والله انى لأحمل الشر محمله، واخذوه بنعله، وأجزيه بمثله، وإني لأرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها، وإني لأنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى. قد شمرت عن ساقها تشميرا. ... هذا أوان الشد فاشتدي زيم قد لفها الليل بسواق حطم ... ليس براعي إبل ولا غنم ولا بجزار على ظهر وضم ... قد لفها الليل بعصلبي أروع خراج من الدوي ... مهاجر ليس بأعرابي. ليس أوان يكره الخلاط ... جاءت به والقلص الأعلاط تهوي هوي سابق الغطاط. وإني والله يا أهل العراق ما أغمز كتغماز التين، ولا يقعقع لي بالشنان ولقد فررت عن ذكاء، وجريت إلى الغاية القصوى إن أمير المؤمنين، عبد الملك نشر كنانته ثم عجم عيدانها فوجدني أمرها عودا، وأصلبها مكسرا، فوجهني إليكم، فإنكم طالما أوضعتم في الفتن، وسننتم سنن الغي أما والله لألحونكم لحو العود، ولأعصبنكم عصب السلمة،

ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل إني والله لا أعد إلا وفيت، ولا أخلق إلا فريت فإياي وهذه الجماعات وقيلا وقالا، وما يقول، وفيم أنتم وذاك؟ والله لتسقيمن على سبل الحق اولاد عن لكل رجل منكم شغلا في جسده من وجدت بعد ثالثة من بعث المهلب سفكت دمه، وأنهبت ماله. ثم دخل منزله ولم يزد على ذلك. قال: ويقال: إنه لما طال سكوته تناول مُحَمَّد بن عمير حصى فأراد أن يحصبه بها، وقال: قاتله الله! ما أعياه وأدمه! والله إني لأحسب خبره كروائه فلما تكلم الحجاج جعل الحصى ينتثر من يده ولا يعقل به، وأن الحجاج قال في خطبته: شاهت الوجوه! إن الله ضرب «مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ، فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» ، وأنتم أولئك واشباه أولئك، فاستوثقوا واستقيموا فو الله لأذيقنكم الهوان حتى تدروا، ولأعصبنكم عصب السلمة حتى تنقادوا، أقسم بالله لتقبلن على الإنصاف، ولتدعن الأرجاف، وكان وكان، وأخبرني فلان عن فلان، والهبر وما الهبر! أو لأهبرنكم؟ 866 بالسيف هبرا يدع النساء أيامى، والولدان يتامى، وحتى تمشوا السُّمَّهَى، وتقلعوا عن هاوها إياي وهذه الزرافات، لا يركبن الرجل منكم إلا وحده الا انه لوساغ لأهل المعصية معصيتهم ما جبي فيء ولا قوتل عدو، ولعطلت الثغور، ولولا أنهم يغزون كرها ما غزوا طوعا، وقد بلغني رفضكم المهلب، وإقبالكم على مصركم عصاة مخالفين، وإني أقسم لكم بالله لا أجد أحدا بعد ثالثة إلا ضربت عنقه

ثم دعا العرفاء فقال: ألحقوا الناس بالمهلب، وأتوني بالبراءات بموافاتهم ولا تغلقن أبواب الجسر ليلا ولا نهارا حتى تنقضي هذه المدة. تفسير الخطبة: قوله: أنا ابن جلا، فابن جلا الصبح لأنه يجلو الظلمة والثنايا: ما صغر من الجبال ونتأ وأينع الثمر: بلغ إدراكه. وقوله: فاشتدي زيم، فهي اسم للحرب والحطم: الذي يحطم كل شيء يمر به والوضم: ما وقي به اللحم من الأرض والعصلبي: الشديد والدوية: الأرض الفضاء التي يسمع فيها دوي أخفاف الإبل. والأعلاط: الإبل التي لا أرسان عليها، أنشد أبو زيد الأصمعي: واعرورت العلط العرضي تركضه ... أم الفوارس بالديداء والربعه والشنان، جمع شنة: القربة البالية اليابسة، قال الشاعر: كأنك من جمال بني أقيش ... يقعقع خلف رجليه بشن وقوله: فعجم عيدانها، أي عضها، والعجم بفتح الجيم: حب الزبيب، قال الأعشى: وملفوظها كلقيط العجم. وقوله: أمرها عودا، أي أصلبها، يقال: حبل ممر، إذا كان شديد الفتل وقوله: لأعصبنكم عصب السلمة، فالعصب القطع، والسلمة، شجرة من العضاه وقوله: لا أخلق إلا فريت، فالخلق: التقدير، قال الله تعالى: «مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ» ، أي مقدرة وغير مقدرة، يعني ما يتم وما يكون سقطا، قال الكميت يصف قربة: لم تجشم الخالقات فريتها ... ولم يفض من نطاقها السرب

وإنما وصف حواصل الطير، يقول: ليست كهذه وصخرة خلقاء، أي ملساء، قال الشاعر: وبهو هواء فوق مور كأنه ... من الصخرة الخلقاء زحلوق ملعب ويقال: فريت الأديم إذا أصلحته، وأفريت، بالألف إذا أنت أفسدته والسمهى: الباطل، قال أبو عمرو الشيباني: وأصله ما تسميه العامة مخاط الشيطان، وهو لعاب الشمس عند الظهيرة، قال أبو النجم العجلي: وذاب للشمس لعاب فنزل ... وقام ميزان الزمان فاعتدل والزرافات: الجماعات تم التفسير. قال أبو جعفر: قال عمر: فحدثني مُحَمَّد بن يحيى، عن عبد الله بن أبي عبيدة، قال: فلما كان اليوم الثالث سمع تكبيرا في السوق، فخرج حتى جلس على المنبر، فقال: يا أهل العراق وأهل الشقاق والنفاق، ومساوئ الأخلاق، إني سمعت تكبيرا ليس بالتكبير الذي يراد الله به في الترغيب، ولكنه التكبير الذي يراد به الترهيب، وقد عرفت أنها عجاجة تحتها قصف يا بني اللكيعة وعبيد العصا، وأبناء الأيامى، ألا يربع رجل منكم على ظلعه، ويحسن حقن دمه، ويبصر موضع قدمه! فأقسم بالله لأوشك أن أوقع بكم وقعة تكون نكالا لما قبلها، وأدبا لما بعدها. قوله: تحتها قصف، فهو شدة الريح واللكعاء: الورهاء، وهي الحمقاء من الإماء والظلع: الضعف والوهن من شدة السير وقوله: تهوى هوي سابق الغطاط، فالغطاط بضم الغين: ضرب من الطير. قال الأصمعي: الغطاط بفتح الغين: ضرب من الطير، وانشد الحسان ابن ثابت:

يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن الغطاط المقبل بفتح الغين قال: والغطاط بضم الغين: اختلاط الضوء بالظلمة من آخر الليل، قال الراجز: قام إلى أدماء في الغطاط ... يمشي بمثل قائم الفسطاط تم التفسير. قال: فقام إليه عمير بن ضابئ التميمي ثم الحنظلي فقال: أصلح الله الأمير! أنا في هذا البعث، وأنا شيخ كبير عليل، وهذا ابنى، وهو أشب مني، قال: ومن أنت؟ قال: عمير بن ضابئ التميمي، قال: أسمعت كلامنا بالأمس؟ قال: نعم، قال: ألست الذي غزا أمير المؤمنين عثمان؟ قال: بلى، قال: وما حملك على ذلك؟ قال: كان حبس أبي، وكان شيخا كبيرا، قال: او ليس يقول: هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله إني لأحسب في قتلك صلاح المصرين، قم إليه يا حرسي فاضرب عنقه، فقام إليه رجل فضرب عنقه، وأنهب ماله. ويقال: إن عنبسة بن سعيد قال للحجاج: أتعرف هذا؟ قال: لا، قال: هذا أحد قتلة أمير المؤمنين عثمان، فقال الحجاج: يا عدو الله، أفلا إلى أمير المؤمنين بعثت بديلا! ثم أمر بضرب عنقه، وأمر مناديا فنادى: ألا إن عمير بن ضابئ أتى بعد ثالثة، وقد كان سمع النداء، فأمرنا بقتله ألا فإن ذمة الله بريئة ممن بات الليلة من جند المهلب. فخرج الناس فازدحموا على الجسر، وخرجت العرفاء إلى المهلب وهو برامهرمز فأخذوا كتبه بالموافاة، فقال المهلب: قدم العراق اليوم رجل ذكر: اليوم قوتل العدو. قال ابن أبي عبيدة في حديثه: فعبر الجسر تلك الليلة أربعة آلاف من مذحج، فقال المهلب: قدم العراق رجل ذكر

قال عمر عن أبي الحسن، قال: لما قرأ عليهم كتاب عبد الملك قال القارئ: أما بعد، سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله فقال له: اقطع، يا عبيد العصا، أيسلم عليكم أمير المؤمنين فلا يرد راد منكم السلام! هذا أدب ابن نهية، أما والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب، ابدأ بالكتاب، فلما بلغ إلى قوله: أما بعد، سلام عليكم، لم يبق منهم أحد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله قال عمر: حدثني عبد الملك بن شيبان بن عبد الملك بن مسمع، قال: حدثني عمرو بن سعيد، قال: لما قدم الحجاج الكوفة خطبهم فقال: إنكم قد أخللتم بعسكر المهلب، فلا يصبحن بعد ثالثة من جنده أحد، فلما كان بعد ثالثة أتى رجل يستدمي، فقال: من بك؟ قال: عمير بن ضابئ البرجمي، أمرته بالخروج إلى معسكره فضربني- وكذب عليه فأرسل الحجاج إلى عمير بن ضابئ، فأتي به شيخا كبيرا، فقال له: ما خلفك عن معسكرك؟ قال: أنا شيخ كبير لا حراك بي، فأرسلت ابني بديلا فهو أجلد مني جلدا، وأحدث مني سنا، فسل عما أقول لك، فإن كنت صادقا وإلا فعاقبني قال: فقال عنبسة بن سعيد: هذا الذي أتى عثمان قتيلا، فلطم وجهه ووثب عليه فكسر ضلعين من أضلاعه، فأمر به الحجاج فضربت عنقه، قال عمرو بن سعيد: فو الله. إني لأسير بين الكوفة والحيرة إذ سمعت رجزا مضريا، فعدلت إليهم فقلت: ما الخبر؟ فقالوا: قدم علينا رجل من شر أحياء العرب من هذا الحي من ثمود، أسقف الساقين، ممسوح الجاعرتين أخفش العينين، فقدم سيد الحي عمير بن ضابئ فضرب عنقه

ولما قتل الحجاج عمير بن ضابئ لقي إبراهيم بن عامر أحد بني غاضرة من بني أسد عبد الله بن الزبير في السوق فسأله عن الخبر، فقال ابن الزبير: أقول لإبراهيم لما لقيته ... أرى الأمر أمسى منصبا متشعبا تجهز وأسرع والحق الجيش لا أرى ... سوى الجيش إلا في المهالك مذهبا تخير فإما أن تزور ابن ضابئ ... عميرا وإما أن تزور المهلبا هما خطتا كره نجاؤك منهما ... ركوبك حوليا من الثلج أشهبا فحال ولو كانت خراسان دونه ... رآها مكان السوق او هي اقربا فكائن ترى من مكره العدو مسمن ... تحمم حنو السرج حتى تحنبا وكان قدوم الحجاج الكوفة- فيما قيل- في شهر رمضان من هذه السنة، فوجه الحكم بن أيوب الثقفي، على البصرة أميرا، وأمره أن يشتد على خالد بن عبد الله، فلما بلغ خالدا الخبر خرج من البصرة قبل أن يدخلها الحكم، فنزل الجلحاء وشيعه أهل البصرة، فلم يبرح مصلاه حتى قسم فيهم ألف ألف وحج بالناس في هذه السنة عبد الملك بن مروان، حدثنى بذلك احمد ابن ثَابِت عمن حدثه، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر ووفد يحيى بن الحكم في هذه السنة على عبد الملك بن مروان، واستخلف على عمله بالمدينة أبان بن عثمان، وأمر عبد الملك يحيى بن الحكم أن يقر على عمله على ما كان عليه بالمدينة وعلى الكوفة والبصرة الحجاج بن يوسف وعلى خراسان

ذكر الخبر عن ثوره الناس بالحجاج بالبصرة

أمية بن عبد الله وعلى قضاء الْكُوفَة شريح، وعلى قضاء الْبَصْرَة زراره ابن أوفى. وفي هذه السنة خرج الحجاج من الكوفة إلى البصرة، واستخلف على الكوفة أبا يعفور عروة بن المغيرة بن شعبة، فلم يزل عليها حتى رجع إليها بعد وقعة رستقباذ. ذكر الخبر عن ثوره الناس بالحجاج بالبصرة وفي هذه السنة ثار الناس بالحجاج بالبصرة. ذكر الخبر عن سبب وثوبهم به: ذكر هشام، عن أبي مخنف، عن أبي زهير العبسي، قال: خرج الحجاج بن يوسف من الكوفة بعد ما قدمها، وقتل ابن ضابئ من فوره ذلك حتى قدم البصرة، فقام فيها بخطبة مثل الذي قام بها في أهل الكوفة، وتوعدهم مثل وعيده إياهم، فأتي برجل من بني يشكر فقيل: هذا عاص، فقال: إن بي فتقا، وقد رآه بشر فعذرني، وهذا عطائي مردود في بيت المال، فلم يقبل منه وقتله، ففزع لذلك أهل البصره، فخرجوا حتى تداكئوا على العارض بقنطرة رامهرمز، فقال المهلب: جاء الناس رجل ذكر. وخرج الحجاج حتى نزل رستقباذ في أول شعبان سنة خمس وسبعين فثار الناس بالحجاج، عليهم عبد الله بن الجارود، فقتل عبد الله بن الجارود، وبعث بثمانية عشر رأسا فنصبت برامهرمز للناس، فاشتدت ظهور المسلمين، وساء ذلك الخوارج، وقد كانوا رجوا أن يكون من الناس فرقة واختلاف، فانصرف الحجاج إلى البصرة. وكان سبب أمر عبد الله بن الجارود أن الحجاج لما ندب الناس إلى

نفى المهلب وابن مخنف الازارقه عن رامهرمز

اللحاق بالمهلب بالبصرة فشخصوا سار الحجاج حتى نزل رستقباذ قريبا من دستوى في آخر شعبان ومعه وجوه أهل البصرة، وكان بينه وبين المهلب ثمانية عشر فرسخا، فقام في الناس، فقال: إن الزيادة التي زادكم ابن الزبير في أعطياتكم زيادة فاسق منافق، ولست أجيزها فقام إليه عبد الله بن الجارود العبدي فقال: إنها ليست بزيادة فاسق منافق، ولكنها زيادة أمير المؤمنين عبد الملك قد أثبتها لنا فكذبه وتوعده، فخرج ابن الجارود على الحجاج وتابعه وجوه الناس، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل ابن الجارود وجماعة من أصحابه، وبعث برأسه ورءوس عشرة من أصحابه إلى المهلب، وانصرف إلى البصرة، وكتب الى المهلب والى عبد الرحمن ابن مخنف: أما بعد، إذا أتاكم كتابي هذا فناهضوا الخوارج، والسلام . نفى المهلب وابن مخنف الأزارقة عن رامهرمز وفي هذه السنة نفى المهلب وابن مخنف الأزارقة عن رامهرمز. ذكر الخبر عن ذَلِكَ وما كَانَ من أمرهم في هذه السنة: ذكر هشام عن أبي مخنف، عن أبي زهير العبسي، قال: ناهض المهلب وابن مخنف الأزارقة برامهرمز بكتاب الحجاج إليهما لعشر بقين من شعبان يوم الاثنين سنة خمس وسبعين، فأجلوهم عن رامهرمز من غير قتال شديد، ولكنهم زحفوا اليهم حتى أزالوهم، وخرج القوم كأنهم على حامية، حتى نزلوا سابور بأرض منها يقال لها كازرون، وسار المهلب وعبد الرحمن بن مخنف حتى نزلوا بهم في أول رمضان، فخندق المهلب عليه، فذكر أهل البصرة أن المهلب قال لعبد الرحمن بن مخنف: إن رأيت أن تخندق عليك فافعل، وإن أصحاب عبد الرحمن أبوا عليه وقالوا: إنما خندقنا سيوفنا وإن الخوارج زحفوا إلى المهلب ليلا ليبيتوه، فوجدوه قد أخذ حذره، فمالوا نحو عبد الرحمن بن مخنف فوجدوه لم يخندق،

فقاتلوه، فانهزم عنه أصحابه، فنزل فقاتل في أناس من أصحابه فقتل، وقتلوا حوله، فقال شاعرهم: لمن العسكر المكلل بالصرعى ... فهم بين ميت وقتيل فتراهم تسفي الرياح عليهم ... حاصب الرمل بعد جر الذيول وأما أهل الكوفة فإنهم ذكروا أن كتاب الحجاج بن يوسف أتى المهلب وعبد الرحمن بن مخنف، أن ناهضا الخوارج حين يأتيكما كتابي فناهضاهم يوم الأربعاء لعشر بقين من رمضان سنة خمس وسبعين واقتتلوا قتالا شديدا لم يكن بينهم فيما مضى قتال كان أشد منه، وذلك بعد الظهر، فمالت الخوارج بحدها على المهلب بن أبي صفرة فاضطروه إلى عسكره، فسرح إلى عبد الرحمن رجالا من صلحاء الناس، فأتوه، فقالوا: إن المهلب يقول لك: إنما عدونا واحد، وقد ترى ما قد لقي المسلمون، فأمد إخوانك يرحمك الله فأخذ يمده بالخيل بعد الخيل، والرجال بعد الرجال، فلما كان بعد العصر ورأت الخوارج ما يجيء من عسكر عبد الرحمن من الخيل والرجال إلى عسكر المهلب ظنوا أنه قد خف أصحابه، فجعلوا خمس كتائب أو ستا تجاه عسكر المهلب، وانصرفوا بحدهم وجمعهم إلى عبد الرحمن بن مخنف، فلما رآهم قد صمدوا له نزل ونزل معه القراء، عليهم أبو الأحوص صاحب عبد الله بن مسعود، وخزيمة بن نصر أبو نصر ابن خزيمة العبسي الذي قتل مع زيد بن علي وصلب معه بالكوفة، ونزل معه من خاصة قومه أحد وسبعون رجلا، وحملت عليهم الخوارج فقاتلتهم قتالا شديدا ثم إن الناس انكشفوا عنه، فبقي في عصابة من أهل الصبر ثبتوا معه، وكان ابنه جعفر بن عبد الرحمن فيمن بعثه إلى المهلب، فنادى في الناس ليتبعوه إلى أبيه، فلم يتبعه إلا ناس قليل، فجاء حتى إذا دنا من أبيه حالت الخوارج بينه وبين أبيه، فقاتل حتى ارتثته الخوارج، وقاتل عبد الرحمن بن مخنف ومن معه على تل مشرف حتى ذهب نحو من ثلثي الليل، ثم قتل في تلك العصابة، فلما أصبحوا جاء المهلب حتى

أتاه، فدفنه وصلى عليه، وكتب بمصابه إلى الحجاج، فكتب بذلك الحجاج إلى عبد الملك بن مروان، فنعى عبد الرحمن بمنى، وذم أهل الكوفة، وبعث الحجاج على عسكر عبد الرحمن بن مخنف عتاب بن ورقاء، وأمره إذا ضمتهما الحرب أن يسمع للمهلب ويطيع، فساءه ذلك، فلم يجد بدا من طاعة الحجاج ولم يقدر على مراجعته، فجاء حتى أقام في ذلك العسكر، وقاتل الخوارج وأمره إلى المهلب، وهو في ذلك يقضي أموره، ولا يكاد يستشير المهلب في شيء فلما رأى ذلك المهلب اصطنع رجالا من أهل الكوفة فيهم بسطام بن مصقلة بن هبيرة، فأغراهم بعتاب. قال أبو مخنف عن يوسف بن يزيد: إن عتابا أتى المهلب يسأله أن يرزق أصحابه، فأجلسه المهلب معه على مجلسه، قال: فسأله أن يرزق أصحابه سؤالا فيه غلظه وتجهم، قال: فقال له المهلب: وانك لها هنا بابن اللخناء! فبنو تميم يزعمون أنه رد عليه، وأما يوسف بن يزيد وغيره فيزعمون أنه قال: والله إنها لمعمة مخولة، ولوددت أن الله فرق بيني وبينك قال: فجرى بينهما الكلام حتى ذهب المهلب ليرفع القضيب عليه، فوثب عليه ابنه المغيرة، فقبض على القضيب وقال: أصلح الله الأمير! شيخ من أشياخ العرب، وشريف من أشرافهم، إن سمعت منه بعض ما تكرهه فاحتمله له، فإنه لذلك منك أهل، ففعل وقام عتاب فرجع من عنده، واستقبله بسطام بن مصقلة يشتمه، ويقع فيه. فلما رأى ذلك كتب إلى الحجاج يشكو إليه المهلب ويخبره أنه قد أغرى به سفهاء أهل المصر، ويسأله أن يضمه إليه، فوافق ذلك من الحجاج حاجة إليه فيما لقي أشراف الكوفة من شبيب، فبعث إليه أن أقدم واترك أمر ذلك الجيش إلى المهلب، فبعث المهلب عليه حبيب بن المهلب. وقال حميد بن مسلم يرثي عبد الرحمن بن مخنف: إن يقتلوك أبا حكيم غدوة ... فلقد تشد وتقتل الأبطالا

أو يثكلونا سيدا لمسود ... سمح الخليقة ماجدا مفضالا فلمثل قتلك هد قومك كلهم ... من كان يحمل عنهمُ الأثقالا من كان يكشف غرمهم وقتالهم ... يوما إذا كان القتال نزالا! أقسمت ما نيلت مقاتل نفسه ... حتى تدرع من دم سربالا وتناجز الأبطال تحت لوائه ... بالمشرفية في الأكف نصالا يوما طويلا ثم آخر ليلهم ... حين استبانوا في السماء هلالا وتكشفت عنه الصفوف وخيله ... فهناك نالته الرماح فمالا وقال سراقة بن مرداس البارقي: أعيني جودا بالدموع السواكب ... وكونا كواهي شنة مع راكب على الأزد لما أن أصيب سراتهم ... فنوحا لعيش بعد ذلك خائب نرجى الخلود بعدهم وتعوقنا ... عوائق موت أو قراع الكتائب وكنا بخير قبل قتل ابن مخنف ... وكل امرئ يوما لبعض المذاهب أمار دموع الشيب من أهل مصره ... وعجل في الشبان شيب الذوائب وقاتل حتى مات أكرم ميتة ... وخر على خد كريم وحاجب وضارب عنه المارقين عصابة ... من الأزد تمشي بالسيوف القواضب فلا ولدت أنثى ولا آب غائب ... إلى أهله إن كان ليس بآيب فيا عين بكي مخنفا وابن مخنف ... وفرسان قومي قصرة وأقاربي وقال سراقة أيضا يرثي عبد الرحمن بن مخنف: ثوى سيد الأزدين أزد شنوءة ... وأزد عمان رهن رمس بكازر وضارب حتى مات اكرم ميته ... بابيض صاف كالعقيقة باتر وصرع حول التل تحت لوائه ... كرام المساعي من كرام المعاشر

ذكر الخبر عن تحرك صالح للخروج وما كان منه في هذه السنه

قضى نحبه يوم اللقاء ابن مخنف ... وأدبر عنه كل ألوث داثر أمد فلم يمدد فراح مشمرا ... إلى الله لم يذهب بأثواب غادر وأقام المهلب بسابور يقاتلهم نحوا من سنة. وفي هذه السنة تحرك صالح بن مسرح أحد بني امرئ القيس، وكان يرى رأي الصفرية وقيل: إنه أول من خرج من الصفرية . ذكر الخبر عن تحرك صالح للخروج وما كان منه في هذه السنة ذكر أن صالح بن مسرح أحد بني امرئ القيس حج سنة خمس وسبعين ومعه شبيب بن يزيد وسويد والبطين وأشباههم وحج في هذه السنة عبد الملك بن مروان، فهم شبيب بالفتك به، وبلغه ذرء من خبرهم، فكتب إلى الحجاج بعد انصرافه يأمره بطلبهم، وكان صالح يأتي الكوفة فيقيم بها الشهر ونحوه فيلقى أصحابه ليعدهم، فنبت بصالح الكوفة لما طلبه الحجاج، فتنكبها

سنه ست وسبعين

ثم دخلت سنة ست وسبعين (ذكر الكائن من الأحداث فيها) فمن ذلك خروج صالح بن مسرح. ذكر الخبر عن خروج صالح بن مسرح وعن سبب خروجه وكان سبب خروجه- فِيمَا ذكر هِشَام، عن أبي مخنف، عن عبد الله ابن علقمة، عن قبيصة بن عبد الرحمن الخثعمي- أن صالح بن مسرح التميمي كان رجلا ناسكا مخبتا مصفر الوجه، صاحب عبادة، وأنه كان بدارا وأرض الموصل والجزيرة له أصحاب يقرئهم القرآن ويفقههم ويقص عليهم، فكان قبيصة بن عبد الرحمن حدث أصحابنا أن قصص صالح بن مسرح عنده، وكان ممن يرى رأيهم، فسألوه أن يبعث بالكتاب إليهم، ففعل. وكان قصصه: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» اللهم إنا لا نعدل بك، ولا نحفد إلا إليك، ولا نعبد إلا إياك، لك الخلق والأمر، ومنك النفع والضر، وإليك المصير ونشهد أن مُحَمَّدا عبدك الذي اصطفيته، ورسولك الذي اخترته وارتضيته لتبليغ رسالاتك، ونصيحة عبادك، ونشهد أنه قد بلغ الرسالة، ونصح للأمة، ودعا إلى الحق، وقام بالقسط، ونصر الدين، وجاهد المشركين، حتى توفاه الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ. أوصيكم بتقوى الله والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، وكثرة ذكر الموت، وفراق الفاسقين، وحب المؤمنين، فإن الزهادة في الدنيا ترغب العبد فيما

عند الله، وتفرغ بدنه لطاعة الله، وإن كثرة ذكر الموت يخيف العبد من ربه حتى يجأر إليه، ويستكين له، وإن فراق الفاسقين حق على المؤمنين، قال الله في كتابه: «وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ. » وإن حب المؤمنين للسبب الذي تنال به كرامة الله ورحمته وجنته، جعلنا الله وإياكم من الصادقين الصابرين ألا إن من نعمة الله على المؤمنين أن بعث فيهم رسولا من أنفسهم، فعلمهم الكتاب والحكمة وزكاهم وطهرهم ووفقهم في دينهم، وكان بالمؤمنين رءوفا رحيما، حتى قبضه الله، صلوات الله عليه، ثم ولي الأمر من بعده التقي الصديق على الرضا من المسلمين، فاقتدى بهديه، واستن بسنته، حتى لحق بالله- رحمه الله- واستخلف عمر، فولاه الله أمر هذه الرعية، فعمل بكتاب الله، وأحيا سنة رسول الله، ولم يحنق في الحق على جرته، ولم يخف في الله لومة لائم، حتى لحق به رحمة الله عليه، وولي المسلمين من بعده عثمان، فاستأثر بالفيء، وعطل الحدود، وجار في الحكم، واستذل المؤمن، وعزز المجرم، فسار إليه المسلمون فقتلوه، فبرئ الله منه ورسوله وصالح المؤمنين، وولي أمر الناس من بعده علي بن أبي طالب، فلم ينشب أن حكم في أمر الله الرجال، وشك في أهل الضلال، وركن وأدهن، فنحن من علي وأشياعه برآء، فتيسروا رحمكم الله لجهاد هذه الأحزاب المتحزبة، وأئمة الضلال الظلمة وللخروج من دار الفناء إلى دار البقاء، واللحاق بإخواننا المؤمنين الموقنين الذين باعوا الدنيا بالآخرة، وأنفقوا أموالهم التماس رضوان الله في العاقبة، ولا تجزعوا من القتل في الله، فإن القتل أيسر من الموت، والموت نازل بكم غير ما ترجم الظنون، فمفرق بينكم وبين آبائكم وأبنائكم، وحلائلكم ودنياكم، وان اشتد لذلك كرهكم وجزعكم ألا فبيعوا الله أنفسكم

طائعين وأموالك تدخلوا الجنة آمنين، وتعانقوا الحور العين، جعلنا الله وإياكم من الشاكرين الذاكرين، الذين يهدون بالحق وبه يعدلون. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ علقمة، قال: بينا أصحاب صالح يختلفون إليه إذ قال لهم ذات يوم: ما ادرى ما تنتظرون! حتى متى أنتم مقيمون! هذا الجور قد فشا، وهذا العدل قد عفا، ولا تزداد هذه الولاة على الناس إلا غلوا وعتوا، وتباعدا عن الحق، وجرأة على الرب، فاستعدوا وابعثوا إلى إخوانكم الذين يريدون من إنكار الباطل والدعاء إلى الحق مثل الذي تريدون، فيأتوكم فنلتقي وننظر فيما نحن صانعون، وفي أي وقت إن خرجنا نحن خارجون. قال: فتراسل أصحاب صالح، وتلاقوا في ذلك، فبينا هم في ذلك إذ قدم عليهم المحلل بن وائل اليشكري بكتاب من شبيب إلى صالح بن مسرح: أما بعد، فقد علمت أنك كنت أردت الشخوص، وقد كنت دعوتني إلى ذلك فاستجبت لك، فإن كان ذلك اليوم من شأنك فأنت شيخ المسلمين، ولن نعدل بك منا أحدا، وإن أردت تأخير ذلك اليوم أعلمتني، فإن الآجال غادية ورائحة، ولا آمن أن تخترمني المنية ولما أجاهد الظالمين. فيا له غبنا، ويا له فضلا متروكا! جعلنا الله وإياك ممن يريد بعمله الله ورضوانه، والنظر إلى وجهه، ومرافقة الصالحين في دار السلام، والسلام عليك. قال: فلما قدم على صالح المحلل بن وائل بذلك الكتاب من شبيب كتب إليه صالح: أما بعد، فقد كان كتابك وخبرك أبطأ عني حتى أهمني ذلك، ثم إن امرأ من المسلمين نبأني بنبإ مخرجك ومقدمك، فنحمد الله على قضاء ربنا وقد قدم علي رسولك بكتابك، فكل ما فيه قد فهمته، ونحن

في جهاز واستعداد للخروج، ولم يمنعني من الخروج إلا انتظارك، فأقبل إلينا، ثم اخرج بنا متى ما أحببت، فإنك ممن لا يستغنى عن رأيه، ولا تقضى دونه الأمور والسلام عليك. فلما قدم على شبيب كتابه بعث إلى نفر من أصحابه فجمعهم إليه، منهم اخوه مصاد بن يزيد بن نعيم، والمحلل بن وائل اليشكري، والصقر ابن حاتم من بني تيم بن شيبان، وإبراهيم بن حجر أبو الصقير من بني محلم، والفضل بن عامر من بني ذهل بن شيبان، ثم خرج حتى قدم على صالح بن مسرح بدارا، فلما لقيه قال: اخرج بنا رحمك الله! فو الله ما تزداد السنة إلا دروسا، ولا يزداد المجرمون إلا طغيانا فبث صالح رسله في أصحابه، وواعدهم الخروج في هلال صفر ليلة الأربعاء سنة ست وسبعين فاجتمع بعضهم إلى بعض، وتهيئوا، وتيسروا للخروج في تلك الليلة، واجتمعوا جميعا عنده في تلك الليلة لميعاده. قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط الأزدي، قال: والله إني لمع شبيب بالمدائن إذ حدثنا عن مخرجهم، قال: لما هممنا بالخروج اجتمعنا إلى صالح بن مسرح ليلة خرج، فكان رأيي استعراض الناس لما رأيت من المنكر والعدوان والفساد في الأرض، فقمت إليه فقلت: يا أمير المؤمنين، كيف ترى في السيرة في هؤلاء الظلمة؟ أنقتلهم قبل الدعاء، أم ندعوهم قبل القتال؟ وسأخبرك برأيي فيهم قبل أن تخبرني فيهم برأيك، أما أنا فأرى أن نقتل كل من لا يرى رأينا قريبا كان أو بعيدا، فإنا نخرج على قوم غاوين طاغين باغين قد تركوا أمر الله، واستحوذ عليهم الشيطان فقال: لا بل ندعوهم، فلعمري لا يجيبك إلا من يرى رأيك وليقاتلنك من يزري عليك، والدعاء أقطع لحجتهم، وأبلغ في الحجة عليهم قال: فقلت له: فكيف ترى فيمن قاتلنا فظفرنا به؟ ما تقول في دمائهم وأموالهم؟ فقال: إن قتلنا وغنمنا فلنا، وإن تجاوزنا وعفونا فموسع علينا ولنا قال: فأحسن القول وأصاب، رحمة الله عليه وعلينا قال أبو مخنف: فحدثني رجل من بني محلم أن صالح بن مسرح

قال لأصحابه ليلة خرج: اتقوا الله عباد الله، ولا تعجلوا إلى قتال أحد من الناس إلا أن يكونوا قوما يريدونكم، وينصبون لكم، فإنكم إنما خرجتم غضبا لله حيث انتهكت محارمه، وعصي في الأرض، فسفكت الدماء بغير حلها، وأخذت الأموال بغير حقها، فلا تعيبوا على قوم أعمالا ثم تعملوا بها، فإن كل ما أنتم عاملون أنتم عنه مسؤلون، وإن عظمكم رجالة، وهذه دواب لمُحَمَّد بن مروان في هذا الرستاق، فابدءوا بها، فشدوا عليها، فاحملوا أراجلكم، وتقووا بها على عدوكم فخرجوا فأخذوا تلك الليلة الدواب فحملوا رجالتهم عليها، وصارت رجالتها فرسانا، وأقاموا بأرض دارا ثلاث عشرة ليلة، وتحصن منهم أهل دارا وأهل نصيبين وأهل سنجار، وخرج صالح ليلة خرج في مائة وعشرين- وقيل في مائة وعشرة- قال: وبلغ مخرجهم مُحَمَّد بن مروان وهو يومئذ أمير الجزيرة، فاستخف بأمرهم، وبعث إليهم عدي بن عدي بن عميرة من بني الحارث بن معاوية بن ثور في خمسمائة، فقال له: أصلح الله الأمير! أتبعثني إلى رأس الخوارج منذ عشرين سنة! قد خرج معه رجال من ربيعة قد سموا لي، كانوا يعازوننا، الرجل منهم خير من مائة فارس في خمسمائة رجل قال له: فانى ازيدك خمسمائة أخرى، فسر إليهم في ألف، فسار من حران في الف رجل، فكان أول جيش سار إلى صالح وسار إليه عدي، وكأنما يساق إلى الموت، وكان عدي رجلا يتنسك، فأقبل حتى إذا نزل دوغان نزل بالناس وسرح إلى صالح بن مسرح رجلا دسه إليه من بني خالد من بني الورثة، يقال له: زياد بن عبد الله، فقال: إن عديا بعثني إليك يسألك أن تخرج من هذا البلد وتأتي بلدا آخر فتقاتل أهله، فإن عديا للقائك كاره، فقال له صالح: ارجع اليه، فقل له: إن كنت ترى رأينا فأرنا من ذلك ما نعرف، ثم نحن مدلجون عنك من هذا البلد إلى غيره، وإن كنت على رأي الجبابرة وأئمة السوء رأينا رأينا، فان شئنا

بدأنا بك، وإن شئنا رحلنا إلى غيرك فانصرف إليه الرسول فأبلغه ما أرسل به، فقال له: ارجع إليه فقل له: إني والله ما أنا على رأيك، ولكني أكره قتالك وقتال غيرك، فقاتل غيري، فقال صالح لأصحابه: اركبوا، فركبوا وحبس الرجل عنده حتى خرجوا، ثم تركه ومضى بأصحابه حتى يأتي عدى بن عدى بن عميرة في سوق دوغان وهو قائم يصلي الضحى، فلم يشعر إلا والخيل طالعة عليهم، فلما بصروا بها تنادوا، وجعل صالح شبيبا في كتيبة في ميمنة أصحابه، وبعث سويد بن سليم الهندي من بني شيبان في كتيبة في ميسرة أصحابه، ووقف هو في كتيبة في القلب، فلما دنا منهم رآهم على غير تعبئة، وبعضهم يجول في بعض، فأمر شبيبا فحمل عليهم، ثم حمل سويد عليهم فكانت هزيمتهم ولم يقاتلوا، وأتي عدي بن عدي بدابته وهو يصلي فركبها ومضى على وجهه، وجاء صالح ابن مسرح حتى نزل عسكره وحوى ما فيه، وذهب فل عدي وأوائل أصحابه حتى دخلوا على مُحَمَّد بن مروان، فغضب، ثم دعا خالد بن جزء السلمي فبعثه في ألف وخمسمائة، ودعا الحارث بن جعونة من بني ربيعة بن عامر بن صعصعة فبعثه في ألف وخمسمائة، ودعاهما، فقال: أخرجا إلى هذه الخارجة القليلة الخبيثة، وعجلا الخروج، وأغذا السير، فأيكما سبق فهو الأمير على صاحبه، فخرجا من عنده فأغذا السير، وجعلا يسألان عن صالح بن مسرح فيقال لهما: إنه توجه نحو آمد، فأتبعاه حتى انتهيا إليه، وقد نزل على أهل آمد فنزلا ليلا، فخندقا وانتهيا إليه وهما متساندان كل واحد منهما في أصحابه على حدته، فوجه صالح شبيبا إلى الحارث بن جعونة العامري في شطر أصحابه، وتوجه هو نحو خالد بن جزء البسلمى قال أبو مخنف: فحدثني المحلمي، قال: انتهوا إلينا في أول وقت العصر، فصلى بنا صالح العصر، ثم عبانا لهم فاقتتلنا كأشد قتال اقتتله قوم قط، وجعلنا والله نرى الظفر يحمل الرجل منا على العشرة منهم فيهزمهم، وعلى العشرين فكذلك، وجعلت خيلهم لا تثبت لخيلنا

فلما رأى أميراهم ذلك ترجلا وأمرا جل من معهما فترجل، فعند ذلك جعلنا لا نقدر منهم على الذي نريد، إذا حملنا عليهم استقبلتنا رجالتهم بالرماح، ونضحتنا رماتهم بالنبل، وخيلهم تطاردنا في خلال ذلك، فقاتلناهم إلى المساء حتى حال الليل بيننا وبينهم، وقد أفشوا فينا الجراحه، وافشيناها فيهم، وقد قتلوا منا نحوا من ثلاثين رجلا، وقتلنا منهم اكثر من سبعين، وو الله ما أمسينا حتى كرهناهم وكرهونا، فوقفنا مقابلهم ما يقدمون علينا. وما نقدم عليهم، فلما أمسوا رجعوا إلى عسكرهم، ورجعنا إلى عسكرنا فصلينا وتروحنا وأكلنا من الكسر ثم إن صالحا دعا شبيبا ورءوس أصحابه فقال: يا أخلائي، ماذا ترون؟ فقال شبيب: أرى أنا قد لقينا هؤلاء القوم فقاتلناهم، وقد اعتصموا بخندقهم، فلا أرى أن نقيم عليهم، فقال صالح: وأنا أرى ذلك، فخرجوا من تحت ليلتهم سائرين، فمضوا حتى قطعوا أرض الجزيرة، ثم دخلوا أرض الموصل فساروا فيها حتى قطعوها ومضوا حتى قطعوا الدسكرة. فلما بلغ ذلك الحجاج سرح إليهم الحارث بن عميرة بن ذي المشعار الهمداني في ثلاثة آلاف رجل من أهل الكوفة، ألف من المقاتلة الأولى، وألفين من الفرض الذي فرض لهم الحجاج فسار حتى إذا دنا من الدسكرة خرج صالح بن مسرح نحو جلولاء وخانقين، واتبعه الحارث ابن عميرة حتى انتهى إلى قرية يقال لها المدبج من أرض الموصل على تخوم ما بينها وبين أرض جوخى، وصالح يومئذ في تسعين رجلا، فعبى الحارث ابن عميرة يومئذ أصحابه، وجعل على ميمنته أبا الرواغ الشاكري، وعلى ميسرته الزبير بن الأروح التميمي، ثم شد عليهم- وذلك بعد العصر- وقد جعل أصحابه ثلاثة كراديس، فهو في كردوس، وشبيب في كردوس في ميمنته، وسويد بن سليم في كردوس في الميسرة، في كل كردوس منهم ثلاثون رجلا. فلما شد عليهم الحارث بن عميرة في جماعة أصحابه انكشف سويد

ابن سليم، وثبت صالح بن مسرح فقتل، وضارب شبيب حتى صرع، فوقع في رجالة، فشد عليهم فانكشفوا، فجاء حتى انتهى الى موقف صالح ابن مسرح فأصابه قتيلا، فنادى: إلي يا معشر المسلمين، فلاذوا به، فقال لأصحابه: ليعجل كل واحد منكم ظهره إلى ظهر صاحبه، وليطاعن عدوه إذا أقدم عليه حتى ندخل هذا الحصن، ونرى رأينا، ففعلوا ذلك حتى دخلوا الحصن وهم سبعون رجلا بشبيب، وأحاط بهم الحارث بن عميرة ممسيا، وقال لأصحابه: أحرقوا الباب، فإذا صار جمرا فدعوه فإنهم لا يقدرون على أن يخرجوا منه حتى نصبحهم فنقتلهم ففعلوا ذلك بالباب، ثم انصرفوا إلى عسكرهم، فأشرف شبيب عليهم وطائفة من أصحابه، فقال بعض أولئك الفرض: يا بني الزواني، ألم يخزكم الله! فقالوا: يا فساق، نعم تقاتلوننا لقتالنا إياكم إذ أعماكم الله عن الحق الذي نحن عليه، فما عذركم عند الله في الفري على أمهاتنا! فقال لهم حلماؤهم: إنما هذا من قول شباب فينا سفهاء، والله ما يعجبنا قولهم ولا نستحله. وقال شبيب لأصحابه: يا هؤلاء، ما تنتظرون! فو الله لئن صبحكم هؤلاء غدوة إنه لهلاككم، فقالوا له: مرنا بأمرك، فقال لهم: إن الليل أخفى للويل، بايعوني ومن شئتم منكم، ثم اخرجوا بنا حتى نشد عليهم في عسكرهم، فإنهم لذلك منكم آمنون، وأنا أرجو أن ينصركم الله عليهم قالوا: فابسط يدك فلنبايعك، فبايعوه، ثم جاءوا ليخرجوا، وقد صار بابهم جمرا، فأتوا باللبود فبلوها بالماء، ثم ألقوها على الجمر، ثم قطعوا عليها، فلم يشعر الحارث بن عميرة ولا أهل العسكر إلا وشبيب وأصحابه يضربونهم بالسيوف في جوف عسكرهم، فضارب الحارث حتى صرع، واحتمله أصحابه وانهزموا، وخلوا لهم العسكر وما فيه، ومضوا حتى نزلوا المدائن، فكان ذلك الجيش أول جيش هزمه شبيب، وأصيب صالح بن مسرح يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقيت من جمادى الأولى من سنه

خبر دخول شبيب الكوفه وما كان من امره مع الحجاج

خبر دخول شبيب الكوفه وما كان من امره مع الحجاج وفي هذه السنة دخل شبيب الكوفة ومعه زوجته غزالة. ذكر الخبر عن دخوله الكوفة وما كان من أمره وأمر الحجاج بها والسبب الذي دعا شبيبا إلى ذلك: وكان السبب في ذلك- فِيمَا ذكر هِشَام، عن أبي مخنف، عن عبد الله ابن علقمة، عن قبيصة بن عبد الرحمن الخثعمي- أن شبيبا لما قتل صالح بن مسرح بالمدبج وبايعه أصحاب صالح، ارتفع إلى أرض الموصل فلقي سلامة بن سيار بن المضاء التيمي تيم شيبان، فدعاه إلى الخروج معه، وكان يعرفه قبل ذلك إذ كانا في الديوان والمغازي، فاشترط عليه سلامة أن ينتخب ثلاثين فارسا، ثم لا يغيب عنه إلا ثلاث ليال عددا. ففعل، فانتخب ثلاثين فارسا، فانطلق بهم نحو عنزة، وإنما أرادهم ليشفى نفسه منهم لقتلهم أخاه فضالة، وذلك أن فضالة كان خرج قبل ذلك في ثمانية عشر نفسا حتى نزل ماء يقال له الشجرة من ارض الجبال، عليه أثلة عظيمة، وعليه عنزة، فلما رأته عنزه قال بعضهم لبعض: نقتلهم ثم نغدو بهم الى الأمير فنعطى ونحبى، فأجمعوا على ذلك فقالت بنو نصر أخواله: لعمر الله لا نساعدكم على قتل ولدنا فنهضت عنزة إليهم فقاتلوهم فقتلوهم، وأتوا برءوسهم عبد الملك بن مروان، فلذلك أنزلهم بانقيا، وفرض لهم، ولم تكن لهم فرائض قبل ذلك إلا قليلة، فقال سلامة بن سيار، أخو فضالة يذكر قتل أخيه وخذلان أخواله إياه: وما خلت أخوال الفتى يسلمونه ... لوقع السلاح قبل ما فعلت نصر قال: وكان خروج أخيه فضالة قبل خروج صالح بن مسرح وشبيب

فلما بايع سلامة شبيبا اشترط عليه هذا الشرط، فخرج في ثلاثين فارسا حتى انتهى إلى عنزة، فجعل يقتل المحلة منهم بعد المحلة حتى انتهى إلى فريق منهم فيهم خالته، وقد أكبت على ابن لها وهو غلام حين احتلم، فقالت وأخرجت ثديها إليه: أنشدك برحم هذا يا سلامة! فقال: لا والله، ما رأيت فضالة مذ أناخ بعمر الشجرة- يعني أخاه- لتقومن عنه، أو لأجمعن حافتك بالرمح، فقامت عن ابنها عند ذلك فقتله قال أبو مخنف: فحدثني المفضل بن بكر من بني تيم بن شيبان أن شبيبا أقبل في أصحابه نحو راذان، فلما سمعت به طائفه من بنى تيم ابن شيبان خرجوا هرابا منه، ومعهم ناس من غيرهم قليل، فأقبلوا حتى نزلوا دير خرزاد إلى جنب حولايا، وهم نحو من ثلاثة آلاف، وشبيب في نحو من سبعين رجلا أو يزيدون قليلا، فنزل بهم، فهابوه وتحصنوا منه. ثم إن شبيبا سرى في اثني عشر فارسا من أصحابه إلى أمه، وكانت في سفح ساتيدما نازلة في مظلة من مظال الأعراب: فقال: لآتين بأمي فلأجعلنها في عسكري فلا تفارقني أبدا حتى أموت أو تموت وخرج رجلان من بني تيم بن شيبان تخوفا على أنفسهما فنزلا من الدير، فلحقا بجماعه من قومهما وهم نزول بالحال منهم على مسيرة ساعة من النهار، وخرج شبيب، في أولئك الرهط في أولهم وهم اثنا عشر، يريد أمه بالسفح، فإذا هو بجماعة من بني تيم بن شيبان غارين في أموالهم مقيمين، لا يرون أن شبيبا يمر بهم لمكانهم الذي هم به، ولا يشعر بهم، فحمل عليهم في فرسانه تلك، فقتل منهم ثلاثين شيخا، فيهم حوثرة بن أسد ووبرة بن عاصم اللذان كانا نزلا من الدير، فلحقا بالجبال، ومضى شبيب إلى أمه فحملها من السفح، فأقبل بها، وأشرف رجل من أصحاب الدير من بكر بن وائل على أصحاب شبيب، وقد استخلف شبيب أخاه على أصحابه مصاد بن يزيد، ويقال لذلك الرجل الذي أشرف عليهم سلام بن حيان، فقال لهم: يا قوم، القرآن بيننا وبينكم، ألم تسمعوا قول الله: «وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ» ،

قالوا: بلى، قال لهم: فكفوا عنا حتى نصبح، ثم نخرج إليكم على أمان لنا منكم، لكيلا تعرضوا لنا بشيء نكرهه حتى تعرضوا علينا أمركم هذا، فإن نحن قبلناه حرمت عليكم أموالنا ودماؤنا، وكنا لكم إخوانا، وإن نحن لم نقبله رددتمونا إلى مأمننا، ثم رأيتم رأيكم فيما بيننا وبينكم، قالوا لهم: فهذا لكم فلما أصبحوا خرجوا إليهم، فعرض عليهم أصحاب شبيب قولهم، ووصفوا لهم أمرهم، فقبلوا ذلك كله، وخالطوهم، ونزلوا إليهم، فدخل بعضهم إلى بعض، وجاء شبيب وقد اصطلحوا، فأخبره أصحابه خبرهم، فقال: أصبتم ووفقتم وأحسنتم. ثم إن شبيبا ارتحل فخرجت معه طائفة وأقامت طائفة جانحة، وخرج يومئذ معه إبراهيم بن حجر المحلمي أبو الصقير كان مع بني تيم بن شيبان نازلا فيهم، ومضى شبيب في أداني أرض الموصل وتخوم أرض جوخى، ثم ارتفع نحو أذربيجان، وأقبل سفيان بن أبي العالية الخثعمي في خيل قد كان أمر أن يدخل بها طبرستان، فأمر بالقفول، فأقبل راجعا في نحو من ألف فارس، فصالح صاحب طبرستان. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ علقمه عن سفيان بن ابى العاليه الخثعمي إن كتاب الحجاج أتاه: أما بعد، فسر حتى تنزل الدسكرة فيمن معك، ثم أقم حتى يأتيك جيش الحارث بن عميرة الهمداني بن ذي المشعار، وهو الذي قتل صالح بن مسرح وخيل المناظر، ثم سر إلى شبيب حتى تناجزه فلما أتاه الكتاب أقبل حتى نزل الدسكرة، ونودي في جيش الحارث بن عميرة بالكوفة والمدائن: أن برئت الذمة من رجل من جيش الحارث بن عميرة لم يواف سفيان بن أبي العالية بالدسكرة. قال: فخرجوا حتى أتوه، وأتته خيل المناظر، وكانوا خمسمائة، عليهم سوره بن أبجر التميمي من بني أبان بن دارم، فوافوه إلا نحوا من خمسين رجلا تخلفوا عنه، وبعث إلى سفيان بن أبي العاليه الا تبرح العسكر حتى آتيك فعجل سفيان فارتحل في طلب شبيب، فلحقه بخانقين في سفح جبل على ميمنته خازم بن سفيان الخثعمي من بنى

عمرو بن شهران، وعلى ميسرته عدي بن عميرة الشيباني، وأصحر لهم شبيب، ثم ارتفع عنهم حتى كأنه يكره لقاءه، وقد أكمن له أخاه مصادا معه خمسون في هزم من الأرض. فلما رأوه جمع أصحابه ثم مضى في سفح الجبل مشرقا فقالوا: هرب عدو الله فاتبعوه، فقال لهم عدي بن عميرة الشيباني: أيها الناس، لا تعجلوا عليهم حتى نضرب في الأرض ونسير بها، فإن يكونوا قد أكمنوا لنا كمينا كنا قد حذرناه، وإلا فإن طلبهم لن يفوتنا فلم يسمع منه الناس، وأسرعوا في آثارهم فلما رأى شبيب أنهم قد جازوا الكمين عطف عليهم. ولما راى الكمين ان قد جاوزوهم خرجوا إليهم، فحمل عليهم شبيب من أمامهم، وصاح بهم الكمين من ورائهم، فلم يقاتلهم أحد، وكانت الهزيمة، فثبت ابن أبي العالية في نحو من مائتي رجل، فقاتلهم قتالا شديدا حسنا، حتى ظن أنه انتصف من شبيب وأصحابه فقال سويد بن سليم لأصحابه: أمنكم أحد يعرف أمير القوم ابن أبي العاليه؟ فو الله لئن عرفته لأجهدن نفسي في قتله، فقال شبيب: أنا من أعرف الناس به، أما ترى صاحب الفرس الأغر الذي دونه المرامية! فإنه ذلك، فإن كنت تريده فأمهله قليلا ثم قال: يا قعنب، اخرج في عشرين فأتهم من ورائهم، فخرج قعنب في عشرين فارتفع عليهم. فلما رأوه يريد أن يأتيهم من ورائهم جعلوا يتنقضون ويتسللون، وحمل سويد بن سليم على سفيان بن أبي العالية فطاعنه، فلم تصنع رمحاهما شيئا، ثم اضطربا بسيفيهما ثم اعتنق كل منهما صاحبه، فوقعا الى الارض يعتركان، ثم تحاجزوا وحمل عليهم شبيب فانكشفوا، وأتى سفيان غلام له يقال له غزوان، فنزل عن برذونه، وقال: اركب يا مولاي، فركب سفيان، وأحاط به أصحاب شبيب، فقاتل دونه غزوان فقتل، وكانت معه رايته وأقبل سفيان بن أبي العاليه حتى انتهى الى بابل مهروذ،

فنزل بها، وكتب إلى الحجاج: أما بعد، فإني أخبر الأمير أصلحه الله أني اتبعت هذه المارقة حتى لحقتهم بخانقين فقاتلتهم، فضرب الله وجوههم، ونصرنا عليهم، فبينا نحن كذلك إذ أتاهم قوم كانوا غيبا عنهم، فحملوا على الناس فهزموهم، فنزلت في رجال من أهل الدين والصبر فقاتلتهم، حتى خررت بين القتلى، فحملت مرتثا، فاتى بي بابل مهروذ، فها انا بها والجند الذين وجههم إلي الأمير وافوا إلا سورة بن أبجر فإنه لم يأتني ولم يشهد معي حتى إذا ما نزلت بابل مهروذ أتاني يقول ما لا أعرف، ويعتذر بغير العذر والسلام فلما قرأ الحجاج الكتاب قال: من صنع كما صنع هذا، وأبلى كما أبلى فقد أحسن ثم كتب إليه: أما بعد، فقد أحسنت البلاء، وقضيت الذي عليك، فإذا خف عنك الوجع فأقبل مأجورا إلى أهلك والسلام. وكتب إلى سورة بن أبجر: أما بعد فيابن أم سورة، ما كنت خليقا أن تجترئ على ترك عهدي وخذلان جندي، فإذا أتاك كتابي فابعث رجلا ممن معك صليبا إلى الخيل التي بالمدائن، فلينتخب منهم خمسمائة رجل، ثم ليقدم بهم عليك، ثم سر بهم حتى تلقى هذه المارقة، واحزم في أمرك، وكد عدوك، فإن أفضل أمر الحرب حسن المكيدة والسلام. فلما أتى سورة كتاب الحجاج بعث عدي بن عميرة إلى المدائن، وكان بها الف فارس، فانتخب منهم خمسمائة، ثم دخل على عبد الله بن أبي عصيفير- وهو أمير المدائن في إمارته الأولى- فسلم عليه، فأجازه بألف درهم، وحمله على فرس، وكساه أثوابا ثم إنه خرج من عنده، فأقبل بأصحابه حتى قدم بهم على سورة بن أبجر ببابل مهروذ، فخرج في طلب شبيب، وشبيب

يجول في جوخى وسورة في طلبه، فجاء شبيب حتى انتهى إلى المدائن، فتحصن منه أهل المدائن وتحرزوا، ووهى أبنية المدائن الأولى، فدخل المدائن، فأصاب بها دواب جند كثيرة، فقتل من ظهر له ولم يدخلوا البيوت، فأتي فقيل له: هذا سورة بن أبجر قد أقبل إليك، فخرج في أصحابه حتى انتهى إلى النهروان، فنزلوا به وتوضئوا وصلوا، ثم أتوا مصارع إخوانهم الذين قتلهم علي بن ابى طالب ع، فاستغفروا لإخوانهم، وتبرءوا من علي وأصحابه، وبكوا فأطالوا البكاء، ثم خرجوا فقطعوا جسر النهروان، فنزلوا من جانبه الشرقي، وجاء سورة حتى نزل بقطراثا، وجاءته عيونه فأخبرته بمنزل شبيب بالنهروان، فدعا رءوس أصحابه فقال: إنهم قلما يلقون مصحرين أو على ظهر إلا انتصفوا منكم، وظهروا عليكم، وقد حدثت أنهم لا يزيدون على مائه رجل الا قليلا، وقد رايت ان انتخبكم فاسير في ثلاثمائة رجل منكم من أقويائكم وشجعانكم فآتيهم الآن إذ هم آمنون لبياتكم، فو الله إني لأرجو أن يصرعهم الله مصارع إخوانهم الذين صرعوا منهم بالنهروان من قبل فقالوا: اصنع ما أحببت فاستعمل على عسكره حازم بن قدامه الخثعمى، وانتخب من اصحابه ثلاثمائه رجل من أهل القوة والجلد والشجاعة، ثم أقبل بهم نحو النهروان، وبات شبيب وقد أذكى الحرس، فلما دنا أصحاب سورة منهم نذروا بهم، فاستووا على خيولهم وتعبوا تعبيتهم. فلما انتهى إليهم سورة وأصحابه أصابوهم قد حذروا واستعدوا، فحمل عليهم سورة وأصحابه فثبتوا لهم، وضاربوهم حتى صد عنهم سورة وأصحابه، ثم صاح شبيب بأصحابه، فحمل عليهم حتى تركوا له العرصة، وحملوا عليهم معه، وجعل شبيب يضرب ويقول: من ينك العير ينك نيّاكا ... جندلتان اصطكتا اصطكاكا فرجع سورة إلى عسكره وقد هزم الفرسان وأهل القوة، فتحمل بهم حتى أقبل بهم نحو المدائن، فدفع إليهم وقد تحمل وتعدى الطريق الذي

فيه شبيب، واتبعه شبيب وهو يرجو أن يلحقه فيصيب عسكره، ويصيب بهزيمته أهل العسكر، فأغذ السير في طلبهم، فانتهوا إلى المدائن فدخلوها، وجاء شبيب حتى انتهى إلى بيوت المدائن، فدفع إليهم وقد دخل الناس، وخرج ابن أبي عصيفير في أهل المدائن، فرماهم الناس بالنبل، ورموا من فوق البيوت بالحجارة، فارتفع شبيب بأصحابه عن المدائن، فمر على كلواذا فأصاب بها دواب كثيرة للحجاج فأخذها، ثم خرج يسير في أرض جوخى، ثم مضى نحو تكريت، فبينا ذلك الجند في المدائن إذ أرجف الناس بينهم، فقالوا: هذا شبيب قد دنا، وهو يريد أن يبيت أهل المدائن الليلة، فارتحل عامة الجند فلحقوا بالكوفة. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ علقمة الخثعمي، قال: والله لقد هربوا من المدائن وقالوا: نبيت الليلة، وإن شبيبا لبتكبريت، قال: ولما قدم الفل على الحجاج سرح الجزل بن سعيد بن شرحبيل بن عمرو الكندي. قال أبو مخنف: حدثنا النضر بن صالح العبسي وفضيل بن خديج الكندي أن الحجاج لما أتاه الفل قال: قبح الله سورة! ضيع العسكر والجند، وخرج يبيت الخوارج، أما والله لأسوأنه، وكان بعد قد حبسه ثم عفا عنه. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي فضيل بن خديج أن الحجاج دعا الجزل- وهو عثمان بن سعيد- فقال له: تيسر للخروج إلى هذه المارقة، فإذا لقيتهم فلا تعجل عجلة الخرق، ولا تحجم إحجام الواني الفرق، هل فهمت؟ لله أنت يا أخا بني عمرو بن معاوية! فقال: نعم أصلح الله الأمير قد فهمت، قال له: فاخرج فعسكر بدير عبد الرحمن حتى يخرج إليك الناس، فقال: أصلح الله الأمير! لا تبعثن معي أحدا من أهل هذا الجند المفلول المهزوم، فإن الرعب قد دخل قلوبهم، وقد خشيت الا ينفعك والمسلمين منهم أحد، قال له: فإن ذلك لك، ولا أراك إلا قد أحسنت الرأي ووفقت ثم دعا أصحاب الدواوين فقال: اضربوا على

الناس البعث، فأخرجوا أربعة آلاف من الناس، من كل ربع الف رجل، وعجلوا ذلك، فجمعت العرفاء، وجلس أصحاب الدواوين، وضربوا البعث فأخرجوا أربعة آلاف فأمرهم بالعسكر فعسكروا، ثم نودي فيهم بالرحيل، ثم ارتحلوا ونادى منادي الحجاج: أن برئت الذمة من رجل أصبناه من هذا البعث متخلفا، قال: فمضى الجزل بن سعيد، وقد قدم بين يديه عياض بن أبي لينة الكندي على مقدمته، فخرج حتى أتى المدائن، فأقام بها ثلاثا، وبعث إليه ابن أبي عصيفير بفرس وبرذون وبغلين وألفي درهم، ووضع للناس من الجزر والعلف ما كفاهم ثلاثة أيام حتى ارتحلوا، فأصاب الناس ما شاءوا من تلك الجزر والعلف الذي وضع لهم ابن أبي عصيفير ثم إن الجزل بن سعيد خرج بالناس في أثر شبيب، فطلبه في أرض جوخى، فجعل شبيب يريه الهيبة، فيخرج من رستاق إلى رستاق، ومن طسوج إلى طسوج، ولا يقيم له إرادة أن يفرق الجزل أصحابه، ويتعجل إليه فيلقاه في يسير من الناس على غير تعبئة فعجل الجزل لا يسير الا على تعبئة، ولا ينزل إلا خندق على نفسه خندقا، فلما طال ذلك على شبيب أمر أصحابه ذات ليلة فسروا. قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط أن شبيبا دعانا ونحن بدير بيرما ستون ومائة رجل، فجعل على كل أربعين من أصحابه رجلا، وهو في أربعين، وجعل أخاه مصادا في أربعين، وبعث سويد بن سليم في أربعين، وبعث المحلل بن وائل في أربعين، وقد أتته عيونه فأخبرته أن الجزل بن سعيد قد نزل دير يزدجرد، قال: فدعانا عند ذلك فعبانا هذه التعبئة، وأمرنا فعلقنا على دوابنا، وقال لنا: تيسروا فإذا قضمت دوابكم فاركبوا، وليسر كل امرئ منكم مع أميره الذي أمرناه عليه، ولينظر كل امرئ منكم ما يأمره أميره فليتبعه ودعا أمراءنا فقال لهم: إني أريد أن أبيت هذا العسكر الليلة، ثم قال لأخيه مصاد: ايتهم فارتفع من فوقهم حتى تأتيهم من ورائهم من قبل حلوان، وسآتيهم أنا من أمامي من قبل الكوفة، وأتهم أنت يا سويد من قبل المشرق، وأتهم أنت يا محلل من قبل المغرب، وليلج

كل امرئ منكم على الجانب الذي يحمل عليه، ولا تقلعوا عنهم، تحملون وتكرون عليهم، وتصيحون بهم حتى يأتيكم أمري فلم نزل على تلك التعبئة، وكنت أنا في الأربعين الذين كانوا معه، حتى إذا قضمت دوابنا- وذلك أول الليل أول ما هدأت العيون- خرجنا حتى انتهينا الى دير الخراره، فإذا للقوم مسلحة، عليهم عياض بن أبي لينة، فما هو إلا أن انتهينا إليهم، فحمل عليهم مصاد أخو شبيب في أربعين رجلا، وكان أمام شبيب، وقد كان أراد أن يسبق شبيبا حتى يرتفع عليهم ويأتيهم من ورائهم كما أمره، فلما لقي هؤلاء قاتلهم فصبروا ساعة، وقاتلوهم ثم إنا دفعنا إليهم جميعا، فحملنا عليهم فهزمناهم، وأخذوا الطريق الأعظم، وليس بينهم وبين عسكرهم بدير يزدجرد إلا قريب من ميل. فقال لنا شبيب: اركبوا معاشر المسلمين أكتافهم حتى تدخلوا معهم عسكرهم إن استطعتم، فأتبعناهم والله ملظين بهم، ملحين عليهم، ما نرفه عنهم وهم منهزمون، ما لهم همة إلا عسكرهم، فانتهوا إلى عسكرهم، ومنعهم أصحابهم أن يدخلوا عليهم، ورشقونا بالنبل، وكانت عيون لهم قد أتتهم فأخبرتهم بمكاننا، وكان الجزل قد خندق عليه، وتحرز ووضع هذه المسلحة الذين لقيناهم بدير الخرارة، ووضع مسلحة أخرى مما يلي حلوان على الطريق، فلما أن دفعنا إلى هذه المسلحة التي كانت بدير الخرارة فألحقناهم بعسكر جماعتهم ورجعت المسالح الأخر حتى اجتمعت، ومنعها أهل العسكر دخول العسكر وقالوا لهم: قاتلوا، وانضحوا عنكم بالنبل قال أبو مخنف: وحدثني جرير بن الحسين الكندي، قال: كان على المسلحتين الأخريين عاصم بن حجر على التي تلي حلوان، وواصل ابن الحارث السكوني على الأخرى فلما أن اجتمعت المسالح جعل شبيب يحمل عليها حتى اضطرها إلى الخندق، ورشقهم أهل العسكر بالنبل حتى ردوهم عنهم فلما رأى شبيب أنه لا يصل إليهم قال لأصحابه سيروا ودعوهم، فمضى على الطريق نحو حلوان حتى إذا كان قريبا

من موضع قباب حسين بن زفر من بني بدر بن فزارة- وإنما كانت قباب حسين بن زفر بعد ذلك- قال: لأصحابه: انزلوا فأقضموا وأصلحوا نبلكم وتروحوا وصلوا ركعتين، ثم اركبوا، فنزلوا ففعلوا ذلك ثم إنه أقبل بهم راجعا إلى عسكر أهل الكوفة أيضا، وقال: سيروا على تعبيتكم التي عبأتكم عليها بدير بيرما أول الليل، ثم أطيفوا بعسكرهم كما أمرتكم، فأقبلوا قال: فأقبلنا معه وقد أدخل أهل العسكر مسالحهم إليهم، وقد أمنونا فما شعروا حتى سمعوا وقع حوافر خيولنا قريبا منهم، فانتهينا إليهم قبيل الصبح فأحطنا بعسكرهم، ثم صيحنا بهم من كل جانب، فإذا هم يقاتلوننا من كل جانب، ويرموننا بالنبل ثم إن شبيبا بعث إلى أخيه مصاد وهو يقاتلهم من نحو الكوفة أن أقبل إلينا وخل لهم سبيل الطريق الى الكوفه فاقبل اليه، وترك ذلك الوجه، وجعلنا نقاتلهم من تلك الوجوه الثلاثة حتى أصبحنا، فأصبحنا ولم تستفل منهم شيئا، فسرنا وتركناهم فجعلوا يصيحون بنا: أين يا كلاب النار! أين أيتها العصابة المارقة! أصبحوا نخرج إليكم، فارتفعنا عنهم نحوا من ميل ونصف، ثم نزلنا فصلينا الغداة، ثم أخذنا الطريق على براز الروذ، ثم مضينا إلى جرجرايا وما يليها، فأقبلوا في طلبنا. قال أبو مخنف: فحدثني مولى لنا يدعى غاضرة أو قيصر، قال: كنت مع الناس تاجرا وهم في طلب الحرورية وعلينا الجزل بن سعيد، فجعل يتبعهم فلا يسير الا على تعبئة، ولا ينزل إلا على خندق، وكان شبيب يدعه ويضرب في ارض جوخى وغيرها يكسر الخراج، وطال ذلك على الحجاج، فكتب إليه كتابا، فقرئ على الناس: أما بعد، فإني بعثتك في فرسان أهل المصر ووجوه الناس، وأمرتك باتباع هذه المارقة الضالة المضلة حتى تلقاها، فلا تقلع عنها حتى تقتلها وتفنيها، فوجدت التعريس في القرى والتخييم في الخنادق أهون عليك من المضي لما أمرتك به من مناهضتهم ومناجزتهم والسلام. فقرئ الكتاب علينا ونحن بقطراثا ودير أبي مريم، فشق ذلك على

الجزل، وأمر الناس بالسير، فخرجوا في طلب الخوارج جادين، وأرجفنا بأميرنا وقلنا: يعزل. قال أبو مخنف: فحدثني إسماعيل بن نعيم الهمداني ثم البرسمي أن الحجاج بعث سعيد بن المجالد على ذلك الجيش، وعهد إليه إن لقيت المارقة فازحف إليهم ولا تناظرهم ولا تطاولهم وواقفهم واستعن بالله عليهم، ولا تصنع صنيع الجزل، واطلبهم طلب السبع، وحد عنهم حيدان الضبع واقبل بجزل في طلب شبيب حتى انتهوا إلى النهروان فأدركوه فلزم عسكره، وخندق عليه وجاء إليه سعيد بن المجالد حتى دخل عسكر أهل الكوفة أميرا، فقام فيهم خطيبا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: يَا أهل الكوفة، إنكم قد عجزتم ووهنتم وأغضبتم عليكم أميركم. أنتم في طلب هذه الأعاريب العجف منذ شهرين، وهم قد خربوا بلادكم، وكسروا خراجكم، وأنتم حاذرون في جوف هذه الخنادق لا تزايلونها إلا أن يبلغكم أنهم قد ارتحلوا عنكم، ونزلوا بلدا سوى بلدكم، فاخرجوا على اسم الله إليهم. فخرج وأخرج الناس معه، وجمع إليه خيول أهل العسكر، فقال له الجزل: ما تريد أن تصنع؟ قال: أريد أن أقدم على شبيب في هذه الخيل، فقال له الجزل: أقم أنت في جماعه الجيش، فارسهم وراجلهم، واصحر له، فو الله ليقدمن عليك، فلا تفرق أصحابك، فإن ذلك شر لهم وخير لك فقال له: قف أنت في الصف، فقال: يا سعيد بن مجالد، ليس لي فيما صنعت رأي، أنا بريء من رأيك هذا، سمع الله ومن حضر من المسلمين فقال: هو رأيي إن اصبت، فالله وفقني له، وإن يكن غير صواب فأنتم منه برآء، قال: فوقف الجزل في صف أهل الكوفة وقد أخرجهم من الخندق، وجعل على ميمنتهم عياض بن أبي لينة الكندي، وعلى ميسرتهم عبد الرحمن بن عوف أبا حميد الرواسي، ووقف الجزل في جماعتهم

واستقدم سعيد بن مجالد، فخرج وأخرج الناس معه، وقد أخذ شبيب إلى براز الروز، فنزل قطيطيا، وأمر دهقانها أن يشتري لهم ما يصلحهم، ويتخذ لهم غداء، ففعل، ودخل مدينة قطيطيا وأمر بالباب فأغلق، فلم يفرغ من الغداء حتى أتاه سعيد بن مجالد في أهل ذلك. العسكر، فصعد الدهقان السور فنظر إلى الجند مقبلين قد دنوا من حصنه، فنزل وقد تغير لونه، فقال له شبيب: ما لي أراك متغير اللون! فقال له الدهقان: قد جاءتك الجنود من كل ناحية، قال: لا بأس، هل أدرك غداؤنا؟ قال: نعم، قال: فقربه، وقد أغلق الباب، وأتي بالغداء، فتغدى وتوضأ وصلى ركعتين، ثم دعا ببغل له فركبه. ثم إنهم اجتمعوا على باب المدينة، فأمر بالباب ففتح، ثم خرج على بغله فحمل عليهم وقال: لا حكم إلا للحكم الحكيم، أنا أبو مدله، اثبتوا إن شئتم وجعل سعيد يجمع قومه وخيله، ويزلفها في أثره، ويقول: ما هؤلاء! إنما هم أكلة رأس، فلما رآهم شبيب قد تقطعوا وانتشروا لف خيله كلها، ثم جمعها، ثم قال: استعرضوهم استعراضا، وانظروا الى أميرهم، فو الله لأقتلنه أو يقتلني وحمل عليهم مستعرضا لهم، فهزمهم وثبت سعيد بن المجالد، ثم نادى أصحابه: إلي إلي، أنا ابن ذي مران! وأخذ قلنسوته فوضعها على قربوس سرجه، وحمل عليه شبيب فعممه السيف، فخالط دماغه، فخر ميتا، وانهزم ذلك الجيش، وقتلوا كل قتلة، حتى انتهوا إلى الجزل، ونزل الجزل ونادى: أيها الناس، إلي. وناداهم عياض بن أبي لينة: أيها الناس، إن كان أميركم القادم قد هلك فأميركم الميمون النقيبة المبارك حي لم يمت، فقاتل الجزل قتالا شديدا حتى حمل من بين القتلى، فحمل إلى المدائن مرتثا، وقدم فل أهل ذلك العسكر الكوفة، وكان من أشد الناس بلاء يومئذ خالد بن

نهيك من بني ذهل بن معاوية وعياض بن أبي لينة، حتى استنقذاه وهو مرتث هذا حديث طائفة من الناس، والحديث الآخر قتالهم فيما بين دير أبي مريم إلى براز الروز ثم إن الجزل كتب إلى الحجاج. قال: وأقبل شبيب حتى قطع دجلة عند الكرخ، وبعث إلى سوق بغداد فآمنهم، وذلك اليوم يوم سوقهم، وكان بلغه أنهم يخافونه، فأحب أن يؤمنهم، وكان أصحابه يريدون أن يشتروا من السوق دواب وثيابا وأشياء ليس لهم منها بد، ثم أخذ بهم نحو الكوفة، وساروا أول الليل حتى نزلوا عقر الملك الذي يلي قصر ابن هبيرة ثم أغذ السير من الغد، فبات بين حمام عمر بن سعد وبين قبين فلما بلغ الحجاج مكانه بعث إلى سويد بن عبد الرحمن السعدي، فبعثه في ألفي فارس نقاوة، وقال له: اخرج إلى شبيب فالقه، واجعل ميمنة وميسرة، ثم انزل إليه في الرجال فإن استطرد ذلك فدعه ولا تتبعه فخرج فعسكر بالسبخة، فبلغه أن شبيبا قد أقبل، فأقبل نحوه وكأنما يساقون الى الموت، وامر الحجاج عثمان ابن قطن فعسكر بالناس بالسبخة، ونادى: ألا برئت الذمة من رجل من هذا الجند بات الليلة بالكوفة لم يخرج إلى عثمان بن قطن بالسبخة! وأمر سويد بن عبد الرحمن أن يسير في الألفين اللذين معه حتى يلقى شبيبا فعبر بأصحابه إلى زرارة وهو يعبئهم ويحرضهم إذ قيل له: قد غشيك شبيب، فنزل ونزل معه جل أصحابه، وقدم رايته ومضى إلى أقصى زرارة، فأخبر أن شبيبا قد أخبر بمكانك فتركك، ووجد مخاضة فعبر الفرات وهو يريد الكوفة من غير الوجه الذي أنت به ثم قيل له: أما تراهم! فنادى: في أصحابه، فركبوا في آثارهم. وإن شبيبا أتى دار الرزق، فنزلها، فقيل: إن أهل الكوفة بأجمعهم معسكرون بالسبخة، فلما بلغهم مكان شبيب صاح بعضهم ببعض

وجالوا، وهموا ان يدخلوا الكوفه حتى قيل لهم: إن سويد بن عبد الرحمن في آثارهم قد لحقهم وهو يقاتلهم في الخيل. قال هشام: وأخبرني عمر بن بشير، قال: لما نزل شبيب الدير أمر بغنم تهيأ له، فصعد الدهقان، ثم نزل وقد تغير لونه، فقال: مالك! قال: قد والله جاءك جمع كثير، قال: أبلغ الشواء بعد؟ قال: لا، قال: دعه. قال: ثم أشرف إشرافة أخرى، فقال: قد والله أحاطوا بالجوسق، قال: هات شواءك، فجعل يأكل غير مكترث لهم، فلما فرغ توضأ وصلى بأصحابه الأولى، ثم تقلد سيفين بعد ما لبس درعه، وأخذ عمود حديد ثم قال: أسرجوا لي البغلة، فقال أخوه مصاد: أفي هذا اليوم تسرج بغلة! قال: نعم أسرجوها، فركبها، ثم قال: يا فلان، أنت على الميمنة وأنت يا فلان على الميسرة، وقال لمصاد: أنت في القلب، وأمر الدهقان ففتح الباب في وجوههم قال: فخرج اليهم وهو يحكم، فجعل سعيد وأصحابه يرجعون القهقرى حتى صار بينهم وبين الدير نحو من ميل. قال: وجعل سعيد يقول: يا معشر همدان، أنا ابن ذي مران، إلي إلي ووجه سربا مع ابنه وقد أحس أنها تكون عليه، فننظر شبيب إلى. مصاد فقال: أثكلنيك الله إن لم أثكله ولده قال: ثم علاه بالعمود، فسقط ميتا، وانهزم أصحابه وما قتل بينهم يومئذ إلا قتيل واحد قال: وانكشف أصحاب سعيد بن مجالد حتى أتوا الجزل، فناداهم الجزل: أيها الناس، إلي إلي وناداهم عياض بن أبي لينة: أيها الناس، إن يكن أميركم هذا القادم قد هلك فهذا أميركم الميمون النقيبة، أقبلوا إليه، وقاتلوا معه، فمنهم من أقبل إليه، ومنهم من ركب رأسه منهزما، وقاتل الجزل قتالا شديدا حتى صرع، وقاتل عنه خالد بن نهيك وعياض ابن أبي لينة حتى استنقذاه وهو مرتث، وأقبل الناس منهزمين حتى دخلوا الكوفة، فأتي بالجزل حتى أدخل المدائن، وكتب إلى الحجاج بن يوسف. قال أبو مخنف: حدثني بذلك ثابت مولى زهير:

أما بعد، فإني أخبر الأمير أصلحه الله أني خرجت فيمن قبلي من الجند الذي وجهني إلى عدوه، وقد كنت حفظت عهد الأمير إلي فيهم ورأيه، فكنت أخرج إليهم إذا رأيت الفرصة، وأحبس الناس عنهم إذا خشيت الورطة، فلم أزل كذلك، ولقد أرادني العدو بكل ريده فلم يصب مني غرة، حتى قدم علي سعيد بن مجالد رحمة الله عليه، ولقد امرته بالتؤده، ونهيته عن العجله، وامرته الا يقاتلهم إلا في جماعة الناس عامة فعصاني، وتعجل إليهم في الخيل، فأشهدت عليه أهل المصرين أني بريء من رأيه الذي رأى، وأني لا أهوى ما صنع فمضى فأصيب تجاوز الله عنه، ودفع الناس إلي، فنزلت ودعوتهم إلي، ورفعت لهم رايتي، وقاتلت حتى صرعت، فحملني أصحابي من بين القتلى، فما أفقت إلا وأنا على أيديهم على رأس ميل من المعركة، فأنا اليوم بالمدائن في جراحة قد يموت الرجل من دونها ويعافى من مثلها فليسأل الأمير أصلحه الله عن نصيحتي له ولجنده، وعن مكايدتي عدوه، وعن موقفي يوم البأس، فإنه يستبين له عند ذلك أني قد صدقته ونصحت له والسلام. فكتب إليه الحجاج: أما بعد، فقد أتاني كتابك وقرأته، وفهمت كل ما ذكرت فيه، وقد صدقتك في كل ما وصفت به نفسك من نصيحتك لأميرك، وحيطتك على أهل مصرك، وشدتك على عدوك، وقد فهمت ما ذكرت من أمر سعيد وعجلته إلى عدوه، فقد رضيت عجلته وتؤدتك، فأما عجلته فإنها أفضت به إلى الجنة، وأما تؤدتك فإنها لم تدع الفرصة إذا أمكنت، وترك الفرصة إذا لم تمكن حزم، وقد أصبت وأحسنت البلاء، وأجرت، وأنت عندي من أهل السمع والطاعة والنصيحه، وقد اشخصت إليك حيان

ابن أبجر ليداويك ويعالج جراحتك، وبعثت إليك بألفي درهم فأنفقها في حاجتك وما ينوبك والسلام. فقدم عليه حيان بن أبجر الكناني من بني فراس- وهم يعالجون الكي وغيره- فكان يداويه، وبعث إليه عبد الله بن أبي عصيفير بألف درهم، وكان يعوده ويتعاهده باللطف والهدية قال: وأقبل شبيب نحو المدائن، فعلم أنه لا سبيل له إلى أهلها مع المدينة، فأقبل حتى انتهى إلى الكرخ، فعبر دجلة إليه، وبعث إلى أهل سوق بغداد وهو بالكرخ أن اثبتوا في سوقكم فلا بأس عليكم- وكان ذلك يوم سوقهم- وقد كان بلغه أنهم يخافونه قال: ويخرج سويد حتى جعل بيوت مزينة وبني سليم في ظهره وظهور أصحابه، وحمل عليهم شبيب حملة منكرة، وذلك عند المساء، فلم يقدر منهم على شيء، فأخذ على بيوت الكوفة نحو الحيرة، وأتبعه سويد لا يفارقه حتى قطع بيوت الكوفة كلها إلى الحيرة، وأتبعه سويد حتى انتهى إلى الحيرة، فيجده قد قطع قنطرة الحيرة ذاهبا، فتركه وأقام حتى أصبح، وبعث إليه الحجاج أن أتبعه فأتبعه، ومضى شبيب حتى أغار في أسفل الفرات على من وجد من قومه، وارتفع في البر من وراء خفان في أرض يقال لها الغلظة، فيصيب رجالا من بني الورثة، فحمل عليهم، فاضطرهم إلى جدد من الأرض، فجعلوا يرمونه واصحابه بالحجارة من حجارة الأرحاء كانت حولههم، فلما نفدت وصل إليهم فقتل منهم ثلاثة عشر رجلا، منهم حنظلة بن مالك ومالك بن حنظلة وحمران بن مالك، كلهم من بني الورثة. قال أبو مخنف: حدثني بذلك عطاء بن عرفجة بن زياد بن عبد الله الورثي ومضى شبيب حتى يأتي بني أبيه على اللصف ماء لرهطه وعلى ذلك الماء الفزر بن الأسود، وهو أحد بني الصلت، وهو الذي كان ينهى شبيبا عن رأيه، وأن يفسد بني عمه وقومه، فكان شبيب يقول: والله لئن ملكت سبعة أعنة لأغزون الفزر فلما غشيهم شبيب

في الخيل سأل عن الفزر فاتقاه الفزر، فخرج على فرس لا تجارى من وراء البيوت، فذهب عليها في الأرض، وهرب منه الرجال، ورجع وقد أخاف أهل البادية حتى أخذ على القطقطانة، ثم على قصر مقاتل، ثم أخذ على شاطئ الفرات حتى أخذ على الحصاصة، ثم على الأنبار، ثم مضى حتى دخل دقوقاء، ثم ارتفع إلى أداني أذربيجان فتركه الحجاج وخرج إلى البصرة، واستخلف على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة، فما شعر الناس بشيء حتى جاء كتاب من ماذرواسب دهقان بابل مهروذ وعظيمها إلى عروة بن المغيرة بن شعبة أن تاجرا من تجار الأنبار من أهل بلادي أتاني فذكر أن شبيبا يريد أن يدخل الكوفة في أول هذا الشهر المستقبل، أحببت إعلامك ذلك لترى رأيك، ثم لم ألبث إلا ساعة حتى جاءني جابيان من جباتي فحدثاني أنه قد نزل خانيجار فأخذ عروة كتابه فأدرجه وسرح به إلى الحجاج بالبصرة، فلما قرأه الحجاج أقبل جوادا إلى الكوفة، وأقبل شبيب يسير حتى انتهى إلى قرية يقال لها حربى على شاطئ دجلة فعبر منها، فقال: ما اسم هذه القرية؟ فقالوا: حربى، فقال: حرب يصلى بها عدوكم، وحرب تدخلونه بيوتهم، إنما يتطير من يقوف ويعيف، ثم ضرب رايته وقال لأصحابه: سيروا، فأقبل حتى نزل عقرقوفا، فقال له سويد بن سليم: يا أمير المؤمنين، لو تحولت بنا من هذه القرية المشئومة الاسم، قال. وقد تطيرت أيضا! والله لا أتحول عنها حتى أسير إلى عدوي منها، إنما شؤمها إن شاء الله على عدوكم تحملون عليهم فيها، فالعقر لهم ثم قال لأصحابه: يا هؤلاء، إن الحجاج ليس بالكوفة، وليس دون الكوفة إن شاء الله شيء، فسيروا بنا فخرج يبادر الحجاج إلى الكوفة، وكتب عروة إلى الحجاج أن شبيبا قد أقبل مسرعا يريد الكوفة، فالعجل العجل فطوى الحجاج المنازل، واستبقا إلى الكوفة، ونزلها الحجاج صلاة الظهر، ونزل شبيب السبخة صلاة المغرب، فصلى المغرب والعشاء، ثم أصاب هو وأصحابه من الطعام شيئا يسيرا، ثم ركبوا خيولهم فدخلوا الكوفة، فجاء شبيب حتى انتهى إلى السوق، ثم شد حتى ضرب باب القصر بعموده

قال أبو المنذر: رأيت ضربة شبيب بباب القصر قد أثرت أثرا عظيما، ثم أقبل حتى وقف عند المصطبة، ثم قال: وكأن حافرها بكل خميلة ... كيل يكيل به شحيح معدم عبد دعى من ثمو أصله ... لا بل يقال أبو أبيهم يقدم ثم اقتحموا المسجد الأعظم وكان كبيرا لا يفارقه قوم يصلون فيه، فقتل عقيل بن مصعب الوادعى وعدي بن عمرو الثقفي وأبا ليث بن أبي سليم مولى عنبسة بن أبي سفيان، وقتلوا أزهر بن عبد الله العامري، ومروا بدار حوشب وهو على الشرط فوقفوا على بابه وقالوا: إن الأمير يدعو حوشبا، فأخرج ميمون غلامه برذون حوشب ليركبه حوشب، فكأنه أنكرهم فظنوا أنه قد اتهمهم، فأراد أن يدخل، فقالوا له: كما أنت، حتى يخرج صاحبك فسمع حوشب الكلام، فأنكر القوم، فخرج إليهم، فلما رأى جماعتهم أنكرهم، وذهب لينصرف، فعجلوا نحوه، ودخل وأغلق الباب، وقتلوا غلامه ميمونا، وأخذوا برذونه ومضوا حتى مروا بالجحاف ابن نبيط الشيباني من رهط حوشب، فقال له سويد: انزل إلينا، فقال له: ما تصنع بنزولي! قال له سويد: أقضيك ثمن البكرة التي كنت ابتعت منك بالبادية، فقال له الجحاف: بئس ساعة القضاء هذه الساعة، وبئس قضاء الدين هذا المكان! أما ذكرت أمانتك إلا والليل مظلم، وأنت على ظهر فرسك! قبح الله يا سويد دينا لا يصلح ولا يتم إلا بقتل ذوي القرابة وسفك دماء هذه الأمة. قال: ثم مضوا فمروا بمسجد بني ذهل فلقوا ذهل بن الحارث، وكان يصلي في مسجد قومه فيطيل الصلاة، فصادفوه منصرفا إلى منزله، فشدوا عليه ليقتلوه، فقال: اللهم إني أشكو إليك هؤلاء وظلمهم وجهلهم. اللهم إني عنهم ضعيف، فانتصر لي منهم! فضربوه حتى قتلوه، ثم مضوا حتى خرجوا من الكوفة متوجهين نحو المردمة

قال هشام: قال أبو بكر بن عياش: واستقبله النضر بن قعقاع ابن شور الذهلي، وأمه ناجية بنت هانئ بن قبيصة بن هانئ الشيباني فأبطره حين نظر إليه- قال: يعني بقوله: أبطره أفزعه- فقال: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله، قال له سويد مبادرا: أمير المؤمنين، ويلك! فقال: أمير المؤمنين حتى خرجوا من الكوفة متوجهين نحو المردمة، وأمر الحجاج المنادي فنادى: يا خيل الله اركبي وأبشري، وهو فوق باب القصر، وثم مصباح مع غلام له قائم، فكان أول من جاء إليه من الناس عثمان بن قطن بن عبد الله بن الحصين ذي الغصة، ومعه مواليه، وناس من أهله، فقال: أنا عثمان بن قطن، أعلموا الأمير مكاني فليأمر بأمره، فقال له ذلك الغلام: قف مكانك حتى يأتيك أمر الأمير، وجاء الناس من كل جانب، وبات عثمان فيمن اجتمع إليه من الناس حتى أصبح. ثم ان الحجاج بعث بسر بن غالب الأسدي من بني والبة في ألفي رجل، وزائدة بن قدامة الثقفي في ألفي رجل، وأبا الضريس مولى بني تميم في ألف من الموالي، وأعين- صاحب حمام أعين مولى بشر بن مروان- في ألف رجل، وكان عبد الملك بن مروان قد بعث مُحَمَّد بن موسى بن طلحة على سجستان، وكتب له عليها عهده، وكتب إلى الحجاج: أما بعد، فإذا قدم عليك مُحَمَّد بن موسى فجهز معه ألفي رجل إلى سجستان، وعجل سراحه وأمر عبد الملك مُحَمَّد بن موسى بمكاتبة الحجاج، فلما قدم مُحَمَّد ابن موسى جعل يتحبس في الجهاز، فقال له نصحاؤه: تعجل أيها الأمير إلى عملك، فإنك لا تدري ما يكون من أمر الحجاج! وما يبدو له فأقام على حاله، وحدث من أمر شبيب ما حدث، فقال الحجاج لمحمد ابن موسى بن طلحة بن عبيد الله: تلقى شبيبا وهذه الخارجة فتجاهدهم ثم تمضي إلى عملك، وبعث الحجاج مع هؤلاء الأمراء أيضا عبد الأعلى بن

عبد الله بن عامر بن كريز القرشي وزياد بن عمرو العتكي، وخرج شبيب حيث خرج من الكوفة، فأتى المردمة وبها رجل من حضرموت على العشور يقال له ناجية بن مرثد الحضرمي، فدخل الحمام ودخل عليه شبيب فاستخرجه فضرب عنقه، واستقبل شبيب النضر بن القعقاع بن شور- وكان مع الحجاج حين أقبل من البصرة، فلما طوى الحجاج المنازل خلفه وراءه- فلما رآه شبيب ومعه أصحابه عرفه، فقال له شبيب: يا نضر بن القعقاع، لا حكم إِلَّا لِلَّهِ*- وإنما أراد شبيب بمقالته له تلقينه، فلم يفهم النضر- فقال: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» ، فقال أصحاب شبيب: يا أمير المؤمنين، كأنك إنما تريد بمقالتك أن تلقنه فشدوا على نضر فقتلوه. قال: واجتمعت تلك الأمراء في أسفل الفرات، فترك شبيب الوجه الذي فيه جماعة أولئك القواد، وأخذ نحو القادسية، ووجه الحجاج زحر بن قيس في جريدة خيل نقاوه الف وثمانمائه فارس، وقال له: اتبع شبيبا حتى تواقعه حيثما أدركته، إلا أن يكون منطلقا ذاهبا فاتركه ما لم يعطف عليك أو ينزل فيقيم لك، فلا تبرح إن هو أقام حتى تواقعه، فخرج زحر حتى انتهى إلى السيلحين، وبلغ شبيبا مسيره إليه، فأقبل نحوه فالتقيا، فجعل زحر على ميمنته عبد الله بن كناز النهدي، وكان شجاعا، وعلى ميسرته عدى بن عدى بن عميرة الكندى الشيباني، وجمع شبيب خيله كلها كبكبة واحدة، ثم اعترض بها الصف، فوجف وجيفا، واضطرب حتى انتهى إلى زحر بن قيس، فنزل زحر بن قيس، فقاتل زحر حتى صرع، وانهزم أصحابه، وظن القوم أنهم قد قتلوه، فلما كان في السحر وأصابه البرد قام يتمشى حتى دخل قرية فبات بها، وحمل منها إلى الكوفة وبوجهه ورأسه بضعة عشر جراحة ما بين ضربة وطعنة، فمكث أياما، ثم أتى الحجاج وعلى وجهه وجراحه القطن، فأجلسه الحجاج معه على السرير، وقال لمن حوله: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين الناس وهو

شهيد فلينظر إلى هذا وقال أصحاب شبيب لشبيب وهم يظنون أنهم قد قتلوا زحرا: قد هزمنا لهم جندا، وقتلنا لهم أميرا من أمرائهم عظيما، انصرف بنا الآن وافرين، فقال لهم: إن قتلنا هذا الرجل، وهزيمتنا هذا الجند، قد أرعبت هذه الأمراء والجنود التي بعثت في طلبكم، فاقصدوا بنا قصدهم، فو الله لئن نحن قتلناهم ما دون الحجاج من شيء وأخذ الكوفة إن شاء الله فقالوا: نحن لرأيك سمع تبع، ونحن طوع يديك. قال: فانقض بهم جوادا حتى يأتي نجران- وهي نجران الكوفة ناحية عين التمر-، ثم سأل عن جماعة القوم فخبر باجتماعهم بروذبار في أسفل الفرات في بهقباذ الأسفل، على رأس أربعة وعشرين فرسخا من الكوفة فبلغ الحجاج مسيره إليهم، فبعث إليهم عبد الرحمن بن الغرق مولى ابن أبي عقيل- وكان على الحجاج كريما- فقال له: الحق بجماعتهم- يعني جماعة الأمراء- فأعلمهم بمسير المارقة إليهم، وقل لهم: إن جمعكم قتال فأمير الناس زائدة بن قدامة، فأتاهم ابن الغرق فأعلمهم ذلك، وانصرف عنهم. قال أبو مخنف: فحدثني عبد الرحمن بن جندب قال: انتهى إلينا شبيب وفينا سبعة أمراء على جماعتهم زائدة بن قدامة، وقد عبى كل أمير أصحابه على حدة، ففي ميمنتنا زياد بن عمرو العتكي، وفي ميسرتنا بشر بن غالب الأسدي، وكل أمير واقف في أصحابه فأقبل شبيب حتى وقف على تل، فأشرف على الناس وهو على فرس له كميت أغر، فنظر إلى تعبيتهم، ثم رجع إلى أصحابه، فأقبل في ثلاث كتائب يوجفون، حتى إذا دنا من الناس مضت كتيبة فيها سويد بن سليم، فتقف في ميمنتنا، ومضت كتيبة فيها مصاد أخو شبيب، فوقفت على ميسرتنا، وجاء شبيب في كتيبه حتى وقف مقابل القلب قال: وخرج زائده ابن قدامة يسير في الناس فيما بين ميمنتهم إلى ميسرتهم يحرض الناس ويقول:

يا عباد الله، أنتم الكثيرون الطيبون، وقد نزل بكم القليلون الخبيثون، فاصبروا- جعلت لكم الفداء- لكرتين أو ثلاث تكرون عليهم، ثم هو النصر ليس بينه حاجز ولا دونه شيء ألا ترون إليهم والله ما يكونون مائتي رجل، إنما هم أكلة رأس، إنما هم السراق المراق، إنما جاءوكم ليهريقوا دماءكم، ويأخذوا فيئكم، فلا يكونوا على أخذه أقوى منكم على منعه، وهم قليل وأنتم كثير، وهم أهل فرقة وأنتم أهل جماعة، غضوا الأبصار، واستقبلوهم بالأسنة، ولا تحملوا عليهم حتى آمركم، ثم انصرف إلى موقفه. قال: ويحمل سويد بن سليم على زياد بن عمرو، فانكشف صفهم، وثبت زياد في نحو من نصف أصحابه، ثم ارتفع عنهم سويد قليلا، ثم كر عليهم ثانية، ثم اطعنوا ساعة. قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط، قال: أنا والله فيهم يومئذ، قال: اطعنا ساعة وصبروا لنا حتى ظننت أنهم لن يزولوا، وقاتل زياد بن عمرو قتالا شديدا، وجعل ينادي: يا خيلي، ويشد بالسيف فيقاتل قتالا شديدا، فلقد رأيت سويد بن سليم يومئذ وإنه لأشجع العرب وأشده قتالا، وما يعرض له قال: ثم انا ارتفعنا عنهم آخرا فإذا هم يتقوضون، فقال له أصحابه: ألا تراهم يتقوضون! احمل عليهم، فقال لهم شبيب: خلوهم حتى يخفوا، فتركوهم قليلا، ثم حمل عليهم الثالثه فانهزموا فنظرت الى زياد ابن عمرو وإنه ليضرب بالسيف وما من سيف يضرب به إلا نبا عنه وهو مجفف، ولقد رأيته اعتوره أكثر من عشرين سيفا فما ضره من ذلك شيء ثم إنه انهزم وقد جرح جراحة يسيرة، وذلك عند المساء. قال: ثم شددنا على عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر فهزمناه، وما قاتلنا كثير قتال، وقد ضارب ساعة، وقد بلغني أنه كان جرح ثم لحق بزياد بن عمرو، فمضينا منهزمين حتى انتهينا إلى مُحَمَّد بن موسى بن طلحة عند المغرب، فقاتلنا قتالا شديدا وصبر لنا

ذكر هِشَام عن أبي مخنف، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرحمن بن جندب وفروة بن لقيط، أن أخا شبيب مصادا حمل على بشر بن غالب وهو في الميسرة، فأبلى وكرم والله وصبر، فنزل ونزل معه رجال من أهل الصبر نحو من خمسين، فضاربوا بأسيافهم حتى قتلوا عن آخرهم، وكان فيهم عروة بن زهير بن ناجذ الأزدي، وأمه زرارة امرأة ولدت في الأزد، فيقال لهم بنو زرارة، فلما قتلوه وانهزم أصحابه مالوا فشدوا على أبي الضريس مولى بني تميم، وهو يلي بشر بن غالب، فهزموه حتى انتهى إلى موقف أعين، ثم شدوا عليه وعلى أعين جميعا فهزموهما حتى انتهوا بهما إلى زائدة بن قدامة، فلما انتهوا إليه نزل ونادى: يا اهل الاسلام، والارض الأرض، إلي إلي! لا يكونوا على كفرهم أصبر منكم على إيمانكم، فقاتلهم عامة الليل حتى كان السحر ثم إن شبيبا شد عليه في جماعة من أصحابه فقتله وأصحابه وتركهم ربضة حوله من أهل الحفاظ. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن جندب قال: سمعت زائده ابن قدامه ليلتئذ رافعا صوته يقول: يايها الناس، اصبروا وصابروا، «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ. » ثم والله ما برح يقاتلهم مقبلا غير مدبر حتى قتل. قال أبو مخنف: وحدثني فروه بن لقيط ان أبا الصقير الشيباني ذكر أنه قتل زائدة بن قدامة، وقد حاجه في ذلك آخر يقال له الفضل ابن عامر قال: ولما قتل شبيب زائدة بن قدامة دخل أبو الضريس وأعين جوسقا عظيما، وقال شبيب لأصحابه: ارفعوا السيف عن الناس وادعوهم إلى البيعة، فدعوهم إلى البيعة عند الفجر. قال عبد الرحمن بن جندب: فكنت فيمن قدم إليه فبايعه وهو واقف على فرس وخيله واقفة دونه، فكل من جاء ليبايعه نزع سيفه عن عاتقه، وأخذ سلاحه منه، ثم يدنى من شبيب فيسلم عليه بإمرة المؤمنين، ثم يخلى سبيله قال: وإنا لكذلك إذ انفجر الفجر ومُحَمَّد بن

موسى بن طلحة بن عبيد الله في أقصى العسكر، معه عصابة من أصحابه قد صبروا، فلما انفجر الفجر أمر مؤذنه فأذن، فلما سمع شبيب الأذان قال: ما هذا؟ فقال: هذا مُحَمَّد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله لم يبرح، فقال: قد ظننت أن حمقه وخيلاءه سيحمله على هذا، نحوا هؤلاء عنا وانزلوا بنا فلنصل قال: فنزل فأذن هو، ثم استقدم فصلى بأصحابه، فقرأ: «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ» ، و «أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ» ، ثم سلم، ثم ركبوا فحمل عليهم فانكشفت طائفة. من أصحابه، وثبتت طائفة قال فروة: فما أنسى قوله وقد غشيناه وهو يقاتل بسيفه وهو يقول: «الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ» قال: وضارب حتى قتل قال: فسمعت أصحابي يقولون: إن شبيبا هو الذي قتله ثم إنا نزلنا فأخذنا ما كان في العسكر من شيء، وهرب الذين كانوا بايعوا شبيبا، فلم يبق منهم أحد. وقد ذكر من أمر مُحَمَّد بن موسى بن طلحة غير أبي مخنف أمرا غير الذي ذكرته عنه، والذي ذكر من ذلك أن عبد الملك بن مروان كان ولى مُحَمَّد بن موسى بن طلحة سجستان، فكتب إليه الحجاج: أنك عامل كل بلد مررت به، وهذا شبيب في طريقك فعدل إليه مُحَمَّد، فأرسل إليه شبيب: إنك امرؤ مخدوع، قد اتقى بك الحجاج، وأنت جار لك حق، فانطلق لما أمرت به ولك الله لا آذيتك، فأبى إلا محاربته، فواقفه شبيب، وأعاد إليه الرسول، فأبى إلا قتاله، فدعا إلى البراز، فبرز إليه البطين ثم قعنب ثم سويد، فأبى إلا شبيبا، فقالوا لشبيب: قد رغب عنا إليك، قال: فما ظنكم هذه الأشراف! فبرز إليه شبيب، وقال: إني أنشدك الله في دمك، فإن لك جوارا فأبى إلا قتاله، فحمل عليه شبيب فضربه بعصا حديد

فيها اثنا عشر رطلا بالشامي، فهشم بها بيضة عليه ورأسه فسقط، ثم كفنه ودفنه، وابتاع ما غنموا من عسكره، فبعث به إلى أهله، واعتذر إلى أصحابه وقال: هو جاري بالكوفة، ولي أن أهب ما غنمت لأهل الردة. قال عمر بن شبة: قال أبو عبيدة: كان محمد بن موسى مع عمر ابن عبيد الله بن معمر بفارس، وشهد معه قتال أبي فديك وكان على ميمنته، وشهر بالنجدة وشدة البأس وزوجه عمر بن عبيد الله بن معمر ابنته أم عثمان وكانت أخته تحت عبد الملك بن مروان- فولاه سجستان، فمر بالكوفة وبها الحجاج بن يوسف، فقيل للحجاج: إن صار هذا إلى سجستان مع نجدته وصهره لعبد الملك فلجأ إليه أحد ممن تطلب، منعك منه، قال: فما الحيلة؟ قيل: تأتيه وتسلم عليه، وتذكر نجدته وبأسه وأن شبيبا في طريقه، وأنه قد أعياك، وأنك ترجو أن يريح الله منه على يده، فيكون له ذكر ذلك وشهرته ففعل، فعدل إليه مُحَمَّد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، فواقعه شبيب، فقال له شبيب: إني قد علمت خداع الحجاج، وإنما اغترك ووقى بك نفسه، وكأني بأصحابك لو قد التقت حلقتا البطان قد أسلموك، فصرعت مصرع أصحابك، فأطعني وانطلق لشأنك، فإني أنفس بك عن الموت، فأبى مُحَمَّد بن موسى، فبارزه شبيب فقتله رجع الحديث إِلَى حديث أبي مخنف قَالَ عبد الرحمن: لقد كان فيمن بايعه تلك الليلة أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، فلما بايعه قال له شبيب: ألست أبا بردة! قال: بلى، قال شبيب لأصحابه: يا أخلائي، أبو هذا أحد الحكمين، فقالوا: الا نقتل هذا؟ فقال: ان هذا لاذنب له فيما صنع أبوه، قالوا: أجل قال: وأصبح شبيب: فأتى مقبلا نحو القصر الذي فيه أبو الضريس وأعين

فرموه بالنبل، وتحصنا منه، فأقام ذلك اليوم عليهم، ثم شخص عنهم، فقال له أصحابه: ما دون الكوفة أحد يمنعنا، فنظر فإذا اصحابه قد جرحوا، فقال لهم: ما عليكم أكثر مما قد فعلتم، فخرج بهم على نفر، ثم على الصراة، ثم على بغداد، ثم خرج إلى خانيجار فأقام بها. قال: ولما بلغ الحجاج أن شبيبا قد أخذ نحو نفر ظن أنه يريد المدائن- وهي باب الكوفة، ومن أخذ المدائن كان ما في يده من أرض الكوفة أكثر- فهال ذلك الحجاج، وبعث إلى عثمان بن قطن، ودعاه وسرحه إلى المدائن، وولاه منبرها والصلاة ومعونة جوخى كلها وخراج الأستان. فخرج مسرعا حتى نزل المدائن، وعزل الحجاج عبد الله بن أبي عصيفير، وكان بها الجزل مقيما أشهرا يداوي جراحته، وكان ابن أبي عصيفير يعوده ويكرمه، فلما قدم عثمان بن قطن المدائن لم يعده، ولم يكن يتعاهده ولا يلطفه بشيء، فقال الجزل: اللهم زد ابن عصيفير جودا وكرما وفضلا، وزد عثمان بن قطن ضيقا وبخلا قال: ثم إن الحجاج دعا عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث فقال: انتخب الناس، واخرج في طلب هذا العدو، فأمره بنخبة ستة آلاف، فانتخب فرسان الناس ووجوههم، واخرج من قومه ستمائه من كندة وحضرموت، واستحثه الحجاج بالعسكر، فعسكر بدير عبد الرحمن، فلما أراد الحجاج إشخاصهم كتب إليهم: أما بعد، فقد اعتدتم عادة الأذلاء، ووليتم الدبر يوم الزحف، وذلك دأب الكافرين، وإني قد صفحت عنكم مرة بعد مرة، ومرة بعد مرة وإني أقسم لكم بالله قسما صادقا لئن عدتم لذلك لأوقعن بكم إيقاعا أكون أشد عليكم من هذا العدو الذى تهربون منه في بطون الأودية والشعاب، وتستترون منه بأثناء الأنهار وألواذ الجبال، فخاف من له معقول على نفسه، ولم يجعل عليها سبيلا، وقد أعذر من أنذر وقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي

والسلام عليكم. قال: ثم سرح ابن الأصم مؤذنه، فاتى عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث عند طلوع الشمس، فقال له: ارتحل الساعة وناد في الناس: أن برئت الذمة عن رجل من هذا البعث وجدناه متخلفا فخرج عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث في الناس حتى مر بالمدائن فنزل يوما وليلة، وتشرى أصحابه حوائجهم، ثم نادى في الناس بالرحيل، فارتحلوا، ثم أقبلوا حتى دخل على عثمان بن قطن، ثم أتى الجزل فسأله عن جراحته، وسأله ساعة وحدثه ثم ان الجزل قال له: يا بن عم: إنك تسير إلى فرسان العرب وأبناء الحرب، وأحلاس الخيل، والله لكأنما خلقوا من ضلوعها، ثم بنوا على ظهورها، ثم هم أسد الأجم، الفارس منهم أشد من مائة، إن لم تبدأ به بدأ، وإن هجهج أقدم، فإني قد قاتلتهم وبلوتهم، فإذا أصحرت لهم انتصفوا مني، وكان لهم الفضل علي، وإذا خندقت علي وقاتلتهم في مضيق نلت منهم بعض ما أحب، وكان لي عليهم الظفر، فلا تلقهم وأنت تستطيع إلا في تعبئة أو في خندق ثم إنه ودعه، فقال له الجزل: هذه فرسي الفسيفساء، خذها فإنها لا تجاري فأخذها ثم خرج بالناس نحو شبيب، فلما دنا منه ارتفع عنه شبيب إلى دقوقاء وشهرزور، فخرج عبد الرحمن في طلبه، حتى إذا كان على التخوم أقام، وقال: إنما هو في أرض الموصل، فليقاتلوا عن بلادهم أو ليدعوه، فكتب إليه الحجاج بن يوسف: أما بعد، فاطلب شبيبا واسلك في أثره أين سلك حتى تدركه فتقتله أو تنفيه، فإنما السلطان سلطان أمير المؤمنين والجند جنده- والسلام. فخرج عبد الرحمن حين قرأ كتاب الحجاج في طلب شبيب، فكان شبيب يدعه حتى إذا دنا منه بيته، فيجده قد خندق على نفسه وحذر، فيمضي ويدعه، فيتبعه عبد الرحمن، فإذا بلغه أنه قد تحمل وأنه يسير أقبل في الخيل، فإذا انتهى إليه وجده قد صف الخيل والرجال وادنى

المرامية، فلا يصيب له غرة ولا له علة، فيمضي ويدعه. قال: ولما رأى شبيب أنه لا يصيب لعبد الرحمن غرة ولا يصل اليه، جعل يخرج إذا دنا منه عبد الرحمن في خيله، فينزل على مسيرة عشرين فرسخا، ثم يقيم في ارض غليظه حزنه، فيجيء عبد الرحمن، فإذا دنا من شبيب ارتحل شبيب فسار خمسة عشر أو عشرين فرسخا، فنزل منزلا غليظا خشنا، ثم يقيم حتى يدنو عبد الرحمن. قال أبو مخنف: فحدثني عبد الرحمن بن جندب أن شبيبا كان قد عذب ذلك العسكر وشق عليهم، وأحفى دوابهم، ولقوا منه كل بلاء، فلم يزل عبد الرحمن يتبعه حتى مر به على خانقين ثم على جلولاء ثم على تامرا، ثم أقبل حتى نزل البت- قرية من قرى الموصل على تخوم الموصل، ليس بينها وبين سواد الكوفة إلا نهر يسمى حولايا- قال: وجاء عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث حتى نزل في نهر حولايا وفي راذان الأعلى من أرض جوخى، ونزل عواقيل من النهر، ونزلها عبد الرحمن حيث نزلها وهي تعجبه، يرى أنها مثل الخندق والحصن قال: وأرسل شبيب إلى عبد الرحمن: أن هذه الأيام أيام عيد لنا ولكم، فان رايتم ان تواد عونا حتى تمضي هذه الأيام فافعلوا فقال له عبد الرحمن: نعم، ولم يكن شيء أحب إلى عبد الرحمن من المطاولة والموادعة قال: وكتب عثمان بن قطن إلى الحجاج: أما بعد، فإني أخبر الأمير أصلحه الله أن عبد الرحمن بن محمد قد حفر جوخى كلها خندقا واحدا، وخلى شبيبا وكسر خراجها وهو يأكل أهلها والسلام. فكتب إليه الحجاج: أما بعد، فقد فهمت ما ذكرت لي عن عبد الرحمن، وقد لعمري فعل

ما ذكرت، فسر إلى الناس فأنت أميرهم، وعاجل المارقة حتى تلقاهم، فإن الله إن شاء الله ناصرك عليهم والسلام. قال: وبعث الحجاج إلى المدائن مطرف بن المغيرة بن شعبة، وخرج عثمان حتى قدم على عبد الرحمن بن مُحَمَّد ومن معه من أهل الكوفة وهم معسكرون على نهر حولايا قريبا من البت، عشية الثلاثاء، وذلك يوم التروية، فنادى الناس وهو على بغلة: أيها الناس، اخرجوا إلى عدوكم فوثب إليه الناس، فقالوا: ننشدك الله، هذا المساء قد غشينا، والناس لم يوطنوا أنفسهم على القتال، فبت الليلة ثم اخرج بالناس على تعبئة. فجعل يقول: لاناجزنهم، ولتكونن الفرصة لي اولهم فأتاهم عبد الرحمن فأخذ بعنان دابته، وناشده الله لما نزل، وقال له عقيل بن شداد السلولي: إن الذي تريد من مناجزتهم الساعة أنت فاعله غدا، وهو غدا خير لك وللناس إن هذه ساعة ريح وغبرة، وقد أمسيت فانزل، ثم أبكر بنا إليهم غدوة فنزل، فسفت عليه الريح، وشق عليه الغبار، ودعا صاحب الخراج العلوج فبنوا له قبة فبات فيها، ثم أصبح يوم الأربعاء، فجاء أهل البت إلى شبيب- وكان قد نزل ببيعتهم- فقالوا: أصلحك الله! أنت ترحم الضعفاء وأهل الجزية، ويكلمك من تلي عليه، ويشكون إليك ما نزل بهم فتنظر لهم، وتكف عنهم، وإن هؤلاء القوم جبابرة لا يكلمون ولا يقبلون العذر، والله لئن بلغهم أنك مقيم في بيعتنا ليقتلننا إن قضي لك أن ترتحل عنا، فإن رأيت فانزل جانب القرية ولا تجعل لهم علينا مقالا، قال: فإني أفعل ذلك بكم، ثم خرج فنزل جانب القرية قال: فبات عثمان ليلته كلها يحرضهم، فلما أصبح- وذلك يوم الأربعاء- خرج بالناس فاستقبلتهم ريح شديدة وغبرة، فصاح الناس إليه، فقالوا: ننشدك الله أن تخرج بنا في هذا اليوم، فإن الريح علينا! فأقام بهم ذلك اليوم، وأراد شبيب قتالهم، وخرج أصحابه، فلما رآهم لم يخرجوا إليه أقام، فلما كان

ليلة الخميس خرج عثمان فعبى الناس على أرباعهم، فجعل كل ربع في جانب العسكر، وقال لهم: اخرجوا على هذه التعبئة، وسألهم: من كان على ميمنتكم؟ قالوا: خالد بن نهيك بن قيس الكندي، وكان على ميسرتنا عقيل بن شداد السلولي، فدعاهما فقال لهما: قفا مواقفكما التي كنتما بها، فقد وليتكما المجنتين، فاثبتا ولا تفرا، فو الله لا أزول حتى يزول نخل راذان عن أصوله فقالا: ونحن والله الذي لا إله إلا هو لا نفر حتى نظفر أو نقتل، فقال لهما: جزاكما الله خيرا ثم أقام حتى صلى بالناس الغداة، ثم خرج فجعل ربع أهل المدينة تميم وهمدان نحو نهر حولايا في الميسرة، وجعل ربع كندة وربيعة ومذحج وأسد في الميمنة، ونزل يمشي في الرجال، وخرج شبيب وهو يومئذ في مائة وأحد وثمانين رجلا، فقطع إليهم النهر فكان هو في ميمنة أصحابه، وجعل على ميسرته سويد بن سليم، وجعل في القلب مصاد بن يزيد أخاه، وزحفوا وسما بعضهم لبعض. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي النضر بن صالح العبسي أن عثمان كان يقول فيكثر: «لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا» أين المحافظون على دينهم، المحامون عن فيئهم! فقال عقيل بن شداد بن حبشي السلولي: لعلي أن أكون أحدهم، قتل أولئك يوم روذبار ثم قال شبيب لأصحابه: إني حامل على ميسرتهم مما يلي النهر، فإذا هزمتها فليحمل صاحب ميسرتي على ميمنتهم، ولا يبرح صاحب القلب حتى يأتيه أمري وحمل في ميمنة أصحابه مما يلي النهر على ميسرة عثمان بن قطن فانهزموا، ونزل عقيل بن شداد فقاتل حتى قتل، وقتل يومئذ مالك بن عبد الله الهمداني ثم المرهبي، عم عياش بن عبد الله بن عياش المنتوف، وجعل يومئذ عقيل بن شداد يقول وهو يجالدهم: لأضربن بالحسام الباتر ضرب غلام من سلول صابر

ودخل شبيب عسكرهم، وحمل سويد بن سليم في ميسرة شبيب على ميمنة عثمان بن قطن فهزمها، وعليها خالد بن نهيك بن قيس الكندي، فنزل خالد فقاتل قتالا شديدا، وحمل عليه شبيب من ورائه وهو على ربع كندة وربيعة يومئذ، وهو صاحب الميمنة، فلم ينثن شبيب حتى علاه بالسيف فقتله، ومضى عثمان بن قطن وقد نزلت معه العرفاء وأشراف الناس والفرسان نحو القلب، وفيه أخو شبيب في نحو من ستين راجلا، فلما دنا منهم عثمان بن قطن شد عليهم في الأشراف وأهل الصبر فضاربوهم حتى فرقوا بينهم، وحمل شبيب بالخيل من ورائهم، فما شعروا إلا والرماح في أكتافهم تكبهم لوجوههم، وعطف عليهم سويد بن سليم أيضا في خيله، ورجع مصاد وأصحابه، وقد كان شبيب رجلهم، فاضطربوا ساعة، وقاتل عثمان بن قطن فأحسن القتال ثم إنهم شدوا عليهم فأحاطوا به، وحمل عليه مصاد أخو شبيب فضربه ضربة بالسيف استدار لها، ثم قال: «وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا*» ثم إن الناس قتلوه، وقتل يومئذ الأبرد بن ربيعة الكندي، وكان على تل، فألقى سلاحه إلى غلامه وأعطاه فرسه، وقاتل حتى قتل ووقع عبد الرحمن فرآه ابن أبي سبرة الجعفي وهو على بغلة فعرفه، فنزل إليه فناوله الرمح وقال له: اركب، فقال عبد الرحمن ابن مُحَمَّد: أينا الرديف؟ قال: ابن أبي سبرة: سبحان الله! أنت الأمير تكون المقدم، فركب وقال لابن أبي سبرة: ناد في الناس: الحقوا بدير أبي مريم، فنادى، ثم انطلقا ذاهبين، ورأى واصل بن الحارث السكوني فرس عبد الرحمن الذي حمله عليه الجزل يجول في العسكر، فأخذها بعض أصحاب شبيب، فظن أنه قد هلك، فطلبه في القتلى فلم يجده، وسأل عنه فقيل له: قد رأينا رجلا قد نزل عن دابته فحمله عليها، فما أخلقه أن يكون إياه، وقد أخذ هاهنا آنفا فأتبعه واصل بن الحارث على برذونه ومع واصل غلامه على بغل، فلما دنوا منهما قال مُحَمَّد بن أبي سبرة لعبد الرحمن: قد والله لحق بنا فارسان، فقال عبد الرحمن: فهل

غير اثنين؟ فقال: لا، فقال عبد الرحمن: فلا يعجز اثنان عن اثنين: قال: وجعل يحدث ابن أبي سبرة كأنه لا يكترث بهما، حتى لحقهما الرجلان، فقال له ابن أبي سبرة: رحمك الله! قد لحقنا الرجلان، فقال له: فانزل بنا، فنزلا فانتضيا سيفيهما، ثم مضيا إليهما، فلما رآهما واصل عرفهما، فقال لهما: إنكما قد تركتما النزول في موضعه، فلا تنزلا الآن، ثم حسر العمامة عن وجهه، فعرفاه فرحبا به، وقال لابن الأشعث: إني لما رأيت فرسك يجول في العسكر ظننتك راجلا، فأتيتك ببرذوني هذا لتركبه، فترك لابن أبي سبرة بغلته، وركب البرذون، وانطلق عبد الرحمن بن الأشعث حتى نزل دير اليعار، وأمر شبيب أصحابه فرفعوا عن الناس السيف، ودعاهم إلى البيعة، فأتاه من بقي من الرجالة فبايعوه، وقال له أبو الصقير المحلمي: قتلت من الكوفيين سبعة في جوف النهر كان آخرهم رجلا تعلق بثوبي وصاح، ورهبني حتى رهبته، ثم إني أقدمت عليه فقتلته وقتل من كندة مائة وعشرون يومئذ والف من سائر الناس او ستمائه، وقتل عظم العرفاء يومئذ قال أبو مخنف: حدثني قدامة بن حازم بن سفيان الخثعمي أنه قتل منهم يومئذ جماعة، وبات عبد الرحمن بن مُحَمَّد تلك الليلة بدير اليعار، فأتاه فارسان فصعدا إليه فوق البيت، وقام آخر قريبا منهما فخلا أحدهما بعبد الرحمن طويلا يناجيه، ثم نزل هو وأصحابه، وقد كان الناس يتحدثون أن ذلك كان شبيبا، وأنه قد كان كاتبه، ثم خرج عبد الرحمن آخر الليل فسار حتى أتى دير أبي مريم، فإذا هو بأصحاب الخيل قد وضع لهم مُحَمَّد بن عبد الرحمن بن أبي سبرة صبر الشعير والقت بعضه على بعض كأنه القصور، ونحر لهم من الجزر ما شاءوا، فأكلوا يومئذ، وعلفوا دوابهم، واجتمع الناس إِلَى عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّدِ بْنِ الأشعث فقالوا له: إن سمع شبيب بمكانك أتاك وكنت له غنيمة، قد ذهب الناس وتفرقوا وقتل خيارهم فالحق أيها الرجل بالكوفة فخرج إلى الكوفة ورجع الناس أيضا، وجاء

نقش الدنانير والدراهم بأمر عبد الملك بن مروان

فاختبأ من الحجاج حتى أخذ الأمان بعد ذلك . نقش الدنانير والدراهم بأمر عبد الملك بن مروان وفي هذه السنة أمر عبد الملك بن مروان بنقش الدنانير والدراهم. ذكر الواقدي: أن سعد بن راشد حدثه عن صالح بن كيسان بذلك. قال: وحدثني ابن أبي الزناد، عن أبيه، أن عبد الملك ضرب الدراهم والدنانير عامئذ، وهو أول من أحدث ضربها. قال: وحدثني خالد بن أبي ربيعة، عن أبي هلال، عن أبيه، قال: كانت مثاقيل الجاهلية التي ضرب عليها عبد الملك اثنين وعشرين قيراطا إلا حبة، وكان العشرة وزن سبعة. قال: وحدثني عبد الرحمن بن جرير الليثي عن هلال بن أسامة قال: سألت سعيد بن المسيب في كم تجب الزكاة من الدنانير؟ قال: في كل عشرين مثقالا بالشامي نصف مثقال، قلت: ما بال الشامي من المصري؟ قال: هو الذي تضرب عليه الدنانير وكان ذلك وزن الدنانير قبل أن تضرب الدنانير، كانت اثنين وعشرين قيراطا إلا حبة، قال سعيد قد عرفته، قد أرسلت بدنانير الى دمشق فضربت على ذلك. [أخبار متفرقة] وفي هذه السنة: وفد يحيى بن الحكم على عبد الملك بن مروان وولي أبان بن عثمان المدينة في رجب. وفيها استقضي أبان بن نوفل بن مساحق بن عمرو بن خداش من بني عامر بن لؤي. وفيها ولد مروان بن مُحَمَّد بن مروان وأقام الحج للناس في هذه السنة أبان بن عثمان وهو أمير على المدينة، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي وكان على الكوفة والبصرة الحجاج بن يوسف، وعلى خراسان أمية بن عبد الله بن خالد، وعلى قضاء الْكُوفَة شريح، وعلى قضاء الْبَصْرَة زرارة بن أوفى

سنه سبع وسبعين

ثم دخلت سنه سبع وسبعين محاربه شبيب عتاب بن ورقاء وزهره بن حوية وقتلهما ففي هذه السنة قتل شبيب عتاب بن ورقاء الرياحي وزهرة بن حوية ذكر الخبر عن سبب مقتلهما: وكان سبب ذلك فِيمَا ذكر هِشَامٍ عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابن جندب وفروة بن لقيط، أن شبيبا لما هزم الجيش الذي كان الحجاج وجهه مع عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّدِ بْنِ الأشعث إليه، وقتل عثمان ابن قطن، وذلك في صيف وحر شديد، اشتد الحر عليه وعلى أصحابه، فأتى ماه بهزاذان فتصيف بها ثلاثة أشهر، وأتاه ناس كثير ممن يطلب الدنيا فلحقوا به، وناس ممن كان الحجاج يطلبهم بمال أو تباعات، كان منهم رجل من الحي يقال له الحر بن عبد الله بن عوف، وكان دهقانان من أهل نهر درقيط قد أساءا إليه وضيقا عليه، فشد عليهما فقتلهما، ثم لحق بشبيب فكان معه بماه، وشهد معه مواطنه حتى قتل، فلما آمن الحجاج كل من كان خرج إلى شبيب من أصحاب المال والتباعات- وذلك بعد يوم السبخة- خرج إليه الحر فيمن خرج، فجاء أهل الدهقانين يستعدون عليه الحجاج، فأتي به فدخل، وقد أوصى ويئس من نفسه، فقال له الحجاج يا عدو الله، قتلت رجلين من أهل الخراج! فقال له: قد كان أصلحك الله ما هو أعظم من هذا، فقال: وما هو؟ قال: خروجي من الطاعة وفراق الجماعة، ثم آمنت كل من خرج إليك، فهذا أماني وكتابك لي فقال له الحجاج: أولى لك! قد لعمري فعلت، وخلى سبيله قال: ولما انفسخ الحر عن شبيب خرج من ماه في نحو من ثمانمائه رجل، فأقبل نحو المدائن وعليها مطرف بن المغيرة بن شعبة، فجاء

حتى نزل قناطر حذيفة بن اليمان، فكتب ماذرواسب عظيم بابل مهروذ إلى الحجاج: أما بعد: فإني أخبر الأمير أصلحه الله أن شبيبا قد أقبل حتى نزل قناطر حذيفة، ولا أدري أين يريد! فلما قرأ الحجاج كتابه قام فِي الناس فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الناس، والله لتقاتلن عن بلادكم وعن فيئكم أو لأبعثن إلى قوم هم أطوع وأسمع وأصبر على اللأواء والغيظ منكم، فيقاتلون عدوكم، ويأكلون فيئكم فقام إليه الناس من كل جانب، فقالوا: نحن نقاتلهم ونعتب الأمير، فليندبنا الأمير إليهم فإنا حيث سره وقام إليه زهرة بن حوية وهو شيخ كبير لا يستتم قائما حتى يؤخذ بيده فقال له: أصلح الله الأمير! إنك إنما تبعث إليهم الناس متقطعين، فاستنفر الناس إليهم كافة فلينفروا إليهم كافة، وابعث عليهم رجلا ثبتا شجاعا مجربا للحرب ممن يرى الفرار هضما وعارا والصبر مجدا وكرما فقال الحجاج: فأنت ذاك فاخرج، فقال: أصلح الله الأمير! إنما يصلح للناس في هذا رجل يحمل الرمح والدرع، ويهز السيف، ويثبت على متن الفرس، وأنا لا أطيق من هذا شيئا، وقد ضعف بصري وضعفت، ولكن أخرجني في الناس مع الأمير، فإني إنما أثبت على الراحلة فأكون مع الأمير في عسكره وأشير عليه برأيي فقال له الحجاج: جزاك الله عن الإسلام وأهله في أول الإسلام خيرا، وجزاك الله عن الإسلام في آخر الإسلام خيرا، فقد نصحت وصدقت، أنا مخرج الناس كافة ألا فسيروا أيها الناس فانصرف الناس فجعلوا يسيرون وليس يدرون من أميرهم! وكتب الحجاج إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ. أَمَّا بَعْدُ، فإني أخبر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أكرمه الله أن شبيبا قد شارف المدائن وإنما يريد الكوفة، وقد عجز أهل الكوفة عن قتاله في مواطن كثيرة، في

كلها يقتل أمراءهم، ويفل جنودهم، فإن رأى أمير المؤمنين أن يبعث إلى أهل الشام فيقاتلوا عدوهم ويأكلوا بلادهم فليفعل، والسلام. فلما أتى عبد الملك كتابه بعث إليه سفيان بن الأبرد في أربعة آلاف، وبعث إليه حبيب بن عبد الرحمن الحكمي من مذحج في ألفين فسرحهم حين أتاه الكتاب إلى الحجاج، وجعل أهل الكوفة يتجهزون إلى شبيب ولا يدرون من أميرهم! وهم يقولون: يبعث فلانا أو فلانا، وقد بعث الحجاج إلى عتاب بن ورقاء ليأتيه وهو على خيل الكوفة مع المهلب، وقد كان ذلك الجيش من أهل الكوفة هم الذين كان بشر بن مروان بعث عبد الرحمن بن مخنف عليهم إلى قطري، فلم يلبث عبد الرحمن بن مخنف إلا نحوا من شهرين حتى قدم الحجاج على العراق، فلم يلبث عليهم عبد الرحمن بن مخنف بعد قدوم الحجاج الا رجب وشعبان. وقتل قطري عبد الرحمن في آخر رمضان فبعث الحجاج عتاب بن ورقاء على ذلك الجيش من أهل الكوفة الذين أصيب فيهم عبد الرحمن ابن مخنف، وأمر الحجاج عتابا بطاعة المهلب فكان ذلك قد كبر على عتاب، ووقع بينه وبين المهلب شر، حتى كتب عتاب إلى الحجاج يستعفيه من ذلك الجيش ويضمه إليه، فلما أن جاءه كتاب الحجاج بإتيانه سر بذلك. قال: ودعا الحجاج أشراف أهل الكوفة، فيهم زهرة بن حوية السعدي من بني الأعرج، وقبيصة بن والق التغلبي، فقال لهم: من ترون أن أبعث على هذا الجيش؟ فقالوا: رأيك أيها الأمير أفضل، قال: فإني قد بعثت إلى عتاب بن ورقاء، وهو قادم عليكم الليلة أو القابلة، فيكون هو الذي يسير في الناس، قال زهرة بن حوية: اصلح الله الأمير! رمتهم بحجرهم، لا والله لا يرجع إليك حتى يظفر أو يقتل. وقال له قبيصة بن والق: انى مشير عليك برأيي، فانى يكن خطأ فبعد

اجتهادي في النصيحة لأمير المؤمنين وللأمير ولعامة المسلمين، وإن يك صوابا فالله سددني له، إنا قد تحدثنا وتحدث الناس أن جيشا قد فصل إليك من قبل الشام، وأن أهل الكوفة قد هزموا وفلوا واستخفوا بالصبر، وهان عليهم عار الفرار فقلوبهم كأنها ليست فيهم، كأنما هي في قوم آخرين، فإن رأيت أن تبعث إلى جيشك الذي أمددت به من أهل الشام فيأخذوا حذرهم، ولا يبيتوا إلا وهم يرون أنهم مبيتون فعلت، فإنك تحارب حولا قلبا، ظعانا رحالا، وقد جهزت إليه أهل الكوفة ولست واثقا بهم كل الثقة، وإنما إخوانهم هؤلاء القوم الذين بعثوا إليك من الشام. أن شبيبا بينا هو في أرض إذ هو في أخرى، ولا آمن أن يأتيهم وهم غارون فإن يهلكوا نهلك ويهلك العراق فقال: لله أنت! ما أحسن ما رأيت! وما أحسن ما أشرت به علي! قال: فبعث عبد الرحمن بن الغرق مولى عقيل الى من اقبل من أهل الشام، فأتاهم وقد نزلوا هيت بكتاب من الحجاج: أما بعد، فإذا حاذيتم هيت فدعوا طريق الفرات والأنبار، وخذوا على عين التمر حتى تقدموا الكوفة إن شاء الله، وخذوا حذركم، وعجلوا السير والسلام. فأقبل القوم سراعا قال: وقدم عتاب بن ورقاء في الليلة التي قال الحجاج إنه قادم عليكم فيها، فأمره الحجاج فخرج بالناس فعسكر بهم بحمام أعين، وأقبل شبيب حتى انتهى إلى كلواذا فقطع منها دجلة، ثم أقبل حتى نزل مدينة بهرسير الدنيا، فصار بينه وبين مطرف بن المغيره ابن شعبة جسر دجلة. فلما نزل شبيب مدينة بهرسير قطع مطرف الجسر، وبعث إلى شبيب: أن ابعث إلي رجالا من وجوه أصحابك ادار سهم القرآن، وأنظر فيما تدعو إليه فبعث إليه شبيب رجالا من وجوه أصحابه، فيهم قعنب وسويد والمحلل، فلما أرادوا أن ينزلوا في السفينة بعث اليهم شبيب الا

تدخلوا السفينة حتى يرجع إلي رسولي من عند مطرف، فرجع الرسول. وبعث إلى مطرف أن ابعث إلي من أصحابك بعدد أصحابي يكونوا رهنا في يدي حتى ترد علي أصحابي فقال مطرف لرسوله: ألقه وقل له: كيف آمنك أنا على أصحابي إذا أنا بعثتهم الآن إليك، وأنت لا تأمنني على أصحابك! فرجع الرسول إلى شبيب فأبلغه، فأرسل إليه شبيب: إنك قد علمت أنا لا نستحل الغدر في ديننا، وأنتم تفعلونه وتستحلونه، فبعث إليه مطرف الربيع بن يزيد الأسدي وسُلَيْمَان بن حذيفة بن هلال بن مالك المزني ويزيد بن أبي زياد مولاه وصاحب حرسه، فلما صاروا في يدي شبيب سرح إليه أصحابه، فأتوا مطرفا فمكثوا أربعة أيام يتراسلون، ثم لم يتفقوا على شيء، فلما تبين لشبيب أن مطرفا غير تابعه ولا داخل معه تهيأ للمسير إلى عتاب بن ورقاء وإلى أهل الشام قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط أن شبيبا دعا رءوس أصحابه فقال لهم: إنه لم يثبطني على رأي قد كنت رأيته إلا هذا الثقفي منذ أربعة أيام، قد كنت حدثت نفسي أن أخرج في جريدة خيل حتى ألقى هذا الجيش المقبل من الشام رجاء أن أصادف غرتهم أو يحذروا فلا أبالي كنت ألقاهم منقطعين من المصر، ليس عليهم أمير كالحجاج يستندون إليه ولا مصر كالكوفة يعتصمون به، وقد جاءتني عيوني اليوم فخبروني أن أوائلهم قد دخلوا عين التمر، فهم الآن قد شارفوا الكوفة، وجاءتني عيوني من نحو عتاب بن ورقاء فحدثوني أنه قد نزل بجماعة أهل الكوفة الصراة، فما أقرب ما بيننا وبينهم! فتيسروا بنا للمسير إلى عتاب بن ورقاء. قال: وخاف مطرف أن يبلغ خبره وما كان من إرساله إلى شبيب الحجاج، فخرج نحو الجبال، وقد كان أراد أن يقيم حتى ينظر ما يكون بين شبيب وعتاب، فأرسل إليه شبيب: أما إذ لم تبايعني فقد نبذت إليك على سواء، فقال مطرف لأصحابه: اخرجوا بنا وافرين فإن الحجاج سيقاتلنا، فيقاتلنا وبنا قوة أمثل فخرج ونزل المدائن، فعقد شبيب الجسر،

وبعث إلى المدائن أخاه مصادا، وأقبل إليه عتاب حتى نزل بسوق حكمة، وقد أخرج الحجاج جماعة أهل الكوفة مقاتلتهم، ومن نشط إلى الخروج من شبابهم، وكانت مقاتلتهم أربعين ألفا سوى الشباب، ووافى مع عتاب يومئذ أربعون ألفا من المقاتلة وعشرة آلاف من الشباب بسوق حكمة، فكانوا خمسين ألفا، ولم يدع الحجاج قرشيا ولا رجلا من بيوتات العرب إلا أخرجه. قال أبو مخنف: فحدثني عبد الرحمن بن جندب، قال: سمعت الحجاج وهو على المنبر حين وجه عتابا إلى شبيب في الناس وهو يقول: يا أهل الكوفة، اخرجوا مع عتاب بن ورقاء بأجمعكم، لا أرخص لأحد من الناس في الإقامة إلا رجلا قد وليناه من أعمالنا ألا إن للصابر المجاهد الكرامة والأثرة، ألا وإن للناكل الهارب الهوان والجفوة. والذي لا إله غيره لئن فعلتم في هذا الموطن كفعلكم في المواطن التي كانت لأولينكم كنفا خشنا، ولأعركنكم بكلكل ثقيل ثم نزل، وتوافى الناس مع عتاب بسوق حكمة قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط، قال: عرضنا شبيب بالمدائن فكنا ألف رجل، فقام فينا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: يَا معشر المسلمين، إن الله قد كان ينصركم عليهم وأنتم مائة ومائتان وأكثر من ذلك قليلا، وأنقص منه قليلا، فأنتم اليوم مئون ومئون، الا انى مصل الظهر ثم سائر بكم فصلى الظهر ثم نودي في الناس: يا خيل الله اركبي وأبشري، فخرج في أصحابه، فأخذوا يتخلفون ويتأخرون، فلما جاوزنا ساباط ونزلنا معه قص علينا وذكرنا بأيام الله، وزهدنا في الدنيا، ورغبنا في الآخرة ساعة طويلة، ثم أمر مؤذنه فأذن، ثم تقدم فصلى بنا العصر، ثم أقبل حتى أشرف بنا على عتاب بن ورقاء وأصحابه، فلما أن رآهم من ساعته نزل وأمر مؤذنه فأذن، ثم تقدم فصلى بنا المغرب،

وكان مؤذنه سلام بن سيار الشيباني، وكانت عيون عتاب بن ورقاء قد جاءوه فأخبروه أنه قد أقبل إليه، فخرج بالناس كلهم فعبأهم، وكان قد خندق أول يوم نزل، وكان يظهر كل يوم أنه يريد أن يسير إلى شبيب بالمدائن، فبلغ ذلك شبيبا، فقال: أسير إليه أحب إلي من أن يسير إلي، فأتاه، فلما صف عتاب الناس بعث على ميمنته مُحَمَّد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، وقال: يا بن أخي، إنك شريف فاصبر وصابر، فقال: أما انا فو الله لأقاتلن ما ثبت معي إنسان وقال لقبيصة بن والق- وكان يومئذ على ثلث بني تغلب: أكفني الميسرة، فقال: أنا شيخ كبير، كثير منى ان اثبت تحت رايتي، قد انبت مني القيام، ما أستطيع القيام إلا أن أقام، ولكن هذا عبيد الله بن الحليس ونعيم بن عليم التغلبيان- وكان كل واحد منهما على ثلث من أثلاث تغلب- فقال: ابعث أيهما أحببت، فأيهما بعثت فلتبعثن ذا حزم وعزم وغناء. فبعث نعيم بن عليم على ميسرته، وبعث حنظلة بن الحارث اليربوعي- وهو ابن عم عتاب شيخ أهل بيته- على الرجالة، وصفهم ثلاثة صفوف: صف فيهم الرجال معهم السيوف، وصف وهم أصحاب الرماح، وصف فيه المرامية، ثم سار فيما بين الميمنة إلى الميسرة يمر بأهل راية راية، فيحثهم على تقوى الله، ويأمرهم بالصبر ويقص عليهم. قال أبو مخنف: فحدثني حصيرة بن عبد الله أن تميم بن الحارث الأزدي قال: وقف علينا فقص علينا قصصا كثيرا، كان مما حفظت منه ثلاث كلمات، قال: يا أهل الإسلام، إن أعظم الناس نصيبا في الجنة الشهداء، وليس الله لأحد من خلقه بأحمد منه للصابرين، ألا ترون أنه يقول: «وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» ! فمن حمد الله فعله فما أعظم

درجته، وليس الله لأحد أمقت منه لأهل البغي، ألا ترون أن عدوكم هذا يستعرض المسلمين بسيفه، لا يرون إلا أن ذلك لهم قربة عند الله! فهم شرار أهل الأرض وكلاب أهل النار، أين القصاص؟ قال ذلك فلم يجبه والله أحد منا، فلما رأى ذلك، قال: أين من يروي شعر عنترة؟ قال: فلا والله ما رد عليه إنسان كلمة فقال: إنا لله! كأني بكم قد فررتم عن عتاب بن ورقاء وتركتموه تسفي في استه الريح. ثم أقبل حتى جلس في القلب معه زهرة بن حوية جالس وعبد الرحمن ابن مُحَمَّد بن الأشعث وأبو بكر بن مُحَمَّد بن أبي جهم العدوي وأقبل شبيب وهو في ستمائه وقد تخلف عنه من الناس أربعمائة، فقال: لقد تخلف عنا من لا أحب أن يرى فينا فبعث سويد بن سليم في مائتين إلى الميسرة، وبعث المحلل بن وائل في مائتين إلى القلب، ومضى هو في مائتين إلى الميمنة بين المغرب والعشاء الآخرة حين أضاء القمر، فناداهم: لمن هذه الرايات؟ قالوا: رايات ربيعة فقال: شبيب: رايات طالما نصرت الحق، وطالما نصرت الباطل، لها في كل نصيب، والله لأجاهدنكم محتسبا للخير في جهادكم، أنتم ربيعة وأنا شبيب، أنا أبو المدلة، لا حكم إلا للحكم، اثبتوا إن شئتم ثم حمل عليهم وهو على مسناة أمام الخندق ففضهم، فثبت أصحاب رايات قبيصة بن والق وعبيد بن الحليس ونعيم بن عليم، فقتلوا، وانهزمت الميسرة كلها وتنادى أناس من بني تغلب: قتل قبيصة بن والق فقال شبيب: قتلتم قبيصة بن والق التغلبي يا معشر المسلمين! قال الله: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ» ، هذا مثل ابن عمكم قبيصة بن والق، اتى رسول الله ص فأسلم، ثم جاء يقاتلكم مع الكافرين! ثم وقف عليه فقال: ويحك! لو ثبت على إسلامك الأول سعدت، ثم حمل من الميسرة على عتاب بن ورقاء، وحمل سويد بن سليم على الميمنة وعليها مُحَمَّد بن عبد الرحمن،

فقاتل في الميمنة في رجال من بني تميم وهمدان، فأحسنوا القتال، فما زالوا كذلك حتى أتوا فقيل لهم: قتل عتاب بن ورقاء، فانفضوا، ولم يزل عتاب جالسا على طنفسة في القلب وزهرة بن حوية معه، إذ غشيهم شبيب، فقال له عتاب: يا زهرة بن حوية، هذا يوم كثر فيه العدد، وقل فيه الغناء، والهفى على خمسمائة فارس من نحو رجال تميم معي من جميع الناس! ألا صابر لعدوه! ألا مؤاس بنفسه! فانفضوا عنه وتركوه، فقال له زهرة: أحسنت يا عتاب، فعلت فعل مثلك، والله والله لو منحتهم كتفك ما كان بقاؤك إلا قليلا، أبشر فإني أرجو أن يكون الله قد أهدى إلينا الشهادة عند فناء أعمارنا، فقال له: جزاك الله خيرا ما جزى آمرا بمعروف وحاثا على تقوى. فلما دنا منه شبيب وثب في عصابة صبرت معه قليلة، وقد ذهب الناس يمينا وشمالا، فقال له عمار بن يزيد الكلبي من بني المدينة: أصلحك الله! إن عبد الرحمن بن مُحَمَّد قد هرب عنك فانصفق معه أناس كثير، فقال له: قد فر قبل اليوم، وما رأيت ذلك الفتى يبالي ما صنع، ثم قاتلهم ساعة وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط موطنا لم أبتل بمثله قط أقل مقاتلا ولا أكثر هاربا خاذلا، فرآه رجل من بني تغلب من أصحاب شبيب من بني زيد بن عمرو يقال له عامر بن عمرو بن عبد عمرو، وكان قد أصاب دما في قومه، فلحق بشبيب، وكان من الفرسان، فقال لشبيب: والله إني لأظن هذا المتكلم عتاب بن ورقاء! فحمل عليه فطعنه، فوقع فكان هو ولي قتله ووطئت الخيل زهرة بن حوية، فأخذ يذب بسيفه وهو شيخ كبير لا يستطيع أن يقوم، فجاء الفضل بن عامر الشيباني فقتله، فانتهى إليه شبيب فوجده صريعا فعرفه، فقال: من قتل هذا؟ فقال الفضل: أنا قتلته، فقال شبيب: هذا زهره حوية، أما والله لئن كنت قتلت على ضلالة لرب يوم من أيام المسلمين قد حسن فيه بلاؤك، وعظم فيه غناؤك! ولرب خيل للمشركين قد هزمتها، وسرية لهم قد

ذعرتها وقرية من قراهم جم أهلها قد افتتحتها، ثم كان في علم الله أن تقتل ناصرا للظالمين! قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط قال: رأيناه والله توجع له، فقال رجل من شبان بكر بن وائل: والله إن أمير المؤمنين منذ الليلة ليتوجع لرجل من الكافرين! قال: إنك لست بأعرف بضلالتهم مني، ولكني أعرف من قديم أمرهم ما لا تعرف، ما لو ثبتوا عليه كانوا إخوانا وقتل في المعركة عمار بن يزيد الكلبي، وقتل أبو خيثمة بن عبد الله يومئذ، واستمكن شبيب من أهل العسكر والناس، فقال: ارفعوا عنهم السيف، ودعا إلى البيعة، فبايعه الناس من ساعتهم، وهربوا من تحت ليلتهم، وأخذ شبيب يبايعهم، ويقول: إلى ساعة يهربون وحوى شبيب على ما في العسكر، وبعث إلى أخيه، فأتاه من المدائن، فلما وافاه بالعسكر أقبل إلى الكوفة وقد أقام بعسكره ببيت قرة يومين، ثم توجه نحو وجه أهل الكوفة وقد دخل سفيان بن الأبرد الكلبي وحبيب بن عبد الرحمن الحكمي من مذحج فيمن معهما من أهل الشام الكوفة، فشدوا للحجاج ظهره، فاستغنى بهما عن أهل الكوفة، فقام على منبر الكوفة فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ يا أهل الكوفة، فلا أعز الله من أراد بكم العز، ولا نصر من أراد بكم النصر، اخرجوا عنا، ولا تشهدوا معنا قتال عدونا، الحقوا بالحيرة فانزلوا مع اليهود والنصارى، ولا تقاتلوا معنا إلا من كان لنا عاملا، ومن لم يكن شهد قتال عتاب بن ورقاء. قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط، قال: والله لخرجنا نتبع آثار الناس، فانتهي إِلَى عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّدِ بْنِ الأشعث ومُحَمَّد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني، وهما يمشيان كأني أنظر إلى رأس عبد الرحمن قد امتلأ طينا، فصددت عنهما، وكرهت أن أذعرهما، ولو أني أوذن بهما أصحاب شبيب لقتلا مكانهما، وقلت في نفسي: لئن سقت إلى مثلكما من قومي القتل ما أنا برشيد الرأي، وأقبل شبيب حتى نزل الصراة

ذكر الخبر عن دخول شبيب الكوفه مره ثانيه

قال أبو مخنف: فحدثني موسى بن سوار أن شبيبا خرج يريد الكوفة، فانتهى إلى سورا، فندب الناس، فقال: أيكم يأتيني برأس عامل سورا؟ فانتدب له بطين وقعنب وسويد ورجلان من أصحابه، فساروا مغذين حتى انتهوا إلى دار الخراج والعمال في سمرجة فدخلوا الدار وقد كادوا الناس بأن قالوا: أجيبوا الأمير، فقالوا: أي الأمراء؟ قالوا: أمير خرج من قبل الحجاج يريد هذا الفاسق شبيبا، فاغتر بذلك العامل منهم ثم إنهم شهروا السيوف وحكموا حين وصلوا إليه فضربوا عنقه، وقبضوا على ما كان من مال، ولحقوا بشبيب، فلما انتهوا إليه قال: ما الذي أتيتمونا به؟ قالوا: جئناك برأس الفاسق وما وجدنا من مال، والمال على دابة في بدوره، فقال شبيب: أتيتمونا بفتنة للمسلمين، هلم الحربة يا غلام، فخرق بها البدور، وأمر فنخس بالدابة والمال يتناثر من بدوره حتى وردت الصراة، فقال: إن كان بقي شيء فاقذفه في الماء ثم خرج إليه سفيان بن الأبرد مع الحجاج، وكان أتاه قبل خروجه معه، فقال: ابعثني أستقبله قبل أن يأتيك، فقال: ما أحب أن نفترق حتى ألقاه في جماعتكم والكوفة في ظهورنا والحصن في أيدينا . ذكر الخبر عن دخول شبيب الكوفه مره ثانيه وفي هذه السنة دخل شبيب الكوفة دخلته الثانية. ذكر الخبر عن ذَلِكَ وما كَانَ من حربه بها الحجاج: قال هشام: حدثني أبو مخنف، عن موسى بن سوار، قال: قدم سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف من الدسكرة الكوفة بعد ما قدم جيش الشام الكوفة، وكان مطرف بن المغيرة كتب إلى الحجاج: أن شبيبا قد أطل علي، فابعث إلي المدائن بعثا فبعث إليه سبرة بن عبد الرحمن ابن مخنف في مائتي فارس، فلما خرج مطرف يريد الجبل خرج بأصحابه

معه وقد أعلمهم ما يريد، وكتم ذلك سبرة، فلما انتهى إلى دسكرة الملك دعا سبرة فأعلمه ما يريد، ودعاه إلى أمره، فقال له: نعم أنا معك، فلما خرج من عنده بعث إلى أصحابه فجمعهم، وأقبل بهم فصادف عتاب ابن ورقاء قد قتل وشبيبا قد مضى إلى الكوفة، فأقبل حتى انتهى إلى قرية يقال لها بيطرى، وقد نزل شبيب حمام عمر، فخرج سبرة حتى يعبر الفرات في معبر قرية شاهي، ثم أخذ الظهر حتى قدم على الحجاج، فوجد أهل الكوفة مسخوطا عليهم، فدخل على سفيان بن الأبرد فقص قصته عليه وأخبره بطاعته وفراقه مطرفا، وأنه لم يشهد عتابا ولم يشهد هزيمة في موطن من مواطن أهل الكوفة، ولم أزل للأمير عاملا، ومعي مائتا رجل لم يشهدوا معي هزيمة قط، وهم على طاعتهم ولم يدخلوا في فتنة. فدخل سفيان إلى الحجاج فخبره بخبر ما قص عليه سبرة بن عبد الرحمن، فقال: صدق وبر! قل له: فليشهد معنا لقاء عدونا، فخرج إليه فأعلمه ذلك وأقبل شبيب حتى نزل موضع حمام أعين، ودعا الحجاج الحارث بن معاوية بن أبي زرعة بن مسعود الثقفي فوجهه في ناس من الشرط لم يكونوا شهدوا يوم عتاب، ورجالا كانوا عمالا في نحو من مائتي رجل من أهل الشام، فخرج في نحو من ألف، فنزل زرارة، وبلغ ذلك شبيبا، فتعجل إليه في أصحابه، فلما انتهى اليه حمل عليه فقتله، وهزم أصحابه، وجاءت المنهزمة فدخلوا الكوفة وجاء شبيب حتى قطع الجسر، وعسكر دونه إلى الكوفة، وأقام شبيب في عسكره ثلاثة أيام، فلم يكن في أول يوم إلا قتل الحارث بن معاوية، فلما كان في اليوم الثاني أخرج الحجاج مواليه وغلمانه عليهم السلاح، فأخذوا بأفواه السكك مما يلي الكوفة، وخرج أهل الكوفة فأخذوا بأفواه سككهم، وخشوا إن لم يخرجوا موجدة الحجاج وعبد الملك بن مروان وجاء شبيب

حتى ابتنى مسجدا في أقصى السبخة مما يلي موقف أصحاب القت عند الإيوان، وهو قائم حتى الساعة، فلما كان اليوم الثالث أخرج الحجاج أبا الورد مولى له عليه تجفاف، وأخرج مجففة كثيرة وغلمانا له، وقالوا: هذا الحجاج، فحمل عليه شبيب فقتله، وقال: إن كان هذا الحجاج فقد أرحتكم منه. ثم إن الحجاج أخرج له غلامه طهمان في مثل تلك العدة على مثل تلك الهيئة، فحمل عليه شبيب فقتله، وقال: إن كان هذا الحجاج فقد أرحتكم منه. ثم إن الحجاج خرج ارتفاع النهار من القصر فقال: ائتوني ببغل أركبه ما بيني وبين السبخة، فأتي ببغل محجل، فقيل له: إن الأعاجم أصلحك الله تطير أن تركب في مثل هذا اليوم مثل هذا البغل، فقال: ادنوه مني، فإن اليوم يوم أغر محجل، فركبه ثم خرج في أهل الشام حتى أخذ في سكة البريد، ثم خرج في أعلى السبخة، فلما نظر الحجاج إلى شبيب واصحابه نزل، وكان شبيب في ستمائه فارس، فلما رأى الحجاج قد خرج إليه أقبل بأصحابه، وجاء سبرة بن عبد الرحمن إلى الحجاج فقال: أين يأمرني الأمير أن أقف؟ فقال: قف على أفواه السكك، فإن جاءوكم فكان فيكم قتال فقاتلوا، فانطلق حتى وقف في جماعة الناس، ودعا الحجاج بكرسي له فقعد عليه، ثم نادى: يا أهل الشام، أنتم أهل السمع والطاعة والصبر واليقين، لا يغلبن باطل هؤلاء الأرجاس حقكم، غضوا الأبصار، واجثوا على الركب، واستقبلوا القوم بأطراف الأسنة، فجثوا على الركب، وأشرعوا الرماح، وكأنهم حرة سوداء، وأقبل إليهم شبيب حتى إذا دنا منهم عبى أصحابه ثلاثة كراديس، كتيبة معه، وكتيبة مع سويد بن سليم، وكتيبة مع المحلل بن وائل، فقال لسويد: احمل عليهم في خيلك، فحمل عليهم، فثبتوا له، حتى إذا غشي أطراف الأسنة وثبوا في وجهه ووجوه أصحابه، فطعنوهم قدما حتى انصرف،

وصاح الحجاج: يا أهل السمع والطاعة، هكذا فافعلوا قدم كرسي يا غلام، وأمر شبيب المحلل فحمل عليهم، ففعلوا به مثل ما فعلوا بسويد، فناداهم الحجاج: يا أهل السمع والطاعة، هكذا فافعلوا، قدم كرسي يا غلام ثم إن شبيبا حمل عليهم في كتيبته فثبتوا له، حتى إذا غشي أطراف الرماح وثبوا في وجهه، فقاتلهم طويلا ثم إن أهل الشام طعنوه قدما حتى ألحقوه بأصحابه، فلما رأى صبرهم نادى: يا سويد، احمل في خيلك على أهل هذه السكة- يعني سكة لحام جرير- لعلك تزيل أهلها عنها، فتأتي الحجاج من ورائه، ونحمل نحن عليه من أمامه فانفرد سويد بن سليم فحمل على أهل تلك السكة، فرمي من فوق البيوت وأفواه السكك، فانصرف، وقد كان الحجاج جعل عروة بن المغيرة بن شعبة في نحو من ثلاثمائة رجل من أهل الشام ردءا له ولأصحابه لئلا يؤتوا من ورائه قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط: أن شبيبا قال لنا يومئذ: يا أهل الإسلام إنما شرينا لله، ومن شرى لله لم يكبر عليه ما أصابه من الأذى والألم في جنب الله الصبر الصبر، شدة كشداتكم في مواطنكم الكريمة. ثم جمع أصحابه، فلما ظن الحجاج أنه حامل عليهم قال لأصحابه: يا أهل السمع والطاعة، اصبروا لهذه الشدة الواحدة، ثم ورب السماء ما شيء دون الفتح فجثوا على الركب، وحمل عليهم شبيب بجميع أصحابه، فلما غشيهم نادى الحجاج بجماعة الناس، فوثبوا في وجهه، فما زالوا يطعنون ويضربون قدما ويدفعون شبيبا وأصحابه وهو يقاتلهم حتى بلغوا موضع بستان زائدة، فلما بلغ ذلك المكان نادى شبيب أصحابه: يا أولياء الله، الأرض الأرض، ثم نزل وأمر أصحابه فنزل نصفهم وترك نصفهم مع سويد بن سليم، وجاء الحجاج حتى انتهى إلى مسجد شبيب، ثم قال: يا أهل الشام، يا أهل السمع والطاعة، هذا

أول الفتح والذي نفس الحجاج بيده! وصعد المسجد معه نحو من عشرين رجلا معهم النبل، فقال: إن دنوا منا فارشقوهم، فاقتتلوا عامة النهار من أشد قتال في الأرض، حتى أقر كل واحد من الفريقين لصاحبه ثم إن خالد بن عتاب قال للحجاج: ائذن لي في قتالهم فإني موتور، وأنا ممن لا يتهم في نصيحة، قال: فإني قد أذنت لك، قال: فإني آتيهم من ورائهم حتى أغير على عسكرهم، فقال له: افعل ما بدا لك، قال: فخرج معه بعصابة من أهل الكوفة حتى دخل عسكرهم من ورائهم، فقتل مصادا أخا شبيب، وقتل غزالة امرأته، قتلها فروة بن الدفان الكلبي، وحرق في عسكره، وأتي ذلك الخبر الحجاج وشبيبا، فأما الحجاج وأصحابه فكبروا تكبيرة واحدة، وأما شبيب فوثب هو وكل راجل معه على خيولهم، وقال الحجاج لأهل الشام: شدوا عليهم فإنه قد أتاهم ما أرعب قلوبهم فشدوا عليهم فهزموهم، وتخلف شبيب في حامية الناس. قال هشام: فحدثني أصغر الخارجي، قال: حدثني من كان مع شبيب قال: لما انهزم الناس فخرج من الجسر تبعه خيل الحجاج، قال: فجعل يخفق برأسه، فقلت: يا أمير المؤمنين، التفت فانظر من خلفك، قال: فالتفت غير مكترث، ثم أكب يخفق برأسه، قال: ودنوا منا، فقلنا: يا أمير المؤمنين، قد دنوا منك، قال: فالتفت والله غير مكترث، ثم جعل يخفق برأسه قال: فبعث الحجاج إلى خيله أن دعوه في حرق الله وناره، فتركوه ورجعوا. قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو عمرو العذري، قال: قطع شبيب الجسر حين عبر قال: وقال لي فروة: كنت معه حين انهزمنا فما حرك الجسر، ولا اتبعونا حتى قطعنا الجسر ودخل الحجاج الكوفة، ثم صعد المنبر فحمد الله، ثم قال: والله ما قوتل شبيب

قبلها، ولى والله هاربا، وترك امرأته يكسر في استها القصب. وقد قيل في قتال الحجاج شبيبا بالكوفة ما ذكره عمر بن شبة قال: حدثني عبد الله بن المغيرة بن عطية، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا مزاحم بن زفر بن جساس التيمي، قال: لما فض شبيب كتائب الحجاج أذن لنا فدخلنا عليه في مجلسه الذي يبيت فيه وهو على سرير عليه لحاف، فقال: إني دعوتكم لأمر فيه أمان ونظر، فأشيروا علي، إن هذا الرجل قد تبحبح بحبوحتكم، ودخل حريمكم، وقتل مقاتلتكم، فأشيروا علي، فأطرقوا وفصل رجل من الصف بكرسيه فقال: إن أذن لي الأمير تكلمت، فقال، تكلم، فقال: إن الأمير والله ما راقب الله، ولا حفظ أمير المؤمنين، ولا نصح للرعية، ثم جلس بكرسيه في الصف. قال: وإذا هو قتيبة، قال: فغضب الحجاج وألقى اللحاف، ودلى قدميه من السرير كأني أنظر إليهما، فقال: من المتكلم؟ قال: فخرج قتيبة بكرسيه من الصف فأعاد الكلام، قال: فما الرأي؟ قال: أن تخرج إليه فتحاكمه، قال: فارتد لي معسكرا ثم اغد إلي، قال: فخرجنا نلعن عنبسة بن سعيد، وكان كلم الحجاج في قتيبة، فجعله من أصحابه، فلما أصبحنا وقد أوصينا جميعا، غدونا في السلاح، فصلى الحجاج الصبح ثم دخل، فجعل رسوله يخرج ساعة بعد ساعة فيقول: أجاء بعد؟ أجاء بعد؟ ولا ندري من يريد! وقد أفعمت المقصورة بالناس، فخرج الرسول فقال: أجاء بعد؟ وإذا قتيبة يمشي في المسجد عليه قباء هروي أصفر، وعمامة خز أحمر، متقلدا سيفا عريضا قصير الحمائل كأنه في إبطه، قد أدخل بركة قبائه في منطقته، والدرع يصفق ساقيه ففتح له الباب فدخل ولم يحجب، فلبث طويلا ثم خرج، وأخرج معه لواء منشورا، فصلى الحجاج ركعتين، ثم قام فتكلم، وأخرج اللواء من باب الفيل، وخرج الحجاج يتبعه، فإذا بالباب بغلة شقراء غراء محجلة فركبها، وعارضه الوصفاء بالدواب، فأبى غيرها، وركب الناس،

وركب قتيبة فرسا أغر محجلا كميتا كأنه في سرجه رمانة من عظم السرج، فأخذ في طريق دار السقاية حتى خرج إلى السبخة وبها عسكر شبيب، وذلك يوم الأربعاء فتواقفوا، ثم غدوا يوم الخميس للقتال، ثم غادوهم يوم الجمعة، فلما كان وقت الصلاة انهزمت الخوارج قال أبو زيد: حدثني خلاد بن يزيد، قال: حدثنا الحجاج بن قتيبة، قال: جاء شبيب وقد بعث إليه الحجاج أميرا فقتله، ثم آخر فقتله، أحدهما أعين صاحب حمام أعين، قال: فجاء حتى دخل الكوفة ومعه غزالة، وقد كانت نذرت أن تصلي في مسجد الكوفة ركعتين تقرأ فيهما البقرة وآل عمران قال: ففعلت قال: واتخذ شبيب في عسكره أخصاصا، فقام الحجاج فقال: لا أراكم تناصحون في قتال هؤلاء القوم يا أهل العراق! وأنا كاتب إلى أمير المؤمنين ليمدني بأهل الشام قال: فقام قتيبة فقال: إنك لم تنصح لله ولا لأمير المؤمنين في قتالهم. قال عمر بن شبة: قال خلاد: فحدثني مُحَمَّد بن حفص بن موسى ابن عبيد الله بن معمر بن عثمان التميمي أن الحجاج خنق قتيبة بعمامته خنقا شديدا. ثم رجع الحديث إلى حديث الحجاج وقتيبة قال: فقال: وكيف ذاك؟ قال: تبعث الرجل الشريف وتبعث معه رعاعا من الناس فينهزمون عنه، ويستحيى فيقاتل حتى يقتل، قال: فما الرأي؟ قال: أن تخرج بنفسك ويخرج معك نظراؤك فيؤاسونك بانفسهم قال: فلعنه من ثم وقال الحجاج: والله لأبرزن له غدا، فلما كان الغد حضر الناس، فقال قتيبة: اذكر يمينك أصلح الله الأمير! فلعنوه أيضا وقال الحجاج: اخرج فارتد لي معسكرا، فذهب وتهيأ هو وأصحابه فخرجوا، فأتى على موضع فيه بعض القذر، موضع كناسه،

فقال: القوا لي هاهنا فقيل: إن الموضع قذر، فقال: ما تدعونني إليه أقذر، الأرض تحته طيبة، والسماء فوقه طيبة قال: فنزل وصف الناس وخالد بن عتاب بن ورقاء مسخوط عليه فليس في القوم، وجاء شبيب وأصحابه فقربوا دوابهم، وخرجوا يمشون، فقال لهم شبيب: الهوا عن رميكم، ودبوا تحت تراسكم، حتى إذا كانت أسنتهم فوقها، فأزلقوها صعدا، ثم ادخلوا تحتها لتستقلوا فتقطعوا أقدامهم، وهي الهزيمة بإذن الله فأقبلوا يدبون إليهم وجاء خالد بن عتاب في شاكريته، فدار من وراء عسكرهم، فأضرم أخصاصهم بالنار، فلما رأوا ضوء النار وسمعوا معمعتها التفتوا فرأوها في بيوتهم، فولوا إلى خيلهم وتبعهم الناس، وكانت الهزيمة ورضي الحجاج عن خالد، وعقد له على قتالهم. قال: ولما قتل شبيب عتابا أراد دخول الكوفة ثانية، فأقبل حتى شارفها فوجه إليه الحجاج سيف بن هانئ ورجلا معه ليأتياه بخبر شبيب، فأتيا عسكره، ففطن بهما، فقتل الرجل، وأفلت سيف، وتبعه رجل من الخوارج، فأوثب سيف فرسه ساقية، ثم سأل الرجل الأمان على أن يصدقه، فآمنه، فأخبره أن الحجاج بعثه وصاحبه ليأتياه بخبر شبيب. قال: فأخبره أنا نأتيه يوم الاثنين فأتى سيف الحجاج فأخبره، فقال: كذب وماق، فلما كان يوم الاثنين توجهوا يريدون الكوفة، فوجه إليهم الحجاج الحارث بن معاوية الثقفي، فلقيه شبيب بزرارة فقتله، وهزم أصحابه ودنا من الكوفة فبعث البطين في عشرة فوارس يرتاد له منزلا على شاطئ الفرات في دار الرزق، فأقبل البطين وقد وجه الحجاج حوشب بن يزيد في جمع من أهل الكوفة، فأخذوا بأفواه السكك، فقاتلهم البطين فلم يقو عليهم، فبعث إلى شبيب فأمده بفوارس، فعقروا فرس حوشب وهزموه ونجا، ومضى البطين إلى دار الرزق، وعسكر على شاطئ الفرات، وأقبل شبيب فنزل دون الجسر، فلم يوجه إليه الحجاج أحدا، فمضى فنزل

السبخة بين الكوفة والفرات، فأقام ثلاثا لا يوجه إليه الحجاج أحدا، فأشير على الحجاج أن يخرج بنفسه، فوجه قتيبة بن مسلم، فهيأ له عسكرا ثم رجع، فقال: وجدت المأتي سهلا، فسر على الطائر الميمون، فنادى في أهل الكوفة فخرجوا، وخرج معه الوجوه حتى نزلوا في ذلك العسكر وتواقفوا، وعلى ميمنة شبيب البطين، وعلى ميسرته قعنب مولى بني أبي ربيعة بن ذهل، وهو في زهاء مائتين، وجعل الحجاج على ميمنته مطر بن ناجية الرياحي، وعلى ميسرته خالد بن عتاب بن ورقاء الرياحي في زهاء أربعة آلاف، وقيل له: لا تعرفه موضعك، فتنكر وأخفى مكانه، وشبه له أبا الورد مولاه، فنظر إليه شبيب، فحمل عليه، فضربه بعمود وزنه خمسة عشر رطلا فقتله، وشبه له أعين صاحب حمام أعين بالكوفة، وهو مولى لبكر بن وائل فقتله، فركب الحجاج بغلة غراء محجلة، وقال: إن الدين أغر محجل، وقال لأبي كعب: قدم لواءك، أنا ابن أبي عقيل وحمل شبيب على خالد بن عتاب وأصحابه، فبلغ بهم الرحبة، وحملوا على مطر بن ناجية فكشفوه، فنزل عند ذلك الحجاج وأمر أصحابه فنزلوا، فجلس على عباءة ومعه عنبسة بن سعيد، فإنهم على ذلك إذ تناول مصقلة بن مهلهل الضبي لجام شبيب، فقال: ما تقول في صالح بن مسرح؟ وبم تشهد عليه؟ قال: أعلى هذه الحال، وفي هذه الحزة! والحجاج ينظر، قال: فبرئ من صالح، فقال مصقلة: برئ الله منك، وفارقوه إلا أربعين فارسا هم أشد أصحابه، وانحاز الآخرون إلى دار الرزق، وقال الحجاج: قد اختلفوا، وأرسل إلى خالد بن عتاب فأتاهم فقاتلهم، فقتلت غزالة، ومر برأسها إلى الحجاج فارس فعرفه شبيب، فأمر علوان فشد على الفارس فقتله وجاء بالرأس، فأمر به فغسل ودفنه وقال: هي أقرب إليكم رحما- يعني غزالة. ومضى القوم على حاميتهم، ورجع خالد إلى الحجاج فأخبره بانصراف

القوم، فأمره أن يحمل على شبيب فحمل عليهم، وأتبعه ثمانية، منهم قعنب والبطين وعلوان وعيسى والمهذب وابن عويمر وسنان، حتى بلغوا به الرحبة، وأتي شبيب في موقفه بخوط بن عمير السدوسي، فقال له شبيب: يا خوط، لا حكم إِلَّا لِلَّهِ، * فقال: لا حكم إِلَّا لِلَّهِ، * فقال شبيب: خوط من أصحابكم، ولكنه كان يخاف، فأطلقه وأتي بعمير بن القعقاع فقال له: لا حكم إِلَّا لِلَّهِ* يا عمير، فجعل لا يفقه عنه، ويقول: في سبيل الله شبابي، فردد عليه شبيب: لا حكم إِلَّا لِلَّهِ* ليتخلصه، فلم يفقه فأمر بقتله، وقتل مصاد أخو شبيب، وجعل شبيب ينتظر النفر الذين تبعوا خالدا فأبطئوا، ونعس شبيب فأيقظه حبيب بن خدرة، وجعل أصحاب الحجاج لا يقدمون عليه هيبة له، وسار إلى دار الرزق، فجمع رثة من قتل من أصحابه، وأقبل الثمانية إلى موضع شبيب فلم يجدوه، فظنوا أنهم قتلوه، ورجع مطر وخالد الى الحجاج فامر هما فأتبعا الرهط الثمانية، وأتبع الرهط شبيبا، فمضوا جميعا حتى قطعوا جسر المدائن، فدخلوا ديرا هنالك وخالد يقفوهم، فحصرهم في الدير، فخرجوا عليه فهزموه نحوا من فرسخين حتى ألقوا أنفسهم في دجلة بخيلهم، وألقى خالد نفسه بفرسه فمر به ولواؤه في يده، فقال شبيب: قاتله الله فارسا وفرسه! هذا أشد الناس، وفرسه أقوى فرس في الأرض، فقيل له: هذا خالد بن عتاب، فقال: معرق له في الشجاعة، والله لو علمت لأقحمت خلفه ولو دخل النار رجع الحديث إِلَى حديث أبي مخنف عَنْ أبي عمرو العذري، أن الحجاج دخل الكوفة حين انهزم شبيب، ثم صعد المنبر، فقال: والله ما قوتل شبيب قط قبلها مثلها، ولى والله هاربا، وترك امرأته يكسر في استها القصب ثم دعا حبيب بن

عبد الرحمن الحكمي فبعثه في أثره في ثلاثة آلاف من أهل الشام، فقال له الحجاج: احذر بياته، وحيثما لقيته فنازله، فإن الله قد فل حده، وقصم نابه فخرج حبيب بن عبد الرحمن في أثر شبيب حتى نزل الأنبار، وبعث الحجاج إلى العمال أن دسوا إلى أصحاب شبيب أن من جاءنا منهم فهو آمن، فكان كل من ليست له تلك البصيرة ممن قد هده القتال يجيء فيؤمن، وقبل ذلك ما قد نادى فيهم الحجاج يوم هزموا: أن من جاءنا منكم فهو آمن، فتفرق عنه ناس كثير من أصحابه، وبلغ شبيبا منزل حبيب بن عبد الرحمن الأنبار، فأقبل بأصحابه حتى إذا دنا من عسكرهم نزل فصلى بهم المغرب. قال أبو مخنف: فحدثني أبو يزيد السكسكي، قال: أنا والله في أهل الشام ليلة جاءنا شبيب فبيتنا قال: فلما أمسينا جمعنا حبيب بن عبد الرحمن فجعلنا أرباعا، وقال لكل ربع منا: ليجزى كل ربع منكم جانبه، فإن قاتل هذا الربع فلا يغثهم هذا الربع الآخر، فإنه قد بلغني أن هذه الخوارج منا قريب، فوطنوا أنفسكم على أنكم مبيتون ومقاتلون، فما زلنا على تعبيتنا حتى جاءنا شبيب فبيتنا، فشد على ربع منا، عليهم عثمان بن سعيد العذري فضاربهم طويلا، فما زالت قدم إنسان منهم، ثم تركهم وأقبل على الربع الآخر، وقد جعل عليهم سعد بن بجل العامري فقاتلهم، فما زالت قدم إنسان منهم، ثم تركهم وأقبل على الربع الآخر وعليهم النعمان بن سعد الحميري فما قدر منهم على شيء، ثم أقبل على الربع الآخر وعليهم ابن أقيصر الخثعمي فقاتلهم طويلا، فلم يظفر بشيء، ثم أطاف بنا يحمل علينا حتى ذهب ثلاثة أرباع الليل، وألز بنا حتى قلنا، لا يفارقنا، ثم نازلنا راجلا طويلا، فسقطت والله بيننا وبينهم الأيدي، وفقئت الأعين، وكثرت القتلى، قتلنا منهم نحوا من ثلاثين، وقتلوا منا نحوا من مائة، والله لو كانوا فيما نرى يزيدون على مائة رجل لأهلكونا، وايم الله على ذلك ما فارقونا حتى مللناهم وملونا، وكرهونا وكرهناهم،

ولقد رأيت الرجل منا يضرب بسيفه الرجل منهم فما يضره شيء من الأعياء والضعف، ولقد رايت الرجل منا يقاتل جالسا ينفح بسيفه ما يستطيع أن يقوم من الإعياء، فلما يئسوا منا ركب شبيب ثم قال لمن كان نزل من أصحابه: اركبوا، فلما استووا على متون خيولهم وجه منصرفا عنا. قال أبو مخنف: حدثني فروة بن لقيط، عن شبيب، قال: لما انصرفنا عنهم وبنا كآبة شديدة، وجراحة ظاهرة، قال لنا: ما أشد هذا الذي بنا لو كنا إنما نطلب الدنيا! وما أيسر هذا في ثواب الله! فقال أصحابه: صدقت يا أمير المؤمنين، قال: فما أنسى منه إقباله على سويد بن سليم ولا مقالته له: قتلت منهم أمس رجلين: أحدهما أشجع الناس، والآخر أجبن الناس، خرجت عشية أمس طليعة لكم فلقيت منهم ثلاثة نفر دخلوا قرية يشترون منها حوائجهم، فاشترى أحدهم حاجته، ثم خرج قبل أصحابه وخرجت معه، فقال: كأنك لم تشتر علفا، فقلت: إن لي رفقاء قد كفوني ذلك، فقلت له: أين ترى عدونا هذا نزل؟ قال: بلغني أنه قد نزل منا قريبا، وايم الله لوددت أني قد لقيت شبيبهم هذا، قلت: فتحب ذلك؟ قال: نعم، قلت له: فخذ حذرك، فأنا والله شبيب، وانتضيت سيفي، فخر والله ميتا، فقلت له: ارتفع ويحك! وذهبت أنظر فإذا هو قد مات، فانصرفت راجعا، فأستقبل الآخر خارجا من القرية، فقال: أين تذهب هذه الساعة؟ وإنما يرجع الناس إلى عسكرهم! فلم أكلمه، ومضيت يقرب بي فرسي، وأتبعني حتى لحقني، فقطعت عليه فقلت له: مالك؟ فقال: أنت والله من عدونا؟ فقلت: أجل والله، فقال: والله لا تبرح حتى تقتلني أو أقتلك، فحملت عليه وحمل علي، فاضطربنا بسيفينا ساعه، فو الله ما فضلته في شدة نفس ولا إقدام إلا أن سيفي كان أقطع من سيفه، فقتلته، قال: فمضينا حتى قطعنا دجلة، ثم أخذنا في أرض جوخى حتى قطعنا دجلة مرة أخرى من

ذكر الخبر عن مهلك شبيب

عند واسط، ثم أخذنا إلى الأهواز ثم الى فارس، ثم ارتفعنا الى كرمان. 1 . ذكر الخبر عن مهلك شبيب وفي هذه السنة هلك شبيب في قول هشام بن مُحَمَّد، وفي قول غيره كان هلاكه سنة ثمان وسبعين. ذكر سبب هلاكه: قَالَ هِشَامٌ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ: قَالَ: حَدَّثَنِي أبو يزيد السكسكي، قال: أقفلنا الحجاج إليه- يعني إلى شبيب- فقسم فينا مالا عظيما، وأعطى كل جريح منا وكل ذي بلاء، ثم أمر سفيان بن الأبرد أن يسير إلى شبيب، فتجهز سفيان، فشق ذلك على حبيب بن عبد الرحمن الحكمي، وقال: تبعث سفيان إلى رجل قد فللته وقتلت فرسان أصحابه! فأمضى سفيان بعد شهرين، وأقام شبيب بكرمان، حتى إذا انجبر واستراش هو وأصحابه أقبل راجعا، فيستقبله سفيان بجسر دجيل الأهواز، وقد كان الحجاج كتب إلى الحكم بن أيوب بن الحكم بن أبي عقيل، وهو زوج ابنة الحجاج وعامله على البصرة. أما بعد، فابعث رجلا شجاعا شريفا من أهل البصرة في أربعة آلاف إلى شبيب، ومره فليلحق بسفيان بن الأبرد، وليسمع له وليطع. فبعث إليه زياد بن عمرو العتكي في أربعة آلاف، فلم ينته إلى سفيان حتى التقى سفيان وشبيب، ولما أن التقيا بجسر دجيل عبر شبيب إلى سفيان فوجد سفيان قد نزل في الرجال، وبعث مهاصر بن صيفي العذري على الخيل، وبعث على ميمنته بشر بن حسان الفهري، وبعث على ميسرته عمر بن هبيرة الفزاري، فأقبل شبيب في ثلاثة كراديس من أصحابه، هو في كتيبة وسويد في كتيبة، وقعنب المحلمي في كتيبة، وخلف المحلل بن وائل في عسكره قال: فلما حمل سويد وهو في ميمنته

على ميسرة سفيان، وقعنب وهو في ميسرته على ميمنته حمل هو على سفيان، فاضطربنا طويلا من النهار، حتى انحازوا فرجعوا إلى المكان الذي كانوا فيه، فكر علينا هو وأصحابه أكثر من ثلاثين كرة، كل ذلك لا نزول من صفنا وقال لنا سفيان بن الأبرد: لا تتفرقوا، ولكن لتزحف الرجال اليهم زحفا، فو الله ما زلنا نطاعنهم ونضاربهم حتى اضطررناهم إلى الجسر، فلما انتهى شبيب إلى الجسر نزل ونزل معه نحو من مائة رجل، فقاتلناهم حتى المساء أشد قتال قاتله قوم قط، فما هو إلا أن نزلوا فأوقعوا لنا من الطعن والضرب شيئا ما رأينا مثله من قوم قط فلما رأى سفيان أنه لا يقدر عليهم، ولا يأمن مع ذلك ظفرهم، دعا الرماة فقال: ارشقوهم بالنبل، وذلك عند المساء، وكان التقاؤهم نصف النهار، فرماهم أصحاب النبل بالنبل، عند المساء، وقد صفهم سفيان بن الأبرد على حدة، وبعث على المرامية رجلا، فلما رشقوهم بالنبل ساعة شدوا عليهم، فلما شدوا على رماتنا شددنا عليهم، فشغلناهم عنهم، فلما رموا بالنبل ساعة ركب شبيب وأصحابه ثم كروا على أصحاب النبل كرة صرع منهم أكثر من ثلاثين رجلا، ثم عطف بخيله علينا، فمشى عامدا نحونا، فطاعناه حتى اختلط الظلام، ثم انصرف عنا، فقال سفيان لأصحابه: أيها الناس، دعوهم لا تتبعوهم حتى نصبحهم غدوة قال: فكففنا عنهم وليس شيء أحب إلينا من أن ينصرفوا عنا. قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط، قال: فما هو إلا أن انتهينا إلى الجسر، فقال: اعبروا معاشر المسلمين، فإذا أصبحنا باكرناهم إن شاء الله، فعبرنا أمامه، وتخلف في أخرانا، فأقبل على فرسه، وكانت بين يديه فرس أنثى ماذيانة، فنزا فرسه عليها وهو على الجسر فاضطربت الماذيانة، ونزل حافر رجل فرس شبيب على حرف السفينة، فسقط في الماء، فلما سقط قال: «لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا*» فارتمس في الماء، ثم ارتفع فقال: «ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ*»

قال أبو مخنف: فحدثني أبو يزيد السكسكي بهذا الحديث- وكان ممن يقاتله من أهل الشام، وحدثني فروة بن لقيط، وكان ممن شهد مواطنه- فأما رجل من رهطه من بني مرة بن همام فإنه حدثني أنه كان معه قوم يقاتلون من عشيرته، ولم يكن لهم تلك البصيرة النافذة، وكان قد قتل من عشائرهم رجالا كثيرا، فكأن ذلك قد أوجع قلوبهم، وأوغر صدورهم، وكان رجل يقال له مقاتل من بني تيم بن شيبان من أصحاب شبيب، فلما قتل شبيب رجالا من بني تيم بن شيبان أغار هو على بني مرة بن همام فأصاب منهم رجلا، فقال له شبيب: ما حملك على قتلهم بغير أمري! فقال له: أصلحك الله! قتلت كفار قومي، وقتلت كفار قومك، قال: وأنت الوالي علي حتى تقطع الأمور دوني! فقال: أصلحك الله! أليس من ديننا قتل من كان على غير رأينا، منا كان أو من غيرنا! قال: بلى، قال: فإنما فعلت ما كان ينبغى، ولا والله يا أمير المؤمنين ما أصبت من رهطك عشر ما أصبت من رهطي، وما يحل لك يا أمير المؤمنين أن تجد من قتل الكافرين، قال: إني لا أجد من ذلك وكان معه رجال كثير قد أصاب من عشائرهم، فزعموا أنه لما تخلف في أخريات أصحابه قال بعضهم لبعض: هل لكم أن نقطع به الجسر فندرك ثأرنا الساعة! فقطعوا الجسر، فمالت السفن، ففزع الفرس ونفر، ووقع في الماء فغرق قال أبو مخنف: فحدثني ذلك المري بهذا الحديث، وناس من رهط شبيب يذكرون هذا أيضا، وأما حديث العامة فالحديث الأول. قال أبو مخنف: وحدثني أبو يزيد السكسكي، قال: إنا والله لنتهيأ للانصراف إذ جاء صاحب الجسر فقال: أين أميركم؟ قلنا: هو هذا، فجاءه فقال: أصلحك الله! إن رجلا منهم وقع في الماء، فتنادوا بينهم: غرق أمير المؤمنين! ثم إنهم انصرفوا راجعين، وتركوا عسكرهم ليس فيه أحد، فكبر سفيان وكبرنا، ثم أقبل حتى انتهى إلى الجسر، وبعث مهاصر بن صيفي فعبر إلى عسكرهم، فإذا ليس فيه منهم صافر

ولا آثر فنزل فيه، فإذا أكثر عسكر خلق الله خيرا، وأصبحنا فطلبنا شبيبا حتى استخرجناه وعليه الدرع، فسمعت الناس يزعمون أنه شق بطنه فأخرج قلبه، فكان مجتمعا صلبا كأنه صخرة، وإنه كان يضرب به الأرض فيثب قامة إنسان، فقال سفيان: احمدوا الله الذي أعانكم فأصبح عسكرهم في أيدينا. قال أبو زيد عمر بن شبة: حدثني خلاد بن يزيد الأرقط، قال: كان شبيب ينعى لأمه فيقال: قتل فلا تقبل قال: فقيل لها: إنه غرق، فقبلت، وقالت: إني رأيت حين ولدته أنه خرج مني شهاب نار، فعلمت أنه لا يطفئه إلا الماء. قال هشام عن ابى مخنف: حدثنى فروه بن لقيط الأزدي ثم الغامرى أن يزيد بن نعيم أبا شبيب كان ممن دخل في جيش سلمان بن ربيعة إذ بعث به وبمن معه الوليد بن عقبة عن أمر عثمان إياه بذلك مددا لأهل الشام أرض الروم، فلما قفل المسلمون اقيم السبى للبيع، فراى يزيد ابن نعيم أبو شبيب جارية حمراء، لا شهلاء ولا زرقاء طويلة جميلة تأخذها العين، فابتاعها ثم أقبل بها، وذلك سنة خمس وعشرين أول السنة، فلما أدخلها الكوفة قال: أسلمي، فأبت عليه فضربها فلم تزدد إلا عصيانا، فلما رأى ذلك أمر بها فأصلحت، ثم دعا بها فأدخلت عليه، فلما تغشاها تلقت منه بحمل فولدت شبيبا، وذلك سنة خمس وعشرين في ذي الحجة في يوم النحر يوم السبت وأحبت مولاها حبا شديدا- وكانت حدثة- وقالت: إن شئت أجبتك إلى ما سألتني من الاسلام، فقال لها: شئت، فأسلمت، وولدت شبيبا وهي مسلمة، وقالت: إني رأيت فيما يرى النائم أنه خرج من قبلي شهاب فثقب يسطع حتى بلغ السماء وبلغ الآفاق كلها، فبينا هو كذلك إذ وقع في ماء كثير جار فخبا، وقد ولدته في يومكم هذا الذي تهريقون فيه الدماء، وإني

قد أولت رؤياي هذه أني أرى ولدي هذا غلاما، أراه سيكون صاحب دماء يهريقها، وإني أرى أمره سيعلو ويعظم سريعا قال: فكان أبوه يختلف به وبأمه إلى البادية إلى أرض قومه على ماء يدعى اللصف. قال أبو مخنف: وحدثني موسى بن أبي سويد بن رادي أن جند أهل الشام الذين جاءوا حملوا معهم الحجر فقالوا: لا نفر من شبيب حتى يفر هذا الحجر، فبلغ شبيبا أمرهم، فأراد أن يكيدهم، فدعا بأفراس أربعة، فربط في أذنابها ترسة في ذنب كل فرس ترسين، ثم ندب معه ثمانية نفر من أصحابه، ومعه غلام له يقال له حيان، وأمره أن يحمل معه إداوة من ماء، ثم سار حتى يأتي ناحية من العسكر، فأمر أصحابه أن يكونوا في نواحي العسكر، وأن يجعلوا مع كل رجلين فرسا، ثم يمسوها الحديد حتى تجد حرة ويخلوها في العسكر، وواعدهم تلعة قريبة من العسكر، فقال: من نجا منكم فإن موعده هذه التلعة، وكره أصحابه الإقدام على ما أمرهم به، فنزل حيث رأى ذلك منهم حتى صنع بالخيل مثل الذي أمرهم، ثم وغلت في العسكر، ودخل يتلوها محكما فضرب الناس بعضهم بعضا، فقام صاحبهم الذي كان عليهم، وهو حبيب بن عبد الرحمن الحكمي، فنادى: أيها الناس، إن هذه مكيدة، فالزموا الأرض حتى يتبين لكم الأمر، ففعلوا وبقي شبيب في عسكرهم، فلزم الأرض حيث رآهم قد سكنوا، وقد أصابته ضربة عمود أوهنته، فلما أن هدأ الناس ورجعوا إلى أبنيتهم خرج في غمارهم حتى أتى التلعة، فإذا هو بحيان، فقال: أفرغ يا حيان على رأسي من الماء، فلما مد رأسه ليصب عليه من الماء هم حيان أن يضرب عنقه، فقال لنفسه: لا أجد لي مكرمة ولا ذكرا أرفع من قتلي هذا، وهو امانى عند الحجاج، فاستقبلته الرعده حيث هم بما هم به، فلما أبطأ بحل الإداوة قال: ما يبطئك بحلها! فتناول السكين من موزجه فخرقها به، ثم ناولها إياه، فأفرغ عليه من الماء فقال حيان: منعني والله الجبن وما أخذني من

خروج مطرف بن المغيره على الحجاج وعبد الملك

الرعدة أن أضرب عنقه بعد ما هممت به ثم لحق شبيب بأصحابه في عسكره. خروج مطرف بن المغيره على الحجاج وعبد الملك قال أبو جعفر: وفي هذه السنة خرج مطرف بن المغيرة بن شعبة على الحجاج، وخلع عبد الملك بن مروان ولحق بالجبال فقتل. ذكر السبب الذي كان عند خروجه وخلعه عبد الملك بن مروان: قَالَ هِشَامٌ عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يوسف بن يزيد بن بكر الأزدي أن بني المغيرة بن شعبة كانوا صلحاء نبلاء، أشرافا بأبدانهم سوى شرف أبيهم ومنزلتهم في قومهم قال: فلما قدم الحجاج فلقوه وشافههم علم أنهم رجال قومه وبنو أبيه، فاستعمل عروة بن المغيرة على الكوفة، ومطرف بن المغيرة على المدائن، وحمزة بن المغيرة على همدان. قال أبو مخنف: فحدثني الحصين بن يَزِيدَ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سعد بن نفيل الأزدي، قال: قدم علينا مطرف بن المغيرة بن شعبة المدائن فصعد الْمِنْبَر فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الناس، إن الأمير الحجاج أصلحه الله قد ولاني عليكم، وأمرني بالحكم بالحق، والعدل في السيرة، فإن عملت بما أمرني به فأنا أسعد الناس، وان لم افعل فنفسي او بقت، وحظ نفسي ضيعت، ألا إني جالس لكم العصرين، فارفعوا إلي حوائجكم، وأشيروا علي بما يصلحكم ويصلح بلادكم، فإني لن آلوكم خيرا ما استطعت ثم نزل. وكان بالمدائن إذ ذاك رجال من أشراف أهل المصر وبيوتات الناس، وبها مقاتلة لا تسعها عدة، إن كان كون بأرض جوخى أو بأرض الأنبار فأقبل مطرف حين نزل حتى جلس للناس في الإيوان، وجاء حكيم بن الحارث الأزدي يمشي نحوه، وكان من وجوه الأزد وأشرافهم، وكان الحجاج قد

استعمله بعد ذلك على بيت المال- فقال له: أصلحك الله! إني كنت منك نائيا حين تكلمت، وإني أقبلت نحوك لأجيبك، فوافق ذلك نزولك، إنا قد فهمنا ما ذكرت لنا، أنه عهد إليك، فأرشد الله العاهد والمعهود إليه، وقد منيت من نفسك العدل، وسألت المعونة على الحق، فأعانك الله على ما نويت، إنك تشبه أباك في سيرته برضا الله والناس، فقال له مطرف: هاهنا إلي، فأوسع له فجلس إلى جنبه. قال أبو مخنف: فحدثني الحصين بن يزيد أنه كان من خير عامل قدم عليهم قط، أقمعه لمريب، وأشده إنكارا للظلم، فقدم عليه بشر بن الأجدع الهمداني، ثم الثوري، وكان شاعرا فقال: اتى كلفت بخود غير فاحشة ... غراء وهنانة حسانة الجيد كأنها الشمس يوم الدجن إذ برزت ... تمشي مع الآنس الهيف الأماليد سل الهوى بعلنداة مذكرة ... عنها إلى المجتدى ذي العرف والجود إلى الفتى الماجد الفياض نعرفه ... في الناس ساعة يحلى كل مردود من الأكارم أنسابا إذا نسبوا ... والحامل الثقل يوم المغرم الصيد إني أعيذك بالرحمن من نفر ... حمر السبال كأسد الغابة السود فرسان شيبان لم نسمع بمثلهمُ ... أبناء كل كريم النجل صنديد شدوا على ابن حصين في كتيبته ... فغادروه صريعا ليلة العيد وابن المجالد أردته رماحهمُ ... كأنما زل عن خوصاء صيخود وكل جمع بروذابار كان لهم ... قد فض بالطعن بين النخل والبيد فقال له: ويحك! ما جئت الا لترغبنا وقد كان شبيب أقبل من ساتيدما، فكتب مطرف إلى الحجاج: أما بعد، فإني أخبر الأمير أكرمه الله أن شبيبا قد أقبل نحونا، فإن رأى الأمير أن يمدني برجال أضبط بهم المدائن فعل، فإن المدائن باب الكوفة وحصنها

فبعث إليه الحجاج بن يوسف سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف في مائتين وعبد الله بن كناز في مائتين، وجاء شبيب فاقبل حتى نزل قناطر حذيفة، ثم جاء حتى انتهى إلى كلواذا، فعبر منها دجلة، ثم أقبل حتى نزل مدينة بهرسير ومطرف بن المغيرة في المدينة العتيقة التي فيها منزل كسرى والقصر الأبيض، فلما نزل شبيب بهرسير قطع مطرف الجسر فيما بينه وبين شبيب، وبعث إلى شبيب أن ابعث إلي رجالا من صلحاء أصحابك ادار سهم القرآن، وأنظر ما تدعون إليه، فبعث إليه رجالا، منهم سويد بن سليم وقعنب والمحلل بن وائل، فلما أدني منهم المعبر وأرادوا ان ينزلوا فيه ارسل اليهم شبيب الا تدخلوا السفينة حتى يرجع إلي رسولي من عند مطرف، وبعث إلى مطرف: أن ابعث إلي بعدة من أصحابك حتى ترد علي أصحابي، فقال لرسوله: القه فقل له: فكيف آمنك على أصحابي إذا بعثتهم الآن إليك، وأنت لا تأمنني على أصحابك! فأرسل إليه شبيب: إنك قد علمت أنا لا نستحل في ديننا الغدر، وأنتم تفعلونه وتهونونه فسرح إليه مطرف الربيع بن يزيد الأسدي، وسُلَيْمَان بن حذيفة بن هلال بن مالك المزني، ويزيد بن أبي زياد مولى المغيرة- وكان على حرس مطرف- فلما وقعوا في يديه بعث أصحابه إليه. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي النضر بن صالح، قال: كنت عند مطرف ابن المغيرة بن شعبة فما أدري أقال: أني كنت في الجند الذين كانوا معه، أو قال: كنت بإزائه حيث دخلت عليه رسل شبيب! وكان لي ولأخي ودا مكرما، ولم يكن ليستر منا شيئا، فدخلوا عليه وما عنده أحد من الناس غيري وغير أخي حلام بن صالح، وهم ستة ونحن ثلاثة، وهم شاكون في السلاح، ونحن ليس علينا إلا سيوفنا، فلما دنوا قال سويد: السلام على من خاف مقام ربه وعرف الهدى وأهله، فقال له مطرف: أجل، فسلم الله على أولئك، ثم جلس القوم، فقال لهم

مطرف: قصوا علي أمركم، وخبروني ما الذي تطلبون؟ والام تدعون؟ فحمد الله سويد بن سليم وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن الذي ندعو اليه كتاب الله وسنه محمد ص، وإن الذي نقمنا على قومنا الاستئثار بالفيء وتعطيل الحدود والتسلط بالجبرية فقال لهم مطرف: ما دعوتم إلا إلى حق، ولا نقمتم إلا جورا ظاهرا، أنا لكم على هذا متابع، فتابعوني إلى ما أدعوكم إليه ليجتمع أمري وأمركم، وتكون يدي وأيديكم واحدة، فقالوا: هات، اذكر ما تريد أن تذكر، فإن يكن ما تدعونا إليه حقا نجبك، قال: فإني أدعوكم إلى أن نقاتل هؤلاء الظلمة العاصين على إحداثهم الذي أحدثوا، وأن ندعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه، وأن يكون هذا الأمر شورى بين المسلمين، يؤمرون عليهم من يرضون لأنفسهم على مثل الحال التي تركهم عليها عمر بن الخطاب، فإن العرب إذا علمت ان ما يراد بالشورى الرضا من قريش رضوا، وكثر تبعكم منهم وأعوانكم على عدوكم، وتم لكم هذا الأمر الذي تريدون. قال: فوثبوا من عنده، وقالوا: هذا ما لا نجيبك إليه أبدا، فلما مضوا فكادوا أن يخرجوا من صفة البيت التفت إليه سويد بن سليم، فقال: يا بن المغيرة، لو كان القوم عداة غدرا كنت قد أمكنتهم من نفسك، ففزع لها مطرف، وقال: صدقت وإله موسى وعيسى. قال: ورجعوا إلى شبيب فأخبروه بمقالته، فطمع فيه، وقال لهم: ان أصبحتم فليأته أحدكم، فلما أصبحوا بعث إليه سويد وأمره بأمره، فجاء سويد حتى انتهى إلى باب مطرف، فكنت أنا المستأذن له، فلما دخل وجلس أردت أن أنصرف، فقال لي مطرف: اجلس فليس دونك ستر، فجلست وأنا يومئذ شاب أغيد، فقال له سويد: من هذا الذى ليس لك دونه ستر؟ فقال له: هذا الشريف الحسيب، هذا ابن مالك بن زهير بن جذيمة، فقال له: بخ أكرمت فارتبط، إن كان دينه على

قدر حسبه فهو الكامل، ثم أقبل عليه فقال: إنا لقينا أمير المؤمنين بالذي ذكرت لنا، فقال لنا: القوه فقولوا له: ألست تعلم أن اختيار المسلمين منهم خيرهم لهم فيما يرون رأي رشيد! فقد مضت به السنه بعد الرسول ص، فإذا قال لكم: نعم، فقولوا له: فإنا قد اخترنا لأنفسنا أرضانا فينا، وأشدنا اضطلاعا لما حمل، فما لم يغير ولم يبدل فهو ولي أمرنا وقال لنا: قولوا له فيما ذكرت لنا من الشورى حين قلت: أن العرب إذا علمت أنكم إنما تريدون بهذا الأمر قريشا كان أكثر لتبعكم منهم، فإن أهل الحق لا ينقصهم عند الله أن يقلوا، ولا يزيد الظالمين خيرا أن يكثروا، وإن تركنا حقنا الذي خرجنا له، ودخولنا فيما دعوتنا إليه من الشورى خطيئة وعجز ورخصة إلى نصر الظالمين ووهن، لأنا لا نرى أن قريشا أحق بهذا الأمر من غيرها من العرب وقال: فإن زعم أنهم أحق بهذا الأمر من غيرها من العرب فقولوا له: ولم ذاك؟ فان قال: لقرابه محمد ص بهم فقولوا له: فو الله ما كان ينبغي إذا لأسلافنا الصالحين من المهاجرين الأولين أن يتولوا على أسرة مُحَمَّد، ولا على ولد أبي لهب لو لم يبق غيرهم، ولولا أنهم علموا أن خير الناس عند الله أتقاهم، وأن أولاهم بهذا الأمر أتقاهم وأفضلهم فيهم، وأشدهم اضطلاعا بحمل أمورهم ما تولوا أمور الناس، ونحن أول من أنكر الظلم وغير الجور وقاتل الأحزاب، فإن اتبعنا فله ما لنا وعليه ما علينا، وهو رجل من المسلمين، وإلا يفعل فهو كبعض من نعادي ونقاتل من المشركين. فقال له مطرف: قد فهمت ما ذكرت، ارجع يومك هذا حتى تنظر في أمرنا. فرجع، ودعا مطرف رجالا من أهل ثقاته واهل نصائحه، منهم سُلَيْمَان بن حذيفة المزني والربيع بن يزيد الأسدي قال النضر بن صالح: وكنت أنا ويزيد بن أبي زياد مولى المغيرة بن شعبة قائمين على

رأسه بالسيف، وكان على حرسه، فقال لهم مطرف: يا هؤلاء، إنكم نصحائي وأهل مودتي ومن أثق بصلاحه وحسن رأيه، والله ما زلت لأعمال هؤلاء الظلمة كارها، أنكرها بقلبي، وأغيرها ما استطعت بفعلي وأمري، فلما عظمت خطيئتهم، ومر بي هؤلاء القوم يجاهدونهم، لم أر أنه يسعني إلا مناهضتهم وخلافهم إن وجدت أعوانا عليهم، وإني دعوت هؤلاء القوم فقلت لهم كيت وكيت، وقالوا لي كيت وكيت، فلست أرى القتال معهم، ولو تابعوني على رأيي وعلى ما وصفت لهم لخلعت عبد الملك والحجاج، ولسرت إليهم أجاهدهم فقال له المزني: إنهم لن يتابعوك، وإنك لن تتابعهم فأخف هذا الكلام ولا تظهره لأحد، وقال له الأسدي مثل ذلك، فجثا مولاه ابن أبي زياد على ركبتيه ثم قال: والله لا يخفى مما كان بينك وبينهم على الحجاج كلمة واحدة، وليزادن على كل كلمة عشرة أمثالها، والله إن لو كنت في السحاب هاربا من الحجاج ليلتمسن أن يصل إليك حتى يهلكك أنت ومن معك، فالنجاء النجاء من مكانك هذا، فإن أهل المدائن من هذا الجانب ومن ذاك الجانب، وأهل عسكر شبيب يتحدثون بما كان بينك وبين شبيب، ولا تمس من يومك هذا حتى يبلغ الخبر الحجاج، فاطلب دارا غير المدائن فقال له صاحباه: ما نرى الرأي إلا كما ذكر لك، قال لهما مطرف: فما عند كما؟ قالا: الإجابة إلى ما دعوتنا إليه والمؤاساة لك بأنفسنا على الحجاج وغيره قال: ثم نظر إلي، فقال: ما عندك؟ فقلت: قتال عدوك، والصبر معك ما صبرت، فقال لي: ذاك الظن بك. قال: ومكث حتى إذا كان في اليوم الثالث أتاه قعنب فقال له: إن تابعتنا فأنت منا، وإن أبيت فقد نابذناك، فقال: لا تعجلوا اليوم فإنا ننظر. قال: وبعث إلى أصحابه أن ارحلوا الليلة من عند آخركم حتى توفوا الدسكرة معي لحدث حدث هنالك

ثم أدلج وخرج أصحابه معه حتى مر بدير يزدجرد فنزله، فلقيه قبيصة بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ القحافي من خثعم، فدعاه إلى صحبته، فصحبه فكساه وحمله، وأمر له بنفقة، ثم سار حتى نزل الدسكرة، فلما أراد أن يرتحل منها لم يجد بدا من أن يعلم أصحابه ما يريد، فجمع إليه رءوس أصحابه، فذكر الله بما هو أهله وصلى على رسوله، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَمَّا بَعْدُ، فإن اللَّه كتب الجهاد على خلقه، وأمر بالعدل والإحسان، وقال فيما أنزل علينا: «وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى، وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» وإني أشهد الله أني قد خلعت عبد الملك بن مروان والحجاج بن يوسف، فمن أحب منكم صحبتي وكان على مثل رأيي فليتابعني، فإن له الأسوة وحسن الصحبة، ومن أبى فليذهب حيث شاء، فإني لست أحب أن يتبعني من ليست له نية في جهاد أهل الجور، أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه وإلى قتال الظلمة، فإذا جمع الله لنا أمرنا كان هذا الأمر شورى بين المسلمين يرتضون لأنفسهم من أحبوا قال: فوثب إليه أصحابه فبايعوه، ثم إنه دخل رحله وبعث إلى سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف وإلى عبد الله بن كناز النهدي فاستخلاهما، ودعاهما إلى مثل ما دعا إليه عامة أصحابه، فأعطياه الرضا، فلما ارتحل انصرفا بمن معهما من أصحابه حتى أتيا الحجاج فوجداه قد نازل شبيبا، فشهدا معه وقعة شبيب قال: وخرج مطرف بأصحابه من الدسكرة موجها نحو حلوان، وقد كان الحجاج بعث في تلك السنة سويد بن عبد الرحمن السعدي على حلوان وماسبذان، فلما بلغه أن مطرف بن المغيرة قد أقبل نحو أرضه عرف أنه إن رفق في أمره أو داهن لا يقبل ذلك منه الحجاج، فجمع له سويد أهل البلد والأكراد، فأما الأكراد فأخذوا عليه ثنية حلوان، وخرج إليه سويد وهو يحب أن يسلم من قتاله، وأن يعافى من الحجاج، فكان خروجه كالتعذير. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ علقمة الخثعمي أن

الحجاج بن جارية الخثعمي حين سمع بخروج مطرف من المدائن نحو الجبل أتبعه في نحو من ثلاثين رجلا من قومه وغيرهم قال: وكنت فيهم فلحقناه بحلوان، فكنا ممن شهد معه قتال سويد بن عبد الرحمن. قال أبو مخنف: وحدثني بذلك أيضا النضر قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ علقمة قال: ما هو إلا أن قدمنا على مطرف بن المغيرة، فسر بمقدمنا عليه، واجلس الحجاج ابن جارية معه على مجلسه. قال أبو مخنف: وحدثني النضر بن صالح، وعبد الله بن علقمه، ان سويدا لما خرج اليهم بمن معه وقف في الرجال ولم يخرج بهم من البيوت، وقدم ابنه القعقاع في الخيل، وما خيله يومئذ بكثير. قَالَ أَبُو مخنف: قَالَ النضر بن صالح: أراهم كانوا مائتين، وقال ابن ابن علقمه: اراهم كانوا ينقصون عن الثلاثمائة قال: فدعا مطرف الحجاج بن جارية فسرحه إليهم في نحو من عدتهم، فأقبلوا نحو القعقاع وهم جادون في قتاله، وهم فرسان متعالمون، فلما رآهم سويد قد تيسروا نحو ابنه أرسل إليهم غلاما له يقال له رستم- قتل معه بعد ذلك بدير الجماجم- وفي يده راية بني سعد، فانطلق غلامه حتى انتهى إلى الحجاج بن جارية، فأسر إليه: إن كنتم تريدون الخروج من بلادنا هذه إلى غيرها فاخرجوا عنا، فإنا لا نريد قتالكم، وإن كنتم إيانا تريدون فلا بد من منع ما في أيدينا فلما جاءه بذلك قال له الحجاج بن جارية: ائت أميرنا فاذكر له ما ذكرت لي، فخرج حتى أتى مطرفا فذكر له مثل الذي ذكر للحجاج بن جارية، فقال له مطرف: ما أريدكم ولا بلادكم، فقال له: فالزم هذا الطريق حتى تخرج من بلادنا، فإنا لا نجد بدا من أن يرى الناس وتسمع بذلك إنا قد خرجنا إليك قال: فبعث مطرف إلى الحجاج فأتاه، ولزموا الطريق حتى مروا بالثنية فإذا الأكراد بها، فنزل مطرف ونزل معه عامة أصحابه

وصعد إليهم في الجانب الأيمن الحجاج بن جارية، وفي الجانب الأيسر سُلَيْمَان بن حذيفة، فهزماهم وقتلاهم، وَسَلَّمَ مطرف وأصحابه فمضوا حتى دنوا من همذان، فتركها وأخذ ذات اليسار إلى ماه دينار، وكان أخوه حمزة بن المغيرة على همذان، فكره أن يدخلها فيتهم أخوه عند الحجاج، فلما دخل مطرف أرض ماه دينار كتب إلى أخيه حمزة: أما بعد، فإن النفقة قد كثرت والمؤنة قد اشتدت، فأمدد أخاك بما قدرت عليه من مال وسلاح. وبعث إليه يزيد بن أبي زياد مولى المغيرة بن شعبة، فجاء حتى دخل على حمزة بكتاب مطرف ليلا، فلما رآه قال له: ثكلتك أمك! أنت قتلت مطرفا؟ فقال له: ما أنا قتلته جعلت فداك! ولكن مطرفا قتل نفسه وقتلني، وليته لا يقتلك، فقال له: ويحك! من سول له هذا الأمر! فقال: نفسه سولت هذا له ثم جلس إليه فقص عليه القصص، وأخبره بالخبر، ودفع كتاب مطرف إليه، فقرأه ثم قال: نعم، وأنا باعث إليه بمال وسلاح، ولكن أخبرني ترى ذلك يخفى لي؟ قال: ما أظن أن يخفى، فقال له حمزه: فو الله لئن أنا خذلته في أنفع النصرين له نصر العلانية، لا أخذله في أيسر النصرين نصر السريرة. قال: فسرح إليه مع يزيد بن أبي زياد بمال وسلاح، فأقبل به حتى أتى مطرفا ونحن نزول في رستاق من رساتيق ماه دينار، يقال له: سامان متاخم ارض أصبهان، وهو رستاق كانت الحمراء تنزله. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي النضر بن صالح، قال: والله ما هو إلا أن مضى يزيد بن أبي زياد، فسمعت أهل العسكر يتحدثون أن الأمير بعث إلى أخيه يسأله النفقة والسلاح، فأتيت مطرفا فحدثته بذلك، فضرب بيده على جبهته ثم قال: سبحان الله!، قال الأول: ما يخفى الا مالا يكون،

قال: وما هو إلا أن قدم يزيد بن أبي زياد علينا، فسار مطرف بأصحابه حتى نزل قم وقاشان وأصبهان. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ علقمة أن مطرفا حين نزل قم وقاشان واطمأن، دعا الحجاج بن جارية فقال له: حدثني عن هزيمة شبيب يوم السبخة أكانت وأنت شاهدها، أم كنت خرجت قبل الوقعة؟ قال: لا، بل شهدتها، قال: فحدثني حديثهم كيف كان؟ فحدثه، فقال: إني كنت أحب أن يظفر شبيب وإن كان ضالا. فيقتل ضالا قال: فظننت أنه تمنى ذلك لأنه كان يرجو أن يتم له الذي يطلب لو هلك الحجاج قال: ثم إن مطرفا بعث عماله. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي النضر بن صالح أن مطرفا عمل عملا حازما لولا أن الأقدار غالبة قال: كتب مع الربيع بن يزيد الى سويد ابن سرحان الثقفي، وإلى بكير بن هارون البجلي: أما بعد، فإنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، وإلى جهاد من عند عن الحق، واستأثر بالفيء، وترك حكم الكتاب، فإذا ظهر الحق ودمغ الباطل، وكانت كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا، جعلنا هذا الأمر شورى بين الأمة يرتضي المسلمون لأنفسهم الرضا، فمن قبل هذا منا كان أخانا في ديننا، وولينا في محيانا ومماتنا، ومن رد ذلك علينا جاهدناه واستنصرنا الله عليه فكفى بنا عليه حجة، وكفى بتركه الجهاد في سبيل الله غبنا، وبمداهنة الظالمين في أمر الله وهنا! إن الله كتب القتال على المسلمين وسماه كرها، ولن ينال رضوان الله إلا بالصبر على أمر الله، وجهاد أعداء الله، فأجيبوا رحمكم الله إلى الحق، وادعوا إليه من ترجون اجابته، وعرفوه مالا يعرفه، وليقبل إلي كل من رأى رأينا، وأجاب دعوتنا، ورأى عدوه عدونا. أرشدنا الله وإياكم، وتاب علينا وعليكم، إنه هو التواب الرحيم والسلام

فلما قدم الكتاب على ذينك الرجلين دبا في رجال من أهل الري ودعوا من تابعهما، ثم خرجا في نحو من مائة من أهل الري سرا لا يفطن بهم، فجاءوا حتى وافوا مطرفا وكتب البراء بن قبيصة، وهو عامل الحجاج على أصبهان: أما بعد، فإن كان للأمير أصلحه الله حاجة في أصبهان فليبعث إلى مطرف جيشا كثيفا يستأصله ومن معه، فإنه لا تزال عصابة قد انتفحت له من بلدة من البلدان حتى توافيه بمكانه الذي هو به، فإنه قد استكثف وكثر تبعه، والسلام. فكتب إليه الحجاج: أما بعد، إذا أتاك رسولي فعسكر بمن معك، فإذا مر بك عدى ابن وتاد فاخرج معه في أصحابك، واسمع له وأطع والسلام. فلما قرأ كتابه خرج فعسكر، وجعل الحجاج بن يوسف يسرح إلى البراء بن قبيصة الرجال على دواب البريد عشرين عشرين، وخمسة عشر خمسة عشر، وعشرة عشرة، حتى سرح اليه نحوا من خمسمائة، وكان في ألفين. وكان الأسود بن سعد الهمذاني أتى الري في فتح الله على الحجاج يوم لقي شبيبا بالسبخة، فمر بهمذان والجبال، ودخل على حمزة فاعتذر إليه، فقال الأسود: فأبلغت الحجاج عن حمزة، فقال: قد بلغني ذاك، وأراد عزله، فخشي أن يمكر به، وأن يمتنع منه، فبعث إلى قيس بن سعد العجلي- وهو يومئذ على شرطة حمزة بن المغيرة ولبني عجل وربيعة عدد بهمذان- فبعث إلى قيس بن سعد بعهده على همذان، وكتب اليه ان اوثق حمزه ابن المغيرة في الحديد، واحبسه قبلك حتى يأتيك أمري. فلما أتاه عهده وأمره أقبل ومعه ناس من عشيرته كثير، فلما دخل المسجد وافق الإقامة لصلاة العصر، فصلى حمزة، فلما انصرف حمزة انصرف معه

قيس بن سعد العجلي صاحب شرطه، فأقرأه كتاب الحجاج إليه، وأراه عهده، فقال حمزة سمعا وطاعة، فأوثقه وحبسه في السجن، وتولى أمر همذان، وبعث عماله عليها، وجعل عماله كلهم من قومه، وكتب إلى الحجاج: أما بعد، فإني أخبر الأمير أصلحه الله، أني قد شددت حمزة بن المغيرة في الحديد، وحبسته في السجن، وبعثت عمالي على الخراج، ووضعت يدي في الجباية، فإن رأى الأمير أبقاه الله أن يأذن لي في المسير إلى مطرف أذن لي حتى أجاهده في قومي، ومن أطاعني من أهل بلادي، فإني أرجو أن يكون الجهاد أعظم أجرا من جباية الخراج والسلام. فلما قرأ الحجاج كتابه ضحك ثم قال: هذا جانب آثرا ما قد أمناه. وقد كان حمزة بهمذان أثقل ما خلق الله على الحجاج مخافة أن يمد أخاه بالسلاح والمال، ولا يدري لعله يبدو له فيعق، فلم يزل يكيده حتى عزله، فاطمان وقصد قصد مطرف. قال أبو مخنف: فحدثني مطرف بن عامر بن واثلة أن الحجاج لما قرأ كتاب قيس بن سعد العجلي وسمع قوله: إن أحب الأمير سرت إليه حتى أجاهده في قومي، قال: ما أبغض إلي أن تكثر العرب في أرض الخراج. قال: فقال لي ابن الغرق: ما هو إلا أن سمعتها من الحجاج فعلمت أنه لو قد فرغ له قد عزله. قال: وحدثني النضر بن صالح أن الحجاج كتب إلى عدي بن وتاد الإيادي وهو على الري يأمره بالمسير إلى مطرف بن المغيرة وبالممر على البراء ابن قبيصة، فإذا اجتمعوا فهو أمير الناس. قال أبو مخنف: وحدثني أبي عن عبد الله بن زهير،، عن عبد الله بن سليم الأزدي قال: إني لجالس مع عدي بن وتاد على مجلسه بالري إذ أتاه كتاب الحجاج، فقرأه ثم دفعه إلي، فقرأته فإذا فيه: أما بعد، فإذا قرأت كتابي هذا فانهض بثلاثة أرباع من معك من أهل الري، ثم أقبل حتى تمر بالبراء بن قبيصة بجى، ثم سيرا جميعا، فإذا

لقيتهما فأنت أمير الناس حتى يقتل الله مطرفا، فإذا كفى الله المؤمنين مؤنته فانصرف إلى عملك في كنف من الله وكلاءته وستره فلما قرأته قال لي: قم وتجهز. قال: وخرج فعسكر، ودعا الكتاب فضربوا البعث على ثلاثة أرباع الناس، فما مضت جمعة حتى سرنا فانتهينا إلى جي، ويوافينا بها قبيصة القحافى في تسعمائة من أهل الشام، فيهم عمر بن هبيرة، قال: ولم نلبث بجي إلا يومين حتى نهض عدي بن وتاد بمن أطاعه من الناس ومعه ثلاثة آلاف مقاتل من أهل الري وألف مقاتل مع البراء بن قبيصة بعثهم اليه الحجاج من الكوفه، وسبعمائة من أهل الشام، ونحو ألف رجل من أهل أصبهان والأكراد، فكان في قريب من ستة آلاف مقاتل، ثم أقبل حتى دخل على مطرف بن المغيرة. قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي النضر بن صالح، عن عبد الله بن علقمة، أن مطرفا لما بلغه مسيرهم اليه خندق على اصحابه خندقا، فلم يزالوا فيه حتى قدموا عليه. قال أبو مخنف: وحدثني يزيد مولى عبد الله بن زهير، قال: كنت مع مولاي إذ ذاك، قال: خرج عدي بن وتاد فعبى الناس، فجعل على ميمنته عبد الله بن زهير، ثم قال للبراء بن قبيصة: قم في الميسرة، فغضب البراء، وقال: تأمرني بالوقوف في الميسرة وأنا أمير مثلك! تلك خيلي في الميسرة، وقد بعثت عليها فارس مضر الطفيل بن عامر بن وائلة، قال: فأنهي ذلك إلى عدي بن وتاد، فقال لابن أقيصر الخثعمي: انطلق فأنت على الخيل، وانطلق إلى البراء بن قبيصة فقل له: إنك قد أمرت بطاعتي، ولست من الميمنة والميسرة والخيل والرجالة في شيء، إنما عليك أن تؤمر فتطيع، ولا تعرض لي في شيء أكرهه فأتنكر لك- وقد كان له مكرما. ثم إن عديا بعث على الميسرة عمر بن هبيرة، وبعثه في مائة من أهل الشام، فجاء حتى وقف برايته، فقال رجل من أصحابه للطفيل بن عامر:

خل رايتك وتنح عنا، فإنما نحن أصحاب هذا الموقف، فقال الطفيل: إني لا أخاصمكم، إنما عقد لي هذه الراية البراء بن قبيصة، وهو أميرنا، وقد علمنا أن صاحبكم على جماعة الناس، فإن كان قد عقد لصاحبكم هذا فبارك الله له، ما أسمعنا وأطوعنا! فقال لهم عمر بن هبيرة: مهلا، كفوا عن أخيكم وابن عمكم، رايتنا رايتك، فإن شئت آثرناك بها قال: فما رأينا رجلين كانا أحلم منهما في موقفهما ذلك قال: ونزل عدي بن وتاد ثم زحف نحو مطرف قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي النضر بن صالح وعبد الله بن علقمة أن مطرفا بعث على ميمنته الحجاج بن جارية، وعلى ميسرته الربيع بن يزيد الأسدي، وعلى الحامية سليمان بن صخر المزنى، ونزل هو يمشي في الرجال، ورايته مع يزيد بن أبي زياد مولى أبيه المغيرة بن شعبة قال: فلما زحف القوم بعضهم إلى بعض وتدانوا قال لبكير بن هارون البجلي: اخرج إليهم فادعهم إلى كتاب الله وسنة نبيه، وبكتهم بأعمالهم الخبيثة فخرج إليهم بكير بن هارون على فرس له أدهم أقرح ذنوب عليه الدرع والمغفر والساعدان، في يده الرمح، وقد شد درعه بعصابة حمراء من حواشي البرود، فنادى بصوت له عال رفيع: يا أهل قبلتنا، وأهل ملتنا، وأهل دعوتنا، إنا نسألكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي علمه بما تسرون مثل علمه بما تعلنون لما أنصفتمونا وصدقتمونا، وكانت نصيحتكم لله لا لخلقه، وكنتم شهداء لله على عباده بما يعلمه الله من عباده خبروني عن عبد الملك بن مروان، وعن الحجاج بن يوسف، ألستم تعلمونهما جبارين مستأثرين يتبعان الهوى، فيأخذان بالظنة، ويقتلان على الغضب قال: فتنادوا من كل جانب: يا عدو الله كذبت، ليسا كذلك، فقال لهم: وَيْلَكُمْ «لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى» ويلكم، أوتعلمون من الله ما لا يعلم، إني قد استشهدتكم وقد قال الله في الشهاده: «وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ» ،

فخرج إليه صارم مولى عدي بن وتاد وصاحب رايته، فحمل على بكير ابن هارون البجلي، فاضطربا بسيفيهما، فلم تعمل ضربة مولى عدي شيئا، وضربه بكير بالسيف فقتله، ثم استقدم، فقال: فارس لفارس، فلم يخرج إليه أحد، فجعل يقول: صارم قد لاقيت سيفا صارما ... وأسدا ذا لبده ضبار ما قال: ثم إن الحجاج بن جارية حمل وهو في الميمنة على عمر بن هبيرة وهو في الميسره، وفيها الطفيل بن عامر بن وائله، فالتقى هو والطفيل- وكانا صديقين متؤاخيين- فتعارفا، وقد رفع كل واحد منهما السيف على صاحبه، فكفا أيديهما، واقتتلوا طويلا ثم إن ميسرة عدي بن وتاد زالت غير بعيد، وانصرف الحجاج بن جارية إلى موقفه ثم إن الربيع بن يزيد حمل على عبد الله بن زهير، فاقتتلوا طويلا، ثم إن جماعة الناس حملت على الأسدي فقتلته، وانكشفت ميسره مطرف ابن المغيرة حتى انتهت إليه ثم إن عمر بن هبيرة حمل على الحجاج بن جارية وأصحابه فقاتله قتالا طويلا، ثم إنه حذره حتى انتهى إلى مطرف، وحمل ابن أقيصر الخثعمي في الخيل على سُلَيْمَان بن صخر المزني فقتله، وانكشفت خيلهم، حتى انتهى إلى مطرف، فثم اقتتلت الفرسان أشد قتال رآه الناس قط، ثم إنه وصل إلى مطرف قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي النضر بن صالح انه جعل يناديهم يومئذ: «يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. » قال: ولم يزل يقاتل حتى قتل، واحتز رأسه عمر بن هبيرة، وذكر أنه قتله، وقد كان أسرع إليه غير واحد، غير أن ابن هبيرة احتز رأسه وأوفده

به عدي بن وتاد وحظي به، وقاتل عمر بن هبيرة يومئذ وأبلى بلاء حسنا. قال أبو مخنف: وقد حدثني حكيم بن أبي سفيان الأزدي أنه قتل يزيد بن زياد مولى المغيرة بن شعبة، وكان صاحب راية مطرف قال: ودخلوا عسكر مطرف، وكان مطرف قد جعل على عسكره عبد الرحمن بن عبد الله بن عفيف الأزدي، فقتل، وكان صالحا ناسكا عفيفا. أبو مخنف: حدثني زيد مولاهم أنه رأى رأسه مع ابن أقيصر الخثعمي فما ملكت نفسي أن قلت له: أما والله لقد قتلته من المصلين العابدين الذاكرين الله كثيرا قال: فأقبل نحوي وقال: من أنت؟ فقال له مولاي: هذا غلامي ما له؟ قال: فأخبره بمقالتي، فقال: إنه ضعيف العقل، قال: ثم انصرفنا إلى الري مع عدي بن وتاد قال: وبعث رجالا من أهل البلاء إلى الحجاج، فأكرمهم وأحسن إليهم قال: ولما رجع إلى الري جاءت بجيلة إلى عدي بن وتاد فطلبوا لبكير بن هارون الأمان فآمنه، وطلبت ثقيف لسويد بن سرحان الثقفي الأمان فآمنه، وطلبت في كل رجل كان مع مطرف عشيرته، فآمنهم وأحسن في ذلك، وقد كان رجال من أصحاب مطرف أحيط بهم في عسكر مطرف، فنادوا: يا براء، خذ لنا الأمان، يا براء، اشفع لنا. فشفع لهم، فتركوا، وأسر عدي ناسا كثيرا فخلى عنهم. قال أبو مخنف: وحدثني النضر بن صالح أنه أقبل حتى قدم على سويد بن عبد الرحمن بحلوان، فأكرمه وأحسن إليه، ثم إنه انصرف بعد ذلك إلى الكوفة. قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ علقمة أن الحجاج بن جارية الخثعمي أتى الري وكان مكتبه بها، فطلب إلى عدي فيه، فقال: هذا رجل مشهور قد شهر مع صاحبه، وهذا كتاب الحجاج إلي فيه. قال أبو مخنف: فحدثني أبي عن عبد الله بن زهير قال كنت فيمن كلمه في الحجاج بن جارية، فأخرج إلينا كتاب الحجاج بن يوسف:

ذكر الخبر عن وقوع الخلاف بين الازارقه

أما بعد: فإن كان الله قتل الحجاج بن جارية فبعدا له فذاك ما أهوى وأحب، وإن كان حيا فاطلبه قبلك حتى توثقه، ثم سرح به إلي إن شاء الله والسلام. قال: فقال لنا: قد كتب إلي فيه، ولا بد من السمع والطاعة، ولو لم يكتب إلي فيه آمنته لكم، وكففت عنه فلم أطلبه وقمنا من عنده. قال: فلم يزل الحجاج بن جارية خائفا حتى عزل عدي بن وتاد، وقدم خالد ابن عتاب بن ورقاء، فمشيت إليه فيه، فكلمته فآمنه وقال حبيب بن خدرة مولى لبني هلال بن عامر: هل أتى فائد عن أيسارنا ... إذ خشينا من عدو خرقا إذ أتانا الخوف من مأمننا ... فطوينا في سواد أفقا وسلي هدية يوما هل رأت ... بشرا أكرم منا خلقا! وسليها أعلى العهد لنا ... أو يصرون علينا حنقا! ولكم من خلة من قبلها ... قد صرمنا حبلها فانطلقا قد أصبنا العيش عيشا ناعما ... وأصبنا العيش عيشا رنقا وأصبت الدهر دهرا أشتهي ... طبقا منه وألوي طبقا وشهدت الخيل في ملمومة ... ما ترى منهن إلا الحدقا يتساقون بأطراف القنا ... من نجيع الموت كأسا دهقا فطراد الخيل قد يؤنقني ... ويرد اللهو عني الأنقا بمشيح البيض حتى يتركوا ... لسيوف الهند فيها طرقا فكأني من غد وافقتها ... مثل ما وافق شن طبقا ذكر الخبر عن وقوع الخلاف بين الازارقه قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وقع الاختلاف بين الأزارقة أصحاب

قطري بن الفجاءة، فخالفه بعضهم واعتزله، وبايع عبد ربه الكبير، وأقام بعضهم على بيعة قطري. ذكر الخبر عن ذلك، وعن السبب الذي من أجله حدث الاختلاف بينهم حتى صار أمرهم إلى الهلاك: ذكر هشام عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ يَزِيدَ، أن المهلب أقام بسابور فقاتل قطريا وأصحابه من الأزارقة بعد ما صرف الحجاج عتاب بن ورقاء عن عسكره نحوا من سنة ثم إنه زاحفهم يوم البستان فقاتلهم قتالا شديدا، وكانت كرمان في أيدي الخوارج، وفارس في يد المهلب، فكان قد ضاق عليهم مكانهم الذي هم به، لا يأتيهم من فارس مادة، وبعدت ديارهم عنهم، فخرجوا حتى أتوا كرمان وتبعهم المهلب حتى نزل بجيرفت- وجيرفت مدينة كرمان- فقاتلهم بها أكثر من سنة قتالا شديدا، وحازهم عن فارس كلها، فلما صارت فارس كلها في يدي المهلب بعث الحجاج عليها عماله وأخذها من المهلب، فبلغ ذلك عبد الملك، فكتب إلى الحجاج: أما بعد، فدع بيد المهلب خراج جبال فارس، فإنه لا بد للجيش من قوة، ولصاحب الجيش من معونة، ودع له كورة فسا ودرابجرد، وكورة إصطخر. فتركها للمهلب، فبعث المهلب عليها عماله، فكانت له قوة على عدوه وما يصلحه، ففي ذلك يقول شاعر الأزد وهو يعاتب المهلب: نقاتل عن قصور درابجرد ... ونجبي للمغيرة والرقاد وكان الرقاد بن زياد بن همام- رجل من العتيك- كريما على المهلب، وبعث الحجاج إلى المهلب البراء بن قبيصة، وكتب إلى المهلب: أما بعد، فإنك والله لو شئت فيما ارى لقد اصطلمت هذه الخارجه المارقة، ولكنك تحب طول بقائهم لتأكل الأرض حولك، وقد بعثت إليك البراء بن

قبيصة لينهضك إليهم، فانهض إليهم إذا قدم عليك بجميع المسلمين، ثم جاهدهم أشد الجهاد، وإياك والعلل والأباطيل، والأمور التي ليست لك عندي بسائغة ولا جائزة، والسلام. فأخرج المهلب بينه، كل ابن له في كتيبة، وأخرج الناس على راياتهم ومصافهم واخماسهم، وجاء البراء بن قبيصة فوقف على تل قريب منهم حيث يراهم فأخذت الكتائب تحمل على الكتائب، والرجال على الرجال، فيقتتلون أشد قتال رآه الناس من صلاة الغداة إلى انتصاف النهار، ثم انصرفوا. فجاء البراء بن قبيصة إلى المهلب فقال له: لا والله ما رأيت كبنيك فرسانا قط، ولا كفرسانك من العرب فرسانا قط، ولا رأيت مثل قوم يقاتلونك قط أصبر ولا أبأس، أنت والله المعذور فرجع بالناس المهلب، حتى إذا كان عند العصر خرج إليهم بالناس وبنيه في كتائبهم، فقاتلوه كقتالهم في أول مرة. قال أبو مخنف: وحدثني أبو المغلس الكناني، عن عمه أبي طلحة، قال: خرجت كتيبة من كتائبهم لكتيبة من كتائبنا، فاشتد بينهما القتال، فأخذت كل واحدة منهما لا تصد عن الأخرى، فاقتتلتا حتى حجز الليل بينهما، فقالت إحداهما للأخرى: ممن أنتم؟ فقال هؤلاء: نحن من بني تميم، وقال هؤلاء: نحن من بني تميم، فانصرفوا عند المساء، قال المهلب للبراء: كيف رأيت؟ قال: رأيت قوما والله ما يعينك عليهم إلا الله فأحسن إلى البراء بن قبيصة وأجازه، وحمله وكساه، وأمر له بعشرة آلاف درهم، ثم انصرف إلى الحجاج فأتاه بعذر المهلب، وأخبره بما رأى، وكتب المهلب إلى الحجاج: أما بعد، فقد أتاني كتاب الأمير أصلحه الله، واتهامه إياي في هذه الخارجة المارقة، وأمرني الأمير بالنهوض إليهم، وإشهاد رسوله ذلك، وقد فعلت، فليسأله عما رأى، فاما انا فو الله لو كنت أقدر على استئصالهم وإزالتهم عن مكانهم ثم أمسكت عن ذلك لقد غششت المسلمين، وما وفيت

لأمير المؤمنين، ولا نصحت للأمير- أصلحه الله- فمعاذ الله أن يكون هذا من رأيي، ولا مما أدين الله به، والسلام. ثم إن المهلب قاتلهم بها ثمانية عشر شهرا لا يستقل منهم شيئا، ولا يرى في موطن ينقعون له ولمن معه من أهل العراق من الطعن والضرب ما يرد عونهم به ويكفونهم عنهم ثم إن رجلا منهم كان عاملا لقطري على ناحية من كرمان خرج في سرية لهم يدعى المقعطر من بنى ضبة، فقتل رجلا قد كان ذا بأس من الخوارج، ودخل منهم في ولاية، فقتله المقعطر، فوثبت الخوارج إلى قطري، فذكروا له ذلك، وقالوا: أمكنا من الضبي نقتله بصاحبنا، فقال لهم: ما أرى أن أفعل، رجل تأول فأخطأ في التأويل ما أرى أن تقتلوه، وهو من ذوي الفضل منكم، والسابقة فيكم، قالوا: بلى، قال لهم: لا، فوقع الاختلاف بينهم، فولوا عبد رب الكبير، وخلعوا قطريا، وبايع قطريا منهم عصابة نحوا من ربعهم أو خمسهم، فقاتلهم نحوا من شهر غدوة وعشية. فكتب بذلك المهلب إلى الحجاج: أما بعد، فإن الله قد ألقى بأس الخوارج بينهم، فخلع عظمهم قطريا وبايعوا عبد رب، وبقيت عصابة منهم مع قطري، فهم يقاتل بعضهم بعضا غدو وعشيا، وقد رجوت أن يكون ذلك من أمرهم سبب هلاكهم إن شاء الله، والسلام. فكتب إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ فقد بلغني كتابك تذكر فيه اختلاف الخوارج بينها، فإذا أتاك كتابي هذا فناهضهم على حال اختلافهم وافتراقهم قبل أن يجتمعوا، فتكون مئونتهم عليك أشد، والسلام فكتب إليه: أما بعد، فقد بلغني كتاب الأمير، وكل ما فيه قد فهمت، ولست أرى أن أقاتلهم ما داموا يقتل بعضهم بعضا، وينقص بعضهم عدد بعض، فإن تموا على ذلك فهو الذي نريد وفيه هلاكهم، وإن اجتمعوا لم

يجتمعوا إلا وقد رقق بعضهم بعضا، فأناهضهم على تفيئة ذلك، وهم أهون ما كانوا وأضعفه شوكة، إن شاء الله، والسلام. فكف عنه الحجاج، وتركهم المهلب يقتتلون شهرا لا يحركهم. ثم إن قطريا خرج بمن اتبعه نحو طبرستان، وبايع عامتهم عبد ربه الكبير، فنهض إليهم المهلب، فقاتلوه قتالا شديدا ثم إن الله قتلهم فلم ينج منهم إلا قليل، وأخذ عسكرهم وما فيه وسبوا، لأنهم كانوا يسبون المسلمين وقال كعب الأشقري- والأشقر بطن من الأزد- يذكر يوم رامهرمز، وأيام سابور، وأيام جيرفت. يا حفص إني عداني عنكمُ السفر ... وقد أرقت فآذى عيني السهر علقت يا كعب بعد الشيب غانية ... والشيب فيه عن الأهواء مزدجر أممسك أنت عنها بالذي عهدت ... أم حبلها إذ نأتك اليوم منبتر علقت خودا بأعلى الطف منزلها ... في غرفة دونها الأبواب والحجر درما مناكبها ريا مآكمها ... تكاد إذ نهضت للمشي تنبتر وقد تركت بشط الزابيين لها ... دارا بها يسعد البادون والحضر واخترت دارا بها حي أسر بهم ... ما زال فيهم لمن نختارهم خير لما نبت بي بلادي سرت متجعا ... وطالب الخير مرتاد ومنتظر أبا سعيد فإني جئت منتجعا ... أرجو نوالك لما مسني الضرر لولا المهلب ما زرنا بلادهمُ ... ما دامت الأرض فيها الماء والشجر فما من الناس من حي علمتهمُ ... إلا يرى فيهمُ من سيبكم أثر أحييتهم بسجال من نداك كما ... تحيا البلاد إذا ما مسها المطر.

إني لأرجو إذا ما فاقة نزلت ... فضلا من الله في كفيك يبتدر فاجبر اخالك او هي الفقر قوته ... لعله بعد وهي العظم ينجبر جفا ذوو نسبي عني وأخلفني ... ظني فلله دري كيف آتمر يا واهب القينة الحسناء سنتها ... كالشمس هركولة في طرفها فتر وما تزال بدور منك رائحة ... وآخرون لهم من سيبك الغرر نماك للمجد أملاك ورثتهمُ ... شم العرانين في أخلاقهم يسر ثاروا بقتلى وأوتار تعددها ... في حين لا حدث في الحرب يتئر واستسلم الناس إذ حل العدو بهم ... فما لأمرهمُ ورد ولا صدر وما تجاوز باب الجسر من احد و ... عضت الحرب أهل المصر فانجحروا وأدخل الخوف أجواف البيوت على ... مثل النساء رجال ما بهم غير واشتدت الحرب والبلوى وحل بنا ... أمر تشمر في أمثاله الأزر نظل من دون خفض معصمين بهم ... فشمر الشيخ لما اعظم الخطر كنا نهون قبل اليوم شأنهمُ ... حتى تفاقم أمر كان يحتقر لما وهنا وقد حلوا بساحتنا ... واستنفر الناس تارات فما نفروا نادى امرؤ لا خلاف في عشيرته ... عنه وليس به في مثله قصر أفشى هنالك مما كان مذ عصروا ... فيهم صنائع مما كان يدخر تلبسوا لقراع الحرب بزتها ... فأصبحوا من وراء الجسر قد عبروا ساروا بألوية للمجد قد رفعت ... وتحتهن ليوث في الوغى وقر حتى إذا خلفوا الأهواز واجتمعوا ... برامهرمز وافاهم بها الخبر نعي بشر فجال القوم وانصدعوا ... إلا بقايا إذا ما ذكروا ذكروا ثم استمر بنا راض ببيعته ... ينوي الوفاء ولم نغدر كما غدروا.

حتى اجتمعنا بسابور الجنود وقد ... شبت لنا ولهم نار لها شرر نلقى مساعير أبطالا كأنهم ... جن نقارعهم ما مثلهم بشر نسقى ونسقيهمُ سما على حنق ... مستأنفي الليل حتى أسفر السحر قتلى هنالك لا عقل ولا قود ... منا ومنهم دماء سفكها هدر حتى تنحوا لنا عنها تسوقهمُ ... منا ليوث إذا ما أقدموا جسروا لم يغن عنهم غداة التل كيدهمُ ... عند الطعان ولا المكر الذي مكروا باتت كتائبنا تردي مسومة ... حول المهلب حتى نور القمر هناك ولوا حزانا بعد ما فرحوا ... وحال دونهمُ الأنهار والجدر عبوا جنودهمُ بالسفح إذ نزلوا ... بكازرون فما عزوا ولا ظفروا وقد لقوا مصدقا منا بمنزلة ... ظنوا بأن ينصروا فيها فما نصروا بدشت بارين يوم الشعب إذ لحقت ... أسد بسفك دماء الناس قد زئروا لاقوا كتائب لا يخلون ثغرهمُ ... فيهم على من يقاسي حربهم صعر المقدمين إذ ما خيلهم وردت ... والعاطفين إذا ما ضيع الدبر وفي جبيرين إذ صفوا بزحفهمُ ... ولوا خزايا وقد فلوا وقد قهروا والله ما نزلوا يوما بساحتنا ... إلا أصابهمُ من حربنا ظفر ننفيهمُ بالقنا عن كل منزلة ... تروح منا مساعير وتبتكر ولوا حذارا وقد هزوا أسنتنا ... نحو الحروب فما نجاهم الحذر صلت الجبين طويل الباع ذو فرح ... ضخم الدسيعة لا وان ولا غمر مجرب الحرب ميمون نقيبته ... لا يستخف ولا من رأيه البطر وفي ثلاث سنين يستديم بنا ... يقارع الحرب أطوارا ويأتمر.

يقول إن غدا مبد لناظره ... وفي الليالي وفي الأيام معتبر دعوا التتابع والإسراع وارتقبوا ... ان المحارب يستأني وينتظر حتى أتته أمور عندها فرج ... وقد تبين ما يأتي وما يذر لما زواهم إلى كرمان وانصدعوا ... وقد تقاربت الآجال والقدر سرنا إليهم بمثل الموج وازدلفوا ... وقبل ذلك كانت بيننا مئر وزادنا حنقا قتلى نذكرها ... لا تستفيق عيون كلما ذكروا إذا ذكرنا جروزا والذين بها ... قتلى مضى لهمُ حولان ما قبروا تأتي علينا حزازات النفوس فما ... نبقي عليهم وما يبقون إن قدروا ولا يقيلوننا في الحرب عثرتنا ... ولا نقيلهمُ يوما إذا عثروا لا عذر يقبل منا دون أنفسنا ... ولا لهم عندنا عذر لو اعتذروا صفان بالقاع كالطودين بينهما ... كالبرق يلمع حتى يشخص البصر على بصائر كل غير تاركها ... كلا الفريقين تتلى فيهم السور يمشون في البيض والأبدان إذ وردوا ... مشي الزوامل تهدي صفهم زمر وشيخنا حوله منا ململمة ... حي من الأزد فيما نابهم صبر في موطن يقطع الأبطال منظره ... تشاط فيه نفوس حين تبتكر ما زال منا رجال ثم نضربهم ... بالمشرفي ونار الحرب تستعر وباد كل سلاح يستعان به ... في حومة الموت إلا الصارم الذكر ندوسهم بعناجيج مجففة ... وبيننا ثَم من صم القنا كسر يغشين قتلى وعقرى ما بها رمق ... كأنما فوقها الجادي يعتصر قتلى بقتلى قصاص يستقاد بها ... تشفي صدور رجال طالما وتروا

ذكر الخبر عن هلاك قطري واصحابه

مجاورين بها خيلا معقرة ... للطير فيها وفي أجسادهم جزر في معرك تحسب القتلى بساحته ... أعجاز نخل زفته الريح ينعقر وفي مواطن قبل اليوم قد سلفت ... قد كان للأزد فيها الحمد والظفر في كل يوم تلاقي الأزد مفظعة ... يشيب في ساعة من هولها الشعر والأزد قومي خيار القوم قد علموا ... إذا قرومهمُ يوم الوغى خطروا فيهم معاقل من عز يلاذ بها ... يوما إذا شمرت حرب لها درر حي بأسيافهم يبغون مجدهمُ ... إن المكارم في المكروه تبتدر لولا المهلب للجيش الذي وردوا ... أنهار كرمان بعد الله ما صدروا إنا اعتصمنا بحبل الله إذ جحدوا ... بالمحكمات ولم نكفر كما كفروا جاروا عن القصد والإسلام واتبعوا ... دينا يخالف ما جاءت به النذر وقال الطفيل بن عامر بن واثلة وهو يذكر قتل عبد ربه الكبير وأصحابه، وذهاب قطري في الأرض واتباعهم إياه ومراوغته إياهم: لقد مس منا عبد رب وجنده ... عقاب فأمسى سبيهم في المقاسم سما لهمُ بالجيش حتى أزاحهم ... بكرمان عن مثوى من الأرض ناعم وما قطري الكفر إلا نعامة ... طريد يدوي ليلة غير نائم إذا فر منا هاربا كان وجهه ... طريقا سوى قصد الهدى والمعالم فليس بمنجيه الفرار وإن جرت ... به الفلك في لج من البحر دائم ذكر الخبر عن هلاك قطري واصحابه قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كانت هلكة قطري وعبيدة بن هلال وعبد رب الكبير ومن كان معهم من الأزارقة

ذكر سبب مهلكهم: وكان سبب ذلك أن أمر الذين ذكرنا خبرهم من الأزارقة لما تشتت بالاختلاف الذى حدث بينهم بكرمان فصار بعضهم مع عبد ربه الكبير وبعضهم مع قطري ووهي أمر قطري، توجه يريد طبرستان، وبلغ أمره الحجاج، فوجه- فِيمَا ذكر هِشَام عن أبي مخنف، عن يونس بن يزيد- سفيان بن الأبرد، ووجه معه جيشا من أهل الشام عظيما في طلب قطري، فأقبل سفيان حتى أتى الري ثم أتبعهم وكتب الحجاج إلى إسحاق بن مُحَمَّد ابن الأشعث وهو على جيش لأهل الكوفة بطبرستان، أن اسمع وأطع لسفيان فأقبل إلى سفيان فسار معه في طلب قطري حتى لحقوه في شعب من شعاب طبرستان، فقاتلوه، فتفرق عنه أصحابه، ووقع عن دابته في أسفل الشعب فتدهدى حتى خر إلى أسفله، فقال معاوية بن محصن الكندي: رأيته حيث هوى ولم أعرفه، ونظرت إلى خمس عشرة امرأة عربية هن في الجمال والبزازه وحسن الهيئة كما شاء ربك، ما عدا عجوزا فيهن، فحملت عليهن فصرفتهن إلى سفيان بن الأبرد فلما دنوت بهن منه انتحت لي بسيفها العجوز فتضرب به عنقي، فقطعت المغفر، وقطعت جلدة من حلقي، وأختلج السيف فأضرب به وجهها، فأصاب قحف رأسها، فوقعت ميتة، وأقبلت بالفتيات حتى دفعتهن إلى سفيان وإنه ليضحك من العجوز، وقال: ما أردت الى قتل هذه أخزاها الله- فقلت: او ما رأيت أصلحك الله ضربتها إياي! والله. إن كادت لتقتلني، قال: قد رايت، فو الله ما ألومك على فعلك، أبعدها الله ويأتي قطريا حيث تدهدى من الشعب علج من أهل البلد، فقال له قطري: اسقني من الماء- وقد كان اشتد عطشه- فقال: أعطني شيئا حتى أسقيك، فقال: ويحك، والله ما معي إلا ما ترى من سلاحي، فأنا مؤتيكه إذا

أتيتني بماء، قال: لا، بل أعطنيه الآن، قال: لا، ولكن ائتى بماء قبل، فانطلق العلج حتى أشرف على قطري، ثم حدر عليه حجرا عظيما من فوقه دهدأه عليه، فأصاب إحدى وركيه فأوهته، وصاح بالناس، فأقبلوا نحوه، والعلج حينئذ لا يعرف قطريا، غير أنه يظن أنه من أشرافهم لحسن هيئته، وكمال سلاحه، فدفع إليه نفر من أهل الكوفة فابتدروه فقتلوه، منهم سوره بن أبجر التميمي، وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف، والصباح بن مُحَمَّد بن الأشعث، وباذام مولى بني الأشعث، وعمر بن أبي الصلت بن كنارا مولى بني نصر بن معاوية، وهو من الدهاقين، فكل هؤلاء ادعوا قتله، فدفع إليهم أبو الجهم بن كنانة الكلبي- وكلهم يزعم أنه قاتله- فقال لهم: ادفعوه إلي حتى تصطلحوا، فدفعوه إليه. فأقبل به إلى إسحاق بن مُحَمَّد- وهو على أهل الكوفة- ولم يأته جعفر لشيء كان بينه وبينه قبل ذلك- وكان لا يكلمه، وكان جعفر مع سفيان بن الأبرد، ولم يكن معه إسحاق، وكان جعفر على ربع أهل المدينة بالري، فلما مر سفيان بأهل الري انتخب فرسانهم بأمر الحجاج، فسار بهم معه، فلما أتى القوم بالرأس فاختصموا فيه إليه وهو في يدي أبي الجهم بن كنانة الكلبي، قال له: امض به أنت، ودع هؤلاء المختلفين، فخرج برأس قطري حتى قدم به على الحجاج، ثم أتى به عبد الملك بن مروان، فألحق في ألفين، وأعطى فطما- يعني أنه يفرض للصغار في الديوان- وجاء جعفر إلى سفيان فقال له: أصلحك الله! إن قطريا كان أصاب والدي فلم يكن لي هم غيره، فاجمع بيني وبين هؤلاء الذين ادعوا قتله، فسلهم، ألم أكن أمامهم حتى بدرتهم فضربته ضربه فصرعته، ثم جاءوني بعد، فأقبلوا يضربونه بأسيافهم! فإن أقروا لي بهذا فقد صدقوا، وإن أبوا فأنا أحلف بالله أني صاحبه، وإلا فليحلفوا بالله أنهم أصحابه الذين قتلوه، وأنهم لا يعرفون ما أقول، ولا حق لي فيه قال: جئت الآن وقد سرحنا بالراس فانصرف عنه فقال له اصحابه: أما والله إنك لأخلق القوم أن تكون صاحبه

ذكر الخبر عن مقتل اميه بن عبد الله بن خالد بن اسيد

ثم إن سفيان بن الأبرد أقبل منصرفا إلى عسكر عبيدة بن هلال، وقد تحصن في قصر بقومس، فحاصره فقاتله أياما ثم إن سفيان بن الأبرد سار بنا إليهم حتى أحطنا بهم، ثم أمر مناديه فنادى فيهم: أيما رجل قتل صاحبه ثم خرج إلينا فهو آمن، فقال عبيدة بن هلال: لعمري لقد قام الأصم بخطبة ... لذي الشك منها في الصدور غليل لعمري لئن أعطيت سفيان بيعتي ... وفارقت ديني إنني لجهول إلى الله أشكو ما ترى بجيادنا ... تساوك هزلي مخهن قليل تعاورها القذاف من كل جانب ... بقومس حتى صعبهن ذلول فإن يك أفناها الحصار فربما ... تشحط فيما بينهن قتيل وقد كن مما أن يقدن على الوجى ... لهن بأبواب القباب صهيل فحاصرهم حتى جهدوا، وأكلوا دوابهم ثم إنهم خرجوا إليه فقاتلوه، فقتلهم وبعث برءوسهم إلى الحجاج، ثم دخل إلى دنباوند وطبرستان، فكان هنالك حتى عزله الحجاج قبل الجماجم . ذكر الخبر عن مقتل أمية بن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ قَالَ أبو جعفر: وفي هذه السنة قتل بكير بن وشاح السعدي أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد: ذكر سبب قتله إياه. وكان سبب ذلك- فيما ذكر علي بْن مُحَمَّد، عن المفضل بن مُحَمَّد- أن أمية بن عبد الله وهو عامل عبد الملك بن مروان على خراسان، ولى بكيرا غزو ما وراء النهر، وقد كان ولاه قبل ذلك طخارستان، فتجهز للخروج إليها، وأنفق نفقة كثيرة، فوشى به إليه بحير بن ورقاء الصريمي على ما بينت قبل، فأمره أمية بالمقام

فلما ولاه غزو ما وراء النهر تجهز وتكلف الخيل والسلاح، وادان من رجال السغد وتجارهم، فقال بحير لأمية: إن صار بينك وبينه النهر ولقي الملوك خلع الخليفة ودعا إلى نفسه، فأرسل إليه أمية: أقم لعلي أغزو فتكون معي، فغضب بكير وقال: كأنه يضارني وكان عتاب اللقوة الغداني استدان ليخرج مع بكير، فلما أقام أخذه غرماؤه، فحبس فأدى عنه بكير وخرج، ثم أجمع أمية على الغزو قال: فأمر بالجهاز ليغزو بخارى، ثم يأتي موسى بن عبد الله بن خازم بالترمذ، فاستعد الناس وتجهزوا، واستخلف على خراسان ابنه زيادا، وسار معه بكير فعسكر بكشماهن، فأقام أياما، ثم أمر بالرحيل، فقال له بحير: إني لا آمن أن يتخلف الناس فقل لبكير: فلتكن في الساقة ولتحشر الناس قال: فأمره أمية فكان على الساقة حتى أتى النهر، فقال له أمية: اقطع يا بكير، فقال عتاب اللقوة الغداني: أصلح الله الأمير! اعبر ثم يعبر الناس بعدك فعبر ثم عبر الناس، فقال أمية لبكير: قد خفت الا يضبط ابني عمله وهو غلام حدث، فارجع إلي مرو فاكفنيها فقد وليتكها، فزين ابني وقم بأمره فانتخب بكير فرسانا من فرسان خراسان قد كان عرفهم ووثق بهم وعبر، ومضى اميه الى بخارى وعلى مقدمته أبو خالد ثابت مولى خزاعة فقال عتاب اللقوة لبكير لما عبر وقد مضى أمية: إنا قتلنا أنفسنا وعشائرنا حتى ضبطنا خراسان، ثم طلبنا أميرا من قريش يجمع أمرنا، فجاءنا أمير يلعب بنا يحولنا من سجن إلى سجن، قال: فما ترى؟ قال: احرق هذه السفن، وامض إلى مرو فاخلع أمية، وتقيم بمرو تأكلها إلى يوم ما، قال: فقال الأحنف بن عبد الله العنبري: الرأي ما رأى عتاب، فقال بكير: إني أخاف أن يهلك هؤلاء الفرسان الذين معي، فقال: أتخاف عدم الرجال! أنا آتيك من أهل مرو بما شئت إن هلك من هؤلاء الذين معك، قال: يهلك المسلمون، قال: إنما يكفيك أن ينادي مناد: من أسلم رفعنا عنه الخراج فيأتيك خمسون ألفا من المصلين أسمع لك من هؤلاء وأطوع، قال: فيهلك أمية ومن معه، قال: ولم يهلكون ولهم عدة وعدد ونجدة وسلاح ظاهر وأداة كاملة، ليقاتلوا عن

أنفسهم حتى يبلغوا الصين! فأحرق بكير السفن، ورجع إلى مرو، فأخذ ابن أمية فحبسه، ودعا الناس إلى خلع أمية فأجابوه، وبلغ أمية، فصالح أهل بخارى على فدية قليلة، ورجع فأمر باتخاذ السفن، فاتخذت له وجمعت، وقال لمن معه من وجوه تميم: ألا تعجبون من بكير! إني قدمت خراسان فحذرته، ورفع عليه وشكي منه، وذكروا أموالا أصابها، فأعرضت عن ذلك كله، ثم لم أفتشه عن شيء ولا أحدا من عماله، ثم عرضت عليه شرطتي فأبى، فأعفيته، ثم وليته فحذرته، فأمرته بالمقام وما كان ذلك إلا نظرا له، ثم رددته إلى مرو، ووليته الأمر، فكفر ذلك كله، وكافأني بما ترون فقال له قوم: أيها الأمير، لم يكن هذا من شأنه، إنما أشار عليه بإحراق السفن عتاب اللقوة، فقال: وما عتاب! وهل عتاب إلا دجاجة حاضنة، فبلغ قوله عتابا، فقال عتاب في ذلك: إن الحواضن تلقاها مجففة ... غلب الرقاب على المنسوبة النجب تركت أمرك من جبن ومن خور ... وجئتنا حمقا يا ألأم العرب لما رأيت جبال السغد معرضة ... وليت موسى ونوحا عكوة الذنب وجئت ذيخا مغذا ما تكلمنا ... وطرت من سعف البحرين كالخرب أوعد وعيدك إني سوف تعرفني ... تحت الخوافق دون العارض اللجب يخب بي مشرف عار نواهقه ... يغشى الكتيبة بين العدو والخبب قال: فلما تهيأت السفن، عبر أمية وأقبل إلى مرو، وترك موسى بن عبد الله، وقال: اللهم إني أحسنت إلى بكير، فكفر إحساني، وصنع ما صنع، اللهم أكفنيه. فقال شماس بن دثار- وكان رجع من سجستان بعد قتل ابن خازم، فغزا مع أمية: أيها الأمير، أنا أكفيكه إن شاء الله فقدمه اميه في ثمانمائه، فأقبل حتى نزل باسان وهي لبني نصر، وسار إليه بكير ومعه مدرك بن أنيف وأبوه

مع شماس، فقال: أما كان في تميم أحد يحاربني غيرك! ولامه فأرسل إليه شماس: أنت ألوم وأسوأ صنيعا مني، لم تف لأمية ولم تشكر له صنيعه بك، قدم فأكرمك ولم يعرض لك ولا لأحد من عمالك. قال: فبيته بكير ففرق جمعه وقال: لا تقتلوا منهم أحدا، وخذوا سلاحهم، فكانوا إذا أخذوا رجلا سلبوه وخلوا عنه، فتفرقوا، ونزل شماس في قرية لطيئ يقال لها: بوينة، وقدم أمية فنزل كشماهن، ورجع إليه شماس بن دثار فقدم أمية ثابت بن قطبة مولى خزاعة، فلقيه بكير فأسر ثابتا وفرق جمعه، وخلى بكير سبيل ثابت ليد كانت له عنده قال: فرجع إلى أمية، فأقبل أمية في الناس، فقاتله بكير وعلى شرطة بكير أبو رستم الخليل بن أوس العبشمي، فأبلى يومئذ، فنادوه: يا صاحب شرطة عارمة- وعارمة جارية بكير- فأحجم، فقال له بكير: لا أبا لك، لا يهدك نداء هؤلاء القوم، فإن للعارمة فحلا يمنعها، فقدم لواءك، فقاتلوا حتى انحاز بكير فدخل الحائط، فنزل السوق العتيقة، ونزل أمية باسان فكانوا يلتقون في ميدان يزيد، فانكشفوا يوما، فحماهم بكير، ثم التقوا يوما آخر في الميدان، فضرب رجل من بني تميم على رجله فجعل يسحبها، وهريم يحميه، فقال الرجل: اللهم أيدنا فأمدنا بالملائكة، فقال له هريم: أيها الرجل، قاتل عن نفسك، فإن الملائكة في شغل عنك، فتحامل ثم أعاد قوله: اللهم أمدنا بالملائكة، فقال هريم: لتكفن عني أو لأدعنك والملائكة، وحماه حتى ألحقه بالناس قال: ونادى رجل من بني تميم: يا أمية، يا فاضح قريش، فآلى أمية إن ظفر به أن يذبحه، فظفر به فذبحه بين شرفتين من المدينة، ثم التقوا يوما آخر، فضرب بكير بن وشاح ثابت بن قطبة على رأسه وانتمى: أنا ابن وشاح، فحمل حريث بن قطبة أخو ثابت على بكير، فانحاز بكير، وانكشف أصحابه، واتبع حريث بكيرا حتى بلغ القنطرة، فناداه: أين يا بكير؟ فكر عليه، فضربه حريث على رأسه، فقطع المغفر، وعض

السيف برأسه، فصرع، فاحتمله أصحابه، فأدخلوه المدينة. قال: فكانوا على ذلك يقاتلونهم، وكان أصحاب بكير يغدون متفضلين في ثياب مصبغة وملاحف وأزر صفر وحمر، فيجلسون على نواحي المدينة يتحدثون، وينادي مناد: من رمى بسهم رمينا إليه برأس رجل من ولده وأهله، فلا يرميهم أحد. قال: فأشفق بكير، وخاف إن طال الحصار أن يخذله الناس، فطلب الصلح، وأحب ذلك أيضا أصحاب أمية لمكان عيالاتهم بالمدينة، فقالوا لأمية: صالحه- وكان أمية يحب العافيه- فصالحه على ان يقضى عنه أربعمائة الف، ويصل اصحابه ويوليه أيضا أي كور خراسان شاء، ولا يسمع قول بحير فيه، وإن رابه منه ريب فهو آمن أربعين يوما حتى يخرج عن مرو، فأخذ الأمان لبكير من عبد الملك، وكتب له كتابا على باب سنجان، ودخل أمية المدينة قال: وقوم يقولون: لم يخرج بكير مع أمية غازيا، ولكن أمية لما غزا استخلفه على مرو فخلعه، فرجع أمية فقاتله، ثم صالحه ودخل مرو ووفى أمية لبكير وعاد إلى ما كان عليه من الإكرام وحسن الإذن، وأرسل إلى عتاب اللقوة، فقال: أنت صاحب المشورة، فقال: نعم أصلح الله الأمير! قال: ولم؟ قال: خف ما كان في يدي، وكثر ديني، وأعديت على غرمائي، قال: ويحك! فضربت بين المسلمين، وأحرقت السفن والمسلمون في بلاد العدو، وما خفت الله! قال: قد كان ذلك، فأستغفر الله، قال: كم دينك؟ قال: عشرون ألفا، قال: تكف عن غش المسلمين وأقضي دينك؟ قال: نعم، جعلني الله فداك! قال: فضحك أمية وقال: إن ظني بك غير ما تقول، وسأقضي عنك فأدى عنه عشرين ألفا، وكان أمية سهلا لينا سخيا، لم يعط أحد من عمال خراسان بها مثل عطاياه، قال: وكان مع ذلك ثقيلا عليهم، كان فيه زهو شديد، وكان يقول: ما أكتفي بخراسان وسجستان لمطبخي وعزل أمية بحيرا

عن شرطته، وولاها عطاء بن أبي السائب، وكتب إلى عبد الملك بما كان من أمر بكير وصفحه عنه، فضرب عبد الملك بعثا إلى أمية بخراسان، فتجاعل الناس، فأعطى شقيق بن سليك الأسدي جعالته رجلا من جرم، وأخذ أمية الناس بالخراج، واشتد عليهم فيه، فجلس بكير يوما في المسجد وعنده ناس من بني تميم، فذكروا شدة أمية على الناس، فذموه، وقالوا: سلط علينا الدهاقين في الجباية وبحير وضرار بن حصين وعبد العزيز بن جارية ابن قدامة في المسجد، فنقل بحير ذلك إلى أمية فكذبه فادعى شهادة هؤلاء، وادعى شهادة مزاحم بن أبي المجشر السلمي، فدعا أمية مزاحما فسأله فقال: انما كان يمزح، فأعرض عنه أمية، ثم أتاه بحير فقال: أصلح الله الأمير! إن بكيرا والله قد دعاني إلى خلعك، وقال: لولا مكانك لقتلت هذا القرشي وأكلت خراسان، فقال أمية: ما أصدق بهذا وقد فعل ما فعل، فآمنته ووصلته. قال: فأتاه بضرار بن حصين وعبد العزيز بن جارية فشهدا أن بكيرا قال لهما: لو أطعتماني لقتلت هذا القرشي المخنث، وقد دعانا إلى الفتك بك فقال أمية: أنتم أعلم وما شهدتم، وما أظن هذا به وان تركه، وقد شهدتم بما شهدتم عجز، وقال لحاجبه عبيدة ولصاحب حرسه عطاء بن أبي السائب: إذا دخل بكير، وبدل وشمردل بنا أخيه، فنهضت فخدوهم. وجلس أمية للناس، وجاء بكير وابنا أخيه، فلما جلسوا قام اميه عن سريره فدخل، وخرج الناس وخرج بكير، فحبسوه وابني أخيه، فدعا أمية ببكير فقال: أنت القائل كذا وكذا؟ قال: تثبت أصلحك الله ولا تسمعن قول ابن المحلوقة! فحبسه، وأخذ جاريته العارمة فحبسها، وحبس الأحنف ابن عبد الله العنبري، وقال: أنت ممن أشار على بكير بالخلع. فلما كان من الغد أخرج بكيرا فشهد عليه بحير وضرار وعبد العزيز بن جارية أنه دعاهم إلى خلعه والفتك به، فقال: أصلحك الله! تثبت فإن هؤلاء أعدائي، فقال أمية لزياد بن عقبة- وهو رأس أهل العالية- ولابن والان العدوي- وهو يومئذ من رؤساء بنى تميم- ليعقوب بن خالد الذهلي:

أخبار متفرقة

اتقتلونه؟ فلم يجيبوه، فقال لبحير: اتقتله؟ قال: نعم، فدفعه إليه، فنهض يعقوب بن القعقاع الأعلم الأزدي من مجلسه- وكان صديقا لبكير- فاحتضن اميه، وقال: اذكرك الله ايها امير في بكير، فقد أعطيته ما أعطيته من نفسك، قال: يا يعقوب ما يقتله إلا قومه، شهدوا عليه، فقال عطاء بن أبي السائب الليثي وهو على حرس أمية: خل عن الأمير، قال: لا، فضربه عطاء بقائم السيف، فأصاب أنفه فأدماه، فخرج، ثم قال لبحير: يا بحير، إن الناس أعطوا بكيرا ذمتهم في صلحه، وأنت منهم، فلا تخفر ذمتك، قال: يا يعقوب، ما أعطيته ذمة ثم أخذ بحير سيف بكير الموصول الذي كان أخذه من إسوار الترجمان ترجمان ابن خازم، فقال له بكير: يا بحير، إنك تفرق أمر بني سعد إن قتلتني، فدع هذا القرشي يلي مني ما يريد، فقال بحير: لا والله يا بن الأصبهانية لا تصلح بنو سعد ما دمنا حيين، قال: فشأنك يا بن المحلوقة، فقتله، وذلك يوم جمعة. وقتل أمية ابني أخي بكير، ووهب جارية بكير العارمة لبحير، وكلم أمية في الأحنف بن عبد الله العنبري، فدعا به من السجن، فقال: وأنت ممن أشار على بكير، وشتمه، وقال: قد وهبتك لهؤلاء قال: ثم وجه أمية رجلا من خزاعة إلى موسى بن عبد الله بن خازم، فقتله عمرو بن خالد بن حصين الكلابي غيلة، فتفرق جيشه، فاستأمن طائفة منهم موسى، فصاروا معه، ورجع بعضهم الى اميه. [أخبار متفرقة] وفي هذه السنة عبر النهر، نهر بلخ أمية للغزو، فحوصر حتى جهد هو وأصحابه، ثم نجوا بعد ما أشرفوا على الهلاك، فانصرف والذين معه من الجند إلى مرو وقال عبد الرحمن بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة يهجو أمية: ألا أبلغ أمية أن سيجزى ... ثواب الشر إن له ثوابا ومن ينظر عتابك أو يرده ... فلست بناظر منك العتابا

محا المعروف منك خلال سوء ... منحت صنيعها بابا فبابا ومن سماك إذ قسم الأسامي ... أمية إذ ولدت فقد أصابا قال أبو جعفر: وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان، وهو أمير على المدينة، وكان على الكوفة والبصرة الحجاج بن يوسف، وعلى خراسان اميه ابن عبد الله بن خالد بن أسيد. وَحَدَّثَنِي أَحْمَد بن ثَابِت، عمن حدثه، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، قال: حج أبان بن عثمان وهو على المدينة بالناس حجتين سنة ست وسبعين. وسنة سبع وسبعين وقد قيل: إن هلاك شبيب كان في سنة ثمان وسبعين، وكذلك قيل في هلاك قطري وعبيدة بن هلال وعبد ربه الكبير. وغزا في هذه السنة الصائفة الوليد.

سنه ثمان وسبعين

ثم دخلت سنة ثمان وسبعين (ذكر الخبر عن الكائن في هذه السنة من الأحداث الجليلة) فمن ذلك عزل عبد الملك بن مروان أمية بن عبد الله عن خراسان وضمه خراسان وسجستان إلى الحجاج بن يوسف فلما ضم ذلك إليه فرق فيه عماله. ذكر الخبر عن العمال الذين ولاهم الحجاج خراسان وسجستان وذكر السبب في توليته من ولاه ذلك وشيئا منه ذكر أن الحجاج لما فرغ من شبيب ومطرف شخص من الكوفة إلى البصرة، واستخلف على الكوفة المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل- وقد قيل: إنه استخلف عبد الرحمن بن عبد الله بن عامر الحضرمي، ثم عزله، وجعل مكانه المغيرة بن عبد الله- فقدم عليه المهلب بها، وقد فرغ من امر الأزارقة. فقال هشام: حدثني أبو مخنف عن أبي المخارق الراسبي، أن المهلب بن أبي صفرة لما فرغ من الأزارقة قدم على الحجاج- وذلك سنه ثمان وسبعين- فاجلسه معه، ودعا باصحاب البلاء من اصحاب المهلب، فأخذ الحجاج لا يذكر له المهلب رجلا من أصحابه ببلاء حسن إلا صدقه الحجاج بذلك، فحملهم الحجاج وأحسن عطاياهم، وزاد في أعطياتهم، ثم قال: هؤلاء أصحاب الفعال، وأحق بالأموال، هؤلاء حماة الثغور، وغيظ الأعداء. قال هشام عن أبي مخنف: قال يونس بن ابى إسحاق: وقد كان الحجاج ولى المهلب سجستان مع خراسان، فقال له المهلب: ألا أدلك على رجل هو أعلم بسجستان مني، وقد كان ولي كابل وزابل، وجباهم

وقاتلهم وصالحهم؟ قال له: بلى، فمن هو؟ قال عبيد الله بن أبي بكرة. ثم إنه بعث المهلب على خراسان وعبيد الله بن أبي بكرة على سجستان، وكان العامل هنالك أمية بن عبد الله بن خالد بْنَ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمَيَّةَ، وكان عاملا لعبد الملك بن مروان، لم يكن للحجاج شيء من أمره حين بعث على العراق حتى كانت تلك السنة، فعزله عبد الملك وجمع سلطانه للحجاج، فمضى المهلب إلى خراسان، وعبيد الله بن أبي بكرة إلى سجستان، فمكث عبيد الله بن أبي بكرة بقية سنته. فهذه رواية أبي مخنف عن أبي المخارق، وأما علي بن مُحَمَّد فإنه ذكر عن المفضل بن مُحَمَّد أن خراسان وسجستان جمعتا للحجاج مع العراق في أول سنة ثمان وسبعين بعد ما قتل الخوارج، فاستعمل عبيد الله بن أبي بكرة على خراسان، والمهلب بن أبي صفرة على سجستان، فكره المهلب سجستان، فلقي عبد الرحمن بن عبيد بن طارق العبشمي- وكان على شرطة الحجاج- فقال: إن الأمير ولاني سجستان، وولى ابن أبي بكرة خراسان، وأنا أعرف بخراسان منه، قد عرفتها أيام الحكم بن عمرو الغفاري، وابن أبي بكرة أقوى على سجستان مني، فكلم الأمير يحولني إلى خراسان، وابن أبي بكرة إلى سجستان، قال: نعم، وكلم زاذان فروخ يعينني، فكلمه، فقال: نعم، فقال عبد الرحمن بن عبيد للحجاج: وليت المهلب سجستان وابن أبي بكرة أقوى عليها منه، فقال زاذان فروخ: صدق، قال: إنا قد كتبنا عهده، قال زاذان فروخ: ما أهون تحويل عهده! فحول ابن أبي بكرة إلى سجستان، والمهلب إلى خراسان، وأخذ المهلب بألف ألف من خراج الأهواز، وكان ولاها إياه خالد بن عبد الله، فقال المهلب لابنه المغيرة: إن خالدا ولاني الأهواز، وولاك إصطخر، وقد أخذني الحجاج بألف ألف، فنصف علي ونصف عليك، ولم يكن عند المهلب مال، كان إذا عزل استقرض، قال: فكلم أبا ماوية مولى عبد الله بن عامر- وكان أبو ماوية على بيت مال عبد الله بن عامر- فأسلف المهلب ثلاثمائة الف،

فقالت خيرة القشيرية امرأة المهلب: هذا لا يفي بما عليك، فباعت حليا لها ومتاعا، فأكمل خمسمائة الف، وحمل المغيره الى ابيه خمسمائة ألف فحملها إلى الحجاج، ووجه المهلب ابنه حبيبا على مقدمته، فأتى الحجاج فودعه، فأمر الحجاج له بعشرة آلاف وبغلة خضراء، قال: فسار حبيب على تلك البغلة حتى قدم خراسان هو وأصحابه على البريد، فسار عشرين يوما، فتلقاهم حين دخلوا حمل حطب، فنفرت البغلة فتعجبوا منها ومن نفارها بعد ذلك التعب وشدة السير فلم يعرض لأمية ولا لعماله، وأقام عشرة أشهر حتى قدم عليه المهلب سنة تسع وسبعين. وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة الْوَلِيد بن عبد الملك، حدثني بذلك احمد ابن ثَابِت عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر. وكان أمير المدينة في هذه السنة أبان بن عثمان، وأمير الكوفة والبصرة وخراسان وسجستان وكرمان الحجاج بن يوسف، وخليفته بخراسان المهلب، وبسجستان عبيد الله ابن أبي بكرة، وعلى قضاء الْكُوفَة شريح، وعلى قضاء الْبَصْرَة- فيما قيل- موسى بن أنس. وأغزى عبد الملك في هذه السنة يحيى بن الحكم.

سنه تسع وسبعين

ثم دخلت سنة تسع وسبعين (ذكر ما كَانَ فِيهَا من الأحداث الجليلة) فمن ذَلِكَ ما أصاب أهل الشام في هذه السنة من الطاعون حتى كادوا يفنون من شدته، فلم يغز في تلك السنة أحد- فيما قيل- للطاعون الذي كان بها، وكثرة الموت. وفيها- فيما قيل-: أصابت الروم أهل أنطاكية. ذكر الخبر عن غزو عبيد الله بن ابى بكره رتبيل وفيها غزا عبيد الله بن أبي بكرة رتبيل. ذكر الخبر عن غزوته إياه: قال هشام: حدثني أبو مخنف، عن أبي المخارق الراسبي، قال: لما ولى الحجاج المهلب خراسان، وعبيد الله بن أبي بكرة سجستان، مضى المهلب إلى خراسان وعبيد الله بن أبي بكرة إلى سجستان، وذلك في سنة ثمان وسبعين، فمكث عبيد الله بن أبي بكرة بقية سنته ثم إنه غزا رتبيل وقد كان مصالحا، وقد كانت العرب قبل ذلك تأخذ منه خراجا، وربما امتنع فلم يفعل، فبعث الحجاج إلى عبيد الله بن أبي بكرة أن ناجزه بمن معك من المسلمين فلا ترجع حتى تستبيح أرضه، وتهدم قلاعه، وتقتل مقاتلته، وتسبي ذريته فخرج بمن معه من المسلمين من أهل الكوفة وأهل البصرة، وكان على أهل الكوفة شريح بن هانئ الحارثي ثم الضبابي، وكان من أصحاب علي، وكان عبيد الله على أهل البصرة، وهو أمير الجماعة، فمضى حتى وغل في بلاد رتبيل، فأصاب من البقر والغنم والأموال ما شاء وهدم قلاعا وحصونا، وغلب على أرض من أرضهم كثيرة، وأصحاب رتبيل من الترك يخلون لهم عن أرض بعد أرض، حتى أمعنوا في بلادهم

ودنوا من مدينتهم، وكانوا منها ثمانية عشر فرسخا، فأخذوا على المسلمين العقاب والشعاب، وخلوهم والرساتيق، فسقط في أيدي المسلمين، وظنوا أن قد هلكوا، فبعث ابن أبي بكرة إلى شريح بن هانئ: أني مصالح القوم على أن أعطيهم مالا، ويخلوا بيني وبين الخروج، فأرسل اليهم فصالحهم على سبعمائة ألف درهم، فلقيه شريح فقال: إنك لا تصالح على شيء إلا حسبه السلطان عليكم في أعطياتكم، قال: لو منعنا العطاء ما حيينا كان أهون علينا من هلاكنا، قال شريح: والله لقد بلغت سنا، وقد هلكت لداتي، ما تأتي علي ساعة من ليل أو نهار فأظنها تمضي حتى أموت، ولقد كنت أطلب الشهادة منذ زمان، ولئن فاتتني اليوم ما أخالني مدركها حتى أموت، وقال: يا أهل الإسلام، تعاونوا على عدوكم، فقال له ابن أبي بكرة: إنك شيخ قد خرفت، فقال شريح: إنما حسبك أن يقال: بستان ابن أبي بكرة وحمام ابن أبي بكرة، يا أهل الإسلام، من أراد منكم الشهادة فإلي فاتبعه ناس من المتطوعة غير كثير، وفرسان الناس وأهل الحفاظ، فقاتلوا حتى أصيبوا إلا قليلا، فجعل شريح يرتجز يومئذ ويقول: أصبحت ذا بث أقاسي الكبرا قد عشت بين المشركين أعصرا ثمت أدركت النبي المنذرا وبعده صديقه وعمرا ويوم مهران ويوم تسترا والجمع في صفينهم والنهرا وباجميرات مع المشقرا هيهات ما أطول هذا عمرا فقاتل حتى قتل في ناس من أصحابه، ونجا من نجا، فخرجوا من بلاد رتبيل حتى خرجوا منها، فاستقبلهم من خرجوا إليهم من المسلمين بالأطعمة، فإذا أكل أحدهم وشبع مات، فلما رأى ذلك الناس حذروا يطعمونهم، ثم جعلوا يطعمونهم السمن قليلا قليلا، حتى استمرءوا وبلغ ذلك الحجاج، فأخذه ما تقدم وما تأخر، وبلغ ذلك منه كل مبلغ، وكتب إلى عبد الملك: أما بعد، فإن جند أمير المؤمنين الذين بسجستان أصيبوا فلم

ينج منهم إلا القليل، وقد اجترأ العدو بالذي أصابه على أهل الإسلام فدخلوا بلادهم، وغلبوا على حصونهم وقصورهم، وقد أردت أن أوجه إليهم جندا كثيفا من أهل المصرين، فأحببت أن أستطلع رأي أمير المؤمنين في ذلك، فإن رأى لي بعثة ذلك الجند أمضيته، وإن لم ير ذلك فإن أمير المؤمنين أولى بجنده، مع أني أتخوف إن لم يأت رتبيل ومن معه من المشركين جند كثيف عاجلا أن يستولوا على ذلك الفرج كله. وفي هذه السنة قدم المهلب خراسان أميرا، وانصرف عنها أمية بن عبد الله، وقيل استعفى شريح القاضي من القضاء في هذه السنة، وأشار بأبي بردة بن أبي موسى الأشعري، فأعفاه الحجاج وولى أبا بردة. وحج بالناس في هذه السنة- فيما حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر- أبان بن عثمان، وكذلك قال الواقدي وغيره من أهل السير. وكان أبان هذه السنة أميرا على المدينة من قبل عبد الملك بن مروان وعلى العراق والمشرق كله الحجاج بن يوسف. وكان على خراسان المهلب من قبل الحجاج. وقيل: إن المهلب كان على حربها، وابنه المغيرة على خراجها، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة بن أبي موسى، وعلى قضاء البصرة موسى بن انس.

سنه ثمانين

ثم دخلت سنة ثمانين (ذكر الأحداث الجليلة التي كانت في هذه السنة) وفي هذه السنة جاء- فيما حدثت عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الواقدي- سيل بمكة ذهب بالحجاج، فغرقت بيوت مكة فسمي ذلك العام عام الجحاف، لأن ذلك السيل جحف كل شيء مر به. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رفاعة بن ثعلبة، عن أبيه، عن جده، قال: جاء السيل حتى ذهب بالحجاج ببطن مكة، فسمي لذلك عام الجحاف، ولقد رأيت الإبل عليها الحمولة والرجال والنساء تمر بهم ما لأحد فيهم حيلة، وإني لأنظر إلى الماء قد بلغ الركن وجاوزه. وفي هذه السنة كان بالبصرة طاعون الجارف، فيما زعم الواقدى. ذكر خبر غزو المهلب ما وراء النهر وفي هذه السنة قطع المهلب نهر بلخ فنزل على كس، فذكر علي بن مُحَمَّد، عن المفضل بن مُحَمَّد وغيره أنه كان على مقدمة المهلب حين نزل على كس أبو الأدهم زياد بن عمرو الزماني في ثلاثة آلاف وهم خمسة آلاف إلا أن أبا الأدهم كان يغني غناء ألفين في البأس والتدبير والنصيحة قال: فأتى المهلب وهو نازل على كس ابن عم ملك الختل، فدعاه إلى غزو الختل، فوجه معه ابنه يزيد، فنزل في عسكره، ونزل ابن عم الملك- وكان الملك يومئذ اسمه السبل- في عسكره على ناحية، فبيت السبل ابن عمه، فكبر في عسكره، فظن ابن عم السبل أن العرب قد غدروا به، وأنهم خافوه. على الغدر حين اعتزل عسكرهم، فأسره السبل، فأتى به قلعته فقتله قال: فأطاف يزيد بن المهلب بقلعة السبل، فصالحوه على فدية حملوها إليه، ورجع إلى المهلب فأرسلت أم الذي قتله السبل إلى أم السبل: كيف ترجين

تسيير الجنود إلى مع ابن الاشعث لحرب رتبيل

بقاء السبل بعد قتل ابن عمه، وله سبعه اخوه قد وترهم! وأتت أم واحد فأرسلت إليها: أن الأسد تقل أولادها. والخنازير كثير أولادها ووجه المهلب ابنه حبيبا إلى ربنجن فوافى صاحب بخارى في أربعين ألفا، فدعا رجل من المشركين إلى المبارزة، فبرز له جبلة غلام حبيب، فقتل المشرك، وحمل على جمعهم، فقتل منهم ثلاثة نفر، ثم رجع ورجع العسكر، ورجع العدو إلى بلادهم، ونزلت جماعة من العدو قرية، فسار إليهم حبيب في أربعة آلاف، فقاتلهم فظفر بهم، فأحرقها، ورجع إلى أبيه فسميت المحترقة ويقال إن الذي أحرقها جبلة غلام حبيب. قال: فمكث المهلب سنتين مقيما بكس، فقيل له: لو تقدمت إلى السغد وما وراء ذلك! قال: ليت حظي من هذه الغزوة سلامة هذه الجند، حتى يرجعوا إلى مرو سالمين. قال: وخرج رجل من العدو يوما، فسأله البراز، فبرز إليه هريم بن عدي، أبو خالد بن هريم وعليه عمامة قد شدها فوق البيضة، فانتهى إلى جدول، فجاوله المشرك ساعة فقتله هريم وأخذ سلبه، فلامه المهلب، وقال: لو أصبت ثم أمددت بألف فارس ما عدلوك عندي، واتهم المهلب وهو بكس قوما من مضر فحبسهم بها، فلما قفل وصار صلح خلاهم، فكتب إليه الحجاج: إن كنت أصبت بحبسهم فقد أخطأت في تخليتهم، وإن كنت أصبت بتخليتهم فقد ظلمتهم إذ حبستهم فقال المهلب: خفتهم فحبستهم، فلما أمنت خليتهم. وكان فيمن حبس عبد الملك بن أبي شيخ القشيري ثم صالح المهلب أهل كس على فدية، فأقام ليقبضها، وأتاه كتاب ابن الأشعث بخلع الحجاج ويدعوه إلى مساعدته على خلعه، فبعث بكتاب ابن الأشعث إلى الحجاج . تسيير الجنود الى مع ابن الاشعث لحرب رتبيل وفي هذه السنة وجه الحجاج عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث إلى سجستان لحرب رتبيل صاحب الترك، وقد اختلف أهل السير في سبب

توجيهه إياه إليها، وأين كان عبد الرحمن يوم ولاه الحجاج سجستان وحرب رتبيل، فأما يونس بن أبي إسحاق- فيما حدث هشام، عن أبي مخنف عنه- فإنه ذكر أن عبد الملك لما ورد عليه كتاب الحجاج بن يوسف بخبر الجيش الذي كان مع عبيد الله بن أبي بكرة في بلاد رتبيل، وما لقوا بها كتب إليه: أما بعد، فقد أتاني كتابك تذكر فيه مصاب المسلمين بسجستان، وأولئك قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وعلى الله ثوابهم. وأما ما أردت أن يأتيك فيه رأيي من توجيه الجنود وإمضائها إلى ذلك الفرج الذى اصيب فيه المسلمون او كفها، فإن رأيي في ذلك أن تمضي رأيك راشدا موفقا. وكان الحجاج وليس بالعراق رجل أبغض إليه من عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث، وكان يقول: ما رأيته قط إلا أردت قتله. قال أبو مخنف: فحدثني نمير بن وعلة الهمداني، ثم اليناعي، عن الشعبي، قال: كنت عند الحجاج جالسا حين دخل عليه عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث، فلما رآه الحجاج قال: انظر إلى مشيته، والله لهممت أن أضرب عنقه قال: فلما خرج عبد الرحمن خرجت فسبقته وانتظرته على باب سعيد بن قيس السبيعي، فلما انتهى إلي قلت: ادخل بنا الباب، إني أريد أن أحدثك حديثا هو عندك بأمانة الله أن تذكره ما عاش الحجاج. فقال: نعم، فأخبرته بمقالة الحجاج له، فقال: وأنا كما زعم الحجاج إن لم أحاول أن أزيله عن سلطانه، فأجهد الجهد إذ طال بي وبه بقاء. ثم إن الحجاج أخذ في جهاز عشرين ألف رجل من أهل الكوفة، وعشرين ألف رجل من أهل البصرة، وجد في ذلك وشمر، وأعطى الناس أعطياتهم كملا، وأخذهم بالخيول الروائع، والسلاح الكامل، وأخذ في عرض الناس، ولا يرى رجلا تذكر منه شجاعة إلا أحسن معونته، فمر عبيد الله بن أبي محجن الثقفي على عباد بن الحصين الحبطي، وهو مع الحجاج يريد عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي، وهو يعرض الناس، فقال

عباد: ما رأيت فرسا أروع ولا أحسن من هذا، وإن الفرس قوة وسلاح وإن هذه البغله علنداه، فزاده الحجاج خمسين وخمسمائة درهم، ومر به عطية العنبري، فقال له الحجاج، يا عبد الرحمن، أحسن إلى هذا. فلما استتب له أمر ذينك الجندين، بعث الحجاج عطارد بن عمر التميمى فعسكر بالاهواز، ثم بعث عبيد الله بن حجر بن ذي الجوشن العامري من بني كلاب ثم بدا له، فبعث عليهم عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث وعزل عبيد الله بن حجر، فأتى الحجاج عمه إسماعيل بن الأشعث، فقال له: لا تبعثه فإني أخاف خلافه، والله ما جاز جسر الفرات قط فرأى لوال من الولاة عليه طاعة وسلطانا فقال الحجاج: ليس هناك، هو لي أهيب وفي أرغب من أن يخالف أمري، أو يخرج من طاعتي، فأمضاه على ذلك الجيش، فخرج بهم حتى قدم سجستان سنة ثمانين، فجمع أهلها حين قدمها. قال أبو مخنف: فحدثني أبو الزبير الأرحبي- رجل من همدان كان معه- أنه صعد منبرها فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الناس، إن الأمير الحجاج ولاني ثغركم، وأمرني بجهاد عدوكم الذي استباح بلادكم وأباد خياركم، فإياكم أن يتخلف منكم رجل فيحل بنفسه العقوبة، اخرجوا إلى معسكركم فعسكروا به مع الناس فعسكر الناس كلهم في معسكرهم ووضعت لهم الأسواق، وأخذ الناس بالجهاز والهيئة بآلة الحرب، فبلغ ذلك رتبيل، فكتب إلى عبد الرحمن بن مُحَمَّد يعتذر إليه من مصاب المسلمين ويخبره أنه كان لذلك كارها، وأنهم ألجئوه إلى قتالهم، ويسأله الصلح ويعرض عليه أن يقبل منه الخراج، فلم يجبه، ولم يقبل منه. ولم ينشب عبد الرحمن أن سار في الجنود إليه حتى دخل أول بلاده، وأخذ رتبيل يضم إليه جنده، ويدع له الأرض رستاقا رستاقا، وحصنا حصنا، وطفق ابن الأشعث كلما حوى بلدا بعث إليه عاملا، وبعث معه أعوانا، ووضع

أخبار متفرقة

البرد فيما بين كل بلد وبلد، وجعل الأرصاد على العقاب والشعاب، ووضع المسالح بكل مكان مخوف، حتى إذا جاز من أرضه أرضا عظيمة، وملأ يديه من البقر والغنم والغنائم العظيمة، حبس الناس عن الوغول في أرض رتبيل وقال: نكتفي بما أصبناه العام من بلادهم حتى نجبيها ونعرفها، وتجترئ المسلمون على طرقها، ثم نتعاطى في العام المقبل ما وراءها، ثم لم نزل نتنقصهم في كل عام طائفة من أرضهم حتى نقاتلهم آخر ذلك على كنوزهم وذراريهم، وفي أقصى بلادهم، وممتنع حصونهم، ثم لا نزايل بلادهم حتى يهلكهم الله. ثم كتب إلى الحجاج بما فتح الله عليه من بلاد العدو، وبما صنع الله للمسلمين، وبهذا الرأي الذي رآه لهم. وأما غير يونس بن أبي إسحاق وغير من ذكرت الرواية عنه في أمر ابن الأشعث فإنه قال في سبب ولايته سجستان ومسيره إلى بلاد رتبيل غير الذي رويت عن أبي مخنف، وزعم أن السبب في ذلك كان أن الحجاج وجه هميان بن عدي السدوسي إلى كرمان، مسلحة لها ليمد عامل سجستان والسند إن احتاجا إلى مدد، فعصى هميان ومن معه، فوجه الحجاج ابن الأشعث في محاربته، فهزمه، وأقام بموضعه. ومات عبيد الله بن أبي بكرة، وكان عاملا على سجستان، فكتب الحجاج عهد ابن الأشعث عليها، وجهز إليها جيشا أنفق عليهم ألفي ألف سوى أعطياتهم، كان يدعى جيش الطواويس، وامره بالاقدام على رتبيل. [أخبار متفرقة] وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قَالَ محمد بن عمر الواقدي. وقال بعضهم: الذي حج بالناس في هذه السنة سُلَيْمَان بْن عبد الملك. وكان على المدينة في هذه السنة أبان بن عثمان، وعلى العراق والمشرق كله

الحجاج بن يوسف، وعلى خراسان المهلب بن أبي صفرة من قبل الحجاج، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة بن أبي موسى، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس. وأغزى عبد الملك في هذه السنة ابنه الوليد

سنه احدى وثمانين

ثم دخلت سنة إحدى وثمانين (ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففي هذه السنة كان فتح قاليقلا، حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا علي ابن مُحَمَّد، قال: أغزى عبد الملك سنة إحدى وثمانين ابنه عبيد الله بن عبد الملك، ففتح قاليقلا. ذكر الخبر عن مقتل بحير بن ورقاء بخراسان وفي هذه السنة قتل بحير بن ورقاء الصريمي بخراسان. ذكر الخبر عن مقتله: وكان سبب قتله أن بحيرا كان هو الذي تولى قتل بكير بن وشاح بأمر أمية بن عبد الله إياه بذلك، فقال عثمان بن رجاء بن جابر بن شداد أحد بني عوف بن سعد من الأبناء يحض رجلا من الأبناء من آل بكير بالوتر: لعمري لقد أغضيت عينا على القذى ... وبت بطينا من رحيق مروق وخليت ثأرا طل واخترت نومة ... ومن شرب الصهباء بالوتر يسبق فلو كنت من عوف بن سعد ذؤابة ... تركت بحيرا في دم مترقرق فقل لبحير نم ولا تخش ثائرا ... بعوف فعوف أهل شاة حبلق دع الضأن يوما قد سبقتم بوتركم ... وصرتم حديثا بين غرب ومشرق وهبوا فلو أمسى بكير كعهده ... صحيحا لغاداهم بجأواء فيلق وقال أيضا: فلو كان بكر بارزا في أداته ... وذي العرش لم يقدم عليه بحير

ففي الدهر إن أبقاني الدهر مطلب ... وفي الله طلاب بذاك جدير وبلغ بحيرا أن الأبناء يتوعدونه، فقال: توعدني الأبناء جهلا كأنما ... يرون فنائي مقفرا من بني كعب رفعت له كفي بحد مهند ... حسام كلون الملح ذي رونق عضب فذكر علي بن مُحَمَّد، عن المفضل بن مُحَمَّد، أن سبعة عشر رجلا من بني عوف بن كعب بن سعد تعاقدوا على الطلب بدم بكير، فخرج فتى منهم يقال له الشمردل من البادية حتى قدم خراسان، فنظر إلى بحير واقفا، فشد عليه فطعنه فصرعه، فظن أنه قد قتله، وقال الناس: خارجي، فراكضهم، فعثر فرسه فندر عنه فقتل ثم خرج صعصعة بن حرب العوفي، ثم أحد بني جندب، من البادية وقد باع غنيمات له، واشترى حمارا، ومضى إلى سجستان فجاور قرابة لبحير هناك ولاطفهم، وقال: أنا رجل من بني حنيفة من أهل اليمامة، فلم يزل يأتيهم ويجالسهم حتى أنسوا به، فقال لهم: إن لي بخراسان ميراثا قد غلبت عليه، وبلغني أن بحيرا عظيم القدر بخراسان، فاكتبوا لي إليه كتابا يعينني على طلب حقي، فكتبوا إليه، فخرج فقدم مرو والمهلب غاز قال: فلقي قوما من بني عوف، فأخبرهم أمره، فقام إليه مولى لبكير صيقل، فقبل رأسه، فقال له صعصعة: اتخذ لي خنجرا، فعمل له خنجرا واحماه وغمسه لبن أتان مرارا ثم شخص من مرو فقطع النهر حتى أتى عسكر المهلب وهو بآخرون يومئذ، فلقي بحيرا بالكتاب، وقال: إني رجل من بني حنيفة، كنت من أصحاب ابن أبي بكرة، وقد ذهب مالي بسجستان، ولي ميراث بمرو، فقدمت لأبيعه، وأرجع إلى اليمامة. قال: فأمر له بنفقة وأنزله معه، وقال له: استعن بي على ما أحببت، قال: أقيم عندك حتى يقفل الناس، فأقام شهرا أو نحوا من شهر يحضر

معه باب المهلب ومجلسه حتى عرف به قال: وكان بحير يخاف الفتك به، ولا يأمن أحدا، فلما قدم صعصعة بكتاب أصحابه قال: هو رجل من بكر بن وائل، فأمنه، فجاء يوما وبحير جالس في مجلس المهلب، عليه قميص ورداء ونعلان، فقعد خلفه، ثم دنا منه، فأكب عليه كأنه بكلمة، فوجأه بخنجره في خاصرته، فغيبه في جوفه، فقال الناس: خارجي!، فنادى: يا لثأرات بكير، انا ثائر ببكير! فقال الناس: خارجي! فنادى: يا لثأرات بكير، أنا ثائر ببكير! فأخذه أبو العجفاء بن أبي الخرقاء، وهو يومئذ على شرط المهلب، فأتى به المهلب فقال له: بؤسا لك! ما أدركت بثأرك، وقتلت نفسك، وما على بحير بأس، فقال: لقد طعنته طعنة لو قسمت بين الناس لماتوا، ولقد وجدت ريح بطنه في يدي، فحبسه فدخل عليه السجن قوم من الأبناء فقبلوا رأسه قال: ومات بحير من غد عند ارتفاع النهار، فقيل لصعصعة: مات بحير، فقال: اصنعوا بي الآن ما شئتم، وما بدا لكم، أليس قد حلت نذور نساء بني عوف، وأدركت بثأري! لا أبالي ما لقيت، أما والله لقد أمكنني ما صنعت خاليا غير مرة، فكرهت أن أقتله سرا، فقال المهلب: ما رأيت رجلا أسخى نفسا بالموت صبرا من هذا، وأمر بقتله أبا سويقة ابن عم لبحير، فقال له أنس بن طلق ويحك! قتل بحير فلا تقتلوا هذا، فأبى وقتله، فشتمه أنس. وقال آخرون: بعث به المهلب إلى بحير قبل ان يموت، فقال له انس ابن طلق العبشمي: يا بحير، إنك قتلت بكيرا، فاستحى هذا، فقال بحير: أدنوه مني، لا والله لا أموت وأنت حي، فأدنوه منه، فوضع رأسه بين رجليه وقال: اصبر عفاق، إنه شر باق، فقال ابن طلحة لبحير: لعنك الله! أكلمك فيه وتقتله بين يدي! فطعنه بحير بسيفه حتى قتله ومات بحير، فقال المهلب: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، غزوة أصيب فيها بحير، فغضب عوف بن كعب والأنباء وقالوا: علام قتل صاحبنا، وإنما طلب بثأره! فنازعتهم مقاعس والبطون حتى خاف الناس أن يعظم البأس، فقال أهل الحجى: احملوا دم صعصعة، واجعلوا دم بحير بواء ببكير

ذكر الخبر عن خلاف ابن الاشعث على الحجاج

فودوا صعصعة، فقال رجل من الأبناء يمدح صعصعة: لله در فتى تجاوز همه ... دون العراق مفاوزا وبحورا ما زال يدأب نفسه ويكدها ... حتى تناول في خرون بحيرا قال: وخرج عبد ربه الكبير أبو وكيع، وهو من رهط صعصعة إلى البادية، فقال لرهط بكير: قتل صعصعة بطلبه بدم صاحبكم، فودوه، فاخذ لصعصعة ديتين. ذكر الخبر عن خلاف ابن الاشعث على الحجاج قال أبو جعفر: وفي هذه السنة خالف عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث الحجاج ومن معه من جند العراق، وأقبلوا إليه لحربه في قول أبي مخنف وروايته لذلك عن أبي المخارق الراسبي، وأما الواقدي فإنه زعم أن ذلك كان في سنة اثنتين وثمانين. ذكر الخبر عن السبب الذي دعا عبد الرحمن بن مُحَمَّد إلى ما فعل من ذلك وما كان من صنيعه بعد خلافه الحجاج في هذه السنة: قد ذكرنا فيما مضى قبل ما كان من عبد الرحمن بن مُحَمَّد في بلاد رتبيل، وكتابه إلى الحجاج بما كان منه هناك، وبما عرض عليه من الرأي فيما يستقبل من أيامه في سنة ثمانين، ونذكر الآن مَا كَانَ من أمره فِي سنة إحدى وثمانين في رواية أبي مخنف، عن أبي المخارق. ذكر هشام عن أبي مخنف قال: قال أبو المخارق الراسبي: كتب الحجاج إلى عبد الرحمن بن مُحَمَّد جواب كتابه: أما بعد، فإن كتابك أتاني، وفهمت ما ذكرت فيه، وكتابك كتاب امرئ يحب الهدنة، ويستريح إلى الموادعة، قد صانع عدوا قليلا ذليلا، قد أصابوا من المسلمين جندا كان بلاؤهم حسنا، وغناؤهم في الاسلام عظيما. لعمرك يا بن أم عبد الرحمن، إنك حيث تكف عن ذلك العدو بجندي وحدي

لسخي النفس عمن أصيب من المسلمين إني لم أعدد رأيك الذي زعمت أنك رأيته رأي مكيدة، ولكني رأيت أنه لم يحملك عليه إلا ضعفك، والتياث رأيك، فامض لما أمرتك به من الوغول في أرضهم، والهدم لحصونهم، وقتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم. ثم أردفه كتابا فيه أما بعد، فمر من قبلك من المسلمين فليحرثوا وليقيموا، فإنها دارهم حتى يفتحها الله عليهم. ثم أردفه كتابا آخر فيه: أما بعد، فامض لما أمرتك به من الوغول في أرضهم، وإلا فإن إسحاق ابن مُحَمَّد أخاك أمير الناس، فخله وما وليته. فقال حين قرأ كتابه: أنا أحمل ثقل إسحاق، فعرض له، فقال: لا تفعل، فقال: ورب هذا- يعني المصحف- لئن ذكرته لأحد لأقتلنك فظن أنه يريد السيف، فوضع يده على قائم السيف، ثم دعا الناس إليه، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الناس، إني لكم ناصح، ولصلاحكم محب، ولكم في كل ما يحيط بكم نفعه ناظر، وقد كان من رأيي فيما بينكم وبين عدوكم رأي استشرت فيه ذوي أحلامكم، وأولي التجربة للحرب منكم، فرضوه لكم رأيا، ورأوه لكم في العاجل والآجل صلاحا، وقد كتبت إلى أميركم الحجاج، فجاءني منه كتاب يعجزني ويضعفني، ويأمرني بتعجيل الوغول بكم في أرض العدو، وهي البلاد التي هلك إخوانكم فيها بالأمس، وإنما أنا رجل منكم أمضي إذا مضيتم، وآبي إذا أبيتم فثار إليه الناس فقالوا: لا، بل نأبى على عدو الله، ولا نسمع له ولا نطيع. قال أبو مخنف: فحدثني مطرف بن عامر بن واثلة الكناني أن أباه كان أول متكلم يومئذ، وكان شاعرا خطيبا، فَقَالَ بعد أن حمد الله وأثنى عَلَيْهِ: أما بعد، فإن الحجاج والله ما يرى بكم إلا ما رأى القائل الأول إذ قال

لأخيه: احمل عبدك على الفرس، فإن هلك هلك، وإن نجا فلك إن الحجاج والله ما يبالي أن يخاطر بكم فيقحمكم بلادا كثيرة اللهوب واللصوب، فإن ظفرتم فغنمتم أكل البلاد وحاز المال، وكان ذلك زيادة في سلطانه، وإن ظفر عدوكم كنتم أنتم الأعداء البغضاء الذي لا يبالي عنتهم، ولا يبقي عليهم، اخلعوا عدو الله الحجاج وبايعوا عبد الرحمن، فإني أشهدكم أني أول خالع فنادى الناس من كل جانب، فعلنا فعلنا، قد خلعنا عدو الله، وقام عبد المؤمن بن شبث بن ربعي التميمي ثانيا- وكان على شرطته حين أقبل- فقال: عباد الله، إنكم إن أطعتم الحجاج جعل هذه البلاد بلادكم ما بقيتم، وجمركم تجمير فرعون الجنود، فإنه بلغني أنه أول من جمر البعوث، ولن تعاينوا الأحبة فيما أرى أو يموت أكثركم بايعوا أميركم، وانصرفوا إلى عدوكم فانفوه عن بلادكم، فوثب الناس إلى عبد الرحمن فبايعوه، فقال: تبايعوني على خلع الحجاج عدو الله وعلى النصرة لي وجهاده معي حتى ينفيه الله من أرض العراق، فبايعه الناس، ولم يذكر خلع عبد الملك إذ ذاك بشيء. قال أبو مخنف: حدثني عمر بن ذر القاص أن أباه كان معه هنالك، وأن ابن مُحَمَّد كان ضربه وحبسه لانقطاعه كان إلى أخيه القاسم بن مُحَمَّد، فلما كان من أمره الذي كان من الخلاف دعاه فحمله وكساه واوطاه، فأقبل معه فيمن أقبل، وكان قاصا خطيبا. قال أبو مخنف: حدثني سيف بن بشر العجلي، عن المنخل بن حابس العبدي أن ابن مُحَمَّد لما أقبل من سجستان أمر على بست عياض ابن هميان البكري، من بني سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة، وعلى زرنج عبد الله بن عامر التميمي ثم الدارمي، ثم بعث إلى رتبيل، فصالحه على أن ابن الأشعث إن ظهر فلا خراج عليه أبدا ما بقي، وإن هزم فأراده ألجأه عنده

قال أبو مخنف: حدثني خشينة بن الوليد العبسي أن عبد الرحمن لما خرج من سجستان مقبلا إلى العراق سار بين يديه الأعشى على فرس، وهو يقول: شطت نوى من داره بالإيوان ... إيوان كسرى ذي القرى والريحان من عاشق أمسى بزابلستان ... إن ثقيفا منهمُ الكذابان كذابها الماضي وكذاب ثان ... أمكن ربي من ثقيف همدان يوما إلى الليل يسلى ما كان ... إنا سمونا للكفور الفتان حين طغى في الكفر بعد الإيمان ... بالسيد الغطريف عبد الرحمن سار بجمع كالدبى من قحطان ... ومن معد قد أتى ابن عدنان بجحفل جم شديد الإرنان ... فقل لحجاج ولي الشيطان يثبت لجمع مذحج وهمدان ... فإنهم ساقوه كأس الذيفان وملحقوه بقرى ابن مروان قال: وبعث على مقدمته عطية بن عمرو العنبري، وبعث الحجاج إليه الخيل، فجعل لا يلقى خيلا إلا هزمها، فقال الحجاج: من هذا؟ فقيل له: عطية، فذلك قول الأعشى: فإذا جعلت دروب فارس ... خلفهم دربا فدربا فابعث عطية في الخيول ... يكبهن عليك كبا ثم إن عبد الرحمن أقبل يسير بالناس، فسأل عن أبي إسحاق السبيعي، وكان قد كتبه في أصحابه، وكان يقول: أنت خالي، فقيل له: ألا تأتيه فقد سأل عنك! فكره أن يأتيه، ثم أقبل حتى مر بكرمان فبعث عليهم خرشه ابن عمرو التميمي، ونزل أبو إسحاق بها، فلم يدخل في فتنته حتى كانت

الجماجم، ولما دخل الناس فارس اجتمع الناس بعضهم إلى بعض، وقالوا: إنا إذا خلعنا الحجاج عامل عبد الملك فقد خلعنا عبد الملك، فاجتمعوا إلى عبد الرحمن، فكان أول الناس. قال أبو مخنف فيما حدثني أبو الصلت التيمي: خلع عبد الملك بن مروان تيحان بن أبجر من بني تيم الله بن ثعلبة، فقام فقال: أيها الناس، إني خلعت أبا ذبان كخلعي قميصي، فخلعه الناس إلا قليلا منهم، ووثبوا إلى ابن مُحَمَّد فبايعوه، وكانت بيعته: تبايعون على كتاب الله وسنة نبيه وخلع أئمة الضلالة وجهاد المحلين، فإذا قالوا: نعم بايع فلما بلغ الحجاج خلعه كتب إلى عبد الملك يخبره خبر عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث، ويسأله أن يعجل بعثة الجنود إليه، وبعث كتابه إلى عبد الملك يتمثل في آخره بهذه الأبيات، وهي للحارث بن وعلة: سائل مجاور جرم هل جنيت لهم ... حربا تفرق بين الجيرة الخلط وهل سموت بجرار له لجب ... جم الصواهل بين الجم والفرط وهل تركت نساء الحي ضاحية ... في ساحة الدار يستوقدن بالغبط وجاء حتى نزل البصرة وقد كان بلغ المهلب شقاق عبد الرحمن وهو بسجستان، فكتب إليه: أما بعد، فإنك وضعت رجلك يا بن مُحَمَّد في غرز طويل الغي على أمة محمد ص الله الله فانظر لنفسك لا تهلكها، ودماء المسلمين فلا تسفكها، والجماعة فلا تفرقها، والبيعة فلا تنكثها، فإن قلت: أخاف الناس على نفسي فالله أحق أن تخافه عليها من الناس، فلا تعرضها لله في سفك دم، ولا استحلال محرم والسلام عليك

وكتب المهلب إلى الحجاج: أما بعد فإن أهل العراق قد أقبلوا إليك وهم مثل السيل المنحدر من عل، وليس شيء يرده حتى ينتهي إلى قراره، وإن لأهل العراق شرة في أول مخرجهم وصبابة إلى أبنائهم ونسائهم، فليس شيء يردهم حتى يسقطوا إلى أهليهم، ويشموا أولادهم، ثم واقفهم عندها، فإن الله ناصرك عليهم إن شاء الله فلما قرأ كتابه قال: فعل الله. به وفعل، لا والله ما لي نظر ولكن لابن عمه نصح لما وقع كتاب الحجاج إلى عبد الملك هاله ثم نزل عن سريره وبعث إلى خالد بن يزيد بن معاوية، ودعاه فأقرأه الكتاب، ورأى ما به من الجزع، فقال: يا أمير المؤمنين، إن كان هذا الحدث من قبل سجستان، فلا تخفه، وإن كان من قبل خراسان تخوفته قال: فخرج إلى الناس فقام فيهم فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إن أهل العراق طال عليهم عمري فاستعجلوا قدري اللهم سلط عليهم سيوف أهل الشام حتى يبلغوا رضاك، فإذا بلغوا رضاك لم يجاوزوا إلى سخطك. ثم نزل. وأقام الحجاج بالبصرة وتجهز ليلقى ابن مُحَمَّد، وترك رأي المهلب وفرسان الشام يسقطون إلى الحجاج، في كل يوم مائة وخمسون وعشرة وأقل على البرد من قبل عبد الملك، وهو في كل يوم تسقط إلى عبد الملك كتبه ورسله بخبر ابن مُحَمَّد أي كورة نزل، ومن اى كوره يرتحل، وأي الناس إليه أسرع. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي فضيل بن خديج أن مكتبه كان بكرمان، وكان بها أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة وأهل البصرة، فلما مر بهم ابن مُحَمَّد بن الأشعث، انجفلوا معه، وعزم الحجاج رأيه على استقبال ابن الأشعث، فسار بأهل الشام حتى نزل تستر، وقدم بين يديه مطهر بن حر العكي- أو الجذامي- وعبد الله بن رميثة الطائي، ومطهر على الفريقين، فجاءوا حتى انتهوا إلى دجيل، وقد قطع عبد الرحمن بن مُحَمَّد خيلا له،

عليها عبد الله بن أبان الحارثي في ثلاثمائة فارس- وكانت مسلحة له وللجند- فلما انتهى إليه مطهر بن حر أمر عبد الله بن رميثة الطائي فأقدم عليهم، فهزمت خيل عبد الله حتى انتهت إليه، وجرح أصحابه. قال أبو مخنف: فحدثني أبو الزبير الهمداني، قال: كنت في أصحاب ابن مُحَمَّد إذ دعا الناس وجمعهم إليه ثم قال: اعبروا إليه من هذا المكان، فأقحم الناس خيولهم دجيل من ذلك المكان الذي أمرهم به، فو الله ما كان بأسرع من أن عبر عظم خيولنا، فما تكاملت حتى حملنا على مطهر بن حر والطائي فهزمناهما يوم الأضحى في سنة إحدى وثمانين وقتلناهم قتلا ذريعا، وأصبنا عسكرهم، وأتت الحجاج الهزيمة وهو يخطب، فصعد إليه أبو كعب بن عبيد بن سرجس فاخبره بهزيمه الناس، فقال: أيها الناس، ارتحلوا إلى البصرة إلى معسكر ومقاتل وطعام ومادة، فإن هذا المكان الذي نحن به لا يحمل الجند ثم انصرف راجعا وتبعته خيول أهل العراق، فكلما أدركوا منهم شاذا قتلوه، وأصابوا ثقلا حووه، ومضى الحجاج لا يلوي على شيء حتى نزل الزاوية، وبعث إلى طعام التجار بالكلا فأخذه فحمله إليه، وخلى البصرة لأهل العراق وكان عامله عليها الحكم ابن أيوب بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي وجاء أهل العراق حتى دخلوا البصرة وقد كان الحجاج حين صدم تلك الصدمة وأقبل راجعا دعا بكتاب المهلب، فقرأه ثم قال: لله أبوه! أي صاحب حرب هو! أشار علينا بالرأي، ولكنا لم نقبل. وقال غير أبي مخنف: كان عامل البصرة يومئذ الحكم بن أيوب على الصلاة والصدقة، وعبد الله بن عامر بن مسمع على الشرط، فسار الحجاج في جيشه حتى نزل رستقباذ وهي من دستوى من كور الأهواز، فعسكر بها، وأقبل ابن الأشعث فنزل تستر، وبينهما نهر، فوجه الحجاج مطهر ابن حر العكي في ألفي رجل، فأوقعوا بمسلحة لابن الأشعث، وسار ابن

الأشعث مبادرا، فواقعهم، وهي عشية عرفة من سنة إحدى، وثمانين فيقال: إنهم قتلوا من اهل الشام ألفا وخمسمائة، وجاءه الباقون منهزمين، ومعه يومئذ مائة وخمسون ألف ألف، ففرقها في قواده، وضمنهم إياها، وأقبل منهزما إلى البصرة وخطب ابن الأشعث أصحابه فقال: أما الحجاج فليس بشيء، ولكنا نريد غزو عبد الملك، وبلغ أهل البصرة هزيمة الحجاج، فأراد عبد الله بن عامر بن مسمع أن يقطع الجسر دونه، فرشاه الحكم ابن أيوب مائة ألف، فكف عنه ودخل الحجاج البصرة، فأرسل إلى ابن عامر فانتزع المائة الألف منه. رجع الحديث إِلَى حديث أبي مخنف عَنْ أبي الزبير الهمداني. فلما دخل عبد الرحمن بن مُحَمَّد البصرة بايعه على حرب الحجاج، وخلع عبد الملك جميع أهلها من قرائها وكهولها، وكان رجل من الأزد من الجهاضم يقال له عقبة بن عبد الغافر له صحابة، فنزا فبايع عبد الرحمن مستبصرا في قتال الحجاج، وخندق الحجاج عليه، وخندق عبد الرحمن على البصرة وكان دخول عبد الرحمن البصرة في آخر ذي الحجة من سنة إحدى وثمانين. وحج بالناس في هذه السنة سُلَيْمَان بْن عبد الملك، كذا حدثنى احمد ابن ثَابِت، عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر وكذلك قال الواقدي، وقال: وفي هذه السنة ولد ابن أبي ذئب. وَكَانَ العامل فِي هَذِهِ السنة عَلَى الْمَدِينَة أبان بن عثمان، وعلى العراق والمشرق الحجاج بن يوسف، وعلى حرب خراسان المهلب، وعلى خراجها المغيرة بن مهلب من قبل الحجاج، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة بن أبي موسى، وعلى قضاء البصرة عبد الرحمن بن أذينة

سنه اثنتين وثمانين

ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين (ذكر الخبر عن الكائن من الاحداث فيها) خبر الحرب بين الحجاج وابن الاشعث بالزاوية فمن ذلك ما كان بين الحجاج وعبد الرحمن بن مُحَمَّد من الحروب بالزاوية. ذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو الزبير الهمداني قال: كان دخول عبد الرحمن البصرة في آخر ذي الحجة، واقتتلوا في المحرم من سنة اثنتين وثمانين، فتزاحفوا ذات يوم، فاشتد قتالهم ثم إن أهل العراق هزموهم حتى انتهوا إلى الحجاج، وحتى قاتلوهم على خنادقهم، وانهزمت عامة قريش، وثقيف، حتى قال عبيد بن موهب مولى الحجاج وكاتبه: فر البراء وابن عمه مصعب ... وفرت قريش غير آل سعيد ثم إنهم تزاحفوا في المحرم في آخره في اليوم الذي هزم فيه أهل العراق أهل الشام، فنكصت ميمنتهم وميسرتهم، واضطربت رماحهم، وتقوض صفهم، حتى دنوا منا، فلما رأى الحجاج ذلك جثا على ركبتيه، وانتضى نحوا من شبر من سيفه، وقال: لله در مصعب! ما كان أكرمه حين نزل به ما نزل! فعلمت أنه والله لا يريد أن يفر قال: فغمزت أبي بعيني ليأذن لي فيه فأضربه بسيفي، فغمزني غمزة شديدة، فسكنت وحانت مني التفاتة، فإذا سفيان بن الأبرد الكلبي قد حمل عليهم فهزمهم من قبل الميمنة، فقلت: أبشر أيها الأمير، فإن الله قد هزم العدو فقال لي: قم فانظر، قال: فقمت فنظرت، فقلت: قد هزمهم الله، قال: قم يا زياد فانظر، قال: فقام فنظر فقال: الحق أصلحك الله يقينا قد هزموا، فخر ساجدا، فلما رجعت شتمني أبي وقال: أردت أن تهلكني وأهل بيتي

وقتل في المعركة عبد الرحمن بن عوسجة ابو سفيان النهمي، وقتل عقبه ابن عبد الغافر الأزدي ثم الجهضمي، في أولئك القراء في ربضة واحدة، وقتل عبد الله بن رزام الحارثي، وقتل المنذر بن الجارود، وقتل عبد الله ابن عامر بن مسمع، وأتي الحجاج برأسه، فقال: ما كنت أرى هذا فارقني حتى جاءني الآن برأسه، وبارز سعيد بن يحيى بن سعيد بن العاص رجلا يومئذ فقتله، وزعموا أنه كان مولى للفضل بن عباس بن ربيعه بن الحارث ابن عبد المطلب، كان شجاعا يدعى نصيرا، فلما رأى مشيته بين الصفين، وكان يلومه على مشيته قال: لا ألومه على هذه المشية ابدا. وقتل الطفيل بن عامر بن واثله، وقد كان قال وهو بفارس يقبل مع عبد الرحمن من كرمان إلى الحجاج: ألا طرقتنا بالغريين بعد ما ... كللنا على شحط المزار جنوب أتوك يقودون المنايا وإنما ... هدتها بأولانا إليك ذنوب ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له ... من الله في دار القرار نصيب ألا أبلغ الحجاج أن قد أظله ... عذاب بأيدي المؤمنين مصيب متى نهبط المصرين يهرب مُحَمَّد ... وليس بمنجي ابن اللعين هروب قال: منيتنا أمرا كان في علم الله أنك أولى به، فعجل لك في الدنيا، وهو معذبك في الآخرة وانهزم الناس، فأقبل عبد الرحمن نحو الكوفة وتبعه من كان معه من أهل الكوفة، وتبعه أهل القوة من أصحاب الخيل من أهل البصرة. ولما مضى عبد الرحمن نحو الكوفة وثب اهل البصره الى عبد الرحمن ابن عباس بْن رَبِيعَة بْن الْحَارِث بْن عبد المطلب فبايعوه، فقاتل بهم خمس ليال الحجاج أشد قتال رآه الناس، ثم انصرف فلحق بابن الأشعث، وتبعه طائفة من أهل البصرة فلحقوا به، وخرج الحريش بن هلال السعدي وهو من بني أنف الناقة- وكان جريحا- إلى سفوان فمات من جراحته،

وقتل في المعركة زياد بن مقاتل بن مسمع من بني قيس بن ثعلبة، فقامت حميدة ابنته تندبه، وكان على خمس بكر بن وائل مع ابن الأشعث وعلى الرجال، فقالت: وحامى زياد على رايتيه ... وفر جدي بني العنبر فجاء البلتع السعدي فسمعها وهي تندب أباها، وتعيب التميمي، فجاء وكان يبيع سمنا بالمربد، فترك سمنه عند أصحابه، وجاء حتى قام تحتها فقال: علام تلومين من لم يلم ... تطاول ليلك من معصر! فإن كان أردى أباك السنان ... فقد تلحق الخيل بالمدبر وقد تنطح الخيل تحت العجاج ... غير البري ولا المعذر ونحن منعنا لواء الحريش ... وطاح لواء بني جحدر فقال عامر بن واثلة يرثي ابنه طفيلا: 1068 خلى طفيل علي الهم فانشعبا وهد ذلك ركني هدة عجبا وابني سمية لا أنساهما أبدا فيمن نسيت وكل كان لي نصبا وأخطأتني المنايا لا تطالعني حتى كبرت ولم يتركن لي نشبا وكنت بعد طفيل كالذي نضبت عنه المياه وفاض الماء فانقضبا فلا بعير له في الأرض يركبه وإن سعى إثر من قد فاته لغبا وسار من أرض خاقان التي غلبت أبناء فارس في أربائها غلبا ومن سجستان أسباب تزينها لك المنية حينا كان مجتلبا حتى وردت حياض الموت فانكشفت عنك الكتائب لا تخفى لها عقبا وغادروك صريعا رهن معركة ترى النسور على القتلى بها عصبا

تعاهدوا ثم لم يوفوا بما عهدوا وأسلموا للعدو السبي والسلبا يا سوءة القوم إذ تسبى نساؤهمُ وهم كثير يرون الخزي والحربا قال أبو مخنف: فحدثني هشام بن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي عقيل الثقفي أن الحجاج أقام بقية المحرم وأول صفر، ثم استعمل على البصره أيوب ابن الحكم بن أبي عقيل، ومضى ابن الأشعث إلى الكوفة، وقد كان الحجاج خلف عبد الرحمن بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عامر الحضرمى، حليف حرب ابن أمية على الكوفة. قال أبو مخنف- كما حدثني يونس بن أبي إسحاق: أنه كان على أربعة آلاف من أهل الشام. قال أبو مخنف: فحدثني سهم بن عبد الرحمن الجهني أنهم كانوا ألفين، وكان حنظلة بن الوراد من بني رياح بن يربوع التميمي وابن عتاب ابن ورقاء على المدائن، وكان مطر بن ناجية من بني يربوع على المعونة، فلما بلغه ما كان من أمر ابن الأشعث أقبل حتى دنا من الكوفة، فتحصن منه ابن الحضرمي في القصر، ووثب أهل الكوفة مع مطر بن ناجية بابن الحضرمي ومن معه من أهل الشام فحاصرهم، فصالحوه على أن يخرجوا ويخلوه والقصر، فصالحهم. قال أبو مخنف: فحدثني يونس بن أبي إسحاق أنه رآهم ينزلون من القصر على العجل، وفتح باب القصر لمطر بن ناجية، فازدحم الناس على باب القصر، فزحم مطر على باب القصر، فاخترط سيفه، فضرب به جحفلة بغل من بغال أهل الشام وهم يخرجون من القصر، فالقى جحلفته ودخل القصر، واجتمع الناس عليه فأعطاهم مائتي درهم قال يونس: وأنا رأيتها تقسم بينهم، وكان أبو السقر فيمن أعطيها وأقبل ابن الأشعث منهزما إلى الكوفة، وتبعه الناس إليها.

وقعه دير الجماجم بين الحجاج وابن الاشعث

وقعة دير الجماجم بين الحجاج وابن الأشعث قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كانت وقعة دير الجماجم بين الحجاج وابن الأشعث في قول بعضهم قال الواقدي: كانت وقعة دير الجماجم في شعبان من هذه السنة، وفي قول بعضهم: كانت في سنة ثلاث وثمانين. ذكر الخبر عن ذلك وعن سبب مصير ابن الأشعث إلى دير الجماجم وذكر ما جرى بينه وبين الحجاج بها: ذكر هشام عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو الزبير الهمداني ثم الأرحبي، قال: كنت قد أصابتني جراحة، وخرج أهل الكوفة يستقبلون ابن الأشعث حين أقبل، فاستقبلوه بعد ما جاز قنطرة زبارا، فلما دنا منها قال لي: إن رأيت أن تعدل عن الطريق- فلا يرى الناس جراحتك فإني لا أحب أن يستقبلهم الجرحى- فافعل فعدلت ودخل الناس، فلما دخل الكوفة مال إليه أهل الكوفة كلهم، وسبقت همدان إليه، فحفت به عند دار عمرو بن حريث الا طائفة من تميم ليسوا بالكثير قد أتوا مطر بن ناجية، فأرادوا أن يقاتلوا دونه، فلم يطيقوا قتال الناس فدعا عبد الرحمن بالسلاليم والعجل، فوضعت ليصعد الناس القصر، فصعد الناس القصر فأخذوه، فأتي به عبد الرحمن بن مُحَمَّد، فقال له: استبقني فإني أفضل فرسانك واعظمهم عنك غناء، فأمر به فحبس، ثم دعا به بعد ذلك فعفا عنه وبايعه مطر، ودخل الناس إليه فبايعوه، وسقط إليه أهل البصرة، وتقوضت إليه المسالح والثغور، وجاءه فيمن جاءه من اهل البصره عبد الرحمن ابن العباس بْن رَبِيعَة بْن الْحَارِث بْن عبد المطلب، وعرف بذلك، وكان قد قاتل الحجاج بالبصرة بعد خروج ابن الأشعث ثلاثا، فبلغ ذلك عبد الملك ابن مروان، فقال: قاتل الله عدي الرحمن، إنه قد فر! وقاتل غلمان من غلمان قريش بعده ثلاثا وأقبل الحجاج من البصرة فسار في البر حتى مر بين القادسية والعذيب، ومنعوه من نزول القادسية، وبعث إليه عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث عبد الرحمن بن العباس في خيل عظيمة من خيل المصرين

فمنعوه من نزول القادسية، ثم سايروه حتى ارتفعوا على وادي السباع، ثم تسايروا حتى نزل الحجاج دير قرة، ونزل عبد الرحمن بن العباس دير الجماجم، ثم جاء ابن الأشعث فنزل بدير الجماجم والحجاج بدير قرة، فكان الحجاج بعد ذلك يقول: أما كان عبد الرحمن يزجر الطير حيث رآني نزلت دير قرة، ونزل دير الجماجم! واجتمع أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الثغور والمسالح بدير الجماجم والقراء من أهل المصرين، فاجتمعوا جميعا على حرب الحجاج، وجمعهم عليه بغضهم والكراهية له، وهم إذ ذاك مائة ألف مقاتل ممن يأخذ العطاء، ومعهم مثلهم من مواليهم وجاءت الحجاج أيضا أمداده من قبل عبد الملك من قبل أن ينزل دير قرة، وقد كان الحجاج أراد قبل أن ينزل دير قرة أن يرتفع إلى هيت وناحية الجزيرة إرادة أن يقترب من الشام والجزيرة فيأتيه المدد من الشام من قريب، ويقترب من رفاغة سعر الجزيرة، فلما مر بدير قرة قال: ما بهذا المنزل بعد من أمير المؤمنين، وإن الفلاليج وعين التمر إلى جنبنا فنزل فكان في عسكره مخندقا وابن مُحَمَّد في عسكره مخندقا، والناس يخرجون في كل يوم فيقتتلون، فلا يزال أحدهما يدني خندقه نحو صاحبه، فإذا رآه الآخر خندق أيضا، وأدنى خندقه من صاحبه واشتد القتال بينهم فلما بلغ ذلك رءوس قريش وأهل الشام قبل عبد الملك ومواليه قالوا: إن كان إنما يرضي أهل العراق أن ينزع عنهم الحجاج، فإن نزع الحجاج أيسر من حرب أهل العراق، فانزعه عنهم تخلص لك طاعتهم، وتحقن به دماءنا ودماءهم فبعث ابنه عبد الله بن عبد الملك، وبعث إلى أخيه مُحَمَّد بن مروان بأرض الموصل يأمره بالقدوم عليه، فاجتمعا جميعا عنده، كلاهما في جنديهما، فأمرهما أن يعرضا على أهل العراق نزع الحجاج عنهم، وأن يجري عليهم أعطياتهم كما تجرى على أهل الشام، وأن ينزل ابن مُحَمَّد أي بلد من عراق شاء، يكون عليه واليا ما دام حيا، وكان عبد الملك واليا، فإن هم قبلوا ذلك عزل عنهم الحجاج، وكان مُحَمَّد بن مروان

أمير العراق، وإن أبوا أن يقبلوا فالحجاج أمير جماعة أهل الشام وولي القتال، ومُحَمَّد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك في طاعته فلم يأت الحجاج أمر قط كان أشد عليه ولا أغيظ له ولا أوجع لقلبه منه مخافة أن يقبلوا فيعزل عنهم، فكتب إلى عبد الملك: يا أمير المؤمنين، والله لئن أعطيت أهل العراق نزعي لا يلبثون إلا قليلا حتى يخالفوك ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلا جرأة عليك، ألم تر وتسمع بوثوب أهل العراق مع الأشتر على ابن عفان، فلما سألهم ما يريدون قالوا: نزع سعيد بن العاص، فلما نزعه لم تتم لهم السنة حتى ساروا إليه فقتلوه! إن الحديد بالحديد يفلح خار الله لك فيما ارتأيت والسلام عليك. فأبى عبد الملك إلا عرض هذه الخصال على أهل العراق إرادة العافية من الحرب فلما اجتمعا مع الحجاج خرج عبد الله بن عبد الملك فقال: يا أهل العراق، أنا عبد الله بن أمير المؤمنين، وهو يعطيكم كذا وكذا، فذكر هذه الخصال التي ذكرنا وقال مُحَمَّد بن مروان: أنا رسول أمير المؤمنين إليكم، وهو يعرض عليكم كذا وكذا، فذكر هذه الخصال قالوا: نرجع العشية، فرجعوا فاجتمعوا عند ابن الأشعث، فلم يبق قائد ولا رأس قوم ولا فارس إلا أتاه، فحمد الله ابن الأشعث وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فقد أعطيتم أمرا انتهازكم اليوم إياه فرصة، ولا آمن أن يكون على ذي الرأي غدا حسرة، وإنكم اليوم على النصف وإن كانوا اعتدوا بالزاوية فأنتم تعتدون عليهم بيوم تستر، فاقبلوا ما عرضوا عليكم وأنتم أعزاء أقوياء، والقوم لكم هائبون وأنتم لهم منتقصون فلا والله لا زلتم عليهم 2 1075 جراء، ولا زلتم عندهم أعزاء، إن أنتم قبلتم أبدا ما بقيتم. فوثب الناس من كل جانب، فقالوا: إن الله قد أهلكهم، فأصبحوا في

الأزل والضنك والمجاعة والقلة والذلة، ونحن ذوو العدد الكثير، والسعر الرفيغ والمادة القريبة، لا والله لا نقبل. فأعادوا خلعه ثانيه وكان عبد الله بن ذؤاب السلمي وعمير بن تيحان أول من قام بخلعه في الجماجم، وكان اجتماعهم على خلعه بالجماجم أجمع من خلعهم إياه بفارس. فرجع مُحَمَّد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك إلى الحجاج فقالا: شأنك بعسكرك وجندك فاعمل برأيك، فإنا قد أمرنا أن نسمع لك ونطيع، فقال: قد قلت لكما: إنه لا يراد بهذا الأمر غيركما، ثم قال: إنما أقاتل لكما، وإنما سلطاني سلطانكما، فكانا إذا لقياه سلما عليه بالإمرة، وقد زعم أبو يزيد السكسكي أنه إنما كان أيضا يسلم عليهما بالإمرة إذا لقيهما، وخلياه والحرب فتولاها. قال أبو مخنف: فحدثني الكلبي مُحَمَّد بن السائب أن الناس لما اجتمعوا بالجماجم سمعت عبد الرحمن بن مُحَمَّد وهو يقول: ألا إن بني مروان يعيرون بالزرقاء، والله ما لهم نسب أصح منه إلا أن بني أبي العاص أعلاج من أهل صفورية، فإن يكن هذا الأمر في قريش فعني فقئت بيضة قريش، وإن يك في العرب فأنا ابن الأشعث بن قيس- ومد بها صوته يسمع الناس- وبرزوا للقتال، فجعل الحجاج على ميمنته عبد الرحمن ابن سليم الكلبي، وعلى ميسرته عمارة بن تميم اللخمى، وعلى خيله سفيان ابن الأبرد الكلبي، وعلى رجاله عبد الرحمن بن حبيب الحكمي، وجعل ابن الأشعث على ميمنته الحجاج بن جارية الخثعمي، وعلى ميسرته الأبرد بن قرة التميمي، وعلى خيله عبد الرحمن بْن عباس بْن ربيعة بْن الحارث الهاشمي، وعلى رجاله محمد بن سعد بن أبي وقاص، وعلى مجففته عبد الله بن رزام الحارثي، وجعل على القراء جبلة بن زحر بن قيس الجعفي،

ذكر الخبر عن وفاه المغيره بن المهلب

وكان معه خمسة عشر رجلا من قريش، وكان فيهم عامر الشعبى، وسعيد ابن جبيرع وأبو البختري الطائي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ثم إنهم أخذوا يتزاحفون في كل يوم ويقتتلون، وأهل العراق تأتيهم موادهم من الكوفه ومن سوادها فيما شاءوا من خصبهم، وإخوانهم من أهل البصرة وأهل الشام في ضيق شديد، قد غلت عليهم الأسعار، وقل عندهم، الطعام، وفقدوا اللحم، وكانوا كأنهم في حصار، وهم على ذلك يغادون أهل العراق ويراوحونهم، فيقتتلون أشد القتال، وكان الحجاج يدني خندقه مرة وهؤلاء أخرى، حتى كان اليوم الذي أصيب فيه جبلة بن زحر ثم إنه بعث إلى كميل بن زياد النخعي وكان رجلا ركينا وقورا عند الحرب، له بأس وصوت في الناس، وكانت كتيبته تدعى كتيبة القراء، يحمل عليهم فلا يكادون يبرحون، ويحملون فلا يكذبون، فكانوا قد عرفوا بذلك، فخرجوا ذات يوم كما كانوا يخرجون، وخرج الناس، فعبى الحجاج أصحابه، ثم زحف في صفوفه، وخرج ابن مُحَمَّد في سبعة صفوف بعضها على أثر بعض، وعبى الحجاج لكتيبة القراء التي مع جبلة بن زحر ثلاث كتائب، وبعث عليها الجراح بن عبد الله الحكمي، فأقبلوا نحوهم. قال أبو مخنف: حدثني أبو يزيد السكسكي، قال: أنا والله في الخيل التي عبيت لجبلة بن زحر، قال: حملنا عليه وعلى أصحابه ثلاث حملات، كل كتيبة تحمل حملة، فلا والله ما استنقصنا منهم شيئا . ذكر الخبر عن وفاه المغيره بن المهلب وفي هذه السنة توفي المغيرة بن المهلب بخراسان. ذكر علي بن مُحَمَّد، عن المفضل بن مُحَمَّد، قال: كان المغيرة بن المهلب خليفة أبيه بمرو على عمله كله، فمات في رجب سنة اثنتين وثمانين، فأتى الخبر يزيد، وعلمه أهل العسكر فلم يخبروا المهلب، وأحب يزيد أن يبلغه، فأمر النساء فصرخن، فقال المهلب: ما هذا؟ فقيل: مات المغيرة،

فاسترجع، وجزع حتى ظهر جزعه عليه، فلامه بعض خاصته، فدعا يزيد فوجهه إلى مرو، فجعل يوصيه بما يعمل ودموعه تنحدر على لحيته وكتب الحجاج إلى المهلب يعزيه عن المغيرة، وكان سيدا، وكان المهلب يوم مات المغيره مقيما بكس وراء النهر لحرب أهلها قال: فسار يزيد في ستين فارسا- ويقال: سبعين- فيهم مجاعة بن عبد الرحمن العتكي، وعبد الله بن معمر بن سمير اليشكري، ودينار السجستاني، والهيثم بن المنخل الجرموزي، وغزوان الإسكاف صاحب زم- وكان أسلم على يد المهلب- وأبو مُحَمَّد الزمى، وعطية- مولى لعتيك- فلقيهم خمسمائة من الترك في مفازة نسف، فقالوا: ما أنتم؟ قالوا: تجار، قالوا: فأين الأثقال؟ قالوا: قدمناها، قالوا: فأعطونا شيئا، فأبى يزيد، فأعطاهم مجاعة ثوبا وكرابيس وقوسا، فانصرفوا ثم غدروا وعادوا إليهم، فقال يزيد: أنا كنت أعلم بهم فقاتلوهم، فاشتد القتال بينهم، ويزيد، على فرس قريب من الأرض، ومعه رجل من الخوارج كان يزيد أخذه، فقال: استبقني، فمن عليه، فقال له: ما عندك؟ فحمل عليهم حتى خالطهم وصار من ورائهم وقد قتل رجلا، ثم كر فخالطهم حتى تقدمهم وقتل رجلا ثم رجع إلى يزيد وقتل يزيد عظيما من عظمائهم ورمي يزيد في ساقه، واشتدت شوكتهم، وهرب أبو مُحَمَّد الزمي، وصبر لهم يزيد حتى حاجزوهم، وقالوا: قد غدرنا، ولكن لا ننصرف حتى نموت جميعا أو تموتوا أو تعطونا شيئا، فحلف يزيد لا يعطيهم شيئا، فقال مجاعة: أذكرك الله، قد هلك المغيرة، وقد رأيت ما دخل على المهلب من مصابه، فأنشدك الله أن تصاب اليوم! قال: إن المغيرة لم يعد أجله، ولست أعدو أجلي فرمى إليهم مجاعة بعمامة صفراء فأخذوها وانصرفوا، وجاء أبو مُحَمَّد الزمي بفوارس وطعام، فقال له يزيد: أسلمتنا يا أبا مُحَمَّد، فقال: إنما ذهبت لأجيئكم بمدد وطعام، فقال الراجز:

ذكر الخبر عن سبب انصراف المهلب عن كس

يزيد يا سيف أبي سعيد ... قد علم الأقوام والجنود والجمع يوم المجمع المشهود ... أنك يوم الترك صلب العود وقال الأشقري: والترك تعلم إذ لاقى جموعهمُ ... أن قد لقوه شهابا يفرج الظلما بفتية كأسود الغاب لم يجدوا ... غير التأسي وغير الصبر معتصما نرى شرائج تغشى القوم من علق ... وما أرى نبوة منهم ولا كزما وتحتهم قرح يركبن ما ركبوا ... من الكريهة حتى ينتلعن دما في حازة الموت حتى جن ليلهمُ ... كلا الفريقين ما ولى ولا انهزما وفي هذه السنه صالح المهلب اهل كس على فدية، ورحل عنها يريد مرو . ذكر الخبر عن سبب انصراف المهلب عن كس ذكر علي بن مُحَمَّد، عن المفضل بن مُحَمَّد، أن المهلب اتهم قوما من مضر فحبسهم وقفل من كس وخلفهم، وخلف حريث بن قطبة مولى خزاعة، وقال: إذا استوفيت الفدية فرد عليهم الرهن وقطع النهر فلما صار ببلخ أقام بها وكتب إلى حريث: إني لست آمن إن رددت عليهم الرهن أن يغيروا عليك، فإذا قبضت الفدية فلا تخلي الرهن حتى تقدم ارض بلخ فقال حريث لملك كس: إن المهلب كتب إلي أن أحبس الرهن حتى أقدم أرض بلخ، فإن عجلت لي ما عليك سلمت إليك رهائنك، وسرت فأخبرته أن كتابه ورد، وقد استوفيت ما عليكم، ورددت عليكم الرهن، فعجل لهم صلحهم، ورد عليهم من كان في أيديهم منهم وأقبل فعرض لهم الترك، فقالوا: افد نفسك ومن معك، فقد لقينا

يزيد بن المهلب ففدى نفسه فقال حريث: ولدتني إذا أم يزيد! وقاتلهم فقتلهم، وأسر منهم أسرى ففدوهم، فمن عليهم وخلاهم، ورد عليهم الفداء، وبلغ المهلب قوله: ولدتني أم يزيد إذا، فقال: يأنف العبد أن تلده رحمه! وغضب. فلما قدم عليه بلخ قال له: أين الرهن؟ قال: قبضت ما عليهم وخليتهم، قال: الم اكتب إليك الا تخليهم! قال: أتاني كتابك وقد خليتهم، وقد كفيت ما خفت، قال: كذبت، ولكنك تقربت إليهم وإلى ملكهم فأطلعته على كتابي إليك وأمر بتجريده، فجزع من التجريد حتى ظن المهلب أن به برصا، فجرده وضربه ثلاثين سوطا فقال حريث: وددت انه ضربني ثلاثمائه سوط ولم يجردني، أنفا واستحياء من التجريد، وحلف ليقتلن المهلب. فركب المهلب يوما وركب حريث، فأمر غلامين له وهو يسير خلف المهلب أن يضرباه، فأبى أحدهما وتركه وانصرف، ولم يجترئ الآخر لما صار وحده أن يقدم عليه، فلما رجع قال لغلامه: ما منعك منه؟ قال: الاشفاق والله عليك، والله ما جزعت على نفسي، وعلمت أنا إن قتلناه أنك ستقتل ونقتل، ولكن كان نظري لك، ولو كنت أعلم أنك تسلم من القتل لقتلته. قال: فترك حريث إتيان المهلب، وأظهر أنه وجع، وبلغ المهلب أنه تمارض وأنه يريد الفتك به، فقال المهلب لثابت بن قطبة: جئني بأخيك، فإنما هو كبعض ولدي عندي، وما كان ما كان مني إليه إلا نظرا له وأدبا، ولربما ضربت بعض ولدي أؤدبه فأتى ثابت أخاه فناشده، وسأله أن يركب إلى المهلب، فأبى وخافه وقال: والله لا أجيئه بعد ما صنع بي ما صنع، ولا آمنه ولا يأمنني فلما رأى ذلك أخوه ثابت قال له: أما إن كان هذا رأيك فاخرج بنا إلى موسى بن عبد الله بن خازم، وخاف ثابت أن يفتك حريث بالمهلب فيقتلون جميعا، فخرجا في ثلاثمائة من شاكريتهما والمنقطعين إليهما من العرب

خبر وفاه المهلب بن ابى صفره

خبر وفاه المهلب بن ابى صفره قال أبو جعفر: وفي هذه السنة توفي المهلب بن أبي صفرة. ذكر الخبر عن سبب موته ومكان وفاته: قال علي بن مُحَمَّد: حدثني المفضل، قال: مضى المهلب منصرفه من كس يريد مرو، فلما كان بزاغول من مرو الروذ أصابته الشوصة- وقوم يقولون: الشوكة- فدعا حبيبا ومن حضره من ولده، ودعا بسهام فحزمت، وقال: أترونكم كاسريها مجتمعة؟ قالوا: لا، قال: أفترونكم كاسريها متفرقة؟ قالوا: نعم، قال: فهكذا الجماعة، فأوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم، فان صله الرحم تنسئ في الأجل، وتشرى المال، وتكثر العدد، وأنهاكم عن القطيعة، فإن القطيعة تعقب النار، وتورث الذلة والقلة، فتحابوا وتواصلوا، وأجمعوا أمركم ولا تختلفوا، وتباروا تجتمع أموركم، إن بني الأم يختلفون، فكيف ببني العلات! وعليكم بالطاعة والجماعة، وليكن فعالكم أفضل من قولكم، فإني أحب للرجل أن يكون لعمله فضل على لسانه، واتقوا الجواب وزلة اللسان، فإن الرجل تزل قدمه فينتعش من زلته، ويزل لسانه فيهلك اعرفوا لمن يغشاكم حقه، فكفى بغدو الرجل ورواحه إليكم تذكرة له، وآثروا الجود على البخل، وأحبوا العرب واصطنعوا العرف، فإن الرجل من العرب تعده العدة فيموت دونك، فكيف الصنيعة عنده! عليكم في الحرب بالأناة والمكيدة، فإنها أنفع في الحرب من الشجاعة، وإذا كان اللقاء نزل القضاء، فإن أخذ رجل بالحزم فظهر على عدوه قيل: أتى الأمر من وجهه، ثم ظفر فحمد، وإن لم يظفر بعد الأناة قيل: ما فرط ولا ضيع، ولكن القضاء غالب وعليكم بقراءة القرآن، وتعليم السنن، وأدب الصالحين، وإياكم والخفة وكثرة الكلام في مجالسكم، وقد استخلفت عليكم يزيد، وجعلت حبيبا على الجند حتى يقدم بهم على يزيد، فلا تخالفوا يزيد، فقال له المفضل: لو لم تقدمه لقدمناه

أخبار متفرقة

ومات المهلب وأوصى إلى حبيب، فصلى عليه حبيب، ثم سار إلى مرو. وكتب يزيد إلى عبد الملك بوفاة المهلب واستخلافه إياه، فأقره الحجاج. ويقال: إنه قال عند موته ووصيته: لو كان الأمر إلي لوليت سيد ولدي حبيبا قال: وتوفي في ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين، فقال نهار بن توسعة التميمي: ألا ذهب الغزو المقرب للغنى ... ومات الندى والجود بعد المهلب أقاما بمرو الروذ رهنى ضريحه ... وقد غيبا عن كل شرق ومغرب إذا قيل أي الناس أولى بنعمة ... على الناس؟ قلناه ولم نتهيب أباح لنا سهل البلاد وحزنها ... بخيل كأرسال القطا المتسرب يعرضها للطعن حتى كأنما ... يجللها بالأرجوان المخضب تطيف به قحطان قد عصبت به ... وأحلافها من حي بكر وتغلب وحيا معد عوذ بلوائه ... يفدونه بالنفس الام والأب [أخبار متفرقة] وفي هذه السنة ولى الحجاج بن يوسف يزيد بن المهلب خراسان بعد موت المهلب. وفيها عزل عبد الملك أبان بن عثمان عن المدينة، قال الواقدي: عزله عنها لثلاث عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة. قال: وفيها ولى عبد الملك هشام بن إسماعيل المخزومي المدينة وعزل هشام بن إسماعيل عن قضاء المدينة لما وليها نوفل بن مساحق العامري، وكان يحيى بن الحكم هو الذي استقضاه على المدينة، فلما عزل يحيى ووليها ابان ابن عثمان أقره على قضائها، وكانت ولاية أبان المدينة سبع سنين وثلاثة أشهر وثلاث عشرة ليلة، فلما عزل هشام بن إسماعيل نوفل بن مساحق عن القضاء ولى مكانه عمرو بن خالد الزرقي

وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر وكان على الكوفة والبصرة والمشرق الحجاج، وعلى خراسان يزيد بن المهلب من قبل الحجاج.

سنه ثلاث وثمانين

ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين (ذكر الأحداث التي كانت فيها) خبر هزيمه ابن الاشعث بدير الجماجم فمما كان فيها من ذلك هزيمة عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّدِ بْنِ الأشعث بدير الجماجم. ذكر الخبر عن سبب انهزامه: ذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو الزبير الهمداني، قال: كنت في خيل جبله بن زحل، فلما حمل عليه أهل الشام مرة بعد مرة، نادانا عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه فقال: يا معشر القراء، إن الفرار ليس بأحد من الناس بأقبح منه بكم، إني سمعت عليا- رفع الله درجته في الصالحين، وأثابه أحسن ثواب الشهداء والصديقين- يقول يوم لقينا أهل الشام: أيها المؤمنون، إنه من رأى عدوانا يعمل به، ومنكرا يدعى إليه، فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكر بلسانه فقد أجر، وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى، ونور في قلبه اليقين فقاتلوا هؤلاء المحلين المحدثين المبتدعين الذين قد جهلوا الحق فلا يعرفونه، وعملوا بالعدوان فليس ينكرونه. وقال أبو البختري: أيها الناس، قاتلوهم على دينكم ودنياكم. فو الله لئن ظهروا عليكم ليفسدن عليكم دينكم، وليغلبن على دنياكم وقال الشعبي: يا أهل الإسلام، قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم،

فو الله ما أعلم قوما على بسيط الأرض أعمل بظلم، ولا أجور منهم في الحكم، فليكن بهم البدار. وقال سعيد بن جبير: قاتلوهم ولا تأثموا من قتالهم بنية ويقين، وعلى آثامهم قاتلوهم على جورهم في الحكم، وتجبرهم في الدين، واستذلالهم الضعفاء، وإماتتهم الصلاة. قال أبو مخنف، قال أبو الزبير: فتهيأنا للحملة عليهم، فقال لنا جبلة: إذا حملتم عليهم فاحملوا حملة صادقة، ولا تردوا وجوهكم عنهم حتى تواقعوا صفهم قال: فحملنا عليهم حملة بجد منا في قتالهم، وقوة منا عليهم، فضربنا الكتائب الثلاث حتى اشتفرت، ثم مضينا حتى واقعنا صفهم فضربناهم حتى أزلناهم عنه، ثم انصرفنا فمررنا بجبلة صريعا لا ندري كيف قتل. قال: فهدنا ذلك وجبنا فوقفنا موقفنا الذي كنا به، وإن قراءنا لمتوافرون، ونحن نتناعى جبلة بن زحر بيننا، كأنما فقد به كل واحد منا أباه أو أخاه، بل هو في ذلك الموطن كان أشد علينا فقدا فقال لنا أبو البختري الطائي: لا يستبينن فيكم قتل جبلة بن زحر، فإنما كان كرجل منكم أتته منيته ليومها، فلم يكن ليتقدم يومه ولا ليتأخر عنه، وكلكم ذائق ما ذاق، ومدعو فمجيب قال: فنظرت إلى وجوه القراء فإذا الكآبة على وجوههم بينة، وإذا ألسنتهم منقطعة، وإذا الفشل فيهم قد ظهر، وإذا أهل الشام قد سروا وجذلوا، فنادوا: يا أعداء الله، قد هلكتم، وقد قتل الله طاغوتكم. قال أبو مخنف: فحدثني أبو يزيد السكسكي أن جبلة حين حمل هو وأصحابه علينا انكشفنا، وتبعونا، وافترقت منا فرقة فكانت ناحية، فنظرنا فإذا أصحابه يتبعون أصحابنا، وقد وقف لأصحابه ليرجعوا إليه على

رأس رهوة، فقال بعضنا، هذا والله جبلة بن زحر، احملوا عليه ما دام أصحابه مشاغيل بالقتال عنه لعلكم تصيبونه قال: فحملنا عليه، فأشهد ما ولى، ولكن حمل علينا بالسيف فلما هبط من الرهوة شجرناه بالرماح فأذريناه عن فرسه فوقع قتيلا، ورجع أصحابه، فلما رأيناهم مقبلين تنحينا عنهم، فلما رأوه قتيلا رأينا من استرجاعهم وجزعهم ما قرت به أعيننا، قال: فتبينا ذلك في قتالهم إيانا وخروجهم إلينا. قال أبو مخنف: حدثني سهم بن عبد الرحمن الجهني، قال: لما أصيب جبلة هد الناس مقتله، حتى قدم علينا بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيباني، فشجع الناس مقدمه، وقالوا: هذا يقوم مقام جبلة، فسمع هذا القول من بعضهم أبو البختري، فقال: قبحتم! إن قتل منكم رجل واحد ظننتم أن قد أحيط بكم، فإن قتل الآن ابن مصقلة ألقيتم بأيديكم إلى التهلكة، وقلتم: لم يبق أحد يقاتل معه! ما أخلقكم أن يخلف رجاؤنا فيكم! وكان مقدم بسطام من الري، فالتقى هو وقتيبة في الطريق، فدعاه قتيبة إلى الحجاج وأهل الشام، ودعاه بسطام إلى عبد الرحمن وأهل العراق، فكلاهما أبى على صاحبه، وقال بسطام: لأن أموت مع أهل العراق أحب إلي من أن أعيش مع أهل الشام، وكان قد نزل ماسبذان، فلما قدم قال لابن مُحَمَّد: أمرني على خيل ربيعة، ففعل، فقال لهم: يا معشر ربيعة، إن في شرسفة عند الحرب فاحتملوها لي- وكان شجاعا- فخرج الناس ذات يوم ليقتتلوا، فحمل في خيل ربيعة حتى دخل عسكرهم، فأصابوا فيهم نحوا من ثلاثين امرأة من بين أمة وسرية، فأقبل بهن حتى إذا دنا من عسكره ردهن، فجئن ودخلن عسكر الحجاج، فقال: أولى لهم! منع القوم نساءهم، أما لو لم يردوهن لسبيت نساؤهم غدا إذا ظهرت ثم اقتتلوا يوما آخر بعد ذلك، فحمل عبد الله بن مليل الهمداني في خيل له حتى دخل

عسكرهم فسبا ثماني عشرة امرأة، وكان معه طارق بن عبد الله الأسدي- وكان راميا- فخرج شيخ من أهل الشام من فسطاطه، فأخذ الأسدي يقول لبعض أصحابه: استر مني هذا الشيخ لعلني أرميه أو أحمل عليه فأطعنه، فإذا الشيخ يقول رافعا صوته: اللهم لمنا وإياهم بعافية، فقال الأسدي: ما أحب أن أقتل مثل هذا، فتركه، وأقبل ابن مليل بالنساء غير بعيد، ثم خلى سبيلهن أيضا، فقال الحجاج مثل مقالته الأولى. قال هشام: قال أبي: أقبل الوليد بن نحيت الكلبي من بني عامر في كتيبة إلى جبلة بن زحر، فانحط عليه الوليد من رابية- وكان جسيما، وكان جبلة رجلا ربعة- فالتقيا- فضربه على رأسه فسقط، وانهزم أصحابه وجيء برأسه قال هشام: فحدثني بهذا الحديث أبو مخنف وعوانة الكلبي، قال: لما جيء برأس جبلة بن زحر إلى الحجاج حمله على رمحين ثم قال: يا أهل الشام، أبشروا، هذا أول الفتح، لا والله ما كانت فتنة قط فخبت حتى يقتل فيها عظيم من عظماء أهل اليمن، وهذا من عظمائهم ثم خرجوا ذات يوم فخرج رجل من أهل الشام يدعو إِلَى المبارزة، فخرج اليه الحجاج ابن جارية، فحمل عليه، فطعنه فأذراه، وحمل أصحابه فاستنقذوه، فإذا هو رجل من خثعم يقال له أبو الدرداء، فقال الحجاج بن جارية: أما إني لم أعرفه حتى وقع، ولو عرفته ما بارزته، ما أحب أن يصاب من قومي مثله وخرج عبد الرحمن بن عوف الرؤاسي أبو حميد فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه ابن عم له من أهل الشام، فاضطربا بسيفيهما، فقال كل واحد منهما: أنا الغلام الكلابي، فقال كل واحد منهما لصاحبه: من أنت؟ فلما تساءلا تحاجزا وخرج عبد الله بن رزام الحارثي إلى كتيبة الحجاج، فقال: أخرجوا إلي رجلا رجلا، فأخرج إليه رجل، فقتله ثم فعل ذلك ثلاثة أيام، يقتل كل يوم رجلا، حتى إذا كان اليوم الرابع

أقبل، فقالوا: قد جاء لا جاء الله به! فدعا إلى المبارزة، فقال الحجاج للجراح: اخرج إليه، فخرج إليه، فقال له عبد الله بن رزام- وكان له صديقا: ويحك يا جراح! ما أخرجك إلي! قال: قد ابتليت بك، قال: فهل لك في خير؟ قال: ما هو؟ قال: أنهزم لك فترجع إلى الحجاج وقد أحسنت عنده وحمدك، وأما أنا فإني أحتمل مقالة الناس في انهزامي عنك حبا لسلامتك، فإني لا أحب أن أقتل من قومي مثلك، قال: فافعل، فحمل عليه فأخذ يستطرد له- وكان الحارثي قد قطعت لهاته، وكان يعطش كثيرا، وكان معه غلام له معه إداوة من ماء، فكلما عطش سقاه الغلام- فاطرد له الحارثي، وحمل عليه الجراح حملة بجد لا يريد إلا قتله، فصاح به غلامه: إن الرجل جاد في قتلك! فعطف عليه فضربه بالعمود على رأسه فصرعه، فقال لغلامه: انضح على وجهه من ماء الإداوة، واسقه، ففعل ذلك به، فقال: يا جراح، بئسما ما جزيتني، أردت بك العافية وأردت أن تزيرني المنية! فقال: لم أرد ذلك، فقال: انطلق فقد تركتك للقرابة والعشيرة. قال مُحَمَّد بن عمر الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة، عن صالح بن كيسان، قال: قال سعيد الحرشي: أنا في صف القتال يومئذ إذ خرج رجل من أهل العراق، يقال له: قدامة بن الحريش التميمي، فوقف بين الصفين، فقال: يا معشر جرامقة أهل الشام، إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، فإن أبيتم فليخرج إلي رجل، فخرج إليه رجل من أهل الشام فقتله، حتى قتل أربعة، فلما رأى ذلك الحجاج أمر مناديا فنادى: لا يخرج إلى هذا الكلب أحد، قال: فكف الناس قال سعيد الحرشي: فدنوت من الحجاج فقلت: أصلح الله الأمير! إنك رأيت الا يخرج إلى هذا الكلب أحد، وإنما هلك من هلك من هؤلاء النفر بآجالهم، ولهذا الرجل أجل، وأرجو أن يكون قد حضر، فأذن لأصحابي الذين قدموا معي فليخرج إليه رجل منهم، فقال الحجاج: إن هذا الكلب لم يزل هذا له عادة

وقد أرعب الناس، وقد أذنت لأصحابك، فمن أحب أن يقوم فليقم. فرجع سعيد الحرشي إلى أصحابه فأعلمهم، فلما نادى ذلك الرجل بالبراز برز إليه رجل من أصحاب الحرشي، فقتله قدامة، فشق ذلك على سعيد، وثقل عليه لكلامه الحجاج، ثم نادى قدامة: من يبارز؟ فدنا سعيد من الحجاج، فقال: أصلح الله الأمير! ائذن لي في الخروج إلى هذا الكلب، فقال: وعندك ذلك؟ قال سعيد: نعم، أنا كما تحب، فقال الحجاج: أرني سيفك، فأعطاه إياه، فقال الحجاج: معي سيف أثقل من هذا، فأمر له بالسيف، فأعطاه إياه، فقال الحجاج- ونظر إلى سعيد فقال: ما أجود درعك وأقوى فرسك! ولا أدري كيف تكون مع هذا الكلب! قال سعيد: أرجو أن يظفرني الله به، قال الحجاج: اخرج على بركة الله قال سعيد: فخرجت إليه، فلما دنوت منه، قال: قف يا عدو الله، فوقفت، فسرني ذلك منه، فقال: اختر إما أن تمكنني فأضربك ثلاثا، وإما أن أمكنك فتضربني ثلاثا، ثم تمكنني قلت: أمكني، فوضع صدره على قربوسه ثم قال: اضرب، فجمعت يدي على سيفي، ثم ضربت على المغفر متمكنا، فلم يصنع شيئا، فساءني ذلك من سيفي ومن ضربتي، ثم أجمع رأيي أن أضربه على أصل العاتق، فإما أن أقطع وإما أن أوهن يده عن ضربته، فضربته فلم أصنع شيئا، فساءني ذلك ومن غاب عني ممن هو في ناحية العسكر حين بلغه ما فعلت، والثالثة كذلك ثم اخترط سيفا ثم قال: أمكني، فأمكنته، فضربني ضربة صرعني منها، ثم نزل عن فرسه وجلس على صدري، وانتزع من خفيه خنجرا أو سكينا فوضعها على حلقي يريد ذبحي، فقلت له: أنشدك الله! فإنك لست مصيبا من قتلي الشرف والذكر مثل ما أنت مصيب من تركي، قال: ومن أنت؟ قلت: سعيد الحرشي، قال: أولى يا عدو الله! فانطلق فأعلم صاحبك ما لقيت. قال سعيد: فانطلقت أسعى حتى انتهيت إلى الحجاج، فقال: كيف

رأيت! فقلت: الأمير كان أعلم بالأمر. رجع الحديث إِلَى حديث أبي مخنف، عَنْ أبي يزيد، قال: وكان أبو البختري الطائي وسعيد بن جبير يقولان: «وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا» إلى آخر الآية، ثم يحملان حتى يواقعا الصف. قال أبو المخارق: قاتلناهم مائة يوم سواء أعدها عدا قال: نزلنا دير الجماجم مع ابن مُحَمَّد غداة الثلاثاء لليلة مضت من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين، وهزمنا يوم الأربعاء لأربع عشرة مضت من جمادى الآخرة عند امتداد الضحى ومتوع النهار، وما كنا قط أجرأ عليهم ولا هم أهون علينا منهم في ذلك اليوم. قال: خرجنا إليهم وخرجوا إلينا يوم الأربعاء، لأربع عشرة مضت من جمادى الآخرة، فقاتلناهم عامة النهار أحسن قتال قاتلناهموه قط، ونحن آمنون من الهزيمة، عالون للقوم، إذ خرج سفيان بن الأبرد الكلبي في الخيل من قبل ميمنة أصحابه، حتى دنا من الأبرد بن قرة التميمي، وهو على ميسرة عبد الرحمن بن محمد، فو الله ما قاتله كبير قتال حتى انهزم، فأنكرها الناس منه، وكان شجاعا، ولم يكن الفرار له بعاده، فظن الناس انه قد كان أومن، وصولح على ان ينهزم بالناس، فلما فعلها تقوضت الصفوف من نحوه، وركب الناس وجوههم وأخذوا في كل وجه، وصعد عبد الرحمن بن مُحَمَّد المنبر، فأخذ ينادي الناس: عباد الله، إلي أنا ابن مُحَمَّد، فأتاه عبد الله بن رزام الحارثي، فوقف تحت منبره، وجاء عبد الله بن ذؤاب السلمي في خيل له، فوقف منه قريبا، وثبت حتى دنا منه أهل الشام، فأخذت نبلهم تحوزه، فقال: يا بن رزام، احمل على هذه الرجال والخيل، فحمل عليهم حتى أمعنوا ثم جاءت

خيل لهم أخرى ورجالة، فقال: احمل عليهم يا بن ذؤاب، فحمل عليهم حتى أمعنوا، وثبت لا يبرح منبره، ودخل أهل الشام العسكر، فكبروا، فصعد إليه عبد الله بن يزيد بن المغفل الأزدي- وكانت مليكه ابنة أخيه امرأة عبد الرحمن- فقال: انزل، فإني أخاف عليك إن لم تنزل أن تؤسر، ولعلك إن انصرفت أن تجمع لهم جمعا يهلكهم الله به بعد اليوم فنزل وخلى أهل العراق العسكر، وانهزموا لا يلوون على شيء، ومضى عبد الرحمن بن مُحَمَّد مع ابن جعدة بن هبيرة ومعه أناس من أهل بيته، حتى إذا حاذوا قرية بني جعدة بالفلوجة دعوا بمعبر، فعبروا فيه، فانتهى إليهم بسطام بن مصقلة، فقال: هل في السفينة عبد الرحمن بن مُحَمَّد؟ فلم يكلموه، وظن أنه فيهم، فقال: لا وألت نفس عليها تحاذر. ضرم قيس علي البلاد ... حتى إذا اضطرمت أجذما ثم جاء حتى انتهى إلى بيته وعليه السلاح، وهو على فرسه لم ينزل عنه، فخرجت إليه ابنته فالتزمها، وخرج إليه أهله يبكون، فأوصاهم بوصية وقال: لا تبكوا، أرأيتم إن لم أترككم، كم عسيت أن أبقى معكم حتى أموت! وإن أنا مت فإن الذي رزقكم الآن حي لا يموت، وسيرزقكم بعد وفاتي كما رزقكم في حياتي، ثم ودع أهله وخرج من الكوفة. قال أبو مخنف: فحدثني الكلبي مُحَمَّد بن السائب، أنهم لما هزموا ارتفاع النهار حين امتد ومتع، قال: جئت أشتد ومعي الرمح والسيف والترس حتى بلغت أهلي من يومي، ما ألقيت شيئا من سلاحي، فقال الحجاج: اتركوهم فليتبددوا ولا تتبعوهم، ونادى المنادي: من رجع فهو آمن ورجع مُحَمَّد بن مروان إلى الموصل، وعبد الله بن عبد الملك إلى الشام بعد الوقعة، وخليا الحجاج والعراق، وجاء الحجاج حتى دخل الكوفه، واجلس مصقله ابن كرب بن رقبة العبدي إلى جنبه، وكان خطيبا، فقال: اشتم كل

امرئ بما فيه ممن كنا أحسنا إليه، فاشتمه بقلة شكره ولؤم عهده، ومن علمت منه عيبا فعبه بما فيه، وصغر إليه نفسه وكان لا يبايعه أحد إلا قال له: أتشهد أنك قد كفرت؟ فإذا قال: نعم، بايعه وإلا قتله، فجاء إليه رجل من خثعم قد كان معتزلا للناس جميعا من وراء الفرات، فسأله عن حاله فقال: ما زلت معتزلا وراء هذه النطفة منتظرا أمر الناس حتى ظهرت، فأتيتك لأبايعك مع الناس، قال: أمتربص! أتشهد أنك كافر؟ قال: بئس الرجل أنا إن كنت عبدت الله ثمانين سنة ثم أشهد على نفسي بالكفر، قال: إذا اقتلك، قال: وان قتلتني فو الله ما بقي من عمري إلا ظمء حمار، وانى لانتظر الموت صباح مساء قال: اضربوا عنقه فضربت عنقه، فزعموا أنه لم يبق حوله قرشي ولا شامي ولا أحد من الحزبين إلا رحمه ورثى له من القتل. ودعا بكميل بن زياد النخعي فقال له: أنت المقتص من عثمان أمير المؤمنين؟ قد كنت أحب أن أجد عليك سبيلا، فقال: والله ما أدري على أينا أنت أشد غضبا؟ عليه حين أقاد من نفسه، أم علي حين عفوت عنه؟ ثم قال: أيها الرجل من ثقيف، لا تصرف علي أنيابك، ولا تهدم علي تهدم الكثيب، ولا تكثر كشران الذئب، والله ما بقي من عمري إلا ظمء الحمار، فإنه يشرب غدوة ويموت عشية، ويشرب عشية ويموت غدوة، اقض ما أنت قاض، فإن الموعد الله، وبعد القتل الحساب قال الحجاج: فإن الحجة عليك، قال: ذلك إن كان القضاء إليك، قال: بلى، كنت فيمن قتل عثمان، وخلعت أمير المؤمنين، اقتلوه فقدم فقتل، قتله أبو الجهم بن كنانة الكلبي من بني عامر بن عوف، ابن عم منصور بن جمهور. وأتي بآخر من بعده، فقال الحجاج: إني أرى رجلا ما أظنه يشهد على نفسه بالكفر، فقال: أخادعي عن نفسي! أنا أكفر أهل الأرض، وأكفر من فرعون ذي الأوتاد، فضحك الحجاج وخلى سبيله. وأقام بالكوفة شهرا، وعزل أهل الشام عن بيوت اهل الكوفه.

هزيمه ابن الاشعث واصحابه في وقعه مسكن

هزيمه ابن الاشعث واصحابه في وقعه مسكن وفي هذه السنة كانت الوقعة بمسكن بين الحجاج وابن الأشعث بعد ما انهزم من دير الجماجم. ذكر الخبر عن سبب هذه الوقعة وعن صفتها: قال هشام: حدثني أبو مخنف، عن أبي يزيد السكسكي، قال: خرج مُحَمَّد بن سعد بن أبي وقاص بعد وقعة الجماجم حتى نزل المدائن، واجتمع إليه ناس كثير، وخرج عبيد الله بن عبد الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شمس القرشي حتى أتى البصرة وبها أيوب بن الحكم بن أبي عقيل، ابن عم الحجاج، فأخذها، وخرج عبد الرحمن بن مُحَمَّد حتى قدم البصرة وهو بها، فاجتمع الناس إلى عبد الرحمن ونزل، فأقبل عبيد الله حينئذ إلى ابن مُحَمَّد بن الأشعث، وقال له: إني لم أرد فراقك، وإنما أخذتها لك وخرج الحجاج فبدأ بالمدائن، فأقام عليها خمسا حتى هيأ الرجال في المعابر، فلما بلغ مُحَمَّد بن سعد عبورهم إليهم خرجوا حتى لحقوا بابن الأشعث جميعا وأقبل نحوهم الحجاج، فخرج الناس معه إلى مسكن على دجيل، وأتاه أهل الكوفة والفلول من الأطراف، وتلاوم الناس على الفرار، وبايع أكثرهم بسطام بن مصقلة على الموت، وخندق عبد الرحمن على أصحابه، وبثق الماء من جانب، فجعل القتال من وجه واحد، وقدم عليه خالد بن جرير بن عبد الله القسري من خراسان في ناس من بعث الكوفة، فاقتتلوا خمس عشرة ليلة من شعبان أشد القتال حتى قتل زياد بن غنيم القيني، وكان على مسالح الحجاج، فهده ذلك وأصحابه هدا شديدا. قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو جهضم الأَزْدِيّ، قال: بات الحجاج ليله كله يسير فينا يقول لنا: إنكم أهل الطاعة، وهم أهل المعصية، وأنتم تسعون في رضوان الله، وهم يسعون في سخط الله، وعادة الله عندكم فيهم

حسنة، ما صدقتموهم في موطن قط ولا صبرتم لهم إلا أعقبكم الله النصر عليهم والظفر بهم، فأصبحوا اليهم عادين جادين، فانى لست أشك في النصر إن شاء الله قال: فأصبحنا، وقد عبأنا في السحر، فباكرناهم فقاتلناهم أشد قتال قاتلنا هموه قط، وقد جاءنا عبد الملك بن المهلب مجففا، وقد كشفت خيل سفيان بن الأبرد، فقال له الحجاج: ضم إليك يا عبد الملك هذا النشر لعلي أحمل عليهم، ففعل، وحمل الناس من كل جانب، فانهزم أهل العراق أيضا، وقتل أبو البختري الطائي وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وقالا قبل ان يقتلا: إن الفرار كل ساعة بنا لقبيح فأصيبا قال: ومشى بسطام بن مصقلة الشيباني في أربعة آلاف من أهل الحفاظ من أهل المصرين، فكسروا جفون السيوف، وقال لهم ابن مصقلة: لو كنا إذا فررنا بأنفسنا من الموت نجونا منه فررنا، ولكنا قد علمنا أنه نازل بنا عما قليل، فأين المحيد عما لا بد منه! يا قوم إنكم محقون، فقاتلوا على الحق، والله لو لم تكونوا على الحق لكان موت في عز خيرا من حياة في ذل فقاتل هو وأصحابه قتالا شديدا كشفوا فيه أهل الشام مرارا، حتى قال الحجاج: علي بالرماة لا يقاتلهم غيرهم، فلما جاءتهم الرماة، وأحاط بهم الناس من كل جانب قتلوا إلا قليلا، وأخذ بكير بن ربيعة بن ثروان الضبي أسيرا، فأتي به الحجاج فقتله قال أبو مخنف: فحدثني أبو الجهضم، قال: جئت بأسير كان الحجاج يعرفه بالبأس، فقال الحجاج: يا أهل الشام، إنه من صنع الله. لكم إن هذا غلام من الغلمان جاء بفارس أهل العراق أسيرا، اضرب عنقه، فقتله. قال: ومضى ابن الأشعث والفل من المنهزمين معه نحو سجستان فأتبعهم الحجاج عمارة بن تميم اللخمي ومعه ابنه مُحَمَّد بن الحجاج وعمارة أمير

على القوم، فسار عمارة بن تميم إلى عبد الرحمن فأدركه بالسوس، فقاتله ساعة من نهار، ثم إنه انهزم هو وأصحابه فمضوا حتى أتوا سابور، واجتمعت إلى عبد الرحمن بن مُحَمَّد الأكراد مع من كان معه من الفلول، فقاتلهم عمارة بن تميم قتالا شديدا على العقبة حتى جرح عمارة وكثير من أصحابه، ثم انهزم عمارة وأصحابه وخلوا لهم عن العقبة، ومضى عبد الرحمن حتى مر بكرمان. قال الواقدي: كانت وقعة الزاوية بالبصرة في المحرم سنة ثلاث وثمانين. قال أبو مخنف: حدثني سيف بن بشر العجلي، عن المنخل بن حابس العبدي، قال: لما دخل عبد الرحمن بن مُحَمَّد كرمان تلقاه عمرو بن لقيط العبدي- وكان عامله عليها- فهيأ له نزلا فنزل، فقال له شيخ من عبد القيس يقال له معقل: والله لقد بلغنا عنك يا بن الأشعث أن قد كنت جبانا، فقال عبد الرحمن: والله ما جبنت، والله لقد دلفت الرجال بالرجال، ولففت الخيل بالخيل، ولقد قاتلت فارسا، وقاتلت راجلا، وما انهزمت، ولا تركت العرصة للقوم في موطن حتى لا أجد مقاتلا ولا أرى معي مقاتلا، ولكني زاولت ملكا مؤجلا ثم إنه مضى بمن معه حتى فوز في مفازة كرمان قال أبو مخنف: فحدثني هشام بن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي عقيل الثقفي، قال: لما مضى ابن مُحَمَّد في مفازة كرمان وأتبعه أهل الشام دخل بعض أهل الشام قصرا في المفازة، فإذا فيه كتاب قد كتبه بعض أهل الكوفة من شعر أبي جلدة اليشكري، وهي قصيدة طويلة: أيا لهفا ويا حزنا جميعا ... ويا حر الفواد لما لقينا! تركنا الدين والدنيا جميعا ... وأسلمنا الحلائل والبنينا فما كنا أناسا أهل دين ... فنصبر في البلاء إذا ابتلينا وما كنا أناسا أهل دنيا ... فنمنعها ولو لم نرج دينا

تركنا دورنا لطغام عك ... وأنباط القرى والأشعرينا ثم إن ابن مُحَمَّد مضى حتى خرج على زرنج مدينة سجستان، وفيها رجل من بني تميم قد كان عبد الرحمن استعمله عليها، يقال له عبد الله بن عامر البعار من بني مجاشع بن دارم، فلما قدم عليه عبد الرحمن بن مُحَمَّد منهزما أغلق باب المدينة دونه، ومنعه دخولها، فأقام عليها عبد الرحمن أياما رجاء افتتاحها ودخولها فلما رأى أنه لا يصل إليها خرج حتى أتى بست، وقد كان استعمل عليها رَجُلا مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ يُقَالُ لَهُ عياض بن هميان أبو هشام بن عياض السدوسي، فاستقبله، وقال له: انزل، فجاء حتى نزل به، وانتظر حتى إذا غفل أصحاب عبد الرحمن وتفرقوا عنه وثب عليه فأوثقه، وأراد أن يأمن بها عند الحجاج، ويتخذ بها عنده مكانا وقد كان رتبيل سمع بمقدم عبد الرحمن عليه، فاستقبله في جنوده، فجاء رتبيل حتى أحاط ببست، ثم نزل وبعث إلى البكري: والله لئن آذيته بما يقذي عينه، أو ضررته ببعض المضرة، أو رزأته حبلا من شعر لا أبرح العرصة حتى أستنزلك فأقتلك وجميع من معك، ثم أسبي ذراريكم، وأقسم بين الجند أموالكم فأرسل إليه البكري أن أعطنا أمانا على أنفسنا وأموالنا، ونحن ندفعه إليك سالما، وما كان له من مال موفرا فصالحهم على ذلك، وآمنهم، ففتحوا لابن الأشعث الباب وخلوا سبيله، فأتى رتبيل فقال له: إن هذا كان عاملي على هذه المدينة، وكنت حيث وليته واثقا به، مطمئنا إليه، فغدر بي وركب مني ما قد رأيت، فأذن لي في قتله، قال: قد آمنته وأكره أن أغدر به، قال: فأذن لي في دفعه ولهزه، والتصغير به، قال: أما هذا فنعم ففعل به عبد الرحمن بن مُحَمَّد، ثم مضى حتى دخل مع رتبيل بلاده، فأنزله رتبيل عنده وأكرمه وعظمه، وكان معه ناس من الفل كثير. ثم إن عظم الفلول وجماعة أصحاب عبد الرحمن ومن كان لا يرجو

الأمان، من الرءوس والقادة الذين نصبوا للحجاج في كل موطن مع ابن الأشعث، ولم يقبلوا أمان الحجاج في أول مرة، وجهدوا عليه الجهد كله، أقبلوا في أثر ابن الأشعث وفي طلبه حتى سقطوا بسجستان، فكان بها منهم وممن تبعهم من أهل سجستان وأهل البلد نحو من ستين ألفا، ونزلوا على عبد الله بن عامر البعار فحصروه، وكتبوا إلى عبد الرحمن يخبرونه بقدومهم وعددهم وجماعتهم، وهو عند رتبيل وكان يصلي بهم عبد الرحمن بن العباس بْن رَبِيعَة بْن الْحَارِث بْن عبد المطلب، فكتبوا إليه: أن أقبل إلينا لعلنا نسير إلى خراسان، فإن بها منا جندا عظيما، فلعلهم يبايعوننا على قتال أهل الشام، وهي بلاد واسعة عريضة، وبها الرجال والحصون فخرج إليهم عبد الرحمن بن مُحَمَّد بمن معه، فحصروا عبد الله بن عامر البعار حتى استنزلوه، فأمر به عبد الرحمن فضرب وعذب وحبس وأقبل نحوهم عمارة بن تميم في أهل الشام، فقال أصحاب عبد الرحمن بن مُحَمَّد لعبد الرحمن: اخرج بنا عن سجستان فلندعها له ونأتي خراسان، فقال عبد الرحمن بن مُحَمَّد: على خراسان يزيد بن المهلب، وهو شاب شجاع صارم، وليس بتارك لكم سلطانه، ولو دخلتموها وجدتموه إليكم سريعا، ولن يدع أهل الشام اتباعكم، فأكره أن يجتمع عليكم أهل خراسان واهل الشام، واخاف الا تنالوا ما تطلبون، فقالوا: إنما أهل خراسان منا، ونحن نرجو أن لو قد دخلناها أن يكون من يتبعنا منهم أكثر ممن يقاتلنا، وهي أرض طويلة عريضة ننتحي فيها حيث شئنا، ونمكث حتى يهلك الله الحجاج أو عبد الملك، أو نرى من رأينا فقال لهم عبد الرحمن: سيروا على اسم الله. فساروا حتى بلغوا هراة، فلم يشعروا بشيء حتى خرج من عسكره عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة القرشي في ألفين، ففارقه، فأخذ طريقا سوى طريقهم، فلما أصبح ابن مُحَمَّد قام فيهم فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإني قد شهدتكم في هذه المواطن، وليس فيها مشهد

إلا أصبر لكم فيه نفسي حتى لا يبقى منكم فيه أحد، فلما رأيت أنكم لا تقاتلون، ولا تصبرون، أتيت ملجأ ومأمنا فكنت فيه، فجاءتني كتبكم بأن أقبل إلينا، فإنا قد اجتمعنا وأمرنا واحد، لعلنا نقاتل عدونا، فأتيتكم فرأيت أن أمضي إلى خراسان وزعمتم انكم مجتمعون على، وأنكم لن تفرقوا عني ثم هذا عبيد الله بن عبد الرحمن قد صنع ما قد رأيتم، فحسبي منكم يومي هذا فاصنعوا ما بدا لكم، أما أنا فمنصرف إلى صاحبي الذي أتيتكم من قبله، فمن أحب منكم أن يتبعني فليتبعني، ومن كره ذلك فليذهب حيث أحب في عياذ من الله. فتفرقت منهم طائفة، ونزلت معه طائفة، وبقي عظم العسكر، فوثبوا إلى عبد الرحمن بن العباس لما انصرف عبد الرحمن، فبايعوه ثم مضى ابن مُحَمَّد إلى رتبيل ومضوا هم إلى خراسان حتى انتهوا إلى هراة، فلقوا بها الرقاد الأزدي من العتيك، فقتلوه، وسار إليهم يزيد بن المهلب. وأما علي بن مُحَمَّد المدائني فإنه ذكر عن المفضل بن مُحَمَّد أن ابن الأشعث لما انهزم من مسكن مضى إلى كابل، وأن عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة أتى هراة، فذم ابن الأشعث وعابه بفراره، وأتى عبد الرحمن بن عباس سجستان فانضم إليه فل ابن الأشعث، فسار إلى خراسان في جمع يقال عشرين ألفا، فنزل هراة ولقوا الرقاد بن عبيد العتكي فقتلوه، وكان مع عبد الرحمن من عبد القيس عبد الرحمن بن المنذر بن الجارود، فأرسل إليه يزيد بن المهلب: قد كان لك في البلاد متسع، ومن هو أكل مني حدا وأهون شوكة، فارتحل الى بلد ليس فيه سلطان، فإني أكره قتالك، وإن أحببت أن أمدك بمال لسفرك أعنتك به، فأرسل إليه: ما نزلنا هذه البلاد لمحاربة ولا لمقام، ولكنا أردنا أن نريح، ثم نشخص إن شاء الله، وليست بنا حاجة إلى ما عرضت فانصرف رسول يزيد إليه، وأقبل الهاشمي على الجباية، وبلغ يزيد، فقال: من أراد أن يريح ثم يجتاز لم يجب الخراج، فقدم المفضل في أربعة آلاف- ويقال في ستة آلاف-

ثم أتبعه في أربعة آلاف، ووزن يزيد نفسه بسلاحه، فكان أربعمائة رطل، فقال: ما أراني إلا قد ثقلت عن الحرب، أي فرس يحملني! ثم دعا بفرسه الكامل فركبه، واستخلف على مرو خاله جديع بن يزيد، وصير طريقه على مرو الروذ، فأتى قبر أبيه فأقام عنده ثلاثة أيام، وأعطى من معه مائة درهم مائة درهم، ثم أتى هراة فأرسل إلى الهاشمي: قد أرحت وأسمنت وجبيت، فلك ما جبيت، وان اردت زياده زدناك، فاخرج فو الله ما أحب أن أقاتلك قال: فأبى إلا القتال ومعه عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة، ودس الهاشمي إلى جند يزيد يمنيهم ويدعوهم إلى نفسه، فأخبر بعضهم يزيد، فقال: جل الأمر عن العتاب، أتغدى بهذا قبل أن يتعشى بي، فسار إليه حتى تدانى العسكران، وتأهبوا للقتال، وألقي ليزيد كرسي فقعد عليه، وولى الحرب أخاه المفضل، فأقبل رجل من أصحاب الهاشمي- يقال له خليد عينين من عبد القيس- على ظهر فرسه، فرفع صوته فقال: دعت يا يزيد بن المهلب دعوة ... لها جزع ثم استهلت عيونها ولو يسمع الداعي النداء أجابها ... بِصُم القنا والبيض تلقى جفونها وقد فر أشراف العراق وغادروا ... بها بقرا للحين جما قرونها وأراد أن يحض يزيد، فسكت يزيد طويلا حتى ظن الناس أن الشعر قد حركه، ثم قال لرجل: ناد وأسمعهم، جشموهم ذلك، فقال خليد: لبئس المنادي والمنوه باسمه ... تناديه أبكار العراق وعونها يزيد إذا يدعى ليوم حفيظة ... ولا يمنع السوآت إلا حصونها فإني أراه عن قليل بنفسه ... يدان كما قد كان قبل يدينها فلا حرة تبكيه لكن نوائح ... تبكي عليه البقع منها وجونها

فقال يزيد للمفضل: قدم خيلك، فتقدم بها، وتهايجوا فلم يكن بينهم كبير قتال حتى تفرق الناس عن عبد الرحمن، وصبر وصبرت معه طائفة من أهل الحفاظ، وصبر معه العبديون، وحمل سعد بن نجد القردوسي على حليس الشيباني وهو أمام عبد الرحمن، فطعنه حليس فأذراه عن فرسه، وحماه أصحابه، وكثرهم الناس فانكشفوا، فأمر يزيد بالكف عن اتباعهم، وأخذوا ما كان في عسكرهم، وأسروا منهم أسرى، فولى يزيد عطاء بن أبي السائب العسكر، وأمره بضم ما كان فيه، فأصابوا ثلاث عشرة امرأة، فأتوا بهن يزيد، فدفعهن إلى مرة بن عطاء بن أبي السائب، فحملهن إلى الطبسين، ثم حملهن إلى العراق وقال يزيد لسعد بن نجد: من طعنك؟ قال: حليس الشيباني، وأنا والله راجلا أشد منه وهو فارس قال: فبلغ حليسا، فقال: كذب والله، لأنا أشد منه فارسا وراجلا وهرب عبد الرحمن بن منذر بن بشر بن حارثة فصار إلى موسى بن عبد الله بن خازم قال: فكان في الأسرى مُحَمَّد بن سعد بن أبي وقاص، وعمرو بن موسى بن عبيد الله بن معمر، وعياش بن الأسود بن عوف الزهري والهلقام بن نعيم بن القعقاع بن معبد بن زراره، وفيروز حصين، وأبو العلج مولى عبيد الله بن معمر، ورجل من آل أبي عقيل، وسوار بن مروان، وعبد الرحمن بن طلحة بن عبد الله بن خلف، وعبد الله بن فضالة الزهراني. ولحق الهاشمى بالسند، وأتى ابن سمرة مرو، ثم انصرف يزيد إلى مرو وبعث بالأسرى إلى الحجاج مع سبرة بن نخف بن أبي صفرة، وخلى عن ابن طلحة وعبد الله بن فضالة، وسعى قوم بعبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة، فأخذه يزيد فحبسه. وأما هشام فإنه ذكر أنه حدثه القاسم بن محمد الحضرمى، عن حفص ابن عمرو بن قبيصة، عن رجل من بني حنيفة يقال له جابر بن عمارة، أن يزيد بن المهلب حبس عنده عبد الرحمن بن طلحة وأمنه، وكان الطلحي قد آلى على يمين الا يرى يزيد بن المهلب في موقف إلا أتاه حتى يقبل يده شكرا لما أبلاه قال: وقال مُحَمَّد بن سعد بن أبي وقاص ليزيد: أسألك

بدعوة أبي لأبيك! فخلى سبيله ولقول مُحَمَّد بن سعد ليزيد: أسألك بدعوة أبي لأبيك حديث فيه بعض الطول. قَالَ هِشَامٌ: حَدَّثَنِي أَبُو مِخْنَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي هشام بن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي عقيل الثقفي، قال: بعث يزيد بن المهلب ببقية الأسرى إلى الحجاج بن يوسف، بعمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر، فقال: أنت صاحب شرطه عبد الرحمن؟ فقال: أصلح الله الأمير! كانت فتنة شملت البر والفاجر، فدخلنا فيها، فقد أمكنك الله منا، فإن عفوت فبحلمك وفضلك، وإن عاقبت عاقبت ظلمة مذنبين، فقال الحجاج: أما قولك: انها شملت البر والفاجر فكذبت، ولكنها شملت الفجار، وعوفي منها الأبرار، وأما اعترافك بذنبك فعسى أن ينفعك. فعزل، ورجا الناس له العافية حتى قدم بالهلقام بن نعيم، فقال له الحجاج: أخبرني عنك، ما رجوت من اتباع عبد الرحمن بن مُحَمَّد؟ أرجوت أن يكون خليفة؟ قال: نعم، رجوت ذلك، وطمعت أن ينزلني منزلتك من عبد الملك، قال: فغضب الحجاج وقال: اضربوا عنقه، فقتل. قال: ونظر الى عمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر وقد نحي عنه فقال: اضربوا عنقه، وقتل بقيتهم وقد كان آمن عمرو بن أبي قرة الكندي ثم الحجري وهو شريف وله بيت قديم، فقال: يا عمرو، كنت تفضي إلي وتحدثني أنك ترغب عن ابن الأشعث وعن الأشعث قبله، ثم تبعت عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث، والله ما بك عن اتباعهم رغبة، ولا نعمة عين لك ولا كرامة. قال: وقد كان الحجاج حين هزم الناس بالجماجم نادى مناديه: من لحق بقتيبة بن مسلم بالري فهو أمانه، فلحق ناس كثير بقتيبة، وكان فيمن لحق به عامر الشعبي، فذكر الحجاج الشعبي يوما فقال: أين هو؟ وما فعل؟ فقال له يزيد بن أبي مسلم: بلغني أيها الأمير أنه لحق بقتيبة بن مسلم بالري، قال: فابعث إليه فلنؤت به

فكتب الحجاج إلى قتيبة: أما بعد، فابعث إلي بالشعبي حين تنظر في كتابي هذا، والسلام عليك، فسرح إليه. قال أبو مخنف: فحدثني السري بن إسماعيل عن الشعبي، قال: كنت لابن أبي مسلم صديقا، فلما قدم بي على الحجاج لقيت ابن أبي مسلم فقلت: أشر علي، قال: ما أدري ما أشير به عليك غير أن أعتذر ما استطعت من عذر! وأشار بمثل ذلك علي نصحائي وإخواني، فلما دخلت عليه رأيت والله غير ما رأوا لي، فسلمت عليه بالإمرة ثم قلت: أيها الأمير، إن الناس قد أمروني أن أعتذر إليك بغير ما يعلم الله أنه الحق، وايم الله لا أقول في هذا المقام إلا حقا، قد والله سودنا عليك، وحرضنا وجهدنا عليك كل الجهد، فما آلونا، فما كنا بالأقوياء الفجرة، ولا الأتقياء البررة، ولقد نصرك الله علينا، وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا وما جرت إليه أيدينا، وإن عفوت عنا فبحلمك، وبعد الحجة لك علينا، فقال له الحجاج: أنت والله أحب إلي قولا ممن يدخل علينا يقطر سيفه من دمائنا ثم يقول: ما فعلت ولا شهدت، قد أمنت عندنا يا شعبي، فانصرف. قال: فانصرفت، فلما مشيت قليلا قال: هلم يا شعبي، قال: فوجل لذلك قلبي، ثم ذكرت قوله: قد أمنت يا شعبي، فاطمأنت نفسي، قال: كيف وجدت الناس يا شعبي بعدنا؟ قال- وكان لي مكرما: فقلت: أصلح الله الأمير! اكتحلت والله بعدك السهر، واستوعرت الجناب، واستحلست الخوف، وفقدت صالح الإخوان، ولم أجد من الأمير خلفا. قال: انصرف يا شعبي، فانصرفت قال أبو مخنف: قال خالد بن قطن الحارثي: أتي الحجاج بالأعشى، أعشى همدان، فقال: إيه يا عدو الله! أنشدني قولك: بين الأشج وبين

قيس، أنفذ بيتك، قال: بل أنشدك ما قلت لك، قال: بل أنشدني هذه، فأنشده: ابى الله الا ان يتمم نوره ... ويطفى نور الفاسقين فيخمدا ويظهر أهل الحق في كل موطن ... ويعدل وقع السيف من كان أصيدا وينزل ذلا بالعراق وأهله ... لما نقضوا العهد الوثيق المؤكد وما أحدثوا من بدعة وعظيمة ... من القول لم تصعد إلى الله مصعدا وما نكثوا من بيعة بعد بيعة ... إذا ضمنوها اليوم خاسوا بها غدا وجبنا حشاه ربهم في قلوبهم ... فما يقربون الناس إلا تهددا فلا صدق في قول ولا صبر عندهم ... ولكن فخرا فيهمُ وتزيدا فكيف رأيت الله فرق جمعهم ... ومزقهم عرض البلاد وشردا! فقتلاهمُ قتلى ضلال وفتنة ... وحيهمُ أمسى ذليلا مطردا ولما زحفنا لابن يوسف غدوة ... وأبرق منا العارضان وأرعدا قطعنا إليه الخندقين وإنما ... قطعنا وأفضينا إلى الموت مرصدا فكافحنا الحجاج دون صفوفنا ... كفاحا ولم يضرب لذلك موعدا بصف كأن البرق في حجراته ... إذا ما تجلى بيضه وتوقدا دلفنا إليه في صفوف كأنها ... جبال شرورى لو تعان فتنهدا فما لبث الحجاج أن سل سيفه ... علينا فولى جمعنا وتبددا وما زاحف الحجاج إلا رأيته ... معانا ملقى للفتوح معودا

وإن ابن عباس لفي مرجحنة ... نشبهها قطعا من الليل أسودا فما شرعوا رمحا ولا جردوا له ... ألا ربما لاقى الجبان فجردا وكرت علينا خيل سفيان كره ... بفرسانها والسمهري مقصدا وسفيان يهديها كأن لواءه ... من الطعن سند بات بالصبغ مجسدا كهول ومرد من قضاعة حوله ... مساعير أبطال إذا النكس عردا إذا قال شدوا شدة حملوا معا ... فأنهل خرصان الرماح وأوردا جنود أمير المؤمنين وخيله ... وسلطانه أمسى عزيزا مؤيدا فيهني أمير المؤمنين ظهوره ... على أمة كانوا بغاة وحسدا نزوا يشتكون البغي من أمرائهم ... وكانوا همُ أبغى البغاة وأعندا وجدنا بني مروان خير أئمة ... وافضل هذى الناس حلما وسوددا وخير قريش في قريش أرومة ... وأكرمهم إلا النبي مُحَمَّدا إذا ما تدبرنا عواقب أمره ... وجدنا أمير المؤمنين مسددا سيغلب قوم غالبوا الله جهرة ... وإن كايدوه كان أقوى وأكيدا كذاك يضل الله من كان قلبه ... مريضا ومن والى النفاق وألحدا فقد تركوا الأهلين والمال خلفهم ... وبيضا عليهن الجلابيب خردا ينادينهم مستعبرات إليهمُ ... ويذرين دمعا في الخدود وإثمدا فإلا تناولهن منك برحمة ... يكن سبايا والبعولة أعبدا أنكثا وعصيانا وغدرا وذلة ... أهان الإله من أهان وأبعدا لقد شأم المصرين فرخ محمد ... يحق وما لاقى من الطير أسعدا

كما شأم الله النجير وأهله ... بجد له قد كان أشقى وأنكدا فقال أهل الشام: أحسن، أصلح الله الأمير! فقال الحجاج: لا، لم يحسن، إنكم لا تدرون ما أراد بها، ثم قال: يا عدو الله، إنا لسنا نحمدك على هذا القول، إنما قلت: تأسف الا يكون ظهر وظفر، وتحريضا لأصحابك علينا، وليس عن هذا سألناك، أنفذ لنا قولك: بين الاشج وبين قيس باذخ. فأنفذها، فلما قال: بخ بخ لوالده وللمولود قال الحجاج: لا والله لا تبخبخ بعدها لأحد أبدا، فقدمه فضرب عنقه. وقد ذكر من أمر هؤلاء الأسرى الذين أسرهم يزيد بن المهلب ووجههم إلى الحجاج ومن فلول ابن الأشعث الذين انهزموا يوم مسكن أمر غير ما ذكره أبو مخنف عن أصحابه والذي ذكر عنهم من ذلك أنه لما انهزم ابن الأشعث مضى هؤلاء مع سائر الفل إلى الري، وقد غلب عليها عمر بن ابى الصلت بن كنار مولى بني نصر بن معاوية، وكان من أفرس الناس، فانضموا إليه، فأقبل قتيبة بن مسلم إلى الري من قبل الحجاج وقد ولاه عليها. فقال النفر الذين ذكرت أن يزيد بن المهلب وجههم إلى الحجاج مقيدين وسائر فل ابن الأشعث الذين صاروا إلى الري لعمر بن أبي الصلت: نوليك أمرنا وتحارب بنا قتيبة، فشاور عمر أباه أبا الصلت، فقال له أبوه: والله يا بني ما كنت أبالي إذا سار هؤلاء تحت لوائك أن تقتل من غد فعقد لواءه، وسار فهزم وهزم أصحابه، وانكشفوا إلى سجستان، واجتمعت بها الفلول، وكتبوا إلى عبد الرحمن بن مُحَمَّد وهو عند رتبيل، ثم كان من أمرهم وأمر يزيد بن المهلب ما قد ذكرت

وذكر أبو عبيدة أن يزيد لما أراد أن يوجه الأسرى إلى الحجاج قال له أخوه حبيب: بأي وجه تنظر إلى اليمانية وقد بعثت ابن طلحة! فقال يزيد: هو الحجاج، ولا يتعرض له! وقال: وطن نفسك على العزل، ولا ترسل به، فإن له عندنا بلاء، قال: وما بلاؤه؟ قال لزم المهلب في مسجد الجماعة بمائتي ألف، فأداها طلحة عنه فأطلقه، وأرسل بالباقين، فقال الفرزدق: وجد ابن طلحة يوم لاقى قومه ... قحطان يوم هراة خير المعشر وقيل: إن الحجاج لما أتي بهؤلاء الأسرى من عند يزيد بن المهلب قال لحاجبه: إذا دعوتك بسيدهم فأتني بفيروز، فأبرز سريره- وهو حينئذ بواسط القصب قبل أن تبنى مدينة واسط- ثم قال لحاجبه: جئني بسيدهم، فقال لفيروز: قم، فقال له الحجاج: أبا عثمان، ما أخرجك مع هؤلاء؟ فو الله ما لحمك من لحومهم، ولا ذمك من دمائهم! قال: فتنة عمت الناس، فكنا فيها، قال: اكتب لي أموالك، قال: ثم ماذا؟ قال: اكتبها أول، قال: ثم أنا آمن على دمي؟ قال: اكتبها، ثم أنظر، قال: اكتب يا غلام، ألف ألف ألفي ألف، فذكر مالا كثيرا، فقال الحجاج: أين هذه الأموال؟ قال: عندي، قال: فأدها، قال: وأنا آمن على دمي؟ قال: والله لتؤدينها ثم لأقتلنك، قال: والله لا تجمع مالي ودمي، فقال الحجاج للحاجب: نحه، فنحاه. ثم قال: ائتني بمُحَمَّد بن سعد بن أبي وقاص، فدعاه فقال له الحجاج: إيها يا ظل الشيطان أعظم الناس تيها وكبرا، تأبى بيعة يزيد بن معاوية، وتشبه بحسين وابن عمر، ثم صرت مؤذنا لابن كنارا عبد بني نصر- يعني عمر بن أبي الصلت- وجعل يضرب بعود في يده رأسه حتى أدماه، فقال له مُحَمَّد: أيها الرجل، ملكت فأسجح! فكف يده، فقال: إن رأيت أن تكتب إلى أمير المؤمنين فإن جاءك عفو كنت شريكا في ذلك محمودا، وإن جاءك غير ذلك كنت قد أعذرت فأطرق مليا ثم قال: اضرب عنقه، فضربت عنقه

ثم دعا بعمر بن موسى فقال: يا عبد المرأة، أتقوم بالعمود على رأس ابن الحائك، وتشرب معه الشراب في حمام فارس، وتقول المقالة التي قلت! أين الفرزدق؟ قم فأنشده ما قلت فيه، فأنشده: وخضبت أيرك للزناء ولم تكن ... يوم الهياج لتخضب الأبطالا فقال: أما والله لقد رفعته عن عقائل نسائك، ثم أمر بضرب عنقه. ثم دعا ابن عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة، فإذا غلام حدث، فقال: أصلح الله الأمير! ما لي ذنب، إنما كنت غلاما صغيرا مع أبي وأمي لا أمر لي ولا نهي، وكنت معهما حيث كانا، فقال: وكانت أمك مع أبيك في هذه الفتن كلها؟ قال: نعم، قال: على أبيك لعنة الله. ثم دعا بالهلقام بن نعيم فقال: اجعل ابن الأشعث طلب ما طلب، ما الذي أملت أنت معه؟ قال: أملت أن يملك فيوليني العراق كما ولاك عبد الملك قال: قم يا حوشب فاضرب عنقه، فقام اليه، فقال له الهلقام: يا بن لقيطة، أتنكأ القرح! فضرب عنقه. ثم أتى بعبد الله بن عامر، فلما قام بين يديه قال: لا رأت عيناك يا حجاج الجنة إن أقلت ابن المهلب بما صنع قال: وما صنع؟ قال: لأنه كاس في إطلاق أسرته ... وقاد نحوك في أغلالها مضرا وقى بقومك ورد الموت أسرته ... وكان قومك أدنى عنده خطرا فأطرق الحجاج مليا ووقرت في قلبه، وقال: وما أنت وذاك! اضرب عنقه فضربت عنقه ولم تزل في نفس الحجاج حتى عزل يزيد عن خراسان وحبسه. ثم أمر بفيروز فعذب، فكان فيما عذب به أن كان يشد عليه القصب الفارسي المشقوق، ثم يجر عليه حتى يخرق جسده، ثم ينضح عليه الخل والملح، فلما أحس بالموت قال لصاحب العذاب: إن الناس لا يشكون أني قد قتلت، ولي ودائع وأموال عند الناس، لا تؤدى

إليكم أبدا، فأظهروني للناس ليعلموا أني حي فيؤدوا المال فأعلم الحجاج، فقال: أظهروه، فأخرج إلى باب المدينة، فصاح في الناس: من عرفني فقد عرفني، ومن أنكرني فأنا فيروز حصين، إن لي عند أقوام مالا، فمن كان لي عنده شيء فهو له وهو منه في حل فلا يؤدين منه أحد درهما، ليبلغ الشاهد الغائب فأمر به الحجاج فقتل وكان ذلك مما روى الوليد بن هشام بن قحذم عن أبي بكر الهذلي. وذكر ضمره بن ربيعه، عن ابى شوذب، أن عمال الحجاج كتبوا إليه: أن الخراج قد انكسر، وأن أهل الذمة قد أسلموا ولحقوا بالأمصار، فكتب إلى البصرة وغيرها أن من كان له أصل في قرية فليخرج إليها. فخرج الناس فعسكروا، فجعلوا يبكون وينادون: يا مُحَمَّداه يا مُحَمَّداه! وجعلوا لا يدرون أين يذهبون! فجعل قراء أهل البصرة يخرجون إليهم متقنعين فيبكون لما يسمعون منهم ويرون قال: فقدم ابن الأشعث على تفيئة ذلك، واستبصر قراء أهل البصرة في قتال الحجاج مع عبد الرحمن ابن مُحَمَّد بن الأشعث. وذكر عن ضمرة بن ربيعة عن الشيباني، قال: قتل الحجاج يوم الزاوية أحد عشر ألفا، ما استحيا منهم الا واحدا، كان ابنه في كتاب الحجاج، فقال له: أتحب أن نعفو لك عن أبيك؟ قال: نعم، فتركه لابنه، وإنما خدعهم بالأمان، أمر مناديا فنادى عند الهزيمة: ألا لا أمان لفلان ولا فلان، فسمى رجالا من أولئك الأشراف، ولم يقل: الناس آمنون، فقالت العامة: قد آمن الناس كلهم إلا هؤلاء النفر، فأقبلوا إلى حجرته فلما اجتمعوا أمرهم بوضع أسلحتهم، ثم قال: لآمرن بكم اليوم رجلا ليس بينكم وبينه قرابة، فأمر بهم عمارة بن تميم اللخمي فقربهم فقتلهم. وروي عن النضر بن شميل، عن هشام بن حسان، أنه قال: بلغ

ما قتل الحجاج صبرا مائة وعشرين، أو مائة وثلاثين ألفا. وقد ذكر في هزيمة ابن الأشعث بمسكن قول غير الذي ذكره أبو مخنف، والذي ذكر من ذلك أن ابن الأشعث والحجاج اجتمعا بمسكن من أرض أبزقباذ، فكان عسكر ابن الأشعث على نهر يدعى خداش مؤخر النهر، نهر تيرى، ونزل الحجاج على نهر أفريذ والعسكران جميعا بين دجلة والسيب والكرخ، فاقتتلوا شهرا- وقيل: دون ذلك- ولم يكن الحجاج يعرف إليهم طريقا إلا الطريق الذي يلتقون فيه، فأتى بشيخ كان راعيا يدعى زورقا، فدله على طريق من وراء الكرخ طوله ستة فراسخ، في أجمة وضحضاح من الماء، فانتخب أربعة آلاف من جلة أهل الشام، وقال لقائدهم: ليكن هذا العلج أمامك، وهذه أربعة آلاف درهم معك، فإن أقامك على عسكرهم فادفع المال إليه، وإن كان كذبا فاضرب عنقه، فإن رأيتهم فاحمل عليهم فيمن معك، وليكن شعاركم: يا حجاج يا حجاج. فانطلق القائد صلاة العصر، والتقى عسكر الحجاج وعسكر ابن الأشعث حين فصل القائد بمن معه وذلك مع صلاة العصر، فاقتتلوا إلى الليل، فانكشف الحجاج حتى عبر السيب- وكان قد عقده- ودخل ابن الأشعث عسكره فانتهب ما فيه، فقيل له: لو اتبعته؟ فقال: قد تعبنا ونصبنا، فرجع إلى عسكره فألقى أصحابه السلاح، وباتوا آمنين في أنفسهم لهم الظفر وهجم القوم عليهم نصف الليل يصيحون بشعارهم، فجعل الرجل من أصحاب ابن الأشعث لا يدري أين يتوجه! دجيل عن يساره ودجلة أمامه، ولها جرف منكر، فكان من غرق أكثر ممن قتل. وسمع الحجاج الصوت فعبر السيب إلى عسكره، ثم وجه خيله إلى القوم فالتقى العسكران على عسكر ابن الأشعث، وانحاز في ثلاثمائة، فمضى على شاطئ دجلة حتى أتى دجيلا فعبره في السفن، وعقروا دوابهم، وانحدروا في السفن إلى البصرة، ودخل الحجاج عسكره فانتهب ما فيه، وجعل يقتل من وجد حتى قتل أربعة آلاف، فيقال: إن فيمن قتل عبد الله

ذكر خبر بناء مدينه واسط

ابن شداد بن الهاد، وقتل فيهم بسطام بن مصقله بن هبيرة، وعمر ابن ضبيعة الرقاشي، وبشر بن المنذر بن الجارود والحكم بن مخرمة العبديين، وبكير بن ربيعة بن ثروان الضبي، فأتي الحجاج برءوسهم على ترس، فجعل ينظر إلى رأس بسطام ويتمثل: إذا مررت بوادي حية ذكر ... فاذهب ودعني أقاسي حية الوادي ثم نظر إلى رأس بكير، فقال: ما ألقى هذا الشقي مع هؤلاء خذ بأذنه يا غلام فألقه عنهم ثم قال: ضع هذا الترس بين يدي مسمع بن مالك ابن مسمع، فوضع بين يديه، فبكى، فقال له الحجاج: ما أبكاك؟ أحزنا عليهم؟ قال: بل جزعا لهم من النار . ذكر خبر بناء مدينه واسط وفي هذه السنة: بنى الحجاج واسطا، وكان سبب بنائه ذلك- فيما ذكر- أن الحجاج ضرب البعث على أهل الكوفة إلى خراسان، فعسكروا بحمام عمر وكان فتى من أهل الكوفة من بني أسد حديث عهد بعرس بابنة عم له، انصرف من العسكر إلى ابنة عمه ليلا، فطرق الباب طارق ودقه دقا شديدا، فإذا سكران من أهل الشام، فقالت للرجل ابنة عمه: لقد لقينا من هذا الشامي شرا، يفعل بنا كل ليلة ما ترى، يريد المكروه، وقد شكوته إلى مشيخة أصحابه، وعرفوا ذلك، فقال: ائذنوا له، ففعلوا، فأغلق الباب، وقد كانت المرأة نجدت منزلها وطيبته، فقال الشامي: قد آن لكم، فاستقنأه الأسدي، فأندر رأسه، فلما أذن بالفجر خرج الرجل إلى العسكر وقال لامرأته: إذا صليت الفجر فابعثي إلى الشاميين أن أخرجوا صاحبكم، فسيأتون بك الحجاج، فاصدقيه الخبر على وجهه،

أخبار متفرقة

ففعلت، ورفع القتيل إلى الحجاج، وأدخلت المرأة عليه وعنده عنبسة ابن سعيد على سريره، فقال لها: ما خطبك؟ فأخبرته، فقال: صدقتني. ثم قال لولاة الشامي: ادفنوا صاحبكم فإنه قتيل الله إلى النار، لا قود له ولا عقل، ثم نادى مناديه: لا ينزلن أحد على أحد، واخرجوا فعسكروا. وبعث روادا يرتادون له منزلا، وأمعن حتى نزل أطراف كسكر، فبينا هو في موضع واسط إذا راهب قد أقبل على حمار له وعبر دجلة، فلما كان في موضع واسط تفاجت الأتان فبالت، فنزل الراهب، فاحتفر ذلك البول، ثم احتمله فرمى به في دجلة، وذلك بعين الحجاج، فقال: علي به، فأتي به، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: نجد في كتبنا أنه يبنى في هذا الموضع مسجد يعبد الله فيه ما دام في الأرض أحد يوحده. فاختط الحجاج مدينة واسط، وبنى المسجد في ذلك الموضع. [أخبار متفرقة] وفي هذه السنة عزل عبد الملك- فيما قال الواقدي- عن المدينة أبان بن عثمان، واستعمل عليها هشام بن إسماعيل المخزومي وحج بالناس في هذه السنة هشام بن إسماعيل، وحدثنى بذلك احمد ابن ثَابِت، عمن حدثه، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر. وكان العمال في هذه السنة على الأمصار سوى المدينة هم العمال الذين كانوا عليها في السنة التي قبلها، وأما المدينة فقد ذكرنا من كان عليها فيها.

سنه اربع وثمانين

ثم دخلت سنة أربع وثمانين (ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففيها كانت غزوة عبد الله بن عبد الملك بن مروان الروم، ففتح فيها المصيصة، كذلك ذكر الواقدي. خبر قتل الحجاج أيوب بن القرية وفيها قتل الحجاج أيوب بن القرية، وكان ممن كان مع ابن الأشعث، وكان سبب قتله إياه- فيما ذكر- أنه كان يدخل حوشب بن يزيد بعد انصرافه من دير الجماجم- وحوشب على الكوفة عامل للحجاج- فيقول حوشب: انظروا إلى هذا الواقف معي، وغدا أو بعد غد يأتي كتاب من الأمير لا استطيع الا نفاذه، فبينا هو ذات يوم واقف إذ أتاه كتاب من الحجاج: أما بعد، فإنك قد صرت كهفا لمنافقي أهل العراق ومأوى، فإذا نظرت في كتابي هذا فابعث إلي بابن القرية مشدودة يده إلى عنقه، مع ثقة من قبلك. فلما قرأ حوشب الكتاب رمى به إليه، فقرأه فقال: سمعا وطاعة، فبعث به إلى الحجاج موثقا، فلما دخل الحجاج قال له: يا بن القرية، ما أعددت لهذا الموقف؟ قال: أصلح الله الأمير! ثلاثة حروف كأنهن ركب وقوف، دنيا، وآخرة، ومعروف قال: اخرج مما قلت، قال: أفعل، أما الدنيا فمال حاضر، يأكل منه البر والفاجر، وأما الآخرة فميزان عادل، ومشهد ليس فيه باطل، وأما المعروف فإن كان علي اعترفت، وإن كان لي اغترفت قال: أما لا فاعترف بالسيف إذا وقع بك قال: أصلح الله الأمير! أقلني عثرتي، واسغنى ريقي، فإنه ليس جواد إلا له

فتح يزيد بن المهلب قلعه نيزك بباذغيس

كبوة، ولا شجاع إلا له هبوة قال الحجاج: كلا والله لأرينك جهنم، قال: فأرحني فإني أجد حرها، قال: قدمه يا حرسي فاضرب عنقه فلما نظر إليه الحجاج يتشحط في دمه قال: لو كنا تركنا ابن القرية حتى نسمع من كلامه! ثم أمر به فأخرج فرمي به قال هشام: قال عوانة: حين منع الحجاج من الكلام ابن القرية، قال له ابن القرية: أما والله لو كنت أنا وأنت على السواء لسكنا جميعا، أولا لفيت منيعا . فتح يزيد بن المهلب قلعة نيزك بباذغيس وفي هذه السنة فتح يزيد بن المهلب قلعة نيزك بباذغيس ذكر سبب فتحه إياها: ذكر علي بن مُحَمَّد، عن المفضل بن مُحَمَّد، قال: كان نيزك ينزل بقلعة باذغيس، فتحين يزيد غزوه، ووضع عليه العيون، فبلغه خروجه، فخالفه يزيد إليها، وبلغ نيزك فرجع، فصالحه على أن يدفع إليه ما في القلعة من الخزائن، ويرتحل عنها بعياله، فقال كعب بن معدان الأشقري: وباذغيس التي من حل ذروتها ... عز الملوك فان شاء جار أو ظلما منيعة لم يكدها قبله ملك ... إلا إذا واجهت جيشا له وجما تخال نيرانها من بعد منظرها ... بعض النجوم إذا ما ليلها عتما لما أطاف بها ضاقت صدورهمُ ... حتى أقروا له بالحكم فاحتكما فذل ساكنها من بعد عزته ... يعطى الجزى عارفا بالذل مهتضما وبعد ذلك أياما نعددها ... وقبلها ما كشفت الكرب والظلما أعطاك ذاك ولي الرزق يقسمه ... بين الخلائق والمحروم من حرما

يداك إحداهما تسقي العدو بها ... سما وأخرى نداها لم يزل ديما فهل كسيب يزيد أو كنائله ... إلا الفرات وإلا النيل حين طما ليسا بأجود منه حين مدهما ... إذ يعلوان حداب الأرض والأكما وقال: ثنائي على حي العتيك بأنها ... كرام مقاريها، كرام نصابها إذا عقدوا للجار حل بنجوة ... عزيز مراقيها، منيع هضابها نفى نيزكا عن باذغيس ونيزك ... بمنزله أعيا الملوك اغتصابها محلقة دون السماء كأنها ... غمامة صيف زل عنها سحابها ولا يبلغ الأروى شماريخها العلا ... ولا الطير إلا نسرها وعقابها وما خوفت بالذئب ولدان أهلها ... ولا نبحت إلا النجوم كلابها تمنيت أن ألقى العتيك ذوي النهي ... مسلطة تحمي بملك ركابها كما يتمنى صاحب الحرث أعطشت ... مزارعه غيثا غزيرا ربابها فأسقي بعد اليأس حتى تحيرت ... جداولها ريا وعب عبابها لقد جمع الله النوى وتشعبت ... شعوب من الآفاق شتى مآبها قال: وكان نيزك يعظم القلعة إذا رآها سجد لها وكتب يزيد بن المهلب إلى الحجاج بالفتح، وكانت كتب يزيد إلى الحجاج يكتبها يحيى بن يعمر العدواني، وكان حليفا لهذيل، فكتب: أنا لقينا العدو فمنحنا الله أكتافهم، فقتلنا طائفة، وأسرنا طائفة، ولحقت طائفة برءوس الجبال وعراعر الأودية، وأهضام الغيطان وأثناء الأنهار، فقال الحجاج: من يكتب ليزيد؟ فقيل: يحيى بن يعمر، فكتب إلى يزيد فحمله على البريد، فقدم عليه أفصح الناس، فقال له: أين ولدت؟ قال: بالأهواز، قال: فهذه الفصاحة؟ قال: حفظت كلام أبي وكان فصيحا قال: من

أخبار متفرقة

هناك فأخبرني هل يلحن عنبسة بن سعيد؟ قال: نعم كثيرا، قال: ففلان؟ قال: نعم، قال: فأخبرني عنى االحن؟ قال: نعم تلحن لحنا خفيا، تزيد حرفا وتنقص حرفا، وتجعل أن في موضع إن، وإن في موضع أن قال: قد أجلتك ثلاثا، فإن أجدك بعد ثلاث بأرض العراق قتلتك، فرجع الى خراسان . [أخبار متفرقة] وحج بالناس في هذه السنة هشام بن إسماعيل المخزومي، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، وكانت عمال الأمصار في هذه السنة عمالها الذين سميت قبل في سنة ثلاث وثمانين

سنه خمس وثمانين

ثم دخلت سنة خمس وثمانين (ذكر ما كان فيها من الاحداث) خبر هلاك عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث ففيها كان هلاك عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث ذكر السبب الذي به. هلك، وكيف كان: ذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، قال: لما انصرف ابن الأشعث من هراة راجعا إلى رتبيل كان معه رجل من أود يقال له علقمة بن عمرو، فقال له: ما أريد أن أدخل معك، فقال له عبد الرحمن: لم؟ قال: لأني أتخوف عليك وعلى من معك، والله لكأني بكتاب الحجاج قد جاء، فوقع إلى رتبيل يرغبه ويرهبه، فإذا هو قد بعث بك سلما او قتلكم. ولكن هاهنا خمسمائة قد تبايعنا على أن ندخل مدينة فنتحصن فيها، ونقاتل حتى نعطي أمانا أو نموت كراما، فقال له عبد الرحمن: أما لو دخلت معي لآسيتك وأكرمتك، فأبى عليه علقمة، ودخل عبد الرحمن بن مُحَمَّد إلى رتبيل وخرج هؤلاء الخمسمائة فبعثوا عليهم مودودا النضري، وأقاموا حتى قدم عليهم عمارة بن تميم اللخمي فحاصرهم، فقاتلوه وامتنعوا منه حتى آمنهم، فخرجوا إليه فوفي لهم. قال: وتتابعت كتب الحجاج إلى رتبيل في عبد الرحمن بن مُحَمَّد أن ابعث به إلي، وإلا فو الذى لا إله إلا هو لأوطئن أرضك ألف ألف مقاتل. وكان عند رتبيل رجل من بني تميم ثم من بني يربوع يقال له عبيد بن أبي سبيع، فقال لرتبيل: أنا آخذ لك من الحجاج عهدا ليكفن الخراج

عن أرضك سبع سنين على أن تدفع إليه عبد الرحمن بن مُحَمَّد، قال رتبيل لعبيد: فإن فعلت فإن لك عندي ما سألت. فكتب إلى الحجاج يخبره أن رتبيل لا يعصيه، وأنه لن يدع رتبيل حتى يبعث إليه بعبد الرحمن بن مُحَمَّد، فأعطاه الحجاج على ذلك مالا وأخذ من رتبيل عليه مالا، وبعث رتبيل برأس عبد الرحمن بن مُحَمَّد إلى الحجاج، وترك له الصلح الذي كان يأخذه منه سبع سنين وكان الحجاج يقول: بعث إلى رتبيل بعدو الله فألقى نفسه من فوق إجار فمات. قال أبو مخنف: وحدثني سُلَيْمَان بن أبي راشد أنه سمع مليكة ابنة يزيد تقول: والله لمات عبد الرحمن وإن رأسه لعلى فخذي، كان السل قد أصابه فلما مات وأرادوا دفنه بعث إليه رتبيل فحز رأسه، فبعث به إلى الحجاج، وأخذ ثمانية عشر رجلا من آل الأشعث فحبسهم عنده، وترك جميع من كان معه من أصحابه وكتب إلى الحجاج بأخذه الثمانية عشر رجلا من أهل بيت عبد الرحمن، فكتب إليه: أن اضرب رقابهم، وابعث إلي برءوسهم وكره أن يؤتى بهم إليه أحياء فيطلب فيهم إلى عبد الملك، فيترك منهم أحدا. وقد قيل في امر بن أبي سبيع وابن الأشعث غير ما ذكرت عن أبي مخنف، وذلك ما ذكر عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أنه كان يقول: زعم أن عمارة بن تميم خرج من كرمان فأتى سجستان وعليها رجل من بني العنبر يدعى مودودا، فحصره ثم آمنه، ثم استولى على سجستان، وأرسل إلى رتبيل وكتب إليه الحجاج: أما بعد، فإني قد بعثت إليك عمارة بن تميم في ثلاثين ألفا من أهل الشام لم يخالفوا طاعة، ولم يخلعوا خليفة، ولم يتبعوا إمام ضلالة يجرى على كل رجل منهم في كل شهر مائة درهم، يستطعمون الحرب استطعاما، يطلبون ابن الأشعث فأبى رتبيل أن يسلمه وكان مع ابن الأشعث عبيد بن أبي سبيع التميمي قد خص به،

وكان رسوله إلى رتبيل، فخص برتبيل أيضا، وخف عليه فقال القاسم ابن مُحَمَّد بن الأشعث لأخيه عبد الرحمن: إني لا آمن غدر التميمي، فاقتله، فهم به، وبلغ ابن أبي سبيع، فخافه فوشى به إلى رتبيل، وخوفه الحجاج، ودعاه إلى الغدر بابن الأشعث فأجابه، فخرج سرا إلى عمارة بن تميم، فاستعجل في ابن الأشعث، فجعل له ألف ألف، فأقام عنده، وكتب بذلك عمارة إلى الحجاج، فكتب إليه أن أعط عبيدا ورتبيل ما سالاك واشترط، فاشترط رتبيل الا تغزى بلاده عشر سنين، وأن يؤدي بعد العشر سنين في كل سنه تسعمائة ألف، فأعطى رتبيل وعبيدا ما سألا، وأرسل رتبيل إلى ابن الأشعث فأحضره وثلاثين من أهل بيته، وقد أعد لهم الجوامع والقيود، فألقى في عنقه جامعة، وفي عنق القاسم جامعة، وأرسل بهم جميعا إلى أدنى مسالح عمارة منه، وقال لجماعة من كان مع ابن الأشعث من الناس: تفرقوا إلى حيث شئتم، ولما قرب ابن الأشعث من عمارة ألقى نفسه من فوق قصر فمات، فاحتز رأسه، فأتى به وبالأسرى عمارة، فضرب أعناقهم، وأرسل برأس ابن الأشعث وبرءوس أهله وبامرأته إلى الحجاج، فقال في ذلك بعض الشعراء: هيهات موضع جثة من رأسها ... رأس بمصر وجثة بالرخج وكان الحجاج أرسل به إلى عبد الملك، فأرسل به عبد الملك إلى عبد العزيز وهو يومئذ على مصر. وذكر عمر بن شبة أن ابن عائشة حدثه قال: أخبرني سعد بن عبيد الله قال: لما أتي عبد الملك برأس ابن الأشعث أرسل به مع خصي إلى امرأة منهم كانت تحت رجل من قريش، فلما وضع بين يديها قالت: مرحبا بزائر لا يتكلم، ملك من الملوك طلب ما هو أهله فأبت المقادير فذهب الخصي يأخذ الرأس فاجتذبته من يده، قالت: لا والله حتى أبلغ

حاجتي، ثم دعت بخطمي فغسلته وغلفته ثم قالت: شأنك به الآن. فأخذه، ثم أخبر عبد الملك، فلما دخل عليه زوجها، قال: إن استطعت أن تصيب منها سخلة. وذكر أن ابن الأشعث نظر إلى رجل من أصحابه وهو هارب إلى بلاد رتبيل فتمثل: يطرده الخوف فهو تائه ... كذاك من يكره حر الجلاد منخرق الخفين يشكو الوجا ... تنكبه أطراف مرو حداد قد كان في الموت له راحة ... والموت حتم في رقاب العباد فالتفت إليه فقال: يا لحية، هلا ثبت في موطن من المواطن فنموت بين يديك، فكان خيرا لك مما صرت إليه! قال هشام: قال أبو مخنف: خرج الحجاج في أيامه تلك يسير ومعه حميد الأرقط وهو يقول: ما زال يبني خندقا ويهدمه ... عن عسكر يقوده فيسلمه حتى يصير في يديك مقسمه ... هيهات من مصفه منهزمه إن أخا الكظاظ من لا يسأمه. فقال الحجاج: هذا أصدق من قول الفاسق أعشى همدان: نبئت أن بني يوسف ... خر من زلق فتبا قد تبين له من زلق وتب ودحض فانكب، وخاف وخاب، وشك وارتاب، ورفع صوته فما بقي أحد إلا فزع لغضبه، وسكت الأريقط، فقال له الحجاج: عد فيما كنت فيه، ما لك يا أرقط! قال: إني جعلت فداك أيها الأمير وسلطان الله عزيز، ما هو إلا أن رأيتك غضبت فأرعدت خصائلي، واحزألت مفاصلي، وأظلم بصري، ودارت بي الأرض قال له

عزل يزيد بن المهلب عن خراسان

الحجاج: أجل، إن سلطان الله عزيز، عد فيما كنت فيه، ففعل وقال الحجاج وهو ذات يوم يسير ومعه زياد بن جرير بن عبد الله البجلي وهو أعور، فقال الحجاج للأريقط: كيف قلت لابن سمرة؟ قال: قلت: يا أعور العين فديت العورا ... كنت حسبت الخندق المحفورا يرد عنك القدر المقدورا ... ودائرات السوء أن تدورا وقد قيل: إن مهلك عبد الرحمن بن مُحَمَّد كان في سنة أربع وثمانين عزل يزيد بن المهلب عن خراسان وفي هذه السنة عزل الحجاج بن يوسف يزيد بن المهلب عن خراسان وولاها المفضل بن المهلب أخا يزيد. ذكر السبب الذي من أجله عزله الحجاج عن خراسان واستعمل المفضل: ذكر علي بن مُحَمَّد، عن المفضل بن مُحَمَّد، أن الحجاج وفد إلى عبد الملك، فمر في منصرفه بدير فنزله، فقيل له: إن في هذا الدير شيخا من أهل الكتب عالما، فدعا به فقال: يا شيخ، هل تجدون في كتبكم ما أنتم فيه ونحن؟ قال: نعم، نجد ما مضى من أمركم وما أنتم فيه وما هو كائن، قال: أفمسمى أم موصوفا؟ قال: كل ذلك، موصوف بغير اسم، واسم بغير صفة، قال: فما تجدون صفة أمير المؤمنين؟ قال: نجده في زماننا الذي نحن فيه، ملك أقرع، من يقم لسبيله يصرع، قال: ثم من؟ قال: اسم رجل يقال له الوليد، قال: ثم ماذا؟ قال: رجل اسمه اسم نبي يفتح به على الناس، قال: أفتعرفني؟ قال: قد أخبرت بك. قال: أفتعلم ما ألي؟ قال: نعم، قال: فمن يليه بعدي؟ قال: رجل يقال له يزيد، قال: في حياتي أم بعد موتي؟ قال: لا أدري، قال: أفتعرف صفته؟ قال: يغدر غدرة، لا أعرف غير هذا

قال: فوقع في نفسه يزيد بن المهلب، وارتحل فسار سبعا وهو وجل من قول الشيخ، وقدم فكتب إلى عبد الملك يستعفيه من العراق، فكتب اليه: يا بن أم الحجاج، قد علمت الذي تغزو، وأنك تريد أن تعلم رأيي فيك، ولعمري إني لأرى مكان نافع بن علقمة، فاله عن هذا حتى يأتي الله بما هو آت، فقال الفرزدق يذكر مسيره: لو أن طيرا كلفت مثل سيره ... إلى واسط من إيلياء لملت سرى بالمهاري من فلسطين بعد ما ... دنا الليل من شمس النهار فولت فما عاد ذاك اليوم حتى أناخها ... بميسان قد ملت سراها وكلت كأن قطاميا على الرحل طاويا ... إذا غمرة الظلماء عنه تجلت قال فبينا الحجاج يوما خال إذ دعا عبيد بن موهب، فدخل وهو ينكت في الأرض، فرفع رأسه فقال: ويحك يا عبيد! إن أهل الكتب يذكرون أن ما تحت يدي يليه رجل يقال له يزيد، وقد تذكرت يزيد بن أبي كبشة، ويزيد بن حصين بن نمير، ويزيد بن دينار، فليسوا هناك، وما هو إن كان إلا يزيد بن المهلب، فقال عبيد: لقد شرفتهم وأعظمت ولايتهم، وإن لهم لعددا وجلدا، وطاعة وحظا، فأخلق به، فأجمع على عزل يزيد فلم يجد له شيئا حتى قدم الخيار بن أبي سبرة بن ذؤيب بن عرفجة بن مُحَمَّد بن سفيان بن مجاشع- وكان من فرسان المهلب- وكان مع يزيد- فقال له الحجاج: أخبرني عن يزيد، قال: حسن الطاعة، لين السيرة، قال: كذبت، أصدقني عنه، قال: الله أجل وأعظم، قد أسرج ولم يلجم، قال: صدقت، واستعمل الخيار على عمان بعد ذلك

قال: ثم كتب إلى عبد الملك يذم يزيد وآل المهلب بالزبيرية، فكتب إليه عبد الملك: إني لا أرى نقصا بآل المهلب طاعتهم لآل الزبير، بل أراه وفاء منهم لهم، وإن وفاءهم لهم يدعوهم إلى الوفاء لي فكتب إليه الحجاج يخوفه غدرهم لما أخبره به الشيخ فكتب إليه عبد الملك: قد أكثرت في يزيد وآل المهلب، فسم لي رجلا يصلح لخراسان، فسمى له مجاعة بن سعر السعدي، فكتب إليه عبد الملك: إن رأيك الذي دعاك إلى استفساد آل المهلب هو الذي دعاك إلى مجاعة بن سعر، فانظر لي رجلا صارما، ماضيا لأمرك، فسمى قتيبة بن مسلم، فكتب إليه: ولّه وبلغ يزيد ان الحجاج نزله، فقال لأهل بيته: من ترون الحجاج يولي خراسان؟ قالوا: رجلا من ثقيف، قال: كلا، ولكنه يكتب إلى رجل منكم بعهده، فإذا قدمت عليه عزله وولى رجلا من قيس، وأخلق بقتيبة! قال: فلما أذن عبد الملك للحجاج في عزل يزيد كره أن يكتب إليه بعزله، فكتب إليه أن استخلف المفضل وأقبل فاستشار يزيد حضين بن المنذر، فقال له: أقم واعتل، فإن أمير المؤمنين حسن الرأي فيك، وإنما أتيت من الحجاج، فإن أقمت ولم تعجل رجوت أن يكتب إليه أن يقر يزيد، قال: إنا أهل بيت بورك لنا في الطاعة، وأنا أكره المعصية والخلاف، فأخذ في الجهاز، وأبطأ ذلك على الحجاج، فكتب إلى المفضل: إني قد وليتك خراسان، فجعل المفضل يستحث يزيد، فقال له يزيد: إن الحجاج لا يقرك بعدي، وإنما دعاه إلى ما صنع مخافة أن أمتنع عليه، قال: بل حسدتني، قال يزيد: يا بن بهلة، أنا أحسدك! ستعلم وخرج يزيد في ربيع الآخر سنة خمس وثمانين. فعزل الحجاج المفضل، فقال الشاعر للمفضل وعبد الملك وهو اخوه لامه: يا بنى بهلة إنما أخزاكما ... ربي غداة غدا الهمام الأزهر أحفرتمُ لأخيكمُ فوقعتمُ ... في قعر مظلمة أخوها المعور جودوا بتوبة مخلصين فإنما ... يأبى ويأنف أن يتوب الأخسر

وقال حضين ليزيد: أمرتك أمرا حازما فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادما فما أنا بالباكي عليك صبابة ... وما أنا بالداعي لترجع سالما فلما قدم قتيبة خراسان قال لحضين: كيف قلت ليزيد؟ قال: قلت: أمرتك أمرا حازما فعصيتني ... فنفسك أول اللوم إن كنت لائما فإن يبلغ الحجاج أن قد عصيته ... فإنك تلقى أمره متفاقما قال: فماذا أمرته به فعصاك؟ قال: أمرته الا يدع صفراء ولا بيضاء إلا حملها إلى الأمير، فقال رجل لعياض بن حضين: أما أبوك فوجده قتيبة حين فره قارحا بقوله: أمرته أن لا يدع صفراء ولا بيضاء إلا حملها إلى الأمير. قال علي: وحدثنا كليب بن خلف، قال: كتب الحجاج إلى يزيد أن اغز خوارزم، فكتب إليه: أيها الأمير، إنها قليلة السلب، شديدة الكلب فكتب إليه الحجاج: استخلف واقدم، فكتب إليه: إني أريد أن أغزو خوارزم فكتب إليه: لا تغزها فإنها كما وصفت، فغزا ولم يطعه، فصالحه أهل خوارزم، وأصاب سبيا مما صالحوه، وقفل في الشتاء، فاشتد عليهم البرد، فأخذ الناس ثياب الأسرى فلبسوها، فمات ذلك السبي من البرد قال: ونزل يزيد بلستانة، وأصاب أهل مرو الروذ طاعون ذلك العام، فكتب إليه الحجاج: أن أقدم فقدم، فلم يمر ببلد إلا فرشوا له الرياحين وكان يزيد ولي سنة اثنتين وثمانين، وعزل سنة خمس وثمانين، وخرج من خراسان في ربيع الآخر سنة خمس وثمانين، وولي قتيبة. وأما هشام بن محمد، فإنه ذكر عن أبي مخنف في عزل الحجاج يزيد عن خراسان سببا غير الذي ذكره علي بن مُحَمَّد، والذي ذكر من ذلك عن أبي مخنف أن أبا المخارق الراسبي وغيره حدثوه أن الحجاج لم يكن له حين فرغ من عبد الرحمن بن مُحَمَّد هم إلا يزيد بن المهلب وأهل بيته- وقد

غزو المفضل باذغيس واخرون

كان الحجاج أذل أهل العراق كلهم إلا يزيد وأهل بيته ومن معهم من أهل المصرين بخراسان، ولم يكن يتخوف بعد عبد الرحمن بن مُحَمَّد بالعراق غير يزيد بن المهلب- فاخذ الحجاج في مواربه يزيد ليستخرجه من خراسان، فكان يبعث إليه ليأتيه، فيعتل عليه بالعدو وحرب خراسان، فمكث بذلك حتى كان آخر سلطان عبد الملك ثم إن الحجاج كتب إلى عبد الملك يشير عليه بعزل يزيد بن المهلب، ويخبره بطاعة آل المهلب لابن الزبير، وأنه لا وفاء لهم، فكتب إليه عبد الملك: أني لا أرى تقصيرا بولد المهلب طاعتهم لآل الزبير ووفاءهم لهم، فإن طاعتهم ووفاءهم لهم، هو دعاهم إلى طاعتي والوفاء لي ثم ذكر بقية الخبر نحو الذي ذكره علي. بن محمد . غزو المفضل باذغيس واخرون وفي هذه السنة غزا المفضل باذغيس ففتحها. ذكر الخبر عن ذَلِكَ: ذكر عَلِيّ بن مُحَمَّد، عن المفضل بن مُحَمَّد، قال: عزل الحجاج يزيد، وكتب إلى المفضل بولايته على خراسان سنة خمس وثمانين، فوليها تسعة أشهر، فغزا باذغيس ففتحها وأصاب مغنما، فقسمه بين الناس، فأصاب كل رجل منهم ثمانمائه درهم، ثم غزا أخرون وشومان، فظفر وغنم، وقسم ما أصاب بين الناس، ولم يكن للمفضل بيت مال، كان يعطي الناس كلما جاءه شيء، وإن غنم شيئا قسمه بينهم، فقال كعب الأشقري يمدح المفضل: ترى ذا الغنى والفقر من كل معشر ... عصائب شتى ينتوون المفضلا فمن زائر يرجو فواضل سيبه ... وآخر يقضي حاجة قد ترحلا

خبر مقتل موسى بن عبد الله بن خازم بالترمذ

إذا ما انتوينا غير أرضك لم نجد ... بها منتوى خيرا ولا متعللا إذا ما عددنا الأكرمين ذوي النهى ... وقد قدموا من صالح كنت أولا لعمري لقد صال المفضل صولة ... أباحت بشومان المناهل والكلا ويوم ابن عباس تناولت مثلها ... فكانت لنا بين الفريقين فيصلا صفت لك أخلاق المهلب كلها ... وسربلت من مسعاته ما تسربلا أبوك الذي لم يسع ساع كسعيه ... فأورث مجدا لم يكن متنحلا خبر مقتل موسى بن عبد الله بن خازم بالترمذ وفي هذه السنة قتل موسى بن عبد الله بن خازم السلمي بالترمذ. ذكر سبب قتله ومصيره إلى الترمذ حتى قتل بها: ذكر أن سبب مصيره إلى الترمذ كان أن أباه عبد الله بن خازم لما قتل من قتل من بني تميم بفرتنا- وقد مضى ذكرى خبر قتله إياهم- تفرق عنه عظم من كان بقي معه منهم، فخرج إلى نيسابور وخاف بني تميم على ثقله بمرو، فقال لابنه موسى: حول ثقلي عن مرو، واقطع نهر بلخ حتى تلجأ إلى بعض الملوك أو إلى حصن تقيم فيه فشخص موسى من مرو في عشرين ومائتي فارس، فأتى آمل وقد ضوى إليه قوم من الصعاليك، فصار في أربعمائة، وانضم إليه رجال من بني سليم، منهم زرعة بن علقمة، فأتى زم فقاتلوه، فظفر بهم وأصاب مالا، وقطع النهر، فأتى بخارى فسأل صاحبها أن يلجأ إليه، فأبى وخافه، وقال: رجل فاتك، وأصحابه مثله أصحاب حرب وشر، فلا آمنه وبعث إليه بصلة عين ودواب وكسوة، ونزل على عظيم من عظماء أهل بخارى في نوقان، فقال له: إنه

لا خير في المقام في هذه البلاد، وقد هابك القوم وهم لا يأمنونك فأقام عند دهقان نوقان أشهرا، ثم خرج يلتمس ملكا يلجأ إليه أو حصنا، فلم يأت بلدا إلا كرهوا مقامه فيهم، وسألوه أن يخرج عنهم. قال علي بن مُحَمَّد: فأتى سمرقند فأقام بها، وأكرمه طرخون ملكها، وأذن له في المقام، فأقام ما شاء الله، ولأهل الصغد مائدة يوضع عليها لحم ودك وخبز وإبريق شراب، وذلك في كل عام يوما، يجعل ذلك لفارس الصغد فلا يقربه أحد غيره، هو طعامه في ذلك اليوم، فإن أكل منه أحد غيره بارزه فأيهما قتل صاحبه فالمائدة له، فقال رجل من أصحاب موسى: ما هذه المائدة؟ فأخبر عنها، فسكت، فقال صاحب موسى: لآكلن ما على هذه المائدة، ولأبارزن فارس الصغد، فإن قتلته كنت فارسهم فجلس فأكل ما عليها، وقيل لصاحب المائدة، فجاء مغضبا، فقال: يا عربي، بارزني، قال: نعم، وهل أريد إلا المبارزة! فبارزه فقتله صاحب موسى، فقال ملك الصغد: أنزلتكم وأكرمتكم فقتلتم فارس الصغد! لولا أني أعطيتك وأصحابك الأمان لقتلتكم اخرجوا عن بلدي، ووصله فخرج موسى فأتى كس فكتب صاحب كس إلى طرخون يستنصره، فأتاه، فخرج إليه موسى في سبعمائة فقاتلهم حتى امسوا، وتحاجزوا باصحاب موسى جراح كثيرة، فلما أصبحوا أمرهم موسى فحلقوا رءوسهم كما يصنع الخوارج، وقطعوا صفنات أخبيتهم كما يصنع العجم إذا استماتوا. وقال موسى لزرعة بن علقمة: انطلق إلى طرخون فاحتل له فأتاه، فقال له طرخون: لم صنع أصحابك ما صنعوا؟ قال: استقتلوا فما حاجتك إلى أن تقتل أيها الملك موسى وتقتل! فإنك لا تصل إليه حتى يقتل مثل عدتهم منكم، ولو قتلته وإياهم جميعا ما نلت حظا، لأن له قدرا في العرب، فلا يلي أحد خراسان إلا طالبك بدمه، فإن سلمت من واحد لم تسلم من آخر، قال: ليس إلى ترك كس في يده سبيل، قال: فكف عنه حتى

يرتحل، فكف وأتى موسى الترمذ وبها حصن يشرف على النهر إلى جانب منه، فنزل موسى على بعض دهاقين الترمذ خارجا من الحصن والدهقان مجانب لترمذ شاه، فقال لموسى: إن صاحب الترمذ متكرم شديد الحياء، فإن ألطفته وأهديت إليه أدخلك حصنه، فإنه ضعيف، قال: كلا، ولكني أسأله أن يدخلني حصنه، فسأله فأبى، فما كره موسى وأهدى له وألطفه، حتى لطف الذي بينهما، وخرج فتصيد معه، وكثر إلطاف موسى له، فصنع صاحب الترمذ طعاما وأرسل إليه: أني أحب اكرمك، فتغد عندي، وائتني في مائة من أصحابك فانتخب موسى من أصحابه مائة، فدخلوا على خيولهم، فلما صارت في المدينة تصاهلت، فتطير أهل الترمذ وقالوا لهم: انزلوا، فنزلوا، فأدخلوا بيتا، خمسين في خمسين، وغدوهم. فلما فرغوا من الغداء اضطجع موسى، فقالوا له: اخرج، قال: لا أصيب منزلا مثل هذا، فلست بخارج منه حتى يكون بيتي أو قبري. وقاتلوهم في المدينة، فقتل من أهل الترمذ عدة، وهرب الآخرون فدخلوا منازلهم، وغلب موسى على المدينة، وقال لترمذ شاه: اخرج، فإني لست أعرض لك ولا لأحد من أصحابك فخرج الملك وأهل المدينة فأتوا الترك يستنصرونهم، فقالوا: دخل إليكم مائة رجل فاخرجوكم عن بلادكم، وقد قاتلناهم بكس، نحن لا نقاتل هؤلاء فأقام ابن خازم بالترمذ، ودخل اليه اصحابه، وكانوا سبعمائة، فأقام، فلما قتل أبوه انضم إليه من اصحاب ابيه أربعمائة فارس، فقوي، فكان يخرج فيغير على من حوله قال: فأرسل الترك قوما إلى أصحاب موسى ليعلموا علمه، فلما قدموا قال موسى لأصحابه: لا بد من مكيدة لهؤلاء- قال: وذلك في أشد الحر- فأمر بنار فأججت، وأمر أصحابه فلبسوا ثياب الشتاء، ولبسوا فوقها لبودا، ومدوا أيديهم إلى النار كأنهم يصطلون وأذن موسى للترك فدخلوا، ففزعوا مما رأوا، وقالوا:

لم صنعتم هذا؟ قالوا: نجد البرد في هذا الوقت، ونجد الحر في الشتاء، فرجعوا وقالوا: جن لا نقاتلهم قال: وأراد صاحب الترك أن يغزو موسى، فوجه إليه رسلا، وبعث بسم ونشاب في مسك، وإنما أراد بالسم أن حربهم شديدة، والنشاب الحرب، والمسك السلم، فاختر الحرب او السلم، فاخرق السم، وكسر النشاب، ونثر المسك، فقال القوم: لم يريدوا الصلح، وأخبر أن حربهم مثل النار، وأنه يكسرنا، فلم يغزهم. قال: فولي بكير بن وشاح خراسان فلم يعرض له، ولم يوجه إليه أحدا، ثم قدم أمية فسار بنفسه يريده، فخالفه بكير، وخلع، فرجع إلى مرو، فلما صالح أمية بكيرا أقام عامه ذلك، فلما كان في قابل وجه إلى موسى رجلا من خزاعة في جمع كثير، فعاد أهل الترمذ إلى الترك فاستنصروهم فأبوا، فقالوا لهم: قد غزاهم قوم منهم وحصروهم، فإن أعناهم عليهم ظفرنا بهم فسارت الترك مع أهل الترمذ في جمع كثير، فأطاف بموسى الترك والخزاعي، فكان يقاتل الخزاعي أول النهار والترك آخر النهار، فقاتلهم شهرين أو ثلاثة، فقال موسى لعمرو بن خالد بن حصين الكلابي- وكان فارسا: قد طال أمرنا وأمر هؤلاء، وقد أجمعت أن أبيت عسكر الخزاعي، فإنهم للبيات آمنون، فما ترى؟ قال: البيات نعما هو، وليكن ذلك بالعجم، فإن العرب أشد حذرا، وأسرع فزعا، وأجرأ على الليل من العجم، فبيتهم فإني أرجو أن ينصرنا الله عليهم، ثم ننفرد لقتال الخزاعي فنحن في حصن وهم بالعراء، وليسوا باولى بالصبر، ولا أعلم بالحرب منا قال: فأجمع موسى على بيات الترك، فلما ذهب من الليل ثلثه خرج في أربعمائة، وقال لعمرو بن خالد: اخرجوا بعدنا وكونوا منا قريبا، فإذا سمعتم تكبيرنا فكبروا، وأخذ على شاطئ النهر حتى ارتفع فوق العسكر، ثم أخذ من ناحية كفتان، فلما قرب من عسكرهم جعل أصحابه أرباعا، ثم قال: أطيفوا بعسكرهم، فإذا سمعتم تكبيرنا فكبروا، وأقبل

وقدم عمرا بين يديه ومشوا خلفه، فلما رأته أصحاب الأرصاد قالوا: من أنتم؟ قالوا: عابري سبيل. قال: فلما جازوا الرصد تفرقوا وأطافوا بالعسكر وكبروا، فلم يشعر الترك إلا بوقع السيوف، فثاروا يقتل بعضهم بعضا وولوا، وأصيب من المسلمين ستة عشر رجلا، وحووا عسكرهم وأصابوا سلاحا ومالا، وأصبح الخزاعي وأصحابه قد كسرهم ذلك، وخافوا مثلها من البيات، فتحذروا. فقال لموسى عمرو بن خالد: إنك لا تظفر إلا بمكيدة ولهم أمداد وهم يكثرون، فدعني آتهم لعلي أصيب من صاحبهم فرصة، إني إن خلوت به قتلته، فتناولني بضرب، قال: تتعجل الضرب وتتعرض للقتل! قال: أما التعرض للقتل فأنا كل يوم متعرض له، وأما الضرب فما أيسره في جنب ما أريد فتناوله بضرب، ضربه خمسين سوطا، فخرج من عسكر موسى فأتى عسكر الخزاعي مستأمنا وقال: أنا رجل من أهل اليمن كنت مع عبد الله بن خازم، فلما قتل أتيت ابنه فلم أزل معه، وكنت أول من أتاه، فلما قدمت اتهمني، وتعصب علي، وتنكر لي وقال لي: قد تعصبت لعدونا، فأنت عين له، فضربني، ولم آمن القتل، وقلت: ليس بعد الضرب إلا القتل، فهربت منه، فآمنه الخزاعي وأقام معه قال: فدخل يوما وهو خال ولم ير عنده سلاحا، فقال كأنه ينصح له: أصلحك الله! إن مثلك في مثل حالك لا ينبغي أن يكون في حال من أحواله بغير سلاح، فقال: إن معي سلاحا، فرفع صدر فراشه فإذا سيف منتضى، فتناوله عمرو فضربه فقتله، وخرج فركب فرسه، ونذروا به بعد ما أمعن، فطلبوه ففاتهم، فأتى موسى وتفرق ذلك الجيش، فقطع بعضهم النهر، وأتى بعضهم موسى مستأمنا، فآمنه، فلم يوجه إليه أمية أحدا قال: وعزل أمية، وقدم المهلب أميرا، فلم يعرض لابن خازم،

وقال لبنيه: إياكم وموسى، فإنكم لا تزالون ولاة هذا الثغر ما أقام هذا الثط بمكانه، فإن قتل كان أول طالع عليكم أميرا على خراسان رجل من قيس فمات المهلب ولم يوجه إليه أحدا، ثم تولى يزيد بن المهلب فلم يعرض له وكان المهلب ضرب حريث بن قطبة الخزاعي، فخرج هو وأخوه ثابت إلى موسى، فلما ولي يزيد بن المهلب أخذ أموالهما وحرمهما وقتل أخاهما لأمهما، الحارث بن منقذ، وقتل صهرا لهما كانت عنده أم حفص ابنة ثابت، فبلغهما ما صنع يزيد قال: فخرج ثابت إلى طرخون فشكا إليه ما صنع به- وكان ثابت محببا في العجم، بعيد الصوت، يعظمونه ويثقون به، فكان الرجل منهم إذا أعطى عهدا يريد الوفاء به حلف بحياة ثابت فلا يغدر- فغضب له طرخون وجمع له نيزك والسبل وأهل بخارى والصغانيان، فقدموا مع ثابت إلى موسى بن عبد الله، وقد سقط إلى موسى فل عبد الرحمن بن العباس من هراة، وفل ابن الأشعث من العراق ومن ناحية كابل، وقوم من بني تميم ممن كان يقاتل ابن خازم في الفتنة من أهل خراسان، فاجتمع إلى موسى ثمانية آلاف من تميم وقيس وربيعة واليمن، فقال له ثابت وحريث: سر تقطع النهر فتخرج يزيد بن المهلب عن خراسان، ونوليك، فإن طرخون ونيزك والسبل وأهل بخارى معك، فهم أن يفعل، فقال له أصحابه: إن ثابتا وأخاه خائفان ليزيد، وإن أخرجت يزيد عن خراسان وأمنا توليا الأمر وغلباك على خراسان، فأقم مكانك فقبل رأيهم، وأقام بالترمذ وقال لثابت: إن أخرجنا يزيد قدم عامل لعبد الملك، ولكنا نخرج عمال يزيد من وراء النهر مما يلينا، وتكون هذه الناحية لنا نأكلها فرضي ثابت بذلك، وأخرج من كان من عمال يزيد من وراء النهر، وحملت إليهم الأموال، وقوي أمرهم وأمر موسى، وانصرف طرخون ونيزك وأهل بخارى والسبل إلى بلادهم، وتدبير الأمر لحريث وثابت، والأمير موسى ليس له غير الاسم،

فقال لموسى أصحابه: لسنا نرى من الأمر في يديك شيئا أكثر من اسم الإمارة، فأما التدبير فلحريث وثابت، فاقتلهما وتول الأمر فأبى وقال: ما كنت لأغدر بهما وقد قويا أمري، فحسدوهما وألحوا على موسى في أمرهما حتى أفسدوا قلبه، وخوفوه غدرهما، وهم بمتابعتهم على الوثوب بثابت وحريث واضطرب أمرهم، فإنهم لفي ذلك إذ خرجت عليهم الهياطلة والتبت والترك، فأقبلوا في سبعين ألفا لا يعدون الحاسر ولا صاحب بيضة جماء، ولا يعدون إلا صاحب بيضة ذات قونس قال: فخرج ابن خازم إلى ربض المدينة في ثلاثمائة راجل وثلاثين مجففا، وألقي له كرسي فقعد عليه قال: فأمر طرخون أن يثلم حائط الربض، فقال موسى: دعوهم، فهدموا ودخل أوائلهم، فقال: دعوهم يكثرون، وجعل يقلب طبرزينا بيده، فلما كثروا قال: الآن امنعوهم، فركب وحمل عليهم فقاتلهم حتى أخرجهم عن الثلمة، ثم رجع فجلس على الكرسي وذمر الملك أصحابه ليعودوا، فأبوا، فقال لفرسانه: هذا الشيطان، من سره أن ينظر إلى رستم فلينظر إلى صاحب الكرسي، فمن أبى فليقدم عليه ثم تحولت الأعاجم إلى رستاق كفتان قال: فأغاروا على سرح موسى، فاغتم ولم يطعم، وجعل يعبث بلحيته، فسار ليلا على نهر في حافتيه نبات لم يكن فيه ماء، وهو يفضى الى خندقهم، في سبعمائة، فأصبحوا عند عسكرهم، وخرج السرح فأغار عليه فاستاقه، وأتبعه قوم منهم، فعطف عليه سوار، مولى لموسى، فطعن رجلا منهم فصرعه، فرجعوا عنهم وَسَلَّمَ موسى بالسرح قال: وغاداهم العجم القتال، فوقف ملكهم على تل في عشرة آلاف في أكمل عدة، فقال موسى: إن أزلتم هؤلاء فليس الباقون بشيء فقصد لهم حريث بن قطبة فقاتلهم صدر النهار، وألح عليهم حتى أزالوهم عن التل، ورمي يومئذ حريث بنشابة في جبهته، فتحاجزوا، فبيتهم موسى، وحمل أخوه خازم بن عبد الله بن خازم حتى وصل إلى شمعة. ملكهم،

فوجأ رجلا منهم بقبيعة سيفه، فطعن فرسه، فاحتمله فألقاه في نهر بلخ فغرق، وعليه درعان، فقتل العجم قتلا ذريعا، ونجا منهم من نجا بشر، ومات حريث بن قطبة بعد يومين، فدفن في قبته قال: وارتحل موسى، وحملوا الرءوس إلى الترمذ، فبنوا من تلك الرءوس جوسقين، وجعلوا الرءوس يقابل بعضها بعضا وبلغ الحجاج خبر الوقعة، فقال: الحمد لله الذي نصر المنافقين على الكافرين، فقال أصحاب موسى: قد كفينا أمر حريث، فأرحنا من ثابت، فأبى وقال: لا وبلغ ثابتا بعض ما يخوضون فيه، فدس مُحَمَّد بن عبد الله بن مرثد الخزاعي، عم نصر بن عبد الحميد عامل أبي مسلم على الري- وكان في خدمة موسى بن عبد الله- وقال له: إياك أن تتكلم بالعربية، وإن سألوك من أين أنت! فقل: من سبي الباميان، فكان يخدم موسى وينقل إلى ثابت خبرهم، فقال له: تحفظ ما يقولون وحذر ثابت فكان لا ينام حتى يرجع الغلام، وأمر قوما من شاكريته يحرسونه ويبيتون عنده في داره، ومعهم قوم من العرب، وألح القوم على موسى فأضجروه، فقال لهم ليلة: قد أكثرتم علي، وفيم تريدون هلاككم، وقد أبرمتموني! فعلى أي وجه تفتكون به، وأنا لا أغدر به! فقال نوح بن عبد الله أخو موسى: خلنا وإياه، فإذا غدا إليك غدوة عدلنا به إلى بعض الدور، فضربنا عنقه فيها قبل أن يصل إليك، قال: أما والله إنه لهلاككم، وأنتم أعلم- والغلام يسمع- فأتى ثابتا فأخبره، فخرج من ليلته في عشرين فارسا فمضى وأصبحوا وقد ذهب فلم يدروا من أين أوتوا، وفقدوا الغلام، فعلموا أنه كان عينا له عليهم، ولحق ثابت بحشورا فنزل المدينة، وخرج إليه قوم كثير من العرب والعجم، فقال موسى لأصحابه: قد فتحتم على أنفسكم بابا فسدوه، وسار اليه موسى، فخرج إليه ثابت في جمع كثير فقاتلهم، فأمر موسى بإحراق السور، وقاتلهم حتى ألجئوا ثابتا وأصحابه إلى المدينة، وقاتلوهم عن المدينة

فأقبل رقبة بن الحر العنبري حتى اقتحم النار، فانتهى إلى باب المدينة ورجل من أصحاب ثابت واقف يحمي أصحابه، فقتله، ثم رجع فخاض النار وهي تلتهب، وقد أخذت بجوانب نمط عليه، فرمى به عنه ووقف، وتحصن ثابت في المدينة، وأقام موسى في الربض، وكان ثابت حين شخص إلى حشورا أرسل إلى طرخون، فأقبل طرخون معينا له، وبلغ موسى مجيء طرخون، فرجع إلى الترمذ، وأعانه أهل كس ونسف وبخارى، فصار ثابت في ثمانين ألفا، فحصروا موسى وقطعوا عنه المادة حتى جهدوا. قال: وكان أصحاب ثابت يعبرون نهرا إلى موسى بالنهار- ثم يرجعون بالليل إلى عسكرهم، فخرج يوما رقبة- وكان صديقا لثابت، وقد كان ينهى أصحاب موسى عما صنعوا- فنادى ثابتا، فبرز له- وعلى رقبة قباء خز- فقال له: كيف حالك يا رقبة؟ فقال: ما تسأل عن رجل عليه جبة خز في حمارة القيظ! وشكا إليه حالهم، فقال: أنتم صنعتم هذا بأنفسكم، فقال: أما والله ما دخلت في أمرهم، ولقد كرهت ما أرادوا، فقال ثابت: أين تكون حتى يأتيك ما قدر لك؟ قال: أنا عند المحل الطفاوي- رجل من قيس من يعصر- وكان المحل شيخا صاحب شراب- فنزل رقبة عنده. قال: فبعث ثابت إلى رقبه بخمسمائة درهم مع علي بن المهاجر الخزاعي، وقال: إن لنا تجارا قد خرجوا من بلخ، فإذا بلغك أنهم قد قدموا فأرسل إلي تأتك حاجتك فأتى على باب المحل، فدخل فإذا رقبة والمحل جالسان بينهما جفنة فيها شراب، وخوان عليه دجاج وأرغفة، ورقبة شعث الرأس، متوشح بملحفة حمراء، فدفع إليه الكيس، وأبلغه الرسالة وما كلمه، وتناول الكيس وقال له بيده، اخرج، ولم يكلمه قال: وكان رقبة جسيما كبيرا، غائر العينين، ناتئ الوجنتين، مفلج، بين كل سنين له موضع سن، كان وجهه ترس

قال: فلما أضاق أصحاب موسى واشتد عليهم الحصار قال يزيد بن هزيل: إنما مقام هؤلاء مع ثابت والقتل أحسن من الموت جوعا، والله لأفتكن بثابت أو لأموتن فخرج إلى ثابت فاستأمنه، فقال له ظهير: أنا أعرف بهذا منك، إن هذا لم يأتك رغبة فيك ولا جزعا لك، ولقد جاءك بغدرة، فاحذره وخلني وإياه، فقال: ما كنت لأقدم على رجل أتاني، لا أدري أكذلك هو أم لا قال: فدعني أرتهن منه رهنا، فأرسل ثابت إلى يزيد فقال: أما أنا فلم أكن أظن رجلا يغدر بعد ما يسأل الأمان، وابن عمك أعلم بك مني، فانظر ما يعاملك عليه، فقال يزيد لظهير: أبيت يا أبا سعيد إلا حسدا! قال: أما يكفيك ما ترى من الذل! تشردت عن العراق وعن أهلي، وصرت بخراسان فيما ترى، أفما تعطفك الرحم! فقال له ظهير: أما والله لو تركت ورأيي فيك لما كان هذا، ولكن أرهنا ابنيك قدامة والضحاك فدفعهما إليهم، فكانا في يدي ظهير. قال: وأقام يزيد يلتمس غرة ثابت، لا يقدر منه على ما يريد، حتى مات ابن لزياد القصير الخزاعي، أتى أباه نعيه من مرو، فخرج متفضلا إلى زياد ليعزيه، ومعه ظهير ورهط من أصحابه، وفيهم يزيد بن هزيل، وقد غابت الشمس، فلما صار على نهر الصغانيان تأخر يزيد بن هزيل ورجلان معه، وقد تقدم ظهير وأصحابه، فدنا يزيد من ثابت فضربه فعض السيف برأسه، فوصل إلى الدماغ قال: ورمى يزيد وصاحباه بأنفسهم في نهر الصغانيان، فرموهم، فنجا يزيد سباحة وقتل صاحباه، وحمل ثابت إلى منزله، فلما أصبح طرخون أرسل إلى ظهير: ائتني بابني يزيد، فأتاه بهما، فقدم ظهير الضحاك بن يزيد فقتله، ورمى به وبرأسه في النهر، وقدم قدامة ليقتله، فالتفت فوقع السيف في صدره، ولم يبن، فألقاه في النهر حيا فغرق، فقال طرخون: أبوهما قتلهما وغدره فقال يزيد بن هزيل: لأقتلن يا بني كل خزاعي بالمدينة، فقال له عبد الله بن بديل بن عبد الله بن بديل بن ورقاء- وكان ممن أتى موسى من فل ابن الأشعث:

لو رمت ذاك من خزاعة لصعب عليك وعاش ثابت سبعة أيام ثم مات وكان يزيد بن هزيل سخيا شجاعا شاعرا، ولي أيام ابن زياد جزيرة ابن كاوان، فقال: قد كنت أدعو الله في السر مخلصا ... ليمكنني من جزية ورجال فأترك فيها ذكر طلحة خاملا ... ويحمد فيها نائلي وفعالي قال: فقام بأمر العجم بعد موت ثابت طرخون، وقام ظهير بأمر أصحاب ثابت، فقاما قياما ضعيفا، وانتشر أمرهم، فأجمع موسى على بياتهم، فجاء رجل فأخبر طرخون، فضحك وقال: موسى يعجز أن يدخل متوضأه، فكيف يبيتنا! لقد طار قلبك، لا يحرسن الليلة أحد العسكر. فلما ذهب من الليل ثلثه خرج موسى في ثمانمائه قد عباهم من النهار، وصيرهم أرباعا قال: فصير على ربع رقبة بن الحر وعلى ربع أخاه نوح بن عبد الله بن خازم، وعلى ربع يزيد بن هزيل، وصار هو في ربع، وقال لهم: إذا دخلتم عسكرهم فتفرقوا، ولا يمرن أحد منكم بشيء إلا ضربه، فدخلوا عسكرهم من أربع نواح لا يمرون بدابة ولا رجل ولا خباء ولا جوالق إلا ضربوه وسمع الوجبة نيزك فلبس سلاحه، ووقف في ليلة مظلمة، وقال لعلي بن المهاجر الخزاعي: انطلق إلى طرخون فأعلمه موقفي، وقل له: ما ترى أعمل به، فأتى طرخون، فإذا هو في فازة قاعد على كرسي وشاكريته قد أوقدوا النيران بين يديه، فأبلغه رسالة نيزك، فقال: اجلس، وهو طامح ببصره نحو العسكر والصوت، إذا أقبل محمية السلمي وهو يقول: حم لا ينصرون، فتفرق في الشاكرية، ودخل محمية الفازة، وقام إليه طرخون فبدره فضربه، فلم يغن شيئا، قال: وطعنه طرخون بذباب السيف في صدره فصرعه، ورجع إلى الكرسي فجلس عليه، وخرج محمية يعدو

قال: ورجعت الشاكرية، فقال لهم طرخون: فررتم من رجل! أرأيتم لو كان نارا هل كانت تحرق منكم أكثر من واحد! فما فرغ من كلامه حتى دخل جوارية الفازة، وخرج الشاكرية هرابا، فقال للجواري: اجلسن، وقال لعلي بن المهاجر: قم، قال: فخرجا فإذا نوح بن عبد الله ابن خازم في السرادق، فتجاولا ساعة، واختلفا ضربتين، فلم يصنعا شيئا، وولى نوح وأتبعه طرخون، فطعن فرس نوح في خاصرته فشب، فسقط نوح والفرس في نهر الصغانيان، ورجع طرخون وسيفه يقطر دما، حتى دخل السرادق وعلي بن المهاجر معه، ثم دخلا الفازة. وقال طرخون للجواري: ارجعن، فرجعن إلى السرادق، وأرسل طرخون إلى موسى: كف أصحابك؟ فإنا نرتحل إذا أصبحنا، فرجع موسى إلى عسكره، فلما أصبحوا ارتحل طرخون والعجم جميعا، فأتى كل قوم بلادهم قال: وكان أهل خراسان يقولون: ما رأينا مثل موسى ابن عبد الله بن خازم، ولا سمعنا به، قاتل مع أبيه سنتين، ثم خرج يسير في بلاد خراسان حتى أتى ملكا فغلبه على مدينته وأخرجه منها، ثم سارت إليه الجنود من العرب والترك فكان يقاتل العرب أول النهار والعجم آخر النهار، وأقام في حصنه خمس عشره سنه، وصار ما وراء النهر لموسى، لا يعازه فيه أحد. قال: وكان بقومس رجل يقال له عبد الله، يجتمع إليه فتيان يتنادمون عنده في مؤونته ونفقته، فلزمه دين، فأتى موسى بن عبد الله، فأعطاه أربعة آلاف، فأتى بها أصحابه، فقال الشاعر يعاتب رجلا يقال له موسى: فما أنت موسى إذ يناجي إلهه ... ولا واهب القينات موسى بن خازم قال: فلما عزل يزيد وولي المفضل خراسان أراد أن يحظى عند الحجاج بقتال موسى بن عبد الله، فأخرج عثمان بن مسعود- وكان يزيد حبسه- فقال: إني أريد أن أوجهك إلى موسى بن عبد الله، فقال: والله لقد وترني، وإني لثائر بابن عمتي ثابت وبالخزاعي، وما يد أبيك

وأخيك عندي وعند أهل بيتي بالحسنة، لقد حبستموني وشردتم بني عمي، واصطفيتم أموالهم فقال له المفضل: دع هذا عنك، وسر فأدرك بثأرك، فوجهه في ثلاثة آلاف، وقال له: مر مناديا فليناد: من لحق بنا فله ديوان، فنادى بذلك في السوق، فسارع إليه الناس وكتب المفضل إلى مدرك وهو ببلخ أن يسير معه، فخرج، فلما كان ببلخ خرج ليلة يطوف في العسكر، فسمع رجلا يقول: قتلته والله، فرجع إلى أصحابه، فقال: قتلت موسى ورب الكعبة! قال: فأصبح فسار من بلخ وخرج مدرك معه متثاقلا، فقطع النهر فنزل جزيرة بالترمذ يقال لها اليوم جزيرة عثمان- لنزول عثمان بها في خمسة عشر ألفا- وكتب إلى السبل وإلى طرخون فقدموا عليه، فحصروا موسى، فضيقوا عليه وعلى أصحابه، فخرج موسى ليلا فأتى كفتان، فامتار منها، ثم رجع فمكث شهرين في ضيق، وقد خندق عثمان وحذر البيات، فلم يقدر موسى منه على غرة، فقال لأصحابه: حتى متى! اخرجوا بنا فاجعلوا يومكم، إما ظفرتم وإما قتلتم وقال لهم: اقصدوا للصغد والترك، فخرج وخلف النضر بن سُلَيْمَان بن عبد الله بن خازم في المدينة، وقال له: إن قتلت فلا تدفعن المدينة إلى عثمان، وادفعها إلى مدرك بن المهلب. وخرج فصير ثلث أصحابه بإزاء عثمان وقال: لا تهايجوه إلا أن يقاتلكم، وقصد لطرخون وأصحابه، فصدقوهم، فانهزم طرخون والترك، وأخذوا عسكرهم فجعلوا ينقلونه، ونظر معاوية بن خالد بن أبي برزة إلى عثمان وهو على برذون لخالد بن أبي برزة الأسلمي، فقال: انزل أيها الأمير، فقال خالد: لا تنزل فإن معاوية مشئوم وكرت الصغد والترك راجعة، فحالوا بين موسى وبين الحصن، فقاتلهم، فعقر به فسقط، فقال لمولى له: احملني، فقال: الموت كريه، ولكن ارتدف، فإن نجونا نجونا جميعا، وإن هلكنا هلكنا جميعا قال: فارتدف، فنظر إليه عثمان حين وثب فقال: وثبة موسى ورب الكعبة! وعليه مغفر له موشى بخز أحمر

في أعلاه، ياقوتة أسمانجونية، فخرج من الخندق فكشفوا أصحاب موسى. فقصد لموسى، وعثرت دابة موسى فسقط هو ومولاه، فابتدروه فانطووا عليه فقتلوه، ونادى منادي عثمان: لا تقتلوا أحدا، من لقيتموه فخذوه أسيرا قال: فتفرق أصحاب موسى، وأسر منهم قوم، فعرضوا على عثمان، فكان إذا أتي بأسير من العرب قال: دماؤنا لكم حلال، ودماؤكم علينا حرام! ويأمر بقتله، وإذا أتي بأسير من الموالي شتمه، وقال: هذه العرب تقاتلني، فهلا غضبت لي! فيأمر به فيشدخ وكان فظا غليظا، فلم يسلم عليه يومئذ أسير إلا عبد الله بن بديل بن عبد الله بن بديل بن ورقاء، فإنه كان مولاه، فلما نظر إليه أعرض عنه وأشار بيده أن خلوا عنه، ورقبة بن الحر لما أتي به نظر إليه وقال: ما كان من هذا إلينا كبير ذنب، وكان صديقا لثابت، وكان مع قوم فوفى لهم، والعجب كيف أسرتموه! قالوا: طعن فرسه فسقط عنه في وهدة فأسر، فأطلقه وحمله، وقال لخالد بن أبي برزة: ليكن عندك قال: وكان الذي أجهز على موسى ابن عبد الله واصل بن طيسلة العنبري ونظر يومئذ عثمان إلى زرعة بن علقمة السلمي والحجاج بن مروان وسنان الأعرابي ناحية فقال: لكم الأمان، فظن الناس أنه لم يؤمنهم حتى كاتبوه. قال: وبقيت المدينة في يدي النضر بن سُلَيْمَان بن عبد الله بن خازم، فقال: لا أدفعها إلى عثمان، ولكني أدفعها إلى مدرك، فدفعها إليه وآمنه، فدفعها مدرك إلى عثمان وكتب المفضل بالفتح إلى الحجاج، فقال الحجاج: العجب من ابن بهلة! آمره بقتل ابن سمرة فيكتب إلي أنه لمآبه ويكتب إلي: أنه قتل موسى بن عبد الله بن خازم، قال: وقتل موسى سنة خمس وثمانين، فذكر البحتري أن مغراء بن المغيرة بن أبي صفرة قتل موسى فقال: وقد عركت بالترمذ الخيل خازما ... ونوحا وموسى عركة بالكلاكل

عزم عبد الملك بن مروان على خلع أخيه عبد العزيز

قال: فضرب رجل من الجند ساق موسى، فلما ولي قتيبة أخبر عنه فقال: ما دعاك إلى ما صنعت بفتى العرب بعد موته! قال: كان قتل أخي، فأمر به قتيبة فقتل بين يديه . عزم عبد الملك بن مروان على خلع أخيه عبد العزيز وفي هذه السنة أراد عبد الملك بن مروان خلع أخيه عبد العزيز بن مروان. ذكر الخبر عن ذَلِكَ وما كَانَ من أمرهما فيه: ذكر الواقدي أن عبد الملك هم بذلك، فنهاه عنه قبيصة بن ذؤيب، وقال: لا تفعل هذا، فإنك باعث على نفسك صوت نعار، ولعل الموت يأتيه فتستريح منه! فكف عبد الملك عن ذلك ونفسه تنازعه إلى أن يخلعه. ودخل عليه روح بن زنباع الجذامي- وكان أجل الناس عند عبد الملك- فقال: يا أمير المؤمنين، لو خلعته ما انتطح فيه عنزان، فقال: ترى ذلك يا أبا زرعة؟ قال: إي والله، وأنا أول من يجيبك إلى ذلك، فقال: نصيح إن شاء الله قال: فبينا هو على ذلك وقد نام عبد الملك وروح ابن زنباع إذ دخل عليهما قبيصة بن ذؤيب طروقا، وكان عبد الملك قد تقدم إلى حجابه فقال: لا يجب عني قبيصة أي ساعة جاء من ليل أو نهار، إذا كنت خاليا أو عندي رجل واحد، وإن كنت عند النساء أدخل المجلس وأعلمت بمكانه فدخل، وكان الخاتم إليه، وكانت السكة إليه، تأتيه الأخبار قبل عبد الملك، ويقرأ الكتب قبله، ويأتي بالكتاب إلى عبد الملك منشورا فيقرؤه، إعظاما لقبيصة- فدخل عليه فسلم عليه وقال: أجرك الله يا أمير المؤمنين في أخيك عبد العزيز! قال: وهل توفي؟ قال: نعم، فاسترجع عبد الملك، ثم أقبل على روح فقال: كفانا الله أبا زرعة ما كنا نريد وما أجمعنا عليه، وكان ذلك مخالفا لك يا أبا إسحاق، فقال قبيصة: ما هو؟ فأخبره بما كان، فقال قبيصة: يا أمير المؤمنين، إن الرأي كله

خبر موت عبد العزيز بن مروان

في الأناة، والعجلة فيها ما فيها، فقال عبد الملك: ربما كان في العجلة خير كثير، رأيت أمر عمرو بن سعيد، ألم تكن العجله فيه خيرا من التانى! خبر موت عبد العزيز بن مروان وفي هذه السنة توفي عبد العزيز بن مروان بمصر في جمادى الأولى، فضم عبد الملك عمله إلى ابنه عبد الله بن عبد الملك، وولاه مصر. وأما المدائني فَإِنَّهُ قَالَ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ أبو زيد عنه، أن الحجاج كتب إلى عبد الملك يزين له بيعة الوليد، وأوفد وفدا في ذلك عليهم عمران ابن عصام العنزي، فقام عمران خطيبا، فتكلم وتكلم الوفد وحثوا عبد الملك، وسألوه ذلك، فقال عمران بن عصام: أمير المؤمنين إليك نهدي ... على النأي التحية والسلاما أجبني في بنيك يكن جوابي ... لهم عادية ولنا قواما فلو أن الوليد أطاع فيه ... جعلت له الخلافة والذماما شبيهك حول قبته قريش ... به يستمطر الناس الغماما ومثلك في التقى لم يصب يوما ... لدن خلع القلائد والتماما فإن تؤثر أخاك بها فإنا ... وجدك لا نطيق لها اتهاما ولكنا نحاذر من بنيه ... بني العلات مأثرة سماما ونخشى إن جعلت الملك فيهم ... سحابا ان تعود لهم جهاما فلايك ما حلبت غدا لقوم ... وبعد غد بنوك هم العياما فأقسم لو تخطأني عصام ... بذلك ما عذرت به عصاما ولو أني حبوت أخا بفضل ... أريد به المقالة والمقاما

لعقب في بني على بنيه ... كذلك أو لرمت له مراما فمن يك في أقاربه صدوع ... فصدع الملك أبطؤه التئاما فقال عبد الملك: يا عمران، إنه عبد العزيز، قال: احتل له يا أمير المؤمنين. قال علي: أراد عبد الملك بيعة الوليد قبل أمر ابن الأشعث، لأن الحجاج بعث في ذلك عمران بن عصام، فلما أبى عبد العزيز أعرض عبد الملك عما أراد حتى مات عبد العزيز، ولما أراد أن يخلع أخاه عبد العزيز ويبايع لابنه الوليد كتب إلى أخيه: إن رأيت أن تصير هذا الأمر لابن أخيك! فأبى، فكتب إليه: فاجعلها له من بعدك، فإنه أعز الخلق على أمير المؤمنين فكتب إليه عبد العزيز: إني أرى في أبي بكر بن عبد العزيز ما ترى في الوليد، فقال عبد الملك: اللهم إن عبد العزيز قطعني فاقطعه فكتب إليه عبد الملك: احمل خراج مصر فكتب إليه عبد العزيز: يا أمير المؤمنين، إني وإياك قد بلغنا سنا لم يبلغها أحد من أهل بيتك إلا كان بقاؤه قليلا، وإني لا ادرى ولا تدرى أينا يأتيه الموت أولا! فإن رأيت إلا تغثث علي بقية عمري فافعل. فرق له عبد الملك وقال: لعمري لا أغثث عليه بقية عمره، قال لابنيه: إن يرد الله أن يعطيكموها لا يقدر أحد من العباد على رد ذلك. وقال لابنيه: الوليد وسُلَيْمَان: هل قارفتما حراما قط؟ قالا: لا والله، قال: الله أكبر، نلتماها ورب الكعبة! قال: فلما أبى عبد العزيز أن يجيب عبد الملك إلى ما أراد، قال عبد الملك: اللهم قد قطعني فاقطعه، فلما مات عبد العزيز قال أهل الشام: رد على أمير المؤمنين أمره، فدعا عليه، فاستجيب له. قال: وكتب الحجاج إلى عبد الملك يشير عليه أن يستكتب مُحَمَّد بن يزيد الأنصاري، وكتب إليه: إن أردت رجلا مأمونا فاضلا عاقلا وديعا مسلما

كتوما تتخذه لنفسك، وتضع عنده سرك، وما لا تحب أن يظهر، فاتخذ مُحَمَّد بن يزيد فكتب إليه عبد الملك: احمله إلي فحمله، فاتخذه عبد الملك كاتبا قال مُحَمَّد: فلم يكن يأتيه كتاب إلا دفعه إلي، ولا يستر شيئا إلا أخبرني به وكتمه الناس، ولا يكتب إلى عامل من عماله إلا أعلمنيه، فإني لجالس يوما نصف النهار إذا ببريد قد قدم من مصر، فقال: الإذن على أمير المؤمنين قلت: ليست هذه ساعة اذن، فأعلمني ما قد قدمت له، قال: لا قلت: فإن كان معك كتاب فادفعه إلي قال: لا، قال: فأبلغ بعض من حضرني أمير المؤمنين، فخرج فقال: ما هذا؟ قلت: رسول قدم من مصر، قال: فخذ الكتاب، قلت: زعم أنه ليس معه كتاب، قال: فسله عما قدم له، قلت: قد سألته فلم يخبرني، قال أدخله، فأدخلته، فقال: أجرك الله يا أمير المؤمنين في عبد العزيز! فاسترجع وبكى ووجم ساعة ثم قال: يرحم الله عبد العزيز! مضى والله عبد العزيز لشأنه، وتركنا وما نحن فيه، ثم بكى النساء وأهل الدار، ثم دعاني من غد، فقال: إن عبد العزيز رحمه الله قد مضى لسبيله، ولا بد للناس من علم وقائم يقوم بالأمر من بعدي، فمن ترى؟ قلت: يا أمير المؤمنين، سيد الناس وأرضاهم وأفضلهم الوليد بن عبد الملك، قال: صدقت وفقك الله! فمن ترى أن يكون بعده؟ قلت: يا أمير المؤمنين، أين تعدلها عن سُلَيْمَان فتى العرب! قال: وفقت، أما إنا لو تركنا الوليد وإياها لجعلها لبنيه، اكتب عهدا للوليد وسُلَيْمَان من بعده، فكتبت بيعة الوليد ثم سُلَيْمَان من بعده فغضب علي الوليد فلم يولني شيئا حين أشرت بسُلَيْمَان من بعده. قال علي، عن ابن جعدبة: كتب عبد الملك إلى هشام بن إسماعيل المخزومي أن يدعو الناس لبيعة الوليد وسُلَيْمَان، فبايعوا غير سعيد بن المسيب، فإنه أبى، وقال: لا أبايع وعبد الملك حتى، فضربه هشام ضربا

بيعه عبد الملك لابنيه: الوليد ثم سليمان

مبرحا وألبسه المسوح، وسرحه إلى ذباب- ثنية بالمدينة كانوا يقتلون عندها ويصلبون فظن أنهم يريدون قتله، فلما انتهوا به إلى ذلك الموضع ردوه، فقال: لو ظننت أنهم لا يصلبوني ما لبست سراويل مسوح، ولكن قلت: يصلبونني فيسترني وبلغ عبد الملك الخبر، فقال: قبح الله هشاما! إنما كان ينبغي أن يدعوه إلى البيعة، فإن أبى يضرب عنقه، او يكف عنه . بيعه عبد الملك لابنيه: الوليد ثم سليمان وفي هذه السنة بايع عبد الملك لابنيه: الوليد، ثم من بعده لسُلَيْمَان، وجعلهما وليي عهد المسلمين، وكتب ببيعته لهما إلى البلدان، فبايع الناس، وامتنع من ذلك سعيد بن المسيب، فضربه هشام بن إسماعيل- وهو عامل عبد الملك على المدينة- وطاف به وحبسه، فكتب عبد الملك إلى هشام يلومه على ما فعل من ذلك، وكان ضربه ستين سوطا، وطاف به في تبان شعر حتى بلغ به رأس الثنية. وأما الحارث فإنه قَالَ: حَدَّثَنِي ابن سعد، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عمر الواقدي، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر وغيره من أصحابنا قالوا: استعمل عبد الله ابن الزبير جابر بن الأسود بن عوف الزهري على المدينة، فدعا الناس إلى البيعة لابن الزبير، فقال سعيد بن المسيب: لا، حتى يجتمع الناس، فضربه ستين سوطا، فبلغ ذلك ابن الزبير، فكتب إلى جابر يلومه، وقال: ما لنا ولسعيد، دعه! وحدثني الحارث، عن ابن سعد، أن مُحَمَّد بن عمر أخبره، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر وغيره من أصحابنا أن عبد العزيز بن مروان توفي بمصر في جمادى سنة أربع وثمانين، فعقد عبد الملك لابنيه الوليد وسُلَيْمَان العهد، وكتب بالبيعة لهما إلى البلدان، وعامله يومئذ هشام بن إسماعيل المخزومي،

أخبار متفرقة

فدعا الناس إلى البيعة، فبايع الناس، ودعا سعيد بن المسيب أن يبايع لهما، فأبى وقال: لا حتى أنظر، فضربه هشام بن إسماعيل ستين سوطا، وطاف به في تبان شعر حتى بلغ به رأس الثنية، فلما كروا به قال: أين تكرون بي؟ قالوا: إلى السجن، قال: والله لولا أني، ظننت أنه الصلب لما لبست هذا التبان أبدا فرده إلى السجن، وحبسه وكتب إلى عبد الملك يخبره بخلافه، وما كان من أمره، فكتب إليه عبد الملك يلومه فيما صنع ويقول: سعيد والله كان أحوج أن تصل رحمه من أن تضربه، وإنا لنعلم ما عنده من شقاق ولا خلاف. [أخبار متفرقة] وحج بالناس في هذه السنة هشام بن إسماعيل المخزومي، كذلك حدثنا أحمد بْن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر. وكذلك قَالَ الواقدي. وكان العامل على المشرق في هذه السنة مع العراق الحجاج بن يوسف

سنه ست وثمانين

ثم دخلت سنة ست وثمانين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) خبر وفاه عبد الملك بن مروان فمما كان فيها من ذلك هلاك عبد الملك بن مروان، وكان مهلكه في النصف من شوال منها حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، قال: توفي عبد الملك بن مروان يوم الخميس للنصف من شوال سنة ست وثمانين، فكانت خلافته ثلاث عشرة سنة وخمسة أشهر. وأما الحارث فإنه حدثني عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، قال: حَدَّثَنِي شُرَحْبِيل بن أَبِي عَوْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، قال: أجمع الناس على عبد الملك بن مروان سنة ثلاث وسبعين. قال ابن عمر: وحدثني أبو معشر نجيح، قال: مات عبد الملك بن مروان بدمشق يوم الخميس للنصف من شوال سنة ست وثمانين، فكانت ولايته منذ يوم بويع إلى يوم توفي إحدى وعشرين سنة وشهرا ونصفا، كان تسع سنين منها يقاتل فيها عبد الله بن الزبير، ويسلم عليه بالخلافة بالشام، ثم بالعراق بعد مقتل مصعب، وبقي بعد مقتل عبد الله بن الزبير واجتماع الناس عليه ثلاث عشرة سنة وأربعة أشهر إلا سبع ليال. وأما علي بن مُحَمَّد المدائني، فإنه- فيما حدثنا أبو زيد عنه- قال: مات عبد الملك سنة ست وثمانين بدمشق، وكانت ولايته ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر وخمسة عشر يوما.

ذكر الخبر عن مبلغ سنه يوم توفى

ذكر الخبر عن مبلغ سنه يوم توفي اختلف اهل السير في ذلك، فقأن أبو معشر فيه- ما حدثني الحارث عن ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أبو معشر نجيح. قال: مات عبد الملك بن مروان وله ستون سنة. قال الواقدي: وقد روي لنا أنه مات وهو ابن ثمان وخمسين سنة. قال: والأول أثبت وهو على مولده، قال: وولد سنة ست وعشرين في خلافه عثمان ابن عفان رضي الله عنه، وشهد يوم الدار مع أبيه وهو ابن عشر سنين. وقال المدائني علي بن مُحَمَّد- فيما ذكر، أبو زيد عنه: مات عبد الملك وهو ابن ثلاث وستين سنة . ذكر نسبه وكنيته أما نسبه، فإنه عبد الملك بن مروان بن الحكم بن ابى العاص بن اميه ابن عبد شمس بن عبد مناف وأما كنيته فأبو الوليد وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية، وله يقول ابن قيس الرقيات: أنت ابن عائشة التي ... فضلت أروم نسائها لم تلتفت للداتها ... ومضت على غلوائها ذكر أولاده وأزواجه منهم الوليد، وسليمان، ومروان الاكبر- درج- وعائشة، أمهم ولادة بنت العباس بن جزء بن الحارث بن زهير بن جذيمة بن رواحة بن

ربيعة بن مازن بن الحارث بن قطيعة بن عبس بن بغيض. ويزيد، ومروان، ومعاوية- درج- وأم كلثوم، وأمهم عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان. وهشام، وأمه أم هشام بنت هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي وقال المدائني: اسمها عائشة بنت هشام. وأبو بكر، واسمه بكار، أمه عائشة بنت موسى بن طلحة بن عبيد الله، والحكم- درج- أمه أم أيوب بنت عمرو بن عثمان بن عفان. وفاطمة بنت عبد الملك، أمها أم المغيرة بنت المغيرة. بن خالد بن العاص ابن هشام بن المغيرة وعبد الله ومسلمة والمنذر وعنبسة ومُحَمَّد وسعيد الخير والحجاج، لأمهات أولاد. قال المدائني: وكان له من النساء- سوى من ذكرنا- شقراء بنت سلمه ابن حلبس الطائي، وابنة لعلي بن أبي طالب ع، وأم أبيها بنت عبد الله بن جعفر. وذكر المدائني، عن عوانة وغيره أن سلمة بن زيد بن وهب بن نباتة الفهمي دخل على عبد الملك فقال له: أي الزمان أدركت أفضل؟ وأي الملوك أكمل؟ قال: أما الملوك فلم أر إلا ذاما وحامدا، وأما الزمان فيرفع أقواما ويضع أقواما، وكلهم يذم زمانه لأنه يبلي جديدهم، ويهرم صغيرهم، وكل ما فيه منقطع غير الأمل، قال: فأخبرني عن فهم، قال: هم كما قال من قال: درج الليل النهار على فهم ... بن عمرو فأصبحوا كالرميم وخلت دارهم فأضحت يبابا ... بعد عز وثروة ونعيم كذاك الزمان يذهب بالناس ... وتبقى ديارهم كالرسوم

قال: فمن يقول منكم: رأيت الناس مذ خلقوا وكانوا ... يحبون الغني من الرجال وإن كان الغني قليل خير ... بخيلا بالقليل من النوال فما أدري علام وفيم هذا ... وماذا يرتجون من البخال! أللدنيا؟ فليس هناك دنيا ... ولا يرجى لحادثة الليالي قال: أنا. قال علي: قال أبو قطيفة عمرو بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط لعبد الملك بن مروان: نبئت أن ابن القلمس عابني ... ومن ذا من الناس الصحيح المسلم فأبصر سبل الرشد سيد قومه ... وقد يبصر الرشد الرئيس المعمم فمن أنتمُ؟ ها خبرونا منَ انتمُ؟ ... وقد جعلت أشياء تبدو وتكتم فقال عبد الملك: ما كنت أرى أن مثلنا يقال له: من أنتم! أما والله لولا ما تعلم لقلت قولا ألحقكم بأصلكم الخبيث، ولضربتك حتى تموت. وقال عبد الله بن الحجاج الثعلبي لعبد الملك: يا بن أبي العاص ويا خير فتى ... أنت سداد الدين إن دين وهى أنت الذي لا يجعل الأمر سدى ... جيبت قريش عنكم جوب الرحى إن أبا العاصي وفي ذاك اعتصى ... أوصى بنيه فوعوا عنه الوصى إن يسعروا الحرب ويأبوا ما أبى ... الطاعنين في النحور والكلى شزرا ووصلا للسيوف بالخطا ... إلى القتال فحووا ما قد حوى

وقال أعشى بني شيبان: عرفت قريش كلها ... لبني أبي العاص الإماره لأبرها وأحقها ... عند المشورة بالإشاره المانعين لما ولوا ... والنافعين ذوي الضراره وهمُ أحقهمُ بها ... عند الحلاوة والمراره وقال عبد الملك: ما أعلم مكان أحد أقوى على هذا الأمر مني، وإن ابن الزبير لطويل الصلاة، كثير الصيام، ولكن لبخله لا يصلح أن يكون سائسا.

خلافه الوليد بن عبد الملك

خلافة الوليد بن عبد الملك وفي هذه السنة بويع للوليد بن عبد الملك بالخلافة، فذكر أنه لما دفن أباه وانصرف عن قبره، دخل المسجد فصعد المنبر، واجتمع إليه الناس، فخطب فقال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! والله المستعان على مصيبتنا بموت أمير المؤمنين، والحمد لله على ما أنعم به علينا من الخلافة قوموا فبايعوا. فكان أول من قام لبيعته عبد الله بن همام السلولي، فإنه قام وهو يقول: الله أعطاك التي لا فوقها ... وقد أراد الملحدون عوقها عنك ويأبى الله إلا سوقها ... إليك حتى قلدوك طوقها فبايعه، ثم تتابع الناس على البيعة وأما الواقدي فإنه ذكر أن الوليد لما رجع من دفن أبيه، ودفن خارج باب الجابية، لم يدخل منزله حتى صعد على منبر دمشق، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثم قال: أيها الناس، إنه لا مقدم لما أخر الله، ولا مؤخر لما قدم الله، وقد كان من قضاء الله وسابق علمه وما كتب على أنبيائه وحملة عرشه الموت وقد صار إلى منازل الأبرار ولى هذه الامه الذى يحق عليه لله من الشدة على المريب، واللين لأهل الحق والفضل، وإقامة ما أقام الله من منار الإسلام وأعلامه، من حج هذا البيت، وغزو هذه الثغور، وشن هذه الغارة على أعداء الله، فلم يكن عاجزا ولا مفرطا أيها الناس، عليكم بالطاعة، ولزوم الجماعة، فإن الشيطان مع الفرد أيها الناس، من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه، ومن سكت مات بدائه. ثم نزل، فنظر إلى ما كان من دواب الخلافه فحازه، وكان جبارا عنيدا

ولايه قتيبة بن مسلم على خراسان من قبل الحجاج

ولايه قتيبة بن مسلم على خراسان من قبل الحجاج وفي هذه السنة قدم قتيبة بن مسلم خراسان واليا عليها من قبل الحجاج، فذكر علي بن مُحَمَّد أن كليب بن خلف، اخبره عن طفيل ابن مرداس العمي والحسن بن رشيد، عن سُلَيْمَان بن كثير العمي، قال: أخبرني عمي قال: رأيت قتيبة بن مسلم حين قدم خراسان في سنة ست وثمانين، فقدم والمفضل يعرض الجند، وهو يريد أن يغزو أخرون وشومان، فخطب الناس قتيبة، وحثهم على الجهاد، وقال: إن الله أحلكم هذا المحل ليعز دينه، ويذب بكم عن الحرمات، ويزيد بكم المال استفاضه، والعدو وقما، ووعد نبيه ص النصر بحديث صادق، وكتاب ناطق، فَقَالَ: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. *» ووعد المجاهدين في سبيله أحسن الثواب، وأعظم الذخر عنده فقال: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، إلى قوله: «أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ» ثم أخبر عمن قتل في سبيله أنه حي مرزوق، فقال: «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» فتنجزوا موعود ربكم ووطنوا أنفسكم على أقصى اثر وامضى الم، وإياي والهوينى . ذكر ما كان من أمر قتيبة بخراسان في هذه السنة ثم عرض قتيبة الجند في السلاح والكراع، وسار واستخلف بمرو على حربها إياس بن عبد الله بن عمرو، وعلى الخراج عثمان بن السعدي، فلما كان بالطالقان تلقاه دهاقين بلخ وبعض عظمائهم فساروا معه، فلما قطع النهر تلقاه تيش الأعور ملك الصغانيان بهدايا ومفتاح من

ذهب، فدعاه إلى بلاده، فأتاه وأتى ملك كفتان بهدايا وأموال، ودعاه إلى بلاده، فمضى مع بيش إلى الصغانيان، فسلم إليه بلاده، وكان ملك أخرون وشومان قد أساء جوار تيش وغزاه وضيق عليه، فسار قتيبة إلى أخرون وشومان- وهما من طخارستان، فجاءه غشتاسبان فصالحه على فدية أداها إليه، فقبلها قتيبة ورضي، ثم انصرف إلى مرو، واستخلف على الجند أخاه صالح بن مسلم، وتقدم جنده فسبقهم إلى مرو، وفتح صالح بعد رجوع قتيبة باسارا، وكان معه نصر بن سيار فأبلى يومئذ، فوهب له قرية تدعى تنجانة، ثم قدم صالح على قتيبة فاستعمله على الترمذ. قال: وأما الباهليون فيقولون: قدم قتيبة خراسان سنة خمس وثمانين فعرض الجند، فكان جميع ما احصوا من الدروع في جند خراسان ثلاثمائه وخمسين درعا، فغزا أخرون وشومان، ثم قفل فركب السفن فانحدر إلى آمل، وخلف الجند، فأخذوا طريق بلخ إلى مرو، وبلغ الحجاج، فكتب إليه يلومه ويعجز رأيه في تخليفه الجند، وكتب إليه: إذا غزوت فكن في مقدم الناس، وإذا قفلت فكن في أخرياتهم وساقتهم. وقد قيل: إن قتيبة أقام قبل أن يقطع النهر في هذه السنة على بلخ، لأن بعضها كان منتقضا عليه، وقد ناصب المسلمين، فحارب أهلها، فكان ممن سبى امرأة برمك، أبي خالد بن برمك- وكان برمك على النوبهار- فصارت لعبد الله بن مسلم الذي يقال له الفقير، أخي قتيبة بن مسلم، فوقع عليها، وكان به شيء من الجذام ثم إن أهل بلخ صالحوا من غد اليوم الذي حاربهم قتيبة فأمر قتيبة يرد السبي، فقالت امرأة برمك لعبد الله بن مسلم: يا تازي، إني قد علقت منك وحضرت عبد الله بن مسلم الوفاة، فأوصى أن يلحق به ما في بطنها، وردت إلى برمك، فذكر أن ولد عبد الله بن مسلم جاءوا أيام المهدي حين قدم الري إلى خالد، فادعوه، فقال لهم مسلم بن قتيبة: إنه لا بد لكم إن

أخبار متفرقة

استلحقتموه ففعل من أن تزوجوه، فتركوه وأعرضوا عن دعواهم. وكان برمك طبيبا، فداوى بعد ذلك مسلمه من عله كانت به. [أخبار متفرقة] وفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم. وفيها حبس الحجاج بن يوسف يزيد بن المهلب، وعزل حبيب بن المهلب عن كرمان، وعبد الملك بن المهلب عن شرطته. وحج بالناس في هذه السنة هشام بن إسماعيل المخزومي، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قَالَ الواقدي. وكان الأمير على العراق كله والمشرق كله الحجاج بن يوسف وعلى الصلاة بالكوفة المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل وعلى الحرب بها من قبل الحجاج زياد بن جرير بن عبد الله وعلى البصرة أيوب بن الحكم وعلى خراسان قتيبة بن مسلم

سنه سبع وثمانين

ثم دخلت سنة سبع وثمانين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففي هذه السنة عزل الوليد بن عبد الملك هشام بن إسماعيل عن المدينة، وورد عزله عنها- فيما ذكر- ليلة الأحد لسبع ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة سبع وثمانين وكانت إمرته عليها أربع سنين غير شهر او نحوه. خبر اماره عمر بن عبد العزيز على المدينة وفي هذه السنة ولى الوليد عمر بن عبد العزيز المدينة قال الواقدي: قدمها واليا في شهر ربيع الأول، وهو ابن خمس وعشرين سنة، وولد سنة اثنتين وستين. قال: وقدم على ثلاثين بعيرا، فنزل دار مروان قال: فحدثني عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عُمَرُ بْنُ عبد العزيز المدينة ونزل دار مروان دخل عليه الناس فسلموا، فلما صلى الظهر دعا عشرة من فقهاء المدينة: عروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبا بكر بن عبد الرحمن، وأبا بكر بن سُلَيْمَان بن ابى حثمه، وسليمان بن يسار، وو القاسم بْن محمد، وسالم بْن عَبْد اللَّهِ بن عُمَرَ، وعبد اللَّه بن عبد الله ابن عمرو، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد، فدخلوا عليه فجلسوا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثم قال: إني إنما دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعوانا على الحق، ما أريد أن أقطع أمرا إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحدا

خبر صلح قتيبة ونيزك

يتعدى، أو بلغكم عن عامل لي ظلامة، فأحرج الله على من بلغه ذلك إلا بلغني. فخرجوا يجزونه خيرا، وافترقوا. قال: وكتب الوليد إلى عمر يأمره أن يقف هشام بن إسماعيل للناس، وكان فيه سيئ الرأي. قال الواقدي: فحدثني داود بن جبير، قال: أخبرتني أم ولد سعيد بن المسيب أن سعيدا دعا ابنه ومواليه فقال: إن هذا الرجل يوقف للناس- أو قد وقف- فلا يتعرض له أحد ولا يؤذه بكلمة، فإنا سنترك ذلك لله وللرحم، فإن كان ما علمت لسيئ النظر لنفسه، فأما كلامه فلا أكلمه أبدا. قال: وحدثني مُحَمَّد بْن عبد الله بْن مُحَمَّد بْن عمر، عن أبيه، قال: كان هشام بن إسماعيل يسيء جوارنا ويؤذينا، ولقي منه علي بن الحسين أذى شديدا، فلما عزل أمر به الوليد أن يوقف للناس، فقال: ما أخاف إلا من على بن الحسن فمر به علي وقد وقف عند دار مروان، وكان علي قد تقدم إلى خاصته الا يعرض له أحد منهم بكلمة، فلما مر ناداه هشام بن إسماعيل: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته. . خبر صلح قتيبة ونيزك وفي هذه السنة قدم نيزك على قتيبة، وصالح قتيبة اهل باذغيس على الا يدخلها قتيبة. ذكر الخبر عن ذَلِكَ: ذكر عَلِيّ بن مُحَمَّد أن أبا الحسن الجشمي أخبره عن أشياخ من أهل خراسان، وجبلة بن فروخ عن مُحَمَّد بن المثنى، أن نيزك طرخان كان في يديه أسراء من المسلمين، وكتب إليه قتيبة حين صالح ملك شومان فيمن في يديه من أسرى المسلمين أن يطلقهم، ويهدده في كتابه،

خبر غزو مسلمه بن عبد الملك ارض الروم

فخافه نيزك، فأطلق الأسرى، وبعث بهم إلى قتيبة، فوجه إليه قتيبة سليما الناصح مولى عبيد الله بن أبي بكرة يدعوه إلى الصلح وإلى أن يؤمنه، وكتب إليه كتابا يحلف فيه بالله: لئن لم يقدم عليه ليغزونه، ثم ليطلبنه حيث كان، لا يقلع عنه حتى يظفر به أو يموت قبل ذلك فقدم سليم على نيزك بكتاب قتيبة- وكان يستنصحه- فقال له: يا سليم، ما أظن عند صاحبك خيرا، كتب إلي كتابا لا يكتب إلى مثلي! قال له سليم: يا أبا الهياج، إن هذا رجل شديد في سلطانه، سهل إذا سوهل، صعب إذا عوسر، فلا يمنعك منه غلظة كتابه إليك، فما أحسن حالك عنده وعند جميع مضر! فقدم نيزك مع سليم على قتيبة، فصالحه أهل باذغيس في سنة سبع وثمانين على الا يدخل باذغيس. خبر غزو مسلمه بن عبد الملك ارض الروم وفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم، ومعه يزيد بن جبير، فلقي الروم في عدد كثير بسوسنة من ناحية المصيصة. قال الواقدي: فيها لاقى مسلمة ميمونا الجرجمانى ومع مسلمة نحو من ألف مقاتل من أهل أنطاكية عند طوانة، فقتل منهم بشرا كثيرا، وفتح الله على يديه حصونا. وقيل: إن الذي غزا الروم في هذه السنة هشام بن عبد الملك، ففتح الله على يديه حصن بولق وحصن الأخرم وحصن بولس وقمقم، وقتل من المستعربة نحوا من ألف مقاتل، وسبى ذراريهم ونساءهم . خبر غزو قتيبة بيكند وفي هذه السنة غزا قتيبة بيكند. ذكر الخبر عن غزوته هذه:

ذكر علي بن محمد أن أبا الذيال أخبره عن المهلب بن إياس، عن أبيه، عن حسين بن مجاهد الرازي وهارون بن عيسى، عن يونس ابن أبي إسحاق وغيرهم، أن قتيبة لما صالح نيزك أقام إلى وقت الغزو، ثم غزا في تلك السنة- سنة سبع وثمانين- بيكند، فسار من مرو واتى مرو الروذ، ثم أتى آمل! ثم مضى إلى زم فقطع النهر، وسار إلى بيكند- وهي أدنى مدائن بخارى إلى النهر، يقال لها مدينة التجار على رأس المفازة من بخارى- فلما نزل بعقوتهم استنصروا الصغد، واستمدوا من حولهم، فأتوهم في جمع كثير، وأخذوا بالطريق، فلم ينفذ لقتيبة رسول، ولم يصل إليه رسول، ولم يجر له خبر شهرين، وأبطأ خبره على الحجاج، فأشفق الحجاج على الجند، فأمر الناس بالدعاء لهم في المساجد، وكتب بذلك إلى الأمصار وهم يقتتلون في كل يوم. قال: وكان لقتيبة عين يقال له تنذر من العجم، فأعطاه أهل بخارى الأعلى مالا على أن يفثأ عنهم قتيبة، فأتاه، فقال: أخلني، فنهض الناس واحتبس قتيبة ضرار بن حصين الضبي، فقال تنذر: هذا عامل يقدم عليك، وقد عزل الحجاج، فلو انصرفت بالناس إلى مرو! فدعا قتيبة سياه مولاه، فقال: اضرب عنق تنذر، فقتله، ثم قال لضرار: لم يبق أحد يعلم هذا الخبر غيري وغيرك، وإني أعطي الله عهدا إن ظهر هذا الحديث من أحد حتى تنقضي حربنا هذه لألحقنك به، فاملك لسانك، فإن انتشار هذا الحديث يفت في أعضاد الناس. ثم أذن للناس. قال: فدخلوا، فراعهم قتل تنذر، فوجموا وأطرقوا، فقال قتيبة: ما يروعكم من قتل عبد أحانه الله! قالوا: إنا كنا نظنه ناصحا للمسلمين، قال: بل كان غاشا فأحانه الله بذنبه، فقد مضى لسبيله، فاغدوا على

قتال عدوكم، والقوهم بغير ما كنتم تلقونهم به فغدا الناس متأهبين، وأخذوا مصافهم، ومشى قتيبة فحض أهل الرايات، فكانت بين الناس مشاولة، ثم تزاحفوا والتقوا، وأخذت السيوف مأخذها، وأنزل الله على المسلمين الصبر، فقاتلوهم حتى زالت الشمس، ثم منح الله المسلمين أكتافهم، فانهزموا يريدون المدينة، وأتبعهم المسلمون فشغلوهم عن الدخول فتفرقوا، وركبهم المسلمون قتلا وأسرا كيف شاءوا، واعتصم من دخل المدينة بالمدينة، وهم قليل، فوضع قتيبة الفعلة في أصلها ليهدمها، فسألوه الصلح فصالحهم، واستعمل عليهم رجلا من بني قتيبة. وارتحل عنهم يريد الرجوع، فلما سار مرحلة أو ثنتين، وكان منهم على خمسة فراسخ نقضوا وكفروا، فقتلوا العامل وأصحابه، وجدعوا آنُفَهم وآذانهم، وبلغ قتيبة فرجع إليهم، وقد تحصنوا، فقاتلهم شهرا، ثم وضع الفعلة في أصل المدينة فعلقوها بالخشب، وهو يريد إذا فرغ من تعليقها أن يحرق الخشب فتنهدم، فسقط الحائط وهم يعلقونه، فقتل أربعين من الفعلة، فطلبوا الصلح، فأبى وقاتلهم، فظفر بهم عنوة، فقتل من كان فيها من المقاتلة، وكان فيمن أخذوا في المدينة رجل أعور كان هو الذي استجاش الترك على المسلمين، فقال لقتيبة: أنا أفدي نفسي، فقال له سليم الناصح: ما تبذل؟ قال: خمسة آلاف حريرة صينية قيمتها ألف ألف، فقال قتيبة: ما ترون؟ قالوا: نرى ان فداءه زيادة في غنائم المسلمين، وما عسى أن يبلغ من كيد هذا! قال: لا والله لا تروع بك مسلمة أبدا، وأمر به فقتل. قال علي: قال أبو الذيال، عن المهلب بن اياس، عن ابيه، والحسن ابن رشيد، عن طفيل بن مرداس، إن قتيبة لما فتح بيكند أصابوا فيها من آنية الذهب والفضة ما لا يحصى، فولى الغنائم والقسم عبد الله بن وألان العدوي أحد بني ملكان- وكان قتيبة يسميه الأمين ابن الأمين- وإياس بن

بيهس الباهلي، فأذابا الآنية والأصنام فرفعاه إلى قتيبة، ورفعا إليه خبث ما أذابا، فوهبه لهما، فأعطيا به أربعين ألفا، فأعلماه فرجع فيه وأمرهما أن يذيباه فأذاباه، فخرج منه خمسون ومائة ألف مثقال- أو خمسون ألف مثقال- وأصابوا في بيكند شيئا كثيرا، وصار في أيدي المسلمين من بيكند شيء لم يصيبوا مثله بخراسان ورجع قتيبة إلى مرو، وقوي المسلمون، فاشتروا السلاح والخيل، وجلبت إليهم الدواب، وتنافسوا في حسن الهيئة والعدة، وغالوا بالسلاح حتى بلغ الرمح سبعين، وقال الكميت: ويوم بيكند لا تحصى عجائبه ... وما بخاراء مما أخطأ العدد وكان في الخزائن سلاح وآلة من آلة الحرب كثيرة، فكتب قتيبة إلى الحجاج يستأذنه في دفع ذلك السلاح إلى الجند، فأذن له، فأخرجوا ما كان في الخزائن من عدة الحرب وآلة السفر، فقسمه في الناس، فاستعدوا، فلما كان أيام الربيع ندب الناس وقال: إني أغزيكم قبل أن تحتاجوا إلى حمل الزاد، وأنتقلكم قبل أن تحتاجوا إلى الأدفاء، فسار في عدة حسنة من الدواب والسلاح، فأتى آمل، ثم عبر من زم إلى بخارى، فأتى نومشكث- وهي من بخارى- فصالحوه. قال علي: حدثنا أبو الذيال، عن أشياخ من بني عدي، ان مسلما الباهلى قال لو الان: إن عندي مالا أحب أن أستودعكه، قال: أتريد أن يكون مكتوما أو لا تكره ان يعلمه الناس؟ قال: أحب أن تكتمه، قال: ابعث به مع رجل تثق به إلى موضع كذا وكذا، ومره إذا رأى رجلا في ذلك الموضع أن يضع ما معه وينصرف، قال: نعم، فجعل مسلم المال في خرج، ثم حمله على بغل وقال لمولى له: انطلق بهذا البغل إلى موضع كذا وكذا، فإذا رأيت رجلا جالسا فخل عن البغل وانصرف فانطلق الرجل بالبغل، وقد كان وألان أتى الموضع لميعاده،

فأبطأ عليه رسول مسلم، ومضى الوقت الذي وعده، فظن أنه قد بدا له، فانصرف، وجاء رجل من بني تغلب فجلس في ذلك الموضع، وجاء مولى مسلم فرأى الرجل جالسا، فخلى عن البغل ورجع، فقام التغلبي إلى البغل، فلما رأى المال ولم ير مع البغل أحدا قاد البغل إلى منزله، فأخذ البغل وأخذ المال، فظن مسلم أن المال قد صار إلى وألان، فلم يسأل عنه حتى احتاج إليه، فلقيه فقال: مالي! فقال: ما قبضت شيئا، ولا لك عندي مال. قال: فكان مسلم يشكوه ويتنقصه قال: فأتى يوما مجلس بني ضبيعة فشكاه والتغلبي جالس، فقام إليه فخلا به وسأله عن المال، فأخبره، فانطلق به إلى منزله، وأخرج الخرج فقال: أتعرفه؟ قال: نعم، قال: والخاتم؟ قال: نعم، قال: اقبض مالك، وأخبره الخبر، فكان مسلم يأتي الناس والقبائل التي كان يشكو إليهم وألان فيعذره ويخبرهم الخبر، وفي والان يقول الشاعر: لست كوألان الذي ساد بالتقى ... ولست كعمران ولا كالمهلب وعمران: ابن الفصيل البرجمي. وحج بالناس في هذه السنة- فيما حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر- عمر بن عبد العزيز، وهو أمير على المدينة. وكان على قضاء المدينة في هذه السنة أبو بكر بن عمرو بن حزم من قبل عمر بن عبد العزيز. وكان على العراق والمشرق كله الحجاج بن يوسف، وخليفته على البصرة في هذه السنة- فيما قيل- الجراح بن عبد الله الحكمي وعلى قضائها عبد الله ابن أذينة، وعامله على الحرب بالكوفة زياد بن جرير بن عبد الله، وعلى قضائها أبو بكر بن أبي موسى الأشعري، وعلى خراسان قتيبة بن مسلم

سنه ثمان وثمانين

ثم دخلت سنة ثمان وثمانين (ذكر ما كان فيها من الاحداث) خبر فتح حصن طوانه من بلاد الروم فمن ذلك ما كان من فتح الله على المسلمين حصنا من حصون الروم يدعى طوانة في جمادى الآخرة، وشتوا بها، وكان على الجيش مسلمة بن عبد الملك، والعباس بن الوليد بن عبد الملك. فذكر مُحَمَّد بن عمر الواقدي أن ثور بن يزيد حدثه عن أصحابه قال: كان فتح طوانة على يدي مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد، وهزم المسلمون العدو يومئذ هزيمة صاروا إلى كنيستهم، ثم رجعوا فانهزم الناس حتى ظنوا ألا يجتبروها أبدا، وبقي العباس معه نفير، منهم ابن محيريز الجمحي، فقال العباس لابن محيريز: أين أهل القرآن الذين يريدون الجنة؟ فقال ابن محيريز: نادهم يأتوك، فنادى العباس: يا أهل القرآن! فأقبلوا جميعا، فهزم الله العدو حتى دخلوا طوانة. وكان الوليد بن عبد الملك ضرب البعث على أهل المدينة في هذه السنة فذكر مُحَمَّد بن عمر، عن أبيه، أن مخرمة بن سليمان الوالبي قال: ضرب عليهم بعث ألفين وأنهم تجاعلوا فخرج الف وخمسمائة، وتخلف خمسمائة، فغزوا الصائفة مع مسلمة والعباس، وهما على الجيش وأنهم شتوا بطوانة وافتتحوها. وفيها ولد الوليد بن يزيد بن عبد الملك.

ذكر عماره مسجد النبي ص

ذكر عماره مسجد النبي ص وفيها أمر الوليد بن عبد الملك بهدم مسجد رسول الله ص وهدم بيوت ازواج رسول الله ص وإدخالها في المسجد، فذكر مُحَمَّد بن عمر، أن مُحَمَّد بن جعفر بن وردان البناء قال: رأيت الرسول الذي بعثه الوليد بن عبد الملك قدم في شهر ربيع الأول سنة ثمان وثمانين، قدم معتجرا، فقال الناس: ما قدم به الرسول! فدخل على عمر بن عبد العزيز بكتاب الوليد يأمره بإدخال حجر ازواج رسول الله ص في مسجد رسول الله، وأن يشتري ما في مؤخره ونواحيه حتى يكون مائتي ذراع في مائتي ذراع ويقول له: قدم القبلة إن قدرت، وأنت تقدر لمكان أخوالك، فإنهم لا يخالفونك، فمن أبى منهم فمر أهل المصر فليقوموا له قيمة عدل، ثم اهدم عليهم وادفع إليهم الأثمان، فإن لك في ذلك سلف صدق، عمر وعثمان فأقرأهم كتاب الوليد وهم عنده، فأجاب القوم إلى الثمن، فأعطاهم إياه، وأخذ في هدم بيوت أزواج النبي ص وبناء المسجد، فلم يمكث إلا يسيرا حتى قدم الفعلة، بعث بهم الوليد. قال مُحَمَّد بن عمر: وحدثني موسى بن يعقوب، عن عمه، قال: رأيت عمر بن عبد العزيز يهدم المسجد ومعه وجوه الناس: القاسم، وسالم، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وخارجة بن زيد، وعبد الله بن عبد الله بن عمر، يرونه أعلاما في المسجد ويقدرونه، فأسسوا أساسه. قال مُحَمَّد بن عمر: وحدثني يحيى بن النعمان الغفاري، عن صالح بن كيسان، قال: لما جاء كتاب الوليد من دمشق وسار خمس عشرة بهدم المسجد، تجرد عمر بن عبد العزيز قال صالح: فاستعملني على هدمه وبنائه، فهدمناه بعمال المدينة، فبدانا بهدم بيوت ازواج النبي ص حتى قدم علينا الفعلة الذين بعث بهم الوليد

ذكر غزو قتيبة نومشكث وراميثنه

قال مُحَمَّد: وحدثني موسى بن أبي بكر، عن صالح بن كيسان، قال: ابتدأنا بهدم مسجد رسول الله ص في صفر من سنة ثمان وثمانين، وبعث الوليد إلى صاحب الروم يعلمه أنه أمر بهدم مسجد رسول الله ص، وأن يعينه فيه، فبعث إليه بمائة ألف مثقال ذهب، وبعث إليه بمائة عامل، وبعث إليه من الفسيفساء بأربعين حملا، وأمر أن يتتبع الفسيفساء في المدائن التي خربت، فبعث بها إلى الوليد، فبعث بذلك الوليد إلى عمر بن عبد العزيز. وفي هذه السنة ابتدأ عمر بن عبد العزيز في بناء المسجد. وفيها غزا أيضا مسلمة الروم، ففتح على يديه حصون ثلاثة: حصن قسطنطينه، وغزالة، وحصن الأخرم وقتل من المستعربة نحو من ألف مع سبي الذرية وأخذ الأموال . ذكر غزو قتيبة نومشكث وراميثنه وفي هذه السنة غزا قتيبة نومشكث وراميثنة. ذكر الخبر عما كان من خبر غزوته هذه: ذكر علي بن مُحَمَّد، أن المفضل بن مُحَمَّد، أخبره عن أبيه ومصعب بن حيان، عن مولى لهم أدرك ذلك، أن قتيبة غزا نومشكث في سنة ثمان وثمانين، واستخلف على مرو بشار بن مسلم، فتلقاه أهلها، فصالحهم، ثم صار إلى راميثنة فصالحه أهلها، فانصرف عنهم وزحف إليه الترك، معهم السغد وأهل فرغانة، فاعترضوا المسلمين في طريقهم، فلحقوا عبد الرحمن ابن مسلم الباهلي وهو على الساقة، بينه وبين قتيبة وأوائل العسكر ميل، فلما قربوا منه أرسل رسولا إلى قتيبة بخبره، وغشيه الترك فقاتلوه، وأتى الرسول قتيبة فرجع بالناس، فانتهى إلى عبد الرحمن وهو يقاتلهم، وقد كاد

ذكر ما عمل الوليد من المعروف

الترك يستعملونهم، فلما رأى الناس قتيبة طابت أنفسهم فصبروا، وقاتلوهم إلى الظهر، وأبلى يومئذ نيزك وهو مع قتيبة، فهزم الله الترك، وفض جمعهم، ورجع قتيبة يريد مرو، وقطع النهر من الترمذ يريد بلخ، ثم أتى مرو وقال الباهليون: لقى الترك المسلمين عليهم كور مغانون التركي ابن أخت ملك الصين في مائتي الف، فأظهر الله المسلمين عليهم . ذكر ما عمل الوليد من المعروف وفي هذه السنة كتب الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز في تسهيل الثنايا وحفر الآبار في البلدان. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي ابن أبي سبرة، قال: حدثني صالح بن كيسان، قال: كتب الوليد إلى عمر في تسهيل الثنايا وحفر الآبار بالمدينة، وخرجت كتبه إلى البلدان بذلك، وكتب الوليد إلى خالد بن عبد الله بذلك قال: وحبس المجذمين عن أن يخرجوا على الناس، وأجرى عليهم أرزاقا، وكانت تجري عليهم. وقال ابن أبي سبرة، عن صالح بن كيسان، قال: كتب الوليد إلى عمر ابن عبد العزيز أن يعمل الفوارة التي عند دار يزيد بن عبد الملك اليوم، فعملها عمر وأجرى ماءها، فلما حج الوليد وقف عليها، فنظر إلى بيت الماء والفوارة، فأعجبته، وأمر لها بقوام يقومون عليها، وأن يسقى أهل المسجد منها، ففعل ذلك. وحج بالناس في هذه السنة عمر بن عبد العزيز في رواية مُحَمَّد بن عمر. ذكر أن مُحَمَّد بن عبد الله بن جبير- مولى لبني العباس- حدثه عن صالح بن كيسان، قال: خرج عمر بن عبد العزيز تلك السنة- يعني سنة ثمان وثمانين- بعدة من قريش، أرسل إليهم بصلات وظهر للحمولة، وأحرموا معه من ذي الحليفة، وساق معه بدنا، فلما كان بالتنعيم لقيهم نفر

من قريش، منهم ابن أبي مليكة وغيره، فأخبروه أن مكة قليلة الماء، وأنهم يخافون على الحاج العطش، وذلك أن المطر قل، فقال عمر: فالمطلب هاهنا بين، تعالوا ندع الله قال: فرأيتهم دعوا ودعا معهم، فألحوا في الدعاء قال صالح: فلا والله إن وصلنا إلى البيت ذلك اليوم إلا مع المطر حتى كان مع الليل، وسكبت السماء، وجاء سيل الوادي، فجاء أمر خافه أهل مكة، ومطرت عرفة ومنى وجمع، فما كانت إلا عبرا، قال: ونبتت مكة تلك السنة للخصب. وأما أبو معشر فإنه قال: حج بالناس سنة ثمان وثمانين عمر بن الوليد ابن عبد الملك، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إسحاق ابن عيسى عنه. وكانت العمال على الأمصار في هذه السنة العمال الذين ذكرنا أنهم كانوا عمالها في سنة سبع وثمانين.

سنه تسع وثمانين

ثم دخلت سنة تسع وثمانين (ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) خبر غزو مسلمه ارض الروم فمن ذلك افتتاح المسلمين في هذه السنة حصن سورية، وعلى الجيش مسلمة بن عبد الملك، زعم الواقدي أن مسلمة غزا في هذه السنة أرض الروم، ومعه العباس بن الوليد ودخلاها جميعا ثم تفرقا، فافتتح مسلمة حصن سوريه، وافتتح العباس اذروليه، ووافق من الروم جمعا فهزمهم. وأما غير الواقدي فإنه قال: قصد مسلمة عمورية فوافق بها للروم جمعا كثيرا، فهزمهم الله، وافتتح هرقلة وقمودية وغزا العباس الصائفة من ناحية البدندون. خبر غزو قتيبة بخارى وفي هذه السنة غزا قتيبة بخارى، ففتح راميثنة ذكر علي بن مُحَمَّد عن الباهليين أنهم قالوا ذلك، وأن قتيبة رجع بعد ما فتحها في طريق بلخ، فلما كان بالفارياب أتاه كتاب الحجاج: أن رد وردان خذاه. فرجع قتيبة سنة تسع وثمانين، فأتى زم، فقطع النهر، فلقيه السغد وأهل كس ونسف في طريق المفازة، فقاتلوه، فظفر بهم ومضى إلى بخارى، فنزل خرقانة السفلى عن يمين وردان، فلقوه بجمع كثير، فقاتلهم يومين وليلتين، ثم أعطاه الله الظفر عليهم، فقال نهار بن توسعة: وباتت لهم منا بخرقان ليلة ... وليلتنا كانت بخرقان أطولا قال علي: أخبرنا أبو الذيال، عن المهلب بن إياس وأبو العلاء، عن

خبر ولايه خالد القسرى على مكة

إدريس بن حنظلة، أن قتيبة غزا وردان حذاه ملك بخارى سنة تسع وثمانين فلم يطقه، ولم يظفر من البلد بشيء، فرجع إلى مرو، وكتب إلى الحجاج بذلك، فكتب إليه الحجاج: أن صورها لي، فبعث إليه بصورتها، فكتب إليه الحجاج: أن ارجع إلى مراغتك فتب إلى الله مما كان منك، وأتها من مكان كذا. وكذا وقيل: كتب إليه الحجاج ان كس بكس وانسف نسف ورد وردان، وإياك والتحويط، ودعني من بنيات الطريق. خبر ولايه خالد القسرى على مكة وفي هذه السنة ولي خالد بن عبد الله القسري مكة فيما زعم الواقدي، وذكر أن عمر بن صالح حدثه عن نافع مولى بني مخزوم، قال: سمعت خالد بن عبد الله يقول على منبر مكة وهو يخطب: أيها الناس، أيهما أعظم؟ أخليفة الرجل على أهله، أم رسوله إليهم؟ والله لو لم تعلموا فضل الخليفة، ألا أن إبراهيم خليل الرحمن استسقى فسقاه ملحا أجاجا، واستسقاه الخليفة فسقاه عذبا فراتا، بئرا حفرها الوليد بن عبد الملك بالثنيتين- ثنية طوى وثنية الحجون- فكان ينقل ماؤها فيوضع في حوض من أدم إلى جنب زمزم ليعرف فضله على زمزم. قال: ثم غارت البئر فذهبت فلا يدرى أين هي اليوم

وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك الترك حتى بلغ الباب من ناحية أذربيجان، ففتح حصونا ومدائن هنالك. وحج بالناس في هذه السنة عمر بن عبد العزيز، حدثني بذلك احمد ابن ثَابِت، عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن ابى معشر. وكال العمال في هذه السنة على الأمصار العمال في السنة التي قبلها، وقد ذكرناهم قبل.

سنه تسعين

ثم دخلت سنة تسعين (ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) ففي هذه السنة غزا مسلمة أرض الروم- فيما ذكر مُحَمَّد بن عمر- من ناحية سورية، ففتح الحصون الخمسة التي بسورية وغزا فيها العباس بن الوليد، قال بعضهم: حتى بلغ الأرزن، وقال بعضهم: حتى بلغ سورية وقال مُحَمَّد بن عمر: قول من قال: حتى بلغ سورية أصح. وفيها قتل مُحَمَّد بن القاسم الثقفى داهر بن صصة ملك السند، وهو على جيش من قبل الحجاج بن يوسف. وفيها استعمل الوليد قرة بن شريك على مصر موضع عبد الله بن عبد الملك. وفيها أسرت الروم خالد بن كيسان صاحب البحر، فذهبوا به إلى ملكهم، فأهداه ملك الروم إلى الوليد بن عبد الملك. خبر فتح بخارى وفيها فتح قتيبة بخارى، وهزم جموع العدو بها. ذكر الخبر عن ذَلِكَ: ذكر عَلِيّ بن مُحَمَّد أن أبا الذيال أخبره عن المهلب بن إياس، وأبو العلاء، عن إدريس بن حنظلة، أن كتاب الحجاج لما ورد على قتيبة يأمره بالتوبة مما كان، من انصرافه عن وردان خذاه ملك بخارى قبل الظفر به والمصير إليه، ويعرفه الموضع الذي ينبغي له أن يأتي بلده منه، خرج قتيبة إلى بخارى في سنة تسعين غازيا، فأرسل وردان خذاه إلى السغد والترك ومن حولهم

يستنصرونهم، فأتوهم وقد سبق إليها قتيبة فحصرهم، فلما جاءتهم أمدادهم خرجوا إليهم ليقاتلوهم، فقالت الأزد: اجعلونا على حدة، وخلوا بيننا وبين قتالهم فقال قتيبة: تقدموا، فتقدموا يقاتلونهم وقتيبة جالس، عليه رداء أصفر فوق سلاحه، فصبروا جميعا مليا، ثم جال المسلمون، وركبهم المشركون فحطموهم حتى دخلوا في عسكر قتيبة وجازوه حتى ضرب النساء وجوه الخيل وبكين، فكروا راجعين، وانطوت مجنبتا المسلمين على الترك، فقاتلوهم حتى ردوهم إلى مواقفهم، فوقف الترك على نشز، فقال قتيبة: من يزيلهم لنا عن هذا الموضع؟ فلم يقدم عليهم أحد، والأحياء كلها وقوف. فمشى قتيبة إلى بني تميم، فقال: يا بني تميم، إنكم أنتم بمنزلة الحطمية، فيوم كأيامكم، أبي لكم الفداء! قال: فأخذ وكيع اللواء بيده، وقال: يا بني تميم، أتسلمونني اليوم؟ قالوا: لا يا أبا مطرف- وهريم بن أبي طحمة المجاشعي على خيل بني تميم ووكيع رأسهم، والناس وقوف- فأحجموا جميعا، فقال وكيع: يا هريم، قدم، ودفع إليه الراية، وقال: قدم خيلك فتقدم هريم، ودب وكيع في الرجال، فانتهى هريم إلى نهر بينه وبين العدو فوقف، فقال له وكيع: اقحم يا هريم، قال: فنظر هريم إلى وكيع نظر الجمل الصئول وقال: أنا أقحم خيلي هذا النهر، فإن انكشفت كان هلاكها! والله انك لاحمق، قال: يا بن اللخناء، ألا أراك ترد أمري! وحذفه بعمود كان معه، فضرب هريم فرسه فأقحمه، وقال: ما بعد هذا أشد من هذا، وعبر هريم في الخيل، وانتهى وكيع إلى النهر، فدعا بخشب، فقنطر النهر وقال لأصحابه: من وطن منكم نفسه على الموت فليعبر، ومن لا فليثبت مكانه، فما عبر معه إلا ثمانمائه

راجل، فدب فيهم حتى إذا أعيوا أقعدهم فأراحوا حتى دنا من العدو، فجعل الخيل مجنبتين، وقال لهريم: إني مطاعن القوم، فاشغلهم عنا بالخيل، وقال للناس: شدوا، فحملوا فما انثنوا حتى خالطوهم، وحمل هريم خيله عليهم فطاعنوهم بالرماح، فما كفوا عنهم حتى حدروهم عن موقفهم، ونادى قتيبة: أما ترون العدو منهزمين! فما عبر أحد ذلك النهر حتى ولى العدو منهزمين، فأتبعهم الناس، ونادى قتيبة: من جاء برأس فله مائة. قال: فزعم موسى بن المتوكل القريعي، قال: جاء يومئذ أحد عشر رجلا من بني قريع، كل رجل يجيء برأس، فيقال له: من أنت؟ يقول: قريعي قال: فجاء رجل من الأزد برأس فألقاه، فقالوا له: من أنت؟ قال: قريعي، قال: وجهم بن زحر قاعد، فقال: كذب والله أصلحك الله! إنه لابن عمي، فقال له قتيبة: ويحك! ما دعاك إلى هذا؟ قال: رايت كل من جاء قريعي: فظننت أنه ينبغي لكل من جاء برأس أن يقول: قريعي قال: فضحك قتيبة. قال: وجرح يومئذ خاقان وابنه، ورجع قتيبة إلى مرو، وكتب إلى الحجاج: أني بعثت عبد الرحمن بن مسلم، ففتح الله على يديه. قال: وقد كان شهد الفتح مولى للحجاج، فقدم فأخبره الخبر، فغضب الحجاج على قتيبة، فاغتم لذلك، فقال له الناس ابعث وفدا من بني تميم وأعطهم وأرضهم يخبروا الأمير أن الأمر على ما كتبت، فبعث رجالا فيهم عرام بن شتير الضبي، فلما قدموا على الحجاج صاح بهم وعاتبهم ودعا بالحجام بيده مقراض فقال: لأقطعن ألسنتكم أو لتصدقنني، قالوا: الأمير قتيبة، وبعث عليهم عبد الرحمن، فالفتح للأمير والرأس الذي يكون على الناس، وكلمه بهذا عرام بن شتير، فسكن الحجاج

خبر صلح قتيبة مع السغد

خبر صلح قتيبة مع السغد وفي هذه السنة جدد قتيبة الصلح بينه وبين طرخون ملك السغد. ذكر الخبر عن ذلك: قال علي: ذكر أبو السري عن الجهم الباهلي، قال: لما أوقع قتيبة بأهل بخارى ففض جمعهم هابه أهل السغد، فرجع طرخون ملك السغد ومعه فارسان حتى وقف قريبا من عسكر قتيبة، وبينهما نهر بخارى، فسأل أن يبعث إليه رجلا يكلمه، فأمر قتيبة رجلا فدنا منه. وأما الباهليون فيقولون: نادى طرخون حيان النبطي فأتاه، فسألهم الصلح على فدية يؤديها إليهم، فأجابه قتيبة إلى ما طلب، وصالحه، وأخذ منه رهنا حتى يبعث إليه بما صالحه عليه، وانصرف طرخون الى بلاده، ورجع قتيبة ومعه نيزك. غدر نيزك وفي هذه السنة غدر نيزك، فنقض الصلح الذي كان بينه وبين المسلمين وامتنع بقلعته، وعاد حربا، فغزاه قتيبة. ذكر الخبر عن سبب غدره وسبب الظفر به: قال علي: ذكر أبو الذيال، عن المهلب بن إياس والمفضل الضبي، عن أبيه، وعلي بن مجاهد وكليب بن خلف العمي، كل قد ذكر شيئا فألفته، وذكر الباهليون شيئا فألحقته في خبر هؤلاء وألفته، أن قتيبة فصل من بخارى ومعه نيزك وقد ذعره ما قد رأى من الفتوح، وخاف قتيبة، فقال: لأصحابه وخاصته: متهم أنا مع هذا، ولست آمنه، وذلك أن العربي بمنزلة الكلب، إذا ضربته نبح، وإذا أطعمته بصبص واتبعك، وإذا غزوته ثم أعطيته شيئا رضي، ونسي ما صنعت به، وقد قاتله طرخون مرارا، فلما أعطاه فدية قبلها ورضي، وهو شديد السطوة فاجر

فلو استأذنت ورجعت كان الرأي، قالوا: استأذنه فلما كان قتيبة بآمل استأذنه في الرجوع الى تخارستان، فأذن له، فلما فارق عسكره متوجها إلى بلخ قال لأصحابه: أغذوا السير، فساروا سيرا شديدا حتى أتوا النوبهار، فنزل يصلي فيه وتبرك به وقال لأصحابه: إني لا أشك أن قتيبة قد ندم حين فارقنا عسكره على إذنه لي، وسيقدم الساعة رسوله على المغيرة بن عبد الله يأمره بحبسي، فأقيموا ربيئة تنظر، فإذا رأيتم الرسول قد جاوز المدينة وخرج من الباب فإنه لا يبلغ البروقان حتى نبلغ تخارستان، فيبعث المغيرة رجلا فلا يدركنا حتى ندخل شعب خلم، ففعلوا. قال: وأقبل رسول من قبل قتيبة إلى المغيرة يأمره بحبس نيزك فلما مر الرسول إلى المغيرة وهو بالبروقان- ومدينة بلخ يومئذ خراب- ركب نيزك وأصحابه فمضوا، وقدم الرسول على المغيرة فركب بنفسه في طلبه، فوجده قد دخل شعب خلم، فانصرف المغيرة، وأظهر نيزك الخلع، وكتب إلى أصبهبذ بلخ وإلى باذام ملك مروروذ، وإلى سهرب ملك الطالقان، وإلى ترسل ملك الفارياب، وإلى الجوزجاني ملك الجوزجان يدعوهم إلى خلع قتيبة، فأجابوه، وواعدهم الربيع أن يجتمعوا ويغزوا قتيبة. وكتب إلى كابل شاه يستظهر به، وبعث إليه بثقله. وماله، وسأله أن يأذن له إن اضطر إليه أن يأتيه ويؤمنه في بلاده، فأجابه إلى ذلك وضم ثقله قال: وكان جبغويه ملك تخارستان ضعيفا، واسمه الشذ، فأخذه نيزك فقيده بقيد من ذهب مخافه ان يشغب عليه- وجبغويه ملك تخارستان ونيزك من عبيده- فلما استوثق منه وضع عليه الرقباء، وأخرج عامل قتيبة من بلاد جبغويه، وكان العامل مُحَمَّد بن سليم الناصح، وبلغ قتيبة خلعه قبل الشتاء، وقد تفرق الجند فلم يبق مع قتيبة إلا أهل مرو، فبعث عبد الرحمن أخاه إلى بلخ في اثني عشر ألفا إلى البروقان، وقال: أقم بها،

خبر فتح الطالقان

ولا تحدث شيئا، فإذا حسر الشتاء فعسكر وسر نحو تخارستان، واعلم أني قريب منك، فسار عبد الرحمن فنزل البروقان، وأمهل قتيبة حتى إذا كان في آخر الشتاء كتب إلى أبرشهر وبيورد وسرخس واهل هراة ليقدموا قبل أوانهم الذي كانوا يقدمون عليه فيه. خبر فتح الطالقان وفي هذه السنة، أوقع قتيبة بأهل الطالقان بخراسان- فيما قال بعض أهل الأخبار- فقتل من أهلها مقتلة عظيمة، وصلب منهم سماطين أربعة فراسخ في نظام واحد. ذكر الخبر عن سبب ذلك: وكان السبب في ذلك- فيما ذكر- أن نيزك طرخان لما غدر وخلع قتيبة وعزم على حربه، طابقه على حربه ملك الطالقان، وواعده المصير اليه من استجاب للنهوض معه من الملوك لحرب قتيبة، فلما هرب نيزك من قتيبة ودخل شعب خلم الذي يأخذ إلى طخارستان علم أنه لا طاقة له بقتيبة، فهرب، وسار قتيبة إلى الطالقان فأوقع بأهلها، ففعل ما ذكرت فيما قبل. وقد خولف قائل هذا القول فيما قال من ذلك، وأنا ذاكره في أحداث سنة إحدى وتسعين. وحج بالناس في هذه السنة عمر بن عبد العزيز، كذلك حدثنى احمد ابن ثَابِت عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر وكذلك قَالَ محمد بْن عمر. وكان عمر بن عبد العزيز في هذه السنة عامل الوليد بن عبد الملك على مكة والمدينة والطائف وعلى العراق والمشرق الحجاج بن يوسف، وعامل الحجاج على البصرة الجراح بن عبد الله بن وعلى قضائها عبد الرحمن بن أذينة، وعلى الكوفة زياد بن جرير بن عبد الله وعلى قضائها أبو بكر بن أبي موسى. وعلى خراسان قتيبة بن مسلم وعلى مصر قره بن قره بن شريك.

هرب يزيد بن المهلب واخوته من سجن الحجاج

هرب يزيد بن المهلب واخوته من سجن الحجاج وفي هذه السنة هرب يزيد بن المهلب وإخوته الذين كانوا معه في السجن مع آخرين غيرهم، فلحقوا بسُلَيْمَان بن عبد الملك مستجيرين به من الحجاج ابن يوسف، والوليد بن عبد الملك. ذكر الخبر عن سبب تخلصهم من سجن الحجاج ومسيرهم إلى سُلَيْمَان: قال هشام: حدثني أبو مخنف، عن ابى المخارق الراسبى، قال: الحجاج إلى رستقباذ للبعث، لأن الأكراد كانوا قد غلبوا على عامة أرض فارس، فخرج بيزيد وبإخوته المفضل وعبد الملك حتى قدم بهم رستقباذ، فجعلهم في عسكره، وجعل عليهم كهيئة الخندق، وجعلهم في فسطاط قريبا من حجرته، وجعل عليهم حرسا من أهل الشام، وأغرمهم ستة آلاف ألف، وأخذ يعذبهم، وكان يزيد يصبر صبرا حسنا، وكان الحجاج يغيظه ذلك، فقيل له: إنه رمي بنشابة فثبت نصلها في ساقه، فهو لا يمسها شيء إلا صاح، فإن حركت أدنى شيء سمعت صوته، فأمر أن يعذب ويدهق ساقه، فلما فعل ذلك به صاح، وأخته هند بنت المهلب عند الحجاج، فلما سمعت صياح يزيد صاحت وناحت، فطلقها ثم إنه كف عنهم، وأقبل يستأديهم، فأخذوا يؤدون وهم يعملون في التخلص من مكانهم، فبعثوا إلى مروان بن المهلب وهو بالبصرة يأمرونه أن يضمر لهم الخيل، ويري الناس أنه إنما يريد بيعها ويعرضها على البيع، ويغلي بها لئلا تشترى فتكون لنا عدة إن نحن قدرنا على ان ننجو مما هاهنا ففعل ذلك مروان، وحبيب بالبصرة يعذب أيضا، وأمر يزيد بالحرس فصنع لهم طعام كثير فأكلوا، وأمر بشراب فسقوا، فكانوا متشاغلين به، ولبس يزيد ثياب طباخه، ووضع على لحيته لحيه

بيضاء، وخرج فرآه بعض الحرس فقال: كأن هذه مشية يزيد! فجاء حتى استعرض وجهه ليلا، فرأى بياض اللحية، فانصرف عنه، فقال: هذا شيخ وخرج المفضل على أثره، ولم يفطن له، فجاءوا إلى سفنهم وقد هيئوها في البطائح، وبينهم وبين البصرة ثمانية عشر فرسخا، فلما انتهوا إلى السفن أبطأ عليهم عبد الملك وشغل عنهم، فقال يزيد للمفضل: اركب بنا فإنه لاحق، فقال المفضل- وعبد الملك أخوه لأمه- وهي بهلة، هندية: لا والله، لا أبرح حتى يجيء ولو رجعت إلى السجن فأقام يزيد حتى جاءهم عبد الملك، وركبوا عند ذلك السفن، فساروا ليلتهم حتى أصبحوا، ولما أصبح الحرس علموا بذهابهم، فرفع ذلك إلى الحجاج، وقال الفرزدق في خروجهم: فلم أر كالرهط الذين تتابعوا ... على الجذع والحراس غير نيام مضوا وهم مستيقنون بأنهم ... إلى قدر آجالهم وحمام وإن منهمُ إلا يسكّن جأشه ... بعضب صقيل صارم وحسام فلما التقوا لم يلتقوا بمنفه ... كبير ولا رخص العظام غلام بمثل أبيهم حين تمت لداتهم ... لخمسين قل في جرأة وتمام ففزع له الحجاج، وذهب وهمه أنهم ذهبوا قبل خراسان، وبعث البريد إلى قتيبة بن مسلم يحذره قدومهم، ويأمره أن يستعد لهم، وبعث إلى أمراء الثغور والكور أن يرصدوهم، ويستعدوا لهم، وكتب إلى الوليد بن عبد الملك يخبره بهربهم، وأنه لا يراهم أرادوا إلا خراسان ولم يزل الحجاج يظن بيزيد ما صنع، كان يقول: إني لأظنه يحدث نفسه بمثل الذي صنع ابن الأشعث. ولما دنا يزيد من البطائح، من موقوع استقبلته الخيل قد هيئت له ولإخوته، فخرجوا عليها ومعهم دليل لهم من كلب يقال له: عبد الجبار بن يزيد بن الربعة، فأخذ بهم على السماوة، وأتى الحجاج بعد يومين، فقيل

له: إنما أخذ الرجل طريق الشام، وهذه الخيل حسرى في الطريق، وقد أتى من رآهم موجهين في البر، فبعث إلى الوليد يعلمه ذلك، ومضى يزيد حتى قدم فلسطين، فنزل على وهيب بن عبد الرحمن الأزدي- وكان كريما على سُلَيْمَان- وأنزل بعض ثقله وأهله على سفيان بن سُلَيْمَان الأزدي، وجاء وهيب بن عبد الرحمن حتى دخل على سُلَيْمَان، فقال: هذا يزيد بن المهلب، وإخوته في منزلي، وقد أتوك هرابا من الحجاج متعوذين بك، قال: فأتني بهم فهم آمنون لا يوصل إليهم أبدا وأنا حي فجاء بهم حتى أدخلهم عليه، فكانوا في مكان آمن، وقال الكلبي دليلهم في مسيرهم: ألا جعل الله الأخلاء كلهم ... فداء على ما كان لابن المهلب لنعم الفتى يا معشر الأزد أسعفت ... ركابكمُ بالوهب شرقي منقب عدلن يمينا عنهمُ رمل عالج ... وذات يمين القوم أعلام غرب فإلا تصبح بعد خمس ركابنا ... سُلَيْمَان من أهل اللوى تتأوب تقر قرار الشمس مما وراءنا ... وتذهب في داج من الليل غيهب بقوم همُ كانوا الملوك هديتهم ... بظلماء لم يبصر بها ضوء كوكب ولا قمر إلا ضئيلا كأنه ... سوار حناه صائغ السور مذهب قال هشام: فأخبرني الحسن بن ابان العليمي، قال: بينا عبد الجبار ابن يزيد بن الربعة يسري بهم فسقطت عمامة يزيد، ففقدها فقال: يا عبد الجبار، ارجع فاطلبها لنا، قال: إن مثلي لا يؤمر بهذا، فأعاد، فأبى، فتناوله بالسوط، فانتسب له، فاستحيا منه، فذلك قوله: ألا جعل الله الأخلاء كلهم ... فداء على ما كان لابن المهلب

وكتب الحجاج: أن آل المهلب خانوا مال الله وهربوا مني ولحقوا بسُلَيْمَان، وكان آل المهلب قدموا على سُلَيْمَان، وقد أمر الناس أن يحصلوا ليسرحوا إلى خراسان، لا يرون إلا أن يزيد توجه إلى خراسان ليفتن من بها فلما بلغ الوليد مكانه عند سُلَيْمَان هون عليه بعض ما كان في نفسه، وطار غضبا للمال الذي ذهب به وكتب سُلَيْمَان إلى الوليد: أن يزيد بن المهلب عندي وقد آمنته، وإنما عليه ثلاثة آلاف ألف، كان الحجاج أغرمهم ستة آلاف ألف فأدوا ثلاثة آلاف ألف، وبقي ثلاثة آلاف ألف، فهي علي فكتب إليه: لا والله لا اؤمنه حتى تبعث به إلي فكتب إليه: لئن أنا بعثت به إليك لأجيئن معه، فأنشدك الله ان تفضحني ولا ان تخفرني فكتب إليه: والله لئن جئتني لا أومنه فقال يزيد: ابعثني اليه، فو الله ما أحب أوقع بينك وبينه عداوة وحربا، ولا أن يتشاءم بي لكما الناس، ابعث إليه بي، وأرسل معي ابنك، واكتب إليه بألطف ما قدرت عليه فأرسل ابنه أيوب معه وكان الوليد أمره أن يبعث به إليه في وثاق، فبعث به إليه، وقال لابنه: إذا أردت أن تدخل عليه فادخل أنت ويزيد في سلسلة ثم ادخلا جميعا على الوليد، ففعل ذلك به حين انتهيا إلى الوليد، فدخلا عليه، فلما رأى الوليد ابن أخيه في سلسلة، قال: والله لقد بلغنا من سُلَيْمَان! ثم إن الغلام دفع كتاب أبيه إلى عمه وقال: يا أمير المؤمنين، نفسي فداؤك! لا تخفر ذمة أبي، وأنت أحق من منعها، ولا تقطع منا رجاء من رجا السلامة في جوارنا لمكاننا منك، ولا تذل من رجا العز في الانقطاع إلينا لعزنا بك وقرأ الكتاب: لعبد الله الوليد أمير المؤمنين من سُلَيْمَان بن عبد الملك اما بعد يا امير المؤمنين، فو الله إن كنت لأظن لو استجار بي عدو قد نابذك وجاهدك فأنزلته وأجرته أنك لا تذل جارى، ولا تخفر جواري، بله لم أجر إلا سامعا مطيعا حسن البلاء والأثر في الإسلام هو وأبوه وأهل بيته، وقد بعثت به إليك، فإن كنت إنما تغزو قطيعتي والإخفار لذمتي، والإبلاغ في مساءتي، فقد

قدرت إن أنت فعلت وأنا أعيذك بالله من احتراد قطيعتي، وانتهاك حرمتي وترك بري وصلتي، فو الله يا أمير المؤمنين ما تدري ما بقائي وبقاؤك، ولا متى يفرق الموت بيني وبينك! فإن استطاع أمير المؤمنين أدام الله سروره الا يأتي علينا أجل الوفاة إلا وهو لي واصل، ولحقي مؤد، وعن مساءتي نازع، فليفعل. والله يا أمير المؤمنين ما أصبحت بشيء من أمر الدنيا بعد تقوى الله فيها بأسر مني برضاك وسرورك وإن رضاك مما ألتمس به رضوان الله، فإن كنت يا أمير المؤمنين تريد يوما من الدهر مسرتي وصلتي وكرامتي وإعظام حقي فتجاوز لي عن يزيد، وكل ما طلبته به فهو علي. فلما قرأ كتابه، قال: لقد شققنا على سُلَيْمَان! ثم دعا ابن أخيه فأدناه منه وتكلم يزيد فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وصلى عَلَى نبيه ص ثم قال: يا أمير المؤمنين، إن بلاءكم عندنا أحسن البلاء، فمن ينس ذلك فلسنا ناسيه، ومن يكفر فلسنا كافريه، وقد كان من بلائنا أهل البيت في طاعتكم والطعن في أعين أعدائكم في المواطن العظام في المشارق والمغارب ما إن المنة علينا فيها عظيمة. فقال له: اجلس، فجلس فآمنه وكف عنه، ورجع إلى سُلَيْمَان وسعى إخوته في المال الذي عليه، وكتب إلى الحجاج: أني لم أصل إلى يزيد وأهل بيته مع سُلَيْمَان، فاكفف عنهم، واله عن الكتاب إلي فيهم. فلما رأى ذلك الحجاج كف عنهم وكان أبو عيينة بن المهلب عند الحجاج عليه ألف ألف درهم، فتركها له، وكف عن حبيب بن المهلب. ورجع يزيد إلى سُلَيْمَان بن عبد الملك فأقام عنده يعلمه الهيئة، ويصنع له طيب الأطعمة، ويهدي له الهدايا العظام وكان من أحسن الناس عنده منزلة، وكان لا تأتي يزيد بن المهلب هدية إلا بعث بها إلى سُلَيْمَان، ولا تأتي سُلَيْمَان هدية ولا فائدة إلا بعث بنصفها إلى يزيد بن المهلب،

وكان لا تعجبه جارية إلا بعث بها إلى يزيد إلا خطيئة الجارية فبلغ ذلك الوليد بن عبد الملك، فدعا الحارث بن مالك بن ربيعة الأشعري، فقال: انطلق إلى سُلَيْمَان فقل له: يا خالفة أهل بيته، إن أمير المؤمنين قد بلغه أنه لا تأتيك هدية ولا فائدة إلا بعثت إلى يزيد بنصفها، وأنك تأتي الجارية من جواريك فلا ينقضي طهرها حتى تبعث بها إلى يزيد، وقبح ذلك عليه، وعيره به، أتراك مبلغا ما أمرتك به؟ قال: طاعتك طاعة، وإنما أنا رسول، قال: فأته فقل له ذلك، وأقم عنده، فإني باعث إليه بهدية فادفعها إليه، وخذ منه البراءة بما تدفع إليه ثم أقبل فمضى حتى قدم عليه وبين يديه المصحف، وهو يقرأ، فدخل عليه فسلم، فلم يرد ع حتى فرغ من قراءته، ثم رفع رأسه إليه فكلمه بكل شيء أمره به الوليد، فتمعر وجهه، ثم قال: أما والله لئن قدرت عليك يوما من الدهر لأقطعن منك طابقا! فقال له: إنما كانت علي الطاعة ثم خرج من عنده فلما أتى بذلك الذي بعث به الوليد إلى سُلَيْمَان دخل عليه الحارث بن ربيعة الأشعري وقال له: أعطني البراءة بهذا الذي دفعت إليك، فقال: كيف قلت لي؟ قال: لا اعيده عالما أبدا، إنما كان علي فيه الطاعة فسكن، وعلم أن قد صدقه الرجل، ثم خرج وخرجوا معه، فقال: خذوا نصف هذه الأعدال وهذه الأسفاط وابعثوا بها إلى يزيد قال: فعلم الرجل أنه لا يطيع في يزيد أحدا، ومكث يزيد بن المهلب عند سُلَيْمَان تسعة أشهر وتوفي الحجاج سنة خمس وتسعين في رمضان لتسع بقين منه في يوم الجمعه.

سنه احدى وتسعين

ثم دخلت سنة إحدى وتسعين (ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففيها غزا- فيما ذكر مُحَمَّد بن عمر وغيره- الصائفة عبد العزيز بن الوليد، وكان على الجيش مسلمة بن عبد الملك وفيها غزا أيضا مسلمة الترك، حتى بلغ الباب من ناحية أذربيجان، ففتح على يديه مدائن وحصون وفيها غزا موسى بن نصير الاندلس، ففتح على يديه أيضا مدائن وحصون وفي هذه السنة قتل قتيبة بن مسلم نيزك طرخان. تتمه خبر قتيبة مع نيزك رجع الحديث إلى حديث علي بن محمد وقصة نيزك وظفر قتيبة به حتى قتله ولما قدم من كان قتيبة كتب إليه. يأمره بالقدوم عليه من أهل أبرشهر وبيورد وسرخس وهراة على قتيبة، سار بالناس إلى مروروذ واستخلف على الحرب حماد بن مسلم، وعلى الخراج عبد الله بن الأهتم. وبلغ مرزبان مروروذ إقباله إلى بلاده، فهرب إلى بلاد الفرس وقدم قتيبة مروروذ فأخذ ابنين له فقتلهما وصلبهما، ثم سار إلى الطالقان فقام صاحبها ولم يحاربه، فكف عنه، وفيها لصوص، فقتلهم قتيبة وصلبهم، واستعمل على الطالقان عمرو بن مسلم، ومضى إلى الفارياب، فخرج إليه ملك الفارياب مذعنا مقرا بطاعته، فرضي عنه، ولم يقتل بها أحدا، واستعمل عليها رجلا من باهلة وبلغ صاحب الجوزجان خبرهم، فترك أرضه وخرج إلى الجبال هاربا، وسار قتيبة إلى الجوزجان فلقيه أهلها سامعين مطيعين،

فقبل منهم، فلم يقتل فيها أحدا، واستعمل عليها عامر بن مالك الحماني، ثم أتى بلخ فلقيه الأصبهبذ في أهل بلخ، فدخلها فلم يقم بها إلا يوما واحدا. ثم مضى يتبع عبد الرحمن حتى أتى شعب خلم، وقد مضى نيزك فعسكر ببغلان، وخلف مقاتلة على فم الشعب ومضايقه يمنعونه، ووضع مقاتلة في قلعة حصينة من وراء الشعب، فأقام قتيبة أياما يقاتلهم على مضيق الشعب لا يقدر منهم على شيء، ولا يقدر على دخوله، وهو مضيق، الوادي يجرى وسطه، ولا يعرف طريقا يفضي به إلى نيزك إلا الشعب أو مفازة لا تحتمل العساكر، فبقي متلددا يلتمس الحيل. قال: فهو في ذلك إذ قدم عليه الرؤب خان ملك الرؤب وسمنجان، فاستأمنه على أن يدله على مدخل القلعة التي وراء هذا الشعب، فآمنه قتيبة، وأعطاه ما سأله، وبعث معه رجالا ليلا، فانتهى بهم إلى القلعة التي من وراء شعب خلم، فطرقوهم وهم آمنون فقتلوهم، وهرب من بقي منهم ومن كان في الشعب، فدخل قتيبة والناس الشعب، فأتى القلعة ثم مضى إلى سمنجان ونيزك ببغلان بعين تدعى فنج جاه، وبين سمنجان وبغلان مفازة ليست بالشديدة قال: فأقام قتيبة بسمنجان أياما، ثم سار نيزك، وقدم أخاه عبد الرحمن، وبلغ نيزك فارتحل من منزله حتى قطع وادي فرغانة، ووجه ثقله وأمواله إلى كابل شاه، ومضى حتى نزل الكرز وعبد الرحمن بن مسلم يتبعه، فنزل عبد الرحمن وأخذ بمضايق الكرز، ونزل قتيبة أسكيمشت بينه وبين عبد الرحمن فرسخان فتحرز نيزك في الكرز وليس إليه مسلك إلا من وجه واحد، وذلك الوجه صعب لا تطيقه الدواب، فحصره قتيبة شهرين حتى قل ما في يد نيزك من الطعام، وأصابهم الجدري وجدر جبغويه، وخاف قتيبة الشتاء، فدعا سليما الناصح، فقال: انطلق إلى نيزك

واحتل لأن تأتيني به بغير أمان، فإن أعياك وأبى فآمنه، واعلم أني إن عاينتك وليس هو معك صلبتك، فاعمل لنفسك قال: فاكتب لي إلى عبد الرحمن لا يخالفني، قال: نعم، فكتب له إلى عبد الرحمن فقدم عليه، فقال له: ابعث رجالا فليكونوا على فم الشعب، فإذا خرجت أنا ونيزك فليعطفوا من ورائنا فيحولوا بيننا وبين الشعب قال: فبعث عبد الرحمن خيلا فكانوا حيث أمرهم سليم، ومضى سليم وقد حمل معه من الأطعمة التي تبقى أياما والأخبصة أوقارا، حتى أتى نيزك، فقال له نيزك: خذلتني يا سليم، قال: ما خذلتك، ولكنك عصيتني وأسأت بنفسك، خلعت وغدرت، قال: فما الرأي؟ قال: الرأي أن تأتيه فقد أمحكته، وليس ببارح موضعه هذا، قد اعتزم على أن يشتو بمكانه، هلك أو سلم، قال: آتيه على غير أمان! قال: ما أظنه يؤمنك لما في قلبه عليك، فإنك قد ملأته غيظا، ولكنى ارى الا يعلم بك حتى تضع يدك في يده، فانى أرجو ان فعلت ذاك ان يستحيى ويعفو عنك، قال: أترى ذلك؟ قال: نعم، قال: إن نفسي لتأبى هذا، وهو إن رآني قتلني، فقال له سليم: ما أتيتك إلا لأشير عليك بهذا، ولو فعلت لرجوت أن تسلم وأن تعود حالك عنده إلى ما كانت، فأما إذ أبيت فإني منصرف قال: فنغديك إذا، قال: إني لأظنكم في شغل عن تهيئة الطعام، ومعنا طعام كثير. قال: ودعا سليم بالغداء فجاءوا بطعام كثير لا عهد لهم بمثله منذ حصروا، فانتهبه الأتراك، فغم ذلك نيزك، وقال سليم: يا أبا الهياج، أنا لك من الناصحين، أرى أصحابك قد جهدوا، وإن طال بهم الحصار وأقمت على حالك لم آمنهم أن يستأمنوا بك، فانطلق وأت قتيبة، قال: ما كنت لآمنه على نفسي، ولا آتيه على غير أمان، فإن ظني به أنه

قاتلي وإن آمنني، ولكن الأمان أعذر لي وأرجى، قال: فقد آمنك أفتتهمني! قال: لا، قال: فانطلق معي، قال له أصحابه: اقبل قول سليم، فلم يكن ليقول إلا حقا، فدعا بدوابه وخرج مع سليم، فلما انتهى إلى الدرجة التي يهبط منها إلى قرار الأرض قال: يا سليم، من كان لا يعلم متى يموت فإني أعلم متى أموت، أموت إذا عاينت قتيبة، قال: كلا أيقتلك مع الأمان! فركب ومضى معه جبغويه- وقد برا من الجدري- صول وعثمان ابنا أخي نيزك- صول طرخان خليفه جبغويه، وخنس طرخان صاحب شرطه- قال: فلما خرج من الشعب عطفت الخيل التي خلفها سليم على فوهة الشعب، فحالوا بين الأتراك وبين الخروج، فقال نيزك لسليم: هذا أول الشر، قال: لا تفعل، تخلف هؤلاء عنك خير لك وأقبل سليم ونيزك ومن خرج معه حتى دخلوا على عبد الرحمن بن مسلم، فأرسل رسولا إلى قتيبة يعلمه، فأرسل قتيبة عمرو بن أبي مهزم إلى عبد الرحمن: أن أقدم بهم علي، فقدم بهم عبد الرحمن عليه، فحبس أصحاب نيزك، ودفع نيزك إلى ابن بسام الليثي، وكتب إلى الحجاج يستأذنه في قتل نيزك، فجعل ابن بسام نيزك في قبته، وحفر حول القبة خندقا، ووضع عليه حرسا ووجه قتيبة معاوية بن عامر بن علقمة العليمي، فاستخرج ما كان في الكرز من متاع ومن كان فيه، وقدم به على قتيبة، فحبسهم ينتظر كتاب الحجاج فيما كتب إليه، فأتاه كتاب الحجاج بعد اربعين يوما يأمره بقتل نيزك قال: فدعا به فقال: هل لك عندي عقد أو عند عبد الرحمن أو عند سليم؟ قال: لي عند سليم، قال: كذبت، وقام فدخل ورد نيزك إلى حبسه، فمكث ثلاثة أيام لا يظهر للناس قال: فقام المهلب ابن اياس العدوى، وتكلم في أمر نيزك، فقال بعضهم: ما يحل له أن يقتله، وقال بعضهم: ما يحل له تركه، وكثرت الاقاويل فيه

وخرج قتيبة اليوم الرابع فجلس وأذن للناس، فقال: ما ترون في قتل نيزك؟ فاختلفوا، فقال قائل: اقتله، وقال قائل: أعطيته عهدا فلا تقتله، وقال قائل: ما نأمنه على المسلمين ودخل ضرار بن حصين الضبي فقال: ما تقول يا ضرار؟ قال: أقول: إني سمعتك تقول: أعطيت الله عهدا إن أمكنك منه أن تقتله، فإن لم تفعل لا ينصرنك الله عليه أبدا فأطرق قتيبة طويلا، ثم قال: والله لو لم يبق من أجلي إلا ثلاث كلمات لقلت: اقتلوه، اقتلوه، اقتلوه، وأرسل إلى نيزك فأمر بقتله وأصحابه فقتل مع سبعمائة. وأما الباهليون فيقولون: لم يؤمنه ولم يؤمنه سليم، فلما أراد قتله دعا به ودعا بسيف حنفي فانتضاه وطول كميه ثم ضرب عنقه بيده، وأمر عبد الرحمن فضرب عنق صول، وأمر صالحا فقتل عثمان- ويقال: شقران ابن أخي نيزك- وقال لبكر بن حبيب السهمي من باهلة: هل بك قوة؟ قال: نعم، واريد- وكانت في بكر أعرابية- فقال: دونك هؤلاء الدهاقين قال: وكان إذا أتي برجل ضرب عنقه وقال: أوردوا ولا تصدروا، فكان من قتل يومئذ اثنا عشر ألفا في قول الباهليين، وصلب نيزك وابنى أخيه في أصل عين تدعى وخش خاشان في أسكيمشت، فقال المغيرة بن حبناء يذكر ذلك في كلمة له طويلة: لعمري لنعمت غزوة الجند غزوة ... قضت نحبها من نيزك وتعلت قَالَ علي: أَخْبَرَنَا مُصْعَب بن حيان، عن أبيه، قال: بعث قتيبة برأس نيزك مع محفن بن جزء الكلابي، وسوار بن زهدم الجرمي، فقال الحجاج: إن كان قتيبة لحقيقا أن يبعث برأس نيزك مع ولد مسلم، فقال سوار:

أقول لمحفن وجرى سنيح ... وآخر بارح من عن يميني وقد جعلت بوائق من أمور ... ترفع حوله وتكف دوني نشدتك هل يسرك ان سرجى ... وسرجك فوق ابغل باذيين قال: فقال محفن: نعم وبالصين. قال علي: أخبرنا حمزة بن إبراهيم، وعلي بن مجاهد، عن حنبل بن أبي حريدة، عن مرزبان قهستان وغيرهما، أن قتيبة دعا يوما بنيزك وهو محبوس، فقال: ما رأيك في السبل والشذ؟ أتراهما يأتيان إن أرسلت إليهما؟ قال: لا، قال: فأرسل إليهما قتيبة فقدما عليه، ودعا نيزك وجبغويه فدخلا، فإذا السبل، والشذ بين يديه على كرسيين، فجلسا بإزائهما، فقال الشذ لقتيبة: إن جبغويه- وإن كان لي عدوا- فهو أسن مني، وهو الملك وأنا كعبده، فأذن لي أدن منه، فأذن له، فدنا منه، فقبل يده وسجد له، قال: ثم استأذنه في السبل، فأذن له فدنا منه فقبل يده، فقال نيزك لقتيبة: ائذن لي أدن من الشذ، فإني عبده، فأذن له، فدنا منه فقبل يده، ثم أذن قتيبة للسبل والشذ فانصرفا إلى بلادهما، وضم إلى الشذ الحجاج القيني، وكان من وجوه أهل خراسان وقتل قتيبة نيزك، فأخذ الزبير مولى عابس الباهلي خفا لنيزك فيه جوهر، وكان أكثر من في بلاده مالا وعقارا، من ذلك الجوهر الذي أصابه في خفه فسوغه إياه قتيبة، فلم يزل موسرا حتى هلك بكابل في ولاية ابى داود. قال: واطلق قتيبة جبغويه ومن عليه، وبعث به إلى الوليد، فلم يزل بالشام حتى مات الوليد ورجع قتيبة إلى مرو، واستعمل أخاه عبد الرحمن على بلخ، فكان الناس يقولون: غدر قتيبة بنيزك، فقال ثابت قطنة: لا تحسبن الغدر حزما فربما ... ترقت به الأقدام يوما فزلت وقال: وكان الحجاج يقول: بعثت قتيبة فتى غرا فما زدته ذراعا إلا

زادني باعا. قال علي: أخبرنا حمزة بن إبراهيم، عن أشياخ من أهل خراسان، وعلي بن مجاهد، عن حنبل بن أبي حريدة، عن مرزبان قهستان وغيرهما، أن قتيبة بن مسلم لما رجع إلى مرو وقتل نيزك طلب ملك الجوزجان- وكان قد هرب عن بلاده- فأرسل يطلب الأمان، فآمنه على أن يأتيه فيصالحه، فطلب رهنا يكونون في يديه ويعطي رهائن، فأعطى قتيبة حبيب بن عبد الله بن عمرو بن حصين الباهلي، وأعطى ملك الجوزجان رهائن من أهل بيته، فخلف ملك الجوزجان حبيبا بالجوزجان في بعض حصونه، وقدم على قتيبة فصالحه، ثم رجع فمات بالطالقان. فقال أهل الجوزجان سموه، فقتلوا حبيبا، وقتل قتيبة الرهن الذين كانوا عنده، فقال نهار بن توسعة لقتيبة: أراك الله في الأتراك حكما ... كحكم في قريظة والنضير قضاء من قتيبة غير جور ... به يشفى الغليل من الصدور فإن ير نيزك خزيا وذلا ... فكم في الحرب حمق من أمير! وقال المغيرة بن حبناء يمدح قتيبة ويذكر قتل نيزك وصول ابن أخي نيزك وعثمان- أو شقران: لمن الديار عفت بسفح سنام ... إلا بقية أيصر وثمام عصف الرياح ذيولها فمحونها ... وجرين فوق عراصها بتمام دار لجارية كأن رضا بها ... مسك يشاب مزاجه بمدام أبلغ أبا حفص قتيبة مدحتي ... واقرأ عليه تحيتي وسلامي يا سيف أبلغها فإن ثناءها ... حسن وإنك شاهد لمقامي يسمو فتتضع الرجال إذا سما ... لقتيبة الحامي حمى الإسلام

خبر غزو قتيبة شومان وكس ونسف

لأغر منتجب لكل عظيمة ... نحر يباح به العدو لهام يمضي إذا هاب الجبان وأحمشت ... حرب تسعر نارها بضرام تروى القناة مع اللواء أمامه ... تحت اللوامع والنحور دوام والهام تفريه السيوف كأنه ... بالقاع حين تراه قيض نعام وترى الجياد مع الجياد ضوامرا ... بفنائه لحوادث الأيام وبهن أنزل نيزكا من شاهق ... والكرز حيث يروم كل مرام وأخاه شقرانا سقيت بكأسه ... وسقيت كأسهما أخا باذام وتركت صولا حين صال مجدلا ... يركبنه بدوابر وحوام خبر غزو قتيبة شومان وكس ونسف وفي هذه السنة- أعني سنة إحدى وتسعين- غزا قتيبة شومان وكس ونسف غزوته الثانية وصالح طوخان. ذكر الخبر عن ذَلِكَ: قَالَ علي: أَخْبَرَنَا بشر بن عيسى عن أبي صفوان، وأبو السري وجبلة بن فروخ عن سُلَيْمَان بن مجالد، والحسن بن رشيد عن طفيل بن مرداس العمي، وأبو السري المروزي عن عمه، وبشر بن عيسى وعلى ابن مجاهد، عن حنبل بن أبي حريدة عن مرزبان قهستان، وعياش ابن عبد الله الغنوي، عن أشياخ من أهل خراسان، قال: وحدثني ظئري- كل قد ذكر شيئا، فألفته، وأدخلت من حديث بعضهم في حديث بعض- أن فيلسنشب باذق- وقال بعضهم: قيسبشتان ملك شومان- طرد عامل قتيبة ومنع الفدية التي صالح عليها قتيبة، فبعث إليه قتيبة عياشا الغنوي ومعه رجل من نساك أهل خراسان يدعوان ملك شومان إلى أن يؤدي الفدية

على ما صالح عليه قتيبة، فقد ما البلد، فخرجوا إليهما فرموهما، فانصرف الرجل وأقام عياش الغنوي فقال: اما هاهنا مسلم! فخرج إليه رجل من المدينة فقال: أنا مسلم، فما تريد؟ قال: تعينني على جهادهم، قال: نعم، فقال له عياش: كن خلفي لتمنع لي ظهري، فقام خلفه- وكان اسم الرجل المهلب- فقاتلهم عياش، فحمل عليهم، فتفرقوا عنه، وحمل المهلب على عياش من خلفه فقتله، فوجدوا به ستين جراحة، فغمهم قتله، وقالوا: قتلنا رجلا شجاعا. وبلغ قتيبة، فسار إليهم بنفسه، وأخذ طريق بلخ، فلما أتاها قدم أخاه عبد الرحمن، واستعمل على بلخ عمرو بن مسلم، وكان ملك شومان صديقا لصالح بن مسلم، فأرسل إليه صالح رجلا يأمره بالطاعة، ويضمن له رضا قتيبة إن رجع إلى الصلح، فأبى وقال لرسول صالح: ما تخوفني به من قتيبة، وأنا أمنع الملوك حصنا أرمي أعلاه، وأنا أشد الناس قوسا وأشد الناس رميا، فلا تبلغ نشابتي نصف حصني، فما أخاف من قتيبة! فمضى قتيبة من بلخ فعبر النهر، ثم أتى شومان وقد تحصن ملكها فوضع عليه المجانيق، ورمى حصنه فهشمه، فلما خاف أن يظهر عليه، ورأى ما نزل به جمع ما كان له من مال وجوهر فرمى به في عين في وسط القلعة لا يدرك قعرها. قال: ثم فتح القلعة وخرج إليهم فقاتلهم فقتل، وأخذ قتيبة القلعة عنوة، فقتل المقاتلة وسبى الذرية، ثم رجع إلى باب الحديد فأجاز منه إلى كس ونسف، وكتب إليه الحجاج، أن كس بكس وانسف نسف، وإياك والتحويط ففتح كس ونسف، وامتنع عليه فرياب فحرقها فسميت المحترقة وسرح قتيبة من كس ونسف أخاه عبد الرحمن بن مسلم إلى السغد، إلى طرخون، فسار حتى نزل بمرج قريبا منهم، وذلك في وقت

العصر، فانتبذ الناس وشربوا حتى عبثوا وعاثوا وأفسدوا، فأمر عبد الرحمن أبا مرضية- مولى لهم- أن يمنع الناس من شرب العصير، فكان يضربهم ويكسر آنيتهم ويصب نبيذهم، فسال في الوادي، فسمي مرج النبيذ، فقال بعض شعرائهم: أما النبيذ فلست أشربه ... أخشى أبا مرضيه الكلب متعسفا يسعى بشكته ... يتوثب الحيطان للشرب فقبض عبد الرحمن من طرخون شيئا كان قد صالحه عليه قتيبة، ودفع إليه رهنا كانوا معه، وانصرف عبد الرحمن إلى قتيبة وهو ببخارى، فرجعوا إلى مرو، فقالت السغد لطرخون: إنك قد رضيت بالذل واستطبت الجزية، وأنت شيخ كبير فلا حاجة لنا بك قال: فولوا من أحببتم قال: فولوا غوزك، وحبسوا طرخون، فقال طرخون: ليس بعد سلب الملك إلا القتل، فيكون ذلك بيدي أحب إلي من أن يليه مني غيري، فاتكأ على سيفه حتى خرج من ظهره قال: وإنما صنعوا بطرخون هذا حين خرج قتيبة إلى سجستان وولوا غوزك. وأما الباهليون فيقولون: حصر قتيبة ملك شومان، ووضع على قلعته المجانيق، ووضع منجنيقا كان يسميها الفحجاء، فرمى بأول حجر فأصاب الحائط، ورمى بآخر فوقع في المدينة، ثم تتابعت الحجارة في المدينة فوقع حجر منها في مجلس الملك، فأصاب رجلا فقتله، ففتح القلعة عنوة، ثم رجع إلى كس ونسف، ثم مضى إلى بخارى فنزل قرية فيها بيت نار وبيت آلهة، وكان فيها طواويس، فسموه منزل الطواويس، ثم سار إلى طرخون بالسغد ليقبض منه ما كان صالحه عليه، فلما أشرف على وادي السغد فرأى حسنه تمثل:

ولايه خالد بن عبد الله القسرى على مكة

واد خصيب عشيب ظل يمنعه ... من الأنيس حذار اليوم ذي الرهج وردته بعنانيج مسومة ... يردين بالشعث سفاكين للمهج قال: فقبض من طرخون صلحه، ثم رجع إلى بخارى فملك بخارى خذاه غلاما حدثا، وقتل من خاف أن يضاده، ثم أخذ على آمل ثم أتى مرو. قال: وذكر الباهليون عن بشار بن عمرو، عن رجل من باهلة، قال: لم يفرغ الناس من ضرب أبنيتهم حتى افتتحت القلعة . ولايه خالد بن عبد الله القسرى على مكة وفي هذه السنة ولى الوليد بن عبد الملك مكة خالد بن عبد الله القسري فلم يزل واليا عليها إلى أن مات الوليد فذكر مُحَمَّد بن عمر الواقدي أن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة حدثه عن نافع مولى بني مخزوم، قال: سمعت خالد بن عبد الله يقول: يايها الناس، إنكم بأعظم بلاد الله حرمة، وهي التي اختار الله من البلدان، فوضع بها بيته، ثم كتب على عباده حجه من استطاع إليه سبيلا أيها الناس، فعليكم بالطاعة، ولزوم الجماعة، وإياكم والشبهات، فإني والله ما أوتي بأحد يطعن على إمامه إلا صلبته في الحرم إن الله جعل الخلافة منه بالموضع الذي جعلها، فسلموا وأطيعوا، ولا تقولوا كيت وكيت إنه لا رأي فيما كتب به الخليفة أو رآه إلا إمضاؤه، واعلموا أنه بلغني أن قوما من أهل الخلاف يقدمون عليكم، ويقيمون في بلادكم، فإياكم أن تنزلوا أحدا ممن تعلمون أنه زائغ عن الجماعة، فإني لا أجد أحدا منهم في منزل أحد منكم إلا هدمت منزله، فانظروا من تنزلون في منازلكم، وعليكم بالجماعة والطاعة، فإن الفرقة هي البلاء العظيم. قال مُحَمَّد بن عمرو: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ

عن أبي حبيبة، قال: اعتمرت فنزلت دور بني أسد في منازل الزبير، فلم أشعر الا به يدعوني، فدخلت عليه، فقال: من أنت؟ قلت: من أهل المدينة، قال: ما أنزلك في منازل المخالف للطاعة! قلت: إنما مقامي أن أقمت يوما أو بعضه، ثم أرجع إلى منزلي وليس عندي خلاف، أنا ممن يعظم أمر الخلافة، وأزعم أن من جحدها فقد هلك قال: فلا عليك ما أقمت، إنما يكره أن يقيم من كان زاريا على الخليفة، قلت: معاذ الله! وسمعته يوما يقول: والله لو أعلم أن هذه الوحش التي تأمن في الحرم لو نطقت لم تقر بالطاعة لأخرجتها من الحرم إنه لا يسكن حرم الله وأمنه مخالف للجماعة، زار عليهم قلت: وفق الله الأمير. وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة الْوَلِيد بن عبد الملك، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، قال: حج الوليد بن عبد الملك سنة إحدى وتسعين. وكذلك قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ أبي بكر، قال: حدثنا صالح بن كيسان، قال: لما حضر قدوم الوليد أمر عمر بن عبد العزيز عشرين رجلا من قريش يخرجون معه، فيتلقون الوليد بن عبد الملك، منهم أبو بكر بن عبد الرحمن بن عبد الحارث بن هشام، وأخوه مُحَمَّد بن عبد الرحمن، وعبد اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فخرجوا حتى بلغوا السويداء، وهم مع عمر بن عبد العزيز- وفي الناس يومئذ دواب وخيل- فلقوا الوليد وهو على ظهر، فقال لهم الحاجب: انزلوا لأمير المؤمنين، فنزلوا، ثم أمرهم فركبوا، فدعا بعمر بن عبد العزيز فسايره حتى نزل بذي خشب، ثم أحضروا، فدعاهم رجلا رجلا، فسلموا عليه، ودعا بالغداء، فتغدوا عنده، وراح من ذي خشب، فلما دخل المدينة غدا إلى المسجد ينظر إلى بنائه، فأخرج الناس منه، فما ترك

فيه أحد، وبقي سعيد بن المسيب ما يجترئ أحد من الحرس أن يخرجه، وما عليه إلا ريطتان ما تساويان إلا خمسة دراهم في مصلاه، فقيل له: لو قمت! قال: والله لا أقوم حتى يأتي الوقت الذي كنت أقوم فيه قيل: فلو سلمت على أمير المؤمنين! قال: والله لا أقوم إليه قال عمر بن عبد العزيز: فجعلت اعدل بالوليد في ناحيه المسجد رجاء الا يرى سعيدا حتى يقوم، فحانت من الوليد نظرة إلى القبلة، فقال: من ذلك الجالس؟ أهو الشيخ سعيد بن المسيب؟ فجعل عمر يقول: نعم يا أمير المؤمنين ومن حاله ومن حاله ولو علم بمكانك لقام فسلم عليك، وهو ضعيف البصر. قال الوليد: قد علمت حاله، ونحن نأتيه فنسلم عليه، فدار في المسجد حتى وقف على القبر، ثم أقبل حتى وقف على سعيد فقال: كيف أنت ايها الشيخ؟ فو الله ما تحرك سعيد ولا قام، فقال: بخير والحمد لله، فكيف أمير المؤمنين وكيف حاله؟ قال الوليد: خير والحمد لله فانصرف وهو يقول لعمر: هذا بقية الناس، فقلت: أجل يا أمير المؤمنين. قال: وقسم الوليد بالمدينة رقيقا كثيرا عجما بين الناس، وآنية من ذهب وفضة، وأموالا وخطب بالمدينة في الجمعة وصلى بهم. قال مُحَمَّد بن عمر: وحدثني إسحاق بن يحيى، قال: رأيت الوليد يخطب على منبر رسول الله ص يوم الجمعة عام حج، قد صف له جنده صفين من المنبر إلى جدار مؤخر المسجد، في أيديهم الجرزة وعمد الحديد على العواتق، فرأيته طلع في دراعة وقلنسوة، ما عليه رداء، فصعد المنبر، فلما صعد سلم ثم جلس فأذن المؤذنون، ثم سكتوا، فخطب الخطبة الأولى وهو جالس، ثم قام فخطب الثانية قائما، قال إسحاق: فلقيت رجاء بن حيوة وهو معه، فقلت: هكذا يصنعون! قال: نعم، وهكذا صنع معاوية فهلم جرا، قلت: أفلا تكلمه؟ قال: أخبرني قبيصة بن ذؤيب أنه كلم عبد الملك بن مروان

فأبى أن يفعل، وقال: هكذا خطب عثمان، فقلت: والله ما خطب هكذا، ما خطب عثمان إلا قائما قال رجاء: روي لهم هذا فأخذوا به. قال إسحاق: لم نر منهم أحدا أشد تجبرا منه. قال مُحَمَّد بن عمر: وقدم بطيب مسجد رسول الله ص ومجمره وبكسوة الكعبة فنشرت وعلقت على حبال في المسجد من ديباج حسن لم ير مثله قط، فنشرها يوما وطوي ورفع. قال: وأقام الحج الوليد بن عبد الملك. وكانت عمال الأمصار فِي هَذِهِ السنة هم العمال الذين كانوا عمالها في سنة تسعين، غير مكة فإن عاملها كان في هذه السنة خالد بن عبد الله القسري في قول الواقدي. وقال غيره: كانت ولاية مكة في هذه السنة أيضا إلى عمر بن عبد العزيز.

سنه اثنتين وتسعين

ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين (ذكر الأحداث التي كانت فيها) فمن ذلك غزوة مسلمة بن عبد الملك وعمر بن الوليد أرض الروم، ففتح على يدي مسلمة حصون ثلاثة، وجلا أهل سوسنة إلى جوف أرض الروم فتح الاندلس وفيها غزا طارق بن زياد مولى موسى بن نصير الأندلس في اثني عشر ألفا، فلقي ملك الأندلس- زعم الواقدي أنه يقال له أدرينوق، وكان رجلا من أهل أصبهان، قال: وهم ملوك عجم الأندلس- فزحف له طارق بجميع من معه، فزحف الأدرينوق في سرير الملك، وعلى الأدرينوق تاجه وقفازه وجميع الحلية التي كان يلبسها الملوك، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى قتل الله الأدرينوق، وفتح الأندلس سنة اثنتين وتسعين. وفيها غزا- فيما زعم بعض أهل السير- قتيبة سجستان يريد رتبيل الأعظم والزابل، فلما نزل سجستان تلقته رسل رتبيل بالصلح، فقبل ذلك وانصرف، واستعمل عليهم عبد ربه بن عبد الله بن عمير الليثي وحج بالناس في هذه السنة عمر بن عبد العزيز وهو على المدينة، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قَالَ الواقدي وغيره. وكان عمال الأمصار في هذه السنة عمالها فِي السنة الَّتِي قبلها.

سنه ثلاث وتسعين

ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين (ذكر الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) فِمِمَّا كَانَ فِيهَا من ذلك غزوة العباس بن الوليد أرض الروم، ففتح الله على يديه سمسطية. وفيها كانت أيضا غزوة مروان بن الوليد الروم، فبلغ خنجرة وفيها كانت غزوة مسلمة بن عبد الملك أرض الروم، فافتتح ماسة وحصن الحديد وغزاله وبرجمه من ناحيه ملطيه. صلح قتيبة ملك خوارزم شاه وفتح خام جرد وفيها قتل قتيبة ملك خام جرد، وصالح ملك خوارزم صلحا مجددا. ذكر الخبر عن سبب ذلك وكيف كان الأمر فيه: ذكر علي بن مُحَمَّد أن أبا الذيال أخبره عن المهلب بن إياس والحسن بن رشيد، عن طفيل بن مرداس العمي وعلي بن مجاهد، عن حنبل ابن أبي حريدة، عن مرزبان قهستان وكليب بن خلف والباهليين وغيرهم- وقد ذكر بعضهم ما لم يذكر بعض فألفته- أن ملك خوارزم كان ضعيفا، فغلبه أخوه خرزاذ على أمره- وخرزاذ أصغر منه- فكان إذا بلغه أن عند أحد ممن هو منقطع إلى الملك جارية أو دابة أو متاعا فاخرا أرسل فأخذه، أو بلغه أن لأحد منهم بنتا أو أختا أو امرأة جميلة أرسل إليه فغصبه، وأخذ ما شاء، وحبس ما شاء، لا يمتنع عليه أحد، ولا يمنعه الملك، فإذا قيل له، قال: لا أقوى عليه، وقد ملأه مع هذا غيظا، فلما طال ذلك منه عليه كتب إلى قتيبة يدعوه إلى أرضه يريد أن يسلمها إليه، وبعث إليه بمفاتيح مدائن خوارزم، ثلاثة مفاتيح من ذهب، واشترط عليه أن يدفع إليه أخاه وكل من كان يضاده، يحكم فيه بما يرى وبعث في ذلك رسلا، ولم يطلع أحدا من مرازبته ولا دهاقينه على ما كتب به

إلى قتيبة، فقدمت رسله على قتيبة في آخر الشتاء ووقت الغزو، وقد تهيأ للغزو، فأظهر قتيبة أنه يريد السغد، ورجع رسل خوارزم شاه إليه بما يحب من قبل قتيبة، وسار واستخلف على مرو ثابتا الأعور مولى مسلم. قال: فجمع ملوكه وأحباره ودهاقينه فقال: إن قتيبة يريد السغد، وليس بغازيكم، فهلم نتنعم في ربيعنا هذا فأقبلوا على الشرب، والتنعم، وأمنوا عند أنفسهم الغزو. قال: فلم يشعروا حتى نزل قتيبة في هزار سب دون النهر، فقال خوارزم شاه لأصحابه: ما ترون؟ قالوا: نرى أن نقاتله، قال: لكني لا أرى ذلك، قد عجز عنه من هو أقوى منا وأشد شوكة، ولكني أرى أن نصرفه بشيء نؤديه إليه، فنصرفه عامنا هذا، ونرى رأينا. قالوا: ورأينا رأيك فأقبل خوارزم شاه فنزل في مدينة الفيل من وراء النهر. قال: ومدائن خوارزم شاه ثلاث مدائن يطيف بها فارقين واحد، فمدينة الفيل احصهن، فنزلها خوارزم شاه- وقتيبة في هزار سب دون النهر لم يعبره بينه وبين خوارزم شاه نهر بلخ- فصالحه على عشرة آلاف راس، وعين ومتاع، وعلى أن يعينه على ملك خام جرد، وأن يفي له بما كتب إليه، فقبل ذلك منه قتيبة، ووفى له وبعث قتيبة أخاه إلى ملك خام جرد، وكان يعادي خوارزم شاه، فقاتله، فقتله عبد الرحمن، وغلب على أرضه وقدم منهم على قتيبة بأربعة آلاف اسير، فقتلهم، وامر قتيبة لما جاء بهم عبد الرحمن بسريره فأخرج وبرز للناس قال: وأمر بقتل الأسرى فقتل بين يديه ألف وعن يمينه ألف وعن يساره ألف وخلف ظهره ألف قال: قال المهلب بن إياس: أخذت يومئذ سيوف الأشراف فضرب بها الأعناق، فكان فيها ما لا يقطع ولا يجرح، فأخذوا سيفي فلم يضرب به شيء إلا أبانه، فحسدني بعض آل قتيبة، فغمز الذي يضرب أن أصفح به، فصفح به قليلا، فوقع في ضرس المقتول فثلمه. قال أبو الذيال: والسيف عندي قال: ودفع قتيبة إلى خوارزم شاه أخاه

ومن كان يخالفه فقتلهم، واصطفى أموالهم فبعث بها إلى قتيبة، ودخل قتيبة مدينة فيل، فقبل من خوارزم شاه ما صالحه عليه، ثم رجع الى هزار سب وقال كعب الأشقري: رمتك فيل بما فيها وما ظلمت ... ورامها قبلك الفجفاجة الصلف لا يجزى الثغر خوار القناة ولا ... هش المكاسر والقلب الذي يجف هل تذكرون ليالي الترك تقتلهم ... ما دون كازة والفجفاج ملتحف لم يركبوا الخيل إلا بعد ما كبروا ... فهم ثقال على أكتافها عنف أنتم شباس ومرداذان محتقر ... وبسخراء قبور حشوها القلف إني رأيت أبا حفص تفضله ... أيامه ومساعي الناس تختلف قيس صريح وبعض الناس يجمعهم ... قرى وريف فمنسوب ومقترف لو كنت طاوعت أهل العجز ما اقتسموا ... سبعين ألفا وعز السغد مؤتنف وفي سمرقند أخرى أنت قاسمها ... لئن تأخر عن حوبائك التلف ما قدم الناس من خير سبقت به ... ولا يفوتك مما خلفوا شرف قال: انشدنى على بن مجاهد: رمتك فيل بما دون كاز. قال: وكذلك قال الحسن بن رشيد الجوزجاني، وأما غيرهما فقال: رمتك فيل بما فيها. وقالوا: فيل مدينة سمرقند، قال: وأثبتها عندي قول علي بن مجاهد. قال: وقال الباهليون: أصاب قتيبة من خوارزم مائة ألف رأس قال: وكان خاصة قتيبة كلموه سنة ثلاث وتسعين وقالوا: الناس كانون قدموا

من سجستان فأجمهم عامهم هذا، فأبى قال: فلما صالح أهل خوارزم سار إلى السغد، فقال الأشقري: لو كنت طاوعت أهل العجز ما اقتسموا ... سبعين ألفا وعز السغد مؤتنف فتح سمرقند قال أبو جعفر: وفي هذه السنة غزا قتيبة بن مسلم منصرفه من خوارزم سمرقند، فافتتحها. ذكر الخبر عن ذلك: قد تقدم ذكري الإسناد عن القوم الذين ذكر علي بن مُحَمَّد أنه أخذ عنهم حين صالح قتيبة صاحب خوارزم، ثم ذكر مدرجا في ذلك أن قتيبة لما قبض صلح خوارزم قام اليه المجشر بن مزاحم السلمي فقال: إن لي حاجة، فأخلني، فأخلاه، فقال: إن أردت السغد يوما من الدهر فالآن، فإنهم آمنون من أن تأتيهم من عامك هذا، وإنما بينك وبينهم عشرة أيام. قال: أشار بهذا عليك أحد؟ قال: لا، قال: فأعلمته أحدا؟ قال: لا، قال: والله لئن تكلم به أحد لأضربن عنقك فأقام يومه ذلك، فلما أصبح من الغد دعا عبد الرحمن فقال: سر في الفرسان والمرامية، وقدم الأثقال إلى مرو، فوجهت الأثقال إلى مرو، ومضى عبد الرحمن يتبع الأثقال يريد مرو، يومه كله، فلما أمسى كتب إليه: إذا أصبحت فوجه الأثقال إلى مرو وسر في الفرسان والمرامية نحو السغد، وأكتم الأخبار، فإني بالأثر. قال: فلما أتى عبد الرحمن الخبر أمر أصحاب الأثقال أن يمضوا إلى مرو، وسار حيث أمره، وخطب قتيبة الناس فقال: إن الله قد فتح لكم هذه البلدة في وقت الغزو فيه ممكن، وهذه السغد شاغرة برجلها، قد نقضوا العهد الذي كان بيننا، منعونا ما كنا

صالحنا عليه طرخون، وصنعوا به ما بلغكم، وقال الله: «فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ» ، فسيروا على بركة الله، فإني أرجو أن يكون خوارزم والسغد كالنضير وقريظة، وقال الله: «وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها. » قال: فأتى السغد وقد سبقه إليها عبد الرحمن بن مسلم في عشرين ألفا، وقدم عليه قتيبة في أهل خوارزم وبخارى بعد ثلاثة أو أربعة من نزول عبد الرحمن بهم، فقال: إنا إذا نزلنا بساحة قوم «فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ. » فحصرهم شهرا، فقاتلوا في حصارهم مرارا من وجه واحد. وكتب أهل السغد وخافوا طول الحصار إلى ملك الشاش وإخشاذ فرغانة: أن العرب إن ظفروا بنا عادوا عليكم بمثل ما أتونا به، فانظروا لأنفسكم. فأجمعوا على أن يأتوهم، وأرسلوا إليهم: أرسلوا من يشغلهم حتى نبيت عسكرهم. قال: وانتخبوا فرسانا من أبناء المرازبة والأساورة والأشداء الأبطال فوجهوهم وأمروهم أن يبيتوا عسكرهم، وجاءت عيون المسلمين فأخبروهم. فانتخب قتيبة ثلاثمائة او ستمائه من اهل النجده، واستعمل عليهم صالح ابن مسلم، فصيرهم في الطريق الذي يخاف أن يؤتى منه وبعث صالح عيونا يأتونه بخبر القوم، ونزل على فرسخين من عسكر القوم، فرجعت إليه عيونه فأخبروه أنهم يصلون إليه من ليلتهم، ففرق صالح خيله ثلاث فرق، فجعل كمينا في موضعين، وأقام على قارعة الطريق، وطرقهم المشركون ليلا، ولا يعلمون بمكان صالح، وهم آمنون في أنفسهم من أن يلقاهم أحد دون العسكر، فلم يعلموا بصالح حتى غشوه قال: فشدوا عليه حتى إذا اختلفت الرماح بينهم خرج الكمينان فاقتتلوا قال: وقال رجل من البراجم: حصرتهم فما رأيت قط قوما كانوا أشد قتالا من أبناء أولئك الملوك ولا أصبر، فقتلناهم فلم يفلت منهم إلا نفر يسير وحوينا

سلاحهم، واحتززنا رءوسهم، وأسرنا منهم أسرى، فسألناهم عمن قتلنا، فقالوا: ما قتلتم إلا ابن ملك، أو عظيما من العظماء، أو بطلا من الأبطال، ولقد قتلتم رجالا إن كان الرجل ليعدل بمائة رجل فكتبنا على آذانهم، ثم دخلنا العسكر حين أصبحنا وما منا رجل إلا معلق رأسا معروفا باسمه، وسلبنا من جيد السلاح وكريم المتاع ومناطق الذهب ودواب فرهة فنفلنا قتيبة ذلك كله وكسر ذلك أهل السغد، ووضع قتيبة عليهم المجانيق، فرماهم بها، وهو في ذلك يقاتلهم لا يقلع عنهم، وناصحه من معه من أهل بخارى وأهل خوارزم، فقاتلوا قتالا شديدا، وبذلوا أنفسهم. فأرسل إليه غوزك: إنما تقاتلني بإخوتي وأهل بيتي من العجم، فأخرج إلي العرب، فغضب قتيبة ودعا الجدلي فقال: اعرض الناس، وميز، أهل البأس فجمعهم، ثم جلس قتيبة يعرضهم بنفسه، ودعا العرفاء فجعل يدعو برجل رجل فيقول: ما عندك؟ فيقول العريف: شجاع، ويقول: ما هذا؟ فيقول: مختصر، ويقول: ما هذا؟ فيقول: جبان، فسمى قتيبة الجبناء الأنتان، وأخذ خيلهم وجيد سلاحهم فأعطاه الشجعان والمختصرين، وترك لهم رث السلاح، ثم زحف بهم فقاتلهم بهم فرسانا ورجالا، ورمى المدينة بالمجانيق، فثلم فيها ثلمة فسدوها بغرائر الدخن، وجاء رجل حتى قام على الثلمة فشتم قتيبة، وكان مع قتيبة قوم رماة، فقال لهم قتيبة: اختاروا منكم رجلين، فاختاروا، فقال: أيكما يرمي هذا الرجل، فإن أصابه فله عشرة آلاف، وإن أخطأه قطعت يده؟ فتلكأ أحدهما وتقدم الآخر، فرماه فلم يخطئ عينه، فأمر له بعشرة آلاف قال: وأخبرنا الباهليون، عن يحيى بن خالد، عن أبيه خالد بن باب مولى مسلم بن عمرو، قال: كنت في رماة قتيبة، فلما افتتحنا المدينة صعدت السور فأتيت مقام ذلك الرجل الذي كان فيه فوجدته ميتا على الحائط، ما أخطأت النشابة عينه حتى خرجت من قفاه، ثم أصبحوا من

غد فرموا المدينة، فثلموا فيها وقال قتيبة: ألحوا عليها حتى تعبروا الثلمة، فقاتلوهم حتى صاروا على ثلمة المدينة، ورماهم السغد بالنشاب، فوضعوا ترستهم فكان الرجل يضع ترسه على عينه، ثم يحمل حتى صاروا على الثلمة، فقالوا له: انصرف عنا اليوم حتى نصالحك غدا فأما باهلة فيقولون: قال قتيبة: لا نصالحهم إلا ورجالنا على الثلمة، ومجانيقنا تخطر على رءوسهم ومدينتهم قال: وأما غيرهم فيقولون: قال قتيبة: جزع العبيد، فانصرفوا على ظفركم، فانصرفوا، فصالحهم من الغد على ألفي ألف ومائتي ألف في كل عام، على أن يعطوه تلك السنة ثلاثين ألف رأس، ليس فيهم صبي ولا شيخ ولا عيب، على أن يخلوا المدينة لقتيبة فلا يكون لهم فيها مقاتل، فيبنى له فيه مسجد فيدخل ويصلي، ويوضع له فيها منبر فيخطب، ويتغدى ويخرج قال: فلما تم الصلح بعث قتيبة عشرة، من كل خمس برجلين، فقبضوا ما صالحوهم عليه، فقال قتيبة: الآن ذلوا حين صار إخوانهم وأولادهم في أيديكم ثم أخلوا المدينة وبنوا مسجدا ووضعوا منبرا، ودخلها في أربعة آلاف. انتخبهم، فلما دخلها أتى المسجد فصلى وخطب ثم تغدى، وأرسل إلى أهل السغد: من أراد منكم أن يأخذ متاعه فليأخذه، فإني لست خارجا منها، وإنما صنعت هذا لكم، ولست آخذ منكم أكثر مما صالحتكم عليه، غير أن الجند يقيمون فيها. قال: أما الباهليون فيقولون: صالحهم قتيبة على مائة ألف رأس، وبيوت النيران وحلية الأصنام، فقبض ما صالحهم عليه، وأتى بالأصنام فسلبت، ثم وضعت بين يديه، فكانت كالقصر العظيم حين جمعت، فأمر بتحريقها، فقالت الأعاجم: إن فيها أصناما من حرقها هلك، فقال قتيبة أنا أحرقها بيدي، فجاء غوزك، فجثا بين يديه وقال:

أيها الأمير، إن شكرك علي واجب، لا تعرض لهذه الأصنام، فدعا قتيبة بالنار وأخذ شعلة بيده، وخرج فكبر، ثم أشعلها، وأشعل الناس فاضطرمت، فوجدوا من بقايا ما كان فيها من مسامير الذهب والفضة خمسين ألف مثقال. قال: وأخبرنا مخلد بن حمزة بن بيض، عن أبيه، قال: حدثني من شهد قتيبة وفتح سمرقند أو بعض كور خراسان فاستخرجوا منها قدورا عظاما من نحاس، فقال قتيبة لحضين: يا أبا ساسان، أترى رقاش كان لها مثل هذه القدور؟ قال: لا، لكن كان لعيلان قدر مثل هذه القدور، فضحك قتيبة وقال: أدركت بثأرك. قال: وقال مُحَمَّد بن أبي عيينة لسلم بن قتيبة بين يدي سُلَيْمَان بن علي: إن العجم ليعيرون قتيبة الغدر إنه غدر بخوارزم وسمرقند. قال: فأخبرنا شيخ من بني سدوس عن حمزة بن بيض قال: أصاب قتيبة بخراسان بالسغد جارية من ولد يزدجرد، فقال: أترون ابن هذه يكون هجينا؟ فقالوا: نعم، يكون هجينا من قبل أبيه، فبعث بها إلى الحجاج، فبعث بها الحجاج إلى الوليد، فولدت له يزيد ابن الوليد. قال: وأخبرنا بعض الباهليين، عن نهشل بن يزيد، عن عمه- وكان قد أدرك ذلك كله- قال: لما رأى غوزك إلحاح قتيبة عليهم كتب إلى ملك الشاش وإخشاذ فرغانة وخاقان: إنا نحن دونكم فيما بينكم وبين العرب، فإن وصل إلينا كنتم أضعف وأذل، فمهما كان عندكم من قوة فابذلوها، فنظروا في أمرهم فقالوا: إنما نؤتى من سفلتنا، وإنهم لا يجدون كوجدنا، ونحن معشر الملوك المعنيون بهذا الأمر، فانتخبوا أبناء الملوك وأهل النجدة من فتيان ملوكهم، فليخرجوا حتى يأتوا عسكر قتيبة فليبيت، فإنه مشغول بحصار السغد، ففعلوا، ولوا عليهم ابنا لخاقان، وساروا وقد

أجمعوا أن يبيتوا العسكر، وبلغ قتيبة فانتخب أهل النجدة والبأس ووجوه الناس، فكان شعبة بن ظهير وزهير بن حيان فيمن انتخب، فكانوا أربعمائة، فقال لهم: إن عدوكم قد رأوا بلاء الله عندكم، وتأييده إياكم في مزاحفتكم ومكاثرتكم، كل ذلك يفلجكم الله عليهم، فأجمعوا على أن يحتالوا غرتكم وبياتكم، واختاروا دهاقينهم وملوكهم، وأنتم دهاقين العرب وفرسانهم، وقد فضلكم الله بدينه، فابلوا الله بلاء حسنا تستوجبون به الثواب، مع الذب عن أحسابكم قال: ووضع قتيبة عيونا على العدو حتى إذا قربوا منه قدر ما يصلون إلى عسكره من الليل أدخل الذين انتخبهم، فكلمهم وحضهم، واستعمل عليهم صالح بن مسلم، فخرجوا من العسكر عند المغرب، فساروا، فنزلوا على فرسخين من العسكر على طريق القوم الذين وصفوا لهم، ففرق صالح خيله، وأكمن كمينا عن يمينه، وكمينا عن يساره، حتى إذا مضى نصف الليل أو ثلثاه، جاء العدو باجتماع وإسراع وصمت، وصالح واقف في خيله، فلما رأوه شدوا عليه، حتى إذا اختلفت الرماح شد الكمينان عن يمين وعن شمال، فلم نسمع إلا الاعتزاء، فلم نر قوما كانوا أشد منهم. قال: وقال رجل من البراجم: حدثني زهير أو شعبة قال: إنا لنختلف عليهم بالطعن والضرب إذ تبينت تحت الليل قتيبة، وقد ضربت ضربة أعجبتني وأنا أنظر إلى قتيبة، فقلت: كيف ترى بأبي أنت وأمي! قال: اسكت دق الله فاك! قال: فقتلناهم فلم يفلت منهم إلا الشريد، وأقمنا نحوي الأسلاب ونحتز الرءوس حتى أصبحنا، ثم أقبلنا إلى العسكر، فلم أر جماعة قط جاءوا بمثل ما جئنا به، ما منا رجل إلا معلق رأسا معروفا باسمه، وأسير في وثاقه. قال: وجئنا قتيبة بالرءوس، فقال: جزاكم الله عن الدين والأعراض خيرا وأكرمني قتيبة من غير أن يكون باح لي بشيء، وقرن بي في الصلة والاكرام حيان العدوى وحليسا الشيباني، فظننت أنه رأى منهما مثل الذي راى

مني، وكسر ذلك أهل السغد، فطلبوا الصلح، وعرضوا الفدية فأبى، وقال: أنا ثائر بدم طرخون، كان مولاي وكان من أهل ذمتي. قالوا: حدث عمرو بن مسلم، عن أبيه، قال: أطال قتيبة المقام، وثلمت الثلمة في سمرقند قال: فنادى مناد فصيح بالعربية يشتم قتيبة، قال: فقال عمرو بن أبي زهدم: ونحن حول قتيبة، فحين سمعنا الشتم خرجنا مسرعين، فمكثنا طويلا وهو ملح بالشتم، فجئت إلى رواق قتيبة فاطلعت، فإذا قتيبة محتب بشملة يقول كالمناجي لنفسه: حتى متى يا سمرقند يعشش فيك الشيطان! أما والله لئن أصبحت لأحاولن من أهلك أقصى غاية، فانصرفت إلى أصحابي، فقلت: كم من نفس أبية ستموت غدا منا ومنهم! وأخبرتهم الخبر. قال: وأما باهلة فيقولون: سار قتيبة فجعل النهر يمينه حتى ورد بخارى، فاستنهضهم معه، وسار حتى إذا كان بمدينة أربنجن، وهي التي تجلب منها اللبود الأربنجنية، لقيهم غوزك صاحب السغد في جمع عظيم من الترك وأهل الشاش وفرغانة، فكانت بينهم وقائع من غير مزاحفة، كل ذلك يظهر المسلمون، ويتحاجزون حتى قربوا من مدينة سمرقند، فتزاحفوا يومئذ، فحمل السغد على المسلمين حملة حطموهم حتى جازوا عسكرهم، ثم كر المسلمون عليهم حتى ردوهم إلى عسكرهم، وقتل الله من المشركين عددا كثيرا، ودخلوا مدينة سمرقند فصالحوهم. قال: وأخبرنا الباهليون عن حاتم بن أبي صغيرة، قال: رأيت خيلا يومئذ تطاعن خيل المسلمين، وقد أمر يومئذ قتيبة بسريره فأبرز، وقعد عليه، وطاعنوهم حتى جازوا قتيبة، وإنه لمحتب بسيفه ما حل حبوته، وانطوت مجنبتا المسلمين على الذين هزموا القلب، فهزموهم حتى ردوهم إلى عسكرهم، وقتل من المشركين عدد كثير، ودخلوا مدينة سمرقند فصالحوهم وصنع غوزك طعاما ودعا قتيبة، فأتاه في عدد من أصحابه، فلما تغدى استوهب منه سمرقند، فقال للملك: انتقل عنها، فانتقل عنها، وتلا قتيبة: «وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى»

قال: وأخبرنا أبو الذيال، عن عمر بن عبد الله التميمي، قال: حدثني الذي سرحه قتيبة إلى الحجاج بفتح سمرقند، قال: قدمت على الحجاج فوجهني إلى الشام، فقدمتها فدخلت مسجدها، فجلست قبل طلوع الشمس وإلى جنبي رجل ضرير، فسألته عن شيء من أمر الشام، فقال: إنك لغريب، قلت: أجل، قال: من أي بلد أنت؟ قلت: من خراسان قال: ما أقدمك؟ فأخبرته، فقال: والذي بعث مُحَمَّدا بالحق ما افتتحتموها إلا غدرا، وإنكم يا أهل خراسان للذين تسلبون بني أمية ملكهم، وتنقضون دمشق حجرا حجرا قال: وأخبرنا العلاء بن جرير، قال: بلغني أن قتيبة لما فتح سمرقند وقف على جبلها فنظر إلى الناس متفرقين في مروج السغد، فتمثل قول طرفة: وأرتع أقوام ولولا محلنا ... بمخشية ردوا الجمال فقوضوا قال: وأخبرنا خالد بن الأصفح، قال: قال الكميت: كانت سمرقند أحقابا يمانية ... فاليوم تنسبها قيسية مضر قال: وقال أبو الحسن الجشمي: فدعا قتيبة نهار بن توسعة حين صالح أهل السغد، فقال: يا نهار، أين قولك: ألا ذهب الغزو المقرب للغنى ... ومات الندى والجود بعد المهلب أقاما بمرو الروذ رهن ضريحه ... وقد غيبا عن كل شرق ومغرب أفغزو هذا يا نهار؟ قال: لا، هذا أحسن، وأنا الذي أقول: وما كان مذ كنا ولا كان قبلنا ... ولا هو فيما بعدنا كابن مسلم أعم لأهل الترك قتلا بسيفه ... وأكثر فينا مقسما بعد مقسم

قال: ثم ارتحل قتيبة راجعا إلى مرو، واستخلف على سمرقند عبد الله ابن مسلم، وخلف عنده جندا كثيفا، وآلة من آلة الحرب كثيرة، وقال: لا تدعن مشركا يدخل بابا من أبواب سمرقند إلا مختوم اليد، وإن جفت الطينة قبل أن يخرج فاقتله، وإن وجدت معه حديدة، سكينا فما سواه فاقتله، وإن أغلقت الباب ليلا فوجدت فيها أحدا منهم فاقتله، فقال كعب الأشقري- ويقال رجل من جعفي: كل يوم يحوي قتيبة نهبا ... ويزيد الأموال مالا جديدا باهلي قد ألبس التاج حتى ... شاب منه مفارق كن سودا دوخ السغد بالكتائب حتى ... ترك السغد بالعراء قعودا فوليد يبكي لفقد أبيه ... وأب موجع يبكي الوليدا كلما حل بلدة أو أتاها ... تركت خيله بها أخدودا قال: وقال قتيبة: هذا العداء لا عداء عيرين، لأنه فتح خوارزم وسمرقند في عام واحد، وذلك أن الفارس إذا صرع في طلق واحد عيرين قيل: عادى بين عيرين ثم انصرف عن سمرقند فأقام بمرو وكان عامله على خوارزم إياس بن عبد الله بن عمرو على حربها، وكان ضعيفا وكان على خراجها عبيد الله بن أبي عبيد الله مولى بني مسلم. قال: فاستضعف أهل خوارزم إياسا، وجمعوا له، فكتب عبيد الله إلى قتيبة، فبعث قتيبة عبد الله بن مسلم في الشتاء عاملا، وقال: اضرب إياس بن عبد الله وحيان النبطي مائة مائة، واحلقهما، وضم إليك عبيد الله بن أبي عبيد الله، مولى بني مسلم، واسمع منه فإن له وفاء. فمضى حتى إذا كان من خوارزم على سكة، فدس إلى إياس فأنذره فتنحى، وقدم فأخذ حيان فضربه مائة وحلقه. قال: ثم وجه قتيبة بعد عبد الله المغيرة بن عبد الله في الجنود إلى خوارزم، فبلغهم ذلك، فلما قدم المغيرة اعتزل أبناء الذين قتلهم

فتح طليطلة

خوارزم شاه، وقالوا: لا نعينك، فهرب إلى بلاد الترك وقدم المغيرة فسبى وقتل، وصالحه الباقون، فأخذ الجزية وقدم على قتيبة، فاستعمله على نيسابور. فتح طليطلة وفي هذه السنة عزل موسى بن نصير طارق بن زياد عن الأندلس ووجهه إلى مدينة طليطلة. ذكر الخبر عن ذَلِكَ: ذكر مُحَمَّد بن عمر أن موسى بن نصير غضب على طارق في سنة ثلاث وتسعين، فشخص إليه في رجب منها، ومعه حبيب بن عقبة بن نافع الفهري، واستخلف حين شخص على إفريقية ابنه عبد الله بن موسى بن نصير، وعبر موسى إلى طارق في عشرة آلاف، فتلقاه، فترضاه فرضي عنه، وقبل منه عذره، ووجهه منها إلى مدينة طليطلة- وهي من عظام مدائن الأندلس، وهي من قرطبة على عشرين يوما- فأصاب فيها مائدة سُلَيْمَان بن داود، فيها من الذهب والجوهر ما الله أعلم به. قال: وفيها أجدب أهل إفريقية جدبا شديدا، فخرج موسى بن نصير فاستسقى، ودعا يومئذ حتى انتصف النهار، وخطب الناس، فلما أراد أن ينزل قيل له: ألا تدعو لأمير المؤمنين! قال: ليس هذا يوم ذاك، فسقوا سقيا كفاهم حينا. خبر عزل عمر بن عبد العزيز عن الحجاز وفيها عزل عمر بن عبد العزيز عن المدينة. ذكر سبب عزل الوليد إياه عنها: وكان سبب ذلك- فيما ذكر- أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الوليد يخبره بعسف الحجاج أهل عمله بالعراق، واعتدائه عليهم، وظلمه لهم بغير حق ولا جناية، وأن ذلك بلغ الحجاج، فاضطغنه على عمر، وكتب إلى الوليد: أن من قبلي من مراق أهل العراق وأهل الشقاق قد جلوا عن

العراق، ولجئوا إلى المدينة ومكة، وأن ذلك وهن. فكتب الوليد إلى الحجاج: أن أشر علي برجلين، فكتب إليه يشير عليه بعثمان بن حيان وخالد بن عبد الله، فولى خالدا مكة وعثمان المدينة، وعزل عمر بن عبد العزيز. قال: مُحَمَّد بن عمر: خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة فأقام بالسويداء وهو يقول لمزاحم: أتخاف أن تكون ممن نفته طيبة! وفيها ضرب عمر بن عبد العزيز خبيب بن عبد الله بن الزبير بأمر الوليد إياه، وصب على رأسه قربة من ماء بارد ذكر مُحَمَّد بن عمر، أن أبا المليح حدثه عمن حضر عمر بن عبد العزيز حين جلد خبيب بن عبد الله بن الزبير خمسين سوطا، وصب على رأسه قربة من ماء في يوم شات، ووقفه على باب المسجد، فمكث يومه ثم مات. وحج بالناس في هذه السنة عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر. وكانت عمال الأمصار في هذه السنة عمالها في السنة التي قبلها، إلا ما كان من المدينة، فإن العامل عليها كان عثمان بن حيان المري، وليها- فيما قيل- في شعبان سنة ثلاث وتسعين. وأما الواقدي فإنه قال: قدم عثمان المدينة لليلتين بقيتا من شوال سنة أربع وتسعين. وقال بعضهم: شخص عمر بن عبد العزيز عن المدينة معزولا في شعبان من سنة ثلاث وتسعين وغزا فيها، واستخلف عليها حين شخص عنها أبا بكر بن مُحَمَّد بن عمرو بن حزم الأنصاري وقدم عثمان بن حيان المدينة لليلتين بقيتا من شوال

سنه اربع وتسعين

ثم دخلت سنة أربع وتسعين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من غزوة العباس بن الوليد أرض الروم، فقيل: إنه فتح فيها أنطاكية وفيها غزا- فيما قيل- عبد العزيز بن الوليد أرض الروم حتى بلغ غزالة وبلغ الوليد بن هشام المعيطي أرض برج الحمام، ويزيد بن أبي كبشة أرض سورية. وفيها كانت الرجفة بالشام وفيها افتتح القاسم بن محمد الثقفى ارض الهند. غزو الشاش وفرغانه وفيها غزا قتيبة شاش وفرغانة حتى بلغ خجندة وكاشان، مدينتي فرغانة. ذكر الخبر عن غزوة قتيبة هذه: ذكر علي بن مُحَمَّد، أن أبا الفوارس التميمي، أخبره عن ماهان ويونس ابن أبي إسحاق، أن قتيبة غزا سنة أربع وتسعين فلما قطع النهر فرض على أهل بخارى وكس ونسف وخوارزم عشرين ألف مقاتل قال: فساروا معه إلى السغد، فوجهوا إلى الشاش، وتوجه هو إلى فرغانة، وسار حتى أتى خجندة، فجمع له أهلها فلقوه فاقتتلوا مرارا، كل ذلك يكون الظفر للمسلمين ففرغ الناس يوما فركبوا خيولهم، فأوفى رجل على نشز فقال: تالله ما رأيت كاليوم غرة، لو كان هيج اليوم ونحن على ما ارى

من الانتشار لكانت الفضيحة، فقال له رجل إلى جنبه: كلا، نحن كما قال عوف بن الخرع: نؤم البلاد لحب اللقا ... ولا نتقي طائرا حيث طارا سنيحا ولا جاريا بارحا ... على كل حال نلاقي اليسارا وقال سحبان وائل يذكر قتالهم بخجندة: فسل الفوارس في خجندة ... تحت مرهفة العوالي هل كنت أجمعهم إذا ... هزموا وأقدم في قتالي أم كنت أضرب هامة ... العاتي وأصبر للعوالي هذا وأنت قريع قيس ... كلها ضخم النوال وفضلت قيسا في الندى ... وأبوك في الحجج الخوالي ولقد تبين عدل حكمك ... فيهمُ في كل مال تمت مروءتكم وناغي ... عزكم غلب الجبال قال: ثم أتى قتيبة كاشان مدينة فرغانة، وأتاه الجنود الذين وجههم إلى الشاش وقد فتحوها وحرقوا أكثرها، وانصرف قتيبة إلى مرو وكتب الحجاج إلى مُحَمَّد بن القاسم الثقفي أن وجه من قبلك من أهل العراق إلى قتيبة، ووجه إليهم جهم بن زحر بن قيس، فإنه في أهل العراق خير منه في أهل الشام وكان مُحَمَّد وادا الجهم بن زحر، فبعث سُلَيْمَان بن صعصعة وجهم بن زحر، فلما ودعه جهم بكى وقال: يا جهم، إنه للفراق، قال: لا بد منه. قال: وقدم على قتيبة سنة خمس وتسعين.

ولايه عثمان بن حيان المري على المدينة

ولايه عثمان بن حيان المري على المدينة وفي هذه السنة قدم عثمان بن حيان المري المدينة واليا عليها من قبل الوليد بن عبد الملك. ذكر الخبر عن ولايته: قد ذكرنا قبل سبب عزل الوليد عمر بن عبد العزيز عن المدينة ومكة وتأميره على المدينة عثمان بن حيان، فزعم مُحَمَّد بن عمر أن عثمان قدم المدينة أميرا عليها لليلتين بقيتا من شوال سنة أربع وتسعين، فنزل بها دار مروان وهو يقول: محله والله مظعان، المغرور من غربك فاستقضى أبا بكر بن حزم. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عبد الله بن أبي حرة، عن عمه قال: رأيت عثمان بن حيان أخذ رياح بن عبيد الله ومنقذا العراقي فحبسهم وعاقبهم، ثم بعث بهم في جوامع إلى الحجاج بن يوسف، ولم يترك بالمدينة أحدا من أهل العراق تاجرا ولا غير تاجر، وأمر بهم أن يخرجوا من كل بلد، فرأيتهم في الجوامع، وأتبع أهل الأهواء، وأخذ هيصما فقطعه، ومنحورا- وكان من الخوارج- قال: وسمعته يخطب على المنبر يقول بعد حمد الله: أيها الناس، إنا وجدناكم أهل غش لأمير المؤمنين في قديم الدهر وحديثه، وقد ضوى إليكم من يزيدكم خبالا أهل العراق هم أهل الشقاق والنفاق، هم والله عش النفاق وبيضته التي تفلقت عنه والله ما جربت عراقيا قط إلا وجدت أفضلهم عند نفسه الذي يقول في آل أبي طالب ما يقول، وما هم لهم بشيعة، وإنهم لأعداء لهم ولغيرهم، ولكن لما يريد الله من سفك دمائهم فإني والله لا أوتى بأحد آوى أحدا منهم، أو أكراه منزلا، ولا أنزله، إلا هدمت منزله، وأنزلت به ما هو أهله ثم إن البلدان لما مصرها عمر بن الخطاب وهو مجتهد على ما يصلح رعيته جعل يمر عليه من يريد الجهاد فيستشيره: الشام أحب إليك أم العراق؟ فيقول: الشام أحب إلي إني رأيت العراق داء عضالا، وبها فرخ الشيطان والله

لقد أعضلوا بي، وإني لأراني سأفرقهم في البلدان، ثم أقول: لو فرقتهم لأفسدوا من دخلوا عليه بجدل وحجاج، وكيف؟ ولم؟ وسرعة وجيف في الفتنة، فإذا خبروا عند السيوف لم يخبر منهم طائل لم يصلحوا على عثمان، فلقي منهم الأمرين، وكانوا أول الناس فتق هذا الفتق العظيم، ونقضوا عرى الإسلام عروة عروة، وأنغلوا البلدان والله إني لأتقرب إلى الله بكل ما أفعل بهم لما أعرف من رأيهم ومذاهبهم ثم وليهم أمير المؤمنين معاوية فدامجهم فلم يصلحوا عليه، ووليهم رجل الناس جلدا فبسط عليهم السيف، وأخافهم، فاستقاموا له أحبوا أو كرهوا، وذلك أنه خبرهم وعرفهم. أيها الناس، إنا والله ما رأينا شعارا قط مثل الأمن، ولا رأينا حلسا قط شرا من الخوف فالزموا الطاعة، فان عندي يا اهل المدينة حبره من الخلاف والله ما أنتم بأصحاب قتال، فكونوا من أحلاس بيوتكم وعضوا على النواجذ، فإني قد بعثت في مجالسكم من يسمع فيبلغني عنكم أنكم في فضول كلام غيره ألزم لكم، فدعوا عيب الولاة، فإن الأمر إنما ينقض شيئا شيئا حتى تكون الفتنة وإن الفتنة من البلاء، والفتن تذهب بالدين وبالمال والولد. قال: يقول القاسم بن مُحَمَّد: صدق في كلامه هذا الأخير، إن الفتنة لهكذا قال مُحَمَّد بن عمر: وحدثني خالد بن القاسم، عن سعيد بن عمرو الأنصاري، قال: رأيت منادي عثمان بن حيان ينادي عندنا: يا بني أمية بن زيد، برئت ذمه ممن آوى عراقيا- وكان عندنا رجل من أهل البصرة له فضل

ذكر الخبر عن مقتل سعيد بن جبير

يقال له أبو سوادة، من العباد- فقال: والله ما أحب أن أدخل عليكم مكروها، بلغوني مأمني، قلت: لا خير لك في الخروج إن الله يدفع عنا وعنك قال: فأدخلته بيتي، وبلغ عثمان بن حيان فبعث أحراسا فأخرجته إلى بيت أخي، فما قدروا على شيء وكان الذي سعى بي عدوا، فقلت للأمير: أصلح الله الأمير! يؤتى بالباطل فلا تعاقب عليه قال: فضرب الذي سعى بي عشرين سوطا وأخرجنا العراقي، فكان يصلي معنا ما يغيب يوما واحدا، وحدب عليه أهل دارنا، فقالوا: نموت دونك! فما برح حتى عزل الخبيث. قال مُحَمَّد بن عمر: وحدثنا عبد الحكيم بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، قَالَ: إنما بعث الوليد عثمان بن حيان إلى المدينة لإخراج من بها من العراقيين وتفريق أهل الأهواء ومن ظهر عليهم أو علا بأمرهم، فلم يبعثه واليا، فكان لا يصعد المنبر ولا يخطب عليه، فلما فعل في أهل العراق ما فعل، وفي منحور وغيره أثبته على المدينة، فكان يصعد على المنبر. ذكر الخبر عن مقتل سعيد بن جبير وفي هذه السنة قتل الحجاج سعيد بن جبير. ذكر الخبر عن مقتله: وكان سبب قتل الحجاج إياه خروجه عليه مع من خرج عليه مع عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّدِ بْنِ الأشعث، وكان الحجاج جعله على عطاء الجند حين وجه عبد الرحمن إلى رتبيل لقتاله، فلما خلع عبد الرحمن الحجاج كان سعيد فيمن خلعه معه، فلما هزم عبد الرحمن وهرب إلى بلاد رتبيل هرب سعيد. فحدثنا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عياش، قال: كتب الحجاج إلى فلان وكان على أصبهان- وكان سعيد، قال الطبري: أظنه أنه لما هرب

من الحجاج ذهب إلى أصبهان فكتب إليه-: أن سعيدا عندك فخذه فجاء الأمر إلى رجل تحرج، فأرسل إلى سعيد: تحول عني، فتنحى عنه، فأتى أذربيجان، فلم يزل بأذربيجان فطال عليه السنون، واعتمر فخرج إلى مكة فأقام بها، فكان أناس من ضربه يستخفون فلا يخبرون بأسمائهم قال: فقال أبو حصين وهو يحدثنا هذا: فبلغنا أن فلانا قد أمر على مكة، فقلت له: يا سعيد، إن هذا الرجل لا يؤمن، وهو رجل سوء، وأنا أتقيه عليك، فاظعن واشخص، فقال: يا أبا حصين، قد والله فررت حتى استحييت من الله! سيجيئني ما كتب الله لي قلت: أظنك والله سعيدا كما سمتك أمك قال: فقدم ذلك الرجل إلى مكة، فأرسل فأخذ فلان له وكلمه، فجعل يديره وذكر أبو عاصم عن عمر بن قيس، قال: كتب الحجاج إلى الوليد: أن أهل النفاق والشقاق قد لجئوا إلى مكة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي فيهم! فكتب الوليد إلى خالد بن عبد الله القسري، فأخذ عطاء وسعيد بن جبير ومجاهد وطلق بن حبيب وعمرو بن دينار، فأما عمرو بن دينار وعطاء فأرسلا لأنهما مكيان، وأما الآخرون فبعث بهم إلى الحجاج، فمات طلق في الطريق، وحبس مجاهد حتى مات الحجاج. وقتل سعيد بن جبير. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ، قال: حدثنا الأشجعي، قال: لما أقبل الحرسيان بسعيد بن جبير نزل منزلا قريبا من الربذة، فانطلق أحد الحرسيين في حاجته وبقي الآخر، فاستيقظ الذي عنده، وقد رأى رؤيا، فقال: يا سعيد، إني أبرأ إلى الله من دمك! انى رايت في منامي، فقيل لي: ويلك! تبرأ من دم سعيد بن جبير اذهب حيث شئت لا أطلبك أبدا، فقال سعيد: أرجو العافية وأرجو وأبى حتى

جاء ذاك، فنزلا من الغد، فأري مثلها، فقيل: أبرأ من دم سعيد. فقال: يا سعيد، اذهب حيث شئت، إني أبرأ إلى الله من دمك، حتى جاء به. فلما جاء به إلى داره التي كان فيها سعيد وهي دارهم هذه، حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ، قال: حدثنا يزيد بن أبي زياد مولى بني هاشم قال: دخلت عليه في دار سعيد هذه، جيء به مقيدا فدخل عليه قراء أهل الكوفة قلت: يا أبا عبد الله، فحدثكم؟ قال: إي والله ويضحك، وهو يحدثنا، وبنية له في حجره، فنظرت نظرة فأبصرت القيد فبكت، فسمعته يقول: أي بنية لا تطيري، إياك- وشق والله عليه- فاتبعناه نشيعه، فانتهينا به إلى الجسر، فقال الحرسيان: لا نعبر به أبدا حتى يعطينا كفيلا، نخاف أن يغرق نفسه. قال: قلنا: سعيد يغرق نفسه! فما عبروا حتى كفلنا به. قال وهب بن جرير: حَدَّثَنَا أبي، قال: سمعت الفضل بن سويد قال: بعثني الحجاج في حاجة، فجيء بسعيد بن جبير، فرجعت فقلت: لأنظرن ما يصنع، فقمت على رأس الحجاج، فقال له الحجاج: يا سعيد، ألم أشركك في أمانتي! ألم أستعملك! ألم أفعل! حتى ظننت أنه يخلي سبيله، قال: بلى، قال: فما حملك على خروجك علي؟ قال: عزم علي، قال: فطار غضبا وقال: هيه! رأيت لعزمة عدو الرحمن عليك حقا، ولم تر لله ولا لأمير المؤمنين ولا لي عليك حقا! اضربا عنقه، فضربت عنقه، فندر رأسه عليه كمة بيضاء لا طيه صغيرة. وحدثت عن أبي غسان مالك بن إسماعيل، قال: سمعت خلف بن خليفة يذكر عن رجل قال: لما قتل سعيد بن جبير فندر رأسه لله، هلل ثلاثا: مرة يفصح بها. وفي الثنتين يقول مثل ذلك فلا يفصح بها وذكر أبو بكر الباهلي، قال: سمعت أنس بن أبي شيخ، يقول: لما

أتي الحجاج بسعيد بن جبير، قال: لعن الله ابن النصرانية- قال: يعني خالدا القسري، وهو الذي أرسل به من مكة- أما كنت أعرف مكانه! بلى والله والبيت الذي هو فيه بمكة ثم أقبل عليه فقال: يا سعيد، ما أخرجك علي؟ فقال: أصلح الله الأمير! إنما أنا امرؤ من المسلمين يخطئ مرة ويصيب مرة، قال: فطابت نفس الحجاج، وتطلق وجهه، ورجا أن يتخلص من أمره، قال: فعاوده في شيء، فقال له: إنما كانت له بيعة في عنقي، قال: فغضب وانتفخ حتى سقط أحد طرفي ردائه عن منكبه، فقال: يا سعيد، ألم أقدم مكة فقتلت ابن الزبير، ثم أخذت بيعة أهلها، وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين عبد الملك! قال: بلى، قال: ثم قدمت الكوفة واليا على العراق فجددت لأمير المؤمنين البيعة، فأخذت بيعتك له ثانية! قال: بلى، قال: فتنكث بيعتين لأمير المؤمنين، وتفي بواحدة للحائك ابن الحائك! اضربا عنقه، قال: فإياه عنى جرير بقوله: يا رب ناكث بيعتين تركته ... وخضاب لحيته دم الأوداج وذكر عتاب بن بشر، عن سالم الأفطس، قال: أتي الحجاج بسعيد بن جبير وهو يريد الركوب، وقد وضع إحدى رجليه في الغرز- أو الركاب- فقال: والله لا أركب حتى تبوء مقعدك من النار، اضربوا عنقه فضربت عنقه، فالتبس مكانه، فجعل يقول: قيودنا قيودنا، فظنوا أنه قال: القيود التي على سعيد بن جبير، فقطعوا رجليه من أنصاف ساقيه وأخذوا القيود. قال مُحَمَّد بن حاتم: حدثنا عبد الملك بن عبد الله عن هلال بن خباب قال: جيء بسعيد بن جبير إلى الحجاج فقال: اكتبت الى مصعب ابن الزبير؟ قال: بل كتب إلي مصعب، قال: والله لأقتلنك، قال:

إني إذا لسعيد كما سمتني أمي! قال: فقتله، فلم يلبث بعده إلا نحوا من أربعين يوما، فكان إذا نام يراه في منامه يأخذ بمجامع ثوبه فيقول: يا عدو الله، لم قتلتني؟ فيقول: ما لي ولسعيد بن جبير! ما لي ولسعيد ابن جبير! قال أبو جعفر: وكان يقال لهذه السنة سنة الفقهاء، مات فيها عامة فقهاء أهل المدينة، مات في أولها علي بن الحسين ع، ثم عروة بن الزبير، ثم سعيد بن المسيب، وأبو بكر بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ. واستقضى الوليد في هذه السنة بالشام سُلَيْمَان بن حبيب. واختلف فيمن أقام الحج للناس في هذه السنة، فَقَالَ أَبُو معشر- فِيمَا حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى عنه- قال: حج بالناس مسلمة بن عبد الملك سنة أربع وتسعين. وقال الواقدي: حج بالناس سنة أربع وتسعين عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك- قال: ويقال: مسلمة بن عبد الملك. وكان العامل فيها على مكة خالد بن عبد الله القسري، وعلى المدينة عثمان بن حيان المري، وعلى الكوفة زياد بن جرير، وعلى قضائها ابو بكر ابن أبي موسى وعلى البصرة الجراح بن عبد الله وعلى قضائها عبد الرحمن ابن أذينة وعلى خراسان قتيبة بن مسلم، وعلى مصر قرة بن شريك، وكان العراق والمشرق كله إلى الحجاج

سنه خمس وتسعين

ثم دخلت سنة خمس وتسعين (ذكر الأحداث التي كانت فيها) ففيها كانت غزوة العباس بن الوليد بن عبد الملك أرض الروم، ففتح الله على يديه ثلاثة حصون فيما قيل، وهي: طولس، والمرزبانين، وهرقلة. وفيها فتح آخر الهند إلا الكيرج والمندل. وفيها بنيت واسط القصب في شهر رمضان وفيها انصرف موسى بن نصير إلى إفريقية من الأندلس، وضحى بقصر الماء- فيما قيل- على ميل من القيروان. بقية الخبر عن غزو الشاش وفيها غزا قتيبة بن مسلم الشاش. ذكر الخبر عن غزوته هذه: رجع الحديث إلى حديث علي بن مُحَمَّد، قال: وبعث الحجاج جيشا من العراق فقدموا على قتيبة سنة خمس وتسعين، فغزا، فلما كان بالشاش- أو بكشماهن- أتاه موت الحجاج في شوال، فغمه ذلك، وقفل راجعا إلى مرو، وتمثل: لعمري لنعم المرء من آل جعفر ... بحوران أمسى اعلقته الحبائل فان تحى لا أملل حياتي وإن تمت ... فما في حياة بعد موتك طائل قال: فرجع بالناس ففرقهم، فخلف في بخارى قوما، ووجه قوما إلى كس ونسف، ثم أتى مرو فأقام بها، وأتاه كتاب الوليد: قد عرف أمير المؤمنين بلاءك وجدك في جهاد أعداء المسلمين، وامير المؤمنين

رافعك وصانع بك كالذي يجب لك، فالمم مغازيك وانتظر ثواب ربك، ولا تغب عن أمير المؤمنين كتبك: حتى كأني أنظر إلى بلادك والثغر الذي أنت به. وفيها مات الحجاج بن يوسف في شوال- وهو يومئذ ابن اربع وخمسين سنه وقيل: ابن ثلاث وخمسين سنة- وقيل: كانت وفاته في هذه السنة لخمس ليال بقين من شهر رمضان. وفيها استخلف الحجاج لما حضرته الوفاة على الصلاة ابنه عبد الله بن الحجاج وكانت إمرة الحجاج على العراق فيما قال الواقدي عشرين سنة وفي هذه السنة افتتح العباس بن الوليد قنسرين وفيها قتل الوضاحي بأرض الروم ونحو من ألف رجل معه. وفيها- فيما ذكر- ولد المنصور عبد الله بن مُحَمَّد بن علي وفيها ولي الوليد بن عبد الملك يزيد بن أبي كبشة على الحرب والصلاة بالمصرين: الكوفة والبصرة، وولى خراجهما يزيد بن أبي مسلم. وقيل: إن الحجاج كان استخلف حين حضرته الوفاة على حرب البلدين والصلاة بأهلهما يزيد بن أبي كبشة، وعلى خراجهما يزيد بن أبي مسلم، فأقرهما الوليد بعد موت الحجاج على ما كان الحجاج استخلفهما عليه وكذلك فعل بعمال الحجاج كلهم، أقرهم بعده على أعمالهم التي كانوا عليها في حياته. وحج بالناس في هذه السنة بشر بن الوليد بن عبد الملك، حدثني

بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر. وكذلك قال الواقدي. وكان عمال الأمصار فِي هَذِهِ السنة هم العمال الَّذِينَ كَانُوا فِي السنة الَّتِي قبلها، إلا ما كان من الكوفة والبصرة، فإنهما ضمتا إلى من ذكرت بعد موت الحجاج.

سنه ست وتسعين

ثم دخلت سنة ست وتسعين (ذكر الأحداث التي كانت فيها) ففيها كانت- فيما قال الواقدي- غزوة بشر بن الوليد الشاتية، فقفل وقد مات الوليد. ذكر الخبر عن موت الوليد بن عبد الملك وفيها كانت وفاة الوليد بن عبد الملك، يوم السبت فِي النِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ وتسعين في قول جميع أهل السير. واختلف في قدر مدة خلافته، فقال الزهري في ذلك- ما حدثت عن ابن وهب عن يونس عنه: ملك الوليد عشر سنين إلا شهرا. وقال أبو معشر فيه، ما حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه كانت: خلافة الوليد تسع سنين وسبعة أشهر. وقال هشام بن مُحَمَّد: كانت ولاية الوليد ثمان سنين وستة أشهر. وقال الواقدي: كانت خلافته تسع سنين وثمانية أشهر وليلتين. واختلف أيضا في مبلغ عمره، فقال مُحَمَّد بن عمر: توفي بدمشق وهو ابن ست وأربعين سنة وأشهر. وقال هشام بن مُحَمَّد: توفي وهو ابن خمس وأربعين سنة. وقال علي بن مُحَمَّد: توفي وهو ابن اثنتين وأربعين سنة وأشهر. وقال علي: كانت وفاة الوليد بدير مران، ودفن خارج باب الصغير. ويقال: في مقابر الفراديس. ويقال: إنه توفي وهو ابن سبع وأربعين سنة. وقيل: صلى عليه عمر بن عبد العزيز

ذكر الخبر عن بعض سيره:

وكان له- فيما قال علي- تسعة عشر ابنا: عبد العزيز، ومُحَمَّد، والعباس، وإبراهيم، وتمام، وخالد، وعبد الرحمن، ومبشر، ومسرور، وأبو عبيدة، وصدقه، ومنصور، ومروان، وعنبسة، وعمرو، وروح، وبشر، ويزيد، ويحيى، وأم عبد العزيز ومحمد وأم البنين بنت عبد العزيز ابن مروان، وأم أبي عبيدة فزارية، وسائرهم لأمهات شتى. ذكر الخبر عن بعض سيره: حدثني عمر، قال: حدثني علي، قال: كان الوليد بن عبد الملك عند أهل الشام أفضل خلائفهم، بنى المساجد مسجد دمشق ومسجد المدينة، ووضع المنار، وأعطى الناس، وأعطى المجذمين، وقال: لا تسألوا الناس وأعطى كل مقعد خادما، وكل ضرير قائد وفتح في ولايته فتوح عظام، فتح موسى بن نصير الأندلس، وفتح قتيبة كاشغر، وفتح مُحَمَّد بن القاسم الهند. قال: وكان الوليد يمر بالبقال فيقف عليه فيأخذ حزمة البقل فيقول: بكم هذه؟ فيقول: بفلس، فيقول: زد فيها. قال: وأتاه رجل من بني مخزوم يسأله في دينه، فقال: نعم، إن كنت مستحقا لذلك، قال: يا أمير المؤمنين، وكيف لا أكون مستحقا لذلك مع قرابتي! قال: أقرأت القرآن؟ قال: لا، قال: ادن مني، فدنا منه، فنزع عمامته بقضيب كان في يده، وقرعه قرعات بالقضيب، وقال لرجل: ضم هذا إليك، فلا يفارقك حتى يقرأ القرآن، فقام اليه عثمان ابن يزيد بن خالد بن عَبْد اللَّهِ بن خَالِد بن أسيد، فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، إن علي دينا، فقال: أقرأت القرآن؟ قال: نعم، فاستقرأه عشر آيات من الأنفال، وعشر آيات من براءة، فقرأ، فقال: نعم، نقضي عنكم، ونصل أرحامكم على هذا

قال: ومرض الوليد فرهقته غشية، فمكث عامة يومه عندهم ميتا، فبكي عليه، وخرجت البرد بموته، فقدم رسول على الحجاج، فاسترجع، ثم أمر بحبل فشد في يديه، ثم أوثق إلى أسطوانة، وقال: اللهم لا تسلط علي من لا رحمة له، فقد طالما سألتك أن تجعل منيتي قبل منيته! وجعل يدعو، فإنه لكذلك إذ قدم عليه بريد بإفاقته. قال علي: ولما أفاق الوليد قال: ما أحد أسر بعافية أمير المؤمنين من الحجاج، فقال عمر بن عبد العزيز: ما أعظم نعمة الله علينا بعافيتك، وكأني بكتاب الحجاج قد أتاك يذكر فيه أنه لما بلغه برؤك خر الله ساجدا، وأعتق كل مملوك له، وبعث بقوارير من أنبج الهند. فما لبث إلا أياما حتى جاء الكتاب بما قال. قال: ثم لم يمت الحجاج حتى ثقل على الوليد، فقال خادم للوليد: إني لأوضئ الوليد يوما للغداء، فمد يده، فجعلت أصب عليه الماء، وهو ساه والماء يسيل ولا أستطيع أن أتكلم، ثم نضح الماء في وجهي، وقال: أناعس أنت! ورفع رأسه إلي وقال: ما تدري ما جاء الليلة؟ قلت: لا، قال: ويحك! مات الحجاج! فاسترجعت قال: اسكت ما يسر مولاك أن في يده تفاحة يشمها. قال علي: وكان الوليد صاحب بناء واتخاذ للمصانع والضياع، وكان الناس يلتقون في زمانه، فإنما يسأل بعضهم بعضا عن البناء والمصانع فولي سُلَيْمَان، فكان صاحب نكاح وطعام، فكان الناس يسال بعضهم بعضا عن التزويج والجوارى فلما ولي عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل: ما وردك الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى تختم؟ ومتى ختمت؟ وما تصوم من الشهر؟ ورثى جرير الوليد فقال: يا عين جودي بدمع هاجه الذكر فما لدمعك بعد اليوم مدخر

إن الخليفة قد وارت شمائله غبراء ملحدة في جولها زور أضحى بنوه وقد جلت مصيبتهم مثل النجوم هوى من بينها القمر كانوا جميعا فلم يدفع منيته عبد العزيز ولا روح ولا عمر حدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: حج الوليد بن عبد الملك، وحج مُحَمَّد بن يوسف من اليمن، وحمل هدايا للوليد، فقالت أم البنين للوليد: يا أمير المؤمنين، اجعل لي هدية مُحَمَّد بن يوسف، فأمر بصرفها إليها، فجاءت رسل أم البنين إلى مُحَمَّد فيها، فأبى وقال: ينظر إليها أمير المؤمنين فيرى رأيه- وكانت هدايا كثيرة- فقالت: يا أمير المؤمنين، إنك أمرت بهدايا مُحَمَّد أن تصرف إلي، ولا حاجة لي بها، قال: ولم؟ قالت: بلغني أنه غصبها الناس، وكلفهم عملها، وظلمهم وحمل مُحَمَّد المتاع إلى الوليد، فقال: بلغني أنك أصبتها غصبا، قال، معاذ الله! فأمر فاستحلف بين الركن والمقام خمسين يمينا بالله ما غصب شيئا منها، ولا ظلم أحدا، ولا أصابها إلا من طيب، فحلف، فقبلها الوليد ودفعها إلى أم البنين، فمات مُحَمَّد بن يوسف باليمن، أصابه داء تقطع منه. وفي هذه السنة كان الوليد أراد الشخوص إلى أخيه سُلَيْمَان لخلعه، وأراد البيعة لابنه من بعده، وذلك قبل مرضته التي مات فيها حدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: كان الوليد وسليمان ولى عهد عبد الملك، فلما أفضى الأمر إلى الوليد، أراد أن يبايع لابنه عبد العزيز ويخلع سُلَيْمَان، فأبى سُلَيْمَان، فأراده على أن يجعله له من بعده، فأبى، فعرض عليه أموالا كثيرة، فأبى، فكتب إلى عماله أن يبايعوا لعبد العزيز،

ودعا الناس إلى ذلك، فلم يجبه أحد إلا الحجاج وقتيبة وخواص من الناس فقال عباد بن زياد: إن الناس لا يجيبونك إلى هذا، ولو أجابوك لم آمنهم على الغدر بابنك، فاكتب إلى سُلَيْمَان فليقدم عليك، فإن لك عليه طاعة، فأرده على البيعة لعبد العزيز من بعده، فإنه لا يقدر على الامتناع وهو عندك، فإن أبى كان الناس عليه. فكتب الوليد إلى سُلَيْمَان يأمره بالقدوم، فأبطأ، فاعتزم الوليد على المسير إليه وعلى أن يخلعه، فأمر الناس بالتأهب، وأمر بحجره فأخرجت، فمرض، ومات قبل أن يسير وهو يريد ذلك. قال عمر: قال علي: وأخبرنا ابو عاصم الزيادى من الهلواث الكلبي، قال: كنا بالهند مع مُحَمَّد بن القاسم، فقتل الله داهرا، وجاءنا كتاب من الحجاج ان اخلعوا مع سُلَيْمَان، فلما ولي سُلَيْمَان جاءنا كتاب سُلَيْمَان، أن ازرعوا واحرثوا، فلا شام لكم، فلم نزل بتلك البلاد حتى قام عمر بن عبد العزيز فأقفلنا. قال عمر: قال علي: أراد الوليد أن يبني مسجد دمشق، وكانت فيه كنيسة، فقال الوليد لأصحابه: أقسمت عليكم لما أتاني كل رجل منكم بلبنة، فجعل كل رجل يأتيه بلبنة، ورجل من أهل العراق يأتيه بلبنتين، فقال له: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق، قال: يا أهل العراق، تفرطون في كل شيء حتى في الطاعة! وهدموا الكنيسة وبناها مسجدا، فلما ولي عمر بن عبد العزيز شكوا ذلك إليه، فقيل: إن كل ما كان خارجا من المدينة افتتح عنوة، فقال لهم عمر: نرد عليكم كنيستكم ونهدم كنيسة توما، فإنها فتحت عنوه، نبنيها مسجدا، فلما قال لهم ذلك قالوا: بل ندع لكم هذا الذي هدمه الوليد، ودعوا لنا كنيسه توما. ففعل عمر ذلك.

فتح قتيبة كاشغر وغزو الصين

فتح قتيبة كاشغر وغزو الصين وفي هذه السنة افتتح قتيبة بن مسلم كاشغر، وغزا الصين. ذكر الخبر عن ذلك: رجع الحديث إلى حديث عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ بِالإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرْتُ قَبْلُ. قال: ثم غزا قتيبة في سنة ست وتسعين، وحمل مع الناس عيالهم وهو يريد أن يحرز عياله في سمرقند خوفا من سُلَيْمَان، فلما عبر النهر استعمل رجلا من مواليه يقال له الخوارزمي على مقطع النهر، وقال: لا يجوزن أحد إلا بجواز، ومضى إلى فرغانة، وأرسل إلى شعب عصام من يسهل له الطريق إلى كاشغر، وهي أدنى مدائن الصين، فأتاه موت الوليد وهو بفرغانة. قال: فأخبرنا أبو الذيال عن المهلب بن إياس، قال: قال إياس بن زهير: لما عبر قتيبة النهر أتيته فقلت له: إنك خرجت ولم أعلم رأيك في العيال فنأخذ أهبة ذلك، وبني الأكابر معي، ولي عيال قد خلفتهم وأم عجوز، وليس عندهم من يقوم بأمرهم، فإن رأيت أن تكتب لي كتابا مع بعض بني أوجهه فيقدم علي بأهلي! فكتب، فأعطاني الكتاب فانتهيت إلى النهر وصاحب النهر من الجانب الآخر، فألويت بيدي، فجاء قوم في سفينه فقالوا: من أنت؟ اين جوازك؟ فأخبرتهم، فقعد معي قوم ورد قوم السفينة إلى العامل، فأخبروه قال: ثم رجعوا إلي فحملوني، فانتهيت إليهم وهم يأكلون وأنا جائع، فرميت بنفسي، فسألني عن الأمر، وأنا آكل لا أجيبه، فقال: هذا أعرابي قد مات من الجوع، ثم ركبت فمضيت فأتيت مرو، فحملت أمي، ورجعت أريد العسكر، وجاءنا موت الوليد، فانصرفت إلى مرو. وقال: وأخبرنا أبو مخنف، عن أبيه، قال: بعث قتيبة كثير بن فلان إلى كاشغر، فسبى منها سبيا، فختم أعناقهم مما أفاء الله على قتيبة، ثم رجع قتيبة وجاءهم موت الوليد. قال: وأخبرنا يحيى بن زكرياء الهمداني عن أشياخ من أهل خراسان

والحكم بن عثمان، قال: حدثني شيخ من أهل خراسان قال: وغل قتيبة حتى قرب من الصين قال: فكتب اليه ملك الصين ان ابعث إلينا رجلا من أشراف من معكم يخبرنا عنكم، ونسائله عن دينكم فانتخب قتيبة من عسكره اثني عشره رجلا- وقال بعضهم: عشرة- من أفناء القبائل، لهم جمال وأجسام وألسن وشعور وبأس، بعد ما سأل عنهم فوجدهم من صالح من هم منه فكلمهم قتيبة، وفاطنهم فرأى عقولا وجمالا، فأمر لهم بعدة حسنة من السلاح والمتاع الجيد من الخز والوشي واللين من البياض والرقيق والنعال والعطر، وحملهم على خيول مطهمة تقاد معهم، ودواب يركبونها قال: وكان هبيرة بن المشمرج الكلابي مفوها بسيط اللسان، فقال: يا هبيرة، كيف أنت صانع؟ قال: أصلح الله الأمير! قد كفيت الأدب وقل ما شئت أقله وآخذ به، قال: سيروا على بركة الله، وبالله التوفيق لا تضعوا العمائم عنكم حتى تقدموا البلاد، فإذا دخلتم عليه فأعلموه أني قد حلفت الا أنصرف حتى أطأ بلادهم، وأختم ملوكهم، وأجبي خراجهم. قال: فساروا، وعليهم هبيرة بن المشمرج، فلما قدموا أرسل إليهم ملك الصين يدعوهم، فدخلوا الحمام، ثم خرجوا فلبسوا ثيابا بياضا تحتها الغلائل، ثم مسوا الغالية، وتدخنوا ولبسوا النعال والأردية، ودخلوا عليه وعنده عظماء أهل مملكته، فجلسوا، فلم يكلمهم الملك ولا أحد من جلسائه فنهضوا، فقال الملك لمن حضره: كيف رأيتم هؤلاء؟ قالوا: رأينا قوما ما هم إلا نساء، ما بقي منا أحد حين رآهم ووجد رائحتهم إلا انتشر ما عنده. قال: فلما كان الغد أرسل إليهم فلبسوا الوشي وعمائم الخز والمطارف، وغدوا عليه، فلما دخلوا عليه قيل لهم: ارجعوا، فقال لأصحابه: كيف

رأيتم هذه الهيئة؟ قالوا: هذه الهيئة أشبه بهيئه الرجال من تلك الاولى، وهم أولئك، فلما كان اليوم الثالث أرسل إليهم فشدوا عليهم سلاحهم، ولبسوا البيض والمغافر، وتقلدوا السيوف، وأخذوا الرماح، وتنكبوا القسي، وركبوا خيولهم، وغدوا فنظر إليهم صاحب الصين فرأى أمثال الجبال مقبلة، فلما دنوا ركزوا رماحهم، ثم أقبلوا نحوهم مشمرين، فقيل لهم قبل أن يدخلوا: ارجعوا، لما دخل قلوبهم من خوفهم. قال: فانصرفوا فركبوا خيولهم، واختلجوا رماحهم، ثم دفعوا خيولهم كأنهم يتطاردون بها، فقال الملك لأصحابه: كيف ترونهم؟ قالوا: ما رأينا مثل هؤلاء قط، فلما أمسى أرسل إليهم الملك، أن ابعثوا إلي زعيمكم وأفضلكم رجلا فبعثوا إليه هبيرة، فقال له حين دخل عليه: قد رأيتم عظيم ملكي، وإنه ليس أحد يمنعكم مني، وأنتم في بلادي، وإنما أنتم بمنزلة البيضة في كفي وأنا سائلك عن أمر فإن لم تصدقني قتلتكم. قال: سل، قال: لم صنعتم ما صنعتم من الزي في اليوم الأول والثاني والثالث؟ قال: أما زينا الأول فلباسنا في أهالينا وريحنا عندهم، وأما يومنا الثاني فإذا أتينا أمراءنا وأما اليوم الثالث فزينا لعدونا، فإذا هاجنا هيج وفزع كنا هكذا قال: ما أحسن ما دبرتم دهركم! فانصرفوا إلى صاحبكم فقولوا له: ينصرف، فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه وإلا بعثت عليكم من يهلككم ويهلكه، قال له: كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون! وكيف يكون حريصا من خلف الدنيا قادرا عليها وغزاك! وأما تخويفك إيانا بالقتل فإن لنا آجالا إذا حضرت فأكرمها القتل، فلسنا نكرهه ولا نخافه، قال: فما الذي يرضي صاحبك؟ قال: إنه قد حلف الا ينصرف حتى يطأ أرضكم، ويختم ملوككم، ويعطى الجزية، قال: فإنا نخرجه من يمينه، نبعث اليه

بتراب من تراب أرضنا فيطؤه، ونبعث ببعض أبنائنا فيختمهم، ونبعث إليه بجزية يرضاها قال: فدعا بصحاف من ذهب فيها تراب، وبعث بحرير وذهب وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم، ثم أجازهم فأحسن جوائزهم، فساروا فقدموا بما بعث به، فقبل قتيبة الجزية، وختم الغلمة وردهم، ووطيء التراب، فقال سوادة بن عبد الله السلولي: لا عيب في الوفد الذين بعثتهم ... للصين أن سلكوا طريق المنهج كسروا الجفون على القذى خوف الردى ... حاشا الكريم هبيرة بن مشمرج لم يرض غير الختم في أعناقهم ... ورهائن دفعت بحمل سمرج أدى رسالتك التي استرعيته ... وأتاك من حنث اليمين بمخرج قال: فأوفد قتيبة هبيرة إلى الوليد، فمات بقرية من فارس، فرثاه سوادة، فقال: لله قبر هبيرة بن مشمرج ... ماذا تضمن من ندى وجمال! وبديهة يعيا بها أبناؤها ... عند احتفال مشاهد الأقوال كان الربيع إذا السنون تتابعت ... والليث عند تكعكع الأبطال فسقت بقربة حيث امسى قبره ... غر يرحن بمسبل هطال بكيت الجياد الصافنات لفقده ... وبكاه كل مثقف عسال وبكته شعث لم يجدن مواسيا ... في العام ذي السنوات والإمحال قال: وقال الباهليون: كان قتيبة إذا رجع من غزاته كل سنة اشترى اثني عشر فرسا من جياد الخيل، واثني عشر هجينا، لا يجاوز بالفرس أربعة آلاف، فيقام عليها إلى وقت الغزو، فإذا تاهب للغزو وعسكر قيدت وأضمرت، فلا يقطع نهرا بخيل حتى تخف لحومها، فيحمل عليها من يحمله في الطلائع وكان يبعث في الطلائع الفرسان من الأشراف، ويبعث معهم رجالا من العجم ممن يستنصح على تلك الهجن، وكان إذا بعث

بطليعة أمر بلوح فنقش، ثم يشقه شقتين فأعطاه شقة، واحتبس شقة، لئلا يمثل مثلها، ويأمره أن يدفنها في موضع يصفه له من مخاضة معروفة، أو تحت شجرة معلومة، أو خربة، ثم يبعث بعده من يستبريها ليعلم أصادق في طليعته أم لا وقال ثابت قطنة العتكي يذكر من قتل من ملوك الترك: أقر العين مقتل كازرنك ... وكشبيز وما لا. ى يباد وقال الكميت يذكر غزوه السغد وخوارزم: وبعد في غزوة كانت مباركة ... تردي زراعة أقوام وتحتصد نالت غمامتها فيلا بوابلها ... والسغد حين دنا شؤبوبها البرد إذ لا يزال له نهب ينفله ... من المقاسم لا وخش ولا نكد تلك الفتوح التي تدلى بحجتها ... على الخليفة إنا معشر حشد لم تثن وجهك عن قوم غزوتهمُ ... حتى يقال لهم: بعدا وقد بعدوا لم ترض من حصنهم إن كان ممتنعا ... حتى يكبر فيه الواحد الصمد.

خلافه سليمان بن عبد الملك

خلافة سُلَيْمَان بن عبد الملك قال أبو جعفر: وفي هذه السنة بويع سُلَيْمَان بن عبد الملك بالخلافة، وذلك في اليوم الذي توفي فيه الوليد بن عبد الملك، وهو بالرملة. وفيها عزل سُلَيْمَان بن عبد الملك عثمان بن حيان عن المدينة، ذكر مُحَمَّد بن عمر، أنه نزعه عن المدينة لسبع بقين من شهر رمضان سنة ست وتسعين. قال: وكان عمله على المدينة ثلاث سنين وقيل: كانت امرته عليها سنتين غير سبع ليال. قال الواقدي: وكان أبو بكر بن مُحَمَّد بن عمرو بن حزم قد استأذن عثمان أن ينام في غد، ولا يجلس للناس ليقوم ليلة إحدى وعشرين، فأذن له وكان أيوب بن سلمة المخزومي عنده، وكان الذي بين أيوب بن سلمة وبين أبي بكر بن عمرو بن حزم سيئا، فقال أيوب لعثمان: ألم تر إلى ما يقول هذا؟ انما هذا منه رياء، فقال عثمان: قد رأيت ذلك، ولست لأبي إن أرسلت إليه غدوة ولم أجده جالسا لأجلدنه مائة، ولأحلقن رأسه ولحيته. قال أيوب: فجاءني أمر أحبه، فعجلت من السحر، فإذا شمعة في الدار، فقلت: عجل المري، فإذا رسول سُلَيْمَان قد قدم على أبي بكر بتأميره وعزل عثمان وحده. قال أيوب: فدخلت دار الإمارة، فإذا ابن حيان جالس، وإذا بأبي بكر على كرسي يقول للحداد: اضرب في رجل هذا الحديد، ونظر إلي عثمان فقال: آبوا على أدبارهم كشفا ... والأمر يحدث بعده الأمر

خبر مقتل قتيبة بن مسلم

وفي هذه السنة عزل سليمان يزيد بن أبي مسلم عن العراق، وأمر عليه يزيد بن المهلب، وجعل صالح بن عبد الرحمن على الخراج، وأمره أن يقتل آل أبي عقيل ويبسط عليهم العذاب فحدثني عمر بن شبة، قال: حدثني علي بن مُحَمَّد، قال: قدم صالح العراق على الخراج، ويزيد على الحرب، فبعث يزيد زياد بن المهلب على عمان، وقال له: كاتب صالحا، وإذا كتبت إليه فابدأ باسمه، وأخذ صالح آل أبي عقيل فكان يعذبهم، وكان يلي عذابهم عبد الملك بن المهلب. خبر مقتل قتيبة بن مسلم وفي هذه السنة قتل قتيبة بن مسلم بخراسان. ذكر الخبر عن سبب مقتله: وكان سبب ذلك أن الوليد بن عبد الملك اراد ان يجعل ابنه عبد العزيز ابن الوليد ولي عهده، ودس في ذلك إلى القواد والشعراء، فقال جرير في ذلك: إذا قيل أي الناس خير خليفة؟ ... أشارت إلى عبد العزيز الأصابع رأوه أحق الناس كلهمُ بها ... وما ظلموا، فبايعوه وسارعوا وقال أيضا جرير يحض الوليد على بيعة عبد العزيز: الى عبد العزيز سمت عيون الرعية ... إذا تحيرت الرعاء إليه دعت دواعيه إذا ما ... عماد الملك خرت والسماء وقال أولو الحكومة من قريش ... علينا البيع إن بلغ الغلاء

رأوا عبد العزيز ولي عهد ... وما ظلموا بذاك ولا أساءوا فماذا تنظرون بها وفيكم ... جسور بالعظائم واعتلاء! فزحلفها بأزملها إليه ... أمير المؤمنين إذا تشاء فإن الناس قد مدوا إليه ... أكفهمُ وقد برح الخفاء ولو قد بايعوك ولى عهد ... لقام الوزن واعتدل البناء فبايعه على خلع سُلَيْمَان الحجاج بن يوسف وقتيبة، ثم هلك الوليد وقام سُلَيْمَان بن عبد الملك، فخافه قتيبة. قال علي بن مُحَمَّد: أخبرنا بشر بن عيسى والحسن بن رشيد وكليب ابن خلف، عن طفيل بن مرداس، وجبلة بن فروخ، عن مُحَمَّد بن عزيز الكندي، وجبلة بن ابى رواد ومسلمة بن محارب، عن السكن بن قتادة، أن قتيبة لما أتاه موت الوليد بن عبد الملك وقيام سُلَيْمَان، أشفق من سُلَيْمَان لأنه كان يسعى في بيعة عبد العزيز بن الوليد مع الحجاج، وخاف أن يولي سُلَيْمَان يزيد بن المهلب خراسان، قال: فكتب إليه كتابا يهنئه بالخلافة، ويعزيه على الوليد، ويعلمه بلاءه وطاعته لعبد الملك والوليد، وأنه له على مثل ما كان لهما عليه من الطاعة والنصيحة إن لم يعزله عن خراسان وكتب إليه كتابا آخر يعلمه فيه فتوحه ونكايته وعظم قدره عند ملوك العجم وهيبته في صدورهم وعظم صوته فيهم، ويذم المهلب وآل المهلب، ويحلف بالله لئن استعمل يزيد على خراسان ليخلعنه. وكتب كتابا ثالثا فيه خلعه، وبعث بالكتب الثلاثة مع رجل من باهلة، وقال له: ادفع إليه هذا الكتاب، فإن كان يزيد بن المهلب حاضرا، فقرأه ثم ألقاه إليه فادفع إليه هذا الكتاب، فإن قرأه وألقاه إلى يزيد فادفع إليه هذا الكتاب، فإن قرأ الأول ولم يدفعه إلى يزيد فاحتبس الكتابين الآخرين

قال: فقدم رسول قتيبة فدخل على سُلَيْمَان وعنده يزيد بن المهلب، فدفع إليه الكتاب، فقرأه، ثم ألقاه إلى يزيد، فدفع إليه كتابا آخر فقرأه، ثم رمى به إلى يزيد، فأعطاه الكتاب الثالث، فقرأه فتمعر لونه، ثم دعا بطين فختمه ثم أمسكه بيده. وأما أبو عبيدة معمر بن المثنى، فإنه قال- فيما حدثت عنه: كان في الكتاب الأول وقيعة في يزيد بن المهلب، وذكر غدره وكفره وقلة شكره، وكان في الثاني ثناء على يزيد، وفي الثالث: لئن لم تقرني على ما كنت عليه وتؤمنني لأخلعنك خلع النعل، ولأملأنها عليك خيلا ورجالا وقال أيضا: لما قرأ سُلَيْمَان الكتاب الثالث وضعه بين مثالين من المثل التي تحته ولم يحر في ذلك مرجوعا. رجع الحديث إلى حديث علي بن مُحَمَّد قال: ثم أمر- يعني سُلَيْمَان- برسول قتيبة أن ينزل، فحول إلى دار الضيافة، فلما أمسى دعا به سُلَيْمَان، فأعطاه صرة فيها دنانير، فقال: هذه جائزتك، وهذا عهد صاحبك على خراسان فسر، وهذا رسولي معك بعهده قال: فخرج الباهلي، وبعث معه سُلَيْمَان رجلا من عبد القيس، ثم أحد بني ليث يقال له صعصعة- أو مصعب- فلما كان بحلوان تلقاهم الناس بخلع قتيبة، فرجع العبدي، ودفع العهد إلى رسول قتيبة، وقد خلع، واضطرب الأمر، فدفع إليه عهده، فاستشار إخوته، فقالوا: لا يثق بك سُلَيْمَان بعد هذا. قال علي: وحدثني بعض العنبريين، عن أشياخ منهم، أن توبة ابن ابى أسيد العنبري، قال: قدم صالح العراق، فوجهني إلى قتيبة ليطلعني طلع ما في يده، فصحبني رجل من بني أسد، فسألني عما خرجت فيه، فكاتمته أمري، فإنا لنسير إذ سنح لنا سانح، فنظر إلي رفيقي

فقال: أراك في أمر جسيم وأنت تكتمني! فمضيت، فلما كنت بحلوان تلقاني الناس بقتل قتيبة. قال علي: وذكر أبو الذيال وكليب بن خلف وأبو علي الجوزجاني عن طفيل بن مرداس، وأبو الحسن الجشمي ومصعب بن حيان عن أخيه مقاتل بن حيان، وأبو مخنف وغيرهم، أن قتيبة لما هم بالخلع استشار إخوته، فقال له عبد الرحمن: اقطع بعثا فوجه فيه كل من تخافه، ووجه قوما إلى مرو، وسر حتى تنزل سمرقند، ثم قل لمن معك: من أحب المقام فله المواساة، ومن أراد الانصراف فغير مستكره ولا متبوع بسوء، فلا يقيم معك إلا مناصح وقال له عبد الله: اخلعه مكانك، وادع الناس إلى خلعه، فليس يختلف عليك رجلان فأخذ برأي عبد الله، فخلع سُلَيْمَان، ودعا الناس إلى خلعه، فقال للناس: إني قد جمعتكم من عين التمر وفيض البحر فضممت الأخ إلى أخيه، والولد إلى أبيه، وقسمت بينكم فيئكم، وأجريت عليكم أعطياتكم غير مكدرة ولا مؤخرة، وقد جربتم الولاة قبلي، أتاكم أمية فكتب الى امير المؤمنين ان خراج خراسان يقوم بمطبخي، ثم جاءكم أبو سعيد فدوم بكم ثلاث سنين لا تدرون أفي طاعة أنتم أم في معصية! لم يجب فيئا، ولم ينكأ عدوا، ثم جاءكم بنوه بعده، يزيد، فحل تبارى إليه النساء، وإنما خليفتكم يزيد بن ثروان هبنقة القيسي. قال: فلم يجبه أحد، فغضب فقال: لا أعز الله من نصرتم، والله لو اجتمعتم على عنز ما كسرتم قرنها، يا أهل السافلة- ولا أقول أهل العالية- يا أوباش الصدقة، جمعتكم كما تجمع إبل الصدقة من كل أوب يا معشر بكر بن وائل، يا أهل النفخ والكذب والبخل، باى

يوميكم تفخرون؟ بيوم حربكم، أو بيوم سلمكم! فو الله لأنا أعز منكم يا أصحاب مسيلمة، يا بني ذميم- ولا أقول تميم- يا أهل الخور والقصف والغدر، كنتم تسمون الغدر في الجاهلية كيسان يا أصحاب سجاح، يا معشر عبد القيس القساة، تبدلتم بأبر النحل أعنة الخيل يا معشر الأزد، تبدلتم بقلوس السفن أعنة الخيل الحصن، إن هذا لبدعة في الإسلام! والأعراب، وما الأعراب! لعنة الله على الأعراب! يا كناسة المصرين، جمعتكم من منابت الشيح والقيصوم ومنابت القلقل، تركبون البقر والحمر في جزيرة ابن كاوان، حتى إذا جمعتكم كما تجمع قزع الحريف قلتم كيت وكيت! أما والله إني لابن أبيه! وأخو أخيه، أما والله لأعصبنكم عصب السلمة إن حول الصليان الزمزمة. يا أهل خراسان، هل تدرون من وليكم؟ وليكم يزيد بن ثروان كأني بأمير مزجاء، وحكم قد جاءكم فغلبكم على فيئكم واظلالكم ان هاهنا نارا ارموها أرم معكم، ارموا غرضكم الأقصى قد استخلف عليكم أبو نافع ذو الودعات إن الشام أب مبرور، وإن العراق أب مكفور. حتى متى يتبطح أهل الشام بأفنيتكم وظلال دياركم! يا أهل خراسان، انسبوني تجدوني عراقي الأم، عراقي الأب، عراقي المولد، عراقي الهوى والرأي والدين، وقد أصبحتم اليوم فيما ترون من الأمن والعافية قد فتح الله لكم البلاد، وآمن سبلكم، فالظعينة تخرج من مرو إلى بلخ بغير جواز،

فاحمدوا الله على النعمة، وسلوه الشكر والمزيد. قال: ثم نزل فدخل منزله، فأتاه أهل بيته فقالوا: ما رأينا كاليوم قط، والله ما اقتصرت على أهل العالية وهم شعارك ودثارك، حتى تناولت بكرا وهم أنصارك، ثم لم ترض بذلك حتى تناولت تميما وهم إخوتك، ثم لم ترض بذلك حتى تناولت الأزد وهم بدك! فقال: لما تكلمت فلم يجبني أحد غضبت، فلم أدر ما قلت، إن أهل العالية كإبل الصدقة قد جمعت من كل أوب، وأما بكر فإنها أمة لا تمنع يد لامس، وأما تميم فجمل أجرب، وأما عبد القيس فما يضرب العير بذنبه، وأما الأزد فأعلاج، شرار من خلق الله، لو ملكت أمرهم لوسمتهم. قال: فغضب الناس وكرهوا خلع سُلَيْمَان، وغضبت القبائل من شتم قتيبة، فأجمعوا على خلافه وخلعه، وكان أول من تكلم في ذلك الأزد، فأتوا حضين بن المنذر فقالوا: إن هذا قد دعا إلى ما دعا إليه من خلع الخليفة، وفيه فساد الدين والدنيا، ثم لم يرض بذلك حتى قصر بنا وشتمنا، فما ترى يا أبا حفص؟ وكان يكتنى في الحرب بأبي ساسان، ويقال: كنيته أبو مُحَمَّد- فقال لهم: حضين: مضر بخراسان تعدل هذه الثلاثة الأخماس، وتميم أكثر الخمسين، وهم فرسان خراسان، ولا يرضون أن يصير الأمر في غير مضر، فإن أخرجتموهم من الأمر أعانوا قتيبة قالوا: إنه قد وتر بني تميم بقتل ابن الأهتم، قال: لا تنظروا إلى هذا فإنهم يتعصبون للمضرية، فانصرفوا رادين لرأي حضين، فأرادوا أن يولوا عبد الله بن حوذان الجهضمي، فأبى، وتدافعوها، فرجعوا إلى حضين، فقالوا: قد تدافعنا الرياسة، فنحن نوليك أمرنا، وربيعة لا تخالفك، قَالَ: لا ناقة لي فِي هَذَا وَلا جمل، قالوا: ما ترى؟ قال: إن جعلتم هذه الرياسة في تميم تم أمركم، قالوا: فمن ترى من تميم؟ قال: ما أرى أحدا غير وكيع، فقال حيان مولى بني شيبان: إن أحدا لا يتقلد هذا الأمر فيصلى بحره، ويبذل دمه، ويتعرض للقتل، فإن قدم امير

أخذه بما جنى وكان المهنأ لغيره إلا هذا الأعرابي وكيع، فإنه مقدام لا يبالي ما ركب، ولا ينظر في عاقبة، وله عشيرة كثيرة تطيعه، وهو موتور يطلب قتيبة برياسته التي صرفها عنه وصيرها لضرار بن حصين بن زيد الفوارس بن حصين بن ضرار الضبي فمشى الناس بعضهم إلى بعض سرا، وقيل لقتيبة: ليس يفسد أمر الناس إلا حيان، فأراد أن يغتاله- وكان حيان يلاطف حشم الولاة فلا يخفون عنه شيئا- قال: فدعا قتيبة رجلا فأمره بقتل حيان، وسمعه بعض الخدم، فأتى حيان فأخبره، فأرسل إليه يدعوه، فحذر وتمارض، وأتى الناس وكيعا فسألوه أن يقوم بأمرهم، فقال: نعم، وتمثل قول الأشهب بن رميلة: سأجني ما جنيت وإن ركني ... لمعتمد إلى نضد ركين قال: وبخراسان يومئذ من المقاتلة من أهل البصرة من أهل العالية تسعة آلاف، وبكر سبعة آلاف، رئيسهم الحضين بن المنذر، وتميم عشرة آلاف عليهم ضرار بن حصين الضبي، وعبد القيس أربعة آلاف عليهم عبد الله بن علوان عوذي، والأزد عشره آلاف راسهم عبد الله ابن حوذان، ومن أهل الكوفة سبعة آلاف عليهم جهم بن زحر- أو عبيد الله بن علي- والموالي سبعة آلاف عليهم حيان- وحيان يقال إنه من الديلم، ويقال: إنه من خراسان، وإنما قيل له نبطي للكنته- فأرسل حيان إلى وكيع: أرأيت إن كففت عنك وأعنتك تجعل لي جانب نهر بلخ وخراجه ما دمت حيا، وما دمت واليا؟ قال: نعم، فقال للعجم: هؤلاء يقاتلون على غير دين، فدعوهم يقتل بعضهم بعضا، قالوا: نعم، فبايعوا وكيعا سرا، فأتى ضرار بن حصين قتيبة، فقال: إن الناس يختلفون إلى وكيع، وهم يبايعونه- وكان وكيع يأتي منزل عبد الله بن مسلم الفقير فيشرب عنده- فقال عبد الله: هذا يحسد وكيعا، وهذا الأمر باطل، هذا وكيع في بيتي يشرب ويسكر ويسلح في ثيابه، وهذا يزعم أنهم يبايعونه قال: وجاء وكيع إلى قتيبة فقال: احذر ضرارا فانى

لا آمنه عليك، فأنزل قتيبة ذلك منهما على التحاسد وتمارض وكيع. ثم إن قتيبة دس ضرار بن سنان الضبي إلى وكيع فبايعه سرا، فتبين لقتيبة أن الناس يبايعونه، فقال لضرار: قد كنت صدقتني، قال: إني لم أخبرك إلا بعلم، فأنزلت ذلك مني على الحسد، وقد قضيت الذي كان علي، قال: صدقت وأرسل قتيبة إلى وكيع يدعوه فوجده رسول قتيبة قد طلى على رجله مغرة، وعلى ساقه خرزا وودعا، وعنده رجلان من زهران يرقيان رجله، فقال له: أجب الأمير، قال: قد ترى ما برجلي. فرجع الرسول إلى قتيبة فأعاده إليه، قال: يقول لك: ائتني محمولا على سرير، قال: لا أستطيع قال قتيبة لشريك بن الصامت الباهلي أحد بني وائل- وكان على شرطته- ورجل من غني انطلقا إلى وكيع فأتياني به. فإن أبى فاضربا عنقه، ووجه معهما خيلا، ويقال: كان على شرطه بخراسان ورقاء بن نصر الباهلي. قال علي: قال أبو الذيال: قال ثمامة بن ناجذ العدوي: أرسل قتيبة إلى وكيع من يأتيه به، فقلت: أنا آتيك به أصلحك الله! فقال: ائتني به، فأتيت وكيعا- وقد سبق إليه الخبر أن الخيل تأتيه- فلما رآني قال: يا ثمامة، ناد في الناس، فناديت، فكان أول من أتاه هريم بن أبي طحمة في ثمانية. قال: وقال الحسن بن رشيد الجوزجاني: أرسل قتيبة إلى وكيع. فقال هريم: أنا آتيك به، قال: فانطلق قال هريم: فركبت برذوني مخافة أن يردني، فأتيت وكيعا وقد خرج. قال: وقال كليب بن خلف: أرسل قتيبة إلى وكيع شعبة بن ظهير أحد بني صخر بن نهشل، فأتاه، فقال: يا بن ظهير: لبث قليلا تلحق الكتائب ثم دعا بسكين فقطع خرزا كان على رجليه، ثم لبس سلاحه، وتمثل: شدوا علي سرتي لا تنقلف ... يوم لهمدان ويوم للصدف

وخرج وحده، ونظر إليه نسوة فقلن: أبو مطرف وحده، فجاء هريم بن أبي طحمة في ثمانية، فيهم عميرة البريد بن ربيعة العجيفي. قال حمزة بن إبراهيم وغيره: إن وكيعا خرج فتلقاه رجل، فقال: ممن أنت؟ قال: من بني أسد، قال: ما اسمك؟ قال: ضرغامة، قال: ابن من؟ قال: ابن ليث، قال: دونك هذه الراية. قال المفضل بن مُحَمَّد الضبي: ودفع وكيع رايته إلى عقبة بن شهاب المازني، قال: ثم رجع إلى حديثهم، قالوا: فخرج وكيع وأمر غلمانه، فقال: اذهبوا بثقلي إلى بني العم، فقالوا: لا نعرف موضعهم، قال: انظروا رمحين مجموعين أحدهما فوق الآخر، فوقهما مخلاة، فهم بنو العم قال: وكان في العسكر منهم خمسمائة، قال: فنادى وكيع في الناس، فأقبلوا أرسالا من كل وجه، فأقبل في الناس يقول: قرم إذا حمل مكروهة ... شد الشراسيف لها والحزيم وقال قوم: تمثل وكيع حين خرج: انخن بلقمان بن عاد فجسنه ... أريني سلاحي لن يطيروا بأعزل واجتمع إلى قتيبة أهل بيته، وخواص من أصحابه وثقاته، فيهم اياس ابن بيهس بن عمرو، ابن عم قتيبة دنيا، وعبد الله بن وألان العدوي، وناس من رهطة، بني وائل وأتاه حيان بن إياس العدوي في عشرة، فيهم عبد العزيز بن الحارث، قال: وأتاه ميسرة الجدلي- وكان شجاعا- فقال: إن شئت أتيتك برأس وكيع، فقال: قف مكانك وأمر قتيبة رجلا، فقال: ناد في الناس، أين بنو عامر؟ فنادى: أين بنو عامر؟ فقال محفن بن جزء الكلابي- وقد كان جفاهم: حيث وضعتهم، قال: ناد أذكركم الله والرحم! فنادى محفن: أنت قطعتها، قال: ناد لكم العتبى، فناداه محفن أو غيره: لا أقالنا الله إذا، فقال قتيبة: يا نفس صبرا على ما كان من ألم ... إذ لم أجد لفضول القوم أقرانا

ودعا بعمامة كانت أمه بعثت بها إليه، فاعتم بها، كان يعتم بها في الشدائد، ودعا ببرذون له مدرب، كان يتطير إليه في الزحوف، فقرب إليه ليركبه، فجعل يقمص حتى أعياه، فلما رأى ذلك عاد إلى سريره فقعد عليه وقال: دعوه، فإن هذا امر يراد وجاء حيان النبطي في العجم، فوقف وقتيبة واجد عليه، فوقف معه عبد الله بن مسلم، فقال عبد الله لحيان: احمل على هذين الطرفين، قال: لم يأن لذلك، فغضب عبد الله، وقال: ناولني قوسي، قال حيان: ليس هذا يوم قوس، فأرسل وكيع إلى حيان: أين ما وعدتني؟ فقال حيان لابنه: إذا رأيتني قد حولت قلنسوتي، ومضيت نحو عسكر وكيع، فمل بمن معك في العجم إلي. فوقف ابن حيان مع العجم، فلما حول حيان قلنسوته مالت الأعاجم إلى عسكر وكيع، فكبر أصحابه وبعث قتيبة أخاه صالحا إلى الناس فرماه رجل من بني ضبة يقال له سُلَيْمَان الزنجيرج- وهو الخرنوب، ويقال: بل رماه رجل من بلعم فأصاب هامته- فحمل إلى قتيبة ورأسه مائل، فوضع في مصلاه، فتحول قتيبة فجلس عنده ساعة، ثم تحول إلى سريره. قال: وقال أبو السري الأزدي: رمى صالحا رجل من بني ضبة فأثقله، وطعنه زياد بن عبد الرحمن الأزدي، من بني شريك بن مالك. قال: وقال أبو مخنف: حمل رجل من غني على الناس فرأى رجلا مجففا فشبهه بجهم بن زحر بن قيس فطعنه، وقال: إن غنيا أهل عز ومصدق ... إذا حاربوا والناس مفتتنونا فإذا الذي طعن علج وتهايج الناس، وأقبل عبد الرحمن بن مسلم نحوهم، فرماه أهل السوق والغوغاء، فقتلوه، وأحرق الناس موضعا كانت فيه إبل لقتيبة ودوابه، ودنوا منه، فقاتل عنه رجل من باهلة من بني وائل، فقال له قتيبة: انج بنفسك، فقال له: بئس ما جزيتك إذا،

وقد أطعمتني الجردق وألبستني النرمق! قال: فدعا قتيبة بدابة، فأتي ببرذون فلم يقر ليركبه، فقال: إن له لشأنا، فلم يركبه وجلس وجاء الناس حتى بلغوا الفسطاط، فخرج إياس بن بيهس وعبد الله بن وألان حين بلغ الناس الفسطاط وتركا قتيبة وخرج عبد العزيز بن الحارث يطلب ابنه عمرا- أو عمر- فلقيه الطائي فحذره، ووجد ابنه فأردفه قال: وفطن قتيبة للهيثم بن المنخل وكان ممن يعين عليه، فقال: أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني قال: وقتل معه إخوته عبد الرحمن وعبد الله وصالح وحصين وعبد الكريم، بنو مسلم، وقتل ابنه كثير بن قتيبة وناس من أهل بيته، ونجا أخوه ضرار، استنقذه أخواله، وأمه غراء بنت ضرار بن القعقاع بن معبد بن زرارة وقال قوم: قتل عبد الكريم بن مسلم بقزوين وقال أبو عبيدة: قال أبو مالك: قتلوا قتيبة سنة ست وتسعين، وقتل من بني مسلم أحد عشر رجلا، فصلبهم وكيع، سبعة منهم لصلب مسلم وأربعة من بني أبنائهم: قتيبة، وعبد الرحمن، وعبد الله الفقير، وعبيد الله، وصالح، وبشار، ومُحَمَّد بنو مسلم وكثير بن قتيبة، ومغلس بن عبد الرحمن، ولم ينج من صلب مسلم غير عمرو- وكان عامل الجوزجان- وضرار، وكانت أمه الغراء بنت ضرار بن القعقاع بن معبد بن زراره، فجاء أخواله فدفعوه حتى نحوه، ففي ذلك يقول الفرزدق: عشية ما ود ابن غرة أنه ... له من سوانا إذ دعا أبوان وضرب إياس بن عمرو- ابن أخي مسلم بن عمرو- على ترقوته فعاش قال: ولما غشي القوم الفسطاط قطعوا أطنابه قال زهير: فقال جهم ابن زحر لسعد: انزل، فحز رأسه، وقد أثخن جراحا، فقال: أخاف

أن تجول الخيل، قال: تخاف وأنا إلى جنبك! فنزل سعد فشق صوقعة الفسطاط، فاحتز رأسه، فقال حضين بن المنذر: وإن ابن سعد وابن زحر تعاورا ... بسيفيهما رأس الهمام المتوج عشية جئنا بابن زحر وجئتمُ ... بأدغم مرقوم الذراعين ديزج أصم غداني كأن جبينه ... لطاخة نقس في أديم ممجمج قال: فلما قتل مسلمة يزيد بن المهلب استعمل على خراسان سعيد بن خذينة بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص، فحبس عمال يزيد، وحبس فيهم جهم بن زحر الجعفي، وعلى عذابه رجل من باهلة، فقيل له: هذا قاتل قتيبة، فقتله في العذاب، فلامه سعيد، فقال: أمرتني أن أستخرج منه المال فعذبته فأتى علي أجله. قال: وسقطت على قتيبة يوم قتل جارية له خوارزمية، فلما قتل خرجت، فأخذها بعد ذلك يزيد بن المهلب، فهي أم خليدة. قال علي: قال حمزة بن إبراهيم وأبو اليقظان: لما قتل قتيبة صعد عمارة بن جنية الرياحي المنبر فتكلم فأكثر، فقال له وكيع: دعنا من قذرك وهذرك، ثم تكلم وكيع فقال: مثلي ومثل قتيبة كما قال الأول: من ينك العير ينك نياكا أراد قتيبة أن يقتلني وأنا قتال. قد جربوني ثم جربوني ... من غلوتين ومن المئين حتى إذا شبت وشيبونى ... خلوا عناني وتنكبوني أنا أبو مطرف. قال: وأخبرنا أبو معاوية، عن طلحة بن إياس، قال: قال وكيع يوم قتل قتيبة:

أنا ابن خندف تنميني قبائلها ... للصالحات وعمي قيس عيلانا ثم أخذ بلحيته ثم قال: شيخ إذا حمل مكروهة ... شد الشراسيف لها والحزيم والله لأقتلن، ثم لأقتلن، ولأصلبن، ثم لأصلبن، إني والغ دما، إن مرزبانكم هذا ابن الزانية قد أغلى عليكم أسعاركم، والله ليصيرن القفيز في السوق غدا بأربعة أو لأصلبنه، صلوا على نبيكم ثم نزل. قال علي: وأخبرنا المفضل بن مُحَمَّد وشيخ من بني تميم، ومسلمة بن محارب، قالوا: طلب وكيع رأس قتيبة وخاتمه، فقيل له: إن الأزد أخذته، فخرج وكيع وهو يقول: ده درين، سعد القين: في أي يومي من الموت أفر ... أيوم لم يقدر أم يوم قدر لا خير في أحزم جياد القرع ... في أي يوم لم أرع ولم أرع والله الذي لا إله غيره لا أبرح حتى أوتى بالرأس، أو يذهب برأسي مع رأس قتيبة وجاء بخشب فقال: إن هذه الخيل لا بد لها من فرسان- يتهدد بالصلب- فقال له حضين: يا أبا مطرف، تؤتى به فاسكن وأتي حضين الأزد فقال: أحمقى أنتم! بايعناه وأعطيناه المقادة، وعرض نفسه، ثم تأخذون الرأس! أخرجوه لعنه الله من رأس! فجاءوا بالرأس فقالوا: يا أبا مطرف، إن هذا هو احتزه، فاشكمه، قال: نعم، فأعطاه ثلاثة آلاف، وبعث بالرأس مع سليط بن عبد الكريم الحنفي ورجال من القبائل وعليهم سليط، ولم يبعث من بني تميم أحدا. قال: قال أبو الذيال: كان فيمن ذهب بالرأس أنيف بن حسان أحد بني عدي. قال أبو مخنف: وفى وكيع لحيان النبطي بما كان أعطاه قال: قال خريم بن أبي يحيى، عن أشياخ من قيس، قالوا: قال سليمان للهذيل

ابن زفر حين وضع رأس قتيبة ورءوس أهل بيته بين يديه: هل ساءك هذا يا هذيل؟ قال: لو ساءني ساء قوما كثيرا، فكلمه خريم بن عمرو والقعقاع ابن خليد، فقال: ائذن في دفن رءوسهم، قال: نعم، وما أردت هذا كله. قال علي: قال أبو عبد الله السلمي، عن يزيد بن سويد، قال: قال رجل من عجم أهل خراسان: يا معشر العرب، قتلتم قتيبة، والله لو كان قتيبة منا فمات فينا جعلناه في تابوت فكنا نستفتح به إذا غزونا، وما صنع أحد قط بخراسان ما صنع قتيبة، إلا أنه قد غدر، وذلك أن الحجاج كتب إليه أن اختلهم واقتلهم في الله. قال: وقال الحسن بن رشيد: قال الإصبهبذ لرجل: يا معشر العرب، قتلتم قتيبة ويزيد وهما سيدا العرب! قال: فأيهما كان أعظم عندكم وأهيب؟ قال: لو كان قتيبة بالمغرب بأقصى جحر به في الأرض مكبلا بالحديد، ويزيد معنا في بلادنا وال علينا لكان قتيبة أهيب في صدورنا وأعظم من يزيد. قال علي: قال المفضل بن مُحَمَّد الضبي جاء رجل إلى قتيبة يوم قتل وهو جالس، فقال: اليوم يقتل ملك العرب- وكان قتيبة عندهم ملك العرب- فقال له: اجلس. قال: وقال كليب بن خلف: حدثني رجل ممن كان مع وكيع حين قتل قتيبة، قال: أمر وكيع رجلا فنادى: لا يسلبن قتيل، فمر ابن عبيد الهجري على ابى الحجر الباهلى فسلبه، فبلغ وكيعا فضرب عنقه. قال أبو عبيدة: قال عبد الله بن عمر، من تيم اللات: ركب وكيع ذات يوم، فأتوه بسكران، فأمر به فقتل، فقيل له: ليس عليه القتل، إنما عليه الحد، قال: لا أعاقب بالسياط، ولكني أعاقب بالسيف، فقال نهار بن توسعة: وكنا نبكي من الباهلي ... فهذا الغداني شر وشر

وقال أيضا: ولما رأينا الباهلي ابن مسلم ... تجبر عممناه عضبا مهندا وقال الفرزدق يذكر وقعة وكيع: ومنا الذي سل السيوف وشامها ... عشية باب القصر من فرغان عشية لم تمنع بنيها قبيلة ... بعز عراقي ولا بيمان عشية ما ود ابن غراء أنه ... له من سوانا إذ دعا أبوان عشية لم تستر هوازن عامر ... ولا غطفان عورة ابن دخان عشية ود الناس أنهمُ لنا ... عبيد إذ الجمعان يضطربان رأوا جبلا يعلو الجبال إذا التقت ... رءوس كبيريهن ينتطحان رجال على الإسلام إذ ما تجالدوا ... على الدين حتى شاع كل مكان وحتى دعا في سور كل مدينة ... مناد ينادي فوقها بأذان فيجزى وكيع بالجماعة إذ دعا ... إليها بسيف صارم وبنان جزاء بأعمال الرجال كما جرى ... ببدر وباليرموك فيء جنان وقال الفرزدق في ذلك أيضا: أتاني ورحلي بالمدينة وقعة ... لآل تميم أقعدت كل قائم وقال علي: أخبرنا خريم بن أبي يحيى، عن بعض عمومته قال: أخبرني شيوخ من غسان قالوا: إنا لبثنية العقاب إذ نحن برجل يشبه الفيوج معه عصا وجراب، قلنا: من أين أقبلت؟ قال: من خراسان، قلنا: فهل كان بها من خبر؟ قال: نعم، قتل قتيبة بن مسلم أمس، فتعجبنا لقوله، فلما رأى إنكارنا ذلك قال: أين ترونني الليلة من إفريقية؟ ومضى واتبعناه على خيولنا، فإذا شيء يسبق الطرف وقال الطرماح: لولا فوارس مذحج ابنة مذحج ... والأزد زعزع واستبيح العسكر

وتقطعت بهمُ البلاد ولم يؤب ... منهم إلى أهل العراق مخبر واستضلعت عقد الجماعة وازدرى ... أمر الخليفة واستحل المنكر قوم همُ قتلوا قتيبة عنوة ... والخيل جانحة عليها العِثْيَر بالمرج مرج الصين حيث تبينت ... مضر العراق من الأعز الأكبر! إذ حالفت جزعا ربيعة كلها ... وتفرقت مضر ومن يتمضر وتقدمت أزد العراق ومذحج ... للموت يجمعها أبوها الأكبر قحطان تضرب رأس كل مدجج ... تحمي بصائرهن إذ لا تبصر والأزد تعلم أن تحت لوائها ... ملكا قراسية وموت أحمر فبعزنا نصر النبي مُحَمَّد ... وبنا تثبت في دمشق المنبر وقال عبد الرحمن بن جمانة الباهلي: كأن أبا حفص قتيبة لم يسر ... بجيش إلى جيش ولم يعل منبرا ولم تخفق الرايات والقوم حوله ... وقوف ولم يشهد له الناس عسكرا دعته المنايا فاستجاب لربه ... وراح إلى الجنات عفا مطهرا فما رزى الإسلام بعد مُحَمَّد ... بمثل أبي حفص فبكيه عبهرا - يعني أم ولد له. وقال الأصم بن الحجاج يرثي قتيبة: ألم يأن للأحياء أن يعرفوا لنا ... بلى نحن أولى الناس بالمجد والفخر نقود تميما والموالي ومذحجا ... وأزد وعبد القيس والحي من بكر نقتل من شئنا بعزة ملكنا ... ونجبر من شئنا على الخسف والقسر سُلَيْمَان كم من عسكر قد حوت لكم ... أسنتنا والمقربات بنا تجري وكم من حصون قد أبحنا منيعة ... ومن بلد سهل ومن جبل وعر ومن بلدة لم يغزها الناس قبلنا ... غزونا نقود الخيل شهرا الى شهر

مرنّ على الغزو الجرور ووقرت ... على النفر حتى ما تهال من النفر وحتى لوَ ان النار شبت وأكرهت ... على النار خاضت في الوغى لهب الجمر تلاعب أطراف الأسنة والقنا ... بلباتها والموت في لجج خضر بهن أبحنا أهل كل مدينة ... من الشرك حتى جاوزت مطلع الفجر ولو لم تعجلنا المنايا لجاوزت ... بنا ردم ذي القرنين ذا الصخر والقطر ولكن آجالا قضين ومدة ... تناهى إليها الطيبون بنو عمرو وفي هذه السنة عزل سُلَيْمَان بن عبد الملك خالد بن عبد الله القسري عن مكة، وولاها طلحة بن داود الحضرمي وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم الصائفة، ففتح حصنا يقال له حصن عوف. وفي هذه السنة توفي قرة بن شريك العبسي وهو أمير مصر في صفر في قول بعض أهل السير. وقال بعضهم: كان هلاك قرة في حياة الوليد في سنة خمس وتسعين في الشهر الذي هلك فيه الحجاج. وحج بالناس في هذه السنة أبو بكر بن مُحَمَّد بن عمرو بن حزم الأنصاري، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر وكذلك قَالَ الواقدي وغيره. وكان الأمير على المدينة في هذه السنة أبو بكر بن مُحَمَّد بن عمرو بن حزم، وعلى مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى حرب العراق وصلاتها يزيد بن المهلب، وعلى خراجها صالح بن عبد الرحمن. وعلى البصرة سفيان بن عبد الله الكندي من قبل يزيد بن المهلب، وعلى قضاء البصرة عبد الرحمن بن أذينة، وعلى قضاء الكوفة أبو بكر بن أبي موسى، وعلى حرب خراسان وكيع بن أبي سود.

سنه سبع وتسعين

ثم دخلت سنة سبع وتسعين (ذكر الخبر عما كَانَ فِي هَذِهِ السنة من الأحداث) فمن ذلك ما كان من تجهيز سُلَيْمَان بن عبد الملك الجيوش إلى القسطنطينية واستعماله ابنه داود بن سُلَيْمَان على الصائفة، فافتتح حصن المرأة. وفيها غزا- فيما ذكر الواقدي- مسلمة بن عبد الملك أرض الروم، ففتح الحصن الذي كان فتحه الوضاح صاحب الوضاحية وفيها غزا عمر بن هبيرة الفزاري في البحر أرض الروم، فشتا بها. وفيها قتل عبد العزيز بن موسى بن نصير بالأندلس، وقدم برأسه على سليمان حبيب بن ابى عبيد الفهري. ولايه يزيد بن المهلب على خراسان وفيها ولى سُلَيْمَان بن عبد الملك يزيد بن المهلب خراسان. ذكر الخبر عن سبب ولايته خراسان: وكان السبب في ذلك أن سُلَيْمَان بن عبد الملك لما أفضت الخلافة إليه ولى يزيد بن المهلب حرب العراق والصلاة وخراجها. ذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، أن يزيد نظر لما ولاه سُلَيْمَان ما ولاه من أمر العراق في أمر نفسه، فقال: إن العراق قد أخربها الحجاج، وأنا اليوم رجاء أهل العراق، ومتى قدمتها وأخذت الناس بالخراج وعذبتهم عليه صرت مثل الحجاج أدخل على الناس الحرب، وأعيد عليهم تلك السجون التي قد عافاهم الله منها، ومتى لم آت سُلَيْمَان بمثل ما جاء به الحجاج لم يقبل مني فأتى يزيد سُلَيْمَان فقال: أدلك على رجل بصير بالخراج توليه إياه، فتكون أنت تأخذه به؟ صالح بن عبد الرحمن، مولى بني تميم. فقال له: قد قبلنا رأيك، فأقبل يزيد إلى العراق

وحدثني عمر بن شبة، قال: قال علي: كان صالح قدم العراق قبل قدوم يزيد، فنزل واسطا قال علي: فقال عباد بن أيوب: لما قدم يزيد خرج الناس يتلقونه، فقيل لصالح: هذا يزيد، وقد خرج الناس يتلقونه، فلم يخرج حتى قرب يزيد من المدينة، فخرج صالح، عليه دراعة ودبوسية صفراء صغيره، بين يديه أربعمائة من أهل الشام، فلقي يزيد فسايره، فلما دخل المدينة قال له صالح: قد فرغت لك هذه الدار- فأشار له إلى دار- فنزل يزيد، ومضى صالح إلى منزله قال: وضيق صالح على يزيد فلم يملكه شيئا، واتخذ يزيد ألف خوان يطعم الناس عليها، فأخذها صالح، فقال له يزيد: اكتب ثمنها علي، واشتري متاعا كثيرا، وصك صكاكا إلى صالح لباعتها منه، فلم ينفذه، فرجعوا إلى يزيد، فغضب وقال: هذا عملي بنفسي، فلم يلبث أن جاء صالح، فأوسع له يزيد، فجلس وقال ليزيد: ما هذه الصكاك؟ الخراج لا يقوم لها، قد أنفذت لك منذ أيام صكا بمائة ألف، وعجلت لك أرزاقك، وسألت مالا للجند، فأعطيتك، فهذا لا يقوم له شيء، ولا يرضى أمير المؤمنين به، وتؤخذ به! فقال له يزيد: يا أبا الوليد، أجز هذه الصكاك هذه المرة، وضاحكه قال: فإني أجيزها، فلا تكثرن علي، قال: لا قال علي بن مُحَمَّد: حدثنا مسلمة بن محارب وابو العلا. التيمي والطفيل بن مرداس العمي وأبو حفص الأزدي عمن حدثه عن جهم ابن زحر بن قيس، والحسن بن رشيد عن سُلَيْمَان بن كثير، وأبو الحسن الخراساني عن الكرماني، وعامر بن حفص وأبو مخنف عن عثمان ابن عمرو بن محصن الأزدي وزهير بن هنيد وغيرهم- وفي خبر بعضهم ما ليس في خبر بعض، فألفت ذلك- أن سُلَيْمَان بن عبد الملك ولى يزيد ابن المهلب العراق ولم يوله خراسان، فقال سُلَيْمَان بن عبد الملك لعبد الملك ابن المهلب وهو بالشام ويزيد بالعراق: كيف أنت يا عبد الملك إن وليتك خراسان؟ قال: يجدني أمير المؤمنين حيث يحب، ثم أعرض سليمان عن

ذلك قال: وكتب عبد الملك بن المهلب إلى جرير بن يزيد الجهضمي وإلى رجال من خاصته: أن أمير المؤمنين عرض علي ولاية خراسان. فبلغ الخبر يزيد بن المهلب، وقد ضجر بالعراق، وقد ضيق عليه صالح ابن عبد الرحمن، فليس يصل معه إلى شيء، فدعا عبد الله بن الأهتم، فقال: إني أريدك لأمر قد أهمني، فأحب أن تكفينيه، قال: مرني بما أحببت، قال: أنا فيما ترى من الضيق، وقد أضجرني ذلك، وخراسان شاغرة برجلها، وقد بلغني أن أمير المؤمنين ذكرها لعبد الملك بن المهلب، فهل من حيلة؟ قال: نعم، سرحني إلى أمير المؤمنين، فإني أرجو أن آتيك بعهدك عليها، قال: فاكتم ما أخبرتك به وكتب إلى سُلَيْمَان كتابين: أحدهما يذكر له فيه أمر العراق، وأثنى فيه على ابن الأهتم وذكر له علمه بها، ووجه ابن الأهتم وحمله على البريد، وأعطاه ثلاثين ألفا فسار سبعا، فقدم بكتاب يزيد على سُلَيْمَان، فدخل عليه وهو يتغدى، فجلس ناحية، فأتي بدجاجتين فأكلهما. قال: فدخل ابن الأهتم فقال له سُلَيْمَان: لك مجلس غير هذا تعود إليه ثم دعا به بعد ثالثة، فقال له سُلَيْمَان: إن يزيد بن المهلب كتب إلي يذكر علمك بالعراق وبخراسان، ويثني عليك، فكيف علمك بها؟ قال: أنا أعلم الناس بها، بها ولدت، وبها نشأت، فلي بها وبأصلها خبر وعلم قال: ما أحوج أمير المؤمنين إلى مثلك يشاوره في أمرها! فأشر علي برجل أوليه خراسان، قال: أمير المؤمنين أعلم بمن يريد يولي، فإن ذكر منهم أحدا أخبرته برأيي فيه، هل يصلح لها أم لا، قال: فسمى سُلَيْمَان رجلا من قريش، قال: يا أمير المؤمنين، ليس من رجال خراسان، قال: فعبد الملك بن المهلب، قال: لا، حتى عدد رجالا، فكان في آخر من ذكر وكيع بن أبي سود، فقال: يا أمير المؤمنين، وكيع رجل شجاع صارم بئيس مقدام، وليس بصاحبها مع هذا، إنه لم

يقد ثلاثمائة قط فرأى لأحد عليه طاعة قال: صدقت ويحك، فمن لها! قال: رجل أعلمه لم تسمه، قال: فمن هو؟ قال لا أبوح باسمه إلا أن يضمن لي أمير المؤمنين ستر ذلك، وأن يجيرني منه إن علم، قال: نعم، سمه من هو؟ قال: يزيد بن المهلب، قال: ذاك بالعراق، والمقام بها أحب إليه من المقام بخراسان، قال: قد علمت يا أمير المؤمنين، ولكن تكرهه على ذلك، فيستخلف على العراق رجلا ويسير، قال: أصبت الرأي فكتب عهد يزيد على خراسان، وكتب إليه كتابا: أن ابن الأهتم كما ذكرت في عقله ودينه وفضله ورأيه ودفع الكتاب وعهد يزيد إلى ابن الأهتم، فسار سبعا، فقدم على يزيد فقال له: ما وراءك؟ قال: فأعطاه الكتاب، فقال: ويحك! أعندك خير؟ فأعطاه العهد، فأمر يزيد بالجهاز للمسير من ساعته، ودعا ابنه مخلدا فقدمه إلى خراسان قال: فسار من يومه، ثم سار يزيد واستخلف على واسط الجراح بن عبد الله الحكمي، واستعمل على البصرة عبد الله بن هلال الكلابى، وصير مروان ابن المهلب على أمواله وأموره بالبصرة، وكان أوثق إخوته عنده، ولمروان يقول أبو البهاء الإيادي: رأيت أبا قبيصة كل يوم ... على العلات أكرمهم طباعا إذا ما هم أبوا أن يستطيعوا ... جسيم الأمر يحمل ما استطاعا وإن ضاقت صدورهمُ بأمر ... فضلتهمُ بذاك ندى وباعا وأما أبو عبيدة معمر بن المثنى فإنه قال في ذلك: حدثني أبو مالك أن وكيع بن أبي سود بعث بطاعته وبرأس قتيبة إلى سُلَيْمَان، فوقع ذلك من سُلَيْمَان كل موقع، فجعل يزيد بن المهلب لعبد الله بن الأهتم مائة ألف على أن ينقر وكيعا عنده، فقال: أصلح الله أمير المؤمنين! والله ما أحد

أوجب شكرا، ولا أعظم عندي يدا من وكيع، لقد أدرك بثأري، وشفاني من عدوي، ولكن أمير المؤمنين أعظم وأوجب علي حقا، وأن النصيحة تلزمني لأمير المؤمنين، إن وكيعا لم يجتمع له مائة عنان قط إلا حدث نفسه بغدرة، خامل في الجماعة، نابه في الفتنة، فقال: ما هو إذا ممن نستعين به- وكانت قيس تزعم أن قتيبة لم يخلع- فاستعمل سليمان يزيد ابن المهلب على حرب العراق، وأمره إن أقامت قيس البينة أن قتيبة لم يخلع فينزع يدا من طاعة، أن يقيد وكيعا به فغدر يزيد، فلم يعط عبد الله ابن الأهتم ما كان ضمن له، ووجه ابنه مخلد بن يزيد إلى وكيع. رجع الحديث إلى حديث علي قال علي: أخبرنا أبو مخنف عن عثمان بن عمرو بن محصن، وأبو الحسن الخراساني عن الكرماني، قال: وجه يزيد ابنه مخلدا إلى خراسان فقدم مخلد عمرو بن عبد الله بن سنان العتكي، ثم الصنابحي، حين دنا من مرو، فلما قدمها أرسل إلى وكيع أن القني، فأبى، فأرسل إليه عمرو، يا أعرابي أحمق جلفا جافيا، انطلق إلى أميرك فتلقه وخرج وجوه من أهل مرو يتلقون مخلدا، وتثاقل وكيع عن الخروج، فأخرجه عمرو الأزدي، فلما بلغوا مخلدا نزل الناس كلهم غير وكيع ومُحَمَّد بن حمران السعدي وعباد بن لقيط أحد بني قيس بن ثعلبة، فأنزلوهم، فلما قدم مرو حبس وكيعا فعذبه، وأخذ أصحابه فعذبهم قبل قدوم أبيه. قال علي عن كليب بن خلف، قال: أخبرنا إدريس بن حنظلة، قال: لما قدم مخلد خراسان حبسني، فجاءني ابن الأهتم فقال لي: أتريد أن تنجو؟ قلت: نعم، قال: أخرج الكتب التي كتبها القعقاع بن خليد العبسي وخريم بن عمرو المري إلى قتيبة في خلع سليمان، فقلت له: يا بن الأهتم،

إياي تخدع عن ديني! قال: فدعا بطومار وقال: انك احمق فكتب كتبا عن لسان القعقاع ورجال من قيس إلى قتيبة أن، الوليد بن عبد الملك قد مات، وسُلَيْمَان باعث هذا المزوني على خراسان فاخلعه. فقلت: يا بن الأهتم، تهلك والله نفسك! والله لئن دخلت عليه لأعلمنه أنك كتبتها. وفي هذه السنة شخص يزيد بن المهلب إلى خراسان أميرا عليها، فذكر علي بن مُحَمَّد، عن أبي السري الأزدي، عن عمه، قال: ولي وكيع خراسان بعد قتل قتيبة تسعة أشهر أو عشرة وقدم يزيد بن المهلب سنة سبع وتسعين. قال علي: فذكر المفضل بن مُحَمَّد عن أبيه، قال: أدنى يزيد أهل الشام وقوما من أهل خراسان، فقال نهار بن توسعة: وما كنا نؤمل من أمير ... كما كنا نؤمل من يزيد فأخطأ ظننا فيه وقدما ... زهدنا في معاشرة الزهيد إذا لم يعطنا نصفا أمير ... مشينا نحوه مثل الأسود فمهلا يا يزيد أنب إلينا ... ودعنا من معاشرة العبيد نجيء فلا نرى إلا صدودا ... على أنا نسلم من بعيد ونرجع خائبين بلا نوال ... فما بال التجهم والصدود! قال علي: أخبرنا زياد بن الربيع، عن غالب القطان، قال: رأيت عمر بن عبد العزيز واقفا بعرفات في خلافة سُلَيْمَان، وقد حج سُلَيْمَان عامئذ وهو يقول لعبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد: العجب لأمير المؤمنين، استعمل رجلا على أفضل ثغر للمسلمين! فقد بلغني عمن يقدم من التجار من ذلك الوجه أنه يعطي الجارية من جواريه مثل سهم ألف رجل أما والله

ما الله أراد بولايته- فعرفت أنه يعني يزيد والجهنية- فقلت: يشكر بلاءهم أيام الأزارقة. قال: ووصل يزيد عبد الملك بن سلام السلولي فقال: ما زال سيبك يا يزيد بحوبتي ... حتى ارتويت وجودكم لا ينكر أنت الربيع إذا تكون خصاصة ... عاش السقيم به وعاش المقتر عمت سحابته جميع بلادكم ... فرووا وأغدقهم سحاب ممطر فسقاك ربك حيث كنت مخيلة ... ريا سحائبها تروح وتبكر وفي هذه السنة حج بالناس سُلَيْمَان بن عبد الملك، حدثنى بذلك احمد ابن ثَابِت عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر. وفيها عزل سُلَيْمَان طلحة بن داود الحضرمي عن مكة، قال الواقدي: حدثني إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي مليكه، قال: لما صدر سليمان ابن عبد الملك من الحج عزل طلحة بن داود الحضرمي عن مكة، وكان عمله عليها ستة أشهر، وولي عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن اسيد ابن أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ بن عبد مناف. وكانت عمال الأمصار في هذه السنة عمالها في السنة التي قبلها إلا خراسان، فإن عاملها على الحرب والخراج والصلاة يزيد بن المهلب. وكان خليفته على الكوفة- فيما قيل- حرملة بن عمير اللخمي أشهرا، ثم عزله وولاها بشير بن حسان النهدي.

سنه ثمان وتسعين

ثم دخلت سنة ثمان وتسعين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) خبر محاصره مسلمه بن عبد الملك القسطنطينية فمن ذلك ما كان من توجيه سُلَيْمَان بن عبد الملك أخاه مسلمة بن عبد الملك إلى القسطنطينية، وأمره أن يقيم عليها حتى يفتحها او يأتيه، فشتا بها وصاف فذكر مُحَمَّد بن عمر أن ثور بن يزيد حدثه عن سُلَيْمَان بن موسى، قال: لما دنا مسلمة من قسطنطينية أمر كل فارس أن يحمل على عجز فرسه مديين من طعام حتى يأتي به القسطنطينية، فأمر بالطعام فألقي في ناحية مثل الجبال، ثم قال للمسلمين: لا تأكلوا منه شيئا، أغيروا في ارضهم، وازدرعوا وعمل بيوتا من خشب، فشتا فيها، وزرع الناس، ومكث ذلك الطعام في الصحراء لا يكنه شيء، والناس يأكلون مما أصابوا من الغارات، ثم أكلوا من الزرع، فأقام مسلمة بالقسطنطينية قاهرا لأهلها، معه وجوه أهل الشام: خالد بن معدان، وعبد الله بن أبي زكرياء الخزاعي، ومجاهد بن جبر، حتى أتاه موت سليمان فقال القائل: تحمل مدييها ومديى مسلمة. حدثني أحمد بن زهير، عن علي بن مُحَمَّد، قال: لما ولي سُلَيْمَان غزا الروم فنزل دابق، وقدم مسلمة فهابه الروم، فشخص إليون من أرمينية، فقال لمسلمة: ابعث إلي رجلا يكلمني، فبعث ابن هبيرة، فقال له ابن هبيرة: ما تعدون الأحمق فيكم؟ قال: الذي يملأ بطنه من كل شيء يجده، فقال له ابن هبيرة: إنا أصحاب دين، ومن ديننا طاعة

مبايعه سليمان لابنه أيوب وليا للعهد

أمرائنا، قال: صدقت، كنا وأنتم نقاتل على الدين ونغضب له، فأما اليوم فإنا نقاتل على الغلبة والملك، نعطيك عن كل رأس دينارا. فرجع ابن هبيرة إلى الروم من غده، وقال: أبى أن يرضى، أتيته وقد تغدى وملأ بطنه ونام، فانتبه وقد غلب عليه البلغم، فلم يدر ما قلت. وقالت البطارقة لإليون: إن صرفت عنا مسلمة ملكناك فوثقوا له، فأتى مسلمة فقال: قد علم القوم أنك لا تصدقهم القتال، وأنك تطاولهم ما دام الطعام عندك، ولو أحرقت الطعام أعطوا بأيديهم، فأحرقه، فقوي العدو، وضاق المسلمون حتى كادوا يهلكون، فكانوا على ذلك حتى مات سُلَيْمَان قال: وكان سُلَيْمَان بن عبد الملك لما نزل دابق اعطى الله عهدا الا ينصرف حتى يدخل الجيش الذي وجهه إلى الروم القسطنطينية. قال: وهلك ملك الروم، فأتاه إليون فأخبره، وضمن له أن يدفع إليه أرض الروم، فوجه معه مسلمة حتى نزل بها، وجمع كل طعام حولها وحصر أهلها وأتاهم إليون فملكوه، فكتب إلى مسلمة يخبره بالذي كان، ويسأله أن يدخل من الطعام ما يعيش به القوم، ويصدقونه بأن أمره وأمر مسلمة واحد، وأنهم في أمان من السباء والخروج من بلادهم، وأن يأذن لهم ليلة في حمل الطعام، وقد هيأ إليون السفن والرجال، فأذن له، فما بقي في تلك الحظائر إلا ما لا يذكر، حمل في ليلة، وأصبح إليون محاربا، وقد خدعه خديعة لو كان امرأة لعيب بها، فلقي الجند ما لم يلق جيش، حتى إن كان الرجل ليخاف أن يخرج من العسكر وحده، وأكلوا الدواب والجلود وأصول الشجر والورق، وكل شيء غير التراب، وسُلَيْمَان مقيم بدابق، ونزل الشتاء فلم يقدر يمدهم حتى هلك سليمان. مبايعه سليمان لابنه أيوب وليا للعهد وفي هذه السنة بايع سُلَيْمَان بن عبد الملك لابنه أيوب بن سُلَيْمَان وجعله ولي عهده، فحدثني عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، قال: كان عبد الملك أخذ على الوليد وسُلَيْمَان أن يبايعا لابن عاتكة ولمروان بن عبد الملك

غزو جرجان وطبرستان

من بعده، قال: فحدثني طارق بن المبارك، قال: مات مروان بن عبد الملك في خلافة سُلَيْمَان منصرفه من مكة، فبايع سُلَيْمَان حين مات مروان لأيوب، وأمسك عن يزيد وتربص به، ورجا أن يهلك، فهلك أيوب وهو ولي عهده. وفي هذه السنة فتحت مدينة الصقالبة، قال مُحَمَّد بن عمر: أغارت برجان في سنة ثمان وتسعين على مسلمة بن عبد الملك وهو في قلة من الناس، فأمده سُلَيْمَان بن عبد الملك بمسعدة- أو عمرو بن قيس- في جمع فمكرت بهم الصقالبة، ثم هزمهم الله بعد أن قتلوا شراحيل بن عبد ابن عبدة. وفي هذه السنة- فيما زعم الواقدي- غزا الوليد بن هشام وعمرو بن قيس، فأصيب ناس من أهل أنطاكية، وأصاب الوليد ناسا من ضواحي الروم وأسر منهم بشرا كثيرا. غزو جرجان وطبرستان وفي هذه السنة غزا يزيد بن المهلب جرجان وطبرستان، فذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، أن يزيد بن المهلب لما قدم خراسان أقام ثلاثة أشهر أو أربعة، ثم أقبل إلى دهستان وجرجان، وبعث ابنه مخلدا على خراسان، وجاء حتى نزل بدهستان، وكان أهلها طائفة من الترك، فأقام عليها، وحاصر أهلها، معه أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الشام ووجوه أهل خراسان والري، وهو في مائة ألف مقاتل سوى الموالي والمماليك والمتطوعين، فكانوا يخرجون فيقاتلون الناس، فلا يلبثهم الناس أن يهزموهم فيدخلون حصنهم، ثم يخرجون أحيانا فيقاتلون فيشتد قتالهم. وكان جهم وجمال ابنا زحر من يزيد بمكان، وكان يكرمهما، وكان مُحَمَّد بن عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي له لسان وبأس، غير أنه كان يفسد نفسه بالشراب، وكان لا يكثر غشيان يزيد وأهل بيته، وكأنه

أيضا حجزه عن ذلك ما رأى من حسن أثرهم على ابني زحر جهم وجمال وكان إذا نادى المنادي: يا خيل الله اركبي وأبشري كان أول فارس من أهل العسكر يبدر إلى موقف البأس عند الروع مُحَمَّد بن عبد الرحمن بن أبي سبرة، فنودي ذات يوم في الناس، فبدر الناس ابن أبي سبرة، فإنه لواقف على تل إذ مر به عثمان بن المفضل، فقال له: يا بن أبي سبرة، ما قدرت على أن أسبقك إلى الموقف قط، فقال: وما يغني ذلك عني، وأنتم ترشحون غلمان مذحج، وتجهلون حق ذوي الأسنان والتجارب والبلاء! فقال: أما إنك لو تريد ما قبلنا لم نعدل عنك ما أنت له أهل. قال: وخرج الناس فاقتتلوا قتالا شديدا فحمل مُحَمَّد بن أبي سبرة على تركي قد صد الناس عنه، فاختلفا ضربتين، فثبت سيف التركي في بيضة ابن أبي سبرة، وضربه ابن أبي سبرة فقتله، ثم أقبل وسيفه في يده يقطر دما، وسيف التركي في بيضته، فنظر الناس إلى أحسن منظر رأوه من فارس، ونظر يزيد إلى ائتلاق السيفين والبيضة والسلاح فقال: من هذا؟ فقالوا: ابن أبي سبرة، فقال: لله أبوه! أي رجل هو لولا إسرافه على نفسه! وخرج يزيد بعد ذلك يوما وهو يرتاد مكانا يدخل منه على القوم، فلم يشعر بشيء حتى هجم عليه جماعة من الترك- وكان معه وجوه الناس وفرسانهم، وكان في نحو من أربعمائة، والعدو في نحو من أربعة آلاف- فقاتلهم ساعة، ثم قالوا ليزيد: أيها الأمير، انصرف ونحن نقاتل عنك، فأبى أن يفعل، وغشي القتال يومئذ بنفسه، وكان كأحدهم، وقاتل ابن أبي سبرة وابنا زحر والحجاج بن جارية الخثعمي وجل أصحابه، فأحسنوا القتال، حتى إذا أرادوا الانصراف جعل الحجاج بن جارية على

الساقة، فكان يقاتل من ورائه حتى انتهى إلى الماء، وقد كانوا عطشوا فشربوا، وانصرف عنهم العدو، ولم يظفروا منهم بشيء، فقال سفيان ابن صفوان الخثعمي: لولا ابن جارية الأغر جبينه ... لسقيت كأسا مرة المتجرع وحماك في فرسانه وخيوله ... حتى وردت الماء غير متعتع ثم إنه ألح عليها وأنزل الجنود من كل جانب حولها، وقطع عنهم المواد، فلما جهدوا، وعجزوا عن قتال المسلمين، واشتد عليهم الحصار والبلاء، بعث صول دهقان دهستان إلى يزيد: إني أصالحك على أن تؤمنني على نفسي وأهل بيتي ومالي، وأدفع إليك المدينة وما فيها وأهلها. فصالحه، وقبل منه، ووفى له، ودخل المدينة فأخذ ما كان فيها من الأموال والكنوز ومن السبي شيئا لا يحصى، وقتل أربعة عشر ألف تركي صبرا، وكتب بذلك إلى سُلَيْمَان بن عبد الملك. ثم خرج حتى أتى جرجان، وقد كانوا يصالحون أهل الكوفة على مائه الف، ومائتي الف أحيانا، وثلاثمائة ألف، وصالحوهم عليها، فلما أتاهم يزيد استقبلوه بالصلح وهابوه وزادوه، واستخلف عليهم رجلا من الأزد يقال له: أسد بن عبد الله، ودخل يزيد إلى الإصبهبذ في طبرستان فكان معه الفعلة يقطعون الشجر، ويصلحون الطرق، حتى انتهوا إليه، فنزل به فحصره وغلب على أرضه، وأخذ الإصبهبذ يعرض على يزيد الصلح ويريده على ما كان يؤخذ منه، فيأبى رجاء افتتاحها فبعث ذات يوم أخاه أبا عيينة في أهل المصرين، فأصعد في الجبل إليهم، وقد بعث الإصبهبذ إلى الديلم، فاستجاش بهم، فاقتتلوا، فحازهم المسلمون ساعة وكشفوهم، وخرج رأس الديلم يسأل المبارزة، فخرج إليه ابن أبي سبرة فقتله، فكانت هزيمتهم حتى انتهى المسلمون إلى فم الشعب،

فذهبوا ليصعدوا فيه، وأشرف عليهم العدو يرشقونهم بالنشاب، ويرمونهم بالحجارة، فانهزم الناس من فم الشعب من غير كبير قتال ولا قوة من عدوهم على اتباعهم وطلبهم، وأقبلوا يركب بعضهم بعضا، حتى أخذوا يتساقطون في اللهوب، ويتدهدى الرجل من رأس الجبل حتى نزلوا إلى عسكر يزيد لا يعبئون بالشر شيئا. وأقام يزيد بمكانه على حاله، وأقبل الإصبهبذ يكاتب أهل جرجان ويسألهم أن يثبوا بأصحاب يزيد، وأن يقطعوا عليه مادته والطرق فيما بينه وبين العرب، ويعدهم أن يكافئهم على ذلك، فوثبوا بمن كان يزيد خلف من المسلمين، فقتلوا منهم من قدروا عليه، واجتمع بقيتهم فتحصنوا في جانب، فلم يزالوا فيه حتى خرج إليهم يزيد وأقام يزيد على الإصبهبذ في ارضه حتى صالحه على سبعمائة الف درهم وأربعمائة الف نقدا ومائتي الف وأربعمائة حمار موقره زعفرانا، وأربعمائة رجل؟ على راس كل رجل برنس، على البرنس طيلسان ولجام من فضة وسرقة من حرير، وقد كانوا صالحوا قبل ذلك على مائتي ألف درهم. ثم خرج منها يزيد وأصحابه كأنهم فل، ولولا ما صنع أهل جرجان لم يخرج من طبرستان حتى يفتحها. وأما غير أبي مخنف، فإنه قال في أمر يزيد وأمر أهل جرجان ما حدثني أحمد بن زهير، عن علي بن مُحَمَّد، عَنْ كُلَيْبِ بْنِ خَلَفٍ وَغَيْرِهِ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ صَالَحَ أَهْلَ جُرْجَانَ، ثُمَّ امْتَنَعُوا وَكَفَرُوا، فَلَمْ يَأْتِ جُرْجَانَ بَعْدَ سَعِيدٍ أَحَدٌ، ومنعوا ذلك الطريق، فلم يكن يسلك طريق خراسان من ناحيته أحد إِلا عَلَى وَجَلٍ وَخَوْفٍ مِنْ أَهْلِ جُرْجَانَ، كان الطَّرِيقُ إِلَى خُرَاسَانَ مِنْ فَارِسٍ إِلَى كَرْمَانَ، فَأَوَّلُ مَنْ صَيَّرَ الطَّرِيقَ مِنْ قُومِسَ قُتَيْبَةُ بن مسلم حين ولي خراسان ثم غزا مصقلة خراسان أيام معاوية في عشرة آلاف، فأصيب وجنده بالرويان، وهي متاخمة طبرستان

فهلكوا في واد من أوديتها، أخذ العدو عليهم بمضايقه، فقتلوا جميعا، فهو يسمى وادي مصقلة. قال: وكان يضرب به المثل حتى يرجع مصقلة من طبرستان، قال عَلِيٌّ، عَنْ كُلَيْبِ بْنِ خَلَفٍ الْعَمِّيِّ، عَنْ طُفَيْلِ بْنِ مِرْدَاسٍ الْعَمِّيِّ وَإِدْرِيسَ بْنِ حَنْظَلَةَ: إن سعيد بن العاص صالح أهل جرجان، فكانوا يجيئون أَحْيَانًا مِائَةَ أَلْفٍ، وَيَقُولُونَ: هَذَا صُلْحُنَا، وَأَحْيَانًا مائتي الف، وأحيانا ثلاثمائه أَلْفٍ، وَكَانُوا رُبَّمَا أَعْطَوْا ذَلِكَ، وَرُبَّمَا مَنَعُوهُ، ثُمَّ امْتَنَعُوا وَكَفَرُوا فَلَمْ يُعْطُوا خَرَاجًا، حَتَّى أَتَاهُمْ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ فَلَمْ يُعَازِّهِ أَحَدٌ حين قدمها، فلما صالح صول وَفَتَحَ الْبَحِيرَةَ وَدِهِسُتَانَ صَالَحَ أَهْلَ جُرْجَانَ عَلَى صلح سعيد بن العاص. حدثني أحمد، عن عَلِيٌّ عَنْ كُلَيْبِ بْنِ خَلَفٍ الْعَمِّيِّ عَنْ طفيل بن مرداس، وبشر بن عيسى بن ابى صفوان، قال علي: وحدثني أبو حفص الأزدي عن سليمان بن كثير، وغيرهم، ان صولا التركي كان ينزل دهستان والبحيرة- جزيرة في البحر بينها وبين دهستان خمسة فراسخ، وهما من جرجان مما يلي خوارزم- فكان صول يغير على فيروز بن قول، مرزبان جرجان، وبينهم خمسة وعشرون فرسخا، فيصيب من أطرافهم ثم يرجع إلى البحيرة ودهستان، فوقع بين فيروز وبين ابن عم له يقال له المرزبان منازعة، فاعتزله المرزبان، فنزل البياسان، فخاف فيروز أن يغير عليه الترك، فخرج إلى يزيد بن المهلب بخراسان، وأخذ صول جرجان، فلما قدم على يزيد بن المهلب قال له: ما أقدمك؟ قال: خفت صولا، فهربت منه، قال له يزيد: هل من حيلة لقتاله؟ قال: نعم، شيء واحد، إن ظفرت به قتلته، أو أعطى بيده، قال: ما هو؟ قال: إن خرج من جرجان حتى ينزل البحيرة، ثم أتيته ثَم فحاصرته بها ظفرت به، فاكتب إلى الإصبهبذ كتابا تسأله فيه أن يحتال

لصول حتى يقيم بجرجان، واجعل له على ذلك جعلا، ومنه، فإنه يبعث بكتابك إلى صول يتقرب به إليه لأنه يعظمه، فيتحول عن جرجان، فينزل البحيرة. فكتب يزيد بن المهلب إلى صاحب طبرستان: أني أريد أن أغزو صولا وهو بجرجان، فخفت إن بلغه أني أريد ذلك أن يتحول إلى البحيرة فينزلها، فإن تحول إليها لم أقدر عليه، وهو يسمع منك ويستنصحك، فإن حبسته العام بجرجان فلم يأت البحيرة حملت إليك خمسين ألف مثقال، فاحتل له حيلة، تحبسه بجرجان، فإنه إن أقام بها ظفرت به فلما رأى الإصبهبذ الكتاب أراد أن يتقرب إلى صول، فبعث بالكتاب إليه، فلما أتاه الكتاب أمر الناس بالرحيل إلى البحيرة وحمل الأطعمة ليتحصن فيها وبلغ يزيد أنه قد سار من جرجان إلى البحيرة، فاعتزم على السير إلى الجرجان، فخرج في ثلاثين ألفا، ومعه فيروز ابن قول، واستخلف على خراسان مخلد بن يزيد، واستخلف على سمرقند وكس ونسف وبخارى ابنه معاوية بن يزيد، وعلى طخارستان حاتم بن قبيصة بن المهلب، وأقبل حتى أتى جرجان- ولم تكن يومئذ مدينة إنما هي جبال محيطة بها، وأبواب ومخارم، يقوم الرجل على باب منها فلا يقدم عليه أحد- فدخلها يزيد لم يعازه أحد، وأصاب أموالا، وهرب المرزبان، وخرج يزيد بالناس إلى البحيرة، فأناخ على صول، وتمثل حين نزل بهم: فخر السيف وارتعشت يداه وكان بنفسه وقيت نفوس قال: فحاصرهم، فكان يخرج إليه صول في الأيام فيقاتله ثم يرجع إلى حصنه، ومع يزيد أهل الكوفة وأهل البصرة ثم ذكر من قصه جهم ابن زحر وأخيه محمد نحوا مما ذكره هشام، غير أنه قال في ضربة التركي ابن أبي سبرة: فنشب سيف التركي في درقة ابن أبي سبرة

قال علي بن مُحَمَّد، عن علي بن مجاهد، عن عنبسة، قال: قاتل مُحَمَّد بن أبي سبرة الترك بجرجان فأحاطوا به واعتوروه بأسيافهم، فانقطع في يده ثلاثة أسياف. ثم رجع إلى حديثهم، قال: فمكثوا بذلك- يعني الترك- محصورين يخرجون فيقاتلون، ثم يرجعون إلى حصنهم ستة أشهر، حتى شربوا ماء الأحساء، فأصابهم داء يسمى السؤاد، فوقع فيهم الموت، وأرسل صول في ذلك يطلب الصلح، فقال يزيد بن المهلب: لا، إلا أن ينزل على حكمي، فأبى فأرسل إليه: إني أصالحك على نفسي ومالي وثلاثمائه من أهل بيتي وخاصتي، على أن تؤمنني فتنزل البحيرة فأجابه إلى ذاك يزيد، فخرج بماله وثلاثمائه ممن أحب، وصار مع يزيد، فقتل يزيد من الأتراك أربعة عشر ألفا صبرا، ومن على الآخرين فلم يقتل منهم أحدا وقال الجند ليزيد: أعطنا أرزاقنا، فدعا إدريس بن حنظله العمى، فقال: يا بن حنظلة، أحص لنا ما في البحيرة حتى نعطي الجند، فدخلها إدريس، فلم يقدر على احصاء ما فيها، فقال ليزيد: فيها مالا أستطيع إحصاءه، وهو في ظروف، فنحصي الجواليق ونعلم ما فيها، ونقول للجند: ادخلوا فخذوا، فمن أخذ شيئا عرفنا ما أخذ من الحنطة والشعير والأرز والسمسم والعسل قال: نعم ما رأيت، فأحصوا الجواليق عددا، وعلموا كل جوالق ما فيه، وقالوا للجند: خذوا، فكان الرجل يخرج وقد أخذ ثيابا أو طعاما أو ما حمل من شيء فيكتب على كل رجل ما أخذ، فأخذوا شيئا كثيرا. قال علي: قال أبو بكر الهذلي: كان شهر بن حوشب على خزائن يزيد بن المهلب، فرفعوا عليه أنه أخذ خريطة، فسأله يزيد عنها، فأتاه بها، فدعا يزيد الذي رفع عليه فشتمه، وقال لشهر: هي لك، قال: لا حاجة لي فيها، فقال القطامي الكلبي- ويقال: سنان بن مكمل النميري:

لقد باع شهر دينه بخريطة ... فمن يأمن القراء بعدك يا شهر أخذت به شيئا طفيفا وبعته ... من ابن جونبوذ ان هذا هو الغدر وقال مرة النخعي لشهر: يا بن المهلب ما أردت إلى امرئ ... لولاك كان كصالح القراء قال علي: قال أبو مُحَمَّد الثقفي: أصاب يزيد بن المهلب تاجا بجرجان فيه جوهر، فقال: أترون أحدا يزهد في هذا التاج؟ قالوا: لا، فدعا مُحَمَّد بن واسع الأزدي، فقال: خذ هذا التاج فهو لك، قَالَ: لا حاجة لي فِيهِ، قال: عزمت عليك، فأخذه، وخرج فأمر يزيد رجلا ينظر ما يصنع به، فلقي سائلا فدفعه إليه، فأخذ الرجل السائل، فأتى به يزيد وأخبره الخبر، فأخذ يزيد التاج، وعوض السائل مالا كثيرا. قال علي: وكان سُلَيْمَان بن عبد الملك كلما افتتح قتيبة فتحا قال ليزيد بن المهلب: أما ترى ما يصنع الله على يدي قتيبة؟ فيقول ابن المهلب: ما فعلت جرجان التي حالت بين الناس والطريق الأعظم، وأفسدت قومس وأبرشهر! ويقول: هذه الفتوح ليست بشيء، الشأن في جرجان. فلما ولي يزيد بن المهلب لم يكن له همة غير جرجان قال: ويقال: كان يزيد بن المهلب في عشرين ومائة ألف، معه من أهل الشام ستون ألفا. قال علي في حديثه، عمن ذكر خبر جرجان عنهم: وزاد فيه على ابن مجاهد، عن خالد بن صبيح أن يزيد بن المهلب لما صالح صولا طمع في طبرستان أن يفتحها، فاعتزم على أن يسير إليها، فاستعمل عبد الله بن المعمر اليشكري على البياسان ودهستان، وخلف معه أربعة آلاف، ثم أقبل إلى أداني جرجان مما يلي طبرستان، واستعمل على أندرستان أسد ابن عمرو- أو ابن عبد الله بن الربعة- وهي مما يلي طبرستان، وخلفه، في أربعة آلاف، ودخل يزيد بلاد الإصبهبذ فأرسل إليه يسأله الصلح،

وأن يخرج من طبرستان، فأبى يزيد، ورجا أن يفتحها، فوجه أخاه أبا عيينة من وجه، وخالد بن يزيد ابنه من وجه، وأبا الجهم الكلبي من وجه، وقال: إذا اجتمعتم فأبو عيينة على الناس فسار أبو عيينة في أهل المصرين ومعه هريم بن أبي طحمة وقال يزيد لأبي عيينة: شاور هريما فإنه ناصح وأقام يزيد معسكرا. قال: واستجاش الإصبهبذ بأهل جيلان وأهل الديلم، فأتوه فالتقوا في سند جبل، فانهزم المشركون، وأتبعهم المسلمون حتى انتهوا إلى فم الشعب فدخله المسلمون، فصعد المشركون في الجبل، وأتبعهم المسلمون، فرماهم العدو بالنشاب والحجارة، فانهزم أبو عيينة والمسلمون، فركب بعضهم بعضا يساقطون من الجبل، فلم يثبتوا حتى انتهوا إلى عسكر يزيد، وكف العدو عن أتباعهم، وخافهم الإصبهبذ، فكتب إلى المرزبان ابن عم فيروز بن قول وهو بأقصى جرجان مما يلي البياسان: إنا قد قتلنا يزيد وأصحابه فاقتل من في البياسان من العرب فخرج إلى أهل البياسان والمسلمون غارون في منازلهم، قد أجمعوا على قتلهم، فقتلوا جميعا في ليلة، فأصبح عبد الله بن المعمر مقتولا وأربعة آلاف من المسلمين لم ينج منهم أحد، وقتل من بني العم خمسون رجلا، قتل الحسين بن عبد الرحمن واسماعيل ابن إبراهيم بن شماس وكتب إلى الإصبهبذ يأخذ بالمضايق والطرق. وبلغ يزيد قتل عبد الله بن المعمر وأصحابه، فأعظموا ذلك، وهالهم، ففزع يزيد إلى حيان النبطي وقال: لا يمنعك ما كان مني إليك من نصيحة المسلمين، قد جاءنا عن جرجان ما جاءنا، وقد أخذ هذا بالطرق، فاعمل في الصلح، قال: نعم، فأتى حيان الإصبهبذ فقال: أنا رجل منكم، وإن كان الدين قد فرق بيني وبينكم، فانى لكم ناصح، وأنت أحب إلي من يزيد، وقد بعث يستمد، وأمداده منه قريبة، وإنما أصابوا منه طرفا، ولست آمن ان يأتيك مالا تقوم له، فأرح نفسك منه، وصالحه

فتح جرجان

فإنك إن صالحته صير حده على أهل جرجان بغدرهم وقتلهم من قتلوا، فصالحه على سبعمائة الف- وقال على بن مجاهد: على خمسمائة الف- وأربعمائة وقر زعفران او قيمته من العين، وأربعمائة رجل، على كل رجل برنس وطيلسان، ومع كل رجل جام فضة وسرقة خز وكسوة. ثم رجع إلى يزيد بن المهلب فقال: ابعث من يحمل صلحهم الذي صالحتهم عليه، قال: من عندهم أو من عندنا؟ قال: من عندهم وكان يزيد قد طابت نفسه على أن يعطيهم ما سألوا، ويرجع إلى جرجان فأرسل يزيد من يحمل ما صالحهم عليه حيان، وانصرف إلى جرجان، وكان يزيد قد غرم حيانا مائتي الف، فخاف الا يناصحه. والسبب الذى له اغرم حيان فيه ما حدثني علي بن مجاهد، عن خالد بن صبيح، قال: كنت مؤدبا لولد حيان، فدعاني فقال لي: اكتب كتابا إلى مخلد بن يزيد- ومخلد يومئذ ببلخ، ويزيد بمرو- فتناولت القرطاس، فقال: اكتب: من حيان مولى مصقلة إلى مخلد بن يزيد، فغمزني مقاتل ابن حيان الا تكتب، وأقبل على أبيه فقال: يا أبت تكتب إلى مخلد وتبدأ بنفسك! قال: نعم يا بني، فإن لم يرض لقي ما لقي قتيبة ثم قال لي: اكتب، فكتبت، فبعث مخلد بكتابه إلى أبيه، فأغرم يزيد حيان مائتي الف درهم. فتح جرجان وفي هذه السنة فتح يزيد جرجان الفتح الآخر بعد غدرهم بجنده ونقضهم العهد، قال علي، عن الرهط الذين ذكر أنهم حدثوه بخبر جرجان وطبرستان: ثم إن يزيد لما صالح أهل طبرستان قصد لجرجان، فأعطى الله عهدا، لئن ظفر بهم الا يقلع عنهم، ولا يرفع عنهم السيف حتى يطحن بدمائهم، ويختبز من ذلك الطحين، ويأكل منه،

فلما بلغ المرزبان أنه قد صالح الإصبهبذ وتوجه إلى جرجان، جمع أصحابه وأتى وجاه، فتحصن فيها، وصاحبها لا يحتاج إلى عدة من طعام ولا شراب وأقبل يزيد حتى نزل عليها وهم متحصنون فيها، وحولها غياض فليس يعرف لها إلا طريق واحد، فأقام بذلك سبعة أشهر لا يقدر منهم على شيء، ولا يعرف لهم مأتى إلا من وجه واحد، فكانوا يخرجون في الأيام فيقاتلونه ويرجعون إلى حصنهم، فبينا هم على ذلك إذ خرج رجل من عجم خراسان كان مع يزيد يتصيد ومعه شاكرية له. وَقَالَ هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف: فخرج رجل من عسكره من طيئ يتصيد، فأبصر وعلا يرقي في الجبل، فأتبعه، وقال لمن معه: قفوا مكانكم، ووقل في الجبل يقتص الأثر، فما شعر بشيء حتى هجم على عسكرهم، فرجع يريد اصحابه، فخاف الا يهتدي، فجعل يخرق قباءه ويعقد على الشجر علامات، حتى وصل إلى أصحابه، ثم رجع إلى العسكر ويقال: إن الذي كان يتصيد الهياج بن عبد الرحمن الأزدي من أهل طوس، وكان منهوما بالصيد، فلما رجع إلى العسكر أتى عامر بن أينم الواشجي صاحب شرطة يزيد، فمنعوه من الدخول، فصاح: إن عندي نصيحة. وقال هشام عن أبي مخنف: جاء حتى رفع ذلك الى ابني زحر بن قيس، فانطلق به ابنا زحر حتى أدخلاه على يزيد فأعلمه، فضمن له بضمان الجهنية- أم ولد كانت ليزيد- على شيء قد سماه. وقال علي بن مُحَمَّد في حديثه عن أصحابه: فدعا به يزيد فقال: ما عندك؟ قال: أتريد أن تدخل وجاه بغير قتال؟ قال: نعم، قال: جعالتي؟ قال: احتكم، قال: أربعة آلاف، قال: لك دية، قال: عجلوا لي أربعة آلاف، ثم أنتم بعد من وراء الإحسان فأمر له بأربعة آلاف، وندب الناس، فانتدب ألف وأربعمائة، فقال: الطريق لا يحمل هذه الجماعة لالتفاف الغياض، فاختار منهم ثلاثمائة، فوجههم، واستعمل عليهم جهم بن زحر

وقال بعضهم: استعمل عليهم ابنه خالد بن يزيد، وقال له: إن غلبت على الحياة فلا تغلبن على الموت، وإياك أن أراك عندي منهزما، وضم إليه جهم بن زحر، وقال يزيد للرجل الذي ندب الناس معه: متى تصل إليهم؟ قال: غدا عند العصر فيما بين الصلاتين، قال: امضوا على بركة الله، فإني سأجهد على مناهضتهم غدا عند صلاة الظهر فساروا، فلما قارب انتصاف النهار من غد أمر يزيد الناس أن يشعلوا النار في حطب كان جمعه في حصاره إياهم، فصيره آكاما، فأضرموه نارا، فلم تزل الشمس حتى صار حول عسكره أمثال الجبال من النيران، ونظر العدو إلى النار، فهالهم ما رأوا من كثرتها، فخرجوا إليهم وأمر يزيد الناس حين زالت الشمس فصلوا، فجمعوا بين الصلاتين، ثم زحفوا إليهم فاقتتلوا، وسار الآخرون بقية يومهم والغد، فهجموا على عسكر الترك قبيل العصر، وهم آمنون من ذلك الوجه، ويزيد يقاتل من هذا الوجه، فما شعروا إلا بالتكبير من ورائهم، فانقطعوا جميعا إلى حصنهم، وركبهم المسلمون، فأعطوا بأيديهم، ونزلوا على حكم يزيد، فسبى ذراريهم، وقتل مقاتلتهم، وصلبهم فرسخين عن يمين الطريق ويساره، وقاد منهم اثني عشر ألفا إلى الأندرهز- وادي جرجان- وقال: من طلبهم بثأر فليقتل، فكان الرجل من المسلمين يقتل الأربعة والخمسة في الوادي، وأجرى الماء في الوادي على الدم، وعليه أرحاء ليطحن بدمائهم، ولتبر يمينه، فطحن واختبز وأكل وبنى مدينة جرجان وقال بعضهم: قتل يزيد من أهل جرجان أربعين ألفا، ولم تكن قبل ذلك مدينة ورجع إلى خراسان واستعمل على جرجان جهم بن زحر الجعفي. وأما هشام بن مُحَمَّد فإنه ذكر عن أبي مخنف أنه قال: دعا يزيد جهم ابن زحر فبعث معه أربعمائة رجل حتى أخذوا في المكان الذي دلوا عليه وقد أمرهم يزيد فقال: إذا وصلتم إلى المدينة فانتظروا، حتى إذا كان في السحر فكبروا، ثم انطلقوا نحو باب المدينة، فإنكم تجدوني وقد نهضت بجميع الناس إلى بابها، فلما دخل ابن زحر المدينة أمهل حتى إذا كانت

الساعة التي أمره يزيد أن ينهض فيها مشى بأصحابه، فأخذ لا يستقبل من أحراسهم أحدا إلا قتله وكبر، ففزع أهل المدينة فزعا لم يدخلهم مثله قط فيما مضى، فلم يرعهم إلا والمسلمون معهم في مدينتهم يكبرون فدهشوا، فألقى الله في قلوبهم الرعب، وأقبلوا لا يدرون أين يتوجهون! غير أن عصابة منهم ليسوا بالكثير قد أقبلوا نحو جهم بن زحر، فقاتلوا ساعة، فدقت يد جهم، وصبر لهم هو وأصحابه، فلم يلبثوهم أن قتلوهم إلا قليلا وسمع يزيد بن المهلب التكبير، فوثب في الناس إلى الباب، فوجدوهم قد شغلهم جهم بن زحر عن الباب، فلم يجد عليه من يمنعه ولا من يدفع عنه كبير دفع، ففتح الباب ودخلها من ساعته، فأخرج من كان فيها من المقاتلة، فنصب لهم الجذوع فرسخين عن يمين الطريق ويساره، فصلبهم أربعة فراسخ، وسبى أهلها، وأصاب ما كان فيها قال علي في حديثه، عن شيوخه، الذين قد ذكرت أسماءهم قبل، وكتب يزيد إلى سُلَيْمَان بن عبد الملك: أما بعد، فإن الله قد فتح لأمير المؤمنين فتحا عظيما، وصنع للمسلمين أحسن الصنع، فلربنا الحمد على نعمه وإحسانه، أظهر في خلافة أمير المؤمنين على جرجان وطبرستان، وقد أعيا ذلك سابور ذا الأكتاف وكسرى بن قباذ وكسرى بن هرمز، وأعيا الفاروق عمر بن الخطاب وعثمان ابن عفان ومن بعدهما من خلفاء الله، حتى فتح الله ذلك لأمير المؤمنين، كرامة من الله له، وزيادة في نعمه عليه وقد صار عندي من خمس ما أفاء الله على المسلمين بعد أن صار إلى كل ذي حق حقه من الفيء والغنيمة ستة آلاف ألف، وأنا حامل ذلك إلى أمير المؤمنين إن شاء الله فقال له كاتبه المغيرة بن أبي قرة مولى بني سدوس: لا تكتب بتسمية مال، فإنك من ذلك بين أمرين: إما استكثره فأمرك بحمله، وإما سخت نفسه لك به فسوغكه فتكلفت الهدية، فلا يأتيه من قبلك شيء الا استقبله، فكأني بك قد استغرقت ما سميت

ولم يقع منه موقعا، ويبقى المال الذي سميت مخلدا عندهم عليك في دواوينهم، فإن ولي وال بعده أخذك به، وإن ولي من يتحامل عليك لم يرض منك بأضعافه، فلا تمض كتابك، ولكن اكتب بالفتح، سله القدوم فتشافهه بما أحببت مشافهة، ولا تقصر، فإنك إن تقصر عما أحببت أحرى من ان تكثر فأبى يزيد وامضى وقال: بعضهم كان في الكتاب أربعة آلاف ألف قال أبو جعفر: وفي هذه السنة توفي أيوب بن سُلَيْمَان بن عبد الملك، فحدثت عن علي بن مُحَمَّد، قال: حدثنا علي بن مجاهد، عن شيخ من أهل الري أدرك يزيد، قال: أتى يزيد بن المهلب الري حين فرغ من جرجان، فبلغه وفاة أيوب بن سُلَيْمَان وهو يسير في باغ أبي صالح على باب الري، فارتجز راجز بين يديه فقال: إن يك أيوب مضى لشأنه ... فإن داود لفي مكانه يقيم ما قد زال من سلطانه. وفي هذه السنة فتحت مدينة الصقالبة وفيها. غزا داود بن سُلَيْمَان بن عبد الملك أرض الروم، ففتح حصن المرأة مما يلي ملطية. وحج بالناس في هذه السنة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن السيد وهو يومئذ أمير على مكة، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر. وكان عمال الأمصار فِي هَذِهِ السنة هم العمال الذين كانوا عليها سنة سبع، وقد ذكرناهم قبل، غير أن عامل يزيد بن المهلب على البصرة في هذه السنة كان- فيما قيل- سفيان بن عبد الله الكندي.

سنه تسع وتسعين

ثم دخلت سنة تسع وتسعين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) وفاه سليمان بن عبد الملك فمن ذلك وفاة سُلَيْمَان بن عبد الملك، توفي- فيما حدثت عن هشام، عن أبي مخنف- بدابق من أرض قنسرين يوم الجمعة لعشر ليال بقين من صفر، فكانت ولايته سنتين وثمانية أشهر إلا خمسة أيام. وقد قيل: توفي لعشر ليال مضين من صفر وقيل: كانت خلافته سنتين وسبعة أشهر وقيل: سنتين وثمانية أشهر وخمسة أيام. وقد حدث الحسن بن حماد، عن طلحة أبي مُحَمَّد، عن أشياخه، أنهم قالوا: استخلف سُلَيْمَان بن عبد الملك بعد الوليد ثلاث سنين وصلى عليه عمر بن عبد العزيز. وَحَدَّثَنِي أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، قال: توفي سُلَيْمَان بن عبد الملك يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة تسع وتسعين، فكانت خلافته ثلاث سنين إلا أربعة أشهر . ذكر الخبر عن بعض سيره: حدثت عن علي بن مُحَمَّد، قال: كان الناس يقولون: سُلَيْمَان مفتاح الخير، ذهب عنهم الحجاج، فولي سُلَيْمَان، فأطلق الأسارى، وخلى أهل السجون، وأحسن إلى الناس، واستخلف عمر بن عبد العزيز، فقال ابن بيض: حاز الخلافة والداك كلاهما ... من بين سخطة ساخط أو طائع أبواك ثم أخوك أصبح ثالثا ... وعلى جبينك نور ملك الرابع وقال علي: قال المفضل بن المهلب: دخلت على سُلَيْمَان بدابق يوم

جمعة، فدعا بثياب فلبسها، فلم تعجبه، فدعا بغيرها بثياب خضر سوسية بعث بها يزيد بن المهلب، فلبسها واعتم وقال: يا بن المهلب، أعجبتك؟ قلت: نعم، فحسر عن ذراعيه ثم قال: أنا الملك الفتى، فصلى الجمعة، ثم لم يجمع بعدها، وكتب وصيته ودعا ابن أبي نعيم صاحب الخاتم فختمه. قال علي: قال بعض أهل العلم: إن سُلَيْمَان لبس يوما حلة خضراء وعمامة خضراء ونظر في المرآة فقال: أنا الملك الفتى، فما عاش بعد ذلك إلا أسبوعا. قال علي: وحدثنا سحيم بن حفص، قال: نظرت إلى سُلَيْمَان جارية له يوما، فقال: ما تنظرين؟ فقالت: أنت خير المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان ليس فيما علمته فيك عيب ... كان في الناس غير أنك فان فنفض عمامته. قال علي: كان قاضى سليمان سُلَيْمَان بن حبيب المحاربي، وكان ابن أبي عيينة يقص عنده. وحدثت عن أبي عبيدة، عن رؤبة بن العجاج، قال: حج سُلَيْمَان بن عبد الملك، وحج الشعراء معه، وحججت معهم، فلما كان بالمدينة راجعا تلقوه بنحو من أربعمائة أسير من الروم، فقعد سُلَيْمَان، وأقربهم منه مجلسا عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ص، فقدم بطريقهم فقال: يا عبد الله، اضرب عنقه، فقام فما أعطاه أحد سيفا حتى دفع إليه حرسي سيفه فضربه فأبان الرأس، وأطن الساعد وبعض الغل، فقال سُلَيْمَان: أما والله ما من جودة السيف

جادت الضربة، ولكن لحسبه، وجعل يدفع البقية إلى الوجوه وإلى الناس يقتلونهم حتى دفع إلى جرير رجلا منهم، فدست إليه بنو عبس سيفا في قراب أبيض، فضربه فأبان راسه، ودفع الى الفرزدق اسير فلم يجد سيفا، فدسوا له سيفا ددانا مثنيا لا يقطع، فضرب به الأسير ضربات، فلم يصنع شيئا، فضحك سُلَيْمَان والقوم، وشمت بالفرزدق بنو عبس أخوال سُلَيْمَان، فألقى السيف وأنشأ يقول، ويعتذر الى سليمان، وياتسى بن بو سيف ورقاء عن راس خالد: ان يك سيف خان أو قدر أتى ... بتأخير نفس حتفها غير شاهد فسيف بني عبس وقد ضربوا به ... نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد كذاك سيوف الهند تنبو ظباتها ... وتقطع أحيانا مناط القلائد وورقاء هو ورقاء بن زهير بن جذيمة العبسي، ضرب خالد بن جعفر بن كلاب، وخالد مكب على أبيه زهير قد ضربه بالسيف وصرعه، فأقبل ورقاء بن زهير فضرب خالدا، فلم يصنع شيئا، فقال ورقاء ابن زهير: رأيت زهيرا تحت كلكل خالد ... فأقبلت أسعى كالعجول أبادر فشلت يميني يوم أضرب خالدا ... ويحصنه مني الحديد المظاهر وقال الفرزدق في مقامه ذلك: أيعجب الناس أن أضحكت خيرهم ... خليفة الله يستسقي به المطر فما نبا السيف عن جبن ودهش ... عند الإمام ولكن أخر القدر

ولو ضربت على عمرو مقلده ... لخر جثمانه ما فوقه شعر وما يعجل نفسا قبل ميتتها ... جمع اليدين ولا الصمصامه الذكر وقال جرير في ذلك: بسيف أبي رغوان سيف مجاشع ... ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم ضربت به عند الإمام فأرعشت ... يداك، وقالوا محدث غير صارم حدثني عبد الله بن أحمد، قَالَ: حَدَّثَنِي، أبي قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان قَالَ: حدثني عبد الله بْن مُحَمَّد بْن عيينة، قال: أخبرني أبو بكر بن عبد العزيز بن الضحاك بن قيس، قال: شهد سُلَيْمَان بن عبد الملك جنازة بدابق، فدفنت في حقل، فجعل سُلَيْمَان يأخذ من تلك التربة فيقول: ما أحسن هذه التربة! ما أطيبها! فما أتى عليه جمعة- أو كما قال- حتى دفن إلى جنب ذلك القبر

خلافه عمر بن عبد العزيز

خلافة عمر بن عبد العزيز وفي هذه السنة استخلف عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم. ذكر الخبر عن سبب استخلاف سُلَيْمَان إياه: حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدثني الهيثم بن واقد، قال: استخلف عمر بن عبد العزيز بدابق يوم الجمعة لعشر مضين من صفر سنة تسع وتسعين. قال مُحَمَّد بن عمر: حدثني داود بن خالد بن دينار، عن سهيل بن أبي سهيل قال: سمعت رجاء بن حيوة، يقول: لما كان يوم الجمعة لبس سُلَيْمَان بن عبد الملك ثيابا خضرا من خز، ونظر في المرآة، فقال: أنا والله الملك الشاب، فخرج إلى الصلاة فصلى بالناس الجمعة، فلم يرجع حتى وعك، فلما ثقل عهد في كتاب كتبه لبعض بنيه وهو غلام ولم يبلغ فقلت: ما تصنع يا أمير المؤمنين! إنه مما يحفظ الخليفة في قبره أن يستخلف على المسلمين الرجل الصالح فقال سُلَيْمَان: أنا أستخير الله وأنظر فيه ولم أعزم عليه، قال: فمكث يوما أو يومين، ثم خرقه، فدعاني، فقال: ما ترى في داود بن سُلَيْمَان؟ فقلت: هو غائب عنك بقسطنطينية وأنت لا تدري أحي هو أم ميت! فقال لي: فمن ترى؟ قلت: رأيك يا امير المؤمنين، وانا اريد أنظر من يذكر، قال: كيف ترى في عمر بن عبد العزيز؟ فقلت: أعلمه والله خيرا فاضلا مسلما، فقال: هو والله على ذلك، ثم قال: والله لئن وليته ولم أول أحدا سواه لتكونن فتنة، ولا يتركونه أبدا يلي عليهم إلا أن يجعل أحدهم بعده، ويزيد بن عبد الملك غائب على الموسم، قال: فيزيد ابن عبد الملك أجعله بعده، فإن ذلك مما يسكنهم ويرضون به، قلت: رأيك قال: فكتب

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ عبد الله سُلَيْمَان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز، إني قد وليتك الخلافة من بعدي، ومن بعده يزيد بن عبد الملك، فاسمعوا له وأطيعوا، واتقوا الله ولا تختلفوا فيطمع فيكم. وختم الكتاب، وأرسل إلى كعب بن حامد العبسي صاحب شرطه فقال: مر أهل بيتي فليجتمعوا، فأرسل كعب إليهم أن يجتمعوا فاجتمعوا، ثم قال سُلَيْمَان لرجاء بعد اجتماعهم: اذهب بكتابي هذا إليهم فأخبرهم أن هذا كتابي، وأمرهم فليبايعوا من وليت فيه، ففعل رجاء، فلما قال رجاء ذلك لهم قالوا: ندخل فنسلم على أمير المؤمنين؟ قال: نعم، فدخلوا فقال لهم سُلَيْمَان في هذا الكتاب- وهو يشير لهم إليه وهم ينظرون إليه في يد رجاء ابن حيوة- عهدي، فاسمعوا وأطيعوا وبايعوا لمن سميت في هذا الكتاب. فبايعوه رجلا رجلا، ثم خرج بالكتاب مختوما في يد رجاء بن حيوة. قال رجاء: فلما تفرقوا جاءني عمر بن عبد العزيز فقال: أخشى أن يكون هذا أسند إلي شيئا من هذا الأمر، فأنشدك الله وحرمتي ومودتي إلا أعلمتني إن كان ذلك حتى أستعفيه الآن قبل أن تأتي حال لا أقدر فيها على ما أقدر عليه الساعة! قال رجاء: لا والله ما أنا بمخبرك حرفا، قال: فذهب عمر غضبان. قال رجاء: لقيني هشام بن عبد الملك، فقال: يا رجاء، إن لي بك حرمة ومودة قديمة، وعندي شكر، فأعلمني هذا الأمر، فإن كان إلي علمت، وإن كان إلى غيري تكلمت، فليس مثلي قصر به، فأعلمني فلك الله على الا أذكر من ذلك شيئا أبدا قال رجاء: فأبيت فقلت: والله لا أخبرك حرفا واحدا مما أسر إلي. قال: فانصرف هشام وهو قد يئس، ويضرب بإحدى يديه على الأخرى وهو يقول: فإلى من إذا نحيت عني؟ أتخرج من بني عبد الملك؟ قال رجاء: ودخلت على سُلَيْمَان فإذا هو يموت، فجعلت إذا أخذته السكرة من

سكرات الموت حرفته إلى القبلة، فجعل يقول حين يفيق: لم يأن لذلك بعد يا رجاء، ففعلت ذلك مرتين، فلما كانت الثالثة قال: من الآن يا رجاء إن كنت تريد شيئا، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أن مُحَمَّدا عبده ورسوله. قال: فحرفته ومات، فلما غمضته سجيته بقطيفة خضراء، وأغلقت الباب. وأرسلت إلي زوجته تقول: كيف أصبح؟ فقلت: نائم، وقد تغطى، فنظر الرسول إليه مغطى بالقطيفة، فرجع فأخبرها فقبلت ذلك، وظنت أنه نائم، قال رجاء: وأجلست على الباب من أثق به، واوصيته الا يبرح حتى آتيه، ولا يدخل على الخليفة أحد قال: فخرجت فأرسلت إلى كعب بن حامد العبسي، فجمع أهل بيت أمير المؤمنين، فاجتمعوا في مسجد دابق، فقلت: بايعوا، فقالوا: قد بايعنا مرة ونبايع أخرى! قلت: هذا عهد أمير المؤمنين، فبايعوا على ما أمر به ومن سمى في هذا الكتاب المختوم، فبايعوا الثانية، رجلا رجلا قال رجاء: فلما بايعوا بعد موت سُلَيْمَان رأيت أني قد أحكمت الأمر، قلت: قوموا إلى صاحبكم فقد مات، قالوا: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! وقرأت الكتاب عليهم، فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز نادى هشام بن عبد الملك: لا نبايعه أبدا، قلت: أضرب والله عنقك، قم فبايع، فقام يجر رجليه. قال رجاء: وأخذت بضبعي عمر بن عبد العزيز فاجلسته لما وقع فيه وهشام يسترجع على المنبر وهو يسترجع لما أخطأه، فلما انتهى هشام إلى عمر قال عمر: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! حين صارت الى لكراهته إياها، والآخر يقول: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، حيث نحيت عني. قال: وغسل سُلَيْمَان وكفن وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، قال رجاء: فلما فرغ من دفنه أتي بمراكب الخلافة: البراذين والخيل والبغال ولكل دابة سائس، فقال: ما هذا! قالوا: مركب الخلافة، قال:

دابتي أوفق لي، وركب دابته قال: فصرفت تلك الدواب، ثم أقبل سائرا، فقيل: منزل الخلافة، فقال: فيه عيال أبي أيوب وفي فسطاطي كفاية حتى يتحولوا، فأقام في منزله حتى فرغوه بعد، قال رجاء: فلما كان المساء من ذلك اليوم قال: يا رجاء، ادع لي كاتبا، فدعوته وقد رأيت منه كل ما سرني، صنع في المراكب ما صنع، وفي منزل سُلَيْمَان، فقلت: كيف يصنع الآن في الكتاب؟ أيصنع نسخا، أم ماذا؟ فلما جلس الكاتب أملى عليه كتابا واحدا من فيه إلى يد الكاتب بغير نسخة، فأملى أحسن إملاء وأبلغه وأوجزه، ثم أمر بذلك الكتاب أن ينسخ إلى كل بلد. وبلغ عبد العزيز بن الوليد- وكان غائبا- موت سُلَيْمَان بن عبد الملك، ولم يعلم ببيعة الناس عمر بن عبد العزيز، وعهد سُلَيْمَان إلى عمر، فعقد لواء، ودعا إلى نفسه، فبلغته بيعة الناس عمر بعهد سُلَيْمَان، فأقبل حتى دخل على عمر بن عبد العزيز، فقال له عمر: قد بلغني أنك كنت بايعت من قبلك، وأردت دخول دمشق، فقال: قد كان ذاك، وذلك أنه بلغني أن الخليفة سُلَيْمَان لم يكن عقد لأحد، فخفت على الأموال أن تنتهب، فقال عمر: لو بويعت وقمت بالأمر ما نازعتك ذلك، ولقعدت في بيتي، فقال عبد العزيز: ما أحب أنه ولي هذا الأمر غيرك وبايع عمر بن عبد العزيز قال: فكان يرجى لسُلَيْمَان بتوليته عمر بن عبد العزيز وترك ولده. وفي هذه السنة وجه عمر بن عبد العزيز إلى مسلمة وهو بأرض الروم وأمره بالقفول منها بمن معه من المسلمين، ووجه إليه خيلا عتاقا وطعاما كثيرا، وحث الناس على معونتهم، وكان الذى وجه اليه الخيل العتاق- فيما قيل- خمسمائة فرس. وفي هذه السنة أغارت الترك على أذربيجان، فقتلوا من المسلمين جماعة، ونالوا منهم، فوجه اليهم عمر بن عبد العزيز بن حاتم بن النعمان الباهلي،

فقتل أولئك الترك، فلم يفلت منهم إلا اليسير، فقدم منهم على عمر بخناصرة بخمسين أسيرا. وفيها عزل عمر يزيد بن المهلب عن العراق، ووجه على البصرة وأرضها عدي بن أرطاة الفزاري، وبعث على الكوفة وأرضها عبد الحميد بن عبد الرحمن ابن زيد بن الخطاب الأعرج القرشي، من بني عدي بن كعب، وضم إليه أبا الزناد، فكان أبو الزناد كاتب عبد الحميد بن عبد الرحمن، وبعث عدي في أثر يزيد بن المهلب موسى بن الوجيه الحميري. وحج بالناس في هذه السنة أبو بكر مُحَمَّد بن عمرو بن حزم، وكان عامل عمر على المدينة. وكان عامل عمر على مكة في هذه السنة عبد العزيز بن عبد الله ابن خالد بن أسيد، وعلى الكوفة وأرضها عبد الحميد بن عبد الرحمن، وعلى البصرة وأرضها عدي بن أرطاة، وعلى خراسان الجراح بن عبد الله. وعلى قضاء البصرة إياس بن معاوية بن قرة المزني، وقد ولى فيما ذكر قبله الحسن بن أبي الحسن، فشكا، فاستقصى إياس بن معاوية. وكان على قضاء الكوفة في هذه- السنة فيما قيل- عامر الشعبي وكان الواقدي يقول: كان الشعبي على قضاء الكوفة أيام عمر بن عبد العزيز من قبل عبد الحميد بن عبد الرحمن، والحسن بن أبي الحسن البصري على قضاء البصرة من قبل عدي بن أرطاة، ثم إن الحسن استعفى من القضاء عديا، فأعفاه وولى اياسا

سنه مائه

ثم دخلت سنة مائة (ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) فمن ذلك خروج الخارجة التي خرجت على عمر بن عبد العزيز بالعراق. ذكر الخبر عن أمرهم: ذكر مُحَمَّد بن عمر أن ابن أبي الزناد حدثه، قال خرجت حرورية بالعراق، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ ابن الخطاب عامل العراق يأمره أن يدعوهم إلى العمل بكتاب الله وسنه نبيه ص فلما أعذر في دعائهم بعث إليهم عبد الحميد جيشا فهزمتهم الحرورية، فبلغ عمر، فبعث إليهم مسلمة بن عبد الملك في جيش من أهل الشام جهزهم من الرقة، وكتب إلى عبد الحميد: قد بلغني ما فعل جيشك جيش السوء، وقد بعثت مسلمة بن عبد الملك، فخل بينه وبينهم. فلقيهم مسلمة في أهل الشام، فلم ينشب أن أظهره الله عليهم 4 . خبر خروج شوذب الخارجي وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى أن الذي خرج على عبد الحميد بن عبد الرحمن بالعراق في خلافة عمر بن عبد العزيز شوذب- واسمه بسطام من بني يشكر- لكان مخرجه بجوخى في ثمانين فارسا أكثرهم من ربيعة، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد، الا تحركهم إلا أن يسفكوا دما، أو يفسدوا في الأرض، فإن فعلوا فحل بينهم وبين ذلك، وانظر رجلا صليبا حازما فوجهه إليهم، ووجه معه جندا، وأوصه بما أمرتك به. فعقد عبد الحميد لمُحَمَّد بن جرير بن عبد الله البجلي في الفين من أهل الكوفة، وأمره بما أمره به عمر، وكتب عمر إلى بسطام يدعوه ويسأله عن مخرجه، فقدم كتاب عمر عليه، وقد قدم عليه مُحَمَّد بن جرير، فقام بإزائه لا يحركه

خبر القبض على يزيد بن المهلب

ولا يهيجه، فكان في كتاب عمر إليه: أنه بلغني أنك خرجت غضبا لله ولنبيه، ولست بأولى بذلك مني، فهلم أناظرك فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل فيه الناس، وإن كان في يدك نظرنا في أمرنا فلم يحرك بسطام شيئا، وكتب إلى عمر: قد أنصفت، وقد بعثت إليك رجلين يدارسانك ويناظرانك- قال أبو عبيدة: أحد الرجلين اللذين بعثهما شوذب إلى عمر ممزوج مولى بني شيبان، والآخر من صليبة بني يشكر- قال: فيقال: أرسل نفرا فيهم هذان، فأرسل إليهم عمر: أن اختاروا رجلين، فاختاروهما، فدخلا عليه فناظراه، فقالا له: أخبرنا عن يزيد لم تقره خليفة بعدك؟ قال: صيره غيري، قالا: أفرأيت لو وليت مالا لغيرك ثم وكلته إلى غير مأمون عليه، أتراك كنت أديت الأمانة إلى من ائتمنك! قال: فقال: انظراني ثلاثا، فخرجا من عنده، وخاف بنو مروان أن يخرج ما عندهم وفي أيديهم من الأموال، وأن يخلع يزيد، فدسوا إليه من سقاه سما، فلم يلبث بعد خروجهما من عنده إلا ثلاثا حتى مات. وفي هذه السنة أغزى عمر بن عبد العزيز الوليد بن هشام المعيطى وعمرو ابن قيس الكندي من أهل حمص الصائفة. وفيها شخص عمر بن هبيرة الفزاري إلى الجزيرة عاملا لعمر عليها . خبر القبض على يزيد بن المهلب وفي هذه السنة حمل يزيد بن المهلب من العراق إلى عمر بن عبد العزيز. ذكر الخبر عن سبب ذلك، وكيف وصل إليه حتى استوثق منه: اختلف أهل السير في ذلك، فأما هشام بن مُحَمَّد فإنه ذكر عن أبي مخنف أن عمر بن عبد العزيز لما جاء يزيد بن المهلب فنزل واسطا، ثم ركب السفن يريد البصرة، بعث عدي بن أرطاة إلى البصرة أميرا، فبعث عدي موسى بن الوجيه الحميري، فلحقه في نهر معقل عند الجسر، جسر

البصرة فأوثقه، ثم بعث به إلى عمر بن عبد العزيز، فقدم به عليه موسى ابن الوجيه، فدعا به عمر بن عبد العزيز- وقد كان عمر يبغض يزيد وأهل بيته، ويقول: هؤلاء جبابرة، ولا أحب مثلهم، وكان يزيد بن المهلب يبغض عمر ويقول: إني لأظنه مرائيا، فلما ولي عمر عرف يزيد أن عمر كان من الرياء بعيدا ولما دعا عمر يزيد سأله عن الأموال التي كتب بها إلى سُلَيْمَان بن عبد الملك، فقال: كنت من سُلَيْمَان بالمكان الذي قد رأيت، وإنما كتبت إلى سُلَيْمَان لأسمع الناس به، وقد علمت أن سُلَيْمَان لم يكن ليأخذني بشيء سمعت، ولا بأمر أكرهه، فقال له: ما أجد في أمرك إلا حبسك، فاتق الله وأد ما قبلك، فإنها حقوق المسلمين، ولا يسعني تركها، فرده إلى محبسه، وبعث إلى الجراح بن عبد الله الحكمي فسرحه إلى خراسان، وأقبل مخلد بن يزيد من خراسان يعطي الناس، ولا يمر بكورة إلا أعطاهم فيها أموالا عظاما ثم خرج حتى قدم على عمر بن عبد العزيز، فدخل عليه فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إن الله يا أمير المؤمنين صنع لهذه الأمة بولايتك عليها، وقد ابتلينا بك، فلا نكن أشقى الناس بولايتك، علام تحبس هذا الشيخ! أنا أتحمل ما عليه، فصالحني على ما إياه تسأل، فقال عمر: لا الا ان تحمل جميع ما نسأله اياه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن كانت لك بينة فخذ بها، وإن لم تكن بينة فصدق مقالة يزيد، وإلا فاستحلفه، فإن لم يفعل فصالحه. فقال له عمر: ما أجد إلا أخذه بجميع المال فلما خرج مخلد قال: هذا خير عندي من أبيه، فلم يلبث مخلدا إلا قليلا حتى مات، فلما أبى يزيد أن يؤدي إلى عمر شيئا ألبسه جبة من صوف، وحمله على جمل، ثم قال: سيروا به إلى دهلك، فلما أخرج فمر به على الناس أخذ يقول: ما لي عشيرة، ما لي يذهب بي إلى دهلك! إنما يذهب إلى دهلك بالفاسق المريب الخارب، سبحان الله! أما لي عشيرة! فدخل على عمر سلامة بن نعيم

عزل الجراح بن عبد الله عن خراسان

الخولاني، فقال: يا أمير المؤمنين، اردد يزيد إلى محبسه، فإني أخاف إن أمضيته أن ينتزعه قومه، فإني قد رأيت قومه غضبوا له فرده إلى محبسه، فلم يزل في محبسه ذلك حتى بلغه مرض عمر. وأما غير أبي مخنف فإنه قال: كتب عمر بن عبد العزيز الى عدى ابن أرطاة يأمره بتوجيه يزيد بن المهلب، ودفعه إلى من بعين التمر من الجند، فوجهه عدي بن أرطاة مع وكيع بن حسان بن أبي سود التميمي مغلولا مقيدا في سفينة، فلما انتهى به إلى نهر أبان، عرض لوكيع ناس من الأزد لينتزعوه منه، فوثب وكيع فانتضى سيفه، وقطع قلس السفينة، وأخذ سيف يزيد ابن المهلب، وحلف بطلاق امرأته ليضربن عنقه إن لم يتفرقوا، فناداهم يزيد بن المهلب، فأعلمهم يمين وكيع، فتفرقوا، ومضى به حتى سلمه إلى الجند الذين بعين التمر، ورجع وكيع إلى عدي بن أرطاة، ومضى الجند الذين بعين التمر بيزيد بن المهلب إلى عمر بن عبد العزيز، فحبسه في السجن . عزل الجراح بن عبد الله عن خراسان قال أبو جعفر: وفي هذه السنة عزل عمر بن عبد العزيز الجراح بن عبد الله عن خراسان، وولاها عبد الرحمن بن نعيم القشيري، فكانت ولاية الجراح بخراسان سنة وخمسة أشهر، قدمها سنة تسع وتسعين، وخرج منها لأيام بقيت من شهر رمضان سنة مائة. (ذكر سبب عزل عمر إياه:) وكان سبب ذلك- فيما ذكر علي بْن مُحَمَّد عن كليب بن خلف عن إدريس بن حنظلة، والمفضل عن جده وعلي بن مجاهد عن خالد ابن عبد العزيز، أن يزيد بن المهلب ولى جهم بن زحر جرجان حين شخص عنها، فلما كان من أمر يزيد ما كان وجه عامل العراق من العراق واليا على جرجان، فقدم الوالي عليها من العراق، فأخذه جهم فقيده وقيد

رهطا قدموا معه، ثم خرج في خمسين من اليمن يريد الجراح بخراسان، فأطلق أهل جرجان عاملهم، فقال الجراح لجهم: لولا أنك ابن عمي لم أسوغك هذا، فقال له جهم: ولولا أنك ابن عمي لم آتك- وكان جهم سلف الجراح من قبل ابنتي حصين بن الحارث وابن عمه، لأن الحكم وجعفي ابنا سعد- فقال له الجراح: خالفت إمامك، وخرجت عاصيا، فاغز لعلك أن تظفر، فيصلح أمرك عند خليفتك فوجهه إلى الختل، فخرج، فلما قرب منهم سار متنكرا في ثلاثة، وخلف في عسكره ابن عمه القاسم بن حبيب- وهو ختنه على ابنته أم الأسود- حتى دخل على صاحب الختل فقال له: أخلني، فأخلاه، فاعتزى، فنزل صاحب الختل عن سريره وأعطاه حاجته- ويقولون: الختل موالي النعمان- وأصاب مغنما، فكتب الجراح إلى عمر: وأوفد وفدا، رجلين من العرب، ورجلا من الموالي من بني ضبة ويكنى أبا الصيداء واسمه صالح بن طريف، كان فاضلا في دينه وقال بعضهم: المولى سعيد أخو خالد أو يزيد النحوي فتكلم العربيان والآخر جالس، فقال له عمر: أما أنت من الوفد؟ قال: بلى، قال: فما يمنعك من الكلام! قال: يا أمير المؤمنين، عشرون ألفا من الموالي يغزون بلا عطاء ولا رزق، ومثلهم قد أسلموا من أهل الذمة يؤخذون بالخراج، وأميرنا عصبي جاف يقوم على منبرنا، فيقول: أتيتكم حفيا، وأنا اليوم عصبي! والله لرجل من قومي أحب إلي من مائة من غيرهم وبلغ من جفائه أن كم درعه يبلغ نصف درعه، وهو بعد سيف من سيوف الحجاج، قد عمل بالظلم والعدوان فقال عمر: إذن مثلك فليوفد. وكتب عمر إلى الجراح: أنظر من صلى قبلك إلى القبلة، فضع عنه الجزية فسارع الناس إلى الإسلام، فقيل للجراح: إن الناس قد سارعوا إلى الإسلام، وإنما ذلك نفورا من الجزية، فامتحنهم بالختان. فكتب الجراح بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: إن الله بعث محمدا ص داعيا ولم يبعثه خاتنا وقال عمر: ابغوني رجلا صدوقا،

أسأله عن خراسان، فقيل له: قد وجدته، عليك بأبي مجلز فكتب إلى الجراح: أن أقبل واحمل أبا مجلز وخلف على حرب خراسان عبد الرحمن بن نعيم الغامدي وعلى جزيتها عبيد الله- أو عبد الله- بن حبيب. فخطب الجراح فقال: يا أهل خراسان، جئتكم في ثيابي هذه التي علي وعلى فرسي، لم أصب من مالكم إلا حلية سيفي- ولم يكن عنده إلا فرس قد شاب وجهه، وبغلة قد شاب وجهها، فخرج في شهر رمضان واستخلف عبد الرحمن بن نعيم، فلما قدم قال له عمر: متى خرجت؟ قال: في شهر رمضان، قال: قد صدق من وصفك بالجفاء، هلا أقمت حتى تفطر ثم تخرج! وكان الجراح يقول: أنا والله عصبي عقبي- يريد من العصبية وكان الجراح لما قدم خراسان كتب إلى عمر: أني قدمت خراسان فوجدت قوما قد أبطرتهم الفتنة فهم ينزون فيها نزوا، أحب الأمور إليهم أن تعود ليمنعوا حق الله عليهم، فليس يكفهم إلا السيف والسوط، وكرهت الإقدام على ذلك إلا بإذنك فكتب إليه عمر: يا بن أم الجراح، أنت أحرص على الفتنة منهم، لا تضربن مؤمنا ولا معاهدا سوطا إلا في حق، واحذر القصاص فإنك صائر إلى من يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ، وتقرأ كتابا لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها. ولما أراد الجراح الشخوص من خراسان إلى عمر بن عبد العزيز أخذ عشرين ألفا وقال بعضهم: عشرة آلاف من بيت المال وقال: هي علي سلفا حتى أؤديها إلى الخليفة، فقدم على عمر، فقال له عمر: متى خرجت؟ قال: لأيام بقين من شهر رمضان، وعلي دين فاقضه، قال: لو أقمت حتى تفطر ثم خرجت قضيت عنك فأدى عنه قومه في أعطياتهم.

ذكر الخبر عن سبب توليه عمر بن عبد العزيز عبد الرحمن بن نعيم وعبد الرحمن بن عبد الله القشيرى خراسان

ذكر الخبر عن سبب تولية عمر بن عبد العزيز عبد الرحمن بن نعيم وعبد الرحمن بن عبد الله القشيري خراسان وكان سبب ذلك- فيما ذكر لي- أن الجراح بن عبد الله لما شكي، واستقدمه عمر بن عبد العزيز، فقدم عليه عزله عن خراسان لما قد ذكرت قبل. ثم إن عمر لما أراد استعمال عامل على خراسان، قال- فيما ذكر على ابن مُحَمَّد عن خارجة بن مصعب الضبعي وعبد الله بن المبارك وغيرهما: ابغوني رجلا صدوقا أسأله عن خراسان، فقيل له: أبو مجلز لاحق بن حميد، فكتب فيه، فقدم عليه- وكان رجلا لا تأخذه العين- فدخل أبو مجلز على عمر في جفة الناس، فلم يثبته عمر، وخرج مع الناس فسأل عنه فقيل: دخل مع الناس ثم خرج، فدعا به عمر فقال: يا أبا مجلز، لم أعرفك، قال: فهلا أنكرتني إذ لم تعرفني! قال: أخبرني عن عبد الرحمن بن عبد الله، قال: يكافئ الأكفاء، ويعادي الأعداء، وهو أمير يفعل ما يشاء، ويقدم إن وجد من يساعده قال: عبد الرحمن بن نعيم، قال: ضعيف لين يحب العافية، وتأتي له، قال: الذي يحب العافية وتأتي له أحب إلي، فولاه الصلاة والحرب، وولى عبد الرحمن القشيري ثم أحد بني الأعور بن قشير الخراج، وكتب إلى أهل خراسان: أني استعملت عبد الرحمن على حربكم وعبد الرحمن بن عبد الله على خراجكم عن غير معرفة مني بهما ولا اختيار، إلا ما أخبرت عنهما، فإن كانا على ما تحبون فاحمدوا الله، وإن كانا على غير ذلك فاستعينوا بالله،. ولا حول ولا قوة إلا بالله قال علي: وحدثنا أبو السري الأزدي، عن إبراهيم الصائغ، أن عمر ابن عبد العزيز كتب إلى عبد الرحمن بن نعيم: أما بعد، فكن عبدا ناصحا لله في عباده، ولا يأخذك في الله لومة لائم، فإن الله أولى بك من الناس، وحقه عليك أعظم، فلا تولين شيئا من أمر المسلمين إلا المعروف بالنصيحة لهم والتوفير عليهم، وأداء الأمانة فيما استرعي،

أول الدعوة

وإياك أن يكون ميلك ميلا إلى غير الحق، فان الله لا تخفى عليه خافية، ولا تذهبن عن الله مذهبا، فإنه لا ملجأ من الله إلا إليه. قال علي، عن مُحَمَّد الباهلي، وأبي نهيك بن زياد وغيرهما: إن عمر بن عبد العزيز بعث بعهد عبد الرحمن بن نعيم على حرب خراسان وسجستان مع عبد الله بن صخر القرشي، فلم يزل عبد الرحمن بن نعيم على خراسان حتى مات عمر بن عبد العزيز، وبعد ذلك حتى قتل يزيد بن المهلب، ووجه مسلمة سعيد بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم، فكانت ولايته أكثر من سنة ونصف، وليها في شهر رمضان من سنة مائة، وعزل سنة اثنتين ومائة، بعد ما قتل يزيد بن المهلب. قال علي: كانت ولاية عبد الرحمن بن نعيم خراسان ستة عشر شهرا . أول الدعوة قال أبو جعفر: وفي هذه السنة- أعني سنة مائة- وجه مُحَمَّد بن عَلِيّ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس من أرض الشراة ميسرة إلى العراق، ووجه مُحَمَّد بن خنيس وأبا عكرمة السراج، وهو أبو مُحَمَّد الصادق وحيان العطار خال ابراهيم ابن سلمة إلى خراسان، وعليها يومئذ الجراح بن عبد الله الحكمي من قبل عمر بن عبد العزيز، وأمرهم بالدعاء إليه وإلى أهل بيته، فلقوا من لقوا، ثم انصرفوا بكتب من استجاب لهم إلى مُحَمَّد بن علي، فدفعوها إلى ميسرة، فبعث بها ميسرة إلى مُحَمَّد بن علي، واختار أبو مُحَمَّد الصادق لمُحَمَّد بن علي اثني عشر رجلا، نقباء، منهم سليمان ابن كثير الخزاعي، ولاهز بن قريظ التميمي، وقحطبة بن شبيب الطائي، وموسى بن كعب التميمي، وخالد بن إبراهيم أبو داود، من بني عمرو بن شيبان بن ذهل، والقاسم بن مجاشع التميمي وعمران بن إسماعيل أبو النجم، مولى لآل أبي معيط ومالك بن الهيثم الخزاعي وطلحه ابن رزيق الخزاعي وعمرو بن أعين أبو حمزة مولى لخزاعة وشبل بن طهمان أبو علي الهروي، مولى لبني حنيفة، وعيسى بن أعين مولى خزاعة، واختار. سبعين رجلا، فكتب إليهم مُحَمَّد بن علي كتابا ليكون لهم مثالا وسيرة يسيرون بها

وحج بالناس في هذه السنة أبو بكر بن مُحَمَّد بن عمرو بن حزم، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى عن أبي معشر. وكذلك قال الواقدي. وكان عمال الأمصار في هذه السنة العمال في السنة التي قبلها، وقد ذكرناهم قبل ما خلا عامل خراسان، فإن عاملها كان في آخرها عبد الرحمن بن نعيم على الصلاة والحرب، وعبد الرحمن بن عبد الله على الخراج

سنه احدى ومائه

ثم دخلت سنة إحدى ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) خبر هرب يزيد بن المهلب من سجنه فمن ذلك ما كان من هرب يزيد بن المهلب من حبس عمر بن عبد العزيز ذكر الخبر عن سبب هربه منه وكيف كان هربه منه: ذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، أن عمر بن عبد العزيز لما كلم في يزيد بن المهلب حين أراد نفيه إلى دهلك، وقيل له: إنا نخشى أن ينتزعه قومه، رده إلى محبسه فلم يزل في محبسه ذلك حتى بلغه مرض عمر، فأخذ يعمل بعد في الهرب من محبسه مخافة يزيد بن عبد الملك، لأنه كان قد عذب أصهاره آل أبي عقيل- كانت أم الحجاج بنت مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ أَخِي الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ عند يزيد بن عبد الملك، فولدت له الوليد بن يزيد المقتول- فكان يزيد بن عبد الملك قد عاهد الله لئن أمكنه الله من يزيد بن المهلب ليقطعن منه طابقا فكان يخشى ذلك، فبعث يزيد بن المهلب إلى مواليه، فأعدوا له إبلا وكان مرض عمر في دير سمعان، فلما اشتد مرض عمر أمر بإبله فأتي بها، فلما تبين له أنه قد ثقل نزل من محبسه، فخرج حتى مضى إلى المكان الذي واعدهم فيه، فلم يجدهم جاءوا، فجزع اصحابه وضجروا، فقال لأصحابه: اترونني أرجع إلى السجن! لا والله لا أرجع إليه أبدا ثم إن الإبل جاءت، فاحتمل، فخرج ومعه عاتكه امراته ابنه الفرات ابن معاويه العامريه من بنى البكاء في شق المحمل، فمضى. فلما جاز كتب إلى عمر بن عبد العزيز: أني والله لو علمت أنك تبقى ما خرجت من محبسي، ولكني لم آمن يزيد بن عبد الملك، فقال عمر: اللهم إن كان يزيد يريد بهذه الأمة شرا فاكفهم شره، واردد كيده في نحره ومضى يزيد بن المهلب حتى مر بحدث الزقاق، وفيه الهذيل بن زفر معه قيس،

خبر وفاه عمر بن عبد العزيز

فأتبعوا يزيد بن المهلب حيث مر بهم، فأصابوا طرفا من ثقله وغلمة من وصفائه، فأرسل الهذيل بن زفر في آثارهم، فردهم فقال: ما تطلبون؟ أخبروني، أتطلبون يزيد بن المهلب أو أحدا من قومه بتبل؟ فقالوا: لا، قال: فما تريدون؟ إنما هو رجل كان في إسار، فخاف على نفسه فهرب. وزعم الواقدي أن يزيد بن المهلب إنما هرب من سجن عمر بعد موت عمر . خبر وفاه عمر بن عبد العزيز وفي هذه السنة توفي عمر بن عبد العزيز، فحدثني أحمد بْن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: توفي عمر بن عبد العزيز لخمس ليال بقين من رجب سنة إحدى ومائة. وكذلك قال مُحَمَّد بن عُمَرُ، حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عمرو بن عثمان، قال: مات عمر بن عبد العزيز لعشر ليال بقين من رجب سنة إحدى ومائة. وقال هشام عن أبي مخنف: مات عمر بن عبد العزيز يوم الجمعة لخمس بقين من رجب بدير سمعان في سنة إحدى ومائة، وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأشهر، وكانت خلافته سنتين وخمسه اشهر، ومات بدير سمعان. حدثني الحارث، قال: حدثنا مُحَمَّد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عمي الهيثم بن واقد، قال: ولدت سنة سبع وتسعين، واستخلف عمر بن عبد العزيز بدابق يوم الجمعة لعشر بقين من صفر سنة تسع وتسعين، فأصابني من قسمه ثلاثة دنانير، وتوفي بخناصرة يوم الأربعاء لخمس ليال بقين من رجب سنة إحدى ومائة، وكان شكوه عشرين يوما، وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام، ومات وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأشهر، ودفن بدير سمعان. وقد قال بعضهم: كان له يوم توفي تسع وثلاثون سنة، وخمسة أشهر

ذكر بعض سيره

وقال بعضهم: كان له أربعون سنة. وقال هشام: توفي عمر وهو ابن أربعين سنة وأشهر، وكان يكنى أبا حفص وله يقول عويف القوافي، وقد حضره في جنازة شهدها معه: أجبني أبا حفص لقيت مُحَمَّدا ... على حوضه مستبشرا وراكا فأنت امرؤ كلتا يديك مفيدة ... شمالك خير من يمين سواكا وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وكان يقال له: اشج بنى اميه، وذلك أن دابة من دواب أبيه كانت شجته فقيل له: اشج بنى اميه. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا سُلَيْمَان بن حرب، قال: حدثنا المبارك بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، قال: كنت أسمع ابن عمر كثيرا يقول: ليت شعري من هذا الذي من ولد عمر، في وجهه علامة، يملأ الأرض عدلا! وحدثت عن منصور بن أبي مزاحم، قال: حدثنا مروان بن شجاع. عن سالم الأفطس، أن عمر بن عبد العزيز رمحته دابة وهو غلام بدمشق، فأتيت به أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، فضمته إليها، وجعلت تمسح الدم عن وجهه ودخل أبوه عليها على تلك الحال، فأقبلت عليه تعذله وتلومه، وتقول: ضيعت ابني، ولم تضم إليه خادما ولا حاضنا يحطه من مثل هذا! فقال لها: اسكتي يا أم عاصم، فطوباك إذ كان أشج بني أمية! ذكر بعض سيره ذكر علي بن مُحَمَّد أن كليب بن خلف حدثهم عن إدريس بن حنظلة، والمفضل، عن جده وعلي بن مجاهد عن خالد: أن عمر بن عبد العزيز كتب حين ولي الخلافة إلى يزيد بن الهلب:

أما بعد، فإن سُلَيْمَان كان عبدا من عبيد الله أنعم الله عليه، ثم قبضه واستخلفني، ويزيد بن عبد الملك من بعدي إن كان، وإن الذي ولاني الله من ذلك وقدر لي ليس علي بهين، ولو كانت رغبتي في اتخاذ أزواج واعتقاد أموال، كان في الذي أعطاني من ذلك ما قد بلغ بي أفضل ما بلغ بأحد من خلقه، وأنا أخاف فيما ابتليت به حسابا شديدا، ومساله غليظه، اما ما عافى الله ورحم، وقد بايع من قبلنا فبايع من قبلك. فلما قدم الكتاب على يزيد بن المهلب، ألقاه إلى أبي عيينة، فلما قرأه قال: لست من عماله، قال: ولم؟ قال: ليس هذا كلام من مضى من أهل بيته، وليس يريد أن يسلك مسلكهم فدعا الناس إلى البيعة فبايعوا. قال: ثم كتب عمر إلى يزيد استخلف على خراسان، وأقبل، فاستخلف ابنه مخلدا. قال علي: وحدثنا علي بن مجاهد، عن عبد الأعلى بن منصور، عن ميمون بن مهران، قال: كتب عمر إلى عبد الرحمن بن نعيم أن العمل والعلم قريبان، فكن عالما بالله عاملا له، فإن أقواما علموا ولم يعلموا، فكان علمهم عليهم وبالا. قال وأخبرنا مصعب بن حيان عن مقاتل بن حيان، قال: كتب عمر إلى عبد الرحمن. أما بعد، فاعمل عمل رجل يعلم أن الله لا يصلح عمل المفسدين. قال علي: أخبرنا كليب بن خلف، عن طفيل بن مرداس، قال: كتب عمر إلى سُلَيْمَان بن أبي السري، أن اعمل خانات في بلادك فمن مر بك من المسلمين فأقروهم يوما وليلة، وتعهدوا دوابهم، فمن كانت به علة فأقروه يومين وليلتين، فإن كان منقطعا به فقووه بما يصل به إلى بلده. فلما أتاه كتاب عمر قال أهل سمرقند لسُلَيْمَان: إن قتيبة غد ربنا، وظلمنا وأخذ بلادنا، وقد أظهر الله العدل والإنصاف، فائذن لنا فليفد منا وفد

إلى أمير المؤمنين يشكون ظلامتنا، فإن كان لنا حق أعطيناه، فإن بنا إلى ذلك حاجة فأذن لهم، فوجهوا منهم قوما، فقدموا على عمر، فكتب لهم عمر إلى سُلَيْمَان ابن أبي السري: أن أهل سمرقند قد شكوا إلي ظلما أصابهم وتحاملا من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم، فإذا أتاك كتابي فأجلس لهم القاضي، فلينظر في أمرهم، فإن قضى لهم فأخرجهم إلى معسكرهم كما كانوا وكنتم قبل أن ظهر عليهم قتيبة. قال: فأجلس لهم سُلَيْمَان جميع بن حاضر القاضي الناجي، فقضى أن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم وينابذوهم على سواء، فيكون صلحا جديدا أو ظفرا عنوة، فقال أهل السغد: بل نرضى بما كان، ولا نجدد حربا. وتراضوا بذلك، فقال أهل الرأي: قد خالطنا هؤلاء القوم وأقمنا معهم، وأمنونا وأمناهم، فإن حكم لنا عندنا إلى الحرب ولا ندري لمن يكون الظفر، وإن لم يكن لنا كنا قد اجتلبنا عداوة في المنازعة فتركوا الأمر على ما كان، ورضوا ولم ينازعوا. قال: وكتب عمر إلى عبد الرحمن بن نعيم يأمره بإقفال من وراء النهر من المسلمين بذراريهم قال: فأبوا وقالوا: لا يسعنا مرو فكتب إلى عمر بذلك، فكتب إليه عمر: اللهم إني قد قضيت الذي علي، فلا تغز بالمسلمين، فحسبهم الذي قد فتح الله عليهم. قال: وكتب إلى عقبة بن زرعة الطائي- وكان قد ولاه الخراج بعد القشيري. إن للسلطان أركانا لا يثبت إلا بها، فالوالي ركن، والقاضي ركن، وصاحب بيت المال ركن، والركن الرابع انا، وليس من ثغور المسلمين ثغر أهم إلي، ولا أعظم عندي من ثغر خراسان، فاستوعب الخراج وأحرزه في غير ظلم، فإن يك كفافا لأعطياتهم فسبيل ذلك، وإلا فاكتب إلي حتى أحمل إليك الأموال فتوفر لهم أعطياتهم قال: فقدم عقبة فوجد خراجهم يفضل عن أعطياتهم، فكتب إلى

عمر فأعلمه، فكتب إليه عمر: أن اقسم الفضل في أهل الحاجة. وحدثني عبد اللَّه بْن أحمد بْن شبويه، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان، قَالَ: سمعت عبد الله يقول عن محمد بن طلحه، عن داود ابن سُلَيْمَان الجعفي، قال: كتب عمر بن عبد العزيز: من عبد اللَّه عمر أمير المؤمنين إلى عبد الحميد، سلام عليك، أما بعد، فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدة وجور في احكام الله وسنه خبيثة استنها عليهم عمال السوء، وإن قوام الدين العدل والإحسان، فلا يكونن شيء أهم إليك من نفسك، فإنه لا قليل من الإثم، ولا تحمل خرابا على عامر، ولا عامرا على خراب، انظر الخراب فخذ منه ما أطاق، وأصلحه حتى يعمر، ولا يؤخذ من العامر إلا وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض، ولا تأخذن في الخراج إلا وزن سبعة ليس لها آيين ولا أجور الضرابين، ولا هدية النيروز والمهرجان، ولا ثمن الصحف، ولا أجور الفيوج، ولا أجور البيوت، ولا دراهم النكاح، ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض، فاتبع في ذلك أمري، فإني قد وليتك من ذلك ما ولاني الله، ولا تعجل دوني بقطع ولا صلب، حتى تراجعني فيه، وانظر من أراد من الذرية ان يحج، فعجل له مائه يحج بها، والسلام. حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبويه، قال: حدثني أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الله، عن شهاب بن شريعة المجاشعي، قال: ألحق عمر بن عبد العزيز ذراري الرجال الذين في العطايا أقرع بينهم، فمن

زياده في سيره عمر بن عبد العزيز ليست من كتاب ابى جعفر إلى أول خلافه يزيد بن عبد الملك بن مروان

أصابته القرعة جعله في المائة، ومن لم تصبه القرعة جعله في الأربعين، وقسم في فقراء أهل البصرة كل إنسان ثلاثة دراهم، فأعطى الزمني خمسين خمسين قال: وأراه رزق الفطم. حدثني عبد الله، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا الفضيل، عن عبد الله قال: بلغني أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أهل الشام. سلام عليكم ورحمة الله، أما بعد، فإنه من أكثر ذكر الموت قل كلامه، ومن علم أن الموت حق رضى باليسير، والسلام قال علي بن مُحَمَّد: وقال أبو مجلز لعمر: إنك وضعتنا بمنقطع التراب، فاحمل إلينا الأموال قال: يا أبا مجلز: قلبت الأمر، قال: يا أمير المؤمنين أهو لنا أم لك؟ قال: بل هو لكم إذا قصر خراجكم عن أعطياتكم، قال: فلا أنت تحمله إلينا، ولا نحمله إليك، وقد وضعت بعضه على بعض. قال: أحمله إليكم إن شاء الله. ومرض من ليلته فمات من مرضه وكانت ولاية عبد الرحمن بن نعيم خراسان ستة عشر شهرا. قال أبو جعفر: وفي هذه السنة توفي عمارة بن أكيمة الليثي، ويكنى أبا الوليد، وهو ابن تسع وسبعين. زياده في سيره عمر بن عبد العزيز ليست من كتاب أبي جعفر إلى أول خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان روى عبد الله بن بكر بن حبيب السهمي، قال: حدثنا رجل في مسجد الجنابذ، أن عمر بن عبد العزيز خطب الناس بخناصرة، فقال: أيها الناس، إنكم لم تخلقوا عبثا، ولن تتركوا سدى، وإن لكم معادا ينزل الله فيه للحكم فيكم، والفصل بينكم، وقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم الجنة التي عرضها السموات والأرض ألا واعلموا

أنما الأمان غدا لمن حذر الله وخافه، وباع نافدا بباق، وقليلا بكثير وخوفا بأمان ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلفها بعدكم الباقون كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين! وفي كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله قد قضى نحبه، وانقضى أجله، فتغيبونه في صدع من الأرض، ثم تدعونه غير موسد ولا ممهد، قد فارق الأحبة، وخلع الأسباب، فسكن التراب وواجه الحساب فهو مرتهن بعمله، فقير إلى ما قدم، غني عما ترك. فاتقوا الله قبل نزول الموت وانقضاء مواقعه وايم الله إني لأقول لكم هذه المقالة، وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما عندي، فأستغفر الله وأتوب إليه. وما منكم من أحد تبلغنا عنه حاجة إلا أحببت أن أسد من حاجته ما قدرت عليه، وما منكم أحد يسعه ما عندنا الا وددت انه سداى ولحمتي، حتى يكون عيشنا وعيشه سواء وايم الله إن لو أردت غير هذا من الغضارة والعيش، لكان اللسان مني به ذلولا عالما بأسبابه، ولكنه مضى من الله كتاب ناطق وسنة عادلة، يدل فيها على طاعته، وينهى عن معصيته. ثم رفع طرف ردائه فبكى حتى شهق وأبكى الناس حوله، ثم نزل فكانت إياها لم يخطب بعدها حتى مات رحمه الله. روى خلف بن تميم، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سعد، قال: بلغني أن عمر بن عبد العزيز مات ابن له، فكتب عامل له يعزيه عن ابنه، فقال لكاتبه: أجبه عني، قال: فأخذ الكاتب يبري القلم، قال: فقال للكاتب: أدق القلم، فإنه أبقى للقرطاس، وأوجز للحروف، واكتب: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإن هذا الأمر أمر قد كنا وطنا أنفسنا عليه، فلما نزل لم ننكره، والسلام. روى منصور بن مزاحم، قال: حدثنا شعيب- يعني ابن صفوان- عن ابن عبد الحميد، قال: قال عمر بن عبد العزيز: من وصل أخاه بنصيحة له في دينه، ونظر له في صلاح دنياه، فقد أحسن صلته، وأدى واجب

حقه، فاتقوا الله، فإنها نصيحة لكم في دينكم، فاقبلوها، وموعظة منجية في العواقب فالزموها الرزق مقسوم فلن يغدر المؤمن ما قسم له، فأجملوا في الطلب، فإن في القنوع سعة وبلغة وكفافا، إن أجل الدنيا في أعناقكم، وجهنم أمامكم، وما ترون ذاهب، وما مضى فكأن لم يكن، وكل أموات عن قريب، وقد رأيتم حالات الميت وهو يسوق، وبعد فراغه وقد ذاق الموت، والقوم حوله يقولون: قد فرغ رحمه الله! وعاينتم تعجيل إخراجه، وقسمة تراثه ووجهه مفقود، وذكره منسي، وبابه مهجور، وكأن لم يخالط إخوان الحفاظ، ولم يعمر الديار، فاتقوا هول يوم لا تحقر فيه مثقال ذرة في الموازين. روى سهل بن محمود، قال: حدثنا حرملة بن عبد العزيز، قال: حدثني أبي، عن ابن لعمر بن عبد العزيز، قال: أمرنا عمر أن نشتري موضع قبره، فاشتريناه من الراهب، قال: فقال بعض الشعراء: أقول لما نعى الناعون لي عمرا ... لا يبعدن قوام العدل والدين قد غادر القوم باللحد الذي لحدوا ... بدير سمعان قسطاس الموازين روى عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، قال: قال عمر بن عبد العزيز: من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح، ومن لم يعد كلامه من عمله كثرت ذنوبه، والرضا قليل، ومعول المؤمن الصبر، وما أنعم الله على عبد نعمة ثم انتزعها منه فأعاضه مما انتزع منه الصبر إلا كان ما أعاضه خيرا مما انتزع منه، ثم قرأ هذه الآية: «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ. » وقدم كتابه على عبد الرحمن بن نعيم: لا تهدموا كنيسة ولا بيعة ولا بيت نار صولحتم عليه، ولا تحدثن كنيسة ولا بيت نار، ولا تجر الشاة إلى مذبحها، ولا تحدوا الشفرة على رأس الذبيحة، ولا تجمعوا بين الصلاتين إلا من عذر. روى عفان بن مسلم، عن عثمان بن عبد الحميد، قال: حدثنا أبي،

قال: بلغنا أن فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز قالت: اشتد علزه ليلة، فسهر وسهرنا معه، فلما أصبحنا امرت وصيفا له يقال له مرثد، فقلت له: يا مرثد، كن عند أمير المؤمنين، فإن كانت له حاجة كنت قريبا منه ثم انطلقنا فضربنا برءوسنا لطول سهرنا، فلما انفتح النهار استيقظت فتوجهت إليه، فوجدت مرثدا خارجا من البيت نائما، فأيقظته فقلت: يا مرثد ما أخرجك؟ قال: هو أخرجني، قال: يا مرثد، اخرج عنى! فو الله إني لأرى شيئا ما هو بالإنس ولا جان، فخرجت فسمعته يتلو هذه الآية: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» ، قال: فدخلت عليه فوجدته قد وجه نفسه وأغمض عينيه. وإنه لميت رحمه الله

خلافه يزيد بن عبد الملك بن مروان

خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان وفيها ولي يزيد بن عبد الملك بن مروان، وكنيته أبو خالد، وهو ابن تسع وعشرين سنة في قول هشام بن مُحَمَّد، ولما ولي الخلافة نزع عن المدينة أبا بكر ابن مُحَمَّد بن عمرو بن حزم، وولاها عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري، فقدمها- فيما زعم الواقدي- يوم الأربعاء لليال بقين من شهر رمضان فاستقضى عبد الرحمن سلمة بن عبد الله بن عبد الأسد المخزومي. وذكر مُحَمَّد بن عمر، أن عبد الجبار بن عمارة حدثه عن أبي بكر بن حزم، أنه قال: لما قدم عبد الرحمن بن الضحاك المدينة وعزلني، دخلت عليه، فسلمت فلم يقبل علي، فقلت: هذا شيء لا تملكه قريش للأنصار، فرجعت إلى منزلي وخفته- وكان شابا مقداما- فإذا هو يبلغني عنه أنه يقول: ما يمنع ابن حزم أن يأتيني إلا الكبر، وإني لعالم بخيانته، فجاءني ما كنت أحذر وما أستيقن من كلامه، فقلت للذي جاءني بهذا: قل له: ما الخيانة لي بعادة، وما أحب أهلها، والأمير يحدث نفسه بالخلود في سلطانه، كم نزل هذه الدار من أمير وخليفة قبل الأمير فخرجوا منها وبقيت آثارهم أحاديث إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا! فاتق الله ولا تسمع قول ظالم او حاسد على نعمه. فلم يزل الأمر يترقى بينهما، حتى خاصم إليه رجل من بني فهر وآخر من بني النجار- وكان أبو بكر قضى للنجاري على الفهري في أرض كانت بينهما نصفين، فدفع أبو بكر الأرض إلى النجاري- فأرسل الفهري إلى النجاري وإلى أبي بكر بن حزم، فأحضرهما ابن الضحاك، فتظلم الفهري من أبي بكر بن حزم، وقال: أخرج مالي من يدي، فدفعه إلى هذا النجاري، فقال أبو بكر: اللهم غفرا! أما رأيتني سألت أياما في أمرك وأمر صاحبك، فاجتمع لي على إخراجها من يدك، وأرسلتك إلى من أفتاني بذلك: سعيد بن المسيب وابى بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فسألتهما؟ فقال الفهري: بلى،

مقتل شوذب الخارجي

وليس يلزمني قولهما فانكسر ابن الضحاك فقال: قوموا، فقاموا، فقال للفهري: تقر له أنك سألت من أفتاه بهذا، ثم تقول ردها علي! أنت أرعن، اذهب فلا حق لك، فكان أبو بكر يتقيه ويخافه، حتى كلم ابن حيان يزيد أن يقيده من أبي بكر، فإنه ضربه حدين، فقال يزيد: لا افعل، رجل اصطنعه اهل بيتى، ولكنى أولئك المدينة قال: لا أريد ذلك، لو ضربته بسلطاني لم يكن لي قودا فكتب يزيد إلى عبد الرحمن بن الضحاك كتابا: أما بعد، فانظر فيما ضرب ابن حزم ابن حيان، فإن كان ضربه في أمر بين فلا تلتفت إليه، وإن كان ضربه في أمر يختلف فيه فلا تلتفت إليه، فإن كان ضربه في أمر غير ذلك فأقده منه. فقدم بالكتاب على عبد الرحمن بن الضحاك، فقال عبد الرحمن: ما جئت بشيء، أترى ابن حزم ضربك في أمر لا يختلف فيه! فقال عثمان لعبد الرحمن: إن أردت أن تحسن أحسنت، قال: الآن أصبت المطلب، فأرسل عبد الرحمن إلى ابن حزم فضربه حدين في مقام واحد، ولم يسأله عن شيء، فرجع أبو المغراء بن حيان وهو يقول: أنا أبو المغراء بن الحيان، والله ما قربت النساء من يوم صنع بي ابن أبي حزم ما صنع حتى يومى هذا، واليوم اقرب النساء!. مقتل شوذب الخارجي قال أبو جعفر: وفي هذه السنة قتل شوذب الخارجي. ذكر الخبر عن مقتله: قد ذكرنا قبل الخبر عما كان من مراسلة شوذب عمر بن عبد العزيز لمناظرته في خلافه عليه، فلما مات عمر أحب- فيما ذكر معمر بن المثنى- عبد الحميد بن عبد الرحمن أن يحظى عند يزيد بن عبد الملك، فكتب إلى

مُحَمَّد بن جرير يأمره بمحاربة شوذب وأصحابه، ولم يرجع رسولا شوذب، ولم يعلم بموت عمر، فلما رأوا مُحَمَّد بن جرير يستعد للحرب، أرسل إليه شوذب: ما أعجلك قبل انقضاء المدة فيما بيننا وبينكم! أليس قد تواعدنا إلى أن يرجع رسولا شوذب! فأرسل إليهم مُحَمَّد: أنه لا يسعنا ترككم على هذه الحالة- قال غير أبي عبيدة: فقالت الخوارج: ما فعل هؤلاء هذا إلا وقد مات الرجل الصالح قال معمر بن المثنى: فبرز لهم شوذب، فاقتتلوا، فأصيب من الخوارج نفر، وأكثروا في اهل القبله القتل، وتولوا منهزمين، والخوارج في أعقابهم تقتل حتى بلغوا أخصاص الكوفة، ولجئوا إلى عبد الحميد، وجرح مُحَمَّد بن جرير في استه، ورجع شوذب إلى موضع فأقام ينتظر صاحبيه، فجاءاه فأخبراه بما صادرا عليه عمر، وان قد مات فأقر يزيد عبد الحميد على الكوفة، ووجه من قبله تميم بن الحباب في ألفين، فراسلهم وأخبرهم أن يزيد لا يفارقهم على ما فارقهم عليه عمر، فلعنوه ولعنوا يزيد، فحاربهم فقتلوه وهزموا أصحابه، فلجأ بعضهم إلى الكوفة ورجع الآخرون إلى يزيد، فوجه إليهم نجدة بن الحكم الأزدي في جمع فقتلوه، وهزموا أصحابه، فوجه إليهم الشحاج بن وداع في ألفين، فراسلهم وراسلوه، فقتلوه، وقتل منهم نفرا فيهم هدبة اليشكري، ابن عم بسطام- وكان عابدا- وفيهم أبو شبيل مقاتل ابن شيبان- وكان فاضلا عندهم- فقال أبو ثعلبة أيوب بن خولي يرثيهم: تركنا تميما في الغبار ملحبا ... تبكى عليه عرسه وقرائبه وقد أسلمت قيس تميما ومالكا ... كما أسلم الشحاج أمس أقاربه وأقبل من حران يحمل راية ... يغالب أمر الله والله غالبه فيا هدب للهيجا، ويا هدب للندى، ... ويا هدب للخصم الألد يحاربه! ويا هدب كم من ملحم قد اجنته ... وقد أسلمته للرماح جوالبه

وكان أبو شيبان خير مقاتل ... يرجى ويخشى بأسه من يحاربه ففاز ولاقى الله بالخير كله ... وخذمه بالسيف في الله ضاربه تزود من دنياه درعا ومغفرا ... وعضبا حساما لم تخنه مضاربه واجرد محبوك السراة كأنه ... إذا انقض وافي الريش حجن مخالبه فلما دخل مسلمة الكوفة شكا إليه أهلها مكان شوذب، وخوفهم منه وما قد قتل منهم، فدعا مسلمة سعيد بن عمرو الحرشي- وكان فارسا- فعقد له على عشرة آلاف، ووجهه إليه وهو مقيم بموضعه، فأتاه ما لا طاقة له به، فقال شوذب لأصحابه: من كان يريد الله فقد جاءته الشهادة، ومن كان إنما خرج للدنيا فقد ذهبت الدنيا، وإنما البقاء في الدار الآخرة، فكسروا أغماد السيوف وحملوا، فكشفوا سعيدا وأصحابه مرارا، حتى خاف الفضيحة فذمر أصحابه، وقال لهم: أمن هذه الشرذمة لا أبا لكم تفرون! يا أهل الشام يوما كأيامكم! قال: فحملوا عليهم، فطحنوهم طحنا لم يبقوا منهم أحدا، وقتلوا بسطاما وهو شوذب وفرسانه، منهم الريان بن عبد الله اليشكري، وكان من المخبتين، فقال أخوه شمر بن عبد الله يرثيه: ولقد فجعت بسادة وفوارس ... للحرب سعر من بنى شيبان اعتاقهم ريب الرمان فغالهم ... وتركت فردا غير ذي اخوان كمدا تجلجل في فؤادي حسرة ... كالنار من وجد على الريان وفوارس باعوا الإله نفوسهم ... من يشكر عند الوغى فرسان وقال حسان بن جعدة يرثيهم: يا عين أذري دموعا منك تسجاما ... وابكي صحابة بسطام وبسطاما فلن تري أبدا ما عشت مثلهمُ ... أتقى وأكمل في الأحلام أحلاما

خبر خلع يزيد بن المهلب يزيد بن عبد الملك

بسيهم قد تأسوا عند شدتهم ... ولم يريدوا عن الأعداء إحجاما حتى مضوا للذي كانوا له خرجوا ... فأورثونا منارات وأعلاما إني لأعلم أن قد أنزلوا غرفا ... من الجنان ونالوا ثم خداما أسقى الإله بلادا كان مصرعهم ... فيها سحابا من الوسمي سجاما. خبر خلع يزيد بن المهلب يزيد بن عبد الملك قال أبو جعفر: وفي هذه السنة لحق يزيد بن المهلب بالبصرة، فغلب عليها، وأخذ عامل يزيد بن عبد الملك عليها عدي بن أرطاة الفزاري، فحبسه وخلع يزيد بن عبد الملك. ذكر الخبر عن سبب خلعه يزيد بن عبد الملك وما كان من أمره وأمر يزيد في هذه السنة: قد مضى ذكرى خبر هرب يزيد بن المهلب من محبسه الذي كان عمر بن عبد العزيز حبسه فيه، ونذكر الآن ما كان من صنيعه بعد هربه في هذه السنة- أعني سنة إحدى ومائة. ولما مات عمر بن عبد العزيز بويع يزيد بن عبد الملك في اليوم الذي مات فيه عمر، وبلغه هرب يزيد بن المهلب، فكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن يأمره أن يطلبه ويستقبله، وكتب إلى عدي بن أرطاة يعلمه هربه، ويأمره أن يتهيأ لاستقباله، وأن يأخذ من كان بالبصرة من أهل بيته. فذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، أن عدي بن أرطاة أخذهم وحبسهم، وفيهم المفضل وحبيب ومروان بنو المهلب، وأقبل يزيد بن المهلب حتى مر بسعيد بن عبد الملك بن مروان، فقال يزيد لأصحابه: ألا نعرض لهذا فنأخذه فنذهب به معنا! فقال أصحابه: لا بل امض بنا ودعه وأقبل يسير حتى ارتفع فوق القطقطانة، وبعث عبد الحميد بن عبد الرحمن هشام ابن مساحق بن عبد الله بن مخرمة بن عبد العزيز بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عُبْدُودِ بْنِ

نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بن لؤي القرشي، في ناس من أهل الكوفة من الشرط ووجوه الناس وأهل القوة، فقال له: انطلق حتى تستقبله فإنه اليوم يمر بجانب العذيب فمشى هشام قليلا، ثم رجع إلى عبد الحميد فقال: آجيئك به أسيرا أم آتيك برأسه؟ فقال: أي ذلك ما شئت، فكان يعجب لقوله ذلك من سمعه، وجاء هشام حتى نزل العذيب، ومر يزيد منهم غير بعيد، فاتقوا الإقدام عليه، ومضى يزيد نحو البصرة، ففيه يقول الشاعر: وسار ابن المهلب لم يعرج ... وعرس ذو القطيفة من كنانه وياسر والتياسر كان حزما ... ولم يقرب قصور القطقطانه ذو القطيفة هو مُحَمَّد بن عمرو، وهو أبو قطيفة بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وهو أبو قطيفة، وإنما سمي ذا القطيفة، لأنه كان كثير شعر اللحية والوجه والصدر ومُحَمَّد يقال له ذو الشامة. فلما جاء يزيد بن المهلب انصرف هشام بن مساحق إلى عبد الحميد، ومضى يزيد إلى البصرة، وقد جمع عدي بن أرطاة إليه أهل البصرة وخندق عليها، وبعث على خيل البصرة المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل الثقفي وكان عدي بن أرطاة رجلا من بني فزارة وقال عبد الملك بن المهلب لعدي بن أرطاة: خذ ابني حميدا فاحبسه مكاني، وأنا أضمن لك أن أرد يزيد عن البصرة حتى يأتي فارس، ويطلب لنفسه الأمان ولا يقربك فأبى عليه، وجاء يزيد ومعه أصحابه الذين أقبل فيهم، والبصرة محفوفة بالرجال، وقد جمع مُحَمَّد بن المهلب- ولم يكن ممن حبس- رجالا وفتية من أهل بيته وناسا من مواليه، فخرج حتى استقبله، فأقبل في كتيبة تهول من رآها، وقد دعا عدي أهل البصرة، فبعث على كل خمس من أخماسها رجلا، فبعث على خمس الأزد المغيرة بن زياد بن عمرو العتكي، وبعث على خمس بني تميم محرز بن حمران السعدي من بني منقر، وعلى خمس بكر بن وائل عمران بن عامر

ابن مسمع من بني قيس بن ثعلبة فقال أبو منقر، - رجل من قيس بن ثعلبة-: إن الراية لا تصلح إلا في بني مالك بن مسمع، فدعا عدي نوح بن شيبان ابن مالك بن مسمع، فعقد له على بكر بن وائل، ودعا مالك بن المنذر بن الجارود، فعقد له على عبد القيس، ودعا عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر القرشي، فعقد له على أهل العالية- والعالية قريش وكنانة والأزد وبجيلة وخثعم وقيس عيلان كلها ومزينة- وأهل العالية بالكوفة يقال لهم ربع أهل المدينة وبالبصرة خمس أهل العالية، وكانوا بالكوفة أخماسا، فجعلهم زياد بن عبيد أرباعا. قال هشام عن أبي مخنف: وأقبل يزيد بن المهلب لا يمر بخيل من خيلهم ولا قبيلة من قبائلهم إلا تنحوا له عن السبيل حتى يمضي، واستقبله المغيرة ابن عبد الله الثقفي في الخيل، فحمل عليه مُحَمَّد بن المهلب في الخيل، فأفرج له عن الطريق هو وأصحابه، وأقبل يزيد حتى نزل داره، واختلف الناس إليه، وأخذ يبعث إلى عدي بن أرطاة أن ادفع إلي إخوتي وأنا أصالحك على البصرة، وأخليك وإياها حتى آخذ لنفسي ما أحب من يزيد بن عبد الملك، فلم يقبل منه، وخرج إلى يزيد بن عبد الملك حميد بن عبد الملك بن المهلب، فبعث معه يزيد بن عبد الملك خالد بن عبد الله القسري وعمر بن يزيد الحكمي بأمان يزيد بن المهلب وأهل بيته، وأخذ يزيد بن المهلب يعطي من أتاه من الناس، فكان يقطع لهم قطع الذهب وقطع الفضة، فمال الناس إليه، ولحق به عمران بن عامر بن مسمع ساخطا على عدي بن أرطاة حين نزع منه رايته، راية بكر بن وائل، وأعطاها ابن عمه، ومالت إلى يزيد ربيعة وبقية تميم وقيس وناس بعد ناس، فيهم عبد الملك ومالك ابنا مسمع ومعه ناس من أهل الشام، وكان عدي لا يعطي إلا درهمين درهمين، ويقول:

لا يحل لي أن أعطيكم من بيت المال درهما إلا بأمر يزيد بن عبد الملك، ولكن تبلغوا بهذا حتى يأتي الأمر في ذلك، فقال الفرزدق في ذلك: أظن رجال الدرهمين يسوقهم ... إلى الموت آجال لهم ومصارع فأحزمهم من كان في قعر بيته ... وأيقن أن الأمر لا شك واقع وخرجت بنو عمرو بن تميم من أصحاب عدي، فنزلوا المربد، فبعث إليهم يزيد بن المهلب مولى له يقال له دارس، فحمل عليهم فهزمهم، فقال الفرزدق في ذلك: تفرقت الحمراء إذ صاح دارس ... ولم يصبروا تحت السيوف الصوارم جزى الله قيسا عن عدي ملامة ... ألا صبروا حتى تكون ملاحم وخرج يزيد بن المهلب حين اجتمع له الناس، حتى نزل جبانة بني يشكر- وهو المنصف فيما بينه وبين القصر- وجاءته بنو تميم وقيس وأهل الشام، فاقتتلوا هنيهة، فحمل عليهم مُحَمَّد بن المهلب، فضرب مسور بن عباد الحبطي بالسيف فقطع أنف البيضة، ثم أسرع السيف إلى أنفه، وحمل على هريم بن أبي طلحة بن أبي نهشل بن دارم، فأخذ بمنطقته، فحذفه عن فرسه، فوقع فيما بينه وبين الفرس، وقال: هيهات هيهات! عمك أثقل من ذلك وانهزموا وأقبل يزيد بن المهلب إثر القوم يتلوهم حتى دنا من القصر،

فقاتلوهم وخرج إليه عدي بنفسه فقتل من أصحابه الحارث بن مصرف الأودي- وكان من أشراف أهل الشام وفرسان الحجاج- وقتل موسى بن الوجيه الحميري ثم الكلاعي، وقتل راشد المؤذن، وانهزم أصحاب عدي، وسمع إخوة يزيد وهم في محبس عدي الأصوات تدنو، والنشاب تقع في القصر، فقال لهم عبد الملك إني أرى النشاب تقع في القصر، وأرى الأصوات تدنو، ولا أرى يزيد إلا قد ظهر، وإني لا آمن من مع عدي من مضر ومن أهل الشام أن يأتونا فيقتلونا قبل أن يصل إلينا يزيد إلى الدار، فأغلقوا الباب ثم ألقوا عليه ثيابا ففعلوا فلم يلبثوا إلا ساعة حتى جاءهم عبد الله بن دينار مولى ابن عمر، وكان على حرس عدي- فجاء يشتد إلى الباب هو وأصحابه، وقد وضع بنو المهلب متاعا على الباب، ثم اتكوا عليه، فأخذ الآخرون يعالجون الباب، فلم يستطيعوا الدخول، وأعجلهم الناس فخلوا عنهم. وجاء يزيد بن المهلب حتى نزل دار سلم بن زياد بن أبي سفيان إلى جانب القصر، وأتي بالسلاليم، فلم يلبث عثمان أن فتح القصر، واتى بعدي ابن أرطاة، فجيء به وهو يتبسم، فقال له يزيد: لم تضحك؟ فو الله إنه لينبغي أن يمنعك من الضحك خصلتان: إحداهما الفرار من القتلة الكريمة حتى أعطيت بيدك إعطاء المرأة بيدها، فهذه واحدة، والأخرى إني أتيت بك تتل كما يتل العبد الآبق إلى أربابه، وليس معك مني عهد ولا عقد، فما يؤمنك أن أضرب عنقك! فقال عدي: أما أنت فقد قدرت علي، ولكني أعلم أن بقائي بقاؤك، وأن هلاكي مطلوب به من جرته يده، إنك قد رأيت جنود الله بالمغرب، وعلمت بلاء الله عندهم في كل موطن من مواطن الغدر والنكث، فتدارك فلتتك وزلتك بالتوبة واستقالة العثرة، قبل أن يرمي إليك البحر بأمواجه، فإن طلبت الاستقالة حينئذ لم تقل، وإن أردت الصلح وقد أشخصت القوم إليك وجدتهم لك مباعدين، وما لم يشخص القوم إليك فلم

يمنعوك شيئا طلبت فيه الأمان على نفسك وأهلك ومالك. فقال له يزيد: أما قولك: إن بقاءك بقائي، فلا أبقاني الله حسوة طائر مذعور إن كنت لا يبقيني إلا بقاؤك، وأما قولك: إن هلاكك مطلوب به من جرته يده، فو الله لو كان في يدي من أهل الشام عشرة آلاف إنسان ليس فيهم رجل إلا أعظم منزلة منك فيهم، ثم ضربت أعناقهم في صعيد واحد، لكان فراقي إياهم وخلافي عليهم أهول عندهم وأعظم في صدورهم من قتل أولئك، ثم لو شئت أن تهدر لي دماؤهم، وأن أحكم في بيوت أموالهم، وأن يجوزوا لي عظيما من سلطانهم، على أن أضع الحرب فيما بيني وبينهم لفعلوا، فلا يخفين عليك أن القوم ناسوك لو قد وقعت أخيارنا إليهم، وأن أعمالهم وكيدهم لا يكون إلا لأنفسهم، لا يذكرونك ولا يحلفون بك وأما قولك: تدارك أمرك واستقله وافعل وافعل، فو الله ما استشرتك، ولا أنت عندي بواد ولا نصيح، فما كان ذلك منك إلا عجزا وفضلا، انطلقوا به، فلما ذهبوا به ساعة قال: ردوه، فلما رد قال: أما إن حبسي إياك ليس إلا لحبسك بني المهلب وتضييقك عليهم فيما كنا نسألك التسهيل فيه عليهم، فلم تكن تألو ما عسرت وضيقت وخالفت، فكأنه لهذا القول حين سمعه أمن على نفسه، وأخذ عدي يحدث به كل من دخل عليه. وكان رجل يقال له السميدع الكندي من بني مالك بن ربيعة من ساكني عمان يرى رأي الخوارج، وكان خرج وأصحاب يزيد وأصحاب عدي مصطفون فاعتزل ومعه ناس من القراء، فقال طائفة من أصحاب يزيد وطائفة من أصحاب عدي: قد رضينا بحكم السميدع ثم إن يزيد بعث إلى السميدع فدعاه إلى نفسه، فأجابه، فاستعملوا يزيد على الأبلة، فأقبل على الطيب والتخلق والنعيم، فلما ظهر يزيد بن المهلب هرب رءوس أهل البصرة من قيس وتميم ومالك بن المنذر، فلحقوا بعبد الحميد بن عبد الرحمن بالكوفة، ولحق بعضهم بالشام، فقال الفرزدق:

فداء لقوم من تميم تتابعوا ... إلى الشام لم يرضوا بحكم السميدع أحكم حروري من الدين مارق ... أضل وأغوى من حمار مجدع فأجابه خليفة الأقطع: وما وجهوها نحوه عن وفادة ... ولا نهزة يرجى بها خير مطمع ولكنهم راحوا إليها وأدلجوا ... بأقرع أستاه ترى يوم مقرع وهم من حذار القوم أن يلحقوا بهم ... لهم نزلة في كل خمس وأربع وخرج الحواري بن زياد بن عمرو العتكي يريد يزيد بن عبد الملك هاربا من يزيد بن المهلب، فلقي خالد بن عبد الله القسري وعمرو بن يزيد الحكمي ومعهما حميد بن عبد الملك بن المهلب قد أقبلوا من عند يزيد بن عبد الملك بأمان يزيد بن المهلب، وكل شيء اراده فاستقبلهما، فسألاه عن الخبر، فخلا بهما حين راى معهما حميد بن عبد الملك، فقال: أين تريدان؟ فقالا: يزيد بن المهلب، قد جئناه بكل شيء أراده، فقال: ما تصنعان بيزيد شيئا، ولا يصنعه بكما، قد ظهر على عدوه عدي بن أرطاة، وقتل القتلى وحبس عديا، فارجعا أيها الرجلان ويمر رجل من باهلة يقال له مسلم بن عبد الملك، فلم يقف عليهما، فصايحاه وساءلاه، فلم يقف عليهما، فقال القسري: ألا ترده فتجلده مائة جلدة! فقال له صاحبه: عز به عنك، وامليا لينصرف. ومضى الحواري بن زياد إلى يزيد بن عبد الملك، وأقبلا بحميد بن عبد الملك معهما، فقال لهما حميد: أنشدكما الله أن تخالفا أمر يزيد ما بعثتما به! فإن يزيد قابل منكما، وإن هذا وأهل بيته لم يزالوا لنا أعداء، فأنشدكما الله أن تقبلا مقالته، فلم يقبلا قوله، وأقبلا به حتى دفعاه إلى عبد الرحمن بن سليم الكلبي، وقد كان يزيد بن عبد الملك بعثه إلى خراسان عاملا عليها فلما بلغه خلع يزيد بن عبد الملك كتب إليه: أن جهاد من خالفك أحب إلي

من عملي على خراسان، فلا حاجة لي فيها، فاجعلني ممن توجهني إلى يزيد بن المهلب، وبعث بحميد بن عبد الملك إلى يزيد، ووثب عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بن الخطاب على خالد بن يزيد بن المهلب، وهو بالكوفة وعلى حمال بن زحر الجعفي، وليسا ممن كان ينطق بشيء إلا أنهم عرفوا ما كان بينه وبين بني المهلب، فأوثقهما وسرحهما إلى يزيد بن عبد الملك، فحبسهما جميعا، فلم يفارقوا السجن حتى هلكوا فيه وبعث يزيد بن عبد الملك رجالا من أهل الشام إلى الكوفة يسكنونهم، ويثنون عليهم بطاعتهم، ويمنونهم الزيادات منهم القطامي بن الحصين، وهو أبو الشرقي، واسم الشرقي الوليد، وقد قال القطامي حين بلغه ما كان من يزيد بن المهلب: لعل عيني أن ترى يزيدا ... يقود جيشا جحفلا شديدا تسمع للأرض به وئيدا ... لا برما هدا ولا حسودا ولا جبانا في الوغى رعديدا ... ترى ذوي التاج له سجودا مكفرين خاشعين قودا ... وآخرين رحبوا وفودا لا ينقض العهد ولا المعهودا ... من نفر كانوا هجانا صيدا ترى لهم في كل يوم عيدا ... من الأعادي جزرا مقصودا ثم إن القطامي سار بعد ذلك إلى العقر حتى شهد قتال يزيد بن المهلب مع مسلمة بن عبد الملك، فقال يزيد بن المهلب: ما أبعد شعر القطامي من فعله! ثم إن يزيد بن عبد الملك بعث العباس بن الوليد في أربعة آلاف فارس، جريدة خيل، حتى وافوا الحيرة يبادر إليها يزيد بن المهلب، ثم أقبل بعد ذلك مسلمة بن عبد الملك وجنود أهل الشام، وأخذ على الجزيرة وعلى شاطئ الفرات، فاستوثق أهل البصرة ليزيد بن المهلب، وبعث عماله على الأهواز وفارس وكرمان، عليها الجراح بن عبد الملك الحكمي حتى انصرف إلى عمر بن

عبد العزيز، وعبد الرحمن بن نعيم الأزدي فكان على الصلاة واستخلف يزيد بن عبد الملك عبد الرحمن القشيري على الخراج، وجاء مدرك بن المهلب حتى انتهى إلى رأس المفازة، فدس عبد الرحمن بن نعيم إلى بني تميم أن هذا مدرك بن المهلب يريد أن يلقي بينكم الحرب، وأنتم في بلاد عافية وطاعة وعلى جماعة، فخرجوا ليلا يستقبلونه، وبلغ ذلك الأزد، فخرج منهم نحو من ألفي فارس حتى لحقوهم قبل أن ينتهوا إلى رأس المفازة، فقالوا لهم: ما جاء بكم؟ وما أخرجكم إلى هذا المكان؟ فاعتلوا عليهم بأشياء، ولم يقروا لهم أنهم خرجوا ليتلفوا مدرك بن المهلب، فكان لهم الآخرون، بل قد علمنا أن تخرجوا لتلقى صاحبنا، وها هو ذا قريب، فما شئتم ثم انطلقت الأزد حتى تلقوا مدرك بن المهلب على رأس المفازة، فقالوا له: إنك أحب الناس إلينا، وأعزهم علينا، وقد خرج أخوك ونابذه، فإن يظهره الله فإنما ذلك لنا، ونحن أسرع الناس إليكم أهل البيت واحقه بذلك، وان تكن الاخرى فو الله مالك في أن يغشانا ما يعرنا فيه من البلاء راحة فعزم له رأيه على الانصراف، فقال ثابت قطنة، وهو ثابت بن كعب، من الأزد من العتيك: ألم تر دوسرا منعت أخاها ... وقد حشدت لتقتله تميم رأوا من دونه الزرق العوالي ... وحيا ما يباح لهم حريم شنوءتها وعمران بن حزم ... هناك المجد والحسب الصميم فما حملوا ولكن نهنهتهم ... رماح الأزد والعز القديم رددنا مدركا بمرد صدق ... ليس بوجهه منكم كلوم وخيل كالقداح مسومات ... لدى أرض مغانيها الجميم عليها كل أصيد دوسري ... عزيز لا يفر ولا يريم بهم تستعتب السفهاء حتى ... ترى السفهاء تردعها الحلوم

قال هشام: قال أبو مخنف: فحدثني معاذ بن سعد أن يزيد لما استجمع له البصرة، قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه، ثم أخبرهم أنه يدعوهم إلى كتاب الله وسنه نبيه محمد ص، ويحث على الجهاد، ويزعم أن جهاد أهل الشام أعظم ثوابا من جهاد الترك والديلم. قال: فدخلت أنا والحسن البصري وهو واضع يده على عاتقي، وهو يقول: انظر هل ترى وجه رجل تعرفه؟ قلت: لا والله، ما أرى وجه رجل أعرفه، قال: فهؤلاء والله الغثاء، قال: فمضينا حتى دنونا من المنبر قال: فسمعته يذكر كتاب الله وسنه نبيه ص، ثم رفع صوته، فقال: والله لقد رأيناك واليا ومولى عليك، فما ينبغي لك ذلك قال: فوثبنا عليه، فأخذنا بيده وفمه واجلسناه، فو الله ما نشك أنه سمعه، ولكنه لم يلتفت إليه ومضى في خطبته. قال: ثم إنا خرجنا إلى باب المسجد، فإذا على باب المسجد النضر بن انس ابن مالك يقول: يا عباد الله، ما تنقمون من أن تجيبوا إلى كتاب الله وسنة نبيه ص! فو الله ما رأينا ذلك ولا رأيتموه منذ ولدتم إلا هذه الأيام من إمارة عمر بن عبد العزيز، فقال الحسن: سبحان الله! وهذا النضر بن أنس قد شهد أيضا. قال هشام: قال أبو مخنف: وحدثني المثنى بن عبد الله أن الحسن البصري مر على الناس وقد اصطفوا صفين، وقد نصبوا الرايات والرماح، وهم ينتظرون خروج يزيد، وهم يقولون: يدعونا يزيد إلى سنة العمرين، فقال الحسن: إنما كان يزيد بالأمس يضرب أعناق هؤلاء الذين ترون، ثم يسرح بها إلى بني مروان، يريد بهلاك هؤلاء رضاهم فلما غضب غضبة نصب قصبا، ثم وضع عليها خرقا، ثم قال: إني قد خالفتهم فخالفوهم قال هؤلاء: نعم وقال: إني أدعوكم إلى سنة العمرين، وإن من سنة العمرين أن يوضع قيد في رجله، ثم يرد إلى محبس عمر الذي فيه حبسه، فقال له ناس من اصحابه

ممن سمع قوله: والله لكأنك يا أبا سعيد راض عن أهل الشام، فقال: أنا راض عن أهل الشام قبحهم الله وبرحهم! أليس هم الذين أحلوا حرم رسول الله ص، يقتلون أهله ثلاثة أيام وثلاث ليال! قد أباحوهم لأنباطهم وأقباطهم، يحملون الحرائر ذوات الدين، لا يتناهون عن انتهاك حرمة. ثم خرجوا إلى بيت الله الحرام، فهدموا الكعبة، وأوقدوا النيران بين أحجارها وأستارها، عليهم لعنة الله وسوء الدار! قال: ثم إن يزيد خرج من البصرة، واستعمل عليها مروان بن المهلب، وخرج معه بالسلاح وبيت المال، فأقبل حتى نزل واسطا، وقد استشار أصحابه حين توجه نحو واسط، فقال: هاتوا الرأي، فإن أهل الشام قد نهضوا إليكم، فقال له حبيب، وقد أشار عليه غير حبيب أيضا فقالوا: نرى أن تخرج وتنزل بفارس، فتأخذ بالشعاب وبالعقاب، وتدنو من خراسان، وتطاول القوم، فإن أهل الجبال ينقضون إليك وفي يديك القلاع والحصون فقال: ليس هذا برأيي، ليس يوافقني هذا، إنما تريدون أن تجعلوني طائرا على رأس جبل فقال له حبيب: فإن الرأي الذي كان ينبغي أن يكون في أول الأمر قد فات، قد أمرتك حيث ظهرت على البصرة أن توجه خيلا عليها أهل بيتك حتى ترد الكوفة، فإنما هو عبد الحميد بن عبد الرحمن، مررت به في سبعين رجلا فعجز عنك، فهو عن خيلك أعجز في العدة، فنسبق إليها أهل الشام وعظماء أهلها يرون رأيك، وأن تلي عليهم أحب إلى جلهم من أن يلي عليهم أهل الشام، فلم تطعني، وأنا أشير الآن برأي، سرح مع أهل بيتك خيلا من خيلك عظيمة فتأتي الجزيرة، وتبادر إليها حتى ينزلوا حصنا من حصونها، وتسير في أثرهم، فإذا أقبل أهل الشام يريدونك لم يدعوا جندا من جنودك بالجزيرة، ويقبلون إليك فيقيمون عليهم، فكأنهم حابستهم عليك حتى تأتيهم فيأتيك من بالموصل من قومك، وينفض إليك أهل العراق وأهل الثغور، وتقاتلهم في ارض رفيغه السعر، وقد جعلت العراق كله وراء ظهرك،

فقال: إني أكره أن أقطع جيشي وجندي فلما نزل واسطا أقام بها أياما يسيرة. قال أبو جعفر: وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الضحاك ابن قيس الفهري، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق ابن عيسى، عن أبي معشر وكذلك قَالَ محمد بن عمر. وكان عبد الرحمن عامل يزيد بن عبد الملك على المدينة، وعلى مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد وكان على الكوفة عبد الحميد ابن عبد الرحمن، وعلى قضائها الشعبي، وكانت البصرة قد غلب عليها يزيد ابن المهلب، وكان على خراسان عبد الرحمن بن نعيم.

سنه اثنتين ومائه

ثم دخلت سنة اثنتين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان فيها من مسير العباس بن الوليد بن عبد الملك ومسلمه ابن عبد الملك إلى يزيد بن المهلب بتوجيه يزيد بن عبد الملك إياهما لحربه. وفيها قتل يزيد بن المهلب، في صفر. ذكر الخبر عن مقتل يزيد بن المهلب ذكر هشام، عن أبي مخنف: أن معاذ بن سعيد حدثه أن يزيد بن المهلب استخلف على واسط حين أراد الشخوص عنها للقاء مسلمة بن عبد الملك والعباس ابنه معاوية، وجعل عنده بيت المال والخزائن والأسراء، وقدم بين يديه أخاه عبد الملك، ثم سار حتى مر بفم النيل، ثم سار حتى نزل العقر وأقبل مسلمة يسير على شاطئ الفرات حتى نزل الأنبار، ثم عقد عليها الجسر، فعبر من قبل قرية يقال لها فارط، ثم أقبل حتى نزل على يزيد بن المهلب، وقد قدم يزيد أخاه نحو الكوفة، فاستقبله العباس بن الوليد بسورا، فاصطفوا، ثم اقتتل القوم، فشد عليهم أهل البصرة شدة كشفوهم فيها، وقد كان معهم ناس من بني تميم وقيس ممن انهزم من يزيد من البصرة، فكانت لهم جماعة حسنة مع العباس، فيهم هريم بن أبي طحمة المجاشعي فلما انكشف أهل الشام تلك الانكشافة، ناداهم هريم بن أبي طحمة: يا أهل الشام، الله الله أن تسلمونا! وقد اضطرهم أصحاب عبد الملك إلى نهر فأخذوا ينادونه: لا بأس عليك، إن لأهل الشام جولة في أول القتال، أتاك الغوث

قال: ثم إن أهل الشام كروا عليهم، فكشف أصحاب عبد الملك وهزموا، وقتل المنتوف من بكر بن وائل، مولى لهم، فقال الفرزدق يحرض بكر بن وائل: تبكي على المنتوف بكر بن وائل ... وتنهى عن ابني مسمع من بكاهما غلامين شبا في الحروب وأدركا ... كرام المساعي قبل وصل لحاهما ولو كان حيا مالك وابن مالك ... إذا أوقدوا نارين يعلو سناهما وابنا مسمع: مالك وعبد الملك ابنا مسمع، قتلهم معاوية بن يزيد بن المهلب فأجابه الجعد بن درهم مولى من همدان: نبكي على المنتوف في نصر قومه ... ولسنا نبكي الشائدين أباهما أراد فناء الحي بكر بن وائل ... فعز تميم لو أصيب فناهما فلا لقيا روحا من الله ساعة ... ولا رقأت عينا شجي بكاهما أفي الغش نبكي إن بكينا عليهما ... وقد لقيا بالغش فينا رداهما وجاء عبد الملك بن المهلب حتى انتهى إلى أخيه بالعقر، وأمر عبد الله ابن حيان العبدي، فعبر إلى جانب الصراة الأقصى- وكان الجسر بينه وبينه- ونزل هو وعسكره وجمع من جموع يزيد، وخندق عليه، وقطع مسلمة إليهم الماء وسعيد بن عمرو الحرشي، ويقال: عبر إليهم الوضاح، فكانوا بإزائهم. وسقط إلى يزيد ناس من الكوفة كثير، ومن الجبال، وأقبل إليه ناس من الثغور، فبعث على أرباع أهل الكوفة الذين خرجوا إليه وربع أهل المدينة عبد الله بن سفيان بن يزيد بن المغفل الأزدي، وبعث على ربع مذحج وأسد النعمان بن إبراهيم بن الأشتر النخعي، وبعث على ربع كندة وربيعة محمد

ابن إسحاق بن مُحَمَّد بن الأشعث، وبعث على ربع تميم وهمدان حنظلة بن عتاب بن ورقاء التميمي، وجمعهم جميعا مع المفضل بن المهلب. قال هشام بن مُحَمَّد، عن أبي مخنف: حدثني العلاء بن زهير، قال: والله إنا لجلوس عند يزيد ذات يوم إذ قال: ترون أن في هذا العسكر ألف سيف يضرب به؟ قال حنظلة بن عتاب: إي والله وأربعة آلاف سيف، قال: إنهم والله ما ضربوا الف سيف قط، والله لقد أحصى ديواني مائة وعشرين ألفا، والله لوددت أن مكانهم الساعة معي من بخراسان من قومي. قال هشام: قال أبو مخنف: ثم إنه قام ذات يوم فحرضنا ورغبنا في القتال ثم قال لنا فيما يقوله: إن هؤلاء القوم لن يردهم عن غيهم إلا الطعن في عيونهم، والضرب بالمشرفية على هامهم ثم قال: إنه قد ذكر لي أن هذه الجرادة الصفراء- يعني مسلمة بن عبد الملك- وعاقر ناقة ثمود، يعنى العباس ابن الوليد، وكان العباس أزرق أحمر، كانت أمه رومية- والله لقد كان سُلَيْمَان أراد أن ينفيه حتى كلمته فيه فأقره على نسبه، فبلغني أنه ليس همهما إلا التماسي في الارض، والله لو جاء اهل الأرض جميعا وليس إلا أنا، ما برحت العرصة حتى تكون لي أو لهم قالوا: نخاف أن تعنينا كما عنانا عبد الرحمن ابن مُحَمَّد، قال: إن عبد الرحمن فضح الذمار، وفضح حسبه، وهل كان يعدو أجله! ثم نزل. قال: ودخل علينا عامر بن العميثل- رجل من الأزد- قد جمع جموعا فأتاه فبايعه، فكانت بيعة يزيد: تبايعون على كتاب الله وسنة نبيه ص، وعلى الا تطأ الجنود بلادنا ولا بيضتنا، ولا يعاد علينا سيرة الفاسق الحجاج، فمن بايعنا على ذلك قبلنا منه، ومن أبى جاهدناه، وجعلنا الله بيننا وبينه، ثم يقول: تبايعونا؟ فإذا قالوا: نعم، بايعهم. وكان عبد الحميد بن عبد الرحمن قد عسكر بالنخيلة، وبعث إلى المياه فبثقها فيما بين الكوفة وبين يزيد بن المهلب، لئلا يصل إلى الكوفة، ووضع على الكوفة مناظر وأرصادا لتحبس أهل الكوفة عن الخروج إلى يزيد، وبعث

عبد الحميد بعثا من الكوفة عليهم سيف بن هانئ الهمداني حتى قدموا على مسلمة، فألطفهم مسلمة، وأثنى عليهم بطاعتهم، ثم قال: والله لقل ما جاءنا من أهل الكوفة فبلغ ذلك عبد الحميد، فبعث بعثا هم أكثر من ذلك، وبعث عليهم سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف الأزدي، فلما قدم أثنى عليه، وقال: هذا رجل لأهل بيته طاعه وبلاء، ضموا اليه من كان هاهنا من أهل الكوفة. وبعث مسلمة إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن فعزله، وبعث مُحَمَّد بن عمرو بن الوليد بن عقبة- وهو ذو الشامة- مكانه فدعا يزيد بن المهلب رءوس أصحابه فقال لهم: قد رأيت أن أجمع اثني عشر ألف رجل، فأبعثهم مع محمد ابن المهلب حتى يبيتوا مسلمة ويحملوا معهم البراذع والأكف والزبل لدفن خندقهم، فيقاتلهم على خندقهم وعسكرهم بقية ليلتهم، وأمده بالرجال حتى أصبح، فإذا أصبحت نهضت إليهم أنا بالناس، فنناجزهم، فانى أرجو عند ذلك ان ينصرنا الله عليهم قال السميدع: إنا قد دعوناهم الى كتاب الله وسنه نبيه محمد ص، وقد زعموا انهم قابلوا هذا منا، فليس لنا أن نمكر ولا نغدر، ولا نريدهم بسوء حتى يردوا علينا ما زعموا أنهم قابلوه منا قال أبو رؤبة- وكان رأس طائفة من المرجئة، ومعه أصحاب له: صدق، هكذا ينبغي قال يزيد: ويحكم! أتصدقون بني أمية! إنهم يعملون بالكتاب والسنة، وقد ضيعوا ذلك منذ كانوا، إنهم يقولوا لكم: إنا نقبل منكم، وهم يريدون الا يعملوا بسلطانهم إلا ما تأمرونهم به، وتدعونهم إليه، لكنهم أرادوا أن يكفوكم عنهم، حتى يعملوا في المكر، فلا يسبقوكم إلى تلك، ابدءوهم بها، انى قد لقيت بنى مروان فو الله ما لقيت رجلا هو أمكر ولا أبعد غورا من هذه الجرادة الصفراء- يعني مسلمة- قالوا: لا نرى أن نفعل ذلك، حتى يردوا علينا ما زعموا أنهم قابلوه منا. وكان مروان بن المهلب وهو بالبصرة يحث الناس على حرب أهل الشام، ويسرح الناس إلى يزيد، وكان الحسن البصري يثبط الناس عن يزيد ابن المهلب

قال أبو مخنف: فحدثني عبد الحميد البصري، أن الحسن البصري كان يقول في تلك الأيام: أيها الناس، الزموا رحالكم، وكفوا أيديكم، واتقوا الله مولاكم، ولا يقتل بعضكم بعضا على دنيا زائلة، وطمع فيها يسير ليس لأهلها بباق، وليس الله عنهم فيما اكتسبوا براض، إنه لم تكن فتنة إلا كان أكثر أهلها الخطباء والشعراء والسفهاء وأهل التيه والخيلاء، وليس يسلم منها إلا المجهول الخفي والمعروف التقي، فمن كان منكم خفيا فليلزم الحق، وليحبس نفسه عما يتنازع الناس فيه من الدنيا، فكفاه والله بمعرفة الله إياه بالخير شرفا، وكفى له بها من الدنيا خلفا، ومن كان منكم معروفا شريفا، فترك ما يتنافس فيه نظراؤه من الدنيا إرادة الله بذلك، فواها لهذا! ما أسعده وأرشده وأعظم أجره وأهدى سبيله! فهذا غدا- يعني يوم القيامة- القرير عينا، الكريم عند الله مآبا. فلما بلغ ذلك مروان بن المهلب قام خطيبا كما يقوم، فأمر الناس بالجد والاحتشاد، ثم قال لهم: لقد بلغني أن هذا الشيخ الضال المرائي- ولم يسمه- يثبط الناس، والله لو أن جاره نزع من خص داره قصبة لظل يرعف أنفه، أينكر علينا وعلى اهل مصرنا ان نطلب حقنا، وأن ننكر مظلمتنا! أما والله ليكفن عن ذكرنا وعن جمعه إلينا سقاط الأبلة وعلوج فرات البصرة- قوما ليسوا من أنفسنا، ولا ممن جرت عليه النعمة من أحد منا- أو لأنحين عليه مبردا خشنا. فلما بلغ ذلك الحسن قال: والله ما أكره أن يكرمني الله بهوانه فقال ناس من أصحابه: لو أرادك ثم شئت لمنعناك، فقال لهم: فقد خالفتكم إذا إلى ما نهيتكم عنه! آمركم ألا يقتل بعضكم بعضا مع غيري، وأدعوكم إلى أن يقتل بعضكم بعضا دوني! فبلغ ذلك مروان بن المهلب، فاشتد عليهم وأخافهم وطلبهم حتى تفرقوا ولم يدع الحسن كلامه ذلك، وكف عنه مروان بن المهلب

وكانت إقامة يزيد بن المهلب منذ أجمع وهو ومسلمة ثمانية أيام، حتى إذا كان يوم الجمعة لأربع عشرة خلت من صفر، بعث مسلمة إلى الوضاح أن يخرج بالوضاحية والسفن حتى يحرق الجسر، ففعل وخرج مسلمة فعبى جنود أهل الشام، ثم ازدلف بهم نحو يزيد بن المهلب، وجعل على ميمنته جبلة بن مخرمة الكندي، وجعل على ميسرته الهذيل بن زفر بن الحارث العامري، وجعل العباس على ميمنته سيف بن هانئ الهمداني، وعلى ميسرته سويد بن القعقاع التميمي ومسلمة على الناس، وخرج يزيد بن المهلب، وقد جعل على ميمنته حبيب بن المهلب، وعلى ميسرته المفضل بن المهلب، وكان مع المفضل أهل الكوفة وهو عليهم، ومعه خيل لربيعة معها عدد حسن، وكان مما يلي العباس بن الوليد. قال أبو مخنف: فحدثني الغنوي- قال هشام: وأظن الغنوي العلاء ابن المنهال- إن رجلا من الشام خرج فدعا إِلَى المبارزة، فلم يخرج إِلَيْهِ أحد، فبرز له مُحَمَّد بن المهلب، فحمل عليه، فاتقاه الرجل بيده، وعلى كفه كف من حديد، فضربه مُحَمَّد فقطع كف الحديد وأسرع السيف في كفه، واعتنق فرسه، وأقبل مُحَمَّد يضربه، ويقول: المنجل أعود عليك قال: فذكر لي أنه حيان النبطي قال: فلما دنا الوضاح من الجسر ألهب فيه النار، فسطع دخانه، وقد اقتتل الناس ونشبت الحرب، ولم يشتد القتال، فلما رأى الناس الدخان، وقيل لهم: أحرق الجسر انهزموا، فقالوا ليزيد: قد انهزم الناس. قال: ومم انهزموا؟ هل كان قتال ينهزم من مثله! فقيل له: قالوا: أحرق الجسر فلم يثبت أحد، قال: قبحهم الله! بق دخن عليه فطار فخرج وخرج معه أصحابه ومواليه وناس من قومه، فقال: اضربوا وجوه من ينهزم، ففعلوا ذلك بهم، حتى كثروا عليه، فاستقبلهم منهم مثل الجبال، فقال: دعوهم، فو الله انى لأرجو الا يجمعني الله وإياهم في مكان واحد أبدا، دعوهم يرحمهم الله، غنم عدا في نواحيها الذئب، وكان

يزيد لا يحدث نفسه بالفرار، وقد كان يزيد بن الحكم بن أبي العاص- وأمه ابنه الزبرقان السعدي- أتاه وهو بواسطه قبل ان يصل الى العقر، فقال: ان بني مروان قد باد ملكهم ... فإن كنت لم تشعر بذلك فاشعر قال يزيد: ما شعرت قال: فقال يزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي: فعش ملكا أو مت كريما وان تمت ... وسيفك مشهور بكفك تعذر قال: أما هذا فعسى: ولما خرج يزيد إلى أصحابه واستقبلته الهزيمة، فقال: يا سميدع، أرأيي أم رأيك؟ ألم أعلمك ما يريد القوم! قال: بلى والله، والرأي كان رأيك، انا ذا معك لا أزايلك، فمرني بأمرك، قال: إما لا فانزل، فنزل في أصحابه، وجاء يزيد بن المهلب جاء فقال: إن حبيبا قد قتل. قال هشام: قال أبو مخنف: فحدثني ثابت مولى زهير بن سلمة الأزدي، قال: أشهد أني أسمعه حين قال له ذلك، قال: لا خير في العيش بعد حبيب! قد كنت والله أبغض الحياه بعد الهزيمة، فو الله ما ازددت له إلا بغضا، امضوا قدما فعلمنا والله أن قد استقتل، فأخذ من يكره القتال ينكص، وأخذوا يتسللون، وبقيت معه جماعة حسنة، وهو يزدلف، فكلما مر بخيل كشفها، أو جماعة من أهل الشام عدلوا عنه وعن سنن اصحابه، جاء ابو رؤبه المرجى، فقال: ذهب الناس- وهو يشير بذلك إليه وأنا أسمعه- فقال: هل لك أن تنصرف إلى واسط، فإنها حصن فتنزلها ويأتيك مدد أهل البصرة، ويأتيك أهل عمان والبحرين في السفن، وتضرب خندقا؟ فقال له: قبح الله رأيك! ألي تقول هذا! الموت أيسر علي من ذلك، فقال له: فإني أتخوف عليك لما ترى، أما ترى ما حولك من جبال الحديد! وهو يشير إليه، فقال له: أما أنا فما أباليها، جبال حديد كانت أم جبال نار، اذهب عنا إن كنت لا تريد قتالا معنا قال: وتمثل قول حارثة بن بدر الغداني- قال أبو جعفر أخطأ هذا، هو للأعشى-:

أبالموت خشّتني عباد وإنما ... رأيت منايا الناس يشقى ذليلها فما مِيتَةٌ إِنْ مِتُّهَا غَيْرُ عَاجِزٍ ... بِعَارٍ إِذَا ما غالت النفس غولها وكان يزيد بن المهلب على برذون له أشهب، فأقبل نحو مسلمة لا يريد غيره، حتى إذا دنا منه أدنى مسلمة فرسه ليركب، فعطف عليه خيول أهل الشام، وعلى أصحابه، فقتل يزيد بن المهلب، وقتل معه السميدع، وقتل معه مُحَمَّد بن المهلب وكان رجل من كلب من بني جابر بن زهير بن جناب الكلبي يقال له القحل بن عياش لما نظر إلى يزيد قال: يا أهل الشام، هذا والله يزيد، والله لأقتلنه أو ليقتلني، وإن دونه ناسا، فمن يحمل معي يكفيني أصحابه حتى أصل إليه؟ فقال له ناس من أصحابه: نحمل نحن معك، ففعلوا، فحملوا بأجمعهم، واضطربوا ساعة، وسطع الغبار، وانفرج الفريقان عن يزيد قتيلا، وعن القحل بن عياش بآخر رمق فأومى إلى أصحابه يريهم مكان يزيد، يقول لهم: أنا قتلته، ويومي إلى نفسه أنه هو قتلني ومر مسلمة على القحل بن عياش صريعا إلى جنب يزيد، فقال: أما إني أظن هذا هو الذي قتلني وجاء برأس يزيد مولى لبني مرة، فقيل له: أنت قتلته؟ فقال: لا، فلما أتى به مسلمة لم يعرف ولم ينكر، فقال له الحواري بن زياد ابن عمرو العتكي: مر برأسه فليغسل ثم ليعمم، ففعل ذلك به، فعرفه، فبعث برأسه إلى يزيد بن عبد الملك مع خالد بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط. قال أبو مخنف: فحدثني ثابت مولى زهير، قال: لقد قتل يزيد وهزم الناس، وإن المفضل بن المهلب ليقاتل أهل الشام ما يدري بقتل يزيد ولا بهزيمة الناس، وإنه لعلى برذون شديد قريب من الأرض، وإن معه لمجففة أمامه، فكلما حمل عليها نكصت وانكشفت وانكشف، فيحمل في ناس من أصحابه حتى يخالط القوم ثم يرجع حتى يكون من وراء أصحابه، وكان لا يرى منا ملتفتا إلا أشار إليه بيده ألا يلتفت ليقبل القوم بوجوههم على عدوهم، ولا يكون لهم هم غيرهم

قال: ثم اقتتلنا ساعة، فكأني أنظر إلى عامر بن العميثل الأزدي وهو يضرب بسيفه، ويقول: قد علمت أم الصبي المولود ... أني بنصل السيف غير رعديد قال: واضطربنا والله ساعة، فانكشفت خيل ربيعة، والله ما رأيت عند أهل الكوفة من كبير صبر ولا قتال، فاستقبل ربيعة بالسيف يناديهم: أي معشر ربيعة، الكرة الكرة! والله ما كنتم بكشف ولالئام، ولا هذه لكم بعادة، فلا يؤتين أهل العراق اليوم من قبلكم أي ربيعة، فدتكم نفسي، اصبروا ساعة من النهار. قال: فاجتمعوا حوله، وثابوا إليه، وجاءت كويفتك. قال: فاجتمعنا ونحن نريد الكرة عليهم، حتى أتى، فقيل له: ما تصنع هاهنا وقد قتل يزيد وحبيب ومُحَمَّد، وانهزم الناس منذ طويل؟ وأخبر الناس بعضهم بعضا، فتفرقوا ومضى المفضل، فأخذ الطريق إلى واسط، فما رأيت رجلا من العرب مثل منزلته كان أغشى للناس بنفسه، ولا أضرب بسيفه، ولا أحسن تعبئة لأصحابه منه. قال أبو مخنف: فقال لي ثابت مولى زهير: مررت بالخندق، فإذا عليه حائط، عليه رجال معهم النبل، وأنا مجفف، وهم يقولون: يا صاحب التجفاف، أين تذهب؟ قال: فما كان شيء أثقل علي من تجفافي، قال: فما هو إلا أن جزتهم، فنزلت فألقيته لأخفف عن دابتي وجاء أهل الشام إلى عسكر يزيد بن المهلب، فقاتلهم أبو رؤبة صاحب المرجئة ساعة من النهار حتى ذهب عظمهم، وأسر أهل الشام نحوا من ثلاثمائه رجل، فسرحهم مسلمة إلى مُحَمَّد بن عمرو بن الوليد فحبسهم وكان على شرطه العريان بن الهيثم وجاء كتاب من يزيد بن عبد الملك إلى مُحَمَّد بن عمرو: أن اضرب رقاب الأسراء فقال للعريان بن الهيثم: أخرجهم عشرين عشرين، وثلاثين ثلاثين قال: فقام نحو من ثلاثين رجلا من بني تميم، فقالوا:

نحن انهزمنا بالناس، فاتقوا الله وابدءوا بنا، أخرجونا قبل الناس، فقال لهم العريان: اخرجوا على اسم الله، فأخرجهم إلى المصطبة، وأرسل إلى مُحَمَّد بن عمرو يخبره بإخراجهم ومقالتهم، فبعث إليه أن اضرب أعناقهم. قال أبو مخنف: فحدثني نجيح أبو عبد الله مولى زهير، قال: والله انى لانظر اليهم يقولون: إنا لله! انهزمنا بالناس، وهذا جزاؤنا، فما هو إلا أن فرغ منهم، حتى جاء رسول من عند مسلمة فيه عافية الأسراء والنهي عن قتلهم، فقال حاجب بن ذبيان من بني مازن بن مالك بن عمرو بن تميم: لعمري لقد خاضت معيط دماءنا ... بأسيافها حتى انتهى بهم الوحل وما حمل الأقوام أعظم من دم ... حرام ولا ذحل إذا التمس الذحل حقنتم دماء المصلتين عليكمُ ... وجر على فرسان شيعتك القتل وقى بهمُ العريان فرسان قومه ... فيا عجبا أين الأمانة والعدل! وكان العريان يقول: والله ما اعتمدتهم ولا أردتهم حتى قالوا: ابد بنا، أخرجنا، فما تركت حين أخرجتهم أن أعلمت المأمور بقتلهم، فما يقبل حجتهم، وأمر بقتلهم، والله على ذلك ما أحب أن قتل من قومي مكانهم رجل، ولئن لاموني ما أنا بالذي أحفل لأئمتهم، ولا تكبر علي وأقبل مسلمة حتى نزل الحيرة، فأتى بنحو من خمسين أسيرا، ولم يكونوا فيمن بعث به إلى الكوفة، كان أقبل بهم معه، فلما رأى الناس أنه يريد أن يضرب رقابهم، قام إليه الحصين بن حماد الكلبي فاستوهبه ثلاثة: زياد بن عبد الرحمن القشيري، وعتبة بن مسلم، وإسماعيل مولى آل بني عقيل بن مسعود، فوهبهم له، ثم استوهب بقيتهم أصحابه، فوهبهم لهم، فلما جاءت هزيمة يزيد إلى واسط، اخرج معاويه بن يزيد بن المهلب اثنين وثلاثين أسيرا كانوا

في يده، فضرب أعناقهم: منهم عدي بن أرطاة، ومُحَمَّد بن عدي بن أرطاة ومالك وعبد الملك ابنا مسمع وعبد الله بن عزرة البصري، وعبد الله بن وائل، وابن أبي حاضر التميمي من بني أسيد بن عمرو بن تميم، وقد قال له القوم: ويحك! انا لا نراك الا تقتلنا، إلا أن أباك قد قتل، وإن قتلنا ليس بنافع لك في الدنيا، وهو ضارك في الآخرة، فقتل الأسارى كلهم غير ربيع بن زياد بن الربيع ابن انس بن الريان، تركه، فقال له ناس: نسيته؟ فقال: ما نسيته، ولكن لم أكن لأقتله، وهو شيخ من قومي له شرف ومعروف وبيت عظيم، ولست أتهمه في ود، ولا أخاف بغيه فقال ثابت قطنة في قتل عدي بن ارطاه: ما سرني قتل الفزاري وابنه ... عدي ولا أحببت قتل ابن مسمع ولكنها كانت معاوي زلة ... وضعت بها أمري على. غير موضع ثم أقبل حتى أتى البصرة ومعه المال والخزائن، وجاء المفضل بن المهلب، واجتمع جميع آل المهلب بالبصرة، وقد كانوا يتخوفون الذي كان من يزيد، وقد أعدوا السفن البحرية، وتجهزوا بكل الجهاز، وقد كان يزيد بن المهلب بعث وداع بن حميد الأزدي على قندابيل أميرا، وقال له: إني سائر إلى هذا العدو، ولو قد لقيتهم لم أبرح العرصة حتى تكون إلي أولهم، فإن ظفرت أكرمتك، وإن كانت الأخرى كنت بقندابيل حتى يقدم عليك أهل بيتي، فيتحصنوا بها حتى يأخذوا لأنفسهم أمانا، أما إني قد اخترتك لأهل بيتى من بين قومى، فكن عند حسن ظني، وأخذ عليه أيمانا غلاظا ليناصحن أهل بيته، إن هم احتاجوا ولجئوا إليه، فلما اجتمع آل المهلب بالبصرة بعد الهزيمة حملوا عيالاتهم وأموالهم في السفن البحرية، ثم لججوا في البحر حتى مروا بهرم ابن القرار العبدي- وكان يزيد استعمله على البحرين- فقال لهم: أشير عليكم الا تفارقوا سفنكم، فإن ذلك هو بقاؤكم، وإني أتخوف عليكم إن خرجتم من هذه السفن ان يتخطفكم الناس، وأن يتقربوا بكم إلى بني مروان فمضوا حتى إذا كانوا بحيال كرمان خرجوا من سفنهم، وحملوا عيالاتهم وأموالهم على الدواب

وكان معاوية بن يزيد بن المهلب حين قدم البصرة قدمها ومعه الخزائن وبيت المال، فكأنه أراد أن يتأمر عليهم، فاجتمع آل المهلب وقالوا للمفضل: أنت أكبرنا وسيدنا، وإنما أنت غلام حديث السن كبعض فتيان أهلك، فلم يزل المفضل عليهم حتى خرجوا إلى كرمان، وبكرمان فلول كثيرة، فاجتمعوا إلى المفضل، وبعث مسلمة بن عبد الملك مدرك بن ضب الكلبي في طلب آل المهلب وفي اثر الفل فأدرك مدرك المفضل بن المهلب، وقد اجتمعت إليه الفلول بفارس فتبعهم، فأدركهم في عقبة، فعطفوا عليه، فقاتلوه واشتد قتالهم إياه، فقتل مع المفضل بن المهلب النعمان بن إبراهيم بن الاشتر النخعى ومحمد بن إسحاق ابن مُحَمَّد بن الأشعث، وأخذ ابن صول ملك قهستان أسيرا، وأخذت سرية المفضل العالية، وجرح عثمان بن إسحاق بن مُحَمَّد بن الأشعث جراحة شديدة، وهرب حتى انتهى إلى حلوان، فدل عليه، فقتل وحمل رأسه إلى مسلمة بالحيرة، ورجع ناس من أصحاب يزيد بن المهلب، فطلبوا الأمان، فأومنوا، منهم مالك بن إبراهيم بن الأشتر، والورد بن عبد الله بن حبيب السعدي من تميم، وكان قد شهد مع عبد الرحمن بن مُحَمَّد مواطنه وأيامه كلها، فطلب له الأمان مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الملك بن مروان إلى مسلمة بن عبد الملك عمه وابنة مسلمة تحته- فآمنه، فلما أتاه الورد وقفه مسلمة فشتمه قائما، فقال: صاحب خلاف وشقاق ونفاق ونفار في كل فتنة، مرة مع حائك كندة، ومرة مع ملاح الأزد، ما كنت بأهل أن تؤمن، قال: ثم انطلق وطلب الأمان لمالك بن إبراهيم بن الأشتر الحسن بن عبد الرحمن بن شراحيل- وشراحيل يلقب رستم الحضرمي- فلما جاء ونظر إليه، قال له الحسن بن عبد الرحمن الحضرمي: هذا مالك بن إبراهيم بن الأشتر، قال له: انطلق، قال له الحسن: أصلحك الله! لم لم تشتمه كما شتمت صاحبه! قال: أجللتكم عن ذلك، وكنتم أكرم علي من أصحاب الآخر وأحسن طاعة قال: فإنه أحب إلينا أن تشتمه، فهو والله أشرف أبا وجدا، وأسوأ أثرا من أهل الشام من الورد بن عبد الله، فكان الحسن يقول بعد أشهر: ما تركه إلا حسدا من ان يعرف

صاحبنا، فأراد أن يرينا أنه قد حقره ومضى آل المهلب ومن سقط منهم من الفلول حتى انتهوا إلى قندابيل، وبعث مسلمة إلى مدرك بن ضب الكلبي فرده، وسرح في أثرهم هلال بن أحوز التميمي، من بني مازن بن عمرو بن تميم فلحقهم بقندابيل، فأراد آل المهلب دخول قندابيل، فمنعهم وداع بن حميد. وكاتبه هلال بن أحوز، ولم يباين آل المهلب فيفارقهم، فتبين لهم فراقه لما التقوا وصفوا، كان وداع بن حميد على الميمنة، وعبد الملك بن هلال على الميسره وكلاهما ازدى، فرقع لهم راية الأمان، فمال إليهم وداع بن حميد وعبد الملك ابن هلال، وارفض عنهم الناس فخلوهم فلما رأى ذلك مروان بن المهلب ذهب يزيد أن ينصرف إلى النساء، فقال له المفضل: أين تريد؟ قال: أدخل إلى نسائنا فأقتلهن، لئلا يصل إليهن هؤلاء الفساق، فقال: ويحك! أتقتل أخواتك ونساء أهل بيتك! إنا والله ما نخاف عليهن منهم قال: فرده عن ذلك، ثم مشوا بأسيافهم، فقاتلوا حتى قتلوا من عند آخرهم، الا أبا عيينه ابن المهلب، وعثمان بن المفضل فإنهما نجوا، فلحقا بخاقان ورتبيل، وبعث بنسائهم وأولادهم إلى مسلمة بالحيرة، وبعث برءوسهم إلى مسلمة، فبعث بهم مسلمه الى يزيد بن عبد الملك، وبعث بهم يزيد بن عبد الملك إلى العباس بن الوليد بن عبد الملك، وهو على حلب، فلما نصبوا خرج لينظر إليهم، فقال لأصحابه: هذا رأس عبد الملك، هذا رأس المفضل، والله لكانه جالس معى حدثنى. وقال مسلمة: لأبيعن ذريتهم وهم في دار الرزق، فقال الجراح بن عبد الله: فأنا أشتريهم منك لأبر يمينك، فاشتراهم منه بمائة ألف، قال: هاتها، قال: إذا شئت فخذها، فلم يأخذ منه شيئا، وخلى سبيلهم، إلا تسعه فتية

منهم أحداث بعث بهم إلى يزيد بن عبد الملك، فقدم بهم عليه، فضرب رقابهم، فقال ثابت قطنة حين بلغه قتل يزيد بن المهلب يرثيه: ألا يا هند طال علي ليلي ... وعاد قصيره ليلا تماما كأني حين حلقت الثريا ... سقيت لعاب أسود أو سماما أمر علي حلو العيش يوم ... من الأيام شيبني غلاما مصاب بني أبيك وغبت عنهم ... فلم أشهدهمُ ومضوا كراما فلا والله لا أنسى يزيدا ... ولا القتلى التي قتلت حراما فعلي أن أبو بأخيك يوما ... يزيدا أو أبوء به هشاما وعلي أن أقود الخيل شعثا ... شوازب ضمرا تقص الإكاما فأصبحهن حمير من قريب ... وعكا أو أرع بهما جذاما ونسقي مذحجا والحي كلبا ... من الذيفان أنفاسا قواما عشائرنا التي تبغي علينا ... تجربنا زكا عاما فعاما ولولاهم وما جلبوا علينا ... لأصبح وسطنا ملكا هماما وقال أيضا يرثي يزيد بن المهلب: أبى طول هذا الليل أن يتصرما ... وهاج لك الهم الفؤاد المتيما أرقت ولم تأرق معي أم خالد ... وقد أرقت عيناي حولا مجرما على هالك هد العشيرة فقده ... دعته المنايا فاستجاب وَسَلَّمَا على ملك يا صاح بالعقر جبنت ... كتائبه واستورد الموت معلما

ولايه مسلمه بن عبد الملك على العراق وخراسان

أصيب ولم أشهد ولو كنت شاهدا ... تسليت إن لم يجمع الحي مأتما وفي غِيَر الأيام يا هند فاعلمي ... لطالب وتر نظرة إن تلوما فعلي إن مالت بي الريح ميلة ... على ابن أبي ذبان أن يتندما أمسلم أن يقدر عليك رماحنا ... نذقك بها قيء الأساود مسلما وإن تلق للعباس في الدهر عثره ... نكافئه باليوم الذي كان قدما قصاصا ولا نعدو الذي كان قد أتى ... إلينا وإن كان ابن مروان أظلما ستعلم إن زلت بك النعل زلة ... وأظهر أقوام حياء مجمجما من الظالم الجاني على أهل بيته ... إذا أحصرت أسباب أمر وأبهما وإنا لعطافون بالحلم بعد ما ... نرى الجهل من فرط اللئيم تكرما وإنا لحلالون بالثغر لا نرى ... به ساكنا إلا الخميس العرمرما نرى أن للجيران حاجا وحرمه ... إذا الناس لم يرعوا لدى الجار محرما وإنا لنقري الضيف من قمع الذرى ... إذا كان رفد الرافدين تجشما وراحت بصراد ملث جليده ... على الطلح ارما كامن الشهب صيما أبونا أبو الأنصار عمرو بن عامر ... وهم ولدوا عوفا وكعبا وأسلما وقد كان في غسان مجد يعده ... وعادية كانت من المجد معظما. ولايه مسلمه بن عبد الملك على العراق وخراسان فلما فرغ مسلمة بن عبد الملك من حرب يزيد بن المهلب، جمع له يزيد بن عبد الملك ولاية الكوفة والبصرة وخراسان في هذه السنة، فلما ولاه يزيد ذلك، ولى مسلمة الكوفة ذا الشامة مُحَمَّد بن عمرو بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وقام بأمر البصرة بعد أن خرج منها آل المهلب- فيما قيل- شبيب بن الحارث التميمي، فضبطها، فلما ضمت إلى مسلمة بعث عاملا

ذكر استعمال مسلمه سعيد خذينه على خراسان

عليها عبد الرحمن بن سليم الكلبي، وعلى شرطتها وأحداثها عمر بن يزيد التميمي، فأراد عبد الرحمن بن سليم أن يستعرض أهل البصرة، وأفشى ذلك إلى عمر بن يزيد، فقال له عمر: أتريد أن تستعرض أهل البصرة ولم تمن حصنا بكويفة، وتدخل من تحتاج اليه! فو الله لو رماك اهل البصرة وأصحابك بالحجارة لتخوفت أن يقتلونا، ولكن أنظرنا عشرة أيام حتى نأخذ أهبة ذلك. ووجه رسولا إلى مسلمة يخبره بما هم به عبد الرحمن، فوجه مسلمة عبد الملك ابن بشر بن مروان على البصرة، وأقر عمر بن يزيد على الشرطه والاحداث. ذكر استعمال مسلمه سعيد خذينه على خراسان قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وجه مسلمة بن عبد الملك سعيد بن عبد العزيز ابن الحارث بن الحكم بن أبي العاص، وهو الذي يقال له سعيد خذينة- وإنما لقب بذلك- فيما ذكر- أنه كان رجلا لينا سهلا متنعما، قدم خراسان على بختية معلقا سكينا في منطقته، فدخل عليه ملك أبغر، وسعيد متفضل في ثياب مصبغة، حوله مرافق مصبغة، فلما خرج من عنده قالوا له: كيف رأيت الأمير؟ قال: خذينيه، لمته سكينية، فلقب خذينة وخذينة هي الدهقانة ربة البيت، وإنما استعمل مسلمة سعيد خذينة على خراسان لأنه كان ختنه على ابنته، كان سعيد متزوجا بابنه مسلمه. ولما ولى مسلمة سعيد خذينة خراسان، قدم إليها قبل شخوصه سوره ابن الحر من بني دارم، فقدمها قبل سعيد- فيما ذكر- بشهر، فاستعمل شعبة بن ظهير النهشلي على سمرقند، فخرج إليها في خمسة وعشرين رجلا من أهل بيته، فأخذ على آمل، فأتى بخارى، فصحبه منها مائتا رجل، فقدم

السغد، وقد كان أهلها كفروا في ولاية عبد الرحمن بن نعيم الغامدي، ووليها ثمانية عشر شهرا، ثم عادوا إلى الصلح، فخطب شعبة أهل السغد، ووبخ سكانها من العرب وعيرهم بالجبن، فقال: ما أرى فيكم جريحا، ولا أسمع فيكم أنة فاعتذروا إليه بأن جبنوا عاملهم علباء بن حبيب العبدي، وكان على الحرب ثم قدم سعيد، فأخذ عمال عبد الرحمن بن عبد الله القشيري الذين ولوا أيام عمر بن عبد العزيز فحبسهم، فكلمه فيهم عبد الرحمن بن عبد الله القشيري، فقال له سعيد: قد رفع عليهم أن عندهم أموالا من الخراج قال: فأنا اضمنه، فضمن عنهم سبعمائة ألف، ثم لم يأخذه بها ثم إن سعيدا رفع إليه- فيما ذكر علي بن مُحَمَّد- أن جهم بن زحر الجعفي وعبد العزيز بن عمرو بن الحجاج الزبيدي والمنتجع بن عبد الرحمن الأزدي والقعقاع الأزدي ولوا ليزيد بن المهلب وهم ثمانية، وعندهم أموال قد اختانوها من فيء المسلمين فأرسل إليهم، فحبسهم في قهندز مرو، فقيل له: إن هؤلاء لا يؤدون إلا أن تبسط عليهم فأرسل إلى جهم بن زحر، فحمل على حمار من قهندز مرو، فمروا به على الفيض بن عمران، فقام إليه فوجأ أنفه، فقال له جهم: يا فاسق، هلا فعلت هذا حين أتوني بك سكران قد شربت الخمر، فضربتك حدا! فغضب سعيد على جهم فضربه مائتي سوط، فكبر أهل السوق حين ضرب جهم بن زحر، وأمر سعيد بجهم والثمانية الذين كانوا في السجن فدفعوا إلى ورقاء بن نصر الباهلي، فاستعفاه فأعفاه. وقال عبد الحميد بن دثار- أو عبد الملك بن دثار- والزبير بن نشيط مولى باهلة، وهو زوج أم سعيد خذينة: ولنا محاسبتهم، فولاهم فقتلوا في العذاب جهما، وعبد العزيز بن عمرو والمنتجع، وعذبوا القعقاع وقوما حتى أشرفوا على الموت. قال: فلم يزالوا في السجن حتى غزتهم الترك وأهل السغد، فأمر سعيد باخراج

من بقي منهم، فكان سعيد يقول: قبح الله الزبير، فإنه قتل جهما! وفي هذه السنة غزا المسلمون السغد والترك، فكان فيها الوقعة بينهم بقصر الباهلي. وفيها عزل سعيد خذينة شعبة بن ظهير عن سمرقند. ذكر الخبر عن سبب عزل سعيد شعبة وسبب هذه الوقعة وكيف كانت ذكر علي بن محمد، عن الذين تقدم ذكرى خبره عنهم، أن سعيد خذينة لما قدم خراسان، دعا قوما من الدهاقين، فاستشارهم فيمن يوجه إلى الكور، فأشاروا إليه بقوم من العرب، فولاهم، فشكوا إليه، فقال للناس يوما وقد دخلوا عليه: إني قدمت البلد، وليس لي علم بأهله، فاستشرت فأشاروا علي بقوم، فسألت عنهم فحمدوا، فوليتهم، فأحرج عليكم لما أخبرتموني عن عمالي فأثنى عليهم القوم خيرا، فقال عبد الرحمن بن عبد الله القشيري: لو لم تحرج علينا لكففت، فاما إذ حرجت علينا فإنك شاورت المشركين فأشاروا عليك بمن لا يخالفهم وبأشباههم، فهذا علمنا فيهم. قال: فاتكا سعيد ثم جلس، فقال: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» ، قوموا. قال: وعزل سعيد شعبة بن ظهير عن السغد، وولى حربها عثمان بن عبد الله بن مطرف بن الشخير، وولى الخراج سُلَيْمَان بن أبي السري مولى بني عوافة، واستعمل على هراة معقل بن عروة القشيري، فسار إليها. وضعف الناس سعيدا وسموه خذينة، فطمع فيه الترك، فجمع له خاقان الترك،

ووجههم الى السغد، فكان على الترك كورصول، وأقبلوا حتى نزلوا قصر الباهلي. وقال بعضهم: أراد عظيم من عظماء الدهاقين أن يتزوج امرأة من باهلة، وكانت في ذلك القصر، فأرسل إليها يخطبها، فأبت، فاستجاش ورجا أن يسبوا من في القصر، فيأخذ المرأة، فأقبل كورصول حتى حصر أهل القصر، وفيه مائة أهل بيت بذراريهم، وعلى سمرقند عثمان بن عبد الله وخافوا أن يبطئ عنهم المدد، فصالحوا الترك على أربعين ألفا، وأعطوهم سبعة عشر رجلا رهينة، وندب عثمان بن عبد الله الناس، فانتدب المسيب بن بشر الرياحي وانتدب معه أربعة آلاف من جميع القبائل، فقال شعبه بن ظهير: لو كان هاهنا خيول خراسان ما وصلوا إلى غايتهم. قال: وكان فيمن انتدب من بني تميم شعبة بن ظهير النهشلي وبلعاء بن مجاهد العنزي، وعميرة بن ربيعة أحد بني العجيف- وهو عميرة الثريد- وغالب بن المهاجر الطائي- وهو عم أبي العباس الطوسي- وأبو سعيد معاوية بن الحجاج الطائي، وثابت قطنة، وأبو المهاجر بن داره من غطفان، وحليس الشيباني والحجاج بن عمرو الطائي، وحسان بن معدان الطائي، والأشعث أبو حطامة وعمرو بن حسان الطائيان فقال المسيب بن بشر لما عسكروا: إنكم تقدمون على حلبة الترك حلبة خاقان وغيرهم والعوض إن صبرتم الجنة، والعقاب النار إن فررتم، فمن أراد الغزو والصبر فليقدم. فانصرف عنه الف وثلاثمائه، وسار في الباقين، فلما سار فرسخا قال للناس مثل مقالته الأولى، فاعتزل ألف، ثم سار فرسخا آخر فقال لهم مثل ذلك، فاعتزل ألف، ثم سار- وكان دليلهم الأشهب بن عبيد الحنظلي- حتى إذا كان على فرسخين من القوم نزل فأتاهم ترك خاقان ملك قي فقال: انه لم يبق هاهنا دهقان إلا وقد بايع الترك غيري، وأنا في ثلاثمائه مقاتل فهم معك، وعندي الخبر، قد كانوا صالحوهم على أربعين ألفا، فأعطوهم سبعة عشر رجلا، ليكونوا رهنا

في أيديهم حتى يأخذوا صلحهم، فلما بلغهم مسيركم إليهم قتل الترك من كان في أيديهم من الرهائن. قال: وكان فيهم نهشل بن يزيد الباهلي فنجا لم يقتل، والأشهب بن عبيد الله الحنظلي، وميعادهم أن يقاتلوهم غدا أو يفتحوا القصر، فبعث المسيب رجلين: رجلا من العرب ورجلا من العجم من ليلته على خيولهم، وقال لهم: إذا قربتم فشدوا دوابكم بالشجر، واعلموا علم القوم فأقبلا في ليلة مظلمة، وقد أجرت الترك الماء في نواحي القصر، فليس يصل إليه أحد، ودنوا من القصر، فصاح بهما الربية، فقالا: لا تصح وادع لنا عبد الملك ابن دثار، فدعاه فقالا له: أرسلنا المسيب، وقد أتاكم الغياث، قال: أين هو؟ قال: على فرسخين، فهل عندكم امتناع ليلتك وغدا؟ فقال: قد أجمعنا على تسليم نسائنا وتقديمهم للموت أمامنا، حتى نموت جميعا غدا فرجعا إلى المسيب، فأخبراه فقال المسيب للذين معه: إني سائر إلى هذا العدو، فمن أحب أن يذهب فليذهب، فلم يفارقه أحد، وبايعوه على الموت فسار وقد زاد الماء الذي أجروه حول المدينة تحصينا، فلما كان بينه وبينهم نصف فرسخ نزل، فأجمع على بياتهم، فلما أمسى أمر الناس فشدوا على خيولهم، وركب فحثهم على الصبر، ورغبهم فيما يصير إليه أهل الاحتساب والصبر، وما لهم في الدنيا من الشرف والغنيمة إن ظفروا، وقال لهم: اكعموا دوابكم وقودوها، فإذا دنوتم من القوم فاركبوها، وشدوا شدة صادقة وكبروا، وليكن شعاركم: يا مُحَمَّد، ولا تتبعوا موليا، وعليكم بالدواب فاعقروها، فإن الدواب إذا عقرت كانت أشد عليهم منكم، والقليل الصابر خير من الكثير الفشل، وليست بكم قله، فان سبعمائة سيف لا يضرب بها في عسكر إلا أوهنوه وإن كثر أهله

قال: وعباهم وجعل على الميمنه كثير بن الدبوسي، وعلى الميسرة رجلا من ربيعة يقال له ثابت قطنة، وساروا حتى إذا كانوا منهم على غلوتين كبروا وذلك في السحر، وثار الترك، وخالط المسلمون العسكر، فعقروا الدواب، وصابرهم الترك، فجال المسلمون وانهزموا حتى صاروا إلى المسيب، وتبعهم الترك وضربوا عجز دابة المسيب فترجل رجال من المسلمين، فيهم البختري أبو عبد الله المرائي، ومُحَمَّد بن قيس الغنوي- ويقال: مُحَمَّد بن قيس العنبري- وزياد الأصبهاني، ومعاوية بن الحجاج وثابت قطنة فقاتل البختري فقطعت يمينه، فأخذ السيف بشماله فقطعت، فجعل يذب بيديه حتى استشهد واستشهد أيضا مُحَمَّد بن قيس العنبري أو الغنوي وشبيب بن الحجاج الطائي قال: ثم انهزم المشركون، وضرب ثابت قطنة عظيما من عظمائهم، فقتله، ونادى منادي المسيب: لا تتبعوهم، فإنهم لا يدرون من الرعب، أتبعتموهم أم لا! واقصدوا القصر، ولا تحملوا شيئا من المتاع إلا المال، وتحملوا لا من يقدر على المشي وقال المسيب: من حمل امرأة أو صبيا أو ضعيفا حسبة فأجره على الله، ومن أبى فله أربعون درهما، وإن كان في القصر أحد من أهل عهدكم فاحملوه قال: فقصدوا جميعا القصر، فحملوا من كان فيه، وانتهى رجل من بني فقيم إلى امرأة، فقالت: أغثني أغاثك الله! فوقف وقال: دونك وعجز الفرس، فوثبت فإذا هي على عجز الفرس، فإذا هي أفرس من رجل، فتناول الفقيمي بيد ابنها، غلاما صغيرا، فوضعه بين يديه، وأتوا ترك خاقان، فأنزلهم قصره وأتاهم بطعام، وقال: الحقوا بسمرقند، لا يرجعوا في آثاركم فخرجوا نحو سمرقند، فقال لهم: هل بقي أحد؟ قالوا: هلال الحريري، قال: لا أسلمه، فأتاه وبه بضع وثلاثون جراحة، فاحتمله، فبرأ، ثم أصيب يوم الشعب مع الجنيد قال: فرجع الترك من الغد، فلم يروا في القصر أحدا، ورأوا

قتلاهم، فقالوا: لم يكن الذين جاءوا من الإنس، فقال ثَابِت قطنة: فدت نفسي فوارس من تميم ... غدا. الروع في ضنك المقام فدت نفسي فوارس اكنفونى ... على الأعداء في رهج القتام بقصر الباهلي وقد رأوني ... أحامي حيث ضن به المحامي بسيفي بعد حطم الرمح قدما ... أذودهمُ بذي شطب جسام أكر عَلَيْهِم اليحموم كرا ... ككر الشرب آنية المدام أكر به لدى الغمرات حتى ... تجلت لا يضيق بها مقامي فلولا اللَّه ليس لَهُ شريك ... وضربي قونس الملك الهمام إذا لسعت نساء بني دثار ... أمام الترك بادية الخدام! فمن مثل المسيب في تميم ... أبى بشر كقادمة الحمام وقال جرير يذكر المسيب: لولا حماية يربوع نساءكم ... كانت لغيركم منهن أطهار حامي المسيب والخيلان في رهج ... إذ مازن ثم لا يحمى لها جار إذ لا عقال يحامي عن ذماركم ... ولا زرارة يحميها ووزار قال: وعور تلك الليلة أبو سعيد معاوية بن الحجاج الطائي، وشلت يده، وقد كان ولي ولاية قبل سعيد، فخرج عليه شيء مما كان بقي عليه، فأخذ به، فدفعه سعيد إلى شداد بن خليد الباهلي ليحاسبه ويستأديه فضيق عليه شداد، فقال: يا معشر قيس، سرت إلى قصر الباهلي وأنا شديد البطش، حديد البصر، فعورت وشلت يدي، وقاتلت مع من قاتل

ذكر الخبر عن غزو سعيد خذينه السغد

حتى استنقذناهم بعد أن أشرفوا على القتل والأسر والسبي، وهذا صاحبكم يصنع بي ما يصنع، فكفوه عني، فخلاه. قال: وقال عبد الله بن مُحَمَّد عن رجل شهد ليلة قصر الباهلي قال: كنا في القصر، فلما التقوا ظننا أن القيامة قد قامت لما سمعنا من هماهم القوم ووقع الحديد وصهيل الخيل . ذكر الخبر عن غزو سعيد خذينه السغد وفي هذه السنة قطع سعيد خذينة نهر بلخ وغزا السغد، وكانوا نقضوا العهد وأعانوا الترك على المسلمين. ذكر الخبر عما كان من أمر سعيد والمسلمين في هذه الغزوة: وكان سبب غزو سعيد هذه الغزوة- فيما ذكر- أن الترك عادوا إلى السغد، فكلم الناس سعيدا وقالوا: تركت الغزو، فقد أغار الترك، وكفر أهل السغد، فقطع النهر، وقصد للسغد، فلقيه الترك وطائفة من أهل السغد فهزمهم المسلمون، فقال سعيد: لا تتبعوهم، فإن السغد بستان أمير المؤمنين وقد هزمتموهم، أفتريدون بوارهم! وقد قاتلتم يا أهل العراق الخلفاء غير مرة فهل أباروكم. وسار المسلمون، فانتهوا إلى واد بينهم وبين المرج، فقال عبد الرحمن ابن صبح: لا يقطعن هذا الوادي مجفف ولا راجل، وليعبر من سواهم. فعبروا، ورأتهم الترك، فأكمنوا كمينا، وظهرت لهم خيل المسلمين فقاتلوهم، فانحاز الترك فأتبعوهم حتى جازوا الكمين، فخرجوا عليهم، فانهزم المسلمون حتى انتهوا إلى الوادي، فقال لهم عبد الرحمن بن صبح: سابقوهم، ولا تقطعوا فإنكم إن قطعتم أبادوكم فصبروا لهم حتى انكشفوا عنهم، فلم يتبعوهم، فقال

قوم: قتل يومئذ شعبة بن ظهير وأصحابه، وقال قوم: بل انكشف الترك منهم يومئذ منهزمين، ومعهم جمع من أهل السغد فلما كان الغد، خرجت مسلحة للمسلمين- والمسلحة يومئذ من بني تميم- فما شعروا إلا بالترك معهم، خرجوا عليهم من غيضة وعلى خيل بني تميم شعبة بن ظهير، فقاتلهم شعبة فقتل، أعجلوه عن الركوب وقتل رجل من العرب، فأخرجت جاريته حناء، وهي تقول: حتى متى أعد لك مثل هذا الخضاب، وأنت مختضب بالدم! مع كلام كثير، فأبكت أهل العسكر وقتل نحو من خمسين رجلا، وانهزم أهل المسلحة، وأتى الناس الصريخ، فقال عبد الرحمن بن المهلب العدوي: كنت أنا أول من أتاهم لما أتانا الخبر، وتحتي فرس جواد، فإذا عبد الله بن زهير إلى جنب شجرة كأنه قنفذ من النشاب، وقد قتل، وركب الخليل بن أوس العبشمي- أحد بني ظالم، وهو شاب- ونادى: يا بني تميم، أنا الخليل، إلي! فانضمت إليه جماعة- فحمل بهم على العدو، فكفوهم ووزعوهم عن الناس حتى جاء الأمير والجماعة، فانهزم العدو، فصار الخليل على خيل بني تميم يومئذ، حتى ولي نصر بن سيار، ثم صارت رياسة بني تميم لأخيه الحكم بن أوس. وذكر علي بن مُحَمَّد، عن شيوخه، ان سوره بن الحر قال لحيان: انصرف يا حيان، قال: عقيرة الله أدعها وأنصرف قال: يا نبطي قال: أنبط الله وجهك! قال: وكان حيان النبطي يكنى في الحرب أبا الهياج، وله يقول الشاعر: إن أبا الهياج أريحي ... للريح في أثوابه دوي قال: وعبر سعيد النهر مرتين، فلم يجاوز سمرقند، نزل في الأولى بإزاء العدو، فقال له حيان مولى مصقلة بن هبيرة الشيباني: أيها الأمير، ناجز أهل السغد، فقال: لا، هذه بلاد أمير المؤمنين، فرأى دخانا ساطعا، فسأل عنه فقيل له: السغد قد كفروا ومعهم بعض الترك قال: فناوشهم، فانهزموا

فألحوا في طلبهم، فنادى منادي سعيد: لا تطلبوهم، إنما السغد بستان أمير المؤمنين، وقد هزمتموهم، أفتريدون بوارهم! وأنتم يا أهل العراق قد قاتلتم أمير المؤمنين غير مرة، فعفا عنكم ولم يستأصلكم ورجع، فلما كان العام المقبل بعث رجالا من بني تميم إلى ورغسر، فقالوا: ليتنا نلقى العدو فنطاردهم- وكان سعيد إذا بعث سرية فأصابوا وغنموا وسبوا رد ذراري السبي وعاقب السرية، فقال الهجري وكان شاعرا: سريت إلى الأعداء تلهو بلعبة ... وأيرك مسلول وسيفك مغمد وأنت لمن عاديت عرس خفية ... وأنت علينا كالحسام المهند فلله در السغد لما تحزبوا ... ويا عجبا من كيدك المتردد! قال: فقال سورة بن الحر لسعيد- وقد كان حفظ عليه، وحقد عليه قوله: أنبط الله وجهك-: إن هذا العبد أعدى الناس للعرب والعمال، وهو أفسد خراسان على قتيبة بن مسلم، وهو واثب بك، مفسد عليك خراسان، ثم يتحصن في بعض هذه القلاع فقال: يا سورة لا تسمعن هذا أحدا ثم مكث أياما، ثم دعا في مجلسه بلبن، وقد أمر بذهب فسحق، وألقي في إناء حيان فشربه، وقد خلط بالذهب، ثم ركب، فركب الناس اربعه فراسخ إلى باركث، كأنه يطلب عدوا، ثم رجع فعاش حيان أربعة أيام ومات في اليوم الرابع، فثقل سعيد على الناس وضعفوه، وكان رجل من بني أسد يقال له إسماعيل منقطعا إلى مروان بن مُحَمَّد، فذكر إسماعيل عند خذينة ومودته لمروان، فقال سعيد: وما ذاك الملط! فهجاه إسماعيل، فقال: زعمت خذينة أنني ملط ... لخذينة المرآة والمشط ومجامر ومكاحل جعلت ... ومعازف وبخدها نقط

عزل مسلمه عن العراق وخراسان

أفذاك أم زغف مضاعفة ... ومهند من شأنه القط لمقرس ذكر أخي ثقة ... لم يغذه التأنيث واللقط أغضبت أن بات ابن أمكم ... بهم وأن أباكم سقط إني رأيت نبالهم كسيت ... ريش اللوام ونبلكم مرط ورأيتهم جعلوا مكاسرهم ... عند الندي وأنتم خلط. عزل مسلمه عن العراق وخراسان وفي هذه السنة عزل مسلمة بن عبد الملك عن العراق وخراسان وانصرف إلى الشام. ذكر الخبر عن سبب عزله وكيف كان ذلك: وكان سبب ذلك- فيما ذكر علي بْن مُحَمَّد- أن مسلمة لما ولي ما ولي من أرض العراق وخراسان لم يرفع من الخراج شيئا، وأن يزيد بن عاتكة أراد عزله فاستحيا منه، وكتب إليه أن استخلف على عملك، وأقبل. وقد قيل إن مسلمة شاور عبد العزيز بن حاتم بن النعمان في الشخوص إلى ابن عاتكة ليزوره، فقال له: أمن شوق بك إليه! إنك لطروب، وإن عهدك به لقريب، قال: لا بد من ذلك، قال: إذا لا تخرج من عملك حتى تلقى الوالي عليه، فشخص، فلما بلغ دورين لقيه عمر بن هبيرة على خمس من دواب البريد، فدخل عليه ابن هبيرة، فقال: الى اين يا بن هبيرة؟ فقال: وجهني أمير المؤمنين في حيازة أموال بني المهلب فلما خرج من عنده أرسل إلى عبد العزيز فجاءه، فقال: هذا ابن هبيرة قد لقينا كما ترى، قال: قد أنبأتك، قال: فإنه إنما وجهه لحيازة أموال بني المهلب، قال: هذا أعجب من الأول، يصرف عن الجزيرة، ويوجه في حيازة اموال

بدء ظهور الدعوة

بني المهلب، قال: فلم يلبث أن جاءه عزل ابن هبيرة عماله والغلظة عليهم فقال الفرزدق: راحت بمسلمة الركاب مودعا ... فارعى فزارة لا هناك المرتع عزل ابن بشر وابن عمرو قبله ... وأخو هراة لمثلها يتوقع ولقد علمت لئن فزاره امرت ... ان سوف تطمع في الإمارة أشجع من خلق ربك ما همُ ولمثلهم ... في مثل ما نالت فزارة يطمع يعني بابن بشر عبد الملك بن بشر بن مروان، وبابن عمرو مُحَمَّدا ذا الشامة بن عمرو بن الوليد، وبأخي هراة سعيدا خذينة بن عبد العزيز، كان عاملا لمسلمة على خراسان. وفي هذه السنة غزا عمر بن هبيرة الروم بأرمينية، فهزمهم وأسر منهم بشرا كثيرا قيل سبعمائة اسير. بدء ظهور الدعوة وفيها وجه- فيما ذكر ميسرة- رسله من العراق إلى خراسان وظهر أمر الدعوة بها، فجاء رجل من بني تميم يقال له عمرو بن بحير بن ورقاء السعدي إلى سعيد خذينه، فقال له: ان هاهنا قوما قد ظهر منهم كلام قبيح، فبعث إليهم سعيد، فأتي بهم، فقال: من أنتم؟ قالوا: أناس من التجار؟ قال: فما هذا الذي يحكى عنكم؟ قالوا: لا ندري، قال: جئتم دعاة؟ فقالوا:

ذكر خبر قتل يزيد بن ابى مسلم بإفريقية

إن لنا في أنفسنا وتجارتنا شغلا عن هذا، فقال: من يعرف هؤلاء؟ فجاء أناس من أهل خراسان، جلهم ربيعة واليمن، فقالوا: نحن نعرفهم، وهم علينا إن أتاك منهم شيء تكرهه، فخلى سبيلهم. ذكر خبر قتل يزيد بن ابى مسلم بإفريقية وفيها- أعني سنة اثنتين ومائة- قتل يزيد بن أبي مسلم بإفريقية وهو وال عليها ذكر الخبر عن سبب قتله: وكان سبب ذلك أنه كان- فيما ذكر- عزم أن يسير بهم بسيرة الحجاج بن يوسف في أهل الإسلام الذين سكنوا الأمصار، ممن كان أصله من السواد من أهل الذمة، فأسلم بالعراق ممن ردهم إلى قراهم ورساتيقهم، ووضع الجزية على رقابهم على نحو ما كانت تؤخذ منهم وهم على كفرهم، فلما عزم على ذلك تآمروا في أمره، فأجمع رأيهم- فيما ذكر- على قتله فقتلوه، وولوا على أنفسهم الذي كان عليهم قبل يزيد بن أبي مسلم، وهو مُحَمَّد بن يزيد مولى الأنصار، وكان في جيش يزيد بن أبي مسلم، وكتبوا إلى يزيد بن عبد الملك: إنا لم نخلع أيدينا من الطاعة، ولكن يزيد بن أبي مسلم سامنا ما لا يرضى الله والمسلمون، فقتلناه، وأعدنا عاملك. فكتب إليهم يزيد بن عبد الملك: إني لم أرض ما صنع يزيد بن أبي مسلم، واقر محمد بن يزيد على إفريقية. [أخبار متفرقة] وفي هذه السنة استعمل عمر بن هبيرة بن معية بن سكين بن خديج بن مالك بن سعد بن عدي بن فزارة على العراق وخراسان. وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الضحاك، كذلك قال أبو معشر والواقدي

وكان العامل على المدينة عبد الرحمن بن الضحاك، وعلى مكة عبد العزيز ابن عبد الله بن خالد بن أسيد وعلى الكوفة مُحَمَّد بن عمرو ذو الشامة، وعلى قضائها القاسم بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسعود، وعلى البصرة عبد الملك بن بشر بن مروان، وعلى خراسان سعيد خذينه، وعلى مصر اسامه ابن زيد

سنه ثلاث ومائه

ثم دخلت سنة ثلاث ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) عزل سعيد خذينه عن خراسان فمما كان فيها من ذلك عزل عمر بن هبيرة سعيد خذينة عن خراسان، وكان سبب عزله عنها- فيما ذكر علي بن مُحَمَّد عن أشياخه- أن المجشر بن مزاحم السلمي وعبد الله بن عمير الليثي قدما على عمر بن هبيرة، فشكواه فعزله، واستعمل سعيد بن عمرو بن الأسود بن مالك بن كعب بن وقدان بن الحريش بْن كعب بْن ربيعة بْن عامر بْن صعصعة، وخذينة غاز بباب سمرقند، فبلغ الناس عزله، فقفل خذينة، وخلف بسمرقند ألف فارس، فقال نهار بن توسعة: فمن ذا مبلغ فتيان قومي ... بأن النبل ريشت كل ريش بأن الله أبدل من سعيد ... سعيدا لا المخنث من قريش قال: ولم يعرض سعيد الحرشي لأحد من عمال خذينة، فقرأ رجل عهده فلحن فيه، فقال سعيد: صه، مهما سمعتم فهو من الكاتب، والأمير منه بريء، فقال الشاعر يضعف الحرشي في هذا الكلام: تبدلنا سعيدا من سعيد ... لجد السوء والقدر المتاح قال الطبري: وفي هذه السنة غزا العباس بن الوليد الروم ففتح مدينة يقال لها رسله. وفيها اغارت الترك عن اللان

استعمال ابن هبيرة سعيدا الحرشي على خراسان

وفيها ضمت مكة إلى عبد الرحمن بن الضحاك الفهري، فجمعت له مع المدينة. وفيها ولي عبد الواحد بن عبد الله النضري، الطائف وعزل عبد العزيز بن عَبْد اللَّهِ بن خَالِد بن أسيد عن مكة. وفيها أمر عبد الرحمن بن الضحاك أن يجمع بين أبي بكر بن مُحَمَّد بن عمرو بن حزم وعثمان بن حيان المري، وكان من أمره وأمرهما ما قد مضى ذكره قبل. وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الضحاك بن قيس الفهري، كذلك قال أبو معشر والواقدي. وكان عامل يزيد بن عاتكة في هذه السنة على مكة والمدينة عبد الرحمن بن الضحاك، وعلى الطائف عبد الواحد بن عبد الله النضري وعلى العراق وخراسان عمر بن هبيرة، وعلى خراسان سعيد بن عمرو الحرشي من قبل عمر بن هبيرة، وعلى قضاء الكوفة القاسم بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسعود، وعلى قضاء البصرة عبد الملك بن يعلى. استعمال ابن هبيرة سعيدا الحرشي على خراسان وفيها استعمل عمر بن هبيرة سعيد بن عمرو الحرشي على خراسان. ذكر الخبر عن سبب استعماله الحرشي على خراسان: ذكر علي بن مُحَمَّد عن أصحابه أن ابن هبيرة لما ولي العراق، كتب إلى يزيد بن عبد الملك بأسماء من أبلى يوم العقر، ولم يذكر الحرشي، فقال يزيد بن عبد الملك: لم لم يذكر الحرشي: فكتب إلى ابن هبيرة: ول الحرشي خراسان فولاه، فقدم الحرشي على مقدمته المجشر بن مزاحم السلمي سنة ثلاث ومائة، ثم قدم الحرشي خراسان، والناس بإزاء العدو، وقد كانوا نكبوا، فخطبهم وحثهم على الجهاد، فقال: إنكم لا تقاتلون عدو الإسلام بكثرة

ارتحال اهل السغد عن بلادهم إلى فرغانه

ولا بعدة، ولكن بنصر الله وعز الإسلام، فقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله. وقال: فلست لعامر إن لم تروني ... أمام الخيل أطعن بالعوالي فأضرب هامة الجبار منهم ... بعضب الحد حودث بالصقال فما أنا في الحروب بمستكين ... ولا أخشى مصاولة الرجال أبى لي والدي من كل ذم ... وخالي في الحوادث خير خال إذا خطرت أمامي حي كعب ... وزافت كالجبال بنو هلال. ارتحال اهل السغد عن بلادهم الى فرغانه وفي هذه السنة ارتحل أهل السغد عن بلادهم عند مقدم سعيد بن عمرو الحرشي فلحقوا بفرغانة، فسألوا ملكها معونتهم على المسلمين. ذكر الخبر عما كان منهم ومن صاحب فرغانة: ذكر علي بن مُحَمَّد عن أصحابه، أن السغد كانوا قد أعانوا الترك أيام خذينة، فلما وليهم الحرشي خافوا على أنفسهم، فأجمع عظماؤهم على الخروج عن بلادهم، فقال لهم ملكهم: لا تفعلوا، أقيموا واحملوا إليه خراج ما مضى، واضمنوا له خراج ما تستقبلون، واضمنوا له عمارة أرضيكم والغزو معه إن أراد ذلك، واعتذروا مما كان منكم، وأعطوه رهائن يكونون في يديه. قالوا: نخاف الا يرضى، ولا يقبل منا، ولكنا نأتي خجندة، فنستجير ملكها، ونرسل إلى الأمير فنسأله الصفح عما كان منا، ونوثق له الا يرى أمرا يكرهه، فقال: أنا رجل منكم، وما أشرت به عليكم كان خيرا لكم، فأبوا، فخرجوا إلى خجندة، وخرج كارزنج وكشين وبياركث وثابت بأهل إشتيخن، فأرسلوا إلى ملك فرغانة الطار يسألونه أن يمنعهم وينزلهم

مدينته فهم أن يفعل، فقالت له أمه: لا تدخل هؤلاء الشياطين مدينتك، ولكن فرغ لهم رستاقا يكونون فيه، فأرسل إليهم: سموا لي رستاقا أفرغه لكم، وأجلوني أربعين يوما- ويقال: عشرين يوما- وإن شئتم فرغت لكم شعب عصام بن عبد الله الباهلي- وكان قتيبة خلفه فيهم- فقبلوا شعب عصام، فأرسلوا إليه: فرغه لنا، قال: نعم، وليس لكم علي عقد ولا جوار حتى تدخلوه، وإن أتتكم العرب قبل أن تدخلوه لم أمنعكم، فرضوا، ففرغ لهم الشعب. وقد قيل: إن ابن هبيرة بعث إليهم قبل أن يخرجوا من بلادهم يسألهم أن يقيموا، ويستعمل عليهم من أحبوا، فأبوا وخرجوا إلى خجندة وشعب عصام من رستاق أسفرة- وأسفرة يومئذ ولي عهد ملك فرغانه بلاذا، وبيلاذا ابو جور ملكها. وقيل: قال لهم كارزنج: أخيركم ثلاث خصال، إن تركتموها هلكتم: إن سعيدا فارس العرب، وقد وجه على مقدمته عبد الرحمن بن عبد الله القشيري في حماة أصحابه، فبيتوه فاقتلوه، فان الحرشي إذ أتاه خبره لم يغزكم، فأبوا عليه، قال: فاقطعوا نهر الشاش، فسلوهم ماذا تريدون؟ فإن أجابوكم وإلا مضيتم إلى سوياب، قالوا: لا، قال: فأعطوهم. قال: فارتحل كارزنج وجلنج بأهل قي، وأبار بن ماخنون وثابت بأهل إشتيخن، وارتحل اهل بياركث واهل سبسكث بألف رجل عليهم مناطق الذهب مع دهاقين بزماجن، فارتحل الديواشني بأهل بنجيكث إلى حصن ابغر، ولحق كارزنج واهل السغد بخجنده. . تم الجزء السادس من تاريخ الطبرى ويليه الجزء السابع، واوله: ذكر حوادث سنه اربع ومائه

الجزء السابع

الجزء السابع بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ثم دخلت سنة أربع ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر الوقعه بين الحرشي والسغد ففي هذه السنة كانت وقعة الحرشي بأهل السغد وقتله من قتل من دهاقينها ذكر الخبر عن أمره وأمرهم في هذه الوقعة: ذكر علي عن أصحابه أن الحرشي غزا في سنة أربع ومائة فقطع النهر. وعرض الناس، ثم سار فنزل قصر الريح على فرسخين من الدبوسية، ولم يجتمع إليه جنده. قَالَ: فأمر الناس بالرحيل، فقال له هلال بْن عليم الحنظلي: يا هناه، إنك وزيرا خير منك أميرا، الأرض حرب شاغرة برجلها، ولم يجتمع لك جندك، وقد أمرت بالرحيل! قَالَ: فكيف لي؟ قَالَ: تأمر بالنزول، ففعل. وخرج النيلان ابن عم ملك فرغانة إلى الحرشي، وهو نازل على مغون فقال له: إن أهل السغد بخجندة، وأخبره خبرهم وقال: عاجلهم قبل أن يصيروا إلى الشعب، فليس لهم علينا جوار حتى يمضي الأجل فوجه الحرشي مع النيلان عبد الرحمن القشيري وزياد بْن عبد الرحمن القشيري في جماعة، ثم ندم على ما فعل فقال: جاءني علج لا أدري صدق أم كذب، فغررت بجند من المسلمين وارتحل في أثرهم حتى نزل في أشروسنة، فصالحهم بشيء يسير، فبينا هو يتعشى إذ قيل له: هذا عطاء الدبوسي- وكان فيمن وجهه مع القشيري- ففزع وسقطت اللقمة من يده، ودعا

بعطاء، فدخل عليه، فقال: ويلك! قاتلتم أحدا؟ فقال: لا، قَالَ: الحمد لله، وتعشى، وأخبره بما قدم له عليه فسار جوادا مغذا، حتى لحق القشيري بعد ثالثة، وسار فلما انتهى إلى خجندة، قَالَ للفضل بْن بسام: ما ترى؟ قَالَ: أرى المعاجلة، قَالَ: لا أرى ذلك، إن جرح رجل فإلى أين يرجع! أو قتل قتيل فإلى من يحمل! ولكني أرى النزول والتأني والاستعداد للحرب، فنزل فرفع الأبنية وأخذ في التأهب، فلم يخرج أحد من العدو، فجبن الناس الحرشي، وقالوا: كان هذا يذكر بأسه بالعراق ورأيه، فلما صار بخراسان ماق قَالَ: فحمل رجل من العرب، فضرب باب خجندة بعمود ففتح الباب، وقد كانوا حفروا في ربضهم وراء الباب الخارج خندقا، وغطوه بقصب، وعلوه بالتراب مكيدة، وأرادوا إذا التقوا إن انهزموا أن يكونوا قد عرفوا الطريق، ويشكل على المسلمين فيسقطوا في الخندق. قَالَ: فلما خرجوا قاتلوهم فانهزموا، وأخطئوهم الطريق، فسقطوا في الخندق فأخرجوا من الخندق أربعين رجلا، على الرجل درعان درعان، وحصرهم الحرشي، ونصب عليهم المجانيق، فأرسلوا إلى ملك فرغانة: غدرت بنا، وسألوه أن ينصرهم، فقال لهم: لم أغدر ولا أنصركم، فانظروا لأنفسكم، فقد أتوكم قبل انقضاء الأجل، ولستم في جواري فلما أيسوا من نصره طلبوا الصلح، وسألوا الأمان وأن يردهم إلى السغد، فاشترط عليهم أن يردوا من في أيديهم من نساء العرب وذراريهم، وأن يؤدوا ما كسروا من الخراج، ولا يغتالوا أحدا، ولا يتخلف منهم بخجندة أحد، فإن أحدثوا حدثا حلت دماؤهم. قَالَ: وكان السفير فيما بينهم موسى بْن مشكان مولى آل بسام،

فخرج إليه كارزنج، فقال له: إن لي حاجة أحب أن تشفعني فيها، قَالَ: وما هي؟ قَالَ: أحب إن جنى منهم رجل جناية بعد الصلح ألا تأخذني بما جنى، فقال الحرشي: ولي حاجة فاقضها، قَالَ: وما هي؟ قال: لا يلحقني في شرطي ما أكره قَالَ: فأخرج الملوك والتجار من الجانب الشرقي، وترك أهل خجندة الذين هم أهلها على حالهم، فقال كارزنج للحرشي: ما تصنع؟ قَالَ: أخاف عليكم معرة الجند قَالَ: وعظماؤهم مع الحرشي في العسكر نزلوا على معارفهم من الجند، ونزل كارزنج على أيوب بْن أبي حسان، فبلغ الحرشي أنهم قتلوا امرأة من نساء كن في أيديهم، فقال لهم: بلغني أن ثابتا الأشتيخني قتل امرأة ودفنها تحت حائط، فجحدوا فأرسل الحرشي إلى قاضي خجندة، فنظروا فإذا المرأة مقتولة قَالَ: فدعا الحرشي بثابت، فأرسل كارزنج غلامه إلى باب السرادق ليأتيه بالخبر، وسأل الحرشي ثابتا وغيره عن المرأة، فجحد ثابت وتيقن الحرشي أنه قتلها فقتله فرجع غلام كارزنج إليه بقتل ثابت، فجعل يقبض على لحيته ويقرضها بأسنانه، وخاف كارزنج أن يستعرضهم الحرشي، فقال لأيوب بْن أبي حسان: إني ضيفك وصديقك، فلا يجمل بك أن يقتل صديقك في سراويل خلق، قَالَ: فخذ سراويلي. قَالَ: وهذا لا يجمل، أقتل في سراويلاتكم! فسرح غلامك الى جلنج ابن أخي يجيئونى بسراويل جديد- وكان قد قَالَ لابن أخيه: إذا أرسلت إليك أطلب سراويل فاعلم أنه القتل- فلما بعث بسراويل أخرج فرندة خضراء فقطعها عصائب، وعصبها برءوس شاكريته، ثم خرج هو وشاكريته. فاعترض الناس فقتل ناسا، ومر بيحيى بْن حضين فنفحه نفحة على رجله، فلم يزل يخمع منها وتضعضع أهل العسكر، ولقي الناس منه شرا، حتى انتهى إلى ثابت بْن عثمان بْن مسعود في طريق ضيق، فقتله ثابت بسيف عثمان بْن مسعود وكان في أيدي السغد أسراء من المسلمين فقتلوا منهم خمسين ومائة، ويقال: قتلوا منهم أربعين، قَالَ: فأفلت منهم غلام فأخبر

الحرشي- ويقال: بل أتاه رجل فأخبره- فسألهم فجحدوا، فأرسل إليهم من علم علمهم، فوجد الخبر حقا، فأمر بقتلهم، وعزل التجار عنهم- وكان التجار أربعمائة، كان معهم مال عظيم قدموا به من الصين- قَالَ: فامتنع أهل السغد، ولم يكن لهم سلاح، فقاتلوا بالخشب، فقتلوا عن آخرهم فلما كان الغد دعا الحراثين- ولم يعلموا ما صنع أصحابهم- فكان يختم في عنق الرجل ويخرج من حائط إلى حائط فيقتل، وكانوا ثلاثة آلاف- ويقال سبعة آلاف- فأرسل جرير بْن هميان والحسن بْن أبي العمرطة ويزيد بْن أبي زينب فأحصوا أموال التجار- وكانوا اعتزلوا وقالوا: لا نقاتل- فاصطفى أموال السغد وذراريهم، فأخذ منه ما أعجبه، ثم دعا مسلم بْن بديل العدوي، عدي الرباب، فقال: قد وليتك المقسم، قال: بعد ما عمل فيه عمالك ليلة! ولِّه غيري، فولاه عبيد الله بْن زهير بْن حيان العدوي، فأخرج الخمس، وقسم الأموال، وكتب الحرشي إلى يزيد بْن عبد الملك، ولم يكتب إلى عمر بْن هبيرة، فكان هذا مما وجد فيه عليه عمر بْن هبيرة، فقال ثابت قطنة يذكر ما أصابوا من عظمائهم: أقر العين مصرع كارزنج ... وكشين وما لاقى بيار وديواشنى وما لاقى جلنج ... بحصن خجند إذ دمروا فباروا ويروى أقر العين مصرع كارزنج، وكشكيش، ويقال: إن ديواشني دهقان أهل سمرقند، واسمه ديواشنج فأعربوه ديواشني. ويقال: كان على أقباض خجندة علباء بْن أحمر اليشكري، فاشترى رجل منه جونة بدرهمين، فوجد فيها سبائك ذهب، فرجع وهو واضع يده على لحيته كأنه رمد، فرد الجونة، وأخذ الدرهمين، فطلب فلم يوجد

قَالَ: وسرح الحرشي سليمان بْن أبي السري مولى بني عوافة إلى قلعة لا يطيف بها وادي السغد إلا من وجه واحد ومعه شوكر بْن حميك وخوارزم شاه وعورم صاحب أخرون وشومان، فوجه سليمان بْن أبي السري على مقدمته المسيب بْن بشر الرياحي، فتلقوه من القلعة على فرسخ في قرية يقال لها كوم، فهزمهم المسيب حتى ردهم إلى القلعة فحصرهم سليمان، ودهقانها يقال له ديواشني. قَالَ فكتب إليه الحرشي فعرض عليه أن يمده، فأرسل إليه: ملتقانا ضيق فسر إلى كس، فأنا في كفاية الله إن شاء الله فطلب الديواشنى ان يزل على حكم الحرشي، وأن يوجهه مع المسيب بْن بشر إلى الحرشي، فوفي له سليمان ووجهه إلى سعيد الحرشي، فألطفه وأكرمه مكيدة، فطلب أهل القلعة الصلح بعد مسيرة على ألا يعرض لمائة أهل بيت منهم ونسائهم وأبنائهم ويسلمون القلعة فكتب سليمان إلى الحرشي أن يبعث الأمناء في قبض ما في القلعة. قَالَ: فبعث محمد بْن عزيز الكندي وعلباء بْن أحمر اليشكري، فباعوا ما في القلعة مزايدة، فأخذ الخمس، وقسم الباقي بينهم وخرج الحرشي إلى كس فصالحوه على عشرة آلاف رأس ويقال: صالح دهقان كس، واسمه ويك- على ستة آلاف رأس، يوفيه في أربعين يوما على ألا يأتيه فلما فرغ من كس خرج إلى ربنجن، فقتل الديواشني، وصلبه على ناوس، وكتب على أهل ربنجن كتابا بمائة إن فقد من موضعه، وولى نصر بْن سيار قبض صلح كس، ثم عزل سورة بْن الحر وولى نصر بْن سيار، واستعمل سليمان بْن أبي السري على كس، ونسف حربها وخراجها، وبعث برأس الديواشني إلى العراق، ويده اليسرى إلى سليمان بْن ابى السري إلى طخارستان. قَالَ: وكانت خزار منيعة، فقال المجشر بْن مزاحم لسعيد بْن عمرو الحرشي: ألا أدلك على من يفتحها لك بغير قتال؟ قَالَ: بلى، قَالَ: المسربل بْن الخريت بْن راشد الناجي، فوجهه إليها- وكان المسربل صديقا لملكها، واسم الملك سبقري وكانوا يحبون المسربل- فأخبر الملك ما صنع

ذكر الخبر عن سبب عزل يزيد بن عبد الملك عبد الرحمن ابن الضحاك عن المدينة وما كان ولاه من الاعمال

الحرشي بأهل خجندة وخوفه، قَالَ: فما ترى؟ قَالَ: أرى أن تنزل بأمان، قَالَ: فما أصنع بمن لحق بي من عوام الناس؟ قال: نصيرهم معك في أمانك، فصالحهم فآمنوه وبلاده. قَالَ: ورجع الحرشي إلى مرو ومعه سبقري، فلما نزل أسنان وقدم مهاجر بْن يزيد الحرشي، وامره ان يوافيه ببرذون بن كشانيشاه قتل سبقري وصلبه ومعه أمانه- ويقال: كان هذا دهقان ابن ماجر قدم على ابن هبيرة فأخذ أمانا لأهل السغد، فحبسه الحرشي في قهندز مرو، فلما قدم مرو دعا به، وقتله وصلبه في الميدان، فقال الراجز: إذا سعيد سار في الأخماس ... في رهج يأخذ بالأنفاس دارت على الترك أمر الكاس ... وطارت الترك على الأحلاس ولوا فرارا عطل القياس. وفي هذه السنة عزل يزيد بْن عبد الملك عبد الرحمن بْن الضحاك بْن قيس الفهري عن المدينة ومكة، وذلك للنصف من شهر ربيع الأول، وكان عامله على المدينة ثلاث سنين. وفيها ولى يزيد بْن عبد الملك المدينة عبد الواحد النضري. ذكر الخبر عن سبب عزل يزيد بْن عبد الملك عبد الرحمن ابن الضحاك عن المدينة وما كان ولاه من الأعمال وكان سبب ذلك- فيما ذكر محمد بن عمر، عن عبد الله بن محمد بْن أبي يحيى- قَالَ: خطب عبد الرحمن بْن الضحاك بْن قيس الفهري فاطمة ابنة الحسين، فقالت: والله ما أريد النكاح، ولقد قعدت على بني هؤلاء،

وجعلت تحاجزه وتكره أن تنابذه لما تخاف منه قَالَ: وألح عليها وقال: والله لئن لم تفعلي لأجلدن أكبر بنيك في الخمر- يعني عبد الله بْن الحسن- فبينا هو كذلك، وكان على ديوان المدينة ابن هرمز رجل من أهل الشام، فكتب إليه يزيد أن يرفع حسابه، ويدفع الديوان، فدخل على فاطمة بنت الحسين يودعها، فقال: هل من حاجة؟ فقالت: تخبر أمير المؤمنين بما ألقى من ابن الضحاك، وما يتعرض مني قَالَ: وبعثت رسولا بكتاب إلى يزيد تخبره وتذكر قرابتها ورحمها، وتذكر ما ينال ابن الضحاك منها، وما يتوعدها به قال: فقدم ابن هرمز والرسول معا قَالَ: فدخل ابن هرمز على يزيد، فاستخبره عن المدينة، وقال: هل كان من مغربة خبر؟ فلم يذكر ابن هرمز من شأن ابنة الحسين، فقال الحاجب: أصلح الله الأمير! بالباب رسول فاطمة بنت الحسين فقال ابن هرمز: أصلح الله الأمير! إن فاطمة بنت الحسين يوم خرجت حملتني رسالة إليك، فأخبره الخبر. قَالَ: فنزل من أعلى فراشه، وقال: لا أم لك! ألم أسألك هل من مغربة خبر، وهذا عندك لا تخبرنيه! قَالَ: وجعل يضرب بخيزران في يديه وهو يقول: لقد اجترأ ابن الضحاك! هل من رجل يسمعني صوته في العذاب وأنا على فراشي؟ قيل له: عبد الواحد بْن عبد الله بْن بشر النضري. قَالَ: فدعا بقرطاس، فكتب بيده: إلى عبد الواحد بْن عبد الله بْن بشر النضري وهو بالطائف: سلام عليك، أما بعد فإني قد وليتك المدينة، فإذا جاءك كتابي هذا فاهبط واعزل عنها ابن الضحاك، وأغرمه أربعين ألف دينار، وعذبه حتى أسمع صوته وأنا على فراشي. قَالَ: وأخذ البريد الكتاب، وقدم به المدينة، ولم يدخل على ابن الضحاك

وقد أوجست نفس ابن الضحاك، فأرسل إلى البريد، فكشف له عن طرف المفرش، فإذا ألف دينار، فقال: هذه ألف دينار لك ولك العهد والميثاق، لئن أنت أخبرتني خبر وجهك هذا دفعتها إليك، فأخبره، فاستنظر البريد ثلاثا حتى يسير، ففعل ثم خرج ابن الضحاك، فأغذ السير حتى نزل على مسلمة بْن عبد الملك، فقال: أنا في جوارك، فغدا مسلمة على يزيد فرققه وذكر حاجة جاء لها، فقال: كل حاجة تكلمت فيها هي في يدك ما لم يكن ابن الضحاك، فقال: هو والله ابن الضحاك! فقال: والله لا أعفيه أبدا وقد فعل ما فعل، قَالَ: فرده إلى المدينة إلى النضري. قَالَ عبد الله بْن محمد: فرأيته في المدينة عليه جبة من صوف يسأل الناس، وقد عذب ولقي شرا، وقدم النضري يوم السبت للنصف من شوال سنة أربع ومائة. قَالَ محمد بْن عمر: حدثني إبراهيم بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ الزهري، قَالَ: قلت لعبد الرحمن بْن الضحاك: إنك تقدم على قومك وهم ينكرون كل شيء خالف فعلهم، فالزم ما أجمعوا عليه، وشاور القاسم ابن محمد وسالم بْن عبد الله، فإنهما لا يألوانك رشدا قَالَ الزهري: فلم يأخذ بشيء من ذلك، وعادى الأنصار طرا، وضرب أبا بكر بْن حزم ظلما وعدوانا في باطل، فما بقي منهم شاعر إلا هجاه، ولا صالح إلا عابه وأتاه بالقبيح، فلما ولي هشام رأيته ذليلا. وولي المدينة عبد الواحد بْن عبد الله بْن بشر فأقام بالمدينة لم يقدم عليهم وال أحب عليهم منه، وكان يذهب مذاهب الخير، لا يقطع أمرا إلا استشار فيه القاسم وسالما. وفي هذه السنة غزا الجراح بْن عبد الله الحكمي- وهو أمير على أرمينية وأذربيجان- أرض الترك ففتح على يديه بلنجر، وهزم الترك وغرقهم وعامه

ذكر الخبر عن سبب عزل عمر بن هبيرة سعيد بن عمرو الحرشي عن خراسان

ذراريهم في الماء، وسبوا ما شاءوا، وفتح الحصون التي تلي بلنجر وجلا عامة أهلها. وفيها ولد- فيما ذكر- أبو العباس عبد الله بْن محمد بْن علي في شهر ربيع الآخر. وفيها دخل أبو محمد الصادق وعدة من أصحابه من خراسان الى محمد ابن علي، وقد ولد أبو العباس قبل ذلك بخمس عشرة ليلة، فأخرجه إليهم في خرقة، وقال لهم: والله ليتمن هذا الأمر حتى تدركوا ثأركم من عدوكم. وفي هذه السنة عزل عمر بْن هبيرة سعيد بْن عمرو الحرشي عن خراسان، وولاها مسلم بْن سعيد بْن أسلم بْن زرعة الكلابي. ذكر الخبر عن سبب عزل عمر بْن هبيرة سعيد بْن عمرو الحرشي عن خراسان ذكر أن سبب ذلك كان من موجدة وجدها عمر على الحرشي في أمر الديواشني، وذلك أنه كان كتب إليه يأمره بتخليته وقتله، وكان يستخف بأمر ابن هبيرة، وكان البريد والرسول إذا ورد من العراق قَالَ له: كيف أبو المثنى؟ ويقول لكاتبه: اكتب إلى أبي المثنى ولا يقول: الأمير، ويكثر أن يقول: قَالَ أبو المثنى وفعل أبو المثنى، فبلغ ذلك ابن هبيرة فدعا جميل بْن عمران، فقال له: بلغني أشياء عن الحرشي، فاخرج إلى خراسان، وأظهر أنك قدمت تنظر في الدواوين، واعلم لي علمه. فقدم جميل، فقال له الحرشي: كيف تركت أبا المثنى؟ فجعل ينظر في الدواوين فقيل للحرشي: ما قدم جميل لينظر في الدواوين، وما قدم إلا ليعلم علمك، فسم بطيخة، وبعث بها إلى جميل، فأكلها فمرض،

وتساقط شعره، ورجع إلى ابن هبيرة، فعولج واستبل وصح، فقال لابن هبيرة: الأمر أعظم مما بلغك، ما يرى سعيد إلا أنك عامل من عماله فغضب عليه وعزله وعذبه، ونفح في بطنه النمل، وكان يقول حين عزله: لو سألني عمر درهما يضعه في عينه ما أعطيته، فلما عذب أدى، فقال له رجل: ألم تزعم أنك لا تعطيه درهما! قَالَ: لا تعنفني، إنه لما أصابني الحديد جزعت، فقال أذينة بْن كليب- أو كليب بْن أذينة: تصبر أبا يحيى فقد كنت- علمنا ... - صبورا ونهاضا بثقل المغارم وقال علي بْن محمد: إنما غضب عليه ابن هبيرة أنه وجه معقل بْن عروة إلى هراة، إما عاملا وإما في غير ذلك من أموره، فنزل قبل أن يمر على الحرشي، وأتى هراة، فلم ينفذ له ما قدم فيه، وكتب إلى الحرشي، فكتب الحرشي إلى عامله: أن احمل إلي معقلا، فحمله، فقال له الحرشي: ما منعك من إتياني قبل أن تأتي هراة؟ قَالَ: أنا عامل لابن هبيرة ولاني كما ولاك، فضربه مائتين وحلقه فعزله ابن هبيرة، واستعمل على خراسان مسلم بْن سعيد بْن أسلم بْن زرعة، فكتب الى الحرشي يلخنه، فقال سعيد: بل هو ابن اللخناء وكتب إلى مسلم أن احمل إلي الحرشي مع معقل بْن عروة، فدفعه إليه فأساء به وضيق عليه، ثم أمره يوما فعذبه، وقال: اقتله بالعذاب. فلما أمسى ابن هبيرة سمر فقال: من سيد قيس؟ قالوا: الأمير، قَالَ: دعوا هذا، سيد قيس الكوثر بْن زفر، لو بوق بليل لوافاه عشرون ألفا، لا يقولون: لم دعوتنا ولا يسألونه، وهذا الحمار الذي في الحبس- قد أمرت بقتله- فارسها، وأما خير قيس لها فعسى أن أكونه، إنه لم يعرض إلي أمر أرى أني أقدر فيه على منفعة وخير إلا جررته إليهم، فقال له أعرابي من بني فزارة: ما أنت كما تقول، لو كنت كذلك ما أمرت بقتل فارسها فأرسل إلى معقل أن كف عما كنت امرتك به

قَالَ علي: قَالَ مسلم بْن المغيرة: لما هرب ابن هبيرة أرسل خالد في طلبه سعيد بْن عمرو الحرشي، فلحقه بموضع من الفرات يقطعه إلى الجانب الآخر في سفينة، وفي صدر السفينة غلام لابن هبيرة يقال له قبيض، فعرفه الحرشي فقال له: قبيض؟ قَالَ: نعم، قَالَ: أفي السفينة أبو المثنى؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فخرج إليه ابن هبيرة، فقال له الحرشي: أبا المثنى، ما ظنك بي؟ قَالَ: ظني بك أنك لا تدفع رجلا من قومك إلى رجل من قريش، قال: هو ذاك، قال: فالنجاء. قَالَ علي: قَالَ أبو إسحاق بْن ربيعة: لما حبس ابن هبيرة الحرشي دخل عليه معقل بْن عروة القشيري، فقال: أصلح الله الأمير! قيدت فارس قيس وفضحته، وما أنا براض عنه، غير أني لم أحب أن تبلغ منه ما بلغت، قَالَ: أنت بيني وبينه، قدمت العراق فوليته البصرة، ثم وليته خراسان، فبعث إلي ببرذون حطم واستخف بأمري، وخان فعزلته، وقلت له: يا بن نسعه، فقال لي: يا بن بسرة فقال معقل: وفعل ابن الفاعلة! ودخل على الحرشي السجن، فقال: يا بن نسعة، أمك دخلت واشتريت بثمانين عنزا جربا، كانت مع الرعاء ترادفها الرجال مطية الصادر والوارد، تجعلها ندا لبنت الحارث بْن عمرو بْن حرجة! وافترى عليه، فلما عزل ابن هبيرة، وقدم خالد العراق استعدى الحرشي على معقل ابن عروة، وأقام البينة أنه قذفه، فقال للحرشي: اجلده، فحده، وقال: لولا أن ابن هبيرة وهن في عضدي لنقبت عن قلبك، فقال رجل من بني كلاب لمعقل: أسأت إلى ابن عمك وقذفته، فأداله الله منك، فصرت لا شهادة لك في المسلمين، وكان معقل حين ضرب الحد قذف الحرشي أيضا، فأمر خالد بإعادة الحد، فقال القاضي: لا يحد قال: وأم عمر ابن هبيرة بسرة بنت حسان، عدوية من عدي الرباب

ولايه مسلم بن سعيد على خراسان

ولايه مسلم بن سعيد على خراسان وفي هذه السنة ولى عمر بْن هبيرة مسلم بْن سعيد بْن أسلم بْن زرعة بْن عمرو بْن خويلد الصعق خراسان بعد ما عزل سعيد بْن عمرو الحرشي عنها ذكر الخبر عن سبب توليته إياها: ذكر علي بْن محمد أن أبا الذيال وعلي بْن مجاهد وغيرهما حدثوه، قالوا: لما قتل سعيد بْن أسلم ضم الحجاج ابنه مسلم بْن سعيد مع ولده، فتأدب ونبل، فلما قدم عدي بْن أرطاة أراد أن يوليه، فشاور كاتبه، فقال: ولِّه ولاية خفيفة ثم ترفعه، فولاه ولاية، فقام بها وضبطها وأحسن، فلما وقعت فتنة يزيد بْن المهلب حمل تلك الأموال إلى الشام، فلما قدم عمر بْن هبيرة أجمع على أن يوليه ولاية، فدعاه ولم يكن شاب بعد، فنظر فرأى شيبة في لحيته، فكبر. قَالَ: ثم سمر ليلة ومسلم في سمره، فتخلف مسلم بعد السمار، وفي يد ابن هبيرة سفرجلة، فرمى بها، وقال: أيسرك أن أوليك خراسان؟ قَالَ: نعم، قَالَ: غدوة إن شاء الله قَالَ: فلما أصبح جلس، ودخل الناس، فعقد لمسلم على خراسان وكتب عهده، وأمره بالسير، وكتب إلى عمال الخراج أن يكاتبوا مسلم بْن سعيد، ودعا بجبلة بْن عبد الرحمن مولى باهلة فولاه كرمان، فقال جبلة: ما صنعت بي المولويه! كان مسلم يطمع أن ألي ولاية عظيمة فأوليه كورة، فعقد له على خراسان وعقد لي على كرمان! قَالَ: فسار مسلم فقدم خراسان في آخر سنة أربع ومائة- أو ثلاث ومائة- نصف النهار، فوافق باب دار الإمارة مغلقا، فأتى دار الدواب فوجد الباب مغلقا فدخل المسجد، فوجد باب المقصورة مغلقا، فصلى وخرج وصيف من باب المقصورة فقيل له: الأمير، فمشى بين يديه حتى أدخله مجلس الوالي في دار الإمارة، وأعلم الحرشي، وقيل له: قدم مسلم بْن سعيد ابن أسلم، فأرسل إليه: أقدمت أميرا أو وزيرا أو زائرا؟ فأرسل إليه: مثلي لا يقدم خراسان زائرا ولا وزيرا، فأتاه الحرشي فشتمه وأمر بحبسه، فقيل له: إن أخرجته نهارا قتل، فأمر بحبسه عنده حتى أمسى، ثم حبسه ليلا

وقيده، ثم أمر صاحب السجن أن يزيده قيدا فأتاه حزينا، فقال: مالك؟ فقال: أمرت أن أزيدك قيدا، فقال لكاتبه: اكتب إليه: إن صاحب سجنك ذكر أنك أمرته أن يزيدني قيدا، فإن كان أمرا ممن فوقك فسمعا وطاعة، وإن كان رأيا رأيته فسيرك الحقحقة، وتمثل: هم إن يثقفوني يقتلوني ... ومن أثقف فليس إلى خلود ويروى: فإما تثقفوني فاقتلوني ... فمن أثقف فليس إلى خلود هم الأعداء ان شهدوا وغابوا ... أولو الأحقاد والأكباد سود أريغوني إراغتكم فإني ... وحذفة كالشجا تحت الوريد ويروى: أريدوني إرادتكم. . قال: وبعث مسلم على كورة رجلا من قبله على حربها قَالَ: وكان ابن هبيرة حريصا، أخذ قهرمانا ليزيد بْن المهلب، له علم بخراسان وبأشرافهم، فحبسه فلم يدع منهم شريفا إلا قرفه، فبعث أبا عبيدة العنبري ورجلا يقال له خالد، وكتب إلى الحرشي وأمره أن يدفع الذين سماهم إليه يستأديهم فلم يفعل، فرد رسول ابن هبيرة، فلما استعمل ابن هبيرة مسلم بْن سعيد أمره بجباية تلك الأموال، فلما قدم مسلم أراد أخذ الناس بتلك الأموال التي فرفت عليهم، فقيل له: إن فعلت هذا بهؤلاء لم يكن لك بخراسان قرار، وإن لم تعمل في هذا حتى توضع عنهم فسدت عليك وعليهم خراسان، لأن هؤلاء الذين تريد أن تأخذهم بهذه الأموال أعيان البلد قرفوا بالباطل، إنما كان على مهزم بْن جابر ثلاثمائة الف فزادوا مائه الف فصارت أربعمائة ألف، وعامة من سموا لك ممن كثر عليه بمنزله

فكتب مسلم بذلك إلى ابن هبيرة، وأوفد وفدا فيهم مهزم بْن جابر، فقال له مهزم بْن جابر: أيها الأمير، إن الذي رفع إليك الظلم والباطل، ما علينا من هذا كله لو صدق إلا القليل الذي لو أخذنا به أديناه، فقال ابن هبيرة: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها» ، فقال: اقرأ ما بعدها: «وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» فقال ابن هبيرة: لا بد من هذا المال، قَالَ: أما والله لئن أخذته لتأخذنه من قوم شديدة شوكتهم ونكايتهم في عدوك، وليضرن ذلك بأهل خراسان في عدتهم وكراعهم وحلقتهم، ونحن في ثغر نكابد فيه عدوا لا ينقضي حربهم، إن أحدنا ليلبس الحديد حتى يخلص صدؤه إلى جلده، حتى إن الخادم التي تخدم الرجل لتصرف وجهها عن مولاها وعن الرجل الذي تخدمه لريح الحديد، وأنتم في بلادكم متفضلون في الرقاق وفي المعصفرة، والذين قرفوا بهذا المال وجوه أهل خراسان وأهل الولايات والكلف العظام في المغازي. وقبلنا قوم قدموا علينا من كل فج عميق، فجاءوا على الحمرات، فولوا الولايات، فاقتطعوا الأموال، فهي عندهم موقره جمة. فكتب ابن هبيرة إلى مسلم بْن سعيد بما قَالَ الوفد، وكتب إليه أن استخرج هذه الأموال ممن ذكر الوفد أنها عندهم فلما أتى مسلما كتاب ابن هبيرة أخذ أهل العهد بتلك الأموال، وأمر حاجب بن عمرو الحارثي أن يعذبهم، ففعل وأخذ منهم ما فرق عليهم. وحج بالناس في هذه السنة عبد الواحد بْن عبد الله النضري، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر وكذلك قَالَ الوافدى. وكان العامل على مكة والمدينة والطائف في هذه السنة عبد الواحد بْن عبد الله النضري، وعلى العراق والمشرق عمر بْن هبيرة، وعلى قضاء الكوفة حسين بْن الحسن الكندي، وعلى قضاء البصرة عبد الملك بن يعلى.

سنه خمس ومائه

ثم دخلت سنة خمس ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك غزوة الجراح بْن عبد الله الحكمي اللان، حتى جاز ذلك إلى مدائن وحصون من وراء بلنجر، ففتح بعض ذلك، وجلى عنه بعض أهله، وأصاب غنائم كثيرة. وفيها كانت غزوة سعيد بْن عبد الملك أرض الروم، فبعث سرية في نحو من ألف مقاتل، فأصيبوا- فيما ذكر- جميعا. وفيها غزا مسلم بْن سعيد الترك، فلم يفتح شيئا، فقفل ثم غزا أفشينة مدينة من مدائن السغد بعد في هذه السنة، فصالح ملكها وأهلها. ذكر الخبر عن ذَلِكَ: ذكر عَلِيّ بن محمد عن أصحابه، أن مسلم بْن سعيد مرزب بهرام سيس فجعله المرزبان وأن مسلما غزا في آخر الصيف من سنة خمس ومائة، فلم يفتح شيئا وقفل، فاتبعه الترك فلحقوه، والناس يعبرون نهر بلخ وتميم على الساقة، وعبيد الله بْن زهير بْن حيان على خيل تميم، فحاموا عن الناس حتى عبروا ومات يزيد بْن عبد الملك، وقام هشام، وغزا مسلم أفشين فصالح ملكها على ستة آلاف رأس، ودفع إليه القلعة، فانصرف لتمام سنة خمس ومائة. ذكر موت يزيد بن عبد الملك وفي هذه السنة مات الخليفة يزيد بْن عبد الملك بْن مروان، لخمس ليال بقين من شعبان منها، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق ابن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي

ذكر بعض سيره وأموره

وقال الواقدي: كانت وفاته ببلقاء من أرض دمشق، وهو يوم مات ابن ثمان وثلاثين سنة. وقال بعضهم: كان ابن أربعين سنة. وقال بعضهم: ابن ست وثلاثين سنة، فكانت خلافته في قول أبي معشر وهشام بْن محمد وعلي بْن محمد أربع سنين وشهرا، وفي قول الواقدي أربع سنين. وكان يزيد بْن عبد الملك يكنى أبا خالد، كذلك قال ابو معشر وهشام ابن محمد والواقدي وغيرهم. وقال علي بْن محمد: توفي يزيد بْن عبد الملك وهو ابن خمس وثلاثين سنة أو أربع وثلاثين سنة في شعبان يوم الجمعة لخمس بقين منه سنة خمس ومائة. وقال: ومات بأربد من أرض البلقاء، وصلى عليه ابنه الوليد وهو ابن خمس عشرة سنة، وهشام بْن عبد الملك يومئذ بحمص، حدثنى بذلك عمر ابن شبه، عن على. وقال هشام بْن محمد: توفي يزيد بْن عبد الملك، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. قَالَ علي: قَالَ أبو ماوية أو غيره من اليهود ليزيد بْن عبد الملك: إنك تملك أربعين سنة، فقال رجل من اليهود: كذب لعنه الله، إنما رأى أنه يملك أربعين قصبة، والقصبة شهر، فجعل الشهر سنة. ذكر بعض سيره وأموره حدثني عمر بْن شبة، قَالَ: حدثنا علي، قَالَ: كان يزيد بْن عاتكة من فتيانهم، فقال يوما وقد طرب، وعنده حبابة وسلامة: دعوني أطير، فقالت حبابة: إلى من تدع الأمة! فلما مات قالت سلامة القس:

لا تلمنا إن خشعنا ... أو هممنا بالخشوع قد لعمري بت ليلي ... كأخي الداء الوجيع ثم بات الهم مني ... دون من لي من ضجيع للذي حل بنا اليوم ... من الأمر الفظيع كلما أبصرت ربعا ... خاليا فاضت دموعي قد خلا من سيد كان ... لنا غير مضيع ثم نادت: وا امير المؤمنيناه! والشعر لبعض الأنصار. قَالَ علي: حج يزيد بْن عبد الملك في خلافة سليمان بْن عبد الملك فاشترى حبابة- وكان اسمها العالية- بأربعة آلاف دينار من عثمان بْن سهل ابن حنيف، فقال سليمان: هممت أن أحجر على يزيد، فرد يزيد حبابة فاشتراها رجل من أهل مصر، فقالت سعدة ليزيد: يا أمير المؤمنين، هل بقي من الدنيا شيء تتمناه بعد؟ قَالَ: نعم حبابة، فأرسلت سعدة رجلا فاشتراها باربعه آلاف دينار، وصنعتها حتى ذهب عنها كلال السفر، فأتت بها يزيد، فأجلستها من وراء الستر، فقالت: يا أمير المؤمنين، أبقي شيء من الدنيا تتمناه؟ قَالَ: ألم تسأليني عن هذا مرة فأعلمتك! فرفعت الستر وقالت: هذه حبابه، وقامت وخلتها عنده، فحظيت سعدة عند يزيد وأكرمها وحباها وسعدة امرأة يزيد، وهي من آل عثمان ابن عفان. قَالَ علي عن يونس بْن حبيب: إن حبابة جارية يزيد بْن عبد الملك غنت يوما: بين التراقي واللهاة حرارة ... ما تطمئن وما تسوغ فتبرد

فأهوى ليطير فقالت: يا أمير المؤمنين، إن لنا فيك حاجة، فمرضت وثقلت، فقال: كيف أنت يا حبابة؟ فلم تجبه، فبكى وقال: لئن تسل عنك النفس أو تذهل الهوى ... فباليأس يسلو القلب لا بالتجلد وسمع جارية لها تتمثل: كفى حزنا بالهائم الصب أن يرى ... منازل من يهوى معطلة قفرا فكان يتمثل بهذا. قَالَ عمر: قَالَ علي: مكث يزيد بْن عبد الملك بعد موت حبابة سبعة أيام لا يخرج إلى الناس، أشار عليه بذلك مسلمة، وخاف أن يظهر منه شيء يسفهه عند الناس.

خلافه هشام بن عبد الملك

خلافة هشام بْن عبد الملك وفي هذه السنة استخلف هشام بْن عبد الملك لليال بقين من شعبان منها، وهو يوم استخلف ابن أربع وثلاثين سنة وأشهر. حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ، قَالَ: حدثنا أبو محمد القرشي وأبو محمد الزيادي والمنهال بْن عبد الملك وسحيم بْن حفص العجيفي، قالوا: ولد هشام بْن عبد الملك عام قتل مصعب بْن الزبير سنة اثنتين وسبعين. وأمه عائشة بنت هشام بْن إسماعيل بْن هشام بْن الوليد بْن المغيرة بْن عبد الله ابن عمر بْن مخزوم، وكانت حمقاء، أمرها أهلها ألا تكلم عبد الملك حتى تلد، وكانت تثني الوسائد وتركب الوسادة وتزجرها كأنها دابة، وتشترى الكندر فتمضغه وتعمل منه تماثيل، وتصنع التماثيل على الوسائد، وقد سمت كل تمثال باسم جارية، وتنادي: يا فلانة ويا فلانة، فطلقها عبد الملك لحمقها وسار عبد الملك إلى مصعب فقتله، فلما قتله بلغه مولد هشام، فسماه منصورا، يتفاءل بذلك، وسمته أمه باسم أبيها هشام، فلم ينكر ذلك عبد الملك، وكان هشام يكنى أبا الوليد. وذكر محمد بْن عمر عمن حدثه أن الخلافة أتت هشاما وهو بالزيتونة في منزله في دويرة له هناك. قَالَ محمد بْن عمر: وقد رأيتها صغيرة، فجاءه البريد بالعصا والخاتم، وسلم عليه بالخلافة، فركب هشام من الرصافة حتى أتى دمشق. وفي هذه السنة قدم بكير بن ماهان من السغد- وكان بها مع الجنيد بْن عبد الرحمن ترجمانا له- فلما عزل الجنيد بْن عبد الرحمن، قدم الكوفة ومعه أربع لبنات من فضة ولبنة من ذهب، فلقي أبا عكرمة الصادق وميسرة ومحمد بْن خنيس وسالما الأعين وأبا يحيى مولى بني سلمة، فذكروا له أمر

ذكر ولايه خالد القسرى على العراق

دعوة بني هاشم، فقبل ذلك ورضيه، وأنفق ما معه عليهم، ودخل الى محمد ابن علي ومات ميسرة فوجه محمد بْن علي بكير بْن ماهان إلى العراق مكان ميسرة، فأقامه مقامه. وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن هشام بْن إسماعيل، والنضري على المدينة. قَالَ الواقدي: حدثني إبراهيم بْن محمد بْن شرحبيل، عن أبيه، قَالَ: كان إبراهيم بْن هشام بْن إسماعيل حج، فأرسل إلى عطاء بن ابى رباح: متى أخطب بمكة؟ قَالَ: بعد الظهر، قبل التروية بيوم، فخطب قبل الظهر، وقال: أمرني رسولي بهذا عن عطاء، فقال عطاء: ما امرته الا بعد الظهر، قال: فاستحيا إبراهيم بْن هشام يومئذ، وعدوه منه جهلا . ذكر ولايه خالد القسرى على العراق وفي هذه السنة عزل هشام بْن عبد الملك عمر بْن هبيرة عن العراق وما كان إليه من عمل المشرق، وولى ذلك كله خالد بْن عبد الله القسري في شوال. ذكر محمد بْن سلام الجمحي، عن عبد القاهر بْن السري، عن عمر بْن يزيد بْن عمير الأسيدي قَالَ: دخلت على هشام بْن عبد الملك، وعنده خالد بْن عبد الله القسري، وهو يذكر طاعة أهل اليمن، قَالَ: فصفقت تصفيقة بيدي دق الهواء منها، فقلت: تالله ما رأيت هكذا خطأ ولا مثله خطلا! والله ما فتحت فتنة في الإسلام إلا بأهل اليمن، هم قتلوا أمير المؤمنين عثمان، وهم خلعوا أمير المؤمنين عبد الملك، وإن سيوفنا لتقطر من دماء آل المهلب قَالَ: فلما قمت تبعني رجل من آل مروان كان حاضرا، فقال: يا أخا بني تميم، ورت بك زنادي، قد سمعت مقالتك، وأمير المؤمنين مول خالدا العراق، وليست لك بدار

ذكر عبد الرزاق أن حماد بْن سعيد الصنعانى اخبره قال: أخبرني زياد ابن عبيد الله، قَالَ: أتيت الشام، فاقترضت، فبينا أنا يوما على الباب باب هشام، إذ خرج علي رجل من عند هشام، فقال لي: ممن أنت يا فتى؟ قلت: يمان، قَالَ: فمن أنت؟ قلت: زياد بْن عبيد الله بْن عبد المدان، قَالَ: فتبسم، وقال: قم الى ناحيه العسكر فقل لأصحابي: ارتحلوا فإن أمير المؤمنين قد رضي عني، وأمرني بالمسير، ووكل بي من يخرجني قَالَ: قلت: من أنت يرحمك الله؟ قَالَ: خالد بْن عبد الله القسري، قَالَ: ومرهم يا فتى ان يعطوك منديل ثيابي وبرذوني الأصفر فلما جزت قليلا ناداني، فقال: يا فتى، وإن سمعت بي قد وليت العراق يوما فالحق بي، قَالَ: فذهبت إليهم، فقلت: إن الأمير قد أرسلني إليكم بأن أمير المؤمنين قد رضي عنه، وأمره بالمسير فجعل هذا يحتضنني وهذا يقبل رأسي، فلما رأيت ذلك منهم، قلت: وقد أمرني أن تعطوني منديل ثيابه وبرذونه الأصفر، قالوا: إي والله وكرامة، قَالَ: فأعطوني منديل ثيابه وبرذونه الأصفر، فما أمسى بالعسكر أحد أجود ثيابا مني، ولا أجود مركبا مني، فلم ألبث إلا يسيرا حتى قيل: قد ولي خالد العراق، فركبني من ذلك هم، فقال لي عريف لنا: ما لي أراك مهموما! قلت: أجل قد ولي خالد كذا وكذا، وقد أصبت هاهنا رزيقا عشت به، وأخشى أن أذهب إليه فيتغير على فيفوتني هاهنا وهاهنا، فلست أدري كيف أصنع! فقال لي: هل لك في خصلة؟ قلت: وما هي؟ قَالَ: توكلني بأرزاقك وتخرج، فإن أصبت ما تحب فلي أرزاقك، وإلا رجعت فدفعتها إليك، فقلت نعم. وخرجت، فلما قدمت الكوفه لبست من صالح ثيابي وأذن للناس، فتركتهم حتى أخذوا مجالسهم، ثم دخلت فقمت بالباب، فسلمت ودعوت وأثنيت، فرفع رأسه، فقال: أحسنت بالرحب والسعة، فما رجعت الى منزلي حتى اصبت ستمائه دينار بين نقد وعرض. ثم كنت أختلف إليه، فقال لي يوما: هل تكتب يا زياد؟ فقلت:

أقرأ ولا أكتب، أصلح الله الأمير! فضرب بيده على جبينه، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! سقط منك تسعة أعشار ما كنت أريده منك، وبقي لك واحدة فيها غني الدهر قَالَ: قلت: أيها الأمير، هل في تلك الواحدة ثمن غلام؟ قَالَ: وماذا حينئذ! قلت: تشتري غلاما كاتبا تبعث به إلي فيعلمني، قَالَ: هيهات! كبرت عن ذلك، قَالَ: قلت: كلا، فاشترى غلاما كاتبا حاسبا بستين دينارا، فبعث به إلي، فأكببت على الكتاب، وجعلت لا آتيه إلا ليلا، فما مضت إلا خمس عشرة ليلة حتى كتبت ما شئت وقرأت ما شئت قَالَ: فإني عنده ليلة، إذ قَالَ: ما أدري هل أنجحت من ذلك الأمر شيئا؟ قلت: نعم، أكتب ما شئت، وأقرأ ما شئت، قَالَ: إني أراك ظفرت منه بشيء يسير فأعجبك، قلت: كلا، فرفع شاذ كونه، فإذا طومار، فقال: اقرأ هذا الطومار، فقرأت ما بين طرفيه، فإذا هو من عامله على الري، فقال: اخرج فقد وليتك عمله، فخرجت حتى قدمت الري، فأخذت عامل الخراج، فأرسل إلي: إن هذا أعرابي مجنون، فإن الأمير لم يول على الخراج عربيا قط، وإنما هو عامل المعونة، فقل له: فليقرني على عملي وله ثلاثمائة ألف، قَالَ: فنظرت في عهدي، فإذا أنا على المعونة، فقلت: والله لا انكسرت، ثم كتبت إلى خالد: إنك بعثتني على الري، فظننت أنك جمعتها لي فأرسل إلي صاحب الخراج ان اقره على عمله ويعطيني ثلاثمائة ألف درهم فكتب إلي أن اقبل ما أعطاك، واعلم أنك مغبون فأقمت بها ما أقمت، ثم كتبت: إني قد اشتقت إليك فارفعني إليك، ففعل، فلما قدمت عليه ولاني الشرطة. وَكَانَ العامل فِي هَذِهِ السنة عَلَى الْمَدِينَة ومكة والطائف عبد الواحد بْن عبد الله النضري وعلى قضاء الكوفة حسين بْن حسن الكندي، وعلى قضاء البصرة موسى بْن أنس وقد قيل إن هشاما إنما استعمل خالد بْن عبد الله القسري على العراق وخراسان في سنة ست ومائة، وإن عامله على العراق وخراسان في سنة خمس ومائة كان عمر بْن هبيرة.

سنه ست ومائه

ثم دخلت سنة ست ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففي هذه السنة عزل هشام بْن عبد الملك عن المدينة عبد الواحد بْن عبد الله النضري وعن مكة والطائف، وولى ذلك كله خاله إبراهيم بْن هشام بْن إسماعيل المخزومي، فقدم المدينة يوم الجمعة لسبع عشرة مضت من جمادى الآخرة سنة ست ومائة، فكانت ولاية النضري على المدينة سنة وثمانية أشهر. وفيها غزا سعيد بْن عبد الملك الصائفة وفيها غزا الحجاج بْن عبد الملك اللان، فصالح أهلها، وأدوا الجزية وفيها ولد عبد الصمد بْن علي في رجب. وفيها مات الإمام طاوس مولى بحير بْن ريسان الحميري بمكة وسالم ابن عبد الله بْن عمر، فصلى عليهما هشام وكان موت طاوس بمكة وموت سالم بالمدينة. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عبد الحكيم بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، قَالَ: مات سالم بْن عبد الله سنة خمس ومائة في عقب ذي الحجة، فصلى عليه هشام بْن عبد الملك بالبقيع، فرأيت القاسم بْن محمد بْن أبي بكر جالسا عند القبر وقد أقبل هشام ما عليه إلا دراعة، فوقف على القاسم فسلم عليه، فقام إليه القاسم فسأله هشام: كيف أنت يا أبا محمد؟ كيف حالك؟ قَالَ: بخير، قَالَ: إني أحب والله أن يجعلكم بخير ورأى في الناس كثرة، فضرب عليهم بعث أربعة آلاف، فسمي عام الأربعة آلاف وفيها استقضى إبراهيم بْن هشام محمد بْن صفوان الجمحى ثم عزله، واستقضى الصلت الكندى

ذكر الخبر عن الحرب بين اليمانيه والمضرية وربيعه

ذكر الخبر عن الحرب بين اليمانيه والمضرية وربيعه وفي هذه السنة كانت الوقعة التي كانت بين المضرية واليمانية وربيعة بالبروقان من أرض بلخ. (ذكر الخبر عن سبب هذه الوقعة:) وكان سبب ذلك- فيما قيل- إن مسلم بْن سعيد غزا، فقطع النهر، وتباطأ الناس عنه، وكان ممن تباطأ عنه البختري بْن درهم، فلما أتى النهر رد نصر بْن سيار وسليم بْن سليمان بْن عبد الله بْن خازم وبلعاء بْن مجاهد بْن بلعاء العنبري وأبا حفص بْن وائل الحنظلي وعقبة بْن شهاب المازني وسالم بْن ذؤابة إلى بلخ، وعليهم جميعا نصر بْن سيار، وأمرهم أن يخرجوا الناس إليه فأحرق نصر باب البختري وزياد بْن طريف الباهلي، فمنعهم عمرو بْن مسلم من دخول بلخ- وكان عليها- وقطع مسلم بْن سعيد النهر فنزل نصر البروقان، فأتاه أهل صغانيان، وأتاه مسلمة العقفاني من بني تميم، وحسان بْن خالد الأسدي، كل واحد منهما في خمسمائة، وأتاه سنان الأعرابي وزرعة بْن علقمة وسلمة بْن أوس والحجاج بْن هارون النميري في أهل بيته، وتجمعت بكر والأزد بالبروقان، رأسهم البختري، وعسكر بالبروقان على نصف فرسخ منهم، فأرسل نصر إلى أهل بلخ: قد أخذتم أعطياتكم فالحقوا بأميركم، فقد قطع النهر فخرجت مضر إلى نصر، وخرجت ربيعة والأزد إلى عمرو ابن مسلم، وقال قوم من ربيعة: إن مسلم بْن سعيد يريد أن يخلع، فهو يكرهنا على الخروج فأرسلت تغلب إلى عمرو بْن مسلم: إنك منا، وأنشدوه شعرا قاله رجل عزا بأهله إلى تغلب- وكان بنو قتيبة من باهلة- فقالوا: إنا من تغلب، فكرهت بكر أن يكونوا في تغلب فتكثر تغلب، فقال رجل منهم: زعمت قتيبة أنها من وائل ... نسب بعيد يا قتيبة فاصعدي وذكر أن بني معن من الأزد يدعون باهلة، وذكر عن شريك بْن

أبي قيلة المعني أن عمرو بْن مسلم كان يقف على مجالس بني معن، فيقول: لئن لم نكن منكم ما نحن بعرب، وقال عمرو بْن مسلم حين عزاه التغلبي إلى بني تغلب: أما القرابة فلا أعرفها، وأما المنع فإني سأمنعكم، فسفر الضحاك بْن مزاحم ويزيد بْن المفضل الحداني، وكلما نصرا وناشداه فانصرف فحمل أصحاب عمرو بْن مسلم والبختري على نصر، ونادوا: يال بكر! وجالوا، وكر نصر عليهم، فكان أول قتيل رجل من باهلة، ومع عمرو بْن مسلم البختري وزياد بْن طريف الباهلي، فقتل من أصحاب عمرو بْن مسلم في المعركة ثمانية عشر رجلا، وقتل كردان أخو الفرافصة ومسعدة ورجل من بكر بْن وائل يقال له إسحاق، سوى من قتل في السكك، وانهزم عمرو بْن مسلم إلى القصر وأرسل إلى نصر: ابعث إلى بلعاء بْن مجاهد، فأتاه بلعاء، فقال: خذ لي أمانا منه، فآمنه نصر، وقال: لولا أني أشمت بك بكر بْن وائل لقتلتك وقيل: أصابوا عمرو بْن مسلم في طاحونة، فأتوا به نصرا في عنقه حبل، فآمنه نصر، وقال له ولزياد بْن طريف والبختري بْن درهم: الحقوا بأميركم وقيل: بل التقى نصر وعمرو بالبروقان، فقتل من بكر بْن وائل واليمن ثلاثون، فقالت بكر: علا م نقاتل إخواننا وأميرنا، وقد تقربنا إلى هذا الرجل فأنكر قرابتنا! فاعتزلوا وقاتلت الأزد، ثم انهزموا ودخلوا حصنا فحصرهم نصر، ثم أخذ عمرو بْن مسلم والبختري أحد بني عباد وزياد بْن طريف الباهلي، فضربهم نصر مائة مائة، وحلق رءوسهم ولحاهم، وألبسهم المسوح وقيل: أخذ البختري في غيضه كان دخلها، فقال نصر في يوم البروقان: أرى العين لجت في ابتدار وما الذي ... يرد عليها بالدموع ابتدارها! فما أنا بالواني إذا الحرب شمرت ... تحرق في شطر الخميسين نارها ولكنني أدعو لها خندف التي ... تطلع بالعبء الثقيل فقارها

خبر غزو مسلم بن سعيد الترك

وما حفظت بكر هنالك حلفها ... فصار عليها عار قيس وعارها فإن تك بكر بالعراق تنزرت ... ففي أرض مرو علها وازورارها وقد جربت يوم البروقان وقعة ... لخندف إذ حانت وآن بوارها أتتني لقيس في بجيلة وقعة ... وقد كان قبل اليوم طال انتظارها يعني حين أخذ يوسف بْن عمر خالدا وعياله وذكر علي بْن محمد أن الوليد بْن مسلم قَالَ: قاتل عمرو بْن مسلم نصر بْن سيار فهزمه عمرو، فقال لرجل من بني تميم كان معه: كيف ترى استاه قومك يا أخا بني تميم؟ يعيره بهزيمتهم، ثم كرت تميم فهزموا أصحاب عمرو، فانجلى الرهج وبلعاء بْن مجاهد في جمع من بني تميم يشلهم، فقال التميمي لعمرو: هذه استاه قومي قَالَ: وانهزم عمرو، فقال بلعاء لأصحابه: لا تقتلوا الأسرى ولكن جردوهم، وجوبوا سراويلاتهم عن أدبارهم، ففعلوا، فقال بيان العنبري يذكر حربهم بالبروقان: أتاني ورحلي بالمدينة وقعة ... لآل تميم أرجفت كل مرجف تظل عيون البرش بكر بْن وائل ... إذا ذكرت قتلى البروقان تذرف هم أسلموا للموت عمرو بْن مسلم ... وولوا شلالا والأسنة ترعف وكانت من الفتيان في الحرب عادة ... ولم يصبروا عند القنا المتقصف خبر غزو مسلم بن سعيد الترك وفي هذه السنة غزا مسلم بْن سعيد الترك، فورد عليه عزله من خراسان من خالد بْن عبد الله، وقد قطع النهر لحربهم وولاية أسد بْن عبد الله عليها ذكر الخبر عن غزوة مسلم بْن سعيد هذه الغزوة: ذكر علي بْن محمد عن أشياخه أن مسلما غزا في هذه السنة، فخطب الناس في ميدان يزيد، وقال: ما أخلف بعدي شيئا أهم عندي من قوم

يتخلفون بعدي مخلقى الرقاب، يتواثبون الجدران على نساء المجاهدين، اللهم افعل بهم وافعل! وقد أمرت نصرا ألا يجد متخلفا إلا قتله، وما أرثي لهم من عذاب ينزله الله بهم- يعني عمرو بْن مسلم وأصحابه- فلما صار ببخارى أتاه كتاب من خالد بْن عبد الله القسري بولايته على العراق، وكتب إليه: أتمم غزاتك فسار إلى فرغانة، فقال أبو الضحاك الرواحي- أحد بني رواحة من بني عبس، وعداده في الأزد، وكان ينظر في الحساب: ليس على متخلف العام معصية، فتخلف أربعة آلاف. وسار مسلم بْن سعيد، فلما صار بفرغانة بلغه أن خاقان قد أقبل إليه، وأتاه شميل- أو شبيل- بْن عبد الرحمن المازني، فقال: عاينت عسكر خاقان في موضع كذا وكذا، فأرسل إلى عبد الله بْن أبي عبد الله الكرماني مولى بني سليم، فأمره بالاستعداد للمسير، فلما أصبح ارتحل بالعسكر، فسار ثلاث مراحل في يوم، ثم سار من غد حتى قطع وادي السبوح فأقبل إليهم خاقان، وتوافت إليه الخيل، فأنزل عبد الله بْن أبي عبد الله قوما من العرفاء والموالي، فأغار الترك على الذين أنزلهم عبد الله ذلك الموضع فقتلوهم، وأصابوا دواب لمسلم وقتل المسيب بْن بشر الرياحي، وقتل البراء- وكان من فرسان المهلب- وقتل أخو غوزك وثار الناس في وجوههم، فأخرجوهم من العسكر، ودفع مسلم لواءه إلى عامر بْن مالك الحماني، ورحل بالناس فساروا ثمانية أيام، وهم مطيفون بهم، فلما كانت الليلة التاسعة أراد النزول، فشاور الناس فأشاروا عليه بالنزول، وقالوا: إذا أصبحنا وردنا الماء، والماء منا غير بعيد، وإنك إن نزلت المرج تفرق الناس في الثمار، وانتهب عسكرك، فقال لسوره بْن الحر: يا أبا العلاء، ما ترى؟ قَالَ: أرى ما رأى الناس ونزلوا قَالَ: ولم يرفع بناء في العسكر، وأحرق الناس ما ثقل من الآنية والأمتعة، فحرقوا قيمة ألف ألف وأصبح الناس فساروا، فوردوا الماء فإذا دون النهر أهل فرغانة والشاش، فقال مسلم بْن سعيد: أعزم على كل رجل إلا اخترط سيفه، ففعلوا فصارت الدنيا كلها سيوفا، فتركوا الماء وعبروا، فأقام يوما،

ثم قطع من غد، وأتبعهم ابن الخاقان قَالَ: فأرسل حميد بْن عبد الله وهو على الساقة إلى مسلم: قف ساعة فإن خلفي مائتي رجل من الترك حتى أقاتلهم- وهو مثقل جراحة- فوقف الناس، فعطف على الترك، فأسر أهل السغد وقائدهم وقائد الترك في سبعة، وانصرف البقية، ومضى حميد ورمي بنشابة في ركبته، فمات. وعطش الناس، وقد كان عبد الرحمن بن نعيم الغامدي حمل عشرين قربة على إبله، فلما رأى جهد الناس أخرجها، فشربوا جرعا، واستسقى يوم العطش مسلم بْن سعيد فأتوه بإناء، فأخذه جابر- أو حارثة- بْن كثير أخو سليمان بْن كثير من فيه، فقال مسلم: دعوه، فما نازعني شربتي إلا من حر دخله، فأتوا خجندة، وقد أصابتهم مجاعة وجهد، فانتشر الناس فإذا فارسان يسألان عن عبد الرحمن بْن نعيم، فأتياه بعهده على خراسان من أسد بْن عبد الله، فأقرأه عبد الرحمن مسلما، فقال: سمعا وطاعة، قَالَ: وكان عبد الرحمن أول من اتخذ الخيام في مفازة آمل. قَالَ: وكان أعظم الناس غنى يوم العطش إسحاق بْن محمد الغداني، فقال حاجب الفيل لثابت قطنة، وهو ثابت بْن كعب: نقضي الأمور وبكر غير شاهدها ... بين المجاذيف والسكان مشغول ما يعرف الناس منه غير قطنته ... وما سواها من الآباء مجهول وكان لعبد الرحمن بْن نعيم من الولد نعيم وشديد وعبد السلام وإبراهيم والمقداد، وكان أشدهم نعيم وشديد، فلما عزل مسلم بْن سعيد، قَالَ الخزرج التغلبي: قاتلنا الترك، فأحاطوا بالمسلمين حتى أيقنوا بالهلاك، فنظرت إليهم وقد اصفرت وجوههم، فحمل حوثرة بْن يزيد بْن الحر بْن الحنيف بْن نصر بْن يزيد بْن جعونة على الترك في أربعة آلاف، فقاتلهم ساعة ثم رجع، وأقبل نصر بْن سيار في ثلاثين فارسا، فقاتلهم حتى أزالهم عن مواضعهم، وحمل الناس عليهم، فانهزم الترك. قَالَ: وحوثرة هذا هو ابن أخي رقبة بْن الحر قَالَ: وكان عمر بْن

حج هشام بن عبد الملك

هبيرة قَالَ لمسلم بْن سعيد حين ولاه خراسان: ليكن حاجبك من صالح مواليك، فإنه لسانك والمعبر عنك، وحث صاحب شرطتك على الأمانة، وعليك بعمال العذر قَالَ: وما عمال العذر؟ قَالَ: مر أهل كل بلد أن يختاروا لأنفسهم، فإذا اختاروا رجلا فوله، فإن كان خيرا كان لك، وإن كان شرا كان لهم دونك، وكنت معذورا. قَالَ: وكان مسلم بْن سعيد كتب إلى ابن هبيرة أن يوجه إليه توبة بْن أبي أسيد مولى بني العنبر، فكتب ابن هبيرة إلى عامله بالبصرة: احمل إلي توبة بْن أبي أسيد، فحمله فقدم- وكان رجلا جميلا جهيرا له سمت- فلما دخل على ابن هبيرة، قَالَ ابن هبيرة: مثل هذا فليول، ووجه به إلى مسلم، فقال له مسلم: هذا خاتمي فاعمل برأيك، فلم يزل معه حتى قدم أسد بْن عبد الله، فأراد توبة أن يشخص مع مسلم، فقال له أسد: أقم معي فأنا أحوج إليك من مسلم فأقام معه، فأحسن إلى الناس وألان جانبه، وأحسن إلى الجند وأعطاهم أرزاقهم، فقال له اسد: حلفهم بالطلاق فلا يتخلف أحد عن مغزاه، ولا يدخل بديلا، فأبى ذلك توبة فلم يحلفهم بالطلاق. قَالَ: وكان الناس بعد توبة يحلفون الجند بتلك الايمان، فلما قدم عاصم ابن عبد الله أراد أن يحلف الناس بالطلاق فأبوا، وقالوا: نحلف بأيمان توبة، قَالَ: فهم يعرفون ذلك، يقولون: ايمان توبه . حج هشام بن عبد الملك وحج بالناس في هذه السنة هشام بْن عبد الملك، حدثني بذلك أحمد ابن ثَابِت عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي وغيره، لا خلاف بينهم في ذلك. قَالَ الواقدي: حدثني ابن أبي الزناد، عن أبيه، قَالَ: كتب الى

هشام بْن عبد الملك قبل أن يدخل المدينة أن اكتب لي سنن الحج، فكتبتها له، وتلقاه أبو الزناد قَالَ أبو الزناد: فإني يومئذ في الموكب خلفه، وقد لقيه سعيد بْن عبد الله بْن الوليد بْن عثمان بْن عفان، وهشام يسير، فنزل له، فسلم عليه، ثم سار إلى جنبه، فصاح هشام: أبو الزناد! فتقدمت، فسرت إلى جنبه الآخر، فأسمع سعيدا يقول: يا أمير المؤمنين، إن الله لم يزل ينعم على أهل بيت أمير المؤمنين، وينصر خليفته المظلوم، ولم يزالوا يلعنون في هذه المواطن الصالحة أبا تراب، فأمير المؤمنين ينبغي له أن يلعنه في هذه المواطن الصالحة، قَالَ: فشق على هشام، وثقل عليه كلامه، ثم قَالَ: ما قدمنا لشتم أحد ولا للعنة، قدمنا حجاجا ثم قطع كلامه وأقبل علي فقال: يا عبد الله بْن ذكوان، فرغت مما كتبت إليك؟ فقلت: نعم، فقال أبو الزناد: وثقل على سعيد ما حضرته يتكلم به عند هشام، فرأيته منكسرا كلما رآني. وفي هذه السنة كلم إبراهيم بْن محمد بْن طلحة هشام بْن عبد الملك- وهشام واقف قد صلى في الحجر- فقال له: أسألك بالله وبحرمة هذا البيت والبلد الذي خرجت معظما لحقه، إلا رددت علي ظلامتي! قَالَ: أي ظلامة؟ قَالَ: داري، قَالَ: فأين كنت عن أمير المؤمنين عبد الملك؟ قَالَ: ظلمني والله، قَالَ: فعن الوليد بْن عبد الملك؟ قَالَ: ظلمني والله، قَالَ: فعن سليمان؟ قَالَ: ظلمني، قَالَ: فعن عمر بْن عبد العزيز؟ قَالَ: يرحمه الله، ردها والله علي، قَالَ: فعن يزيد بْن عبد الملك؟ قَالَ: ظلمني والله، هو قبضها مني بعد قبضي لها، وهي في يديك قَالَ هشام: أما والله لو كان فيك ضرب لضربتك، فقال إبراهيم: في والله ضرب بالسيف والسوط. فانصرف هشام والأبرش خلفه فقال: أبا مجاشع، كيف سمعت هذا اللسان؟ قال: ما اجود هذا اللسان! قَالَ: هذه قريش وألسنتها، ولا يزال في الناس بقايا ما رأيت مثل هذا.

ولايه اسد بن عبد الله القسرى على خراسان

وفي هذه السنة قدم خالد بْن عبد الله القسري أميرا على العراق. ولايه اسد بن عبد الله القسرى على خراسان وفيها استعمل خالد أخاه أسد بْن عبد الله أميرا على خراسان، فقدمها ومسلم بْن سعيد غاز بفرغانة، فذكر عن أسد أنه لما أتى النهر ليقطع، منعه الأشهب بْن عبيد التميمي أحد بني غالب، وكان على السفن بآمل، فقال له أسد: أقطعني، فقال: لا سبيل إلى إقطاعك، لأني نهيت عن ذلك، قَالَ: لاطفوه وأطعموه، فأبى، قَالَ: فإني الأمير، ففعل، فقال أسد: اعرفوا هذا حتى نشركه في أمانتنا، فقطع النهر، فأتى السغد، فنزل مرجها، وعلى خراج سمرقند هانئ بْن هانئ، فخرج في الناس يتلقى أسدا، فأتوه بالمرج، وهو جالس على حجر، فتفاءل الناس، فقالوا: أسد على حجر! ما عند هذا خير فقال له هانئ: أقدمت أميرا فنفعل بك ما نفعل بالأمراء؟ قَالَ: نعم، قدمت أميرا ثم دعا بالغداء فتغدى بالمرج، وقال: من ينشط بالمسير وله أربعة عشر درهما- ويقال: قَالَ ثلاثة عشر درهما- وها هي في كمي؟ وإنه ليبكي ويقول: إنما أنا رجل مثلكم وركب فدخل سمرقند وبعث رجلين معهما عهد عبد الرحمن بْن نعيم على الجند، فقدم الرجلان على عبد الرحمن بْن نعيم، وهو في وادي أفشين على الساقة- وكانت الساقة على أهل سمرقند الموالي وأهل الكوفة- فسألا عن عبد الرحمن فقالوا: هو في الساقة، فأتياه بعهد وكتاب بالقفل والإذن لهم فيه، فقرأ الكتاب ثم أتى به مسلما وبعهده، فقال مسلم: سمعا وطاعه، فقام عمرو ابن هلال السدوسي- ويقال التيمى- فقنعه سوطين لما كان منه بالبروقان إلى بكر بْن وائل، وشتمه حسين بْن عثمان بْن بشر بْن المحتفز، فغضب

عبد الرحمن بْن نعيم، فزجرهما ثم أغلظ لهما، وأمر بهما فدفعا، وقفل بالناس وشخص معه مسلم. فذكر علي بْن محمد عن أصحابه، أنهم قدموا على أسد، وهو بسمرقند، فشخص أسد إلى مرو، وعزل هانئا، واستعمل على سمرقند الحسن بْن أبي العمرطة الكندي من ولد آكل المرار قَالَ: فقدمت على الحسن امرأته الجنوب ابنة القعقاع بْن الأعلم رأس الأزد، ويعقوب بْن القعقاع قاضي خراسان، فخرج يتلقاها، وغزاهم الترك، فقيل له: هؤلاء الترك قد أتوك- وكانوا سبعة آلاف- فقال: ما أتونا بل أتيناهم وغلبناهم على بلادهم واستعبدناهم، وايم الله مع هذا لأدنينكم منهم، ولأقرنن نواصي خيلكم بنواصي خيلهم. قَالَ: ثم خرج فتباطأ حتى أغاروا وانصرفوا، فقال الناس: خرج إلى امرأته يتلقاها مسرعا، وخرج إلى العدو متباطئا فبلغه فخطبهم، فقال: تقولون وتعيبون! اللهم اقطع آثارهم وعجل أقدارهم، وأنزل بهم الضراء وارفع عنهم السراء! فشتمه الناس في أنفسهم. وكان خليفته حين خرج إلى الترك ثابت قطنة، فخطب الناس فحصر فقال: من يطع الله ورسوله فقد ضل، وارتج عليه، فلم ينطق بكلمة، فلما نزل عن المنبر قَالَ: إن لم أكن فيكم خطيبا فإنني ... بسيفي إذا جد الوغى لخطيب فقيل له: لو قلت هذا على المنبر، لكنت خطيبا، فقال حاجب الفيل اليشكري يعيره حصره: أبا العلاء لقد لاقيت معضلة ... يوم العروبة من كرب وتخنيق تلوي اللسان إذا رمت الكلام به ... كما هوى زلق من شاهق النيق

لما رمتك عيون الناس ضاحية ... أنشأت تجرض لما قمت بالريق أما القران فلا تهدى لمحكمة ... من القران ولا تهدى لتوفيق وفي هذه السنة ولد عبد الصمد بْن علي في رجب. وكان العامل على المدينة ومكة والطائف في هذه السنة إبراهيم بْن هشام المخزومي وعلى العراق وخراسان خالد بْن عبد الله القسري، وعامل خالد على صلاة البصرة عقبة بْن عبد الأعلى، وعلى شرطتها مالك بْن المنذر بْن الجارود، وعلى قضائها ثمامة بْن عبد الله بْن أنس، وعلى خراسان أسد بْن عبد الله.

سنه سبع ومائه

ثم دخلت سنة سبع ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من خروج عباد الرعيني باليمن محكما، فقتله يوسف ابن عمر، وقتل معه اصحابه كلهم وكانوا ثلاثمائه. وفيها غزا الصائفة معاوية بْن هشام، وعلى جيش الشام ميمون بْن مهران، فقطع البحر حتى عبر إلى قبرس، وخرج معهم البعث الذى هشام كان أمر به في حجته سنة ست، فقدموا في سنة سبع على الجعائل، غزا منهم نصفهم وقام النصف وغزا البر مسلمة بْن عبد الملك وفيها وقع بالشام طاعون شديد. وفيها وجه بكير بْن ماهان أبا عكرمة وأبا محمد الصادق ومحمد بْن خنيس وعمار العبادي في عدة من شيعتهم، معهم زياد خال الوليد الأزرق دعاة إلى خراسان، فجاء رجل من كندة إلى أسد بْن عبد الله، فوشى بهم إليه، فأتى بأبي عكرمة ومحمد بْن خنيس وعامة أصحابه، ونجا عمار، فقطع أسد أيدي من ظفر به منهم وأرجلهم، وصلبهم فأقبل عمار إلى بكير بْن ماهان، فأخبره الخبر، فكتب به إلى محمد بْن علي، فأجابه: الحمد لله الذي صدق مقالتكم ودعوتكم، وقد بقيت منكم قتلى ستقتل. وفي هذه السنة حمل مسلم بْن سعيد إلى خالد بن عبد الله، وكان اسد ابن عبد الله له مكرما بخراسان لم يعرض له ولم يحبسه، فقدم مسلم وابن هبيرة مجمع على الهرب، فنهاه عن ذلك مسلم، وقال له: إن القوم فينا أحسن رأيا منكم فيهم وفي هذه السنة غزا أسد جبال نمرون ملك الغرشستان مما يلي جبال الطالقان، فصالحه نمرون وأسلم على يديه، فهم اليوم يتولون اليمن. غزو الغور وفيها غزا أسد الغور وهي جبال هراة

أخبار متفرقة

ذكر الخبر عن غزوة أسد هذه الغزوة: ذكر علي بن محمد عن أشياخه، أن أسدا غزا الغور، فعمد أهلها إلى أثقالهم فصيروها في كهف ليس إليه طريق، فأمر أسد باتخاذ توابيت ووضع فيها الرجال، ودلاها بالسلاسل، فاستخرجوا ما قدروا عليه، فقال ثابت قطنة: أرى أسدا تضمن مفظعات ... تهيبها الملوك ذوو الحجاب سما بالخيل في أكناف مرو ... وتوفزهن بين هلا وهاب إلى غورين حيث حوى أزب ... وصك بالسيوف وبالحراب هدانا الله بالقتلى تراها ... مصلبة بأفواه الشعاب ملاحم لم تدع لسراة كلب ... مهاترة ولا لبني كلاب فأوردها النهاب وآب منها ... بأفضل ما يصاب من النهاب وكان إذا أناخ بدار قوم ... أراها المخزيات من العذاب ألم يزر الجبال جبال ملع ... ترى من دونها قطع السحاب بأرعن لم يدع لهم شريدا ... وعاقبها الممض من العقاب وملع من جبال خوط فيها تعمل الحزم الملعية. [أخبار متفرقة] وفي هذه السنة نقل أسد من كان بالبروقان من الجند إلى بلخ، فأقطع كل من كان له بالبروقان مسكن مسكنا بقدر مسكنه، ومن لم يكن له مسكن أقطعه مسكنا، وأراد أن ينزلهم على الأخماس، فقيل له: إنهم يتعصبون، فخلط بينهم، وكان قسم لعمارة مدينة بلخ الفعلة على كل كورة على قدر خراجها، وولى بناء مدينة بلخ برمك أبا خالد بْن برمك، - وكان البروقان منزل الأمراء وبين البروقان وبين بلخ فرسخان وبين المدينة والنوبهار قدر غلوتين- فقال أبو البريد في بنيان أسد مدينة بلخ: شعفت فؤادك فالهوى لك شاعف ... رئم على طفل بحومل عاطف

ترعى البرير بجانبي متهدل ... ريان لا يعشو إليه آلف بمحاضر من منحني عطفت له ... بقر ترجح زانهن روادف إن المباركة التي أحصنتها ... عصم الذليل بها وقر الخائف فأراك فيها ما رأى من صالح ... فتحا وأبواب السماء رواعف فمضى لك الاسم الذي يرضى به ... عنك البصير بما نويت اللاطف يا خير ملك ساس أمر رعية ... إني على صدق اليمين لحالف الله آمنها بصنعك بعد ما ... كانت قلوب خوفهن رواجف وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن هشام، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر وكذلك قال الواقدي وهشام وغيرهما. وكانت عمال الأمصار فِي هَذِهِ السنة عمالها الذين ذكرناهم قبل في سنة ست ومائة

سنه ثمان ومائه

ثم دخلت سنة ثمان ومائة (ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففيها كانت غزوة مسلمة بْن عبد الملك حتى بلغ قيسارية، مدينة الروم مما يلي الجزيرة، ففتحها الله على يديه. وفيها أيضا غزا إبراهيم بْن هشام ففتح أيضا حصنا من حصون الروم. وفيها وجه بكير بن ماهان الى خراسان عدة، فيهم عمار العبادي، فوشى بهم رجل إلى أسد بْن عبد الله، فأخذ عمارا فقطع يديه ورجليه ونجا أصحابه، فقدموا على بكير بْن ماهان فأخبروه الخبر، فكتب بذلك إلى محمد بْن علي، فكتب إليه في جواب الكتاب: الحمد لله الذي صدق دعوتكم ونجى شيعتكم. وفيها كان الحريق بدابق، فذكر مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ نافع حدثه عن أبيه، قَالَ: احترق المرعى حتى احترق الدواب والرجال. غزو الختل وفيها غزا أسد بْن عبد الله الختل، فذكر عن علي بْن محمد أن خاقان أتى أسدا وقد انصرف إلى القواديان، وقطع النهر، ولم يكن بينهم قتال في تلك الغزاة وذكر عن أبي عبيدة، أنه قَالَ: بل هزموا أسدا وفضحوه، فتغنى عليه الصبيان: از ختلان آمذى ... برو تباه آمذي قَالَ: وكان السبل محاربا له، فاستجلب خاقان، وكان أسد قد أظهر أنه يشتو بسرخ دره، فأمر أسد الناس فارتحلوا، ووجه راياته، وسار في ليلة مظلمة إلى سرخ دره، فكبر الناس، فقال أسد: ما للناس؟ قالوا:

هذه علامتهم إذا ففلوا، فقال لعروة المنادي: ناد أن الأمير يريد غورين، ومضى وأقبل خاقان حين انصرفوا إلى غورين النهر فقطع النهر، فلم يلتق هو ولا هم، ورجع إلى بلخ، فقال الشاعر في ذلك يمدح اسد بن عبد الله: ندبت لي من كل خمس ألفين ... من كل لحاف عريض الدفين قال: ومضى المسلمون إلى الغوريان فقاتلوهم يوما، وصبروا لهم، وبرز رجل من المشركين، فوقف أمام أصحابه وركز رمحه، وقد أعلم بعصابة خضراء- وسلم بْن أحوز واقف مع نصر بن سيار- فقال سلم لنصر: قد عرفت رأي أسد، وأنا حامل على هذا العلج، فلعلي أن أقتله فيرضى. فقال: شأنك، فحمل عليه، فما اختلج رمحه حتى غشيه سلم فطعنه فإذا هو بين يدي فرسه، ففحص برجله، فرجع سلم فوقف، فقال لنصر: أنا حامل حمله أخرى، فحمل حتى إذا دنا منهم اعترضه رجل من العدو، فاختلفا ضربتين، فقتله سلم، فرجع سلم جريحا، فقال نصر لسلم: قف لي حتى أحمل عليهم، فحمل حتى خالط العدو، فصرع رجلين ورجع جريحا، فوقف فقال: أترى ما صنعنا يرضيه؟ لا أرضاه الله! فقال: لا والله فيما أظن وأتاهما رسول أسد فقال: يقول لكما الأمير: قد رأيت موقفكما منذ اليوم وقلة غنائكما عن المسلمين، لعنكما الله! فقالا: آمين إن عدنا لمثل هذا وتحاجزوا يومئذ، ثم عادوا من الغد فلم يلبث المشركون أن انهزموا، وحوى المسلمون عسكرهم، وظهروا على البلاد فأسروا وسبوا وغنموا، وقال بعضهم رجع أسد في سنة ثمان ومائة مفلولا من الختل، فقال اهل خراسان: از ختلان آمذى ... برو تباه آمذي بيدل فراز آمذي قال: وكان أصاب الجند في غزاة الختل جوع شديد، فبعث اسد

بكبشين مع غلام له، وقال: لا تبعهما باقل من خمسمائة، فلما مضى الغلام، قَالَ أسد: لا يشتريهما إلا ابن الشخير، وكان في المسلحة، فدخل ابن الشخير حين أمسى، فوجد الشاتين في السوق، فاشتراهما بخمسمائة، فذبح إحداهما وبعث بالأخرى إلى بعض إخوانه، فلما رجع الغلام إلى أسد أخبره بالقصة، فبعث إليه أسد بألف درهم. قَالَ: وابن الشخير هو عثمان بْن عبد الله بْن الشخير، أخو مطرف بْن عبد الله بْن الشخير الحرشي وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن هشام وهو على المدينة ومكة والطائف. حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال محمد بن عمر الواقدي وكان العمال في هذه السنة على الأمصار في الصلاة والحروب والقضاء هم العمال الذين كانوا في السنة التي قبلها، وقد ذكرناهم قبل.

سنه تسع ومائه

ثم دخلت سنة تسع ومائة (ذكر الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) فِمِمَّا كَانَ فِيهَا من ذلك غزوة عبد الله بْن عقبة بْن نافع الفهري على جيش في البحر وغزوة معاوية بْن هشام أرض الروم، ففتح حصنا بها يقال له طيبة، وأصيب معه قوم من اهل أنطاكية خبر مقتل عمر بن يزيد الأسيدي وفيها قتل عمر بْن يزيد الأسيدي، قتله مالك بْن المنذر بْن الجارود ذكر الخبر عن ذلك: وكان سبب ذلك- فيما ذكر- أن خالد بْن عبد الله شهد عمر بْن يزيد أيام حرب يزيد بْن المهلب، فأعجب به يزيد بْن عبد الملك، وقال: هذا رجل العراق، فغاظ ذلك خالدا، فأمر مالك بْن المنذر وهو على شرطه البصرة أن يعظم عمر بْن يزيد، ولا يعصى له أمرا حتى يعرفه الناس، ثم أقبل يعتل عليه حتى يقتله، ففعل ذلك، فذكر يوما عبد الأعلى بْن عبد الله بْن عامر، فافترى عليه مالك، فقال له عمر بْن يزيد: تفتري على مثل عبد الأعلى! فأغلظ له مالك، فضربه بالسياط حتى قتله . غزو غورين وفيها غزا أسد بْن عبد الله غورين، وقال ثابت قطنة: أرى أسدا في الحرب إذ نزلت به ... وقارع أهل الحرب فاز وأوجبا تناول أرض السبل، خاقان ردؤه ... فحرق ما استعصى عليه وخربا أتتك وفود الترك ما بين كابل ... وغورين إذ لم يهربوا منك مهربا فما يغمر الأعداء من ليث غابة ... أبي ضاريات حرشوه فعقبا

ذكر الخبر عن عزل هشام خالدا وأخاه عن خراسان

أزب كأن الورس فوق ذراعه ... كريه المحيا قد أسن وجربا ألم يك في الحصن المبارك عصمة ... لجندك إذ هاب الجبان وأرهبا! بنى لك عبد الله حصنا ورثته ... قديما إذا عد القديم وأنجبا. وفي هذه السنة عزل هشام بْن عبد الملك خالد بْن عبد الله عن خراسان وصرف أخاه أسدا عنها . ذكر الخبر عن عزل هشام خالدا وأخاه عن خراسان وكان سبب ذلك أن أسدا أخا خالد تعصب حتى أفسد الناس، فقال أبو البريد- فيما ذكر علي بْن محمد لبعض الأزد: ادخلنى على ابن عمك عبد الرحمن ابن صبح، وأوصه بي، وأخبره عني، فأدخله عليه- وهو عامل لأسد على بلخ- فقال: أصلح الله الأمير! هذا أبو البريد البكري أخونا وناصرنا، وهو شاعر أهل المشرق، وهو الذي يقول: إن تنقض الأزد حلفا كان أكده ... في سالف الدهر عباد ومسعود ومالك وسويد أكداه معا ... لما تجرد فيها أي تجريد حتى تنادوا أتاك الله ضاحية ... وفي الجلود من الإيقاع تقصيد قَالَ: فجذب أبو البريد يده، وقال: لعنك الله من شفيع كذب! أصلحك الله! ولكني الذي أقول: الأزد إخوتنا وهم حلفاؤنا ... ما بيننا نكث ولا تبديل قال: صدقت، وضحك وأبو البريد من بني علباء بن شيبان بن ذهل ابن ثعلبة. قَالَ: وتعصب على نصر بْن سيار ونفر معه من مضر، فضربهم بالسياط، وخطب في يوم جمعه فقال في خطبته: قبح الله هذه الوجوه! وجوه أهل الشقاق والنفاق، والشغب والفساد اللهم فرق بيني وبينهم، وأخرجني إلى مهاجري ووطني، وقل من يروم ما قبلي أو يترمرم، وأمير المؤمنين خالي، وخالد بْن عبد الله أخي، ومعي اثنا عشر ألف سيف يمان

ثم نزل عن منبره، فلما صلى ودخل عليه الناس، وأخذوا مجالسهم، أخرج كتابا من تحت فراشه، فقرأه على الناس، فيه ذكر نصر بْن سيار وعبد الرحمن بن نعيم الغامدي وسورة بْن الحر الأباني- أبان بْن دارم- والبختري بْن أبي درهم من بني الحارث بْن عباد، فدعاهم فأنبهم، فأزم القوم، فلم يتكلم منهم أحد، فتكلم سورة، فذكر حاله وطاعته ومناصحته، وأنه ليس ينبغي له أن يقبل قول عدو مبطل، وأن يجمع بينهم وبين من قرفهم بالباطل فلم يقبل قوله، وأمر بهم فجردوا، فضرب عبد الرحمن بْن نعيم، فإذا رجل عظم البطن، أرسح، فلما ضرب التوى، وجعل سراويله يزل عن موضعه، فقام رجل من أهل بيته، فأخذ رداء له هرويا، وقام مادا ثوبه بيده، وهو ينظر إلى أسد، يريد أن يأذن له فيؤزره فأومى إليه أن أفعل، فدنا منه فأزره- ويقال بل أزره أبو نميلة- وقال له: اتزر أبا زهير، فإن الأمير وال مؤدب ويقال: بل ضربهم في نواحي مجلسه. فلما فرغ قَالَ: أين تيس بني حمان؟ - وهو يريد ضربه، وقد كان ضربه قبل- فقال: هذا تيس بني حمان، وهو قريب العهد بعقوبة الأمير، وهو عامر بْن مالك بْن مسلمة بْن يزيد بْن حجر بْن خيسق بْن حمان بْن كعب بْن سعد وقيل إنه حلقهم بعد الضرب، ودفعهم إلى عبد ربه بْن أبي صالح مولى بني سليم- وكان من الحرس- وعيسى بن ابى بريق، ووجههم الى خالد، وكتب اليه: انهم أرادوا الوثوب عليه، فكان ابن ابى بريق كلما نبت شعر احدهم حلقه، وكان البختري بن أبي درهم، يقول: لوددت أنه ضربني وهذا شهرا- يعني نصر بْن سيار لما كان بينهما بالبروقان- فأرسل بنو تميم إلى نصر: إن شئتم انتزعناكم من أيديهم، فكفهم نصر، فلما قدم بهم على خالد لام أسدا وعنفه، وقال: ألا بعثت برءوسهم! فقال عرفجة التميمي: فكيف وأنصار الخليفة كلهم ... عناة وأعداء الخليفة تطلق

ذكر الخبر عن دعاه بنى العباس

بكيت ولم أملك دموعي وحق لي ... ونصر شهاب الحرب في الغل موثق وقال نصر: بعثت بالعتاب في غير ذنب ... في كتاب تلوم أم تميم إن أكن موثقا أسيرا لديهم ... في هموم وكربة وسهوم رهن قسر فما وجدت بلاء ... كأسار الكرام عند اللئيم أبلغ المدعين قسرا وقسر ... أهل عود القناة ذات الوصوم هل فطمتم عن الخيانة والغدر ... أم أنتم كالحاكر المستديم، وقال الفرزدق: أخالد لولا الله لم تعط طاعة ... ولولا بنو مروان لم توثقوا نصرا إذا للقيتم دون شد وثاقه ... بنى الحرب لا كشف اللقاء ولا ضجرا وخطب أسد بْن عبد الله على منبر بلخ، فقال في خطبته: يا أهل بلخ، لقبتموني الزاغ والله لأزيغن قلوبكم. فلما تعصب أسد وأفسد الناس بالعصبية، كتب هشام إلى خالد بْن عبد الله: اعزل أخاك، فعزله فاستأذن له في الحج، فقفل أسد إلى العراق ومعه دهاقين خراسان، في شهر رمضان سنة تسع ومائة، واستخلف أسد على خراسان الحكم بْن عوانة الكلبي، فأقام الحكم صيفيه، فلم يغز. ذكر الخبر عن دعاه بنى العباس وذكر علي بْن محمد أن أول من قدم خراسان من دعاة بني العباس زياد أبو محمد مولى همدان في ولاية أسد بْن عبد الله الأولى، بعثه محمد بْن على ابن عبد الله بْن العباس، وقال له: ادع الناس إلينا وانزل في اليمن، والطف بمضر ونهاه عن رجل من أبرشهر، يقال له غالب، لأنه كان مفرطا في حب بني فاطمه

ويقال: أول من جاء أهل خراسان بكتاب محمد بن على حرب بْن عثمان، مولى بني قيس بْن ثعلبة من أهل بلخ. قَالَ: فلما قدم زياد أبو محمد، ودعا إلى بني العباس، وذكر سيرة بني مروان وظلمهم، وجعل يطعم الناس الطعام، فقدم عليه غالب من أبرشهر، فكانت بينهم منازعة، غالب يفضل آل أبي طالب وزياد يفضل بني العباس. ففارقه غالب، وأقام زياد بمرو شتوة، وكان يختلف إليه من أهل مرو يحيى بْن عقيل الخزاعي وإبراهيم بْن الخطاب العدوي. قَالَ: وكان ينزل برزن سويد الكاتب في دور آل الرقاد، وكان على خراج مرو الحسن بْن شيخ، فبلغه أمره، فأخبر به أسد بْن عبد الله، فدعا به- وكان معه رجل يكنى أبا موسى- فلما نظر أليه أسد، قَالَ له: أعرفك؟ قَالَ: نعم، قَالَ له أسد: رأيتك في حانوت بدمشق، قَالَ: نعم، قَالَ لزياد: فما هذا الذي بلغني عنك؟ قَالَ: رفع إليك الباطل، إنما قدمت خراسان في تجارة، وقد فرقت مالي على الناس، فإذا صار إلي خرجت. قَالَ له أسد: اخرج عن بلادي، فانصرف، فعاد إلى أمره، فعاود الحسن أسدا، وعظم عليه أمره، فأرسل إليه، فلما نظر إليه، قَالَ: ألم أنهك عن المقام بخراسان! قَالَ: ليس عليك أيها الأمير مني بأس، فاحفظه وأمر بقتلهم، فقال له أبو موسى: فاقض ما أنت قاض فازداد غضبا، وقال له: أنزلتني منزلة فرعون! فقال له: ما أنزلتك ولكن الله أنزلك. فقتلوا، وكانوا عشرة من أهل بيت الكوفة، فلم ينج منهم يومئذ إلا غلامان استصغرهما، وأمر بالباقين فقتلوا بكشانشاه. وقال قوم: أمر أسد بزياد أن يخط وسطه، فمد بين اثنين، فضرب فنبا السيف عنه، فكبر أهل السوق، فقال أسد: ما هذا؟ فقيل له، لم يحك السيف فيه فأعطى أبا يعقوب سيفا، فخرج في سراويل والناس قد اجتمعوا عليه، فضربه، فنبا السيف، فضربه ضربة أخرى، فقطعه باثنتين

ولايه اشرس بن عبد الله على خراسان

وقال آخرون: عرض عليهم البراءة، فمن تبرأ منهم مما رفع عليه خلى سبيله، فأبى البراءة ثمانية منهم، وتبرأ اثنان. فلما كان الغد أقبل أحدهما وأسد في مجلسه المشرف على السوق بالمدينة العتيقة، فقال: اليس هذا أسيرنا بالأمس! فأتاه، فقال له: أسألك أن تلحقني بأصحابي، فأشرفوا به على السوق، وهو يقول: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا وبمحمد ص نبيا، فدعا اسد بسيف بخاراخذاه، فضرب عنقه بيده قبل الأضحى بأربعة أيام، ثم قدم بعدهم رجل من أهل الكوفة يسمى كثيرا، فنزل على أبي النجم، فكان يأتيه الذين لقوا زيادا فيحدثهم ويدعوهم، فكان على ذلك سنة أو سنتين، وكان كثير أميا، فقدم عليه خداش، وهو في قرية تدعى مرعم، فغلب كثيرا على أمره، ويقال: كان اسمه عمارة فسمي خداشا، لأنه خدش الدين. وكان أسد استعمل عيسى بْن شداد البرجمي إمرته الأولى في وجه وجهه على ثابت قطنة، فغضب، فهجا أسدا، فقال: أرى كل قوم يعرفون أباهم ... وأبو بجيلة بينهم يتذبذب إني وجدت أبي أباك فلا تكن ... إلبا علي مع العدو تجلب أرمي بسهمي من رماك بسهمه ... وعدو من عاديت غير مكذب اسد بن عبد الله جلل عفوه ... أهل الذنوب فكيف من لم يذنب! أجعلتني للبرجمي حقيبة ... والبرجمي هو اللئيم المحقب عبد إذا استبق الكرام رأيته ... يأتي سكينا حاملا في الموكب إني أعوذ بقبر كرز أن أرى ... تبعا لعبد من تميم محقب. ولايه اشرس بن عبد الله على خراسان وفي هذه السنة استعمل هشام بْن عبد الملك على خراسان اشرس

ابن عبد الله السلمي، فذكر علي بْن محمد، عن أبي الذيال العدوي ومحمد بْن حمزة، عن طرخان ومحمد بْن الصلت الثقفي أن هشام بن عبد الملك عزل اسد ابن عبد الله عن خراسان، واستعمل أشرس بْن عبد الله السلمي عليها، وأمره أن يكاتب خالد بْن عبد الله القسري- وكان أشرس فاضلا خيرا، وكانوا يسمونه الكامل لفضله عندهم- فسار الى خراسان، فلما قدمها فرحوا بقدومه، فاستعمل على شرطته عميرة أبا أمية اليشكري ثم عزله وولى السمط، واستقضى على مرو أبا المبارك الكندي، فلم يكن له علم بالقضاء، فاستشار مقاتل بْن حيان، فأشار عليه مقاتل بمحمد بْن زيد فاستقضاه، فلم يزل قاضيا حتى عزل اشرس. وكان أول من اتخذ الرابطة بخراسان واستعمل على الرابطة عبد الملك بْن دثار الباهلي، وتولى أشرس صغير الأمور وكبيرها بنفسه. قَالَ: وكان أشرس لما قدم خراسان كبر الناس فرحا به، فقال رجل: لقد سمع الرحمن تكبير أمة ... غداة أتاها من سليم إمامها إمام هدى قوى لهم أمرهم به ... وكانت عجافا ما تمخ عظامها وركب حين قدم حمارا، فقال له حيان النبطي: أيها الأمير، إن كنت تريد أن تكون والي خراسان فاركب الخيل، وشد حزام فرسك، والزم السوط خاصرته حتى تقدم النار، وإلا فارجع قَالَ: ارجع إذن، ولا أقتحم النار يا حيان ثم أقام وركب الخيل. قَالَ علي: وقال يحيى بْن حضين: رأيت في المنام قبل قدوم أشرس قائلا يقول: أتاكم الوعر الصدر، الضعيف الناهضة، المشئوم الطائر، فانتبهت فزعا ورأيت في الليلة الثانية: أتاكم الوعر الصدر، الضعيف الناهضة، المشئوم الطائر، الخائن قومه، جغر، ثم قَالَ: لقد ضاع جيش كان جغر أميرهم ... فهل من تلاف قبل دوس القبائل

أخبار متفرقة

فإن صرفت عنهم به فلعله ... وإلا يكونوا من أحاديث قائل وكان أشرس يلقب جغرا بخراسان . [أخبار متفرقة] وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن هشام، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر وكذلك قَالَ الواقدي وغيره. وقال الواقدي: خطب الناس إبراهيم بْن هشام بمنى في هذه السنة الغد من يوم النحر بعد الظهر فقال سلوني، فأنا ابن الوحيد، لا تسألون أحدا أعلم مني فقام إليه رجل من أهل العراق فسأله عن الأضحية، أواجبة هي أم لا؟ فما درى أي شيء يقول له! فنزل. وَكَانَ العامل فِي هَذِهِ السنة عَلَى الْمَدِينَة ومكة والطائف إبراهيم بْن هشام، وعلى البصرة والكوفة خالد بْن عبد الله، وعلى الصلاة بالبصرة أبان بْن ضبارة اليزني، وعلى شرطتها بلال بْن أبي بردة، وعلى قضائها ثمامة بْن عبد الله الأنصاري، من قبل خالد بْن عبد الله، وعلى خراسان أشرس بْن عبد الله.

سنه عشر ومائه

ثم دخلت سنة عشر ومائة (ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك غزوة مسلمة بْن عبد الملك الترك، سار إليهم نحو باب اللان حتى لقي خاقان في جموعه، فاقتتلوا قريبا من شهر، وأصابهم مطر شديد، فهزم الله خاقان، فانصرف، فرجع مسلمة فسلك على مسجد ذي القرنين وفيها غزا- فيما ذكر- معاوية بْن هشام أرض الروم، ففتح صماله وفيها غزا الصائفة عبد الله بْن عقبة الفهري وكان على جيش البحر-- فيما ذكر الواقدي- عبد الرحمن بْن معاوية بْن حديج. وفي هذه السنة دعا الأشرس أهل الذمة من أهل سمرقند ومن وراء النهر إلى الإسلام، على أن توضع عنهم الجزية، فأجابوا إلى ذلك، فلما أسلموا وضع عليهم الجزية، وطالبهم بها، فنصبوا له الحرب. ذكر الخبر عما كان من أمر أشرس وأمر أهل سمرقند ومن وليهم في ذلك. ذكر أن أشرس قَالَ في عمله بخراسان: ابغوني رجلا له ورع وفضل أوجهه إلى من وراء النهر، فيدعوهم إلى الإسلام فأشاروا عليه بأبي الصيداء صالح بن طريف، مولى بنى ضبة، فقال: لست بالماهر بالفارسية، فضموا معه الربيع بْن عمران التميمي، فقال أبو الصيداء: اخرج على شريطه أن من أسلم لم يؤخذ منه الجزية، فإنما خراج خراسان على رءوس الرجال، قَالَ أشرس: نعم، قَالَ أبو الصيداء لأصحابه: فإني أخرج فإن لم يف العمال أعنتموني عليهم، قالوا: نعم

فشخص إلى سمرقند، وعليها الحسن بْن أبي العمر طه الكندي على حربها وخراجها، فدعا أبو الصيداء أهل سمرقند ومن حولها إلى الإسلام، على أن توضع عنهم الجزية، فسارع الناس، فكتب غوزك إلى أشرس: إن الخراج قد انكسر، فكتب أشرس إلى ابن أبي العمرطة: إن في الخراج قوة للمسلمين، وقد بلغني أن أهل السغد وأشباههم لم يسلموا رغبة، وإنما دخلوا في الإسلام تعوذا من الجزية، فانظر من اختتن وأقام الفرائض وحسن إسلامه، وقرأ سورة من القرآن، فارفع عنه خراجه ثم عزل اشرس ابن ابى العمرطه عن الخراج، وصيره إلى هانئ بْن هانئ، وضم إليه الأشحيذ، فقال ابن أبي العمرطة لأبي الصيداء: لست من الخراج الآن في شيء، فدونك هانئا والأشحيذ، فقام أبو الصيداء يمنعهم من أخذ الجزية ممن أسلم، فكتب هانئ: إن الناس قد أسلموا وبنوا المساجد فجاء دهاقين بخاري إلى أشرس فقالوا: ممن تأخذ الخراج، وقد صار الناس كلهم عربا؟ فكتب أشرس إلى هانئ وإلى العمال: خذوا الخراج ممن كنتم تأخذونه منه، فأعادوا الجزية على من أسلم، فامتنعوا، واعتزل من أهل السغد سبعة آلاف، فنزلوا على سبعة فراسخ من سمرقند، وخرج إليهم أبو الصيداء وربيع بْن عمران التميمي والقاسم الشيباني وأبو فاطمة الأزدي وبشر بْن جرموز الضبي وخالد بْن عبد الله النحوي وبشر بْن زنبور الأزدي وعامر بْن قشير- أو بشير، الخجندي، وبيان العنبري وإسماعيل بْن عقبة، لينصروهم. قَالَ: فعزل أشرس ابن أبي العمرطة عن الحرب، واستعمل مكانه المجشر بْن مزاحم السلمي، وضم إليه عميرة بْن سعد الشيباني. قَالَ: فلما قدم المجشر كتب إلى أبي الصيداء يسأله أن يقدم عليه هو وأصحابه، فقدم أبو الصيداء وثابت قطنة، فحبسهما، فقال أبو الصيداء: غدرتم ورجعتم عما قلتم! فقال له هانئ: ليس بغدر

ما كان فيه حقن الدماء وحمل أبا الصيداء إلى الأشرس، وحبس ثابت قطنة عنده، فلما حمل أبو الصيداء اجتمع أصحابه وولوا أمرهم أبا فاطمة، ليقاتلوا هانئا، فقال لهم: كفوا حتى أكتب إلى أشرس فيأتينا رأيه فنعمل بأمره فكتبوا إلى أشرس، فكتب أشرس: ضعوا عليهم الخراج، فرجع أصحاب أبي الصيداء، فضعف أمرهم، فتتبع الرؤساء منهم فأخذوا، وحملوا إلى مرو، وبقي ثابت محبوسا، وأشرك أشرس مع هانئ بْن هانئ سليمان بْن أبي السرى مولى بنى عوافه في الخراج، فألح هانئ والعمال في جباية الخراج، واستخفوا بعظماء العجم، وسلط المجشر عميرة بْن سعد على الدهاقين، فأقيموا وخرقت ثيابهم، وألقيت مناطقهم في أعناقهم، وأخذوا الجزية ممن أسلم من الضعفاء، فكفرت السغد وبخارى، واستجاشوا الترك، فلم يزل ثابت قطنة في حبس المجشر، حتى قدم نصر بْن سيار واليا على المجشر، فحمل ثابتا إلى أشرس مع إبراهيم بْن عبد الله الليثي فحبسه وكان نصر بن سيار ألطفه، وأحسن إليه، فمدحه ثابت قطنة، وهو محبوس عند أشرس فقال: ما هاج شوقك من نوى وأحجار ... ومن رسوم عفاها صوب أمطار! لم يبق منها ومن أعلام عرصتها ... إلا شجيج وإلا موقد النار ومائل في ديار الحي بعدهم ... مثل الربيئة في أهدامه العاري ديار ليلى قفار لا أنيس بها ... دون الحجون وأين الحجن من داري! بدلت منها وقد شط المزار بها ... وادي المخافة لا يسري بها الساري بين السماوة في حزم مشرقة ... ومعنق دوننا آذية جار نقارع الترك ما تنفك نائحة ... منا ومنهم على ذي نجدة شار إن كان ظني بنصر صادقا أبدا ... فيما ادبر من نقضي وامرارى يصرف الجند حتى يستفي بهم ... نهبا عظيما ويحوي ملك جبار

وتعثر الخيل في الأقياد آونة ... تحوي النهاب إلى طلاب أوتار حتى يروها دوين السرح بارقة ... فيها لواء كظل الأجدل الضاري لا يمنع الثغر إلا ذو محافظة ... من الخضارم سباق بأوتار إني وإن كنت من جذم الذي نضرت ... منه الفروع وزندي الثاقب الواري لذاكر منك أمرا قد سبقت به ... من كان قبلك يا نصر بْن سيار ناضلت عني نضال الحر إذ قصرت ... دوني العشيرة واستبطأت أنصاري وصار كل صديق كنت آمله ... ألبا علي ورث الحبل من جاري وما تلبست بالأمر الذي وقعوا ... به علي ولا دنست أطماري ولا عصيت إماما كان طاعته ... حقا علي ولا قارفت من عار قَالَ علي: وخرج أشرس غازيا فنزل آمل، فأقام ثلاثة أشهر، وقدم قطن بْن قتيبة بْن مسلم فعبر النهر في عشرة آلاف، فأقبل أهل السغد وأهل بخارى، معهم خاقان والترك، فحصروا قطن بْن قتيبة في خندقه، وجعل خاقان ينتخب كل يوم فارسا، فيعبر في قطعه من الترك النهر وقال قوم: أقحموا دوابهم عريا، فعبروا وأغاروا على سرح الناس، فأخرج أشرس ثابت قطنة بكفالة عبد الله بْن بسطام بْن مسعود بْن عمرو، فوجهه مع عبد الله بْن بسطام في الخيل فاتبعوا الترك، فقاتلوهم بآمل حتى استنقذوا ما بأيديهم، ثم قطع الترك النهر إليهم راجعين، ثم عبر أشرس بالناس إلى قطن بْن قتيبة، ووجه أشرس رجلا يقال له مسعود- أحد بني حيان- في سرية، فلقيهم العدو، فقاتلوهم، فأصيب رجال من المسلمين وهزم مسعود، حتى رجع إلى أشرس، فقال بعض شعرائهم: خابت سرية مسعود وما غنمت ... إلا أفانين من شد وتقريب حلوا بأرض قفار لا أنيس بها ... شوهن بالسفح أمثال اليعاسيب

وأقبل العدو، فلما كانوا بالقرب لقيهم المسلمون فقاتلوهم، فجالوا جولة، فقتل في تلك الجولة رجال من المسلمين، ثم كر المسلمون وصبروا لهم، فانهزم المشركون ومضى أشرس بالناس، حتى نزل بيكند، فقطع العدو عنهم الماء، فأقام أشرس والمسلمون في عسكرهم يومهم ذلك وليلتهم، فأصبحوا وقد نفد ماؤهم، فاحتفروا فلم ينبطوا، وعطشوا فارتحلوا إلى المدينة التي قطعوا عنهم المياه منها، وعلى مقدمة المسلمين قطن بْن قتيبة، فلقيهم العدو فقاتلوهم، فجهدوا من العطش، فمات منهم سبعمائة، وعجز الناس عن القتال، ولم يبق في صف الرباب إلا سبعة، فكاد ضرار بْن حصين يؤسر من الجهد الذي كان به، فحض الحارث بْن سريج الناس، فقال: أيها الناس، القتل بالسيف أكرم في الدنيا وأعظم أجرا عند الله من الموت عطشا فتقدم الحارث بْن سريج وقطن بْن قتيبة وإسحاق بْن محمد، ابن أخي وكيع، في فوارس من بني تميم وقيس، فقاتلوا حتى أزالوا الترك عن الماء، فابتدره الناس فشربوا وارتووا. قَالَ: فمر ثابت قطنة بعبد الملك بْن دثار الباهلي، فقال له: يا عبد الملك، هل لك في آثار الجهاد؟ فقال: أنظرني ريثما أغتسل وأتحنط، فوقف له حتى خرج ومضيا، فقال ثابت لأصحابه: أنا أعلم بقتال هؤلاء منكم، وحضهم، فحملوا على العدو، واشتد القتال، فقتل ثابت في عدة من المسلمين، منهم صخر بْن مسلم بْن النعمان العبدي وعبد الملك بْن دثار الباهلي والوجيه الخراساني والعقار بْن عقبة العودي فضم قطن بْن قتيبة وإسحاق بْن محمد بْن حسان خيلا من بني تميم وقيس، تبايعوا على الموت، فأقدموا على العدو، فقاتلوهم فكشفوهم، وركبهم المسلمون يقتلونهم، حتى حجزهم الليل، وتفرق العدو فأتى أشرس بخارى فحصر أهلها. قَالَ عَلِيّ بْن مُحَمَّدٍ، عن عَبْد اللَّهِ بْن المبارك: حدثني هشام بن عماره

ابن القعقاع الضبي عن فضيل بْن غزوان، قَالَ: حدثني وجيه البناني ونحن نطوف بالبيت، قَالَ: لقينا الترك، فقتلوا منا قوما، وصرعت وأنا أنظر إليهم، يجلسون فيستقون حتى انتهوا إلي، فقال رجل منهم: دعوه فإن له أثرا هو واطئه، وأجلا هو بالغه، فهذا أثر قد وطئته، وأنا أرجو الشهادة فرجع إلى خراسان، فاستشهد مع ثابت. قَالَ: فقال الوازع بْن مائق: مر بي الوجيه في بغلين يوم أشرس، فقلت: كيف أصبحت يا أبا أسماء؟ قَالَ: أصبحت بين حائر وحائز، اللهم لف بين الصفين، فخالط القوم وهو متنكب قوسه وسيفه، مشتمل في طيلسان واستشهد واستشهد الهيثم بْن المنخل العبدي قَالَ علي، عن عبد الله بْن المبارك، قَالَ: لما التقى أشرس والترك، قَالَ ثابت قطنة: اللهم إني كنت ضيف ابن بسطام البارحة، فاجعلني ضيفك الليلة، والله لا ينظر إلي بنو أمية مشدودا في الحديد، فحمل وحمل أصحابه، فكذب أصحابه وثبت، فرمى برذونه فشب، وضربه فأقدم، وضرب فارتث، فقال وهو صريع: اللهم إني أصبحت ضيفا لابن بسطام، وأمسيت ضيفك، فاجعل قراي من ثوابك الجنة. قَالَ علي: ويقال إن أشرس قطع النهر، ونزل بيكند، فلم يجد بها ماء، فلما أصبحوا ارتحلوا، فلما دنوا من قصر بخاراخداه- وكان منزله منهم على ميل- تلقاهم ألف فارس، فأحاطوا بالعسكر وسطع رهج الغبار، فلم يكن الرجل يقدر أن ينظر إلى صاحبه قَالَ: فانقطع منهم ستة آلاف، فيهم قطن بْن قتيبة وغوزك من الدهاقين، فانتهوا إلى قصر من قصور بخارى، وهم يرون أن أشرس قد هلك، وأشرس في قصور بخارى، فلم يلتقوا إلا بعد يومين، ولحق غوزك في تلك الوقعة بالترك، وكان قد دخل القصر مع قطن، فأرسل إليه قطن رجلا، فصاحوا برسول قطن، ولحق بالترك

ذكر وقعه كمرجه

قَالَ: ويقال إن غوزك وقع يومئذ وسط خيل، فلم يجد بدا من اللحاق بهم ويقال إن أشرس أرسل إلى غوزك يطلب منه طاسا، فقال لرسول أشرس: إنه لم يبق معى شيء اتدهن به غير الطاس، فاصفح عنه فأرسل إليه: اشرب في قرعة، وابعث إلي بالطاس، ففارقه. قَالَ: وكان على سمرقند نصر بْن سيار، وعلى خراجها عميرة بْن سعد الشيباني، وهم محصورون، وكان عميرة ممن قدم مع أشرس، وأقبل قريش ابن أبي كهمس على فرس، فقال لقطن: قد نزل الأمير والناس، فلم يفقد أحد من الجند غيرك، فمضى قطن والناس إلى العسكر، وكان بينهم ميل . ذكر وقعه كمرجه قَالَ: ويقال إن أشرس نزل قريبا من مدينة بخارى على قدر فرسخ، وذلك المنزل يقال له المسجد، ثم تحول منه إلى مرج يقال له بوادرة، فأتاهم سبابة- أو شبابة- مولى قيس بْن عبد الله الباهلي، وهم نزول بكمرجة- وكانت كمرجة من أشرف أيام خراسان وأعظمها أيام أشرس في ولايته- فقال لهم: إن خاقان مار بكم غدا، فأرى لكم أن تظهروا عدتكم، فيرى جدا واحتشادا، فينقطع طمعه منكم فقال له رجل منهم: استوثقوا من هذا فإنه جاء ليفت في أعضادكم، قالوا: لا نفعل، هذا مولانا وقد عرفناه بالنصيحة، فلم يقبلوا منه، وفعلوا ما أمرهم به المولى، وصبحهم خاقان، فلما حاذى بهم ارتفع إلى طريق بخارى كأنه يريدها، فتحدر بجنوده من وراء تل بينهم وبينه، فنزلوا وتأهبوا وهم لا يشعرون بهم فلما كان ذلك ما فاجأهم أن طلعوا على التل، فإذا جبل حديد: أهل فرغانة والطاربند وأفشينة ونسف وطوائف من أهل بخارى قَالَ: فأسقط في أيدي القوم، فقال لهم كليب بْن قنان الذهلي: هم يريدون مزاحفتكم فسربوا دوابكم المجففة في طريق النهر، كأنكم تريدون أن تسقوها، فإذا جردتموها فخذوا طريق الباب،

وتسربوا الأول فالأول، فلما رآهم الترك يتسربون شدوا عليهم في مضايق، وكانوا هم أعلم بالطريق من الترك، وسبقوهم إلى الباب فلحقوهم عنده، فقتلوا رجلا كان يقال له المهلب، كان حاميتهم، وهو رجل من العرب، فقاتلوهم فغلبوهم على الباب الخارج من الخندق فدخلوه، فاقتتلوا، وجاء رجل من العرب بحزمة قصب قد أشعلها، فرمى بها وجوههم فتنحوا، وأخلوا عن قتلى وجرحى، فلما أمسوا انصرف الترك، وأحرق العرب القنطرة، فأتاهم خسرو بْن يزدجرد في ثلاثين رجلا، فقال: يا معشر العرب، لم تقتلون أنفسكم وأنا الذي جئت بخاقان ليرد علي مملكتي، وأنا آخذ لكم الأمان! فشتموه، فانصرف. قَالَ: وجاءهم بازغري في مائتين- وكان داهية- من وراء النهر، وكان خاقان لا يخالفه، ومعه رجلان من قرابة خاقان، ومعه أفراس من رابطة أشرس، فقال: آمنونا حتى ندنو منكم، فأعرض عليكم ما أرسلني إليكم به خاقان فآمنوه، فدنا من المدينة، وأشرفوا عليه ومعه أسراء من العرب، فقال بازغري: يا معشر العرب، أحدروا إلي رجلا منكم أكلمه برسالة خاقان، فأحدروا حبيبا مولى مهرة من أهل درقين، فكلموه فلم يفهم، فقال: أحدروا إلي رجلا يعقل عني، فأحدروا يزيد بْن سعيد الباهلي، وكان يشدو شدوا من التركية، فقال: هذه خيل الرابطة ووجوه العرب معه أسراء وقال: إن خاقان أرسلني إليكم، وهو يقول لكم: إني أجعل من كان عطاؤه منكم ستمائه ألفا، ومن كان عطاؤه ثلاثمائه ستمائه، وهو مجمع بعد هذا على الإحسان إليكم، فقال له يزيد: هذا أمر لا يلتئم، كيف يكون العرب وهم ذئاب مع الترك وهم شاء! لا يكون بيننا وبينكم صلح. فغضب بازغري، فقال التركيان اللذان معه: ألا نضرب عنقه؟ قَالَ: لا، نزل إلينا بأمان وفهم ما قالا له يزيد، فخاف فقال: بلى يا بازغرى الا ان

أن تجعلونا نصفين، فيكون نصف في أثقالنا ويسير النصف معه، فإن ظفر خاقان فنحن معه، وإن كان غير ذلك كنا كسائر مدائن أهل السغد. فرضي بازغري والتركيان بما قَالَ، فقال له: اعرض على القوم ما تراضينا به، وأقبل فأخذ بطرف الحبل فجذبوه حتى صار على سور المدينة، فنادى: يا أهل كمرجة، اجتمعوا، فقد جاءكم قوم يدعونكم إلى الكفر بعد الإيمان، فما ترون؟ قالوا: لا نجيب ولا نرضى، قَالَ: يدعونكم إلى قتال المسلمين مع المشركين، قالوا: نموت جميعا قبل ذلك قَالَ: فأعلموهم. قَالَ: فأشرفوا عليهم، وقالوا: يا بازغري، أتبيع الأسرى في أيديكم فنفادي بهم؟ فأما ما دعوتنا إليه فلا نجيبكم إليه، قَالَ لهم: أفلا تشترون أنفسكم منا؟ فما أنتم عندنا إلا بمنزلة من في أيدينا منكم- وكان في أيديهم الحجاج بْن حميد النضري- فقالوا له: يا حجاج، ألا تكلم؟ قَالَ: علي رقباء، وأمر خاقان بقطع الشجر، فجعلوا يلقون الحطب الرطب، ويلقي أهل كمرجة الحطب اليابس، حتى سوى الخندق، ليقطعوا إليهم، فأشعلوا فيه النيران، فهاجت ريح شديدة- صنعا من الله عز وجل- قَالَ: فاشتعلت النار في الحطب، فاحترق ما عملوا في ستة أيام في ساعة من نهار، ورميناهم فأوجعناهم وشغلناهم بالجراحات قَالَ: وأصابت بازغري نشابة في صرته، فاحتقن بوله، فمات من ليلته، فقطع أتراكه آذانهم، وأصبحوا بشر، منكسين رءوسهم يبكونه، ودخل عليهم أمر عظيم فلما امتد النهار جاءوا بالأسرى وهم مائة، فيهم أبو العوجاء العتكي واصحابه، فقتلوهم، ورموا اليهم برأس الحجاج ابن حميد النضري وكان مع المسلمين مائتان من أولاد المشركين كانوا رهائن في أيديهم، فقتلوهم واستماتوا، واشتد القتال، وقاموا على باب الخندق فسار على السور خمسة أعلام، فقال كليب: من لي بهؤلاء؟ فقال ظهير بْن مقاتل الطفاوي: أنا لك بهم، فذهب يسعى وقال لفتيان: امشوا خلفي، وهو جريح، قَالَ: فقتل يومئذ من الأعلام اثنان، ونجا ثلاثة قَالَ: فقال ملك من الملوك لمحمد بن وساج: العجب إنه لم يبق ملك فيما وراء النهر الا

قاتل بكمرجة غيري، وعز علي ألا أقاتل مع أكفائي ولم ير مكاني فلم يزل أهل كمرجة بذلك، حتى أقبلت جنود العرب، فنزلت فرغانة. فعير خاقان أهل السغد وفرغانة والشاش والدهاقين، وقال لهم: زعمتم أن في هذه خمسين حمارا، وإنا نفتحها في خمسة أيام، فصارت الخمسة الأيام شهرين وشتمهم وأمرهم بالرحلة، فقالوا: ما ندع جهدا، ولكن أحضرنا غدا فانظر، فلما كان من الغد جاء خاقان فوقف، فقام إليه ملك الطاربند، فاستأذنه في القتال والدخول عليهم، قَالَ: لا أرى أن تقاتل في هذا الموضع- وكان خاقان يعظمه- فقال: اجعل لي جاريتين من جواري العرب، وأنا أخرج عليهم، فأذن له، فقاتل فقتل منهم ثمانية، وجاء حتى وقف على ثلمة وإلى جنب الثلمة بيت فيه خرق يفضي إلى الثلمة، وفي البيت رجل من بني تميم مريض، فرماه بكلوب فتعلق بدرعه، ثم نادى النساء والصبيان، فجذبوه فسقط لوجهه وركبته، ورماه رجل بحجر، فأصاب أصل أذنه فصرع، وطعنه رجل فقتله وجاء شاب أمرد من الترك، فقتله وأخذ سلبه وسيفه، فغلبناهم على جسده- قَالَ: ويقال: إن الذي انتدب لهذا فارس أهل الشاش- فكانوا قد اتخذوا صناعا، وألصقوها بحائط الخندق، فنصبوا قبالة ما اتخذوا أبوابا له، فأقعدوا الرماة وراءها، وفيهم غالب بْن المهاجر الطائي عم أبي العباس الطوسي ورجلان، أحدهما شيباني والآخر ناجي، فجاء فاطلع في الخندق، فرماه الناجي فلم يخطئ قصبه انفه، وعليه كاشخوده تبتية، فلم تضره الرمية، ورماه الشيباني وليس يرى منه غير عينيه، فرماه غالب ابن المهاجر، فدخلت النشابة في صدره، فنكس فلم يدخل خاقان شيء أشد منه. قَالَ: فيقال: إنه إنما قتل الحجاج وأصحابه يومئذ لما دخله من الجزع، وأرسل إلى المسلمين أنه ليس من رأينا أن نرتحل عن مدينة ننزلها دون افتتاحها، أو ترحلهم عنها فقال له كليب بْن قنان: وليس من ديننا ان نعطى

بأيدينا حتى نقتل، فاصنعوا ما بدا لكم، فرأى الترك أن مقامهم عليهم ضرر، فأعطوهم الأمان على أن يرحل هو وهم عنهم بأهاليهم وأموالهم إلى سمرقند أو الدبوسية، فقال لهم: اختاروا لأنفسكم في خروجكم من هذه المدينة. قَالَ: ورأى أهل كمرجة ما هم فيه من الحصار والشدة، فقالوا: نشاور أهل سمرقند، فبعثوا غالب بْن المهاجر الطائي، فانحدر في موضع من الوادي، فمضى إلى قصر يسمى فرزاونة، والدهقان الذي بها صديق له، فقال له: إني بعثت إلى سمرقند، فاحملني، فقال: ما أجد دابة إلا بعض دواب خاقان، فإن له في روضة خمسين دابة، فخرجا جميعا إلى تلك الروضة، فأخذ برذونا فركبه، وكان إلفه برذون آخر، فتبعه فأتى سمرقند من ليلته، فأخبرهم بأمرهم، فأشاروا عليه بالدبوسية، وقالوا: هي أقرب، فرجع إلى أصحابه، فأخذوا من الترك رهائن ألا يعرضوا لهم، وسألوهم رجلا من الترك يتقوون به مع رجال منهم، فقال لهم الترك: اختاروا من شئتم، فاختاروا كورصول يكون معهم، فكان معهم حتى وصلوا إلى حيث أرادوا. ويقال: إن خاقان لما رأى أنه لا يصل إليهم شتم أصحابه، وأمرهم بالارتحال عنهم، وكلمه المختار بْن غوزك وملوك السغد وقالوا: لا تفعل أيها الملك، ولكن أعطهم أمانا يخرجون عنها، ويرون أنك إنما فعلت ذلك بهم من أجل غوزك أنه مع العرب في طاعتها، وأن ابنه المختار طلب إليك في ذلك مخافة على أبيه، فأجابهم إلى ذلك، فسرح إليهم كورصول يكون معهم، يمنعهم ممن أرادهم. قَالَ: فصار الرهن من الترك في أيديهم، وارتحل خاقان، وأظهر أنه يريد سمرقند- وكان الرهن الذي في أيديهم من ملوكهم- فلما ارتحل خاقان- قَالَ كورصول للعرب: ارتحلوا، قالوا: نكره أن نرتحل والترك لم يمضوا، ولا نأمنهم أن يعرضوا لبعض النساء فتحمى العرب فنصير إلى مثل ما كنا فيه من الحرب. قَالَ: فكف عنهم، حتى مضى خاقان والترك، فلما صلوا الظهر أمرهم

كورصول بالرحلة، وقال: إنما الشدة والموت والخوف حتى تسيروا فرسخين، ثم تصيروا إلى قرى متصلة، فارتحلوا وفي يد الترك من الرهن من العرب نفر، منهم شعيب البكري أو النصري، وسباع بْن النعمان وسعيد بْن عطية، وفي أيدي العرب من الترك خمسة، قد أردفوا خلف كل رجل من الترك رجلا من العرب معه خنجر، وليس على التركي غير قباء، فساروا بهم. ثم قَالَ العجم لكورصول: إن الدبوسية فيها عشرة آلاف مقاتل، فلا نأمن أن يخرجوا علينا، فقال لهم العرب: إن قاتلوكم قاتلناهم معكم. فساروا، فلما صار بينهم وبين الدبوسية قدر فرسخ أو اقل نظر أهلها الى فرسان وبياذقه وجمع فظنوا أن كمرجة قد فتحت، وأن خاقان قصد لهم قَالَ: وقربنا منهم وقد تأهبوا للحرب، فوجه كليب بْن قنان رجلا من بني ناجية يقال له الضحاك على برذون يركض، وعلى الدبوسية عقيل بْن وراد السغدي، فأتاهم الضحاك وهم صفوف، فرسان ورجالة، فأخبرهم الخبر، فأقبل أهل الدبوسية يركضون، فحمل من كان يضعف عن المشي ومن كان مجروحا. ثم إن كليبا أرسل إلى محمد بْن كراز ومحمد بْن درهم ليعلما سباع ابن النعمان وسعيد بْن عطية أنهم قد بلغوا مأمنهم، ثم خلوا عن الرهن، فجعلت العرب ترسل رجلا من الرهن الذين في أيديهم من الترك، وترسل الترك رجلا من الرهن الذين في أيديهم من العرب، حتى بقي سباع بْن النعمان في أيدي الترك، ورجل من الترك في أيدي العرب، وجعل كل فريق منهم يخاف على صاحبه الغدر، فقال سباع: خلوا رهينة الترك، فخلوه وبقي سباع في أيديهم، فقال له كورصول: لم فعلت هذا؟ قَالَ: وثقت برأيك في، وقلت: ترفع نفسك عن الغدر في مثل هذا، فوصله وسلحه وحمله على برذون، ورده إلى أصحابه. قَالَ: وكان حصار كمرجة ثمانية وخمسين يوما، فيقال إنهم لم يسقوا إبلهم خمسة وثلاثين يوما

ذكر رده اهل كردر

قَالَ: وكان خاقان قسم في أصحابه الغنم، فقال: كلوا لحومها واملئوا جلودها ترابا، واكبسوا خندقكم، ففعلوا فكبسوه، فبعث الله عليهم سحابة فمطرت، فاحتمل المطر ما ألقوا، فألقاه في النهر الأعظم. وكان مع أهل كمرجة قوم من الخوارج، فيهم ابن شنج مولى بنى ناجيه . ذكر رده اهل كردر وفي هذه السنة ارتد أهل كردر، فقاتلهم المسلمون وظفروا بهم، وقد كان الترك أعانوا أهل كردر، فوجه أشرس إلى من قرب من كردر من المسلمين ألف رجل ردءا لهم، فصاروا إليهم، وقد هزم المسلمون الترك، فظفروا بأهل كردر وقال عرفجة الدارمي: نحن كفينا أهل مرو وغيرهم ... ونحن نفينا الترك عن أهل كردر فإن تجعلوا ما قد غنمنا لغيرنا ... فقد يظلم المرء الكريم فيصبر وفي هذه السنة جعل خالد بْن عبد الله الصلاة بالبصرة مع الشرطة، والأحداث والقضاء إلى بلال بْن أبي بردة، فجمع ذلك كله له، وعزل به ثمامة بْن عبد الله بْن أنس عن القضاء. وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن هشام بْن إسماعيل، كذلك قَالَ أبو معشر والواقدي وغيرهما، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر. وَكَانَ العامل فِي هَذِهِ السنة عَلَى الْمَدِينَة ومكة والطائف إبراهيم بْن هشام، وعلى الكوفة والبصرة والعراق كلها خالد بْن عبد الله، وعلى خراسان اشرس ابن عبد الله.

سنه احدى عشره ومائه

ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك غزوة معاوية بْن هشام الصائفة اليسرى وغزوة سعيد بْن هشام الصائفة اليمنى حتى أتى قيسارية. قال الواقدي: غزا سنة إحدى عشرة ومائة على جيش البحر عبد الله بْن أبي مريم، وأمر هشام على عامة الناس من أهل الشام ومصر الحكم بن قيس ابن مخرمة بْن المطلب بن عبد مناف. وفيها سارت الترك إلى أذربيجان، فلقيهم الحارث بْن عمرو فهزمهم. وفيها ولي هشام الجراح بْن عبد الله الحكمي على أرمينية. وفيها عزل هشام أشرس بْن عبد الله السلمي عن خراسان، وولاها الجنيد ابن عبد الرحمن المري. ذكر السبب الذي من أجله عزل هشام اشرس عن خراسان واستعماله الجنيد ذكر علي بْن محمد، عن أبي الذيال، قَالَ: كان سبب عزل أشرس أن شداد بْن خالد الباهلي شخص إلى هشام فشكاه، فعزله واستعمل الجنيد بْن عبد الرحمن على خراسان سنة إحدى عشرة ومائة. قَالَ: وكان سبب استعماله إياه أنه أهدى لأم حكيم بنت يحيى بْن الحكم امرأة هشام قلادة فيها جوهر، فأعجبت هشاما، فأهدى لهشام قلادة أخرى، فاستعمله على خراسان، وحمله على ثمانية من البريد، فسأله أكثر من تلك الدواب فلم يفعل، فقدم خراسان في خمسمائة- وأشرس بْن عبد الله

يقاتل أهل بخارى والسغد- فسأل عن رجل يسير معه إلى ما وراء النهر، فدل على الخطاب بْن محرز السلمي خليفة أشرس، فلما قدم آمل أشار عليه الخطاب أن يقيم ويكتب إلى من بزم ومن حوله، فيقدموا عليه، فأبى وقطع النهر، وأرسل إلى أشرس أن أمدني بخيل، وخاف أن يقتطع قبل أن يصل إليه، فوجه إليه أشرس عامر بْن مالك الحماني، فلما كان في بعض الطريق عرض له الترك والسغد ليقطعوه قبل أن يصل إلى الجنيد، فدخل عامر حائطا حصينا، فقاتلهم على ثلمة الحائط، ومعه ورد بْن زياد بْن أدهم بْن كلثوم، ابن أخي الأسود بْن كلثوم، فرماه رجل من العدو بنشابة، فأصاب عرض منخره، فأنفذ المنخرين، فقال له عامر بْن مالك: يا أبا الزاهرية، كأنك دجاجة مقرق وقتل عظيم من عظماء الترك عند الثلمة، وخاقان على تل خلفه أجمة، فخرج عاصم بْن عمير السمرقندي وواصل بْن عمرو القيسي في شاكرية، فاستدارا حتى صارا من وراء ذلك الماء، فضموا خشبا وقصبا وما قدروا عليه، حتى اتخذوا رصفا، فعبروا عليه فلم يشعر خاقان إلا بالتكبير، وحمل واصل والشاكرية على العدو فقاتلوهم، فقتل تحت واصل برذون، وهزم خاقان وأصحابه. وخرج عامر بْن مالك من الحائط، ومضى إلى الجنيد وهو في سبعة آلاف، فتلقى الجنيد وأقبل معه، وعلى مقدمة الجنيد عمارة بْن حريم فلما انتهى إلى فرسخين من بيكند، تلقته خيل الترك فقاتلهم، فكاد الجنيد أن يهلك ومن معه، ثم أظهره الله، فسار حتى قدم العسكر وظفر الجنيد، وقتل الترك، وزحف إليه خاقان فالتقوا دون زرمان من بلاد سمرقند، وقطن ابن قتيبة على ساقة الجنيد، وواصل في أهل بخارى- وكان ينزلها- فاسر ملك الشاش، وأسر الجنيد من الترك ابن أخي خاقان في هذه الغزاة، فبعث به إلى الخليفة، وكان الجنيد استخلف في غزاته هذه مجشر بْن مزاحم على مرو،

وولى سورة بْن الحر من بني أبان بْن دارم بلخ، وأوفد لما أصاب في وجهه ذلك عمارة بْن معاوية العدوي ومحمد بْن الجراح العبدي وعبد ربه بْن أبي صالح السلمي إلى هشام بْن عبد الملك ثم انصرفوا، فتواقفوا بالترمذ، فأقاموا بها شهرين. ثم أتى الجنيد مرو وقد ظفر، فقال خاقان: هذا غلام مترف، هزمني العام وأنا مهلكه في قابل، فاستعمل الجنيد عماله، ولم يستعمل إلا مضريا، استعمل قطن بْن قتيبة على بخارى، والوليد بْن القعقاع العبسي على هراة، وحبيب بْن مرة العبسي على شرطه، وعلى بلخ مسلم بْن عبد الرحمن الباهلي وكان نصر بْن سيار على بلخ، والذي بينه وبين الباهليين متباعد لما كان بينهم بالبروقان، فأرسل مسلم إلى نصر فصادفوه نائما، فجاءوا به في قميص ليس عليه سراويل، ملببا، فجعل يضم عليه قميصيه، فاستحيا مسلم، وقال: شيخ من مضر جئتم به على هذه الحال! ثم عزل الجنيد مسلما عن بلخ، وولاها يحيى بْن ضبيعة، واستعمل على خراج سمرقند شداد بْن خالد الباهلي، وكان مع الجنيد السمهري بْن قعنب وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن هشام المخزومي، وكان إليه من العمل في هذه السنة ما كان إليه في السنة التي قبلها، وقد ذكرت ذلك قبل. وكان العامل على العراق خالد بْن عبد الله، وعلى خراسان الجنيد بْن عبد الرحمن.

سنه اثنتى عشره ومائه

ثم دخلت سنة اثنتي عشرة ومائة (ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك غزوة معاوية بْن هشام الصائفة فافتتح خرشنة، وحرق فرندية من ناحية ملطيه. ذكر خبر قتل الجراح الحكمي وفيها سار الترك من اللان، فلقيهم الجراح بْن عبد الله الحكمي فيمن معه من اهل الشام واذربيجان، فلم يتنام إليه جيشه، فاستشهد الجراح ومن كان معه بمرج أردبيل، وافتتحت الترك أردبيل، وقد كان استخلف أخاه الحجاج بْن عبد الله على أرمينية. ذكر محمد بْن عمر أن الترك قتلت الجراح بْن عبد الله ببلنجر، وأن هشاما لما بلغه خبره دعا سعيد بْن عمرو الحرشي، فقال له: إنه بلغني أن الجراح قد انحاز عن المشركين، قَالَ: كلا يا أمير المؤمنين، الجراح أعرف بالله من أن ينحاز عن العدو، ولكنه قتل، قَالَ: فما الرأي؟ قَالَ: تبعثني على أربعين دابة من دواب البريد، ثم تبعث إلي كل يوم أربعين دابة عليها أربعون رجلا، ثم اكتب الى أمراء الأجناد يوافوننى ففعل ذلك هشام. فذكر أن سعيد بْن عمرو أصاب للترك ثلاثة جموع وفودا إلى خاقان بمن أسروا من المسلمين وأهل الذمة، فاستنقذ الحرشي ما أصابوا وأكثروا القتل فيهم. وذكر علي بْن محمد أن الجنيد بْن عبد الرحمن قَالَ في بعض ليالي حربه الترك بالشعب: ليلة كليلة الجراح ويوم كيومه، فقيل له: أصلحك الله!

ذكر وقعه الجنيد مع الترك

إن الجراح سير إليه فقتل أهل الحجي والحفاظ، فجن عليه الليل، فانسل الناس من تحت الليل إلى مدائن لهم بأذربيجان، وأصبح الجراح في قلة فقتل. وفي هذه السنة وجه هشام أخاه مسلمة بْن عبد الملك في أثر الترك فسار في شتاء شديد البرد والمطر والثلوج فطلبهم- فيما ذكر- حتى جاز الباب في آثارهم، وخلف الحارث بْن عمرو الطائي بالباب. ذكر وقعه الجنيد مع الترك وفي هذه السنة كانت وقعة الجنيد مع الترك ورئيسهم خاقان بالشعب. وفيها قتل سورة بْن الحر، وقد قيل إن هذه الوقعة كانت في سنة ثلاث عشرة ومائة. ذكر الخبر عن هذه الوقعة وما كان سببها وكيف كانت: ذكر علي بن محمد عن أشياخه أن الجنيد بْن عبد الرحمن خرج غازيا في سنة اثنتي عشرة ومائة يريد طخارستان، فنزل على نهر بلخ، ووجه عمارة ابن حريم إلى طخارستان في ثمانية عشر ألفا وإبراهيم بْن بسام الليثي في عشرة آلاف في وجه آخر، وجاشت الترك فأتوا سمرقند، وعليها سورة بْن الحر، أحد بني أبان بْن دارم، فكتب سورة إلى الجنيد: إن خاقان جاش بالترك، فخرجت إليهم فما قدرت أن أمنع حائط سمرقند، فالغوث! فأمر الجنيد الناس بالعبور، فقام إليه المجشر بْن مزاحم السلمي وابن بسطام الأزدي وابن صبح الخرقي، فقالوا: إن الترك ليسوا كغيرهم، لا يلقونك صفا ولا زحفا، وقد فرقت جندك، فمسلم بْن عبد الرحمن بالنيروذ، والبختري بهراة، ولم يحضرك أهل الطالقان، وعمارة بْن حريم غائب وقال له المجشر: إن صاحب خراسان لا يعبر النهر في أقل من خمسين ألفا، فاكتب الى

عماره فليأتك، وامهل ولا تعجل، قَالَ: فكيف بسورة ومن معه من المسلمين! لو لم أكن الا في بني مرة، أو من طلع معي من أهل الشام لعبرت وقال: أليس أحق الناس ان يشهد الوغى ... وان يقتل الابطال ضخم. على ضخم وقال: ما علتي ما علتي ما علتي! ... إن لم أقاتلهم فجزوا لمتي قَالَ: وعبر فنزل كس، وقد بعث الأشهب بْن عبيد الحنظلي ليعلم علم القوم، فرجع إليه وقال: قد أتوك فتأهب للمسير. وبلغ الترك فعوروا الآبار التي في طريق كس وما فيه من الركايا، فقال الجنيد: أي الطريقين إلى سمرقند أمثل؟ قالوا: طريق المحترقة. قَالَ المجشر بْن مزاحم السلمي: القتل بالسيف أمثل من القتل بالنار، إن طريق المحترقة فيه الشجر والحشيش ولم يزرع منذ سنين، فقد تراكم بعضه على بعض، فإن لقيت خاقان أحرق ذلك كله، فقتلنا بالنار والدخان، ولكن خذ طريق العقبة، فهو بيننا وبينهم سواء. فأخذ الجنيد طريق العقبة، فارتقى في الجبل، فأخذ المجشر بعنان دابته، وقال: إنه كان يقال: إن رجلا من قيس مترفا يهلك علي يديه جند من جنود خراسان، وقد خفنا أن تكونه قَالَ: أفرخ روعك، فقال المجشر: أما إذا كان بيننا مثلك فلا يفرخ فبات في أصل العقبة، ثم ارتحل حين أصبح، فصار الجنيد بين مرتحل ومقيم، فتلقى فارسا، فقال: ما اسمك؟ فقال: حرب، قَالَ: ابن من؟ قَالَ: ابن محربة، قَالَ: من بني من؟ قَالَ: من بني حنظلة، قَالَ: سلط الله عليك الحرب والحرب والكلب ومضى بالناس حتى دخل الشعب وبينه وبين مدينة سمرقند أربعة فراسخ، فصبحه خاقان في جمع عظيم، وزحف إليه أهل السغد والشاش وفرغانة وطائفة من الترك قَالَ: فحمل خاقان على المقدمه وعليها عثمان

ابن عبد الله بْن الشخير، فرجعوا إلى العسكر والترك تتبعهم، وجاءوهم من كل وجه، وقد كان الإخريد قَالَ للجنيد: رد الناس إلى العسكر، فقد جاءك جمع كثير، فطلع أوائل العدو والناس يتغدون، فرآهم عبيد الله بْن زهير بْن حيان، فكره أن يعلم الناس حتى يفرغوا من غدائهم، والتفت أبو الذيال، فرآهم، فقال: العدو! فركب الناس إلى الجنيد، فصير تميما والأزد في الميمنة وربيعة في الميسرة مما يلي الجبل، وعلى مجففة خيل بني تميم عبيد الله بن زهير بن حيان، وعلى المجردة عمر- أو عمرو- بْن جرفاس بْن عبد الرحمن بْن شقران المنقري، وعلى جماعه بنى تميم عامر ابن مالك الحماني، وعلى الأزد عبد الله بْن بسطام بْن مسعود بْن عمرو المعني، وعلى خيلهم: المجففة والمجردة فضيل بْن هناد وعبد الله بْن حوذان، أحدهما على المجففة، والآخر على المجردة- ويقال: بل كان بشر بْن حوذان أخو عبد الله بْن حوذان الجهضمي- فالتقوا وربيعة مما يلي الجبل في مكان ضيق، فلم يقدم عليهم أحد، وقصد العدو للميمنة وفيها تميم والأزد في موضع واسع فيه مجال للخيل فترجل حيان بْن عبيد الله بْن زهير بين يدي أبيه، ودفع برذونه إلى أخيه عبد الملك، فقال له أبوه: يا حيان، انطلق إلى أخيك فإنه حدث وأخاف عليه فأبى، فقال: يا بني، إنك إن قتلت على حالك هذه قتلت عاصيا فرجع إلى الموضع الذي خلف فيه أخاه والبرذون، فإذا أخوه قد لحق بالعسكر، وقد شد البرذون، فقطع حيان مقوده وركبه، فأتى العدو، فإذا العدو قد أحاط بالموضع الذي خلف فيه أباه وأصحابه، فأمدهم الجنيد بنصر بْن سيار في سبعة معه، فيهم جميل بْن غزوان العدوي، فدخل عبيد الله بْن زهير معهم، وشدوا على العدو فكشفوهم ثم كروا عليهم، فقتلوا جميعا، فلم يفلت منهم أحد ممن كان في ذلك الموضع، وقتل عبيد الله بْن زهير وابن حوذان وابن جرفاس والفضيل بْن هناد. وجالت الميمنة والجنيد واقف في القلب، فأقبل إلى الميمنة، فوقف تحت

راية الأزد- وقد كان جفاهم- فقال له صاحب راية الأزد: ما جئتنا لتحبونا ولا لتكرمنا، ولكنك قد علمت أنه لا يوصل إليك ومنا رجل حي، فإن ظفرنا كان لك، وإن هلكنا لم تبك علينا ولعمري لئن ظفرنا وبقيت لا أكلمك كلمة أبدا وتقدم فقتل وأخذ الراية ابن مجاعة فقتل، فتداول الراية ثمانية عشر رجلا منهم فقتلوا، فقتل يومئذ ثمانون رجلا من الأزد. قَالَ: وصبر الناس يقاتلون حتى أعيوا، فكانت السيوف لا تحيك ولا تقطع شيئا، فقطع عبيدهم الخشب يقاتلون به، حتى مل الفريقان فكانت المعانقة، فتحاجزوا، فقتل من الأزد حمزة بْن مجاعة العتكي ومحمد بْن عبد الله بْن حوذان الجهضمي، وعبد الله بْن بسطام المعني واخوه زنيم والحسن ابن شيخ والفضيل الحارثي- وهو صاحب الخيل- ويزيد بْن المفضل الحداني، وكان حج فأنفق في حجة ثمانين ومائة ألف، فقال لأمه وحشية: ادعي الله أن يرزقني الشهادة، فدعت له، وغشي عليه، فاستشهد بعد مقدمه من الحج بثلاثة عشر يوما، وقاتل معه عبدان له، وقد كان أمرهما بالانصراف فقتلا، فاستشهدا. قَالَ: وكان يزيد بْن المفضل حمل يوم الشعب على مائة بعير سويقا للمسلمين، فجعل يسأل عن الناس، ولا يسأل عن أحد إلا قيل له: قد قتل،. فاستقدم وهو يقول: لا إله إلا الله، فقاتل حتى قتل وقاتل يومئذ محمد بْن عبد الله بْن حوذان وهو على فرس أشقر، عليه تجفاف مذهب، فحمل سبع مرات يقتل في كل حملة رجلا، ثم رجع إلى موقفه، فهابه من كان في ناحيته، فناداه ترجمان للعدو: يقول لك الملك: لا تقبل وتحول إلينا، فنرفض صنمنا الذي نعبده ونعبدك، فقال محمد: أنا أقاتلكم لتتركوا عبادة الأصنام وتعبدوا الله وحده فقاتل واستشهد. وقتل جشم بْن قرط الهلالي من بني الحارث، وقتل النضر بْن راشد العبدي، وكان دخل على امرأته والناس يقتتلون، فقال لها: كيف أنت إذا أتيت بأبي ضمرة في لبد مضرجا بالدماء؟ فشقت جيبها ودعت بالويل،

ذكر الخبر عن مقتل سورة بن الحر

فقال: حسبك، لو أعولت علي كل أنثى لعصيتها شوقا إلى الحور العين، ورجع فقاتل حتى استشهد رحمه الله قَالَ: فبينا الناس كذلك إذ أقبل رهج، فطلعت فرسان، فنادى منادي الجنيد: الأرض، الأرض! فترجل وترجل الناس، ثم نادى منادي الجنيد: ليخندق كل قائد على حياله، فخندق الناس قَالَ: ونظر الجنيد إلى عبد الرحمن بْن مكية يحمل على العدو، فقال: ما هذا الخرطوم السائل؟ قيل له: هذا ابن مكية، قَالَ: ألسان البقرة! لله دره أي رجل هو! وتحاجزوا، وأصيب من الأزد مائة وتسعون. وكانوا لقوا خاقان يوم الجمعة، فأرسل الجنيد إلى عبد الله بْن معمر بْن سمير اليشكري أن يقف في الناحية التي تلي كس ويحبس من مر به، ويحوز الأثقال والرجالة، وجاءت الموالي رجالة، ليس فيهم غير فارس واحد والعدو يتبعونهم، فثبت عبد الله بْن معمر للعدو، فاستشهد في رجال من بكر، وأصبحوا يوم السبت، فأقبل خاقان نصف النهار، فلم ير موضعا للقتال فيه أيسر من موضع بكر بْن وائل، وعليهم زياد بْن الحارث، فقصد لهم، فقالت بكر لزياد: القوم قد كثرونا، فخل عنا نحمل عليهم قبل أن يحملوا علينا، فقال لهم: قد مارست سبعين سنة، إنكم إن حملتم عليهم فصعدتم انهزمتم، ولكن دعوهم حتى يقربوا ففعلوا، فلما قربوا منهم حملوا عليهم فأفرجوا لهم، فسجد الجنيد، وقال خاقان يومئذ: إن العرب إذا أحرجوا استقتلوا، فخلوهم حتى يخرجوا، ولا تعرضوا لهم، فإنكم لا تقومون لهم وخرج جوار للجنيد يولولن، فانتدب رجال من أهل الشام، فقالوا: الله الله يا اهل خراسان! إلى أين؟ وقال الجنيد: ليلة كليلة الجراح، ويوم كيومه. ذكر الخبر عن مقتل سوره بن الحر وفي هذه السنة قتل سورة بْن الحر التميمى

ذكر الخبر عن مقتله: ذكر علي عن شيوخه، أن عبيد الله بْن حبيب قَالَ للجنيد: اختر بين أن تهلك أنت أو سورة، فقال: هلاك سورة أهون علي، قَالَ: فاكتب إليه فليأتك في أهل سمرقند، فإن الترك إن بلغهم أن سورة قد توجه إليك انصرفوا إليه فقاتلوه فكتب إلى سورة يأمره بالقدوم- وقيل: كتب أغثني- فقال عبادة بْن السليل المحاربي أبو الحكم بْن عبادة لسورة: انظر أبرد بيت بسمرقند فنم فيه، فإنك إن خرجت لا تبالي أسخط عليك الأمير أم رضي وقال له حليس بْن غالب الشيباني: إن الترك بينك وبين الجنيد، فإن خرجت كروا عليك فاختطفوك فكتب إلى الجنيد: إني لا أقدر على الخروج، فكتب اليه الجنيد: يا بن اللخناء، تخرج وإلا وجهت إليك شداد بْن خالد الباهلي- وكان له عدوا- فأقدم وضع فلانا بفرخشاذ في خمسمائة ناشب، والزم الماء فلا تفارقه فأجمع على المسير، فقال الوجف بْن خالد العبدي: إنك لمهلك نفسك والعرب بمسيرك، ومهلك من معك، قَالَ: لا يخرج حملي من التنور حتى اسير، فقال له عباده وحليس: اما إذ أبيت إلا المسير فخذ على النهر، فقال: أنا لا أصل إليه على النهر في يومين، وبيني وبينه من هذا الوجه ليلة فاصبحه، فإذا سكنت الزجل سرت فأعبره فجاءت عيون الأتراك فأخبروهم، وأمر سورة بالرحيل، واستخلف على سمرقند موسى بْن أسود، أحد بني ربيعة بْن حنظلة، وخرج في اثني عشر ألفا، فأصبح على رأس جبل، وإنما دله على ذلك الطريق علج يسمى كارتقبد، فتلقاه خاقان حين أصبح وقد سار ثلاثة فراسخ، وبينه وبين

الجنيد فرسخ: فقال أبو الذيال: قاتلهم. في ارض خواره، فصبر وصبروا حتى اشتد الحر وقَالَ بعضهم: قَالَ له غوزك: يومك يوم حار فلا تقاتلهم حتى تحمى عليهم الشمس وعليهم السلاح تثقلهم فلم يقاتلهم خاقان، وأخذ برأي غوزك، وأشعل النار في الحشيش، وواقفهم وحال بينهم وبين الماء، فقال سورة لعبادة: ما ترى يا أبا السليل؟ قَالَ: أرى والله أنه ليس من الترك أحد إلا وهو يريد الغنيمة، فاعقر هذه الدواب وأحرق هذا المتاع، وجرد السيف، فإنهم يخلون لنا الطريق قَالَ أبو الذيال: فقال سورة لعبادة: ما الرأي؟ قَالَ: تركت الرأي، قَالَ: فما ترى الآن؟ قَالَ: أن ننزل فنشرع الرماح، ونزحف زحفا، فإنما هو فرسخ حتى نصل إلى العسكر، قَالَ: لا أقوى على هذا، ولا يقوى فلان وفلان وعدد رجالا، ولكن أرى أن أجمع الخيل ومن أرى أنه يقاتل فأصكهم، سلمت أم عطبت، فجمع الناس وحملوا فانكشفت الترك، وثار الغبار فلم يبصروا، ومن وراء الترك اللهب، فسقطوا فيه، وسقط فيه العدو والمسلمون، وسقط سورة فاندقت فخذه، وتفرق الناس، وانكشفت الغمة والناس متفرقون، فقطعتهم الترك، فقتلوهم فلم ينج منهم غير ألفين- ويقال: ألف- وكان ممن نجا عاصم بْن عمير السمرقندي، عرفه رجل من الترك فأجاره، واستشهد حليس بْن غالب الشيباني، فقال رجل من العرب: الحمد لله، استشهد حليس، ولقد رأيته يرمي البيت أيام الحجاج ويقول: دري عقاب، بلبن وأخشاب، وامراه قائمة، فكلما رمي بحجر قالت المرأة: يا رب بي ولا ببيتك! ثم رزق الشهادة. وانحاز المهلب بن زياد العجلى في سبعمائة ومعه قريش بْن عبد الله العبدي إلى رستاق يسمى المرغاب، فقاتلوا أهل قصر من قصورهم، فأصيب المهلب بْن زياد، وولوا أمرهم الوجف بْن خالد، ثم أتاهم الإشكند صاحب نسف في خيل ومعه غوزك، فقال غوزك: يا وجف، لكم الأمان، فقال

قريش: لا تثقوا بهم، ولكن إذا جننا الليل خرجنا عليهم حتى نأتي سمرقند، فإنا إن أصبحنا معهم قتلونا. قَالَ: فعصوه وأقاموا، فساقوهم إلى خاقان، فقال: لا أجيز أمان غوزك، فقال غوزك للوجف: أنا عبد لخاقان من شاكريته، قالوا: فلم غرزتنا؟ فقاتلهم الوجف وأصحابه، فقتلوا غير سبعة عشر رجلا دخلوا الحائط وأمسوا، فقطع المشركون شجرة فألقوها على ثلمة الحائط، فجاء قريش بْن عبد الله العبدي إلى الشجرة فرمى بها، وخرج في ثلاثة فباتوا في ناوس فكمنوا فيه وجبن الآخرون فلم يخرجوا، فقتلوا حين أصبحوا. وقتل سورة، فلما قتل خرج الجنيد من الشعب يريد سمرقند مبادرا، فقال له خالد بْن عبيد الله بْن حبيب: سر سر، ومجشر بْن مزاحم السلمي يقول: أذكرك الله أقم، والجنيد يتقدم، فلما رأى المجشر ذلك نزل فأخذ بلجام الجنيد، فقال: والله لا تسير ولتنزلن طائعا أو كارها، ولا ندعك تهلكنا بقول هذا الهجري، انزل فنزل ونزل الناس فلم يتتام نزولهم حتى طلع الترك، فقال المجشر: لو لقونا ونحن نسير، ألم يستأصلونا! فلما أصبحوا تناهضوا، فانكشفت طائفة، وجال الناس، فقال الجنيد: أيها الناس، إنها النار، فتراجعوا وأمر الجنيد رجلا فنادى: أي عبد قاتل فهو حر، فقاتل العبيد قتالا شديدا عجب الناس منه، جعل أحدهم يأخذ اللبد فيجوبه ويجعله في عنقه، يتوقى به فسر الناس بما رأوا من صبرهم، فكر العدو، وصبر الناس حتى انهزم العدو فمضوا، فقال موسى بْن النعر للناس: أتفرحون بما رأيتم من العبيد! والله إن لكم منهم ليوما أرونان ومضى الجنيد فأخذ العدو رجلا من عبد القيس فكتفوه، وعلقوا في عنقه رأس بلعاء العنبري بْن مجاهد بْن بلعاء، فلقيه الناس فأخذ بنو تميم الرأس فدفنوه، ومضى الجنيد إلى سمرقند، فحمل

عيال من كان مع سورة إلى مرو، وأقام بالسغد أربعة أشهر، وكان صاحب رأي خراسان في الحرب المجشر بْن مزاحم السلمي وعبد الرحمن بْن صبح الخرقي وعبيد الله بْن حبيب الهجري، وكان المجشر ينزل الناس على راياتهم، ويضع المسالح ليس لأحد مثل رايه في ذلك، وكان عبد الرحمن ابن صبح إذا نزل الأمر العظيم في الحرب لم يكن لأحد مثل رأيه، وكان عبيد الله بن حبيب على تعبئه القتال، وكان رجال من الموالي مثل هؤلاء في الرأي والمشورة والعلم بالحرب، فمنهم الفضل بْن بسام مولى بني ليث وعبد الله ابن أبي عبد الله مولى بني سليم والبختري بْن مجاهد مولى بني شيبان قَالَ: فلما انصرف الترك إلى بلادهم بعث الجنيد سيف بْن وصاف العجلي من سمرقند إلى هشام، فجبن عن السير وخاف الطريق، فاستعفاه فأعفاه، وبعث نهار بْن توسعة أحد بني تميم اللات وزميل بْن سويد المري، مرة غطفان، وكتب إلى هشام: أن سورة عصاني، أمرته بلزوم الماء فلم يفعل، فتفرق عنه أصحابه، فأتتني طائفة إلى كس، وطائفة إلى نسف، وطائفة إلى سمرقند، وأصيب سورة في بقية أصحابه. قَالَ: فدعا هشام نهار بْن توسعة، فسأله عن الخبر فأخبره بما شهد، فقال نهار بْن توسعة: لعمرك ما حابيتني إذ بعثتني ... ولكنما عرضتني للمتالف دعوت لها قوما فهابوا ركوبها ... وكنت امرأ ركابة للمخاوف فأيقنت إن لم يدفع الله أنني ... طعام سباع أو لطير عوائف قرين عراك وهو أيسر هالك ... عليك وقد زملته بصحائف فإني وإن آثرت منه قرابة ... لأعظم حظا في حباء الخلائف على عهد عثمان وفدنا وقبله ... وكنا أولي مجد تليد وطارف قَالَ: وكان عراك معهم في الوفد، وهو ابن عم الجنيد، فكتب إلى الجنيد: قد وجهت إليك عشرين ألفا مددا، عشرة آلاف من أهل البصرة عليهم عمرو بْن مسلم، ومن أهل الكوفة عشرة آلاف عليهم عبد الرحمن

ابن نعيم، ومن السلاح ثلاثين ألف رمح ومثلها ترسة، فافرض فلا غاية لك في الفريضة لخمسة عشر ألفا. قَالَ: ويقال أن الجنيد أوفد الوفد إلى خالد بْن عبد الله، فأوفد خالد إلى هشام: أن سورة بْن الحر خرج يتصيد مع أصحاب له فهجم عليهم الترك، فأصيبوا فقال هشام حين أتاه مصاب سورة: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! مصاب سوره بن الحر بخراسان والجراح بالباب! وأبلى نصر بْن سيار يومئذ بلاء حسنا، فانقطع سيفه، وانقطع سيور ركابه، فأخذ سيور ركابه، فضرب به رجلا حتى أثخنه، وسقط في اللهب مع سورة يومئذ عبد الكريم ابن عبد الرحمن الحنفي وأحد عشر رجلا معه وكان ممن سلم من أصحاب سورة ألف رجل، فقال عبد الله بْن حاتم بْن النعمان: رأيت فساطيط مبنية بين السماء والأرض، فقلت: لمن هذه؟ فقالوا: لعبد الله بْن بسطام وأصحابه، فقتلوا من غد، فقال رجل: مررت في ذلك الموضع بعد ذلك بحين فوجدت رائحة المسك ساطعة قَالَ: ولم يشكر الجنيد لنصر ما كان من بلائه، فقال نصر: إن تحسدوني على حسن البلاء لكم ... يوما، فمثل بلائي جر لي الحسدا يأبى الإله الذي أعلى بقدرته ... كعبي عليكم وأعطى فوقكم عضدا وضربي الترك عنكم يوم فرقكم ... بالسيف في الشعب حتى جاوز السندا قَالَ: وكان الجنيد يوم الشعب أخذ في الشعب، وهو لا يرى أن أحدا يأتيه من الجبال، وبعث ابن الشخير في مقدمته، واتخذ ساقة، ولم يتخذ مجنبتين. وأقبل خاقان فهزم المقدمة، وقتل من قتل منهم، وجاءه خاقان من قبل ميسرته وجبغويه من قبل الميمنة، فأصيب رجال من الأزد وتميم، وأصابوا له سرادقات وأبنية، فأمر الجنيد حين أمسى رجلا من أهل بيته، فقال له: امش في الصفوف والدراجة، وتسمع ما يقول الناس، وكيف حالهم، ففعل

ثم رجع إليه، فقال: رأيتهم طيبة أنفسهم، يتناشدون الأشعار، ويقرءون القرآن، فسره ذلك، وحمد الله. قَالَ: ويقال نهضت العبيد يوم الشعب من جانب العسكر وقد أقبلت الترك والسغد ينحدرون، فاستقبلهم العبيد وشدوا عليهم بالعمد، فقتلوا منهم تسعة، فأعطاهم الجنيد أسلابهم. وقال ابن السجف في يوم الشعب، ويعني هشاما: اذكر يتامى بأرض الترك ضائعة ... هزلى كأنهم في الحائط الحجل وارحم، وإلا فهبها أمة دمرت ... لا أنفس بقيت فيها ولا ثقل لا تأملن بقاء الدهر بعدهم ... والمرء ما عاش ممدود له الأمل لاقوا كتائب من خاقان معلمة ... عنهم يضيق فضاء السهل والجبل لما رأوهم قليلا لا صريخ لهم ... مدوا بأيديهم لله وابتهلوا وبايعوا رب موسى بيعة صدقت ... ما في قلوبهم شك ولا دغل قَالَ: فأقام الجنيد بسمرقند ذلك العام، وانصرف خاقان إلى بخارى وعليها قطن بْن قتيبة، فخاف الناس الترك على قطن، فشاورهم الجنيد، فقال قوم: الزم سمرقند، واكتب إلى أمير المؤمنين يمدك بالجنود وقال قوم: تسير فتأتي ربنجن، ثم تسير منها إلى كس، ثم تسير منها إلى نسف، فتتصل منها إلى أرض زم، وتقطع النهر وتنزل آمل، فتأخذ عليه بالطريق. فبعث إلى عبد الله بْن أبي عبد الله، فقال: قد اختلف الناس علي- وأخبره بما قالوا- فما الرأي؟ فاشترط عليه ألا يخالفه فيما يشير به عليه من ارتحال أو نزول أو قتال، قَالَ: نعم، قَالَ: فإني أطلب إليك خصالا، قَالَ: وما هي؟ قَالَ: تخندق حيثما نزلت، ولا يفوتنك حمل الماء ولو كنت على شاطئ نهر، وأن تطيعني في نزولك وارتحالك فأعطاه ما اراد. قال: اما ما اشار به عليك في مقامك بسمرقند حتى يأتيك الغياث، فالغياث يبطئ عنك، وإن سرت فأخذت بالناس غير الطريق فتت في أعضادهم،

فانكسروا عن عدوهم، فاجترأ عليك خاقان، وهو اليوم قد استفتح بخارى فلم يفتحوا له، فإن أخذت بهم غير الطريق تفرق الناس عنك مبادرين إلى منازلهم، ويبلغ أهل بخارى فيستسلموا لعدوهم، وإن أخذت الطريق الأعظم هابك العدو، والرأي لك أن تعمد إلى عيالات من شهد الشعب من أصحاب سورة فتقسمهم على عشائرهم وتحملهم معك، فإني أرجو بذلك أن ينصرك الله على عدوك، وتعطي كل رجل تخلف بسمرقند ألف درهم وفرسا. قَالَ: فأخذ برأيه، فخلف في سمرقند عثمان بْن عبد الله بن الشخير في ثمانمائه: أربعمائة فارس وأربعمائة راجل، وأعطاهم سلاحا فشتم الناس عبد الله بْن أبي عبد الله مولى بني سليم، وقالوا: عرضنا لخاقان والترك، ما أراد إلا هلاكنا! فقال عبيد الله بْن حبيب لحرب بْن صبح: كم كانت لكم الساقه اليوم؟ قال: الف وستمائه، قَالَ: لقد عرضنا للهلاك قَالَ: فأمر الجنيد بحمل العيال. قَالَ: وخرج والناس معه، وعلى طلائعه الوليد بن القعقاع العبسى وزياد ابن خيران الطائي، فسرح الجنيد الأشهب بْن عبيد الحنظلي، ومعه عشرة من طلائع الجند، وقال له: كلما مضيت مرحلة فسرح إلي رجلا يعلمني الخبر. قَالَ: وسار الجنيد، فلما صار بقصر الريح أخذ عطاء الدبوسي بلجام الجنيد وكبحه، فقرع رأسه هارون الشاشي مولى بني حازم بالرمح حتى كسره على رأسه، فقال الجنيد لهارون: خل عن الدبوسي، وقال له: ما لك يا دبوسي؟ فقال: انظر أضعف شيخ في عسكرك فسلحه سلاحا تاما، وقلده سيفا وجعبة وترسا، وأعطه رمحا، ثم سر بنا على قدر مشيه، فإنا لا نقدر على السوق والقتال وسرعة السير ونحن رجالة ففعل ذلك الجنيد،

فلم يعرض للناس عارض حتى خرجوا من الأماكن المخوفة، ودنا من الطواويس، فجاءتنا الطلائع بإقبال خاقان، فعرضوا له بكرمينية، أول يوم من رمضان. فلما ارتحل الجنيد من كرمينية قدم محمد بْن الرندي في الأساورة آخر الليل، فلما كان في طرف مفازة كرمينية رأى ضعف العدو، فرجع إلى الجنيد فأخبره، فنادى منادي الجنيد: ألا يخرج المكتبون إلى عدوهم؟ فخرج الناس، ونشبت الحرب، فنادى رجل: أيها الناس، صرتم حرورية فاستقتلتم وجاء عبد الله بْن أبي عبد الله إلى الجنيد يضحك، فقال له الجنيد: ما هذا بيوم ضحك! فقيل له: إنه ضحك تعجبا، فالحمد لله الذي لم يلقك هؤلاء إلا في جبال معطشة، فهم على ظهر وأنت مخندق آخر النهار، كالين وأنت معك الزاد، فقاتلوا قليلا ثم رجعوا وكان عبد الله بْن أبي عبد الله قَالَ للجنيد وهم يقاتلون: ارتحل، فقال الجنيد: وهل من حيلة؟ قَالَ: نعم، تمضي برايتك قدر ثلاث غلاء، فإن خاقان ود أنك أقمت فينطوي عليك إذا شاء فأمر بالرحيل وعبد الله بْن أبي عبد الله على الساقة. فأرسل إليه: انزل، قَالَ: أنزل على غير ماء! فأرسل إليه: إن لم تنزل ذهبت خراسان من يدك، فنزل وأمر الناس أن يسقوا، فذهب الناس الرجالة والناشبة، وهم صفان، فاستقوا وباتوا، فلما أصبحوا ارتحلوا، فقال عبد الله ابن أبي عبد الله: إنكم معشر العرب أربعة جوانب، فليس يعيب بعضهم بعضا، كل ربع لا يقدر أن يزول عن مكانه: مقدمة- وهم القلب- ومجنبتان وساقة، فإن جمع خاقان خيله ورجاله ثم صدم جانبا منكم- وهم الساقة- كان بواركم، وبالحري أن يفعل، وأنا أتوقع ذلك في يومي، فشدوا الساقة بخيل فوجه الجنيد خيل بني تميم والمجففة، وجاءت الترك فمالت على الساقة، وقد دنا المسلمون من الطواويس فاقتتلوا، فاشتد الأمر بينهم، فحمل سلم بْن أحوز على رجل من عظماء الترك فقتله قَالَ: فتطير الترك، وانصرفوا من الطواويس، ومضى المسلمون، فأتوا بخارى يوم المهرجان قَالَ: فتلقونا بدراهم بخارية، فأعطاهم عشرة عشرة، فقال عبد المؤمن بْن خالد: رأيت

عبد الله بْن أبي عبد الله بعد وفاته في المنام، فقال: حدث الناس عني برأيي يوم الشعب. قَالَ: وكان الجنيد يذكر خالد بْن عبد الله، ويقول: ربذة من الربذ، صنبور ابن صنبور، قل ابْن قل، هيفة من الهيف- وزعم أن الهيفة الضبع، والعجرة الخنزيرة، والقل: الفرد- قَالَ: وقدمت الجنود مع عمرو بْن مسلم الباهلي في أهل البصره وعبد الرحمن بْن نعيم الغامدي في أهل الكوفة وهو بالصغانيان، فسرح معهم الحوثرة بْن يزيد العنبري فيمن انتدب معه من التجار وغيرهم، وأمرهم أن يحملوا ذراري أهل سمرقند، ويدعوا فيها المقاتلة ففعلوا قَالَ أبو جعفر: وقد قيل: إن وقعة الشعب بين الجنيد وخاقان كانت في سنة ثلاث عشرة ومائة. وقال نصر بْن سيار يذكر يوم الشعب وقتال العبيد: إني نشأت وحسادي ذوو عدد ... يا ذا المعارج لا تنقص لهم عددا إن تحسدوني على مثل البلاء لكم ... يوما فمثل بلائي جر لي الحسدا يأبى الإله الذي أعلى بقدرته ... كعبي عليكم وأعطى فوقكم عددا أرمي العدو بأفراس مكلمة ... حتى اتخذن على حسادهن يدا من ذا الذي منكم في الشعب إذ وردوا ... لم يتخذ حومة الأثقال معتمدا! فما حفظتم من الله الوصاة ولا ... أنتم بصبر طلبتم حسن ما وعدا ولا نهاكم عن التوثاب في عتب ... إلا العبيد بضرب يكسر العمدا هلا شكرتم دفاعى عن جنيد كم ... وقع القنا وشهاب الحرب قد وقدا!

وقال ابن عرس العبدي، يمدح نصرا يوم الشعب ويذم الجنيد، لأن نصرا أبلى يومئذ: يا نصر أنت فتى نزار كلها ... فلك المآثر والفعال الأرفع فرجت عن كل القبائل كربة ... بالشعب حين تخاضعوا وتضعضعوا يوم الجنيد إذ القنا متشاجر ... والنحر دام والخوافق تلمع ما زلت ترميهم بنفس حرة ... حتى تفرج جمعهم وتصدعوا فالناس كل بعدها عتقاؤكم ... ولك المكارم والمعالي أجمع وقال الشرعبي الطائي: تذكرت هندا في بلاد غريبة ... فيا لك شوقا، هل لشملك مجمع! تذكرتها والشاش بيني وبينها ... وشعب عصام والمنايا تطلع بلاد بها خاقان جم زحوفه ... ونيلان في سبعين ألفا مقنع إذا دب خاقان وسارت جنوده ... أتتنا المنايا عند ذلك شرع هنالك- هند- ما لنا النصف منهم ... وما إن لنا يا هند في القوم مطمع ألا رب خود خدلة قد رايتها ... يسوق جهم من السغد أصمع أحامي عليها حين ولى خليلها ... تنادي إليها المسلمين فتسمع تنادي بأعلى صوتها صف قومها ... ألا رجل منكم يغار فيرجع! ألا رجل منكم كريم يردني ... يرى الموت في بعض المواطن ينفع! فما جاوبوها غير أن نصيفها ... بكف الفتى بين البرازيق أشنع إلى الله أشكو نبوة في قلوبها ... ورعبا ملا أجوافها يتوسع فمن مبلغ عني ألوكا صحيفة ... إلى خالد من قبل أن نتوزع بأن بقايانا وأن أميرنا ... إذا ما عددناه الذليل الموقع

هم أطمعوا خاقان فينا وجنده ... ألا ليتنا كنا هشيما يزعزع وقال ابن عرس- واسمه خالد بْن المعارك من بني غنم بْن وديعة بْن لكيز بْن أفصى وذكر علي بْن محمد عن شيخ من عبد القيس أن أمه كانت أمة، فباعه أخوه تميم بْن معارك من عمرو بْن لقيط أحد بنى عامر بن الحارث، فاعتقه عمرو لما حضرته الوفاة، فقال: يا أبا يعقوب، كم لي عندك من المال؟ قَالَ: ثمانون ألفا، قَالَ: أنت حر وما في يديك لك قال: فكان عمرو ينزل مرو الروذ، وقد اقتتلت عبد القيس في ابن عرس، فردوه إلى قومه، فقال ابن عرس للجنيد: أين حماة الحرب من معشر ... كانوا جمال المنسر الحارد! بادوا بآجال توافوا لها ... والعائر الممهل كالبائد فالعين تجرى دمعها مسبلا ... ما لدموع العين من ذائد انظر ترى للميت من رجعة ... أم هل ترى في الدهر من خالد! كنا قديما يتقى بأسنا ... وندرأ الصادر بالوارد حتى منينا بالذي شامنا ... من بعد عز ناصر آئد كعاقر الناقة لا ينثني ... مبتدئا ذي حنق جاهد فتقت ما لم يلتئم صدعه ... بالجحفل المحتشد الزائد تبكي لها إن كشفت ساقها ... جدعا وعقرا لك من قائد! تركتنا أجزاء معبوطة ... يقسمها الجازر للناهد ترقت الأسياف مسلولة ... تزيل بين العضد والساعد تساقط الهامات من وقعها ... بين جناحي مبرق راعد إذ أنت كالطفله في خدرها ... لم تدر يوما كيدة الكائد إنا أناس حربنا صعبة ... تعصف بالقائم والقاعد أضحت سمرقند وأشياعها ... أحدوثة الغائب والشاهد

أخبار متفرقة

وكم ثوى في الشعب من حازم ... جلد القوى ذي مرة ماجد يستنجد الخطب ويغشى الوغى ... لا هائب غس ولا ناكد ليتك يوم الشعب في حفرة ... مرموسة بالمدر الجامد تلعب بك الحرب وأبناؤها ... لعب صقور بقطا وارد طار لها قلبك من خيفة ... ما قلبك الطائر بالعائد لا تحسبن الحرب يوم الضحى ... كشربك المزاء بالبارد أبغضت من عينك تبريجها ... وصورة في جسد فاسد جنيد ما عيصك منسوبه ... نبعا ولا جدك بالصاعد خمسون ألفا قتلوا ضيعة ... وأنت منهم دعوة الناشد لا تمرين الحرب من قابل ... ما أنت في العدوة بالحامد قلدته طوقا على نحره ... طوق الحمام الغرد الفارد قصيدة حبرها شاعر ... تسعى بها البرد الى خالد [أخبار متفرقة] وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن هشام المخزومي، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وقد قيل: إن الذي حج بالناس في هذه السنة سليمان بْن هشام. وكانت عمال الأمصار في هذه السنة عمالها الذين كانوا في سنة إحدى عشرة ومائة، وقد ذكرناهم قبل.

سنه ثلاث عشره ومائه

ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) قتل عبد الوهاب بن بخت فمما كان فيها من ذلك هلاك عبد الوهاب بْن بخت، وهو مع البطال عبد الله بأرض الروم، فذكر محمد بْن عمر، عن عبد العزيز بْن عمر، أن عبد الوهاب بْن بخت غزا مع البطال سنة ثلاث عشرة ومائة، فانهزم الناس عن البطال وانكشفوا، فجعل عبد الوهاب يكر فرسه وهو يقول: ما رأيت فرسا أجبن منه، وسفك الله دمي إن لم أسفك دمك ثم ألقى بيضته عن رأسه وصاح: أنا عبد الوهاب بْن بخت، أمن الجنة تفرون! ثم تقدم في نحور العدو، فمر برجل وهو يقول: وا عطشاه! فقال: تقدم، الري أمامك، فخالط القوم فقتل وقتل فرسه. ومن ذلك ما كان من تفريق مسلمة بْن عبد الملك الجيوش في بلاد خاقان ففتحت مدائن وحصون على يديه، وقتل منهم، وأسر وسبي، وحرق خلق كثير من الترك أنفسهم بالنار، ودان لمسلمة من كان وراء جبال بلنجر وقتل ابن خاقان. ومن ذلك غزوة معاوية بْن هشام أرض الروم فرابط من ناحية مرعش ثم رجع. وفي هذه السنة صار من دعاة بني العباس جماعة إلى خراسان، فأخذ الجنيد بْن عبد الرحمن رجلا منهم فقتله، وقال: من أصيب منهم فدمه هدر

وحج بالناس في هذه السنة- في قول أبي معشر- سليمان بْن هشام بْن عبد الملك، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى عن أبي معشر وكذلك قَالَ الواقدي. وقال بعضهم: الذي حج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن هشام المخزومي. وكان عمال الأمصار في هذه السنة هم الذين كانوا عمالها في سنة إحدى عشرة واثنتي عشرة، وقد مضى ذكرنا لهم

سنه اربع عشره ومائه

ثم دخلت سنة أربع عشرة ومائة (ذكر الأخبار عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) فمن ذَلِكَ غزوة معاوية بْن هشام الصائفة اليسرى وسليمان بْن هشام على الصائفة اليمنى، فذكر أن معاوية بْن هشام أصاب ربض أقرن، وأن عبد الله البطال التقى وقسطنطين في جمع فهزمهم، واسر قسطنطين، وبلغ سليمان ابن هشام قيسارية. وفي هذه السنة عزل هشام بْن عبد الملك إبراهيم بْن هشام عن المدينة، وأمر عليها خالد بْن عبد الملك بْن الحارث بْن الحكم قَالَ الواقدي: قدم خالد بْن عبد الملك المدينة للنصف من شهر ربيع الاول، وكانت امره ابراهيم ابن هشام على المدينة ثماني سنين. وقال الواقدي: في هذه السنة ولي محمد بْن هشام المخزومي مكة. وقال بعضهم: بل ولي محمد بْن هشام مكة سنة ثلاث عشرة ومائة، فلما عزل إبراهيم أقر محمد بْن هشام على مكة. وفي هذه السنة وقع الطاعون- فيما قيل- بواسط. وفيها قفل مسلمة بْن عبد الملك عن الباب بعد ما هزم خاقان وبنى الباب فأحكم ما هنالك. وفي هذه السنة ولى هشام مروان بْن محمد أرمينية وأذربيجان. وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَقَالَ أَبُو معشر- فِيمَا حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن حدثه، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عنه: حج بالناس سنة أربع عشرة ومائة خالد بْن عبد الملك بْن الحارث بْن الحكم، وهو على المدينة

وقال بعضهم: حج بالناس في هذه السنة محمد بْن هشام، وهو أمير مكة، فأقام خالد بْن عبد الملك تلك السنة، لم يشهد الحج. قَالَ الواقدي: حدثني بهذا الحديث عبد الله بْن جعفر، عن صالح بْن كيسان. قَالَ الواقدي: وقال لي أبو معشر: حج بالناس سنة أربع عشرة ومائة خالد بْن عبد الملك، ومحمد بْن هشام على مكة قَالَ الواقدي: وهو الثبت عندنا. وكان عمال الأمصار فِي هَذِهِ السنة هم العمال الذين كانوا في السنة التي قبلها، غير أن عامل المدينة في هذه السنة كان خالد بْن عبد الملك، وعامل مكة والطائف محمد بْن هشام، وعامل أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد.

سنه خمس عشره ومائه

ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائة (ذكر الأخبار عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كَانَ فيها من ذلك غزوة معاوية بْن هشام أرض الروم. وفيها وقع الطاعون بالشام. وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن هشام بْن إسماعيل، وهو أمير مكة والطائف، كذلك قَالَ أَبُو معشر، فِيمَا حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عنه. وكان عمال الأمصار في هذه السنة عمالها في سنة أربع عشرة ومائة، غير أنه اختلف في عامل خراسان في هذه السنة، فقال المدائني: كان عاملها الجنيد بْن عبد الرحمن، وقال بعضهم كان عاملها عمارة بْن حريم المري. وزعم الذي قَالَ ذلك أن الجنيد مات في هذه السنة، واستخلف عمارة بْن حريم وأما المدائني فإنه ذكر ان وفاه الجنيد كانت في سنه ست عشرة ومائة. وفي هذه السنة أصاب الناس بخراسان قحط شديد ومجاعة، فكتب الجنيد إلى الكور: إن مرو كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ، فاحملوا إليها الطعام. قَالَ علي بْن محمد: أعطى الجنيد في هذه السنة رجلا درهما، فاشترى به رغيفا، فقال لهم: تشكون الجوع ورغيف بدرهم! لقد رأيتني بالهند وإن الحبة من الحبوب لتباع عددا بالدرهم، وقال: إن مرو كما قَالَ الله عز وجل: «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً» .

سنه ست عشره ومائه

ثم دخلت سنة ست عشرة ومائة (ذكر ما كان فيها من الأحداث) فمن ذلك ما كان من غزوة معاوية بْن هشام أرض الروم الصائفة. وفيها كان طاعون شديد بالعراق والشام، وكان أشد ذلك- فيما ذكر- بواسط. وفاة الجنيد بْن عبد الرحمن وولاية عاصم بن عبد الله خراسان وفيها كانت وفاة الجنيد بْن عبد الرحمن وولاية عاصم بْن عبد الله بْن يزيد الهلالي خراسان. ذكر الخبر عن أمرهما: ذكر علي بْن محمد، عن أشياخه، أن الجنيد بْن عبد الرحمن تزوج الفاضلة بنت يزيد بْن المهلب، فغضب هشام على الجنيد، وولى عاصم بْن عبد الله خراسان، وكان الجنيد سقى بطنه، فقال هشام لعاصم: إن أدركته وبه رمق فازهق نفسه، فقدم عاصم وقد مات الجنيد. قال: وذكروا ان جبله بن أبي رواد دخل على الجنيد عائدا، فقال: يا جبلة، ما يقول الناس؟ قَالَ: قلت يتوجعون للأمير، قَالَ: ليس عن هذا سألتك، ما يقولون؟ وأشار نحو الشام بيده قَالَ: قلت: يقدم على خراسان يزيد بْن شجرة الرهاوي، قَالَ: ذلك سيد أهل الشام، قَالَ: ومن؟ قلت: عصمة أو عصام، وكنيت عن عاصم، فقال: إن قدم عاصم فعدو جاهد، لا مرحبا به ولا أهلا. قَالَ: فمات في مرضه ذلك في المحرم سنة ست عشرة ومائة، واستخلف عمارة بْن حريم وقدم عاصم بْن عبد الله، فحبس عمارة بْن حريم وعمال الجنيد وعذبهم وكانت وفاته بمرو، فقال ابو الجويرية عيسى ابن عصمه يرثيه:

ذكر خلع الحارث بن سريج

هلك الجود والجنيد جميعا ... فعلى الجود والجنيد السلام أصبحا ثاويين في أرض مرو ... ما تغنت على الغصون الحمام كنتما نزهة الكرام فلما ... مت مات الندى ومات الكرام ثم إن أبا الجويرية أتى خالد بْن عبد الله القسري وامتدحه، فقال له خالد: ألست القائل: هلك الجود والجنيد جميعا. مالك عندنا شيء، فخرج فقال: تظل لامعة الآفاق تحملنا ... إلى عمارة والقود السراهيد قصيدة امتدح بها عمارة بْن حريم، ابن عم الجنيد، وعمارة هو جد أبي الهيذام صاحب العصبية بالشام. قَالَ: وقدم عاصم بْن عبد الله فحبس عماره بن حريم وعمال الجنيد وعذبهم . ذكر خلع الحارث بن سريج وفي هذه السنة خلع الحارث بْن سريج، وكانت الحرب بينه وبين عاصم بْن عبد الله. ذكر الخبر عن ذلك: ذكر علي عن أشياخه، قَالَ: لما قدم عاصم خراسان واليا، اقبل الحارث ابن سريج من النخذ حتى وصل إلى الفارياب، وقدم أمامه بشر بن جرموز. قَالَ: فوجه عاصم الخطاب بْن محرز السلمي ومنصور بْن عمر بن ابى الخرقاء السلمي وهلال بْن عليم التميمي والأشهب الحنظلي وجرير بْن هميان السدوسي ومقاتل بْن حيان النبطي مولى مصقلة إلى الحارث، وكان خطاب ومقاتل بْن حيان قالا: لا تلقوه إلا بأمان، فأبي عليهما القوم، فلما انتهوا إليه بالفارياب قيدهم وحبسهم، ووكل بهم رجلا يحفظهم قَالَ: فأوثقوه وخرجوا من السجن، فركبوا دوابهم، وساقوا دواب البريد، فمروا بالطالقان

فهم سهرب صاحب الطالقان بهم، ثم أمسك وتركهم فلما قدموا مرو أمرهم عاصم فخطبوا وتناولوا الحارث، وذكروا خبث سيرته وغدره ثم مضى الحارث إلى بلخ وعليها نصر، فقاتلوه، فهزم أهل بلخ ومضى نصر إلى مرو. وذكر بعضهم: لما أقبل الحارث إلى بلخ وكان عليها التجيبي بْن ضبيعة المري ونصر بْن سيار، وولاهما الجنيد قَالَ: فانتهى إلى قنطرة عطاء وهي على نهر بلخ على فرسخين من المدينة، فتلقى نصر بْن سيار في عشرة آلاف والحارث بْن سريج في أربعة آلاف، فدعاهم الحارث إلى الكتاب والسنة والبيعه للرضا، فقال قطن بْن عبد الرحمن بْن جزي الباهلي: يا حارث، أنت تدعو إلى كتاب الله والسنة، والله لو أن جبريل عن يمينك وميكائيل عن يسارك ما أجبتك، فقاتلهم فأصابته رمية في عينه، فكان أول قتيل. فانهزم أهل بلخ إلى المدينة، وأتبعهم الحارث حتى دخلها، وخرج نصر من باب آخر، فأمر الحارث بالكف عنهم، فقال رجل من أصحاب الحارث: إني لأمشي في بعض طرق بلخ إذ مررت بنساء يبكين وامرأة تقول: يا أبتاه! ليت شعري من دهاك! وأعرابي إلى جنبي يسير، فقال: من هذه الباكية؟ فقيل له: ابنة قطن بْن عبد الرحمن بْن جزي، فقال الأعرابي: أنا وأبيك دهيتك، فقلت: أنت قتلته؟ قَالَ: نعم. قَالَ: ويقال: قدم نصر والتجيبي على بلخ، فحبسه نصر، فلم يزل محبوسا حتى هزم الحارث نصرا، وكان التجيبي ضرب الحارث أربعين سوطا في إمرة الجنيد، فحوله الحارث إلى قلعة باذكر بزم، فجاء رجل من بني حنيفة فادعى عليه أنه قتل أخاه أيام كان على هراة، فدفعه الحارث إلى الحنفي، فقال له التجيبي: أفتدي منك بمائة ألف، فلم يقبل منه وقتله وقوم يقولون: قتل التجيبي في ولاية نصر قبل أن يأتيه الحارث. قَالَ: ولما غلب الحارث علي بلخ استعمل عليها رجلا من ولد عبد الله ابن خازم، وسار، فلما كان بالجوزجان دعا وابصة بْن زرارة العبدي، ودعا دجاجة ووحشا العجليين وبشر بْن جرموز وأبا فاطمة، فقال:

ما ترون؟ فقال أبو فاطمة: مرو بيضة خراسان، وفرسانهم كثير، لو لم يلقوك إلا بعبيدهم لانتصفوا منك، فأقم فإن أتوك قاتلتهم وإن أقاموا قطعت المادة عنهم، قَالَ: لا أرى ذلك، ولكن أسير إليهم فأقبل الحارث إلى مرو، وقد غلب على بلخ والجوزجان والفارياب والطالقان ومرو الروذ، فقال أهل الدين من أهل مرو: إن مضى إلى أبرشهر ولم يأتنا فرق جماعتنا، وإن أتانا نكب. قَالَ: وبلغ عاصما أن أهل مرو يكاتبون الحارث، قَالَ: فأجمع على الخروج وقال: يا اهل خراسان، قد بايعتم الحارث بن سريج، لا يقصد مدينة إلا خليتموها له، إني لاحق بأرض قومي أبرشهر، وكاتب منها إلى أمير المؤمنين حتى يمدني بعشرة آلاف من أهل الشام فقال له المجشر بْن مزاحم: إن أعطوك بيعتهم بالطلاق والعتاق فأقم، وإن أبوا فسر حتى تنزل أبرشهر، وتكتب إلى أمير المؤمنين فيمدك بأهل الشام فقال خالد بن هريم احد بنى ثعلبه بن يربوع وأبو محارب هلال بْن عليم: والله لا نخليك والذهاب، فيلزمنا دينك عند أمير المؤمنين، ونحن معك حتى نموت إن بذلت الأموال. قَالَ: افعل، قَالَ يزيد بْن قران الرياحي: ان لم اقاتل معك ما قاتلت فابنه الأبرد بْن قرة الرياحي طالق ثلاثا- وكانت عنده- فقال عاصم: أكلكم على هذا؟ قالوا: نعم وكان سلمة بْن أبي عبد الله صاحب حرسه يحلفهم بالطلاق. قَالَ: وأقبل الحارث بْن سريج إلى مرو في جمع كثير- يقال في ستين ألفا- ومعه فرسان الأزد وتميم، منهم محمد بْن المثنى وحماد بْن عامر ابن مالك الحماني وداود الأعسر وبشر بْن أنيف الرياحي وعطاء الدبوسي. ومن الدهاقين الجوزجان وترسل دهقان الفارياب وسهرب ملك الطالقان، وقرياقس دهقان مرو، في أشباههم. قَالَ: وخرج عاصم في أهل مرو وفي غيرهم، فعسكر بجياسر عند البيعه،

وأعطى الجند دينارا دينارا، فخف عنه الناس، فأعطاهم ثلاثة دنانير ثلاثة دنانير، وأعطى الجند وغيرهم، فلما قرب بعضهم من بعض أمر بالقناطر فكسرت، وجاء أصحاب الحارث فقالوا: تحصروننا في البرية! دعونا نقطع إليكم فنناظركم فيما خرجنا له، فأبوا وذهب رجالتهم يصلحون القناطر، فأتاهم رجالة أهل مرو فقاتلوهم، فمال محمد بْن المثنى الفراهيذي برايته إلى عاصم فأمالها في ألفين فأتى الأزد، ومال حماد بْن عامر بْن مالك الحماني إلى عاصم، وأتى بني تميم. قَالَ سلمة الأزدي: كان الحارث بعث الى عاصم رسلا- منهم محمد ابن مسلم العنبري- يسألونه العمل بكتاب الله وسنة نبيه ص. قَالَ: وعلى الحارث بْن سريج يومئذ السواد قَالَ: فلما مال محمد بْن المثنى بدأ أصحاب الحارث بالحملة، والتقى الناس، فكان أول قتيل غياث بْن كلثوم من أهل الجارود، فانهزم أصحاب الحارث، فغرق بشر كثير من أصحاب الحارث في أنهار مرو والنهر الأعظم، ومضت الدهاقين إلى بلادهم، فضرب يومئذ خالد بْن علباء بْن حبيب بْن الجارود على وجهه، وأرسل عاصم بْن عبد الله المؤمن بْن خالد الحنفي وعلباء بْن أحمر اليشكري ويحيى بْن عقيل الخزاعي ومقاتل بْن حيان النبطي إلى الحارث يسأله ما يريد؟ فبعث الحارث محمد بْن مسلم العنبري وحده، فقال لهم: ان الحارث وإخوانكم يقرءونكم السلام، ويقولون لكم: قد عطشنا وعطشت دوابنا، فدعونا ننزل الليلة، وتختلف الرسل فيما بيننا ونتناظر، فإن وافقناكم على الذي تريدون وإلا كنتم من وراء أمركم، فأبوا عليه وقالوا مقالا غليظا، فقال مقاتل ابن حيان النبطي: يا أهل خراسان، إنا كنا بمنزلة بيت واحد وثغرنا واحد، ويدنا على عدونا واحدة، وقد أنكرنا ما صنع صاحبكم، وجه إليه أميرنا بالفقهاء والقراء من أصحابه، فوجه رجلا واحدا قَالَ محمد: إنما أتيتكم مبلغا، لطلب كتاب الله وسنه نبيه ص، وسيأتيكم الذي تطلبون من غد إن شاء الله تعالى

وانصرف محمد بْن مسلم إلى الحارث، فلما انتصف الليل سار الحارث فبلغ عاصما، فلما أصبح سار إليه فالتقوا، وعلى ميمنة الحارث رابض بْن عبد الله بْن زرارة التغلبي، فاقتتلوا قتالا شديدا، فحمل يحيى بْن حضين- وهو رأس بكر بْن وائل، وعلى بكر بن وائل زياد بْن الحارث بْن سريج- فقتلوا قتلا ذريعا، فقطع الحارث وادي مرو، فضرب رواقا عند منازل الرهبان، وكف عنه عاصم قَالَ: وكانت القتلى مائة، وقتل سعيد بْن سعد بْن جزء الأزدي، وغرق خازم بْن موسى بْن عبد الله بْن خازم- وكان مع الحارث بْن سريج- واجتمع إلى الحارث زهاء ثلاثة آلاف، فقال القاسم بْن مسلم: لما هزم الحارث كف عنه عاصم، ولو ألح عليه لأهلكه. وأرسل إلى الحارث: إني راد عليك ما ضمنت لك ولأصحابك، على أن ترتحل، ففعل. قَالَ: وكان خالد بْن عبيد الله بْن حبيب أتى الحارث ليلة هزم، وكان أصحابه أجمعوا على مفارقة الحارث، وقالوا: ألم تزعم أنه لا يرد لك راية! فأتاهم فسكنهم. وكان عطاء الدبوسي من الفرسان، فقال لغلامه يوم زرق: أسرج لي برذوني لعلي ألاعب هذه الحمارة، فركب ودعا إلى البراز، فبرز له رجل من أهل الطالقان، فقال بلغته: اى كير خر. قَالَ أبو جعفر الطبري رحمه الله: وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة الْوَلِيد بْن يزيد بْن عبد الملك، وهو ولي العهد، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر وكذلك قَالَ الواقدي وغيره. وكانت عمال الأمصار في هذه السنة عمالها في التي قبلها إلا ما كان من خراسان فإن عاملها في هذه السنة عاصم بْن عبد الله الهلالي.

سنه سبع عشره ومائه

ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها غزوة معاوية بْن هشام الصائفة اليسرى وغزوة سليمان بْن هشام بْن عبد الملك الصائفة اليمنى من نحو الجزيرة، وفرق سراياه في أرض الروم وفيها بعث مروان بْن محمد- وهو على أرمينية- بعثين، فافتتح أحدهما حصونا ثلاثة من اللان ونزل الآخر على تومانشاه، فنزل أهلها على الصلح. وفيها عزل هشام بْن عبد الملك عاصم بْن عبد الله عن خراسان، وضمها إلى خالد بْن عبد الله، فولاها خالد أخاه أسد بْن عبد الله. وقال المدائني: كان عزل هشام عاصما عن خراسان وضم خراسان إلى خالد بْن عبد الله في سنة ست عشرة ومائة. ذكر الخبر عن سبب عزل هشام عاصما وتوليته خالدا خراسان وكان سبب ذلك- فيما ذكر علي عن أشياخه- أن عاصم بْن عبد الله كتب إلى هشام بْن عبد الملك: أما بعد يا أمير المؤمنين، فإن الرائد لا يكذب أهله، وقد كان من أمر أمير المؤمنين إلي ما يحق به علي نصيحته، وإن خراسان لا تصلح إلا أن تضم إلى صاحب العراق، فتكون موادها ومنافعها ومعونتها في الأحداث والنوائب من قريب، لتباعد أمير المؤمنين عنها. وتباطؤ غياثه عنها فلما مضى كتابه خرج إلى أصحابه يحيى بْن حضين والمجشر بْن مزاحم وأصحابهم، فأخبرهم، فقال له المجشر بعد ما مضى الكتاب: كأنك بأسد قد طلع عليك فقدم أسد بْن عبد الله، بعث به هشام بعد كتاب عاصم بشهر، فبعث الكميت بْن زيد الأسدي إلى أهل مرو بهذا الشعر:

ألا أبلغ جماعة أهل مرو ... على ما كان من نأى وبعد رسالة ناصح يهدي سلاما ... ويأمر في الذي ركبوا بجد وأبلغ حارثا عنا اعتذارا ... إليه بأن من قبلي بجهد ولولا ذاك قد زارتك خيل ... من المصرين بالفرسان تردي فلا تهنوا ولا ترضوا بخسف ... ولا يغرركم أسد بعهد وكونوا كالبغايا إن خدعتم ... وإن اقررتم ضيما لوغد وإلا فارفعوا الرايات سودا ... على أهل الضلالة والتعدي فكيف وأنتم سبعون ألفا ... رماكم خالد بشبيه قرد ومن ولى بذمته رزينا ... وشيعته ولم يوف بعهد ومن غشى قضاعة ثوب خزي ... بقتل أبي سلامان بْن سعد فمهلا يا قضاع فلا تكوني ... توابع لا أصول لها بنجد وكنت إذا دعوت بني نزار ... أتاك الدهم من سبط وجعد فجدع من قضاعة كل أنف ... ولا فازت على يوم بمجد قَالَ: ورزين الذي ذكر كان خرج على خالد بْن عبد الله بالكوفة، فأعطاه الأمان ثم لم يف به. وقال فيه نصر بْن سيار حين أقبل الحارث إلى مرو وسود راياته- وكان الحارث يرى رأى المرجئة: دع عنك دنيا وأهلا أنت تاركهم ... ما خير دنيا وأهل لا يدومونا! إلا بقية أيام إلى أجل ... فاطلب من الله أهلا لا يموتونا اكثر تقى الله في الإسرار مجتهدا ... إن التقى خيره ما كان مكنونا واعلم بأنك بالأعمال مرتهن ... فكن لذاك كثير الهم محزونا إني أرى الغبن المردي بصاحبه ... من كان في هذه الأيام مغبونا

تكون للمرء أطوارا فتمنحه ... يوما عثارا وطورا تمنح اللينا بينا الفتى في نعيم العيش حوله ... دهر فأمسى به عن ذاك مزبونا تحلو له مرة حتى يسر بها ... حينا وتمقره طعما أحايينا هل غابر من بقايا الدهر تنظره ... إلا كما قد مضى فيما تقضونا فامنح جهادك من لم يرج آخره ... وكن عدوا لقوم لا يصلونا واقتل مواليهم منا وناصرهم ... حينا تكفرهم والعنهم حينا والعائبين علينا ديننا وهم ... شر العباد إذا خابرتهم دينا والقائلين سبيل الله بغيتنا ... لبعد ما نكبوا عما يقولونا فاقتلهم غضبا لله منتصرا ... منهم به ودع المرتاب مفتونا إرجاؤكم لزَّكم والشرك في قرن ... فأنتم أهل إشراك ومرجونا لا يبعد الله في الأجداث غيركم ... إذ كان دينكم بالشرك مقرونا ألقى به الله رعبا في نحوركم ... والله يقضي لنا الحسنى ويعلينا كيما نكون الموالي عند خائفة ... عما تروم به الإسلام والدينا وهل تعيبون منا كاذبين به ... غال ومهتضم، حسبي الذي فينا يأبى الذي كان يبلي الله أولكم ... على النفاق وما قد كان يبلينا قال: ثم عاد الحارث لمحاربة عاصم، فلما بلغ عاصما أن أسد بْن عبد الله قد أقبل، وأنه قد سير على مقدمته محمد بْن مالك الهمداني، وأنه قد نزل الدندانقان، صالح الحارث، وكتب بينه وبينه كتابا على أن ينزل الحارث أي كور خراسان شاء، وعلى أن يكتبا جميعا إلى هشام، يسألانه كتاب الله وسنة نبيه، فإن أبى اجتمعا جميعا عليه فختم على الكتاب بعض الرؤساء، وابى يحيى

ابن حضين أن يختم، وقال: هذا خلع لأمير المؤمنين، فقال خلف بْن خليفة ليحيى: أبى هم قلبك إلا اجتماعا ... ويأبى رقادك إلا امتناعا بغير سماع ولم تلقني ... أحاول من ذات لهو سماعا حفظنا أمية في ملكها ... ونخطر من دونها ان تراعى ندافع عنها وعن ملكها ... إذا لم نجد بيديها امتناعا أبى شعب ما بيننا في القديم ... وبين أمية إلا انصداعا ألم نختطف هامه ابن الزبير ... وتنتزع الملك منه انتزاعا جعلنا الخلافة في أهلها ... إذا اصطرع الناس فيها اصطراعا نصرنا أمية بالمشرفي ... إذا انخلع الملك عنها انخلاعا ومنا الذي شد أهل العراق ... ولو غاب يحيى عن الثغر ضاعا على ابن سريج نقضنا الأمور ... وقد كان أحكمها ما استطاعا حكيم مقالته حكمة ... إذا شتت القوم كانت جماعا عشية زرق وقد أزمعوا ... قمعنا من الناكثين الزماعا ولولا فتى وائل لم يكن ... لينضج فيها رئيس كراعا فقل لأمية ترعى لنا ... أيادي لم نجزها واصطناعا أتلهين عن قتل ساداتنا ... ونأبى لحقك إلا اتباعا أمن لم يبعك من المشترين ... كآخر صادف سوقا فباعا! أبى ابن حضين لما تصنعين ... إلا اضطلاعا وإلا اتباعا ولو يأمن الحارث الوائلين ... لراعك في بعض من كان راعا وقد كان اصعر ذا نيرب ... أشاع الضلالة فيما أشاعا كفينا أمية مختومة ... أطاع بها عاصم من أطاعا

فلولا مراكز راياتنا ... من الجند خاف الجنود الضياعا وصلنا القديم لها بالحديث ... وتأبى أمية إلا انقطاعا ذخائر في غيرنا نفعها ... وما إن عرفنا لهن انتفاعا ولو قدمتها وبان الحجاب ... لارتعت بين حشاك ارتياعا فأين الوفاء لأهل الوفاء ... والشكر أحسن من أن يضاعا! وأين ادخار بني وائل ... إذا الذخر في الناس كان ارتجاعا! ألم تعلمي أن أسيافنا ... تداوى العليل وتشفي الصداعا! إذا ابن حضين غدا باللواء ... اسلم أهل القلاع القلاعا إذا ابن حضين غدا باللواء ... أشار النسور به والضباعا إذا ابن حضين غدا باللواء ... ذكى وكانت معد جداعا قَالَ: وكان عاصم بْن سليمان بْن عبد الله بْن شراحيل اليشكري من أهل الرأي، فأشار على يحيى بنقض الصحيفة، وقال له: غمرات ثم ينجلين، وهي المغمضات، فغمض. قَالَ: وكان عاصم بْن عبد الله في قرية بأعلى مرو لكندة، ونزل الحارث قرية لبني العنبر، فالتقوا بالخيل والرجال، ومع عاصم رجل من بنى عبس في خمسمائة من أهل الشام وإبراهيم بْن عاصم العقيلي في مثل ذلك، فنادى منادي عاصم: من جاء برأس فله ثلاثمائة درهم، فجاء رجل من عماله برأس وهو عاض على أنفه، ثم جاءه رجل من بني ليث- يقال له ليث بْن عبد الله- برأس، ثم جاء آخر برأس، فقيل لعاصم: إن طمع الناس في هذا لم يدعوا ملاحا ولا علجا إلا أتوك برأسه، فنادى مناديه: لا يأتنا أحد برأس، فمن أتانا به فليس له عندنا شيء، وانهزم أصحاب الحارث فأسروا منهم أسارى، وأسروا عبد الله بْن عمرو المازني رأس أهل مرو الروذ، وكان الأسراء ثمانين، أكثرهم من بني تميم، فقتلهم عاصم بْن عبد الله على نهر الداندنقان وكانت اليمانية بعثت من الشام رجلا يعدل بألف يكنى أبا داود، أيام العصبية في

خمسمائة، فكان لا يمر بقرية من قرى خراسان إلا قَالَ: كأنكم بي قد مررت راجعا حاملا رأس الحارث بْن سريج، فلما التقوا دعا إلى البراز، فبرز له الحارث بْن سريج، فضربه فوق منكبه الأيسر فصرعه، وحامى عليه أصحابه فحملوه فخولط، فكان يقول: يا أبرشهر الحارث بْن سريجاه! يا أصحاب المعموراه! ورمى فرس الحارس بْن سريج في لبانه، فنزع النشابة، واستحضره وألح عليه بالضرب حتى نزقه وعرقه، وشغله عن ألم الجراحة. قَالَ: وحمل عليه رجل من أهل الشام، فلما ظن أن الرمح مخالطه، مال عن فرسه واتبع الشامي، فقال له: أسألك بحرمة الإسلام في دمي! قَالَ: انزل عن فرسك، فنزل وركبه الحارث، فقال الشامي: خذ السرج، فو الله إنه خير من الفرس، فقال رجل من عبد القيس: تولت قريش لذة العيش واتقت ... بنا كل فج من خراسان أغبرا فليت قريشا أصبحوا ذات ليلة ... يعومون في لج من البحر أخضرا قَالَ: وعظم أهل الشام يحيى بْن حضين لما صنع في أمر الكتاب الذي كتبه عاصم، وكتبوا كتابا، وبعثوا مع محمد بْن مسلم العنبري ورجل من أهل الشام، فلقوا أسد بْن عبد الله بالري- ويقال: لقوه ببيهق- فقال: ارجعوا فإني أصلح هذا الأمر، فقال له محمد بْن مسلم: هدمت داري، فقال: أبنيها لك، وأرد عليكم كل مظلمة. قَالَ: وكتب أسد إلى خالد ينتحل أنه هزم الحارث، ويخبره بأمر يحيى. قَالَ: فأجاز خالد يحيى بْن حضين بعشرة آلاف دينار وكساه مائة حله. قَالَ: وكانت ولاية عاصم أقل من سنة- قيل كانت سبعة أشهر- وقدم اسد ابن عبد الله وقد انصرف الحارث، فحبس عاصما وسأله عما أنفق، وحاسبه فأخذه بمائة ألف درهم، وقال: إنك لم تغز ولم تخرج من مرو، ووافق عمارة بْن حريم وعمال الجنيد محبوسين عنده، فقال لهم: أسير فيكم بسيرتنا أم بسيره قومكم؟ قالوا: بسيرتك، فخلى سبيلهم.

قَالَ علي عن شيوخه: قالوا: لما بلغ هشام بن عبد الملك امر الحارث ابن سريج، كتب إلى خالد بْن عبد الله: ابعث أخاك يصلح ما أفسد، فإن كانت رجية فلتكن به قَالَ: فوجه أخاه أسدا إلى خراسان، فقدم أسد وما يملك عاصم من خراسان إلا مرو وناحية أبرشهر، والحارث بْن سريج بمرو الروذ وخالد بْن عبيد الله الهجري بآمل، ويخاف إن قصد للحارث بمرو الروذ دخل خالد بْن عبيد الله مرو من قبل آمل، وإن قصد لخالد دخلها الحارث من قبل مرو الروذ، فأجمع على أن يوجه عبد الرحمن بْن نعيم الغامدي في أهل الكوفة وأهل الشام في طلب الحارث إلى ناحية مرو الروذ وسار أسد بالناس إلى آمل، واستعمل على بني تميم الحوثرة بْن يزيد العنبري، فلقيهم خيل لأهل آمل، عليهم زياد القرشي مولى حيان النبطي عند ركايا عثمان، فهزمهم حتى انتهوا إلى باب المدينة، ثم كروا على الناس، فقتل غلام لأسد بْن عبد الله يقال له جبلة، وهو صاحب علمه، وتحصنوا في ثلاث مدائن لهم. قَالَ: فنزل عليهم أسد وحصرهم، ونصب عليهم المجانيق، وعليهم خالد ابن عبيد الله الهجري من أصحاب الحارث، فطلبوا الامان، فخرج اليهم رويد ابن طارق القطعي ومولى لهم، فقال: ما تطلبون؟ قالوا: كتاب الله وسنه نبيه ص، قَالَ: فلكم ذلك، قالوا: على ألا تأخذ أهل هذه المدن بجنايتنا فأعطاهم ذلك، واستعمل عليهم يحيى بْن نعيم الشيباني أحد بني ثعلبة بْن شيبان، ابن أخي مصقلة بْن هبيرة ثم أقبل أسد في طريق زم يريد مدينة بلخ، فتلقاه مولى لمسلم بْن عبد الرحمن، فأخبره أن أهل بلخ قد بايعوا سليمان بْن عبد الله بْن خازم فقدم بلخ، واتخذ سفنا وسار منها إلى الترمذ، فوجد الحارث محاصرا سنانا الأعرابي السلمي، ومعه بنو الحجاج بْن هارون النميري، وبنو زرعة وآل عطية الأعور النضري في أهل الترمذ، والسبل مع الحارث، فنزل أسد دون النهر، ولم يطق القطوع إليهم ولا أن يمدهم، وخرج أهل الترمذ من المدينة، فقاتلوا الحارث قتالا شديدا، وكان الحارث استطرد لهم، ثم كر عليهم، فانهزموا فقتل يزيد بْن الهيثم بْن

المنخل وعاصم بْن معول النجلي في خمسين ومائة من أهل الشام وغيرهم، وكان بشر بْن جرموز وأبو فاطمة الإيادي ومن كان مع الحارث من القرى يأتون أبواب الترمذ، فيبكون ويشكون بني مروان وجورهم، ويسألونهم النزول إليهم على أن يمالئوهم على حرب بني مروان فيأبون عليهم، فقال السبل وهو مع الحارث: يا حارث، إن الترمذ قد بنيت بالطبول والمزامير، ولا تفتح بالبكاء وإنما تفتح بالسيف، فقاتل إن كان بك قتال وتركه السبل وأتى بلاده. قَالَ: وكان أسد حين مر بأرض زم تعرض للقاسم الشيباني وهو في حصن بزم يقال له باذكر، ومضى حتى أتى الترمذ، فنزل دون النهر، ووضع سريره على شاطئ النهر، وجعل الناس يعبرون، فمن سفلت سفينته عن سفن المدينة قاتلهم الحارث في سفينة، فالتقوا في سفينة فيها أصحاب أسد، فيهم أصغر بْن عيناء الحميري، وسفينة أصحاب الحارث فيها داود الأعسر، فرمى أصغر فصك السفينة، وقال: أنا الغلام الأحمري، فقال داود الأعسر: لأمر ما انتميت إليه، لا أرض لك! وألزق سفينته بسفينة أصغر فاقتتلوا، وأقبل الأشكند- وقد أراد الحارث الانصراف- فقال له: إنما جئتك ناصرا لك، وكمن الأشكند وراء دير، وأقبل الحارث بأصحابه، وخرج إليه أهل الترمذ فاستطرد لهم فاتبعوه، ونصر مع أسد جالس ينظر، فأظهر الكراهية، وعرف أن الحارث قد كادهم، فظن أسد أنه إنما فعل ذلك شفقة على الحارث حين ولى، فأراد أسد معاتبة نصر، فإذا الأشكند قد خرج عليهم، فحمل على أهل الترمذ فهربوا وقتل في المعركة يزيد بْن الهيثم بْن المنخل الجرموزي من الأزد وعاصم بْن معول- وكان من فرسان أهل الشام- ثم ارتحل أسد إلى بلخ، وخرج أهل الترمذ إلى الحارث فهزموه، وقتلوا أبا فاطمة وعكرمة وقوما من أهل البصائر، ثم سار أسد الى سمرقند في طريق زم، فما قدم زم بعث إلى الهيثم الشيباني- وهو في باذكر، وهو من أصحاب الحارث- فقال: إنكم إنما أنكرتم على قومكم ما كان من سوء سيرتهم، ولم يبلغ ذلك النساء ولا استحلال الفروج ولا غلبة المشركين على مثل سمرقند، وأنا أريد سمرقند،

امر اسد بن عبد الله مع دعاه بنى العباس

وعلي عهد الله وذمته ألا يبدأك مني شر، ولك المؤاساة واللطف والكرامة والأمان ولمن معك، وأنت إن غمصت ما دعوتك إليه فعلي عهد الله وذمة أمير المؤمنين وذمة الأمير خالد إن أنت رميت بسهم ألا اؤمنك بعده، وإن جعلت لك ألف أمان لا أفي لك به فخرج إليه على ما أعطاه من الأمان فآمنه، وسار معه إلى سمرقند فأعطاهم عطاءين، وحملهم على ما كان من دواب ساقها معه، وحمل معه طعاما من بخارى، وساق معه شياء كثيرة من شاء الأكراد قسمها فيهم، ثم ارتفع إلى ورغسر وماء سمرقند منها، فسكر الوادي وصرفه عن سمرقند، وكان يحمل الحجارة بيديه حتى يطرحها في السكر، ثم قفل من سمرقند حتى نزل بلخ. وقد زعم بعضهم أن الذي ذكرت من أمر أسد وأمر اصحاب الحارث كان في سنه ثمان عشره. وحج بالناس في هذه السنة خالد بْن عبد الملك. وكان العامل فيها على المدينة، وعلى مكة والطائف محمد بْن هشام بْن إسماعيل، وعلى العراق والمشرق خالد بْن عبد الله، وعلى أرمينية وأذربيجان مروان بْن محمد. وفيها توفيت فاطمه بنت على وسكينه ابنه الحسين بن على. امر اسد بن عبد الله مع دعاه بنى العباس وفي هذه السنة أخذ أسد بْن عبد الله جماعة من دعاة بني العباس بخراسان، فقتل بعضهم، ومثل ببعضهم، وحبس بعضهم، وكان فيمن أخذ سليمان بْن كثير ومالك بْن الهيثم وموسى بْن كعب ولاهز بْن قريظ وخالد بْن إبراهيم وطلحة بْن رزيق، فأتى بهم، فقال لهم: يا فسقة، ألم يقل الله تعالى: «عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ» !

فذكر أن سليمان بْن كثير قَالَ: أتكلم أم أسكت؟ قَالَ: بل تكلم، قَالَ: نحن والله كما قَالَ الشاعر: لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان، بالماء اعتصاري تدري ما قصتنا؟ صيدت والله العقارب بيدك أيها الأمير، إنا أناس من قومك، وإن هذه المضرية إنما رفعوا إليك هذا لأنا كنا أشد الناس على قتيبة بْن مسلم، وإنما طلبوا بثأرهم فتكلم ابن شريك بْن الصامت الباهلي، وقال: إن هؤلاء القوم قد أخذوا مرة بعد مرة، فقال مالك بْن الهيثم: أصلح الله الأمير! ينبغي لك أن تعتبر كلام هذا بغيره، فقالوا: كأنك يا أخا باهلة تطلبنا بثأر قتيبة! نحن والله كنا أشد الناس عليه، فبعث بهم أسد إلى الحبس، ثم دعا عبد الرحمن بْن نعيم فَقَالَ لَهُ: مَا تَرَى؟ قَالَ: أَرَى أَنْ تمن بهم على عشائرهم، قَالَ: فالتميميان اللذان معهم؟ قَالَ: تخلي سبيلهما، قَالَ: أنا إذا من عبد الله بْن يزيد نفي، قَالَ: فكيف تصنع بالربعي؟ قَالَ: أخلي والله سبيله ثم دعا بموسى بْن كعب وأمر به فألجم بلجام حمار، وأمر باللجام أن يجذب فجذب حتى تحطمت أسنانه، ثم قَالَ: اكسروا وجهه، فدق أنفه، ووجأ لحيته، فندر ضرس له ثم دعا بلاهز بْن قريط، فقال لاهز: والله ما في هذا الحق أن تصنع بنا هذا، وتترك اليمانيين والربعيين، فضربه ثلاثمائه سوط، ثم قَالَ: اصلبوه، فقال الحسن بْن زيد الأزدي: هو لي جار وهو بريء مما قذف به، قَالَ: فالآخرون؟ قَالَ: أعرفهم بالبراءه، فخلى سبيلهم.

سنه ثمان عشره ومائه

ثم دخلت سنه ثمان عشرة ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِي هَذِهِ السنة من الأحداث) فمن ذلك غزوة معاوية وسليمان ابني هشام بْن عبد الملك ارض الروم. ولايه عمار بن يزيد على شيعه بنى العباس بخراسان وفيها وجه بكير بْن ماهان عمار بْن يزيد إلى خراسان واليا على شيعة بني العباس، فنزل- فيما ذكر- مرو، وغير اسمه وتسمى بخداش، ودعا إلى محمد بْن علي، فسارع إليه الناس، وقبلوا ما جاءهم به، وسمعوا إليه وأطاعوا، ثم غير ما دعاهم إليه، وتكذب وأظهر دين الخرمية، ودعا إليه ورخص لبعضهم في نساء بعض، وأخبرهم أن ذلك عن أمر محمد بْن علي، فبلغ أسد بْن عبد الله خبره، فوضع عليه العيون حتى ظفر به، فأتي به، وقد تجهز لغزو بلخ، فسأله عن حاله، فأغلظ خداش له القول، فأمر به فقطعت يده، وقلع لسانه وسملت عينه. ذكر ما كان من الحارث بن سريج مع اصحابه فذكر محمد بْن علي عن أشياخه، قَالَ: لما قدم اسد آمل في مبدئه، أتوه بخداش صاحب الهاشمية، فأمر به قرعة الطبيب، فقطع لسانه، وسمل عينه، فقال: الحمد لله الذي انتقم لأبي بكر وعمر منك! ثم دفعه إلى يحيى بْن نعيم الشيباني عامل آمل فلما قفل من سمرقند كتب إلى يحيى فقتله وصلبه بآمل، وأتى أسد بحزور مولى المهاجر بن داره الضبي، فضرب عنقه بشاطئ النهر ثم نزل أسد منصرفه من سمرقند بلخ، فسرح جديعا الكرماني إلى القلعة التي فيها ثقل الحارث وثقل أصحابه- واسم القلعة التبوشكان من طخارستان العليا، وفيها بنو برزى التغلبيون، وهم أصهار الحارث- فحصرهم الكرماني حتى فتحها، فقتل مقاتلتهم وقتل بني برزى،

وسبى عامة أهلها من العرب والموالي والذراري، وباعهم فيمن يزيد في سوق بلخ، فقال علي بْن يعلى- وكان شهد ذلك: نقم على الحارث أربعمائة وخمسون رجلا من أصحابه، وكان رئيسهم جرير بْن ميمون القاضي، وفيهم بشر بْن أنيف الحنظلي وداود الأعسر الخوارزمي فقال الحارث: إن كنتم لا بد مفارقي وطلبتم الأمان، فاطلبوه وأنا شاهد، فإنه أجدر أن يجيبوكم، وإن ارتحلت قبل ذلك لم يعطوا الأمان، فقالوا: ارتحل أنت وخلنا ثم بعثوا بشر بْن أنيف ورجلا آخر، فطلبوا الأمان فآمنهما أسد ووصلهما، فغدروا بأهل القلعة، وأخبراه أن القوم ليس لهم طعام ولا ماء، فسرح أسد الكرماني في ستة آلاف، منهم سالم بْن منصور البجلي، على ألفين، والأزهر بْن جرموز النميري في اصحابه، وجند بلخ وهم الفان وخمسمائة من اهل الشام، وعليهم صالح بْن القعقاع الأزدي، فوجه الكرماني منصور بْن سالم في أصحابه، فقطع نهر ضرغام، وبات ليله وأصبح، فأقام حتى متع النهار، ثم سار يومه قريبا من سبعة عشر فرسخا، فأتعب خيله، ثم انتهى إلى كشتم من ارض جبغويه، فانتهى إلى حائط فيه زرع قد قصب، فأرسل أهل العسكر دوابهم فيه، وبينهم وبين القلعة أربع فراسخ ثم ارتحل فلما صار إلى الوادي جاءته الطلائع فأخبرته بمجيء القوم ورأسهم المهاجر بْن ميمون، فلما صاروا إلى الكرماني كابدهم فانصرفوا، وسار حتى نزل جانبا من القلعة، وكان أول ما نزل في زهاء خمسمائة في مسجد كان الحارث بناه، فلما أصبح تتامت إليه الخيل، وتلاحقت من أصحاب الأزهر وأهل بلخ. فلما اجتمعوا خطبهم الكرماني، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أهل بلخ، لا أجد لكم مثلا غير الزانية، من أتاها أمكنته من رجلها، أتاكم الحارث في ألف رجل من العجم فأمكنتموه من مدينتكم، فقتل أشرافكم، وطرد أميركم، ثم سرتم معه من مكانفيه إلى مرو فخذلتموه، ثم انصرف إليكم منهزما فأمكنتموه من المدينة، والذي نفسي بيده لا يبلغني عن رجل

أخبار متفرقة

منكم كتب كتابا إليهم في سهم إلا قطعت يده ورجله وصلبته، فأما من كان معي من أهل مرو فهم خاصتي، ولست أخاف غدرهم، ثم نهد إلى القلعة فأقام بها يوما وليلة من غير قتال، فلما كان من الغد نادى مناد: إنا قد نبذنا إليكم بالعهد، فقاتلوهم، وقد عطش القوم وجاعوا، فسألوا أن ينزلوا على الحكم ويترك لهم نساؤهم وأولادهم، فنزلوا على حكم أسد، فأقام أياما وقدم المهلب بْن عبد العزيز العتكي بكتاب اسد، ان احملوا إلي خمسين رجلا منهم، فيهم المهاجر بْن ميمون ونظراؤه من وجوههم، فحملوا إليهم فقتلهم، وكتب إلى الكرماني أن يصير الذين بقوا عنده أثلاثا، فثلث يصلبهم، وثلث يقطع أيديهم وأرجلهم، وثلث يقطع أيديهم، ففعل ذلك الكرماني، وأخرج أثقالهم فباعها فيمن يزيد، وكان الذين قتلهم وصلبهم أربعمائة واتخذ أسد مدينة بلخ دارا في سنة ثمان عشرة ومائة، ونقل إليها الدواوين واتخذ المصانع، ثم غزا طخارستان ثم ارض جبغويه، ففتح وأصاب سبيا. [أخبار متفرقة] وفي هذه السنة عزل هشام خالد بْن عبد الملك بْن الحارث بْن الحكم عن المدينة، واستعمل عليها محمد بْن هشام بْن إسماعيل ذكر الواقدي أن أبا بكر بْن عمرو بْن حزم يوم عزل خالد عن المدينة جاءه كتاب بإمرته على المدينة، فصعد المنبر، وصلى بالناس ستة أيام، ثم قدم محمد بْن هشام من مكة عاملا على المدينة. وفي هذه السنة مات علي بْن عبد الله بْن العباس، وكان يكنى أبا محمد، وكانت وفاته بالحميمة من أرض الشام، وهو ابن ثمان- أو سبع- وسبعين سنة. وقيل إنه ولد في الليلة التي ضرب فيها علي بْن أبي طالب وذلك ليلة سبع عشرة من رمضان من سنة أربعين، فسماه أبوه عليا، وقال: سميته باسم أحب الخلق إلي، وكناه أبا الحسن، فلما قدم على عبد الملك بْن مروان أكرمه وأجلسه على سريره، وسأله عن كنيته فأخبره، فقال: لا يجتمع في عسكري هذا

الاسم والكنية لأحد، وسأله: هل ولد له من ولد؟ وكان قد ولد له يومئذ محمد بْن علي، فأخبره بذلك، فكناه أبا محمد. وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن هشام وهو أمير مكة والمدينة والطائف وقد قيل إنما كان عامل المدينة في هذه السنة خالد بْن عبد الملك، وكان إلى محمد بْن هشام فيها مكة والطائف، والقول الأول قول الواقدي. وكان على العراق خالد بْن عبد الله، وإليه المشرق كله، وعامله على خراسان أخوه أسد بْن عبد الله، وعامله على البصرة وأحداثها وقضائها والصلاة بأهلها بلال بْن أبي بردة، وعلى أرمينية وأذربيجان مروان بْن محمد بْن مروان.

سنه تسع عشره ومائه

ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائة ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث فمن ذلك غزوة الوليد بْن القعقاع العبسي أرض الروم وفيها غزا أسد بْن عبد الله الختل، فافتتح قلعة زغرزك، وسار منها إلى خداش، وملأ يديه من السبي والشاء، وكان الجيش قد هرب الى الصين. ذكر غزو الترك ومقتل خاقان وفيها لقي أسد خاقان صاحب الترك فقتله، وقتل بشرا كثيرا من أصحابه، وسلم أسد والمسلمون، وانصرفوا بغنائم كثيرة وسبي. ذكر الخبر عن هذه الغزوة: ذكر علي بْن محمد عن شيوخه، أنهم قالوا: كتب ابن السائجي إلى خاقان أبي مزاحم- وإنما كني أبا مزاحم لأنه كان يزاحم العرب- وهو موالث، يعلمه دخول أسد الختل وتفرق جنوده فيها، وأنه بحال مضيعة فلما أتاه كتابه أمر أصحابه بالجهاز- وكان لخاقان مرج وجبل حمى لا يقربهما احد، ولا يتصيد فيهما، يتركان للجهاد فضاء، ما كان في المرج ثلاثة أيام، وما في الجبل ثلاثة أيام- فتجهزوا وارتعوا ودبغوا مسوك الصيد، واتخذوا منها أوعية، واتخذوا القسي والنشاب، ودعا خاقان ببرذون مسرج ملجم، وأمر بشاة فقطعت ثم علقت في المعاليق، ثم أخذ شيئا من ملح فصيره في كيس، وجعله في منطقته، وأمر كل تركي أن يفعل مثل ذلك، وقال: هذا زادكم حتى تلقوا العرب بالختل. وأخذ طريق خشوراغ، فلما أحس ابن السائجي أن خاقان قد أقبل بعث إلى أسد: اخرج عن الختل فإن خاقان قد أظلك فشتم رسوله، ولم يصدقه، فبعث صاحب الختل: إني لم أكذبك، وأنا الذي أعلمته دخولك،

وتفرق جندك، وأعلمته أنها فرصة له، وسألته المدد، غير أنك أمعرت البلاد، وأصبت الغنائم، فإن لقيك على هذه الحال ظفر بك، وعادتني العرب أبدا ما بقيت واستطال علي خاقان واشتدت مؤونته، وامتن علي بقوله: أخرجت العرب من بلادك، ورددت عليك ملكك، فعرف أسد أنه قد صدقه، فأمر بالأثقال أن تقدم، وولى عليها إبراهيم بْن عاصم العقيلي الجزري، الذي كان ولي سجستان بعد، وأخرج معه المشيخة، فيهم كثير ابن أمية، أبو سليمان بْن كثير الخزاعي وفضيل بْن حيان المهري وسنان بْن داود القطعي، وكان على أهل العالية سنان الأعرابي السلمي، وعلى الاقباض عثمان ابن شباب الهمذاني، جد قاضي مرو، فسارت الأثقال، فكتب أسد إلى داود بْن شعيب والأصبغ بن ذؤاله الكلبي- وقد كان وجههما في وجه: إن خاقان قد أقبل، فانضما إلى الأثقال، إلى إبراهيم بْن عاصم. قَالَ: ووقع إلى داود والأصبغ رجل دبوسي، فأشاع أن خاقان قد كسر المسلمين، وقتل أسدا. وقال الأصبغ: إن كان أسد ومن معه أصيبوا فإن فينا هشاما ننحاز إليه، فقال داود بْن شعيب: قبح الله الحياة بعد أهل خراسان! فقال الأصبغ: حبذا الحياة بعد أهل خراسان! قتل الجراح ومن معه فما ضر المسلمين كثير ضر، فإن هلك أسد وأهل خراسان فلن يخذل الله دينه، وإن الله حي قيوم، وأمير المؤمنين حي وجنود المسلمين كثير فقال داود: أفلا ننظر ما فعل أسد فنخرج على علم! فسارا حتى شارفا عسكر إبراهيم فإذا هما بالنيران، فقال داود: هذه نيران المسلمين أراها متقاربة ونيران الأتراك متفرقة، فقال الأصبغ: هم في مضيق ودنوا فسمعوا نهيق الحمير، فقال داود: أما علمت أن الترك ليس لهم حمير! فقال الأصبغ: أصابوها بالأمس، ولم يستطيعوا أكلها في يوم ولا اثنين، فقال داود: نسرح فارسين فيكبران، فبعثا فارسين، فلما دنوا من العسكر كبرا، فأجابهما العسكر

بالتكبير، فأقبلوا إلى العسكر الذي فيه الأثقال، ومع إبراهيم أهل الصغانيان وصغان خذاه، فقام إبراهيم بْن عاصم مبادرا. قَالَ: وأقبل أسد من الختل نحو جبل الملح يريد أن يخوض نهر بلخ، وقد قطع إبراهيم بْن عاصم بالسبي وما أصاب فأشرف أسد على النهر وقد أتاه أن خاقان قد سار من سوياب سبع عشرة ليلة، فقام إليه أبو تمام بْن زحر وعبد الرحمن بْن خنفر الأزديان، فقالا: أصلح الله الأمير! إن الله قد أحسن بلاءك في هذه الغزوة فغنمت وسلمت فاقطع هذه النطفة، واجعلها وراء ظهرك فأمر بهما فوجئت رقابهما، وأخرجا من العسكر وأقام يومه. فلما كان من الغد ارتحل وفي النهر ثلاثة وعشرون موضعا يخوضه الناس، وفي موضع مجتمع ماء يبلغ دفتي السرج، فخاضه الناس، وأمر أن يحمل كل رجل شاة، وحمل هو بنفسه شاة، فقال له عثمان بْن عبد الله بْن مطرف ابن الشخير: إن الذي أنت فيه من حمل الشاة ليس بأخطر مما تخاف، وقد فرقت الناس وشغلتهم، وقد أظلك عدوك، فدع هذا الشاء لعنة الله عليه، وأمر الناس بالاستعداد فقال أسد: والله لا يعبر رجل ليست معه شاة حتى تفنى هذه الغنم إلا قطعت يده، فجعل الناس يحملون الشاء، الفارس يحملها بين يديه والراجل على عنقه، وخاض الناس ويقال: لما حفرت سنابك الخيل النهر صار بعض المواضع سباخه فكان بعضهم يميل فيقع عن دابته، فأمر أسد بالشاء أن تقذف، وخاض الناس، فما استكملوا العبور حتى طلعت عليهم الترك بالدهم، فقتلوا من لم يقطع، وجعل الناس يقتحمون النهر- ويقال كانت المسلحة على الأزد وتميم، وقد خلف ضعفة الناس- وركب أسد النهر، وأمر بالإبل أن يقطع بها إلى ما وراء النهر، حتى تحمل عليها الأثقال، وأقبل رهج من ناحية الختل، فإذا خاقان، فلما توافى معه صدر من جنده حمل على الأزد وبني تميم فانكشفوا، وركض أسد حتى انصرف إلى معسكره، وبعث إلى أصحاب الأثقال الذين كان سرح أمامه. أن انزلوا وخندقوا مكانكم في بطن الوادي قَالَ: وأقبل خاقان، فظن المسلمون

أنه لا يقطع إليهم وبينهم وبينه النهر، فلما نظر خاقان إلى النهر أمر الأشكند- وهو يومئذ اصبهبذ نسف- أن يسير في الصف حتى يبلغ أقصاه، ويسأل الفرسان وأهل البصر بالحرب والماء: هل يطاق قطوع النهر والحمل على أسد؟ فكلهم يقول: لا يطاق، حتى انتهى إلى الأشتيخن، فقال: بلى يطاق، لأنا خمسون الف فارس، فإذا نحن اقتحمنا دفعة واحدة رد بعضنا عن بعض الماء فذهب جريته قَالَ: فضربوا بكوساتهم فظن أسد ومن معه أنه منهم وعيد، فأقحموا دوابهم، فجعلت تنخر أشد النخير، فلما رأى المسلمون اقتحام الترك ولوا إلى العسكر، وعبرت الترك فسطع رهج عظيم لا يبصر الرجل دابته، ولا يعرف بعضهم بعضا، فدخل المسلمون عسكرهم وحووا ما كان خارجا، وخرج الغلمان بالبراذع والعمد، فضربوا وجوه الترك، فأدبروا، وبات أسد، فلما أصبح- وقد كان عبأ أصحابه من الليل تخوفا من غدر خاقان وغدوه عليه، ولم ير شيئا- دعا وجوه الناس فاستشارهم، فقالوا له: اقبل العافية، قَالَ: ما هذه عافية، بل هي بلية، لقينا خاقان أمس فظفر بنا وأصاب من الجند والسلاح، فما منعه منا اليوم إلا أنه قد وقع في يديه أسراء فأخبروه بموضع الأثقال أمامنا، فترك لقاءنا طمعا فيها فارتحل فبعث أمامه الطلائع، فرجع بعضهم فأخبره أنه عاين طوقات الترك وأعلاما من اعلام الاشكند، في بشر قليل فسار والدواب مثقلة، فقيل له: انزل أيها الأمير واقبل العافية، قَالَ: وأين العافية فأقبلها! إنما هي بلية وذهاب الأنفس والأموال فلما أمسى أسد صار إلى منزل، فاستشار الناس: أينزلون أم يسيرون؟ فقال الناس: اقبل العافية، وما عسى أن يكون ذهاب المال بعافيتنا وعافية أهل خراسان! ونصر بْن سيار مطرق، فقال أسد: ما لك يا بن سيار مطرقا لا تتكلم! قَالَ: أصلح الله الأمير! خلتان كلتاهما لك، إن تسر تغث من مع الأثقال وتخلصهم، وإن أنت انتهيت إليهم وقد هلكوا فقد قطعت قحمه لا بد من قطوعها فقبل رأيه وسار يومه كله

قَالَ: ودعا أسد سعيدا الصغير- وكان فارسا مولى باهلة، وكان عالما بأرض الختل- فكتب كتابا إلى إبراهيم يأمره بالاستعداد، فإن خاقان قد توجه إلى ما قبلك، وقال: سر بالكتاب إلى إبراهيم حيث كان قبل الليل، فإن لم تفعل فأسد بريء من الإسلام إن لم يقتلك، وإن أنت لحقت بالحارث فعلى اسد مثل الذى حلف، ان لم يبع امرأتك الدلال في سوق بلخ وجميع أهل بيتك قَالَ سعيد: فادفع إلي فرسك الكميت الذنوب قَالَ: لعمري لئن جدت بدمك، وبخلت عليك بالفرس إني للئيم فدفعه إليه، فسار على دابة من جنائبه، وغلامه على فرس له، ومعه فرس أسد يجنبه، فلما حاذى الترك وقد قصدوا الأثقال طلبته طلائعهم، فتحول على فرس أسد، فلم يلحقوه، فأتى إبراهيم بالكتاب، وتبعه بعض الطلائع- يقال عشرون رجلا- حتى رأوا عسكر إبراهيم، فرجعوا إلى خاقان فأخبروه. فغدا خاقان على الأثقال، وقد خندق إبراهيم خندقا، فأتاهم وهم قيام عليه، فأمر أهل السغد بقتالهم، فلما دنوا من مسلحة المسلمين ثاروا في وجوههم فهزموهم، وقتلوا منهم رجلا، فقال خاقان: اركبوا، وصعد خاقان تلا فجعل ينظر العورة، ووجه القتال، قَالَ: وهكذا كان يفعل، ينفرد في رجلين أو ثلاثة، فإذا رأى عورة أمر جنوده فحملت من ناحية العورة فلما صعد التل رأى خلف العسكر جزيرة دونها مخاضة، فدعا بعض قواد الترك، فأمرهم أن يقطعوا فوق العسكر في مقطع وصفه حتى يصيروا إلى الجزيرة، ثم ينحدروا في الجزيرة حتى يأتوا عسكر المسلمين من دبر، وأمرهم أن يبدءوا بالأعاجم وأهل الصغانيان، وأن يدعوا غيرهم، فإنهم من العرب، وقد عرفهم بأبنيتهم وأعلامهم، وقال لهم: إن أقام القوم في خندقهم فأقبلوا إليكم دخلنا نحن خندقهم، وإن ثبتوا على خندقهم فادخلوا من دبره عليهم ففعلوا ودخلوا عليهم من ناحية الأعاجم، فقتلوا صغان خذاه وعامة أصحابه، واحتووا على أموالهم، ودخلوا عسكر إبراهيم فأخذوا عامة ما فيه، وترك المسلمون التعبئة واجتمعوا في موضع، وأحسوا بالهلاك، فإذا رهج قد ارتفع وتربة سوداء،

فإذا أسد في جنده قد أتاهم، فجعلت الترك ترتفع عنهم إلى الموضع الذي كان فيه خاقان، وإبراهيم يتعجب من كفهم وقد ظفروا وقتلوا من قتلوا وأصابوا ما أصابوا، وهو لا يطمع في أسد. قَالَ: وكان أسد قد أغذ السير، فأقبل حتى وقف على التل الذي كان عليه خاقان، وتنحى خاقان إلى ناحية الجبل، فخرج إليه من بقي ممن كان مع الأثقال، وقد قتل منهم بشر كثير، قتل يومئذ بركة بْن خولى الراسبى وكثير بن أمية ومشيخة من خزاعة وخرجت امرأة صغان خذاه إلى أسد، فبكت زوجها، فبكى أسد معها حتى علا صوته، ومضى خاقان يقود الأسراء من الجند في الأوهاق ويسوق الإبل موقرة والجواري. قَالَ: وكان مصعب بْن عمرو الخزاعي ونفر من أهل خراسان قد أجمعوا على مواقفتهم، فكفهم أسد، وقال: هؤلاء قوم قد طابت لهم الريح واستكلبوا، فلا تعرضوا لهم وكان مع خاقان رجل من أصحاب الحارث بْن سريج فأمره فنادى: يا أسد، أما كان لك فيما وراء النهر مغزى! إنك لشديد الحرص، قد كان لك عن الختل مندوحة، وهي أرض آبائي وأجدادي فقال أسد: كان ما رأيت، ولعل الله أن ينتقم منك قَالَ كورمغانون- وكان من عظماء الترك: لم أر يوما كان أحسن من يوم الأثقال، قيل له: وكيف ذلك؟ قَالَ: أصبت أموالا عظيمة، ولم أر عدوا أسمج من أسراء العرب، يعدو أحدهم فلا يكاد يبرح مكانه. وقال بعضهم: سار خاقان إلى الأثقال، فارتحل أسد، فلما أشرف على الظهر، ورأى المسلمين الترك فامتنعوا، وقد كانوا قاتلوا المسلمين فامتنعوا، فأتوا الأعاجم الذين كانوا مع المسلمين فقاتلوهم، فأسروا أولادهم. قَالَ: فأردف كل رجل منهم وصيفا أو وصيفة، ثم أقبلوا إلى عسكر أسد عند مغيب الشمس قَالَ: وسار أسد بالناس، حتى نزل مع الثقل. وصبحوا أسدا من الغد، وذلك يوم الفطر، فكادوا يمنعونهم من الصلاة. ثم انصرفوا ومضى أسد إلى بلخ، فعسكر في مرجها حتى أتى الشتاء، ثم

تفرق الناس في الدور، ودخل المدينة، ففي هذه الغزاة قيل له بالفارسية: أز ختلان آمديه ... برو تباه آمديه آبار باز آمديه ... خشك نزار آمديه قَالَ: وكان الحارث بْن سريج بناحية طخارستان، فانضم إلى خاقان، فلما كان ليلة الأضحى قيل لأسد: إن خاقان نزل جزة، فأمر بالنيران فرفعت على المدينة، فجاء الناس من الرساتيق إلى مدينة بلخ، فأصبح أسد فصلى وخطب الناس، وقال: إن عدو الله الحارث بْن سريج استجلب طاغيته ليطفئ نور الله، ويبدل دينه، والله مذله إن شاء الله وإن عدوكم الكلب أصاب من إخوانكم من أصاب، وإن يرد الله نصركم لم يضركم قلتكم وكثرتهم، فاستنصروا الله وقال: إنه بلغني أن العبد أقرب ما يكون إلى الله إذا وضع جبهته لله، وإني نازل وواضع جبهتي، فادعوا الله واسجدوا لربكم، وأخلصوا له الدعاء ففعلوا ثم رفعوا رءوسهم، وهم لا يشكون في الفتح، ثم نزل عن المنبر وضحى وشاور الناس في المسير إلى خاقان، فقال قوم: أنت شاب، ولست ممن تخوف من غارة، على شاة ودابة تخاطر بخروجك قَالَ: والله لأخرجن، فإما ظفر وإما شهادة. ويقال: أقبل خاقان، وقد استمد من وراء النهر واهل طخارستان وجبغويه الطخاري بملوكهم وشاكريتهم بثلاثين ألفا، فنزلوا خلم، وفيها مسلحة، عليها أبو العوجاء بْن سعيد العبدي، فناوشهم فلم يظفروا منه بشيء، فساروا على حاميتهم في طريق فيروز بخشين من طخارستان فكتب أبو العوجاء إلى أسد بمسيرهم قَالَ: فجمع الناس، فأقرأهم كتاب أبي العوجاء وكتاب الفرافصة صاحب مسلحة جزة بعد مرور خاقان به، فشاور أسد الناس، فقال قوم: تأخذ بأبواب مدينة بلخ، وتكتب إلى خالد والخليفة تستمده وقال آخرون: تأخذ في طريق زم، وتسبق خاقان إلى مرو. وقال قوم: بل تخرج إليهم وتستنصر الله عليهم، فوافق قولهم رأي أسد

وما كان عزم عليه من لقائهم ويقال: إن خاقان حين فارق أسدا، ارتفع حتى صار بأرض طخارستان عند جبغويه، فلما كان وسط الشتاء أقبل فمر بجزة، وصار إلى الجوزجان وبث الغارات، وذلك أن الحارث بْن سريج أخبره أنه لا نهوض بأسد، وأنه لم يبق معه كبير جند، فقال البختري ابن مجاهد مولى بني شيبان: بل بث الخيول حتى تنزل الجوزجان فلما بث الخيل، قَالَ له البختري: كيف رأيت رأيي؟ قَالَ: وكيف رأيت صنع الله عز وجل حين أخذ برأيك! فأخذ أسد من جبلة بْن أبي رواد عشرين ومائة ألف درهم، وأمر للناس بعشرين عشرين، ومعه من الجنود من أهل خراسان وأهل الشام سبعة آلاف رجل، واستخلف على بلخ الكرماني بْن علي، وأمره ألا يدع أحدا يخرج من مدينتها، وإن ضرب الترك باب المدينة فقال له نصر بْن سيار الليثي والقاسم بْن بخيت المراغي من الأزد وسليم بْن سليمان السلمي وعمرو بْن مسلم بْن عمرو ومحمد بْن عبد العزيز العتكي وعيسى الأعرج الحنظلي والبختري بْن أبي درهم البكري وسعيد الأحمر وسعيد الصغير مولى باهلة: أصلح الله الأمير، ائذن لنا في الخروج، ولا تهجن طاعتنا فأذن لهم ثم خرج فنزل بابا من أبواب بلخ وضربت له قبة، فازتان، وألصق إحداهما بالأخرى، وصلى بالناس ركعتين طولهما، ثم استقبل القبلة ونادى في الناس: ادعوا الله، وأطال في الدعاء، ودعا بالنصر، وأمن الناس على دعائه، فقال: نصرتم ورب الكعبة! ثم انفتل من دعائه فقال: نصرتم ورب الكعبة إن شاء الله، ثلاث مرات، ثم نادى مناديه: برئت ذمة الله من رجل حمل امرأة ممن كان من الجند، قالوا: إن أسدا إنما خرج هاربا، فخلف أم بكر أم ولده وولده، فنظر فإذا جارية على بعير، فقال: سلوا لمن هذه الجارية؟ فذهب بعض الأساورة فسأل ثم رجع، فقال: لزياد بْن الحارث البكري- وزياد جالس- فقطب اسد، وقال: لا تنتهون حتى أسطو بالرجل منكم يكرم علي، فأضرب ظهره وبطنه، فقال زياد: إن كانت لي فهى حره،

لا والله أيها الأمير ما معي امرأة، فإن هذا عدو حاسد. وسار أسد، فلما كان عند قنطرة عطاء، قَالَ لمسعود بْن عمرو الكرماني، وهو يومئذ خليفة الكرماني على الأزد: ابغني خمسين رجلا ودابة أخلفهم على هذه القنطرة، فلا تدع أحدا ممن جازها أن يرجع إليها، فقال مسعود: ومن أين أقدر على خمسين رجلا! فأمر به فصرع عن دابته، وأمر بضرب عنقه، فقام إليه قوم فكلموه فكف عنه، فلما جاز القنطرة نزل منزلا، فأقام فيه حتى أصبح، وأراد المقام يومه، فقال له العذافر بْن زيد: ليأتمر الأمير على المقام يومه حتى يتلاحق الناس قَالَ: فأمر بالرحيل وقال: لا حاجة لنا إلى المتخلفين، ثم ارتحل، وعلى مقدمته سالم بن منصور البجلي في ثلاثمائه، فلقى ثلاثمائه من الترك طليعة لخاقان، فأسر قائدهم وسبعة منهم معه، وهرب بقيتهم، فأتى به أسد قَالَ: فبكى التركي، قَالَ: ما يبكيك؟ قَالَ: لست أبكي لنفسي، ولكني أبكي لهلاك خاقان، قَالَ: كيف؟ قَالَ: لأنه قد فرق جنوده فيما بينه وبين مرو. قَالَ: وسار أسد، حتى نزل السدرة- قرية ببلخ- وعلى خيل أهل العالية ريحان بْن زياد العامري العبدلي من بني عبد الله بْن كعب قَالَ: فعزله، وصير على أهل العالية منصور بْن سالم، ثم ارتحل من السدرة، فنزل خريستان، فسمع أسد صهيل فرس، فقال: لمن هذا؟ فقيل: للعقار بْن ذعير، فتطير من اسمه واسم أبيه، فقال: ردوه، قَالَ: إني مقتول بجراتى على الترك، قَالَ: أسد: قتلك الله! ثم سار حتى إذا شارف العين الحارة استقبله بشر بْن رزين- أو رزين بْن بشر- فقال بشارة ورزانة، ما وراءك يا رزين؟ قَالَ: إن لم تغثنا غلبنا على مدينتنا، قَالَ: قل للمقدام بْن عبد الرحمن يطاول رمحى، فسار فنزل من مدينة الجوزجان بفرسخين، ثم أصبحنا وقد تراءت الخيلان، فقال خاقان للحارث: من هذا؟ فقال: هذا محمد ابن المثنى ورأيته، ويقال: إن طلائع لخاقان انصرفت إليه فأخبرته أن رهجا

ساطعا طلع من قبل بلخ، فدعا خاقان الحارث، فقال: ألم تزعم أن أسدا ليس به نهوض! وهذا رهج قد أقبل من ناحية بلخ، قَالَ الحارث: هذا اللص الذي كنت قد أخبرتك أنه من أصحابي فبعث خاقان طلائع، فقال: انظروا هل ترون على الإبل سريرا وكراسي؟ فجاءته الطلائع، فأخبروه أنهم عاينوها، فقال خاقان: اللصوص لا يحملون الأسرة والكراسي، وهذا أسد قد أتاك فسار أسد غلوة فلقيه سالم بْن جناح، فقال: أبشر أيها الأمير، قد حزرتهم ولا يبلغون أربعة آلاف، وأرجو أن يكون عقيرة الله فقال المجشر بْن مزاحم، وهو يسايره: أنزل أيها الأمير رجالك، فضرب وجه دابته، وقال: لو أطعت يا مجشر ما كنا قدمنا هاهنا، وسار غير بعيد، وقال: يا أهل الصباح، انزلوا، فنزلوا وقربوا دوابهم، وأخذوا النبل والقسي. قَالَ: وخاقان في مرج قد بات فيه تلك الليلة. قَالَ: وقال عمرو بْن أبي موسى: ارتحل أسد حين صلى الغداة، فمر بالجوزجان وقد استباحها خاقان حتى بلغت خيله الشبورقان قَالَ: وقصور الجوزجان إذ ذاك ذليلة قَالَ: وأتاه المقدام بْن عبد الرحمن بْن نعيم الغامدي في مقاتلته وأهل الجوزجان- وكان عاملها- فعرضوا عليه أنفسهم، فقال: أقيموا في مدينتكم، وقال للجوزجان بْن الجوزجان: سر معي، وكان على التعبئه القاسم بن بخيت المراغي، فجعل الأزد وبني تميم والجوزجان بْن الجوزجان وشاكريته ميمنته، وأضاف إليهم أهل فلسطين، عليهم مصعب بْن عمرو الخزاعي، وأهل قنسرين عليهم صغراء بْن أحمر، وجعل ربيعة ميسرة، عليهم يحيى بْن حضين، وضم إليهم أهل حمص عليهم جعفر بن حنظلة البهراني، وأهل الأزد وعليهم سليمان بن عمرو المقرئ من حمير، وعلى المقدمة منصور بْن مسلم البجلي، وأضاف إليهم أهل دمشق عليهم حملة بْن نعيم الكلبي، وأضاف إليهم الحرس والشرطة وغلمان أسد. قَالَ: وعبى خاقان الحارث بن سريج واصحابه وملك السغد وصاحب الشاش وخرابغره أبا خاناخره، جد كاوس وصاحب الختل جبغويه، والترك

كلهم ميمنة فلما التقوا حمل الحارث ومن معه من أهل السغد والبابية وغيرهم على الميسرة، وفيها ربيعة وجندان من أهل الشام، فهزمهم فلم يردهم شيء دون رواق أسد، فشدت عليهم الميمنة- وهم الأزد وبنو تميم والجوزجان- فما وصلوا إليهم حتى انهزم الحارث والأتراك، وحمل الناس جميعا، فقال أسد: اللهم إنهم عصوني فانصرهم، وذهب الترك في الأرض عباديد لا يلوون على أحد، فتبعهم الناس مقدار ثلاثة فراسخ يقتلون من يقدرون عليه، حتى انتهوا إلى أغنامهم، فاستاقوا أكثر من خمس وخمسين ومائة ألف شاة ودواب كثيرة وأخذ خاقان طريقا غير الجادة في الجبل، والحارث بْن سريج يحميه، ولحقهم أسد عند الظهر ويقال: لما واقف أسد خاقان يوم خريستان كان بينهم نهر عميق، فأمر أسد برواقه فرفع، فقال رجل من بني قيس بْن ثعلبة: يا أهل الشام، أهكذا رأيكم، إذا حضر الناس رفعتم الأبنية! فأمر به فحط، وهاجت ريح الحرب التي تسمى الهفافة، فهزمهم الله، واستقبلوا القبلة يدعون الله ويكبرون واقبل خاقان في قريب من أربعمائة فارس عليهم الحمرة، وقال لرجل يقال له سوري: إنما أنت ملك الجوزجان إن أسلمت العرب، فمن رايت من اهل الجوزجان موليا فاقتله وقال الجوزجان لعثمان بْن عبد الله الشخير: إني لأعلم ببلادي وطرقها، فهل لك في أمر فيه هلاك خاقان ولك فيه ذكر ما بقيت؟ قَالَ: ما هو؟ قَالَ: تتبعني، قَالَ: نعم، فأخذ طريقا يسمى ورادك، فأشرفوا على طوقات خاقان وهم آمنون، فأمر خاقان بالكوسات فضربت ضربة الانصراف وقد شبت الحرب، فلم يقدر الترك على الانصراف، ثم ضربت الثانية فلم يقدروا، ثم ضربت الثالثة فلم يقدروا لاشتغالهم، فحمل ابن الشخير والجوزجان على الطوقات، وولى خاقان مدبرا منهزما، فحوى المسلمون عسكرهم وتركوا قدورهم تغلي ونساء من نساء العرب والمواليات ومن نساء الترك، ووحل بخاقان برذونه فحماه الحارث بْن سريج قَالَ: ولم يعلم الناس أنه

خاقان، ووجد عسكر الترك مشحونا من كل شيء من آنية الفضة وصناجات الترك وأراد الخصي أن يحمل امرأة خاقان، فأعجلوه عن ذلك، فطعنها بخنجر فوجدوها تتحرك، فأخذوا خفها وهو من لبود مضرب. قَالَ: فبعث أسد بجواري الترك إلى دهاقين خراسان، واستنقذ من كان في أيديهم من المسلمين قَالَ: وأقام أسد خمسة أيام قَالَ: فكانت الخيول التي فرق تقبل فيصيبهم أسد، فاغتنم الظفر وانصرف إلى بلخ يوم التاسع من خروجه، فقال ابن السجف المجاشعي: لو سرت في الأرض تقيس الأرضا ... تقيس منها طولها والعرضا لم تلق خيرا مرة ونقضا ... من الأمير أسد وامضى أفضى إلينا، الخير حين أفضى ... وجمع الشمل وكان رفضا ما فاته خاقان إلا ركضا ... قد فض من جموعه ما فضا يا بن سريج قد لقيت حمضا ... حمضا به يشفى صداع المرضى قَالَ: وارتحل أسد، فنزل جزة الجوزجان من غد، وخاقان بها، فارتحل هاربا منه وندب أسد الناس، فانتدب ناس كثير من أهل الشام وأهل العراق، فاستعمل عليهم جعفر بْن حنظلة البهراني، فساروا ونزلوا مدينة تسمى ورد من أرض جزة، فباتوا بها فأصابهم ريح ومطر- ويقال: أصابهم الثلج- فرجعوا ومضى خاقان فنزل على جبغويه الطخاري، وانصرف البهراني إلى أسد، ورجع أسد إلى بلخ، فلقوا خيل الترك التي كانت بمرو الروذ منصرفة لتغير على بلخ، فقتلوا من قدروا عليه منهم، وكان الترك قد بلغوا بيعة مرو الروذ، وأصاب أسد يومئذ أربعة آلاف درع، فلما صار ببلخ أمر الناس بالصوم لافتتاح الله عليهم. قَالَ: وكان أسد يوجه الكرماني في السرايا، فكانوا لا يزالون يصيبون الرجل والرجلين والثلاثة وأكثر من الترك، ومضى خاقان إلى طخارستان العليا،

فأقام عند جبغويه الخزلخى تعززا به، وأمر بصنيعة الكوسات، فلما جفت وصلحت أصواتها ارتحل إلى بلاده، فلما ورد شروسنة، تلقاه خرابغره ابو خاناخره، جد كاوس أبي أفشين باللعابين، وأعد له هدايا ودواب له ولجنده- وكان الذي بينهما متباعدا- فلما رجع منهزما أحب أن يتخذ عنده يدا، فأتاه بكل ما قدر عليه ثم أتى خاقان بلاده، وأخذ في الاستعداد للحرب ومحاصرة سمرقند، وحمل الحارث بْن سريج وأصحابه على خمسة آلاف برذون، وفرق براذين في قواد الترك، فلاعب خاقان يوما كورصول بالنرد على خطر تدرجة، فقمر كورصول الترقشي، فطلب منه التدرجة، فقال: أنثى، فقال: الآخر ذكر، فتنازعا، فكسر كورصول يد خاقان، فحلف خاقان ليكسرن يد كورصول، وبلغ كورصول، فتنحى وجمع جمعا من أصحابه، فبيت خاقان فقتله، فأصبحت الترك فتفرقوا عنه وتركوه مجردا، فأتاه زريق بْن طفيل الكشاني وأهل بيت الحموكيين- وهم من عظماء الترك- فحمله ودفنه، وصنع به ما يصنع بمثله إذا قتل. فتفرقت الترك في الغارات بعضها على بعض، وانحاز بعضهم إلى الشاش، فعند ذلك طمع أهل السغد في الرجعة إليها قال: فلم يسلم من خيل الترك التي تفرقت في الغارات إلا زر بْن الكسي، فإنه سلم حتى صار إلى طخارستان، وكان أسد بعث من مدينة بلخ سيف بْن وصاف العجلي على فرس، فسار حتى نزل الشبورقان قَالَ: وفيها إبراهيم بْن هشام مسلحة، فحمله منها على البريد حتى قدم على خالد بْن عبد الله، فأخبره، ففظع به هشام فلم يصدقه، وقال للربيع حاجبه: ويحك! إن هذا الشيخ قد أتانا بالطامه الكبرى إذا كان صادقا، ولا أراه صادقا، اذهب فعده ثم سله عما يقوله وأتني بما يقول. فانطلق إليه ففعل الذي أمره به، فأخبره بالذي أخبر به هشاما قَالَ: فدخل عليه أمر عظيم، فدعا به بعد، فقال: من القاسم بْن بخيت منكم؟ قَالَ: ذلك صاحب العسكر، قَالَ: فإنه قد أقبل، قَالَ: فإن كان قد أقبل فقد

فتح الله على أمير المؤمنين- وكان أسد وجهه حين فتح الله عليه- فأقبل القاسم بْن بخيت، فكبر على الباب، ثم دخل يكبر وهشام يكبر لتكبيره، حتى انتهى إليه، فقال: الفتح يا أمير المؤمنين، وأخبره الخبر، فنزل هشام عن سريره فسجد سجدة الشكر، وهي واحدة عندهم قَالَ: فحسدت القيسية أسدا وخالدا، وأشاروا على هشام أن يكتب إلى خالد بْن عبد الله، فيأمر أخاه أن يوجه مقاتل بْن حيان، فكتب إليه، فدعا أسد مقاتل بْن حيان على رءوس الناس، فقال: سر إلى أمير المؤمنين فأخبره بالذي عاينت وقل الحق، فإنك لا تقول غير الحق إن شاء الله، وخذ من بيت المال حاجتك. قالوا: إذا لا يأخذ شيئا، قَالَ: أعطه من المال كذا وكذا، ومن الكسوة كذا وكذا، وجهزه. فسار فقدم على هشام بْن عبد الملك وهو والأبرش جالسان، فسأله فقال: غزونا الختل، فأصبنا أمرا عظيما، وانذر أسد بالترك فلم نحفل بهم حتى لحقوا واستنقذوا من غنائمنا، واستباحوا بعض عسكرنا، ثم دفعونا دفعة قريبا من خلم، فانتهى الناس الى مشاتيهم، ثم جاءنا مسير خاقان إلى الجوزجان، ونحن قريبو العهد بالعدو، فسار بنا حتى التقينا برستاق بيننا وبين أرض الجوزجان، فقاتلناهم وقد حازوا ذراري من ذراري المسلمين، فحملوا على ميسرتنا فكشفوهم ثم حملت ميمنتنا عليهم، فأعطانا الله عليهم الظفر، وتبعناهم فراسخ حتى استبحنا عسكر خاقان، فأجلى عنه- وهشام متكئ فاستوى جالسا عند ذكره عسكر خاقان- فقال ثلاثا: أنتم استبحتم عسكر خاقان! قَالَ: نعم، قَالَ: ثم ماذا؟ قال: دخلوا الختل وانصرفوا. قَالَ هشام: إن أسدا لضعيف، قَالَ: مهلا يا أمير المؤمنين، ما أسد بضعيف وما أطاق فوق ما صنع، فقال له هشام: حاجتك؟ قَالَ: إن يزيد بْن المهلب أخذ من أبي حيان مائة ألف درهم بغير حق، فقال له هشام: لا أكلفك شاهدا، احلف بالله إنه كما قلت، فحلف، فردها عليه من بيت

مال خراسان، وكتب إلى خالد أن يكتب إلى أسد فيها، فكتب إليه، فأعطاه أسد مائة ألف درهم، فقسمها بين ورثة حيان على كتاب الله وفرائضه. ويقال: بل كتب إلى أسد أن يستخبر عن ذلك، فإن كان ما ذكر حقا أعطي مائة ألف درهم. وكان الذي جاء بفتح خراسان إلى مرو عبد السلام بْن الأشهب بْن عتبة الحنظلي قَالَ: فأوفد أسد إلى خالد بْن عبد الله وفدا في هزيمته يوم سان، ومعهم طوقات خاقان ورءوس من قتلوا منهم، فأوفدهم خالد إلى هشام، فأحلفهم أنهم صدقوا، فحلفوا، فوصلهم، فقال أبو الهندي الأسدي لأسد يذكر وقعة سان: أبا منذر رمت الأمور فقستها ... وساءلت عنها كالحريص المساوم فما كان ذو رأي من الناس قسته ... برأيك إلا مثل رأي البهائم أبا منذر لولا مسيرك لم يكن ... عراق ولا انقادت ملوك الأعاجم ولا حج بيت الله- مذ حج- راكب ... ولا عمر البطحاء بعد المواسم فكم من قتيل بين سان وجزة ... كثير الأيادي من ملوك قماقم تركت بأرض الجوزجان تزوره ... سباع وعقبان لحز الغلاصم وذي سوقة فيه من السيف خطة ... به رمق حامت عليه الحوائم فمن هارب منا ومن دائن لنا ... أسير يقاسي مبهمات الأداهم فدتك نفوس من تميم وعامر ... ومن مضر الحمراء عند المآزم هم أطمعوا خاقان فينا فأصبحت ... جلائبه ترجو احتواء المغانم قَالَ: وكان السبل أوصى عند موته ابن السائجى حين استخلفه بثلاث خصال، فقال: لا تستطل على أهل الختل استطالتي التي كانت عليهم،

ذكر الخبر عن مقتل المغيره بن سعيد ونفر معه

فإني ملك ولست بملك، إنما أنت رجل منهم، فلا يحتملون لك ما يحتملون للملوك، ولا تدع أن تطلب الجيش حتى ترده إلى بلادكم، فإنه الملك بعدي والملوك هم النظام، والناس ما لم يكن لهم نظام طغام، ولا تحاربوا العرب واحتالوا لهم كل حيلة تدفعونهم بها عن أنفسكم ما قدرتم فقال له ابن السائجى: أما ما ذكرت من تركي الاستطالة على أهل الختل فإني قد عرفت ذلك، وأما ما أوصيت من رد الجيش فقد صدق الملك، وأما قولك: لا تحاربوا العرب، فكيف تنهى عن حربهم، وقد كنت أكثر الملوك لهم محاربة! قَالَ: قد أحسنت إذ سألت عما لا تعلم، إني قد جربت قوتكم بقوتي، فلم أجدكم تقعون مني موقعا، فكنت إذا حاربتهم لم أفلت منهم إلا جريضا، وإنكم إن حاربتموهم هلكتم في أول محاربتكم إياهم. قال وكان الجيش، قد هرب إلى الصين، وابن السائجى الذي أخبر أسد بْن عبد الله بمسير خاقان اليه، فكره محاربه اسد. ذكر الخبر عن مقتل المغيره بن سعيد ونفر معه وفي هذه السنة خرج المغيرة بْن سعيد وبيان في نفر، فأخذهم خالد فقتلهم. ذكر الخبر عن مقتلهم: أما المغيرة بْن سعيد، فإنه كان- فيما ذكر- ساحرا حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا جرير، عن الأعمش، قَالَ: سمعت المغيرة بْن سعيد، يقول: لو أردت ان احيى عادا او ثمودا وقرونا بين ذلك كثيرا لأحييتهم قَالَ الأعمش: وكان المغيرة يخرج إلى المقبرة فيتكلم، فيرى مثل الجراد على القبور، أو نحو هذا من الكلام. وذكر أبو نعيم، عن النضر بْن محمد، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ليلى، قَالَ: قدم علينا رجل من أهل البصرة يطلب العلم، فكان عندنا، فأمرت جاريتي يوما أن تشتري لي سمكا بدرهمين، ثم انطلقت أنا

والبصري إلى المغيرة بْن سعيد، فقال لي: يا محمد، أتحب أن أخبرك، لم افترق حاجباك؟ قلت: لا، قَالَ أفتحب أن أخبرك لم سماك أهلك محمدا؟ قلت: لا، قَالَ: أما إنك قد بعثت خادمك يشتري لك سمكا بدرهمين قَالَ: فنهضنا عنه قَالَ أبو نعيم: وكان المغيرة قد نظر في السحر، فأخذه خالد القسري فقتله وصلبه. وذكر أبو زيد أن أبا بكر بْن حفص الزهري، قَالَ: أخبرني محمد بْن عقيل، عن سعيد بن مردابند، مولى عمرو بْن حريث، قَالَ: رأيت خالدا حين أتى بالمغيرة وبيان في ستة رهط أو سبعة، أمر بسريره فأخرج إلى المسجد الجامع، وأمر بأطنان قصب ونفط فأحضرا، ثم أمر المغيرة أن يتناول طنا فكع عنه وتأنى، فصبت السياط على رأسه، فتناول طنا فاحتضنه، فشد عليه، ثم صب عليه وعلى الطن نفط، ثم ألهبت فيهما النار فاحترقا، ثم أمر الرهط ففعلوا، ثم أمر بيانا آخرهم فقدم إلى الطن مبادرا فاحتضنه، فقال خالد: ويلكم! في كل أمر تحمقون، هلا رأيتم هذا المغيرة! ثم أحرقه. قَالَ أبو زيد: لما قتل خالد المغيرة وبيانا أرسل إلى مالك بْن أعين الجهني فسأله فصدقه عن نفسه، فأطلقه، فلما خلا مالك بمن يثق به- وكان فيهم أبو مسلم صاحب خراسان- قَالَ: ضربت له بين الطريقين لاحبا ... وطنت عليه الشمس فيمن يطينها وألقيته في شبهة حين سالني ... كما اشتبها في الخط سين وشينها فقال أبو مسلم حين ظهر أمره: لو وجدته لقتلته بإقراره على نفسه. قَالَ أحمد بْن زهير، عن علي بْن محمد، قَالَ: خرج المغيرة بْن سعيد في سبعة نفر، وكانوا يدعون الوصفاء، وكان خروجهم بظهر الكوفة، فأخبر خالد القسري بخروجهم وهو على المنبر، فقال: أطعموني ماء، فنعى ذلك عليه ابن نوفل، فقال: أخالد لا جزاك الله خيرا ... وأير في أمك من أمير

خبر مقتل بهلول بن بشر

تمنى الفخر في قيس وقسر ... كأنك من سراة بني جرير وأمك علجة وأبوك وغد ... وما الاذناب عدلا للصدور جرير من ذوي يمن أصيل ... كريم الأصل ذو خطر كبير وأنت زعمت انك من يزيد ... وقد ادحقتم دحق العبور وكنت لدى المغيرة عبد سوء ... تبول من المخافة للزئير وقلت لما أصابك: أطعموني ... شرابا ثم بلت على السرير لأعلاج ثمانية وشيخ ... كبير السن ليس بذي نصير. خبر مقتل بهلول بن بشر وفي هذه السنة حكم بهلول بْن بشر الملقب كثارة فقتل. ذكر الخبر عن مخرجه ومقتله: ذكر أبو عبيدة معمر بْن المثنى أن بهلولا كان يتأله، وكان له قوت دانق، وكان مشهورا بالبأس عند هشام بْن عبد الملك، فخرج يريد الحج، فأمر غلامه أن يبتاع له خلا بدرهم، فجاءه غلامه بخمر، فامر بردها وأخذ الدراهم، فلم يجب إلى ذلك، فجاء بهلول إلى عامل القرية- وهي من السواد- فكلمه، فقال العامل: الخمر خير منك ومن قومك، فمضى بهلول في حجه حتى فرغ منه، وعزم على الخروج على السلطان، فلقي بمكة من كان على مثل رأيه، فاتعدوا قرية من قرى الموصل، فاجتمع بها أربعون رجلا، وأمروا عليهم البهلول، وأجمعوا على ألا يمروا بأحد إلا أخبروه أنهم أقبلوا من عند هشام على بعض الأعمال، ووجههم إلى خالد لينفذهم في أعمالهم، فجعلوا لا يمرون بعامل إلا أخبروه بذلك وأخذوا دواب من دواب البريد، فلما انتهوا إلى القرية التي كان ابتاع فيها الغلام الخل فأعطي خمرا، قَالَ بهلول: نبدأ بهذا العامل الذي قَالَ ما قَالَ، فقال له أصحابه: نحن نريد قتل خالد، فان

بدأنا بهذا شهرنا وحذرنا خالد وغيره، فننشدك الله ان تقتل هذا فيفلت منا خالد الذي يهدم المساجد، ويبني البيع والكنائس، ويولي المجوس على المسلمين، وينكح أهل الذمة المسلمات، لعلنا نقتله فيريح الله منه قَالَ: والله لا أدع ما يلزمني لما بعده، وأرجو أن أقتل هذا الذي قَالَ لي ما قَالَ وأدرك خالدا فاقتله، وإن تركت هذا وأتيت خالدا شهر أمرنا فأفلت هذا، وقد قَالَ الله عز وجل: «قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً» ، قالوا: أنت ورأيك فأتاه فقتله، فنذر بهم الناس وعلموا أنهم خوارج، وابتدروا إلى الطريق هرابا، وخرجت البرد إلى خالد فأخبروه أن خارجة قد خرجت، وهم لا يدرون حينئذ من رئيسهم. فخرج خالد من واسط حتى اتى الحيرة وهو حينئذ في الحلق، وقد قدم في تلك الأيام قائد من أهل الشام من بني القين في جيش قد وجهوا مددا لعامل خالد على الهند، فنزلوا الحيرة، فلذلك قصدها خالد، فدعا رئيسهم فقال: قاتل هؤلاء المارقة، فإن من قتل منهم رجلا أعطيته عطاء سوى ما قبض بالشام، وأعفيته من الخروج إلى أرض الهند- وكان الخروج إلى أرض الهند شاقا عليهم- فسارعوا إلى ذلك، فقالوا: نقتل هؤلاء النفر ونرجع إلى بلادنا فتوجه القينى اليهم في ستمائه، وضم إليهم خالد مائتين من شرط الكوفة، فالتقوا على الفرات، فعبأ القيني أصحابه، وعزل شرط الكوفة، فقال: لا تكونوا معنا- وإنما يريد في نفسه أن يخلو هو وأصحابه بالقوم فيكون الظفر لهم دون غيرهم لما وعدهم خالد- وخرج إليهم بهلول، فسأل عن رئيسهم حتى عرف مكانه، ثم تنكر له، ومعه لواء أسود، فحمل عليه فطعنه في فرج درعه، فأنفذه فقال: قتلتني قتلك الله! فقال بهلول: إلى النار أبعدك الله. وولى أهل الشام مع شرط أهل الكوفة منهزمين حتى بلغوا باب الكوفة، وبهلول وأصحابه يقتلونهم فأما الشاميون فإنهم كانوا على خيل جياد ففاتوه، وأما شرط الكوفة فإنه لحقهم، فقالوا: اتق الله فينا فانا مكرهون مقهورون،

فجعل يقرع رءوسهم بالرمح، ويقول: الحقوا! النجاء النجاء! ووجد البهلول مع القيني بدرة فأخذها وكان بالكوفة ستة نفر يرون رأي البهلول، فخرجوا إليه يريدون اللحاق به فقتلوا، وخرج إليهم البهلول وحمل البدرة بين يديه، فقال: من قتل هؤلاء النفر حتى أعطيه هذه الدراهم؟ فجعل هذا يقول: أنا، وهذا يقول: أنا، حتى عرفهم، وهم يرون أنه من قبل خالد جاء ليعطيهم مالا لقتلهم من قتلوا فقال بهلول لأهل القرية: أصدق هؤلاء، هم قتلوا النفر؟ قالوا: نعم، وخشي بهلول أنهم ادعوا ذلك طمعا في المال، فقال لأهل القرية: انصرفوا أنتم، وأمر بأولئك فقتلوا، وعاب عليه أصحابه فحاجهم، فأقروا له بالحجة وبلغت هزيمة القوم خالدا وخبر من قتل من أهل صريفين، فوجه قائدا من بني شيبان أحد بني حوشب بْن يزيد بْن رويم، فلقيهم فيما بين الموصل والكوفة، فشد عليهم البهلول، فقال: نشدتك بالرحم! فإني جانح مستجير! فكف عنه، وانهزم أصحابه، فأتوا خالدا وهو مقيم بالحيرة ينتظر، فلم يرعه إلا الفل قد هجم عليه، فارتحل البهلول من يومه يريد الموصل، فخافه عامل الموصل، فكتب إلى هشام: إن خارجة خرجت فعاثت وأفسدت، وأنه لا يأمن على ناحيته، ويسأله جندا يقاتلهم به، فكتب إليه هشام: وجه إليهم كثارة بْن بشر- وكان هشام لا يعرف البهلول إلا بلقبه- فكتب إليه العامل: إن الخارج هو كثارة. قَالَ: ثم قَالَ البهلول لأصحابه: إنا والله ما نصنع بابن النصرانية شيئا- يعني خالدا- وما خرجت إلا لله، فلم لا نطلب الرأس الذي يسلط خالدا وذوي خالد! فتوجه يريد هشاما بالشام، فخاف عمال هشام موجدته إن تركوه يجوز بلادهم حتى ينتهى الى الشام، فجند له خالد جندا من أهل العراق، وجند له عامل الجزيرة جندا من أهل الجزيرة، ووجه إليه هشام جندا من أهل الشام، فاجتمعوا بدير بين الجزيرة والموصل، وأقبل بهلول حتى انتهى

إليهم- ويقال: التقوا بالكحيل دون الموصل- فأقبل بهلول، فنزل على باب الدير، فقالوا له: تزحزح عن باب الدير حتى نخرج إليك، فتنحى وخرجوا، فلما رأى كثرتهم وهو في سبعين جعل من أصحابه ميمنة وميسرة، ثم أقبل عليهم فقال: أكلكم يرجو أن يقتلنا ثم يأتي بلده وأهله سالما؟ قالوا: إنا نرجو ذلك إن شاء الله، فشد على رجل منهم فقتله، فقال: أما هذا فلا يأتي أهله أبدا، فلم يزل ذلك ديدنه حتى قتل منهم ستة نفر، فانهزموا، فدخلوا الدير فحاصرهم، وجاءتهم الأمداد فكانوا عشرين ألفا، فقال له أصحابه: ألا نعقر دوابنا، ثم نشد عليهم شدة واحدة؟ فقال: لا تفعلوا حتى نبلي الله عذرا ما استمسكنا على دوابنا، فقاتلوهم يومهم ذلك كله إلى جنح العصر حتى أكثروا فيهم القتل والجراح. ثم ان بهلولا وأصحابه عقروا دوابهم وترجلوا، وأصلتوا لهم السيوف، فأوجعوا فيهم، فقتل عامة أصحاب بهلول وهو يقاتل ويذود عن أصحابه، وحمل عليه رجل من جديلة قيس يكنى أبا الموت، فطعنه فصرعه، فوافاه من بقي من أصحابه، فقالوا له: ول أمرنا من بعدك من يقوم به، فقال: إن هلكت فأمير المؤمنين دعامة الشيباني، فإن هلك دعامة فأمير المؤمنين عمرو اليشكري، وكان أبو الموت إنما ختل البهلول ومات بهلول من ليلته، فلما أصبحوا هرب دعامة وخلاهم، فقال رجل من شعرائهم: لبئس أمير المؤمنين دعامة ... دعامة في الهيجاء شر الدعائم وقال الضحاك بْن قيس يرثي بهلولا، ويذكر أصحابه: بدلت بعد أبي بشر وصحبته ... قوما علي مع الأحزاب أعوانا كأنهم لم يكونوا من صحابتنا ... ولم يكونوا لنا بالأمس خلانا يا عين أذري دموعا منك تهتانا ... وابكي لنا صحبة بانوا وإخوانا خلوا لنا ظاهر الدنيا وباطنها ... وأصبحوا في جنان الخلد جيرانا قَالَ أبو عبيدة: 4 لما قتل بهلول خرج عمرو اليشكري فلم يلبث أن قتل ثم

4 خرج العنزي صاحب الأشهب- وبهذا كان يعرف- على خالد في ستين، فوجه إليه خالد السمط بْن مسلم البجلي في أربعة آلاف، فالتقوا بناحية الفرات، فشد العنزي على السمط، فضربه بين أصابعه فألقى سيفه، وشلت يده، وحمل عليهم فانهزمت الحرورية فتلقاهم عبيد أهل الكوفة وسفلتهم، فرموهم بالحجارة حتى قتلوهم. 4 قَالَ أبو عبيدة: 4 ثم خرج وزير السختياني على خالد في نفر، وكان مخرجه بالحيرة، فجعل لا يمر بقرية إلا أحرقها، ولا أحد إلا قتله، وغلب على ما هنالك وعلى بيت المال، فوجه اليه خالد قائدا من أصحابه وشرطا من شرط الكوفة، فقاتلوه وهو في نفير، فقاتل حتى قتل عامة أصحابه، وأثخن بالجراح، فأخذ مرتثا، فأتى به خالد، فأقبل على خالد فوعظه، وتلا عليه آيات من القرآن فأعجب خالدا ما سمع منه، فأمسك عن قتله وحبسه عنده، وكان لا يزال يبعث إليه في الليالي فيؤتى به فيحادثه ويسائله، فبلغ ذلك هشاما وسعى به إليه، وقيل: أخذ حروريا قد قتل وحرق وأباح الأموال، فاستبقاه فاتخذه سميرا فغضب هشام، وكتب إلى خالد يشتمه، ويقول: لا تستبق فاسقا قتل وحرق، وأباح الأموال، فكان خالد يقول: إني أنفس به عن الموت لما كان يسمع من بيانه وفصاحته فكتب فيه إلى هشام يرقق من أمره- ويقال: بل لم يكتب ولكنه كان يؤخر أمره ويدفع عنه- حتى كتب إليه هشام يؤنبه ويأمره بقتله وإحراقه، فلما جاءه أمر عزيمة لا يستطيع دفعه بعث إليه وإلى نفر من أصحابه كانوا أخذوا معه، فامر بهم فادخلوا المسجد، وأدخلت أطنان القصب فشدوا فيها، ثم صب عليهم النفط، ثم أخرجوا فنصبوا في الرحبة، ورموا بالنيران، فما منهم أحد إلا من اضطراب وأظهر جزعا، إلا وزيرا فإنه لم يتحرك، ولم يزل يتلو القرآن حتى مات. وفي هذه السنة غزا أسد بْن عبد الله الختل وفيها قتل اسد بدرطاخان ملك الختل

ذكر الخبر عن غزوه اسد الختل هذه الغزوة وسبب قتله بدر طرخان

ذكر الخبر عن غزوة أسد الختل هذه الغزوة وسبب قتله بدر طرخان ذكر علي بْن محمد عن أشياخه الذين ذكرناهم قبل انهم قالوا: غزا اسد ابن عبد الله الختل وهي غزوة بدر طرخان، فوجه مصعب بْن عمرو الخزاعي إليها، فلم يزل مصعب يسير حتى نزل بقرب بدر طرخان، فطلب الأمان على أن يخرج إلى أسد فأجابه مصعب، فخرج إلى أسد فطلب منه أشياء فامتنع، ثم ساله بدر طرخان أن يقبل منه ألف ألف درهم، فقال له أسد: إنك رجل غريب من أهل الباميان، اخرج من الختل كما دخلتها فقال له بدر طرخان: دخلت أنت خراسان على عشرة من المحذفة، ولو خرجت منها اليوم لم تستقل على خمسمائة بعير، وغير ذلك أني دخلت الختل بشيء فاردده علي حتى أخرج منها كما دخلتها قَالَ: وما ذاك؟ قَالَ: دخلتها شابا فكسبت المال بالسيف، ورزق الله أهلا وولدا، فاردد علي شبابي حتى أخرج منها، هل ترى أن أخرج من أهلي وولدي! فما بقائي بعد أهلي وولدي! فغضب أسد. قَالَ: وكان بدر طرخان يثق بالأمان، فقال له أسد: اختم في عنقك، فإني أخاف عليك معرة الجند، قَالَ: لست أريد ذلك، وأنا أكتفي من قبلك برجل يبلغ بي مصعبا فأبى أسد إلا أن يختم في عنقه، فختم في رقبته ودفعه إلى أبي الأسد مولاه، فسار به أبو الأسد، فانتهى إلى عسكر المصعب عند المساء وكان سلمة بْن أبي عبد الله في الموالي مع مصعب، فوافى أبو الأسد سلمة، وهو يضع الدراجة في موضعها، فقال سلمة لأبي الأسد: ما صنع الأمير في امر بدر طرخان؟ فقص الذى عرض عليه بدر طرخان وإباء أسد ذلك، وسرحه معه إلى المصعب ليدخله الحصن، فقال سلمة: إن الأمير لم يصب

فيما صنع، وسينظر في ذلك ويندم، إنما كان ينبغي له أن يقبض ما عرض عليه أو يحبسه فلا يدخله حصنه، فإنا إنما دخلناه بقناطر اتخذناها، ومضايق أصلحناها، وكان يمنعه أن يغير علينا رجاء الصلح، فإما إذ يئس من الصلح فإنه لا يدع الجهد فدعه الليلة في قبتي، ولا تنطلق به إلى مصعب، فإنه ساعة ينظر إليه يدخله حصنه. قال: فأقام ابو الأسد وبدر طرخان معه في قبة سلمة، وأقبل أسد بالناس في طريق ضيق، فتقطع الجند، ومضى أسد حتى انتهى إلى نهر وقد عطش- ولم يكن أحد من خدمه- فاستسقى، وكان السغدي بْن عبد الرحمن ابو طعمه الحزمي معه شاكري له، ومع الشاكري قرن تبتي، فأخذ السغدي القرن، فجعل فيه سويقا، وصب عليه ماء من النهر، وحركه وسقى أسدا وقوما من رؤساء الجند، فنزل أسد في ظل شجرة، ودعا برجل من الحرس، فوضع رأسه في فخذه، وجاء المجشر بْن مزاحم السلمي يقود فرسه حتى قعد تجاهه حيث ينظر أسدا، فقال أسد: كيف أنت يا أبا العدبس؟ قَالَ: كنت أمس أحسن حالا مني اليوم، قَالَ: وكيف ذاك؟ قَالَ: كان بدر طرخان في أيدينا وعرض ما عرض، فلا الأمير قبل منه ما عرض عليه ولا هو شد يده عليه، لكنه خلى سبيله، وأمر بإدخاله حصنه لما عنده- زعم- من الوفاء فندم أسد عند ذلك، ودعا بدليل من أهل الختل ورجل من أهل الشام نافذ، فاره الفرس فأتى بهما، فقال للشامي: إن أنت أدركت بدرطرخان قبل أن يدخل حصنه فلك ألف درهم، فتوجها حتى انتهيا إلى عسكر مصعب، فنادى الشامي: ما فعل العلج؟ قيل: عند سلمة، وانصرف الدليل إلى أسد بالخبر، واقام الشامي مع بدرطرخان في قبة سلمه، وبعث اسد الى بدر طرخان فحوله اليه فشتمه، فعرف بدر طرخان أنه قد نقض عهده، فرفع حصاة فرمى بها إلى السماء، وقال: هذا عهد الله، وأخذ أخرى فرمى بها إلى السماء، وقال: هذا عهد محمد ص، وأخذ يصنع كذلك بعهد أمير المؤمنين وعهد المسلمين، فأمر أسد بقطع يده، وقال أسد: من هاهنا من أولياء

ظهور الصحارى بن شبيب الخارجي

ابى فديك رجل من الأزد قتله بدر طرخان، فقام رجل من الأزد فقال: أنا، قَالَ: اضرب عنقه، ففعل وغلب أسد على القلعة العظمى، وبقيت قلعة فوقها صغيرة فيها ولده وأمواله، فلم يوصل إليهم، وفرق أسد الخيل في أودية الختل. قَالَ: وقدم أسد مرو، وعليها أيوب بْن أبي حسان التميمي، فعزله واستعمل خالد بْن شديد، ابن عمه فلما شخص إلى بلخ بلغه أن عمارة بْن حريم تزوج الفاضلة بنت يزيد بْن المهلب، فكتب إلى خالد بْن شديد: احمل عمارة على طلاق ابنة يزيد، فإن أبى فاضربه مائة سوط، فبعث إليه فأتاه وعنده العذافر بْن زيد التميمي، فأمره بطلاقها، ففعل بعد إباء منه، وقال عذافر: عمارة والله فتى قيس وسيدها، وما بها عليه أبهة، أي ليست بأشرف منه فتوفي خالد بْن شديد، واستخلف الاشعث بن جعفر البجلي. ظهور الصحارى بن شبيب الخارجي وفيها شرى الصحاري بْن شبيب، وحكم بجبل ذكر خبره: ذكر عن أبي عبيدة معمر بْن المثنى أن الصحاري بْن شبيب أتى خالدا يسأله الفريضة، فقال: وما يصنع ابن شبيب بالفريضة! فودعه ابن شبيب، ومضى، وندم خالد وخاف أن يفتق عليه فتقا، فأرسل إليه يدعوه، فقال: أنا كنت عنده آنفا، فأبوا أن يدعوه، فشد عليهم بسيفه، فتركوه فركب وسار حتى جاوز واسطا، ثم عقر فرسه وركب زورقا ليخفي مكانه، ثم قصد إلى نفر من بني تيم اللات بْن ثعلبة، كانوا بجبل، فأتاهم متقلدا سيفا فأخبرهم خبره وخبر خالد، فقالوا له: وما كنت ترجو بالفريضة! كنت لأن تخرج إلى ابن النصرانية فتضربه بسيفك أحرى فقال: إني والله ما اردت

الفريضة، وما أردت إلا التوصل إليه لئلا ينكرني، ثم أقتل ابن النصرانية غيلة بقتله فلانا- وكان خالد قبل ذلك قد قتل رجلا من قعدة الصفرية صبرا- ثم دعاهم الصحاري إلى الوثوب معه فأجابه بعضهم، وقال بعضهم: ننتظر، وأبى بعضهم وقالوا: نحن في عافية، فلما رأى ذلك قَالَ: لم أرد منه الفريضة إلا ... طمعا في قتله أن أنالا فأريح الأرض منه وممن ... عاث فيها وعن الحق مالا كل جبار عنيد أراه ... ترك الحق وسن الضلالا إنني شار بنفسي لربي ... تارك قيلا لديهم وقالا بائع أهلي ومالي أرجو ... في جنان الخلد أهلا ومالا قال: فبايعه نحو من ثلاثين، فشرى بجبل، ثم سار حتى أتى المبارك. فبلغ ذلك خالدا، فقال: قد كنت خفتها منه ثم وجه اليه خالد جندا، فلقوه بناحية المناذر، فقاتلهم قتالا شديدا، ثم انطووا عليه فقتلوه وقتلوا جميع أصحابه. قال أبو جعفر: وحج بالناس في هذه السنه ابو شاكر مسلمه بن هشام ابن عبد الملك، وحج معه ابن شهاب الزهري في هذه السنة. وَكَانَ العامل فِي هَذِهِ السنة عَلَى الْمَدِينَة ومكة والطائف محمد بْن هشام، وعلى العراق والمشرق خالد بْن عبد الله القسري، وعامل خالد على خراسان أخوه أسد بْن عبد الله. وقد قيل: إن أخا خالد أسدا هلك في هذه السنة، واستخلف عليها جعفر بْن حنظلة البهراني. وقيل: إن أسدا أخا خالد بْن عبد الله إنما هلك في سنة عشرين ومائة. وكان على أرمينية وأذربيجان مروان بْن محمد.

سنه عشرين ومائه

ثم دخلت سنة عشرين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك غزوة سليمان بْن هشام بْن عبد الملك الصائفه وافتتاحه- فيما ذكر- سندرة، وغزوة إسحاق بْن مسلم العقيلي وافتتاحه قلاع تومانشاه وتخريبه أرضه، وغزوة مروان بن محمد ارض الترك. خبر وفاه اسد بن عبد الله القسرى وفيها كانت وفاة أسد بْن عبد الله في قول المدائني. ذكر الخبر عن سبب وفاته: وكان سبب ذلك أنه كانت به- فيما ذكر- دبيلة في جوفه، فحضر المهرجان وهو ببلخ، فقدم عليه الأمراء والدهاقين، فكان ممن قدم عليه إبراهيم بْن عبد الرحمن الحنفي عامله على هراة وخراسان، ودهقان هراة، فقد ما بهدية قومت بألف ألف، فكان فيما قدما به قصران: قصر من فضة وقصر من ذهب، وأباريق من ذهب وأباريق من فضة وصحاف من ذهب وفضة، فأقبلا وأسد جالس على السرير، وأشراف خراسان على الكراسي، فوضعا القصرين، ثم وضعا خلفهما الأباريق والصحاف والديباج المروي والقوهي والهروي وغير ذلك، حتى امتلأ السماط، وكان فيما جاء به الدهقان أسدا كرة من ذهب، ثم قام الدهقان خطيبا، فقال: أصلح الله الأمير! إنا معشر العجم، أكلنا الدنيا أربعمائة سنة، أكلناها بالحلم والعقل والوقار، ليس فينا كتاب ناطق، ولا نبي مرسل، وكانت الرجال عندنا ثلاثة: ميمون النقيبة أينما توجه فتح الله على يده، والذي يليه رجل تمت مروته في بيته فان كان كذلك رجى وعظم، وقود وقدم، ورجل رحب صدره، وبسط

يده فرجي، فإذا كان كذلك قود وقدم، وإن الله جعل صفات هؤلاء الثلاثة الذين أكلنا الدنيا بهم أربعمائة سنة فيك أيها الأمير، وما نعلم أحدا هو أتم كتخدانية منك، إنك ضبطت أهل بيتك وحشمك ومواليك، فليس منهم أحد يستطيع أن يتعدى على صغير ولا كبير، ولا غنى ولا فقير، فهذا تمام الكتخدانية، ثم بنيت الإيوانات في المفاوز، فيجيء الجائي من المشرق والآخر من المغرب، فلا يجدان عيبا إلا أن يقولا: سبحان الله ما أحسن ما بني! ومن يمن نقيبتك أنك لقيت خاقان وهو في مائة ألف، معه الحارث ابن سريج فهزمته وفللته، وقتلت أصحابه، وأبحت عسكره وأما رحب صدرك وبسط يدك، فإنا ما ندري أي المالين أقر لعينك؟ أمال قدم عليك، أم مال خرج من عندك! بل أنت بما خرج أقر عينا فضحك أسد، وقال: أنت خير دهاقين خراسان وأحسنهم هدية، وناوله تفاحة كانت في يده، وسجد له دهقان هراة، وأطرق أسد ينظر إلى تلك الهدايا، فنظر عن يمينه، فقال: يا عذافر بْن يزيد، مر من يحمل هذا القصر الذهب، ثم قَالَ: يا معن بْن أحمر رأس قيس- أو قَالَ قنسرين- مر بهذا القصر يحمل، ثم قَالَ: يا فلان خذ إبريقا، ويا فلان خذ إبريقا، وأعطى الصحاف حتى بقيت صحفتان، فقال: قم يا بن الصيداء، فخذ صحيفة، قَالَ: فأخذ واحدة فرزنها فوضعها، ثم أخذ الأخرى فرزنها، فقال له أسد: ما لك؟ قَالَ: آخذ أرزنهما، قَالَ: خذهما جميعا، وأعطى العرفاء وأصحاب البلاء، فقام أبو اليعفور- وكان يسير أمام صاحب خراسان في المغازي- فنادى: هلم إلى الطريق، فقال أسد: ما أحسن ما ذكرت بنفسك! خذ ديباجتين، وقام ميمون العذاب فقال: إلي، إلى يساركم، إلى الجادة، فقال: ما أحسن ما ذكرت نفسك! خذ ديباجة، قَالَ: فأعطى ما كان في السماط كله، فقال نهر بْن توسعة: تقلون إن نادى لروع مثوب ... وأنتم غداة المهرجان كثير

امر شيعه بنى العباس بخراسان

ثم مرض أسد، فأفاق إفاقة فخرج يوما، فأتي بكمثرى أول ما جاء، فأطعم الناس منه واحدة واحدة، وأخذ كمثراة فرمى بها إلى خراسان دهقان هراة، فانقطعت الدبيلة، فهلك. واستخلف جعفرا البهراني، وهو جعفر بْن حنظلة سنة عشرين ومائة فعمل أربعة أشهر، وجاء عهد نصر بْن سيار في رجب سنة إحدى وعشرين ومائة، فقال ابن عرس العبدي: نعى أسد بْن عبد الله ناع ... فريع القلب للملك المطاع ببلخ وافق المقدار يسري ... وما لقضاء ربك من دفاع فجودي عين بالعبرات سحا ... ألم يحزنك تفريق الجماع! أتاه حمامه فى جوف صيغ ... وكم بالصيغ من بطل شجاع! كتائب قد يجيبون المنادي ... على جرد مسومة سراع سقيت الغيث إنك كنت غيثا ... مريعا عند مرتاد النجاع وقال سليمان بْن قتة مولى بني تيم بْن مرة- وكان صديقا لأسد: سقى الله بلخا، سهل بلخ وحزنها ... ومروى خراسان السحاب المجمما وما بي لتسقاه ولكن حفرة ... بها غيبوا شلوا كريما وأعظما مراجم أقوام ومردى عظيمة ... وطلاب أوتار عفرنا عثمثما لقد كان يعطي السيف في الروع حقه ... ويروي السنان الزّاغبىّ المقوّما امر شيعه بنى العباس بخراسان قَالَ أبو جعفر: وفي هذه السنة وجهت شيعة بني العباس بخراسان إلى محمد بْن علي بْن العباس سليمان بْن كثير ليعلمه أمرهم وما هم عليه. ذكر الخبر عن سبب توجيههم سليمان إلى محمد: وكان السبب في ذلك موجدة كانت من محمد بْن علي على من كان بخراسان من شيعته من أجل طاعتهم، كانت لخداش الذي ذكرنا خبره قبل وقبولهم منه ما روي عليه من الكذب، فترك مكاتبتهم، فلما أبطأ عليهم

ذكر سبب عزل هشام خالدا

كتابه، اجتمعوا فذكروا ذلك بينهم، فأجمعوا على الرضا بسليمان بْن كثير ليلقاه بأمرهم، ويخبره عنهم، ويرجع إليهم بما يرد عليه، فقدم- فيما ذكر- سليمان بْن كثير على محمد بْن علي وهو متنكر لمن بخراسان من شيعته، فأخبره عنهم، فعنفهم في اتباعهم خداشا وما كان دعا إليه، وقال: لعن الله خداشا ومن كان على دينه! ثم صرف سليمان إلى خراسان، وكتب إليهم معه كتابا، فقدم عليهم، ومعه الكتاب مختوما، ففضوا خاتمه فلم يجدوا فيه شيئا، إلا: بسم الله الرحمن الرحيم، فغلظ ذلك عليهم وعلموا أن ما كان خداش أتاهم به لأمره مخالف. وفي هذه السنة وجه محمد بْن علي بكر بْن ماهان إلى شيعته بخراسان بعد منصرف سليمان بْن كثير من عنده إليهم، وكتب معه إليهم كتابا يعلمهم أن خداشا حمل شيعته على غير منهاجه فقدم عليهم بكير بكتابه فلم يصدقوه واستخفوا به، فانصرف بكير إلى محمد بْن علي، فبعث معه بعصي مضببة بعضها بالحديد وبعضها بالشبه، فقدم بها بكير وجمع النقباء والشيعة، ودفع إلى كل رجل منهم عصا، فعلموا أنهم مخالفون لسيرته، فرجعوا وتابوا. وفي هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك خالد بن عبد الله عن اعماله التي كان ولاه إياها كلها . ذكر سبب عزل هشام خالدا قد قيل في ذلك أقوال، نذكر ما حضرنا من ذلك ذكره، فمما قيل في ذلك: إن فروخ أبا المثنى كان قد تقبل من ضياع هشام بْن عبد الملك بموضع يقال له رستاق الرمان أو نهر الرمان- وكان يدعى بذلك فروخ الرماني- فثقل مكانه على خالد، فقال خالد لحسان النبطي: ويحك! اخرج إلى أمير المؤمنين فزد على فروخ، فخرج فزاد عليه

ألف ألف درهم، فبعث هشام رجلين من صلحاء اهل الشام، فحازا الضياع، فصار حسان أثقل على خالد من فروخ، فجعل يضر به، فيقول له حسان: لا تفسدني وأنا صنيعتك! فأبى إلا الإضرار به، فلما قدم عليه بثق البثوق على الضياع، ثم خرج إلى هشام، فقال: إن خالدا بثق البثوق على ضياعك. فوجه هشام رجلا، فنظر إليها ثم رجع إلى هشام فأخبره، فقال حسان لخادم من خدم هشام: إن تكلمت بكلمة أقولها لك حيث يسمع هشام، فلك عندي ألف دينار، قَالَ: فعجل لي الألف وأقول ما شئت، قَالَ: فعجلها له وقال له: بك صبيا من صبيان هشام، فإذا بكى فقل له: اسكت، والله لكأنك ابن خالد القسري الذي غلته ثلاثة عشر ألف ألف فسمعها هشام فأغضى عليها ثم دخل عليه حسان بعد ذلك، فقال له هشام: ادن مني فدنا منه، فقال: كم غلة خالد؟ قَالَ: ثلاثة عشر ألف ألف، قَالَ: فكيف لم تخبرني بهذا! قَالَ: وهل سألتني؟ فوقرت في نفس هشام، فأزمع على عزله. وقيل: كان خالد يقول لابنه يزيد: ما أنت بدون مسلمة بْن هشام، فإنك لتفخر على الناس بثلاث لا يفخر بمثلها أحد: سكرت دجلة ولم يتكلف ذلك أحد، ولي سقاية بمكة، ولي ولاية العراق. وقيل: إنما أغضب هشاما على خالد أن رجلا من قريش دخل على خالد فاستخف به وعضه بلسانه، فكتب إلى هشام يشكوه، فكتب هشام إلى خالد: أما بعد، فإن أمير المؤمنين- وإن كان أطلق لك يدك ورأيك فيمن استرعاك أمره، واستحفظك عليه، للذي رجا من كفايتك، ووثق به من حسن تدبيرك- لم يفرشك غره أهل بيته لتطأه بقدمك، ولا تحد إليه بصرك، فكيف بك وقد بسطت على غرتهم بالعراق لسانك بالتوبيخ، تريد بذلك تصغير خطره، واحتقار قدره، زعمت بالنصفة منه حتى

أخرجك ذلك إلى الإغلاظ في اللفظ عليه في مجلس العامة، غير متحلحل له حين رأيته مقبلا من صدر مهادك الذي مهد له الله، وفي قومك من يعلوك بحسبه، ويغمرك بأوليته، فنلت مهادك بما رفع به آل عمرو من ضعتك خاصة، مساوين بك فروع غرر القبائل وقرومها قبل أمير المؤمنين، حتى حللت هضبة أصبحت تنحو بها عليهم مفتخرا هذا إن لم يدهده بك قلة شكرك متحطما وقيذا فهلا- يا بن مجرشة قومك- أعظمت رجلهم عليك داخلا، ووسعت مجلسه إذ رأيته إليك مقبلا، وتجافيت له عن صدر فراشك مكرما، ثم فاوضته مقبلا ببشرك، إكراما لأمير المؤمنين فإذا اطمأن به مجلسه نازعته بحيي السرار، معظما لقرابته، عارفا لحقه، فهو سن البيتين ونابهم، وابن شيخ آل أبي العاص وحرب وغرتهم. وبالله يقسم أمير المؤمنين لك لولا ما تقدم من حرمتك وما يكره من شماتة عدوك بك لوضع منك ما رفع، حتى يردك إلى حال تفقد بها أهل الحوائج بعراقك، وتزاحم المواكب ببابك وما أقربني من أن أجعلك تابعا لمن كان لك تبعا، فانهض على أي حال ألفاك رسول أمير المؤمنين وكتابه، من ليل او نهار، ماشيا على قدمك بمن معك من خولك، حتى تقف على باب ابن عمرو صاغرا، مستأذنا عليه، متنصلا إليه، أذن لك أو منعك، فإن حركته عواطف رحمة احتملك، وإن احتملته أنفة وحمية من دخولك عليك فقف ببابه حولا غير متحلحل ولا زائل، ثم أمرك بعد إليه، عزل أو ولى، انتصر أو عفا، فلعنك الله من متكل عليه بالثقة، ما أكثر هفواتك، وأقذع لأهل الشرف ألفاظك، التي لا تزال تبلغ أمير المؤمنين

من إقدامك بها على من هو أولى بما أنت فيه من ولاية مصري العراق، وأقدم وأقوم وقد كتب أمير المؤمنين إلى ابن عمه بما كتب به إليك من إنكاره عليك، ليرى في العفو عنك والسخط عليك رأيه، مفوضا ذلك إليه مبسوطة فيه يده، محمودا عند أمير المؤمنين على أيهما آتى إليك، موفقا إن شاء الله تعالى. وكتب إلى ابن عمرو: أما بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك، وفهم ما ذكرت من بسط خالد عليك لسانه في مجلس العامه محتقرا لقدرك، مستصغرا لقرابتك من أمير المؤمنين، وعواطف رحمه عليك وإمساكك عنه، تعظيما لأمير المؤمنين وسلطانه وتمسكا بوثائق عصم طاعته، مع مؤلم ما تداخلك من قبائح ألفاظه وشرارة منطقه، وإكثابه عليك عند إطراقك عنه، مرويا فيما أطلق أمير المؤمنين من لسانه، وأطال من عنانه، ورفع من ضعته، ونوه من خموله، وكذلك أنتم آل سعيد في مثلها عند هذر الذنابي وطائشة أحلامها، صمت من غير إفحام، بل بأحلام تخف بالجبال وزنا وقد حمد أمير المؤمنين تعظيمك إياه، وتوقيرك سلطانه وشكره، وقد جعل أمر خالد إليك في عزلك إياه أو إقراره، فإن عزلته أمضى عزلك إياه، وإن أقررته فتلك منة لك عليه لا يشركك أمير المؤمنين فيها وقد كتب إليه أمير المؤمنين بما يطرد عنه سنة الهاجع عند وصوله إليه، يأمره بإتيانك راجلا على أية حال صادفه كتاب امير المؤمنين فيها، وألفاه رسوله الموجه إليه من ليله أو نهاره، حتى يقف ببابك، أذنت له أو حجبته، أقررته أو عزلته، وتقدم أمير المؤمنين إلى رسوله في ضربه بين يديك على رأسه عشرين سوطا إلا أن تكره أن يناله

ذلك بسببك لحرمة خدمته، فأيهما رأيت إمضاءه كان لأمير المؤمنين في برك وعظم حرمتك وقرابتك وصلة رحمك موافقا، وإليه حبيبا، فيما ينوي من قضاء حق آل أبي العاص وسعيد فكاتب أمير المؤمنين فيما بدا لك مبتدئا ومجيبا ومحادثا وطالبا، ما عسى أن ينزل بك أهلك من أهل بيت أمير المؤمنين من حوائجهم التي تقعد بهم الحشمة عن تناولها من قبله لبعد دارهم عنه، وقلة إمكان الخروج لإنزالها به، غير محتشم من أمير المؤمنين، ولا مستوحش من تكرارها عليه، على قدر قرابتهم وأديانهم وأنسابهم، مستمنحا ومسترفدا، وطالبا مستزيدا، تجد أمير المؤمنين إليك سريعا بالبر لما يحاول من صلة قرابتهم، وقضاء حقوقهم، وبالله يستعين أمير المؤمنين على ما ينوي، وإليه يرغب في العون على قضاء حق قرابته، وعليه يتوكل، وبه يثق والله وليه ومولاه والسلام. وقيل: إن خالدا كان كثيرا ما يذكر هشاما، فيقول: ابن الحمقاء. وكانت أم هشام تستحمق، وقد ذكرنا خبرها قبل. وذكر أنه كتب إلى هشام كتابا غاظه، فكتب اليه هشام: يا بن أم خالد، قد بلغني أنك تقول: ما ولاية العراق لي بشرف، فيابْن اللخناء، كيف لا تكون إمرة العراق لك شرفا، وأنت من بجيلة القليلة الذليلة! أما والله إني لأظن أن أول من يأتيك صغير من قريش، يشد يديك إلى عنقك. وذكر أن هشاما كتب إليه: قد بلغني قولك: أنا خالد بْن عبد الله بْن يزيد بْن أسد بْن كرز، ما أنا بأشرف الخمسة أما والله لأردنك إلى بغلتك وطيلسانك الفيروزي. وذكر أن هشاما بلغه أنه يقول لابنه: كيف أنت إذا احتاج إليك بنو أمير المؤمنين! فظهر الغضب في وجهه. وقيل: إن هشاما قدم عليه رجل من أهل الشام، فقال: إني سمعت خالدا ذكر أمير المؤمنين بما لا تنطلق به الشفتان، قَالَ: قَالَ: الأحول؟ قَالَ: لا، بل قَالَ أشد من ذلك، قَالَ: فما هو؟ قَالَ: لا أقوله أبدا،

ذكر الخبر عن عمل هشام عزل خالد حين صح عزمه على عزله

فلم يزل يبلغه عنه ما يكره حتى تغير له وذكر أن دهقانا دخل على خالد، فقال: أيها الأمير، إن غلة. ابنك قد زادت على عشرة آلاف ألف، ولا آمن أن يبلغ هذا أمير المؤمنين فيستكثره. وإن الناس يحبون جسدك، وأنا أحب جسدك وروحك، قَالَ: إن أسد بْن عبد الله قد كلمني بمثل هذا، فأنت أمرته؟ قَالَ: نعم، قَالَ: ويحك! دع ابني، فلربما طلب الدرهم فلم يقدر عليه. ثم عزم هشام- لما كثر عليه ما يتصل به عن خالد من الأمور التي كان يكرهها- على عزله، فلما عزم على ذلك أخفى ما قد عزم له عليه من أمره. ذكر الخبر عن عمل هشام عزل خالد حين صح عزمه على عزله ذكر عمر أن عبيد بْن جناد حدثه أنه سمع أباه وبعض الكتبة يذكر أن هشاما أخفى عزل خالد، وكتب إلى يوسف بخطه- وهو على اليمن- أن يقبل في ثلاثين من أصحابه فخرج يوسف حتى صار الى الكوفه، فعرس قريبا منها، وقد ختن طارق- خليفة خالد على الخراج- ولده، فأهدى له ألف عتيق وألف وصيف وألف وصيفة، سوى الأموال والثياب وغير ذلك، فمر العاس بيوسف وأصحابه ويوسف يصلي ورائحة الطيب تنفح من ثيابه، فقال: ما أنتم؟ قالوا: سفار، قَالَ: فأين تريدون؟ قالوا: بعض المواضع، فأتوا طارقا وأصحابه، فقالوا: إنا رأينا قوما أنكرناهم، والرأي أن نقتلهم، فإن كانوا خوارج استرحنا منهم، وإن كانوا يريدونكم عرفتم ذلك فاستعددتم على أمرهم فنهوهم عن قتلهم، فطافوا، فلما كان في السحر وقد انتقل يوسف وصار إلى دور ثقيف، فمر بهم العاس، فقال: ما أنتم؟ فقالوا: سفار، قَالَ: فأين تريدون؟ قالوا: بعض المواضع، فأتوا طارقا وأصحابه، فقالوا: قد صاروا إلى دور ثقيف والرأي أن نقتلهم، فمنعوهم وأمر يوسف بعض الثقفيين، فقال: اجمع لي من بها من مضر ففعل، فدخل المسجد مع

الفجر، فأمر المؤذن بالإقامة، فقال: حتى يأتي الامام، فانتهره فأقام، وتقدم يوسف فقرأ: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، وسَأَلَ سائِلٌ، ثم أرسل إلى خالد وطارق وأصحابهما، فأخذوا وان القدور لتغلي. قَالَ عمر: قَالَ علي بْن محمد، قَالَ: قَالَ الربيع بْن سابور مولى بني الحريش- وكان هشام جعل إليه الخاتم مع الحرس: اتى هشاما كتاب خالد فغاظه، وقدم عليه في ذلك اليوم جندب مولى يوسف بْن عمر بكتاب يوسف، فقرأه ثم قَالَ لسالم مولى عنبسة بْن عبد الملك: أجبه عن لسانك، وكتب هو بخطه كتابا صغيرا، ثم قَالَ لي: ائتني بكتاب سالم- وكان سالم على الديوان- فأتيته به، فأدرج فيه الكتاب الصغير، ثم قَالَ لي: اختمه ففعلت، ثم دعا برسول يوسف، فقال: إن صاحبك لمتعد طوره، ويسأل فوق قدره، ثم قَالَ لي: مزق ثيابه ثم أمر به فضرب أسواطا، فقال: أخرجه عني وادفع إليه كتابه فدفعت إليه الكتاب، وقلت له: ويلك! النجاء! فارتاب بشير بْن أبي ثلجة من أهل الأردن، وكان خليفة سالم وقال: هذه حيلة، وقد ولى يوسف العراق، فكتب إلى عامل لسالم على أجمة سالم، يقال له عياض: إن أهلك قد بعثوا إليك بالثوب اليماني، فإذا أتاك فالبسه واحمد الله، وأعلم ذلك طارقا فبعث عياض إلى طارق بْن أبي زياد بالكتاب، وندم بشير على كتابه، وكتب إلى عياض: إن أهلك قد بدا لهم في إمساك الثوب فلا تتكل عليه، فجاء عياض بالكتاب الآخر إلى طارق، فقال طارق: الخبر في الكتاب الأول، ولكن صاحبك ندم وخاف أن يظهر الخبر فكتب بهذا وركب طارق من الكوفة إلى خالد وهو بواسط، فسار يوما وليلة، فصبحهم، فرآه داود البربري- وكان على حجابة خالد وحرسه وعلى ديوان الرسائل- فأعلم خالدا، فغضب، وقال: قدم بغير إذن، فأذن له، فلما رآه قَالَ: ما أقدمك؟ قَالَ: أمر كنت أخطأت فيه، قَالَ: وما هو؟ قَالَ: وفاة أسد رحمه الله، كتبت إلى الأمير أعزيه عنه، وإنما كان ينبغي لي أن آتيه ماشيا فرق خالد ودمعت عيناه، وقال: ارجع إلى عملك،

قَالَ: أردت أن أذكر للأمير أمرا أسره، قَالَ: ما دون داود سر، قَالَ: أمر من أمري، فغضب داود وخرج، وأخبر طارق خالدا، قَالَ: فما الرأي؟ قَالَ: تركب إلى أمير المؤمنين فتعتذر إليه من شيء إن كان بلغه عنك قَالَ: فبئس الرجل أنا إذا إن ركبت إليه بغير إذنه، قَالَ: فشيء آخر، قَالَ: وما هو؟ قَالَ: تسير في عملك، وأتقدمك إلى الشام، فأستأذنه لك، فإنك لا تبلغ أقصى عملك حتى يأتيك إذنه، قَالَ: ولا هذا، قَالَ: فأذهب فأضمن لأمير المؤمنين جميع ما انكسر في هذه السنين وآتيك بعهدك مستقبلا، قَالَ: وما يبلغ ذاك؟ قَالَ: مائة ألف ألف، قَالَ: ومن أين آخذ هذا! والله ما أجد عشرة آلاف درهم، قَالَ: أتحمل أنا وسعيد بْن راشد أربعين ألف ألف درهم، والزينبي وأبان بْن الوليد عشرين ألف ألف، وتفرق الباقي على العمال، قَالَ: إني إذا للئيم، إن كنت سوغت قوما شيئا ثم أرجع فيه، فقال طارق: إنما نقيك ونقي أنفسنا بأموالنا ونستأنف الدنيا، وتبقى النعمة عليك وعلينا خير من أن يجيء من يطالبنا بالأموال، وهي عند تجار أهل الكوفة، فيتقاعسون ويتربصون بنا فنقتل، ويأكلون تلك الأموال فأبى خالد فودعه طارق وبكى، وقال: هذا آخر ما نلتقي في الدنيا، ومضى. ودخل داود، فأخبره خالد بقول طارق، فقال: قد علم أنك لا تخرج بغير إذن، فأراد أن يختلك ويأتي الشام، فيتقبل بالعراق هو وابن أخيه سعيد بْن راشد فرجع طارق إلى الكوفة، وخرج خالد الى الحمه. قال: وقدم رسول يوسف عليه اليمن، فقال له: ما وراءك؟ قَالَ: الشر، أمير المؤمنين ساخط، وقد ضربني ولم يكتب جواب كتابك، وهذا كتاب سالم صاحب الديوان ففض الكتاب فقرأه، فلما انتهى إلى آخره قرأ كتاب هشام بخطه: أن سر إلى العراق فقد وليتك إياه، وإياك أن يعلم بذاك أحد، وخذ ابن النصرانية وعماله فاشفني منهم، فقال يوسف: انظروا

دليلا عالما بالطريق، فأتى بعدة، فاختار منهم رجلا وسار من يومه، واستخلف على اليمن ابنه الصلت فشيعه، فلما أراد أن ينصرف سأله: أين تريد؟ فضربه مائة سوط، وقال: يا بن اللخناء، أيخفى عليك إذا استقر بي منزل، فسار، فكان إذا اتى إلى طريقين سأل، فإذا قيل: هذا إلى العراق، قَالَ: أعرق، حتى أتى الكوفة قَالَ عمر: قَالَ علي عن بشر بْن عيسى، عن أبيه، قَالَ: قَالَ حسان النبطي: هيأت لهشام طيبا، فإني لبين يديه وهو ينظر إلى ذلك الطيب إذ قَالَ لي: يا حسان، في كم يقدم القادم من العراق إلى اليمن؟ قَالَ: قلت: لا أدري، فقال: أمرتك أمرا حازما فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادما قَالَ: فلم يلبث إلا قليلا حتى جاء كتاب يوسف من العراق قد قدمها، وذلك في جمادى الآخرة سنة عشرين ومائة. قَالَ عمر: قَالَ علي: قَالَ سالم زنبيل: لما صرنا إلى النجف قَالَ لي يوسف: انطلق فاتنى بطارق، فلم أستطع أن آبي عليه، وقلت في نفسي: من لي بطارق في سلطانه! ثم أتيت الكوفة، فقلت لغلمان طارق: استأذنوا لي على طارق، فضربوني فصحت له: ويلك يا طارق! أنا سالم رسول يوسف، وقد قدم على العراق فخرج فصاح بالغلمان، وقال: أنا آتيه، قَالَ: وروي أن يوسف قَالَ لكيسان: انطلق فاتنى بطارق، فإن كان قد أقبل فاحمله على أكاف، وإن لم يكن أقبل فأت به سحبا قَالَ: فأتيته بالحيرة دار عبد المسيح- وهو سيد أهل الحيرة- فقلت له: إن يوسف قد قدم على العراق، وهو يأمرك أن تشد طارقا وتأتيه به، فخرج هو وولده وغلمانه حتى أتوا منزل طارق- وكان لطارق غلام شجاع معه غلمان شجعاء لهم سلاح وعدة- فقال لطارق: إن أذنت لي خرجت إلى هؤلاء فيمن معي فقتلتهم، ثم طرت على وجهك فذهبت حيث شئت قَالَ: فأذن لكيسان، فقال: أخبرني عن الأمير، يريد المال؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فأنا أعطيه ما سأل، وأقبلوا إلى يوسف فتوافوا بالحيرة، فلما عاينه ضربه ضربا مبرحا

- يقال خمسمائة سوط- ودخل الكوفة، وأرسل عطاء بْن مقدم إلى خالد بالحمة. قَالَ عطاء: فأتيت الحاجب فقلت: استأذن لي على أبي الهيثم، فدخل وهو متغير الوجه فقال له خالد: مالك؟ قَالَ: خير، قَالَ: ما عندك خير، قَالَ: عطاء بْن مقدم، قَالَ: استأذن لي على أبي الهيثم، فقال: ائذن له، فدخلت: فقال: ويل أمها سخطة! قَالَ: فلم أستقر حتى دخل الحكم بْن الصلت، فقعد معه، فقال له خالد: ما كان ليلي علي أحد هو أحب إلي منكم. وخطب يوسف بالكوفة، فقال: إن أمير المؤمنين أمرني بأخذ عمال ابْن النصرانية، وأن أشفيه منهم، وسأفعل وأزيد والله يا أهل العراق، ولأقتلن منافقيكم بالسيف وجناتكم بالعذاب وفساقكم ثم نزل ومضى إلى واسط، وأتي بخالد وهو بواسط. قَالَ عمر: قَالَ حدثني الحكم بْن النضر: قَالَ: سمعت أبا عبيدة يقول: لما حبس يوسف خالدا صالحه عنه أبان بْن الوليد وأصحابه على تسعة آلاف ألف درهم، ثم ندم يوسف، وقيل له: لو لم تفعل لأخذت منه مائة ألف ألف درهم قَالَ: ما كنت لأرجع وقد رهنت لساني بشيء وأخبر أصحاب خالد خالدا، فقال: قد أسأتم حين أعطيتموه عند أول وهلة تسعة آلاف ألف، ما آمن أن يأخذها ثم يعود عليكم، فارجعوا فجاءوا فقالوا: إنا قد أخبرنا خالدا فلم يرض بما ضمنا، وأخبرنا أن المال لا يمكنه، فقال: أنتم أعلم وصاحبكم، فأما أنا فلا أرجع عليكم، فإن رجعتم لم أمنعكم، قالوا: فإنا قد رجعنا، قَالَ: وقد فعلتم! قالوا: نعم، قال: فمنكم اتى النقض، فو الله لا ارضى بتسعه آلاف الف ولا مثليها ولا مثلها، فأخذ أكثر من ذلك. وقد قيل: إنه أخذ مائة ألف ألف وذكر الهيثم بْن عدي، عن ابن عياش ان، هشاما ما أزمع على عزل خالد، وكان سبب ذلك انه اعتقد بالعراق أموالا وحفر أنهارا، حتى بلغت

غلته عشرين ألف ألف، منها نهر خالد، وكان يغل خمسة آلاف ألف وباجوي وبارمانا والمبارك والجامع وكورة سابور والصلح، وكان كثيرا ما يقول: إنني والله مظلوم، ما تحت قدمي من شيء إلا وهو لي- يعني أن عمر جعل لبجيلة ربع السواد. قَالَ الهيثم بْن عدي: أخبرني الحسن بْن عمارة، عن العريان بْن الهيثم، قَالَ: كنت كثيرا ما أقول لأصحابي: إني أحسب هذا الرجل قد تخلى منه، أن قريشا لا تحتمل هذا ونحوه، وهم أهل حسد، وهذا يظهر ما يظهر، فقلت له يوما: أيها الأمير، إن الناس قد رموك بأبصارهم، وهي قريش، وليس بينك وبينها إل، وهم يجدون منك بدا، وأنت لا تجد منهم بدا، فأنشدك الله إلا ما كتبت إلى هشام تخبره عن أموالك، وتعرض عليه منها ما أحب، فما أقدرك على أن تتخذ مثلها، وهو لا يستفسدك، وإن كان حريصا على ذلك فلعمري لأن يذهب بعض ويبقى بعض خير من أن تذهب كلها، وما كان يستحسن فيما بينك وبينه أن يأخذها كلها، ولا آمن أن يأتيه باغ أو حاسد فيقبل منه، فلأن تعطيه طائعا خير من أن تعطيه كارها فقال: ما أنت بمتهم، ولا يكون ذلك أبدا قَالَ: فقلت أطعني واجعلني رسولك، فو الله لا يحل عقدة إلا شددتها، ولا يشد عقدة إلا حللتها قَالَ: إنا والله لا نعطي على الذل، قَالَ: قلت: هل كانت لك هذه الضياع إلا في سلطانه! وهل تستطيع الامتناع منه إن أخذها! قَالَ: لا، قلت: فبادره، فإنه يحفظها لك ويشكرك عليها، ولو لم تكن له عندك يد إلا ما ابتدأك به كنت جديرا أن تحفظه، قَالَ: لا والله لا يكون ذلك أبدا، قَالَ: قلت فما كنت صانعا إذا عزلك وأخذ ضياعك فاصنعه، فإن إخوته وولده وأهل بيته قد سبقوا لك، وأكثروا عليه فيك، ولك صنائع تعود عليهم بما بدا لك، ثم استدرك استتمام ما كان منك إلى صنائعك من هشام قَالَ: قد أبصرت ما تقول وليس إلى ذلك سبيل وكان العريان يقول: كأنكم به قد عزل، وأخذ ما له

وتجنى عليه ثم لا ينتفع بشيء قَالَ: فكان كذلك. قَالَ الهيثم: وحدثني ابن عياش، أن بلال بْن أبي بردة كتب إلى خالد وهو عامله على البصرة حين بلغه تعتب هشام عليه: أنه حدث أمر لا أجد بدا من مشافهتك فيه، فإن رأيت أن تأذن لي، فإنما هي ليلة ويومها إليك، ويوم عندك، وليلة ويومها منصرفا فكتب إليه: أن أقبل إذا شئت فركب هو وموليان له الجمازات، فسار يوما وليلة، ثم صلى المغرب بالكوفة، وهي ثمانون فرسخا، فأخبر خالد بمكانه، فأتاه وقد تعصب، فقال: أبا عمرو، أتعبت نفسك، قَالَ: أجل، قَالَ: متى عهدك بالبصرة؟ قَالَ: أمس، قَالَ: أحق ما تقول! قَالَ: هو والله ما قلت، قَالَ: فما أنصبك؟ قَالَ: ما بلغني من تعتب أمير المؤمنين وقوله، وما بغاك به ولده واهل بيته، فان رايت ان أتعرض له وأعرض عليه بعض أموالنا، ثم ندعوه منها إلى ما أحب وأنفسنا به طيبة، ثم أعرض عليه مالك، فما أخذ منه فعلينا العوض منه بعد قَالَ: ما اتهمك وحتى أنظر، قَالَ: إني أخاف أن تعاجل، قَالَ: كلا، قَالَ: إن قريشا من قد عرفت، ولا سيما سرعتهم إليك قَالَ: يا بلال، إني والله ما أعطي شيئا قسرا أبدا قَالَ أيها الأمير، أتكلم؟ قَالَ: نعم، قَالَ: إن هشاما أعذر منك، يقول: استعملتك. وليس لك شيء، فلم تر من الحق عليك أن تعرض علي بعض ما صار إليك، وأخاف أن يزين له حسان النبطي ما لا تستطيع إدراكه، فاغتنم هذه الفترة. قَالَ: أنا ناظر في ذلك فانصرف راشدا فانصرف بلال وهو يقول: كأنكم بهذا الرجل قد بعث إليه رجل بعيد أتى، به حمز، بغيض النفس سخيف الدين، قليل الحياء، يأخذه بالاحن والترات فكان كما قَالَ. قَالَ ابن عياش: وكان بلال قد اتخذ دارا بالكوفة، وإنما استأذن خالدا لينظر إلى داره، فما نزلها إلا مقيدا، ثم جعلت سجنا إلى اليوم

أخبار متفرقة

قَالَ ابن عياش: كان خالد يخطب فيقول: إنكم زعمتم أني أغلي أسعاركم، فعلى من يغليها لعنة الله! وكان هشام كتب إلى خالد لا تبيعن من الغلات شيئا حتى تباع غلات أمير المؤمنين حتى بلغت كيلجة درهما. قَالَ الهيثم، عن ابن عياش: كانت ولاية خالد في شوال سنة خمس ومائة ثم عزل في جمادى الأولى سنة عشرين ومائه . [أخبار متفرقة] وفي هذه السنة قدم يوسف بْن عمر العراق واليا عليها. وقد ذكرت قبل سبب ولايته عليها وفي هذه السنة ولى خراسان يوسف بْن عمر جديع بْن علي الكرماني وعزل جعفر بْن حنظلة. وقيل: إن يوسف لما قدم العراق أراد أن يولي خراسان سلم بْن قتيبة، فكتب بذلك إلى هشام، ويستأذنه فيه، فكتب إليه هشام: إن سلم بْن قتيبة رجل ليس له بخراسان عشيرة، ولو كان له بها عشيرة لم يقتل بها أبوه. وقيل إن يوسف كتب إلى الكرماني بولاية خراسان مع رجل من بني سليم وهو بمرو، فخرج إلى الناس يخطبهم، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر أسدا وقدومه خراسان، وما كانوا فيه من الجهد والفتنة، وما صنع لهم على يديه ثم ذكر أخاه خالدا بالجميل، وأثنى عليه، وذكر قدوم يوسف العراق، وحث الناس على الطاعة ولزوم الجماعة، ثم قَالَ: غفر الله للميت- يعني أسدا- وعافى الله المعزول، وبارك للقادم ثم نزل. وفي هذه السنة عزل الكرماني عن خراسان، ووليها نصر بْن سيار بْن ليث بْن رافع بْن ربيعة بْن جري بْن عوف بْن عامر بْن جندع بْن ليث بْن بكر بْن عبد مناة بْن كنانة، وأمه زينب بنت حسان من بني تغلب. ذكر الخبر عن سبب ولاية نصر بْن سيار خراسان ذكر علي بْن محمد عن شيوخه أن وفاة أسد بْن عبد الله لما انتهت إلى

هشام بْن عبد الملك استشار أصحابه في رجل يصلح لخراسان، فأشاروا عليه بأقوام، وكتبوا له أسماءهم، فكان ممن كتب له عثمان بْن عبد الله بْن الشخير ويحيى بْن حضين بْن المنذر الرقاشي ونصر بْن سيار الليثي وقطن بْن قتيبة بْن مسلم والمجشر بْن مزاحم السلمي أحد بني حرام، فأما عثمان بن عبد الله ابن الشخير، فقيل له: إنه صاحب شراب، وقيل له: المجشر شيخ هم، وقيل له: ابن حضين رجل فيه تيه وعظمة، وقيل له: قطن بْن قتيبة موتور، فاختار نصر بن سيار، فقيل له: ليست له بها عشيرة، فقال هشام: أنا عشيرته فولاه وبعث بعهده مع عبد الكريم بْن سليط بْن عقبة الهفاني، هفان بْن عدي بْن حنيفة فأقبل عبد الكريم بعهده، ومعه أبو المهند كاتبه مولى بني حنيفة، فلما قدم سرخس ولا يعلم به أحد، وعلى سرخس حفص بْن عمر بْن عباد التيمي أخو تميم بْن عمر، فأخبره أبو المهند، فوجه حفص رسولا، فحمله إلى نصر، ونفذ ابن سليط إلى مرو، فأخبر أبو المهند الكرماني، فوجه الكرماني نصر بن حبيب بْن بحر بْن ماسك بْن عمر الكرماني إلى نصر بْن سيار، فسبق رسول حفص إلى نصر بْن سيار، فكان أول من سلم عليه بالإمرة، فقال له نصر: لعلك شاعر مكار! فدفع إليه الكتاب وكان جعفر بْن حنظلة ولى عمرو بْن مسلم مرو، وعزل الكرماني وولى منصور بْن عمر أبرشهر، وولى نصر بْن سيار بخارى، فقال جعفر ابن حنظلة: دعوت نصرا قبل أن يأتيه عهده بأيام، فعرضت عليه أن أوليه بخارى، فشاور البختري بْن مجاهد، فقال له البختري، وهو مولى بني شيبان: لا تقبلها، قَالَ: ولم؟ قَالَ: لأنك شيخ مضر بخراسان، فكأنك بعهدك قد جاء على خراسان كلها، فلما أتاه عهده بعث إلي البختري فقال البختري لأصحابه: قد ولي نصر بْن سيار خراسان، فلما أتاه سلم عليه بالإمرة، فقال له: إني علمت؟ قَالَ: لما بعثت إلي، وكنت قبل ذلك تأتيني، علمت أنك قد وليت. قَالَ: وقد قيل إن هشاما قَالَ لعبد الكريم حين أتاه خبر أسد بْن عبد الله بموته: من ترى أن نولي خراسان، فقد بلغني أن لك بها وبأهلها علما؟

قَالَ عبد الكريم: قلت: يا أمير المؤمنين، أما رجل خراسان حزما ونجدة فالكرماني، فأعرض بوجهه، وقال: ما اسمه؟ قلت: جديع بْن علي، قَالَ: لا حاجة لي فيه، وتطير، وقال: سم لي غيره، قلت: اللسن المجرب يحيى بْن نعيم بْن هبيرة الشيباني أبو الميلاء، قَالَ: ربيعة لا تسد بها الثغور- قَالَ عبد الكريم: فقلت في نفسي: كره ربيعة واليمن، فأرميه بمضر- فقلت: عقيل بْن معقل الليثي، إن اغتفرت هنة، قَالَ: ما هي؟ قلت: ليس بالعفيف، قَالَ: لا حاجة لي به، قلت: منصور بْن أبي الخرقاء السلمي، إن اغتفرت نكرة فإنه مشئوم، قَالَ: غيره، قلت: المجشر بْن مزاحم السلمي، عاقل شجاع، له رأي مع كذب فيه، قَالَ: لا خير في الكذب، قلت: يحيى بْن حضين، قَالَ: ألم أخبرك أن ربيعة لا تسد بها الثغور! قَالَ: فكان إذا ذكرت له ربيعة، واليمن أعرض قَالَ عبد الكريم: وأخرت نصرا وهو أرجل القوم وأحزمهم وأعلمهم بالسياسة، فقلت: نصر بْن سيار الليثي، قَالَ: هو لها، قلت: إن اغتفرت واحدة، فإنه عفيف مجرب عاقل، قَالَ: ما هي؟ قلت: عشيرته بها قليلة، قَالَ: لا أبا لك، أتريد عشيرة أكثر مني! أنا عشيرته. وقال آخرون: لما قدم يوسف بْن عمر العراق قال: أشيروا على برجل اوله خراسان، فأشاروا عليه بمسلمة بْن سليمان بْن عبد الله ابن خازم وقديد بْن منيع المنقري ونصر بْن سيار وعمرو بْن مسلم ومسلم بْن عبد الرحمن بْن مسلم ومنصور بْن أبي الخرقاء وسلم بْن قتيبة ويونس بْن عبد ربه وزياد بْن عبد الرحمن القشيري، فكتب يوسف بأسمائهم إلى هشام، وأطرى القيسية، وجعل آخر من كتب اسمه نصر بْن سيار الكناني، فقال هشام: ما بال الكناني آخرهم! وكان في كتاب يوسف إليه: يا أمير المؤمنين، نصر بخراسان قليل العشيرة فكتب إليه هشام: قد فهمت كتابك وإطراءك القيسية وذكرت نصرا وقلة عشيرته، فكيف يقل من أنا عشيرته! ولكنك تقيست علي، وأنا متخندف عليك، ابعث بعهد نصر، فلم يقل من عشيرته

أمير المؤمنين، بله ما إن تميما أكثر أهل خراسان فكتب إلى نصر أن يكاتب يوسف بْن عمر، وبعث يوسف سلما وافدا إلى هشام، وأثنى عليه فلم يوله، ثم أوفد شريك بْن عبد ربه النميري، وأثنى عليه ليوليه خراسان، فأبى عليه هشام. قَالَ: وأوفد نصر من خراسان الحكم بْن يزيد بْن عمير الأسدي إلى هشام، وأثنى عليه نصر، فضربه يوسف ومنعه من الخروج إلى خراسان، فلما قدم يزيد بْن عمر بْن هبيرة استعمل الحكم بْن يزيد على كرمان، وبعث بعهد نصر مع عبد الكريم الحنفي- ومعه كاتبه أبو المهند مولى بني حنيفة- فلما أتى سرخس وقع الثلج، فأقام ونزل على حفص بْن عمر بْن عباد التيمي، فقال له: قدمت بعهد نصر على خراسان، قَالَ: وهو عامل يومئذ على سرخس- فدعا حفص غلامه، فحمله على فرس وأعطاه مالا، وقال له: طر واقتل الفرس، فإن قام عليك فاشتر غيره حتى تأتي نصرا قَالَ: فخرج الغلام حتى قدم على نصر ببلخ، فيجده في السوق، فدفع إليه الكتاب، فقال: أتدري ما في هذا الكتاب؟ قَالَ: لا، فأمسكه بيده، وأتى منزله، فقال الناس: أتى نصرا عهده على خراسان، فأتاه قوم من خاصته، فسألوه فقال: ما جاءني شيء، فمكث يومه، فدخل عليه من الغد أبو حفص بْن علي، أحد بني حنظلة- وهو صهره، وكانت ابنته تحت نصر، وكان أهوج كثير المال، فقال له: إن الناس قد خاضوا وأكثروا في ولايتك، فهل جاءك شيء؟ فقال: ما جاءني شيء، فقام ليخرج فقال: مكانك، وأقرأه الكتاب، فقال: ما كان حفص ليكتب إليك إلا بحق، قَالَ: فبينا هو يكلمه إذ استأذن عليه عبد الكريم، فدفع إليه عهده، فوصله بعشرة آلاف درهم ثم استعمل نصر على بلخ مسلم بْن عبد الرحمن بن مسلم، واستعمل وشاح ابن بكير بْن وشاح على مرو الروذ، والحارث بْن عبد الله بْن الحشرج على هراة، وزياد بْن عبد الرحمن القشيري على أبرشهر، وأبا حفص بْن علي ختنه على خوارزم، وقطن بْن قتيبة على السغد فقال رجل من أهل الشام من اليمانية: ما رأيت عصبية مثل هذه! قَالَ: بلى، التي كانت قبل هذه

فلم يستعمل أربع سنين إلا مضريا، وعمرت خراسان عمارة لم تعمر قبل ذلك مثلها، ووضع الخراج، وأحسن الولاية والجباية، فقال سوار بْن الأشعر: أضحت خراسان بعد الخوف آمنة ... من ظلم كل غشوم الحكم جبار لما أتى يوسفا أخبار ما لقيت ... اختار نصرا لها، نصر بْن سيار وقال نصر بْن سيار فيمن كره ولايته: تعز عن الصبابة لا تلام ... كذلك لا يلم بك احتمام أإن سخطت كبيرة بعد قرب ... كلفت بها وباشرك السقام! ترجى اليوم ما وعدت حديثا ... وقد كذبت مواعدها الكرام ألم تر ان ما صنع الغواني ... عسير لا يريع به الكلام أبت لي طاعتي وأبى بلائي ... وفوزي حين يعترك الخصام وإنا لا نضيع لنا ملما ... ولا حسبا إذا ضاع الذمام ولا نغضي على غدر وإنا ... نقيم على الوفاء فلا نلام خليفتنا الذي فازت يداه ... بقدح الحمد والملك الهمام نسوسهم به ولنا عليهم ... إذا قلنا مكارمه جسام أبو العاصي أبوه وعبد ... شمس وحرب والقماقمة الكرام ومروان أبو الخلفاء عال ... عليه المجد فهو لهم نظام وبيت خليفة الرحمن فينا ... وبيتاه المقدس والحرام ونحن الأكرمون إذا نسبنا ... وعرنين البرية والسنام فأمسينا لنا من كل حي ... خراطيم البرية والزمام لنا أيد نريش بها ونبري ... وأيد في بوادرها السمام وبأس في الكريهة حين نلقى ... إذا كان النذير بها الحسام

قال: وأتى نصرا عهده في رجب من سنة عشرين ومائة، وقال له البختري: اقرأ عهدك واخطب الناس، فخطب الناس فقال في خطبته: استمسكوا أصحابنا بجدتكم، فقد عرفنا خيركم وشركم. وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن هشام بْن إسماعيل، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وقد قيل: إن الذي حج بهم فيها سليمان بْن هشام. وقيل: حج بهم يزيد بْن هشام. وَكَانَ العامل فِي هَذِهِ السنة عَلَى الْمَدِينَة ومكة والطائف محمد بْن هشام، وعلى العراق والمشرق كله يوسف بْن عمر، وعلى خراسان نصر بْن سيار- وقيل جعفر بْن حنظلة- وعلى البصرة كثير بْن عبد الله السلمي من قبل يوسف بْن عمر، وعلى قضائها عامر بْن عبيدة الباهلي، وعلى أرمينية وأذربيجان مروان بْن محمد، وعلى قضاء الكوفة ابن شبرمة.

سنه احدى وعشرين ومائه

ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك غزوة مسلمة بْن هشام بْن عبد الملك الروم، فافتتح بها مطامير. وغزوة مروان بْن محمد بلاد صاحب سرير الذهب، فافتتح قلاعه وخرب أرضه، وأذعن له بالجزية، في كل سنة ألف رأس يؤديه إليه، وأخذ منه بذلك الرهن، وملكه مروان على أرضه. وفيها ولد العباس بن محمد. ذكر الخبر عن ظهور زيد بن على وفيها قتل زيد بْن علي بْن حسين بْن علي بْن أبي طالب في قول الواقدي في صفر، وأما هشام بْن محمد فانه زعانه قتل في سنة اثنتين وعشرين ومائة، في صفر منها. ذكر الخبر عن سبب مقتله وأموره وسبب مخرجه: اختلف في سبب خروجه، فأما الهيثم بْن عدي فإنه قَالَ- فيما ذكر عنه، عن عبد الله بْن عياش- قَالَ: قدم زيد بْن علي ومحمد بْن عمر بْن علي بْن أبي طالب وداود بن عَلِيّ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس على خالد بْن عبد الله وهو على العراق، فأجازهم ورجعوا إلى المدينة، فلما ولي بن يوسف بْن عمر كتب إلى هشام بأسمائهم وبما أجازهم به، وكتب يذكر أن خالدا ابتاع من زيد بْن علي أرضا بالمدينة بعشرة آلاف دينار، ثم رد الأرض عليه فكتب هشام إلى عامل المدينة أن يسرحهم إليه ففعل، فسألهم هشام فأقروا بالجائزة، وأنكروا ما سوى ذلك، فسأل زيدا عن الأرض فأنكرها، وحلفوا لهشام فصدقهم. وأما هِشَام بْن مُحَمَّد الكلبي، فإنه ذكر أن أبا مخنف حدثه أن أول أمر زيد بْن علي كان أن يزيد بْن خالد القسري ادعى مالا قبل زيد بْن علي ومحمد بْن عمر بْن علي بْن أبي طالب وداود بْن علي بْن عبد الله بْن العباس ابن عبد المطلب وإبراهيم بْن سعد بْن عبد الرحمن بْن عوف الزهري وأيوب بْن

سلمة بْن عبد الله بْن الوليد بْن المغيرة المخزومي، فكتب فيهم يوسف بْن عمر إلى هشام بْن عبد الملك- وزيد بْن على يومئذ بالرصافة يخاصم بنى الحسن ابن الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي صدقه رسول الله ص، ومحمد بْن عمر بْن علي يومئذ مع زيد بْن علي- فلما قدمت كتب يوسف ابن عمر على هشام بْن عبد الملك بعث إليهم فذكر لهم ما كتب به يوسف ابن عمر إليه مما ادعى قبلهم يزيد بْن خالد، فأنكروا، فقال لهم هشام: فإنا باعثون بكم اليه يجمع بينكم وبينه، فقال له زيد بْن علي: أنشدك الله والرحم أن تبعث بي إلى يوسف بْن عمر! قَالَ: وما الذي تخاف من يوسف بْن عمر؟ قَالَ: أخاف أن يعتدي علي، قَالَ له هشام: ليس ذلك له، ودعا هشام كاتبه فكتب إلى يوسف بْن عمر: أما بعد، فإذا قدم عليك فلان وفلان، فاجمع بينهم وبين يزيد بْن خالد القسري، فإن هم أقروا بما ادعى عليهم فسرح بهم إلي، وإن هم أنكروا فسله بينة، فإن هو لم يقم البينة فاستحلفهم بعد العصر بالله الذي لا إله إلا هو، ما استودعهم يزيد بْن خالد القسري وديعة ولا له قبلهم، شيء! ثم خل سبيلهم. فقالوا لهشام: إنا نخاف أن يتعدى كتابك، ويطول علينا، قَالَ: كلا، أنا باعث معكم رجلا من الحرس يأخذه بذلك، حتى يعجل الفراغ، فقالوا: جزاك الله والرحم خيرا، لقد حكمت بالعدل فسرح بهم إلى يوسف، واحتبس أيوب بْن سلمة، لأن أم هشام بْن عبد الملك ابنه هشام ابن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي، وهو في أخواله، فلم يؤخذ بشيء من ذلك القرف. فلما قدموا على يوسف، ادخلوا عليه، فأجلس زيد بْن علي قريبا منه، وألطفه في المسألة، ثم سألهم عن المال، فأنكروا جميعا، وقالوا: لم يستودعنا مالا، ولا له قبلنا حق، فأخرج يوسف يزيد بْن خالد إليهم، فجمع بينه وبينهم، وقال له: هذا زيد بْن علي، وهذا محمد بْن عمر بْن علي،

وهذا فلان وفلان الذين كنت ادعيت عليهم ما ادعيت، فقال: ما لي قبلهم قليل ولا كثير، فقال يوسف: أفبي تهزأ أم بأمير المؤمنين! فعذبه يومئذ عذابا ظن أنه قد قتله، ثم أخرجهم إلى المسجد بعد صلاة العصر، فاستحلفهم فحلفوا له، وامر بالقوم فبسط عليهم، ما عدا زيد بْن علي فإنه كف عنه فلم يقتدر عند القوم على شيء فكتب إلى هشام يعلمه الحال، فكتب إليه هشام: أن استحلفهم، وخل سبيلهم، فخلى عنهم فخرجوا فلحقوا بالمدينة، وأقام زيد بْن علي بالكوفة. وذكر عبيد بْن جناد، عن عطاء بْن مسلم الخفاف أن زيد بْن علي رأى في منامه أنه أضرم في العراق نارا، ثم أطفأها ثم مات فهالته، فقال لابنه يحيى: يا بني، إني رأيت رؤيا قد راعتني، فقصها عليه وجاءه كتاب هشام بْن عبد الملك بأمره بالقدوم عليه، فقدم، فقال له: الحق بأميرك يوسف، فقال له: نشدتك بالله يا أمير المؤمنين، فو الله ما آمن إن بعثتني إليه ألا أجتمع أنا وأنت حيين على ظهر الأرض بعدها، فقال: الحق بيوسف كما تؤمر، فقدم عليه. وقد قيل: إن هشام بْن عبد الملك إنما استقدم زيدا من المدينة عن كتاب يوسف بْن عمر، وكان السبب في ذلك- فيما زعم أبو عبيدة- أن يوسف بْن عمر عذب خالد بْن عبد الله، فادعى خالد أنه استودع زيد بْن علي وداود بن على ابن عبد الله بْن عباس ورجلين من قريش: أحدهما مخزومي والآخر جمحي مالا عظيما، فكتب بذلك يوسف إلى هشام، فكتب هشام إلى خاله ابراهيم ابن هشام- وهو عامله على المدينة- يأمره بحملهم إليه فدعا إبراهيم بْن هشام زيدا وداود، فسألهما عما ذكر خالد، فحلفا ما أودعهما خالد شيئا، فقال: إنكما عندي لصادقان، ولكن كتاب أمير المؤمنين قد جاء بما تريان، فلا بد من إنفاذه فحملهما إلى الشام، فحلفا بالأيمان الغلاظ ما أودعهما خالد شيئا قط وقال داود: كنت قدمت عليه العراق، فأمر لي بمائة ألف

درهم، فقال هشام: أنتما عندي أصدق من ابن النصرانية، فأقدما على يوسف، حتى يجمع بينكما وبينه فتكذباه في وجهه. وقيل: إن زيدا إنما قدم على هشام مخاصما ابن عمه عبد الله بْن حسن بْن حسن بْن علي، ذكر ذلك عن جويرية بْن أسماء، قَالَ: شهدت زيد بْن علي وجعفر بْن حسن بْن حسن يختصمان في ولاية وقوف علي، وكان زيد يخاصم عن بني حسين، وجعفر يخاصم عن بني حسن، فكان جعفر وزيد يتبالغان بين يدي الوالي إلى كل غاية، ثم يقومان فلا يعيدان مما كان بينهما حرفا، فلما مات جعفر قَالَ عبد الله: من يكفينا زيدا؟ قَالَ حسن بْن حسن بْن حسن: أنا أكفيكه، قَالَ: كلا، إنا نخاف لسانك ويدك، ولكني أنا، قَالَ: إذن لا تبلغ حاجتك وحجتك، قَالَ: أما حجتي فسأبلغها، فتنازعا إلى الوالي- والوالي يومئذ عندهم فيما قيل إبراهيم بْن هشام- قَالَ: فقال عبد الله لزيد: أتطمع أن تنالها وأنت لأمة سندية! قَالَ: قد كان إسماعيل لأمة، فنال أكثر منها، فسكت عبد الله، وتبالغا يومئذ كل غاية، فلما كان الغد أحضرهم الوالي، وأحضر قريشا والأنصار، فتنازعا، فاعترض رجل من الأنصار، فدخل بينهما، فقال له زيد: وما أنت والدخول بيننا، وأنت رجل من قحطان! قَالَ: أنا والله خير منك نفسا وأبا وأما. قَالَ: فسكت زيد، وانبرى له رجل من قريش فقال: كذبت، لعمر الله لهو خير منك نفسا وأبا وأما وأولا وآخرا، وفوق الأرض وتحتها، فقال الوالي: وما أنت وهذا! فأخذ القرشي كفا من الحصى، فضرب به الأرض وقال: والله ما على هذا من صبر، وفطن عبد الله وزيد لشماتة الوالي بهما، فذهب عبد الله ليتكلم، فطلب إليه زيد فسكت، وقال زيد للوالي: أما والله لقد جمعتنا لأمر ما كان أبو بكر ولا عمر ليجمعانا على مثله، وإني أشهد الله ألا أنازعه إليك محقا ولا مبطلا ما كنت حيا ثم قال لعبد الله: انهض يا بن عم، فنهضا وتفرق الناس. وقال بعضهم: لم يزل زيد ينازع جعفر بْن حسن ثم عبد الله بعده،

حتى ولى هشام بْن عبد الملك خالد بْن عبد الملك بْن الحارث بْن الحكم المدينة، فتنازعا، فأغلظ عبد الله لزيد، وقال: يا بن الهندكية! فتضاحك زيد، وقال: قد فعلتها يا أبا محمد! ثم ذكر أمه بشيء وذكر المدائني أن عبد الله لما قَالَ ذلك لزيد قَالَ زيد: أجل والله، لقد صبرت بعد وفاة سيدها فما تعتبت بابها إذ لم يصبر غيرها قَالَ: ثم ندم زيد واستحيا من عمته، فلم يدخل عليها زمانا، فاسلت اليه: يا بن أخي، إني لأعلم أن أمك عندك كأم عبد الله عنده. وقيل: إن فاطمة أرسلت إلى زيد: أن سب عبد الله أمك فاسبب أمه، وإنها قَالَت لعبد الله: أقلت لأم زيد كذا وكذا؟ قَالَ: نعم، قالت: فبئس والله ما صنعت! اما والله لنعم دخيلة القوم كانت! فذكر أن خالد بْن عبد الملك، قَالَ لهما: اغدوا علينا غدا، فلست لعبد الملك إن لم أفصل بينكما فباتت المدينة تغلي كالمرجل، يقول قائل: كذا وقائل كذا، قائل يقول قَالَ زيد كذا، وقائل يقول: قَالَ عبد الله كذا. فلما كان الغد جلس خالد في المجلس في المسجد، واجتمع الناس، فمن شامت ومن مهموم، فدعا بهما خالد، وهو يحب أن يتشاتما، فذهب عبد الله يتكلم، فقال زيد: لا تعجل يا أبا محمد، أعتق زيد ما يملك إن خاصمك إلى خالد أبدا، ثم أقبل على خالد فقال له: يا خالد، لقد جمعت ذرية رسول الله ص لأمر ما كان يجمعهم عليه أبو بكر ولا عمر، قَالَ خالد: أما لهذا السفيه أحد! فتكلم رجل من الأنصار من آل عمرو بن حزم، فقال: يا بن ابى تراب وابن حسين السفيه، ما ترى لوال عليك حقا ولا طاعة! فقال زيد: اسكت أيها القحطاني، فإنا لا نجيب مثلك، قَالَ: ولم ترغب عنى! فو الله إني لخير منك، وأبي خير من أبيك، وأمي خير من أمك! فتضاحك زيد، وقال: يا معشر قريش، هذا الدين قد ذهب، افذهبت الاحساب! فو الله إنه ليذهب دين القوم وما تذهب أحسابهم

فتكلم عبد الله بْن واقد بْن عبد الله بْن عمر بْن الخطاب، فقال: كذبت والله ايها القحطانى، فو الله لهو خير منك نفسا وأبا وأما ومحتدا، وتناوله بكلام كثير، قَالَ القحطاني: دعنا منك يا بن واقد، فأخذ ابن واقد كفا من حصى، فضرب بها الأرض، ثم قَالَ له: والله ما لنا على هذا صبر، وقام. وشخص زيد إلى هشام بْن عبد الملك، فجعل هشام لا يأذن له، فيرفع إليه القصص، فكلما رفع إليه قصة كتب هشام في أسفلها: ارجع إلى أميرك، فيقول زيد: والله لا أرجع إلى خالد أبدا، وما أسأل مالا، إنما أنا رجل مخاصم، ثم أذن له يوما بعد طول حبس. فذكر عمر بْن شبة، عن أيوب بْن عمر بْن ابى عمرو، قَالَ: حدثني محمد بْن عبد العزيز الزهري قَالَ: لما قدم زيد بْن علي على هشام بْن عبد الملك أعلمه حاجبه بمكانه، فرقي هشام إلى علية له طويلة، ثم أذن له، وأمر خادما أن يتبعه، وقال: لا يرينك، واسمع ما يقول قال: فاتعبته الدرجة- وكان بادنا- فوقف في بعضها، فقال: والله لا يحب الدنيا أحد إلا ذل، فلما صار إلى هشام قضى حوائجه، ثم مضى نحو الكوفة، ونسي هشام أن يسأل الخادم حتى مضى لذلك أيام، ثم سأله فأخبره، فالتفت إلى الأبرش فقال. والله ليأتينك خلعه أول شيء، وكان كما قَالَ وذكر عن زيد أنه حلف لهشام على أمر، فقال له: لا أصدقك، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله لم يرفع قدر أحد عن أن يرضى بالله، ولم يضع قدر أحد عن ألا يرضى بذلك منه، فقال له هشام: لقد بلغني يا زيد أنك تذكر الخلافة وتتمناها، ولست هناك وأنت ابن أمة! فقال زيد: إن لك يا أمير المؤمنين جوابا، قال: تكلم، قال: ليس أحد أولى بالله، ولا أرفع عنده منزلة من نبي ابتعثه، وقد كان إسماعيل من خير الأنبياء، وولد خيرهم محمدا ص، وكان إسماعيل ابن أمة وأخوه ابن صريحة مثلك، فاختاره الله عليه، وأخرج منه خير البشر، وما على أحد من

ذلك جده رسول الله ص ما كانت أمه أمه فقال له هشام: اخرج، قَالَ: أخرج ثم لا تراني إلا حيث تكره، فقال له سالم: يا أبا الحسين، لا يظهرن هذا منك. رجع الحديث إلى حديث هِشَام بْن مُحَمَّد الكلبي عن أبي مخنف قَالَ: فجعلت الشيعة تختلف إلى زيد بْن علي، وتأمره بالخروج، ويقولون: إنا لنرجو أن تكون المنصور، وأن يكون هذا الزمان الذي يهلك فيه بنو أمية. فأقام بالكوفة، فجعل يوسف بْن عمر يسأل عنه، فيقال: هو هاهنا، فيبعث إليه أن اشخص، فيقول: نعم، ويعتل له بالوجع فمكث ما شاء الله، ثم سأل أيضا عنه فقيل له: هو مقيم بالكوفة بعد لم يبرح، فبعث إليه، فاستحثه بالشخوص، فاعتل عليه بأشياء يبتاعها، وأخبره أنه في جهازه، ورأى جد يوسف في أمره فتهيأ، ثم شخص حتى أتى القادسية وقال بعض الناس: أرسل معه رسولا حتى بلغه العذيب، فلحقته الشيعة، فقالوا له: أين تذهب عنا ومعك مائة ألف رجل من أهل الكوفة، يضربون دونك بأسيافهم غدا وليس قبلك من أهل الشام إلا عدة قليلة، لو أن قبيلة من قبائلنا نحو مذحج أو همدان أو تميم أو بكر نصبت لهم لكفتكهم بإذن الله تعالى! فننشدك الله لما رجعت، فلم يزالوا به حتى ردوه إلى الكوفة وأما غير أبي مخنف، فإنه قَالَ ما ذكر عبيد بْن جناد، عن عطاء بْن مسلم، أن زيد بْن علي لما قدم على يوسف، قَالَ له يوسف: زعم خالد أنه قد أودعك مالا، قَالَ: أنى يودعني مالا وهو يشتم آبائي على منبره! فأرسل الى خالد، فاحضره في عباءه، فقال له: هذا زيد، زعمت أنك قد أودعته مالا، وقد أنكر، فنظر خالد في وجههما، ثم قَالَ: أتريد أن تجمع مع إثمك

في إثما في هذا! وكيف أودعه مالا وأنا أشتمه وأشتم آباءه على المنبر! قَالَ: فشتمه يوسف، ثم رده. وأما أبو عبيدة، فذكر عنه، أنه قَالَ: صدق هشام زيدا ومن كان يوسف قرفه بما قرفه به، ووجههم إلى يوسف، وقال: إنهم قد حلفوا لي، وقبلت أيمانهم وأبرأتهم من المال، وإنما وجهت بهم إليك لتجمع بينهم وبين خالد فيكذبوه قَالَ: ووصلهم هشام، فلما قدموا على يوسف أنزلهم وأكرمهم، وبعث إلى خالد فأتى به، فقال: قد حلف القوم، وهذا كتاب أمير المؤمنين ببراءتهم، فهل عندك بينة بما ادعيت؟ فلم تكن له بينة، فقال القوم لخالد: ما دعاك إلى ما صنعت؟ قَالَ: غلظ علي العذاب فادعيت ما ادعيت، وأملت أن يأتي الله بفرج قبل قدومكم فأطلقهم يوسف، فمضى القرشيان: الجمحي والمخزومي إلى المدينة، وتخلف الهاشميان: داود بن على وزيد ابن علي بالكوفة. وذكر أن زيدا أقام بالكوفة أربعة أشهر أو خمسة ويوسف يأمره بالخروج، ويكتب إلى عامله على الكوفة وهو يومئذ بالحيرة يأمره بإزعاج زيد، وزيد يذكر أنه ينازع بعض آل طلحة بْن عبيد الله في مال بينه وبينهم بالمدينة، فيكتب العامل بذلك إلى يوسف، فيقره أياما، ثم يبلغه أن الشيعة تختلف إليه، فيكتب إليه أن أخرجه ولا تؤخره، وإن ادعى أنه ينازع فليجر جرا، وليوكل من يقوم مقامه فيما يطالب به، وقد بايعه جماعة منهم سلمة بْن كهيل ونصر بْن خزيمة العبسي ومعاوية بْن إسحاق بْن زيد بْن حارثة الأنصاري وحجية بْن الأجلج الكندي وناس من وجوه أهل الكوفة، فلما راى ذلك داود ابن على قال له: يا بن عم، لا يغرنك هؤلاء من نفسك، ففي أهل بيتك لك عبرة، وفي خذلان هؤلاء إياهم فقال: يا داود، إن بني أمية قد عتوا وقست قلوبهم، فلم يزل به داود حتى عزم على الشخوص، فشخصا حتى بلغا القادسية. وذكر عن أبي عبيدة، أنه قَالَ: أتبعوه إلى الثعلبية وقالوا له: نحن اربعون

ألفا، إن رجعت إلى الكوفة لم يتخلف عنك أحد، وأعطوه المواثيق والأيمان المغلظة، فجعل يقول: إني أخاف أن تخذلوني وتسلموني كفعلكم بأبي وجدي. فيحلفون له، فيقول داود بْن على: يا بن عم، إن هؤلاء يغرونك من نفسك! أليس قد خذلوا من كان أعز عليهم منك، جدك علي بْن أبي طالب حتى قتل! والحسن من بعده بايعوه ثم وثبوا عليه فانتزعوا رداءه من عنقه، وانتهبوا فسطاطه، وجرحوه! او ليس قد أخرجوا جدك الحسين، وحلفوا له بأوكد الأيمان ثم خذلوه وأسلموه، ثم لم يرضوا بذلك حتى قتلوه! فلا تفعل ولا ترجع معهم فقالوا: إن هذا لا يريد أن تظهر أنت، ويزعم أنه وأهل بيته أحق بهذا الأمر منكم، فقال: زيد لداود: إن عليا كان يقاتله معاوية بدهائه ونكرائه بأهل الشام، وإن الحسين قاتله يزيد بْن معاوية والأمر عليهم مقبل، فقال له داود: إني لخائف إن رجعت معهم ألا يكون أحد أشد عليك منهم، وأنت أعلم ومضى داود إلى المدينة ورجع زيد إلى الكوفة. وقال عبيد بْن جناد، عن عطاء بْن مسلم الخفاف، قَالَ: كتب هشام إلى يوسف أن أشخص زيدا إلى بلده، فإنه لا يقيم ببلد غيره فيدعو أهله إلا أجابوه، فأشخصه، فلما كان بالثعلبية- أو القادسية- لحقه المشائيم- يعني أهل الكوفة- فردوه وبايعوه، فأتاه سلمة بْن كهيل، فأستأذن عليه، فأذن له، فذكر قرابته من رسول الله ص وحقه فأحسن. ثم تكلم زيد فأحسن، فقال له سلمة: اجعل لي الأمان، فقال: سبحان الله! مثلك يسأل مثلي الأمان! وإنما أراد سلمة أن يسمع ذلك أصحابه، ثم قَالَ: لك الأمان، فقال: نشدتك بالله، كم بايعك؟ قَالَ: أربعون ألفا، قَالَ: فكم بايع جدك؟ قَالَ: ثمانون ألفا، قَالَ: فكم حصل معه؟ قال: ثلاثمائة، قَالَ: نشدتك الله أنت خير أم جدك؟ قَالَ: بل جدي، قَالَ: أفقرنك الذي خرجت فيهم خير أم القرن الذي خرج فيهم جدك؟ قَالَ: بل القرن الذي خرج فيهم جدي، قَالَ: أفتطمع أن يفي لك هؤلاء، وقد غدر أولئك بجدك! قَالَ: قد بايعوني، ووجبت البيعة في عنقي وأعناقهم،

قَالَ: أفتأذن لي أن أخرج من البلد؟ قَالَ: لم؟ قَالَ: لا آمن أن يحدث في أمرك حدث فلا أملك نفسي، قَالَ: قد أذنت لك، فخرج إلى اليمامة، وخرج زيد فقتل وصلب فكتب هشام إلى يوسف يلومه على تركه سلمة ابن كهيل يخرج من الكوفه، ويقول: مقامه كان خيرا من كذا وكذا من الخيل تكون معك. وذكر عمر عن ابى إسحاق- شيخ من أهل أصبهان حدثه- أن عبد الله ابن حسن كتب الى زيد بن على: يا بن عم، إن أهل الكوفة نفخ العلانية، خور السريرة، هوج في الرخاء، جزع في اللقاء، تقدمهم ألسنتهم، ولا تشايعهم قلوبهم، لا يبيتون بعده في الأحداث، ولا ينوءون بدولة مرجوة، ولقد تواترت إلى كتبهم بدعوتهم، فصممت عن ندائهم، وألبست قلبي غشاء عن ذكرهم، يأسا منهم وإطراحا لهم، وما لهم مثل إلا ما قَالَ علي بْن أبي طالب: إن أهملتم خضتم، وإن حوربتم خزتم، وإن اجتمع الناس على إمام طعنتم، وإن أجبتم إلى مشاقة نكصتم. وذكر عن هشام بْن عبد الملك، أنه كتب إلى يوسف بْن عمر في أمر زيد بْن علي: أما بعد فقد علمت بحال أهل الكوفة في حبهم أهل هذا البيت، ووضعهم إياهم في غير مواضعهم، لأنهم افترضوا على أنفسهم طاعتهم، ووظفوا عليهم شرائع دينهم، ونحلوهم علم ما هو كائن، حتى حملوهم من تفريق الجماعة على حال استخفوهم فيها إلى الخروج، وقد قدم زين بْن علي على أمير المؤمنين في خصومة عمر بْن الوليد، ففصل أمير المؤمنين بينهما، وراى رجلا جدلا لسنا خليقا بتمويه الكلام وصوغه، واجترار الرجال بحلاوة لسانه، وبكثرة مخارجه في حججه، وما يدلي به عند لدد الخصام من السطوة على الخصم بالقوة الحادة لنيل الفلج، فعجل إشخاصه إلى الحجاز، ولا تخله والمقام قبلك، فإنه إن أعاره القوم أسماعهم فحشاها

من لين لفظه، وحلاوة منطقه، مع ما يدلى به من القرابة برسول الله ص، وجدهم ميلا إليه، غير متئدة قلوبهم ولا ساكنة أحلامهم، ولا مصونة عندهم أديانهم، وبعض التحامل عليه فيه أذى له، وإخراجه وتركه مع السلامة للجميع والحقن للدماء والأمن للفرقة أحب إلي من أمر فيه سفك دمائهم، وانتشار كلمتهم وقطع نسلهم، والجماعة حبل الله المتين، ودين الله القويم وعروته الوثقى، فادع إليك أشراف أهل المصر، وأوعدهم العقوبة في الأبشار، واستصفاء الأموال، فإن من له عقد أو عهد منهم سيبطئ عنه، ولا يخف معه إلا الرعاع وأهل السواد ومن تنهضه الحاجة، استلذاذا للفتنة، وأولئك ممن يستعبد إبليس، وهو يستعبدهم. فبادهم بالوعيد واعضضهم بسوطك، وجرد فيهم سيفك، وأخف الأشراف قبل الأوساط، والأوساط قبل السفلة واعلم أنك قائم على باب ألفة، وداع إلى طاعة، وحاض على جماعة، ومشمر لدين الله، فلا تستوحش لكثرتهم، واجعل معقلك الذي تأوي إليه، وصغوك الذي تخرج منه الثقة بربك، والغضب لدينك، والمحاماة عن الجماعة، ومناصبة من أراد كسر هذا الباب الذى امرهم الله بالدخول فيه، والتشاح عليه، فإن أمير المؤمنين قد أعذر إليه وقضى من ذمامه، فليس له منزى إلى ادعاء حق هو له ظلمه من نصيب نفسه، أو فيء، أو صلة لذي قربى، إلا الذي خاف أمير المؤمنين من حمل بادرة السفلة على الذي عسى أن يكونوا به أشقى وأضل، ولهم أمر، ولأمير المؤمنين أعز وأسهل إلى حياطة الدين والذب عنه، فإنه لا يحب أن يرى في أمته حالا متفاوتا نكالا لهم مفنيا، فهو يستديم النظرة، ويتأتى للرشاد، ويجتنبهم على المخاوف، ويستجرهم الى

المراشد، ويعدل بهم عن المهالك، فعل الوالد الشفيق على ولده، والراعي الحدب على رعيته. واعلم أن من حجتك عليهم في استحقاق نصر الله لك عند معاندتهم توفيتك أطماعهم، وأعطية ذريتهم، ونهيك جندك أن ينزلوا حريمهم ودورهم، فانتهز رضا الله فيما أنت بسبيله، فإنه ليس ذنب أسرع تعجيل عقوبة من بغي، وقد أوقعهم الشيطان، ودلاهم فيه، ودلهم عليه، والعصمة بتارك البغي أولى، فأمير المؤمنين يستعين الله عليهم وعلى غيرهم من رعيته، ويسأل إلهه ومولاه ووليه أن يصلح منهم ما كان فاسدا، وأن يسرع بهم إلى النجاة والفوز، إنه سميع قريب. رجع الحديث إلى حديث هشام قَالَ: فرجع زيد إلى الكوفة، فاستخفى، قَالَ: فقال له محمد بْن عمر بْن علي بْن أبي طالب حيث أراد الرجوع إلى الكوفة: أذكرك الله يا زيد لما لحقت بأهلك، ولم تقبل قول أحد من هؤلاء الذين يدعونك إلى ما يدعونك إليه، فإنهم لا يفون لك، فلم يقبل منه ذلك، ورجع. قَالَ هشام: قَالَ أبو مخنف: فأقبلت الشيعة لما رجع إلى الكوفة يختلفون إليه، ويبايعون له، حتى أحصى ديوانه خمسة عشر ألف رجل، فأقام بالكوفة بضعة عشر شهرا، إلا أنه قد كان منها بالبصرة نحو شهرين، ثم أقبل إلى الكوفة، فأقام بها، وأرسل إلى أهل السواد وأهل الموصل رجالا يدعون إليه. قَالَ: وتزوج حيث قدم الكوفة ابنة يعقوب بْن عبد الله السلمي، أحد بني فرقد، وتزوج ابنة عبد الله بْن أبي العنبس الأزدي قَالَ: وكان سبب تزوجه إياها أن أمها أم عمرو بنت الصلت كانت ترى رأي الشيعة، فبلغها مكان زيد، فأتته لتسلم عليه- وكانت امرأة جسيمة جميلة لحيمة، قد دخلت في السن، إلا أن الكبر لا يستبين عليها-

فلما دخلت على زيد بْن علي فسلمت عليه ظن أنها شابة، فكلمته فإذا أفصح الناس لسانا، وأجمله منظرا، فسألها عن نسبها فانتسبت له، وأخبرته ممن هي، فقال لها: هل لك رحمك الله أن تتزوجيني؟ قالت: أنت والله- رحمك الله- رغبة لو كان من أمري التزويج، قَالَ لها: وما الذي يمنعك؟ قالت: يمنعني من ذلك أني قد أسننت، فقال لها: كلا قد رضيت، ما أبعدك من أن تكوني قد أسننت! قالت: رحمك الله، أنا أعلم بنفسي منك، وبما أتى علي من الدهر، ولو كنت متزوجة يوما من الدهر لما عدلت بك، ولكن لي ابنة أبوها ابن عمي، وهي أجمل مني، وانا أزوجكها ان احببت، قال: رضيت أن تكون مثلك، قالت له: لكن خالقها ومصورها لم يرض أن يجعلها مثلي، حتى جعلها أبيض وأوسم وأجسم، وأحسن مني دلا وشكلا فضحك زيد، وقال لها: قد رزقت فصاحة ومنطقا حسنا، فأين فصاحتها من فصاحتك؟ قالت: أما هذا فلا علم لي به، لأني نشأت بالحجاز، ونشأت ابنتي بالكوفة، فلا أدري لعل ابنتي قد أخذت لغة أهلها فقال زيد: ليس ذلك بأكره إلي، ثم واعدها موعدا فأتاها فتزوجها، ثم بنى بها فولدت له جارية ثم أنها ماتت بعد، وكان بها معجبا. قَالَ: وكان زيد بْن علي ينزل بالكوفة منازل شتى، في دار امرأته في الأزد مرة، ومرة في أصهاره السلميين، ومرة عند نصر بْن خزيمة في بني عبس، ومرة في بني غبر ثم إنه تحول من بني غبر إلى دار معاويه ابن إسحاق بْن زيد بْن حارثة الأنصاري في أقصى جبانة سالم السلولي، وفي بني نهد وبني تغلب عند مسجد بني هلال بْن عامر، فأقام يبايع أصحابه، وكانت بيعته التي يبايع عليها الناس: إنا ندعوكم إِلَى كتاب اللَّه وسنة نبيه صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، وقسم هذا الفيء بين أهله بالسواء، ورد الظالمين، وإقفال المجمر ونصرنا أهل البيت على من نصب لنا وجهل حقنا، أتبايعون على ذلك؟

ذكر الخبر عن غزوه نصر بن سيار ما وراء النهر

فإذا قالوا: نعم، وضع يده على يده، ثم يقول: عليك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله، لتفين ببيعتي ولتقاتلن عدوي ولتنصحن في السر والعلانية؟ فإذا قَالَ: نعم مسح يده على يده، ثم قَالَ: اللهم اشهد فمكث بذلك بضعة عشر شهرا، فلما دنا خروجه أمر أصحابه بالاستعداد والتهيؤ، فجعل من يريد ان يفى ويخرج معه يستعد لو يتهيأ، فشاع امره في الناس. ذكر الخبر عن غزوه نصر بن سيار ما وراء النهر وفي هذه السنة غزا نصر بْن سيار ما وراء النهر مرتين، ثم غزا الثالثة، فقتل كور صول. ذكر الخبر عن غزواته هذه: ذكر علي عن شيوخه، أن نصرا غزا من بلخ ما وراء النهر من ناحية باب الحديد، ثم قفل إلى مرو، فخطب الناس، فقال: ألا إن بهرامسيس كان مانح المجوس، يمنحهم ويدفع عنهم، ويحمل أثقالهم على المسلمين، ألا إن أشبداد بْن جريجور كان مانح النصارى، ألا إن عقيبة اليهودي كان مانح اليهود يفعل ذلك ألا إني مانح المسلمين أمنحهم وأدفع عنهم، وأحمل أثقالهم على المشركين، ألا إنه لا يقبل مني إلا توفي الخراج على ما كتب ورفع وقد استعملت عليكم منصور بْن عمر بْن أبي الخرقاء، وأمرته بالعدل عليكم، فأيما رجل منكم من المسلمين كان يؤخذ منه جزية من رأسه، أو ثقل عليه في خراجه، وخفف مثل ذلك عن المشركين، فليرفع ذلك الى المنصور بْن عمر، يحوله عن المسلم إلى المشرك قَالَ: فما كانت الجمعة الثانية، حتى أتاه ثلاثون ألف مسلم، كانوا يؤدون الجزية عن رءوسهم وثمانون ألف رجل من المشركين قد ألقيت عنهم جزيتهم، فحول ذلك عليهم، وألقاه عن المسلمين ثم صنف الخراج حتى وضعه مواضعة، ثم وظف الوظيفة التي جرى عليها الصلح قَالَ: فكانت مرو يؤخذ منها

مائة ألف سوى الخراج أيام بني أمية ثم غزا الثانية إلى ورغسر وسمرقند ثم قفل، ثم غزا الثانيه إلى الشاش من مرو، فحال بينه وبين قطوع النهر نهر الشاش كورصول في خمسة عشر ألفا، استأجر كل رجل منهم في كل شهر بشقه حرير، الشقه يومئذ بخمسة وعشرين درهما، فكانت بينهم مراماة، فمنع نصرا من القطوع إلى الشاش وكان الحارث بْن سريج يومئذ بأرض الترك، فأقبل معهم، فكان بإزاء نصر، فرمى نصرا، وهو على سريره على شاطئ النهر بحسبان، فوقع السهم في شدق وصيف لنصر يوضئه، فتحول نصر عن سريره، ورمى فرسا لرجل من أهل الشام فنفق وعبر كورصول في أربعين رجلا، فبيت أهل العسكر، وساق شاء لأهل بخارى، وكانوا في الساقة، وأطاف بالعسكر في ليلة مظلمة، ومع نصر أهل بخارى وسمرقند وكس وأشروسنة، وهم عشرون ألفا، فنادى نصر في الأخماس: ألا لا يخرجن أحد من بنائه، واثبتوا على مواضعكم فخرج عاصم بْن عمير وهو على جند أهل سمرقند، حتى مرت خيل كورصول، وقد كانت الترك صاحت صيحة، فظن أهل العسكر أن الترك قد قطعوا كلهم فلما مرت خيل كورصول على ذلك حمل على آخرهم، فأسر رجلا، فإذا هو ملك من ملوكهم صاحب أربعة آلاف قبة، فجاءوا به إلى نصر، فإذا هو شيخ يسحب درعه شبرا، وعليه رانا ديباج فيهما حلق، وقباء فرند مكفف بالديباج، فقال له نصر: من أنت؟ قَالَ: كورصول، فقال نصر: الحمد لله الذي أمكن منك يا عدو الله! قَالَ: فما ترجو من قتل شيخ، وأنا أعطيك ألف بعير من إبل الترك، وألف برذون تقوي بها جندك، وخل سبيلي! فقال نصر لمن حوله من أهل الشام وأهل خراسان: ما تقولون؟ فقالوا: خل سبيله، فسأله عن سنه، قَالَ: لا أدري، قَالَ: كم غزوت؟ قَالَ: اثنتين وسبعين غزوة، قَالَ: أشهدت يوم العطش؟ قَالَ: نعم، قَالَ: لو أعطيتني ما طلعت عليه الشمس ما أفلت من يدي بعد ما ذكرت من مشاهدك وقال لعاصم بْن عمير السغدي: قم إلى سلبه فخذه، فلما

أيقن بالقتل، قَالَ: من أسرني؟ قَالَ نصر وهو يضحك: يزيد بْن قران الحنظلي- وأشار إليه- قَالَ: هذا لا يستطيع أن يغسل استه- أو قَالَ: لا يستطيع أن يتم بوله- فكيف يأسرني! فأخبرني من أسرني، فإني أهل أن أقتل سبع قتلات، قيل له: عاصم بْن عمير، قَالَ: لست أجد مس القتل إذ كان الذي أسرني فارسا من فرسان العرب فقتله وصلبه على شاطئ النهر قال: وعاصم بن عمير هو الهزار مرد، قتل بنهاوند أيام قحطبة. قَالَ: فلما قتل كورصول تخدرت الترك وجاءوا بأبنيته فحرقوها، وقطعوا آذانهم، وجردوا وجوههم، وطفقوا يبكون عليه، فلما أمسى نصر وأراد الرحلة، بعث إلى كورصول بقارورة نفط، فصبها عليه، وأشعل فيه النار لئلا يحملوا عظامه قَالَ: وكان ذلك أشد عليهم من قتله. وارتفع نصر إلى فرغانة، فسبى منها ثلاثين ألف رأس، قَالَ: فقال عنبر بْن برعمة الأزدي: كتب يوسف بْن عمر إلى نصر: سر إلى هذا الغارز ذنبه بالشاش- يعني الحارث بْن سريج- فإن أظفرك الله به وبأهل الشاش، فخرب بلادهم، واسب ذراريهم، وإياك وورطه المسلمين قَالَ: فدعا نصر الناس، فقرأ عليهم الكتاب، وقال: ما ترون؟ فقال يحيى بْن حضين: امض لأمر أمير المؤمنين وأمر الأمير، فقال نصر: يا يحيى، تكلمت ليالي عاصم بكلمة، فبلغت الخليفة فحظيت بها، وزيد في عطائك، وفرض لأهل بيتك، وبلغت الدرجة الرفيعة، فقلت: أقول مثلها. سر يا يحيى، فقد وليتك مقدمتي، فأقبل الناس على يحيى يلومونه، فقال نصر يومئذ: وأي ورطة أشد من أن تكون في السفر وهم في القرار! قَالَ: فسار إلى الشاش، فأتاه الحارث بْن سريج فنصب عرادتين تلقاء بني تميم، فقيل له: هؤلاء بنو تميم، فنقلهما فنصبهما على الأزد- ويقال: على بكر بْن وائل- وأغار عليهم الأخرم، وهو فارس الترك، فقتله المسلمون، وأسروا سبعة من أصحابه، فأمر نصر بْن سيار برأس الأخرم، فرمي به في عسكرهم بمنجنيق، فلما رأوه ضجوا ضجة عظيمة، ثم ارتحلوا

منهزمين، ورجع نصر، وأراد أن يعبر، فحيل بينه وبين ذلك، فقال أبو نميلة صالح بْن الأبار: كنا وأوبة نصر عند غيبته ... كراقب النوء حتى جاده المطر اودى باخرم منه عارض برد ... مسترجف بمنايا القوم منهمر وأقبل نصر فنزل سمرقند في السنة التي لقي فيها الحارث بْن سريج، فأتاه بخارى خذاه منصرفا، وكانت المسلحة عليهم، ومعهم دهقانان من دهاقين بخارى، وكانا أسلما على يدي نصر، وقد أجمعا على الفتك بواصل بْن عمرو القيسى عامل بخارى وببخار اخذاه يتظلمان من بخار اخذاه، - واسمه طوق شياده- فقال بخار اخذاه لنصر: أصلح الله الأمير! قد علمت أنهما قد أسلما على يديك، فما بالهما معلقي الخناجر عليهما! فقال لهما نصر: ما بالكما معلقي الخناجر وقد أسلمتما! قَالَ: بيننا وبين بخار اخذاه عداوة فلا نأمنه على أنفسنا فأمر نصر هارون بْن السياوش مولى بني سليم- وكان يكون على الرابطة- فاجتذبهما فقطعهما، ونهض بخار اخذاه إلى نصر يساره في أمرهما، فقالا: نموت كريمين، فشد أحدهما على واصل ابن عمرو فطعنه في بطنه بسكين، وضربه واصل بسيفه على رأسه، فأطار قحف رأسه فقتله، ومضى الآخر الى بخار اخذاه- وأقيمت الصلاة، وبخار اخذاه جالس على كرسي- فوثب نصر، فدخل السرادق، واحضر بخار اخذاه، فعثر عند باب السرادق فطعنه، وشد عليه الجوزجان بْن الجوزجان، فضربه بجرز كان معه فقتله، وحمل بخار اخذاه فادخل سرادق نصر، ودعا له نصر بوسادة فاتكأ عليها، وأتاه قرعة الطبيب، فجعل يعالجه وأوصى إلى نصر، ومات من ساعته، ودفن واصل في السرادق، وصلى عليه نصر واما طوق شياده فكشطوا عنه لحمه، وحملوا عظامه إلى بخارى. قال: وسار نصر إلى الشاش، فلما قدم أشروسنة عرض دهقانها أباراخرة مالا، ثم نفذ إلى الشاش، واستعمل على فرغانة محمد بْن خالد الأزدي، وجهه إليها في عشرة نفر، ورد من فرغانه أخا جيش فيمن كان

معه من دهاقين الختل وغيرهم، وانصرف منها بتماثيل كثيرة، فنصبها في أشروسنة. وقال بعضهم: لما أتى نصر الشاش تلقاه قدر ملكها بالصلح والهدية والرهن، واشترط عليه إخراج الحارث بْن سريج من بلده، فأخرجه إلى فاراب، واستعمل على الشاش نيزك بْن صالح مولى عمرو بْن العاص، ثم سار حتى نزل قباء من أرض فرغانة، وقد كانوا أحسوا بمجيئه، فأحرقوا الحشيش وحبسوا الميرة ووجه نصر إلى ولي عهد صاحب فرغانة في بقية سنة إحدى وعشرين ومائة، فحاصروه في قلعة من قلاعها، فغفل عنهم المسلمون، فخرجوا على دوابهم فاستاقوها، وأسروا ناسا من المسلمين، فوجه إليهم نصر رجالا من بني تميم، ومعهم محمد بن المثنى- وكان فارسا- فكايدهم المسلمون، فأهملوا دوابهم وكمنوا لهم، فخرجوا فاستاقوا بعضها، وخرج عليهم المسلمون فهزموهم، وقتلوا الدهقان، وأسروا منهم أسراء، وحمل ابن الدهقان المقتول على ابن المثنى، فختله محمد بْن المثنى، فأسره، وهو غلام أمرد، فأتى به نصرا، فضرب عنقه. وكان نصر بعث سليمان بْن صول إلى صاحب فرغانة بكتاب الصلح بينهما قَالَ سليمان: فقدمت عليه فقال لي: من أنت؟ قلت: شاكري خليفة كاتب الأمير، قَالَ: فقال: أدخلوه الخزائن ليرى ما أعددنا، فقيل له: قم، قَالَ: قلت ليس بي مشي، قَالَ: قدموا له دابة يركبها، قَالَ: فدخلت خزائنه، فقلت في نفسي: يا سليمان، شمت بك اسرايل وبشر بْن عبيد، ليس هذا إلا لكراهة الصلح، وسأنصرف بخفي حنين. قَالَ: فرجعت إليه، فقال: كيف رأيت الطريق فيما بيننا وبينكم؟ قلت: سهلا كثير الماء والمرعى، فكره ما قلت له، فقال: ما علمك؟ فقلت: قد غزوت غرشستان وغور والختل وطبرستان، فكيف لا أعلم! قَالَ: فكيف رأيت ما أعددنا؟ قلت: رأيت عدة حسنة، ولكن أما علمت أن صاحب الحصار لا يسلم من خصال! قَالَ: وما هن؟ قلت: لا يأمن أقرب الناس إليه وأحبهم إليه وأوثقهم في نفسه أن يثب به يطلب مرتبته، ويتقرب بذلك، أو يفنى ما قد جمع، فيسلم برمته، أو يصيبه داء فيموت

فقطب وكره ما قلت له وقال: انصرف إلى منزلك، فانصرفت فأقمت يومين، وأنا لا أشك في تركه الصلح، فدعاني فحملت كتاب الصلح مع غلامي، وقلت له: إن أتاك رسولي يطلب الكتاب فانصرف إلى المنزل، ولا تظهر الكتاب، وقل لي: إني خلفت الكتاب في المنزل فدخلت عليه، فسألني عن الكتاب، فقلت: خلفته في المنزل فقال: ابعث من يجيئك به، فقبل الصلح، وأحسن جائزتي، وسرح معي أمه، وكانت صاحبة أمره قَالَ: فقدمت على نصر، فلما نظر إلي قَالَ: ما مثلك إلا كما قَالَ الأول: فأرسل حكيما ولا توصه. فأخبرته، فقال: وفقت، وأذن لأمه عليه، وجعل يكلمها والترجمان يعبر عنها، فدخل تميم بْن نصر، فقال للترجمان: قل لها: تعرفين هذا؟ فقالت: لا، فقال: هذا تميم بْن نصر، فقالت: والله ما أرى له حلاوة الصغير، ولا نبل الكبير. قَالَ أبو إسحاق بْن ربيعة: قالت لنصر: كل ملك لا يكون عنده ستة أشياء فليس بملك: وزير يباثه بكتاب نفسه وما شجر في صدره من الكلام، ويشاوره ويثق بنصيحته، وطباخ إذا لم يشته الطعام اتخذ له ما يشتهي، وزوجة إذا دخل عليها مغتما فنظر إلى وجهها زال غمه، وحصن إذا فزع أو جهد فزع إليه فأنجاه- تعني البرذون- وسيف إذا قارع الأقران لم يخش خيانته، وذخيرة إذا حملها فأين وقع بها. من الأرض عاش بها ثم دخل تميم بن نصر في الازفله وجماعة، فقالت: من هذا؟ قالوا: هذا فتى خراسان، هذا تميم بْن نصر، قالت: ما له نبل الكبار ولا حلاوة الصغار. ثم دخل الحجاج بْن قتيبة فقالت: من هذا؟ فقالوا: الحجاج بْن قتيبة، قَالَ: فحيته، وسألت عنه، وقالت: يا معشر العرب، ما لكم وفاء، لا يصلح بعضكم لبعض قتيبة الذي وطن لكم ما أرى، وهذا ابنه تقعده دونك! فحقك أن تجلسه هذا المجلس، وتجلس أنت مجلسه

وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن هشام بْن إسماعيل المخزومي- كذلك قَالَ أَبُو معشر، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عنه وكذلك قَالَ الواقدي وغيره. وكان عامل هشام بْن عبد الملك على المدينة ومكة والطائف في هذه السنة محمد بْن هشام، وعامله على العراق كله يوسف بْن عمر، وعامله على أذربيجان وأرمينية مروان بْن محمد، وعلى خراسان نصر بْن سيار، وعلى قضاء البصرة عامر بْن عبيدة، وعلى قضاء الكوفة ابن شبرمة.

سنه اثنتين وعشرين ومائه

ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائة (ذكر الخبر عما كان فيها من احداث) خبر مقتل زيد بن على فمن ذلك مقتل زيد بْن علي. ذكر الخبر عن ذلك: ذكر هشام عن أبي مخنف، أن زيد بْن علي لما أمر أصحابه بالتأهب للخروج والاستعداد، أخذ من كان يريد الوفاء له بالبيعة فيما أمرهم به من ذلك، فانطلق سليمان بْن سراقة البارقي إلى يوسف بْن عمر، فأخبره خبره، وأعلمه أنه يختلف إلى رجل منهم يقال له عامر، وإلى رجل من بني تميم يقال له طعمة، ابن أخت لبارق، وهو نازل فيهم فبعث يوسف يطلب زيد بْن علي في منزلهما فلم يوجد عندهما، وأخذ الرجلان، فأتي بهما، فلما كلمهما استبان له أمر زيد وأصحابه وتخوف زيد بْن علي أن يؤخذ، فتعجل قبل الأجل الذي جعله بينه وبين أهل الكوفة قَالَ: وعلى أهل الكوفة يومئذ الحكم بْن الصلت، وعلى شرطه عمرو بْن عبد الرحمن، رجل من القارة، وكانت ثقيف أخواله، وكان فيهم ومعه عبيد الله بْن العباس الكندي، في أناس من أهل الشام، ويوسف بْن عمر بالحيرة قَالَ: فلما رأى أصحاب زيد بْن علي الذين بايعوه أن يوسف بْن عمر قد بلغه أمر زيد، وأنه يدس إليه، ويستبحث عن أمره، اجتمعت إليه جماعة من رءوسهم، فقالوا: رحمك الله! ما قولك في أبي بكر وعمر؟ قَالَ زيد: رحمهما الله وغفر لهما، ما سمعت أحدا من أهل بيتي يتبرأ منهما ولا يقول فيهما إلا خيرا، قالوا: فلم تطلب إذا بدم أهل هذا البيت، إلا أن وثبا على سلطانكم

فنزعاه من أيديكم! فقال لهم زيد: إن أشد ما أقول فيما ذكرتم إنا كنا أحق بسلطان رسول الله ص من الناس أجمعين، وإن القوم استأثروا علينا، ودفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفرا، قد ولوا فعدلوا في الناس، وعملوا بالكتاب والسنة قالوا: فلم يظلمك هؤلاء! وان كان أولئك لم يظلموك، فلم تدعو إلى قتال قوم ليسوا لك بظالمين! فقال: وان هؤلاء ليسوا كأولئك، إن هؤلاء ظالمون لي ولكم ولأنفسهم، وإنما ندعوكم إلى كتاب الله وسنه نبيه ص، وإلى السنن أن تحيا، وإلى البدع أن تطفأ، فإن أنتم أجبتمونا سعدتم، وإن أنتم أبيتم فلست عليكم بوكيل ففارقوه ونكثوا بيعته، وقالوا: سبق الإمام- وكانوا يزعمون أن أبا جعفر محمد بْن علي أخا زيد بْن علي هو الإمام، وكان قد هلك يومئذ- وكان ابنه جعفر بْن محمد حيا، فقالوا: جعفر امامنا اليوم بعد أبيه، وهو أحق بالأمر بعد أبيه، ولا نتبع زيد بْن علي فليس بإمام فسماهم زيد الرافضة، فهم اليوم يزعمون أن الذي سماهم الرافضة المغيرة حيث فارقوه وكانت منهم طائفة قبل خروج زيد مروا إلى جعفر بْن محمد بْن علي، فقالوا له: إن زيد بْن علي فينا يبايع، أفترى لنا أن نبايعه؟ فقال لهم: نعم بايعوه، فهو والله أفضلنا وسيدنا وخيرنا فجاءوا، فكتموا ما أمرهم به. قَالَ: واستتب لزيد بْن علي خروجه، فواعد أصحابه ليلة الأربعاء أول ليلة من صفر سنة اثنتين وعشرين ومائة. وبلغ يوسف بْن عمر أن زيدا قد ازمع على الخروج، فبعث الى الحكم ابن الصلت، فأمره أن يجمع أهل الكوفة في المسجد الأعظم يحصرهم فيه، فبعث الحكم إلى العرفاء والشرط والمناكب والمقاتلة، فأدخلهم المسجد، ثم نادى مناديه: ألا إن الأمير يقول: من أدركناه في رحله فقد برئت منه الذمة، ادخلوا المسجد الأعظم فأتى الناس المسجد يوم الثلاثاء قبل خروج زيد بيوم، وطلبوا زيدا في دار معاوية بْن إسحاق بْن زيد بْن حارثة الأنصاري، فخرج ليلا، وذلك ليلة الأربعاء، في ليلة شديدة البرد، من دار معاوية بْن

إسحاق، فرفعوا الهرادى فيها النيران، ونادوا: يا منصور. أمت، أمت يا منصور فكلما أكلت النار هرديا رفعوا آخر، فما زالوا كذلك حتى طلع الفجر، فلما أصبحوا بعث زيد بْن علي القاسم التنعي ثم الحضرمي ورجلا آخر من أصحابه، يناديان بشعارهما، فلما كانوا في صحراء عبد القيس لقيهم جعفر بْن العباس الكندي، فشدوا عليه وعلى أصحابه، فقتل الرجل الذي كان مع القاسم التنعي، وارتث القاسم، فأتي به الحكم، فكلمه فلم يرد عليه شيئا، فأمر به فضربت عنقه على باب القصر، فكان أول من قتل من اصحاب زيد ابن علي هو وصاحبه وأمر الحكم بْن الصلت بدروب السوق فغلقت، وغلقت أبواب المسجد على أهل الكوفة وعلى أرباع الكوفة يومئذ، على ربع أهل المدينة إبراهيم بْن عبد الله بْن جرير البجلي، وعلى مذحج وأسد عمرو ابن أبي بذل العبدي، وعلى كندة وربيعة المنذر بن محمد بن اشعث بْن قيس الكندي، وعلى تميم وهمدان محمد بْن مالك الهمداني ثم الخيواني. قَالَ: وبعث الحكم بْن الصلت إلى يوسف بْن عمر، فأخبره الخبر، فأمر يوسف مناديه فنادى في أهل الشام: من يأتي الكوفة فيقترب من هؤلاء القوم فيأتيني بخبرهم؟ فقال جعفر بْن العباس الكندي: أنا، فركب في خمسين فارسا، ثم أقبل حتى انتهى إلى جبانة سالم السلولي، فاستخبرهم، ثم رجع إلى يوسف بْن عمر فأخبره، فلما أصبح خرج إلى تل قريب من الحيرة، فنزل عليه ومعه قريش وأشراف الناس، وعلى شرطته يومئذ العباس بْن سعيد المزني، فبعث الريان بْن سلمة الإراشي في الفين ومعه ثلاثمائة من القيقانية رجالا معهم النشاب. وأصبح زيد بْن علي، فكان جميع من وافاه تلك الليلة مائتي رجل وثمانية عشر رجلا، فقال زيد: سبحان الله! أين الناس! فقيل له: هم في المسجد الأعظم محصورون، فقال: لا والله ما هذا لمن بايعنا بعذر وسمع نصر ابن خزيمة النداء، فاقبل اليه، فلقى عمر بْن عبد الرحمن صاحب شرطة الحكم بْن الصلت في خيله من جهينة عند دار الزبير بن ابى حكمه في الطريق

الذي يخرج إلى مسجد بني عدي، فقال نصر بْن خزيمة: يا منصور أمت، فلم يرد عليه شيئا، فشد عليه نصر وأصحابه، فقتل عمر بْن عبد الرحمن، وانهزم من كان معه، وأقبل زيد بْن علي من جبانة سالم حتى انتهى الى جبانه الصائديين، وبها خمسمائة من أهل الشام، فحمل عليهم زيد بْن علي فيمن معه فهزمهم وكان تحت زيد بْن علي يومئذ برذون أدهم بهيم، اشتراه رجل من بني نهد بْن كهمس بْن مروان النجاري بخمسة وعشرين دينارا، فلما قتل زيد بعد ذلك أخذه الحكم بْن الصلت. قَالَ: وانتهى زيد بْن علي إلى باب دار رجل من الأزد، يقال له أنس ابن عمرو- وكان فيمن بايعه- فنودي وهو في الدار فجعل يجيب، فناداه زيد يا أنس: اخرج إلي رحمك الله، فقد جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً فلم يخرج إليه، فقال زيد: ما أخلفكم! قد فعلتموها، الله حسيبكم! قَالَ: ثم إن زيدا مضى حتى انتهى إلى الكناسة، فحمل على جماعة بها من أهل الشام فهزمهم، ثم خرج حتى ظهر إلى الجبانة ويوسف بْن عمر على التل ينظر إليه هو وأصحابه، وبين يديه حزام بْن مرة المزني وزمزم بْن سليم الثعلبي، وهما على المجففة، ومعه نحو من مائتي رجل، والله لو أقبل على يوسف لقتله، والريان بْن سلمة يتبع أثر زيد بْن علي بالكوفة في أهل الشام. ثم إن زيدا أخذ ذات اليمين على مصلى خالد بْن عبد الله حتى دخل الكوفة، وكانت فرقة من أصحاب زيد بْن علي حيث وجه إلى الكناسة قد انشعبت نحو جبانة مخنف بْن سليم ثم قَالَ بعضهم لبعض: ألا ننطلق نحو جبانة كندة! قَالَ: فما زاد الرجل على أن تكلم بهذا الكلام. وطلع أهل الشام، فلما رأوهم دخلوا زقاقا فمضوا فيه، وتخلف رجل منهم، فدخل المسجد فصلى فيه ركعتين، ثم خرج إليهم فقاتلهم ساعة ثم إنهم صرعوه، فجعلوا يضربونه بأسيافهم، فنادى رجل منهم مقنع بالحديد: أن اكشفوا المغفر ثم اضربوا رأسه بعمود حديد، ففعلوا، وقتل وحمل أصحابه عليهم فكشفوهم عنه وقد قتل، وانصرف أهل الشام، وقد اقتطعوا

رجلا، ونجا سائرهم فذهب ذلك الرجل حتى دخل دار عبد الله بْن عوف، فدخل أهل الشام عليه فأسروه، فذهب به إلى يوسف بْن عمر فقتله. قَالَ: وأقبل زيد بْن علي، وقد رأى خذلان الناس إياه، فقال: يا نصر بْن خزيمة، أتخاف أن يكون قد جعلوها حسينية! فقال له: جعلني الله لك الفداء! اما انا فو الله لأضربن معك بسيفي هذا حتى أموت، فكان قتاله يومئذ بالكوفة ثم إن نصر بْن خزيمة قَالَ لزيد بْن علي: جعلني الله لك الفداء! إن الناس في المسجد الأعظم محصورون، فامض بنا نحوهم، فخرج بهم زيد نحو المسجد، فمر على دار خالد بْن عرفطه وبلغ عبيد الله ابن العباس الكندي إقباله، فخرج في أهل الشام، وأقبل زيد فالتقوا على باب عمر بْن سعد بْن أبي وقاص، فكع صاحب لواء عبيد الله- وكان لواؤه مع سلمان مولاه- فلما أراد عبيد الله الحملة ورآه قد كع عنه، قال: احمل يا بن الخبيثة! فحمل عليهم، فلم ينصرف حتى خضب لواؤه بالدم. ثم إن عبيد الله برز فخرج اليه واصل الحناط، فاضطربا بسيفهما، فقال للأحول: خذها مني وأنا الغلام الحناط! وقال الآخر: قطع الله يدي إن كلت بقفيز أبدا ثم ضربه فلم يصنع شيئا وانهزم عبيد الله بْن العباس وأصحابه، حتى انتهوا الى دار عمرو من حريث وجاء زيد وأصحابه حتى انتهوا إلى باب الفيل، فجعل أصحاب زيد يدخلون راياتهم من فوق الأبواب، ويقولون: يا أهل المسجد، اخرجوا وجعل نصر بْن خزيمة يناديهم، ويقول: يا أهل الكوفة، اخرجوا من الذل إلى العز، اخرجوا إلى الدين والدنيا، فإنكم لستم في دين ولا دنيا فأشرف عليهم أهل الشام، فجعلوا يرمونهم بالحجارة من فوق المسجد- وكان يومئذ جمع كبير بالكوفة في نواحيها، وقيل في جبانة سالم- وانصرف الريان بْن سلمة إلى الحيرة عند المساء، وانصرف زيد بْن علي فيمن معه، وخرج إليه ناس من أهل الكوفة، فنزل دار الرزق، فأتاه الريان بْن سلمة، فقاتله عند دار الرزق قتالا شديدا، فجرح من أهل

الشام وقتل منهم ناس كثير، وتبعهم أصحاب زيد من دار الرزق، حتى انتهوا إلى المسجد، فرجع أهل الشام مساء يوم الأربعاء أسوأ شيء ظنا، فلما كان من الغد غداة يوم الخميس، دعا يوسف بْن عمر الريان بْن سلمة، فلم يوجد حاضرا تلك الساعة. وقال بعضهم: بل أتاه وليس عليه سلاحه فأفف به، وقال له: أف لك من صاحب خيل! اجلس فدعا العباس بْن سعيد المزني صاحب شرطته، فبعثه في أهل الشام، فسار حتى انتهى إلى زيد بْن على في دار الرزق، وثم خشب للتجار كثير، فالطريق متضايق وخرج زيد في أصحابه، وعلى مجنبتيه نصر بْن خزيمة العبسي ومعاوية بْن إسحاق الأنصاري، فلما رآهم العباس- ولم يكن معه رجال- نادى: يا أهل الشام، الارض والارض! فنزل ناس كثير ممن معه، فاقتتلوا قتالا شديدا في المعركة وقد كان رجل من أهل الشام من بني عبس يقال له نائل بْن فروة قَالَ ليوسف بْن عمر: والله لئن أنا ملأت عيني من نصر بْن خزيمة لأقتلنه أو ليقتلني، فقال له يوسف: خذ هذا السيف، فدفع إليه سيفا لا يمر بشيء إلا قطعه فلما التقى أصحاب العباس بْن سعيد وأصحاب زيد واقتتلوا، بصر نائل بْن فروة بنصر بْن خزيمة، فأقبل نحوه، فضرب نصرا فقطع فخذه، وضربه نصر ضربة فقتله، فلم يلبث نصر أن مات، واقتتلوا قتالا شديدا. ثم إن زيد بْن علي هزمهم وقتل من أهل الشام نحوا من سبعين رجلا، فانصرفوا وهم بشر حال وقد كان العباس بْن سعيد نادى في أصحابه أن اركبوا، فإن الخيل لا تطيق الرجال في المضيق فركبوا، فلما كان العشي عبأهم يوسف بْن عمر ثم سرحهم، فأقبلوا حتى التقوا هم وأصحاب زيد، فحمل عليهم زيد في أصحابه فكشفهم، ثم تبعهم حتى أخرجهم إلى السبخة، ثم شد عليهم بالسبخة حتى أخرجهم إلى بني سليم، ثم تبعهم في خيله ورجاله، حتى أخذوا على المسناه. ثم ان زيدا ظهر لهم فيما بين بارق ورؤاس، فقاتلهم هنالك قتالا شديدا،

وصاحب لوائه يومئذ رجل يقال له عبد الصمد بْن أبي مالك بْن مسروح، من بنى سعد بن زيد، خليف العباس بْن عبد المطلب، وكان مسروح السعدي تزوج صفية بنت العباس بْن عبد المطلب، فجعلت خيلهم لا تثبت لخيله ورجله، فبعث العباس إلى يوسف بْن عمر يعلمه ذلك، فقال له: ابعث إلي الناشبة، فبعث إليهم سليمان بْن كيسان الكلبي في القيقانية والبخارية، وهم ناشبة، فجعلوا يرمون زيدا وأصحابه، وكان زيد حريصا على أن يصرفهم حين انتهوا إلى السبخة، فأبوا عليه، فقاتل معاوية بْن إسحاق الأنصاري بين يدي زيد بْن علي قتالا شديدا، فقتل بين يديه، وثبت زيد بْن علي ومن معه حتى إذا جنح الليل رمي بسهم فأصاب جانب جبهته اليسرى، فتشبث في الدماغ، فرجع ورجع أصحابه، ولا يظن أهل الشام أنهم رجعوا إلا للمساء والليل. قَالَ: فحدثني سلمة بْن ثابت الليثي- وكان مع زيد بْن علي، وكان آخر من انصرف من الناس يومئذ، هو وغلام لمعاوية بْن إسحاق- قَالَ: أقبلت أنا وصاحبي نقص أثر زيد بْن علي، فنجده قد أنزل، وأدخل بيت حران ابن كريمة مولى لبعض العرب في سكة البريد في دور أرحب وشاكر. قَالَ سلمة بْن ثابت: فدخلت عليه، فقلت له: جعلني الله فداك أبا الحسين! وانطلق أصحابه فجاءوا بطبيب يقال له شقير مولى لبنى رؤاس فانزع النصل من جبهته، وانا انظر اليه، فو الله ما عدا أن أنزعه جعل يصيح، ثم لم يلبث أن قضى، فقال القوم: أين ندفنه، وأين نواريه؟ فقال بعض أصحابه: نلبسه درعه ونطرحه في الماء، وقال بعضهم: بل نحتز رأسه ونضعه بين القتلى، فقال ابنه يحيى: لا والله لا ناكل لحم أبي الكلاب. وقال بعضهم: لا بل نحمله إلى العباسية فندفنه. قَالَ سلمة: فأشرت عليهم أن ننطلق به إلى الحفرة التي يؤخذ منها الطين فندفنه فيها، فقبلوا رأيي وانطلقنا، وحفرنا له بين حفرتين، وفيه حينئذ ماء كثير، حتى إذا نحن أمكنا له دفناه، وأجرينا عليه الماء، وكان معنا

عبد له سندي قَالَ: ثم انصرفنا حتى نأتي جبانة السبيع، ومعنا ابنه، فلم نزل بها، وتصدع الناس عنا، وبقيت في رهط معه لا يكونون عشرة، فقلت له: أين تريد؟ هذا الصبح قد غشيك- ومعه أبو الصبار العبدي- قَالَ: فقال: النهرين، فقلت له: إن كنت إنما تريد النهرين- فظننت أنه يريد أن يتشطط الفرات ويقاتلهم- فقلت له: لا تبرح مكانك، تقاتلهم حتى تقتل، أو يقضي الله ما هو قاض فقال لي: أنا أريد نهري كربلاء. فقلت له: فالنجاء قبل الصبح، فخرج من الكوفة، وأنا معه وأبو الصبار ورهط معنا، فلما خرجنا من الكوفة سمعنا أذان المؤذنين، فصلينا الغداة بالنخيلة، ثم توجهنا سراعا قبل نينوى، فقال لي: إني أريد سابقا مولى بشر بْن عبد الملك بْن بشر، فأسرع السير، وكنت إذا لقيت القوم أستطعمهم فأطعم الأرغفة فأطعمها إياه، فيأكل ونأكل معه، فانتهينا إلى نينوى وقد أظلمنا، فأتينا منزل سابق، فدعوت على الباب، فخرج إلينا فقلت له: أما أنا فآتي الفيوم، فأكون به، فإذا بدا لك أن ترسل إلي فأرسل. قَالَ: ثم إني مضيت وخلفته عند سابق، فذلك آخر عهدي به. قَالَ: ثم إن يوسف بْن عمر بعث أهل الشام يطلبون الجرحى في دور أهل الكوفة، فكانوا يخرجون النساء إلى صحن الدار، ويطوفون البيت يلتمسون الجرحى. قَالَ: ثم دل غلام زيد بْن علي السندي يوم الجمعة على زيد، فبعث الحكم بْن الصلت العباس بْن سعيد المزني وابن الحكم بن الصلت، فانطلقا فاستخرجاه، فكره العباس أن يغلب عليه ابن الحكم بْن الصلت فتركه وسرح بشيرا إلى يوسف بْن عمر غداة يوم الجمعة برأس زيد بْن علي مع الحجاج بْن القاسم بْن محمد بْن الحكم بْن أبي عقيل، فقال أبو الجويرية مولى جهينة: قل للذين انتهكوا المحارم ... ورفعوا الشمع بصحرا سالم كيف وجدتم وقعة الأكارم ... يا يوسف بْن الحكم بْن القاسم! قَالَ: ولما أتى يوسف بْن عمر البشير، امر بزيد فصلب بالكناسة،

هو ونصر بْن خزيمة ومعاوية بْن إسحاق بْن زيد بْن حارثة الأنصاري وزياد النهدي، وكان يوسف قد نادى: من جاء برأس فله خمسمائة درهم، فجاء محمد بْن عباد برأس نصر بْن خزيمة، فأمر له يوسف بْن عمر بألف درهم، وجاء الأحول مولى الأشعريين برأس معاوية بْن إسحاق، فقال: أنت قتلته؟ فقال: أصلح الله الأمير! ليس أنا قتلته، ولكني رايته فعرفته، فقال: اعطوه سبعمائة درهم، ولم يمنعه ان يتم له ألفا، إلا أنه زعم أنه لم يقتله وقد قيل: إن يوسف بْن عمر لم يعلم بأمر زيد ورجوعه من الطريق إلى الكوفة بعد ما شخص إلا بإعلام هشام بْن عبد الملك إياه، وذلك أن رجلا من بني أمية كتب- فيما ذكر- إلى هشام، يذكر له أمر زيد، فكتب هشام إلى يوسف يشتمه ويجهله، ويقول: إنك لغافل، وزيد غارز ذنبه بالكوفه يبايع له فالحح في طلبه، فأعطه الأمان فإن لم يقبل فقاتله فكتب يوسف إلى الحكم بْن الصلت من آل أبي عقيل وهو خليفته على الكوفة بطلبه، فطلبه فخفي عليه موضعه، فدس يوسف مملوكا خراسانيا ألكن، وأعطاه خمسة آلاف درهم، وأمره أن يلطف لبعض الشيعة فيخبره أنه قد قدم من خراسان حبا لأهل البيت، وأن معه مالا يريد أن يقويهم به، فلم يزل المملوك يلقى الشيعة، ويخبرهم عن المال الذي معه حتى أدخلوه على زيد، فخرج فدل يوسف على موضعه، فوجه يوسف إليه الخيل، فنادى أصحابه بشعارهم، فلم يجتمع إليه منهم الا ثلاثمائة او اقل، فجعل يقول: كان داود ابن علي أعلم بكم، قد حذرني خذلانكم فلم أحذر! وقيل: إن الذي دل على موضع زيد الذي كان دفن فيه- وكان دفن في نهر يعقوب فيما قيل، وكان أصحابه قد سكروا النهر ثم حفروا له في بطنه، فدفنوه في ثيابه ثم أجروا عليه الماء- عبد قصار كان به، فاستجعل جعلا على أن يدلهم على موضعه، ثم دلهم، فاستخرجوه، فقطعوا رأسه، وصلبوا جسده، ثم أمروا بحراسته لئلا ينزل، فمكث يحرس زمانا

وقيل إنه كان فيمن يحرسه زهير بْن معاوية أبو خيثمة، وبعث برأسه إلى هشام فأمر به فنصب على باب مدينة دمشق، ثم أرسل به إلى المدينة، ومكث البدن مصلوبا حتى مات هشام، ثم أمر به الوليد فانزل واحرق وقيل: ان حكيم ابن شريك كان هو الذي سعى بزيد إلى يوسف. فأما أبو عبيدة معمر بْن المثنى فإنه قَالَ في أمر يحيى بْن زيد: لما قتل زيد عمد رجل من بني أسد إلى يحيى بْن زيد، فقال له: قد قتل أبوك، وأهل خراسان لكم شيعة، فالرأي أن تخرج إليها قَالَ: وكيف لي بذلك؟ قَالَ: تتوارى حتى يكف عنك الطلب ثم تخرج، فواراه عنده ليلة، ثم خاف فأتى عبد الملك بْن بشر بْن مروان، فقال له: إن قرابة زيد بك قريبة، وحقه عليك واجب، قَالَ له: أجل، ولقد كان العفو عنه أقرب إلى التقوى، قَالَ: فقد قتل وهذا ابنه غلاما حدثا لا ذنب له، وإن علم يوسف بْن عمر بمكانه قتله، فتجيره وتواريه عندك، قَالَ: نعم وكرامة فأتاه به فواراه عنده فبلغ الخبر يوسف، فأرسل إلى عبد الملك: قد بلغني مكان هذا الغلام عندك، وأعطي الله عهدا، لئن لم تأتني به لأكتبن فيك إلى أمير المؤمنين، فقال له عبد الملك: أتاك الباطل والزور، أنا أواري من ينازعني سلطاني ويدعي فيه أكثر من حقي! ما كنت أخشاك على قبول مثل هذا علي ولا الاستماع من صاحبه، فقال: صدق والله ابن بشر، ما كان ليواري مثل هذا، ولا يستر عليه، فكف عن طلبه، فلما سكن الطلب خرج يحيى في نفر من الزيدية إلى خراسان. وخطب يوسف بعد قتل زيد بالكوفة فقال: يا أهل الكوفة، إن يحيى بن زيد يتنقل في حجال نسائكم كما كان يفعل أبوه، والله لو ابدى لي صفحته لعرقت خصييه كما عرقت خصيي أبيه. وذكر عن رجل من الأنصار قَالَ: لما جيء برأس زيد فصلب بالمدينة في سنة ثلاث وعشرين ومائة، أقبل شاعر من شعراء الأنصار فقام بحياله، فقال:

الا يا ناقض الميثاق ... أبشر بالذي ساكا نقضت العهد والميثاق ... قدما كان قدماكا لقد أخلف إبليس الذي ... قد كان مناكا قال: فقيل له: ويلك! أتقول هذا لمثل زيد! فقال: إن الأمير غضبان فأردت أن أرضيه، فرد عليه بعض شعرائهم: ألا يا شاعر السوء ... لقد أصبحت أفاكا اشتم ابن رسول الله ... يرضى من تولاكا ألا صبحك الله ... بخزي ثم مساكا ويوم الحشر لا شك ... بأن النار مثواكا وقيل: كان خراش بْن حوشب بْن يزيد الشيبانى على شرط يوسف ابن عمر، فهو الذي نبش زيدا، وصلبه، فقال السيد: بت ليلي مسهدا ... ساهر الطرف مقصدا ولقد قلت قولة ... وأطلت التبلدا لعن الله حوشبا ... وخراشا ومزيدا ويزيدا فإنه ... كان أعتى وأعندا ألف ألف وألف ... ألف من اللعن سرمدا إنهم حاربوا الإله ... وآذوا محمدا شركوا في دم المطهر ... زيد تعندا ثم عالوه فوق جذع ... صريعا مجردا يا خراش بْن حوشب ... أنت أشقى الورى غدا

قَالَ أبو مخنف: ولما قتل يوسف زيد بْن علي أقبل حتى دخل الكوفة فصعد المنبر، فقال: يا أهل المدرة الخبيثة، إني والله مَا تقرن بي الصعبة، وَلا يقعقع لي بالشنان، ولا اخوف بالذنب هيهات! حبيت بالساعد الأشد، أبشروا يا أهل الكوفة بالصغار والهوان، لا عطاء لكم عندنا ولا رزق، ولقد هممت أن أخرب بلادكم ودوركم، وأحرمكم أموالكم أما والله ما علوت منبري إلا أسمعتكم ما تكرهون عليه، فإنكم أهل بغي وخلاف، ما منكم إلا من حارب الله ورسوله، إلا حكيم بْن شريك المحاربي، ولقد سألت أمير المؤمنين أن يأذن لي فيكم، ولو أذن لقتلت مقاتلتكم، وسبيت ذراريكم. وفي هذه السنة قتل كلثوم بْن عياض القشيري الذي كان هشام بْن عبد الملك بعثه في خيول أهل الشام إلى إفريقية، حيث وقعت الفتنة بالبربر. وفيها قتل عبد الله البطال في جماعة من المسلمين بأرض الروم. وفيها ولد الفضل بْن صالح ومحمد بْن إبراهيم بْن محمد بْن علي. وفيها وجه يوسف بْن عمر بْن شبرمة على سجستان، فاستقضى ابن أبي ليلى. وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن هشام المخزومي، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن اسحق بْن عِيسَى، عن أبي معشر، وكذلك قَالَ الواقدي وغيره. وكانت عمال الأمصار في هذه السنة العمال في السنة التي قبلها، وقد ذكرناهم قبل، إلا أن قاضي الكوفة كان- فيما ذكر- في هذه السنة مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى.

سنه ثلاث وعشرين ومائه

ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر خبر صلح نصر بن سيار مع السغد فمن ذلك ما جرى بين أهل السغد ونصر بْن سيار من الصلح. ذكر الخبر عن ذلك وسببه: ذكر علي بْن محمد، عن شيوخه، أن خاقان لما قتل في ولاية أسد، تفرقت الترك في غارة بعضها على بعض، فطمع أهل السغد في الرجعة إليها، وانحاز قوم منهم إلى الشاش، فلما ولى نصر بْن سيار أرسل إليهم يدعوهم إلى الفيئة والمراجعة إلى بلادهم، وأعطاهم كل ما أرادوا. قَالَ: وكانوا سألوا شروطا أنكرها أمراء خراسان، منها الا يعاقب من كان مسلما وارتد عن الإسلام، ولا يعدى عليهم في دين لأحد من الناس، ولا يؤخذون بقبالة عليهم في بيت المال، ولا يؤخذ أسراء المسلمين من أيديهم إلا بقضية قاض وشهادة العدول، فعاب الناس ذلك على نصر، وكلموه فقال: أما والله لو عاينتم شوكتهم في المسلمين ونكايتهم مثل الذي عاينت ما أنكرتم ذلك! فأرسل رسولا إلى هشام في ذلك، فلما قدم الرسول أبى أن ينفذ ذلك لنصر، فقال الرسول: جربت يا أمير المؤمنين حربنا وصلحنا، فاختر لنفسك فغضب هشام، فقال الأبرش الكلبي: يا أمير المؤمنين، تألف القوم واحمل لهم، فقد عرفت نكايتهم كانت في المسلمين، فأنفذ هشام ما سأل. وفي هذه السنة أوفد يوسف بن عمر الحكم بن الصلت الى هشام بْن عبد الملك، يسأله ضم خراسان إليه وعزل نصر بْن سيار

ذكر الخبر عن سبب ذلك وما كان من الأمر فيه: ذكر علي عن شيوخه، قَالَ: لما طالت ولاية نصر بْن سيار، ودانت له خراسان، كتب يوسف بْن عمر إلى هشام حسدا له: إن خراسان دبرة دبرة فإن رأى أمير المؤمنين أن يضمها إلى العراق فأسرح إليها الحكم بْن الصلت، فإنه كان مع الجنيد، وولي جسيم أعمالها، فأعمر بلاد أمير المؤمنين بالحكم. وأنا باعث بالحكم بْن الصلت إلى أمير المؤمنين، فإنه أديب أريب، ونصيحته لأمير المؤمنين مثل نصيحتنا ومودتنا أهل البيت فلما أتى هشاما كتابه بعث إلى دار الضيافة، فوجد فيها مقاتل بن على السغدى، فأتوه به، فقال: أمن خراسان أنت؟ قَالَ: نعم، وأنا صاحب الترك- قَالَ: وكان قدم على هشام بخمسين ومائة من الترك- فقال: أتعرف الحكم بْن الصلت؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فما ولي بخراسان؟ قَالَ: ولي قرية يقال لها الفارياب، خراجها سبعون ألفا، فأسره الحارث بْن سريج، قَالَ: ويحك! وكيف أفلت منه! قَالَ: عرك أذنه، وقفده وخلى سبيله قَالَ: فقدم عليه الحكم بعد بخراج العراق، فرأى له جمالا وبيانا، فكتب إلى يوسف: إن الحكم قدم وهو على ما وصفت، وفيما قبلك له سعة، وخل الكناني وعمله. وفي هذه السنة غزا نصر فرغانة غزوته الثانية، واوفد مغراء بْن أحمر إلى العراق، فوقع فيه عند هشام. ذكر الخبر عن ذَلِكَ وما كَانَ من هشام ويوسف بْن عمر فيه: ذكر أن نصرا وجه مغراء بْن أحمر إلى العراق وافدا، منصرفه من غزوته الثانية فرغانة، فقال له يوسف بْن عمر: يا بن أحمر، يغلبكم ابن الأقطع يا معشر قيس على سلطانكم! فقال: قد كان ذلك أصلح الله الأمير! قَالَ: فإذا قدمت على أمير المؤمنين فابقر بطنه فقدموا على هشام، فسألهم عن أمر خراسان، فتكلم مغراء، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر

يوسف بْن عمر بخير، فقال: ويحك! أخبرني عن خراسان، قَالَ: ليس لك جند يا امير المؤمنين احد ولا انجد منهم، من سواذق في السماء وفرسان مثل الفيله، وعدة وعدد من قوم ليس لهم قائد، قَالَ: ويحك! فما فعل الكناني؟ قَالَ: لا يعرف ولده من الكبر فرد عليه مقالته، وبعث إلى دار الضيافة، فأتي بشبيل بْن عبد الرحمن المازني، فقال له هشام: أخبرني عن نصر، قَالَ: ليس بالشيخ يخشى خرفه، ولا الشاب يخشى سفهه، المجرب المجرب، قد ولي عامة ثغور خراسان وحروبها قبل ولايته فكتب إلى يوسف بذلك، فوضع يوسف الأرصاد، فلما انتهوا إلى الموصل تركوا طريق البريد، وتكادوا حتى قدموا بيهق- وقد كتب إلى نصر بقول شبيل- وكان إبراهيم بْن بسام في الوفد، فمكر به يوسف، ونعى له نصرا، وأخبره أنه قد ولى الحكم بْن الصلت بْن أبي عقيل خراسان فقسم له ابراهيم امر خراسان كله، حتى قدم عليه إبراهيم بْن زياد رسول نصر، فعرف أن يوسف قد مكر به وقال: أهلكني يوسف. وقيل: إن نصرا أوفد مغراء، وأوفد معه حملة بْن نعيم الكلبي، فلما قدموا على يوسف، أطمع يوسف مغراء، ان هو تنقص نصرا عند هشام أن يوليه السند فلما قدما عليه ذكر مغراء بأس نصر ونجدته ورأيه، وأطنب في ذلك، ثم قَالَ: لو كان الله متعنا منه ببقية! فاستوى هشام جالسا، ثم قَالَ: ببقية ماذا؟ قَالَ: لا يعرف الرجل إلا بجرمه، ولا يفهم عنه حتى يدنى منه، وما يكاد يفهم صوته من الضعف لأجل كبره فقام حملة الكلبي، فقال: يا أمير المؤمنين، كذب والله، ما هو كما قَالَ، هو هو فقال هشام: إن نصرا ليس كما وصف، وهذا أمر يوسف بن عمر حسد لنصر، وقد كان يوسف كتب إلى هشام يذكر كبر نصر وضعفه، ويذكر له سلم بْن قتيبة فكتب إليه هشام: إله عن ذكر الكناني، فلما قدم مغراء على يوسف، قَالَ له: قد علمت بلاء نصر عندي، وقد صنعت به

ما قد علمت، فليس لي في صحبته خير، ولا لي بخراسان مقام، فأمره بالمقام وكتب إلى نصر: إني قد حولت اسمه، فأشخص إلي من قبلك من أهله. وقيل: إن يوسف لما أمر مغراء بعيب نصر، قَالَ: كيف أعيبه مع بلائه وآثاره الجميلة عندي وعند قومى! فلم يزل به، فقال: فبم اعيبه؟ اعيب تجربته أم طاعته؟ أم يمن نقيبته أم سياسته؟ قَالَ: عبه بالكبر فلما دخل على هشام تكلم مغراء، فذكر نصرا بأحسن ما يكون، ثم قَالَ في آخر كلامه: لولا، فاستوى هشام جالسا، فقال: ما لولا! قَالَ: لولا أن الدهر قد غلب عليه، قَالَ: ما بلغ به ويحك الدهر! قَالَ: ما يعرف الرجل إلا من قريب، ولا يعرفه إلا بصوته، وقد ضعف عن الغزو والركوب. فشق ذلك على هشام فتكلم حملة بن نعيم فلما بلغ نصرا قول مغراء بعث هارون بْن السياوش إلى الحكم بْن نميلة، وهو في السراجين يعرض الجند، فأخذ برجله فسحبه عن طنفسة له، وكسر لواءه على رأسه، وضرب بطنفسته وجهه، وقال: كذلك يفعل الله بأصحاب الغدر! وذكر علي بْن محمد، عن الحارث بْن أفلح بْن مالك بن أسماء بْن خارجة: لما ولي نصر خراسان أدنى مغراء بْن أحمر بْن مالك بْن ساريه النميرى والحكم ابن نميلة بْن مالك والحجاج بْن هارون بْن مالك، وكان مغراء بْن أحمر النميري رأس أهل قنسرين، فآثر نصر مغراء وسنى منزلته، وشفعه في حوائجه، واستعمل ابن عمه الحكم بْن نميلة على الجوزجان، ثم عقد للحكم على أهل العالية، وكان أبوه بالبصرة عليهم، وكان بعده عكابة بْن نميلة، ثم أوفد نصر وفدا من أهل الشام وأهل خراسان، وصير عليهم مغراء، وكان في الوفد حملة بْن نعيم الكلبي، فقال عثمان بْن صدقة بْن وثاب لمسلم بن عبد الرحمن ابن مسلم عامل طخارستان: خيرني مسلم مراكبه ... فقلت حسبي من مسلم حكما

هذا فتى عامر وسيدها ... كفى بمن ساد عامرا كرما يعني الحكم بْن نميلة. قَالَ: فتغير نصر لقيس وأوحشه ما صنع مغراء قَالَ: وكان أبو نميلة صالح الأبار مولى بني عبس، خرج مع يحيى بْن زيد بْن علي بْن حسين، فلم يزل معه حتى قتل بالجوزجان وكان نصر قد وجد عليه لذلك، فأتى عبيد الله بْن بسام صاحب نصر، فقال: قد كنت في همة حيران مكتئبا ... حتى كفاني عبيد الله تهمامي ناديته فسما للمجد مبتهجا ... كغرة البدر جلى وجه إظلام فاسم برأي أبي ليث وصولته ... إن كنت يوم حفاظ بامرئ سام تظفر يداك بمن تمت مروته ... واختصه ربه منه بإكرام ماضي العزائم ليثي مضاربه ... على الكريهة يوم الروع مقدام لا هذر ساحة النادي ولا مذل ... فيه ولا مسكت إسكات إفحام له من الحلم ثوباه ومجلسه ... إذا المجالس شانت أهل أحلام قال: فأدخله عبيد الله على نصر، فقال أبو نميلة: أصلحك الله! إني ضعيف، فإن رأيت أن تأذن لراويتى! فأذن له، فأنشده: فاز قدح الكلبي فاعتقدت ... مغراء في سعيه عروق لئيم فأبيني نمير ثم أبيني ... ألعبد مغراء أم لصميم فلئن كان منكم ما يكون ... الغدر والكفر من خصال الكريم ولئن كان أصله كان عبدا ... ما عليكم من غدره من شتيم وليته ليث وأي ولاة ... بأياد بيض وامر عظيم! اسمنته حتى إذا راح مغبوطا ... بخير من سيبها المقسوم

كاد ساداته بأهون من نهقه ... عير بقفره مرقوم فضربنا لغيرنا مثل الكلب ... ذميما والذم للمذموم وحمدنا ليثا ويأخذ بالفضل ... ذوو الجود والندى والحلوم فاعلمن يا بني القساورة الغلب ... واهل الصفا وأهل الحطيم أن في شكر صالحينا لما يد ... حض قول المرهق الموصوم قد رأى الله ما اتيت ولن ينقص ... نبح الكلاب زهر النجوم فلما فرغ قَالَ نصر: صدقت، وتكلمت القيسية واعتذروا قَالَ: وأهان نصر قيسا وباعدهم حين فعل مغراء ما فعل، فقال في ذلك بعض الشعراء: لقد بغض الله الكرام إليكم ... كما بغض الرحمن قيسا إلى نصر رأيت أبا ليث يهين سراتهم ... ويدني إليه كل ذي والث غمر وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة يَزِيد بْن هشام بْن عبد الملك، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قَالَ الواقدي أيضا. وكان عمال الأمصار فِي هَذِهِ السنة هم العمال الذين كانوا في السنة التي قبلها، وقد ذكرتهم قبل.

سنه اربع وعشرين ومائه

ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائة (ذكر الاخبار عما كان فيها من الاحداث) ابتداء امر ابى مسلم الخراسانى فمما كان فيها من ذلك مقدم جماعة من شيعة بني العباس الكوفة يريدون مكة، وشرى بكير بْن ماهان- في قول بعض أهل السير- أبا مسلم صاحب دعوة بني العباس من عيسى بْن معقل العجلي. ذكر الخبر عن سبب ذلك: وقد اختلف في ذلك، فأما علي بْن محمد، فإنه ذكر أن حمزة بْن طلحة السلمي حدثه عن أبيه، قَالَ: كان بكير بْن ماهان كاتبا لبعض عمال السند، فقدمها، فاجتمعوا بالكوفة في دار، فغمز بهم فأخذوا، فحبس بكير وخلى عن الباقين، وفي الحبس يونس أبو عاصم وعيسى بْن معقل العجلي، ومعه أبو مسلم يخدمه، فدعاهم بكير فأجابوه إلى رأيه، فقال لعيسى بْن معقل: ما هذا الغلام؟ قَالَ: مملوك، قَالَ: تبيعه؟ قَالَ: هو لك، قَالَ: أحب أن تأخذ ثمنه، قَالَ: هو لك بما شئت، فاعطاه أربعمائة درهم، ثم أخرجوا من السجن، فبعث به إلى إبراهيم فدفعه إبراهيم إلى أبي موسى السراج، فسمع منه وحفظ، ثم صار إلى أن اختلف إلى خراسان. وقال غيره: توجه سليمان بْن كثير ومالك بْن الهيثم ولاهز بْن قريظ، وقحطبة بْن شبيب من خراسان، وهم يريدون مكة في سنة أربع وعشرين ومائة، فلما دخلوا الكوفة أتوا عاصم بْن يونس العجلي، وهو في الحبس، قد اتهم بالدعاء إلى ولد العباس، ومعه عيسى وإدريس ابنا معقل، حبسهما يوسف بْن عمر فيمن حبس من عمال خالد بْن عبد الله، ومعهما أبو مسلم يخدمهما، فرأوا فيه العلامات، فقالوا: من هذا؟ قالوا: غلام معنا من

السراجين- وقد كان أبو مسلم يسمع عيسى وإدريس يتكلمان في هذا الرأي فإذا سمعهما بكى- فلما رأوا ذلك منه دعوه إلى ما هم عليه، فأجاب وقبل. وفي هذه السنة غزا سليمان بْن هشام الصائفة، فلقي أليون ملك الروم فسلم وغنم. وفيها مات- في قول الواقدي- محمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن هشام بْن إسماعيل، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قَالَ الواقدي. وحج في هذه السنة عبد العزيز بْن الحجاج بْن عبد الملك معه امرأته أم سلمة بنت هشام بْن عبد الملك. وذكر محمد بْن عمر أن يزيد مولى أبي الزناد حدثه، قَالَ: رأيت محمد ابن هشام على بابها يرسل بالسلام وألطافه على بابها كثيره، ويعتذر فتأبى، حتى كان يأيس من قبول هديته، ثم أمرت بقبضها. وكان عمال الأمصار فِي هَذِهِ السنة هم العمال الذين كانوا عمالها في سنة اثنتين وعشرين ومائة وفي سنة ثلاث وعشرين ومائة، وقد ذكرناهم قبل.

سنه خمس وعشرين ومائه

ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك غزوة النعمان بْن يزيد بْن عبد الملك الصائفه. خبر وفاه هشام بن عبد الملك ومن ذلك وفاة هشام بْن عبد الملك بْن مروان فيها، وكانت وفاته- فيما ذكر أبو معشر- لست ليال خلون من شهر ربيع الآخر، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عنه. وكذلك قَالَ الواقدي والمدائني وغيرهما، غير أنهم قالوا: كانت وفاته يوم الأربعاء لست ليال خلون من شهر ربيع الآخر، فكانت خلافته في قول جميعهم تسع عشرة سنة، وسبعة اشهر وأحدا وعشرين يوما في قول المدائني وابن الكلبي، وفي قول أبي معشر: وثمانية أشهر ونصفا، وفي قول الواقدي: وسبعة أشهر وعشرة ليال. واختلف في مبلغ سنه، فقال هشام بْن محمد الكلبي: توفي وهو ابن خمس وخمسين سنة. وقال بعضهم: توفي وله اثنتان وخمسون سنة وقال محمد بْن عمر: كان هشام يوم توفي ابن أربع وخمسين سنة. وكانت وفاته بالرصافة وبها قبره، وكان يكنى أبا الوليد ذكر الخبر عن العلة التي كانت بها وفاته حدثني أحمد بْن زهير، قَالَ: حدثني علي بْن محمد، قَالَ: حدثني شيبة بْن عثمان، قَالَ: حدثني عمرو بْن كليع، قَالَ: حدثني سالم أبو العلاء، قَالَ: خرج علينا هشام بْن عبد الملك يوما وهو كئيب، يعرف ذلك فيه،

ذكر بعض سير هشام

مسترخ عليه ثيابه، وقد أرخى عنان دابته، فسار ساعة ثم انتبه، فجمع ثيابه وأخذ بعنان دابته، وقال للربيع: ادع الأبرش، فدعي فسار بيني وبين الأبرش، فقال له الأبرش: يا أمير المؤمنين، لقد رأيت منك شيئا غمني، قَالَ: وما هو؟ قَالَ: رأيتك قد خرجت على حال غمني، قَالَ: ويحك يا أبرش! وكيف لا أغتم وقد زعم أهل العلم أني ميت إلى ثلاثة وثلاثين يوما! قَالَ سالم: فرجعت إلى منزلي، فكتبت في قرطاس: زعم أمير المؤمنين يوم كذا وكذا أنه يسافر إلى ثلاثة وثلاثين يوما فلما كان في الليلة التي استكمل فيها ثلاثة وثلاثين يوما إذا خادم يدق الباب يقول: أجب أمير المؤمنين، واحمل معك دواء الذبحة- وقد كان أخذه مرة فتعالج فأفاق- فخرجت ومعي الدواء فتغرغر به، فازداد الوجع شدة، ثم سكن فقال لي: يا سالم، قد سكن بعض ما كنت أجد، فانصرف إلى أهلك، وخلف الدواء عندي فانصرفت، فما كان إلا ساعة حتى سمعت الصراخ عليه، فقالوا: مات أمير المؤمنين! فلما مات أغلق الخزان الأبواب، فطلبوا قمقما يسخن فيه الماء لغسله، فما وجدوه حتى استعاروا قمقما من بعض الجيران، فقال بعض من حضر ذلك: إن في هذا لمعتبرا لمن اعتبر وكانت وفاته بالذبحة، فلما مات صلى عليه ابنه مسلمة بْن هشام. ذكر بعض سير هشام حدثني أحمد بْن زهير، قَالَ: حدثني علي بْن محمد، عن وسنان الأعرجي، قَالَ: حدثني ابن أبي نحيلة، عن عقال بْن شبة، قَالَ: دخلت على هشام، وعليه قباء فنك أخضر، فوجهني إلى خراسان، وجعل يوصيني وأنا أنظر إلى القباء، ففطن، فقال: ما لك؟ قلت: رأيت عليك قبل أن تلي الخلافة قباء فنك أخضر، فجعلت أتأمل هذا، أهو ذاك أم غيره. فقال: هو والله الذي لا إله إلا، هو ذاك، ما لي قباء غيره وأما ما ترون من جمعي هذا المال وصونه فإنه لكم قَالَ: وكان عقال مع

هشام فأما شبة أبو عقال، فكان مع عبد الملك بْن مروان، وكان عقال يقول: دخلت على هشام، فدخلت على رجل محشو عقلا. حدثني أحمد بْن زهير، قَالَ: حدثني علي، قَالَ: قَالَ مروان بْن شجاع، مولى لمروان بْن الحكم: كنت مع محمد بْن هشام بْن عبد الملك، فأرسل إلي يوما، فدخلت عليه، وقد غضب وهو يتلهف، فقلت: ما لك؟ فقال: رجل نصراني شج غلامي- وجعل يشتمه- فقلت له: على رسلك! قَالَ: فما أصنع؟ قلت: ترفعه إلى القاضي، قَالَ: وما غير هذا! قلت: لا، قَالَ خصي له: أنا أكفيك، فذهب فضربه وبلغ هشاما فطلب الخصي، فعاذ بمحمد، فقال محمد بْن هشام: لم آمرك، وقال الخصي: بلى والله لقد أمرتني، فضرب هشام الخصي وشتم ابنه. وحدثني أحمد، قَالَ علي: لم يكن أحد يسير في أيام هشام في موكب إلا مسلمة بْن عبد الملك قَالَ: ورأى هشام يوما سالما في موكب، فزجره وقال: لأعلمن متى سرت في موكب وكان يقدم الرجل الغريب فيسير معه، فيقف سالم، ويقول: حاجتك، ويمنعه أن يسير معه، وكان سالم كأنه هو أمر هشاما. قَالَ: ولم يكن أحد من بني مروان يأخذ العطاء إلا عليه الغزو، فمنهم من يغزو، ومنهم من يخرج بدلا. قَالَ: وكان لهشام بْن عبد الملك مولى يقال له يعقوب، فكان يأخذ عطاء هشام مائتي دينار ودينارا، يفضل بدينار، فيأخذها يعقوب ويغزو وكانوا يصيرون أنفسهم في أعوان الديوان، وفي بعض ما يجوز لهم المقام به، ويوضع به الغزو عنهم وكان داود وعيسى ابنا علي بْن عبد الله بْن عباس- وهما لأم- في أعوان السوق بالعراق لخالد بْن عبد الله، فأقاما عنده، فوصلهما، ولولا ذلك لم يستطع أن يحبسهما، فصيرهما في الأعوان، فسمرا، وكانا يسامرانه ويحدثانه

قَالَ: فولى هشام بعض مواليه ضيعة له، فعمرها فجاءت بغلة عظيمة كبيرة ثم عمرها أيضا، فأضعفت الغلة، وبعث بها مع ابنه، فقدم بها على هشام، فأخبره خبر الضيعة فجزاه خيرا، فرأى منه انبساطا، فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي حاجة، قَالَ: وما هي؟ قَالَ: زيادة عشرة دنانير في العطاء، فقال: ما يخيل إلى أحدكم أن عشرة دنانير في العطاء إلا بقدر الجوز! لا لعمري لا أفعل. حدثني أحمد، قَالَ: حدثنا علي، قَالَ: قَالَ جعفر بْن سليمان: قَالَ لي عبد الله بْن علي: جمعت دواوين بني مروان، فلم أر ديوانا أصح ولا اصلح للعامه والسلطان من ديوان هشام. حدثنا أحمد، قال: قال علي: قال غسان بن عبد الحميد: لم يكن احد من بنى مروان أشد نظرا في امر اصحابى ودواوينه، ولا أشد مبالغة في الفحص عنهم من هشام. حدثني أحمد، قَالَ: حدثنا علي، قَالَ: قَالَ حماد الأبح: قَالَ هشام لغيلان: ويحك يا غيلان! قد أكثر الناس فيك، فنازعنا بأمرك، فإن كان حقا اتبعناك، وإن كان باطلا نزعت عنه، قَالَ: نعم، فدعا هشام ميمون بْن مهران ليكلمه، فقال له ميمون: سل، فان اقوى ما تكونون إذا سألتم، قَالَ له: أشاء الله أن يعصى؟ فقال له ميمون: أفعصي كارها! فسكت، فقال هشام: أجبه فلم يجبه، فقال له هشام: لا أقالني الله إن أقلته، وأمر بقطع يديه ورجليه. حدثني أحمد، قَالَ: حدثنا علي عن رجل من غنى، عن بشر مولى هشام، قال: اتى هشام برجل عنده قيان وخمر وبربط، فقال: اكسروا الطنبور على رأسه وضربه، فبكى الشيخ قَالَ بشر: فقلت له

- وأنا أعزيه: عليك بالصبر، فقال: أتراني أبكي للضرب! إنما أبكي لاحتقاره للبربط إذ سماه طنبورا! قَالَ: وأغلظ رجل لهشام، فقال له هشام: ليس لك أن تغلظ لإمامك! قَالَ: وتفقد هشام بعض ولده- ولم يحضر الجمعة- فقال له: ما منعك من الصلاة؟ قَالَ: نفقت دابتي، قَالَ: أفعجزت عن المشي فتركت الجمعة! فمنعه الدابة سنة. قَالَ: وكتب سليمان بْن هشام إلى أبيه: إن بغلتي قد عجزت عني، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لي بدابة فعل فكتب إليه: قد فهم أمير المؤمنين كتابك، وما ذكرت من ضعف دابتك، وقد ظن أمير المؤمنين أن ذلك من قلة تعهدك لعلفها، وأن علفها يضيع، فتعهد دابتك في القيام عليها بنفسك، ويرى أمير المؤمنين رأيه في حملانك. قَالَ: وكتب إليه بعض عماله: إني قد بعثت إلى أمير المؤمنين بسلة دراقن، فليكتب إلي أمير المؤمنين بوصولها فكتب إليه: قد وصل إلى أمير المؤمنين الدراقن الذي بعثت به فأعجبه، فزد أمير المؤمنين منه، واستوثق من الوعاء. قَالَ: وكتب إلى بعض عماله: قد وصلت الكمأة التي بعثت بها إلى أمير المؤمنين، وهي أربعون، وقد تغير بعضها، ولم تؤت في ذلك إلا من حشوها، فإذا بعثت إلى أمير المؤمنين منها شيئا فأجد حشوها في الظرف الذي تجعلها فيه بالرمل، حتى لا تضطرب ولا يصيب بعضها بعضا. حدثني أحمد، قَالَ: حدثني علي، قَالَ: حدثنا الحارث بْن يزيد، قَالَ: حدثني مولى لهشام، قَالَ: بعث معي مولى لهشام كان على بعض ضياعه بطيرين ظريفين، فدخلت إليه وهو جالس على سرير في عرصة الدار، فقال: أرسلهما في الدار، قَالَ: فأرسلتهما فنظر إليهما، فقلت: يا أمير المؤمنين، جائزتي، قَالَ: ويلك! وما جائزة طيرين؟ قلت: ما كان، قَالَ: خذ أحدهما، فعدوت في الدار عليهما، فقال: ما لك؟ قلت:

اختار خيرهما، قال: اتختار أيضا خيرهما وتدع شرهما لي! دعهما ونحن نعطيك اربعين درهما او خمسين درهما قَالَ: وأقطع هشام أرضا يقال لها دورين، فأرسل في قبضها، فإذا هي خراب، فقال لذويد كاتب كان بالشام: ويحك! كيف الحيلة؟ قال: ما تجعل لي؟ قال: أربعمائة دينار، فكتب دورين وقراها، ثم أمضاها في الدواوين، فأخذ شيئا كثيرا، فلما ولي هشام دخل عليه ذويد، فقال له هشام: دورين وقراها! لا والله لا تلي لي ولاية أبدا، وأخرجه من الشام. حدثني أحمد، قَالَ: حدثنا علي، عن عمير بْن يزيد، عن أبي خالد، قَالَ: حدثني الوليد بْن خليد، قَالَ: رآني هشام بْن عبد الملك، وأنا على برذون طخاري، فقال: يا وليد بْن خليد، ما هذا البرذون؟ قلت: حملني عليه الجنيد، فحسدني وقال: والله لقد كثرت الطخارية، لقد مات عبد الملك فما وجدنا في دوابه برذونا طخاريا غير واحد، فتنافسه بنو عبد الملك أيهم يأخذه، وما منهم أحد إلا يرى أنه إن لم يأخذه لم يرث من عبد الملك شيئا. قَالَ: وقال بعض آل مروان لهشام: أتطمع في الخلافة وأنت بخيل جبان؟ قَالَ: ولم لا أطمع فيها وأنا حليم عفيف! قَالَ: وقال هشام يوما للأبرش: او ضعت أعنزك؟ قَالَ: إي والله، قَالَ: لكن أعنزي تأخر ولادها، فاخرج بنا إلى أعنزك نصب من ألبانها، قَالَ: نعم، أفأقدم قوما؟ قَالَ: لا، قَالَ: أفأقدم خباء حتى يضرب لنا؟ قَالَ: نعم، فبعث برجلين بخباء فضرب، وغدا هشام والأبرش وغدا الناس، فقعد هشام والأبرش، كل واحد منهما على كرسي، وقدم إلى كل واحد منهما شاة، فحلب هشام الشاة بيده، وقال: تعلم يا أبرش أني لم أبس الحلب! ثم أمر بملة فعجنت وأوقد النار بيده، ثم فحصها وألقى الملة، وجعل يقلبها بالمحراث، ويقول: يا أبرش، كيف ترى رفقي! حتى نضجت ثم أخرجها،

وجعل يقلبها بالمحراث، ويقول: جبينك جبينك والأبرش يقول: لبيك لبيك- وهذا شيء تقوله الصبيان إذا خبزت لهم الملة- ثم تغدى وتغدى الناس ورجع. قَالَ: وقدم علباء بْن منظور الليثي على هشام، فأنشده: قالت عليه واعتزمت لرحلة ... زوراء بالأذنين ذات تسدر أين الرحيل وأهل بيتك كلهم ... كل عليك كبيرهم كالأصغر! فأصاغر أمثال سلكان القطا ... لا في ثرى مال ولا في معشر إني إلى ملك الشام لراحل ... وإليه يرحل كل عبد موقر فلأتركنك إن حييت غنية ... بندى الخليفة ذي الفعال الأزهر إنا أناس ميت ديواننا ... ومتى يصبه ندى الخليفة ينشر فقال له هشام: هذا الذي كنت تحاول، وقد أحسنت المسألة فامر له بخمسمائة درهم، وألحق له عيلا في العطاء. قَالَ: وأتى هشاما محمد بْن زيد بْن عبد الله بْن عمر بْن الخطاب، فقال: مالك عندي شيء، ثم قَالَ: إياك أن يغرك أحد فيقول: لم يعرفك أمير المؤمنين، إني قد عرفتك، أنت محمد بْن زيد بْن عبد الله بْن عمر بْن الخطاب، فلا تقيمن وتنفق ما معك، فليس لك عندي صله، فالحق بأهلك. قَالَ: ووقف هشام يوما قريبا من حائط فيه زيتون، ومعه عثمان بْن حيان المري، وعثمان قائم يكاد رأسه يوازي رأس أمير المؤمنين وهو يكلمه إذ سمع نفض الزيتون، فقال لرجل: انطلق إليهم فقل لهم: القطوه لقطا، ولا تنفضوه نفضا، فتتفقأ عيونه، وتتكسر غصونه. قَالَ: وحج هشام، فأخذ الأبرش مخنثين ومعهم البرابط، فقال هشام: احبسوهم وبيعوا متاعهم- وما درى ما هو- وصيروا ثمنه في بيت المال، فإذا صلحوا فردوا عليهم الثمن. وكان هشام بْن عبد الملك ينزل الرصافة- وهي فيما ذكر- من أرض قنسرين

وكان سبب نزوله إياها- فيما حدثني أحمد بْن زهير بْن حرب، عن علي بْن محمد- قال: كان الخلفاء وأبناء الخلفاء يتبدون ويهربون من الطاعون، فينزلون البرية خارجا عن الناس، فلما أراد هشام أن ينزل الرصافة قيل له: لا تخرج، فإن الخلفاء لا يطعنون، ولم نر خليفة طعن، قَالَ: أتريدون أن تجربوا بي! فنزل الرصافة وهي برية، ابتنى بها قصرين. والرصافة مدينة رومية بنتها الروم وكان هشام الأحول، فحدثني أحمد، عن علي، قَالَ: بعث خالد بْن عبد الله إلى هشام بْن عبد الملك بحاد فحدا بين يديه بأرجوزة أبي النجم: والشمس في الأفق كعين احول ... صغواء قد همت ولما تفعل فغضب هشام وطرده. وحدثني أحمد بْن زهير، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو عاصم الضبي، قَالَ: مر بي معاوية بْن هشام، وأنا أنظر إليه في رحبة أبي شريك- وأبو شريك رجل من العجم كانت تنسب إليه وهي مزرعة- وقد اختبز خبزه، فوقف علي، فقلت: الغداء! فنزل وأخرجتها، فوضعتها في لبن، فأكل ثم جاء الناس، فقلت: من هذا؟ قالوا: معاويه بن هشام، فامر لي بصلة وركب وثار بين يديه ثعلب، فركض خلفه، فما تبعه غلوة، حتى عثر به فرسه فسقط فاحتملوه ميتا، فقال هشام: تالله لقد أجمعت أن أرشحه للخلافة، ويتبع ثعلبا! قَالَ: وكانت عند معاوية بْن هشام ابنة إسماعيل بْن جرير وامرأة أخرى، فأخرج هشام كل واحدة منهما من نصف الثمن بأربعين ألفا. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا، عَلِيُّ، قَالَ: قَالَ قحذم كاتب يوسف: بعثني يوسف بْن عمر إلى هشام بياقوتة حمراء يخرج طرفاها من كفى، وحبه لؤلؤ اعظم ما يكون من الحب، فدخلت عليه فدنوت منه، فلم أر وجهه من طول السرير وكثرة الفرش، فتناول الحجر والحبه، فقال:

أكتب معك بوزنهما؟ قلت: يا أمير المؤمنين، هما أجل عن أن يكتب بوزنهما، ومن أين يوجد مثلهما! قَالَ: صدقت، وكانت الياقوتة للرائقة جارية خالد بْن عبد الله، اشترتها بثلاثة وسبعين ألف دينار. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ شِهَابِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: مَشَيْتُ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ إِلَى دَارِهِ عِنْدَ الْحَمَّامِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ طَالَ مُلْكُ هِشَامٍ وَسُلْطَانُهُ، وَقَدْ قَرُبَ مِنَ الْعِشْرِينَ وَقَدْ زَعَمَ النَّاسُ أَنَّ سُلَيْمَانَ سَأَلَ رَبَّهُ مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، فَزَعَمَ النَّاسُ أَنَّهَا الْعِشْرُونَ، فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا أَحَادِيثُ النَّاسِ! وَلَكِنَّ أَبِي حَدَّثَنِي عَنْ ابيه، [عن على، عن النبي ص أَنَّهُ قَالَ: لَنْ يُعَمِّرَ اللَّهُ مُلْكًا فِي أُمَّةِ نَبِيٍّ مَضَى قَبْلَهُ مَا بَلَغَ بِذَلِكَ النَّبِيِّ مِنَ الْعُمُرِ] وفي هذه السنة وَلِيَ الْخِلافَةَ بَعْدَ مَوْتِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الوليد بن يزيد ابن عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَلِيَهَا يَوْمَ السَّبْتِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الآخَرِ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ فِي قَوْلِ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكَلْبِيِّ. وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ فَإِنَّهُ قَالَ: اسْتُخْلِفَ الوليد بن يزيد بن عبد الملك يوم الأَرْبِعَاءِ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخَرِ مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ. وَقَالَ فِي ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ مِثْلَ قَوْلِ مُحَمَّدِ بن عمر.

خلافه الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان

خلافة الوليد بْن يزيد بْن عبد الملك بْن مروان (ذكر الخبر عن بعض أسباب ولايته الخلافه) قد مضى ذكرى سبب عقد أبيه يزيد بْن عبد الملك بْن مروان له الخلافة بعد أخيه هشام بْن عبد الملك، وكان الوليد بْن يزيد يوم عقد له أبوه يزيد ذلك ابن إحدى عشرة سنة، فلم يمت يزيد حتى بلغ ابنه الوليد خمس عشرة سنة، فندم يزيد على استخلافه هشاما أخاه بعده، وكان إذا نظر إلى ابنه الوليد، قَالَ: الله بيني وبين من جعل هشاما بيني وبينك! فتوفي يزيد بْن عبد الملك وابنه الوليد ابن خمس عشرة سنة وولي هشام وهو للوليد مكرم معظم مقرب، فلم يزل ذلك من أمرهما حتى ظهر من الوليد بْن يزيد مجون وشرب الشراب، حمله على ذلك- فيما حدثني أحمد بْن زهير، عن علي ابن محمد، عن جويرية بْن أسماء وإسحاق بْن أيوب وعامر بْن الأسود وغيرهم- عبد الصمد بن عبد الأعلى الشبانى أخو عبد الله بْن عبد الأعلى- وكان مؤدب الوليد- واتخذ الوليد ندماء، فأراد هشام أن يقطعهم عنه فولاه الحج سنة تسع وعشرة ومائة، فحمل معه كلابا في صناديق، فسقط منها صندوق- فيما ذكر علي بْن محمد عمن سميت من شيوخه- عن البعير وفيه كلب، فأجالوا على الكري السياط، فأوجعوه ضربا وحمل معه قبة عملها على قدر الكعبة ليضعها على الكعبة، وحمل معه خمرا، وأراد أن ينصب القبة على الكعبة، ويجلس فيها، فخوفه أصحابه وقالوا: لا نأمن الناس عليك وعلينا معك، فلم يحركها وظهر للناس منه تهاون بالدين واستخفاف به، وبلغ ذلك هشاما فطمع في خلعه والبيعة لابنه مسلمة بن هشام، فاراده على أن يخلعها ويبايع لمسلمة، فأبى، فقال له: اجعلها له من بعدك، فأبى، فتنكر له هشام واضربه، وعمل سرا في البيعة لابنه، فأجابه قوم

قَالَ: فكان ممن أجابه خالاه: محمد وإبراهيم ابنا هشام بْن إسماعيل المخزومي، وبنو القعقاع بْن خليد العبسي وغيرهم من خاصته. قَالَ: وتمادى الوليد في الشراب وطلب اللذات فأفرط، فقال له هشام: ويحك يا وليد! والله ما أدري أعلى الإسلام أنت أم لا! ما تدع شيئا من المنكر إلا أتيته غير متحاش ولا مستتر به! فكتب إليه الوليد: يايها السائل عن ديننا ... نحن على دين أبي شاكر نشربها صرفا وممزوجة ... بالسخن أحيانا وبالفاتر فغضب هشام على ابنه مسلمة- وكان يكنى أبا شاكر- وقال له: يعيرني بك الوليد وأنا أرشحك للخلافة! فالزم الأدب واحضر الجماعة وولاه الموسم سنة تسع عشرة ومائة، فأظهر النسك والوقار واللين، وقسم بمكة والمدينة أموالا، فقال مولى لأهل المدينة: يايها السائل عن ديننا ... نحن على دين أبي شاكر الواهب الجرد بأرسانها ... ليس بزنديق ولا كافر يعرض بالوليد. وأم مسلمه بْن هشام أم حكيم بنت يحيى بْن الحكم بْن أبي العاص فقال الكميت: إن الخلافة كائن أوتادها ... بعد الوليد إلى ابن أم حكيم فقال خالد بْن عبد الله القسرى: انا بريء من خليفة يكنى أبا شاكر، فغضب مسلمة بْن هشام على خالد، فلما مات أسد بن عبد الله أخو خالد ابن عبد الله، كتب أبو شاكر إلى خالد بْن عبد الله بشعر هجا به يحيى بْن نوفل خالدا وأخاه أسدا حين مات: أراح من خالد وأهلكه ... رب أراح العباد من أسد أما أبوه فكان مؤتشبا ... عبدا لئيما لأعبد قفد

وبعث بالطومار مع رسول على البريد إلى خالد، فظن أنه عزاه عن أخيه، ففض الخاتم، فلم ير في الطومار غير الهجاء، فقال: ما رأيت كاليوم تعزية! وكان هشام يعيب الوليد ويتنقصه، وكثر عبثه به وبأصحابه وتقصيره به، فلما رأى ذلك الوليد خرج وخرج معه ناس من خاصته ومواليه، فنزل بالأزرق، بين أرض بلقين وفزارة، على ماء يقال له الاغدف، وخلف كاتبه عياض ابن مسلم مولى عبد الملك بْن مروان بالرصافة، فقال له: اكتب إلي بما يحدث قبلكم وأخرج معه عبد الصمد بْن عبد الأعلى، فشربوا يوما فلما أخذ فيهم الشراب، قَالَ الوليد لعبد الصمد: يا أبا وهب، قل أبياتا، فقال: ألم تر للنجم إذ شيعا ... يبادر في برجه المرجعا تحير عن قصد مجراته ... أتى الغور والتمس المطلعا فقلت وأعجبني شأنه ... وقد لاح إذ لاح لي مطمعا: لعل الوليد دنا ملكه ... فأمسى إليه قد استجمعا وكنا نؤمل في ملكه ... كتأميل ذي الجدب ان يمرعا عقدنا له محكمات الأمور ... طوعا فكان لها موضعا وروي الشعر، فبلغ هشاما، فقطع عن الوليد ما كان يجري عليه، وكتب إلى الوليد: بلغني عنك أنك اتخذت عبد الصمد خدنا ومحدثا ونديما، وقد حقق ذلك عندي ما بلغني عنك، ولم أبرئك من سوء، فأخرج عبد الصمد مذموما مدحورا فأخرجه، وقال فيه: لقد قذفوا أبا وهب بأمر ... كبير بل يزيد على الكبير فأشهد أنهم كذبوا عليه ... شهادة عالم بهم خبير وكتب الوليد إلى هشام يعلمه إخراج عبد الصمد، واعتذر إليه مما بلغه

من منادمته، وسأله أن يأذن لابن سهيل في الخروج إليه- وكان ابن سهيل من أهل اليمن وقد ولي دمشق غير مرة، وكان ابن سهيل من خاصة الوليد- فضرب هشام ابن سهيل وسيره، وأخذ عياض بْن مسلم كاتب الوليد، وبلغه أنه يكتب بالأخبار إلى الوليد، فضربه ضربا مبرحا، وألبسه المسوح. فبلغ الوليد، فقال: من يثق بالناس، ومن يصطنع المعروف! هذا الأحول المشئوم قدمه أبي على أهل بيته فصيره ولى عهده، ثم يصنع بي ما ترون: لا يعلم أن لي في أحد هوى إلا عبث به، كتب إلي أن أخرج عبد الصمد فاخرجته اليه، وكتبت إليه أن يأذن لابن سهيل في الخروج إلي، فضربه وسيره، وقد علم رأيي فيه، وقد علم انقطاع عياض بْن مسلم إلي، وتحرمه بي ومكانه مني وأنه كاتبي، فضربه وحبسه، يضارني بذلك، اللهم أجرني منه! وقال: انا النذير لمسدى نعمة أبدا ... إلى المقاريف ما لم يخبر الدخلا إن أنت أكرمتهم ألفيتهم بطرا ... وإن أهنتهم ألفيتهم ذللا أتشمخون ومنا رأس نعمتكم ... ستعلمون إذا كانت لنا دولا انظر فإن كنت لم تقدر على مثل ... له سوى الكلب فاضربه له مثلا بينا يسمنه للصيد صاحبه ... حتى إذ ما قوى من بعد ما هزلا عدا عليه فلم تضرره عدوته ... ولو أطاق له أكلا لقد أكلا وكتب إلى هشام: لقد بلغني الذي أحدث أمير المؤمنين من قطع ما قطع عني، ومحو ما محا من أصحابي وحرمي وأهلي، ولم أكن أخاف أن يبتلي الله أمير المؤمنين بذلك ولا أبالي به منه، فإن يكن ابن سهيل كان منه ما كان فبحسب العير أن يكون قدر الذئب، ولم يبلغ من صنيعي في ابن سهيل واستصلاحه، وكتابي إلى أمير المؤمنين فيه كنه ما بلغ أمير المؤمنين من قطيعتي، فإن يكن ذلك لشيء في نفس أمير المؤمنين علي، فقد سبب الله لي من العهد، وكتب لي

من العمر، وقسم لي من الرزق ما لا يقدر أحد دون الله على قطع شيء منه دون مدته، ولا صرف شيء عن مواقعه، فقدر الله يجري بمقاديره فيما أحب الناس أو كرهوا، ولا تأخير لعاجله ولا تعجيل لآجله، فالناس بين ذلك يقترفون الآثام على نفوسهم من الله، ولا يستوجبون العقوبة عليه، وأمير المؤمنين أحق أمته بالبصر بذلك والحفظ له، والله الموفق لأمير المؤمنين بحسن القضاء له في الأمور. فقال هشام لأبي الزبير: يا نسطاس، أترى الناس يرضون بالوليد إن حدث بي حدث؟ قَالَ: بل يطيل الله عمرك يا أمير المؤمنين، قَالَ: ويحك! لا بد من الموت، أفترى الناس يرضون بالوليد؟ قَالَ: يا أمير المؤمنين، إن له في أعناق الناس بيعة، فقال هشام: لئن رضي الناس بالوليد ما أظن الحديث الذي رواه الناس: أن من قام بالخلافة ثلاثة أيام لم يدخل النار، إلا باطلا. وكتب هشام إلى الوليد: قد فهم أمير المؤمنين ما كتبت به من قطع ما قطع عنك وغير ذلك، وأمير المؤمنين يستغفر الله من اجرائه ما كان يجرى عليك، ولا يتخوف على نفسه اقتراف الماثم في الذي أحدث من قطع ما قطع، ومحو من محا من صحابتك، لأمرين: أما أحدهما فإيثار أمير المؤمنين إياك بما كان يجري عليك، وهو يعلم وضعك له وإنفاقكه في غير سبيله، وأما الآخر فإثبات صحابتك، وإدرار أرزاقهم عليهم، لا ينالهم ما ينال المسلمين في كل عام من مكروه عند قطع البعوث،

وهم معك تجول بهم في سفهك، ولأمير المؤمنين احرى في نفسه للتقصير في القتر عليك منه للاعتداء عليك فيها، مع أن الله قد نصر أمير المؤمنين في قطع ما قطع عنك من ذلك ما يرجو به تكفير ما يتخوف مما سلف فيه منه وأما ابن سهيل فلعمري لئن كان نزل منك بما نزل، وكان أهلا أن تسر فيه أو تساء، ما جعله الله كذلك، وهل زاد ابن سهيل- لله أبوك- على أن كان مغنيا زفانا، قد بلغ في السفه غايته! وليس ابن سهيل مع ذلك بشر ممن تستصحبه في الأمور التي يكرم أمير المؤمنين نفسه عن ذكرها، مما كنت لعمر الله أهلا للتوبيخ به، ولئن كان أمير المؤمنين على ظنك به في الحرص على فسادك، إنك إذا لغير إل عن هوى أمير المؤمنين من ذلك. وأما ما ذكرت مما سبب الله لك، فإن الله قد ابتدأ أمير المؤمنين بذلك، واصطفاه له، والله بالغ أمره لقد أصبح أمير المؤمنين وهو على اليقين من ربه، أنه لا يملك لنفسه فيما أعطاه من كرامته ضرا ولا نفعا، وإن الله ولي ذلك منه، وانه لا بد له من مزايلته، والله أرأف بعباده وأرحم من أن يولي أمرهم غير الرضي له منهم وإن أمير المؤمنين من حسن ظنه بربه لعلى أحسن الرجاء أن يوليه تسبيب ذلك لمن هو أهله في الرضا له به ولهم، فإن بلاء الله عند أمير المؤمنين أعظم من أن يبلغه ذكره، أو يؤديه شكره، إلا بعون منه، ولئن كان قدر لأمير المؤمنين تعجيل وفاة، إن في الذي هو مفض إليه إن شاء الله من كرامة الله لخلفا من الدنيا ولعمري إن كتابك إلى أمير المؤمنين بما كتبت به لغير مستنكر من سفهك وحمقك، فاربع على نفسك من غلوائها، وارقأ على ظلعك، فإن لله سطوات وعينا، يصيب بذلك من يشاء، ويأذن فيه لمن يشاء ممن شاء الله، وأمير المؤمنين يسأل الله العصمة والتوفيق لأحب الأمور إليه وأرضاها له فكتب الوليد إلى هشام:

رأيتك تبني جاهدا في قطيعتي ... فلو كنت ذا إرب لهدمت ما تبني تثير على الباقين مجنى ضغينة ... فويل لهم إن مت من شر ما تجنى! كأني بهم والليت افضل قولهم ... الا ليتنا والليت إذ ذاك لا يغني كفرت يدا من منعم لو شكرتها ... جزاك بها الرحمن ذو الفضل والمن قَالَ: فلم يزل الوليد مقيما في تلك البرية حتى مات هشام، فلما كان صبيحة اليوم الذي جاءته فيه الخلافة، أرسل إلى أبي الزبير المنذر بْن أبي عمرو، فأتاه فقال له. يا أبا الزبير، ما أتت علي ليلة منذ عقلت عقلي أطول من هذه الليلة، عرضت لي هموم، وحدثت نفسي فيها بأمور من أمر هذا الرجل، الذي قد أولع بي- يعني هشاما- فأركب بنا نتنفس، فركبا، فسارا ميلين، ووقف على كثيب، وجعل يشكو هشامًا إذ نظر إلى رهج، فقال: هؤلاء رسل هشام، نسأل الله من خيرهم، إذ بدا رجلان على البريد مقبلان، أحدهما مولى لأبي محمد السفياني، والآخر جردبة. فلما قربا أتيا الوليد، فنزلا يعدوان حتى دنوا منه، فسلما عليه بالخلافة، فوجم، وجعل جردبة يكرر عليه السلام بالخلافة، فقال: ويحك! أمات هشام! قَالَ: نعم، قَالَ فممن كتابك؟ قَالَ: من مولاك سالم بْن عبد الرحمن صاحب ديوان الرسائل فقرا الكتاب وانصرفا، فدعا مولى أبي محمد السفياني فسأله عن كاتبه عياض بْن مسلم، فقال: يا أمير المؤمنين، لم يزل محبوسا حتى نزل بهشام أمر الله فلما صار في حد لا ترجى الحياة لمثله أرسل عياض إلى الخزان، أن احتفظوا بما في أيديكم، فلا يصلن أحد منه إلى شيء وأفاق هشام إفاقة، فطلب شيئا فمنعوه فقال: أرانا كنا خزانا للوليد! ومات من ساعته وخرج عياض من السجن، فختم أبواب الخزائن، وأمر بهشام فأنزل عن فرشه، فما وجدوا له قمقما يسخن له فيه الماء حتى استعاروه، ولا وجدوا كفنا من الخزائن، فكفنه غالب مولى هشام، فكتب

الوليد إلى العباس بْن الوليد بْن عبد الملك بْن مروان أن يأتي الرصافة، فيحصي ما فيها من أموال هشام وولده، ويأخذ عماله وحشمه، إلا مسلمة بْن هشام، فإنه كتب اليه الا يعرض له، ولا يدخل منزله، فإنه كان يكثر أن يكلم أباه في الرفق به، ويكفه عنه فقدم العباس الرصافة فأحكم ما كتب به إليه الوليد، وكتب إلى الوليد بأخذ بني هشام وحشمه وإحصاء أموال هشام، فقال الوليد: ليت هشاما كان حيا يرى ... محلبه الأوفر قد أترعا ويروى: ليت هشاما عاش حتى يرى ... مكياله الأوفر قد طبعا كلناه بالصاع الذي كاله ... وما ظلمناه به إصبعا وما أتينا ذاك عن بدعة ... أحله الفرقان لي أجمعا فاستعمل الوليد العمال، وجاءته بيعته من الآفاق، وكتب إليه العمال، وجاءته الوفود، وكتب إليه مروان بْن محمد: بارك الله لأمير المؤمنين فيما أصاره إليه من ولاية عباده، ووراثة بلاده، وكان من تغشى غمرة سكرة الولاية ما حمل هشاما على ما حاول من تصغير ما عظم الله من حق أمير المؤمنين، ورام من الأمر المستصعب عليه، الذي أجابه إليه المدخولون في آرائهم واديانهم، فوجد ما طمع فيه مستصعبا، وزاحمته الأقدار بأشد مناكبها وكان أمير المؤمنين بمكان من الله حاطه فيه حتى أزره بأكرم مناطق الخلافة، فقام بما أراه الله له أهلا، ونهض مستقلا بما حمل منها، مثبتة ولايته في سابق الزبر بالأجل المسمى، وخصه الله بها على خلقه وهو يرى حالاتهم، فقلده طوقها، ورمى إليه بأزمة الخلافة، وعصم الأمور. فالحمد لله الذي اختار أمير المؤمنين لخلافته، ووثائق عرى دينه، وذب

له عما كاده فيه الظالمون، فرفعه ووضعهم، فمن أقام على تلك الخسيسة من الأمور اوبق نفسه، واسخط ربه، ومن عدلت به التوبة نازعا عن الباطل إلى حق وجد الله توابا رحيما. أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله انى عند ما انتهى إلي من قيامه بولاية خلافة الله، نهضت الى منبري، على سيفان مستعدا بهما لأهل الغش، حتى أعلمت من قبلي ما امتن الله به عليهم من ولاية أمير المؤمنين، فاستبشروا بذلك، وقالوا: لم تأتنا ولاية خليفة كانت آمالنا فيها أعظم ولا هي لنا أسر من ولاية أمير المؤمنين، وقد بسطت يدي لبيعتك فجددتها ووكدتها بوثائق العهود وترداد المواثيق وتغليظ الأيمان، فكلهم حسنت إجابتهم وطاعتهم، فأثبهم يا أمير المؤمنين بطاعتهم من مال الله الذي آتاك، فإنك أجودهم جودا وأبسطهم يدا، وقد انتظروك راجين فضلك قبلهم بالرحم الذي استرحموك، وزدهم زيادة يفضل بها من كان قبلك، حتى يظهر بذلك فضلك عليهم وعلى رعيتك، ولولا ما أحاول من سد الثغر الذي أنا به، لخفت أن يحملني الشوق إلى أمير المؤمنين أن أستخلف رجلا على غير أمره، وأقدم لمعاينة أمير المؤمنين، فإنها لا يعدلها عندي عادل نعمة وإن عظمت، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في المسير إليه لأشافهه بأمور كرهت الكتاب بها فعل. فلما ولي الوليد أجرى على زمني أهل الشام وعميانهم وكساهم، وأمر لكل إنسان منهم بخادم، وأخرج لعيالات الناس الطيب والكسوة، وزادهم على ما كان يخرج لهم هشام، وزاد الناس جميعا في العطاء عشرة عشرة، ثم زاد أهل الشام بعد زيادة العشرات عشرة عشرة، لأهل الشام خاصة، وزاد من وفد إليه من أهل بيته في جوائزهم الضعف وكان وهو ولي عهد يطعم من وفد إليه من أهل الصائفة قافلا، ويطعم من صدر عن الحج بمنزل يقال له زيزاء ثلاثة أيام، ويعلف دوابهم، ولم يقل في شيء يسأله: لا، فقيل

له: إن في قولك: أنظر، عدة ما يقيم عليها الطالب، فقال: لا أعود لساني شيئا لم أعتده، وقال: ضمنت لكم إن لم تعقني عوائق ... بأن سماء الضر عنكم ستقلع سيوشك إلحاق معا وزيادة ... وأعطية مني عليكم تبرع محرمكم ديوانكم وعطاؤكم ... به يكتب الكتاب شهرا وتطبع وفي هذه السنة عقد الوليد بْن يزيد لابنيه الحكم وعثمان البيعة من بعده، وجعلهما وليي عهده، أحدهما بعد الآخر، وجعل الحكم مقدما على عثمان، وكتب بذلك إلى الأمصار، وكان ممن كتب إليه بذلك يوسف بْن عمر، وهو عامل الوليد يومئذ على العراق، وكتب بذلك يوسف إلى نصر بْن سيار، وكانت نسخة الكتاب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم من يوسف بْن عمر إلى نصر بْن سيار، أما بعد فإني بعثت إليك نسخة كتاب أمير المؤمنين الذي كتب به إلى من قبلي في الذي ولي الحكم ابن أمير المؤمنين وعثمان ابن أمير المؤمنين من العهد بعده مع عقال بْن شبة التميمي وعبد الملك القيني، وأمرتهما بالكلام في ذلك، فإذا قدما عليك فأجمع لقراءة كتاب أمير المؤمنين الناس، ومرهم فليحشدوا له، وقم فيهم بالذي كتب أمير المؤمنين، فإذا فرغت فقم بقراءة الكتاب، وأذن لمن أراد أن يقوم بخطبة، ثم بايع الناس لهما على اسم الله وبركته، وخذ عليهم العهد والميثاق على الذي نسخت لك في آخر كتابي هذا الذي نسخ لنا أمير المؤمنين في كتابه، فافهمه وبايع عليه، نسأل الله أن يبارك لأمير المؤمنين ورعيته في الذي قضى لهم على لسان أمير المؤمنين، وأن يصلح الحكم وعثمان، ويبارك فيهما، والسلام عليك. وكتب النصر يوم الخميس للنصف من شعبان سنة خمس وعشرين ومائة

بسم الله الرحمن الرحيم تبايع لعبد الله الوليد أمير المؤمنين والحكم ابن أمير المؤمنين ان كان من بعده وعثمان بن أمير المؤمنين إن كان بعد الحكم على السمع والطاعة، وإن حدث بواحد منهما حدث فأمير المؤمنين أملك في ولده ورعيته، يقدم من أحب، ويؤخر من أحب عليك بذلك عهد الله وميثاقه، فقال الشاعر في ذلك: نبايع عثمان بعد الوليد ... للعهد فينا ونرجو يزيدا كما كان إذ ذاك في ملكه ... يزيد يرجي لذاك الوليدا على أنها شسعت شسعة ... فنحن نؤملها أن تعودا فان هي عادت فارض القريب ... عنها ليؤيس منها البعيدا قَالَ أحمد: قَالَ علي عن شيوخه الذين ذكرت: فقدم عقال بْن شبة وعبد الملك بْن نعيم على نصر، وقدما بالكتاب وهو: أما بعد، فإن الله تباركت أسماؤه، وجل ثناؤه، وتعالى ذكره، اختار الاسلام دينا لنفسه، وجعله دين خيرته من خلقه، ثم اصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس، فبعثهم به، وأمرهم به، وكان بينهم وبين من مضى من الأمم، وخلا من القرون قرنا فقرنا، يدعون إلى التي هي أحسن، ويهدون إلى صراط مستقيم، حتى انتهت كرامة الله في نبوته إلى محمد صلوات الله عليه، على حين دروس من العلم، وعمى من الناس، وتشتيت من الهوى، وتفرق من السبل، وطموس من أعلام الحق، فأبان الله به الهدى، وكشف به العمى، واستنقذ به من الضلالة والردى، وأبهج به الدين، وجعله رحمه للعالمين، وختم به وحيه، وجمع له ما أكرم به الأنبياء قبله، وقفى به على آثارهم، مصدقا لما نزل معهم، ومهيمنا عليه، وداعيا إليه، وآمرا به، حتى كان من أجابه من أمته، ودخل في الدين الذي أكرمهم الله به، مصدقين لما سلف من أنبياء الله فيما يكذبهم فيه قومهم، منتصحين لهم فيما ينهونه، ذابين لحرمهم عما كانوا منتهكين، معظمين منها لما كانوا

مصغرين، فليس من أمه محمد ص أحد كان يسمع لأحد من أنبياء الله فيما بعثه الله به مكذبا، ولا عليه في ذلك طاعنا، ولا له مؤذيا، بتسفيه له، او رد عليه، او جحد ما انزل الله عليه ومعه، فلم يبق كافر إلا استحل بذلك دمه، وقطع الأسباب التي كانت بينه وبينه، وإن كانوا آباءهم أو أبناءهم أو عشيرتهم ثم استخلف خلفاءه على منهاج نبوته، حين قبض نبيه ص، وختم به وحيه لإنفاذ حكمه، وإقامة سنته وحدوده، والأخذ بفرائضه وحقوقه، تأييدا بهم للإسلام، وتشييدا بهم لعراه، وتقوية بهم لقوى حبله، ودفعا بهم عن حريمه، وعدلا بهم بين عباده، وإصلاحا بهم لبلاده، فإنه تبارك وتعالى يقول: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ» ، فتتابع خلفاء الله على ما أورثهم الله عليه من أمر أنبيائه، واستخلفهم عليه منه، لا يتعرض لحقهم أحد إلا صرعه الله، ولا يفارق جماعتهم أحد إلا أهلكه الله، ولا يستخف بولايتهم، ويتهم قضاء الله فيهم أحد إلا أمكنهم الله منه، وسلطهم عليه، وجعله نكالا وموعظة لغيره، وكذلك صنع الله بمن فارق الطاعة التي أمر بلزومها والأخذ بها، والأثرة لها، والتي قامت السموات والارض بها، قَالَ الله تبارك وتعالى: «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» ، وقال عز ذكره: «وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ» فبالخلافة أبقى الله من أبقى في الأرض من عباده، وإليها صيره، وبطاعة من ولاه إياها سعد من ألهمها ونصرها، فإن الله عز وجل علم أن لا قوام

لشيء، ولا صلاح له إلا بالطاعة التي يحفظ الله بها حقه، ويمضي بها أمره، وينكل بها عن معاصيه، ويوقف عن محارمه، ويذب عن حرماته، فمن أخذ بحظه منها كان لله وليا ولأمره مطيعا، ولرشده مصيبا، ولعاجل الخير وآجله مخصوصا، ومن تركها ورغب عنها وحاد الله فيها أضاع نصيبه، وعصى ربه، وخسر دنياه وآخرته، وكان ممن غلبت عليه الشقوة، واستحوذت عليه الأمور الغاوية، التي تورد أهلها أفظع المشارع، وتقودهم إلى شر المصارع، فيما يحل الله بهم في الدنيا من الذلة والنقمة، ويصيرهم فيما عندهم من العذاب والحسرة. والطاعة رأس هذا الأمر وذروته وسنامه وملاكه وزمامه، وعصمته وقوامه، بعد كلمة الإخلاص التي ميز الله بها بين العباد وبالطاعة نال المفلحون من الله منازلهم، واستوجبوا عليه ثوابهم، وفي المعصية مما يحل بغيرهم من نقماته، ويصيبهم عليه، ويحق من سخطه وعذابه، وبترك الطاعة والإضاعة لها والخروج منها والادبار عنها والتبذل للمعصية بها، أهلك الله من ضل وعتا، وعمى وغلا، وفارق مناهج البر والتقوى. فالزموا طاعة الله فيما عراكم ونالكم، وألم بكم من الأمور، وناصحوها واستوثقوا عليها، وسارعوا إليها وخالصوها، وابتغوا القربة إلى الله بها، فإنكم قد رأيتم مواقع الله لأهلها في إعلائه إياهم وإفلاجه حجتهم، ودفعه باطل من حادهم وناواهم وساماهم وأراد إطفاء نور الله الذي معهم وخبرتم مع ذلك ما يصير إليه أهل المعصية من التوبيخ لهم والتقصير بهم، حتى يؤول أمرهم إلى تبار وصغار، وذلة وبوار، وفي ذلك لمن كان له رأي وموعظة عبرة ينتفع بواضحها، ويتمسك بحظوتها، ويعرف خيرة قضاء الله لأهلها. ثم إن الله- وله الحمد والمن والفضل- هدى الأمة لأفضل الأمور عاقبة لها في حقن دمائها، والتئام ألفتها، واجتماع كلمتها، واعتدال عمودها،

وإصلاح دهمائها، وذخر النعمة عليها في دنياها، بعد خلافته التي جعلها لهم نظاما، ولأمرهم قواما، وهو العهد الذي ألهم الله خلفاءه توكيده والنظر للمسلمين في جسيم أمرهم فيه، ليكون لهم عند ما يحدث بخلفائهم ثقة في المفزع وملتجأ في الأمر، ولما للشعث، وصلاحا لذات البين، وتثبيتا لأرجاء الإسلام، وقطعا لنزغات الشيطان، فيما يتطلع إليه أولياؤه، ويوثبهم عليه من تلف هذا الدين وانصداع شعب أهله، واختلافهم فيما جمعهم الله عليه منه، فلا يريهم الله في ذلك إلا ما ساءهم، وأكذب أمانيهم، ويجدون الله قد أحكم بما قضى لأوليائه من ذلك عقد أمورهم، ونفى عنهم من أراد فيها إدغالا أو بها إغلالا، أو لما شدد الله منها توهينا، أو فيما تولى الله منها اعتمادا، فأكمل الله بها لخلفائه وحزبه البر الذين أودعهم طاعته أحسن الذي عودهم، وسبب لهم من إعزازه وإكرامه وإعلائه وتمكينه، فأمر هذا العهد من تمام الإسلام وكمال ما استوجب الله على أهله من المنن العظام، ومما جعل الله فيه لمن أجراه على يديه، وقضى به على لسانه، ووفقه لمن ولاه هذا الأمر عنده أفضل الذخر، وعند المسلمين أحسن الأثر فيما يؤثر بهم من منفعته، ويتسع لهم من نعمته، ويستندون إليه من عزه، ويدخلون فيه من وزره الذى يجعل الله لهم به منعة، ويحرزهم به من كل مهلكة، ويجمعهم به من كل فرقة، ويقمع به أهل النفاق، ويعصمهم به من كل اختلاف وشقاق فاحمدوا الله ربكم الرءوف بكم، الصانع لكم في أموركم على الذي دلكم عليه من هذا العهد، الذي جعله لكم سكنا ومعولا تطمئنون إليه، وتستظلون في أفنانه، ويستنهج لكم به مثنى أعناقكم، وسمات وجوهكم، وملتقى نواصيكم في أمر دينكم ودنياكم، فإن لذلك خطرا عظيما من النعمة، وإن فيه من الله بلاء حسنا في سعة العافيه، يعرفه ذوو الألباب والنيات المريئون من أعمالهم في العواقب، والعارفون منار مناهج الرشد، فأنتم حقيقون بشكر الله فيما حفظ به دينكم وأمر جماعتكم من ذلك، جديرون بمعرفة كنه واجب حقه فيه، وحمده

على الذي عزم لكم منه، فلتكن منزلة ذلك منكم، وفضيلته في أنفسكم على قدر حسن بلاء الله عندكم فيه إن شاء اللَّه، ولا قوة إلا بالله. ثم إن أمير المؤمنين لم يكن منذ استخلفه الله بشيء من الأمور أشد اهتماما وعناية منه بهذا العهد، لعلمه بمنزلته من أمر المسلمين، وما أراهم الله فيه من الأمور التي يغتبطون بها، ويكرمهم بما يقضي لهم ويختار له ولهم فيه جهده، ويستقضي له ولهم فيه إلهه ووليه، الذي بيده الحكم وعند الغيب، وهو على كل شيء قدير ويسأله أن يعينه من ذلك على الذي هو أرشد له خاصة وللمسلمين عامة فرأى أمير المؤمنين أن يعهد لكم عهدا بعد عهد، تكونون فيه على مثل الذي كان عليه من كان قبلكم، في مهلة من انفساح الأمل وطمأنينة النفس، وصلاح ذات البين، وعلم موضع الأمر الذي جعله الله لأهله عصمة ونجاة وصلاحا وحياة، ولكل منافق وفاسق يحب تلف هذا الدين وفساد أهله وقما وخسارا وقدعا فولى أمير المؤمنين ذلك الحكم ابن أمير المؤمنين، وعثمان بن أمير المؤمنين من بعده، وهما ممن يرجو أمير المؤمنين أن يكون الله خلقه لذلك وصاغه، وأكمل فيه أحسن مناقب من كان يوليه إياه، في وفاء الرأي وصحة الدين، وجزالة المروءة والمعرفة بصالح الأمور، ولم يألكم أمير المؤمنين ولا نفسه في ذلك اجتهادا وخيرا. فبايعوا للحكم بن أمير المؤمنين باسم الله وبركته ولأخيه من بعده، على السمع والطاعة، واحتسبوا في ذلك أحسن ما كان الله يريكم ويبليكم ويعودكم ويعرفكم في أشباهه فيما مضى، من اليسر الواسع والخير العام، والفضل العظيم الذي أصبحتم في رجائه وخفضه وأمنه ونعمته، وسلامته وعصمته. فهو الأمر الذي استبطأتموه واستسرعتم إليه، وحمدتم الله على إمضائه إياه، وقضائه لكم، وأحدثتم فيه شكرا، ورأيتموه لكم حظا، تستبقونه وتجهدون أنفسكم في أداء حق الله عليكم، فإنه قد سبق لكم في ذلك من نعم الله وكرامته

توليه الوليد نصر بن سيار على خراسان وامره مع يوسف بن عمر

وحسن قسمه ما أنتم حقيقون أن تكون رغبتكم فيه، وحدبكم عليه، على قدر الذي أبلاكم الله، وصنع لكم منه وأمير المؤمنين مع ذلك إن حدث بواحد من وليي عهده حدث، أولى بأن يجعل مكانه وبالمنزل الذي كان به من أحب أن يجعل من أمته أو ولده، ويقدمه بين يدي الباقي منهما إن شاء، أو أن يؤخره بعده فاعلموا ذلك وافهموه. نسأل الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم أن يبارك لأمير المؤمنين ولكم في الذي قضى به على لسانه من ذلك وقدر منه، وأن يجعل عاقبته عافية وسرورا وغبطة، فإن ذلك بيده ولا يملكه إلا هو، ولا يرغب فيه إلا إليه والسلام عليكم ورحمة الله. وكتب سمال يوم الثلاثاء لثمان بقين من رجب سنه خمس وعشرين ومائه . توليه الوليد نصر بن سيار على خراسان وامره مع يوسف بن عمر وفي هذه السنة ولى الوليد نصر بْن سيار خراسان كلها، وأفرده بها. وفيها وفد يوسف بن عمر على الوليد، فاشترى نصرا وعماله منه فرد إليه الوليد ولاية خراسان. وفي هذه السنة كتب يوسف بْن عمر إلى نصر بْن سيار يأمره بالقدوم عليه، ويحمل معه ما قدر عليه من الهدايا والأموال. (ذكر الخبر عما كان من أمر يوسف ونصر في ذلك) : ذكر علي عن شيوخه، أن يوسف كتب إلى نصر بذلك، وأمره أن يقدم معه بعياله أجمعين، فلما أتى نصرا كتابه، قسم على أهل خراسان الهدايا وعلى عماله، فلم يدع بخراسان جارية ولا عبدا ولا برذونا فارها إلا أعده، واشترى ألف مملوك، وأعطاهم السلاح، وحملهم على الخيل. قَالَ: وقال بعضهم: كان قد اعد خمسمائة وصيفة، وأمر بصنعة أباريق الذهب والفضة وتماثيل الظباء ورءوس السباع والأيائل وغير ذلك، فلما فرغ من ذلك كله كتب إليه الوليد يستحثه، فسرح الهدايا حتى بلغ

أوائلها بيهق، فكتب إليه الوليد يأمره أن يبعث إليه ببرابط وطنابير، فقال بعض شعرائهم: فابشر يا أمين الله ... أبشر بتباشير بإبل يحمل المال ... عليها كالانابير بغال تحمل الخمر ... حقائبها طنابير ودل البربريات ... بصوت البم والزير وقرع الدف أحيانا ... ونفخ بالمزامير فهذا لك في الدنيا ... وفي الجنة تحبير قَالَ: وقدم الأزرق بْن قرة المسمعي من الترمذ أيام هشام على نصر، فقال لنصر: إني أريت الوليد بْن يزيد في المنام، وهو ولي عهد، شبه الهارب من هشام، ورأيته على سرير، فشرب عسلا وسقاني بعضه فأعطاه نصر أربعة آلاف دينار وكسوه، وبعثه الى الوليد، وكتب اليه نصر فأتى الأزرق الوليد، فدفع إليه المال والكسوة، فسر بذلك الوليد، وألطف الأزرق، وجزى نصرا خيرا، وانصرف الأزرق، فبلغه قبل أن يصل إلى نصر موت هشام، ونصر لا علم له بما صنع الأزرق، ثم قدم عليه فأخبره، فلما ولي الوليد كتب إلى الأزرق وإلى نصر، وأمر رسوله أن يبتدئ بالأزرق فيدفع إليه كتابه، فأتاه ليلا، فدفع إليه كتابه وكتاب نصر، فلم يقرأ الأزرق كتابه، واتى نصرا بالكتابين، فكان في كتاب الوليد إلى نصر يأمره أن يتخذ له برابط وطنابير وأباريق ذهب وفضة، وأن يجمع له كل صناجة بخراسان يقدر عليها، وكل بازي وبرذون فاره، ثم يسير بذلك كله بنفسه في وجوه أهل خراسان فقال رجل من باهلة: كان قوم من المنجمين يخبرون نصرا بفتنة تكون، فبعث نصر إلى صدقة بْن وثاب وهو ببلخ- وكان منجما- وكان عنده وألح عليه يوسف بالقدوم، فلم يزل يتباطأ، فوجه يوسف

توليه الوليد بن يزيد خاله يوسف الثقفى على المدينة ومكة

رسولا وأمره بلزومه يستحثه بالقدوم، أو ينادي في الناس أنه قد خلع، فلما جاءه الرسول أجازه وأرضاه، وتحول إلى قصره الذي هو دار الإمارة اليوم، فلم يأت لذلك إلا يسير حتى وقعت الفتنة، فتحول نصر إلى قصره بماجان، واستخلف عصمة بْن عبد الله الأسدي على خراسان، وولى المهلب بْن إياس العدوي الخراج، وولى موسى بْن ورقاء الناجي الشاش، وحسان من أهل صغانيان الأسدي سمرقند، ومقاتل بْن علي السغدي آمل، وأمرهم إذا بلغهم خروجه من مرو أن يستحلبوا الترك، وأن يغيروا على ما وراء النهر، لينصرف إليهم بعد خروجه، يعتل بذلك، فبينا هو يسير يوما إلى العراق طرقه ليلا مولى لبني ليث، فلما أصبح أذن للناس، وبعث إلى رسل الوليد، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قَالَ: قد كان في مسيري ما قد علمتم، وبعثي بالهدايا ما رأيتم، فطرقني فلان ليلا، فأخبرني أن الوليد قد قتل، وأن الفتنة قد وقعت بالشام، وقدم منصور بْن جمهور العراق، وقد هرب يوسف ابن عمر، ونحن في بلاد قد علمتم حالها وكثرة عدونا ثم دعا بالقادم فأحلفه أن ما جاء به لحق! فحلف، فقال سلم بْن أحوز: أصلح الله الأمير، لو حلفت لكنت صادقا، إنه بعض مكايد قريش، أرادوا تهجين طاعتك، فسر ولا تهجنا قَالَ: يا سلم أنت رجل لك علم بالحروب، ولك مع ذلك حسن طاعة لبني أمية، فأما مثل هذا من الأمور فرأيك فيه رأي أمة هتماء. ثم قَالَ نصر: لم أشهد بعد ابن خازم امرا مفظعا الا كنت المفزع في الرأي، فقال الناس: قد علمنا ذلك، فالرأي رأيك . توليه الوليد بن يزيد خاله يوسف الثقفى على المدينة ومكة وفي هذه السنة وجه الوليد بْن يزيد خاله يوسف بْن محمد بْن يوسف الثقفي

غزو قبرس

واليا على المدينة ومكة والطائف، ودفع إليه إبراهيم ومحمد ابني هشام بْن إسماعيل المخزومي موثقين في عباءتين، فقدم بهما المدينة يوم السبت لاثنتي عشرة بقيت من شعبان سنة خمس وعشرين ومائة، فأقامهما للناس بالمدينة ثم كتب الوليد اليه يأمره أن يبعث بهما إلى يوسف بْن عمر، وهو يومئذ عامله على العراق، فلما قدما عليه عذبهما حتى قتلهما، وقد كان رفع عليهما عند الوليد أنهما أخذا مالا كثيرا. وفي هذه السنة عزل يوسف بْن محمد بْن سعد بْن إبراهيم عن قضاء المدينة، وولاهما يحيى بن سعيد الأنصاري . غزو قبرس وفيها غزى الوليد بْن يزيد أخاه الغمر بْن يزيد بْن عبد الملك، وأمر على جيش البحر الأسود بْن بلال المحاربي، وأمره أن يسير إلى قبرس فيخيرهم بين المسير إلى الشام إن شاءوا، وإن شاءوا إلى الروم، فاختارت طائفة منهم جوار المسلمين، فنقلهم الأسود إلى الشام، واختار آخرون أرض الروم فانتقلوا إليها. وفيها قدم سليمان بْن كثير ومالك بْن الهيثم ولاهز بْن قريظ وقحطبة بن شبيب مكة، فلقوا- في قول بعض أهل السير- محمد بْن علي فأخبروه بقصة أبي مسلم وما رأوا منه، فقال لهم: أحر هو أم عبد؟ قالوا: أما عيسى فيزعم أنه عبد، وأما هو فيزعم أنه حر، قَالَ: فاشتروه وأعتقوه، وأعطوا محمد بْن علي مائتي ألف درهم وكسوة بثلاثين ألف درهم، فقال لهم: ما أظنكم تلقوني بعد عامي هذا، فإن حدث بي حدث فصاحبكم إبراهيم بْن محمد، فإني أثق به وأوصيكم به خيرا، فقد أوصيته بكم فصدروا من عنده. وتوفي محمد بْن علي في مستهل ذي القعدة وهو ابن ثلاث وستين سنة، وكان بين وفاته وبين وفاة أبيه علي سبع سنين

ذكر الخبر عن مقتل يحيى بن زيد بن على

وحج بالناس في هذه السنة يوسف بْن محمد بْن يوسف الثقفي، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر. ذكر الخبر عن مقتل يحيى بن زيد بن على وفي هذه السنة قتل يحيى بْن زيد بْن علي بخراسان. ذكر الخبر عن مقتله: قد مضى ذكرنا قبل أمر مصير يحيى بْن زيد بْن علي إلى خراسان. وسبب ذلك، ونذكر الان سبب مقتله، إذا كان ذلك فِي هَذِهِ السنة. ذكر هِشَام بْن مُحَمَّدٍ الكلبي عن أبي مخنف، قَالَ: أقام يحيى بْن زيد بْن علي عند الحريش بْن عمرو بْن داود ببلخ حتى هلك هشام بْن عبد الملك، وولي الوليد بْن يزيد بْن عبد الملك فكتب يوسف بْن عمر إلى نصر بْن سيار بمسير يحيى بْن زيد وبمنزله الذي كان ينزل، حتى أخبره أنه عند الحريش، وقال له: ابعث إليه وخذه أشد الأخذ فبعث نصر بْن سيار إلى عقيل بْن معقل العجلي، يأمره أن يأخذ الحريش ولا يفارقه حتى تزهق نفسه أو يأتيه بيحيى بْن زيد بْن علي فبعث إليه عقيل، فسأله عنه، فقال: لا علم لي به، فجلده سمائه سوط، فقال له الحريش: والله لو أنه كان تحت قدمي ما رفعتهما لك عنه، فلما رأى ذلك قريش بْن الحريش أتى عقيلا، فقال: لا تقتل أبي وأنا أدلك عليه، فأرسل معه فدله عليه، وهو في بيت في جوف بيت، فأخذه ومعه يزيد بْن عمر والفضل مولى عبد القيس- كان أقبل معه من الكوفة- فأتى به نصر بْن سيار فحبسه، وكتب إلى يوسف بْن عمر يخبره بذلك، فكتب بذلك يوسف إلى الوليد بْن يزيد، فكتب الوليد إلى نصر بْن سيار، يأمره أن يؤمنه ويخلي سبيله وسبيل اصحابه، فدعاه نصر ابن سيار، فأمره بتقوى الله وحذره الفتنة، وأمره أن يلحق بالوليد بْن يزيد، وأمر له بألفي درهم وبغلين، فخرج هو وأصحابه حتى انتهى إلى سرخس، فأقام بها وعليها عبد الله بْن قيس بْن عباد، فكتب إليه نصر بْن سيار أن

يشخصه عنها، وكتب إلى الحسن بْن زيد التميمي- وكان رأس بني تميم، وكان على طوس- أن انظر يحيى بْن زيد، فإذا مر بكم فلا تدعه يقيم بطوس حتى يخرج منها، وأمرهما إذا هو مر بهما ألا يفارقاه حتى يدفعاه إلى عمرو بْن زرارة بأبرشهر فأشخصه عبد الله بْن قيس من سرخس، ومر بالحسن بْن زيد فأمره أن يمضي، ووكل به سرحان بْن فروخ بْن مجاهد بْن بلعاء العنبري أبا الفضل، وكان على مسلحة. قَالَ: فدخلت عليه، فذكر نصر بْن سيار وما أعطاه، فإذا هو كالمستقل له، فذكر أمير المؤمنين الوليد بْن يزيد، فاثنى عليه، وذكر مجيئه باصحابه معه، وأنه لم يأت بهم إلا مخافة أن يسم أو يغم، وعرض بيوسف، وذكر أنه إياه يتخوف، وقد كان أراد أن يقع فيه. ثم كف، فقلت له: قل ما أحببت رحمك الله، فليس عليك مني عين، فقد أتى إليك ما يستحق أن تقول فيه ثم قَالَ: العجب من هذا الذي يقيم الأحراس أو أمر الأحراس قَالَ- وهو حينئذ يتفصح: والله لو شئت أن أبعث اليه، فاوتى به مربوطا قَالَ: فقلت له: لا والله ما بك صنع هذا، ولكن هذا شيء يصنع في هذا المكان أبدا، لمكان بيت المال قَالَ: واعتذرت إليه من مسيري معه، وكنت أسير معه على رأس فرسخ، فأقبلنا معه حتى وقعنا إلى عمرو بْن زرارة، فأمر له بألف درهم، ثم أشخصه حتى انتهى إلى بيهق، وخاف اغتيال يوسف إياه، فأقبل من بيهق- وهي أقصى أرض خراسان، وأدناه من قومس- فأقبل في سبعين رجلا إلى عمرو بْن زرارة، ومر به تجار، فأخذ دوابهم، وقال: علينا أثمانها فكتب عمرو بْن زرارة إلى نصر بْن سيار، فكتب نصر إلى عبد الله بْن قيس وإلى الحسن بْن زيد أن يمضيا إلى عمرو بْن زرارة، فهو عليهم، ثم ينصبوا ليحيى بْن زيد فيقاتلوه فجاءوا حتى انتهوا إلى عمرو بن زراره، واجتمعوا فكانوا عشره آلاف، وأتاهم يحيى بن زيد، وليس هو إلا في سبعين رجلا، فهزمهم وقتل عمرو بْن زرارة، وأصاب دواب كثيرة. وجاء يحيى بْن زيد حتى مر بهراة، وعليها مغلس بْن زياد العامري، فلم

يعرض واحد منهما لصاحبه، فقطعها يحيى بْن زيد، وسرح نصر بْن سيار سلم بْن أحوز في طلب يحيى بْن زيد، فأتى هراة حين خرج منها يحيى بْن زيد فأتبعه فلحقه بالجوزجان بقرية منها، وعليها حماد بْن عمرو السغدي. قَالَ: ولحق بيحيى بْن زيد رجل من بني حنيفة يقال له أبو العجلان، فقتل يومئذ معه، ولحق به الحسحاس الأزدي فقطع نصر بعد ذلك يده ورجله. قال: فبعث سلم بن احوز سوره بْن محمد بْن عزيز الكندي على ميمنته، وحماد بْن عمرو السغدي على ميسرته، فقاتله قتالا شديدا، فذكروا أن رجلا من عنزة يقال له عيسى، مولى عيسى بْن سليمان العنزي رماه بنشابة، فأصاب جبهته. قَالَ: وقد كان محمد شهد ذلك اليوم، فأمره سلم بتعبئه الناس، فتمارض عليه، فعبى الناس سورة بْن محمد بْن عزيز الكندي، فاقتتلوا فقتلوا من عند آخرهم ومر سورة بيحيى بْن زيد فأخذ رأسه، وأخذ العنزي سلبه وقميصه، وغلبه سورة على رأسه. فلما قتل يحيى بْن زيد وبلغ خبره الوليد بْن يزيد، كتب- فيما ذكر هشام عن موسى بْن حبيب، أنه حدثه- إلى يوسف بْن عمر: إذا أتاك كتابي هذا، فانظر عجل العراق فأحرقه ثم انسفه في اليم نسفا قَالَ: فأمر يوسف خراش بْن حوشب، فأنزله من جذعه وأحرقه بالنار، ثم رضه فجعله في قوصرة، ثم جعله في سفينة، ثم ذراه في الفرات. وكانت عمال الأمصار في هذه السنة عمالها في السنة التي قبلها، وقد ذكرناهم قبل.

سنه ست وعشرين ومائه

ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث الجليلة) ذكر بقية اخبار يزيد بن الوليد بن عبد الملك فمن ذلك ما كان من قتل يزيد بْن الوليد الذي يقال له الناقص الوليد ابن يزيد. ذكر الخبر عن سبب قتله إياه وكيف قتل: قد ذكرنا بعض أمر الوليد بْن يزيد وخلاعته ومجانته، وما ذكر عنه من تهاونه واستخفافه بأمر دينه قبل خلافته ولما ولى الخلافه وافضت اليه، لم يزدد في الذي كان فيه من اللهو واللذة والركوب للصيد وشرب النبيذ ومنادمة الفساق إلا تماديا وحدا- تركت الأخبار الواردة عنه بذلك كراهة إطالة الكتاب بذكرها- فثقل ذلك من أمره على رعيته وجنده، فكرهوا أمره. وكان من أعظم ما جنى على نفسه حتى أورثه ذلك هلاكه افساده على نفسه بنى عميه بنى هشام وولد الوليد، ابني عبد الملك بْن مروان، مع إفساده على نفسه اليمانية، وهم عظم جند أهل الشام. ذكر بعض الخبر عن إفساده بني عميه هشام والوليد: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ، عن المنهال بْن عبد الملك، قَالَ: كان الوليد صاحب لهو وصيد ولذات، فلما ولي الأمر جعل يكره المواضع التي فيها الناس حتى قتل، ولم يزل ينتقل ويتصيد، حتى ثقل على الناس وعلى جنده، واشتد على بني هشام، فضرب سليمان بن هشام مائة سوط وحلق رأسه ولحيته، وغربه إلى عمان فحبسه بها، فلم يزل بها محبوسا حتى

قتل الوليد قَالَ: وأخذ جارية كانت لآل الوليد، فكلمه عمر بْن الوليد، فيها فقال: لا أردها، فقال: إذن تكثر الصواهل حول عسكرك. قَالَ: وحبس الأفقم يزيد بْن هشام، وأراد البيعة لابنيه الحكم وعثمان فشاور سعيد بْن بيهس بْن صهيب، فقال: لا تفعل، فإنهما غلامان لم يحتلما، ولكن بايع لعتيق بْن عبد العزيز بْن الوليد بْن عبد الملك، فغضب وحبسه حتى مات في الحبس وأراد خالد بْن عبد الله على البيعة لابنيه فأبى، فقال له قوم من أهله: أرادك أمير المؤمنين على البيعة لابنيه فأبيت، فقال: ويحكم! كيف أبايع من لا أصلي خلفه، ولا أقبل شهادته! قالوا: فالوليد تقبل شهادته مع مجونه وفسقه! قَالَ: أمر الوليد أمر غائب عني ولا أعلمه يقينا، إنما هي أخبار الناس، فغضب الوليد على خالد. قَالَ: وقال عمرو بْن سعيد الثقفي: أوفدني يوسف بْن عمر إلى الوليد فلما قدمت قَالَ لي: كيف رأيت الفاسق؟ يعني بالفاسق الوليد- ثم قَالَ: إياك أن يسمع هذا منك أحد، فقلت: حبيبة بنت عبد الرحمن بْن جبير طالق إن سمعته أذني ما دمت حيا، فضحك قَالَ: فثقل الوليد على الناس، ورماه بنو هشام وبنو الوليد بالكفر وغشيان أمهات أولاد أبيه، وقالوا: قد اتخذ مائة جامعة، وكتب على كل جامعة اسم رجل من بني أمية ليقتله بها ورموه بالزندقة، وكان أشدهم فيه قولا يزيد بْن الوليد بْن عبد الملك، وكان الناس إلى قوله أميل، لأنه كان يظهر النسك ويتواضع، ويقول: ما يسعنا الرضا بالوليد، حتى حمل الناس على الفتك به. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ، عن يزيد بن مصاد الكلبي، عن عمرو بْن شراحيل، قَالَ: سيرنا هشام بْن عبد الملك إلى دهلك، فلم نزل بها حتى مات هشام، واستخلف الوليد، فكلم فينا فأبى، وقال: والله ما عمل هشام عملا أرجى له عندي أن تناله المغفرة به من قتله القدرية وتسييره إياهم وكان الوالي علينا الحجاج بْن بشر بْن فيروز الديلمى، وكان

يقول: لا يعيش الوليد إلا ثمانية عشر شهرا حتى يقتل، ويكون قتله سبب هلاك أهل بيته قَالَ: فأجمع على قتل الوليد جماعه من قضاعه واليمانيه من أهل دمشق خاصة، فأتى حريث وشبيب بْن أبي مالك الغساني ومنصور بْن جمهور ويعقوب بْن عبد الرحمن وحبال بْن عمرو، ابن عم منصور، وحميد بْن نصر اللخمي والأصبغ بن ذؤالة وطفيل بن حارثة والسري بن زياد بن علاقة، خالد بن عبد الله، فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم، فسألوه أن يكتم عليهم، فقال: لا أسمي أحدا منكم وأراد الوليد الحج، فخاف خالد أن يفتكوا به في الطريق، فأتاه فقال: يا أمير المؤمنين، أخر الحج العام، فقال: ولم؟ فلم يخبره، فأمر بحبسه وأن يستأدى ما عليه من أموال العراق. وقال علي عن الحكم بْن النعمان، قَالَ: أجمع الوليد على عزل يوسف واستعمال عبد الملك بْن محمد بْن الحجاج، فكتب إلى يوسف: إنك كتبت إلى أمير المؤمنين تذكر تخريب ابن النصرانية البلاد، وقد كنت على ما ذكرت من ذلك تحمل إلى هشام ما تحمل، وقد ينبغي أن تكون قد عمرت البلاد حتى رددتها إلى ما كانت عليه، فاشخص إلى أمير المؤمنين، فصدق ظنه بك فيما تحمل إليه لعمارتك البلاد، وليعرف أمير المؤمنين فضلك على غيرك، لما جعل الله بينك وبين أمير المؤمنين من القرابة، فإنك خاله، وأحق الناس بالتوفير عليه، ولما قد علمت مما أمر به أمير المؤمنين لأهل الشام وغيرهم من الزيادة في أعطياتهم، وما وصل به أهل بيته لطول جفوة هشام إياهم، حتى أضر ذلك ببيوت الأموال قَالَ: فخرج يوسف واستخلف ابن عمه يوسف بْن محمد، وحمل من الأموال والأمتعة والآنية ما لم يحمل من العراق مثله فقدم- وخالد بْن عبد الله محبوس- فلقيه حسان النبطي ليلا، فأخبره أن الوليد عازم على تولية عبد الملك بْن محمد ابن الحجاج، وأنه لا بد ليوسف فيها من إصلاح أمر وزرائه، فقال: ليس عندي فضل درهم، قال: فعندي خمسمائة ألف درهم، فإن شئت فهي

لك، وإن شئت فارددها إذا تيسرت قَالَ: فأنت أعرف بالقوم ومنازلهم من الخليفة مني، ففرقها على قدر علمك فيهم، ففعل وقدم يوسف والقوم يعظمونه، فقال له حسان: لا تغد على الوليد، ولكن رح إليه رواحا، واكتب على لسان خليفتك كتابا إليك: إني كتبت إليك ولا أملك إلا القصر. وادخل على الوليد والكتاب معك متحازنا، فاقرئه الكتاب، ومر ابان ابن عبد الرحمن النميري يشتري خالدا منه بأربعين ألف ألف ففعل يوسف، فقال له الوليد: ارجع إلى عملك، فقال له أبان: ادفع إلي خالدا وأدفع إليك أربعين ألف ألف درهم، قَالَ: ومن يضمن عنك؟ قَالَ: يوسف، قَالَ: أتضمن عنه؟ قَالَ: بل ادفعه إلي، فأنا أستأديه خمسين ألف ألف، فدفعه إليه، فحمله في محمل بغير وطاء. قَالَ محمد بْن محمد بْن القاسم: فرحمته، فجمعت ألطافا كانت معنا من أخبصة يابسة وغيرها في منديل، وأنا على ناقة فارهة، فتغفلت يوسف، فأسرعت ودنوت من خالد، ورميت بالمنديل في محمله، فقال لي: هذا من متاع عمان- يعني أن أخي الفيض كان على عمان، فبعث إلي بمال جسيم- فقلت في نفسي: هذا على هذه الحالة وهو لا يدع هذا! ففطن يوسف بي فقال لي: ما قلت لابن النصرانية؟ فقلت: عرضت عليه الحاجة، قال: احسنت، هو اسير، ولو فطن بما ألقيت إليه للقيني منه أذى. وقدم الكوفة فقتله في العذاب، فقال الوليد بْن يزيد- فيما زعم الهيثم بْن عدي- شعرا يوبخ به أهل اليمن في تركهم نصرة خالد بْن عبد الله. وأما احمد بن زهير، فانه حدثه عن علي بْن محمد، عن محمد بْن سعيد العامري عامر كلب، أن هذا الشعر قَالَه بعض شعراء اليمن على لسان الوليد يحرض عليه اليمانيه: الم تهتج فتذكر الوصالا ... وحبلا كان متصلا فزالا بلى فالدمع منك له سجام ... كماء المزن ينسجل انسجالا

فدع عنك ادكارك آل سعدى ... فنحن الأكثرون حصى ومالا ونحن المالكون الناس قسرا ... نسومهم المذلة والنكالا وطئنا الأشعرين بعز قيس ... فيا لك وطأة لن تستقالا! وهذا خالد فينا أسيرا ... ألا منعوه إن كانوا رجالا! عظيمهم وسيدهم قديما ... جعلنا المخزيات له ظلالا فلو كانت قبائل ذات عز ... لما ذهبت صنائعه ضلالا ولا تركوه مسلوبا أسيرا ... يسامر من سلاسلنا الثقالا - ورواه المدائني: يعالج من سلاسلنا- وكندة والسكون فما استقالوا ... ولا برحت خيولهم الرحالا بها سمنا البرية كل خسف ... وهدمنا السهولة والجبالا ولكن الوقائع ضعضعتهم ... وجذتهم وردتهم شلالا فما زالوا لنا أبدا عبيدا ... نسومهم المذلة والسفالا فأصبحت الغداة علي تاج ... لملك الناس ما يبغي انتقالا فقال عمران بْن هلباء الكلبي يجيبه: قفي صدر المطية يا حلالا ... وجذي حبل من قطع الوصالا ألم يحزنك أن ذوي يمان ... يرى من حاذ قيلهم جلالا جعلنا للقبائل من نزار ... غداة المرج أياما طوالا بنا ملك المملك من قريش ... وأودى جد من أودى فزالا متى تلق السكون وتلق كلبا ... بعبس تخش من ملك زوالا كذاك المرء ما لم يلف عدلا ... يكون عليه منطقه وبالا

أعدوا آل حمير إذ دعيتم ... سيوف الهند والأسل النهالا وكل مقلص نهد القصيرى ... وذا فودين والقب الجبالا يذرن بكل معترك قتيلا ... عليه الطير قد مذل السؤالا لئن عيرتمونا ما فعلنا ... لقد قلتم وجدكم مقالا لإخوان الأشاعث قتلوهم فما ... وطئوا ولا لاقوا نكالا وأبناء المهلب نحن صلنا ... وقائعهم وما صلتم مصالا وقد كانت جذام على أخيهم ... ولخم يقتلونهم شلالا هربنا أن نساعدكم عليهم ... وقد أخطأ مساعدكم وفالا فإن عدتم فإن لنا سيوفا ... صوارم نستجد لها الصقالا سنبكي خالدا بمهندات ... ولا تذهب صنائعه ضلالا ألم يك خالد غيث اليتامى ... إذا حضروا وكنت لهم هزالا! يكفن خالد موتى نزار ... ويثري حيهم نشبا ومالا لو أن الجائرين عليه كانوا ... بساحة قومه كانوا نكالا ستلقى ان بقيت مسومات ... عوابس لا يزايلن الحلالا فحدثني أحمد بْن زهير، عن علي بْن محمد، قَالَ: فازداد الناس على الوليد حنقا لما رُوِيَ هذا الشعر، فقال ابن بيض: وصلت سماء الضر بالضر بعد ما ... زعمت سماء الضر عنا ستقلع فليت هشاما كان حيا يسوسنا ... وكنا كما كنا نُرًجِّي ونطمع

وكان هشام استعمل الوليد بْن القعقاع على قنسرين وعبد الملك بْن القعقاع على حمص، فضرب الوليد بْن القعقاع ابن هبيرة مائة سوط، فلما قام الوليد هرب بنو القعقاع منه، فعاذوا بقبر يزيد بْن عبد الملك، فبعث إليهم، فدفعهم إلى يزيد بْن عمر بْن هبيرة- وكان على قنسرين- فعذبهم، فمات في العذاب الوليد بْن القعقاع وعبد الملك بْن القعقاع ورجلان معهما من آل القعقاع، واضطغن على الوليد آل الوليد وآل هشام وآل القعقاع واليمانية بما صنع بخالد بْن عبد الله فأتت اليمانية يزيد بْن الوليد، فأرادوه على البيعة، فشاور عمرو بْن يزيد الحكمي، فقال: لا يبايعك الناس على هذا، وشاور أخاك العباس بْن الوليد، فإنه سيد بني مروان، فإن بايعك لم يخالفك أحد، وإن أبى كان الناس له أطوع، فإن أبيت إلا المضي على رأيك فأظهر أن العباس قد بايعك وكانت الشام تلك الأيام وبية، فخرجوا إلى البوادي، وكان يزيد بْن الوليد مُتَبَدِّيًا، وكان العباس بالقسطل بينهما أميال يسيرة. فحدثني أحمد بْن زهير، قَالَ: حدثني علي، قَالَ: أتى يزيد أخاه العباس، فأخبره وشاوره، وعاب الوليد، فقال له العباس: مهلا يا يزيد، فان في نقض عهد الله فساد الدين والدنيا فرجع يزيد إلى منزله، ودب في الناس فبايعوه سرا، ودس الأحنف الكلبي ويزيد بْن عنبسة السكسكي وقوما من ثقاته من وجوه الناس وأشرافهم، فدعوا الناس سرا، ثم عاود أخاه العباس ومعه قطن مولاهم، فشاوره في ذلك، وأخبره ان قوما يأتونه يريدونه على البيعه، فزبره العباس، وقال: إن عدت لمثل هذا لأشدنك وثاقا، ولأحملنك إلى أمير المؤمنين! فخرج يزيد وقطن، فأرسل العباس إلى قطن، فقال: ويحك يا قطن! أترى يزيد جادا! قَالَ: جعلت فداك! ما أظن ذاك، ولكنه قد دخله مما صنع الوليد ببني هشام وبني الوليد وما يسمع مع الناس من الاستخفاف بالدين وتهاونه ما قد ضاق به ذرعا قَالَ: أما والله إني لأظنه أشأم سخلة في بني مروان، ولولا ما أخاف من عجلة الوليد مع تحامله علينا لشددت يزيد وثاقا، وحملته إليه، فأزجره عن أمره، فإنه يسمع إليك فقال يزيد لقطن: ما قَالَ لك العباس حين رآك؟ فأخبره، فقال له: والله لا أكف

وبلغ معاوية بْن عمرو بْن عتبة خوض الناس، فأتى الوليد فقال: يا أمير المؤمنين، إنك تبسط لساني بالإنس بك، وأكفه بالهيبة لك، وانا اسمع مالا تسمع وأخاف عليك ما أراك تأمن، أفأتكلم ناصحا، أو أسكت مطيعا؟ قَالَ: كل مقبول منك، ولله فينا علم غيب نحن صائرون إليه، ولو علم بنو مروان أنهم إنما يوقدون على رضف يلقونه في أجوافهم ما فعلوا، ونعود ونسمع منك. وبلغ مروان بْن محمد بأرمينية أن يزيد يؤلب الناس، ويدعو الى خلع الوليد، فكتب إلى سعيد بْن عبد الملك بْن مروان يأمره أن ينهى الناس ويكفهم- وكان سعيد يتأله إن الله جعل لكل أهل بيت أركانا يعتمدون عليها، ويتقون بها المخاوف، وأنت بحمد ربك ركن من أركان أهل بيتك، وقد بلغني أن قوما من سفهاء أهل بيتك قد استنوا أمرا- إن تمت لهم رويتهم فيه على ما أجمعوا عليه من نقض بيعتهم- استفتحوا بابا لن يغلقه الله عنهم حتى تسفك دماء كثيرة منهم، وأنا مشتغل بأعظم ثغور المسلمين فرجا، ولو جمعتني وإياهم لرممت فساد أمرهم بيدي ولساني، ولخفت الله في ترك ذلك، لعلمي ما في عواقب الفرقة من فساد الدين والدنيا، وأنه لن ينتقل سلطان قوم قط الا بتشتيت كلمتهم، وان كلمتهم إذا تشتت طمع فيهم عدوهم وأنت أقرب إليهم مني، فاحتل لعلم ذلك واظهار المتابعة لهم، فإذا صرت إلى علم ذلك فتهددهم بإظهار أسرارهم، وخذهم بلسانك، وخوفهم العواقب، لعل الله أن يرد إليهم ما قد عزب عنهم من دينهم وعقولهم، فإن فيما سعوا فيه تعير النعم وذهاب الدولة، فعاجل الأمر وحبل الإلفة مشدود، والناس سكون، والثغور محفوظة، فإن للجماعة دوله من الفرقة وللسعه دافعا من الفقر، وللعدد منتقصا، ودول الليالي مختلفة على أهل الدنيا، والتقلب مع الزيادة والنقصان، وقد امتدت بنا- أهل البيت- متتابعات من النعم، قد يعيبها جميع الأمم وأعداء النعم وأهل الحسد لأهلها، وبحسد إبليس خرج آدم من الجنة وقد أمل القوم في الفتنة أملا، لعل أنفسهم تهلك دون ما أملوا، ولكل أهل بيت مشائيم يغير الله النعمة بهم-

فاعاذك الله من ذلك- فاجعلني من أمرهم على علم حفظ الله لك دينك، وأخرجك مما أدخلك فيه، وغلب لك نفسك على رشدك. فأعظم سعيد ذلك، وبعث بكتابه الى العباس، فدعا العباس يزيد فعذله وتهدده، فحذره يزيد، وقال: يا أخي، أخاف أن يكون بعض من حسدنا هذه النعمة من عدونا اراد ان يغرى بيننا، وحلف له أنه لم يفعل فصدقه حدثني أحمد، قَالَ: حدثنا علي، قَالَ: قَالَ ابن بشر بْن الوليد بْن عبد الملك: دخل أبي بشر بْن الوليد على عمي العباس، فكلمه في خلع الوليد وبيعة يزيد، فكان العباس ينهاه، وأبي يراده، فكنت أفرح وأقول في نفسي: أرى أبي يجترئ أن يكلم عمي ويرد عليه قوله! وكنت أرى أن الصواب فيما يقول أبي، وكان الصواب فيما يقول عمي، فقال العباس: يا بني مروان، إني أظن الله قد أذن في هلاككم، وتمثل قائلا: إني أعيذكم بالله من فتن ... مثل الجبال تسامى ثم تندفع إن البرية قد ملت سياستكم ... فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا لا تلحمن ذئاب الناس أنفسكم ... إن الذئاب إذا ما ألحمت رتعوا لا تبقرن بأيديكم بطونكم ... فثم لا حسرة تغني ولا جزع قَالَ: فلما اجتمع ليزيد امره وهو متبد، أقبل إلى دمشق وبينه وبين دمشق أربع ليال، متنكرا في سبعة نفر على حمير، فنزلوا بجرود على مرحلة من دمشق، فرمى يزيد بنفسه فنام وقال القوم لمولى لعباد بْن زياد: اما عندك طعام فنشريه؟ قَالَ: أما لبيع فلا، ولكن عندي قراكم وما يسعكم، فأتاهم بدجاج وفراخ وعسل وسمن وشوانيز، فطعموا ثم سار فدخل

دمشق ليلا، وقد بايع ليزيد أكثر أهل دمشق سرا، وبايع أهل المزة غير معاوية بْن مصاد الكلبي- وهو سيد أهل المزة- فمضى يزيد من ليلته إلى منزل معاوية بْن مصاد ماشيا في نفير من أصحابه- وبين دمشق وبين المزة ميل أو أكثر- فأصابهم مطر شديد، فاتوا منزل معاوية بْن مصاد، فضربوا بابه، ففتح لهم، فدخلوا، فقال ليزيد: الفراش أصلحك الله! قَالَ: إن في رجلي طينا، وأكره أن أفسد بساطك، فقال: الذي تريدنا عليه أفسد فكلمه يزيد فبايعه معاوية- ويقال هشام بْن مصاد- ورجع يزيد إلى دمشق، فأخذ طريق القناة، وهو على حمار أسود، فنزل دار ثابت بْن سليمان بْن سعد الخشني، وخرج الوليد بْن روح، وحلف لا يدخل دمشق إلا في السلاح، فلبس سلاحه، وكفر عليه الثياب، وأخذ طريق النيرب- وهو على فرس أبلق- حتى وافى يزيد، وعلى دمشق عبد الملك بْن محمد بْن الحجاج بْن يوسف فخاف الوباء، فخرج فنزل قطنا، واستخلف ابنه على دمشق، وعلى شرطته أبو العاج كثير بْن عبد الله السلمي، فأجمع يزيد على الظهور، فقيل للعامل: إن يزيد خارج فلم يصدق وأرسل يزيد إلى أصحابه بين المغرب والعشاء ليلة الجمعة سنة ست وعشرين ومائة، فكمنوا عند باب الفراديس حتى أذنوا العتمة، فدخلوا المسجد، فصلوا- وللمسجد حرس قد وكلوا بإخراج الناس من المسجد بالليل- فلما صلى الناس صاح بهم الحرس، وتباطأ أصحاب يزيد، فجعلوا يخرجون من باب المقصورة ويدخلون من باب آخر حتى لم يبق في المسجد غير الحرس وأصحاب يزيد، فأخذوا الحرس، ومضى يزيد بْن عنبسة إلى يزيد بْن الوليد، فأعلمه وأخذ بيده، وقال: قم يا أمير المؤمنين وأبشر بنصر الله وعونه، فقام وقال: اللهم إن كان هذا لك رضا فأعني عليه وسددني له، وإن كان غير ذلك فاصرفه عني بموت. وأقبل في اثني عشر رجلا، فلما كان عند سوق الحمر لقوا أربعين رجلا من أصحابهم، فلما كانوا عند سوق القمح لقيهم زهاء مائتي رجل من

أصحابهم، فمضوا إلى المسجد فدخلوه، فأخذوا باب المقصورة فضربوه وقالوا: رسل الوليد، ففتح لهم الباب خادم فأخذوه ودخلوا، وأخذوا أبا العاج وهو سكران، وأخذوا خزان بيت المال وصاحب البريد، وأرسل إلى كل من كان يحذره فأخذ وأرسل يزيد من ليلته إلى محمد بن عبيده- مولى سعيد ابن العاص وهو على بعلبك- فأخذه، وأرسل من ليلته الى عبد الملك بْن محمد بْن الحجاج بْن يوسف، فأخذه ووجه إلى الثنية إلى أصحابه ليأتوه، وقال للبوابين: لا تفتحوا الباب غدوة إلا لمن أخبركم بشعارنا فتركوا الأبواب بالسلاسل وكان في المسجد سلاح كثير قدم به سليمان بن هشام من الجزيرة، ولم يكن الخزان قبضوه، فأصابوا سلاحا كثيرا، فلما أصبحوا جاء أهل المزة وابن عصام، فما انتصف النهار حتى تبايع الناس، ويزيد يتمثل قول النابغة: إذا استنزلوا عنهن للطعن أرقلوا ... إلى الموت إرقال الجمال المصاعب فجعل أصحاب يزيد يتعجبون، ويقولون: انظروا إلى هذا، هو قبيل الصبح يسبح، وهو الآن ينشد الشعر! حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ، قَالَ: حدثنا عمرو بْن مروان الكلبي، قَالَ: حدثني رزين بْن ماجد، قَالَ: غدونا مع عبد الرحمن ابن مصاد، ونحن زهاء الف وخمسمائة، فلما انتهينا إلى باب الجابية ووجدناه مغلقا، ووجدنا عليه رسولا للوليد، فقال: ما هذه الهيئة وهذه العدة! أما والله لأعلمن أمير المؤمنين فقتله رجل من أهل المزة، فدخلنا من باب الجابية، ثم أخذنا في زقاق الكلبيين، فضاق عنا، فأخذ ناس منا سوق القمح، ثم اجتمعنا على باب المسجد، فدخلنا على يزيد، فما فرغ آخرنا من التسليم عليه، حتى جاءت السكاسك في نحو ثلاثمائة، فدخلوا من باب الشرقي حتى أتوا المسجد، فدخلوا من باب الدرج، ثم أقبل يعقوب ابن عمير بْن هانئ العبسي في أهل داريا، فدخلوا من باب دمشق الصغير، وأقبل عيسى بْن شبيب التغلبي في أهل دومة وحرستا، فدخلوا من باب

توما، وأقبل حميد بْن حبيب اللخمي في أهل دير المران والأرزة وسطرا، فدخلوا من باب الفراديس، واقبل النضر بن الجرشى في اهل جرش واهل الحديثه ودير زكا، فدخلوا من باب الشرقي، وأقبل ربعي بْن هاشم الحارثي في الجماعة من بني عذرة وسلامان، فدخلوا من باب توما، ودخلت جهينة ومن والاهم مع طلحة بْن سعيد، فقال بعض شعرائهم: فجاءتهم أنصارهم حين أصبحوا ... سكاسكها أهل البيوت الصنادد وكلب فجاءوهم بخيل وعدة ... من البيض والأبدان ثم السواعد فأكرم بهم أحياء أنصار سنة ... هم منعوا حرماتها كل جاحد وجاءتهم شعبان والأزد شرعا ... وعبس ولخم بين حام وذائد وغسان والحيان قيس وتغلب ... وأحجم عنها كل وان وزاهد فما أصبحوا إلا وهم أهل ملكها ... قد استوثقوا من كل عات ومارد حدثني أحمد بْن زهير، عن علي بْن محمد، عن عمرو بْن مروان الكلبي، قَالَ: حدثني قسيم بْن يعقوب ورزين بْن ماجد وغيرهما، قالوا: وجه يزيد بْن الوليد عبد الرحمن بْن مصاد في مائتي فارس أو نحوهم إلى قطن، ليأخذوا عبد الملك بْن محمد بْن الحجاج بْن يوسف، وقد تحصن في قصره، فأعطاه الأمان فخرج إليه، فدخلنا القصر، فأصبنا فيه خرجين، في كل واحد منهما ثلاثون ألف دينار قال: فلما انتهينا إلى المزة قلت لعبد الرحمن بْن مصاد: اصرف أحد هذين الخرجين إلى منزلك أو كليهما، فإنك لا تصيب من يزيد مثلهما أبدا، فقال: لقد عجلت إذا بالخيانة، لا والله لا يتحدث العرب أني أول من خان في هذا الأمر، فمضى به إلى يزيد بْن الوليد وأرسل يزيد بْن الوليد إلى عبد العزيز بْن الحجاج بْن عبد الملك، فأمره فوقف بباب الجابية، وقال: من كان له عطاء فليأت إلى عطائه، ومن لم يكن له عطاء فله ألف درهم معونة وقال لبني الوليد بْن عبد الملك ومعه منهم ثلاثة عشر: تفرقوا في الناس يرونكم وحضورهم، وقال للوليد بْن روح بْن الوليد: أنزل الراهب، ففعل

وحدثني أحمد، عن علي، عن عمرو بْن مروان الكلبي، قَالَ: حدثني دكين بن الشماخ الكلبي وأبو علاقة بْن صالح السلاماني أن يزيد بْن الوليد نادى بأمره مناد: من ينتدب إلى الفاسق وله ألف درهم؟ فاجتمع إليه أقل من ألف رجل، فأمر رجلا فنادى: من ينتدب إلى الفاسق وله ألف وخمسمائة؟ فانتدب اليه يومئذ الف وخمسمائة، فعقد لمنصور بْن جمهور على طائفة، وعقد ليعقوب بْن عبد الرحمن بْن سليم الكلبي على طائفه اخرى، وعقد لهرم ابن عبد الله بْن دحية على طائفة أخرى، وعقد لحميد بْن حبيب اللخمي على طائفة أخرى، وعليهم جميعا عبد العزيز بْن الحجاج بْن عبد الملك، فخرج عبد العزيز فعسكر بالحيرة. وحدثني أحمد بْن زهير، قَالَ: حدثنا علي، عن عمرو بْن مروان الكلبي، قَالَ: حدثني يعقوب بْن إبراهيم بْن الوليد أن مولى للوليد لما خرج يزيد بْن الوليد، خرج على فرس له، فأتى الوليد من يومه، فنفق فرسه حين بلغه، فأخبر الوليد الخبر، فضربه مائة سوط وحبسه، ثم دعا أبا محمد ابن عبد الله بْن يزيد بْن معاوية فأجازه، ووجهه إلى دمشق، فخرج أبو محمد، فلما انتهى إلى ذنبة أقام، فوجه يزيد بْن الوليد إليه عبد الرحمن بْن مصاد، فسالمه أبو محمد، وبايع ليزيد بْن الوليد وأتى الوليد الخبر، وهو بالأغدف- والأغدف من عمان- فقال بيهس بْن زميل الكلابي- ويقال قاله يزيد بْن خالد بْن يزيد بْن معاوية: يا أمير المؤمنين، سر حتى تنزل حمص فإنها حصينة، ووجه الجنود إلى يزيد فيقتل أو يؤسر فقال عبد الله بن عنبسة ابن سعيد بْن العاص: ما ينبغي للخليفة أن يدع عسكره ونساءه قبل أن يقاتل ويعذر، والله مؤيد أمير المؤمنين وناصره فقال يزيد بْن خالد: وماذا يخاف على حرمه! وإنما أتاه عبد العزيز بْن الحجاج بْن عبد الملك وهو ابن عمهن، فأخذ بقول ابن عنبسة، فقال له الأبرش سعيد بْن الوليد الكلبي: يا أمير المؤمنين، تدمر حصينة، وبها قومي يمنعونك، فقَالَ: ما أرى أن نأتي تدمر وأهلها بنو عامر، وهم الذين خرجوا علي، ولكن دلني على منزل

حصين، فقال: ارى أن تنزل القرية، قَالَ: أكرهها، قَالَ: فهذا الهزيم. قَالَ: أكره اسمه، قَالَ: فهذا البخراء، قصر النعمان بْن بشير، قَالَ: ويحك! ما أقبح أسماء مياهكم! فأقبل في طريق السماوة، وترك الريف، وهو في مائتين، فقال: إذا لم يكن خير مع الشر لم تجد ... نصيحا ولا ذا حاجة حين تفزع إذا ما هم هموا بإحدى هناتهم ... حسرت لهم رأسي فلا أتقنع فمر بشبكة الضحاك بْن قيس الفهري، وفيها من ولده وولد ولده أربعون رجلا، فساروا معه وقالوا: إنا عزل، فلو أمرت لنا بسلاح! فما أعطاهم سيفا ولا رمحا، فقال له بيهس بْن زميل: أما إذ أبيت أن تمضي إلى حمص وتدمر فهذا الحصن البخراء فإنه حصين، وهو من بناء العجم فانزله، قَالَ: إني أخاف الطاعون، قَالَ: الذي يراد بك أشد من الطاعون، فنزل حصن البخراء. قَالَ: فندب يزيد بْن الوليد الناس إلى الوليد مع عبد العزيز، ونادى مناديه: من سار معه فله ألفان، فانتدب ألفا رجل، فأعطاهم ألفين ألفين وقال: موعدكم بذنبة، فوافى بذنبة ألف ومائتان، وقال: موعدكم مصنعة بني عبد العزيز بْن الوليد بالبرية، فوافاه ثمانمائه، فسار، فتلقاهم ثقل الوليد فأخذوه، ونزلوا قريبا من الوليد، فأتاه رسول العباس بْن الوليد: إني آتيك. فقال الوليد: أخرجوا سريرا، فأخرجوا سريرا فجلس عليه وقال: أعلي توثب الرجال، وانا اثب على الأسد واتخصر الأفاعي! وهم ينتظرون العباس. فقاتلهم عبد العزيز، وعلى الميمنة عمرو بْن حوي السكسكي وعلى المقدمة منصور بْن جمهور وعلى الرجالة عمارة بْن أبي كلثم الأزدي، ودعا عبد العزيز ببغل له أدهم فركبه، وبعث إليهم زياد بْن حصين الكلبي يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه، فقتله قطري مولى الوليد، فانكشف أصحاب يزيد، فترجل عبد العزيز، فكر أصحابه، وقد قتل من أصحابه عدة وحملت

رءوسهم إلى الوليد وهو على باب حصن البخراء قد أخرج لواء مروان بْن الحكم الذي كان عقده بالجابية، وقتل من أصحاب الوليد بْن يزيد عثمان الخشبي، قتله جناح بْن نعيم الكلبي، وكان من أولاد الخشبية الذين كانوا مع المختار. وبلغ عبد العزيز مسير العباس بْن الوليد، فأرسل منصور بْن جمهور في خيل، وقال: إنكم تلقون العباس في الشعب، ومعه بنوه في الشعب فخذوهم فخرج منصور في الخيل فلما صاروا بالشعب إذا هم بالعباس في ثلاثين من بنيه، فقالوا له: اعدل إلى عبد العزيز، فشتمهم، فقال له منصور: والله لئن تقدمت لأنفذن حصينك- يعني درعك- وقال نوح بْن عمرو بْن حوي السكسكي: الذي لقي العباس بْن الوليد يعقوب بْن عبد الرحمن بْن سليم الكلبي- فعدل به الى عبد العزيز، فأبى عليه فقال: يا بن قسطنطين، لئن أبيت لأضربن الذي فيه عيناك، فنظر العباس إلى هرم بْن عبد الله بْن دحية، فقال: من هذا؟ قَالَ: يعقوب بْن عبد الرحمن بْن سليم، قَالَ: أما والله إن كان لبغيضا إلى أبيه أن يقف ابنه هذا الموقف، وعدل به إلى عسكر عبد العزيز، ولم يكن مع العباس أصحابه، كان تقدمهم مع بنيه فقال: إنا لله! فأتوا به عبد العزيز، فقال له: بايع لأخيك يزيد بْن الوليد، فبايع ووقف ونصبوا راية، وقالوا: هذه راية العباس بْن الوليد، وقد بايع لأمير المؤمنين يزيد بْن الوليد، فقال العباس: إنا لله! خدعة من خدع الشيطان! هلك بنو مروان فتفرق الناس عن الوليد، فأتوا العباس وعبد العزيز وظاهر الوليد بين درعين، واتوه بفرسيه: السندي والزائد، فقاتلهم قتالا شديدا فناداهم رجل: اقتلوا عدو الله قتله قوم لوط، ارموه بالحجارة

فلما سمع ذلك دخل القصر، وأغلق الباب، وأحاط عبد العزيز وأصحابه بالقصر، فدنا الوليد من الباب، فقال أما فيكم رجل شريف له حسب وحياء أكلمه! فقال له يزيد بْن عنبسة السكسكي: كلمني، قَالَ له: من أنت؟ قَالَ: أنا يزيد بْن عنبسة، قَالَ: يا أخا السكاسك، ألم أزد في أعطياتكم! ألم أرفع المؤن عنكم! ألم أعط فقراءكم! ألم أخدم زمناكم! فقال: إنا ما ننقم عليك في أنفسنا، ولكن ننقم عليك في انتهاك ما حرم الله وشرب الخمر ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله، قَالَ: حسبك يا أخا السكاسك، فلعمري لقد أكثرت وأغرقت، وإن فيما أحل لي لسعة عما ذكرت ورجع إلى الدار فجلس وأخذ مصحفا، وقال: يوم كيوم عثمان، ونشر المصحف يقرأ، فعلوا الحائط، فكان أول من علا الحائط يزيد بْن عنبسة السكسكي، فنزل إليه وسيف لوليد إلى جنبه، فقال له يزيد: نح سيفك، فقال له الوليد: لو أردت السيف لكانت لي ولك حاله فيهم غير هذه، فأخذ بيد الوليد، وهو يريد أن يحبسه ويؤامر فيه فنزل من الحائط عشرة: منصور بْن جمهور وحبال بْن عمرو الكلبي وعبد الرحمن بْن عجلان مولى يزيد بْن عبد الملك وحميد بْن نصر اللخمي والسري بْن زياد بْن أبي كبشة وعبد السلام اللخمي، فضربه عبد السلام على رأسه، وضربه السري على وجهه، وجروه بين خمسة ليخرجوه فصاحت امرأة كانت معه في الدار، فكفوا عنه ولم يخرجوه، واحتز أبو علاقة القضاعي رأسه فأخذ عقبا

فخاط الضربة التي في وجهه، وقدم بالرأس على يزيد روح بْن مقبل، وقال: أبشر يا أمير المؤمنين بقتل الفاسق الوليد وأسر من كان معه، والعباس- ويزيد يتغدى- فسجد ومن كان معه، وقام يزيد بْن عنبسة السكسكي، وأخذ بيد يزيد، وقال: قم يا أمير المؤمنين، وأبشر بنصر الله، فاختلج يزيد يده من كفه، وقال: اللهم إن كان هذا لك رضا فسددني، وقال ليزيد بْن عنبسة: هل كلمكم الوليد؟ قَالَ: نعم، كلمني من وراء الباب، وقال: أما فيكم ذو حسب فأكلمه! فكلمته ووبخته، فقال: حسبك، فقد لعمري أغرقت وأكثرت، أما والله لا يرتق فتقكم، ولا يلم شعثكم، ولا تجتمع كلمتكم حدثني أحمد عن علي، عن عمرو بن مروان الكلبى، قال: قال نوح ابن عمرو بْن حوي السكسكي: خرجنا إلى قتال الوليد في ليال ليس فيها قمر، فإن كنت لأرى الحصى فأعرف أسوده من أبيضه قَالَ: وكان على ميسرة الوليد بْن يزيد الوليد بْن خالد، ابن أخي الأبرش الكلبي في بني عامر- وكانت بنو عامر ميمنة عبد العزيز- فلم تقاتل ميسرة الوليد ميمنة عبد العزيز، ومالوا جميعا إلى عبد العزيز بْن الحجاج قَالَ: وقال نوح بْن عمرو: رأيت خدم الوليد بْن يزيد وحشمه يوم قتل يأخذون بأيدي الرجال، فيدخلونهم عليه وحدثني أحمد عن علي، عن عمرو بْن مروان الكلبي، قَالَ: حدثني المثنى بْن معاوية، قَالَ: اقبل الوليد فنزل اللؤلؤه، وامر ابنه الحكم والمؤمل ابن العباس أن يفرضا لمن أتاهما ستين دينارا في العطاء، فأقبلت أنا وابن عمي سليمان بْن محمد بْن عبد الله إلى عسكر الوليد، فقربني المؤمل وأدناني. وقال: أدخلك على أمير المؤمنين، وأكلمه حتى يفرض لك في مائة دينار. قَالَ المثنى: فخرج الوليد من اللؤلؤة فنزل المليكة، فأتاه رسول عمرو بْن قيس من حمص يخبره أن عمرا قد وجه اليه خمسمائة فارس، عليهم عبد الرحمن بْن أبي الجنوب البهراني، فدعا الوليد الضحاك بْن أيمن من

بني عوف بْن كلب، فأمره أن يأتي ابن أبي الجنوب- وهو بالغوير- فيستعجله، ثم يأتي الوليد بالمليكة فلما أصبح أمر الناس بالرحيل، وخرج على برذون كميت، عليه قباء خز وعمامة خز، محتزما بريطة رقيقة قد طواها، وعلى كتفيه ريطة صفراء فوق السيف، فلقيه بنو سليم بْن كيسان في ستة عشر فارسا، ثم سار قليلا، فتلقاه بنو النعمان بْن بشير في فوارس، ثم أتاه الوليد ابن أخي الأبرش في بني عامر من كلب، فحمله الوليد وكساه، وسار الوليد على الطريق ثم عدل في تلعة يقال لها المشبهة، فلقيه ابن أبي الجنوب في أهل حمص ثم أتى البخراء، فضج أهل العسكر، وقالوا: ليس معنا علف لدوابنا، فأمر رجلا فنادى: إن أمير المؤمنين قد اشترى زروع القرية، فقالوا: ما نصنع بالقصيل! تضعف عليه دوابنا، وإنما أرادوا الدراهم قَالَ المثنى: أتيت الوليد، فدخلت من مؤخر الفسطاط، فدعا بالغداء، فلما وضع بين يديه أتاه رسول أم كلثوم بنت عبد الله بْن يزيد بْن عبد الملك يقال له عمرو بْن مرة، فأخبره أن عبد العزيز بْن الحجاج، قد نزل اللؤلؤة، فلم يلتفت إليه، وأتاه خالد بْن عثمان المخراش- وكان على شرطه- برجل من بني حارثة بْن جناب، فقال له: إني كنت بدمشق مع عبد العزيز، وقد اتيتك بالخبر، وهذه الف وخمسمائة قد أخذتها- وحل هميانا من وسطه، وأراه- وقد نزل اللؤلؤة، وهو غاد منها إليك، فلم يجبه والتفت إلى رجل إلى جنبه، وكلمه بكلام لم أسمعه، فسألت بعض من كان بيني وبينه عما قَالَ، فقال: سأله عن النهر الذي حفره بالأردن: كم بقي منه؟ وأقبل عبد العزيز من اللؤلؤة، فأتى المليكة فحازها، ووجه منصور بْن جمهور، فأخذ شرقي القرى- وهو تل مشرف في أرض ملساء على طريق نهيا إلى البخراء- وكان العباس بْن الوليد تهيأ في نحو من خمسين ومائة من مواليه وولده، فبعث العباس رجلا من بني ناجية يقال له حبيش إلى الوليد يخيره بين أن يأتيه فيكون معه، أو يسير إلى يزيد بْن الوليد فاتهم الوليد العباس، فأرسل إليه يأمره أن يأتيه

فيكون معه، فلقي منصور بْن جمهور الرسول، فسأله عن الأمر فأخبره، فقال له منصور: قل له: والله لئن رحلت من موضعك قبل طلوع الفجر لأقتلنك ومن معك، فإذا أصبح فليأخذ حيث أحب فأقام العباس يتهيأ، فلما كان في السحر سمعنا تكبير أصحاب عبد العزيز قد أقبلوا إلى البخراء، فخرج خالد بْن عثمان المخراش، فعبأ الناس، فلم يكن بينهم قتال حتى طلعت الشمس، وكان مع أصحاب يزيد بْن الوليد كتاب معلق في رمح، فيه: إنا ندعوكم إِلَى كتاب اللَّه وسنة نبيه ص، وأن يصير الأمر شورى فاقتتلوا فقتل عثمان الخشبي، وقتل من أصحاب الوليد زهاء ستين رجلا، وأقبل منصور بْن جمهور على طريق نهيا، فأتى عسكر الوليد من خلفهم، فأقبل الى الوليد وهو في فسطاطه، ليس بينه وبين منصور أحد. فلما رأيته خرجت أنا وعاصم بْن هبيرة المعافري خليفة المخراش، فانكشف أصحاب عبد العزيز، ونكص أصحاب منصور، وصرع سمي بْن المغيرة وقتل، وعدل منصور إلى عبد العزيز وكان الأبرش على فرس له يدعى الأديم، عليه قلنسوة ذات أذنين، قد شدها تحت لحيته، فجعل يصيح بابن أخيه: يا بن اللخناء، قدم رايتك، فقال له: لا أجد متقدما، إنها بنو عامر. وأقبل العباس بْن الوليد فمنعه أصحاب عبد العزيز، وشد مولى لسليمان بْن عبد الله بْن دحية- يقال له التركي- على الحارس بْن العباس بْن الوليد، فطعنه طعنه اذراه عن فرسه، فعدل العباس إلى عبد العزيز، فأسقط في أيدي أصحاب الوليد وانكسروا فبعث الوليد بْن يزيد الوليد بْن خالد إلى عبد العزيز بْن الحجاج بأن يعطيه خمسين ألف دينار، ويجعل له ولاية حمص ما بقي، ويؤمنه على كل حدث، على أن ينصرف ويكف، فأبى ولم يجبه، فقال له الوليد: ارجع إليه فعاوده أيضا، فأتاه الوليد فلم يجبه إلى شيء، فانصرف الوليد، حتى إذا كان غير بعيد عطف دابته، فدنا من عبد العزيز، فقال له: أتجعل لي خمسة آلاف دينار وللأبرش مثلها، وأن أكون كأخص رجل من قومي منزلة وآتيك، فأدخل معك فيما دخلت فيه؟ فقال له عبد العزيز: على أن تحمل الساعة على أصحاب الوليد، ففعل وكان

على ميمنة الوليد معاوية بْن أبي سفيان بْن يزيد بْن خالد، فقال لعبد العزيز: أتجعل لي عشرين ألف دينار وولاية الأردن والشركه في الأمر على ان اصير معكم؟ قَالَ: على أن تحمل على أصحاب الوليد من ساعتك، ففعل، فانهزم أصحاب الوليد وقام الوليد فدخل البخراء، وأقبل عبد العزيز فوقف على الباب وعليه سلسلة، فجعل الرجل بعد الرجل يدخل من تحت السلسلة. وأتى عبد العزيز عبد السلام بْن بكير بْن شماخ اللخمي، فقال له: إنه يقول: أخرج على حكمك، قَالَ: فليخرج، فلما ولي قيل له: ما تصنع بخروجه! دعه يكفيكه الناس فدعا عبد السلام فقال: لا حاجة لي فيما عرض علي، فنظرت إلى شاب طويل على فرس، فدنا من حائط القصر فعلاه، ثم صار إلى داخل القصر قَالَ: فدخلت القصر، فإذا الوليد قائم في قميص قصب وسراويل وشي، ومعه سيف في غمد والناس يشتمونه، فأقبل إليه بشر بْن شيبان مولى كنانة بْن عمير، وهو الذي دخل من الحائط، فمضى الوليد يريد الباب- أظنه أراد أن يأتي عبد العزيز- وعبد السلام عن يمينه ورسول عمرو بْن قيس عن يساره، فضربه على راسه، وتعاروه الناس بأسيافهم فقتل، فطرح عبد السلام نفسه عليه يحتز رأسه- وكان يزيد بْن الوليد قد جعل في رأس الوليد مائة ألف- وأقبل أبو الأسد مولى خالد بْن عبد الله القسري فسلخ من جلد الوليد قدر الكف، فأتى بها يزيد بْن خالد بْن عبد الله، وكان محبوسا في عسكر الوليد، فانتهب الناس عسكر الوليد وخزائنه، وأتاني يزيد العليمي أبو البطريق بْن يزيد، وكانت ابنته عند الحكم بْن الوليد، فقال: امنع لي متاع ابنتي، فما وصل أحد إلى شيء زعم أنه له. قَالَ أحمد: قَالَ علي: قَالَ عمرو بْن مروان الكلبي: لما قتل الوليد قطعت كفه اليسرى، فبعث بها إلى يزيد بْن الوليد، فسبقت الرأس، قدم بها ليلة الجمعة، وانى برأسه من الغد، فنصبه الناس بعد الصلاة وكان أهل دمشق قد أرجفوا بعبد العزيز، فلما أتاهم رأس الوليد سكتوا وكفوا. قَالَ: وأمر يزيد بنصب الرأس، فقال له يزيد بْن فروة مولى بني مروان.

إنما تنصب رءوس الخوارج، وهذا ابن عمك، وخليفة، ولا آمن إن نصبته أن ترق له قلوب الناس، ويغضب له أهل بيته، فقال: والله لانصبته، فنصبه على رمح، ثم قَالَ له: انطلق به، فطف به في مدينة دمشق، وأدخله دار أبيه ففعل، فصاح الناس وأهل الدار، ثم رده إلى يزيد، فقال: انطلق به إلى منزلك، فمكث عنده قريبا من شهر، ثم قَالَ له: ادفعه إلى أخيه سليمان- وكان سليمان أخو الوليد ممن سعى على أخيه- فغسل ابن فروة الرأس، ووضعه في سفط، وأتى به سليمان، فنظر إليه سليمان، فقال: بعدا له! أشهد أنه كان شروبا للخمر، ماجنا فاسقا، ولقد أرادني على نفسي الفاسق فخرج ابن فروة من الدار، فتلقته مولاة للوليد، فقال لها: ويحك! ما أشد ما شتمه! زعم أنه أراده على نفسه! فقالت: كذب والله الخبيث، ما فعل، ولئن كان أراده على نفسه لقد فعل، وما كان ليقدر على الامتناع منه. وحدثني أحمد، عن علي، عن عمرو بْن مروان الكلبي، قَالَ: حدثني يزيد بْن مصاد عن عبد الرحمن بْن مصاد، قَالَ: بعثني يزيد بْن الوليد إلى أبي محمد السفياني- وكان الوليد وجهه حين بلغه خبر يزيد واليا على دمشق وأتى ذنبة، وبلغ يزيد خبره، فوجهني إليه- فأتيته، فسالم وبايع ليزيد، قَالَ: فلم نرم حتى رفع لنا شخص مقبل من ناحية البرية، فبعثت إليه، فأتيت به فإذا هو الغزيل أبو كامل المغني، على بغلة للوليد تدعى مريم، فأخبرنا أن الوليد قد قتل، فانصرفت إلى يزيد، فوجدت الخبر قد أتاه قبل أن آتيه. حدثني أحمد، عن علي، عن عمرو بْن مروان الكلبي، قَالَ: حدثني دكين بْن شماخ الكلبي ثم العامري، قَالَ: رأيت بشر بْن هلباء العامري يوم قتل الوليد ضرب باب البخراء بالسيف، وهو يقول: سنبكى خالدا بمهندت ... ولا تذهب صنائعه ضلالا وحدثني أحمد، عن علي، عن أبي عاصم الزيادي، قَالَ: ادعى قتل الوليد عشرة، وقال: إني رأيت جلدة رأس الوليد في يد وجه الفلس،

فقال: أنا قتلته، وأخذت هذه الجلدة، وجاء رجل فاحتز رأسه، وبقيت هذه الجلدة في يدي واسم وجه الفلس عبد الرحمن، قَالَ: وقال الحكم بْن النعمان مولى الوليد بْن عبد الملك: قدم برأس الوليد على يزيد منصور بْن جمهور في عشرة، فيهم روح بْن مقبل، فقال روح: يا أمير المؤمنين، أبشر بقتل الفاسق وأسر العباس، وكان فيمن قدم بالرأس عبد الرحمن وجه الفلس، وبشر مولى كنانة من كلب، فأعطى يزيد كل رجل منهم عشرة آلاف. قَالَ: وقال الوليد يوم قتل وهو يقاتلهم: من جاء برأس فله خمسمائة، فجاء قوم بارؤس، فقال الوليد: اكتبوا أسماءهم، فقال رجل من مواليه ممن جاء برأس: يا أمير المؤمنين، ليس هذا بيوم يعمل فيه بنسيئة! قَالَ: وكان مع الوليد مالك بْن أبي السمح المغني وعمرو الوادي، فلما تفرق عن الوليد اصحابه، وحصر، قَالَ مالك لعمرو: اذهب بنا، فقال عمرو: ليس هذا من الوفاء، ونحن لا يعرض لنا لأنا لسنا ممن يقاتل، فقال مالك: ويلك! والله لئن ظفروا بنا لا يقتل أحد قبلي وقبلك، فيوضع رأسه بين رأسينا، ويقال للناس: انظروا من كان معه في هذه الحال، فلا يعيبونه بشيء أشد من هذا، فهربا. وقتل الوليد بْن يزيد يوم الخميس لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، كذلك قَالَ أَبُو معشر، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عنه وكذلك قَالَ هشام بن محمد ومحمد ابن عمر الواقدي وعلي بْن محمد المدائني. واختلفوا في قدر المدة التي كان فيها خليفة، فقال أبو معشر: كانت خلافته سنة وثلاثة أشهر، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عنه. وقال هشام بْن محمد: كانت خلافته سنة وشهرين واثنين وعشرين يوما

واختلفوا أيضا في مبلغ سنه يوم قتل، فقال هشام بْن محمد الكلبي: قتل وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، وقال محمد بْن عمر: قتل وهو ابن ست وثلاثين سنة. وقال بعضهم: قتل وهو ابن اثنتين وأربعين سنة وقال آخرون: وهو ابن إحدى وأربعين سنة، وقال آخرون: ابن خمس وأربعين سنة، وقال بعضهم: وهو ابن ست وأربعين سنة وكان يكنى أبا العباس، وأمه أم الحجاج بنت محمد بْن يوسف الثقفي، وكان شديد البطش، طويل أصابع الرجلين، كان يوتد له سكة حديد فيها خيط ويشد الخيط في رجله، ثم يثب على الدابة، فينتزع السكة ويركب، ما يمس الدابة بيده. وكان شاعرا شروبا للخمر، حدثني أحمد، قَالَ: حدثنا علي، عن ابن أبي الزناد، قَالَ: قَالَ أبي: كنت عند هشام وعنده الزهري، فذكرا الوليد، فتقصاه وعاباه عيبا شديدا، ولم أعرض في شيء مما كانا فيه، فاستأذن الوليد، فأذن له، وأنا أعرف الغضب في وجهه، فجلس قليلا، ثم قام فلما مات هشام كتب في فحملت إليه فرحب بي، وقال: كيف حالك يا بن ذكوان؟ وألطف المسألة بي، ثم قَالَ: أتذكر يوم الأحول وعنده الفاسق الزهري، وهما يعيبانني؟ قلت: أذكر ذلك، فلم أعرض في شيء مما كانا فيه، قَالَ: صدقت، أرأيت الغلام الذي كان قائما على رأس هشام؟ قلت: نعم، قال: فانه نم الى بما قالا، وايم الله لو بقي الفاسق- يعني الزهري- لقتلته، قلت: قد عرفت الغضب في وجهك حين دخلت ثم قال: يا بن ذكوان، ذهب الأحول بعمري، فقلت: بل يطيل الله لك عمرك يا أمير المؤمنين، ويمتع الأمة ببقائك، فدعا بالعشاء فتعشينا، وجاءت المغرب فصلينا، وتحدثنا حتى جاءت العشاء الآخرة فصلينا وجلس، وقال: اسقني، فجاءوا بإناء مغطى، وجاء ثلاث جوار فصففن بين يديه، بيني وبينه، ثم شرب، وذهبنا فتحدثنا، واستسقى فصنعن مثل ما صنعن أولا، قَالَ: فما زال على

خبر قتل خالد بن عبد الله القسرى

ذلك يتحدث ويستسقي ويصنعن مثل ذلك حتى طلع الفجر، فأحصيت له سبعين قدحا . خبر قتل خالد بن عبد الله القسرى وفي هذه السنة قتل خالد بْن عبد الله القسري. ذكر الخبر عن مقتله وسبب ذلك: قد تقدم ذكرنا الخبر عن عزل هشام إياه عن عمله وولايته العراق وخراسان واستعماله على العراق يوسف بْن عمر، وكان- فيما ذكر- عمل لهشام على ذلك خمس عشرة سنة غير أشهر، وذلك أنه- فيما قيل- ولي العراق لهشام سنة خمس ومائة، وعزل عنها في جمادى الأولى سنة عشرين ومائة ولما عزله هشام وقدم عليه يوسف واسطا أخذه وحبسه بها، ثم شخص يوسف بْن عمر إلى الحيرة، فلم يزل محبوسا بالحيرة تمام ثمانية عشر شهرا مع أخيه إسماعيل بْن عبد الله وابنه يزيد بْن خالد وابن أخيه المنذر بْن أسد بْن عبد الله واستأذن يوسف هشاما في إطلاق يده عليه وتعذيبه، فلم يأذن له حتى أكثر عليه، واعتل عليه بانكسار الخراج وذهاب الأموال، فأذن له مرة واحدة، وبعث حرسيا يشهد ذلك، وحلف: لئن أتى على خالد أجله وهو في يده ليقتلنه، فدعا به يوسف، فجلس على دكان بالحيرة وحضر الناس، وبسط عليه، فلم يكلمه واحدة حتى شتمه يوسف، فقال: يا بن الكاهن- يعني شق بْن صعب الكاهن- فقال له خالد: إنك لأحمق، تعيرني بشرفي! ولكنك يا بن السباء، إنما كان أبوك سباء خمر- يعني يبيع الخمر- ثم رده إلى حبسه، ثم كتب إليه هشام يأمره بتخلية سبيله في شوال سنة إحدى وعشرين ومائة، فنزل خالد في قصر إسماعيل بْن عبد الله بدوران، خلف جسر الكوفة، وخرج يزيد بْن خالد وحده، فاخذ على بلاد طيّئ، حتى ورد دمشق، وخرج خالد ومعه إسماعيل والوليد، قد جهزهم عبد الرحمن بْن عنبسة بن سعيد ابن العاص، وبعث بالأثقال إلى قصر بني مقاتل، وكان يوسف قد بعث خيلا، فأخذت الزاد والأثقال والإبل وموالي لخالد كانوا فيها، فضرب وباع

ما أخذ لهم، ورد بعض الموالي إلى الرق، فقدم خالد قصر بني مقاتل، وقد أخذ كل شيء لهم، فسار إلى هيت، ثم تحملوا إلى القرية- وهي بإزاء باب الرصافه- فأقام بها بَقِيَّةَ شَوَّالٍ وَذَا الْقَعْدَةِ وَذَا الْحَجَّةِ وَالْمُحَرَّمَ وصفر، لا يأذن لهم هشام في القدوم عليه، والأبرش يكاتب خالدا وخرج زيد بْن علي فقتل قَالَ الهيثم بْن عدي- فيما ذكر عنه-: وكتب يوسف إلى هشام: إن أهل هذا البيت من بني هاشم قد كانوا هلكوا جوعا، حتى كانت همة أحدهم قوت عياله، فلما ولي خالد العراق أعطاهم الأموال فقووا بها حتى تاقت أنفسهم إلى طلب الخلافة، وما خرج زيد إلا عن رأي خالد، والدليل على ذلك نزول خالد بالقرية على مدرجه العراق يستثني أخبارها. فسكت هشام حتى فرغ من قراءة الكتاب، ثم قَالَ للحكم بْن حزن القيني- وكان على الوفد، وقد أمره يوسف بتصديق ما كتب به، ففعل- فقال له هشام: كذبت وكذب من أرسلك، ومهما اتهمنا خالدا فلسنا نتهمه في طاعة، وأمر به فوجئت عنقه وبلغ الخبر خالدا فسار حتى نزل دمشق فأقام حتى حضرت الصائفة، فخرج فيها ومعه يزيد وهشام ابنا خالد بْن عبد الله، وعلى دمشق يومئذ كلثوم بْن عياض القسري، وكان متحاملا على خالد، فلما أدربوا ظهر في دور دمشق حريق، كل ليلة يلقيه رجل من أهل العراق يقال له أبو العمرس وأصحاب له، فإذا وقع الحريق أغاروا يسرقون وكان إسماعيل بْن عبد الله والمنذر بْن أسد بْن عبد الله وسعيد ومحمد ابنا خالد بالساحل لحدث كان من الروم، فكتب كلثوم إلى هشام يذكر الحريق، ويخبره أنه لم يكن قط، وإنه عمل موالي خالد، يريدون الوثوب على بيت المال فكتب إليه هشام يأمره أن يحبس آل خالد، الصغير منهم والكبير، ومواليهم والنساء، فأخذ إسماعيل والمنذر ومحمد وسعيد من الساحل فقدم بهم في الجوامع ومن كان معهم من مواليهم، وحبس أم جرير بنت

خالد والرائقة وجميع النساء والصبيان، ثم ظهر على أبي العمرس، فأخذ ومن كان معه فكتب الوليد بْن عبد الرحمن عامل خراج دمشق إلى هشام يخبره بأخذ أبي العمرس ومن كان معه، سماهم رجلا رجلا، ونسبهم إلى قبائلهم وأمصارهم، ولم يذكر فيهم أحد من موالي خالد، فكتب هشام إلى كلثوم يشتمه ويعنفه، ويأمره بتخلية سبيل جميع من حبس منهم، فأرسلهم جميعا واحتبس الموالي رجاء أن يكلمه فيهم خالد إذا قدم من الصائفة فلما أقبل الناس وخرجوا عن الدرب بلغ خالدا حبس أهله، ولم يبلغه تخليتهم، فدخل يزيد بْن خالد في غمار الناس حتى أتى حمص، وأقبل خالد حتى نزل منزله من دمشق، فلما أصبح أتاه الناس، فبعث الى ابنتيه: زينب وعاتكة، فقال: إني قد كبرت وأحببت أن تليا خدمتي، فسرتا بذلك- ودخل عليه إسماعيل أخوه ويزيد وسعيد ابناه، وأمر بالإذن، فقامت ابنتاه لتتنحيا، فقال: وما لهما تتنحيان، وهشام في كل يوم يسوقهن إلى الحبس! فدخل الناس، فقام إسماعيل وابناه دون ابنتيه يسترونهما فقال خالد: خرجت غازيا في سبيل الله، سامعا مطيعا، فخلفت في عقبي وأخذ حرمي وحرم أهل بيتي، فحبسوا مع أهل الجرائم كما يفعل بأهل الشرك! فما منع عصابة منكم أن تقوم فتقول: علام حبس حرم هذا السامع المطيع! أخفتم أن تقتلوا جميعا! أخافكم الله! ثم قَالَ: ما لي ولهشام! ليكفن عني هشام أو لأدعون إلى عراقي الهوى شامي الدار حجازي الأصل- يعني محمد بن على بن عبد الله ابن عباس- وقد أذنت لكم أن تبلغوا هشاما فلما بلغه ما قَالَ، قَالَ: خرف أبو الهيثم. وذكر أبو زيد أن أحمد بْن معاوية حدثه عن أبي الخطاب، قَالَ: قَالَ خالد: أما والله، لئن ساء صاحب الرصافة- يعني هشاما- لننصبن لنا الشامي الحجازي العراقي، ولو نخر نخرة تداعت من أقطارها. فبلغت هشاما، فكتب إليه: إنك هذاءة هذرة، أببجيلة القليله

الذليلة تتهددنى! قال: فو الله ما نصره أحد بيد ولا بلسان إلا رجل من عبس، فإنه قَالَ: ألا إن بحر الجود أصبح ساجيا ... أسير ثقيف موثقا في السلاسل فإن تسجنوا القسري لا تسجنوا اسمه ... ولا تسجنوا معروفه في القبائل فأقام خالد ويزيد وجماعة أهل بيته بدمشق، ويوسف ملح على هشام يسأله أن يوجه إليه يزيد وكتب هشام إلى كلثوم بْن عياض يأمره بأخذ يزيد والبعثة به إلى يوسف، فوجه كلثوم إلى يزيد خيلا وهو في منزله، فشد عليهم يزيد، فأفرجوا له، ثم مضى على فرسه، وجاءت الخيل إلى كلثوم فاخبروه، فأرسل إلى خالد الغد من يوم تنحى يزيد خيلا، فدعا خالد بثيابه فلبسها وتصارخ النساء، فقال رجل منهم: لو أمرت هؤلاء النسوة فسكتن! فقال: ولم؟ أما والله لولا الطاعة لعلم عبد بني قسر أنه لا ينال هذه مني، فأعلموه مقالتي، فإن كان عربيا كما يزعم، فليطلب جده مني ثم مضى معهم فحبس في حبس دمشق وسار إسماعيل من يومه حتى قدم الرصافة على هشام، فدخل على أبي الزبير حاجبه فأخبره بحبس خالد، فدخل أبو الزبير على هشام فأعلمه، فكتب إلى كلثوم يعنفه، ويقول: خليت عمن أمرتك بحبسه، وحبست من لم آمرك بحبسه ويأمره بتخلية سبيل خالد، فخلاه. وكان هشام إذا أراد أمرا أمر الأبرش فكتب به إلى خالد، فكتب الأبرش: إنه بلغ أمير المؤمنين أن عبد الرحمن بْن ثويب الضنى- ضنه سعد اخوه عذره ابن سعد- قام إليك، فقال: يا خالد إني لأحبك لعشر خصال: إن الله كريم وأنت كريم، والله جواد وأنت جواد، والله رحيم وأنت رحيم، والله حليم وأنت حليم حتى عد عشرا، وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن تحقق عنده ذلك ليستحلن دمك، فاكتب إلي بالأمر على وجهه لأخبر به أمير المؤمنين فكتب إليه خالد: إن ذلك المجلس كان أكثر أهلا من أن يجوز لأحد من أهل البغي والفجور أن يحرف ما كان فيه الى غيره، قام الى عبد الرحمن ابن ثويب، فقال: يا خالد أني لأحبك لعشر خصال: إن الله كريم يحب

كل كريم، والله يحبك وأنا أحبك لحب الله إياك، حتى عدد عشر خصال، ولكن أعظم من ذلك قيام ابن شقي الحميري إلى أمير المؤمنين، وقوله: يا أمير المؤمنين، خليفتك في أهلك أكرم عليك أم رسولك؟ فقال أمير المؤمنين: بل خليفتي في أهلي، فقال ابن شقي: فأنت خليفة الله ومحمد رسوله، ولعمري لضلالة رجل من بجيلة إن ضل أهون على العامة والخاصة من ضلال أمير المؤمنين فأقرأ الأبرش هشاما كتابه، فقال خرف أبو الهيثم. فأقام خالد بدمشق خلافة هشام حتى هلك، فلما هلك هشام، وقام الوليد، قدم عليه أشراف الأجناد، فيهم خالد، فلم يأذن لأحد منهم، واشتكى خالد، فاستأذن فأذن له، فرجع الى دمشق، فأقام أشهرا، ثم كتب إليه الوليد: إن أمير المؤمنين قد علم حال الخمسين الالف الف، التي تعلم، فأقدم على أمير المؤمنين مع رسوله، فقد أمره ألا يعجلك عن جهاز. فبعث خالد إلى عدة من ثقاته، منهم عمارة بْن أبي كلثوم الأزدي، فأقرأهم الكتاب، وقال: أشيروا علي، فقالوا: إن الوليد ليس بمأمون عليك، فالرأي ان تدخل دمشق، فتأخذ بيوت الأموال وتدعو إلى من أحببت، فأكثر الناس قومك، ولن يختلف عليك رجلان، قَالَ: أو ماذا؟ قالوا: تأخذ بيوت الأموال، وتقيم حتى تتوثق لنفسك، قال: أو ماذا؟ قالوا: او تتوارى. قَالَ: أما قولكم: تدعو إلى من أحببت، فإني أكره أن تكون الفرقة والاختلاف على يدي، وأما قولكم: تتوثق لنفسك، فأنتم لا تأمنون علي الوليد، ولا ذنب لي، فكيف ترجون وفاءه لي وقد أخذت بيوت الأموال! واما التوارى، فو الله. ما قنعت رأسي خوفا من أحد قط، فالآن وقد بلغت من السن ما بلغت! لا، ولكن أمضي وأستعين الله فخرج حتى قدم على الوليد، فلم يدع به، ولم يكلمه وهو في بيته، معه مواليه وخدمه، حتى قدم برأس يحيى بْن زيد من خراسان، فجمع الناس في رواق، وجلس الوليد، وجاء الحاجب فوقف، فقال له خالد: إن حالي ما ترى، لا أقدر على المشي، وإنما أحمل في كرسي، فقال

الحاجب: لا يدخل عليه أحد يحمل، ثم أذن لثلاثة نفر، ثم قَالَ: قم يا خالد، فقال: حالي ما ذكرت لك، ثم أذن لرجل أو رجلين، فقال: قم يا خالد، فقال: إن حالي ما ذكرت لك، حتى أذن لعشرة، ثم قَالَ: قم يا خالد، وأذن للناس كلهم، وأمر بخالد فحمل على كرسيه، فدخل به والوليد جالس على سريره، والموائد موضوعة، والناس بين يديه سماطان، وشبه ابن عقال- أو عقال بْن شبة- يخطب، ورأس يحيى بْن زيد منصوب، فميل بخالد إلى أحد السماطين، فلما فرغ الخطيب قام الوليد وصرف الناس، وحمل خالد إلى أهله، فلما نزع ثيابه جاءه رسول الوليد فرده، فلما صار إلى باب السرادق وقف فخرج إليه رسول الوليد، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: أين يزيد بْن خالد؟ فقال: كان أصابه من هشام ظفر، ثم طلبه فهرب منه، وكنا نراه عند أمير المؤمنين حتى استخلفه الله، فلما لم يظهر ظنناه ببلاد قومه من السراة، وما أوشكه فرجع إليه الرسول، فقال: لا ولكنك خلفته طلبا للفتنة فقال خالد للرسول: قد علم أمير المؤمنين إنا أهل بيت طاعة، أنا وأبي وجدي- قَالَ خالد: وقد كنت أعلم بسرعة رجعة الرسول، أن الوليد قريب حيث يسمع كلامي- فرجع الرسول، فقال: يقول لك أمير المؤمنين، لتأتين به أو لأزهقن نفسك فرفع خالد صوته، وقال: قل له: هذا أردت، وعليه درت، والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما لك عنه، فاصنع ما بدا لك! فامر الوليد غيلان صاحب حرسه بالبسط عليه، وقال له: أسمعني صوته، فذهب به غيلان إلى رحله، فعذبه بالسلاسل، فلم يتكلم، فرجع غيلان إلى الوليد، فقال: والله ما أعذب إنسانا، والله ما يتكلم ولا يتأوه، فقال: اكفف عنه واحبسه عندك فحبسه حتى قدم يوسف بْن عمر بمال من العراق، ثم أداروا الأمر بينهم، وجلس الوليد للناس ويوسف عنده، فتكلم أبان بْن عبد الرحمن النميري في خالد، فقال يوسف: أنا أشتريه بخمسين ألف ألف، فأرسل الوليد إلى خالد: إن يوسف يشتريك بخمسين ألف ألف، فإن كنت تضمنها وإلا

دفعتك إليه، فقال خالد: ما عهدت العرب تباع، والله لو سألني أن أضمن هذا- ورفع عودا من الأرض- ما ضمنته، فر رأيك. فدفعه إلى يوسف، فنزع ثيابه ودرعه عباءه ولحفه بأخرى، وحمله في محمل بغير وطاء، وزميله أبو قحافة المري ابن أخي الوليد بْن تليد- وكان عامل هشام على الموصل، فانطلق به حتى نزل المحدثة، على مرحلة من عسكر الوليد ثم دعا به فذكر أمه، فقال: وما ذكر الأمهات لعنك الله! والله لا أكلمك كلمة أبدا فبسط عليه، وعذبه عذابا شديدا وهو لا يكلمه كلمة ثم ارتحل به حتى إذا كان ببعض الطريق بعث إليه زيد بْن تميم القيني بشربة سويق حب رمان مع مولى له يقال له سالم النفاط، فبلغ يوسف فضرب زيدا خمسمائة سوط، وضرب سالما ألف سوط ثم قدم يوسف الحيرة فدعا به وبإبراهيم ومحمد ابني هشام فبسط على خالد، فلم يكلمه، وصبر ابراهيم ابن هشام وخرع محمد بْن هشام فمكث خالد يوما في العذاب، ثم وضع على صدره المضرسة فقتله من الليل، ودفن بناحية الحيرة في عباءته التي كان فيها، وذلك في المحرم سنة ست وعشرين ومائة في قول الهيثم بْن عدي، فأقبل عامر بْن سهلة الأشعري فعقر فرسه على قبره، فضربه يوسف سبعمائة سوط. قَالَ أبو زيد: حدثني أبو نعيم قَالَ: حدثني رجل، قَالَ: شهدت خالدا حين أتى به يوسف، فدعا بعود فوضع على قدميه، ثم قامت عليه الرجال حتى كسرت قدماه، فو الله ما تكلم ولا عبس، ثم على ساقيه حتى كسرتا، ثم على فخذيه ثم على حقويه ثم على صدره حتى مات، فو الله ما تكلم ولا عبس، فقال خلف بْن خليفة لما قتل الوليد بْن يزيد: لقد سكنت كلب واسباق مذحج ... صدى كان يزقو ليله غير راقد تركن أمير المؤمنين بخالد ... مكبا على خيشومه غير ساجد فإن تقطعوا منا مناط قلادة ... قطعنا به منكم مناط قلائد

ذكر بيعه يزيد بن الوليد الناقص

وإن تشغلونا عن ندانا فإننا ... شغلنا الوليد عن غناء الولائد وإن سافر القسري سفرة هالك ... فإن أبا العباس ليس بشاهد وقال حسان بْن جعدة الجعفري يكذب خلف بْن خليفة في قوله هذا: إن امرأ يدعي قتل الوليد سوى ... أعمامه لمليء النفس بالكذب ما كان إلا امرأ حانت منيته ... سارت إليه بنو مروان بالعرب وقال أبو محجن مولى خالد: سائل وليدا وسائل أهل عسكره ... غداة صبحه شؤبوبنا البرد هل جاء من مضر نفس فتمنعه ... والخيل تحت عجاج الموت تطرد من يهجنا جاهلا بالشعر ننقضه ... بالبيض إنا بها نهجو ونفتئد وقال نصر بْن سعيد الأنصاري: أبلغ يزيد بني كرز مغلغلة ... أني شفيت بغيب غير موتور قطعت أوصال قنور على حنق ... بصارم من سيوف الهند مأثور أمست حلائل قنور مجدعة ... لمصرع العبد قنور بْن قنور ظلت كلاب دمشق وهي تنهشه ... كأن أعضاءه أعضاء خنزير غادرن منه بقايا عند مصرعه ... أنقاض شلو على الاطناب مجرور حكمت سيفك إذ لم ترض حكمهم ... والسيف يحكم حكما غير تعذير لا ترض من خالد إن كنت متئرا ... إلا بكل عظيم الملك مشهور أسعرت ملك نزار ثم رعتهم ... بالخيل تركض بالشم المغاوير ما كان في آل قنور ولا ولدوا ... عدلا لبدر سماء ساطع النور ذكر بيعه يزيد بن الوليد الناقص وفي هذه السنة بويع ليزيد بْن الوليد بْن عبد الملك، الذي يقال له يزيد الناقص، وإنما قيل: يزيد الناقص لنقصه الناس الزيادة التي زادهموها الوليد

ذكر اضطراب امر بنى مروان

ابن يزيد في أعطياتهم، وذلك عشرة عشرة، فلما قتل الوليد نقصهم تلك الزيادة، ورد أعطياتهم إلى ما كانت عليه أيام هشام بْن عبد الملك. وقيل: أول من سماه بهذا الاسم مروان بْن محمد، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْن محمد، قَالَ: شتم مروان بْن محمد يزيد بْن الوليد فقال: الناقص بن الوليد، فسماه الناس الناقص لذلك. ذكر اضطراب امر بنى مروان وفي هذه السنة اضطرب حبل بني مروان وهاجت الفتنة. ذكر الخبر عما حدث فيها من الفتن: فكان في ذلك وثوب سليمان بْن هشام بْن عبد الملك بعد ما قتل الوليد بْن يزيد بعمان فحدثني أحمد بن زهير، عن علي بن محمد قال: لما قتل الوليد خرج سليمان بْن هشام من السجن، وكان محبوسا بعمان، فأخذ ما كان بعمان من الأموال، وأقبل إلى دمشق، وجعل يلعن الوليد ويعيبه بالكفر . ذكر خلاف اهل حمص وفيها كان وثوب أهل حمص بأسباب العباس بْن الوليد وهدمهم داره وإظهارهم الطلب بدم الوليد بْن يزيد. ذكر الخبر عن ذلك: حدثني أحمد عن علي، قَالَ: كان مروان بْن عبد الله بْن عبد الملك عاملا للوليد على حمص، وكان من سادة بني مروان نبلا وكرما وعقلا وجمالا، فلما قتل الوليد بلغ أهل حمص قتله، فأغلقوا أبوابها، وأقاموا النوائح والبواكي على الوليد، وسألوا عن قتله، فقال بعض من حضرهم: ما زلنا منتصفين من القوم قاهرين لهم، حتى جاء العباس بْن الوليد، فمال إلى عبد العزيز بْن الحجاج فوثب أهل حمص فهدموا دار العباس وانتهبوها وسلبوا حرمه، وأخذوا بنيه فحبسوهم وطلبوه فخرج إلى يزيد بْن الوليد. وكاتبوا الأجناد، ودعوهم إلى الطلب بدم الوليد، فأجابوهم وكتب اهل

حمص بينهم كتابا، الا يدخلوا في طاعة يزيد، وإن كان وليا عهد الوليد حيين قاموا بالبيعة لهما وإلا جعلوها لخير من يعلمون، على أن يعطيهم العطاء من المحرم إلى المحرم، ويعطيهم للذرية وأمروا عليهم معاوية بْن يزيد بْن حصين، فكتب إلى مروان بْن عبد الله بْن عبد الملك وهو بحمص في دار الإمارة، فلما قرأه قَالَ: هذا كتاب حضره من الله حاضر وتابعهم على ما أرادوا فلما بلغ يزيد بْن الوليد خبرهم، وجه إليهم رسلا فيهم يعقوب بْن هانئ، وكتب إليهم: أنه ليس يدعو إلى نفسه، ولكنه يدعوهم إلى الشورى فقال عمرو بْن قيس السكوني: رضينا بولي عهدنا- يعني ابن الوليد بْن يزيد- فأخذ يعقوب بْن عمير بلحيته، فقال: أيها العشمة، إنك قد فيلت وذهب عقلك، إن الذي تعني لو كان يتيما في حجرك لم يحل لك أن تدفع إليه ماله، فكيف أمر الأمة! فوثب أهل حمص على رسل يزيد بْن الوليد فطردوهم. وكان أمر حمص لمعاوية بْن يزيد بْن حصين، وليس إلى مروان بْن عبد الله من أمرهم شيء، وكان معهم السمط بْن ثابت، وكان الذي بينه وبين معاوية بْن يزيد متباعدا وكان معهم أبو محمد السفياني فقال لهم: لو قد اتيت دمشق، ونظر الى أهلها لم يخالفوني فوجه يزيد بن الوليد مسرور ابن الوليد والوليد بْن روح في جمع كبير، فنزلوا حوارين، أكثرهم بنو عامر من كلب ثم قدم على يزيد سليمان بْن هشام فأكرمه يزيد، وتزوج أخته أم هشام بنت هشام بْن عبد الملك، ورد عليه ما كان الوليد أخذه من أموالهم، ووجهه إلى مسرور بْن الوليد والوليد بْن روح، وأمرهما بالسمع والطاعة له. وأقبل أهل حمص فنزلوا قرية لخالد بْن يزيد بْن معاوية. حدثني أحمد، قَالَ: حدثنا علي، عن عمرو بْن مروان الكلبي، قَالَ: حدثني عمرو بْن محمد ويحيى بْن عبد الرحمن البهراني، قالا: قام مروان بْن عبد الله، فقال: يا هؤلاء، إنكم خرجتم لجهاد عدوكم والطلب

بدم خليفتكم، وخرجتم مخرجا أرجو أن يعظم الله به أجركم، ويحسن عليه ثوابكم، وقد نجم لكم منهم قرن، وشال إليكم منهم عنق، إن أنتم قطعتموه اتبعه ما بعده، وكنتم عليه أحرى، وكانوا عليكم أهون، ولست أرى المضي إلى دمشق وتخليف هذا الجيش خلفكم فقال السمط: هذا والله العدو القريب الدار، يريد أن ينقض جماعتكم، وهو ممايل للقدرية. قَالَ: فوثب الناس على مروان بْن عبد الله فقتلوه وقتلوا ابنه، ورفعوا راسيهما للناس، وإنما أراد السمط بهذا الكلام خلاف معاوية بْن يزيد، فلما قتل مروان بْن عبد الله ولوا عليهم أبا محمد السفياني، وأرسلوا إلى سليمان بْن هشام: إنا آتوك فأقم بمكانك، فأقام قَالَ: فتركوا عسكر سليمان ذات اليسار، ومضوا إلى دمشق، وبلغ سليمان مضيهم، فخرج مغذا، فلقيهم بالسليمانية- مزرعة كانت لسليمان بْن عبد الملك خلف عذراء من دمشق على أربعة عشر ميلا. قَالَ علي: فحدثني عمرو بْن مروان بْن بشار والوليد بْن علي، قالا: لما بلغ يزيد أمر أهل حمص دعا عبد العزيز بْن الحجاج، فوجهه في ثلاثة آلاف، وأمره أن يثبت على ثنية العقاب، ودعا هشام بْن مصاد، فوجهه في الف وخمسمائة، وأمره أن يثبت على عقبة السلامة، وأمرهم ان يمد بعضهم بعضا. قَالَ عمرو بْن مروان: فحدثني يزيد بْن مصاد، قَالَ: كنت في عسكر سليمان، فلحقنا أهل حمص، وقد نزلوا السليمانية، فجعلوا الزيتون على أيمانهم، والجبل على شمائلهم، والجباب خلفهم، وليس عليهم مأتى إلا من وجه واحد، وقد نزلوا أول الليل، فأراحوا دوابهم، وخرجنا نسري ليلتنا كلها، حتى دفعنا إليهم، فلما متع النهار واشتد الحر، ودوابنا قد كلت وثقل علينا الحديد، دنوت من مسرور بْن الوليد، فقلت له- وسليمان يسمع كلامي: أنشدك الله يا أبا سعيد أن يقدم الأمير جنده إلى القتال في هذه الحال! فأقبل سليمان فقال: يا غلام، اصبر نفسك، فو الله لا أنزل حتى يقضي الله

بيني وبينهم ما هو قاض فتقدم وعلى ميمنته الطفيل بْن حارثة الكلبي، وعلى ميسرته الطفيل بْن زرارة الحبشي، فحملوا علينا حملة، فانهزمت الميمنة والميسرة أكثر من غلوتين، وسليمان في القلب لم يزل من مكانه، ثم حمل عليهم أصحاب سليمان حتى ردوهم إلى موضعهم، فلم يزالوا يحملون علينا ونحمل عليهم مرارا، فقتل منهم زهاء مائتي رجل، فيهم حرب بْن عبد الله بْن يزيد بْن معاوية، وأصيب من أصحاب سليمان نحو من خمسين رجلا، وخرج أبو الهلباء البهراني- وكان فارس أهل حمص- فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه حية بْن سلامة الكلبي فطعنه طعنة أذراه عن فرسه، وشد عليه أبو جعدة مولى لقريش من أهل دمشق فقتله، وخرج ثبيت ابن يزيد البهراني، فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه أيراك السغدي، من أبناء ملوك السغد كان منقطعا إلى سليمان بْن هشام- وكان ثبيت قصيرا، وكان أيراك جسيما- فلما رآه ثبيت قد أقبل نحوه استطرد، فوقف أيراك ورماه بسهم فأثبت عضلة ساقه إلى لبده قَالَ: فبينا هم كذلك إذ أقبل عبد العزيز من ثنية العقاب، فشد عليهم، حتى دخل عسكرهم فقتل ونفذ إلينا. قَالَ أحمد: قَالَ علي: قَالَ عمرو بْن مروان: فحدثني سليمان بْن زياد الغساني قَالَ: كنت مع عبد العزيز بْن الحجاج، فلما عاين عسكر أهل حمص، قَالَ لأصحابه: موعدكم التل الذي في وسط عسكرهم، والله لا يتخلف منكم أحد إلا ضربت عنقه ثم قَالَ لصاحب لوائه: تقدم، ثم حمل وحملنا معه، فما عرض لنا أحد إلا قتل حتى صرنا على التل، فتصدع عسكرهم، فكانت هزيمتهم، ونادى يزيد بْن خالد بن عبد الملك القسري: الله الله في قومك! فكف الناس، وكره ما صنع سليمان وعبد العزيز، وكاد يقع الشربين الذكوانية وسليمان وبين بني عامر من كلب، فكفوا عنهم، على ان يبايعوا ليزيد ابن الوليد وبعث سليمان بْن هشام إلى أبي محمد السفياني ويزيد بْن خالد بْن يزيد بْن معاوية فأخذا، فمر بهما على الطفيل بْن حارثة، فصاحا به: يا خالاه! ننشدك الله والرحم! فمضى معهما إلى سليمان فحبسهما، فخاف

ذكر خلاف اهل الأردن وفلسطين

بنو عامر أن يقتلهما، فجاءت جماعة منهم، فكانت معهما في الفسطاط، ثم وجههما إلى يزيد بْن الوليد، فحبسهما في الخضراء مع ابني الوليد، وحبس أيضا يزيد بْن عثمان بْن محمد بْن أبي سفيان، خال عثمان بْن الوليد معهم ثم دخل سليمان وعبد العزيز إلى دمشق، ونزلا بعذراء واجتمع أمر أهل دمشق، وبايعوا يزيد بْن الوليد، وخرجوا إلى دمشق وحمص وأعطاهم يزيد العطاء، وأجاز الأشراف منهم معاوية بْن يزيد بْن الحصين والسمط بْن ثابت وعمرو بْن قيس وابن حوي والصقر بْن صفوان، واستعمل معاوية بْن يزيد بْن حصين من أهل حمص، وأقام الباقون بدمشق، ثم ساروا إلى أهل الأردن وفلسطين وقد قتل من أهل حمص يومئذ ثلاثمائة رجل ذكر خلاف اهل الأردن وفلسطين وفي هذه السنة وثب أهل فلسطين والأردن على عاملهم فقتلوه. ذكر الخبر عن أمرهم وأمر يزيد بْن الوليد معهم: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عمرو بْن مروان الكلبي، قَالَ: حدثني رجاء بْن روح بْن سلامة بْن روح بْن زنباع، قَالَ: كان سعيد بْن عبد الملك عاملا للوليد على فلسطين، وكان حسن السيرة، وكان يزيد بْن سليمان سيد ولد أبيه، وكان ولد سليمان بْن عبد الملك ينزلون فلسطين، فكان أهل فلسطين يحبونهم لجوارهم، فلما أتى قتل الوليد- ورأس أهل فلسطين يومئذ سعيد بْن روح بْن زنباع- كتب إلى يزيد بْن سليمان: إن الخليفة قد قتل فأقدم علينا نولك أمرنا فجمع له سعيد قومه، وكتب إلى سعيد بْن عبد الملك- وهو يومئذ نازل بالسبع: ارتحل عنا، فان الأمر قد اضطرب، وقد ولينا أمرنا رجلا قد رضينا أمره فخرج إلى يزيد بْن الوليد، فدعا يزيد ابن سليمان أهل فلسطين إلى قتال يزيد بْن الوليد، وبلغ أهل الأردن أمرهم، فولوا عليهم محمد بْن عبد الملك- وأمر أهل فلسطين إلى سعيد بْن روح وضبعان بْن روح- وبلغ يزيد أمرهم، فوجه إليهم سليمان بْن هشام في أهل دمشق وأهل حمص الذين كانوا مع السفياني

قَالَ علي: قال عمرو بْن مروان: حدثني محمد بْن راشد الخزاعي أن أهل دمشق كانوا أربعة وثمانين ألفا، وسار إليهم سليمان بْن هشام قَالَ محمد بْن راشد: وكان سليمان بْن هشام يرسلني إلى ضبعان وسعيد ابني روح وإلى الحكم وراشد ابني جرو من بلقين، فأعدهم وأمنيهم على الدخول في طاعة يزيد بْن الوليد، فأجابوا. قَالَ: وحدثني عثمان بْن داود الخولاني، قَالَ: وجهني يزيد بْن الوليد ومعي حذيفة بْن سعيد إلى محمد بْن عبد الملك ويزيد بْن سليمان، يدعوهما إلى طاعته، ويعدهما ويمنيهما، فبدأنا بأهل الأردن ومحمد بْن عبد الملك، فاجتمع إليه جماعة منهم، فكلمته فقال بعضهم: أصلح الله الأمير! اقتل هذا القدرى الخبيث، فكفهم عنى الحكم بن جرو القينى فأقيمت الصلاة فخلوت به، فقلت: إني رسول يزيد إليك، والله ما تركت ورائي راية تعقد إلا على رأس رجل من قومك، ولا درهم يخرج من بيت المال إلا في يد رجل منهم، وهو يحمل لك كذا وكذا قَالَ: أنت بذاك؟ قلت: نعم: ثم خرجت فأتيت ضبعان بْن روح، فقلت له مثل ذلك، وقلت له: إنه يوليك فلسطين ما بقي، فأجابني فانصرفت، فما أصبحت حتى رحل بأهل فلسطين. حدثني أحمد، عن علي، عن عمرو بْن مروان الكلبي، قَالَ: سمعت محمد بْن سعيد بْن حسان الأردني، قَالَ: كنت عينا ليزيد بْن الوليد بالأردن، فلما اجتمع له ما يريد ولاني خراج الأردن، فلما خالفوا يزيد بْن الوليد أتيت سليمان بْن هشام، فسألته أن يوجه معي خيلا، فأشن الغارة على طبرية، فأبى سليمان أن يوجه معي أحدا، فخرجت إلى يزيد بْن الوليد، فأخبرته الخبر، فكتب إلى سليمان كتابا بخطه، يأمره أن يوجه معي ما أردت، فأتيت به سليمان، فوجه معي مسلم بْن ذكوان في خمسة آلاف، فخرجت بهم ليلا حتى أنزلتهم البطيحة، فتفرقوا في القرى، وسرت أنا في طائفة منهم نحو طبرية، وكتبوا إلى عسكرهم، فقال أهل طبرية: علام نقيم والجنود تجوس منازلنا وتحكم في أهالينا! ومضوا إلى حجرة يزيد بْن سليمان ومحمد بْن عبد الملك،

فانتهبوهما وأخذوا دوابهما وسلاحهما، ولحقوا بقراهم ومنازلهم، فلما تفرق أهل فلسطين والأردن، خرج سليمان حتى أتى الصنبرة، وأتاه أهل الأردن، فبايعوا ليزيد بْن الوليد، فلما كان يوم الجمعة وجه سليمان إلى طبرية، وركب مركبا في البحيرة، فجعل يسايرهم حتى أتى طبرية، فصلى بهم الجمعة، وبايع من حضر ثم انصرف إلى عسكره. حدثني أحمد، قَالَ: حدثنا علي، عن عمرو بْن مروان الكلبي، قَالَ: حدثني عثمان بْن داود، قَالَ: لما نزل سليمان الصنبرة، أرسلني إلى يزيد بْن الوليد، وقال لي: أعلمه أنك قد علمت جفاء أهل فلسطين، وقد كفى الله مئونتهم، وقد أزمعت على أن أولي ابن سراقة فلسطين والأسود بْن بلال المحاربي الأردن فأتيت يزيد، فقلت له ما أمرني به سليمان، فقال: أخبرني كيف قلت لضبعان بْن روح؟ فأخبرته، قَالَ: فما صنع؟ قلت: ارتحل بأهل فلسطين، وارتحل ابن جرو بأهل الأردن قبل أن يصبحا. قَالَ: فليسا بأحق بالوفاء منا، ارجع فمره الا ينصرف حتى ينزل الرملة، فيبايع أهلها، وقد استعملت إبراهيم بْن الوليد على الأردن وضبعان بْن روح على فلسطين ومسرور بْن الوليد على قنسرين وابن الحصين على حمص. ثم خطب يزيد بْن الوليد بعد قتل الوليد، فقال بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على نبيه محمد ص أيها الناس، إني والله ما خرجت أشرا ولا بطرا ولا حرصا على الدنيا، ولا رغبة في الملك، وما بي إطراء نفسي، إني لظلوم لنفسي إن لم يرحمني ربي، ولكني خرجت غضبا لله ورسوله ودينه، داعيا الى الله وكتابه وسنه نبيه ص، لما هدمت معالم الهدى، وأطفئ نور أهل التقوى، وظهر الجبار العنيد، المستحل لكل حرمة، والراكب لكل بدعة، مع أنه والله ما كان يصدق بالكتاب، ولا يؤمن بيوم الحساب، وانه لابن عمى في الحسب، وكفئي في النسب، فلما رأيت ذلك استخرت الله في أمره، وسألته ألا يكلني إلى

نفسي، ودعوت إلى ذلك من أجابني من أهل ولايتي، وسعيت فيه حتى أراح الله منه العباد والبلاد بحول الله وقوته، لا بحولي وقوتي. أيها الناس، إن لكم علي ألا أضع حجرا على حجر، ولا لبنة على لبنة، ولا أكري نهرا، ولا أكثر مالا، ولا أعطيه زوجة ولا ولدا، ولا أنقل مالا من بلدة إلى بلدة حتى أسد ثغر ذلك البلد وخصاصة أهله بما يعينهم، فان فضل فضل نقلته إلى البلد الذي يليه، ممن هو أحوج إليه، ولا أجمركم في ثغوركم فأفتنكم وأفتن أهليكم، ولا أغلق بابي دونكم، فيأكل قويكم ضعيفكم، ولا أحمل على أهل جزيتكم ما يجليهم عن بلادهم ويقطع نسلهم، وإن لكم أعطياتكم عندي في كل سنة وأرزاقكم في كل شهر، حتى تستدر المعيشة بين المسلمين، فيكون أقصاهم كأدناهم، فإن وفيت لكم بما قلت، فعليكم السمع والطاعة وحسن المؤازرة، وإن أنا لم أف فلكم أن تخلعوني، الا ان تستتيبونى، فان تبت قبلتم مني، فإن علمتم أحدا ممن يعرف بالصلاح يعطيكم من نفسه مثل ما أعطيتكم فأردتم أن تبايعوه، فأنا أول من يبايعه، ويدخل في طاعته. أيها الناس، إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا وفاء له بنقض عهد، إنما الطاعة طاعة الله، فأطيعوه بطاعة الله ما أطاع، فإذا عصى الله ودعا إلى المعصية، فهو أهل أن يعصى ويقتل أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. ثم دعا الناس إلى تجديد البيعة له، فكان أول من بايعه الأفقم يزيد بْن هشام وبايعه قيس بْن هانئ العبسي، فقال: يا أمير المؤمنين، اتق الله، ودم على ما أنت عليه، فما قام مقامك أحد من أهل بيتك، وإن قالوا: عمر بْن عبد العزيز فأنت أخذتها بحبل صالح، وإن عمر أخذها بحبل سوء. فبلغ مروان بْن محمد قوله، فقال: ما له قاتله الله ذمنا جميعا وذم عمر!

فلما ولي مروان بعث رجلا فقال: إذا دخلت مسجد دمشق فانظر قيس ابن هانئ، فإنه طالما صلى فيه، فاقتله، فانطلق الرجل، فدخل مسجد دمشق، فرأى قيسا يصلي فقتله. وفي هذه السنة عزل يزيد بْن الوليد يوسف بْن عمر عن العراق وولاها منصور بْن جمهور. ذكر الخبر عن عزل يوسف بْن عمر وولاية منصور بْن جمهور ولما استوثق ليزيد بن الوليد على الطاعة أهل الشام، ندب- فيما قيل- لولاية العراق عبد العزيز بْن هارون بْن عبد الله بْن دحية بْن خليفة الكلبي، فقال له عبد العزيز: لو كان معي جند لقبلت، فتركه وولاها منصور بْن جمهور. وأما أبو مخنف، فإنه قَالَ- فِيمَا ذكر هِشَام بْن مُحَمَّد عنه: قتل الوليد ابن يزيد بْن عبد الملك يوم الأربعاء، لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، وبايع الناس يزيد بْن الوليد بْن عبد الملك بدمشق، وسار منصور بْن جمهور من البخراء في اليوم الذي قتل فيه الوليد بْن يزيد إلى العراق، وهو سابع سبعة، فبلغ خبره يوسف بْن عمر فهرب وقدم منصور بْن جمهور الحيرة في أيام خلون من رجب، فأخذ بيوت الأموال، فأخرج العطاء لا هل العطاء والأرزاق، واستعمل حريث بْن أبي الجهم على واسط، وكان عليها محمد بْن نباتة، فطرقه ليلا فحبسه وأوثقه، واستعمل جرير بْن يزيد بْن يزيد بْن جرير على البصرة، وأقام منصور وولى العمال، وبايع ليزيد بْن الوليد بالعراق، وفي كورها، وأقام بقية رجب وشعبان ورمضان، وانصرف لأيام بقين منه. وأما غير أبي مخنف فإنه قَالَ: كان منصور بْن جمهور أعرابيا جافيا غيلانيا، ولم يكن من أهل الدين، وإنما صار مع يزيد لرأيه في الغيلانية، وحمية لقتل خالد، فشهد لذلك قتل الوليد، فقال يزيد له لما ولاه العراق: قد وليتك العراق فسر إليه، واتق الله، واعلم أني إنما قتلت الوليد لفسقه

ولما أظهر من الجور، فلا ينبغي لك أن تركب مثل ما قتلناه عليه فدخل على يزيد بْن الوليد يزيد بْن حجرة الغساني- وكان دينا فاضلا ذا قدر في أهل الشام، قد قاتل الوليد ديانة- فقال: يا أمير المؤمنين، أوليت منصورا العراق؟ قَالَ: نعم، لبلائه وحسن معونته، قَالَ: يا أمير المؤمنين، انه ليس هناك في أعرابيته وجفائه في الدين قَالَ: فإذا لم أول منصورا في حسن معاونته فمن أولي! قَالَ: تولي رجلا من أهل الدين والصلاح والوقوف عند الشبهات، والعلم بالأحكام والحدود، وما لي لا أرى أحدا من قيس يغشاك، ولا يقف ببابك! قَالَ: لولا أنه ليس من شأني سفك الدماء لعاجلت قيسا، فو الله ما عزت إلا ذل الإسلام ولما بلغ يوسف بْن عمر قتل الوليد، جعل يعمد إلى من بحضرته من اليمانية فيلقيهم في السجون، ثم جعل يخلو بالرجل بعد الرجل من المضرية، فيقول له: ما عندك إن اضطرب حبل أو انفتق فتق؟ فيقول: أنا رجل من أهل الشام، أبايع من بايعوا، وأفعل ما فعلوا فلم ير عندهم ما يحب، فأطلق من في السجون من اليمانية، وأرسل إلى الحجاج بْن عبد الله البصري ومنصور ابن نصير- وكانا على خبر ما بينه وبين أهل الشام- فأمرهما بالكتاب إليه بالخبر، وجعل على طريق الشام أرصادا، وأقام بالحيرة وجلا وأقبل منصور حتى إذا كان بالجمع، كتب إلى سليمان بْن سليم بْن كيسان كتابا: اما بعد، ف إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ، وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له، وإن الوليد بْن يزيد بدل نعمة الله كفرا، فسفك الدماء، فسفك الله دمه، وعجله إلى النار! وولى خلافته من هو خير منه، وأحسن هديا، يزيد بْن الوليد، وقد بايعه الناس، وولى على العراق الحارث بْن العباس بْن الوليد، ووجهني العباس لآخذ يوسف وعماله، وقد نزل الأبيض، ورائي على مرحلتين، فخذ يوسف وعماله، لا يفوتنك منهم، أحد، فاحبسهم قبلك وإياك أن تخالف، فيحل بك وبأهل بيتك ما لا قبل لك به، فاختر لنفسك اودع

وقيل إنه لما كان بعين التمر كتب إلى من بالحيرة من قواد أهل الشام يخبرهم بقتل الوليد، ويأمرهم بأخذ يوسف وعماله وبعث بالكتب كلها إلى سليمان بْن سليم بْن كيسان، وأمره أن يفرقها على القواد، فأمسكها سليمان، ودخل على يوسف، فأقرأه كتاب منصور إليه، فبعل به. قَالَ حريث بْن أبي الجهم: كان مكثي بواسط، فما شعرت إلا بكتاب منصور بْن جمهور قد جاءني أن خذ عمال يوسف، فكنت أتولى أمره بواسط، فجمعت موالي وأصحابي، فركبنا نحوا من ثلاثين رجلا في السلاح، فأتينا المدينة، فقال البوابون: من أنت؟ قلت: حريث بْن أبي الجهم، فقالوا: نقسم بالله ما جاء بحريث الا امر منهم، ففتحوا الباب فدخلنا، فأخذنا العامل فاستسلم، وأصبحنا فأخذنا البيعة من الناس ليزيد بْن الوليد. قَالَ: وذكر عمر بْن شجرة أن عمرو بْن محمد بْن القاسم كان على السند، فأخذ محمد بْن غزان- أو عزان- الكلبي، فضربه وبعث به إلى يوسف، فضربه وألزمه مالا عظيما يؤدي منه في كل جمعة نجما، وإن لم يفعل ضرب خمسة وعشرين سوطا، فجنت يده وبعض أصابعه، فلما ولى منصور ابن جمهور العراق ولاه السند وسجستان، فأتى سجستان فبايع ليزيد، ثم سار إلى السند، فأخذ عمرو بْن محمد، فأوثقه وأمر به حرسا يحرسونه، وقام إلى الصلاة، فتناول عمرو سيفا مع الحرس، فاتكأ عليه مسلولا حتى خالط جوفه، وتصايح الناس، فخرج ابن غزان فقال: ما دعاك الى ما صنعت؟ قَالَ: خفت العذاب، قَالَ: ما كنت أبلغ منك ما بلغته من نفسك فلبث ثلاثا ثم مات، وبايع ابن غزان ليزيد، فقال يوسف بْن عمر لسليمان بْن سليم بْن كيسان الكلبي حين أقرأه كتاب منصور بْن جمهور: ما الرأي؟ قَالَ: ليس لك إمام تقاتل معه، ولا يقاتل أهل الشام الحارث بْن العباس معك، ولا آمن عليك منصور بْن جمهور إن قدم عليك، وما الرأي إلا أن تلحق بشامك، قَالَ: هو رأيي، فكيف الحيلة؟ قَالَ: تظهر الطاعة

ليزيد، وتدعو له في خطبتك، فإذا قرب منصور وجهت معك من أثق به. فلما نزل منصور بحيث يصبح الناس البلد، خرج يوسف إلى منزل سليمان بْن سليم، فأقام به ثلاثا، ثم وجه معه من أخذ به طريق السماوة حتى صار إلى البلقاء. وقد قيل ان سليمان قال له: تستخفي وتدع منصورا والعمل، قَالَ: فعند من؟ قَالَ: عندي، وأضعك في ثقة، ثم مضى سليمان الى عمرو بن محمد ابن سعيد بْن العاص، فأخبره بالأمر، وسأله أن يؤوي يوسف، وقال: أنت امرؤ من قريش، وأخوالك بكر بْن وائل، فآواه قَالَ عمرو: فلم أر رجلا كان مثل عتوه رعب رعبه، أتيته بجارية نفيسة، وقلت: تدفئه وتطيب نفسه، فو الله ما قربها ولا نظر إليها، ثم أرسل إلي يوما فأتيته، فقال: قد أحسنت وأجملت، وقد بقيت لي حاجة، قلت: هاتها، قَالَ: تخرجني من الكوفة إلى الشام، قلت: نعم وصبحنا منصور بْن جمهور، فذكر الوليد فعابه، وذكر يزيد بن الوليد فقرظه، وذكر يوسف وجوره، وقامت الخطباء فشعثوا من الوليد ويوسف، فأتيته فأقصصت قصتهم، فجعلت لا أذكر رجلا ممن ذكره بسوء إلا قَالَ: لله علي أن أضربه مائة سوط، مائتي سوط، ثلاثمائة سوط، فجعلت اتعجب من طمعه في الولاية بعد، وتهدده الناس، فتركه سليمان بْن سليم، ثم أرسله إلى الشام فاختفى بها، ثم تحول إلى البلقاء. ذكر علي بْن محمد أن يوسف بْن عمر وجه رجلا من بنى كلاب في خمسمائة، وقال لهم: إن مر بكم يزيد بْن الوليد فلا تدعنه يجوز فأتاهم منصور بْن جمهور في ثلاثين، فلم يهايجوه، فانتزع سلاحهم منهم، وأدخلهم الكوفة قَالَ: ولم يخرج مع يوسف من الكوفة إلا سفيان بْن سلامة بْن سليم بْن كيسان وغسان بْن قعاس العذري، ومعه من ولده لصلبه ستون بين ذكر وأنثى ودخل منصور الكوفة لأيام خلون من رجب، فأخذ بيوت الأموال، وأخرج العطاء والأرزاق، وأطلق من في سجون يوسف من العمال وأهل الخراج

قَالَ: فلما بلغ يوسف البلقاء حينئذ بلغ خبره إلى يزيد بْن الوليد، فحدثني أحمد بْن زهير، قَالَ: حدثنا عبد الوهاب بْن إبراهيم بْن يزيد بْن هريم، قَالَ: حدثنا أبو هاشم مخلد بْن محمد بْن صالح مولى عثمان بْن عفان، قَالَ: سمعت محمد بْن سعيد الكلبي- وكان من قواد يزيد بْن الوليد- يقول: إن يزيد وجهه في طلب يوسف بْن عمر حيث بلغه أنه في أهله بالبلقاء، قَالَ: فخرجت في خمسين فارسا أو أكثر، حتى أحطت بداره بالبلقاء، فلم نزل نفتش، فلم نر شيئا، وكان يوسف قد لبس لبسة النساء، وجلس مع نسائه وبناته، ففتشهن فظفر به مع النساء، فجاء به في وثاق، فحبسه في السجن مع الغلامين ابني الوليد، فكان في الحبس ولاية يزيد كلها وشهرين وعشرة أيام من ولاية إبراهيم، فلما قدم مروان الشام وقرب من دمشق ولى قتلهم يزيد ابن خالد، فأرسل يزيد مولى خالد- يكنى أبا الأسد- في عدة من أصحابه، فدخل السجن لشدخ الغلامين بالعمد، وأخرج يوسف بْن عمر فضرب عنقه. وقيل: إن يزيد بْن الوليد لما بلغه مصير يوسف إلى البلقاء وجه إليه خمسين فارسا، فعرض له رجل من بنى نمير، فقال: يا بن عم، أنت والله مقتول فأطعني وامتنع، وائذن لي حتى أنتزعك من أيادي هؤلاء قَالَ: لا، قَالَ: فدعني أقتلك أنا، ولا يقتلك هذه اليمانية، فتغيظنا بقتلك، قَالَ: ما لي في واحدة مما عرضت علي خيار، قَالَ: فأنت أعلم. ومضوا به إلى يزيد، فقال: ما أقدمك؟ قَالَ: قدم منصور بْن جمهور واليا فتركته والعمل، قَالَ: لا، ولكنك كرهت أن تلي لي فأمر بحبسه. وقيل: إن يزيد دعا مسلم بْن ذكوان ومحمد بْن سعيد بْن مطرف الكلبي، فقال لهما، إنه بلغني أن الفاسق يوسف بْن عمر قد صار إلى البلقاء، فانطلقا فأتياني به، فطلباه فلم يجداه: فرهبا ابنا له، فقال: أنا أدلكما عليه، فقال: إنه انطلق إلى مزرعة له على ثلاثين ميلا، فأخذا معهما خمسين رجلا من جند البلقاء، فوجدوا أثره- وكان جالسا- فلما أحس بهم هرب وترك نعليه، ففتشا فوجداه بين نسوة قد ألقين عليه قطيفة خز، وجلسن على حواشيها حاسرات، فجروا برجله، فجعل يطلب إلى محمد بْن سعيد أن يرضي عنه

كلبا، ويدفع عشرة آلاف دينار ودية كلثوم بْن عمير وهانئ بْن بشر، فأقبلا إلى يزيد، فلقيه عامل لسليمان على نوبة من نوائب الحرس، فأخذ بلحيته فهزها، ونتف بعضها- وكان من أعظم الناس لحية وأصغرهم قامة- فأدخلاه على يزيد، فقبض على لحية نفسه- وإنها حينئذ لتجوز سرته- وجعل يقول: نتف والله يا أمير المؤمنين لحيتي، فما بقي فيها شعرة فأمر به يزيد فحبس في الخضراء، فدخل عليه محمد بْن راشد، فقال له: أما تخاف أن يطلع عليك بعض من قد وترت، فيلقي عليك حجرا! فقال: لا والله ما فطنت إلى هذا، فنشدتك الله إلا كلمت أمير المؤمنين في تحويلي إلى مجلس غير هذا، وإن كان أضيق منه! قَالَ: فأخبرت يزيد، فقال: ما غاب عنك من حمقه أكثر، وما حبسته إلا لاوجهه الى العراق، فيقام للناس، وتؤخذ المظالم من ماله ودمه. ولما قتل يزيد بْن الوليد الوليد بْن يزيد، ووجه منصور بْن جمهور إلى العراق كتب يزيد بْن الوليد الى اهل العراق كتابا يذكر فيه مساوئ الوليد، فكان مما كتب به- فيما حدثني أحمد بْن زهير عن علي بْن محمد: أن الله اختار الإسلام دينا وارتضاه وطهره، وافترض فيه حقوقا أمر بها، ونهى عن أمور حرمها، ابتلاء لعباده في طاعتهم ومعصيتهم، فأكمل فيه كل منقبة خير وجسيم فضل، ثم تولاه، فكان له حافظا ولأهله المقيمين حدوده وليا، يحوطهم ويعرفهم بفضل الإسلام، فلم يكرم الله بالخلافة أحدا يأخذ بأمر الله وينتهي إليه فيناوئه أحد بميثاق او يحاول صرف ما حباه الله به، أو ينكث ناكث، الا كان كيده الاوهن، ومكره الابور، حتى يتم الله ما أعطاه، ويدخر له أجره ومثوبته، ويجعل عدوه الأضل سبيلا، الأخسر عملا. فتناسخت خلفاء الله ولاة دينه، قاضين فيه بحكمه، متبعين فيه لكتابه، فكانت لهم بذلك من ولايته ونصرته ما تمت به النعم عليهم، قد رضي الله بهم لها حتى توفي هشام

ثم أفضى الأمر إلى عدو الله الوليد، المنتهك للمحارم التي لا يأتي مثلها مسلم، ولا يقدم عليها كافر، تكرما عن غشيان مثلها فلما استفاض ذلك منه واستعلن، واشتد فيه البلاء، وسفكت فيه الدماء، وأخذت الأموال بغير حقها، مع امور فاحشه، لم يكن الله ليملى للعاملين بها إلا قليلا، سرت إليه مع انتظار مراجعته، وإعذار إلى الله وإلى المسلمين، منكرا لعمله وما اجترأ عليه من معاصي الله، متوخيا من الله إتمام الذي نويت، من اعتدال عمود الدين، والأخذ في أهله بما هو رضا، حتى أتيت جندا، وقد وغرت صدورهم على عدو الله، لما رأوا من عمله، فإن عدو الله لم يكن يرى من شرائع الإسلام شيئا إلا أراد تبديله، والعمل فيه بغير ما أنزل الله، وكان ذلك منه شائعا شاملا، عريان لم يجعل الله فيه سترا، ولا لأحد فيه شكا، فذكرت لهم الذي نقمت وخفت من فساد الدين والدنيا، وحضضتهم على تلافي دينهم، والمحاماة عنه، وهم في ذلك مستريبون، قد خافوا ان يكونوا قد ابقوا لأنفسهم بما قاموا عليه، إلى أن دعوتهم إلى تغييره فأسرعوا الإجابة. فابتعث الله منهم بعثا يخبرهم، من أولي الدين والرضا، وبعثت عليهم عبد العزيز بْن الحجاج بْن عبد الملك، حتى لقي عدو الله إلى جانب قرية يقال لها البخراء، فدعوه إلى أن يكون الأمر شورى، ينظر المسلمون لأنفسهم من يقلدونه ممن اتفقوا عليه، فلم يجب عدو الله الى ذلك، وابى الا تتايعا في ضلالته، فبدرهم الحملة جهالة بالله، فوجد الله عزيزا حكيما، وأخذه أليما شديدا، فقتله الله على سوء عمله وعصبته، ممن صاحبوه من بطانته الخبيثة، لا يبلغون عشرة، ودخل من كان معه سواهم في الحق الذي دعوا إليه. فأطفأ الله جمرته وأراح العباد منه، فبعدا له ولمن كان على طريقته! أحببت أن أعلمكم ذلك، وأعجل به إليكم، لتحمدوا الله وتشكروه، فإنكم قد أصبحتم اليوم على أمثل حالكم، إذ ولاتكم خياركم، والعدل مبسوط لكم، لا يسار فيكم بخلافه، فأكثروا على ذلك حمد ربكم، وتابعوا منصور بْن جمهور، فقد ارتضيته لكم، على أن عليكم عهد الله وميثاقه، وأعظم ما عهد

ذكر امتناع نصر بن سيار على منصور بن جمهور

وعقد على أحد من خلقه، لتسمعن وتطيعن لي، ولمن استخلفته من بعدي، ممن اتفقت عليه الأمة، ولكم علي مثل ذلك، لأعملن فيكم بأمر الله وسنه نبيه ص، وأتبع سبيل من سلف من خياركم، نسأل الله ربنا وولينا أحسن توفيقه وخير قضائه . ذكر امتناع نصر بن سيار على منصور بن جمهور وفي هذه السنة امتنع نصر بْن سيار بخراسان من تسليم عمله لعامل منصور ابن جمهور، وقد كان يزيد بْن الوليد ولاها منصورا مع العراق. قَالَ أبو جعفر: قد ذكرت قبل من خبر نصر، وما كان من كتاب يوسف ابن عمر إليه بالمصير إليه مع هدايا الوليد بْن يزيد، وشخوص نصر من خراسان متوجها إلى العراق، وتباطئه في سفره، حتى قدم عليه الخبر بقتل الوليد، فذكر علي بْن محمد أن الباهلي أخبره، قَالَ: قدم على نصر بشر بْن نافع مولى سالم الليثي- وكان على سكك العراق- فقال: أقبل منصور بْن جمهور أميرا على العراق، وهرب يوسف بْن عمر، فوجه منصور أخاه منظور بْن جمهور على الري، فأقبلت مع منظور إلى الري، وقلت: أقدم على نصر فأخبره، فلما صرت بنيسابور حبسني حميد مولى نصر، وقال: لن تجاوزني أو تخبرني، فأخبرته، وأخذت عليه عهد الله وميثاقه ألا يخبر أحدا حتى أقدم على نصر فأخبره ففعل، فأقبلنا جميعا حتى قدمنا على نصر، وهو بقصره بماجان، فاستأذنا، فقال خصي له: هو نائم، فألححنا عليه، فانطلق فأعلمه، فخرج نصر حتى قبض على يدي وأدخلني، فلم يكلمني حتى صرت في البيت، فساءلني فأخبرته، فقال لحميد مولاه: انطلق به، فأته بجائزة، ثم أتاني يونس بْن عبد ربه وعبيد الله بْن بسام فأخبرتهما، وأتاني سلم بْن أحوز فاخبرته، قال: وكان خبر الوليد يوسف عند نصر، فاتوه حين بلغهم الخبر، فأرسل إلي فلما أخبرتهم كذبوني، فقلت: استوثق من هؤلاء، فلما مضت ثلاث على ذلك، جعل علي ثمانين رجلا حرسا، فأبطأ الخبر على ما كنت قدرت، فلما كانت الليلة التاسعة- وكانت ليلة نوروز- جاءهم الخبر على ما وصفت،

فصرف إلي عامة تلك الهدايا، وأمر لي ببرذون بسرجه ولجامه، وأعطاني سرجا صينيا، وقال لي: أقم حتى أعطيك تمام مائة ألف قَالَ: فلما تيقن نصر قتل الوليد رد تلك الهدايا، وأعتق الرقيق، وقسم روقة الجواري في ولده وخاصته، وقسم تلك الآنية في عوام الناس، ووجه العمال، وأمرهم بحسن السيرة. قَالَ: وأرجفت الأزد في خراسان أن منظور بْن جمهور قادم خراسان، فخطب نصر، فقال في خطبته: إن جاءنا أمير ظنين قطعنا يديه ورجليه. ثم باح به بعد، فكان يقول: عبد الله المخذول المثبور. قال: وولى نصر بن سيار ربيعة واليمن، وولي يعقوب بْن يحيى بْن حضين على أعلى طخارستان، ومسعدة بْن عبد الله اليشكري على خوارزم، وهو الذي يقول فيه خلف: أقول لأصحابي معا دون كردر ... لمسعدة البكري غيث الأرامل ثم أتبعه بأبان بْن الحكم الزهراني، واستعمل المغيرة بْن شعبة الجهضمي على قهستان وأمرهم بحسن السيرة، فدعا الناس إلى البيعة فبايعوه، فقال في ذلك: أقول لنصر وبايعته ... على جل بكر وأحلافها يدي لك رهن ببكر العراق ... سيدها وابن وصافها أخذت الوثيقة للمسلمين ... لأهل البلاد وألافها إذا آل يحيى الى ما تريد ... اتتك الدماك بأخفافها دعوت الجنود إلى بيعة ... فأنصفتها كل إنصافها وطدت خراسان للمسلمين ... إن الأرض همت بإرجافها وإن جمعت ألفة المسلمين ... صرفت الضراب لألافها أجار وسلم أهل البلاد ... والنازلين بأطرافها فصرت على الجند بالمشرقين ... لقوحا لهم در اخلافها

فنحن على ذاك حتى تبين ... مناهج سبل لعرافها وحتى تبوح قريش بما ... تجن ضمائر أجوافها فاقسمت للمعبرات الرتاع ... للعرو أوفي لأصوافها إلى ما تؤدي قريش البطاح ... أخلافها بعد أشرافها فإن كان من عز بز الضعيف ... ضربنا الخيول بأعرافها وجدنا العلائف أنى يكون ... يحمى أواري أعلافها إذا ما تشارك فيه كبت ... خواصرها بعد إخطافها فنحن على عهدنا نستديم ... قريشا ونرضى بأحلافها سنرضى بظلك كنا لها ... وظلك من ظل أكنافها لعل قريشا إذا ناضلت ... تقرطس في بعض أهدافها وتلبس أغشية بالعراق ... رمت دلو شرق بخطافها وبالأسد منا وإن الأسود ... لها لبد فوق أكتافها فإن حاذرت تلفا في النفار ... فالدهر أدنى لإتلافها فقد ثبتت بك أقدامنا ... إذا انهار منهار أجرافها وجدناك برا رءوفا بنا ... كرامة أم وإلطافها ولم تك بيعتنا خلسة ... لأسرع نسفة خطافها نكاح التي أسرعت بالحليل ... قبل تخضب أطرافها فكشفها البعل قبل الصداق ... فاستقبلته بمعتافها قال: وكان نصر ولى عبد الملك بْن عبد الله السلمي خوارزم، فكان يخطبهم ويقول في خطبته: ما أنا بالأعرابي الجلف، ولا الفزاري المستنبط، ولقد كرمتني الأمور وكرمتها، أما والله لأضعن السيف موضعه، والسوط

موضعه، والسجن مدخله، ولتجدني غشمشما، أغشى الشجر، ولتستقيمن لي على الطريقه ورفض البكارة في السنن الأعظم، أو لأصكنكم صك القطامي القطا القارب يصكهن جانبا فجانبا قَالَ: فقدم رجل من بلقين خراسان، وجهه منصور بْن جمهور، فأخذه مولى لنصر، يقال له حميد، كان على سكه بنيسابور، فضربه وكسر أنفه، فشكاه إلى نصر، فأمر له نصر بعشرين ألفا وكساه، وقال: إن الذي كسر أنفك مولى لي وليس بكفء فأقصك منه، فلا تقل إلا خيرا قال: ما قبلت جائزتك، وانا اريد الا اذكر إلا خيرا. قَالَ عصمة بْن عبد الله الأسدي: يا أخا بلقين، أخبر من تأتي أنا قد أعددنا قيسا لربيعة وتميما للأزد، وبقيت كنانة، ليس لها من يكافئها. فقال نصر: كلما أصلحت أمرا أفسدتموه! قَالَ أبو زيد عمر بْن شبة: حدثني أحمد بْن معاوية عن أبي الخطاب، قَالَ: قدم قدامة بْن مصعب العبدي ورجل من كندة على نصر بْن سيار من قبل منصور بْن جمهور، فقال: أمات أمير المؤمنين؟ قالا: نعم، قَالَ: وولي منصور بْن جمهور وهرب يوسف بْن عمر عن سرير العراق؟ قالا: نعم، قَالَ: أنا بجمهوركم من الكافرين، ثم حبسهما ووسع عليهما، ووجه رجلا حتى أتى فرأى منصورا يخطب بالكوفة فأخرجهما، وقال لقدامة: أوليكم رجل من كلب؟ قَالَ: نعم، إنما نحن بين قيس واليمن، قَالَ: فكيف لا يولاها رجل منكم! قَالَ: لأنا كما قَالَ الشاعر: إذ ما خشينا من أمير ظلامة ... دعونا أبا غسان يوما فعسكرا فضحك نصر، وضمه إليه. قَالَ: ولما قدم منصور بْن جمهور العراق ولى عبيد الله بْن العباس الكوفة- أو وجده واليا عليها فأقره- وولى شرطته ثمامة بْن حوشب ثم عزله وولى الحجاج بن ارطاه النخعى.

ذكر مخالفه مروان بن محمد

ذكر مخالفه مروان بن محمد وفي هذه السنة كتب مروان بْن محمد إلى الغمر بْن يزيد، أخي الوليد بْن يزيد يأمره بدم أخيه الوليد. ذكر نسخة ذلك الكتاب الذي كتب إليه: حدثني أحمد عن علي، قَالَ: كتب مروان إلى الغمر بْن يزيد بعد قتل الوليد: أما بعد، فإن هذه الخلافة من الله على مناهج نبوة رسله، وإقامة شرائع دينه، أكرمهم الله بما قلدهم، يعزهم ويعز من يعزهم، والحين على من ناواهم فابتغى غير سبيلهم، فلم يزالوا أهل رعاية لما استودعهم الله منها، يقوم بحقها ناهض بعد ناهض، بأنصار لها من المسلمين وكان أهل الشام أحسن خلقه فيه طاعه، واذبه عن حرمه واوفاه بعهده، وأشده نكاية في مارق مخالف ناكث ناكب عن الحق، فاستدرت نعمة الله عليهم قد عمر بهم الإسلام، وكبت بهم الشرك وأهله، وقد نكثوا أمر الله، وحاولوا نكث العهود، وقام بذلك من أشعل ضرامها، وإن كانت القلوب عنه نافرة، والمطلوبون بدم الخليفة ولاية من بني أمية، فإن دمه غير ضائع، وإن سكنت بهم الفتنة، والتأمت الأمور، فأمر اراده الله لا مرد له فاكتب بحالك فيما أبرموا وما ترى، فإني مطرق إلى أن أرى غيرا فأسطو بانتقام، وأنتقم لدين الله. المنبوذة فرائضه، المتروكة مجانة، ومعي قوم أسكن الله طاعتي قلوبهم، أهل إقدام إلى ما قدمت بهم عليه، ولهم نظراء صدورهم مترعة ممتلئة لو يجدون منزعا، والنقمه دوله تأتي من الله، ووقت مؤجل، ولم أشبه محمدا ولا مروان- غير أن رايت غيرا-

إن لم أشمر للقدرية إزاري، وأضربهم بسيفي جارحا وطاعنا، يرمى قضاء الله بي في ذلك حيث أخذ، او يرمى بهم في عقوبة الله حيث بلغ منهم فيها رضاه، وما إطراقي إلا لما أنتظر مما يأتيني عنك، فلا تهن عن ثأرك بأخيك، فإن الله جارك وكافيك، وكفى بالله طالبا ونصيرا. حدثني أحمد، عن علي، عن عمرو بْن مروان الكلبي، عن مسلم بْن ذكوان، قَالَ: كلم يزيد بْن الوليد العباس بْن الوليد في طفيل بْن حارثة الكلبي، وقال: إنه حمل حمالة، فإن رأيت أن تكتب إلى مروان بْن محمد في الوصاة به، وأن يأذن له أن يسأل عشيرته فيها- وكان مروان يمنع الناس أن يسألوا شيئا من ذلك عند العطاء- فأجابه وحمله على البريد. وكان كتاب العباس ينفذ في الآفاق بكل ما يكتب به وكتب يزيد إلى مروان أنه اشترى من أبي عبيدة بْن الوليد ضيعة بثمانية عشر ألف دينار، وقد احتاج إلى أربعة آلاف دينار قَالَ مسلم بْن ذكوان: فدعاني يزيد، وقال: انطلق مع طفيل بهذا الكتاب، وكلمه في هذا الأمر قَالَ: فخرجنا ولم يعلم العباس بخروجي، فلما قدمنا خلاط، لقينا عمرو بْن حارثة الكلبي، فسألنا عن حالنا فأخبرناه، فقال: كذبتما، إن لكما ولمروان لقصة، قلنا: وما ذاك؟ قَالَ: أخلاني حين أردت الخروج، وقال لي: جماعة أهل المزة يكونون ألفا؟ قلت: وأكثر، قَالَ: وكم بينها وبين دمشق؟ قلت: يسمعهم المنادي، قَالَ: كم ترى عدة بني عامر يعنى بنى عامر من كلب، قلت: عشرون ألف رجل، فحرك أصبعه، ولوى وجهه قَالَ مسلم: فلما سمعت ذلك طمعت في مروان، وكتبت إليه على لسان يزيد: أما بعد، فإنني وجهت إليك ابن ذكوان مولاي بما سيذكره لك، وينهيه إليك، فألق إليه ما أحببت، فإنه من خيار أهلي وثقات موالي، وهو شعب حصين، ووعاء أمين، إن شاء الله فقدمنا على مروان، فدفع طفيل كتاب العباس إلى الحاجب، وأخبره أن معه كتاب يزيد بْن الوليد، فقرأه، فخرج الحاجب، وقال: أما معك كتاب غير هذا، ولا أوصاك بشيء! قلت: لا، ولكني معي مسلم بْن

ذكوان، فدخل فأخبره، فخرج الحاجب، فقال: مر مولاه بالرواح. قَالَ مسلم: فانصرفت، فلما حضرت المغرب أتيت المقصورة، فلما صلى مروان انصرفت لأعيد الصلاة، ولم أكن أعتد بصلاته، فلما استويت قائما جاءني خصي، فلما نظر إلي انصرفت وأوجزت الصلاة، فلحقته، فأدخلني على مروان، وهو في بيت من بيوت النساء، فسلمت وجلست، فقال: من أنت؟ فقلت: مسلم بْن ذكوان مولى يزيد، قَالَ: مولى عتاقة أو مولى تباعة؟ قلت: مولى عتاقة، قَالَ: ذاك أفضل، وفي كل ذلك فضل، فاذكر ما بدا لك قلت: إن رأى الأمير أن يجعل لي الأمان على ما قلته، أوافقه في ذلك أو أخالفه، فأعطاني ما أردت، فحمدت الله وصليت على نبيه، ووصفت ما أكرم الله به بني مروان من الخلافة ورضا العامة بهم، وكيف نقض الوليد العرى، وأفسد قلوب الناس، وذمته العامة، وذكرت حاله كلها فلما فرغت تكلم، فو الله ما حمد الله ولا تشهد، وقال: قد سمعت ما قلت، قد أحسنت وأصبت، ولنعم الرأي رأي يزيد، فأشهد الله أني قد بايعته، أبذل في هذا الأمر نفسي ومالي، لا أريد بِذَلِكَ إلا مَا عِنْدَ اللَّه، والله ما أصبحت أستزيد الوليد، لقد وصل وفرض وأشرك في ملكه، ولكني أشهد أنه لا يؤمن بيوم الحساب وسألني عن أمر يزيد، فكبرت الأمر وعظمته، فقال: اكتم أمرك، وقد قضيت حاجة صاحبك، وكفيته أمر حمالته، وأمرت له بألف درهم فأقمت أياما، ثم دعاني ذات يوم نصف النهار، ثم قَالَ: الحق بصاحبك، وقل له: سددك الله، امض على أمر الله، فإنك بعين الله وكتب جواب كتابي، وقال لي: إن قدرت أن تطوي أو تطير فطر، فإنه يخرج بالجزيرة إلى ست ليال أو سبع خارجة، وقد خفت أن يطول أمرهم فلا تقدر أن تجوز قلت: وما علم الأمير بذلك؟ فضحك، وقال: ليس من أهل هوى إلا وقد أعطيتهم الرضا حتى أخبروني بذات أنفسهم فقلت في نفسي: أنا واحد من أولئك، ثم قلت: لئن فعلت ذلك أصلحك الله، إنه قيل الخالد بْن يزيد بْن معاوية: أني أصبت هذا العلم؟ قَالَ: وافقت الرجال على أهوائهم، ودخلت معهم في آرائهم، حتى بذلوا لي ما عندهم، وأفضوا لي بذات انفسهم

ذكر الخبر عن عزل منصور بن جمهور عن العراق

فودعته وخرجت فلما كنت بآمد لقيت البرد تتبع بعضها بعضا بقتل الوليد، وإذا عبد الملك بن مروان بن محمد قد وثب على عامل الوليد بالجزيرة، فأخرجه منها، ووضع الأرصاد على الطريق، فتركت البرد، واستأجرت دابة ودليلا، فقدمت على يزيد بْن الوليد . ذكر الخبر عن عزل منصور بن جمهور عن العراق وفي هذه السنة عزل يزيد بْن الوليد منصور بْن جمهور عن العراق، وولاها عبد الله. بْن عمر بْن عبد العزيز بْن مروان ذكر الخبر عن ذلك: ذكر عن يزيد بْن الوليد أنه قَالَ لعبد الله بْن عمر بْن عبد العزيز: إن أهل العراق يميلون إلى أبيك فسر إليها فقد وليتكها، فذكر عن أبي عبيدة، قَالَ: كان عبد الله بْن عمر متألها متألما، فقدم حين شخص إلى العراق بين يديه رسلا وكتبا إلى قواد الشام الذين بالعراق، وخاف ألا يسلم له منصور بْن جمهور العمل، فانقاد له كلهم، وسلم له منصور بْن جمهور، وانصرف إلى الشام، ففرق عبد الله بْن عمر عماله في الأعمال، وأعطى الناس أرزاقهم وأعطياتهم، فنازعه قواد أهل الشام وقالوا: تقسم على هؤلاء فيئنا وهم عدونا! فقال عبد الله لأهل العراق: إني قد أردت أن أرد فيئكم عليكم، وعلمت أنكم أحق به، فنازعني هؤلاء فأنكروا علي. فخرج أهل الكوفة إلى الجبانة، وتجمعوا، فأرسل إليهم قواد أهل الشام يعتذرون وينكرون، ويحلفون أنهم لم يقولوا شيئا مما بلغهم، وثار غوغاء الناس من الفريقين، فتناوشوا، وأصيب منهم رهط لم يعرفوا، وعبد الله بْن عمر بالحيرة، وعبيد الله بْن العباس الكندي بالكوفة، قد كان منصور بن جمهور استخلفه عليها فاراد أهل الكوفة إخراجه من القصر، فأرسل إلى عمر بْن الغضبان بْن القبعثري، فأتاه فنحى الناس عنه، وسكنهم وزجر سفاءهم حتى تحاجزوا، وأمن بعضهم بعضا وبلغ ذلك عبد الله بْن عمر، فأرسل إلى ابن الغضبان،

ذكر وقوع الخلاف بين اليمانيه والنزارية في خراسان

فكساه وحمله، واحسن جائزته، وولاه شرطه وخراج السواد والمحاسبات، وأمره أن يفرض لقومه، ففرض في ستين وفي سبعين . ذكر وقوع الخلاف بين اليمانيه والنزارية في خراسان وفي هذه السنة وقع الاختلاف في خراسان بين اليمانية والنزارية، وأظهر الكرماني فيها الخلاف لنصر بْن سيار، واجتمع مع كل واحد منهما جماعة لنصرته. ذكر الخبر عما كان بينهما من ذلك وعن السبب الذي أحدث ذلك: ذكر علي بْن محمد عن شيوخه، أن عبد الله بْن عمر لما قدم العراق واليا عليها من قبل يزيد بْن الوليد، كتب إلى نصر بعهده على خراسان، قَالَ: ويقال: بل أتاه كتابه بعد خروج الكرماني من حبس نصر، فقال المنجمون لنصر: إن خراسان سيكون بها فتنة، فأمر نصر برفع حاصل بيت المال، وأعطى الناس بعض أعطياتهم ورقا وذهبا من الآنية التي كان اتخذها للوليد ابن يزيد، وكان أول من تكلم رجل من كندة، أفوه طوال، فقال: العطاء العطاء! فلما كانت الجمعة الثانية، أمر نصر رجالا من الحرس، فلبسوا السلاح، وفرقهم في المسجد مخافة أن يتكلم متكلم، فقام الكندي فقال: العطاء العطاء! فقام رجل مولى للأزد- وكان يلقب أبا الشياطين- فتكلم، وقام حماد الصائغ وأبو السليل البكري، فقالا: العطاء العطاء! فقال نصر: إياي والمعصية، عليكم بالطاعة والجماعة، فاتقوا الله واسمعوا ما توعظون به. فصعد سلم بْن أحوز إلى نصر وهو على المنبر فكلمه، فقال: ما يغني عنا كلامك هذا شيئا ووثب أهل السوق إلى أسواقهم، فغضب نصر وقال: ما لكم عندي عطاء بعد يومكم هذا، ثم قَالَ: كأني بالرجل منكم قد قام إلى أخيه وابن عمه، فلطم وجهه في جمل يهدى له وثوب يكساه، ويقول: مولاي وظئري، وكأني بهم قد نبغ من تحت أرجلهم شر لا يطاق، وكأني بكم مطرحين في الأسواق كالجزر المنحورة، إنه لم تطل ولاية رجل إلا ملوها، وأنتم يا أهل خراسان، مسلحة في نحور العدو، فإياكم ان

يختلف فيكم سيفان. قَالَ علي: قَالَ عبد الله بْن المبارك، قَالَ نصر في خطبته: إني لمكفر ومع ذاك لمظلم، وعسى أن يكون ذلك خيرا لي إنكم تغشون أمرا تريدون فيه الفتنة، فلا أبقى الله عليكم، والله لقد نشرتكم وطويتكم، وطويتكم ونشرتكم، فما عندي منكم عشرة، وإني وإياكم كما قَالَ من كان قبلكم: استمسكوا أصحابنا نحدو بكم ... فقد عرفنا خيركم وشركم فاتقوا الله، فو الله لئن اختلف فيكم ليتمنين الرجل منكم أنه يخلع من ماله وولده ولم يكن رآه يا أهل خراسان، إنكم غمطتم الجماعة، وركنتم إلى الفرقة أسلطان المجهول تريدون وتنتظرون! إن فيه لهلاككم معشر العرب، وتمثل بقول النابغة الذبياني: فإن يغلب شقاؤكم عليكم ... فإني في صلاحكم سعيت وقال الحارث بْن عبد الله بْن الحشرج بْن المغيرة بْن الورد الجعدي: أبيت أرعى النجوم مرتفقا ... إذا استقلت تجري أوائلها من فتنة أصبحت مجللة ... قد عم أهل الصلاة شاملها من بخراسان والعراق ومن ... بالشام كل شجاه شاغلها فالناس منها في لون مظلمة ... دهماء ملتجة غياطلها يمسي السفيه الذي يعنف ... بالجهل سواء فيها وعاقلها والناس في كربة يكاد لها ... تنبذ أولادها حواملها يغدون منها في ظل مبهمه ... عمياء تغتالهم غوائلها لا ينظر الناس في عواقبها ... إلا التي لا يبين قائلها كرغوة البكر أو كصيحة حبلى ... طرقت حولها قوابلها فجاء فينا أزرى بوجهته ... فيها خطوب حمر زلازلها

قَالَ: فلما أتى نصرا عهده من قبل عبد الله بْن عمر قَالَ الكرماني لأصحابه: الناس في فتنة، فانظروا لأموركم رجلا- وإنما سمي الكرماني لأنه ولد بكرمان، واسمه جديع بْن علي بْن شبيب بْن براري بْن صنيم المعني- فقالوا: أنت لنا، فقالت المضرية لنصر: الكرماني يفسد عليك، فأرسل إليه فاقتله، او فاحبسه، قَالَ: لا، ولكن لي أولاد ذكور وإناث، فأزوج بني من بناته وبنيه من بناتي، قالوا: لا، قَالَ: فأبعث إليه بمائة ألف درهم، فإنه بخيل ولا يعطي أصحابه شيئا، ويعلمون بها فيتفرقون عنه، قالوا: لا، هذه قوة له، قَالَ: فدعوه على حاله يتقينا ونتقيه، قالوا لا، قال: فأرسل اليه فحبسه. قَالَ: وبلغ نصرا أن الكرماني يقول: كانت غايتي في طاعه بنى مروان ان يقلد ولدى السيوف فأطلب بثأر بني المهلب، مع ما لقينا من نصر وجفائه وطول حرمانه ومكافأته إيانا بما كان من صنيع أسد إليه فقال له عصمه ابن عبد الله الأسدي: إنها بدء فتنة، فتجن عليه فاحشة، وأظهر أنه مخالف واضرب عنقه وعنق سباع بْن النعمان الأزدي والفرافصة بْن ظهير البكرى، فانه لم يزل متغضبا على الله بتفضيله مضر على ربيعة. وكان بخراسان وقال جميل بْن النعمان: إنك قد شرفته وإن كرهت قتله فادفعه إلي أقتله وقيل: إنما غضب عليه في مكاتبته بكر بْن فراس البهراني عامل جرجان، يعلمه حال منصور بن جمهور حين بعث عهد الكرماني مع أبي الزعفران مولى أسد بْن عبد الله، فطلبه نصر فلم يقدر عليه والذي كتب إلى الكرماني بقتل الوليد وقدوم منصور بْن جمهور على العراق صالح الأثرم الحرار. وقيل: إن قوما أتوا نصرا، فقالوا: الكرماني يدعو إلى الفتنة وقال اصرم ابن قبيصة لنصر: لو أن جديعا لم يقدر على السلطان والملك إلا بالنصرانية واليهودية لتنصر وتهود وكان نصر والكرماني متصافيين، وقد كان الكرماني أحسن إلى نصر في ولاية أسد بْن عبد الله، فلما ولي نصر خراسان عزل الكرماني عن الرئاسة وصيرها لحرب بْن عامر بن ايثم الواشجى، فمات حرب

فأعاد الكرماني عليها، فلم يلبث إلا يسيرا حتى عزله، وصيرها لجميل بْن النعمان قَالَ: فتباعد ما بين نصر والكرماني فحبس الكرماني في القهندز وكان على القهندز مقاتل بْن علي المرئي- ويقال المري. قَالَ: ولما أراد نصر حبس الكرماني أمر عبيد الله بْن بسام صاحب حرسه، فأتاه به، فقال له نصر: يا كرماني، ألم يأتني كتاب يوسف بْن عمر يأمرني بقتلك، فراجعته وقلت له: شيخ خراسان وفارسها، وحقنت دمك! قَالَ: بلى، قَالَ ألم أغرم عنك ما كان لزمك من الغرم وقسمته في أعطيات الناس! قَالَ: بلى، قال الم أرش عليا ابنك على كره من قومك! قَالَ: بلى، قَالَ: فبدلت ذلك إجماعا على الفتنة! قَالَ الكرماني: لم يقل الأمير شيئا إلا وقد كان أكثر منه، فأنا لذلك شاكر، فإن كان الأمير حقن دمي فقد كان مني أيام أسد بْن عبد الله ما قد علم، فليستان الأمير ويتثبت فلست أحب الفتنة فقال عصمة بْن عبد الله الأسدي: كذبت، وأنت تريد الشغب، ومالا تناله وقال سلم بْن أحوز: اضرب عنقه أيها الأمير، فقال المقدام وقدامة ابنا عبد الرحمن بْن نعيم الغامدي: لجلساء فرعون خير منكم، إذ قالوا: «أَرْجِهْ وَأَخاهُ*» ، والله لا يقتلن الكرماني بقولك يا بن احوز وعلت الأصوات، فامر نصر سلما بحبس الكرماني، فحبس لثلاث بقين من شهر رمضان سنة ست وعشرين ومائة، فكلمت الأزد، فقال نصر: انى حلفت ان احبسه ولا يبدؤه مني سوء، فإن خشيتم عليه فاختاروا رجلا يكون معه قَالَ: فاختاروا يزيد النحوي، فكان معه في القهندز، وصير حرسه بني ناجية أصحاب عثمان وجهم ابني مسعود. قَالَ: وبعث الأزد إلى نصر المغيرة بْن شعبة الجهضمي وخالد بْن شعيب بْن أبي صالح الحداني، فكلماه فيه قَالَ: فلبث في الحبس تسعة وعشرين يوما، فقال علي بْن وائل أحد بني ربيعة بْن حنظلة: دخلت على نصر، والكرماني

جالس ناحية، وهو يقول: ما ذنبي إن كان ابو الزعفران جاء! فو الله ما واريته ولا أعلم مكانه وقد كانت الأزد يوم حبس الكرماني أرادت أن تنزعه من رسله، فناشدهم الله الكرماني ألا يفعلوا، ومضى مع رسل سلم بْن أحوز، وهو يضحك، فلما حبس تكلم عبد الملك بْن حرملة اليحمدي والمغيرة بْن شعبة وعبد الجبار بْن شعيب بْن عباد وجماعة من الأزد، فنزلوا نوش، وقالوا: لا نرضى أن يحبس الكرماني بغير جناية ولا حدث، فقال لهم شيوخ من اليحمد: لا تفعلوا وانظروا ما يكون من أميركم، فقالوا: لا نرضى، ليكفن عنا نصر أو لنبدأن بكم وأتاهم عبد العزيز بْن عباد بْن جابر بْن همام بْن حنظلة اليحمدي في مائة، ومحمد بْن المثنى وداود بْن شعيب، فباتوا بنوش مع عبد الملك بْن حرملة ومن كان معه، فلما أصبحوا أتوا حوزان، وأحرقوا منزل عزة أم ولد نصر- وأقاموا ثلاثة أيام، وقالوا: لا نرضى، فعند ذلك صيروا عليه الأمناء، فجعلوا معه يزيد النحوي وغيره، فجاء رجل من أهل نسف، فقال لجعفر غلام الكرماني: ما تجعلون لي إن أخرجته؟ قالوا: لك ما سألت، فأتى مجرى الماء من القهندز فوسعه، وأتى ولد الكرماني، وقال لهم: اكتبوا إلى أبيكم يستعد الليلة للخروج، فكتبوا إليه، وأدخلوا الكتاب في الطعام، فدعا الكرماني يزيد النحوي وحصين بْن حكيم فتعشيا معه وخرجا، ودخل الكرماني السرب، فأخذوا بعضده، فانطوت على بطنه حية فلم تضره، فقال بعض الأزد: كانت الحية أزدية فلم تضره. قَالَ: فانتهى إلى موضع ضيق فسحبوه فسحج منكبه وجنبه، فلما خرج ركب بغلته دوامة- ويقال: بل ركب فرسه البشير- والقيد في رجله، فأتوا به قرية تسمى غلطان، وفيها عبد الملك بْن حرملة، فأطلق عنه. قَالَ علي: وقال أبو الوليد زهير بْن هنيد العدوي: كان مع الكرماني غلامه بسام، فرأى خرقا على القهندز، فلم يزل يوسعه حتى أمكنه الخروج منه. قَالَ: فأرسل الكرماني إلى محمد بْن المثنى وعبد الملك بْن حرملة: إني خارج

الليلة، فاجتمعوا، وخرج فأتاهم فرقد مولاه، فأخبرهم، فلقوه في قريه حرب ابن عامر، وعليه ملحفه متقلدا سيفا، ومعه عبد الجبار بْن شعيب وابنا الكرماني: علي وعثمان، وجعفر غلامه، فأمر عمرو بْن بكر، أن يأتي غلطان وأندغ وأشترج معا، وأمرهم أن يوافوه على باب الريان بْن سنان اليحمدي بنوش في المرج- وكان مصلاهم في العيد- فأتاهم فأخبرهم، فخرج القوم من قراهم في السلاح، فصلى بهم الغداة، وهم زهاء ألف، فما ترجلت الشمس حتى صاروا ثلاثة آلاف، وأتاهم أهل السقادم، فسار على مرج نيران حتى أتى حوزان، فقال خلف بْن خليفة: أصحروا للمرج أجلى للعمى ... فلقد أصحر أصحاب السرب إن مرج الأزد مرج واسع ... تستوي الأقدام فيه والركب وقيل: إن الأزد بايعت لعبد الملك بْن حرملة على كتاب الله عز وجل ليلة خرج الكرماني، فلما اجتمعوا في مرج نوش أقيمت الصلاة، فاختلف عبد الملك والكرماني ساعة، ثم قدمه عبد الملك، وصيرا الأمر له، فصلى الكرماني ولما هرب الكرماني أصبح نصر معسكرا بباب مرو الروذ بناحية ايردانه، فأقام يوما أو يومين. وقيل: لما هرب الكرماني استخلف نصر عصمة بْن عبد الله الأسدي، وخرج إلى القناطر الخمس بباب مرو الروذ، وخطب الناس، فنال من الكرماني، فقال: ولد بكرمان وكان كرمانيا، ثم سقط إلى هراة فكان هرويا، والساقط بين الفراشين لا أصل ثابت، ولا فرع نابت، ثم ذكر الأزد، فقال: إن يستوثقوا فأذل قوم، وإن يأبوا فهم كما قَالَ الأخطل: ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدل عليها صوتها حية البحر ثم ندم على ما فرط منه، فقال: اذكروا الله، فإن ذكر الله شفاء، ذكر الله خير لا شر فيه، يذهب الذنب، وذكر الله براءة من النفاق ثم اجتمع إلى نصر بشر كثير، فوجه سلم بْن أحوز إلى الكرماني في

المجففة في بشر كثير فسفر الناس بين نصر والكرماني، وسألوا نصرا أن يؤمنه ولا يحبسه، ويضمن عنه قومه ألا يخالفه فوضع يده في يد نصر فأمره بلزوم بيته، ثم بلغه عن نصر شيء، فخرج إلى قرية له، وخرج نصر فعسكر بالقناطر، فأتاه القاسم بْن نجيب، فكلمه فيه فآمنه، وقال له: إن شئت خرج لك عن خراسان، وإن شئت أقام في داره- وكان رأي نصر إخراجه- فقال له سلم: إن أخرجته نوهت باسمه وذكره، وقال الناس: اخرجه لأنه هابه، فقال نصر: إن الذي أتخوفه منه إذا خرج أيسر مما أتخوفه منه وهو مقيم، والرجل إذا نفي عن بلده صغر أمره فأبوا عليه، فكف عنه، وأعطى من كان معه عشرة عشرة وأتى الكرماني نصرا، فدخل سرادقه فآمنه ولحق عبد العزيز بْن عبد ربه بالحارث بْن سريج. وأتى نصرا عزل منصور بْن جمهور وولاية عبد الله بْن عمر بْن عبد العزيز في شوال سنة ست وعشرين ومائة، فخطب الناس، وذكر ابن جمهور، وقال: قد علمت أنه لم يكن من عمال العراق، وقد عزله الله، واستعمل الطيب ابن الطيب، فغضب الكرماني لابن جمهور، فعاد في جمع الرجال واتخاذ السلاح وكان يحضر الجمعه في الف وخمسمائة وأكثر وأقل، فيصلي خارجا من المقصورة ثم يدخل على نصر، فيسلم ولا يجلس ثم ترك إتيان نصر وأظهر الخلاف، فأرسل إليه نصر مع سلم بْن أحوز: إني والله ما أردت بك في حبسك سوءا، ولكن خفت أن تفسد أمر الناس، فأتني فقال الكرماني: لولا إنك في منزلي لقتلتك، ولولا ما أعرف من حمقك أحسنت أدبك، فارجع إلى ابن الأقطع فأبلغه ما شئت من خير وشر فرجع إلى نصر فأخبره، فقال: عد إليه، فقال: لا والله، وما بي هيبة له ولكني أكره أن يسمعني فيك ما أكره فبعث إليه عصمة بْن عبد الله الأسدي، فقال: يا أبا علي، إني أخاف عليك عاقبة ما ابتدأت به في دينك ودنياك، ونحن نعرض عليك خصالا، فانطلق إلى أميرك يعرضها عليك، وما نريد

بذلك إلا الإنذار إليك فقال الكرماني: إني أعلم أن نصرا لم يقل هذا لك ولكنك اردت ان يبلغه فتحظى، والله لا أكلمك كلمة بعد انقضاء كلامي حتى ترجع إلى منزلك، فيرسل من أحب غيرك فرجع عصمة، وقال: ما رأيت علجا أعدى لطوره من الكرماني، وما أعجب منه، ولكن من يحيى بن حصين لعنهم الله! والله لهم أشد تعظيما له من اصحابه قال سلم ابن أحوز: إني أخاف فساد هذا الثغر والناس، فأرسل إليه قديدا وقال نصر لقديد بْن منيع: انطلق إليه، فأتاه فقال له: يا أبا علي، لقد لججت وأخاف أن يتفاقم الأمر فنهلك جميعا، وتشمت بنا هذه الأعاجم، فقال: يا قديد، إني لا أتهمك، وقد جاء ما لا أثق بنصر معه، [وقد قال رسول الله ص: البكري أخوك ولا تثق به،] قَالَ: أما إذ وقع هذا في نفسك فأعطه رهنا، قَالَ: من؟ قَالَ: أعطه عليا وعثمان، قَالَ: فمن يعطيني؟ ولا خير فيه، قَالَ: يا أبا علي، أنشدك الله أن يكون خراب هذه البلدة على يديك ورجع إلى نصر، فقال لعقيل بْن معقل الليثي: ما أخوفني أن يقع بهذا الثغر بلاء، فكلم ابن عمك، فقال عقيل لنصر: أيها الأمير، أنشدك الله أن تشأم عشيرتك، إن مروان بالشام تقاتله الخوارج، والناس في فتنه والأزد سفهاء وهم جيرانك. قَالَ: فما أصنع؟ إن علمت أمرا يصلح الناس فدونك، فقد عزم أنه لا يثق بي قَالَ: فأتى عقيل الكرماني، فقال: أبا علي، قد سننت سنة تطلب بعدك من الأمراء، إني أرى أمرا أخاف ان تذهب فيه العقول، قَالَ الكرماني: إن نصرا يريد أن آتيه ولا آمنه، ونريد أن يعتزل ونعتزل، ونختار رجلا من بكر بْن وائل، نرضاه جميعا، فيلي أمرنا جميعا حتى يأتي أمر من الخليفة، وهو يأبى هذا قَالَ: يا أبا علي، إني أخاف أن يهلك أهل هذا الثغر، فأت أميرك وقل ما شئت تجب إليه، ولا تطمع سفهاء قومك فيما دخلوا فيه، فقال الكرماني: إني لا اتهمك في نصيحه ولا عقل، ولكني لا أثق بنصر، فليحمل من مال خراسان ما شاء ويشخص قَالَ: فهل لك في أمر يجمع الأمر بينكما؟ تتزوج إليه ويتزوج إليك، قَالَ: لا آمنه على حال،

خبر الحارث بن سريج مع يزيد

قَالَ: ما بعد هذا خير، وإني خائف أن تهلك غدا بمضيعة، قَالَ: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال له عقيل: أعود إليك؟ قَالَ: لا، ولكن أبلغه عني وقل له: لا آمن أن يحملك قوم على غير ما تريد، فتركب منا ما لا بقية بعده، فإن شئت خرجت عنك لا من هيبة لك، ولكن أكره أن أشأم أهل هذه البلدة، وأسفك الدماء فيها وتهيأ ليخرج الى جرجان . خبر الحارث بن سريج مع يزيد وفي هذه السنة آمن يزيد بْن الوليد الحارث بْن سريج، وكتب له بذلك، فكتب إلى عبد الله بْن عمر يأمره برد ما كان أخذ منه من ماله وولده ذكر الخبر عن سبب ذلك: ذكر أن الفتنة لما وقعت بخراسان بين نصر والكرماني، خاف نصر قدوم الحارث بْن سريج عليه بأصحابه والترك، فيكون أمره أشد عليه من الكرماني وغيره، وطمع أن يناصحه، فأرسل إليه مقاتل بْن حيان النبطي وثعلبة بْن صفوان البناني وأنس بْن بجالة الأعرجي وهدبة الشعراوي وربيعة القرشي ليردوه عن بلاد الترك. فذكر علي بْن محمد عن شيوخه أن خالد بْن زياد البدي من أهل الترمذ وخالد بْن عمرو مولى بني عامر، خرجا إلى يزيد بْن الوليد يطلبان الأمان للحارث بْن سريج، فقدما الكوفة، فلقيا سعيد خدينة، فقال لخالد ابن زياد: أتدري لم سموني خدينة؟ قَالَ: لا، قَالَ: أرادوني على قتل أهل اليمن فأبيت وسألا أبا حنيفة أن يكتب لهما إلى الأجلح- وكان من خاصة يزيد بْن الوليد- فكتب لهما إليه، فأدخلهما عليه، فقال له خالد بْن زياد: يا أمير المؤمنين، قتلت ابن عمك لإقامة كتاب الله، وعمالك يغشمون ويظلمون! قَالَ: لا أجد أعوانا غيرهم، وإني لأبغضهم، قَالَ: يا أمير المؤمنين، ول أهل البيوتات، وضم إلى كل عامل رجالا من أهل الخير والفقه يأخذونهم بما في عهدك، قَالَ: أفعل، وسألاه أمانا للحارث بْن سريج، فكتب له: أما بعد، فإنا غضبنا لله، إذ عطلت حدوده، وبلغ بعباده كل مبلغ،

كتاب ابراهيم الامام إلى شيعه بنى العباس

وسفكت الدماء بغير حلها، وأخذت الأموال بغير حقها، فأردنا أن نعمل في هذه الأمة بكتاب الله جل وعز وسنه نبيه ص، ولا قوة إلا بالله، فقد أوضحنا لك عن ذات أنفسنا، فأقبل آمنا أنت ومن معك، فإنكم إخواننا وأعواننا وقد كتبت إلى عبد الله بْن عمر بْن عبد العزيز برد ما كان اصطفى من أموالكم وذراريكم. فقدما الكوفة فدخلا على ابن عمر، فقال خالد بْن زياد: أصلح الله الأمير! ألا تامر عمالك بسيره ابيك؟ قال: او ليس سيرة عمر ظاهرة معروفة! قَالَ: فما ينفع الناس منها ولا يعمل بها! ثم قدما مرو فدفعا كتاب يزيد إلى نصر، فرد ما كان أخذ لهم مما قدر عليه ثم نفذا إلى الحارث، فلقيا مقاتل بْن حيان وأصحابه الذين وجههم نصر إلى الحارث وكان ابن عمر كتب إلى نصر: إنك آمنت الحارث بغير إذني ولا إذن الخليفة فأسقط في يديه، فبعث يزيد بْن الأحمر وأمره أن يفتك بالحارث إذا صار معه في السفينة فلما لقيا مقاتلا بآمل قطع إليه مقاتل بنفسه، فكف عنه يزيد قَالَ: فأقبل الحارث يريد مرو- وكان مقامه بأرض الشرك اثنى عشرة سنة- وقدم معه القاسم الشيباني ومضرس بْن عمران قاضيه وعبد الله بْن سنان فقدم سمرقند وعليها منصور بْن عمر فلم يتلقه، وقال: ألحسن بلائه! وكتب إلى نصر يستأذنه في الحارث أن يثب به، فأيهما قتل صاحبه فإلى الجنة أو إلى النار وكتب إليه: لئن قدم الحارث على الأمير وقد ضر ببني أمية في سلطانهم، وهو والغ في دم بعد دم، قد طوى كشحا عن الدنيا بعد أن كان في سلطانهم أقراهم لضيف، وأشدهم بأسا، وأنفذهم غارة في الترك، ليفرقن عليك بني تميم وكان سردرخداه محبوسا عند منصور بْن عمر، لأنه قتل بياسان، فاستعدى ابنه جنده منصورا، فحبسه، فكلم الحارث منصورا فيه، فخلى سبيله، فلزم الحارث ووفى له . كتاب ابراهيم الامام الى شيعه بنى العباس وفي هذه السنة- فيما زعم بعضهم- وجه إبراهيم بْن محمد الإمام أبا هاشم بكير بْن ماهان إلى خراسان، وبعث معه بالسيرة والوصية فقدم مرو،

ذكر بيعه ابراهيم بن الوليد بالعهد

وجمع النقباء ومن بها من الدعاة، فنعى لهم الإمام محمد بْن علي، ودعاهم إلى إبراهيم، ودفع إليهم كتاب إبراهيم، فقبلوه ودفعوا إليه ما اجتمع عندهم من نفقات الشيعة، فقدم بها بكير على إبراهيم بْن محمد . ذكر بيعه ابراهيم بن الوليد بالعهد وفي هذه السنة أخذ يزيد بْن الوليد لأخيه إبراهيم بْن الوليد على الناس البيعة، وجعله ولي عهده، ولعبد العزيز بْن الحجاج بن عبد الملك بعد ابراهيم ابن الوليد، وكان السبب في ذلك- فيما حدثني احمد بن زهير، عن على ابن محمد- أن يزيد بْن الوليد مرض في ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة، فقيل له: بايع لأخيك إبراهيم ولعبد العزيز بْن الحجاج من بعده قَالَ: فلم تزل القدرية يحثونه على البيعة، ويقولون له: إنه لا يحل لك أن تهمل أمر الأمة فبايع لأخيك، حتى بايع لإبراهيم ولعبد العزيز بْن الحجاج من بعده. وفي هذه السنة عزل يزيد بْن الوليد يوسف بْن محمد بْن يوسف عن المدينة، وولاها عبد العزيز بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ قَالَ محمد بْن عمر: يقال إن يزيد بْن الوليد لم يوله، ولكنه افتعل كتابا بولايته المدينة، فعزله يزيد عنها، وولاها عبد العزيز بْن عمر، فقدمها لليلتين بقيتا من ذي القعده . ذكر خلاف مروان بن محمد على يزيد وفي هذه السنة أظهر مروان بْن محمد الخلاف على يزيد بْن الوليد، وانصرف من أرمينية إلى الجزيرة، مظهرا أنه طالب بدم الوليد بْن يزيد فلما صار بحران بايع يزيد. ذكر الخبر عما كان منه في ذلك وعن السبب الذي حمله على الخلاف ثم البيعة: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الوهاب بْن إبراهيم بْن خالد ابن يزيد بْن هريم، قَالَ: حدثنا أبو هاشم مخلد بْن محمد بْن صالح مولى عثمان بْن عفان- وسألته عما شهد مما حدثنا به فقال: لم أزل في عسكر مروان بْن محمد- قَالَ: كان عبد الملك بْن مروان بْن محمد بْن مروان حين

انصرف عن غزاته الصائفة مع الغمر بْن يزيد بحران، فأتاه قتل الوليد وهو بها، على الجزيرة عبدة بْن رباح الغساني عاملا للوليد عليها، فشخص منها- حيث بلغه قتل الوليد- إلى الشام، ووثب عبد الملك بْن مروان بْن محمد على حران ومدائن الجزيرة فضبطها، وولاها سليمان بْن عبد الله بْن علاثة، وكتب إلى أبيه بأرمينية يعلمه بذلك، ويشير عليه بتعجيل السير والقدوم فتهيأ مروان للمسير، وأظهر أنه يطلب بدم الوليد، وكره أن يدع الثغر معطلا حتى يحكم أمره، فوجه إلى أهل الباب إسحاق بْن مسلم العقيلي- وهو رأس قيس- وثابت بْن نعيم الجذامي من أهل فلسطين- وهو رأس اليمن- وكان سبب صحبة ثابت إياه ان مروان كان خلصه من حبس هشام بالرصافة وكان مروان يقدم على هشام المرة في السنتين، فيرفع إليه أمر الثغر وحاله ومصلحة من به من جنوده، وما ينبغي أن يعمل به في عدوه وكان سبب حبس هشام ثابتا ما قد ذكرنا قبل من أمره مع حنظلة بْن صفوان وإفساده عليه الجند الذين كان هشام وجههم معه لحرب البربر وأهل إفريقية، إذ قتلوا عامل هشام عليهم، كلثوم بْن عياض القسرى، فشكا ذلك من أمره حنظلة إلى هشام في كتاب كتبه اليه، فامر هشام حنظله بتوجيهه إليه في الحديد، فوجهه حنظلة إليه، فحبسه هشام، فلم يزل في حبسه حتى قدم مروان بْن محمد على هشام في بعض وفاداته- وقد ذكرنا بعض أمر كلثوم ابن عياض وأمر إفريقية معه في موضعه فيما مضى من كتابنا هذا- فلما قدم مروان على هشام أتاه رءوس أهل اليمانية، ممن كان مع هشام، فطلبوا إليه فيه، وكان ممن كلمه فيه كعب بْن حامد العبسي صاحب شرط هشام وعبد الرحمن بْن الضخم وسليمان بْن حبيب قاضيه، فاستوهبه مروان منه فوهبه له، فشخص إلى أرمينية، فولاه وحباه، فلما وجه مروان ثابتا مع إسحاق إلى أهل الباب، كتب إليهم معهما كتابا يعلمهم فيه حال ثغرهم وما لهم من الأجر في لزوم أمرهم ومراكزهم، وما في ثبوتهم فيه من دفع مكروه العدو عن ذراري المسلمين. قَالَ: وحمل إليهم معهما أعطياتهم، وولى عليهم رجلا من أهل

فلسطين يقال له حميد بْن عبد الله اللخمي- وكان رضيا فيهم وكان وليهم قبل ذلك- فحمدوا ولايته فقاما فيهم بأمره، وأبلغاهم رسالته، وقرأ عليهم كتابه، فأجابوا إلى الثبوت في ثغرهم ولزوم مراكزهم ثم بلغه أن ثابتا قد كان يدس إلى قوادهم بالانصراف من ثغرهم واللحاق بأجنادهم، فلما انصرفا إليه تهيأ للمسير وعرض جنده، ودس ثابت بْن نعيم إلى من معه من أهل الشام بالانخزال عن مروان والانضام إليه ليسير بهم إلى أجنادهم، ويتولى أمرهم، فانخزلوا عن عسكرهم مع من فر ليلا وعسكروا على حدة. وبلغ مروان أمرهم فبات ليلته ومن معه في السلاح يتحارسون حتى أصبح، ثم خرج إليهم بمن معه ومن مع ثابت يضعفون على من مع مروان، فصافوهم ليقاتلوهم، فأمر مروان منادين فنادوا بين الصفين من الميمنة والميسرة والقلب، فنادوهم: يا أهل الشام، ما دعاكم إلى الانعزال! وما الذي نقمتم علي فيه من سيري! ألم ألكم بما تحبون، وأحسن السيرة فيكم والولاية عليكم! ما الذي دعاكم إلى سفك دمائكم! فأجابوه بأنا كنا نطيعك بطاعة خليفتنا وقد قتل خليفتنا وبايع أهل الشام يزيد بْن الوليد، فرضينا بولاية ثابت، ورأسناه ليسير بنا على ألويتنا حتى نرد إلى أجنادنا فأمر مناديه فنادى: أن قد كذبتم، وليس تريدون الذي قلتم، وإنما أردتم أن تركبوا رءوسكم، فتغصبوا من مررتم به من أهل الذمة أموالهم وأطعمتهم وأعلافهم، وما بيني وبينكم إلا السيف حتى تنقادوا إلي، فأسير بكم حتى أوردكم الفرات، ثم أخلي عن كل قائد وجنده، فتلحقون بأجنادكم فلما رأوا الجد منه انقادوا إليه ومالوا له، وأمكنوه من ثابت بْن نعيم وأولاده، وهم أربعة رجال: رفاعة، ونعيم، وبكر، وعمران قَالَ: فأمر بهم فأنزلوا عن خيولهم، وسلبوا سلاحهم، ووضع في أرجلهم السلاسل. ووكل بهم عدة من حرسه يحتفظون بهم، وشخص بجماعة من الجند من أهل الشام والجزيرة، وضمهم إلى عسكره، وضبطهم في مسيره، قلم يقدر احد منهم على ان يفسد ولا يظلم أحدا من أهل القرى، ولا يرزاه شيئا الا يثمن، حتى ورد حران ثم أمرهم باللحاق بأجنادهم، وحبس ثابتا معه،

ذكر خبر وفاه يزيد بن الوليد

ودعا أهل الجزيرة إلى الفرض، ففرض لنيف وعشرين ألفا من أهل الجلد منهم، وتهيأ للمسير إلى يزيد، وكاتبه يزيد على أن يبايعه ويوليه ما كان عبد الملك بْن مروان ولى أباه محمد بْن مروان من الجزيرة وأرمينية والموصل وأذربيجان، فبايع له مروان، ووجه إليه محمد بْن عبد الله بْن علاثة ونفرا من وجوه الجزيرة. ذكر خبر وفاه يزيد بن الوليد وفي هذه السنة مات يزيد بْن الوليد، وكانت وفاته سلخ ذي الحجة من سنة ست وعشرين ومائة قَالَ أَبُو معشر مَا حَدَّثَنِي بِهِ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عنه: توفي يزيد بْن الوليد في ذي الحجة بعد الأضحى سنة ست وعشرين ومائة، وكانت خلافته في قول جميع من ذكرنا ستة أشهر، وقيل كانت خلافته خمسة أشهر وليلتين. وقال هشام بْن محمد: ولي ستة أشهر وأياما وقال علي بْن محمد: كانت ولايته خمسة أشهر واثني عشر يوما. وقال علي بْن محمد: مات يزيد بْن الوليد لعشر بقين من ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة، وهو ابن ست وأربعين سنة وكانت ولايته فيما زعم ستة أشهر وليلتين، وتوفي بدمشق واختلف في مبلغ سنه. يوم توفي فقال هشام توفي وهو ابن ثلاثين سنة. وقال بعضهم: توفي وهو ابن سبع وثلاثين سنة وكان يكنى أبا خالد وأمه أم ولد اسمها شاه آفريد بنت فيروز بْن يزدجرد بْن شهريار ابن كسرى وهو القائل: أنا ابن كسرى وأبي مروان ... وقيصر جدي وجد خاقان وقيل: إنه كان قدريا وكان- فيما حدثني أحمد، عن علي بْن محمد في صفته- أسمر طويلا، صغير الرأس، بوجهه خال وكان جميلا من رجل، في فمه بعض السعة، وليس بالمفرط

خلافه ابى إسحاق ابراهيم بن الوليد

وقيل له يزيد الناقص لنقصه الناس العشرات التي كان الوليد زادها الناس في قول الواقدي، وأما علي بْن محمد فإنه قَالَ: سبه مروان بْن محمد، فقال: الناقص ابن الوليد، فسماه الناس الناقص وحج بالناس في هذه السنة عبد العزيز بْن عمر بْن عبد العزيز بْن مروان في قول الواقدي وقال بعضهم: حج بالناس في هذه السنة عمر بن عبد الله ابن عبد الملك، بعثه يزيد بْن الوليد، وخرج معه عبد العزيز وهو على المدينة ومكة والطائف. وكان عامله على العراق في هذه السنة عبد الله بْن عمر بْن عبد العزيز، وعلى قضاء الكوفة ابن أبي ليلى، وعلى أحداث البصرة المسور بْن عمر بْن عباد. وعلى قضائها عامر بْن عبيدة، وعلى خراسان نصر بْن سيار الكناني . خلافة أبي إسحاق إبراهيم بْن الوليد ثم كان إبراهيم بْن الوليد بْن عبد الملك بْن مروان غير أنه لم يتم له أمر. فحدثني أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، قال: لم يتم لإبراهيم أمره، وكان يسلم عليه جمعة بالخلافة، وجمعة بالإمرة، وجمعة لا يسلمون عليه لا بالخلافة ولا بالإمرة، فكان على ذلك أمره حتى قدم مروان بْن محمد فخلعه وقتل عبد العزيز بْن الحجاج بْن عبد الملك. وقال هشام بْن محمد: استخلف يزيد بْن الوليد أبا إسحاق إبراهيم بْن الوليد، فمكث أربعة أشهر ثم خلع في شهر ربيع الآخر من سنة ست وعشرين ومائة، ثم لم يزل حيا حتى أصيب في سنة اثنتين وثلاثين ومائة أمه أم ولد. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الوهاب بْن إبراهيم، قَالَ: حدثنا أبو هاشم مخلد بْن محمد، قَالَ: كانت ولاية ابراهيم بن الوليد سبعين ليله.

سنه سبع وعشرين ومائه

سنة سبع وعشرين ومائة (ذكر ما كان فيها من الأحداث) ذكر مسير مروان الى الشام وخلع ابراهيم بن الوليد فمما كان فيها من ذلك مسير مروان بْن محمد إلى الشام والحرب التي جرت بينه وبين سليمان بْن هشام بعين الجر. ذكر ذلك والسبب الذي كانت عنه هذه الوقعة: قَالَ أبو جعفر: وكان السبب ما ذكرت بعضه، من أمر مسير مروان بعد مقتل الوليد بن يزيد إلى الجزيرة من أرمينية، وغلبته عليها، مظهرا أنه ثائر بالوليد، منكر قتله، ثم إظهاره البيعة ليزيد بْن الوليد بعد ما ولاه عمل أبيه محمد بْن مروان، وإظهاره ما أظهر من ذلك، وتوجيهه وهو بحران محمد بْن عبد الله بْن علاثة وجماعة من وجوه أهل الجزيرة فحدثني أحمد، قَالَ: حدثنا عبد الوهاب بْن إبراهيم، قَالَ: حدثنا أبو هاشم مخلد بْن محمد، قَالَ: لما أتى مروان موت يزيد أرسل إلى ابن علاثة وأصحابه فردهم من منبج، وشخص إلى إبراهيم بْن الوليد، فسار مروان في جند الجزيرة، وخلف ابنه عبد الملك في أربعين ألف من الرابطة بالرقة فلما انتهى إلى قنسرين، وبها أخ ليزيد بْن الوليد يقال له بشر، كان ولاه قنسرين فخرج إليه فصافه، فنادى الناس، ودعاهم مروان إلى مبايعته، فمال إليه يزيد بْن عمر بْن هبيرة في القيسية، وأسلموا بشرا وأخا له يقال له مسرور بْن الوليد، - وكان أخا بشر لأمه وأبيه- فأخذه مروان وأخاه مسرور بْن الوليد، فحبسهما وسار فيمن معه من أهل الجزيرة وأهل قنسرين، متوجها إلى أهل حمص، وكان أهل حمص امتنعوا حين مات يزيد بْن الوليد أن يبايعوا ابراهيم وعبد العزيز ابن الحجاج، فوجه إليه إبراهيم عبد العزيز بْن الحجاج وجند أهل دمشق، فحاصرهم في مدينتهم، وأغذ مروان السير، فلما دنا من مدينة حمص، رحل عبد العزيز عنهم، وخرجوا إلى مروان فبايعوه، وساروا بأجمعهم معه

ووجه إبراهيم بْن الوليد الجنود مع سليمان بْن هشام، فسار بهم حتى نزل عين الجر، وأتاه مروان وسليمان في عشرين ومائة ألف فارس ومروان في نحو من ثمانين ألفا فالتقيا، فدعاهم مروان إلى الكف عن قتاله، والتخلية عن ابني الوليد: الحكم وعثمان، وهما في سجن دمشق محبوسان، وضمن عنهما ألا يؤاخذاهم بقتلهم أباهما، وألا يطلبا أحدا ممن ولي قتله، فأبوا عليه، وجدوا في قتاله، فاقتتلوا ما بين ارتفاع النهار إلى العصر، واستحر القتل بينهم، وكثر في الفريقين وكان مروان مجربا مكايدا، فدعا ثلاثة نفر من قواده- أحدهم أخ لإسحاق بْن مسلم يقال له عيسى- فأمرهم بالمسير خلف صفه في خيله وهم ثلاثة آلاف، ووجه معهم فعله بالفؤوس، وقد ملأ الصفان من أصحابه وأصحاب سليمان بْن هشام ما بين الجبلين المحيطين بالمرج، وبين العسكرين نهر جرار، وأمرهم إذا انتهوا إلى الجبل أن يقطعوا الشجر، فيعقدوا جسورا، ويجوزوا إلى عسكر سليمان، ويغيروا فيه. قَالَ: فلم تشعر خيول سليمان وهم مشغولون بالقتال إلا بالخيل والبارقة والتكبير في عسكرهم من خلفهم، فلما رأوا ذلك انكسروا، وكانت هزيمتهم، ووضع أهل حمص السلاح فيهم لحردهم عليهم، فقتلوا منهم نحوا من سبعة عشر ألفا، وكف أهل الجزيرة وأهل قنسرين عن قتلهم، فلم يقتلوا منهم أحدا، وأتوا مروان من أسرائهم بمثل عدة القتلى وأكثر، واستبيح عسكرهم. فأخذ مروان عليهم البيعة للغلامين: الحكم وعثمان، وخلى عنهم بعد أن قواهم. بدينار دينار، وألحقهم بأهاليهم، ولم يقتل منهم إلا رجلين يقال لأحدهما يزيد بن العقار وللآخر الوليد بْن مصاد الكلبيان، وكانا فيمن سار إلى الوليد وولي قتله وكان يزيد بْن خالد بْن عبد الله القسري معهم، فسار حتى هرب فيمن هرب مع سليمان بْن هشام إلى دمشق، وكان أحدهما- يعني الكلبيين- على حرس يزيد والآخر على شرطه، فإنه ضربهما في موقفه ذلك بالسياط، ثم أمر بهما فحبسا فهلكا في حبسه. قَالَ: ومضى سليمان ومن معه من الفل حتى صبحوا دمشق، واجتمع

ذكر ظهور عبد الله بن معاويه بن عبد الله بن جعفر

إليه وإلى إبراهيم وعبد العزيز بْن الحجاج رءوس من معهم، وهم يزيد بْن خالد القسري وأبو علاقة السكسكي والأصبغ بْن ذؤالة الكلبي ونظراؤهم، فقال بعضهم لبعض: إن بقي الغلامان ابنا الوليد حتى يقدم مروان ويخرجهما من الحبس ويصير الأمر إليهما لم يستبقيا أحدا من قتلة أبيهما، والرأي أن نقتلهما. فولوا ذلك يزيد بْن خالد- ومعهما في الحبس أبو محمد السفياني ويوسف بْن عمر- فأرسل يزيد مولى لخالد يقال له أبا الأسد، في عدة من أصحابه، فدخل السجن، فشدخ الغلامين بالعمد، وأخرج يوسف بْن عمر ليقتلوه، وضربت عنقه وأرادوا قتل أبي محمد السفياني، فدخل بيتا من بيوت السجن فأغلقه، وألقى خلفه الفرش والوسائد، واعتمد على الباب فلم يقدروا على فتحه، فدعوا بنار ليحرقوه فلم يؤتوا بها، حتى قيل: قد دخلت خيل مروان المدينة وهرب إبراهيم بْن الوليد، وتغيب، وأنهب سليمان ما كان في بيت المال وقسمه فيمن معه من الجنود وخرج من المدينة . ذكر ظهور عبد الله بْن معاوية بْن عبد الله بن جعفر قال أبو جعفر: وفي هذه السنة دعا إلى نفسه عبد الله بْن معاوية بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بالكوفة، وحارب بها عبد الله بْن عمر بْن عبد العزيز ابن مروان، فهزمه عبد الله بْن عمر، فلحق بالجبال فغلب عليها. ذكر الخبر عن سبب خروج عبد الله ودعائه الناس إلى نفسه: وكان إظهار عبد الله بْن معاوية الخلاف على عبد الله بْن عمر ونصبه الحرب له- فيما ذكر هشام عن أبي مخنف- في المحرم سنة سبع وعشرين ومائة. وكان سبب خروجه عليه- فيما حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عاصم ابن حفص التميمي وغيره من أهل العلم- أن عبد الله بْن معاوية بْن عبد الله ابن جعفر قدم الكوفة زائرا لعبد الله بْن عمر بْن عبد العزيز، يلتمس صلته، لا يريد خروجا، فتزوج ابنة حاتم بْن الشرقي بْن عبد المؤمن بْن شبث بْن

ربعي، فلما وقعت العصبية قَالَ له أهل الكوفة: ادع إلى نفسك، فبنو هاشم أولى بالأمر من بني مروان، فدعا سرا بالكوفة وابن عمر بالحيرة، وبايعه ابن ضمرة الخزاعي، فدس إليه ابن عمر فأرضاه، فأرسل إليه: إذا نحن التقينا بالناس انهزمت بهم وبلغ ابن معاوية، فلما التقى الناس قَالَ ابن معاوية: أن ابن ضمرة قد غدر، ووعد ابن عمران ينهزم بالناس، فلا يهولنكم انهزامه، فإنه عن غدر يفعل فلما التقوا انهزم ابن ضمرة، وانهزم الناس، فلم يبق معه أحد، فقال: تفرقت الظباء على خداش ... فما يدري خداش ما يصيد فرجع ابن معاوية إلى الكوفة، وكانوا التقوا ما بين الحيرة والكوفة، ثم خرج إلى المدائن فبايعوه، وأتاه قوم من أهل الكوفة، فخرج فغلب على حلوان والجبال. قَالَ: ويقال قدم عبد الله بْن معاوية الكوفة وجمع جمعا، فلم يعلم عبد الله بْن عمر حتى خرج في الجبانة مجمعا على الحرب، فالتقوا، وخالد بْن قطن الحارثي على أهل اليمن، فشد عليه الأصبغ بْن ذؤالة الكلبي في أهل الشام، فانهزم خالد وأهل الكوفة وأمسكت نزار عن نزار ورجعوا، وأقبل خمسون رجلا من الزيدية إلى دار ابن محرز القرشي يريدون القتال، فقتلوا، ولم يقتل من أهل الكوفة غيرهم. قَالَ: وخرج ابن معاوية من الكوفة مع عبد الله بْن عباس التميمي إلى المدائن، ثم خرج منها فغلب على الماهين وهمذان وقومس وأصبهان والري، وخرج إليه عبيد أهل الكوفة، وقال: فلا تركبن الصنيع الذي ... تلوم أخاك على مثله

ولا يعجبنك قول امرى ... يخالف ما قَالَ في فعله وأما أبو عبيدة معمر بْن المثنى، فإنه زعم أن سبب ذلك أن عبد الله والحسن ويزيد بْن معاوية بْن عبد الله بْن جعفر قدموا على عبد الله بْن عمر، فنزلوا في النخع، في دار مولى لهم، يقال له الوليد بْن سعيد، فأكرمهم ابن عمر واجازهم، واجرى عليهم كل يوم ثلاثمائة درهم، فكانوا كذلك حتى هلك يزيد بْن الوليد، وبايع الناس أخاه إبراهيم بْن الوليد ومن بعده عبد العزيز ابن الحجاج بْن عبد الملك، فقدمت بيعتهما على عبد الله بن عمر بالكوفه، فبايع الناس لهما، وزادهم في العطاء مائة مائه، وكتب بيعتهما إلى الآفاق، فجاءته البيعة، فبينا هو كذلك، إذ أتاه الخبر بأن مروان بْن محمد قد سار في أهل الجزيرة إلى إبراهيم بْن الوليد، وأنه امتنع من البيعة له، فاحتبس عبد الله بْن عمر عبد الله بْن معاوية عنده، وزاده فيما كان يجري عليه، واعده لمروان ابن محمد إن هو ظفر بإبراهيم بْن الوليد ليبايع له، ويقاتل به مروان، فماج الناس في أمرهم، وقرب مروان من الشام، وخرج اليه ابراهيم فقاتله مروان، فهزمه وظفر بعسكره وخرج هاربا، وثبت عبد العزيز بْن الحجاج يقاتل حتى قتل وأقبل إسماعيل بْن عبد الله أخو خالد بْن عبد الله القسري هاربا حتى أتى الكوفة، وكان في عسكر إبراهيم، فافتعل كتابا على لسان إبراهيم بولاية الكوفة، فأرسل إلى اليمانية، فأخبرهم سرا أن إبراهيم بْن الوليد ولاه العراق، فقبلوا ذلك منه، وبلغ الخبر عبد الله بن عمر فباكره صلاة الغداة، فقاتله من ساعته، ومعه عمر بن الغضبان، فلما رأى إسماعيل ذلك- ولا عهد معه وصاحبه الذي افتعل العهد على لسانه هارب منهزم- خاف أن يظهر أمره فيفتضح ويقتل، فقال لأصحابه: إني كاره لسفك الدماء، ولم أحس أن يبلغ الأمر ما بلغ، فكفوا أيديكم فتفرق القوم عنه، فقال لأهل بيته: إن إبراهيم قد هرب، ودخل مروان دمشق، فحكى ذلك عن

أهل بيته، فانتشر الخبر، واشرأبت الفتنة، ووقعت العصبية بين الناس. وكان سبب ذلك أن عبد الله بْن عمر كان أعطى مضر وربيعة عطايا عظاما، ولم يعط جعفر بْن نافع بْن القعقاع بْن شور الذهلي وعثمان بن الخيبرى أخا بنى تيم اللات بْن ثعلبة شيئا، ولم يسوهما بنظرائهما، فدخلا عليه، فكلماه كلاما غليظا، فغضب ابن عمر، وأمر بهما، فقام إليهما عبد الملك الطائي- وكان على شرطه يقوم على رأسه- فدفعهما، فدفعاه وخرجا مغضبين. وكان ثمامة بْن حوشب بْن رويم الشيباني حاضرا، فخرج مغاضبا لصاحبيه، فخرجوا جميعا إلى الكوفة، وكان هذا وابن عمر بالحيرة، فلما دخلوا الكوفة نادوا: يا آل ربيعة، فثارت إليهم ربيعة، فاجتمعوا وتنمروا، وبلغ الخبر ابن عمر، فأرسل إليهم أخاه عاصما، فأتاهم وهم بدير هند قد اجتمعوا وحشدوا، فألقى نفسه بينهم، وقال: هذه يدي لكم فاحكموا، فاستحيوا وعظموا عاصما، وتشكروا له، وأقبل على صاحبيهم فسكتا وكفا، فلما أمسى ابن عمر أرسل من تحت ليلته إلى عمر بْن الغضبان بمائة ألف، فقسمها في قومه بني همام بْن مرة بْن ذهل بْن شيبان، وأرسل إلى ثمامة بْن حوشب بْن رويم بمائة ألف، فقسمها في قومه، وأرسل إلى جعفر بْن نافع بْن القعقاع بعشرة آلاف، وإلى عثمان بْن الخيبري بعشرة آلاف. قَالَ أبو جعفر: فلما رأت الشيعة ضعفه اغتمزوا فيه، واجترءوا عليه وطمعوا فيه ودعوا إلى عبد الله بْن معاوية بْن عبد الله بْن جعفر وكان الذى ولى ذلك هلال ابن أبي الورد مولى بني عجل، فثاروا في غوغاء الناس حتى أتوا المسجد، فاجتمعوا فيه وهلال القائم بالأمر، فبايعه ناس من الشيعة لعبد الله بْن معاوية، ثم مضوا من فورهم إلى عبد الله، فأخرجوه من دار الوليد بْن سعيد، حتى أدخلوه القصر، وحالوا بين عاصم بْن عمر وبين القصر، فلحق بأخيه عبد الله بالحيرة، وجاء ابن معاوية الكوفيون فبايعوه، فيهم عمر بْن الغضبان بْن القبعثري ومنصور بْن جمهور وإسماعيل بْن عبد الله القسري ومن كان من أهل الشام بالكوفة له أهل وأصل، فأقام بالكوفة أياما يبايعه الناس، وأتته البيعة من المدائن وفم النيل، واجتمع إليه الناس، فخرج يريد عبد الله بْن عمر بالحيرة،

وبرز له عبد الله بْن عمر فيمن كان معه من أهل الشام، فخرج رجل من اهل الشام يسأله البراز، فبرز له القاسم بْن عبد الغفار، فقال له الشامي: لقد دعوت حين دعوت، وما أظن أن يخرج إلي رجل من بكر بْن وائل، والله ما أريد قتالك، ولكن أحببت أن ألقي إليك ما انتهى إلينا، اخبرك أنه ليس معكم رجل من أهل اليمن، لا منصور ولا إسماعيل ولا غيرهما إلا وقد كاتب عبد الله بْن عمر، وجاءته كتب مضر، وما أرى لكم أيها الحي من ربيعه كتابا ولا رسولا، وليسوا مواقيعكم يومكم حتى تصبحوا فيواقعوكم، فإن استطعتم ألا تكون بكم الحزة فافعلوا، فإني رجل من قيس، وسنكون غدا بإزائكم، فإن أردتم الكتاب إلى صاحبنا أبلغته، وإن أردتم الوفاء لمن خرجتم معه فقد أبلغتكم حال الناس فدعا القاسم رجالا من قومه، فأعلمهم ما قَالَ له الرجل، وان ميمنه ابن عمر من ربيعة، ومضر ستقف بإزاء ميسرته وفيها ربيعة، فقال عبد الله بْن معاوية: إن هذه علامة ستظهر لنا إن أصبحنا، فإن أحب عمر بْن الغضبان فليلقني الليلة، وإن منعه شغل ما هو فيه فهو عذر، وقل له: إني لأظن القيسي قد كذب، فأتى الرسول عمر بذلك، فرده إليه بكتاب يعلمه ان رسولي هذا بمنزلتي عندي، ويأمره أن يتوثق من منصور وإسماعيل، وإنما أراد أن يعلمهما بذلك قَالَ: فأبى ابن معاوية أن يفعل، فأصبح الناس غادين على القتال، وقد جعل اليمن في الميمنة ومضر وربيعة في الميسرة، ونادى مناد: من أتى برأس فله كذا وكذا، أو بأسير فله كذا وكذا، والمال عند عمر بن الغضبان. والتقى الناس واقتتلوا، وحمل عمر بْن الغضبان على ميمنة ابن عمر فانكشفوا، ومضى إسماعيل ومنصور من فورهما الى الحيرة، ورجمت غوغاء الناس أهل اليمن من أهل الكوفة، فقتلوا فيهم أكثر من ثلاثين رجلا، وقتل الهاشمي العباس بْن عبد الله زوج ابنة الملاة. ذكر عمر أن محمد بْن يحيى حدثه عن أبيه، عن عاتكة بنت الملاة،

تزوجت أزواجا، منهم العباس بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْن الحارث بْن نوفل، قتل مع عبد الله بْن عمر بْن عبد العزيز في العصبية بالعراق وقتل مبكر ابن الحواري بْن زياد في غيرهم، ثم انكشفوا وفيهم عبد الله بْن معاوية حتى دخل نصر الكوفة، وبقيت الميسرة من مضر وربيعة ومن بإزائهم من أهل الشام، وحمل أهل القلب من اهل الشام على الزيدية فانكشفوا، حتى دخلوا الكوفة، وبقيت الميسرة وهم نحو خمسمائة رجل، واقبل عامر بن ضباره ونباته ابن حنظلة بْن قبيصة وعتبة بْن عبد الرحمن الثعلبي والنضر بْن سعيد بْن عمرو الحرشي، حتى وقفوا على ربيعة، فقالوا لعمر بْن الغضبان: أما نحن يا معشر ربيعة، فما كنا نأمن عليكم ما صنع الناس بأهل اليمن، ونتخوف عليكم مثلها، فانصرفوا فقال عمر: ما كنت ببارح أبدا حتى أموت، فقالوا: إن هذا ليس بمغن عنك ولا عن أصحابك شيئا، فأخذوا بعنان دابته فأدخلوه الكوفة قَالَ عمر: حدثني علي بْن محمد، عن سليمان بْن عبد الله النوفلي، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: حدثنا خراش بْن المغيرة بْن عطية مولى لبني ليث، عن أبيه، قَالَ: كنت كاتب عبد الله بن عمر، فو الله إني لعنده يوما وهو بالحيرة إذ أتاه آت فقال: هذا عبد الله بْن معاوية قد أقبل في الخلق، فأطرق مليا وجاءه رئيس خبازيه، فقام بين يديه كأنه يؤذنه بادراك طعامه، فأومأ إليه عبد الله: أن هاته فجاء بالطعام، وقد شخصت قلوبنا، ونحن نتوقع أن يهجم علينا ابن معاوية ونحن معه، قَالَ: فجعلت أتفقده: هل أراه تغير في شيء من أمره من مطعم أو مشرب أو منظر أو أمر أو نهي؟ فلا والله، ما أنكرت من هيئته قليلا ولا كثيرا، وكان طعامه إذا أتي به وضع بين كل اثنين منا صحفة قَالَ: فوضعت بيني وبين فلان صحفة، وبين فلان وفلان صحفة أخرى، حتى عد من كان على خوانه، فلما فرغ من غدائه ووضوئه، أمر بالمال فأخرج، حتى اخرجت آنيه من ذهب وفضه وكسا، ففرق أكثر ذلك في قواده، ثم دعا مولى له أو مملوكا كان يتبرك به ويتفاءل باسمه- إما يدعى ميمونا أو فتحا أو اسما من الاسماء المتبرك بها- فقال له:

خذ لواءك، وامض إلى تل كذا وكذا فاركزه عليه، وادع أصحابك، وأقم حتى آتيك ففعل وخرج عبد الله وخرجنا معه، حتى صار إلى التل فإذا الأرض بيضاء من أصحاب ابن معاوية، فأمر عبد الله مناديا، فنادى: من جاء برأس فله خمسمائة، فو الله ما كان بأسرع من أن أتي برأس، فوضع بين يديه، فامر له بخمسمائة، فدفعت إلى الذي جاء به، فلما رأى اصحابه وفاءه لصاحب الراس، ثاروا بالقوم، فو الله ما كان إلا هنيهة حتى نظرت إلى نحو من خمسمائة رأس قد ألقيت بين يديه، وانكشف ابن معاوية ومن معه منهزمين، فكان أول من دخل الكوفة من أصحابه منهزما أبو البلاد مولى بني عبس وابنه سليمان بين يديه- وكان أبو البلاد متشيعا- فجعل أهل الكوفة ينادونهم كل يوم، وكأنهم يعيرونهم بانهزامه، فجعل يصيح بابنه سليمان: امض ودع النواضح ينفقن قَالَ: ومر عبد الله بْن معاوية فطوى الكوفة، ولم يعرج بها حتى أتى الجبل. وأما أبو عبيدة: فإنه ذكر أن عبد الله بْن معاوية وإخوته دخلوا القصر فلما أمسوا قالوا لعمر بْن الغضبان وأصحابه: يا معشر ربيعة، قد رأيتم ما صنع الناس بنا، وقد أعلقنا دماءنا في أعناقكم، فإن كنتم مقاتلين معنا قاتلنا معكم، وإن كنتم ترون الناس خاذلينا وإياكم، فخذوا لنا ولكم أمانا، فما أخذتم لأنفسكم فقد رضينا لأنفسنا، فقال لهم عمر بن الغضبان: ما نحن بتاركيكم من إحدى خلتين: إما أن نقاتل معكم، وإما أن نأخذ لكم أمانا كما نأخذ لأنفسنا، فطيبوا نفسا، فأقاموا في القصر، والزيدية على افواه السكك يغدو عليهم أهل الشام ويروحون، يقاتلونهم أياما. ثم إن ربيعة أخذت لأنفسها وللزيدية ولعبد الله بن معاويه أمانا، الا يتبعوهم ويذهبوا حيث شاءوا وأرسل عبد الله بْن عمر إلى عمر بْن الغضبان يأمره بنزول القصر وإخراج عبد الله بْن معاوية، فأرسل إليه ابن الغضبان فرحله ومن معه من شيعته ومن تبعه من أهل المدائن وأهل السواد واهل

ذكر خبر رجوع الحارث بن سريج إلى مرو

الكوفة، فسار بهم رسل عمر حتى أخرجوهم من الجسر فنزل عمر من القصر . ذكر خبر رجوع الحارث بن سريج الى مرو وفي هذه السنة وافى الحارث بْن سريج مرو، خارجا إليها من بلاد الترك بالأمان الذي كتب له يزيد بْن الوليد، فصار إلى نصر بْن سيار، ثم خالفه وأظهر الخلاف له، وبايعه على ذلك جمع كبير. ذكر الخبر عن أمره وأمر نصر بعد قدومه عليه: ذكر علي بْن محمد عن شيوخه، أن الحارث سار إلى مرو، مخرجه من بلاد الترك، فقدمها يوم الأحد لثلاث بقين من جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين ومائة، فتلقاه سلم بْن أحوز، والناس بكشماهن، فقال محمد بن الفضل ابن عطية العبسي: الحمد لله الذي أقر أعيننا بقدومك، وردك الى فئه الإسلام وإلى الجماعة قَالَ: يا بني، أما علمت أن الكثير إذا كانوا على معصية الله كانوا قليلا، وأن القليل إذا كانوا على طاعة الله كانوا كثيرا! وما قرت عيني منذ خرجت إلى يومي هذا، وما قرة عيني إلا أن يطاع الله فلما دخل مرو قَالَ: اللهم إني لم أنو قط في شيء مما بيني وبينهم إلا الوفاء، فإن أرادوا الغدر فانصرني عليهم وتلقاه نصر فانزله قصر بخاراخذاه، وأجرى عليه نزلا خمسين درهما في كل يوم، وكان يقتصر على لون واحد، وأطلق نصر من كان عنده من أهله، أطلق محمد بْن الحارث والألوف بنت الحارث وأم بكر، فلما أتاه ابنه محمد، قَالَ: اللهم اجعله بارا تقيا. قَالَ: وقدم الوضاح بْن حبيب بْن بديل على نصر بْن سيار من عند عبد الله بْن عمر، وقد أصابه برد شديد، فكساه أثوابا، وأمر له بقرى وجاريتين، ثم أتى الحارث بن سريج، وعنده جماعة من أصحابه قيام على رأسه، فقال له: أنا بالعراق، نشهر عظم عمودك وثقله، وإني أحب أن أراه، فقال: ما هو إلا كبعض ما ترى مع هؤلاء- وأشار إلى أصحابه- ولكني إذا ضربت به شهرت ضربتني، قَالَ: وكان في عموده بالشامي ثمانية عشر رطلا

قَالَ: ودخل الحارث بْن سريج على نصر، وعليه الجوشن الذي أصابه من خاقان، وكان خيره بين مائة ألف دينار دنبكانية وبين الجوشن، فاختار الجوشن فنظرت إليه المرزبانة بنت قديد، امرأة نصر بْن سيار، فأرسلت إليه بجرز لها سمور، مع جارية لها فقالت، أقرئي ابن عمي السلام، وقولي له: اليوم بارد فاستدفئ بهذا الجرز السمور، فالحمد لله الذي أقدمك صالحا فقال للجارية: أقرئي بنت عمي السلام، وقولي لها: أعارية أم هدية؟ فقالت: بل هدية، فباعه بأربعة آلاف دينار وقسمها في أصحابه. وبعث إليه نصر بفرش كثيرة وفرس، فباع ذلك كله، وقسمه في أصحابه بالسوية وكان يجلس على برذعة، وتثنى له وسادة غليظة وعرض نصر على الحارث أن يوليه ويعطيه مائة ألف دينار، فلم يقبل، وارسل الى نصر: إني لست من هذه الدنيا ولا من هذه اللذات، ولا من تزويج عقائل العرب في شيء، وإنما أسأل كتاب الله عز وجل والعمل بالسنة واستعمال أهل الخير والفضل، فإن فعلت ساعدتك على عدوك. وأرسل الحارث إلى الكرماني: إن أعطاني نصر العمل بكتاب الله وما سألته من استعمال أهل الخير والفضل عضدته وقمت بأمر الله، وإن لم يفعل استعنت بالله عليه، وأعنتك إن ضمنت لي ما أريد من القيام بالعدل والسنة. وكان كلما دخل عليه بنو تميم دعاهم إلى نفسه، فبايعه محمد بْن حمران ومحمد ابن حرب بْن جرفاس المنقريان والخليل بْن غزوان العدوى، وعبد الله ابن مجاعة وهبيرة بْن شراحيل السعديان، وعبد العزيز بن عبد ربه الليثى، وبشر ابن جرموز الضبي، ونهار بْن عبد الله بْن الحتات المجاشعي، وعبد الله النباتي وقال الحارث لنصر: خرجت من هذه المدينة منذ ثلاث عشرة سنة إنكارا للجور، وأنت تريدني عليه! فانضم الى الحارث ثلاثة آلاف

خلافه مروان بن محمد

خلافه مروان بن محمد وفي هذه السنة بويع بدمشق لمروان بْن محمد بالخلافة: ذكر الخبر عن سبب البيعة له: حدثني أحمد، قَالَ: حدثنا عبد الوهاب بْن إبراهيم، قَالَ: حدثنا أبو هاشم مخلد بْن محمد مولى عثمان بْن عفان، قَالَ: لما قيل: قد دخلت خيل مروان دمشق هرب إبراهيم بْن الوليد وتغيب، فانتهب سليمان ما كان في بيت المال وقسمه فيمن معه من الجند، وخرج من المدينة، وثار من فيها من موالي الوليد بْن يزيد إلى دار عبد العزيز بْن الحجاج فقتلوه، ونبشوا قبر يزيد بْن الوليد وصلبوه على باب الجابية، ودخل مروان دمشق فنزل عاليه، وأتي بالغلامين مقتولين وبيوسف بْن عمر فأمر بهم فدفنوا، وأتي بأبي محمد السفياني محمولا في كبوله، فسلم عليه بالخلافة، ومروان يومئذ يسلم عليه بالإمرة، فقال له: مه، فقال: إنهما جعلاها لك بعدهما، وأنشده شعرا قاله الحكم في السجن. قَالَ: وكانا قد بلغا، وولد لأحدهما وهو الحكم والآخر قد احتلم قبل ذلك بسنتين، قَالَ: فقال الحكم: ألا من مبلغ مروان عني ... وعمي الغمر طال بذا حنينا بأني قد ظلمت وصار قومي ... على قتل الوليد متابعينا أيذهب كلبهم بدمي ومالي ... فلا غثا أصبت ولا سمينا ومروان بأرض بني نزار ... كليث الغاب مفترس عرينا ألم يحزنك قتل فتى قريش ... وشقهم عصي المسلمينا الا فاقر السلام على قريش ... وقيس بالجزيرة أجمعينا وساد الناقص القدري فينا ... وألقى الحرب بين بني أبينا

ذكر الخبر عن انتقاض اهل حمص على مروان

فلو شهد الفوارس من سليم ... وكعب لم أكن لهم رهينا ولو شهدت ليوث بني تميم ... لما بعنا تراث بني أبينا أتنكث بيعتي من أجل أمي ... فقد بايعتم قبلي هجينا فليت خئولتى من غير كلب ... وكانت في ولادة آخرينا فإن أهلك أنا وولي عهدي ... فمروان أمير المؤمنينا ثم قَالَ: ابسط يدك أبايعك، وسمعه من مع مروان من أهل الشام، فكان أول من نهض معاوية بْن يزيد بْن الحصين بْن نمير ورءوس أهل حمص، فبايعوه، فأمرهم أن يختاروا لولاية أجنادهم، فاختار أهل دمشق زامل بْن عمرو الجبراني، وأهل حمص عبد الله بْن شجرة الكندي، وأهل الأردن الوليد بْن معاوية بْن مروان، وأهل فلسطين ثابت بْن نعيم الجذامي الذي كان استخرجه من سجن هشام وغدر به بأرمينية، فأخذ عليهم العهود المؤكدة والأيمان المغلظة على بيعته، وانصرف إلى منزله من حران. قَالَ أبو جعفر: فلما استوت لمروان بْن محمد الشام وانصرف إلى منزله بحران طلب الأمان منه ابراهيم بن الوليد وسليمان بن هشام فامنهم، فقدم عليه سليمان- وكان سليمان بْن هشام يومئذ بتدمر بمن معه من إخوته وأهل بيته ومواليه الذكوانية- فبايعوا مروان بْن محمد . ذكر الخبر عن انتقاض اهل حمص على مروان وفي هذه السنة انتقض على مروان أهل حمص وسائر أهل الشام فحاربهم. ذكر الخبر عن أمرهم وأمره وعن سبب ذلك: حدثني أحمد، قَالَ حدثني عبد الوهاب بْن إبراهيم، قَالَ: حدثنا أبو هاشم مخلد بْن محمد بْن صالح، قَالَ: لما انصرف مروان إلى منزله من حران بعد فراغه من أهل الشام لم يلبث إلا ثلاثة أشهر، حتى خالفه أهل الشام وانتقضوا عليه، وكان الذي دعاهم إلى ذلك ثابت بْن نعيم، وراسلهم

وكاتبهم، وبلغ مروان خبرهم، فسار إليهم بنفسه، وأرسل أهل حمص إلى من بتدمر من كلب، فشخص إليهم الأصبغ بْن ذؤالة الكلبي ومعه بنون له ثلاثة رجال: حمزة وذؤالة وفرافصة ومعاوية السكسكي- وكان فارس أهل الشام- وعصمة بْن المقشعر وهشام بْن مصاد وطفيل بن حارثة ونحو ألف من فرسانهم، فدخلوا مدينة حمص ليلة الفطر من سنة سبع وعشرين ومائة. قَالَ: ومروان بحماة ليس بينه وبين مدينة حمص إلا ثلاثون ميلا، فأتاه خبرهم صبيحة الفطر، فجد في السير، ومعه يومئذ إبراهيم بْن الوليد المخلوع وسليمان بْن هشام، وقد كانا راسلاه وطلبا إليه الأمان، فصارا معه في عسكره يكرمهما ويدنيهما ويجلسان معه على غدائه وعشائه، ويسيران معه في موكبه. فانتهى إلى مدينة حمص بعد الفطر بيومين، والكلبية فيها قد ردموا أبوابها من داخل، وهو على عدة معه روابطه، فأحدقت خيله بالمدينة، ووقف حذاء باب من أبوابها، وأشرف على جماعة من الحائط، فناداهم مناديه: ما دعاكم إلى النكث؟ قالوا: فإنا على طاعتك لم ننكث، فقال لهم: فإن كنتم على ما تذكرون فافتحوا، ففتحوا الباب، فاقتحم منه عمرو بن الوضاح في الوضاحية وهم نحو من ثلاثة آلاف فقاتلوهم في داخل المدينة، فلما كثرتهم خيل مروان، انتهوا إلى باب من أبواب المدينة يقال له باب تدمر، فخرجوا منه والروابط عليه فقاتلوهم، فقتل عامتهم، وافلت الأصبغ بن ذؤاله والسكسكى واسر ابنا الأصبغ: ذؤالة وفرافصة في نيف وثلاثين رجلا منهم، فاتى بهم مروان فقتلهم وهو واقف، وأمر بجمع قتلاهم وهم خمسمائة او ستمائه، فصلبوا حول المدينة، وهدم من حائط مدينتها نحوا من غلوة وثار أهل الغوطة إلى مدينة دمشق، فحاصروا أميرهم زامل بْن عمرو، وولوا عليهم يزيد بْن خالد القسري وثبت مع زامل المدينة وأهلها وقائد في نحو أربعمائة، يقال له أبو هبار القرشي فوجه إليهم مروان من حمص أبا الورد بْن الكوثر بْن زفر بْن الحارث- واسمه مجزأة- وعمرو بْن الوضاح في عشرة آلاف، فلما دنوا من المدينة حملوا عليهم، وخرج أبو هبار وخيله من المدينة، فهزموهم واستباحوا عسكرهم وحرقوا المزة من قرى اليمانية، ولجأ يزيد بْن خالد وأبو علاقة إلى رجل من لخم من أهل المزة، فدل عليهما زامل، فأرسل إليهما، فقتلا

قبل أن يوصل بهما إليه، فبعث برأسيهما الى مروان بحمص، وخرج ثابت ابن نعيم من أهل فلسطين، حتى أتى مدينة طبرية، فحاصر أهلها، وعليها الوليد بْن معاوية بْن مروان، ابن أخي عبد الملك بْن مروان، فقاتلوه أياما، فكتب مروان إلى أبي الورد ان يشخص إليهم فيمدهم، قَالَ: فرحل من دمشق بعد أيام، فلما بلغهم دنوه خرجوا من المدينة على ثابت ومن معه، فاستباحوا عسكرهم، فانصرف إلى فلسطين منهزما، فجمع قومه وجنده، ومضى إليه أبو الورد فهزمه ثانية، وتفرق من معه، وأسر ثلاثة رجال من ولده، وهم نعيم وبكر وعمران، فبعث بهم إلى مروان فقدم بهم عليه، - وهو بدير أيوب- جرحى، فأمر بمداواة جراحاتهم، وتغيب ثابت بْن نعيم، فولى الرماحس بْن عبد العزيز الكناني فلسطين، وأفلت مع ثابت من ولده رفاعة ابن ثابت- وكان أخبثهم- فلحق بمنصور بْن جمهور، فأكرمه وولاه وخلفه مع أخ له يقال له منظور بْن جمهور، فوثب عليه فقتله، فبلغ منصورا وهو متوجه إلى الملتان، وكان أخوه بالمنصورة، فرجع إليه فأخذه، فبنى له أسطوانة من آجر مجوفة، وأدخله فيها، ثم سمره إليها، وبنى عليه. قَالَ: وكتب مروان إلى الرماحس في طلب ثابت والتلطف له، فدل عليه رجل من قومه فأخذ ومعه نفر، فأتي به مروان موثقا بعد شهرين، فأمر به وببنيه الذين كانوا في يديه، فقطعت أيديهم وأرجلهم، ثم حملوا إلى دمشق، فرأيتهم مقطعين، فأقيموا على باب مسجدها، لأنه كان يبلغه أنهم يرجفون بثابت، ويقولون: إنه أتى مصر، فغلب عليها. وقتل عامل مروان بها وأقبل مروان من دير أيوب حتى بايع لابنيه عبيد الله وعبد الله، وزوجهما ابنتي هشام بْن عبد الملك، أم هشام وعائشة، وجمع لذلك اهل بيته جميعا، من ولد عبد الملك محمد وسعيد وبكار وولد الوليد وسليمان ويزيد وهشام وغيرهم من قريش ورءوس العرب، وقطع على أهل الشام بعثا وقواهم، وولى على كل جند منهم قائدا منهم، وأمرهم باللحاق بيزيد بْن عمر بْن هبيرة وكان قبل مسيره إلى الشام وجهه في عشرين ألفا من أهل قنسرين والجزيرة، وأمره أن ينزل دورين إلى أن يقدم، وصيره

مقدمة له، وانصرف من دير أيوب إلى دمشق، وقد استقامت له الشام كلها ما خلا تدمر، وأمر بثابت بْن نعيم وبنيه والنفر الذين قطعهم فقتلوا وصلبوا على أبواب دمشق، قَالَ: فرأيتهم حين قتلوا وصلبوا قَالَ: واستبقى رجلا منهم يقال له عمرو بْن الحارث الكلبي، وكان- فيما زعموا- عنده علم من أموال كان ثابت وضعها عند قوم، ومضى بمن معه، فنزل القسطل من أرض حمص مما يلي تدمر، بينهما مسيرة ثلاثة أيام، وبلغه أنهم قد عوروا ما بينه وبينها من الآبار، وطموها بالصخر، فهيأ المزاد والقرب والأعلاف والإبل، فحمل ذلك له ولمن معه، فكلمه الابرش بن الوليد وسليمان ابن هشام وغيرهما، وسألوه أن يعذر إليهم، ويحتج عليهم فأجابهم إلى ذلك فوجه الأبرش إليهم أخاه عمرو بْن الوليد، وكتب إليهم يحذرهم ويعلمهم أنه يتخوف أن يكون هلاكه وهلاك قومه، فطردوه ولم يجيبوه، فسأله الأبرش أن يأذن له في التوجه إليهم، ويؤجله أياما، ففعل، فأتاهم فكلمهم وخوفهم وأعلمهم أنهم حمقى، وأنه لا طاقة لهم به وبمن معه، فأجابه عامتهم، وهرب من لم يثق به منهم إلى برية كلب وباديتهم، وهم السكسكي وعصمة بْن المقشعر وطفيل بْن حارثة ومعاوية بْن أبي سفيان بْن يزيد بْن معاوية، وكان صهر الأبرش على ابنته وكتب الأبرش إلى مروان يعلمه ذلك، فكتب إليه مروان: أن اهدم حائط مدينتهم، وانصرف إلي بمن بايعك منهم. فانصرف إليه ومعه من رءوسهم الأصبغ بْن ذؤالة وابنه حمزة وجماعة من رءوسهم، وانصرف مروان بهم على طريق البرية على سورية ودير اللثق، حتى قدم الرصافة ومعه سليمان بْن هشام وعمه سعيد بْن عبد الملك وإخوته جميعا وإبراهيم المخلوع وجماعة من ولد الوليد وسليمان ويزيد، فأقاموا بها يوما، ثم شخص إلى الرقة فاستأذنه سليمان، وسأله أن يأذن له أن يقيم أياما ليقوي من معه من مواليه، ويجم ظهره ثم يتبعه، فأذن له ومضى مروان، فنزل

ذكر الاخبار عن خروج الضحاك محكما ودخوله الكوفه، ومن اين كان اقباله إليها

عند واسط على شاطئ الفرات في عسكر كان ينزله، فأقام به ثلاثة أيام، ثم مضى إلى قرقيسيا وابن هبيرة بها، ليقدمه الى العراق لمحاربه الضحاك ابن قيس الشيبانى الحروري، فاقبل من نحو عشرة آلاف ممن كان مروان قطع عليه البعث بدير أيوب لغزو العراق مع قوادهم حتى حلوا بالرصافة، فدعوا سليمان إلى خلع مروان ومحاربته. وفي هذه السنة دخل الضحاك بْن قيس الشيباني الكوفة. ذكر الأخبار عن خروج الضحاك محكما ودخوله الكوفة، ومن أين كان إقباله إليها اختلف في ذلك من أمره، فأما أحمد، فإنه حدثني عن عبد الوهاب ابن إبراهيم، قَالَ: حدثني أبو هاشم مخلد بْن محمد، قَالَ: كان سبب خروج الضحاك أن الوليد حين قتل خرج بالجزيرة حروري يقال له سعيد ابن بهدل الشيباني في مائتين من أهل الجزيرة، فيهم الضحاك، فاغتنم قتل الوليد واشتغال مروان بالشام، فخرج بأرض كفرتوثا، وخرج بسطام البيهسي وهو مفارق لرأيه في مثل عدتهم من ربيعة، فسار كل واحد منهما إلى صاحبه، فلما تقارب العسكران وجه سعيد بْن بهدل الخيبري- وهو أحد قواده، وهو الذي هزم مروان- في نحو من مائة وخمسين فارسا ليبيته، فانتهى إلى عسكره وهم غارون، وقد أمر كل واحد منهم أن يكون معه ثوب أبيض يجلل به رأسه، ليعرف بعضهم بعضا، فبكروا في عسكرهم فأصابوهم في غرة، فقال الخيبري: إن يك بسطام فإني الخيبري ... أضرب بالسيف وأحمي عسكري فقتلوا بسطاما وجميع من معه إلا أربعة عشر، فلحقوا بمروان، فكانوا معه فأثبتهم في روابطه، وولى عليهم رجلا منهم يقال له مقاتل، ويكنى أبا النعثل ثم مضى سعيد بْن بهدل نحو العراق لما بلغه من تشتيت الأمر بها واختلاف أهل الشام، وقتال بعضهم بعضا مع عبد الله بْن عمر

والنضر بْن سعيد الحرشي- وكانت اليمانية من أهل الشام مع عبد الله بْن عمر بالحيرة، والمضرية، مع ابن الحرشي بالكوفة، فهم يقتتلون فيما بينهم غدوة وعشية. قَالَ: فمات سعيد بْن بهدل في وجهه ذلك من طاعون أصابه، واستخلف الضحاك بْن قيس من بعده، وكانت له امرأة تسمى حوماء، فقال الخيبري في ذلك: سقى الله يا حوماء قبر ابن بهدل ... إذا رحل السارون لم يترحل قال: واجتمع مع الضحاك نحو من الف ثم توجه إلى الكوفة، ومر بأرض الموصل، فاتبعه منها ومن أهل الجزيرة نحو من ثلاثة آلاف، وبالكوفة يومئذ النضر بْن سعيد الحرشي ومعه المضرية، وبالحيرة عبد الله بْن عمر في اليمانية، فهم متعصبون يقتتلون فيما بين الكوفة والحيرة، فلما دنا إليه الضحاك فيمن معه من الكوفة اصطلح ابن عمر والحرشي، فصار أمرهم واحدا، ويدا على قتال الضحاك، وخندقا على الكوفة، ومعهما يومئذ من أهل الشام نحو من ثلاثين ألفا، لهم قوة وعدة، ومعهم قائد من أهل قنسرين، يقال له عباد بْن الغزيل في ألف فارس، قد كان مروان أمد به ابن الحرشي، فبرزوا لهم، فقاتلوهم، فقتل يومئذ عاصم بْن عمر بْن عبد العزيز وجعفر بْن عباس الكندي، وهزموهم أقبح هزيمة، ولحق عبد الله بْن عمر في جماعتهم بواسط، وتوجه ابن الحرشي- وهو النضر- وجماعه المضرية واسماعيل ابن عبد الله القسري إلى مروان، فاستولى الضحاك والجزرية على الكوفة وأرضها، وجبوا السواد ثم استخلف الضحاك رجلا من أصحابه- يقال له ملحان- على الكوفة في مائتي فارس، ومضى في عظم اصحابه الى عبد الله ابن عمر بواسط، فحاصره بها، وكان معه قائد من قواد أهل قنسرين يقال له عطية الثعلبى- وكان من الأشداء- فلما تخوف محاصرة الضحاك خرج في سبعين أو ثمانين من قومه متوجها إلى مروان، فخرج على القادسية، فبلغ ملحانا ممره، فخرج في أصحابه مبادرا يريده، فلقيه على قنطرة السيلحين- وملحان قد تسرع في نحو من ثلاثين فارسا- فقاتله

فقتله عطية وناسا من أصحابه، وانهزم بقيتهم حتى دخلوا الكوفة، ومضى عطية حتى لحق فيمن معه مروان. وأما أبو عبيدة معمر بْن المثنى، فإنه قَالَ: حدثني أبو سعيد، قَالَ: لما مات سعيد بْن بهدل المري، وبايعت الشراه للضحاك، اقام بشهر زور وثابت إليه الصفرية من كل وجه حتى صار في أربعة آلاف، فلم يجتمع مثلهم لخارجي قط قبله قَالَ: وهلك يزيد بْن الوليد وعامله على العراق عبد الله بْن عمر، فانحط مروان من أرمينية حتى نزل الجزيرة، وولي العراق النضر بْن سعيد- وكان من قواد ابن عمر- فشخص إلى الكوفة، ونزل ابن عمر الحيرة، فاجتمعت المضرية إلى النضر واليمانية إلى ابن عمر، فحاربه أربعة أشهر، ثم أمد مروان النضر بابن الغزيل، فأقبل الضحاك نحو الكوفة وذلك في سنة سبع وعشرين ومائة، فأرسل ابن عمر إلى النضر: هذا لا يريد غيري وغيرك، فهلم نجتمع عليه فتعاقدا عليه، وأقبل ابن عمر، فنزل تل الفتح وأقبل الضحاك ليعبر الفرات، فأرسل إليه ابن عمر حمزة بْن الأصبغ بْن ذؤالة الكلبي ليمنعه من العبور، فقال عبيد الله بْن العباس الكندي: دعه يعبر إلينا، فهو أهون علينا من طلبه فأرسل ابن عمر إلى حمزة يكفه عن ذلك، فنزل ابن عمر الكوفة، وكان يصلي في مسجد الأمير بأصحابه، والنضر بْن سعيد في ناحية الكوفة يصلي بأصحابه، لا يجامع ابن عمر ولا يصلي معه، غير أنهما قد تكافا واجتمعا على قتال الضحاك، وأقبل الضحاك حين رجع حمزة حتى عبر الفرات، ونزل النخيلة يوم الأربعاء في رجب سنة سبع وعشرين ومائة، فخف إليهم أهل الشام من أصحاب ابن عمر والنضر، قبل أن ينزلوا، فأصابوا منهم أربعة عشر فارسا وثلاث عشرة امرأة ثم نزل الضحاك وضرب عسكره، وعبى أصحابه، وأراح، ثم تغادوا يوم الخميس، فاقتتلوا قتالا شديدا، فكشفوا ابن عمر وأصحابه، وقتلوا أخاه عاصما، قتله البرذون بْن مرزوق الشيباني، فدفنه بنو الأشعث بْن قيس في دارهم، وقتلوا جعفر بْن العباس الكندي أخا عبيد الله، وكان جعفر على شرطة عبد الله بْن عمر، وكان

الذي قتل جعفرا عبد الملك بْن علقمة بْن عبد القيس، وكان جعفر حين رهقه عبد الملك نادى ابن عم له يقال له شاشلة، فكر عليه شاشلة، وضربه رجل من الصفرية، ففلق وجهه. قَالَ أبو سعيد: فرأيته بعد ذلك كأن له وجهين، وأكب عبد الملك على جعفر فذبحه ذبحا، فقالت أم البرذون الصفرية: نحن قتلنا عاصما وجعفرا ... والفارس الضبي حين أصحرا ونحن جئنا الخندق المقعرا. فانهزم أصحاب ابن عمر، وأقبل الخوارج، فوقفوا على خندقنا إلى الليل ثم انصرفوا، ثم تغادينا يوم الجمعه، فو الله ما تتاممنا حتى هزمونا، فدخلنا خنادقنا، وأصبحنا يوم السبت، فإذا الناس يتسللون ويهربون إلى واسط، ورأوا قوما لم يروا مثلهم قط أشد بأسا، كأنهم الأسد عند أشبالها، فذهب ابن عمر ينظر أصحابه، فإذا عامتهم قد هربوا تحت الليل، ولحق عظمهم بواسط، فكان ممن لحق بواسط النضر بْن سعيد وإسماعيل بن عبد الله ومنصور ابن جمهور والأصبغ بْن ذؤالة وابناه: حمزة وذؤالة، والوليد بْن حسان الغساني وجميع الوجوه، وبقي ابن عمر فيمن بقي من أصحابه مقيما لم يبرح. ويقال: إن عبد الله بْن عمر لما ولي العراق ولي الكوفة عبيد الله بْن العباس الكندي وعلى شرطه عمر بْن الغضبان بْن القبعثري، فلم يزالا على ذلك حتى مات يزيد بْن الوليد، وقام إبراهيم بْن الوليد، فأقر ابن عمر على العراق، فولى ابن عمر أخاه عاصما على الكوفة، وأقر ابن الغضبان على شرطه، فلم يزالوا على ذلك حتى خرج عبد الله بْن معاوية فاتهم عمر بْن الغضبان، فلما انقضى أمر عبد الله بْن معاوية ولى عبد الله بْن عمر عمر بْن عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بن الخطاب الكوفة، وعلى شرطه الحكم بْن عتيبة الأسدي من أهل الشام، ثم عزل عمر بن عبد الحميد عن الكوفه، ثم عزل عمر بن الغضبان عن شرطه وولى الوليد بْن حسان الغساني، ثم ولى إسماعيل بْن عبد الله القسري وعلى شرطه أبان بْن الوليد، ثم عزل إسماعيل

وولى عبد الصمد بْن أبان بْن النعمان بْن بشير الأنصاري، ثم عزل فولى عاصم بْن عمر، فقدم عليه الضحاك بْن قيس الشيباني. ويقال: إنما قدم الضحاك وإسماعيل بْن عبد الله القسري في القصر وعبد الله بْن عمر بالحيرة وابن الحرشي بدير هند، فغلب الضحاك على الكوفة، وولى ملحان بْن معروف الشيباني عليها، وعلى شرطه الصفر من بني حنظلة- حروري- فخرج ابن الحرشي يريد الشام، فعارضه ملحان، فقتله ابن الحرشي فولى الضحاك على الكوفه حسان فولى حسان ابنه الحارث على شرطه. وقال عبد الله بْن عمر يرثي أخاه عاصما لما قتله الخوارج: رمى غرضي ريب الزمان فلم يدع ... غداة رمى للقوس في الكف منزعا رمى غرضي الأقصى فأقصد عاصما ... أخا كان لي حرزا ومأوى ومفزعا فإن تك أحزان وفائض عبرة ... أذابت عبيطا من دم الجوف منقعا تجرعتها في عاصم واحتسيتها ... فأعظم منها ما احتسى وتجرعا فليت المنايا كن خلفن عاصما ... فعشنا جميعا أو ذهبن بنا معا وذكر أن عبد الله بْن عمر يقول: بلغني أن عين بْن عين بْن عين بْن عين يقتل ميم بْن ميم بْن ميم بْن ميم، وكان يأمل أن يقتله، فقتله عبد الله بن على ابن عبد الله بْن عباس بْن عبد المطلب، فذكر أن أصحاب ابن عمر لما انهزموا فلحقوا بواسط، قَالَ لابن عمر أصحابه: علام تقيم وقد هرب الناس! قَالَ: أتلوم وأنظر، فأقام يوما أو يومين لا يرى إلا هاربا، وقد امتلأت قلوبهم رعبا من الخوارج، فأمر عند ذلك بالرحيل إلى واسط، وجمع خالد بْن الغزيل أصحابه، فلحق بمروان وهو مقيم بالجزيرة، ونظر عبيد الله بْن العباس الكندي إلى ما لقي الناس، فلم يأمن على نفسه، فجنح إلى الضحاك فبايعه، وكان معه في عسكره، فقال أبو عطاء السندي يعيره باتباعه الضحاك، وقد قتل أخاه: قل لعبيد الله لو كان جعفر ... هو الحي لم يجنح وأنت قتيل

ولم يتبع المراق والثأر فيهم ... وفي كفه عضب الذباب صقيل إلى معشر أردوا أخاك وأكفروا ... أباك، فماذا بعد ذاك تقول! - فلما بلغ عبيد الله بْن العباس هذا البيت من قول ابى عطاء، قَالَ أقول: أعضك الله ببظر أمك- فلا وصلتك الرحم من ذي قرابة ... وطالب وتر، والذليل ذليل تركت أخا شيبان يسلب بزه ... ونجاك خوار العنان مطول قَالَ: فنزل ابن عمر منزل الحجاج بْن يوسف بواسط- فيما قيل- في اليمانية ونزل النضر وأخوه سليمان ابنا سعيد وحنظلة بْن نباتة وابناه محمد ونباتة في المضرية ذات اليمين إذا صعدت من البصرة، وخلوا الكوفة والحيرة للضحاك والشراة، وصارت في أيديهم، وعادت الحرب بين عبد الله بن عمر والنضر ابن سعيد الحرشي إلى ما كان عليه قبل قدوم الضحاك يطلب النضر أن يسلم إليه عبد الله بْن عمر ولاية العراق بكتاب مروان، وياتى عبد الله بْن عمر واليمانية مع ابن عمر والنزارية مع النضر، وذلك أن جند أهل اليمن كانوا مع يزيد الناقص تعصبا على الوليد حيث أسلم خالد بْن عبد الله القسري إلى يوسف بْن عمر حتى قتله، وكانت القيسية مع مروان، لأنه طلب بدم الوليد- وأخوال الوليد من قيس، ثم من ثقيف، أمه زينب بنت محمد بْن يوسف ابنة أخي الحجاج- فعادت الحرب بين ابن عمر والنضر، ودخل الضحاك الكوفة فأقام بها، واستعمل عليها ملحان الشيباني في شعبان سنة سبع وعشرين ومائة، فأقبل منقضا في الشراة إلى واسط، متبعا لابن عمر والنضر، فنزل باب المضمار. فلما رأى ذلك ابن عمر والنضر نكلا عن الحرب فيما بينهما، وصارت كلمتهما عليه واحدة، كما كانت بالكوفة، فجعل النضر وقواده يعبرون الجسر، فيقاتلون الضحاك وأصحابه مع ابن عمر ثم يعودون إلى مواضعهم، ولا يقيمون مع ابن عمر، فلم يزالوا على ذلك: شعبان وشهر رمضان وشوال، فاقتتلوا يوما من تلك الايام، فاشتد قتالهم، فشد منصور بْن جمهور على قائد

من قواد الضحاك، كان عظيم القدر في الشراة، يقال له عكرمة بْن شيبان، فضربه على باب القورج، فقطعه باثنين فقتله وبعث الضحاك قائدا من قواده يدعى شوالا من بني شيبان إلى باب الزاب، فقال: اضرمه عليهم نارا، فقد طال الحصار علينا، فانطلق شوال ومعه الخيبري، أحد بني شيبان في خيلهم، فلقيهم عبد الملك بْن علقمة، فقال لهم: أين تريدون؟ فقال له شوال: نريد باب الزاب، أمرني أمير المؤمنين بكذا وكذا، فقال: أنا معك، فرجع معه وهو حاسر، لا درع عليه، وكان من قواد الضحاك أيضا وكان أشد الناس، فانتهوا إلى الباب فأضرموه، فأخرج لهم عبد الله بْن عمر منصور بن جمهور في ستمائه فارس من كلب، فقاتلوهم أشد القتال، وجعل عبد الملك بْن علقمة يشد عليهم وهو حاسر، فقتل منهم عدة، فنظر إليه منصور بْن جمهور، فغاظه صنيعه، فشد عليه فضربه على حبل عاتقه فقطعه حتى بلغ حرقفته، فخر ميتا، وأقبلت امرأة من الخوارج شادة، حتى أخذت بلجام منصور بْن جمهور، فقالت: يا فاسق، أجب أمير المؤمنين، فضرب يدها- ويقال: ضرب عنان دابته فقطعه في يدها- ونجا. فدخل المدينة الخيبري يريد منصورا، فاعترض عليه ابن عم له من كلب، فضربه الخيبرى فقتله فقال حبيب بن خدره مولى بنى هلال- وكان يزعم أنه من أبناء ملوك فارس- يرثي عبد الملك بْن علقمة: وقائلة ودمع العين يجرى ... على روح ابن علقمة السلام أأدركك الحمام وأنت سار ... وكل فتى لمصرعه حمام فلا رعش البدين ولا هدان ... ولا وكل اللقاء ولا كهام وما قتل على شار بعار ... ولكن يقتلون وهم كرام طغام الناس ليس لهم سبيل ... شجاني يا بن علقمة الطغام ثم إن منصورا قَالَ لابن عمر: ما رأيت في الناس مثل هؤلاء قط يعني الشراة- فلم تحاربهم وتشغلهم عن مروان؟ أعطهم الرضا، واجعلهم بينك وبين مروان، فإنك إن أعطيتهم الرضا خلوا عنا ومضوا الى مروان،

خبر خروج سليمان بن هشام على مروان بن محمد

فكان حدهم وبأسهم عليه، وأقمت أنت مستريحا بموضعك هذا، فإن ظفروا بها كان ما أردت وكنت عندهم آمنا، وإن ظفر بهم واردت خلافه وقتاله قاتلته جاما مستريحا، مع أن أمره وأمرهم سيطول، ويوسعونه شرا. فقال ابن عمر: لا تعجل حتى نتلوم وننظر، فقال: أي شيء ننتظر! فما تستطيع أن تطلع معهم ولا تستقر، وإن خرجنا لم نقم لهم، فما انتظارنا بهم ومروان في راحة، وقد كفيناه حدهم وشغلناهم عنه! أما أنا فخارج لاحق بهم فخرج فوقف حيال صفهم وناداهم: إني جانح أريد أن أسلم وأسمع كلام الله- قَالَ: وهي محنتهم- فلحق بهم فبايعهم، وقال: قد أسلمت، فدعوا له بغداء فتغدى، ثم قَالَ لهم: من الفارس الذي أخذ بعناني يوم الزاب؟ يعني يوم ابن علقمة- فنادوا يا أم العنبر، فخرجت إليهم، فإذا أجمل الناس، فقالت له: أنت منصور؟ قَالَ: نعم، قالت: قبح الله سيفك، اين ما تذكر منه! فو الله ما صنع شيئا، ولا ترك- تعني ألا يكون قتلها حين أخذت بعنانه فدخلت الجنة- وكان منصور لا يعلم يومئذ أنها امرأة، فقال: يا أمير المؤمنين، زوجنيها، قَالَ: إن لها زوجا- وكانت تحت عبيدة بْن سوار التغلبي- قَالَ: ثم إن عبد الله بْن عمر خرج إليهم في آخر شوال فبايعه. خبر خروج سليمان بن هشام على مروان بن محمد 4 وفي هذه السنة- أعني سنة سبع وعشرين ومائه- خلع سليمان بن هشام ابن عبد الملك بْن مروان مروان بْن محمد ونصب الحرب. ذكر الخبر عن سبب ذلك وما جرى بينهما: حدثني أحمد بْن زهير، قَالَ: حدثني عبد الوهاب بْن إبراهيم، قَالَ: حدثني أبو هاشم مخلد بْن محمد بْن صالح، قَالَ: لما شخص مروان من الرصافة إلى الرقة لتوجيه ابن هبيرة إلى العراق لمحاربة الضحاك بْن قيس الشيباني استأذنه سليمان بْن هشام في مقام أيام، لإجمام ظهره وإصلاح امره، فاذن

له ومضى مروان، فأقبل نحو من عشرة آلاف ممن كان مروان قطع عليه البعث بدير أيوب لغزو العراق مع قوادهم، حتى جاءوا الرصافة، فدعوا سليمان إلى خلع مروان ومحاربته، وقالوا: أنت أرضى منه عند أهل الشام وأولى بالخلافة، فاستزله الشيطان، فأجابهم، وخرج اليهم باخوته وولده ومواليه، فعسكر بهم وسار بجمعهم إلى قنسرين، فكاتب أهل الشام فانقضوا إليه من كل وجه وجند، وأقبل مروان بعد أن شارف قرقيسيا منصرفا إليه، وكتب إلى ابن هبيرة يأمره بالثبوت في عسكره من دورين حتى نزل معسكره بواسط، واجتمع من كان بالهني من موالي سليمان وولد هشام، فدخلوا حصن الكامل بذراريهم فتحصنوا فيه، وأغلقوا الأبواب دونه، فأرسل إليهم: ماذا صنعتم؟ خلعتم طاعتي ونقضتم بيعتي بعد ما أعطيتموني من العهود والمواثيق! فردوا علي رسله: إنا مع سليمان على من خالفه فرد إليهم: إني أحذركم وأنذركم أن تعرضوا لأحد ممن تبعني من جندي أو يناله منكم أذى، فتحلوا بأنفسكم، ولا أمان لكم عندي فأرسلوا إليه: إنا سنكف. ومضى مروان، فجعلوا يخرجون من حصنهم، فيغيرون على من اتبعه من أخريات الناس وشذان الجند، فيسلبونهم خيولهم وسلاحهم وبلغه ذلك، فتحرق عليهم غيظا واجتمع إلى سليمان نحو من سبعين ألفا من أهل الشام والذكوانية وغيرهم، وعسكر في قرية لبني زفر يقال لها خساف من قنسرين من أرضها فلما دنا منه مروان قدم السكسكي في نحو سبعة آلاف، ووجه مروان عيسى بْن مسلم في نحو من عدتهم، فالتقوا فيما بين العسكرين، فاقتتلوا قتالا شديدا، والتقى السكسكي وعيسى، وكل واحد منهما فارس بطل، فاطعنا حتى تقصفت رماحهما، ثم صارا إلى السيوف، فضرب السكسكي مقدم فرس صاحبه، فسقط لجامه في صدره، وجال به فرسه، فاعترضه السكسكي، فضربه بالعمود فصرعه، ثم نزل إليه فأسره، وبارز فارسا من فرسان أنطاكية، يقال له سلساق قائد الصقالبة فأسره، وانهزمت مقدمه مروان وبلغه الخبر وهو في مسيره، فمضى وطوى على تعبئة، ولم ينزل حتى انتهى

الى سليمان، وقد تعبا له، وتهيأ لقتاله، فلم يناظره حتى واقعه، فانهزم سليمان ومن معه، واتبعتهم خيوله تقتلهم وتأسرهم، وانتهوا إلى عسكرهم فاستباحوه، ووقف مروان موقفا، وأمر ابنيه فوقفا موقفين، ووقف كوثر صاحب شرطته في موضع، ثم أمرهم ألا يأتوا بأسير إلا قتلوه إلا عبدا مملوكا، فأحصى من قتلاهم يومئذ نيف على ثلاثين ألفا. قَالَ: وقتل إبراهيم بْن سليمان أكبر ولده، وأتي بخال لهشام بْن عبد الملك يقال له خالد بْن هشام المخزومي- وكان بادنا كثير اللحم- فأدني إليه وهو يلهث، فقال له: يا فاسق، أما كان لك في خمر المدينة وقيانها ما يكفك عن الخروج مع الخراء تقاتلني! قَالَ: يا أمير المؤمنين، أكرهني، فأنشدك الله والرحم! قَالَ: وتكذب أيضا! كيف أكرهك وقد خرجت بالقيان والزقاق والبرابط معك في عسكره! فقتله قَالَ: وادعى كثير من الأسراء من الجند أنهم رقيق، فكف عن قتلهم، وأمر ببيعهم فيمن يزيد مع ما بيع مما أصيب في عسكرهم. قَالَ: ومضى سليمان مفلولا حتى انتهى إلى حمص، فانضم إليه من أفلت ممن كان معه، فعسكر بها، وبنى ما كان مروان أمر بهدمه من حيطانها، ووجه مروان يوم هزمه قوادا وروابط في جريدة خيل، وتقدم إليهم أن يسبقوا كل خبر، حتى يأتوا الكامل، فيحدقوا بها الى ان يأتيهم، حنقا عليهم، فأتوهم فنزلوا عليهم، وأقبل مروان نحوهم حتى نزل معسكره من واسط، فأرسل إليهم أن انزلوا على حكمي، فقالوا: لا حتى تؤمننا بأجمعنا، فدلف إليهم، ونصب عليهم المجانيق، فلما تتابعت الحجارة عليهم نزلوا على حكمه، فمثل بهم واحتملهم أهل الرقة فآووهم، وداووا جراحاتهم، وهلك بعضهم وبقي أكثرهم، وكانت عدتهم جميعا نحوا من ثلاثمائه ثم شخص إلى سليمان ومن تجمع معه بحمص، فلما دنا منهم اجتمعوا، فقال بعضهم لبعض: حتى متى ننهزم من مروان! هلموا فلنتبايع على الموت ولا نفترق بعد معاينته حتى نموت جميعا فمضى على ذلك من فرسانهم من قد وطن

نفسه على الموت نحو من تسعمائة، وولى سليمان على شطرهم معاوية السكسكي، وعلى الشطر الثانى ثبيتا البهراني فتوجهوا إليه مجتمعين، على أن يبيتوه إن أصابوا منه غرة، وبلغه خبرهم وما كان منهم، فتحرز وزحف إليهم في الخنادق على احتراس وتعبئة، فراموا تبييته فلم يقدروا، فتهيئوا له وكمنوا في زيتون ظهر على طريقه، في قرية تسمى تل منس من جبل السماق، فخرجوا عليه وهو يسير على تعبئة، فوضعوا السلاح فيمن معه، وانتبذ لهم، ونادى خيوله فثابت إليه من المقدمة والمجنبتين والساقة، فقاتلوهم من لدن ارتفاع النهار إلى بعد العصر، والتقى السكسكي وفارس من فرسان بني سليم، فاضطربا، فصرعه السلمي عن فرسه، ونزل إليه، وأعانه رجل من بني تميم، فأتياه به أسيرا وهو واقف، فقال: الحمد لله الذي أمكن منك فطالما بلغت منا! فقال: استبقني فإني فارس العرب، قَالَ: كذبت، الذي جاء بك أفرس منك، فأمر به فأوثق، وقتل ممن صبر معه نحو من ستة آلاف. قَالَ: وأفلت ثبيت ومن انهزم معه، فلما أتوا سليمان خلف أخاه سعيد ابن هشام في مدينة حمص، وعرف أنه لا طاقة له به، ومضى هو إلى تدمر، فأقام بها، ونزل مروان على حمص، فحاصرهم بها عشرة أشهر. ونصب عليها نيفا وثمانين منجنيقا، فطرح عليهم حجارتها بالليل والنهار وهم في ذلك يخرجون إليه كل يوم فيقاتلونه، وربما بيتوا نواحي عسكره، وأغاروا على الموضع الذى يطمعون في اصابه العورة والفرضه منه. فلما تتابع عليهم البلاء، ولزمهم الذل سألوه أن يؤمنهم على أن يمكنوه من سعيد بْن هشام وابنيه عثمان ومروان ومن رجل كان يسمى السكسكي، كان يغير على عسكرهم، ومن حبشي كان يشتمه ويفتري عليه، فأجابهم إلى ذلك وقبله وكانت قصة الحبشي انه كان يشرف من الحائط ويربط في ذكره ذكر حمار، ثم يقول: يا بني سليم، يا أولاد كذا وكذا، هذا لواؤكم!

وكان يشتم مروان، فلما ظفر به دفعه إلى بني سليم، فقطعوا مذاكيره وأنفه، ومثلوا به، وأمر بقتل المتسمي السكسكي والاستيثاق من سعيد وابنيه، وأقبل متوجها إلى الضحاك. وأما غير أبي هاشم مخلد بْن محمد، فإنه ذكر من أمر سليمان بْن هشام بعد انهزامه من وقعة خساف غير ما ذكره مخلد، والذي ذكره من ذلك أن سليمان بْن هشام بْن عبد الملك حين هزمه مروان يوم خساف أقبل هاربا، حتى صار إلى عبد الله بْن عمر، فخرج مع عبد الله بْن عمر إلى الضحاك، فبايعه، وأخبر عن مروان بفسق وجور وحضض عليه، وقال: أنا سائر معكم في موالي ومن اتبعني، فسار مع الضحاك حين سار إلى مروان، فقال شبيل ابن عزرة الضبعي في بيعتهم الضحاك: ألم تر أن الله أظهر دينه ... فصلت قريش خلف بكر بْن وائل فصارت كلمة ابن عمر وأصحابه واحدة على النضر بْن سعيد، فعلم أنه لا طاقة له بهم، فارتحل من ساعته يريد مروان بالشام. وذكر أبو عبيدة أن بيهسا أخبره: لما دخل ذو القعدة سنة سبع وعشرين ومائة، استقام لمروان الشام ونفى عنها من كان يخالفه، فدعا يزيد بن عمر ابن هبيرة، فوجهه عاملا على العراق، وضم إليه اجناد الجزيرة، فاقبل حتى نزل سعيد بْن عبد الملك، وأرسل ابن عمر إلى الضحاك يعلمه ذلك قَالَ: فجعل الضحاك لنا ميسان وقال: إنها تكفيكم حتى ننظر عما تنجلي واستعمل ابن عمر عليها مولاه الحكم بْن النعمان. فأما أبو مخنف فإنه قَالَ- فيما ذكر عنه هشام: إن عبد الله بْن عمر صالح الضحاك على أن بيد الضحاك ما كان غلب عليه من الكوفة وسوادها، وبيد ابن عمر ما كان بيده من كسكر وميسان ودستميسان وكور دجلة والأهواز وفارس، فارتحل الضحاك حتى لقي مروان بكفرتوثا من ارض الجزيرة. وقال أبو عبيدة: تهيأ الضحاك ليسير إلى مروان، ومضى النضر يريد

الشام، فنزل القادسية، وبلغ ذلك ملحان الشيباني عامل الضحاك على الكوفة، فخرج إليه فقاتله وهو في قلة من الشراة، فقاتله فصبر حتى قتله النضر وقال ابن خدره يرثيه وعبد الملك بْن علقمة: كائن كملحان من شار أخي ثقة ... وابن علقمة المستشهد الشاري من صادق كنت أصفيه مخالصتي ... فباع داري بأعلى صفقة الدار إخوان صدق أرجيهم وأخذلهم ... أشكو إلى الله خذلاني وإخفاري وبلغ الضحاك قتل ملحان، فاستعمل على الكوفة المثنى بْن عمران من بني عائدة، ثم سار الضحاك في ذي القعدة، فأخذ الموصل، وانحط ابن هبيرة من نهر سعيد حتى نزل غزة من عين التمر، وبلغ ذلك المثنى بْن عمران العائذي، عامل الضحاك على الكوفة، فسار إليه فيمن معه من الشراة، ومعه منصور بْن جمهور، وكان صار إليه حين بايع الضحاك خلافا على مروان، فالتقوا بغزة، فاقتتلوا قتالا شديدا أياما متوالية، فقتل المثنى وعزيز وعمرو- وكانوا من رؤساء أصحاب الضحاك- وهرب منصور، وانهزمت الخوارج، فقال مسلم حاجب يزيد: ارت للمثنى يوم غزه حتفه ... واذرت عزيز بين تلك الجنادل وعمرا أزارته المنية بعد ما ... أطافت بمنصور كفات الحبائل وقال غيلان بْن حريث في مدحه ابن هبيرة: نصرت يوم العين إذ لقيتا ... كنصر داود على جالوتا فلما قتل منهم من قتل في يوم العين، وهرب منصور بْن جمهور، أقبل لا يلوي حتى دخل الكوفة، فجمع بها جمعا من اليمانية والصفرية ومن كان تفرق منهم يوم قتل ملحان ومن تخلف منهم عن الضحاك، فجمعهم منصور جميعا، ثم سار بهم حتى نزل الروحاء، وأقبل ابن هبيرة في أجناده حتى لقيهم، فقاتلهم أياما ثم هزمهم، وقتل البرذون بْن

مرزوق الشيباني، وهرب منصور ففي ذلك يقول غيلان بْن حريث: ويوم روحاء العذيب دففوا ... على ابن مرزوق سمام مزعف قَالَ: وأقبل ابن هبيرة حتى نزل الكوفة ونفى عنها الخوارج، وبلغ الضحاك ما لقي أصحابه، فدعا عبيدة بْن سوار التغلبي، فوجهه إليهم، وانحط ابن هبيرة يريد واسطا وعبد الله بْن عمر بها، وولى على الكوفة عبد الرحمن بْن بشير العجلي، وأقبل عبيدة بْن سوار مغذا في فرسان أصحابه، حتى نزل الصراة، ولحق به منصور بْن جمهور، وبلغ ذلك ابن هبيرة فسار إليهم فالتقوا بالصراة في سنة سبع وعشرين ومائة. وفي هذه السنة توجه سليمان بْن كثير ولاهز بْن قريظة وقحطبة بْن شبيب- فيما ذكر- إلى مكة، فلقوا إبراهيم بْن محمد الإمام بها، وأعلموه أن معهم عشرين ألف دينار ومائتي ألف درهم ومسكا ومتاعا كثيرا، فأمرهم بدفع ذلك إلى ابن عروة مولى محمد بْن علي، وكانوا قدموا معهم بأبي مسلم ذلك العام، فقال ابن كثير لإبراهيم بْن محمد: إن هذا مولاك. وفيها كتب بكير بْن ماهان إلى إبراهيم بْن محمد يخبره أنه في أول يوم من أيام الآخرة، وآخر يوم من أيام الدنيا، وأنه قد استخلف حفص بن سليمان، وهو رضا للأمر، وكتب إبراهيم إلى أبي سلمة يأمره بالقيام بأمر أصحابه، وكتب إلى أهل خراسان يخبرهم أنه قد أسند أمرهم إليه، ومضى أبو سلمة إلى خراسان فصدقوه، وقبلوا أمره، ودفعوا إليه ما اجتمع قبلهم من نفقات الشيعة وخمس أموالهم وحج بالناس في هذه السنة عبد العزيز بْن عمر بْن عبد العزيز، وهو عامل مروان على المدينة ومكة والطائف، حَدَّثَنِي بذلك أحمد بْن ثابت الرازي، عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر وكذلك قال الواقدي وغيره. وكان العامل على العراق النضر بْن الحرشي، وكان من امره وامر عبد الله ابن عمر والضحاك الحروري ما قد ذكرت قبل وكان بخراسان نصر بْن سيار وبها من ينازعه فيها كالكرماني والحارث بْن سريج.

سنه ثمان وعشرين ومائه

ثم دخلت سنه ثمان وعشرين ومائه (ذكر خبر قتل الحارث بن سريج بخراسان) فمما كان فيها من الأحداث قتل الحارث بْن سريج بخراسان. ذكر الخبر عن مقتله وسبب ذلك: قد مضى ذكر كتاب يزيد بْن الوليد للحارث بأمانه، وخروج الحارث من بلاد الترك إلى خراسان ومصيره إلى نصر بْن سيار، وما كان من نصر إليه، واجتماع من اجتمع إلى الحارث مستجيبين له فذكر علي بْن محمد عن شيوخه، أن ابن هبيرة لما ولي العراق كتب إلى نصر بعهده، فبايع لمروان، فقال الحارث: إنما آمنني يزيد بْن الوليد، ومروان لا يجيز أمان يزيد، فلا آمنه فدعا إلى البيعة، فشتم أبو السليل مروان، فلما دعا الحارث إلى البيعة أتاه سلم بْن أحوز وخالد بْن هريم وقطن بْن محمد وعباد بْن الأبرد بْن قرة وحماد بْن عامر، وكلموه وقالوا له: لم يصير نصر سلطانه وولايته في أيدي قومك؟ ألم يخرجك من أرض الترك ومن حكم خاقان! وإنما أتى بك لئلا يجترئ عليك عدوك فخالفته، وفارقت أمر عشيرتك، واطمعت فيهم عدوهم، فنذكرك الله أن تفرق جماعتنا! فقال الحارث: إني لأرى في يدي الكرماني ولاية، والأمر في يد نصر، فلم يجبهم بما أرادوا، وخرج إلى حائط لحمزة بْن أبي صالح السلمي بإزاء قصر بخاراخذاه، فعسكر وأرسل إلى نصر، فقال له: اجعل الأمر شورى، فأبى نصر فخرج الحارث فأتى منازل يعقوب بْن داود، وأمر جهم بْن صفوان، مولى بني راسب، فقرأ كتابا سير فيه الحارث على الناس، فانصرفوا يكبرون، وأرسل الحارث إلى نصر: اعزل سلم بْن أحوز عن شرطك، واستعمل بشر بْن بسطام البرجمي، فوقع بينه وبين مغلس بن زياد كلام، فتفرقت قيس وتميم،

فعزله واستعمل ابراهيم بن عبد الرحمن، واختاروا رجالا يسمون لهم قوما يعملون بكتاب الله فاختار نصر مقاتل بْن سليمان ومقاتل بْن حيان، واختار الحارث المغيرة بْن شعبة الجهضمي ومعاذ بْن جبلة، وأمر نصر كاتبه أن يكتب ما يرضون من السنن، وما يختارونه من العمال، فيوليهم الثغرين، ثغر سمرقند وطخارستان، ويكتب إلى من عليهما ما يرضونه من السير والسنن. فاستأذن سلم بْن أحوز نصرا في الفتك بالحارث، فأبى وولى إبراهيم الصائغ، وكان يوجه ابنه إسحاق بالفيروزج إلى مرو، وكان الحارث يظهر أنه صاحب الرايات السود، فأرسل إليه نصر: إن كنت كما تزعم، وأنكم تهدمون سور دمشق، وتزيلون أمر بني اميه، فخذ منى خمسمائة رأس ومائتي بعير، واحمل من الأموال ما شئت وآلة الحرب وسر، فلعمري لئن كنت صاحب ما ذكرت إني لفي يدك، وإن كنت لست ذلك فقد أهلكت عشيرتك فقال الحارث: قد علمت أن هذا حق، ولكن لا يبايعني عليه من صحبني فقال نصر: فقد استبان أنهم ليسوا على رأيك، ولا لهم مثل بصيرتك، وأنهم هم فساق ورعاع، فاذكرك الله في عشرين ألفا من ربيعة واليمن سيهلكون فيما بينكم وعرض نصر على الحارث ان يوليه ما وراء النهر، ويعطيه ثلاثمائة ألف، فلم يقبل، فقال له نصر: فإن شئت فابدأ بالكرماني فإن قتلته فأنا في طاعتك. وإن شئت فخل بيني وبينه، فإن ظفرت به رأيت رأيك، وإن شئت فسر باصحابك، فإذا جزت الري فأنا في طاعتك قَالَ: ثم تناظر الحارث ونصر، فتراضيا أن يحكم بينهم مقاتل بْن حيان وجهم بْن صفوان، فحكما بأن يعتزل نصر، ويكون الأمر شورى. فلم يقبل نصر وكان جهم يقص في بيته في عسكر الحارث، وخالف الحارث نصرا، ففرض نصر لقومه من بني سلمة وغيرهم، وصير سلما في المدينة في منزل ابن سوار، وضم إليه الرابطة وإلى هدبة بْن عامر الشعراوى فرسا، وصيره في المدينة، واستعمل على المدينة عبد السلام بْن يزيد بْن حيان السلمي، وحول السلاح والدواوين إلى القهندز، واتهم قوما من اصحابه

أنهم كاتبوا الحارث، فأجلس عن يساره من اتهم ممن لا بلاء له عنده، وأجلس الذين ولاهم واصطنعهم عن يمينه، ثم تكلم وذكر بني مروان ومن خرج عليهم، كيف أظفر الله به، ثم قَالَ: أحمد الله وأذم من على يساري، وليت خراسان فكنت يا يونس بْن عبد ربه ممن أراد الهرب من كلف مئونات مرو، وأنت وأهل بيتك ممن أراد أسد بْن عبد الله أن يختم أعناقهم، ويجعلهم في الرجالة، فوليتكم إذ وليتكم واصطنعتكم وأمرتكم أن ترفعوا ما أصبتم إذا أردت المسير إلى الوليد، فمنكم من رفع ألف ألف وأكثر وأقل، ثم ملأتم الحارث علي، فهلا نظرتم إلى هؤلاء الأحرار الذين لزموني مؤاسين على غير بلاء! وأشار إلى هؤلاء الذين عن يمينه فاعتذر القوم إليه، فقبل عذرهم. وقدم على نصر من كور خراسان حين بلغهم ما صار إليه من الفتنة جماعة، منهم عاصم بْن عمير الصريمي وأبو الذيال الناجى وعمرو الفادوسبان السغدى البخاري وحسان بْن خالد الأسدي من طخارستان في فوارس، وعقيل ابن معقل الليثي ومسلم بْن عبد الرحمن بْن مسلم وسعد الصغير في فرسان. وكتب الحارث بْن سريج سيرته، فكانت تقرأ في طريق مرو والمساجد فأجابه قوم كثير، فقرأ رجل كتابه على باب نصر بماجان، فضربه غلمان نصر، فنابذه الحارث، فأتى نصرا هبيرة بْن شراحيل ويزيد أبو خالد، فأعلماه، فدعا الحسن بْن سعد مولى قريش، فأمره فنادى: إن الحارث بْن سريج عدو الله قد نابذ وحارب، فاستعينوا اللَّهُ وَلا حول وَلا قوة إلا بِاللَّهِ وأرسل من ليلته عاصم بْن عمير إلى الحارث، وقال لخالد بْن عبد الرحمن: ما نفعل شعارنا غدا؟ فقال مقاتل بْن سليمان: إن الله بعث نبيا فقاتل عدوا له، فكان شعاره حم لا ينصرون، فكان شعارهم حم لا ينصرون وعلامتهم على الرماح الصوف. وكان سلم بْن أحوز وعاصم بْن عمير وقطن وعقيل بن معقل ومسلم

ابن عبد الرحمن وسعيد الصغير وعامر بْن مالك والجماعة في طرف الطخارية ويحيى بْن حضين وربيعة في البخاريين ودل رجل من أهل مدينة مرو الحارث على نقب في الحائط، فمضى الحارث فنقب الحائط، فدخلوا المدينة من ناحية باب بالين وهم خمسون، ونادوا: يا منصور- بشعار الحارث- وأتوا باب نيق، فقاتلهم جهم بْن مسعود الناجي، فحمل رجل على جهم فطعنه في فيه فقتله، ثم خرجوا من باب نيق حتى أتوا قبة سلم بْن أحوز فقاتلهم عصمة بْن عبد الله الأسدي وخضر بْن خالد والأبرد بْن داود من آل الأبرد بْن قرة، وعلى باب بالين حازم بْن حاتم، فقتلوا كل من كان يحرسه، وانتهبوا منزل ابن أحوز ومنزل قديد بْن منيع، ونهاهم الحارث أن ينتهبوا منزل ابن أحوز ومنزل قديد بْن منيع ومنزل إبراهيم وعيسى ابني عبد الله السلمي إلا الدواب والسلاح، وذلك ليلة الاثنين لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة. قَالَ: وأتى نصرا رسول سلم يخبره دنو الحارث منه، وأرسل إليه: أخره حتى نصبح، ثم بعث إليه أيضا محمد بْن قطن بْن عمران الأسدي، أنه قد خرج عليه عامة أصحابه، فأرسل إليه: لا تبدأهم. وكان الذي أهاج القتال، أن غلاما للنضر بْن محمد الفقيه يقال له عطية، صار إلى أصحاب سلم، فقال أصحاب الحارث: ردوه إلينا، فأبوا، فاقتتلوا، فرمي غلاما لعاصم في عينه فمات، فقاتلهم ومعه عقيل بْن معقل فهزمهم، فانتهوا إلى الحارث وهو يصلي الغداة في مسجد أبي بكرة، مولى بني تميم، فلما قضى الصلاة دنا منهم، فرجعوا حتى صاروا إلى طرف الطخارية، فدنا منه رجلان، فناداهما عاصم: عرقبا برذونه، فضرب الحارث أحدهما بعموده فقتله، ورجع الحارث إلى سكة السغد، فرأى أعين مولى حيان، فنهاه عن القتال، فقاتل فقتل، وعدل في سكة بني عصمة، فأتبعه حماد بْن عامر الحماني ومحمد بْن زرعة، فكسر رمحيهما، وحمل على مرزوق مولى سلم، فلما دنا منه رمى به فرسه، فدخل حانوتا، وضرب برذونه على مؤخره فنفق قَالَ: وركب سلم حين أصبح الى باب

نيق، فأمرهم بالخندق، فخندقوا وأمر مناديا، فنادى: من جاء برأس فله ثلاثمائة، فلم تطلع الشمس حتى انهزم الحارث، وقاتلهم الليل كله، فلما أصبحنا أخذ أصحاب نصر على الرزيق، فأدركوا عبد الله بْن مجاعة بْن سعد، فقتلوه وانتهى سلم إلى عسكر الحارث، وانصرف إلى نصر فنهاه نصر، فقال: لست منتهيا حتى أدخل المدينة على هذا الدبوسي، فمضى معه محمد ابن قطن وعبيد الله بْن بسام إلى باب درسنكان- وهو القهندز- فوجده مردوما، فصعد عبد الله بْن مزيد الأسدي السور ومعه ثلاثة، ففتحوا الباب، ودخل بن أحوز، ووكل بالباب أبا مطهر حرب بْن سليمان، فقتل سلم يومئذ كاتب الحارث بْن سريج، واسمه يزيد بن داود، واتى عبد ربه ابن سيسن فقتله، ومضى سلم إلى باب نيق ففتحه، وقتل رجلا من الجزارين كان دل الحارث على النقب، فقال المنذر الرقاشي ابْن عم يحيى بْن حضين، يذكر صبر القاسم الشيباني: ما قاتل القوم منكم غير صاحبنا ... في عصبة قاتلوا صبرا فما ذعروا هم قاتلوا عند باب الحصن ما وهنوا ... حتى أتاهم غياث الله فانتصروا فقاسم بعد أمر الله أحرزها ... وأنت في معزل عن ذاك مقتصر ويقال: لما غلظ أمر الكرماني والحارث أرسل نصر إلى الكرماني، فأتاه على عهد، وحضرهم محمد بْن ثابت القاضي ومقدام بْن نعيم أخو عبد الرحمن ابن نعيم الغامدي وسلم بْن أحوز، فدعا نصر إلى الجماعة، فقال للكرماني: أنت أسعد الناس بذلك، فوقع بين سلم بْن أحوز والمقدام كلام، فأغلظ له سلم، فأعانه عليه أخوه، وغضب لهما السغدي بْن عبد الرحمن الحزمي، فقال سلم: لقد هممت أن أضرب أنفك بالسيف، فقال السغدي: لو مسست السيف لم ترجع إليك يدك، فخاف الكرماني أن يكون مكرا من نصر، فقام وتعلقوا به، فلم يجلس، وعاد إلى باب المقصورة. قَالَ: فتلقوه بفرسه، فركب في المسجد، وقال نصر: أراد الغدر بي، وأرسل الحارث إلى نصر: إنا لا نرضى بك إماما، فأرسل إليه نصر: كيف

يكون لك عقل، وقد أفنيت عمرك في أرض الشرك وغزوت المسلمين بالمشركين! أتراني أتضرع إليك أكثر مما تضرعت! قَالَ: فأسر يومئذ جهم بْن صفوان صاحب الجهمية، فقال لسلم: ان لي ولثا من ابنك حارث، قَالَ: ما كان ينبغي له أن يفعل، ولو فعل ما آمنتك، ولو ملأت هذه الملاءة كواكب، وأبرأك إلي عيسى بن مريم ما نجوت، والله لو كنت في بطني لشققت بطني حتى أقتلك، والله لا يقوم علينا مع اليمانية أكثر مما قمت، وأمر عبد ربه بْن سيسن فقتله، فقال الناس: قتل أبو محرز- وكان جهم يكنى أبا محرز. وأسر يومئذ هبيرة بْن شراحيل وعبد الله بْن مجاعة فقال: لا أبقى الله من استبقاكما، وإن كنتما من تميم ويقال: بل قتل هبيرة، لحقته الخيل عند دار قديد بْن منبع فقتل قَالَ: ولما هزم نصر الحارث، بعث الحارث ابنه حاتما إلى الكرماني، فقال له محمد بْن المثنى: هما عدواك، دعهما يضطربان، فبعث الكرماني السغدي بن عبد الرحمن الحزمي معه، فدخل السغدي المدينة من ناحية باب ميخان، فأتاه الحارث، فدخل فازه الكرماني، ومع الكرماني داود ابن شعيب الجدانى ومحمد بْن المثنى، فأقيمت الصلاة، فصلى بهم الكرماني، ثم ركب الحارث، فسار معه جماعة بْن محمد بْن عزيز أبو خلف، فلما كان الغد سار الكرماني إلى باب ميدان يزيد، فقاتل أصحاب نصر، فقتل سعد بْن سلم المراغي، وأخذوا علم عثمان بْن الكرماني، فأول من أتى الكرماني بهزيمة الحارث وهو معسكر بباب ماسرجسان على فرسخ من المدينة النضر ابن غلاق السغدي وعبد الواحد بْن المنخل ثم أتاه سواده بن سريج، وحاتم بن الحارث والخليل بن غزوان العذري، اتوه ببيعه الحارث بْن سريج وأول من بايع الكرماني يحيى بْن نعيم بْن هبيرة الشيباني، فوجه الكرماني إلى الحارث بْن سريج سورة بْن محمد الكندى الى اسمانير والسغدى بن عبد الرحمن أبا طعمة وصعبا أو صعيبا، وصباحا، فدخلوا المدينة من باب ميخان، حتى أتوا باب ركك، وأقبل الكرماني إلى باب حرب بْن عامر،

ووجه أصحابه إلى نصر يوم الأربعاء، فتراموا ثم تحاجزوا، ولم يكن بينهم يوم الخميس قتال قَالَ: والتقوا يوم الجمعة، فانهزمت الأزد، حتى وصلوا إلى الكرماني، فأخذ اللواء بيده فقاتل به، وحمل الخضر بْن تميم وعليه تجفاف، فرموه بالنشاب، وحمل عليه حبيش مولى نصر فطعنه في حلقه، فأخذ الخضر السنان بشماله من خلفه، فشب به فرسه، وحمل فطعن حبيشا فأذراه عن برذونه، فقتله رجالة الكرماني بالعصي. قَالَ: وانهزم أصحاب نصر، وأخذوا لهم ثمانين فرسا، وصرع تميم ابن نصر، فأخذوا له برذونين، أخذ أحدهما السغدي بن عبد الرحمن، وأخذ الآخر الخضر، ولحق الخضر بسلم بْن أحوز، فتناول من ابن أخيه عمودا فضربه فصرعه، فحمل عليه رجلان من بني تميم فهرب، فرمى سلم بنفسه تحت القناطر وبه بضع عشرة ضربة على بيضته فسقط، فحمله محمد بْن الحداد إلى عسكر نصر، وانصرفوا، فلما كان في بعض الليالي خرج نصر من مرو، وقتل عصمة بْن عبد الله الأسدي، وكان يحمي أصحاب نصر، فأدركه صالح بْن القعقاع الأزدي، فقال له عصمة: تقدم يا مزوني، فقال صالح: اثبت يا خصى- وكان عقيما- فعطف فرسه فشب فسقط، فطعنه صالح فقتله. وقاتل ابن الديليمري، وهو يرتجز، فقتل إلى جنب عصمة وقتل عبيد الله بْن حوتمة السلمي، رمى مروان البهراني بجرزه، فقتل، فأتى الكرماني برأسه فاسترجع- وكان له صديقا- وأخذ رجل يماني بعنان فرس مسلم بْن عبد الرحمن بْن مسلم فعرفه فتركه واقتتلوا ثلاثة أيام، فهزمت آخر يوم المضرية اليمن، فنادى الخليل بْن غزوان: يا معشر ربيعة واليمن، قد دخل الحارث السوق، وقتل ابن الأقطع، ففت في أعضاد المضرية وكان أول من انهزم إبراهيم بْن بسام الليثي، وترجل تميم بْن نصر، فأخذ برذونه عبد الرحمن بْن جامع الكندي، وقتلوا هياجا الكلبي ولقيط بْن أخضر، قتله غلام لهانئ البزار

قَالَ: ويقال: لما كان يوم الجمعة تأهبوا للقتال، وهدموا الحيطان ليتسع لهم الموضع، فبعث نصر محمد بْن قطن إلى الكرماني: إنك لست مثل هذا الدبوسي، فاتق الله، لا تشرع في الفتنة قَالَ: وبعث تميم بْن نصر شاكريته، وهم في دار الجنوب بنت القعقاع، فرماهم أصحاب الكرماني من السطوح ونذروا بهم، فقال عقيل بْن معقل لمحمد بْن المثنى: علام نقتل أنفسنا لنصر والكرماني! هلم نرجع إلى بلدنا بطخارستان، فقال محمد: إن نصرا لم يف لنا، فلسنا ندع حربه وكان أصحاب الحارث والكرماني يرمون نصرا وأصحابه بعرادة، فضرب سرادقه وهو فيه فلم يحوله، فوجه اليهم سلم ابن أحوز فقاتلهم، فكان أول الظفر لنصر، فلما رأى الكرماني ذلك أخذ لواءه من محمد بْن محمد بْن عميرة، فقاتل به حتى كسره وأخذ محمد بْن المثنى والزاغ وحطان في كاربكل، حتى خرجوا على الرزيق، وتميم بْن نصر على قنطرة النهر، فقال محمد بْن المثنى لتميم حين انتهى إليه: تنح يا صبي وحمل محمد والزاغ معه راية صفراء، فصرعوا أعين مولى نصر، وقتلوه، وكان صاحب دواة نصر، وقتلوا نفرا من شاكريته وحمل الخضر بن تميم على سلم بْن أحوز فطعنه، فمال السنان، فضربه بجرز على صدره وأخرى على منكبه، وضربه على رأسه فسقط، وحمى نصر أصحابه في ثمانية، فمنعهم من دخول السوق. قَالَ: ولما هزمت اليمانية مضر، أرسل الحارث إلى نصر: إن اليمانية يعيرونني بانهزامكم، وأنا كاف، فاجعل حماة أصحابك بإزاء الكرماني، فبعث إليه نصر يزيد النحوي او خالدا يتوثق منه، أن يفي له بما أعطاه من الكف. ويقال: إنما كف الحارث عن قتال نصر أن عمران بْن الفضل الأزدي وأهل بيته وعبد الجبار العدوي وخالد بْن عبيد الله بن حبيب العدوي وعامة أصحابه نقموا على الكرماني فعله باهل التبوشكان، وذلك ان أسدا وجهه اليهم، فنزلوا على حكم أسد، فبقر بطون خمسين رجلا وألقاهم في نهر بلخ، وقطع أيدي ثلاثمائة منهم وأرجلهم، وصلب ثلاثة، وباع أثقالهم فيمن يزيد،

فنقموا على الحارث عونه الكرماني، وقتاله نصرا فقال نصر لأصحابه حين تغير الأمر بينه وبين الحارث: ان مضر، لا تجتمع لي ما كان الحارث مع الكرماني، لا يتفقان على أمر، فالرأي تركهما، فإنهما يختلفان وخرج إلى جلفر فيجد عبد الجبار الأحول العدوي وعمر بْن أبي الهيثم الصغدي، فقال لهما: أيسعكما المقام مع الكرماني؟ فقال عبد الجبار: وأنت فلا عدمت آسيا، ما أحلك هذا المحل! فلما رجع نصر الى مرو امر به فضرب أربعمائة سوط، ومضى نصر إلى خرق، فأقام أربعة أيام بها، ومعه مسلم بْن عبد الرحمن بْن مسلم وسلم بْن أحوز وسنان الأعرابي، فقال نصر لنسائه: ان الحارث سيخلفنى فيكن ويحميكن فلما قرب من نيسابور أرسلوا إليه: ما أقدمك، وقد أظهرت من العصبية أمرا قد كان الله أطفأه؟ وكان عامل نصر على نيسابور ضرار ابن عيسى العامري، فأرسل إليه نصر بْن سيار سنانا الأعرابي ومسلم بْن عبد الرحمن وسلم بْن أحوز، فكلموهم فخرجوا، فتلقوا نصرا بالمواكب والجواري والهدايا، فقال سلم: جعلني الله فداك! هذا الحي من قيس، فإنما كانت عاتبة، فقال نصر: أنا ابن خندف تنميني قبائلها ... للصالحات وعمي قيس عيلانا وأقام عند نصر حين خرج من مرو يونس بْن عبد ربه ومحمد بْن قطن وخالد بْن عبد الرحمن في نظرائهم. قَالَ: وتقدم عباد بْن عمر الأزدي وعبد الحكيم بْن سعيد العوذي وأبو جعفر عيسى بْن جرز على نصر من مكة بأبرشهر، فقال نصر لعبد الحكيم: أما ترى ما صنع سفهاء قومك؟ فقال عبد الحكيم: بل سفهاء قومك، طالت ولايتها في ولايتك، وصيرت الولاية لقومك دون ربيعة واليمن فبطروا، وفي ربيعه واليمن حلماء وسفهاء فغلب السفهاء الحكماء فقال عباد: أتستقبل الأمير بهذا الكلام! قَالَ: دعه فقد صدق، فقال أبو جعفر عيسى بْن جرز- وهو من أهل قرية على نهر مرو: أيها الأمير، حسبك من هذه الأمور والولاية،

فإنه قد أطل أمر عظيم، سيقوم رجل مجهول النسب يظهر السواد، ويدعو إلى دولة تكون، فيغلب على الأمر وأنتم تنظرون وتضطربون فقال نصر: ما أشبه أن يكون لقلة الوفاء، واستجراح الناس، وسوء ذات البين وجهت إلى الحارث وهو بأرض الترك، فعرضت عليه الولاية والأموال فأبى وشغب، وظاهر علي فقال أبو جعفر عيسى: إن الحارث مقتول مصلوب، وما الكرماني من ذلك ببعيد فوصله نصر قَالَ: وكان سلم بْن أحوز يقول: ما رأيت قوما أكرم إجابة، ولا أبذل لدمائهم من قيس. قَالَ: فلما خرج نصر من مرو غلب عليها الكرماني، وقال للحارث: إنما أريد كتاب الله، فقال قحطبة: لو كان صادقا لأمددته ألف عنان، فقال مقاتل بْن حيان: أفي كتاب الله هدم الدور وانتهاب الأموال! فحبسه الكرماني في خيمة في العسكر، فكلمه معمر بْن مقاتل بْن حيان- أو معمر بْن حيان- فخلاه، فأتى الكرماني المسجد، ووقف الحارث، فخطب الكرماني الناس، وآمنهم غير محمد بْن الزبير ورجل آخر، فاستأمن لابن الزبير داود بْن أبي داود بْن يعقوب، ودخل الكاتب فآمنه، ومضى الحارث إلى باب دوران وسرخس، وعسكر الكرماني في مصلى أسد، وبعث إلى الحارث فأتاه، فأنكر الحارث هدم الدور وانتهاب الأموال، فهم الكرماني به، ثم كف عنه، فأقام أياما وخرج بشر بْن جرموز الضبي بخرقان، فدعا إلى الكتاب والسنة، وقال للحارث: إنما قاتلت معك طلب العدل، فأما إذ كنت مع الكرماني، فقد علمت أنك إنما تقاتل ليقال: غلب الحارث! وهؤلاء يقاتلون عصبية، فلست مقاتلا معك واعتزل في خمسه آلاف وخمسمائة- ويقال في أربعة آلاف- وقال: نحن الفئة العادلة، ندعو إلى الحق ولا نقاتل إلا من يقاتلنا وأتى الحارث مسجد عياض، فأرسل إلى الكرماني يدعوه إلى أن يكون الأمر شورى، فأبى الكرماني، وبعث الحارث ابنه محمدا فحمل ثقله من دار تميم بْن نصر، فكتب نصر إلى عشيرته ومضر، أن الزموا الحارث مناصحة

فأتوه، فقال الحارث: إنكم أصل العرب وفرعها، وأنتم قريب عهد بالهزيمة، فاخرجوا إلي بالأثقال، فقالوا: لم نكن نرضى بشيء دون لقائه وكان من مدبري عسكر الكرماني مقاتل بْن سليمان، فأتاه رجل من البخاريين، فقال: أعطني أجر المنجنيق التي نصبتها، فقال: أقم البينة أنك نصبتها من منفعة المسلمين، فشهد له شيبة بْن شيخ الأزدي، فأمر مقاتل فصك له إلى بيت المال قَالَ: فكتب أصحاب الحارث إلى الكرماني: نوصيكم بتقوى الله وطاعته وإيثار أئمة الهدى وتحريم ما حرم الله من دمائكم، فإن الله جعل اجتماعنا كان إلى الحارث ابتغاء الوسيلة إلى الله، ونصيحة في عباده، فعرضنا أنفسنا للحرب ودماءنا للسفك وأموالنا للتلف، فصغر ذلك كله عندنا في جنب ما نرجو من ثواب الله، ونحن وأنتم إخوان في الدين وأنصار على العدو، فاتقوا الله وراجعوا الحق، فإنا لا نريد سفك الدماء بغير حلها. فأقاموا أياما، فأتى الحارث بْن سريج الحائط فثلم فيه ثلمة ناحية نوبان عند دار هشام بْن أبي الهيثم، فتفرق عن الحارث أهل البصائر وقالوا: غدرت فأقام القاسم الشيباني وربيع التيمي في جماعة، ودخل الكرماني من باب سرخس، فحاذى الحارث، ومر المنخل بْن عمرو الأزدي فقتله السميدع، أحد بني العدوية، ونادى: يا لثارات لقيط! واقتتلوا، وجعل الكرماني على ميمنته داود بْن شعيب وإخوته: خالدا ومزيدا والمهلب، وعلى ميسرته سورة بْن محمد بْن عزيز الكندي، في كندة وربيعة فاشتد الأمر بينهم، فانهزم أصحاب الحارث وقتلوا ما بين الثلمة وعسكر الحارث، والحارث على بغل فنزل عنه، وركب فرسا فضربه، فجرى وانهزم أصحابه، فبقي في أصحابه، فقتل عند شجرة، وقتل أخوه سوادة وبشر بْن جرموز وقطن بْن المغيرة بْن عجرد، وكف الكرماني، وقتل مع الحارث مائة، وقتل من أصحاب الكرماني مائة، وصلب الحارث عند مدينة مرو بغير رأس. وكان قتل بعد خروج نصر من مرو بثلاثين يوما، قتل يوم الأحد لست بقين من رجب وكان يقال: إن الحارث يقتل تحت زيتونة أو شجرة غبيراء. فقتل كذلك سنة ثمان وعشرين ومائة وأصاب الكرماني صفائح ذهب للحارث

فأخذها وحبس أم ولده ثم خلى عنها، وكانت عند حاجب بْن عمرو بْن سلمة بْن سكن بْن جون بْن دبيب قَالَ: وأخذ أموال من خرج مع نصر، واصطفى متاع عاصم بن عمير، فقال ابراهيم: بم تستحل ما له؟ فقال صالح من آل الوضاح: اسقني دمه، فحال بينه وبينه مقاتل بْن سليمان، فأتى به منزله قَالَ علي:، قَالَ زهير بْن الهنيد: خرج الكرماني إلى بشر بْن جرموز، وعسكر خارجا من المدينة، مدينة مرو، وبشر في أربعة آلاف، فعسكر الحارث مع الكرماني، فأقام الكرماني أياما بينه وبين عسكر بشر فرسخان، ثم تقدم حتى قرب من عسكر بشر، وهو يريد أن يقاتله، فقال للحارث: تقدم وندم الحارث على اتباع الكرماني، فقال: لا تعجل الى قتالهم، فانى اردهم إليك، فخرج من العسكر في عشرة فوارس، حتى أتى عسكر بشر في قرية الدرزيجان، فأقام معهم وقال: ما كنت لأقاتلكم مع اليمانية، وجعل المضريون ينسلون من عسكر الكرماني إلى الحارث حتى لم يبق مع الكرماني مضري غير سلمة بْن أبي عبد الله، مولى بني سليم، فإنه قَالَ: والله لا أتبع الحارث أبدا فإني لم أره إلا غادرا والمهلب بْن إياس، وقال: لا أتبعه فإني لم أره قط إلا في خيل تطرد فقاتلهم الكرماني مرارا يقتتلون ثم يرجعون إلى خنادقهم، فمرة لهؤلاء ومرة لهؤلاء، فالتقوا يوما من أيامهم، وقد شرب مرثد بْن عبد الله المجاشعي، فخرج سكران على برذون للحارث، فطعن فصرع، وحماه فوارس من بني تميم، حتى تخلص، وعار البرذون، فلما رجع لأمه الحارث، وقال: كدت تقتل نفسك، فقال للحارث: إنما تقول ذلك لمكان برذونك، امراته طالق ان لم آتك ببرذون افره من برذونك من عسكرهم، فالتقوا من غد، فقال مرثد: اى برذون في عسكرهم افره؟ قالوا: برذون عبد الله ابن ديسم العنزي- وأشاروا إلى موقفه- حتى وصل إليه، فلما غشيه رمى ابن ديسم نفسه عن برذونه، وعلق مرثد عنان فرسه في رمحه، وقاده حتى أتى به الحارث، فقال: هذا مكان برذونك، فلقي مخلد بْن الحسن مرثدا، فقال له يمازحه: ما أهيأ برذون ابْن ديسم تحتك! فنزل عنه، وقال: خذه، قَالَ: أردت أن تفضحني! أخذته منا في الحرب وآخذه في السلم! ومكثوا بذلك

أياما، ثم ارتحل الحارث ليلا، فأتى حائط مرو فنقب بابا، ودخل الحائط، فدخل الكرماني، وارتحل، فقالت المضرية للحارث: قد تركنا الخنادق فهو يومنا، وقد فررت غير مرة، فترجل فقال: أنا لكم فارسا خير مني لكم راجلا، قالوا: لا نرضى إلا أن تترجل، فترجل وهو بين حائط مرو والمدينة، فقتل الحارث وأخوه وبشر بْن جرموز وعدة من فرسان تميم، وانهزم الباقون، وصلب الحارث وصفت مرو لليمن، فهدموا دور المضرية، فقال نصر بْن سيار للحارث حين قتل: يا مدخل الذل على قومه ... بعدا وسحقا لك من هالك! شؤمك أردى مضرا كلها ... وغض من قومك بالحارك ما كانت الأزد وأشياعها ... تطمع في عمرو ولا مالك ولا بني سعد إذا ألجموا ... كل طمر لونه حالك ويقال: بل قَالَ هذه الأبيات نصر لعثمان بْن صدقة المازني. وقالت أم كثير الضبية: لا بارك الله في أنثى وعذبها ... تزوجت مضريا آخر الدهر أبلغ رجال تميم قول موجعة ... أحللتموها بدار الذل والفقر إن أنتم لم تكروا بعد جولتكم ... حتى تعيدوا رجال الأزد في الظهر إني استحيت لكم من بذل طاعتكم ... هذا المزونى يجبيكم على قهر وقال عباد بْن الحارث: ألا يا نصر قد برح الخفاء ... وقد طال التمني والرجاء وأصبحت المزون بأرض مرو ... تقضي في الحكومة ما تشاء يجوز قضاؤها في كل حكم ... على مضر وإن جار القضاء

وحمير في مجالسها قعود ... ترقرق في رقابهم الدماء فإن مضر بذا رضيت وذلت ... فطال لها المذلة والشقاء وإن هي أعتبت فيها وإلا ... فحل على عساكرها العفاء وقال: ألا يا ايها المرء ... الذى قد شفه الطرب أفق ودع الذي قد ... كنت تطلبه ونطلب فقد حدثت بحضرتنا ... أمور شأنها عجب الأزد رأيتها ... عزت بمرو وذلت العرب فجاز الصفر لما ... كان ذاك وبهرج الذهب وقال أبو بكر بْن إبراهيم لعلي وعثمان ابني الكرماني. إني لمرتحل أريد بمدحتي ... أخوين فوق ذرى الأنام ذراهما سبقا الجياد فلم يزالا نجعه ... لا يعلم الضيف الغريب قرأهما يستعليان ويجريان الى العلا ... ويعيش في كنفيهما حياهما أعني عليا إنه ووزيره ... عثمان ليس يذل من والاهما جريا لكيما يلحقا بأبيهما ... جري الجياد من البعيد مداهما فلئن هما لحقا به لمنصب ... يستعليان ويلحقان أباهما ولئن ابر عليهما فلطالما ... جريا فبذهما وبذ سواهما فلأمدحنهما بما قد عاينت ... عيني وإن لم أحص كل نداهما فهما التقيان المشار إليهما ... الحاملان الكاملان كلاهما وهما أزالا عن عريكة ملكه ... نصرا ولاقى الذل إذ عاداهما نفيا ابن أقطع بعد قتل حماته ... وتقسمت أسلابه خيلاهما

ذكر الخبر عن مقتل الضحاك الخارجي

والحارث بْن سريج إذ قصدوا له ... حتى تعاور رأسه سيفاهما أخذا بعفو أبيهما في قدره ... إذ عز قومهما ومن والاهما وفي هذه السنة وجه إبراهيم بْن محمد أبا مسلم إلى خراسان، وكتب إلى أصحابه: إني قد أمرته بأمري، فاسمعوا منه واقبلوا قوله، فإني قد أمرته على خراسان وما غلب عليه بعد ذلك، فأتاهم فلم يقبلوا قوله، وخرجوا من قابل، فالتقوا بمكة عند إبراهيم، فاعلمه ابو مسلم انهم لم ينفذوا كتابه وأمره، فقال إبراهيم: إني قد عرضت هذا الأمر على غير واحد فأبوه علي، وذلك أنه كان عرض ذلك قبل أن يوجه أبا مسلم على سليمان بْن كثير، فقال: لا ألي اثنين أبدا، ثم عرضه على إبراهيم بْن سلمة فأبى، فأعلمهم أنه أجمع رأيه على أبي مسلم، وامرهم بالسمع والطاعة، ثم قَالَ: يا عبد الرحمن، إنك رجل منا أهل البيت، فاحتفظ وصيتي، وانظر هذا الحي من اليمن فأكرمهم، وحل بين أظهرهم، فإن الله لا يتم هذا الأمر إلا بهم، وانظر هذا الحي من ربيعة فاتهمهم في أمرهم، وانظر هذا الحي من مضر، فإنهم العدو القريب الدار، فاقتل من شككت في أمره ومن كان في أمره شبهة ومن وقع في نفسك منه شيء، وإن استطعت ألا تدع بخراسان لسانا عربيا فافعل، فأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله، ولا تخالف هذا الشيخ- يعني سليمان بْن كثير- ولا تعصه، وإذا أشكل عليك امر فاكتف به منى. ذكر الخبر عن مقتل الضحاك الخارجي وفي هذه السنة قتل الضحاك بْن قيس الخارجي، فيما قَالَ أبو مخنف، ذكر ذلك هشام بْن محمد عنه

ذكر الخبر عن مقتله وسبب ذلك: ذكر أن الضحاك لما حاصر عبد الله بْن عمر بْن عبد العزيز بواسط، وبايعه منصور بْن جمهور، ورأى عبد الله بْن عمر أنه لا طاقة له به، أرسل إليه: إن مقامكم علي ليس بشيء، هذا مروان فسر إليه، فإن قاتلته فأنا معك، فصالحه على ما قد ذكرت من اختلاف المختلفين فيه. فذكر هشام، عن أبي مخنف، أن الضحاك ارتحل عن ابن عمر حتى لقي مروان بكفرتوثا من أرض الجزيرة، فقتل الضحاك يوم التقوا. واما أبو هاشم مخلد بْن محمد بْن صالح، فقال فيما حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الوهاب بْن إبراهيم عنه أن الضحاك لما قتل عطية الثعلبي صاحبه وعامله على الكوفة ملحان بقنطرة السيلحين، وبلغه خبر قتل ملحان وهو محاصر عبد الله بْن عمر بواسط، وجه مكانه من أصحابه رجلا يقال له مطاعن، واصطلح عبد الله بْن عمر والضحاك عن أن يدخل في طاعته، فدخل وصلى خلفه، وانصرف إلى الكوفة، وأقام ابن عمر فيمن معه بواسط، ودخل الضحاك الكوفة، وكاتبه أهل الموصل ودعوه إلى أن يقدم عليهم فيمكنوه منها، فسار في جماعة جنوده بعد عشرين شهرا، حتى انتهى إليها، وعليها يومئذ عامل لمروان، وهو رجل من بني شيبان من أهل الجزيرة يقال له القطران بْن أكمة، ففتح أهل الموصل المدينة للضحاك وقاتلهم القطران في عدة يسيرة من قومه وأهل بيته حتى قتلوا، واستولى الضحاك على الموصل وكورها. وبلغ مروان خبره وهو محاصر حمص، مشتغل بقتال أهلها، فكتب إلى ابنه عبد الله وهو خليفته بالجزيرة، يأمره أن يسير فيمن معه من روابطه الى مدينه نصيبين ليشغل الضحاك عن توسط الجزيرة، فشخص عبد الله إلى نصيبين في جماعة روابطه، وهو في نحو من سبعة آلاف أو ثمانية، وخلف بحران قائدا في ألف أو نحو ذلك، وسار الضحاك من الموصل إلى عبد الله

ذكر الخبر عن مقتل الخيبرى وولايه شيبان

بنصيبين، فقاتله فلم يكن له قوة لكثرة من مع الضحاك، فهم فيما بلغنا عشرون ومائة ألف، يرزق الفارس عشرين ومائه والراجل والبغال المائه والثمانين في كل شهر، وأقام الضحاك على نصيبين محاصرا لها، ووجه قائدين من قواده يقال لهما عبد الملك بْن بشر التغلبي، وبدر الذكواني مولى سليمان بْن هشام في، أربعة آلاف أو خمسة آلاف حتى وردا الرقة، فقاتلهم من بها من خيل مروان، وهم نحو من خمسمائة فارس، ووجه مروان حين بلغه نزولهم الرقة خيلا من روابطه، فلما دنوا منها انقشع أصحاب الضحاك منصرفين إليه، فاتبعتهم خيله، فاستسقطوا من ساقتهم نيفا وثلاثين رجلا، فقطعهم مروان حين قدم الرقة، ومضى صامدا إلى الضحاك وجموعه حتى التقيا بموضع يقال له الغز من أرض كفرتوثا، فقاتله يومه ذلك، فلما كان عند المساء ترجل الضحاك وترجل معه من ذوي الثبات من أصحابه نحو من ستة آلاف وأهل عسكره أكثرهم لا يعلمون بما كان منه، وأحدقت بهم خيول مروان فألحوا عليهم حتى قتلوهم عند العتمة، وانصرف من بقي من أصحاب الضحاك إلى عسكرهم، ولم يعلم مروان ولا أصحاب الضحاك أن الضحاك قد قتل فيمن قتل حتى فقدوه في وسط الليل وجاءهم بعض من عاينه حين ترجل، فأخبرهم بخبره ومقتله، فبكوه وناحوا عليه، وخرج عبد الملك بْن بشر التغلبي القائد الذي كان وجهه في عسكرهم إلى الرقة حتى دخل عسكر مروان، ودخل عليه فأعلمه أن الضحاك قتل، فأرسل معه رسلا من حرسه، معهم النيران والشمع إلى موضع المعركة، فقلبا القتلى حتى استخرجوه، فاحتملوه حتى أتوا به مروان، وفي وجهه أكثر من عشرين ضربة، فكبر أهل عسكر مروان، فعرف أهل عسكر الضحاك أنهم قد علموا بذلك، وبعث مروان برأسه من ليلته إلى مدائن الجزيرة، فطيف به فيها. وقيل: إن الخيبري والضحاك إنما قتلا في سنة تسع وعشرين ومائة. ذكر الخبر عن مقتل الخيبرى وولايه شيبان وفي هذه السنة كان أيضا- في قول أبي مخنف- قتل الخيبري الخارجي كذلك ذكر هشام عنه

ذكر الخبر عن مقتله: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الوهاب بْن إبراهيم، قَالَ: حدثني أبو هاشم مخلد بْن محمد بْن صالح، قَالَ: لما قتل الضحاك أصبح أهل عسكره بايعوا الخيبري، وأقاموا يومئذ وغادوه من بعد الغد، وصافوه وصافهم، وسليمان بْن هشام يومئذ في مواليه وأهل بيته مع الخيبري، وقد كان قدم على الضحاك وهو بنصيبين، وهم في أكثر من ثلاثة آلاف من أهل بيته ومواليه، فتزوج فيهم أخت شيبان الحروري الذي بايعوه بعد قتل الخيبري، فحمل الخيبري على مروان في نحو من أربعمائة فارس من الشراة، فهزم مروان وهو في القلب، وخرج مروان من المعسكر هاربا، ودخل الخيبري فيمن معه عسكره، فجعلوا ينادون بشعارهم: يا خيبري يا خيبري، ويقتلون من أدركوا حتى انتهوا إلى حجرة مروان، فقطعوا أطنابها، وجلس الخيبري على فرشه، وميمنة مروان عليها ابنه عبد الله ثابتة على حالها، وميسرته ثابتة عليها إسحاق بْن مسلم العقيلي، فلما رأى أهل عسكر مروان قلة من مع الخيبري ثار إليه عبيد من أهل العسكر بعمد الخيام، فقتلوا الخيبري وأصحابه جميعا في حجرة مروان وحولها، وبلغ مروان الخبر وقد جاز العسكر بخمسة أميال أو ستة منهزما، فانصرف إلى عسكره ورد خيوله عن مواضعها ومواقفها، وبات ليلته تلك في عسكره فانصرف أهل عسكر الخيبري فولوا عليهم شيبان وبايعوه، فقاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس، وأبطل الصف منذ يومئذ وكان مروان يوم الخيبري بعث محمد بْن سعيد، وكان من ثقاته وكتابه إلى الخيبري، فبلغه أنه مالأهم وانحاز إليهم يومئذ، فأتي به مروان أسيرا فقطع يده ورجله ولسانه. وفي هذه السنة وجه مروان يزيد بْن عمر بْن هبيرة إلى العراق لحرب من بها من الخوارج. وحج بالناس في هذه السنة عبد العزيز بْن عمر بْن عبد العزيز، كذلك قَالَ أَبُو معشر- فِيمَا حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى

خبر ابى حمزه الخارجي مع عبد الله بن يحيى

عنه وكذلك قَالَ الواقدي وغيره. وقال الواقدي: وافتتح مروان حمص وهدم سورها، وأخذ نعيم بن ثابت الجزامى فقتله في شوال سنه ثمان، وقد ذكرنا من خالفه في ذلك قبل. وكان العامل على المدينة ومكة والطائف- فيما ذكر- في هذه السنة عبد العزيز بْن عمر بْن عبد العزيز، وبالعراق عمال الضحاك وعبد الله بْن عمر وعلى قضاء البصرة ثمامة بْن عبد الله، وبخراسان نصر بْن سيار وخراسان مفتونه . خبر ابى حمزه الخارجي مع عبد الله بن يحيى وفي هذه السنة لقي أبو حمزة الخارجي عبد الله بْن يحيى طالب الحق فدعاه إلى مذهبه. ذكر الخبر عن ذلك: حدثني العباس بْن عيسى العقيلي، قَالَ: حدثنا هارون بْن موسى الفروي، قَالَ: حدثني موسى بْن كثير مولى الساعديين، قَالَ: كان أول أمر أبي حمزة- وهو المختار بْن عوف الأزدي السليمي من البصرة- قَالَ موسى: كان أول أمر أبي حمزة أنه كان يوافي كل سنة مكة يدعو الناس إلى خلاف مروان بْن محمد وإلى خلاف آل مروان قَالَ: فلم يزل يختلف في كل سنة حتى وافى عبد الله بْن يحيى في آخر سنة ثمان وعشرين ومائة، فقال له: يا رجل، أسمع كلاما حسنا، وأراك تدعو إلى حق، فانطلق معي، فإني رجل مطاع في قومي، فخرج حتى ورد حضرموت، فبايعه أبو حمزة على الخلافة، ودعا إلى خلاف مروان وآل مروان. وقد حدثني محمد بْن حسن أن أبا حمزة مر بمعدن بني سليم وكثير بْن عبد الله عامل على المعدن، فسمع بعض كلامه، فأمر به فجلد سبعين سوطا، ثم مضى إلى مكة، فلما قدم أبو حمزة المدينة حين افتتحها تغيب كثير حتى كان من أمرهم ما كان.

سنه تسع وعشرين ومائه

ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) خبر هلاك شيبان بن عبد العزيز الحروري فمن ذلك ما كان من هلاك شيبان بْن عبد العزيز اليشكري أبي الدلفاء ذكر الخبر عن سبب مهلكه: وكان سبب ذلك أن الخوارج الذين كانوا بإزاء مروان بْن محمد يحاربونه لما قتل الضحاك بْن قيس الشيباني رئيس الخوارج والخيبري بعده، ولوا عليهم شيبان وبايعوه، فقاتلهم مروان، فذكر هشام بْن محمد والهيثم بْن عدي أن الخيبري لما قتل قَالَ سليمان بْن هشام بْن عبد الملك للخوارج- وكان معهم في عسكرهم: إن الذى تفعلون ليس براى، فان أخذتم برأيي، وإلا انصرفت عنكم قالوا: فما الرأي؟ قَالَ: إن أحدكم يظفر ثم يستقتل فيقتل، فإني أرى أن ننصرف على حاميتنا حتى ننزل الموصل، فنخندق ففعل وأتبعه مروان والخوارج في شرقي دجلة ومروان بإزائهم، فاقتتلوا تسعة أشهر، ويزيد بْن عمر بْن هبيرة بقرقيسيا في جند كثيف من أهل الشام وأهل الجزيرة، فأمره مروان أن يسير إلى الكوفة، وعليها يومئذ المثنى بْن عمران، من عائذة قريش من الخوارج. وحدثني أحمد بْن زهير، قَالَ: حدثنا عبد الوهاب بْن إبراهيم، قَالَ: حدثني أبو هاشم مخلد بْن محمد، قَالَ: كان مروان بْن محمد يقاتل الخوارج بالصف، فلما قتل الخيبري وبويع شيبان، قاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس، وأبطل الصف منذ يومئذ، وجعل الآخرون يكردسون بكراديس مروان كراديس تكافئهم وتقاتلهم، وتفرق كثير من أصحاب الطمع عنهم وخذلوهم، وحصلوا في نحو من أربعين ألفا، فأشار عليهم سليمان بْن هشام أن ينصرفوا إلى مدينة الموصل، فيصيروها ظهرا وملجأ وميرة لهم، فقبلوا رأيه، وارتحلوا

ليلا، وأصبح مروان فأتبعهم، ليس يرحلون عن منزل إلا نزله، حتى انتهوا إلى مدينة الموصل، فعسكروا على شاطئ دجلة، وخندقوا على أنفسهم، وعقدوا جسورا على دجلة من عسكرهم إلى المدينة، فكانت ميرتهم ومرافقهم منها، وخندق مروان بإزائهم، فأقام ستة أشهر يقاتلهم بكرة وعشية. قَالَ: وأتي مروان بابن أخ لسليمان بْن هشام، يقال له أمية بْن معاوية بْن هشام، وكان مع عمه سليمان بْن هشام في عسكر شيبان بالموصل، فهو مبارز رجلا من فرسان مروان، فأسره الرجل فأتي به أسيرا، فقال له: أنشدك الله والرحم يا عم! فقال: ما بيني وبينك اليوم من رحم، فأمر به- وعمه سليمان وإخوته ينظرون- فقطعت يداه وضربت عنقه. قَالَ: وكتب مروان إلى يزيد بْن عمر بْن هبيرة يأمره بالمسير من قرقيسيا بجميع من معه إلى عبيدة بْن سوار خليفة الضحاك بالعراق، فلقي خيوله بعين التمر، فقاتلهم فهزمهم، وعليهم يومئذ المثنى بْن عمران من عائذة قريش والحسن بْن يزيد، ثم تجمعوا له بالكوفة بالنخيلة، فهزمهم، ثم اجتمعوا بالصراة ومعهم عبيدة، فقاتلهم فقتل عبيدة، وهزم أصحابه، واستباح ابن هبيرة عسكرهم، فلم يكن لهم بقية بالعراق، واستولى ابن هبيرة عليها، وكتب إليه مروان بْن محمد من الخنادق يأمره أن يمده بعامر بْن ضبارة المري، فوجهه في نحو من ستة آلاف أو ثمانية، وبلغ شيبان خبرهم ومن معه من الحرورية، فوجهوا إليه قائدين في أربعة آلاف، يقال لهما ابن غوث والجون، فلقوا ابن ضبارة بالسن دون الموصل، فقاتلوه قتالا شديدا، فهزمهم ابن ضبارة، فلما قدم فلهم أشار عليهم سليمان بالارتحال عن الموصل، واعلمهم انه لا مقام لهم إذ جاءهم ابن ضبارة من خلفهم، وركبهم مروان من بين أيديهم، فارتحلوا فأخذوا على حلوان إلى الأهواز وفارس، ووجه مروان إلى ابن ضبارة ثلاثة نفر من قواده في ثلاثين ألفا من روابطه، أحدهم مصعب بْن الصحصح الأسدي وشقيق وعطيف السليماني، وشقيق الذي يقول فيه الخوارج: قد علمت أختاك يا شقيق ... أنك من سكرك ما تفيق وكتب إليه يأمره أن يتبعهم، ولا يقلع عنهم حتى يبيرهم ويستأصلهم،

فلم يزل يتبعهم حتى وردوا فارس، وخرجوا منها وهو في ذلك يستسقط من لحق من أخرياتهم، فتفرقوا، وأخذ شيبان في فرقته إلى ناحية البحرين، فقتل بها، وركب سليمان فيمن معه من مواليه وأهل بيته السفن إلى السند، وانصرف مروان إلى منزله من حران، فأقام بها حتى شخص إلى الزاب وأما أبو مخنف فإنه قَالَ- فِيمَا ذكر هِشَام بْن مُحَمَّد عنه- قَالَ: أمر مروان يزيد بْن عمر بْن هبيرة- وكان في جنود كثيرة من الشام وأهل الجزيرة بقرقيسيا- أن يسير إلى الكوفة، وعلى الكوفة يومئذ رجل من الخوارج يقال له المثنى بْن عمران العائذي، عائذة قريش، فسار إليه ابن هبيرة على الفرات حتى انتهى إلى عين التمر، ثم سار فلقي المثنى بالروحاء، فوافى الكوفة في شهر رمضان من سنة تسع وعشرين ومائة، فهزم الخوارج، ودخل ابن هبيرة الكوفة ثم سار إلى الصراة، وبعث شيبان عبيدة بْن سوار في خيل كثيرة، فعسكر في شرقي الصراة، وابن هبيرة في غربيها، فالتقوا، فقتل عبيدة وعدة من أصحابه، وكان منصور بْن جمهور معهم في دور الصراة، فمضى حتى غلب على الماهين وعلى الجبل أجمع، وسار ابن هبيرة إلى واسط، فأخذ ابن عمر فحبسه، ووجه نباتة بْن حنظلة إلى سليمان بْن حبيب وهو على كور الأهواز، وبعث إليه سليمان داود بْن حاتم، فالتقوا بالمريان على شاطئ دجيل، فانهزم الناس، وقتل داود بْن حاتم وفي ذلك يقول خلف بن خليفه: نفسي لداود الفدا والحمى ... إذ أسلم الجيش أبا حاتم مهلبي مشرق وجهه ... ليس على المعروف بالنادم سألت من يعلم لي علمه ... حقا وما الجاهل كالعالم قالوا عهدناه على مرقب ... يحمل كالضرغامة الصارم ثم أنثى منجدلا في دم ... يسفح فوق البدن الناعم وأقبل القبط على رأسه ... واختصموا في السيف والخاتم وسار سليمان حتى لحق بابن معاوية الجعفري بفارس وأقام ابن هبيرة شهرا

ثم وجه عامر بْن ضبارة في أهل الشام إلى الموصل، فسار حتى انتهى إلى السن فلقيه بها الجون بْن كلاب الخارجي، فهزم عامر بْن ضبارة حتى أدخله السن فتحصن فيها، وجعل مروان يمده بالجنود يأخذون طريق البر، حتى انتهوا إلى دجلة، فقطعوها إلى ابن ضبارة حتى كثروا وكان منصور بْن جمهور يمد شيبان بالأموال من كور الجبل، فلما كثر من يتبع ابن ضبارة من الجنود، نهض إلى الجون بْن كلاب فقتل الجون، ومضى ابن ضبارة مصعدا إلى الموصل، فلما انتهى خبر الجون وقتله إلى شيبان ومسير عامر بْن ضبارة نحوه، كره أن يقيم بين العسكرين، فارتحل بمن معه وفرسان الشام من اليمانية. وقدم عامر بْن ضبارة بمن معه على مروان بالموصل، فضم إليه جنودا من جنوده كثيرة، وأمره أن يسير إلى شيبان، فإن أقام أقام، وإن سار سار، والا يبدأه بقتال، فإن قاتله شيبان قاتله، وإن أمسك أمسك عنه، وإن ارتحل اتبعه، فكان على ذلك حتى مر على الجبل، وخرج على بيضاء اصطخر، وبها عبد الله بْن معاوية في جموع كثيرة، فلم يتهيأ الأمر بينه وبين ابن معاوية، فسار حتى نزل جيرفت من كرمان، وأقبل عامر بْن ضبارة حتى نزل بإزاء ابن معاوية أياما، ثم ناهضه القتال، فانهزم ابن معاوية، فلحق بهراة وسار ابن ضبارة بمن معه، فلقي شيبان بجيرفت من كرمان، فاقتتلوا قتالا شديدا وانهزمت الخوارج، واستبيح عسكرهم، ومضى شيبان إلى سجستان، فهلك بها، وذلك في سنة ثلاثين ومائة. وأما أبو عبيدة فإنه قَالَ: لما قتل الخيبري قام بأمر الخوارج شيبان بْن عبد العزيز اليشكري، فحارب مروان، وطالت الحرب بينهما، وابن هبيرة بواسط قد قتل عبيدة بْن سوار ونفى الخوارج ومعه رءوس قواد أهل الشام وأهل الجزيرة فوجه عامر بْن ضبارة في أربعة آلاف مددا لمروان، فأخذ على باب المدائن، وبلغ مسيره شيبان، فخاف أن يأتيهم مروان، فوجه إليه الجون بْن كلاب الشيباني ليشغله، فالتقيا بالسن، فحصر الجون عامرا أياما. قال ابو عبيده: قال ابو سعيد: فاحرجناهم والله، واضطررناهم إلى

ذكر اظهار الدعوة العباسية بخراسان

قتالنا، وقد كانوا خافونا وأرادوا الهرب منا، فلم ندع لهم مسلكا فقال لهم عامر: أنتم ميتون لا محالة، فموتوا كراما، فصدمونا صدمه لم يقم لها شيء، وقتلوا رئيسنا الجون بْن كلاب، وانكشفنا حتى لحقنا بشيبان، وابن ضبارة في آثارنا، حتى نزل منا قريبا، وكنا نقاتل من وجهين، نزل ابن ضبارة من ورائنا مما يلي العراق، ومروان أمامنا مما يلي الشام، فقطع عنا المادة والميرة، فغلت أسعارنا، حتى بلغ الرغيف درهما، ثم ذهب الرغيف فلا شيء يشتري بغال ولا رخيص فقال حبيب بن خدره لشيبان: يا أمير المؤمنين، إنك في ضيق من المعاش، فلو انتقلت إلى غير هذا الموضع! ففعل ومضى شهرزور من أرض الموصل، فعاب ذلك عليه أصحابه، فاختلفت كلمتهم. وقال بعضهم: لما ولى شيبان امر الخوارج رجع باصحابه إلى الموصل فاتبعه مروان ينزل معه حيث نزل فقاتله شهرا ثم انهزم شيبان حتى لحق بأرض فارس، فوجه مروان في اثره عامر بن ضباره فقطع إلى جزيرة ابن كاوان، ومضى شيبان بمن معه حتى صار إلى عمان، فقتله جلندى بن مسعود ابن جيفر بن جلندى الأزدي. ذكر اظهار الدعوة العباسية بخراسان وفي هذه السنة أمر إبراهيم بْن محمد بْن علي بْن عبد الله بْن العباس أبا مسلم، وقد شخص من خراسان يريده حتى بلغ قومس بالانصراف إلى شيعته بخراسان، وأمرهم بإظهار الدعوة والتسويد. ذكر الخبر عن ذلك وكيف كان الأمر فيه: قَالَ علي بْن محمد عن شيوخه: لم يزل أبو مسلم يختلف إلى خراسان، حتى وقعت العصبية بها، فلما اضطرب الحبل، كتب سليمان بْن كثير إلى أبي سلمة الخلال يسأله أن يكتب إلى إبراهيم، يسأله أن يوجه رجلا من أهل بيته فكتب أبو سلمة إلى إبراهيم، فبعث أبا مسلم فلما كان في سنة تسع وعشرين ومائة، كتب إبراهيم إلى أبي مسلم يأمره بالقدوم عليه ليسأله عن أخبار الناس، فخرج في النصف من جمادى الآخرة مع سبعين نفسا

من النقباء، فلما صار بالدندانقان من أرض خراسان عرض له كامل- أو أبو كامل- قَالَ: أين تريدون؟ قالوا: الحج، ثم خلا به أبو مسلم، فدعاه فأجابهم، وكف عنهم، ومضى أبو مسلم إلى بيورد، فأقام بها أياما، ثم سار إلى نسا، وكان بها عاصم بْن قيس السلمي عاملا لنصر بْن سيار الليثي، فلما قرب منها أرسل الفضل بْن سليمان الطوسي إلى أسيد بْن عبد الله الخزاعي ليعلمه قدومه، فمضى الفضل فدخل قرية من قرى نسا، فلقي رجلا من الشيعة يعرفه، فسأله عن أسيد، فانتهره، فقال: يا عبد الله، ما أنكرت من مسألتي عن منزل رجل؟ قَالَ: إنه كان في هذه القرية شر، سعي برجلين قدما إلى العامل، وقيل إنهما داعيان، فأخذهما، وأخذ الأحجم بْن عبد الله وغيلان بْن فضالة وغالب بْن سعيد والمهاجر بْن عثمان، فانصرف الفضل إلى أبي مسلم وأخبره، فتنكب الطريق، وأخذ في أسفل القرى، وأرسل طرخان الجمال إلى أسيد، فقال: أدعه لي ومن قدرت عليه من الشيعة، وإياك أن تكلم أحدا لم تعرفه، فأتى طرخان أسيدا فدعاه، وأعلمه بمكان أبي مسلم، فأتاه فسأله عن الأخبار، قَالَ: نعم، قدم الأزهر بْن شعيب وعبد الملك بْن سعد بكتب من الإمام إليك، فخلفا الكتب عندي وخرجا، فأخذا فلا أدري من سعي بهما! فبعث بهما العامل إلى عاصم بْن قيس، فضرب المهاجرين عثمان وناسا من الشيعة قَالَ: فأين الكتب؟ قَالَ: عندي، قَالَ: فاتنى بها فأتاه بالكتب فقرأها. قَالَ: ثم سار حتى أتى قومس، وعليها بيهس بْن بديل العجلي، فأتاهم بيهس، فقال: أين تريدون؟ قالوا: الحج، قَالَ: أفمعكم فضل برذون تبيعونه؟ قَالَ أبو مسلم: أما بيعا فلا، ولكن خذ أي دوابنا شئت، قَالَ: اعرضوها علي، فعرضوها، فأعجبه برذون منها سمند، فقال أبو مسلم: هو لك، قَالَ: لا اقبله الا بثمن، قال: احتكم، قال: سبعمائة، قال: هو لك وأتاه وهو بقومس كتاب من الإمام إليه وكتاب إلى سليمان بْن كثير، وكان في كتاب أبي مسلم: إني قد بعثت إليك براية النصر فارجع من حيث ألفاك

كتابي، ووجه إلي قحطبة بما معك يوافني به في الموسم فانصرف أبو مسلم إلى خراسان، ووجه قحطبة إلى الإمام، فلما كانوا بنسا عرض لهم صاحب مسلحه في قرية من قرى نسا، فقال لهم: من أنتم؟ قالوا: أردنا الحج، فبلغنا عن الطريق شيء خفناه، فأوصلهم إلى عاصم بْن قيس السلمي، فسألهم فأخبروه، فقال: ارتحلوا وامر المفضل بن الشرقى السلمى- وكان على شرطته- ان يزعجهم، فخلا به أبو مسلم وعرض عليه أمرهم، فأجابه، وقال: ارتحلوا. على مهل، ولا تعجلوا وأقام عندهم حتى ارتحلوا فقدم أبو مسلم مرو في أول يوم من شهر رمضان سنة تسع وعشرين ومائة، ودفع كتاب الإمام إلى سليمان بْن كثير، وكان فيه أن اظهر دعوتك ولا تريص، فقد آن ذلك فنصبوا أبا مسلم، وقالوا: رجل من أهل البيت، ودعوا إلى طاعة بني العباس، وأرسلوا إلى من قرب منهم أو بعد ممن أجابهم، فأمروه بإظهار أمرهم والدعاء إليهم ونزل أبو مسلم قرية من قرى خزاعة يقال لها سفيذنج، وشيبان والكرماني يقاتلان نصر بْن سيار، فبث أبو مسلم دعاته في الناس، وظهر أمره، وقال الناس: قدم رجل من بني هاشم، فأتوه من كل وجه، فظهر يوم الفطر في قرية خالد بْن إبراهيم فصلى بالناس يوم الفطر القاسم بْن مجاشع المرائي، ثم ارتحل فنزل بالين- ويقال قرية اللين- لخزاعة، فوافاه في يوم واحد أهل ستين قرية، فأقام اثنين وأربعين يوما، فكان أول فتح أبي مسلم من قبل موسى بْن كعب في بيورد، وتشاغل بقتل عاصم بْن قيس، ثم جاء فتح من قبل مروروذ. قَالَ أبو جعفر: وأما أبو الخطاب فإنه قَالَ: كان مقدم أبي مسلم أرض مرو منصرفا من قومس، وقد أنفذ من قومس قحطبة بْن شبيب بالأموال التي كانت معه والعروض إلى الإمام إبراهيم بْن محمد، وانصرف إلى مرو، فقدمها في شعبان سنة تسع وعشرين ومائة لتسع خلون منه يوم الثلاثاء، فنزل قرية تدعى فنين على أبي الحكم عيسى بْن أعين النقيب، وهي قرية أبي داود النقيب، فوجه منها أبا داود ومعه عمرو بْن أعين إلى طخارستان فما دون بلخ

بإظهار الدعوة في شهر رمضان من عامهم، ووجه النضر بْن صبيح التميمي ومعه شريك بْن غضي التميمي إلى مرو الروذ بإظهار الدعوة في شهر رمضان، ووجه أبا عاصم عبد الرحمن بْن سليم إلى الطالقان، ووجه أبا الجهم بْن عطية إلى العلاء بْن حريث بخوارزم بإظهار الدعوة في شهر رمضان لخمس بقين من الشهر، فإن أعجلهم عدوهم دون الوقت، فعرض لهم بالأذى والمكروه فقد حل لهم أن يدفعوا عن أنفسهم، وأن يظهروا السيوف ويجردوها من أغمادها، ويجاهدوا أعداء الله ومن شغلهم عدوهم عن الوقت. فلا حرج عليهم أن يظهروا بعد الوقت ثم تحول أبو مسلم عن منزل أبي الحكم عيسى بن اعين، فنزل على سليمان ابن كثير الخزاعي في قريته التي تدعى سفيذنج من ربع خرقان لليلتين خلتا من شهر رمضان من سنة تسع وعشرين ومائة، فلما كانت ليلة الخميس لخمس بقين من شهر رمضان سنه تسع وعشرين ومائه اعتقدوا اللواء الذي بعث به الإمام إليه الذي يدعى الظل، على رمح طوله أربعة عشر ذراعا، وعقد الراية التي بعث بها الإمام التي تدعى السحاب على رمح طوله ثلاثة عشر ذراعا، وهو يتلو: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ» ، ولبس السواد هو وسليمان بْن كثير وأخوة سليمان ومواليه ومن كان أجاب الدعوة من أهل سفيذنج، منهم غيلان بْن عبد الله الخزاعي- وكان صهر سليمان على أخته أم عمرو بنت كثير- ومنهم حميد بْن رزين وأخوه عثمان بن رزين، فأوقدوا النيران ليلتهم أجمع للشيعة من سكان ربع خرقان- وكانت العلامة بين الشيعة- فتجمعوا له حين أصبحوا مغذين، وتاويل هذين الاسمين: الظل والسحاب، أن السحاب يطبق الأرض، وكذلك دعوة بني العباس، وتأويل الظل أن الأرض لا تخلو من الظل أبدا، وكذلك لا تخلو من خليفة عباسي أبد الدهر. وقدم على أبي مسلم الدعاة من أهل مرو بمن أجاب الدعوة، وكان أول من قدم عليه أهل السقادم مع أبي الوضاح الهرمز فرى عيسى بن شبيل

في تسعمائة رجل واربعه فرسان، ومن اهل هرمز فره سليمان بْن حسان وأخوه يزدان بْن حسان والهيثم بْن يزيد بْن كيسان، وبويع مولى نصر بْن معاوية وأبو خالد الحسن وجردي ومحمد بْن علوان، وقدم أهل السقادم مع أبي القاسم محرز بْن إبراهيم الجوباني في الف وثلاثمائة راجل وستة عشر فارسا، ومنهم من الدعاة أبو العباس المروزي وخذام بْن عمار وحمزة بْن زنيم، فجعل أهل السقادم يكبرون من ناحيتهم وأهل السقادم مع محرز بْن إبراهيم يجيبونهم بالتكبير، فلم يزالوا كذلك حتى دخلوا عسكر أبي مسلم بسفيذنج، وذلك يوم السبت من بعد ظهور أبي مسلم بيومين، وأمر أبو مسلم أن يرم حصن سفيذنج ويحصن ويدرب، فلما حضر العيد يوم الفطر بسفيذنج أمر أبو مسلم سليمان بْن كثير أن يصلي به وبالشيعة، ونصب له منبرا في العسكر، وأمره أن يبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة- وكانت بنو أمية تبدأ بالخطبة والأذان، ثم الصلاة بالإقامة على صلاة يوم الجمعة، فيخطبون على المنابر جلوسا في الجمعة والأعياد- وأمر أبو مسلم سليمان بن كثير ان يكبر الركعة الاولى ست تكبيرات تباعا، ثم يقرأ ويركع بالسابعة، ويكبر في الركعة الثانية خمس تكبيرات تباعا، ثم يقرا ويركع بالسادسه، ويفتتح الخطبة بالتكبير ويختمها بالقرآن، وكانت بنو أمية تكبر في الركعة الأولى أربع تكبيرات يوم العيد، وفي الثانية ثلاث تكبيرات فلما قضى سليمان بْن كثير الصلاة والخطبة انصرف أبو مسلم والشيعة إلى طعام قد أعده لهم أبو مسلم الخراساني، فطعموا مستبشرين وكان أبو مسلم وهو في الخندق إذا كتب إلى نصر بْن سيار يكتب: للأمير نصر، فلما قوي أبو مسلم بمن اجتمع إليه في خندقه من الشيعة بدأ بنفسه، فكتب إلى نصر: اما بعد، فان الله تبارك أسماؤه وتعالى ذكره عير أقواما في القرآن فقال: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ

الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا. » فتعاظم نصر الكتاب وأنه بدأ بنفسه، وكسر له احدى عينيه واطال الفكره وقال: هذا كتاب له جواب فلما استقر بابى مسلم معسكره بالماخوان امر محرز ابن إبراهيم أن يخندق خندقا بجيرنج، ويجتمع إليه أصحابه ومن نزع إليه من الشيعة، فيقطع مادة نصر بْن سيار من مروروذ وبلخ وكور طخارستان. ففعل ذلك محرز بْن إبراهيم، واجتمع له في خندق نحو من ألف رجل، فأمر أبو مسلم أبا صالح كامل بْن مظفر أن يوجه رجلا إلى خندق محرز بْن إبراهيم لعرض من فيه وإحصائهم في دفتر بأسمائهم وأسماء آبائهم وقراهم، فوجه ابو صالح حميدا الأزرق لذلك، وكان كاتبا، فأحصى في خندق محرز ثمانمائه رجل وأربعة رجال من أهل الكف، وكان فيهم من القواد المعروفين زياد بْن سيار الأزدي من قرية تدعى اسبوادق من ربع خرقان، وخذام بْن عمار الكندي من ربع السقادم ومن قرية تدعى بالأوايق، وحنيفة بْن قيس من ربع السقادم، ومن قرية تدعى الشنج، وعبدويه الجردامذ بْن عبد الكريم من أهل هراة، وكان يجلب الغنم إلى مرو، وحمزة بْن زنيم الباهلي من ربع خرقان من قريه تدعى ميلاذجرد، وأبو هاشم خليفة بْن مهران من ربع السقادم من قرية تدعى جوبان وأبو خديجة جيلان بْن السغدي وأبو نعيم موسى بْن صبيح فلم يزل محرز بْن إبراهيم مقيما في خندقه حتى دخل أبو مسلم حائط مرو، وعطل الخندق بماخوان وإلى أن عسكر بمار سرجس يريد نيسابور، فضم إليه محرز بْن إبراهيم اصحابه، وكان من الاحداث، وابو مسلم بسفيدنج أن نصر بْن سيار وجه مولى له يقال له يزيد في خيل عظيمة لمحاربة أبي مسلم بعد ثمانية عشر شهرا من ظهوره، فوجه اليه ابو مسلم مالك ابن الهيثم الخزاعي ومعه مصعب بْن قيس، فالتقوا بقرية تدعى آلين، فدعاهم مالك إلى الرضا من آل رسول الله ص، فاستكبروا عن ذلك، فصافهم مالك وهو في نحو من مائتين من أول النهار إلى وقت العصر

وقدم على أبي مسلم صالح بْن سليمان الضبي وإبراهيم بْن يزيد وزياد بْن عيسى فوجههم إلى مالك بْن الهيثم، فقدموا عليه مع العصر، فقوي بهم أبو نصر، فقال يزيد مولى نصر بْن سيار لأصحابه: إن تركنا هؤلاء الليلة أتتهم الإمداد، فاحملوا على القوم، ففعلوا، وترجل أبو نصر وحض أصحابه، وقال: إني لأرجو أن يقطع الله من الكافرين طرفا، فاجتلدوا جلادا صادقا، وصبر الفريقان، فقتل من شيعة بني مروان أربعة وثلاثون رجلا، وأسر منهم ثمانية نفر، وحمل عبد الله الطائي على يزيد مولى نصر عميد القوم فأسره، وانهزم أصحابه، فوجه أبو نصر عبد الله الطائي بأسيره في رجال من الشيعة، ومعهم الأسرى والرءوس، وأقام أبو نصر في معسكره بسفيذنج، وفي الوفد أبو حماد المروزي وأبو عمرو الأعجمي، فأمر أبو مسلم بالرءوس فنصبت على باب الحائط الذي في معسكره، ودفع يزيد الأسلمي إلى أبي إسحاق خالد بْن عثمان، وأمره أن يعالج يزيد مولى نصر من جراحات كانت به، ويحسن تعاهده، وكتب إلى أبي نصر بالقدوم عليه، فلما اندمل يزيد مولى نصر من جراحاته دعاه أبو مسلم، فقال: إن شئت أن تقيم معنا وتدخل في دعوتنا فقد أرشدك الله، وإن كرهت فارجع إلى مولاك سالما، وأعطنا عهد الله الا تحاربنا والا تكذب علينا، وأن تقول فينا ما رأيت، فاختار الرجوع إلى مولاه، فخلى له الطريق وقال أبو مسلم: إن هذا سيرد عنكم اهل الورع والصلاح، فانا عندهم على غير الإسلام. وقدم يزيد على نصر بْن سيار، فقال: لا مرحبا بك، والله ما ظننت استبقاك القوم الا ليتخذوك حجة علينا، فقال يزيد: فهو والله ما ظننت، وقد استحلفوني ألا أكذب عليهم، وأنا أقول: إنهم يصلون الصلوات لمواقيتها بأذان وإقامة، ويتلون الكتاب، ويذكرون الله كثيرا، ويدعون إلى ولايه رسول الله ص، وما أحسب أمرهم إلا سيعلو، ولولا إنك مولاي أعتقتني من الرق ما رجعت إليك، ولأقمت معهم فهذه أول حرب كانت بين الشيعة وشيعة بني مروان

وفي هذه السنة غلب خازم بْن خزيمة على مروروذ، وقتل عامل نصر بْن سيار الذي كان عليها، وكتب بالفتح إلى أبي مسلم مع خزيمة بْن خازم. ذكر الخبر عن ذَلِكَ: ذكر عَلِيّ بن محمد أن أبا الحسن الجشمى وزهير بن هنيد والحسن ابن رشيد أخبروه أن خازم بْن خزيمة لما اراد الخروج بمرو روذ أراد ناس من تميم أن يمنعوه، فقال: إنما أنا رجل منكم، أريد مرو لعلي أن أغلب عليها، فإن ظفرت فهي لكم، وإن قتلت فقد كفيتكم أمري فكفوا عنه، فخرج فعسكر في قرية يقال لها كنج رستاه، وقدم عليهم من قبل أبي مسلم النضر بْن صبيح وبسام بْن إبراهيم فلما أمسى خازم بيت أهل مروروذ، فقتل بشر بْن جعفر السعدي- وكان عاملا لنصر بْن سيار على مروروذ- في أول ذي القعدة، وبعث بالفتح إلى أبي مسلم مع خزيمة بن خازم عبد الله بْن سعيد وشبيب بْن واج قَالَ أبو جعفر: وقال غير الذين ذكرنا قولهم في أمر أبي مسلم وإظهاره الدعوة ومصيره إلى خراسان وشخوصه عنها وعوده إليها بعد الشخوص قولا خلاف قولهم، والذي قَالَ في ذلك: ان إبراهيم الإمام زوج أبا مسلم لما توجه إلى خراسان ابنة أبي النجم، وساق عنه صداقها، وكتب بذلك إلى النقباء، وأمرهم بالسمع والطاعة لأبي مسلم، وكان أبو مسلم- فيما زعم- من أهل خطرنية، من سواد الكوفة، وكان قهرمانا لإدريس بْن معقل العجلي، فآل أمره ومنتهى ولائه لمحمد بْن علي، ثم لإبراهيم بْن محمد، ثم للأئمة من أولاد محمد ابن علي فقدم خراسان وهو حديث السن، فلم يقبله سليمان بْن كثير وتخوف ألا يقوى على أمرهم، وخاف على نفسه وأصحابه، فردوه- وأبو داود خالد بْن إبراهيم غائب خلف نهر بلخ- فلما انصرف أبو داود، وقدم

مرو أقرأه كتاب الإمام إبراهيم، فسأل عن الرجل الذي وجهه، فأخبروه أن سليمان بْن كثير رده، فأرسل إلى جميع النقباء، فاجتمعوا في منزل عمران بْن إسماعيل، فقال لهم أبو داود: أتاكم كتاب الإمام فيمن وجهه إليكم وأنا غائب فرددتموه، فما حجتكم في رده؟ فقال سليمان بْن كثير: لحداثة سنه، وتخوفا ألا يقدر على القيام بهذا الأمر، فأشفقنا على من دعونا إليه وعلى أنفسنا وعلى المجيبين لنا، فقال: هل فيكم أحد ينكر أن الله تبارك وتعالى اختار محمدا ص وانتخبه واصطفاه، وبعثه برسالته إلى جميع خلقه؟ فهل فيكم أحد ينكر ذلك؟ قالوا: لا، قَالَ: أفتشكون أن الله تعالى نزل عليه كتابه فأتاه به جبريل الروح الأمين، أحل فيه حلاله، وحرم فيه حرامه، وشرع فيه شرائعه، وسن فيه سننه، وأنبأه فيه بما كان قبله، وما هو كائن بعده إلى يوم القيامة؟ قالوا: لا، قَالَ: أفتشكون أن الله عز وجل قبضه إليه بعد ما أدى ما عليه من رسالة ربه؟ قالوا: لا، قَالَ: أفتظنون أن ذلك العلم الذي أنزل عليه رفع معه أو خلفه؟ قالوا: بل خلفه، قَالَ: أفتظنونه خلفه عند غير عترته وأهل بيته، الأقرب فالأقرب؟ قالوا: لا، قَالَ: فهل أحد منكم إذا رأى من هذا الأمر إقبالا، وراى الناس له مجيبين بدا له أن يصرف ذلك إلى نفسه؟ قالوا: اللهم لا، وكيف يكون ذلك! قَالَ: لست أقول لكم فعلتم، ولكن الشيطان ربما نزع النزعة فيما يكون. وفيما لا يكون قَالَ: فهل فيكم أحد بدا له أن يصرف هذا الأمر عن أهل البيت إلى غيرهم من عتره النبي ص؟ قالوا: لا، قَالَ: أفتشكون أنهم معدن العلم واصحاب ميراث رسول الله ص؟ قالوا: لا، قَالَ: فأراكم شككتم في أمرهم ورددتم عليهم علمهم، ولو لم يعلموا أن هذا الرجل هو الذى ينبغى له ان يقوم بامرهم، لما بعثوه إليكم، وهو لا يتهم في موالاتهم ونصرتهم والقيام بحقهم. فبعثوا إلى أبي مسلم فردوه من قومس بقول أبي داود، وولوه أمرهم وسمعوا له وأطاعوا ولم تزل في نفس أبي مسلم على سليمان بْن كثير، ولم يزل

يعرفها لأبي داود وسمعت الشيعة من النقباء وغيرهم لأبي مسلم، وأطاعوه وتنازعوا، وقبلوا ما جاء به، وبث الدعاة في أقطار خراسان، فدخل الناس أفواجا، وكثروا، وفشت الدعاة بخراسان كلها وكتب إليه إبراهيم الإمام يأمره أن يوافيه بالموسم في هذه السنة- وهي سنة تسع وعشرين ومائة-، ليأمره بأمره في إظهار دعوته، وأن يقدم معه بقحطبة بْن شبيب، ويحمل إليه ما اجتمع عنده من الأموال، وقد كان اجتمع عنده ثلاثمائة ألف وستون ألف درهم، فاشترى بعامتها عروضا من متاع التجار، من القوهي والمروي والحرير والفرند، وصير بقيته سبائك ذهب وفضة وصيرها في الأقبية المحشوة، واشترى البغال وخرج في النصف من جمادى الآخرة، ومعه من النقباء قحطبة بْن شبيب والقاسم بْن مجاشع وطلحة بْن رزيق، ومن الشيعة واحد وأربعون رجلا، وتحمل من قرى خزاعة، وحمل أثقاله على واحد وعشرين بغلا، وحمل على كل بغل رجلا من الشيعة بسلاحه، وأخذ المفازة وعدا عن مسلحة نصر بْن سيار حتى انتهوا الى ابيورد. فكتب أبو مسلم إلى عثمان بْن نهيك وأصحابه يأمرهم بالقدوم عليه، وبينه وبينهم خمسة فراسخ، فقدم عليه منهم خمسون رجلا، ثم ارتحلوا من أبيورد، حتى انتهوا إلى قرية يقال لها قافس، من قرى نسا، فبعث الفضل ابن سليمان إلى أندومان- قرية أسيد- فلقي بها رجلا من الشيعة، فسأله عن أسيد، فقال له الرجل: وما سؤالك عنه! فقد كان اليوم شر طويل من العامل أخذ، فأخذ معه الأحجم بْن عبد الله وغيلان بْن فضالة وغالب ابن سعيد والمهاجرين بْن عثمان، فحملوا إلى العامل عاصم بْن قيس بْن الحروري، فحبسهم وارتحل أبو مسلم وأصحابه حتى انتهوا إلى أندومان، فأتاه أبو مالك والشيعة من اهل نسا، فاخبره أبو مالك أن الكتاب الذي كان مع رسول الإمام عنده، فأمره أن يأتيه به، فأتاه بالكتاب وبلواء وراية، فإذا في الكتاب اليه يأمره بالانصراف حيثما يلقاه كتابه، وأن يظهر الدعوة فعقد اللواء الذي أتاه من الإمام على رمح، وعقد الراية، واجتمع إليه شيعة أهل نسا والدعاة والرءوس، ومعه أهل أبيورد الذين قدموا معه. وبلغ ذلك عاصم بْن قيس الحروري، فبعث إلى أبي مسلم يسأله عن حاله، فأخبره أنه من الحاج الذين يريدون بيت الله، ومعه عدة من

ذكر تعاقد اهل خراسان على قتال ابى مسلم

أصحابه من التجار، وسأله أن يخلي سبيل من أحتبس من أصحابه حتى يخرج من بلاده، فسألوا أبا مسلم أن يكتب لهم شرطا على نفسه، ان يصرف من معه من العبيد وما معه من الدواب والسلاح، على أن يخلوا سبيل أصحابه الذين قدموا من بلاد الإمام وغيرهم فأجابهم أبو مسلم إلى ذلك، وخلى سبيل أصحابه، فأمر أبو مسلم الشيعة من أصحابه أن ينصرفوا، وقرأ عليهم كتاب الإمام، وأمرهم بإظهار الدعوة، فانصرف منهم طائفة وسار معه أبو مالك أسيد بْن عبد الله الخزاعي وزريق بْن شوذب ومن قدم عليه من أبيورد، وأمر من انصرف بالاستعداد ثم سار فيمن بقي من اصحابه ومعه قحطبه ابن شبيب، حتى نزلوا تخوم جرجان، وبعث إلى خالد بْن برمك وأبي عون يأمرهما بالقدوم عليه بما قبلهما من مال الشيعة، فقدما عليه، فأقام أياما حتى اجتمعت القوافل وجهز قحطبة بْن شبيب، ودفع إليه المال الذي كان معه، والأحمال بما فيها، ثم وجهه إلى إبراهيم بْن محمد، وسار أبو مسلم بمن معه حتى انتهى إلى نسا، ثم ارتحل منها إلى أبيورد حتى قدمها، ثم سار حتى أتى مرو متنكرا، فنزل قرية تدعى فنين من قرى خزاعة لسبع ليال بقين من شهر رمضان، وقد كان واعد أصحابه أن يوافوه بمرو يوم الفطر. ووجه أبا داود وعمرو بْن أعين إلى طخارستان، والنضر بْن صبيح إلى آمل وبخارى ومعه شريك بْن عيسى، وموسى بْن كعب إلى أبيورد ونسا، وخازم بْن خزيمة إلى مروروذ، وقدموا عليه، فصلى بهم القاسم بْن مجاشع التميمي يوم العيد، في مصلى آل قنبر، في قرية أبي داود خالد بْن إبراهيم. ذكر تعاقد اهل خراسان على قتال ابى مسلم وفي هذه السنة تحالفت وتعاقدت عامة من كان بخراسان من قبائل العرب على قتال ابى مسلم، وذلك حين كثر تباع أبي مسلم وقوي أمره وفيها تحول أبو مسلم من معسكره بإسفيذنج إلى الماخوان. ذكر الخبر عن ذلك والسبب فيه: قَالَ علي: أخبرنا الصباح مولى جبريل، عن مسلمة بْن يحيى، قال:

لما ظهر أبو مسلم، تسارع إليه الناس، وجعل أهل مرو يأتونه، لا يعرض لهم نصر ولا يمنعهم، وكان الكرماني وشيبان لا يكرهان أمر أبي مسلم، لأنه دعا إلى خلع مروان بْن محمد، وأبو مسلم في قرية يقال لها بالين في خباء ليس له حرس ولا حجاب، وعظم أمره عند الناس، وقالوا: ظهر رجل من بني هاشم، له حلم ووقار وسكينة، فانطلق فتية من أهل مرو، نساك كانوا يطلبون الفقه، فأتوا أبا مسلم في معسكره، فسألوه عن نسبه، فقال: خبري خير لكم من نسبي، وسألوه عن أشياء من الفقه، فقال: أمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر خير لكم من هذا، ونحن في شغل، ونحن إلى عونكم أحوج منا إلى مسألتكم، فاعفونا قالوا: والله ما نعرف لك نسبا، ولا نظنك تبقى إلا قليلا حتى تقتل، وما بينك وبين ذلك إلا أن يتفرغ أحد هذين، قَالَ أبو مسلم: بل أنا أقتلهما إن شاء الله. فرجع الفتية فأتوا نصر بْن سيار فحدثوه، فقال: جزاكم الله خيرا، مثلكم تفقد هذا وعرفه وأتوا شيبان فأعلموه، فأرسل: إنا قد أشجى بعضنا بعضا، فأرسل إليه نصر: إن شئت فكف عني حتى أقاتله، وإن شئت فجامعني على حربه حتى أقتله أو أنفيه، ثم نعود إلى أمرنا الذي نحن عليه فهم شيبان أن يفعل، فظهر ذلك في العسكر، فأتت عيون أبي مسلم فأخبروه، فقال سليمان: ما هذا الأمر الذي بلغهم! تكلمت عند أحد بشيء؟ فأخبره خبر الفتية الذين أتوه، فقال: هذا لذاك إذا فكتبوا إلى علي بْن الكرماني: إنك موتور، قتل أبوك ونحن نعلم أنك لست على رأي شيبان، وإنما تقاتل لثأرك فامنع شيبان من صلح نصر، فدخل على شيبان، فكلمه فثناه عن رأيه، فأرسل نصر إلى شيبان: إنك لمغرور، وايم الله ليتفاقمن هذا الأمر حتى تستصغرني في جنبه

فبينا هم في أمرهم إذ بعث أبو مسلم النضر بْن نعيم الضبي إلى هراة وعليها عيسى بْن عقيل الليثي، فطرده عن هراة، فقدم عيسى على نصر منهزما، وغلب النضر على هراة قَالَ: فقال يحيى بْن نعيم بْن هبيرة: اختاروا إما أن تهلكوا أنتم قبل مضر أو مضر قبلكم، قالوا: وكيف ذاك؟ قَالَ: إن هذا الرجل إنما ظهر أمره منذ شهر، وقد صار في عسكره مثل عسكركم، قالوا: فما الرأي؟ قَالَ: صالحوا نصرا، فإنكم إن صالحتموه قاتلوا نصرا وتركوكم، لأن الأمر في مضر، وإن لم تصالحوا نصرا صالحوه وقاتلوكم، ثم عادوا عليكم. قالوا: فما الرأي؟ قَالَ: قدموهم قبلكم ولو ساعة، فتقر أعينكم بقتلهم. فأرسل شيبان إلى نصر يدعوه إلى الموادعة فأجابه، فأرسل إلى سلم بْن أحوز، فكتب بينهم كتابا، فأتى شيبان وعن يمينه ابن الكرماني، وعن يساره يحيى ابن نعيم، فقال سلم لابن الكرماني: يا أعور، ما أخلقك أن تكون الأعور الذي بلغنا أن يكون هلاك مضر على يديه! ثم توادعوا سنة، وكتبوا بينهم كتابا فبلغ أبا مسلم، فأرسل إلى شيبان: إنا نوادعك أشهرا، فتوادعنا ثلاثة أشهر، فقال ابن الكرماني: فإني ما صالحت نصرا، وإنما صالحه شيبان، وأنا لذلك كاره، وأنا موتور، ولا أدع قتاله فعاوده القتال، وأبى شيبان أن يعينه، وقال: لا يحل الغدر فأرسل ابن الكرماني إلى أبي مسلم يستنصره على نصر بْن سيار، فأقبل أبو مسلم حتى أتى الماخوان، وأرسل إلى ابن الكرماني شبل بْن طهمان: إني معك على نصر، فقال ابن الكرماني: إني أحب أن يلقاني أبو مسلم، فأبلغه ذلك شبل، فأقام أبو مسلم أربعة عشر يوما، ثم سار إلى ابن الكرماني، وخلف عسكره بالماخوان، فتلقاه عثمان بْن الكرماني في خيل، وسار معه حتى دخل العسكر، وأتى لحجرة علي فوقف، فاذن له

فدخل، فسلم على علي بالإمرة، وقد اتخذ له على منزلا في قصر لمخلد بْن الحسن الأزدي، فأقام يومين، ثم انصرف إلى عسكره بالماخوان، وذلك لخمس خلون من المحرم من سنة ثلاثين ومائة. وأما أبو الخطاب، فإنه قَالَ: لما كثرت الشيعة في عسكر أبي مسلم، ضاقت به سفيذنج، فارتاد معسكرا فسيحا، فأصاب حاجته بالماخوان، - وهي قرية العلاء بْن حريث وأبي إسحاق خالد بن عثمان، وفيها ابو الجهم ابن عطية وإخوته- وكان مقامه بسفيذنج اثنين وأربعين يوما، وارتحل من سفيذنج إلى الماخوان، فنزل منزل أبي إسحاق خالد بْن عثمان يوم الأربعاء، لتسع ليال خلون من ذي القعدة من سنة تسع وعشرين ومائة، فاحتفر بها خندقا، وجعل للخندق بابين، فعسكر فيه والشيعة، ووكل بأحد بابي الخندق مصعب بْن قيس الحنفي وبهدل بْن إياس الضبي، ووكل بالباب الآخر أبا شراحيل وأبا عمرو الأعجمي، واستعمل على الشرط أبا نصر مالك ابن الهيثم، وعلى الحرس أبا إسحاق خالد بْن عثمان، وعلى ديوان الجند كامل ابن مظفر أبا صالح، وعلى الرسائل أسلم بْن صبيح، والقاسم بْن مجاشع النقيب التميمي على القضاء، وضم أبا الوضاح وعدة من أهل السقادم إلى مالك بْن الهيثم، وجعل أهل نوشان- وهم ثلاثة وثمانون رجلا- إلى أبي إسحاق في الحرس وكان القاسم بْن مجاشع يصلي بأبي مسلم الصلوات في الخندق، ويقص القصص بعد العصر، فيذكر فضل بني هاشم ومعايب بني أمية فنزل أبو مسلم خندق الماخوان، وهو كرجل من الشيعة في هيئته، حتى أتاه عبد الله بْن بسطام، فأتاه بالأروقة والفساطيط والمطابخ والمعالف للدواب وحياض الأدم للماء، فأول عامل استعمله أبو مسلم على شيء من العمل داود بْن كراز، فرد ابو مسلم العبيد عن أن يضاموا في خندقه، واحتفر لهم خندقا في قرية شوال، وولى الخندق داود بْن كراز فلما اجتمعت للعبيد جماعة، وجههم إلى موسى بْن كعب بأبيورد، وأمر أبو مسلم كامل بْن مظفر أن يعرض أهل الخندق باسمائهم وأسماء آبائهم فينسبهم الى القوى، ويجعل ذلك في دفتر،

ذكر خبر مقتل الكرماني

ففعل ذلك كامل أبو صالح، فبلغت عدتهم سبعة آلاف رجل، فأعطاهم ثلاثة دراهم لكل رجل، ثم اعطاهم أربعة على يدي أبي صالح كامل. ثم إن أهل القبائل من مضر وربيعة وقحطان توادعوا على وضع الحرب، وعلى أن تجتمع كلمتهم على محاربة أبي مسلم، فإذا نفوه عن مرو نظروا في أمر أنفسهم وعلى ما يجتمعون عليه فكتبوا على أنفسهم بذلك كتابا وثيقا. وبلغ أبا مسلم الخبر، فافظعه ذلك وأعظمه، فنظر أبو مسلم في أمره، فإذا ماخوان سافلة الماء، فتخوف أن يقطع عنه نصر بْن سيار الماء، فتحول إلى آلين- قرية أبي منصور طلحة بْن رزيق النقيب- وذلك بعد مقامه أربعة أشهر بخندق الماخوان، فنزل آلين في ذي الحجة من سنة تسع وعشرين ومائة، يوم الخميس لست خلون من ذي الحجة فخندق بآلين خندقا أمام القرية، فيما بينها وبين بلاش جرد، فصارت القرية من خلف الخندق، وجعل وجه دار المحتفز بن عثمان ابن بشر المزني في الخندق، وشرب أهل آلين من نهر يدعى الخرقان، لا يمكن نصر ابن سيار قطع الشرب عن آلين وحضر العيد يوم النحر، وأمر القاسم بْن مجاشع التميمي فصلى بأبي مسلم والشيعة في مصلى آلين، وعسكر نصر بْن سيار على نهر عياض، ووضع عاصم بْن عمرو ببلاش جرد، ووضع أبا الذيال بطوسان، ووضع بشر بْن أنيف اليربوعى بجلفر، ووضع حاتم بن الحارث ابن سريج بخرق، وهو يلتمس مواقعه أبي مسلم فأما أبو الذيال فأنزل جنده على أهلها مع أبي مسلم في الخندق، فآذوا أهل طوسان وعسفوهم وذبحوا الدجاج والبقر والحمام، وكلفوهم الطعام والعلف، فشكت الشيعة ذلك إلى أبي مسلم، فوجه معهم خيلا، فلقوا أبا الذيال فهزموه، وأسروا من أصحابه ميمونا الأعسر الخوارزمي في نحو من ثلاثين رجلا، فكساهم أبو مسلم، وداوى جراحاتهم وخلى لهم الطريق . ذكر خبر مقتل الكرماني قال أبو جعفر: وفي هذه السنة قتل جديع بْن علي الكرماني وصلب

ذكر الخبر عن مقتله: قد مضى قبل ذكرنا مقتل الحارث بْن سريج، وأن الكرماني هو الذي قتله ولما قتل الكرماني الحارث، خلصت له مرو بقتله إياه، وتنحى نصر ابن سيار عنها إلى أبرشهر، وقوي أمر الكرماني، فوجه نصر إليه- فيما قيل- سلم بْن أحوز، فسار في رابطة نصر وفرسانه، حتى لقي أصحاب الكرماني، فوجد يحيى بْن نعيم أبا الميلاء واقفا في ألف رجل من ربيعة، ومحمد بن المثنى في سبعمائة من فرسان الأزد، وابن الحسن بْن الشيخ الأزدي في ألف من فتيانهم، والحزمي السغدي في ألف رجل من أبناء اليمن، فلما تواقفوا قَالَ سلم بْن أحوز لمحمد بْن المثنى: يا محمد بْن المثنى، مر هذا الملاح بالخروج إلينا، فقال محمد لسلم: يا بن الفاعلة، لأبي علي تقول هذا! ودلف القوم بعضهم إلى بعض، فاجتلدوا بالسيوف، فانهزم سلم بْن أحوز، وقتل من أصحابه زيادة على مائة، وقتل من أصحاب محمد زيادة على عشرين، وقدم أصحاب نصر عليه فلولا، فقال له عقيل بْن معقل: يا نصر شأمت العرب، فأما إذ صنعت ما صنعت فجد وشمر عن ساق، فوجه عصمة بْن عبد الله الأسدي فوقف موقف سلم بْن أحوز، فنادى: يا محمد، لتعلمن أن السمك لا يغلب اللخم، فقال له محمد: يا بن الفاعلة، قف لنا إذا وأمر محمد السغدي فخرج إليه في أهل اليمن، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم عصمة حتى أتى نصر بْن سيار، وقد قتل من اصحابه أربعمائة. ثم أرسل نصر بْن سيار مالك بْن عمرو التميمي فأقبل في أصحابه، ثم نادى: يا بن المثنى، ابرز لي إن كنت رجلا! فبرز له، فضربه التميمي على حبل العاتق فلم يصنع شيئا، وضربه محمد بْن المثنى بعمود فشدخ رأسه، فالتحم القتال، فاقتتلوا قتالا شديدا كأعظم ما يكون من القتال، فانهزم أصحاب نصر، وقد قتل منهم سبعمائة رجل، وقتل من اصحاب الكرماني ثلاثمائة رجل، ولم يزل الشر بينهم حتى خرجوا جميعا إلى الخندقين، فاقتتلوا قتالا شديدا،

فلما استيقن أبو مسلم أن كلا الفريقين قد أثخن صاحبه، وأنه لا مدد لهم، جعل يكتب الكتب إلى شيبان، ثم يقول للرسول: اجعل طريقك على المضرية، فإنهم سيعرضون لك، ويأخذون كتبك، فكانوا يأخذونها فيقرءون فيها: إني رأيت أهل اليمن لا وفاء لهم ولا خير فيهم، فلا تثقن بهم ولا تطمئن إليهم، فإني أرجو أن يريك الله ما تحب، ولئن بقيت لا أدع لهم شعرا ولا ظفرا. ويرسل رسولا آخر في طريق آخر بكتاب فيه ذكر المضرية وإطراء اليمن بمثل ذلك، حتى صار هوى الفريقين جميعا معه، وجعل يكتب إلى نصر بْن سيار وإلى الكرماني: إن الإمام قد أوصاني بكم، ولست أعدو رأيه فيكم. وكتب إلى الكور بإظهار الأمر، فكان أول من سود- فيما ذكر- اسيد ابن عبد الله بنسا، ونادى: يا محمد، يا منصور وسود معه مقاتل بْن حكيم وابن غزوان، وسود أهل أبيورد وأهل مرو الروذ، وقرى مرو. وأقبل أبو مسلم حتى نزل بين خندق نصر بْن سيار وخندق جديع الكرماني، وهابه الفريقان، وكثر أصحابه، فكتب نصر بن سيار الى مروان ابن محمد يعلمه حال أبي مسلم وخروجه وكثرة من معه ومن تبعه، وأنه يدعو إلى إبراهيم بْن محمد، وكتب بأبيات شعر: أرى بين الرماد وميض جمر ... فأحج بأن يكون له ضرام فإن النار بالعودين تذكى ... وإن الحرب مبدؤها الكلام فقلت من التعجب: ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام! فكتب إليه الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فاحسم الثؤلول قبلك، فقال نصر: أما صاحبكم فقد أعلمكم ألا نصر عنده فكتب إلى يزيد بْن عمر بْن هبيرة يستمده، وكتب إليه بأبيات شعر: أبلغ يزيد وخير القول أصدقه ... وقد تبينت الأخير في الكذب

إن خراسان أرض قد رأيت بها ... بيضا لو أفرخ قد حدثت بالعجب فراخ عامين إلا أنها كبرت ... لما يطرن وقد سربلن بالزغب فإن يطرن ولم يحتل لهن بها ... يلهبن نيران حرب أيما لهب فقال يزيد: لا غلبة إلا بكثرة، وليس عندي رجل وكتب نصر إلى مروان يخبره خبر أبي مسلم وظهوره وقوته، وأنه يدعو إلى إبراهيم بْن محمد، فألفى الكتاب مروان وقد أتاه رسول لأبي مسلم إلى إبراهيم، كان قد عاد من عند إبراهيم، ومعه كتاب إبراهيم إلى أبي مسلم جواب كتابه، يلعن فيه أبا مسلم ويسبه، حيث لم ينتهز الفرصة من نصر والكرماني إذ امكناه، ويأمره الا يدع بخراسان عربيا إلا قتله فدفع الرسول الكتاب إلى مروان، فكتب مروان إلى الوليد بْن معاوية بْن عبد الملك وهو على دمشق، يأمره أن يكتب إلى عامل البلقاء، فيسير إلى كرار الحميمة، فليأخذ إبراهيم بْن محمد ويشده وثاقا، وليبعث به إليه في خيل، فوجه الوليد إلى عامل البلقاء فأتى إبراهيم وهو في مسجد القرية، فأخذه وكتفه وحمله إلى الوليد، فحمله إلى مروان فحبسه مروان في السجن. رجع الحديث إلى حديث نصر والكرماني وبعث أبو مسلم حين عظم الأمر بين الكرماني ونصر إلى الكرماني: إني معك، فقبل ذلك الكرماني وانضم إليه أبو مسلم، فاشتد ذلك على نصر، فأرسل إلى الكرماني: ويلك لا تغترر! فو الله إني لخائف عليك وعلى أصحابك منه، ولكن هلم الى الموادعة، فتدخل مرو، فنكتب بيننا كتابا بصلح- وهو يريد أن يفرق بينه وبين أبي مسلم- فدخل الكرماني منزله، وأقام أبو مسلم في المعسكر، وخرج الكرماني حتى وقف في الرحبة في مائة فارس، وعليه قرطق خشكشونة ثم أرسل إلى نصر: اخرج لنكتب بيننا ذلك الكتاب، فأبصر نصر منه غرة، فوجه إليه

غلبه عبد الله بن معاويه على فارس

ابن الحارث بْن سريج في نحو من ثلاثمائة فارس، فالتقوا في الرحبة، فاقتتلوا بها طويلا. ثم إن الكرماني طعن في خاصرته فخر عن دابته، وحماه أصحابه حتى جاءهم ما لا قبل لهم به، فقتل نصر الكرماني وصلبه، ومعه سمكة، فأقبل ابنه علي- وقد كان صار إلى أبي مسلم، وقد جمع جمعا كثيرا- فسار بهم إلى نصر بْن سيار فقاتله حتى أخرجه من دار الإمارة، فمال إلى بعض دور مرو، وأقبل أبو مسلم حتى دخل مرو، فأتاه علي بْن جديع الكرماني فسلم عليه بالإمرة، وأعلمه أنه معه على مساعدته، وقال: مرني بأمرك، فقال: أقم على ما أنت عليه حتى آمرك بأمري. غلبه عبد الله بن معاويه على فارس وفي هذه السنة غلب عبد الله بْن معاوية بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ على فارس ذكر الخبر عن ذلك وعن السبب الذي وصل به إلى الغلبة عليها: ذكر علي بْن محمد أن عاصم بْن حفص التميمي وغيره حدثوه أن عبد الله ابن معاوية لما هزم بالكوفة، شخص إلى المدائن، فبايعه أهل المدائن، فأتاه قوم من أهل الكوفة، فخرج إلى الجبال فغلب عليها، وعلى حلوان وقومس وأصبهان والري، وخرج إليه عبيد أهل الكوفة، فلما غلب على ذلك أقام بأصبهان، وقد كان محارب بْن موسى مولى بني يشكر عظيم القدر بفارس، فجاء يمشي في نعلين إلى دار الإمارة بإصطخر، فطرد العامل، عامل ابْن عمر عنها، وقال لرجل يقال له عماره: بايع الناس، فقال له اهل اصطخر: علام نبايع؟ قَالَ: على ما أحببتم وكرهتم فبايعوه لابن معاوية، وخرج محارب إلى كرمان فأغار عليهم، وأصاب في غارته إبلا لثعلبة بْن حسان المازني فاستاقها ورجع. فخرج ثعلبة يطلب إبله في قرية له تدعى أشهر- قَالَ: ومع ثعلبة مولى له- فقال له مولاه: هل لك ان نفتك بمحارب، فإن شئت ضربته وكفيتني الناس، وإن شئت ضربته وكفيتك الناس؟ قَالَ: ويحك! أردت ان تفتك

وتذهب الإبل ولم نلق الرجل! ثم دخل على محارب فرحب به ثم قال: حاجتك! قال: ابلى، قال: نعم، لقد أخذت، وما أعرفها، وقد عرفتها، فدونك إبلك فأخذها، وقال لمولاه: هذا خير، وما اردت؟ قال: ذلك لو أخذناها كان أشفى وانضم إلى محارب القواد والأمراء من أهل الشام: فسار إلى مسلم بْن المسيب وهو بشيراز، عامل لابن عمر، فقتله في سنة ثمان وعشرين ومائة، ثم خرج محارب إلى أصبهان، فحول عبد الله بْن معاوية إلى إصطخر، واستعمل عبد الله أخاه الحسن على الجبال، فأقبل فنزل في دير على ميل من اصطخر، واستعمل أخاه يزيد على فارس فأقام، فأتاه الناس، بنو هاشم وغيرهم، وجبى المال، وبعث العمال، وكان معه منصور بْن جمهور وسليمان بْن هشام بْن عبد الملك وشيبان بْن الحلس بْن عبد العزيز الشيباني الخارجي، وأتاه أبو جعفر عبد الله، وعبد الله وعيسى ابنا علي وقدم يزيد بْن عمر بْن هبيرة على العراق، فأرسل نباتة بْن حنظلة الكلابي إلى عبد الله بْن معاوية، وبلغ سليمان بْن حبيب أن ابن هبيرة ولى نباتة الأهواز، فسرح داود بْن حاتم، فأقام بكربج دينار ليمنع نباتة من الأهواز، فقدم نباتة، فقاتله، فقتل داود، وهرب سليمان إلى سابور، وفيها الأكراد قد غلبوا عليها، وأخرجوا المسيح بن الحمارى، فقاتلهم سليمان، فطرد الأكراد عن سابور، وكتب إلى عبد الله بْن معاوية بالبيعة، فقال: عبد الرحمن ابن يزيد بْن المهلب: لا يفي لك، وإنما أراد أن يدفعك عنه، ويأكل سابور، فاكتب إليه فليقدم عليك إن كان صادقا فكتب إليه فقدم، وقال لأصحابه: ادخلوا معي، فإن منعكم أحد فقاتلوه، فدخلوا فقال لابن معاوية: أنا أطوع الناس لك، قَالَ: ارجع إلى عملك، فرجع ثم إن محارب بْن موسى نافر ابن معاوية، وجمع جمعا، فأتى سابور- وكان ابنه مخلد بْن محارب محبوسا بسابور، أخذه يزيد بْن معاوية فحبسه- فقال لمحارب: ابنك في يديه وتحاربه! أما تخاف أن يقتل ابنك! قَالَ: أبعده الله! فقاتله يزيد، فانهزم محارب، فأتى كرمان، فأقام بها حتى قدم محمد بْن الأشعث، فصار معه، ثم نافر ابن الأشعث فقتله وأربعة وعشرين

ابنا له ولم يزل عبد الله بْن معاوية بإصطخر حتى أتاه ابن ضبارة مع داود ابن يزيد بْن عمر بْن هبيرة، فأمر ابن معاوية فكسروا قنطرة الكوفة، فوجه ابن هبيرة معن بْن زائدة من وجه آخر، فقال سليمان لأبان بْن معاوية بْن هشام: قد أتاك القوم، قَالَ: لم أومر بقتالهم، قَالَ: ولا تؤمر والله بهم أبدا، وأتاهم فقاتلهم عند مرو الشاذان، ومعن يرتجز: ليس أمير القوم بالخب الخدع ... فر من الموت وفي الموت وقع قال ابن المقفع او غيره: فر من الموت وفيه قد وقع. قَالَ: عمدا، قلت: قد عملت، فانهزم ابن معاوية، وكف معن عنهم، فقتل في المعركة رجل من آل أبي لهب، وكان يقال: يقتل رجل من بني هاشم بمرو الشاذان وأسروا أسراء كثيرة، فقتل ابن ضبارة عدة كثيرة، فيقال كان فيمن قتل يومئذ حكيم الفرد أبو المجد، ويقال: قتل بالأهواز، قتله نباتة. ولما انهزم ابن معاوية هرب شيبان إلى جزيرة ابن كاوان ومنصور بْن جمهور إلى السند، وعبد الرحمن بْن يزيد إلى عمان، وعمرو بْن سهل بْن عبد العزيز إلى مصر، وبعث ببقية الأسراء إلى ابن هبيرة. قَالَ حميد الطويل: أطلق أولئك الأسراء فلم يقتل منهم غير حصين بْن وعلة السدوسي، ولما أمر بقتله قَالَ: أقتل من بين الأسراء! قَالَ: نعم، أنت مشرك، أنت الذي تقول: ولو آمر الشمس لم تشرق. ومضى ابن معاوية من وجهه إلى سجستان ثم أتى خراسان ومنصور بْن جمهور إلى السند، فسار في طلبه معن بْن زائدة وعطية الثعلبي وغيره من بني ثعلبة، فلم يدركوه، فرجعوا وكان حصين بْن وعلة السدوسي مع يزيد بْن معاويه، فتركه معن بن زائده فبعث به معن إلى ابن ضبارة، فبعث به ابن ضبارة إلى واسط، وسار ابن ضبارة إلى عبد الله بْن معاوية بإصطخر، فنزل بإزائه على نهر إصطخر، فعبر ابن الصحصح في ألف، فلقيه من أصحاب

مجيء ابى حمزه الخارجي الموسم

عبد الله بْن معاوية أبان بْن معاوية بْن هشام فيمن كان معه من أهل الشام، ممن كان مع سليمان بْن هشام فاقتتلوا، فمال ابن نباتة إلى القنطرة، فلقيهم من كان مع ابن معاوية من الخوارج، فانهزم أبان والخوارج، فأسر منهم ألفا، فأتوا بهم ابن ضبارة، فخلى عنهم، وأخذ يومئذ عبد الله بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس في الأسراء، فنسبه ابن ضبارة، فقال: ما جاء بك إلى ابن معاوية، وقد عرفت خلافه أمير المؤمنين! قَالَ: كان علي دين فأديته فقام إليه حرب بْن قطن الكناني، فقال: ابن أختنا، فوهبه له، وقال: ما كنت لأقدم على رجل من قريش وقال له ابن ضبارة: إن الذي قد كنت معه قد عيب بأشياء، فعندك منها علم؟ قَالَ: نعم، وعابه ورمى أصحابه باللواط، فأتوا ابن ضبارة بغلمان عليهم أقبية قوهية مصبغة ألوانا، فأقامهم للناس وهم أكثر من مائة غلام، لينظروا إليهم وحمل ابن ضبارة عبد الله بْن علي على البريد إلى ابن هبيرة ليخبره أخباره، فحمله ابن هبيرة إلى مروان في أجناد أهل الشام، وكان يعيبه، وابن ضبارة يومئذ في مفازة كرمان في طلب عبد الله ابن معاوية، وقد أتى ابن هبيرة مقتل نباتة، فوجه ابن هبيرة كرب بْن مصقلة والحكم بْن أبي الأبيض العبسي وابن محمد السكوني، كلهم خطيب، فتكلموا في تقريظ ابن ضبارة، فكتب إليه أن سر بالناس إلى فارس، ثم جاءه كتاب ابن هبيرة: سر الى أصبهان . مجيء ابى حمزه الخارجي الموسم وفي هذه السنة وافى الموسم أبو حمزة الخارجي، من قبل عبد الله ابن يحيى طالب الحق، محكما مظهرا للخلاف على مروان بْن محمد. ذكر الخبر عن ذلك من أمره: حدثني العباس بْن عيسى العقيلي، قَالَ: حدثنا هارون بْن موسى الفروي قَالَ: حدثنا موسى بْن كثير مولى الساعديين، قَالَ: لما كان تمام سنة تسع وعشرين ومائة، لم يدر الناس بعرفة إلا وقد طلعت أعلام عمائم سود

حرقانيه في رءوس الرماح وهم في سبعمائة، ففزع الناس حين رأوهم، وقالوا: ما لكم! وما حالكم؟ فأخبروهم بخلافهم مروان وآل مروان والتبرؤ منه. فراسلهم عبد الواحد بْن سليمان- وهو يومئذ على المدينة ومكة- فراسلهم في الهدنة، فقالوا: نحن بحجنا أضن، ونحن عليه أشح وصالحهم على أنهم جميعا آمنون، بعضهم من بعض، حتى ينفر الناس النفر الأخير، وأصبحوا من الغد فوقفوا على حدة بعرفة، ودفع بالناس عبد الواحد بْن سليمان بْن عبد الملك بْن مروان، فلما كانوا بمنى ندموا عبد الواحد، وقالوا: قد أخطأت فيهم، ولو حملت الحاج عليهم ما كانوا إلا أكلة رأس فنزل أبو حمزة بقرين الثعالب، ونزل عبد الواحد منزل السلطان، فبعث عبد الواحد إلى أبي حمزة عبد الله بْن الحسن بْن الحسن بْن علي، ومحمد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، وعبد الرحمن بْن القاسم بْن محمد بْن أبي بكر، وعبيد الله بْن عمر بْن حفص بْن عاصم بْن عمر بْن الخطاب، وربيعة بْن أبي عبد الرحمن، في رجال أمثالهم، فدخلوا على أبي حمزة وعليه إزار قطن غليظ، فتقدمهم إليه عبد الله بْن الحسن ومحمد بْن عبد الله فنسبهما فانتسبا له، فعبس في وجوههما، وأظهر الكراهة لهما، ثم سأل عبد الرحمن بْن القاسم وعبيد الله بْن عمر فانتسبا له، فهش إليهما، وتبسم في وجوههما، وقال: والله ما خرجنا إلا لنسير بسيرة أبويكما، فقال له عبد الله بْن حسن: والله ما جئنا لتفضل بين آبائنا، ولكنا بعثنا إليك الأمير برسالة- وهذا ربيعة يخبركها- فلما ذكر ربيعة نقض العهد، قَالَ بلج وأبرهة- وكانا قائدين له: الساعة الساعة! فأقبل عليهم أبو حمزة، فقال: معاذ الله أن ننقض العهد أو نحبس، والله لا أفعل ولو قطعت رقبتي هذه، ولكن تنقضي الهدنة بيننا وبينكم فلما أبى عليهم خرجوا، فأبلغوا عبد الواحد، فلما كان النفر نفر عبد الواحد في النفر الأول، وخلى مكة لأبي حمزة، فدخلها بغير قتال قَالَ العباس: قَالَ هارون: فأنشدني يعقوب بْن طلحة الليثي أبياتا هجي بها عبد الواحد- قَالَ: وهي لبعض الشعراء لم احفظ اسمه:

زار الحجيج عصابة قد خالفوا ... دين الإله ففر عبد الواحد ترك الحلائل والإمارة هاربا ... ومضى يخبط كالبعير الشارد لو كان والده تنصل عرقه ... لصفت مضاربه بعرق الوالد ثم مضى عبد الواحد حتى دخل المدينة، فدعا بالديوان، فضرب على الناس البعث، وزادهم في العطاء عشرة عشرة قَالَ العباس: قَالَ هارون: أخبرني بذلك أبو ضمرة أنس بْن عياض، قَالَ: كنت فيمن اكتتب، ثم محوت اسمي. قَالَ العباس: قَالَ هارون: وحدثني غير واحد من أصحابنا أن عبد الواحد استعمل عبد العزيز بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ على الناس فخرجوا، فلما كانوا بالحرة لقيتهم جزر منحورة فمضوا. وحج بالناس في هذه السنة عبد الواحد بْن سليمان بْن عبد الملك بن مروان حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر وكذلك قال محمد بْن عمر وغيره. وكان العامل على مكة والمدينة عبد الواحد بن سليمان، وعلى العراق يزيد ابن عمر بن هبيرة، وعلى قضاء الكوفة الحجاج بن عاصم المحاربي- فيما ذكر- وعلى قضاء البصرة عباد بن منصور، وعلى خراسان نصر بن سيار، والفتنة بها.

سنه ثلاثين ومائه

ثم دخلت سنه ثلاثين ومائه (ذكر خبر الاحداث التي كانت فيها) ذكر دخول ابى مسلم مرو والبيعه بها فمما كان فيها من ذلك دخول أبي مسلم حائط مرو ونزوله دار الإمارة بها، ومطابقة علي بْن جديع الكرماني إياه على حرب نصر بْن سيار. ذكر الخبر عن ذلك وسببه: ذكر أبو الخطاب أن دخول أبي مسلم حائط مرو ونزوله دار الإمارة التي ينزلها عمال خراسان كان في سنة ثلاثين ومائة لتسع خلون من جمادى الآخرة يوم الخميس، وأن السبب في مسير علي بْن جديع مع أبي مسلم كان أن سليمان ابن كثير كان بإزاء علي بْن الكرماني حين تعاقد هو ونصر على حرب أبي مسلم، فقال سليمان بْن كثير لعلي بْن الكرماني: يقول لك أبو مسلم: أما تأنف من مصالحة نصر بْن سيار، وقد قتل بالأمس اباك وصلبه! ما كنت أحسبك تجامع نصر بْن سيار في مسجد تصليان فيه! فأدرك علي بْن الكرماني الحفيظة، فرجع عن رأيه وانتقض صلح العرب قال: ولما انتقض صلحهم بعث نصر ابن سيار إلى أبي مسلم يلتمس منه أن يدخل مع مضر، وبعثت ربيعة وقحطان إلى أبي مسلم بمثل ذلك، فتراسلوا بذلك أياما، فأمرهم أبو مسلم أن يقدم عليه وفد الفريقين حتى يختار أحدهما، ففعلوا وأمر أبو مسلم الشيعة أن يختاروا ربيعة وقحطان، فإن السلطان في مضر، وهم عمال مروان الجعدي، وهم قتلة يحيى بْن زيد فقدم الوفدان، فكان في وفد مضر عقيل بْن معقل بْن حسان الليثي وعبيد الله بْن عبد ربه الليثي والخطاب بن محرز السلمى، في رجال منهم وكان في وفد قحطان عثمان بْن الكرماني ومحمد بْن المثنى وسوره بن محمد ابن عزيز الكندي، في رجال منهم، فأمر أبو مسلم عثمان بْن الكرماني وأصحابه

فدخلوا بستان المحتفز، وقد بسط لهم فيه، فقعدوا وجلس أبو مسلم في بيت في دار المحتفز، وأذن لعقيل بْن معقل وأصحابه من وفد مضر، فدخلوا إليه، ومع أبي مسلم في البيت سبعون رجلا من الشيعة، قرأ على الشيعة كتابا كتبه أبو مسلم ليختاروا أحد الفريقين، فلما فرغ من قراءة الكتاب، قام سليمان ابن كثير، فتكلم- وكان خطيبا مفوها- فاختار علي بْن الكرماني وأصحابه، وقام أبو منصور طلحة بْن رزيق النقيب فيهم- وكان فصيحا متكلما- فقال كمقالة سليمان بْن كثير، ثم قام مزيد بْن شقيق السلمي، فقال: مضر قتلة آل النبي ص وأعوان بني أمية وشيعة مروان الجعدي، ودماؤنا في أعناقهم، وأموالنا في أيديهم، والتباعات قبلهم، ونصر بْن سيار عامل مروان على خراسان ينفذ أموره، ويدعو له على منبره، ويسميه أمير المؤمنين، ونحن من ذلك إلى الله برآء وأن يكون مروان أمير المؤمنين، وأن يكون نصر على هدى وصواب، وقد اخترنا علي بْن الكرماني وأصحابه من قحطان وربيعة فقال السبعون الذين جمعوا في البيت بقول مزيد بْن شقيق. فنهض وفد مضر عليهم الذلة والكآبة، ووجه معهم أبو مسلم القاسم بْن مجاشع في خيل حتى بلغوا مأمنهم، ورجع وفد علي بْن الكرماني مسرورين منصورين وكان مقام أبي مسلم بآلين تسعة وعشرين يوما، فرحل عن آلين راجعا إلى خندقه بالماخوان، وأمر أبو مسلم الشيعة أن يبتنوا المساكن، ويستعدوا للشتاء فقد أعفاهم الله من اجتماع كلمة العرب، وصيرهم بنا إلى افتراق الكلمة، وكان ذلك قدرا من الله مقدورا. وكان دخول أبي مسلم الماخوان منصرفا عن آلين سنة ثلاثين ومائة، للنصف من صفر يوم الخميس، فأقام أبو مسلم في خندقه بالماخوان ثلاثة أشهر، تسعين يوما، ثم دخل حائط مرو يوم الخميس لتسع خلون من جمادى الأولى سنة ثلاثين ومائة. قَالَ: وكان حائط مرو إذ ذاك في يد نصر بْن سيار لأنه عامل خراسان،

فأرسل علي بْن الكرماني إلى أبي مسلم أن ادخل الحائط من قبلك، وأدخل أنا وعشيرتي من قبلي، فنغلب على الحائط فأرسل إليه أبو مسلم أن لست آمن أن يجتمع يدك ويد نصر على محاربتي، ولكن ادخل أنت فانشب الحرب بينك وبينه وبين أصحابه، فدخل علي بْن الكرماني فأنشب الحرب، وبعث أبو مسلم أبا علي شبل بْن طهمان النقيب في جند، فدخلوا الحائط، فنزل في قصر بخاراخذاه، فبعثوا إلى أبي مسلم أن ادخل، فدخل أبو مسلم من خندق الماخوان، وعلى مقدمته أسيد بْن عبد الله الخزاعي، وعلى ميمنته مالك بْن الهيثم الخزاعي، وعلى ميسرته القاسم بْن مجاشع التميمي، حتى دخل الحائط، والفريقان يقتتلان فأمرهما بالكف وهو يتلو من كتاب الله: «وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ» ومضى أبو مسلم حتى نزل قصر الإمارة بمرو الذي كان ينزله عمال خراسان، وكان ذلك لتسع خلون من جمادى الأولى سنة ثلاثين ومائة، يوم الخميس. وهرب نصر بْن سيار عن مرو الغد من يوم الجمعة لعشر خلون من جمادى الاولى من سنة ثلاثين ومائة، وصفت مرو لأبي مسلم فلما دخل أبو مسلم حائط مرو أمر أبا منصور طلحة بْن رزيق بأخذ البيعة على الجند من الهاشمية خاصة- وكان أبو منصور رجلا فصيحا نبيلا مفوها عالما بحجج الهاشمية وغوامض أمورهم، وهو أحد النقباء الاثني عشر، والنقباء الاثنا عشر هم الذين اختارهم محمد بْن علي من السبعين الذين كانوا استجابوا له حين بعث رسوله إلى خراسان سنة ثلاث ومائة أو أربع ومائة- وأمره أن يدعو إلى الرضا، ولا يسمي أحدا، ومثل له مثالا ووصف من العدل صفة، فقدمها فدعا سرا، فأجابه ناس، فلما صاروا سبعين أخذ منهم اثنى عشر نقيبا. منهم من خزاعة سليمان بْن كثير ومالك بن الهيثم وزياد بن صالح وطلحه ابن رزيق وعمرو بن اعين، ومن طيّئ قحطبة- واسمه زياد بْن

شبيب بْن خالد بْن معدان- ومن تميم موسى بْن كعب أبو عيينة ولاهز بْن قريظ والقاسم بْن مجاشع، كلهم من بني امرئ القيس، وأسلم بْن سلام أبو سلام، ومن بكر بْن وائل أبو داود خالد بْن إبراهيم من بني عمرو بْن شيبان أخي سدوس وأبو علي الهروي. ويقال: شبل بْن طهمان مكان عمرو بْن أعين وعيسى بْن كعب وأبو النجم عمران بْن إسماعيل مكان أبي علي الهروي، وهو ختن أبي مسلم. ولم يكن في النقباء أحد والده حي غير ابى منصور طلحه بن رزيق بْن أسعد، وهو أبو زينب الخزاعي، وقد كان شهد حرب عبد الرحمن بْن محمد بْن الأشعث، وصحب المهلب بْن أبي صفرة وغزا معه، فكان أبو مسلم يشاوره في الأمور، ويسأله عما شهد من الحروب والمغازي، ويسأله عن الكنية بأبي منصور: يا أبا منصور، ما تقول؟ وما رأيك؟ قَالَ أبو الخطاب: فأخبرنا من شهد أبا منصور يأخذ البيعة على الهاشمية: أبايعكم عَلَى كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وسنة نبيه ص والطاعة للرضا من أهل بيت رسول الله ص، عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، والطلاق والعتاق، والمشي إلى بيت الله، وعلى ألا تسألوا رزقا ولا طمعا حتى يبدأكم به ولاتكم، وإن كان عدو أحدكم تحت قدمه فلا تهيجوه إلا بأمر ولاتكم فلما حبس أبو مسلم سلم بْن أحوز ويونس بْن عبد ربه، وعقيل ابن معقل ومنصور بْن أبي الخرقاء وأصحابه، شاور أبا منصور، فقال: اجعل سوطك السيف، وسجنك القبر، فأقدمهم أبو مسلم فقتلهم، وكانت عدتهم أربعة وعشرين رجلا. وأما علي بْن محمد، فإنه ذكر أن الصباح مولى جبريل، أخبره عن مسلمه ابن يحيى، أن أبا مسلم جعل على حرسه خالد بن عثمان، وعلى شرطه مالك

ابن الهيثم، وعلى القضاء القاسم بْن مجاشع، وعلى الديوان كامل بْن مظفر، فرزق كل رجل أربعة آلاف، وأنه أقام في عسكره بالماخوان ثلاثة أشهر، ثم سار من الماخوان ليلا في جمع كبير يريد عسكر ابن الكرماني، وعلى ميمنته لاهز بْن قريظ، وعلى ميسرته القاسم بْن مجاشع، وعلى مقدمته أبو نصر مالك بْن الهيثم وخلف على خندقه أبا عبد الرحمن الماخواني، فأصبح في عسكر شيبان، فخاف نصر أن يجتمع أبو مسلم وابن الكرماني على قتاله، فأرسل إلى أبي مسلم يعرض عليه أن يدخل مدينة مرو ويوادعه، فأجابه، فوادع أبا مسلم نصر، فراسل نصر بْن أحوز يومه ذلك كله، وأبو مسلم في عسكر شيبان، فأصبح نصر وابن الكرماني، فغدوا إلى القتال، وأقبل أبو مسلم ليدخل مدينة مرو، فرد خيل نصر وخيل ابن الكرماني، ودخل المدينة لسبع- أو لتسع- خلون من شهر ربيع الآخر سنة ثلاثين ومائة، وهو يتلو: «وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ» إلى آخر الآية. قَالَ علي: وأخبرنا أبو الذيال والمفضل الضبي، قالا: لما دخل أبو مسلم مدينة مرو، قَالَ نصر لأصحابه: أرى هذا الرجل قد قوي أمره، وقد سارع إليه الناس، وقد وادعته وسيتم له ما يريد، فاخرجوا بنا عن هذه البلدة وخلوه، فاختلفوا عليه، فقال بعضهم: نعم، وقال بعضهم: لا، فقال: أما إنكم ستذكرون قولي وقال لخاصته من مضر: انطلقوا إلى أبي مسلم فالقوه، وخذوا بحظكم منه، وأرسل أبو مسلم إلى نصر لاهز بْن قريظ يدعوه فقال لاهز: «إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ» ، وقرأ قبلها آيات، ففطن نصر، فقال لغلامه: ضع لي وضوءا، فقام كأنه يريد الوضوء، فدخل بستانا وخرج منه، فركب وهرب. قَالَ علي: وأخبرنا أبو الذيال، قَالَ: أخبرني إياس بْن طلحة بْن طلحة قَالَ: كنت مع أبي وقد ذهب عمي إلى أبي مسلم يبايعه، فأبطأ حتى صليت

العصر والنهار قصير، فنحن ننتظره، وقد هيأنا له الغداء، فإني لقاعد مع أبي إذ مر نصر على برذون، لا أعلم في داره برذونا أسرى منه، ومعه حاجبه والحكم بْن نميلة النميري قَالَ أبي: إنه لهارب ليس معه أحد، وليس بين يديه حربة ولا راية، فمر بنا، فسلم تسليما خفيا، فلما جازنا ضرب برذونه، ونادى الحكم بْن نميلة غلمانه، فركبوا واتبعوه. قَالَ علي: قَالَ أبو الذيال: قَالَ إياس: كان بين منزلنا وبين مرو أربعة فراسخ، فمر بنا نصر بعد العتمة، فضج أهل القرية وهربوا، فقال لي أهلي وإخواني: اخرج لا تقتل، وبكوا، فخرجت أنا وعمي المهلب بْن إياس فلحقنا نصرا بعد هدء الليل، وهو في أربعين، قد قام برذونه، فنزل عنه، فحمله بشر بْن بسطام بْن عمران بْن الفضل البرجمي على برذونه، فقال نصر: إني لا آمن الطلب، فمن يسوق بنا؟ قَالَ عبد الله بْن عرعرة الضبي: أنا أسوق بكم، قَالَ: أنت لها، فطرد بنا ليلته حتى أصبحنا في بئر في المفازة على عشرين فرسخا أو أقل، ونحن ستمائه، فسرنا يومنا فنزلنا العصر، ونحن ننظر إلى ابيات سرخس وقصورها ونحن الف وخمسمائة، فانطلقت أنا وعمي إلى صديق لنا من بني حنيفة يقال له مسكين، فبتنا نحن عنده لم نطعم شيئا، فأصبحنا، فجاءنا بثريدة فأكلنا منها ونحن جياع لم نأكل يومنا وليلتنا، واجتمع الناس فصاروا ثلاثة آلاف، وأقمنا بسرخس يومين، فلما لم يأتنا أحد صار نصر إلى طوس، فأخبرهم خبر أبي مسلم، وأقام خمسة عشر يوما، ثم سار وسرنا إلى نيسابور فأقام بها، ونزل أبو مسلم حين هرب نصر دار الإمارة، وأقبل ابن الكرماني، فدخل مرو مع أبي مسلم، فقال ابو مسلم حين هرب نصر: يزعم نصر أني ساحر، هو والله ساحر! وقال غير من ذكرت قوله في أمر نصر وابن الكرماني وشيبان الحروري: انتهى أبو مسلم في سنة ثلاثين ومائة من معسكره بقرية سليمان بْن كثير إلى قرية تدعى الماخوان فنزلها، وأجمع على الاستظهار بعلي بْن جديع ومن معه من اليمن، وعلى دعاء نصر بْن سيار ومن معه إلى معاونته، فأرسل إلى الفريقين جميعا، وعرض على كل فريق منهم المسالمة واجتماع الكلمة والدخول

في الطاعة، فقبل ذلك علي بْن جديع، وتابعه على رأيه، فعاقده عليه، فلما وثق أبو مسلم بمبايعة علي بْن جديع إياه، كتب إلى نصر بْن سيار أن يبعث إليه وفدا يحضرون مقالته ومقالة أصحابه فيما كان وعده أن يميل معه، وأرسل إلى علي بمثل ما أرسل به إلى نصر. ثم وصف من خبر اختيار قواد الشيعة اليمانية على المضرية نحوا مما وصف من قد ذكرنا الرواية عنه قبل في كتابنا هذا، وذكر أن أبا مسلم إذ وجه شبل ابن طهمان فيمن وجهه إلى مدينة مرو وأنزله قصر بخاراخذاه، إنما وجهه مددا لعلي بْن الكرماني. قَالَ: وسار أبو مسلم من خندقه بالماخوان بجميع من معه الى على ابن جديع، ومع على عثمان واخوه وأشراف اليمن معهم وحلفاؤهم من ربيعة، فلما حاذى أبو مسلم مدينة مرو استقبله عثمان بْن جديع في خيل عظيمة، ومعه أشراف اليمن ومن معه من ربيعة، حتى دخل عسكر علي بْن الكرماني وشيبان بْن سلمة الحروري ومن معه من النقباء، ووقف على حجرة علي بْن جديع، فدخل عليه وأعطاه الرضا، وآمنه على نفسه وأصحابه، وخرجا إلى حجره شيبان، وهو يسلم عليه يومئذ بالخلافة، فأمر أبو مسلم عليا بالجلوس إلى جنب شيبان، وأعلمه أنه لا يحل له التسليم عليه وأراد أبو مسلم أن يسلم على علي بالإمرة، فيظن شيبان أنه يسلم عليه ففعل ذلك علي، ودخل عليه أبو مسلم، فسلم عليه بالإمارة، وألطف لشيبان وعظمه، ثم خرج من عنده فنزل قصر محمد بْن الحسن الأزدي، فأقام به ليلتين، ثم انصرف إلى خندقه بالماخوان، فأقام به ثلاثة أشهر، ثم ارتحل من خندقه بالماخوان إلى مرو لسبع خلون من ربيع الآخر، وخلف على جنده أبا عبد الكريم الماخواني، وجعل أبو مسلم على ميمنته لاهز بْن قريظ، وعلى ميسرته القاسم ابن مجاشع، وعلى مقدمته مالك بْن الهيثم، وكان مسيره ليلا، فأصبح على باب مدينة مرو، وبعث إلى علي بْن جديع أن يبعث خيله حتى وقف على باب قصر الإمارة، فوجد الفريقين يقتتلان أشد القتال في حائط مرو،

فأرسل إلى الفريقين أن كفوا، وليتفرق كل قوم إلى معسكرهم، ففعلوا. وأرسل أبو مسلم لاهز بْن قريظ وقريش بْن شقيق وعبد الله بْن البختري، وداود بْن كراز إلى نصر يدعوه إلى كتاب الله والطاعة للرضا من آل محمد ص. فلما رأى نصر ما جاءه من اليمانية والربيعه والعجم، وأنه لا طاقة له بهم، ولا بد أن أظهر قبول ما بعث به اليه ان يأتيه فيبايعه، وجعل يريثهم لما هم به من الغدر والهرب إلى أن أمسى، فأمر أصحابه أن يخرجوا من ليلتهم إلى ما يأمنون فيه، فما تيسر لأصحاب نصر الخروج في تلك الليلة. وقال له سلم بْن أحوز: إنه لا يتيسر لنا الخروج الليلة، ولكنا نخرج القابلة، فلما كان صبح تلك الليلة عبأ أبو مسلم كتائبه، فلم يزل في تعبيتها إلى بعد الظهر، وأرسل إلى نصر لاهز بْن قريظ وقريش بْن شقيق وعبد الله بْن البختري وداود بْن كراز وعدة من أعاجم الشيعة، فدخلوا على نصر، فقال لهم: لشر ما عدتم، فقال له لاهز: لا بد لك من ذلك فقال نصر: اما إذ كان لا بد منه، فإني أتوضأ وأخرج إليه وأرسل إلى أبي مسلم، فإن كان هذا رايه وامره أتيته ونعمى لعينه، وأتهيأ إلى أن يجيء رسولي، وقام نصر، فلما قام قرأ لاهز هذه الآية: «إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ» ، فدخل نصر منزله وأعلمهم أنه ينتظر انصراف رسوله من عند أبي مسلم، فلما جنه الليل، خرج من خلف حجرته، ومعه تميم ابنه والحكم بْن نميلة النميري وحاجبه وامرأته، فانطلقوا هرابا، فلما استبطأه لاهز وأصحابه دخلوا منزله، فوجدوه قد هرب، فلما بلغ ذلك أبا مسلم سار الى معسكر نصر، وأخذ ثقات أصحابه وصناديدهم فكتفهم، وكان فيهم سلم بْن أحوز صاحب شرطة نصر والبختري كاتبه، وابنان له ويونس بْن عبد ربه ومحمد بْن قطن ومجاهد بْن يحيى بن حضين والنضر بن ادريس ومنصور بن عمر بن ابى الحرقاء وعقيل بن معقل الليثى، وسيار بن عمر السلمى، مع رجال من رؤساء مضر فاستوثق منهم بالحديد، ووكل بهم عيسى بن اعين، وكانوا في الحبس عنده حتى امر بقتلهم

خبر مقتل شبيب بن سلمه الخارجي

جميعا، ونزل نصر سرخس فيمن اتبعه من المضرية، وكانوا ثلاثة آلاف، ومضى أبو مسلم وعلي بْن جديع في طلبه، فطلباه ليلتهما حتى أصبحا في قرية تدعى نصرانية، فوجدا نصرا قد خلف امرأته المرزبانة فيها، ونجا بنفسه. ورجع أبو مسلم وعلي بْن جديع إلى مرو، فقال أبو مسلم لمن كان وجه إلى نصر: ما الذي ارتاب به منكم؟ قالوا: لا ندري، قَالَ: فهل تكلم أحد منكم؟ قالوا: لاهز تلا هذه الآية: «إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ» قَالَ: هذا الذي دعاه إلى الهرب، ثم قَالَ: يا لاهز، أتدغل في الدين! فضرب عنقه. خبر مقتل شبيب بن سلمه الخارجي وفي هذه السنة قتل شيبان بْن سلمة الحروري. ذكر الخبر عن مقتله وسببه: وكان سبب مقتله- فيما ذكر- أن علي بْن جديع وشيبان كانا مجتمعين على قتال نصر بْن سيار لمخالفة شيبان نصرا، لأنه من عمال مروان بْن محمد، وأن شيبان يرى رأي الخوارج ومخالفة علي بْن جديع نصرا، لأنه يمان ونصر مضري، وأن نصرا قتل أباه وصلبه، ولما بين الفريقين من العصبية التي كانت بين اليمانية والمضرية، فلما صالح علي بْن الكرماني أبا مسلم، وفارق شيبان، تنحى شيبان عن مرو، إذ علم أنه لا طاقة له بحرب أبي مسلم وعلي ابن جديع مع اجتماعهما على خلافه، وقد هرب نصر من مرو وسار الى سرخس فذكر على بن محمد ان أبا حفص اخبره والحسن بن رشيد وأبا الذيال ان المده التي كانت بين ابى مسلم وبين شيبان لما انقضت، أرسل أبو مسلم إلى شيبان يدعوه إلى البيعة، فقال شيبان: أنا أدعوك إلى بيعتي، فأرسل إليه أبو مسلم: إن لم تدخل في أمرنا فارتحل عن منزلك الذي أنت فيه، فأرسل شيبان إلى ابن الكرماني يستنصره، فأبى فسار شيبان إلى سرخس،

ذكر خبر قتل على وعثمان ابنى جديع

واجتمع إليه جمع كثير من بكر بْن وائل فبعث إليه أبو مسلم تسعة من الأزد، فيهم المنتجع بْن الزبير، يدعوه ويسأله أن يكف، فأرسل شيبان، فأخذ رسل أبي مسلم فسجنهم، فكتب أبو مسلم إلى بسام بْن إبراهيم مولى بني ليث ببيورد، يأمره أن يسير إلى شيبان فيقاتله ففعل، فهزمه بسام، واتبعه حتى دخل المدينة، فقتل شيبان وعدة من بكر بْن وائل، فقيل لأبي مسلم: إن بساما ثائر بأبيه، وهو يقتل البريء والسقيم، فكتب إليه أبو مسلم يأمره بالقدوم عليه، فقدم، واستخلف على عسكره رجلا. قَالَ علي: أخبرنا المفضل، قَالَ: لما قتل شيبان مر رجل من بكر بْن وائل- يقال له خفاف- برسل أبي مسلم الذين كان أرسلهم إلى شيبان، وهم في بيت، فأخرجهم وقتلهم. وقيل: إن أبا مسلم وجه إلى شيبان عسكرا من قبله، عليهم خزيمة ابن خازم وبسام بن ابراهيم . ذكر خبر قتل على وعثمان ابنى جديع وفي هذه السنة قتل أبو مسلم عليا وعثمان ابني جديع الكرماني. ذكر سبب قتل أبي مسلم إياهما: وكان السبب في ذلك- فيما قيل- إن أبا مسلم كان وجه موسى بن كعب الى ابيورد فافتتحها، او كتب إلى أبي مسلم بذلك، ووجه أبا داود إلى بلخ وبها زياد بْن عبد الرحمن القشيري، فلما بلغه قصد أبي داود بلخ خرج في أهل بلخ والترمذ وغيرهما من كور طخارستان إلى الجوزجان، فلما دنا أبو داود منهم، انصرفوا منهزمين إلى الترمذ، ودخل أبو داود مدينة بلخ، فكتب إليه أبو مسلم يأمره بالقدوم عليه، ووجه مكانه يحيى بن نعيم أبا الميلاء على بلخ، فخرج أبو داود، فلقيه كتاب من أبي مسلم يأمره بالانصراف، فانصرف، وقدم عليه أبو الميلاء، فكاتب زياد بْن عبد الرحمن يحيى بْن نعيم أبو الميلاء أن يصير أيديهم واحدة، فأجابه، فرجع زياد بْن عبد الرحمن القشيري ومسلم

ابن عبد الرحمن بْن مسلم الباهلي وعيسى بْن زرعة السلمي وأهل بلخ والترمذ وملوك طخارستان، وما خلف النهر وما دونه، فنزل زياد وأصحابه على فرسخ من مدينة بلخ، وخرج إليه يحيى بْن نعيم بمن معه حتى اجتمعوا، فصارت كلمتهم واحدة، مضريهم ويمانيهم وربعيهم ومن معهم من الأعاجم على قتال المسودة، وجعلوا الولاية عليهم لمقاتل بْن حيان النبطي، كراهة أن يكون من الفرق الثلاثة، وأمر أبو مسلم أبا داود بالعود، فأقبل أبو داود بمن معه حتى اجتمعوا على نهر السرجنان وكان زياد بْن عبد الرحمن وأصحابه قد وجهوا أبا سعيد القرشي مسلحة فيما بين العود وبين قريه يقال لها أمديان، لئلا يأتيهم أصحاب أبي داود من خلفهم وكانت أعلام أبي سعيد وراياته سودا، فلما اجتمع أبو داود وزياد وأصحابهما، واصطفوا للقتال، أمر أبو سعيد القرشي أصحابه أن يأتوا زيادا وأصحابه من خلفهم، فرجع وخرج عليهم من سكة العود وراياته سود، فظن أصحاب زياد أنهم كمين لأبي داود، وقد نشب القتال بين الفريقين، فانهزم زياد ومن معه، وتبعهم أبو داود، فوقع عامة أصحاب زياد في نهر السرجنان، وقتل عامة رجالهم المتخلفين، ونزل أبو داود عسكرهم، وحوى ما فيه، ولم يتبع زيادا ولا اصحابه واكثر من تبعهم سرعان من سرعان خيل أبي داود إلى مدينة بلخ لم يجاوزها ومضى زياد ويحيى ومن معهما إلى الترمذ، واقام ابو داود يومه ذلك ومن الغد، ولم يدخل مدينه بلخ واستصفى أموال من قتل بالسرجنان ومن هرب من العرب وغيرهم، واستقامت بلخ لأبي داود. ثم كتب إليه أبو مسلم يأمره بالقدوم عليه، ووجه النضر بْن صبيح المري على بلخ وقدم أبو داود، واجتمع رأي أبي داود وأبي مسلم على أن يفرقا بين علي وعثمان ابني الكرماني، فبعث أبو مسلم عثمان عاملا على بلخ، فلما قدمها استخلف الفرافصة بْن ظهير العبسي على مدينة بلخ، وأقبلت المضرية من ترمذ، عليهم مسلم بْن عبد الرحمن الباهلي، فالتقوا وأصحاب عثمان بْن جديع بقرية بين البروقان وبين الدستجرد، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم أصحاب عثمان بْن جديع، وغلب المضرية ومسلم بْن عبد الرحمن

قدوم قحطبه بن شبيب على ابى مسلم

على مدينة بلخ، وأخرجوا الفرافصة منها وبلغ عثمان بن جديع الخبر والنضر ابن صبيح، وهما بمرو الروذ، فأقبلا نحوهم، وبلغ أصحاب زياد بْن عبد الرحمن فهربوا من تحت ليلتهم، وعتب النضر في طلبهم، رجاء أن يفوتوا، ولقيهم أصحاب عثمان بْن جديع، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم أصحاب عثمان بْن جديع، وأكثروا فيهم القتل، ومضت المضرية إلى أصحابها، ورجع أبو داود من مرو إلى بلخ، وسار أبو مسلم ومعه علي بْن جديع إلى نيسابور. واتفق رأي أبي مسلم ورأي أبي داود على أن يقتل أبو مسلم عليا، ويقتل أبو داود عثمان في يوم واحد فلما قدم أبو داود بلخ بعث عثمان عاملا على الختل فيمن معه من يماني اهل مرو واهل بلخ وربيعهم فلما خرج من بلخ خرج أبو داود فاتبع الاثر فلحق عثمان على شاطئ نهر بوخش من أرض الختل، فوثب أبو داود على عثمان وأصحابه، فحبسهم جميعا ثم ضرب أعناقهم صبرا وقتل أبو مسلم في ذلك اليوم علي بْن الكرماني، وقد كان أبو مسلم أمره أن يسمي له خاصته ليوليهم، ويأمر لهم بجوائز وكسا، فسماهم له فقتلهم جميعا . قدوم قحطبه بن شبيب على ابى مسلم وفي هذه السنة قدم قحطبة بْن شبيب على أبي مسلم خراسان منصرفا من عند إبراهيم بْن محمد بْن علي، ومعه لواؤه الذي عقد له إبراهيم، فوجهه أبو مسلم حين قدم عليه على مقدمته، وضم إليه الجيوش، وجعل له العزل والاستعمال، وكتب إلى الجنود بالسمع والطاعة. وفيها وجه قحطبة إلى نيسابور للقاء نصر، فذكر علي بْن محمد أن أبا الذيال والحسن بْن رشيد وأبا الحسن الجشمي أخبروه أن شيبان بْن سلمة الحروري لما قتل لحق أصحابه بنصر وهو بنيسابور، وكتب إليه النابئ بْن سويد العجلي يستغيث، فوجه إليه نصر ابنه تميم بْن نصر في ألفين، وتهيأ نصر على أن يسير إلى طوس، ووجه أبو مسلم قحطبة بْن شبيب في قواد، منهم القاسم

ابن مجاشع وجهور بْن مرار، فأخذ القاسم من قبل سرخس، وأخذ جهور من قبل أبيورد، فوجه تميم عاصم بْن عمير السغدي إلى جهور، وكان أدناهم منه، فهزمه عاصم بْن عمير، فتحصن في كبادقان، واطل قحطبة والقاسم على النابي، فأرسل تميم إلى عاصم أن ارحل عن جهور وأقبل، فتركه، وأقبل فقاتلهم قحطبة. قَالَ أبو جعفر: فأما غير الذين روى عنهم علي بْن محمد ما ذكرنا في أمر قحطبة وتوجيه أبي مسلم إياه إلى نصر وأصحابه، فإنه ذكر أن أبا مسلم لما قتل شيبان الخارجي وابني الكرماني، ونفى نصرا عن مرو، وغلب على خراسان، وجه عماله على بلادها، فاستعمل سباع بْن النعمان الأزدي على سمرقند وأبا داود خالد بْن إبراهيم على طخارستان، ووجه محمد بْن الأشعث إلى الطبسين وفارس، وجعل مالك بْن الهيثم على شرطته، ووجه قحطبة إلى طوس، ومعه عدة من القواد، منهم أبو عون عبد الملك بْن يزيد ومقاتل بْن حكيم العكي وخالد بْن برمك وخازم بْن خزيمة والمنذر بْن عبد الرحمن وعثمان ابن نهيك وجهور بْن مرار العجلي وأبو العباس الطوسي وعبد الله بْن عثمان الطائي وسلمة بْن محمد وأبو غانم عبد الحميد بْن ربعي وأبو حميد وأبو الجهم- وجعله أبو مسلم كاتبا لقحطبة على الجند- وعامر بْن إسماعيل ومحرز بْن إبراهيم، في عدة من القواد، فلقي من بطوس فانهزموا، وكان من مات منهم في الزحام أكثر ممن قتل، فبلغ عدة القتلى يومئذ بضعة عشر ألفا ووجه أبو مسلم القاسم بْن مجاشع إلى نيسابور على طريق المحجة، وكتب إلى قحطبة يأمره بقتال تميم بْن نصر بْن سيار والنابى بن سويد، ومن لجأ إليهما من أهل خراسان، وأن يصرف إليه موسى بْن كعب إلى من أبيورد فلما قدم قحطبة أبيورد صرف موسى بْن كعب إلى أبي مسلم، وكتب إلى مقاتل بْن حكيم يأمره أن يوجه رجلا إلى نيسابور، ويصرف منها القاسم بْن مجاشع، فوجه أبو مسلم علي بْن معقل في عشرة آلاف إلى تميم بن نصر، وامره إذا دخل قحطبة طوس أن يستقبله بمن معه وينضم إليه، فسار علي بْن معقل حتى نزل قرية يقال لها حلوان، وبلغ قحطبة مسير على ونزوله حيث نزل، فعجل

السير إلى السوذقان، وهو معسكر تميم بْن نصر والنابي بْن سويد، ووجه على مقدمته اسيد بن عبد الله الخزاعي في ثلاثة آلاف رجل من شيعه أهل نسا وأبيورد، فسار حتى نزل قرية يقال لها حبوسان، فتعبا تميم والنابى لقتاله، فكتب أسيد إلى قحطبة يعلمه ما اجمعوا عليه من قتاله، وانه ان لم يعجل القدوم عليه حاكمهم إلى الله عز وجل وأخبره أنهما في ثلاثين ألفا من صناديد أهل خراسان وفرسانهم فوجه قحطبة مقاتل بْن حكيم العكي في ألف وخالد بْن برمك في ألف، فقدما على أسيد، وبلغ ذلك تميما والنابي فكسرهما ثم قدم عليهم قحطبة بمن معه وتعبأ لقتال تميم، وجعل على ميمنته مقاتل بْن حكيم وأبا عون عبد الملك بْن يزيد وخالد بْن برمك، وعلى ميسرته أسيد بْن عبد الله الخزاعي والحسن بْن قحطبة والمسيب بْن زهير وعبد الجبار بْن عبد الرحمن، وصار هو في القلب ثم زحف إليهم، فدعاهم إِلَى كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وسنة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلى الرضا من آل محمد ص فلم يجيبوه، فأمر الميمنة والميسرة أن يحملوا، فاقتتلوا قتالا شديدا أشد ما يكون من القتال، فقتل تميم بْن نصر في المعركة، وقتل معه منهم مقتلة عظيمة، واستبيح عسكرهم، وأفلت النابي في عدة، فتحصنوا في المدينة، وأحاطت بهم الجنود، فنقبوا الحائط ودخلوا إلى المدينة، فقتلوا النابي ومن كان معه، وهرب عاصم بْن عمير السمرقندي وسالم بْن راوية السعيدي إلى نصر بْن سيار بنيسابور، فأخبراه بمقتل تميم والنابي ومن كان معهما، فلما غلب قحطبة على عسكرهم بما فيه صير إلى خالد بْن برمك قبض ذلك، ووجه مقاتل بْن حكيم العكي على مقدمته إلى نيسابور فبلغ ذلك نصر بْن سيار، فارتحل هاربا في أثر أهل أبرشهر حتى نزل قومس وتفرق عنه أصحابه، فسار إلى نباتة بْن حنظلة بجرجان، وقدم قحطبة نيسابور بجنوده

ذكر خبر قتل نباته بن حنظله

ذكر خبر قتل نباته بن حنظله وفي هذه السنة قتل نباتة بْن حنظلة عامل يزيد بْن عمر بْن هبيرة على جرجان. ذكر الخبر عن مقتله: ذكر علي بْن محمد أن زهير بْن هنيد وأبا الحسن الجشمي وجبلة بْن فروخ وأبا عبد الرحمن الأصبهاني أخبروه أن يزيد بْن عمر بْن هبيرة بعث نباتة بْن حنظلة الكلابي إلى نصر، فأتى فارس وأصبهان، ثم سار الى الري، ومضى الى جرجان، ولم ينضم إلى نصر بْن سيار، فقالت القيسية لنصر: لا تحملنا قومس، فتحولوا إلى جرجان وخندق نباتة، فكان إذا وقع الخندق في دار قوم رشوه فأخره، فكان خندقه نحوا من فرسخ. وأقبل قحطبة إلى جرجان في ذي القعدة من سنة ثلاثين ومائة، ومعه أسيد ابن عبد الله الخزاعي وخالد بْن برمك وأبو عون عبد الملك بْن يزيد وموسى بْن كعب المرائى والمسيب بْن زهير وعبد الجبار بْن عبد الرحمن الأزدي، وعلى ميمنه موسى بْن كعب، وعلى ميسرته أسيد بْن عبد الله، وعلى مقدمته الحسن بْن قحطبة، فقال قحطبة: يا أهل خراسان، أتدرون إلى من تسيرون، ومن تقاتلون؟ إنما تقاتلون بقية قوم احرقوا بيت الله عز وجل وأقبل الحسن حتى نزل تخوم خراسان، ووجه الحسن عثمان بْن رفيع ونافعا المروزى وأبا خالد المروروذى ومسعدة الطائي إلى مسلحة نباتة، وعليها رجل يقال له ذؤيب، فبيتوه، فقتلوا ذؤيبا وسبعين رجلا من أصحابه، ثم رجعوا إلى عسكر الحسن، وقدم قحطبة فنزلوا بإزاء نباتة وأهل الشام في عدة لم ير الناس مثلها. فلما رآهم أهل خراسان هابوهم حتى تكلموا بذلك وأظهروه وبلغ قحطبة، فقام فيهم خطيبا فقال: يا أهل خراسان، هذه البلاد كانت لآبائكم الأولين، وكانوا ينصرون على عدوهم بعدلهم وحسن سيرتهم، حتى بدلوا وظلموا، فسخط الله عز وجل عليهم، فانتزع سلطانهم، وسلط عليهم أذل أمة كانت في الأرض عندهم،

فغلبوهم على بلادهم، واستنكحوا نساءهم، واسترقوا أولادهم، فكانوا بذلك يحكمون بالعدل ويوفون بالعهد، وينصرون المظلوم، ثم بدلوا وغيروا وجاروا في الحكم، وأخافوا أهل البر والتقوى من عترة رسول الله ص، فسلطكم عليهم لينتقم منهم بكم لتكونوا أشد عقوبة، لأنكم طلبتموهم بالثأر وقد عهد إلي الإمام أنكم تلقونهم في مثل هذه العدة فينصركم الله عز وجل عليهم فتهزمونهم وتقتلونهم. وقد قرئ على قحطبة كتاب أبي مسلم من أبي مسلم إلى قحطبة: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فناهض عدوك، فإن الله عز وجل ناصرك، فإذا ظهرت عليهم فأثخن في القتل فالتقوا في مستهل ذي الحجة سنة ثلاثين ومائة في يوم الجمعة، فقال قحطبة: يا اهل خراسان ان هذا اليوم قد فضله الله تبارك وتعالى على سائر الأيام والعمل فيه مضاعف، وهذا شهر عظيم فيه عيد من أعظم أعيادكم عند الله عز وجل، وقد أخبرنا الإمام أنكم تنصرون في هذا اليوم من هذا الشهر على عدوكم، فالقوه بجد وصبر واحتساب، ف إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ثم ناهضهم وعلى ميمنته الحسن بْن قحطبة، وعلى ميسرته خالد بْن برمك ومقاتل بْن حكيم العكي، فاقتتلوا وصبر بعضهم لبعض، فقتل نباتة، وانهزم أهل الشام فقتل منهم عشرة آلاف، وبعث قحطبة إلى أبي مسلم برأس نباتة وابنه حية. قَالَ: وأخبرنا شيخ من بني عدي، عن أبيه، قَالَ: كان سالم بْن راوية التميمي ممن هرب من أبي مسلم، وخرج مع نصر، ثم صار مع نباتة، فقاتل قحطبة بجرجان، فانهزم الناس، وبقي يقاتل وحده، فحمل عليه عبد الله الطائي- وكان من فرسان قحطبة- فضربه سالم بْن راوية على وجهه، فأندر عينه، وقاتلهم حتى اضطر إلى المسجد، فدخله ودخلوا عليه، فكان لا يشد من ناحية الا كشفهم، فجعل ينادى: شربه! فو الله لا نقعن لهم شرا يومي هذا وحرقوا عليه سقف المسجد، فرموه بالحجارة حتى قتلوه وجاءوا

ذكر وقعه ابى حمزه الخارجي بقديد

برأسه إلى قحطبة، وليس في رأسه ولا وجهه مصح، فقال قحطبة: ما رأيت مثل هذا قط! ذكر وقعه ابى حمزه الخارجي بقديد قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كانت الوقعة التي كانت بقديد بين أبي حمزة الخارجي وأهل المدينة. ذكر الخبر عن ذلك: حدثني العباس بْن عيسى العقيلي، قَالَ: حدثنا هارون بْن موسى الفروي، قَالَ حدثني غير واحد من أصحابنا، أن عبد الواحد بْن سليمان استعمل عبد العزيز بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ على الناس، فخرجوا، فلما كان بالحرة لقيتهم جزر منحورة، فمضوا، فلما كان بالعقيق تعلق لواؤهم بسمرة، فانكسر الرمح، فتشاءم الناس بالخروج، ثم ساروا حتى نزلوا قديد، فنزلوها ليلا- وكانت قرية قديد من ناحية القصر المبني اليوم، وكانت الحياض هنالك، فنزل قوم مغترون ليسوا بأصحاب حرب، فلم يرعهم إلا القوم قد خرجوا عليهم من القصر. وقد زعم بعض الناس أن خزاعة دلت أبا حمزة على عورتهم، وأدخلوهم عليهم فقتلوهم، وكانت المقتلة على قريش، هم كانوا أكثر الناس، وبهم كانت الشوكة، وأصيب منهم عدد كثير. قَالَ العباس: قَالَ هارون: وأخبرني بعض أصحابنا أن رجلا من قريش نظر إلى رجل من أهل اليمن وهو يقول: الحمد لله الذي أقر عيني بمقتل قريش، فقال لابنه: يا بني ابدأ به- وقد كان من أهل المدينة- قَالَ: فدنا منه ابنه فضرب عنقه، ثم قَالَ لابنه: أي بني، تقدم، فقاتلا حتى قتلا ثم ورد فلال الناس المدينة، وبكى الناس قتلاهم، فكانت المرأة تقيم على حميمها النواح، فما تبرح النساء حتى تأتيهن الأخبار عن رجالهن فتخرج النساء امرأة

ذكر خبر دخول ابى حمزه المدينة

امراه، كل امراه. تذهب الى حميمها فتنصرف حتى ما تبقى عندها امرأة قَالَ: وأنشدني أبو ضمرة هذه الأبيات في قتلى قديد الذين أصيبوا من قومه، رثاهم بعض أصحابهم فقال: يا لهف نفسي ولهفي غير كاذبة ... على فوارس بالبطحاء أنجاد عمرو وعمرو وعبد الله بينهما ... وابناهما خامس والحارث السادى ذكر خبر دخول ابى حمزه المدينة وفي هذه السنة دخل أبو حمزة الخارجي من مدينه رسول الله ص وهرب عبد الواحد بْن سليمان بْن عبد الملك إلى الشام. ذكر الخبر عن دخول ابى حمزه المدينة وما كان منه فيها: حدثني العباس بْن عيسى، قَالَ: حدثنا هارون بْن موسى الفروي، قَالَ: حدثني موسى بْن كثير، قَالَ: دخل ابو حمزه المدينة سنة ثلاثين ومائة، ومضى عبد الواحد بْن سليمان بْن عبد الملك إلى الشام، فرقي المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: يا اهل المدينة، سالناكم عن ولاتكم هؤلاء، فأسأتم لعمر الله فيهم القول، وسألناكم: هل يقتلون بالظن؟ فقلتم لنا: نعم، وسألناكم: هل يستحلون المال الحرام والفرج الحرام؟ فقلتم لنا: نعم، فقلنا لكم: تعالوا نحن وأنتم نناشدهم الله ألا تنحوا عنا وعنكم، فقلتم: لا يفعلون، فقلنا لكم: تعالوا نحن وأنتم نقاتلهم، فان نظهر نحن وأنتم نأت بمن يقيم فينا كتاب الله وسنة نبيه محمد ص، فقلتم: لا نقوى، فقلنا لكم: فخلوا بيننا وبينهم، فإن نظفر نعدل في أحكامكم ونحملكم على سنه نبيكم ص ونقسم فيئكم بينكم، فابيتم، وقاتلتمونا دونهم، فقاتلناكم

فأبعدكم الله وأسحقكم. قَالَ محمد بْن عمر: حدثني حزام بْن هشام، قَالَ: كانت الحرورية أربعمائة، وعلى طائفة من الحرورية الحارث، وعلى طائفة بكار بْن محمد العدوي، عدي قريش، وعلى طائفة أبو حمزة، فالتقوا وقد تهيأ الناس بعد الأعذار من الخوارج إليهم، وقالوا لهم: إنا والله ما لنا حاجة بقتالكم، دعونا نمض إلى عدونا فأبى أهل المدينة، فالتقوا لسبع ليال خلون من صفر يوم الخميس سنة ثلاثين ومائة، فقتل أهل المدينة، لم يفلت منهم إلا الشريد، وقتل أميرهم عبد العزيز بْن عبد الله، واتهمت قريش خزاعة أن يكونوا داهنوا الحرورية. فقال لي حزام: والله لقد آويت رجالا من قريش منهم حتى آمن الناس، فكان بلج على مقدمتهم وقدمت الحرورية المدينة لتسع عشرة ليلة خلت من صفر حدثني العباس بْن عيسى، قَالَ: قَالَ هارون بْن موسى: أخبرني بعض أشياخنا، أن أبا حمزة لما دخل المدينة قام فخطب فقال في خطبته: يا أهل المدينة مررت بكم في زمن الأحول هشام بْن عبد الملك، وقد أصابتكم عاهة في ثماركم وكتبتم إليه تسألونه أن يضع أخراصكم عنكم، فكتب إليكم يضعها عنكم، فزاد الغني غنى، وزاد الفقير فقرا، فقلتم: جزاك الله خيرا، فلا جزاكم الله خيرا ولا جزاه. قَالَ العباس: قَالَ هارون: وأخبرني يحيى بْن زكرياء ان أبا حمزه خطب بهذه الخطبة، قَالَ: رقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قَالَ: تعلمون يا أهل المدينة أنا لم نخرج من ديارنا وأموالنا أشرا ولا بطرا ولا عبثا، ولا لدولة ملك نريد أن نخوض فيه، ولا لثأر قديم نيل منا، ولكنا لما رأينا مصابيح الحق قد عطلت، وعنف القائل بالحق، وقتل القائم بالقسط: ضاقت علينا الأرض بما رحبت، وسمعنا داعيا يدعو إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن، فأجبنا داعي الله «وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي

الْأَرْضِ» ، أقبلنا من قبائل شتى، النفر منا على بعير واحد عليه زادهم وأنفسهم، يتعاورون لحافا واحدا، قليلون مستضعفون في الأرض، فآوانا وأيدنا بنصره، فأصبحنا والله جميعا بنعمته إخوانا، ثم لقينا رجالكم بقديد، فدعوناهم إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن، ودعونا إلى طاعة الشيطان وحكم آل مروان، فشتان لعمر الله ما بين الرشد والغي ثم أقبلوا يهرعون يزفون، قد ضرب الشيطان فيهم بجرانه، وغلت بدمائهم مراجله، وصدق عليهم ظنه، وأقبل أنصار الله عز وجل عصائب وكتائب، بكل مهند ذي رونق، فدارت رحانا واستدارت رحاهم، بضرب يرتاب منه المبطلون وأنتم يا أهل المدينة، إن تنصروا مروان وآل مروان يسحتكم الله عز وجل بعذاب من عنده أو بأيدينا، ويشف صدور قوم مؤمنين يا أهل المدينة، أولكم خير أول وآخركم شر آخر يا أهل المدينة، الناس منا ونحن منهم، إلا مشركا عابد وثن، أو مشرك أهل الكتاب، أو إماما جائرا يا أهل المدينة من زعم أن الله عز وجل كلف نفسا فوق طاقتها، أو سألها ما لم يؤتها، فهو لله عز وجل عدو، ولنا حرب يا أهل المدينة، أخبروني عن ثمانية أسهم فرضها الله عز وجل في كتابه على القوي والضعيف، فجاء تاسع ليس له منها ولا سهم واحد، فأخذها جميعها لنفسه، مكابرا محاربا لربه يا أهل المدينة، بلغني أنكم تنتقصون أصحابي، قلتم: شباب أحداث، واعراب جفاه، ويلكم يا أهل المدينة! وهل كان أصحاب رسول الله ص الا شبابا احداثا! شباب والله مكتهلون في شبابهم، غضية عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أقدامهم، قد باعوا الله عز وجل أنفسا تموت بأنفس لا تموت، قد خالطوا كلالهم بكلالهم، وقيام ليلهم بصيام نهارهم، منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مروا بايه خوف شهقوا خوفا من النار، وإذا مروا بايه

شوق شهقوا شوقا إلى الجنة، فلما نظروا الى السيوف قد انتضيت والرماح قد شرعت، وإلى السهام قد فوقت، وأرعدت الكتيبة بصواعق الموت، استخفوا وعيد الكتيبة لوعيد الله عز وجل، ولم يستخفوا وعيد الله لوعيد الكتيبة، فطوبى لهم وحسن مآب! فكم من عين في منقار طائر طالما فاضت في جوف الليل من خوف الله عز وجل! وكم من يد زالت عن مفصلها طالما اعتمد بها صاحبها في سجوده لله، وكم من خد عتيق وجبين رقيق فلق بعمد الحديد. رحمه الله على تلك الأبدان، وادخل أرواحها الجنان أقول قولي هذا وأستغفر الله من تقصيرنا، وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أنيب. حدثني العباس، قَالَ قَالَ هارون: حدثني جدي أبو علقمة، قَالَ: سمعت أبا حمزة على منبر رسول الله ص، يقول: من زنى فهو كافر ومن شك فهو كافر، ومن سرق فهو كافر، ومن شك أنه كافر. فهو كافر قَالَ العباس: قَالَ هارون: وسمعت جدي يقول: كان قد أحسن السيرة في أهل المدينة حتى استمال الناس حين سمعوا كلامه، في قوله: من زنى فهو كافر. قَالَ العباس: قَالَ هارون: وحدثني بعض أصحابنا: لما رقي المنبر قَالَ: برح الخفاء، أين ما بك يذهب! من زنى فهو كافر، ومن سرق فهو كافر، قَالَ العباس: قَالَ هارون: وأنشدني بعضهم في قديد: ما للزمان وماليه ... أفنت قديد رجاليه فلأبكين سريرة ... ولأبكين علانية ولأبكين إذا ... شجيت مع الكلاب العاويه

فكان دخول أبي حمزة وأصحابه المدينة لثلاث عشرة بقيت من صفر. واختلفوا في قدر مدتهم في مقامهم بها، فقال الواقدي: كان مقامهم بها ثلاثة أشهر وقال غيره: أقاموا بها بقية صفر وشهري ربيع وطائفة من جمادى الأولى. وكانت عدة من قتل من أهل المدينة بقديد- فيما ذكر الواقدى- سبعمائة. قال ابو جعفر: وكان أبو حمزة- فيما ذكر- قد قدم طائفة من أصحابه، عليهم أبو بكر بْن محمد بْن عبد الله بْن عمر القرشي، ثم احد بنى عدي بْن كعب، وبلج بْن عيينة بْن الهيصم الأسدي من أهل البصرة، فبعث مروان بْن محمد من الشام عبد الملك بْن محمد بْن عطية أحد بني سعد في خيول الشام فحدثني العباس بْن عيسى، قَالَ: حدثني هارون بْن موسى، عن موسى بْن كثير، قَالَ: خرج أبو حمزة من المدينة، وخلف بعض أصحابه، فسار حتى نزل الوادي. قَالَ العباس: قَالَ هارون: حدثني بعض أصحابنا ممن أخبرني عنه أبو يحيى الزهري، أن مروان انتخب من عسكره أربعة آلاف، واستعمل عليهم ابن عطية، وأمره بالجد في السير، وأعطى كل رجل منهم مائة دينار، وفرسا عربية وبغلا لثقله، وأمره أن يمضي فيقاتلهم، فإن هو ظفر مضى حتى بلغ اليمن ويقاتل عبد الله بْن يحيى ومن معه، فخرج حتى نزل بالعلا- وكان رجل من أهل المدينة يقال له العلاء بْن أفلح مولى أبي الغيث، يقول: لقيني وأنا غلام ذلك اليوم رجل من أصحاب ابن عطية، فسألني: ما اسمك يا غلام؟ قَالَ: فقلت: العلاء، قَالَ: ابن من؟ قلت: ابن أفلح، قَالَ: مولى من؟ قلت: مولى أبي الغيث، قَالَ: فأين نحن؟ قلت بالعلا، قَالَ: فأين نحن غدا؟ قلت: بغالب، قَالَ: فما كلمني حتى أردفني وراءه، ومضى بي حتى أدخلني على ابن عطية، فقال: سل هذا الغلام: ما اسمه؟ فسألني، فرددت عليه القول الذي قلت، قال: فسر

بذلك، ووهب لي دارهم. قَالَ العباس: قَالَ هارون: وأخبرني عبد الملك بْن الماجشون، قَالَ: لما لقي أبو حمزة وابن عطية، قَالَ أبو حمزة: لا تقاتلوهم حتى تخبروهم، قَالَ: فصاحوا بهم: ما تقولون في القرآن والعمل به؟ قَالَ: فصاح ابن عطية: نضعه في جوف الجوالق، قَالَ: فما تقولون في مال اليتيم؟ قَالَ: نأكل ماله ونفجر بأمه في أشياء بلغني أنهم سألوهم عنها قَالَ: فلما سمعوا كلامهم، قاتلوهم حتى امسوا، فصاحوا: ويحك يا بن عطية! إن الله عز وجل قد جعل الليل سكنا، فاسكن نسكن قَالَ: فأبى فقاتلهم حتى قتلهم. قَالَ العباس: قَالَ هارون: وكان أبو حمزة حين خرج ودع أهل المدينة للخروج الى مروان يقاتله، قال: يا اهل المدينة، إنا خارجون إلى مروان، فإن نظفر نعدل في أحكامكم، ونحملكم على سنة نبيكم محمد ص، ونقسم فيئكم بينكم، وإن يكن ما تمنون، ف سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ قَالَ العباس: قَالَ هارون: وأخبرني بعض أصحابنا أن الناس وثبوا على أصحابه حين جاءهم قتله فقتلوهم قَالَ محمد بْن عمر: سار أبو حمزة وأصحابه إلى مروان، فلقيهم خيل مروان بوادي القرى، عليها ابن عطية السعدي، من قيس، فأوقعوا بهم، فرجعوا منهزمين منهم إلى المدينة، فلقيهم أهل المدينة فقتلوهم قَالَ: وكان الذي قاد جيش مروان عبد الملك بْن محمد بْن عطية السعدي سعد هوازن، قدم المدينة في أربعة آلاف فارس عربي، مع كل واحد منهم بغل، ومنهم من عليه درعان او درع وسنور وتجافيف، وعدة لم ير مثلها في ذلك الزمان، فمضوا إلى مكة. وقال بعضهم: أقام ابن عطية بالمدينة حين دخلها شهرا، ثم مضى إلى مكة، واستخلف على المدينة الوليد بْن عروة بْن محمد بْن عطية، ثم مضى الى مكة والى اليمن واستخلف على مكة ابن ماعز، رجلا من أهل الشام

ولما مضى ابن عطية بلغ عبد الله بْن يحيى- وهو بصنعاء- مسيره إليه، فأقبل إليه بمن معه فالتقى هو وابن عطية، فقتل ابن عطية عبد الله بْن يحيى، وبعث ابنه بشير إلى مروان، ومضى ابن عطية فدخل صنعاء وبعث برأس عبد الله بْن يحيى إلى مروان، ثم كتب مروان إلى ابن عطية يأمره أن يغذ السير، ويحج بالناس، فخرج في نفر من أصحابه- فيما حدثني العباس بْن عيسى، عن هارون- حتى نزل الجرف- هكذا قَالَ العباس- ففطن له بعض أهل القرية، فقالوا: منهزمين والله، فشدوا عليه، فقال: ويحكم! عامل الحج، والله كتب إلي أمير المؤمنين قَالَ أبو جعفر: واما بن عمر، فإنه ذكر أن أبا الزبير بْن عبد الرحمن حدثه، قَالَ: خرجت مع ابن عطية السعدي، ونحن اثنا عشر رجلا، بعهد مروان على الحج، ومعه أربعون ألف دينار في خرجه، حتى نزل الجرف يريد الحج، وقد خلف عسكره وخيله وراءه بصنعاء، فو الله إنا آمنون مطمئنون، إذ سمعت كلمة من امراه: قاتل الله ابنى جمانه ما اشامهما! فقمت كأني أهريق الماء، وأشرفت على نشز من الأرض، فإذا الدهم من الرجال والسلاح والخيل والقذافات، فإذا ابنا جمانة المراديان واقفان علينا، قد أحدقوا بنا من كل ناحيه، فقلنا: ما تريدون؟ قالوا: أنتم لصوص، فأخرج ابن عطية كتابه، وقال: هذا كتاب أمير المؤمنين وعهده علي الحج وأنا ابن عطية، فقالوا: هذا باطل، ولكنكم لصوص، فرأينا الشر فركب الصفر بْن حبيب فرسه، فقاتل وأحسن حتى قتل، ثم ركب ابن عطية فقاتل حتى قتل، ثم قتل من معنا وبقيت، فقالوا: من أنت؟ فقلت: رجل؟ من همدان، قالوا: من أي همدان أنت؟ فاعتزيت إلى بطن منهم- وكنت عالما ببطون همدان- فتركوني، وقالوا: أنت آمن، وكل ما كان لك في هذا الرحل فخذه، فلو ادعيت المال كله لأعطوني، ثم بعثوا معي فرسانا حتى بلغوا بي صعدة، وامنت ومضيت حتى قدمت مكة

قال أبو جعفر: وفي هذه السنة غزا الصائفة- فيما ذكر- الوليد بْن هشام، فنزل العمق وبنى حصن مرعش وفيها وقع الطاعون بالبصرة وفي هذه السنة قتل قحطبة بْن شبيب من أهل جرجان من قتل من أهلها، قيل إنه قتل منهم زهاء ثلاثين ألفا، وذلك أنه بلغه- فيما ذكر- عن اهل جرجان انه أجمع رأيهم بعد مقتل نباتة بْن حنظلة على الخروج على قحطبة، فدخل قحطبة لما بلغه ذلك من أمرهم، واستعرضهم، فقتل منهم من ذكرت ولما بلغ نصر بْن سيار قتل قحطبة نباتة ومن قتل من أهل جرجان وهو بقومس، ارتحل حتى نزل خوار الري. وكان سبب نزول نصر قومس- فيما ذكر علي بن محمد- أن أبا الذيال حدثه والحسن بْن رشيد وأبا الحسن الجشمي، ان أبا مسلم كتب مع المنهال ابن فتان إلى زياد بْن زرارة القشيري بعهده على نيسابور بعد ما قتل تميم بن نصر والنابئ بْن سويد العجلي، وكتب إلى قحطبة يأمره أن يتبع نصرا، فوجه قحطبة العكي على مقدمته وسار قحطبة حتى نزل نيسابور، فأقام بها شهرين، شهري رمضان وشوال من سنة ثلاثين ومائة، ونصر نازل في قرية من قرى قومس يقال لها بذش، ونزل من كان معه من قيس في قرية يقال لها الممد، وكتب نصر إلى ابن هبيرة يستمده وهو بواسط مع ناس من وجوه أهل خراسان، يعظم الأمر عليه، فحبس ابن هبيرة رسله، وكتب نصر إلى مروان: إني وجهت إلى ابن هبيرة قوما من وجوه أهل خراسان ليعلموه أمر الناس من قبلنا، وسألته المدد فاحتبس رسلي ولم يمدني بأحد، وإنما أنا بمنزلة من أخرج من بيته إلى حجرته، ثم أخرج من حجرته إلى داره، ثم أخرج من داره إلى فناء. داره، فإن أدركه من يعينه فعسى أن يعود إلى داره وتبقى له، وإن أخرج من داره إلى الطريق فلا دار له ولا فناء فكتب مروان إلى ابن هبيرة يأمره أن يمد نصرا، وكتب إلى نصر يعلمه

ذلك، فكتب نصر إلى ابن هبيرة مع خالد مولى بني ليث يسأله أن يعجل إليه الجند، فإن أهل خراسان قد كذبتهم حتى ما رجل منهم يصدق لي قولا، فأمدني بعشرة آلاف قبل أن تمدني بمائة ألف، ثم لا تغني شيئا. وحج في هذه السنة بالناس محمد بْن عبد الملك بْن مروان، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكانت إليه مكة والمدينة والطائف. وكان فيها العراق إلى يزيد بْن عمر بْن هبيرة. وكان على قضاء الكوفة الحجاج بْن عاصم المحاربي، وكان على قضاء البصرة عباد بن منصور، وعلى خراسان نصر بن سيار، والأمر بخراسان على ما ذكرت.

سنه احدى وثلاثين ومائه

ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائة (ذكر ما كان فيها من الأحداث) ذكر خبر موت نصر بن سيار فمما كان فيها من ذلك توجيه قحطبة ابنه الحسن إلى نصر وهو بقومس. فذكر علي بْن محمد، أن زهير بْن هنيد والحسن بْن رشيد وجبلة بْن فروخ التاجي، قالوا: لما قتل نباتة ارتحل نصر بْن سيار من بذش، ودخل خوار وأميرها أبو بكر العقيلي، ووجه قحطبة ابنه الحسن إلى قومس في المحرم سنة إحدى وثلاثين ومائة، ثم وجه قحطبة أبا كامل وأبا القاسم محرز بْن إبراهيم وأبا العباس المروزي إلى الحسن في سبعمائة، فلما كانوا قريبا منه، انحاز أبو كامل وترك عسكره، وأتى نصرا فصار معه، وأعلمه مكان القائد الذي خلف، فوجه إليهم نصر جندا فأتوهم وهم في حائط فحصروهم، فنقب جميل بْن مهران الحائط، وهرب هو وأصحابه، وخلفوا شيئا من متاعهم فأخذه أصحاب نصر، فبعث به نصر إلى ابن هبيرة، فعرض له عطيف بالري، فأخذ الكتاب من رسول نصر والمتاع، وبعث به إلى ابن هبيرة، فغضب نصر، وقال: ابي يتلعب ابن هبيرة! أيشغب علي بضغابيس قيس! أما والله لأدعنه فليعرفن أنه ليس بشيء ولا ابنه الذي تربص له الأشياء وسار حتى نزل الري- وعلى الري حبيب بْن بديل النهشلي- فخرج عطيف من الري حين قدمها نصر إلى همذان، وفيها مالك بْن أدهم بْن محرز الباهلي على الصحصحية، فلما رأى مالكا في همذان عدل منها إلى أصبهان إلى عامر بْن ضبارة- وكان عطيف في ثلاثة آلاف- وجهه ابن هبيرة إلى نصر، فنزل الري، ولم يأت نصرا وأقام نصر بالري يومين ثم مرض، فكان يحمل حملا، حتى إذا كان بساوة قريبا من همذان مات بها، فلما مات دخل أصحابه همذان

امر ابى مسلم مع قحطبه عند نزوله الري

وكانت وفاة نصر- فيما قيل- لمضي اثنتي عشرة ليلة من شهر ربيع الأول، وهو ابن خمس وثمانين سنة. وقيل إن نصرا لما شخص من خوار متوجها نحو الري لم يدخل الري ولكنه أخذ المفازة التي بين الري وهمذان فمات بها. رجع الحديث الى حديث على عن شيوخه قالوا: ولما مات نصر بْن سيار بعث الحسن خازم بْن خزيمة إلى قرية يقال لها سمنان، وأقبل قحطبة من جرجان، وقدم أمامه زياد بْن زرارة القشيري، وكان زياد قد ندم على اتباع أبي مسلم، فانخزل عن قحطبة، وأخذ طريق أصبهان يريد أن يأتي عامر بْن ضبارة، فوجه قحطبة المسيب بْن زهير الضبي، فلحقه من غد بعد العصر فقاتله، فانهزم زياد، وقتل عامة من معه، ورجع المسيب بْن زهير إلى قحطبة، ثم سار قحطبة إلى قومس وبها ابنه الحسن، فقدم خازم من الوجه الذي كان وجهه فيه الحسن، فقدم قحطبة ابنه الحسن إلى الري وبلغ حبيب ابن بديل النهشلي ومن معه من أهل الشام مسير الحسن، فخرجوا من الري ودخلها الحسن، فأقام حتى قدم أبوه. وكتب قحطبة حين قدم الري إلى أبي مسلم يعلمه بنزوله الري . امر ابى مسلم مع قحطبه عند نزوله الري قال ابو جعفر: وفي هذه السنة تحول أبو مسلم من مرو إلى نيسابور فنزلها. ذكر الخبر عما كان من أمر أبي مسلم هنالك ومن قحطبة بعد نزوله الري. ولما كتب قحطبة إلى أبي مسلم بنزوله الري ارتحل أبو مسلم- فيما ذكر- من مرو، فنزل نيسابور وخندق بها، ووجه قحطبة ابنه الحسن بعد نزوله الري بثلاث إلى همذان، فذكر علي عن شيوخه وغيرهم أن الحسن بْن قحطبة لما توجه إلى همذان، خرج منها مالك بْن أدهم ومن كان بها من أهل الشام وأهل خراسان إلى نهاوند، فدعاهم مالك إلى أرزاقهم، وقال: من

ذكر خبر قتل عامر بن ضباره ودخول قحطبه أصبهان

كان له ديوان فليأخذ رزقه، فترك قوم كثير دواوينهم ومضوا، فأقام مالك ومن بقي معه من أهل الشام وأهل خراسان ممن كان مع نصر، فسار الحسن من همذان إلى نهاوند، فنزل على أربعة فراسخ من المدينة، وأمده قحطبة بأبي الجهم بْن عطية مولى باهله في سبعمائة، حتى اطاف بالمدينة وحصرها . ذكر خبر قتل عامر بن ضباره ودخول قحطبه أصبهان قال أبو جعفر: وفي هذه السنة قتل عامر بْن ضبارة. ذكر الخبر عن مقتله وعن سبب ذلك: وكان سبب مقتله أن عبد الله بْن معاوية بْن عبد الله بْن جعفر لما هزمه ابن ضبارة مضى هاربا نحو خراسان، وسلك إليها طريق كرمان، ومضى عامر بْن ضبارة في أثره لطلبه، وورد على يزيد بْن عمر مقتل نباتة بْن حنظلة بجرجان، فذكر علي بْن محمد ان أبا السرى وأبا الحسن الجشمى والحسن ابن رشيد وجبله بن فروج وحفص بن شبيب اخبروه، قالوا: لما قتل نباتة كتب ابن هبيرة إلى عامر بْن ضبارة وإلى ابنه داود بْن يزيد بْن عمر أن يسير إلى قحطبة- وكانا بكرمان- فسارا في خمسين ألفا حتى نزلوا أصبهان بمدينة جي- وكان يقال لعسكر ابن ضبارة عسكر العساكر- فبعث قحطبة إليهم مقاتلا وأبا حفص المهلبي وأبا حماد المروزي مولى بني سليم وموسى بْن عقيل وأسلم بْن حسان وذؤيب بْن الأشعث وكلثوم بْن شبيب ومالك بن طريف والمخارق بن غفار والهيثم بْن زياد، وعليهم جميعا العكي، فسار حتى نزل قم وبلغ ابن ضبارة نزول الحسن بأهل نهاوند، فأراد أن يأتيهم معينا لهم، وبلغ الخبر العكي، فبعث إلى قحطبة يعلمه، فوجه زهير بْن محمد إلى قاشان، وخرج العكي من قم وخلف بها طريف بْن غيلان، فكتب إليه قحطبة يأمره أن يقيم حتى يقدم عليه، وأن يرجع إلى قم، وأقبل قحطبة من الري، وبلغه طلائع العسكرين، فلما لحق قحطبة بمقاتل بْن حكيم

العكي ضم عسكر العكي إلى عسكره، وسار عامر بْن ضبارة إليهم وبينه وبين عسكر قحطبة فرسخ، فأقام أياما، ثم سار قحطبة إليهم، فالتقوا وعلى ميمنة قحطبة العكي ومعه خالد بْن برمك، وعلى ميسرته عبد الحميد بْن ربعي ومعه مالك بْن طريف- وقحطبة في عشرين ألفا وابن ضبارة في مائة ألف، وقيل في خمسين ومائة ألف- فأمر قحطبة بمصحف فنصب على رمح ثم نادى: يا أهل الشام، إنا ندعوكم إلى ما في هذا المصحف، فشتموه وأفحشوا في القول، فأرسل إليهم قحطبة: احملوا عليهم، فحمل عليهم العكي، وتهايج الناس، فلم يكن بينهم كثير قتال حتى انهزم أهل الشام، وقتلوا قتلا ذريعا، وحووا عسكرهم، فأصابوا شيئا لا يدرى عدده من السلاح والمتاع والرقيق، وبعث بالفتح إلى ابنه الحسن مع شريح بْن عبد الله. قَالَ علي: وأخبرنا أبو الذيال، قَالَ: لقي قحطبة عامر بْن ضبارة، ومع ابن ضبارة ناس من أهل خراسان، منهم صالح بن الحجاج النميرى وبشر ابن بسطام بْن عمران بْن الفضل البرجمي وعبد العزيز بْن شماس المازني وابن ضبارة في خيل ليست معه رجالة، وقحطبة معه خيل ورجالة فرموا الخيل بالنشاب، فانهزم ابن ضبارة حتى دخل عسكره، واتبعه قحطبه، فترك ابن ضبارة العسكر، ونادى: إلي، فانهزم الناس وقتل. قَالَ علي: وأخبرنا المفضل بْن محمد الضبي، قَالَ: لما لقي قحطبة ابن ضبارة انهزم داود بْن يزيد بْن عمر، فسأل عنه عامر، فقيل: انهزم، فقال: لعن الله شرنا منقلبا! وقاتل حتى قتل. قَالَ علي: وأخبرنا حفص بْن شبيب، قَالَ: حدثني من شهد قحطبة وكان معه، قَالَ: ما رأيت عسكرا قط جمع ما جمع أهل الشام بأصبهان من الخيل والسلاح والرقيق، كأنا افتتحنا مدينة، وأصبنا معهم ما لا يحصى من البرابط والطنابير والمزامير، ولقل بيت أو خباء ندخله إلا أصبنا فيه زكرة أو زقا من الخمر، فقال بعض الشعراء: لما رمينا مضرا بالقب ... قرضبهم قحطبة القرضب يدعون مروان كدعوى الرب.

ذكر خبر محاربه قحطبه اهل نهاوند ودخولها

ذكر خبر محاربه قحطبه اهل نهاوند ودخولها وفي هذه السنة كانت وقعة قحطبة بنهاوند بمن كان لجأ إليها من جنود مروان بْن محمد وقيل: كانت الوقعة بجابلق من أرض أصبهان يوم السبت لسبع بقين من رجب. ذكر الخبر عن هذه الوقعة: ذكر علي بْن محمد أن الحسن بْن رشيد وزهير بْن الهنيد أخبراه أن ابن ضبارة لما قتل كتب بذلك قحطبة إلى ابنه الحسن، فلما أتاه الكتاب كبر وكبر جنده، ونادوا بقتله، فقال عاصم بْن عمير السغدي: ما صاح هؤلاء بقتل ابن ضبارة إلا وهو حق، فاخرجوا إلى الحسن بْن قحطبة وأصحابه، فإنكم لا تقومون لهم، فتذهبون حيث شئتم قبل أن يأتيه أبوه أو مدده فقالت الرجالة: تخرجون وأنتم فرسان على خيول فتذهبون وتتركوننا! فقال لهم مالك ابن أدهم الباهلي: كتب إلي ابن هبيرة ولا أبرح حتى يقدم علي فأقاموا وأقام قحطبة بأصبهان عشرين يوما، ثم سار حتى قدم على الحسن نهاوند فحصرهم أشهرا، ثم دعاهم إلى الأمان فأبوا، فوضع عليهم المجانيق، فلما رأى ذلك مالك طلب الأمان لنفسه ولأهل الشام- وأهل خراسان لا يعلمون- فأعطاه الأمان فوفى له قحطبة، ولم يقتل منهم أحدا، وقتل من كان بنهاوند من أهل خراسان، إلا الحكم بْن ثابت بْن أبي مسعر الحنفي، وقتل من أهل خراسان أبا كامل وحاتم بْن الحارث بْن شريح وابن نصر بن سيار وعاصم بْن عمير وعلي بْن عقيل وبيهس بْن بديل من بني سليم، من أهل الجزيرة، ورجلا من قريش يقال له البختري، من أولاد عمر بْن الخطاب- وزعموا أن آل الخطاب لا يعرفونه- وقطن بْن حرب الهلالي. قَالَ علي: وحدثنا يحيى بْن الحكم الهمداني، قَالَ: حدثني مولى لنا قَالَ: لما صالح مالك بْن أدهم قحطبة قَالَ بيهس بن بديل: ان ابن ادهم لمصالح علينا، والله لأفتكن به، فوجد أهل خراسان أن قد فتح لهم الأبواب، ودخلوا وأدخل قحطبة من كان معه من أهل خراسان حائطا

وقال غير علي: أرسل قحطبة إلى أهل خراسان الذين في مدينة نهاوند يدعوهم إلى الخروج إليه، وأعطاهم الأمان، فأبوا ذلك ثم أرسل إلى أهل الشام بمثل ذلك فقبلوا، ودخلوا في الأمان بعد أن حوصروا ثلاثة أشهر: شعبان ورمضان وشوال، وبعث أهل الشام إلى قحطبة يسألونه أن يشغل أهل المدينة حتى يفتحوا الباب وهم لا يشعرون، ففعل ذلك قحطبة، وشغل أهل المدينة بالقتال، ففتح أهل الشام الباب الذي كانوا عليه، فلما رأى أهل خراسان الذين في المدينة خروج أهل الشام، سألوهم عن خروجهم، فقالوا: أخذنا الأمان لنا ولكم، فخرج رؤساء أهل خراسان، فدفع قحطبة كل رجل منهم إلى رجل من قواد اهل خراسان، ثم امر مناديه فنادى: من كان في يده أسير ممن خرج إلينا من أهل المدينة فليضرب عنقه، وليأتنا برأسه ففعلوا ذلك، فلم يبق أحد ممن كان قد هرب من أبي مسلم وصاروا إلى الحصن إلا قتل، ما خلا أهل الشام فإنه خلى سبيلهم، وأخذ عليهم إلا يمالئوا عليه عدوا. رجع الحديث إلى حديث علي عن شيوخه الذين ذكرت: ولما أدخل قحطبة الذين كانوا بنهاوند من أهل خراسان ومن اهل الشام الحائط، قال لهم عاصم بن عمير: ويلكم! الا تدخلوا الحائط! وخرج عاصم فلبس درعه، ولبس سوادا كان معه، فلقيه شاكري كان له بخراسان فعرفه، فقال: أبو الأسود؟ قَالَ: نعم، فأدخله في سرب، وقال لغلام له: احتفظ به ولا تطلعن على مكانه أحدا، وأمر قحطبة: من كان عنده أسيرا فليأتنا به فقال الغلام الذي كان وكل بعاصم: إن عندي أسيرا أخاف أن أغلب عليه، فسمعه رجل من أهل اليمن، فقال: أرنيه، فأراه إياه فعرفه، فأتى قحطبة فأخبره، وقال: رأس من رءوس الجبابرة، فأرسل إليه فقتله، ووفى لأهل الشام فلم يقتل منهم أحدا. قَالَ علي: وأخبرنا أبو الحسن الخراساني وجبلة بْن فروخ، قالا: لما قدم قحطبة نهاوند والحسن محاصرهم، أقام قحطبة عليهم، ووجه الحسن إلى مرج القلعة، فقدم الحسن خازم بْن خزيمة إلى حلوان، وعليها عبد الله

ذكر وقعه شهرزور وفتحها

ابن العلاء الكندي، فهرب من حلوان وخلاها. قَالَ علي: وأخبرنا محرز بْن إبراهيم، قَالَ: لما فتح قحطبة نهاوند، أرادوا أن يكتبوا إلى مروان باسم قحطبة، فقالوا: هذا اسم شنيع، اقلبوه فجاء هبط حق، فقالوا: الاول مع شنعته ايسر من هذا فردوه. ذكر وقعه شهرزور وفتحها وفي هذه السنة كانت وقعة أبي عون بشهرزور ذكر الخبر عنها وعما كان فيها: ذكر علي أن أبا الحسن وجبلة بْن فروخ، حدثاه قالا: وجه قحطبة أبا عون عبد الملك بْن يزيد الخراساني ومالك بْن طريف الخراساني في أربعة آلاف إلى شهرزور، وبها عثمان بْن سفيان على مقدمة عبد الله بْن مروان، فقدم أبو عون ومالك، فنزلا على فرسخين من شهرزور، فأقاما به يوما وليلة، ثم ناهضا عثمان بْن سفيان في العشرين من ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين ومائة فقتل عثمان بْن سفيان، وبعث أبو عون بالبشارة مع إسماعيل بْن المتوكل، وأقام أبو عون في بلاد الموصل. وقال بعضهم: لم يقتل عثمان بْن سفيان، ولكنه هرب إلى عبد الله بْن مروان، واستباح أبو عون عسكره، وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة بعد قتال شديد وقال: كان قحطبة وجه أبا عون إلى شهرزور في ثلاثين ألفا بأمر أبي مسلم إياه بذلك قَالَ: ولما بلغ خبر أبي عون مروان وهو بحران، ارتحل منها ومعه جنود الشام والجزيرة والموصل، وحشرت بنو أمية معه أبناءهم مقبلا إلى أبي عون، حتى انتهى إلى الموصل، ثم أخذ في حفر الخنادق من خندق إلى خندق، حتى نزل الزاب الأكبر، وأقام أبو عون بشهرزور بقية ذي الحجة والمحرم من سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وفرض فيها لخمسه آلاف رجل.

ذكر خبر مسير قحطبه إلى ابن هبيرة بالعراق

ذكر خبر مسير قحطبه الى ابن هبيرة بالعراق وفي هذه السنة سار قحطبة نحو ابن هبيرة، ذكر علي بْن محمد أن أبا الحسن أخبره وزهير بْن هنيد وإسماعيل بْن أبي إسماعيل وجبلة بْن فروخ، قالوا: لما قدم على ابن هبيرة ابنه منهزما من حلوان، خرج يزيد بْن عمر بْن هبيرة، فقاتل قحطبة في عدد كثير لا يحصى مع حوثرة بْن سهيل الباهلي، وكان مروان أمد ابن هبيرة به، وجعل على الساقة زياد بْن سهل الغطفاني، فسار يزيد بْن عمر بْن هبيرة، حتى نزل جلولاء الوقيعة وخندق، فاحتفر الخندق الذي كانت العجم احتفرته ايام وقعه جلولاء، واقيل قحطبة حتى نزل قرماسين، ثم سار إلى حلوان، ثم تقدم من حلوان، فنزل خانقين، فارتحل قحطبة من خانقين، وارتحل ابن هبيرة راجعا إلى الدسكرة. وقال هشام عن أبي مخنف، قال: اقبل قحطبه، وابن هبيرة فخندق بجلولاء، فارتفع إلى عكبراء، وجاز قحطبة دجلة، ومضى حتى نزل دمما دون الأنبار، وارتحل ابن هبيرة بمن معه منصرفا مبادرا إلى الكوفة لقحطبة، حتى نزل في الفرات في شرقيه، وقدم حوثرة في خمسة عشر ألفا إلى الكوفة، وقطع قحطبة الفرات من دمما، حتى صار من غربيه، ثم سار يريد الكوفة حتى انتهى إلى الموضع الذي فيه ابن هبيرة. وفي هذه السنة حج بالناس الوليد بْن عروة بْن محمد بْن عطية السعدي، سعد هوازن، وهو ابن أخي عبد الملك بْن محمد بْن عطية الذي قتل أبا حمزة الخارجي وكان والي المدينة من قبل عمه، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر وكذلك قَالَ الواقدي وغيره. وقد ذكر أن الوليد بْن عروة إنما كان خرج خارجا من المدينة، وكان مروان قد كتب إلى عمه عبد الملك بْن محمد بْن عطية يأمره أن يحج بالناس وهو باليمن، فكان من أمره ما قد ذكرت قبل، فلما أبطأ عليه عمه عبد الملك

افتعل كتابا من عمه يأمره بالحج بالناس، فحج بهم. وذكر أن الوليد بْن عروة بلغه قتل عمه عبد الملك فمضى إلى الذين قتلوه، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وبقر بطون نسائهم، وقتل الصبيان، وحرق بالنيران من قدر عليه منهم وكان عامل مكة والمدينة والطائف في هذه السنة الوليد بْن عروة السعدي من قبل عمه عبد الملك بْن محمد، وعامل العراق يزيد بْن عمر بْن هبيرة وعلى قضاء الكوفة الحجاج بن عاصم المحاربى، وعلى قضاء البصره عباد ابن منصور الناجى.

سنه اثنتين وثلاثين ومائه

ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر الخبر عن هلاك قحطبه بن شبيب فمما كان فيها هلاك قحطبة بْن شبيب ذكر الخبر عن مهلكه وسبب ذلك: فكان السبب في ذلك أن قحطبة لما نزل خانقين مقبلا إلى ابن هبيرة، وابن هبيرة بجلولاء، ارتحل ابن هبيرة من جلولاء إلى الدسكرة، فبعث- فيما ذكر- قحطبة ابنه الحسن طليعة ليعلم له خبر ابن هبيرة، وكان ابن هبيرة راجعا إلى خندقه بجلولاء، فوجد الحسن بْن هبيرة في خندقه، فرجع إلى أبيه فأخبره بمكان ابن هبيرة، فذكر علي بْن محمد، عن زهير بْن هنيد وجبلة ابن فروخ وإسماعيل بْن أبي إسماعيل والحسن بْن رشيد، أن قحطبة، قَالَ لأصحابه لما رجع ابنه الحسن إليه وأخبره بما أخبره به من أمر ابن هبيرة: هل تعلمون طريقا يخرجنا إلى الكوفة، لا نمر بابن هبيرة؟ فقال خلف بْن المورع الهمذاني، أحد بني تميم: نعم، أنا أدلك، فعبر به تامرا من روستقباذ، ولزم الجادة حتى نزل بزرج سابور، وأتى عكبراء، فعبر دجلة إلى أوانا قَالَ علي: وحدثنا إبراهيم بْن يزيد الخراساني، قَالَ: نزل قحطبة بخانقين وابن هبيرة بجلولاء، بينهما خمسة فراسخ، وأرسل طلائعه إلى ابن هبيرة ليعلم علمه، فرجعوا إليه، فأعلموه أنه مقيم، فبعث قحطبة خازم بْن خزيمة، وأمره أن يعبر دجلة، فعبر وسار بين دجلة ودجيل، حتى نزل كوثبا، ثم كتب إليه قحطبة يأمره بالمسير إلى الأنبار، وأن يحدر إليه ما فيها من السفن وما قدر عليه يعبرها، ويوافيه بها بدمما، ففعل ذلك خازم، ووافاه قحطبة بدمما، ثم عبر قحطبة الفرات في المحرم من سنة اثنتين وثلاثين

ومائة، ووجه الأثقال في البرية، وصارت الفرسان معه على شاطئ الفرات، وابن هبيرة معسكر على فم الفرات من أرض الفلوجة العليا، على رأس ثلاثة وعشرين فرسخا من الكوفة، وقد اجتمع إليه فل ابْن ضبارة، وأمده مروان بحوثرة بْن سهيل الباهلي في عشرين ألفا من أهل الشام وذكر علي أن الحسن بْن رشيد وجبلة بْن فروخ أخبراه أن قحطبة لما ترك ابن هبيرة ومضى يريد الكوفة، قَالَ حوثرة بْن سهيل الباهلي وناس من وجوه أهل الشام لابن هبيرة: قد مضى قحطبة إلى الكوفة، فاقصد أنت خراسان، ودعه ومروان فإنك تكسره، فبالحري أن يتبعك، فقال: ما هذا برأي، ما كان ليتبعني ويدع الكوفة، ولكن الرأي أن أبادره إلى الكوفة ولما عبر قحطبة الفرات، وسار على شاطئ الفرات ارتحل ابن هبيرة من معسكره بأرض الفلوجة، فاستعمل على مقدمته حوثرة بْن سهيل، وأمره بالمسير إلى الكوفة، والفريقان يسيران على شاطئ الفرات، ابن هبيرة بين الفرات وسورا، وقحطبة في غربيه مما يلي البر ووقف قحطبة فعبر إليه رجل أعرابي في زورق، فسلم على قحطبة، فقال: ممن أنت؟ قَالَ: من طيّئ، فقال الأعرابي لقحطبة: اشرب من هذا واسقني سؤرك، فغرف قحطبة في قصعة فشرب وسقاه، فقال: الحمد لله الذي نسأ أجلي حتى رأيت هذا الجيش يشرب من هذا الماء قَالَ قحطبة: أتتك الرواية؟ قَالَ: نعم، قَالَ: ممن أنت؟ قال: من طيّئ، ثم احد بني نبهان، فقال قحطبة: صدقني إمامي، أخبرني أن لي وقعة على هذا النهر لي فيها النصر، يا أخا بني نبهان، هل هاهنا مخاضة؟ قَالَ: نعم ولا أعرفها، وأدلك على من يعرفها، السندي بْن عصم فأرسل إليه قحطبة، فجاء وأبو السندي وعون، فدلوه على المخاضة وأمسى ووافته مقدمة ابن هبيرة في عشرين ألفا، عليهم حوثرة فذكر علي، عن ابن شهاب العبدى، قال: نزل قحطبه الجباريه فقال: صدقني الإمام أخبرني أن النصر بهذا المكان، وأعطى الجند أرزاقهم، فرد عليه كاتبه ستة عشر ألف درهم، فضل الدرهم والدرهمين وأكثر وأقل، فقال: لا تزالون بخير ما كنتم على هذا ووافته خيول الشام، وقد دلوه على

مخاضة فقال: إنما أنتظر شهر حرام وليلة عاشوراء، وذلك سنة اثنتين وثلاثين ومائة وأما هشام بن محمد، فإنه ذكر عن أبي مخنف أن قحطبة انتهى إلى موضع مخاضة ذكرت له، وذلك عند غروب الشمس ليلة الأربعاء، لثمان خلون من المحرم سنه اثنتين وثلاثين ومائة، فلما انتهى قحطبة إلى المخاضة اقتحم في عدة من أصحابه، حتى حمل على ابن هبيرة، وولى أصحابه منهزمين، ثم نزلوا فم النيل، ومضى حوثرة حتى نزل قصر ابن هبيرة، وأصبح أهل خراسان وقد فقدوا أميرهم، فألقوا بايدهم، وعلى الناس الحسن بْن قحطبة رجع الحديث إلى حديث علي عن ابن شهاب العبدي: فاما صاحب علم قحطبه خيران او يسار مولاه، فقال له: اعبر، وقال لصاحب رايته مسعود بْن علاج رجل من بكر بْن وائل: اعبر، وقال لصاحب شرطته عبد الحميد بْن ربعي ابى غانم احد بنى نبهان من طيّئ: اعبر يا أبا غانم، وأبشر بالغنيمة وعبر جماعه حتى عبر أربعمائة، فقاتلوا أصحاب حوثرة حتى نحوهم عن الشريعة، ولقوا محمد بْن نباتة فقاتلوه، ورفعوا النيران، وانهزم أهل الشام، وفقدوا قحطبة فبايعوا حميد بْن قحطبة على كره منه، وجعلوا على الأثقال رجلا يقال له أبو نصر في مائتين، وسار حميد حتى نزل كربلاء، ثم دير الأعور ثم العباسية قَالَ علي: أخبرنا خالد بْن الأصفح وأبو الذيال، قالوا: وجد قحطبة فدفنه أبو الجهم، فقال رجل من عرض الناس: من كان عنده عهد من قحطبة فليخبرنا به، فقال مقاتل بْن مالك العكي: سمعت قحطبة يقول: إن حدث بي حدث فالحسن امير الناس، فبايع الناس حميدا للحسن، وأرسلوا إلى الحسن، فلحقه الرسول دون قرية شاهي، فرجع الحسن فأعطاه أبو الجهم خاتم قحطبة، وبايعوه، فقال الحسن: إن كان قحطبة مات فأنا ابن قحطبة وقتل في هذه الليلة ابن نبهان السدوسي وحرب بْن سلم بن

أحوز وعيسى بْن إياس العدوي ورجل من الأساورة، يقال له مصعب، وادعى قتل قحطبة معن بن زائده ويحيى بن حضين قَالَ علي: قَالَ أبو الذيال: وجدوا قحطبة قتيلا في جدول وحرب بْن سلم بْن أحوز قتيل إلى جنبه، فظنوا أن كل واحد منهما قتل صاحبه قَالَ علي: وذكر عبد الله بْن بدر قَالَ: كنت مع ابن هبيرة ليلة قحطبة فعبروا إلينا، فقاتلونا على مسناة عليها خمسة فوارس، فبعث ابن هبيرة محمد بن نباته، فتلقاهم فدفعناهم دفعا، وضرب معن بْن زائدة قحطبة على حبل عاتقه، فأسرع فيه السيف، فسقط قحطبة في الماء فأخرجوه، فقال: شدوا يدي، فشدوها بعمامة، فقال: إن مت فألقوني في الماء لا يعلم أحد بقتلي وكر عليهم أهل خراسان، فانكشف ابن نباتة وأهل الشام، فاتبعونا وقد أخذ طائفة في وجه، ولحقنا قوم من أهل خراسان، فقاتلناهم طويلا، فما نجونا إلا برجلين من أهل الشام قاتلوا عنا قتالا شديدا، فقال بعض الخراسانية: دعوا هؤلاء الكلاب بالفارسية فانصرفوا عنا ومات قحطبة وقال قبل موته: إذا قدمتم الكوفة فوزير الإمام أبو سلمة، فسلموا هذا الأمر إليه ورجع ابن هبيرة إلى واسط وقد قيل في هلاك قحطبة قول غير الذي قاله من ذكرنا قوله من شيوخ علي بْن محمد، والذي قيل من ذلك أن قحطبة لما صار بحذاء ابن هبيرة من الجانب الغربي من الفرات، وبينهما الفرات، قدم الحسن ابنه على مقدمته، ثم أمر عبد الله الطائي ومسعود بْن علاج وأسد بْن المرزبان وأصحابهم بالعبور على خيولهم في الفرات، فعبروا بعد العصر، فطعن أول فارس لقيهم من أصحاب ابن هبيرة، فولوا منهزمين حتى بلغت هزيمتهم جسر سورا حتى اعترضهم سويد صاحب شرطة ابن هبيرة، فضرب وجوههم ووجوه دوابهم حتى ردهم إلى موضعهم، وذلك عند المغرب، حتى انتهوا إلى مسعود بن علاج ومن معه، فكثروهم، فأمر قحطبة المخارق بن غفار وعبد الله بسام وسلمه ابن محمد- وهم في جريدة خيل- أن يعبروا، فيكونوا ردءا لمسعود بْن علاج،

فعبروا ولقيهم محمد بْن نباتة، فحصر سلمة ومن معه بقرية على شاطئ الفرات، وترجل سلمة ومن معه، وحمي القتال، فجعل محمد بْن نباتة يحمل على سلمة وأصحابه، فيقتل العشرة والعشرين، ويحمل سلمة وأصحابه على محمد بْن نباتة وأصحابه، فيقتل منهم. المائة والمائتين، وبعث سلمة إلى قحطبة يستمده، فأمده بقواده جميعا، ثم عبر قحطبة بفرسانه، وأمر كل فارس أن يردف رجلا، وذلك ليلة الخميس لليال خلون من المحرم، ثم واقع قحطبة محمد بْن نباتة ومن معه، فاقتتلوا قتالا شديدا، فهزمهم قحطبة حتى ألحقهم بابن هبيرة، وانهزم ابن هبيرة بهزيمة ابن نباتة، وخلوا عسكرهم وما فيه من الأموال والسلاح والرثة والآنية وغير ذلك، ومضت بهم الهزيمة حتى قطعوا جسر الصراة، وساروا ليلتهم حتى أصبحوا بفم النيل، وأصبح أصحاب قحطبة وقد فقدوه، فلم يزالوا في رجاء منه إلى نصف النهار، ثم يئسوا منه وعلموا بغرقه، فأجمع القواد على الحسن بْن قحطبة فولوه الأمر وبايعوه، فقام بالأمر وتولاه، وأمر بإحصاء ما في عسكر ابن هبيرة، ووكل بذلك رجلا من اهل خراسان يكنى أبا النضر في مائتي فارس، وأمر بحمل الغنائم في السفن إلى الكوفة، ثم ارتحل الحسن بالجنود حتى نزل كربلاء، ثم ارتحل فنزل سورا، ثم نزل بعدها دير الأعور، ثم سار منه فنزل العباسية. وبلغ حوثرة هزيمة ابن هبيرة، فخرج بمن معه حتى لحق بابن هبيرة بواسط. وكان سبب قتل قحطبة- فيما قَالَ هؤلاء- أن أحلم بْن إبراهيم بْن بسام مولى بني ليث قَالَ: لما رأيت قحطبة في الفرات، وقد سبحت به دابته حتى كادت تعبر به من الجانب الذي كنت فيه أنا وبسام بْن إبراهيم أخي- وكان بسام على مقدمة قحطبة- فذكرت من قتل من ولد نصر بْن سيار وأشياء ذكرتها منه، وقد أشفقت على أخي بسام بْن إبراهيم لشيء بلغه عنه، فقلت: لا طلبت بثأر أبدا إن نجوت الليلة قَالَ: فأتلقاه وقد صعدت به دابته لتخرج من الفرات وأنا على الشط، فضربته بالسيف على جبينه، فوثب فرسه، وأعجله الموت، فذهب في الفرات بسلاحه ثم أخبر ابن حصين السعدي بعد موت

ذكر خبر خروج محمد بن خالد بالكوفه مسودا

أحلم بْن إبراهيم بمثل ذلك، وقال: لولا أنه أقر بذلك عند موته ما أخبرت عنه بشيء. ذكر خبر خروج محمد بن خالد بالكوفه مسودا قال أبو جعفر: وفي هذه السنة خرج محمد بْن خالد بالكوفة، وسود قبل أن يدخلها الحسن بْن قحطبة، وخرج عنها عامل ابن هبيرة، ثم دخلها الحسن. ذكر الخبر عما كان من أمر من ذكرت: ذكر هشام، عن أبي مخنف، قَالَ: خرج محمد بْن خالد بالكوفة في ليلة عاشوراء، وعلى الكوفة زياد بْن صالح الحارثي، وعلى شرطه عبد الرحمن ابن بشير العجلي، وسود محمد وسار إلى القصر، فارتحل زياد بْن صالح وعبد الرحمن بْن بشير العجلى ومن معهم من أهل الشام، وخلوا القصر، فدخله محمد بْن خالد، فلما أصبح يوم الجمعة- وذلك صبيحة اليوم الثاني من مهلك قحطبة- بلغه نزول حوثرة ومن معه مدينة ابن هبيرة، وأنه تهيأ للمسير إلى محمد، فتفرق عن محمد عامة من معه حيث بلغهم نزول حوثرة مدينة ابن هبيرة، ومسيره إلى محمد لقتاله، إلا فرسانا من فرسان أهل اليمن، ممن كان هرب من مروان ومواليه وأرسل إليه أبو سلمة الخلال- ولم يظهر بعد- يأمره بالخروج من القصر واللحاق بأسفل الفرات، فإنه يخاف عليه لقلة من معه وكثرة من مع حوثرة- ولم يبلغ أحدا من الفريقين هلاك قحطبة- فأبى محمد بْن خالد أن يفعل حتى تعالى النهار، فتهيأ حوثرة للمسير إلى محمد بْن خالد، حيث بلغه قلة من معه وخذلان العامة له، فبينا محمد في القصر إذ أتاه بعض طلائعه، فقال له: خيل قد جاءت من أهل الشام، فوجه إليهم عدة من مواليه، فأقاموا بباب دار عمر بْن سعد، إذ طلعت الرايات لأهل الشام، فتهيئوا لقتالهم، فنادى الشاميون: نحن بجيلة، وفينا مليح بْن خالد البجلي، جئنا لندخل في طاعة الأمير فدخلوا، ثم جاءت خيل أعظم منها مع رجل من آل بحدل، فلما رأى ذلك حوثرة من صنيع

أصحابه، ارتحل نحو واسط بمن معه، وكتب محمد بْن خالد من ليلته إلى قحطبة، وهو لا يعلم بهلكه، يعلمه أنه قد ظفر بالكوفة، وعجل به مع فارس، فقدم على الحسن بْن قحطبة، فلما دفع إليه كتاب محمد بْن خالد قرأه على الناس، ثم ارتحل نحو الكوفة، فأقام محمد بالكوفة يوم الجمعة والسبت والأحد وصبحه الحسن يوم الاثنين، فأتوا أبا سلمة وهو في بني سلمة فاستخرجوه، فعسكر بالنخيلة يومين، ثم ارتحل الى حمام اعين، ووجه الحسن ابن قحطبة إلى واسط لقتال ابن هبيرة. وأما علي بْن محمد، فإنه ذكر أن عمارة مولى جبرائيل بْن يحيى أخبره، قَالَ: بايع أهل خراسان الحسن بعد قحطبة، فأقبل إلى الكوفة، وعليها يومئذ عبد الرحمن بْن بشير العجلي، فأتاه رجل من بني ضبة، فقال: إن الحسن داخل اليوم أو غدا، قَالَ: كأنك جئت ترهبنى! وضربه ثلاثمائة سوط ثم هرب فسود محمد بْن خالد بْن عبد الله القسري، فخرج في أحد عشر رجلا، ودعا الناس إلى البيعة، وضبط الكوفة، فدخل الحسن من الغد، فكانوا يسألون في الطريق: أين منزل أبي سلمة، وزير آل محمد؟ فدلوهم عليه، فجاءوا حتى وقفوا على بابه، فخرج إليهم، فقدموا له دابة من دواب قحطبة فركبها، وجاء حتى وقف في جبانة السبيع، وبايع أهل خراسان، فمكث ابو سلمه حفص بن سليمان مولى السبيع- يقال له وزير آل محمد- واستعمل محمد بْن خالد بْن عبد الله القسري على الكوفة- وكان يقال له الأمير- حتى ظهر أبو العباس. وقال علي: أخبرنا جبلة بْن فروخ وأبو صالح المروزي وعمارة مولى جبرائيل وأبو السري وغيرهم ممن قد أدرك أول دعوة بني العباس، قالوا: ثم وجه الحسن ابن قحطبة إلى ابن هبيرة بواسط، وضم إليه قوادا، منهم خازم بْن خزيمة ومقاتل بْن حكيم العكي وخفاف بْن منصور وسعيد بْن عمرو وزياد بْن مشكان والفضل بْن سليمان وعبد الكريم بْن مسلم وعثمان بْن نهيك وزهير بْن محمد والهيثم بْن زياد وأبو خالد المروزي وغيرهم، ستة عشر قائدا وعلى جميعهم

الحسن بْن قحطبة ووجه حميد بْن قحطبة إلى المدائن في قواد، منهم عبد الرحمن بْن نعيم ومسعود بْن علاج، كل قائد في أصحابه وبعث المسيب بْن زهير وخالد بْن برمك إلى ديرقني، وبعث المهلبي وشراحيل في أربعمائة إلى عين التمر، وبسام بْن إبراهيم بْن بسام الى الاهواز، وبها عبد الواحد ابن عمر بْن هبيرة فلما أتى بسام الأهواز خرج عبد الواحد إلى البصرة، وكتب مع حفص بْن السبيع إلى سفيان بْن معاوية بعهده على البصرة، فقال له الحارث أبو غسان الحارثي- وكان يتكهن وهو أحد بني الديان: لا ينفذ هذا العهد. فقدم الكتاب على سفيان، فقاتله سلم بْن قتيبة، وبطل عهد سفيان. وخرج أبو سلمة فعسكر عند حمام أعين، على نحو من ثلاثة فراسخ من الكوفة، فأقام محمد بْن خالد بْن عبد الله بالكوفة. وكان سبب قتال سلم بْن قتيبة سفيان بْن معاوية بْن يزيد بْن المهلب- فيما ذكر- أن أبا سلمة الخلال وجه إذ فرق العمال في البلدان بسام بْن إبراهيم مولى بني ليث إلى عبد الواحد بْن عمر بْن هبيرة وهو بالأهواز، فقاتله بسام حتى فضه، فلحق سلم بْن قتيبة الباهلي بالبصرة، وهو يومئذ عامل ليزيد بْن عمر بْن هبيرة وكتب أبو سلمة إلى الحسن بْن قحطبة أن يوجه إلى سلم من أحب من قواده، وكتب إلى سفيان بْن معاوية بعهده على البصرة، وأمره أن يظهر بها دعوة بني العباس، ويدعو الى القائم منهم، وينفى سلم ابن قتيبة فكتب سفيان إلى سلم يأمره بالتحول عن دار الإمارة، ويخبره بما أتاه من رأي أبي سلمة، فأبى سلم ذلك، وامتنع منه، وحشد مع سفيان جميع اليمانية وحلفاءهم من ربيعة وغيرهم، وجنح إليه قائد من قواد ابن هبيرة، وكان بعثه مددا لسلم في ألفي رجل من كلب، فأجمع السير إلى سلم بْن قتيبة، فاستعد له سلم، وحشد معه من قدر عليه من قيس وأحياء مضر ومن كان بالبصرة من بني أمية ومواليهم، وسارعت بنو أمية إلى نصره. فقدم سفيان يوم الخميس وذلك في صفر، فأتى المربد سلم، فوقف منه عند سوق الإبل، ووجه الخيول في سكة المربد وسائر سكك البصرة للقاء من وجه إليه سفيان، ونادى: من جاء برأس فله خمسمائة درهم، ومن

جاء بأسير فله ألف درهم ومضى معاوية بْن سفيان بْن معاوية في ربيعة خاصة، فلقيه خيل من تميم في السكة التي تأخذ الى بنى عامر في سكة المربد عند الدار التي صارت لعمر بْن حبيب، فطعن رجل منهم فرس معاوية، فشب به فصرعه، فنزل إليه رجل من بني ضبة يقال له عياض، فقتله، وحمل رأسه إلى سلم بْن قتيبة، فأعطاه ألف درهم، فانكسر سفيان لقتل ابنه، فانهزم ومن معه، وخرج من فوره هو وأهل بيته حتى أتى القصر الأبيض فنزلوه، ثم ارتحلوا منه إلى كسكر. وقدم على سلم بعد غلبته على البصرة جابر بْن توبة الكلابي والوليد بْن عتبة الفراسي، من ولد عبد الرحمن بْن سمرة في أربعة آلاف رجل، كتب إليهم ابن هبيرة أن يصيروا مددا لسلم وهو بالأهواز، فغدا جابر بمن معه على دور المهلب وسائر الأزد، فأغاروا عليهم، فقاتلهم من بقي من رجال الأزد قتالا شديدا حتى كثرت القتلى فيهم، فانهزموا، فسبى جابر ومن معه من أصحابه النساء، وهدموا الدور وانتهبوا، فكان ذلك من فعلهم ثلاثة أيام، فلم يزل سلم مقيما بالبصرة حتى بلغه قتل ابن هبيرة، فشخص عنها فاجتمع من البصرة من ولد الحارث بْن عبد المطلب إلى محمد بْن جعفر فولوه أمرهم فوليهم أياما يسيرة، حتى قدم البصرة أبو مالك عبد الله بْن أسيد الخزاعي من قبل أبي مسلم، فوليها خمسة أيام، فلما قام أبو عباس ولاها سفيان بن معاويه. قال أبو جعفر: وفي هذه السنة بويع لأبي العباس عبد الله بْن محمد بْن على ابن عَبْد اللَّهِ بْن العباس بْن عبد المطلب بْن هاشم، ليلة الجمعة لثلاث عشرة مضت من شهر ربيع الآخر، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق ابن عيسى، عن أبي معشر وكذلك قَالَ هشام بْن محمد وأما الواقدي فإنه قَالَ: بويع لأبي العباس بالمدينة بالخلافة في جمادى الأولى في سنه ثنتين وثلاثين ومائه. قال الواقدي: وقال لي أبو معشر: في شهر ربيع الاول سنه ثنتين وثلاثين ومائة، وهو الثبت

خلافه ابى العباس عبد الله بن محمد بن على ابن عبد الله بن عباس

خلافة أبي العباس عبد الله بْن محمد بن على ابن عبد الله بْن عباس (ذكر الخبر عن سبب خلافته) وكان بدء ذلك- فيما ذكر عن رسول الله ص- انه اعلم العباس ابن عبد المطلب انه تؤول الخلافة إلى ولده، فلم يزل ولده يتوقعون ذلك، ويتحدثون به بينهم. وذكر علي بْن محمد أن إسماعيل بْن الحسن حدثه عن رشيد بْن كريب، أن أبا هاشم خرج إلى الشام، فلقي محمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس، فقال: يا بن عم، إن عندي علما أنبذه إليك فلا تطلعن عليه أحدا، إن هذا الأمر الذي يرتجيه الناس فيكم، قَالَ: قد علمت فلا يسمعنه منك احد قال على: وأخبرنا سليمان بْن داود، عن خالد بْن عجلان، قَالَ: لما خالف ابن الأشعث، وكتب الحجاج بْن يوسف إلى عبد الملك، أرسل عبد الملك إلى خالد بْن يزيد فأخبره، فقال: أما إذا كان الفتق من سجستان فليس عليك بأس، إنما كنا نتخوف لو كان من خراسان وقال علي: أخبرنا الحسن بْن رشيد وجبله بن فروخ التاجى ويحيى بْن طفيل والنعمان بْن سري وأبو حفص الأزدي وغيرهم أن الإمام محمد بْن على ابن عبد الله بْن عباس، قَالَ: لنا ثلاثة أوقات: موت الطاغية يزيد بْن معاوية، ورأس المائه، وفتق بإفريقية، فعند ذلك يدعو لنا دعاه، ثم يقبل أنصارنا من المشرق حتى ترد خيولهم المغرب، ويستخرجوا ما كنز الجبارون فيها فلما قتل يزيد بْن أبي مسلم بإفريقية، ونقضت البربر، بعث محمد بْن علي رجلا إلى خراسان، وأمره أن يدعو إلى الرضا، ولا يسمي احد. وقد ذكرنا قبل خبر محمد بْن علي، وخبر الدعاه الذي وجههم إلى خراسان ثم مات محمد بْن علي وجعل وصيه من بعده ابنه إبراهيم، فبعث إبراهيم بْن محمد إلى خراسان أبا سلمة حفص بْن سليمان مولى السبيع، وكتب معه إلى النقباء بخراسان، فقبلوا كتبه وقام فيهم، ثم رجع إليه فرده ومعه

أبو مسلم وقد ذكرنا أمر أبي مسلم قبل وخبره. ثم وقع في يد مروان بْن محمد كتاب لإبراهيم بْن محمد إلى أبي مسلم، جواب كتاب لأبي مسلم يأمره بقتل كل من يتكلم بالعربية بخراسان فكتب مروان إلى عامله بدمشق يأمره بالكتاب إلى صاحبه بالبلقاء أن يسير إلى الحميمة، ويأخذ إبراهيم بْن محمد ويوجه به إليه فذكر أبو زيد عمر بْن شبة أن عيسى ابن عبد الله بْن محمد بْن عمر بْن على بْن أبي طالب، حدثه عن عثمان بْن عروه ابن محمد بْن عمار بْن ياسر، قَالَ: إني مع أبي جعفر بالحميمة ومعه ابناه محمد وجعفر، وأنا أرقصهما، إذ قَالَ لي: ماذا تصنع؟ أما ترى إلى ما نحن فيه! قَالَ: فنظرت فإذا رسل مروان تطلب إبراهيم بن محمد، قال: فقلت: دعني اخرج اليهم، قَالَ: تخرج من بيتي وأنت ابن عمار بْن ياسر! قَالَ: فأخذوا أبواب المسجد حين صلوا الصبح، ثم قالوا للشاميين الذين معهم: أين إبراهيم بْن محمد؟ فقالوا: هو ذا، فأخذوه، وقد كان مروان أمرهم بأخذ ابراهيم، ووصف لهم صفة أبي العباس التي كان يجدها في الكتب أنه يقتلهم، فلما أتوه بإبراهيم، قَالَ: ليس هذه الصفة التي وصفت لكم، فقالوا: قد رأينا الصفة التي وصفت، فردهم في طلبه، ونذروا، فخرجوا إلى العراق هرابا. قَالَ عمر: وحدثني عبد الله بْن كثير بْن الحسن العبدي، قَالَ: أخبرني علي بْن موسى، عن أبيه، قَالَ: بعث مروان بْن محمد رسولا إلى الحميمة يأتيه بإبراهيم بْن محمد، ووصف له صفته، فقدم الرسول فوجد الصفة صفة أبي العباس عبد الله بْن محمد، فلما ظهر إبراهيم بْن محمد وأمن قيل للرسول: إنما أمرت بإبراهيم، وهذا عبد الله! فلما تظاهر ذلك عنده ترك أبا العباس وأخذ إبراهيم، وانطلق به قَالَ: فشخصت معه أنا وأناس من بني العباس ومواليهم، فانطلق بإبراهيم، ومعه أم ولد له كان بها معجبا، فقلنا له: إنما أتاك رجل، فهلم فلنقتله ثم ننكفئ إلى الكوفة، فهم لنا شيعة، فقال: ذلك لكم، قلنا: فأمهل حتى نصير إلى الطريق التي تخرجنا إلى العراق. قَالَ: فسرنا حتى صرنا إلى طريق تتشعب إلى العراق، وأخرى إلى الجزيرة، فنزلنا منزلا، وكان إذا أراد التعريس اعتزل لمكان أم ولده، فآتينا للأمر الذي

اجتمعنا عليه، فصرخنا به، فقام ليخرج فتعلقت به أم ولده، وقالت: هذا وقت لم تكن تخرج فيه، فما هاجك! فالتوى عليها، فأبت حتى أخبرها، فقالت: أنشدك الله أن تقتله فتشام أهلك! والله لئن قتلته لا يبقي مروان من آل العباس أحدا بالحميمة إلا قتله، ولم تفارقه حتى حلف لها ألا يفعل، ثم خرج إلينا وأخبرنا، فقلنا: أنت أعلم. قَالَ عبد الله: فحدثني ابن لعبد الحميد بْن يحيى كاتب مروان، عن أبيه، قَالَ: قلت لمروان بْن محمد: أتتهمني؟ قَالَ: لا، قلت: أفيحطك صهره؟ قَالَ: لا، قلت: فإني أرى أمره ينبغ عليك فأنكحه وأنكح إليه، فإن ظهر كنت قد أعلقت بينك وبينه سببا لا يريبك معه، وإن كفيته لم يشنك صهره قَالَ: ويحك! والله لو علمته صاحب ذاك لسبقت إليه، ولكن ليس بصاحب ذلك. وذكر أن إبراهيم بْن محمد حين أخذ للمضي به إلى مروان نعى إلى أهل بيته حين شيعوه نفسه، وأمرهم بالمسير إلى الكوفة مع أخيه ابى العباس عبد الله ابن محمد، وبالسمع له وبالطاعة، وأوصى إلى أبي العباس، وجعله الخليفة بعده، فشخص أبو العباس عند ذلك ومن معه من أهل بيته، منهم عبد الله ابن محمد وداود بن عيسى، وصالح وإسماعيل وعبد الله وعبد الصمد بنو على ويحيى ابن محمد وعيسى بْن موسى بْن محمد بْن علي، وعبد الوهاب ومحمد ابنا إبراهيم وموسى بْن داود ويحيى بْن جعفر بْن تمام، حتى قدموا الكوفة، في صفر، فأنزلهم أبو سلمة دار الوليد بْن سعد مولى بني هاشم في بني أود، وكتم أمرهم نحوا من أربعين ليلة من جميع القواد والشيعة وأراد- فيما ذكر- أبو سلمة تحويل الأمر إلى آل أبي طالب لما بلغه الخبر عن موت إبراهيم بْن محمد، فذكر علي بْن محمد أن جبلة بْن فروخ وأبا السري وغيرهما قالا: قدم الإمام الكوفة في ناس من أهل بيته، فاختفوا، فقال أبو الجهم لأبي سلمة: ما فعل الإمام؟ قَالَ: لم يقدم بعد، فألح عليه يسأله، قَالَ: قد أكثرت السؤال، وليس هذا وقت خروجه فكانوا بذلك، حتى لقي أبو حميد خادما

لأبي العباس، يقال له سابق الخوارزمي، فسأله عن أصحابه، فأخبره أنهم بالكوفة، وأن أبا سلمة يأمرهم أن يختفوا، فجاء به إلى أبي الجهم، فأخبره خبرهم، فسرح أبو الجهم أبا حميد مع سابق حتى عرف منزلهم بالكوفة، ثم رجع وجاء معه إبراهيم بْن سلمه رجل كان معهم، فاخبر أبا الجهم عن منزلهم ونزول الامام في بني أود، وأنه أرسل حين قدموا إلى أبي سلمة يسأله مائة دينار، فلم يفعل، فمشى أبو الجهم وأبو حميد وإبراهيم إلى موسى بْن كعب، وقصوا عليه القصة، وبعثوا إلى الإمام بمائتي دينار، ومضى أبو الجهم إلى أبي سلمة، فسأله عن الإمام، فقال: ليس هذا وقت خروجه، لأن واسطا لم تفتح بعد، فرجع أبو الجهم إلى موسى بْن كعب فأخبره، فأجمعوا على أن يلقوا الإمام، فمضى موسى بْن كعب وأبو الجهم وعبد الحميد بن ربعي وسلمه ابن محمد وإبراهيم بْن سلمة وعبد الله الطائي وإسحاق بْن إبراهيم وشراحيل وعبد الله بْن بسام وأبو حميد محمد بْن إبراهيم وسليمان بْن الأسود ومحمد بْن الحصين إلى الإمام، فبلغ أبا سلمة، فسأل عنهم فقيل: ركبوا الى الكوفه في حاجه لهم. واتى القوم أبا العباس، فدخلوا عليه فقالوا: أيكم عبد الله بْن محمد ابْن الحارثية؟ فقالوا: هذا، فسلموا عليه بالخلافة، فرجع موسى بْن كعب وأبو الجهم وأمر أبو الجهم الآخرين، فتخلفوا عند الإمام، فأرسل أبو سلمة إلى أبي الجهم: أين كنت؟ قَالَ: ركبت إلى إمامي فركب أبو سلمة إليهم، فأرسل أبو الجهم إلى أبي حميد أن أبا سلمة قد أتاكم، فلا يدخلن على الإمام إلا وحده، فلما انتهى إليهم أبو سلمة منعوه أن يدخل معه أحد، فدخل وحده، فسلم بالخلافة على أبي العباس. وخرج أبو العباس على برذون أبلق يوم الجمعة، فصلى بالناس، فأخبرنا عمار مولى جبرئيل وأبو عبد الله السلمي أن أبا سلمة لما سلم على أبي العباس بالخلافة، قَالَ له أبو حميد: على رغم أنفك يا ماص بظر أمه! فقال له أبو العباس: مه!

وذكر أن أبا العباس لما صعد المنبر حين بويع له بالخلافة، قام في أعلاه، وصعد داود بْن علي فقام دونه، فتكلم أبو العباس، فقال: الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه تكرمة، وشرفه وعظمه، واختاره لنا وأيده بنا، وجعلنا أهله وكهفه وحصنه والقوام به، والذابين عنه والناصرين له، وألزمنا كلمة التقوى، وجعلنا أحق بها وأهلها، وخصنا برحم رسول الله ص وقرابته، وأنشأنا من آبائه، وأنبتنا من شجرته، واشتقنا من نبعته، جعله من أنفسنا عزيزا عليه ما عنتنا، حريصا علينا بالمؤمنين رءوفا رحيما، ووضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع، وأنزل بذلك على أهل الإسلام كتابا يتلى عليهم، فقال عز من قائل فيما أنزل من محكم القرآن: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» ، وقال: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» وقال: «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» ، وقال: «مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى» ، وقال: «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى» فأعلمهم جل ثناؤه فضلنا، وأوجب عليهم حقنا ومودتنا، وأجزل من الفيء والغنيمة نصيبنا تكرمة لنا، وفضلا علينا، والله ذو الفضل العظيم. وزعمت السبئيه الضلال، أن غيرنا أحق بالرئاسة والسياسة والخلافة منا، فشاهت وجوههم! بم ولم أيها الناس؟ وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم، وبصرهم بعد جهالتهم، وأنقذهم بعد هلكتهم، وأظهر بنا الحق، وأدحض بنا الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسدا، ورفع بنا الخسيسة، وتم بنا النقيصة، وجمع الفرقة، حتى عاد الناس بعد العداوة أهل تعاطف وبر

ومواساة في دينهم ودنياهم، وإخوانا على سرر متقابلين في آخرتهم، فتح الله ذلك منة ومنحه لمحمد ص، فلما قبضه الله إليه، قام بذلك الأمر من بعده أصحابه، وأمرهم شورى بينهم، فحووا مواريث الأمم، فعدلوا فيها ووضعوها مواضعها، وأعطوها أهلها، وخرجوا خماصا منها ثم وثب بنو حرب ومروان، فابتزوها وتداولوها بينهم، فجاروا فيها، واستأثروا بها، وظلموا أهلها، فأملى الله لهم حينا حتى آسفوه، فلما آسفوه انتقم منهم بأيدينا، ورد علينا حقنا، وتدارك بنا أمتنا، وولى نصرنا والقيام بأمرنا، ليمن بنا عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ، وختم بنا كما افتتح بنا وانى لأرجو الا يأتيكم الجور من حيث أتاكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح، وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله يا أهل الكوفة، أنتم محل محبتنا ومنزل مودتنا. أنتم الذين لم تتغيروا عن ذلك، ولم يثنكم عن ذلك تحامل أهل الجور عليكم، حتى أدركتم زماننا، وأتاكم الله بدولتنا، فأنتم أسعد الناس بنا، وأكرمهم علينا، وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا، فأنا السفاح المبيح، والثائر المبير. وكان موعوكا فاشتد به الوعك، فجلس على المنبر، وصعد داود بْن علي فقام دونه على مراقي المنبر، فقال: الحمد لله شكرا شكرا شكرا، الذي أهلك عدونا، وأصار إلينا ميراثنا من نبينا محمد ص أيها الناس، الآن أقشعت حنادس الدنيا، وانكشف غطاؤها، وأشرقت أرضها وسماؤها، وطلعت الشمس من مطلعها، وبزغ القمر من مبزغه، وأخذ القوس باريها، وعاد السهم إلى منزعه، ورجع الحق إلى نصابه، في أهل بيت نبيكم، أهل الرأفة والرحمة بكم والعطف عليكم. أيها الناس، إنا والله ما خرجنا في طلب هذا الأمر لنكثر لجينا ولا عقيانا، ولا نحفر نهرا، ولا نبني قصرا، وإنما أخرجنا الأنفة من ابتزازهم حقنا، والغضب لبني عمنا، وما كرثنا من أموركم، وبهظنا من شؤونكم، ولقد كانت أموركم ترمضنا ونحن على فرشنا، ويشتد علينا سوء

سيره بنى اميه فيكم، وخرقهم بكم، واستذلالهم لكم، واستئثارهم بفيئكم وصدقاتكم ومغانمكم عليكم لكم ذمة الله تبارك وتعالى، وذمه رسوله صلى الله عليه وآله، وذمة العباس رحمه الله، أن نحكم فيكم بما أنزل الله، ونعمل فيكم بكتاب الله، ونسير في العامة منكم والخاصة بِسِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تبا تبا لبني حرب بْن أمية وبني مروان! آثروا في مدتهم وعصرهم العاجلة على الآجلة، والدار الفانية على الدار الباقية، فركبوا الآثام، وظلموا الآنام، وانتهكوا المحارم، وغشوا الجرائم، وجاروا في سيرتهم في العباد، وسنتهم في البلاد التي بها استلذوا تسربل الأوزار، وتجلبب الآصار، ومرحوا في أعنة المعاصي، وركضوا في ميادين الغي، جهلا باستدراج الله، وأمنا لمكر الله، فأتاهم بأس الله بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ، فأصبحوا أحاديث، ومزقوا كل ممزق، فبعدا للقوم الظالمين! وأدالنا الله من مروان، وقد غره بالله الغرور، أرسل لعدو الله في عنانه حتى عثر في فضل خطامه، فظن عدو الله أن لن نقدر عليه، فنادى حزبه، وجمع مكايده، ورمى بكتائبه، فوجد أمامه ووراءه وعن يمينه وشماله، من مكر الله وبأسه ونقمته ما أمات باطله، ومحق ضلاله، وجعل دائرة السوء به، وأحيا شرفنا وعزنا، ورد إلينا حقنا وإرثنا. أيها الناس، إن أمير المؤمنين نصره الله نصرا عزيزا، انما عاد إلى المنبر بعد الصلاة، إنه كره أن يخلط بكلام الجمعة غيره، وإنما قطعه عن استتمام الكلام بعد أن اسحنفر فيه شدة الوعك، وادعوا الله لأمير المؤمنين بالعافية، فقد أبدلكم الله بمروان عدو الرحمن وخليفة الشيطان المتبع للسفلة الذين أفسدوا في الأرض بعد صلاحها بإبدال الدين وانتهاك حريم المسلمين، الشاب المتكهل المتمهل، المقتدي بسلفه الأبرار الأخيار، الذين أصلحوا الأرض بعد فسادها، بمعالم الهدى، ومناهج التقوى. فعج الناس له بالدعاء ثم قَالَ: يا أهل الكوفة، إنا والله ما زلنا مظلومين مقهورين على حقنا، حتى أتاح الله لنا شيعتنا أهل خراسان، فأحيا بهم حقنا، وأفلج بهم حجتنا، واظهر بهم

دولتنا، وأراكم الله ما كنتم تنتظرون، واليه تتشوفون، فأظهر فيكم الخليفة من هاشم، وبيض به وجوهكم، وأدالكم على أهل الشام، ونقل إليكم السلطان، وعز الإسلام، ومن عليكم بإمام منحه العدالة، وأعطاه حسن الإيالة. فخذوا ما آتاكم الله بشكر، والزموا طاعتنا، ولا تخدعوا عن انفسكم فان الأمر امركم، وان لكل أهل بيت مصرا، وإنكم مصرنا ألا وإنه ما صعد منبركم هذا خليفة بعد رسول الله ص الا امير المؤمنين على ابن أبي طالب وأمير المؤمنين عبد الله بْن محمد- وأشار بيده إلى أبي العباس- فاعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منا حتى نسلمه الى عيسى بن مريم صلى الله عليه، والحمد لله رب العالمين على ما أبلانا وأولانا. ثم نزل أبو العباس وداود بْن علي أمامه، حتى دخل القصر، وأجلس أبا جعفر ليأخذ البيعة على الناس في المسجد، فلم يزل يأخذها عليهم، حتى صلى بهم العصر، ثم صلى بهم المغرب، وجنهم الليل، فدخل. وذكر أن داود بْن علي وابنه موسى كانا بالعراق أو بغيرها، فخرجا يريدان الشراة فلقيهما أبو العباس يريد الكوفة، معه أخوه أبو جعفر عبد الله بْن محمد وعبد الله بْن علي وعيسى بْن موسى ويحيى بْن جعفر بْن تمام بْن العباس، ونفر من مواليهم بدومة الجندل، فقال لهم داود: أين تريدون؟ وما قصتكم؟ فقص عليه أبو العباس قصتهم، وأنهم يريدون الكوفة ليظهروا بها، ويظهروا أمرهم، فقال له داود: يا أبا العباس، تأتي الكوفه وشيخ بنى مروان، مروان ابن محمد بحران مطل على العراق في أهل الشام والجزيرة، وشيخ العرب يزيد بْن عمر بْن هبيرة بالعراق في حلبة العرب! فقال أبو الغنائم: من أحب الحياة ذل، ثم تمثل بقول الأعشى: فما مِيتَةٌ إِنْ مِتُّهَا غَيْرُ عَاجِزٍ ... بِعَارٍ إِذَا ما غالت النفس غولها فالتفت داود إلى ابنه موسى فقال: صدق والله ابن عمك، فارجع بنا معه نعش أعزاء أو نمت كراما، فرجعوا جميعا، فكان عيسى بْن موسى

ذكر بقية الخبر عما كان من الاحداث في سنه اثنتين وثلاثين ومائه

يقول إذا ذكر خروجهم من الحميمة يريدون الكوفة: إن نفرا أربعة عشر رجلا خرجوا من دارهم وأهليهم يطلبون مطالبنا، لعظيم همهم كبيرة أنفسهم، شديدة قلوبهم . ذكر بقية الخبر عما كان من الأحداث في سنة اثنتين وثلاثين ومائة تمام الخبر عن سبب البيعة لأبي العباس عبد الله بْن محمد بْن علي وما كان من أمره: قَالَ أبو جعفر: قد ذكرنا من أمر أبي العباس عبد الله بْن محمد بْن علي ما حضرنا ذكره قبل، عمن ذكرنا ذلك عنه، وقد ذكرنا من أمره وأمر أبي سلمة وسبب عقد الخلافة لأبي العباس أيضا ما أنا ذاكره، وهو أنه لما بلغ أبا سلمة قتل مروان بْن محمد إبراهيم الذي كان يقال له الإمام، بدا له في الدعاء الى ولد العباس وأضمر الدعاء لغيرهم، وكان أبو سلمة قد أنزل أبا العباس حين قدم الكوفة مع من قدم معه من أهل بيته في دار الوليد بْن سعد في بني أود، فكان أبو سلمة إذا سئل عن الإمام يقول: لا تعجلوا، فلم يزل ذلك من أمره وهو في معسكره بحمام أعين حتى خرج أبو حميد، وهو يريد الكناسة، فلقي خادما لإبراهيم يقال له سابق الخوارزمي، فعرفه، وكان يأتيهم بالشام فقال له: ما فعل الإمام إبراهيم؟ فأخبره أن مروان قتله غيلة، وأن إبراهيم أوصى إلى أخيه أبي العباس، واستخلفه من بعده، وأنه قدم الكوفة ومعه عامة أهل بيته، فسأله أبو حميد أن ينطلق به إليهم، فقال له سابق: الموعد بيني وبينك غدا في هذا الموضع، وكره سابق ان يدله عليهم إلا بإذنهم، فرجع أبو حميد من الغد إلى الموضع الذي وعد فيه سابقا، فلقيه، فانطلق به إلى أبي العباس وأهل بيته، فلما دخل عليهم سأل أبو حميد: من الخليفة منهم؟ فقال داود بْن علي: هذا إمامكم وخليفتكم- وأشار إلى أبي العباس- فسلم عليه بالخلافة، وقبل يديه ورجليه، وقال: مرنا بأمرك، وعزاه بالإمام إبراهيم. وقد كان إبراهيم بْن سلمة دخل عسكر أبي سلمة متنكرا، فأتى أبا الجهم فاستأمنه، فأخبره أنه رسول أبي العباس وأهل بيته، وأخبره بمن معه وبموضعهم،

وأن أبا العباس كان سرحه إلى أبي سلمة يسأله مائة دينار، يعطيها للجمال كراء الجمال التي قدم بهم عليها، فلم يبعث بها اليه، ورجع أبو حميد إلى أبي الجهم، فأخبره بحالهم، فمشى ابو الجهم وابو حميد ومعهما إبراهيم بْن سلمة، حتى دخلوا على موسى بْن كعب، فقص عليه أبو الجهم الخبر، وما أخبره إبراهيم بْن سلمة، فقال موسى بْن كعب: عجل البعثة إليه بالدنانير وسرحه فانصرف أبو الجهم ودفع الدنانير إلى إبراهيم بْن سلمة، وحمله على بغل وسرح معه رجلين، حتى ادخلاه الكوفة، ثم قَالَ أبو الجهم لأبي سلمة، وقد شاع في العسكر أن مروان بْن محمد قد قتل الإمام: فإن كان قد قتل كان أخوه أبو العباس الخليفة والإمام من بعده، فرد عليه أبو سلمة: يا أبا الجهم، اكفف أبا حميد عن دخول الكوفة، فإنهم أصحاب إرجاف وفساد. فلما كانت الليلة الثانية أتى إبراهيم بْن سلمة أبا الجهم وموسى بْن كعب، فبلغهما رسالة من أبي العباس وأهل بيته، ومشى في القواد والشيعة تلك الليلة، فاجتمعوا في منزل موسى بْن كعب، منهم عبد الحميد بْن ربعي وسلمه بن محمد وعبد الله الطائي واسحق بْن إبراهيم وشراحيل وعبد الله بْن بسام وغيرهم من القواد، فائتمروا في الدخول إلى أبي العباس وأهل بيته، ثم تسللوا من الغد حتى دخلوا الكوفه وزعيمهم موسى بْن كعب وأبو الجهم وأبو حميد الحميري- وهو محمد بْن إبراهيم- فانتهوا إلى دار الوليد بْن سعد، فدخلوا عليهم، فقال موسى ابن كعب وأبو الجهم: أيكم أبو العباس؟ فأشاروا إليه، فسلموا عليه وعزوه بالإمام إبراهيم، وانصرفوا إلى العسكر، وخلفوا عنده أبا حميد وأبا مقاتل وسليمان بن الأسود ومحمد بن الحصين ومحمد بْن الحارث ونهار بْن حصين ويوسف بْن محمد وأبا هريرة محمد بْن فروخ. فبعث أبو سلمة إلى أبي الجهم فدعاه، وكان أخبره بدخوله الكوفة، فقال: أين كنت يا أبا الجهم؟ قَالَ: كنت عند إمامي، وخرج أبو الجهم فدعا حاجب بْن صدان، فبعثه إلى الكوفة، وقال له: ادخل، فسلم على أبي العباس

بالخلافة، وبعث إلى أبي حميد وأصحابه: أن أتاكم أبو سلمة فلا يدخل إلا وحده، فان دخل وبايع فسبيله ذلك، والا فاضربوا عنقه، فلم يلبثوا أن أتاهم أبو سلمة فدخل وحده، فسلم على أبي العباس بالخلافة، فأمره أبو العباس بالانصراف إلى عسكره، فانصرف من ليلته، فأصبح الناس قد لبسوا سلاحهم، واصطفوا لخروج أبي العباس، وأتوه بالدواب، فركب ومن معه من أهل بيته حتى دخلوا قصر الإمارة بالكوفة يوم الجمعة لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخر ثم دخل المسجد من دار الإمارة، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر عظمة الرب تبارك وتعالى وفضل النبي ص، وقاد الولاية والوراثة حتى انتهيا إليه، ووعد الناس خيرا ثم سكت. وتكلم داود بْن علي وهو على المنبر أسفل من أبي العباس بثلاث درجات، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ص، وقال: أيها الناس، إنه والله ما كان بينكم وبين رسول الله ص خليفة إلا علي بْن أبي طالب وأمير المؤمنين هذا الذي خلفي ثم نزلا وخرج أبو العباس، فعسكر بحمام أعين في عسكر أبي سلمة، ونزل معه في حجرته، بينهما ستر، وحاجب أبي العباس يومئذ عبد الله بْن بسام واستخلف على الكوفة وأرضها عمه داود بْن علي، وبعث عمه عبد الله بن على الى ابى عون ابن يزيد، وبعث ابن أخيه عيسى بْن موسى إلى الحسن بْن قحطبة، وهو يومئذ بواسط محاصر ابن هبيرة، وبعث يحيى بْن جعفر بن تمام ابن عباس إلى حميد بْن قحطبة بالمدائن، وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروه ابن محمد بْن عمار بْن ياسر إلى بسام بْن إبراهيم بْن بسام بالأهواز، وبعث سلمة بْن عمرو بْن عثمان إلى مالك بْن طريف، وأقام أبو العباس في العسكر أشهرا ثم ارتحل، فنزل المدينة الهاشمية في قصر الكوفة، وقد كان تنكر لأبي سلمة قبل تحوله حتى عرف ذلك.

ذكر هزيمه مروان بن محمد بموقعه الزاب

ذكر هزيمه مروان بن محمد بموقعه الزاب وفي هذه السنة هزم مروان بْن محمد بالزاب. ذكر الخبر عن هذه الوقعة وما كان سببها وكيف كان ذلك: ذكر علي بْن محمد أن أبا السري وجبلة بْن فروخ والحسن بْن رشيد وأبا صالح المروزي وغيرهم أخبروه أن أبا عون عبد الملك بْن يزيد الأزدي وجهه قحطبه الى شهرزور من نهاوند، فقتل عثمان بْن سفيان، وأقام بناحية الموصل، وبلغ مروان أن عثمان قد قتل، فأقبل من حران، فنزل منزلا في طريقه، فقال: ما اسم هذا المنزل؟ قالوا: بلوى، قَالَ: بل علوى وبشرى ثم أتى رأس العين، ثم أتى الموصل، فنزل على دجلة، وحفر خندقا فسار إليه أبو عون، فنزل الزاب، فوجه أبو سلمة إلى أبي عون عيينة بْن موسى والمنهال بْن فتان وإسحاق بْن طلحة، كل واحد في ثلاثة آلاف، فلما ظهر أبو العباس بعث سلمة بْن محمد في ألفين، وعبد الله الطائي في الف وخمسمائة وعبد الحميد بْن ربعي الطائي في ألفين، ووداس بن نضله في خمسمائة إلى أبي عون ثم قَالَ: من يسير إلى مروان من أهل بيتي؟ فقال عبد الله بْن علي: أنا، فقال: سر على بركة الله، فسار عبد الله بْن علي، فقدم على أبي عون، فتحول له أبو عون عن سرادقه وخلاه وما فيه، وصير عبد الله بْن علي على شرطته حياش بْن حبيب الطائي، وعلى حرسه نصير بْن المحتفز ووجه أبو العباس موسى بْن كعب في ثلاثين رجلا على البريد إلى عبد الله بْن علي، فلما كان لليلتين خلتا من جمادى الآخرة سنه ثنتين وثلاثين ومائة، سأل عبد الله بْن علي عن مخاضة، فدل عليها بالزاب، فأمر عيينة بْن موسى فعبر في خمسة آلاف، فانتهى إلى عسكر مروان، فقاتلهم حتى أمسوا، ورفعت لهم النيران فتحاجزوا، ورجع عيينة فعبر المخاضة الى عسكر عبد الله ابن علي، فأصبح مروان فعقد الجسر، وسرح ابنه عبد الله يحفر خندقا أسفل من عسكر عبد الله بْن علي، فبعث عبد الله بْن علي المخارق بْن غفار في أربعة آلاف، فأقبل حتى نزل على خمسة أميال من عسكر عبد الله بْن

علي، فسرح عبد الله بْن مروان إليه الوليد بْن معاوية، فلقي المخارق، فانهزم أصحابه، وأسروا، وقتل منهم يومئذ عدة، فبعث بهم إلى عبد الله، وبعث بهم عبد الله إلى مروان مع الرءوس، فقال مروان: أدخلوا علي رجلا من الأسارى، فأتوه بالمخارق- وكان نحيفا- فقال: أنت المخارق؟ فقال: لا، أنا عبد من عبيد أهل العسكر، قَالَ: فتعرف المخارق؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فانظر في هذه الرءوس هل تراه؟ فنظر إلى رأس منها، فقال: هو هذا، فخلى سبيله، فقال رجل مع مروان حين نظر إلى المخارق وهو لا يعرفه: لعن الله أبا مسلم حين جاءنا بهؤلاء يقاتلنا بهم! قَالَ علي: حدثنا شيخ من أهل خراسان قَالَ: قَالَ مروان للمخارق: تعرف المخارق ان رايته؟ فإنهم زعموا انه في هذه الرءوس التي أتينا بها، قَالَ: نعم، قَالَ: اعرضوا عليه تلك الرءوس، فنظر فقال: ما أرى رأسه في هذه الرءوس، ولا أراه إلا وقد ذهب، فخلى سبيله وبلغ عبد الله بْن علي انهزام المخارق، فقال له موسى بْن كعب: اخرج إلى مروان قبل أن يصل الفل إلى العسكر، فيظهر ما لقي المخارق فدعا عبد الله بْن علي محمد بْن صول، فاستخلفه على العسكر، وسار على ميمنته أبو عون، وعلى ميسرة مروان الوليد بْن معاوية، ومع مروان ثلاثة آلاف من المحمرة ومعه الذكوانيه والصحصحية والراشدية، فقال مروان لما التقى العسكران لعبد العزيز بْن عمر بْن عبد العزيز: إن زالت الشمس اليوم ولم يقاتلونا كنا الذين ندفعها الى عيسى بن مريم، وان قاتلونا قبل الزوال، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ وأرسل مروان إلى عبد الله بْن علي يسأله الموادعة، فقال عبد الله: كذب ابن زريق، ولا تزول الشمس حتى أوطئه الخيل إن شاء الله. فقال مروان لأهل الشام: قفوا لا تبدءوهم بقتال، فجعل ينظر إلى الشمس، فحمل الوليد بْن معاوية بْن مروان وهو ختن مروان على ابنته، فغضب وشتمه وقاتل ابن معاوية أهل الميمنة، فانحاز أبو عون إلى عبد الله بن على، فقال موسى ابن كعب لعبد الله: مر الناس فلينزلوا، فنودي: الارض، فنزل الناس،

واشرعوا الرماح، وجثوا على الركب، فقاتلوهم، فجعل أهل الشام يتأخرون كأنهم يدفعون، ومشى عبد الله قدما وهو يقول: يا رب، حتى متى نقتل فيك! ونادى: يا أهل خراسان، يا لثأرات إبراهيم! يا محمد، يا منصور! واشتد بينهم القتال وقال مروان لقضاعة: انزلوا، فقالوا: قل لبني سليم فلينزلوا، فأرسل إلى السكاسك أن احملوا، فقالوا: قل لبني عامر فليحملوا، فأرسل إلى السكون أن احملوا، فقالوا: قل لغطفان فليحملوا، فقال لصاحب شرطه: انزل، فقال: لا والله ما كنت لأجعل نفسي غرضا قَالَ: أما والله لأسوءنك، قَالَ: وددت والله أنك قدرت على ذلك ثم انهزم أهل الشام، وانهزم مروان، وقطع الجسر، فكان من غرق يومئذ أكثر ممن قتل، فكان فيمن غرق يومئذ إبراهيم بْن الوليد بْن عبد الملك المخلوع، وأمر عبد الله بْن علي فعقد الجسر على الزاب، واستخرجوا الغرقى فاخرجوا ثلاثمائة، فكان فيمن أخرجوا إبراهيم بْن الوليد بْن عبد الملك، فقال عبد الله بْن علي: «وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. » وأقام عبد الله بْن علي في عسكره سبعة أيام، فقال رجل من ولد سعيد ابن العاصي يعير مروان: لج الفرار بمروان فقلت له ... عاد الظلوم ظليما همه الهرب أين الفرار وترك الملك إذ ذهبت ... عنك الهوينى فلا دين ولا حسب فراشه الحلم فرعون العقاب وإن ... تطلب نداه فكلب دونه كلب وكتب عبد الله بْن علي إلى أمير المؤمنين أبي العباس بالفتح، وهرب مروان وحوى عسكر مروان بما فيه، فوجد فيه سلاحا كثيرا وأموالا، ولم يجدوا فيه امرأة إلا جارية كانت لعبد الله بْن مروان، فلما اتى العباس كتاب عبد الله ابن علي صلى ركعتين، ثم قَالَ: «فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ» الى قوله: «وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ» وامر لمن شهد الوقعه

ذكر خبر قتل ابراهيم بن محمد بن على الامام

بخمسمائة خمسمائة، ورفع أرزاقهم إلى ثمانين. حدثنا أحمد بْن زهير، عن علي بْن محمد، قَالَ: قَالَ عبد الرحمن بْن أمية: كان مروان لما لقيه أهل خراسان لا يدبر شيئا إلا كان فيه الخلل والفساد قَالَ: بلغني أنه كان يوم انهزم واقفا، والناس يقتتلون، إذ امر باموال فأخرجت، وقال للناس: اصبروا وقاتلوا، فهذه الأموال لكم، فجعل ناس من الناس يصيبون من ذلك المال، فأرسلوا إليه: إن الناس قد مالوا على هذا المال، ولا نأمنهم أن يذهبوا به فأرسل إلى ابنه عبد الله أن سر في أصحابك إلى مؤخر عسكرك، فاقتل من أخذ من ذلك المال وامنعهم، فمال عبد الله برايته وأصحابه، فقال الناس: الهزيمة، فانهزموا. حدثنا أحمد بْن علي، عن أبي الجارود السلمي، قَالَ: حدثني رجل من أهل خراسان، قَالَ: لقينا مروان على الزاب، فحمل علينا أهل الشام كأنهم جبال حديد، فجثونا وأشرعنا الرماح، فمالوا عنا كأنهم سحابة، ومنحنا الله أكتافهم، وانقطع الجسر مما يليهم حين عبروا، فبقي عليه رجل من أهل الشام، فخرج عليه رجل منا، فقتله الشامي، ثم خرج آخر فقتله، حتى والى بين ثلاثة، فقال رجل منا: اطلبوا لي سيفا قاطعا، وترسا صلبا، فأعطيناه، فمشى إليه فضربه الشامي فاتقاه بالترس، وضرب رجله فقطعها، وقتله ورجع، وحملناه وكبرنا فإذا هو عبيد الله الكابلي وكانت هزيمة مروان بالزاب- فيما ذكر- صبيحة يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة. ذكر خبر قتل ابراهيم بن محمد بن على الامام وفي هذه السنة قتل إبراهيم بْن محمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس. ذكر الخبر عن سبب مقتله: اختلف أهل السير في أمر إبراهيم بْن محمد، فقال بعضهم: لم يقتل ولكنه مات في سجن مروان بْن محمد بالطاعون

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زهير، قَالَ: حدثنا عبد الوهاب بْن إبراهيم بْن خالد، قَالَ: حدثنا أبو هاشم مخلد بْن محمد بْن صالح، قَالَ: قدم مروان بْن محمد الرقة حين قدمها متوجها إلى الضحاك بسعيد بْن هشام بْن عبد الملك وابنيه عثمان ومروان، وهم في وثاقهم معه، فسرح بهم إلى خليفته بحران، فحبسهم في حبسها، ومعهم إبراهيم بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس وعبد الله بْن عمر بْن عبد العزيز والعباس بْن الوليد وأبو محمد السفياني- وكان يقال له البيطار-، فهلك في سجن حران منهم في وباء وقع بحران العباس بْن الوليد وإبراهيم بْن محمد وعبد الله بْن عمر قَالَ: فلما كان قبل هزيمة مروان من الزاب يوم هزمه عبد الله بْن علي بجمعة، خرج سعيد بْن هشام ومن معه من المحبسين، فقتلوا صاحب السجن، وخرج فيمن معه، وتخلف أبو محمد السفياني في الحبس، فلم يخرج فيمن خرج، ومعه غيره لم يستحلوا الخروج من الحبس، فقتل أهل حران ومن كان فيها من الغوغاء سعيد بْن هشام وشراحيل بْن مسلمة بْن عبد الملك وعبد الملك بْن بشر التغلبي، وبطريق أرمينية الرابعة- وكان اسمه كوشان- بالحجارة، ولم يلبث مروان بعد قتلهم إلا نحوا من خمس عشرة ليلة، حتى قدم حران منهزما من الزاب، فخلى عن أبي محمد ومن كان في حبسه من المحبسين. وذكر عمر أن عبد الله بْن كثير العبدي حدثه عن علي بْن موسى، عن أبيه، قَالَ: هدم مروان على إبراهيم بن محمد بيتا فقتله. قال عمرو: وحدثنى محمد بْن معروف بْن سويد، قَالَ: حدثني أبي عن المهلهل بْن صفوان- قَالَ عمر: ثم حدثني المفضل بْن جعفر بْن سليمان بعده، قَالَ: حدثني المهلهل بْن صفوان- قَالَ: كنت اخدم ابراهيم بن محمد في الحبس، وكان معه في الحبس عبد الله بْن عمر بْن عبد العزيز وشراحيل بْن مسلمة بْن عبد الملك فكانوا يتزاورون، وخص الذي بين إبراهيم وشراحيل فأتاه رسوله يوما بلبن،

ذكر الخبر عن قتل مروان بن محمد

فقال: يقول لك أخوك: إني شربت من هذا اللبن فاستطبته فأحببت أن تشرب منه، فتناوله فشرب فتوصب من ساعته وتكسر جسده، وكان يوما يأتي فيه شراحيل، فأبطأ عليه، فأرسل اليه: جعلت فداك! قد أبطأت فما حبسك؟ فأرسل إليه: إني لما شربت اللبن الذي أرسلته إلي أخلفني، فأتاه شراحيل مذعورا وقال: لا وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ، مَا شربت اليوم لبنا، ولا أرسلت به إليك، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! احتيل لك والله قال: فو الله ما بات الا ليلته واصبح من غد ميتا، فقَالَ إبراهيم بْن علي بْن سلمة بْن عامر ابن هرمة بْن هذيل بْن الربيع بْن عامر بْن صبيح بْن عدي بْن قيس- وقيس هو ابن الحارث بن فهر- يرثيه: قد كنت أحسبني جلدا فضعضعني ... قبر بحران فيه عصمة الدين فيه الإمام وخير الناس كلهم ... بين الصفائح والأحجار والطين فيه الإمام الذي عمت مصيبته ... وعيلت كل ذي مال ومسكين فلا عفا الله عن مروان مظلمة ... لكن عفا الله عمن قال آمين. ذكر الخبر عن قتل مروان بن محمد وفي هذه السنة قتل مروان بْن محمد بن مروان بن الحكم. ذكر الخبر عن مقتله وقتاله من قاتله من أهل الشام في طريقه وهو هارب من الطلب: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الوهاب بْن إبراهيم، قَالَ: حدثني أبو هاشم مخلد بْن محمد، قَالَ: لما انهزم مروان من الزاب كنت في عسكره قَالَ: كان لمروان في عسكره بالزاب عشرون ومائه الف، كان في عسكره ستون ألفا، وكان في عسكر ابنه عبد الله مثل ذلك، والزاب بينهم، فلقيه عبد الله بْن علي فيمن معه وأبي عون وجماعة قواد، منهم حميد بْن قحطبة، فلما هزموا سار إلى حران وبها أبان بْن يزيد بْن محمد بْن مروان،

ابن أخيه عامله عليها، فأقام بها نيفا وعشرين يوما فلما دنا منه عبد الله بْن علي حمل أهله وولده وعياله، ومضى منهزما، وخلف بمدينه حران ابان ابن يزيد، وتحته ابنة لمروان يقال لها أم عثمان، وقدم عبد الله بْن علي، فتلقاه أبان مسودا مبايعا له، فبايعه ودخل في طاعته، فآمنه ومن كان بحران والجزيرة ومضى مروان حتى مر بقنسرين وعبد الله بن على متبع له ثم مضى من قنسرين إلى حمص، فتلقاه أهلها بالاسواق وبالسمع والطاعة فأقام بها يومين أو ثلاثة، ثم شخص منها، فلما رأوا قلة من معه طمعوا فيه، وقالوا: مرعوب منهزم، فاتبعوه بعد ما رحل عنهم، فلحقوه على أميال، فلما رأى غبرة خيلهم أكمن لهم في واديين قائدين من مواليه، يقال لأحدهما يزيد والآخر مخلد، فلما دنوا منه وجازوا الكمينين ومضى الذراري صافهم فيمن معه وناشدهم، فأبوا إلا مكاثرته وقتاله، فنشب القتال بينهم، وثار الكمينان من خلفهم، فهزمهم وقتلتهم خيله حتى انتهوا إلى قريب من المدينة. قَالَ: ومضى مروان حتى مر بدمشق، وعليها الوليد بْن معاوية بْن مروان، وهو ختن لمروان، متزوج بابنة له يقال لها أم الوليد، فمضى وخلفه بها حتى قدم عبد الله بْن علي عليه، فحاصره أياما، ثم فتحت المدينة، ودخلها عنوة معترضا أهلها وقتل الوليد بْن معاوية فيمن قتل، وهدم عبد الله بْن علي حائط مدينتها ومر مروان بالأردن، فشخص معه ثعلبه ابن سلامة العاملي، وكان عامله عليها، وتركها ليس عليها وال، حتى قدم عبد الله بْن علي فولى عليها، ثم قدم فلسطين وعليها من قبله الرماحس بْن عبد العزيز فشخص به معه، ومضى حتى قدم مصر، ثم خرج منها حتى نزل منزلا منها يقال له بوصير، فبيته عامر بْن إسماعيل وشعبة ومعهما خيل اهل الموصل فقتلوه بها، وهرب عبد الله وعبيد الله ابنا مروان ليلة بيت مروان إلى أرض الحبشة، فلقوا من الحبشة بلاء وقاتلتهم الحبشه، فقتلوا عبيد الله، وافلت عبد الله في عدة ممن معه، وكان فيهم بكر بْن معاوية الباهلي، فسلم حتى كان في خلافة المهدي، فأخذه نصر بْن محمد بْن الأشعث عامل فلسطين، فبعث به إلى المهدى

وأما علي بْن محمد، فإنه ذكر أن بشر بْن عيسى والنعمان أبا السري ومحرز بن إبراهيم وأبا صالح المروزي وعمار مولى جبريل أخبروه أن مروان لقي عبد الله بْن علي في عشرين ومائة ألف وعبد الله في عشرين ألفا. وقد خولف هؤلاء في عدد من كان مع عبد الله بْن على يومئذ فذكر مسلم بن المغيره، عن مصعب بْن الربيع الخثعمي وهو أبو موسى ابن مصعب- وكان كاتبا لمروان- قَالَ: لما انهزم مروان، وظهر عبد الله بْن علي على الشام، طلبت الأمان فآمنني، فإني يوما جالس عنده، وهو متكئ إذ ذكر مروان وانهزامه، قَالَ: أشهدت القتال؟ قلت: نعم أصلح الله الأمير! فقال: حدثني عنه، قَالَ: قلت: لما كان ذلك اليوم قَالَ لي: احزر القوم، فقلت: إنما أنا صاحب قلم، ولست صاحب حرب، فاخذ يمنه ويسره ونظر فقال: هم اثنا عشر ألفا، فجلس عبد الله، ثم قال: ماله قاتله الله! ما أحصى الديوان يومئذ فضلا على اثني عشر ألف رجل! رجع الحديث إلى حديث علي بْن محمد عن أشياخه: فانهزم مروان حتى أتى مدينة الموصل، وعليها هشام بْن عمرو التغلبي وبشر بْن خزيمة الأسدي، وقطعوا الجسر، فناداهم أهل الشام هذا مروان، قالوا: كذبتم، أمير المؤمنين لا يفر، فسار إلى بلد، فعبر دجلة، فأتى حران ثم أتى دمشق، وخلف بها الوليد بْن معاوية، وقال: قاتلهم حتى يجتمع أهل الشام ومضى مروان حتى أتى فلسطين، فنزل نهر أبي فطرس، وقد غلب على فلسطين الحكم بْن ضبعان الجذامي فأرسل مروان إلى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بْن روح بْن زنباع، فأجازه، وكان بيت المال في يد الحكم وكتب أبو العباس إلى عبد الله بْن علي يأمره باتباع مروان، فسار عبد الله إلى الموصل، فتلقاه هشام بْن عمرو التغلبي وبشر بْن خزيمة وقد سودا في أهل الموصل، ففتحوا له المدينة، ثم سار إلى حران، وولى الموصل محمد بْن صول، فهدم الدار التي حبس فيها ابراهيم

ابن محمد، ثم سار من حران إلى منبج وقد سودوا، فنزل منبج وولاها أبا حميد المروروذي، وبعث إليه أهل قنسرين ببيعتهم إياه بما أتاه به عنهم أبو أمية التغلبي وقدم عليه عبد الصمد بْن علي، أمده به أبو العباس في أربعة آلاف، فأقام يومين بعد قدوم عبد الصمد، ثم سار إلى قنسرين، فأتاها وقد سود أهلها، فأقام يومين، ثم سار حتى نزل حمص، فأقام بها أياما وبايع أهلها، ثم سار إلى بعلبك، فأقام يومين ثم ارتحل، فنزل بعين الجر، فأقام يومين ثم ارتحل، فنزل مزة قرية من قرى دمشق فأقام وقدم عليه صالح بْن علي مددا، فنزل مرج عذراء في ثمانية آلاف، معه بسام بْن إبراهيم وخفاف وشعبة والهيثم بْن بسام ثم سار عبد الله بن على، فنزل على الباب الشرقي، ونزل صالح بْن علي على باب الجابية، وأبو عون على باب كيسان، وبسام على باب الصغير، وحميد بْن قحطبة على باب توما، وعبد الصمد ويحيى بْن صفوان والعباس بْن يزيد على باب الفراديس- وفي دمشق الوليد بْن معاوية- فحصروا أهل دمشق والبلقاء، وتعصب الناس بالمدينة، فقتل بعضهم بعضا، وقتلوا الوليد، ففتحوا الأبواب يوم الأربعاء لعشر مضين من رمضان سنه ثنتين وثلاثين ومائة، فكان أول من صعد سور المدينة من الباب الشرقى عبد الله الطائي، ومن قبل باب الصغير بسام بن ابراهيم، فقاتلوا بها ثلاث ساعات، وأقام عبد الله بْن علي بدمشق خمسة عشر يوما، ثم سار يريد فلسطين، فنزل نهر الكسوة، فوجه منها يحيى بْن جعفر الهاشمي إلى المدينة، ثم ارتحل إلى الأردن، فأتوه وقد سودوا، ثم نزل بيسان، ثم سار إلى مرج الروم، ثم أتى نهر أبي فطرس، وقد هرب مروان، فأقام بفلسطين، وجاءه كتاب أبي العباس، أن وجه صالح بْن علي في طلب مروان، فسار صالح بْن علي من نهر أبي فطرس في ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين ومائة، ومعه ابن فتان وعامر بْن إسماعيل وأبو عون، فقدم صالح ابن علي أبا عون على مقدمته وعامر بْن إسماعيل الحارثي، وسار فنزل الرملة، ثم سار فنزلوا ساحل البحر، وجمع صالح بْن علي السفن وتجهز يريد مروان، وهو بالفرماء، فسار على الساحل والسفن حذاءه في البحر، حتى نزل العريش

وبلغ مروان فأحرق ما كان حوله من علف وطعام وهرب، ومضى صالح ابن على فنزل الليل، ثم سار حتى نزل الصعيد وبلغه أن خيلا لمروان بالساحل يحرقون الأعلاف، فوجه إليهم قوادا، فأخذوا رجالا، فقدموا بهم على صالح وهو بالفسطاط، فعبر مروان النيل، وقطع الجسر، وحرق ما حوله، ومضى صالح يتبعه، فالتقى هو وخيل لمروان على النيل فاقتتلوا، فهزمهم صالح، ثم مضى إلى خليج، فصادف عليه خيلا لمروان، فأصاب منهم طرفا وهزمهم، ثم سار إلى خليج آخر فعبروا، ورأوا رهجا فظنوه مروان، فبعث طليعة عليها الفضل بْن دينار ومالك ابن قادم، فلم يلقوا أحدا ينكرونه، فرجعوا إلى صالح فارتحل، فنزل موضعا يقال له ذات الساحل، ونزل فقدم أبو عون عامر بْن إسماعيل الحارثي، ومعه شعبة بن كثير المازنى، فلقوا خيلا لمروان وافوهم، فهزموهم وأسروا منهم رجالا، فقتلوا بعضهم، واستحيوا بعضا، فسألوا عن مروان فأخبروهم بمكانه، على أن يؤمنوهم، وساروا فوجدوه نازلا في كنيسة في بوصير، ووافوهم في آخر الليل، فهرب الجند وخرج إليهم مروان في نفر يسير، فأحاطوا به فقتلوه قَالَ علي: وأخبرني إسماعيل بْن الحسن، عن عامر بْن إسماعيل قَالَ: لقينا مروان ببوصير ونحن في جماعة يسيرة فشدوا علينا، فانضوينا إلى نخل ولو يعلمون بقلتنا لأهلكونا، فقلت لمن معي من أصحابي: فإن أصبحنا فرأوا قلتنا وعددنا لم ينج منا أحد، وذكرت قول بكير بْن ماهان: أنت والله تقتل مروان، كأني اسمعك، تقول دهيد يا جوانكثان، فكسرت جفن سيفي، وكسر أصحابي جفون سيوفهم، وقلت: دهيد يا جوانكثان، فكأنها نار صبت عليهم، فانهزموا وحمل رجل على مروان فضربه بسيفه فقتله وركب عامر بْن إسماعيل إلى صالح بْن علي، فكتب صالح بْن علي إلى أمير المؤمنين أبي العباس: إنا اتبعنا عدو الله الجعدي حتى ألجأناه إلى أرض عدو الله شبيهه فرعون، فقتلته بأرضه. قَالَ علي: حدثنا أبو طالب الأنصاري، قَالَ: طعن مروان رجل من

أهل البصرة- يقال له المغود، وهو لا يعرفه- فصرعه، فصاح صائح: صرع أمير المؤمنين، وابتدروه، فسبق إليه رجل من أهل الكوفة كان يبيع الرمان، فاحتز رأسه، فبعث عامر بْن إسماعيل برأس مروان إلى أبي عون، فبعث بها أبو عون إلى صالح بْن علي، وبعث صالح برأسه مع يزيد بْن هانئ- وكان على شرطه- إلى أبي العباس يوم الأحد، لثلاث بقين من ذي الحجة سنه ثنتين وثلاثين ومائة، ورجع صالح إلى الفسطاط، ثم انصرف إلى الشام، فدفع الغنائم إلى أبي عون، والسلاح والأموال والرقيق إلى الفضل بْن دينار، وخلف أبا عون على مصر. قَالَ علي: وأخبرنا أبو الحسن الخراساني، قَالَ: حدثنا شيخ من بكر ابن وائل، قال: انى لبديرقنى مع بكير بْن ماهان ونحن نتحدث، إذ مر فتى معه قربتان، حتى انتهى إلى دجلة، فاستقى ماء، ثم رجع فدعاه بكير، فقال: ما اسمك يا فتى؟ قَالَ: عامر، قَالَ: ابن من؟ قَالَ: ابن إسماعيل، من بلحارث، قَالَ: وأنا من بلحارث، قَالَ: فكن من بني مسلية، قَالَ: فأنا منهم، قَالَ: فأنت والله تقتل مروان، لكأني والله أسمعك تقول: يا جوانكثان دهيد. قَالَ علي: حدثنا الكناني، قَالَ: سمعت أشياخنا بالكوفة يقولون: بنو مسلية قتلة مروان. وقتل مروان يوم قتل وهو ابن اثنتين وستين سنة في قول بعضهم، وفي قول آخرين: وهو ابن تسع وستين، وفي قول آخرين: وهو ابن ثمان وخمسين. وقتل يوم الأحد لثلاث بقين من ذي الحجة، وكانت ولايته من حين بويع إلى أن قتل خمس سنين وعشرة أشهر وستة عشر يوما، وكان يكنى أبا عبد الملك وزعم هشام بْن محمد أن أمه كانت أم ولد كردية. وقد حدثني أحمد بْن زهير، عن علي بن محمد، عن علي بن مجاهد وأبي سنان الجهني، قالا: كان يقال: إن أم مروان بْن محمد كانت لإبراهيم بْن الأشتر، أصابها محمد بْن مروان بْن الحكم يوم قتل ابن الأشتر،

ذكر الخبر عن تبيض ابى الورد وما آل اليه امره وامر من بيض معه

فأخذها من ثقله وهي تتنيق، فولدت مروان على فراشه، فلما قام أبو العباس دخل عليه عبد الله بْن عياش المنتوف، فقال: الحمد لله الذي أبدلنا بحمار الجزيرة وابن أمه النخع ابن عم رسول الله ص وابن عبد المطلب وفي هذه السنة قتل عبد الله بْن علي من قتل بنهر أبي فطرس من بني أمية، وكانوا اثنين وسبعين رجلا. وفيها خلع أبو الورد أبا العباس بقنسرين، فبيض وبيضوا معه . ذكر الخبر عن تبيض أبي الورد وما آل إليه أمره وأمر من بيض معه وكان سبب ذلك- فيما حدثني أحمد بْن زهير- قَالَ: حدثنى عبد الوهاب ابن إبراهيم، قَالَ: حدثني أبو هاشم مخلد بْن محمد بْن صالح، قَالَ: كان أبو الورد- واسمه مجزأة بْن الكوثر بْن زفر بْن الحارث الكلابي، من أصحاب مروان وقواده وفرسانه- فلما هزم مروان، وأبو الورد بقنسرين، قدمها عبد الله بْن علي فبايعه ودخل فيما دخل فيه جنده من الطاعة وكان ولد مسلمة بْن عبد الملك مجاورين له ببالس والناعورة، فقدم بالس قائد من قواد عبد الله بْن علي من الأزار مردين في مائة وخمسين فارسا، فبعث بولد مسلمة بْن عبد الملك ونسائهم، فشكا بعضهم ذلك إلى ابى الورد، فخرج من مزرعه يقال لها زراعة بني زفر- ويقال لها خساف- في عدة من أهل بيته، حتى هجم على ذلك القائد وهو نازل في حصن مسلمة، فقاتله حتى قتله ومن معه، وأظهر التبييض والخلع لعبد الله بْن علي، ودعا أهل قنسرين إلى ذلك، فبيضوا بأجمعهم، وأبو العباس يومئذ بالحيرة وعبد الله بْن علي يومئذ مشتغل بحرب حبيب بْن مرة المري، فقاتله بأرض البلقاء والبثنية وحوران وكان قد لقيه عبد الله بْن علي في جموعه فقاتلهم وكان بينه وبينهم وقعات، وكان من قواد مروان وفرسانه وكان سبب تبييضه الخوف على نفسه وعلى قومه، فبايعته قيس وغيرهم ممن يليهم من أهل تلك الكور، البثنية وحوران

فلما بلغ عبد الله بْن علي تبييضهم، دعا حبيب بْن مرة إلى الصلح فصالحه وآمنه ومن معه، وخرج متوجها نحو قنسرين للقاء أبي الورد، فمر بدمشق، فخلف فيها أبا غانم عبد الحميد بْن ربعي الطائي في أربعة آلاف رجل من جنده، وكان بدمشق يومئذ امرأة عبد الله بْن علي أم البنين بنت محمد بْن عبد المطلب النوفلية أخت عمرو بْن محمد، وأمهات أولاد لعبد الله وثقل له. فلما قدم حمص في وجهه ذلك انتقض عليه بعده أهل دمشق فبيضوا، ونهضوا مع عثمان بْن عبد الأعلى بن سرادقه الأزدي قَالَ: فلقوا أبا غانم ومن معه، فهزموه وقتلوا من أصحابه مقتلة عظيمة، وانتهبوا ما كان عبد الله بْن علي خلف من ثقله ومتاعه، ولم يعرضوا لأهله، وبيض أهل دمشق واستجمعوا على الخلاف، ومضى عبد الله بْن علي- وقد كان تجمع مع أبي الورد جماعة أهل قنسرين، وكاتبوا من يليهم من أهل حمص وتدمر، وقدمهم ألوف، عليهم أبو محمد بْن عبد الله بْن يَزِيدَ بْن مُعَاوِيَة بْن أَبِي سُفْيَانَ، فرأسوا عليهم أبا محمد، ودعوا إليه وقالوا: هو السفياني الذى كان يذكر وهم في نحو من أربعين ألفا فلما دنا منهم عبد الله بْن علي وأبو محمد معسكر في جماعته بمرج يقال له مرج الأخرم- وأبو الورد المتولي لأمر العسكر والمدبر له وصاحب القتال والوقائع- وجه عبد الله أخاه عبد الصمد بْن علي في عشرة آلاف من فرسان من معه، فناهضهم أبو الورد، ولقيهم فيما بين العسكرين، واشتجر القتل فيما بين الفريقين وثبت القوم، وانكشف عبد الصمد ومن معه، وقتل منهم يومئذ ألوف، وأقبل عبد الله حيث أتاه عبد الصمد ومعه حميد بْن قحطبة وجماعة من معه من القواد، فالتقوا ثانية بمرج الأخرم، فاقتتلوا قتالا شديدا، وانكشف جماعة ممن كان مع عبد الله، ثم ثابوا، وثبت لهم عبد الله وحميد بْن قحطبة فهزموهم، وثبت أبو الورد في نحو من خمسمائة من أهل بيته وقومه، فقتلوا جميعا، وهرب أبو محمد ومن معه من الكلبية حتى لحقوا بتدمر، وآمن عبد الله أهل قنسرين، وسودوا وبايعوه، ودخلوا في طاعته، ثم انصرف راجعا إلى أهل دمشق، لما كان من تبييضهم عليه، وهزيمتهم أبا غانم. فلما دنا من دمشق هرب الناس وتفرقوا، ولم يكن بينهم وقعة، وآمن عبد الله أهلها، وبايعوه ولم يأخذهم بما كان منهم

قَالَ: ولم يزل أبو محمد متغيبا هاربا، ولحق بأرض الحجاز وبلغ زياد بْن عبيد الله الحارثي عامل أبي جعفر مكانه الذي تغيب فيه، فوجه إليه خيلا، فقاتلوه حتى قتل، وأخذ ابنين له أسيرين، فبعث زياد برأس أبي محمد وابنيه إلى أبي جعفر أمير المؤمنين، فأمر بتخلية سبيلهما وآمنهما وأما علي بْن محمد فإنه ذكر أن النعمان أبا السري حدثه وجبلة بْن فروخ وسليمان بْن داود وأبو صالح المروزي قالوا: خلع أبو الورد بقنسرين، فكتب أبو العباس إلى عبد الله بْن علي وهو بفطرس أن يقاتل أبا الورد، ثم وجه عبد الصمد إلى قنسرين في سبعة آلاف، وعلى حرسه مخارق بْن غفار، وعلى شرطه كلثوم بْن شبيب، ثم وجه بعده ذؤيب بْن الأشعث في خمسة آلاف، ثم جعل يوجه الجنود، فلقي عبد الصمد أبا الورد في جمع كثير، فانهزم الناس عن عبد الصمد حتى أتوا حمص، فبعث عبد الله بْن علي العباس بْن يزيد بْن زياد ومروان الجرجاني وأبا المتوكل الجرجاني، كل رجل في أصحابه إلى حمص، وأقبل عبد الله بْن علي بنفسه، فنزل على أربعة أميال من حمص- وعبد الصمد بْن علي بحمص- وكتب عبد الله الى حميد ابن قحطبة، فقدم عليه من الأردن، وبايع أهل قنسرين لأبي محمد السفياني زياد بْن عبد الله بْن يزيد بْن معاوية وأبو الورد بْن، وبايعه الناس، وأقام أربعين يوما، وأتاهم عبد الله بْن علي ومعه عبد الصمد وحميد بْن قحطبة، فالتقوا فاقتتلوا أشد القتال بينهم، واضطرهم أبو محمد إلى شعب ضيق، فجعل الناس يتفرقون، فقال حميد بْن قحطبة لعبد الله بن على: علام نقيم؟ هم يزيدون وأصحابنا ينقصون! ناجزهم، فاقتتلوا يوم الثلاثاء في آخر يوم من ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وعلى ميمنة أبي محمد أبو الورد وعلى ميسرته الأصبغ بن ذؤاله، فجرح أبو الورد، فحمل إلى أهله فمات. ولجأ قوم من أصحاب أبي الورد إلى أجمة فأحرقوها عليهم، وقد كان أهل حمص نقضوا، وأرادوا إيثار أبي محمد، فلما بلغهم هزيمته أقاموا.

ذكر خبر خلع حبيب بن مره المري

ذكر خبر خلع حبيب بن مره المري وفي هذه السنة خلع حبيب بْن مرة المري وبيض هو ومن معه من أهل الشام. ذكر الخبر عن ذلك: ذكر علي عن شيوخه، قَالَ: بيض حبيب بْن مرة المري وأهل البثنية وحوران، وعبد الله بْن علي في عسكر أبي الورد الذي قتل فيه. وقد حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الوهاب بْن إبراهيم، قَالَ: حدثنا أبو هاشم مخلد بْن محمد، قَالَ: كان تبييض حبيب بْن مرة وقتاله عبد الله بْن علي قبل تبييض أبي الورد، وإنما بيض أبو الورد وعبد الله مشتغل بحرب حبيب بْن مرة المري بأرض البلقاء أو البثنية وحوران، وكان قد لقيه عبد الله بْن علي في جموعه فقاتله، وكان بينه وبينه وقعات، وكان من قواد مروان وفرسانه، وكان سبب تبييضه الخوف على نفسه وقومه، فبايعه قيس وغيرهم ممن يليهم من أهل تلك الكور، البثنية وحوران، فلما بلغ عبد الله ابن علي تبييض أهل قنسرين، دعا حبيب بْن مرة إلى الصلح فصالحه، وآمنه ومن معه، وخرج متوجها إلى قنسرين للقاء أبي الورد . ذكر خبر تبييض اهل الجزيرة وخلعهم أبا العباس وفي هذه السنة بيض أيضا أهل الجزيرة وخلعوا أبا العباس. ذكر الخبر عن أمرهم وما آل إليه حالهم فيه: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الوهاب بْن إبراهيم، قَالَ: حدثنا أبو هاشم مخلد بْن محمد، قَالَ: كان أهل الجزيرة بيضوا ونقضوا، حيث بلغهم خروج أبي الورد وانتقاض أهل قنسرين، وساروا إلى حران، وبحران يومئذ موسى بْن كعب في ثلاثة آلاف من الجند، فتشبث بمدينتها، وساروا إليه مبيضين من كل وجه، وحاصروه ومن معه، وأمرهم مشتت، ليس عليهم رأس يجمعهم

وقدم على تفيئة ذلك إسحاق بْن مسلم من أرمينية- وكان شخص عنها حين بلغه هزيمة مروان- فرأسه أهل الجزيرة عليهم وحاصر موسى بْن كعب نحوا من شهرين، ووجه أبو العباس أبا جعفر فيمن كان معه من الجنود التي كانت بواسط محاصرة ابن هبيرة، فمضى حتى مر بقرقيسيا وأهلها مبيضون، وقد غلقوا أبوابها دونه ثم قدم مدينة الرقة وهم على ذلك، وبها بكار بْن مسلم، فمضى نحو حران، ورحل إسحاق بْن مسلم إلى الرهاء- وذلك في سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وخرج موسى بْن كعب فيمن معه من مدينة حران، فلقوا أبا جعفر وقدم بكار على أخيه إسحاق بْن مسلم، فوجهه الى جماعه ربيعه بدارا وماردين- ورئيس ربيعة يومئذ رجل من الحرورية يقال له بريكة- فصمد إليه أبو جعفر، فلقيهم فقاتلوه بها قتالا شديدا، وقتل بريكة في المعركة، وانصرف بكار إلى أخيه إسحاق بالرهاء فخلفه إسحاق بها، ومضى في عظم العسكر إلى سميساط، فخندق على عسكره. وأقبل أبو جعفر في جموعه حتى قابله بكار بالرهاء، وكانت بينهما وقعات وكتب أبو العباس إلى عبد الله بْن علي في المسير بجنوده إلى إسحاق بسميساط، فأقبل من الشام حتى نزل بإزاء إسحاق بسميساط، وهم في ستين ألفا أهل الجزيرة جميعها، وبينهما الفرات، وأقبل أبو جعفر من الرهاء فكاتبهم إسحاق وطلب إليهم الأمان، فأجابوا إلى ذلك وكتبوا إلى أبي العباس، فأمرهم أن يؤمنوه ومن معه، ففعلوا وكتبوا بينهم كتابا، ووثقوا له فيه، فخرج إسحاق إلى أبي جعفر، وتم الصلح بينهما، وكان عنده من آثر اصحابه. فاستقام أهل الجزيرة وأهل الشام، وولى أبو العباس أبا جعفر الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، فلم يزل على ذلك حتى استخلف. وقد ذكر أن إسحاق بْن مسلم العقيلي هذا أقام بسميساط سبعة أشهر، وأبو جعفر محاصره، وكان يقول: في عنقي بيعة، فأنا لا أدعها حتى أعلم أن صاحبها قد مات أو قتل فأرسل إليه أبو جعفر: أن مروان قد قتل، فقال: حتى أتيقن، ثم طلب الصلح، وقال: قد علمت أن مروان قد قتل، فآمنه أبو جعفر وصار معه، وكان عظيم المنزلة عنده

ذكر خبر شخوص ابى جعفر إلى خراسان

وقد قيل: إن عبد الله بْن علي هو الذى آمنه . ذكر خبر شخوص ابى جعفر الى خراسان وفي هذه السنة شخص أبو جعفر إلى أبي مسلم بخراسان لاستطلاع رأيه في قتل أبي سلمة حفص بْن سليمان. ذكر الخبر عن سبب مسير أبي جعفر في ذلك، وما كان من أمره وأمر أبي مسلم في ذلك: قد مضى ذكري قبل أمر أبي سلمة، وما كان من فعله في أمر أبي العباس ومن كان معه من بنى هاشم عند قدومهم الكوفه، الذى صار به عندهم متهما، فذكر علي بن محمد ان جبله بن فروخ قال: قال يزيد بْن أسيد: قَالَ أبو جعفر: لما ظهر أبو العباس أمير المؤمنين سمرنا ذات ليلة، فذكرنا ما صنع أبو سلمة، فقال رجل منا: ما يدريكم، لعل ما صنع أبو سلمة كان عن رأي أبي مسلم! فلم ينطق منا أحد، فقال: أمير المؤمنين أبو العباس: لئن كان هذا عن رأي أبي مسلم إنا لبعرض بلاء، إلا أن يدفعه الله عنا. وتفرقنا فأرسل إلي أبو العباس، فقال: ما ترى؟ فقلت: الرأي رأيك، فقال: ليس منا أحد أخص بأبي مسلم منك، فاخرج إليه حتى تعلم ما رأيه، فليس يخفى عليك، فلو قد لقيته، فإن كان عن رأيه أخذنا لأنفسنا، وإن لم يكن عن رأيه طابت أنفسنا. فخرجت على وجل، فلما انتهيت إلى الري، إذا صاحب الري قد أتاه كتاب أبي مسلم: إنه بلغني أن عبد الله بْن محمد توجه إليك، فإذا قدم فأشخصه ساعة قدومه عليك فلما قدمت أتاني عامل الري فأخبرني بكتاب أبي مسلم، وأمرني بالرحيل، فازددت وجلا، وخرجت من الري وأنا حذر خائف فسرت، فلما كنت بنيسابور إذا عاملها قد أتاني بكتاب أبي مسلم: إذا قدم عليك عبد الله بن محمد فاشخصه ولا تدعه يقيم، فإن أرضك أرض

خوارج ولا آمن عليه فطابت نفسي وقلت: أراه يعنى بأمري فسرت، فلما كنت من مرو على فرسخين، تلقاني أبو مسلم في الناس، فلما دنا مني أقبل يمشي إلي، حتى قبل يدي، فقلت: اركب، فركب فدخل مرو، فنزلت دارا فمكثت ثلاثة أيام، لا يسألني عن شيء، ثم قَالَ لي في اليوم الرابع: ما أقدمك؟ فأخبرته، فقال: فعلها أبو سلمة! أكفيكموه! فدعا مرار ابن أنس الضبي، فقال: انطلق إلى الكوفة، فاقتل أبا سلمة حيث لقيته، وانته في ذلك إلى رأي الإمام فقدم مرار الكوفة، فكان أبو سلمة يسمر عند أبي العباس، فقعد في طريقه، فلما خرج قتله فقالوا: قتله الخوارج. قَالَ علي: فحدثني شيخ من بني سليم، عن سالم، قَالَ: صحبت أبا جعفر من الري إلى خراسان، وكنت حاجبه، فكان أبو مسلم يأتيه فينزل على باب الدار ويجلس في الدهليز، ويقول: استأذن لي، فغضب أبو جعفر علي، وقال: ويلك! إذا رأيته فافتح له الباب، وقل له يدخل على دابته. ففعلت وقلت لأبي مسلم: إنه قَالَ كذا وكذا، قَالَ: نعم، أعلم، واستأذن لي عليه. وقد قيل: إن أبا العباس قد كان تنكر لأبي سلمة قبل ارتحاله من عسكره بالنخيلة، ثم تحول عنه إلى المدينة الهاشمية، فنزل قصر الإمارة بها، وهو متنكر له، قد عرف ذلك منه، وكتب إلى أبي مسلم يعلمه رأيه، وما كان هم به من الغش، وما يتخوف منه، فكتب أبو مسلم إلى أمير المؤمنين: إن كان اطلع على ذلك منه فليقتله، فقال داود بن علي لأبي العباس: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فيحتج عليك بها أبو مسلم وأهل خراسان الذين معك، وحاله فيهم حاله، ولكن اكتب إلى أبي مسلم فليبعث إليه من يقتله، فكتب إلى أبي مسلم بذلك، فبعث بذلك أبو مسلم مرار بْن أنس الضبي، فقدم على أبي العباس في المدينة الهاشمية، وأعلمه سبب قدومه، فأمر أبو العباس مناديا فنادى: إن أمير المؤمنين قد رضي عن أبي سلمة ودعاه وكساه، ثم دخل عليه بعد ذلك ليلة، فلم يزل عنده حتى ذهب عامة الليل، ثم خرج منصرفا

ذكر الخبر عن حرب يزيد بن عمر بن هبيرة بواسط

إلى منزله يمشي وحده، حتى دخل الطاقات، فعرض له مرار بْن أنس ومن كان معه من أعوانه فقتلوه، وأغلقت أبواب المدينة، وقالوا: قتل الخوارج أبا سلمة ثم أخرج من الغد، فصلى عليه يحيى بْن محمد بْن علي، ودفن في المدينة الهاشمية، فقال سليمان بْن المهاجر البجلي: إن الوزير وزير آل محمد ... أودى فمن يشناك كان وزيرا وكان يقال لأبي سلمة: وزير آل محمد، ولأبي مسلم: أمين آل محمد فلما قتل أبو سلمة وجه أبو العباس أخاه أبا جعفر في ثلاثين رجلا إلى أبي مسلم، فيهم الحجاج بْن أرطاة وإسحاق بْن الفضل الهاشمي ولما قدم أبو جعفر على أبي مسلم سايره عبيد الله بْن الحسين الأعرج وسليمان بْن كثير معه، فقال سليمان بْن كثير للأعرج: يا هذا، إنا كنا نرجو أن يتم أمركم، فإذا شئتم فادعونا إلى ما تريدون، فظن عبيد الله أنه دسيس من أبي مسلم، فخاف ذلك وبلغ أبا مسلم مسايرة سليمان بْن كثير إياه، وأتى عبيد الله أبا مسلم، فذكر له ما قَالَ سليمان، وظن أنه إن لم يفعل ذلك اغتاله فقتله، فبعث أبو مسلم إلى سليمان بْن كثير، فقال له: أتحفظ قول الإمام لي: من اتهمته فاقتله؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فإني قد اتهمتك، فقال: أنشدك الله! قَالَ: لا تناشدني الله وأنت منطو على غش الإمام، فأمر بضرب عنقه ولم ير أحدا ممن كان يضرب عنقه أبو مسلم غيره، فانصرف أبو جعفر من عند أبي مسلم، فقال لأبي العباس: لست خليفة ولا أمرك بشيء إن تركت أبا مسلم ولم تقتله، قَالَ: وكيف؟ قَالَ: والله ما يصنع إلا ما أراد، قال ابو العباس: اسكت فاكتمها. ذكر الخبر عن حرب يزيد بن عمر بن هبيرة بواسط وفي هذه السنة وجه أبو العباس أخاه أبا جعفر إلى واسط لحرب يزيد بْن عمر بْن هبيرة، وقد ذكرنا ما كان من أمر الجيش الذين لقوه من أهل خراسان مع قحطبة، ثم مع ابنه الحسن بْن قحطبة وانهزامه ولحاقه بمن معه من جنود الشام بواسط متحصنا بها، فذكر علي بْن محمد عن أبي عبد الله السلمي

عن عبد الله بْن بدر وزهير بْن هنيد وبشر بْن عيسى وأبي السري أن ابن هبيرة لما انهزم تفرق الناس عنه، وخلف على الأثقال قوما، فذهبوا بتلك الأموال فقال له حوثرة: أين تذهب وقد قتل صاحبهم! امض إلى الكوفة ومعك جند كثير، فقاتلهم حتى تقتل أو تظفر، قَالَ: بل نأتي واسطا فننظر، قَالَ: ما تزيد على أن تمكنه من نفسك وتقتل، فقال له يحيى بْن حضين: إنك لا تأتي مروان بشيء أحب إليه من هذه الجنود، فالزم الفرات حتى تقدم عليه، وإياك وواسطا، فتصير في حصار، وليس بعد الحصار إلا القتل. فأبى وكان يخاف مروان لأنه كان يكتب إليه في الأمر فيخالفه، فخافه إن قدم عليه أن يقتله، فأتى واسطا فدخلها، وتحصن بها. وسرح أبو سلمة الحسن بْن قحطبة، فخندق الحسن واصحابه، فنزلوا فيما بين الزاب ودجلة، وضرب الحسن سرادقه حيال باب المضمار، فأول وقعة كانت بينهم يوم الأربعاء، فقال أهل الشام لابن هبيرة: ائذن لنا في قتالهم، فأذن لهم، فخرجوا وخرج ابن هبيرة، وعلى ميمنته ابنه داود، ومعه محمد بْن نباتة في ناس من أهل خراسان، فيهم أبو العود الخراساني، فالتقوا وعلى ميمنته الحسن خازم بْن خزيمة، وابن هبيرة قبالة باب المضمار، فحمل خازم على ابن هبيرة، فهزموا أهل الشام حتى ألجئوهم إلى الخنادق، وبادر الناس باب المدينة حتى غص باب المضمار، ورمى أصحاب العرادات بالعرادات والحسن واقف وأقبل يسير في الخيل فيما بين النهر والخندق، ورجع أهل الشام، فكر عليهم الحسن، فحالوا بينه وبين المدينة، فاضطروهم الى دجلة، فغرق منهم ناس كثير، فتلقوه هم بالسفن، فحملوهم، وألقى ابن نباتة يومئذ سلاحه واقتحم، فتبعوه بسفينة فركب وتحاجزوا، فمكثوا سبعة أيام، ثم خرجوا إليهم يوم الثلاثاء فاقتتلوا، فحمل رجل من أهل الشام على أبي حفص هزار مرد، فضربه وانتمى: أنا الغلام السلمي، وضربه أبو حفص وانتمى: أنا الغلام العتكي، فصرعه، وانهزم أهل الشام هزيمة قبيحة، فدخلوا المدينة، فمكثوا ما شاء الله لا يقتتلون إلا رميا من وراء الفصيل

وبلغ ابن هبيرة وهو في الحصار أن أبا أمية التغلبي قد سود، فأرسل أبا عثمان الى فدخل، منزله على أبي أمية في قبته، فقال: إن الأمير أرسلني إليك لأفتش قبتك، فإن كان فيها سواد علقته في عنقك وحبلا، ومضيت بك إليه، وإن لم يكن في بيتك سواد فهذه خمسون ألفا صلة لك فأبى أن يدعه أن يفتش قبته، فذهب به إلى ابن هبيرة فحبسه، فتكلم في ذلك معن ابن زائدة وناس من ربيعة، وأخذوا ثلاثة من بني فزارة، فحبسوهم وشتموا ابن هبيرة، فجاءهم يحيى بْن حضين، فكلمهم فقالوا: لا نخلي عنهم حتى يخلى عن صاحبنا، فأبى ابن هبيرة، فقال له: ما تفسد إلا على نفسك وأنت محصور، خل سبيل هذا الرجل، قَالَ: لا ولا كرامة، فرجع ابن حضين إليهم فأخبرهم، فاعتزل معن وعبد الرحمن بْن بشير العجلي، فقال ابن حضين لابن هبيرة: هؤلاء فرسانك قد أفسدتهم، وإن تماديت في ذلك كانوا أشد عليك ممن حصرك، فدعا أبا أمية فكساه، وخلى سبيله، فاصطلحوا وعادوا إلى ما كانوا عليه. وقدم أبو نصر مالك بْن الهيثم من ناحية سجستان، فأوفد الحسن بْن قحطبة وفدا إلى أبي العباس بقدوم أبي نصر عليه، وجعل على الوفد غيلان ابن عبد الله الخزاعي- وكان غيلان واجدا على الحسن لأنه سرحه الى روح ابن حاتم مددا له- فلما قدم على أبي العباس قَالَ: أشهد أنك أمير المؤمنين، وأنك حبل الله المتين، وانك امام المتقين، فقال: حاجتك يا غيلان؟ قَالَ: أستغفرك، قَالَ: غفر الله لك، فقال داود بْن علي: وفقك الله يا أبا فضالة، فقال له غيلان: يا أمير المؤمنين، من علينا برجل من اهل بيتك، قال: او ليس عليكم رجل من أهل بيتي! الحسن بْن قحطبة، قَالَ: يا أمير المؤمنين، من علينا برجل من أهل بيتك، فقال أبو العباس مثل قوله الأول، فقال: يا أمير المؤمنين، من علينا برجل من أهل بيتك ننظر إلى وجهه، وتقر أعيننا به، قَالَ: نعم يا غيلان، فبعث أبا جعفر، فجعل غيلان على شرطه فقدم واسطا، فقال أبو نصر لغيلان: ما أردت لا ما صنعت؟ قَالَ: به بود

فمكث أياما على الشرط، ثم قَالَ لأبي جعفر: لا أقوى على الشرط، ولكني أدلك على من هو أجلد مني، قَالَ: من هو؟ قَالَ: جهور بْن مرار، قَالَ: لا أقدر على عزلك، لأن أمير المؤمنين استعملك، قَالَ: اكتب إليه فأعلمه، فكتب إليه، فكتب إليه أبو العباس: أن اعمل برأي غيلان، فولى شرطه جهورا وقال أبو جعفر للحسن: ابغني رجلا أجعله على حرسي، قَالَ: من قد رضيته لنفسي، عثمان بْن نهيك، فولي الحرس. قَالَ بشر بْن عيسى: ولما قدم أبو جعفر واسطا، تحول له الحسن عن حجرته، فقاتلهم وقاتلوه، فقاتلهم أبو نصر يوما، فانهزم أهل الشام إلى خنادقهم، وقد كمن لهم معن وابو يحيى الجذامى، فلما جاوزهم أهل خراسان، خرجوا عليهم، فقاتلوهم حتى أمسوا، وترجل لهم أبو نصر، فاقتتلوا عند الخنادق، ورفعت لهم النيران وابن هبيرة على برج باب الخلالين، فاقتتلوا ما شاء الله من الليل وسرح ابن هبيرة إلى معن أن ينصرف، فانصرف ومكثوا أياما. وخرج أهل الشام أيضا مع محمد بْن نباتة ومعن بْن زائدة وزياد بْن صالح وفرسان من فرسان أهل الشام، فقاتلهم أهل خراسان، فهزموهم إلى دجلة، فجعلوا يتساقطون في دجلة، فقال أبو نصر: يا أهل خراسان مردمان خائنه بيابان هستيد وبرخزيد، فرجعوا وقد صرع ابنه، فحماه روح بْن حاتم، فمر به أبوه، فقال له بالفارسية: قد قتلوك يا بني، لعن الله الدنيا بعدك! وحملوا على أهل الشام فهزموهم حتى أدخلوهم مدينة واسط، فقال بعضهم لبعض: لا والله لا تفلح بعد عيشتنا أبدا، خرجنا عليهم ونحن فرسان أهل الشام، فهزمونا حتى دخلنا المدينة. وقتل تلك العشية من أهل خراسان بكار الأنصاري ورجل من أهل خراسان كانا من فرسان أهل خراسان، وكان أبو نصر في حصار ابن هبيرة يملأ السفن حطبا، ثم يضرمها بالنار لتحرق ما مرت به، فكان ابن هبيرة يهيئ حراقات كان فيها كلاليب تجر تلك السفن، فمكثوا بذلك أحد عشر شهرا، فلما طال ذلك عليهم طلبوا الصلح، ولم يطلبوه حتى جاءهم خبر

قتل مروان، أتاهم به إسماعيل بْن عبد الله القسري، وقال لهم: علام تقتلون أنفسكم، وقد قتل مروان! وقد قيل: إن أبا العباس وجه أبا جعفر عند مقدمه من خراسان منصرفا من عند أبي مسلم إلى ابن هبيرة لحربه، فشخص جعفر حتى قدم على الحسن ابن قحطبة، وهو محاصر ابن هبيرة بواسط، فتحول له الحسن عن منزله، فنزله أبو جعفر، فلما طال الحصار على ابن هبيرة وأصحابه تحنى عليه أصحابه، فقالت اليمانية: لا نعين مروان وآثاره فينا آثاره وقالت النزارية: لا نقاتل حتى تقاتل معنا اليمانية، وكان إنما يقاتل معه الصعاليك والفتيان، وهم ابن هبيرة أن يدعو إلى محمد بْن عبد الله بْن حسن بْن حسن، فكتب إليه فأبطأ جوابه، وكاتب أبو العباس اليمانية من أصحاب ابن هبيرة، وأطمعهم فخرج إليه زياد بْن صالح وزياد بن عبيد الله الحارثيان، ووعد ابن هبيرة أن يصلحا له ناحية أبي العباس فلم يفعلا، وجرت السفراء بين أبي جعفر وبين ابن هبيرة حتى جعل له أمانا، وكتب به كتابا، مكث يشاور فيه العلماء أربعين يوما حتى رضيه ابن هبيرة، ثم أنفذه إلى أبي جعفر، فأنفذه أبو جعفر إلى أبي العباس، فأمره بإمضائه، وكان رأي أبي جعفر الوفاء له بما أعطاه، وكان أبو العباس لا يقطع أمرا دون ابى مسلم، وكان أبو الجهم عينا لأبي مسلم على أبي العباس، فكتب إليه بأخباره كلها، فكتب أبو مسلم إلى أبي العباس: إن الطريق السهل إذا ألقيت فيه الحجارة فسد، لا والله لا يصلح طريق فيه ابن هبيرة. ولما تم الكتاب خرج ابن هبيرة إلى أبي جعفر في الف وثلاثمائة من البخارية، فأراد أن يدخل الحجرة على دابته، فقام إليه الحاجب سلام بْن سليم، فقال: مرحبا بك أبا خالد! انزل راشدا، وقد أطاف بالحجرة نحو من عشرة آلاف من أهل خراسان، فنزل، ودعا له بوسادة ليجلس عليها، ثم دعا بالقواد فدخلوا، ثم قَالَ سلام: ادخل أبا خالد، فقال له: أنا ومن معي؟ فقال: إنما استأذنت لك وحدك، فقام فدخل، ووضعت له وسادة، فجلس عليها، فحادثه ساعة، ثم قام وأتبعه أبو جعفر بصره حتى غاب عنه، ثم مكث يقيم عنه يوما، ويأتيه يوما

في خمسمائة فارس وثلاثمائة راجل، فقال يزيد بْن حاتم لأبي جعفر: أيها الأمير، إن ابن هبيرة ليأتي فيتضعضع له العسكر، وما نقص من سلطانه شيء، فإذا كان يسير في هذه الفرسان والرجالة، فما يقول عبد الجبار وجهور! فقال أبو جعفر لسلام: قل لابن هبيرة يدع الجماعة ويأتينا في حاشيته نحوا من ثلاثين، فقال له سلام ذلك، فتغير وجهه، وجاء في حاشيته نحوا من ثلاثين، فقال له سلام: كأنك تأتي مباهيا! فقال: إن أمرتم أن نمشي إليكم مشينا، فقال: ما أردنا بك استخفافا، ولا امر الأمير بما امر به إلا نظرا لك، فكان بعد ذلك يأتي في ثلاثة. وذكر أبو زيد أن محمد بْن كثير حدثه، قَالَ: كلم ابن هبيرة يوما أبا جعفر، فقال: يا هناه- او يايها المرء- ثم رجع، فقال: أيها الأمير، إن عهدي بكلام الناس بمثل ما خاطبتك به حديث، فسبقني لساني إلى ما لم أرده وألح أبو العباس على أبي جعفر يأمره بقتله وهو يراجعه، حتى كتب إليه: والله لتقتلنه أو لأرسلن إليه من يخرجه من حجرتك، ثم يتولى قتله فأزمع على قتله، فبعث خازم بْن خزيمة والهيثم بْن شعبة بْن ظهير، وأمرهما بختم بيوت الأموال ثم بعث إلى وجوه من معه من القيسية والمضرية، فاقبل محمد ابن نباتة وحوثرة بْن سهيل وطارق بْن قدامة وزياد بْن سويد وأبو بكر بْن كعب العقيلي وأبان وبشر ابنا عبد الملك بْن بشر، في اثنين وعشرين رجلا من قيس وجعفر بْن حنظلة وهزان بْن سعد. قَالَ: فخرج سلام بْن سليم، فقال: أين حوثرة ومحمد بْن نباتة؟ فقاما، فدخلا، وقد أجلس عثمان بْن نهيك والفضل بْن سليمان وموسى بْن عقيل في مائة في حجرة دون حجرته، فنزعت سيوفهما وكتفا، ثم دخل بشر وأبان ابنا عبد الملك بْن بشر، ففعل بهما ذلك، ثم دخل أبو بكر بْن كعب وطارق ابن قدامة، فقام جعفر بْن حنظلة، فقال: نحن رؤساء الأجناد، ولم يكون هؤلاء يقدمون علينا؟ فقال: ممن أنت؟ قَالَ: من بهراء، فقال: وراءك

أوسع لك، ثم قام هزان، فتكلم فأخر، فقال روح بْن حاتم: يا أبا يعقوب، نزعت سيوف القوم، فخرج عليهم موسى بْن عقيل، فقالوا له: أعطيتمونا عهد الله ثم خستم به! إنا لنرجو أن يدرككم الله، وجعل ابن نباتة يضرط في لحية نفسه، فقال له حوثرة: إن هذا لا يغني عنك شيئا، فقال: كأني كنت أنظر إلى هذا، فقتلوا وأخذت خواتيمهم. وانطلق خازم والهيثم بْن شعبة والأغلب بْن سالم في نحو من مائة، فأرسلوا إلى ابن هبيرة: إنا نريد حمل المال، فقال ابن هبيرة لحاجبه: يا أبا عثمان، انطلق فدلهم عليه، فأقاموا عند كل بيت نفرا، ثم جعلوا ينظرون في نواحي الدار، ومع ابن هبيرة ابنه داود وكاتبه عمرو بْن أيوب وحاجبه وعدة من مواليه، وبني له صغير في حجره، فجعل ينكر نظرهم فقال: أقسم بالله إن في وجوه القوم لشرا، فأقبلوا نحوه، فقام حاجبه في وجوههم، فقال: ما وراءكم؟ فضربه الهيثم بْن شعبة على حبل عاتقه فصرعه، وقاتل ابنه داود فقتل وقتل مواليه، ونحى الصبي من حجره، وقال: دونكم هذا الصبي، وخر ساجدا فقتل وهو ساجد، ومضوا برءوسهم إلى أبي جعفر، فنادى بالأمان للناس إلا للحكم بْن عبد الملك بْن بشر وخالد بْن سلمة المخزومي وعمر بْن ذر، فاستأمن زياد بن عبيد الله لابن ذر فآمنه أبو العباس، وهرب الحكم، وآمن أبو جعفر خالدا، فقتله أبو العباس، ولم يجز أمان أبي جعفر، وهرب ابو علاقة وهشام ابن هشيم بن صفوا بْن مزيد الفزاريان، فلحقهما حجر بْن سعيد الطائي فقتلهما على الزاب، فقال أبو عطاء السندي يرثيه: ألا إن عينا لم تجد يوم واسط ... عليك بجاري دمعها لجمود عشية قام النائحات وشققت ... جيوب بأيدي مأتم وخدود فإن تمس مهجور الفناء فربما ... أقام به بعد الوفود وفود فإنك لم تبعد على متعهد ... بلى كل من تحت التراب بعيد

وقال منقذ بْن عبد الرحمن الهلالي يرثيه: منع العزاء حرارة الصدر ... والحزن عقد عزيمة الصبر لما سمعت بوقعة شملت ... بالشيب لون مفارق الشعر أفنى الحماة الغر أن عرضت ... دون الوفاء حبائل الغدر مالت حبائل أمرهم بفتى ... مثل النجوم حففن بالبدر عالى نعيهم فقلت له ... هلا أتيت بصيحة الحشر! لله درك من زعمت لنا ... أن قد حوته حوادث الدهر من للمنابر بعد مهلكهم ... أو من يسد مكارم الفخر! فإذا ذكرتهم شكا ألما ... قلبي لفقد فوارس زهر قتلى بدجلة ما يغمهم ... إلا عباب زواخر البحر فلتبك نسوتنا فوارسها ... خير الحماة ليالي الذعر وذكر أبو زيد أن أبا بكر الباهلي حدثه، قال: حدثني شيخ من أهل خراسان، قال: كان هشام بْن عبد الملك خطب إلى يزيد بْن عمر بْن هبيرة ابنته على ابنه معاوية، فأبى أن يزوجه، فجرى بعد ذلك بين يزيد بْن عمر وبين الوليد بْن القعقاع كلام، فبعث به هشام إلى الوليد بْن القعقاع، فضربه وحبسه، فقال ابن طيسلة: يا قل خير رجال لا عقول لهم ... من يعدلون إلى المحبوس في حلب إلى امرئ لم تصبه الدهر معضلة ... إلا استقل بها مسترخي اللبب وقيل: إن أبا العباس لما وجه أبا جعفر إلى واسط لقتال ابن هبيرة، كتب إلى الحسن بْن قحطبة: أن العسكر عسكرك، والقواد قوادك، ولكن أحببت أن يكون أخي حاضرا، فاسمع له واطمع، واحسن مؤازرته وكتب إلى أبي نصر مالك بْن الهيثم بمثل ذلك، فكان الحسن المدبر لذلك العسكر بأمر المنصور

وفي هذه السنة وجه أبو مسلم محمد بْن الأشعث على فارس، وأمره أن يأخذ عمال أبي سلمة فيضرب أعناقهم ففعل ذلك. وفي هذه السنة وجه أبو العباس عمه عيسى بْن علي على فارس، وعليها محمد بْن الأشعث، فهم به، فقيل له: إن هذا لا يسوغ لك، فقال: بلى، أمرني أبو مسلم ألا يقدم علي أحد يدعي الولاية من غيره إلا ضربت عنقه. ثم ارتدع عن ذلك لما تخوف من عاقبته، فاستحلف عيسى بالايمان المحرجه الا يعلو منبرا، ولا يتقلد سيفا إلا في جهاد، فلم يل عيسى بعد ذلك عملا، ولا تقلد سيفا إلا في غزو ثم وجه أبو العباس بعد ذلك إسماعيل بْن علي واليا على فارس. وفي هذه السنة وجه أبو العباس أخاه أبا جعفر واليا على الجزيرة وأذربيجان وأرمينية، ووجه أخاه يحيى بْن محمد بْن علي واليا على الموصل. وفيها عزل عمه داود بْن علي عن الكوفة وسوادها، وولاه المدينة ومكة واليمن واليمامة، وولى موضعه وما كان إليه من عمل الكوفة وسوادها عيسى بْن موسى. وفيها عزل مروان- وهو بالجزيرة عن المدينة- الوليد بْن عروة، وولاها أخاه يوسف بْن عروة، فذكر الواقدي أنه قدم المدينة لأربع خلون من شهر ربيع الأول. وفيها استقضى عيسى بْن موسى على الكوفة ابن أبي ليلى. وكان العامل على البصرة في هذه السنة سفيان بْن معاوية المهلبي وعلى قضائها الحجاج بْن أرطاة، وعلى فارس محمد بْن الأشعث، وعلى السند منصور بْن جمهور، وعلى الجزيرة وأرمينية وأذربيجان عبد الله بْن محمد، وعلى الموصل يحيى بْن محمد، وعلى كور الشام عبد الله بْن علي، وعلى مصر أبو عون عبد الملك بْن يزيد، وعلى خراسان والجبال أبو مسلم، وعلى ديوان الخراج خالد بْن برمك. وحج بالناس في هذه السنة دَاوُد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ العباس.

سنه ثلاث وثلاثين ومائه

ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائة . (ذكر ما كَانَ فِي هَذِهِ السنة من الأحداث) فمن ذلك ما كان من توجيه أبي العباس عمه سليمان بْن علي واليا على البصرة وأعمالها، وكور دجلة والبحرين وعمان ومهرجانقذق، وتوجيهه أيضا عمه إسماعيل بْن علي على كور الأهواز. وفيها قتل داود بْن علي من كان أخذ من بني أمية بمكة والمدينة. وفيها مات داود بْن علي بالمدينة في شهر ربيع الأول، وكانت ولايته- فيما ذكر محمد بْن عمر- ثلاثة أشهر. واستخلف داود بْن علي حين حضرته الوفاة على عمله ابنه موسى، ولما بلغت أبا العباس وفاته وجه على المدينة ومكة والطائف واليمامة خاله زياد بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عبد المدان الحارثي، ووجه محمد بن يزيد بن عبد الله ابن عبد المدان على اليمن، فقدم اليمن في جمادى الأولى، فأقام زياد بالمدينة ومضى محمد إلى اليمن ثم وجه زياد بْن عبيد الله من المدينة إبراهيم بْن حسان السلمي، وهو أبو حماد الأبرص- إلى المثنى بْن يزيد بْن عمر بْن هبيرة وهو باليمامة، فقتله وقتل أصحابه. وفيها كتب أبو العباس إلى أبي عون بإقراره على مصر واليا عليها، وإلى عبد الله وصالح ابني علي على أجناد الشام وفيها توجه محمد بْن الأشعث إلى إفريقية فقاتلهم قتالا شديدا حتى فتحها وفيها خرج شريك بْن شيخ المهري بخراسان على أبي مسلم ببخارى ونقم عليه، وقال: ما على هذا اتبعنا آل محمد، على أن نسفك الدماء، ونعمل بغير الحق وتبعه على رأيه أكثر من ثلاثين ألفا، فوجه إليه أبو مسلم زياد بْن صالح الخزاعي فقاتله فقتله

وفيها توجه أبو داود خالد بْن إبراهيم من الوخش إلى الختل، فدخلها ولم يمتنع عليه حنش بْن السبل ملكها، وأتاه ناس من دهاقين الختل، فتحصنوا معه، وامتنع بعضهم في الدروب والشعاب والقلاع فلما ألح أبو داود على حنش، خرج من الحصن ليلا ومعه دهاقينه وشاكريته حتى انتهوا إلى أرض فرغانة، ثم خرج منها في أرض الترك، حتى وقع إلى ملك الصين، وأخذ أبو داود من ظفر به منهم، فجاوز بهم إلى بلخ، ثم بعث بهم إلى أبي مسلم. وفيها قتل عبد الرحمن بْن يزيد بْن المهلب، قتله سليمان الذي يقال له الأسود، بأمان كتبه له. وفيها وجه صالح بْن علي سعيد بْن عبد الله لغزو الصائفة، وراء الدروب. وفيها عزل يحيى بْن محمد عن الموصل، واستعمل مكانه إسماعيل بْن علي. وحج بالناس في هذه السنة زياد بْن عبيد الله الحارثى، كذلك حدثنى احمد ابن ثَابِت، عمن حدثه، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي وغيره. وكان على الكوفة وأرضها عيسى بْن موسى، وعلى قضائها ابن أبي ليلى، وعلى البصرة وأعمالها وكور دجلة والبحرين وعمان والعرض ومهرجانقذق سليمان ابن علي، وعلى قضائها عباد بْن منصور، وعلى الأهواز إسماعيل بْن علي وعلى فارس محمد بْن الأشعث، وعلى السند منصور بْن جمهور، وعلى خراسان والجبال أبو مسلم، وعلى قنسرين وحمص وكور دمشق والأردن عبد الله بْن علي، وعلى فلسطين صالح بْن علي. وعلى مصر عبد الملك بْن يزيد أبو عون، وعلى الجزيرة عبد الله بْن محمد المنصور، وعلى الموصل إسماعيل بْن علي، وعلى أرمينية صالح بْن صبيح، وعلى أذربيجان مجاشع بْن يزيد. وعلى ديوان الخراج خالد بْن برمك.

سنه اربع وثلاثين ومائه

ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائة (ذكر ما كان فيها من الأحداث) ذكر خبر خلع بسام بن ابراهيم ففيها خالف بسام بْن إبراهيم بْن بسام، وخلع، وكان من فرسان أهل خراسان وشخص- فيما ذكر- من عسكر أبي العباس أمير المؤمنين مع جماعة ممن شايعه على ذلك من رايه، مستسرين بخروجهم، ففحص عن أمرهم وإلى أين صاروا، حتى وقف على مكانهم بالمدائن، فوجه إليهم أبو العباس خازم بْن خزيمة، فلما لقي بساما ناجزه القتال، فانهزم بسام وأصحابه وقتل أكثرهم، واستبيح عسكره، ومضى خازم وأصحابه في طلبهم، في ارض جوخى إلى أن بلغ ماه، وقتل كل من لحقه منهزما، أو ناصبه القتال، ثم انصرف من وجهه ذلك، فمر بذات المطامير- أو بقرية شبيهة بها- وبها من بني الحارث بْن كعب من بني عبد المدان، وهم أخوال أبي العباس ذنبة فمر بهم وهم في مجلس لهم- وكانوا خمسة وثلاثين رجلا منهم ومن غيرهم ثمانية عشر رجلا، ومن مواليهم سبعة عشر رجلا- فلم يسلم عليهم، فلما جاز شتموه، وكان في قلبه عليهم ما كان لما بلغه عنهم من حال المغيرة بْن الفزع، وإنه لجأ إليهم، وكان من أصحاب بسام بْن إبراهيم فكر راجعا، فسألهم عما بلغه من نزول المغيرة بهم، فقالوا: مر بنا رجل مجتاز لا نعرفه، فأقام في قريتنا ليلة ثم خرج عنها، فقال لهم: أنتم اخوال امير المؤمنين وياتيكم عدوه، فيأمن في قريتكم! فهلا اجتمعتم فأخذتموه! فأغلظوا له الجواب، فأمر بهم فضربت أعناقهم جميعا، وهدمت دورهم، وانتهبت أموالهم، ثم انصرف إلى أبي العباس، وبلغ ما كان من فعل خازم اليمانية، فأعظموا ذلك، واجتمعت كلمتهم، فدخل زياد بْن عبيد الله الحارثي على أبي العباس مع عبد الله بْن

امر الخوارج مع خازم بن خزيمة وقتل شيبان بن عبد العزيز

الربيع الحارثي وعثمان بْن نهيك، وعبد الجبار بْن عبد الرحمن، وهو يومئذ على شرطة أبي العباس، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن خادما اجترأ عليك بأمر لم يكن أحد من أقرب ولد أبيك ليجترئ عليك به، من استخفافه بحقك، وقتل أخوالك الذين قطعوا البلاد، وأتوك معتزين بك، طالبين معروفك، حتى إذا صاروا إلى دارك وجوارك، وثب عليهم خازم فضرب أعناقهم، وهدم دورهم، وأنهب أموالهم، وأخرب ضياعهم، بلا حدث أحدثوه فهم بقتل خازم، فبلغ ذلك موسى بْن كعب وأبا الجهم بْن عطية، فدخلا على أبي العباس، فقالا: بلغنا يا أمير المؤمنين ما كان من تحميل هؤلاء القوم إياك على خازم، وإشارتهم عليك بقتله، وما هممت به من ذلك، وإنا نعيذك بالله من ذلك، فإن له طاعة وسابقة، وهو يحتمل له ما صنع، فإن شيعتكم من أهل خراسان قد آثروكم على الأقارب من الأولاد والآباء والإخوان، وقتلوا من خالفكم، وأنت أحق من تعمد إساءة مسيئهم، فإن كنت لا بد مجمعا على قتله فلا تتول ذلك بنفسك، وعرضه من المباعث لما إن قتل فيه كنت قد بلغت الذي أردت، وإن ظفر كان ظفره لك وأشاروا عليه بتوجيهه إلى من بعمان من الخوارج إلى الجلندي وأصحابه، وإلى الخوارج الذين بجزيرة ابن كاوان مع شيبان بْن عبد العزيز اليشكري، فامر ابو العباس بتوجيهه مع سبعمائة رجل، وكتب الى سليمان بْن علي وهو على البصرة بحملهم في السفن إلى جزيرة ابن كاوان وعمان فشخص . امر الخوارج مع خازم بن خزيمة وقتل شيبان بن عبد العزيز وفي هذه السنة شخص خازم بْن خزيمة إلى عمان، فأوقع بمن فيها من الخوارج، وغلب عليها وعلى ما قرب منها من البلدان وقتل شيبان الخارجي. ذكر الخبر عما كان منه هنالك: ذكر أن خازم بْن خزيمة شخص في السبعمائة الذين ضمهم إليه أبو العباس، وانتخب من أهل بيته وبني عمه ومواليه ورجال من أهل مرو الروذ، قد عرفهم

ذكر غزوه كس

ووثق بهم، فسار إلى البصرة، فحملهم سليمان بْن علي، وانضم إلى خازم بالبصرة عدة من بني تميم، فساروا حتى أرسوا بجزيرة ابن كاوان، فوجه خازم نضلة بْن نعيم النهشلي في خمسمائة رجل من أصحابه إلى شيبان، فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا، فركب شيبان وأصحابه السفن، فقطعوا إلى عمان- وهم صفرية- فلما صاروا إلى عمان نصب لهم الجلندي وأصحابه- وهم إباضية- فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل شيبان ومن معه، ثم سار خازم في البحر بمن معه، حتى أرسوا إلى ساحل عمان، فخرجوا إلى صحراء، فلقيهم الجلندي وأصحابه، فاقتتلوا قتالا شديدا، وكثر القتل يومئذ في أصحاب خازم، وهم يومئذ على ضفة البحر، وقتل فيمن قتل أخ لخازم لأمه يقال له إسماعيل، في تسعين رجلا من أهل مرو الروذ، ثم تلاقوا في اليوم الثاني، فاقتتلوا قتالا شديدا، وعلى ميمنته رجل من أهل مرو الروذ، يقال له حميد الورتكاني، وعلى ميسرته رجل من أهل مرو الروذ يقال له مسلم الأرغدي، وعلى طلائعه نضلة بْن نعيم النهشلي، فقتل يومئذ من الخوارج تسعمائة رجل، وأحرقوا منهم نحوا من تسعين رجلا ثم التقوا بعد سبعة أيام من مقدم خازم على رأي أشار به عليه رجل من أهل الصغد، وقع بتلك البلاد، فأشار عليه أن يأمر أصحابه فيجعلوا على أطراف أسنتهم المشاقة ويرووها بالنفط، ويشعلوا فيها النيران، ثم يمشوا بها حتى يضرموها في بيوت أصحاب الجلندي. وكانت من خشب وخلاف، فلما فعل ذلك وأضرمت بيوتهم بالنيران وشغلوا بها وبمن فيها من أولادهم وأهاليهم شد عليهم خازم وأصحابه، فوضعوا فيهم السيوف وهم غير ممتنعين منهم، وقتل الجلندي فيمن قتل، وبلغ عدة من قتل عشرة آلاف، وبعث خازم برءوسهم الى البصره، فمكثت بالبصرة أياما، ثم بعث بها إلى أبي العباس، وأقام خازم بعد ذلك أشهرا، حتى أتاه كتاب ابى العباس باقفاله فقفلوا . ذكر غزوه كس وفي هذه السنة غزا أبو داود خالد بن ابراهيم اهل كس فقتل الاخريد

ذكر قتال منصور بن جمهور

ملكها، وهو سامع مطيع قدم عليه قبل ذلك بلخ، ثم تلقاه بكندك مما يلي كس، وأخذ أبو داود من الأخريد وأصحابه حين قتلهم من الأواني الصينية المنقوشة المذهبة التي لم ير مثلها، ومن السروج الصينية ومتاع الصين كله من الديباج وغيره، ومن طرف الصين شيئا كثيرا، فحمله أبو داود أجمع إلى أبي مسلم وهو بسمرقند، وقتل أبو داود دهقان كس في عدة من دهاقينها واستحيا طاران أخا الاخريد وملكه على كس، وأخذ ابن النجاح ورده إلى أرضه، وانصرف أبو مسلم إلى مرو بعد أن قتل في أهل الصغد وأهل بخارى، وأمر ببناء حائط سمرقند، واستخلف زياد بْن صالح على الصغد وأهل بخارى، ثم رجع أبو داود الى بلخ . ذكر قتال منصور بن جمهور وفي هذه السنة وجه أبو العباس موسى بن كعب الى الهند لقتال منصور ابن جمهور، وفرض لثلاثة آلاف رجل من العرب والموالي بالبصرة ولألف من بني تميم خاصة، فشخص واستخلف مكانه على شرطة أبي العباس المسيب ابن زهير حتى ورد السند، ولقي منصور بْن جمهور في اثني عشر ألفا، فهزمه ومن معه، ومضى فمات عطشا في الرمال. وقد قيل: أصابه بطن، وبلغ خليفة منصور وهو بالمنصورة هزيمة منصور، فرحل بعيال منصور وثقله، وخرج بهم في عدة من ثقاته، فدخل بهم بلاد الخزر. وفيها توفي محمد بْن يزيد بْن عبد الله وهو على اليمن، فكتب أبو العباس إلى علي بْن الربيع بْن عبيد الله الحارثي، وهو عامل لزياد بْن عبيد الله على مكة بولايته على اليمن فسار إليها. وفي هذه السنة تحول أبو العباس من الحيرة إلى الأنبار- وذلك فيما قَالَ الواقدي وغيره- في ذي الحجة

وفيها عزل صالح بْن صبيح عن أرمينية، وجعل مكانه يزيد بْن أسيد وفيها عزل مجاشع بْن يزيد عن أذربيجان واستعمل عليها محمد بْن صول. وفيها ضرب المنار من الكوفة إلى مكة والأميال وحج بالناس في هذه السنة عيسى بْن موسى، وهو على الكوفة وأرضها. وكان على قضاء الكوفة ابن أبي ليلى وعلى المدينة ومكة والطائف واليمامة زياد بْن عبيد الله، وعلى اليمن علي بْن الربيع الحارثي، وعلى البصرة وأعمالها وكور دجلة والبحرين وعمان والعرض ومهرجانقذق سليمان بْن علي، وعلى قضائها عباد بْن منصور، وعلى السند موسى بْن كعب، وعلى خراسان والجبال ابو مسلم، وعلى فلسطين صالح ابن علي، وعلى مصر أبو عون، وعلى موصل إسماعيل بْن علي، وعلى أرمينية يزيد بْن أسيد، وعلى أذربيجان محمد بْن صول وعلى ديوان الخراج خالد بْن برمك، وعلى الجزيرة عبد الله بْن محمد أبو جعفر وعلى قنسرين وحمص وكور دمشق والأردن عبد الله بن على.

سنه خمس وثلاثين ومائه

ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومائة (ذكر ما كان فيها من الأحداث) ذكر خبر خروج زياد بن صالح 4 فمما كان فيها من ذلك خروج زياد بْن صالح وراء نهر بلخ، فشخص أبو مسلم من مرو مستعدا للقائه، وبعث أبو داود خالد بْن إبراهيم نصر بْن راشد إلى الترمذ، وأمره أن ينزل مدينتها، مخافة أن يبعث زياد بْن صالح إلى الحصن والسفن فيأخذها، ففعل ذلك نصر، وأقام بها أياما، فخرج عليه ناس من الراوندية من أهل الطالقان مع رجل يكنى أبا إسحاق، فقتلوا نصرا، فلما بلغ ذلك أبا داود بعث عيسى بْن ماهان في تتبع قتلة نصر، فتتبعهم فقتلهم، فمضى أبو مسلم مسرعا، حتى انتهى إلى آمل، ومعه سباع بْن ابى النعمان الأزدي، وهو الذي كان قدم بعهد زياد بْن صالح من قبل أبي العباس، وأمره إن رأى فرصة أن يثب على أبي مسلم فيقتله فأخبر أبو مسلم بذلك، فدفع سباع بْن النعمان إلى الحسن بْن الجنيد عامله على آمل، وأمره بحبسه عنده، وعبر أبو مسلم إلى بخارى، فلما نزلها أتاه أبو شاكر وأبو سعد الشروي في قواد قد خلعوا زيادا، فسألهم أبو مسلم عن أمر زياد ومن أفسده، قالوا: سباع بْن النعمان، فكتب إلى عامله على آمل أن يضرب سباعا مائة سوط، ثم يضرب عنقه، ففعل. ولما أسلم زيادا قواده ولحقوا بأبي مسلم لجأ إلى دهقان باركث، فوثب عليه الدهقان، فضرب عنقه، وجاء برأسه إلى أبي مسلم، فأبطأ أبو داود على أبي مسلم لحال الراوندية الذين كانوا خرجوا، فكتب اليه ابو مسلم: اما بعد فليفرخ روعك، ويأمن سربك، فقد قتل الله زيادا، فاقدم، فقدم ابو داود، كس، وبعث عيسى بْن ماهان إلى بسام، وبعث ابن النجاح إلى الأصبهبذ إلى شاوغر، فحاصر الحصن فاما أهل شاوغر فسألوا الصلح، فأجيبوا إلى ذلك

واما بسام فلم يصل عيسى بْن ماهان إلى شيء منه، حتى ظهر أبو مسلم بستة عشر كتابا وجدها من عيسى بْن ماهان إلى كامل بْن مظفر صاحب أبي مسلم، يعيب فيها أبا داود، وينسبه فيها إلى العصبية وإيثاره العرب وقومه على غيرهم من أهل هذه الدعوة، وإن في عسكره ستة وثلاثين سرادقا للمستأمنة، فبعث بها أبو مسلم إلى أبي داود، وكتب إليه: إن هذه كتب العلج الذي صيرته عدل نفسك، فشأنك به فكتب ابو داود الى عيسى ابن ماهان يأمره بالانصراف إليه عن بسام، فلما قدم عليه حبسه ودفعه إلى عمر النغم، وكان في يده محبوسا، ثم دعا به بعد يومين أو ثلاثة فذكره صنيعته به وإيثاره إياه على ولده، فأقر بذلك، فقال أبو داود: فكان جزاء ما صنعت بك أن سعيت بي وأردت قتلي فأنكر ذلك، فأخرج كتبه فعرفها، فضربه أبو داود يومئذ حدين: أحدهما للحسن بْن حمدان ثم قَالَ أبو داود: أما إني قد تركت ذنبك لك، ولكن الجند أعلم فأخرج في القيود، فلما أخرج من السرادق وثب عليه حرب بْن زياد وحفص بْن دينار مولى يحيى بْن حضين، فضرباه بعمود وطبرزين، فوقع إلى الأرض، وعدا عليه أهل الطالقان وغيرهم. فأدخلوه في جوالق، وضربوه بالأعمدة، حتى مات ورجع أبو مسلم إلى مرو. وحج بالناس في هذه السنة سليمان بْن علي وهو على البصرة وأعمالها وعلى قضائها عباد بْن منصور. وكان على مكة الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ عباس، وعلى المدينة زياد بْن عبيد الله الحارثي، وعلى الكوفة وأرضها عيسى بْن موسى، وعلى قضائها ابن أبي ليلى، وعلى الجزيرة أبو جعفر المنصور، وعلى مصر أبو عون، وعلى حمص وقنسرين وبعلبك والغوطة وحوران والجولان والأردن عبد الله ابن علي وعلى البلقاء وفلسطين صالح بْن علي، وعلى الموصل إسماعيل بْن علي، وعلى أرمينية يزيد بْن أسيد، وعلى أذربيجان محمد بْن صول، وعلى ديوان الخراج خالد بْن برمك.

سنه ست وثلاثين ومائه

ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر قدوم ابى مسلم على ابى العباس ففي هذه السنة قدم أبو مسلم العراق من خراسان على أبي العباس أمير المؤمنين. ذكر الخبر عن قدومه عليه وما كان من امره في ذلك: ذكر علي بْن محمد أن الهيثم بْن عدي أخبره والوليد بْن هشام، عن أبيه، قالا: لم يزل أبو مسلم مقيما بخراسان، حتى كتب إلى أبي العباس يستأذنه في القدوم عليه، فأجابه إلى ذلك، فقدم على أبي العباس في جماعة من أهل خراسان عظيمة ومن تبعه من غيرهم من الأنبار، فأمر أبو العباس الناس يتلقونه، فتلقاه الناس، وأقبل إلى أبي العباس، فدخل عليه فأعظمه وأكرمه، ثم استأذن أبا العباس في الحج فقال: لولا أن أبا جعفر يحج لاستعملتك على الموسم وأنزله قريبا منه، فكان يأتيه في كل يوم يسلم عليه، وكان ما بين أبي جعفر وأبي مسلم متباعدا، لأن أبا العباس كان بعث أبا جعفر إلى أبي مسلم وهو بنيسابور، بعد ما صفت له الأمور بعهده على خراسان وبالبيعة لأبي العباس ولأبي جعفر من بعده، فبايع له أبو مسلم وأهل خراسان وأقام أبو جعفر أياما حتى فرغ من البيعة، ثم انصرف وكان أبو مسلم قد استخف بأبي جعفر في مقدمه ذلك، فلما قدم على أبي العباس أخبره بما كان من استخفافه به. قَالَ علي: قَالَ الوليد عن أبيه: لما قدم أبو مسلم على أبي العباس، قَالَ أبو جعفر لأبي العباس: يا أمير المؤمنين، أطعني واقتل أبا مسلم، فو الله إن في رأسه لغدرة، فقال: يا أخي، قد عرفت بلاءه وما كان منه، فقال

حج ابى جعفر المنصور وابى مسلم

أبو جعفر: يا أمير المؤمنين، إنما كان بدولتنا، والله لو بعثت سنورا لقام مقامه وبلغ ما بلغ في هذه الدولة فقال له أبو العباس: فكيف نقتله؟ قَالَ: إذا دخل عليك وحادثته وأقبل عليك دخلت فتغفلته فضربته من خلفه ضربة أتيت بها على نفسه، فقال أبو العباس: فكيف بأصحابه الذين يؤثرونه على دينهم ودنياهم؟ قَالَ: يئول ذلك كله إلى ما تريد، ولو علموا أنه قد قتل تفرقوا وذلوا، قَالَ: عزمت عليك إلا كففت عن هذا، قَالَ: أخاف والله ان لم تتغده اليوم يتعشاك غدا، قَالَ: فدونكه، أنت أعلم. قَالَ: فخرج أبو جعفر من عنده عازما على ذلك، فندم أبو العباس وأرسل إلى أبي جعفر: لا تفعل ذلك الأمر. وقيل: إن أبا العباس لما أذن لأبي جعفر في قتل أبي مسلم، دخل أبو مسلم على أبي العباس، فبعث أبو العباس خصيا له، فقال: اذهب فانظر ما يصنع أبو جعفر، فأتاه فوجده محتبيا بسيفه، فقال للخصي: أجالس أمير المؤمنين؟ فقال له: قد تهيأ للجلوس، ثم رجع الخصي إلى أبي العباس فأخبره بما رأى منه، فرده إلى أبي جعفر وقال له: قل له الأمر الذي عزمت عليه لا تنفذه فكف ابو جعفر . حج ابى جعفر المنصور وابى مسلم وفي هذه السنة حج أبو جعفر المنصور وحج معه أبو مسلم. ذكر الخبر عن مسيرهما وعن وصفه مقدمهما على أبي العباس: أما أبو مسلم فإنه- فيما ذكر عنه- لما أراد القدوم على أبي العباس، كتب يستأذنه في القدوم للحج، فأذن له، وكتب إليه أن أقدم في خمسمائة من الجند، فكتب إليه أبو مسلم: إني قد وترت الناس ولست آمن على نفسي فكتب إليه أن أقبل في ألف، فإنما أنت في سلطان أهلك ودولتك، وطريق مكة لا تحتمل العسكر، فشخص في ثمانية آلاف فرقهم فيما بين نيسابور والري، وقدم بالأموال والخزائن فخلفها بالري، وجمع أيضا أموال الجبل، وشخص منها في ألف وأقبل، فلما أراد الدخول تلقاه القواد وسائر الناس، ثم استأذن

ذكر الخبر عن موت ابى العباس السفاح

أبا العباس في الحج، فأذن له، وقال: لولا أن أبا جعفر حاج لوليتك الموسم. وأما أبو جعفر فإنه كان أميرا على الجزيرة، وكان الواقدي، يقول: كان إليه مع الجزيرة أرمينية وأذربيجان، فاستخلف على عمله مقاتل بْن حكيم العكي، وقدم على أبي العباس فاستأذنه في الحج، فذكر علي بْن محمد عن الوليد بْن هشام عن أبيه أن أبا جعفر سار إلى مكة حاجا، وحج معه أبو مسلم سنة ست وثلاثين ومائة، فلما انقضى الموسم أقبل أبو جعفر وأبو مسلم، فلما كان بين البستان وذات عرق أتى أبا جعفر كتاب بموت أبي العباس، وكان أبو جعفر قد تقدم أبا مسلم بمرحلة، فكتب إلى أبي مسلم: إنه قد حدث أمر فالعجل العجل، فأتاه الرسول فأخبره، فأقبل حتى لحق أبا جعفر، وأقبلا إلى الكوفة. وفي هذه السنة عقد أبو العباس عبد الله بْن محمد بْن علي لأخيه أبي جعفر الخلافة من بعده، وجعله ولي عهد المسلمين، ومن بعد أبي جعفر عيسى ابن موسى بْن محمد بْن علي، وكتب العهد بذلك، وصيره في ثوب، وختم عليه بخاتمه وخواتيم أهل بيته، ودفعه إلى عيسى بْن موسى . ذكر الخبر عن موت ابى العباس السفاح وفيها توفي أبو العباس أمير المؤمنين بالأنبار يوم الأحد، لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة وكانت وفاته فيما قيل بالجدري. وقال هشام بْن محمد: توفي لاثنتي عشرة ليلة مضت من ذي الحجة. واختلف في مبلغ سنه يوم وفاته، فقال بعضهم: كان له يوم توفي ثلاث وثلاثون سنة وقال هشام بْن محمد: كان يوم توفي ابن ست وثلاثين سنة. وقال بعضهم: كان له ثمان وعشرون سنة. وكانت ولايته من لدن قتل مروان بْن محمد إلى أن توفي أربع سنين: ومن لدن بويع له بالخلافة إلى أن مات أربع سنين وثمانية أشهر وقال بعضهم: وتسعة أشهر وقال الواقدي: أربع سنين وثمانية أشهر منها ثمانية أشهر وأربعة

خلافه ابى جعفر المنصور وهو عبد الله بن محمد

أيام يقاتل مروان. وملك بعد مروان أربع سنين وكان- فيما ذكر- ذا شعرة جعدة، وكان طويلا أبيض أقنى الأنف، حسن الوجه واللحية. وأمه ريطة بنت عبيد الله بْن عبد الله بْن عبد المدان بْن الديان الحارثي وكان وزيره أبو الجهم بْن عطية. وصلى عليه عمه عيسى بْن علي، ودفنه بالأنبار العتيقة في قصره. وكان- فيما ذكر- خلف تسع جباب، وأربعة أقمصة، وخمسه سراويلات، واربعه طيالسه، وثلاثة مطارف خز . خلافة أبي جعفر المنصور وهو عبد الله بْن محمد وفي هذه السنة بويع لأبي جعفر المنصور بالخلافة، وذلك في اليوم الذي توفي فيه أخوه أبو العباس، وأبو جعفر يومئذ بمكة، وكان الذي أخذ البيعة بالعراق لأبي جعفر بعد موت أبي العباس عيسى بْن موسى، وكتب إليه عيسى يعلمه بموت أخيه أبي العباس وبالبيعة له. وذكر علي بْن محمد، عن الهيثم، عن عبد الله بْن عياش، قَالَ: لما حضرت أبا العباس الوفاة، أمر الناس بالبيعة لعبد الله بْن محمد أبي جعفر، فبايع الناس له بالأنبار في اليوم الذي مات فيه أبو العباس وقام بأمر الناس عيسى بْن موسى، وأرسل عيسى بْن موسى إلى أبي جعفر وهو بمكة محمد بْن الحصين العبدي بموت أبي العباس، وبالبيعة له، فلقيه بمكان من الطريق يقال له زكية، فلما جاءه الكتاب دعا الناس فبايعوه، وبايعه أبو مسلم، فقال أبو جعفر: أين موضعنا هذا؟ قالوا: زكية، فقال: أمر يزكى لنا إن شاء الله تعالى. وقال بعضهم: ورد على أبي جعفر البيعة له بعد ما صدر من الحج، في منزل من منازل طريق مكة، يقال له صفية، فتفاءل باسمه، وقال: صفت لنا إن شاء الله تعالى

رجع الحديث إلى حديث علي بن محمد: فقال علي: حدثني الوليد، عن أبيه، قَالَ: لما أتى الخبر أبا جعفر كتب إلى أبي مسلم وهو نازل بالماء، وقد تقدمه أبو جعفر، فأقبل أبو مسلم حتى قدم عليه. وقيل إن أبا مسلم كان هو الذي تقدم أبا جعفر، فعرف الخبر قبله، فكتب إلى أبي جعفر: بسم الله الرحمن الرحيم عافاك الله وأمتع بك، إنه أتاني أمر أفظعني وبلغ مني مبلغا لم يبلغه شيء قط، لقيني محمد بْن الحصين بكتاب من عيسى بْن موسى إليك بوفاة أبي العباس أمير المؤمنين رحمه الله، فنسأل الله أن يعظم أجرك، ويحسن الخلافة عليك، ويبارك لك فيما أنت فيه، إنه ليس من أهلك أحد أشد تعظيما لحقك وأصفى نصيحة لك، وحرصا على ما يسرك مني. وأنفذ الكتاب إليه، ثم مكث أبو مسلم يومه ومن الغد، ثم بعث إلى أبي جعفر بالبيعة، وإنما أراد ترهيب أبي جعفر بتأخيرها. رجع الحديث إلى حديث علي بن محمد: فلما جلس أبو مسلم، ألقى إليه الكتاب، فقرأه وبكى واسترجع قَالَ: ونظر أبو مسلم إلى أبي جعفر، وقد جزع جزعا شديدا فقال: ما هذا الجزع وقد أتتك الخلافة؟ فقال: أتخوف شر عبد الله بْن علي وشيعة علي، فقال: لا تخفه، فأنا أكفيك أمره إن شاء الله، إنما عامة جنده ومن معه أهل خراسان، وهم لا يعصونني. فسري عن أبي جعفر ما كان فيه وبايع له أبو مسلم وبايع الناس، وأقبلا حتى قدما الكوفة، ورد أبو جعفر زياد بن عبيد الله إلى مكة، وكان قبل ذلك واليا عليها وعلى المدينة لأبي العباس. وقيل: إن أبا العباس كان قد عزل قبل موته زياد بن عبيد الله الحارثي عن مكة، وولاها الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ العباس وفي هذه السنة قدم عبد الله بْن علي على أبي العباس. الأنبار، فعقد له

أبو العباس على الصائفة في أهل خراسان وأهل الشام والجزيرة والموصل، فسار فبلغ دلوك، ولم يدرب حتى أتته وفاة أبي العباس. وفي هذه السنة بعث عيسى بْن موسى وأبو الجهم يزيد بْن زياد أبا غسان إلى عبد الله بْن علي ببيعة المنصور فانصرف عبد الله بْن علي بمن معه من الجيوش، قد بايع لنفسه حتى قدم حران وأقام الحج للناس في هذه السنة أبو جعفر المنصور، وقد ذكرنا ما كان إليه من العمل في هذه السنة، ومن استخلف عليه حين شخص حاجا. وكان على الكوفة عيسى بْن موسى وعلى قضائها ابن أبي ليلى، وعلى البصرة وعملها سليمان بْن على، وعلى قضائها عباد بن المنصور، وعلى المدينة زياد بْن عبيد الله الحارثي، وعلى مكة العباس بْن عبد الله بْن معبد، وعلى مصر صالح ابن على.

سنه سبع وثلاثين ومائه

ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِي هَذِهِ السنة من الاحداث) ذكر خبر خروج عبد الله بن على وهزيمته فمما كان فيها من ذلك قدوم المنصور أبي جعفر من مكة ونزوله الحيرة، فوجد عيسى بْن موسى قد شخص إلى الأنبار، واستخلف على الكوفه طلحه ابن إسحاق بْن محمد بْن الأشعث، فدخل أبو جعفر الكوفة فصلى بأهلها الجمعة يوم الجمعة، وخطبهم وأعلمهم أنه راحل عنهم، ووافاه أبو مسلم بالحيرة، ثم شخص أبو جعفر إلى الأنبار وأقام بها، وجمع إليه أطرافه. وذكر علي بْن محمد عن الوليد، عن أبيه، أن عيسى بْن موسى كان قد أحرز بيوت الأموال والخزائن والدواوين، حتى قدم عليه أبو جعفر الأنبار، فبايع الناس له بالخلافة، ثم لعيسى بْن موسى من بعده، فسلم عيسى بْن موسى إلى أبي جعفر الأمر، وقد كان عيسى بْن موسى بعث أبا غسان- واسمه يزيد بْن زياد، وهو حاجب أبي العباس- إلى عبد الله بْن علي ببيعه ابى جعفر، ذلك بأمر أبي العباس قبل أن يموت حين أمر الناس بالبيعة لأبي جعفر من بعده فقدم أبو غسان على عبد الله بْن على بأفواه الدروب متوجها يريد والروم، فلما قدم عليه أبو غسان بوفاة أبي العباس وهو نازل بموضع يقال له دلوك، أمر مناديا فنادى: الصلاة جامعة فاجتمع إليه القواد والجند، فقرأ عليهم الكتاب بوفاة أبي العباس، ودعا الناس إلى نفسه، وأخبرهم أن أبا العباس حين أراد أن يوجه الجنود إلى مروان بْن محمد دعا بني أبيه، فأرادهم على المسير إلى مروان بْن محمد، وقال: من انتدب منكم فسار إليه فهو ولي عهدي، فلم ينتدب له غيري، فعلى هذا خرجت من عنده، وقتلت. من قتلت فقام أبو غانم الطائي وخفاف المروروذي في عدة من قواد أهل خراسان فشهدوا له بذلك، فبايعه أبو غانم وخفاف وأبو الأصبغ وجميع من كان معه

من أولئك القواد، فيهم حميد بْن قحطبة وخفاف الجرجاني وحياش بْن حبيب ومخارق بْن غفار وترار خدا وغيرهم من أهل خراسان والشام والجزيرة، وقد نزل تل محمد، فلما فرغ من البيعة ارتحل فنزل حران، وبها مقاتل العكي- وكان أبو جعفر استخلفه لما قدم على أبي العباس- فأراد مقاتلا على البيعة فلم يجبه، وتحصن منه، فأقام عليه وحصره حتى استنزله من حصنه فقتله. وسرح أبو جعفر لقتال عبد الله بْن علي أبا مسلم، فلما بلغ عبد الله إقبال أبي مسلم أقام بحران، وقال أبو جعفر لأبي مسلم: إنما هو أنا أو أنت، فسار أبو مسلم نحو عبد الله بحران، وقد جمع إليه الجنود والسلاح، وخندق وجمع إليه الطعام والعلوفة وما يصلحه، ومضى أبو مسلم سائرا من الأنبار، ولم يتخلف عنه من القواد أحد، وبعث على مقدمته مالك بْن الهيثم الخزاعي، وكان معه الحسن وحميد ابنا قحطبة، وكان حميد قد فارق عبد الله بْن علي، وكان عبد الله أراد قتله، وخرج معه أبو إسحاق وأخوه وأبو حميد وأخوه وجماعة من أهل خراسان، وكان أبو مسلم استخلف على خراسان حيث شخص خالد بْن إبراهيم أبا داود. قَالَ الهيثم: كان حصار عبد الله بْن علي مقاتلا العكي أربعين ليلة، فلما بلغه مسير أبي مسلم إليه، وأنه لم يظفر بمقاتل، وخشي أن يهجم عليه أبو مسلم أعطى العكي أمانا، فخرج إليه فيمن كان معه، وأقام معه أياما يسيرة، ثم وجهه إلى عثمان بْن عبد الأعلى بْن سراقة الأزدي إلى الرقة ومعه ابناه، وكتب إليه كتابا دفعه إلى العكي، فلما قدموا على عثمان قتل العكي وحبس ابنيه، فلما بلغه هزيمة عبد الله بْن علي وأهل الشام بنصيبين أخرجهما فضرب أعناقهما. وكان عبد الله بْن علي خشي ألا يناصحه أهل خراسان، فقتل منهم نحوا من سبعة عشر ألفا، أمر صاحب شرطه فقتلهم، وكتب لحميد بْن قحطبة كتابا ووجهه إلى حلب، وعليها زفر بْن عاصم وفي الكتاب: إذا قدم عليك حميد بْن قحطبة فاضرب عنقه، فسار حميد حتى إذا كان ببعض الطريق فكر في كتابه، وقال: إن ذهابي بكتاب ولا أعلم ما فيه لغرر، ففك

الطومار فقرأه، فلما رأى ما فيه دعا أناسا من خاصته فأخبرهم الخبر، وأفشى إليهم أمره، وشاورهم، وقال: من أراد منكم أن ينجو ويهرب فليسر معي، فإني أريد أن آخذ طريق العراق، وأخبرهم ما كتب به عبد الله بْن علي في أمره، وقال لهم: من لم يرد منكم أن يحمل نفسه على السير فلا يفشين سري، وليذهب حيث أحب. قَالَ: فاتبعه على ذلك ناس من أصحابه، فأمر حميد بدوابه فأنعلت، وأنعل أصحابه دوابهم، وتأهبوا للمسير معه، ثم فوز بهم وبهرج الطريق فأخذ على ناحية من الرصافة، رصافة هشام بالشام، وبالرصافة يومئذ مولى لعبد الله بْن علي يقال له سعيد البربري، فبلغه أن حميد بْن قحطبة قد خالف عبد الله بْن علي، وأخذ في المفازة، فسار في طلبه فيمن معه من فرسانه، فلحقه ببعض الطريق، فلما بصر به حميد ثنى فرسه نحوه حتى لقيه، فقال له: ويحك! أما تعرفني! والله مالك في قتالي من خير فارجع، فلا تقتل أصحابي وأصحابك، فهو خير لك فلما سمع كلامه عرف ما قَالَ له، فرجع إلى موضعه بالرصافة، ومضى حميد ومن كان معه، فقال له صاحب حرسه موسى بْن ميمون: إن لي بالرصافة جارية، فإن رأيت أن تأذن لي فآتيها فأوصيها ببعض ما أريد، ثم ألحقك! فأذن له فأتاها، فأقام عندها، ثم خرج من الرصافة يريد حميدا، فلقيه سعيد البربري مولى عبد الله بْن علي، فأخذه فقتله، وأقبل عبد الله بْن علي حتى نزل نصيبين، وخندق عليه. وأقبل أبو مسلم وكتب أبو جعفر إلى الحسن بْن قحطبة- وكان خليفته بأرمينية- أن يوافي أبا مسلم، فقدم الحسن بْن قحطبة على أبي مسلم وهو بالموصل، وأقبل أبو مسلم، فنزل ناحية لم يعرض له، وأخذ طريق الشام، وكتب إلى عبد الله: إني لم أومر بقتالك، ولم أوجه له، ولكن أمير المؤمنين ولاني الشام، وإنما أريدها، فقال من كان مع عبد الله من أهل الشام لعبد الله: كيف نقيم معك وهذا يأتي بلادنا، وفيها حرمنا فيقتل من قدر عليه من رجالنا، ويسبى ذرارينا!

ولكنا نخرج إلى بلادنا فنمنعه حرمنا وذرارينا ونقاتله إن قاتلنا، فقال لهم عبد الله بْن علي: إنه والله ما يريد الشام، وما وجه الا لقتالكم، ولئن أقمتم ليأتينكم قَالَ: فلم تطب أنفسهم، وأبوا إلا المسير إلى الشام قَالَ: وأقبل أبو مسلم فعسكر قريبا منهم، وارتحل عبد الله بْن علي من عسكره متوجها نحو الشام، وتحول أبو مسلم حتى نزل في معسكر عبد الله ابن علي في موضعه، وعور ما كان حوله من المياه، وألقى فيها الجيف. وبلغ عبد الله بْن علي نزول أبي مسلم معسكره، فقال لأصحابه من أهل الشام: ألم أقل لكم! وأقبل فوجد أبا مسلم قد سبقه إلى معسكره، فنزل في موضع عسكر أبي مسلم الذي كان فيه، فاقتتلوا أشهرا خمسة أو ستة، وأهل الشام أكثر فرسانا وأكمل عده، وعلى ميمنه عبد الله بكار بْن مسلم العقيلي، وعلى ميسرته حبيب بْن سويد الأسدي، وعلى الخيل عبد الصمد بْن علي، وعلى ميمنة أبي مسلم الحسن بْن قحطبة، وعلى الميسرة أبو نصر خازم بْن خزيمة، فقاتلوه أشهرا. قَالَ علي: قَالَ هشام بْن عمرو التغلبي: كنت في عسكر أبي مسلم، فتحدث الناس يوما، فقيل: أي الناس أشد؟ فقال: قولوا حتى أسمع، فقال رجل: أهل خراسان وقال آخر: أهل الشام، فقال أبو مسلم: كل قوم في دولتهم أشد الناس قَالَ: ثم التقينا، فحمل علينا أصحاب عبد الله بْن علي فصدمونا صدمة أزالونا بها عن مواضعنا، ثم انصرفوا وشد علينا عبد الصمد في خيل مجردة، فقتل منا ثمانية عشر رجلا، ثم رجع في أصحابه، ثم تجمعوا فرموا بأنفسهم: فأزالوا صفنا وجلنا جولة، فقلت لأبي مسلم: لو حركت دابتى حتى اشرف على هذا التل فاصبح بالناس، فقد انهزموا! فقال: افعل، قَالَ: قلت: وأنت أيضا فتحرك دابتك، فقال: إن أهل الحجى لا يعطفون دوابهم على هذه الحال، ناد: يا أهل خراسان ارجعوا، فإن العاقبة لمن اتقى

قَالَ: ففعلت، فتراجع الناس، وارتجز أبو مسلم يومئذ فقال: من كان ينوي أهله فلا رجع فر من الموت وفي الموت وقع قَالَ: وكان قد عمل لأبي مسلم عريش، فكان يجلس عليه إذا التقى الناس فينظر إلى القتال، فإن رأى خللا في الميمنة أو في الميسرة أرسل إلى صاحبها: إن في ناحيتك انتشارا، فاتق ألا تؤتى من قبلك، فافعل كذا، قدم خيلك كذا، أو تأخر كذا إلى موضع كذا، فإنما رسله تختلف إليهم برأيه حتى ينصرف بعضهم عن بعض. قَالَ: فلما كان يوم الثلاثاء- أو الأربعاء- لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين ومائة- أو سبع وثلاثين ومائة- التقوا فاقتتلوا قتالا شديدا. فلما رأى ذلك أبو مسلم مكر بهم، فأرسل إلى الحسن بْن قحطبة- وكان على ميمنته- أن أعر الميمنة وضم أكثرها إلى الميسرة، وليكن في الميمنة حماة أصحابك وأشداؤهم فلما رأى ذلك أهل الشام أعروا ميسرتهم، وانضموا إلى ميمنتهم بإزاء ميسرة أبي مسلم ثم أرسل أبو مسلم إلى الحسن أن مر أهل القلب فليحملوا مع من بقي في الميمنة على ميسرة أهل الشام فحملوا عليهم فحطموهم وجال أهل القلب والميمنة. قَالَ: وركبهم أهل خراسان فكانت الهزيمة، فقال عبد الله بْن علي لابن سراقه الأزدي- وكان معه: يا بن سراقة، ما ترى؟ قَالَ: أرى والله أن تصبر وتقاتل حتى تموت، فإن الفرار قبيح بمثلك، وقبل عبته على مروان، فقلت: قبح الله مروان! جزع من الموت ففر! قَالَ: فإني آتي العراق، قَالَ: فأنا معك فانهزموا وتركوا عسكرهم، فاحتواه أبو مسلم، وكتب بذلك إلى أبي جعفر فأرسل أبو جعفر أبا الخصيب مولاه يحصي ما أصابوا في عسكر عبد الله بْن علي، فغضب من ذلك أبو مسلم ومضى عبد الله بْن علي وعبد الصمد بْن علي، فأما عبد الصمد فقدم الكوفة فاستأمن له عيسى بْن موسى فآمنه أبو جعفر، وأما عبد الله بْن علي فأتى سليمان بْن علي بالبصرة، فأقام عنده وآمن أبو مسلم الناس فلم يقتل أحدا، وأمر بالكف عنهم

ذكر خبر قتل ابى مسلم الخراسانى

ويقال: بل استأمن لعبد الصمد بْن علي إسماعيل بْن علي. وقد قيل: إن عبد الله بْن علي لما انهزم مضى هو وعبد الصمد أخوه إلى رصافة هشام، فأقام عبد الصمد بها حتى قدمت عليه خيول المنصور، وعليها جهور بْن مرار العجلي، فأخذه فبعث به إلى المنصور مع أبي الخصيب مولاه موثقا، فلما قدم عليه أمر بصرفه إلى عيسى بْن موسى، فآمنه عيسى وأطلقه وأكرمه، وحباه وكساه. وأما عبد الله بْن علي فلم يلبث بالرصافة إلا ليلة، ثم أدلج في قواده ومواليه حتى قدم البصرة على سليمان بْن علي وهو عاملها يومئذ، فآواهم سليمان وأكرمهم وأقاموا عنده زمانا متوارين . ذكر خبر قتل ابى مسلم الخراسانى وفي هذه السنة قتل أبو مسلم. ذكر الخبر عن مقتله وعن سبب ذَلِكَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زهير، قَالَ: حَدَّثَنَا علي بْن محمد، قَالَ: حدثنا سلمة بْن محارب ومسلم بْن المغيرة وسعيد بْن أوس وأبو حفص الأزدي والنعمان أبو السري ومحرز بْن إبراهيم وغيرهم، أن أبا مسلم كتب إلى أبي العباس يستأذنه في الحج- وذلك في سنة ست وثلاثين ومائة- وإنما أراد أن يصلي بالناس. فأذن له، وكتب أبو العباس إلى أبي جعفر وهو على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان: أن أبا مسلم كتب إلي يستأذن في الحج وقد أذنت له، وقد ظننت أنه إذا قدم يريد أن يسألني أن أوليه إقامة الحج للناس، فاكتب إلي تستأذنني في الحج فإنك إذا كنت بمكة لم يطمع أن يتقدمك فكتب أبو جعفر إلى أبي العباس يستأذنه في الحج فأذن له، فوافى الأنبار، فقال أبو مسلم: أما وجد أبو جعفر عاما يحج فيه غير هذا! واضطغنها عليه. قَالَ علي: قَالَ مسلم بْن المغيرة: استخلف أبو جعفر على أرمينية في تلك

السنة الحسن بْن قحطبة وقال غيره: استعمل رضيعه يحيى بْن مسلم بْن عروة- وكان أسود مولى لهم- فخرجا إلى مكة فكان أبو مسلم يصلح العقاب ويكسو الأعراب في كل منزل، ويصل من سأله، وكسا الأعراب البتوت والملاحف، وحفر الآبار، وسهل الطرق، فكان الصوت له، وكان الأعراب يقولون: هذا المكذوب عليه، حتى قدم مكة فنظر إلى اليمانية فقال لنيزك- وضرب جنبه-: يا نيزك، أي جند هؤلاء لو لقيهم رجل ظريف اللسان سريع الدمعة! ثم رجع الحديث إلى حديث الأولين قالوا: لما صدر الناس عن الموسم، نفر أبو مسلم قبل أبي جعفر، فتقدمه، فأتاه كتاب بموت أبي العباس واستخلاف أبي جعفر فكتب أبو مسلم إلى أبي جعفر يعزيه بأمير المؤمنين، ولم يهنئه بالخلافة، ولم يقم حتى يلحقه ولم يرجع فغضب أبو جعفر فقال لأبي أيوب: اكتب إليه كتابا غليظا، فلما أتاه كتاب أبي جعفر كتب إليه يهنئه بالخلافة، فقال يزيد بْن أسيد السلمي لأبي جعفر: إني أكره أن تجامعه في الطريق والناس جنده، وهم له أطوع، وله أهيب، وليس معك أحد فأخذ برأيه، فكان يتأخر ويتقدم أبو مسلم، وأمر أبو جعفر أصحابه فقدموا، فاجتمعوا جميعا وجمع سلاحهم، فما كان في عسكره الا سته اذرع، فمضى أبو مسلم إلى الأنبار، ودعا عيسى بْن موسى إلى أن يبايع له، فأتى عيسى، فقدم أبو جعفر فنزل الكوفة، وأتاه أن عبد الله بْن علي قد خلع، فرجع إلى الأنبار، فدعا أبا مسلم، فعقد له، وقال له: سر إلى ابن علي، فقال له أبو مسلم: إن عبد الجبار بْن عبد الرحمن وصالح بْن الهيثم يعيبانني فاحبسهما، فقال أبو جعفر: عبد الجبار على شرطي- وكان قبل على شرط أبي العباس- وصالح بْن الهيثم أخو أمير المؤمنين من الرضاعة، فلم أكن لأحبسهما لظنك بهما، قَالَ: أراهما آثر عندك مني! فغضب أبو جعفر، فقال أبو مسلم: لم أرد كل هذا

قَالَ علي: قَالَ مسلم بْن المغيرة: كنت مع الحسن بْن قحطبة بأرمينية فلما وجه أبو مسلم إلى الشام كتب أبو جعفر إلى الحسن أن يوافيه ويسير معه، فقدمنا على أبي مسلم وهو بالموصل فأقام أياما، فلما أراد أن يسير، قلت للحسن: أنتم تسيرون الى القتال وليس بك إلي حاجة، فلو أذنت لي فأتيت العراق، فأقمت حتى تقدموا إن شاء الله! قَالَ: نعم، لكن أعلمني إذا أردت الخروج، قلت: نعم، فلما فرغت وتهيأت أعلمته، وقلت: أتيتك أودعك، قَالَ: قف لي بالباب حتى أخرج إليك، فخرجت فوقفت وخرج، فقال: إني أريد أن ألقي إليك شيئا لتبلغه أبا أيوب، ولولا ثقتي بك لم أخبرك، ولولا مكانك من أبي أيوب لم أخبرك، فأبلغ أبا أيوب أني قد ارتبت بأبي مسلم منذ قدمت عليه، إنه يأتيه الكتاب من أمير المؤمنين فيقرؤه، ثم يلوي شدقه، ويرمي بالكتاب إلى أبي نصر، فيقرؤه ويضحكان استهزاء، قلت: نعم قد فهمت، فلقيت أبا أيوب وأنا أرى أن قد أتيته بشيء، فضحك، وقال: نحن لأبي مسلم أشد تهمة منا لعبد الله بْن علي إلا أنا نرجو واحدة، نعلم أن أهل خراسان لا يحبون عبد الله بْن علي، وقد قتل منهم من قتل، وكان عبد الله بْن علي حين خلع خاف أهل خراسان فقتل منهم سبعة عشر ألفا، أمر صاحب شرطته حياش بْن حبيب فقتلهم. قَالَ علي: فذكر أبو حفص الأزدي أن أبا مسلم قاتل عبد الله بْن علي فهزمه، وجمع ما كان في عسكره من الأموال فصيره في حظيرة، وأصاب عينا ومتاعا وجوهرا كثيرا، فكان منثورا في تلك الحظيرة، ووكل بها وبحفظها قائدا من قواده، فكنت في أصحابه، فجعلها نوائب بيننا، فكان إذا خرج رجل من الحظيرة فتشه، فخرج أصحابي يوما من الحظيرة وتخلفت، فقال لهم الأمير: ما فعل أبو حفص؟ فقالوا: هو في الحظيرة، قَالَ: فجاء فاطلع

من الباب، وفطنت له فنزعت خفي وهو ينظر، فنفضتهما وهو ينظر، ونفضت سراويلي وكمي، ثم لبست خفي وهو ينظر، ثم قام فقعد في مجلسه وخرجت، فقال لي: ما حبسك؟ قلت: خير، فخلاني، فقال: قد رأيت ما صنعت فلم صنعت هذا؟ قلت: إن في الحظيرة لؤلؤا منثورا ودراهم منثورة، ونحن نتقلب عليها، فخفت أن يكون قد دخل في خفي منها شيء، فنزعت خفي وجوربي، فأعجبه ذلك وقال: انطلق، فكنت أدخل الحظيرة مع من يحفظ فآخذ من الدراهم ومن تلك الثياب الناعمة فاجعل بعضها في خفي وأشد بعضها على بطني، ويخرج أصحابي فيفتشون ولا أفتش، حتى جمعت مالا، قَالَ: وأما اللؤلؤ فإني لم أكن أمسه. ثم رجع الحديث إلى حديث الذين ذكر علي عنهم قصة أبي مسلم في أول الخبر قالوا: ولما انهزم عبد الله بْن علي بعث أبو جعفر أبا الخصيب إلى أبي مسلم ليكتب له ما أصاب من الأموال، فافترى أبو مسلم على أبي الخصيب وهم بقتله، فكلم فيه، وقيل: إنما هو رسول، فخل سبيله فرجع إلى أبي جعفر، وجاء القواد إلى أبي مسلم، فقالوا: نحن ولينا أمر هذا الرجل، وغنمنا عسكره، فلم يسأل عما في أيدينا، إنما لأمير المؤمنين من هذا الخمس. فلما قدم أبو الخصيب على أبي جعفر أخبره أن أبا مسلم هم بقتله، فخاف أن يمضي أبو مسلم إلى خراسان، فكتب إليه كتابا مع يقطين، أن قد وليتك مصر والشام، فهي خير لك من خراسان، فوجه إلى مصر من أحببت، وأقم بالشام فتكون بقرب أمير المؤمنين، فإن أحب لقاءك أتيته من قريب. فلما أتاه الكتاب غضب، وقال: هو يوليني الشام ومصر، وخراسان لي! وأعتزم بالمضي إلى خراسان، فكتب يقطين إلى أبي جعفر بذلك. وقال غير من ذكرت خبره: لما ظفر أبو مسلم بعسكر عبد الله بْن علي بعث المنصور يقطين بْن موسى، وأمره أن يحصي ما في العسكر، وكان أبو مسلم يسميه يك دين، فقال أبو مسلم: يا يقطين،

أمين على الدماء خائن في الأموال! وشتم أبا جعفر، فابلغه يقطين ذلك. وأقبل أبو مسلم من الجزيرة مجمعا على الخلاف، وخرج من وجهه معارضا يريد خراسان، وخرج أبو جعفر من الأنبار إلى المدائن، وكتب إلى أبي مسلم في المصير إليه فكتب أبو مسلم، وقد نزل الزاب وهو على الرواح إلى طريق حلوان: إنه لم يبق لأمير المؤمنين أكرمه الله عدو إلا أمكنه الله منه، وقد كنا نروي عن ملوك آل ساسان: أن أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء، فنحن نافرون من قربك، حريصون على الوفاء بعهدك ما وفيت، حريون بالسمع والطاعة، غير أنها من بعيد حيث تقارنها السلامة، فإن أرضاك ذاك فأنا كأحسن عبيدك، فإن أبيت إلا أن تعطي نفسك إرادتها نقضت ما أبرمت من عهدك، ضنا بنفسي فلما وصل الكتاب إلى المنصور كتب إلى أبي مسلم: قد فهمت كتابك، وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة ملوكهم، الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم، فإنما راحتهم في انتشار نظام الجماعة، فلم سويت نفسك بهم، وأنت في طاعتك ومناصحتك واضطلاعك بما حملت من أعباء هذا الأمر على ما أنت به! وليس مع الشريطة التي اوجبت منك سمع ولا طاعة وحمل إليك أمير المؤمنين عيسى بْن موسى رسالة لتسكن إليها إن أصغيت إليها، واسأل الله أن يحول بين الشيطان ونزغاته وبينك، فإنه لم يجد بابا يفسد به نيتك أوكد عنده، وأقرب من طبه من الباب الذي فتحه عليك ووجه إليه جرير بْن يزيد بْن جرير بْن عبد الله البجلي، وكان واحد أهل زمانه، فخدعه ورده، وكان أبو مسلم يقول: والله لأقتلن بالروم، وكان المنجمون يقولون ذلك، فأقبل والمنصور في الرومية في مضارب، وتلقاه الناس وأنزله وأكرمه أياما. وأما علي فإنه ذكر عن شيوخه الذين تقدم ذكرنا لهم إنهم قالوا: كتب أبو مسلم إلى أبي جعفر: أما بعد، فإني اتخذت رجلا إماما ودليلا على ما افترضه الله على خلقه، وكان في محلة العلم نازلا، وفي قرابته من رسول الله ص

قريبا، فاستجهلني بالقرآن فحرفه عن مواضعه، طمعا في قليل قد تعافاه الله إلى خلقه، فكان كالذي دلي بغرور، وأمرني أن أجرد السيف، وأرفع الرحمة، ولا أقبل المعذرة، ولا أقيل العثرة، ففعلت توطيدا لسلطانكم حتى عرفكم الله من كان جهلكم، ثم استنقذني الله بالتوبة، فان يعف عنى فقد ما عرف به ونسب إليه، وإن يعاقبني فيما قدمت يداي وما الله بظلام للعبيد وخرج أبو مسلم يريد خراسان مراغما مشاقا، فلما دخل أرض العراق، ارتحل المنصور من الأنبار، فأقبل حتى نزل المدائن، وأخذ أبو مسلم طريق حلوان، فقال: رب أمر لله دون حلوان وقال أبو جعفر لعيسى بْن علي وعيسى بْن موسى ومن حضره من بني هاشم: اكتبوا إلى أبي مسلم، فكتبوا إليه يعظمون امره، ويشكرون له ما كان منه، ويسألونه أن يتم على ما كان منه وعليه من الطاعة، ويحذرونه عاقبة الغدر، ويأمرونه بالرجوع إلى أمير المؤمنين، وأن يلتمس رضاه وبعث بالكتاب أبو جعفر مع أبي حميد المروروذي، وقال له: كلم أبا مسلم بألين ما تكلم به أحدا، ومنه وأعلمه أني رافعه وصانع به ما لم يصنعه أحد، إن هو صلح وراجع ما أحب، فإن أبى أن يرجع فقل له: يقول لك أمير المؤمنين: لست للعباس وأنا بريء من محمد، ان مضيت مشاقا ولم تأتني، إن وكلت أمرك إلى أحد سواي، وإن لم أل طلبك وقتالك بنفسي، ولو خضت البحر لخضته، ولو اقتحمت النار لاقتحمتها حتى أقتلك أو أموت قبل ذلك ولا تقولن له هذا الكلام حتى تأيس من رجوعه، ولا تطمع منه في خير فسار أبو حميد في ناس من أصحابه ممن يثق بهم، حتى قدموا على أبي مسلم بحلوان، فدخل أبو حميد وأبو مالك وغيرهما، فدفع إليه الكتاب، وقال له: إن الناس يبلغونك عن أمير المؤمنين ما لم يقله، وخلاف ما عليه رأيه فيك، حسدا وبغيا، يريدون إزالة النعمة وتغييرها، فلا تفسد ما كان

منك، وكلمه وقال: يا أبا مسلم، إنك لم تزل أمين آل محمد، يعرفك بذلك الناس، وما ذخر الله لك من الأجر عنده في ذلك أعظم مما أنت فيه من دنياك، فلا تحبط أجرك، ولا يستهوينك الشيطان، فقال له أبو مسلم: متى كنت تكلمني بهذا الكلام! قَالَ: إنك دعوتنا إلى هذا وإلى طاعة أهل بيت النبي ص بني العباس، وأمرتنا بقتال من خالف ذلك، فدعوتنا من أرضين متفرقة وأسباب مختلفة، فجمعنا الله على طاعتهم، وألف بين قلوبنا بمحبتهم، وأعزنا بنصرنا لهم، ولم نلق منهم رجلا إلا بما قذف الله في قلوبنا، حتى أتيناهم في بلادهم ببصائر نافذة، وطاعة خالصة، أفتريد حين بلغنا غاية منانا ومنتهى أملنا أن تفسد أمرنا، وتفرق كلمتنا، وقد قلت لنا: من خالفكم فاقتلوه، وإن خالفتكم فاقتلوني! فأقبل على أبي نصر، فقال: يا مالك، أما تسمع ما يقول لي هذا! ما هذا بكلامه يا مالك! قَالَ: لا تسمع كلامه، ولا يهولنك هذا منه، فلعمري لقد صدقت ما هذا كلامه، ولما بعد هذا أشد منه، فامض لأمرك ولا ترجع، فو الله لئن أتيته ليقتلنك، ولقد وقع في نفسه منك شيء لا يأمنك أبدا فقال: قوموا، فنهضوا، فأرسل أبو مسلم إلى نيزك، وقال: يا نيزك، إني والله ما رأيت طويلا أعقل منك، فما ترى، فقد جاءت هذه الكتب، وقد قَالَ القوم ما قالوا؟ قَالَ: لا أرى أن تأتيه، وأرى أن تأتي الري فتقيم بها، فيصير ما بين خراسان والري لك، وهم جندك ما يخالفك أحد، فإن استقام لك استقمت له، وإن أبى كنت في جندك، وكانت خراسان من ورائك، ورأيت رأيك فدعا أبا حميد، فقال: ارجع إلى صاحبك، فليس من رأيي أن آتيه قَالَ: قد عزمت على خلافه؟ قَالَ: نعم، قَالَ: لا تفعل، قَالَ: ما أريد أن ألقاه، فلما آيسه من الرجوع، قَالَ له ما امره به ابو جعفر، فوجم طويلا، ثم قَالَ: قم فكسره ذلك القول ورعبه. وكان أبو جعفر قد كتب إلى أبي داود- وهو خليفة أبي مسلم بخراسان- حين اتهم أبا مسلم: إن لك إمرة خراسان ما بقيت فكتب

أبو داود إلى أبي مسلم: إنا لم نخرج لمعصية خلفاء الله وأهل بيت نبيه ص، فلا تخالفن إمامك ولا ترجعن إلا بإذنه فوافاه كتابه على تلك الحال، فزاده رعبا وهما، فأرسل إلى أبي حميد وأبي مالك فقال لهما: إني قد كنت معتزما على المضي إلى خراسان، ثم رأيت أن أوجه أبا إسحاق إلى أمير المؤمنين فيأتيني برأيه، فإنه ممن أثق به فوجهه، فلما قدم تلقاه بنو هاشم بكل ما يحب، وقال له أبو جعفر: اصرفه عن وجهه، ولك ولاية خراسان، وأجازه فرجع أبو إسحاق إلى أبي مسلم، فقال له: ما أنكرت شيئا، رأيتهم معظمين لحقك، يرون لك ما يرون لأنفسهم وأشار عليه أن يرجع إلى أمير المؤمنين، فيعتذر إليه مما كان منه، فأجمع على ذلك، فقال له نيزك: قد أجمعت على الرجوع؟ قَالَ: نعم، وتمثل: ما للرجال مع القضاء محالة ... ذهب القضاء بحيلة الأقوام فقال: اما إذا اعتزمت على هذا فخار الله لك، واحفظ عني واحدة، إذا دخلت عليه فاقتله ثم بايع لمن شئت، فإن الناس لا يخالفونك وكتب أبو مسلم إلى أبي جعفر يخبره أنه منصرف إليه. قالوا: قَالَ أبو أيوب: فدخلت يوما على أبي جعفر وهو في خباء شعر بالرومية جالسا على مصلى بعد العصر، وبين يديه كتاب أبي مسلم، فرمى به إلي فقرأته، ثم قَالَ: والله لئن ملأت عيني منه لأقتلنه، فقلت في نفسي: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! طلبت الكتابه حتى إذا بلغت غايتها فصرت كاتبا للخليفة، وقع هذا بين الناس! والله ما أرى إنا إن قتل يرضى أصحابه بقتله، ولا يدعون هذا حيا، ولا أحدا ممن هو بسبيل منه، وامتنع مني النوم، ثم قلت: لعل الرجل يقدم وهو آمن، فإن كان آمنا فعسى أن ينال ما يريد، وإن قدم وهو حذر لم يقدر عليه إلا في شر، فلو التمست حيلة! فأرسلت إلى سلمة بْن سعيد بْن جابر، فقلت له: هل عندك شكر؟ فقال: نعم، فقلت: إن وليتك ولاية تصيب منها مثل ما يصيب صاحب العراق، تدخل معك حاتم بْن أبي سليمان أخي؟ قَالَ: نعم، فقلت- وأردت أن يطلع ولا

ينكر: وتجعل له النصف؟ قَالَ: نعم، قلت: إن كسكر كالت عام أول كذا وكذا، ومنها العام أضعاف ما كان عام أول، فإن دفعتها إليك بقبالتها عاما أول أو بالأمانة أصبت ما تضيق به ذرعا، قَالَ: فكيف لي بهذا المال؟ قلت: تأتي أبا مسلم، فتلقاه وتكلمه غدا، وتسأله أن يجعل هذا فيما يرفع من حوائجه أن تتولاها أنت بما كانت في العام الأول، فإن أمير المؤمنين يريد أن يوليه إذا قدم ما وراء بابه، ويستريح ويريح نفسه، قَالَ: فكيف لي أن يأذن أمير المؤمنين في لقائه؟ قلت: أنا أستأذن لك، ودخلت إلى أبي جعفر، فحدثته الحديث كله، قَالَ: فادع سلمة، فدعوته، فقال: إن أبا أيوب استأذن لك، أفتحب أن تلقى أبا مسلم؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فقد أذنت لك، فاقرئه السلام، وأعلمه بشوقنا إليه فخرج سلمة فلقيه، فقال: أمير المؤمنين أحسن الناس فيك رأيا، فطابت نفسه، وكان قبل ذلك كئيبا. فلما قدم عليه سلمة سره ما أخبره به وصدقه، ولم يزل مسرورا حتى قدم. قَالَ أبو أيوب: فلما دنا أبو مسلم من المدائن أمر أمير المؤمنين الناس فتلقوه، فلما كان عشية قدم، دخلت على أمير المؤمنين وهو في خباء على مصلى، فقلت: هذا الرجل يدخل العشية، فَمَا تُرِيدُ أَنْ تَصْنَعَ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ أقتله حين أنظر إليه، قلت: أنشدك الله، إنه يدخل معه الناس، وقد علموا ما صنع، فإن دخل عليك ولم يخرج لم آمن البلاء، ولكن إذا دخل عليك فأذن له أن ينصرف، فإذا غدا عليك رأيت رأيك وما أردت بذلك إلا دفعه بها، وما ذاك إلا من خوفي عليه وعلينا جميعا من أصحاب أبي مسلم فدخل عليه من عشيته وسلم، وقام قائما بين يديه، فقال: انصرف يا عبد الرحمن فأرح نفسك، وادخل الحمام، فإن للسفر قشفا، ثم اغد علي، فانصرف أبو مسلم وانصرف الناس قَالَ: فافترى علي أمير المؤمنين حين خرج أبو مسلم، وقال: متى أقدر على مثل هذه الحال منه التي رأيته قائما على رجليه، ولا أدري ما يحدث في ليلتي! فانصرفت وأصبحت غاديا عليه،

فلما رآنى قال: يا بن اللخناء، لا مرحبا بك! أنت منعتني منه أمس، والله ما غمضت الليلة، ثم شتمني حتى خفت أن يأمر بقتلي، ثم قَالَ: ادع لي عثمان بْن نهيك، فدعوته، فقال: يا عثمان، كيف بلاء أمير المؤمنين عندك؟ قَالَ: يا أمير المؤمنين إنما أنا عبدك، والله لو أمرتني أن أتكئ على سيفي حتى يخرج من ظهري لفعلت، قَالَ: كيف أنت إن أمرتك بقتل أبي مسلم؟ فوجم ساعة لا يتكلم، فقلت: ما لك لا تتكلم! فقال قولة ضعيفة: أقتله، قَالَ: انطلق فجيء باربعه من وجوه الحرس جلند، فمضى، فلما كان عند الرواق، ناداه: يا عثمان يا عثمان، ارجع، فرجع، قَالَ: اجلس، وأرسل إلي من تثق به من الحرس، فأحضر منهم أربعة، فقال لوصيف له انطلق: فادع شبيب بْن واج، وادع أبا حنيفة ورجلين آخرين، فدخلوا، فقال لهم أمير المؤمنين نحوا مما قَالَ لعثمان، فقالوا: نقتله، فقال: كونوا خلف الرواق، فإذا صفقت فاخرجوا فاقتلوه. وأرسل إلى أبي مسلم رسلا بعضهم على أثر بعض، فقالوا: قد ركب، وأتاه وصيف، فقال: أتى عيسى بْن موسى، فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا أخرج فأطوف في العسكر، فأنظر ما يقول الناس؟ هل ظن أحد ظنا، او تكلم أحد بشيء؟ قَالَ: بلى، فخرجت، وتلقاني أبو مسلم داخلا، فتبسم وسلمت عليه ودخل، فرجعت، فإذا هو منبطح لم ينتظر به رجوعي، وجاء أبو الجهم، فلما رآه مقتولا قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! فأقبلت على أبي الجهم، فقلت له: أمرته بقتله حين خالف، حتى إذا قتل قلت هذه المقالة! فنبهت به رجلا غافلا، فتكلم بكلام أصلح ما جاء منه، ثم قَالَ: يا أمير المؤمنين، ألا أرد الناس؟ قَالَ: بلى، قَالَ: فمر بمتاع يحول إلى رواق آخر من أرواقك هذه، فأمر بفرش فأخرجت، كأنه يريد أن يهيئ له رواقا آخر وخرج أبو الجهم، فقال: انصرفوا، فإن الأمير يريد أن يقيل عند أمير المؤمنين، ورأوا المتاع ينقل، فظنوه صادقا، فانصرفوا ثم راحوا، فأمر لهم أبو جعفر بجوائزهم، وأعطى أبا إسحاق مائة الف

قَالَ أبو أيوب: قَالَ لي أمير المؤمنين: دخل علي أبو مسلم فعاتبته ثم شتمته، فضربه عثمان فلم يصنع شيئا، وخرج شبيب بْن واج وأصحابه فضربوه فسقط، فقال وهم يضربونه: العفو، فقلت: يا بن اللخناء، العفو والسيوف قد اعتورتك! وقلت: اذبحوه، فذبحوه. قَالَ علي عن أبي حفص الأزدي، قَالَ: كنت مع أبي مسلم، فقدم عليه أبو إسحاق من عند أبي جعفر بكتب من بني هاشم، وقال: رأيت القوم على غير ما ترى، كل القوم يرون لك ما يرون للخليفة، ويعرفون ما أبلاهم الله بك. فسار إلى المدائن، وخلف أبا نصر في ثقله، وقال: أقم حتى يأتيك كتابي، قَالَ: فاجعل بيني وبينك آية أعرف بها كتابك، قَالَ: إن أتاك كتابي مختوما بنصف خاتم فأنا كتبته، وإن أتاك بالخاتم كله، فلم أكتبه ولم أختمه فلما دنا من المدائن تلقاه رجل من قواده، فسلم عليه، فقال له: أطعني وارجع، فإنه إن عاينك قتلك، قَالَ: قد قربت من القوم فأكره أن أرجع فقدم المدائن في ثلاثة آلاف، وخلف الناس بحلوان، فدخل على أبي جعفر، فأمره بالانصراف في يومه، وأصبح يريده، فتلقاه أبو الخصيب فقال: أمير المؤمنين مشغول، فاصبر ساعة حتى تدخل خاليا، فأتى منزل عيسى بْن موسى- وكان يحب عيسى- فدعا له بالغداء وقال أمير المؤمنين للربيع- وهو يومئذ وصيف يخدم أبا الخصيب: انطلق إلى أبي مسلم، ولا يعلم أحد، فقل له: قَالَ لك مرزوق: إن أردت أمير المؤمنين خاليا فالعجل، فقام فركب، وقال له عيسى: لا تعجل بالدخول حتى أدخل معك، فأبطأ عيسى بالوضوء، ومضى أبو مسلم فدخل فقتل قبل أن يجيء عيسى، وجاء عيسى وهو مدرج في عباءة، فقال: أين أبو مسلم؟ قَالَ: مدرج في الكساء، قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ! قَالَ: اسكت، فما تم سلطانك وأمرك إلا اليوم، ثم رمي به في دجلة. قَالَ علي: قَالَ أبو حفص: دعا أمير المؤمنين عثمان بْن نهيك وأربعة

من الحرس، فقال لهم: إذا ضربت بيدي إحداهما على الأخرى، فاضربوا عدو الله، فدخل عليه أبو مسلم، فقال له: أخبرني عن نصلين أصبتهما في متاع عبد الله بْن علي، قَالَ: هذا أحدهما الذي علي، قَالَ: أرنيه فانتضاه، فناوله، فهزه أبو جعفر، ثم وضعه تحت فراشه، وأقبل عليه يعاتبه، فقال: أخبرني عن كتابك إلى أبي العباس تنهاه عن الموات، أردت أن تعلمنا الدين! قَالَ: ظننت أخذه لا يحل، فكتب إلي، فلما أتاني كتابه علمت أن أمير المؤمنين وأهل بيته معدن العلم، قَالَ: فأخبرني عن تقدمك إياي في الطريق؟ قَالَ: كرهت اجتماعنا على الماء فيضر ذلك بالناس، فتقدمتك التماس الرفق، قَالَ: فقولك حين أتاك الخبر بموت أبي العباس لمن أشار عليك أن تنصرف إلي: نقدم فنرى من رأينا، ومضيت فلا أنت اقمت حتى الحقك ولا أنت رجعت إلي! قَالَ: منعني من ذلك ما اخبرتك من طلب الرفق بالناس، وقلت: نقدم الكوفة فليس عليه مني خلاف، قَالَ: فجارية عبد الله بْن علي أردت أن تتخذها؟ قَالَ: لا، ولكني خفت ان تضيع، فحملتها في قبة، ووكلت بها من يحفظها، قَالَ: فمراغمتك وخروجك إلى خراسان؟ قَالَ: خفت أن يكون قد دخلك مني شيء، فقلت: آتي خراسان، فأكتب إليك بعذري، وإلى ذلك ما قد ذهب ما في نفسك علي، قَالَ: تالله ما رأيت كاليوم قط، والله ما زدتني إلا غضبا، وضرب بيده، فخرجوا عليه، فضربه عثمان وأصحابه حتى قتلوه. قَالَ علي: قَالَ يزيد بْن أسيد: قَالَ أمير المؤمنين: عاتبت عبد الرحمن، فقلت: المال الذي جمعته بحران؟ قَالَ: أنفقته وأعطيته الجند تقوية لهم واستصلاحا، قلت: فرجوعك إلى خراسان مراغما؟ قَالَ: دع هذا فما أصبحت أخاف أحدا إلا الله، فغضبت فشتمته، فخرجوا فقتلوه وقال غير من ذكرت في أمر أبي مسلم: إنه لما أرسل إليه يوم قتل، أتى عيسى بْن موسى، فسأله أن يركب معه، فقال له: تقدم وأنت في ذمتي،

فدخل مضرب أبي جعفر، وقد أمر عثمان بْن نهيك صاحب الحرس، فأعد له شبيب بْن واج المروروذي رجلا من الحرس وأبا حنيفة حرب بْن قيس، وقال لهم: إذا صفقت بيدي فشأنكم، وأذن لأبي مسلم، فقال لمحمد البواب النجاري: ما الخبر؟ قَالَ: خير، يعطيننى الأمير سيفه، فقال: ما كان يصنع بي هذا! قَالَ: وما عليك! فشكا ذلك إلى أبي جعفر، قَالَ: ومن فعل بك هذا قبحه الله! ثم أقبل يعاتبه: ألست الكاتب إلي تبدأ بنفسك، والكاتب إلي تخطب أمينة بنت علي، وتزعم أنك ابن سليط بْن عبد الله بْن عباس! ما دعاك إلى قتل سليمان بْن كثير مع أثره في دعوتنا، وهو أحد نقبائنا قبل أن ندخلك في شيء من هذا الأمر؟ قَالَ: أراد الخلاف وعصاني فقتلته. فقال المنصور: وحاله عندنا حاله فقتلته، وتعصيني وأنت مخالف علي! قتلني الله إن لم أقتلك! فضربه بعمود، وخرج شبيب وحرب فقتلاه، وذلك لخمس ليال بقين من شعبان من سنة سبع وثلاثين ومائة، فقال المنصور: زعمت أن الدين لا يقتضى ... فاستوف بالكيل أبا مجرم سقيت كاسا كنت تسقي بها ... أمر في الحلق من العلقم قَالَ: وكان أبو مسلم قد قتل في دولته وحروبه ستمائه ألف صبرا. وقيل: إن أبا جعفر لما عاتب أبا مسلم، قَالَ له: فعلت وفعلت، قَالَ له أبو مسلم. ليس يقال هذا لي بعد بلائي، وما كان مني، فقال: يا بن الخبيثة، والله لو كانت أمة مكانك لأجزت ناحيتها، إنما عملت ما عملت في دولتنا وبريحنا، ولو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلا، ألست الكاتب إلي تبدأ بنفسك، والكاتب إلي تخطب أمينة بنت علي، وتزعم أنك ابن سليط بْن عبد الله بْن عباس! لقد ارتقيت لا أم لك مرتقى صعبا! فأخذ أبو مسلم بيده يعركها ويقبلها ويعتذر إليه. وقيل: إن عثمان بْن نهيك ضرب أبا مسلم أول ما ضرب ضربة خفيفة

بالسيف، فلم يزد على أن قطع حمائل سيفه، فاعتقل بها ابو مسلم وضرب شبيب بن واج رجله، واعتوره بقية أصحابه حتى قتلوه، والمنصور يصيح بهم: اضربوا قطع الله أيديكم! وقد كان أبو مسلم قَالَ- فيما قيل- عند أول ضربة أصابته: يا أمير المؤمنين، استبقني لعدوك قَالَ: لا أبقاني الله إذا! وأي عدو لي أعدى منك! وقيل: إن عيسى بْن موسى دخل بعد ما قتل أبو مسلم، فقال: يا أمير المؤمنين، أين أبو مسلم؟ فقال: قد كان هاهنا آنفا، فقال عيسى: يا أمير المؤمنين، قد عرفت طاعته ونصيحته ورأي الإمام إبراهيم كان فيه، فقال: يا أنوك، والله ما أعلم في الأرض عدوا أعدى لك منه، ها هو ذاك في البساط، فقال عيسى: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! وكان لعيسى رأي في أبي مسلم، فقال له المنصور: خلع الله قلبك، وهل كان لكم ملك أو سلطان أو أمر أو نهي مع ابى مسلم! قال: ثم دعا ابو جعفر جعفر بْن حنظلة، فدخل عليه، فقال: ما تقول في أبي مسلم؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن كنت أخذت شعرة من رأسه فاقتل ثم اقتل ثم اقتل، فقال المنصور: وفقك الله! ثم أمره بالقيام والنظر إلى أبي مسلم مقتولا، فقال: يا أمير المؤمنين، عد من هذا اليوم لخلافتك. ثم استؤذن لإسماعيل بْن علي، فدخل، فقال: يا أمير المؤمنين، إني رأيت في ليلتي هذه كأنك ذبحت كبشا وإني توطأته برجلي، فقال: نامت عينك يا أبا الحسن، قم فصدق رؤياك، قد قتل الله الفاسق، فقام إسماعيل إلى الموضع الذي فيه أبو مسلم، فتوطأه. ثم إن المنصور هم بقتل أبي إسحاق صاحب حرس أبي مسلم وقتل أبي نصر مالك- وكان على شرط أبي مسلم- فكلمه أبو الجهم، فقال: يا أمير المؤمنين، جنده جندك، أمرتهم بطاعته فأطاعوه ودعا المنصور بأبي إسحاق فلما دخل عليه ولم ير أبا مسلم، قَالَ له أبو جعفر: أنت المتابع لعدو

الله أبي مسلم على ما كان أجمع، فكف وجعل يلتفت يمينا وشمالا تخوفا من أبي مسلم، فقال له المنصور: تكلم بما أردت، فقد قتل الله الفاسق، وأمر بإخراجه إليه مقطعا، فلما رآه أبو إسحاق خر ساجدا، فأطال السجود، فقال له المنصور: ارفع رأسك وتكلم، فرفع رأسه وهو يقول: الحمد لله الذي آمنني بك اليوم، والله ما أمنته يوما واحدا منذ صحبته، وما جئته يوما قط إلا وقد أوصيت وتكفنت وتحنطت، ثم رفع ثيابه الظاهرة فإذا تحتها ثياب كتان جدد، وقد تحنط فلما رأى أبو جعفر حاله رحمه، ثم قَالَ: استقبل طاعة خليفتك، واحمد الله الذي أراحك من الفاسق ثم قَالَ له أبو جعفر: فرق عني هذه الجماعة ثم دعا بمالك بْن الهيثم فحدثه بمثل ذلك، فاعتذر إليه بأنه أمره بطاعته، وإنما خدمه وخف له الناس بمرضاته، وإنه قد كان في طاعتهم قبل أن يعرف أبا مسلم، فقبل منه وأمره بمثل ما أمر به أبا إسحاق من تفريق جند أبي مسلم وبعث أبو جعفر إلى عدة من قواد أبي مسلم بجوائز سنية، وأعطى جميع جنده حتى رضوا، ورجع أصحابه وهم يقولون: بعنا مولانا بالدراهم ثم دعا أبو جعفر بعد ذلك أبا إسحاق، فقال: أقسم بالله لئن قطعوا طنبا من أطنابي لأضربن عنقك ثم لأجاهدنهم فخرج إليهم أبو إسحاق فقال: يا كلاب انصرفوا. قَالَ علي: قَالَ أبو حفص الأزدي: لما قتل أبو مسلم كتب أبو جعفر إلى أبي نصر كتابا عن لسان أبي مسلم يأمره بحمل ثقله وما خلف عنده، وأن يقدم، وختم الكتاب بخاتم أبي مسلم، فلما رأى أبو نصر نقش الخاتم تاما، علم أن أبا مسلم لم يكتب الكتاب، فقال: أفعلتموها! وانحدر إلى همذان وهو يريد خراسان، فكتب أبو جعفر لأبي نصر عهده على شهرزور، ووجه رسولا إليه بالعهد، فأتاه حين مضى الرسول بالعهد أنه قد توجه إلى خراسان، فكتب إلى زهير بْن التركي- وهو على همذان: إن مر بك أبو نصر فاحبسه، فسبق الكتاب إلى زهير وأبو نصر بهمذان، فأخذه فحبسه في القصر، وكان

زهير مولى لخزاعة، فأشرف أبو نصر على إبراهيم بْن عريف- وهو ابن أخي أبي نصر لأمه- فقال: يا إبراهيم، تقتل عمك! قَالَ: لا والله أبدا، فأشرف زهير فقال لإبراهيم: إني مأمور والله، إنه لمن أعز الخلق علي، ولكني لا أستطيع رد أمر امير المؤمنين وو الله لئن رمى أحدكم بسهم لأرمين إليكم برأسه ثم كتب أبو جعفر كتابا آخر إلى زهير: إن كنت أخذت أبا نصر فاقتله. وقدم صاحب العهد على أبي نصر بعهده فخلى زهير سبيله لهواه فيه، فخرج، ثم جاء بعد يوم الكتاب إلى زهير بقتله، فقال: جاءني كتاب بعهده فخليت سبيله. وقدم أبو نصر على أبي جعفر، فقال: أشرت على أبي مسلم بالمضي إلى خراسان؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، كانت له عندي أياد وصنائع فاستشارني فنصحت له، وأنت يا أمير المؤمنين إن اصطنعتني نصحت لك وشكرت فعفا عنه، فلما كان يوم الراوندية قام أبو نصر على باب القصر، وقال: أنا اليوم البواب، لا يدخل أحد القصر وأنا حي فقال أبو جعفر: أين مالك بْن الهيثم؟ فأخبروه عنه فرأى أنه قد نصح له. وقيل: إن أبا نصر مالك بْن الهيثم لما مضى إلى همذان كتب أبو جعفر إلى زهير بْن التركي: إن لله دمك إن فاتك مالك، فأتى زهير مالكا، فقال له: إني قد صنعت لك طعاما، فلو أكرمتني بدخول منزلي! فقال: نعم، وهيأ زهير أربعين رجلا تخيرهم، فجعلهم في بيتين يفضيان إلى المجلس الذي هيأه، فلما دخل مالك قَالَ: يا أدهم، عجل طعامك، فخرج أولئك الأربعون إلى مالك، فشدوه وثاقا، ووضع في رجليه القيود وبعث به إلى المنصور فمن عليه وصفح عنه واستعمله على الموصل. وفي هذه السنة ولى أبو جعفر المنصور أبا داود خالد بْن إبراهيم خراسان وكتب اليه بعهده

ذكر خروج سنباذ للطلب بدم ابى مسلم ثم قتله

ذكر خروج سنباذ للطلب بدم ابى مسلم ثم قتله 4 وفيها خرج سنباذ بخراسان يطلب بدم أبي مسلم. ذكر الخبر عن سنباذ: ذكر أن سنباذ هذا كان مجوسيا، من أهل قرية من قرى نيسابور يقال لها أهن، وأنه كثر اتباعه لما ظهر، وكان خروجه غضبا لقتل أبي مسلم- فيما قيل- وطلبا بثأره، وذلك أنه كان من صنائعه، وغلب حين خرج على نيسابور وقومس والري، وتسمى فيروز أصبهبذ فلما صار بالري قبض خزائن أبي مسلم، وكان أبو مسلم خلف بها خزائنه حين شخص متوجها إلى أبي العباس، وكان عامة أصحاب سنباذ أهل الجبال فوجه إليهم أبو جعفر جهور بْن مرار العجلي في عشرة آلاف، فالتقوا بين همذان والري على طرف المفازة، فاقتتلوا، فهزم سنباذ، وقتل من اصحابه في الهزيمة نحو من ستين ألفا، وسبي ذراريهم ونساءهم ثم قتل سنباذ بين طبرستان وقومس، قتله لونان الطبرى، فصير المنصور اصبهبذه طبرستان الى ولد هرمز بْن الفرخان، وتوجه. وكان بين مخرج سنباذ الى قتله سبعون ليله. خروج ملبد بن حرمله الشيبانى 44 وفي هذه السنة خرج ملبد بْن حرملة الشيباني، فحكم بناحية الجزيرة، فسارت إليه روابط الجزيرة، وهم يومئذ فيما قيل ألف، فقاتلهم ملبد فهزمهم، وقتل من قتل منهم ثم سارت إليه روابط الموصل فهزمهم، ثم سار إليه يزيد بْن حاتم المهلبي، فهزمه ملبد بعد قتال شديد كان بينهما، وأخذ ملبد جاريه ليزيد كان يطؤها، وقتل قائد من قواده، ثم وجه إليه أبو جعفر مولاه المهلهل بْن صفوان في ألفين من نخبة الجند، فهزمهم ملبد، واستباح عسكرهم

ثم وجه إليه نزارا قائدا من قواد أهل خراسان، فقتله ملبد، وهزم أصحابه، ثم وجه إليه زياد بْن مشكان في جمع كثير، فلقيهم ملبد فهزمهم. ثم وجه إليه صالح بْن صبيح في جيش كثيف وخيل كثيرة وعدة، فهزمهم. ثم سار إليه حميد بْن قحطبة وهو يومئذ على الجزيرة، فلقيه الملبد فهزمه، وتحصن منه حميد، وأعطاه مائة ألف درهم على أن يكف عنه. وأما الواقدي فإنه زعم أن ظهور ملبد وتحكيمه كان في سنة ثمان وثلاثين ومائة، ولم يكن للناس في هذه السنة صائفة لشغل السلطان بحرب سنباذ. وحج بالناس في هذه السنة إسماعيل بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس، كذلك قَالَ الواقدي وغيره، وهو على الموصل. وكان على المدينة زياد بْن عبيد الله، والعباس بْن عبد الله بْن معبد على مكة ومات العباس عند انقضاء الموسم، فضم إسماعيل عمله إلى زياد بْن عبيد الله، فأقره عليها أبو جعفر. وكان على الكوفة في هذه السنة عيسى بْن موسى وعلى البصرة وأعمالها سليمان بْن علي، وعلى قضائها عمر بْن عامر السلمي وعلى خراسان أبو داود خالد بْن إبراهيم وعلى الجزيرة حميد بْن قحطبة وعلى مصر صالح بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس.

سنه ثمان وثلاثين ومائه

ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائة (ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك دخول قسطنطين طاغية الروم ملطية عنوة وقهرا لأهلها وهدمه سورها، وعفوه عمن فيها من المقاتلة والذرية. ومنها غزو العباس بْن محمد بْن علي بْن عبد الله بْن العباس- في قول الواقدي- الصائفة، مع صالح بْن علي بْن عبد الله، فوصله صالح بأربعين ألف دينار، وخرج معهم عيسى بْن علي بْن عبد الله، فوصله أيضا بأربعين ألف دينار، فبنى صالح بْن علي ما كان صاحب الروم هدمه من ملطية. وقد قيل: إن خروج صالح والعباس إلى ملطية للغزو كان في سنة تسع وثلاثين ومائة. وفي هذه السنة بايع عبد الله بْن علي لأبي جعفر وهو مقيم بالبصرة مع أخيه سليمان بن على. ذكر خلع جهور بن مرار المنصور 4 وفيها خلع جهور بْن مرار العجلي المنصور. ذكر الخبر عن سبب خلعه إياه: وكان سبب ذلك- فيما ذكر- ان جهور لما هزم سنباذ حوى ما في عسكره، وكان فيه خزائن أبي مسلم التي كان خلفها بالري، فلم يوجهها إلى أبي جعفر، وخاف فخلع، فوجه إليه أبو جعفر محمد بْن الأشعث الخزاعي في جيش عظيم، فلقيه محمد، فاقتتلوا قتالا شديدا، ومع جهور نخب فرسان العجم، زياد ودلاستاخنج، فهزم جهور وأصحابه، وقتل من أصحابه خلق كثير، وأسر زياد ودلاستاخنج، وهرب جهور فلحق بأذربيجان فأخذ بعد ذلك باسباذرو فقتل

ذكر خبر قتل ملبد الخارجي

ذكر خبر قتل ملبد الخارجي وفي هذه السنة قتل الملبد الخارجي. ذكر الخبر عن مقتله: ذكر أن أبا جعفر لما هزم الملبد حميد بْن قحطبة، وتحصن منه حميد، وجه إليه عبد العزيز بْن عبد الرحمن أخا عبد الجبار بْن عبد الرحمن، وضم إليه زياد بْن مشكان، فأكمن له الملبد مائة فارس، فلما لقيه عبد العزيز خرج عليه الكمين، فهزموه، وقتلوا عامة أصحابه فوجه أبو جعفر إليه خازم بْن خزيمة في نحو من ثمانية آلاف من المروروذية فسار خازم حتى نزل الموصل، وبعث إلى الملبد بعض أصحابه وبعث معهم الفعلة، فسار إلى بلد فخندقوا، وأقاموا له الأسواق، وبلغ ذلك الملبد، فخرج حتى نزل ببلد، في خندق خازم، فلما بلغ ذلك خازما خرج إلى مكان من أطراف الموصل حريز فعسكر به، فلما بلغ ذلك الملبد عبر دجلة من بلد، وتوجه إلى خازم من ذلك الجانب يريد الموصل، فلما بلغ خازما ذلك، وبلغ اسماعيل ابن علي- وهو على الموصل- أمر إسماعيل خازما أن يرجع من معسكره حتى يعبر من جسر الموصل، فلم يفعل، وعقد جسرا من موضع معسكره، وعبر إلى الملبد، وعلى مقدمته وطلائعه نضلة بْن نعيم بْن خازم بْن عبد الله النهشلي، وعلى ميمنته زهير بْن محمد العامري، وعلى ميسرته أبو حماد الأبرص مولى بني سليم وسار خازم في القلب، فلم يزل يساير الملبد وأصحابه حتى غشيهم الليل ثم تواقفوا ليلتهم، وأصبحوا يوم الأربعاء، فمضى الملبد وأصحابه متوجهين إلى كورة حزة، وخازم وأصحابه يسايرونهم حتى غشيهم الليل، وأصبحوا يوم الخميس، وسار الملبد وأصحابه، كأنه يريد الهرب من خازم، فخرج خازم وأصحابه في أثرهم، وتركوا خندقهم، وكان خازم تخندق عليه وعلى أصحابه بالحسك، فلما خرجوا من خندقهم كر عليهم الملبد وأصحابه، فلما رأى ذلك خازم ألقى الحسك بين يديه وبين يدي أصحابه، فحملوا

على ميمنة خازم وطووها، ثم حملوا على الميسرة وطووها، ثم انتهوا إلى القلب، وفيه خازم، فلما رأى ذلك خازم نادى في اصحابه: الأرض، فنزلوا ونزل الملبد وأصحابه، وعقروا عامة دوابهم، ثم اضطربوا بالسيوف حتى تقطعت، وأمر خازم نضلة بْن نعيم أن إذا سطع الغبار ولم يبصر بعضنا بعضا فارجع إلى خيلك وخيل أصحابك فاركبوها، ثم ارموا بالنشاب ففعل ذلك، وتراجع أصحاب خازم من الميمنة إلى الميسرة، ثم رشقوا الملبد وأصحابه بالنشاب، فقتل الملبد في ثمانمائه رجل ممن ترجل، وقتل منهم قبل أن يترجلوا زهاء ثلاثمائة، وهرب الباقون، وتبعهم نضلة فقتل منهم مائة وخمسين رجلا. وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْن صالح بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس، كذلك قَالَ الواقدي وغيره وذكر أنه كان خرج من عند أبيه من الشام حاجا، فأدركته ولايته على الموسم والحج بالناس في الطريق، فمر بالمدينة فأحرم منها. وزياد بن عبيد الله على المدينة ومكة والطائف، وعلى الكوفة وسوادها عيسى بْن موسى، وعلى البصرة وأعمالها سليمان بْن علي، وعلى قضائها سوار بْن عبد الله، وأبو داود خالد بْن إبراهيم على خراسان، وعلى مصر صالح بْن علي

سنه تسع وثلاثين ومائه

ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من إقامة صالح بْن علي والعباس بْن محمد بملطية، حتى استتما بناء ملطية، ثم غزوا الصائفة من درب الحديث، فوغلا في أرض الروم- وغزا مع صالح أختاه: أم عيسى ولبابة ابنتا علي، وكانتا نذرتا إن زال ملك بني أمية أن تجاهدا في سبيل الله. وغزا من درب ملطية جعفر بْن حنظلة البهراني وفي هذه السنة كان الفداء الذي جرى بين المنصور وصاحب الروم، فاستنقذ المنصور منهم أسراء المسلمين، ولم يكن بعد ذلك- فيما قيل- للمسلمين صائفة إلى سنة ست وأربعين ومائة، لاشتغال أبي جعفر بأمر ابني عبد الله بْن الحسن، إلا أن بعضهم ذكر أن الحسن بْن قحطبة غزا الصائفة مع عبد الوهاب بْن إبراهيم الإمام في سنه اربعين وأقبل قسطنطين صاحب الروم في مائة ألف، فنزل جيحان، فبلغه كثرة المسلمين فأحجم عنهم، ثم لم يكن بعدها صائفة إلى سنة ست وأربعين ومائة وفي هذه السنة سار عبد الرحمن بْن معاوية بْن هشام بْن عبد الملك بْن مروان إلى الأندلس، فملكه أهلها أمرهم، فولده ولاتها إلى اليوم. وفيها وسع أبو جعفر المسجد الحرام، وقيل إنها كانت سنة خصبة فسميت سنة الخصب. وفيها عزل سليمان بْن علي عن ولاية البصرة، وعما كان إليه من أعمالها. وقد قيل إنه عزل عن ذلك في سنة أربعين ومائة. وفيها ولي المنصور ما كان إلى سليمان بْن علي من عمل البصرة سفيان بْن معاوية، وذلك- فيما قيل- يوم الأربعاء للنصف من شهر رمضان، فلما

ذكر خبر حبس عبد الله بن على

عزل سليمان وولى سفيان توارى عبد الله بْن علي وأصحابه خوفا على أنفسهم، فبلغ ذلك أبا جعفر، فبعث إلى سليمان وعيسى ابني علي، وكتب إليهما في أشخاص عبد الله بْن علي، وعزم عليهما أن يفعلا ذلك ولا يؤخراه، وأعطاهما من الأمان لعبد الله بْن علي ما رضياه له ووثقا به، وكتب إلى سفيان بْن معاوية يعلمه ذلك، ويأمره بإزعاجهما واستحثاثهما بالخروج بعبد الله ومن معه من خاصته، فخرج سليمان وعيسى بعبد الله وبعامة قواده وخواص أصحابه ومواليه، حتى قدموا على أبي جعفر، يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة. ذكر خبر حبس عبد الله بن على وفيها أمر أبو جعفر بحبس عبد الله بْن علي وبحبس من كان معه من أصحابه وبقتل بعضهم. ذكر الخبر عن ذلك: ولما قدم سليمان وعيسى ابنا علي على أبي جعفر أذن لهما، فدخلا عليه، فأعلماه حضور عبد الله بْن علي، وسألاه الإذن له فأنعم لهما بذلك، وشغلهما بالحديث، وقد كان هيأ لعبد الله بْن علي محبسا في قصره، وامر به ان ينصرف اليه بعد دخول عيسى وسليمان عليه، ففعل ذلك به، ونهض أبو جعفر من مجلسه، فقال لسليمان وعيسى: سارعا بعبد الله، فلما خرجا افتقدا عبد الله من المجلس الذي كان فيه، فعلما أنه قد حبس، فانصرفا راجعين إلى أبي جعفر، فحيل بينهما وبين الوصول إليه، وأخذت عند ذلك سيوف من حضر من أصحاب عبد الله بْن علي من عواتقهم وحبسوا. وقد كان خفاف بْن منصور حذرهم ذلك وندم على مجيئه، وقال لهم: إن أنتم أطعتموني شددنا شدة واحده على ابى جعفر، فو الله لا يحول بيننا وبينه حائل حتى نأتي على نفسه، ونشد على هذه الأبواب مصلتين سيوفنا، ولا

يعرض لنا عارض إلا أفتنا نفسه حتى نخرج وننجو بأنفسنا، فعصوه فلما أخذت السيوف وأمر بحبسهم جعل خفاف يضرط في لحيته، ويتفل في وجوه أصحابه ثم أمر أبو جعفر بقتل بعضهم بحضرته، وبعث بالبقية إلى أبي داود خالد بْن إبراهيم بخراسان فقتلهم بها. وقد قيل إن حبس أبي جعفر عبد الله بن على كان في سنة أربعين ومائة. وحج بالناس في هذه السنة العباس بْن محمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس وكان على مكة والمدينة والطائف زياد بْن عبيد الله الحارثي، وعلى الكوفة وأرضها عيسى بْن موسى، وعلى البصرة وأعمالها سفيان بْن معاوية، وعلى قضائها سوار بْن عبد الله، وعلى خراسان ابو داود خالد بن ابراهيم.

سنه اربعين ومائه

ثم دخلت سنة أربعين ومائة ذكر ما كان فيها من الأحداث ذكر هلاك ابى داود عامل خراسان وولايه عبد الجبار فمن ذلك ما كان فيها من مهلك عامل خراسان. ذكر الخبر عن ذلك وسبب هلاكه: ذكر أن ناسا من الجند ثاروا بأبي داود خالد بْن إبراهيم بخراسان وهو عامل أبي جعفر المنصور عليها في هذه السنة ليلا، وهو نازل بباب كشماهن من مدينة مرو، حتى وصلوا إلى المنزل الذي هو فيه، فأشرف أبو داود من الحائط على حرف آجرة خارجة، وجعل ينادي أصحابه ليعرفوا صوته، فانكسرت الآجرة عند الصبح، فوقع على سترة صفة كانت قدام السطح فانكسر ظهره، فمات عند صلاة العصر، فقام عصام صاحب شرطه أبي داود بخلافة أبي داود، حتى قدم عليه عبد الجبار بْن عبد الرحمن الأزدي. وفيها ولى ابى جعفر عبد الجبار بْن عبد الرحمن خراسان فقدمها، فأخذ بها ناسا من القواد ذكر أنه اتهمهم بالدعاء إلى ولد علي بْن أبي طالب، منهم مجاشع بْن حريث الأنصاري صاحب بخارى وأبو المغيرة، مولى بني تميم واسمه خالد بْن كثير وهو صاحب قوهستان، والحريش بن محمد الذهلي، ابن عم داود، فقتلهم، وحبس الجنيد بْن خالد بْن هريم التغلبي ومعبد بْن الخليل المزني بعد ما ضربهما ضربا مبرحا، وحبس عدة من وجوده قواد أهل خراسان، وألح على استخراج ما على عمال أبي داود من بقايا الأموال. وفيها خرج أبو جعفر المنصور حاجا، فأحرم من الحيرة، ثم رجع بعد ما قضى حجه إلى المدينة، فتوجه منها إلى بيت المقدس

وكان عمال الأمصار في هذه السنة عمالها في السنة التي قبلها، إلا خراسان فإن عاملها كان عبد الجبار. ولما قدم أبو جعفر بيت المقدس صلى في مسجدها، ثم سلك الشام فإن عاملها كان عبد الجبار. ولما قدم أبو جعفر بيت المقدس صلى في مسجدها، ثم سلك الشام منصرفا حتى انتهى إلى الرقة، فنزلها، فأتى بمنصور بْن جعونة بْن الحارث العامري، من بني عامر بْن صعصعة، فقتله، ثم شخص منها، فسلك الفرات حتى أتى الهاشمية، هاشمية الكوفة

سنه احدى واربعين ومائه

ثم دخلت سنة إحدى وأربعين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر الخبر عن خروج الراونديه 44 فمن ذلك خروج الراوندية، وقد قَالَ بعضهم: كان أمر الراوندية وأمر أبي جعفر الذي أنا ذاكره، في سنة سبع وثلاثين ومائة. أو ست وثلاثين ومائة ذكر الخبر عن أمرهم وأمر أبي جعفر المنصور معهم: والراوندية قوم- فيما ذكر عن علي بْن محمد- كانوا من أهل خراسان على رأي أبي مسلم صاحب دعوة بني هاشم، يقولون- فيما زعم- بتناسخ الأرواح، ويزعمون أن روح آدم في عثمان بْن نهيك، وأن ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم هو أبو جعفر المنصور، وأن الهيثم بْن معاوية جبرئيل. قَالَ: وأتوا قصر المنصور، فجعلوا يطوفون به، ويقولون: هذا قصر ربنا، فأرسل المنصور إلى رؤسائهم، فحبس منهم مائتين، فغضب أصحابهم وقالوا: علام حبسوا! وأمر المنصور ألا يجتمعوا، فأعدوا نعشا وحملوا السرير- وليس في النعش أحد- ثم مروا في المدينة، حتى صاروا على باب السجن، فرموا بالنعش، وشدوا على الناس- ودخلوا السجن، فأخرجوا اصحابهم، وقصدوا نحو المنصور وهم يومئذ ستمائه رجل، فتنادى الناس، وغلقت أبواب المدينة فلم يدخل أحد، فخرج المنصور من القصر ماشيا، ولم يكن في القصر دابة، فجعل بعد ذلك اليوم يرتبط فرسا يكون في دار الخلافة معه في قصره. قَالَ: ولما خرج المنصور أتي بدابة فركبها وهو يريدهم، وجاء معن ابن زائدة، فانتهى إلى أبي جعفر، فرمى بنفسه وترجل، وادخل بركه قبائه في منطقته، وأخذ بلجام دابة المنصور، وقال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين

إلا رجعت، فإنك تكفى، وجاء أبو نصر مالك بْن الهيثم فوقف على باب القصر، وقال: أنا اليوم بواب، ونودي في أهل السوق فرموهم وقاتلوهم حتى أثخنوهم، وفتح باب المدينة، فدخل الناس. وجاء خازم بْن خزيمة على فرس محذوف، فقال: يا أمير المؤمنين، أقتلهم؟ قَالَ: نعم، فحمل عليهم حتى ألجأهم إلى ظهر حائط، ثم كروا على خازم فكشفوه واصحابه، ثم كر خازم عليهم فاضطرهم إلى حائط المدينة وقال للهيثم بْن شعبة: إذا كروا علينا فاسبقهم إلى الحائط، فإذا رجعوا فاقتلهم فحملوا على خازم، فاطرد لهم، وصار الهيثم بْن شعبة من ورائهم فقتلوا جميعا. وجاءهم يومئذ عثمان بن نهيك، فكلمهم، فرجع فرموه بنشابه فوقعت بين كتفيه، فمرض أياما ومات منها، فصلى عليه أبو جعفر، وقام على قبره حتى دفن، وقال: رحمك الله أبا يزيد! وصير مكانه على حرسه عيسى بْن نهيك، فكان على الحرس حتى مات، فجعل على الحرس أبا العباس الطوسي. وجاء يومئذ إسماعيل بْن علي، وقد أغلقت الأبواب، فقال للبواب: افتح ولك ألف درهم، فأبى وكان القعقاع بْن ضرار يومئذ بالمدينة، وهو على شرط عيسى بْن موسى، فأبلى يومئذ، وكان ذلك كله في المدينة الهاشمية بالكوفة. قَالَ: وجاء يومئذ الربيع ليأخذ بلجام المنصور، فقال له معن: ليس هذا من أيامك، فأبلى أبرويز بْن المصمغان ملك دنباوند- وكان خالف أخاه، فقدم على أبي جعفر فأكرمه، وأجرى عليه رزقا، فلما كان يومئذ أتى المنصور فكفر له، وقال: أقاتل هؤلاء؟ قَالَ له: نعم، فقاتلهم، فكان إذا ضرب رجلا فصرعه تأخر عنه- فلما قتلوا وصلى المنصور الظهر دعا بالعشاء، وقال: أطلعوا معن بْن زائدة، وأمسك عن الطعام حتى جاءه معن، فقال لقثم: تحول إلى هذا الموضع، وأجلس معنا مكان قثم، فلما فرغوا من العشاء قَالَ لعيسى بْن علي: يا أبا العباس، اسمعت باشد

الرجال؟ قَالَ: نعم، قَالَ: لو رأيت اليوم معنا علمت أنه من تلك الآساد، قَالَ معن: والله يا أمير المؤمنين لقد أتيتك وإني لوجل القلب، فلما رأيت ما عندك من الاستهانة بهم وشدة الإقدام عليهم، رأيت أمرا لم أره من خلق في حرب، فشد ذلك من قلبي وحملني على ما رايت منى. وقال ابو خزيمة: يا أمير المؤمنين، إن لهم بقية، قَالَ: فقد وليتك أمرهم فاقتلهم، قَالَ: فاقتل رزاما فإنه منهم، فعاذ رزام بجعفر بْن أبي جعفر، فطلب فيه فآمنه. وقال علي عن أبي بكر الهذلي، قَالَ: إني لواقف بباب أمير المؤمنين إذ طلع فقال رجل إلى جانبي: هذا رب العزة! هذا الذي يطعمنا ويسقينا، فلما رجع أمير المؤمنين ودخل عليه الناس دخلت وخلا وجهه، فقلت له: سمعت اليوم عجبا، وحدثته، فنكت في الأرض، وقال: يا هذلي، يدخلهم الله النار في طاعتنا ويعتلهم، أحب إلي من أن يدخلهم الجنة بمعصيتنا. وذكر عن جعفر بْن عبد الله، قَالَ: حدثني الفضل بْن الربيع، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: سمعت المنصور يقول: أخطأت ثلاث خطيات وقاني الله شرها: قتلت أبا مسلم وأنا في خرق ومن حولي يقدم طاعته ويؤثرها ولو هتكت الخرق لذهبت ضياعا، وخرجت يوم الراوندية ولو أصابني سهم غرب لذهبت ضياعا، وخرجت إلى الشام ولو اختلف سيفان بالعراق ذهبت الخلافة ضياعا. وذكر أن معن بْن زائدة كان مختفيا من أبي جعفر، لما كان منه من قتاله المسودة مع ابن هبيرة مرة بعد مرة، وكان اختفاؤه عند مرزوق أبي الخصيب، وكان على أن يطلب له الأمان، فلما خرج الراوندية أتى الباب فقام عليه، فسأل المنصور أبا الخصيب- وكان يلي حجابة المنصور يومئذ: من بالباب؟ فقال: معن بْن زائدة، فقال المنصور: رجل من العرب، شديد النفس، عالم بالحرب كريم الحسب، أدخله، فلما دخل قَالَ: إيه يا معن! ما الرأي؟ قَالَ: الرأي أن تنادي في الناس وتأمر لهم بالأموال، قَالَ: وأين الناس والأموال؟

ذكر خلع عبد الجبار بخراسان ومسير المهدى اليه

ومن يقدم على أن يعرض نفسه لهؤلاء العلوج! لم تصنع شيئا يا معن، الرأي أن أخرج فأقف، فإن الناس إذا رأوني قاتلوا وأبلوا وثابوا إلي، وتراجعوا، وإن أقمت تخاذلوا وتهاونوا فأخذ معن بيده وقال: يا أمير المؤمنين، إذا والله تقتل الساعة، فأنشدك الله في نفسك! فأتاه أبو الخصيب فقال مثلها، فاجتذب ثوبه منهما، ثم دعا بدابته، فركب ووثب عليها من غير ركاب ثم سوى ثيابه، وخرج ومعن آخذ بلجامه وأبو الخصيب مع ركابه فوقف. وتوجه إليه رجل فقال: يا معن دونك العلج، فشد عليه معن فقتله، ثم والى بين أربعة، وثاب إليه الناس وتراجعوا، ولم يكن إلا ساعة حتى أفنوهم، وتغيب معن بعد ذلك، فقال أبو جعفر لأبي الخصيب: ويلك! أين معن؟ قَالَ: والله ما أدري أين هو من الأرض! فقال: أيظن أن أمير المؤمنين لا يغفر ذنبه بعد ما كان من بلائه! أعطه الأمان وأدخله علي، فأدخله، فأمر له بعشرة آلاف درهم، وولاه اليمن، فقال له أبو الخصيب: قد فرق صلته وما يقدر على شيء، قَالَ: له لو أراد مثل ثمنك ألف مرة لقدر عليه. وفي هذه السنة وجه أبو جعفر المنصور ولده محمدا- وهو يومئذ ولي عهد- إلى خراسان في الجنود، وأمره بنزول الري، ففعل ذلك محمد. ذكر خلع عبد الجبار بخراسان ومسير المهدى اليه 4 وفيها خلع عبد الجبار بْن عبد الرحمن عامل أبي جعفر على خراسان، ذكر علي بْن محمد، عمن حدثه، عن أبي أيوب الخوزي، أن المنصور لما بلغه أن عبد الجبار يقتل رؤساء أهل خراسان، وأتاه من بعضهم كتاب فيه: قد نغل الأديم، قَالَ لأبي أيوب الخزاعي: إن عبد الجبار قد أفنى شيعتنا، وما فعل هذا إلا وهو يريد أن يخلع، فقال له: ما أيسر حيلته! اكتب إليه: أنك تريد غزو الروم، فيوجه إليك الجنود من خراسان، وعليهم فرسانهم ووجوههم، فإذا خرجوا منها فابعث إليهم من شئت، فليس به امتناع

فكتب بذلك إليه، فأجابه: أن الترك قد جاشت، وإن فرقت الجنود ذهبت خراسان، فألقى الكتاب إلى أبي أيوب، وقال له: ما ترى؟ قَالَ: قد أمكنك من قياده، اكتب إليه: أن خراسان أهم إلي من غيرها، وأنا موجه إليك الجنود من قبلي ثم وجه إليه الجنود ليكونوا بخراسان، فإن هم بخلع أخذوا بعنقه. فلما ورد على عبد الجبار الكتاب كتب إليه: أن خراسان لم تكن قط أسوأ حالا منها في هذا العام، وإن دخلها الجنود هلكوا لضيق ما هم فيه من غلاء السعر فلما أتاه الكتاب ألقاه إلى أبي أيوب، فقال له: قد أبدى صفحته، وقد خلع فلا تناظره. فوجه إليه محمد بْن المنصور، وأمره بنزول الري، فسار إليها المهدي، ووجه لحربه خازم بْن خزيمة مقدمة له، ثم شخص المهدي فنزل نيسابور، ولما توجه خازم بْن خزيمة الى عبد الجبار، وبلغ ذلك اهل مروالروذ، ساروا إلى عبد الجبار من ناحيتهم فناصبوه الحرب، وقاتلوه قتالا شديدا حتى هزم، فانطلق هاربا حتى لجأ إلى مقطنة، فتوارى فيها، فعبر إليه المجشر بْن مزاحم من أهل مرو الروذ، فأخذه أسيرا، فلما قدم خازم أتاه به، فألبسه خازم مدرعة صوف، وحمله على بعير، وجعل وجهه من قبل عجز البعير، حتى انتهى به إلى المنصور ومعه ولده وأصحابه، فبسط عليهم العذاب، وضربوا بالسياط حتى استخرج منهم ما قدر عليه من الأموال ثم أمر المسيب بْن زهير بقطع يدي عبد الجبار ورجليه وضرب عنقه، ففعل ذلك المسيب، وأمر المنصور بتسيير ولده إلى دهلك- وهي جزيرة على ضفة البحر بناحية اليمن- فلم يزالوا بها حتى أغار عليهم الهند، فسبوهم فيمن سبوا حتى فودوا بعد، ونجا منهم من نجا، فكان ممن نجا منهم واكتتب في الديوان وصحب الخلفاء عبد الرحمن بْن عبد الجبار، وبقي إلى أن توفي بمصر في خلافة هارون، في سنة سبعين ومائة. وفي هذه السنة فرغ من بناء المصيصة على يدي جبرئيل بْن يحيى الخراسانى،

ورابط محمد بْن إبراهيم الإمام بملطية. واختلفوا في أمر عبد الجبار وخبره، فقال الواقدي: كان ذلك في سنة ثنتين وأربعين ومائة. وقال غيره: كان ذلك في سنة إحدى وأربعين ومائة وذكر عن علي بْن محمد أنه قَالَ: كان قدوم عبد الجبار خراسان لعشر خلون من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائة، ويقال لأربع عشرة ليلة، وكانت هزيمته يوم السبت لست خلون من ربيع الأول سنة ثنتين وأربعين ومائة. وذكر عن أحمد بْن الحارث، أن خليفة بْن خياط حدثه، قَالَ: لما وجه المنصور المهدي إلى الري- وذلك قبل بناء بغداد، وكان توجيهه إياه لقتال عبد الجبار بْن عبد الرحمن، فكفى المهدي أمر عبد الجبار بمن حاربه وظفر به- كره أبو جعفر أن تبطل تلك النفقات التي أنفقت على المهدي، فكتب إليه أن يغزو طبرستان، وينزل الري، ويوجه أبا الخصيب وخازم بْن خزيمة والجنود إلى الأصبهبذ، وكان الأصبهبذ يومئذ محاربا للمصمغان ملك دنباوند معسكرا بإزائه، فبلغه أن الجنود دخلت بلاده، وأن أبا الخصيب دخل سارية، فساء المصمغان ذلك، وقال له: متى صاروا إليك صاروا إلي، فاجتمعا على محاربة المسلمين، فانصرف الأصبهبذ إلى بلاده، فحارب المسلمين، وطالت تلك الحروب، فوجه أبو جعفر عمر بْن العلاء الذي يقول فيه بشار: فقل للخليفة إن جئته ... نصيحا ولا خير في المتهم إذا ايقظتك حروب العدا ... فنبه لها عمرا ثم نم فتى لا ينام على دمنة ... ولا يشرب الماء إلا بدم وكان توجيهه إياه بمشورة أبرويز أخي المصمغان، فإنه قَالَ له: يا أمير المؤمنين، إن عمر أعلم الناس ببلاد طبرستان، فوجهه، وكان أبرويز قد عرف عمر أيام سنباذ وأيام الراوندية، فضم إليه أبو جعفر خازم بْن خزيمة، فدخل الرويان ففتحها، وأخذ قلعة الطاق وما فيها، وطالت الحرب،

فألح خازم على القتال، ففتح طبرستان، وقتل منهم فأكثر، وصار الأصبهبذ إلى قلعته، وطلب الأمان على أن يسلم القلعة بما فيها من ذخائره، فكتب المهدي بذلك إلى أبي جعفر، فوجه أبو جعفر بصالح صاحب المصلى وعدة معه، فأحصوا ما في الحصن، وانصرفوا وبدا للأصبهبذ، فدخل بلاد جيلان من الديلم، فمات بها، وأخذت ابنته- وهي أم إبراهيم بْن العباس بْن محمد- وصمدت الجنود للمصمغان، فظفروا به وبالبحترية أم منصور بْن المهدي، وبصيمر أم ولد على بن ريطة بنت المصمغان فهذا فتح طبرستان الأول. قَالَ: ولما مات المصمغان تحوز أهل ذلك الجبل فصاروا حوزية لأنهم توحشوا كما توحش حمر الوحش. وفي هذه السنة عزل زياد بْن عبيد الله الحارثي عن المدينة ومكة والطائف، واستعمل على المدينة محمد بْن خالد بْن عبد الله القسري، فقدمها في رجب. وعلى الطائف ومكة الهيثم بْن معاوية العتكي من أهل خراسان. وفيها توفي موسى بْن كعب، وهو على شرط المنصور، وعلى مصر والهند وخليفته على الهند عيينة ابنه. وفيها عزل موسى بْن كعب عن مصر، ووليها محمد بْن الأشعث ثم عزل عنها، ووليها نوفل بْن الفرات. وحج بالناس في هذه السنة صالح بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس وهو على قنسرين وحمص ودمشق وعلى المدينة محمد بْن خالد بْن عبد الله القسري، وعلى مكة والطائف الهيثم بْن معاوية، وعلى الكوفة وأرضها عيسى بْن موسى، وعلى البصرة وأعمالها سفيان بْن معاوية وعلى قضائها سوار بْن عبد الله، وعلى خراسان المهدي وخليفته عليها السري بْن عبد الله، وعلى مصر نوفل بْن الفرات.

سنه اثنتين واربعين ومائه

ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر خلع عيينة بْن موسى بْن كعب بالسند فمما كان فيها خلع عيينة بْن موسى بْن كعب بالسند. ذكر الخبر عن سبب خلعه: ذكر أن سبب خلعه، كان أن المسيب بْن زهير كان خليفة موسى بْن كعب على الشرط، فلما مات موسى أقام المسيب على ما كان يلي من الشرط، وخاف المسيب أن يكتب المنصور إلى عيينة في القدوم عليه فيوليه مكانه، وكتب إليه ببيت شعر ولم ينسب الكتاب إلى نفسه: فأرضك أرضك ان تأتنا ... فنم نومة ليس فيها حلم وخرج أبو جعفر لما أتاه الخبر عن عيينة بخلعه حتى نزل بعسكره من البصرة عند جسرها الأكبر، ووجه عمر بْن حفص بْن أبي صفرة العتكي عاملا على السند والهند، محاربا لعيينة بْن موسى، فسار حتى ورد السند والهند، وغلب عليها . ذكر خبر نكث اصبهبذ طبرستان العهد وفي هذه السنة نقض إصبهبذ طبرستان العهد بينه وبين المسلمين، وقتل من كان ببلاده من المسلمين. ذكر الخبر عن أمره وأمر المسلمين: ذكر أن أبا جعفر لما انتهى إليه خبر الأصبهبذ وما فعل بالمسلمين، وجه إليه خازم بْن خزيمة وروح بْن حاتم ومعهم مرزوق أبو الخصيب مولى

أبي جعفر، فأقاموا على حصنه محاصرين له ولمن معه في حصنه، وهم يقاتلونهم حتى طال عليهم المقام، فاحتال أبو الخصيب في ذلك فقال لأصحابه: اضربوني واحلقوا رأسي ولحيتي، ففعلوا ذلك به، ولحق بالأصبهبذ صاحب الحصن فقال له: إني ركب مني أمر عظيم، ضربت وحلق رأسي ولحيتي وقال له: إنما فعلوا ذلك بي تهمة منهم لي أن يكون هواي معك، وأخبره أنه معه، وأنه دليل له على عورة عسكرهم فقبل منه ذلك الأصبهبذ، وجعله في خاصته وألطفه، وكان باب مدينتهم من حجر يلقى إلقاء يرفعه الرجال، وتضعه عند فتحه وإغلاقه، وكان قد وكل به الأصبهبذ ثقات أصحابه، وجعل ذلك نوبا بينهم، فقال له أبو الخصيب: ما أراك وثقت بي، ولا قبلت نصيحتي! قَالَ: وكيف ظننت ذلك؟ قَالَ: لتركك الاستعانة بي فيما يعنيك، وتوكيلي فيما لا تثق به إلا بثقاتك، فجعل يستعين به بعد ذلك، فيرى منه ما يحب إلى أن وثق به، فجعله فيمن ينوب في فتح باب مدينته وإغلاقه، فتولى له ذلك حتى أنس به ثم كتب أبو الخصيب إلى روح بْن حاتم وخازم بْن خزيمة، وصير الكتاب في نشابة، ورماها إليهم، وأعلمهم أن قد ظفر بالحيلة، ووعدهم ليله، سماها لهم في فتح الباب فلما كان في تلك الليلة فتح لهم، فقتلوا من فيها من المقاتلة، وسبوا الذراري، وظفر بالبحترية وهي أم منصور بْن المهدي، وأمها باكند بنت الأصبهبذ الأصم- وليس بالأصبهبذ الملك، ذاك أخو باكند- وظفر بشكلة أم إبراهيم بْن المهدي، وهي بنت خونادان قهرمان المصمغان، فمص الأصبهبذ خاتما له فيه سم فقتل نفسه. وقد قيل: إن دخول روح بْن حاتم وخازم بْن خزيمة طبرستان كان في سنة ثلاث وأربعين ومائة. وفي هذه السنة بنى المنصور لأهل البصرة قبلتهم التي يصلون إليها في عيدهم بالحمان، وولى بناءه سلمة بْن سعيد بْن جابر، وهو يومئذ على الفرات والأبلة

من قبل أبي جعفر، وصام أبو جعفر شهر رمضان وصلى بها يوم الفطر. وفيها توفي سليمان بْن علي بْن عبد الله بالبصرة ليلة السبت لتسع بقين من جمادى الآخرة، وهو ابن تسع وخمسين سنة، وصلى عليه عبد الصمد ابن علي. وفيها عزل عن مصر نوفل بْن الفرات، ووليها محمد بْن الأشعث، ثم عزل عنها محمد ووليها نوفل بْن الفرات، ثم عزل نوفل ووليها حميد ابن قحطبة. وحج بالناس في هذه السنة إسماعيل بْن علي بْن عبد الله بْن العباس. وكان العامل على المدينة محمد بْن خالد بْن عبد الله، وعلى مكة والطائف الهيثم بْن معاوية، وعلى الكوفة وأرضها عيسى بْن موسى، وعلى البصرة وأعمالها سفيان بْن معاوية، وعلى قضائها سوار بْن عبد الله، وعلى مصر حميد بْن قحطبة. وفيها- في قول الواقدي- ولى أبو جعفر أخاه العباس بْن محمد الجزيرة والثغور وضم إليه عدة من القواد، فلم يزل بها حينا

سنه ثلاث واربعين ومائه

ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) غزو الديلم ففي هذه السنة ندب المنصور الناس إلى غزو الديلم. ذكر الخبر عن ذلك: ذكر أن أبا جعفر اتصل به عن الديلم إيقاعهم بالمسلمين وقتلهم منهم مقتلة عظيمة، فوجه إلى البصرة حبيب بْن عبد الله بْن رغبان، وعليها يومئذ اسماعيل ابن علي، وأمره بإحصاء كل من له فيها عشرة آلاف درهم فصاعدا، وأن يأخذ كل من كان ذلك له بالشخوص بنفسه لجهاد الديلم، ووجه آخر لمثل ذلك إلى الكوفة . عزل الهيثم بْن معاوية عن مكة والطائف وفيها عزل الهيثم بْن معاوية عن مكة والطائف، وولى ما كان إليه من ذلك السري بْن عبد الله بْن الحارث بْن العباس بْن عبد المطلب، وأتى السري عهده على ذلك وهو باليمامة، فسار إلى مكة، ووجه ابو جعفر الى اليمامه قثم ابن العباس بن عبد الله بن عباس . عزل حميد بن قحطبه عن مصر وفيها عزل حميد بْن قحطبة عن مصر، ووليها نوفل بْن الفرات، ثم عزل نوفل ووليها يزيد بْن حاتم

وحج بالناس في هذه السنة عيسى بْن موسى بْن محمد بْن علي بْن عبيد الله ابن عباس، وكان يومئذ إليه ولاية الكوفة وسوادها. وكان والي مكة فيها السري بْن عبد الله بْن الحارث، ووالي البصرة وأعمالها سفيان بْن معاوية، وعلى قضائها سوار بْن عبد الله، وعلى مصر يزيد بْن حاتم

سنه اربع واربعين ومائه

ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك غزو محمد بْن أبي العباس بْن عبد الله بْن محمد ابن على الديلم في أهل الكوفة والبصرة وواسط والموصل والجزيرة وفيها انصرف محمد بْن أبي جعفر المهدي عن خراسان إلى العراق، وشخص أبو جعفر إلى قرماسين، فلقيه بها ابنه محمد منصرفا من خراسان، فانصرفا جميعا إلى الجزيرة. وفيها بنى محمد بْن أبي جعفر عند مقدمه من خراسان بابنة عمه ريطة بنت أبي العباس. وفيها حج بالناس أبو جعفر المنصور، وخلف على عسكره والميرة خازم ابن خزيمة. ولايه رياح بن عثمان على المدينة وامر ابنى عبد الله بن حسن وفي هذه السنة ولى أبو جعفر رياح بن عثمان المري المدينة، وعزل محمد ابن خالد بْن عبد الله القسري عنها. ذكر الخبر عن سبب عزله محمد بْن خالد واستعماله رياح بْن عثمان وعزله زياد بْن عبيد الله الحارثي من قبل محمد بْن خالد: وكان سبب عزل زياد عن المدينة، أن أبا جعفر همه أمر محمد وإبراهيم ابني عبد الله بْن حسن بْن حسن بْن علي بْن أبي طالب وتخلفهما عن حضوره، مع من شهده من سائر بني هاشم عام حج في حياة أخيه أبي العباس، ومعه أبو مسلم وقد ذكر أن محمدا كان يذكر أن أبا جعفر ممن بايع له ليلة تشاور بنو هاشم بمكة فيمن يعقدون له الخلافة حين اضطرب أمر بني مروان مع سائر المعتزلة الذين كانوا معهم هنا لك فسأل عنهما، فقال له زياد بْن

عبيد الله: ما يهمك من أمرهما! أنا آتيك بهما، وكان زياد يومئذ مع أبي جعفر عند مقدمه مكة سنة ست وثلاثين ومائه، فرد ابو جعفر زيادا الى عمله، وضمنه محمدا وإبراهيم. فذكر أبو زيد عمر بْن شبة أن محمد بْن إسماعيل حدثه، قَالَ: حدثني عبد العزيز بْن عمران، قَالَ: حَدَّثَنِي عبد الله بْن أبي عبيدة بْن محمد ابن عمار بْن ياسر، قَالَ: لما استخلف أبو جعفر لم تكن له همة إلا طلب محمد والمسألة عنه وما يريد، فدعا بني هاشم رجلا رجلا، كلهم يخليه فيسألهم عنه، فيقولون: يا أمير المؤمنين، قد علم أنك قد عرفته يطلب هذا الشأن قبل اليوم، فهو يخافك على نفسه، وهو لا يريد لك خلافا، ولا يحب لك معصية، وما أشبه هذه المقالة إلا حسن بْن زيد، فانه اخبره خبره، فقال: والله ما آمن وثوبه عليك، فإنه للذي لا ينام عنك، فر رأيك قَالَ ابن أبي عبيدة: فأيقظ من لا ينام. وقال محمد: سمعت جدي موسى بْن عبد الله، يقول: اللهم اطلب حسن ابن زيد بدمائنا قَالَ موسى: وسمعت والله أبي يقول: أشهد لعرفني أبو جعفر حديثا ما سمعه منى الا حسن بن زيد. وحدثنى محمد بْن إسماعيل، قَالَ: سمعت القاسم بْن محمد بن عبد الله ابن عمرو بْن عثمان بْن عفان، قَالَ: أخبرني محمد بْن وهب السلمي، عن أبي، قَالَ: عرفني أبو جعفر حديثا ما سمعه مني إلا أخي عبد الله بْن حسن وحسن بْن زيد، فاشهد ما أخبره به عبد الله، ولا كان يعلم الغيب. قَالَ محمد: وسأل عنه عبد الله بْن حسن عام حج، فقال له مقالة الهاشميين، فأخبره أنه غير راض أو يأتيه به. قَالَ محمد: وحدثتني أمي عن أبيها، قَالَ: قَالَ أبي: قلت لسليمان بْن

علي: يا أخي صهري بك صهري، ورحمي بك رحمي، فما ترى؟ قَالَ: والله لكأني أنظر إلى عبد الله بْن علي حين حال الستر بيننا وبينه، وهو يشير إلينا أن هذا الذي فعلتم بي، فلو كان عافيا عفا عن عمه قَالَ: فقبل رأيه، قَالَ: فكان آل عبد الله يرونها صلة من سليمان لهم. قَالَ أبو زيد: وحدثني سعيد بْن هريم، قَالَ: أخبرني كلثوم المرائي، قَالَ: سمعت يحيى بْن خالد بْن برمك يقول: اشترى أبو جعفر رقيقا من رقيق الأعراب، ثم أعطى الرجل منهم البعير، والرجل البعيرين، والرجل الذود، وفرقهم في طلب محمد في ظهر المدينة، فكان الرجل منهم يرد الماء كالمار وكالضال، فيفرون عنه ويتجسسون. قَالَ: وحدثني محمد بْن عباد بْن حبيب المهلبي، قَالَ: قَالَ لي السندي مولى أمير المؤمنين: أتدري ما رفع عقبة بْن سلم عند أمير المؤمنين؟ قلت: لا، قَالَ: أوفد عمي عمر بْن حفص وفدا من السند فيهم عقبة، فدخلوا على أبي جعفر، فلما قضوا حوائجهم نهضوا، فاسترد عقبة، فأجلسه، ثم قَالَ له: من أنت؟ قَالَ: رجل من جند امير المؤمنين وخدمه، صحبت عمر ابن حفص، قَالَ: وما اسمك؟ قَالَ: عقبة بْن سلم بْن نافع، قَالَ: ممن أنت؟ قَالَ: من الأزد ثم من بني هناءة، قَالَ: انى لأرى لك هيئة وموضعا، وإني لأريدك لأمر أنا به معني، لم أزل أرتاد له رجلا، عسى أن تكونه إن كفيتنيه رفعتك، فقال: أرجو أن أصدق ظن أمير المؤمنين في، قَالَ: فأخف شخصك، واستر أمرك، وأتني في يوم كذا وكذا في وقت كذا وكذا، فأتاه في ذلك الوقت، فقال له: إن بني عمنا هؤلاء قد أبوا إلا كيدا لملكنا واغتيالا له، ولهم شيعة بخراسان بقرية كذا، يكاتبونهم ويرسلون إليهم بصدقات أموالهم وألطاف من الطاف بلادهم، فاخرج بكسا وألطاف وعين حتى تأتيهم متنكرا بكتاب تكتبه عن اهل هذه القرية، ثم تسبر ناحيتهم، فإن كانوا قد نزعوا عن رأيهم فأحبب والله بهم وأقرب، وإن كانوا على

رأيهم علمت ذلك، وكنت على حذر واحتراس منهم، فاشخص حتى تلقى عبد الله ابن حسن متقشفا متخشعا، فإن جبهك- وهو فاعل- فاصبر وعاوده، فإن عاد فاصبر حتى يأنس بك وتلين لك ناحيته، فإذا ظهر لك ما في قلبه فاعجل علي قَالَ: فشخص حتى قدم على عبد الله، فلقيه بالكتاب، فأنكره ونهره، وقال: ما أعرف هؤلاء القوم، فلم يزل ينصرف ويعود إليه حتى قبل كتابه وألطافه، وأنس به، فسأله عقبة الجواب، فقال: أما الكتاب فإني لا أكتب إلى أحد، ولكن أنت كتابي إليهم، فأقرئهم السلام وأخبرهم أن ابني خارجان لوقت كذا وكذا قَالَ: فشخص عقبة حتى قدم على أبي جعفر، فأخبره الخبر. قَالَ أبو زيد: حدثني أيوب بْن عمر، قَالَ: حدثني موسى بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرحمن بْن عوف، قَالَ: ولى أبو جعفر الفضل ابن صالح بْن علي الموسم في سنة ثمان وثلاثين ومائة، فقال له: إن وقعت عيناك على محمد وإبراهيم، ابني عبد الله بْن حسن، فلا يفارقانك، وإن لم ترهما فلا تسأل عنهما فقدم المدينة، فتلقاه أهلها جميعا، فيهم عبد الله بْن حسن وسائر بني حسن إلا محمد وإبراهيم ابني عبد الله بْن حسن فسكت حتى صدر عن الحج، وصار إلى السيالة، فقال لعبد الله بْن حسن: ما منع ابنيك أن يلقياني مع أهلهما! قَالَ: والله ما منعهما من ذلك ريبة ولا سوء، ولكنهما منهومان بالصيد واتباعه، لا يشهدان مع أهليهما خيرا ولا شرا فسكت الفضل عنه، وجلس على دكان قد بني له بالسيالة فأمر عبد الله رعاته فسرحوا عليه ظهره، فأمر أحدهم فحلب لبنا على عسل في عس عظيم، ثم رقي به الدكان، فأومأ إليه عبد الله أن اسق الفضل بْن صالح، فقصد قصده، فلما دنا منه صاح به الفضل صيحة مغضبا: إليك يا ماص بظر أمه! فأدبر الراعي، فوثب عبد الله- وكان من أرفق الناس- فتناول القعب، ثم أقبل

يمشي به إلى الفضل، فلما رآه يمشي إليه استحيا منه، فتناوله فشرب قَالَ أبو زيد: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني أبي، عن أبيه، قَالَ: كان لزياد بْن عبيد الله كاتب يقال له حفص بْن عمر من أهل الكوفة يتشيع، وكان يثبط زيادا عن طلب محمد، فكتب فيه عبد العزيز بْن سعد إلى أبي جعفر فحدره إليه، فكتب فيه زياد إلى عيسى بْن علي وعبد الله بْن الربيع الحارثي فخلصاه حتى رجع إلى زياد. قَالَ علي بْن محمد: قدم محمد البصرة مختفيا في أربعين، فاتوا عبد الرحمن ابن عثمان بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فقال له عبد الرحمن: أهلكتني وشهرتني، فانزل عندي وفرق أصحابك، فأبى، فقال: ليس لك عندي منزل، فانزل في بني راسب، فنزل في بني راسب. وقال عمر: حدثني سليمان بْن محمد الساري، قَالَ: سمعت أبا هبار المزني يقول: أقمنا مع محمد بْن عبد الله بالبصرة يدعو الناس إلى نفسه. قال: وحدثني عيسى بن عبد الله، قال: قَالَ أبو جعفر: ما طمعت في بغية لي قط إذا ذكرت مكان بني راسب بالبصرة. قَالَ: وحدثني أبو عاصم النبيل، قَالَ: حدثني ابن جشيب اللهبي، قَالَ: نزلت في بني راسب في أيام ابن معاوية، فسألني فتى منهم يوما عن اسمي، فلطمه شيخ منهم، فقال: وما أنت وذاك! ثم نظر إلى شيخ جالس بين يديه، فقال: أترى هذا الشيخ نزل فينا أبوه أيام الحجاج، فأقام حتى ولد له هذا الولد، وبلغ هذا المبلغ، وهذا السن! لا والله ما ندري ما اسمه ولا اسم أبيه، ولا ممن هو! قَالَ: وحدثني محمد بْن الهذيل، قَالَ: سمعت الزعفراني يقول: قدم محمد، فنزل على عبد الله بْن شيبان أحد بني مرة بْن عبيد، فأقام ستة أيام، ثم خرج فبلغ أبا جعفر مقدمه البصرة، فأقبل مغذا حتى نزل الجسر

الأكبر، فأردنا عمرا على لقائه، فأبى حتى غلبناه، فلقيه فقال: يا أبا عثمان، هل بالبصرة أحد نخافه على أمرنا؟ قَالَ: لا قَالَ: فأقتصر على قولك وأنصرف؟ قَالَ: نعم، فانصرف، وكان محمد قد خرج قبل مقدم أبي جعفر. قَالَ علي بْن محمد: حدثني عامر بْن أبي محمد، قَالَ: قَالَ أبو جعفر لعمرو بْن عبيد: أبايعت محمدا؟ قَالَ: أنا والله لو قلدتني الأمة أمورها ما عرفت لهما موضعا. قال علي: وحدثني أيوب القزاز، قَالَ: قلت لعمرو: ما تقول في رجل رضي بالصبر على ذهاب دينه؟ قَالَ: أنا ذاك، قلت: وكيف، ولو دعوت أجابك ثلاثون ألفا! قَالَ: والله ما أعرف موضع ثلاثة إذا قالوا وفوا، ولو عرفتهم لكنت لهم رابعا. قَالَ أبو زيد: حدثني عبيد الله بْن محمد بْن حفص، قَالَ: حدثني ابى، قال: وجل محمد وإبراهيم من أبي جعفر، فأتيا عدن، ثم سارا إلى السند ثم إلى الكوفة، ثم إلى المدينة. قَالَ عمر: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: تكفل زياد لأمير المؤمنين بابني عبد الله أن يخرجهما له، فأقره على المدينة، فكان حسن بْن زيد إذا علم من أمرهما علما كف حتى يفارقا مكانهما ذلك، ثم يخبر أبا جعفر، فيجد الرسم الذي ذكر، فيصدقه بما رفع إليه، حتى كانت سنة أربعين ومائة، فحج فقسم قسوما خص فيها آل أبي طالب فلم يظهر له ابنا عبد الله، فبعث إلى عبد الله فسأله عنهما، فقال: لا علم لي بهما، حتى تغالظا، فأمصه أبو جعفر، فقال: يا أبا جعفر، بأي أمهاتي تمصنى! ابفاطمه بنت رسول الله ص، أم بفاطمة بنت

أسد، أم بفاطمة بنت حسين، أَمْ أُمّ إسحاق بنت طلحة، أم خديجة بنت خويلد؟ قَالَ: لا بواحدة منهن، ولكن بالجرباء بنت قسامه بن زهير- وهي امراه من طيّئ- قَالَ: فوثب المسيب بْن زهير، فقال: دعني يا أمير المؤمنين أضرب عنق ابن الفاعلة قَالَ: فقام زياد بْن عبيد الله، فألقى عليه رداءه، وقال: هبه لي يا أمير المؤمنين، فأنا أستخرج لك ابنيه فتخلصه منه قال عمر: وحدثنى الوليد بْن هشام بْن قحذم، قَالَ: قَالَ الحزين الديلي لعبد الله بْن الحسن ينعي عليه ولادة الجرباء: لعلك بالجرباء أو بحكاكة ... تفاخر أم الفضل وابنة مشرح وما منهما إلا حصان نجيبة ... لها حسب في قومها مترجح قال عمر: وحدثني محمد بْن عباد، قَالَ: قَالَ لي السندي مولى أمير المؤمنين: لما أخبر عقبة بْن سلم أبا جعفر، أنشأ الحج وقال لعقبة: إذا صرت بمكان كذا وكذا لقيني بنو حسن، فيهم عبد الله، فأنا مبجله ورافع مجلسه وداع بالغداء، فإذا فرغنا من طعامنا فلحظتك فامثل بين يديه قائما، فإنه سيصرف بصره عنك، فدر حتى تغمز ظهره بإبهام رجلك حتى يملأ عينه منك ثم حسبك، وإياك أن يراك ما دام يأكل فخرج حتى إذا تدفع في البلاد لقيه بنو حسن، فأجلس عبد الله إلى جانبه، ثم دعا بالطعام فأصابوا منه، ثم أمر به فرفع، فأقبل على عبد الله، فقال: يا أبا محمد، قد علمت ما أعطيتني من العهود والمواثيق ألا تبغيني سوءا، ولا تكيد لي سلطانا، قَالَ: فأنا على ذلك يا أمير المؤمنين، قَالَ: فلحظ أبو جعفر عقبة، فاستدار حتى قام بين يديه، فأعرض عنه، فرفع رأسه حتى قام من وراء ظهره، فغمزه بأصبعه، فرفع رأسه فملأ عينه منه، فوثب حتى جثا بين يدي أبي جعفر، فقال: أقلني يا أمير المؤمنين أقالك الله! قَالَ: لا أقالني الله إن أقلتك، ثم امر بحبسه

قال عمر: وحدثنى بكر بْن عبد الله بْن عاصم مولى قريبه بنت عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق، قَالَ: حدثني علي بْن رباح بْن شبيب، أخو إبراهيم، عن صالح صاحب المصلى، قَالَ: إني لواقف على رأس أبي جعفر وهو يتغدى بأوطاس، وهو متوجه إلى مكة، ومعه على مائدته عبد الله بن حسن وابو الكرام الجعفري وجماعة من بني العباس، فأقبل على عبد الله، فقال: يا أبا محمد، محمد وإبراهيم أراهما قد استوحشا من ناحيتي، وإني لأحب ان يأنسا بي، وأن يأتياني فأصلهما وأخلطهما بنفسي- قَالَ وعبد الله مطرق طويلا ثم رفع رأسه- فقال: وحقك يا أمير المؤمنين، فما لي بهما ولا بموضعهما من البلاد علم، ولقد خرجا من يدي، فيقول أبو جعفر: لا تفعل يا أبا محمد، اكتب إليهما وإلى من يوصل كتابك إليهما قَالَ: فامتنع أبو جعفر ذلك اليوم من عامة غدائه إقبالا على عبد الله، وعبد الله يحلف ما يعرف موضعهما، وأبو جعفر يكرر عليه: لا تفعل يا أبا محمد، لا تفعل يا أبا محمد، لا تفعل يا أبا محمد قَالَ: فكان شدة هرب محمد من أبي جعفر أن أبا جعفر كان عقد له بمكة في أناس من المعتزلة. قَالَ عمر: حدثني أيوب بْن عمر- يعني ابن أبي عمرو- قَالَ: حدثني محمد بْن خالد بْن إسماعيل بْن أيوب بْن سلمة المخزومي، قَالَ: أخبرني أبي، قَالَ: أخبرني العباس بْن محمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس، قَالَ: لما حج أبو جعفر في سنة أربعين ومائة أتاه عبد الله وحسن ابنا حسن، فإنهما وإياي لعنده، وهو مشغول بكتاب ينظر فيه، إذ تكلم المهدي فلحن، فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين، ألا تأمر بهذا من يعدل لسانه، فإنه يغفل غفل الأمة! فلم يفهم، وغمزت عبد الله فلم ينتبه لها، وعاد لأبي جعفر فاحتفظ من ذلك، وقال: أين ابنك؟ فقال: لا أدري، قَالَ: لتأتيني به، قَالَ: لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه، قَالَ: يا ربيع قم به الى الحبس

قَالَ عمر: حدثني موسى بْن سعيد بْن عبد الرحمن الجمحي، قَالَ: لما تمثل عبد الله بْن حسن لأبي العباس: ألم تر حوشبا أمسى يبنى ... بيوتا نفعها لبني بقيلة لم تزل في نفس أبي جعفر عليه، فلما أمر بحبسه، قَالَ: ألست القائل لأبي العباس: ألم تر حوشبا أمسى يبنى ... بيوتا نفعها لبني بقيلة وهو آمن الناس عليك، وأحسنهم إليك صنيعا! قَالَ عمر: حدثنا محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق عن أبي حنين، قَالَ: دخلت على عبد الله بْن حسن وهو محبوس، فقال: هل حدث اليوم من خبر؟ قلت: نعم، قد أمر ببيع متاعك ورقيقك، ولا أرى أحدا يقدم على شرائه، فقال: ويحك يا أبا حنين! والله لو خرج بي وببناتي مسترقين لاشترينا! قَالَ عمر: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثنا الحارث بْن إسحاق قَالَ: شخص أبو جعفر، وعبد الله بْن حسن محبوس، فأقام في الحبس ثلاث سنين. قال عمر: وحدثني عبد الله بْن إسحاق بْن القاسم بن إسحاق بن عبد الله ابن جعفر بْن أبي طالب، قَالَ: حدثني أبو حرملة محمد بْن عثمان، مولى آل عمرو بْن عثمان، قَالَ: حدثني أبو هبار المزني، قَالَ: لما حج أبو جعفر سنة أربعين ومائة، حج تلك السنة محمد وإبراهيم ابنا عبد الله، وهما متغيبان، فاجتمعوا بمكة، فأرادوا اغتيال أبي جعفر، فقال لهم الأشتر: عبد الله بن محمد ابن عبد الله، أنا أكفيكموه، فقال محمد: لا والله لا أقتله أبدا غيلة حتى أدعوه، قَالَ: فنقض أمرهم ذلك وما كانوا أجمعوا عليه، وقد كان دخل

معهم في أمرهم قائد من قواد أبي جعفر من أهل خراسان قَالَ: فاعترض لأبي جعفر إسماعيل بْن جعفر بْن محمد الأعرج، فنمى إليه أمرهم، فأرسل في طلب القائد فلم يظفر به، وظفر بجماعة من أصحابه، وأفلت الرجل وغلام له بمال زهاء ألفي دينار كانت مع الغلام، فأتاه بها وهو مع محمد، فقسمها بين أصحابه قَالَ أبو هبار: فأمرني محمد، فاشتريت للرجل أباعر وجهزته وحملته في قبة وقطرته، وخرجت أريد به المدينة حتى أوردته إياها. وقدم محمد فضمه إلى أبيه عبد الله، ووجههما إلى ناحية من خراسان قَالَ: وجعل أبو جعفر يقتل أصحاب ذلك القائد الذي كان من أمره ما ذكرت. قَالَ عمر: وحدثني محمد بْن يحيى بْن محمد، قَالَ: حدثني أبي عن أبيه، قَالَ: غدوت على زياد بْن عبيد الله وأبو جعفر بالمدينة، قَالَ: فقال: أخبركم عجبا مما لقيته الليلة، طرقني رسل أمير المؤمنين نصف الليل- وكان زياد قد تحول لقدوم أمير المؤمنين إلى داره بالبلاط- قَالَ: فدقت علي رسله، فخرجت ملتحفا بإزاري، ليس علي ثوب غيره، فنبهت غلمانا لي وخصيانا في سقيفة الدار، فقلت لهم: إن هدموا الدار فلا يكلمهم منكم أحد، قَالَ: فدقوا طويلا ثم انصرفوا، فأقاموا ساعة، ثم طلعوا بجرز شبيه أن يكون معهم مثلهم، مرة أو مرتين، فدقوا الباب بجرزة الحديد، وصيحوا فلم يكلمهم أحد، فرجعوا فأقاموا ساعة، ثم جاءوا بأمر ليس عليه صبر، فظننت والله أن قد هدموا الدار علي، فأمرت بفتحها، وخرجت إليهم فاستحثوني وهموا أن يحملوني، وجعلت أسمع العزاء من بعضهم حتى أسلموني إلى دار مروان، فأخذ رجلان بعضدي، فخرجانى على حال الدفيف على الأرض أو نحوه، حتى أتيا بي حجرة القبة العظمى، فإذا الربيع واقف، فقال: ويحك يا زياد! ماذا فعلت بنا وبنفسك منذ الليلة! ومضى بي حتى كشف ستر باب القبة، فأدخلني ووقف خلفي بين البابين، فإذا الشمع في نواحي القبة، فهي تزهر، ووصيف قائم في ناحيتها، وأبو جعفر محتب بحمائل سيفه على بساط

ليس تحته وسادة ولا مصلى، وإذا هو منكس رأسه ينقر بجرز في يده. قَالَ: فأخبرني الربيع أنها حاله من حين صلى العتمة إلى تلك الساعة قَالَ: فما زلت واقفا حتى أني لأنتظر نداء الصبح، وأجد لذلك فرجا، فما يكلمني بكلمة، ثم رفع راسه الى، فقال: يا بن الفاعلة، أين محمد وإبراهيم؟ قَالَ: ثم نكس رأسه، ونكت أطول مما مضى له، ثم رفع راسه الثانيه، فقال: يا بن الفاعلة، أين محمد وإبراهيم؟ قتلني الله إن لم أقتلك! قَالَ: قلت له: اسمع مني ودعني اكلمك، قال: قل له: أنت نفرتهما عنك، بعثت رسولا بالمال الذي أمرت بقسمه على بني هاشم، فنزل القادسية، ثم أخرج سكينا يحده، وقال: بعثني أمير المؤمنين لأذبح محمدا وإبراهيم، فجاءتهما بذلك الاخبار، فهربا قال: فصرفني فانصرفت. قال عمر: وحدثني عبد الله بْن راشد بْن يزيد- وكان يلقب الأكار، من أهل فيد- قَالَ: سمعت نصر بْن قادم مولى بني محول الحناطين: قَالَ: كان عبدويه وأصحاب له بمكة في سنة حجها أبو جعفر قَالَ: فقال لأصحابه: إني أريد أن أوجر أبا جعفر هذه الحربة بين الصفا والمروة قَالَ: فبلغ ذلك عبد الله بْن حسن فنهاه، وقال: أنت في موضع عظيم، فما أرى أن تفعل. وكان قائد لأبي جعفر يدعى خالد بْن حسان، كان يدعى أبا العساكر على ألف رجل، وكان قد مالأ عبدويه وأصحابه، فقال له أبو جعفر: أخبرني عنك وعن عبدويه والعطاردي، ما أردتم أن تصنعوا بمكة؟ قَالَ: أردنا كذا وكذا، قَالَ: فما منعكم؟ قَالَ: عبد الله بْن حسن، قَالَ: فطمره فلم ير حتى الساعة. قَالَ عمر: حدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثنا الحارث بْن إسحاق، قَالَ: جد أبو جعفر حين حبس عبد الله في طلب ابنيه، فبعث عينا له، وكتب معه كتابا على ألسن الشيعة إلى محمد، يذكرون طاعتهم ومسارعتهم، وبعث معه بمال وألطاف، فقدم الرجل المدينة، فدخل على عبد الله بْن حسن، فسأله عن محمد، فذكر له أنه في جبل جهينة، وقال: أمرر بعلي بْن حسن،

الرجل الصالح الذي يدعى الأغر، وهو بذي الأبر، فهو يرشدك فأتاه فأرشده وكان لأبي جعفر كاتب على سره، كان متشيعا، فكتب الى عبد الله ابن حسن بأمر ذلك العين، وما بعث له، فقدم الكتاب على عبد الله فارتاعوا، وبعثوا أبا هبار إلى علي بْن الحسن وإلى محمد، فيحذرهم الرجل، فخرج أبو هبار حتى نزل بعلي بْن حسن، فسأله فأخبره أن قد أرشده إليه قَالَ أبو هبار: فجئت محمدا في موضعه الذي هو به، فإذا هو جالس في كهف، معه عبد الله بْن عامر الأسلمي وابنا شجاع وغيرهم، والرجل معهم أعلاهم صوتا، وأشدهم انبساطا، فلما رآني ظهر عليه بعض النكرة، وجلست مع القوم، فتحدثت مليا، ثم أصغيت إلى محمد، فقلت: إن لي حاجة، فنهض ونهضت معه، فأخبرته بخبر الرجل، فاسترجع، وقال: فما الرأي؟ فقلت: إحدى ثلاث أيها شئت فافعل، قَالَ: وما هي؟ قلت: تدعني فأقتل الرجل، قَالَ: ما أنا بمقارف دما إلا مكرها، أو ماذا؟ قلت: توقره حديدا وتنقله معك حيث انتقلت، قَالَ: وهل بنا فراغ له مع الخوف والإعجال! أو ماذا؟ قلت: تشده وتوثقه وتودعه بعض أهل ثقتك من جهينة، قَالَ: هذه إذا، فرجعنا وقد نذر الرجل فهرب، فقلت: أين الرجل؟ قالوا: قام بركوة فاصطب ماء، ثم توارى بهذا الظرب يتوضأ، قَالَ: فجلنا في الجبل وما حوله، فكأن الأرض التأمت عليه قَالَ: وسعى على قدميه حتى شرع على الطريق، فمر به أعراب معهم حمولة إلى المدينة، فقال لبعضهم: فرغ هذه الغرارة وأدخلنيها أكن عدلا لصاحبتها ولك كذا وكذا، قَالَ: نعم، ففرغها وحمله حتى اقدمه بالمدينة ثم قدم على أبي جعفر فأخبره الخبر كله، وعمي عن اسم أبي هبار وكنيته، وعلق وبرا، فكتب أبو جعفر في طلب وبر المزني، فحمل إليه رجل منهم يدعى وبرا، فسأله عن قصة محمد وما حكى له العين، فحلف أنه ما يعرف من ذلك شيئا، فامر به فضرب سبعمائة سوط، وحبس حتى مات أبو جعفر. قَالَ عمر: حدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: ألح أبو جعفر في طلب محمد، وكتب إلى زياد بْن عبيد الله الحارثي

يتنجزه ما كان ضمن له، فقدم محمد المدينة قدمة، فبلغ ذلك زيادا، فتلطف له وأعطاه الأمان على أن يظهر وجهه للناس معه، فوعده ذلك محمد، فركب زياد مغلسا، ووعد محمدا سوق الظهر، فالتقيا بها، ومحمد معلن غير مختف، ووقف زياد إلى جنبه، وقال: يأيها الناس، هذا محمد بْن عبد الله ابن حسن، ثم أقبل عليه، فقال: الحق بأي بلاد الله شئت، وتوارى محمد، وتواترت الأخبار بذلك على أبي جعفر. قَالَ عمر: حدثني عيسى بْن عبد الله، قَالَ: حدثني من أصدق، قَالَ: دخل إبراهيم بْن عبد الله على زياد، وعليه درع حديد تحت ثوية، فلمسها زياد ثم قَالَ: يا أبا إسحاق، كأنك اتهمتني! ذلك والله ما ينالك مني أبدا. قَالَ عمر: حدثني عيسى، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: ركب زياد بمحمد، فأتى به السوق فتصايح أهل المدينة: المهدي المهدي! فتوارى فلم يظهر، حتى خرج. قَالَ عمر: حدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: لما أن تتابعت الأخبار على أبي جعفر بما فعل زياد بْن عبيد الله، وجه أبا الأزهر رجلا من أهل خراسان إلى المدينة، وكتب معه كتابا، ودفع إليه كتبا، وأمره ألا يقرأ كتابه إليه حتى ينزل الأعوص، على بريد من المدينة، فلما أن نزله قرأه، فإذا فيه تولية عبد العزيز بْن المطلب بْن عبد الله المدينة- وكان قاضيا لزياد بْن عبيد الله- وشد زياد في الحديد، واصطفاء ماله، وقبض جميع ما وجد له، وأخذ عماله وإشخاصه وإياهم إلى أبي جعفر. فقدم أبو الأزهر المدينة لسبع ليال بقين من جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعين ومائة، فوجد زيادا في موكب له، فقال: أين الأمير؟ فقيل: ركب، وخرجت الرسل إلى زياد بقدومه، فأقبل مسرعا حتى دخل دار مروان، فدخل عليه أبو الأزهر، فدفع إليه كتابا من أبي جعفر في ثلث يأمره أن يسمع ويطيع، فلما قرأه قَالَ: سمعا وطاعة، فمر يا أبا الأزهر بما أحببت، قَالَ: ابعث إلى

عبد العزيز بْن المطلب فبعث إليه، فدفع إليه كتابا أن يسمع لأبي الأزهر، فلما قرأه قَالَ: سمعا وطاعة، ثم دفع إلى زياد كتابا يأمره بتسليم العمل إلى ابن المطلب، ودفع إلى ابن المطلب كتابا بتوليته، ثم قَالَ لابن المطلب: ابعث إلي أربعة كبول وحدادا، فأتى بهما فقال: اشدد أبا يحيى، فشد فيها وقبض ماله- ووجد في بيت المال خمسة وثمانين ألف دينار- وأخذ عماله، فلم يغادر منهم أحدا، فشخص بهم وبزياد، فلما كانوا في طرف المدينة وقف له عماله يسلمون عليه، فقال: بأبي أنتم! والله ما أبالي إذا رآكم أبو جعفر ما صنع بي! أي من هيئتهم ومروتهم. قَالَ عمر: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، عن خاله علي بْن عبد الحميد، قَالَ: شيعنا زيادا، فسرت تحت محمله ليلة، فأقبل علي فقال: والله ما أعرف لي عند أمير المؤمنين ذنبا، غير انى احسبه وجد علي في ابني عبد الله ووجد دماء بني فاطمة علي عزيزة ثم مضوا حتى كانوا بالشقراء، فأفلت منهم محمد بْن عبد العزيز، فرجع إلى المدينة، وحبس أبو جعفر الآخرين، ثم خلى عنهم. قَالَ: وحدثني عيسى بْن عبد الله، قَالَ: حدثني من أصدق، قَالَ: لما أن وجه أبو جعفر مبهوتا وابن أبي عاصية في طلب محمد، كان مبهوت الذي أخذ زيادا، فقال زياد: أكلف ذنب قوم لست منهم ... وما جنت الشمال على اليمين قال: وحدثني عيسى بْن عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمران بن ابى فروه، قال: كنت أنا والشعباني- قائد كان لأبي جعفر- مع زياد بْن عبيد الله نختلف إلى أبي الأزهر أيام بعثه أبو جعفر في طلب بنى حسن، فإني لأسير مع أبي الأزهر يوما إذ أتاه آت فلصق به، فقال: إن عندي نصيحة في محمد وإبراهيم، قَالَ: اذهب عنا، قَالَ: إنها نصيحة لأمير المؤمنين، قَالَ: اذهب عنا، ويلك قد قتل الخلق! قَالَ: فأبى أن ينصرف، فتركه أبو الأزهر حتى خلا الطريق، ثم بعج بسيفه بطنه بعجة القاه ناحيه

ثم استعمل أبو جعفر على المدينة محمد بْن خالد بعد زياد، فذكر عمر أن محمد بْن يحيى حدثه، قَالَ: حدثنا الحارث بْن إسحاق، قَالَ: استعمل أبو جعفر على المدينة محمد بْن خالد بعد زياد، وأمره بالجد في طلب محمد، وبسط يده في النفقة في طلبه فاغذ السير حتى قدم المدينة هلال رجب سنة إحدى وأربعين ومائة، ولم يعلم به أهل المدينة حتى جاء رسوله من الشقرة- وهي بين الأعوص والطرف على ليلتين من المدينة- فوجد في بيت المال سبعين ألف دينار وألف ألف درهم، فاستغرق ذلك المال، ورفع في محاسبته أموالا كثيرة أنفقها في طلب محمد، فاستبطأه أبو جعفر واتهمه، فكتب إليه أبو جعفر يأمره بكشف المدينة وأعراضها، فأمر محمد بْن خالد أهل الديوان أن يتجاعلوا لمن يخرج، فتجاعلوا رباع الغاضري المضحك- وكان يداين الناس بألف دينار- فهلكت وتويت، وخرجوا إلى الأعراض لكشفها عن محمد، وأمر القسري أهل المدينة، فلزموا بيوتهم سبعة أيام، وطافت رسله والجند ببيوت الناس يكشفونها، لا يحسون شيئا، وكتب القسري لأعوانه صكاكا يتعززون بها، لئلا يعرض لهم أحد، فلما استبطأه أبو جعفر ورأى ما استغرق من الأموال عزله قال: وحدثني عيسى بن عبد الله، قال: أخبرني حسين بْن يزيد، عن ابن ضبة، قَالَ: اشتد أمر محمد وإبراهيم على أبي جعفر، فبعث فدعا أبا السعلاء من قيس بْن عيلان، فقال: ويلك! أشر علي في امر هذين الرجلين، فقد غمتنى امرهما، قال: أرى لك أن تستعمل رجلا من ولد الزبير أو طلحة، فإنهم يطلبونهما بذحل، فاشهد لا يلبثونهما او يخرجوهما إليك. قَالَ: قاتلك الله، ما أجود رأيا جئت به! والله ما غبي هذا علي، ولكنى اعاهد الله الا أثئر من أهل بيتي بعدوي وعدوهم، ولكني ابعث عليهم صعيليكا من العرب، فيفعل ما قلت، فبعث رياح بْن عثمان بْن حيان. قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني عبد الله بْن يحيى، عن

موسى بْن عبد العزيز، قَالَ: لما أراد أبو جعفر عزل محمد بْن خالد عن المدينة ركب ذات يوم، فلما خرج من بيته استقبله يزيد بْن أسيد السلمي، فدعاه فسايره ثم قَالَ: أما تدلني على فتى من قيس مقل، أغنيه وأشرفه وأمكنه من سيد اليمن يلعب به؟ يعني ابن القسري، قَالَ: بلى، قد وجدته يا أمير المؤمنين، قَالَ: من هو؟ قَالَ: رياح بْن عثمان بْن حيان المري، قَالَ: فلا تذكرن هذا لأحد، ثم انصرف فأمر بنجائب وكسوة ورحال، فهيئت للمسير، فلما انصرف من صلاة العتمة دعا برياح، فذكر له ما بلا من غش زياد وابن القسري في ابني عبد الله، وولاه المدينة، وامر بالمسير من ساعته قبل أن يصل إلى منزله، وأمره بالجد في طلبهما، فخرج مسرعا، حتى قدمها يوم الجمعة لسبع ليال بقين من شهر رمضان سنة أربع وأربعين ومائة. قَالَ: وحدثني محمد بْن معروف، قَالَ: أخبرني الفضل بْن الربيع، عن أبيه، قَالَ: لما بلغ أمر محمد وإبراهيم من أبي جعفر ما بلغ خرجت يوما من عنده- أو من بيتي- أريده، فإذا أنا برجل قد دنا مني، فقال: أنا رسول رياح بْن عثمان إليك، يقول لك: قد بلغني أمر محمد وإبراهيم وإدهان الولاة في أمرهما، وإن ولانى امير المؤمنين المدينة ضمنت له أحدهما، والا أظهرهما. قَالَ: فأبلغت ذلك أمير المؤمنين فكتب إليه بولايته، وليس بشاهد. ذكر عمر بْن شبة، عن محمد بْن يحيى، عن عبد الله بن يحيى، عن موسى ابن عبد العزيز، قَالَ: لما دخل رياح دار مروان، فصار في سقيفتها، أقبل على بعض من معه، فقال: هذه دار مروان؟ قالوا: نعم، قَالَ: هذه المحلال المظعان، ونحن أول من يظعن منها. قَالَ عمر: حدثني أيوب بْن عمر، قَالَ: حدثني الزبير بْن المنذر مولى عبد الرحمن بْن العوام، قَالَ: قدم رياح بْن عثمان، فقدم معه حاجب له يكنى أبا البختري- وكان لأبي صديقا زمان الوليد بْن يزيد قَالَ: فكنت

آتيه لصداقته لأبي- فقال لي يوما: يا زبير، إن رياحا لما دخل دار مروان قَالَ لي: هذه دار مروان؟ أما والله إنها لمحلال مظعان، فلما تكشف الناس عنه- وعبد الله محبوس في قبة الدار التي على الطريق إلى المقصورة، حبسه فيها زياد بْن عبيد الله- قَالَ لي: يا أبا البختري، خذ بيدي ندخل على هذا الشيخ، فأقبل متكئا علي حتى وقف على عبد الله بْن حسن، فقال: أيها الشيخ، إن أمير المؤمنين والله ما استعملني لرحم قريبة، ولا يد سلفت إليه، والله لا لعبت بي كما لعبت بزياد وابن القسري، والله لأزهقن نفسك أو لتأتيني بابنيك محمد وإبراهيم! قَالَ: فرفع رأسه إليه وقال: نعم، أما والله إنك لأزيرق قيس المذبوح فيها كما تذبح الشاة قَالَ أبو البختري: فانصرف رياح والله آخذا بيدي، أجد برد يده، وإن رجليه لتخطان مما كلمه، قَالَ: قلت: والله إن هذا ما اطلع على الغيب قَالَ: إيها ويلك! فو الله ما قَالَ إلا ما سمع، قَالَ: فذبح والله فيها ذبح الشاة. قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثنا الحارث بْن إسحاق، قَالَ: قدم رياح المدينة، فدعا بالقسري، فسأله عن الأموال، فقال: هذا كاتبي هو أعلم بذلك مني، قَالَ: أسألك وتحيلني على كاتبك! فأمر به فوجئت عنقه، وقنع أسواطا، ثم أخذ رزاما كاتب محمد بْن خالد القسري ومولاه فبسط عليه العذاب، وكان يضربه في كل غب خمسة عشر سوطا، مغلولة يده إلى عنقه من بكرة إلى الليل، يتبع به أفناء المسجد والرحبة، ودس إليه في الرفع على ابن خالد فلم يجد عنده في ذلك مساغا، فأخرجه عمر بْن عبد الله الجذامي- وكان خليفة صاحب الشرط يوما من الأيام- وهو يريد ضربه، وما بين قدميه إلى قرنه قرحة، فقال له: هذا يوم غبك، فأين تحب أن نجلدك؟ قَالَ: والله ما في بدني موضع لضرب، فإن شئت فبطون كفي، فأخرج كفيه فضرب في بطونهما خمسة عشر سوطا قَالَ: فجعلت رسل رياح تختلف إليه، تأمره أن يرفع على ابن خالد ويخلى سبيله، فأرسل إليه: مر بالكف عني حتى أكتب كتابا، فأمر بالكف عنه، ثم ألح عليه وبعث إليه:

أن رح بالكتاب العشية على رءوس الناس، فادفعه إلي فلما كان العشي أرسل إليه فأتاه وعنده جماعة فقال: أيها الناس، إن الأمير أمرني أن أكتب كتابا، وأرفع على ابن خالد، وقد كتبت كتابا أتنجى به، وأنا أشهدكم أن كل ما فيه باطل فأمر به رياح فضرب مائة سوط، ورد إلى السجن. قَالَ عمر: حدثني عيسى بْن عبد الله، قَالَ: حدثني عمي عبيد الله بْن محمد بْن عمر بْن علي، قال: لما أهبط الله آدم من الجنة رفعه على أبي قبيس، فرفع له الأرض جميعا حتى رآها وقال: هذه كلها لك، قَالَ: أي رب، كيف أعلم ما فيها؟ فجعل له النجوم، فقال: إذا رأيت نجم كذا وكذا كان كذا وكذا، وإذا رأيت نجم كذا وكذا كان كذا وكذا، فكان يعلم ذلك بالنجوم ثم إن ذلك اشتد عليه، فأنزل الله عز وجل مرآة من السماء يرى بها ما في الأرض حتى إذا ما مات آدم عمد إليها شيطان يقال له فقطس فكسرها، وبنى عليها مدينة بالمشرق يقال لها جابرت، فلما كان سليمان بْن داود سأل عنها، فقيل له: أخذها فقطس فدعاه فسأله عنها، فقال: هي تحت أواسي جابرت، قَالَ: فأتني بها، قَالَ ومن يهدمها؟ فقالوا لسليمان: قل له: أنت، فقال سليمان: أنت، فأتى بها سليمان، فكان يجبر بعضها إلى بعض ثم يشدها في أقطارها بسير، ثم ينظر فيها، حتى هلك سليمان، فوثبت عليها الشياطين، فذهبت بها وبقيت منها بقية، فتوارثتها بنو إسرائيل حتى صارت إلى رأس الجالوت، فأتى بها مروان بْن محمد، فكان يحكها ويجعلها على مرآة أخرى فيرى فيها ما يكره، فرمى بها وضرب عنق رأس الجالوت، ودفعها إلى جارية له، فجعلتها في كرسفة، ثم جعلتها في حجر، فلما استخلف أبو جعفر سأل عنها فقيل له: هي عند فلانة، فطلبها حتى وجدها، فكانت عنده، فكان يحكها ويجعلها على مرآة أخرى فيرى فيها، وكان يرى محمد ابن عبد الله، فكتب إلى رياح بْن عثمان: إن محمدا ببلاد فيها الأترج والأعناب فاطلبه بها وقد كتب إلى محمد بعض أصحاب أبي جعفر: لا تقيمن في موضع إلا بقدر مسير البريد من العراق إلى المدينة، فكان يتنقل فيراه

بالبيضاء، وهي من وراء الغابة على نحو من عشرين ميلا، وهي لأشجع فكتب إليه: إنه ببلاد بها الجبال والقلات، فيطلبه فلا يجده قَالَ: فكتب إليه إنه بجبل به الحب الأخضر والقطران، قَالَ: هذه رضوى، فطلبه فلم يجده قال أبو زيد: حدثني أبو صفوان نصر بْن قديد بْن نصر بْن سيار، أنه بلغه أنه كان عند أبي جعفر مرآة يرى فيها عدوه من صديقه. قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: جد رياح في طلب محمد، فأخبر أنه في شعب من شعاب رضوى- جبل جهينة، وهي من عمل ينبع- فاستعمل عليها عمرو بْن عثمان بْن مالك الجهني أحد بني جشم، وأمره بطلب محمد، فطلبه فذكر له أنه بشعب من رضوى، فخرج إليه بالخيل والرجال، ففزع منه محمد، فأحضر شدا، فأفلت وله ابن صغير، ولد في خوفه ذلك، وكان مع جارية له، فهوى من الجبل فتقطع، وانصرف عمرو بْن عثمان. قَالَ: وحدثني عبد الله بْن محمد بْن حكيم الطائي، قَالَ: لما سقط ابن محمد فمات ولقي محمد ما لقي، قال: سنخرق السربال يشكو الوجى ... تنكبه أطراف مرو حداد شرده الخوف فأزرى به ... كذاك من يكره حر الجلاد قد كان في الموت له راحة ... والموت حتم في رقاب العباد قال: وحدثني عيسى بْن عبد الله، قَالَ: حدثني عمي عبيد الله بْن محمد، قَالَ: قَالَ محمد بْن عبد الله: بينا أنا في رضوى مع أمة لي أم ولد، معها بني لي ترضعه، إذا ابن سنوطي مولى لأهل المدينة، قد هجم علي في الجبل يطلبني، فخرجت هاربا، وهربت الجارية فسقط الصبي منها فتقطع، فقال عبيد الله: فأتي بابن سنوطي الى محمد بعد حين ظهر، فقال: يا بن سنوطي، أتعرف حديث الصبي؟ قَالَ: أي والله، إني لأعرفه، فأمر به فحبس، فلم يزل محبوسا حتى قتل محمد

قَالَ: وحدثني عبد العزيز بْن زياد، قَالَ: حدثني أبي قَالَ: قَالَ محمد: إني بالحرة مصعد ومنحدر، إذا أنا برياح والخيل، فعدلت إلى بئر فوقفت بين قرنيها، فجعلت أستقي، فلقيني رياح صفحا، فقال: قاتله الله أعرابيا ما أحسن ذراعه! قَالَ: وحدثني ابن زبالة، قَالَ: حدثني عثمان بْن عبد الرحمن الجهني عن عثمان بْن مالك، قَالَ: أذلق رياح محمدا بالطلب، فقال لي: أغد بنا إلى مسجد الفتح ندع الله فيه قَالَ: فصليت الصبح، ثم انصرف إليه، فغدونا وعلى محمد قميص غليظ ورداء قرقبي مفتول، فخرجنا من موضع كان فيه، حتى إذا كان قريبا التفت، فإذا رياح في جماعة من أصحابه ركبان، فقلت له: هذا رياح، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! فقال غير مكترث به: امض، فمضيت وما تنقلني رجلاي، وتنحى هو عن الطريق، فجلس وجعل ظهره مما يلي الطريق، وسدل هدب ردائه على وجهه- وكان جسيما- فلما حاذاه رياح التفت إلى أصحابه، فقال: امرأة رأتنا فاستحيت قَالَ: ومضيت حتى طلعت الشمس، وجاء رياح فصعد وصلى ركعتين، ثم انصرف من ناحية بطحان، فأقبل محمد حتى دخل المسجد، فصلى ودعا، ولم يزل محمد بْن عبد الله ينتقل من موضع إلى موضع إلى حين ظهوره. ولما طال على المنصور أمره، ولم يقدر عليه وعبد الله بْن حسن محبوس، قَالَ عبد العزيز بْن سعيد- فيما ذكر عن عيسى بْن عبد الله، عن عبد الله بْن عمران بْن أبي فروة- قَالَ لأبي جعفر: يا أمير المؤمنين، أتطمع أن يخرج لك محمد وإبراهيم وبنو حسن مخلون! والله للواحد منهم أهيب في صدور الناس من الأسد قَالَ: فكان ذلك الذي هاجه على حبسهم قَالَ، ثم دعاه فقال: من أشار عليك بهذا الرأي؟ قَالَ: فليح بْن سليمان، فلما مات عبد العزيز ابن سعيد- وكان عينا لأبي جعفر وواليا على الصدقات- وضع فليح بْن سليمان في موضعه، وأمر أبو جعفر بأخذ بني حسن. قَالَ عيسى: حدثني عبد الله بْن عمران بْن أبي فروة، قَالَ: أمر أبو جعفر

رياحا بأخذ بني حسن، ووجه في ذلك أبا الأزهر المهري- قَالَ: وقد كان حبس عبد الله بْن حسن فلم يزل محبوسا ثلاث سنين، فكان حسن بْن حسن قد نصل خضابه تسليا على عبد الله، فكان أبو جعفر يقول: ما فعلت الحادة؟ قَالَ: فأخذ رياح حسنا وإبراهيم ابني حسن بْن حسن، وحسن بْن جعفر بْن حسن بْن حسن، وسليمان وعبد الله ابني داود بْن حسن بن حسن، ومحمدا واسماعيل وإسحاق ابنى إبراهيم بْن حسن بْن حسن، وعباس بْن حسن بْن حسن بْن حسن بْن علي بْن أبي طالب، أخذوه على بابه، فقالت أمه عائشة ابنة طلحة بْن عمر بْن عبيد الله بْن معمر: دعوني أشمه، قالوا: لا والله، ما كنت حية في الدنيا، وعلي بْن حسن بْن حسن بْن حسن العابد. قَالَ: وحدثني إسماعيل بْن جعفر بْن إبراهيم، قَالَ: حبس معهم أبو جعفر عبد الله بْن حسن بْن حسن أخا علي. قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثنا الحارث بْن إسحاق، قَالَ: جهر رياح بشتم محمد وإبراهيم ابني عبد الله، وشتم أهل المدينة قَالَ: ثم قَالَ يوما وهو على المنبر يذكرهما: الفاسقين الخالعين الحاربين قَالَ: ثم ذكر ابنة أبي عبيدة أمهما، فأفحش لها، فسبح الناس وأعظموا ما قَالَ، فأقبل عليهم، فقال: إنكم لا كلنا عن شتمهما، ألصق الله بوجوهكم الذل والهوان! أما والله لأكتبن الى خليفتكم فلا علمنه غشكم وقلة نصحكم فقال الناس: لا نسمع منك يا بن المحدود، وبادروه بالحصى، فبادر واقتحم دار مروان وأغلق عليه الباب، وخرج الناس حتى صفوا وجاهه، فرموه وشتموه ثم تناهوا وكفوا. قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الثقة عندي، قَالَ: حبس معهم موسى بْن عبد الله بْن حسن بْن حسن بْن علي وعلى بن محمد ابن عبد الله بْن حسن بْن حسن عند مقدمه من مصر. قَالَ: وحدثني عبد الله بْن عمر بْن حبيب، قَالَ: وجه محمد بْن عبد الله ابنه عليا إلى مصر، فدل عليه عاملها، وقد هم بالوثوب، فشده وارسل به

إلى أبي جعفر، فاعترف له، وسمى أصحاب ابيه، فكان فيمن سمى عبد الرحمن ابن أبي الموالي وأبو حنين، فأمر بهما أبو جعفر فحبسا، وضرب أبو حنين مائة سوط. قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: مر حسن بْن حسن بن حسن على ابراهيم ابن حسن وهو يعلف إبلا له، فقال: أتعلف إبلك وعبد الله محبوس! أطلق عقلها يا غلام، فأطلقها، ثم صاح في أدبارها فلم يوجد منها واحدة. قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني علي بْن عبد الله بْن محمد بْن عمر بن علي، قَالَ: حضرنا باب رياح في المقصورة، فقال الآذن: من كان هاهنا من بني حسين فليدخل، فقال لي عمي عمر بْن محمد: انظر ما يصنع القوم، قَالَ: فدخلوا من باب المقصورة وخرجوا من باب مروان قَالَ: ثم قَالَ: من هاهنا من بني حسن فليدخل، فدخلوا من باب المقصورة ودخل الحدادون من باب مروان، فدعي بالقيود. قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: كان رياح إذا صلى الصبح أرسل إلي وإلى قدامة بْن موسى فيحدثنا ساعة، فإنا لعنده يوما، فلما أسفرنا إذا برجل متلفف في ساج له، فقال له رياح: مرحبا بك وأهلا، ما حاجتك؟ قَالَ: جئت لتحبسني مع قومي، فإذا هو علي بْن حسن بْن حسن بْن حسن، فقال: أما والله ليعرفنها لك أمير المؤمنين، ثم حبسه معهم. قَالَ: وحدثني يعقوب بْن القاسم، قَالَ: حدثني سعيد بْن ناشرة مولى جعفر بْن سليمان، قَالَ: بعث محمد ابنه عليا، فأخذ بمصر، فمات في سجن أبي جعفر. قَالَ: وحدثني موسى بْن عبد الله بْن موسى بْن عبد الله بْن حسن، قَالَ: حدثني أبي، عن أبيه موسى بْن عبد الله، قَالَ: لما حبسنا ضاق الحبس بنا، فسأل أبي رياحا أن يأذن له فيشتري دارا، فيجعل حبسنا فيها، ففعل، فاشترى أبي دارا فنقلنا إليها، فلما امتد بنا الحبس أتى محمد أمه هندا فقال: إني قد حملت أبي وعمومتي ما لا طاقة لهم به، ولقد هممت أن أضع يدي في أيديهم، فعسى أن يخلى عنهم قَالَ: فتنكرت ولبست أطمارا، ثم جاءت

ذكر حمل ولد حسن بن حسن إلى العراق

السجن كهيئة الرسول، فأذن لها، فلما رآها أبي أثبتها، فنهض إليها فأخبرته عن محمد، فقال: كلا بل نصبر، فو الله إني لأرجو أن يفتح الله به خيرا، قولي له: فليدع إلى أمره، وليجد فيه، فإن فرجنا بيد الله قَالَ: فانصرفت وتم محمد على بغيته . ذكر حمل ولد حسن بن حسن الى العراق وفي هذه السنة حمل ولد حسن بْن حسن بْن علي من المدينة إلى العراق. ذكر الخبر عن سبب حملهم إلى العراق وما كان من أمرهم إذ حملوا: ذكر عمر، قَالَ: حدثني موسى بْن عبد الله، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لما حج أبو جعفر أرسل محمد بْن عمران بْن إبراهيم بْن محمد بْن طلحة ومالك بْن أنس إلى أصحابنا، فسألهم أن يدفعوا محمدا وإبراهيم ابني عبد الله، قَالَ: فدخل علينا الرجلان وأبي قائم يصلي، فأبلغاهم رسالته، فقال حسن بْن حسن: هذا عمل ابني المشئومة، أما والله ما هذا برأينا، ولا عن ملأ منا، ولا لنا فيه حيلة قَالَ: فاقبل عليه ابراهيم، فقال: علام تؤذي أخاك في ابنيه وتؤذي ابن أخيك في أمه؟ قَالَ: وانصرف أبي من صلاته، فأبلغاه، فقال: لا والله لا أرد عليكما حرفا، إن أحب أن يأذن لي فألقاه فليفعل، فانصرف الرجلان فابلغاه، فقال: اراد ان يسخرني، لا والله لا ترى عينه عيني حتى يأتيني بابنيه. قَالَ: وحدثني ابن زبالة، قَالَ: سمعت بعض علمائنا يقول: ما سار عبد الله بْن حسن أحدا قط إلا فتله عن رأيه. قَالَ: وحدثني موسى بْن عبد الله، عن أبيه عن جده، قَالَ: ثم سار أمير المؤمنين أبو جعفر لوجهه حاجا، ثم رجع فلم يدخل المدينة، ومضى إلى الربذة حتى أتى ثني رهوتها

قَالَ عمر: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: لم يزل بنو حسن محبوسين عند رياح حتى حج أبو جعفر سنة أربع وأربعين ومائة، فتلقاه رياح بالربذة، فرده إلى المدينة، وأمره بإشخاص بني حسن إليه، وبإشخاص محمد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ- وهو أخو بني حسن لأمهم أمهم جميعا فاطمة بنت حسين بْن علي بْن أبي طالب- فأرسل اليه رياح- وكان بماله ببدر- فحدرهم إلى المدينة، ثم خرج رياح ببني حسن ومحمد بْن عبد الله بْن عمرو إلى الربذة، فلما صار بقصر نفيس على ثلاثة أميال من المدينة، دعا بالحدادين والقيود والأغلال، فألقى كل رجل منهم في كبل وغل، فضاقت حلقتا قيد عبد الله بْن حسن بْن حسن، فعضتاه فتأوه، فأقسم عليه أخوه علي بْن حسن ليحولن حلقتيه عليه إن كانتا أوسع، فحولتا عليه، فمضى بهم رياح إلى الربذة. قَالَ: وحدثني إبراهيم بْن خالد، ابن أخت سعيد بْن عامر، عن جويرية بْن أسماء- وهو خال أمه- قَالَ: لما حمل بنو حسن إلى أبي جعفر أتي بأقياد يقيدون بها، وعلي بْن حسن بْن حسن قائم يصلي قَالَ: وكان في الأقياد قيد ثقيل، فكلما قرب إلى رجل منهم تفادى منه واستعفى قَالَ: فانفتل علي من صلاته، فقال: لشد ما جزعتم، شرعه هذا، ثم مد رجليه فقيد به. قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني عبد الله بْن عمران، قَالَ: الذي حدرهم إلى الربذة أبو الأزهر. قَالَ عمر: حدثني ابن زبالة، قَالَ: حدثني حسين بن زيد بن على ابن حسين، قَالَ: غدوت إلى المسجد، فرأيت بني حسن يخرج بهم من دار مروان مع أبي الأزهر يراد بهم الربذة، فانصرفت، فأرسل الى جعفر ابن محمد فجئته، فقال: ما وراءك؟ فقلت: رأيت بني حسن يخرج بهم في محامل، قَالَ: اجلس، فجلست، فدعا غلاما له، ثم دعا ربه دعاء كثيرا، ثم قَالَ لغلامه: اذهب، فإذا حملوا فأت فأخبرني، فأتاه الرسول، فقال: قد أقبل بهم قَالَ: فقام جعفر بْن محمد، فوقف من وراء ستر شعر

يبصر من وراءه ولا يبصره أحد، فطلع بعبد الله بْن حسن في محل معادله مسود، وجميع أهل بيته كذلك قَالَ: فلما نظر إليهم جعفر هملت عيناه حتى جرت دموعه على لحيته، ثم أقبل علي فقال: يا أبا عبد الله، والله لا يحفظ لله حرمة بعد هؤلاء قَالَ: وحدثني محمد بْن الحسن بْن زبالة، قَالَ: حدثني مصعب بْن عثمان، قَالَ: لما ذهب ببني حسن لقيهم الحارث بْن عامر بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ بالربذة، فقال: الحمد لله الذي أخرجكم من بلادنا، قَالَ: فاشرأب له حسن بْن حسن، فقال له عبد الله: عزمت عليك إلا سكت! قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني ابن أبرود حاجب محمد بْن عبد الله قَالَ: لما حمل بنو حسن، كان محمد وإبراهيم يأتيان معتمين كهيئة الأعراب، فيسايران أباهما ويسائلانه ويستأذنانه في الخروج، فيقول: لا تعجلا حتى يمكنكما ذلك، ويقول: إن منعكما أبو جعفر أن تعيشا كريمين. فلا يمنعكما أن تموتا كريمين قَالَ عمر: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: لما صار بنو حسن إلى الربذة دخل محمد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ على أبي جعفر، وعليه قميص وساج وإزار رقيق تحت قميصه، فلما وقف بين يديه، قَالَ: إيها يا ديوث! قَالَ محمد: سبحان الله! والله لقد عرفتني بغير ذلك صغيرا وكبيرا، قَالَ: فمم حملت ابنتك؟ وكانت تحت إبراهيم بْن عبد الله بْن حسن بْن الحسن- وقد أعطيتني الأيمان بالطلاق والعتاق ألا تغشني ولا تمالى علي عدوا، ثم أنت تدخل على ابنتك متخضبة متعطرة، ثم تراها حاملا فلا يروعك حملها! فأنت بين أن تكون حانثا أو ديوثا، وايم الله انى لاهم برجمها فقال محمد: أما أيماني فهي علي إن كنت دخلت لك في أمر غش علمته، وأما ما رميت به هذه الجارية، فإن الله قد أكرمها عن ذلك بولادة رسول الله ص إياها، ولكني قد ظننت حين ظهر

حملها أن زوجها ألم بها على حين غفلة منا فاحتفظ أبو جعفر من كلامه، وأمر بشق ثيابه، فشق قميصه عن إزاره، فأشف عن عورته، ثم أمر به فضرب خمسين ومائة سوط، فبلغت منه كل مبلغ، وابو جعفر يفترى عليه ولا يكنى، فأصاب سوط منها وجهه، فقال له: ويحك! اكفف عن وجهي فإن له حرمة من رسول الله ص، قَالَ: فأغرى أبو جعفر، فقال للجلاد: الرأس الرأس، قَالَ: فضرب على رأسه نحوا من ثلاثين سوطا، ثم دعا بساجور من خشب شبيه به في طوله- وكان طويلا- فشد في عنقه، وشدت به يده، ثم أخرج به ملببا، فلما طلع به من حجرة أبي جعفر، وثب إليه مولى له، فقال: بأبي أنت وأمي ألا ألوثك بردائي! قَالَ: بلى جزيت خيرا، فو الله لشفوف إزاري أشد علي من الضرب الذي نالني، فألقى عليه المولى الثوب، ومضى به إلى أصحابه المحبسين. قَالَ: وحدثني الوليد بْن هشام، قَالَ: حدثني عبد الله بْن عثمان، عن محمد بْن هاشم بْن البريد، مولى معاوية، قَالَ: كنت بالربذة، فأتي ببني حسن مغلولين، معهم العثماني كأنه خلق من فضة، فأقعدوا، فلم يلبثوا حتى خرج رجل من عند أبي جعفر، فقال: أين محمد بْن عبد الله العثماني؟ فقام فدخل، فلم يلبث أن سمعنا وقع السياط، فقال أيوب بْن سلمة المخزومي لبنيه: يا بني، إني لأرى رجلا ليس لأحد عنده هوادة، فانظروا لأنفسكم، لا تسقطوا بشيء قَالَ: فأخرج كأنه زنجي قد غيرت السياط لونه، وأسالت دمه، وأصاب سوط منها إحدى عينيه فسالت، فأقعد إلى جنب أخيه عبد الله بْن حسن بْن حسن، فعطش فاستسقى ماء، فقال عبد الله بْن حسن: يا معشر الناس، من يسقي ابن رسول الله شربة ماء؟ فتحاماه الناس فما سقوه حتى جاء خراساني بماء، فسله إليه فشرب، ثم لبثنا هنيهة، فخرج أبو جعفر في شق محمل، معادله الربيع في شقه الأيمن، على بغلة شقراء، فناداه عبد الله أبا جعفر، والله ما هكذا فعلنا بأسرائكم يوم بدر! قال: فاخساه ابو جعفر،

وتفل عليه، ومضى ولم يعرج. وذكر أن أبا جعفر لما دخل عليه محمد بْن عبد الله العثماني سأله عن إبراهيم، فقال: ما لي به علم، فدق أبو جعفر وجهه بالجرز. وذكر عمر عن محمد بْن أبي حرب، قَالَ: لم يزل أبو جعفر جميل الرأي في محمد حتى قَالَ له رياح: يا أمير المؤمنين، أما أهل خراسان فشيعتك وأنصارك، وأما أهل العراق فشيعة آل أبي طالب، واما اهل الشام فو الله ما علي عندهم إلا كافر، وما يعتدون بأحد من ولده، ولكن أخاهم محمد بْن عبد الله ابن عمرو، ولو دعا أهل الشام ما تخلف عنه منهم رجل قَالَ: فوقعت في نفس أبي جعفر، فلما حج دخل عليه محمد، فقال: يا محمد، أليس ابنتك تحت إبراهيم بْن عبد الله بْن حسن؟ قَالَ: بلى، ولا عهد لي به إلا بمنى في سنة كذا وكذا، قَالَ: فهل رأيت ابنتك تختضب وتمتشط؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فهي إذا زانية، قَالَ: مه يا أمير المؤمنين! أتقول هذا لابنة عمك! قال: يا بن اللخناء، قال: اى أمهاتي تلخن! قال: يا بن الفاعله، ثم ضرب وجهه بالجرز وحدده، وكانت رقية ابنة محمد تحت إبراهيم بْن عبد الله بْن حسن بْن حسن، ولها يقول: خليلي من قيس دعا اللوم واقعدا ... يسركما ألا أنام وترقدا أبيت كأني مسعر من تذكري ... رقية جمرا من غضا متوقدا قَالَ: وحدثني عيسى بْن عبد الله بْن محمد، قَالَ: حدثني سليمان بْن داود بْن حسن، قَالَ: ما رأيت عبد الله بْن حسن جزع من شيء مما ناله إلا يوما واحدا، فإن بعير محمد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ انبعث وهو غافل، لم يتأهب له، وفي رجليه سلسلة، وفي عنقه زمارة، فهوى، وعلقت الزمارة بالمحمل، فرأيته منوطا بعنقه يضطرب، فرأيت عبد الله بْن حسن قد بكى بكاء شديدا. قَالَ: وحدثني موسى بْن عبد الله بْن موسى، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لما صرنا بالربذة، أرسل أبو جعفر إلى أبي أن أرسل إلي أحدكم،

واعلم أنه غير عائد إليك أبدا، فابتدره بنو إخوته يعرضون أنفسهم عليه، فجزاهم خيرا، وقال: أنا أكره أن أفجعهم بكم، ولكن اذهب أنت يا موسى، قَالَ: فذهبت وأنا يومئذ حديث السن، فلما نظر إلي قَالَ: لا أنعم الله بك عينا، السياط يا غلام قَالَ: فضربت والله حتى غشي علي، فما أدري بالضرب، فرفعت السياط عني، ودعاني فقربت منه واستقربني. فقال: أتدري ما هذا؟ هذا فيض فاض مني، فأفرغت منه سجلا لم أستطع رده، ومن ورائه الموت أو تفتدي منه قَالَ: فقلت: يا أمير المؤمنين، والله إن ما لي ذنب، وإني لبمعزل عن هذا الأمر قَالَ: فانطلق فأتني بأخويك، قَالَ: فقلت: يا أمير المؤمنين، تبعثني إلى رياح بْن عثمان فيضع علي العيون والرصد، فلا أسلك طريقا إلا تبعني له رسول، ويعلم ذلك أخواي فيهربان مني! قَالَ: فكتب إلى رياح: لا سلطان لك على موسى، قَالَ: وأرسل معي حرسا أمرهم أن يكتبوا إليه بخبري، قَالَ: فقدمت المدينة، فنزلت دار ابن هشام بالبلاط، فأقمت بها أشهرا، فكتب إليه رياح: إن موسى مقيم بمنزله يتربص بأمير المؤمنين الدوائر، فكتب إليه: إذا قرأت كتابي هذا فاحدره إلي، فحدرني. قَالَ: وحدثني محمد بْن إسماعيل، قَالَ: حدثني موسى، قَالَ: أرسل أبي إلى أبي جعفر: إني كاتب إلى محمد وإبراهيم، فأرسل موسى عسى أن يلقاهما، وكتب إليهما أن يأتياه، وقال لي: أبلغهما عني فلا يأتياه أبدا قَالَ: وإنما أراد أن يفلتني من يده- وكان أرق الناس على، وكنت اصغر ولد هند- وارسل إليهما: يا بنى أمية إني عنكما غان ... وما الغني غير انى مرعش فان يا بنى أمية إلا ترحما كبري ... فإنما أنتما والثكل مثلان قَالَ: فأقمت بالمدينة مع رسل أبي جعفر إلى أن استبطأني رياح، فكتب إلى ابى جعفر بذلك، فحدرنى اليه

قال: وحدثنى يعقوب بْن القاسم بْن محمد، قَالَ: أخبرني عمران بْن محرز من بني البكاء، قَالَ: خرج ببني حسن إلى الربذة، فيهم علي وعبد الله ابنا حسن بْن حسن بْن حسن، وأمهما حبابة ابنة عامر بْن عبد الله بن عامر ابن بشر بْن عامر ملاعب الأسنة، فمات في السجن حسن بن حسن وعباس ابن حسن، وأمه عائشة بنت طلحة بْن عمر بْن عبيد الله وعبد الله بْن حسن وإبراهيم بْن حسن. قَالَ عمر: حدثني المدائني، قَالَ: لما خرج ببني حسن، قَالَ إبراهيم ابن عبد الله بن حسن، قال عمر: وقد أنشدني غير أبي الحسن هذا الشعر لغالب الهمداني: ما ذكرك الدمنة القفار وأهل ... الدار اما ناوك أو قربوا إلا سفاها وقد تفرعك الشيب ... بلون كأنه العطب ومر خمسون من سنيك كما ... عد لك الحاسبون إذ حسبوا فعد ذكر الشباب لست له ... ولا إليك الشباب منقلب إني عرتني الهموم فاحتضر ... الهم وسادي فالقلب منشعب واستخرج الناس للشقاء و ... خلفت لدهر بظهره حدب اعوج يستعذب اللئام به ... ويحتويه الكرام إن سربوا نفسي فدت شيبه هناك و ... ظنبوبا به من قيوده ندب والسادة الغر من بنيه فما ... روقب فيه الإله والنسب يا حلق القيد ما تضمن من ... حلم وبر يشوبه حسب وأمهات من العواتك ... أخلصنك بيض عقائل عرب كيف اعتذاري إلى الإله ولم ... يشهرن فيك المأثورة القضب!

ولم أقد غارة ململمة ... فيها بنات الصريح تنتحب والسابقات الجياد والأسل ... الذبل فيها أسنة ذرب حتى نوفي بني نتيلة بالقسط ... بكيل الصاع الذي احتلبوا بالقتل قتلا وبالأسير الذي ... في القد أسرى مصفودة سلب أصبح آل الرسول أحمد في ... الناس كذي عرة به جرب بؤسا لهم ما جنت أكفهم ... وأي حبل من أمة قضبوا! وأي حبل خانوا المليك به ... شد بميثاق عقده الكذب وذكر عبد الله بْن راشد بْن يزيد، قَالَ: سمعت الجراح بن عمر وخاقان ابن زيد وغيرهما من أصحابنا يقولون: لما قدم بعبد الله بْن حسن وأهله مقيدين فأشرف بهم على النجف، قَالَ لأهله: أما ترون في هذه القرية من يمنعنا من هذا الطاغية؟ قَالَ: فلقيه ابنا أخي الحسن وعلي مشتملين على سيفين، فقالا له: قد جئناك يا بن رسول الله، فمرنا بالذي تريد، قَالَ: قد قضيتما، ولن تغنيا في هؤلاء شيئا فانصرفا. قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني عبد الله بْن عمران بْن أبي فروة، قَالَ: أمر أبو جعفر أبا الأزهر فحبس بني حسن بالهاشمية. قال: وحدثني محمد بن الحسن، قال: حدثني محمد بْن إبراهيم، قَالَ: أتي بهم أبو جعفر، فنظر إلى محمد بْن إبراهيم بْن حسن، فقال: أنت الديباج الأصفر؟ قَالَ: نعم، قَالَ: أما والله لأقتلنك قتلة ما قتلتها أحدا من أهل بيتك، ثم امر بأسطوانة مبنية ففرقت، ثم أدخل فيها فبنى عليه وهو حي قال محمد بن الحسن: وحدثني الزبير بْن بلال، قَالَ: كان الناس يختلفون إلى محمد ينظرون إلى حسنه. قَالَ عمر: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني عبد الله بْن عمران، قال:

أخبرني أبو الأزهر، قَالَ: قَالَ لي عبد الله بْن حسن: أبغني حجاما، فقد احتجت إليه، فاستأذنت أمير المؤمنين، فقال: آتيه بحجام مجيد. قَالَ: وحدثني الفضل بْن دكين أبو نعيم، قَالَ: حبس من بني حسن ثلاثة عشر رجلا، وحبس معهم العثماني وابنان له في قصر ابن هبيرة، وكان في شرقي الكوفة مما يلي بغداد، فكان أول من مات منهم ابراهيم ابن حسن، ثم عبد الله بْن حسن، فدفن قريبا من حيث مات، وإلا يكن بالقبر الذي يزعم الناس أنه قبره، فهو قريب منه. وحدثني محمد بْن أبي حرب، قَالَ: كان محمد بْن عبد الله بْن عمرو محبوسا عند أبي جعفر، وهو يعلم براءته، حتى كتب إليه أبو عون من خراسان: أخبر أمير المؤمنين أن أهل خراسان قد تقاعسوا عني، وطال عليهم أمر محمد بْن عبد الله، فأمر أبو جعفر عند ذلك بمحمد بْن عبد الله بْن عمرو، فضربت عنقه، وأرسل برأسه إلى خراسان، وأقسم لهم أنه رأس محمد بْن عبد الله، وأن أمه فاطمه بنت رسول الله ص. قال عمر: فحدثني الوليد بْن هشام، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: لما صار أبو جعفر بالكوفة، قَالَ: ما أشتفي من هذا الفاسق من أهل بيت فسق، فدعا به، فقال: أزوجت ابنتك ابن عبد الله؟ قَالَ: لا، قَالَ: أفليست بامرأته؟ قَالَ: بلى زوجها إياه عمها وأبوه عبد الله بْن حسن فأجزت نكاحه، قَالَ: فأين عهودك التي أعطيتني؟ قَالَ: هي علي، قَالَ: أفلم تعلم بخضاب! ألم تجد ريح طيب! قَالَ: لا علم لي، قد علم القوم ما لك علي من المواثيق فكتموني ذلك كله، قَالَ: هل لك أن تستقيلني فأقيلك، وتحدث لي إيمانا مستقبلة؟ قَالَ: ما حنثت بأيماني فتجددها علي، ولا أحدثت ما استقيلك منه فتقيلني، فأمر به فضرب حتى مات، ثم احتز رأسه، فبعث به إلى خراسان، فلما بلغ ذلك عبد الله بْن حسن، قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! والله ان كنا لنا من به في سلطانهم، ثم قد قتل بنا في سلطاننا. قَالَ: وحدثني عيسى بْن عبد الله، قَالَ: حدثني مسكين بْن عمرو،

قَالَ: لما ظهر محمد بْن عبد الله بْن حسن، أمر أبو جعفر بضرب عنق محمد ابن عبد الله بْن عمرو، ثم بعث به إلى خراسان، وبعث معه الرجال يحلفون بالله إنه لمحمد بْن عبد الله بْن فاطمة بنت رسول الله ص قَالَ عمر: فسألت محمد بْن جعفر بْن إبراهيم، في أي سبب قتل محمد بْن عمرو؟ قال: احتيج الى راسه. قال عمر: وحدثني محمد بْن أبي حرب، قَالَ: كان عون بْن أبي عون خليفة أبيه بباب أمير المؤمنين، فلما قتل محمد بْن عبد الله بْن حسن وجه أبو جعفر برأسه إلى خراسان، إلى أبي عون مع محمد بْن عبد الله بْن أبي الكرام وعون بْن أبي عون، فلما قدم به ارتاب أهل خراسان، وقالوا: أليس قد قتل مرة وأتينا برأسه! قَالَ: ثم تكشف لهم الخبر حتى علموا حقيقته، فكانوا يقولون: لم يطلع من أبي جعفر على كذبة غيرها. قَالَ: وحدثني عيسى بْن عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمران بْن أبي فروة، قَالَ: كنا نأتي أبا الأزهر ونحن بالهاشمية أنا والشعباني، فكان أبو جعفر يكتب إليه: من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين إلى أبي الأزهر مولاه، ويكتب أبو الأزهر إلى أبي جعفر: من أبي الأزهر مولاه وعبده، فلما كان ذات يوم ونحن عنده- وكان أبو جعفر قد ترك له ثلاثة أيام لا ينوبها، فكنا نخلو معه في تلك الأيام- فأتاه كتاب من أبي جعفر، فقرأه ثم رمى به، ودخل إلى بني حسن وهم محبوسون قَالَ: فتناولت الكتاب وقرأته، فإذا فيه: انظر يا أبا الأزهر ما أمرتك به في مدله فعجله وأنفذه قَالَ: وقرأ الشعباني الكتاب فقال: تدري من مدله؟ قلت: لا، قَالَ: هو والله عبد الله بْن حسن، فانظر ما هو صانع قَالَ: فلم نلبث أن جاء أبو الأزهر، فجلس فقال: قد والله هلك عبد الله بْن حسن، ثم لبث قليلا ثم دخل وخرج مكتئبا، فقال: أخبرني عن علي بْن حسن، أي رجل هو؟ قلت: أمصدق أنا عندك؟ قَالَ: نعم، وفوق ذلك، قَالَ: قلت: هو والله خير من تقله هذه وتظله هذه! قَالَ: فقد والله ذهب. قَالَ: وحدثني محمد بْن إسماعيل، قَالَ: سمعت جدي موسى بْن عبد الله

ذكر بقية الخبر عن الاحداث التي كانت في سنه اربع واربعين ومائه

يقول: ما كنا نعرف اوقات الصلاة في الحبس إلا بأحزاب كان يقرؤها علي بْن حسن قَالَ عمر: وحدثني ابن عائشة، قَالَ: سمعت مولى لبني دارم، قَالَ: قلت لبشير الرحال ما يسرعك إلى الخروج على هذا الرجل؟ قَالَ: إنه أرسل إلي بعد أخذه عبد الله بْن حسن فأتيته، فأمرني يوما بدخول بيت فدخلته، فإذا بعبد الله بْن حسن مقتولا، فسقطت مغشيا علي، فلما أفقت أعطيت الله عهدا ألا يختلف في أمره سيفان إلا كنت مع الذي عليه منهما. وقلت للرسول الذي معي من قبله: لا تخبره بما لقيت، فإنه إن علم قتلني. قَالَ عمر: فحدثت به هشام بْن إبراهيم بْن هشام بْن راشد من أهل همذان، وهو العباسي أن أبا جعفر أمر بقتله، فحلف بالله ما فعل ذلك، ولكنه دس إليه من أخبره أن محمدا قد ظهر فقتل، فانصدع قلبه، فمات. قَالَ: وحدثني عيسى بْن عبد الله، قَالَ: قَالَ من بقي منهم: إنهم كانوا يسقون، فماتوا جميعا إلا سليمان وعبد الله ابني داود بْن حسن بْن حسن وإسحاق وإسماعيل ابني إبراهيم بْن حسن بْن حسن، وجعفر بْن حسن، فكان من قتل منهم إنما قتل بعد خروج محمد. قَالَ عيسى: فنظرت مولاة لآل حسن إلى جعفر بْن حسن، فقالت: بنفسي أبو جعفر! ما أبصره بالرجال حيث يطلقك وقتل عبد الله بْن حسن! ذكر بقية الخبر عن الأحداث التي كانت في سنة أربع وأربعين ومائة فمن ذلك ما كان من حمل أبي جعفر المنصور بني حسن بْن حسن بْن علي من المدينة إلى العراق

ذكر الخبر عن سبب حمله إياهم إلى العراق:

ذكر الخبر عن سبب حمله إياهم إلى العراق: حدثني الحارث بْن محمد، قَالَ: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قَالَ: لما ولي أبو جعفر رياح بْن عثمان بْن حيان المري المدينة، أمره بالجد في طلب محمد وإبراهيم ابني عبد الله بْن الحسن وقلة الغفلة عنهما. قَالَ محمد بْن عمر: فأخبرني عبد الرحمن بْن أبي الموالي، قَالَ: فجد رياح في طلبهما ولم يداهن، واشتد في ذلك كل الشدة حتى خافا، وجعلا ينتقلان من موضع إلى موضع، واغتم أبو جعفر من تبغيهما، وكتب الى رياح ابن عثمان: أن يأخذ أباهما عبد الله بْن حسن واخوته: حسن بن حسن وداود ابن حسن وإبراهيم بْن حسن، ومحمد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بن عفان- وهو أخوهم لأمهم فاطمة بنت حسين- في عدة منهم، ويشدهم وثاقا، ويبعث بهم إليه حتى يوافوه بالربذة وكان أبو جعفر قد حج تلك السنة وكتب إليه أن يأخذني معهم فيبعث بي إليه أيضا قَالَ: فأدركت وقد أهللت بالحج، فأخذت فطرحت في الحديد، وعورض بي الطريق حتى وافيتهم بالربذة قَالَ محمد بْن عمر: أنا رأيت عبد الله بْن حسن وأهل بيته يخرجون من دار مروان بعد العصر وهم في الحديد، فيحملون في المحامل، ليس تحتهم وطاء، وأنا يومئذ قد راهقت الاحتلام، أحفظ ما أرى. قَالَ محمد بْن عمر: قَالَ عبد الرحمن بْن ابى الموالي وأخذ معهم نحو من أربعمائة، من جهينة ومزينة وغيرهم من القبائل، فأراهم بالربذة مكتفين في الشمس قَالَ: وسجنت مع عبد الله بْن حسن وأهل بيته ووافى أبو جعفر الربذة منصرفا من الحج، فسأل عبد الله بْن حسن أبا جعفر أن يأذن له في الدخول عليه، فأبى أبو جعفر، فلم يره حتى فارق الدنيا قَالَ: ثم دعاني أبو جعفر من بينهم، فأقعدت حتى أدخلت- وعنده عيسى بْن علي- فلما رآني عيسى، قَالَ: نعم، هو هو يا أمير المؤمنين، وإن أنت شددت عليه أخبرك بمكانهم فسلمت، فقال أبو جعفر: لا سلم الله عليك! أين الفاسقان ابنا الفاسق، الكذابان ابنا الكذاب؟ قَالَ: قلت: هل ينفعني الصدق يا أمير المؤمنين

عندك؟ قَالَ: وما ذاك؟ قَالَ: امرأته طالق، وعلي وعلي، إن كنت أعرف مكانهما! قَالَ: فلم يقبل ذلك مني، وقال: السياط! وأقمت بين العقابين، فضربني أربعمائة سوط، فما عقلت بها حتى رفع عني، ثم حملت إلى أصحابي على تلك الحال، ثم بعث إلى الديباج محمد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ ابن عفان، وكانت ابنته تحت إبراهيم بْن عبد الله بْن حسن، فلما أدخل عليه قَالَ: أخبرني عن الكذابين ما فعلا؟ وأين هما؟ قَالَ: والله يا أمير المؤمنين ما لي بهما علم، قَالَ: لتخبرني، قَالَ: قد قلت لك وإني والله لصادق، ولقد كنت أعلم علمهما قبل اليوم، واما اليوم فما لي والله بهما علم قَالَ: جردوه، فجرد فضربه مائة سوط، وعليه جامعة حديد في يده إلى عنقه، فلما فرغ من ضربه أخرج فألبس قميصا له قوهيا على الضرب، وأتي به إلينا، فو الله ما قدروا على نزع القميص من لصوقه بالدم، حتى حلبوا عليه شاة، ثم انتزع القميص ثم داووه فقال أبو جعفر: أحدروا بهم إلى العراق، فقدم بنا إلى الهاشمية، فحبسنا بها، فكان أول من مات في الحبس عبد الله ابن حسن، فجاء السجان فقال: ليخرج أقربكم به فليصل عليه، فخرج أخوه حسن بْن حسن بن حسن بن على ع، فصلى عليه ثم مات محمد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، فأخذ رأسه، فبعث به مع جماعة من الشيعة إلى خراسان، فطافوا في كور خراسان، وجعلوا يحلفون بالله أن هذا رأس محمد بْن عبد الله بن فاطمه بنت رسول الله ص، يوهمون الناس أنه رأس محمد بْن عبد الله بْن حسن، الذي كانوا يجدون خروجه على أبي جعفر في الرواية. وكان والي مكة في هذه السنة السري بْن عبد الله، ووالى المدينة رياح ابن عثمان المري، ووالي الكوفة عيسى بْن موسى، ووالي البصرة سفيان بْن معاوية. وعلى قضائها سوار بْن عبد الله، وعلى مصر يزيد بْن حاتم

سنه خمس واربعين ومائه

ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك خروج محمد بْن عبد الله بْن حسن بالمدينة، وخروج أخيه إبراهيم بْن عبد الله بعده بالبصرة ومقتلهما. ذكر الخبر عن مخرج محمد بْن عبد الله ومقتله ذكر عمر أن محمد بْن يحيى حدثه، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: لما انحدر أبو جعفر ببني حسن، رجع رياح إلى المدينة، فألح في الطلب، واخرج محمدا حتى عزم على الظهور. قَالَ عمر: فحدثت إبراهيم بْن محمد بْن عبد الله الجعفري أن محمدا أحرج، فخرج قبل وقته الذي فارق عليه أخاه إبراهيم، فأنكر ذلك، وقال: ما زال محمد يطلب أشد الطلب حتى سقط ابنه فمات وحتى رهقه الطلب، فتدلى في بعض آبار المدينة يناول أصحابه الماء، وقد انغمس فيه إلى رأسه، وكان بدنه لا يخفى عظما، ولكن إبراهيم تأخر عن وقته لجدرى أصابه. قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: تحدث أهل المدينة بظهور محمد، فأسرعنا في شراء الطعام حتى باع بعضهم حلي نسائه، وبلغ رياحا أن محمدا أتى المذاد، فركب في جنده يريده وقد خرج قبله محمد يريده، ومعه جبير بْن عبد الله السلمي وجبير ابن عبد الله بْن يعقوب بْن عطاء وعبد الله بْن عامر الأسلمي، فسمعوا سقاءة تحدث صاحبتها أن رياحا قد ركب يطلب محمدا بالمذاد، وأنه قد سار إلى السوق، فدخلوا دارا لجهينه وأجافوا بابها عليهم، ومر رياح على الباب لا يعلم بهم، ثم رجع إلى دار مروان، فلما حضرت العشاء الأخيرة صلى في الدار ولم يخرج

وقيل: إن الذي أعلم رياحا بمحمد سليمان بْن عبد الله بْن أبي سبرة من بني عامر بْن لؤي. وذكر عن الفضل بْن دكين، قَالَ: بلغني أن عبيد الله بْن عمرو بْن أبي ذؤيب وعبد الحميد بْن جعفر دخلوا على محمد قبل خروجه، فقالوا له: ما ننتظر بالخروج! والله ما نجد في هذه الأمة أحدا أشام عليها منك. ما يمنعك أن تخرج وحدك! قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: بعث إلينا رياح فأتيته أنا وجعفر بْن محمد بْن علي بْن حسين، وحسين بْن علي بْن حسين بْن علي، على بْن عمر بْن علي بْن حسين بْن على، وحسن بن على بن حسين ابن علي بْن حسين بْن علي ورجال من قريش، منهم اسماعيل بن أيوب ابن سلمة بْن عبد الله بْن الوليد بْن المغيرة، ومعه ابنه خالد، فإنا لعنده في دار مروان إذ سمعنا التكبير قد حال دون كل شيء، فظنناه من عند الحرس، وظن الحرس أنه من الدار قَالَ: فوثب ابن مسلم بْن عقبة- وكان مع رياح- فاتكأ على سيفه، فقال: أطعني في هؤلاء فاضرب أعناقهم، فقال علي بْن عمر: فكدنا والله تلك الليلة أن نطيح حتى قام حسين بْن علي، فقال: والله ما ذاك لك، إنا على السمع والطاعة قَالَ: وقام رياح ومحمد بْن عبد العزيز، فدخلا جنبذا في دار يزيد، فاختفيا فيه، وقمنا فخرجنا من دار عبد العزيز ابن مروان حتى تسورنا على كبا كانت في زقاق عاصم بْن عمرو، فقال إسماعيل بْن أيوب لابنه خالد: يا بني، والله ما تجيبني نفسي إلى الوثوب، فارفعني، فرفعه. وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني عبد العزيز بْن عمران، قَالَ: حدثني أبي قَالَ: جاء الخبر إلى رياح وهو في دار مروان ان محمدا الخارج الليلة، فأرسل إلى أخي محمد بْن عمران وإلى العباس بْن عبد الله بْن الحارث ابن العباس وإلى غير واحد قَالَ: فخرج أخي وخرجت معه، حتى

دخلنا عليه بعد العشاء الآخرة، فسلمنا عليه فلم يرد علينا، فجلسنا فقال أخي: كيف أمسى الأمير أصلحه الله! قَالَ: بخير- بصوت ضعيف- قَالَ: ثم صمت طويلا ثم تنبه، فقال: ايها يا أهل المدينة! أمير المؤمنين يطلب بغيته في شرق الأرض وغربها، وهو ينتفق بين أظهركم! أقسم بالله لئن خرج لا أترك منكم أحدا إلا ضربت عنقه فقال أخي: أصلحك الله! أنا عذيرك منه، هذا والله الباطل، قَالَ: فأنت أكثر من هاهنا عشيرة، وأنت قاضي أمير المؤمنين، فادع عشيرتك قَالَ: فوثب أخي ليخرج، فقال: اجلس، اذهب أنت يا ثابت، فوثبت، فأرسلت إلى بني زهرة ممن يسكن حش طلحة ودار سعد ودار بني أزهر: أن أحضروا سلاحكم. قَالَ: فجاء منهم بشر، وجاء إبراهيم بْن يعقوب بْن سعد بْن أبي وقاص متنكبا قوسا- وكان من أرمى الناس- فلما رأيت كثرتهم، دخلت على رياح، فقلت: هذه بنو زهرة في السلاح يكونون معك، ائذن لهم قَالَ: هيهات! تريد أن تدخل علي الرجال طروقا في السلاح، قل لهم: فليجلسوا في الرحبة، فإن حدث شيء فليقاتلوا، قَالَ: قلت لهم: قد أبى أن يأذن لكم، لا والله ما هاهنا شيء، فاجلسوا بنا نتحدث. قَالَ: فمكثنا قليلا، فخرج العباس بْن عبد الله بْن الحارث في خيل يعس حتى جاء رأس الثنية، ثم انصرف الى منزله واغلقه عليه، فو الله إنا لعلى تلك الحال إذ طلع فارسان من قبل الزوراء، يركضان، حتى وقفا بين دار عبد الله بْن مطيع ورحبة القضاء في موضع السقاية قَالَ: قلنا: شر الأمر والله جد قَالَ: ثم سمعنا صوتا بعيدا، فأقمنا ليلا طويلا، فأقبل محمد بْن عبد الله من المذاد ومعه مائتان وخمسون رجلا، حتى إذا شرع على بني سلمة وبطحان، قال: اسلكوا بنى سلمه إن شاء الله، قَالَ: فسمعنا تكبيرا، ثم هدأ الصوت فأقبل حتى إذا خرج من زقاق ابن حبين استبطن السوق حتى جاء على التمارين، حتى دخل من أصحاب الأقفاص، فأتى السجن وهو يومئذ في دار ابن هشام، فدقه، وأخرج من كان فيه، ثم

أقبل حتى إذا كان بين دار يزيد ودار اويس نظرنا الى هول من الهئول. قَالَ: فنزل إبراهيم بْن يعقوب، ونكب كنانته وقال: ارمي؟ فقلنا: لا تفعل، ودار محمد بالرحبة، حتى جاء بيت عاتكة بنت يزيد، فجلس على بابها، وتناوش الناس حتى قتل رجل سندي كان يستصبح في المسجد، قتله رجل من أصحاب محمد. قال: وحدثني سعيد بْن عبد الحميد بْن جعفر، أخبرني جهم بْن عثمان، قَالَ: خرج محمد من المذاد على حمار ونحن معه، فولى خوات بْن بكير بْن خوات بْن جبير الرجالة، وولى عبد الحميد بْن جعفر الحربة، وقال: أكفنيها، فحملها ثم استعفاه منها فأعفاه، ووجهه مع ابنه حسن بْن محمد. قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يزيد بْن ركانة قَالَ: بعث إبراهيم بْن عبد الله إلى أخيه بحملي سيوف، فوضعها بالمذاد، فأرسل إلينا ليلة خرج: وما نكون؟ مائة رجل! وهو على حمار أعرابي أسود، فافترق طريقان: طريق بطحان وطريق بني سلمة، فقلنا له: كيف نأخذ؟ قَالَ: على بني سلمة، يسلمكم الله، قَالَ: فجئنا حتى صرنا بباب مروان. قَالَ: وحدثني محمد بْن عمرو بْن رتبيل بْن نهشل أحد بني يربوع، عن أبي عمرو المديني- شيخ من قريش- قَالَ: أصابتنا السماء بالمدينة أياما، فلما أقلعت خرجت في غبها متمطرا، فانتسأت عن المدينة، فإني لفي رحلي إذ هبط علي رجل لا أدري من أين أتى، حتى جلس الى، وعليه أطمار له درنة وعمامة رثة، فقلت له: من أين أقبلت؟ قَالَ: من غنيمة لي أوصيت راعيها بحاجة لي، ثم أقبلت أريد أهلي قَالَ: فجعلت لا أسلك من العلم طريقا إلا سبقني إليه وكثرني فيه، فجعلت أعجب له ولما يأتي به، قلت: ممن الرجل؟ قَالَ: من المسلمين، قلت: أجل، فمن أيهم أنت؟ قال: لا عليك، الا تريد؟ قلت: بلى علي ذلك، فمن أنت؟ قَالَ: فوثب وقال:

منخرق الخفين يشكو الوجى. الأبيات الثلاثة. قَالَ: ثم ادبر فذهب، فو الله ما فات مدى بصري حتى ندمت على تركه قبل معرفته، فاتبعته لأسأله، فكأن الأرض التأمت عليه، ثم رجعت إلى رحلي، ثم أتيت المدينة فما غبرت إلا يومي وليلتي، حتى شهدت صلاة الصبح بالمدينة، فإذا رجل يصلي بنا، لأعرف صوته، فقرأ: «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً» ، فلما انصرف صعد المنبر، فإذا صاحبي، وإذا هو محمد بْن عبد الله بْن حسن. قَالَ: وحدثني إسماعيل بْن إبراهيم بْن هود مولى قريش، قَالَ: سمعت إسماعيل بْن الحكم بْن عوانة يخبر عن رجل قد سماه بشبيهة بهذه القصة. قَالَ إسماعيل: فحدثت بها رجلا من الأنبار يكنى أبا عبيد، فذكر أن محمدا- أو إبراهيم- وجه رجلا من بني ضبة- فيما يحسب إسماعيل بْن إبراهيم بْن هود- ليعلم له بعض علم أبي جعفر، فأتى الرجل المسيب وهو يومئذ على الشرط، فمت إليه برحمه، فقال المسيب: إنه لا بد من رفعك إلى أمير المؤمنين. فأدخله على أبي جعفر فاعترف، فقال: ما سمعته يقول؟ قَالَ: شرده الخوف فأزرى به ... كذاك من يكره حر الجلاد قَالَ أبو جعفر: فأبلغه أنا نقول: وخطة ذل نجعل الموت دونها ... نقول لها للموت أهلا ومرحبا وقال: انطلق فابلغه. قال عمر: وحدثنى أزهر بْن سعيد بْن نافع- وقد شهد ذلك- قَالَ: خرج محمد في أول يوم من رجب سنة خمس وأربعين ومائة، فبات بالمذاد هو وأصحابه، ثم أقبل في الليل، فدق السجن وبيت المال، وأمر برياح وابن مسلم فحبسا معا في دار ابن هشام

قَالَ: وحدثني يعقوب بْن القاسم، قَالَ: حدثني علي بْن أبي طالب، قَالَ: خرج محمد لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين ومائة. وحدثني عمر بْن راشد، قَالَ: خرج لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة، فرأيت عليه ليله خرج قلنسوة صفراء مضريه وجبة صفراء، وعمامة قد شد بها حقويه وأخرى قد اعتم بها، متوشحا سيفا، فجعل يقول لأصحابه: لا تقتلوا، فلما امتنعت منهم الدار، قَالَ: ادخلوا من باب المقصورة، قَالَ: فاقتحموا وحرقوا باب الخوخة التي فيها، فلم يستطع أحد أن يمر، فوضع رزام مولى القسري ترسه على النار، ثم تخطى عليه، فصنع الناس ما صنع، ودخلوا من بابها، وقد كان بعض أصحاب رياح مارسوا على الباب، وخرج من كان مع رياح في الدار من دار عبد العزيز من الحمام، وتعلق رياح في مشربة في دار مروان، فأمر بدرجها فهدمت، فصعدوا إليه، فأنزلوه وحبسوه في دار مروان، وحبسوا معه أخاه عباس بْن عثمان وكان محمد بْن خالد وابن أخيه النذير بْن يزيد ورزام في الحبس، فأخرجهم محمد، وأمر النذير بالاستيثاق من رياح وأصحابه. قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: حبس محمد رياحا وابن أخيه وابن مسلم بْن عقبة في دار مروان. قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني عبد العزيز بْن أبي ثابت، عن خاله راشد بْن حفص، قَالَ: قَالَ رزام للنذير: دعني وإياه فقد رأيت عذابه إياي قَالَ: شأنك وإياه، ثم قام ليخرج، فقال له رياح: يا أبا قيس، قد كنت أفعل بكم ما كنت افعل، وانا بسؤددكم عالم فقال له النذير: فعلت ما كنت اهله، ونفعل اما نحن أهله، وتناوله رزام فلم يزل به رياح يطلب إليه حتى كف، وقال: والله إن كنت لبطرا عند القدرة، لئيما عند البلية. قَالَ: وحدثني موسى بْن سعيد الجمحي، قال: حبس رياح محمد ابن مروان بْن أبي سليط من الأنصار، ثم أحد بني عمرو بْن عوف، فمدحه وهو محبوس، فقال:

وما نسي الذمام كريم قيس ... ولا ملقى الرجال إلى الرجال إذا ما الباب قعقعه سعيد ... هدجنا نحوه هدج الرئال دبيب الذر تصبح حين يمشي ... قصار الخطو غير ذوي اختيال قَالَ: حدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني إسماعيل بْن يعقوب التيمي قَالَ: صعد محمد المنبر فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أيها الناس، فإنه كان من أمر هذا الطاغية عدو الله أبي جعفر ما لم يخف عليكم، من بنائه القبة الخضراء التي بناها معاندا لله في ملكه، وتصغيرا للكعبة الحرام، وإنما أخذ الله فرعون حين قال: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» وإن أحق الناس بالقيام بهذا الدين أبناء المهاجرين الأولين والأنصار المواسين. اللهم إنهم قد أحلوا حرامك، وحرموا حلالك، وآمنوا من أخفت، وأخافوا من آمنت اللهم فأحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا. أيها الناس إني والله ما خرجت من بين أظهركم وأنتم عندي أهل قوة ولا شدة. ولكني اخترتكم لنفسي، والله ما جئت هذه وفي الأرض مصر يعبد الله فيه إلا وقد أخذ لي فيه البيعة. قَالَ: وحدثني موسى بْن عبد الله، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي عَنْ أَبِيهِ، قَالَ. لما وجهني رياح بلغ محمدا فخرج من ليلته، وقد كان رياح تقدم إلى الأجناد الذين معي، أن اطلع عليهم من ناحية المدينة رجل أن يضربوا عنقي، فلما أتي محمد برياح، قَالَ: أين موسى؟ قَالَ: لا سبيل إليه، والله لقد حدرته إلى العراق قَالَ: فأرسل في أثره فرده قَالَ: قد عهدت إلى الجند الذين معه إن رأوا أحدا مقبلا من المدينة أن يقتلوه قَالَ: فقال محمد لأصحابه: من لي بموسى؟ فقال ابن خضير: أنا لك به قَالَ: فانظر رجالا، فانتخب رجالا ثم أقبل. قال: فو الله ما راعنا إلا وهو بين أيدينا، كأنما أقبل من العراق، فلما نظر إليه الجند قالوا: رسل أمير المؤمنين، فلما خالطونا شهروا السلاح، فأخذني القائد وأصحابه، وأناخ بي وأطلقني من وثاقي، وشخص بي حتى أقدمني على محمد

قَالَ عمر: حدثني علي بْن الجعد، قَالَ: كان أبو جعفر يكتب إلى محمد عن ألسن قواده يدعونه إلى الظهور، ويخبرونه أنهم معه، فكان محمد يقول: لو التقينا مال إلي القواد كلهم. قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: لما أخذ محمد المدينة استعمل عليها عثمان بْن محمد بْن خالد بْن الزبير، وعلى قضائها عبد العزيز بْن المطلب بْن عبد الله المخزومي، وعلى الشرط أبا القلمس عثمان بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر بْن الخطاب، وعلى ديوان العطاء عبد الله بْن جعفر بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وبعث إلى محمد بْن عبد العزيز: إني كنت لأظنك ستنصرنا، وتقيم معنا فاعتذر إليه وقال: أفعل، ثم انسل منه فأتى مكة. قَالَ: وحدثني إسماعيل بْن إبراهيم بْن هود، قَالَ: حدثني سعيد بْن يحيى أبو سفيان الحميري، قَالَ: حدثني عبد الحميد بْن جعفر، قَالَ: كنت على شرط محمد بْن عبد الله حتى وجهني وجها، وولي شرطه الزبيري. قَالَ: وحدثني أزهر بْن سعيد بْن نافع، قَالَ: لم يتخلف عن محمد أحد من وجوه الناس إلا نفر، منهم الضحاك بْن عثمان بْن عبد الله بْن خالد بْن حزام وعبد الله بْن المنذر بْن المغيرة بْن عبد الله بْن خالد بْن حزام، وأبو سلمة بْن عبيد الله ابن عبد الله بْن عمر بْن الخطاب وخبيب بْنِ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ. قَالَ: وحدثني يعقوب بْن القاسم، قَالَ: حدثتني جدتي كلثم بنت وهب، قالت: لما خرج محمد تنحى أهل المدينة، فكان فيمن خرج زوجي عبد الوهاب بْن يَحْيَى بْن عباد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزبير إلى البقيع، فاختبات عند أسماء بنت حسن بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْن عباس قالت: فكتب إلي عبد الوهاب بأبيات قالها، فكتبت إليه: رحم الله شبابا ... قاتلوا يوم الثنية

قاتلوا عنه: بنيات ... وأحساب نقيه فر عنه الناس طرا ... غير خيل أسديه قالت: فزاد الناس: قتل الرحمن عيسى ... قاتل النفس الزكية قال: وحدثني سعيد بن عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن الحكم ابن سنان الحكمي أخو الأنصار، قَالَ: أخبرني غير واحد أن مالك بْن أنس استفتي في الخروج مع محمد، وقيل له: إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر، فقال: إنما بايعتم مكرهين، وليس على كل مكره يمين فأسرع الناس إلى محمد، ولزم مالك بيته. وحدثني محمد بْن إسماعيل، قَالَ: حدثني ابن أبي مليكه مولى عبد الله ابن جعفر، قَالَ: أرسل محمد إلى إسماعيل بْن عبد الله بْن جعفر- وقد كان بلغ عمرا- فدعاه محمد حين خرج إلى البيعة، فقال: يا بن أخي، أنت والله مقتول، فكيف أبايعك! فارتدع الناس عنه قليلا، وكان بنو معاوية قد أسرعوا إلى محمد، فأتته حمادة بنت معاوية، فقالت: يا عم، إن أخوتي قد أسرعوا إلى ابن خالهم، وإنك إن قلت هذه المقالة ثبطت عنه الناس، فيقتل ابن خالي وإخوتي قَالَ: فأبى الشيخ إلا النهي عنه، فيقال: إن حمادة عدت عليه فقتلته، فأراد محمد الصلاة عليه، فوثب عليه عبد الله بْن إسماعيل، فقال: تأمر بقتل أبي ثم تصلي عليه! فنحاه الحرس، وصلى عليه محمد. قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: اتى محمد بعبيد الله ابن الحسين بْن علي بْن الحسين بْن علي مغمضا عينيه، فقال: إن علي يمينا إن رأيته لأقتلنه فقال عيسى بْن زيد: دعني أضرب عنقه، فكفه عنه محمد. قَالَ: وحدثني أيوب بْن عمر، قَالَ: حدثني محمد بْن معن، قَالَ: حدثني محمد بْن خالد القسري، قَالَ: لما ظهر محمد وأنا في حبس ابن

حيان أطلقني، فلما سمعت دعوته التي دعا إليها على المنبر، قلت: هذه دعوة حق، والله لأبلين الله فيها بلاء حسنا، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنك قد خرجت في هذا البلد، والله لو وقف على نقب من أنقابه مات أهله جوعا وعطشا، فانهض معي، فإنما هي عشر حتى أضربه بمائه ألف سيف فأبى علي، فإني لعنده يوما إذ قَالَ لي: ما وجدنا من حر المتاع شيئا أجود من شيء وجدناه عند ابن ابى فروه، ختن ابى الخطيب- وكان انتهبه- قَالَ: فقلت: ألا أراك قد أبصرت حر المتاع! فكتبت إلى أمير المؤمنين فأخبرته بقلة من معه، فعطف علي، فحبسني حتى أطلقني عيسى بْن موسى بعد قتله إياه قَالَ: وحدثني سعيد بْن عبد الحميد بْن جعفر، قَالَ: حدثتني أختي بريكة بنت عبد الحميد، عن أبيها، قَالَ: إني لعند محمد يوما ورجله في حجري، إذ دخل عليه خوات بْن بكير بْن خوات بْن جبير، فسلم عليه، فرد عليه سلاما ليس بالقوي، ثم دخل عليه شاب من قريش، فسلم عليه، فأحسن الرد عليه، فقلت: ما تدع عصبيتك بعد! قَالَ: وما ذلك؟ قلت: دخل عليك سيد الأنصار فسلم فرددت عليه ردا ضعيفا، ودخل عليك صعلوك من صعاليك قريش فسلم فاحتفلت في الرد عليه! فقال: ما فعلت ذاك، ولكنك تفقدت مني ما لا يتفقد أحد من أحد قَالَ: وحدثني عبد الله بْن إسحاق بْن القاسم، قَالَ: استعمل محمد الحسن بْن معاوية بْن عبد الله بْن جعفر على مكة، ووجه معه القاسم بْن إسحاق واستعمله على اليمن قَالَ: وحدثني محمد بْن إسماعيل عن أهله، أن محمدا استعمل القاسم ابن إسحاق على اليمن وموسى بْن عبد الله على الشام، يدعوان إليه، فقتل قبل أن يصلا قَالَ: وحدثني أزهر بْن سعيد، قَالَ: استعمل محمد حين ظهر عبد العزيز ابن الدراوردي على السلاح

قَالَ: وأخبرني محمد بْن يحيى ومحمد بْن الحسن بن زبالة وغيرهما، قالوا: لما ظهر محمد، قَالَ ابن هرمة- وقد أنشد بعضهم ما لم ينشد غيره لأبي جعفر: غلبت على الخلافة من تمنى ... ومناه المضل بها الضلول فأهلك نفسه سفها وجبنا ... ولم يقسم له منها فتيل ووازره ذوو طمع فكانوا ... غثاء السيل يجمعه السيول دعوا إبليس إذ كذبوا وجاروا ... فلم يصرخهم المغوي الخذول وكانوا أهل طاعته فولى ... وسار وراءه منهم قبيل وهم لم يقصروا فيها بحق ... على أثر المضل ولم يطيلوا وما الناس احتبوك بها ولكن ... حباك بذلك الملك الجليل تراث محمد لكم وكنتم ... أصول الحق إذ نفي الأصول قَالَ: وحدثني محمود بْن معمر بْن أبي الشدائد الفزاري وموهوب بْن رشيد ابن حيان الكلابي، قَالَ: قَالَ أبو الشدائد لما ظهر محمد وتوجه إليه عيسى: أتتك النجائب والمقربات ... بعيسى بْن موسى فلا تعجل قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: كان محمد آدم شديد الأدمة، أدلم جسيما عظيما، وكان يلقب القاري من أدمته، حتى كان أبو جعفر يدعوه محمما قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني إبراهيم بْن زياد بْن عنبسة، قَالَ: ما رأيت محمدا رقي المنبر قط إلا سمعت بقعقعة من تحته، وإني لبمكاني ذلك قَالَ: وحدثني عبد الله بْن عمر بْن حبيب، قَالَ: حدثني من حضر محمدا على المنبر يخطب، فاعترض بلغم في حلقه فتنحنح، فذهب ثم عاد فتنحنح، فذهب ثم عاد فتنحنح، ثم عاد فتنحنح ثم نظر فلم ير موضعا، فرمى بنخامته سقف المسجد فألصقها به

قَالَ: وحدثني عبد الله بْن نافع، قَالَ: حدثني إبراهيم بْن علي من آل أبي رافع، قَالَ: كان محمد تمتاما، فرأيته على المنبر يتلجلج الكلام في صدره، فيضرب بيده على صدره، ويستخرج الكلام قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: دخل عيسى بْن موسى يوما على أبي جعفر، فقال: سرك الله يا أمير المؤمنين! قَالَ: فيم؟ قَالَ: ابتعت وجه دار عبد الله بْن جعفر من بني معاوية، حسن ويزيد وصالح، قَالَ أتفرح! أما والله ما باعوها إلا ليثبوا عليك بثمنها قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني عبد العزيز بْن عمران عن محمد بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الربيع بْن عبيد الله بن عبد المدان بن عبيد الله، قَالَ: خرج محمد بالمدينة، وقد خط المنصور مدينته بغداد بالقصب، فسار إلى الكوفة وسرت معه، فصيح بي فلحقته، فصمت طويلا ثم قال: يا بن الربيع، خرج محمد، قلت: أين؟ قَالَ: بالمدينة، قلت: هلك والله وأهلك، خرج والله في غير عدد ولا رجال يا أمير المؤمنين، ألا أحدثك حديثا حدثنيه سعيد بْن عمرو بْن جعدة المخزومي؟ قَالَ: كنت مع مروان يوم الزاب واقفا، فقال: يا سعيد، من هذا الذى يقاتلني في هذه الخيل؟ قلت: عبد الله ابن علي بْن عبد الله بْن عباس، قَالَ: أيهم هو؟ عرفه، قلت: نعم، رجل أصفر حسن الوجه رقيق الذراعين، رجل دخل عليك يشتم عبد الله بْن معاوية حين هزم، قَالَ: قد عرفته، والله لوددت أن علي بْن أبي طالب يقاتلني مكانه، إن عليا وولده لا حظ لهم في هذا الأمر، وهذا رجل من بنى هاشم وابن عم رسول الله ص وابن عباس، معه ريح الشام ونصر الشام يا بن جعدة، تدري ما حملني على أن عقدت لعبد الله وعبيد الله ابني مروان، وتركت عبد الملك وهو أكبر من عبيد الله؟ قلت: لا، قَالَ: وجدت الذي يلي هذا الأمر عبد الله، وكان عبيد الله أقرب إلى عبد الله من عبد الملك، فعقدت له فقال: أنشدك الله! أحدثك هذا ابن جعدة! قلت: ابنة سفيان بْن معاوية طالق البتة إن لم يكن حدثني ما حدثتك

قَالَ عمر: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: خرج إلى أبي جعفر في الليلة التي ظهر فيها محمد رجل من آل اويس ابن أبي سرح من بني عامر بْن لؤي، فسار تسعا من المدينة، فقدم ليلا، فقام على أبواب المدينة، فصاح حتى نذر به، فأدخل، فقال له الربيع: ما حاجتك هذه الساعة وأمير المؤمنين نائم! قَالَ: لا بد لي منه، قَالَ: أعلمنا نعلمه، فأبى، فدخل الربيع عليه فأعلمه، فقال: سله عن حاجته ثم أعلمني، قَالَ: قد أبى الرجل إلا مشافهتك فأذن له، فدخل عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، خرج محمد بْن عبد الله بالمدينة، قَالَ: قتلته والله إن كنت صادقا! أخبرني من معه؟ فسمى له من خرج معه من وجوه أهل المدينة وأهل بيته، قَالَ: أنت رأيته وعاينته؟ قَالَ: أنا رأيته وعاينته وكلمته على منبر رسول الله ص جالسا فأدخله أبو جعفر بيتا، فلما أصبح جاءه رسول لسعيد بْن دينار، غلام عيسى بْن موسى كان يلي أموال عيسى بالمدينة، فأخبره بأمر محمد، وتواترت عليه أخباره، فأخرج الأويسي فقال: لأوطئن الرجال عقبيك ولأغنينك، وأمر له بتسعة آلاف، لكل ليلة سارها ألفا قَالَ: وحدثني ابن أبي حرب، قَالَ: لما بلغ أبا جعفر ظهوره أشفق منه، فجعل الحارث المنجم يقول له: يا أمير المؤمنين، ما يجزعك منه! فو الله لو ملك الأرض ما لبث إلا تسعين يوما. قَالَ: وحدثني سهيل بْن عقيل بْن إسماعيل، عن أبيه، قَالَ: لما بلغ أبا جعفر خبره بادر إلى الكوفة، وقال: أنا ابو جعفر، استخرجت الثعلب من جحره. قَالَ: وحدثني عبد الملك بْن سليمان، عن حبيب بْن مرزوق، قَالَ: حدثني تسنيم بْن الحواري، قَالَ: لما ظهر محمد وإبراهيم ابنا عبد الله، أرسل أبو جعفر إلى عبد الله بْن علي وهو محبوس عنده: إن هذا الرجل قد خرج، فإن كان عندك رأي فأشر به علينا- وكان ذا رأي عندهم- فقال:

إن المحبوس محبوس الرأي، فأخرجني حتى يخرج رأيي، فأرسل إليه أبو جعفر: لو جاءني حتى يضرب بابي ما أخرجتك، وأنا خير لك منه، وهو ملك أهل بيتك فأرسل إليه عبد الله: ارتحل الساعة حتى تأتي الكوفة، فاجثم على أكبادهم، فإنهم شيعة أهل هذا البيت وأنصارهم، ثم احففها بالمسالح، فمن خرج منها الى وجه من الوجوه او أتاها من وجه من الوجوه فاضرب عنقه، وابعث إلى سلم بْن قتيبة ينحدر عليك- وكان بالري- واكتب إلى أهل الشام فمرهم أن يحملوا إليك من أهل البأس والنجده ما يحمل البريد، فأحسن جوائزهم، ووجههم مع سلم ففعل. قَالَ: وحدثني العباس بْن سفيان بْن يحيى بْن زياد، قَالَ: سمعت أشياخنا يقولون: لما ظهر محمد ظهر وعبد الله بْن علي محبوس، فقال أبو جعفر لإخوته: إن هذا الأحمق لا يزال يطلع له الرأي الجيد في الحرب، فادخلوا عليه فشاوروه ولا تعلموه أني أمرتكم فدخلوا عليه، فلما رآهم قَالَ: لأمر ما جئتم، ما جاء بكم جميعا وقد هجرتموني منذ دهر! قالوا: استأذنا أمير المؤمنين فأذن لنا، قَالَ: ليس هذا بشيء، فما الخبر؟ قالوا: خرج ابن عبد الله، قَالَ: فما ترون ابن سلامة صانعا؟ يعني أبا جعفر- قالوا: لا ندري والله، قَالَ: إن البخل قد قتله، فمروه فليخرج الأموال، فليعط الأجناد، فإن غلب فما أوشك أن يعود إليه ماله، وإن غلب لم يقدم صاحبه على درهم واحد. قَالَ: وحدثنا عبد الملك بْن شيبان، قَالَ: أخبرني زيد مولى مسمع بْن عبد الملك، قَالَ: لما ظهر محمد دعا أبو جعفر عيسى بْن موسى، فقال له: قد ظهر محمد فسر إليه، قَالَ: يا أمير المؤمنين، هؤلاء عمومتك حولك، فادعهم فشاورهم، قَالَ: فأين قول ابن هرمة: ترون امرأ لا يمحض القوم سره ... ولا ينتجى الأذنين فيما يحاول إذا ما أتى شيئا مضى كالذي أبى ... وإن قَالَ إني فاعل فهو فاعل قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قال: نسخت هذه الرسائل من محمد

ابن بشير، وكان بشير يصححها، وحدثنيها أبو عبد الرحمن من كتاب أهل العراق والحكم بْن صدقة بْن نزار، وسمعت ابن أبي حرب يصححها، ويزعم أن رسالة محمد لما وردت على أبي جعفر، قَالَ أبو أيوب: دعني أجبه عليها، فقال أبو جعفر: لا بل أنا أجيبه عنها، إذ تقارعنا على الأحساب فدعني وإياه. قالوا: لما بلغ أبا جعفر المنصور ظهور محمد بن عبد الله المدينة كتب إِلَيْهِ: بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من عبد اللَّه عبد الله أمير المؤمنين، إلى محمد بْن عبد الله: «إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ولك علي عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله ص إن تبت ورجعت من قبل أن أقدر عليك أن أؤمنك وجميع ولدك وإخوتك وأهل بيتك ومن اتبعكم على دمائكم وأموالكم، وأسوغك ما أصبت من دم أو مال، وأعطيك ألف ألف درهم، وما سألت من الحوائج، وأنزلك من البلاد حيث شئت، وأن أطلق من في حبسي من أهل بيتك، وأن أؤمن كل من جاءك وبايعك واتبعك، أو دخل معك في شيء من أمرك، ثم لا أتبع أحدا منهم بشيء كان منه أبدا فإن أردت أن تتوثق لنفسك، فوجه إلي من أحببت يأخذ لك من الأمان والعهد والميثاق ما تثق به. وكتب على العنوان: من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بْن عبد الله فكتب إليه محمد بْن عبد الله:

بسم اللَّه الرحمن الرحيم من عبد اللَّه المهدي محمد بْن عبد الله إلى عبد الله بْن محمد: «طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ المبين نتلو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كانوا يحذرون» وأنا أعرض عليك من الأمان مثل الذي عرضت علي، فإن الحق حقنا، وإنما ادعيتم هذا الأمر بنا، وخرجتم له بشيعتنا، وحظيتم بفضلنا، وإن أبانا عليا كان الوصي وكان الإمام، فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء! ثم قد علمت أنه لم يطلب هذا الأمر أحد له مثل نسبنا وشرفنا وحالنا وشرف آبائنا، لسنا من أبناء اللعناء ولا الطرداء ولا الطلقاء، وليس يمت أحد من بني هاشم بمثل الذي نمت به من القرابة والسابقة والفضل، وإنا بنو أَمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاطمة بنت عمرو في الجاهلية وبنو بنته فاطمة في الإسلام دونكم. إن الله اختارنا واختار لنا، فوالدنا من النبيين محمد ص، ومن السلف أولهم إسلاما علي، ومن الأزواج أفضلهن خديجة الطاهرة، وأول من صلى القبلة، ومن البنات خيرهن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، ومن المولودين في الإسلام حسن وحسين سيدا شباب أهل الجنة، وإن هاشما ولد عليا مرتين، وإن عبد المطلب ولد حسنا مرتين وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولدني مرتين من قبل حسن وحسين، وإني أوسط بني هاشم

نسبا، وأصرحهم أبا، لم تعرق في العجم، ولم تنازع في أمهات الأولاد، فما زال الله يختار لي الآباء والأمهات في الجاهلية والإسلام حتى اختار لي في النار، فأنا ابن أرفع الناس درجة في الجنة، وأهونهم عذابا في النار، وأنا ابن خير الأخيار، وابن خير الأشرار، وابن خير أهل الجنة، وابن خير أهل النار ولك الله علي إن دخلت في طاعتي، وأجبت دعوتي أن أؤمنك على نفسك ومالك، وعلى كل أمر أحدثته، إلا حدا من حدود الله أو حقا لمسلم أو معاهد، فقد علمت ما يلزمك من ذلك، وأنا أولى بالأمر منك وأوفى بالعهد، لأنك أعطيتني من العهد والأمان ما أعطيته رجالا قبلي، فأي الأمانات تعطيني! أمان ابن هبيرة، أم أمان عمك عبد الله بْن علي، أم أمان أبي مسلم! فكتب إليه أبو جعفر: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فقد بلغني كلامك، وقرأت كتابك، فإذا جل فخرك بقرابة النساء، لتضل به الجفاة والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة والآباء، ولا كالعصبة والأولياء، لأن الله جعل العم أبا، وبدأ به في كتابه على الوالدة الدنيا ولو كان اختيار الله لهن على قدر قرابتهن كانت آمنة أقربهن رحما، وأعظمهن حقا، وأول من يدخل الجنة غدا، ولكن اختيار الله لخلقه على علمه لما مضى منهم، واصطفائه لهم. وأما ما ذكرت من فاطمة أم أبي طالب وولادتها، فإن الله لم يرزق أحدا من ولدها الإسلام لا بنتا ولا ابنا، ولو أن أحدا رزق الإسلام بالقرابة رزقه

عبد الله أولاهم بكل خير في الدنيا والآخرة، ولكن الأمر لله يختار لدينه من يشاء، قَالَ الله عز وجل: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» ، ولقد بعث الله محمدا عليه السلام وله عمومة أربعة، فأنزل الله عز وجل: «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» فأنذرهم ودعاهم، فأجاب اثنان أحدهما أبي، وأبى اثنان أحدهما أبوك، فقطع الله ولايتهما منه، ولم يجعل بينه وبينهما إلا ولا ذمة ولا ميراثا وزعمت أنك ابن أخف أهل النار عذابا وابن خير الأشرار، وليس في الكفر بالله صغير، ولا في عذاب الله خفيف ولا يسير، وليس في الشر خيار، ولا ينبغي لمؤمن يؤمن بالله أن يفخر بالنار، وسترد فتعلم، «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» وأما ما فخرت به من فاطمة أم علي وأن هاشما ولده مرتين، ومن فاطمة أم حسن، وأن عبد المطلب ولده مرتين، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولدك مرتين، فخير الأولين والآخرين رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يلده هاشم إلا مرة ولا عبد المطلب إلا مرة. وزعمت أنك أوسط بني هاشم نسبا، وأصرحهم أما وأبا، وأنه لم تلدك العجم ولم تعرق فيك أمهات الأولاد، فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طرا، فانظر ويحك أين أنت من الله غدا! فإنك قد تعديت طورك، وفخرت على من هو خير منك نفسا وأبا وأولا وآخرا، ابراهيم بن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى والد ولده، وما خيار بني أبيك خاصة وأهل الفضل منهم إلا بنو أمهات أولاد، وما ولد فيكم بعد وفاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل من علي ابن حسين، وهو لأم ولد، ولهو خير من جدك حسن بْن حسن، وما كان فيكم بعده مثل ابنه محمد بْن علي، وجدته أم ولد، ولهو خير من أبيك،

ولا مثل ابنه جعفر وجدته أم ولد، ولهو خير منك. وأما قولك: إنكم بنو رسول اله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن الله تعالى يقول في كتابه: «مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ» ، ولكنكم بنو ابنته، وإنها لقرابة قريبة، ولكنها لا تحوز الميراث، ولا ترث الولاية، ولا تجوز لها الإمامة، فكيف تورث بها! ولقد طلبها أبوك بكل وجه فأخرجها نهارا، ومرضها سرا، ودفنها ليلا، فأبى الناس إلا الشيخين وتفضيلهما، ولقد جاءت السنة التي لا اختلاف فيها بين المسلمين أن الجد أبا الأم والخال والخالة لا يرثون. وأما ما فخرت به من علي وسابقته، فقد حَضَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوفاة، فأمر غيره بالصلاة، ثم أخذ الناس رجلا بعد رجل فلم يأخذوه، وكان في الستة فتركوه كلهم دفعا له عنها، ولم يروا له حقا فيها، أما عبد الرحمن فقدم عليه عثمان، وقتل عثمان وهو له متهم، وقاتله طلحة والزبير، وأبي سعد بيعته، وأغلق دونه بابه، ثم بايع معاوية بعده ثم طلبها بكل وجه وقاتل عليها، وتفرق عنه أصحابه، وشك فيه شيعته قبل الحكومة، ثم حكم حكمين رضي بهما، وأعطاهما عهده وميثاقه، فاجتمعا على خلعه ثم كان حسن فباعها من معاوية بخرق ودراهم ولحق بالحجاز، وأسلم شيعته بيد معاوية ودفع الأمر إلى غير أهله، وأخذ مالا من غير ولائه ولا حله، فإن كان لكم فيها شيء فقد بعتموه وأخذتم ثمنه ثم خرج عمك حسين بْن علي على ابن مرجانة، فكان الناس معه عليه حتى قتلوه، وأتوا برأسه إليه، ثم خرجتم على بني أمية، فقتلوكم وصلبوكم على جذوع النخل، وأحرقوكم بالنيران، ونفوكم من البلدان، حتى قتل يحيى بْن زيد بخراسان، وقتلوا رجالكم وأسروا الصبية والنساء، وحملوهم بلا وطاء في المحافل كالسبي

المجلوب إلى الشام، حتى خرجنا عليهم فطلبنا بثأركم، وأدركنا بدمائكم وأورثناكم أرضهم وديارهم، وسنينا سلفكم وفضلناه، فاتخذت ذلك علينا حجة. وظننت أنا إنما ذكرنا أباك وفضلناه للتقدمة منا له على حمزة والعباس وجعفر، وليس ذلك كما ظننت، ولكن خرج هؤلاء من الدنيا سالمين، متسلما منهم، مجتمعا عليهم بالفضل، وابتلي أبوك بالقتال والحرب، وكانت بنو أمية تلعنه كما تلعن الكفرة في الصلاة المكتوبة، فاحتججنا له، وذكرناهم فضله، وعنفناهم وظلمناهم بما نالوا منه ولقد علمت أن مكرمتنا في الجاهلية سقاية الحجيج الأعظم، وولاية زمزم، فصارت للعباس من بين إخوته، فنازعنا فيها أبوك، فقضى لنا عليه عمر، فلم نزل نليها في الجاهلية والإسلام، ولقد قحط أهل المدينة فلم يتوسل عمر إلى ربه ولم يتقرب إليه إلا بأبينا، حتى نعشهم الله وسقاهم الغيث، وأبوك حاضر لم يتوسل به، ولقد علمت أنه لم يبق أحد من بني عبد المطلب بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيره، فكان وراثه من عمومته، ثم طلب هذا الأمر غير واحد من بني هاشم فلم ينله إلا ولده، فالسقاية سقايته وميراث النبي له، والخلافة في ولده، فلم يبق شرف ولا فضل في جاهلية ولا إسلام في دنيا ولا آخرة إلا والعباس وارثه ومورثه. وأما ما ذكرت من بدر، فإن الإسلام جاء والعباس يمون أبا طالب وعياله، وينفق عليهم للأزمة التي أصابته، ولولا أن العباس أخرج إلى بدر كارها لمات طالب وعقيل جوعا، وللحساجفان عتبة وشيبة، ولكنه كان من المطعمين، فأذهب عنكم العار والسبة، وكفاكم النفقة والمئونة، ثم فدى عقيلا يوم بدر، فكيف تفخر علينا وقد علناكم في الكفر وفديناكم من الأسر، وحزنا عليكم مكارم الآباء، وورثنا دونكم خاتم الأنبياء، وطلبنا بثأركم فأدركنا منه ما عجزتم عنه، ولم تدركوا لأنفسكم! والسلام عليك ورحمة الله

قَالَ عمر بْن شبة: حدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: أجمع ابن القسري على الغدر بمحمد، فقال له: يا أمير المؤمنين، ابعث موسى بْن عبد الله ومعه رزاما مولاي إلى الشام يدعوان إليك. فبعثهما فخرج رزام بموسى إلى الشام، وظهر محمد على أن القسري كتب إلى أبي جعفر في أمره، فحبسه في نفر ممن كان معه في دار ابن هشام التي في قبلة مصلى الجنائز- وهي اليوم لفرج الخصي- وورد رزام بموسى الشام، ثم انسل منه، فذهب إلى أبي جعفر، فكتب موسى إلى محمد: إني أخبرك أني لقيت الشام وأهله، فكان أحسنهم قولا الذي قَالَ: والله لقد مللنا البلاء، وضقنا به ذرعا، حتى ما فينا لهذا الأمر موضع، ولا لنا به حاجة، ومنهم طائفة تحلف: لئن أصبحنا من ليلتنا او مسينا من غد ليرفعن أمرنا وليدلن علينا، فكتبت إليك وقد غيبت وجهي، وخفت على نفسي قَالَ الحارث: ويقال أن موسى ورزاما وعبد الله بْن جعفر بْن عبد الرحمن بْن المسور توجهوا إلى الشام في جماعة، فلما ساروا بتيماء، تخلف رزام ليشتري لهم زادا، فركب إلى العراق، ورجع موسى وأصحابه إلى المدينة. قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني موسى بن عبد الله ببغداد ورزام معنا، قَالَ: بعثني محمد ورزاما في رجال معنا إلى الشام، لندعو له، فإنا لبدومة الجندل، إذ أصابنا حر شديد، فنزلنا عن رواحلنا نغتسل في غدير، فاستل رزام سيفه، ثم وقف على رأسي، وقال: يا موسى، أرأيت لو ضربت عنقك ثم مضيت برأسك إلى أبي جعفر، أيكون أحد عنده في منزلتي! قَالَ: قلت لا تدع هزلك يا أبا قيس! شم سيفك غفر الله لك. قَالَ: فشام سيفه، فركبنا قَالَ عيسى: فرجع موسى قبل أن يصل إلى الشام، فأتى البصرة هو وعثمان بْن محمد، فدل عليهما، فأخذا. قَالَ: وحدثني عبد الله بْن نافع بْنِ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: حدثني أخي عبد الله بْن نافع الأكبر، قَالَ: لما ظهر محمد لم يأته أبي نافع ابن ثابت، فأرسل إليه، فأتاه وهو في دار مروان، فقال: يا أبا عبد الله،

لم أرك جئتنا! قَالَ: ليس في ما تريد، فألح عليه محمد، حتى قَالَ: ألبس السلاح يتأس بك غيرك، فقال: أيها الرجل، إني والله ما أراك في شيء، خرجت في بلد ليس فيه مال ولا رجال ولا كراع ولا سلاح، وما أنا بمهلك نفسي معك، ولا معين على دمي قَالَ: انصرف، فلا شيء فيك بعد هذا. قَالَ: فمكث يختلف إلى المسجد إلى أن قتل محمد، فلم يصل فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم قتل إلا نافع وحده. ووجه محمد بْن عبد الله لما ظهر- فيما ذكر عمر عن أزهر بْن سعيد بْن نافع- الحسن بْن معاوية إلى مكة عاملا عليها، ومعه العباس بْن القاسم- رجل من آل أبي لهب- فلم يشعر بهم السري بْن عبد الله حتى دنوا من مكة، فخرج إليهم، فقال له مولاه: ما رأيك؟ قد دنونا منهم، قَالَ: انهزموا على بركة الله، وموعدكم بئر ميمون فانهزموا، ودخلها الحسن بْن معاوية وخرج الحسين بْن صخر- رجل من آل أويس- من ليلته، فسار إلى أبي جعفر تسعا فأخبره فقال: قد أنصف القارة من راماها، وأجازه بثلاثمائة درهم قَالَ: وحدثني أيوب بْن عمر، قَالَ: حدثني محمد بْن صالح بْن معاوية، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: كنت عند محمد حين عقد للحسن بْن معاوية على مكة، فقال له الحسن: أرأيت إن التحم القتال بيننا وبينهم، ما ترى في السري؟ قَالَ: يا حسن، إن السري لم يزل مجتنبا لما كرهنا، كارها للذي صنع ابو جعفر، ان ظفرت به فلا تقتله، ولا تحركن له أهلا، ولا تأخذن له متاعا، وإن تنحى فلا تطلبن له أثرا قَالَ: فقال له الحسن: يا أمير المؤمنين، ما كنت أحسبك تقول هذا في أحد من آل العباس، قَالَ: بلى، إن السري لم يزل ساخطا لما صنع أبو جعفر. قَالَ: وحدثني عمر بْن راشد مولى عنج، قَالَ: كنت بمكة، فبعث

إلينا محمد حين ظهر الحسن بْن معاوية والقاسم بْن إسحاق ومحمد بْن عبد الله ابن عنبسة يدعى أبا جبرة، أميرهم الحسن بْن معاوية، فبعث إليهم السري بْن عبد الله كاتبه مسكين بْن هلال في ألف، ومولى له يدعى مسكين بْن نافع في ألف، ورجلا من أهل مكة يقال له ابن فرس- وكان شجاعا- في سبعمائة، واعطاه خمسمائة دينار، فالتقوا ببطن اذاخر بين الثنيتين وهي الثنية التي تهبط على ذي طوى، منها هبط النبي ص وأصحابه إلى مكة، وهي داخلة في الحرم، فتراسلوا، فأرسل حسن إلى السري أن خل بيننا وبين مكة، ولا تهريقوا الدماء في حرم الله وحلف الرسولان للسري: ما جئناك حتى مات أبو جعفر فقال لهما السري: وعلي مثل ما حلفتما به، إن كانت مضت لي أربعة، منذ جاءني رسول من عند أمير المؤمنين، فانظروني أربع ليال، فأني أنتظر رسولا لي آخر، وعلي ما يصلحكم، ويصلح دوابكم، فإن يكن ما تقولونه حقا سلمتها إليكم، وإن يكن باطلا أجاهدكم حتى تغلبوني أو أغلبكم، فأبى الحسن، وقال: لا نبرح حتى نناجزك، ومع الحسن سبعون رجلا وسبعة من الخيل، فلما دنوا منه، قَالَ لهم الحسن: لا يقدمن أحد منكم حتى ينفخ في البوق، فإذا نفخ فلتكن حملتكم حملة رجل واحد فلما رهقناهم وخشي الحسن أن يغشاه وأصحابه، ناداه: أنفخ ويحك في البوق! فنفخ ووثبوا وحملوا علينا حملة رجل واحد فانهزم أصحاب السري، وقتل منهم سبعة نفر قَالَ: واطلع عليهم بفرسان من أصحابه وهم من وراء الثنية في نفر من قريش قد خرج بهم، وأخذ عليهم لينصرنه، فلما رآهم القرشيون قالوا: هؤلاء أصحابك قد انهزموا، قَالَ: لا تعجلوا، إلى أن طلعت الخيل والرجال في الجبال، فقيل له: ما بقي؟ فقال: انهزموا على بركة الله، فانهزموا حتى دخلوا دار الإمارة، وطرحوا أداة الحرب، وتسوروا على رجل من الجند يكنى أبا الرزام فدخلوا بيته فكانوا فيه ودخل الحسن بْن معاوية المسجد، فخطب الناس ونعى إليهم أبا جعفر ودعا لمحمد. قَالَ: وحدثني يعقوب بْن القاسم، قَالَ: حدثني الغمر بْن حمزة بْن أبي رملة، مولى العباس بْن عبد المطلب، قَالَ: لما أخذ الحسن بْن معاوية

مكة، وفر السري بلغ الخبر أبا جعفر، فقال: لهفي على ابن أبي العضل. قَالَ: وحدثني ابن أبي مساور بْن عبد الله بْن مساور مولى بني نائلة من بني عبد الله بْن معيص، قَالَ: كنت بمكة مع السري بْن عبد الله، فقدم عليه الحسن بْن معاوية قبل مخرج محمد- والسري يومئذ بالطائف وخليفته بمكة ابن سراقة من بني عدي بْن كعب- قَالَ: فاستعدى عتبة بْن أبي خداش اللهبي على الحسن بْن معاوية في دين عليه فحبسه، فكتب له السري إلى ابن أبي خداش: أما بعد فقد أخطأت حظك، وساء نظرك لنفسك حين تحبس ابن معاوية، وإنما أصبت المال من أخيه وكتب إلى ابن سراقة يأمره بتخليته، وكتب إلى ابن معاوية يأمره بالمقام إلى أن يقدم فيقضي عنه قَالَ: فلم يلبث أن ظهر محمد، فشخص إليه الحسن بْن معاوية عاملا على مكة، فقيل للسري: هذا ابن معاوية قد أقبل إليك، قَالَ: كلا ما يفعل وبلائي عنده بلائي، وكيف يخرج الى اهل المدينة! فو الله ما بها دار إلا وقد دخلها لي معروف، فقيل له: قد نزل فجاء قَالَ: فشخص إليه ابن جريج، فقال له: أيها الرجل، إنك والله ما أنت بواصل إلى مكة وقد اجتمع أهلها مع السري، أتراك قاهرا قريشا وغاصبها على دارها! قال: يا بن الحائك، أبأهل مكة تخوفني! والله ما أبيت إلا بها أو أموت دونها ثم وثب في أصحابه وأقبل إليه السري، فلقيه بفخ، فضرب رجل من أصحاب الحسن مسكين بْن هلال كاتب السري على رأسه فشجه، فانهزم السري وأصحابه، فدخلوا مكة، والتف أبو الرزام- رجل من بني عبد الدار ثم أحد آل شيبة- على السري، فواراه في بيته، ودخل الحسن مكة ثم إن الحسن أقام بمكة يسيرا، ثم ورد كتاب محمد عليه يأمره باللحاق به. وذكر عمر عن عبد الله بْن إسحاق بْن القاسم، قَالَ: سمعت من لا أحصي من أصحابنا يذكر أن الحسن والقاسم لما أخذا مكة، تجهزا وجمعا جمعا كثيرا، ثم أقبلا يريدان محمدا ونصرته على عيسى بْن موسى، واستخلفا على مكة رجلا من الانصار، فلما كانا بقديد لقيهما قتل محمد، فتفرق

الناس عنهما، وأخذ الحسن على بسقة- وهي حرة في الرمل تدعى بسقة قديد- فلحق بإبراهيم، فلم يزل مقيما بالبصرة حتى قتل إبراهيم وخرج القاسم بْن إسحاق يريد إبراهيم، فلما كان بيديع من أرض فدك، لقيه قتل إبراهيم، فرجع إلى المدينة، فلم يزل مختفيا حتى أخذت ابنة عبد الله بْن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر، زوجة عيسى بْن موسى له، ولإخوته الامان فظهر بنو معاوية، وظهر القاسم. قَالَ: وحدثني عمر بْن راشد مولى عنج، قَالَ: لما ظهر الحسن بْن معاوية على السري أقام قليلا حتى أتاه كتاب محمد يأمره بالشخوص إليه، ويخبره أن عيسى قد دنا من المدينة، ويستعجله بالقدوم قَالَ: فخرج من مكة يوم الاثنين في مطر شديد- زعموا أنه اليوم الذي قتل فيه محمد- فتلقاه بريد لعيسى بْن موسى بأمج- وهو ماء لخزاعة بين عسفان وقديد- بقتل محمد، فهرب وهرب أصحابه. قَالَ عمر: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني عبد العزيز بْن أبي ثابت عن أبي سيار، قَالَ: كنت حاجب محمد بْن عبد الله، فجاءني راكب من الليل، قَالَ: قدمت من البصرة، وقد خرج بها إبراهيم، فأخذها قَالَ: فجئت دار مروان، ثم جئت المنزل الذي فيه محمد، فدققت الباب، فصاح بأعلى صوته: من هذا؟ قلت: أبو سيار، قَالَ: لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك من شر طوارق الليل، إلا طارق يطرق منك بخير، قَالَ: خير! قلت: خير، قَالَ: ما وراءك؟ قلت: أخذ ابراهيم البصره- قال: وكان محمد إذا صلى المغرب والصبح صاح صائح: ادعوا الله لإخوانكم من أهل البصرة، وللحسن بْن معاوية واستنصروه على عدوكم. قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: قدم علينا رجل من أهل الشام، فنزل دارنا- وكان يكنى أبا عمرو- فكان أبي يقول له: كيف ترى هذا الرجل؟ فيقول: حتى ألقاه فأسبره ثم أخبرك قَالَ عيسى: فلقيه أبي بعد، فسأله

فقال: هو والله الرجل كل الرجل، ولكن رأيت شحم ظهره ذراعا، وليس هكذا يكون صاحب الحرب قَالَ: ثم بايعه بعد، وقاتل معه. قَالَ: وحدثني عبد الله بْن محمد بْن سلم- يدعى ابن البواب مولى المنصور- قَالَ: كتب أبو جعفر إلى الأعمش كتابا على لسان محمد، يدعوه إلى نصرته، فلما قرأه قَالَ: قد خبرناكم يا بني هاشم، فإذا أنتم تحبون الثريد. فلما رجع الرسول إلى أبي جعفر فأخبره، قَالَ: أشهد أن هذا كلام الأعمش. وَحَدَّثَنِي الْحَارِث، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: غلب محمد بْن عبد الله على المدينة، فبلغنا ذلك، فخرجنا ونحن شباب، أنا يومئذ ابن خمس عشرة سنة، فانتهينا إليه، وهو قد اجتمع إليه الناس ينظرون إليه، ليس يصد عنه أحد، فدنوت حتى رأيته وتأملته، وهو على فرس، وعليه قميص أبيض محشو وعمامة بيضاء، وكان رجلا أحزم، قد أثر الجدري في وجهه، ثم وجه إلى مكة فأخذت له، وبيضوا، ووجه أخاه إبراهيم بْن عبد الله إلى البصرة، فأخذها وغلبها وبيضوا معه. رجع الحديث إلى حديث عمر قَالَ عمر: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: ندب أمير المؤمنين أبو جعفر عيسى بْن موسى لقتال محمد، وقال: لا أبالي أيهما قتل صاحبه، وضم إليه أربعة آلاف من الجند، وبعث معه محمد بْن أبي العباس أمير المؤمنين. قَالَ: وحدثني عبد الملك بْن شيبان عن زيد مولى مسمع، قَالَ: لما أمر أبو جعفر عيسى بْن موسى بالشخوص، قَالَ: شاور عمومتك، فقال له: امض أيها الرجل، فو الله ما يراد غيري وغيرك، وما هو إلا أن تشخص أو أشخص، قَالَ: فسار حتى قدم علينا ونحن بالمدينة. قَالَ: وحدثني عبد الملك بْن شيبان، قَالَ: دعا أبو جعفر بْن حنظلة البهراني- وكان أبرص طوالا، أعلم الناس بالحرب، وقد شهد مع مروان حروبه- فقال: يا جعفر، قد ظهر محمد، فما عندك؟ قَالَ: وأين ظهر؟

قَالَ: بالمدينة، قَالَ: فاحمد الله، ظهر حيث لا مال ولا رجال ولا سلاح ولا كراع، ابعث مولى لك تثق به فليسر حتى ينزل بوادي القرى، فيمنعه ميرة الشام، فيموت مكانه جوعا، ففعل. قَالَ: وحدثني عبد الله بْن راشد بْن يزيد، قَالَ: سمعت أصحابنا إسماعيل بْن موسى وعيسى بْن النضر وغيرهما يذكرون أن أبا جعفر قدم كثير ابن حصين العبدي، فعسكر بفيد، وخندق عليه خندقا، حتى قدم عليه عيسى بْن موسى، فخرج به إلى المدينة قَالَ عبد الله: فأنا رأيت الخندق قائما دهرا طويلا، ثم عفا ودرس. قَالَ: وحدثني يعقوب بْن القاسم، قَالَ: حدثني علي بْن أبي طالب- ولقيته بصنعاء- قَالَ: قَالَ أبو جعفر لعيسى حين بعثه إلى محمد: عليك بأبي العسكر مسمع بْن محمد بْن شيبان بْن مالك بْن مسمع، فسر به معك، فإني قد رأيته منع سعيد بْن عمرو بْن جعدة بْن هبيرة من أهل البصرة، وهم محلبون عليه، وهو يدعو إلى مروان، وهو عند أبي العسكر يأكل المخ بالطبرزد، فخرج به عيسى، فلما كان ببطن نخل، تخلف هو والمسعودي بْن عبد الرحمن ابن عبد الله بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسعود حتى قتل محمد، فبلغ ذلك أبا جعفر، فقال لعيسى بْن موسى: ألا ضربت عنقه! وحدثني عيسى بْن عبد الله بْن محمد بْن عمر بن علي بْن أبي طالب، قَالَ: أخبرني أبي، قَالَ: قَالَ أبو جعفر لعيسى بْن موسى حين ودعه: يا عيسى، إني أبعثك إلى ما بين هذين- وأشار إلى جنبيه- فإن ظفرت بالرجل فشم سيفك، وابذل الأمان، وإن تغيب فضمنهم إياه حتى يأتوك به، فإنهم يعرفون مذاهبه قَالَ: فلما دخلها عيسى فعل ذلك. فَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وجه أبو جعفر إلى محمد بْن عبد الله بالمدينة عيسى بن موسى بن محمد بن علي ابن عبد الله بْن عباس، ووجه معه محمد بْن أبي العباس أمير المؤمنين وعدة من

قواد أهل خراسان وجندهم، وعلى مقدمة عيسى بْن موسى حميد بْن قحطبة الطائي، وجهزهم بالخيل والبغال والسلاح والميرة، فلم ينزل، ووجه مع عيسى ابن موسى بْن أبي الكرام الجعفري، وكان في صحابه أبي جعفر، وكان مائلا إلى بني العباس، فوثق به أبو جعفر فوجهه. رجع الحديث إلى حديث عمر بْن شبة قَالَ عمر: وحدثني عيسى، عن أبيه، قَالَ: كتب أبو جعفر إلى عيسى بْن موسى: من لقيك من آل أبي طالب فاكتب إلي باسمه، ومن لم يلقك فاقبض ماله قَالَ: فقبض عين أبي زياد- وكان جعفر بْن محمد تغيب عنه- فلما قدم أبو جعفر كلمه جعفر، وقال: مالي، قَالَ: قد قبضه مهديكم. قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: لما صار عيسى بفيد، كتب إلى رجال من أهل المدينة في خرق الحرير، منهم عبد العزيز بْن المطلب المخزومي وعبيد الله بْن محمد بْن صفوان الجمحي، فلما وردت كتبه المدينة، تفرق ناس كثير عن محمد، منهم عبد العزيز بْن المطلب، فأخذ فرد، فأقام يسيرا، ثم خرج، فرد مرة أخرى، وكان أخوه علي بْن المطلب من أشد الناس مع محمد، فكلم محمدا في أخيه حتى كفه عنه. قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: كتب عيسى بْن موسى إلى أبي في حريرة صفراء جاء بها أعرابي بين خصافي نعله، قَالَ عيسى: فرأيت الأعرابي قاعدا في دارنا، وإني لصبي صغير، فدفعها إلى أبي فإذا فيها: أن محمدا تعاطى ما ليس يعطيه الله، وتناول ما لم يؤته الله، قال عز وجل في كتابه: «قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»

فعجل التخلص وأقل التربص، وادع من أطاعك من قومك إلى الخروج معك. قَالَ: فخرج وخرج معه عمر بْن محمد بْن عمر، وأبو عقيل محمد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ، قَالَ: ودعوا الأفطس حسن بْن علي بْن أبي طالب إلى الخروج معهم فأبى، وثبت مع محمد، وذكر خروجهم لمحمد فأرسل إلى ظهرهم فأخذه، فأتاه عمر بْن محمد، فقال: أنت تدعو إلى العدل ونفي الجور، فما بال إبلي تؤخذ! فإنما أعددتها لحج أو عمرة قَالَ: فدفعها إليه- فخرجوا من تحت ليلتهم، فلقوا عيسى على أربع- أو خمس- من المدينة. قَالَ: وحدثني أيوب بْن عمر بْن أبي عمرو بْن نعيم بن مهان، قال: كتب أبو جعفر إلى رجال من قريش وغيرهم كتبا، وأمر عيسى: إذا دنا من المدينة أن يبعث بها إليهم فلما دنا بعث بها إليهم، فأخذ حرس محمد الرسول والكتب، فوجد فيها كتابا إلى إبراهيم بْن طلحة بْن عمر بْن عبيد الله ابن معمر وإلى جماعة من رؤساء قريش فبعث محمد إلينا جميعا ما خلا ابن عمر وأبا بكر بْن سبرة، فحبسنا في دار ابن هشام التي في المصلى. قَالَ أبي: وبعث إلي وإلى أخي، فأتي بنا فضربنا ثلاثمائة قَالَ: فقلت له وهو يضربني ويقول: أردت أن تقتلني! تركتك وأنت تستتر بحجر وبيت شعر، حتى إذا صارت المدينة في يدك، وغلظ أمرك، قمت عليك فبمن أقوم! أبطاقتي، أم بمالي، أم بعشيرتي! قَالَ: ثم أمر بنا إلى الحبس، وقيدنا بكبول وسلاسل تبلغ ثمانين رطلا، قَالَ: فدخل عليه محمد بْن عجلان، فقال: انى ضربت هذين الرجلين ضربا فاحشا، وقيدتهما بما منعهما من الصلاة قَالَ: فلم يزالا محبوسين حتى قدم عيسى. قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى قَالَ: حدثني عبد العزيز بْن أبي ثابت، عن عبد الحميد بْن جعفر بْن عبد الله بْن أبي الحكم، قَالَ: إنا لعند محمد ليلة- وذلك عند دنو عيسى من المدينة- إذ قَالَ محمد: أشيروا علي في الخروج والمقام، قَالَ: فاختلفوا فأقبل علي فقال: أشر علي يا أبا جعفر،

قلت: الست تعلم انك اقل بلاد الله فرسا وطعاما وسلاحا، وأضعفها رجالا؟ قال: بلى، قلت: تعلم أنك تقاتل أشد بلاد الله رجلا وأكثرها مالا وسلاحا؟ قَالَ: بلى، قلت: فالرأي أن تسير بمن معك حتى تأتي مصر، فو الله لا يردك راد، فتقاتل الرجل بمثل سلاحه وكراعه ورجاله وماله فصاح حنين بْن عبد الله: أعوذ بالله أن تخرج من المدينة! [وحدثه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: رأيتني في درع حصينة فأولتها المدينة. ] قَالَ: وحدثني محمد بْن إسماعيل بْن جعفر، عن الثقة عنده، قَالَ: أجاب محمدا لما ظهر أهل المدينة وأعراضها وقبائل من العرب، منهم جهينة ومزينه وسليم وبنو بكر وأسلم وغفار، فكان يقدم جهينة، فغضبت من ذلك قبائل قيس قَالَ محمد: فحدثني عبد الله بْن معروف أحد بني رياح بْن مالك بْن عصية بْن خفاف- وقد شهد ذاك- قَالَ: جاءت محمدا بنو سليم على رؤسائها، فقال متكلمهم جابر بْن أنس الرياحي: يا أمير المؤمنين، نحن أخوالك وجيرانك، وفينا السلاح والكراع، والله لقد جاء الإسلام والخيل في بني سليم أكثر منها بالحجاز، لقد بقي فينا منها ما إن بقي مثله عند عربي تسكن إليه البادية، فلا تخندق الخندق، فإن رسول الله خندق خندقه لما الله أعلم به، فإنك إن خندقته لم يحسن القتال رجاله، ولم توجه لنا الخيل بين الأزقة، وإن الذين يخندق دونهم هم الذين يقاتلون فيها، وإن الذين يخندق عليهم يحول الخندق دونهم فقال أحد بني شجاع: خندق رسول الله فاقتد برأيه، أو تريد أنت أن تدع رأي رسول الله ص لرأيك! قال: انه يا بن شجاع ما شيء أثقل عليك وعلى أصحابك من لقائهم، ولا شيء أحب إلي وإلى أصحابي من مناجزتهم فقال محمد: إنما اتبعنا في الخندق اثر رسول الله ص، فلا يردني عنه أحد، فلست بتاركه. قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، عن الحارث بْن إسحاق، قَالَ: لما تيقن

محمد أن عيسى قد أقبل حفر الخندق، خندق النبي ص الذي كان حفره للأحزاب. قَالَ: وحدثني سعيد بْن عبد الحميد بْن جعفر، قَالَ: حدثني محمد ابن عطية مولى المطلبيين، قَالَ: لما حفر محمد الخندق ركب إليه وعليه قباء أبيض ومنطقة، وركب الناس معه، فلما أتى الموضع نزل فيه، بدا هو فحفر بيده، فأخرج لبنة من خندق النبي ص، فكبر وكبر الناس معه، وقالوا: أبشر بالنصر، هذا خندق جدك رسول الله ص. قَالَ: وحدثني محمد بْن الحسن بْن زبالة، قَالَ: حدثني مصعب بْن عثمان بْن مصعب بْن عروة بْن الزبير، قَالَ: لما نزل عيسى الأعوص رقي محمد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قَالَ: إن عدو الله وعدوكم عيسى بْن موسى قد نزل الأعوص، وإن أحق الناس بالقيام بهذا الدين، أبناء المهاجرين الأولين والأنصار المواسين. قَالَ: وحدثني إبراهيم بْن أبي إسحاق العبسي- شيخ من غطفان- قَالَ: أخبرني أبو عمرو مؤدب محمد بْن عبد الرحمن بْن سليمان، قَالَ: سمعت الزبيري الذي قتله أبو جعفر- يعني عثمان بْن محمد بْن خالد- قَالَ: اجتمع مع محمد جمع لم أر مثله ولا أكثر منه، إني لأحسب أنا قد كنا مائة ألف، فلما قرب عيسى خطبنا، فقال: يأيها الناس، إن هذا الرجل قد قرب منكم في عدد وعدة، وقد حللتكم من بيعتي، فمن أحب المقام فليقم، ومن أحب الانصراف فلينصرف فتسللوا حتى بقي في شرذمة ليست بالكثيرة قَالَ: وحدثني موهوب بْن رشيد بْن حيان بْن أبي سليمان بْن سمعان، أحد بني قريط بْن عبد الله بْن أبي بكر بْن كلاب، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: لما ظهر محمد جمع الناس وحشرهم، وأخذ عليهم المناقب فلا يخرج أحد، فلما سمع بعيسى وحميد بْن قحطبة قد أقبلا، صعد المنبر، فقال:

يأيها الناس، إنا قد جمعناكم للقتال، وأخذنا عليكم المناقب، وإن هذا العدو منكم قريب، وهو في عدد كثير، والنصر من الله والأمر بيده، وإنه قد بدا لي أن آذن لكم وأفرج عنكم المناقب، فمن أحب أن يقيم أقام، ومن أحب أن يظعن ظعن قَالَ أبي: فخرج عالم من الناس، كنت فيهم، فلما كنا بالعريض- وهو على ثلاثة أميال من المدينة- لقيتنا مقدمة عيسى بْن موسى دون الرحبة، فما شبهت رجالهم إلا رجلا من جراد قَالَ: فمضينا وخالفونا إلى المدينة. قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: خرج ناس كثير من أهل المدينة بذراريهم وأهليهم إلى الأعراض والجبال، فأمر محمد أبا القلمس، فرد من قدر عليه منهم، فأعجزه كثير منهم، فتركهم. قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني الغاضري، قَالَ: قَالَ لي محمد: أعطيك سلاحا وتقاتل معي؟ قلت: نعم، إن أعطيتني رمحا أطعنهم به، وهم بالأعوص وسيفا أضربهم به وهم بهيفا قَالَ: ثم مكث غير كثير، ثم بعث إلي فقال: ما تنتظر؟ قلت: ما أهون عليك- أبقاك الله- أن أقتل وتمروا، فيقال: والله إن كان لباديا! قَالَ: ويحك! قد بيض أهل الشام وأهل العراق وخراسان، قَالَ: قلت: اجعل الدنيا زبدة بيضاء وأنا في مثل صوفة الدواة، ما ينفعني هذا وعيسى بالأعوص! قَالَ: وحدثني عيسى، عن أبيه، عن جده، قَالَ: وجه أبو جعفر مع عيسى بْن موسى بابن الأصم ينزله المنازل، فلما قدموا نزلوا على ميل من مسجد رسول الله ص، فقال ابن الأصم: ألا إن الخيل لا عمل لها مع الرجالة، وإني أخاف إن كشفوكم كشفه ان يدخلوا عسكرهم. فرفعهم إلى سقاية سليمان بْن عبد الملك بالجرف- وهي على أربعة أميال من

المدينة- وقال: لا يهرول الراجل أكثر من ميلين أو ثلاثة حتى تأخذه الخيل. قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني محمد بْن أبي الكرام، قَالَ: لما نزل عيسى طرف القدوم أرسل إلي نصف الليل، فوجدته جالسا والشمع والأموال بين يديه، فقال: جاءتني العيون تخبرني إن هذا الرجل في ضعف، وأنا أخاف أن ينكشف، وقد ظننت ألا مسلك له الا الى مكة، فاضمم إليك خمسمائة رجل، فامض بهم معاندا عن الطريق حتى تأتي الشجرة فتقيم بها قَالَ: فأعطاهم على الشمع، فخرجت بهم حتى مررت بالبصرة بالبطحاء- وهي بطحاء ابن أزهر على ستة أميال من المدينة- فخاف أهلها، فقلت: لا بأس عليكم، أنا محمد بْن عبد الله، هل من سويق؟ قَالَ: فأخرجوا إلينا سويقا، فشربنا وأقمنا بها حتى قتل محمد. قَالَ: وحدثني محمد بْن إسماعيل، عن الثقة عنده، قَالَ: لما قرب عيسى أرسل إلى محمد القاسم بْن الحسن بْن زيد يدعوه إلى الرجوع عما هو عليه، ويخبره أن أمير المؤمنين قد آمنه وأهل بيته، فقال محمد للقاسم: وَاللَّهِ لَوْلا أَنَّ الرُّسُلَ لا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ عنقك، لأني لم أرك منذ كنت غلاما في فرقتين، خير وشر، إلا كنت مع الشر على الخير وأرسل محمد إلى عيسى: يا هذا، إن لك برسول الله قرابة قريبة، وإني أدعوك إلى كتاب الله وسنة نبيه والعمل بطاعته، وأحذرك نقمته وعذابه، وإني والله ما أنا بمنصرف عن هذا الأمر حتى ألقى الله عليه، فإياك أن يقتلك من يدعوك إلى الله، فتكون شر قتيل، أو تقتله فيكون أعظم لوزرك، وأكثر لمأثمك فأرسل هذه الرسالة مع إبراهيم بْن جعفر، فبلغه، فقال: ارجع إلى صاحبك، فقل له: ليس بيننا إلا القتال. قَالَ: وحدثني إبراهيم بْن محمد بْن أبي الكرام بْن عبد الله بْن علي بْن عبد الله بْن جعفر، قَالَ: أخبرني أبي، قَالَ: لما قرب عيسى من المدينة،

أرسلني إلى محمد بأمانة، فقال لي محمد: علام تقاتلونني وتستحلون دمي، وإنما أنا رجل فر من أن يقتل! قَالَ: قلت: إن القوم يدعونك إلى الأمان، فإن أبيت إلا قتالهم قاتلوك على ما قاتل عليه خير آبائك على طلحة والزبير، على نكث بيعتهم وكيد ملكهم، والسعي عليهم قَالَ: فأخبرت بذلك أبا جعفر، فقال: والله ما سرني أنك قلت له غير ذلك، وأن لي كذا وكذا قَالَ: وحدثني هشام بْن محمد بْن عروة بْن هشام بْن عروة، قَالَ: أخبرني ماهان بْن بخت مولى قحطبة، قَالَ: لما صرنا بالمدينة أتانا إبراهيم بْن جعفر بْن مصعب طليعه، فطاف بعسكرنا حتى حسه كله، ثم ولى ذاهبا قَالَ: فرعبنا منه والله رعبا شديدا، حتى جعل عيسى وحميد بْن قحطبة يعجبان فيقولان: فارس واحد طليعة لأصحابه! فلما ولى مدى أبصارنا نظرنا إليه مقيما بموضع واحد، فقال حميد: ويحكم! انظروا ما حال الرجل، فإني أرى دابته واقفا لا تزول، فوجه إليه حميد رجلين من أصحابه، فوجدا دابته قد عثر به، فصرعه فقوس التنور عنقه فأخذا سلبه، فأتينا بتنور- قيل إنه كان لمصعب بْن الزبير- مذهب لم ير مثله قط قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: نزل عيسى بقصر سليمان بالجرف، صبيحة ثنتي عشره من رمضان من سنه خمس وأربعين ومائة، يوم السبت، فأقام يوم السبت ويوم الأحد وغدا يوم الاثنين، حتى استوى على سلع، فنظر إلى المدينة وإلى من دخلها وخرج منها، وشحن وجوهها كلها بالخيل والرجال إلا ناحية مسجد أبي الجراح، وهو على بطحان، فإنه تركه لخروج من هرب، وبرز محمد في أهل المدينة قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثنا محمد بْن زيد، قَالَ: قدمنا مع عيسى، فدعا محمدا ثلاثا: الجمعة والسبت والأحد قَالَ وحدثني عبد الملك بْن شيبان، قَالَ: حدثني زيد مولى مسمع، قَالَ:

لما عسكر عيسى أقبل على دابة يمشي حواليه نحو من خمسمائة، وبين يديه راية يسار بها معه، فوقف على الثنية ونادى: يا أهل المدينة، إن الله قد حرم دماء بعضنا على بعض، فهلموا إلى الأمان، فمن قام تحت رايتنا فهو آمن، ومن دخل داره فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن خرج من المدينة فهو آمن خلوا بيننا وبين صاحبنا فإما لنا أو له قَالَ: فشتموه وأقذعوا له، وقالوا: يا بن الشاه، يا بن كذا. يا بن كذا فانصرف يومه ذاك، وعاد من الغد ففعل مثل ذلك، فشتموه، فلما كان اليوم الثالث أقبل بما لم أر مثله قط من الخيل والرجال والسلاح، فو الله ما لبثنا أن ظهر علينا ونادى بالأمان، فانصرف إلى معسكره. قَالَ: وحدثني إبراهيم الغطفاني، قال: سمعت أبا عمرو مؤدب محمد ابن عبد الرحمن يحدث عن الزبيري- يعني عثمان بْن محمد بْن خالد- قَالَ: لما التقينا نادى عيسى بنفسه: أيا محمد، إن أمير المؤمنين أمرني ألا أقاتلك حتى أعرض عليك الأمان، فلك علي نفسك وأهلك وولدك وأصحابك، وتعطى من المال كذا وكذا، ويقضى عنك دينك، ويفعل بك ويفعل! قَالَ: فصاح: محمد اله عن هذا، فو الله لو علمت أنه لا يثنيني عنكم فزع، ولا يقربني منكم طمع ما كان هذا قَالَ: ولج القتال، وترجل محمد، فإني لأحسبه قتل بيده يومئذ سبعين رجلا. قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني محمد بْن زيد، قَالَ: لما كان يوم الاثنين، وقف عيسى على ذباب، ثم دعا مولى لعبد الله بْن معاوية كان معه، وكان على مجففته، فقال: خذ عشرة من أصحابك، أصحاب التجافيف، فجاء بهم، فقال لنا: ليقم معه عشرة منكم يا آل أبي طالب. قَالَ: فقمنا معه، ومعنا ابنا محمد بْن عمر بْن علي: عبد الله وعمر، ومحمد بْن عبد الله بْن عقيل، والقاسم بْن الحسن بْن زيد بْن الحسن بن على، وعبد الله ابن إسماعيل بْن عبد الله بْن جعفر، في عشرة منا فقال: انطلقوا إلى القوم،

فادعوهم وأعطوهم أمانا، وبقي أمان الله قَالَ: فخرجنا حتى جئنا سوق الحطابين، فدعوناهم فسبونا ورشقونا بالنبل، وقالوا: هذا ابن رسول الله معنا ونحن معه، فكلمهم القاسم بْن الحسن بْن زيد، فقال: وأنا ابن رسول الله، وأكثر من ترون بنو رسول الله، ونحن ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه وحقن دمائكم والأمان لكم، فجعلوا يسبوننا ويرشقوننا بالنبل، فقال القاسم لغلامه: القط هذه النبل، فلقطها فأخذها قاسم بيده، ثم دخل بها إلى عيسى، فقال: ما تنتظر! انظر ما صنعوا بنا، فأرسل عيسى بْن حميد قحطبة في مائة. قَالَ: حدثني أزهر بْن سعيد بْن نافع، قال: حدثنى اخواى عثمان ومحمد ابنا سعيد- وكانا مع محمد- قالا: وقف القاسم بْن الحسن ورجل معه من آل أبي طالب على رأس ثنية الوداع، فدعوا محمدا إلى الأمان، فسبهما فرجعا، وأقبل عيسى وقد فرق القواد فجعل هزار مرد عند حمام بْن أبي الصعبة، وكثير بْن حصين عند دار ابن أفلح التي ببقيع الغرقد، ومحمد بْن أبي العباس على باب بني سلمة، وفرق سائر القواد على أنقاب المدينة، وصار عيسى في أصحابه على رأس الثنية، فرموا بالنشاب والمقاليع ساعة. وحدثني أزهر، قَالَ: جعل محمد ستور المسجد دراريع لأصحابه. قَالَ: وحدثني عبد الله بْن إسحاق بْن القاسم، قَالَ: حدثني عمر، شيخ من الأنصار، قَالَ: جعل محمد ظلال المسجد خفاتين لأصحابه، فأتاه رجلان من جهينة، فأعطى أحدهما خفتانا ولم يعط الآخر، فقاتل صاحب الخفتان، ولم يقاتل الآخر معه، فلما حضرت الحرب أصابت صاحب الخفتان نشابة، فقتلته، فقال صاحبه: يا رب لا تجعلني كمن خان ... وباع باقي عيشه بخفتان قَالَ: وحدثني أيوب بْن عمر، قَالَ: حدثني إسماعيل بْن أبي عمرو، قَالَ: إنا لوقوف على خندق بني غفار، إذ أقبل رجل على فرس،

ما يرى منه إلا عيناه، فنادى: الأمان، فأعطي الأمان، فدنا حتى لصق بنا، فقال: أفيكم من يبلغ عني محمدا؟ قلت: نعم، أنا، قَالَ: فأبلغه عني- وحسر عن وجهه، فإذا شيخ مخضوب- فقال: قل له: يقول لك فلان التميمي، بآية أني وإياك جلسنا في ظل الصخرة في جبل جهينة في سنة كذا، اصبر إلى الليل، فإن عامة الجند معك قَالَ: فأتيته قبل أن يغدو- وذلك يوم الاثنين في اليوم الذي قتل فيه- فوجدت بين يديه قربة عسل أبيض قد شقت من وسطها، ورجل يتناول من العسل ملء كفه ثم يغمسه في الماء، ثم يلقمه إياه، ورجل يحزم بطنه بعمامة، فأبلغته الرسالة فقال: قد أبلغت، فقلت: أخواي في يدك، قَالَ: مكانهما خير لهما. قَالَ: وحدثني إبراهيم بْن مصعب بْن عمارة بْن حمزة بْن مصعب بْن الزبير، قَالَ: حدثني محمد بْن عثمان بْن محمد بْن خالد بْن الزبير، قَالَ: كانت راية محمد إلى أبي، فكنت احملها عنه. قَالَ: وحدثني عيسى، عن أبيه، قَالَ: كان مع الأفطس حسن بْن علي بْن حسين علم أصفر، فيه صورة حية، ومع كل رجل من أصحابه من آل علي بْن أبي طالب علم، وشعارهم: أحد أحد، قَالَ: وكذلك كان شعار النبي ص يوم حنين. قَالَ: وحدثني سعيد بْن عبد الحميد بْن جعفر بْن عبد الله بْن أبي الحكم، قَالَ: أخبرنا جهم بْن عثمان مولى بني سليم، ثم أحد بني بهز، قَالَ: قَالَ لي عبد الحميد بْن جعفر يوم لقينا أصحاب عيسى: نحن اليوم على عدة أهل بدر يوم لقوا المشركين- قَالَ: وكنا ثلاثمائة ونيفا. قَالَ: وحدثني إبراهيم بْن موسى بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن علي ابن عبد الله بْن عباس، قَالَ: سمعت أبي يقول: ولد عيسى بْن موسى في سنة ثلاث ومائة، وشهد حرب محمد وإبراهيم وهو ابن ثلاث وأربعين سنة، وعلى مقدمته حميد بْن قحطبة، وعلى ميمنته محمد بْن أبي العباس أمير المؤمنين، وعلى ميسرته داود بْن كراز من أهل خراسان، وعلى ساقته الهيثم بن شعبه

قَالَ: وحدثني عيسى، عن أبيه، قَالَ: لقي أبو القلمس محمد بْن عثمان، أخا أسد بْن المرزبان بسوق الحطابين، فاجتلدا بسيفيهما حتى تقطعا ثم تراجعا إلى مواقفهما، فأخذ أخو أسد سيفا، وأخذ أبو القلمس بأثفية، فوضعها على قربوس سرجه، وسترها بدرعه، ثم تعاودا، فلما تدانيا قام أبو القلمس في ركائبه، ثم ضرب بها صدره فصرعه، ونزل فاحتز رأسه. قَالَ: وحدثني محمد بْن الحسن بْن زبالة، قَالَ: حدثني عبد الله بْن عمر بْن القاسم بْن عبد الله العمري، قَالَ: كنا مع محمد، فبرز رجل من أهل المدينة، مولى لآل الزبير يدعى القاسم بْن وائل، فدعا للبراز، فبرز إليه رجل لم أر مثل كماله وعدته، فلما رآه ابن وائل انصرف قَالَ: فوجدنا من ذلك وجدا شديدا، فإنا لعلى ذلك إذ سمعت خشف رجل ورائي، فالتفت فإذا أبو القلمس، فسمعته يقول: لعن الله أمير السفهاء، إن ترك مثل هذا اجترأ علينا! وإن خرج رجل خرج إلى أمر عسى ألا يكون من شأنه. قَالَ: ثم برز له فقتله. قَالَ: وحدثني أزهر بْن سعيد بْن نافع، قَالَ: خرج القاسم بْن وائل يومئذ من الخندق، ثم دعا للبراز، فبرز له هزار مرد، فلما رآه القاسم هابه، فرجع فبرز له أبو القلمس، فقال: ما انتفع في مثل هذا اليوم بسيفه قط، ثم ضربه على حبل عاتقه فقتله، فقال: خذها وأنا ابن الفاروق، فقال رجل من أصحاب عيسى: قتلت خيرا من ألف فاروق. قَالَ: وحدثني علي أبو الحسن الحذاء من أهل الكوفة، قَالَ: حدثني مسعود الرحال، قَالَ: شهدت مقتل محمد بالمدينة، فإني لأنظر إليهم عند أحجار الزيت، وأنا مشرف عليهم من الجبل- يعني سلعا- إذ نظرت إلى رجل من أصحاب عيسى قد أقبل مستلئما في الحديد، لا ترى منه إلا عيناه، على فرس، حتى فصل من صف أصحابه، فوقف بين الصفين، فدعا للبراز، فخرج إليه رجل من أصحاب محمد، عليه قباء أبيض، وكمه

بيضاء، وهو راجل، فكلمه مليا، ظننت أنه استرجله لتستوي حالاهما، فنظرت إلى الفارس ثنى رجله، فنزل، ثم التقيا فضربه صاحب محمد ضربة على خوذة حديد على رأسه، فأقعده على استه وقيذا لا حراك به، ثم انتزع الخوذة، فضرب رأسه فقتله، ثم رجع فدخل في أصحابه، فلم ينشب أن خرج من صف عيسى آخر، كأنه صاحبه، فبرز له الرجل الأول، فصنع به مثل ما صنع بصاحبه، ثم عاد إلى صفه، وبرز ثالث فدعاه، فبرز له فقتله، فلما قتل الثالث ولى يريد أصحابه، فاعتوره أصحاب عيسى فرموه فأثبتوه، وأسرع يريد أصحابه، فلم يبلغهم حتى خر صريعا فقتلوه دونهم وحدثني عيسى، قَالَ: أخبرني محمد بْن زيد، قَالَ: لما أخبرنا عيسى برميهم إيانا، قَالَ لحميد بْن قحطبة: تقدم، فتقدم في مائة كلهم راجل غيره معهم النشاب والترسة، فلم يلبثوا أن زحفوا إلى جدار دون الخندق، عليه أناس من أصحاب محمد، فكشفوهم ووقفوا عند الجدار، فأرسل حميد إلى عيسى بهدم الجدار قَالَ: فأرسل إلى فعلة فهدموه، وانتهوا إلى الخندق، فأرسل إلى عيسى: إنا قد انتهينا إلى الخندق فأرسل إليه عيسى بأبواب بقدر الخندق، فعبروا عليها، حتى كانوا من ورائه، ثم اقتتلوا أشد القتال من بكرة حتى صار العصر. وحدثني الحارث، قَالَ: أخبرنا ابن سعد، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْن عُمَرَ: أقبل عيسى بْن موسى بمن معه، حتى أناخ على المدينة، وخرج اليه محمد ابن عبد الله ومن معه، فاقتتلوا أياما قتالا شديدا، وصبر نفر من جهينة، يقال لهم بنو شجاع مع محمد بْن عبد الله، حتى قتلوا وكان لهم غناء. رجع الحديث إلى حديث عمر: حدثني أزهر، قَالَ: أمرهم عيسى فطرحوا حقائب الإبل في الخندق فأمر ببابي دار سعد بْن مسعود التي في الثنية فطرحا على الخندق، فجازت الخيل، فالتقوا عند مفاتح خشرم، فاقتتلوا حتى كان العصر. حدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، قَالَ: انصرف محمد يومئذ قبل الظهر حتى جاء دار مروان، فاغتسل وتحنط،

ثم خرج قَالَ عبد العزيز بْن أبي ثابت: فحدثني عبد الله بْن جعفر، قَالَ: دنوت منه، فقلت له: بأبي أنت! إنه والله مالك بما رأيت طاقة، وما معك أحد يصدق القتال، فاخرج الساعة حتى تلحق بالحسن بْن معاوية بمكة، فإن معه جلة أصحابك، فقال: يا أبا جعفر، والله لو خرجت لقتل أهل المدينة، والله لا أرجع حتى أقتل أو أقتل، وأنت مني في سعة، فاذهب حيث شئت فخرجت معه حتى إذا جاء دار ابن مسعود في سوق الظهر ركضت فأخذت على الزياتين، ومضى إلى الثنية، وقتل من كان معه بالنشاب وجاءت العصر فصلى. حدثني محمد بْن الحسن بْن زبالة، قَالَ: حدثني إبراهيم بْن محمد، قَالَ: رأيت محمدا بين داري بني سعد، عليه جبة ممشقة، وهو على برذون، وابن خضير إلى جانبه يناشده الله إلا مضى إلى البصرة أو غيرها، ومحمد يقول: والله لا تبتلون بي مرتين، ولكن اذهب حيث شئت فأنت في حل. قَالَ ابن خضير: وأين المذهب عنك! ثم مضى فأحرق الديوان، وقتل رياحا ثم لحقه بالثنية، فقاتل حتى قتل. وحدثني الحارث، قَالَ: حدثنا ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: خرج مع محمد بْن عبد الله بْن خضير، رجل من ولد مصعب بْن الزبير، فلما كان اليوم الذي قتل فيه محمد، ورأى الخلل في أصحابه، وأن السيف قد أفناهم، استأذن محمدا في دخول المدينة فأذن له، ولا يعلم ما يريد، فدخل على رياح بْن عثمان بْن حيان المري وأخيه، فذبحهما ثم رجع، فأخبر محمدا، ثم تقدم فقاتل حتى قتل من ساعته. رجع الحديث إلى حديث عمر: حدثني أزهر، قَالَ: حدثني أخي، قَالَ: لما رجع ابن خضير قتل رياحا وابن مسلم بْن عقبة. وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: ذبح ابن خضير رياحا ولم يجهز عليه، فجعل يضرب برأسه الجدار حتى

مات، وقتل معه عباسا أخاه، وكان مستقيم الطريقة، فعاب الناس ذلك عليه، ثم مضى إلى ابن القسري وهو محبوس في دار ابن هشام، فنذر به فردم بابى الدار دونه، فعالج البابين، فاجتمع من في الحبس فسدوهما، فلم يقدر عليهم، فرجع إلى محمد، فقاتل بين يديه حتى قتل. حدثني مسكين بْن حبيب بْن محمد، قَالَ: لما جاءت العصر صلاها محمد في مسجد بني الديل، في الثنية، فلما سلم استسقى، فسقته ربيحة بنت أبي شاكر القرشية، ثم قالت له: جعلت فداك! انج بنفسك، قَالَ: إذا لا يبقى بها ديك يصرخ، ثم مضى فلما كان ببطن مسيل سلع، نزل فعرقب دابته، وعرقب بنو شجاع دوابهم، ولم يبق أحد إلا كسر غمد سيفه قَالَ مسكين: فلقد رأيتني وأنا غلام، جمعت من حليها نحوا من ثلاثمائة درهم، ثم قَالَ لهم: قد بايعتموني ولست بارحا حتى أقتل، فمن أحب أن ينصرف فقد أذنت له، ثم أقبل على ابن خضير، فقال له: قد أحرقت الديوان؟ قَالَ: نعم، خفت أن يؤخذ الناس عليه؟ قَالَ: أصبت. حدثني أزهر، قَالَ: حدثني أخواي، قالا: لقد هزمنا يومئذ أصحاب عيسى مرتين أو ثلاثا، ولكنا لم نكن نعرف الهزيمة، ولقد سمعنا يزيد بْن معاوية بْن عبد الله بْن جعفر، يقول، وقد هزمناهم: ويل أمه فتحا لو كان له رجال! حدثنى عيسى، قَالَ: كان ممن انهزم يومئذ وفر عن محمد عبد العزيز ابن عبد الله بْن عبد الله بْن عمر بْن الخطاب، فأرسل محمد وراءه، فأتي به، فجعل الصبيان يصيحون وراءه: ألا باقة بقبقبه، فكان عبد العزيز يقول بعد ذلك: إن أشد ما أتي علي لصياح الصبيان. وحدثني عيسى، قَالَ: حدثنا مولى لهشام بْن عمارة بن الوليد بن عدى ابن الخيار، قَالَ: كنا مع محمد، فتقدم هشام بْن عمارة إليه وأنا معه، فقال: إني لا آمن أن يخذلك من ترى، فأشهد أن غلامي هذا حر لوجه

الله إن رمت أبدا أو تقتل أو اقتل او نغلب، فقلت: فو الله إني لمعه إذ وقعت بترسه نشابة، ففلقته باثنتين، ثم خسفت في درعه، فالتفت إلي فقال: فلان! قلت: لبيك! قَالَ: ويلك! رأيت مثل هذا قط يا فلان! أيما أحب إليك، نفسي أم أنت؟ قلت: لا بل نفسك، قَالَ: فأنت حر لوجه الله، فانطلق هاربا. وحدثني متوكل بْن أبي الفحوة، قَالَ: حدثني محمد بْن عبد الواحد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، قَالَ: إنا لعلى ظهر سلع ننظر، وعليه أعاريب جهينة، إذ صعد إلينا رجل بيده رمح، قد نصب عليه رأس رجل متصل بحلقومه وكبده وأعفاج بطنه، قَالَ: فرأيت منه منظرا هائلا، وتطيرت منه الأعاريب، وأجفلت هاربة حتى أسهلت، وعلا الرجل الجبل، ونادى على الجبل رطانة لأصحابه بالفارسية كوهبان، فصعد إليه أصحابه حتى علوا سلعا فنصبوا عليه راية سوداء، ثم انصبوا إلى المدينة، فدخلوها، وأمرت أسماء بنت حسن ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ بْن عبد المطلب- وكانت تحت عبد الله ابن حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْن عباس- بخمار أسود، فنصب على منارة مسجد رسول الله ص، فلما رأى ذلك أصحاب محمد تنادوا: دخلت المدينة، وهربوا قَالَ: وبلغ محمدا دخول الناس من سلع، فقال: لكل قوم جبل يعصمهم، ولنا جبل لا نؤتى إلا منه. وحدثني محمد بْن إسماعيل، عن الثقة عنده، قَالَ: فتح بنو ابى عمرو الغفاريون للمسودة طريقا في بني غفار، فدخلوا منه حتى جاءوا من وراء أصحاب محمد. وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني عبد العزيز بْن عمران، قَالَ: نادى محمد يومئذ حميد بْن قحطبة: إن كنت فارسا وأنت تعتد ذاك على أهل خراسان فابرز لي، فأنا محمد بْن عبد الله، قَالَ: قد عرفتك وأنت الكريم ابْن الكريم، الشريف ابْن الشريف، لا والله يا أبا عبد الله لا أبرز لك وبين يدي من هؤلاء الأغمار إنسان واحد، فإذا فرغت منهم فسأبرز لك لعمري. وحدثني عثمان بْن المنذر بن مصعب بْن عروة بْن الزبير، قَالَ: حدثني

رجل من بني ثعلبة بْن سعد، قَالَ: كنت بالثنية يوم قتل محمد بْن عبد الله ابن حسن ومعه ابن خضير، قَالَ: فجعل ابن قحطبة يدعو ابن خضير إلى الأمان، ويشح به عن الموت، وهو يشد على الناس بسيفه مترجلا، يتمثل: لا تسقه حزرا ولا حليبا ... إن لم تجده سابحا يعبوبا ذا ميعه يلتهم الجبوبا ... كالذئب يتلو طمعا قريبا يبادر الآثار أن تئوبا ... وحاجب الجونة أن يغيبا قَالَ: فخالط الناس، فضربه ضارب على اليته فخلها، فرجع إلى أصحابه، فشق ثوبا فعصبها إلى ظهره، ثم عاد إلى القتال، فضربه ضارب على حجاج عينه، فاغمض السيف في عينه، وخر فابتدره القوم، فحزوا رأسه، فلما قتل ترجل محمد، فقاتل على جيفته حتى قتل. وحدثني مخلد بْن يحيى بْن حاضر بْن المهاجر الباهلي، قَالَ: سمعت الفضل بْن سليمان مولى بني نمير يخبر عن أخيه- وكان قد قتل له أخ مع محمد- قَالَ: كان الخراسانية إذا نظروا إلى ابن خضير تنادوا: خضير آمد، خضير آمد!، وتصعصعوا لذلك. وحدثني هشام بْن محمد بْن عروة بْن هشام بْن عروة، قَالَ: أخبرني ماهان بْن بخت مولى قحطبة، قَالَ: أتينا برأس ابن خضير، فو الله ما جعلنا نستطيع حمله لما كان به من الجراح، والله لكانه باذنجاته مفلقه، وكنا نضم اعظمه ضماه وحدثني أزهر بْن سعيد، قَالَ: لما نظر أصحاب محمد إلى العلم الأسود على منارة المسجد فت ذلك في أعضادهم، ودخل حميد بْن قحطبة من زقاق أشجع على محمد فقتله وهو لا يشعر، وأخذ رأسه فأتى به عيسى، وقتل معه بشرا كثيرا. قال: وحدثني أبو الحسن الحذاء، قَالَ: أخبرني مسعود الرحال، قَالَ: رأيت

محمدا يومئذ باشر القتال بنفسه، فأنظر إليه حين ضربه رجل بسيف دون شحمة أذنه اليمنى، فبرك لركبتيه وتعاوروا عليه، وصاح حميد بْن قحطبة: لا تقتلوه، فكفوا، وجاء حميد فاحتز رأسه. وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: برك محمد يومئذ لركبتيه وجعل يذب عن نفسه ويقول: ويحكم! انا ابن نبيكم، محرج مظلوم! وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ، حدثني ابن أبي ثابت، عن عبد الله بْن جعفر، قَالَ: طعنه ابن قحطبة في صدره فصرعه، ثم نزل فاحتز رأسه، فأتى به عيسى. وحدثني محمد بْن إسماعيل، قَالَ: حدثني أبو الحجاج المنقري، قَالَ: رأيت محمدا يومئذ وإن أشبه ما خلق الله به لما ذكر عن حمزة بْن عبد المطلب، يهذ الناس بسيفه هذا، ما يقاربه أحد إلا قتله، ومعه سيف، لا والله ما يليق شيئا، حتى رماه إنسان بسهم كأني أنظر إليه، أحمر أزرق، ثم دهمتنا الخيل، فوقف إلى ناحية جدار، فتحاماه الناس، فوجد الموت، فتحامل على سيفه فكسره، قَالَ: فسمعت جدي يقول: كان معه سيف رسول الله ص ذو الفقار. وحدثني هرمز أبو علي مولى باهلة، قَالَ: حدثني عمرو بْن المتوكل- وكانت أمه تخدم فاطمة بنت حسين- قَالَ: كان مع محمد يوم قتل سيف النبي ص ذو الفقار، فلما أحس الموت أعطى سيفه رجلا من التجار كان معه- وكان له عليه أربعمائة دينار- فقال له: خذ هذا السيف، فإنك لا تلقى به أحدا من آل أبي طالب إلا أخذه وأعطاك حقك قَالَ: فكان السيف عنده، حتى ولي جعفر بْن سليمان المدينة فأخبر عنه، فدعا الرجل وأخذ السيف منه، واعطاه أربعمائة دينار، فلم يزل عنده

حتى قام المهدي، وولي جعفر المدينة، وبلغه مكان السيف، فأخذه، ثم صار إلى موسى، فجرب به على كلب، فانقطع السيف. وحدثني عبد الملك بْن قريب الأصمعي، قَالَ: رأيت الرشيد أمير المؤمنين بطوس، متقلدا سيفا، فقال لي: يا أصمعي، ألا أريك ذا الفقار؟ قلت: بلى، جعلني الله فداك! قَالَ: استل سيفي، فاستللته، فرايت فيه ثمان عشرة فقارة. وحدثني أبو عاصم النبيل، قَالَ: حدثني أخو الفضل بْن سليمان النميري قَالَ: كنا مع محمد، فأطاف بنا أربعون ألفا، فكانوا حولنا كالحرة السوداء، فقلت له: لو حملت فيهم لانفرجوا عنك، فقال: إن أمير المؤمنين لا يحمل، إنه إن حمل لم تكن له بقية قَالَ: فجعلنا نعيد ذلك عليه، فحمل، فالتفوا عليه فقتلوه. وحدثني عبد الله بْن محمد بْن عبد الله بن سلم- ويدعى ابن البواب، وكان خليفة الفضل بْن الربيع يحجب هارون، من أدباء الناس وعلمائهم- قَالَ: حدثني أبي عن الأسلمي- يعني عبد الله بْن عامر- قَالَ: قَالَ لي محمد ونحن نقاتل معه عيسى: تغشانا سحابة، فإن أمطرتنا ظفرنا، وإن تجاوزتنا إليهم فانظر الى دمى على احجار الزيت، قال: فو الله ما لبثنا أن أطلتنا سحابة فأحالت حتى قلت: تفعل، ثم جاوزتنا فأصابت عيسى وأصحابه، فما كان إلا كلا ولا، حتى رأيته قتيلا بين أحجار الزيت. وحدثني إبراهيم بْن محمد بْن عبد الله بْن أبي الكرام، قَالَ: قَالَ عيسى لحميد بْن قحطبة عند العصر: أراك قد أبطأت في أمر هذا الرجل، فول حمزة بْن مالك حربه، فقال: والله لو رمت أنت ذاك ما تركتك، أحين قتلت الرجال ووجدت ريح الفتح! ثم جد في القتال حتى قتل محمد. وحدثني جواد بْن غالب بْن موسى مولى بني عجل، قَالَ: أخبرني حميد

مولى محمد بْن أبي العباس، قَالَ: اتهم عيسى حميد بْن قحطبة يومئذ- وكان على الخيل- فقال: يا حميد، ما أراك تبالغ، قال: اتتهمني! فو الله لأضربن محمدا حين أراه بالسيف أو أقتل دونه قَالَ: فمر به وهو مقتول، فضربه بالسيف ليبر يمينه. وحدثني يعقوب بْن القاسم، قَالَ: حدثني علي بْن أبي طالب، قَالَ: قتل محمد بعد العصر، يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان. وحدثني أيوب بْن عمر، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: بعث عيسى فدق السجن، فحملنا إليه والقتال دائب بينهم، فلم نزل مطرحين بين يديه، حين أتي برأس محمد، فقلت لأخي يوسف: إنه سيدعونا إلى معرفته، ولا نعرفه له، فإنا نخاف أن نخطئ، فلما أتي به قَالَ: أتعرفانه؟ قلنا: نعم، قَالَ: أنظرا، أهو هذا؟ قَالَ أبي: فبدرت يوسف، فقلت: أرى دما كثيرا وارى ضربا، فو الله ما أثبته، قَالَ: فأطلقنا من الحديد، وبتنا عنده ليلتنا كلها حتى أصبحنا قَالَ: ثم ولاني ما بين مكة والمدينة، فلم أزل واليا عليه حتى قدم جعفر بْن سليمان، فحدرني إليه، وألزمني نفسه. وحدثني علي بْن إسماعيل بْن صالح بْن ميثم، قَالَ: حدثني أبو كعب، قَالَ: حضرت عيسى حين قتل محمدا، فوضع رأسه بين يديه، فأقبل على أصحابه، فقال: ما تقولون في هذا؟ فوقعوا فيه، قَالَ: فأقبل عليهم قائد له، فقال: كذبتم والله وقلتم باطلا، لما على هذا قاتلناه، ولكنه خالف أمير المؤمنين، وشق عصا المسلمين، وإن كان لصواما قواما فسكت القوم. وحدثني ابن البواب عبد الله بْن محمد، قَالَ: حدثني أبي، عن الأسلمي، قَالَ: قدم على أبي جعفر قادم، فقال: هرب محمد، فقال: كذبت! نحن أهل البيت لا نفر. وحدثني عبد الله بْن راشد بْن يزيد، قَالَ: حدثني أبو الحجاج الجمال، قَالَ: إني لقائم على رأس أبي جعفر، وهو مسائلي عن مخرج محمد، إذ بلغه

أن عيسى قد هزم- وكان متكئا فجلس- فضرب بقضيب معه مصلاه، وقال: كلا، فأين لعب صبياننا بها على المنابر ومشورة النساء! ما إني لذلك بعد. قال: وحدثني محمد بْن الحسن، قَالَ: حدثني بعض أصحابنا، قَالَ: أصاب أبا القلمس نشابة في ركبته، فبقي نصلها، فعالجها فأعياه، فقيل له: دعه حتى يقيح فيخرج، فتركه، فلما طلب بعد الهزيمة لحق بالحرة، وأبطأ به ما أصاب ركبته، فلم يزل بالنصل حتى استخرجه ثم جثا لركبتيه، ونكب كنانته، فرماهم فتصدعوا عنه، فلحق بأصحابه فنجا. وحدثني محمد بْن الحسن، قَالَ: حدثني عبد الله بْن عمر بْن القاسم، قَالَ: لما انهزمنا يومئذ كنت في جماعة، فيهم أبو القلمس، فالتفت إليه، فإذا هو مستغرب ضحكا، قَالَ: فقلت: والله ما هذا بموضع ضحك، وخفضت بصري، فإذا برجل من المنهزمة قد تقطع قميصه، فلم يبق منه إلا جربانه وما يستر صدره إلى ثدييه، وإذا عورته بادية وهو لا يشعر، قَالَ: فجعلت أضحك لضحك أبي القلمس. فحدثني عيسى، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: لم يزل أبو القلمس مختفيا بالفرع، وبقي زمانا ثم عدا عليه عبد له، فشدخ رأسه بصخرة فقتله، ثم أتى أم ولد كانت له، فقال: إني قد قتلت سيدك، فهلمى اتتزوجك؟ قالت: رويدا أتصنع لك، فأمهلها، فأتت السلطان فأخبرته، فأخذ العبد فشدخ رأسه. حدثني محمود بْن معمر بْن أبي الشدائد، قَالَ: أخبرني أبي، قَالَ: لما دخلت خيل عيسى من شعب بني فزارة، فقتل محمد، اقتحم نفر على أبي الشدائد فقتلوه، وأخذوا رأسه، فنادت ابنته الناعمة بنت ابى الشدائد: وا رجالاه! فقال لها رجل من الجند: ومن رجالك؟ قالت: بنو فزارة، قَالَ: والله لو علمت ما دخلت بيتك، فلا بأس عليك، أنا امرؤ من

عشيرتك من باهلة، وأعطاها قطعة من عمامته فعلقتها على بابها، قَالَ: وأتي عيسى برأسه، وعنده ابن أبي الكرام ومحمد بْن لوط بْن المغيرة بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فاسترجعا وقالا: والله ما بقي من أهل المدينة أحد، هذا رأس أبي الشدائد، فالح بْن معمر- رجل من بني فزارة مكفوف- قَالَ: فأمر مناديا فنادى: من جاء برأس ضربنا رأسه وحدثني علي بْن زادان، قَالَ: حدثني عبد الله بْن برقي، قَالَ: رأيت قائدا من قواد عيسى، جاء في جماعة يسأل عن منزل ابن هرمز، فأرشدناه إليه. قَالَ: فخرج وعليه قميص رياط، قَالَ: فأنزلوا قائدهم، وحملوه على برذونه وخرجوا به يزفونه، حتى أدخلوه على عيسى، فما هاجه. حدثني قدامة بْن محمد، قَالَ: خرج عبد الله بْن يزيد بْن هرمز ومحمد ابن عجلان مع محمد، فلما حضر القتال، تقلد كل واحد منهما قوسا، فظننا أنهما أرادا أن يريا الناس أنهما قد صلحا لذلك. وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني حسين بْن يزيد، قَالَ: أتي بابن هرمز الى عيسى بعد ما قتل محمد، فقال: أيها الشيخ، أما وزعك فقهك عن الخروج مع من خرج! قَالَ: كانت فتنة شملت الناس، فشملتنا فيهم، قَالَ: اذهب راشدا. وحدثني محمد بْن الحسن بْن زبالة، قَالَ: سمعت مالك بْن أنس، يقول: كنت آتي ابن هرمز فيأمر الجارية فتغلق الباب، وترخي الستر، ثم يذكر أول هذه الأمة، ثم يبكي حتى تخضل لحيته قَالَ: ثم خرج مع محمد فقيل له: والله ما فيك شيء، قَالَ: قد علمت، ولكن يراني جاهل فيقتدي بي. حدثني عيسى، قَالَ: حدثني محمد بْن زيد، قَالَ: لما قتل محمد انخرقت السماء بالمطر بما لم أر مثله انخرق قط منها، فنادى منادي عيسى: لا يبيتن بالمدينة أحد من الجند إلا كثير بْن حصين وجنده، ولحق عيسى بعسكره بالجرف، فكان به حتى أصبح، ثم بعث بالبشارة مع القاسم بْن حسن بْن زيد، وبعث بالرأس مع ابن أبي الكرام

وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: لما أصبح محمد في مصرعه، أرسلت أخته زينب بنت عبد الله وابنته فاطمة إلى عيسى: إنكم قد قتلتم هذا الرجل، وقضيتم منه حاجتكم، فلو أذنتم لنا فواريناه! فأرسل إليهما: أما ما ذكرتما يا بنتي عمى مما نيل منه فو الله ما أمرت ولا علمت، فوارياه راشدتين فبعثتا إليه فاحتمل، فقيل: إنه حشي في مقطع عنقه عديله قطنا، ودفن بالبقيع، وكان قبره وجاه زقاق دار علي بْن أبي طالب، شارعا على الطريق أو قريبا من ذلك، وبعث عيسى بألوية فوضع على باب أسماء بنت حسن بْن عبد الله واحد، وعلى باب العباس بْن عبد الله بْن الحارث آخر، وعلى باب محمد بْن عبد العزيز الزهري آخر، وعلى باب عبيد الله بْن محمد بْن صفوان آخر، وعلى باب دار أبي عمرو الغفاري آخر، وصاح مناديه: من دخل تحت لواء منها، أو دخل دارا من هذه الدور فهو آمن، ومطرت السماء مطرا جودا، فأصبح الناس هادئين في أسواقهم، وجعل عيسى يختلف إلى المسجد من الجرف، فأقام بالمدينة أياما، ثم شخص صبح تسع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان يريد مكة. حدثنى أزهر بْن سعيد، قَالَ: لما كان الغد من قتل محمد أذن عيسى في دفنه، وأمر بأصحابه فصلبوا ما بين ثنية الوداع إلى دار عمر بْن عبد العزيز. قَالَ أزهر: فرأيتهم صفين، ووكل بخشبة ابن خضير من يحرسها، فاحتمله قوم في الليل فواروه، ولم يقدر عليهم، وأقام الآخرون مصلبين ثلاثا، ثم تأذى بهم الناس، فأمر عيسى بهم فألقوا على المفرح من سلع، وهي مقبرة اليهود، فلم يزالوا هنالك، ثم ألقوا في خندق بأصل ذباب. حدثني عيسى بْن عبد الله قَالَ: حدثتني أمي أم حسين بنت عبد الله بن محمد بن علي بن حسين، قالت: قلت لعمي جعفر بْن محمد: إني- فديتك- ما أمر محمد بْن عبد الله؟ هذا قَالَ: فتنته يقتل فيها محمد عند بيت

رومي، ويقتل أخوه لأبيه وأمه بالعراق وحوافر فرسه في ماء. حدثني عيسى، عن أبيه، قَالَ: خرج مع محمد حمزة بْن عبد الله بْن محمد بْن علي- وكان عمه جعفر ينهاه، وكان من أشد الناس مع محمد- قَالَ: فكان جعفر يقول له: هو والله مقتول، قال: فتنحى جعفر. حدثنى عيسى، قَالَ: حدثنا ابن أبي الكرام، قَالَ: بعثني عيسى برأس محمد، وبعث معي مائة من الجند، قَالَ: فجئنا حتى إذا أشرفنا على النجف كبرنا- قَالَ: وعامر بْن إسماعيل يومئذ بواسط محاصر هارون ابن سعد العجلي- فقال أبو جعفر للربيع: ويحك! ما هذا التكبير! قَالَ: هذا ابن أبي الكرام، جاء برأس محمد بْن عبد الله، قَالَ: ائذن له ولعشرة ممن معه، قَالَ: فأذن لي، فوضعت الرأس بين يديه في ترس، فقال: من قتل معه من أهل بيته؟ قلت: لا والله ولا إنسان، قَالَ: سبحان الله! هو ذاك قَالَ: فرفع رأسه إلى الربيع، فقال: ما أخبرنا صاحبه الذي كان قبله؟ قَالَ الربيع: زعم أنه قتل منهم عدد كثير، قلت: لا والله ولا واحد. حدثني علي بْن إسماعيل بْن صالح بْن ميثم، قَالَ: لما قدم برأس محمد على أبي جعفر وهو بالكوفة، أمر به فطيف في طبق أبيض، فرأيته آدم أرقط، فلما أمسى من يومه بعث به إلى الآفاق. وحدثني عبد الله بْن عمر بْن حبيب من أهل ينبع، قَالَ: لما أتي أبو جعفر برءوس بني شجاع، قَالَ: هكذا فليكن الناس، طلبت محمدا فاشتمل هؤلاء عليه، ثم نقلوه وانتقلوا معه، ثم قاتلوا معه فصبروا حتى قتلوا. قَالَ عمر: أنشدني عيسى بْن إبراهيم وإبراهيم بْن مصعب بْن عمارة بْن حمزة بْن مصعب، ومحمد بْن يحيى ومحمد بْن الحسن بْن زبالة وغيرهم لعبد الله ابن مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزبير يرثي محمدا: تبكي مدله أن تقنص حبلهم ... عيسى وأقصد صائبا عثمانا

هلا على المهدي وابني مصعب ... أذريت دمعك ساكبا تهتانا! ولفقد إبراهيم حين تصدعت ... عنه الجموع فواجه الأقرانا سالت دموعك ضلة قد هجت لي ... برحاء وجد تبعث الأحزانا والله ما ولد الحواضن مثلهم ... أمضى وأرفع محتدا ومكانا وأشد ناهضة وأقول للتي ... تنفي مصادر عدلها البهتانا فهناك لو فقأت غير مشوه ... عينيك من جزع عذرت علانا رزء لعمرك لو يصاب بمثله ... مبطان صدع رزوه مبطانا وقال ابن مصعب: يا صاحبي دعا الملامة واعلما ... أن لست في هذا بألوم منكما وقفا بقبر ابن النبي فسلما ... لا بأس أن تقفا به فتسلما قبر تضمن خير أهل زمانه ... حسبا وطيب سجية وتكرما رجل نفى بالعدل جور بلادنا ... وعفا عظيمات الأمور وأنعما لم يجتنب قصد السبيل ولم يجر ... عنه، ولم يفتح بفاحشة فما لو أعظم الحدثان شيئا قبله ... بعد النبي به لكنت المعظما أو كان أمتع بالسلامة قبله ... أحدا لكان قصاره أن يسلما ضحوا بإبراهيم خير ضحية ... فتصرمت أيامه وتصرما بطلا يخوض بنفسه غمراتها ... لا طائشا رعشا ولا مستسلما حتى مضت فيه السيوف وربما ... كانت حتوفهم السيوف وربما أضحى بنو حسن أبيح حريمهم ... فينا وأصبح نهبهم متقسما ونساؤهم في دورهن نوائح ... سجع الحمام إذا الحمام ترنما يتوسلون بقتلهم ويرونه ... شرفا لهم عند الإمام ومغنما والله لو شهد النبي محمد ... صلى الإله على النبي وسلما

إشراع أمته الأسنة لابنه ... حتى تقطر من ظباتهم دما حقا لأيقن أنهم قد ضيعوا ... تلك القرابة واستحلوا المحرما وحدثني إسماعيل بْن جعفر بْن إبراهيم، قَالَ: حدثني موسى بْن عبد الله ابن حسن، قَالَ: خرجت من منازلنا بسويقة في الليل، وذلك قبل مخرج محمد ابن عبد الله، فإذا بنسوة كأنما خرجن من ديارنا، فأخذتني عليهن غيرة، فإني لأتبعهن أنظر أين يردن، حتى إذا كن بطرف الحميراء من جانب الغرس، التفتت إلي إحداهن، فقالت: سويقة بعد ساكنها يباب ... لقد أمست أجد بها الخراب فعرفت أنهن من ساكني الأرض، فرجعت. وحدثني عيسى، قَالَ: لما قتل عيسى بْن موسى محمدا قبض أموال بني حسن كلها، فأجاز ذلك أبو جعفر. وحدثني أيوب بْن عمر، قَالَ: [لقي جعفر بْن محمد أبا جعفر، فقال: يا أمير المؤمنين، رد علي قطيعتي عين أبي زياد آكل من سعفها، قَالَ: إياي تكلم بهذا الكلام! والله لأزهقن نفسك قَالَ: فلا تعجل علي، قد بلغت ثلاثا وستين، وفيها مات أبي وجدي على بْن أبي طالب، وعلي كذا وكذا إن ربتك بشيء أبدا، وإن بقيت بعدك أن ربت الذي يقوم بعدك] قَالَ: فرق له وأعفاه. وحدثني هشام بْن إبراهيم بْن هشام بْن راشد، قَالَ: لم يرد أبو جعفر عين أبي زياد حتى مات فردها المهدي على ولده. وحدثني هشام بْن إبراهيم، قَالَ: لما قتل محمد أمر أبو جعفر بالبحر فأقفل على أهل المدينة، فلم يحمل إليهم من ناحيه البحار شيء، حتى كان المهدي فأمر بالبحر ففتح لهم، واذن في الحمل. وحدثنى محمد بْن جعفر بْن إبراهيم، قَالَ: حدثتني أمي أم سلمة بنت

محمد بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبي بكر زوجة موسى بْن عبد الله، قالت: خاصم بنو المخزومية عيسى وسليمان وإدريس بنو عبد الله بْن حسن بْن محمد بْن عبد الله بْن حسن في ميراث عبد الله، وقالوا: قتل أبوكم محمد فورثه عبد الله، فتنازعوا إلى الحسن بْن زيد، فكتب بذلك إلى أمير المؤمنين أبي جعفر، فكتب إليه: أما بعد، فإذا بلغك كتابي هذا فورثهم من جدهم، فإني قد رددت عليهم أموالهم صلة لأرحامهم، وحفظا لقرابتهم وحدثني عيسى، قَالَ: خرج مع محمد من بني هاشم الحسن ويزيد وصالح بنو معاوية بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وحسين وعيسى ابنا زيد بْن علي بْن حسين بْن علي بْن أبي طالب، قَالَ: فحدثني عيسى، قَالَ: بلغني ان أبا جعفر كان يقول: وا عجبا لخروج ابني زيد بْن علي وقد قتلنا قاتل أبيهما كما قتله، وصلبناه كما صلبه، واحرقناه كما احرقه، وحمزه ابن عبد الله بن محمد بن علي بن حسين بْن أبي طالب، وعلي وزيد ابنا حسن ابن زيد بْن الحسن بْن علي بْن أبي طالب! قَالَ عيسى: قَالَ أبو جعفر للحسن بْن زيد: كأني أنظر إلى ابنيك واقفين على راس محمد بسيفين، عليهما قباءان قَالَ: يا أمير المؤمنين، قد كنت أشكو إليك عقوقهما قبل اليوم، قَالَ: أجل فهذا من ذاك والقاسم ابن إسحاق بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، والمرجى علي بْن جعفر بْن إسحاق بْن علي بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ عيسى: قَالَ أبو جعفر لجعفر بْن إسحاق: من المرجي هذا؟ فعل الله به وفعل! قَالَ: يا أمير المؤمنين، ذاك ابني، والله لئن شئت أن أنتفي منه لأفعلن ومن بني عبد شمس محمد بْن عبد الله بْن عمرو بْن سعيد بْن العاص بْن أمية بْن عبد شمس. قَالَ: وحدثني أبو عاصم النبيل، قَالَ: حدثني عباد بْن كثير، قَالَ: خرج ابن عجلان مع محمد، وكان على ثقله، فلما ولي جعفر بْن سليمان المدينة قيده، فدخلت عليه، فقلت: كيف ترى رأي أهل البصره في رجل قيد الحسن؟

قال: سيئا والله، قَالَ: قلت: فإن ابن عجلان بهذه كالحسن ثم، فتركه ومحمد بْن عجلان مولى فاطمة بنت عتبة بْن رَبِيعَة بْن عبد شمس. وحدثني سعيد بْن عبد الحميد بْن جعفر بْن عبد الله، أن عبيد الله بن عمر ابن حفص بْن عاصم خرج معه، فأتى به أبو جعفر بعد قتل محمد، فقال له: أنت الخارج علي مع محمد؟ قَالَ: لم أجد إلا ذلك أو الكفر بما أنزل الله على محمد ص، قَالَ عمر: هذا وهم. قَالَ: وحدثني عبد العزيز بْن أبي سلمة بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر، قَالَ: كان عبيد الله قد أجاب محمدا إلى الخروج معه، فمات قبل أن يخرج، وخرج معه أبو بكر بْن عبد الله بْن محمد بْن أبي سبرة بْن أبي رهم بْن عبد العزى ابن أَبِي قَيْسِ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عامر بن لؤي، وخرج معه عبد الواحد بْن أبي عون مولى الأزد وعبد الله بْن جعفر بن عبد الرحمن ابن المسور بْن مخرمة وعبد العزيز بْن محمد الدراوردي وعبد الحميد بْن جعفر وعبد الله بْن عطاء بْن يعقوب مولى بني سباع، وابن سباع من خزاعة حليف بني زهرة، وبنو إبراهيم وإسحاق وربيعة وجعفر وعبد الله وعطاء ويعقوب وعثمان وعبد العزيز، بنو عبد الله بْن عطاء. وحدثني إبراهيم بْن مصعب بْن عمارة بْن حمزة بْن مصعب بْن الزبير. قَالَ: وحدثني الزبير بْن خبيب بْنِ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: إنا لبالمر من بطن إضم، وعندي زوجتي أمينة بنت خضير، إذ مر بنا رجل مصعد من المدينة، فقالت له: ما فعل محمد؟ قَالَ: قتل، قالت: فما فعل ابن خضير؟ قَالَ: قتل، فخرت ساجدة، فقلت: أتسجدين أن قتل أخوك! قالت: نعم، أليس لم يفر ولم يؤسر! قَالَ عيسى: حدثني أبي، قَالَ: قَالَ أبو جعفر لعيسى بْن موسى: من استنصر مع محمد؟ قَالَ: آل الزبير، قَالَ: ومن؟ قَالَ: وآل

عمر، قَالَ: أما والله لعن غير مودة بهما له ولا محبة له ولا لأهل بيته قَالَ: وكان أبو جعفر يقول: لو وجدت ألفا من آل الزبير كلهم محسن وفيهم مسيء واحد لقتلتهم جميعا، ولو وجدت ألفا من آل عمر كلهم مسيء وفيهم محسن واحد لأعفيتهم جميعا قَالَ عمر: وحدثني إبراهيم بْن مصعب بْن عمارة بْن حمزة بْن مصعب، قَالَ: حدثني محمد بْن عثمان بْن محمد بْن خالد بْن الزبير، قَالَ: لما قتل محمد، هرب أبي وموسى بْن عبد الله بْن حسن وأنا معهما وأبو هبار المزني، فأتينا مكة، ثم انحدرنا إلى البصرة، فاكترينا من رجل يدعى حكيما، فلما وردنا البصرة- وذلك بعد ثلث الليل- وجدنا الدروب مغلقة، فجلسنا عندها حتى طلع الفجر، ثم دخلنا فنزلنا المربد، فلما أصبحنا أرسلنا حكيما يبتاع لنا طعاما، فجاء به على رجل أسود، في رجله حديدة، فدخل به علينا فأعطاه جعله، فتسخط علينا، فقلنا: زده، فتسخط، فقلنا له: ويلك! أضعف له، فأبى، فاستراب بنا، وجعل يتصفح وجوهنا ثم خرج فلم ننشب أن أحاطت بمنزلنا الخيل، فقلنا لربة المنزل: ما بال الخيل؟ فقالت: لا بأس فيها، تطلب رجلا من بني سعد يدعى نميلة بْن مرة، كان خرج مع ابراهيم. قال: فو الله ما راعنا إلا بالأسود قد دخل به علينا، قد غطي رأسه ووجهه فلما دخل به كشف عنه، ثم قيل: أهؤلاء؟ قَالَ: نعم هؤلاء، هذا موسى بْن عبد الله، وهذا عثمان بْن محمد، وهذا ابنه، ولا أعرف الرابع غير أنه من أصحابهم قَالَ: فأخذنا جميعا، فدخل بنا على محمد بْن سليمان فلما نظر إلينا أقبل على موسى، فقال: لا وصل الله رحمك! أتركت البلاد جميعا وجئتني! فإما أطلقتك فتعرضت لأمير المؤمنين، وإما أخذتك فقطعت رحمك ثم كتب إلى امير المؤمنين بخبرنا: قَالَ: فجاء الجواب أن احملهم إلي، فوجهنا إليه ومعنا جند، فلما صرنا بالبطيحة وجدنا بها جندا آخر ينتظروننا، ثم لم نزل نأتي على المسالح من الجند في طريقنا كله، حتى

وردنا بغداد، فدخل بنا على أبي جعفر، فلما نظر إلى أبي قَالَ: هيه! أخرجت علي مع محمد! قَالَ: قد كان ذاك، فأغلظ له أبو جعفر، فراجعه مليا، ثم أمر به فضربت عنقه ثم أمر بموسى فضرب بالسياط، ثم أمر بي فقربت إليه، فقال: اذهبوا به فأقيموه على رأس أبيه، فإذا نظر إليه فاضربوا عنقه على جيفته قَالَ: فكلمه عيسى بْن علي، وقال: والله ما أحسبه بلغ، فقلت: يا أمير المؤمنين، كنت غلاما حدثا غرا أمرني أبي فأطعته، قَالَ: فأمر بي فضربت خمسين سوطا، ثم حبسني في المطبق وفيه يومئذ يعقوب بْن داود، فكان خير رفيق أرافقه وأعطفه، يطعمني من طعامه، ويسقيني من شرابه، فلم نزل كذلك حتى توفي أبو جعفر، وقام المهدي وأخرج يعقوب، فكلمه في فأخرجني. قَالَ: وحدثني أيوب بْن عمر، قَالَ: حدثني محمد بْن خالد، قَالَ: أخبرني محمد بْن عروة بْن هشام بْن عروة، قَالَ: إني لعند أبي جعفر، إذ أتى فقيل له: هذا عثمان بْن محمد بْن خالد قد دخل به، فلما رآه أبو جعفر، قَالَ: أين المال الذي عندك؟ قَالَ: دفعته إلى أمير المؤمنين رحمه الله، قَالَ: ومن أمير المؤمنين؟ قَالَ: محمد بْن عبد الله، قَالَ: أبايعته؟ قَالَ: نعم كما بايعته، قال: يا بن اللخناء! قَالَ: ذاك من قامت عنه الإماء، قال: اضرب عنقه. قال: فاخذ فضربت عنقه قَالَ: وحدثني سعيد بْن عبد الحميد بن جعفر، قال: حدثنى محمد ابن عثمان بْن خالد الزبيري، قَالَ: لما خرج محمد خرج معه رجل من آل كثير بْن الصلت، فلما قتل وهزم أصحابه تغيبوا، فكان أبي والكثيري فيمن تغيب، فلبثوا بذلك، حتى قدم جعفر بْن سليمان واليا على المدينة، فاشتد في طلب أصحاب محمد، فاكترى أبي من الكثيري إبلا كانت له، فخرجنا متوجهين نحو البصرة، وبلغ الخبر جعفرا، فكتب إلى أخيه محمد يعلمه بتوجهنا إلى البصرة، ويأمره بالترصد لنا والتيقظ لأمرنا ومقدمنا، فلما قدمنا علم محمد بمقدمنا ومكاننا، فأرسل إلينا فأخذنا، فأتي بنا، فأقبل عليه

أبي، فقال: يا هذا، اتق الله في كرينا هذا، فإنه أعرابي لا علم له بنا، إنما أكرانا ابتغاء الرزق، ولو علم بجريرتنا ما فعل، وأنت معرضه لأبي جعفر، وهو من قد علمت، فأنت قاتله ومتحمل مأثمه قَالَ: فوجم محمد طويلا، ثم قَالَ: هو والله أبو جعفر، والله ما أتعرض له، ثم حملنا جميعا فدخلنا على أبي جعفر، وليس عنده أحد يعرف الكثيري غير الحسن بْن زيد، فأقبل على الكثيري، فقال: يا عدو الله، أتكري عدو أمير المؤمنين، ثم تنقله من بلد إلى بلد، تواريه مرة وتظهره أخرى! قَالَ: يا أمير المؤمنين، وما علمي بخبره وجريرته وعداوته إياك! إنما اكربته جاهلا به، ولا أحسبه إلا رجلا من المسلمين، بريء الساحة، سليم الناحية، ولو علمت حاله لم أفعل قَالَ: وأكب الحسن بْن زيد ينظر إلى الأرض، لا يرفع رأسه قَالَ: فأوعد أبو جعفر الكثيري وتهدده، ثم أمر بإطلاقه، فخرج فتغيب، ثم أقبل على أبي، فقال: هيه يا عثمان! أنت الخارج على أمير المؤمنين، والمعين عليه! قَالَ: بايعت أنا وأنت رجلا بمكة، فوفيت ببيعتي وغدرت ببيعتك قَالَ: فأمر به فضربت عنقه. قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: أتي أبو جعفر بعبد العزيز بْن عبد الله بْن عمر بْن الخطاب، فنظر إليه فقال: إذا قتلت مثل هذا من قريش فمن أستبقي! ثم أطلقه، وأتي بعثمان بن محمد ابن خالد فقتله، وأطلق ناسا من القرشيين، فقال له عيسى بْن موسى: يا أمير المؤمنين، ما أشقى هذا بك من بينهم! فقال: ان هذا يدي. قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: سمعت حسن بْن زيد يقول: غدوت يوما على أبي جعفر، فإذا هو قد أمر بعمل دكان، ثم أقام عليه خالدا. وأتي بعلي بْن المطلب بْن عبد الله بْن حنطب، فأمر به فضرب خمسمائة سوط، ثم أتي بعبد العزيز بْن إبراهيم بْن عبد الله بْن مطيع فأمر به فجلد خمسمائة سوط، فما تحرك واحد منهما، فقال لي: هل رأيت أصبر من

ذكر الخبر عن وثوب السودان بالمدينة في هذه السنه والسبب الذى هيج ذلك

هذين قط! والله إنا لنؤتى بالذين قد قاسوا غلظ المعيشة وكدها، فما يصبرون هذا الصبر، وهؤلاء أهل الخفض والكن والنعمة، قلت: يا أمير المؤمنين، هؤلاء قومك أهل الشرف والقدر، قَالَ: فأعرض عني، وقال: أبيت إلا العصبية! ثم أعاد عبد العزيز بْن إبراهيم بعد ذلك ليضربه، فقال: يا أمير المؤمنين، الله الله فينا! فو الله إني لمكب على وجهي منذ أربعين ليلة، ما صليت لله صلاة! قَالَ: أنتم صنعتم ذلك بأنفسكم، قَالَ: فأين العفو يا أمير المؤمنين؟ قَالَ: فالعفو والله إذا، ثم خلى سبيله. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: كثروا محمدا وألحوا في القتال حتى قتل محمد في النصف من شهر رمضان سنة خمسة وأربعين ومائة، وحمل رأسه إلى عيسى بْن موسى، فدعا ابن أبي الكرام، فأراه إياه، فعرفه فسجد عيسى بْن موسى، ودخل المدينة، وآمن الناس كلهم وكان مكث محمد بْن عبد الله من حين ظهر إلى أن قتل شهرين وسبعة عشر يوما. وفي هذه السنة: استخلف عيسى بْن موسى على المدينة كثير بْن حصين حين شخص عنها بعد مقتل محمد بْن عبد الله بْن حسن، فمكث واليا عليها شهرا، ثم قدم عبد الله بْن الربيع الحارثي واليا عليها من قبل أبي جعفر المنصور. وفي هذه السنة ثارت السودان بالمدينة بعبد الله بْن الربيع، فهرب منهم . ذكر الخبر عن وثوب السودان بالمدينة في هذه السنة والسبب الذي هيج ذلك ذكر عمر بْن شبة أن محمد بْن يحيى حدثه، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: كان رياح بْن عثمان استعمل أبا بكر بْن عبد الله بْن أبي سبرة على صدقه اسد وطيّئ فلما خرج محمد أقبل إليه أبو بكر بما كان جبا وشمر معه، فلما استخلف عيسى كثير

ابن حصين على المدينة أخذ أبا بكر، فضربه سبعين سوطا وحدده وحبسه. ثم قدم عبد الله بْن الربيع واليا من قبل أبي جعفر يوم السبت لخمس بقين من شوال سنة خمس وأربعين ومائة، فنازع جنده التجار في بعض ما يشترونه منهم، فخرجت طائفة من التجار حتى جاءوا دار مروان، وفيها ابن الربيع، فشكوا ذلك إليه، فنهرهم وشتمهم، وطمع فيهم الجند، فتزايدوا في سوء الرأي. قَالَ: وحدثني عمر بْن راشد، قَالَ: انتهب الجند شيئا من متاع السوق، وغدوا على رجل من الصرافين يدعى عثمان بْن زيد، فغالبوه على كيسه، فاستغاث فخلص، ماله منهم، فاجتمع رؤساء أهل المدينة فشكوا ذلك إلى ابن الربيع فلم ينكره ولم يغيره، ثم جاء رجل من الجند فاشترى من جزار لحما يوم الجمعة، فأبى أن يعطيه ثمنه، وشهر عليه السيف، فخرج عليه الجزار من تحت الوضم بشفرة، فطعن بها خاصرته، فخر عن دابته، واعتوره الجزارون فقتلوه، وتنادى السودان عن الجند وهم يروحون إلى الجمعة فقتلوهم بالعمد في كل ناحية، فلم يزالوا على ذلك حتى أمسوا، فلما كان الغد هرب ابن الربيع. قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثنى الحارث بْن إسحاق، قَالَ: نفخ السودان في بوق لهم، فذكر لي بعض من كان في العالية وبعض من كان في السافلة، أنه كان يرى الأسود من سكانهما في بعض عمله يسمع نفخ البوق، فيصغي له حتى يتيقنه ثم يوحش بما في يده، ويأتم الصوت حتى يأتيه قَالَ: وذلك يوم الجمعة لسبع بقين من ذي الحجة من سنة خمس وأربعين ومائة، ورؤساء السودان ثلاثة نفر: وثيق ويعقل ورمقة قَالَ: فغدوا على ابن الربيع، والناس في الجمعة فأعجلوهم عن الصلاة، وخرج إليهم فاستطردوا له، حتى أتى السوق فمر بمساكين خمسة يسألون في طريق المسجد، فحمل عليهم بمن معه حتى قتلوهم، ثم مر بأصيبية على طنف دار، فظن أن القوم منهم، فاستنزلهم واختدعهم وآمنهم، فلما نزلوا ضرب

أعناقهم، ثم مضى ووقف عند الحناطين، وحمل عليه السودان، فأجلى هاربا فاتبعوه حتى صار إلى البقيع، ورهقوه فنثر لهم دارهم، فشغلهم بها، ومضى على وجهه حتى نزل ببطن نخل، عن ليلتين من المدينة. قَالَ: وحدثني عيسى، قَالَ: خرج السودان على ابن الربيع، ورؤساؤهم: وثيق وحديا وعنقود وأبو قيس، فقاتلهم فهزموه، فخرج حتى أتى بطن نخل فأقام بها. وحدثني عمر بْن راشد، قَالَ: لما هرب ابن الربيع وقع السودان في طعام لأبي جعفر من سويق ودقيق وزيت وقسب، فانتهبوه، فكان حمل الدقيق بدرهمين، وراوية زيت بأربعة دراهم. وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: أغاروا على دار مروان ودار يزيد، وفيهما طعام كان حمل للجند في البحر، فلم يدعوا فيهما شيئا قَالَ: وشخص سليمان بْن فليح بْن سليمان في ذلك اليوم إلى أبي جعفر، فقدم عليه فأخبره الخبر. قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: وقتل السودان نفرا من الجند، فهابهم الجند حتى إن كان الفارس ليلقى الأسود وما عليه إلا خرقتان على عورته ودراعة، فيوليه دبره احتقارا له، ثم لم ينشب أن يشد عليه بعمود من عمد السوق فيقتله: فكانوا يقولون: ما هؤلاء السودان إلا سحرة او شياطين! قال: وحدثنى عثامه بن عمرو السهمي، قَالَ: حدثني المسور بْن عبد الملك، قَالَ: لما حبس ابن الربيع أبا بكر بْن ابى سبره، وكان جاء بجباية طيّئ واسد، فدفعها الى محمد، اشفق القرشيون على ابن أبي سبرة، فلما خرج السودان على ابن الربيع، خرج ابن أبي سبرة من السجن، فخطب الناس، ودعاهم إلى الطاعة، وصلى بالناس حتى رجع ابن الربيع. قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق،

قَالَ: خرج ابن أبي سبرة من السجن والحديد عليه، حتى أتى المسجد، فأرسل إلى محمد بْن عمران ومحمد بْن عبد العزيز وغيرهما، فاجتمعوا عنده، فقال: أنشدكم الله وهذه البليه التي وقعت! فو الله لئن تمت علينا عند أمير المؤمنين بعد الفعلة الأولى، إنه لاصطلام البلد وأهله والعبيد في السوق بأجمعهم، فأنشدكم الله إلا ذهبتم إليهم فكلمتموهم في الرجعة والفيئة إلى رأيكم، فإنهم لا نظام لهم ولم يقوموا بدعوة، وإنما هم قوم أخرجتهم الحمية! قَالَ: فذهبوا إلى العبيد فكلموهم، فقالوا: مرحبا بكم يا موالينا، والله ما قمنا إلا أنفة لكم مما عمل بكم، فأيدينا مع أيديكم وأمرنا إليكم، فأقبلوا بهم إلى المسجد. وحدثني محمد بْن الحسن بْن زبالة، قَالَ: حدثني الحسين بْن مصعب، قَالَ: لما خرج السودان وهرب ابن الربيع، جئتهم أنا وجماعة معي، وقد عسكروا في السوق، فسألناهم أن يتفرقوا. وأخبرناهم أنا وإياهم لا نقوى على ما نصبوا له، قَالَ: فقال لنا وثيق: إن الأمر قد وقع بما ترون، وهو غير مبق لنا ولا لكم، فدعونا نشفكم ونشتف أنفسنا، فأبينا، ولم نزل بهم حتى تفرقوا وحدثني عمر بْن راشد، قَالَ: كان رئيسهم وثيق وخليفته يعقل الجزار. قَالَ: فدخل عليه ابن عمران، قَالَ: إلى من تعهد يا وثيق؟ قَالَ: إلى أربعة من بني هاشم، وأربعة من قريش، وأربعة من الأنصار، وأربعة من الموالي، ثم الأمر شورى بينهم قَالَ: أسأل الله إن ولاك شيئا من أمرنا أن يرزقنا عدلك، قال: قد والله ولا نيه الله قَالَ: وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: حضر السودان المسجد مع ابن أبي سبرة، فرقي المنبر في كبل حديد حتى استوى في مجلس رسول الله. ص، وتبعه محمد بْن عمران، فكان تحته، وتبعهم محمد بْن عبد العزيز فكان تحتهما، وتبعهم سليمان ابن عبد الله بْن أبي سبرة، فكان تحتهم جميعا، وجعل الناس يلغطون لغطا شديدا، وابن أبي سبرة جالس صامت فقال ابن عمران: أنا ذاهب إلى السوق، فانحدر وانحدر من دونه، وثبت ابن أبي سبرة،

فتكلم فحث على طاعة أمير المؤمنين، وذكر أمر محمد بْن عبد الله فأبلغ. ومضى ابن عمران إلى السوق، فقام على بلاس من بلس الحنظلة، فتكلم هناك، فتراجع الناس، ولم يصل بالناس يومئذ إلا المؤذن، فلما حضرت العشاء الآخرة وقد ثاب الناس، فاجتمع القرشيون في المقصورة، وأقام الصلاة محمد بْن عمار المؤذن، الذي يلقب كساكس، فقال للقرشيين: من يصلي بكم؟ فلم يجبه أحد، فقال: ألا تسمعون! فلم يجيبوه، فقال: يا بن عمران، ويا بن فلان، فلم يجبه احد، فقام الأصبغ بن سفيان بن عاصم ابن عبد العزيز بْن مروان، فقال: أنا أصلي، فقام في المقام، فقال للناس: استووا، فلما استوت الصفوف أقبل عليهم بوجهه، ونادى بأعلى صوته: ألا تسمعون! أنا الأصبغ بْن سفيان بْن عاصم بْن عبد العزيز بْن مروان، أصلي بالناس على طاعة أبي جعفر، فردد ذلك مرتين أو ثلاثا، ثم كبر فصلى، فلما أصبح الناس قَالَ ابن أبي سبرة: إنه قد كان منكم بالأمس ما قد علمتم، نهبتم ما في دار عاملكم وطعام جند أمير المؤمنين، فلا يبقين عند أحد منكم شيء إلا رده، فقد أقعدت لكم الحكم بْن عبد الله بْن المغيرة بْن موهب، فرفع الناس إليه ما انتهبوا، فقيل: إنه أصاب قيمة ألف دينار. وحدثني عثامة بْن عمرو، قَالَ: حدثني المسور بْن عبد الملك، قَالَ: ائتمر القرشيون أن يدعوا ابن الربيع يخرج ثم يكلموه في استخلاف ابن أبي سبرة على المدينة، ليتحلل ما في نفس أمير المؤمنين عليه، فلما أخرجه السودان، قَالَ له ابن عبد العزيز: أتخرج بغير وال استخلف! ولها رجلا، قَالَ: من؟ قَالَ: قدامة بْن موسى، قَالَ: فصيح بقدامة، فدخل فجلس بين ابن الربيع وبين ابن عبد العزيز، فقال: ارجع يا قدامة، فقد وليتك المدينة وأعمالها، قَالَ: والله ما قَالَ لك هذا من نصحك، ولا نظر لمن وراءه، ولا أراد إلا الفساد، ولأحق بهذا مني ومنه من قام بأمر الناس وهو جالس في بيته- يعني ابن أبي سبرة- ارجع ايها الرجل، فو الله ما لك عذر في الخروج، فرجع ابن الربيع

ذكر الخبر عن بناء مدينه بغداد

قَالَ وحدثني محمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني الحارث بْن إسحاق، قَالَ: ركب ابن عبد العزيز في نفر من قريش إلى ابن الربيع، فناشدوه وهو ببطن نخل إلا رجع إلى عمله، فتأبى قَالَ: فخلا به ابن عبد العزيز، فلم يزل به حتى رجع وسكن الناس وهدءوا. قَالَ: وحدثني عمر بْن راشد، قَالَ: ركب إليه ابن عمران وغيره وقد نزل الأعوص، فكلموه فرجع، فقطع يد وثيق وابى النار ويعقل ومسعر. ذكر الخبر عن بناء مدينه بغداد وفي هذه السنة أسست مدينة بغداد، وهي التي تدعى مدينة المنصور. ذكر الخبر عن سبب بناء أبي جعفر إياها: وكان سبب ذلك أن أبا جعفر المنصور بنى- فيما ذكر- حين أفضى الأمر إليه الهاشمية، قبالة مدينة ابن هبيرة، بينهما عرض الطريق، وكانت مدينة ابن هبيرة التي بحيالها مدينة أبي جعفر الهاشمية إلى جانب الكوفة وبنى المنصور أيضا مدينة بظهر الكوفة سماها الرصافة، فلما ثارت الراوندية بأبي جعفر في مدينته التي تسمى الهاشمية، وهي التي بحيال مدينة ابن هبيرة، كره سكناها لاضطراب من اضطرب أمره عليه من الراوندية، مع قرب جواره من الكوفة، ولم يأمن أهلها على نفسه، فأراد أن يبعد من جوارهم، فذكر أنه خرج بنفسه يرتاد لها موضعا يتخذه مسكنا لنفسه وجنده، ويبتني به مدينة، فبدأ فانحدر إلى جرجرايا ثم صار إلى بغداد، ثم مضى إلى الموصل، ثم عاد إلى بغداد، فقال: هذا موضع معسكر صالح، هذه دجلة ليس بيننا وبين الصين شيء، يأتينا فيها كل ما في البحر، وتأتينا الميرة من الجزيرة وأرمينية وما حول ذلك، وهذا الفرات يجيء فيه كل شيء من الشام والرقة وما حول ذلك فنزل وضرب عسكره على الصراة، وخط المدينة، ووكل بكل ربع قائدا

وذكر عمر بْن شبة أن محمد بْن معروف بْن سويد حدثه، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ مجالد، قَالَ: أفسد أهل الكوفة جند أمير المؤمنين المنصور عليه، فخرج نحو الجبل يرتاد منزلا، والطريق يومئذ على المدائن، فخرجنا على ساباط، فتخلف بعض أصحابي لرمد أصابه، فأقام يعالج عينيه، فسأله الطبيب: أين يريد أمير المؤمنين؟ قَالَ: يرتاد منزلا، قَالَ: فإنا نجد في كتاب عندنا، أن رجلا يدعى مقلاصا، يبني مدينة بين دجلة والصراة تدعى الزوراء، فإذا أسسها وبنى عرقا منها أتاه فتق من الحجاز، فقطع بناءها، وأقبل على إصلاح ذلك الفتق، فإذا كاد يلتئم أتاه فتق من البصرة هو أكبر عليه منه، فلا يلبث الفتقان أن يلتئما، ثم يعود إلى بنائها فيتمه، ثم يعمر عمرا طويلا، ويبقى الملك في عقبه قَالَ سليمان: فإن أمير المؤمنين لبأطراف الجبال في ارتياد منزل، إذ قدم علي صاحبي فأخبرني الخبر فأخبرت به أمير المؤمنين، فدعا الرجل فحدثه الحديث، فكر راجعا عوده على بدئه، وقال: أنا والله ذاك! لقد سميت مقلاصا وأنا صبي، ثم انقطعت عني. وذكر عن الهيثم بْن عدي، عن ابن عياش، قَالَ: لما أراد أبو جعفر الانتقال من الهاشمية بعث روادا يرتادون له موضعا ينزله واسطا، رافقا بالعامة والجند، فنعت له موضع قريب من بارما، وذكر له عنه غذاء طيب، فخرج إليه بنفسه حتى ينظر إليه، وبات فيه، وكرر نظره فيه، فرآه موضعا طيبا، فقال لجماعة من أصحابه، منهم سليمان بْن مجالد وأبو أيوب الخوزي وعبد الملك بْن حميد الكاتب وغيرهم: ما رأيكم في هذا الموضع؟ قالوا: ما رأينا مثله، هو طيب صالح موافق، قَالَ: صدقتم، هو هكذا، ولكنه لا يحمل الجند والناس والجماعات، وانما أريد موضعا يرتفق الناس به ويوافقهم مع موافقته لي، ولا تغلو عليهم فيه الأسعار، ولا تشتد فيه المئونة، فإني إن أقمت في موضع لا يجلب إليه من البر والبحر شيء غلت الأسعار، وقلت المادة، واشتدت المئونة، وشق ذلك على الناس، وقد مررت في

طريقي على موضع فيه مجتمعة هذه الخصال، فأنا نازل فيه، وبائت به، فإن اجتمع لي فيه ما أريد من طيب الليل والموافقة مع احتماله للجند والناس ابتنيه. قَالَ الهيثم بْن عدي: فخبرت أنه أتى ناحية الجسر، فعبر في موضع قصر السلام، ثم صلى العصر- وكان في صيف، وكان في موضع القصر بيعة قس- ثم بات ليلة حتى أصبح، فبات أطيب مبيت في الأرض وأرفقه، وأقام يومه فلم ير إلا ما يحب، فقال: هذا موضع ابني فيه، فإنه تأتيه المادة من الفرات ودجلة وجماعة من الأنهار، ولا يحمل الجند والعامة إلا مثله، فخطها وقدر بناءها، ووضع أول لبنة بيده، وقال: بسم الله والحمد لله، والأرض لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ثم قَالَ: ابنوا على بركة الله. وذكر عن بشر بْن ميمون الشروي وسليمان بْن مجالد، أن المنصور لما رجع من ناحية الجبل، سأل عن خبر القائد الذي حدثه عن الطبيب الذي أخبره عما يجدون في كتبهم من خبر مقلاص، ونزل الدير الذي هو حذاء قصره المعروف بالخلد، فدعا بصاحب الدير، وأحضر البطريق صاحب رحا البطريق وصاحب بغداد وصاحب المخرم وصاحب الدير المعروف ببستان القس وصاحب العتيقة، فسألهم عن مواضعهم، وكيف هي في الحر والبرد والأمطار والوحول والبق والهوام؟ فأخبره كل واحد بما عنده من العلم، فوجه رجالا من قبله، وأمر كل واحد منهم أن يبيت في قرية منها، فبات كل رجل منهم في قرية منها، وأتاه بخبرها وشاور المنصور الذين أحضرهم، وتنحر أخبارهم، فاجتمع اختيارهم على صاحب بغداد، فأحضره وشاوره، وساءله- فهو الدهقان الذي قريته قائمة إلى اليوم في المربعة المعروفة بأبي العباس الفضل بْن سليمان الطوسي، وقباب القرية قائم بناؤها إلى اليوم، وداره ثابتة على حالها- فقال: يا أمير المؤمنين، سألتني عن هذه الأمكنة وطيبها وما يختار منها، فالذي أرى يا أمير المؤمنين أن تنزل أربعة طساسيج

في الجانب الغربي طسوجين وهما قطربل وبادوريا، وفي الجانب الشرقي طسوجين وهما نهر بوق وكلواذى، فأنت تكون بين نخل وقرب الماء، فإن أجدب طسوج وتأخرت عمارته كان في الطسوج الآخر العمارات، وأنت يا أمير المؤمنين على الصراة تجيئك الميرة في السفن من المغرب في الفرات، وتجيئك طرائف مصر والشام، وتجيئك الميرة في السفن من الصين والهند والبصرة وواسط في دجلة، وتجيئك الميرة من أرمينية وما اتصل بها في تأمرا حتى تصل إلى الزاب، وتجيئك الميرة من الروم وآمد والجزيرة والموصل في دجلة، وأنت بين أنهار لا يصل إليك عدوك إلا على جسر أو قنطرة، فإذا قطعت الجسر وأخربت القناطر لم يصل إليك عدوك، وأنت بين دجلة والفرات لا يجيئك أحد من المشرق والمغرب إلا احتاج إلى العبور، وأنت متوسط للبصرة وواسط والكوفة والموصل والسواد كله، وأنت قريب من البر والبحر والجبل فازداد المنصور عزما على النزول في الموضع الذي اختاره وقال له: يا أمير المؤمنين، ومع هذا فإن الله قد من على أمير المؤمنين بكثرة جيوشه وقواده وجنده، فليس أحد من أعدائه يطمع في الدنو منه، والتدبير في المدن أن تتخذ لها الأسوار والخنادق، والحصون، ودجلة والفرات خنادق لمدينة أمير المؤمنين. وذكر عن ابراهيم بن عيسى ان حمادا التركي، قَالَ: بعث المنصور رجالا في سنة خمس وأربعين ومائة، يطلبون له موضعا يبني فيه مدينته، فطلبوا وارتادوا، فلم يرض موضعا، حتى جاء فنزل الدير على الصراة، فقال: هذا موضع أرضاه، تأتيه الميرة من الفرات ودجلة، ومن هذه الصراة. وذكر عن محمد بْن صالح بْن النطاح عن محمد بْن جابر، عن أبيه، قَالَ: لما أراد أبو جعفر أن يبني مدينته ببغداد رأى راهبا، فناداه فأجابه، فقال: تجدون في كتبكم أنه تبنى هاهنا مدينة؟ قَالَ الراهب: نعم، يبنيها مقلاص، قَالَ أبو جعفر: أنا كنت أدعى مقلاصا في حداثتي. قَالَ: فأنت إذا صاحبها، قَالَ: وكذلك لما أراد أن يبني الرافقة بأرض الروم

امتنع أهل الرقة، وأرادوا محاربته، وقالوا: تعطل علينا أسواقنا، وتذهب بمعاشنا، وتضيق منازلنا، فهم بمحاربتهم، وبعث إلى راهب في الصومعة، فقال: هل عندك علم أن يبنى هاهنا مدينة؟ فقال له: بلغني أن رجلا يقال له مقلاص يبنيها، قَالَ: أنا مقلاص، فبناها على بناء مدينة بغداد، سوى السور وأبواب الحديد وخندق منفرد. وذكر عن السري، عن سليمان بْن مجالد، أن المنصور وجه في حشر الصناع والفعلة من الشام والموصل والجبل والكوفة وواسط والبصرة، فأحضروا، وأمر باختيار قوم من ذوي الفضل والعدالة والفقه والأمانة والمعرفة بالهندسة، فكان ممن أحضر لذلك الحجاج بْن أرطاة وأبو حنيفة النعمان بْن ثابت، وأمر بخط المدينة وحفر الأساسات، وضرب اللبن وطبخ الآجر، فبدئ بذلك، وكان أول ما ابتدى به في عملها سنة خمس وأربعين ومائة. وذكر أن المنصور لما عزم على بنائها أحب أن ينظر إليها عيانا، فأمر أن يخط بالرماد، ثم أقبل يدخل من كل باب، ويمر في فصلانها وطاقاتها ورحابها، وهي مخطوطة بالرماد، ودار عليهم ينظر إليهم وإلى ما خط من خنادقها، فلما فعل ذلك أمر أن يجعل على تلك الخطوط حب القطن، وينصب عليه النفط، فنظر إليها والنار تشتعل، ففهمها وعرف رسمها، وأمر أن يحفر أساس ذلك على الرسم، ثم ابتدئ في عملها. وذكر عن حماد التركي أن المنصور بعث رجالا يطلبون له موضعا يبني فيه المدينة، فطلبوا ذلك في سنة أربع وأربعين ومائة، قبل خروج محمد بْن عبد الله بسنة أو نحوها، فوقع اختيارهم على موضع بغداد، قرية على شاطئ الصراة، مما يلي الخلد، وكان في موضع بناء الخلد دير، وكان في قرن الصراة مما يلي الخلد من الجانب الشرقي أيضا قرية ودير كبير كانت تسمى سوق البقر، وكانت القرية تسمى العتيقة، وهي التي افتتحها المثنى بْن حارثة الشيباني، قَالَ: وجاء المنصور، فنزل الدير الذي في موضع الخلد على الصراة، فوجده قليل البق، فقال: هذا موضع أرضاه، تأتيه الميرة من

الفرات ودجلة، ويصلح أن تبتنى فيه مدينة، فقال للراهب الذي في الدير: يا راهب، أريد أن أبني هاهنا مدينة، فقال: لا يكون، إنما يبنى هاهنا ملك يقال له أبو الدوانيق، فضحك المنصور في نفسه، وقال: أنا أبو الدوانيق. وأمر فخطت المدينة، ووكل بها أربعة قواد، كل قائد بربع. وذكر عن سليمان بْن مجالد، أن المنصور أراد أبا حنيفه النعمان بْن ثابت على القضاء، فامتنع من ذلك، فحلف المنصور أن يتولى له، وحلف أبو حنيفة ألا يفعل، فولاه القيام ببناء المدينة وضرب اللبن وعده، وأخذ الرجال بالعمل قَالَ: وإنما فعل المنصور ذلك ليخرج من يمينه، قَالَ: وكان أبو حنيفة المتولي لذلك، حتى فرغ من استتمام بناء حائط المدينة مما يلي الخندق، وكان استتمامه في سنة تسع وأربعين ومائة. وذكر عن الهيثم بْن عدي، أن المنصور عرض على أبي حنيفة القضاء والمظالم فامتنع، فحلف ألا يقلع عنه حتى يعمل، فأخبر بذلك أبو حنيفة، فدعا بقصبة، فعد اللبن على رجل قد لبنه، وكان أبو حنيفة أول من عد اللبن بالقصب، فأخرج أبا جعفر عن يمينه، واعتل فمات ببغداد. وقيل: إن أبا جعفر لما أمر بحفر الخندق وإنشاء البناء وإحكام الأساس، أمر أن يجعل عرض السور من أسفله خمسين ذراعا، وقدر أعلاه عشرين ذراعا، وجعل في البناء جوائز قصب مكان الخشب، في كل طرقة، فلما بلغ الحائط مقدار قامة- وذلك في سنة خمس وأربعين ومائة- أتاه خبر خروج محمد فقطع البناء. وذكر عن أحمد بْن حميد بْن جبلة، قَالَ: حدثني أبي، عن جدي جبلة، قَالَ: كانت مدينة أبي جعفر قبل بنائها مزرعة للبغداديين، يقال لها المباركة، وكانت لستين نفسا منهم، فعوضهم منها وأرضاهم، فأخذ جدي قسمه منها. وذكر عن إبراهيم بْن عيسى بْن المنصور، أن حمادا التركي قَالَ: كان حول مدينة أبي جعفر قرى قبل بنائها، فكان إلى جانب باب الشام قرية

يقال لها الخطابية، على باب درب النورة، إلى درب الأقفاص، وكان بعض نخلها في شارع باب الشام، إلى ايام المخلوع في الطريق، حتى قطع في أيام الفتنة، وكانت الخطابية هذه لقوم من الدهاقين، يقال لهم بنو فروة وبنو قنورا، منهم إسماعيل بْن دينار ويعقوب بْن سليمان وأصحابهم وذكر عن محمد بْن موسى بْن الفرات أن القرية التي في مربعة أبي العباس كانت قرية جده من قبل أمه، وأنهم من دهاقين يقال لهم بنو زراري، وكانت القرية تسمى الوردانية، وقرية أخرى قائمة إلى اليوم مما يلي مربعة أبي فروة. وذكر عن إبراهيم بْن عيسى أن المعروفة اليوم بدار سعيد الخطيب كانت قرية يقال لها شرفانية، ولها نخيل قائم إلى اليوم مما يلي قنطرة أبي الجون، وأبو الجون من دهاقين بغداد من أهل هذه القرية. وذكر أن قطيعة الربيع كانت مزارع للناس من قرية يقال لها بناورى من رستاق الفروسيج من بادوريا. وذكر عن محمد بْن موسى بْن الفرات، أنه سمع أباه أو جده- شك راوي ذلك عنه- يقول: دخل علي رجل من دهاقين بادوريا وهو مخرق الطيلسان، فقلت له: من خرق طيلسانك؟ قَالَ: خرق والله في زحمة الناس اليوم، في موضع طالما طردت فيه الأرانب والظباء- يريد باب الكرخ ويقال: إن قطيعة الربيع الخارجة إنما هي أقطاع المهدي للربيع، وأن المنصور إنما كان أقطعه الداخلة. وقيل: إن نهر طابق كسروي، وإنه نهر بابك بْن بهرام بْن بابك، وأن بابك هذا هو الذي اتخذ العقر الذي عليه قصر عيسى بْن علي، واحتفر هذا النهر. وذكر أن فرضة جعفر إقطاع من أبي جعفر لابنه جعفر، وأن القنطرة العتيقة من بناء الفرس. وذكر عن حماد التركي، قَالَ: كان المنصور نازلا بالدير الذي على شاطئ دجلة بالموضع المعروف بالخلد، ونحن في يوم صائف شديد الحر

في سنة خمس وأربعين ومائة، وقد خرجت فجلست مع الربيع وأصحابه، إذ جاء رجل، فجاوز الحرس إلى المقصورة، فاستأذن فأذنا المنصور به، وكان معه سلم بْن أبي سلم، فأذن له فخبره بخروج محمد، فقال المنصور: نكتب الساعة إلى مصر أن يقطع عن الحرمين المادة، ثم قَالَ: إنما هم في مثل حرجة، إذا انقطعت عنهم المادة والميرة من مصر قَالَ: وأمر بالكتاب إلى العباس بْن محمد- وكان على الجزيرة يخبره بخبر محمد- وقال: إني راحل ساعة كتبت إلى الكوفة، فأمدني في كل يوم بما قدرت عليه من الرجال من أهل الجزيرة وكتب بمثل ذلك إلى أمراء الشام، ولو أن يرد علي في كل يوم رجل واحد أكثر به من معي من أهل خراسان، فإنه إن بلغ الخبر الكذاب انكسر قَالَ: ثم نادى بالرحيل من ساعته، فخرجنا في حر شديد حتى قدم الكوفة، ثم لم يزل بها حتى انقضت الحرب بينه وبين محمد وإبراهيم، فلما فرغ منهما رجع إلى بغداد وذكر عن أحمد بْن ثابت، قَالَ: سمعت شيخا من قريش يحدث أن أبا جعفر لما فصل من بغداد، متوجها نحو الكوفة، وقد جاءه البريد بمخرج محمد بْن عبد الله بالمدينة، نظر إليه عثمان بْن عمارة بْن حريم وإسحاق بْن مسلم العقيلي وعبد الله بْن الربيع المداني- وكانوا من صحابته- وهو يسير على دابته وبنو أبيه حوله فقال عثمان: أظن محمدا خائبا ومن معه من أهل بيته، إن حشو ثياب هذا العباسي لمكر ونكر ودهاء، وإنه فيما نصب له محمد من الحرب لكما قَالَ ابن جذل الطعان: فكم من غارة ورعيل خيل ... تداركها وقد حمي اللقاء فرد مخيلها حتى ثناها ... بأسمر ما يرى فيه التواء قَالَ: فقال إسحاق بْن مسلم: قد والله سبرته ولمست عوده فوجدته خشنا، وغمزته فوجدته صليبا، وذقته فوجدته مرا، وإنه ومن حوله من بني أبيه لكما قَالَ ربيعة بْن مكدم: سما لي فرسان كأن وجوههم ... مصابيح تبدو في الظلام زواهر

ذكر الخبر عن ظهور ابراهيم بن محمد ومقتله

يقودهم كبش أخو مصمئلة ... عبوس السري قد لوحته الهواجر قَالَ: وقال عبد الله بْن الربيع: هو ليث خيس، ضيغم شموس، للأقران مفترس، وللأرواح مختلس، وانه يهيج من الحرب كما قَالَ أبو سفيان بْن الحارث: وإن لنا شيخا إذا الحرب شمرت ... بديهته الإقدام قبل النوافر قَالَ: فمضى حتى سار إلى قصر ابن هبيرة، فنزل الكوفة ووجه الجيوش، فلما انقضت الحرب، رجع الى بغداد فاستتم بناءها. ذكر الخبر عن ظهور ابراهيم بن محمد ومقتله 44 وفي هذه السنة ظهر إبراهيم بْن عبد الله بْن حسن، أخو محمد بْن عبد الله ابن حسن بالبصرة، فحارب أبا جعفر المنصور وفيها قتل أيضا. ذكر الخبر عن سبب مخرجه وعن مقتله وكيف كان: فذكر عن عبد الله بْن محمد بْن حفص، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: لما أخذ أبو جعفر عبد الله بْن حسن، أشفق محمد وإبراهيم من ذلك، فخرجا إلى عدن، فخافا بها، وركبا البحر حتى صار إلى السند فسعي بهما إلى عمر بْن حفص، فخرجا حتى قدما الكوفة وبها أبو جعفر. وذكر عمر بْن شبة أن سعيد بْن نوح الضبعي، ابن ابنة أبي الساج الضبعى، حدثه قال: حدثتني منه بنت أبي المنهال، قالت: نزل إبراهيم في الحي من بني ضبيعة في دار الحارث بْن عيسى، وكان لا يرى بالنهار، وكانت معه أم ولد له، فكنت أتحدث إليها، ولا ندري من هم، حتى ظهر فأتيتها، فقلت: إنك لصاحبتي؟ فقالت: أنا هي، لا والله ما أقرتنا الأرض منذ خمس سنين، مره بفارس، ومره بكرمان، ومرة بالحجاز، ومرة باليمن. قَالَ عمر: حدثني أبو نعيم الفضل بْن دكين، قَالَ: حدثني مطهر ابن الحارث، قَالَ: أقبلنا مع إبراهيم من مكة نريد البصرة، ونحن عشرة،

فصحبنا أعرابي في بعض الطريق، فقلنا له: ما اسمك؟ قَالَ: فلان بْن أبي مصاد الكلبي، فلم يفارقنا حتى قربنا من البصرة، فأقبل علي يوما، فقال: أليس هذا إبراهيم بْن عبد الله بْن حسن؟ فقلت: لا، هذا رجل من أهل الشام، فلما كنا على ليلة من البصرة، تقدم إبراهيم وتخلفنا عنه، ثم دخلنا من غد. قال عمر: وحدثنى أبو صفوان نصر بْن قديد بْن نصر بْن سيار، قَالَ: كان مقدم إبراهيم البصرة في أول سنة ثلاث وأربعين ومائة، منصرف الناس من الحج، فكان الذي أقدمه وتولى كراءه وعادله في محمله يحيى بْن زياد ابن حسان النبطي، فأنزله في داره في بني ليث، واشترى له جارية أعجمية سندية، فأولدها ولدا في دار يحيى بْن زياد، فحدثني ابن قديد ابن نصر، أنه شهد جنازة ذلك المولود، وصلى عليه يحيى بْن زياد. قَالَ: وحدثني محمد بْن معروف، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: نزل إبراهيم بالخيار من أرض الشام على آل القعقاع بْن خليد العبسي، فكتب الفضل بْن صالح بْن علي- وكان على قنسرين- إلى أبي جعفر في رقعة أدرجها في أسفل كتابه، يخبره خبر إبراهيم، وأنه طلبه فوجده قد سبقه منحدرا إلى البصرة، فورد الكتاب على أبي جعفر، فقرأ أوله فلم يجد إلا السلامة، فألقى الكتاب إلى أبي أيوب المورياني، فألقاه في ديوانه، فلما أرادوا أن يجيبوا الولاة عن كتبهم فتح أبان بْن صدقة- وهو يومئذ كاتب أبي أيوب- كتاب الفضل، لينظر في تأريخه، فأفضى إلى الرقعة، فلما رأى أولها: أخبر أمير المؤمنين، أعادها في الكتاب، وقام إلى أبي جعفر، فقرأ الكتاب، فأمر بإذكاء العيون ووضع المراصد والمسالح. قَالَ: وحدثني الفضل بْن عبد الرحمن بْن الفضل، قَالَ: أخبرني أبي قَالَ: سمعت إبراهيم يقول: اضطرني الطلب بالموصل حتى جلست على موائد أبي جعفر، وذلك أنه قدمها يطلبني، فتحيرت، فلفظتني الأرض، فجعلت

لا أجد مساغا، ووضع الطلب والمراصد، ودعا الناس إلى غدائه، فدخلت فيمن دخل، وأكلت فيمن أكل، ثم خرجت وقد كف الطلب. قَالَ: وحدثني أبو نعيم الفضل بْن دكين، قَالَ: قَالَ رجل لمطهر بْن الحارث: مر إبراهيم بالكوفة ولقيته، قَالَ: لا والله ما دخلها قط، ولقد كان بالموصل، ثم مر بالأنبار، ثم ببغداد، ثم بالمدائن والنيل وواسط. قَالَ: وحدثني نصر بْن قديد بْن نصر، قَالَ: كاتب إبراهيم قوما من أهل العسكر كانوا يتشيعون، فكتبوا يسألونه الخروج إليهم، ووعدوه الوثوب بأبي جعفر، فخرج حتى قدم عسكر أبي جعفر، وهو يومئذ نازل ببغداد في الدير، وقد خط بغداد، وأجمع على البناء، وكانت لأبي جعفر مرآة ينظر فيها، فيرى عدوه من صديقه قَالَ: فزعم زاعم أنه نظر فيها، فقال: يا مسيب، قد والله رأيت إبراهيم في عسكري وما في الأرض عدو أعدى لي منه، فانظر ما أنت صانع! قَالَ: وحدثني عبد الله بْن محمد بْن البواب، قَالَ: أمر أبو جعفر ببناء قنطرة الصراة العتيقة، ثم خرج ينظر إليها، فوقعت عينه على إبراهيم، وخنس إبراهيم، فذهب في الناس، فأتي فاميا فلجأ إليه فأصعده غرفة له. وجد أبو جعفر في طلبه، ووضع الرصد بكل مكان، فنشب إبراهيم بمكانه الذي هو به، وطلبه أبو جعفر أشد الطلب، وخفي عليه أمره. قَالَ: وحدثني محمد بْن معروف، قَالَ: حدثني أبي- وحدثني نصر ابن قديد، قَالَ: حدثني أبي قَالَ، وحدثني عبد الله بْن محمد بْن البواب وكثير بْن النضر بْن كثير وعمرو بْن إدريس وابن أبي سفيان العمي، واتفقوا على جل الحديث، واختلفوا في بعضه- أن إبراهيم لما نشب وخاف الرصد كان معه رجل من بني العم- قَالَ عمر: فقال لي أبو صفوان، يدعى روح بْن ثقف، وقال لي ابن البواب: يكنى أبا عبد الله، وقال لي الآخرون: يقال له سفيان بْن حيان بْن موسى: قَالَ عمر: وهو جد العمي الذي حدثنى-

قَالَ: قلت لإبراهيم: قد نزل ما ترى، ولا بد من التغرير والمخاطرة، قَالَ: فأنت وذاك! فأقبل إلى الربيع، فسأله الإذن، قَالَ: ومن أنت؟ قال: انا السفيان العمي، فأدخله على أبي جعفر، فلما رآه شتمه، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا أهل لما تقول، غير أني أتيتك نازعا تائبا، ولك عندي كل ما تحب إن أعطيتني ما أسألك، قَالَ: وما لي عندك؟ قَالَ: آتيك بابراهيم ابن عبد الله بْن حسن، إني قد بلوته وأهل بيته، فلم أجد فيهم خيرا، فما لي عندك إن فعلت؟ قَالَ: كل ما تسأل، فأين إبراهيم؟ قَالَ: قد دخل بغداد- أو هو داخلها عن قريب- قَالَ عمر: وقال لي أبو صفوان، قَالَ: هو بعبدسي، تركته في منزل خالد بْن نهيك، فاكتب لي جوازا ولغلام لي ولفرانق واحملني على البريد قَالَ عمر: وقال بعضهم: وجه معي جندا واكتب لي جوازا ولغلام لي آتيك به قَالَ: فكتب له جوازا، ودفع إليه جندا، وقال: هذه ألف دينار فاستعن بها، قال: لا حاجه لي فيها فيها كلها، فاخذ ثلاثمائة دينار، وأقبل بها حتى أتى إبراهيم وهو في بيت، عليه مدرعة صوف وعمامة- وقيل بل عليه قباء كأقبية العبيد- فصاح به: قم، فوثب كالفزع، فجعل يأمره وينهاه حتى أتى المدائن، فمنعه صاحب القنطرة بها، فدفع إليه جوازه، فقال: أين غلامك؟ قَالَ: هذا، فلما نظر في وجهه، قَالَ: والله ما هذا غلامك، وإنه لإبراهيم بْن عبد الله بْن حسن، ولكن اذهب راشدا فأطلقهما وهرب قَالَ عمر: فقال بعضهم: ركبا البريد حتى صارا بعبدسي، ثم ركبا السفينة حتى قدما البصرة فاختفيا بها قَالَ: وقد قيل: إنه خرج من عند أبي جعفر حتى قدم البصرة، فجعل يأتي بهم الدار، لها بابان، فيقعد العشرة منهم على أحد البابين، ويقول: لا تبرحوا حتى آتيكم، فيخرج من الباب الآخر ويتركهم، حتى فرق الجند عن نفسه، وبقي وحده، فاختفى حتى بلغ الخبر سفيان بْن معاوية، فأرسل إليهم فجمعهم، وطلب العمي فأعجزه. قَالَ عمر: وحدثني ابن عائشة، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: الذي احتال

لإبراهيم حتى أنجاهما منه عمرو بْن شداد. قَالَ عمر: وحدثني رجل من أهل المدائن، عن الحسن بْن عمرو بْن شداد، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: مر بي إبراهيم بالمدائن مستخفيا، فأنزلته دارا لي على شاطئ دجلة، وسعي بي إلى عامل المدائن، فضربني مائة سوط، فلم أقرر له، فلما تركني أتيت إبراهيم فأخبرته فانحدر. قَالَ: وحدثني العباس بْن سفيان بْن يحيى بْن زياد مولى الحجاج بْن يوسف- وكان يحيى بْن زياد ممن سبي من عسكر قطري بْن الفجاءة- قَالَ: لما ظهر إبراهيم كنت غلاما ابن خمس سنين، فسمعت أشياخنا يقولون: إنه مر منحدرا يريد البصرة من الشام، فخرج إليه عبد الرحيم بْن صفوان من موالي الحجاج، ممن سبي من عسكر قطري، قَالَ: فمشى معه حتى عبره المآصر، قَالَ: فأقبل بعض من رآه، فقال: رأيت عبد الرحيم مع رجل شاطر، محتجز بإزار مورد، في يده قوس جلاهق يرمي به، فلما رجع عبد الرحيم سئل عن ذلك فأنكره، فكان إبراهيم يتنكر بذلك. قال: وحدثني نصر بْن قديد، قَالَ: لما قدم إبراهيم منصرفه من بغداد، نزل على أبي فروة في كندة فاختفى، وأرسل إلى الناس يندبهم للخروج. قَالَ عمر: وحدثني علي بْن إسماعيل بْن صالح بْن ميثم الأهوازي، قَالَ: حدثني عبد الله بْن الحسن بْن حبيب، عن أبيه، قَالَ: كان إبراهيم مختفيا عندي على شاطئ دجيل، في ناحية مدينة الأهواز، وكان محمد ابن حصين يطلبه، فقال يوما: إن أمير المؤمنين كتب إلي يخبرني أن المنجمين يخبرونه أن إبراهيم بالأهواز نازل في جزيرة بين نهرين، فقد طلبته في الجزيرة حتى وثقت أنه ليس هناك- يعني بالجزيرة التي بين نهر الشاه جرد ودجيل- فقد اعتزمت أن أطلبه غدا في المدينة، لعل أمير المؤمنين يعني بين دجيل والمسرقان، قَالَ: فأتيت إبراهيم، فقلت له: أنت مطلوب غدا في هذه

الناحية، قَالَ: فأقمت معه بقية يومي، فلما غشيني الليل، خرجت به حتى أنزلته في ادانى دشت أربك دون الكث، فرجعت من ليلتي، فأقمت أنتظر محمدا أن يغدو لطلبه، فلم يفعل حتى تصرم النهار، وقربت الشمس تغرب، فخرجت حتى جئت إبراهيم، فأقبلت به حتى وافينا المدينة مع العشاء الآخرة ونحن على حمارين، فلما دخلنا المدينة فصرنا عند الجبل المقطوع، لقينا أوائل خيل ابن حصين، فرمى إبراهيم بنفسه عن حماره وتباعد، وجلس يبول، وطوتني الخيل، فلم يعرج علي منهم أحد، حتى صرت إلى ابن حصين، فقال لي: أبا محمد، من أين في مثل هذا الوقت؟ فقلت: تمسيت عند أهلي، قَالَ: ألا أرسل معك من يبلغك؟ قلت: لا، قد قربت من اهلى، فمضى يطلب، وتوجهت على سنني حتى انقطع آخر أصحابه، ثم كررت راجعا إلى إبراهيم، فالتمست حماره حتى وجدته، فركب، وانطلقنا حتى بتنا في أهلنا، فقال إبراهيم: تعلم والله لقد بلت البارحة دما، فأرسل من ينظر، فأتيت الموضع الذي بال فيه، فوجدته قد بال دما قَالَ: وحدثني الفضل بْن عبد الرحيم بْن سليمان بْن علي، قَالَ: قَالَ أبو جعفر: غمض علي أمر إبراهيم لما اشتملت عليه طفوف البصرة قَالَ: وحدثني محمد بْن مسعر بْن العلاء، قَالَ: لما قدم إبراهيم البصرة، دعا الناس، فأجابه موسى بْن عمر بْن موسى بْن عبد الله بْن خازم، ثم ذهب بإبراهيم إلى النضر بْن إسحاق بْن عبد الله بْن خازم مختفيا، فقال للنضر بْن إسحاق: هذا رسول إبراهيم، فكلمه إبراهيم ودعاه إلى الخروج، فقال له النضر: يا هذا، كيف أبايع صاحبك وقد عند جدي عبد الله بْن خازم عن جده علي بْن أبي طالب، وكان عليه فيمن خالفه، فقال له إبراهيم: دع سيرة الآباء عنك ومذاهبهم، فإنما هو الدين، وأنا أدعوك إلى حق قَالَ: إني والله ما ذكرت لك ما ذكرت إلا مازحا، وما ذاك الذي يمنعني من نصرة صاحبك، ولكني لا أرى القتال ولا أدين به قَالَ: وانصرف ابراهيم،

وتخلف موسى، فقال: هذا والله إبراهيم نفسه، قَالَ: فبئس لعمر الله ما صنعت! لو كنت أعلمتني كلمته غير هذا الكلام! قَالَ: وحدثني نصر بْن قديد، قَالَ: دعا إبراهيم الناس وهو في دار أبي فروة، فكان أول من بايعه نميلة بْن مرة وعفو الله بن سفيان وعبد الواحد ابن زياد وعمر بْن سلمة الهجيمي وعبيد الله بن يحيى بن حضين الرقاشي، وندبوا الناس له، فأجاب بعدهم فتيان من العرب، منهم المغيرة بْن الفزع وأشباه له، حتى ظنوا أنه قد أحصى ديوانه اربعه آلاف، وشهر امره، فقالوا: لو تحولت إلى وسط البصرة أتاك من أتاك وهو مريح، فتحول ونزل دار أبي مروان مولى بني سليم- رجل من أهل نيسابور قَالَ: وحدثني يونس بْن نجدة، قَالَ: كان إبراهيم نازلا في بني راسب على عبد الرحمن بْن حرب، فخرج من داره في جماعة من أصحابه، منهم عفو الله بْن سفيان وبرد بْن لبيد، أحد بني يشكر، والمضاء التغلبي والطهوي والمغيرة بْن الفزع ونميلة بْن مرة ويحيى بْن عمرو الهماني، فمروا على جفرة بني عقيل حتى خرجوا على الطفاوة، ثم مروا على دار كرزم ونافع إبليس، حتى دخلوا دار أبي مروان في مقبرة بني يشكر قَالَ: وحدثني ابن عفو الله بْن سفيان، قَالَ: سمعت أبي يقول: أتيت إبراهيم يوما وهو مرعوب، فأخبرني أن كتاب أخيه أتاه يخبره أنه قد ظهر، ويأمره بالخروج قَالَ: فوجم من ذلك واغتم له، فجعلت أسهل عليه الأمر وأقول: قد اجتمع لك امرك، معك المضاء والطهوى والمغيرة، وأنا وجماعة، فنخرج إلى السجن في الليل فنفتحه، فتصبح حين تصبح ومعك عالم من الناس، فطابت نفسه قَالَ: وحدثني سهل بْن عقيل بْن إسماعيل، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: لما ظهر محمد أرسل أبو جعفر إلى جعفر بْن حنظلة البهراني- وكان ذا رأي- فقال: هات رأيك، قد ظهر محمد بالمدينة قَالَ: وجه الأجناد إلى البصرة

قَالَ: انصرف حتى أرسل إليك فلما صار إبراهيم إلى البصرة، أرسل إليه، فقال: قد صار إبراهيم إلى البصرة، فقال: إياها خفت! بادره بالجنود، قَالَ: وكيف خفت البصرة؟ قَالَ: لأن محمدا ظهر بالمدينة، وليسوا بأهل حرب، بحسبهم أن يقيموا شأن أنفسهم، وأهل الكوفة تحت قدمك، وأهل الشام أعداء آل أبي طالب، فلم يبق إلا البصرة فوجه أبو جعفر ابني عقيل- قائدين من أهل خراسان من طيّئ- فقدما. وعلى البصرة سفيان بْن معاوية فأنزلهما قَالَ: وحدثني جواد بْن غالب بْن موسى مولى بني عجل، عن يحيى بْن بديل بْن يحيى بْن بديل، قَالَ: لما ظهر محمد، قَالَ أبو جعفر لأبي أيوب وعبد الملك بْن حميد: هل من رجل ذي رأي تعرفانه، نجمع رأيه على رأينا؟ قالا: بالكوفة بديل بْن يحيى- وقد كان أبو العباس يشاوره- فأرسل إليه، فأرسل إليه، فقال: إن محمدا قد ظهر بالمدينة، قَالَ: فاشحن الأهواز جندا، قَالَ: قد فهمت، ولكن الأهواز بابهم الذي يؤتون منه، قَالَ: فقبل أبو جعفر رأيه قَالَ: فلما صار إبراهيم إلى البصرة أرسل إلى بديل، فقال: قد صار إبراهيم إلى البصرة، قَالَ: فعاجله بالجند وأشغل الاهواز عنه. وحدثني محمد بْن حفص الدمشقي، مولى قريش قَالَ: لما ظهر محمد شاور أبو جعفر شيخا من أهل الشام ذا رأي، فقال: وجه إلى البصرة أربعة آلاف من جند أهل الشام فلها عنه، وقال: خرف الشيخ، ثم أرسل إليه، فقال: قد ظهر إبراهيم بالبصرة، قَالَ: فوجه إليه جندا من أهل الشام، قَالَ: ويلك! ومن لي بهم! قَالَ: أكتب إلى عاملك عليها يحمل إليك في كل يوم عشرة على البريد، قَالَ: فكتب بذلك أبو جعفر إلى الشام. قَالَ عمر بْن حفص: فإني لأذكر أبي يعطي الجند حينئذ، وأنا أمسك له المصباح، وهو يعطيهم ليلا، وأنا يومئذ غلام شاب

قَالَ: وحدثني سهل بْن عقيل، قَالَ: أخبرني سلم بْن فرقد، قَالَ: لما أشار جعفر بْن حنظلة على أبي جعفر بحدر جند الشام إليه، كانوا يقدمون أرسالا، بعضهم على أثر بعض، وكان يريد أن يروع بهم أهل الكوفة، فإذا جنهم الليل في عسكره أمرهم فرجعوا منكبين عن الطريق، فإذا أصبحوا دخلوا، فلا يشك أهل الكوفة أنهم جند آخرون سوى الأولين. حدثني عبد الحميد- وكان من خدم أبي العباس- قَالَ: كان محمد ابن يزيد من قواد أبي جعفر، وكان له دابة شهري كميت، فربما مر بنا ونحن بالكوفة وهو راكبه، قد ساوى رأسه رأسه، فوجهه أبو جعفر إلى البصرة، فلم يزل بها حتى خرج إبراهيم فأخذه فحبسه. حدثني سعيد بْن نوح بْن مجالد الضبعي، قَالَ: وجه أبو جعفر مجالدا ومحمدا ابني يزيد بْن عمران من أهل أبيورد قائدين، فقدم مجالد قبل محمد، ثم قدم محمد في الليلة التي خرج فيها إبراهيم، فثبطهما سفيان وحبسهما عنده في دار الإمارة حتى ظهر إبراهيم فأخذهما، فقيدهما، ووجه أبو جعفر معهما قائدا من عبد القيس يدعى معمرا. حدثني يونس بْن نجدة، قَالَ: قدم على سفيان مجالد بْن يزيد الضبعي من قبل أبي جعفر في الف وخمسمائة فارس وخمسمائة راجل. حدثني سعيد بْن الحسن بْن تسنيم بْن الحواري بْن زياد بْن عمرو بْن الأشرف، قَالَ: سمعت من لا أحصي من أصحابنا يذكرون أن أبا جعفر شاور في أمر إبراهيم، فقيل له: إن أهل الكوفة له شيعه، والكوفه قدر تفور، أنت طبقها، فاخرج حتى تنزلها ففعل. حدثني مسلم الخصي مولى محمد بْن سليمان، قَالَ: كان أمر إبراهيم وأنا ابن بضع عشرة سنة، وأنا يومئذ لأبي جعفر، فأنزلنا الهاشمية بالكوفة ونزل هو بالرصافة في ظهر الكوفة، وكان جميع جنده الذين في عسكره نحوا من الف وخمسمائة، وكان المسيب بْن زهير على حرسه، فجزأ الجند ثلاثة

اجزاء خمسمائة، خمسمائة، فكان يطوف الكوفة كلها في كل ليلة، وأمر مناديا فنادى: من أخذناه بعد عتمة فقد أحل بنفسه، فكان إذا أخذ رجلا بعد عتمة لفه في عباءة وحمله، فبيته عنده، فإذا أصبح سأل عنه، فإن علم براءته أطلقه، وإلا حبسه. قَالَ: وحدثني أبو الحسن الحذاء، قَالَ أخذ أبو جعفر الناس بالسواد، فكنت أراهم يصبغون ثيابهم بالمداد. وحدثني علي بْن الجعد، قَالَ: رأيت أهل الكوفة ايامئذ أخذوا بلبس الثياب السود حتى البقالين، إن أحدهم ليصبغ الثوب بالأنقاس ثم يلبسه. وحدثني جواد بْن غالب، قَالَ: حدثني العباس بْن سلم مولى قحطبة، قَالَ: كان أمير المؤمنين أبو جعفر إذا اتهم أحدا من أهل الكوفة بالميل إلى إبراهيم أمر أبي سلما بطلبه، فكان يمهل حتى إذا غسق الليل، وهدأ الناس، نصب سلما على منزل الرجل فطرقه في بيته حتى يخرجه فيقتله، ويأخذ خاتمه قَالَ أبو سهل جواد: فسمعت جميلا مولى محمد بْن أبي العباس يقول للعباس بْن سلم: والله لو لم يورثك أبوك إلا خواتيم من قتل من أهل الكوفة كنت أيسر الأبناء. حدثني سهل بْن عقيل، قَالَ: حدثني سلم بْن فرقد حاجب سليمان بْن مجالد، قَالَ: كان لي بالكوفة صديق، فأتاني- فقال: أيا هذا، اعلم أن أهل الكوفة معدون للوثوب بصاحبكم، فإن قدرت على أن تبوئ أهلك مكانا حريزا فافعل، قَالَ: فأتيت سليمان بْن مجالد، فأخبرته الخبر، فأخبر أبا جعفر- ولأبي جعفر عين من أهل الكوفة من الصيارفة يدعى ابن مقرن- قَالَ: فأرسل إليه، فقال: ويحك! قد تحرك أهل الكوفة، فقال: لا والله يا أمير المؤمنين، أنا عذيرك منهم، قَالَ: فركن إلى قوله، وأضرب عنهم. وحدثني يحيى بْن ميمون من أهل القادسية، قَالَ: سمعت عدة من أهل القادسية يذكرون أن رجلا من أهل خراسان، يكنى أبا الفضل، ويسمى فلان ابن معقل، ولى القادسية ليمنع اهل الكوفه إتيان إبراهيم، وكان

الناس قد رصدوا في طريق البصرة، فكانوا يأتون القادسية ثم العذيب، ثم وادي السباع، ثم يعدلون ذات اليسار في البر، حتى يقدموا البصرة قَالَ: فخرج نفر من الكوفة اثنا عشر رجلا، حتى إذا كانوا بوادي السباع لقيهم رجل من موالي بني أسد، يسمى بكرا من أهل شراف دون واقصة بميلين من أهل المسجد الذي يدعى مسجد الموالي- فأتى ابن معقل فأخبره، فاتبعهم فأدركهم بخفان- وهي على أربعة فراسخ من القادسية- فقتلهم أجمعين. حدثني إبراهيم بْن سلم، قَالَ: كان الفرافصة العجلي قد هم بالوثوب بالكوفة، فامتنع لمكان أبي جعفر ونزوله بها، وكان ابن ماعز الأسدي يبايع لإبراهيم فيها سرا. حدثني عبد الله بْن راشد بْن يزيد، قَالَ: سمعت إسماعيل بْن موسى البجلي وعيسى بْن النضر السمانين وغيرهما يخبرون أن غزوان كان لآل القعقاع بْن ضرار، فاشتراه أبو جعفر، فقال له يوما: يا أمير المؤمنين، هذه سفن منحدرة من الموصل فيها مبيضة تريد إبراهيم بالبصرة، قَالَ: فضم إليه جندا، فلقيهم بباحمشا بين بغداد والموصل فقتلهم اجمعين، وكانوا تجارا فيهم جماعة من العباد من أهل الخير وغيرهم، وفيهم رجل يدعى أبا العرفان من آل شعيب السمان، فجعل يقول: ويلك يا غزوان! ألست تعرفني! أنا أبو العرفان جارك، انما شخصت برقيق فبعتهم، فلم يقبل وقتلهم أجمعين وبعث برءوسهم إلى الكوفة، فنصبت ما بين دار إسحاق الأزرق إلى جانب دار عيسى بْن موسى إلى مدينة ابن هبيرة قَالَ أبو أحمد عبد الله بْن راشد: فأنا رأيتها منصوبة على كوم التراب. قَالَ: وحدثنا أبو علي القداح، قَالَ: حدثني داود بْن سليمان ونيبخت وجماعة من القداحين، قالوا: كنا بالموصل، وبها حرب الراوندي رابطة في ألفين، لمكان الخوارج بالجزيرة، فأتاه كتاب أبي جعفر يأمره بالقفل إليه، فشخص، فلما كان بباحمشا اعترض له أهلها، وقالوا: لا ندعك تجوزنا لتنصر أبا جعفر على إبراهيم، فقال لهم: ويحكم! إني لا أريد بكم

سوءا، إنما أنا مار، دعوني قالوا: لا والله لا تجوزنا أبدا، فقاتلهم فأبارهم وحمل منهم خمسمائة رأس، فقدم بها على أبي جعفر، وقص عليه قصتهم قَالَ أبو جعفر: هذا أول الفتح. وحدثني خالد بْن خداش بْن عجلان مولى عمر بْن حفص، قَالَ: حدثني جماعة من أشياخنا أنهم شهدوا دفيف بْن راشد مولى بني يزيد بْن حاتم، أتى سفيان بْن معاوية قبل خروج إبراهيم بليلة، فقال: ادفع إلي فوارس آتك بإبراهيم أو برأسه قال او مالك عمل! اذهب إلى عملك قَالَ: فخرج دفيف من ليلته فلحق بيزيد بْن حاتم وهو بمصر. وحدثني خالد بْن خداش، قَالَ: سمعت عدة من الأزد يحدثون عن جابر بْن حماد- وكان على شرطة سفيان- أنه قَالَ لسفيان قبل خروج إبراهيم بيوم: إني مررت في مقبرة بني يشكر، فصيحوا بي ورموني بالحجارة، فقال له: أما كان لك طريق! وحدثني أبو عمر الحوضي حفص بْن عمر، قَالَ: مر عاقب صاحب شرط سفيان يوم الأحد قبل ظهور إبراهيم بيوم، في مقبرة بني يشكر، فقيل له: هذا إبراهيم يريد الخروج، فقال: كذبتم، ولم يعرج على ذلك! قَالَ أبو عمر الحوضي: جعل أصحاب إبراهيم ينادون سفيان وهو محصور: اذكر بيعتك في دار المخزوميين. قَالَ أبو عمر: وحدثني محارب بْن نصر، قَالَ: مر سفيان بعد قتل إبراهيم في سفينة وأبو جعفر مشرف من قصره، فقال: إن هذا لسفيان؟ قالوا: نعم، قَالَ: والله للعجب! كيف يفلتني ابن الفاعلة! قَالَ الحوضي: قَالَ سفيان لقائد من قواد إبراهيم: أقم عندي، فليس كل أصحابك يعلم ما كان بيني وبين إبراهيم. قَالَ: وحدثني نصر بْن فرقد، قَالَ: كان كرزم السدوسي يغدو على سفيان بخبر إبراهيم ويروح، ويعلمه من يأتيه فلا يعرض له، ولا يتبع له أثرا

وذكر أن سفيان بْن معاوية كان عامل المنصور أيامئذ على البصرة، وكان قد مالأ إبراهيم بْن عبد الله على أمره فلا ينصح لصاحبه. اختلف في وقت قدوم إبراهيم البصرة فقال بعض: كان قدومه إياها أول يوم من شهر رمضان في سنة خمس وأربعين ومائة. ذكر من قَالَ ذلك: حدثني الحارث، قَالَ: حدثنا ابن سعد، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: لما ظهر محمد بْن عبد الله بْن الحسن، وغلب على المدينة ومكة، وسلم عليه بالخلافة، وجه أخاه إبراهيم بْن عبد الله إلى البصرة، فدخلها في أول يوم من شهر رمضان سنة خمس وأربعين ومائة، فغلب عليها، وبيض بها وبيض بها أهل البصرة معه، وخرج معه عيسى بن يونس ومعاذ بن معاذ بْن العوام وإسحاق بْن يوسف الأزرق ومعاوية بْن هشام، وجماعة كثيرة من الفقهاء وأهل العلم، فلم يزل بالبصرة شهر رمضان وشوالا، فلما بلغه قتل أخيه محمد بْن عبد الله تأهب واستعد، وخرج يريد أبا جعفر بالكوفة. وقد ذكرنا قول من قَالَ: كان مقدم إبراهيم البصرة في أول سنة ثلاث وأربعين ومائة، غير أنه كان مقيما بها، مختفيا يدعو أهلها في السر إلى البيعة لأخيه محمد، فذكر سهل بْن عقيل، عن أبيه، أن سفيان كان يرسل إلى قائدين كانا قد ما عليه من عند أبي جعفر مددا له قبل ظهور إبراهيم، فيكونان عنده، فلما وعده ابراهيم بالخروج ارسل إليهما فاحتبسهما عنده تلك الليلة حتى خرج، فأحاط به وبهما فاخذهم. وحدثت عن محمد بْن معروف بْن سويد، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: وجه أبو جعفر مجالدا ومحمدا ويزيد، قوادا ثلاثة كانوا إخوة قبل ظهور إبراهيم، فقدموا جندهم، فجعلوا يدخلون البصرة تترى، بعضهم على أثر بعض، فأشفق إبراهيم أن يكثروا بها، فظهر

وذكر نصر بْن قديد، 4 أن إبراهيم خرج ليلة الاثنين لغرة شهر رمضان من سنة خمس وأربعين ومائة، فصار إلى مقبرة بني يشكر في بضعة عشر رجلا فارسا، فيهم عبيد الله بْن يحيى بْن حصين الرقاشي قَالَ: وقدم تلك الليلة أبو حماد الأبرص مددا لسفيان في ألفي رجل، فنزل الرحبة إلى أن ينزلوا فسار إبراهيم فكان أول شيء أصاب دواب أولئك الجند وأسلحتهم، وصلى بالناس الغداة في المسجد الجامع، وتحصن سفيان في الدار، ومعه فيها جماعة من بني أبيه، وأقبل الناس إلى إبراهيم من بين ناظر وناصر حتى كثروا، فلما رأى ذلك سفيان طلب الأمان، فأجيب إليه، فدس إلى إبراهيم مطهر بْن جويرية السدوسي، فأخذ لسفيان الأمان، وفتح الباب، ودخل إبراهيم الدار، فلما دخلها ألقي له حصير في مقدم الإيوان، فهبت ريح فقلبته ظهرا لبطن، فتطير الناس لذلك، فقال إبراهيم: إنا لا نتطير، ثم جلس عليه مقلوبا والكراهة ترى في وجهه، فلما دخل إبراهيم الدار خلى عن كل من كان فيها- فيما ذكر- غير سفيان بْن معاوية، فإنه حبسه في القصر وقيده قيدا خفيفا، فأراد إبراهيم- فيما ذكر- بذلك من فعله أن يري أبا جعفر أنه عنده محبوس، وبلغ جعفرا ومحمدا ابني سليمان بْن علي- وكانا بالبصرة يومئذ- مصير إبراهيم إلى دار الإمارة وحبسه سفيان، فاقبلا- فيما قيل- في ستمائه من الرجالة والفرسان والناشبة يريدانه، فوجه إبراهيم إليهما المضاء بْن القاسم الجزري في ثمانية عشر فارسا وثلاثين راجلا، فهزمهم المضاء ولحق محمدا رجل من أصحاب المضاء فطعنه في فخذه، ونادى مناد لإبراهيم: لا يتبع مدبر، ومضى هو بنفسه حتى وقف على باب زينب بنت سليمان، فنادى بالأمان لال سليمان، والا يعرض لهم أحد. وذكر بكر بْن كثير، أن إبراهيم لما ظهر على جعفر ومحمد وأخذ البصره، وجد في بيت المال ستمائه ألف، فأمر بالاحتفاظ بها- وقيل إنه وجد في بيت المال الفى درهم- فقوي بذلك، وفرض لكل رجل خمسين خمسين، فلما غلب إبراهيم على البصرة وجه- فيما ذكر- إلى الأهواز رجلا يدعى الحسين

ابن ثولاء، يدعوهم إلى البيعة، فخرج فأخذ بيعتهم، ثم رجع إلى إبراهيم. فوجه إبراهيم المغيرة في خمسين رجلا، ثم اجتمع إلى المغيرة لما صار الى الاهواز تمام مائتي رجل وكان عامل الأهواز يومئذ من قبل ابى جعفر محمد ابن الحصين فلما بلغ ابن الحصين دنو المغيرة منه خرج إليه بمن معه، وهم- فيما قيل- أربعة آلاف، فالتقوا على ميل من قصبة الأهواز بموضع يقال له دشت أربك، فانكشف ابن حصين وأصحابه، ودخل المغيرة الأهواز وقد قيل: إن المغيرة صار إلى الأهواز بعد شخوص إبراهيم عن البصرة إلى باخمري ذكر محمد بْن خالد المربعي، أن إبراهيم لما ظهر على البصرة ثم أراد الخروج إلى ناحية الكوفة، استخلف على البصرة نميلة بن مره العبشمى، وامر بتوجيه المغيرة بْن الفزع أحد بني بهدلة بْن عوف إلى الأهواز، وعليها يومئذ محمد بْن الحصين العبدي، ووجه إبراهيم إلى فارس عمرو بْن شداد عاملا عليها، فمر برام هرمز بيعقوب بْن الفضل وهو بها، فاستتبعه، فشخص معه حتى قدم فارس، وبها إسماعيل بْن علي بْن عبد الله عاملا عليها من قبل أبي جعفر، ومعه أخوه عبد الصمد بْن علي، فلما بلغ إسماعيل بْن علي وعبد الصمد إقبال عمرو بْن شداد ويعقوب بْن الفضل- وكانا بإصطخر- بادرا إلى دارابجرد، فتحصنا بها، فصارت فارس في يد عمرو بْن شداد ويعقوب بْن الفضل، فصارت البصرة والأهواز وفارس في سلطان إبراهيم. وحدثت عن سليمان بْن أبي شيخ، قَالَ: لما ظهر إبراهيم بالبصرة، أقبل الحكم بْن أبي غيلان اليشكري في سبعة عشر ألفا حتى دخل واسطا، وبها هارون بْن حميد الإيادي من قبل أبي جعفر، فدخل هارون تنورا في القصر حتى أخرج منه، وأتى أهل واسط حفص بن عمر بن حفص بن عمر ابن عبد الرحمن بْن الحارث بْن هشام بْن المغيرة، فقالوا له: أنت أولى من هذا الهجيمي، فأخذها حفص، وخرج منها اليشكري، وولى حفص شرطه أبا مقرن الهجيمي

وذكر عمر بْن عبد الغفار بْن عمرو الفقيمي، ابن أخي الفضل بْن عمرو الفقيمي، قَالَ: كان إبراهيم واجدا على هارون بْن سعد، لا يكلمه، فلما ظهر إبراهيم قدم هارون بْن سعد، فأتى سلم بْن أبي واصل، فقال له: أخبرني عن صاحبك، أما به إلينا حاجة في أمره هذا! قَالَ: بلى لعمر الله ثم قام فدخل على إبراهيم، فقال: هذا هارون بْن سعد قد جاءك، قَالَ: لا حاجة لي به، قَالَ: لا تفعل، في هارون تزهد، فلم يزل به حتى قبله، وأذن له فدخل عليه، فقال له هارون: استكفني أهم أمورك إليك، فاستكفاه واسطا، واستعمله عليها. قَالَ سليمان بْن أبي شيخ: حدثني أبو الصعدي، قَالَ: أتانا هارون بْن سعد العجلي من أهل الكوفة، وقد وجهه إبراهيم من البصرة، وكان شيخا كبيرا، وكان أشهر من معه من أهل البصرة الطهوي، وكان معه ممن يشبه الطهوي في نجدته من أهل واسط عبد الرحيم الكلبي، وكان شجاعا، وكان ممن قدم به- أو قدم عليه- عبدويه كردام الخراساني وكان من فرسانهم صدقة بْن بكار، وكان منصور بْن جمهور يقول: إذا كان معي صدقة بْن بكار فما أبالي من لقيت! فوجه أبو جعفر إلى واسط لحرب هارون بْن سعد عامر بْن إسماعيل المسلي في خمسة آلاف في قول بعضهم، وقال بعضهم: في عشرين ألفا، وكانت بينهم وقعات. وذكر عن ابن أبي الكرام، أنه قَالَ: قدمت على أبي جعفر برأس محمد، وعامر بْن إسماعيل بواسط محاصر هارون بْن سعد، وكانت الحرب بين أهل واسط وأصحاب أبي جعفر قبل شخوص إبراهيم من البصرة، فذكر سليمان بْن أبي شيخ، قَالَ: عسكر عامر بْن إسماعيل من وراء النيل، فكانت أول حرب جرت بينه وبين هارون، فضربه عبد سقاء وجرحه وصرعه وهو لا يعرفه، فأرسل إليه أبو جعفر بظبية فيها صمغ عربي، وقال: داو بها جراحتك، فالتقوا غير مرة، فقتل من أهل البصرة وأهل واسط خلق كثير، وكان هارون ينهاهم عن القتال، ويقول: لو لقي صاحبنا صاحبهم تبين لنا الأمر، فاستبقوا أنفسكم، فكانوا لا يفعلون فلما شخص إبراهيم إلى باخمري كف الفريقان من أهل واسط وعامر بْن إسماعيل، بعضهم عن بعض، وتوادعوا على

ترك الحرب إلى أن يلتقي الفريقان، ثم يكونوا تبعا للغالب، فلما قتل إبراهيم أراد عامر بْن إسماعيل دخول واسط، فمانعه أهلها الدخول قَالَ سليمان: لما جاء قتل إبراهيم هرب هارون بْن سعد، وصالح أهل واسط عامر بْن إسماعيل على أن يؤمنهم، فلم يثق كثير منهم بأمانه، فخرجوا منها، ودخلها عامر بْن إسماعيل، وأقام بواسط فلم يهج أحدا. وكان عامر- فيما ذكر- صالح أهل واسط على الا يقتل أحدا بواسط، فكانوا يقتلون كل من يجدونه من أهل واسط خارجا منها، ولما وقع الصلح بين أهل واسط وعامر بعد قتل إبراهيم هرب هارون بْن سعد إلى البصرة، فتوفي قبل أن يبلغها فيما ذكر. وقيل إن هارون بْن سعد اختفى، فلم يزل مختفيا حتى ولي محمد بْن سليمان الكوفة، فأعطاه الأمان، واستدرجه حتى ظهر، وأمره أن يفرض لمائتين من أهل بيته، فهم أن يفعل، وركب إلى محمد، فلقيه ابن عم له، فقال له: أنت مخدوع، فرجع فتوارى حتى مات، وهدم محمد بْن سليمان داره. قَالَ: ولم يزل إبراهيم مقيما بالبصرة بعد ظهوره بها، يفرق العمال في النواحي ويوجه الجيوش إلى البلدان، حتى أتاه نعي أخيه محمد، فذكر نصر بْن قديد، قَالَ: فرض إبراهيم فروضا بالبصرة، فلما كان قبل الفطر بثلاثة أيام، أتاه نعي أخيه محمد، فخرج بالناس إلى العيد، وهم يعرفون فيه الانكسار، وأخبر الناس بقتل محمد، فازدادوا في قتال أبي جعفر بصيرة، وأصبح من الغد فعسكر، واستخلف نميلة على البصرة، وخلف ابنه حسنا معه. قَالَ سعيد بْن هريم: حدثني أبي، قَالَ: قَالَ علي بْن داود: لقد نظرت إلى الموت في وجه إبراهيم حين خطبنا يوم الفطر، فانصرفت إلى أهلي فقلت: قتل والله الرجل! وذكر محمد بْن معروف، عن أبيه أن جعفرا ومحمدا ابني سليمان لما شخصا من البصرة، أرسلاه إلى أبي جعفر ليخبره خبر إبراهيم، قَالَ: فأخبرته خبرهما، فقال: والله ما أدري كيف أصنع! والله ما في عسكري إلا ألفا رجل، فرقت جندي، فمع المهدي بالري ثلاثون ألفا، ومع محمد بن الاشعث

بأفريقية أربعون ألفا والباقون مع عيسى بْن موسى، والله لئن سلمت من هذه لا يفارق عسكري ثلاثون ألفا. وقال عبد الله بْن راشد: ما كان في عسكر أبي جعفر كثير أحد، ما هم إلا سودان وناس يسير، وكان يأمر بالحطب فيحزم ثم يوقد بالليل، فيراه الرائي فيحسب أن هناك ناسا، وما هي إلا نار تضرم، وليس عندها أحد. قَالَ محمد بْن معروف بْن سويد: حدثني أبي، قَالَ: لما ورد الخبر على أبي جعفر، كتب إلى عيسى بْن موسى وهو بالمدينة: إذا قرأت كتابي هذا فأقبل ودع كل ما أنت فيه، قَالَ: فلم ينشب أن قدم، فوجهه على الناس وكتب إلى سلم بْن قتيبة فقدم عليه من الري، فضمه الى جعفر ابن سليمان. فذكر عن يوسف بْن قتيبة بْن مسلم، قَالَ: أخبرني أخي سلم بْن قتيبة ابن مسلم، قَالَ: لما دخلت على أبي جعفر قَالَ لي: اخرج، فإنه قد خرج ابنا عبد الله، فاعمد لإبراهيم ولا يرو عنك جمعه، فو الله إنهما جملا بني هاشم المقتولان جميعا، فابسط يدك، وثق بما أعلمتك، وستذكر مقالتي لك. قال: فو الله ما هو إلا أن قتل إبراهيم، فجعلت أتذكر مقالته فأعجب. قَالَ سعيد بْن سلم: فاستعمله على ميسرة الناس، وضم إليه بشار بن سلم العقيلي وأبا يحيى بن خريم وأبا هراسة سنان بْن مخيس القشيري، وكتب سلم إلى البصرة فلحقت به باهلة، عربها ومواليها، وكتب المنصور إلى المهدي وهو يومئذ بالري يأمره بتوجيه خازم بْن خزيمة إلى الأهواز، فوجهه المهدي- فيما ذكر- في أربعة آلاف من الجند، فصار إليها، وحارب بها المغيرة، فانصرف إلى البصرة، ودخل خازم الأهواز، فأباحها ثلاثا. وذكر عن الفضل بْن العباس بْن موسى وعمر بْن ماهان، أنهما سمعا السندي يقول: كنت وصيفا أيام حرب محمد، أقوم على رأس المنصور بالمذبة، فرأيته لما كثف أمر إبراهيم وغلظ، أقام على مصلى نيفا وخمسين ليلة، ينام عليه ويجلس عليه، وعليه جبة ملونة قد اتسخ جيبها وما تحت لحيته منها، فما غير الجبة، ولا هجر المصلى حتى فتح الله عليه، إلا أنه كان إذا ظهر

للناس علا الجبة بالسواد، وقعد على فراشه، فإذا بطن عاد إلى هيئته قَالَ: فأتته ريسانة في تلك الأيام، وقد أهديت له امرأتان من المدينة، إحداهما فاطمة بنت محمد بْن عيسى بْن طلحة بْن عبيد الله والأخرى أمة الكريم بنت عبد الله من ولد خالد بْن أسيد بْن أبي العيص، فلم ينظر إليهما، فقالت: يا أمير المؤمنين، إن هاتين المرأتين قد خبثت أنفسهما، وساءت ظنونهما لما ظهر من جفائك لهما، فنهرها، وقال: ليست هذه الأيام من أيام النساء، لا سبيل لي إليهما حتى أعلم: أرأس إبراهيم لي أم رأسي لإبراهيم! وذكر أن محمدا وجعفر ابني سليمان كتبا إلى أبي جعفر يعلمانه بعد خروجهما من البصرة الخبر في قطعة جراب، ولم يقدرا على شيء يكتبان فيه غير ذلك، فلما وصل الكتاب إليه، فرأى قطعة جراب بيد الرسول، قَالَ: خلع والله أهل البصرة مع إبراهيم، ثم قرأ الكتاب، ودعا بعبد الرحمن الختلي وبأبي يعقوب ختن مالك بْن الهيثم، فوجههما في خيل كثيفة إليهما، وأمرهما أن يحبساهما حيث لقياهما، وأن يعسكرا معهما، ويسمعا ويطيعا لهما، وكتب إليهما يعجزهما ويضعفهما ويوبخهما على طمع إبراهيم في الخروج الى مصر هما فيه، واستتار خبره عنهما، حتى ظهر وكتب في آخر كتابه: أبلغ بني هاشم عني مغلغلة ... فاستيقظوا إن هذا فعل نوام تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتقي مربض المستنفر الحامي وذكر عن جعفر بْن ربيعة العامري عن الحجاج بْن قتيبة بْن مسلم، قَالَ: دخلت على المنصور أيام حرب محمد وإبراهيم، وقد جاءه فتق البصرة والأهواز وفارس وواسط والمدائن والسواد، وهو ينكت الأرض بمخصرته ويتمثل: ونصبت نفسي للرماح درية ... إن الرئيس لمثل ذاك فعول قَالَ: فقلت: يا امير المؤمنين، ادام أعزازك ونصرك على عدوك! أنت كما قَالَ الأعشى: وإن حربهم أوقدت بينهم ... فحرت لهم بعد ابرادها

وجدت صبورا على حرها ... وكر الحروب وتردادها فقال: يا حجاج، إن إبراهيم قد عرف وعورة جانبي وصعوبة ناحيتي، وخشونة قرني، وإنما جرأه على المسير إلي من البصرة اجتماع هذه الكور المطلة على عسكر أمير المؤمنين وأهل السواد معه على الخلاف والمعصية، وقد رميت كل كوره بحجرها وكل ناحية بسهمها، ووجهت إليهم الشهم النجد الميمون المظفر عيسى بْن موسى، في كثرة من العدد والعدة، واستعنت بالله عليه، واستكفيته إياه، فإنه لا حول ولا قوة لأمير المؤمنين إلا به. قَالَ جعفر بْن ربيعة: قَالَ الحجاج بْن قتيبة: لقد دخلت على أمير المؤمنين المنصور في ذلك اليوم مسلما، وما أظنه يقدر على رد السلام لتتابع الفتوق والخروق عليه والعساكر المحيطة به ولمائه ألف سيف كامنه له بالكوفة بإزاء عسكره ينتظرون به صيحة واحدة فيثبون، فوجدته صقرا أحوزيا مشمرا، قد قام إلى ما نزل به من النوائب يعركها ويمرسها، فقام بها ولم تقعد به نفسه، وإنه لكما قَالَ الأول: نفس عصام سودت عصاما ... وعلمته الكر والإقداما وصيرته ملكا هماما وذكر أبو عبيدة أنه كان عند يونس الجرمي، وقد وجه محمد بْن عبد الله أخاه لحرب أبي جعفر، فقال يونس: قدم هذا يريد أن يزيل ملكا، فألهته ابنة عمر بْن سلمة عما حاوله، ولقد اهديت التيميه إلى أبي جعفر في تلك الأيام، فتركها بمزجر الكلب، فما نظر إليها حتى انقضى أمر إبراهيم. وكان إبراهيم تزوج بعد مقدمه البصرة بهكنة بنت عمر بْن سلمة، فكانت تأتيه في مصبغاتها وألوان ثيابها

فلما أراد إبراهيم الشخوص نحو أبي جعفر، دخل- فيما ذكر بشر بْن سلم- عليه نميله الطهوى وجماعة من قواده من أهل البصرة، فقالوا له: أصلحك الله! إنك قد ظهرت على البصرة والأهواز وفارس وواسط، فأقم بمكانك، ووجه الأجناد، فإن هزم لك جند أمددتهم بجند، وإن هزم لك قائد أمددته بقائد، فخيف مكانك، واتقاك عدوك، وجبيت الأموال، وثبتت وطأتك، ثم رأيك بعد فقال الكوفيون: أصلحك الله! إن بالكوفة رجالا لو قد رأوك ماتوا دونك، وإلا يروك تقعد بهم أسباب شتى فلا يأتونك، فلم يزالوا به حتى شخص. وذكر عن عبد الله بْن جعفر المديني، قَالَ: خرجنا مع إبراهيم إلى باخمري، فلما عسكرنا أتانا ليلة من الليالي، فقال: انطلق بنا نطف في عسكرنا قَالَ: فسمع أصوات طنابير وغناء فرجع، ثم أتاني ليلة أخرى فقال: انطلق بنا، فانطلقت معه، فسمع مثل ذلك فرجع وقال: ما أطمع في نصر عسكر فيه مثل هذا. وذكر عن عفان بْن مسلم الصفار، قَالَ: لما عسكر إبراهيم افترض معه رجال من جيراننا، فأتيت معسكره، فحزرت أن معه أقل من عشرة آلاف. فأما داود بْن جعفر بْن سليمان، فإنه قَالَ: أحصي في ديوان إبراهيم من أهل البصرة مائة ألف ووجه أبو جعفر عيسى بْن موسى- فيما ذكر إبراهيم بْن موسى بْن عيسى- في خمسة عشر ألفا، وجعل على مقدمته حميد بْن قحطبة على ثلاثة آلاف فلما شخص عيسى بْن موسى نحو إبراهيم سار معه- فيما ذكر- أبو جعفر حتى بلغ نهر البصريين، ثم رجع أبو جعفر، وسار إبراهيم من معسكره بالماخور من خريبة البصرة نحو الكوفة. فذكر بعض بني تيم الله عن أوس بْن مهلهل القطعي، قَالَ: مر بنا إبراهيم في طريقه ذلك، ومنزلنا بالقباب التي تدعى قباب أوس، فخرجت أتلقاه مع أبي وعمي، فانتهينا إليه وهو على برذون له يرتاد منزلا من الأرض، قَالَ: فسمعته يتمثل أبياتا للقطامي:

امور لو تدبرها حليم ... إذا لنهى وهيب ما استطاعا ومعصية الشفيق عليك مما ... يزيدك مره منه استماعا وخبر الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبعه اتباعا ولكن الأديم إذا تفرى ... بلى وتعيبا غلب الصناعا فقلت للذي معي: إني لأسمع كلام رجل نادم على مسيره ثم سار فلما بلغ كرخثا قَالَ له- فيما ذكر عن سليمان بْن أبي شيخ عن عبد الواحد بْن زياد بْن لبيد- إن هذه بلاد قومي، وأنا أعلم بها، فلا تقصد قصد عيسى بْن موسى، وهذه العساكر التي وجهت إليك، ولكني أسلك بك إن تركتني طريقا لا يشعر بك أبو جعفر إلا وأنت معه بالكوفة فأبى عليه قَالَ: فإنا معشر ربيعة أصحاب بيات، فدعني أبيت أصحاب عيسى بياتا، قَالَ: إني أكره البيات. وذكر عن سعيد بْن هريم أن أباه أخبره، قَالَ: قلت لإبراهيم: إنك غير ظاهر على هذا الرجل حتى تأخذ الكوفة، فإن صارت لك مع تحصنه بها لم تقم له بعدها قائمة، ولي بعد بها أهيل، فدعني اسر إليها مختفيا فادعو إليك في السر ثم أجهر، فإنهم إن سمعوا داعيا إليك أجابوه، وإن سمع أبو جعفر الهيعة بأرجاء الكوفة لم يرد وجهه شيء دون حلوان قال: فاقبل على بشير الرحال، فقال: ما ترى يا أبا محمد؟ قَالَ: إنا لو وثقنا بالذي تصف لكان رأيا، ولكنا لا نأمن أن تجيبك منهم طائفة، فيرسل إليهم أبو جعفر خيلا فيطأ البريء والنطف والصغير والكبير، فتكون قد تعرضت لمأثم ذلك، ولم تبلغ منه ما أملت فقلت لبشير: أخرجت حين خرجت لقتال أبي جعفر وأصحابه، وأنت تتوقى قتل الضعيف والصغير والمرأة والرجل، أو ليس قد كان رسول الله ص يوجه السرية فيقاتل فيكون في ذلك نحو ما كرهت! فقال: إن أولئك كانوا مشركين كلهم، وهؤلاء أهل ملتنا

ودعوتنا وقبلتنا، حكمهم غير حكم أولئك، فاتبع إبراهيم رأيه ولم يأذن له، وسار إبراهيم حتى نزل باخمري وذكر خالد بْن أسيد الباهلي أنه لما نزلها أرسل إليه سلم بن قتيبة حكيم ابن عبد الكريم: إنك قد أصحرت، ومثلك أنفس به عن الموت، فخندق على نفسك حتى لا تؤتى إلا من مأتى واحد، فإن أنت لم تفعل فقد أعرى أبو جعفر عسكره، فتخفف في طائفة حتى تأتيه فتأخذ بقفاه. قَالَ: فدعا إبراهيم أصحابه، فعرض ذلك عليهم، فقالوا: نخندق على أنفسنا ونحن ظاهرون عليهم! لا والله لا نفعل قَالَ: فنأتيه؟ قالوا: ولم وهو في أيدينا متى أردناه! فقال إبراهيم لحكيم: قد تسمع، فارجع راشدا. فذكر إبراهيم بْن سلم أن أخاه حدثه عن أبيه، قَالَ: لما التقينا صف لهم أصحابنا، فخرجت من صفهم، فقلت لإبراهيم: إن الصف إذا انهزم بعضه تداعى، فلم يكن لهم نظام، فاجعلهم كراديس، فإن انهزم كردوس ثبت كردوس، فتنادوا: لا، إلا قتال أهل الإسلام يريدون قوله تعالى: «يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا» وذكر يحيى بْن شكر مولى محمد بْن سليمان، قَالَ: قَالَ المضاء: لما نزلنا باخمري أتيت إبراهيم فقلت له: إن هؤلاء القوم مصبحوك بما يسد عليك مغرب الشمس من السلاح والكراع، وإنما معك رجال عراة من اهل البصره، فدعني ابيته، فو الله لأشتتن جموعه، فقال: إني أكره القتل، فقلت: تريد الملك وتكره القتل! وَحَدَّثَنِي الْحَارِث، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: لما بلغ إبراهيم قتل أخيه محمد بْن عبد الله، خرج يريد أبا جعفر المنصور بالكوفة، فكتب أبو جعفر إلى عيسى بْن موسى يعلمه ذلك، ويأمره أن يقبل إليه، فوافاه رسول أبي جعفر وكتابه- وقد أحرم بعمرة- فرفضها، وأقبل إلى أبي جعفر، فوجهه في القواد والجند والسلاح إلى إبراهيم بْن عبد الله

وأقبل إبراهيم ومعه جماعة كثيرة من أفناء الناس، اكثر من جماعه عيسى ابن موسى، فالتقوا بباخمري- وهي على ستة عشر فرسخا من الكوفة- فاقتتلوا بها قتالا شديدا، وانهزم حميد بْن قحطبة- وكان على مقدمة عيسى بْن موسى- وانهزم الناس معه، فعرض لهم عيسى بن موسى يناشدهم الله والطاعة فلا يلوون عليه، ومروا منهزمين وأقبل حميد بْن قحطبة منهزما، فقال له عيسى بْن موسى: يا حميد، الله الله والطاعة! فقال: لا طاعة في الهزيمة ومر الناس كلهم حتى لم يبق منهم أحد بين يدي عيسى بْن موسى، وعسكر إبراهيم بْن عبد الله، فثبت عيسى بْن موسى في مكانه الذي كان فيه لا يزول، وهو في مائة رجل من خاصته وحشمه، فقيل له: أصلح الله الأمير! لو تنحيت عن هذا المكان حتى يثوب إليك الناس فتكر بهم! فقال: لا أزول عن مكاني هذا أبدا حتى أقتل أو يفتح الله على يدي، ولا يقال: انهزم. وذكر عبد الرحيم بْن جعفر بْن سليمان بْن علي أن إسحاق بْن عيسى بْن علي حدثه أنه سمع عيسى بْن موسى يحدث أباه أنه قَالَ: لما أراد أمير المؤمنين توجيهي إلى إبراهيم، قَالَ: إن هؤلاء الخبثاء- يعني المنجمين- يزعمون أنك لاق الرجل، وأن لك جولة حين تلقاه، ثم يفيء إليك أصحابك، وتكون العاقبة لك قال: فو الله لكان كما قَالَ، ما هو إلا أن التقينا فهزمونا، فلقد رأيتني وما معي إلا ثلاثة أو أربعة، فأقبل علي مولى لي- كان ممسكا بلجام دابتي- فقال: جعلت فداك! علام تقيم وقد ذهب أصحابك! فقلت: لا والله، لا ينظر أهل بيتي إلى وجهي ابدا وقد انهزمت عن عدوهم. قال: فو الله لكان أكثر ما عندي أن جعلت أقول لمن مر بي ممن أعرف من المنهزمين: اقرئوا أهل بيتي مني السلام، وقولوا لهم: إني لم أجد فداء أفديكم به أعز علي من نفسي، وقد بذلتها دونكم قال: فو الله إنا لعلى ذلك والناس منهزمون ما يلوي أحد على أحد وصمد ابنا سليمان: جعفر ومحمد لإبراهيم، فخرجا عليه من ورائه، ولا يشعر من باعقابنا من أصحاب إبراهيم، حتى نظر

بعضهم إلى بعض، وإذا القتال من ورائهم، فكروا نحوه، وعقبنا في آثارهم راجعين، فكانت إياها قال: فسمعت عيسى بن موسى يومئذ يقول لأبي: فو الله يا أبا العباس، لولا ابنا سليمان يومئذ لافتضحنا، وكان من صنع الله أن أصحابنا لما انهزموا يومئذ اعترض لهم نهر ذو ثنيتين مرتفعتين، فحالتا بينهم وبين الوثوب، ولم يجدوا مخاضة، فكروا راجعين بأجمعهم. فذكر عن محمد بْن إسحاق بْن مهران، أنه قَالَ: كان بباخمري ناس من آل طلحة فمخروها على إبراهيم وأصحابه، وبثقوا الماء، فأصبح أهل عسكره مرتطمين في الماء وقد زعم بعضهم أن إبراهيم هو الذي مخر ليكون قتاله من وجه واحد، فلما انهزموا منعهم الماء من الفرار، فلما انهزم أصحاب إبراهيم ثبت إبراهيم وثبت معه جماعة من أصحابه يقاتلون دونه، اختلف في مبلغ عددهم، فقال بعضهم: كانوا خمسمائة، وقال بعضهم: كانوا أربعمائة، وقال بعضهم: بل كانوا سبعين. فَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: لما انهزم أصحاب عيسى بْن موسى وثبت عيسى مكانه، أقبل إبراهيم بْن عبد الله في عسكره يدنو ويدنو غبار عسكره، حتى يراه عيسى ومن معه، فبينا هم على ذلك إذا فارس قد أقبل وكر راجعا يجري نحو إبراهيم، لا يعرج على شيء، فإذا هو حميد بْن قحطبة قد غير لأمته، وعصب رأسه بعصابة صفراء، فكر الناس يتبعونه حتى لم يبق أحد ممن كان انهزم إلا كر راجعا، حتى خالطوا القوم، فقاتلوهم قتالا شديدا حتى قتل الفريقان بعضهم بعضا، وجعل حميد بْن قحطبة يرسل بالرءوس إلى عيسى بْن موسى إلى أن أتي برأس ومعه جماعة كثيرة وضجة وصياح، فقالوا: رأس إبراهيم بْن عبد الله، فدعا عيسى ابن موسى بْن أبي الكرام الجعفري، فأراه إياه، فقال: ليس هذا، وجعلوا يقتتلون يومهم ذلك، إلى أن جاء سهم عائر لا يدرى من رمى به، فوقع في حلق إبراهيم بْن عبد الله فنحره، فتنحى عن موقفه، فقال: انزلونى، فانزلوه

عن مركبه، وهو يقول: «وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً» ، أردنا أمرا وأراد الله غيره، فأنزل إلى الأرض وهو مثخن، واجتمع عليه أصحابه وخاصته يحمونه ويقاتلون دونه، ورأى حميد بْن قحطبة اجتماعهم، فأنكرهم فقال لأصحابه: شدوا على تلك الجماعة حتى تزيلوهم عن موضعهم، وتعلموا ما اجتمعوا عليه، فشدوا عليهم، فقاتلوهم أشد القتال حتى أفرجوهم عن إبراهيم، وخلصوا إليه فحزوا رأسه، فأتوا به عيسى بْن موسى، فأراه ابن أبي الكرام الجعفري، فقال: نعم، هذا رأسه، فنزل عيسى إلى الأرض فسجد، وبعث برأسه إلى أبي جعفر المنصور، وكان قتله يوم الاثنين لخمس ليال بقين من ذي القعدة سنة خمس وأربعين ومائة وكان يوم قتل ابن ثمان وأربعين سنة، ومكث منذ خرج إلى أن قتل ثلاثة أشهر إلا خمسة أيام. وذكر عبد الحميد أنه سأل أبا صلابة: كيف قتل إبراهيم؟ قَالَ: إني لأنظر إليه واقفا على دابة ينظر إلى أصحاب عيسى قد ولوا ومنحوه أكتافهم، ونكص عيسى بدابته القهقرى وأصحابه يقتلونهم، وعليه قباء زرد، فآذاه الحر، فحل أزرار قبائه، فشال الزرد حتى سال عن ثدييه، وحسر عن لبته، فأتته نشابة عائرة، فأصابته في لبته، فرأيته اعتنق فرسه، وكر راجعا، وأطافت به الزيدية. وذكر إبراهيم بْن محمد بْن أبي الكرام، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: لما انهزم أصحاب عيسى تبعتهم رايات إبراهيم في آثارهم، فنادى منادي إبراهيم: ألا لا تتبعوا مدبرا، فكرت الرايات راجعة، ورآها أصحاب عيسى فخالوهم انهزموا، فكروا في آثارهم، فكانت الهزيمة. وذكر أن أبا جعفر لما بلغته جولة أصحاب عيسى عزم على الرحيل إلى الري، فذكر سلم بْن فرقد حاجب سليمان بْن مجالد، أنه قَالَ: لما التقوا هزم أصحاب عيسى هزيمة قبيحة حتى دخل أوائلهم الكوفة، فأتاني صديق لي كوفي، فقال: أيها الرجل، تعلم والله لقد دخل أصحابك الكوفة، فهذا

أخو أبي هريرة في دار فلان، وهذا فلان في دار فلان، فانظر لنفسك وأهلك ومالك، قَالَ: فأخبرت بذلك سليمان بْن مجالد، فأخبر به أبا جعفر، فقال: لا تكشفن من هذا شيئا ولا تلتفتن إليه، فإني لا آمن أن يهجم علي ما أكره، وأعدد على كل باب من أبواب المدينة إبلا ودواب، فإن أتينا من ناحية صرنا الى الناحية الأخرى فقيل لسلم: إلى أين أراد أبو جعفر؟ يذهب إن دهمه أمر. قَالَ: كان عزم على إتيان الري، فبلغني أن نيبخت المنجم دخل على أبي جعفر، فقال: يا أمير المؤمنين، الظفر لك، وسيقتل إبراهيم، فلم يقبل ذلك منه، فقال له: احبسني عندك، فإن لم يكن الأمر كما قلت لك فاقتلني، فبينا هو كذلك إذ جاءه الخبر بهزيمة إبراهيم، فتمثل ببيت معقر بْن أوس ابن حمار البارقي: فألقت عصاها واستقرت بِهَا النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر فأقطع أبو جعفر نيبخت ألفي جريب بنهر جوبر، فذكر ابو نعيم الفضل ابن دكين أن أبا جعفر لما أصبح من الليلة التي أتي فيها برأس إبراهيم- وذلك ليلة الثلاثاء لخمس بقين من ذي القعدة- أمر برأسه فنصب رأسه في السوق. وذكر أن أبا جعفر لما أتي برأسه فوضع بين يديه بكى حتى قطرت دموعه على خد إبراهيم، ثم قَالَ: أما والله إن كنت لهذا لكارها، ولكنك ابتليت بي وابتليت بك. وذكر عن صالح مولى المنصور أن المنصور لما أتي برأس إبراهيم بْن عبد الله وضعه بين يديه، وجلس مجلسا عاما، وأذن للناس، فكان الداخل يدخل فيسلم ويتناول إبراهيم فيسيء القول فيه، ويذكر منه القبيح، التماسا لرضا أبي جعفر، وأبو جعفر ممسك متغير لونه، حتى دخل جعفر بْن حنظلة البهراني، فوقف فسلم، ثم قَالَ: عظم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك،

وغفر له ما فرط فيه من حقك! فاصفر لون أبي جعفر وأقبل عليه، فقال: أبا خالد، مرحبا وأهلا هاهنا! فعلم الناس أن ذلك قد وقع منه، فدخلوا فقالوا مثل ما قَالَ جعفر بْن حنظلة. وفي هذه السنة خرجت الترك والخزر بباب الأبواب فقتلوا من المسلمين بأرمينية جماعة كثيرة. وحج بالناس في هذه السنة السري بْن عبد الله بْن الحارث بْن العباس بْن عبد المطلب وكان عامل أبي جعفر على مكة. وكان والي المدينة في هذه السنة عبد الله بْن الربيع الحارثي، ووالي الكوفة وأراضيها عيسى بْن موسى، ووالي البصرة سلم بْن قتيبة الباهلي وكان على قضائها عباد بْن منصور، وعلى مصر يزيد بْن حاتم.

سنه ست واربعين ومائه

ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) خبر استتمام بناء بغداد وتحول ابى جعفر إليها فمما كان فيها من ذلك استتمام أبي جعفر مدينته بغداد، ذكر محمد بْن عمر أن أبا جعفر تحول من مدينة ابن هبيرة الى بغداد في صفر سنة ست وأربعين ومائة، فنزلها وبنى مدينتها. ذكر الخبر عن صفة بنائه إياها: قد ذكرنا قبل السبب الباعث كان لأبي جعفر على بنائها، والسبب الذي من أجله اختار البقعة التي بنى فيها مدينته، ونذكر الآن صفة بنائه إياها. ذكر عن رشيد أبي داود بْن رشيد أن أبا جعفر شخص إلى الكوفة حين بلغه خروج محمد بْن عبد الله، وقد هيأ لبناء مدينة بغداد ما يحتاج إليه من خشب وساج وغير ذلك، واستخلف حين شخص على إصلاح ما أعد لذلك مولى له يقال له أسلم، فبلغ أسلم أن إبراهيم بْن عبد الله قد هزم عسكر أبي جعفر، فأحرق ما كان خلفه عليه أبو جعفر من ساج وخشب، خوفا أن يؤخذ منه ذلك، إذا غلب مولاه، فلما بلغ أبا جعفر ما فعل من ذلك مولاه أسلم كتب إليه يلومه على ذلك، فكتب إليه أسلم يخبر أنه خاف أن يظفر بهم إبراهيم فيأخذه، فلم يقل له شيئا. وذكر عن اسحق بْن إبراهيم الموصلي، عن أبيه، قَالَ: لما أراد المنصور بناء مدينة بغداد، شاور أصحابه فيها، وكان ممن شاوره فيها خالد بْن برمك، فأشار بها، فذكر عن علي بْن عصمة أن خالد بْن برمك خط مدينة أبي جعفر له، وأشار بها عليه، فلما احتاج إلى الأنقاض، قَالَ له: ما ترى في نقض بناء مدينة إيوان كسرى بالمدائن وحمل نقضه إلى مدينتي هذه؟ قَالَ: لا أرى ذلك يا أمير المؤمنين، قَالَ: ولم؟ قَالَ: لأنه علم من أعلام الإسلام، يستدل به الناظر إليه على أنه لم يكن ليزال مثل أصحابه عنه بأمر دنيا، وإنما

هو على أمر دين، ومع هذا يا أمير المؤمنين، فإن فيه مصلى علي بْن أبي طالب صلوات الله عليه، قَالَ: هيهات يا خالد! أبيت إلا الميل إلى أصحابك العجم! وأمر أن ينقض القصر الأبيض، فنقضت ناحية منه، وحمل نقضه، فنظر في مقدار ما يلزمهم للنقض والحمل فوجدوا ذلك أكثر من ثمن الجديد لو عمل، فرفع ذلك إلى المنصور، فدعا بخالد بْن برمك، فأعلمه ما يلزمهم في نقضه وحمله، وقال: ما ترى؟ قَالَ: يا أمير المؤمنين، قد كنت ارى قبل الا تفعل، فاما إذ فعلت فإني أرى أن تهدم الآن حتى تلحق بقواعده، لئلا يقال: إنك قد عجزت عن هدمه فأعرض المنصور عن ذلك، وأمر الا يهدم فقال موسى بْن داود المهندس: قَالَ لي المأمون- وحدثني بهذا الحديث: يا موسى إذا بنيت لي بناء فاجعله ما يعجز عن هدمه ليبقى طلله ورسمه وذكر أن أبا جعفر احتاج إلى الأبواب للمدينة، فزعم أبو عبد الرحمن الهماني أن سليمان بْن داود كان بنى مدينة بالقرب من موضع بناء الحجاج واسطا يقال لها الزندورد، واتخذت له الشياطين لها خمسة أبواب من حديد لا يمكن الناس اليوم عمل مثلها، فنصبها عليها، فلم تزل عليها الى ان بنى الحجاج واسطا، وخربت تلك المدينة، فنقل الحجاج أبوابها فصيرها على مدينته بواسط، فلما بنى أبو جعفر المدينة أخذ تلك الأبواب فنصبها على المدينة، فهي عليها إلى اليوم وللمدينة ثمانية أبواب: أربعة داخلة وأربعة خارجة، فصار على الداخلة أربعة أبواب من هذه الخمسة، وعلى باب القصر الخارج الخامس منها، وصير على باب خراسان الخارج بابا جيء به من الشام من عمل الفراعنة، وصير على باب الكوفة الخارج بابا جيء به من الكوفة، كان عمله خالد بْن عبد الله القسري، وأمر باتخاذ باب لباب الشام، فعمل ببغداد، فهو أضعف الأبواب كلها وبنيت المدينة مدورة لئلا يكون الملك إذا نزل وسطها إلى موضع منها أقرب منه إلى موضع، وجعل أبوابها أربعة، على تدبير العساكر في الحروب، وعمل لها سورين، فالسور الداخل أطول من السور الخارج،

وبنى قصره في وسطها، والمسجد الجامع حول القصر. وذكر أن الحجاج بْن أرطاة هو الذي خط مسجد جامعها بأمر أبي جعفر، ووضع أساسه وقيل أن قبلتها على غير صواب وأن المصلي فيه يحتاج أن ينحرف إلى باب البصرة قليلا، وأن قبلة مسجد الرصافة أصوب من قبلة مسجد المدينة، لأن مسجد المدينة بني على القصر، ومسجد الرصافة بني قبل القصر وبني القصر عليه، فلذلك صار كذلك. وذكر يحيى بْن عبد الخالق أن أباه حدثه أن أبا جعفر ولى كل ربع من المدينة قائدا يتولى الاستحثاث على الفراغ من بناء ذلك الربع. وذكر هارون بْن زياد بْن خالد بْن الصلت، قَالَ: أخبرني أبي، قَالَ: ولى المنصور خالد بْن الصلت النفقة على ربع من أرباع المدينة وهي تبنى. قَالَ خالد: فلما فرغت من بناء ذلك الربع رفعت إليه جماعة النفقة عليه، فحسبها بيده، فبقي علي خمسة عشر درهما، فحبسني بها في حبس الشرقية أياما حتى أديتها، وكان اللبن الذي صنع لبناء المدينة اللبنة منها ذراعا في ذراع. وذكر عن بعضهم أنه هدم من السور الذي يلي باب المحول قطعة فوجد فيها لبنة مكتوبا عليها بمغرة وزنها مائة وسبعة عشر رطلا قَالَ: فوزناها فوجدناها على ما كان مكتوبا عليها من الوزن وكانت مقاصير جماعة من قواد أبي جعفر وكتابه تشرع أبوابها إلى رحبة المسجد. وذكر عن يحيى بْن الحسن بْن عبد الخالق، خال الفضل بْن الربيع، أن عيسى بْن علي شكا إلى أبي جعفر، فقال: يا أمير المؤمنين، إن المشي يشق علي من باب الرحبة إلى القصر، وقد ضعفت قَالَ: فتحمل في محفة، قَالَ: إني أستحيي من الناس، قَالَ: وهل بقي احد يستحيا منه! قَالَ: يا أمير المؤمنين، فأنزلني منزلة راوية من الروايا، قَالَ: وهل يدخل المدينة راوية أو راكب؟ قَالَ: فأمر الناس بتحويل أبوابهم إلى فصلان الطاقات، فكان لا يدخل الرحبة أحد إلا ماشيا قَالَ: ولما أمر المنصور بسد الأبواب مما يلي الرحبة وفتحها إلى الفصلان صيرت الأسواق في طاقات المدينة الأربع،

في كل واحد سوق، فلم تزل على ذلك مدة حتى قدم عليه بطريق من بطارقة الروم وافدا، فأمر الربيع أن يطوف به في المدينة وما حولها ليرى العمران والبناء، فطاف به الربيع، فلما انصرف قَالَ: كيف رأيت مدينتي- وقد كان أصعد إلى سور المدينة وقباب الأبواب؟ قَالَ: رأيت بناء حسنا، إلا أني قد رأيت أعداءك معك في مدينتك، قَالَ: ومن هم؟ قَالَ: السوقة، قَالَ: فأضب عليها أبو جعفر، فلما انصرف البطريق أمر بإخراج السوق من المدينة، وتقدم إلى إبراهيم بْن حبيش الكوفي، وضم إليه جواس بْن المسيب اليماني مولاه، وأمرهما أن يبنيا الأسواق ناحية الكرخ، ويجعلاها صفوفا وبيوتا لكل صنف، وأن يدفعاها إلى الناس فلما فعلا ذلك حول السوق من المدينة إليها، ووضع عليهم الغلة على قدر الذرع، فلما كثر الناس بنوا في مواضع من الأسواق لم يكن رغب في البناء فيها إبراهيم بْن حبيش وجواس، لأنها لم تكن على تقديم الصفوف من أموالهم، فألزموا من الغلة أقل مما ألزم الذين نزلوا في بناء السلطان. وذكر بعضهم أن السبب في نقل أبي جعفر التجار من المدينة إلى الكرخ وما قرب منها مما هو خارج المدينة، أنه قيل لأبي جعفر: إن الغرباء وغيرهم يبيتون فيها، ولا يؤمن أن يكون فيهم جواسيس، ومن يتعرف الأخبار، أو أن يفتح أبواب المدينة ليلا لموضع السوق، فأمر بإخراج السوق من المدينة وجعلها للشرط والحرس، وبنى للتجار بباب طاق الحراني وباب الشام والكرخ. وذكر عن الفضل بْن سليمان الهاشمي، عن أبيه، أن سبب نقله الأسواق من مدينة السلام ومدينة الشرقية إلى باب الكرخ وباب الشعير وباب المحول، أن رجلا كان يقال له أبو زكرياء يحيى بْن عبد الله، ولاه المنصور حسبة بغداد والأسواق سنة سبع وخمسين ومائة، والسوق في المدينة، وكان المنصور يتبع من خرج مع محمد وإبراهيم ابني عبد الله بْن حسن، وقد كان لهذا المحتسب معهم سبب، فجمع على المنصور جماعة استغواهم من السفلة، فشغبوا واجتمعوا، فأرسل المنصور إليهم أبا العباس الطوسي فسكنهم، وأخذ

أبا زكرياء فحبسه عنده، فأمره أبو جعفر بقتله، فقتله بيده حاجب كان لأبي العباس الطوسي يقال له موسى، على باب الذهب في الرحبة بأمر المنصور، وأمر أبو جعفر بهدم ما شخص من الدور في طريق المدينة، ووضع الطريق على مقدار أربعين ذراعا، وهدم ما زاد على ذلك المقدار، وأمر بنقل الأسواق إلى الكرخ. وذكر عن أبي جعفر أنه لما أمر بإخراج التجار من المدينة إلى الكرخ كلمه أبان بْن صدقة في بقال، فأجابه إليه على ألا يبيع إلا الخل والبقل وحده، ثم أمر أن يجعل في كل ربع بقال واحد على ذلك المثال. وذكر عن علي بْن محمد أن الفضل بْن الربيع، حدثه أن المنصور لما فرغ من بناء قصره بالمدينة، دخله فطاف فيه، واستحسنه واستنظفه، وأعجبه ما رأى فيه، غير انه استكثره ما أنفق عليه قَالَ: ونظر إلى موضع فيه استحسنه جدا، فقال لي: اخرج إلى الربيع فقل له: اخرج إلى المسيب، فقل له: يحضرني الساعة بناء فارها قَالَ: فخرجت إلى المسيب فأخبرته، فبعث إلى رئيس البنائين فدعاه، فأدخله على أبي جعفر، فلما وقف بين يديه قَالَ له: كيف عملت لأصحابنا في هذا القصر؟ وكم أخذت من الأجرة لكل ألف آجرة ولبنة؟ فبقي البناء لا يقدر على أن يرد عليه شيئا، فخافه المسيب، فقال له المنصور: مالك لا تكلم! فقال: لا علم لي يا أمير المؤمنين، قَالَ: ويحك! قل وأنت آمن من كل ما تخافه قَالَ: يا أمير المؤمنين، لا والله ما أقف عليه ولا اعلمه قال: فاخذ بيده، وقال له: تعال، لا علمك الله خيرا! وأدخله الحجرة التي استحسنها، فأراه مجلسا كان فيها، فقال له: انظر إلى هذا المجلس وابن لي بإزائه طاقا يكون شبيها بالبيت، لا تدخل فيه خشا، قَالَ: نعم يا أمير المؤمنين، قَالَ: فأقبل البناء وكل من معه يتعجبون من فهمه بالبناء والهندسة، فقال له البناء: ما أحسن أن أجيء به على هذا، ولا أقوم به على الذي تريد! فقال له: فأنا أعينك عليه، قَالَ: فأمر بالآجر والجص، فجيء به، ثم أقبل يحصي جميع ما دخل في بناء الطاق من الآجر والجص، ولم يزل كذلك حتى فرغ منه في يومه وبعض اليوم الثاني،

ذكر الخبر عن عزل مسلم بن قتيبة عن البصره

فدعا بالمسيب، فقال له: ادفع إليه أجره على حسب ما عمل معك، قَالَ: فحاسبه المسيب، فأصابه خمسة دراهم، فاستكثر ذلك المنصور، وقال: لا أرضى بذلك، فلم يزل به حتى نقصه درهما، ثم أخذ المقادير، ونظر مقدار الطاق من الحجرة حتى عرفه، ثم أخذ الوكلاء والمسيب بحملان النفقات، وأخذ معه الأمناء من البنائين والمهندسين حتى عرفوه قيمة ذلك، فلم يزل يحسبه شيئا شيئا، وحملهم على ما رفع في أجرة بناء الطاق، فخرج على المسيب مما في يده ستة آلاف درهم ونيف، فأخذه بها واعتقله، فما برح من القصر حتى أداها إليه. وذكر عن عيسى بْن المنصور أنه قَالَ: وجدت في خزائن أبي المنصور في الكتب أنه أنفق على مدينة السلام وجامعها وقصر الذهب بها والأسواق والفصلان والخنادق وقبابها وأبوابها اربعه آلاف الف وثمانمائه وثلاثة وثلاثين درهما، ومبلغها من الفلوس مائة ألف ألف فلس وثلاثة وعشرون ألف فلس، وذلك أن الأستاذ من البنائين كان يعمل يومه بقيراط فضة، والروزكاري بحبتين إلى ثلاث حبات . ذكر الخبر عن عزل مسلم بن قتيبة عن البصره وفي هذه السنة عزل المنصور عن البصرة سلم بْن قتيبة، وولاها محمد بْن سليمان بْن علي. ذكر الخبر عن سبب عزله إياه: ذكر عبد الملك بْن شيبان أن يعقوب بْن الفضل بْن عبد الرحمن الهاشمي، قَالَ: كتب أبو جعفر إلى سلم بْن قتيبة لما ولاه البصرة: أما بعد، فاهدم دور من خرج مع إبراهيم، واعقر نخلهم فكتب إليه سلم: بأي ذلك أبدأ؟ أبالدور أم بالنخل؟ فكتب إليه أبو جعفر: أما بعد، فقد كتبت إليك آمرك بإفساد تمرهم، فكتبت تستأذنني في أية تبدأ به بالبرني

أم بالشهريز! وعزله وولى محمد بْن سليمان، فقدم فعاث. وذكر عن يونس بْن نجدة، قَالَ: قدم علينا سلم بْن قتيبة أميرا بعد الهزيمة وعلى شرطه أبو برقة يزيد بْن سلم، فأقام بها سلم أشهرا خمسة، ثم عزل، وولى علينا محمد بْن سليمان. قَالَ عبد الملك بْن شيبان: هدم محمد بْن سليمان لما قدم دار يعقوب بْن الفضل، ودار أبي مروان في بني يشكر، ودار عون بْن مالك، ودار عبد الواحد ابن زياد، ودار الخليل بْن الحصين في بني عدي، ودار عفو الله بْن سفيان، وعقر نخلهم. وغزا الصائفة في هذه السنة جعفر بْن حنظلة البهراني وفي هذه السنة عزل عن المدينة عبد الله بْن الربيع، وولي مكانه جعفر ابن سليمان، فقدمها في شهر ربيع الأول وعزل أيضا في هذه السنة عن مكة السري بن عبد الله، ووليها عبد الصمد ابن علي. وحج بالناس في هذه السنة عبد الوهاب بْن إبراهيم بْن محمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس، كذلك قَالَ محمد بن عمر وغيره. تم الجزء السابع من تاريخ الطبرى ويليه الجزء الثامن، واوله: ذكر حوادث سنه سبع واربعين ومائه

الجزء الثامن

الجزء الثامن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائة (ذكر الأخبار عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) فِمِمَّا كَانَ فِيهَا من ذلك اغاره استر خان الخوارزمي في جمع من الترك على المسلمين بناحية أرمينية وسبيه من المسلمين وأهل الذمة خلقا كثيرا، ودخولهم تفليس، وقتلهم حرب بْن عبد الله الراوندي الذي تنسب إليه الحربية ببغداد وكان حرب هذا- فيما ذكر- مقيما بالموصل في ألفين من الجند، لمكان الخوارج الذين بالجزيرة وكان أبو جعفر حين بلغه نحزب الترك فيما هناك وجه إليهم لحربهم جبرئيل بْن يحيى، وكتب إلى حرب يأمره بالمسير معه، فسار معه حرب، فقتل حرب وهزم جبرئيل، واصيب من المسلمين من ذكرت. ذكر الخبر عن مهلك عبد الله بن على بن عباس وفي هذه السنة كان مهلك عبد الله بن على بْن عباس واختلفوا في سبب هلاكه، فقال بعضهم ما ذكره علي بْن محمد النوفلي عن أبيه أن أبا جعفر حج سنة سبع وأربعين ومائة بعد تقدمته المهدي على عيسى بْن موسى بأشهر، وقد كان عزل عيسى بْن موسى عن الكوفة وأرضها، وولى مكانه محمد بن سليمان ابن علي، وأوفده إلى مدينة السلام، فدعا به، فدفع إليه عبد الله بْن علي سرا في جوف الليل، ثم قَالَ له: يا عيسى، إن هذا أراد أن يزيل النعمة عني وعنك، وأنت ولي عهدي بعد المهدي، والخلافة صائرة إليك، فخذه إليك فاضرب عنقه، وإياك أن تخور أو تضعف، فتنقض علي أمري الذي دبرت

ثم مضى لوجهه، وكتب إليه من طريقه ثلاث مرات يسأله: ما فعل في الأمر الذي أوعز إليه فيه؟ فكتب إليه: قد أنفذت ما أمرت به، فلم يشك أبو جعفر في أنه قد فعل ما أمره به، وأنه قد قتل عبد الله بْن على، وكان عيسى حين دفعه إليه ستره، ودعا كاتبه يونس بْن فروة، فقال له: إن هذا الرجل دفع إلي عمه، وأمرني فيه بكذا وكذا فقال له: أراد أن يقتلك ويقتله، أمرك بقتله سرا، ثم يدعيه عليك علانية ثم يقيدك به قَالَ: فما الرأي؟ قَالَ: الرأي ان تستره في منزلك، فلا نطلع على أمره أحدا، فإن طلبه منك علانية دفعته إليه علانية، ولا تدفعه إليه سرا أبدا، فإنه وإن كان أسره إليك، فإن أمره سيظهر ففعل ذلك عيسى. وقدم المنصور ودس إلى عمومته من يحركهم على مسألته هبة عبد الله بْن علي لهم، ويطمعهم في أنه سيفعل فجاءوا إليه وكلموه ورققوه، وذكروا له الرحم، وأظهروا له رقة، فقال: نعم، علي بعيسى بْن موسى، فأتاه فقال له: يا عيسى، قد علمت أني دفعت إليك عمي وعمك عبد الله بْن علي قبل خروجي إلى الحج، وأمرتك أن يكون في منزلك، قَالَ: قد فعلت ذلك يا أمير المؤمنين، قَالَ: فقد كلمني عمومتك فيه، فرأيت الصفح عنه وتخلية سبيله، فأتنا به فقال: يا أمير المؤمنين، ألم تأمرني بقتله فقتلته! قَالَ: ما أمرتك بقتله، إنما أمرتك بحبسه في منزلك قَالَ: قد أمرتني بقتله، قَالَ له المنصور: كذبت، ما أمرتك بقتله ثم قَالَ لعمومته: إن هذا قد أقر لكم بقتل أخيكم، وادعى أني أمرته بذلك، وقد كذب، قالوا: فادفعه إلينا نقتله به، قَالَ: شأنكم به، فأخرجوه إلى الرحبة، واجتمع الناس، وشهر الأمر، فقام أحدهم فشهر سيفه، وتقدم إلى عيسى ليضربه، فقال له عيسى: أفاعل أنت؟ قَالَ: أي والله، قَالَ: لا تعجلوا، ردوني إلى أمير المؤمنين، فردوه إليه، فقال: إنما أردت بقتله أن تقتلني، هذا عمك حي سوي، إن أمرتني بدفعه إليك دفعته قَالَ: ائتنا به، فأتاه به، فقال له عيسى: دبرت علي أمرا فخشيته، فكان كما خشيت، شأنك وعمك قَالَ: يدخل حتى

ذكر خبر البيعه للمهدي وخلع عيسى بن موسى

أرى رأيي ثم انصرفوا ثم أمر به فجعل في بيت أساسه ملح، وأجرى في أساسه الماء، فسقط عليه فمات، فكان من أمره ما كان وتوفي عبد الله بْن علي في هذه السنة ودفن في مقابر باب الشام، فكان أول من دفن فيها. وذكر عن إبراهيم بْن عيسى بْن المنصور بْن بريه أنه قَالَ: كانت وفاة عبد الله بْن علي في الحبس سنة سبع وأربعين ومائة، وهو ابن اثنتين وخمسين سنة. قَالَ إبراهيم بْن عيسى: لما توفي عبد الله بْن علي ركب المنصور يوما ومعه عبد الله بْن عياش، فقال له وهو يجاريه: اتعرف ثلاثة خلفاء، اسماؤهم على العين مبدؤها، قتلوا ثلاثة خوارج مبدأ أسمائهم العين؟ قَالَ: لا أعرف إلا ما تقول العامة، إن عليا قتل عثمان- وكذبوا- وعبد الملك بْن مروان قتل عبد الرحمن بْن محمد بْن الأشعث، وعبد الله بْن الزبير وعمرو بْن سعيد وعبد الله بْن علي سقط عليه البيت، فقال له المنصور: فسقط على عبد الله بْن علي البيت، فأنا ما ذنبي؟ قال: ما قلت ان لك ذنبا . ذكر خبر البيعه للمهدي وخلع عيسى بن موسى وفي هذه السنة خلع المنصور عيسى بْن موسى وبايع لابنه المهدي، وجعله ولي عهد من بعده وقال بعضهم: ثم من بعده عيسى بْن موسى. ذكر الخبر عن سبب خلعه إياه وكيف كان الأمر في ذلك: اختلف في الذي وصل به أبو جعفر إلى خلعه، فقال بعضهم: السبب الذي وصل به أبو جعفر إلى ذلك هو أن أبا جعفر أقر عيسى بْن موسى بعد وفاة أبي العباس على ما كان أبو العباس ولاه من ولاية الكوفة وسوادها، وكان له مكرما مجلا، وكان إذا دخل عليه أجلسه عن يمينه، وأجلس المهدي عن يساره، فكان ذلك فعله به، حتى عزم المنصور على تقديم المهدي في الخلافة عليه وكان أبو العباس جعل الأمر من بعده لأبي جعفر، ثم من بعد

أبي جعفر لعيسى بْن موسى، فلما عزم المنصور على ذلك كلم عيسى بْن موسى في تقديم ابنه عليه برفيق من الكلام، فقال عيسى: يا أمير المؤمنين، فكيف بالأيمان والمواثيق التي علي وعلى المسلمين لي من العتق والطلاق وغير ذلك من مؤكد الإيمان! ليس إلى ذلك سبيل يا أمير المؤمنين فلما رأى أبو جعفر امتناعه، تغير لونه وباعده بعض المباعدة، وأمر بالإذن للمهدي قبله، فكان يدخل فيجلس عن يمين المنصور في مجلس عيسى، ثم يؤذن العيسى فيدخل فيجلس دون مجلس المهدي عن يمين المنصور أيضا، ولا يجلس عن يساره في المجلس الذي كان يجلس فيه المهدي، فيغتاظ من ذلك المنصور، ويبلغ منه، فيأمر بالإذن للمهدي ثم يأمر بعده بالإذن لعيسى بْن علي، فيلبث هنيهة، ثم عبد الصمد بْن علي، ثم يلبث هنيهة، ثم عيسى بْن موسى. فإذا كان بعد ذلك قدم في الإذن للمهدي على كل حال، ثم يخلط في الآخرين، فيقدم بعض من أخر ويؤخر بعض من قدم ويوهم عيسى ابن موسى أنه إنما يبدأ بهم لحاجة تعرض ولمذاكرتهم بالشيء من أمره، ثم يؤذن لعيسى بْن موسى من بعدهم، وهو في ذلك كله صامت لا يشكو منه شيئا، ولا يستعتب ثم صار إلى أغلظ من ذلك، فكان يكون في المجلس معه بعض ولده، فيسمع الحفر في أصل الحائط فيخاف أن يخر عليه الحائط، وينتثر عليه التراب، وينظر إلى الخشبة من سقف المجلس قد حفر عن أحد طرفيها لتقلع فيسقط التراب على قلنسوته وثيابه، فيأمر من معه من ولده بالتحويل، ويقوم هو فيصلي، ثم يأتيه الإذن فيقوم فيدخل بهيئته والتراب عليه لا ينفضه، فإذا رآه المنصور قَالَ له: يا عيسى، ما يدخل علي أحد بمثل هيئتك من كثرة الغبار عليك والتراب! أفكل هذا من الشارع؟ فيقول: أحسب ذلك يا أمير المؤمنين، وانما يكلمه المنصور بذلك ليستطمعه أن يشكو إليه شيئا فلا يشكو، وكان المنصور قد أرسل إليه في الأمر الذي

اراد منه عيسى بْن علي، فكان عيسى بْن موسى لا يحمد منه مدخله فيه، كأنه كان يغري به فقيل: إنه دس لعيسى بْن موسى بعض ما يتلفه، فنهض من المجلس، فقال له المنصور: إلى أين يا أبا موسى؟ قَالَ: أجد غمزا يا أمير المؤمنين، قَالَ: ففي الدار إذا! قَالَ: الذي أجده أشد مما أقيم معه في الدار، قَالَ: فإلى أين؟ قَالَ: إلى المنزل، ونهض فصار إلى حراقته، ونهض المنصور في أثره إلى الحراقة متفزعا له، فاستأذنه عيسى في المسير الى الكوفه، فقال: بل تقيم فتعالج هاهنا، فأبى وألح عليه، فأذن له وكان الذي جرأه على ذلك طبيبه بختيشوع أبو جبرئيل، قال: إني والله ما أجترئ على معالجتك بالحضرة، وما آمن على نفسي فأذن له المنصور، وقال له: أنا على الحج في سنتي هذه، فأنا مقيم عليك بالكوفة حتى تفيق إن شاء الله. وتقارب وقت الحج، فشخص المنصور حتى صار بظهر الكوفة في موضع يدعى الرصافة، فأقام بها أياما، فأجرى هناك الخيل، وعاد عيسى غير مرة، ثم رجع إلى مدينة السلام ولم يحج، واعتل بقلة الماء في الطريق. وبلغت العلة من عيسى بْن موسى كل مبلغ، حتى تمعط شعره، ثم أفاق من علته تلك فقال فيه يحيى بْن زياد بْن أبي حزابة البرجمي أبو زياد: أفلت من شربة الطبيب كما ... افلت ظبى الصريم من قتره من قانص ينفذ الفريص إذا ... ركب سهم الحتوف في وتره دافع عنك المليك صولة ليث ... يريد الأسد في ذرى خمره حتى أتانا وفيه داخلة ... تعرف في سمعه وفي بصره أزعر قد طار عن مفارقه ... وحف أثيث النبات من شعره وذكر أن عيسى بْن علي كان يقول للمنصور: إن عيسى بْن موسى إنما يمتنع من البيعة للمهدي لأنه يربص هذا الأمر لابنه موسى، فموسى

الذي يمنعه فقال المنصور لعيسى بْن علي: كلم موسى بْن عيسى وخوفه على أبيه وعلى ابنه، فكلم عيسى بْن علي موسى في ذلك، فأيأسه، فتهدده وحذره غضب المنصور فلما وجل موسى وأشفق وخاف أن يقع به المكروه، أتى العباس بْن محمد، فقال: أي عم، إني مكلمك بكلام، لا والله ما سمعه مني أحد قط، ولا يسمعه أحد أبدا، وإنما أخرجه مني إليك موضع الثقة بك والطمأنينة إليك، وهو أمانة عندك، فإنما هي نفسي أنثلها في يدك قَالَ: قل يا بن أخي، فلك عندي ما تحبه، قَالَ: أرى ما يسام أبي من إخراج هذا الأمر من عنقه وتصييره للمهدي، فهو يؤذى بصنوف الأذى والمكروه، فيتهدد مرة ويؤخر إذنه مرة، وتهدم عليه الحيطان مرة، وتدس إليه الحتوف مرة فأبي لا يعطى على هذا شيئا، لا يكون ذلك ابدا، ولكن هاهنا وجها، فلعله يعطى عليه إن أعطى وإلا فلا، قال: فما هو يا بن أخي؟ فإنك قد اصبت ووفقت، قَالَ: يقبل عليه أمير المؤمنين وأنا شاهد فيقول له: يا عيسى، إني أعلم أنك لست تضن بهذا الأمر على المهدي لنفسك، لتعالي سنك وقرب أجلك، فإنك تعلم أنه لا مدة لك تطول فيه، وإنما تضن به لمكان ابنك موسى، أفتراني أدع ابنك يبقى بعدك ويبقى ابني معه فيلي عليه! كلا والله لا يكون ذلك أبدا، ولأثبن على ابنك وأنت تنظر حتى تيأس منه، وآمن أن يلي على ابني أترى ابنك آثر عندي من ابني! ثم يأمر بي، فإما خنقت وإما شهر علي سيف فإن أجاب إلى شيء فعسى أن يفعل بهذا السبب، فأما بغيره فلا فقال العباس: جزاك الله يا بن أخي خيرا، فقد فديت أباك بنفسك، وآثرت بقاءه على حظك، نعم الرأي رأيت، ونعم المسلك سلكت! ثم أتى أبا جعفر فأخبره الخبر، فجزى المنصور موسى خيرا، وقال: قد أحسن وأجمل، وسأفعل ما أشار به إن شاء الله، فلما اجتمعوا وعيسى ابن علي حاضر، أقبل المنصور على عيسى بْن موسى، فقال: يا عيسى، إني

لا أجهل مذهبك الذي تضمره، ولا مداك الذي تجري إليه في الأمر الذي سألتك، انما تريد هذا الأمر لابنك هذا المشئوم عليك وعلى نفسه، فقال عيسى بْن علي: يا أمير المؤمنين، غمزني البول، قَالَ: فندعو لك بإناء تبول فيه، قَالَ: أفي مجلسك يا أمير المؤمنين! ذاك ما لا يكون، ولكن أقرب البلاليع مني أدل عليها فآتيها فامر من يدله، فانطلق فقال عيسى ابن موسى لابنه موسى: قم مع عمك، فاجمع عليه ثيابه من ورائه، وأعطه منديلا إن كان معك ينشف به، فلما جلس عيسى يبول جمع موسى عليه ثيابه من ورائه وهو لا يراه، فقال: من هذا؟ فقال: موسى بْن عيسى، فقال: بأبي أنت وبأبي أب ولدك! والله إني لأعلم أنه لا خير في هذا الأمر بعدكما، وإنكما لأحق به، ولكن المرء مغرى بما تعجل، فقال موسى في نفسه: أمكنني والله هذا من مقاتله، وهو الذي يغري بأبي، والله لأقتلنه بما قَالَ لي، ثم لا أبالي أن يقتلني أمير المؤمنين بعده، بل يكون في قتله عزاء لأبي وسلو عني إن قتلت فلما رجعا إلى موضعهما قَالَ موسى: يا أمير المؤمنين، أذكر لأبي أمرا؟ فسره ذلك، وظن أنه يريد أن يذاكره بعض أمرهم، فقال: قم، فقام إليه، فقال: يا أبت، إن عيسى بْن علي قد قتلك وإياي قتلات بما يبلغ عنا، وقد أمكنني من مقاتله، قَالَ: وكيف؟ قَالَ: قَالَ لي كيت وكيت، فأخبر أمير المؤمنين فيقتله، فتكون قد شفيت نفسك وقتلته قبل أن يقتلك وإياي ثم لا نبالي ما كان بعد فقال: أف لهذا رأيا ومذهبا! ائتمنك عمك على مقالة أراد أن يسرك بها، فجعلتها سببا لمكروهه وتلفه! لا يسمعن هذا منك أحد، وعد إلى مجلسك فقام فعاد، وانتظر أبو جعفر أن يرى لقيامه إلى أبيه وكلامه أثرا فلم يره، فعاد إلى وعيده الأول وتهدده، فقال: أما والله لاعجلن لك فيه ما يسوءك ويوئسك من بقائه بعدك، أيا ربيع، قم إلى موسى فاخنقه بحمائله، فقام الربيع فضم حمائله عليه، فجعل يخنقه بها خنقا رويدا، وموسى يصيح: الله الله يا أمير المؤمنين في وفي دمي! فإني لبعيد مما تظن بي، وما يبالي عيسى أن تقتلني وله بضعة عشر نفرا ذكرا-

كلهم عنده مثلي- أو يتقدمني، وهو يقول: اشدد يا ربيع، ائت على نفسه، والربيع يوهم أنه يريد تلفه، وهو يراخي خناقه، وموسى يصيح، فلما راى ذاك عيسى قَالَ: والله يا أمير المؤمنين ما ظننت أن الأمر يبلغ منك هذا كله فمر بالكف عنه، فإني لم أكن لأرجع إلى أهلي، وقد قتل بسبب هذا الأمر عبد من عبيدي، فكيف بابني! فها أنا أشهدك أن نسائي طوالق ومماليكي أحرار، وما أملك في سبيل الله، تصرف ذلك فيمن رأيت يا أمير المؤمنين، وهذه يدي بالبيعة للمهدي فأخذ بيعته له على ما أحب ثم قَالَ: يا أبا موسى، إنك قد قضيت حاجتي هذه كارها، ولي حاجة أحب أن تقضيها طائعا، فتغسل بها ما في نفسي من الحاجة الأولى، قَالَ: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قَالَ: تجعل هذا الأمر من بعد المهدي لك، قَالَ: ما كنت لأدخل فيها بعد إذ خرجت منها فلم يدعه هو ومن حضره من أهل بيته حتى قَالَ: يا أمير المؤمنين، أنت أعلم فقال بعض أهل الكوفة- ومر عليه عيسى في موكبه: هذا هذا الذي كان غدا، فصار بعد غد وهذه القصة- فيما قيل- منسوبة إلى آل عيسى أنهم يقولونها. وأما الذي يحكى عن غيرهم في ذلك، فهو أن المنصور أراد البيعة للمهدي، فكلم الجند في ذلك، فكانوا إذا رأوا عيسى راكبا أسمعوه ما كره، فشكا ذلك إلى المنصور، فقال للجند: لا تؤذوا ابن أخي، فإنه جلدة بين عيني، ولو كنت تقدمت إليكم لضربت أعناقكم، فكانوا يكفون ثم يعودون، فمكث بذلك زمانا، ثم كتب إلى عيسى: بسم اللَّه الرحمن الرحيم من عبد اللَّه عبد الله المنصور أمير المؤمنين إلى عيسى بْن موسى سلام عَلَيْك، فإني أحمد إليك اللَّه الَّذِي لا إله إلا هُوَ. أَمَّا بَعْدُ، فالحمد لله ذي المن القديم، والفضل العظيم، والبلاء الحسن الجميل، الذي ابتدأ الخلق بعلمه، وأنفذ القضاء بأمره، فلا يبلغ مخلوق كنه حقه، ولا ينال في عظمته كنه ذكره، يدبر ما أراد من الأمور بقدرته، ويصدرها عن مشيئته، لا قاضي فيها غيره، ولا نفاذ لها إلا به، يجريها على أذلالها، لا يستأمر

فيها وزيرا، ولا يشاور فيها معينا، ولا يلتبس عليه شيء أراده، يمضي قضاؤه فيما أحب العباد وكرهوا، لا يستطيعون منه امتناعا، ولا عن أنفسهم دفاعا، رب الأرض ومن عليها، له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين. ثم إنك قد علمت الحال التي كنا عليها في ولاية الظلمة، كيف كانت قوتنا وحيلتنا، لما اجترأ عليه أهل بيت اللعنه فيما أحببنا وكرهنا، فصبرنا أنفسنا على ما دعونا إليه من تسليم الأمور إلى من أسندوها إليه، واجتمع رأيهم عليه، نسام الخسف، ونوطأ بالعسف، لا ندفع ظلما، ولا نمنع ضيما، ولا نعطي حقا، ولا ننكر منكرا، ولا نستطيع لها ولا لأنفسنا نفعا، حتى إذا بلغ الكتاب أجله، وانتهى الأمر إلى مدته، وأذن الله في هلاك عدوه، وارتاح بالرحمه لأهل بيت نبيه ص، فابتعث الله لهم أنصارا يطلبون بثأرهم، ويجاهدون عدوهم، ويدعون إلى حبهم، وينصرون دولتهم، من أرضين متفرقة، وأسباب مختلفة، وأهواء مؤتلفة، فجمعهم الله على طاعتنا، وألف بين قلوبهم بمودتنا على نصرتنا، وأعزهم بنصرنا، لم نلق منهم رجلا، ولم نشهر معهم إلا ما قذف الله في قلوبهم، حتى ابتعثهم لنا من بلادهم، ببصائر نافذة، وطاعة خالصة، يلقون الظفر، ويعودون بالنصر، وينصرون بالرعب، لا يلقون أحدا إلا هزموه، ولا واترا إلا قتلوه، حتى بلغ الله بنا بذلك أقصى مدانا وغاية منانا ومنتهى آمالنا وإظهار حقنا، وإهلاك عدونا، كرامة من الله جل وعز لنا، وفضلا منه علينا، بغير حول منا ولا قوة، ثم لم نزل من ذلك في نعمة الله وفضله علينا، حتى نشأ هذا الغلام، فقذف الله له في قلوب انصار الدين الذين ابتعثهم لنا مثل ابتدائه لنا أول أمرنا، وأشرب قلوبهم مودته، وقسم في صدورهم محبته، فصاروا

لا يذكرون إلا فضله، ولا ينوهون إلا باسمه، ولا يعرفون إلا حقه، فلما رأى أمير المؤمنين ما قذف الله في قلوبهم من مودته، وأجرى على ألسنتهم من ذكره، ومعرفتهم إياه بعلاماته واسمه، ودعاء العامة إلى طاعته، أيقنت نفس أمير المؤمنين أن ذلك أمر تولاه الله وصنعه، لم يكن للعباد فيه أمر ولا قدرة، ولا مؤامرة ولا مذاكرة، للذي رأى أمير المؤمنين من اجتماع الكلمة، وتتابع العامة، حتى ظن أمير المؤمنين انه لولا معرفه المهدى بحق الأبوة، لأفضت الأمور إليه وكان أمير المؤمنين لا يمنع مما اجتمعت عليه العامة، ولا يجد مناصا عن خلاص ما دعوا إليه، وكان أشد الناس على أمير المؤمنين في ذلك الأقرب فالأقرب من خاصته وثقاته من حرسه وشرطه، فلم يجد أمير المؤمنين بدا من استصلاحهم ومتابعتهم، وكان أمير المؤمنين وأهل بيته أحق من سارع إلى ذلك وحرص عليه، ورغب فيه وعرف فضله، ورجا بركته، وصدق الرواية فيه، وحمد الله إذ جعل في ذريته مثل ما سألت الأنبياء قبله، إذ قَالَ العبد الصالح: «فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا» فوهب الله لأمير المؤمنين وليا، ثم جعله تقيا مباركا مهديا، وللنبي ص سميا، وسلب من انتحل هذا الاسم، ودعا إلى تلك الشبهة التي تحير فيها أهل تلك النية، وافتتن بها أهل تلك الشقوة، فانتزع ذلك منهم، وجعل دائرة السوء عليهم، وأقر الحق قراره، وأعلن للمهدي مناره، وللدين أنصاره، فأحب أمير المؤمنين أن يعلمك الذي اجتمع عليه رأي رعيته، وكنت في نفسه بمنزلة ولده، يحب من سترك ورشدك وزينك ما يحب لنفسه وولده، ويرى لك إذا بلغك من حال ابن عمك ما ترى من اجتماع الناس عليه أن يكون ابتداء ذلك من قبلك، ليعلم أنصارنا من أهل خراسان وغيرهم أنك أسرع إلى ما أحبوا مما عليه رأيهم في صلاحهم منهم إلى ذلك من أنفسهم، وإن ما كان

عليه من فضل عرفوه للمهدي، أو أملوه فيه، كنت أحظى الناس بذلك، وأسرهم به لمكانه وقرابته، فاقبل نصح أمير المؤمنين لك، تصلح وترشد والسلام عليك ورحمة الله. فكتب إليه عيسى بْن موسى جوابها: بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله عبد الله أمير المؤمنين من عيسى بْن موسى سلام عَلَيْك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ورحمة اللَّه، فإني أحمد إليك اللَّه الَّذِي لا إله إلا هو، أَمَّا بَعْدُ فقد بلغني كتابك تذكر فِيهِ ما أجمعت عليه من خلاف الحق وركوب الإثم في قطيعة الرحم، ونقض ما أخذ الله عليه من الميثاق من العامة بالوفاء للخلافة والعهد لي من بعدك، لتقطع بذلك ما وصل الله من حبله، وتفرق بين ما ألف الله جمعه، وتجمع بين ما فرق الله أمره، مكابرة لله في سمائه، وحولا على الله في قضائه، ومتابعة للشيطان في هواه، ومن كابر الله صرعه، ومن نازعه قمعه، ومن ما كره عن شيء خدعه، ومن توكل على الله منعه، ومن تواضع لله رفعه إن الذي أسس عليه البناء، وخط عليه الحذاء من الخليفة الماضي عهد لي من الله، وأمر نحن فيه سواء، ليس لأحد من المسلمين فيه رخصة دون أحد، فإن وجب وفاء فيه فما الأول بأحق به من الآخر، وإن حل من الآخر شيء فما حرم ذلك من الأول، بل الأول الذي تلا خبره وعرف أثره، وكشف عما ظن به وأمل فيه أسرع، وكان الحق أولى بالذي اراد ان يصنع أولا، فلا يدعوك إلى الأمن من البلاء اغترار بالله، وترخيص للناس في ترك الوفاء، فإن من أجابك إلى ترك شيء وجب لي واستحل ذلك مني، لم يحرج إذا أمكنته الفرصة وأفتنته الرخصه أن يكون إلى مثل ذاك منك أسرع، ويكون بالذي اسست من ذلك ابخع. فاقبل العاقبة وارض من الله بما صنع، وخذ ما أوتيت بقوة، وكن من الشاكرين. فإن الله جل وعز زائد من شكره، وعدا منه حقا لا خلف فيه، فمن راقب الله حفظه، ومن أضمر خلافه خذله، والله يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما

تُخْفِي الصُّدُورُ ولسنا مع ذلك نأمن من حوادث الأمور وبغتات الموت قبل ما ابتدأت به من قطيعتي، فإن تعجل بي أمر كنت قد كفيت مئونة ما اغتممت له، وسترت قبح ما أردت إظهاره، وإن بقيت بعدك لم تكن اوغرت صدري، وقطعت رحمي، ولا أظهرت أعدائي في اتباع أثرك، وقبول أدبك، وعمل بمثالك. وذكرت أن الأمور كلها بيد الله، هو مدبرها ومقدرها ومصدرها عن مشيئته، فقد صدقت، إن الأمور بيد الله، وقد حق على من عرف ذلك ووصفه العمل به والانتهاء إليه واعلم أنا لسنا جررنا إلى أنفسنا نفعا، ولا دفعنا عنها ضرا، ولا نلنا الذي عرفته بحولنا ولا قوتنا، ولو وكلنا في ذلك إلى أنفسنا وأهوائنا لضعفت قوتنا، وعجزت قدرتنا في طلب ما بلغ الله بنا، ولكن الله إذا أراد عزما لإنفاذ أمره، وإنجاز وعده، وإتمام عهده، وتأكيد عقده، أحكم إبرامه، وأبرم أحكامه، ونور إعلانه، وثبت أركانه، حين أسس بنيانه، فلا يستطيع العباد تأخير ما عجل، ولا تعجيل ما أخر، غير أن الشيطان عدو مضل مبين، قد حذر الله طاعته، وبين عداوته، ينزع بين ولاة الحق وأهل طاعته، ليفرق جمعهم، ويشتت شملهم، ويوقع العداوة والبغضاء بينهم، ويتبرأ منهم عند حقائق الأمور، ومضايق البلايا، وقد قَالَ الله عز وجل في كتابه: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ووصف الذين اتقوا فقال: «إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» ، فأعيذ أمير المؤمنين بالله من أن يكون نيته وضمير سريرته

خلاف ما زين الله به جل وعز من كان قبله، فإنه قد سألتهم أبناؤهم، ونازعتهم أهواؤهم، إلى مثل الذي هم به أمير المؤمنين، فآثروا الحق على ما سواه، وعرفوا أن الله لا غالب لقضائه، ولا مانع لعطائه، ولم يأمنوا مع ذلك تغيير النعم وتعجيل النقم، فآثروا الآجلة، وقبلوا العاقبة، وكرهوا التغيير، وخافوا التبديل، فأظهروا الجميل، فتمم الله لهم أمورهم، وكفاهم ما أهمهم، ومنع سلطانهم، وأعز أنصارهم، وكرم أعوانهم، وشرف بنيانهم، فتمت النعم، وتظاهرت المنن، فاستوجبوا الشكر، فتم أمر الله وهم كارهون. والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله. فلما بلغ أبا جعفر المنصور كتابه أمسك عنه، وغضب غضبا شديدا، وعاد الجند لأشد ما كانوا يصنعون، منهم أسد بْن المرزبان وعقبة بْن سلم ونصر بْن حرب بْن عبد الله، في جماعة، فكانوا يأتون باب عيسى، فيمنعون من يدخل إليه، فإذا ركب مشوا خلفه وقالوا: أنت البقره التي قال الله: «فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ» ، فعاد فشكاهم، فقال له المنصور: يا بن أخي، أنا والله أخافهم عليك وعلى نفسي، قد أشربوا حب هذا الفتى، فلو قدمته بين يديك فيكون بيني وبينك لكفوا فأجاب عيسى إلى أن يفعل. وذكر عن إسحاق الموصلي، عن الربيع، أن المنصور لما رجع إليه من عند عيسى جواب كتابه الذي ذكرنا، وقع في كتابه: اسل عنها تنل منها عوضا في الدنيا، وتأمن تبعتها في الآخرة. وقد ذكر في وجه خلع المنصور عيسى بْن موسى قول غير هذين القولين، وذلك ما ذكره أبو محمد المعروف بالأسواري بْن عيسى الكاتب، قَالَ: أراد أبو جعفر أن يخلع عيسى بْن موسى من ولاية العهد، ويقدم المهدي عليه، فأبى أن يجيبه إلى ذلك، وأعيا الأمر أبا جعفر فيه، فبعث إلى خالد بْن برمك، فقال له: كلمه يا خالد، فقد ترى امتناعه من البيعه

للمهدي، وما قد تقدمنا به في أمره، فهل عندك حيلة فيه، فقد أعيتنا وجوه الحيل، وضل عنا الرأي! فقال: نعم يا أمير المؤمنين، تضم إلي ثلاثين رجلا من كبار الشيعة، ممن تختاره قَالَ: فركب خالد بْن برمك، وركبوا معه، فساروا إلى عيسى بْن موسى، فأبلغوه رسالة أبي جعفر المنصور، فقال: ما كنت لأخلع نفسي وقد جعل الله عز وجل الأمر لي، فأداره خالد بكل وجه من وجوه الحذر والطمع، فأبى عليه، فخرج خالد عنه وخرجت الشيعة بعده، فقال لهم خالد: ما عندكم في أمره؟ قالوا: نبلغ أمير المؤمنين رسالته ونخبره بما كان منا ومنه، قَالَ: لا، ولكنا نخبر أمير المؤمنين أنه قد أجاب، ونشهد عليه أن أنكره، قالوا له: افعل، فإنا نفعل، فقال لهم: هذا هو الصواب، وأبلغ أمير المؤمنين فيما حاول وأراد. قَالَ: فساروا إلى أبي جعفر وخالد معهم، فأعلموه أنه قد أجاب، فأخرج التوقيع بالبيعة للمهدي، وكتب بذلك الى الافاق، قال: واتى عيسى ابن موسى لما بلغه الخبر أبا جعفر منكرا لما ادعي عليه من الإجابة إلى تقديم المهدي على نفسه، وذكره الله فيما قد هم به فدعاهم أبو جعفر، فسألهم فقالوا: نشهد عليه أنه قد أجاب، وليس له أن يرجع، فأمضى أبو جعفر الأمر، وشكر لخالد ما كان منه، وكان المهدي يعرف ذلك له، ويصف جزالة الرأي منه فيه. وذكر عن علي بْن محمد بْن سليمان، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي سليم مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، قَالَ: إني لأسير مع سليمان بْن عبد الله بْن الحارث بْن نوفل، وقد عزم أبو جعفر على أن يقدم المهدي على عيسى بْن موسى في البيعة، فإذا نحن بأبي نخيلة الشاعر، ومعه ابناه وعبداه، وكل واحد منهما يحمل شيئا من متاع، فوقف عليهم سليمان بْن عبد الله، فقال: أبا نخيلة، ما هذا الذي أرى؟ وما هذه الحال التي أنت فيها؟ قَالَ: كنت نازلا على القعقاع- وهو رجل من آل زرارة، وكان يتولى

لعيسى بْن موسى الشرطة- فقال لي: اخرج عني، فإن هذا الرجل قد اصطنعني، وقد بلغني أنك قلت شعرا في هذه البيعة للمهدي، فأخاف أن يبلغه ذلك أن يلزمني لائمة لنزولك علي، فأزعجني حتى خرجت قَالَ: فقال لي: يا عبد الله، انطلق بأبي نخيلة فبوئه في منزلي موضعا صالحا، واستوص به وبمن معه خيرا ثم خبر سليمان بْن عبد الله أبا جعفر بشعر أبي نخيلة الذي يقول فيه: عيسى فزحلفها إلى محمد ... حتى تؤدي من يد إلى يد فيكم وتغني وهي في تزيد ... فقد رضينا بالغلام الأمرد قَالَ: فلما كان في اليوم الذي بايع فيه أبو جعفر لابنه المهدي وقدمه على عيسى، دعا بأبي نخيلة، فأمره فأنشد الشعر، فكلمه سليمان بْن عبد الله، وأشار عليه في كلامه أن يجزل له العطية، وقال: إنه شيء يبقى لك في الكتب، ويتحدث الناس به على الدهر، ويخلد على الأيام، ولم يزل به حتى أمر له بعشرة آلاف درهم وذكر عن حيان بْن عبد الله بْن حبران الحماني، قَالَ: حدثني أبو نخيلة، قَالَ: قدمت على أبي جعفر، فأقمت ببابه شهرا لا أصل إليه، حتى قَالَ لي ذات يوم عبد الله بْن الربيع الحارثي: يا أبا نخيلة، إن أمير المؤمنين يرشح ابنه للخلافه والعهد، وهو على تقدمته بين يدي عيسى بْن موسى، فلو قلت شيئا تحثه على ذلك، وتذكر فضل المهدي، كنت بالحري أن تصيب منه خيرا ومن ابنه، فقلت:

دونك عبد الله أهل ذاكا ... خلافة الله التي أعطاكا أصفاك أصفاك بها أصفاكا ... فقد نظرنا زمنا أباكا ثم نظرناك لها إياكا ... ونحن فيهم والهوى هواكا نعم، فنستذري إلى ذراكا ... أسند إلى محمد عصاكا فابنك ما استرعيته كفاكا ... فأحفظ الناس لها أدناكا فقد جفلت الرجل والأوراكا ... وحكت حتى لم أجد محاكا ودرت في هذا وذا وذاكا ... وكل قول قلت في سواكا زور وقد كفر هذا ذاكا. وقلت أيضا كلمتي التي أقول فيها: إلى أمير المؤمنين فاعمدي ... سيري إلى بحر البحور المزبد أنت الذى يا بن سمى احمد ... ويا بن بيت العرب المشيد بل يا أمين الواحد المؤبد ... إن الذي ولاك رب المسجد أمسى ولي عهدها بالأسعد ... عيسى فزحلفها إلى محمد من قبل عيسى معهدا عن معهد ... حتى تؤدي من يد إلى يد فيكم وتغني وهي في تزيد ... فقد رضينا بالغلام الأمرد بل قد فرغنا غير أن لم نشهد ... وغير أن العقد لم يؤكد فلو سمعنا قولك امدد امدد ... كانت لنا كدعقة الورد الصدي

فبادر البيعة ورد الحشد ... تبين من يومك هذا أو غد فهو الذي تم فما من عند ... وزاد ما شئت فزده يزدد ورده منك رداء يرتد ... فهو رداء السابق المقلد قد كان يروى أنها كأن قد ... عادت ولو قد فعلت لم تردد فهي ترامى فدفدا عن فدفد ... حينا، فلو قد حان ورد الورد وحان تحويل الغوي المفسد ... قَالَ لها الله هلمي وارشدي فأصبحت نازلة بالمعهد ... والمحتد المحتد خير المحتد لم يرم تذمار النفوس الحسد ... بمثل قرم ثابت مؤيد لما انتحوا قدحا بزند مصلد ... بلوا بمشزور القوى المستحصد يزداد إيقاظا على التهدد ... فداولوا باللين والتعبد صمصامة تأكل كل مبرد. قَالَ: فرويت وصارت في أفواه الخدم، وبلغت أبا جعفر، فسأل عن قائلها، فأخبر أنها لرجل من بني سعد بْن زيد مناة، فأعجبه، فدعاني فأدخلت عليه، وإن عيسى بْن موسى لعن يمينه، والناس عنده، ورءوس القواد والجند، فلما كنت بحيث يراني، ناديت: يا أمير المؤمنين، أدنني منك حتى أفهمك وتسمع مقالتي فأومأ بيده، فأدنيت حتى كنت قريبا منه، فلما صرت بين يديه قلت- ورفعت صوتي- أنشده من هذا الموضع، ثم رجعت إلى أول

الأرجوزه، فأنشدتها من أولها إلى هذا الموضع أيضا، فأعدت عليه حتى أتيت على آخرها، والناس منصتون، وهو يتسار بما أنشده، مستمعا له، فلما خرجنا من عنده إذا رجل واضع يده على منكبي، فالتفت فإذا عقال بْن شبة يقول: أما أنت فقد سررت أمير المؤمنين، فإن التأم الأمر على ما تحب وقلت، فلعمري لتصيبن منه خيرا وإن يك غير ذلك، فابتغ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ قَالَ: فكتب له المنصور بصلة إلى الري، فوجه عيسى في طلبه، فلحق في طريقه، فذبح وسلخ وجهه. وقيل: قتل بعد ما انصرف من الري، وقد أخذ الجائزة. وذكر عن الوليد بْن محمد العنبري أن سبب إجابة عيسى أبا جعفر إلى تقديم المهدي عليه كان أن سلم بْن قتيبة قَالَ له: أيها الرجل بايع، وقدمه على نفسك، فإنك لن تخرج من الأمر، قد جعل لك الأمر من بعده وترضي أمير المؤمنين قَالَ: أو ترى ذلك؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فإني أفعل، فأتى سلم المنصور فأعلمه إجابة عيسى، فسر بذلك وعظم قدر سلم عنده. وبايع الناس للمهدي ولعيسى بْن موسى من بعده وخطب المنصور خطبته التي كان فيها تقديم المهدي على عيسى، وخطب عيسى بعد ذلك فقدم المهدي على نفسه، ووفى له المنصور بما كان ضمن له. وقد ذكر عن بعض صحابة أبي جعفر أنه قَالَ: تذاكرنا أمر أبي جعفر المنصور وأمر عيسى بْن موسى في البيعة وخلعه إياها من عنقه وتقديمه المهدي، فقال لي رجل من القواد سماه: والله الذي لا إله غيره، ما كان خلعه إياها منه إلا برضا من عيسى وركون منه إلى الدراهم، وقلة علمه بقدر الخلافة، وطلبا للخروج منها، أتى يوم خرج للخلع فخلع نفسه، وإني لفي مقصورة مدينة السلام، إذ خرج علينا أبو عبيد الله كاتب المهدي، في جماعة من أهل خراسان، فتكلم عيسى، فقال: إني قد سلمت ولاية العهد

لمحمد بْن أمير المؤمنين، وقدمته على نفسي، فقال أبو عبيد الله: ليس هكذا أعز الله الأمير، ولكن قل ذلك بحقه وصدقه، وأخبر بما رغبت فيه، فأعطيت، قَالَ: نعم، قد بعت نصيبي من تقدمة ولاية العهد من عبد الله أمير المؤمنين لابنه محمد المهدى بعشره آلاف الف درهم وثلاثمائه ألف بين ولدي فلان وفلان وفلان- سماهم- وسبعمائة ألف لفلانة امرأة من نسائه- سماها- بطيب نفس مني وحب، لتصييرها إليه، لأنه أولى بها وأحق، وأقوى عليها وعلى القيام بها، وليس لي فيها حق لتقدمته، قليل ولا كثير، فما ادعيته بعد يومي هذا فأنا فيه مبطل لا حق لي فيه ولا دعوى ولا طلبة قَالَ: والله وهو في ذلك، ربما نسي الشيء بعد الشيء فيوقفه عليه أبو عبيد الله، حتى فرغ، حبا للاستيثاق منه وختم الكتاب وشهد عليه الشهود وأنا حاضر، حتى وضع عليه عيسى خطه وخاتمه، والقوم جميعا، ثم دخلوا من باب المقصورة إلى القصر. قَالَ: وكسا أمير المؤمنين عيسى وابنه موسى وغيره من ولده كسوة بقيمة ألف ألف درهم ونيف ومائتي ألف درهم وكانت ولاية عيسى بْن موسى الكوفة وسوادها وما حولها ثلاث عشرة سنة، حتى عزله المنصور، واستعمل محمد بْن سليمان بْن علي حين امتنع من تقديم المهدي على نفسه. وقيل: إن المنصور إنما ولى محمد بْن سليمان الكوفة حين ولاه إياها ليستخف بعيسى، فلم يفعل ذلك محمد، ولم يزل معظما له مبجلا. وفي هذه السنة ولى أبو جعفر محمد بْن أبي العباس- ابن أخيه- البصرة فاستعفى منها فأعفاه، فانصرف عنها إلى مدينة السلام، فمات بها، فصرخت امرأته البغوم بنت على بن الربيع: وا قتيلاه! فضربها رجل من الحرس بجلويز على عجيزتها، فتعاوره خدم لمحمد بْن أبي العباس فقتلوه، فطل دمه. وكان محمد بْن أبي العباس حين شخص عن البصرة استخلف بها عقبة

ابن سلم، فأقره عليها أبو جعفر إلى سنة إحدى وخمسين ومائة. وحج بالناس في هذه السنة المنصور. وكان عامله فيها على مكة والطائف عمه عبد الصمد بْن علي وعلى المدينة جعفر بْن سليمان وعلى الكوفة وأرضها محمد بن سليمان وعلى البصره عقبه ابن سلم وعلى قضائها سوار بْن عبد الله وعلى مصر يزيد بْن حاتم

سنه ثمان واربعين ومائه

ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائة ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث فمما كان فيها من ذلك توجيه المنصور حميد بْن قحطبة إلى أرمينية لحرب الترك الذين قتلوا حرب بْن عبد الله، وعاثوا بتفليس، فسار حميد إلى أرمينية، فوجدهم قد ارتحلوا، فانصرف ولم يلق منهم أحدا. وفي هذه السنة عسكر صالح بْن علي بدابق- فيما ذكر- ولم يغز. وحج بالناس فيها جعفر بْن أبي جعفر المنصور. وكانت ولاة الأمصار في هذه السنة ولاتها فِي السنة الَّتِي قبلها

سنه تسع واربعين ومائه

ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك غزوة العباس بْن محمد الصائفة أرض الروم، ومعه الحسن بْن قحطبة ومحمد بْن الأشعث، فهلك محمد بْن الأشعث في الطريق. وفي هذه السنة استتم المنصور بناء سور مدينة بغداد، وفرغ من خندقها وجميع أمورها. وفيها شخص إلى حديثة الموصل، ثم انصرف إلى مدينة السلام. وحج في هذه السنة بالناس محمد بْن إبراهيم بْن محمد بْن علي بْن عبد الله ابن عباس. وفي هذه السنة عزل عبد الصمد بْن علي عن مكة، ووليها محمد بْن إبراهيم. وكانت عمال الأمصار في هذه السنة العمال الذين كانوا عمالها في سنة سبع وأربعين ومائة وسنة ثمان وأربعين ومائة، غير مكة والطائف، فان واليهما كان في هذه السنة محمد بْن إبراهيم بْن محمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس

سنه خمسين ومائه

ثم دخلت سنة خمسين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر خروج استاذسيس 4 فمما كان فيها من ذلك خروج أستاذسيس في أهل هراة وباذغيس وسجستان وغيرها من عامة خراسان، وساروا حتى التقوا هم وأهل مرو الروذ، فخرج إليهم الأجثم المروروذي في أهل مرو الروذ، فقاتلوه قتالا شديدا حتى قتل الأجثم، وكثر القتل في أهل مرو الروذ، وهزم عدة من القواد، منهم معاذ بْن مسلم بْن معاذ وجبرئيل بْن يحيى وحماد بْن عمرو وأبو النجم السجستاني وداود بْن كراز، فوجه المنصور وهو بالبردان خازم ابن خزيمة إلى المهدي، فولاه المهدي محاربة أستاذسيس، وضم القواد إليه. فذكر أن معاوية بْن عبيد الله وزير المهدي كان يوهن أمر خازم، والمهدي يومئذ بنيسابور، وكان معاوية يخرج الكتب إلى خازم بْن خزيمة وإلى غيره من القواد بالأمر والنهي، فاعتل خازم وهو في عسكره، فشرب الدواء ثم ركب البريد، حتى قدم على المهدي بنيسابور، فسلم عليه واستخلاه- وبحضرته أبو عبيد الله- فقال المهدي: لا عيق عليك من أبي عبيد الله، فقل ما بدا لك، فأبى خازم أن يخبره أو يكلمه، حتى قام أبو عبيد الله، فلما خلا به شكا اليه أمر معاوية بْن عبيد الله، وأخبره بعصبيته وتحامله، وما كان يرد من كتبه عليه وعلى من قبله من القواد، وما صاروا إليه بذلك من الفساد والتأمر في أنفسهم، والاستبداد بآرائهم، وقلة السمع والطاعة وأن أمر الحرب لا يستقيم إلا برأس، وألا يكون في عسكره لواء يخفق على رأس أحد إلا لواؤه أو لواء هو عقده، وأعلمه انه غير راجع الى قتال أستاذسيس ومن معه إلا بتفويض الأمر إليه وإعفائه من معاوية بْن عبيد الله، وأن يأذن

له في حل ألوية القواد الذين معه، وأن يكتب إليهم بالسمع له والطاعة. فأجابه المهدي إلى كل ما سأل. فانصرف خازم إلى عسكره، فعمل برأيه، وحل لواء من رأى حل لوائه من القواد، وعقد لواء لمن أراد، وضم إليه من كان انهزم من الجنود، فجعلهم حشوا يكثر بهم من معه في أخريات الناس، ولم يقدمهم لما في قلوب المغلوبين من روعة الهزيمة، وكان من ضم إليه من هذه الطبقة اثنين وعشرين ألفا، ثم انتخب ستة آلاف رجل من الجند، فضمهم إلى اثني عشر ألفا كانوا معه متخيرين، وكان بكار بْن مسلم العقيلي فيمن انتخب، ثم تعبأ للقتال وخندق واستعمل الهيثم بْن شعبة بْن ظهير على ميمنته، ونهار بْن حصين السعدي على ميسرته، وكان بكار بْن مسلم العقيلي على مقدمته وترار خدا على ساقته، وكان من أبناء ملوك أعاجم خراسان، وكان لواؤه مع الزبرقان وعلمه مع مولاه بسام، فمكر بهم وراوغهم في تنقله من موضع إلى موضع وخندق إلى خندق حتى قطعهم، وكان أكثرهم رجالة، ثم سار خازم إلى موضع فنزله، وخندق عليه، وأدخل خندقه جميع ما أراد، وأدخل فيها جميع أصحابه، وجعل له أربعة أبواب، وجعل على كل باب منها من أصحابه الذين انتخب، وهم أربعة آلاف، وجعل مع بكار صاحب مقدمته ألفين، تكملة الثمانية عشر ألفا وأقبل الآخرون ومعهم المروز والفؤوس والزبل، يريدون دفن الخندق ودخوله، فأتوا الخندق من الباب الذي كان عليه بكار بْن مسلم، فشدوا عليه شدة لم يكن لأصحاب بكار نهاية دون أن انهزموا حتى دخلوا عليهم الخندق. فلما رأى ذلك بكار رمى بنفسه، فترجل على باب الخندق ثم نادى أصحابه: يا بني الفواجر، من قبلي يؤتى المسلمون! فترجل من معه من عشيرته وأهله نحو من خمسين رجلا، فمنعوا بابهم حتى أجلوا القوم عنه، وأقبل إلى الباب الذي كان عليه خازم رجل كان مع أستاذسيس من أهل سجستان، يقال له الحريش، وهو الذي كان يدبر أمرهم، فلما رآه خازم

مقبلا بعث إلى الهيثم بْن شعبة، وكان في الميمنة- أن اخرج من بابك الذي أنت عليه، فخذ غير الطريق الذي يوصلك إلى الباب الذي عليه بكار، فإن القوم قد شغلوا بالقتال وبالإقبال إلينا، فإذا علوت فجزت مبلغ أبصارهم فأتهم من خلفهم وقد كانوا في تلك الأيام يتوقعون قدوم أبي عون وعمرو بن سلم ابن قتيبة من طخارستان وبعث خازم إلى بكار بْن مسلم: إذا رأيت رايات الهيثم بْن شعبة قد جاءتك من خلفك، فكبروا وقولوا: قد جاء أهل طخارستان. ففعل ذلك أهل الهيثم، وخرج خازم في القلب على الحريش السجستاني، فاجتلدوا بالسيوف جلادا شديدا، وصبر بعضهم لبعض، فبينا هم على تلك الحال إذ نظروا إلى أعلام الهيثم وأصحابه، فتنادوا فيما بينهم، وجاء أهل طخارستان، فلما نظر أصحاب الحريش إلى تلك الأعلام، ونظر من كان بإزاء بكار بْن مسلم إليها، شد عليهم أصحاب خازم فكشفوهم، ولقيهم أصحاب الهيثم، فطعنوهم بالرماح، ورموهم بالنشاب، وخرج عليهم نهار بْن حصين وأصحابه من ناحية الميسرة، وبكار بْن مسلم وأصحابه من ناحيتهم، فهزموهم ووضعوا فيهم السيوف، فقتلهم المسلمون وأكثروا، فكان من قتل منهم في تلك المعركة نحوا من سبعين ألفا، وأسروا أربعة عشر ألفا، ولجأ أستاذسيس إلى جبل في عدة من أصحابه يسيرة، فقدم خازم الأربعة عشر ألف أسير، فضرب أعناقهم، وسار حتى نزل بأستاذسيس في الجبل الذي كان لجأ إليه، ووافى خازما بذلك المكان أبو عون وعمرو بْن سلم بْن قتيبة في أصحابهما، فأنزلهم خازم ناحية، وقال: كونوا مكانكم حتى نحتاج إليكم فحصر خازم أستاذسيس وأصحابه حتى نزلوا على حكم أبي عون، ولم يرضوا إلا بذلك، فرضي بذلك خازم، فأمر أبا عون بإعطائهم أن ينزلوا على حكمه، ففعل، فلما نزلوا على حكم أبي عون حكم فيهم أن يوثق أستاذسيس وبنوه وأهل بيته بالحديد، وأن يعتق الباقون وهم ثلاثون ألفا، فأنفذ ذلك خازم من حكم أبي عون، وكسا كل رجل منهم ثوبين، وكتب

خازم بما فتح الله عليه، وأهلك عدوه إلى المهدي، فكتب بذلك المهدي إلى أمير المؤمنين المنصور. وأما محمد بْن عمر، فإنه ذكر أن خروج أستاذسيس والحريش كان في سنة خمسين ومائة، وأن أستاذسيس هزم في سنة إحدى وخمسين ومائة. وفي هذه السنة عزل المنصور جعفر بْن سليمان عن المدينة، وولاها الحسن ابن يزيد بْن حسن بْن حسن بْن علي بْن ابى طالب ص. وفيها توفي جعفر بْن أبي جعفر المنصور، الأكبر بمدينة السلام، وصلى عليه أبوه المنصور، ودفن ليلا في مقابر قريش، ولم تكن للناس في هذه السنة صائفة، قيل إن أبا جعفر كان ولى الصائفة في هذه السنة أسيدا، فلم يدخل بالناس أرض العدو، ونزل مرج دابق. وحج بالناس في هذه السنة عبد الصمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس. وكان العامل على مكة والطائف في هذه السنة عبد الصمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس- وقيل كان العامل على مكة والطائف في هذه السنة محمد ابن إبراهيم بْن محمد- وعلى المدينة الحسن بْن زيد العلوي، وعلى الكوفه محمد ابن سليمان بْن علي، وعلى البصرة عقبة بْن سلم، وعلى قضائها سوار، وعلى مصر يزيد بْن حاتم.

سنه احدى وخمسين ومائه

ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائة (ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) فمن ذلك ما كان من إغارة الكرك فيها في البحر على جدة، ذكر ذلك محمد بْن عمر. وفيها ولي عمر بْن حفص بْن عثمان بْن أبي صفرة إفريقية، وعزل عن السند وولي موضعه هشام بْن عمرو التغلبي. ذكر الخبر عن سبب عزل المنصور عمر بْن حفص عن السند وتوليته إياه إفريقيه واستعماله على السند هشام بْن عمرو وكان سبب ذلك- فيما ذكر علي بْن محمد بْن سليمان بْن علي العباسي عن أبيه- أن المنصور ولى عمر بْن حفص الصفري الذي يقال له هزار مرد السند- فأقام بها حتى خرج محمد بْن عبد الله بالمدينة وإبراهيم بالبصرة، فوجه محمد بْن عبد الله إليه ابنه عبد الله بْن محمد الذي يقال له الأشتر، في نفر من الزيدية إلى البصرة، وأمرهم أن يشتروا مهارة- خيل عتاق بها- ويمضوا بها معهم إلى السند، ليكون سببا له إلى الوصول إلى عمر بْن حفص، وإنما فعل ذلك به لأنه كان فيمن بايعه من قواد أبي جعفر، وكان له ميل إلى آل أبي طالب، فقدموا البصرة على إبراهيم بْن عبد الله، فاشتروا منها مهارة- وليس في بلاد السند والهند شيء أنفق من الخيل العتاق- ومضوا في البحر حتى صاروا إلى السند، ثم صاروا إلى عمر بْن حفص، فقالوا: نحن قوم نخاسون، ومعنا خيل عتاق، فأمرهم أن يعرضوا خيلهم، فعرضوها عليه، فلما صاروا إليه، قَالَ له بعضهم: ادنني منك أذكر لك شيئا، فأدناه منه، وقال له: إنا جئناك بما هو خير لك من الخيل، وما لك فيه

خير الدنيا والآخرة، فأعطنا الأمان على خلتين: إما أنك قبلت ما أتيناك به، وإما سترت وأمسكت عن أذانا حتى نخرج من بلادك راجعين. فأعطاهم الأمان، فقالوا: ما للخيل أتيناك، ولكن هذا ابن رسول الله ص عبد الله بْن محمد بْن عبد الله بْن حسن بْن حسن، أرسله أبوه إليك، وقد خرج بالمدينة، ودعا لنفسه بالخلافة، وخرج أخوه إبراهيم بالبصرة وغلب عليها، فقال: بالرحب والسعة، ثم بايعهم له، وأمر به فتوارى عنده، ودعا أهل بيته وقواده وكبراء أهل البلد للبيعة، فأجابوه، فقطع الأعلام البيض والأقبية البيض والقلانس البيض، وهيأ لبسته من البياض يصعد فيها إلى المنبر، وتهيأ لذلك يوم خميس، فلما كان يوم الأربعاء إذا حراقة قد وافت من البصرة، فيها رسول لخليدة بنت المعارك- امرأة عمر بْن حفص- بكتاب إليه تخبره بقتل محمد بْن عبد الله، فدخل على عبد الله فأخبره الخبر، وعزاه، ثم قَالَ له: إني كنت بايعت لأبيك، وقد جاء من الأمر ما ترى. فقال له: إن أمري قد شهر، ومكاني قد عرف، ودمي في عنقك، فانظر لنفسك أودع قَالَ: قد رأيت رأيا، هاهنا ملك من ملوك السند، عظيم المملكة، كثير التبع، وهو على شركه أشد الناس تعظيما لرسول الله ص، وهو رجل وفي، فأرسل إليه، فاعقد بينك وبينه عقدا، وأوجهك إليه تكون عنده، فلست ترام معه قَالَ: افعل ما شئت، ففعل ذلك، فصار إليه، فأظهر إكرامه وبره برا كثيرا، وتسللت إليه الزيدية حتى صار إليه منهم أربعمائة إنسان من أهل البصائر، فكان يركب فيهم فيصيد ويتنزه في هيئة الملوك وآلاتهم، فلما قتل محمد وإبراهيم انتهى خبر عبد الله الأشتر إلى المنصور، فبلغ ذلك منه، فكتب إلى عمر بْن حفص يخبره بما بلغه، فجمع عمر بْن حفص قرابته، فقرأ عليهم كتاب المنصور يخبرهم أنه إن أقر بالقصة لم ينظره المنصور أن يعزله، وإن صار إليه قتله، وإن امتنع حاربه فقال له رجل من أهل بيته: ألق الذنب علي، واكتب

إليه بخبري، وخذني الساعة فقيدني واحبسني، فإنه سيكتب: احمله إلي، فاحملني إليه، فلم يكن ليقدم علي لموضعك في السند، وحال أهل بيتك بالبصرة قَالَ: إني أخاف عليك خلاف ما تظن، قَالَ: إن قتلت أنا فنفسي فداؤك فإني سخي بها فداء لنفسك، فإن حييت فمن الله فأمر به فقيد وحبس، وكتب إلى المنصور يخبره بذلك، فكتب إليه المنصور يأمره بحمله إليه، فلما صار إليه قدمه فضرب عنقه، ثم مكث يروي من يولي السند! فأقبل يقول: فلان فلان، ثم يعرض عنه، فبينا هو يوما يسير ومعه هشام بْن عمرو التغلبي، والمنصور ينظر إليه في موكبه، إذ انصرف إلى منزله، فلما ألقى ثوبه دخل الربيع فآذنه بهشام فقال: أو لم يكن معي آنفا! قَالَ: ذكر أن له حاجة عرضت مهمة فدعا بكرسي فقعد عليه، ثم أذن له، فلما مثل بين يديه قَالَ: يا أمير المؤمنين، إني انصرفت إلى منزلي من الموكب، فلقيتني أختي فلانة بنت عمرو، فرأيت من جمالها وعقلها ودينها ما رضيتها لأمير المؤمنين، فجئت لأعرضها عليه، فأطرق المنصور، وجعل ينكت الأرض بخيزرانة في يده، وقال: أخرج يأتك أمري، فلما ولى قَالَ: يا ربيع، لولا بيت قاله جرير في بني تغلب لتزوجت أخته وهو قوله: لا تطلبن خئولة في تغلب ... فالزنج أكرم منهم أخوالا فأخاف أن تلد لي ولدا، فيعير بهذا البيت، ولكن اخرج إليه، فقل له: يقول لك أمير المؤمنين: لو كانت لك لله حاجة إلي لم أعدل عنها غير التزويج، ولو كانت لي حاجة إلى التزويج لقبلت ما أتيتني به، فجزاك الله عما عمدت له خيرا، وقد عوضتك من ذلك ولاية السند وأمره أن يكاتب ذلك الملك، فإن أطاعه وسلم إليه عبد الله بْن محمد، وإلا حاربه وكتب إلى عمر بْن حفص بولايته إفريقية فخرج هشام بْن عمرو التغلبي إلى السند

فوليها، وأقبل عمر بْن حفص يخوض البلاد حتى صار إلى إفريقية، فلما صار هشام بْن عمرو إلى السند كره أخذ عبد الله، وأقبل يري الناس أنه يكاتب الملك ويرفق به، فاتصلت الأخبار بأبي جعفر بذلك، فجعل يكتب إليه يستحثه، فبينا هو كذلك إذ خرجت خارجة ببعض بلاد السند، فوجه إليهم أخاه سفنجا، فخرج يجر الجيش وطريقه بجنبات ذلك الملك، فبينا هو يسير إذا هو برهج قد ارتفع من موكب، فظن أنه مقدمة للعدو الذي يقصد، فوجه طلائعه فرجعت، فقالت: ليس هذا عدوك الذي تريد، ولكن هذا عبد الله بْن محمد الأشتر العلوي ركب متنزها، يسير على شاطئ مهران، فمضى يريده، فقال له نصاحة: هذا ابن رسول الله ص، وقد علمت أن أخاك تركه متعمدا، مخافة أن يبوء بدمه، ولم يقصدك، إنما خرج متنزها، وخرجت تريد غيره فأعرض عنه، وقال: ما كنت لأدع أحدا يحوزه، ولا أدع أحدا يحظى بالتقرب إلى المنصور بأخذه وقتله. وكان في عشرة، فقصد قصده، وذمر أصحابه، فحمل عليه، فقاتله عبد الله وقاتل أصحابه بين يديه حتى قتل وقتلوا جميعا، فلم يفلت منهم مخبر، وسقط بين القتلى، فلم يشعر به وقيل: إن أصحابه قذفوه في مهران لما قتل، لئلا يؤخذ رأسه، فكتب هشام بْن عمرو بذلك كتاب فتح إلى المنصور، يخبره أنه قصده قصدا فكتب إليه المنصور يحمد أمره، ويأمره بمحاربة الملك الذي آواه، وذلك أن عبد الله كان اتخذ جواري، وهو بحضرة ذلك الملك، فأولد منهن واحدة محمد بْن عبد الله- وهو أبو الحسن محمد العلوي الذي يقال له ابن الأشتر- فحاربه حتى ظفر به، وغلب على مملكته وقتله، ووجه بأم ولد عبد الله وابنه إلى المنصور، فكتب المنصور إلى واليه بالمدينة، يخبره بصحة نسب الغلام، وبعث به إليه، وأمره أن يجمع آل أبي طالب، وأن يقرأ عليهم كتابه بصحة نسب الغلام، ويسلمه إلى أقربائه. وفي هذه السنة قدم على المنصور ابنه المهدي من خراسان، وذلك في

ذكر خبر بناء المنصور الرصافه

شوال منها- فوفد إليه للقائه وتهنئة المنصور بمقدمه عامة أهل بيته، من كان منهم بالشام والكوفة والبصرة وغيرها، فأجازهم وكساهم وحملهم، وفعل مثل ذلك بهم المنصور، وجعل لابنه المهدي صحابة منهم، وأجرى لكل رجل منهم خمسمائة درهم . ذكر خبر بناء المنصور الرصافه وفي هذه السنة ابتدأ المنصور ببناء الرصافة في الجانب الشرقي من مدينة السلام لابنه محمد المهدي. ذكر الخبر عن سبب بنائه ذلك له: ذكر عن أحمد بْن محمد الشروي، عن أبيه، أن المهدي لما قدم من خراسان أمره المنصور بالمقام بالجانب الشرقي، وبنى له الرصافه، وعمل لها سورا وخندقا وميدانا وبستانا، وأجرى له الماء، فكان يجري الماء من نهر المهدي إلى الرصافة. وأما خالد بْن يزيد بْن وهب بْن جرير بْن خازم، فإنه ذكر أن محمد ابن موسى بْن محمد بْن إبراهيم بْن محمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس حدثه، أن أباه حدثه، أن الراوندية لما شغبوا على أبي جعفر وحاربوه على باب الذهب، دخل عليه قثم بْن العباس بْن عبيد الله بْن العباس- وهو يومئذ شيخ كبير مقدم عند القوم- فقال له أبو جعفر: أما ترى ما نحن فيه من التياث الجند علينا! قد خفت أن تجتمع كلمتهم فيخرج هذا الأمر من أيدينا، فما ترى؟ قَالَ: يا أمير المؤمنين، عندي في هذا رأي إن أنا أظهرته لك فسد، وان تركتني امضيته، صلحت لك خلافتك، وهايك جندك. فقال له: أفتمضي في خلافتي أمرا لا تعلمني ما هو! فقال له: إن كنت عندك متهما على دولتك فلا تشاورني، وإن كنت مأمونا عليها فدعني أمضي رأيي فقال له: فأمضه قَالَ: فانصرف قثم إلى منزله، فدعا غلاما له فقال له:

إذا كان غدا فتقدمني، فاجلس في دار أمير المؤمنين، فإذا رأيتني قد دخلت وتوسطت أصحاب المراتب، فخذ بعنان بغلتي، فاستوقفني واستحلفني بحق رسول الله، وحق العباس وحق أمير المؤمنين لما وقفت لك، وسمعت مسألتك وأجبتك عنها، فإني سأنتهرك، وأغلظ لك القول، فلا يهولنك ذلك مني، وعاودني بالمسألة فإني سأشتمك، فلا يروعنك ذلك، وعاودني بالقول والمسألة، فإني سأضربك بسوطي، فلا يشق ذلك عليك، فقل لي: أي الحيين أشرف؟ اليمن أم مضر؟ فإذا أجبتك فخل عنان بغلتي وأنت حر. قَالَ: فغدا الغلام، فجلس حيث أمره من دار الخليفة، فلما جاء الشيخ فعل الغلام ما أمره به مولاه، وفعل المولى ما كان قاله له، ثم قَالَ له: قل، فقال: أي الحيين أشرف؟ اليمن أم مضر؟ قَالَ: فقال قثم: مضر كان منها رسول الله ص، وفيها كتاب الله عز وجل، وفيها بيت الله، ومنها خليفة الله قَالَ: فامتعضت اليمن إذ لم يذكر لها شيء من شرفها، فقال له قائد من قواد اليمن: ليس الأمر كذلك مطلقا بغير شرفة ولا فضيلة لليمن، ثم قَالَ لغلامه: قم فخذ بعنان بغله الشيخ، فاكبحها كبحا عنيفا تطامن به منه، قَالَ: ففعل الغلام ما أمره به مولاه حتى كاد أن يقعيها على عراقيبها، فامتعضت من ذلك مضر، فقالت: أيفعل هذا بشيخنا! فأمر رجل منهم غلامه، فقال: اقطع يد العبد، فقام إلى غلام اليماني فقطع يده، فنفر الحيان، وصرف قثم بغلته، فدخل على أبي جعفر، وافترق الجند، فصارت مضر فرقة، واليمن فرقة، والخراسانية فرقة، وربيعة فرقة، فقال قثم لأبي جعفر: قد فرقت بين جندك، وجعلتهم أحزابا كل حزب منهم يخاف أن يحدث عليك حدثا، فتضربه بالحزب الآخر، وقد بقي عليك في التدبير بقية، قَالَ: ما هي؟ قَالَ: اعبر بابنك فأنزله في ذلك الجانب قصرا، وحوله وحول معك من جيشك معه قوما

امر عقبه بن سلم

فيصير ذلك بلدا، وهذا بلدا، فإن فسد عليك أهل هذا الجانب ضربتهم بأهل ذلك الجانب، وإن فسد عليك أهل ذلك الجانب ضربتهم بأهل هذا الجانب، وإن فسدت عليك مضر ضربتها باليمن وربيعة والخراسانية، وإن فسدت عليك اليمن ضربتها بمن أطاعك من مضر وغيرها. قَالَ: فقبل أمره ورأيه، فاستوى له ملكه، وكان ذلك سبب البناء في الجانب الشرقي وفي الرصافة وإقطاع القواد هناك. قَالَ: وتولى صالح صاحب المصلى القطائع في الجانب الشرقي، ففعل كفعل أبي العباس الطوسي في فضول القطائع في الجانب الغربي، فله بباب الجسر وسوق يحيى ومسجد خضير وفي الرصافة وطريق الزواريق على دجلة مواضع بناء، بما استوهب من فضل الإقطاع عن أهله، وصالح رجل من أهل خراسان. وفي هذه السنة جدد المنصور البيعة لنفسه ولابنه محمد المهدي من بعده، ولعيسى بْن موسى من بعد المهدي على أهل بيته في مجلسه في يوم جمعة، وقد عمهم بالإذن فيه، فكان كل من بايعه منهم يقبل يده ويد المهدي، ثم يمسح على يد عيسى بْن موسى ولا يقبل يده. وغزا الصائفة في هذه السنة عبد الوهاب بْن إبراهيم بْن محمد . امر عقبه بن سلم وفيها شخص عقبة بْن سلم من البصرة واستخلف عليها ابنه نافع بْن عقبة إلى البحرين، فقتل سليمان بْن حكيم العبدي وسبى أهل البحرين، وبعث ببعض من سبى منهم وأسارى منهم إلى أبي جعفر، فقتل منهم عدة ووهب بقيتهم للمهدي، فمن عليهم وأعتقهم، وكسا كل إنسان منهم ثوبين من ثياب مرو

ثم عزل عقبة بْن سلم عن البصرة، فذكر عن إفريك- جارية أسد بْن المرزبان- أنها قالت: بعث المنصور أسد بْن المرزبان إلى عقبة بْن سلم إلى البحرين حين قتل منهم من قتل، ينظر في أمره، فمايله ولم يستقص عليه، وورى عنه، فبلغ ذلك أبا جعفر، وبلغه أنه أخذ منه مالا، فبعث إليه أبا سويد الخراساني- وكان صديق أسد- وأخاه، فلما رآه مقبلا على البريد فرح، وكان ناحية من عسكر عقبة، فتطاول له، وقال: صديقي فوقف عليه فوثب ليقوم إليه، فقال له أبو سويد بنشين بنشين، فجلس فقال له: أنت سامع مطيع؟ قَالَ: نعم، قَالَ: مد يدك، فمد يده فضربها فأطنها، ثم مد رجله، ثم مد يده ثم رجله حتى قطع الأربع، ثم قَالَ: مد عنقك فمد فضرب عنقه قالت أفريك: فأخذت رأسه فوضعته في حجري، فأخذه مني فحمله إلى المنصور فما أكلت إفريك لحما حتى ماتت. وزعم الواقدي أن أبا جعفر ولى معن بْن زائدة في هذه السنة سجستان. وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن إبراهيم بْن محمد بْن علي بْن عبد الله ابن عباس. وكان العامل على مكة والطائف محمد بن ابراهيم، وعلى المدينة الحسن ابن زيد، وعلى الكوفة محمد بْن سليمان بْن علي، وعلى البصرة جابر بْن توبة الكلابي، وعلى قضائها سوار بْن عبد الله، وعلى مصر يزيد بْن حاتم.

سنه اثنتين وخمسين ومائه

ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين ومائة (ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) فمن ذلك ما كان من قتل الخوارج فيها معن بْن زائدة الشيباني ببست سجستان. وفيها غزا حميد بْن قحطبة كابل، وكان المنصور ولاه خراسان في سنه ثنتين وخمسين ومائة وغزا- فيما ذكر- الصائفة عبد الوهاب بْن إبراهيم ولم يدرب. وقيل إن الذي غزا الصائفة في هذه السنة محمد بْن إبراهيم. وفيها عزل المنصور جابر بْن توبة عن البصرة، وولاها يزيد بْن منصور. وفيها قتل أبو جعفر هاشم بْن الأشتاخنج، وكان عصى وخالف في إفريقية، فحمل إليه هو وابن خالد المروروذي، فقتل ابن الاشتاخنج بالقادسية، وهو متوجه إلى مكة. وحج بالناس في هذه السنة المنصور، فذكر أنه شخص من مدينة السلام في شهر رمضان، ولا يعلم بشخوصه محمد بْن سليمان، وهو عامله على الكوفة يومئذ، ولا عيسى بْن موسى ولا غيرهما من أهل الكوفة حتى قرب منها. وفيها عزل يزيد بْن حاتم عن مصر ووليها محمد بْن سعيد. وكان عمال الأمصار فِي هَذِهِ السنة هم العمال في السنة الخالية إلا البصرة فإن عاملها في هذه السنة كان يزيد بْن منصور، وإلا مصر فإن عاملها كان في هذه السنة محمد بْن سعيد

سنه ثلاث وخمسين ومائه

ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك تجهيز المنصور جيشا في البحر لحرب الكرك، بعد مقدمه البصرة، منصرفا من مكة إليها بعد فراغه من حجه، وكانت الكرك أغارت على جدة، فلما قدم المنصور البصرة في هذه السنة جهز منها جيشا لحربهم، فنزل الجسر الأكبر حين قدمها- فيما ذكر وقدمته هذه البصرة القدمة الآخرة. وقيل إنه أنما قدمها القدمة الآخرة في سنة خمس وخمسين ومائة، وكانت قدمته الأولى في سنة خمس وأربعين ومائة، وأقام بها أربعين يوما، وبنى بها قصرا ثم انصرف منها إلى مدينة السلام. وفيها غضب المنصور على أبي أيوب المورياني، فحبسه وأخاه وبني أخيه: سعيدا ومسعودا ومخلدا ومحمدا، وطالبهم وكانت منازلهم المناذر، وكان سبب غضبه عليه- فيما قيل- سعي أبان بْن صدقة كاتب أبي أيوب إليه. وفي هذه السنة قتل عمر بْن حفص بْن عثمان بْن أبي صفرة بإفريقية، قتله أبو حاتم الإباضي وأبو عاد ومن كان معهما من البربر، وكانوا- فيما ذكر- ثلاثمائة ألف وخمسين ألفا، الخيل منها خمسة وثلاثون ألفا، ومعهم أبو قرة الصفري في أربعين ألفا، وكان يسلم عليه قبل ذلك بالخلافة أربعين يوما. وفيها حمل عباد مولى المنصور وهرثمة بْن أعين ويوسف بْن علوان من خراسان في سلاسل، لتعصبهم لعيسى بْن موسى. وفيها أخذ المنصور الناس بلبس القلانس الطوال المفرطة الطول، وكانوا- فيما ذكر- يحتالون لها بالقصب من داخل، فقال أبو دلامة:

وكنا نرجي من إمام زيادة ... فزاد الإمام المصطفى في القلانس تراها على هام الرجال كأنها ... دنان يهود جللت بالبرانس وفيها توفي عبيد بن بنت أبي ليلى قاضي الكوفة، فاستقضى مكانه شريك ابن عبد الله النخعي. وفيها غزا الصائفة معيوف بْن يحيى الحجوري، فصار إلى حصن من حصون الروم ليلا، وأهله نيام، فسبى وأسر من كان فيه من المقاتلة، ثم صار إلى اللاذقية المحترقة، ففتحها وأخرج منها ستة آلاف رأس من السبي سوى الرجال البالغين. وفيها ولى المنصور بكار بْن مسلم العقيلي على أرمينية. وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن أبي جعفر المهدي. وكان على مكة والطائف يومئذ محمد بْن إبراهيم، وعلى المدينة الحسن بْن زيد بْن الحسن، وعلى الكوفة محمد بْن سليمان، وعلى البصرة يزيد بْن منصور، وعلى قضائها سوار، وعلى مصر محمد بْن سعيد. وذكر الواقدي أن يزيد بْن منصور كان في هذه السنة والي اليمن من قبل أبي جعفر المنصور

سنه اربع وخمسين ومائه

ثم دخلت سنة أربع وخمسين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك خروج المنصور الى الشام ومسيره إلى بيت المقدس وتوجيهه يزيد بْن حاتم إلى إفريقية في خمسين ألفا- فيما ذكر- لحرب الخوارج الذين كانوا بها، الذين قتلوا عامله عمر بْن حفص وذكر أنه أنفق على ذلك الجيش ثلاثة وستين ألف ألف درهم. وفي هذه السنة عزم المنصور- فيما ذكر- على بناء مدينة الرافقة، فذكر عن محمد بْن جابر، عن أبيه أن أبا جعفر لما أراد بناءها، امتنع أهل الرقة، وأرادوا محاربته، وقالوا: تعطل علينا أسواقنا وتذهب بمعايشنا، وتضيق منازلنا، فهم بمحاربتهم، وبعث إلى راهب في الصومعة هنالك، فقال له: هل لك علم بأن إنسانا يبني هاهنا مدينة؟ فقال: بلغني أن رجلا يقال له مقلاص يبنيها، فقال: أنا والله مقلاص. وذكر محمد بْن عمر أن صاعقة سقطت في هذه السنة في المسجد الحرام فقتلت خمسة نفر. وفيها هلك أبو أيوب المورياني وأخوه خالد، وأمر المنصور موسى بْن دينار حاجب أبي العباس الطوسي بقطع أيدي بني أخي أبي أيوب وأرجلهم وضرب أعناقهم، وكتب بذلك إلى المهدي، ففعل ذلك موسى وأنفذ فيهم ما أمره به. وفيها ولي عبد الملك بْن ظبيان النميري على البصرة. وغزا الصائفة في هذه السنة زفر بْن عاصم الهلالي فبلغ الفرات. وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن إبراهيم، وهو عامل أبي جعفر على مكة والطائف

وكان على المدينة الحسن بْن زيد، وعلى الكوفة محمد بْن سليمان، وعلى البصرة عبد الملك بْن أيوب بْن ظبيان وعلى قضائها سوار بْن عبد الله وعلى السند هشام بن عمرو، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد ابن سعيد

سنه خمس وخمسين ومائه

ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائة (ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) فمن ذلك افتتاح يزيد بْن حاتم إفريقية وقتله أبا عاد وأبا حاتم ومن كان معهما، واستقامت بلاد المغرب، ودخل يزيد بْن حاتم القيروان. وفيها وجه المنصور ابنه المهدي لبناء مدينة الرافقة، فشخص إليها، فبناها على بناء مدينته ببغداد في أبوابها وفصولها ورحابها وشوارعها وسور سورها وخندقها، ثم انصرف إلى مدينته. وفيها- فيما ذكر محمد بْن عمر- خندق أبو جعفر على الكوفة والبصرة، وضرب عليهما سورا، وجعل ما أنفق على سور ذلك وخندقه من أموال أهله. وعزل فيها المنصور عبد الملك بْن أيوب بْن ظبيان عن البصرة، واستعمل عليها الهيثم بْن معاوية العتكي، وضم إليه سعيد بْن دعلج، وأمره ببناء سور لها يطيف بها، وخندق عليها من دون السور من أموال أهلها، ففعل ذلك. وذكر أن المنصور لما أراد الأمر ببناء سور الكوفة وبحفر خندق لها، أمر بقسمة خمسة دراهم، على أهل الكوفة، وأراد بذلك علم عددهم، فلما عرف عددهم أمر بجبايتهم أربعين درهما من كل إنسان، فجبوا، ثم أمر بإنفاق ذلك على سور الكوفة وحفر الخنادق لها، فقال شاعرهم: يا لقومى ما لقينا ... من أمير المؤمنينا قسم الخمسة فينا ... وجبانا الأربعينا وفيها طلب صاحب الروم الصلح إلى المنصور، على أن يؤدي إليه الجزية. وغزا الصائفة في هذه السنة يزيد بْن أسيد السلمي. وفيها عزل المنصور أخاه العباس بْن محمد عن الجزيرة، وغرمه مالا،

وغضب عليه وحبسه، فذكر عن بعض بني هاشم، أنه قَالَ: كان المنصور ولى العباس بْن محمد الجزيرة بعد يزيد بْن أسيد، ثم غضب عليه فلم يزل ساخطا عليه حتى غضب على بعض عمومته من ولد عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أما إسماعيل بْن علي أو غيره فاعتوره أهله وعمومته ونساؤهم يكلمونه فيه، وضيقوا عليه فرضي عنه، فقال عيسى بْن موسى: يا أمير المؤمنين، إن آل علي بْن عبد الله- وإن كانت نعمك عليهم سابغة- فإنهم يرجعون إلى الحسد لنا، فمن ذلك أنك غضبت على إسماعيل بْن علي منذ أيام، فضيقوا عليك وأنت غضبان على العباس بْن محمد، منذ كذا وكذا، فما رأيت أحدا منهم كلمك فيه قَالَ: فدعا العباس فرضي عنه. قَالَ: وقد كان يزيد بْن أسيد عند عزل العباس إياه عن الجزيرة، شكا إلى أبي جعفر العباس، وقال: يا أمير المؤمنين، إن أخاك أساء عزلي، وشتم عرضي، فقال له المنصور: اجمع بين إحساني إليك وإساءة أخي يعتدلا، فقال يزيد بْن أسيد: يا أمير المؤمنين، إذا كان إحسانكم جزاء بإساءتكم، كانت طاعتنا تفضلا منا عليكم. وفيها استعمل المنصور على حرب الجزيرة وخراجها موسى بْن كعب. وفي هذه السنة عزل المنصور عن الكوفة محمد بْن سليمان بْن علي، في قول بعضهم، واستعمل مكانه عمرو بْن زهير أخا المسيب بْن زهير. وأما عمر بْن شبة فإنه زعم أنه عزل محمد بْن سليمان عن الكوفة في سنة ثلاث وخمسين ومائة، وولاها عمرو بْن زهير الضبي أخا المسيب بْن زهير في هذه السنة قَالَ: وهو حفر الخندق بالكوفة. ذكر الخبر عن سبب عزل المنصور محمد بْن سليمان بْن علي ذكر أن محمد بْن سليمان أتي في عمله على الكوفة بعبد الكريم بْن ابى العوجاء

- وكان خال معن بْن زائدة- فأمر بحبسه قَالَ أبو زيد: فحدثني قثم بْن جعفر والحسين بْن أيوب وغيرهما أن شفعاءه كثروا بمدينة السلام، ثم ألحوا على أبي جعفر، فلم يتكلم فيه إلا ظنين، فأمر بالكتاب إلى محمد بالكف عنه إلى أن يأتيه رأيه، فكلم ابن أبي العوجاء أبا الجبار- وكان منقطعا إلى أبي جعفر ومحمد ثم إلى أبنائهما بعدهما- فقال له: إن أخرني الأمير ثلاثة أيام فله مائة ألف، ولك أنت كذا وكذا، فأعلم أبو الجبار محمدا، فقال: أذكرتنيه والله وقد كنت نسيته، فإذا انصرفت من الجمعة فأذكرنيه فلما انصرف أذكره، فدعا به وأمر بضرب عنقه، فلما أيقن أنه مقتول، قَالَ: أما والله لئن قتلتموني لقد وضعت أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال، وأحل فيها الحرام، والله لقد فطرتكم في يوم صومكم، وصومتكم في يوم فطركم، فضربت عنقه. وورد على محمد رسول أبي جعفر بكتابه: إياك أن تحدث في أمر ابن أبي العوجاء شيئا، فإنك إن فعلت فعلت بك وفعلت يتهدده فقال محمد للرسول: هذا رأس ابن أبي العوجاء وهذا بدنه مصلوبا بالكناسة، فأخبر أمير المؤمنين بما أعلمتك، فلما بلغ الرسول أبا جعفر رسالته، تغيظ عليه وأمر بالكتاب بعزله وقال: والله لهممت أن أقيده به، ثم أرسل إلى عيسى بْن علي فأتاه، فقال: هذا عملك أنت! أشرت بتولية هذا الغلام، فوليته غلاما جاهلا لا علم له بما يأتي، يقدم على رجل يقتله من غير أن يطلع رأيي فيه، ولا ينتظر أمري: وقد كتبت بعزله، وبالله لأفعلن به ولأفعلن يتهدده، فسكت عنه عيسى حتى سكن غضبه، ثم قَالَ: يا أمير المؤمنين، إن محمدا إنما قتل هذا الرجل على الزندقة، فإن كان قتله صوابا فهو لك، وإن كان خطأ فهو على محمد، والله يا أمير المؤمنين لئن عزلته على تفية ما صنع ليذهبن بالثناء والذكر، ولترجعن القالة من العامة عليك فأمر بالكتب فمزقت وأقر على عمله وقال بعضهم: إنما عزل المنصور محمد بْن سليمان عن الكوفة لأمور قبيحه

بلغته عنه، اتهمه فيها، وكان الذي أنهى ذلك إليه المساور بْن سوار الجرمي صاحب شرطه، وفي مساور يقول حماد. لحسبك من عجيب الدهر أني ... أخاف وأتقي سلطان جرم وفي هذه السنة أيضا عزل المنصور الحسن بْن زيد عن المدينة، واستعمل عليها عبد الصمد بْن علي، وجعل معه فليح بْن سليمان مشرفا عليه. وكان على مكة والطائف محمد بْن إبراهيم بْن محمد، وعلى الكوفة عمرو بْن زهير، وعلى البصرة الهيثم بْن معاوية، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد بن سعيد

سنه ست وخمسين ومائه

ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائة (ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) ذكر الخبر عن مقتل عمرو بن شداد فمن ذلك ما كان من ظفر الهيثم بْن معاوية عامل أبي جعفر على البصرة بعمرو بْن شداد عامل إبراهيم بْن عبد الله على فارس، فقتل بالبصرة وصلب. ذكر الخبر عن سبب الظفر به: ذكر عمر أن محمد بْن معروف حدثه، قَالَ: أخبرني أبي، قَالَ: ضرب عمرو بْن شداد خادما له، فأتى عامل البصرة- إما ابن دعلج، واما الهيثم ابن معاوية- فدله عليه، فأخذه فقتله وصلبه في المربد في موضع دار إسحاق ابن سليمان وكان عمرو مولى لبني جمح، فقال بعضهم: ظفر به الهيثم ابن معاوية وخرج يريد مدينة السلام، فنزل بقصر له على شاطئ نهر يعرف بنهر معقل، فأقبل بريد من عند أبي جعفر، ومعه كتاب إلى الهيثم بْن معاوية بدفع عمرو بْن شداد إليه، فدفعه الهيثم إليه، فأقدمه البصرة، ثم أتى به ناحية الرحبة، فخلا به يسائله، فلم يظفر منه بشيء يحب علمه، فقطع يديه ورجليه، وضرب عنقه وصلبه في مربد البصرة. وفي هذه السنة عزل المنصور الهيثم بْن معاوية عن البصرة وأعمالها، واستعمل سوار بْن عبد الله القاضي على الصلاة، وجمع له القضاء والصلاة وولى المنصور سعيد بْن دعلج شرط البصرة وأحداثها. وفيها توفي الهيثم بْن معاوية بعد ما عزل عن البصره فجاه بمدينة السلام، وهو على بطن جارية له، فصلى عليه المنصور، ودفن في مقابر بني هاشم. وفي هذه السنة غزا الصائفة زفر بْن عاصم الهلالي

وحج بالناس في هذه السنة العباس بْن محمد بْن علي. وكان العامل على مكة محمد بْن إبراهيم، وكان مقيما بمدينة السلام، وابنه إبراهيم بْن محمد خليفته بمكة، وكان إليه مع مكة الطائف وعلى الكوفة عمرو بْن زهير، وعلى الأحداث والجوالي والشرط وصدقات أرض العرب بالبصرة سعيد بْن دعلج، وعلى الصلاة بها والقضاء سوار بْن عبد الله، وعلى كور دجلة والأهواز وفارس عمارة بْن حمزة، وعلى كرمان والسند هشام بْن عمرو، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد بْن سعيد

سنه سبع وخمسين ومائه

ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك ابتناء المنصور قصره الذي على شاطئ دجلة، الذي يدعى الخلد، وقسم بناءه على مولاه الربيع وأبان بْن صدقة. وفيها قتل يحيى أبو زكرياء المحتسب، وقد ذكرنا قبل سبب قتله إياه. وفيها حول المنصور الأسواق من مدينة السلام إلى باب الكرخ وغيره من المواضع، وقد مضى أيضا ذكرنا سبب ذلك قبل. وفيها ولى المنصور جعفر بْن سليمان على البحرين، فلم يتم ولايته، ووجه مكانه أميرا عليها سعيد بْن دعلج، فبعث سعيد ابنه تميما عليها. وفيها عرض المنصور جنده في السلاح والخيل على عينه في مجلس اتخذه على شط دجلة دون قطربل، وأمر أهل بيته وقرابته وصحابته يومئذ بلبس السلاح، وخرج وهو لابس درعا وقلنسوة تحت البيضه سوداء لاطئة مضربه. وفيها توفي عامر بْن إسماعيل المسلي، بمدينة السلام، فصلى عليه المنصور، ودفن في مقابر بني هاشم. وفيها توفي سوار بْن عبد الله وصلى عليه ابن دعلج، واستعمل المنصور مكانه عبيد الله بْن الحسن بْن الحصين العنبري. وفيها عقد المنصور الجسر عند باب الشعير، وجرى ذلك على يد حميد القاسم الصيرفي، بأمر الربيع الحاجب. وفيها عزل محمد بْن سعيد الكاتب عن مصر، واستعمل عليها مطر مولى أبي جعفر المنصور

وفيها ولي معبد بْن الخليل السند، وعزل عنها هشام بْن عمرو، ومعبد يومئذ بخراسان، كتب إليه بولايته. وغزا الصائفة فيها يزيد بْن أسيد السلمي، ووجه سنانا مولى البطال إلى بعض الحصون، فسبى وغنم. وقال محمد بْن عمر: الذي غزا الصائفة في هذه السنة زفر بْن عاصم. وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن يحيى بْن محمد بن علي بن عبد الله ابن عباس. قَالَ محمد بْن عمر: كان على المدينة- يعني إبراهيم هذا. وقال غيره: كان على المدينة في هذه السنة عبد الصمد بْن علي، وكان على مكة والطائف محمد بْن إبراهيم، وعلى الأهواز وفارس عمارة بْن حمزة، وعلى كرمان والسند معبد بْن الخليل، وعلى مصر مطر مولى المنصور.

سنه ثمان وخمسين ومائه

ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر الخبر عن توليه خالد بن برمك الموصل فمما كان فيها من ذلك توجيه المنصور ابنه المهدي إلى الرقة وأمره إياه بعزل موسى بْن كعب عن الموصل وتولية يحيى بْن خالد بْن برمك عليها. وكان سبب ذلك- فيما ذكر الحسن بْن وهب بْن سعيد عن صالح بْن عطية- قَالَ: كان المنصور قد ألزم خالد بْن برمك ثلاثة آلاف ألف، ونذر دمه فيها، وأجله ثلاثة أيام بها، فقال خالد لابنه يحيى: يا بني، إني قد أوذيت وطولبت بما ليس عندي، وإنما يراد بذلك دمي، فانصرف إلى حرمتك وأهلك، فما كنت فاعلا بهم بعد موتي فافعله ثم قَالَ له: يا بني، لا يمنعنك ذلك من أن تلقى إخواننا، وأن تمر بعمارة بْن حمزة وصالح صاحب المصلى ومبارك التركي فتعلمهم حالنا. قَالَ: فذكر صالح بْن عطية أن يحيى حدثه، قَالَ: أتيتهم فمنهم من تجهمني وبعث بالمال سرا إلي، ومنهم من لم يأذن لي، وبعث بالمال في أثري قَالَ: واستأذنت على عمارة بْن حمزة، فدخلت عليه وهو في صحن داره، مقابل بوجهه الحائط، فما انصرف إلي بوجهه، فسلمت عليه، فرد علي ردا ضعيفا، وقال: يا بني، كيف أبوك؟ قلت: بخير، يقرأ عليك السلام ويعلمك ما قد لزمه من هذا الغرم، ويستسلفك مائة ألف درهم. قَالَ: فما رد علي قليلا ولا كثيرا، قَالَ: فضاق بي موضعي، ومادت بي الأرض قَالَ: ثم كلمته فيما أتيته له قَالَ: فقال: إن أمكنني شيء فسيأتيك، قَالَ يحيى: فانصرفت وأنا أقول في نفسي: لعن الله كل شيء يأتي

من تيهك وعجبك وكبرك! وصرت إلى أبي، فأخبرته الخبر، ثم قلت له: وأراك تثق من عمارة بْن حمزة بما لا يوثق به! قال: فو الله إني لكذلك، إذ طلع رسول عمارة بْن حمزة بالمائة ألف قَالَ: فجمعنا في يومين الفى الف وسبعمائة الف، وبقيت ثلاثمائة ألف بوجودها يتم ما سعينا له، وبتعذرها يبطل قال: فو الله إني لعلى الجسر ببغداد مارا مهموما مغموما، إذ وثب إلي زاجر، فقال: فرخ الطائر أخبرك! قَالَ: فطويته مشغول القلب عنه، فلحقني وتعلق بلجامي، وقال لي: أنت والله مهموم، وو الله ليفرجن الله همك، ولتمرن غدا في هذا الموضع واللواء بين يديك قَالَ: فأقبلت أعجب من قوله قَالَ: فقال لي: إن كان ذلك فلي عليك خمسة آلاف درهم؟ قلت: نعم- ولو قَالَ خمسون ألفا لقلت نعم، لبعد ذلك عندي من أن يكون- قَالَ: ومضيت وورد على المنصور انتقاض الموصل وانتشار الأكراد بها، فقال: من لها؟ فقال له المسيب بْن زهير- وكان صديقا لخالد بْن برمك: عندي يا أمير المؤمنين رأي، أرى انك لا تنتصحه، وانك ستلقاني بالرد، ولكني لا أدع نصحك فيه والمشورة عليك به، قَالَ: قل، فلا أستغشك، قلت: يا أمير المؤمنين ما رميتها بمثل خالد، قَالَ: ويحك! فيصلح لنا بعد ما أتينا إليه! قَالَ: نعم يا أمير المؤمنين، إنما قومته بذلك وأنا الضامن عليه، قَالَ: فهو لها والله، فليحضرني غدا فأحضر، فصفح له عن الثلثمائه ألف الباقية، وعقد له. قَالَ يحيى: ثم مررت بالزاجر، فلما رآنى قال: انا هاهنا أنتظرك منذ غدوة، قلت: امض معي، فمضى معى، فدفعت اليه الخمسة الآلاف. قَالَ: وقال لي أبي: أي بني، إن عماره تلزمه حقوق، وتنوبه نوائب فاته، فاقرئه السلام، وقل له: إن الله قد وهب لنا رأي أمير المؤمنين، وصفح لنا عما بقي علينا، وولاني الموصل، وقد أمر برد ما استسلفت منك قَالَ: فأتيته فوجدته على مثل الحال التي لقيته عليه، فسلمت فما رد

أخبار متفرقة

السلام علي، ولا زادني على أن قَالَ: كيف أبوك؟ قلت: بخير، يقول كذا وكذا، قَالَ: فاستوى جالسا، ثم قَالَ لي: ما كنت إلا قسطارا لأبيك، يأخذ مني إذا شاء، ويرد إذا شاء! قم عني لا قمت! قَالَ: فرجعت إلى أبي فأعلمته، فقال لي أبي: يا بني، هو عمارة ومن لا يعترض عليه! قَالَ: فلم يزل خالد على الموصل إلى أن توفي المنصور ويحيى على أذربيجان، فذكر عن أحمد بْن محمد بْن سوار الموصلي أنه قَالَ: ما هبنا قط أميرا هيبتنا خالد بْن برمك من غير أن تشتد عقوبته، ولا نرى منه جبرية، ولكن هيبة كانت له في صدورنا. وذكر أحمد بْن معاوية بْن بكر الباهلي، عن أبيه، قَالَ: كان أبو جعفر غضب على موسى بْن كعب- وكان عامله على الجزيرة والموصل- فوجه المهدي إلى الرقة لبناء الرافقة، وأظهر أنه يريد بيت المقدس، وأمره بالمرور والمضي على الموصل، فإذا صار بالبلد أخذ موسى بْن كعب فقيده، وولى خالد بْن برمك الموصل مكانه، ففعل المهدي ذلك، وخلف خالدا على الموصل، وشخص معه أخو خالد: الحسن وسليمان ابنا برمك، وقد كان المنصور دعا قبل ذلك يحيى بْن خالد، فقال له: قد أردتك لأمر مهم من الأمور، واخترتك لثغر من الثغور، فكن على أهبة، ولا يعلم بذلك أحد حتى أدعو بك فكتم أباه الخبر، وحضر الباب فيمن حضر، فخرج الربيع، فقال: يحيى بْن خالد! فقام فأخذ بيده، فأدخله على المنصور، فخرج على الناس وأبوه حاضر واللواء بين يديه على أذربيجان، فأمر الناس بالمضي معه، فمضوا في موكبه، وهنئوه وهنئوا أباه خالدا بولايته، فاتصل عملهما. وقال أحمد بْن معاوية: كان المنصور معجبا بيحيى، وكان يقول: ولد الناس ابنا وولد خالد أبا. [أخبار متفرقة] وفي هذه السنة نزل المنصور قصره الذي يعرف بالخلد. وفيها سخط المنصور على المسيب بْن زهير وعزله عن الشرطة، وأمر

بحبسه وتقييده، وكان سبب ذلك أنه قتل أبان بْن بشير الكاتب بالسياط، لأمر كان وجد عليه فيما كان من شركته لأخيه عمرو بْن زهير في ولاية الكوفة وخراجها، وولى مكان المسيب الحكم بْن يوسف صاحب الحرب، ثم كلم المهدي أباه في المسيب، فرضي عنه بعد حبسه إياه أياما، وأعاد إليه ما كان يلي من شرطه. وفيها وجه المنصور نصر بْن حرب التميمي واليا على ثغر فارس. وفيها سقط المنصور عن دابته بجرجرايا، فانشج ما بين حاجبيه، وذلك أنه كان خرج لما وجه ابنه المهدي إلى الرقة مشيعا له، حتى بلغ موضعا يقال له جب سماقا، ثم عدل إلى حولايا، ثم أخذ على النهروانات فانتهى- فيما ذكر- إلى بثق من النهروانات يصب إلى نهر ديالي، فأقام على سكره ثمانية عشر يوما، فأعياه، فمضى إلى جرجرايا، فخرج منها للنظر إلى ضيعة كانت لعيسى بْن علي هناك، فصرع من يومه ذلك عن برذون له ديزج، فشج في وجهه، وقدم عليه وهو بجرجرايا أسارى من ناحية عمان من الهند، بعث بهم إليه تسنيم بْن الحواري مع ابنه محمد، فهم بضرب أعناقهم، فساءلهم فأخبروه بما التبس به أمرهم عليه، فأمسك عن قتلهم وقسمهم بين قواده ونوابه. وفيها انصرف المهدي إلى مدينة السلام من الرقة فدخلها في شهر رمضان. وفيها أمر المنصور بمرمة القصر الأبيض، الذي كان كسرى بناه، وأمر أن يغرم كل من وجد في داره شيء من الآجر الخسرواني، مما نقضه من بناء الأكاسرة، وقال: هذا فيء المسلمين، فلم يتم ذلك ولا ما أمر به من مرمة القصر. وفيها غزا الصائفة معيوف بْن يحيى من درب الحدث، فلقي العدو فاقتتلوا ثم تحاجزوا

ذكر الخبر عن حبس ابن جريج وعباد بن كثير والثوري

ذكر الخبر عن حبس ابن جريج وعباد بن كثير والثوري وفي هذه السنة حبس محمد بْن إبراهيم بْن محمد بْن علي، وهو أمير مكة- فيما ذكر- بأمر المنصور إياه بحبسهم: ابن جريج وعباد بْن كثير والثوري، ثم أطلقهم من الحبس بغير إذن أبي جعفر، فغضب عليه أبو جعفر. وذكر عمر بْن شبة أن محمد بْن عمران مولى محمد بْن إبراهيم بْن محمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس حدثه عن أبيه، قَالَ: كتب المنصور الى محمد ابن إبراهيم- وهو أمير على مكة- يأمره بحبس رجل من آل علي بْن أبي طالب كان بمكة، ويحبس ابن جريج وعباد بْن كثير والثوري، قَالَ: فحبسهم، فكان له سمار يسامرونه بالليل، فلما كان وقت سمره جلس وأكب على الأرض ينظر إليها، ولم ينطق بحرف حتى تفرقوا قَالَ: فدنوت منه فقلت له: قد رأيت ما بك، فما لك؟ قَالَ: عمدت إلى ذي رحم فحبسته، وإلى عيون من عيون الناس فحبستهم، فيقدم أمير المؤمنين ولا أدري ما يكون، فلعله أن يأمر بهم فيقتلوا، فيشتد سلطانه وأهلك ديني، قَالَ: فقلت له: فتصنع ماذا؟ قَالَ: أوثر الله، وأطلق القوم، اذهب إلى إبلي فخذ راحلة منها، وخذ خمسين دينارا فأت بها الطالبي وأقرئه السلام، وقل له: إن ابن عمك يسألك أن تحلله من ترويعه إياك، وتركب هذه الراحلة، وتأخذ هذه النفقة قَالَ: فلما أحس بي جعل يتعوذ بالله من شري، فلما أبلغته قَالَ: هو في حل ولا حاجة لي إلى الراحلة ولا إلى النفقة قَالَ: قلت: إن أطيب لنفسه أن تأخذ، ففعل قَالَ: ثم جئت إلى ابن جريج وإلى سفيان بْن سعيد وعباد بْن كثير فأبلغتهم ما قَالَ، قالوا: هو في حل، قَالَ: فقلت لهم: يقول لكم: لا يظهرن أحد منكم ما دام المنصور مقيما قَالَ: فلما قرب المنصور وجهني محمد بْن إبراهيم بألطاف، فلما أخبر المنصور أن رسول محمد بْن إبراهيم قدم، أمر بالإبل فضربت وجوهها. قَالَ: فلما صار إلى بئر ميمون لقيه محمد بْن إبراهيم، فلما أخبر بذلك أمر بدوابه فضربت وجوهها، فعدل محمد، فكان يسير في ناحية قال:

ذكر الخبر عن وفاه ابى جعفر المنصور

وعدل بأبي جعفر عن الطريق في الشق الأيسر فأنيخ به، ومحمد واقف قبالته، ومعه طبيب له، فلما ركب أبو جعفر وسار، وعديله الربيع أمر محمد الطبيب فمضى إلى موضع مناخ أبي جعفر، فرأى نجوه، فقال لمحمد: رأيت نجو رجل لا تطول به الحياة، فلما دخل مكة لم يلبث أن مات وسلم محمد . ذكر الخبر عن وفاه ابى جعفر المنصور وفيها شخص أبو جعفر من مدينة السلام، متوجها إلى مكة، وذلك في شوال، فنزل- فيما ذكر- عند قصر عبدويه، فانقض في مقامه هنالك كوكب، لثلاث بقين من شوال بعد إضاءة الفجر، فبقي أثره بينا إلى طلوع الشمس، ثم مضى إلى الكوفة، فنزل الرصافة، ثم أهل منها بالحج والعمرة، وساق معه الهدي وأشعره وقلده، لأيام خلت من ذي القعدة. فلما سار منازل من الكوفة عرض له وجعه الذي توفي منه. واختلف في سبب الوجع الذي كانت منه وفاته، فذكر عن علي بْن محمد بْن سليمان النوفلي، عن أبيه، أنه كان يقول: كان المنصور لا يستمرئ طعامه، ويشكو من ذلك إلى المتطببين ويسألهم أن يتخذوا له الجوارشنات، فكانوا يكرهون ذلك ويأمرونه أن يقل من الطعام، ويخبرونه أن الجوارشنات تهضم في الحال، وتحدث من العلة ما هو أشد منه عليه، حتى قدم عليه طبيب من أطباء الهند، فقال له كما قَالَ له غيره، فكان يتخذ له سفوفا جوارشنا يابسا، فيه الأفاويه والأدوية الحارة، فكان يأخذه فيهضم طعامه فأحمده قَالَ: فقال لي أبي: قَالَ لي كثير من متطببي العراق: لا يموت والله أبو جعفر أبدا إلا بالبطن، قَالَ: قلت له: وما علمك؟ قَالَ: هو يأخذ الجوارشن فيهضم طعامه، ويخلق من زئير معدته في كل يوم شيئا، وشحم مصارينه، فيموت ببطنه وقال لي: اضرب لذلك مثلا،

أرأيت لو أنك وضعت جرا على مرفع، ووضعت تحتها آجرة جديدة فقطرت، أما كان قطرها يثقب الآجرة على طول الدهر! أو ما علمت أن لكل قطرة خدا! قَالَ: فمات والله أبو جعفر- كما قَالَ- بالبطن. وقال بعضهم: كان بدء وجعه الذي مات فيه من حر أصابه من ركوبه في الهواجر، وكان رجلا محرورا على سنه، يغلب عليه المرار الأحمر، ثم هاض بطنه، فلم يزل كذلك حتى نزل بستان ابن عامر، فاشتد به، فرحل عنه فقصر عن مكة، ونزل بئر ابن المرتفع، فأقام بها يوما وليلة، ثم صار منها إلى بئر ميمون، وهو يسأل عن دخوله الحرم، ويوصي الربيع بما يريد أن يوصيه، وتوفي بها في السحر أو مع طلوع الفجر ليلة السبت لست خلون من ذي الحجة، ولم يحضره عند وفاته إلا خدمه والربيع مولاه، فكتم الربيع موته، ومنع النساء وغيرهن من البكاء عليه والصراخ، ثم أصبح فحضر أهل بيته كما كانوا يحضرون، وجلسوا مجالسهم، فكان أول من دعي به عيسى بْن علي، فمكث ساعة، ثم أذن لعيسى بْن موسى- وقد كان فيما خلا يقدم في الإذن على عيسى بْن علي، فكان ذلك مما ارتيب به- ثم أذن للأكابر وذوي الأسنان من أهل البيت، ثم لعامتهم، فأخذ الربيع بيعتهم لأمير المؤمنين المهدي ولعيسى بْن موسى من بعده، على يد موسى بْن المهدي حتى فرغ من بيعة بني هاشم، ثم دعا بالقواد فبايعوا ولم ينكل منهم عن ذلك رجل إلا علي ابن عيسى بْن ماهان، فإنه أبى عند ذكر عيسى بْن موسى أن يبايع له، فلطمه محمد بْن سليمان، وقال: ومن هذا العلج! وأمصه، وهم بضرب عنقه، فبايع، وتتابع الناس بالبيعة وكان المسيب بْن زهير أول من استثنى في البيعة، وقال: عيسى بْن موسى: ان كان كذلك فامضوه. وخرج موسى بْن المهدي إلى مجلس العامة، فبايع من بقي من القواد والوجوه، وتوجه العباس بْن محمد ومحمد بْن سليمان إلى مكة ليبايع أهلها بها،

وكان العباس يومئذ المتكلم، فبايع الناس للمهدي بين الركن والمقام، وتفرق عدة من أهل بيت المهدي في نواحي مكة والعسكر فبايعه الناس، وأخذ في جهاز المنصور وغسله وكفنه، وتولى ذلك من أهل بيته العباس بْن محمد والربيع والريان وعدة من خدمه ومواليه، ففرغ من جهازه مع صلاة العصر، وغطى من وجهه وجميع جسده بأكفانه إلى قصاص شعره، وأبدى رأسه مكشوفا من أجل الإحرام، وخرج به أهل بيته والأخص من مواليه، وصلى عليه- فيما زعم الواقدي- عيسى بْن موسى في شعب الخوز. وقيل: إن الذي صلى عليه إبراهيم بْن يحيى بْن محمد بْن علي وقيل: إن المنصور كان أوصى بذلك، وذلك أنه كان خليفته على الصلاة بمدينة السلام. وذكر علي بْن محمد النوفلي، عن أبيه، أن إبراهيم بْن يحيى صلى عليه في المضارب قبل أن يحمل، لأن الربيع قَالَ: لا يصلي عليه أحد يطمع في الخلافة، فقدموا إبراهيم بْن يحيى- وهو يومئذ غلام حدث- ودفن في المقبرة التي عند ثنية المدنيين التي تسمى كذا، وتسمى ثنية المعلاة، لأنها بأعلى مكة، ونزل في قبره عيسى بْن علي والعباس بْن محمد وعيسى بْن موسى، والربيع والريان مولياه، ويقطين بْن موسى. واختلف في مبلغ سنه يوم توفي، فقال بعضهم: كان يوم توفي ابن أربع وستين سنة. وقال بعضهم: كان يومئذ ابن خمس وستين سنة. وقال بعضهم: كان يوم توفي ابن ثلاث وستين سنة. وقال هشام بْن الكلبي: هلك المنصور وهو ابن ثمان وستين سنة

ذكر الخبر عن صفه ابى جعفر المنصور

وقال هشام: ملك المنصور اثنتين وعشرين سنة إلا أربعة وعشرين يوما. واختلف عن أبي معشر في ذلك، فحدثني أحمد بْن ثابت الرازي عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى عنه أنه قَالَ: توفي أبو جعفر قبل يوم التروية بيوم يوم السبت، فكانت خلافته اثنتين وعشرين سنة إلا ثلاثة أيام. وروي عن ابن بكار عنه أنه قَالَ: إلا سبع ليال. وقال الواقدي: كانت ولاية أبي جعفر اثنتين وعشرين سنة إلا ستة أيام. وقال عمر بْن شبة: كانت خلافته اثنتين وعشرين سنة غير يومين. وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن يحيى بْن محمد بْن علي. وفي هذه السنة هلك طاغية الروم. ذكر الخبر عن صفة أبي جعفر المنصور ذكر أنه كان أسمر طويلا، نحيفا خفيف العارضين. وكان ولد بالحميمة. ذكر الخبر عن بعض سيره ذكر عن صالح بْن الوجيه، عن أبيه، قَالَ: بلغ المنصور أن عيسى ابن موسى قتل رجلا من ولد نصر بْن سيار، كان مستخفيا بالكوفة، فدل عليه، فضرب عنقه فأنكر ذلك وأعظمه، وهم في عيسى بأمر كان فيه هلاكه، ثم قطعه عن ذلك جهل عيسى بما فعل فكتب إليه: أما بعد، فإنه لولا نظر أمير المؤمنين واستبقاؤه لم يؤخرك عقوبة قتل ابن نصر بْن سيار واستبدادك به بما يقطع أطماع العمال في مثله، فأمسك عمن ولاك أمير المؤمنين أمره، من عربي وأعجمي، وأحمر وأسود، ولا تستبدن على أمير المؤمنين بإمضاء عقوبة في أحد قبله تباعة، فإنه لا يرى ان يأخذ

أحدا بظنة قد وضعها الله عنه بالتوبة، ولا بحدث كان منه في حرب أعقبه الله منها سلما ستر به عن ذي غلة، وحجز به عن محنة ما في الصدور، وليس ييأس أمير المؤمنين لأحد ولا لنفسه من الله من إقبال مدبر، كما أنه لا يأمن إدبار مقبل إن شاء الله والسلام. وذكر عن عباس بْن الفضل، قَالَ: حدثني يحيى بْن سليم كاتب الفضل بْن الربيع، قَالَ: لم ير في دار المنصور لهو قط، ولا شيء يشبه اللهو واللعب والعبث إلا يوما واحدا، فإنا رأينا ابنا له يقال له عبد العزيز أخا سليمان وعيسى ابنى ابى جعفر من الطلحيه، توفي وهو حدث، قد خرج على الناس متنكبا قوسا، متعمما بعمامة، مترديا ببرد، في هيئة غلام أعرابي، راكبا على قعود بين جوالقين، فيهما مقل ونعال ومساويك وما يهديه الأعراب، فعجب الناس من ذلك وأنكروه قَالَ: فمضى الغلام حتى عبر الجسر، وأتى المهدي بالرصافة فأهدى إليه ذلك، فقبل المهدي ما في الجواليق وملأهما دراهم، فانصرف بين الجوالقين، فعلم أنه ضرب من عبث الملوك. وذكر عن حماد التركي، قَالَ: كنت واقفا على رأس المنصور، فسمع جلبة في الدار، فقال: ما هذا يا حماد؟ انظر، فذهبت فإذا خادم له قد جلس بين الجواري، وهو يضرب لهن بالطنبور، وهن يضحكن، فجئت فأخبرته، فقال: وأي شيء الطنبور؟ فقلت: خشبة من حالها وأمرها. ووصفتها له، فقال لي: أصبت صفته، فما يدريك أنت ما الطنبور! قلت: رأيته بخراسان، قَالَ: نعم هناك، ثم قَالَ: هات نعلي، فأتيته بها فقام يمشي رويدا حتى أشرف عليهم فرآهم، فلما بصروا به تفرقوا، فقال: خذوه، فأخذ، فقال: اضرب به رأسه، فلم أزل أضرب به رأسه حتى كسرته، ثم قَالَ: أخرجه من قصري، واذهب به إلى حمران بالكرخ، وقل له يبيعه. وذكر العباس بْن الفضل عن سلام الأبرش، قَالَ: كنت وأنا وصيف وغلام آخر نخدم المنصور داخلا في منزله، وكانت له حجرة فيها بيت وفسطاط وفراش ولحاف يخلو فيه، وكان من أحسن الناس خلقا ما لم يخرج

إلى الناس، وأشد احتمالا لما يكون من عبث الصبيان، فإذا لبس ثيابه تغير لونه وتربد وجهه، واحمرت عيناه، فيخرج فيكون منه ما يكون، فإذا قام من مجلسه رجع بمثل ذلك، فنستقبله في ممشاه، فربما عاتبناه. وقال لي يوما: يا بنى إذا رأيتني قد لبست ثيابي أو رجعت من مجلسي، فلا يدنون مني أحد منكم مخافة أن أعره بشيء. وذكر أبو الهيثم خالد بْن يزيد بْن وهب بْن جرير بْن حازم، قَالَ: حدثني عبد الله بْن محمد- يلقب بمنقار من أهل خراسان وكان من عمال الرشيد- قَالَ: حدثني معن بْن زائدة، قال: كنا في الصحابه سبعمائة رجل، فكنا ندخل على المنصور في كل يوم، قَالَ: فقلت للربيع: اجعلني في آخر من يدخل، فقال لي: لست بأشرفهم فتكون في أولهم، ولا بأخسهم نسبا فتكون في آخرهم، وإن مرتبتك لتشبه نسبك قَالَ: فدخلت على المنصور ذات يوم وعلي دراعة فضفاضة وسيف حنفي أقرع بنعله الأرض، وعمامة قد سدلتها من خلفي وقدامي قَالَ: فسلمت عليه وخرجت، فلما صرت عند الستر صاح بي: يا معن، صيحة أنكرتها! فقلت: لبيك يا أمير المؤمنين! قَالَ: إلي، فدنوت منه، فإذا به قد نزل عن عرشه إلى الأرض، وجثا على ركبتيه، واستل عمودا من بين فراشين، واستحال لونه ودرت أوداجه، فقال: إنك لصاحبي يوم واسط، لا نجوت إن نجوت مني قَالَ: قلت يا أمير المؤمنين، تلك نصرتي لباطلهم، فكيف نصرتي لحقك! قَالَ: فقال لي: كيف قلت؟ فأعدت عليه القول، فما زال يستعيدني حتى رد العمود في مستقره، واستوى متربعا، واسفر لونه، فقال: يا معن، إن لي باليمن هنات، قلت: يا أمير المؤمنين ليس لمكتوم راى، قال: فقال: أنت صاحبي، فجلست، وأمر الربيع بإخراج كل من كان في القصر فخرج، فقال لي: إن صاحب اليمن قد هم بمعصيتي، وإني أريد أن آخذه أسيرا ولا يفوتني شيء من ماله، فما ترى؟ قَالَ: قلت: يا أمير المؤمنين، ولني اليمن، وأظهر أنك ضممتني إليه، ومر الربيع يزيح علتي في كل ما أحتاج إليه، ويخرجني من يومي هذا لئلا ينتشر الخبر قَالَ: فاستل عهدا من بين

فراشين، فوقع فيه اسمي وناولنيه، ثم دعا الربيع، فقال: يا ربيع، إنا قد ضممنا معنا إلى صاحب اليمن، فأزح علته فيما يحتاج إليه من الكراع والسلاح، ولا يمسي إلا وهو راحل ثم قَالَ: ودعني، فودعته وخرجت إلى الدهليز، فلقيني أبو الوالي، فقال: يا معن، أعزز علي أن تضم إلى ابن أخيك! قَالَ: فقلت: إنه لا غضاضة على الرجل أن يضمه سلطانه إلى ابن أخيه، فخرجت إلى اليمن فأتيت الرجل، فأخذته أسيرا، وقرأت عليه العهد، وقعدت في مجلسه. وذكر حماد بْن أحمد اليماني، قَالَ: حدثني محمد بن عمر اليماني أبو الرديني، قَالَ: أراد معن بْن زائدة أن يوفد إلى المنصور قوما يسلون سخيمته، ويستعطفون قلبه عليه، وقال: قد أفنيت عمري في طاعته، وأتعبت نفسي وأفنيت رجالي في حرب اليمن، ثم يسخط علي أن أنفقت المال في طاعته! فانتخب جماعة من عشيرته من أفناء ربيعة، فكان فيمن اختار مجاعة بْن الأزهر، فجعل يدعو الرجال واحدا واحدا، ويقول: ماذا أنت قائل لأمير المؤمنين إذا وجهتك إليه؟ فيقول: أقول وأقول، حتى جاءه مجاعه ابن الأزهر، فقال: أعز الله الأمير! تسألني عن مخاطبة رجل بالعراق وأنا باليمن! أقصد لحاجتك، حتى أتأتى لها كما يمكن وينبغي، فقال: أنت صاحبي، ثم التفت إلى عبد الرحمن بْن عتيق المزنى، فقال له: شد على عضد ابن عمك وقدمه أمامك، فإن سها عن شيء فتلافه واختار من أصحابه ثمانية نفر معهما حتى تموا عشرة، وودعهم ومضوا حتى صاروا إلى أبي جعفر، فلما صاروا بين يديه تقدموا، فابتدأ مجاعة بْن الأزهر بحمد الله والثناء عليه والشكر، حتى ظن القوم أنه إنما قصد لهذا، ثم كر على ذكر النبي ص، وكيف اختاره الله من بطون العرب، ونشر من فضله، حتى تعجب القوم، ثم كر على ذكر أمير المؤمنين المنصور، وما شرفه الله به، وما قلده، ثم كر على حاجته في ذكر صاحبه فلما انتهى كلامه، قَالَ

المنصور: أما ما وصفت من حمد الله، فالله أجل وأكبر من أن تبلغه الصفات، واما ما ذكرت من النبي ص فقد فضله الله بأكثر مما قلت، وأما ما وصفت به أمير المؤمنين، فإنه فضله الله بذلك، وهو معينه على طاعته إن شاء الله، وأما ما ذكرت من صاحبك فكذبت ولؤمت، اخرج فلا يقبل ما ذكرت قَالَ: صدق امير المؤمنين، وو الله ما كذبت في صاحبي فاخرجوا فلما صاروا إلى آخر الإيوان أمر برده مع أصحابه، فقال: ما ذكرت؟ فكر عليه الكلام، حتى كأنه كان في صحيفه يقرؤه، فقال له مثل القول الأول، فأخرجوا حتى برزوا جميعا، وأمر بهم فوقفوا، ثم التفت إلى من حضر من مضر، فقال: هل تعرفون فيكم مثل هذا؟ والله لقد تكلم حتى حسدته، وما منعني أن أتم على رده إلا أن يقال: تعصب عليه لأنه ربعي، وما رأيت كاليوم رجلا أربط جأشا، ولا أظهر بيانا، رده يا غلام فلما صار بين يديه أعاد السلام، وأعاد أصحابه، فقال له المنصور: اقصد لجاجتك وحاجة صاحبك قَالَ: يا أمير المؤمنين، معن بْن زائدة عبدك وسيفك وسهمك، رميت به عدوك، فضرب وطعن ورمى، حتى سهل ما حزن، وذل ما صعب، واستوى ما كان معوجا من اليمن، فأصبحوا من خول أمير المؤمنين أطال الله بقاءه! فإن كان في نفس أمير المؤمنين هنة من ساع أو واش أو حاسد فأمير المؤمنين أولى بالتفضل على عبده، ومن أفنى عمره في طاعته فقبل وفادتهم، وقبل العذر من معن، وأمر بصرفهم إليه، فلما صاروا إلى معن وقرأ الكتاب بالرضا قبل ما بين عينيه، وشكر اصحابه، وخلع عليهم واجازهم على اقدامهم، وأمرهم بالرحيل إلى منصور، فقال مجاعة: آليت في مجلس من وائل قسما ... ألا أبيعك يا معن بأطماع يا معن إنك قد أوليتني نعما ... عمت لجيما وخصت آل مجاع فلا أزال إليك الدهر منقطعا ... حتى يشيد بهلكي هتفه الناعي قَالَ: وكانت نعم معن على مجاعة، أنه سأله ثلاث حوائج، منها أنه كان يتعشق امرأة من أهل بيته، سيدة يقال لها زهراء لم يتزوجها أحد بعد،

وكانت إذا ذكر لها قالت: بأي شيء يتزوجني؟ أبجبته الصوف، أم بكسائه! فلما رجع إلى معن كان أول شيء سأله أن يزوجه بها، وكان أبوها في جيش معن، فقال: أريد زهراء، وأبوها في عسكرك أيها الأمير، فزوجه إياها على عشرة آلاف درهم وأمهرها من عنده فقال له معن: حاجتك الثانية، قَالَ: الحائط الذي فيه منزلي بحجر وصاحبه في عسكر الأمير، فاشتراه منه وصيره له، وقال: حاجتك الثالثة؟ قَالَ: تهب لي مالا. قَالَ: فأمر له بثلاثين ألف درهم، تمام مائة ألف درهم، وصرفه إلى منزله. وذكر عن محمد بْن سالم الخوارزمي- وكان أبوه من قواد خراسان- قَالَ: سمعت أبا الفرج خال عبد الله بْن جبلة الطالقاني يقول: سمعت أبا جعفر يقول: ما كان أحوجني إلى أن يكون على بابي أربعة نفر لا يكون على بابي أعف منهم، قيل له: يا أمير المؤمنين، من هم؟ قَالَ: هم أركان الملك، ولا يصلح الملك إلا بهم، كما أن السرير لا يصلح إلا بأربع قوائم، إن نقصت واحدة وهي، أما أحدهم فقاض لا تأخذه في الله لومة لائم، والآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي، والثالث صاحب خراج يستقصي ولا يظلم الرعية فإني عن ظلمها غني، والرابع- ثم عض على أصبعه السبابة ثلاث مرات، يقول في كل مرة: آه آه- قيل له: ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قَالَ: صاحب بريد يكتب بخبر هؤلاء على الصحة. وقيل: إن المنصور دعا بعامل من عماله قد كسر خراجه، فقال له: أد ما عليك، قَالَ: والله ما أملك شيئا، ونادى المنادي: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: يا أمير المؤمنين، هب ما علي لله ولشهاده ان لا إله إلا الله، فخلى سبيله. قَالَ: وولى المنصور رجلا من أهل الشام شيئا من الخراج، فأوصاه وتقدم إليه، فقال: ما أعرفني بما في نفسك! الساعة يا أخا أهل الشام! تخرج من عندي الساعة، فتقول: الزم الصحة، يلزمك العمل

قَالَ: وولى رجلا من أهل العراق شيئا من خراج السواد، فأوصاه، وتقدم إليه، فقال: ما أعرفني بما في نفسك! تخرج الساعة فتقول: من عال بعدها فلا اجتبر أخرج عنى وامض الى عملك، فو الله لئن تعرضت لذلك لأبلغن من عقوبتك ما تستحقه قال: فوليا جميعا وصححا وناصحا. ذكر الصباح بْن عبد الملك الشيباني، عن إسحاق بْن موسى بْن عيسى، أن المنصور ولى رجلا من العرب حضرموت، فكتب إليه وإلى البريد أنه يكثر الخروج في طلب الصيد ببزاة وكلاب قد أعدها، فعزله وكتب إليه: ثكلتك أمك وعدمتك عشيرتك! ما هذه العدة التي أعددتها للنكاية في الوحش! إنا إنما استكفيناك أمور المسلمين، ولم نستكفك أمور الوحش، سلم ما كنت تلي من عملنا إلى فلان بْن فلان، والحق بأهلك ملوما مدحورا. وذكر الربيع أنه قَالَ: أدخل على المنصور سهيل بْن سالم البصري، وقد ولي عملا فعزل، فأمر بحبسه واستئدائه، فقال سهيل: عبدك يا أمير المؤمنين، قَالَ: بئس العبد أنت! قَالَ: لكنك يا أمير المؤمنين نعم المولى! قَالَ: أما لك فلا. قَالَ: وذكر عن الفضل بْن الربيع عن أبيه، أنه قَالَ: بينا أنا قائم بين يدي المنصور أو على رأسه، إذ أتي بخارجي قد هزم له جيوشا، فأقامه ليضرب عنقه، ثم اقتحمته عينه، فقال: يا بن الفاعلة، مثلك يهزم الجيوش! فقال له الخارجي: ويلك وسوءة لك! بيني وبينك أمس السيف والقتل، واليوم القذف والسب! وما كان يؤمنك أن أرد عليك وقد يئست من الحياة فلا تستقيلها ابدا! قال: فاستحيا منه المنصور وأطلقه، فما رأى له وجها حولا. ذكر عبد الله بْن عمرو الملحي أن هارون بْن محمد بْن إسماعيل بْن موسى الهادي، قَالَ: حدثني عبد الله بْن مُحَمَّد بْن أبي أيوب المكي، عن أبيه، قَالَ: حدثني عمارة بْن حمزة، قَالَ: كنت عند المنصور، فانصرفت من عنده في وقت انتصاف النهار، وبعد أن بايع الناس للمهدي، فجاءني المهدى

في وقت انصرافي، فقال لي: قد بلغني أن أبي قد عزم أن يبايع لجعفر أخي، وأعطي الله عهدا لئن فعل لأقتلنه، فمضيت من فوري إلى أمير المؤمنين، فقلت: هذا أمر لا يؤخر، فقال الحاجب: الساعة خرجت! قلت: أمر حدث، فأذن لي، فدخلت إليه، فقال لي: هيه يا عمارة! ما جاء بك؟ قلت: أمر حدث يا أمير المؤمنين أريد أن أذكره، قَالَ: فأنا أخبرك به قبل أن تخبرني، جاءك المهدي فقال: كيت وكيت، قلت: والله يا أمير المؤمنين لكأنك حاضر ثالثنا، قَالَ: قل له: نحن أشفق عليه من أن نعرضه لك. وذكر عن أحمد بْن يوسف بْن القاسم، قَالَ: سمعت إبراهيم بْن صالح، يقول: كنا في مجلس ننتظر الإذن فيه على المنصور، فتذاكرنا الحجاج، فمنا من حمده ومنا من ذمه، فكان ممن حمده معن بْن زائدة، وممن ذمه الحسن بْن زيد، ثم أذن لنا فدخلنا على المنصور، فانبرى الحسن بْن زيد، فقال: يا أمير المؤمنين، ما كنت أحسبني أبقى حتى يذكر الحجاج في دارك وعلى بساطك، فيثنى عليه فقال أبو جعفر: وما استنكرت من ذلك! رجل استكفاه قوم فكفاهم، والله لوددت أني وجدت مثل الحجاج حتى أستكفيه أمري، وأنزله أحد الحرمين قَالَ: فقال له معن: يا أمير المؤمنين، إن لك مثل الحجاج عدة لو استكفيتهم كفوك، قَالَ: ومن هم؟ كأنك تريد نفسك! قَالَ: وإن أردتها فلم أبعد من ذلك، قَالَ: كلا لست كذاك، إن الحجاج ائتمنه قوم فأدى إليهم الأمانة، وإنا ائتمناك فخنتنا! ذكر الهيثم بْن عدي، عن أبي بكر الهذلي، قَالَ: سرت مع أمير المؤمنين المنصور إلى مكة، وسايرته يوما، فعرض لنا رجل على ناقة حمراء تذهب في الأرض، وعليه جبة خز، وعمامة عدنية، وفي يده سوط يكاد يمس الأرض، سري الهيئة، فلما رآه أمرني فدعوته، فجاء فسأله عن نسبه وبلاده وبادية قومه وعن ولاة الصدقة، فأحسن الجواب، فأعجبه ما راى منه، فقال: انشدنى، فانشده شعرا لاوس بْن حجر وغيره من الشعراء من بني عمرو بْن تميم، وحدثه حتى أتى على شعر لطريف بْن تميم العنبري، وهو قوله:

إن قناتي لنبع لا يؤيسها ... غمز الثقاف ولا دهن ولا نار متى أجر خائفا تأمن مسارحه ... وإن أخف آمنا تقلق به الدار إن الأمور إذا أوردتها صدرت ... إن الأمور لها ورد وإصدار فقال: ويحك! وما كان طريف فيكم حيث قَالَ هذا الشعر؟ قَالَ: كان أثقل العرب على عدوه وطأة وأدركهم بثأر، وأيمنهم نقيبة، وأعساهم قناة لمن رام هضمه، وأقراهم لضيفه، وأحوطهم من وراء جاره، اجتمعت العرب بعكاظ فكلهم اقر له بهذه الخلال، غير أن امرأ أراد أن يقصر به، فقال: والله ما أنت ببعيد النجعة، ولا قاصد الرمية، فدعاه ذلك إلى أن جعل على نفسه ألا يأكل إلا لحم قنص يقتنصه، ولا ينزع كل عام عن غزوة يبعد فيها أثره، قَالَ: يا أخا بني تميم، لقد أحسنت إذ وصفت صاحبك ولكني أحق ببيتيه منه، أنا الذي وصف لا هو. وذكر أحمد بْن خالد الفقيمي أن عدة من بني هاشم حدثوه أن المنصور كان شغله في صدر نهاره بالأمر والنهي والولايات والعزل وشحن الثغور والأطراف وأمن السبل والنظر في الخراج والنفقات ومصلحة معاش الرعية لطرح عالتهم والتلطف لسكونهم وهدوئهم، فإذا صلى العصر جلس لأهل بيته إلا من أحب أن يسامره، فإذا صلى العشاء الآخرة نظر فيما ورد عليه من كتب الثغور والأطراف والآفاق، وشاور سماره من ذلك فيما أرب، فإذا مضى ثلث الليل قام إلى فراشه وانصرف سماره، فإذا مضى الثلث الثاني قام من فراشه، فأسبغ وضوءه، وصف في محرابه حتى يطلع الفجر، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيجلس في إيوانه. قَالَ إسحاق: حدثت عن عبد الله بْن الربيع، قَالَ: قَالَ أبو جعفر لإسماعيل بْن عبد الله: صف لي الناس، فقال: أهل الحجاز مبتدأ الإسلام

وبقية العرب، وأهل العراق ركن الإسلام ومقاتلة عن الدين، وأهل الشام حصن الأمة وأسنة الأئمة، وأهل خراسان فرسان الهيجاء وأعنة الرجال، والترك منابت الصخور وأبناء المغازي، وأهل الهند حكماء استغنوا ببلادهم فاكتفوا بها عما يليهم، والروم أهل كتاب وتدين نحاهم الله من القرب إلى البعد، والأنباط كان ملكهم قديما فهم لكل قوم عبيد قَالَ: فأي الولاة أفضل؟ قَالَ: الباذل للعطاء، والمعرض عن السيئة قَالَ: فأيهم أخرق؟ قَالَ: أنهكهم للرعية، وأتعبهم لها بالخرق والعقوبة قَالَ: فالطاعة على الخوف أبلغ في حاجة الملك أم الطاعة على المحبة؟ قَالَ: يا أمير المؤمنين، الطاعة عند الخوف تسر الغدر وتبالغ عند المعاينة، والطاعة على المحبة تضمر الاجتهاد وتبالغ عند الغفلة قَالَ: فأي الناس أولاهم بالطاعة؟ قَالَ: أولاهم بالمضرة والمنفعة قَالَ: ما علامة ذلك؟ قَالَ: سرعة الإجابة وبذل النفس قَالَ: فمن ينبغي للملك أن يتخذه وزيرا؟ قَالَ: أسلمهم قلبا، وأبعدهم من الهوى. وذكر عن أبي عبيد الله الكاتب، قَالَ: سمعت المنصور يقول للمهدي حين عهد له بولاية العهد: يا أبا عبد الله، استدم النعمة بالشكر، والقدرة بالعفو، والطاعة بالتألف والنصر بالتواضع، ولا تنس مع نصيبك من الدنيا نصيبك من رحمة الله. وذكر الزبير بْن بكار، قَالَ: حدثني مبارك الطبري، قَالَ: سمعت أبا عبيد الله يقول: سمعت المنصور يقول للمهدي: لا تبرم أمرا حتى تفكر فيه، فإن فكر العاقل مرآته، تريه حسنه وسيئه. وذكر الزبير أيضا، عن مصعب بْن عبد الله، عن أبيه، قَالَ: سمعت أبا جعفر المنصور يقول للمهدي: يا أبا عبد الله، لا يصلح السلطان إلا بالتقوى، ولا تصلح رعيته إلا بالطاعة، ولا تعمر البلاد بمثل العدل، ولا تدوم نعمة السلطان وطاعته إلا بالمال، ولا تقدم في الحياطة بمثل نقل الأخبار

وأقدر الناس على العفو أقدرهم على العقوبة، وأعجز الناس من ظلم من هو دونه واعتبر عمل صاحبك وعلمه باختباره. وعن المبارك الطبري أنه سمع أبا عبيد الله يقول: سمعت المنصور يقول للمهدي: يا أبا عبد الله، لا تجلس مجلسا إلا ومعك من أهل العلم من يحدثك، فإن محمد بْن شهاب الزهري قَالَ: الحديث ذكر ولا يحبه إلا ذكور الرجال، ولا يبغضه إلا مؤنثوهم، وصدق أخو زهرة! وذكر عن علي بْن مجاهد بْن محمد بْن علي، أن المنصور قَالَ للمهدي: يا أبا عبد الله، من أحب الحمد أحسن السيرة، ومن أبغض الحمد أساءها، وما أبغض أحد الحمد إلا استذم، وما استذم إلا كره. وقال المبارك الطبري: سمعت أبا عبيد الله، يقول: قَالَ المنصور للمهدي: يا أبا عبد الله، ليس العاقل الذي يحتال للأمر الذي وقع فيه حتى يخرج منه، ولكنه الذي يحتال للأمر الذي غشيه حتى لا يقع فيه. وذكر الفقيمي، عن عتبة بْن هارون، قَالَ: قَالَ أبو جعفر يوما للمهدي: كم راية عندك؟ قَالَ: لا أدري، قَالَ: هذا والله التضييع، أنت لأمر الخلافة أشد تضييعا، ولكن قد جمعت لك ما لا يضرك معه ما ضيعت، فاتق الله فيما خولك. وذكر علي بْن محمد عن حفص بْن عمر بْن حماد، عن خالصة، قالت: دخلت على المنصور، فإذا هو يتشكى وجع ضرسه، فلما سمع حسي، قَالَ: ادخلي، فلما دخلت إذا هو واضع يده على صدغيه، فسكت ساعة ثم قَالَ لي: يا خالصة، كم عندك من المال؟ قلت: ألف درهم، قَالَ: ضعي يدك على رأسي واحلفي، قلت: عندي عشرة آلاف دينار، قَالَ: احمليها إلي، فرجعت فدخلت على المهدي والخيزران فأخبرتهما، فركلني المهدي برجله، وقال لي: ما ذهب بك إليه! ما به من وجع، ولكني سألته أمس مالا فتمارض، احملي إليه ما قلت، ففعلت، فلما أتاه المهدي، قَالَ:

يا أبا عبد الله، تشكو الحاجة وهذا عند خالصة! وقال علي بْن محمد: قَالَ واضح مولى أبي جعفر، قَالَ: قَالَ أبو جعفر يوما: انظر ما عندك من الثياب الخلقان فاجمعها، فإذا علمت بمجيء أبي عبد الله فجئني بها قبل أن يدخل، وليكن معها رقاع ففعلت، ودخل عليه المهدي وهو يقدر الرقاع، فضحك وقال: يا أمير المؤمنين، من هاهنا يقول الناس: نظروا في الدينار والدرهم وما دون ذلك- ولم يقل: دانق- فقال المنصور: إنه لا جديد لمن لا يصلح خلقه، هذا الشتاء قد حضر، ونحتاج إلى كسوة للعيال والولد قَالَ: فقال المهدي: فعلي كسوة أمير المؤمنين وعياله وولده، فقال له: دونك فافعل. وذكر علي بْن مرثد أبو دعامة الشاعر، أن أشجع بْن عمرو السلمي حدثه عن المؤمل بْن أميل- وذكره أيضا عبد الله بْن الحسن الخوارزمي أن أبا قدامة حدثه أن المؤمل بْن أميل حدثه- قَالَ: قدمت على المهدي- قَالَ ابن مرثد في خبره: وهو ولي عهد، وقال الخوارزمي: قدمت عليه الري وهو ولي عهد- فأمر لي بعشرين ألف درهم لأبيات امتدحته بها، فكتب بذلك صاحب البريد إلى المنصور وهو بمدينة السلام يخبره أن المهدي أمر لشاعر بعشرين ألف درهم فكتب إليه المنصور يعذله ويلومه، ويقول له: إنما كان ينبغي لك أن تعطي الشاعر بعد أن يقيم ببابك سنة أربعة آلاف درهم قَالَ أبو قدامة: فكتب إلي كاتب المهدي أن يوجه إليه بالشاعر، فطلب فلم يقدر عليه، فكتب إليه أنه قد توجه إلى مدينة السلام، فوجه المنصور قائدا من قواده، فأجلسه على جسر النهروان، وأمره أن يتصفح الناس رجلا رجلا ممن يمر به، حتى يظفر بالمؤمل، فلما رآه قَالَ له: من أنت؟ قَالَ: أنا المؤمل بْن أميل، من زوار الأمير المهدي، قَالَ: إياك طلبت قَالَ المؤمل: فكاد قلبي ينصدع خوفا من أبي جعفر، فقبض علي ثم أتى بي باب المقصورة، وأسلمني إلى الربيع، فدخل إليه الربيع، فقال: هذا الشاعر قد ظفرنا به، فقال: أدخلوه علي، فأدخلت عليه، فسلمت فرد علي السلام، فقلت: ليس هاهنا إلا خير، قَالَ: أنت المؤمل بْن أميل؟

قلت: نعم أصلح الله أمير المؤمنين! قَالَ: هيه! اتيت غلاما غرا فخدعته! قَالَ: فقلت: نعم أصلح الله أمير المؤمنين، أتيت غلاما غرا كريما فخدعته فانخدع، قَالَ: فكأن ذلك أعجبه، فقال: أنشدني ما قلت فيه، فأنشدته: هو المهدي إلا أن فيه ... مشابه صورة القمر المنير تشابه ذا وذا فهما إذا ما ... أنارا مشكلان على البصير فهذا في الظلام سراج ليل ... وهذا في النهار سراج نور ولكن فضل الرحمن هذا ... على ذا بالمنابر والسرير وبالملك العزيز فذا أمير ... وماذا بالأمير ولا الوزير ونقص الشهر يخمد ذا، وهذا ... منير عند نقصان الشهور فيا بن خليفة الله المصفى ... به تعلو مفاخرة الفخور لئن فت الملوك وقد توافوا ... إليك من السهولة والوعور لقد سبق الملوك أبوك حتى ... بقوا من بين كاب أو حسير وجئت وراءه تجري حثيثا ... وما بك حين تجري من فتور فقال الناس: ما هذان إلا ... بمنزلة الخليق من الجدير لئن سبق الكبير فأهل سبق ... له فضل الكبير على الصغير وإن بلغ الصغير مدى كبير ... لقد خلق الصغير من الكبير فقال: والله لقد أحسنت، ولكن هذا لا يساوي عشرين ألف درهم. وقال لي: أين المال؟ قلت: ها هو ذا، قَالَ: يا ربيع انزل معه فأعطه أربعة آلاف درهم، وخذ منه الباقي قَالَ، فخرج الربيع فحط ثقلي، ووزن لي أربعة آلاف درهم وأخذ الباقي قَالَ: فلما صارت الخلافة إلى المهدي، ولى ابن ثوبان المظالم، فكان يجلس للناس بالرصافة فإذا ملأ كساءه رقاعا رفعها إلى المهدي، فرفعت إليه يوما رقعة أذكره قصتي، فلما دخل بها ابن

ثوبان، جعل المهدي ينظر في الرقاع، حتى إذا نظر في رقعتي ضحك، فقال له ابن ثوبان: أصلح الله أمير المؤمنين! ما رأيتك ضحكت من شيء من هذه الرقاع إلا من هذه الرقعة! قَالَ: هذه رقعة أعرف سببها، ردوا إليه العشرين الألف الدرهم، فردت إلي وانصرفت وذكر واضح مولى المنصور، قَالَ: إني لواقف على رأس أبي جعفر يوما إذ دخل عليه المهدي، وعليه قباء أسود جديد، فسلم وجلس، ثم قام منصرفا وأتبعه أبو جعفر بصره لحبه له وإعجابه به، فلما توسط الرواق عثر بسيفه فتخرق سواده، فقام ومضى لوجهه غير مكترث لذلك ولا حافل به، فقال أبو جعفر: ردوا أبا عبد الله، فرددناه إليه، فقال: يا أبا عبد الله، استقلالا للمواهب، أم بطرا للنعمة، أم قلة علم بموضع المصيبة! كأنك جاهل بما لك وعليك! وهذا الذي أنت فيه عطاء من الله، إن شكرته عليه زادك، فإن عرفت موضع البلاء منه فيه عافاك فقال المهدي: لا أعدمنا الله بقاءك يا أمير المؤمنين وإرشادك، والحمد لله على نعمه، وأسأل الله الشكر على مواهبه، والخلف الجميل برحمته ثم انصرف. قَالَ العباس بْن الوليد بْن مزيد: قَالَ: سمعت ناعم بْن مزيد، يذكر عن الوضين بْن عطاء، قَالَ: استزارني أبو جعفر- وكانت بيني وبينه خلالة قبل الخلافة- فصرت إلى مدينة السلام، فخلونا يوما، فقال لي: يا أبا عبد الله، ما مالك؟ قلت: الخبر الذي يعرفه أمير المؤمنين، قَالَ: وما عيالك؟ قلت: ثلاث بنات والمرأة وخادم لهن، قَالَ: فقال لي: أربع في بيتك؟ قلت: نعم، قال: فو الله لردد علي حتى ظننت أنه سيمولني، قَالَ: ثم رفع رأسه إلي، فقال: أنت أيسر العرب، اربعه مغازل يدرن في بيتك

وذكر بشر المنجم، قَالَ: دعاني أبو جعفر يوما عند المغرب، فبعثني في بعض الأمر، فلما رجعت رفع ناحية مصلاه فإذا دينار، فقال لي: خذ هذا واحتفظ به، قَالَ: فهو عندي إلى الساعة. وذكر أبو الجهم بْن عطية، قَالَ: حدثني أبو مقاتل الخراساني، ورفع غلام له إلى أبي جعفر أن له عشرة آلاف درهم، فأخذها منه، وقال: هذا مالي، قَالَ: ومن اين يكون مالك! فو الله ما وليت لك عملا قط، ولا بيني وبينك رحم ولا قرابة، قَالَ: بلى، كنت تزوجت مولاه لعيينه بن موسى ابن كعب فورثتك مالا، وكان ذلك قد عصي وأخذ مالي وهو وال على السند، فهذا المال من ذلك المال! وذكر مصعب بْن سلام، عن أبي حارثة النهدي صاحب بيت المال، قَالَ: ولى أبو جعفر رجلا باروسما، فلما انصرف أراد أن يتعلل عليه، لئلا يعطيه شيئا، فقال له: أشركتك في أمانتي، ووليتك فيئا من فيء المسلمين فخنته! فقال: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين، ما صحبني من ذلك شيء إلا درهم، منه مثقال صررته في كمي، إذا خرجت من عندك اكتريت به بغلا إلى عيالي، فأدخل بيتي ليس معي شيء من مال الله ولا مالك فقال: ما أظنك إلا صادقا، هلم درهمنا فأخذه منه فوضعه تحت لبده؟ فقال: ما مثلي ومثلك إلا مثل مجير أم عامر، قَالَ: وما مجير أم عامر، فذكر قصة الضبع ومجيرها، قَالَ: وإنما غالظه أبو جعفر لئلا يعطيه شيئا. وذكر عن هشام بْن محمد أن قثم بْن العباس دخل على أبي جعفر، فكلمه في حاجة، فقال له أبو جعفر: دعني من حاجتك هذه، أخبرني لم سميت قثم؟ قَالَ: لا والله يا أمير المؤمنين ما أدري، قَالَ: القثم الذي يأكل ويزل، أما سمعت قول الشاعر: وللكبراء أكل كيف شاءوا ... وللصغراء أكل واقتثام

وذكر عن إبراهيم بْن عيسى أن المنصور وهب لمحمد بْن سليمان عشرين ألف درهم ولجعفر أخيه عشرة آلاف درهم، فقال جعفر: يا أمير المؤمنين، تفضله علي وأنا أسن منه! قَالَ: وأنت مثله! إنا لا نلتفت إلى ناحية إلا وجدنا من أثر محمد فيها شيئا، وفي منزلنا من هداياه بقية، وأنت لم تفعل من هذا شيئا. وذكر عن سوادة بْن عمرو السلمي، عن عبد الملك بْن عطاء- وكان في صحابة المنصور- قَالَ: سمعت ابن هبيرة وهو يقول في مجلسه: ما رأيت رجلا قط في حرب، ولا سمعت به في سلم، أمكر ولا أبدع، ولا أشد تيقظا من المنصور، لقد حصرني في مدينتي تسعة أشهر، ومعي فرسان العرب، فجهدنا كل الجهد أن ننال من عسكره شيئا نكسره به، فما تهيأ، ولقد حصرني وما في رأسي بيضاء، فخرجت إليه وما في رأسي سوداء، وإنه لكما قَالَ الأعشى: يقوم على الرغم من قومه ... فيعفو إذا شاء أو ينتقم أخو الحرب لا ضرع واهن ... ولم ينتعل بنعال خذم وذكر إبراهيم بْن عبد الرحمن أن أبا جعفر كان نازلا على رجل يقال له أزهر السمان- وليس بالمحدث- وذلك قبل خلافته، فلما ولي الخلافة صار إليه إلى مدينة السلام، فأدخل عليه، فقال: حاجتك؟ قَالَ: يا أمير المؤمنين، علي دين أربعة آلاف درهم، وداري مستهدمة، وابني محمد يريد البناء بأهله، فأمر له باثني عشر ألف درهم، ثم قَالَ: يا أزهر، لا تأتنا طالب حاجة، قَالَ: أفعل فلما كان بعد قليل عاد، فقال: يا أزهر، ما جاء بك؟ قَالَ: جئت مسلما يا أمير المؤمنين، قَالَ: إنه ليقع في نفسي أشياء، منها أنك أتيتنا لما أتيتنا له في المرة الأولى، فأمر له باثني عشر ألف درهم أخرى، ثم قَالَ: يا أزهر، لا تأتنا طالب حاجة ولا مسلما، قَالَ: نعم يا أمير المؤمنين، ثم لم يلبث أن عاد، فقال: يا أزهر، ما جاء بك؟ قَالَ:

دعاء سمعته منك أحببت أن آخذه عنك، قال: لا ترده، فإنه غير مستجاب، لأني قد دعوت الله به ان يريحني من خلفتك فلم يفعل، وصرفه ولم يعطه شيئا. وذكر الهيثم بن عدى ان ابن عياش حدثه أن ابن هبيرة أرسل إلى المنصور وهو محصور بواسط، والمنصور بإزائه: إني خارج يوم كذا وكذا وداعيك إلى المبارزة، فقد بلغنى تجبينك إياي، فكتب اليه: يا بن هبيرة، انك امرؤ متعد طورك، جار في عنان غيك، يعدك الله ما هو مصدقه، ويمنيك الشيطان ما هو مكذبه، ويقرب ما الله مباعده، فرويدا يتم الكتاب أجله، وقد ضربت مثلي ومثلك، بلغني أن أسدا لقي خنزيرا، فقال له الخنزير: قاتلني، فقال الأسد: إنما أنت خنزير ولست لي بكفء ولا نظير، ومتى فعلت الذي دعوتني إليه فقتلتك، قيل لي: قتلت خنزيرا، فلم أعتقد بذلك فخرا ولا ذكرا، وإن نالني منك شيء كان سبة علي، فقال: إن أنت لم تفعل رجعت إلى السباع فأعلمتها أنك نكلت عني وجبنت عن قتالي، فقال الأسد: احتمال عار كذبك أيسر علي من لطخ شاربي بدمك. وذكر عن محمد بْن رياح الجوهري، قَالَ: ذكر لأبي جعفر تدبير هشام بْن عبد الملك في حرب كانت له، فبعث إلى رجل كان معه ينزل الرصافة- رصافة هشام- يسأله عن ذلك الحرب، فقدم عليه فقال: أنت صاحب هشام؟ قَالَ: نعم يا أمير المؤمنين، قَالَ: فأخبرني كيف فعل في حرب دبرها في سنة كذا وكذا؟ قَالَ: إنه فعل فيها رحمه الله كذا وكذا، ثم أتبع بأن قَالَ: فعل كذا رضي الله عنه، فأحفظ ذلك المنصور، فقال: قم عليك غضب الله! تطأ بساطي وتترحم على عدوي! فقام الشيخ، وهو يقول: إن لعدوك قلادة في عنقي ومنة في رقبتي لا ينزعها عني إلا غاسلي، فأمر المنصور برده، وقال: اقعد، هيه! كيف قلت؟ فقلت: إنه كفاني الطلب، وصان وجهي عن السؤال، فلم أقف على باب عربي ولا أعجمي منذ رأيته، أفلا

يجب علي أن أذكره بخير وأتبعه بثنائي! فقال: بلى، لله أم نهضت عنك، وليلة أدتك، أشهد أنك نهيض حرة وغراس كريم، ثم استمع منه وأمر له ببر، فقال: يا أمير المؤمنين، ما آخذه لحاجة، وما هو إلا أني أتشرف بحبائك، وأتبجح بصلتك فأخذ الصلة وخرج، فقال المنصور: عند مثل هذا تحسن الصنيعة، ويوضع المعروف، ويجاد بالمصون، وأين في عسكرنا مثله! وذكر عن حفص بْن غياث، عن ابن عياش، قَالَ: كان أهل الكوفة لا تزال الجماعة منهم قد طعنوا على عاملهم، وتظلموا على أميرهم، وتكلموا كلاما فيه طعن على سلطانهم، فرفع ذلك في الخبر، فقال للربيع: أخرج إلي من بالباب من أهل الكوفة، فقل لهم: إن أمير المؤمنين يقول لكم لئن اجتمع اثنان منكم في موضع لأحلقن رءوسهما ولحاهما، ولأضربن ظهورهما، فالزموا منازلكم، وابقوا على أنفسكم فخرج إليهم الربيع بهذه الرسالة فقال له ابن عياش: يا شبه عيسى بن مريم، أبلغ أمير المؤمنين عنا كما أبلغتنا عنه، فقل له: والله يا أمير المؤمنين ما لنا بالضرب طاقة، فأما حلق اللحى فإذا شئت- وكان ابن عياش منتوفا- فأبلغه، فضحك، وقال: قاتله الله ما أدهاه وأخبثه! وقال موسى بْن صالح: حدثني محمد بْن عقبة الصيداوي عن نصر بْن حرب- وكان في حرس أبي جعفر- قَالَ: رفع إلي رجل قد جيء به من بعض الآفاق، قد سعى في فساد الدولة، فأدخلته على أبي جعفر، فلما رآه قَالَ: أصبغ! قَالَ: نعم يا أمير المؤمنين، قَالَ: ويلك! أما أعتقتك وأحسنت إليك! قَالَ: بلى، قَالَ: فسعيت في نقض دولتي وإفساد ملكي! قَالَ: أخطأت وأمير المؤمنين أولى بالعفو قَالَ: فدعا أبو جعفر عمارة- وكان حاضرا- فقال: يا عمارة، هذا أصبغ، فجعل يتثبت في وجهي، وكأن في عينيه سوءا، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، قَالَ: علي بكيس عطائي، فأتي بكيس فيه خمسمائة درهم، فقال: خذها فإنها وضح، ويلك، وعليك

بعملك- واشار بيده يحركها- قال عمارة: فقلت لأصبغ: ما كان عنى أمير المؤمنين؟ قَالَ: كنت وأنا غلام أعمل الحبال، فكان يأكل من كسبي. قَالَ نصر: ثم أتي به ثانية، فأدخلته كما أدخلته قبل، فلما وقف بين يديه أحد النظر إليه، ثم قَالَ: أصبغ! فقال: نعم يا أمير المؤمنين، قَالَ: فقص عليه ما فعل به، وذكره إياه، فأقر به، وقال: الحمق يا أمير المؤمنين، فقدمه فضرب عنقه. وذكر علي بْن محمد بْن سليمان النوفلي، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: كان خضاب المنصور زعفرانيا، وذلك أن شعره كان لينا لا يقبل الخضاب، وكانت لحيته رقيقة، فكنت أراه على المنبر يخطب ويبكي فيسرع الدمع على لحيته حتى تكف لقلة الشعر ولينه. وذكر إبراهيم بْن عبد السلام، ابن أخي السندي بْن شاهك السندي، قَالَ: ظفر المنصور برجل من كبراء بني أمية، فقال: إني أسألك عن أشياء فاصدقني ولك الأمان، قَالَ: نعم، فقال له المنصور: من أين أتي بنو أمية حتى انتشر امرهم؟ قال: من تضييع الاخبار، وقال: فأي الأموال وجدوها أنفع؟ قَالَ: الجوهر، قَالَ فعند من وجدوا الوفاء؟ قَالَ: عند مواليهم، قَالَ: فأراد المنصور أن يستعين في الأخبار بأهل بيته، ثم قَالَ: أضع من أقدارهم، فاستعان بمواليه. وذكر علي بْن محمد الهاشمي أن أباه محمد بْن سليمان حدثه، قَالَ: بلغني أن المنصور أخذ الدواء في يوم شات شديد البرد، فأتيته أسأله عن موافقة الدواء له، فأدخلت مدخلا من القصر لم أدخله قط، ثم صرت إلى حجيرة صغيرة، وفيها بيت واحد ورواق بين يديه في عرض البيت وعرض الصحن، على أسطوانة ساج، وقد سدل على وجه الرواق بواري كما يصنع بالمساجد، فدخلت فإذا في البيت مسح ليس فيه شيء غيره إلا فراشه ومرافقه ودثاره، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا بيت أربأ بك عنه، فقال: يا عم، هذا

بيت مبيتي، قلت: ليس هنا غير هذا الذي أرى، قَالَ: ما هو إلا ما ترى. قَالَ: وسمعته يقول عمن حدثه، عن جعفر بْن محمد، قَالَ: قيل إن أبا جعفر يعرف بلباس جبة هروية مرقوعة، وأنه يرقع قميصه، فقال جعفر: الحمد لله الذي لطف له حتى ابتلاه بفقر نفسه- أو قَالَ: بالفقر في ملكه. قَالَ: وحدثني أبي، قَالَ: كان المنصور لا يولي أحدا ثم يعزله إلا ألقاه في دار خالد البطين- وكان منزل خالد على شاطئ دجلة، ملاصقا لدار صالح المسكين- فيستخرج من المعزول مالا، فما أخذ من شيء أمر به فعزل، وكتب عليه اسم من أخذ منه، وعزل في بيت مال، وسماه بيت مال المظالم، فكثر ما في ذلك البيت من المال والمتاع ثم قَالَ للمهدي: إني قد هيأت لك شيئا ترضي به الخلق ولا تغرم من مالك شيئا، فإذا أنا مت فادع هؤلاء الذين أخذت منهم هذه الأموال التي سميتها المظالم، فاردد عليهم كل ما أخذ منهم، فإنك تستحمد إليهم وإلى العامة، ففعل ذلك المهدي لما ولي. قَالَ علي بْن محمد: فكان المنصور ولى محمد بْن عبيد الله بْن محمد بْن سليمان بْن محمد بْن عبد المطلب بْن ربيعة بْن الحارث البلقاء، ثم عزله، وأمر أن يحمل إليه مع مال وجد عنده، فحمل إليه على البريد، وألفي معه ألفا دينار، فحملت مع ثقله على البريد- وكان مصلى سوسنجرد ومضربة ومرفقة ووسادتين وطستا وإبريقا وأشناندانه نحاس- فوجد ذلك مجموعا كهيئته، إلا أن المتاع قد تاكل، فاخذ الفى الدينار، واستحيا أن يخرج ذلك المتاع، وقال: لا أعرفه، فتركه، ثم ولاه المهدي بعد ذلك اليمن، وولى الرشيد ابنه الملقب ربرا المدينة. وذكر أحمد بْن الهيثم بْن جعفر بْن سليمان بن على، قال: حدثنى صباح ابن خاقان، قَالَ: كنت عند المنصور حين أتي برأس ابراهيم بن عبد الله ابن حسن، فوضع بين يديه في ترس، فأكب عليه بعض السيافة، فبصق في وجهه، فنظر إليه أبو جعفر نظرا شديدا، وقال لي: دق أنفه، قَالَ: فضربت أنفه بالعمود ضربة لو طلب له أنف بألف دينار ما وجد، وأخذته

أعمدة الحرس، فما زال يهشم بها حتى خمد، ثم جر برجله قَالَ الأصمعي: حدثني جعفر بْن سليمان، قَالَ: قدم أشعب أيام أبي جعفر بغداد، فأطاف به فتيان بني هاشم فغناهم، فإذا ألحانه طربة وحلقه على حاله، فقال له جعفر: لمن هذا الشعر؟ لمن طلل بذات الجيش أمسى دارسا خلقا ... علون بظاهر البيداء فالمحزون قد قلقا فقال: أخذت الغناء من معبد، ولقد كنت آخذ عنه اللحن، فإذا سئل عنه قَالَ: عليكم بأشعب، فإنه أحسن تأدية له مني. قَالَ الأصمعي: وقال جعفر بْن سليمان: قَالَ أشعب لابنه عبيدة: إني أراني سأخرجك من منزلي وأنتفي منك، قَالَ: ولم يا أبه؟ قَالَ: لأني أكسب خلق الله لرغيف، وأنت ابني قد بلغت هذا المبلغ من السن، وأنت في عيالي ما تكسب شيئا، قَالَ: بلى والله، إني لأكسب، ولكن مثل الموزة لا تحمل حتى تموت أمها. وذكر علي بْن محمد بْن سليمان الهاشمي، أن أباه محمدا حدثه أن الأكاسرة كان يطين لها في الصيف سقف بيت في كل يوم، فتكون قائلة الملك فيه، وكان يؤتى بأطنان القصب والخلاف طوالا غلاظا، فترصف حول البيت ويؤتى بقطع الثلج العظام فتجعل ما بين أضعافها، وكانت بنو أمية تفعل ذلك، وكان أول من اتخذ الخيش المنصور. وذكر بعضهم: أن المنصور كان يطين له في أول خلافته بيت في الصيف يقيل فيه، فاتخذ له أبو أيوب الخوزي ثيابا كثيفة تبل وتوضع على سبايك، فيجد بردها، فاستظرفها، وقال: ما أحسب هذه الثياب أن اتخذت أكثف من هذه إلا حملت من الماء أكثر مما تحمل، وكانت أبرد، فاتخذ

له الخيش، فكان ينصب على قبة، ثم اتخذ الخلفاء بعده الشرائج، واتخذها الناس. وقال علي بْن محمد عن أبيه: أن رجلا من الراوندية كان يقال له الأبلق، وكان أبرص، فتكلم بالغلو، ودعا بالراوندية إليه، فزعم ان الروح التي كانت في عيسى بن مريم صارت في علي بْن أبي طالب، ثم في الأئمة، في واحد بعد واحد إلى إبراهيم بْن محمد، وأنهم آلهة، واستحلوا الحرمات، فكان الرجل منهم يدعو الجماعة منهم إلى منزله فيطعمهم ويسقيهم ويحملهم على امرأته، فبلغ ذلك أسد بْن عبد الله، فقتلهم وصلبهم، فلم يزل ذلك فيهم إلى اليوم، فعبدوا أبا جعفر المنصور وصعدوا إلى الخضراء، فألقوا أنفسهم، كأنهم يطيرون، وخرج جماعتهم على الناس بالسلاح، فأقبلوا يصيحون بأبي جعفر: أنت أنت! قَالَ: فخرج إليهم بنفسه، فقاتلهم فأقبلوا يقولون وهم يقاتلون: أنت أنت قَالَ: فحكي لنا عن بعض مشيختنا أنه نظر إلى جماعة الراوندية يرمون أنفسهم من الخضراء كأنهم يطيرون، فلا يبلغ أحدهم الأرض إلا وقد تفتت، وخرجت روحه. قَالَ أحمد بْن ثابت مولى محمد بْن سليمان بْن علي عن ابيه: ان عبد الله ابن علي، لما توارى من المنصور بالبصرة عند سليمان بْن علي أشرف يوما ومعه بعض مواليه ومولى لسليمان بْن علي، فنظر إلى رجل له جمال وكمال، يمشي التخاجي، ويجر أثوابه من الخيلاء، فالتفت إلى مولى لسليمان بْن علي، فقال: من هذا؟ قَالَ له: فلان ابن فلان الأموي، فاستشاط غضبا وصفق بيديه عجبا، وقال: ان طريقنا لنبك بعد، يا فلان- لمولى له- انزل فأتني برأسه، وتمثل قول سديف: علام، وفيم نترك عبد شمس ... لها في كل راعية ثغاء! فما بالرمس في حران منها ... ولو قتلت بأجمعها وفاء

وذكر علي بْن محمد المدائني أنه قدم على أبي جعفر المنصور- بعد انهزام عبد الله بْن علي وظفر المنصور به، وحبسه إياه ببغداد- وفد من أهل الشام فيهم الحارث بْن عبد الرحمن، فقام عدة منهم فتكلموا، ثم قام الحارث ابن عبد الرحمن، فقال أصلح الله أمير المؤمنين! إنا لسنا وفد مباهاة، ولكنا وفد توبة، وإنا ابتلينا بفتنة استفزت كريمنا، واستخفت حليمنا، فنحن بما قدمنا معترفون، ومما سلف منا معتذرون، فان تعاقبنا فيما أجرمنا، وإن تعف عنا فبفضلك علينا، فاصفح عنا إذ ملكت، وامنن إذ قدرت، وأحسن إذ ظفرت، فطالما أحسنت! قَالَ أبو جعفر: قد فعلت. وذكر عن الهيثم بْن عدي عن زيد مولى عيسى بْن نهيك، قَالَ: دعاني المنصور بعد موت مولاي، فقال: يا زيد، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قَالَ: كم خلف أبو زيد من المال؟ قلت: ألف دينار أو نحوها، قَالَ: فأين هي؟ قلت: أنفقتها الحرة في مأتمه قَالَ: فاستعظم ذلك، وقال: أنفقت الحرة في مأتمه ألف دينار! ما أعجب هذا! ثم قَالَ: كم خلف من البنات؟ قلت: ستا، فأطرق مليا ثم رفع رأسه، وقال: اغد إلى باب المهدي، فغدوت فقيل لي: أمعك بغال؟ فقلت: لم أومر بذلك ولا بغيره، ولا أدري لم دعيت! قَالَ: فأعطيت ثمانين ومائة ألف دينار، وأمرت أن أدفع إلى كل واحدة من بنات عيسى ثلاثين ألف دينار ثم دعاني المنصور، فقال: أقبضت ما أمرنا به لبنات أبي زيد؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قَالَ: اغد علي بأكفائهن حتى أزوجهن منهم، قَالَ: فغدوت عليه بثلاثة من ولد العكي وثلاثة من آل نهيك من بني عمهن، فزوج كل واحدة منهن على ثلاثين ألف درهم، وأمر أن تحمل إليهن صدقاتهن من ماله، وأمرني أن أشتري بما أمر به لهن ضياعا، يكون معاشهن منها، ففعلت ذلك. وقال الهيثم: فرق أبو جعفر على جماعة من أهل بيته في يوم واحد عشره آلاف درهم، وأمر للرجل من أعمامه بألف ألف، ولا نعرف خليفة قبله ولا بعده وصل بها أحدا من الناس. وقال العباس بْن الفضل: أمر المنصور لعمومته: سليمان، وعيسى،

وصالح، وإسماعيل، بني علي بْن عبد الله بْن عباس، لكل رجل منهم بألف ألف معونة له من بيت المال وكان أول خليفة أعطى ألف ألف من بيت المال، فكانت تجري في الدواوين. وذكر عن إسحاق بْن إبراهيم الموصلي، قَالَ: حدثني الفضل بْن الربيع، عن أبيه، قَالَ: جلس أبو جعفر المنصور للمدنيين مجلسا عاما ببغداد- وكان وفد إليه منهم جماعة- فقال: لينتسب كل من دخل علي منكم، فدخل عليه فيمن دخل شاب من ولد عمرو بْن حزم، فانتسب ثم قَالَ: يا أمير المؤمنين، قَالَ الأحوص فينا شعرا، منعنا أموالنا من أجله منذ ستين سنة، فقال أبو جعفر: فأنشدني، فأنشده: لا تأوين لحزمي رأيت به ... فقرا وإن ألقي الحزمي في النار الناخسين بمروان بذي خشب ... والداخلين على عثمان في الدار قَالَ: والشعر في المدح للوليد بْن عبد الملك، فأنشده القصيدة، فلما بلغ هذا الموضع قَالَ الوليد: أذكرتني ذنب آل حزم، فامر باستصفاء أموالهم. فقال أبو جعفر: أعد علي الشعر، فأعاده ثلاثا، فقال له أبو جعفر: لا جرم، أنك تحتظي بهذا الشعر كما حرمت به، ثم قَالَ لأبي أيوب: هات عشرة آلاف درهم فادفعها إليه لغنائه إلينا، ثم أمر أن يكتب الى عماله ان ترد ضياع آل حزم عليهم، ويعطوا غلاتها في كل سنة من ضياع بني أمية، وتقسم أموالهم بينهم على كتاب الله على التناسخ، ومن مات منهم وفر على ورثته قَالَ: فانصرف الفتى بما لم ينصرف به أحد من الناس. وحدثني جعفر بْن أحمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني أحمد بْن أسد، قَالَ: أبطأ المنصور عن الخروج إلى الناس والركوب، فقال الناس: هو عليل، وكثروا، فدخل عليه الربيع، فقال: يا أمير المؤمنين، لأمير المؤمنين طول البقاء، والناس يقولون، قَالَ: ما يقولون؟ قَالَ: يقولون: عليل، فأطرق قليلا ثم قَالَ: يا ربيع، ما لنا وللعامة! إنما تحتاج العامة إلى ثلاث خلال، فإذا

فعل ذلك بها فما حاجتهم! إذا أقيم لهم من ينظر في أحكامهم فينصف بعضهم من بعض، ويؤمن سبلهم حتى لا يخافوا في ليلهم ولا نهارهم، ويسد ثغورهم وأطرافهم حتى لا يجيئهم عدوهم، وقد فعلنا ذلك بهم ثم مكث أياما، وقال: يا ربيع، اضرب الطبل، فركب حتى رآه العامة. وذكر علي بْن محمد، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: وجه أبو جعفر مع محمد بْن أبي العباس بالزنادقة والمجان، فكان فيهم حماد عجرد، فأقاموا معه بالبصرة يظهر منهم المجون، وإنما أراد بذلك أن يبغضه إلى الناس، فأظهر محمد أنه يعشق زينب بنت سليمان بْن علي، فكان يركب إلى المربد، فيتصدى لها، يطمع أن تكون في بعض المناظر تنظر إليه، فقال محمد لحماد: قل لي فيها شعرا، فقال فيها أبياتا، يقول فيها: يا ساكن المربد قد هجت لي ... شوقا فما أنفك بالمربد قَالَ: فحدثني أبي قَالَ: كان المنصور نازلا على أبي سنتين، فعرفت الخصيب المتطبب لكثرة إتيانه إياه، وكان الخصيب يظهر النصرانية وهو زنديق معطل لا يبالي من قتل، فأرسل إليه المنصور رسولا يأمره أن يتوخى قتل محمد بْن أبي العباس، فاتخذ سما قاتلا، ثم انتظر علة تحدث بمحمد، فوجد حرارة، فقال له الخصيب: خذ شربة دواء، فقال: هيئها لي، فهيأها، وجعل فيها ذلك السم ثم سقاه إياها، فمات منها فكتبت بذلك أم محمد بْن أبي العباس إلى المنصور تعلمه أن الخصيب قتل ابنها فكتب المنصور يأمر بحمله إليه، فلما صار إليه ضربه ثلاثين سوطا ضربا خفيفا، وحبسه أياما، ثم وهب له ثلاثمائة درهم، وخلاه. قَالَ: وسمعت أبي يقول: كان المنصور شرط لأم موسى الحميرية ألا يتزوج عليها ولا يتسرى، وكتبت عليه بذلك كتابا أكدته وأشهدت عليه شهودا، فعزب بها عشر سنين في سلطانه، فكان يكتب إلى الفقيه بعد الفقيه من أهل الحجاز يستفتيه، ويحمل إليه الفقيه من أهل الحجاز وأهل العراق

فيعرض عليه الكتاب ليفتيه فيه برخصة، فكانت أم موسى إذا علمت مكانه بادرته، فأرسلت إليه بمال جزيل، فإذا عرض عليه أبو جعفر الكتاب لم يفته فيه برخصة، حتى ماتت بعد عشر سنين من سلطانه ببغداد، فأتته وفاتها بحلوان، فأهديت له في تلك الليلة مائة بكر، وكانت أم موسى ولدت له جعفرا والمهدي. وذكر عن علي بْن الجعد أنه قَالَ: لما قدم بختيشوع الأكبر على المنصور من السوس، ودخل عليه في قصره بباب الذهب ببغداد، أمر له بطعام يتغدى به، فلما وضعت المائدة بين يديه، قَالَ: شراب، فقيل له: إن الشراب لا يشرب على مائدة أمير المؤمنين، فقال: لا آكل طعاما ليس معه شراب، فأخبر المنصور بذلك، فقال: دعوه، فلما حضر العشاء فعل به مثل ذلك، فطلب الشراب، فقيل له: لا يشرب على مائدة أمير المؤمنين الشراب، فتعشى وشرب ماء دجلة، فلما كان من الغد نظر إلى مائه، فقال: ما كنت أحسب شيئا يجزي من الشراب، فهذا ماء دجلة يجزي من الشراب وذكر عن يحيى بْن الحسن أن أباه حدثه، قَالَ: كتب المنصور الى عامله بالمدينة أن بع ثمار الضياع ولا تبعها إلا ممن نغلبه ولا يغلبنا، فإنما يغلبنا المفلس الذي لا مال له، ولا رأي لنا في عذابه، فيذهب بما لنا قبله ولو أعطاك جزيلا، وبعها من الممكن بدون ذلك ممن ينصفك ويوفيك. وذكر أبو بكر الهذلي ان أبا جعفر كان يقول: ليس بإنسان من أسدي إليه معروف فنسيه دون الموت. وقال الفضل بْن الربيع: سمعت المنصور يقول: كانت العرب تقول: الغوى الفادح خير من الري الفاضح. وذكر عن أبان بْن يزيد العنبري أن الهيثم القارئ البصري قرأ عند المنصور «وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً» ، إلى آخر الآية، فقال له المنصور، وجعل يدعو: اللهم جنبني وبني التبذير فيما أنعمت به علينا من عطيتك

قَالَ: وقرأ الهيثم عنده: «الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ*» فقال للناس: لولا أن الأموال حصن السلطان ودعامة للدين والدنيا وعزهما وزينتهما ما بت ليلة وأنا أحرز منه دينارا ولا درهما، لما أجد لبذل المال من اللذاذة، ولما أعلم في إعطائه من جزيل المثوبة. ودخل على المنصور رجل من أهل العلم، فازدراه واقتحمته عينه، فجعل لا يسأله عن شيء إلا وجد عنده، فقال له: أنى لك هذا العلم! قَالَ: لم أبخل بعلم علمته، ولم أستح من علم أتعلمه قَالَ: فمن هناك! قَالَ: وكان المنصور كثيرا ما يقول: من فعل بغير تدبير، وقال عن غير تقدير، لم يعدم من الناس هازئا أو لاحيا. وذكر عن قحطبة، قَالَ: سمعت المنصور يقول: الملوك تحتمل كل شيء من أصحابها إلا ثلاثا: إفشاء السر، والتعرض للحرمة، والقدح في الملك. وذكر علي بْن محمد أن المنصور كان يقول: سرك من دمك، فانظر من تملكه. وذكر الزبير بْن بكار، عن عمر، قَالَ: لما حمل عبد الجبار بْن عبد الرحمن الأزدي إلى المنصور بعد خروجه عليه، قَالَ له: يا أمير المؤمنين، قتلة كريمة! قَالَ: تركتها وراءك يا بن اللخناء! وذكر عن عمر بْن شبة، أن قحطبة بْن غدانة الجشمي- وكان من الصحابة- قَالَ: سمعت أبا جعفر المنصور يخطب بمدينة السلام سنة اثنتين وخمسين ومائة، فقال: يا عباد الله، لا تظالموا، فإنها مظلمة يوم القيامة، والله لولا يد خاطئة، وظلم ظالم، لمشيت بين أظهركم في أسواقكم، ولو علمت مكان من هو أحق بهذا الأمر مني لأتيته حتى أدفعه إليه. وذكر إسحاق الموصلي، عن النضر بْن حديد، قَالَ: حدثنى بعض

الصحابة أن المنصور كان يقول: عقوبة الحليم التعريض، وعقوبة السفيه التصريح. وذكر أحمد بْن خالد، قَالَ: حدثني يحيى بْن أبي نصر القرشي، أن أبانا القارئ قرأ عند المنصور: «وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ» ، الآية فقال المنصور: ما أحسن ما أدبنا ربنا! قَالَ: وقال المنصور: من صنع مثل ما صنع إليه فقد كافأ، ومن أضعف فقد شكر، ومن شكر كان كريما، ومن علم أنه إنما صنع إلى نفسه لم يستبطئ الناس في شكرهم، ولم يستزدهم من مودتهم، فلا تلتمس من غيرك شكر ما آتيته الى نفسك، ووقيت به عرضك واعلم أن طالب الحاجة إليك لم يكرم وجهه عن وجهك، فأكرم وجهك عن رده. وذكر عمر بْن شبة أن محمد بْن عبد الوهاب المهلبي، حدثه، قَالَ: سمعت إسحاق بْن عيسى يقول: لم يكن أحد من بني العباس يتكلم فيبلغ حاجته على البديهة غير أبي جعفر وداود بْن علي والعباس بْن محمد. وذكر عن أحمد بْن خالد، قَالَ: حدثني إسماعيل بْن إبراهيم الفهري، قَالَ: خطب المنصور ببغداد في يوم عرفة- وقال قوم: بل خطب في أيام منى- فقال في خطبته: أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وأنا خازنه على فيئه، أعمل بمشيئته، وأقسمه بإرادته، وأعطيه بإذنه، قد جعلني الله عليه قفلا، إذا شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسم فيئكم وأرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني أقفلني، فارغبوا إلى الله أيها الناس، وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم فيه من فضله ما أعلمكم به في كتابه، إذ يقول تبارك وتعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» أن يوفقني للصواب ويسددني للرشاد، ويلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم، ويفتحني لأعطياتكم

وقسم أرزاقكم بالعدل عليكم، إنه سميع قريب. وذكر عن داود بْن رشيد عن أبيه، أن المنصور خطب فقال: الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن بِهِ وأتوكل عَلَيْهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريك له فاعترضه معترض عن يمينه، فقال: أيها الإنسان، اذكرك من ذكرت به فقطع الخطبة ثم قَالَ: سمعا سمعا، لمن حفظ عن الله وذكر به، وأعوذ بالله أن أكون جبارا عنيدا، وأن تأخذني العزة بالإثم، لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين وأنت ايها القائل، فو الله ما أردت بها وجه الله، ولكنك حاولت أن يقال: قام فقال فعوقب فصبر، وأهون بها! ويلك لو هممت! فاهتبلها إذ غفرت وإياك وإياكم معشر الناس أختها، فإن الحكمة علينا نزلت، ومن عندنا فصلت، فردوا الأمر إلى أهله، توردوه موارده، وتصدروه مصادره ثم عاد في خطبته، فكأنه يقرؤها من كفه، فقال: وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. وذكر عن أبي توبة الربيع بْن نافع، عن ابن أبي الجوزاء، أنه قَالَ: قمت إلى أبي جعفر وهو يخطب ببغداد في مسجد المدينة على المنبر فقرات: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ» ، فأخذت فأدخلت عليه، فقال: من أنت ويلك! إنما أردت أن أقتلك، فاخرج عني فلا أراك قَالَ: فخرجت من عنده سليما. وقال عيسى بْن عبد الله بْن حميد: حدثني إبراهيم بْن عيسى، قَالَ: خطب أبو جعفر المنصور في هذا المسجد- يعني به مسجد المدينة ببغداد- فلما بلغ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ، قام إليه رجل، فقال: وأنت يا عبد الله، فاتق اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ فقطع أبو جعفر الخطبة، وقال: سمعا سمعا، لمن ذكر بالله، هات يا عبد الله، فما تقى الله؟ فانقطع الرجل فلم يقل شيئا، فقال أبو جعفر: الله الله أيها الناس في أنفسكم، لا تحملونا من أموركم ما لا طاقة لكم به،

لا يقوم رجل هذا المقام إلا أوجعت ظهره، وأطلت حبسه ثم قَالَ: خذه إليك يا ربيع، قَالَ: فوثقنا له بالنجاة- وكانت العلامة فيه إذا أراد بالرجل مكروها قَالَ: خذه إليك يا مسيب- قَالَ: ثم رجع في خطبته من الموضع الذي كان قطعه، فاستحسن الناس ذلك منه، فلما فرغ من الصلاة دخل القصر، وجعل عيسى بْن موسى يمشى على هينته خلفه، فأحس به أبو جعفر، فقال: أبو موسى؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، قَالَ: كأنك خفتني على هذا الرجل! قَالَ: والله لقد سبق إلى قلبي بعض ذلك، إلا أن أمير المؤمنين أكثر علما، وأعلى نظرا من أن يأتي في أمره إلا الحق، فقال: لا تخفني عليه فلما جلس قَالَ: علي بالرجل، فأتي به، فقال: يا هذا، إنك لما رأيتني على المنبر، قلت، هذا الطاغية لا يسعني إلا أن أكلمه، ولو شغلت نفسك بغير هذا لكان أمثل لك، فأشغلها بظماء الهواجر، وقيام الليل، وتغبير قدميك في سبيل الله، انطه يا ربيع أربعمائة درهم، واذهب فلا تعد. وذكر عن عبد الله بْن صاعد، مولى أمير المؤمنين أنه قَالَ: حج المنصور بعد بناء بغداد، فقام خطيبا بمكة، فكان مما حفظ من كلامه: «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» ، أمر مبرم، وقول عدل، وقضاء فصل، والحمد لله الذي أفلج حجته، وبعدا للقوم الظالمين، الذين اتخذوا الكعبة عرضا، والفيء إرثا، وجَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، لقد حاق بهم ما كانوا به يستهزئون، فكم ترى من بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ، أهملهم الله حتى بدلوا السنة، واضطهدوا العترة، وعندوا واعتدوا، واستكبروا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، ثم اخذهم، ف هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً! وذكر الهيثم بْن عدي، عن ابن عياش، قَالَ: إن الأحداث لما تتابعت

على أبي جعفر، تمثل: تفرقت الظباء على خداش ... فما يدري خداش ما يصيد قَالَ: ثم أمر بإحضار القواد والموالي والصحابة وأهل بيته، وامر حمادا التركي بإسراج الخيل وسليمان بْن مجالد بالتقدم والمسيب بْن زهير بأخذ الأبواب، ثم خرج في يوم من أيامه حتى علا المنبر قَالَ: فأزم عليه طويلا لا ينطق قَالَ رجل لشبيب بْن شيبة: ما لأمير المؤمنين لا يتكلم! فإنه والله ممن يهون عليه صعاب القول، فما باله! قَالَ: فافترع الخطبة، ثم قَالَ: ما لي أكفكف عن سعد ويشتمني ... ولو شتمت بني سعد لقد سكنوا جهلا علي وجبنا عن عدوهم ... لبئست الخلتان الجهل والجبن ثم جلس وقال: فألقيت عن رأسي القناع ولم أكن ... لأكشفه إلا لإحدى العظائم والله لقد عجزوا عن أمر قمنا به، فما شكروا الكافي، ولقد مهدوا فاستوعروا وغمطوا الحق وغمصوا، فماذا حاولوا! أشرب رنقا على غصص، أم أقيم على ضيم ومضض! والله لا أكرم أحدا بإهانة نفسي، والله لئن لم يقبلوا الحق ليطلبنه ثم لا يجدونه عندي، والسعيد من وعظ بغيره قدم يا غلام، ثم ركب وذكر الفقيمي أن عبد الله بْن محمد بْن عبد الرحمن مولى محمد بْن علي حدثه، أن المنصور لما أخذ عبد الله بْن حسن وإخوته والنفر الذين كانوا معه من أهل بيته، صعد الْمِنْبَر، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ صلى على النبي ص، ثم قَالَ: يا أهل خراسان، أنتم شيعتنا وأنصارنا وأهل دولتنا، ولو بايعتم غيرنا لم تبايعوا من هو خير منا، وإن أهل بيتي هؤلاء من ولد علي بْن أبي طالب

تركناهم والله الذي لا إله إلا هو والخلافة، فلم نعرض لهم فيها بقليل ولا كثير، فقام فيها علي بْن أبي طالب فتلطخ وحكم عليه الحكمين، فافترقت عنه الأمة، واختلفت عليه الكلمة، ثم وثبت عليه شيعته وأنصاره وأصحابه وبطانته وثقاته فقتلوه، ثم قام من بعده الحسن بن على، فو الله ما كان فيها برجل، قد عرضت عليه الأموال، فقبلها، فدس إليه معاوية، إني أجعلك ولي عهدي من بعدي، فخدعه فانسلخ له مما كان فيه، وسلمه إليه، فأقبل على النساء يتزوج في كل يوم واحدة فيطلقها غدا، فلم يزل على ذلك حتى مات على فراشه، ثم قام من بعده الحسين بْن علي، فخدعه أهل العراق وأهل الكوفة، أهل الشقاق والنفاق والإغراق في الفتن، أهل هذه المدره السوداء- واشار الى الكوفه- فو الله ما هي بحرب فأحاربها، ولا سلم فأسالمها، فرق الله بيني وبينها، فخذلوه وأسلموه حتى قتل، ثم قام من بعده زيد بْن علي، فخدعه أهل الكوفة وغروه، فلما أخرجوه وأظهروه أسلموه، وقد كان أتى محمد بْن علي، فناشده في الخروج وسأله ألا يقبل أقاويل أهل الكوفة، وقال له: إنا نجد في بعض علمنا، أن بعض أهل بيتنا يصلب بالكوفة، وأنا أخاف أن تكون ذلك المصلوب، وناشده عمي داود بْن علي وحذره غدر أهل الكوفة فلم يقبل، وأتم على خروجه، فقتل وصلب بالكناسة، ثم وثب علينا بنو أمية، فأماتوا شرفنا، وأذهبوا عزنا، والله ما كانت لهم عندنا ترة يطلبونها، وما كان لهم ذلك كله إلا فيهم وبسبب خروجهم عليهم، فنفونا من البلاد، فصرنا مرة بالطائف، ومرة بالشام، ومرة بالشراة، حتى ابتعثكم الله لنا شيعة وأنصارا، فأحيا شرفنا، وعزنا بكم أهل خراسان، ودمغ بحقكم أهل الباطل، وأظهر حقنا، وأصار إلينا ميراثنا عن نبينا ص، فقر الحق مقره، وأظهر مناره، وأعز أنصاره، وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين فلما استقرت الأمور فينا على قرارها، من فضل الله فيها وحكمه العادل لنا، وثبوا علينا، ظلما وحسدا منهم لنا، وبغيا لما فضلنا الله به عليهم، وأكرمنا به من خلافته وميراث نبيه ص

جهلا علي وجبنا عن عدوهم ... لبئست الخلتان الجهل والجبن فإني والله يا أهل خراسان ما أتيت من هذا الأمر ما أتيت بجهالة، بلغني عنهم بعض السقم والتعرم، وقد دسست لهم رجالا فقلت: قم يا فلان قم يا فلان، فخذ معك من المال كذا، وحذوت لهم مثالا يعملون عليه، فخرجوا حتى أتوهم بالمدينة، فدسوا إليهم تلك الأموال، فو الله ما بقي منهم شيخ ولا شاب، ولا صغير ولا كبير إلا بايعهم بيعة، استحللت بها دماءهم وأموالهم وحلت لي عند ذلك بنقضهم بيعتي، وطلبهم الفتنة، والتماسهم الخروج علي، فلا يرون أني أتيت ذلك على غير يقين ثم نزل وهو يتلو على درج المنبر هذه الآية: «وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ» . قَالَ: وخطب المنصور بالمدائن عند قتل أبي مسلم، فقال: أيها الناس، لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تسروا غش الأئمة، فإنه لم يسر أحد قط منكرة إلا ظهرت في آثار يده، أو فلتات لسانه، وأبداها الله لإمامه، بإعزاز دينه، وإعلاء حقه إنا لن نبخسكم حقوقكم، ولن نبخس الدين حقه عليكم إنه من نازعنا عروة هذا القميص أجزرناه خبي هذا الغمد وإن أبا مسلم بايعنا وبايع الناس لنا، على أنه من نكث بنا فقد أباح دمه، ثم نكث بنا، فحكمنا عليه حكمه على غيره لنا، ولم تمنعنا رعاية الحق له من اقامه الحق عليه. وذكر اسحق بْن إبراهيم الموصلي أن الفضل بْن الربيع أخبره عن أبيه، قَالَ: قَالَ المنصور: قَالَ ابى: سمعت ابى، علي بْن عبد الله يقول: سادة الدنيا الأسخياء، وسادة الآخرة الأنبياء. وذكر عن إبراهيم بْن عيسى، أن المنصور غضب على محمد بْن جميل الكاتب- وأصله من الربذة- فأمر ببطحه، فقام بحجته، فأمر بإقامته،

ونظر إلى سراويله، فإذا هو كتان، فأمر ببطحه وضربه خمس عشره دره، وقال: تلبس سراويل كتان فإنه من السرف وذكر محمد بْن إسماعيل الهاشمي، أن الحسن بْن إبراهيم حدثه، عن أشياخه، أن أبا جعفر لما قتل محمد بْن عبد الله بالمدينة وأخاه ابراهيم بباخمرى وخرج إبراهيم بْن حسن بْن حسن بمصر فحمل إليه، كتب إلى بني علي بْن أبي طالب بالمدينة كتابا يذكر لهم فيه إبراهيم بْن الحسن بْن الحسن وخروجه بمصر، وإنه لم يفعل ذلك إلا عن رأيهم، وانهم يدابون في طلب السلطان، ويلتمسون بذلك القطيعة والعقوق، وقد عجزوا عن عداوة بني أمية لما نازعوهم السلطان، وضعفوا عن طلب ثأرهم، حتى وثب بنو أبيه غضبا لهم على بني أمية، فطلبوا بثأرهم، فأدركوا بدمائهم، وانتزعوا السلطان عن أيديهم، وتمثل في الكتاب بشعر سبيع بْن ربيعة بْن معاوية اليربوعي: فلولا دفاعي عنكم إذ عجزتم ... وبالله أحمي عنكم وأدافع لضاعت امور منكم لا ارى لها ... كفاه وما لا يحفظ الله ضائع فسموا لنا من طحطح الناس عنكم ... ومن ذا الذي تحنى عليه الأصابع! وما زال منا قد علمتم عليكم ... على الدهر إفضال يرى ومنافع وما زال منكم أهل غدر وجفوة ... وبالله مغتر وللرحم قاطع وإن نحن غبنا عنكم وشهدتم ... وقائع منكم ثم فيها مقانع وإنا لنرعاكم وترعون شأنكم ... كذاك الأمور، خافضات روافع وهل تعلون أقدام قوم صدورهم ... وهل تعلون فوق السنام الأكارع! ودب رجال للرئاسة منكم ... كما درجت تحت الغدير الضفادع؟ وذكر عن يحيى بْن الحسن بْن عبد الخالق، قَالَ: كان أرزاق الكتاب والعمال ايام ابى جعفر ثلاثمائة درهم، فلما كانت كذلك لم تزل على حالها إلى أيام المأمون، فكان أول من سن زيادة الأرزاق الفضل بْن سهل، فأما

في أيام بني أمية وبني العباس فلم تزل الأرزاق من الثلثمائه إلى ما دونها، كان الحجاج يجري على يزيد بن ابى مسلم ثلاثمائة درهم في الشهر. وذكر إبراهيم بْن موسى بْن عيسى بْن موسى، أن ولاة البريد في الآفاق كلها كانوا يكتبون إلى المنصور أيام خلافته في كل يوم بسعر القمح والحبوب والأدم، وبسعر كل مأكول، وبكل ما يقضي به القاضي في نواحيهم، وبما يعمل به الوالي وبما يرد بيت المال من المال، وكل حدث، وكانوا إذا صلوا المغرب يكتبون إليه بما كان في كل ليلة إذا صلوا الغداة، فإذا وردت كتبهم نظر فيها، فإذا رأى الأسعار على حالها أمسك، وإن تغير شيء منها عن حاله كتب إلى الوالي والعامل هناك، وسأل عن العلة التي نقلت ذاك عن سعره، فإذا ورد الجواب بالعلة تلطف لذلك برفقة حتى يعود سعره ذلك إلى حاله، وإن شك في شيء مما قضى به القاضي كتب إليه بذلك، وسأل من بحضرته عن عمله، فإن أنكر شيئا عمل به كتب إليه يوبخه ويلومه. وذكر إسحاق الموصلي أن الصباح بْن خاقان التميمي، قَالَ: حدثني رجل من أهلي، عن أبيه، قَالَ: ذكر الوليد عند المنصور ايام نزوله بغداد وفروغه من المدينة، وفراغه من محمد وإبراهيم ابني عبد الله، فقالوا: لعن الله الملحد الكافر- قَالَ: وفي المجلس أبو بكر الهذلي وابن عياش المنتوف والشرقي ابن القطامي، وكل هؤلاء من الصحابة- فقال أبو بكر الهذلي: حدثني ابن عم للفرزدق، عن الفرزدق، قَالَ: حضرت الوليد بْن يزيد وعنده ندماؤه وقد اصطبح، فقال لابن عائشة: تغن بشعر ابن الزبعرى: ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل وقتلنا الضعف من ساداتهم ... وعدلنا ميل بدر فاعتدل فقال ابن عائشة: لا أغني هذا يا أمير المؤمنين، فقال: غنه وإلا جدعت لهواتك، قَالَ: فغناه، فقال: أحسنت والله! إنه لعلى دين ابن الزبعرى يوم قَالَ هذا الشعر قَالَ: فلعنه المنصور ولعنه جلساؤه، وقال:

الحمد لله على نعمته وتوحيده. وذكر عن أبي بكر الهذلي، قَالَ: كتب صاحب أرمينية إلى المنصور: إن الجند قد شغبوا عليه، وكسروا أقفال بيت المال، وأخذوا ما فيه، فوقع في كتابه: اعتزل عملنا مذموما، فلو عقلت لم يشغبوا، ولو قويت لم ينتهبوا. وقال إسحاق الموصلي، عن أبيه: خرج بعض أهل العبث على أبي جعفر بفلسطين، فكتب الى العامل هناك: دمه في دمك إلا توجهه إلي، فجد في طلبه، فظفر به فأشخص، فأمر بإدخاله عليه، فلما مثل بين يديه، قَالَ له أبو جعفر: أنت المتوثب على عمالي! لأنثرن من لحمك أكثر مما يبقى منه على عظمك، فقال له- وقد كان شيخا كبير السن- بصوت ضعيف ضئيل غير مستعل: أتروض عرسك بعد ما هرمت ... ومن العناء رياضه الهرم قال: فلم تتبين للمنصور مقالته، فقال: يا ربيع، ما يقول؟ فقال: يقول: العبد عبدكم والمال مالكم ... فهل عذابك عني اليوم منصرف! قَالَ: يا ربيع، قد عفوت عنه، فخل سبيله، واحتفظ به، وأحسن ولايته. قَالَ: ورفع رجل إلى المنصور يشكو عامله أنه أخذ حدا من ضيعته، فأضافه إلى ماله، فوقع إلى عامله في رقعة المتظلم: إن آثرت العدل صحبتك السلامة، فانصف هذا المتظلم من هذه الظلامة. قَالَ: ورفع رجل من العامة إليه رقعة في بناء مسجد في محلته، فوقع في رقعته: من أشراط الساعة كثرة المساجد، فزد في خطاك تزدد من الثواب. قَالَ: وتظلم رجل من أهل السواد من بعض العمال، في رقعة رفعها إلى المنصور، فوقع فيها: إن كنت صادقا فجيء به ملببا فقد أذنا لك في ذلك

وذكر عمر بْن شبة أن أبا الهذيل العلاف حدثه، أن أبا جعفر قَالَ: بلغني أن السيد بْن محمد مات بالكرخ- أو قَالَ: بواسط- ولم يدفنوه، ولئن حق ذلك عندي لأحرقنها وقيل: إن الصحيح أنه مات في زمان المهدي بكرخ بغداد، وأنهم تحاموا أن يدفنوه، وأنه بعث بالربيع حتى ولي أمره، وأمره إن كانوا امتنعوا أن يحرق عليهم منازلهم، فدفع ربيع عنهم. وقال المدائني: لما فرغ المنصور من محمد وإبراهيم وعبد الله بْن علي وعبد الجبار بْن عبد الرحمن، وصار ببغداد، واستقامت له الأمور، كان يتمثل هذا البيت: تبيت من البلوى على حد مرهف ... مرارا ويكفي الله ما أنت خائف قَالَ: وأنشدني عبد الله بْن الربيع، قَالَ: أنشدني المنصور بعد قتل هؤلاء: ورب أمور لا تضيرك ضيرة ... وللقلب من مخشاتهن وجيب وقال الهيثم بْن عدي: لما بلغ المنصور تفرق ولد عبد الله بْن حسن في البلاد هربا من عقابه، تمثل: إن قناتي لنبع لا يؤيسها ... غمز الثقاف ولا دهن ولا نار متى أجر خائفا تأمن مسارحه ... وإن أخف آمنا تقلق به الدار سيروا إلي وغضوا بعض أعينكم ... إني لكل امرئ من جاره جار وذكر علي بْن محمد عن واضح مولى أبي جعفر، قَالَ: أمرني أبو جعفر أن أشتري له ثوبين لينين، فاشتريتهما له بعشرين ومائة درهم، فأتيته بهما، فقال: بكم؟ فقلت: بثمانين درهما، قَالَ: صالحان، استحطه، فإن المتاع إذا أدخل علينا ثم رد على صاحبه كسره ذلك فأخذت الثوبين من صاحبهما، فلما كان من الغد حملتهما إليه معي، فقال: ما صنعت؟ قلت: رددتهما

عليه فحطني عشرين درهما، قَالَ: أحسنت، اقطع أحدهما قميصا، واجعل الآخر رداء لي ففعلت، فلبس القميص خمسة عشر يوما لم يلبس غيره. وذكر مولى لعبد الصمد بْن علي، قَالَ: سمعت عبد الصمد يقول: إن المنصور كان يأمر أهل بيته بحسن الهيئة وإظهار النعمة وبلزوم الوشي والطيب، فإن رأى أحدا منهم قد أخل بذلك أو أقل منه، قَالَ: يا فلان، ما أرى وبيص الغالية في لحيتك، وإني لأراها تلمع في لحية فلان، فيشحذهم بذلك على الإكثار من الطيب ليتزين بهيئتهم وطيب أرواحهم عند الرعية، ويزينهم بذلك عندهم، وإن رأى على أحد منهم وشيا طاهرا عضه بلسانه. وذكر عن أحمد بْن خالد، قَالَ: كان المنصور يسأل مالك بْن أدهم كثيرا عن حديث عجلان بْن سهيل، أخي حوثرة بْن سهيل، قَالَ: كنا جلوسا مع عجلان، إذ مر بنا هشام بْن عبد الملك، فقال رجل من القوم: قد مر الأحول، قَالَ: من تعني؟ قَالَ: هشاما، قَالَ: تسمي أمير المؤمنين بالنبز! والله لولا رحمك لضربت عنقك، فقال المنصور: هذا والله الذي ينفع مع مثله المحيا والممات. وقال أحمد بْن خالد: قَالَ إبراهيم بْن عيسى: كان للمنصور خادم أصفر إلى الأدمة، ماهر لا بأس به، فقال له المنصور يوما: ما جنسك؟ قَالَ: عربي يا أمير المؤمنين، قَالَ: ومن أي العرب أنت؟ قَالَ: من خولان، سبيت من اليمن، فأخذني عدو لنا، فجبني فاسترققت، فصرت إلى بعض بني أمية، ثم صرت إليك قَالَ: أما إنك نعم الغلام، ولكن لا يدخل قصري عربي يخدم حرمي، اخرج عافاك الله، فاذهب حيث شئت! وذكر أحمد بْن إبراهيم بْن إسماعيل بْن داود بْن معاوية بْن بكر- وكان من الصحابة- أن المنصور ضم رجلا من اهل الكوفة، يقال له الفضيل بْن عمران، إلى ابنه جعفر، وجعله كاتبه، وولاه أمره، فكان منه بمنزلة أبي عبيد الله

من المهدي، وقد كان أبو جعفر أراد أن يبايع لجعفر بعد المهدي، فنصبت أم عبيد الله حاضنة جعفر للفضيل بْن عمران، فسعت به إلى المنصور، وأومأت إلى أنه يعبث بجعفر قَالَ: فبعث المنصور الريان مولاه وهارون بْن غزوان مولى عثمان بْن نهيك إلى الفضيل- وهو مع جعفر بحديثة الموصل- وقال: إذا رأيتما فضيلا فاقتلاه حيث لقيتماه، وكتب لهما كتابا منشورا، وكتب إلى جعفر يعلمه ما أمرهما به، وقال: لا تدفعا الكتاب إلى جعفر حتى تفرغا من قتله قَالَ: فخرجا حتى قدما على جعفر، وقعدا على بابه ينتظران الإذن، فخرج عليهما فضيل، فأخذاه وأخرجا كتاب المنصور، فلم يعرض لهما أحد، فضربا عنقه مكانه، ولم يعلم جعفر حتى فرغا منه- وكان الفضيل رجلا عفيفا دينا- فقيل للمنصور: إن الفضيل كان أبرأ الناس مما رمي به، وقد عجلت عليه فوجه رسولا، وجعل له عشرة آلاف درهم أن أدركه قبل أن يقتل، فقدم الرسول قبل أن يجف دمه. فذكر معاوية بْن بكر عن سويد مولى جعفر، أن جعفرا أرسل إليه، فقال: ويلك! ما يقول أمير المؤمنين في قتل رجل عفيف دين مسلم بلا جرم ولا جناية! قَالَ سويد: فقلت: هو أمير المؤمنين يفعل ما يشاء، وهو أعلم بما يصنع، فقال: يا ماص بظر أمه، أكلمك بكلام الخاصة وتكلمني بكلام العامة! خذوا برجله فألقوه في دجلة قَالَ فأخذت، فقلت: أكلمك، فقال: دعوه، فقلت: أبوك إنما يسأل عن فضيل، ومتى يسأل عنه، وقد قتل عمه عبد الله بْن عبد الله بْن علي، وقد قتل عبد الله بْن الحسن وغيره من اولاد رسول الله ص ظلما، وقتل أهل الدنيا ممن لا يحصى ولا يعد! هو قبل أن يسأل عن فضيل جرذانة تجب خصى فرعون قَالَ: فضحك، وقال: دعوه إلى لعنة الله. وقال قعنب بن محرز: أخبرنا محمد بن عائد مولى عثمان بْن عفان أن حفصا الأموي الشاعر، كان يقال له حفص بْن أبي جمعة، مولى عباد بْن زياد، وكان المنصور صيره مؤدبا للمهدي في مجالسه، وكان مداحا لبني أمية في أيام بني أمية وأيام المنصور، فلم ينكر عليه ذلك المنصور، ولم يزل مع المهدي

أيام ولايته العهد، ومات قبل أن يلي المهدي الخلافة قَالَ: وكان مما مدح به بني أمية قوله: أين روقا عبد شمس اين هم ... أين أهل الباع منهم والحسب! لم تكن أيد لهم عندكم ... ما فعلتم آل عبد المطلب! أيها السائل عنهم أولو ... جثث تلمع من فوق الخشب إن تجذوا الأصل منهم سفها ... يا لقوم للزمان المنقلب! ان فاحلبوا ما شئتم في صحنكم ... فستسقون صرى ذاك الحلب وقيل: إن حفصا الأموي دخل على المنصور، فكلمه فاستخبره، فقال له: من أنت؟ فقال: مولاك يا أمير المؤمنين، قَالَ: مولى لي مثلك لا أعرفه! قَالَ: مولى خادم لك عبد مناف يا أمير المؤمنين، فاستحسن ذلك منه، وعلم أنه مولى لبني أمية، فضمه إلى المهدي، وقال له: احتفظ به. ومما رثي به قول سلم الخاسر: عجبا للذي نعى الناعيان ... كيف فاهت بموته الشفتان! ملك إن غدا على الدهر يوما ... أصبح الدهر ساقطا للجران ليت كفا حثت عليه ترابا ... لم تعد في يمينها ببنان حين دانت له البلاد على العسف ... وأغضى من خوفه الثقلان أين رب الزوراء قد قلدته ... الملك، عشرون حجة واثنتان إنما المرء كالزناد إذا ما ... أخذته قوادح النيران ليس يثني هواه زجر ولا يقدح ... في حبله ذوو الأذهان قلدته أعنة الملك حتى ... قاد أعداءه بغير عنان يكسر الطرف دونه وترى الأيدي ... من خوفه على الأذقان ضم أطراف ملكه ثم أضحى ... خلف أقصاهم ودون الداني هاشمي التشمير لا يحمل الثقل ... على غارب الشرود الهدان

ذكر أسماء ولده ونسائه

ذو أناة ينسى لها الخائف الخوف ... وعزم يلوي بكل جنان ذهبت دونه النفوس حذارا ... غير أن الأرواح في الأبدان. ذكر أسماء ولده ونسائه فمن ولده المهدي- واسمه محمد- وجعفر الأكبر، وأمهما أروى بنت منصور أخت يزيد بْن منصور الحميري، وكانت تكنى أم موسى، وهلك جعفر هذا قبل المنصور. وسليمان وعيسى ويعقوب، وأمهم فاطمة بنت محمد، من ولد طلحه بن عبيد الله. وجعفر الأصغر، أمه أم ولد كردية، كان المنصور اشتراها فتسراها، وكان يقال لابنها: ابن الكردية. وصالح المسكين، أمه أم ولد رومية، يقال لها قالي الفراشة. والقاسم، مات قبل المنصور، وهو ابن عشر سنين، وأمه أم ولد تعرف بأم القاسم، ولها بباب الشام بستان يعرف إلى اليوم ببستان أم القاسم. والعالية، أمها امرأة من بني أمية، زوجها المنصور من إسحاق بْن سليمان ابن علي بْن عبد الله بْن العباس وذكر عن إسحاق بْن سليمان أنه قَالَ: قَالَ لي أبي: زوجتك يا بني أشرف الناس، العالية بنت أمير المؤمنين. قَالَ: فقلت: يا أباه، من أكفاؤنا؟ قَالَ: أعداؤنا من بني أمية. ذكر الخبر عن وصاياه ذكر عن الهيثم بْن عدي أن المنصور أوصى المهدي في هذه السنة لما شخص متوجها إلى مكة في شوال، وقد نزل قصر عبدويه، وأقام بهذا القصر أياما والمهدي معه يوصيه، وكان انقض في مقامه بقصر عبدويه كوكب، لثلاث

بقين من شوال بعد إضاءة الفجر، وبقي أثره بينا إلى طلوع الشمس، فأوصاه بالمال والسلطان، يفعل ذلك كل يوم من أيام مقامه بالغداة والعشي، لا يفتر عن ذلك، ولا يفترقان إلا تحريكا فلما كان اليوم الذي أراد أن يرتحل فيه، دعا المهدي، فقال له: إني لم أدع شيئا إلا قد تقدمت إليك فيه، وسأوصيك بخصال والله ما أظنك تفعل واحدة منها- وكان له سفط فيه دفاتر علمه، وعليه قفل لا يأمن على فتحه ومفتاحه أحدا، يصر مفتاحه في كم قميصه قَالَ: وكان حماد التركي يقدم إليه ذلك السفط إذا دعا به، فإذا غاب حماد أو خرج كان الذي يليه سلمة الخادم- فقال للمهدي: انظر هذا السفط فاحتفظ به، فإن فيه علم آبائك، ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، فإن أحزنك أمر فانظر في الدفتر الأكبر، فإن أصبت فيه ما تريد، وإلا فالثاني والثالث، حتى بلغ سبعة، فإن ثقل عليك فالكراسة الصغيرة، فإنك واجد فيها ما تريد، وما أظنك تفعل، وانظر هذه المدينة، فإياك أن تستبدل بها، فإنها بيتك وعزك، قد جمعت لك فيها من الأموال ما إن كسر عليك الخراج عشر سنين كان عندك كفاية لأرزاق الجند والنفقات وعطاء الذرية ومصلحة الثغور، فاحتفظ بها، فإنك لا تزال عزيزا ما دام بيت مالك عامرا، وما أظنك تفعل وأوصيك بأهل بيتك، أن تظهر كرامتهم وتقدمهم وتكثر الإحسان إليهم، وتعظم أمرهم، وتوطئ الناس أعقابهم، وتوليهم المنابر، فإن عزك عزهم وذكرهم لك، وما أظنك تفعل. وانظر مواليك، فأحسن إليهم وقربهم واستكثر منهم فإنهم مادتك لشدة إن نزلت بك، وما أظنك تفعل وأوصيك بأهل خراسان خيرا، فإنهم أنصارك وشيعتك الذين بذلوا أموالهم في دولتك، ودماءهم دونك، ومن لا تخرج محبتك من قلوبهم، أن تحسن إليهم وتتجاوز عن مسيئهم وتكافئهم على ما كان منهم، وتخلف من مات منهم في أهله وولده، وما أظنك تفعل. وإياك أن تبني مدينة الشرقية فإنك لا تتم بناءها، وما أظنك تفعل وإياك أن

تستعين برجل من بني سليم، وأظنك ستفعل وإياك أن تدخل النساء في مشورتك في أمرك، وأظنك ستفعل. وقال غير الهيثم: إن المنصور دعا المهدي عند مسيره إلى مكة، فقال: يا أبا عبد الله، إني سائر وانى غير راجع، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! فاسأل الله بركة ما أقدم عليه، هذا كتاب وصيتي مختوما، فإذا بلغك انى قدمت، وصار الأمر إليك فانظر فيه، وعلي دين فأحب أن تقضيه وتضمنه، قَالَ: هو علي يا امير المؤمنين، قال: فانه ثلاثمائة ألف درهم ونيف، ولست أستحلها من بيت مال المسلمين، فاضمنها عني، وما يفضي إليك من الأمر أعظم منها قَالَ: أفعل، هو علي قَالَ: وهذا القصر ليس هو لك، هو لي، وقصري بنيته بمالي، فأحب أن تصير نصيبك منه لإخوتك الأصاغر. قَالَ: نعم، قَالَ: ورقيقي الخاصة هم لك، فاجعلهم لهم، فإنك تصير إلى ما يغنيك عنهم، وبهم إلى ذلك أعظم الحاجة قَالَ: أفعل، قَالَ: أما الضياع، فلست أكلفك فيها هذا، ولو فعلت كان أحب إلي، قَالَ: أفعل، قَالَ: سلم إليهم ما سألتك من هذا، وأنت معهم في الضياع قَالَ: والمتاع والثياب، سلمه لهم، قَالَ: أفعل قَالَ: أحسن الله عليك الخلافة ولك الصنع! اتق الله فيما خولك وفيما خلفتك عليه. ومضى إلى الكوفة، فنزل الرصافة، ثم خرج منها مهلا بالعمرة والحج، قد ساق هديه من البدن، وأشعر وقلد، وذلك لأيام خلت من ذي القعدة. وذكر أبو يعقوب بْن سليمان، قَالَ: حدثتني جمرة العطارة- عطارة أبي جعفر- قالت: لما عزم المنصور على الحج دعا ريطة بنت أبي العباس امرأة المهدي- وكان المهدي بالري قبل شخوص أبي جعفر- فأوصاها بما أراد، وعهد إليها، ودفع إليها مفاتيح الخزائن، وتقدم إليها واحلفها، ووكد الايمان الا تفتح بعض تلك الخزائن، ولا تطلع عليها أحدا إلا المهدي، ولا هي، إلا أن يصح عندها موته، فإذا صح ذلك اجتمعت هي والمهدي وليس معهما

ثالث، حتى يفتحا الخزانة فلما قدم المهدي من الري إلى مدينة السلام، دفعت إليه المفاتيح، وأخبرته عن المنصور أنه تقدم إليها فيه ألا يفتحه ولا يطلع عليه أحدا حتى يصح عندها موته فلما انتهى إلى المهدي موت المنصور وولي الخلافة، فتح الباب ومعه ريطة، فإذا أزج كبير فيه جماعة من قتلاء الطالبين، وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم، وإذا فيهم أطفال ورجال شباب ومشايخ عدة كثيرة، فلما رأى ذلك المهدي ارتاع لما رأى، وأمر فحفرت لهم حفيرة فدفنوا فيها، وعمل عليهم دكان. وذكر عن إسحاق بْن عيسى بْن علي، عن أبيه، قَالَ: سمعت المنصور وهو متوجه إلى مكة سنة ثمان وخمسين ومائة، وهو يقول للمهدي عند وداعه إياه: يا أبا عبد الله، إني ولدت في ذي الحجة، ووليت في ذي الحجة، وقد هجس في نفسي أني أموت في ذي الحجة من هذه السنة، وإنما حداني على الحج ذلك، فاتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدي، يجعل لك فيما كربك وحزنك مخرجا- أو قَالَ: فرجا ومخرجا- ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب احفظ يا بني محمدا ص في أمته يحفظ الله عليك أمورك وإياك والدم الحرام، فإنه حوب عند الله عظيم، وعار في الدنيا لازم مقيم والزم الحلال، فان ثوابك في الآجل، وصلاحك في العاجل وأقم الحدود ولا تعتد فيها فتبور، فإن الله لو علم أن شيئا أصلح لدينه وأزجر من معاصيه من الحدود لأمر به في كتابه واعلم أن من شدة غضب الله لسلطانه، أمر في كتابه بتضعيف العذاب والعقاب على من سعى في الأرض فسادا، مع ما ذخر له عنده من العذاب العظيم، فقال: «إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً» الآية فالسلطان يا بني حبل الله المتين، وعروته الوثقى، ودين الله القيم، فاحفظه وحطه وحصنه، وذب عنه، وأوقع بالملحدين فيه، وأقمع المارقين منه، واقتل الخارجين عنه بالعقاب لهم والمثلات بهم، ولا تجاوز ما أمر

الله به في محكم القرآن واحكم بالعدل ولا تشطط، فإن ذلك أقطع للشغب، وأحسم للعدو، وأنجع في الدواء وعف عن الفيء، فليس بك إليه حاجة مع ما أخلفه لك، وافتتح عملك بصلة الرحم وبر القرابة وإياك والأثرة والتبذير لأموال الرعية واشحن الثغور، واضبط الأطراف، وأمن السبل، وخص الواسطة، ووسع المعاش، وسكن العامة، وأدخل المرافق عليهم، واصرف المكاره عنهم، وأعد الأموال واخزنها وإياك والتبذير، فإن النوائب غير مأمونة، والحوادث غير مضمونة، وهي من شيم الزمان وأعد الرجال والكراع والجند ما استطعت وإياك وتأخير عمل اليوم إلى غد، فتتدارك عليك الأمور وتضيع جد في أحكام الأمور النازلات لأوقاتها أولا فأولا، واجتهد وشمر فيها، وأعدد رجالا بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار، ورجالا بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل وباشر الأمور بنفسك، ولا تضجر ولا تكسل ولا تفشل، واستعمل حسن الظن بربك، وأسيء الظن بعمالك وكتابك. وخذ نفسك بالتيقظ، وتفقد من يبيت على بابك، وسهل أذنك للناس، وانظر في أمر النزاع إليك، ووكل بهم عينا غير نائمة، ونفسا غير لاهية، ولا تنم فإن أباك لم ينم منذ ولي الخلافة، ولا دخل عينه غمض إلا وقلبه مستيقظ هذه وصيتي إليك، والله خليفتي عليك. قَالَ: ثم ودعه وبكى كل واحد منهما إلى صاحبه. وذكر عمر بْن شبة عن سعيد بْن هريم، قَالَ: لما حج المنصور في السنة التي توفي فيها شيعه المهدي، فقال: يا بني، إني قد جمعت لك من الأموال ما لم يجمعه خليفة قبلي، وجمعت لك من الموالي ما لم يجمعه خليفة قبلي، وبنيت لك مدينة لم يكن في الإسلام مثلها، ولست أخاف عليك إلا أحد رجلين: عيسى بْن موسى، وعيسى بْن زيد، فأما عيسى بْن موسى

فقد أعطاني من العهود والمواثيق ما قبلته، وو الله لو لم يكن إلا أن يقول قولا لما خفته عليك، فأخرجه من قلبك وأما عيسى بْن زيد فأنفق هذه الأموال واقتل هؤلاء الموالي، واهدم هذه المدينة حتى تظفر به، ثم لا ألومك. وذكر عيسى بْن محمد أن موسى بْن هارون حدثه، قَالَ: لما دخل المنصور آخر منزل نزله من طريق مكة، نظر في صدر البيت الذي نزل فيه، فإذا فيه مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم. أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت ... سنوك، وأمر الله لا بد واقع أبا جعفر هل كاهن أو منجم ... لك اليوم من حر المنية مانع! قال: فدعا بالمتولي لإصلاح المنازل، فقال له: ألم آمرك ألا يدخل المنزل أحد من الدعار! قَالَ: يا أمير المؤمنين، والله ما دخلها أحد منذ فرغ منها، فقال: اقرأ ما في صدر البيت مكتوبا، قَالَ: ما أرى شيئا يا أمير المؤمنين، قَالَ: فدعا برئيس الحجبة، فقال: اقرأ ما على صدر البيت مكتوبا، قَالَ: ما أرى على صدر البيت شيئا، فأملى البيتين فكتبا عنه، فالتفت إلى حاجبه فقال: اقرأ لي آية من كتاب الله جل وعز تشوقني إلى الله عز وجل، فتلا: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» ، فأمر بفكيه فوجئا وقال: ما وجدت شيئا تقرؤه غير هذه الآية! فقال: يا أمير المؤمنين، محي القرآن من قلبي غير هذه الآية، فأمر بالرحيل عن ذلك المنزل تطيرا مما كان، وركب فرسا، فلما كان في الوادي الذي يقال له سقر- وكان آخر منزل بطريق مكة- كبا به الفرس، فدق ظهره، ومات فدفن ببئر ميمون. وذكر عن محمد بْن عبد الله مولى بني هاشم، قَالَ: أخبرني رجل من العلماء وأهل الأدب، قَالَ: هتف بأبي جعفر هاتف من قصره بالمدينة فسمعه يقول:

أما ورب السكون والحرك ... إن المنايا كثيرة الشرك عليك يا نفس إن أسأت وإن ... أحسنت بالقصد، كل ذاك لك ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجوم السماء في الفلك إلا بنقل السلطان عن ملك ... إذا انقضى ملكه الى ملك حتى يصيرا به إلى ملك ... ما عز سلطانه بمشترك ذاك بديع السماء والأرض والمرسي ... الجبال المسخر الفلك فقال أبو جعفر: هذا والله أوان أجلي. وذكر عبد الله بْن عبيد الله، أن عبد العزيز بْن مسلم حدثه أنه قَالَ: دخلت على المنصور يوما أسلم عليه، فإذا هو باهت لا يحير جوابا، فوثبت لما أرى منه، أريد الانصراف عنه، فقال لي بعد ساعة: إني رأيت فيما يرى النائم، كأن رجلا ينشدني هذه الأبيات: أأخي أخفض من مناكا ... فكأن يومك قد أتاكا ولقد أراك الدهر من ... تصريفه ما قد أراكا فإذا أردت الناقص العبد ... الذليل فأنت ذاكا ملكت ما ملكته ... والأمر فيه إلى سواكا فهذا الذي ترى من قلقي وغمي لما سمعت ورأيت فقلت: خيرا رأيت يا أمير المؤمنين فلم يلبث إلى أن خرج إلى الحج فمات لوجهه ذاك. وفي هذه السنة بويع للمهدي بالخلافة، وهو محمد بْن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بْن العباس بمكة، صبيحة الليلة التي توفي فيها أبو جعفر المنصور

وذلك يوم السبت لست ليال خلون من ذي الحجه سنه ثمان وخمسين، كذلك قَالَ هشام بْن محمد ومحمد بْن عمر وغيرهما. وقال الواقدي: وبويع له ببغداد يوم الخميس لإحدى عشرة بقيت من ذي الحجة من هذه السنة. وأم المهدي أم موسى بنت منصور بْن عبد الله بْن يزيد بْن شمر الحميري.

خلافه المهدى محمد بن عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس

خلافة المهدي محمد بْن عبد الله بْن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ذكر الخبر عن صفة العقد الذي عقد للمهدي بالخلافة حين مات والده المنصور بمكة ذكر علي بْن محمد النوفلي أن أباه حدثه، قَالَ: خرجت في السنة التي مات فيها أبو جعفر من طريق البصرة، وكان أبو جعفر خرج على طريق الكوفة، فلقيته بذات عرق، ثم سرت معه، فكان كلما ركب عرضت له فسلمت عليه، وقد كان أدنف وأشفى على الموت، فلما صار ببئر ميمون نزل به، ودخلنا مكة، فقضيت عمرتي، ثم كنت أختلف إلى أبي جعفر إلى مضربه، فأقيم فيه إلى قريب من الزوال، ثم أنصرف- وكذلك كان يفعل الهاشميون- وأقبلت علته تشتد وتزداد، فلما كان في الليلة التي مات فيها، ولم نعلم، فصليت الصبح في المسجد الحرام مع طلوع الفجر، ثم ركبت في ثوبي متقلدا السيف عليهما، وأنا أساير محمد بْن عون بْن عبد الله بْن الحارث- وكان من سادة بني هاشم ومشايخهم، وكان في ذلك اليوم عليه ثوبان موردان قد أحرم فيهما، متقلدا السيف عليهما- قَالَ: وكان مشايخ بني هاشم يحبون أن يحرموا في المورد لحديث عمر بْن الخطاب وعبد الله بْن جعفر وقول علي بْن أبي طالب فيه فلما صرنا بالأبطح لقينا العباس بْن محمد ومحمد بْن سليمان في خيل ورجال يدخلان مكة، فعدلنا إليهما، فسلمنا عليهما ثم مضينا، فقال لي محمد بْن عون: ما ترى حال هذين ودخولهما مكة؟ قلت: احسب الرجل قد مات، فأرادا أن يحصنا مكة، فكان ذلك كذلك، فبينا

نحن نسير، إذا رجل خفي الشخص في طمرين، ونحن بعد في غلس، قد جاء فدخل بين أعناق دابتينا، ثم أقبل علينا، فقال: مات والله الرجل! ثم خفي عنا، فمضينا نحن حتى أتينا العسكر، فدخلنا السرادق الذي كنا نجلس فيه في كل يوم، فإذا بموسى بْن المهدي قد صدر عند عمود السرادق، وإذا القاسم بْن منصور في ناحية السرادق- وقد كان حين لقينا المنصور بذات عرق، إذا ركب المنصور بعيره جاء القاسم فسار بين يديه بينه وبين صاحب الشرطه، ويؤمر الناس أن يرفعوا القصص إليه- قَالَ: فلما رأيته في ناحية السرادق ورأيت موسى مصدرا، علمت أن المنصور قد مات قَالَ: فبينا أنا جالس إذ أقبل الحسن بْن زيد، فجلس إلى جنبي، فصارت فخذه على فخذي، وجاء الناس حتى ملئوا السرادق، وفيهم ابن عياش المنتوف، فبينا نحن كذلك، إذ سمعنا همسا من بكاء، فقال لي الحسن: أترى الرجل مات! قلت: لا أحسب ذلك، ولكن لعله ثقيل، أو أصابته غشية، فما راعنا إلا بأبي العنبر الخادم الأسود خادم المنصور، قد خرج علينا مشقوق الأقبية من بين يديه ومن خلفه، وعلى رأسه التراب، فصاح: وا أمير المؤمنيناه! فما بقي في السرادق أحد إلا قام على رجليه، ثم أهووا نحو مضارب أبي جعفر يريدون الدخول، فمنعهم الخدم، ودفعوا في صدورهم وقال ابن عياش المنتوف: سبحان الله! أما شهدتم موت خليفة قط! اجلسوا رحمكم الله فجلس الناس، وقام القاسم فشق ثيابه، ووضع التراب على رأسه، وموسى جالس على حاله. وكان صبيا رطبا ما يتحلحل. ثم خرج الربيع، وفي يده قرطاس، فألقى أسفله على الأرض، وتناول طرفه، ثم قرأ: بسم اللَّه الرحمن الرحيم من عبد اللَّه المنصور أمير المؤمنين إلى من خلف بعده من بني هاشم وشيعته من أهل خراسان وعامة المسلمين- ثم ألقى القرطاس من يده، وبكى وبكى الناس، فأخذ القرطاس، وقال: قد أمكنكم البكاء، ولكن هذا عهد عهده أمير المؤمنين، لا بد من أن نقرأه عليكم، فأنصتوا رحمكم الله، فسكت الناس، ثم رجع إلى القراءة- أما بعد:

فانى كتبت كتابي هذا وأنا حي في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة، وأنا أقرأ عليكم السلام، واسال الله الا يفتنكم بعدي، ولا يلبسكم شيعا، ولا يذيق بعضكم بأس بعض يا بني هاشم، ويا أهل خراسان ثم أخذ في وصيتهم بالمهدي، وإذكارهم البيعة له، وحضهم على القيام بدولته، والوفاء بعهده إلى آخر الكتاب. قَالَ النوفلي: قَالَ أبي: وكان هذا شيئا وضعه الربيع، ثم نظر في وجوه الناس، فدنا من الهاشميين، فتناول يد الحسن بْن زيد، فقال: قم يا أبا محمد، فبايع، فقام معه الحسن، فانتهى به الربيع إلى موسى فأجلسه بين يديه، فتناول الحسن يد موسى، ثم التفت إلى الناس، فقال: يأيها الناس، إن أمير المؤمنين المنصور كان ضربني واصطفى مالي، فكلمه المهدي فرضي عني، وكلمه في رد مالي علي فأبى ذلك، فأخلفه المهدي من ماله وأضعفه مكان كل علق علقين، فمن أولى بأن يبايع لأمير المؤمنين بصدر منشرح ونفس طيبة وقلب ناصح مني! ثم بايع موسى للمهدي، ثم مسح على يده. ثم جاء الربيع إلى محمد بْن عون، فقدمه للسن فبايع، ثم جاء الربيع إلي فأنهضني، فكنت الثالث، وبايع الناس، فلما فرغ دخل المضارب، فمكث هنيهة ثم خرج إلينا معشر الهاشميين، فقال: انهضوا، فنهضنا معه جميعا، وكنا جماعة كثيرة من أهل العراق وأهل مكة والمدينة ممن حضر الحج، فدخلنا فإذا نحن بالمنصور على سريره في أكفانه، مكشوف الوجه، فحملناه حتى أتينا به مكة ثلاثة أميال، فكأني أنظر إليه أدنو من قائمة سريرة نحمله، فتحرك الريح، فتطير شعر صدغيه، وذلك أنه كان قد وفر شعره للحلق، وقد نصل خضابه، حتى أتينا به حفرته، فدليناه فيها. قَالَ: وسمعت أبي يقول: كان أول شيء ارتفع به علي بْن عيسى بْن ماهان، أنه لما كان الليلة التي مات فيها أبو جعفر أرادوا عيسى بْن موسى على بيعة مجددة للمهدي- وكان القائم بذلك الربيع- فأبى عيسى بن موسى،

واقبل القواد الذين حضروا يقربون ويتباعدون، فنهض علي بْن عيسى بْن ماهان، فاستل سيفه، ثم جاء إليه، فقال: والله لتبايعن أو لأضربن عنقك! فلما رأى ذلك عيسى، بايع وبايع الناس بعده. وذكر عيسى بْن محمد أن موسى بْن هارون حدثه أن موسى بْن المهدي والربيع مولى المنصور وجها منارة مولى المنصور بخبر وفاة المنصور وبالبيعة للمهدي، وبعثا بعد بقضيب النبي ص وبردته التي يتوارثها الخلفاء مع الحسن الشروي، وبعث أبو العباس الطوسي بخاتم الخلافة مع منارة، ثم خرجوا من مكة، وسار عبد الله بْن المسيب بْن زهير بالحربة بين يدي صالح بْن المنصور، على ما كان يسير بها بين يديه في حياة المنصور، فكسرها القاسم بْن نصر بْن مالك، وهو يومئذ على شرطة موسى بْن المهدي، واندس علي بْن عيسى بْن ماهان لما كان في نفسه من أذى عيسى بْن موسى. وما صنع به للراوندية، فأظهر الطعن والكلام في مسيرهم وكان من رؤسائهم أبو خالد المروروذي، حتى كاد الأمر يعظم ويتفاقم، حتى لبس السلاح. وتحرك في ذلك محمد بْن سليمان، وقام فيه وغيره من أهل بيته، الا ان محمدا كان أحسنهم قياما به حتى طفئ ذلك وسكن وكتب به إلى المهدي، فكتب بعزل علي بْن عيسى عن حرس موسى بْن المهدي، وصير مكانه أبا حنيفة حرب بْن قيس، وهدأ أمر العسكر، وتقدم العباس بْن محمد ومحمد ابن سليمان إلى المهدي، وسبق إليه العباس بْن محمد وقدم منارة على المهدي يوم الثلاثاء للنصف من ذي الحجة، فسلم عليه بالخلافة، وعزاه، وأوصل الكتب إليه، وبايعه أهل مدينة السلام. وذكر الهيثم بْن عدي عن الربيع، أن المنصور رأى في حجته التي مات فيها وهو بالعذيب- أو غيره من منازل طريق مكة- رؤيا- وكان الربيع عديله- وفزع منها، وقال: يا ربيع، ما أحسبني إلا ميتا في وجهي هذا، وأنك تؤكد البيعة لأبي عبد الله المهدي، قَالَ الربيع: فقلت له: بل

يبقيك الله يا أمير المؤمنين، ويبلغ أبو عبد الله محبتك في حياتك إن شاء الله. قَالَ: وثقل عند ذلك وهو يقول: بادر بي إلى حرم ربي وأمنه، هاربا من ذنوبي وإسرافي على نفسي، فلم يزل كذلك حتى بلغ بئر ميمون، فقلت له: هذه بئر ميمون، وقد دخلت الحرم، فقال: الحمد لله، وقضى من يومه. قَالَ الربيع: فأمرت بالخيم فضربت، وبالفساطيط فهيئت، وعمدت إلى أمير المؤمنين فألبسته الطويلة والدراعة، وسندته، وألقيت في وجهه كلة رقيقة يرى منها شخصه، ولا يفهم أمره، وأدنيت أهله من الكلة حيث لا يعلم بخبره، ويرى شخصه ثم دخلت فوقفت بالموضع الذي أوهمهم أنه يخاطبني، ثم خرجت فقلت: إن أمير المؤمنين مفيق بمن الله، وهو يقرأ عليكم السلام، ويقول: إني أحب أن يؤكد الله أمركم، ويكبت عدوكم، ويسر وليكم، وقد أحببت أن تجددوا بيعة أبي عبد الله المهدي، لئلا يطمع فيكم عدو ولا باغ، فقال القوم كلهم: وفق الله أمير المؤمنين، نحن إلى ذاك أسرع قَالَ: فدخل فوقف، ورجع إليهم، فقال: هلموا للبيعة، فبايع القوم كلهم، فلم يبق أحد من خاصته والأولياء ورؤساء من حضره إلا بايع المهدي، ثم دخل وخرج باكيا مشقوق الجيب لاطما رأسه، فقال بعض من حضر: ويلى عليك يا بن شاة! يريد الربيع- وكانت أمه ماتت وهي ترضعه فأرضعته شاة- قَالَ: وحفر للمنصور مائة قبر، ودفن في كلها، لئلا يعرف موضع قبره الذي هو ظاهر للناس، ودفن في غيرها للخوف عليه. قَالَ: وهكذا قبور خلفاء ولد العباس، لا يعرف لأحد منهم قبر. قَالَ: فبلغ المهدي، فلما قدم عليه الربيع قَالَ: يا عبد، ألم تمنعك جلالة أمير المؤمنين إن فعلت ما فعلت به! وقال قوم: إنه ضربه، ولم يصح ذلك. قَالَ: وذكر من حضر حجة المنصور، قَالَ: رأيت صالح بْن المنصور وهو مع أبيه والناس معه، وان موسى بن المهدى لقى تباعه، ثم رجع الناس وهم خلف موسى، وأن صالحا معه

وذكر عن الأصمعي أنه قَالَ: أول من نعى أبا جعفر المنصور بالبصرة خلف الأحمر، وذلك أنا كنا في حلقة يونس، فمر بنا فسلم علينا، فقال: قد طرقت ببكرها أم طبق. قَالَ يونس: وماذا؟ قَالَ: تنتجوها خير أضخم العنق ... موت الإمام فلقة من الفلق وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن يحيى بْن محمد بْن علي، وكان المنصور- فيما ذكر- أوصى بذلك. وكان العامل في هذه السنة على مكة والطائف إبراهيم بن يحيى بن محمد ابن علي بْن عبد الله بْن عباس، وعلى المدينة عبد الصمد بْن علي، وعلى الكوفة عمرو بْن زهير الضبي أخو المسيب بْن زهير- وقيل: كان العامل عليها إسماعيل بْن أبي إسماعيل الثقفي، وقيل: إنه مولى لبني نصر من قيس- وعلى قضائها شريك بْن عبد الله النخعي، وعلى ديوان خراجها ثابت بْن موسى، وعلى خراسان حميد بْن قحطبة، وعلى قضاء بغداد مع قضاء الكوفة شريك ابن عبد الله. وقيل: كان القاضي على بغداد يوم مات المنصور عبيد الله محمد بْن صفوان الجمحي وشريك بْن عبد الله على قضاء الكوفة خاصة وقيل: إن شريكا كان إليه قضاء الكوفة، والصلاة بأهلها. وكان على الشرط ببغداد يوم مات المنصور- فيما ذكر- عمر بْن عبد الرحمن أخو عبد الجبار بْن عبد الرحمن وقيل كان موسى بْن كعب. وعلى ديوان خراج البصرة وأرضها عمارة بْن حمزة وعلى قضائها والصلاة عبيد الله بْن الحسن العنبري، وعلى أحداثها سعيد بْن دعلج. وأصاب الناس- فيما ذكر محمد بْن عمر- في هذه السنة وباء شديد.

سنه تسع وخمسين ومائه

ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومائة (ذكر ما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذَلِكَ غزوة العباس بْن محمد الصائفة فيها حتى بلغ أنقرة، وكان على مقدمة العباس الحسن الوصيف في الموالي، وكان المهدي ضم إليه جماعة من قواد أهل خراسان وغيرهم وخرج المهدي فعسكر بالبردان وأقام فيه حتى أنفذ العباس بْن محمد، ومن قطع عليه البعث معه، ولم يجعل للعباس على الحسن الوصيف ولاية في عزل ولا غيره، ففتح في غزاته هذه مدينة للروم ومطمورة معها، وانصرفوا سالمين لم يصب من المسلمين أحد. وهلك في هذه السنة حميد بْن قحطبة، وهو عامل المهدي على خراسان، فولى المهدي مكانه أبا عون عبد الملك بْن يزيد. وفيها ولي حمزة بْن مالك سجستان، وولي جبرئيل بْن يحيى سمرقند. وفيها بنى المهدي مسجد الرصافة. وفيها بنى حائطها، وحفر خندقها. وفيها عزل المهدي عبد الصمد بن على عن المدينة، مدينه الرسول ص عن موجدة، واستعمل عليها مكانه محمد بْن عبد الله الكثيري ثم عزله، واستعمل عليها مكانه عبيد الله بْن محمد بْن عبد الرحمن بْن صفوان الجمحي. وفيها وجه المهدي عبد الملك بْن شهاب المسمعي في البحر إلى بلاد الهند، وفرض معه لألفين من أهل البصرة من جميع الأجناد، وأشخصهم معه، وأشخص معه من المطوعة الذين كانوا يلزمون المرابطات ألفا وخمسمائة رجل، ووجه معه قائدا من أبناء أهل الشام يقال له ابن الحباب المذحجي في سبعمائة من أهل الشام، وخرج معه من مطوعة أهل البصرة بأموالهم ألف رجل، فيهم

ذكر الخبر عن سبب تحويل المهدى الحسن بن ابراهيم من المطبق إلى نصير

- فيما ذكر- الربيع بْن صبيح، ومن الأسواريين والسبابجة أربعة آلاف رجل، فولى عبد الملك بْن شهاب المنذر بْن محمد الجارودي الألف الرجل المطوعة من أهل البصرة، وولى ابنه غسان بْن عبد الملك الألفي الرجل الذين من فرض البصره، وولى عبد الواحد بن عبد الملك الالف والخمسمائة الرجل من مطوعة المرابطات، وأفرد يزيد بْن الحباب في أصحابه فخرجوا، وكان المهدي وجه لتجهيزهم حتى شخصوا أبا القاسم محرز بْن إبراهيم، فمضوا لوجههم، حتى أتوا مدينة باربد من بلاد الهند في سنة ستين ومائة. وفيها توفي معبد بْن الخليل بالسند، وهو عامل المهدي عليها، فاستعمل مكانه روح بْن حاتم بمشورة أبي عبيد الله وزيره. وفيها أمر المهدي بإطلاق من كان في سجن المنصور، إلا من كان قبله تباعة من دم أو قتل، ومن كان معروفا بالسعي في الأرض بالفساد، أو من كان لأحد قبله مظلمة أو حق، فأطلقوا، فكان ممن أطلق من المطبق يعقوب بْن داود مولى بني سليم، وكان معه في ذلك الحبس محبوسا الحسن بْن إبراهيم بْن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب. وفيها حول المهدي الحسن بْن إبراهيم من المطبق الذي كان فيه محبوسا إلى نصير الوصيف فحبسه عنده. ذكر الخبر عن سبب تحويل المهدي الحسن بْن إبراهيم من المطبق إلى نصير ذكر أن السبب في ذلك، كان أن المهدي لما أمر بإطلاق أهل السجون. على ما ذكرت، وكان يعقوب بْن داود محبوسا مع الحسن بْن إبراهيم في موضع واحد، فأطلق يعقوب بْن داود، ولم يطلق الحسن بْن إبراهيم، ساء ظنه، وخاف على نفسه، فالتمس مخرجا لنفسه وخلاصا، فدس إلى بعض ثقاته،

فحفر له سربا من موضع مسامت للموضع الذي هو فيه محبوس، وكان يعقوب بْن داود بعد أن أطلق يطيف بابن علاثة- وهو قاضي المهدي بمدينة السلام- ويلزمه، حتى أنس به، وبلغ يعقوب ما عزم عليه الحسن ابن إبراهيم من الهرب، فأتى ابن علاثة، فأخبره أن عنده نصيحة للمهدي، وسأله إيصاله إلى أبي عبيد الله، فسأله عن تلك النصيحة، فأبى أن يخبره بها، وحذره فوتها، فانطلق ابن علاثة إلى أبي عبيد الله، فأخبره خبر يعقوب وما جاء به، فأمره بإدخاله عليه، فلما دخل عليه سأله إيصاله إلى المهدي، ليعلمه النصيحة التي له عنده، فأدخله عليه، فلما دخل على المهدي شكر له بلاءه عنده في إطلاقه إياه ومنه عليه، ثم أخبره أن له عنده نصيحة، فسأله عنها بمحضر من أبي عبيد الله وابن علاثة، فاستخلاه منهما، فأعلمه المهدي ثقته بهما، فأبى أن يبوح له بشيء حتى يقوما، فأقامهما وأخلاه، فأخبره خبر الحسن بْن إبراهيم وما أجمع عليه، وأن ذلك كائن من ليلته المستقبلة، فوجه المهدي من يثق به ليأتيه بخبره، فأتاه بتحقيق ما أخبره به يعقوب، فأمر بتحويله إلى نصير، فلم يزل في حبسه إلى أن احتال واحتيل له، فخرج هاربا، وافتقد، فشاع خبره، فطلب فلم يظفر به، وتذكر المهدي دلالة يعقوب إياه كانت عليه، فرجا عنده من الدلالة عليه مثل الذي كان منه في أمره، فسأل أبا عبيد الله عنه فأخبره أنه حاضر- وقد كان لزم أبا عبيد الله- فدعا به المهدي خاليا، فذكر له ما كان من فعله في الحسن ابن إبراهيم أولا، ونصحه له فيه، وأخبره بما حدث من أمره، فأخبره يعقوب أنه لا علم له بمكانه، وأنه إن أعطاه أمانا يثق به ضمن له أن يأتيه به، على أن يتم له على أمانه، ويصله ويحسن إليه فأعطاه المهدي ذلك في مجلسه وضمنه له فقال له يعقوب: فاله يا أمير المؤمنين عن ذكره، ودع طلبه،

فإن ذلك يوحشه، ودعني وإياه حتى أحتال فآتيك به، فأعطاه المهدي ذلك. وقال يعقوب: يا أمير المؤمنين، قد بسطت عدلك لرعيتك، وأنصفتهم، وعممتهم بخيرك وفضلك، فعظم رجاؤهم، وانفسحت آمالهم، وقد بقيت أشياء لو ذكرتها لك لم تدع النظر فيها بمثل ما فعلت في غيرها، وأشياء مع ذلك خلف بابك يعمل بها لا تعملها، فإن جعلت لي السبيل إلى الدخول عليك، وأذنت لي في رفعها إليك فعلت فأعطاه المهدى ذلك، وجعله اليه، وصير سليما الخادم الأسود خادم المنصور سببه في إعلام المهدي بمكانه كلما أراد الدخول، فكان يعقوب يدخل على المهدي ليلا، ويرفع إليه النصائح في الأمور الحسنة الجميلة من أمر الثغور وبناء الحصون وتقوية الغزاة وتزويج العزاب، وفكاك الأسارى والمحبسين والقضاء على الغارمين، والصدقة على المتعففين، فحظي بذلك عنده، وبما رجا أن يناله به من الظفر بالحسن بْن إبراهيم، واتخذه أخا في الله، وأخرج بذلك توقيعا، وأثبت في الدواوين، فتسبب مائة ألف درهم كانت أول صلة وصله بها، فلم تزل منزلته تنمى وتعلو صعدا، إلى أن صير الحسن بْن إبراهيم في يد المهدي بعد ذلك، وإلى أن سقطت منزلته، وأمر المهدي بحبسه، فقال علي بْن الخليل في ذلك: عجبا لتصريف الأمور ... مسرة وكراهية والدهر يلعب بالرجال ... له دوائر جاريه رثت بيعقوب بْن داود ... حبال معاويه وعدت على ابن علاثة القاضي ... بوائق عافيه قل للوزير أبي عبيد الله: ... هل لك باقيه! يعقوب ينظر في الأمور ... وأنت تنظر ناحيه

أدخلته فعلا عليك ... ، كذاك شؤم الناصيه وفي هذه السنة عزل المهدي إسماعيل بْن أبي اسماعيل عن الكوفه واحداثها. واختلف فيمن ولي مكانه، فقال بعضهم: ولي مكانه إسحاق بْن الصباح الكندي ثم الأشعثي بمشورة شريك بْن عبد الله قاضي الكوفة وقال عمر ابن شبة: ولى على الكوفة المهدي عيسى بْن لقمان بن محمد بن حاطب ابن الحارث بْن معمر بْن حبيب بْن وهب بْن حذافة بْن جمح، فولى على شرطه ابن أخيه عثمان بْن سعيد بْن لقمان ويقال: إن شريك بْن عبد الله كان على الصلاة والقضاء، وعيسى على الأحداث، ثم أفرد شريك بالولاية، فجعل على شرطه إسحاق بْن الصباح الكندي، فقال بعض الشعراء: لست تعدو بأن تكون ولو نلت ... سهيلا صنيعة لشريك قَالَ: ويزعمون أن إسحاق لم يشكر لشريك، وأن شريكا قَالَ له: صلى وصام لدنيا كان يأملها ... فقد أصاب ولا صلى ولا صاما وذكر عمر أن جعفر بْن محمد قاضي الكوفة، قَالَ: ضم المهدي إلى شريك الصلاة مع القضاء، وولى شرطه إسحاق بْن الصباح، ثم ولى إسحاق بْن الصباح الصلاة والأحداث بعد، ثم ولى إسحاق بْن الصباح بن عمران ابن إسماعيل بْن محمد بْن الأشعث الكوفة، فولى شرطه النعمان بْن جعفر الكندي، فمات النعمان، فولى على شرطه أخاه يزيد بْن جعفر. وفيها عزل المهدي عن أحداث البصرة سعيد بْن دعلج، وعزل عن الصلاة والقضاء من أهلها عبيد الله بْن الحسن، وولى مكانهما عبد الملك بْن أيوب بْن ظبيان النميري، وكتب إلى عبد الملك يأمره بإنصاف من تظلم

من أهل البصرة من سعيد بْن دعلج، ثم صرفت الأحداث في هذه السنة عن عبد الملك بْن أيوب إلى عمارة بْن حمزة، فولاها عمارة رجلا من أهل البصرة يقال له المسور بْن عبد الله بْن مسلم الباهلي، وأقر عبد الملك على الصلاة. وفيها عزل قثم بْن العباس عن اليمامة عن سخطة، فوصل كتاب عزله إلى اليمامة، وقد توفي فاستعمل مكانه بشر بْن المنذر البجلي. وفيها عزل يزيد بْن منصور عن اليمن، واستعمل مكانه رجاء بْن روح. وفيها عزل الهيثم بْن سعيد عن الجزيرة، واستعمل عليها الفضل بْن صالح. وفيها أعتق المهدي أم ولده الخيزران وتزوجها. وفيها تزوج المهدي أيضا أم عبد الله بنت صالح بْن علي، أخت الفضل وعبد الله ابني صالح لأمهما. وفيها وقع الحريق في ذي الحجة في السفن ببغداد عند قصر عيسى بْن علي، فاحترق ناس كثير، واحترقت السفن بما فيها. وفيها عزل مطر مولى المنصور عن مصر، واستعمل مكانه أبو ضمرة محمد بْن سليمان. وفيها كانت حركة من تحرك من بني هاشم وشيعتهم من أهل خراسان في خلع عيسى بْن موسى من ولاية العهد، وتصيير ذلك لموسى بْن المهدي، فلما تبين ذلك المهدى كتب- فيما ذكر- إلى عيسى بْن موسى في القدوم عليه وهو بالكوفة، فأحس بالذي يراد به، فامتنع من القدوم عليه. وقال عمر: لما أفضى الأمر إلى المهدي سأل عيسى أن يخرج من الأمر فامتنع عليه، فأراد الإضرار به، فولى على الكوفة روح بن حاتم بن قبيصة ابن المهلب، فولى على شرطه خالد بْن يزيد بْن حاتم، وكان المهدي يحب أن يحمل روح على عيسى بعض الحمل فيما لا يكون عليه به حجة، وكان لا يجد إلى ذلك سبيلا، وكان عيسى قد خرج إلى ضيعة له بالرحبة، فكان لا يدخل الكوفة إلا في شهرين من السنة في شهر رمضان، فيشهد الجمع

والعيد، ثم يرجع إلى ضيعته وفي أول ذي الحجة، فإذا شهد العيد رجع إلى ضيعته، وكان إذا شهد الجمعة أقبل من داره على دوابه حتى ينتهي إلى أبواب المسجد فينزل على عتبة الأبواب، ثم يصلي في موضعه، فكتب روح إلى المهدي أن عيسى بْن موسى لا يشهد الجمع، ولا يدخل الكوفة إلا في شهرين من السنة، فإذا حضر أقبل على دوابه حتى يدخل رحبة المسجد، وهو مصلى الناس، ثم يتجاوزها إلى أبواب المسجد، فتروث دوابه في مصلى الناس، وليس يفعل ذلك غيره، فكتب إليه المهدي أن اتخذ على أفواه السكك التي تلي المسجد خشبا ينزل عنده الناس، فاتخذ روح ذلك الخشب في أفواه السكك- فذلك الموضع يسمى الخشبة- وبلغ ذلك عيسى بْن موسى قبل يوم الجمعة، فأرسل إلى ورثة المختار بن ابى عبيده- وكانت دار المختار لزيقة المسجد، فابتاعها وأثمن بها، ثم أنه عمرها واتخذ فيها حماما، فكان إذا كان يوم الخميس أتاها فأقام بها، فإذا أراد الجمعة ركب حمارا فدب به إلى باب المسجد فصلى في ناحية، ثم رجع إلى داره ثم أوطن الكوفة وأقام بها، وألح المهدي على عيسى فقال: إنك إن لم تجبني إلى أن تنخلع منها حتى أبايع لموسى وهارون استحللت منك بمعصيتك ما يستحل من العاصي، وإن أجبتني عوضتك منها ما هو أجدى عليك وأعجل نفعا فأجابه، فبايع لهما وأمر له بعشرة آلاف ألف درهم- ويقال عشرين ألف ألف- وقطائع كثيره. واما غير عمر فإنه قَالَ: كتب المهدي إلى عيسى بْن موسى لما هم بخلعه يأمره بالقدوم عليه، فأحس بما يراد به، فامتنع من القدوم عليه، حتى خيف انتقاضه، فأنفذ إليه المهدي عمه العباس بْن محمد، وكتب إليه كتابا، وأوصاه بما أحب أن يبلغه، فقدم العباس على عيسى بكتاب المهدي ورسالته إليه، فانصرف إلى المهدي بجوابه في ذلك، فوجه إليه بعد قدوم العباس عليه محمد بْن فروخ أبا هريرة القائد في ألف رجل من اصحابه

من ذوي البصيرة في التشيع، وجعل مع كل رجل منهم طبلا، وأمرهم أن يضربوا جميعا بطبولهم عند قدومهم الكوفة، فدخلها ليلا في وجه الصبح، فضرب أصحابه بطبولهم، فراع ذلك عيسى بْن موسى روعا شديدا، ثم دخل عليه أبو هريرة، فأمره بالشخوص، فاعتل بالشكوى فلم يقبل ذلك منه، وأشخصه من ساعته إلى مدينة السلام. وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة يَزِيد بْن منصور- خال المهدي- عند قدومه من اليمن، فحدثني بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن ابى معشر كذلك قَالَ محمد بْن عمر الواقدي وغيره وكان انصراف يزيد بْن منصور من اليمن بكتاب المهدي إليه يأمره بالانصراف إليه وتوليته إياه الموسم وإعلامه اشتياقه إليه وإلى قربه. وكان أمير المدينة في هذه السنة عبيد الله بْن صفوان الجمحي، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها إسحاق بْن الصباح الكندي، وعلى خراجها ثابت ابن موسى، وعلى قضائها شريك بْن عبد الله، وعلى صلاه البصره عبد الملك ابن أيوب بْن ظبيان النميري، وعلى أحداثها عمارة بْن حمزة، وخليفته على ذلك المسور بْن عبد الله بْن مسلم الباهلي، وعلى قضائها عبيد الله بْن الحسن. وعلى كور دجلة وكور الأهواز وكور فارس عمارة بْن حمزة وعلى السند بسطام بْن عمرو، وعلى اليمن رجاء بْن روح وعلى اليمامة بشر بْن المنذر، وعلى خراسان أبو عون عبد الملك بْن يزيد، وعلى الجزيرة الفضل بْن صالح، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد بْن سليمان أبو ضمرة.

سنه ستين ومائه

ثم دخلت سنة ستين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر خروج يوسف البرم 4 فمن ذلك ما كان من خروج يوسف بْن إبراهيم، وهو الذي يقال له يوسف البرم بخراسان منكرا هو ومن تبعه ممن كان على رأيه على المهدي- فيما زعم- الحال التي هو بها وسيرته التي يسير بها، واجتمع معه- فيما ذكر- بشر من الناس كثير، فتوجه إليه يزيد بْن مزيد فلقيه، واقتتلا حتى صارا إلى المعانقة فأسره يزيد، وبعث به إلى المهدي، وبعث معه من وجوه أصحابه بعدة، فلما انتهى بهم إلى النهروان حمل يوسف البرم على بعير قد حول وجهه إلى ذنب البعير وأصحابه على بعير، فأدخلوهم الرصافة على تلك الحال، فأدخلوه على المهدي، فأمر هرثمة بْن أعين فقطع يدي يوسف ورجليه، وضرب عنقه وعنق أصحابه، وصلبهم على جسر دجلة الأعلى، مما يلي عسكر المهدي، وإنما أمر هرثمة بقتله، لأنه كان قتل أخا لهرثمه بخراسان . ذكر خبر خلع عيسى بن موسى وبيعه موسى الهادي وفيها قدم عيسى بْن موسى مع أبي هريرة يوم الخميس لست خلون من المحرم- فيما ذكر- الفضل بْن سليمان فنزل دارا كانت لمحمد بْن سليمان على شاطئ دجلة في عسكر المهدي، فأقام أياما يختلف إلى المهدي، ويدخل مدخله الذي كان يدخله، لا يكلم بشيء، ولا يرى جفوة ولا مكروها ولا تقصيرا به، حتى أنس به بعض الأنس، ثم حضر الدار يوما قبل جلوس المهدي، فدخل مجلسا كان يكون للربيع في مقصورة صغيرة، وعليها باب، وقد اجتمع رؤساء الشيعة في ذلك اليوم على خلعه والوثوب عليه، ففعلوا ذلك

وهو في المقصورة التي فيها مجلس الربيع، فأغلق دونهم المقصورة، فضربوا الباب بجرزهم وعمدهم، فهشموا الباب، وكادوا يكسرونه، وشتموه أقبح الشتم، وحصروه هنالك، وأظهر المهدي إنكارا لما فعلوا، فلم يردعهم ذلك عن فعلهم، بل شدوا في أمره، وكانوا بذلك هو وهم أياما، إلى أن كاشفه ذوو الأسنان من أهل بيته بحضرة المهدي، فأبوا إلا خلعه، وشتموه في وجهه، وكان أشدهم عليه محمد بْن سليمان. فلما رأى المهدي ذلك من رأيهم وكراهتهم لعيسى وولايته، دعاهم إلى العهد لموسى، فصار إلى رأيهم وموافقتهم، وألح على عيسى في إجابته وإياهم إلى الخروج مما له من العهد في أعناق الناس وتحليلهم منه، فأبى، وذكر أن عليه أيمانا محرجة في ماله وأهله، فأحضر له من الفقهاء والقضاة عدة، منهم محمد بْن عبد الله بْن علاثة والزنجي بن خالد المكى وغيرهما، فاتوه بما رأوا، وصار الى المهدى ابتياع ماله من البيعة في أعناق الناس بما يكون له فيه رضا وعوض، مما يخرج له من ماله لما يلزمه من الحنث في يمينه، وهو عشرة آلاف ألف درهم، وضياع بالزاب الأعلى وكسكر فقبل ذلك عيسى، وبقي منذ فاوضه المهدي على الخلع إلى أن أجاب محتسبا عنده في دار الديوان من الرصافة إلى أن صار إلى الرضا بالخلع والتسليم، والى أن خلع يوم الأربعاء لأربع بقين من المحرم بعد صلاة العصر، فبايع للمهدي ولموسى من بعده من الغد يوم الخميس لثلاث بقين من المحرم لارتفاع النهار ثم أذن المهدي لأهل بيته، وهو في قبة كان محمد بْن سليمان أهداها له مضروبة في صحن الأبواب، ثم أخذ بيعتهم رجلا رجلا لنفسه ولموسى بْن المهدي من بعده، حتى أتى إلى آخرهم. ثم خرج إلى مسجد الجماعة بالرصافة فقعد على المنبر، وصعد موسى حتى كأنه دونه وقام عيسى على أول عتبة من المنبر، فحمد الله المهدي وأثنى عليه، وصلى على النبي ص، وأخبر بما أجمع عليه أهل بيته وشيعته وقواده وأنصاره وغيرهم من أهل خراسان من خلع عيسى بْن موسى وتصيير الأمر الذي كان عقد له في أعناق الناس لموسى بْن أمير المؤمنين، لاختيارهم له ورضاهم به، وما رأى من إجابتهم إلى ذلك، لما رجا من مصلحتهم وألفتهم، وخاف مخالفتهم في نياتهم واختلاف كلمتهم، وأن عيسى قد

خلع تقدمه، وحللهم مما كان له من البيعة في أعناقهم، وأن ما كان له من ذلك فقد صار لموسى بْن أمير المؤمنين، بعقد من أمير المؤمنين وأهل بيته وشيعته في ذلك، وأن موسى عامل فيهم بكتاب الله وسنه نبيه ص بأحسن السيرة وأعدلها، فبايعوا معشر من حضر، وسارعوا إلى ما سارع إليه غيركم، فإن الخير كله في الجماعة، والشر كله في الفرقة وأنا أسأل الله لنا ولكم التوفيق برحمته، والعمل بطاعته وما يرضيه، وأستغفر الله لي ولكم وجلس موسى دونه معتزلا للمنبر، لئلا يحول بينه وبين من صعد إليه، يبايعه ويمسح على يده، ولا يستر وجهه، وثبت عيسى قائما في مكانه، وقرئ عليه كتاب ذكر الخلع له، وخروجه مما كان إليه من ولاية العهد وتحليله جماعة من كان له في عنقه بيعة، مما عقدوا له في أعناقهم، وأن ذلك من فعله وهو طائع غير مكره، راض غير ساخط، محب غير مجبر فأقر عيسى بذلك، ثم صعد فبايع المهدي، ومسح على يده، ثم انصرف، وبايع أهل بيت المهدي على أسنانهم، يبايعون المهدي ثم موسى، ويمسحون على أيديهما، حتى فرغ آخرهم، وفعل من حضر من أصحابه ووجوه القواد والشيعة مثل ذلك، ثم نزل المهدى، فصار الى منزله، ووكل ببيعته من بقي من الخاصة والعامة خاله يزيد بْن منصور، فتولى ذلك حتى فرغ من جميع الناس، ووفى المهدي لعيسى بما أعطاه وأرضاه مما خلعه منه من ولاية العهد، وكتب عليه بخلعه إياه كتابا أشهد عليه فيه جماعة أهل بيته وصحابته وجميع شيعته وكتابه وجنده في الدواوين، ليكون حجة على عيسى، وقطعا لقوله ودعواه فيما خرج منه. وهذه نسخة الشرط الذي كتبه عيسى على نفسه: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب لعبد الله المهدي محمد أمير المؤمنين ولولي عهد المسلمين موسى بْن المهدي، ولأهل بيته وجميع قواده وجنوده من أهل خراسان وعامة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وحيث كان كائن منهم، كتبته للمهدي محمد أمير المؤمنين، وولي عهد المسلمين موسى بْن محمد ابن عبد الله بْن محمد بْن علي، فيما جعل إليه من العهد إذ كان إلي، حتى اجتمعت كلمة المسلمين، واتسق أمرهم، وائتلفت أهواؤهم، على الرضا بولاية موسى بْن المهدي

محمد أمير المؤمنين، وعرفت الخط في ذلك علي والخط فيه لي، ودخلت فيما دخل فيه المسلمون من الرضا بموسى بْن أمير المؤمنين، والبيعة له، والخروج مما كان لي في رقابهم من البيعة، وجعلتكم في حل من ذلك وسعة، من غير حرج يدخل عليكم، أو على أحد من جماعتكم وعامة المسلمين، وليس في شيء من ذلك، قديم ولا حديث لي دعوى ولا طلبة ولا حجة ولا مقالة ولا طاعة على أحد منكم، ولا على عامة المسلمين ولا بيعة في حياة المهدي محمد أمير المؤمنين ولا بعده ولا بعد ولي عهد المسلمين موسى، ولا ما كنت حيا حتى أموت وقد بايعت لمحمد المهدي أمير المؤمنين ولموسى بْن أمير المؤمنين من بعده، وجعلت لهما ولعامة المسلمين من أهل خراسان وغيرهم الوفاء بما شرطت على نفسي في هذا الأمر الذي خرجت منه، والتمام عليه علي بذلك عهد الله وما اعتقد أحد من خلقه من عهد أو ميثاق أو تغليظ أو تأكيد على السمع والطاعة والنصيحة للمهدي محمد أمير المؤمنين وولى عهده موسى ابن أمير المؤمنين، في السر والعلانية، والقول والفعل، والنيه والشده والرجاء والسراء والضراء والموالاة لهما ولمن والاهما، والمعاداة لمن عاداهما، كائنا من كان في هذا الأمر الذي خرجت منه فإن أنا نكبت أو غيرت أو بدلت أو دغلت أو نويت غير ما أعطيت عليه هذه الأيمان، أو دعوت إلى خلاف شيء مما حملت على نفسي في هذا الكتاب للمهدي محمد أمير المؤمنين ولولي عهده موسى ابن أمير المؤمنين ولعامة المسلمين، أو لم أف بذلك، فكل زوجة عندي يوم كتبت هذا الكتاب- أو أتزوجها إلى ثلاثين سنة- طالق ثلاثا ألبتة طلاق الحرج وكل مملوك عندي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة أحرار لوجه الله، وكل مال لي نقد أو عرض أو قرض أو أرض، أو قليل أو كثير، تالد أو طارف أو أستفيده فيما بعد اليوم إلى ثلاثين سنة صدقة على المساكين، يضع ذلك

الوالي حيث يرى، وعلي من مدينة السلام المشي حافيا إلى بيت الله العتيق الذي بمكة نذرا واجبا ثلاثين سنة، لا كفارة لي ولا مخرج منه، إلا الوفاء به. والله على الوفاء بذلك راع كفيل شهيد، وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً* وشهيد على عيسى ابن موسى باقراره بما في هذا الشرط أربعمائة وثلاثون من بني هاشم ومن الموالي والصحابة من قريش والوزراء والكتاب والقضاة. وكتب في صفر سنة ستين ومائة وختم عيسى بْن موسى. فقال بعض الشعراء: كره الموت أبو موسى وقد ... كان في الموت نجاء وكرم خلع الملك وأضحى ملبسا ... ثوب لوم ما ترى منه القدم وفي سنة ستين ومائة وافى عبد الملك بْن شهاب المسمعي مدينة باربد بمن توجه معه من المطوعة وغيرهم، فناهضوها بعد قدومهم بيوم، وأقاموا عليها يومين، فنصبوا المنجنيق وناهضوها بجميع الآلة، وتحاشد الناس، وحض بعضهم بعضا بالقرآن والتذكير، ففتحها الله عليهم عنوة، ودخلت خيلهم من كل ناحية، حتى ألجئوهم إلى بدهم، فأشعلوا فيها النيران والنفط، فاحترق منهم من احترق، وجاهد بعضهم المسلمين، فقتلهم الله أجمعين، واستشهد من المسلمين بضعة وعشرون رجلا، وأفاءها الله عليهم وهاج البحر فلم يقدروا على ركوبه والانصراف، فأقاموا إلى أن يطيب، فأصابهم في أفواههم داء يقال له حمام قر، فمات نحو من ألف رجل، منهم الربيع بْن صبيح ثم انصرفوا لما أمكنهم الانصراف حتى بلغوا ساحلا من فارس، يقال له بحر حمران، فعصفت عليهم فيه الريح ليلا، فكسرت عامة مراكبهم، فغرق منهم بعض ونجا بعض، وقدموا معهم بسبي من سبيهم- فيهم بنت ملك باربد- على محمد بْن سليمان، وهو يومئذ والي البصرة. وفيها صير أبان بْن صدقة كاتبا لهارون بْن المهدي ووزيرا له. وفيها عزل أبو عون عن خراسان عن سخطة، وولي مكانه معاذ بْن مسلم

ذكر خبر رد نسب آل بكره وآل زياد

وفيها غزا ثمامة بن الوليد العبسي الصائفة. وفيها غزا الغمر بْن العباس الخثعمى بحر الشام. ذكر خبر رد نسب آل بكره وآل زياد وفيها رد المهدى آل بكرة من نسبهم في ثقيف إلى ولاء رسول الله ص، وكان سبب ذلك أن رجلا من آل أبي بكرة رفع ظلامة إلى المهدي، وتقرب اليه فيها بولاء رسول الله ص، فقال المهدي: أن هذا نسب واعتزاء، ما تقرون به إلا عند حاجة تعرض لكم، وعند اضطراركم إلى التقرب به إلينا فقال الحكم: يا أمير المؤمنين، من جحد ذلك فإنا سنقر، أنا أسألك أن تردني ومعشر آل أبي بكرة إلى نسبنا من ولاء رسول الله ص، وتأمر بآل زياد بْن عبيد فيخرجوا من نسبهم الذي ألحقهم به معاوية رغبة [عن قضاء رسول الله ص: إن الولد للفراش وللعاهر الحجر] فيردوا إلى نسبهم من عبيد في موالي ثقيف فأمر المهدي في آل أبي بكرة وآل زياد أن يرد كل فريق منهم إلى نسبه، وكتب إلى محمد بْن سليمان كتابا وأمره أن يقرأ في مسجد الجماعة على الناس، وأن يرد آل أبي بكرة إلى ولائهم من رسول الله ص ونسبهم الى نفيع ابن مسروح، وأن يرد على من أقر منهم ما أمر برده عليهم من أموالهم بالبصرة مع نظرائهم، ممن أمر برد ماله عليه، والا يرد على من أنكر منهم، وأن يجعل الممتحن منهم والمستبرئ لما عندهم الحكم بْن سمرقند فأنفذ محمد ما أتاه في آل أبي بكرة إلا في أناس منهم غيب عنهم. وأما آل زياد فإنه مما قوى رأي المهدي فيهم- فيما ذكر علي بْن سليمان- أن أباه حدثه، قَالَ: حضرت المهدي وهو ينظر في المظالم إذ قدم عليه رجل من آل زياد يقال له الصغدي بْن سلم بْن حرب، فقال له: من أنت؟ قَالَ: ابن عمك، قَالَ: أي ابن عمي أنت؟ فانتسب إلى زياد، فقال له المهدى: يا بن سمية الزانية، متى كنت ابن عمي! وغضب وأمر به فوجئ في عنقه، وأخرج، ونهض الناس

نسخه كتاب المهدى إلى والى البصره في رد آل زياد إلى نسبهم

قَالَ: فلما خرجت لحقني عيسى بْن موسى- أو موسى بْن عيسى- فقال: أردت والله أن أبعث إليك، أن أمير المؤمنين التفت إلينا بعد خروجك، فقال: من عنده علم من آل زياد؟ فو الله ما كان عند أحد منا من ذاك شيء، فما عندك يا أبا عبد الله؟ فما زلت أحدثه في زياد وآل زياد حتى صرنا إلى منزله بباب المحول، فقال: أسألك بالله والرحم لما كتبت لي هذا كله حتى أروح به إلى أمير المؤمنين، وأخبره عنك فانصرفت فكتبت، وبعثت به إليه فراح إلى المهدي، فأخبره، فأمر المهدي بالكتاب إلى هارون الرشيد، وكان والي البصرة من قبله يأمره أن يكتب إلى واليها يأمره أن يخرج آل زياد من قريش وديوانهم والعرب، وأن يعرض ولد أبي بكرة على ولاء رسول الله ص، فمن أقر منهم ترك ماله في يده، ومن انتمى إلى ثقيف اصطفى ماله. فعرضهم، فأقروا جميعا بالولاء، إلا ثلاثة نفر، فاصطفيت أموالهم. ثم إن آل زياد بعد ذاك رشوا صاحب الديوان حتى ردهم إلى ما كانوا عليه، فقال خالد النجار في ذلك: إن زيادا ونافعا وأبا ... بكرة عندي من أعجب العجب ذا قرشي كما يقول، وذا ... مولى، وهذا- بزعمه- عربي نسخة كتاب المهدي إلى والي البصرة في رد آل زياد إلى نسبهم بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإن أحق ما حمل عليه ولاة المسلمين أنفسهم وخواصهم وعوامهم في أمورهم وأحكامهم، العمل بينهم بما في كتاب الله والاتباع لسنه رسول الله ص، والصبر على ذلك، والمواظبة عليه، والرضا به فيما وافقهم وخالفهم، للذي فيه من إقامة حدود الله ومعرفة حقوقه، واتباع مرضاته، وإحراز جزائه وحسن ثوابه، ولما في مخالفة ذلك والصدود عنه وغلبة الهوى لغيره من الضلال والخسار في الدنيا والآخرة. وقد كان من رأي معاوية بْن أبي سفيان في استلحاقه زياد بْن عبيد عبد آل علاج من ثقيف، وادعائه ما أباه بعد معاوية عامة المسلمين وكثير

منهم في زمانه، لعلمهم بزياد وأبي زياد وأمه من اهل الرضا والفضل والورع والعلم، ولم يدع معاوية إلى ذلك ورع ولا هدى، ولا اتباع سنة هادية، ولا قدوة من أئمة الحق ماضية، إلا الرغبة في هلاك دينه وآخرته، والتصميم على مخالفة الكتاب والسنة والعجب بزياد في جلده ونفاذه، وما رجا من معونته وموازرته إياه على باطل ما كان يركن إليه في سيرته وآثاره وأعماله الخبيثة. [وقد قَالَ رسول الله ص: الولد للفراش وللعاهر الحجر،] [وقال: من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه لا صرفا ولا عدلا] . ولعمري ما ولد زياد في حجر أبي سفيان ولا على فراشه، ولا كان عبيد عبدا لأبي سفيان، ولا سمية أمة له، ولا كانا في ملكه، ولا صارا إليه لسبب من الأسباب ولقد قَالَ معاوية فيما يعلمه أهل الحفظ للأحاديث عند كلام نصر بْن الحجاج بْن علاط السلمي ومن كان معه من موالي بني المغيرة المخزوميين وإرادتهم استلحاقه وإثبات دعوته، وقد أعد لهم معاوية حجرا تحت بعض فرشه فألقاه إليهم، فقالوا له: نسوغ لك ما فعلت في زياد، ولا تسوغ لنا ما فعلنا في صاحبنا، فقال: قضاء رسول الله ص خير لكم من قضاء معاوية فخالف معاوية بقضائه في زياد واستلحاقه إياه وما صنع فيه وأقدم عليه، أمر الله جل وعز وقضاء رسول الله ص واتبع في ذلك هواه رغبة عن الحق ومجانبة له، وقد قَالَ الله عز وجل: «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ، وقال لداود ص وقد أتاه الحكم والنبوة والمال والخلافة: «يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ» الآية إلى آخرها. فأمير المؤمنين يسأل الله أن يعصم له نفسه ودينه، وأن يعيذه من غلبة الهوى، ويوفقه في جميع الأمور لما يحب ويرضى، إنه سميع قريب

وقد رأى أمير المؤمنين أن يرد زيادا ومن كان من ولده إلى أمهم ونسبهم المعروف ويلحقهم بأبيهم عبيد، وأمهم سمية، ويتبع في ذلك قول رسول الله ص، وما أجمع عليه الصالحون وأئمة الهدى، ولا يجيز لمعاوية ما أقدم عليه مما يخالف كتاب الله وسنه رسوله ص، وكان أمير المؤمنين أحق من أخذ بذلك وعمل به، لقرابته من رسول الله ص واتباعه آثاره وإحيائه سنته، وإبطاله سنن غيره الزائغة الجائرة عن الحق والهدى. وقد قَالَ الله جل وعز: «فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ» . فاعلم أن ذلك من رأي أمير المؤمنين في زياد، وما كان من ولد زياد فألحقهم بأبيهم زياد بْن عبيد، وأمهم سمية، واحملهم عليه، وأظهره لمن قبلك من المسلمين حتى يعرفوه ويستقيم فيهم، فإن أمير المؤمنين قد كتب إلى قاضي البصرة وصاحب ديوانهم بذلك والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. وكتب معاوية بْن عبيد الله في سنة تسع وخمسين ومائة فلما وصل الكتاب إلى محمد بن سليمان وقع بانقاذه، ثم كلم فيهم، فكف عنهم، وقد كان كتب إلى عبد الملك بْن أيوب بْن ظبيان النميري بمثل ما كتب به إلى محمد، فلم ينفذه لموضعه من قيس، وكراهته أن يخرج أحد من قومه إلى غيرهم. وفيها كانت وفاة عبيد الله بْن صفوان الجمحي، وهو وال على المدينة، فولى مكانه محمد بْن عبد الله الكثيري، فلم يلبث إلا يسيرا حتى عزل وولى مكانه زفر بْن عاصم الهلالي وولى المهدي قضاء المدينة فيها عبد الله بْن محمد بْن عمران الطلحي. وفيها خرج عبد السلام الخارجي، فقتل. وفيها عزل بسطام بْن عمرو عن السند، واستعمل عليها روح بْن حاتم. وحج بالناس في هذه السنة المهدي، واستخلف على مدينته حين شخص

عنها ابنه موسى، وخلف معه يزيد بْن منصور خال المهدي وزيرا له ومدبرا لأمره. وشخص مع المهدي في هذه السنة ابنه هارون وجماعة من أهل بيته، وكان ممن شخص معه يعقوب بْن داود، على منزلته التي كانت له عنده، فأتاه حين وافى مكة الحسن بْن إبراهيم بْن عبد الله بْن الحسن الذي استأمن له يعقوب من المهدي على أمانة، فأحسن المهدي صلته وجائزته، وأقطعه مالا من الصوافي بالحجاز. وفيها نزع المهدي كسوة الكعبة التي كانت عليها، وكساها كسوة جديدة، وذلك أن حجبة الكعبة- فيما ذكر- رفعوا إليه أنهم يخافون على الكعبة أن تهدم لكثرة ما عليها من الكسوة، فأمر أن يكشف عنها ما عليها من الكسوة حتى بقيت مجرده، ثم طلى البيت كله بالخلوق، وذكر أنهم لما بلغوا إلى كسوة هشام وجدوها ديباجا ثخينا جيدا، ووجدوا كسوة من كان قبله عامتها من متاع اليمن. وقسم المهدي في هذه السنة بمكة في أهلها- فيما ذكر- مالا عظيما، وفي أهل المدينة كذلك، فذكر أنه نظر فيما قسم في تلك السفرة فوجد ثلاثين ألف ألف درهم، حملت معه، ووصلت إليه من مصر ثلاثمائة ألف دينار، ومن اليمن مائتا ألف دينار، فقسم ذلك كله وفرق من الثياب مائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب، ووسع في مسجد رسول الله ص، وأمر بنزع المقصورة التي في مسجد الرسول ص فنزعت، وأراد أن ينقص منبر رسول الله ص فيعيده إلى ما كان عليه، ويلقي منه ما كان معاوية زاد فيه، فذكر عن مالك بْن أنس أنه شاور في ذلك، فقيل له: إن المسامير قد سلكت في الخشب الذي أحدثه معاوية، وفي الخشب الأول وهو عتيق، فلا نأمن إن خرجت المسامير التي فيه وزعزعت أن يتكسر، فتركه المهدي. وامر ايام مقامه بالمدينة باثبات خمسمائة رجل من الأنصار ليكونوا معه حرسا له بالعراق وأنصارا، وأجرى عليهم أرزاقا سوى أعطياتهم، وأقطعهم عند قدومهم معه ببغداد قطيعة تعرف بهم

وتزوج في مقامه بها برقية بنت عمرو العثمانية. وفي هذه السنة حمل محمد بْن سليمان الثلج للمهدي، حتى وافى به مكة، فكان المهدي أول من حمل له الثلج إلى مكة من الخلفاء. وفيها رد المهدي على أهل بيته وغيرهم قطائعهم التي كانت مقبوضة عنهم وكان على صلاة الكوفة وأحداثها في هذه السنة إسحاق بْن الصباح الكندي، وعلى قضائها شريك وعلى البصرة وأحداثها وأعمالها المفردة وكور دجلة والبحرين وعمان وكور الأهواز وفارس محمد بْن سليمان وكان على قضاء البصرة فيها عبيد الله بْن الحسن وعلى خراسان معاذ بْن مسلم، وعلى الجزيرة الفضل بْن صالح، وعلى السند روح بْن حاتم وعلى إفريقية يزيد بن حاتم وعلى مصر محمد بْن سليمان أبو ضمرة.

سنه احدى وستين ومائه

ثم دخلت سنة إحدى وستين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان من ذلك خروج حكيم المقنع بخراسان من قرية من قرى مرو، وكان- فيما ذكر- يقول بتناسخ الأرواح، يعود ذلك إلى نفسه، فاستغوى بشرا كثيرا، وقوي وصار إلى ما وراء النهر، فوجه المهدي لقتاله عدة من قواده، فيهم معاذ بْن مسلم، وهو يومئذ على خراسان، ومعه عقبة بْن مسلم وجبرئيل بْن يحيى وليث مولى المهدي، ثم أفرد المهدي لمحاربته سعيدا الحرشي، وضم إليه القواد، وابتدأ المقنع بجمع الطعام عدة للحصار في قلعة بكش. وفيها ظفر نصر بْن محمد بْن الأشعث الخزاعي بعبد الله بْن مروان بالشام، فقدم به على المهدي قبل أن يوليه السند، فحبسه المهدي في المطبق، فذكر أبو الخطاب أن المهدي أتي بعبد الله بْن مروان بْن محمد- وكان يكنى أبا الحكم- فجلس المهدي مجلسا عاما في الرصافة، فقال: من يعرف هذا؟ فقام عبد العزيز بْن مسلم العقيلي، فصار معه قائما، ثم قَالَ له: أبو الحكم؟ قَالَ: نعم ابن أمير المؤمنين قَالَ: كيف كنت بعدي؟ ثم التفت إلى المهدي، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، هذا عبد الله بْن مروان فعجب الناس من جرأته، ولم يعرض له المهدي بشيء. قَالَ: ولما حبس المهدي عبد الله بْن مروان احتيل عليه، فجاء عمرو بْن سهلة الأشعري فادعى أن عبد الله بْن مروان قتل أباه، فقدمه إلى عافية القاضي، فتوجه عليه الحكم أن يقاد به، واقام عليه البينه، فلما كاد الحكم يبرم جاء عبد العزيز بْن مسلم العقيلي إلى عافية القاضي يتخطى رقاب الناس، حتى صار إليه، فقال: يزعم عمرو بْن سهلة أن عبد الله بْن مروان قتل أباه، كذب والله ما قتل أباه غيري، أنا قتلته بأمر

مروان، وعبد الله بْن مروان من دمه بريء فزالت عن عبد الله بْن مروان، ولم يعرض المهدي لعبد العزيز بْن مسلم لأنه قتله بأمر مروان. وفيها غزا الصائفة ثمامة بْن الوليد، فنزل دابق، وجاشت الروم وهو مغتر، فأتت طلائعه وعيونه بذلك، فلم يحفل بما جاءوا به، وخرج إلى الروم، وعليها ميخائيل بسرعان الناس، فأصيب من المسلمين عدة، وكان عيسى بْن علي مرابطا بحصن مرعش يومئذ، فلم يكن للمسلمين في ذلك العام صائفة من أجل ذلك. وفيها أمر المهدي ببناء القصور في طريق مكة أوسع من القصور التي كان أبو العباس بناها من القادسية إلى زبالة، وأمر بالزيادة في قصور أبي العباس، وترك منازل أبي جعفر التي كان بناها على حالها، وأمر باتخاذ المصانع في كل منهل، وبتجديد الأميال والبرك، وحفر الركايا مع المصانع، وولى ذلك يقطين بْن موسى، فلم يزل ذلك إليه إلى سنة إحدى وسبعين ومائة، وكان خليفة يقطين في ذلك أخوه أبو موسى. وفيها أمر المهدي بالزيادة في مسجد الجامع بالبصرة، فزيد فيه من مقدمه مما يلي القبلة، وعن يمينه مما يلي رحبة بني سليم، وولي بناء ذلك محمد بْن سليمان وهو يومئذ والي البصرة. وفيها أمر المهدي بنزع المقاصير من مساجد الجماعات وتقصير المنابر وتصييرها إلى المقدار الذي عليه منبر رسول الله ص، وكتب بذلك إلى الآفاق فعمل به. وفيها أمر المهدي يعقوب بْن داود بتوجيه الأمناء في جميع الآفاق، فعمل به، فكان لا ينفذ للمهدي كتاب إلى عامل فيجوز حتى يكتب يعقوب بْن داود إلى أمينه وثقته بإنفاذ ذلك. وفيها اتضعت منزلة أبي عبيد الله وزير المهدي، وضم يعقوب إليه من متفقهة البصرة وأهل الكوفة وأهل الشام عددا كثيرا، وجعل رئيس البصريين والقائم بأمرهم إسماعيل بن علية الأسدي ومحمد بْن ميمون العنبري، وجعل رئيس أهل الكوفة وأهل الشام عبد الأعلى بْن موسى الحلبي.

ذكر السبب الذى من اجله تغيرت منزله ابى عبيد الله عند المهدى

ذكر السبب الذي من أجله تغيرت منزلة أبي عبيد الله عند المهدي قد ذكرنا سبب اتصاله به الذي كان قبل في أيام المنصور وضم المنصور إياه إلى المهدي حين وجهه إلى الري عند خلع عبد الجبار بْن عبد الرحمن المنصور، فذكر أبو زيد عمر بْن شبة، أن سعيد بْن إبراهيم حدثه أن جعفر بْن يحيى حدثه أن الفضل بْن الربيع أخبره، أن الموالي كانوا يشنعون على أبي عبيد الله عند المهدي، ويسعون عليه عنده، فكانت كتب أبي عبيد الله تنفذ عند المنصور بما يريد من الأمور، وتتخلى الموالي بالمهدي، فيبلغونه عن أبي عبيد الله، ويحرضونه عليه. قَالَ الفضل: وكانت كتب ابى عبيد الله نصل إلى أبي تترى، يشكو الموالي وما يلقى منهم، ولا يزال يذكره عند المنصور ويخبره بقيامه، ويستخرج الكتب عنه الى المهدى بالوصاية به، وترك القبول فيه قَالَ: فلما رأى أبو عبيد الله غلبة الموالي على المهدي، وخلوتهم به نظر إلى أربعة رجال من قبائل شتى من أهل الأدب والعلم، فضمهم إلى المهدي، فكانوا في صحابته، فلم يكونوا يدعون الموالي يتخلون به. ثم إن أبا عبيد الله كلم المهدي في بعض أمره إذ اعترض رجل من هؤلاء الأربعة في الأمر الذي تكلم فيه، فسكت عنه أبو عبيد الله، فلم يراده، وخرج فأمر أن يحجب عن المهدي فحجبه عنه، وبلغ ذلك من خبره أبي. قَالَ: وحج أبي مع المنصور في السنة التي مات فيها، وقام أبي من أمر المهدي بما قام به من أمر البيعة وتجديدها على بيت المنصور والقواد والموالي، فلما قدم تلقيته بعد المغرب، فلم أزل معه حتى تجاوز منزله، وترك دار المهدي، ومضى إلى أبي عبيد الله، فقال: يا بني، هو صاحب الرجل، وليس ينبغي أن نعامله على ما كنا نعامله عليه، ولا أن نحاسبه بما كان منا في أمره من نصرتنا له قَالَ: فمضينا حتى أتينا باب أبي عبيد الله، فما زال واقفا حتى صليت

العتمة، فخرج الحاجب، فقال: ادخل، فثنى رجله وثنيت رجلي قَالَ: إنما استأذنت لك يا أبا الفضل وحدك قَالَ: اذهب فأخبره أن الفضل معي. قَالَ: ثم أقبل علي، فقال: وهذا أيضا من ذلك! قَالَ: فخرج الحاجب، فأذن لنا جميعا، فدخلنا أنا وأبي، وأبو عبيد الله في صدر المجلس، على مصلى متكئ على وسادة، فقلت: يقوم إلى أبي إذا دخل إليه، فلم يقم إليه، فقلت: يستوي جالسا إذا دنا، فلم يفعل، فقلت: يدعو له بمصلى، فلم يفعل، فقعد أبي بين يديه على البساط وهو متكئ، فجعل يسائله عن مسيره وسفره وحاله، وجعل أبي يتوقع أن يسأله عما كان منه في أمر المهدي وتجديد بيعته، فأعرض عن ذلك، فذهب أبي يبتدئه بذكره، فقال: قد بلغنا نبؤكم، قَالَ: فذهب أبي لينهض، فقال: لا أرى الدروب إلا وقد غلقت، فلو أقمت! قَالَ: فقال أبي: إن الدروب لا تغلق دوني، قَالَ: بلى قد أغلقت قَالَ: فظن أبي أنه يريد أن يحتبسه ليسكن من مسيره، ويريد أن يسأله، قَالَ: فأقيم قَالَ: يا فلان، اذهب فهيئ لأبي الفضل في منزل محمد بْن أبي عبيد الله مبيتا فلما رأى أنه يريد أن يخرج من الدار، قَالَ. فليس تغلق الدروب دوني فاعتزم ثم قام، فلما خرجنا من الدار أقبل علي فقال: يا بني، أنت أحمق، قلت: وما حمقي أنا! قَالَ: تقول لي: كان ينبغي لك ألا تجيء، وكان ينبغي إذا جئت فحجبنا ألا تقيم حتى صليت العتمة، وأن تنصرف ولا تدخل، وكان ينبغي إذا دخلت فلم يقم إليك أن ترجع ولا تقيم عليه، ولم يكن الصواب إلا ما عملت كله، ولكن والله الذي لا إله إلا هو- واستغلق في اليمين- لأخلعن جاهي، ولأنفقن مالي حتى أبلغ من أبي عبيد الله. قَالَ: ثم جعل يضطرب بجهده، فلا يجد مساغا إلى مكروهه، ويحتال الجد إذ ذكر القشيري الذي كان أبو عبيد الله حجبه، فأرسل اليه فجاءه،

فقال: إنك قد علمت ما ركبك به أبو عبيد الله، وقد بلغ مني كل غاية من المكروه، وقد أرغت أمره بجهدي، فما وجدت عليه طريقا، فعندك حيلة في أمره؟ فقال: إنما يؤتى أبو عبيد الله من أحد وجوه أذكرها لك. يقال: هو رجل جاهل بصناعته وأبو عبيد الله أحذق الناس، أو يقال: هو ظنين في الدين بتقليده، وأبو عبيد الله أعف الناس، لو كان بنات المهدي في حجره لكان لهن موضع، أو يقال: هو يميل إلى أن يخالف السلطان فليس يؤتى أبو عبيد الله من ذلك، إلا أنه يميل إلى القدر بعض الميل، وليس يتسلق عليه بذاك أن يقال: هو متهم، ولكن هذا كله مجتمع لك في ابنه، قَالَ: فتناوله الربيع، فقبل بين عينيه، ثم دب لابن ابى عبيد الله، فو الله ما زال يحتال ويدس إلى المهدي ويتهمه ببعض حرم المهدي، حتى استحكم عند المهدي الظنة بمحمد بْن أبي عبيد الله، فأمر فأحضر، وأخرج أبو عبيد الله. فقال: يا محمد اقرأ، فذهب ليقرأ، فاستعجم عليه القرآن، فقال: يا معاوية ألم تعلمني أن ابنك جامع للقرآن؟ قَالَ: أخبرتك يا أمير المؤمنين، ولكن فارقني منذ سنين، وفي هذه المدة التي نأى فيها عني نسي القرآن، قَالَ: قم فتقرب إلى الله في دمه، فذهب ليقوم فوقع، فقال العباس بْن محمد: إن رأيت يا أمير المؤمنين أن تعفي الشيخ! قَالَ: ففعل، وأمر به فأخرج، فضربت عنقه. قَالَ: فاتهمه المهدي في نفسه، فقال له الربيع: قتلت ابنه، وليس ينبغي أن يكون معك، ولا أن تثق به فأوحش المهدي، وكان الذي كان من أمره وبلغ الربيع ما أراد، واشتفى وزاد. وذكر محمد بْن عبد الله يعقوب بْن داود، قَالَ: أخبرني أبي، قَالَ: ضرب المهدي رجلا من الأشعريين، فاوجعه، فتعصب ابو عبيد الله- وكان مولى لهم، فقال: القتل أحسن من هذا يا أمير المؤمنين، فقال له المهدي: يا يهودي، اخرج من عسكري لعنك الله قَالَ: ما أدري إلى أين أخرج

إلا إلى النار! قَالَ: قلت: يا أمير المؤمنين، أحر بهذا أن لمثلها يتوقع، قَالَ: فقال لي: سبحان الله يا أبا عبيد الله! وفيها غزا الغمر بْن العباس في البحر. وفيها ولي نصر بْن محمد بْن الأشعث السند مكان روح بْن حاتم، وشخص إليها حتى قدمها ثم عزل وولي مكانه محمد بْن سليمان، فوجه إليها عبد الملك ابن شهاب المسمعي، فقدمها على نصر، فبغته، ثم أذن له في الشخوص، فشخص حتى نزل الساحل على ستة فراسخ من المنصورة، فأتى نصر بْن محمد عهده على السند، فرجع إلى عمله، وقد كان عبد الملك أقام بها ثمانية عشر يوما، فلم يعرض له، فرجع إلى البصرة. وفيها استقضى المهدي عافية بن يزيد الأزدي، فكان هو وابن علاثة يقضيان في عسكر المهدي في الرصافة، وكان القاضي بمدينة الشرقية عمر بْن حبيب العدوي. وفيها عزل الفضل بْن صالح عن الجزيرة، واستعمل عليها عبد الصمد ابن علي. وفيها استعمل عيسى بْن لقمان على مصر. وفيها ولي يزيد بْن منصور سواد الكوفه وحسان الشروى الموصل وبسطام ابن عمرو التغلبي أذربيجان. وفيها عزل أبا أيوب المسمى سليمان المكي عن ديوان الخراج، وولي مكانه أبو الوزير عمر بْن مطرف. وفيها توفي نصر بْن مالك من فالج أصابه، ودفن في مقابر بني هاشم وصلى عليه المهدي. وفيها صرف أبان بْن صدقة عن هارون بْن المهدي إلى موسى بْن المهدي، وجعله له كاتبا ووزيرا، وجعل مكانه مع هارون ابن المهدى يحيى بن خالد ابن برمك

وفيها عزل محمد بْن سليمان أبا ضمرة عن مصر في ذي الحجة المهدي وولاها سلمة بْن رجاء. وحج بالناس في هذه السنة موسى بْن محمد بْن عبد الله الهادي، وهو ولي عهد أبيه. وكان عامل الطائف ومكة واليمامة فيها جعفر بْن سليمان، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها إسحاق بْن الصباح الكندي، وعلى سوادها يزيد بْن منصور.

سنه اثنتين وستين ومائه

ثم دخلت سنة اثنتين وستين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) خبر مقتل عبد السلام الخارجي فمن ذلك ما كان من مقتل عبد السلام الخارجي بقنسرين. ذكر الخبر عن مقتله: ذكر أن عبد السلام بْن هاشم اليشكري هذا خرج بالجزيرة، وكثر بها أتباعه، واشتدت شوكته، فلقيه من قواد المهدي عدة، منهم عيسى بْن موسى القائد، فقتله في عدة ممن معه، وهزم جماعة من القواد، فوجه إليه المهدي الجنود، فنكب غير واحد من القواد، منهم شبيب بْن واج المروروذي، ثم ندب إلى شبيب ألف فارس، أعطى كل رجل منهم ألف درهم معونة، وألحقهم بشبيب فوافوه، فخرج شبيب في أثر عبد السلام، فهرب منهم حتى أتى قنسرين، فلحقه بها فقتله. وفيها وضع المهدي دواوين الأزمة، وولى عليها عمر بْن بزيع مولاه، فولى عمر بْن بزيع النعمان بْن عثمان أبا حازم زمام خراج العراق. وفيها أمر المهدي أن يجرى على المجذمين وأهل السجون في جميع الآفاق. وفيها ولي ثمامة بْن الوليد العبسي الصائفة، فلم يتم ذلك. وفيها خرجت الروم إلى الحدث، فهدموا سورها. وغزا الصائفة الحسن بْن قحطبة في ثلاثين ألف مرتزق سوى المطوعة، فبلغ حمة أذرولية، فأكثر التخريب والتحريق في بلاد الروم من غير أن يفتح حصنا، ويلقى جمعا، وسمته الروم التنين وقيل: إنه إنما أتى

هذه الحمة الحسن ليستنقع فيها للوضح الذي كان به، ثم قفل بالناس سالمين. وكان على قضاء عسكره وما يجتمع من الفيء حفص بْن عامر السلمي. قَالَ: وفيها غزا يزيد بْن أسيد السلمي من باب قاليقلا، فغنم وفتح ثلاثة حصون، وأصاب سبيا كثيرا وأسرى. وفيها عزل علي بْن سليمان عن اليمن، وولي مكانه عبد الله بْن سليمان. وفيها عزل سلمة بْن رجاء عن مصر، ووليها عيسى بْن لقمان، في المحرم، ثم عزل في جمادى الآخرة، ووليها واضح مولى المهدي، ثم عزل في ذي القعدة ووليها يحيى الحرشي. وفيها ظهرت المحمرة بجرجان، عليهم رجل يقال له عبد القهار، فغلب على جرجان، وقتل بشرا كثيرا، فغزاه عمر بْن العلاء من طبرستان، فقتل عبد القهار وأصحابه. وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن جعفر بن المنصور، وكان العباس ابن محمد استأذن المهدي في الحج بعد ذلك، فعاتبه على ألا يكون استأذنه قبل أن يولي الموسم أحدا فيوليه إياه، فقال: يا أمير المؤمنين، عمدا أخرت ذلك لأني لم أرد الولاية. وكانت عمال الأمصار عمالها في السنة التي قبلها ثم إن الجزيرة كانت في هذه السنة إلى عبد الصمد بْن علي وطبرستان والرويان إلى سعيد بْن دعلج، وجرجان إلى مهلهل بْن صفوان.

سنه ثلاث وستين ومائه

ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائة (ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) فمن ذلك ما كان فيها من هلاك المقنع، وذلك أن سعيدا الحرشي حصره بكش، فاشتد عليه الحصار، فلما أحس بالهلكة شرب سما، وسقاه نساءه وأهله، فمات وماتوا- فيما ذكر- جميعا، ودخل المسلمون قلعته، واحتزوا رأسه، ووجهوا به الى المهدى وهو بحلب. ذكر خبر غزو الروم وفيها قطع المهدي البعوث للصائفة على جميع الأجناد من أهل خراسان وغيرهم، وخرج فعسكر بالبردان، فأقام به نحوا من شهرين يتعبأ فيه ويتهيأ، ويعطي الجنود، وأخرج بها صلات لأهل بيته الذين شخصوا معه، فتوفي عيسى بْن علي في آخر جمادى الآخرة ببغداد وخرج المهدي من الغد إلى البردان متوجها إلى الصائفة، واستخلف ببغداد موسى بْن المهدي، وكاتبه يومئذ أبان بْن صدقة، وعلى خاتمه عبد الله بْن علاثة، وعلى حرسه علي بْن عيسى، وعلى شرطه عبد الله بْن خازم، فذكر العباس بْن محمد أن المهدي لما وجه الرشيد إلى الصائفة سنة ثلاث وستين ومائة خرج يشيعه وأنا معه، فلما حاذى قصر مسلمة، قلت: يا أمير المؤمنين، إن لمسلمة في أعناقنا منة، كان محمد بْن علي مر به، فأعطاه أربعة آلاف دينار، وقال له: يا بن عم هذان ألفان لدينك، وألفان لمعونتك، فإذا نفدت فلا تحتشمنا فقال لما حدثته الحديث: احضروا من هاهنا من ولد مسلمة ومواليه، فأمر لهم بعشرين ألف دينار، وأمر أن تجرى عليهم الأرزاق، ثم قال: يا أبا الفضل، كافانا مسلمة وقضينا حقه؟ قلت: نعم، وزدت يا امير المؤمنين

وذكر إبراهيم بْن زياد، عن الهيثم بْن عدي، أن المهدي أغزى هارون الرشيد بلاد الروم، وضم إليه الربيع الحاجب والحسن بْن قحطبة. قَالَ محمد بْن العباس: إني لقاعد في مجلس أبي في دار أمير المؤمنين وهو على الحرس، إذ جاء الحسن بْن قحطبة، فسلم علي، وقعد على الفراش الذي يقعد أبي عليه، فسأل عنه فأعلمته أنه راكب، فقال لي: يا حبيبي أعلمه أني جئت، وأبلغه السلام عني، وقل له: إن أحب أن يقول لأمير المؤمنين: يقول الحسن بْن قحطبة: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! أغزيت هارون، وضممتني والربيع إليه، وأنا قريع قوادك، والربيع قريع مواليك، وليس تطيب نفسي بان نخلى جميعا بابك، فاما أغزيتني مع هارون وأقام الربيع، وإما أغزيت الربيع وأقمت ببابك قَالَ: فجاء أبي فأبلغته الرسالة، فدخل على المهدي فأعلمه، فقال: أحسن والله الاستعفاء، لا كما فعل الحجام ابْن الحجام- يعني عامر بْن إسماعيل- وكان استعفى من الخروج مع إبراهيم فغضب عليه، واستصفى ماله. وذكر عبد الله بْن أحمد بْن الوضاح، قَالَ: سمعت جدي أبا بديل، قَالَ: أغزى المهدي الرشيد، وأغزى معه موسى بْن عيسى وعبد الملك بْن صالح بْن علي وموليي أبيه: الربيع الحاجب والحسن الحاجب، فلما فصل دخلت عليه بعد يومين أو ثلاثة، فقال: ما خلفك عن ولي العهد، وعن أخويك خاصة؟ يعني الربيع والحسن الحاجب قلت: أمر أمير المؤمنين ومقامي بمدينة السلام حتى يأذن لي قَالَ: فسر حتى تلحق به وبهما، واذكر ما تحتاج إليه قَالَ: قلت: ما أحتاج إلى شيء من العدة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في وداعه! فقال لي: متى تراك خارجا؟ قَالَ: قلت من غد، قَالَ: فودعته وخرجت، فلحقت القوم قَالَ: فأقبلت أنظر إلى الرشيد يخرج، فيضرب بالصوالجة، وانظر إلى موسى بْن عيسى وعبد الملك ابن صالح، وهما يتضاحكان منه

قَالَ: فصرت إلى الربيع والحسن- وكنا لا نفترق- قال: فقلت: لا جزاكما الله عمن وجهكما ولا عمن وجهتما معه خيرا، فقالا: إيه، وما الخبر؟ قَالَ: قلت: موسى بْن عيسى وعبد الملك بْن صالح يتضاحكان من ابن أمير المؤمنين، أوما كنتما تقدران أن تجعلا لهما مجلسا يدخلان عليه فيه ولمن كان معه من القواد في الجمعه يدخلون عليه ويخلوه في سائر ايامه لما يريد! قَالَ: فبينا نحن في ذلك المسير إذ بعثا إلي في الليل قَالَ: فجئت وعندهما رجل، فقالا لي: هذا غلام الغمر بْن يزيد، وقد أصبنا معه كتاب الدولة قَالَ: ففتحت الكتاب، فنظرت فيه إلى سني المهدي فإذا هي عشر سنين. قَالَ: فقلت: ما في الأرض أعجب منكما! أتريان أن خبر هذا الغلام يخفى، وأن هذا الكتاب يستتر! قالا: كلا، قلت: فإذا كان أمير المؤمنين قد نقص من سنيه ما نقص، افلستم أول من نعى اليه نفسه! قال: فتبلدوا والله، وسقط في أيديهما، فقالا: فما الحيلة؟ قلت: يا غلام علي بعنبسة- يعني الوراق الأعرابي مولى آل أبي بديل- فأتي به، فقلت له: خط مثل هذا الخط، وورقة مثل هذه الورقة، وصير مكان عشر سنين أربعين سنة، وصيرها في الورقه، قال: فو الله لولا أني رأيت العشر في تلك والأربعين في هذه ما شككت أن الخط ذلك الخط، وأن الورقة تلك الورقة. قَالَ: ووجه المهدي خالد بْن برمك مع الرشيد وهو ولي العهد حين وجهه لغزو الروم، وتوجه معه الحسن وسليمان ابنا برمك، ووجه معه على أمر العسكر ونفقاته وكتابته والقيام بأمره يحيى بْن خالد- وكان أمر هارون كله إليه- وصير الربيع الحاجب مع هارون يغزو عن المهدي، وكان الذي بين الربيع ويحيى على حسب ذلك، وكان يشاورهما ويعمل برأيهما، ففتح الله عليهم فتوحا كثيرة، وأبلاهم في ذلك الوجه بلاء جميلا، وكان لخالد في ذلك بسمالو أثر جميل لم يكن لأحد، وكان منجمهم يسمى البرمكي تبركا

عزل عبد الصمد بن على عن الجزيرة وتوليه زفر بن الحارث

به ونظرا إليه قَالَ: ولما ندب المهدي هارون الرشيد لما ندبه له من الغزو، أمر أن يدخل عليه كتاب أبناء الدعوة لينظر إليهم ويختار له منهم رجلا. قَالَ يحيى: فأدخلوني عليه معهم، فوقفوا بين يديه، ووقفت آخرهم، فقال لي: يا يحيى، ادن، فدنوت، ثم قَالَ لي: اجلس، فجلست فجثوت بين يديه، فقال لي: إني قد تصفحت أبناء شيعتي وأهل دولتي، واخترت منهم رجلا لهارون ابني أضمه إليه ليقوم بأمر عسكره، ويتولى كتابته، فوقعت عليك خيرتي له، ورأيتك أولى به، إذ كنت مربيه وخاصته، وقد وليتك كتابته وأمر عسكره قَالَ: فشكرت ذلك له، وقبلت يده، وأمر لي بمائة ألف درهم معونة على سفري، فوجهت في ذلك العسكر لما وجهت له. قَالَ: وأوفد الربيع سليمان بْن برمك إلى المهدي، وأوفد معه وفدا، فأكرم المهدي وفادته وفضله، وأحسن إلى الوفد الذين كانوا معه، ثم انصرفوا من وجههم ذلك. عزل عبد الصمد بن على عن الجزيرة وتوليه زفر بن الحارث وفي هذه السنة، سنة مسير المهدي مع ابنه هارون، عزل المهدى عبد الصمد ابن علي عن الجزيرة، وولى مكانه زفر بْن عاصم الهلالي. ذكر السبب في عزله إياه: ذكر أن المهدي سلك في سفرته هذه طريق الموصل، وعلى الجزيرة عبد الصمد بْن علي، فلما شخص المهدي من الموصل، وصار بأرض الجزيرة، لم يتلقه عبد الصمد ولا هيأ له نزلا، ولا أصلح له قناطر فاضطغن ذلك عليه المهدي، فلما لقيه تجهمه وأظهر له جفاء، فبعث إليه عبد الصمد بألطاف لم يرضها، فردها عليه، وازداد عليه سخطا، وامر بأخذه باقامه النزل له، فتعبث في ذلك، وتقنع، ولم يزل يربي ما يكرهه إلى أن نزل حصن

مسلمة، فدعا به، وجرى بينهما كلام أغلظ له فيه القول المهدي، فرد عليه عبد الصمد ولم يحتمله، فأمر بحبسه وعزله عن الجزيرة، ولم يزل في حبسه في سفره ذلك وبعد أن رجع إلى أن رضي عنه وأقام له العباس بْن محمد النزل، حتى انتهى إلى حلب، فأتته البشرى بها بقتل المقنع، وبعث وهو بها عبد الجبار المحتسب لجلب من بتلك الناحية من الزنادقة ففعل، وأتاه بهم، وهو بدابق، فقتل جماعة منهم وصلبهم، وأتي بكتب من كتبهم فقطعت بالسكاكين ثم عرض بها جنده، وأمر بالرحلة، واشخص جماعه من وافاه من أهل بيته مع ابنه هارون إلى الروم، وشيع المهدي ابنه هارون حتى قطع الدرب، وبلغ جيحان، وارتاد بها المدينة التي تسمى المهدية، وودع هارون على نهر جيحان فسار هارون حتى نزل رستاقا من رساتيق أرض الروم فيه قلعة، يقال لها سمالو، فأقام عليها ثمانيا وثلاثين ليلة، وقد نصب عليها المجانيق، حتى فتحها الله بعد تخريب لها، وعطش وجوع أصاب أهلها، وبعد قتل وجراحات كانت في المسلمين، وكان فتحها على شروط شرطوها لأنفسهم: لا يقتلوا ولا يرحلوا، ولا يفرق بينهم، فأعطوا ذلك، فنزلوا، ووفى لهم، وقفل هارون بالمسلمين سالمين إلا من كان أصيب منهم بها. وفي هذه السنة وفي سفرته هذه، صار المهدي إلى بيت المقدس، فصلى فيه، ومعه العباس بْن محمد والفضل بْن صالح وعلي بْن سليمان وخاله يزيد ابن منصور. وفيها عزل المهدي إبراهيم بْن صالح عن فلسطين، فسأله يزيد بْن منصور حتى رده عليها. وفيها ولى المهدي ابنه هارون المغرب كله وأذربيجان وأرمينية، وجعل كاتبه على الخراج، ثابت بْن موسى، وعلى رسائله يحيى بن خالد بن برمك

وفيها عزل زفر بْن عاصم عن الجزيرة، وولى مكانه عبد الله بن صالح ابن علي، وكان المهدي نزل عليه في مسيره إلى بيت المقدس، فأعجب بما رأى من منزله بسلمية. وفيها عزل معاذ بْن مسلم عن خراسان وولاها المسيب بْن زهير. وعزل فيها يحيى الحرشي عن أصبهان، وولى مكانه الحكم بْن سعيد. وعزل فيها سعيد بْن دعلج عن طبرستان والرويان، وولاهما عمر ابن العلاء. وفيها عزل مهلهل بْن صفوان عن جرجان، وولاها هشام بْن سعيد. وحج بالناس في هذه السنة علي بْن المهدي. وكان على اليمامة والمدينة ومكة والطائف فيها جعفر بْن سليمان، وعلى الصلاة والأحداث بالكوفة إسحاق بْن الصباح، وعلى قضائها شريك، وعلى البصرة وأعمالها وكور دجلة والبحرين وعمان والفرض وكور الأهواز وكور فارس محمد بْن سليمان، وعلى خراسان المسيب بْن زهير، وعلى السند نصر بن محمد ابن الاشعث.

سنه اربع وستين ومائه

ثم دخلت سنة أربع وستين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك غزوة عبد الكبير بْن عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْن الخطاب من درب الحدث، فأقبل إليه ميخائيل البطريق- فيما ذكر- في نحو من تسعين ألفا، فيهم طازاذ الأرمني البطريق، ففشل عنه عبد الكبير ومنع المسلمين من القتال وانصرف، فأراد المهدي ضرب عنقه، فكلم فيه فحبسه في المطبق. وفيها عزل المهدي محمد بْن سليمان عن أعماله، ووجه صالح بْن داود على ما كان إلى محمد بْن سليمان، ووجه معه عاصم بْن موسى الخراساني الكاتب على الخراج، وأمره بأخذ حماد بْن موسى كاتب محمد بْن سليمان وعبيد الله بْن عمر خليفته وعماله وتكشيفهم. وفيها بنى المهدي بعيساباذ الكبرى قصرا من لبن، إلى أن أسس قصره الذي بالآجر: الذي سماه قصر السلامة، وكان تأسيسه إياه يوم الأربعاء في آخر ذي القعدة. وفيها شخص المهدي حين أسس هذا القصر إلى الكوفة حاجا، فأقام برصافة الكوفة أياما، ثم خرج متوجها إلى الحج، حتى انتهى إلى العقبة، فغلا عليه وعلى من معه الماء، وخاف ألا يحمله ومن معه ما بين أيديهم، وعرضت له مع ذلك حمى، فرجع من العقبة، وغضب على يقطين بسبب الماء، لأنه كان صاحب المصانع، واشتد على الناس العطش في منصرفهم وعلى ظهرهم حتى اشفوا على الهلكة. وفيها توفي نصر بْن محمد بْن الأشعث بالسند وفيها عزل عبد الله بْن سليمان عن اليمن عن سخطة، ووجه من يستقبله

ويفتش متاعه، ويحصي ما معه، ثم أمر بحبسه عند الربيع حين قدم، حتى أقر من المال والجوهر والعنبر بما أقر به، فرده اليه، واستعمل مكانه منصور بْن يزيد بْن منصور. وفيها وجه المهدي صالح بْن أبي جعفر المنصور من العقبة عند انصرافه عنها إلى مكة ليحج بالناس، فأقام صالح للناس الحج في هذه السنة. وكان العامل على المدينة ومكة والطائف واليمامة فيها جعفر بْن سليمان، وعلى اليمن منصور بْن يزيد بْن منصور، وعلى صلاه الكوفه واحداثها هاشم ابن سعيد بْن منصور، وعلى قضائها شريك بْن عبد الله، وعلى صلاة البصرة وأحداثها وكور دجلة والبحرين وعمان والفرض وكور الأهواز وفارس صالح ابن داود بْن علي، وعلى السند سطيح بْن عمر، وعلى خراسان المسيب بْن زهير، وعلى الموصل محمد بْن الفضل وعلى قضاء البصرة عبيد الله بْن الحسن، وعلى مصر إبراهيم بْن صالح، وعلى إفريقية يزيد بْن حاتم، وعلى طبرستان والرويان وجرجان يحيى الحرشي، وعلى دنباوند وقومس فراشة مولى أمير المؤمنين، وعلى الري خلف بْن عبد الله، وعلى سجستان سعيد بْن دعلج.

سنه خمس وستين ومائه

ثم دخلت سنة خمس وستين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) غزوه هارون بن المهدى الصائفه ببلاد الروم فمن ذلك غزوة هارون بْن محمد المهدي الصائفة، ووجهه أبوه- فيما ذكر- يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة غازيا إلى بلاد الروم، وضم إليه الربيع مولاه، فوغل هارون في بلاد الروم، فافتتح ماجدة، ولقيته خيول نقيطا قومس القوامسة، فبارزه يزيد بْن مزيد، فأرجل يزيد، ثم سقط نقيطا، فضربه يزيد حتى أثخنه، وانهزمت الروم، وغلب يزيد على عسكرهم. وسار إلى الدمستق بنقمودية وهو صاحب المسالح، وسار هارون في خمسه وتسعين ألفا وسبعمائة وثلاثة وتسعين رجلا، وحمل لهم من العين مائه الف دينار واربعه وتسعين ألفا وأربعمائة وخمسين دينارا، ومن الورق أحدا وعشرين ألف الف وأربعمائة الف واربعه عشر ألفا وثمانمائه درهم وسار هارون حتى بلغ خليج البحر الذى على القسطنطينية، وصاحب الروم يومئذ اغسطه امرأة أليون، وذلك أن ابنها كان صغيرا قد هلك أبوه وهو في حجرها، فجرت بينهما وبين هارون بْن المهدي الرسل والسفراء في طلب الصلح والموادعة وإعطائه الفدية، فقبل ذلك منها هارون، وشرط عليها الوفاء بما أعطت له، وأن تقيم له الأدلاء والأسواق في طريقه، وذلك أنه دخل مدخلا صعبا مخوفا على المسلمين، فأجابته إلى ما سأل، والذي وقع عليه الصلح بينه وبينها تسعون أو سبعون ألف دينار، تؤديها في نيسان الأول في كل سنة، وفي حزيران، فقبل ذلك منها، فأقامت له الأسواق في منصرفه، ووجهت معه رسولا إلى المهدي بما بذلت على أن تؤدي ما تيسر من الذهب والفضة والعرض، وكتبوا

كتاب الهدنة إلى ثلاث سنين، وسلمت الأسارى وكان الذي أفاء الله على هارون إلى أن أذعنت الروم بالجزية خمسة آلاف رأس وستمائه وثلاثة وأربعين رأسا، وقتل من الروم في الوقائع أربعة وخمسون ألفا، وقتل من الأسارى صبرا ألفان وتسعون أسيرا ومما أفاء الله عليه من الدواب الذلل بأدواتها عشرون ألف دابة، وذبح من البقر والغنم مائة ألف رأس وكانت المرتزقة سوى المطوعة وأهل الأسواق مائة ألف، وبيع البرذون بدرهم، والبغل بأقل من عشرة دراهم، والدرع بأقل من درهم وعشرين سيفا بدرهم، فقال مروان بْن أبي حفصة في ذلك: أطفت بقسطنطينة الروم مسندا ... إليها القنا حتى اكتسى الذل سورها وما رمتها حتى أتتك ملوكها ... بجزيتها، والحرب تغلي قدورها وفيها عزل خلف بْن عبد الله عن الري، وولاها عيسى مولى جعفر. وحج بالناس في هذه السنة صالح بْن أبي جعفر المنصور. وكانت عمال الأمصار فِي هَذِهِ السنة هم عمالها في السنة الماضية، غير أن العامل على أحداث البصرة والصلاة بأهلها كان روح بْن حاتم، وعلى كور دجلة والبحرين وعمان وكسكر وكور الأهواز وفارس وكرمان كان المعلى مولى أمير المؤمنين المهدي، وعلى السند الليث مولى المهدي.

سنه ست وستين ومائه

ثم دخلت سنة ست وستين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك قفول هارون بْن المهدي، ومن كان معه من خليج قسطنطينية في المحرم لثلاث عشرة ليلة بقيت منه، وقدمت الروم بالجزية معهم، وذلك- فيما قيل- أربعة وستون ألف دينار عدد الرومية والفان وخمسمائة دينار عربية، وثلاثون ألف رطل مرعزى. وفيها أخذ المهدي البيعة على قواده لهارون بعد موسى بْن المهدي، وسماه الرشيد. وفيها عزل عبيد الله بْن الحسن عن قضاء البصرة، وولى مكانه خالد بْن طليق بْن عمران بن حصين الخزاعي، فلم تحمد ولايته، فاستعفى أهل البصرة منه. وفيها عزل جعفر بْن سليمان عن مكة والمدينة، وما كان إليه من العمل. وفيها سخط المهدي على يعقوب بْن داود. ذكر الخبر عن غضب المهدي على يعقوب ذكر علي بْن محمد النوفلي، قَالَ: سمعت أبي يذكر، قَالَ: كان داود بْن طهمان- وهو أبو يعقوب بْن داود- وإخوته كتابا لنصر بْن سيار، وقد كتب داود قبله لبعض ولاة خراسان، فلما كانت أيام يحيى بْن زيد كان يدس إليه وإلى أصحابه بما يسمع من نصر، ويحذرهم، فلما خرج أبو مسلم يطلب بدم يحيى بْن زيد ويقتل قتلته والمعينين عليه من اصحاب نصر، أتاه داود ابن طهمان مطمئنا لما كان يعلم مما جرى بينه وبينه، فآمنه أبو مسلم، ولم

يعرض له في نفسه، وأخذ أمواله التي استفاد أيام نصر، وترك منازله وضيعه التي كانت له ميراثا بمرو، فلما مات داود خرج ولده أهل أدب وعلم بأيام الناس وسيرهم وأشعارهم، ونظروا فإذا ليست لهم عند بني العباس منزلة، فلم يطمعوا في خدمتهم لحال أبيهم من كتابة نصر، فلما رأوا ذلك أظهروا مقالة الزيدية، ودنوا من آل الحسين، وطمعوا أن يكون لهم دولة فيعيشوا فيها. فكان يعقوب يجول البلاد منفردا بنفسه، ومع إبراهيم بْن عبد الله أحيانا، في طلب البيعة لمحمد بْن عبد الله، فلما ظهر محمد وإبراهيم بْن عبد الله كتب على ابن داود- وكان أسن من يعقوب- لإبراهيم بْن عبد الله، وخرج يعقوب مع عدة من إخوته مع إبراهيم، فلما قتل محمد وإبراهيم تواروا من المنصور، فطلبهم، فأخذ يعقوب وعليا فحبسهما في المطبق أيام حياته، فلما توفي المنصور من عليهما المهدي فيمن من عليه بتخلية سبيله، وأطلقهما وكان معهما في المطبق إسحاق بْن الفضل بْن عبد الرحمن- وكانا لا يفارقانه- وإخوته الذين كانوا محتبسين معه، فجرت بينهم بذلك الصداقة وكان إسحاق بْن الفضل بْن عبد الرحمن يرى أن الخلافة قد تجوز في صالحي بني هاشم جميعا، فكان يقول: كانت الإمامة بعد رسول الله ص لا تصلح إلا في بني هاشم، وهي في هذا الدهر لا تصلح إلا فيهم، وكان يكثر في قوله للأكبر من بني عبد المطلب، وكان هو ويعقوب بْن داود يتجاريان ذلك، فلما خلى المهدي سبيل يعقوب مكث المهدي برهة من دهره يطلب عيسى بن زيد والحسن ابن إبراهيم بْن عبد الله بعد هرب الحسن من حبسه، فقال المهدي يوما: لو وجدت رجلا من الزيدية له معرفة بآل حسن وبعيسى بْن زيد، وله فقه فاجتلبه إلي على طريق الفقه، فيدخل بيني وبين آل حسن وعيسى بْن زيد! فدل على يعقوب بْن داود، فأتي به فأدخل عليه، وعليه يومئذ فرو وخفا كبل وعمامة كرابيس وكساء أبيض غليظ فكلمه وفاتحه، فوجده رجلا كاملا، فسأله عن عيسى بْن زيد، فزعم الناس أنه وعده الدخول بينه وبينه، وكان يعقوب ينتفي من ذلك، إلا أن الناس قد رموه بأن منزلته عند المهدي إنما

كانت للسعاية بآل علي ولم يزل أمره يرتفع عند المهدي ويعلو حتى استوزره، وفوض إليه أمر الخلافة، فأرسل إلى الزيدية، فأتى بهم من كل أوب، وولاهم من أمور الخلافة في المشرق والمغرب كل جليل وعمل نفيس، والدنيا كلها في يديه، ولذلك يقول بشار بْن برد: بني أمية هبوا طال نومكم ... إن الخليفة يعقوب بْن داود ضاعت خلافتكم يا قوم فاطلبوا ... خليفة الله بين الدف والعود قَالَ: فحسده موالي المهدي، فسعوا عليه. ومما حظي به يعقوب عند المهدي، أنه استأمنه للحسن بْن إبراهيم بْن عبد الله، ودخل بينه وبينه حتى جمع بينهما بمكة قَالَ: ولما علم آل الحسن بْن علي بصنيعه استوحشوا منه، وعلم يعقوب أنه إن كانت لهم دولة لم يعش فيها، وعلم أن المهدي لا يناظره لكثرة السعاية به إليه، فمال يعقوب إلى إسحاق بْن الفضل، وأقبل يربص له الأمور وأقبلت السعايات ترد على المهدي بإسحاق حتى قيل له: إن المشرق والمغرب في يد يعقوب وأصحابه، وقد كاتبهم، وإنما يكفيه أن يكتب إليهم فيثوروا في يوم واحد على ميعاد، فيأخذوا الدنيا لإسحاق بْن الفضل، فكان ذلك قد ملأ قلب المهدي عليه. قَالَ علي بْن محمد النوفلي: فذكر لي بعض خدم المهدي أنه كان قائما على رأسه يوما يذب عنه، إذ دخل يعقوب، فجثا بين يديه، فقال: يا أمير المؤمنين، قد عرفت اضطراب أمر مصر، وأمرتني أن ألتمس لها رجلا يجمع أمرها، فلم أزل أرتاد حتى أصبت لها رجلا يصلح لذلك قَالَ: ومن هو؟ قَالَ: ابن عمك إسحاق بْن الفضل، فرأى يعقوب في وجهه التغير، فنهض فخرج، وأتبعه المهدي طرفه، ثم قَالَ: قتلني الله إن لم أقتلك! ثم رفع رأسه إلي وقال: اكتم علي ويلك! قَالَ: ولم يزل مواليه يحرضونه عليه ويوحشونه منه، حتى عزم على إزالة النعمة عنه

وقال موسى بْن إبراهيم المسعودي: قَالَ المهدي: وصف لي يعقوب بْن داود في منامي، فقيل لي أن اتخذه وزيرا فلما رآه، قَالَ: هذه والله الخلقة التي رأيتها في منامي، فاتخذه وزيرا، وحظي عنده غاية الحظوة، فمكث حينا حتى بنى عيساباذ، فأتاه خادم من خدمه- وكان حظيا عنده- فقال له: إن أحمد بْن إسماعيل بْن علي، قَالَ لي: قد بنى متنزها أنفق عليه خمسين ألف ألف من بيت مال المسلمين، فحفظها عن الخادم، ونسى احمد ابن إسماعيل، وتوهمها على يعقوب بْن داود، فبينا يعقوب بين يديه إذ لببه، فضرب به الأرض، فقال: ما لي ولك يا أمير المؤمنين! قَالَ: ألست القائل: إني أنفقت على متنزه لي خمسين ألف ألف! فقال يعقوب: والله ما سمعته أذناي، ولا كتبه الكرام الكاتبون، فكان هذا أول سبب أمره. قَالَ: وحدثني أبي، قَالَ: كان يعقوب بْن داود قد عرف عن المهدي خلعا واستهتارا بذكر النساء والجماع، وكان يعقوب بْن داود يصف من نفسه في ذلك شيئا كثيرا، وكذلك كان المهدي، فكانوا يخلون بالمهدي ليلا فيقولون: هو على أن يصبح فيثور بيعقوب، فإذا أصبح غدا عليه يعقوب وقد بلغه الخبر، فإذا نظر إليه تبسم، فيقول: إن عندك لخيرا! فيقول: نعم، فيقول: اقعد بحياتي فحدثني، فيقول: خلوت بجاريتي البارحة، فقالت وقلت، فيصنع لذلك حديثا، فيحدث المهدي بمثل ذلك، ويفترقان على الرضا، فيبلغ ذلك من يسعى على يعقوب، فيتعجب منه. قَالَ: وقال لي الموصلي: قَالَ يعقوب بْن داود للمهدي في أمر أراده: هذا والله السرف، فقال: ويلك! وهل يحسن السرف إلا بأهل الشرف! ويلك يا يعقوب، لولا السرف لم يعرف المكثرون من المقترين! وقال علي بْن يعقوب بْن داود عن أبيه، قَالَ: بعث إلي المهدي يوما، فدخلت عليه، فإذا هو في مجلس مفروش بفرش مورد متناه في السرور على بستان فيه شجر، ورءوس الشجر مع صحن المجلس، وقد اكتسى

ذلك الشجر بالأوراد والأزهار من الخوخ والتفاح، فكل ذلك مورد يشبه فرش المجلس الذي كان فيه، فما رأيت شيئا أحسن منه، وإذا عنده جارية ما رأيت أحسن منها، ولا أشط قواما، ولا أحسن اعتدالا، عليها نحو تلك الثياب، فما رأيت أحسن من جملة ذلك فقال لي: يا يعقوب، كيف ترى مجلسنا هذا؟ قلت: على غاية الحسن، فمتع الله أمير المؤمنين به، وهنأه إياه، فقال: هو لك، احمله بما فيه وهذه الجارية ليتم سرورك به قَالَ: فدعوت له بما يجب قَالَ: ثم قَالَ: يا يعقوب، ولي إليك حاجة، قَالَ: فوثبت قائما ثم قلت: يا أمير المؤمنين، ما هذا إلا من موجدة، وأنا أستعيذ بالله من سخط أمير المؤمنين! قَالَ: لا، ولكن أحب أن تضمن لي قضاء هذه الحاجة فإني لم أسألكها من حيث تتوهم، وإنما قلت ذلك على الحقيقة، فأحب أن تضمن لي هذه الحاجة وأن تقضيها لي، فقلت: الأمر لأمير المؤمنين وعلي السمع والطاعة، قَالَ: - والله- قلت والله ثلاثا- قَالَ: وحياة رأسي! قلت: وحياة رأسك، قَالَ: فضع يدك عليه واحلف به، قَالَ: فوضعت يدي عليه، وحلفت له به لأعملن بما قَالَ، ولأقضين حاجته قَالَ: فلما استوثق مني في نفسه، قَالَ: هذا فلان بْن فلان، من ولد علي، أحب أن تكفيني مؤونته، وتريحني منه، وتعجل ذلك قَالَ: قلت: أفعل، قَالَ: فخذه إليك، فحولته إلي، وحولت الجارية وجميع ما كان في البيت من فرش وغير ذلك، وأمر لي معه بمائة ألف درهم. قَالَ: فحملت ذلك جملة، ومضيت به، فلشدة سروري بالجارية صيرتها في مجلس بيني وبينها ستر، وبعثت إلى العلوي، فأدخلته على نفسي، وسألته عن حاله، فأخبرني بها، وبجمل منها، وإذا هو ألب الناس وأحسنهم إبانة. قَالَ: وقال لي في بعض ما يقول: ويحك يا يعقوب! تلقى الله بدمي، وأنا رجل من ولد فاطمة بنت محمد! قَالَ: قلت: لا والله، فهل فيك خير؟

قَالَ: إن فعلت خيرا شكرت ولك عندي دعاء واستغفار قَالَ: فقلت له أي الطرق أحب إليك؟ قَالَ: طريق كذا وكذا، قلت: فمن هناك ممن تأنس به وتثق بموضعه؟ قَالَ: فلان وفلان، قلت: فابعث إليهما، وخذ هذا المال، وامض معهما مصاحبا في ستر الله، وموعدك وموعدهما للخروج من داري إلى موضع كذا وكذا- الذي اتفقوا عليه- في وقت كذا وكذا من الليل، وإذا الجارية قد حفظت علي قولي، فبعثت به مع خادم لها إلى المهدي، وقالت: هذا جزاؤك من الذي آثرته على نفسك، صنع وفعل كذا وكذا، حتى ساقت الحديث كله قَالَ: وبعث المهدي من وقته ذلك، فشحن تلك الطرق والمواضع التي وصفها يعقوب والعلوي برجاله، فلم يلبث ان جاءوه بالعلوي بعينه وصاحبيه والمال، على السجية التي حكتها الجارية قَالَ: وأصبحت من غد ذلك اليوم، فإذا رسول المهدي يستحضرني- قَالَ: وكنت خالي الذرع غير ملق الى امر العلوي بالا حتى أدخل على المهدي، وأجده على كرسي بيده مخصرة- فقال: يا يعقوب، ما حال الرجل؟ قلت: يا أمير المؤمنين، قد أراحك الله منه، قَالَ: مات؟ قلت: نعم، قَالَ: والله، ثم قَالَ: قم فضع يدك على رأسي، قَالَ: فوضعت يدي على رأسه، وحلفت له به قَالَ: فقال: يا غلام، أخرج إلينا ما في هذا البيت، قَالَ: ففتح بابه عن العلوي صاحبيه والمال بعينه قَالَ: فبقيت متحيرا، وسقط في يدي، وامتنع منى الكلام، فما أدري ما أقول! قَالَ: فقال المهدي: لقد حل لي دمك لو آثرت إراقته، ولكن احبسوه في المطبق، ولا أذكر به، فحبست في المطبق، واتخذ لي فيه بئر فدليت فيها، فكنت كذلك أطول مدة لا أعرف عدد الأيام وأصبت ببصري، وطال شعري، حتى استرسل كهيئة شعور البهائم. قَالَ: فإني لكذلك، إذ دعي بي فمضي بي إلى حيث لا أعلم أين هو، فلم أعد أن قيل لي: سلم على أمير المؤمنين، فسلمت، فقال: أي أمير المؤمنين أنا؟ قلت: المهدي، قَالَ: رحم الله المهدي، قلت: فالهادي؟ قَالَ: رحم الله الهادي، قلت: فالرشيد؟ قَالَ: نعم، قلت: ما أشك في وقوف

أمير المؤمنين على خبري وعلتي وما تناهت إليه حالي، قَالَ: أجل، كل ذلك عندي قد عرف أمير المؤمنين، فسل حاجتك، قَالَ: قلت: المقام بمكة، قَالَ: نفعل ذلك، فهل غير هذا؟ قَالَ: قلت: ما بقي في مستمتع لشيء ولإبلاغ، قَالَ: فراشدا قَالَ: فخرجت فكان وجهي إلى مكة. قَالَ ابنه: ولم يزل بمكة فلم تطل أيامه بها حتى مات قَالَ محمد بْن عبد الله: قَالَ لي أبي: قَالَ يعقوب بْن داود: وكان المهدي لا يشرب النبيذ الا تحرجا، ولكنه كان لا يشتهيه، وكان أصحابه: عمر بْن بزيع والمعلى مولاه والمفضل ومواليه يشربون عنده بحيث يراهم، قَالَ: وكنت أعظه في سقيهم النبيذ وفي السماع، وأقول: إنه ليس على هذا استوزرتني ولا على هذا صحبتك، أبعد الصلوات الخمس في المسجد الجامع، يشرب عندك النبيذ وتسمع السماع! قَالَ: فكان يقول: قد سمع عبد الله بْن جعفر، قَالَ: قلت: ليس هذا من حسناته، لو أن رجلا سمع في كل يوم كان ذلك يزيده قربة من الله أو بعدا!. وقال محمد بْن عبد الله: حدثني أبي، قَالَ: كان أبي يعقوب بْن داود قد ألح على المهدي في حسمه عن السماع وإسقائه النبيذ حتى ضيق عليه، وكان يعقوب قد ضجر بموضعه، فتاب إلى الله مما هو فيه، واستقبل وقدم النية في تركه موضعه قَالَ: فكنت أقول للمهدي: يا أمير المؤمنين، والله لشربة خمر أشربها أتوب إلى الله منها أحب إلى مما أنا فيه، وإني لأركب إليك فأتمنى يدا خاطئة تصيبني في الطريق، فأعفني وول غيري من شئت، فإني أحب ان اسلم عليك انا وولدى، وو الله إني لأتفزع في النوم، وليتني أمور المسلمين وإعطاء الجند، وليس دنياك عوضا من آخرتي قَالَ: فكان يقول لي: اللهم غفرا! اللهم أصلح قلبه، قَالَ: فقال شاعر له: فدع عنك يعقوب بْن داود جانبا ... وأقبل على صهباء طيبة النشر

قَالَ عبد الله بْن عمر: وحدثني جعفر بْن أحمد بْن زيد العلوي، قَالَ: قَالَ ابن سلام: وهب المهدي لبعض ولد يعقوب بْن داود جارية، وكان بضعف قَالَ: فلما كان بعد أيام، سأله عنها، فقال: يا أمير المؤمنين، ما رأيت مثلها، ما وضعت بيني وبين الارض مطيه أوطأ منها حاشا سامع فالتفت المهدي إلى يعقوب، فقال له: من تراه يعني؟ يعنيني أو يعنيك؟ فقال له يعقوب: من كل شيء تحفظ الأحمق إلا من نفسه. وقال علي بْن محمد النوفلي: حدثني أبي، قَالَ: كان يعقوب بْن داود يدخل على المهدي فيخلو به ليلا يحادثه ويسامره، فبينما هو ليلة عنده، وقد ذهب من الليل أكثره، خرج يعقوب من عنده، وعليه طيلسان مصبوغ هاشمي، وهو الأزرق الخفيف، وكان الطيلسان قد دق دقا شديدا فهو يتقعقع، وغلام آخذ بعنان دابة له شهباء، وقد نام الغلام، فذهب يعقوب يسوي طيلسانه فتقعقع، فنفر البرذون، ودنا منه يعقوب، فاستدبره فضربه ضربة على ساقه فكسرها، وسمع المهدي الوجبة، فخرج حافيا، فلما رأى ما به أظهر الجزع والفزع، ثم أمر به فحمل في كرسي إلى منزله، ثم غدا عليه المهدي مع الفجر، وبلغ ذلك الناس، فغدوا عليه، فعاده أياما ثلاثة متتابعة، ثم قعد عن عيادته، وأقبل يرسل إليه يسأله عن حاله، فلما فقد وجهه، تمكن السعاة من المهدي، فلم تأت عليه عاشرة حتى أظهر السخط عليه، فتركه في منزله يعالج، ونادى في اصحابه: لا يوجد أحد عليه طيلسان يعقوبي، وقلنسوة يعقوبية إلا أخذت ثيابه ثم أمر بيعقوب فحبس في سجن نصر. قَالَ النوفلي: وأمر المهدي بعزل أصحاب يعقوب عن الولايات في الشرق والغرب، وأمر أن يؤخذ أهل بيته، وأن يحبسوا ففعل ذلك بهم. وقال علي بْن محمد: لما حبس يعقوب بْن داود وأهل بيته، وتفرق عماله

واختفوا وتشردوا، أذكر المهدي قصته وقصة إسحاق بْن الفضل، فأرسل إلى إسحاق ليلا وإلى يعقوب، فأتي به من محبسه، فقال: ألم تخبرني بأن هذا وأهل بيته يزعمون أنهم أحق بالخلافة منا أهل البيت، وأن لهم الكبر علينا! فقال له يعقوب: ما قلت لك هذا قط، قَالَ: وتكذبني وترد علي قولي! ثم دعا له بالسياط فضربه اثني عشر سوطا ضربا مبرحا، وأمر به فرد إلى الحبس. قَالَ: وأقبل إسحاق يحلف أنه لم يقل هذا قط، وأنه ليس من شأنه وقال فيما يقول: وكيف أقول هذا يا أمير المؤمنين، وقد مات جدي في الجاهلية وابوك الباقى بعد رسول الله ص ووارثه! فقال: أخرجوه، فلما كان من الغد دعا بيعقوب، فعاوده الكلام الذي كلمه في ليلته، فقال: يا أمير المؤمنين، لا تعجل علي حتى أذكرك، أتذكر وأنت في طارمة على النهر، وأنت في البستان وأنا عندك، إذ دخل أبو الوزير- قَالَ علي: وكان أبو الوزير ختن يعقوب بْن داود على ابنة صالح بْن داود- فخبرك هذا الخبر عن إسحاق؟ قَالَ: صدقت يا يعقوب، قد ذكرت ذلك، فاستحى المهدي، واعتذر إليه من ضربه، ثم رده إلى الحبس، فمكث محبوسا أيام المهدي وأيام موسى كلها حتى أخرجه الرشيد بميله كان إليه في حياة أبيه. وفيها خرج موسى الهادي إلى جرجان، وجعل على قضائه أبا يوسف يعقوب بْن إبراهيم. وفيها تحول المهدي إلى عيساباذ فنزلها، وهي قصر السلامة، ونزل الناس بها معه، وضرب بها الدنانير والدراهم. وفيها أمر المهدي بإقامة البريد بين مدينه الرسول ص وبين مكة واليمن، بغالا وإبلا، ولم يقم هنالك بريد قبل ذلك. وفيها اضطربت خراسان على المسيب بْن زهير، فولاها الفضل بْن سليمان

أخبار متفرقة

الطوسي أبا العباس، وضم إليه معها سجستان، فاستخلف على سجستان تميم بْن سعيد بْن دعلج بأمر المهدي. وفيها أخذ داود بْن روح بْن حاتم وإسماعيل بْن سليمان بْن مجالد ومحمد ابن أبي أيوب المكي ومحمد بْن طيفور في الزندقة، فأقروا، فاستتابهم المهدي وخلى سبيلهم، وبعث بداود بْن روح إلى أبيه روح، وهو يومئذ بالبصرة عاملا عليها، فمن عليه، وأمره بتأديبه. وفيها قدم الوضاح الشروي بعبد الله بْن أبي عبيد الله الوزير- وهو معاوية ابن عبيد الله الأشعري من أهل الشام- وكان الذي يسعى به ابن شبابة وقد رمي بالزندقة وقد ذكرنا أمره ومقتله قبل. وفيها ولي إبراهيم بْن يحيى بْن محمد على المدينة، مدينه رسول الله ص، وعلى الطائف ومكة عبيد الله بْن قثم. وفيها عزل منصور بْن يزيد بْن منصور عن اليمن، واستعمل مكانه عبد الله بْن سليمان الربعي. وفيها خلى المهدي عبد الصمد بْن علي من حبسه الذي كان فيه . [أخبار متفرقة] وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن يحيى بْن محمد. وكان عامل الكوفة في هذه السنة على الصلاة وأحداثها هاشم بْن سعيد، وعلى صلاة البصرة وأحداثها روح بْن حاتم، وعلى قضائها خالد بْن طليق، وعلى كور دجلة وكسكر وأعمال البصرة والبحرين وكور الأهواز وفارس وكرمان المعلى مولى أمير المؤمنين، وعلى خراسان وسجستان الفضل بْن سليمان الطوسي، وعلى مصر إبراهيم بْن صالح، وعلى إفريقية يزيد بْن حاتم، وعلى طبرستان والرويان وجرجان يحيى الحرشي وعلى دنباوند وقومس فراشة مولى المهدي، وعلى الري سعد مولى أمير المؤمنين. ولم يكن في هذه السنة صائفة، للهدنة التي كانت فيها

سنه سبع وستين ومائه

ثم دخلت سنة سبع وستين ومائة (ذكر الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) فمن ذَلِكَ مَا كان من توجيه المهدي ابنه موسى في جمع كثيف من الجند، وجهاز لم يجهز- فيما ذكر- أحد بمثله، إلى جرجان لحرب ونداهرمز وشروين صاحبي طبرستان، وجعل المهدي حين جهز موسى إليها أبان بْن صدقة على رسائله، ومحمد بْن جميل على جنده، ونفيعا مولى المنصور على حجابته، وعلي بْن عيسى بْن ماهان على حرسه، وعبد الله بْن خازم على شرطه، فوجه موسى الجنود إلى وانداهرمز وشروين، وأمر عليهم يزيد بْن مزيد، فحاصرهما. وفيها توفى عيسى بن موسى بالكوفه، وولى الكوفة يومئذ روح بْن حاتم، فأشهد روح بْن حاتم على وفاته القاضي وجماعة من الوجوه، ثم دفن وقيل إن عيسى بْن موسى توفي وروح على الكوفة، لثلاث بقين من ذي الحجة، فحضر روح جنازته، فقيل له: تقدم فأنت الأمير، فقال: ما كان الله ليرى روحا يصلي على عيسى بْن موسى، فليتقدم أكبر ولده، فأبوا عليه وأبى عليهم، فتقدم العباس بْن عيسى، فصلى على أبيه وبلغ ذلك المهدي، فغضب على روح، وكتب إليه: قد بلغني ما كان من نكوصك عن الصلاة على عيسى، أبنفسك، أم بأبيك، أم بجدك كنت تصلي عليه! أو ليس إنما ذلك مقامي لو حضرت. فإذ غبت كنت أنت أولى به لموضعك من السلطان! وامر بمحاسبته، وكان يلي الخراج مع الصلاة والأحداث. وتوفي عيسى والمهدي واجد عليه وعلى ولده، وكان يكره التقدم عليه لجلالته

وفيها جد المهدي في طلب الزنادقة والبحث عنهم في الآفاق وقتلهم، وولى أمرهم عمر الكلواذي، فأخذ يزيد بْن الفيض كاتب المنصور، فأقر- فيما ذكر- فحبس، فهرب من الحبس، فلم يقدر عليه. وفيها عزل المهدي أبا عبيد الله معاوية بْن عبيد الله عن ديوان الرسائل، وولاه الربيع الحاجب، فاستخلف عليه سعيد بْن واقد، وكان أبو عبيد الله يدخل على مرتبته. وفيها فشا الموت، وسعال شديد ووباء شديد ببغداد والبصرة. وفيها توفي أبان بْن صدقة بجرجان، وهو كاتب موسى على رسائله، فوجه المهدي مكانه أبا خالد الأحول يزيد خليفة أبي عبيد الله. وفيها أمر المهدي بالزيادة في المسجد الحرام، فدخلت فيه دور كثيرة. وولى بناء ما زيد فيه يقطين بْن موسى، فكان في بنائه إلى أن توفي المهدي. وفيها عزل يحيى الحرشي عن طبرستان والرويان، وما كان إليه من تلك الناحية، ووليها عمر بْن العلاء، وولي جرجان فراشة مولى المهدي، وعزل عنها يحيى الحرشي. وفيها أظلمت الدنيا لليال بقين من ذي الحجة، حتى تعالى النهار ولم يكن فيها صائفة، للهدنة التي كانت بين المسلمين والروم. وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن يحيى بْن محمد وهو على المدينة، ثم توفي بعد فراغه من الحج وقدومه المدينة بأيام، وولي مكانه إسحاق بْن عيسى ابن على. وفيها طعن عقبه بن سلم الهنائى بعيساباذ، وهو في دار عمر بن بزيع، اغتاله رجل، فطعنه بخنجر، فمات فيها

وكان العامل على مكة والطائف فيها عبيد الله بْن قثم، وعلى اليمن سليمان بْن يزيد الحارثي، وعلى اليمامة عبد الله بْن مصعب الزبيري، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها روح بْن حاتم، وعلى صلاة البصرة وأحداثها محمد بْن سليمان، وعلى قضائها عمر بْن عثمان التيمي، وعلى كور دجلة وكسكر وأعمال البصرة والبحرين وعمان وكور الأهواز وفارس وكرمان المعلى مولى المهدي. وعلى خراسان وسجستان الفضل بْن سليمان الطوسي. وعلى مصر موسى بْن مصعب وعلى إفريقية يزيد بْن حاتم. وعلى طبرستان والرويان عمر بْن العلاء، وعلى جرجان ودنباوند وقومس فراشة مولى المهدي، وعلى الري سعد مولى أمير المؤمنين.

سنه ثمان وستين ومائه

ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من نقض الروم الصلح الذي كان جرى بينهم وبين هارون بْن المهدي الذي ذكرناه قبل وغدرهم، وذلك في شهر رمضان من هذه السنة، فكان بين أول الصلح وغدر الروم ونكثهم به اثنان وثلاثون شهرا، فوجه علي بْن سليمان وهو يومئذ على الجزيرة وقنسرين يزيد بْن بدر بْن البطال في سرية إلى الروم فغنموا وظفروا. وفيها وجه المهدى سعيدا الحرشي إلى طبرستان في أربعين ألف رجل. وفيها مات عمر الكلواذي صاحب الزنادقة، وولي مكانه حمدويه، وهو محمد بْن عيسى من أهل ميسان. وفيها قتل المهدي الزنادقة ببغداد. وفيها رد المهدي ديوانه وديوان أهل بيته إلى المدينة ونقله من دمشق إليها. وفيها خرج المهدي إلى نهر الصلة أسفل واسط- وإنما سمي نهر الصلة فيما ذكر لأنه أراد أن يقطع أهل بيته وغيرهم غلته، يصلهم بذلك. وفيها ولى المهدي علي بْن يقطين ديوان زمام الأزمة على عمر بْن بزيع. وذكر أحمد بْن موسى بْن حمزة، عن أبيه، قَالَ: أول من عمل ديوان الزمام عمر بْن بزيع في خلافة المهدي، وذلك أنه لما جمعت له الدواوين تفكر، فإذا هو لا يضبطها إلا بزمام يكون له على كل ديوان، فاتخذ دواوين الأزمة، وولى كل ديوان رجلا، فكان واليه على زمام ديوان الخراج اسماعيل ابن صبيح، ولم يكن لبني أمية دواوين أزمة. وحج بالناس في هذه السنة علي بن محمد المهدي الذي يقال له ابن ريطة.

سنه تسع وستين ومائه

ثم دخلت سنة تسع وستين ومائة ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا ذكر الخبر عن خروج المهدى الى ماسبذان فمما كان فيها من ذلك خروج المهدي في المحرم إلى ماسبذان. ذكر الخبر عن خروجه إليها: ذكر أن المهدي كان في آخر أمره قد عزم على تقديم هارون ابنه على ابنه موسى الهادي، وبعث إليه وهو بجرجان بعض أهل بيته ليقطع أمر البيعة، ويقدم الرشيد فلم يفعل، فبعث إليه المهدي بعض الموالي، فامتنع عليه موسى من القدوم، وضرب الرسول، فخرج المهدي بسبب موسى وهو يريده بجرجان فأصابه ما أصابه. وذكر الباهلي أن أبا شاكر أخبره- وكان من كتاب المهدي على بعض دواوينه- قَالَ: سأل علي بْن يقطين المهدي أن يتغدى عنده، فوعده أن يفعل، ثم اعتزم على إتيان ماسبذان، فو الله لقد أمر بالرحيل كأنه يساق إليها سوقا، فقال له علي: يا أمير المؤمنين، إنك قد وعدتني أن تتغدى عندي غدا، قَالَ: فاحمل غداءك إلى النهروان قَالَ: فحمله فتغدى بالنهروان، ثم انطلق. وفيها توفي المهدي . ذكر الخبر عن موت المهدي ذكر الخبر عن سبب وفاته: اختلف في ذلك، فذكر عن واضح قهرمان المهدي، قَالَ: خرج المهدي يتصيد بقرية يقال لها الرذ بماسبذان، فلم أزل معه إلى بعد العصر،

وانصرفت إلى مضربي- وكان بعيدا من مضربه- فلما كان في السحر الاكبر ركبت لإقامة الوظائف، فإني لأسير في برية، وقد انفردت عمن كان معي من غلماني وأصحابي، إذ لقيني اسود عريان على قتد رحل، فدنا مني، ثم قَالَ لي: أبا سهل، عظم الله أجرك في مولاك أمير المؤمنين! فهممت أن أعلوه بالسوط، فغاب من بين يدي، فلما انتهيت إلى الرواق لقيني مسرور، فقال لي: أبا سهل، عظم الله أجرك في مولاك أمير المؤمنين! فدخلت فإذا أنا به مسجى في قبة، فقلت: فارقتكم بعد صلاة العصر، وهو أسر ما كان حالا وأصحه بدنا، فما كان الخبر؟ قَالَ: طردت الكلاب ظبيا، فلم يزل يتبعها، فاقتحم الظبي باب خربة، فاقتحمت الكلاب خلفه، واقتحم الفرس خلف الكلاب، فدق ظهره في باب الخربة، فمات من ساعته. وذكر أن علي بْن أبي نعيم المروزي، قَالَ: بعثت جارية من جواري المهدي إلى ضرة لها بلبأ فيه سم، وهو قاعد في البستان، بعد خروجه من عيساباذ، فدعا به فأكل منه، ففرقت الجارية أن تقول له: إنه مسموم. وحدثني أحمد بْن محمد الرازي، أن المهدي كان جالسا في علية في قصر بماسبذان، يشرف من منظرة فيها على سفله، وكانت جاريته حسنة، قد عمدت إلى كمثراتين كبيرتين، فجعلتهما في صينية، وسمت واحدة منهما وهي أحسنهما وأنضجهما في أسفلها، وردت القمع فيها، ووضعتها في أعلى الصينية- وكان المهدي يعجبه الكمثرى- وأرسلت بذلك مع وصيفة لها إلى جاريه للمهدي- وكان يتحظاها- تريد بذلك قتلها، فمرت الوصيفة بالصينية التي فيها تلك الكمثرى، تريد دفعها إلى الجارية التي أرسلتها حسنة إليها، بحيث يراها المهدي من المنظرة، فلما رآها ورأى معها الكمثرى، دعا بها، فمد يده إلى الكمثراة التي في أعلى الصينية وهي المسمومة، فأكلها، فلما وصلت إلى جوفه صرخ: جوفي! وسمعت حسنة الصوت، وأخبرت الخبر، فجاءت

تلطم وجهها وتبكي، وتقول: أردت أن أنفرد بك، فقتلتك يا سيدي! فهلك من يومه. وذكر عبد الله بْن إسماعيل صاحب المراكب، قَالَ: لما صرنا إلى ماسبذان دنوت إلى عنانه، فامسكت به وما به عله، فو الله ما أصبح إلا ميتا، فرأيت حسنة وقد رجعت، وإن على قبتها المسوح، فقال أبو العتاهية في ذلك: رحن في الوشي وأصبحن ... عليهن المسوح كل نطاح من الدهر ... له يوم نطوح لست بالباقي ولو عمرت ... ما عمر نوح فعلى نفسك نح إن ... كنت لا بد تنوح وذكر صالح القارئ أن علي بْن يقطين، قَالَ: كنا مع المهدي بماسبذان فأصبح يوما فقال: إني أصبحت جائعا، فأتي بأرغفة ولحم بارد مطبوخ بالخل، فأكل منه ثم قَالَ: إني داخل إلى البهو ونائم فيه، فلا تنبهوني حتى أكون أنا الذي أنتبه، ودخل البهو فنام، ونمنا نحن في الدار في الرواق، فانتبهنا ببكائه، فقمنا إليه مسرعين، فقال: أما رأيتم ما رأيت؟ قلنا: ما رأينا شيئا، قَالَ: وقف على الباب رجل، لو كان في ألف أو في مائة ألف رجل ما خفي علي، فأنشد يقول: كأني بهذا القصر قد باد أهله ... وأوحش منه ربعه ومنازله وصار عميد القوم من بعد بهجة ... وملك إلى قبر عليه جنادله فلم يبق إلا ذكره وحديثه ... تنادي عليه معولات حلائله

ذكر الخبر عن الموضع الذى دفن فيه ومن صلى عليه

قَالَ: فما أتت عليه عاشرة حتى مات. وكانت وفاته- فيما قَالَ أبو معشر والواقدي- في سنة تسع وستين ومائة، ليلة الخميس لثمان بقين من المحرم، وكانت خلافته عشر سنين وشهرا ونصف شهر. قال بعضهم: كانت خلافته عشر سنين وتسعة وأربعين يوما، وتوفي وهو ابن ثلاث وأربعين سنة. وقال هشام بْن محمد: ملك أبو عبد الله المهدي محمد بْن عبد الله سنة ثمان وخمسين ومائة، في ذي الحجة لست ليال خلون منه، فملك عشر سنين وشهرا واثنين وعشرين يوما، ثم توفي سنة تسع وستين ومائة، وهو ابن ثلاث وأربعين سنة . ذكر الخبر عن الموضع الَّذِي دفن فِيهِ ومن صلى عليه ذكر أن المهدي توفي بقرية من قرى ماسبذان، يقال لها الرذ، وفي ذلك يقول بكار بْن رباح: ألا رحمة الرحمن في كل ساعة ... على رمة رمت بماسبذان لقد غيب القبر الذي تم سوددا ... وكفين بالمعروف تبتدران وصلى عليه ابنه هارون، ولم توجد له جنازة يحمل عليها، فحمل على باب، ودفن تحت شجرة جوز كان يجلس تحتها. وكان طويلا مضمر الخلق، جعدا واختلف في لونه، فقال بعضهم: كان أسمر، وقال بعضهم: كان أبيض. وكان في عينه اليمنى- في قول بعضهم- نكتة بياض وقال بعضهم: كان ذلك بعينه اليسرى. وكان ولد بايذج.

ذكر بعض سير المهدى واخباره

ذكر بعض سير المهدي وأخباره ذكر عن هارون بْن أبي عبيد الله، قَالَ: كان المهدي إذا جلس للمظالم، قَالَ: أدخلوا علي القضاة، فلو لم يكن ردي للمظالم إلا للحياء منهم لكفى. وذكر الحسن بْن أبي سعيد، قَالَ: حدثني علي بْن صالح، قَالَ: جلس المهدي ذات يوم يعطي جوائز تقسم بحضرته في خاصته من أهل بيته والقواد، وكان يقرأ عليه الأسماء، فيأمر بالزيادة، العشرة الآلاف والعشرين الألف، وما أشبه ذلك، فعرض عليه بعض القواد، فقال: يحط هذا خمسمائة، قَالَ: لم حططتني يا أمير المؤمنين؟ قَالَ: لأني وجهتك إلى عدو لنا فانهزمت قَالَ: كان يسرك أن أقتل؟ قَالَ: لا، قَالَ: فو الذى أكرمك بما أكرمك به من الخلافة لو ثبت لقتلت، فاستحيا المهدي منه، وقال: زده خمسة آلاف. قَالَ الحسن: وحدثني علي بْن صالح، قَالَ: غضب المهدي على بعض القواد- وكان عتب عليه غير مرة- فقال له: إلى متى تذنب إلي وأعفو؟ قَالَ: إلى أبد نسيء، ويبقيك الله فتعفو عنا، فكررها عليه مرات، فاستحيا منه ورضي عنه. وذكر محمد بْن عمر، عن حفص مولى مزينة، عن أبيه، قَالَ: كان هشام الكلبي صديقا لي، فكنا نتلاقى فنتحدث ونتناشد، فكنت أراه في حال رثة وفي أخلاق على بغلة هزيل، والضر فيه بين وعلى بغلته، فما راعني إلا وقد لقيني يوما على بغلة شقراء من بغال الخلافة، وسرج ولجام من سروج الخلافة ولجمها، في ثياب جياد ورائحة طيبة، فأظهرت السرور، ثم قلت له: أرى نعمة ظاهرة، قَالَ لي: نعم، اخبرك عنها، فاكتم، فبينما

أنا في منزلي منذ أيام بين الظهر والعصر، إذ أتاني رسول المهدي فسرت إليه، ودخلت عليه وهو جالس خال ليس عنده أحد، وبين يديه كتاب، فقال: ادن يا هشام، فدنوت فجلست بين يديه، فقال: خذ هذا الكتاب فاقرأه ولا يمنعك ما فيه مما تستفظعه أن تقرأه قَالَ: فنظرت في الكتاب، فلما قرأت بعضه استفظعته، فألقيته من يدي، ولعنت كاتبه، فقال لي: قد قلت لك: إن استفظعته فلا تلقه، اقرأه بحقي عليك حتى تأتي على آخره! قَالَ: فقرأته فإذا كتاب قد ثلبه فيه كاتبه ثلبا عجيبا، لم يبق له فيه شيئا، فقلت: يا أمير المؤمنين، من هذا الملعون الكذاب؟ قَالَ: هذا صاحب الأندلس، قَالَ: قلت: فالثلب والله يا أمير المؤمنين فيه وفي آبائه وفي أمهاته. قَالَ: ثم اندرأت أذكر مثالبهم، قَالَ: فسر بذلك، وقال: أقسمت عليك لما أمللت مثالبهم كلها على كاتب قَالَ: ودعا بكاتب من كتاب السر، فأمره فجلس ناحية، وأمرني فصرت إليه، فصدر الكاتب من المهدي جوابا، وأمللت عليه مثالبهم فأكثرت، فلم أبق شيئا حتى فرغت من الكتاب، ثم عرضته عليه، فأظهر السرور، ثم لم أبرح حتى أمر بالكتاب فختم، وجعل في خريطة، ودفع إلى صاحب البريد، وأمر بتعجيله إلى الأندلس قال: ثم دعا بمنديل فيه عشرة أثواب من جياد الثياب وعشرة آلاف درهم، وهذه البغلة بسرجها ولجامها، فأعطاني ذلك، وقال لي: اكتم ما سمعت. قَالَ الحسن: وحدثني مسور بْن مساور، قَالَ: ظلمني وكيل للمهدي، وغصبني ضيعة لي، فأتيت سلاما صاحب المظالم، فتظلمت منه وأعطيته رقعة مكتوبة، فأوصل الرقعة إلى المهدي، وعنده عمه العباس بْن محمد وابن علاثة وعافية القاضي قَالَ: فقال لي المهدي: ادنه، فدنوت، فقال: ما تقول؟ قلت: ظلمتني، قَالَ: فترضى بأحد هذين؟ قَالَ: قلت: نعم،

قَالَ: فادن مني، فدنوت منه حتى التزقت بالفراش، قَالَ: تكلم، قلت: أصلح الله القاضي! أنه ظلمني في ضيعتي هذا، فقال القاضي: ما تقول يا أمير المؤمنين؟ قَالَ: ضيعتي وفي يدي، قَالَ: قلت: أصلح الله القاضي! سله، صارت الضيعة إليه قبل الخلافة أو بعدها؟ قَالَ: فسأله: ما تقول يا أمير المؤمنين؟ قَالَ: صارت إلي بعد الخلافة قَالَ: فأطلقها له، قَالَ: قد فعلت، فقال العباس بن محمد: والله يا امير المؤمنين لذا المجلس أحب إلي من عشرين ألف ألف درهم. قَالَ: وحدثني عبد الله بْن الربيع، قَالَ: سمعت مجاهدا الشاعر يقول: خرج المهدي متنزها، ومعه عمر بْن بزيع مولاه، قَالَ: فانقطعنا عن العسكر، والناس في الصيد، فأصاب المهدي جوع، فقال: ويحك! هل من شيء؟ قَالَ: ما من شيء، قَالَ: أرى كوخًا وأظنها مبقلة، فقصدنا قصده، فإذا نبطي في كوخ ومبقلة، فسلمنا عليه، فرد السلام، فقلنا له: هل عندك شيء نأكل؟ قَالَ: نعم عندي ربيثاء وخبز شعير، فقال المهدي: إن كان عندك زيت فقد أكملت، قَالَ: نعم، قال: وكراث؟ قَالَ: نعم، ما شئت وتمر قَالَ: فعدا نحو المبقلة، فأتاهم ببقل وكراث وبصل، فأكلا أكلا كثيرا، وشبعا، فقال المهدي لعمر بْن بزيع: قل في هذا شعرا، فقال: إن من يطعم الربيثاء بالزيت ... وخبز الشعير بالكراث لحقيق بصفعة أو بثنتين ... لسوء الصنيع أو بثلاث فقال المهدي: بئس ما قلت، ليس هكذا. لحقيق ببدرة أو بثنتين ... لحسن الصنيع أو بثلاث قال: ووافى العسكر والخزائن والخدم فأمر للنبطي بثلاث بدر وانصرف. وذكر محمد بْن عبد الله، قَالَ: أخبرني أبو غانم، قَالَ: كان زيد

الهلالي رجلًا شريفًا سخيا مشهورا من بني هلال، وكان نقش خاتمه: أفلح يا زيد من زكا عمله، فبلغ ذلك المهدي، فقال زيد الهلالي: زيد الهلالي نقش خاتمه ... أفلح يا زيد من زكا عمله قَالَ: وقال الحسن الوصيف: أصابتنا ريح في أيام المهدي حتى ظننا أنها تسوقنا إلى المحشر، فخرجت أطلب أمير المؤمنين، فوجدته واضعا خده على الأرض، يقول: اللهم احفظ محمدا في أمته، اللهم لا تشمت بنا أعداءنا من الأمم، اللهم إن كنت أخذت هذا العالم بذنبي فهذه ناصيتي بين يديك، قَالَ: فما لبثنا إلا يسيرا حتى انكشفت الريح وانجلى ما كنا فيه. وقَالَ الموصلي: قَالَ عبد الصمد بْن علي: قلت للمهدي: يا أمير المؤمنين، أنا أهل بيت قد أشرب قلوبنا حب موالينا وتقديمهم، وإنك قد صنعت من ذلك ما أفرطت فيه، قد وليتهم أمورك كلها، وخصصتهم في ليلك ونهارك، ولا آمن تغيير قلوب جندك وقوادك من أهل خراسان، قَالَ: يا أبا محمد، ان الموالي يستحقون ذلك، وليس أحد يجتمع لي فيه أن أجلس للعامة فأدعو به فأرفعه حتى تحك ركبته ركبتي، ثم يقوم من ذلك المجلس، فأستكفيه سياسة دابتي، فيكفيها، لا يرفع نفسه عن ذلك الا موالي هؤلاء، فإنهم لا يتعاظمهم ذلك، ولو أردت هذا من غيرهم لقال: ابن دولتك والمتقدم في دعوتك، وأين من سبق إلى بيعتك، لا أدفعه عن ذلك. قَالَ علي بْن محمد: قَالَ الفضل بْن الربيع: قَالَ المهدي لعبد الله بْن مالك: صارع مولاي هذا، فصارعه، فأخذ بعنقه، فقال المهدي: شد، فلما رأى ذلك عبد الله أخذ برجله فسقط على رأسه فصرعه فقال عبد الله للمهدي: يا أمير المؤمنين، قمت من عندك وأنا أحب الناس إليك، فلم تزل علي مع مولاك قَالَ: أما سمعت قول الشاعر:

ومولاك لا يهضم لديك فإنما ... هضيمة مولى القوم جدع المناخر قال أبو الخطاب: لما حضرت القاسم بْن مجاشع التميمي- من أهل مرو بقرية يقال لها باران- الوفاة أوصى إلى المهدي، فكتب: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» ، إلى آخر الآية ثم كتب: والقاسم بْن مجاشع يشهد بذلك، ويشهد أن محمدا عبده ورسوله ص، وان علي بْن أبي طالب وصي رسول الله ص ووارث الأمامة بعده قَالَ: فعرضت الوصية على المهدي، فلما بلغ هذا الموضع رمى بها ولم ينظر فيها قَالَ أبو الخطاب: فلم يزل ذلك في قلب أبي عبيد الله الوزير، فلما حضرته الوفاة كتب في وصيته هذه الآية قَالَ: وقال الهيثم بْن عدي: دخل على المهدي رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، إن المنصور شتمني وقذف أمي، فإما أمرتني ان احله، والا عوضتني واستغفرت الله له قَالَ: ولم شتمك؟ قَالَ: شتمت عدوه بحضرته، فغضب، قَالَ: ومن عدوه الذي غضب لشتمه؟ قَالَ: إبراهيم بْن عبد الله ابن حسن، قَالَ: إن إبراهيم أمس به رحما وأوجب عليه حقا، فإن كان شتمك كما زعمت، فعن رحمه ذب، وعن عرضه دفع، وما أساء من انتصر لابن عمه قَالَ: انه كان عدوا له، قال: فلم ينتصر للعداوة، وإنما انتصر للرحم، فأسكت الرجل، فلما ذهب ليولي، قَالَ: لعلك أردت أمرا فلم تجد له ذريعة عندك أبلغ من هذه الدعوى! قَالَ: نعم، قَالَ: فتبسم وأمر له بخمسة آلاف درهم. قَالَ: وأتى المهدي برجل قد تنبأ، فلما رآه، قَالَ: أنت نبي؟ قَالَ: نعم، قَالَ: وإلى من بعثت؟ قَالَ: وتركتموني أذهب إلى من بعثت إليه!

وجهت بالغداة فأخذتموني بالعشي، ووضعتموني في الحبس! قَالَ: فضحك المهدي منه، وخلى سبيله. وذكر أبو الأشعث الكندي، قَالَ: حدثني سليمان بْن عبد الله، قَالَ: قَالَ الربيع: رأيت المهدي يصلي في بهو له في ليلة مقمرة، فما أدري أهو أحسن، أم البهو، أم القمر، أم ثيابه! قَالَ: فقرأ هذه الآية: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ» ، قَالَ: فتم صلاته والتفت إلي فقال: يا ربيع، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قَالَ: علي بموسى، وقام إلى صلاته، قَالَ: فقلت: من موسى؟ ابنه موسى، أو موسى بْن جعفر، وكان محبوسا عندي! قَالَ: فجعلت أفكر، قَالَ: فقلت: ما هو إلا موسى بْن جعفر، قَالَ: فأحضرته، قَالَ: فقطع صلاته، وقال: يا موسى، إني قرأت هذه الآية: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ» ، فخفت أن أكون قد قطعت رحمك، فوثق لي أنك لا تخرج علي قَالَ: فقال: نعم، فوثق له وخلاه. وذكر إبراهيم بْن أبي علي، قَالَ: سمعت سليمان بْن داود، يقول: سمعت المهدى يحدثنا في محراب المسجد على اللحن اليتيم: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ» ، في سوره النساء. وذكر علي بْن محمد بْن سليمان، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: حضرت المهدي وقد جلس للمظالم، فتقدم إليه رجل من آل الزبير، فذكر ضيعة اصطفاها عن أبيه بعض ملوك بني أمية، ولا أدري: الوليد، أم سليمان! فأمر أبا عبيد الله أن يخرج ذكرها من الديوان العتيق، ففعل، فقرأ ذكرها على المهدي، وكان ذلك أنها عرضت على عدة منهم لم يروا ردها، منهم عمر ابن عبد العزيز، فقال المهدي: يا زبيري، هذا عمر بْن عبد العزيز، وهو منكم معشر قريش كما علمتم لم ير ردها، قَالَ: وكل أفعال عمر ترضى؟

قَالَ: وأي أفعاله لا ترضى؟ قَالَ: منها أنه كان يفرض للسقط من بني أمية في خرقة في الشرف من العطاء، ويفرض للشيخ من بني هاشم في ستين. قَالَ: يا معاوية أكذلك كان يفعل عمر؟ قَالَ: نعم، قَالَ: اردد على الزبيري ضيعته. وذكر عمر بْن شبة أن أبا سلمة الغفاري حدثه، قَالَ: كتب المهدي إلى جعفر بْن سليمان وهو عامل المدينة أن يحمل إليه جماعة اتهموا بالقدر، فحمل إليه رجالا، منهم عبد الله بْن أبي عُبَيْدَةَ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وعبد الله بْن يزيد بْن قيس الهذلي، وعيسى بْن يزيد بن داب الليثى، وابراهيم ابن محمد بْن أبي بكر الأسامي، فأدخلوا على المهدى، فانبرى له عبد الله ابن أبي عبيدة من بينهم، فقال: هذا دين أبيك ورأيه؟ قَالَ: لا، ذاك عمي داود قَالَ: لا، إلا أبوك، على هذا فارقنا وبه كان يدين فأطلقهم. وذكر علي بْن محمد بْن سليمان النوفلي، قال: حدثنى ابى، عن محمد ابن عبد الله بن محمد بن علي بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: رأيت فيما يرى النائم في آخر سلطان بني أمية، كأني دخلت مسجد رسول الله ص، فرفعت رأسي، فنظرت في الكتاب الذي في المسجد بالفسيفساء فإذا فيه: مما أمر به أمير المؤمنين الوليد بْن عبد الملك، وإذا قائل يقول: يمحو هذا الكتاب ويكتب مكانه اسمه رجل من بني هاشم يقال له محمد قال: قلت: أنا محمد، وأنا من بني هاشم، فابن من؟ قَالَ: ابن عبد الله، قلت: فأنا ابن عبد الله، فابن من؟ قَالَ: ابن محمد، قلت: فأنا ابن محمد، فابن من؟ قَالَ: ابن علي، قلت: فأنا ابن علي، فابن من؟ قَالَ: ابن عبد الله، قلت: فأنا ابن عبد الله، فابن من؟ قَالَ: عباس، فلو لم أكن بلغت العباس ما شككت أني صاحب الأمر قَالَ: فتحدثت بهذه الرؤيا في ذلك الدهر ونحن لا نعرف المهدى، فتحدث الناس بها حتى ولى المهدى، فدخل مسجد رسول الله ص، فرفع راسه

فنظر فرأى اسم الوليد، فقال: وإني لأرى اسم الوليد في مسجد رسول الله ص إلى اليوم، فدعا بكرسي فألقي له في صحن المسجد وقال: ما أنا ببارح حتى يمحى ويكتب اسمي مكانه وأمر أن يحضر العمال والسلاليم وما يحتاج إليه، فلم يبرح حتى غير وكتب اسمه. وذكر أحمد بْن الهيثم القرشي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عطاء، قَالَ: خرج المهدي بعد هدأة من الليل يطوف بالبيت، فسمع أعرابية من جانب المسجد وهي تقول: قومي مقترون، نبت عنهم العيون، وفدحتهم الديون، وعضتهم السنون، بادت رجالهم، وذهبت أموالهم، وكثر عيالهم، أبناء سبيل، وأنضاء طريق، وصية الله ووصية الرسول، فهل من آمر لي بخير، كلأه الله في سفره، وخلفه في أهله! قَالَ: فأمر نصيرا الخادم، فدفع إليها خمسمائة درهم. وذكر علي بْن محمد بْن سليمان، قَالَ: سمعت أبي يقول: كان أول من افترش الطبري المهدي، وذلك أن أباه كان أمره بالمقام بالري، فأهدي إليه الطبري من طبرستان، فافترشه، وجعل الثلج والخلاف حوله، حتى فتح لهم الخيش، فطاب لهم الطبري فيه. وذكر محمد بْن زياد، قَالَ: قَالَ المفضل: قَالَ لي المهدي: اجمع لي الأمثال مما سمعتها من البدو، وما صح عندك قَالَ: فكتبت له الأمثال وحروب العرب مما كان فيها، فوصلني وأحسن إلي. قَالَ علي بْن محمد: كان رجل من ولد عبد الرحمن بْن سمرة أراد الوثوب بالشام، فحمل إلى المهدي فخلى سبيله وأكرمه، وقرب مجلسه فقال له يوما: أنشدني قصيدة زهير التي هي على الراء، وهي: لمن الديار بقنة الحجر

فأنشده، فقال السمري: ذهب والله من يقال فيه مثل هذا الشعر، فغضب المهدي واستجهله، ونحاه ولم يعاقبه، واستحمقه الناس. وذكر أن أبا عون عبد الملك بْن يزيد مرض، فعاده المهدي، فإذا منزل رث وبناء سوء، وإذا طاق صفته التي هو فيها لبن قَالَ: وإذا مضربة ناعمة في مجلسه، فجلس المهدي على وسادة، وجلس أبو عون بين يديه، فبره المهدي، وتوجع لعلته وقال أبو عون: أرجو عافية الله يا أمير المؤمنين، وألا يميتني على فراشي حتى أقتل في طاعتك، وانى لواثق بالا أموت حتى أبلي الله في طاعتك ما هو اهله، فانا قد روينا قَالَ: فأظهر له المهدي رأيا جميلا، وقال: أوصني بحاجتك، وسلني ما أردت، واحتكم في حياتك ومماتك، فو الله لئن عجز مالك عن شيء توصي به لأحتملنه كائنا ما كان، فقل وأوص قَالَ: فشكر أبو عون ودعا، وقال: يا أمير المؤمنين، حاجتي أن ترضى عن عبد الله بْن أبي عون، وتدعو به، فقد طالت موجدتك عليه قَالَ: فقال: يا أبا عون، إنه على غير الطريق، وعلى خلاف رأينا ورأيك، إنه يقع في الشيخين أبي بكر وعمر، ويسيء القول فيهما. قَالَ: فقال أبو عون: هو والله يا أمير المؤمنين على الأمر الذي خرجنا عليه، ودعونا إليه، فإن كان قد بدا لكم فمرونا بما أحببتم حتى نطيعكم قال: وانصرف المهدي، فلما كان في الطريق قَالَ لبعض من كان معه من ولده وأهله: ما لكم لا تكونون مثل أبي عون! والله ما كنت أظن منزله إلا مبنيا بالذهب والفضة، وأنتم إذا وجدتم درهما بنيتم بالساج والذهب. وذكر أبو عبد الله، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: خطب المهدي يوما، فقال: عباد الله، اتقوا الله، فقام إليه رجل، فقال: وأنت فاتق الله، فإنك تعمل بغير الحق قَالَ: فأخذ فحمل، فجعلوا يتلقونه بنعال سيوفهم، فلما ادخل عليه قال: يا بن الفاعلة، تقول لي وأنا على المنبر: اتق الله! قَالَ: سوءة لك! لو كان هذا من غيرك كنت المستعدي بك عليه، قَالَ: ما أراك

إلا نبطيا، قَالَ: ذاك أوكد للحجة عليك أن يكون نبطي يأمرك بتقوى الله قَالَ: فرئي الرجل بعد ذلك، فكان يحدث بما جرى بينه وبين المهدي. قَالَ: فقال أبي: وأنا حاضره، إلا أني لم أسمع الكلام وقال هارون بْن ميمون الخزاعي: حدثنا أبو خزيمة البادغيسي، قَالَ: قَالَ المهدي: ما توسل إلي أحد بوسيلة، ولا تذرع بذريعة هي أقرب من تذكيره إياي يدا سلفت مني إليه أتبعها أختها، فأحسن ربها، لأن منع الأواخر يقطع شكر الأوائل. قَالَ: وذكر خالد بْن يزيد بْن وهب بْن جرير، أن أباه حدثه، قَالَ: كان بشار بْن برد بْن يرجوخ هجا صالح بْن داود بْن طهمان- أخا يعقوب ابن داود- حين ولي البصرة، فقال: هم حملوا فوق المنابر صالحا ... أخاك فضجت من أخيك المنابر فبلغ يعقوب بْن داود هجاؤه، فدخل على المهدي، فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا الأعمى المشرك قد هجا أمير المؤمنين، قَالَ: ويلك! وما قَالَ؟ قَالَ: يعفيني أمير المؤمنين من إنشاده ذلك، قَالَ: فأبى عليه إلا أن ينشده، فأنشده: خليفة يزني بعماته ... يلعب بالدبوق والصولجان أبدلنا الله به غيره ... ودس موسى في حر الخيزران قَالَ: فوجه في حمله، فخاف يعقوب بْن داود أن يقدم على المهدي، فيمتدحه فيعفو عنه، فوجه إليه من يلقيه في البطيحة في الخرارة. وذكر عبد الله بْن عمر: حدثني جدي أبو الحي العبسي، قَالَ: لما دخل مروان بْن أبي حفصة على المهدي، فأنشده شعره الذي يقول فيه:

أنى يكون وليس ذاك بكائن ... لبني البنات وراثة الأعمام فأجازه بسبعين ألف درهم، فقال مروان: بسبعين ألفا راشني من حبائه ... وما نالها في الناس من شاعر قبلي وذكر أحمد بْن سليمان، قَالَ: أخبرني أبو عدنان السلمي، قَالَ: قَالَ المهدي لعمارة بْن حمزة: من أرق الناس شعرا؟ قَالَ: والبة بْن الحباب الأسدي، وهو الذي يقول: ولها ولا ذنب لها ... حب كأطراف الرماح في القلب يقدح والحشا ... فالقلب مجروح النواحي قَالَ: صدقت والله، قَالَ: فما يمنعك من منادمته يا أمير المؤمنين، وهو عربي شريف شاعر ظريف؟ قَالَ: يمنعني والله من منادمته، قوله: قلت لساقينا على خلوة ... أدن كذا رأسك من رأسي ونم على وجهك لي ساعة ... إني امرؤ أنكح جلاسي افتريد ان يكون جلاسه على هذه الشريطة! وذكر محمد بْن سلام أنه كان في زمان المهدي إنسان ضعيف يقول الشعر إلى أن مدح المهدي قَالَ: فأدخل عليه فأنشده شعرا يقول فيه: وجوار زفرات، فقال له المهدي: أي شيء زفرات؟ قَالَ وما تعرفها أنت يا أمير المؤمنين؟ قَالَ: لا والله، قَالَ: فأنت أمير المؤمنين وسيد المسلمين وابن عم رسول الله ص لا تعرفها، أعرفها أنا! كلا والله. قَالَ ابن سلام: أخبرني غير واحد أن طريح بْن إسماعيل الثقفي دخل على المهدي فانتسب له، وسأله أن يسمع منه، فقال: ألست الذي يقول للوليد بْن يزيد:

أنت ابن مسلنطح البطاح ولم ... تطرق عليك الحني والولج والله لا تقول لي في مثل هذا أبدا، ولا أسمع منك شعرا، وإن شئت وصلتك. وذكر أن المهدي أمر بالصوم سنة ست وستين ليستسقي للناس في اليوم الرابع، فلما كان في الليلة الثالثة أصابهم الثلج، فقال لقيط بْن بكير المحاربي في ذلك: يا إمام الهدى سقينا بك الغيث ... وزالت عنا بك اللأواء بت تعني بالحفظ والناس نوام ... عليهم من الظلام غطاء رقدوا حيث طال ليلك فيهم ... لك خوف تضرع وبكاء قد عنتك الأمور منهم على الغفلة ... من معشر عصوا وأساءوا وسقينا وقد قحطنا وقلنا ... سنة قد تنكرت حمراء بدعاء أخلصته في سواد الليل ... لله فاستجيب الدعاء بثلوج تحيا بها الأرض حتى ... أصبحت وهي زهرة خضراء وذكر أن الناس في أيام المهدي صاموا شهر رمضان في صميم الصيف، وكان أبو دلامة إذ ذاك يطالب بجائزة وعدها إياه المهدي، فكتب إلى المهدي رقعة يشكو إليه فيها ما لقي من الحر والصوم، فقال في ذلك: أدعوك بالرحم التي جمعت لنا ... في القرب بين قريبنا والأبعد ألا سمعت وأنت أكرم من مشى ... من منشد يرجو جزاء المنشد حل الصيام فصمته متعبدا ... أرجو ثواب الصائم المتعبد وسجدت حتى جبهتي مشجوجة ... مما أكلف من نطاح المسجد

قَالَ: فلما قرأ المهدي الرقعة دعا به، فقال: اى قرابه بيني وبينك يا بن اللخناء! قَالَ: رحم آدم وحواء فضحك منه وأمر له بجائزة. وذكر علي بْن محمد، قَالَ: حدثني أبي، عن إبراهيم بْن خالد المعيطي قَالَ: دخلت على المهدي- وقد وصف له غنائي- فسألني عن الغناء وعن علمي به، وقال لي: تغني النواقيس؟ قلت: نعم والصليب يا أمير المؤمنين! فصرفني، وبلغني أنه قَالَ: معيطي، ولا حاجة لي إليه فيمن ادنيه من خلوتي ولا آنس به. ولمعبد المغنى النواقيس في هذا الشعر: سلا دار ليلى هل تجيب فتنطق ... وأنى ترد القول بيداء سملق وأنى ترد القول دار كأنها ... لطول بلاها والتقادم مهرق وذكر قعنب بْن محرز أبو عمرو الباهلي أن الأصمعي حدثه، قَالَ: رأيت حكما الوادي حين مضى المهدي إلى بيت المقدس، فعرض له في الطريق، وكان له شعيرات، وأخرج دفا له يضربه، وقال: أنا القائل: فمتى تخرج العروس ... فقد طال حبسها قد دنا الصبح أو بدا ... وهي لم تقض لبسها فتسرع إليه الحرس فصيح بهم: كفوا، وسأل عنه فقيل: حكم الوادي، فأدخله إليه ووصله. وذكر علي بْن محمد أنه سمع أباه يقول: دخل المهدي بعض دوره يوما فإذا جارية له نصرانية، وإذا جيبها واسع وقد انكشف عما بين ثدييها، وإذا صليب من ذهب معلق في ذلك الموضع، فاستحسنه، فمد يده إليه فجذبه،

فأخذه، فولولت على الصليب، فقال المهدي في ذلك: يوم نازعتها الصليب فقالت ... ويح نفسي أما تحل الصليبا! قَالَ: وأرسل إلى بعض الشعراء فأجازه، وأمر به فغنى فيه، وكان معجبا بهذا الصوت. قَالَ: وسمعت أبي يقول: إن المهدي نظر إلى جارية له عليها تاج فيه نرجس من ذهب وفضة، فاستحسنه فقال: يا حبذا النرجس في التاج. فارتج عليه، فقال: من بالحضرة؟ قالوا: عبد الله بْن مالك، فدعاه، فقال: إني رأيت جارية لي فاستحسنت تاجا عليها فقلت: يا حبذا النرجس في التاج. فتستطيع أن تزيد فيه؟ قَالَ: نعم يا أمير المؤمنين، ولكن دعني أخرج فأفكر، قَالَ: شأنك، فخرج وأرسل إلى مؤدب لولده فسأله إجازته، فقال: على جبين لاح كالعاج. وأتمها أبياتا أربعة، فأرسل بها عبد الله إلى المهدي، فأرسل إليه المهدي بأربعين ألفا، فأعطى المؤدب منها أربعة آلاف، وأخذ الباقي لنفسه، وفيها غناء معروف. وذكر أحمد بْن موسى بْن مضر أبو علي، قَالَ: أنشدني التوزي في حسنة جاريته: أرى ماء وبي عطش شديد ... ولكن لا سبيل إلى الورود أما يكفيك أنك تملكيني ... وإن الناس كلهم عبيدي وأنك لو قطعت يدي ورجلي ... لقلت من الرضا أحسنت زيدي

وذكر علي بْن محمد، عن أبيه، قَالَ: رأيت المهدي وقد دخل البصرة من قبل سكة قريش، فرأيته يسير والبانوقة بين يديه، بينه وبين صاحب الشرطة، عليها قباء أسود، متقلدة سيفا في هيئة الغلمان قَالَ: وإني لأرى في صدرها شيئا من ثدييها. قَالَ علي: وحدثني أبي، قَالَ: قدم المهدي إلى البصرة، فمر في سكة قريش، وفيها منزلنا، وكانت الولاة لا تمر فيها إذا قدم الوالي، كانوا يتشاءمون بها- قل وال مر فيها فأقام في ولايته إلا يسيرا حتى يعزل- ولم يمر فيها خليفة قط إلا المهدي، كانوا يمرون في سكة عبد الرحمن بْن سمرة، وهي تساوي سكة قريش، فرأيت المهدي يسير، وعبد الله بْن مالك على شرطه يسير أمامه، في يده الحربة، وابنته البانوقه تسير بينه وبين يديه وبين صاحب الشرطة في هيئة الفتيان، عليها قباء أسود ومنطقة وشاشية، متقلدة السيف، وإني لأرى ثدييها قد رفعا القباء لنهودهما. قَالَ: وكانت البانوقة سمراء حسنة القد حلوة فلما ماتت- وذلك ببغداد- أظهر عليها المهدي جزعا لم يسمع بمثله، فجلس للناس يعزونه، وأمر ألا يحجب عنه أحد، فأكثر الناس في التعازي، واجتهدوا في البلاغة، وفي الناس من ينتقد هذا عليهم من أهل العلم والأدب، فأجمعوا على أنهم لم يسمعوا تعزية أوجز ولا أبلغ من تعزية شبيب بْن شيبة، فإنه قَالَ: يا أمير المؤمنين، الله خير لها منك، وثواب الله خير لك منها، وأنا أسأل الله ألا يحزنك ولا يفتنك. وذكر صباح بْن عبد الرحمن، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: توفيت البانوقة بنت المهدي، فدخل عليه شبيب بْن شيبة، فقال: أعطاك الله يا أمير المؤمنين على ما رزئت أجرا، وأعقبك صبرا، لا أجهد الله بلاءك بنقمة، ولا نزع منك نعمة، ثواب الله خير لك منها، ورحمة الله خير لها منك، وأحق ما صبر عليه ما لا سبيل الى رده.

خلافه الهادي

خلافة الهادي وفي هذه السنة بويع لموسى بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بالخلافة، يوم توفي المهدي، وهو مقيم بجرجان يحارب أهل طبرستان، وكانت وفاة المهدي بماسبذان ومعه ابنه هارون، ومولاه الربيع ببغداد خلفه بها، فذكر أن الموالي والقواد لما توفي المهدي اجتمعوا إلى ابنه هارون، وقالوا له: إن علم الجند بوفاة المهدي لم تأمن الشغب، والرأي أن يحمل، وتنادي في الجند بالقفل حتى تواريه ببغداد فقال هارون: ادعوا إلي أبي يحيى بْن خالد البرمكي- وكان المهدي ولى هارون المغرب كله، من الأنبار إلى إفريقية، وأمر يحيى بْن خالد أن يتولى ذلك، فكانت إليه أعماله ودواوينه يقوم بها ويخلفه على ما يتولى منها الى ان توفى- قال: فصار يحيى بْن خالد إلى هارون، فقال له: يا أبت، ما تقول فيما يقول عمر بْن بزيع ونصير والمفضل؟ قال: وما قالوا؟ فأخبره، قَالَ: ما أرى ذلك، قَالَ: ولم؟ قَالَ: لأن هذا ما لا يخفى، ولا آمن إذا علم الجند أن يتعلقوا بمحمله، ويقولوا: لا نخليه حتى نعطى لثلاث سنين وأكثر، ويتحكموا ويشتطوا، ولكن أرى أن يوارى رحمه الله هاهنا، وتوجه نصيرا إلى أمير المؤمنين الهادي بالخاتم والقضيب والتهنئة والتعزية، فإن البريد إلى نصير، فلا ينكر خروجه أحد إذ كان على بريد الناحية، وأن تأمر لمن معك من الجند بجوائز، مائتين مائتين، وتنادي فيهم بالقفول، فإنهم إذا قبضوا الدراهم لم تكن لهم همة سوى أهاليهم وأوطانهم، ولا عرجة على شيء دون بغداد قال: نفعل ذلك وقال الجند لما قبضوا الدراهم: بغداد بغداد! يتبادرون إليها، ويبعثون على الخروج من ماسبذان، فلما وافوا بغداد، وعلموا خبر الخليفة، ساروا إلى باب الربيع فأحرقوه، وطالبوا بالأرزاق، وضجوا وقدم هارون بغداد،

فبعثت الخيزران إلى الربيع وإلى يحيى بْن خالد تشاورهما في ذلك، فأما الربيع فدخل عليها، وأما يحيى فلم يفعل ذلك لعلمه بشدة غيرة موسى. قَالَ: وجمعت الأموال حتى أعطي الجند لسنتين، فسكتوا، وبلغ الخبر الهادي، فكتب إلى الربيع كتابا يتوعده فيه بالقتل، وكتب إلى يحيى بْن خالد يجزيه الخير، ويأمره أن يقوم من أمر هارون بما لم يزل يقوم به، وأن يتولى أموره وأعماله على ما لم يزل يتولاه قَالَ: فبعث الربيع إلى يحيى بْن خالد- وكان يوده، ويثق به، ويعتمد على رأيه: يا أبا علي، ما ترى؟ فإنه لا صبر لي على جر الحديد قَالَ: أرى ألا تبرح موضعك، وأن توجه ابنك الفضل يستقبله ومعه من الهدايا والطرف ما أمكنك، فإني لأرجو الا يرجع إلا وقد كفيت ما تخاف إن شاء الله قَالَ: وكانت أم الفضل ابنه بحيث تسمع منهما مناجاتهما، فقالت له: نصحك والله قَالَ: فإني أحب أن أوصي إليك، فانى لا ادرى ما يحدث فقال: لست أنفرد لك بشيء، ولا أدع ما يجب، وعندي في هذا وغيره ما تحب، ولكن أشرك معي في ذلك الفضل ابنك وهذه المرأة، فإنها جزلة مستحقة لذلك منك ففعل الربيع ذلك، وأوصى إليهم. قَالَ الفضل بْن سليمان: ولما شغب الجند على الربيع ببغداد وأخرجوا من كان في حبسه، وأحرقوا أبواب دوره في الميدان، حضر العباس بْن محمد وعبد الملك بْن صالح ومحرز بْن إبراهيم ذلك، فرأى العباس أن يرضوا، وتطيب أنفسهم، وتفرق جماعتهم بإعطائهم أرزاقهم، فبذل ذلك لهم فلم يرضوا، ولم يثقوا مما ضمن لهم من ذلك، حتى ضمنه محرز بْن إبراهيم، فقنعوا بضمانه وتفرقوا، فوفى لهم بذلك، وأعطوا رزق ثمانية عشر شهرا، وذلك قبل قدوم هارون فلما قدم- وكان هو خليفة موسى الهادي- ومعه الربيع وزيرا له، وجه الوفود إلى الأمصار، ونعى إليهم المهدي، وأخذ بيعتهم لموسى الهادي، وله بولاية العهد من بعده، وضبط أمر بغداد وقد كان نصير

الوصيف شخص من ماسبذان من يومه إلى جرجان بوفاة المهدي والبيعة له، فلما صار إليه نادى بالرحيل، وخرج من فوره على البريد جوادا ومعه من أهل بيته إبراهيم وجعفر، ومن الوزراء عبيد الله بْن زياد الكاتب صاحب رسائله، ومحمد بْن جميل كاتب جنده فلما شارف مدينة السلام استقبله الناس من أهل بيته وغيرهم، وقد كان احتمل على الربيع ما كان منه وما صنع من توجيه الوفود وإعطائه الجنود قبل قدومه، وقد كان الربيع وجه ابنه الفضل، فتلقاه بما أعد له من الهدايا، فاستقبله بهمذان، فأدناه وقربه، وقال: كيف خلفت مولاي؟ فكتب بذلك إلى أبيه، فاستقبله الربيع، فعاتبه الهادي، فاعتذر إليه، وأعلمه السبب الذي دعاه إلى ذلك، فقبله، وولاه الوزارة مكان عبيد الله بْن زياد بْن أبي ليلى، وضم إليه ما كان عمر بْن بزيع يتولاه من الزمام، وولى محمد بْن جميل ديوان خراج العراقين، وولى عبيد الله بْن زياد خراج الشام وما يليه، وأقر على حرسه علي بْن عيسى بْن ماهان، وضم إليه ديوان الجند، وولى شرطه عبد الله بْن مالك مكان عبد الله بْن خازم، وأقر الخاتم في يد علي بْن يقطين. وكانت موافاة موسى الهادي بغداد عند منصرفه من جرجان لعشر بقين من صفر من هذه السنة، سار- فيما ذكر عنه- من جرجان إلى بغداد في عشرين يوما، فلما قدمها نزل القصر الذي يسمى الخلد، فأقام به شهرا، ثم تحول إلى بستان أبي جعفر، ثم تحول الى عيساباذ. وفي هذه السنة هلك الربيع مولى أبي جعفر المنصور. وقد ذكر علي بْن محمد النوفلي أن أباه حدثه أنه كانت لموسى الهادي جارية، وكانت حظية عنده، وكانت تحبه وهو بجرجان حين وجهه إليها المهدي، فقالت أبياتا، وكتبت إليه وهو مقيم بجرجان، منها: يا بعيد المحل أمسى ... بجرجان نازلا

قَالَ: فلما جاءته البيعة وانصرف إلى بغداد، لم تكن له همة غيرها، فدخل عليها وهي تغني بأبياتها، فأقام عندها يومه وليلته قبل أن يظهر لأحد من الناس. وفي هذه السنة اشتد طلب موسى الزنادقة، فقتل منهم فيها جماعة، فكان ممن قتل منهم يزدان بْن باذان كاتب يقطين، وابنه علي بْن يقطين من أهل النهروان، ذكر عنه أنه حج فنظر إلى الناس في الطواف يهرولون، فقال: ما أشبههم إلا ببقر تدوس في البيدر وله يقول العلاء بْن الحداد الأعمى: أيا أمين الله في خلقه ... ووراث الكعبة والمنبر ماذا ترى في رجل كافر ... يشبه الكعبة بالبيدر ويجعل الناس إذا ما سعوا ... حمرا تدوس البر والدوسر! فقتله موسى ثم صلبه، فسقطت خشبته على رجل من الحاج فقتلته وقتلت حماره وقتل من بني هاشم يعقوب بْن الفضل. وذكر عن علي بْن محمد الهاشمي، قَالَ: كان المهدي أتي بابن لداود ابن علي زنديقا، وأتي بيعقوب بْن الفضل بْن عبد الرحمن بْن عباس بْن رَبِيعَة بْن الْحَارِث بْن عبد المطلب زنديقا، في مجلسين متفرقين، فقال لكل واحد منهما كلاما واحدا، وذلك بعد أن أقرا له بالزندقة، أما يعقوب بْن الفضل فقال له: أقر بها بيني وبينك، فأما إن أظهر ذلك عند الناس فلا أفعل ولو قرضتني بالمقاريض، فقال له: ويلك! لو كشفت لك السموات، وكان الأمر كما تقول، كنت حقيقا أن تغضب لمحمد، ولولا محمد ص من كنت! هل كنت إلا إنسانا من الناس! أما والله لولا أني كنت جعلت لله على عهدا إذا ولاني هذا الأمر ألا أقتل هاشميا لما ناظرتك ولقتلتك. ثم التفت إلى موسى الهادي، فقال: يا موسى، أقسمت عليك بحقي إن وليت هذا الأمر بعدي ألا تناظرهما ساعة واحدة فمات ابن داود بْن علي في الحبس قبل وفاة المهدي، وأما يعقوب فبقي حتى مات المهدي وقدم موسى من جرجان

فساعة دخل، ذكر وصية المهدي، فأرسل إلى يعقوب من ألقى عليه فراشا، وأقعدت الرجال عليه حتى مات ثم لها عنه ببيعته وتشديد خلافته، وكان ذلك في يوم شديد الحر، فبقي يعقوب حتى مضى من الليل هدء، فقيل لموسى: يا أمير المؤمنين، إن يعقوب قد انتفخ وأروح قَالَ: ابعثوا به الى أخيه إسحاق ابن الفضل، فخبروه أنه مات في السجن فجعل في زورق وأتي به إسحاق، فنظر فإذا ليس فيه موضع للغسل، فدفنه في بستان له من ساعته، وأصبح فأرسل إلى الهاشميين يخبرهم بموت يعقوب ويدعوهم إلى الجنازة، وأمر بخشبة فعملت في قد الإنسان فغشيت قطنا، وألبسها أكفانا، ثم حملها على السرير، فلم يشك من حضرها أنه شيء مصنوع. وكان ليعقوب ولد من صلبه: عبد الرحمن والفضل وأروى وفاطمة، فأما فاطمة فوجدت حبلى منه، وأقرت بذلك قَالَ علي بْن محمد: قَالَ أبي: فأدخلت فاطمة وامرأة يعقوب بْن الفضل- وليست بهاشمية، يقال لها خديجة- على الهادي- أو على المهدي من قبل- فأقرتا بالزندقة، وأقرت فاطمة أنها حامل من أبيها، فأرسل بهما إلى ريطة بنت أبي العباس، فرأتهما مكتحلتين مختضبتين، فعذلتهما، وأكثرت على الابنة خاصة، فقالت: أكرهني، قالت: فما بال الخضاب والكحل والسرور، ان كنت مكرهة! ولعنتهما قَالَ: فخبرت أنهما فزعتا فماتتا فزعا، ضرب على راسيهما بشيء يقال له الرعبوب ففزعتا منه، فماتتا وأما أروى فبقيت فتزوجها ابن عمها الفضل بْن إسماعيل بْن الفضل، وكان رجلا لا باس به في دينه. وفيها قدم وندا هرمز صاحب طبرستان إلى موسى بأمان، فأحسن صلته، ورده إلى طبرستان.

ذكر بقية الخبر عن الاحداث التي كانت سنه تسع وستين ومائه

ذكر بقية الخبر عن الأحداث التي كانت سنه تسع وستين ومائه خروج الحسين بن على بن الحسن بفخ ومما كان فيها خروج الحسين بْن علي بْن الحسن بْن الحسن بْن الحسن بْن علي بْن أبي طالب المقتول بفخ. ذكر الخبر عن خروجه ومقتله: ذكر عن محمد بْن موسى الخوارزمي أنه قَالَ: كان بين موت المهدي وخلافة الهادي ثمانية أيام قَالَ: ووصل إليه الخبر وهو بجرجان، وإلى أن قدم مدينة السلام إلى خروج الحسين بْن علي بْن الحسن، وإلى أن قتل الحسين، تسعة أشهر وثمانية عشر يوما. وذكر محمد بْن صالح، أن أبا حفص السلمي حدثه، قَالَ: كان إسحاق بْن عيسى بْن علي على المدينة، فلما مات المهدي، واستخلف موسى، شخص إسحاق وافدا إلى العراق إلى موسى، واستخلف على المدينة عمر بْن عبد العزيز بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عمر بْن الخطاب. وذكر الفضل بْن إسحاق الهاشمي أن إسحاق بْن عيسى بْن علي استعفى الهادي وهو على المدينة، واستأذنه في الشخوص إلى بغداد، فأعفاه، وولى مكانه عمر بْن عبد العزيز وأن سبب خروج الحسين بْن علي بْن الحسن كان أن عمر بْن عبد العزيز لما تولى المدينة- كما ذكر الحسين بْن محمد عن أبي حفص السلمي- أخذ أبا الزفت الحسن بْن محمد بْن عبد الله بْن الحسن ومسلم بْن جندب الشاعر الهذلي وعمر بْن سلام مولى آل عمر على شراب لهم، فأمر بهم فضربوا جميعا، ثم أمر بهم فجعل في أعناقهم حبال وطيف بهم في المدينة، فكلم فيهم، وصار إليه الحسين بْن علي فكلمه، وقال: ليس هذا عليهم وقد ضربتهم، ولم يكن لك أن تضربهم، لأن أهل العراق لا يرون به بأسا، فلم تطوف بهم! فبعث إليهم وقد بلغوا البلاط فردهم، وأمر بهم إلى الحبس، فحبسوا يوما وليلة، ثم كلم فيهم فأطلقهم جميعا، وكانوا

يعرضون، ففقد الحسن بْن محمد، وكان الحسين بْن علي كفيله قَالَ محمد بْن صالح: وحدثني عبد الله بْن محمد الأنصاري أن العمري كان كفل بعضهم من بعض، فكان الحسين بْن علي بْن الحسن ويحيى بْن عبد الله بْن الحسن كفيلين بالحسن بْن محمد بْن عبد الله بْن الحسن، وكان قد تزوج مولاة لهم سوداء ابنة أبي ليث مولى عبد الله بْن الحسن، فكان يأتيها فيقيم عندها، فغاب عن العرض يوم الأربعاء والخميس والجمعة، وعرضهم خليفة العمري عشية الجمعة، فأخذ الحسين بْن علي ويحيى بْن عبد الله، فسألهما عن الحسن بْن محمد، فغلظ عليهم بعض التغليظ، ثم انصرف إلى العمري فأخبره خبرهم، وقال له: أصلحك الله! الحسن بْن محمد غائب مذ ثلاث، فقال: ائتني بالحسين ويحيى، فذهب فدعاهما، فلما دخلا عليه، قَالَ لهما: أين الحسن بْن محمد؟ قالا: والله ما ندري، إنما غاب عنا يوم الأربعاء، ثم كان يوم الخميس، فبلغنا أنه اعتل، فكنا نظن أن هذا اليوم لا يكون فيه عرض، فكلمهما بكلام أغلظ لهما فيه، فحلف يحيى بْن عبد الله ألا ينام حتى يأتيه به أو يضرب عليه باب داره، حتى يعلم أنه قد جاءه به. فلما خرجا قَالَ له الحسين: سبحان الله! ما دعاك إلى هذا؟ ومن أين تجد حسنا! حلفت له بشيء لا تقدر عليه قَالَ: إنما حلفت على حسن، قَالَ: سبحان الله! فعلى أي شيء حلفت! قَالَ: والله لا نمت حتى أضرب عليه باب داره بالسيف قال: فقال حسين: تكسر بهذا ما كان بيننا وبين أصحابنا من الصلة، قَالَ: قد كان الذي كان فلا بد منه. وكانوا قد تواعدوا على أن يخرجوا بمنى أو بمكة في الموسم- فيما ذكروا- وقد كان قوم من أهل الكوفة من شيعتهم- وممن كان بايع الحسين- متكمنين في دار، فانطلقوا فعملوا في ذلك من عشيتهم ومن ليلتهم، حتى إذا كان في آخر الليل خرجوا وجاء يحيى بْن عبد الله حتى ضرب باب دار مروان على العمري، فلم يجده فيها، فجاء إلى منزله في دار عبد الله بْن عمر فلم يجده أيضا فيها، وتوارى منهم، فجاءوا حتى اقتحموا المسجد حين أذنوا بالصبح،

فجلس الحسين على المنبر وعليه عمامة بيضاء، وجعل الناس يأتون المسجد، فإذا رأوهم رجعوا ولا يصلون، فلما صلى الغداة جعل الناس يأتونه، ويبايعونه على كتاب الله وسنة نبيه ص للمرتضى من آل محمد وأقبل خالد البربري، وهو يومئذ على الصوافي بالمدينة قائد على مائتين من الجند مقيمين بالمدينة، وأقبل فيمن معه، وجاء العمري ووزير ابن إسحاق الأزرق ومحمد بْن واقد الشروي، ومعهم ناس كثير، فيهم الحسين بْن جعفر بْن الحسين بْن الحسين على حمار، واقتحم خالد البربري الرحبة، وقد ظاهر بين درعين، وبيده السيف، وعمود في منطقته، مصلتا سيفه، وهو يصيح بحسين: أنا كسكاس، قتلني الله إن لم أقتلك! وحمل عليهم حتى دنا منهم، فقام إليه ابنا عبد الله بْن حسن: يحيى وإدريس، فضربه يحيى على أنف البيضة فقطعها وقطع أنفه، وشرقت عيناه بالدم فلم يبصر، فبرك يذبب عن نفسه بسيفه وهو لا يبصر، واستدار له إدريس من خلفه فضربه وصرعه، وعلواه بأسيافهما حتى قتلاه، وشد أصحابهما على درعيه فخلعوهما عنه، وانتزعوا سيفه وعموده، فجاءوا به ثم أمروا به فجر إلى البلاط، وحملوا على أصحابه فانهزموا قَالَ عبد الله بْن محمد: هذا كله بعيني. وذكر عبد الله بْن محمد أن خالدا ضرب يحيى بن عبد الله، فقطع البرنس، ووصلت ضربته الى يد يحيى فأثرت فيها، وضربه يحيى على وجهه، واستدار رجل أعور من أهل الجزيرة فأتاه من خلفه، فضربه على رجليه، واعتوروه بأسيافهم فقتلوه. قَالَ عبد الله بْن محمد: ودخل عليهم المسودة المسجد حين دخل الحسين ابن جعفر على حماره، وشدت المبيضة فأخرجوهم، وصاح بهم الحسين: ارفقوا بالشيخ- يعني الحسين بْن جعفر- وانتهب بيت المال، فأصيب فيه بضعة عشر ألف دينار، فضلت من العطاء- وقيل: أن ذلك كان سبعين ألف دينار كان بعث بها عبد الله بْن مالك، يفرض بها من خزاعة- قَالَ: وتفرق الناس، وأغلق أهل المدينة عليهم أبوابهم، فلما كان من الغد اجتمعوا واجتمعت شيعة ولد العباس، فقاتلوهم بالبلاط فيما بين رحبة دار الفضل والزوراء،

وجعل المسودة يحملون على المبيضة حتى يبلغوا بهم رحبة دار الفضل، وتحمل المبيضة عليهم حتى يبلغ بهم الزوراء وفشت الجراحات بين الفريقين جميعا، فاقتتلوا إلى الظهر، ثم افترقوا، فلما كان في آخر النهار من اليوم الثاني يوم الأحد، جاء الخبر بأن مباركا التركي ينزل بئر المطلب، فنشط الناس، فخرجوا إليه فكلموه أن يجيء، فجاء من الغد حتى أتى الثنية، واجتمع إليه شيعة بني العباس ومن أراد القتال، فاقتتلوا بالبلاط أشد قتال إلى انتصاف النهار، ثم تفرقوا وجاء هؤلاء إلى المسجد، ومضى الآخرون إلى مبارك التركي، إلى دار عمر بْن عبد العزيز بالثنية يقيل فيها، وواعد الناس الرواح، فلما غفلوا عنه، جلس على رواحله فانطلق، وراح الناس فلم يجدوه، فناوشوهم شيئا من القتال إلى المغرب، ثم تفرقوا، وأقام حسين وأصحابه أياما يتجهزون. وكان مقامهم بالمدينة أحد عشر يوما، ثم خرج يوم أربعة وعشرين لست بقين من ذي القعدة، فلما خرجوا من المدينة عاد المؤذنون فأذنوا، وعاد الناس إلى المسجد، فوجدوا فيه العظام التي كانوا يأكلون وآثارهم، فجعلوا يدعون الله عليهم، ففعل الله بهم وفعل. قَالَ محمد بْن صالح: فحدثني نصير بْن عبد الله بْن إبراهيم الجمحي، أن حسينا لما انتهى إلى السوق متوجها إلى مكة التفت إلى أهل المدينة، وقال: لا خلف الله عليكم بخير! فقال الناس وأهل السوق: لا بل أنت، لا خلف الله عليك بخير، ولا ردك! وكان أصحابه يحدثون في المسجد، فملئوه قذرا وبولا، فلما خرجوا غسل الناس المسجد. قَالَ: وحدثني ابن عبد الله بْن إبراهيم، قَالَ: أخذ أصحاب الحسين ستور المسجد، فجعلوها خفاتين لهم، قَالَ: ونادى أصحاب الحسين بمكة: أيما عبد أتانا فهو حر، فأتاه العبيد، وأتاه عبد كان لأبي، فكان معه، فلما أراد الحسين أن يخرج أتاه أبي فكلمه، وقال له: عمدت إلى مماليك لم تملكهم فأعتقتهم، بم تستحل ذلك! فقال حسين لأصحابه: اذهبوا به، فأي عبد عرفه فادفعوه إليه، فذهبوا معه، فأخذ غلامه وغلامين لجيران لنا وانتهى خبر الحسين إلى الهادي، وقد كان حج في تلك السنة رجال من أهل

بيته، منهم محمد بْن سليمان بْن علي والعباس بْن محمد وموسى بْن عيسى، سوى من حج من الأحداث وكان على الموسم سليمان بْن أبي جعفر، فأمر الهادي بالكتاب بتولية محمد بْن سليمان على الحرب، فقيل له: عمك العباس بْن محمد! قَالَ: دعوني، لا والله لا أخدع عن ملكي، فنفذ الكتاب بولاية محمد بْن سليمان بْن علي على الحرب، فلقيهم الكتاب وقد انصرفوا عن الحج. وكان محمد بْن سليمان قد خرج في عدة من السلاح والرجال، وذلك لأن الطريق كان مخوفا معورا من الإعراب، ولم يحتشد لهم حسين، فأتاه خبرهم، فهم بصوبه، فخرج بخدمه وإخوانه وكان موسى بْن علي بْن موسى قد صار ببطن نخل، على الثلاثين من المدينة، فانتهى إليه الخبر ومعه إخوانه وجواريه، وانتهى الخبر إلى العباس بْن محمد بْن سليمان وكاتبهم، وساروا إلى مكة فدخلوا، فأقبل محمد بْن سليمان، وكانوا أحرموا بعمرة ثم صاروا إلى ذي طوى، فعسكروا بها، ومعهم سليمان بْن أبي جعفر، فانضم إليهم من وافى في تلك السنة من شيعة ولد العباس ومواليهم وقوادهم وكان الناس قد اختلفوا في تلك السنة في الحج وكثروا جدا ثم قدم محمد بْن سليمان قدامه تسعين حافرا ما بين فرس إلى بغل، وهو على نجيب عظيم، وخلفه أربعون راكبا على النجائب عليها الرحال وخلفهم مائتا راكب على الحمير، سوى من كان معهم من الرجالة وغيرهم، وكثروا في أعين الناس جدا وملئوا صدورهم فظنوا أنهم أضعافهم، فطافوا بالبيت، وسعوا بين الصفا والمروة، وأحلوا من عمرتهم، ثم مضوا فأتوا ذا طوى ونزلوا، وذلك يوم الخميس فوجه محمد بْن سليمان أبا كامل- مولى لإسماعيل بْن علي- في نيف وعشرين فارسا، وذلك يوم الجمعة فلقيهم وكان في أصحابه رجل يقال له زيد، كان انقطع إلى العباس، فأخرجه معه حاجا لما رأى من عبادته، فلما رأى القوم قلب ترسه وسيفه، وانقلب إليهم، وذلك ببطن مر، ثم ظفروا به بعد ذلك مشدخا بالأعمدة، فلما كان ليلة السبت وجهوا خمسين فارسا، كان أول من ندبوا صباح أبو الذيال، ثم آخر ثم آخر، فكان أبو خلوة الخادم مولى محمد خامسا،

فأتوا المفضل مولى المهدي، فأرادوا أن يصيروه عليهم، فأبى وقال: لا، ولكن صيروا عليهم غيري وأكون أنا معهم، فصيروا عليهم عبد الله بْن حميد بْن رزين السمرقندي- وهو يومئذ شاب ابن ثلاثين سنة- فذهبوا وهم خمسون فارسا، وذلك ليلة السبت فدنا القوم، وزحفت الخيل، وتعبأ الناس، فكان العباس بْن محمد وموسى بْن عيسى في الميسرة، ومحمد بْن سليمان في الميمنة، وكان معاذ بْن مسلم فيما بين محمد بْن سليمان والعباس بْن محمد، فلما كان قبل طلوع الفجر جاء حسين وأصحابه فشد ثلاثة من موالي سليمان بْن علي- أحدهم زنجويه غلام حسان- فجاءوا برأس فطرحوه قدام محمد بْن سليمان- وقد كانوا قالوا: من جاء برأس فله خمسمائة درهم- وجاء أصحاب محمد فعرقبوا الإبل، فسقطت محاملها فقتلوهم وهزموهم، وكانوا خرجوا من تلك الثنايا، فكان الذين خرجوا مما يلي محمد بْن سليمان أقلهم، وكان جلهم خرجوا مما يلي موسى بْن عيسى وأصحابه، فكانت الصدمة بهم، فلما فرغ محمد بْن سليمان ممن يليه واسفروا، نظروا إلى الذين يلون موسى بْن عيسى، فإذا هم مجتمعون كأنهم كبه غزل، والتفت الميمنه والقلب عليهم، وانصرفوا نحو مكة لا يدرون ما حال الحسين، فما شعروا وهم بذي طوى أو قريبا منها إلا برجل من أهل خراسان، يقول: البشرى البشرى! هذا رأس حسين، فأخرجه وبجبهته ضربة طولا، وعلى قفاه ضربة أخرى، وكان الناس نادوا بالأمان حين فرغوا، فجاء الحسن بْن محمد أبو الزفت مغمضا إحدى عينيه، قد أصابها شيء في الحرب، فوقف خلف محمد والعباس، واستدار به موسى بن عيسى وعبد الله ابن العباس فأمر به فقتل، فغضب محمد بْن سليمان من ذلك غضبا شديدا. ودخل محمد بْن سليمان مكة من طريق والعباس بْن محمد من طريق، واحتزت الرءوس، فكانت مائة رأس ونيفا، فيها رأس سليمان بْن عبد الله بْن حسن وذلك يوم التروية، وأخذت أخت الحسين، وكانت معه فصيرت عند زينب بنت سليمان، واختلطت المنهزمة بالحجاج، فذهبوا، وكان سليمان بْن أبي جعفر شاكيا فلم يحضر القتال، ووافى عيسى بْن جعفر الحج تلك السنة، وكان مع أصحاب حسين رجل أعمى يقص عليهم فقتل، ولم يقتل أحد منهم صبرا

قَالَ الحسين بْن محمد بْن عبد الله: وأسر موسى بْن عيسى أربعة نفر من أهل الكوفة، ومولى لبني عجل وآخر. قَالَ محمد بْن صالح: حدثني محمد بْن داود بْن علي، قَالَ: حدثنا موسى بْن عيسى، قال: قدمت معى بسته أسارى فقال لي الهادي: هيه! تقتل أسيري! فقلت: يا أمير المؤمنين، إني فكرت فيه فقلت: تجيء عائشة وزينب إلى أم أمير المؤمنين، فتبكيان عندها وتكلمانها، فتكلم له أمير المؤمنين فيطلقه ثم قَالَ: هات الأسرى، فقلت: إني جعلت لهم العهد والمواثيق بالطلاق والعتاق، فقال: ائتني بهم، وأمر باثنين فقتلا، وكان الثالث منكرا، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا أعلم الناس بآل أبي طالب، فإن استبقيته دلك على كل بغية لك، فقال: نعم والله يا أمير المؤمنين، إني أرجو أن يكون بقائي صنعا لك فاطرق ثم قال: نعم والله لإفلاتك من يدي بعد أن وقعت في يدي لشديد، فلم يزل يكلمه حتى امر به ان يؤخر، وامره أن يكتب له طلبته، وأما الآخر فصفح عنه، وأمر بقتل عذافر الصيرفي وعلي بْن السابق القلاس الكوفى، وان يصلبا، فصلبوهما بباب الجسر، وكانا اسرا بفخ وغضب على مبارك التركي، وأمر بقبض أمواله وتصييره في ساسة الدواب، وغضب على موسى بْن عيسى لقتله الحسن بْن محمد، وأمر بقبض أمواله. وقال عبد الله بْن عمرو الثلجي: حدثني محمد بْن يوسف بْن يعقوب الهاشمي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن عبد الرَّحْمَن بْن عيسى، قَالَ: أفلت إدريس بْن عبد الله بْن حسن بْن حسن بْن علي بْن أبي طالب من وقعة فخ في خلافة الهادي، فوقع إلى مصر، وعلى بريد مصر واضح مولى لصالح بْن أمير المؤمنين المنصور، وكان رافضيا خبيثا، فحمله على البريد إلى أرض المغرب، فوقع بأرض طنجة بمدينة يقال لها وليلة، فاستجاب له من بها وبأعراضها من البربر، فضرب الهادي عنق واضح وصلبه. ويقال: إن الرشيد الذي ضرب عنقه، وانه دس الى ادريس الشيماخ اليمامي مولى المهدي، وكتب له كتابا إلى ابراهيم بن الاغلب عامله على إفريقية،

خرج حتى وصل إلى وليلة وذكر أنه متطبب، وأنه من أوليائهم، ودخل على إدريس فأنس به واطمأن إليه، وأقبل الشماخ يريه الإعظام له والميل إليه والإيثار له فنزل عنده بكل منزلة ثم أنه شكا إليه علة في أسنانه، فأعطاه سنونا مسموما قاتلا، وأمره أن يستن به عند طلوع الفجر لليلته، فلما طلع الفجر استن إدريس بالسنون، وجعل يرده في فيه، ويكثر منه، فقتله وطلب الشماخ فلم يظفر به، وقدم على إبراهيم بْن الأغلب فأخبره بما كان منه، وجاءته بعد مقدمه الأخبار بموت إدريس، فكتب ابن الأغلب إلى الرشيد بذلك، فولى الشماخ بريد مصر واجاره، فقال في ذلك بعض الشعراء- أظنه الهنازي: أتظن يا إدريس أنك مفلت ... كيد الخليفة أو يفيد فرار فليدركنك أو تحل ببلدة ... لا يهتدي فيها إليك نهار إن السيوف إذا انتضاها سخطه ... طالت وقصر دونها الأعمار ملك كأن الموت يتبع أمره ... حتى يقال: تطيعه الأقدار وذكر الفضل بْن إسحاق الهاشمي أن الحسين بْن علي لما خرج بالمدينة وعليها العمرى لم يزل العمرى متخفيا مقام الحسين بالمدينة، حتى خرج إلى مكة وكان الهادي وجه سليمان بْن أبي جعفر لولاية الموسم، وشخص معه من أهل بيته ممن أراد الحج العباس بْن محمد وموسى بن عيسى واسماعيل بن عيسى ابن موسى في طريق الكوفة، ومحمد بْن سليمان وعدة من ولد جعفر بْن سليمان على طريق البصرة، ومن الموالي مبارك التركي والمفضل الوصيف وصاعد مولى الهادي- وكان صاحب الأمر سليمان- ومن الوجوه المعروفين يقطين بْن موسى وعبيد ابن يقطين وابو الوزير عمر بْن مطرف، فاجتمعوا عند الذي بلغهم من توجه الحسين ومن معه إلى مكة، ورأسوا عليهم سليمان بْن أبي جعفر لولايته، وكان قد جعل أبو كامل مولى إسماعيل على الطلائع، فلقوه بفخ، وخلفوا عبيد الله بْن قثم بمكة للقيام بأمرها وأمر أهلها، وقد كان العباس بْن محمد أعطاهم الأمان على ما أحدثوا، وضمن لهم الإحسان إليهم والصلة لارحامهم،

وكان رسولهم في ذلك المفضل الخادم، فأبوا قبول ذلك، فكانت الوقعة، فقتل من قتل، وانهزم الناس، ونودي فيهم بالأمان، ولم يتبع هارب، وكان فيمن هرب يحيى وإدريس ابنا عبد الله بْن حسن، فأما إدريس فلحق بتاهرت من بلاد المغرب، فلجأ إليهم فأعظموه، فلم يزل عندهم إلى أن تلطف له، واحتيل عليه، فهلك، وخلفه ابنه إدريس بْن إدريس، فهم إلى اليوم بتلك الناحية مالكين لها، وانقطعت عنهم البعوث قَالَ المفضل بْن سليمان: لما بلغ العمري وهو بالمدينة مقتل الحسين بفخ وثب على دار الحسين ودور جماعة من أهل بيته وغيرهم ممن خرج مع الحسين، فهدمها وحرق النخل، وقبض ما لم يحرقه، وجعله في الصوافي المقبوضة قَالَ: وغضب الهادي على مبارك التركي لما بلغه من صدوده عن لقاء الحسين بعد أن شارف المدينة، وأمر بقبض أمواله وتصييره في سياسة دوابه، فلم يزل كذلك إلى وفاة الهادي، وسخط على موسى بْن عيسى لقتله الحسن بْن محمد بْن عبد الله أبي الزفت، وتركه أن يقدم به أسيرا، فيكون المحكم في أمره، وأمر بقبض أمواله، فلم تزل مقبوضة إلى أن توفي موسى وقدم على موسى ممن أسر بفخ الجماعة، وكان فيهم عذافر الصيرفى وعلى بن سابق القلاس الكوفي، فأمر بضرب أعناقهما وصلبهما بباب الجسر ببغداد، ففعل ذلك قَالَ: ووجه مهرويه مولاه إلى الكوفة، وأمره بالتغليظ عليهم لخروج من خرج منهم مع الحسين. وذكر علي بْن محمد بن سليمان بن عبد الله بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ: حدثني يوسف البرم مولى آل الحسن- وكانت أمه مولاة فاطمة بنت حسن- قَالَ: كنت مع حسين أيام قدم على المهدي، فأعطاه أربعين ألف دينار، ففرقها في الناس ببغداد والكوفه، وو الله ما خرج من الكوفة وهو يملك شيئا يلبسه إلا فروا ما تحته قميص وإزار الفراش، ولقد كان في طريقه إلى المدينة، إذا نزل استقرض من مواليه ما يقوم بمؤونتهم في يومهم قَالَ علي: وحدثني السري أبو بشر، وهو حليف بني زهرة، قَالَ: صليت الغداة في اليوم الذي خرج فيه الحسين بْن علي بْن الحسن صاحب فخ، فصلى

بنا حسين، وصعد المنبر منبر رسول الله ص، فجلس وعليه قميص وعمامة بيضاء قد سدلها من بين يديه ومن خلفه، وسيفه مسلول قد وضعه بين رجليه، إذ أقبل خالد البربري في أصحابه، فلما أراد أن يدخل المسجد بدره يحيى بْن عبد الله، فشد عليه البربري، وإني لأنظر إليه، فبدره يحيى بْن عبد الله، فضربه على وجهه، فأصاب عينيه وانفه، فقطع البيضه والقلنسوة نظرت إلى قحفه طائرا عن موضعه، وحمل على أصحابه فانهزموا ثم رجع إلى حسين، فقام بين يديه وسيفه مسلول يقطر دما، فتكلم حسين، فحمد الله وأثنى عليه، وخطب الناس، فقال في آخر كلامه: يايها الناس، أنا ابن رسول الله في حرم رسول الله، وفي مسجد رسول الله، وعلى منبر نبي الله، أدعوكم إلى كتاب الله وسنه نبيه ص، فإن لم أف لكم بذلك فلا بيعة لي في أعناقكم قَالَ: وكان أهل الزيارة في عامهم ذلك كثيرا، فكانوا قد ملئوا المسجد، فإذا رجل قد نهض، حسن الوجه، طويل القامة، عليه رداء ممشق، أخذ بيد ابن له شاب جميل جلد، فتخطى رقاب الناس، حتى انتهى إلى المنبر، فدنا من حسين، وقال: يا بن رسول الله، خرجت من بلد بعيد وابني هذا معي، وأنا أريد حج بيت الله وزياره قبر نبيه ص، وما يخطر ببالي هذا الأمر الذي حدث منك، وقد سمعت ما قلت، فعندك وفاء بما جعلت على نفسك؟ قَالَ: نعم، قَالَ: ابسط يدك فأبايعك، قَالَ: فبايعه، ثم قَالَ لابنه: ادن فبايع قَالَ: فرأيت والله رءوسهما في الرءوس بمنى، وذلك أني حججت في ذلك العام. قَالَ: وحدثني جماعة من أهل المدينة أن مباركا التركي أرسل إلى حسين ابن علي: والله لأن أسقط من السماء فتخطفني الطير، أو تهوي بي الريح في مكان سحيق، أيسر علي من أن أشوكك بشوكة، أو أقطع من رأسك شعرة، ولكن لا بد من الأعذار، فبيتني فإني منهزم عنك فأعطاه بذلك عهد الله وميثاقه قَالَ: فوجه إليه الحسين- أو خرج إليه- في نفر يسير، فلما دنوا من عسكره صاحوا وكبروا، فانهزم أصحابه حتى لحق بموسى بْن عيسى. وذكر أبو المضرحي الكلابي، قَالَ: أخبرني المفضل بْن محمد بن المفضل

ابن حسين بْن عبيد الله بْن العباس بْن علي بْن أبي طالب، أن الحسين بْن علي بْن حسن بْن حسن، قَالَ يومئذ في قوم لم يخرجوا معه- وكان قد وعدوه أن يوافوه، فتخلفوا عنه- متمثلا: من عاذ بالسيف لاقى فرصة عجبا ... موتا على عجل أو عاش منتصفا لا تقربوا السهل إن السهل يفسدكم ... لن تدركوا المجد حتى تضربوا عنفا وذكر الفضل بْن العباس الهاشمي أن عبد الله بْن محمد المنقري حدثه عن أبيه، قَالَ: دخل عيسى بْن دأب على موسى بْن عيسى عند منصرفه من فخ، فوجده خائفا يلتمس عذرا من قتل من قتل، فقال له: أصلح الله الأمير! أنشدك شعرا كتب به يزيد بْن معاوية إلى أهل المدينة يعتذر فيه من قتل الْحُسَيْن بْن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؟ قَالَ: أنشدني، فأنشده، فقال: يأيها الراكب الغادي لطيته ... على عذافرة في سيرها قحم أبلغ قريشا على شحط المزار بها ... بيني وبين الحسين الله والرحم وموقف بفناء البيت أنشده ... عهد الإله وما ترعى له الذمم عنفتم قومكم فخرا بأمكم ... أم حصان لعمري برة كرم هي التي لا يداني فضلها أحد ... بنت النبي وخير الناس قد علموا وفضلها لكم فضل وغيركم ... من قومكم لهم من فضلها قسم إني لأعلم أو ظنا كعالمه ... والظن يصدق أحيانا فينتظم أن سوف يترككم ما تطلبون بها ... قتلى تهاداكم العقبان والرخم يا قومنا لا تشبوا الحرب إذ خمدت ... ومسكوا بحبال السلم واعتصموا لا تركبوا البغي إن البغي مصرعة ... وإن شارب كأس البغي يتخم قد جرب الحرب من قد كان قبلكم ... من القرون وقد بادت بها الأمم فأنصفوا قومكم لا تهلكوا بذخا ... فرب ذي بذخ زلت به القدم

قَالَ: فسري عن موسى بْن عيسى بعض ما كان فيه. وذكر عبد الله بْن عبد الرحمن بْن عيسى بْن موسى أن العلاء حدثه أن الهادي أمير المؤمنين لما ورد عليه خلع أهل فخ خلا ليله يكتب كتابا بخطه، فاغتم بخلوته مواليه وخاصته، فدسوا غلاما له، فقالوا: اذهب حتى تنظر إلى أي شيء انتهى الخبر، قَالَ: فدنا من موسى، فلما رآه قَالَ: ما لك؟ فاعتل عليه قَالَ: فأطرق ثم رفع رأسه إليه، فقال: رقد الألى ليس السرى من شأنهم ... وكفاهم الإدلاج من لم يرقد وذكر أحمد بْن معاوية بْن بكر الباهلي، قَالَ: حدثنا الأصمعي، قَالَ: قَالَ محمد بْن سليمان ليلة فخ لعمرو بْن أبي عمرو المدني- وكان يرمي بين يديه بين الهدفين: ارم، قال: لا والله لا ارمى ولد رسول الله ص، إني إنما صحبتك لأرمي بين يديك بين الهدفين، ولم أصحبك لأرمي المسلمين. قَالَ: فقال المخزومي: ارم، فرمى فما مات إلا بالبرص. قَالَ: ولما قتل الحسين بْن علي وجاء برأسه يقطين بْن موسى، فوضع بين يدي الهادي، قَالَ: كأنكم والله جئتم برأس طاغوت من الطواغيت! إن أقل ما أجزيكم به أن أحرمكم جوائزكم قَالَ: فحرمهم ولم يعطهم شيئا. وقال موسى الهادي: لما قتل الحسين متمثلا: قد أنصف القارة من راماها ... إنا إذا ما فئة نلقاها نرد أولاها على أخراها. وغزا الصائفة في هذه السنة معيوف بْن يحيى من درب الراهب، وقد كانت الروم أقبلت مع البطريق إلى الحدث، فهرب الوالي والجند وأهل الأسواق،

فدخلها العدو، ودخل أرض العدو معيوف بْن يحيى، فبلغ مدينه أشنة، فأصابوا سبايا وأسارى وغنموا. وحج بالناس في هذه السنة سليمان بْن أبي جعفر المنصور. وكان على المدينة عمر بْن عبد العزيز العمري، وعلى مكة والطائف عبيد الله بْن قثم، وعلى اليمن إبراهيم بْن سلم بْن قتيبة، وعلى اليمامة والبحرين سويد بْن أبي سويد القائد الخراساني، وعلى عمان الحسن بْن تسنيم الحواري، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها وصدقاتها وبهقباذ الأسفل موسى بْن عيسى، وعلى صلاة البصرة وأحداثها محمد بْن سليمان، وعلى قضائها عمر بْن عثمان، وعلى جرجان الحجاج مولى الهادي، وعلى قومس زياد بْن حسان، وعلى طبرستان والرويان صالح بْن شيخ بْن عميرة الأسدي، وعلى أصبهان طيفور مولى الهادي.

سنه سبعين ومائه

ثم دخلت سنة سبعين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك وفاة يزيد بْن حاتم بإفريقية فيها، ووليها بعده روح بْن حاتم. وفيها مات عبد الله بْن مروان بْن محمد في المطبق. ذكر الخبر عن وفاه موسى الهادي وفيها توفي موسى الهادي بعيساباذ واختلف في السبب الذي كان به وفاته، فقال بعضهم: كانت وفاته من قرحة كانت في جوفه وقال آخرون: كانت وفاته من قبل جوار لأمه الخيزران، كانت أمرتهن بقتله لأسباب نذكر بعضها ذِكْرُ الْخَبَرِ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ كانت أمرتهن بقتله: ذكر يحيى بْن الحسن أن الهادي نابذ أمه ونافرها، لما صارت إليه الخلافة، فصارت خالصة إليه يوما، فقالت: إن أمك تستكسيك، فأمر لها بخزانة مملوءة كسوة قَالَ: ووجد للخيزران في منزلها من قراقر الوشي ثمانية عشر ألف قرقر قَالَ: وكانت الخيزران في أول خلافة موسى تفتات عليه في أموره، وتسلك به مسلك أبيه من قبله في الاستبداد بالأمر والنهي، فأرسل إليها ألا تخرجي من خفر الكفاية إلى بذاذة التبذل، فإنه ليس من قدر النساء الاعتراض في أمر الملك، وعليك بصلاتك وتسبيحك وتبتلك، ولك بعد هذا طاعة مثلك فيما يجب لك قَالَ: وكانت الخيزران في خلافة موسى كثيرا ما تكلمه في الحوائج، فكان يجيبها إلى كل ما تسأله حتى مضى لذلك أربعة أشهر من خلافته، وانثال الناس عليها، وطمعوا فيها، فكانت المواكب تغدو إلى بابها، قَالَ: فكلمته يوما في أمر لم يجد إلى إجابتها إليه سبيلا،

فاعتل بعلة، فقالت: لا بد من إجابتي، قَالَ: لا أفعل، قالت: فإني قد تضمنت هذه الحاجة لعبد الله بْن مالك قَالَ: فغضب موسى، وقال: ويل على ابن الفاعلة! قد علمت انه صاحبها، والله لاقضيتها لك، قالت: إذا والله لا أسألك حاجة أبدا، قَالَ: إذا والله لا أبالي وحمي وغضب. فقامت مغضبة، فقال: مكانك تستوعي كلامي والله، وإلا فأنا نفي من قرابتي من رسول الله ص لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قوادي أو أحد من خاصتي أو خدمي لأضربن عنقه، ولأقبضن ماله، فمن شاء فليلزم ذلك ما هذه المواكب التي تغدو وتروح إلى بابك في كل يوم! أما لك مغزل يشغلك، أو مصحف يذكرك، أو بيت يصونك! إياك ثم إياك، ما فتحت بابك لملي أو لذمي فانصرفت ما تعقل ما تطأ، فلم تنطق عنده بحلوة ولا مرة بعدها. قَالَ يحيى بْن الحسن: وحدثني أبي، قال: سمعت خالصه تقول للعباس ابن الفضل بْن الربيع: بعث موسى إلى أمه الخيزران بأرزة، وقال: استطبتها فأكلت منها، فكلي منها قالت خالصة: فقلت لها: أمسكي حتى تنظري، فإني أخاف أن يكون فيها شيء تكرهينه، فجاءوا بكلب فأكل منها، فتساقط لحمه، فأرسل إليها بعد ذلك: كيف رأيت الأرزة؟ فقالت: وجدتها طيبة، فقال: لم تأكلي، ولو أكلت لكنت قد استرحت منك، متى أفلح خليفة له أم! قَالَ وحدثني بعض الهاشميين، أن سبب موت الهادي كان أنه لما جد في خلع هارون والبيعة لابنه جعفر، وخافت الخيزران على هارون منه، دست إليه من جواريها لما مرض من قتله بالغم والجلوس على وجهه، ووجهت إلى يحيى بْن خالد: أن الرجل قد توفي، فاجدد في أمرك ولا تقصر. وذكر محمد بْن عبد الرحمن بْن بشار أن الفضل بْن سعيد حدثه، عن أبيه، قَالَ: كان يتصل بموسى وصول القواد إلى أمه الخيزران، يؤملون بكلامها

ذكر الخبر عما كان من خلع الهادي للرشيد

في قضاء حوائجهم عنده، قَالَ: وكانت تريد أن تغلب على أمره كما غلبت على أمر المهدي، فكان يمنعها من ذلك ويقول: ما للنساء والكلام في أمر الرجال! فلما كثر عليه مصير من يصير إليها من قواده، قَالَ يوما وقد جمعهم: أيما خير؟ أنا أو أنتم؟ قالوا: بل أنت يا أمير المؤمنين، قَالَ: فأيما خير، أمي أو أمهاتكم؟ قالوا: بل أمك يا أمير المؤمنين، قَالَ: فأيكم يحب أن يتحدث الرجال بخبر أمه، فيقولوا: فعلت أم فلان، وصنعت أم فلان، وقالت أم فلان؟ قالوا: ما أحد منا يحب ذلك، قَالَ: فما بال الرجال يأتون أمي فيتحدثون بحديثها! فلما سمعوا ذلك انقطعوا عنها البتة، فشق ذلك عليها فاعتزلته، وحلفت ألا تكلمه، فما دخلت عليه حتى حضرته الوفاة. ذكر الخبر عما كان من خلع الهادي للرشيد وكان السبب في إرادة موسى الهادي خلع أخيه هارون حتى اشتد عليه في ذلك وجد- فيما ذكر صالح بْن سليمان- أن الهادي لما أفضت إليه الخلافة أقر يحيى بْن خالد على ما كان يلي هارون من عمل المغرب، فأراد الهادي خلع هارون الرشيد والبيعة لابنه جعفر بْن موسى الهادي، وتابعه على ذلك القواد، منهم يزيد بْن مزيد وعبد الله بْن مالك وعلي بْن عيسى ومن أشبههم، فخلعوا هارون، وبايعوا لجعفر بْن موسى، ودسوا إلى الشيعة، فتكلموا في أمره، وتنقصوه في مجلس الجماعة، وقالوا: لا نرضى به، وصعب أمرهم حتى ظهر، وأمر الهادي ألا يسار قدام الرشيد بحربة، فاجتنبه الناس وتركوه، فلم يكن أحد يجترئ أن يسلم عليه ولا يقربه. وكان يحيى بْن خالد يقوم بإنزال الرشيد ولا يفارقه هو وولده- فيما ذكر. قَالَ صالح: وكان إسماعيل بْن صبيح كاتب يحيى بْن خالد، فأحب أن يضعه موضعا يستعلم له فيه الأخبار، وكان إبراهيم الحراني في موضع الوزارة لموسى، فاستكتب إسماعيل، ورفع الخبر إلى الهادي، وبلغ ذلك يحيى بْن خالد، فأمر إسماعيل أن يشخص إلى حران، فسار إليها، فلما كان بعد أشهر سأل

الهادي إبراهيم الحراني: من كاتبك؟ قَالَ: فلان كاتب، وسماه، فقال: أليس بلغني أن إسماعيل بْن صبيح كاتبك؟ قَالَ: باطل يا أمير المؤمنين، إسماعيل بحران. قَالَ: وسعي إلى الهادي بيحيى بْن خالد، وقيل له: إنه ليس عليك من هارون خلاف، وإنما يفسده يحيى بْن خالد، فابعث إلى يحيى، وتهدده بالقتل، وارمه بالكفر، فأغضب ذلك موسى الهادي على يحيى بْن خالد. وذكر أبو حفص الكرماني أن محمد بْن يحيى بْن خالد حدثه، قَالَ: بعث الهادي إلى يحيى ليلا، فأيس من نفسه، وودع أهله، وتحنط وجدد ثيابه، ولم يشك أنه يقتله، فلما أدخل عليه، قَالَ: يا يحيى، ما لي ولك! قَالَ: أنا عبدك يا أمير المؤمنين، فما يكون من العبد إلى مولاه إلا طاعته. قَالَ: فلم تدخل بيني وبين أخي وتفسده علي! قَالَ: يا أمير المؤمنين، من أنا حتى أدخل بينكما! إنما صيرني المهدي معه، وأمرني بالقيام بأمره، فقمت بما أمرني به، ثم أمرتني بذلك فانتهيت إلى أمرك قَالَ: فما الذي صنع هارون؟ قَالَ: ما صنع شيئا، ولا ذلك فيه ولا عنده قَالَ: فسكن غضبه وقد كان هارون طاب نفسا بالخلع، فقال له يحيى: لا تفعل، فقال: أليس يترك لي الهنيء والمريء، فهما يسعانني وأعيش مع ابنة عمي! وكان هارون يجد بأم جعفر وجدا شديدا، فقال له يحيى: وأين هذا من الخلافة! ولعلك ألا يترك هذا في يدك حتى يخرج أجمع، ومنعه من الإجابة. قَالَ الكرماني: فحدثني صالح بْن سليمان، قَالَ: بعث الهادي إلى يحيى بْن خالد وهو بعيساباذ ليلا، فراعه ذلك، فدخل عليه وهو في خلوة، فأمر بطلب رجل كان أخافه، فتغيب عنه، وكان الهادي يريد أن ينادمه ويمنعه مكانه من هارون، فنادمه وكلمه يحيى فيه، فآمنه وأعطاه خاتم ياقوت أحمر في يده، وقال: هذا امانه، وخرج يحيى فطلب الرجل، وأتى الهادي به فسر بذلك

قَالَ: وحدثني غير واحد أن الرجل الذي طلبه كان إبراهيم الموصلي. قَالَ صالح بْن سليمان: قَالَ الهادي يوما للربيع: لا يدخل علي يحيى بْن خالد إلا آخر الناس قَالَ: فبعث إليه الربيع، وتفرغ له قَالَ: فلما جلس من غد أذن حتى لم يبق أحد، ودخل عليه يحيى، وعنده عبد الصمد ابن علي والعباس بْن محمد وجلة أهله وقواده، فما زال يدنيه حتى أجلسه بين يديه، وقال له: إني كنت أظلمك وأكفرك، فاجعلني في حل، فتعجب الناس من إكرامه إياه وقوله، فقبل يحيى يده وشكر له، فقال له الهادي: من الذي يقول فيك يا يحيى: لو يمس البخيل راحة يحيى ... لسخت نفسه ببذل النوال قَالَ: تلك راحتك يا أمير المؤمنين لا راحة عبدك! قَالَ: وقال يحيى للهادي في خلع الرشيد لما كلمه فيه: يا أمير المؤمنين، إنك إن حملت الناس على نكث الأيمان هانت عليهم أيمانهم، وان تركتهم على بيعه أخيك ثم بايعت لجعفر من بعده كان ذلك أوكد لبيعته، فقال: صدقت ونصحت، ولي في هذا تدبير. قَالَ الكرماني: وحدثني خزيمة بْن عبد الله، قَالَ: أمر الهادي بحبس يحيى بْن خالد على ما أراده عليه من خلع الرشيد، فرفع إليه يحيى رقعة: أن عندي نصيحة، فدعا به، فقال: يا أمير المؤمنين، اخلني، فأخلاه، فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيت إن كان الأمر- أسأل الله ألا نبلغه، وأن يقدمنا قبله- أتظن أن الناس يسلمون الخلافة لجعفر، وهو لم يبلغ الحلم، ويرضون به لصلاتهم وحجهم وغزوهم! قَالَ: والله ما أظن ذلك، قَالَ: يا أمير المؤمنين، أفتأمن ان يسمو إليها أهلك وجلتهم مثل فلان وفلان، ويطمع فيها غيرهم، فتخرج من ولد أبيك؟ فقال له: نبهتني يا يحيى- قَالَ: وكان يقول: ما كلمت أحدا من الخلفاء كان أعقل من موسى- قَالَ: وقال له: لو أن هذا الأمر لم يعقد لأخيك، أما كان ينبغى ان تعقده له، فكيف بأن تحله عنه، وقد عقده المهدي له! ولكن أرى أن تقر هذا الأمر يا أمير المؤمنين

على حاله، فإذا بلغ جعفر، وبلغ الله به، أتيته بالرشيد فخلع نفسه، وكان أول من يبايعه ويعطيه صفقه يده قال: فقبل الهادي قوله ورأيه، وأمر بإطلاقه. وذكر الموصلي عن محمد بْن يحيى، قَالَ: عزم الهادي بعد كلام أبي له على خلع الرشيد، وحمله عليه جماعة من مواليه وقواده، أجابه إلى الخلع أو لم يجبه، واشتد غضبه منه، وضيق عليه وقال يحيى لهارون: استأذنه في الخروج إلى الصيد، فإذا خرجت فاستبعد ودافع الأيام، فرفع هارون رقعة يستأذن فيها، فأذن له، فمضى إلى قصر مقاتل، فأقام به أربعين يوما حتى أنكر الهادي أمره وغمه احتباسه، وجعل يكتب إليه ويصرفه، فتعلل عليه حتى تفاقم الأمر، وأظهر شتمه، وبسط مواليه وقواده السنتهم فيه، والفضل ابن يحيى إذ ذاك خليفة أبيه، والرشيد بالباب، فكان يكتب اليه بذلك، وانصرف وطال الأمر. قَالَ الكرماني: فحدثني يزيد مولى يحيى بْن خالد، قَالَ: بعثت الخيزران عاتكة- ظئرا كانت لهارون- الى يحيى، فشقت جيبها بين يديه، وتبكي إليه وتقول له: قالت لك السيدة: الله الله في ابني لا تقتله، ودعه يجيب أخاه إلى ما يسأله ويريده منه، فبقاؤه أحب إلي من الدنيا بجمع ما فيها قَالَ: فصاح بها، وقال لها: وما أنت وهذا! إن يكن ما تقولين فإني وولدي وأهلي سنقتل قبله، فإن اتهمت عليه فلست بمتهم على نفسي ولا عليهم قَالَ: ولما لم ير الهادي يحيى بْن خالد يرجع عما كان عليه لهارون بما بذل له من اكرام واقطاع وصله، بعث إليه يتهدده بالقتل إن لم يكف عنه قَالَ: فلم تزل تلك الحال من الخوف والخطر، وماتت أم يحيى وهو في الخلد ببغداد، لأن هارون كان ينزل الخلد، ويحيى معه، وهو ولي العهد، نازل في داره يلقاه في ليله ونهاره. وذكر محمد بْن القاسم بْن الربيع، قَالَ: أخبرني محمد بْن عمرو الرومي،

قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: جلس موسى الهادي بعد ما ملك في أول خلافته جلوسا خاصا، ودعا بإبراهيم بْن جعفر بْن أبي جعفر وإبراهيم بْن سلم بْن قتيبة والحراني، فجلسوا عن يساره، ومعهم خادم له أسود يقال له أسلم، ويكنى أبا سليمان، وكان يثق به ويقدمه، فبينا هو كذلك، إذ دخل صالح صاحب المصلى، فقال: هارون بْن المهدي، فقال: ائذن له، فدخل فسلم عليه، وقبل يديه، وجلس عن يمينه بعيدا من ناحية، فأطرق موسى ينظر إليه، وأدمن ذلك، ثم التفت إليه، فقال: يا هارون، كأني بك تحدث نفسك بتمام الرؤيا، وتؤمل ما أنت منه بعيد، ودون ذلك خرط القتاد، تؤمل الخلافة! قَالَ: فبرك هارون على ركبتيه، وقال: يا موسى، إنك إن تجبرت وضعت، وإن تواضعت رفعت، وإن ظلمت ختلت، وإني لأرجو أن يفضي الأمر إلي، فأنصف من ظلمت، وأصل من قطعت، وأصير أولادك أعلى من أولادي، وأزوجهم بناتي، وأبلغ ما يجب من حق الإمام المهدي قَالَ: فقال له موسى: ذلك الظن بك يا أبا جعفر، ادن مني، فدنا منه، فقبل يديه، ثم ذهب يعود إلى مجلسه، فقال له: لا والشيخ الجليل، والملك النبيل- أعني أباك المنصور- لا جلست إلا معي، وأجلسه في صدر المجلس معه، ثم قَالَ: يا حراني، احمل الى أخي الف ألف دينار، وإذا افتتح الخراج فاحمل إليه النصف منه، واعرض عليه ما في الخزائن من مالنا، وما أخذ من أهل بيت اللعنة، فيأخذ جميع ما أراد قَالَ: ففعل ذلك ولما قام قَالَ لصالح: أدن دابته إلى البساط قَالَ عمرو الرومي: وكان هارون يأنس بي، فقمت إليه فقلت: يا سيدي، ما الرؤيا التي قَالَ لك أمير المؤمنين؟ قَالَ: قَالَ المهدي: أريت في منامي كأني دفعت إلى موسى قضيبا وإلى هارون قضيبا، فأورق من قضيب موسى أعلاه قليلا، فأما هارون فأروق قضيبه من أوله إلى آخره فدعا المهدي الحكم بْن موسى الضمري- وكان يكنى أبا سفيان- فقال له: عبر هذه الرؤيا، فقال: يملكان جميعا، فأما موسى فتقل أيامه، وأما هارون فيبلغ مدى ما عاش خليفة، وتكون أيامه

أحسن أيام، ودهره أحسن دهر قَالَ: ولم يلبث إلا أياما يسيرة، ثم اعتل موسى ومات، وكانت علته ثلاثة أيام. قَالَ عمرو الرومي: أفضت الخلافة إلى هارون، فزوج حمدونة من جعفر ابن موسى، وفاطمة من إسماعيل بْن موسى، ووفى بكل ما قَالَ، وكان دهره أحسن الدهور. وذكر أن الهادي كان قد خرج إلى الحديثة، حديثة الموصل، فمرض بها، واشتد مرضه، فانصرف فذكر عمرو اليشكري- وكان في الخدم- قَالَ: انصرف الهادي من الحديثة بعد ما كتب إلى جميع عماله شرقا وغربا بالقدوم عليه، فلما ثقل اجتمع القوم الذين كانوا بايعوا لجعفر ابنه، فقالوا: إن صار الأمر إلى يحيى قتلنا ولم يستبقنا، فتآمروا على أن يذهب بعضهم إلى يحيى بأمر الهادي، فيضرب عنقه ثم قالوا: لعل أمير المؤمنين يفيق من مرضه، فما عذرنا عنده! فأمسكوا ثم بعثت الخيزران إلى يحيى تعلمه أن الرجل لمآبه، وتأمره بالاستعداد لما ينبغي، وكانت المستولية على أمر الرشيد وتدبير الخلافة إلى ان هلك، فأحضر الكتاب وجمعوا في منزل الفضل بْن يحيى، فكتبوا لليلتهم كتبا من الرشيد إلى العمال بوفاة الهادي، وأنهم قد ولاهم الرشيد ما كانوا يلون، فلما مات الهادي أنفذوها على البرد. وذكر الفضل بْن سعيد، أن أباه حدثه أن الخيزران كانت قد حلفت ألا تكلم موسى الهادي، وانتقلت عنه، فلما حضرته الوفاة، وأتاها الرسول فأخبرها بذلك، فقالت: وما أصنع به؟ فقالت لها خالصة: قومي إلى ابنك أيتها الحرة، فليس هذا وقت تعتب ولا تغضب فقالت: أعطوني ماء أتوضأ للصلاة، ثم قالت: أما إنا كنا نتحدث أنه يموت في هذه الليلة خليفة، ويملك خليفة، ويولد خليفة، قَالَ: فمات موسى، وملك هارون، وولد المأمون. قَالَ الفضل: فحدثت بهذا الحديث عبد الله بْن عبيد الله، فساقه لي مثل ما حدثنيه أبي، فقلت: فمن أين كان للخيزران هذا العلم؟ قَالَ: إنها كانت قد سمعت من الأوزاعي

ذكر الخبر عن وقت وفاته ومبلغ سنه وقدر ولايته ومن صلى عليه

ذكر يحيى بْن الحسن أن محمد بْن سليمان بْن علي حدثه، قَالَ: حدثتني عمتي زينب ابنة سليمان، قالت: لما مات موسى بعيساباذ، أخبرتنا الخيزران الخبر، ونحن أربع نسوة، أنا وأختي وأم الحسن وعائشة، بنيات سليمان، ومعنا ريطة أم علي، فجاءت خالصة، فقالت لها: ما فعل الناس؟ قالت: يا سيدتي، مات موسى ودفنوه، قالت: إن كان مات موسى، فقد بقي هارون، هات لي سويقا، فجاءت بسويق، فشربت وسقتنا، ثم قالت: هات لساداتى أربعمائة ألف دينار، ثم قالت: ما فعل ابني هارون؟ قالت: حلف ألا يصلي الظهر إلا ببغداد قالت: هاتوا الرحائل، فما جلوسي هاهنا، وقد مضى! فلحقته ببغداد. ذكر الخبر عن وقت وفاته ومبلغ سنه وقدر ولايته ومن صلى عليه قَالَ أبو معشر: توفي موسى الهادي ليلة الجمعة للنصف من شهر ربيع الأول، حدثنا بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق. وقال الواقدي: مات موسى بعيساباذ للنصف من شهر ربيع الأول. وقال هشام بْن محمد: هلك موسى الهادي لأربع عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ ليلة الجمعة في سنة سبعين ومائة. وقال بعضهم: توفي ليلة الجمعة لستة عشر يوما منه، وكانت خلافته سنة وثلاثة أشهر. وقَالَ هشام: ملك أربعة عشر شهرا، وتوفي وهو ابن ست وعشرين سنة. وقال الواقدي: كانت ولايته سنة وشهرا واثنين وعشرين يوما وقال غيرهم: توفي يوم السبت، لعشر خلت من ربيع الأول- أو ليلة الجمعة- وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وكانت خلافته سنة وشهرا وثلاثة وعشرين يوما، وصلى عليه أخوه هارون بْن محمد الرشيد وكان كنيته أبا محمد، وأمه الخيزران أم ولد، ودفن بعيساباذ الكبرى في بستانه

ذكر اولاده

وذكر الفضل بْن إسحاق أنه كان طويلا جسيما جميلا أبيض، مشربا حمرة، وكان بشفته العليا تقلص، وكان يلقب موسى أطبق، وكان ولد بالسيروان من الري . ذكر أولاده وكان له من الأولاد تسعة، سبعة ذكور وابنتان فاما الذكور فاحدهم جعفر- وهو الذي كان يرشحه للخلافة- والعباس وعبد الله وإسحاق وإسماعيل وسليمان وموسى بْن موسى الأعمى، كلهم من أمهات أولاد وكان الأعمى- وهو موسى- ولد بعد موت أبيه والابنتان، إحداهما أم عيسى كانت عند المأمون، والاخرى أم العباس بنت موسى، تلقب نوته . ذكر بعض أخباره وسيره ذكر إبراهيم بْن عبد السلام، ابن أخي السندي أبو طوطة، قَالَ: حدثني السندي بْن شاهك، قَالَ: كنت مع موسى بجرجان، فأتاه نعي المهدي والخلافة، فركب البريد إلى بغداد، ومعه سعيد بْن سلم، ووجهني إلى خراسان، فحدثني سعيد بْن سلم، قَالَ: سرنا بين أبيات جرجان وبساتينها، قَالَ: فسمع صوتا من بعض تلك البساتين من رجل يتغنى، فقال لصاحب شرطته: علي بالرجل الساعة، قَالَ: فقلت يا أمير المؤمنين، ما أشبه قصة هذا الخائن بقصة سليمان بْن عبد الملك! قَالَ: وكيف؟ قَالَ: قلت له: كان سليمان بْن عبد الملك في متنزه له ومعه حرمه، فسمع من بستان آخر صوت رجل يتغنى، فدعا صاحب شرطته، فقال: علي بصاحب الصوت، فأتي به، فلما مثل بين يديه، قَالَ له: ما حملك على الغناء وأنت إلى جنبي ومعي حرمي! أما علمت أن الرماك إذا سمعت صوت الفحل حنت إليه! يا غلام جبه، فجب الرجل فلما كان في العام المقبل رجع سليمان إلى ذلك المتنزه، فجلس مجلسه الذي فيه، فذكر الرجل وما صنع به، فقال لصاحب

شرطته: علي بالرجل الذي كنا جببناه، فأحضره، فلما مثل بين يديه، قَالَ له: إما بعت فوفيناك، واما وهبت فكافأناك، قال: فو الله ما دعاه بالخلافة، ولكنه قَالَ له: يا سليمان، الله الله! إنك قطعت نسلي، فذهبت بماء وجهي، وحرمتني لذتي، ثم تقول: إما وهبت فكافأناك، وإما بعت فوفيناك! لا والله حتى أقف بين يدي الله قَالَ: فقال موسى: يا غلام، رد صاحب الشرطة، فرده، فقال: لا تعرض للرجل وذكر أبو موسى هارون بْن محمد بْن إسماعيل بْن موسى الهادي، ان على ابن صالح حدثه، أنه كان يوما على رأس الهادي وهو غلام- وقد كان جفا المظالم عامة ثلاثة أيام- فدخل عليه الحراني، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن العامة لا تنقاد على ما أنت عليه، لم تنظر في المظالم منذ ثلاثة أيام، فالتفت إلي، وقال: يا علي، ائذن للناس، علي بالجفلى لا بالنقرى، فخرجت من عنده أطير على وجهي ثم وقفت فلم أدر ما قَالَ لي، فقلت: أراجع أمير المؤمنين، فيقول: أتحجبني ولا تعلم كلامي! ثم أدركني ذهني، فبعثت الى اعرابى كان قد وفد، وسألته عن الجفلى والنقرى، فقال: الجفلى جفالة، والنقرى ينقر خواصهم فأمرت بالستور فرفعت وبالأبواب ففتحت، فدخل الناس على بكرة أبيهم، فلم يزل ينظر في المظالم إلى الليل، فلما تقوض المجلس مثلت بين يديه، فقال: كأنك تريد أن تذكر شيئا يا علي، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، كلمتني بكلام لم أسمعه قبل يومي هذا، وخفت مراجعتك، فتقول: أتحجبني وأنت لم تعلم كلامي! فبعثت إلى أعرابي كان عندنا، ففسر لي الكلام، فكافئه عني يا أمير المؤمنين، قَالَ: نعم مائة ألف درهم تحمل اليه، فقلت له: يا أمير المؤمنين، إنه أعرابي جلف، وفي عشرة آلاف درهم ما أغناه وكفاه، فقال: ويلك يا علي! أجود وتبخل! قَالَ: وحدثني علي بْن صالح، قَالَ: ركب الهاديّ يوما يريد عيادة أمه الخيزران من علة كانت وجدتها، فاعترضه عمر بْن بزيع، فقال له:

يا أمير المؤمنين، ألا أدلك على وجه هو أعود عليك من هذا؟ فقال: وما هو يا عمر؟ قَالَ: المظالم لم تنظر فيها منذ ثلاث، قَالَ: فأومأ إلى المطرقة أن يميلوا إلى دار المظالم، ثم بعث إلى الخيزران بخادم من خدمه يعتذر إليها من تخلفه، وقال: قل لها إن عمر بْن بزيع أخبرنا من حق الله بما هو أوجب علينا من حقك، فملنا إليه ونحن عائدون إليك في غد إن شاء الله. وذكر عن عبد الله بْن مالك، أنه قَالَ: كنت أتولى الشرطة للمهدي، وكان المهدي يبعث إلى ندماء الهادي ومغنيه، ويأمرني بضربهم، وكان الهادي يسألني الرفق بهم والترفيه لهم، ولا ألتفت إلى ذلك، وأمضي لما أمرني به المهدي قَالَ: فلما ولي الهادي الخلافة أيقنت بالتلف، فبعث إلي يوما، فدخلت عليه متكفنا متحنطا، وإذا هو على كرسي، والسيف والنطع بين يديه، فسلمت، فقال: لا سلم الله على الآخر! تذكر يوم بعثت إليك في أمر الحراني، وما أمر أمير المؤمنين به من ضربه وحبسه فلم تجبني، وفي فلان وفلان- وجعل يعدد ندماءه- فلم تلتفت إلى قولي، ولا أمري! قلت: نعم يا أمير المؤمنين، أفتأذن لي في استيفاء الحجة؟ قَالَ: نعم، قلت: ناشدتك بالله يا أمير المؤمنين، أيسرك أنك وليتني ما ولاني أبوك، فأمرتني بأمر، فبعث إلى بعض بنيك بأمر يخالف به أمرك، فاتبعت أمره وعصيت أمرك؟ قَالَ: لا، قلت: فكذلك أنا لك، وكذا كنت لأبيك فاستدناني، فقبلت يديه، فأمر بخلع فصبت علي، وقال: قد وليتك ما كنت تتولاه، فامض راشدا فخرجت من عنده فصرت إلى منزلي مفكرا في أمري وأمره، وقلت: حدث يشرب، والقوم الذين عصيته في أمرهم ندماؤه ووزراؤه وكتابه، فكأني بهم حين يغلب عليهم الشراب قد أزالوا رأيه في، وحملوه من أمري على ما كنت أكره وأتخوفه قَالَ: فإني لجالس وبين يدي بنية لي في وقتي ذلك، والكانون بين يدي، ورقاق أشطره بكامخ وأسخنه وأضعه للصبية، وإذا ضجة عظيمة، حتى توهمت أن الدنيا قد اقتلعت وتزلزلت بوقع الحوافر وكثرة الضوضاء، فقلت: هاه! كان والله ما ظننت، ووافاني من أمره ما تخوفت، فإذا الباب قد فتح، وإذا الخدم قد دخلوا، وإذا أمير المؤمنين الهادي على حمار في وسطهم، فلما

رأيته وثبت عن مجلسي مبادرا، فقبلت يده ورجله وحافر حماره، فقال لي: يا عبد الله، إني فكرت في أمرك، فقلت: يسبق إلى قلبك أني إذا شربت وحولي أعداؤك، أزالوا ما حسن من رأيي فيك، فأقلقك وأوحشك، فصرت إلى منزلك لأونسك وأعلمك أن السخيمة قد زالت عن قلبي لك، فهات فأطعمني مما كنت تاكل، وافعل فيه ما كنت تفعل، لتعلم أني قد تحرمت بطعامك وأنست بمنزلك، فيزول خوفك ووحشتك فأدنيت إليه ذلك الرقاق والسكرجة التي فيها الكامخ، فأكل منها ثم قَالَ: هاتوا الزلة التي أزللتها لعبد الله من مجلسي فأدخلت الى أربعمائة بغل موقرة دراهم، وقال: هذه زلتك، فاستعن بها على أمرك، واحفظ لي هذه البغال عندك، لعلي أحتاج إليها يوما لبعض أسفاري، ثم قَالَ: أظلك الله بخير، وانصرف راجعا. فذكر موسى بْن عبد الله أن أباه أعطاه بستانه الذي كان وسط داره، ثم بنى حوله معالف لتلك البغال، وكان هو يتولى النظر إليها والقيام عليها أيام حياة الهادي كلها. وذكر محمد بْن عبد الله بْن يعقوب بْن داود بْن طهمان السلمي، قَالَ: أخبرني أبي، قَالَ: كان علي بْن عيسى بْن ماهان يغضب غضب الخليفة، ويرضى رضا الخليفة، وكان أبي يقول: ما لعربي ولا لعجمي عندي ما لعلي ابن عيسى، فإنه دخل إلي الحبس وفي يده سوط، فقال: أمرني أمير المؤمنين موسى الهادي أن أضربك مائة سوط، قَالَ: فأقبل يضعه على يدي ومنكبي، يمسني به مسا إلى أن عد مائة، وخرج فقال له: ما صنعت بالرجل؟ قَالَ: صنعت به ما أمرت قَالَ: فما حاله؟ قَالَ: مات، قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! ويلك! فضحتني والله عند الناس، هذا رجل صالح، يقول الناس: قتل يعقوب بْن داود! قَالَ: فلما رأى شدة جزعه، قَالَ: هو حي يا أمير المؤمنين لم يمت، قَالَ: الحمد لله على ذلك. قَالَ: وكان الهادي قد استخلف على حجابته بعد الربيع ابنه الفضل، فقال له: لا تحجب عني الناس، فإن ذلك يزيل عني البركة، ولا تلق إلي أمرا إذا كشفته أصبته باطلا، فإن ذلك يوقع الملك، ويضر بالرعية

وقال موسى بْن عبد الله: أتي موسى برجل، فجعل يقرعه بذنوبه ويتهدده، فقال له الرجل: يا أمير المؤمنين، اعتذاري مما تقرعني به رد عليك، وإقراري يوجب علي ذنبا، ولكني أقول: فإن كنت ترجو في العقوبة رحمة ... فلا تزهدن عند المعافاة في الأجر قَالَ: فأمر بإطلاقه. وذكر عمر بْن شبة أن سعيد بْن سلم كان عند موسى الهادي، فدخل عليه وفد الروم وعلى سعيد بْن سلم قلنسوة- وكان قد صلع وهو حدث- فقال له موسى: ضع قلنسوتك حتى تتشايخ بصلعتك. وذكر يحيى بْن الحسن بْن عبد الخالق أن أباه حدثه، قَالَ: خرجت إلى عيساباذ أريد الفضل بْن الربيع، فلقيت موسى أمير المؤمنين وهو خليفة، وأنا لا أعرفه، فإذا هو في غلالة على فرس، وبيده قناة لا يدرك أحدا إلا طعنه فقال لي: يا بن الفاعلة! قَالَ: فرأيت إنسانا كأنه صنم، وكنت رأيته بالشام، وكان فخذاه كفخذي بعير، فضربت يدي إلى قائم السيف، فقال لي رجل: ويلك! أمير المؤمنين، فحركت دابتي- وكان شهريا حملني عليه الفضل بْن الربيع، وكان اشتراه بأربعة آلاف درهم- فدخلت دار محمد بْن القاسم صاحب الحرس، فوقف على الباب، وبيده القناه، وقال: اخرج يا بن الفاعلة! فلم أخرج، ومر فمضى قلت للفضل: فإني رأيت أمير المؤمنين، وكان من القصة كذا وكذا، فقال: لا أرى لك وجها إلا ببغداد، إذا جئت أصلي الجمعة فالقني، قَالَ: فما دخلت عيساباذ حتى هلك الهادي. وذكر الهيثم بْن عروة الأنصاري أن الحسين بْن معاذ بْن مسلم- وكان رضيع موسى الهادي- قَالَ: لقد رأيتني أخلو مع موسى، فلا أجد له هيبة في قلبي عند الخلوه، لما كان يبسطنى وربما صارعني فأصرعه غير هائب له، وأضرب به الأرض، فإذا تلبس لبسة الخلافة ثم جلس مجلس الأمر والنهى

قمت على راسه، فو الله ما أملك نفسي من الرعدة والهيبة له. وذكر يحيى بْن الحسن بْن عبد الخالق أن محمد بْن سعيد بْن عمر بْن مهران، حدثه عن أبيه، عن جده، قَالَ: كانت المرتبه لإبراهيم بن سلم ابن قتيبة عند الهادي، فمات ابن لإبراهيم يقال له سلم، فأتاه موسى الهادي يعزيه عنه على حمار أشهب، لا يمنع مقبل ولا يرد عنه مسلم، حتى نزل في رواقه، فقال له: يا إبراهيم، سرك وهو عدو وفتنة، وحزنك وهو صلاة ورحمة فقال: يا أمير المؤمنين، ما بقي مني جزء كان فيه حزن إلا وقد امتلأ عزاء قَالَ: فلما مات إبراهيم صارت المرتبة لسعيد بْن سلم بعده. وذكر عمر بْن شبة أن علي بْن الحسين بْن علي بْن الحسين بْن علي بْن أبي طالب كان يلقب بالجزري، تزوج رقية بنت عمرو العثمانية- وكانت تحت المهدي- فبلغ ذلك موسى الهادي في أول خلافته، فأرسل إليه فجهله وقال: أعياك النساء إلا امرأة أمير المؤمنين، فقال: ما حرم الله على خلقه إلا نساء جدي ص، فأما غيرهن فلا ولا كرامة فشجه بمخصرة كانت في يده، وامر بضربه خمسمائة سوط، فضرب، وأراده أن يطلقها فلم يفعل، فحمل من بين يديه في نطع فألقي ناحية، وكان في يده خاتم سري فرآه بعض الخدم وقد غشي عليه من الضرب، فأهوى إلى الخاتم، فقبض على يد الخادم فدقها، فصاح وأتى موسى فأراه يده، فاستشاط وقال: يفعل هذا بخادمي، مع استخفافه بأبي، وقوله لي! وبعث إليه: ما حملك على ما فعلت؟ قَالَ: قل له وسله، ومره أن يضع يده على رأسك وليصدقك ففعل ذلك موسى، فصدقه الخادم، فقال: أحسن والله، أنا أشهد أنه ابن عمي، لو لم يفعل لانتفيت منه وأمر بإطلاقه. وذكر أبو إبراهيم المؤذن، أن الهادي كان يثب على الدابة وعليه درعان، وكان المهدي يسميه ريحانتي

وذكر محمد بْن عطاء بْن مقدم الواسطي، أن أباه حدثه أن المهدي قَالَ لموسى يوما- وقد قدم إليه زنديق، فاستتابه، فأبى أن يتوب، فضرب عنقه وأمر بصلبه: يا بني، إن صار لك هذا الأمر فتجرد لهذه العصابة- يعني أصحاب ماني- فإنها فرقة تدعو الناس إلى ظاهر حسن، كاجتناب الفواحش والزهد في الدنيا والعمل للآخرة، ثم تخرجها إلى تحريم اللحم ومس الماء الطهور وترك قتل الهوام تحرجا وتحوبا، ثم تخرجها من هذه إلى عبادة اثنين: أحدهما النور والآخر الظلمة، ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات والاغتسال بالبول وسرقة الأطفال من الطرق، لتنقذهم من ضلال الظلمة إلى هداية النور، فارفع فيها الخشب، وجرد فيها السيف، وتقرب بأمرها إلى الله لا شريك له، فإني رأيت جدك العباس في المنام قلدني بسيفين، وأمرني بقتل أصحاب الاثنين قَالَ: فقال موسى بعد أن مضت من أيامه عشرة أشهر: أما والله لئن عشت لأقتلن هذه الفرقة كلها حتى لا أترك منها عينا تطرف. ويقال: إنه أمر أن يهيأ له ألف جذع، فقال: هذا في شهر كذا، ومات بعد شهرين. وذكر أيوب بْن عنابة أن موسى بْن صالح بْن شيخ، حدثه أن عيسى ابن دأب كان أكثر أهل الحجاز أدبا وأعذبهم ألفاظا، وكان قد حظي عند الهادي حظوة لم تكن عنده لأحد، وكان يدعو له بمتكأ، وما كان يفعل ذلك بأحد غيره في مجلسه وكان يقول: ما استطلت بك يوما ولا ليلة، ولا غبت عن عيني إلا تمنيت ألا أرى غيرك وكان لذيذ المفاكهة طيب المسامرة، كثير النادرة، جيد الشعر حسن الانتزاع له قَالَ: فأمر له ذات ليلة بثلاثين ألف دينار، فلما أصبح ابن دأب وجه قهرمانه إلى باب موسى، وقال له: الق الحاجب، وقل له: يوجه إلينا بهذا المال، فلقي الحاجب، فأبلغه رسالته، فتبسم وقال: هذا ليس إلي، فانطلق إلى صاحب

التوقيع ليخرج له كتابا إلى الديوان، فتدبره هناك ثم تفعل فيه كذا وكذا. فرجع إلى ابن دأب فأخبره، فقال: دعها ولا تعرض لها، ولا تسأل عنها. قَالَ: فبينا موسى في مستشرف له ببغداد، إذ نظر إلى ابن دأب قد أقبل، وليس معه إلا غلام واحد! فقال لإبراهيم الحراني: أما ترى ابن دأب، ما غير من حاله، ولا تزين لنا، وقد بررناه بالأمس ليرى أثرنا عليه! فقال له إبراهيم: فإن أمرني أمير المؤمنين عرضت له بشيء من هذا، قَالَ: لا، هو أعلم بأمره، ودخل ابن دأب، فأخذ في حديثه إلى أن عرض له موسى بشيء من أمره، فقال: أرى ثوبك غسيلا، وهذا شتاء يحتاج فيه إلى الجديد اللين، فقال: يا أمير المؤمنين، باعي قصير عما أحتاج إليه، قَالَ: وكيف وقد صرفنا إليك من برنا ما ظننا أن فيه صلاح شأنك! قَالَ: ما وصل إلي ولا قبضته، فدعا صاحب بيت مال الخاصة، فقال: عجل له الساعة ثلاثين ألف دينار، فأحضرت وحملت بين يديه. وذكر علي بْن محمد، أن أباه حدثه عن علي بْن يقطين، قَالَ: إني لعند موسى ليلة مع جماعة من أصحابه، إذ أتاه خادم فساره بشيء، فنهض سريعا، وقال: لا تبرحوا، ومضى فأبطأ، ثم جاء وهو يتنفس، فألقى بنفسه على فراشه يتنفس ساعة حتى استراح، ومعه خادم يحمل طبقا مغطى بمنديل، فقام بين يديه، فأقبل يرعد، فعجبنا من ذلك ثم جلس وقال للخادم: ضع ما معك، فوضع الطبق، وقال: ارفع المنديل، فرفعه فإذا في الطبق رأسا جاريتين، لم أر والله أحسن من وجوههما قط ولا من شعورهما، وإذا على رءوسهما الجوهر منظوم على الشعر، وإذا رائحة طيبة تفوح، فأعظمنا ذلك، فقال: أتدرون ما شأنهما؟ قلنا: لا، قَالَ: بلغنا أنهما تتحابان قد اجتمعتا على الفاحشة، فوكلت هذا الخادم بهما ينهي إلي أخبارهما، فجاءني فأخبرني أنهما قد اجتمعتا، فجئت فوجدتهما في لحاف واحد على الفاحشة

فقتلتهما، ثم قَالَ: يا غلام، ارفع الرأسين قَالَ: ثم رجع في حديثه كأن لم يصنع شيئا. وذكر أبو العباس بْن أبي مالك اليمامي أن عبد الله بْن محمد البواب، قال: كنت احجب الهادي خليفه للفضل بْن الربيع، قَالَ: فإنه ذات يوم جالس وأنا في داره، وقد تغدى ودعا بالنبيذ، وقد كان قبل ذلك دخل على أمه الخيزران، فسألته أن يولي خاله الغطريف اليمن، فقال: اذكريني به قبل أن أشرب، قَالَ: فلما عزم على الشرب وجهت إليه منيرة- أو زهرة- تذكره، فقال: ارجعي فقولي: اختاري له طلاق ابنته عبيدة أو ولاية اليمن، فلم تفهم إلا قوله: اختاري له فمرت، فقالت: قد اخترت له ولاية اليمن، فطلق ابنته عبيدة، فسمع الصياح، فقال: ما لكم؟ فاعلمته الخبر، فقال: أنت اخترت له، فقالت: ما هكذا أديت إلي الرسالة عنك قَالَ: فأمر صالحا صاحب المصلى أن يقف بالسيف على رءوس الندماء ليطلقوا نساءهم، فخرج إلي بذلك الخدم ليعلموني ألا آذن لأحد قَالَ: وعلى الباب رجل واقف متلفع بطيلسانه، يراوح بين قدميه، فعن لي بيتان، فأنشدتهما وهما: خليلي من سعد ألما فسلما ... على مريم، لا يبعد الله مريما وقولا لها: هذا الفراق عزمته ... فهل من نوال بعد ذاك فيعلما! قَالَ: فقال لي الرجل المتلفع بطيلسانه: فنعلما، فقلت: ما الفرق بين يعلما ونعلما؟ فقال: إن الشعر يصلحه معناه ويفسده معناه، ما حاجتنا إلى أن يعلم الناس أسرارنا! فقلت له: أنا أعلم بالشعر منك، قَالَ: فلمن الشعر؟ قلت: للأسود بْن عمارة النوفلي، فقال لي: فأنا هو، فدنوت منه فأخبرته خبر موسى، واعتذرت إليه من مراجعتي إياه قَالَ: فصرف دابته، وقال: هذا أحق منزل بأن يترك

قَالَ مصعب الزبيري: قَالَ أبو المعافى: أنشدت العباس بْن محمد مديحا في موسى وهارون: يا خيزران هناك ثم هناك ... إن العباد يسوسهم ابناك قَالَ: فقال لي: إني أنصحك، قَالَ اليماني: لا تذكر أمي بخير ولا بشر وذكر أحمد بْن صالح بْن أبي فنن، فقال: حدثني يوسف الصيقل الشاعر الواسطي، قَالَ: كنا عند الهادي بجرجان قبل الخلافة ودخوله بغداد، فصعد مستشرفا له حسنا، فغني بهذا الشعر: واستقلت رجالهم ... بالرديني شرعا فقال: كيف هذا الشعر؟ فأنشدوه، فقال: كنت أشتهي أن يكون هذا الغناء في شعر أرق من هذا، اذهبوا إلى يوسف الصيقل حتى يقول فيه، قَالَ: فأتوني فأخبروني الخبر، فقلت: لا تلمني أن أجزعا ... سيدي قد تمنعا وابلائي إن كان ما ... بيننا قد تقطعا إن موسى بفضله ... جمع الفضل أجمعا قَالَ: فنظر فإذا بعير أمامه، فقال: أوقروا هذا دراهم ودنانير، واذهبوا بها إليه قَالَ: فأتوني بالبعير موقرا. وذكر محمد بْن سعد، قَالَ: حدثني أبو زهير، قَالَ: كان ابن دأب أحظى الناس عند الهادي، فخرج الفضل بْن الربيع يوما، فقال: إن أمير المؤمنين يأمر من ببابه بالانصراف، فاما أنت يا بن دأب فادخل، قَالَ ابن دأب: فدخلت عليه وهو منبطح على فراشه، وإن عينيه لحمراوان من السهر وشرب الليل، فقال لي: حدثني بحديث في الشراب، فقلت: نعم

يا أمير المؤمنين، خرجت رجلة من كنانة ينتجعون الخمر من الشام، فمات أخ لأحدهم، فجلسوا عند قبره يشربون، فقال أحدهم: لا تصرد هامة من شربها ... اسقه الخمر وإن كان قبر أسق أوصالا وهاما وصدى ... قاشعا يقشع قشع المبتكر كان حرا فهوى فيمن هوى ... كل عود وفنون منكسر قَالَ: فدعا بدواة فكتبها، ثم كتب إلى الحراني بأربعين الف درهم، قال: عشرة آلاف لك، وثلاثون ألفا للثلاثة الأبيات قَالَ: فأتيت الحراني، فقال: صالحنا على عشرة آلاف، على أنك تحلف لنا ألا تذكرها لأمير المؤمنين، فحلفت ألا أذكرها لأمير المؤمنين حتى يبدأني، فمات ولم يذكرها حتى أفضت الخلافة إلى الرشيد. وذكر أبو دعامة أن سلم بْن عمرو الخاسر مدح موسى الهادي، فقال: بعيساباذ حر من قريش ... على جنباته الشرب الرواء يعوذ المسلمون بحقوتيه ... إذا ما كان خوف أو رجاء وبالميدان دور مشرفات ... يشيدهن قوم أدعياء وكم من قائل إني صحيح ... وتأباه الخلائق والرواء له حسب يضن به ليبقى ... وليس لما يضن به بقاء على الضبي لؤم ليس يخفى ... يغطيه فينكشف الغطاء لعمري لو أقام أبو خديج ... بناء الدار ما انهدم البناء قَالَ: وقال سلم الخاسر لما تولى الهادي الخلافة بعد المهدي: لقد فاز موسى بالخلافة والهدى ... ومات أمير المؤمنين محمد فمات الذي عم البرية فقده ... وقام الذي يكفيك من يتفقد

وقال أيضا: تخفى الملوك لموسى عند طلعته ... مثل النجوم لقرن الشمس إذ طلعا وليس خلق يرى بدرا وطلعته ... من البرية إلا ذل أو خضعا وقال أيضا: لولا الخليفة موسى بعد والده ... ما كان للناس من مهديهم خلف ألا ترى أمة الأمي واردة ... كأنها من نواحي البحر تغترف من راحتي ملك قد عم نائله ... كأن نائله من جوده سرف وذكر إدريس بْن أبي حفصة أن مروان بْن أبي حفصة حدثه، قَالَ: لما ملك موسى الهادي دخلت عليه فأنشدته: إن خلدت بعد الإمام محمد ... نفسي لما فرحت بطول بقائها قَالَ: ومدحت فقلت فيه: بسبعين ألفا شد ظهري وراشني ... أبوك وقد عاينت من ذاك مشهدا وانى امير المؤمنين لواثق ... بالا يرى شربي لديك مصردا فلما أنشدته قَالَ: ومن يبلغ مدى المهدي! ولكنا سنبلغ رضاك. قَالَ: وعاجلته المنية فلم يعطني شيئا، ولا أخذت من أحد درهما حتى قام الرشيد. وذكر هارون بن موسى الفروى، قَالَ: حدثني أبو غزية، عن الضحاك بْن معن السلمي، قَالَ: دخلت على موسى فأنشدته: يا منزلي شجو الفؤاد تكلما ... فلقد أرى بكما الرباب وكلثما ما منزلان على التقادم والبلى ... أبكى لما تحت الجوانح منكما ردا السلام على كبير شاقه ... طللان قد درسا فهاج فسلما

قَالَ: ومدحته فيها، فلما بلغت: سبط الأنامل بالفعال أخاله ... أن ليس يترك في الخزائن درهما التفت إلى أحمد الخازن، فقال: ويحك يا أحمد! كأنه نظر إلينا البارحة، قَالَ: وكان قد أخرج تلك الليلة مالا كثيرا ففرقه وذكر عن إسحاق الموصلي- أو غيره- عن إبراهيم، قَالَ: كنا يوما عند موسى، وعنده ابن جامع ومعاذ بْن الطبيب- وكان أول يوم دخل علينا معاذ، وكان معاذ حاذقا بالاغانى، عارفا بقديمها- فقال: من أطربني منكم فله حكمه، فغناه ابن جامع غناء فلم يحركه، وفهمت غرضه في الأغاني، فقال هات يا إبراهيم، فغنيته: سليمى أجمعت بينا ... فأين نقولها أينا! فطرب حتى قام من مجلسه، ورفع صوته، وقال: أعد، فأعدت، فقال: هذا غرضي فاحتكم، فقلت: يا امير المؤمنين، حائط عبد الملك وعينه الخرارة، فدارت عيناه في رأسه حتى صارتا كأنهما جمرتان، ثم قَالَ: يا بن اللخناء، أردت أن تسمع العامة أنك أطربتني وأني حكمتك فأقطعتك! أما والله لولا بادرة جهلك التي غلبت على صحيح عقلك لضربت الذي فيه عيناك ثم أطرق هنيهة، فرأيت ملك الموت بيني وبينه ينتظر أمره. ثم دعا إبراهيم الحراني فقال: خذ بيد هذا الجاهل فأدخله بيت المال، فليأخذ منه ما شاء، فأدخلني الحراني بيت المال، فقال: كم تأخذ؟ قلت: مائة بدرة، قَالَ: دعني أؤامره، قال: قلت: فثمانين، قال: حتى اؤامره، فعملت ما أراد، فقلت: سبعين بدرة لي، وثلاثين لك، قَالَ: الآن جئت بالحق، فشأنك فانصرفت بسبعمائة ألف وانصرف ملك الموت عن وجهي. وذكر علي بْن محمد، قَالَ: حدثني صالح بْن علي بْن عطية الأضخم عن حكم الوادي، قَالَ كان الهادي يشتهي من الغناء الوسط الذى يقل

ترجيعه، ولا يبلغ أن يستخف به جدا قَالَ: فبينا نحن ليلة عنده، وعنده ابن جامع والموصلي والزبير بْن دحمان والغنوي إذ دعا بثلاث بدور وأمر بهن فوضعن في وسط المجلس، ثم ضم بعضهن إلى بعض، وقال: من غناني صوتا في طريقي الذي أشتهيه، فهن له كلهن قَالَ: وكان فيه خلق حسن، كان إذا كره شيئا لم يوقف عليه، وأعرض عنه فغناه ابن جامع، فأعرض عنه، وغنى القوم كلهم، فأقبل يعرض حتى تغنيت، فوافقت ما يشتهي، فصاح: أحسنت أحسنت! اسقوني، فشرب وطرب، فقمت فجلست على البدور، وعلمت أني قد حويتها، فحضر ابن جامع، فأحسن المحضر، وقال: يا أمير المؤمنين، هو والله كما قلت، وما منا أحد إلا وقد ذهب عن طريقك غيره، قال: هي لك، وشرب حتى بلغ حاجته على الصوت، ونهض، فقال: مروا ثلاثة من الفراشين يحملونها معه، فدخل وخرجنا نمشي في الصحن منصرفين، فلحقني ابن جامع، فقلت: جعلت فداك يا أبا القاسم! فعلت ما يفعل مثلك في نسبك، فانظر فيها بما شئت فقال: هنأك الله، وددنا أنا زدناك ولحقنا الموصلي، فقال: أجزنا، فقلت: ولم لم تحسن محضرك! لا والله ولا درهما واحدا. وذكر محمد بْن عبد الله، قَالَ: قَالَ لي سعيد القارئ العلاف- وكان صاحب أبان القارئ: أنه كان عند موسى جلساؤه، فيهم الحراني وسعيد ابن سلم وغيرهما، وكانت جارية لموسى تسقيهم، وكانت ماجنة، فكانت تقول لهذا: يا جلفي، وتعبث بهذا وهذا، ودخل يزيد بْن مزيد فسمع ما تقول لهم، فقال لها: والله الكبير، لئن قلت لي مثل ما تقولين لهم لأضربنك ضربة بالسيف، فقال لها موسى: ويلك! إنه والله يفعل ما يقول، فإياك قَالَ: فأمسكت عنه ولم تعابثه قط قَالَ: وكان سعيد العلاف وأبان القارئ إباضيين

وذكر أحمد بْن إبراهيم بْن إسماعيل بْن داود الكاتب، قَالَ: حدثني ابن القداح، قَالَ: كانت للربيع جارية يقال لها أمة العزيز، فائقة الجمال، ناهدة الثديين، حسنة القوام، فأهداها إلى المهدي، فلما رأى جمالها وهيئتها، قَالَ: هذه لموسى أصلح، فوهبها له، فكانت أحب الخلق إليه، وولدت له بنيه الأكابر ثم إن بعض أعداء الربيع قَالَ لموسى: إنه سمع الربيع يقول: ما وضعت بيني وبين الأرض مثل أمة العزيز، فغار موسى من ذلك غيرة شديدة، وحلف ليقتلن الربيع، فلما استخلف دعا الربيع في بعض الأيام، فتغدى معه وأكرمه، وناوله كاسا فيها شراب عسل، قَالَ: فقال الربيع: فعلمت أن نفسي فيها، وأني إن رددت الكأس ضرب عنقي، مع ما قد علمت أن في قلبه علي من دخولي على أمه، وما بلغه عني، ولم يسمع مني عذرا فشربتها وانصرف الربيع إلى منزله، فجمع ولده، وقال لهم: إني ميت في يومي هذا أو من غد، فقال له ابنه الفضل: ولم تقول هذا جعلت فداك! فقال: إن موسى سقاني شربة سم بيده، فأنا أجد عملها في بدني، ثم أوصى بما أراد، ومات في يومه أو من غده ثم تزوج الرشيد أمة العزيز بعد موت موسى الهادي، فأولدها على بن الرشيد. وزعم الفضل بْن سليمان بْن إسحاق الهاشمي أن الهادي لما تحول إلى عيساباذ في أول السنة التي ولي الخلافة فيها، عزل الربيع عما كان يتولاه من الوزارة وديوان الرسائل، وولى مكانه عمر بْن بزيع، وأقر الربيع على الزمام، فلم يزل عليه الى ان توفى الربيع، وكانت وفاته بعد ولاية الهادي بأشهر، وأوذن بموته فلم يحضر جنازته، وصلى عليه هارون الرشيد، وهو يومئذ ولي عهد، وولى موسى مكان الربيع إبراهيم بْن ذكوان الحراني، واستخلف على ما تولاه إسماعيل بْن صبيح، ثم عزله واستخلف يحيى بْن سليم، وولي إسماعيل زمام ديوان الشام وما يليها. وذكر يحيى بْن الحسن بْن عبد الخالق، خال الفضل بْن الربيع، أن أباه حدثه، أن موسى الهادي قَالَ: أريد قتل الربيع، فما أدري كيف أفعل به! فقال له سعيد بْن سلم: تأمر رجلا باتخاذ سكين مسموم، وتأمره بقتله، ثم

تأمر بقتل ذلك الرجل قَالَ: هذا الرأي، فأمر رجلا فجلس له في الطريق، وأمره بذلك، فخرج بعض خلفاء الربيع، فقال له: إنه قد أمر فيك بكذا وكذا، فأخذ في غير ذلك الطريق، فدخل منزله، فتمارض، فمرض بعد ذلك ثمانية أيام، فمات ميتة نفسه وكانت وفاته سنة تسع وستين ومائة، وهو الربيع ابن يونس.

خلافه هارون الرشيد

خلافة هارون الرشيد بويع للرشيد هارون بْن محمد بْن عبد الله بْن محمد بْن علي بْن عبد الله بْن العباس بالخلافة ليلة الجمعة الليلة التي توفي فيها أخوه موسى الهادي وكانت سنة يوم ولي اثنتين وعشرين سنة وقيل كان يوم بويع بالخلافة ابن إحدى وعشرين سنة وأمه أم ولد يمانية جرشية يقال لها خيزران، وولد بالري لثلاث بقين من ذي الحجة سنة خمس وأربعين ومائة في خلافة المنصور. وأما البرامكة فإنها- فيما ذكر- تزعم أن الرشيد ولد أول يوم من المحرم سنة تسع وأربعين ومائة، وكان الفضل بْن يحيى ولد قبله بسبعة أيام، وكان مولد الفضل لسبع بقين من ذي الحجة سنة ثمان وأربعين ومائة، فجعلت أم الفضل ظئرا للرشيد، وهي زينب بنت منير، فأرضعت الرشيد بلبان الفضل، وأرضعت الخيزران الفضل بلبان الرشيد. وذكر سليمان بْن أبي شيخ أنه لما كان الليلة التي توفي فيها موسى الهادي أخرج هرثمة بْن أعين هارون الرشيد ليلا فأقعده للخلافة، فدعا هارون يحيى بْن خالد بْن برمك- وكان محبوسا، وقد كان عزم موسى على قتله وقتل هارون الرشيد في تلك الليلة- قَالَ: فحضر يحيى، وتقلد الوزارة، ووجه إلى يوسف بْن القاسم بْن صبيح الكاتب فأحضره، وأمره بإنشاء الكتب، فلما كان غداة تلك الليلة، وحضر القواد قام يوسف بْن القاسم، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وصلى عَلَى مُحَمَّد ص، ثم تكلم بكلام أبلغ فيه، وذكر موت موسى وقيام هارون بالأمر من بعده، وما أمر به للناس من الأعطيات. وذكر أحمد بْن القاسم، أنه حدثه عمه علي بْن يوسف بْن القاسم هذا الحديث، فقال: حدثني يزيد الطبري مولانا أنه كان حاضرا يحمل دواه ابى يوسف ابن القاسم، فحفظ الكلام قَالَ: قَالَ بعد الحمد لله عز وجل والصلاة على النبي ص:

إن الله بمنه ولطفه من عليكم معاشر أهل بيت نبيه بيت الخلافة ومعدن الرسالة، وأتاكم أهل الطاعة من أنصار الدولة وأعوان الدعوة، من نعمه التي لا تحصى بالعدد، ولا تنقضي مدى الأبد، وأياديه التامة، أن جمع ألفتكم وأعلى أمركم، وشد عضدكم، وأوهن عدوكم، وأظهر كلمة الحق، وكنتم أولى بها وأهلها، فأعزكم الله وكان الله قويا عزيزا، فكنتم أنصار دين الله المرتضى والذابين بسيفه المنتضى، عن اهل بيت نبيه ص وبكم استنقذهم من أيدي الظلمة، أئمة الجور، والناقضين عهد الله، والسافكين الدم الحرام، والآكلين الفيء، والمستأثرين به، فاذكروا ما أعطاكم الله من هذه النعمة، واحذروا أن تغيروا فيغير بكم وإن الله جل وعز استأثر بخليفته موسى الهادي الإمام، فقبضه إليه، وولى بعده رشيدا مرضيا امير المؤمنين رءوفا بكم رحيما، من محسنكم قبولا، وعلى مسيئكم بالعفو عطوفا، وهو- أمتعه الله بالنعمة وحفظ له ما استرعاه إياه من أمر الأمة، وتولاه بما تولى به أولياءه وأهل طاعته- يعدكم من نفسه الرأفة بكم، والرحمة لكم وقسم أعطياتكم فيكم عند استحقاقكم، ويبذل لكم من الجائزة مما أفاء الله على الخلفاء مما في بيوت الأموال ما ينوب عن رزق كذا وكذا شهرا، غير مقاص لكم بذلك فيما تستقبلون من اعطياتكم، وحامل باقي ذلك، للدفع عن حريمكم، وما لعله أن يحدث في النواحي والأقطار من العصاة المارقين إلى بيوت الأموال، حتى تعود الأموال إلى جمامها وكثرتها، والحال التي كانت عليها، فاحمدوا الله وجددوا شكرا يوجب لكم المزيد من إحسانه إليكم، بما جدد لكم من رأي أمير المؤمنين، وتفضل به عليكم، أيده الله بطاعته وارغبوا إلى الله له في البقاء، ولكم به في إدامة النعماء، لعلكم ترحمون وأعطوا صفقة أيمانكم، وقوموا إلى بيعتكم، حاطكم الله وحاط عليكم، وأصلح بكم وعلى أيديكم، وتولاكم ولاية عباده الصالحين وذكر يحيى بْن الحسن بْن عبد الخالق، قَالَ: حدثني محمد بْن هشام

المخزومي، قَالَ: جاء يحيى بْن خالد إلى الرشيد وهو نائم في لحاف بلا إزار، لما توفي موسى، فقال: قم يا أمير المؤمنين، فقال له الرشيد: كم تروعني إعجابا منك بخلافتي! وأنت تعلم حالي عند هذا الرجل، فإن بلغه هذا، فما تكون حالي! فقال له: هذا الحراني وزير موسى وهذا خاتمه قَالَ: فقعد في فراشه، فقال: أشر علي، قَالَ: فبينما هو يكلمه إذ طلع رسول آخر، فقال: قد ولد لك غلام، فقال: قد سميته عبد الله، ثم قَالَ ليحيى: أشر علي، فقال: أشير عليك أن تقعد لحالك على أرمينية، قَالَ: قد فعلت، ولا والله لا صليت بعيساباذ إلا عليها، ولا صليت الظهر إلا ببغداد، وإلا ورأس أبي عصمة بين يدي قَالَ: ثم لبس ثيابه، وخرج فصلى عليه، وقدم أبا عصمة، فضرب عنقه، وشد جمته في رأس قناة، ودخل بها بغداد، وذلك أنه كان مضى هو وجعفر بْن موسى الهادي راكبين فبلغا إلى قنطرة من قناطر عيساباذ، فالتفت أبو عصمة إلى هارون، فقال له: مكانك حتى يجوز ولي العهد، فقال هارون: السمع والطاعة للأمير، فوقف حتى جاز جعفر، فكان هذا سبب قتل أبي عصمة. قَالَ: ولما صار الرشيد إلى كرسي الجسر دعا بالغواصين، فقال: كان المهدي وهب لي خاتما شراؤه مائة ألف دينار يسمى الجبل، فدخلت على أخي وهو في يدي، فلما انصرفت لحقني سليم الأسود على الكرسي، فقال: يأمرك أمير المؤمنين أن تعطيني الخاتم، فرميت به في هذا الموضع فغاصوا، فأخرجوه، فسر به غاية السرور. قَالَ محمد بْن إسحاق الهاشمي: حدثني غير واحد من أصحابنا، منهم صباح بْن خاقان التميمي، أن موسى الهادي كان خلع الرشيد وبايع لابنه جعفر، وكان عبد الله بْن مالك على الشرط، فلما توفي الهادي هجم خزيمة ابن خازم في تلك الليلة، فأخذ جعفرا من فراشه، وكان خزيمة في خمسة آلاف من مواليه معهم السلاح، فقال: والله لأضربن عنقك أو تخلعها، فلما كان من الغد، ركب الناس إلى باب جعفر، فأتى به خزيمة، فأقامه

على باب الدار في العلو، والأبواب مغلقة، فأقبل جعفر ينادي: يا معشر المسلمين، من كانت لي في عنقه بيعة فقد أحللته منها، والخلافة لعمي هارون، ولا حق لي فيها. وكان سبب مشي عبد الله بْن مالك الخزاعي إلى مكة على اللبود، لأنه كان شاور الفقهاء في أيمانه التي حلف بها لبيعة جعفر، فقالوا له: كل يمين لك تخرج منها إلا المشي إلى بيت الله، ليس فيه حيلة فحج ماشيا وحظي خزيمة بذلك عند الرشيد وذكر أن الرشيد كان ساخطا على إبراهيم الحراني وسلام الأبرش يوم مات موسى، فأمر بحبسهما وقبض أموالهما، فحبس إبراهيم عند يحيى بْن خالد في داره، فكلم فيه محمد بْن سليمان هارون، وسأله الرضا عنه وتخلية سبيله، والإذن له في الانحدار معه إلى البصرة، فأجابه إلى ذلك. وفي هذه السنة عزل الرشيد عمر بْن عبد العزيز العمري عن مدينة الرسول ص، وما كان إليه من عملها، وولى ذلك إسحاق بن سليمان ابن علي. وفيها ولد محمد بْن هارون الرشيد، وكان مولده- فيما ذكر أبو حفص الكرماني عن محمد بْن يحيى بْن خالد- يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال من هذه السنة، وكان مولد المأمون قبله في ليله الجمعه النصف من شهر ربيع الأول. وفيها قلد الرشيد يحيى بْن خالد الوزارة، وقال له: قد قلدتك أمر الرعية، وأخرجته من عنقي إليك، فاحكم في ذلك بما ترى من الصواب، واستعمل من رأيت، واعزل من رأيت، وأمض الأمور على ما ترى ودفع إليه خاتمه، ففي ذلك يقول إبراهيم الموصلي: ألم تر أن الشمس كانت سقيمة ... فلما ولي هارون أشرق نورها بيمن أمين الله هارون ذي الندى ... فهارون واليها ويحيى وزيرها

وكانت الخيزران هي الناظرة في الأمور، وكان يحيى يعرض عليها ويصدر عن رأيها. وفيها أمر هارون بسهم ذوي القربى، فقسم بين بني هاشم بالسوية. وفيها آمن من كان هاربا أو مستخفيا، غير نفر من الزنادقة، منهم يونس بْن فروة ويزيد بْن الفيض. وكان ممن ظهر من الطالبيين طباطبا، وهو إبراهيم بْن إسماعيل، وعلي بْن الحسن بْن إبراهيم بْن عبد الله بْن الحسن. وفيها عزل الرشيد الثغور كلها عن الجزيرة وقنسرين، وجعلها حيزا واحدا وسميت العواصم. وفيها عمرت طرسوس على يدي أبي سليم فرج الخادم التركي ونزلها الناس. وحج بالناس في هذه السنة هارون الرشيد من مدينة السلام، فأعطى أهل الحرمين عطاء كثيرا، وقسم فيهم مالا جليلا. وقد قيل: إنه حج في هذه السنة وغزا فيها، وفي ذلك يقول داود بْن رزين: بهارون لاح النور في كل بلدة ... وقام به في عدل سيرته النهج إمام بذات الله أصبح شغله ... وأكثر ما يعنى به الغزو والحج تضيق عيون الناس عن نور وجهه ... إذا ما بدا للناس منظره البلج وإن أمين الله هارون ذا الندى ... ينيل الذي يرجوه أضعاف ما يرجو وغزا الصائفة في هذه السنة سليمان بْن عبد الله البكائي. وكان العامل فيها على المدينة إسحاق بْن سليمان الهاشمي، وعلى مكة والطائف عبيد الله بْن قثم، وعلى الكوفة موسى بْن عيسى، وخليفته عليها ابنه العباس بْن موسى، وعلى البصرة والبحرين والفرض وعمان واليمامة وكور الأهواز وفارس محمد بْن سليمان بن على.

سنه احدى وسبعين ومائه

ثم دخلت سنة إحدى وسبعين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك قدوم أبي العباس الفضل بْن سليمان الطوسي مدينة السلام منصرفا عن خراسان، وكان خاتم الخلافة حين قدم مع جعفر بْن محمد بْن الأشعث، فلما قدم أبو العباس الطوسي أخذه الرشيد منه، فدفعه إلى أبي العباس، ثم لم يلبث أبو العباس إلا يسيرا حتى توفي، فدفع الخاتم إلى يحيى بْن خالد، فاجتمعت ليحيى الوزارتان. وفيها قتل هارون أبا هريرة محمد بْن فروخ- وكان على الجزيرة- فوجه إليه هارون أبا حنيفة حرب بْن قيس، فقدم به عليه مدينة السلام، فضرب عنقه في قصر الخلد. وفيها أمر هارون بإخراج من كان في مدينة السلام من الطالبيين إلى مدينه الرسول ص، خلا العباس بْن الحسن بْن عبد الله بن على ابن أبي طالب، وكان أبوه الحسن بْن عبد الله فيمن أشخص. 4 وخرج الفضل بْن سعيد الحروري فقتله أبو خالد المروروذي. وفي هذه السنة كان قدوم روح بْن حاتم إفريقية، وخرجت في هذه السنة الخيزران إلى مكة في شهر رمضان، فأقامت بها إلى وقت الحج فحجت. وحج بالناس في هذه السنة عبد الصمد بْن علي بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ العباس.

سنه اثنتين وسبعين ومائه

ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك شخوص الرشيد فيها إلى مرج القلعة مرتادا بها منزلا ينزله. ذكر السبب في ذلك: ذكر أن الذي دعاه إلى الشخوص إليها أنه استثقل مدينة السلام، فكان يسميها البخار، فخرج إلى مرج القلعة، فاعتل بها، فانصرف، وسميت تلك السفرة سفرة المرتاد. وفيها عزل الرشيد يزيد بْن مزيد عن أرمينية، وولاها عبيد الله بْن المهدي. وغزا الصائفة فيها إسحاق بْن سليمان بْن علي. وحج بالناس في هذه السنة يعقوب بْن أبي جعفر المنصور. وفيها وضع هارون عن أهل السواد العشر الذي كان يؤخذ منهم بعد النصف

سنه ثلاث وسبعين ومائه

ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر خبر وفاه محمد بن سليمان فمن ذلك وفاة محمد بْن سليمان بالبصرة، لليال بقين من جمادى الآخرة منها. وذكر أنه لما مات محمد بْن سليمان وجه الرشيد إلى كل ما خلفه رجلا أمره باصطفائه، فأرسل إلى ما خلف من الصامت من قبل صاحب بيت ماله رجلا، وإلى الكسوة بمثل ذلك، وإلى الفرش والرقيق والدواب من الخيل والإبل، وإلى الطيب والجوهر وكل آلة برجل من قبل الذي يتولى كل صنف من الأصناف، فقدموا البصرة، فأخذوا جميع ما كان لمحمد مما يصلح للخلافة، ولم يتركوا شيئا إلا الخرثي الذي لا يصلح للخلفاء، وأصابوا له ستين ألف ألف، فحملوها مع ما حمل، فلما صارت في السفن أخبر الرشيد بمكان السفن التي حملت ذلك، فأمر أن يدخل جميع ذلك خزائنه إلا المال، فإنه أمر بصكاك فكتبت للندماء، وكتبت للمغنين صكاك صغار لم تدر في الديوان، ثم دفع إلى كل رجل صكا بما رأى أن يهب له، فأرسلوا وكلاءهم إلى السفن، فأخذوا المال على ما أمر لهم به في الصكاك أجمع، لم يدخل منه بيت ماله دينار ولا درهم، واصطفى ضياعه، وفيها ضيعة يقال لها برشيد بالأهواز لها غلة كثيرة. وذكر علي بْن محمد، عن أبيه، قَالَ: لما مات محمد بْن سليمان اصيب في خزانه لباسه مذ كان صبيا في الكتاب إلى أن مات مقادير السنين، فكان من ذلك ما عليه آثار النقس، قَالَ: وأخرج من خزانته ما كان يهدى له من بلاد السند ومكران وكرمان وفارس والأهواز واليمامة والري وعمان، من الالطاف والادهان والسمك والحبوب والجبن، وما أشبه ذلك، ووجد اكثره فاسدا وكان من ذلك خمسمائة كنعدة ألقيت من دار جعفر

ذكر وفاه الخيزران أم الهادي والرشيد

ومحمد في الطريق، فكانت بلاء قَالَ: فمكثنا حينا لا نستطيع أن نمر بالمربد من نتنها . ذكر وفاه الخيزران أم الهادي والرشيد وفيها توفيت الخيزران أم هارون الرشيد وموسى الهادي. ذكر الخبر عن وقت وفاتها: ذكر يحيى بْن الحسن أن أباه حدثه، قَالَ: رأيت الرشيد يوم ماتت الخيزران، وذلك في سنة ثلاث وسبعين ومائة، وعليه جبة سعيديه وطيلسان خرق أزرق، قد شد به وسطه، وهو آخذ بقائمة السرير حافيا يعدو في الطين، حتى أتى مقابر قريش فغسل رجليه، ثم دعا بخف وصلى عليها، ودخل قبرها، فلما خرج من المقبرة وضع له كرسي فجلس عليه، ودعا الفضل بْن الربيع، فقال له: وحق المهدي- وكان لا يحلف بها إلا إذا اجتهد- إني لأهم لك من الليل بالشيء من التولية وغيرها، فتمنعني أمي فأطيع أمرها، فخذ الخاتم من جعفر فقال الفضل بْن الربيع لإسماعيل بْن صبيح: أنا أجل أبا الفضل عن ذلك، بأن أكتب إليه وآخذه، ولكن إن رأى أن يبعث به! قَالَ وولى الفضل نفقات العامة والخاصة وبادوريا والكوفة، وهي خمسة طساسيج، فأقبلت حالة تنمى إلى سنة سبع وثمانين ومائة. وقيل إن وفاة محمد بْن سليمان والخيزران كانت في يوم واحد. وفيها أقدم الرشيد جعفر بْن محمد بْن الأشعث من خراسان، وولاها ابنه العباس بْن جعفر بْن محمد بْن الأشعث. وحج بالناس فيها هارون، وذكر أنه خرج محرما من مدينة السلام.

سنه اربع وسبعين ومائه

ثم دخلت سنة أربع وسبعين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان بالشام من العصبية فيها. وفيها ولى الرشيد إسحاق بْن سليمان الهاشمي السند ومكران. وفيها استقضى الرشيد يوسف بْن أبي يوسف، وأبوه حي. وفيها هلك روح بْن حاتم. وفيها خرج الرشيد إلى باقردى وبازبدى، وبنى بباقردى قصرا، فقال الشاعر في ذلك: بقردى وبازبدى مصيف ومربع ... وعذب يحاكي السلسبيل برود وبغداد، ما بغداد، أما ترابها ... فخرء، وأما حرها فشديد وغزا الصائفة عبد الملك بْن صالح. وحج بالناس فيها هارون الرشيد، فبدأ بالمدينة، فقسم في أهلها مالا عظيما، ووقع الوباء في هذه السنة بمكة، فأبطأ عن دخولها هارون، ثم دخلها يوم التروية، فقضى طوافه وسعيه ولم ينزل بمكة.

سنه خمس وسبعين ومائه

ثم دخلت سنة خمس وسبعين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر الخبر عن البيعه للامين فمن ذلك عقد الرشيد لابنه محمد بمدينة السلام من بعده ولاية عهد المسلمين وأخذه له بذلك بيعة القواد والجند، وتسميته إياه الأمين، وله يومئذ خمس سنين، فقال سلم الخاسر: قد وفق الله الخليفة إذ بنى ... بيت الخليفة للهجان الأزهر فهو الخليفة عن أبيه وجده ... شهدا عليه بمنظر وبمخبر قد بايع الثقلان في مهد الهدى ... لمحمد بن زبيدة ابنة جعفر ذكر الخبر عن سبب بيعة الرشيد له: وكان السبب في ذلك- فيما ذكر روح مولى الفضل بْن يحيى بْن خالد- أنه رأى عيسى بْن جعفر قد صار إلى الفضل بْن يحيى، فقال له: أنشدك الله لما عملت في البيعة لابن أختي- يعنى محمد بن زبيدة بنت جعفر بْن المنصور- فإنه ولد لك وخلافته لك، فوعده أن يفعل، وتوجه الفضل على ذلك، وكانت جماعة من بني العباس قد مدوا أعناقهم إلى الخلافة بعد الرشيد، لأنه لم يكن له ولي عهد، فلما بايع له، أنكروا بيعته لصغر سنه. قَالَ: وقد كان الفضل لما تولى خراسان أجمع على البيعة لمحمد، فذكر محمد بْن الحسين بْن مصعب أن الفضل بْن يحيى لما صار إلى خراسان، فرق فيهم أموالا، وأعطى الجند أعطيات متتابعات، ثم أظهر البيعة لمحمد بن الرشيد، فبايع الناس له وسماه الأمين، فقال في ذلك النمري: أمست بمرو على التوفيق قد صفقت ... على يد الفضل أيدي العجم والعرب

ببيعة لولي العهد أحكمها ... بالنصح منه وبالإشفاق والحدب قد وكد الفضل عقدا لا انتقاض له ... لمصطفى من بنى العباس منتخب قال: فلما تناهى الخبر إلى الرشيد بذلك، وبايع له أهل المشرق، بايع لمحمد، وكتب إلى الآفاق، فبويع له في جميع الأمصار، فقال أبان اللاحقي في ذلك: عزمت أمير المؤمنين على الرشد ... برأي هدى، فالحمد لله ذي الحمد وعزل فيها الرشيد عن خراسان العباس بن جعفر، وولاها خاله الغطريف ابن عطاء. 4 وفيها صار يحيى بْن عبد الله بْن حسن إلى الديلم، فتحرك هناك. وغزا الصائفة فيها عبد الرحمن بْن عبد الملك بْن صالح فبلغ إقريطية. وقال الواقدي: الذي غزا الصائفة في هذه السنة عبد الملك بْن صالح، قَالَ: وأصابهم في هذه الغزاة برد قطع أيديهم وأرجلهم. وحج بالناس فيها هارون الرشيد.

سنه ست وسبعين ومائه

ثم دخلت سنة ست وسبعين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من تولية الرشيد الفضل بْن يحيى كور الجبال وطبرستان ودنباوند وقومس وأرمينية وأذربيجان. وفيها ظهر يحيى بْن عبد الله بْن حسن بْن حسن بن علي بْن أبي طالب بالديلم. ذكر الخبر عن مخرج يحيى بن عبد الله وما كان من أمره ذكر أبو حفص الكرماني، قَالَ: كان أول خبر يحيى بْن عبد الله بْن حسن بْن حسن بن علي بْن أبي طالب أنه ظهر بالديلم، واشتدت شوكته، وقوي أمره، ونزع إليه الناس من الأمصار والكور، فاغتم لذلك الرشيد، ولم يكن في تلك الأيام يشرب النبيذ، فندب إليه الفضل بْن يحيى في خمسين ألف رجل، ومعه صناديد القواد، وولاه كور الجبال والري وجرجان وطبرستان وقومس ودنباوند والرويان، وحملت معه الأموال، ففرق الكور على قواده، فولى المثنى بْن الحجاج بْن قتيبة بْن مسلم طبرستان، وولى علي بْن الحجاج الخزاعي جرجان، وامر له بخمسمائة الف درهم، وعسكر بالنهرين، وامتدحه الشعراء، فأعطاهم فأكثر، وتوسل إليه الناس بالشعر، ففرق فيهم أموالا كثيرة وشخص الفضل بْن يحيى، واستخلف منصور بْن زياد بباب أمير المؤمنين، تجري كتبه على يديه، وتنفذ الجوابات عنها إليه، وكانوا يثقون بمنصور وابنه في جميع أمورهم، لقديم صحبته لهم، وحرمته بهم ثم مضى من معسكره، فلم تزل كتب الرشيد تتابع إليه بالبر واللطف والجوائز والخلع، فكاتب يحيى ورفق به واستماله، وناشده وحذره، وأشار عليه، وبسط أمله ونزل الفضل بطالقان الري ودستبى بموضع يقال له أشب، وكان شديد البرد كثير الثلوج، ففي ذلك يقول أبان بْن عبد الحميد اللاحقي:

لدور أمس بالدولاب ... حيث السيب ينعرج أحب الى من دور ... أشب إذا هم ثلجوا قال: فأقام الفضل بهذا الموضع، وواتر كتبه على يحيى، وكاتب صاحب الديلم، وجعل له ألف ألف درهم، على أن يسهل له خروج يحيى إلى ما قبله، وحملت إليه، فأجاب يحيى إلى الصلح والخروج على يديه، على أن يكتب له الرشيد أمانا بخطه على نسخة يبعث بها إليه فكتب الفضل بذلك إلى الرشيد، فسره وعظم موقعه عنده، وكتب أمانا ليحيى بْن عبد الله، وأشهد عليه الفقهاء والقضاة وجلة بني هاشم ومشايخهم، منهم عبد الصمد بْن علي والعباس ابن محمد ومحمد بْن إبراهيم وموسى بْن عيسى ومن أشبههم، ووجه به مع جوائز وكرامات وهدايا، فوجه الفضل بذلك إليه، فقدم يحيى بْن عبد الله عليه، وورد به الفضل بغداد، فلقيه الرشيد بكل ما أحب، وأمر له بمال كثير، وأجرى له أرزاقا سنية، وأنزله منزلا سريا بعد أن أقام في منزل يحيى بْن خالد أياما، وكان يتولى أمره بنفسه، ولا يكل ذلك إلى غيره، وأمر الناس بإتيانه بعد انتقاله من منزل يحيى والتسليم عليه، وبلغ الرشيد الغاية في إكرام الفضل، ففي ذلك يقول مروان بْن أبي حفصة: ظفرت فلا شلت يد برمكية ... رتقت بها الفتق الذي بين هاشم على حين أعيا الراتقين التئامه ... فكفوا وقالوا ليس بالمتلائم فأصبحت قد فازت يداك بخطة ... من المجد باق ذكرها في المواسم وما زال قدح الملك يخرج فائزا ... لكم كلما ضمت قداح المساهم قال: وأنشدني أبو ثمامة الخطيب لنفسه فيه: للفضل يوم الطالقان وقبله ... يوم أناخ به على خاقان ما مثل يوميه اللذين تواليا ... في غزوتين توالتا يومان سد الثغور ورد ألفة هاشم ... بعد الشتات، فشعبها متدان

عصمت حكومته جماعة هاشم ... من أن يجرد بينها سيفان تلك الحكومة لا التي عن لبسها ... عظم النبا وتفرق الحكمان فأعطاه الفضل مائة ألف درهم، وخلع عليه، وتغنى إبراهيم به. وذكر أحمد بْن محمد بْن جعفر، عن عبد الله بْن موسى بْن عبد الله بْن حسن بْن حسن، قَالَ: لما قدم يحيى بْن عبد الله من الديلم أتيته، وهو في دار علي بْن أبي طالب، فقلت: يا عم، ما بعدك مخبر ولا بعدي مخبر، فأخبرني خبرك، فقال: يا بن أخي، والله إن كنت إلا كما قَالَ حيي ابن أخطب: لَعَمْرُكَ مَا لامَ ابْنُ أَخْطَبَ نَفْسَهُ ... وَلَكِنَّهُ مَنْ يَخْذُلِ اللَّهُ يُخْذَلِ لَجَاهَدَ حَتَّى أَبْلَغَ النفس حمدها ... وقلقل يبغي العز كل مقلقل وذكر الضبي أن شيخا من النوفليين، قَالَ: دخلنا على عيسى بْن جعفر، وقد وضعت له وسائد بعضها فوق بعض، وهو قائم متكئ عليها، وإذا هو يضحك من شيء في نفسه، متعجبا منه، فقلنا: ما الذى يضحك الأمير ادام لله سروره! قَالَ: لقد دخلني اليوم سرور ما دخلني مثله قط، فقلنا: تمم الله للأمير سروره، وزاده سرورا فقال: والله لا أحدثكم به إلا قائما- واتكأ على الفرش وهو قائم- فقال: كنت اليوم عند أمير المؤمنين الرشيد، فدعا بيحيى بْن عبد الله، فأخرج من السجن مكبلا في الحديد، وعنده بكار بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتِ بْن عبد الله بْن الزبير- وكان بكار شديد البغض لآل أبي طالب، وكان يبلغ هارون عنهم، ويسيء بأخبارهم، وكان الرشيد ولاه المدينة، وأمره بالتضييق عليهم- قَالَ: فلما دعي بيحيى قَالَ له الرشيد: هيه هيه! متضاحكا، وهذا يزعم أيضا أنا سممناه! فقال يحيى: ما معنى يزعم؟ ها هو ذا لساني- قَالَ: وأخرج لسانه أخضر

مثل السلق- قَالَ: فتربد هارون! واشتد غضبه، فقال يحيى: يا أمير المؤمنين، إن لنا قرابة ورحما، ولسنا بترك ولا ديلم، يا أمير المؤمنين، أنا وأنتم أهل بيت واحد، فاذكرك الله وقرابتنا من رسول الله ص! علام تحبسني وتعذبني؟ قَالَ: فرق له هارون، وأقبل الزبيري على الرشيد، فقال: يا أمير المؤمنين، لا يغرك كلام هذا، فإنه شاق عاص، وإنما هذا منه مكر وخبث، إن هذا أفسد علينا مدينتنا، وأظهر فيها العصيان. قال: فاقبل يحيى عليه، فو الله ما أستأذن أمير المؤمنين في الكلام حتى قَالَ: أفسد عليكم مدينتكم! ومن أنتم عافاكم الله! قال الزبيري: هذا كلامه قدامك، فكيف إذا غاب عنك! يقول: ومن أنتم! استخفافا بنا قَالَ: فأقبل عليه يحيى، فقال: نعم، ومن أنتم عافاكم الله! المدينة كانت مهاجر عبد الله ابن الزبير أم مهاجر رسول الله ص؟ ومن أنت حتى تقول: أفسد علينا مدينتنا! وإنما بآبائي وآباء هذا هاجر أبوك إلى المدينة ثم قَالَ: يا أمير المؤمنين، إنما الناس نحن وأنتم، فإن خرجنا عليكم قلنا: أكلتم وأجعتمونا ولبستم وأعريتمونا، وركبتم وأرجلتمونا، فوجدنا بذلك مقالا فيكم، ووجدتم بخروجنا عليكم مقالا فينا، فتكافأ فيه القول، ويعود أمير المؤمنين على أهله بالفضل يا أمير المؤمنين، فلم يجترئ هذا وضرباؤه على أهل بيتك، يسعى بهم عندك! إنه والله ما يسعى بنا إليك نصيحة منه لك، وإنه يأتينا فيسعى بك عندنا عن غير نصيحة منه لنا، إنما يريد أن يباعد بيننا، ويشتفي من بعض ببعض والله يا أمير المؤمنين، لقد جاء إلي هذا حيث قتل أخي محمد بْن عبد الله، فقال: لعن الله قاتله! وأنشدني فيه مرثية قالها نحوا من عشرين بيتا، وقال: إن تحركت في هذا الأمر فأنا أول من يبايعك، وما يمنعك أن تلحق بالبصرة، فأيدينا مع يدك! قَالَ: فتغير وجه الزبيري واسود، فأقبل عليه هارون، فقال: أي شيء يقول هذا؟ قَالَ: كاذب يا أمير المؤمنين، ما كان مما قَالَ حرف قَالَ: فأقبل على يحيى بْن عبد الله، فقال: تروي القصيدة التي رثاه بها؟ قَالَ:

نعم يا أمير المؤمنين، أصلحك الله! قَالَ: فأنشدها إياه، فقال الزبيري: والله يا أمير المؤمنين الذي لا إله إلا هو- حتى أتى على أخر اليمين الغموس- ما كان مما قال شيء، ولقد تقول علي ما لم أقل قَالَ: فأقبل الرشيد على يحيى ابن عبد الله، فقال: قد حلف، فهل من بينة سمعوا هذه المرثية منه؟ قَالَ: لا يا أمير المؤمنين، ولكن استحلفه بما أريد، قال: فاستحلفه، قال: فأقبل على الزبيري، فقال: قل: أنا بريء من حول الله وقوته موكل إلى حولي وقوتي، إن كنت قلته فقال الزبيري: يا أمير المؤمنين، أي شيء هذا من الحلف! أحلف له بالله الذي لا إله إلا هو، ويستحلفني بشيء لا أدري ما هو! قَالَ يحيى بْن عبد الله: يا أمير المؤمنين، إن كان صادقا فما عليه أن يحلف بما أستحلفه به! فقال له هارون: احلف له ويلك! قَالَ: فقال: أنا بريء من حول الله وقوته موكل إلى حولي وقوتي، قَالَ: فاضطرب منها وأرعد، فقال يا أمير المؤمنين، ما أدري أي شيء هذه اليمين التي يستحلفني بها، وقد حلفت له بالله العظيم أعظم الأشياء! قَالَ: فقال هارون له: لتحلفن له أو لأصدقن عليك ولأعاقبنك، قَالَ: فقال: أنا بريء من حول الله وقوته، موكل إلى حولي وقوتي إن كنت قلته قَالَ: فخرج من عند هارون فضربه الله بالفالج، فمات من ساعته. قَالَ: فقال عيسى بْن جعفر: والله ما يسرني ان يحيى نقصه حرفا مما كان جرى بينهما، ولا قصر في شيء من مخاطبته إياه قَالَ: وأما الزبيريون فيزعمون أن امرأته قتلته، وهي من ولد عبد الرحمن ابن عوف. وذكر إسحاق بْن محمد النخعي أن الزبير بْن هشام حدثه عن أبيه، أن بكار بْن عبد الله تزوج امرأة من ولد عبد الرحمن بْن عوف، وكان له من قلبها موضع، فاتخذ عليها جارية، وأغارها، فقالت لغلامين له زنجيين: إنه قد أراد قتلكما هذا الفاسق- ولاطفتهما- فتعاوناني على قتله؟ قالا:

نعم، فدخلت عليه وهو نائم، وهما جميعا معها، فقعدا على وجهه حتى مات قَالَ: ثم أنها سقتهما نبيذا حتى تهوعا حول الفراش، ثم أخرجتهما ووضعت عند رأسه قنينة، فلما أصبح اجتمع أهله، فقالت: سكر فقاء فشرق فمات فاخذ الغلامان، فضربا ضربا مبرحا، فأقرا بقتله، وأنها أمرتهما بذلك، فأخرجت من الدار ولم تورث. وذكر أبو الخطاب أن جعفر بْن يحيى بْن خالد حدثه ليلة وهو في سمرة، قَالَ: دعا الرشيد اليوم بيحيى بْن عبد الله بْن حسن، وقد حضره أبو البختري القاضي ومحمد بْن الحسن الفقيه صاحب أبي يوسف، وأحضر الأمان الذي كان أعطاه يحيى، فقال لمحمد بْن الحسن: ما تقول في هذا الأمان؟ أصحيح هو؟ قَالَ: هو صحيح، فحاجه في ذلك الرشيد، فقال له محمد بْن الحسن: ما تصنع بالأمان؟ لو كان محاربا ثم ولى كان آمنا فاحتملها الرشيد على محمد بْن الحسن، ثم سأل أبا البختري أن ينظر في الامان، فقال ابو البختري: هذا منتقض من وجه كذا وكذا، فقال الرشيد: أنت قاضي القضاة، وأنت أعلم بذلك، فمزق الأمان، وتفل فيه أبو البختري- وكان بكار بْن عبد الله بن مصعب حاضرا المجلس- فأقبل على يحيى بْن عبد الله بوجهه، فقال: شققت العصا، وفارقت الجماعة، وخالفت كلمتنا، وأردت خليفتنا، وفعلت بنا وفعلت فقال يحيى: ومن أنتم رحمكم الله! قَالَ جعفر: فو الله ما تمالك الرشيد أن ضحك ضحكا شديدا قَالَ: وقام يحيى ليمضي إلى الحبس، فقال له الرشيد: انصرف، أما ترون به أثر علة! هذا الآن إن مات قَالَ الناس: سموه قَالَ يحيى: كلا ما زلت عليلا منذ كنت في الحبس، وقبل ذلك أيضا كنت عليلا قَالَ أبو الخطاب: فما مكث يحيى بعد هذا إلا شهرا حتى مات. وذكر ابو يونس إسحاق بن اسمعيل، قَالَ: سمعت عبد الله بْن العباس بْن الحسن بْن عبيد الله بْن العباس بْن علي، الذي يعرف بالخطيب، قَالَ: كنت يوما على باب الرشيد أنا وأبي، وحضر ذلك اليوم من الجند والقواد الم أر مثلهم على باب خليفة قبله ولا بعده، قَالَ: فخرج الفضل بْن الربيع

إلى أبي، فقال له: ادخل، ومكث ساعة ثم خرج إلي، فقال: ادخل، فدخلت، فإذا أنا بالرشيد معه امرأة يكلمها، فأومأ إلي أبي أنه لا يريد أن يدخل اليوم أحد، فاستأذنت لك لكثرة من رأيت حضر الباب، فإذا دخلت هذا المدخل زادك ذلك نبلا عند الناس فما مكثنا إلا قليلا حتى جاء الفضل ابن الربيع، فقال: إن عبد الله بْن مصعب الزبيري يستأذن في الدخول، فقال: إني لا أريد أن أدخل اليوم أحدا، فقال: قَالَ: إن عندي شيئا أذكره فقال: قل له يقله لك، قَالَ: قد قلت له ذلك، فزعم أنه لا يقوله إلا لك، قَالَ: أدخله وخرج ليدخله، وعادت المرأة وشغل بكلامها، وأقبل علي أبي، فقال: إنه ليس عنده شيء يذكره، وإنما أراد الفضل بهذا ليوهم من على الباب أن أمير المؤمنين لم يدخلنا لخاصة خصصنا بها، وإنما أدخلنا لأمر نسأل عنه كما دخل هذا الزبيري. وطلع الزبيري، فقال: يا امير المؤمنين، هاهنا شيء أذكره، فقال له: قل، فقال له: انه سر، فقال: ما من العباس سر، فنهضت، فقال: ولا منك يا حبيبي، فجلست، فقال: قل، فقال: إني والله قد خفت على أمير المؤمنين من امرأته وبنته وجاريته التي تنام معه، وخادمه الذي يناوله ثيابه واخص خلق الله به من قواده، وأبعدهم منه قَالَ: فرأيته قد تغير لونه، وقال: مما ذا؟ قَالَ: جاءتني دعوة يحيى بْن عبد الله بْن حسن، فعلمت أنها لم تبلغني مع العداوة بيننا وبينهم، حتى لم يبق على بابك أحدا إلا وقد أدخله في الخلاف عليك قَالَ: فتقول له هذا في وجهه! قَالَ: نعم، قَالَ الرشيد: أدخله، فدخل، فأعاد القول الذي قَالَ له، فقال يحيى بْن عبد الله: والله يا أمير المؤمنين لقد جاء بشيء لو قيل لمن هو أقل منك فيمن هو اكبر مني، وهو مقتدر عليه لما أفلت منه أبدا، ولي رحم وقرابة، فلم لا تؤخر هذا الأمر ولا تعجل، فلعلك أن تكفى مئونتي بغير يدك ولسانك، وعسى بك أن تقطع رحمك من حيث لا تعلمه! أباهله بين يديك وتصبر قليلا فقال:

يا عبد الله، قم فصل إن رأيت ذلك، وقام يحيى فاستقبل القبلة، فصلى ركعتين خفيفتين، وصلى عبد الله ركعتين، ثم برك يحيى، ثم قَالَ: ابرك، ثم شبك يمينه في يمينه، وقال: اللهم إن كنت تعلم أني دعوت عبد الله بْن مصعب إلى الخلاف على هذا- ووضع يده عليه، وأشار إليه- فاسحتني بعذاب من عندك وكلني إلى حولي وقوتي، وإلا فكله إلى حوله وقوته، واسحته بعذاب من قبلك، آمين رب العالمين فقال عبد الله: آمين رب العالمين، فقال يحيى بْن عبد الله لعبد الله بْن مصعب: قل كما قلت، فقال عبد الله: اللهم إن كنت تعلم أن يحيى بْن عبد الله لم يدعني إلى الخلاف على هذا فكلني إلى حولي وقوتي واسحتني بعذاب من عندك، وإلا فكله إلى حوله وقوته، واسحته بعذاب من عندك آمين رب العالمين! وتفرقا، فأمر بيحيى فحبس في ناحية من الدار، فلما خرج وخرج عبد الله ابن مصعب أقبل الرشيد على أبي، فقال: فعلت به كذا وكذا، وفعلت به كذا وكذا، فعدد أياديه عليه، فكلمه أبي بكلمتين لا يدفع بهما عن عصفور، خوفا على نفسه، وأمرنا بالانصراف فانصرفنا فدخلت مع أبي أنزع عنه لباسه من السواد- وكان ذلك من عادتي- فبينما أنا أحل عنه منطقته، إذ دخل عليه الغلام، فقال: رسول عبد الله بن مصعب، فقال: أدخله، فلما دخل قَالَ له: ما وراءك؟ قَالَ: يقول لك مولاي، أنشدك الله ألا بلغت إلي! فقال أبي للغلام: قل له: لم أزل عند أمير المؤمنين إلى هذا الوقت، وقد وجهت إليك بعبد الله، فما أردت أن تلقيه إلي فألقه إليه، وقال للغلام: اخرج فإنه يخرج في أثرك، وقال لي: إنما دعاني ليستعين بي على ما جاء به من الإفك، فإن أعنته قطعت رحمي من رسول الله ص، وإن خالفته سعى بي، وإنما يتدرق الناس بأولادهم، ويتقون بهم المكاره، فاذهب إليه، فكل ما قَالَ لك فليكن جوابك له: أخبر أبي، فقد وجهتك

وما آمن عليك، وقد كان قَالَ لي أبي حين انصرفنا- وذاك أنا احتبسنا عند الرشيد: أما رأيت الغلام المعترض في الدار! لا والله ما صرفنا حتى فرغ منه- يعني يحيى- إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! وعند الله نحتسب أنفسنا فخرجت مع الرسول، فلما صرت في بعض الطريق وأنا مغموم بما أقدم عليه، قلت للرسول: ويحك! ما أمره! وما أزعجه بالإرسال إلى أبي في هذا الوقت! فقال: إنه لما جاء من الدار، فساعة نزل عن الدابة صاح: بطني بطني! قَالَ عبد الله بْن عباس: فما حفلت بهذا الكلام من قول الغلام، ولا التفت إليه، فلما صرنا على باب الدرب- وكان في درب لا منفذ له- فتح البابين، فإذا النساء قد خرجن منشورات الشعور محتزمات بالحبال، يلطمن وجوههن وينادين بالويل، وقد مات الرجل، فقلت: والله ما رأيت أمرا أعجب من هذا! وعطفت دابتي راجعا أركض ركضا لم أركض مثله قبله ولا بعده إلى هذه الغاية، والغلمان والحشم ينتظرونني لتعلق قلب الشيخ بي، فلما رأوني دخلوا يتعادون، فاستقبلني مرعوبا في قميص ومنديل، ينادي: ما وراءك يا بني؟ قلت: إنه قد مات، قَالَ: الحمد لله الذي قتله وأراحك وإيانا منه، فما قطع كلامه حتى ورد خادم الرشيد يأمر أبي بالركوب وإياي معه فقال أبي ونحن في الطريق نسير: لو جاز أن يدعى ليحيى نبوة لادعاها أهله، رحمة الله عليه، وعند الله نحتسبه! ولا والله ما نشك في أنه قد قتل فمضينا حتى دخلنا على الرشيد، فلما نظر إلينا قَالَ: يا عباس بْن الحسن، أما علمت بالخبر؟ فقال أبي: بلى يا أمير المؤمنين، فالحمد لله الذي صرعه بلسانه، ووقاك الله يا أمير المؤمنين قطع أرحامك فقال الرشيد: الرجل والله سليم على ما يحب، ورفع الستر، فدخل يحيى، وأنا والله أتبين الارتياع في الشيخ، فلما نظر إليه الرشيد صاح به: يا أبا محمد، أما علمت أن الله قد قتل عدوك الجبار! قَالَ: الحمد لله الذي أبان لأمير المؤمنين كذب عدوه علي، وأعفاه من قطع رحمه، والله يا أمير المؤمنين، لو كان هذا الأمر مما أطلبه وأصلح له وأريده فكيف ولست بطالب له ولا مريده، ولو لم يكن الظفر به إلا بالاستعانة به،

ذكر الفتنة بين اليمانيه والنزارية

ثم لم يبق في الدنيا غيري وغيرك وغيره ما تقويت به عليك أبدا! وهذا والله من إحدى آفاتك- وأشار إلى الفضل بْن الربيع- والله لو وهبت له عشرة آلاف درهم، ثم طمع منى في زيادة تمرة لباعك بها فقال: أما العباسي فلا تقل له إلا خيرا، وأمر له في هذا اليوم بمائة ألف دينار، وكان حبسه بعض يوم قَالَ أبو يونس: كان هارون حبسه ثلاث حبسات مع هذه الحبسه، واوصل اليه أربعمائة الف دينار سنه 176 ذكر الفتنة بين اليمانيه والنزارية وفي هذه السنة، هاجت العصبية بالشام بين النزارية واليمانية، ورأس النزارية يومئذ أبو الهيذام. ذكر الخبر عن هذه الفتنة: ذكر أن هذه الفتنة هاجت بالشام وعامل السلطان بها موسى بْن عيسى، فقتل بين النزارية واليمانية على العصبية من بعضهم لبعض بشر كثير، فولى الرشيد موسى بْن يحيى بْن خالد الشام، وضم إليه من القواد والأجناد ومشايخ الكتاب جماعة فلما ورد الشام أحلت لدخوله إلى صالح بْن علي الهاشمي، فأقام موسى بها حتى أصلح بين أهلها، وسكنت الفتنة، واستقام أمرها، فانتهى الخبر إلى الرشيد بمدينة السلام، ورد الرشيد الحكم فيهم إلى يحيى، فعفا عنهم، وعما كان بينهم، وأقدمهم بغداد، وفي ذلك يقول إسحاق بن حسان الخزيمي: من مبلغ يحيى ودون لقائه ... زأرات كل خنابس همهام يا راعي الإسلام غير مفرط ... في لين مغتبط وطيب مشام تعذى مشاربه وتسقى شربة ... ويبيت بالربوات والأعلام حتى تنخنخ ضاربا بجرانه ... ورست مراسيه بدار سلام فلكل ثغر خارس من قلبه ... وشعاع طرف ما يفتر سام

ذكر الخبر عن سبب توليه الرشيد جعفر مصر وتوليه جعفر عمر بن مهران إياها

وقال في موسى غير أبي يعقوب: قد هاجت الشام هيجا ... يشيب رأس وليده فصب موسى عليها ... بخيله وجنوده فدانت الشام لما ... اتى نسيج وحيده هو الجواد الذي ... بذ كل جود بجوده أعداه جود أبيه ... يحيى وجود جدوده فجاد موسى بْن يحيى ... بطارف وتليده ونال موسى ذرى المجد ... وهو حشو مهوده خصصته بمديحي ... منثوره وقصيده من البرامك عود ... له فأكرم بعوده حووا على الشعر طرا ... خفيفه ومديده وفيها عزل الرشيد الغطريف بْن عطاء عن خراسان، وولاها حمزة بْن مالك بْن الهيثم الخزاعي، وكان حمزة يلقب بالعروس. وفيها ولى الرشيد جعفر بْن يحيى بْن خالد بْن برمك مصر، فولاها عمر بْن مهران. ذكر الخبر عن سبب توليه الرشيد جعفر مصر وتوليه جعفر عمر بن مهران إياها ذكر محمد بْن عمر أن أحمد بْن مهران حدثه أن الرشيد بلغه أن موسى ابن عيسى عازم على الخلع- وكان على مصر- فقال: والله لا أعزله إلا بأخس من على بابي انظروا لي رجلا، فذكر عمر بْن مهران- وكان إذ ذاك يكتب للخيزران، ولم يكتب لغيرها، وكان رجلا أحول مشوه الوجه، وكان

لباسه لباسا خسيسا، أرفع ثيابه طيلسانه، وكانت قيمته ثلاثين درهما، وكان يشمر ثيابه ويقصر أكمامه، ويركب بغلا وعليه رسن ولجام حديد، ويردف غلامه خلفه- فدعا به، فولاه مصر، خراجها وضياعها وحربها. فقال: يا أمير المؤمنين، أتولاها على شريطة، قَالَ: وما هي؟ قَالَ: يكون إذني إلي، إذا أصلحت البلاد انصرفت فجعل ذلك له، فمضى إلى مصر، واتصلت ولاية عمر بْن مهران بموسى بْن عيسى، فكان يتوقع قدومه، فدخل عمر بْن مهران مصر على بغل، وغلامه أبو درة على بغل ثقل، فقصد دار موسى بْن عيسى والناس عنده، فدخل فجلس في أخريات الناس، فلما تفرق أهل المجلس، قَالَ موسى بْن عيسى لعمر: ألك حاجة يا شيخ؟ قَالَ: نعم، أصلح الله الأمير! ثم قام بالكتب فدفعها إليه، فقال: يقدم أبو حفص، أبقاه الله! قَالَ: فأنا أبو حفص، قَالَ: أنت عمر بْن مهران؟ قَالَ: نعم، قَالَ: لعن الله فرعون حين يقول: «أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ «، ثم سلم له العمل ورحل، فتقدم عمر بْن مهران إلى أبي درة غلامه، فقال له: لا تقبل من الهدايا إلا ما يدخل في الجراب، لا تقبل دابة ولا جارية ولا غلاما، فجعل الناس يبعثون بهداياهم، فجعل يرد ما كان من الألطاف، ويقبل المال والثياب، ويأتي بها عمر، فيوقع عليها أسماء من بعث بها، ثم وضع الجباية، وكان بمصر قوم قد اعتادوا المطل وكسر الخراج، فبدأ برجل منهم، فلواه، فقال: والله لا تؤدي ما عليك من الخراج إلا في بيت المال بمدينة السلام إن سلمت، قَالَ: فأنا أؤدي، فتحمل عليه، فقال: قد حلفت ولا أحنث، فأشخصه مع رجلين من الجند- وكان العمال إذ ذاك يكاتبون الخليفة- فكتب معهم إلى الرشيد: إني دعوت بفلان بْن فلان، وطالبته بما عليه من الخراج، فلو انى واستنظرني، فأنظرته ثم دعوته، فدافع ومال إلى الإلطاط، فآليت ألا يؤديه إلا في بيت المال بمدينة السلام، وجملة ما عليه كذا وكذا، وقد أنفذته مع فلان بْن فلان وفلان بْن فلان، من جند أمير المؤمنين، من قيادة فلان بْن فلان، فإن رأى أمير المؤمنين أن يكتب

إلي بوصوله فعل إن شاء الله تعالى. قال: فلم يلوه احد بشيء من الخراج، فاستأدى الخراج، النجم الأول والنجم الثاني، فلما كان في النجم الثالث، وقعت المطالبة والمطل، فاحضر اهل الخراج والتجار فطالبهم، فدافعوه وشكوا الضيقة، فأمر بإحضار تلك الهدايا التي بعث بها إليه، ونظر في الأكياس وأحضر الجهبذ، فوزن ما فيها وأجزاها عن أهلها، ثم دعا بالأسفاط، فنادى على ما فيها، فباعها وأجزى أثمانها عن أهلها ثم قَالَ: يا قوم، حفظت عليكم هداياكم إلى وقت حاجتكم إليها، فادوا إلينا ما لنا، فأدوا إليه حتى أغلق مال مصر، فانصرف ولا يعلم أنه أغلق مال مصر غيره، وانصرف، فخرج على بغل، وأبو درة على بغل- وكان إذنه إليه. وغزا الصائفة في هذه السنة عبد الرحمن بْن عبد الملك، فافتتح حصنا. وحج بالناس في هذه السنة سليمان بْن أبي جعفر المنصور، وحجت معه- فيما ذكر الواقدي- زبيدة زوجة هارون وأخوها معها.

سنه سبع وسبعين ومائه

ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك عزل الرشيد- فيما ذكر- جعفر بْن يحيى عن مصر وتوليته إياها إسحاق بْن سليمان، وعزله حمزة بْن مالك عن خراسان وتوليته إياها الفضل بْن يحيى، إلى ما كان يليه من الاعمال من الري وسجستان. وغزا الصائفة فيها عبد الرزاق بْن عبد الحميد التغلبي. وكان فيها- فيما ذكر الواقدي- ريح وظلمة وحمرة ليلة الأحد لأربع ليال بقين من المحرم، ثم كانت ظلمة ليلة الأربعاء، لليلتين بقيتا من المحرم من هذه السنة، ثم كانت ريح وظلمة شديدة يوم الجمعة لليلة خلت من صفر. وحج بالناس فيها هارون الرشيد.

سنه ثمان وسبعين ومائه

ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك وثوب الحوفية بمصر، من قيس وقضاعة وغيرهم بعامل الرشيد عليهم إسحاق بْن سليمان، وقتالهم إياه، وتوجيه الرشيد اليه هرثمة ابن أعين في عدة من القواد المضمومين إليه مددا لإسحاق بْن سليمان، حتى أذعن أهل الحوف، ودخلوا في الطاعة، وأدوا ما كان عليهم من وظائف السلطان- وكان هرثمة إذ ذاك عامل الرشيد على فلسطين- فلما انقضى أمر الحوفية صرف هارون إسحاق بْن سليمان عن مصر، وولاها هرثمة نحوا من شهر، ثم صرفه وولاها عبد الملك بْن صالح. وفيها كان وثوب أهل أفريقية بعبدويه الأنباري ومن معه من الجند هنالك، فقتل الفضل بْن روح بْن حاتم، وأخرج من كان بها من آل المهلب، فوجه الرشيد إليهم هرثمة بْن أعين، فرجعوا إلى الطاعة. وقد ذكر أن عبدويه هذا لما غلب على أفريقية، وخلع السلطان، عظم شأنه وكثر تبعه، ونزع إليه الناس من النواحي، وكان وزير الرشيد يومئذ يحيى بْن خالد ابن برمك، فوجه إليه يحيى بْن خالد بْن برمك يقطين بْن موسى ومنصور بْن زياد كاتبه، فلم يزل يحيى بْن خالد يتابع على عبدويه الكتب بالترغيب في الطاعة والتخويف للمعصية والاعذار إليه والإطماع والعدة حتى قبل الأمان، وعاد إلى الطاعة وقدم بغداد، فوفى له يحيى بما ضمن له وأحسن إليه، وأخذ له أمانا من الرشيد، ووصله ورأسه. وفي هذه السنة فوض الرشيد أموره كلها إلى يحيى بْن خالد بْن برمك. وفيها خرج الوليد بْن طريف الشاري بالجزيرة، وحكم بها، ففتك بابراهيم ابن خازم بْن خزيمة بنصيبين، ثم مضى منها الى أرمينية.

ولايه الفضل بن يحيى على خراسان وسيرته بها

ولايه الفضل بن يحيى على خراسان وسيرته بها وفيها شخص الفضل بْن يحيى إلى خراسان واليا عليها، فأحسن السيرة بها، وبنى بها المساجد والرباطات، وغزا ما وراء النهر، فخرج إليه خاراخره ملك أشروسنة، وكان ممتنعا. وذكر أن الفضل بْن يحيى اتخذ بخراسان جندا من العجم سماهم العباسية، وجعل ولاءهم لهم، وأن عدتهم بلغت خمسمائة ألف رجل، وأنه قدم منهم بغداد عشرون ألف رجل، فسموا ببغداد الكرنبية، وخلف الباقي منهم بخراسان على أسمائهم ودفاترهم، وفي ذلك يقول مروان بْن أبي حفصة: ما الفضل إلا شهاب لا أفول له ... عند الحروب إذا ما تأفل الشهب حام على ملك قوم عز سهمهم ... من الوراثة في أيديهم سبب أمست يد لبني ساقي الحجيج بها ... كتائب ما لها في غيرهم أرب كتائب لبني العباس قد عرفت ... ما ألف الفضل منها العجم والعرب أثبت خمس مئين في عدادهم ... من الألوف التي أحصت لك الكتب يقارعون عن القوم الذين هم ... أولى بأحمد في الفرقان إن نسبوا إن الجواد ابن يحيى الفضل لا ورق ... يبقى على جود كفيه ولا ذهب ما مر يوم له مذ شد مئزره ... إلا تمول أقوام بما يهب كم غاية في الندى والبأس أحرزها ... للطالبين مداها دونها تعب يعطي اللهى حين لا يعطي الجواد ولا ... ينبو إذا سلت الهندية القضب ولا الرضا والرضا لله غايته ... إلى سوى الحق يدعوه ولا الغضب قد فاض عرفك حتى ما يعادله ... غيث مغيث ولا بحر له حدب قال: وكان مروان بْن أبي حفصة قد أنشد الفضل في معسكره قبل خروجه إلى خراسان:

ألم تر أن الجود من لدن آدم ... تحدر حتى صار في راحة الفضل إذا ما أبو العباس راحت سماؤه ... فيا لك من هطل ويا لك من وبل إذا أم طفل راعها جوع طفلها ... دعته باسم الفضل فاستعصم الطفل ليحيا بك الإسلام إنك عزه ... وإنك من قوم صغيرهم كهل وذكر محمد بْن العباس أن الفضل بْن يحيى أمر له بمائة ألف درهم، وكساه وحمله على بغلة قَالَ: وسمعته يقول: اصبت في قدمتي هذه سبعمائة ألف درهم وفيه يقول: تخيرت للمدح ابن يحيى بْن خالد ... فحسبي ولم أظلم بأن أتخيرا له عادة أن يبسط العدل والندى ... لمن ساس من قحطان أو من تنزرا إلى المنبر الشرقي سار ولم يزل ... له والد يعلو سريرا ومنبرا يعد ويحيى البرمكي ولا يرى ... لدى الدهر الا قائدا او مومرا ومدحه سلم الخاسر، فقال: وكيف تخاف من بؤس بدار ... تكنفها البرامكة البحور وقوم منهم الفضل بْن يحيى ... نفير ما يوازنه نفير له يومان: يوم ندى وبأس ... كأن الدهر بينهما أسير إذا ما البرمكي غدا ابن عشر ... فهمته وزير أو أمير وذكر الفضل بْن إسحاق الهاشمي أن إبراهيم بْن جبريل خرج مع الفضل ابن يحيى إلى خراسان وهو كاره للخروج، فأحفظ ذلك الفضل عليه قال إبراهيم: فدعاني يوما بعد ما أغفلني حينا، فدخلت عليه، فلما صرت بين يديه سلمت، فما رد علي، فقلت في نفسي: شر والله- وكان مضطجعا، فاستوى جالسا- ثم قَالَ: ليفرخ روعك يا إبراهيم، فإن قدرتي عليك تمنعني منك، قَالَ: ثم عقد لي على سجستان، فلما حملت خراجها، وهبه لي

وزادني خمسمائة ألف درهم قَالَ: وكان إبراهيم على شرطه وحرسه، فوجهه إلى كابل، فافتتحها وغنم غنائم كثيرة قَالَ: وحدثني الفضل بْن العباس بْن جبريل- وكان مع عمه إبراهيم- قَالَ: وصل إلى إبراهيم في ذلك الوجه سبعة آلاف ألف، وكان عنده من مال الخراج أربعة آلاف ألف درهم، فلما قدم بغداد وبنى داره في البغيين استزار الفضل ليريه نعمته عليه، وأعد له الهدايا والطرف وآنية الذهب والفضة، وأمر بوضع الأربعة الآلاف ألف في ناحية من الدار. قَالَ: فلما قعد الفضل بْن يحيى قدم إليه الهدايا والطرف، فأبى أن يقبل منها شيئا، وقال له: لم آتك لاسلبك، فقال: إنها نعمتك أيها الأمير. قَالَ: ولك عندنا مزيد، قَالَ: فلم يأخذ من جميع ذلك إلا سوطا سجزيا، وقال: هذا من آلة الفرسان، فقال له: هذا المال من مال الخراج، فقال: هو لك، فأعاد عليه، فقال: أما لك بيت يسعه! فسوغه ذلك، وانصرف. قَالَ: ولما قدم الفضل بْن يحيى من خراسان خرج الرشيد إلى بستان أبي جعفر يستقبله، وتلقاه بنو هاشم والناس من القواد والكتاب والأشراف، فجعل يصل الرجل بالألف الف وبالخمسمائة ألف، ومدحه مروان بْن أبي حفصة، فقال: حمدنا الذي أدى ابن يحيى فأصبحت ... بمقدمه تجري لنا الطير أسعدا وما هجعت حتى رأته عيوننا ... وما زلن حتى آب بالدمع حشدا لقد صبحتنا خيله ورجاله ... باروع بذ الناس بأسا وسوددا نفى عن خراسان العدو كما نفى ... ضحى الصبح جلباب الدجي فتعردا لقد راع من أمسى بمرو مسيره ... إلينا، وقالوا شعبنا قد تبددا على حين ألقى قفل كل ظلامة ... وأطلق بالعفو الأسير المقيدا

وأفشى بلا من مع العدل فيهم ... أيادي عرف باقيات وعودا فأذهب روعات المخاوف عنهم ... واصدر باغي الأمن فيهم وأوردا وأجدى على الأيتام فيهم بعرفه ... فكان من الآباء أحنى وأعودا إذا الناس راموا غاية الفضل في الندى ... وفي البأس ألفوها من النجم أبعدا سما صاعدا بالفضل يحيى وخالد ... إلى كل أمر كان أسنى وأمجدا يلين لمن أعطى الخليفة طاعة ... ويسقي دم العاصي الحسام المهندا أذلت مع الشرك النفاق سيوفه ... وكانت لأهل الدين عزا مؤبدا وشد القوى من بيعة المصطفى الذي ... على فضله عهد الخليفة قلدا سمي النبي الفاتح الخاتم الذي ... به الله أعطى كل خير وسددا أبحت جبال الكابلي ولم تدع ... بهن لنيران الضلالة موقدا فأطلعتها خيلا وطئن جموعه ... قتيلا ومأسورا وفلا مشردا وعادت على ابن البرم نعماك بعد ما ... تحوب مخذولا يرى الموت مفردا وذكر العباس بْن جرير، أن حفص بْن مسلم- وهو أخو رزام بْن مسلم، مولى خالد بْن عبد الله القسري- حدثه أنه قَالَ: دخلت على الفضل بن يحيى مقدمه خراسان، وبين يديه بدر تفرق بخواتيمها، فما فضت بدرة منها، فقلت: كفى الله بالفضل بْن يحيى بْن خالد ... وجود يديه بخل كل بخيل قال: فقال لي مروان بْن أبي حفصة: وددت أني سبقتك إلى هذا البيت، وأن على غرم عشرة آلاف درهم. وغزا فيها الصائفة معاوية بْن زفر بْن عاصم، وغزا الشاتيه فيها سليمان ابن راشد، ومعه البيد بطريق صقلية. وحج بالناس فيها محمد بْن إبراهيم بْن محمد بْن علي، وكان على مكة.

سنه تسع وسبعين ومائه

ثم دخلت سنة تسع وسبعين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك انصراف الفضل بْن يحيى عن خراسان واستخلافه عليها عمرو بْن شرحبيل. وفيها ولى الرشيد خراسان منصور بْن يزيد بْن منصور الحميري. وفيها شرى بخراسان حمزة بْن أترك السجستاني. وفيها عزل الرشيد محمد بْن خالد بْن برمك عن الحجبة، وولاها الفضل بْن الربيع. وفيها رجع الوليد بْن طريف الشاري إلى الجزيرة واشتدت شوكته، وكثر تبعه، فوجه الرشيد إليه يزيد بْن مزيد الشيبانى، فراوغه يزيد، ثم لقيه وهو مغتر فوق هيت، فقتله وجماعة كانوا معه، وتفرق الباقون، فقال الشاعر: وائل بعضها يقتل بعضا ... لا يفل الحديد إلا الحديد وقالت الفارعة أخت الوليد: أيا شجر الخابور ما لك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف فتى لا يحب الزاد إلا من التقى ... ولا المال إلا من قنا وسيوف واعتمر الرشيد في هذه السنة في شهر رمضان، شكرا لله على ما أبلاه في الوليد بْن طريف، فلما قضى عمرته انصرف إلى المدينة، فأقام بها الى وقت الحج، ثم حج بالناس، فمشى من مكة إلى منى، ثم إلى عرفات، وشهد المشاهد والمشاعر ماشيا، ثم انصرف على طريق البصرة. وأما الواقدي فإنه قَالَ: لما فرغ من عمرته اقام بمكة حتى أقام للناس حجهم.

سنه ثمانين ومائه

ثم دخلت سنة ثمانين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر الخبر عن العصبية التي هاجت بالشام فمما كان فيها من ذلك، العصبية التي هاجت بالشام بين أهلها. ذكر الخبر عما صار إليه أمرها: ذكر أن هذه العصبية لما حدثت بالشام بين أهلها، وتفاقم أمرها، اغتم بذلك من أمرهم الرشيد، فعقد لجعفر بْن يحيى على الشام، وقال له: إما أن تخرج أنت أو أخرج أنا، فقال له جعفر: بل أقيك بنفسي، فشخص في جلة القواد والكراع والسلاح، وجعل على شرطه العباس بْن محمد بْن المسيب بْن زهير، وعلى حرسه شبيب بْن حميد بْن قحطبة، فأتاهم فأصلح بينهم، وقتل زواقيلهم، والمتلصصة منهم، ولم يدع بها رمحا ولا فرسا، فعادوا إلى الأمن والطمأنينة، وأطفأ تلك النائرة، فقال منصور النمري لما شخص جعفر: لقد أوقدت بالشام نيران فتنة ... فهذا أوان الشام تخمد نارها إذا جاش موج البحر من آل برمك ... عليها، خبت شهبانها وشرارها رماها أمير المؤمنين بجعفر ... وفيه تلاقى صدعها وانجبارها رماها بميمون النقيبة ماجد ... تراضى به قحطانها ونزارها تدلت عليهم صخرة برمكية ... دموغ لهام الناكثين انحدارها غدوت تزجي غابة في رءوسها ... نجوم الثريا والمنايا ثمارها إذا خفقت راياتها وتجرست ... بها الريح هال السامعين انبهارها فقولوا لأهل الشام: لا يسلبنكم ... حجاكم طويلات المنى وقصارها

فإن أمير المؤمنين بنفسه ... أتاكم وإلا نفسه فخيارها هو الملك المأمول للبر والتقى ... وصولاته لا يستطاع خطارها وزير أمير المؤمنين وسيفه ... وصعدته والحرب تدمى شفارها ومن تطو أسرار الخليفة دونه ... فعندك مأواها وأنت قرارها وفيت فلم تغدر لقوم بذمة ... ولم تدن من حال ينالك عارها طبيب بإحياء الأمور إذا التوت ... من الدهر أعناق، فأنت جبارها إذا ما ابن يحيى جعفر قصدت له ... ملمات خطب لم ترعه كبارها لقد نشأت بالشام منك غمامة ... يؤمل جدواها ويخشى دمارها فطوبى لأهل الشام يا ويل أمها ... أتاها حياها، أو أتاها بوارها فإن سالموا كانت غمامة نائل ... وغيث، وإلا فالدماء قطارها أبوك أبو الأملاك يحيى بْن خالد ... أخو الجود والنعمى الكبار صغارها كأين ترى في البرمكيين من ندى ... ومن سابقات ما يشق غبارها غدا بنجوم السعد من حل رحله ... إليك، وعزت عصبة أنت جارها عذيري من الأقدار هل عزماتها ... مخلفتي عن جعفر واقتسارها فعين الأسى مطروفه لفراقه ... ونفسي اليه ما ينام ادكارها وولى جعفر بْن يحيى صالح بْن سليمان البلقاء وما يليها، واستخلف على الشام عيسى بْن العكي وانصرف، فازداد الرشيد له إكراما فلما قدم على الرشيد دخل عليه- فيما ذكر- فقبل يديه ورجليه، ثم مثل بين يديه، فقال: الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي أنس وحشتي، وأجاب دعوتي، ورحم تضرعي، وأنسأ في أجلي، حتى أراني وجه سيدي، وأكرمني

بقربه، وامتن علي بتقبيل يده، وردني إلى خدمته، فو الله إن كنت لأذكر غيبتي عنه ومخرجي، والمقادير التي أزعجتني، فأعلم أنها كانت بمعاص لحقتني وخطايا أحاطت بي، ولو طال مقامي عنك يا أمير المؤمنين- جعلني الله فداك- لخفت أن يذهب عقلي إشفاقا على قربك، وأسفا على فراقك، وأن يعجل بي عن إذنك الاشتياق إلى رؤيتك، والحمد لله الذي عصمني في حال الغيبة، وأمتعني بالعافية، وعرفني الإجابة ومسكنى بالطاعة، وحال بيني وبين استعمال المعصية، فلم أشخص إلا عن رأيك، ولم أقدم إلا عن إذنك وأمرك، ولم يخترمنى اجل دونك والله يا امير المؤمنين- ولا أعظم من اليمين بالله- لقد عاينت ما لو تعرض لي الدنيا كلها لاخترت عليها قربك، ولما رأيتها عوضا من المقام معك ثم قَالَ له بعقب هذا الكلام في هذا المقام: إن الله يا أمير المؤمنين- لم يزل يبليك في خلافتك بقدر ما يعلم من نيتك، ويريك في رعيتك غاية أمنيتك، فيصلح لك جماعتهم، ويجمع ألفتهم، ويلم شعثهم، حفظا لك فيهم، ورحمة لهم، وإنما هذا للتمسك بطاعتك، والاعتصام بحبل مرضاتك، والله المحمود على ذلك وهو مستحقه وفارقت يا أمير المؤمنين أهل كور الشام وهم منقادون لأمرك، نادمون على ما فرط من معصيتهم لك، متمسكون بحبلك، نازلون على حكمك، طالبون لعفوك، واثقون بحلمك، مؤملون فضلك، آمنون بادرتك، حالهم في ائتلافهم كحالهم كانت في اختلافهم، وحالهم في ألفتهم كحالهم كانت في امتناعهم، وعفو أمير المؤمنين عنهم وتغمده لهم سابق لمعذرتهم، وصلة أمير المؤمنين لهم، وعطفه عليهم متقدم عنده لمسألتهم. وايم الله يا أمير المؤمنين لئن كنت قد شخصت عنهم، وقد أخمد الله شرارهم وأطفأ نارهم، ونفى مراقهم، وأصلح دهماءهم، وأولاني الجميل فيهم، ورزقني الانتصار منهم، فما ذلك كله إلا ببركتك ويمنك، وريحك ودوام دولتك السعيدة الميمونة الدائمة، وتخوفهم منك، ورجائهم لك والله يا أمير

المؤمنين ما تقدمت إليهم إلا بوصيتك، وما عاملتهم إلا بأمرك، ولا سرت فيهم إلا على حد ما مثلته لي ورسمته، ووقفتنى عليه، وو الله ما انقادوا إلا لدعوتك، وتوحد الله بالصنع لك، وتخوفهم من سطوتك وما كان الذي كان منى- وان كنت بذلت جهدي، وبلغت مجهودي- قاضيا ببعض حقك علي، بل ما ازدادت نعمتك علي عظما، إلا ازددت عن شكرك عجزا وضعفا، وما خلق الله أحدا من رعيتك أبعد من أن يطمع نفسه في قضاء حقك مني، وما ذلك إلا أن أكون باذلا مهجتي في طاعتك، وكل ما يقرب إلى موافقتك، ولكني أعرف من أياديك عندي ما لا أعرف مثلها عند غيري، فكيف بشكري وقد أصبحت واحد أهل دهري فيما صنعته في وبي! أم كيف بشكري وإنما أقوى على شكرى بإكرامك إياي! وكيف بشكري ولو جعل الله شكري في إحصاء ما أوليتني لم يأت على ذلك عدي وكيف بشكري وأنت كهفي دون كل كهف لي! وكيف بشكري وأنت لا ترضى لي ما أرضاه لي! وكيف بشكري وأنت تجدد من نعمتك عندي ما يستغرق كل ما سلف عندك لي! أم كيف بشكري وأنت تنسيني ما تقدم من إحسانك إلي بما تجدده لي! أم كيف بشكري وأنت تقدمني بطولك على جميع أكفائي! أم كيف بشكري وأنت وليي! أم كيف بشكري وأنت المكرم لي! وأنا أسأل الله الذي رزقني ذلك منك من غير استحقاق له، إذا كان الشكر مقصرا عن بلوغ تأدية بعضه، بل دون شقص من عشر عشيره، أن يتولى مكافأتك عني بما هو أوسع له، واقدر عليه، وان يقضى عنى حقك، وجليل منتك، فإن ذلك بيده، وهو القادر عليه! وفي هذه السنة أخذ الرشيد الخاتم من جعفر بْن يحيى، فدفعه إلى أبيه يحيى بْن خالد

وفيها ولى جعفر بْن يحيى خراسان وسجستان، واستعمل جعفر عليهما محمد بن الحسن بْن قحطبة. وفيها شخص الرشيد من مدينة السلام مريدا الرقة على طريق الموصل، فلما نزل البردان، ولى عيسى بْن جعفر خراسان، وعزل عنها جعفر بْن يحيى، فكانت ولاية جعفر بْن يحيى إياها عشرين ليلة. وفيها ولى جعفر بْن يحيى الحرس. وفيها هدم الرشيد سور الموصل بسبب الخوارج الذين خرجوا منها، ثم مضى إلى الرقة فنزلها واتخذها وطنا. وفيها عزل هرثمة بْن أعين عن أفريقية، وأقفله إلى مدينة السلام، فأستخلفه جعفر بْن يحيى على الحرس. وفيها كانت بأرض مصر زلزلة شديدة، فسقط رأس منارة الإسكندرية. 4 وفيها حكم خراشة الشيباني وشرى بالجزيرة، فقتله مسلم بْن بكار بْن مسلم العقيلي 4. وفيها خرجت المحمرة بجرجان، فكتب علي بْن عيسى بْن ماهان أن الذي هيج ذلك عليه عمرو بْن محمد العمركي، وأنه زنديق، فأمر الرشيد بقتله، فقتل بمرو. وفيها عزل الفضل بْن يحيى عن طبرستان والرويان، وولي ذلك عبد الله ابن خازم وعزل الفضل أيضا عن الري، ووليها محمد بْن يحيى بْن الحارث بْن شخير، وولى سعيد بْن سلم الجزيرة. وغزا الصائفة فيها معاوية بْن زفر بْن عاصم وفيها صار الرشيد إلى البصرة منصرفه من مكة، فقدمها في المحرم منها، فنزل المحدثة أياما، ثم تحول منها إلى قصر عيسى بْن جعفر بالخريبة، ثم ركب في نهر سيحان الذي احتفره يحيى بْن خالد، حتى نظر إليه، وسكر نهر الأبلة ونهر معقل، حتى استحكم أمر سيحان، ثم شخص عن البصرة

لاثنتي عشرة ليلة بقيت من المحرم، فقدم مدينة السلام، ثم شخص إلى الحيرة، فسكنها وابتنى بها المنازل، وأقطع من معه الخطط، وأقام نحوا من أربعين يوما، فوثب به أهل الكوفة، وأساءوا مجاورته، فارتحل إلى مدينة السلام، ثم شخص من مدينة السلام إلى الرقة، واستخلف بمدينة السلام حين شخص إلى الرقة محمدا الأمين، وولاه العراقين. وحج بالناس في هذه السنة موسى بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بن علي.

سنه احدى وثمانين ومائه

ثم دخلت سنة إحدى وثمانين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فكان فيها غزو الرشيد أرض الروم، فافتتح بها عنوه حصن الصفصاف، فقال مروان بْن أبي حفصة: أن أمير المؤمنين المصطفى ... قد ترك الصفصاف قاعا صفصفا وفيها غزا عبد الملك بْن صالح الروم، فبلغ أنقرة وافتتح مطمورة. وفيها توفي الحسن بْن قحطبة وحمزة بْن مالك. وفيها غلبت المحمرة على جرجان. وفيها أحدث الرشيد عند نزوله الرقة في صدور كتبه الصلاة على محمد ص وحج بالناس في هذه السنة هارون الرشيد، فأقام للناس الحج، ثم صدر معجلا وتخلف عنه يحيى بْن خالد، ثم لحقه بالغمرة فاستعفاه من الولاية فأعفاه، فرد إليه الخاتم، وساله الاذن في المقام فأذن له، فانصرف إلى مكة.

سنه اثنتين وثمانين ومائه

ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فكان فيها انصراف الرشيد من مكة ومسيره إلى الرقة، وبيعته بها لابنه عبد الله المأمون بعد ابنه محمد الأمين، وأخذ البيعة له على الجند بذلك بالرقة، وضمه إياه إلى جعفر بْن يحيى، ثم توجيهه إياه إلى مدينة السلام، ومعه من أهل بيته جعفر بْن أبي جعفر المنصور وعبد الملك بْن صالح، ومن القواد علي بْن عيسى، فبويع له بمدينة السلام حين قدمها، وولاه أبوه خراسان وما يتصل بها إلى همذان، وسماه المأمون. وفيها حملت ابنة خاقان ملك الخزر إلى الفضل بْن يحيى، فماتت ببرذعة، وعلى أرمينية يومئذ سعيد بْن سلم بْن قتيبة الباهلى، فرجع من كان فيها من الطراخنة إلى أبيها، فأخبروه أن ابنته قتلت غيلة، فحنق لذلك، وأخذ في الأهبة لحرب المسلمين. وانصرف فيها يحيى بْن خالد الى مدينه السلام. وغزا فيها الصائفة عبد الرحمن بْن عبد الملك بْن صالح، فبلغ دفسوس مدينة أصحاب الكهف. وفيها سملت الروم عيني ملكهم قسطنطين بْن اليون، وأقروا أمه ريني، وتلقب أغسطه. وحج بالناس فيها موسى بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن علي.

سنه ثلاث وثمانين ومائه

ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومائة (ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) فمن ذلك خروج الخزر بسبب ابنة خاقان من باب الأبواب وإيقاعهم بالمسلمين هنالك وأهل الذمة، وسبيهم- فيما ذكر- أكثر من مائة ألف. فانتهكوا أمرا عظيما لم يسمع في الإسلام بمثله، فولى الرشيد أرمينية يزيد بْن مزيد مع اذربيجان، وقواه بالجند، ووجهه، وانزل خزيمة بن خازم نصيبين ردءا لا اهل أرمينية. وقد قيل في سبب دخول الخزر أرمينية غير هذا القول، وذلك ما ذكره محمد بْن عبد الله، أن أباه حدثه أن سبب دخول الخزر أرمينية في زمان هارون كان أن سعيد بْن سلم ضرب عنق المنجم السلمي بفأس، فدخل ابنه بلاد الخزر، واستجاشهم على سعيد، فدخلوا أرمينية من الثلمة، فانهزم سعيد، ونكحوا المسلمات، وأقاموا فيها- أظن- سبعين يوما، فوجه هارون خزيمة بن خازم ويزيد بن مزيد إلى أرمينية حتى أصلحا ما أفسد سعيد، وأخرجا الخزر، وسدت الثلمه. وفيها كتب الرشيد الى علي بْن عيسى بْن ماهان وهو بخراسان بالمصير إليه، وكان سبب كتابه إليه بذلك، أنه كان حمل عليه، وقيل له: أنه قد أجمع على الخلاف، فاستخلف علي بْن عيسى ابنه يحيى على خراسان، فأقره الرشيد، فوافاه علي، وحمل إليه مالا عظيما، فرده الرشيد إلى خراسان من قبل ابنه المأمون لحرب أبي الخصيب، فرجع. وفيها خرج بنسا من خراسان أبو الخصيب وهيب بْن عبد الله النسائي مولى الحريش 4

وفيها مات موسى بْن جعفر بْن محمد ببغداد ومحمد بن السماك القاضي. وفيها حج بالناس العباس بْن موسى الهادي بْن محمد بْن عبد الله بن محمد ابن على.

سنه اربع وثمانين ومائه

ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففيها قدم هارون مدينة السلام في جمادى الآخرة منصرفا إليها من الرقة في الفرات في السفن، فلما صار إليها أخذ الناس بالبقايا. وولي استخراج ذلك- فيما ذكر- عبد الله بْن الهيثم بْن سام بالحبس والضرب، وولى حماد البربري مكة واليمن، وولى داود بْن يزيد بْن حاتم المهلبي السند، ويحيى الحرشي الجبل، ومهرويه الرازي طبرستان، وقام بأمر إفريقية ابراهيم الأغلب، فولاها إياه الرشيد. وفيها خرج أبو عمرو الشاري فوجه إليه زهير القصاب فقتله بشهرزور. وفيها طلب أبو الخصيب الأمان، فأعطاه ذلك علي بْن عيسى، فوافاه بمرو فأكرمه. وحج بالناس فيها إبراهيم بْن محمد بْن عبد الله بْن محمد بْن علي.

سنه خمس وثمانين ومائه

ثم دخلت سنة خمس وثمانين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من قتل أهل طبرستان مهرويه الرازي وهو واليها، فولى الرشيد مكانه عبد الله بْن سعيد الحرشي. وفيها قتل عبد الرحمن الأبناوي أبان بْن قحطبة الخارجي بمرج القلعة. وفيها عاث حمزة الشاري بباذغيس من خراسان، فوثب عيسى بن على ابن عيسى على عشرة آلاف من أصحاب حمزة فقتلهم، وبلغ كابل وزابلستان والقندهار، فقال أبو العذافر في ذلك: كاد عيسى يكون ذا القرنين ... بلغ المشرقين والمغربين لم يدع كابلا ولا زابلستان ... فما حولها إلى الرخجين وفيها خرج أبو الخصيب ثانية بنسا، وغلب عليها وعلى أبيورد وطوس ونيسابور، وزحف إلى مرو، فأحاط بها، فهزم، ومضى نحو سرخس، وقوي أمره. وفيها مات يزيد بْن مزيد ببرذعة، فولى مكانه أسد بْن يزيد. وفيها مات يقطين بْن موسى ببغداد. وفيها مات عبد الصمد بْن علي ببغداد في جمادى الآخرة، ولم يكن ثغر قط، فأدخل القبر بأسنان الصبي، وما نقص له سن وشخص فيها الرشيد إلى الرقة على طريق الموصل. واستأذنه فيها يحيى بْن خالد في العمرة والجوار، فأذن له، فخرج في

شعبان، واعتمر عمره شهر رمضان، ثم رابط بجدة إلى وقت الحج، ثم حج. ووقعت في المسجد الحرام صاعقة فقتلت رجلين. وحج بالناس فيها منصور بْن محمد بْن عبد الله بْن محمد بن علي.

سنه ست وثمانين ومائه

ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففيها كان خروج علي بْن عيسى بْن ماهان من مرو لحرب أبي الخصيب إلى نسا، فقتله بها، وسبى نساءه وذراريه، واستقامت خراسان. وفيها حبس الرشيد ثمامة بْن أشرس لوقوفه على كذبه في أمر أحمد بْن عيسى بْن زيد. وفيها مات جعفر بْن أبي جعفر المنصور عند هرثمة وتوفي العباس بْن محمد ببغداد. ذكر حج الرشيد ثم كتابته العهد لابنائه وحج بالناس فيها هارون الرشيد، وكان شخوصه من الرقة للحج في شهر رمضان من هذه السنة، فمر بالأنبار، ولم يدخل مدينة السلام، ولكنه نزل منزلا على شاطئ الفرات يدعى الدارات، بينه وبين مدينة السلام سبعة فراسخ، وخلف بالرقة إبراهيم بْن عثمان بْن نهيك، وأخرج معه ابنيه: محمدا الأمين وعبد الله المأمون، وليي عهده، فبدأ بالمدينة، فأعطى أهلها ثلاثة أعطية، كانوا يقدمون إليه فيعطيهم عطاء، ثم إلى محمد فيعطيهم عطاء ثانيا، ثم إلى المأمون فيعطيهم عطاء ثالثا، ثم صار الى مكة فاعطى أهلها، فبلغ ذلك ألف ألف دينار وخمسين ألف دينار. وكان الرشيد عقد لابنه محمد ولاية العهد- فيما ذكر محمد بْن يزيد عن إبراهيم بْن محمد الحجبي- يوم الخميس في شعبان سنة ثلاث وسبعين ومائة، وسماه الأمين، وضم إليه الشام والعراق في سنة خمس وسبعين ومائة، ثم بايع لعبد الله المأمون بالرقة في سنة ثلاث وثمانين ومائة، وولاه من حد همذان إلى آخر المشرق، فقال في ذلك سلم بْن عمرو الخاسر:

بايع هارون إمام الهدى ... لذي الحجى والخلق الفاضل المخلف المتلف أمواله ... والضامن الأثقال للحامل والعالم النافذ في علمه ... والحاكم الفاضل والعادل والراتق الفاتق حلف الهدى ... والقائل الصادق والفاعل لخير عباس إذا حصلوا ... والمفضل المجدي على العائل أبرهم برا وأولاهم ... بالعرف عند الحدث النازل لمشبه المنصور في ملكه ... إذا تدجت ظلمة الباطل فتم بالمأمون نور الهدى ... وانكشف الجهل عن الجاهل وذكر الحسن بْن قريش أن القاسم بن الرشيد، كان في حجر عبد الملك ابن صالح، فلما بايع الرشيد لمحمد والمأمون، كتب إليه عبد الملك بْن صالح: يأيها الملك الذي ... لو كان نجما كان سعدا اعقد القاسم بيعة ... واقدح له في الملك زندا الله فرد واحد ... فاجعل ولاة العهد فردا فكان ذلك أول ما حض الرشيد على البيعة للقاسم ثم بايع للقاسم ابنه، وسماه المؤتمن، وولاه الجزيرة والثغور والعواصم، فقال في ذلك: حب الخليفة حب لا يدين به ... من كان لله عاص يعمل الفتنا الله قلد هارونا سياستنا ... لما اصطفاه فأحيا الدين والسننا وقلد الارض هارون لرأفته ... بنا أمينا ومأموما ومؤتمنا قال: ولما قسم الأرض بين أولاده الثلاثة، قَالَ بعض العامة: قد أحكم أمر الملك، وقال بعضهم: بل ألقى بأسهم بينهم، وعاقبة ما صنع في ذلك مخوفة على الرعية، وقالت الشعراء في ذلك، فقال بعضهم:

أقول لغمة في النفس مني ... ودمع العين يطرد اطرادا خذي للهول عدته بحزم ... سنلقى ما سيمنعك الرقادا فإنك إن بقيت رأيت أمرا ... يطيل لك الكآبة والسهادا رأى الملك المهذب شر رأى ... بقسمته الخلافة والبلادا رأى ما لو تعقبه بعلم ... لبيض من مفارقه السوادا أراد به ليقطع عن بنيه ... خلافهم ويبتذلوا الودادا فقد غرس العداوة غير آل ... وأورث شمل ألفتهم بدادا وألقح بينهم حربا عوانا ... وسلس لاجتنابهم القيادا فويل للرعية عن قليل ... لقد أهدى لها الكرب الشدادا وألبسها بلاء غير فان ... وألزمها التضعضع والفسادا ستجري من دمائهم بحور ... زواخر لا يرون لها نفادا فوزر بلائهم أبدا عليه ... أغيا كان ذلك أم رشادا قال: وحج هارون ومحمد وعبد الله معه وقواده ووزراؤه وقضاته في سنة ست وثمانين ومائة، وخلف بالرقة إبراهيم بْن عثمان بْن نهيك العكي على الحرم والخزائن والأموال والعسكر، وأشخص القاسم ابنه إلى منبج، فانزله إياها بمن ضم إليه من القواد والجند، فلما قضى مناسكه كتب لعبد الله المأمون ابنه كتابين، أجهد الفقهاء والقضاة أراءهم فيهما، أحدهما على محمد بما اشترط عليه من الوفاء بما فيه من تسليم ما ولي عبد الله من الأعمال، وصير إليه من الضياع والغلات والجواهر والأموال، والآخر نسخة البيعة التي أخذها على الخاصة والعامة والشروط لعبد الله على محمد وعليهم، وجعل الكتابين في البيت الحرام بعد أخذه البيعة على محمد، وإشهاده عليه بها الله وملائكته

ومن كان في الكعبه معه من سائر ولده وأهل بيته ومواليه وقواده ووزرائه وكتابه وغيرهم وكانت الشهادة بالبيعة والكتاب في البيت الحرام، وتقدم إلى الحجبة في حفظهما، ومنع من اراد إخراجهما والذهاب بهما، فذكر عبد الله بْن محمد ومحمد بْن يزيد التميمي وإبراهيم الحجبي، أن الرشيد حضر وأحضر وجوه بني هاشم والقواد والفقهاء، وادخلوا البيت الحرام، وامر بقراءة الكتاب على عبد الله ومحمد، وأشهد عليهما جماعة من حضر، ثم رأى أن يعلق الكتاب في الكعبة، فلما رفع ليعلق وقع، فقيل إن هذا الأمر سريع انتقاضه قبل تمامه وكانت نسخة الْكِتَابِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ لعبد الله هارون أمير المؤمنين، كتبه محمد بْن هارون أمير المؤمنين، في صحة من عقله، وجواز من أمره، طائعا غير مكره أن أمير المؤمنين ولاني العهد من بعده، وصير البيعة لي في رقاب المسلمين جميعا، وولى عبد الله بن هارن العهد والخلافه وجميع امور المسلمين بعدي، برضا منى وتسليم، طائعا غير مكره، وولاه خراسان وثغورها وكورها وحربها وجندها وخراجها وطرزها وبريدها، وبيوت أموالها، وصدقاتها وعشرها وعشورها، وجميع أعمالها، في حياته وبعده وشرطت لعبد الله هارون امير المؤمنين برضا مني وطيب نفسي، أن لأخي عبد الله بْن هارون علي الوفاء بما عقد له هارون أمير المؤمنين من العهد والولاية والخلافة وأمور المسلمين جميعا بعدي، وتسليم ذلك له، وما جعل له من ولاية خراسان وأعمالها كلها، وما اقطعه امير المؤمنين من قطعيه، أو جعل له من عقدة أو ضيعة من ضياعه، أو ابتاع من الضياع والعقد، وما أعطاه في حياته وصحته من مال أو حلي أو جوهر، أو متاع أو كسوة، أو منزل أو دواب، أو قليل أو كثير، فهو لعبد الله بْن هارون أمير المؤمنين، موفرا مسلما إليه وقد عرفت ذلك كله شيئا شيئا

فإن حدث بأمير المؤمنين حدث الموت، وأفضت الخلافه الى محمد ابن أمير المؤمنين، فعلى محمد إنفاذ ما أمره به هارون أمير المؤمنين في تولية عبد الله ابن هارون أمير المؤمنين خراسان وثغورها ومن ضم إليه من أهل بيت أمير المؤمنين بقرماسين، وان يمضى عبد الله ابن أمير المؤمنين إلى خراسان والري والكور التي سماها أمير المؤمنين حيث كان عبد الله بن أمير المؤمنين من معسكر أمير المؤمنين وغيره من سلطان أمير المؤمنين وجميع من ضم إليه أمير المؤمنين حيث أحب، من لدن الري الى اقصى عمل خراسان فليس لمحمد ابْن أمير المؤمنين أن يحول عنه قائدا ولا مقودا ولا رجلا واحدا ممن ضم اليه من اصحابه الذين ضمهم الى أمير المؤمنين، ولا يحول عبد الله ابْن امير المؤمنين عن ولايته التي ولاه إياها هارون أمير المؤمنين من ثغور خراسان وأعمالها كلها، ما بين عمل الري مما يلى همذان الى أقصى خراسان وثغورها وبلادها، وما هو منسوب إليها، ولا يشخصه إليه، ولا يفرق أحدا من أصحابه وقواده عنه، ولا يولي عليه أحدا، ولا يبعث عليه ولا على أحد من عماله وولاة أموره بندارا، ولا محاسبا ولا عاملا، ولا يدخل عليه في صغير من أمره ولا كبير ضررا، ولا يحول بينه وبين العمل في ذلك كله برأيه وتدبيره، ولا يعرض لأحد ممن ضم إليه أمير المؤمنين من أهل بيته وصحابته وقضاته وعماله وكتابه وقواده وخدمه ومواليه وجنده، بما يلتمس إدخال الضرر والمكروه عليهم في أنفسهم ولا قراباتهم ولا مواليهم، ولا احد بسبيل منهم، ولا في دمائهم ولا في أموالهم ولا في ضياعهم ودورهم ورباعهم وأمتعتهم ورقيقهم ودوابهم شيئا من ذلك صغيرا ولا كبيرا، ولا أحد من الناس بأمره ورأيه وهواه، وبترخيص له في ذلك وادهان منه فيه لأحد من ولد آدم، ولا يحكم في أمرهم ولا أحد من قضاته ومن عماله وممن كان بسبب منه بغير حكم عبد الله ابن أمير المؤمنين ورأيه ورأي قضاته. وإن نزع إليه أحد ممن ضم أمير المؤمنين إلى عبد الله ابن أمير المؤمنين من أهل بيت أمير المؤمنين وصحابته وقواده وعماله وكتابه وخدمه ومواليه وجنده، ورفض اسمه ومكتبه ومكانه مع عبد الله بن أمير المؤمنين عاصيا له أو مخالفا

عليه، فعلى محمد بْن أمير المؤمنين رده إلى عبد الله ابْن أمير المؤمنين بصغر له وقماء حتى ينفذ فيه رأيه وأمره. فإن أراد محمد بن امير المؤمنين خلع عبد الله ابْن أمير المؤمنين عن ولاية العهد من بعده، أو عزل عبد الله بن أمير المؤمنين عن ولاية خراسان وثغورها وأعمالها، والذي من حد عملها مما يلي همذان والكور التي سماها أمير المؤمنين في كتابه هذا أو صرف أحد من قواده الذين ضمهم أمير المؤمنين إليه ممن قدم قرماسين، أو أن ينتقصه قليلا أو كثيرا مما جعله أمير المؤمنين له بوجه من الوجوه، أو بحيلة من الحيل، صغرت أو كبرت، فلعبد الله بْن هارون أمير المؤمنين الخلافة بعد أمير المؤمنين، وهو المقدم على محمد ابن امير المؤمنين، وهو ولى الأمر بعد أمير المؤمنين والطاعة من جميع قواد أمير المؤمنين هارون من أهل خراسان وأهل العطاء وجميع المسلمين في جميع الأجناد والأمصار لعبد الله ابن أمير المؤمنين، والقيام معه، والمجاهدة لمن خالفه، والنصر له والذب عنه، ما كانت الحياة في أبدانهم وليس لأحد منهم جميعا من كانوا، أو حيث كانوا، أن يخالفه ولا يعصيه، ولا يخرج من طاعته، ولا يطيع محمد ابن أمير المؤمنين في خلع عبد الله بْن هارون أمير المؤمنين وصرف العهد عنه من بعده إلى غيره، أو ينتقصه شيئا مما جعله له أمير المؤمنين هارون في حياته وصحته، واشترط في كتابه الذي كتبه عليه في البيت الحرام في هذا الكتاب وعبد الله ابْن أمير المؤمنين المصدق في قوله، وأنتم في حل من البيعة التي في أعناقكم لمحمد ابْن أمير المؤمنين هارون إن نقص شيئا مما جعله له أمير المؤمنين هارون، وعلى محمد بْن هارون أمير المؤمنين أن ينقاد لعبد الله ابْن أمير المؤمنين هارون ويسلم له الخلافة. وليس لمحمد ابن امير المؤمنين هارون ولا لعبد الله ابن أمير المؤمنين أن يخلعا القاسم ابْن أمير المؤمنين هارون، ولا يقدما عليه أحدا من أولادهما وقراباتهما ولا غيرهم من جميع البرية، فإذا افضت الخلافه الى عبد الله ابن أمير المؤمنين، فالأمر إليه في إمضاء ما جعله أمير المؤمنين من العهد للقاسم بعده، او صرف

نسخه الشرط الذى كتب عبد الله ابن امير المؤمنين بخط يده في الكعبه

ذلك عنه إلى من رأى من ولده وإخوته، وتقديم من أراد أن يقدم قبله، وتصيير القاسم ابن أمير المؤمنين بعد من يقدم قبله، يحكم في ذلك بما أحب ورأى. فعليكم معشر المسلمين إنفاذ ما كتب به أمير المؤمنين في كتابه هذا، وشرط عليهم وأمر به، وعليكم السمع والطاعة لأمير المؤمنين فيما ألزمكم وأوجب عليكم لعبد الله ابْن أمير المؤمنين، وعهد الله وذمته وذمه رسوله ص وذمم المسلمين والعهود والمواثيق التي أخذ الله على الملائكة المقربين والنبيين والمرسلين، ووكدها في أعناق المؤمنين والمسلمين، لتفن لعبد الله أمير المؤمنين بما سمى، ولمحمد وعبد الله والقاسم بني أمير المؤمنين بما سمى وكتب في كتابه هذا، واشترط عليكم وأقررتم به على أنفسكم، فإن أنتم بدلتم من ذلك شيئا، أو غيرتم، أو نكثتم، أو خالفتم ما أمركم به أمير المؤمنين، واشترط عليكم في كتابه هذا، فبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله محمد ص وذمم المؤمنين والمسلمين، وكل مال هو اليوم لكل رجل منكم أو يستفيده إلى خمسين سنة فهو صدقة على المساكين، وعلى كل رجل منكم المشي إلى بيت الله الحرام الذي بمكة خمسين حجة، نذرا واجبا لا يقبل الله منه إلا الوفاء بذلك، وكل مملوك لآحد منكم- أو يملكه فيما يستقبل إلى خمسين سنة- حر، وكل امرأة له فهي طالق ثلاثا البتة طلاق الحرج، لا مثنوية فيها والله عليكم بذلك كفيل وراع، وكفى بالله حسيبا . نسخة الشرط الذي كتب عبد الله ابن أمير المؤمنين بخط يده في الكعبة هذا كتاب لعبد الله هارون أمير المؤمنين، كتبه له عبد الله بْن هارون أمير المؤمنين، في صحة من عقله، وجواز من أمره، وصدق نية فيما كتب في كتابه هذا، ومعرفة بما فيه من الفضل والصلاح له ولأهل بيته وجماعة المسلمين إن أمير المؤمنين هارون ولاني العهد والخلافة وجميع أمور المسلمين في سلطانه بعد أخي محمد بْن هارون، وولاني في حياته ثغور خراسان وكورها وجميع أعمالها، وشرط على محمد بْن هارون الوفاء بما عقد لي من الخلافة

وولاية أمور العباد والبلاد بعده، وولاية خراسان وجميع أعمالها، ولا يعرض لي في شيء مما أقطعني امير المؤمنين، او ابتاع لي من الضياع والعقد والرباع او ابتعت منه من ذلك، وما أعطاني أمير المؤمنين من الأموال والجوهر والكساء والمتاع والدواب والرقيق وغير ذلك، ولا يعرض لي ولا لأحد من عمالي وكتابي بسبب محاسبة، ولا يتبع لي في ذلك ولا لأحد منهم أبدا، ولا يدخل علي ولا عليهم ولا على من كان معي ومن استعنت به من جميع الناس مكروها، في نفس ولا دم ولا شعر ولا بشر ولا مال، ولا صغير من الأمور ولا كبير. فأجابه إلى ذلك، وأقر به وكتب له كتابا، أكد فيه على نفسه ورضي به أمير المؤمنين هارون وقبله، وعرف صدق نيته فيه فشرطت لأمير المؤمنين وجعلت له على نفسي أن أسمع لمحمد وأطيع ولا أعصيه، وأنصحه ولا اغشه، واوفى بيعته وولايته، ولا أغدر، ولا أنكث، وأنفذ كتبه وأموره، وأحسن موازرته وجهاد عدوه في ناحيتي، ما وفى لي بما شرط لأمير المؤمنين في أمري، وسمى في الكتاب الذي كتبه لأمير المؤمنين، ورضي به أمير المؤمنين، ولم يتبعني بشيء من ذلك، ولم ينقض أمرا من الأمور التي شرطها امير المؤمنين لي عليه. فان احتاج محمد بن امير المؤمنين الى جند، وكتب إلي يأمرني بإشخاصه إليه، أو إلى ناحية من النواحي، أو إلى عدو من أعدائه، خالفه أو أراد نقص شيء من سلطانه أو سلطاني الذي أسنده أمير المؤمنين إلينا وولانا إياه، فعلي أن أنفذ أمره ولا أخالفه، ولا أقصر في شيء كتب به إلي وإن أراد محمد أن يولي رجلا من ولده العهد والخلافة من بعدي، فذلك له ما وفى لي بما جعله أمير المؤمنين إلي واشترطه لي عليه، وشرط على نفسه في أمري، وعلي إنفاذ ذلك والوفاء له به، ولا أنقص من ذلك ولا أغيره ولا أبدله، ولا أقدم قبله أحدا من ولدي، ولا قريبا ولا بعيدا من الناس أجمعين، إلا أن يولي أمير المؤمنين هارون أحدا من ولده العهد من بعدي، فيلزمني ومحمدا الوفاء له وجعلت لأمير المؤمنين ومحمد علي الوفاء بما شرطت وسميت في كتابي هذا، ما وفي لي محمد بجميع ما اشترط لي أمير المؤمنين عليه في نفسي، وما أعطاني أمير المؤمنين من جميع الأشياء المسماة في هذا

نسخه كتاب هارون بن محمد الرشيد إلى العمال

الكتاب الذي كتبه لي، وعلي عهد الله وميثاقه وذمة أمير المؤمنين وذمتي وذمم آبائي وذمم المؤمنين وأشد ما أخذ الله على النبيين والمرسلين من خلقه أجمعين، من عهوده ومواثيقه، والأيمان المؤكدة التي أمر الله بالوفاء بها، ونهى عن نقضها وتبديلها، فإن أنا نقضت شيئا مما شرطت وسميت في كتابي هذا أو غيرت أو بدلت، أو نكثت أو غدرت، فبرئت من الله عز وجل ومن ولايته ودينه، ومحمد رسول الله ص، ولقيت الله يوم القيامة كافرا مشركا، وكل امرأه هي لي اليوم أو أتزوجها إلى ثلاثين سنة طالق ثلاثا ألبتة طلاق الحرج، وكل مملوك هو لي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة أحرار لوجه الله، وعلي المشي إلى بيت الله الحرام الذي بمكة ثلاثين حجة، نذرا واجبا علي في عنقي حافيا راجلا، لا يقبل الله مني إلا الوفاء بذلك، وكل مال لي أو أملكه إلى ثلاثين سنة هدي بالغ الكعبة، وكل ما جعلت لأمير المؤمنين وشرطت في كتابي هذا لازم لا أضمر غيره، ولا أنوي غيره. وشهد سليمان بْن أمير المؤمنين وفلان وفلان وكتب في ذي الحجة سنة ست وثمانين ومائة. نسخة كتاب هارون بْن محمد الرشيد إلى العمال بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإن الله ولي أمير المؤمنين وولي ما ولاه، والحافظ لما استرعاه وأكرمه به من خلافته وسلطانه، والصانع له فيما قدم وأخر من أموره، والمنعم عليه بالنصر والتأييد في مشارق الأرض ومغاربها، والكالئ والحافظ والكافي من جميع خلقه، وهو المحمود على جميع آلائه، المسؤول تمام حسن ما أمضى من قضائه لأمير المؤمنين، وعادته الجميلة عنده، وإلهام ما يرضى به، ويوجب له عليه أحسن المزيد من فضله وقد كان من نعمة الله عز وجل عند أمير المؤمنين وعندك وعند عوام المسلمين ما تولى الله من محمد وعبد الله ابني أمير المؤمنين، من تبليغه بهما أحسن ما أملت الأمة، ومدت إليه أعناقها، وقذف الله لهما في قلوب العامة من المحبة والمودة والسكون إليهما

والثقة بهما، لعماد دينهم، وقوام أمورهم، وجمع ألفتهم، وصلاح دهمائهم، ودفع المحذور والمكروه من الشتات والفرقة عنهم، حتى ألقوا إليهما أزمتهم، وأعطوهما بيعتهم وصفقات أيمانهم، بالعهود والمواثيق ووكيد الأيمان المغلظة عليهم أراد الله فلم يكن له مرد، وأمضاه فلم يقدر أحد من العباد على نقضه ولا إزالته، ولا صرف له عن محبته ومشيئته، وما سبق في علمه منه وأمير المؤمنين يرجو تمام النعمة عليه وعليهما في ذلك وعلى الأمة كافة، لا عاقب لأمر الله ولا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه. ولم يزل أمير المؤمنين منذ اجتمعت الأمة على عقد العهد لمحمد ابْن أمير المؤمنين من بعد أمير المؤمنين ولعبد الله ابْن أمير المؤمنين من بعد محمد ابْن أمير المؤمنين، يعمل فكره ورأيه ونظره ورويته فيما فيه الصلاح لهما ولجميع الرعية والجمع للكلمة، واللم للشعث، والدفع للشتات والفرقة، والحسم لكيد أعداء النعم، من أهل الكفر والنفاق والغل والشقاق، والقطع لآمالهم من كل فرصة يرجون إدراكها وانتهازها منهما بانتقاص حقهما ويستخير الله أمير المؤمنين في ذلك، ويسأله العزيمة له على ما فيه الخيرة لهما ولجميع الأمة، والقوة في أمر الله وحقه وائتلاف أهوائهما، وصلاح ذات بينهما، وتحصينهما من كيد أعداء النعم، ورد حسدهم ومكرهم وبغيهم وسعيهم بالفساد بينهما فعزم الله لأمير المؤمنين على الشخوص بهما إلى بيت الله، وأخذ البيعة منهما لأمير المؤمنين بالسمع والطاعة والإنفاذ لأمره، واكتتاب الشرط على كل واحد منهما لأمير المؤمنين ولهما بأشد المواثيق والعهود، وأغلظ الأيمان والتوكيد، والأخذ لكل واحد منهما على صاحبه بما التمس به أمير المؤمنين اجتماع ألفتهما ومودتهما وتواصلهما وموازرتهما ومكانفتهما على حسن النظر لأنفسهما ولرعية أمير المؤمنين التي استرعاهما، والجماعة لدين الله عز وجل وكتابه وسنن نبيه ص، والجهاد لعدو المسلمين، من كانوا وحيث كانوا، وقطع طمع كل عدو مظهر للعداوة، ومسر لها، وكل منافق

ومارق، واهل الأهواء الضالة المضلة من تكيد بكيد توقعه بينهما، وبدحس يدحس به لهما، وما يلتمس أعداء الله وأعداء النعم وأعداء دينه من الضرب بين الأمة، والسعي بالفساد في الأرض، والدعاء إلى البدع والضلالة، نظرا من أمير المؤمنين لدينه ورعيته وأمة نبيه محمد ص ومناصحة لله ولجميع المسلمين، وذبا عن سلطان الله الذي قدره، وتوحد فيه للذي حمله إياه، والاجتهاد في كل ما فيه قربة إلى الله، وما ينال به رضوانه، والوسيلة عنده. فلما قدم مكة أظهر لمحمد وعبد الله رأيه في ذلك، وما نظر فيه لهما، فقبلا كل ما دعاهما إليه من التوكيد على أنفسهما بقبوله، وكتبا لأمير المؤمنين في بطن بيت الله الحرام بخطوط أيديهما، بمحضر ممن شهد الموسم من أهل بيت أمير المؤمنين وقواده وصحابته وقضاته وحجبة الكعبة وشهاداتهم عليهما كتابين استودعهما أمير المؤمنين الحجبة، وأمر بتعليقهما في داخل الكعبة. فلما فرغ أمير المؤمنين من ذلك كله في داخل بيت الله الحرام وبطن الكعبة، أمر قضاته الذين شهدوا عليهما، وحضروا كتابهما، أن يعلموا جميع من حضر الموسم من الحاج والعمار ووفود الأمصار ما شهدوا عليه من شرطهما وكتابهما، وقراءة ذلك عليهم ليفهموه ويعوه، ويعرفوه ويحفظوه، ويؤدوه إلى إخوانهم وأهل بلدانهم وأمصارهم، ففعلوا ذلك، وقرئ عليهم الشرطان جميعا في المسجد الحرام، فانصرفوا وقد اشتهر ذلك عندهم، وأثبتوا الشهادة عليه، وعرفوا نظر أمير المؤمنين وعنايته بصلاحهم وحقن دمائهم، ولم شعثهم وإطفاء جمرة أعداء الله، أعداء دينه وكتابه وجماعة المسلمين عنهم، وأظهروا الدعاء لأمير المؤمنين والشكر لما كان منه في ذلك. وقد نسخ لك أمير المؤمنين ذينك الشرطين اللذين كتبهما لأمير المؤمنين ابناه محمد وعبد الله في بطن الكعبة في أسفل كتابه، هذا فاحمد الله عز

وجل على ما صنع لمحمد وعبد الله وليي عهد المسلمين حمدا كثيرا، واشكره ببلائه عند أمير المؤمنين وعند وليي عهد المسلمين وعندك وعند جماعه أمه محمد ص كثيرا. واقرأ كتاب أمير المؤمنين على من قبلك من المسلمين، وأفهمهم إياه وقم به بينهم، وأثبته في الديوان قبلك وقبل قواد أمير المؤمنين ورعيته قبلك واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون في ذلك، إن شاء الله وحسبنا الله ونعم الوكيل وبه الحول والقوة والطول. وكتب إسماعيل بْن صبيح يوم السبت لسبع ليال بقين من المحرم سنة ست وثمانين ومائة. قَالَ: وأمر هارون الرشيد لعبد الله المأمون بمائة ألف دينار، وحملت له إلى بغداد من الرقة. قَالَ وكان الرشيد بعد مقتل جعفر بْن يحيى بالعمر، صار إلى الرقة، ثم قدم بغداد، وقد كانت توالت عليه الشكاية من علي بْن عيسى بْن ماهان من خراسان وكثر عليه القول عنده، فأجمع على عزله من خراسان، وأحب أن يكون قريبا منه فلما صار إلى بغداد شخص بعد مدة منها إلى قرماسين، وذلك في سنة تسع وثمانين ومائة، وأشخص إليها عدة رجال من القضاة وغيرهم، وأشهدهم أن جميع ما له في عسكره من الأموال والخزائن والسلاح والكراع وما سواه اجمع لعبد الله المأمون، وانه ليس فيه قليل ولا كثير بوجه ولا سبب، وجدد البيعة له على من كان معه، ووجه هرثمة بْن أعين صاحب حرسه إلى بغداد، فأعاد أخذ البيعة على محمد بْن هارون أمير المؤمنين وعلى من كان بحضرته لعبد الله والقاسم على النسخة التي كان أخذها عليه الرشيد بمكة، وجعل أمر القاسم في خلعه وإقراره إلى عبد الله إذا أفضت إليه الخلافة، فقال: إبراهيم الموصلي في بيعة هارون لابنيه في الكعبة: خير الأمور مغبة ... وأحق أمر بالتمام أمر قضى إحكامه الرحمان ... في البيت الحرام.

سنه سبع وثمانين ومائه

ثم دخلت سنة سبع وثمانين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر الخبر عن إيقاع الرشيد بالبرامكة فمما كان فيها من ذلك قتل الرشيد جعفر بْن يحيى بْن خالد وإيقاعه بالبرامكة. ذكر الخبر عن سبب قتله إياه وكيف كان قتله وما فعل به وبأهل بيته: أما سبب غضبه عليه الذي قتله عنده، فإنه مختلف فيه، فمن ذلك ما ذكر عن بختيشوع بْن جبريل، عن أبيه أنه قَالَ: إني لقاعد في مجلس الرشيد، إذ طلع يحيى بْن خالد- وكان فيما مضى يدخل بلا إذن- فلما دخل وصار بالقرب من الرشيد وسلم رد عليه ردا ضعيفا، فعلم يحيى أن أمرهم قد تغير. قَالَ: ثم أقبل علي الرشيد، فقال: يا جبريل، يدخل عليك وأنت في منزلك أحد بلا إذنك! فقلت: لا، ولا يطمع في ذلك قَالَ: فما بالنا يدخل علينا بلا إذن! فقام يحيى، فقال: يا أمير المؤمنين، قدمني الله قبلك، والله ما ابتدأت ذلك الساعة، وما هو إلا شيء كان خصني به أمير المؤمنين، ورفع به ذكري، حتى أن كنت لأدخل وهو في فراشه مجردا حينا، وحينا في بعض إزاره، وما علمت أن أمير المؤمنين كره ما كان يحب، وإذ قد علمت فإني أكون عنده في الطبقة الثانية من أهل الإذن، أو الثالثة إن أمرني سيدي بذلك قال: فاستحيا- قَالَ: وكان من أرق الخلفاء وجها- وعيناه في الأرض، ما يرفع إليه طرفه، ثم قَالَ: ما أردت ما تكره، ولكن الناس يقولون قَالَ: فظننت أنه لم يسنح له جواب يرتضيه فأجاب بهذا القول

ثم أمسك عنه، وخرج يحيى. وذكر عن أحمد بْن يوسف أن ثمامة بْن أشرس، قَالَ: أول ما أنكر يحيى بْن خالد من أمره، أن محمد بْن الليث رفع رسالة إلى الرشيد يعظه فيها، ويذكر أن يحيى بْن خالد لا يغني عنك من الله شيئا، وقد جعلته فيما بينك وبين الله، فكيف أنت إذا وقفت بين يديه، فسألك عما عملت في عباده وبلاده، فقلت: يا رب إني استكفيت يحيى أمور عبادك! أتراك تحتج بحجة يرضى بها! مع كلام فيه توبيخ وتقريع فدعا الرشيد يحيى- وقد تقدم إليه خبر الرسالة- فقال: تعرف محمد بْن الليث؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فأي الرجال هو؟ قَالَ: متهم على الإسلام، فأمر به فوضع في المطبق دهرا، فلما تنكر الرشيد للبرامكة ذكره فأمر بإخراجه، فأحضر، فقال له بعد مخاطبة طويلة: يا محمد، أتحبني؟ قَالَ: لا والله يا أمير المؤمنين، قَالَ: تقول هذا! قَالَ: نعم، وضعت في رجلي الأكبال، وحلت بيني وبين العيال بلا ذنب أتيت، ولا حدث أحدثت، سوى قول حاسد يكيد الإسلام وأهله، ويحب الإلحاد وأهله، فكيف أحبك! قَالَ: صدقت، وأمر بإطلاقه، ثم قَالَ: يا محمد، أتحبني؟ قَالَ: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكن قد ذهب ما في قلبي، فأمر أن يعطى مائة ألف درهم، فأحضرت، فقال: يا محمد، أتحبني؟ قَالَ: أما الآن فنعم، قد أنعمت علي، وأحسنت إلي قَالَ: انتقم الله ممن ظلمك، وأخذ لك بحقك ممن بعثني عليك قَالَ: فقال الناس في البرامكة فأكثروا، وكان ذلك أول ما ظهر من تغير حالهم. قَالَ: وحدثني محمد بْن الفضل بْن سفيان، مولى سليمان بْن أبي جعفر، قَالَ: دخل يحيى بْن خالد بعد ذلك على الرشيد، فقام الغلمان إليه، فقال الرشيد لمسرور الخادم: مر الغلمان ألا يقوموا ليحيى إذا دخل الدار قَالَ: فدخل فلم يقم إليه أحد، فاربد لونه قَالَ: وكان الغلمان والحجاب بعد إذا رأوه أعرضوا عنه قَالَ: فكان ربما استسقى الشربة من الماء أو غيره، فلا يسقونه، وبالحري إن سقوه أن يكون ذلك بعد أن يدعو بها مرارا

وذكر أبو محمد اليزيدي- وكان فيما قيل من أعلم الناس بأخبار القوم- قَالَ: من قَالَ إن الرشيد قتل جعفر بْن يحيى بغير سبب يحيى ابن عبد الله ابن حسن فلا تصدقه، وذلك أن الرشيد دفع يحيى إلى جعفر فحبسه، ثم دعا به ليلة من الليالي فسأله عن شيء من أمره، فأجابه، إلى أن قَالَ: اتق الله في أمري، ولا تتعرض أن يكون خصمك غدا محمد ص، فو الله ما أحدثت حدثا، ولا أويت محدثا فرق عليه، وقال له: اذهب حيث شئت من بلاد الله قَالَ: وكيف أذهب ولا آمن أن أوخذ بعد قليل فأرد إليك أو إلى غيرك! فوجه معه من أداه إلى مأمنه وبلغ الخبر الفضل بْن الربيع، من عين كانت له عليه من خاص خدمه، فعلا الأمر، فوجده حقا، وانكشف عنده، فدخل على الرشيد فأخبره، فأراه أنه لا يعبأ بخبره وقال: وما أنت وهذا لا أم لك! فلعل ذلك عن أمري، فانكسر الفضل، وجاءه جعفر فدعا بالغداء فأكلا، وجعل يلقمه ويحادثه، إلى أن كان آخر ما دار بينهما إن قَالَ: ما فعل يحيى بْن عبد الله؟ قَالَ: بحاله يا أمير المؤمنين في الحبس الضيق والأكبال قال: بحياتى! فاحجم جعفر- وكان من أدق الخلق ذهنا، وأصحهم فكرا- وهجس في نفسه أنه قد علم بشيء من أمره، فقال: لا وحياتك يا سيدي ولكن أطلقته وعلمت أنه لا حياة به ولا مكروه عنده قَالَ: نعم ما فعلت، ما عدوت ما كان في نفسي فلما خرج أتبعه بصره حتى كاد أن يتوارى عن وجهه، ثم قَالَ: قتلني الله بسيف الهدى على عمل الضلالة ان لم أقتلك! فكان من أمره ما كان. وحدث إدريس بْن بدر، قَالَ: عرض رجل للرشيد وهو يناظر يحيى، فقال: يا أمير المؤمنين، نصيحة، فادع بي إليك، فقال لهرثمة: خذ الرجل إليك، وسله عن نصيحته هذه، فسأله، فأبى أن يخبره وقال: هي سر من أسرار الخليفة، فأخبر هرثمة الرشيد بقوله، قَالَ: فقل له لا يبرح الباب حتى أفرغ له، قَالَ: فلما كان في الهاجرة انصرف من كان عنده، ودعا به، فقال: أخلني، فالتفت هارون إلى بنيه، فقال: انصرفوا يا فتيان،

فوثبوا وبقي خاقان وحسين على رأسه، فنظر إليهما الرجل، فقال الرشيد: تنحيا عني، ففعلا، ثم أقبل على الرجل، فقال: هات ما عندك، فقال: على أن تؤمنني! قَالَ: على ان اؤمنك وأحسن إليك قَالَ: كنت بحلوان في خان من خاناتها، فإذا أنا بيحيى بْن عبد الله في دراعة صوف غليظة وكساء صوف أخضر غليظ، وإذا معه جماعة ينزلون إذا نزل، ويرحلون إذا رحل، ويكونون منه بصدد يوهمون من رآهم أنهم لا يعرفونه وهم من أعوانه، ومع كل واحد منهم منشور يأمن به إن عرض له قَالَ: أو تعرف يحيى ابن عبد الله؟ قَالَ: أعرفه قديما، وذلك الذي حقق معرفتي به بالأمس، قَالَ: فصفه لي، قَالَ: مربوع أسمر رقيق السمرة، أجلح، حسن العينين، عظيم البطن قَالَ: صدقت، هو ذاك قَالَ: فما سمعته يقول؟ قَالَ: ما سمعته يقول شيئا، غير أني رأيته يصلي، ورأيت غلاما من غلمانه أعرفه قديما جالسا على باب الخان، فلما فرغ من صلاته أتاه بثوب غسيل، فألقاه في عنقه ونزع جبة الصوف، فلما كان بعد الزوال صلى صلاة ظننتها العصر، وانا ارمقه، اطال في الاوليين، وخفف في الأخريين، فقال: لله أبوك! لجاد ما حفظت عليه، نعم تلك صلاه العصر، وذاك وقتها عند القوم، أحسن الله جزاءك، وشكر سعيك! فمن أنت؟ قَالَ: أنا رجل من أعقاب أبناء هذه الدولة، وأصلي من مرو، ومولدي مدينة السلام، قَالَ: فمنزلك بها؟ قَالَ: نعم، فأطرق مليا، ثم قَالَ: كيف احتمالك لمكروه تمتحن به في طاعتي! قَالَ: أبلغ من ذلك حيث أحب أمير المؤمنين، قال: كن بمكانك حتى ارجع فطفر في حجره كانت خلف ظهره، فأخرج كيسا فيه ألفا دينار، فقال: خذ هذه، ودعني وما أدبر فيك، فأخذها، وضم عليها ثيابه، ثم قَالَ: يا غلام، فأجابه خاقان وحسين، فقال: اصفعا ابن اللخناء، فصفعاه نحوا من مائة صفعة، ثم قَالَ: أخرجاه إلى من بقي في الدار، وعمامته في عنقه، وقولا: هذا جزاء من يسعى بباطنة أمير المؤمنين وأوليائه! ففعلا ذلك، وتحدثوا بخبره، ولم يعلم بحال الرجل أحد، ولا بما

كان ألقى إلى الرشيد، حتى كان من أمر البرامكة ما كان. وذكر يعقوب بْن إسحاق أن إبراهيم بْن المهدي حدثه قَالَ: أتيت جعفر بْن يحيى في داره التي ابتناها، فقال لي: أما تعجب من منصور بن زياد؟ قال: قلت فبماذا؟ قَالَ: سألته: هل ترى في داري عيبا؟ قَالَ: نعم، ليس فيها لبنة ولا صنوبرة، قَالَ إبراهيم: فقلت: الذي يعيبها عندي أنك أنفقت عليها نحوا من عشرين ألف ألف درهم، وهو شيء لا آمنه عليك غدا بين يدي أمير المؤمنين، قَالَ: هو يعلم أنه قد وصلني بأكثر من ذلك وضعف ذلك، سوى ما عرضني له قَالَ: قلت: إن العدو إنما يأتيه في هذا من جهة أن يقول: يا أمير المؤمنين، إذا أنفق على دار عشرين ألف ألف درهم، فأين نفقاته! وأين صلاته! وأين النوائب التي تنوبه! وما ظنك يا أمير المؤمنين بما وراء ذلك! وهذه جملة سريعة إلى القلب، والموقف على الحاصل منها صعب قَالَ: إن سمع مني قلت: إن لأمير المؤمنين نعما على قوم قد كفروها بالستر لها أو بإظهار القليل من كثيرها، وأنا رجل نظرت إلى نعمته عندي، فوضعتها في رأس جبل، ثم قلت للناس: تعالوا فانظروا وذكر زيد بْن علي بْن حسين بْن زيد أن إبراهيم بْن المهدي حدثه أن جعفر بْن يحيى، قَالَ له يوما- وكان جعفر بْن يحيى صاحبه عند الرشيد، وهو الذي قربه منه: إني قد استربت بأمر هذا الرجل- يعني الرشيد- وقد ظننت أن ذلك لسابق سبق في نفسي منه، فأردت أن أعتبر ذلك بغيري، فكنت أنت، فارمق ذلك في يومك هذا، وأعلمني ما ترى منه قَالَ: ففعلت ذلك في يومي، فلما نهض الرشيد من مجلسه كنت أول أصحابه نهض عنه، حتى صرت إلى شجر في طريقي، فدخلتها ومن معي، وأمرتهم بإطفاء الشمع، وأقبل الندماء يمرون بي واحدا واحدا، فأراهم ولا يروني، حتى إذا لم

يبق منهم أحد، إذا أنا بجعفر قد طلع، فلما جاوز الشجر قَالَ: اخرج يا حبيبي، قَالَ: فخرجت، فقال: ما عندك؟ فقلت: حتى تعلمني كيف علمت أني هاهنا، قَالَ: عرفت عنايتك بما أعني به، وأنك لم تكن لتنصرف أو تعلمني ما رأيت منه، وعلمت أنك تكره أن ترى واقفا في مثل هذا الوقت، وليس في طريقك موضع أستر من هذا الموضع، فقضيت بأنك فيه، قلت: نعم، قَالَ: فهات ما عندك، قلت: رأيت الرجل يهزل إذا جددت، ويجد إذا هزلت قَالَ: كذا هو عندي، فانصرف يا حبيبي. قَالَ: فانصرفت. قَالَ: وحدثني علي بْن سليمان أنه سمع جعفر بْن يحيى يوما يقول: ليس لدارنا هذه عيب، إلا أن صاحبها فيها قليل البقاء- يعني نفسه. وذكر عن موسى بْن يحيى، قَالَ: خرج أبي إلى الطواف في السنة التي أصيب فيها، وأنا معه من بين ولده، فجعل يتعلق بأستار الكعبة، ويردد الدعاء، ويقول: اللهم ذنوبي جمة عظيمة لا يحصيها غيرك، ولا يعرفها سواك اللهم إن كنت تعاقبني فاجعل عقوبتي في الدنيا، وإن أحاط ذلك بسمعي وبصري، ومالي وولدي، حتى تبلغ رضاك، ولا تجعل عقوبتي في الآخرة. قَالَ: وحدثني أحمد بْن الحسن بْن حرب، قَالَ: رأيت يحيى وقد قابل البيت، وتعلق بأستار الكعبة، وهو يقول: اللهم إن كان رضاك في أن تسلبني نعمتك عندي فاسلبني، اللهم إن كان رضاك في أن تسلبني أهلي وولدي فاسلبني، اللهم إلا الفضل قَالَ: ثم ولى ليمضي، فلما قرب من باب المسجد كر مسرعا، ففعل مثل ذلك، وجعل يقول: اللهم إنه سمج بمثلي أن يرغب إليك ثم يستثنى عليك اللهم والفضل قَالَ: فلما انصرفوا من الحج نزلوا الأنبار، ونزل الرشيد بالعمر ومعه وليا العهد، الأمين والمأمون، ونزل الفضل مع الأمين، وجعفر مع المأمون، ويحيى في منزل خالد بْن عيسى كاتبه، ومحمد بْن

يحيى في منزل ابن نوح صاحب الطراز، ونزل محمد بْن خالد مع المأمون بالعمر مع الرشيد، قَالَ: وخلا الرشيد بالفضل ليلا، ثم خلع عليه وقلده، وأمره أن ينصرف مع محمد الأمين، ودعا بموسى بْن يحيى فرضي عنه وكان غضب عليه بالحيرة في بدأته، لأن علي بْن عيسى بْن ماهان اتهمه عند الرشيد في أمر خراسان وأعلمه طاعة أهلها له، ومحبتهم إياه، وأنه يكاتبهم ويعمل على الانسلال إليهم والوثوب به معهم، فوقر ذلك في نفس الرشيد عليه وأوحشه منه، وكان موسى أحد الفرسان الشجعان، فلما قدح علي بْن عيسى فيه أسرع ذلك في الرشيد، وعمل فيه القليل منه، ثم ركب موسى دين، واختفى من غرمائه، فتوهم الرشيد أنه صار إلى خراسان، كما قيل له، فلما صار الى الحيرة في هذه الحجة وافاه موسى من بغداد، فحبسه الرشيد عند العباس بْن موسى بالكوفة، فكان ذلك أول ثلمة ثلموا بها، فركبت أم الفضل بْن يحيى في أمره، ولم يكن يردها في شيء، فقال: يضمنه أبوه فقد رفع إلي فيه، فضمنه يحيى ودفعه إليه، ثم رضي عنه، وخلع عليه، وكان الرشيد قد عتب على الفضل ابن يحيى، وثقل مكانه عليه لتركه الشرب معه، فكان الفضل يقول: لو علمت أن الماء ينقص من مروءتى ما شربته، وكان مشغوفا بالسماع قَالَ: وكان جعفر يدخل في منادمة الرشيد، حتى كان أبوه ينهاه عن منادمته، ويأمره بترك الإنس به، فيترك أمر أبيه، ويدخل معه فيما يدعوه إليه وذكر عن سعيد بْن هريم أن يحيى كتب إلى جعفر حين أعيته حيلته فيه: إني إنما أهملتك ليعثر الزمان بك عثرة تعرف بها أمرك، وإن كنت لأخشى أن تكون التي لا شوى لها قَالَ: وقد كان يحيى قَالَ للرشيد: يا أمير المؤمنين، أنا والله أكره مداخلة جعفر معك، ولست آمن أن ترجع العاقبة في ذلك على منك، فلو اعفيته واقتصرت به على ما يتولاه من جسيم أعمالك، كان ذلك واقعا بموافقتي، وآمن لك علي قَالَ الرشيد: يا أبت ليس بك هذا، ولكنك إنما تريد أن تقدم عليه الفضل

ذكر الخبر عن مقتل جعفر

وقد حدثني أحمد بْن زهير- أحسبه عن عمه زاهر بْن حرب- أن سبب هلاك جعفر والبرامكة أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر وعن أخته عباسة بنت المهدي، وكان يحضرهما إذا جلس للشرب، وذلك بعد أن أعلم جعفرا قلة صبره عنه وعنها، وقال لجعفر: أزوجكها ليحل لك النظر إليها إذا احضرتها مجلسى، وتقدم اليه ألا يمسها، ولا يكون منه شيء مما يكون للرجل إلى زوجته، فزوجها منه على ذلك، فكان يحضرهما مجلسه إذا جلس للشرب، ثم يقوم عن مجلسه ويخليهما، فيثملان من الشراب، وهما شابان، فيقوم إليها جعفر فيجامعها، فحملت منه وولدت غلاما، فخافت على نفسها من الرشيد إن علم بذلك، فوجهت بالمولود مع حواضن له من مماليكها إلى مكة، فلم يزل الأمر مستورا عن هارون، حتى وقع بين عباسة وبين بعض جواريها شر، فأنهت أمرها وأمر الصبي إلى الرشيد، وأخبرته بمكانه، ومع من هو من جواريها، وما معه من الحلي الذي كانت زينته به أمه، فلما حج هارون هذه الحجة، أرسل إلى الموضع الذي كانت الجارية أخبرته أن الصبي به من يأتيه بالصبي وبمن معه من حواضنه، فلما أحضروا سأل اللواتي معهن الصبي، فأخبرنه بمثل القصة التي أخبرته بها الرافعة على عباسة، فأراد- فيما زعم- قتل الصبي، ثم تحوب من ذلك. وكان جعفر يتخذ للرشيد طعاما كلما حج بعسفان فيقريه إذا انصرف شاخصا من مكة إلى العراق، فلما كان في هذا العام، اتخذ الطعام جعفر كما كان يتخذه هنالك، ثم استزاره فاعتل عليه الرشيد، ولم يحضر طعامه، ولم يزل جعفر معه حتى نزل منزله من الأنبار، فكان من أمره وأمر أبيه ما أنا ذاكره إن شاء الله تعالى. ذكر الخبر عن مقتل جعفر ذكر الفضل بْن سليمان بْن علي أن الرشيد حج في سنة ست وثمانين ومائة

وأنه انصرف من مكة، فوافى الحيرة في المحرم من سنة سبع وثمانين ومائة عند انصرافه من الحج، فأقام في قصر عون العبادي أياما، ثم شخص في السفن حتى نزل العمر الذي بناحية الأنبار، فلما كان ليلة السبت لانسلاخ المحرم، أرسل مسرورا الخادم ومعه حماد بْن سالم أبو عصمة في جماعة من الجند، فأطافوا بجعفر بْن يحيى ليلا، ودخل عليه مسرور وعنده ابن بختيشوع المتطبب وأبو زكار الأعمى المغني الكلوذاني، وهو في لهوه، فأخرجه إخراجا عنيفا يقوده، حتى أتى به المنزل الذي فيه الرشيد، فحبسه وقيده بقيد حمار، وأخبر الرشيد بأخذه إياه ومجيئه به، فأمر بضرب عنقه، ففعل ذلك. وذكر عن علي بْن أبي سعيد أن مسرورا الخادم، حدثه قَالَ: أرسلني الرشيد لآتيه بجعفر بْن يحيى لما أراد قتله، فأتيته وعنده أبو زكار الأعمى المغني وهو يغنيه: فلا تبعد فكل فتى سيأتي ... عليه الموت يطرق أو يغادي قَالَ: فقلت له: يا أبا الفضل، الذي جئت له من ذلك قد والله طرقك، أجب أمير المؤمنين قَالَ: فرفع يديه، ووقع على رجلي يقبلهما، وقال: حتى أدخل فأوصي، قلت:: أما الدخول فلا سبيل إليه، ولكن أوص بما شئت، فتقدم في وصيته بما أراد، وأعتق مماليكه، ثم أتتني رسل أمير المؤمنين تستحثني به، قَالَ: فمضيت به إليه فأعلمته، فقال لي وهو في فراشه: ائتني برأسه، فأتيت جعفرا فأخبرته، فقال: يا أبا هاشم، الله الله! والله ما أمرك بما أمرك به إلا وهو سكران، فدافع بأمري حتى أصبح أؤامره في ثانيه، فعدت لأؤامره، فلما سمع حسي، قَالَ: يا ماص بظر أمه، ائتنى برأس جعفر! فعدت الى جعفر، فأخبرته، فقال: عاوده في ثالثة، فأتيته، فحذفني بعمود ثم قَالَ: نفيت من المهدي إن أنت جئتني ولم تأتني برأسه، لأرسلن إليك من يأتيني برأسك أولا، ثم برأسه آخرا قَالَ: فخرجت فأتيته برأسه

قَالَ: وأمر الرشيد في تلك الليلة بتوجيه من أحاط بيحيى بْن خالد وجميع ولده ومواليه، ومن كان منهم بسبيل، فلم يفلت منهم أحد كان حاضرا، وحول الفضل بْن يحيى ليلا فحبس في ناحية من منازل الرشيد، وحبس يحيى ابن خالد في منزله، وأخذ ما وجد لهم من مال وضياع ومتاع وغير ذلك، ومنع أهل العسكر من أن يخرج منهم خارج إلى مدينة السلام أو إلى غيرها، ووجه من ليلته رجاء الخادم إلى الرقة في قبض أموالهم وما كان لهم، وأخذ كل ما كان من رقيقهم ومواليهم وحشمهم، وولاه أمورهم، وفرق الكتب من ليلته إلى جميع العمال في نواحي البلدان والأعمال بقبض أموالهم، وأخذ وكلائهم. فلما أصبح بعث بجثة جعفر بْن يحيى مع شعبة الخفتاني وهرثمة بْن أعين وإبراهيم بْن حميد المروروذي، وأتبعهم عدة من خدمه وثقاته، منهم مسرور الخادم إلى منزل جعفر بْن يحيى، وإبراهيم بْن حميد وحسين الخادم إلى منزل الفضل بْن يحيى، ويحيى بْن عبد الرحمن ورشيد الخادم إلى منزل يحيى ومحمد ابن يحيى، وجعل معه هرثمة بْن أعين، وأمر بقبض جميع ما لهم، وكتب إلى السندي الحرشي بتوجيه جيفة جعفر إلى مدينة السلام، ونصب رأسه على الجسر الأوسط وقطع جثته، وصلب كل قطعة منها على الجسر الأعلى والجسر الأسفل ففعل السندي ذلك، وأمضى الخدم ما كانوا وجهوا فيه، وحمل عدة من أولاد الفضل وجعفر ومحمد الأصاغر إلى الرشيد، فأمر بإطلاقهم، وأمر بالنداء في جميع البرامكة: ألا أمان لمن آواهم إلا محمد بْن خالد وولده وأهله وحشمه، فإنه استثناهم، لما ظهر من نصيحة محمد له، وعرف براءته مما دخل فيه غيره من البرامكة وخلى سبيل يحيى قبل شخوصه من العمر، ووكل بالفضل ومحمد وموسى بني يحيى، وبأبي المهدي صهرهم حفظة من قبل هرثمة بْن أعين، إلى أن وافى بهم الرقة، فأمر الرشيد بقتل أنس بْن أبي شيخ يوم قدم الرقة، وتولى قتله إبراهيم بْن عثمان بْن نهيك، ثم صلب وحبس يحيى بْن خالد مع الفضل ومحمد في دير القائم، وجعل عليهم حفظة من قبل مسرور الخادم وهرثمة بْن أعين، ولم يفرق بينهم وبين عدة

من خدمهم، ولا ما يحتاجون إليه، وصير معهم زبيدة بنت منير أم الفضل ودنانير جارية يحيى وعدة من خدمهم وجواريهم ولم تزل حالهم سهلة إلى أن سخط الرشيد على عبد الملك بْن صالح، فعمهم بالتثقيف بسخطه، وجدد له ولهم التهمة عند الرشيد، فضيق عليهم. وذكر الزبير بن بكار أن جعفر بْن الحسين اللهبي حدثه أن الرشيد اتى بانس ابن أبي شيخ صبح الليلة التي قتل فيها جعفر بْن يحيى، فدار بينه وبينه كلام، فأخرج الرشيد سيفا من تحت فراشه، وأمر أن تضرب عنقه، وجعل يتمثل ببيت قيل في قتل أنس قبل ذلك: تلمظ السيف من شوق إلى أنس ... فالسيف يلحظ والأقدار تنتظر قال: فضرب عنقه، فسبق السيف الدم، فقال الرشيد: رحم الله عبد الله ابن مصعب وقال الناس: إن السيف كان سيف الزبير بْن العوام. وذكر بعضهم أن عبد الله بْن مصعب كان على خبر الناس للرشيد، فكان أخبره عن أنس أنه على الزندقة، فقتله لذلك، وكان أحد أصحاب البرامكة وذكر محمد بْن إسحاق أن جعفر بْن محمد بْن حكيم الكوفي، حدثه قَالَ: حدثني السندي بن شاهك، قَالَ: إني لجالس يوما، فإذا أنا بخادم قد قدم على البريد، ودفع إلي كتابا صغيرا، ففضضته، فإذا كتاب الرشيد بخطه فيه: بسم الله الرحمن الرحيم: يا سندي، إذا نظرت في كتابي هذا، فإن كنت قاعدا فقم، وإن كنت قائما فلا تقعد حتى تصير إلي قَالَ السندي: فدعوت بدوابي، ومضيت وكان الرشيد بالعمر، فحدثني العباس بْن الفضل بْن الربيع، قَالَ: جلس الرشيد في الزو في الفرات ينتظرك، وارتفعت غبرة، فقال لي: يا عباس، ينبغي أن يكون هذا السندي وأصحابه! قلت: يا أمير المؤمنين،

ما اشبهه ان يكون هو قَالَ: فطلعت قَالَ: السندي: فنزلت عن دابتي، ووقفت، فأرسل إلي الرشيد فصرت إليه، ووقفت ساعة بين يديه، فقال لمن كان عنده من الخدم: قوموا، فقاموا فلم يبق إلا العباس بْن الفضل وأنا، ومكث ساعة، ثم قَالَ للعباس: اخرج ومر برفع التخاتج المطروحة على الزو، ففعل ذلك، فقال لي: ادن مني، فدنوت منه، فقال لي: تدري فيم أرسلت إليك؟ قلت: لا والله يا أمير المؤمنين، قَالَ: قد بعثت إليك في أمر لو علم به زر قميصي رميت به في الفرات، يا سندي من أوثق قوادي عندي؟ قلت: هرثمة، قَالَ: صدقت، فمن أوثق خدمي عندي؟ قلت: مسرور الكبير، قَالَ: صدقت، امض من ساعتك هذه وجد في سيرك حتى توافي مدينة السلام، فاجمع ثقات أصحابك وأرباعك، ومرهم أن يكونوا وأعوانهم على أهبة فإذا انقطعت الزجل، فصر إلى دور البرامكة، فوكل بكل باب من أبوابهم صاحب ربع، ومره أن يمنع من يدخل ويخرج- خلا باب محمد بْن خالد- حتى يأتيك أمري قَالَ: ولم يكن حرك البرامكة في ذلك الوقت قَالَ السندي: فجئت أركض، حتى أتيت مدينة السلام، فجمعت أصحابي، وفعلت ما أمرني به قَالَ: فلم ألبث أن أقدم على هرثمة ابن أعين، ومعه جعفر بْن يحيى على بغل بلا أكاف، مضروب العنق، وإذا كتاب أمير المؤمنين يأمرني أن أشطره باثنين، وأن أصلبه على ثلاثة جسور. قَالَ: ففعلت ما أمرني به. قَالَ محمد بْن إسحاق: فلم يزل جعفر مصلوبا حتى أراد الرشيد الخروج إلى خراسان، فمضيت فنظرت إليه، فلما صار بالجانب الشرقي على باب خزيمة بْن خازم، دعا بالوليد بْن جشم الشاري من الحبس، وأمر أحمد بْن الجنيد الختلي- وكان سيافه- فضرب عنقه، ثم التفت إلى السندي، فقال: ينبغي أن يحرق هذا- يعني جعفرا- فلما مضى، جمع السندي له شوكا وحطبا وأحرقه

وقال محمد بْن إسحاق: لما قتل الرشيد جعفر بْن يحيى، قيل ليحيى بْن خالد: قتل أمير المؤمنين ابنك جعفرا، قَالَ: كذلك يقتل ابنه، قَالَ: فقيل له: خربت ديارك، قَالَ: كذلك تخرب دورهم وذكر الكرماني أن بشارا التركي حدثه أن الرشيد خرج إلى الصيد وهو بالعمر في اليوم الذي قتل جعفرا في آخره، فكان ذلك اليوم يوم جمعة، وجعفر ابن يحيى معه قد خلا به دون ولاة العهد، وهو يسير معه، وقد وضع يده على عاتقه، وقبل ذلك ما غلفه بالغالية بيد نفسه، ولم يزل معه ما يفارقه حتى انصرف مع المغرب، فلما أراد الدخول ضمه إليه، وقال له: لولا أني على الجلوس الليلة مع النساء لم أفارقك، فأقم أنت في منزلك، واشرب أيضا واطرب، لتكون أنت في مثل حالي، فقال: لا والله ما أشتهي ذلك إلا معك، فقال له: بحياتي لما شربت، فانصرف عنه إلى منزله، فلم تزل رسل الرشيد عنده ساعة بعد ساعه تأتيه بالانفال والأبخرة والرياحين، حتى ذهب الليل ثم بعث إليه مسرورا فحبس عنده، وأمر بقتله وحبس الفضل ومحمد وموسى، ووكل سلاما الأبرش بباب يحيى بْن خالد، ولم يعرض لمحمد بْن خالد ولا لأحد من ولده وحشمه. قَالَ: فحدثني العباس بْن بزيع عن سلام، قَالَ: لما دخلت على يحيى في ذلك الوقت- وقد هتكت الستور وجمع المتاع- قَالَ لي: يا أبا سلمة، هكذا تقوم الساعة! قَالَ سلام: فحدثت بذلك الرشيد بعد ما انصرفت إليه، فأطرق مفكرا. قَالَ وحدثني أيوب بْن هارون بْن سليمان بْن علي، قَالَ: كان سكني إلى يحيى، فلما نزلوا الأنبار خرجت إليه فأنا معه في تلك العشية التي كان آخر أمره، وقد صار إلى أمير المؤمنين في حراقته، فدخل إليه من باب صاحب الخاصة، فكلمه في حوائج الناس وغيرها من إصلاح الثغور وغزو البحر، ثم خرج، فقال للناس: قد أمر أمير المؤمنين بقضاء حوائجكم، وبعث إلى

ما قيل في البرامكه من الشعر بعد زوال امرهم

أبي صالح يحيى بْن عبد الرحمن يأمره بإنفاذ ذلك، ثم لم يزل يحدثنا عن أبي مسلم وتوجيه معاذ بْن مسلم حتى دخل منزله بعد المغرب، ووافانا في وقت السحر خبر مقتل جعفر وزوال أمرهم قَالَ: فكتبت إلى يحيى أعزيه، فكتب إلي: أنا بقضاء الله راض، وبالخيار منه عالم، ولا يؤاخذ الله العباد إلا بذنوبهم، وما ربك بظلام للعبيد وما يعفو الله أكثر، ولله الحمد. قَالَ: وقتل جعفر بْن يحيى في ليلة السبت أول ليلة من صفر سنة سبع وثمانين ومائة وهو ابن سبع وثلاثين سنة، وكانت الوزارة إليهم سبع عشرة سنة- وفي ذلك يقول الرقاشي: أيا سبت يا شر السبوت صبيحة ... ويا صفر المشئوم ما جئت أشأما أتى السبت بالأمر الذي هد ركننا ... وفي صفر جاء البلاء مصمما قَالَ: وذكر عن مسرور أنه أعلم الرشيد أن جعفرا سأله أن تقع عينه عليه، فقال: لا، لأنه يعلم إن وقعت عيني عليه لم اقتله. ما قيل في البرامكه من الشعر بعد زوال امرهم قَالَ: وفيهم يقول الرقاشي، وقد ذكر أن هذا الشعر لأبي نواس: ألآن استرحنا واستراحت ركابنا ... وامسك من يجدي ومن كان يجتدى فقل للمطايا قد أمنت من السرى ... وطي الفيافي فدفدا بعد فدفد وقل للمنايا: قد ظفرت بجعفر ... ولن تظفري من بعده بمسود وقل للعطايا بعد فضل تعطلى ... وقل للرزايا كل يوم تجددى ودونك سيفا برمكيا مهندا ... أصيب بسيف هاشمي مهند وفيهم يقول في شعر له طويل: إن يغدر الزمن الخئون بنا فقد ... غدر الزمان بجعفر ومحمد حتى إذا وضح النهار تكشفت ... عن قتل اكرم هالك لم يلحد

والبيض لولا أنها مأمورة ... ما فل حد مهند بمهند يا آل برمك كم لكم من نائل ... وندى، كعد الرمل غير مصرد إن الخليفة- لا يشك- أخوكم ... لكنه في برمك لم يولد نازعتموه رضاع أكرم حرة ... مخلوقة من جوهر وزبرجد ملك له كانت يد فياضة ... أبدا تجود بطارف وبمتلد كانت يدا للجود حتى غلها ... قدر فأضحى الجود مغلول اليد وفيهم يقول سيف بْن إبراهيم: هوت أنجم الجدوى وشلت يد الندى ... وغاضت بحور الجود بعد البرامك هوت أنجم كانت لأبناء برمك ... بها يعرف الحادي طريق المسالك وقال ابن أبي كريمة: كل معير أعير مرتبة ... بعد فتى برمك على غرر صالت عليه من الزمان يد ... كان بها صائلا على البشر وقال العطوي أبو عبد الرحمن: أما والله لولا قول واش ... وعين للخليفة لا تنام لطفنا حول جذعك واستلمنا ... كما للناس بالحجر استلام على الدنيا وساكنها جميعا ... ودولة آل برمك السلام وفي قتل جعفر قَالَ أبو العتاهية: قولا لمن يرتجي الحياة أما ... في جعفر عبره ويحياه! كانا وزيرى خليفة الله ... هارون هما ما هما خليلاه فذاكم جعفر برمته ... في حالق رأسه ونصفاه

ذكر الخبر عن غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح

والشيخ يحيى الوزير أصبح ... قد نحاه عن نفسه وأقصاه شتت بعد التجميع شملهم ... فأصبحوا في البلاد قد تاهوا كذاك من يسخط الإله بما ... يرضي به العبد يجزه الله سبحان من دانت الملوك له ... أشهد أن لا إله إلا هو طوبى لمن تاب بعد غرته ... فتاب قبل الممات، طوباه! قال: وفي هذه السنة هاجت العصبية بدمشق بين المضرية واليمانية، فوجه الرشيد محمد بْن منصور بْن زياد فأصلح بينهم. وفيها زلزلت المصيصة فانهدم بعض سورها، ونضب ماؤهم ساعه الليل. 4 وفيها خرج عبد السلام بآمد، فحكم، فقتله يحيى بْن سعيد العقيلي. وفيها مات يعقوب بْن داود بالرقة. وفيها أغزى الرشيد ابنه القاسم الصائفة، فوهبه لله، وجعله قربانا له ووسيله، وولاه العواصم. ذكر الخبر عن غضب الرشيد على عبد الملك بْن صالح وفيها غضب الرشيد على عبد الملك بْن صالح وحبسه. ذكر الخبر عن سبب غضبه عليه وما أوجب حبسه: ذكر أحمد بْن إبراهيم بْن إسماعيل أن عبد الملك بْن صالح كان له ابن يقال له عبد الرحمن، كان من رجال الناس، وكان عبد الملك يكنى به، وكان لابنه عبد الرحمن لسان، على فأفأة فيه، فنصب لأبيه عبد الملك وقمامة، فسعيا به إلى الرشيد، وقالا له: إنه يطلب الخلافة ويطمع فيها، فأخذه وحبسه عند الفضل بْن الربيع، فذكر أن عبد الملك بْن صالح أدخل على الرشيد حين سخط عليه، فقال له الرشيد: أكفرا بالنعمة، وجحودا لجليل المنة

والتكرمة! فقال: يا أمير المؤمنين، لقد بؤت إذا بالندم، وتعرضت لاستحلال النقم، وما ذاك إلا بغي حاسد نافسني فيك مودة القرابة وتقديم الولاية إنك يا أمير المؤمنين خليفة رسول الله ص في امته، وامينه على عترته، لك فيها فرض الطاعة وأداء النصيحة، ولها عليك العدل في حكمها والتثبت في حادثها، والغفران لذنوبها فقال له الرشيد: أتضع لي من لسانك، وترفع لي من جنانك! هذا كاتبك قمامة يخبر بغلك، وفساد نيتك، فاسمع كلامه. فقال عبد الملك: أعطاك ما ليس في عقده، ولعله لا يقدر أن يعضهني ولا يبهتني بما لم يعرفه مني وأحضر قمامة، فقال له الرشيد: تكلم غير هائب ولا خائف، قَالَ: أقول: إنه عازم على الغدر بك والخلاف عليك، فقال عبد الملك: أهو كذاك يا قمامة! قَالَ قمامة: نعم، لقد أردت ختل أمير المؤمنين، فقال عبد الملك: كيف لا يكذب علي من خلفي وهو يبهتني في وجهي! فقال له الرشيد: وهذا ابنك عبد الرحمن يخبرني بعتوك وفساد نيتك، ولو أردت أن أحتج عليك بحجة لم أجد أعدل من هذين لك، فبم تدفعهما عنك؟ فقال عبد الملك بْن صالح: هو مأمور، أو عاق مجبور، فإن كان مأمورا فمعذور، وإن كان عاقا ففاجر كفور، أخبر الله عز وجل بعداوته، وحذر منه بقوله: «إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ» . قَالَ: فنهض الرشيد، وهو يقول: أما أمرك فقد وضح، ولكني لا أعجل حتى أعلم الذي يرضي الله فيك، فإنه الحكم بيني وبينك فقال عبد الملك: رضيت بالله حكما، وبأمير المؤمنين حاكما، فإني أعلم أنه يؤثر كتاب الله على هواه، وأمر الله على رضاه. قَالَ: فلما كان بعد ذلك جلس مجلسا آخر، فسلم لما دخل، فلم يرد عليه، فقال عبد الملك: ليس هذا يوما أحتج فيه، ولا أجاذب منازعا

وخصما قال: ولم؟ قال: لان أوله جرى على غير السنة، فأنا أخاف آخره. قَالَ: وما ذاك؟ قَالَ: لم ترد علي السلام، أنصف نصفة العوام قَالَ: السلام عليكم، اقتداء بالسنة، وإيثارا للعدل، واستعمالا للتحية ثم التفت نحو سليمان بْن أبي جعفر، فقال وهو يخاطب بكلامه عبد الملك: أريد حياته ويريد قتلي البيت. ثم قَالَ: أما والله لكأني أنظر إلى شؤبوبها قد همع، وعارضها قد لمع، وكأني بالوعيد قد أورى نارا تسطع، فأقلع عن براجم بلا معاصم ورءوس بلا غلاصم، فمهلا، فبي والله سهل لكم الوعر، وصفا لكم الكدر، وألقت إليكم الأمور أثناء أزمتها، فنذار لكم نذار، قبل حلول داهية خبوط باليد، لبوط بالرجل فقال عبد الملك: اتق الله يا أمير المؤمنين فيما ولاك، وفي رعيته التي استرعاك، ولا تجعل الكفر مكان الشكر، ولا العقاب موضع الثواب، فقد نخلت لك النصيحة، ومحضت لك الطاعة، وشددت أواخي ملكك بأثقل من ركني يلملم، وتركت عدوك مشتغلا. فالله الله في ذي رحمك أن تقطعه، بعد ان بللته بظن أفصح الكتاب لي بعضه، أو ببغي باغ ينهس اللحم، ويالغ الدم، فقد والله سهلت لك الوعور، وذللت لك الأمور، وجمعت على طاعتك القلوب في الصدور، فكم من ليل تمام فيك كابدته، ومقام ضيق قمته، كنت كما قَالَ أخو بني جعفر بْن كلاب: ومقام ضيق فرجته ... ببناني ولساني وجدل لو يقوم الفيل أو فياله ... زل عن مثل مقامى وزحل

قال: فقال له الرشيد: أما والله لولا الإبقاء على بني هاشم لضربت عنقك. وذكر زيد بْن علي بْن الحسين العلوي، قَالَ: لما حبس الرشيد عبد الملك ابن صالح، دخل عليه عبد الله بْن مالك- وهو يومئذ على شرطه- فقال: أفي إذن أنا فأتكلم؟ قَالَ: تكلم، قَالَ: لا، والله العظيم يا أمير المؤمنين، ما علمت عبد الملك إلا ناصحا، فعلام حبسته! قَالَ: ويحك! بلغني عنه ما أوحشني ولم آمنه أن يضرب بين ابني هذين- يعني الأمين والمأمون- فإن كنت ترى أن نطلقه من الحبس أطلقناه قال: اما إذ حبسته يا أمير المؤمنين، فلست أرى في قرب المدة أن تطلقه، ولكن أرى أن تحبسه محبسا كريما يشبه محبس مثلك مثله قَالَ: فإني أفعل قَالَ: فدعا الرشيد الفضل بْن الربيع، فقال: امض إلى عبد الملك بْن صالح إلى محبسه، فقل له: انظر ما تحتاج إليه في محبسك فأمر به حتى يقام لك، فذكر قصته وما سأل. قَالَ: وقال الرشيد يوما لعبد الملك بْن صالح في بعض ما كلمه: ما أنت لصالح! قَالَ: فلمن أنا؟ قَالَ: لمروان الجعدي، قَالَ: ما أبالي أي الفحلين غلب علي، فحبسه الرشيد عند الفضل بْن الربيع، فلم يزل محبوسا حتى توفي الرشيد، فأطلقه محمد، وعقد له على الشام، فكان مقيما بالرقة، وجعل لمحمد عهد الله وميثاقه: لئن قتل وهو حي لا يعطي المأمون طاعة أبدا فمات قبل محمد، فدفن في دار من دور الإمارة، فلما خرج المأمون يريد الروم أرسل إلى ابن له: حول أباك من داري، فنبشت عظامه وحولت. كان قَالَ لمحمد: ان خفت فالجا الى، فو الله لأصوننك. وذكر أن الرشيد بعث في بعض أيامه إلى يحيى بْن خالد: أن عبد الملك ابن صالح أراد الخروج ومنازعتي في الملك، وقد علمت ذلك، فأعلمني ما عندك فيه، فإنك إن صدقتني أعدتك إلى حالك، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما اطلعت من عبد الملك على شيء من هذا، ولو اطلعت عليه لكنت صاحبه

دونك، لأن ملكك كان ملكي، وسلطانك كان سلطاني، والخير والشر كان فيه علي ولي، فكيف يجوز لعبد الملك أن يطمع في ذلك مني! وهل كنت إذا فعلت ذلك به يفعل بي أكثر من فعلك! أعيذك بالله أن تظن بي هذا الظن، ولكنه كان رجلا محتملا، يسرني أن يكون في أهلك مثله، فوليته، لما أحمدت من مذهبه، وملت إليه لأدبه واحتماله قَالَ: فلما أتاه الرسول بهذا أعاد إليه، فقال: إن أنت لم تقر عليه قتلت الفضل ابنك، فقال له: أنت مسلط علينا فافعل ما أردت، على أنه إن كان من هذا الأمر شيء فالذنب فيه لي، فبم يدخل الفضل في ذلك! فقال الرسول للفضل: قم، فإنه لا بد لي من إنفاذ أمر أمير المؤمنين فيك، فلم يشك أنه قاتله، فودع أباه، وقال له: ألست راضيا عني؟ قَالَ: بلى، فرضي الله عنك ففرق بينهما ثلاثة أيام، فلما لم يجد عنده من ذلك شيئا جمعهما كما كانا. وكان يأتيهم منه أغلظ رسائل، لما كان اعداؤهم يقرفونهم به عنده، فلما أخذ مسرور بيد الفضل كما اعلمه، بلغ من يحيى، فأخرج ما في نفسه، فقال له: قل له: يقتل ابنك مثله قَالَ مسرور: فلما سكن عن الرشيد الغضب، قَالَ: كيف قَالَ؟ فأعدت عليه القول، قَالَ: قد خفت والله قوله، لأنه قلما قَالَ لي شيئا إلا رأيت تأويله. وقيل: بينما الرشيد يسير وفي موكبه عبد الملك بْن صالح، إذ هتف به هاتف وهو يساير عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، طأطئ من أشرافه وقصر من عنانه، واشدد من شكائمه، وإلا أفسد عليك ناحيته فالتفت إلى عبد الملك، فقال: ما يقول هذا يا عبد الملك؟ فقَالَ عبد الملك: مقال باغ ودسيس حاسد، فقال له هارون: صدقت، نقص القوم ففضلتهم، وتخلفوا وتقدمتهم، حتى برز شأوك، فقصر عنه غيرك، ففي صدورهم جمرات التخلف، وحزازات النقص فقال عبد الملك: لا أطفأها الله وأضرمها عليهم حتى تورثهم كمدا دائما ابدا

ذكر الخبر عن دخول القاسم بن الرشيد ارض الروم

وقال الرشيد لعبد الملك بْن صالح وقد مر بمنبج، وبها مستقر عبد الملك: هذا منزلك؟ قَالَ: هو لك يا أمير المؤمنين، ولي بك قَالَ: كيف هو؟ قَالَ: دون بناء أهلي وفوق منازل منبج، قَالَ: فكيف ليلها؟ قال: سحر كله. ذكر الخبر عن دخول القاسم بن الرشيد ارض الروم وفي هذه السنه دخل القاسم بن الرشيد أرض الروم في شعبان، فأناخ على قرة وحاصرها، ووجه العباس بْن جعفر بْن محمد بْن الأشعث، فأناخ على حصن سنان حتى جهدوا، فبعثت إليه الروم تبذل له ثلاثمائة وعشرين رجلا من أسارى المسلمين، على أن يرحل عنهم، فأجابهم إلى ذلك، ورحل عن قرة وحصن سنان صلحا. ومات علي بْن عيسى بْن موسى في هذه الغزاة بأرض الروم، وهو مع القاسم . ذكر الخبر عن نقض الروم الصلح وفي هذه السنة نقض صاحب الروم الصلح الذي كان جرى بين الذي قبله وبين المسلمين، ومنع ما كان ضمنه الملك لهم قبله. ذكر الخبر عن سبب نقضهم ذلك: وكان سبب ذلك أن الصلح كان جرى بين المسلمين وصاحب الروم وصاحبتهم يومئذ رينى- وقد ذكرنا قبل سبب الصلح الذي كان بين المسلمين وبينها- فعادت الروم على رينى فخلعتها، وملكت عليها نقفور والروم تذكر أن نقفور هذا من أولاد جفنة من غسان، وأنه قبل الملك كان يلي ديوان الخراج، ثم ماتت رينى بعد خمسة أشهر من خلع الروم إياها، فذكر أن نقفور لما ملك واستوسقت له الروم بالطاعة، كتب إلى الرشيد: من نقفور ملك الروم، إلى هارون ملك العرب، أما بعد، فإن الملكة التي كانت قبلي، أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت

إليك من أموالها ما كنت حقيقا بحمل أمثالها إليها، لكن ذاك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها، وافتد نفسك بما يقع به المصادرة لك، وإلا فالسيف بيننا وبينك. قَالَ: فلما قرأ الرشيد الكتاب، استفزه الغضب حتى لم يمكن أحدا أن ينظر إليه دون أن يخاطبه، وتفرق جلساؤه خوفا من زيادة قول أو فعل يكون منهم، واستعجم الرأي على الوزير من أن يشير عليه أو يتركه يستبد برأيه دونه، فدعا بدواة وكتب على ظهر الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرات كتابك يا بن الكافره، والجواب ما تراه دون أن تسمعه والسلام. ثم شخص من يومه، وسار حتى أناخ بباب هرقلة، ففتح وغنم، واصطفى وأفاد، وخرب وحرق، واصطلم فطلب نقفور الموادعة على خراج يؤديه في كل سنة، فأجابه إلى ذلك، فلما رجع من غزوته، وصار بالرقة نقض نقفور العهد، وخان الميثاق وكان البرد شديدا، فيئس نقفور من رجعته إليه، وجاء الخبر بارتداده عما أخذ عليه، فما تهيأ لأحد إخباره بذلك إشفاقا عليه وعلى أنفسهم من الكرة في مثل تلك الأيام، فاحتيل له بشاعر من اهل خره يكنى أبا محمد عبد الله بْن يوسف- ويقال: هو الحجاج بْن يوسف التيمي، فقال: نقض الذي أعطيته نقفور ... وعليه دائرة البوار تدور أبشر أمير المؤمنين فإنه ... غنم أتاك به الإله كبير فلقد تباشرت الرعية أن أتى ... بالنقض عنه وافد وبشير ورجت يمينك أن تعجل غزوة ... تشفي النفوس مكانها مذكور أعطاك جزيته وطأطأ خده ... حذر الصوارم والردى محذور

فأجرته من وقعها وكأنها ... بأكفنا شعل الضرام تطير وصرفت بالطول العساكر قافلا ... عنه وجارك آمن مسرور نقفور إنك حين تغدر إن نأى ... عنك الإمام لجاهل مغرور أظننت حين غدرت أنك مفلت ... هبلتك أمك ما ظننت غرور! ألقاك حينك في زواجر بحره ... فطمت عليك من الإمام بحور إن الإمام على اقتسارك قادر ... قربت ديارك أم نأت بك دور ليس الإمام وإن غفلنا غافلا ... عما يسوس بحزمه ويدير ملك تجرد للجهاد بنفسه ... فعدوه أبدا به مقهور يا من يريد رضا الإله بسعيه ... والله لا يخفى عليه ضمير لا نصح ينفع من يغش إمامه ... والنصح من نصحائه مشكور نصح الامام على الأنام فريضة ... ولأهلها كفارة وطهور وفي ذلك يقول إسماعيل بْن القاسم أبو العتاهية: إمام الهدى أصبحت بالدين معنيا ... وأصبحت تسقي كل مستمطر ريا لك إسمان شقا من رشاد ومن هدى ... فأنت الذي تدعى رشيدا ومهديا إذا ما سخطت الشيء كان مسخطا ... وإن ترض شيئا كان في الناس مرضيا بسطت لنا شرقا وغربا يد العلا ... فأوسعت شرقيا وأوسعت غربيا ووشيت وجه الأرض بالجود والندى ... فأصبح وجه الأرض بالجود موشيا قضى الله ان يصفو لهارون ملكه ... وكان قضاء الله في الخلق مقضيا تحلبت الدنيا لهارون بالرضا ... فأصبح نقفور لهارون ذميا

خبر مقتل ابراهيم بن عثمان بن نهيك

وقال التيمي: لجت بنقفور أسباب الردى عبثا ... لما رأته بغيل الليث قد عبثا ومن يزر غيله لا يخل من فزع ... إن فات أنيابه والمخلب الشبثا خان العهود ومن ينكث بها فعلى ... حوبائه، لا على أعدائه نكثا كان الإمام الذي ترجى فواضله ... أذاقه ثمر الحلم الذي ورثا فرد ألفته من بعد أن عطفت ... أزواجه مرها يبكينه شعثا فلما فرغ من إنشاده، قَالَ: أو قد فعل نقفور ذلك! وعلم أن الوزراء قد احتالوا له في ذلك، فكر راجعا في أشد محنة وأغلظ كلفة، حتى أناخ بفنائه، فلم يبرح حتى رضي وبلغ ما أراد، فقال أبو العتاهية: ألا نادت هرقلة بالخراب ... من الملك الموفق بالصواب غدا هارون يرعد بالمنايا ... ويبرق بالمذكرة القضاب ورايات يحل النصر فيها ... تمر كأنها قطع السحاب أمير المؤمنين ظفرت فاسلم ... وابشر بالغنيمة والإياب خبر مقتل ابراهيم بن عثمان بن نهيك وفيها قتل- في قول الواقدي- إبراهيم بْن عثمان بْن نهيك وأما غير الواقدي، فإنه قَالَ: في سنة ثمان وثمانين ومائة. ذكر الخبر عن سبب مقتله: ذكر عن صالح الأعمى- وكان في ناحية إبراهيم بْن عثمان بْن نهيك- قَالَ: كان إبراهيم بْن عثمان كثيرا ما يذكر جعفر بْن يحيى والبرامكة، فيبكي جزعا عليهم، وحبا لهم، إلى أن خرج من حد البكاء، ودخل في باب طالبي الثأر والإحن، فكان إذا خلا بجواريه وشرب وقوي عليه النبيذ، قَالَ: يا غلام،

سيفي ذا المنية- وكان قد سمى سيفه ذا المنية- فيجيئه غلامه بالسيف فينتضيه، ثم يقول: وا جعفراه! وا سيداه! والله لاقتلن قاتلك، ولأثأرن بدمك عن قليل! فلما كثر هذا من فعله، جاء ابنه عثمان إلى الفضل بْن الربيع، فأخبره بقوله، فدخل الفضل فأخبر الرشيد، فقال: أدخله، فدخل، فقال: ما الذي قَالَ الفضل عنك؟ فأخبره بقول أبيه وفعله، فقال الرشيد: فهل سمع هذا أحد معك؟ قَالَ: نعم خادمه نوال، فدعا خادمه سرا فسأله، فقال: لقد قَالَ ذاك غير مرة ولا مرتين، فقال الرشيد: ما يحل لي أن أقتل وليا من أوليائي بقول غلام وخصى، لعلهما تواصيا على هذه المنافسه، الابن على المرتبة، ومعاداة الخادم لطول الصحبة، فترك ذلك أياما، ثم أراد أن يمتحن إبراهيم بْن عثمان بمحنة تزيل الشك عن قلبه، والخاطر عن وهمه، فدعا الفضل بْن الربيع، فقال: إني أريد محنة إبراهيم بْن عثمان فيما رفع ابنه عليه، فإذا رفع الطعام فادع بالشراب، وقل له: أجب أمير المؤمنين فينادمك، إذ كنت منه بالمحل الذي أنت به، فإذا شرب فاخرج وخلنى وإياه، ففعل ذلك الفضل بْن الربيع، وقعد إبراهيم للشراب، ثم وثب حين وثب الفضل بْن الربيع للقيام، فقال له الرشيد: مكانك يا إبراهيم، فقعد، فلما طابت نفسه، أومأ الرشيد إلى الغلمان فتنحوا عنه، ثم قَالَ: يا إبراهيم، كيف أنت وموضع السر منك؟ قَالَ: يا سيدي إنما أنا كأخص عبيدك، وأطوع خدمك، قَالَ: إن في نفسي أمرا أريد أن أودعكه، وقد ضاق صدري به، وأسهرت به ليلي، قَالَ: يا سيدي إذا لا يرجع عني إليك أبدا، وأخفيه عن جنبي أن يعلمه، ونفسي أن تذيعه قَالَ: ويحك! إني ندمت على قتل جعفر بْن يحيى ندامة ما أحسن أن أصفها، فوددت أني خرجت من ملكي وأنه كان بقي لي، فما وجدت طعم النوم منذ فارقته، ولا لذة العيش منذ قتلته! قَالَ: فلما سمعها إبراهيم أسبل دمعه، وأذرى عبرته، وقال: رحم الله أبا الفضل، وتجاوز عنه! والله يا سيدي لقد أخطأت في قتله، وأوطئت

العشوة في أمره! وأين يوجد في الدنيا مثله! وقد كان منقطع القرين في الناس أجمعين دينا فقال الرشيد: قم عليك لعنة الله يا بن اللخناء! فقام ما يعقل ما يطأ، فانصرف إلى أمه، فقال: يا أم، ذهبت والله نفسي، قَالَت: كلا إن شاء الله، وما ذاك يا بني؟ قَالَ: ذاك أن الرشيد امتحنني بمحنه والله، ولو كان لي ألف نفس لم أنج بواحدة منها فما كان بين هذا وبين أن دخل عليه ابنه- فضربه بسيفه حتى مات- إلا ليال قلائل. وحج بالناس في هذه السنة عبيد الله بْن العباس بْن محمد بن على.

سنه ثمان وثمانين ومائه

ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر خبر غزو ابراهيم بن جبريل الصائفه فمما كان فيها من ذلك غزو إبراهيم بْن جبريل الصائفة، ودخوله أرض الروم من درب الصفصاف، فخرج للقائه نقفور، فورد عليه من ورائه أمر صرفه عن لقائه، فانصرف، ومر بقوم من المسلمين، فجرح ثلاث جراحات، وانهزم وقتل من الروم- فيما ذكر- أربعون ألفا وسبعمائة، وأخذ أربعة آلاف دابة. وفيها رابط القاسم بن الرشيد بدابق. وحج بالناس فيها الرشيد، فجعل طريقه على المدينة، فأعطى أهلها نصف العطاء، وهذه الحجة هي آخر حجة حجها الرشيد، فيما زعم الواقدي وغيره

سنه تسع وثمانين ومائه

ثم دخلت سنة تسع وثمانين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر خبر شخوص الرشيد الى الري فمن ذلك ما كان من شخوص هارون الرشيد أمير المؤمنين فيها إلى الري. ذكر الخبر عن سبب شخوصه إليها وما أحدث في خرجته تلك في سفره: ذكر أن الرشيد كان استشار يحيى بْن خالد في تولية خراسان علي بْن عيسى بْن ماهان، فأشار عليه ألا يفعل، فخالفه الرشيد في أمره، وولاه إياها، فلما شخص علي بْن عيسى إليها ظلم الناس، وعسر عليهم، وجمع مالا جليلا، ووجه إلى هارون منها هدايا لم ير مثلها قط من الخيل والرقيق والثياب والمسك والأموال، فقعد هارون بالشماسية على دكان مرتفع حين وصل ما بعث به علي إليه، وأحضرت تلك الهدايا فعرضت عليه، فعظمت في عينه، وجل عنده قدرها، وإلى جانبه يحيى بْن خالد، فقال له: يا أبا علي، هذا الذي أشرت علينا ألا نوليه هذا الثغر، فقد خالفناك فيه، فكان في خلافك البركة- وهو كالمازح معه إذ ذاك- فقد ترى ما أنتج رأينا فيه، وما كان من رأيك! فقال: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! أنا وإن كنت أحب أن أصيب في رأيي وأوفق في مشورتي، فأنا أحب من ذلك أن يكون رأي أمير المؤمنين أعلى، وفراسته أثقب، وعلمه أكثر من علمي، ومعرفته فوق معرفتي، وما أحسن هذا وأكثره إن لم يكن وراءه ما يكره أمير المؤمنين، وما أسأل الله أن يعيذه ويعفيه من سوء عاقبته ونتائج مكروهه، قَالَ: وما ذاك؟ فأعلمه، قَالَ: ذاك أني أحسب أن هذه الهدايا ما اجتمعت له حتى ظلم فيها الاشراف، أخذ أكثرها ظلما وتعديا، ولو أمرني أمير المؤمنين لأتيته بضعفها الساعة من بعض تجار الكرخ، قَالَ: وكيف ذاك؟ قَالَ: قد ساومنا عونا

على السفط الذي جاءنا به من الجوهر، واعطيناه به سبعه آلاف الف، فأبى ان يبيعه، فابعث اليه الساعة بحاجتي فأمره أن يرده إلينا، لنعيد فيه نظرنا، فإذا جاء به جحدناه، وربحنا سبعة آلاف ألف، ثم كنا نفعل بتاجرين من كبار التجار مثل ذلك وعلى أن هذا أسلم عاقبة، وأستر أمرا من فعل علي بْن عيسى في هذه الهدايا بأصحابها، فأجمع لأمير المؤمنين في ثلاث ساعات أكثر من قيمة هذه الهدايا بأهون سعي، وأيسر أمر، وأجمل جباية، مما جمع علي في ثلاث سنين. فوقرت في نفس الرشيد وحفظها، وأمسك عن ذكر علي بْن عيسى عنده، فلما عاث علي بْن عيسى بخراسان ووتر أشرافها، وأخذ أموالهم، واستخف برجالهم، كتب رجال من كبرائها ووجوهها إلى الرشيد، وكتبت جماعة من كورها إلى قراباتها وأصحابها، تشكو سوء سيرته، وخبث طعمته، ورداءة مذهبه، وتسأل أمير المؤمنين أن يبدلها به من أحب من كفاته وأنصاره وأبناء دولته وقواده فدعا يحيى بْن خالد، فشاوره في أمر علي بْن عيسى وفي صرفه، وقال له: أشر علي برجل ترضاه لذلك الثغر يصلح ما أفسد الفاسق، ويرتق ما فتق فأشار عليه بيزيد بْن مزيد، فلم يقبل مشورته. وكان قيل للرشيد: إن علي بْن عيسى قد أجمع على خلافك، فشخص إلى الري من أجل ذلك، منصرفه من مكة، فعسكر بالنهروان لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى، ومعه ابناه عبد الله المأمون والقاسم، ثم سار إلى الري، فلما صار بقرماسين أشخص إليه جماعة من القضاة وغيرهم، وأشهدهم أن جميع ما له في عسكره ذلك من الأموال والخزائن والسلاح والكراع وما سوى ذلك لعبد الله المأمون، وأنه ليس له فيه قليل ولا كثير وجدد البيعة له على من كان معه، ووجه هرثمة بْن أعين صاحب حرسه إلى بغداد، فأعاد أخذ البيعة على محمد بْن هارون الرشيد وعلى من بحضرته لعبد الله والقاسم، وجعل أمر القاسم في خلعه وإقراره إلى عبد الله، إذا أفضت الخلافة

إليه ثم مضى الرشيد عند انصراف هرثمة إليه إلى الري، فأقام بها نحوا من أربعة أشهر، حتى قدم عليه علي بْن عيسى من خراسان بالأموال والهدايا والطرف، من المتاع والمسك والجوهر وآنية الذهب والفضة والسلاح والدواب، وأهدى بعد ذلك إلى جميع من كان معه من ولده وأهل بيته وكتابه وخدمه وقواده على قدر طبقاتهم ومراتبهم، ورأى منه خلاف ما كان ظن به وغير ما كان يقال فيه فرضي عنه، ورده إلى خراسان، وخرج وهو مشيع له، فذكر أن البيعة أخذت للمأمون والقاسم بولاية العهد بعد أخويه محمد وعبد الله، وسمي المؤتمن حين وجه هارون هرثمة لذلك بمدينة السلام يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب من هذه السنة، فقال الحسن بْن هانئ في ذلك: تبارك من ساس الأمور بعلمه ... وفضل هارونا على الخلفاء نزال بخير ما انطوينا على التقى ... وما ساس دنيانا أبو الأمناء وفي هذه السنة- حين صار الرشيد إلى الري- بعث حسينا الخادم إلى طبرستان، فكتب له ثلاثة كتب، من ذلك كتاب فيه أمان لشروين أبي قارن، والآخر فيه أمان لوندا هرمز، جد مازيار والثالث فيه أمان لمرزبان ابن جستان، صاحب الديلم فقدم عليه صاحب الديلم، فوهب له وكساه ورده وقدم عليه سعيد الحرشي بأربعمائة بطل من طبرستان، فأسلموا على يد الرشيد، وقدم وندا هرمز، وقبل الأمان، وضمن السمع والطاعة وأداء الخراج، وضمن على شروين مثل ذلك، فقبل ذلك منه الرشيد وصرفه، ووجه معه هرثمة فأخذ ابنه وابن شروين رهينة وقدم عليه الري أيضا خزيمة بْن خازم، وكان والي أرمينية، فأهدى هدايا كثيرة. وفي هذه السنة ولى هارون عبد الله بْن مالك طبرستان والري والرويان

ودنباوند وقومس وهمذان وقال أبو العتاهية في خرجة هارون هذه- وكان هارون ولد بالري: إن أمين الله في خلقه ... حن به البر إلى مولده ليصلح الري وأقطارها ... ويمطر الخير بها من يده وولى هارون في طريقه محمد بْن الجنيد الطريق ما بين همذان والري، وولى عيسى بْن جعفر بْن سليمان عمان، فقطع البحر من ناحية جزيرة ابن كاوان، فافتتح حصنا بها وحاصر آخر، فهجم عليه ابن مخلد الأزدي وهو غار، فأسره وحمله إلى عمان في ذي الحجة، وانصرف الرشيد بعد ارتحال علي بْن عيسى إلى خراسان عن الري بأيام، فأدركه الأضحى بقصر اللصوص، فضحى بها، ودخل مدينة السلام يوم الاثنين، لليلتين بقيتا من ذي الحجة، فلما مر بالجسر أمر بإحراق جثة جعفر بْن يحيى، وطوى بغداد ولم ينزلها، ومضى من فوره متوجها إلى الرقة، فنزل السيلحين وذكر عن بعض قواد الرشيد أن الرشيد قَالَ لما ورد بغداد: والله إني لأطوي مدينة ما وضعت بشرق ولا غرب مدينة أيمن ولا أيسر منها، وإنها لوطني ووطن آبائي، ودار مملكة بني العباس ما بقوا وحافظوا عليها، وما رأى أحد من آبائي سوءا ولا نكبة منها، ولا سيء بها أحد منهم قط، ولنعم الدار هي! ولكني أريد المناخ على ناحية أهل الشقاق والنفاق والبغض لأئمة الهدى والحب لشجرة اللعنة- بني أمية- مع ما فيها من المارقة والمتلصصة ومخيفي السبيل، ولولا ذلك ما فارقت بغداد ما حييت ولا خرجت عنها أبدا. وقال العباس بْن الأحنف في طي الرشيد بغداد: ما أنخنا حتى ارتحلنا فما نفرق ... بين المناخ والارتحال ساءلونا عن حالنا إذ قدمنا ... فقرنا وداعهم بالسؤال

وفي هذه السنة كان الفداء بين المسلمين والروم، فلم يبق بأرض الروم مسلم إلا فودي به- فيما ذكر- فقال مروان بْن أبي حفصة في ذلك: وفكت بك الأسرى التي شيدت لها ... محابس ما فيها حميم يزورها على حين أعيا المسلمين فكاكها ... وقالوا: سجون المشركين قبورها ورابط فيها القاسم بدابق وحج بالناس فيها العباس بْن موسى بْن عيسى بْن موسى.

سنه تسعين ومائه

ثم دخلت سنة تسعين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر خبر ظهور خلاف رافع بن ليث فمن ذلك ما كان من ظهور رافع بْن ليث بْن نصر بْن سيار بسمرقند، مخالفا لهارون وخلعه إياه، ونزعه يده من طاعته. ذكر الخبر عن سبب ذلك: وكان سبب ذلك- فيما ذكر لنا- أن يحيى بْن الأشعث بْن يحيى الطائي تزوج ابنة لعمه ابى النعمان، وكانت ذات يسار، فأقام بمدينة السلام، وتركها بسمرقند، فلما طال مقامه بها، وبلغها أنه قد اتخذ أمهات أولاد، التمست سببا للتخلص منه، فعي عليها، وبلغ رافعا خبرها، فطمع فيها وفي مالها، فدس إليها من قَالَ لها: إنه لا سبيل لها إلى التخلص من صاحبها، إلا أن تشرك بالله، وتحضر لذلك قوما عدولا، وتكشف شعرها بين أيديهم، ثم تتوب فتحل للأزواج، ففعلت ذلك وتزوجها رافع وبلغ الخبر يحيى بْن الأشعث، فرفع ذلك إلى الرشيد، فكتب إلى علي بْن عيسى يأمره أن يفرق بينهما، وأن يعاقب رافعا ويجلده الحد، ويقيده ويطوف به في مدينة سمرقند مقيدا على حمار، حتى يكون عظة لغيره فدرأ سليمان بْن حميد الأزدي عنه الحد، وحمله على حمار مقيدا حتى طلقها، ثم حبسه في سجن سمرقند، فهرب من الحبس ليلا من عند حميد بْن المسيح- وهو يومئذ على شرط سمرقند- فلحق بعلي بْن عيسى ببلخ، فطلب الأمان فلم يجبه علي إليه، وهم بضرب عنقه، فكلمه فيه ابنا عيسى بْن علي، وجدد طلاق المرأة، وأذن له في الانصراف إلى سمرقند، فانصرف إليها، فوثب بسليمان ابن حميد، عامل علي بْن عيسى فقتله فوجه علي بْن عيسى إليه ابنه،

فتح الرشيد هرقله

فمال الناس إلى سباع بْن مسعدة، فرأسوه عليهم، فوثب على رافع فقيده، فوثبوا على سباع، فقيدوه ورأسوا رافعا وبايعوه، وطابقه من وراء النهر، ووافاه عيسى بْن علي، فلقيه رافع فهزمه، فأخذ علي بْن عيسى في فرض الرجال والتأهب للحرب. وفي هذه السنة غزا الرشيد الصائفة، واستخلف ابنه عبد الله المأمون بالرقة وفوض إليه الأمور، وكتب إلى الآفاق بالسمع له والطاعة، ودفع إليه خاتم المنصور يتيمن به، وهو خاتم الخاصة، نقشه: الله ثقتي آمنت به. وفيها أسلم الفضل بْن سهل على يد المأمون. وفيها خرجت الروم إلى عين زربة وكنيسة السوداء، فأغارت وأسرت، فاستنقذ أهل المصيصة ما كان في ايديهم فتح الرشيد هرقله وفيها فتح الرشيد هرقلة، وبث الجيوش والسرايا بأرض الروم، وكان دخلها- فيما قيل- في مائة ألف وخمسة وثلاثين ألف مرتزق، سوى الأتباع وسوى المطوعة وسوى من لا ديوان له، وأناخ عبد الله بْن مالك على ذي الكلاع ووجه داود بْن عيسى بْن موسى سائحا في أرض الروم في سبعين ألفا، وافتتح شراحيل بْن معن بْن زائدة حصن الصقالبة ودبسة، وافتتح يزيد بْن مخلد الصفصاف وملقوبية- وكان فتح الرشيد هرقلة في شوال- وأخربها وسبى أهلها بعد مقام ثلاثين يوما عليها، وولى حميد بْن معيوف سواحل بحر الشام إلى مصر، فبلغ حميد قبرس، فهدم وحرق وسبى من أهلها ستة عشر ألفا، فأقدمهم الرافقة، فتولى بيعهم أبو البختري القاضي، فبلغ أسقف قبرس ألفي دينار. وكان شخوص هارون إلى بلاد الروم لعشر بقين من رجب، واتخذ

قلنسوة مكتوبا عليها غاز حاج، فكان يلبسها، فقال أبو المعالي الكلابي: فمن يطلب لقاءك أو يرده ... فبالحرمين أو أقصى الثغور ففي أرض العدو على طمر ... وفي أرض الترفه فوق كور وما حاز الثغور سواك خلق ... من المتخلفين على الأمور ثم صار الرشيد إلى الطوانة، فعسكر بها، ثم رحل عنها، وخلف عليها عقبة بْن جعفر، وأمره ببناء منزل هنالك، وبعث نقفور إلى الرشيد بالخراج والجزية، عن رأسه وولي عهده وبطارقته وسائر أهل بلده خمسين ألف دينار، منها عن رأسه أربعة دنانير، وعن رأس ابنه استبراق دينارين وكتب نقفور مع بطريقين من عظماء بطارقته في جارية من سبي هرقلة كتابا نسخته: لعبد الله هارون أمير المؤمنين من نقفور ملك الروم سلام عليكم، اما بعد ايها الملك، فان لي إليك حاجة لا تضرك في دينك ولا دنياك، هينه يسيرة، أن تهب لابني جارية من بنات أهل هرقلة، كنت قد خطبتها على ابني، فإن رأيت أن تسعفني بحاجتي فعلت والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. واستهداه أيضا طيبا وسرادقا من سرادقاته، فأمر الرشيد بطلب الجارية، فأحضرت وزينت وأجلست على سرير في مضربه الذي كان نازلا فيه، وسلمت الجارية والمضرب بما فيه من الآنية والمتاع إلى رسول نقفور، وبعث إليه بما سأل من العطر، وبعث إليه من التمور والأخبصة والزبيب والترياق، فسلم ذلك كله إليه رسول الرشيد، فأعطاه نقفور وقر دراهم إسلامية على برذون كميت كان مبلغه خمسين ألف درهم، ومائة ثوب ديباج ومائتي ثوب بزيون، واثني عشر بازيا، وأربعة أكلب من كلاب الصيد، وثلاثة براذين وكان نقفور اشترط ألا يخرب ذا الكلاع ولا صمله ولا حصن سنان،

واشترط الرشيد عليه ألا يعمر هرقلة، وعلى ان يحمل نقفور ثلاثمائة ألف دينار. وخرج في هذه السنة خارجي من عبد القيس يقال له سيف بْن بكر، فوجه إليه الرشيد محمد بْن يزيد بْن مزيد، فقتله بعين النورة. ونقض أهل قبرس العهد، فغزاهم معيوف بْن يحيى فسبى أهلها. وحج بالناس فيها عيسى بْن موسى الهادي.

سنه احدى وتسعين ومائه

ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من خروج خارجي يقال له ثروان بْن سيف بناحية حولايا، فكان يتنقل بالسواد، فوجه إليه طوق بْن مالك فهزمه طوق وجرحه، وقتل عامة أصحابه، وظن طوق أنه قد قتل ثروان، فكتب بالفتح، وهرب ثروان مجروحا. وفيها خرج أبو النداء بالشام فوجه الرشيد في طلبه يحيى بْن معاذ، وعقد له على الشام. وفيها وقع الثلج بمدينة السلام. وفيها ظفر حماد البربري بهيصم اليماني. وفيها غلظ أمر رافع بْن ليث بسمرقند. وفيها كتب أهل نسف إلى رافع يعطونه الطاعة، ويسألون أن يوجه إليهم من يعينهم على قتل عيسى بْن علي، فوجه صاحب الشاش في اتراكه قائدا من قواده، فأتوا عيسى بْن علي، فأحدقوا به وقتلوه في ذي القعدة، ولم يعرضوا لأصحابه. وفيها ولى الرشيد حمويه الخادم بريد خراسان. وفيها غزا يزيد بْن مخلد الهبيري أرض الروم في عشرة آلاف، فأخذت الروم عليه المضيق، فقتلوه على مرحلتين من طرسوس في خمسين رجلا، وسلم الباقون. وفيها ولى الرشيد غزو الصائفة هرثمة بْن أعين، وضم إليه ثلاثين ألفا من جند خراسان، ومعه مسرور الخادم، إليه النفقات وجميع الأمور، خلا الرياسة

ذكر الخبر عن سبب عزل الرشيد على بن عيسى وسخطه عليه

ومضى الرشيد إلى درب الحدث، فرتب هنالك عبد الله بْن مالك، ورتب سعيد بْن سلم بْن قتيبة بمرعش، فأغارت الروم عليها، وأصابوا من المسلمين وانصرفوا وسعيد بْن سلم مقيم بها، وبعث محمد بْن يزيد بْن مزيد إلى طرسوس، فأقام الرشيد بدرب الحدث ثلاثة أيام من شهر رمضان، ثم انصرف إلى الرقة. وفيها أمر الرشيد بهدم الكنائس بالثغور، وكتب إلى السندي بْن شاهك يأمره بأخذ أهل الذمة بمدينة السلام بمخالفة هيئتهم هيئة المسلمين في لباسهم وركوبهم. وفيها عزل الرشيد علي بْن عيسى بْن ماهان عن خراسان وولاها هرثمة. ذكر الخبر عن سبب عزل الرشيد علي بْن عيسى وسخطه عليه قال ابو جعفر: قد ذكر قبل سبب هلاك ابْن علي بْن عيسى وكيف قتل ولما قتل ابنه عيسى خرج على عن بلخ حتى أتى مرو مخافة أن يسير إليها رافع بْن الليث، فيستولي عليها وكان ابنه عيسى دفن في بستان داره ببلخ أموالا عظيمة- قيل إنها كانت ثلاثين ألف ألف- ولم يعلم بها علي بْن عيسى ولا أطلع على ذلك إلا جارية كانت له، فلما شخص علي عن بلخ أطلعت الجارية على ذلك بعض الخدم، وتحدث به الناس، فاجتمع قراء أهل بلخ ووجوهها، فدخلوا البستان فانتهبوه وأباحوه للعامة، فبلغ الرشيد الخبر، فقال: خرج علي من بلخ عن غير أمري، وخلف مثل هذا المال، وهو يزعم أنه قد أفضى إلى حلي نسائه فيما أنفق على محاربة رافع! فعزله عند ذلك، وولى هرثمة بْن أعين، واستصفى أموال علي بْن عيسى، فبلغت أمواله ثمانين ألف ألف. وذكر عن بعض الموالي أنه قَالَ: كنا بجرجان مع الرشيد وهو يريد

خراسان، فوردت خزائن علي بْن عيسى التي أخذت له على الف وخمسمائة بعير، وكان علي مع ذلك قد أذل الأعالي من أهل خراسان وأشرافهم. وذكر أنه دخل عليه يوما هشام بْن فرخسرو والحسين بْن مصعب، فسلما عليه، فقال للحسين: لا سلم الله عليك يا ملحد يا بن الملحد! والله إني لأعرف ما أنت عليه من عداوتك للإسلام وطعنك في الدين، وما أنتظر بقتلك إلا إذن الخليفة فيه، فقد أباح الله دمك، وأرجو أن يسفكه الله على يدي عن قريب، ويعجلك إلى عذابه ألست المرجف بي في منزلي هذا بعد ما ثملت من الخمر، وزعمت أنه جاءتك كتب من مدينة السلام بعزلي! اخرج إلى سخط الله، لعنك الله، فعن قريب ما تكون من أهلها! فقال له الحسين: أعيذ بالله الأمير أن يقبل قول واش، أو سعاية باغ، فإني بريء مما قرفت به قَالَ: كذبت لا أم لك! قد صح عندي أنك ثملت من الخمر، وقلت ما وجب عليك به أغلظ الأدب، ولعل الله أن يعاجلك ببأسه ونقمته، اخرج عني غير مستور ولا مصاحب فجاء الحاجب فأخذ بيده فأخرجه، وقال لهشام بْن فرخسرو: صارت دارك دار الندوة، يجتمع فيها إليك السفهاء، وتطعن على الولاة! سفك الله دمي إن لم أسفك دمك! فقال هشام: جعلت فداء الأمير! أنا والله مظلوم مرحوم، والله ما أدع في تقريظ الأمير جهدا، وفي وصفه قولا إلا خصصته به وقلته فيه، فإن كنت إذا قلت خيرا نقل إليك شرا فما حيلتي! قَالَ: كذبت لا أم لك، لأنا اعلم بما تنطوى عليه جوانحك من ولدك وأهلك، فاخرج فعن قريب أريح منك نفسي فخرج فلما كان في آخر الليل دعا ابنته عالية- وكانت من أكبر ولده- فقال لها: أي بنية، إني أريد أن أفضي إليك بأمر إن أنت أظهرته قتلت، وإن حفظته سلمت، فاختاري بقاء أبيك على موته، قالت:

وما ذاك جعلت فداك! قَالَ: إني أخاف هذا الفاجر علي بْن عيسى على دمي، وقد عزمت على أن أظهر أن الفالج أصابني، فإذا كان في السحر فاجمعي جواريك، وتعالى الى فراشي وحركينى، فإذا رايت حركتي قد ثقلت، فصيحي أنت وجواريك، وابعثي إلى إخوتك فأعلميهم علتي وإياك ثم إياك أن تطلعي على صحة بدني أحدا من خلق الله من قريب أو بعيد ففعلت- وكانت عاقلة حازمة- فأقام مطروحا على فراشه حينا لا يتحرك إلا إن حرك، فيقال إنه لم يعلم من أهل خراسان أحد من عزل علي بْن عيسى بخبر ولا أثر غير هشام، فإنه توهم عزله، فصح توهمه. ويقال: إنه خرج في اليوم الذي قدم فيه هرثمة لتلقيه، فرآه في الطريق رجل من قواد علي بْن عيسى، فقال: صح الجسم؟ فقال: ما زال صحيحا بحمد الله! وقال بعضهم: بل رآه علي بْن عيسى، فقال: أين بك؟ فقال: أتلقى أميرنا أبا حاتم، قَالَ: ألم تكن عليلا؟ قَالَ: بلى، فوهب الله العافية، وعزل الله الطاغية في ليلة واحدة وأما الحسين بْن مصعب فإنه خرج إلى مكة مستجيرا بالرشيد من علي بْن عيسى، فأجاره. ولما عزم الرشيد على عزل علي بْن عيسى دعا- فيما بلغني- هرثمة بْن أعين مستخليا به فقال: إني لم أشاور فيك أحدا، ولم أطلعه على سري فيك، وقد اضطرب علي ثغور المشرق، وأنكر أهل خراسان أمر علي بْن عيسى، إذ خالف عهدي ونبذه وراء ظهره، وقد كتب يستمد ويستجيش، وأنا كاتب إليه، فأخبره أني أمده بك، وأوجه إليه معك من الأموال والسلاح والقوة والعدة ما يطمئن إليه قلبه، وتتطلع إليه نفسه، وأكتب معك كتابا بخطي فلا تفضنه، ولا تطلعن فيه حتى تصل إلى مدينة نيسابور، فإذا نزلتها فاعمل بما فيه، وامتثله ولا تجاوزه، إن شاء الله، وأنا موجه معك رجاء الخادم بكتاب أكتبه إلى علي بْن عيسى بخطي، ليتعرف ما يكون منك ومنه، وهون عليه امر

علي فلا تظهرنه عليه، ولا تعلمنه ما عزمت عليه، وتأهب للمسير، وأظهر لخاصتك وعامتك أني أوجهك مددا لعلي بْن عيسى وعونا له قَالَ: ثم كتب إلي علي بْن عيسى بْن ماهان كتابا بخطه نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم يا بن الزانية، رفعت من قدرك، ونوهت باسمك، وأوطأت سادة العرب عقبك، وجعلت أبناء ملوك العجم خولك وأتباعك، فكان جزائي أن خالفت عهدي، ونبذت وراء ظهرك أمري، حتى عثت في الأرض، وظلمت الرعية، وأسخطت الله وخليفته، بسوء سيرتك، ورداءة طعمتك، وظاهر خيانتك، وقد وليت هرثمة بْن أعين مولاي ثغر خراسان، وأمرته أن يشد وطأته عليك وعلى ولدك وكتابك وعمالك، ولا يترك وراء ظهوركم درهما، ولا حقا لمسلم ولا معاهد إلا أخذكم به، حتى ترده إلى أهله، فإن أبيت ذلك وأباه ولدك وعمالك فله أن يبسط عليكم العذاب، ويصب عليكم السياط، ويحل بكم ما يحل بمن نكث وغير، وبدل وخالف، وظلم وتعدى وغشم انتقاما لله عز وجل بادئا، ولخليفته ثانيا، وللمسلمين والمعاهدين ثالثا، فلا تعرض نفسك للتي لا شوى لها، واخرج مما يلزمك طائعا أو مكرها. وكتب عهد هرثمة بخطه: هذا ما عهد هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى هرثمة بْن أعين حين ولاه ثغر خراسان وأعماله وخراجه، أمره بتقوى الله وطاعته ورعاية أمر الله مراقبته، وأن يجعل كتاب الله إماما في جميع ما هو بسبيله، فيحل حلاله ويحرم حرامه، ويقف عند متشابهه، ويسأل عنه أولي الفقه في دين الله وأولي العلم بكتاب الله، أو يرده إلى إمامه ليريه الله عز وجل فيه رأيه، ويعزم له على رشده، وأمره أن يستوثق من الفاسق علي بْن عيسى وولده وعماله وكتابه، وأن يشد عليهم وطأته، ويحل بهم سطوته، ويستخرج منهم كل مال

خبر شخوص هرثمة بن اعين إلى خراسان واليا عليها

يصح عليهم من خراج أمير المؤمنين وفيء المسلمين، فإذا استنظف ما عندهم وقبلهم من ذلك، نظر في حقوق المسلمين والمعاهدين، وأخذهم بحق كل ذي حق حتى يردوه إليهم، فإن ثبتت قبلهم حقوق لأمير المؤمنين وحقوق للمسلمين، فدافعوا بها وجحدوها، أن يصب عليهم سوط عذاب الله وأليم نقمته، حتى يبلغ بهم الحال التي إن تخطاها بأدنى أدب، تلفت أنفسهم، وبطلت أرواحهم، فإذا خرجوا من حق كل ذي حق، أشخصهم كما تشخص العصاة من خشونة الوطاء وخشونة المطعم والمشرب وغلظ الملبس، مع الثقات من أصحابه إلى باب أمير المؤمنين، إن شاء الله فاعمل يا أبا حاتم بما عهدت إليك، فإني آثرت الله وديني على هواي وإرادتي، فكذلك فليكن عملك، وعليه فليكن أمرك، ودبر في عمال الكور الذين تمر بهم في صعودك ما لا يستوحشون معه إلى أمر يريبهم وظن يرعبهم وابسط من آمال أهل ذلك الثغر ومن أمانهم وعذرهم، ثم اعمل بما يرضى الله منك وخليفته، ومن ولاك الله أمره إن شاء الله هذا عهدي وكتابي بخطي، وأنا أشهد الله وملائكته وحملة عرشه وسكان سمواته وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً*. وكتب أمير المؤمنين بخط يده لم يحضره إلا الله وملائكته. ثم أمر أن يكتب كتاب هرثمة إلى علي بْن عيسى في معاونته وتقويه أمره والشد على يديه فكتب وظهر الأمر بها، وكانت كتب حمويه وردت على هارون أن رافعا لم يخلع ولا نزع السواد ولا من شايعه، وإنما غايتهم عزل علي بن عيسى الذى قد سامهم المكروه. خبر شخوص هرثمة بْن أعين إلى خراسان واليا عليها ومن ذلك ما كان من شخوص هرثمة بْن أعين إلى خراسان واليا عليها ذكر الخبر عما كَانَ من أمره فِي شخوصه إليها وأمر علي بْن عيسى وولده:

ذكر أن هرثمة مضى في اليوم السادس من اليوم الذي كتب له عهده الرشيد وشيعه الرشيد، وأوصاه بما يحتاج إليه، فلم يعرج هرثمة على شيء، ووجه إلى علي بْن عيسى في الظاهر أموالا وسلاحا، وخلعا وطيبا، حتى إذا نزل نيسابور جمع جماعة من ثقات أصحابه وأولي السن والتجربة منهم، فدعا كل رجل منهم سرا، وخلا به، ثم أخذ عليهم العهود والمواثيق أن يكتموا أمره، ويطووا سره، وولى كل رجل منهم كورة، على نحو ما كانت حاله عنده، فولى جرجان ونيسابور والطبسين ونسا وسرخس، وأمر كل واحد منهم، بعد أن دفع إليه عهده بالمسير إلى عمله الذي ولاه على أخفى الحالات وأسترها، والتشبه بالمجتازين في ورودهم الكور ومقامهم فيها إلى الوقت الذي سماه لهم، وولى إسماعيل بْن حفص بْن مصعب جرجان بأمر الرشيد، ثم مضى حتى إذا صار من مرو على مرحلة، دعا جماعة من ثقات أصحابه، وكتب لهم أسماء ولد علي بْن عيسى وأهل بيته وكتابه وغيرهم في رقاع، ودفع إلى كل رجل منهم رقعة باسم من وكله بحفظه إذا هو دخل مرو، خوفا من أن يهربوا إذا ظهر أمره ثم وجه إلى علي بْن عيسى: إن أحب الأمير أكرمه الله أن يوجه ثقاته لقبض ما معي من أموال فعل، فإنه إذا تقدم المال أمامي كان أقوى للأمير، وأفت في عضد أعدائه وأيضا فإني لا آمن عليه إن خلفته وراء ظهري، أن يطمع فيه بعض من تسمو اليه نفسه الى ان يقتطع بغضه، ويفترض غفلتنا عند دخول المدينة فوجه علي بْن عيسى جهابذته وقهارمته لقبض المال، وقال هرثمة لخزانه: اشغلوهم هذه الليلة، واعتلوا عليهم في حمل المال بعلة تقرب من أطماعهم، وتزيل الشك عن قلوبهم، ففعلوا وقال لهم الخزان: حتى تؤامروا أبا حاتم في دواب المال والبغال. ثم ارتحل نحو مدينة مرو، فلما صار منها على ميلين تلقاه علي بْن عيسى في ولده واهل بيته وقواده باحسن لقاء وآنسه، فلما وقعت عين هرثمة عليه، ثنى رجله لينزل عن دابته فصاح به علي: والله لئن نزلت لأنزلن، فثبت على سرجه، ودنا كل منهما من صاحبه فاعتنقا، وسارا، وعلي يسأل هرثمة عن

أمر الرشيد وحاله وهيئته وحال خاصته وقواده وأنصار دولته، وهرثمة يجيبه، حتى صار إلى قنطرة لا يجوزها إلا فارس، فحبس هرثمة لجام دابته، وقال لعلي: سر على بركة الله، فقال علي: لا والله لا أفعل حتى تمضي أنت، فقال: إذا والله لا أمضي، فأنت الأمير وأنا الوزير، فمضى وتبعه هرثمة حتى دخلا مرو، وصارا إلى منزل علي، ورجاء الخادم لا يفارق هرثمة في ليل ولا نهار، ولا ركوب ولا جلوس، فدعا على بالغداء فطمعا، وأكل معهما رجاء الخادم، وكان عازما على الا يأكل معهما، فغمزه هرثمة وقال: كل فإنك جائع، ولا رأي لجائع ولا حاقن، فلما رفع الطعام قَالَ له علي: قد أمرت أن يفرغ لك قصر على الماشان، فإن رأيت أن تصير إليه فعلت فقال له هرثمة: إن معي من الأمور ما لا يتحمل تأخير المناظرة فيها، ثم دفع رجاء الخادم كتاب الرشيد إلى علي، وأبلغه رسالته فلما فض الكتاب فنظر إلى أول حرف منه سقط في يده، وعلم أنه قد حل به ما يخافه ويتوقعه، ثم أمر هرثمة بتقييده وتقييد ولده وكتابه وعماله- وكان رحل ومعه وقر من قيود واغلال- فلما استوسق منه صار إلى المسجد الجامع، فخطب وبسط من آمال الناس، وأخبر أن أمير المؤمنين ولاه ثغورهم لما انتهى إليه من سوء سيره الفاسق على ابن عيسى، وما أمره به فيه وفي عماله وأعوانه، وأنه بالغ من ذلك ومن أنصاف العامة والخاصة، والأخذ لهم بحقوقهم أقصى مواضع الحق وأمر بقراءة عهده عليهم فأظهروا السرور بذلك، وانفسحت آمالهم، وعظم رجاؤهم، وعلت بالتكبير والتهليل أصواتهم، وكثر الدعاء لأمير المؤمنين بالبقاء وحسن الجزاء. ثم انصرف، فدعا بعلي بْن عيسى وولده وعماله وكتابه، فقال: اكفوني مؤنتكم، واعفوني من الإقدام بالمكروه عليكم ونادى في أصحاب ودائعهم ببراءة الذمة من رجل كانت لعلي عنده وديعة أو لأحد من ولده أو كتابه أو عماله وأخفاها ولم يظهر عليها، فأحضره الناس ما كانوا أودعوا إلا رجلا من أهل مرو- وكان من أبناء المجوس- فإنه لم يزل يتلطف للوصول إلى علي بْن عيسى حتى صار إليه، فقال له سرا: لك عندي مال، فإن احتجت

إليه حملته إليك أولا فأولا، وصبرت للقتل فيك، إيثارا للوفاء وطلبا لجميل الثناء، وإن استغنيت عنه حبسته عليك حتى ترى فيه رأيك فعجب علي منه، وقال: لو اصطنعت مثلك ألف رجل ما طمع في السلطان ولا الشيطان أبدا. ثم سأله عن قيمة ما عنده، فذكر له أنه أودعه مالا وثيابا ومسكا، وأنه لا يدرى ما قدر ذلك، غير انه أودعه بخطه، وأنه محفوظ لم يشذ منه شيء، فقال له: دعه، فإن ظهر عليه سلمته ونجوت بنفسك، وإن سلمت به رأيت فيه رأيي. وجزاه الخير، وشكر له فعله ذلك أحسن شكر، وكافاه عليه وبره وكان يضرب به المثل بوفائه، فذكر أنه لم يتستر عن هرثمة من مال علي إلا ما كان أودعه هذا الرجل- وكان يقال له: العلاء بْن ماهان- فاستنظف هرثمة ما وراء ظهورهم حتى حلي نسائهم، فكان الرجل يدخل إلى المنزل فيأخذ جميع ما فيه، حتى إذا لم يبق فيه إلا صوف أو خشب أو ما لا قيمة له قَالَ للمرأة: هاتي ما عليك من الحلي، فتقول للرجل إذا دنا منها لينزع ما عليها: يا هذا، إن كنت محسنا فاصرف بصرك عنى، فو الله لا تركت شيئا من بغيتك علي إلا دفعته إليك، فإن كان الرجل يتحوب من الدنو إليها أجابها إلى ذلك حتى ربما نبذت إليه بالخاتم والخلخال وما قيمته عشرة دراهم، ومن كان بخلاف هذه الصفة، قَالَ: لا أرضى حتى أفتشك، لا تكونين قد خبأت ذهبا أو درا أو ياقوتا، فيضرب يده إلى مغابنها وأرفاغها، فيطلب فيها ما يظن أنها قد سترته عنه، حتى إذا ظن أنه قد أحكم هذا كله وجهه على بعير بلا وطاء تحته، وفي عنقه سلسلة، وفي رجله قيود ثقال ما يقدر معها على نهوض واعتماد. فذكر عمن شهد أمر هرثمة وأمره، أن هرثمة لما فرغ من مطالبة علي بْن عيسى وولده وكتابه وعماله بأموال أمير المؤمنين، أقامهم لمظالم الناس، فكان إذا برد للرجل عليه أو على أحد من أصحابه حق، قَالَ: اخرج للرجل من حقه، وإلا بسطت عليك، فيقول علي: أصلح الله الأمير!

كتاب هرثمة إلى الرشيد في امر على بن عيسى

أجلني يوما أو يومين، فيقول: ذلك إلى صاحب الحق، فإن شاء فعل ثم يقبل على الرجل، فيقول: أترى أن تدعه؟ فإن قَالَ: نعم، قَالَ: فانصرف وعد إليه، فيبعث علي إلى العلاء بْن ماهان، فيقول له: صالح فلانا عني من كذا وكذا على كذا وكذا، أو على ما رأيت، فيصالحه ويصلح أمره. وذكر أنه قام إلى هرثمة رجل، فقال له: أصلح الله الأمير! إن هذا الفاجر أخذ مني درقة ثمينة لم يملك أحد مثلها، فاشتراها على كره مني ولم أرد بيعها بثلاثة آلاف درهم، فأتيت قهرمانة أطلب ثمنها، فلم يعطني شيئا، فأقمت حولا أنتظر ركوب هذا الفاجر، فلما ركب عرضت له وصحت به: أيها الأمير، أنا صاحب الدرقة، ولم آخذ لها ثمنا إلى هذه الغاية، فقذف أمي ولم يعطني حقي، فخذ لي بحقي من مالي وقذفه أمي، فقال: لك بينة؟ قَالَ: نعم، جماعة حضروا كلامه، فأحضرهم فأشهدهم على دعواه، فقال هرثمة: وجب عليك الحد، قَالَ: ولم؟ قَالَ: لقذفك أم هذا، قَالَ: من فقهك وعلمك هذا؟ قَالَ: هذا دين المسلمين، قَالَ: فأشهد أن أمير المؤمنين قد قذفك غير مرة ولا مرتين، وأشهد أنك قد قذفت بنيك ما لا أحصي، مرة حاتما ومرة أعين، فمن يأخذ لهؤلاء بحدودهم منك؟ ومن يأخذ لك من مولاك! فالتفت هرثمة إلى صاحب الدرقة، فقال: أرى لك أن تطالب هذا الشيطان بدرقتك أو ثمنها، وتترك مطالبته بقذفه أمك . كتاب هرثمة الى الرشيد في امر على بن عيسى ولما حمل هرثمة عليا إلى الرشيد، كتب إليه كتابا يخبره ما صنع، نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإن الله عز وجل لم يزل يبلي أمير المؤمنين في كل ما قلده من خلافته، واسترعاه من أمور عباده وبلاده أجمل

البلاء وأكمله، ويعرفه في كل ما حضره ونأى عنه من خاص أموره وعامها، ولطيفها وجليلها أتم الكفاية وأحسن الولاية، ويعطيه في ذلك كله أفضل الأمنية، ويبلغه فيه أقصى غاية الهمة، امتنانا منه عليه، وحفظا لما جعل إليه، مما تكفل بإعزازه وإعزاز أوليائه واهل حقه وطاعته، فيستتم الله أحسن ما عوده وعودنا من الكفاية في كل ما يؤدينا اليه، ونسأله توفيقنا لما نقضي به المفترض من حقه في الوقوف عند أمره، والاقتصار على رأيه. ولم أزل أعز الله أمير المؤمنين، مذ فصلت عن معسكر أمير المؤمنين ممتثلا ما أمرني به فيما أنهضني له، لا أجاوز ذلك ولا أتعداه إلى غيره، ولا أتعرف اليمن والبركة إلا في امتثاله، إلى أن حللت أوائل خراسان، صائنا للأمر الذي أمرني أمير المؤمنين بصيانته وستره، لا أفضي ذلك إلى خاصي ولا إلى عامي، ودبرت في مكاتبة أهل الشاش وفرغانة وخزلهما عن الخائن، وقطع طمعه وطمع من قبله عنهما، ومكاتبة من ببلخ بما كنت كتبت به إلى أمير المؤمنين وفسرت له، فلما نزلت نيسابور عملت في أمر الكور التي اجتزت عليها بتولية من وليت عليها، قبل مجاوزتي إياها، كجرجان ونيسابور نسا وسرخس، ولم آل الاحتياط في ذلك، واختيار الكفاه واهل الأمانة الصحة من ثقات أصحابي، وتقدمت إليهم في ستر الأمر وكتمانه، وأخذت عليهم بذلك أيمان البيعة، ودفعت إلى كل رجل منهم عهده بولايته، أمرتهم بالمسير إلى كور أعمالهم على أخفى الحالات وأسترها، والتشبه بالمجتازين في ورودهم الكور ومقامهم بها إلى الوقت الذي سميت لهم، وهو اليوم الذي قدرت فيه دخولي إلى مرو، والتقائي وعلي بْن عيسى، وعملت في استكفائي إسماعيل بْن حفص بْن مصعب أمر جرجان بما كنت كتبت به إلى أمير المؤمنين، فنفذ أولئك العمال لأمري، وقام كل رجل منهم في الوقت الذي وقت له بضبط عمله وأحكام ناحيته، وكفى الله أمير المؤمنين المؤنة في ذلك، بلطيف صنعه

ولما صرت من مدينة مرو على منزل، اخترت عدة من ثقات أصحابي، وكتبت بتسمية ولد علي بْن عيسى وكتابه وأهل بيته وغيرهم رقاعا، ودفعت إلى كل رجل منهم رقعة باسم من وكلته بحفظه في دخولي، ولم آمن لو قصرت في ذلك وأخرته أن يصيروا عند ظهور الخبر وانتشاره إلى التغيب والانتشار، فعملوا بذلك، ورحلت عن موضعي إلى مدينة مرو، فلما صرت منها على ميلين تلقاني علي بْن عيسى في ولده وأهل بيته وقواده، فلقيته بأحسن لقاء، وآنسته، وبلغت من توقيره وتعظيمه والتماس النزول إليه أول ما بصرت به ما ازداد به أنسا وثقة، إلى ما كان ركن إليه قبل ذلك، مما كان يأتيه من كتبي، فإنها لم تنقطع عنه بالتعظيم والإجلال مني له والالتماس، لالقاء سوء الظن عنه، لئلا يسبق إلى قلبه أمر ينتقض به ما دبر أمير المؤمنين في أمره، وأمرني به في ذلك وكان الله تبارك وتعالى هو المنفرد بكفاية أمير المؤمنين الأمر فيه إلى أن ضمني وإياه مجلسه، وصرت إلى الأكل معه، فلما فرغنا من ذلك بدأني يسألني المصير إلى منزل كان ارتاده لي، فأعلمته ما معي من الأمور التي لا تحتمل تأخير المناظرة فيها ثم دفع إليه رجاء الخادم كتاب أمير المؤمنين وأبلغه رسالته، فعلم عند ذلك أن قد حل به الأمر الذي جناه على نفسه، وكسبته يداه، من سخط أمير المؤمنين، وتغير رأيه بخلافه أمره وتعديه سيرته ثم صرت إلى التوكيل به، ومضيت إلى المسجد الجامع، فبسطت آمال الناس ممن حضر، وافتتحت القول بما حملني أمير المؤمنين إليهم، وأعلمتهم إعظام أمير المؤمنين ما أتاه، ووضح عنده من سوء سيره على، وما أمرني به فيه وفي عماله وأعوانه، وإني بالغ من ذلك ومن إنصاف العامة والخاصة والأخذ لهم بحقوقهم أقصى غايتهم وأمرت بقراءة عهدي عليهم، وأعلمتهم أن ذلك مثالي وإمامي، وأني به أقتدي، وعليه أحتذي، فمتى زلت عن باب واحد من أبوابه فقد ظلمت نفسي، وأحللت بها ما يحل بمن خالف

الجواب من الرشيد

رأي أمير المؤمنين وأمره، فأظهروا السرور بذلك والاستبشار، وعلت بالتكبير والتهليل أصواتهم، وكثر دعاؤهم لأمير المؤمنين بالبقاء وحسن الجزاء. ثم انكفأت إلى المجلس الذي كان علي بْن عيسى فيه، فصرت إلى تقييده وتقييد ولده وأهل بيته وكتابه وعماله والاستيثاق منهم جميعا، وأمرتهم بالخروج إلي من الأموال التي احتجنوها من أموال أمير المؤمنين وفيء المسلمين، وإعفائي بذلك من الإقدام عليهم بالمكروه والضرب، وناديت في أصحاب ودائعهم بإخراج ما كان عندهم فحملوا إلي إلى أن كتبت إلى أمير المؤمنين صدرا صالحا من الورق والعين، وأرجو أن يعين الله على استيفاء ما قبلهم، واستنظاف ما وراء ظهورهم، ويسهل الله من ذلك أفضل ما لم يزل يعوده أمير المؤمنين من الصنع في مثله من الأمور التي يعني بها إن شاء الله تعالى: ولم أدع عند قدومي مرو التقدم في توجيه الرسل وإنفاذ الكتب البالغة في الإعذار والإنذار، والتبصير والإرشاد، إلى رافع ومن قبله من أهل سمرقند، وإلى من ببلخ، على حسن ظني بهم في الإجابة، ولزوم الطاعة والاستقامة، ومهما تنصرف به رسلي إلي يا أمير المؤمنين من أخبار القوم في إجابتهم وامتناعهم، أعمل على حسبه من أمرهم، وأكتب بذلك إلى أمير المؤمنين على حقه وصدقه وأرجو أن يعرف الله أمير المؤمنين في ذلك من جميل صنعه ولطيف كفايته، ما لم تزل عادته جارية به عنده، بمنه وطوله وقوته والسلام . الجواب من الرشيد بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك بقدومك مرو في اليوم الذي سميت، وعلى الحال التي وصفت وما فسرت، وما كنت قدمت من الحيل قبل ورودك إياها، وعملت به في أمر الكور التي سميت وتولية من وليت عليها قبل نفوذك عنها، ولطفت له من الأمر الذي استجمع لك به ما أردت من أمر الخائن علي بْن عيسى وولده وأهل بيته، ومن صار في

يدك من عماله واصحاب اعماله واحتذائك في ذلك كله ما كان أمير المؤمنين مثل لك ووقفك عليه، وفهم أمير المؤمنين كل ما كتبت به، وحمد الله على ذلك كثيرا وعلى تسديده إياك وما أعانك به من توفيقه، حتى بلغت إرادة أمير المؤمنين، وأدركت طلبته، وأحسنت ما كان يحب بك وعلى يديك إحكامه، مما كان اشتد به اعتناؤه، ولج به اهتمامه، وجزاك الخير على نصيحتك وكفايتك، فلا أعدم الله أمير المؤمنين أحسن ما عرفه منك في كل ما أهاب بك إليه، واعتمد بك عليه. وأمير المؤمنين يأمرك أن تزداد جدا واجتهادا فيما أمرك به من تتبع أموال الخائن علي بْن عيسى وولده وكتابه وعماله ووكلائه وجهابذته والنظر فيما اختانوا به أمير المؤمنين في أمواله، وظلموا به الرعية في أموالهم، وتتبع ذلك واستخراجه من مظانه ومواضعه، التي صارت اليه، ومن أيدي اصحاب الودائع التي استودعوها إياهم، واستعمال اللين والشدة في ذلك كله، حتى تصير إلى استنظاف ما وراء ظهورهم، ولا تبقى من نفسك في ذلك بقية، وفي إنصاف الناس منهم في حقوقهم ومظالمهم، حتى لا تبقى لمتظلم منهم قبلهم ظلامة إلا استقضيت ذلك له، وحملته وإياهم على الحق والعدل فيها، فإذا بلغت أقصى غاية الأحكام والمبالغة في ذلك، فأشخص الخائن وولده وأهل بيته وكتابه وعماله إلى أمير المؤمنين في وثاق، وعلى الحال التي استحقوها من التغيير والتنكيل بما كسبت أيديهم، وما الله بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ*. ثم اعمل بما أمرك به أمير المؤمنين من الشخوص إلى سمرقند، ومحاولة ما قبل خامل، ومن كان على رأيه ممن أظهر خلافا وامتناعا من أهل كور ما وراء النهر وطخارستان بالدعاء إلى الفيئة والمراجعة، وبسط أمانات أمير المؤمنين التي حملكها إليهم، فإن قبلوا وأنابوا وراجعوا ما هو أملك بهم، وفرقوا جموعهم، فهو ما يحب أمير المؤمنين أن يعاملهم به من العفو عنهم والإقالة

لهم، إذ كانوا رعيته، وهو الواجب على أمير المؤمنين لهم إذ أجابهم إلى طلبتهم، وآمن روعهم، وكفاهم ولاية من كرهوا ولايته، وأمر بإنصافهم في حقوقهم وظلاماتهم- وإن خالفوا ما ظن أمير المؤمنين، فحاكمهم إلى الله إذ طغوا وبغوا، وكرهوا العافية وردوها، فإن أمير المؤمنين قد قضى ما عليه، فغير ونكل، وعزل واستبدل، وعفا عمن أحدث، وصفح عمن اجترم، وهو يشهد الله عليهم بعد ذلك في خلاف إن آثروه، وعنود إن أظهروه وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً* ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، عليه يتوكل وإليه ينيب والسلام. وكتب إسماعيل بْن صبيح بين يدي أمير المؤمنين. وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْن العباس بْن محمد بْن علي، وكان والي مكة. ولم يكن للمسلمين بعد هذه السنة صائفة إلى سنة خمس عشرة ومائتين.

سنه اثنتين وتسعين ومائه

ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففيها كان الفداء بين المسلمين والروم على يدي ثابت بن نصر بن مالك. ذكر الخبر عن مسير الرشيد الى خراسان وفيها وافى الرشيد من الرقة في السفن مدينة السلام، يريد الشخوص إلى خراسان لحرب رافع، وكان مصيره ببغداد يوم الجمعة لخمس ليال بقين من شهر ربيع الآخر، واستخلف بالرقة ابنه القاسم، وضم إليه خزيمة بْن خازم، ثم شخص من مدينة السلام عشية الاثنين، لخمس خلون من شعبان بعد صلاة العصر، من الخيزرانية، فبات في بستان أبي جعفر، ثم سار من غد إلى النهروان، فعسكر هنالك، ورد حماد البربري إلى أعماله، واستخلف ابنه محمدا بمدينة السلام. وذكر عن ذي الرياستين أنه قَالَ: قلت للمأمون لما أراد الرشيد الشخوص إلى خراسان لحرب رافع: لست تدري ما يحدث بالرشيد وهو خارج إلى خراسان، وهي ولايتك، ومحمد المقدم عليك! وإن أحسن ما يصنع بك أن يخلعك، وهو ابن زبيدة، وأخواله بنو هاشم، وزبيدة وأموالها، فاطلب إليه أن يشخصك معه فسأله الإذن فأبى عليه، فقلت له: قل له: أنت عليل، وإنما أردت أن أخدمك، ولست أكلفك شيئا فأذن له وسار. فذكر محمد بْن الصباح الطبري أن أباه شيع الرشيد حين خرج إلى خراسان، فمضى معه إلى النهروان، فجعل يحادثه في الطريق إلى أن قَالَ له: يا صباح، لا أحسبك تراني أبدا قَالَ: فقلت: بل يردك الله سالما، قد فتح الله

عليك، وأراك في عدوك أملك قَالَ: يا صباح، ولا أحسبك تدري ما أجد! قلت: لا والله، قَالَ: فتعال حتى أريك، قَالَ: فانحرف عن الطريق قدر مائة ذراع، فاستظل بشجرة، وأومأ إلى خدمه الخاصة فتنحوا، ثم قَالَ: أمانة الله يا صباح أن تكتم علي، فقلت: يا سيدي، عبدك الذليل تخاطبه مخاطبة الولد! قَالَ: فكشف عن بطنه، فإذا عصابة حرير حوالي بطنه، فقال: هذه علة أكتمها الناس كلهم، ولكل واحد من ولدي علي رقيب، فمسرور رقيب المأمون، وجبريل بْن بختيشوع رقيب الأمين- وسمى الثالث فذهب عني اسمه- وما منهم أحد إلا وهو يحصي أنفاسي، ويعد أيامي، ويستطيل عمري، فإن أردت أن تعرف ذلك فالساعة أدعو بدابة، فيجيئونني ببرذون أعجف قطوف، ليزيد في علتي، فقلت: يا سيدي ما عندي في الكلام جواب، ولا في ولاة العهود، غير أني أقول: جعل الله من يشنؤك من الجن والإنس والقريب والبعيد فداك، وقدمهم إلى تلك قبلك، ولا أرانا فيك مكروها أبدا، وعمر بك الله الإسلام، ودعم ببقائك أركانه، وشد بك أرجاءه، وردك الله مظفرا مفلحا، على أفضل أملك في عدوك، وما رجوت من ربك قَالَ: أما أنت فقد تخلصت من الفريقين. قَالَ: ثم دعا ببرذون، فجاءوا به كما وصف، فنظر إلي فركبه، وقال انصرف غير مودع، فإن لك أشغالا، فودعته وكان آخر العهد به. وفيها تحرك الخرمية بناحية أذربيجان، فوجه إليهم الرشيد عبد الله بْن مالك في عشرة آلاف فارس، فأسر وسبى، ووافاه بقرماسين، فأمر بقتل الأسارى وبيع السبي. وفيها مات علي بْن ظبيان القاضي بقصر اللصوص. وفيها قدم يحيى بْن معاذ بأبي النداء على الرشيد وهو بالرقة فقتله

وفيها فارق عجيف بْن عنبسة والأحوص بْن مهاجر في عدة من أبناء الشيعة رافع بْن ليث، وصاروا إلى هرثمة. وفيها قدم بابن عائشة وبعدة من أهل أحواف مصر. وفيها ولى ثابت بْن نصر بْن مالك الثغور وغزا، فافتتح مطمورة. وفيها كان الفداء بالبدندون. وفيها تحرك ثروان الحروري، وقتل عامل السلطان بطف البصرة وفيها قدم بعلي بْن عيسى بغداد، فحبس في داره. وفيها مات عيسى بْن جعفر بطرارستان- وقيل بالدسكرة- وهو يريد اللحاق بالرشيد. وفيها قتل الرشيد الهيصم اليماني. وحج بالناس في هذه السنة العباس بْن عبيد الله بْن جعفر بْن أبي جعفر المنصور.

سنه ثلاث وتسعين ومائه

ثم دخلت سنه ثلاث وتسعين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر الخبر عن وفاه الفضل بن يحيى فمن ذلك وفاة الفضل بْن يحيى بْن خالد بْن برمك في الحبس بالرقة في المحرم، وكان بدء علته- فيما ذكر- من ثقل أصابه في لسانه وشقه، وكان يقول: ما أحب أن يموت الرشيد، فيقال له: أما تحب أن يفرج الله عنك! فيقول: إن أمري قريب من أمره ومكث يعالج أشهرا، ثم صلح، فجعل يتحدث، ثم اشتد عليه فعقد لسانه وطرفه، ووقع لمآبه، فمكث في تلك الحال يوم الخميس ويوم الجمعة، وتوفي مع أذان الغداة، قبل وفاة الرشيد بخمسة أشهر، وهو في خمس وأربعين سنة، وجزع الناس عليه، وصلى عليه إخوانه في القصر الذي كانوا فيه قبل إخراجه، ثم أخرج فصلى الناس على جنازته. وفيها مات سعيد الطبرى المعروف بالجوهرى . ذكر الخبر عن مقام الرشيد بطوس وفيها وافى هارون جرجان في صفر، فوافاه بها خزائن علي بْن عيسى على ألف بعير وخمسمائة بعير، ثم رحل من جرجان- فيما ذكر- في صفر، وهو عليل، إلى طوس، فلم يزل بها إلى أن توفي- واتهم هرثمة، فوجه ابنه المأمون قبل وفاته بثلاث وعشرين ليلة إلى مرو، ومعه عبد الله بْن مالك ويحيى بْن معاذ وأسد بْن يزيد بْن مزيد والعباس بْن جعفر بْن محمد بْن الأشعث والسندي ابن الحرشي ونعيم بْن حازم، وعلى كتابته ووزارته أيوب بْن أبي سمير، ثم اشتد بهارون الوجع حتى ضعف عن السير. وكانت بين هرثمة وأصحاب رافع فيها وقعة، فتح فيها بخارى، واسر

ذكر الخبر عن موت الرشيد

أخا رافع بشير بْن الليث، فبعث به إلى الرشيد وهو بطوس، فذكر عن ابن جامع المروزي، عن أبيه، قَالَ: كنت فيمن جاء إلى الرشيد بأخي رافع. قَالَ: فدخل عليه وهو على سرير مرتفع عن الأرض بقدر عظم الذراع، وعليه فرش بقدر ذلك- أو قَالَ أكثر- وفي يده مرآة ينظر إلى وجهه قَالَ: فسمعته يقول: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! ونظر إلى أخي رافع، فقال: اما والله يا بن اللخناء، انى لأرجو الا يفوتني خامل- يريد رافعا- كما لم تفتني فقال له: يا أمير المؤمنين، قد كنت لك حربا، وقد أظفرك الله بي فافعل ما يحب الله، أكن لك سلما، ولعل الله ان يلين لك قلب رافع إذا علم أنك قد مننت علي! فغضب وقال: والله لو لم يبق من أجلي إلا أن أحرك شفتي بكلمة لقلت: اقتلوه ثم دعا بقصاب، فقال: لا تشحذ مداك، اتركها على حالها، وفصل هذا الفاسق ابن الفاسق، وعجل، لا يحضرن أجلي وعضوان من أعضائه في جسمه. ففصله حتى جعله أشلاء فقال: عد أعضاءه، فعددت له أعضاءه، فإذا هي أربعة عشر عضوا، فرفع يديه إلى السماء، فقال: اللهم كما مكنتني من ثأرك وعدوك، فبلغت فيه رضاك، فمكني من أخيه ثم أغمي عليه، وتفرق من حضره. ذكر الخبر عن موت الرشيد وفيها مات هارون الرشيد. ذكر الخبر عن سبب وفاته والموضع الذي توفي فيه: ذكر عن جبريل بْن بختيشوع أنه قَالَ: كنت مع الرشيد بالرقة، وكنت أول من يدخل عليه في كل غداة، فأتعرف حاله في ليلته، فإن كان أنكر شيئا وصفه، ثم ينبسط فيحدثني بحديث جواريه وما عمل في مجلسه، ومقدار شربه، وساعات جلوسه، ثم يسألني عن أخبار العامة وأحوالها، فدخلت عليه في غداة يوم، فسلمت فلم يكد يرفع طرفه، ورأيته عابسا مفكرا

مهموما، فوقفت بين يديه مليا من النهار، وهو على تلك الحال، فلما طال ذلك أقدمت عليه، فقلت: يا سيدي، جعلني الله فداك! ما حالك هكذا، عله فأخبرني بها، فلعله يكون عندي دواؤها، أو حادثة في بعض من تحب فذاك ما لا يدفع ولا حيلة فيه إلا التسليم والغم، لأدرك فيه، أو فتق ورد عليك في ملكك، فلم تخل الملوك من ذلك، وأنا أولى من افضيت اليه بالخبر، وتروجت إليه بالمشورة فقال: ويحك يا جبريل! ليس غمي وكربي لشيء مما ذكرت، ولكن لرؤيا رأيتها في ليلتي هذه، وقد أفزعتني وملأت صدري، واقرحت قلبي، قلت: فرجت عني يا أمير المؤمنين، فدنوت منه، فقبلت رجله، وقلت: أهذا الغم كله لرؤيا! الرؤيا انما تكون من خاطر او بخارات رديئه أو من تهاويل السوداء، وإنما هي أضغاث أحلام بعد هذا كله قَالَ: فأقصها عليك، رأيت كأني جالس على سريري هذا، إذ بدت من تحتي ذراع أعرفها وكف أعرفها، لا أفهم اسم صاحبها، وفي الكف تربة حمراء، فقال لي قائل أسمعه ولا أرى شخصه: هذه التربة التي تدفن فيها، فقلت: وأين هذه التربة؟ قَالَ: بطوس وغابت اليد وانقطع الكلام، وانتبهت فقلت: يا سيدي، هذه والله رؤيا بعيدة ملتبسة، أحسبك أخذت مضجعك، ففكرت في خراسان وحروبها وما قد ورد عليك من انتقاض بعضها قَالَ: قد كان ذاك، قَالَ: قلت: فلذلك الفكر خالطك في منامك ما خالطك، فولد هذه الرؤيا، فلا تحفل بها جعلني الله فداك! وأتبع هذا الغم سرورا، يخرجه من قلبك لا يولد علة قَالَ: فما برحت أطيب نفسه بضروب من الحيل، حتى سلا وانبسط، وأمر بإعداد ما يشتهيه، ويزيد في ذلك اليوم في لهوه. ومرت الأيام فنسي، ونسينا تلك الرؤيا، فما خطرت لأحد منا ببال، ثم قدر مسيره إلى خراسان حين خرج رافع، فلما صار في بعض الطريق، ابتدأت به العلة فلم تزل تتزايد حتى دخلنا طوس، فنزلنا في منزل الجنيد بْن

عبد الرحمن في ضيعة له تعرف بسناباذ، فبينا هو يمرض في بستان له في ذلك القصر إذ ذكر تلك الرؤيا، فوثب متحاملا يقوم ويسقط، فاجتمعنا إليه، كل يقول: يا سيدي ما حالك؟ وما دهاك؟ فقال: يا جبريل، تذكر رؤياي بالرقة في طوس؟ ثم رفع رأسه إلى مسرور، فقال: جئني من تربة هذا البستان، فمضى مسرور، فأتى بالتربة في كفه حاسرا عن ذراعه، فلما نظر إليه قَالَ: هذه والله الذراع التي رأيتها في منامي، وهذه والله الكف بعينها، وهذه والله التربة الحمراء ما خرمت شيئا، وأقبل على البكاء والنحيب ثم مات بها والله بعد ثلاثة، ودفن في ذلك البستان. وذكر بعضهم أن جبريل بْن بختيشوع كان غلط على الرشيد في علته في علاج عالجه به، كان سبب منيته، فكان الرشيد هم ليلة مات بقتله، وأن يفصله كما فصل أخا رافع، ودعا بجبريل ليفعل ذلك به، فقال له جبريل: أنظرني إلى غد يا أمير المؤمنين، فإنك ستصبح في عافية فمات في ذلك اليوم. وذكر الحسن بْن علي الربعي أن أباه حدثه عن أبيه- وكان جمالا معه مائة جمل، قَالَ: هو حمل الرشيد إلى طوس- قَالَ: قَالَ الرشيد: احفروا لي قبرا قبل أن أموت، فحفروا له، قَالَ: فحملته في قبة أقود به، حتى نظر إليه قَالَ، فقال: يا بن آدم تصير إلى هذا! وذكر بعضهم أنه لما اشتدت به العلة أمر بقبره فحفر في موضع من الدار التي كان فيها نازلا، بموضع يسمى المثقب، في دار حميد بْن أبي غانم الطائي، فلما فرغ من حفر القبر، أنزل فيه قوما فقرءوا فيه القرآن حتى ختموا، وهو في محفة على شفير القبر. وذكر محمد بْن زياد بْن محمد بْن حاتم بْن عبيد الله بْن أبي بكرة، أن سهل بْن صاعد حدثه، قَالَ: كنت عند الرشيد في بيته الذي قبض فيه، وهو يجود بنفسه، فدعا بملحفة غليظة فاحتبى بها، وجعل يقاسي

ما يقاسي، فنهضت فقال لي: أقعد يا سهل، فقعدت وطال جلوسي لا يكلمني ولا أكلمه، والملحفة تنحل فيعيد الاحتباء بها، فلما طال ذلك نهضت، فقال لي: إلى أين يا سهل؟ قلت: يا أمير المؤمنين، ما يسع قلبي أن أرى أمير المؤمنين يعاني من العلة ما يعاني، فلو اضطجعت يا أمير المؤمنين كان أروح لك! قَالَ: فضحك ضحك صحيح، ثم قَالَ: يا سهل إني أذكر في هذه الحال قول الشاعر: وإني من قوم كرام يزيدهم ... شماسا وصبرا شدة الحدثان وذكر عن مسرور الكبير، قَالَ: لما حضرت الرشيد الوفاة، وأحس بالموت، أمرني أن أنشر الوشي فآتيه بأجود ثوب أقدر عليه وأغلاه قيمة، فلم أجد ذلك في ثوب واحد، ووجدت ثوبين أغلى شيء قيمة، وجدتهما متقاربين في اثمانهما، إلا أن أحدهما أغلى من الآخر شيئا، وأحدهما أحمر والآخر أخضر، فجئته بهما، فنظر إليهما وخبرته قيمتهما، فقال: اجعل أحسنهما كفني، ورد الآخر إلى موضعه. وتوفي- فيما ذكر- في موضع يدعى المثقب، في دار حميد بْن أبي غانم، نصف الليل، ليلة السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة من هذه السنة، وصلى عليه ابنه صالح، وحضر وفاته الفضل بْن الربيع وإسماعيل بْن صبيح، ومن خدمه مسرور وحسين ورشيد. وكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وشهرين وثمانية عشر يوما، أولها ليلة الجمعة لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة، وآخرها ليلة السبت لثلاث ليال خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة. وقال هشام بْن محمد: استخلف أبو جعفر الرشيد هارون بْن محمد ليلة الجمعة لأربع عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ سنة سبعين ومائة، وهو يومئذ ابن اثنتين وعشرين سنة، وتوفي ليلة الأحد غرة جمادى الأولى وهو ابن

ذكر ولاه الأمصار في ايام هارون الرشيد

خمس وأربعين سنة سنة ثلاث وتسعين ومائة، فملك ثلاثا وعشرين سنة وشهرا وستة عشر يوما وقيل: كان سنه يوم توفي سبعا وأربعين سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام، أولها لثلاث بقين من ذي الحجة سنة خمسين وأربعين ومائة، وآخرها يومان مضيا من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة. وكان جميلا وسيما أبيض جعدا، وقد وخطه الشيب. ذكر ولاة الأمصار في أيام هارون الرشيد ولاة المدينة: إسحاق بْن عيسى بْن علي، عبد الملك بْن صالح بْن علي، محمد بْن عبد الله، موسى بن عيسى بْن موسى، إبراهيم بْن محمد بْن إبراهيم، علي بْن عيسى بْن موسى، محمد بْن إبراهيم، عبد الله بْن مصعب الزبيري، بكار بْن عبد الله بْن مصعب، أبو البختري وهب بْن وهب. ولاة مكة: العباس بْن محمد بْن ابراهيم، سليمان بن جعفر بن سليمان، موسى بْن عيسى بْن موسى، عبد الله بْن محمد بْن إبراهيم، عبد الله بْن قثم ابن العباس، محمد بن ابراهيم، عبيد الله بْن قثم، عبد الله بْن محمد بْن عمران، عبد الله بْن محمد بْن إبراهيم، العباس بْن موسى بْن عيسى، علي بْن موسى بْن عيسى، محمد بْن عبد الله العثماني، حماد البربرى، سليمان بن جعفر ابن سليمان، أحمد بْن إسماعيل بْن علي، الفضل بْن العباس بْن محمد. ولاة الكوفة: موسى بْن عيسى بْن موسى، يعقوب بْن أبي جعفر، موسى ابن عيسى بْن موسى، العباس بْن عيسى بْن موسى، إسحاق بْن الصباح الكندي، جعفر بْن جعفر بْن أبي جعفر، موسى بْن عيسى بْن موسى، العباس بْن عيسى بْن موسى، موسى بْن عيسى بْن موسى. ولاة البصرة: محمد بْن سليمان بْن علي، سليمان بْن ابى جعفر، عيسى ابن جعفر بْن أبي جعفر، خزيمة بْن خازم، عيسى بْن جعفر، جرير بْن يزيد، جعفر بْن سليمان، جعفر بْن أبي جعفر، عبد الصمد بن على، مالك

ذكر بعض سير الرشيد

ابن علي الخزاعي، إسحاق بْن سليمان بْن علي، سليمان بن ابى جعفر، عيسى ابن جعفر، الحسن بْن جميل مولى أمير المؤمنين، إسحاق بْن عيسى بْن علي. ولاة خراسان: أبو العباس الطوسي، جعفر بْن محمد بْن الأشعث، العباس بْن جعفر، الغطريف بْن عطاء، سليمان بن راشد على الخراج، حمزه ابن مالك، الفضل بْن يحيى، منصور بْن يزيد بْن منصور، جعفر بْن يحيى خليفته بها، علي بْن الحسن بْن قحطبة، علي بْن عيسى بْن ماهان، هرثمة بْن أعين. ذكر بعض سير الرشيد ذكر العباس بْن محمد عن أبيه، عن العباس، قَالَ: كان الرشيد يصلي في كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا، إلا أن تعرض له علة، وكان يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم بعد زكاته، وكان إذا حج حج معه مائة من الفقهاء وابنائهم، وإذا لم يحج أحج ثلاثمائه رجل بالنفقة السابغة والكسوة الباهرة، وكان يقتفي آثار المنصور، ويطلب العمل بها إلا في بذل المال، فإنه لم ير خليفة قبله كان أعطى منه للمال، ثم المأمون من بعده وكان لا يضيع عنده إحسان محسن، ولا يؤخر ذلك في أول ما يجب ثوابه وكان يحب الشعراء والشعر، ويميل إلى أهل الأدب والفقه، ويكره المراء في الدين، ويقول: هو شيء لا نتيجة له، وبالحري إلا يكون فيه ثواب، وكان يحب المديح، ولا سيما من شاعر فصيح، ويشتريه بالثمن الغالي. وذكر ابن أبي حفصة أن مروان بْن أبي حفصة دخل عليه في سنة إحدى وثمانين ومائة يوم الأحد لثلاث خلون من شهر رمضان، فأنشده شعره الذي يقول فيه: وسدت بهارون الثغور فأحكمت ... به من أمور المسلمين المرائر

وما انفك معقودا بنصر لواؤه ... له عسكر عنه تشظى العساكر وكل ملوك الروم أعطاه جزيه ... على الرغم قسرا عن يد وهو صاغر لقد ترك الصفصاف هارون صفصفا ... كأن لم يُدَمِّنْهُ من الناس حاضر أناخ على الصفصاف حتى استباحه ... فكابره فيها ألج مكابر إلى وجهه تسمو العيون وما سمت ... إلى مثل هارون العيون النواظر ترى حوله الأملاك من آل هاشم ... كما حفت البدر النجوم الزواهر يسوق يديه من قريش كرامها ... وكلتاهما بحر على الناس زاخر إذا فقد الناس الغمام تتابعت ... عليهم بكفيك الغيوم المواطر على ثقة ألقت إليك أمورها ... قريش، كما ألقى عصاه المسافر أمور بميراث النبي وليتها ... فأنت لها بالحزم طاو وناشر إليكم تناهت فاستقرت وإنما ... إلى أهله صارت بهن المصاير خلفت لنا المهدي في العدل والندى ... فلا العرف منزور ولا الحكم جائر وأبناء عباس نجوم مضيئة ... إذا غاب نجم لاح آخر زاهر على بنى ساقي الحجيج تتابعت ... أوائل من معروفكم وأواخر فأصبحت قد أيقنت أن لست بالغا ... مدى شكر نعماكم وإني لشاكر وما الناس إلا وارد لحياضكم ... وذو نهل بالري عنهن صادر حصون بني العباس في كل مأزق ... صدور العوالي والسيوف البواتر فطورا يهزون القواطع والقنا ... وطورا بايديهم تهز المخاصر بأيدي عظام النفع والضر لا تنى ... بهم للعطايا والمنايا بوادر ليهنكم الملك الذي أصبحت بكم ... أسرته مختالة والمنابر

أبوك ولي المصطفى دون هاشم ... وإن رغمت من حاسديك المناخر فأعطاه خمسة آلاف دينار، فقبضها بين يديه وكساه خلعته، وأمر له بعشرة من رقيق الروم، وحمله على برذون من خاص مراكبه. وذكر أنه كان مع الرشيد ابن أبي مريم المدني، وكان مضحاكا له محداثا فكيها، فكان الرشيد لا يصبر عنه ولا يمل محادثته، وكان ممن قد جمع إلى ذلك المعرفة بأخبار أهل الحجاز وألقاب الأشراف ومكايد المجان، فبلغ من خاصته بالرشيد أن بوأه منزلا في قصره، وخلطه بحرمه وبطانته ومواليه وغلمانه، فجاء ذات ليلة وهو نائم وقد طلع الفجر، وقام الرشيد إلى الصلاة فألفاه نائما، فكشف اللحاف عن ظهره، ثم قَالَ له: كيف أصبحت؟ قَالَ: يا هذا ما أصبحت بعد، اذهب إلى عملك، قَالَ: ويلك! قم إلى الصلاة، قَالَ: هذا وقت صلاة أبي الجارود، وأنا من أصحاب أبي يوسف القاضي فمضى وتركه نائما، وتأهب الرشيد للصلاة، فجاء غلامه فقال: أمير المؤمنين قد قام إلى الصلاة، فقام فألقى عليه ثيابه، ومضى نحوه، فإذا الرشيد يقرأ في صلاة الصبح، فانتهى إليه وهو يقرأ: «وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي» فقال ابن أبي مريم: لا أدري والله! فما تمالك الرشيد أن ضحك في صلاته، ثم التفت اليه وهو كالمغضب، فقال: يا بن أبي مريم، في الصلاة أيضا! قَالَ: يا هذا وما صنعت؟ قَالَ: قطعت علي صلاتي، قَالَ: والله ما فعلت، إنما سمعت منك كلاما غمني حين قلت: «وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي» فقلت: لا أدري والله! فعاد فضحك، وقال: إياك والقرآن والدين، ولك ما شئت بعدهما. وذكر بعض خدم الرشيد أن العباس بْن محمد أهدى غالية إلى الرشيد، فدخل عليه وقد حملها معه، فقال: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! قد جئتك بغالية ليس لأحد مثلها، أما مسكها فمن سرر الكلاب التبتيه

العتيقة، وأما عنبرها فمن عنبر بحر عدن، وأما بانها فمن فلان المدني المعروف بجودة عمله، وأما مركبها فإنسان بالبصرة عالم بتأليفها، حاذق بتركيبها، فإن رأى أمير المؤمنين أن يمن علي بقبولها فعل، فقال الرشيد لخاقان الخادم وهو على رأسه: يا خاقان، أدخل هذه الغالية، فأدخلها خاقان، فإذا هي في برنية عظيمة من فضة، وفيها ملعقة، فكشف عنها وابن أبي مريم حاضر، فقال: يا أمير المؤمنين، هبها لي، قَالَ: خذها إليك فاغتاظ العباس، وطار أسفا، وقال: ويلك! عمدت إلى شيء منعته نفسي، وآثرت به سيدي فأخذته! فقال: أمه فاعلة إن دهن بها إلا استه! قَالَ: فضحك الرشيد، ثم وثب ابن أبي مريم، فألقى طرف قميصه على رأسه، وأدخل يده في البرنية، فجعل يخرج منها ما حملت يده، فيضعه في استه مرة وفي أرفاغه ومغابنه أخرى، ثم سود بها وجهه ورأسه وأطرافه، حتى أتى على جميع جوارحه، وقال لخاقان: أدخل إلي غلامي، فقال الرشيد وما يعقل مما هو فيه من الضحك، ادع غلامه، فدعاه، فقال له: اذهب بهذه الباقية، إلى فلانة، امرأته، فقل لها: ادهني بهذا حرك إلى أن أنصرف فانيكك فأخذها الغلام ومضى، والرشيد يضحك، فذهب به الضحك ثم أقبل على العباس فقال: والله أنت شيخ أحمق، تجيء إلى خليفة الله فتمدح عنده غالية! أما تعلم أن كل شيء تمطر السماء وكل شيء تخرج الأرض له، وكل شيء هو في الدنيا فملك يده، وتحت خاتمه وفي قبضته! وأعجب من هذا أنه قيل لملك الموت: أنظر كل شيء يقول لك هذا فأنفذه، فمثل هذا تمدح عنده الغالية، ويخطب في ذكرها، كأنه بقال أو عطار أو تمار! قَالَ: فضحك الرشيد حتى كاد ينقطع نفسه، ووصل ابن أبي مريم في ذلك اليوم بمائة ألف درهم. وذكر عن زيد بْن علي بن حسين بن زيد بن علي بن الحسين بن على ابن أبي طالب، قَالَ: أراد الرشيد أن يشرب الدواء يوما، فقال له ابن أبي مريم: هل لك أن تجعلني حاجبك غدا عند أخذك الدواء، وكل شيء

أكسبه فهو بيني وبينك؟ قَالَ: أفعل، فبعث إلى الحاجب: الزم غدا منزلك، فإني قد وليت ابن ابى مريم الحجابه وبكر ابن أبي مريم، فوضع له الكرسي، وأخذ الرشيد دواءه، وبلغ الخبر بطانته، فجاء رسول أم جعفر يسأل عن أمير المؤمنين وعن دوائه، فأوصله إليه، وتعرف حاله وانصرف بالجواب، وقال للرسول: أعلم السيدة ما فعلت في الإذن لك قبل الناس، فأعلمها، فبعثت إليه بمال كثير، ثم جاء رسول يحيى بْن خالد، ففعل به مثل ذلك، ثم جاء رسول جعفر والفضل، ففعل كذلك، فبعث إليه كل واحد من البرامكة بصلة جزيلة، ثم جاء رسول الفضل بْن الربيع فرده ولم يأذن له، وجاءت رسل القواد والعظماء، فما أحد سهل إذنه إلا بعث إليه بصلة جزيلة، فما صار العصر حتى صار إليه ستون ألف دينار، فلما خرج الرشيد من العلة، ونقي بدنه من الدواء دعاه، فقال له: ما صنعت في يومك هذا؟ قَالَ: يا سيدي، كسبت ستين ألف دينار، فاستكثرها وقال: وأين حاصلي؟ قَالَ: معزول، قَالَ: قد سوغناك حاصلنا، فأهد إلينا عشرة آلاف تفاحة، ففعل، فكان أربح من تاجره الرشيد وذكر عن إسماعيل بْن صبيح، قَالَ: دخلت على الرشيد، فإذا جاريه على راسه، وفي يدها صحيفه وملعقة في يدها الأخرى، وهي تلعقه أولا فأولا، قَالَ: فنظرت إلى شيء أبيض رقيق فلم أدر ما هو! قَالَ: وعلم أني أحب أن أعرفه، فقال: يا إسماعيل بْن صبيح، قلت: لبيك يا سيدي، قَالَ: تدري ما هذا؟ قلت: لا، قَالَ: هذا جشيش الأرز والحنطة وماء نخالة السميد، وهو نافع للأطراف المعوجة وتشنيج الأعصاب ويصفي البشرة، ويذهب بالكلف، ويسمن البدن، ويجلو الأوساخ. قَالَ: فلم تكن لي همة حين انصرفت إلا أن دعوت الطباخ، فقلت: بكر علي كل غداة بالجشيش، قَالَ: وما هو؟ فوصفت له الصفة التي سمعتها. قَالَ: تضجر من هذا في اليوم الثالث، فعمله في اليوم الأول فاستطبته،

وعمله في اليوم الثاني فصار دونه، وجاء به في اليوم الثالث، فقلت: لا تقدمه. وذكر أن الرشيد اعتل علة، فعالجه الأطباء، فلم يجد من علته إفاقة، فقال له أبو عمر الأعجمي: بالهند طبيب يقال له منكه، رأيتهم يقدمونه على كل من بالهند، وهو أحد عبادهم وفلاسفتهم، فلو بعث إليه أمير المؤمنين لعل الله أن يبعث له الشفاء على يده! قَالَ: فوجه الرشيد من حمله، ووجه إليه بصلة تعينه على سفره قَالَ: فقدم فعالج الرشيد فبرئ من علته بعلاجه، فأجرى له رزقا واسعا وأموالا كافية، فبينا منكه مارا بالخلد، إذا هو برجل من المانيين قد بسط كساءه، وألقى عليه عقاقير كثيرة، وقام يصف دواء عنده معجونا، فقال في صفته: هذا دواء للحمى الدائمة وحمى الغب وحمى الربع، والمثلثة، ولوجع الظهر والركبتين والبواسير والرياح، ولوجع المفاصل ووجع العينين، ولوجع البطن والصداع والشقيقة ولتقطير البول والفالج والارتعاش فلم يدع علة في البدن إلا ذكر أن ذلك الدواء شفاء منها، فقال منكه لترجمانه: ما يقول هذا؟ فترجم له ما سمع، فتبسم منكه، وقال: على كل حال ملك العرب جاهل، وذاك أنه إن كان الأمر على ما قَالَ هذا، فلِمَ حملني من بلادي، وقطعني عن اهلى، وتكلف الغليظ من مئونتي، وهو يجد هذا نصب عينه وبإزائه! وإن كان الأمر ليس كما يقول هذا فلم لا يقتله! فإن الشريعة قد أباحت دمه ودم من أشبهه، لأنه إن قتل، فإنما هي نفس يحيا بقتلها خلق كثير، وإن ترك هذا الجاهل قتل في كل يوم نفسا، وبالحري أن يقتل اثنتين وثلاثا وأربعا في كل يوم، وهذا فساد في التدبير، ووهن في المملكة. وذكر أن يحيى بْن خالد بْن برمك ولى رجلا بعض أعمال الخراج بالسواد، فدخل إلى الرشيد يودعه، وعنده يحيى وجعفر بن بْن يحيى، فقال الرشيد ليحيى وجعفر: أوصياه، فقال له يحيى: وفر واعمر، وقال له جعفر: انصف

وانتصف، فقال له الرشيد: اعدل وأحسن. وذكر عن الرشيد أنه غضب على يزيد بْن مزيد الشيباني، ثم رضي عنه، وأذن له، فدخل عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، الحمد لله الذي سهل لنا سبيل الكرامة، وحل لنا النعمة بوجه لقائك، وكشف عنا صبابة الكرب بإفضالك، فجزاك الله في حال سخطك رضا المنيبين، وفي حال رضاك جزاء المنعمين الممتنين المتطولين، فقد جعلك الله وله الحمد، تتثبت تحرجا عند الغضب، وتتطول ممتنا بالنعم، وتعفو عن المسيء تفضلا بالعفو وذكر مصعب بْن عبد الله الزبيري أن أباه عبد الله بْن مصعب أخبره أن الرشيد قَالَ له: ما تقول في الذين طعنوا على عثمان؟ قَالَ: قلت: يا أمير المؤمنين، طعن عليه ناس، وكان معه ناس، فأما الذين طعنوا عليه فتفرقوا عنه، فهم أنواع الشيع، وأهل البدع، وأنواع الخوارج، وأما الذين كانوا معه فهم أهل الجماعة إلى اليوم فقال لي: ما أحتاج أن أسأل بعد هذا. اليوم عن هذا. قَالَ مصعب: وقال أبي- وسألني عن منزلة أبي بكر وعمر كانت من رسول الله ص، فقلت له: كانت منزلتهما في حياته منه منزلتهما في مماته، فقال: كفيتني ما أحتاج إليه. قَالَ: وولى سلام، أو رشيد الخادم- بعض خدام الخاصة- ضياع الرشيد بالثغور والشامات، فتواترت الكتب بحسن سيرته وتوفيره وحمد الناس له، فأمر الرشيد بتقديمه والإحسان إليه، وضم ما أحب أن يضم إليه من ضياع الجزيرة ومصر قَالَ: فقدم فدخل عليه وهو يأكل سفر جلا قد أتى به من بلخ، وهو يقشره ويأكل منه، فقال له: يا فلان، ما أحسن ما انتهى إلى مولاك عنك، ولك عنده ما تحب، وقد أمرت لك بكذا وكذا، ووليتك كذا وكذا، فسل حاجتك، قَالَ: فتكلم وذكر حسن سيرته، وقال: أنسيتهم

والله يا أمير المؤمنين سيرة العمرين قَالَ: فغضب واستشاط، وأخذ سفرجلة فرماه بها، وقال: يا بن اللخناء، العمرين، العمرين، العمرين! هبنا احتملناها لعمر بْن عبد العزيز، نحتملها لعمر بْن الخطاب! وذكر عبد الله بْن محمد بْن عبد الله بْن عبد العزيز بْن عبد الله بْن عبد الله ابن عمر بْن الخطاب، أن أبا بكر بْن عبد الرحمن بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر ابن عبد العزيز حدثه، عن الضحاك بْن عبد الله، وأثنى عليه خيرا، قَالَ: أخبرني بعض ولد عبد الله بْن عبد العزيز، قَالَ: قَالَ الرشيد: والله ما أدري ما آمر في هذا العمري! أكره أن أقدم عليه وله خلف أكرههم، وإني لأحب أن أعرف طريقه ومذهبه، وما أثق بأحد أبعثه إليه، فقال عمر بن بزيع والفضل ابن الربيع: فنحن يا أمير المؤمنين، قَالَ: فأنتما، فخرجا من العرج إلى موضع من البادية يقال له خلص، وأخذا معهما أدلاء من أهل العرج، حتى إذا وردا عليه في منزله أتياه مع الضحى، فإذا هو في المسجد، فأناخا راحلتيهما ومن كان معهما من أصحابهما، ثم أتياه على زي الملوك من الريح والثياب والطيب، فجلسا إليه وهو في مسجد له، فقالا له: يا أبا عبد الرحمن، نحن رسل من خلفنا من أهل المشرق، يقولون لك: اتق الله ربك، فإذا شئت فقم فأقبل عليهما، وقال: ويحكما! فيمن ولمن! قالا: أنت، فقال: والله ما أحب أني لقيت الله بمحجمة دم امرئ مسلم، وإن لي ما طلعت عليه الشمس، فلما أيسا منه قالا: فإن معنا شيئا تستعين به على دهرك، قَالَ: لا حاجة لي فيه، أنا عنه في غنى، فقالا له: إنها عشرون ألف دينار، قَالَ: لا حاجة لي فيها، قالا: فأعطها من شئت، قَالَ: أنتما، فأعطياها من رأيتما، ما أنا لكما بخادم ولا عون قَالَ: فلما يئسا منه ركبا راحلتيهما حتى أصبحا مع الخليفة بالسقيا في المنزل الثاني، فوجدا الخليفة ينتظرهما، فلما دخلا عليه حدثاه بما كان بينهما وبينه، فقال: ما أبالي ما أصنع بعد هذا. فحج عبد الله في تلك السنة، فبينا هو واقف على بعض أولئك الباعة يشتري لصبيانه، إذا هارون يسعى بين الصفا والمروة على دابة، إذ عرض له عبد الله

وترك ما يريد، فأتاه حتى أخذ بلجام دابته، فأهوت إليه الأجناد والأحراس، فكفهم عنه هارون فكلمه قَالَ: فرأيت دموع هارون، وإنها لتسيل على معرفة دابته، ثم انصرف. وذكر محمد بْن أحمد مولى بني سليم قَالَ: حدثني الليث بْن عبد العزيز الجوزجاني- وكان مجاورا بمكة أربعين سنة- أن بعض الحجبة حدثه أن الرشيد لما حج دخل الكعبة، وقام على أصابعه، وقال: يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمير الصامتين، فإن لكل مسألة منك ردا حاضرا، وجوابا عتيدا، ولكل صامت منك علم محيط ناطق بمواعيدك الصادقة، وأياديك الفاضلة، ورحمتك الواسعة صل على محمد وعلى آل محمد، واغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا يا من لا تضره الذنوب، ولا تخفى عليه العيوب، ولا تنقصه مغفرة الخطايا يا من كبس الأرض على الماء، وسد الهواء بالسماء، واختار لنفسه الأسماء، صل على محمد، وخر لي في جميع أمري يا من خشعت له الأصوات بألوان اللغات يسألونك الحاجات، إن من حاجتي إليك أن تغفر لي إذا توفيتني، وصرت في لحدي، وتفرق عني أهلي وولدي اللهم لك الحمد حمدا يفضل على كل حمد كفضلك على جميع الخلق اللهم صلى على محمد صلاة تكون له رضا، وصل على محمد صلاة تكون له حرزا، وأجزه عنا خير الجزاء في الآخرة والأولى اللهم أحينا سعداء وتوفنا شهداء، واجعلنا سعداء مرزوقين، ولا تجعلنا أشقياء محرومين! وذكر عَلِيّ بْن مُحَمَّدٍ عن عَبْد اللَّهِ، قَالَ: أخبرني القاسم بْن يحيى، قَالَ: بعث الرشيد إلى ابن أبي داود والذين يخدمون قبر الحسين بْن علي في الحير، قَالَ: فأتى بهم، فنظر إليه الحسن بْن راشد، وقال: ما لك؟ قَالَ: بعث إلي هذا الرجل- يعني الرشيد- فأحضرني، ولست آمنه على نفسي، قَالَ له: فإذا دخلت عليه فسألك، فقل له: الحسن بْن راشد وضعني في ذلك الموضع فلما دخل عليه قَالَ هذا القول، قَالَ: ما أخلق أن يكون هذا من تخليط الحسن! أحضروه، قَالَ: فلما حضر قَالَ: ما حملك

على أن صيرت هذا الرجل في الحير؟ قَالَ: رحم الله من صيره في الحير، أمرتني أم موسى أن أصيره فيه، وأن أجري عليه في كل شهر ثلاثين درهما فقال: ردوه إلى الحير، وأجروا عليه ما أجرته أم موسى- وأم موسى هي أم المهدي ابنة يزيد بْن منصور. وذكر علي بْن محمد أن أباه حدثه قَالَ: دخلت على الرشيد في دار عون العبادي فإذا هو في هيئة الصيف، في بيت مكشوف، وليس فيه فرش على مقعد عند باب في الشق الأيمن من البيت، وعليه غلالة رقيقة، وإزار رشيدي عريض الأعلام، شديد التضريج، وكان لا يخيش البيت الذي هو فيه، لأنه كان يؤذيه، ولكنه كان يدخل عليه برد الخيش، ولا يجلس فيه وكان أول من اتخذ في بيت مقيله في الصيف سقفا دون سقف، وذلك أنه لما بلغه أن الأكاسرة كانوا يطينون ظهور بيوتهم في كل يوم من خارج ليكف عنهم حر الشمس، فاتخذ هو سقفا يلي سقف البيت الذي يقيل فيه. وقال علي عن أبيه: خبرت انه كان في كل يوم القيظ تغار من فضة يعمل فيه العطار الطيب والزعفران والأفاويه وماء الورد، ثم يدخل إلى بيت مقيله، ويدخل معه سبع غلائل قصب رشيدية تقطيع النساء، ثم تغمس الغلال في ذلك الطيب، ويؤتى في كل يوم بسبع جوار، فتخلع عن كل جارية ثيابها ثم تخلع عليها غلالة، وتجلس على كرسي مثقب، وترسل الغلالة على الكرسي فتجلله، ثم تبخر من تحت الكرسي بالعود المدرج في العنبر أمدا حتى يجف القميص عليها، يفعل ذلك بهن، ويكون ذلك في بيت مقيله، فيعبق ذلك البيت بالبخور والطيب. وذكر علي بْن حمزة أن عبد الله بْن عباس بن الحسن بن عبيد الله بن على ابن أبي طالب قَالَ: قَالَ لي العباس بْن الحسن: قَالَ لي الرشيد: أراك تكثر من ذكر ينبع وصفتها، فصفها لي وأوجز، قَالَ: قلت: بكلام أو بشعر؟

قَالَ: بكلام وشعر، قَالَ: قلت: جدتها في أصل عذقها، وعذقها مسرح شأنها، قَالَ: فتبسم، فقلت له: يا وادي القصر نعم القصر والوادي ... من منزل حاضر إن شئت أو بادي ترى قراقيره والعيس واقفة ... والضب والنون والملاح والحادي وذكر محمد بْن هارون، عن أبيه، قَالَ: حضرت الرشيد، وقال له الفضل بْن الربيع: يا أمير المؤمنين، قد أحضرت ابن السماك كما أمرتني، قَالَ: أدخله، فدخل، فقال له: عظني، قَالَ: يا أمير المؤمنين، اتق الله وحده لا شريك له، واعلم أنك واقف غدا بين يدي الله ربك، ثم مصروف إلى إحدى منزلتين لا ثالثة لهما، جنة أو نار قَالَ: فبكى هارون حتى اخضلت لحيته، فأقبل الفضل على ابن السماك، فقال: سبحان الله! وهل يتخالج أحدا شك في أن أمير المؤمنين مصروف إلى الجنة إن شاء الله! لقيامه بحق الله وعدله في عباده، وفضله! قَالَ: فلم يحفل بذلك ابن السماك من قوله، ولم يلتفت إليه، وأقبل على أمير المؤمنين، فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا- يعني الفضل بْن الربيع- ليس والله معك ولا عندك في ذلك اليوم، فاتق الله وانظر لنفسك قَالَ: فبكى هارون حتى أشفقنا عليه وأفحم الفضل بْن الربيع فلم ينطق بحرف حتى خرجنا. قَالَ: ودخل ابن السماك على الرشيد يوما، فبينا هو عنده إذ استسقى ماء، فأتى بقلة من ماء، فلما أهوى بها إلى فيه ليشربها، قَالَ له ابن السماك: على رسلك يا أمير المؤمنين، بقرابتك من رسول الله ص، لو منعت هذه الشربه فبكم كنت تشتريها؟ قَالَ: بنصف ملكي، قَالَ: اشرب هنأك الله، فلما شربها، قَالَ له: أسألك بقرابتك من رسول الله ص، لو منعت خروجها من بدنك، فبماذا كنت تشتريها؟ قَالَ: بجميع ملكي، قَالَ ابن السماك: أن ملكا قيمته شربة ماء، لجدير ألا ينافس فيه فبكى هارون،

فأشار الفضل بْن الربيع إلى ابن السماك بالانصراف فانصرف. قَالَ: ووعظ الرشيد عبد الله بْن عبد العزيز العمري، فتلقى قوله بنعم يا عم، فلما ولى لينصرف، بعث إليه بألفي دينار في كيس مع الأمين والمأمون فاعترضاه بها، وقالا: يا عم، يقول لك أمير المؤمنين: خذها وانتفع بها أو فرقها، فقال: هو أعلم بمن يفرقها عليه، ثم أخذ من الكيس دينارا، وقال: كرهت أن أجمع سوء القول وسوء الفعل وشخص إليه إلى بغداد بعد ذلك، فكره الرشيد مصيره إلى بغداد، وجمع العمريين، فقال: ما لي ولابن عمكم! احتملته بالحجاز، فشخص إلى دار مملكتي، يريد أن يفسد علي أوليائي! ردوه عني، فقالوا: لا يقبل منا، فكتب إلى موسى بْن عيسى أن يرفق به حتى يرده، فدعا له عيسى ببني عشر سنين، قد حفظ الخطب والمواعظ، فكلمه كلاما كثيرا، ووعظه بما لم يسمع العمري بمثله، ونهاه عن التعرض لأمير المؤمنين، فأخذ نعله، وقام وهو يقول: «فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ» . وذكر بعضهم أنه كان مع الرشيد بالرقة بعد أن شخص من بغداد، فخرج يوما مع الرشيد إلى الصيد، فعرض له رجل من النساك، فقال: يا هارون، اتق الله، فقال لإبراهيم بْن عثمان بْن نهيك: خذ هذا الرجل إليك حتى أنصرف، فلما رجع دعا بغدائه، ثم أمر أن يطعم الرجل من خاص طعامه، فلما أكل وشرب دعا به، فقال: يا هذا، أنصفني في المخاطبة والمسألة، قَالَ: ذاك أقل ما يجب لك، قَالَ: فأخبرني: أنا شر وأخبث أم فرعون؟ قَالَ: بل فرعون، قال: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» وقال: «مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» ، قَالَ: صدقت، فأخبرني فمن خير؟ أنت أم موسى ابن عمران؟ قَالَ: موسى كليم الله وصفيه، أصطنعه لنفسه، واتمنه على وحيه، وكلمه من بين خلقه، قَالَ: صدقت، أفما تعلم أنه لما بعثه وأخاه إلى فرعون

ذكر من كان عند الرشيد من النساء المهائر

قَالَ لهما: «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى» ، ذكر المفسرون أنه أمرهما أن يكنياه، وهذا وهو في عتوه وجبريته، على ما قد علمت، وأنت جئتني وأنا بهذه الحالة التي تعلم، أؤدي أكثر فرائض الله علي، ولا أعبد أحدا سواه، أقف عند أكبر حدوده وأمره ونهيه، فوعظتني بأغلظ الألفاظ وأشنعها وأخشن الكلام وأفظعه، فلا بأدب الله تأدبت، ولا بأخلاق الصالحين أخذت، فما كان يؤمنك أن أسطو بك! فإذا أنت قد عرضت نفسك لما كنت عنه غنيا قَالَ الزاهد: أخطأت يا أمير المؤمنين، وأنا أستغفرك، قَالَ: قد غفر لك الله، وامر له بعشرين ألف درهم، فأبى أن يأخذها، وقال: لا حاجة لي في المال، أنا رجل سائح فقال هرثمة- وخزرة: ترد على أمير المؤمنين يا جاهل صلته! فقال الرشيد: أمسك عنه، ثم قَالَ له: لم نعطك هذا المال لحاجتك إليه، ولكن من عادتنا أنه لا يخاطب الخليفة أحد ليس من أوليائه ولا أعدائه إلا وصله ومنحه، فاقبل من صلتنا ما شئت، وضعها حيث أحببت فأخذ من المال ألفي درهم، وفرقها على الحجاب ومن حضر الباب . ذكر من كان عند الرشيد من النساء المهائر قيل: إنه تزوج زبيدة، وهي أم جعفر بنت جعفر بْن المنصور، وأعرس بها في سنة خمس وستين ومائة في خلافة المهدي ببغداد، في دار محمد بْن سليمان- التي صارت بعد للعباسة، ثم صارت للمعتصم بالله- فولدت له محمدا الأمين، وماتت ببغداد في جمادى الأولى سنة ست عشرة ومائتين. وتزوج أمة العزيز أم ولد موسى، فولدت له على بن الرشيد. وتزوج أم محمد ابنة صالح المسكين، وأعرس بها بالرقة في ذي الحجة سنة سبع وثمانين ومائة، وأمها أم عبد الله ابنة عيسى بْن علي صاحبة دار أم عبد الله بالكرخ التي فيها أصحاب الدبس، كانت أملكت من إبراهيم بْن

ذكر ولد الرشيد

المهدي، ثم خلعت منه فتزوجها الرشيد. وتزوج العباسة ابنة سليمان بْن أبي جعفر، وأعرس بها في ذي الحجة سنة سبع وثمانين ومائة، حملت هي وأم محمد ابنة صالح إليه. وتزوج عزيزة ابنة الغطريف، وكانت قبله عند سليمان بْن أبي جعفر فطلقها، فخلف عليها الرشيد، وهي ابنة أخي الخيزران وتزوج الجرشية العثمانية، وهي ابنة عبد الله بْن محمد بن عبد الله بن عمرو ابن عثمان بْن عفان، وسميت الجرشية لأنها ولدت بجرش باليمن، وجدة أبيها فاطمة بنت الحسين بْن علي بْن أبي طالب، وعم أبيها عبد الله بْن حسن بْن حسن بْن علي بْن أبي طالب رضي الله عنهم. ومات الرشيد عن أربع مهائر: أم جعفر، وأم محمد ابنة صالح، وعباسة ابنة سليمان، والعثمانية. ذكر ولد الرشيد وولد للرشيد من الرجال: محمد الأكبر وأمه زبيدة، وعبد الله المأمون وأمه أم ولد يقال لها مراجل، والقاسم المؤتمن وأمه أم ولد يقال لها قصف، ومحمد أبو إسحاق المعتصم وأمه أم ولد يقال لها ماردة، وعلى وأمه أمة العزيز، وصالح وأمه أم ولد يقال لها رثم، ومحمد أبو عيسى وأمه أم ولد يقال لها عرابة، ومحمد أبو يعقوب وأمه أم ولد يقال لها شذرة، ومحمد أبو العباس وأمه أم ولد يقال لها خبث، ومحمد أبو سليمان وأمه أم ولد يقال لها رواح، ومحمد أبو علي وأمه أم ولد يقال لها دواج، ومحمد ابو احمد وأمه أم ولد يقال لها كتمان. ومن النساء: سكينة وأمها قصف وهي أخت القاسم، وأم حبيب وأمها ماردة وهي أخت أبي إسحاق المعتصم، وأروى أمها حلوب، وأم الحسن وأمها عرابة، وأم محمد وهي حمدونة، وفاطمة وأمها غصص واسمها مصفى، وأم أبيها وأمها سكر، وأم سلمة وأمها رحيق، وخديجة وأمها شجر، وهي أخت كريب، وأم القاسم وأمها خزق، ورملة أم جعفر وأمها حلى، وأم علي أمها أنيق، وأم الغالية أمها سمندل، وريطة وأمها زينه.

بقية ذكر بعض سير الرشيد

بقية ذكر بعض سير الرشيد ذكر يعقوب بن إسحاق الاصفهانى، قال: قَالَ المفضل بْن محمد الضبي: وجه إلي الرشيد، فما علمت الا وقد جاءتني الرسل ليلا، فقالوا: أجب أمير المؤمنين، فخرجت حتى صرت إليه، وذلك في يوم خميس، وإذا هو متكئ ومحمد بن زبيدة عن يساره، والمأمون عن يمينه، فسلمت، فأومأ إلي فجلست، فقال لي: يا مفضل، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قَالَ كم اسما في: فَسَيَكْفِيكَهُمُ؟ قلت: ثلاثة أسماء يا أمير المؤمنين، قَالَ: وما هي؟ قلت: الكاف لرسول الله ص، والهاء والميم، وهي للكفار، والياء وهي لله عز وجل قال: صدقت، هكذا أفادنا هذا الشيخ- يعني الكسائي- ثم التفت إلى محمد، فقال له: أفهمت يا محمد؟ قَالَ: نعم، قَالَ: أعد علي المسألة كما قَالَ المفضل، فأعادها، ثم التفت إلي فقال: يا مفضل، عندك مسألة تسألنا عنها بحضرة هذا الشيخ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قَالَ: وما هي؟ قلت: قول الفرزدق: أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع قَالَ: هيهات أفادناها متقدما قبلك هذا الشيخ، لنا قمراها، يعني الشمس والقمر كما قالوا سنة العمرين: سنة أبي بكر وعمر، قَالَ: قلت: فأزيد في السؤال؟ قَالَ: زد، قلت: فلم استحسنوا هذا؟ قَالَ: لأنه إذا اجتمع اسمان من جنس واحد، وكان أحدهما أخف على أفواه القائلين غلبوه وسموا به الآخر، فلما كانت أيام عمر أكثر من أيام أبي بكر وفتوحه أكثر واسمه أخف غلبوه، وسموا أبا بكر باسمه، قَالَ الله عز وجل: «بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ» وهو المشرق والمغرب قلت: قد بقيت زيادة في المسألة! فالتفت الى الكسائي فقال: يقال في هذا غير ما قلنا؟ قَالَ: هذا أوفى ما قالوا، وتمام المعنى عند العرب قَالَ: ثم التفت إلي فقال: ما الذي بقي؟ قلت: بقيت الغاية التي إليها أجرى الشاعر المفتخر في شعره، قَالَ: وما هي؟ قلت: أراد بالشمس إبراهيم، وبالقمر

محمدا ص، وبالنجوم الخلفاء الراشدين من آبائك الصالحين قَالَ: فاشرأب أمير المؤمنين، وقال: يا فضل بْن الربيع، احمل إليه مائة ألف درهم لقضاء دينه، وانظر من بالباب من الشعراء فيؤذن لهم، فإذا العماني ومنصور النمري، فأذن لهما، فقال: أدن مني الشيخ، فدنا منه وهو يقول: قل للإمام المقتدي بأمه ... ما قاسم دون مدى ابن أمه فقد رضيناه فقم فسمه. فقال الرشيد: ما ترضى أن تدعو إلى عقد البيعة له وأنا جالس حتى تنهضني قائما! قَالَ: قيام عزم يا أمير المؤمنين، لا قيام حتم، فقال: يؤتى بالقاسم، فأتي به، وطبطب في أرجوزته، فقال الرشيد للقاسم: إن هذا الشيخ قد دعا إلى عقد البيعة لك، فأجزل له العطية، فقال: حكم أمير المؤمنين، قَالَ: وما أنا وذاك! هات النمري، فدنا منه، وأنشده: ما تنقضي حسرة مني ولا جزع. - حتى بلغ- ما كان أحسن أيام الشباب وما ... أبقى حلاوة ذكراه التي تدع ما كنت أوفي شبابي كنه غرته ... حتى مضى فإذا الدنيا له تبع قَالَ الرشيد: لا خير في دنيا لا يخطر فيها ببرد الشباب. وذكر أن سعيد بْن سلم الباهلي دخل على الرشيد، فسلم عليه، فأومأ إليه الرشيد فجلس، فقال: يا أمير المؤمنين، أعرابي من باهلة واقف على باب أمير المؤمنين، ما رأيت قط اشعر منه، قال: اما انك استبحت هذين- يعني العماني ومنصور النمري، وكانا حاضريه- نهبى لهما أحجارك، قَالَ: هما يا أمير المؤمنين يهباني لك، فيؤذن للأعرابي؟ فأذن له، فإذا أعرابي في جبة

خز، ورداء يمان، قد شد وسطه ثم ثناه على عاتقه، وعمامة قد عصبها على خديه، وأرخى لها عذبة، فمثل بين يدي أمير المؤمنين، وألقيت الكراسي، فجلس الكسائي والمفضل وابن سلم والفضل بْن الربيع، فقال ابن سلم للأعرابي: خذ في شرف أمير المؤمنين، فاندفع الأعرابي في شعره، فقال أمير المؤمنين: أسمعك مستحسنا، وأنكرك متهما عليك، فإن يكن هذا الشعر لك وأنت قلته من نفسك، فقل لنا في هذين بيتين- يعني محمدا والمأمون- وهما حفافاه فقال: يا أمير المؤمنين حملتني على القدر في غير الحذر روعة الخلافة، وبهر البديهة، ونفور القوافي عن الروية، فيمهلني أمير المؤمنين، يتألف إلي نافراتها، ويسكن روعي قَالَ: قد أمهلتك يا أعرابي، وجعلت اعتذارك بدلا من امتحانك، فقال: يا أمير المؤمنين نفست الخناق، وسهلت ميدان النفاق، ثم أنشأ يقول: هما طنباها بارك الله فيهما ... وأنت أمير المؤمنين عمودها بنيت بعبد الله بعد محمد ... ذرى قبة الإسلام فاهتز عودها فقال: وأنت يا أعرابي بارك الله فيك، فسلنا، ولا تكن مسألتك دون إحسانك، قَالَ: الهنيدة يا أمير المؤمنين، قَالَ: فتبسم أمير المؤمنين، وامر له بمائة ألف درهم وسبع خلع. وذكر أن الرشيد قَالَ لابنه القاسم- وقد دخل عليه قبل أن يبايع له: أنت للمأمون ببعض لحمك هذا، قال: ببعض حظه. وقال للقاسم يوما قبل البيعة له: قد أوصيت الأمين والمأمون بك، قَالَ: أما أنت يا أمير المؤمنين فقد توليت النظر لهما، ووكلت النظر لي إلى غيرك. وقال مصعب بْن عبد الله الزبيري: قدم الرشيد مدينه الرسول ص ومعه ابناه محمد الأمين وعبد الله المأمون، فأعطى فيها العطايا وقسم

في تلك السنة في رجالهم ونسائهم ثلاثة أعطية، فكانت الثلاثة الأعطية التي قسمها فيهم ألف ألف دينار وخمسين ألف دينار، وفرض في تلك السنه لخمسمائه من وجوه موالي المدينة، ففرض لبعضهم في الشرف منهم يحيى بْن مسكين وابن عثمان، ومخراق مولى بنى تميم، وكان يقرئ القرآن بالمدينة. وقال إسحاق المولى: لما بايع الرشيد لولده، كان فيمن بايع عبد الله بْن مصعب بْن ثابت بْن عبد الله بْن الزبير، فلما قدم ليبايع، قَالَ: لا قصرا عنها ولا بلغتهما ... حتى يطول على يديك طوالها فاستحسن الرشيد ما تمثل، وأجزل له صلته قَالَ: والشعر لطريح بْن إسماعيل، قاله في الوليد بْن يزيد وفي ابنيه. وقال أبو الشيص يرثي هارون الرشيد: غربت في الشرق شمس ... فلها عينان تدمع ما رأينا قط شمسا ... غربت من حيث تطلع وقال أبو نواس الحسن بْن هانئ: جرت جوار بالسعد والنحس ... فنحن في مأتم وفي عرس القلب يبكي والسن ضاحكة ... فنحن في وحشة وفي انس يضحكنا القائم الامين و ... يبكينا وفاه الامام بالأمس بدران: بدر اضحى ببغداد بالخلد، وبدر بطوس في رمس وقيل: مات هارون الرشيد، وفي بيت المال تسعمائة ألف ألف ونيف.

خلافه الامين

خلافة الأمين وفي هذه السنة بويع لمحمد الامين بن هارون بالخلافة في عسكر الرشيد، وعبد الله بْن هارون المأمون يومئذ بمرو، وكان- فيما ذكر- قد كتب حمويه مولى المهدي صاحب البريد بطوس إلى أبي مسلم سلام، مولاه وخليفته ببغداد على البريد والأخبار، يعلمه وفاة الرشيد فدخل على محمد فعزاه وهنأه بالخلافة، وكان أول الناس فعل ذلك، ثم قدم عليه رجاء الخادم يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة، كان صالح بن الرشيد ارسله اليه بالخبر بذلك- وقيل: أتاه الخبر بذلك- ليلة الخميس للنصف من جمادى الآخرة، فأظهره يوم الجمعة، وستر خبره بقية يومه وليلته، وخاض الناس في أمره. ولما قدم كتاب صالح على محمد الأمين مع رجاء الخادم بوفاة الرشيد- وكان نازلا في قصره بالخلد- تحول إلى قصر أبي جعفر بالمدينة، وأمر الناس بالحضور ليوم الجمعة، فحضروا وصلى بهم، فلما قضى صلاته صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ونعى الرشيد إلى الناس، وعزى نفسه والناس، ووعدهم خيرا، وبسط الآمال، وآمن الأسود والأبيض، وبايعه جلة أهل بيته وخاصته ومواليه وقواده، ثم دخل ووكل ببيعته على من بقي منهم عم أبيه سليمان بْن أبي جعفر، فبايعهم، وأمر السندي بمبايعة جميع الناس من القواد وسائر الجند، وأمر للجند ممن بمدينة السلام برزق أربعة وعشرين شهرا، وبخواص من كانت له خاصة بهذه الشهور. ذكر الخبر عن بدء الخلاف بين الامين والمأمون وفي هذه السنة كان بدء اختلاف الحال بين الأمين محمد وأخيه المأمون، وعزم كل واحد منهما بالخلاف على صاحبه فيما كان والدهما هارون أخذ عليهما العمل به، في الكتاب الذى ذكرنا انه كان كتبه عليهما وبينهما

ذكر الخبر عن السبب الذي كان أوجب اختلاف حالهما فيما ذكرت: قال أبو جعفر: قد ذكرنا قبل أن الرشيد جدد حين شخص إلى خراسان البيعة للمأمون على القواد الذين معه، وأشهد من معه من القواد وسائر الناس وغيرهم أن جميع من معه من الجند مضمومون إلى المأمون، وأن جميع ما معه من مال وسلاح وآلة وغير ذلك للمأمون فلما بلغ محمد بْن هارون أن أباه قد اشتدت علته، وأنه لمآبه، بعث من يأتيه بخبره في كل يوم، وارسل بكر بْن المعتمر، وكتب معه كتبا، وجعلها في قوائم صناديق منقوره وألبسها جلود البقر، وقال: لا يظهرن أمير المؤمنين ولا أحد ممن في عسكره على شيء من أمرك وما توجهت فيه، ولا ما معك، ولو قتلت حتى يموت أمير المؤمنين، فإذا مات فادفع إلى كل رجل منهم كتابه. فلما قدم بكر بْن المعتمر طوس، بلغ هارون قدومه، فدعا به، فسأله: ما أقدمك؟ قَالَ: بعثني محمد لأعلم له علم خبرك وآتيه به، قَالَ: فهل معك كتاب؟ قَالَ: لا، فأمر بما معه ففتش فلم يصيبوا معه شيئا، فهدده بالضرب فلم يقر بشيء، فأمر به فحبس وقيد فلما كان في الليلة التي مات فيها هارون أمر الفضل بْن الربيع أن يصير إلى محبس بكر بْن المعتمر فيقرره، فإن أقر وإلا ضرب عنقه، فصار إليه، فقرره فلم يقر بشيء، ثم غشي على هارون، فصاح النساء، فأمسك الفضل عن قتله، وصار إلى هارون ليحضره، ثم أفاق هارون وهو ضعيف، قد شغل عن بكر وعن غيره لحس الموت، ثم غشي عليه غشية ظنوا أنها هي، وارتفعت الضجة، فبعث بكر بْن المعتمر برقعة منه إلى الفضل بْن الربيع مع عبد الله بن ابى نعيم، يسأله الا يعجلوا بأمر، ويعلمه أن معه أشياء يحتاجون إلى علمها- وكان بكر محبوسا عند حسين الخادم- فلما توفي هارون في الوقت الذي توفي فيه، دعا الفضل بْن الربيع ببكر من ساعته، فسأله عما عنده، فأنكر أن يكون عنده شيء، وخشي على نفسه من أن يكون هارون حيا، حتى صح عنده موت هارون، وأدخله عليه، فأخبره أن عنده كتبا من أمير المؤمنين محمد، وأنه لا يجوز له إخراجها، وهو على حاله في قيوده وحبسه، فامتنع حسين الخادم من إطلاقه حتى أطلقه الفضل، فأتاهم

بالكتب التي عنده، وكانت في قوائم المطابخ المجلدة بجلود البقر، فدفع إلى كل إنسان منهم كتابه وكان في تلك الكتب كتاب من محمد بْن هارون إلى حسين الخادم بخطه، يأمره بتخلية بكر بْن المعتمر وإطلاقه، فدفعه إليه، وكتاب إلى عبد الله المأمون، فاحتبس كتاب المأمون عنده ليبعثه إلى المأمون بمرو، وأرسلوا الى صالح بن الرشيد- وكان مع أبيه بطوس، وذلك أنه كان أكبر من يحضر هارون من ولده- فأتاهم في تلك الساعة، فسألهم عن أبيه هارون، فأعلموه، فجزع جزعا شديدا، ثم دفعوا إليه كتاب أخيه محمد الذي جاء به بكر وكان الذين حضروا وفاة هارون هم الذين ولوا أمره وغسله وتجهيزه، وصلى عليه ابنه صالح. وكانت نسخة كتاب محمد إلى أخيه عبد الله المأمون: إذا ورد عليك كتاب أخيك- أعاذه الله من فقدك- عند حلول ما لا مرد له ولا مدفع مما قد اخلف وتناسخ في الأمم الخالية والقرون الماضيه فعز نفسك بما عزاك الله به واعلم أن الله جل ثناؤه قد اختار لأمير المؤمنين أفضل الدارين، وأجزل الحظين فقبضه الله طاهرا زاكيا، قد شكر سعيه، وغفر ذنبه إن شاء الله فقم في أمرك قيام ذي الحزم والعزم، والناظر لأخيه ونفسه وسلطانه وعامة المسلمين وإياك أن يغلب عليك الجزع، فإنه يحبط الأجر، ويعقب الوزر وصلوات الله على أمير المؤمنين حيا وميتا، وإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! وخذ البيعه عمن قبلك من قوادك وجندك وخاصتك وعامتك لأخيك ثم لنفسك، ثم للقاسم ابْن أمير المؤمنين، على الشريطة التي جعلها لك أمير المؤمنين من نسخها له وإثباتها، فإنك مقلد من ذاك ما قلدك الله وخليفته وأعلم من قبلك رأيي في صلاحهم وسد خلتهم والتوسعة عليهم، فمن أنكرته عند بيعته أو اتهمته على طاعته، فابعث إلي برأسه مع خبره وإياك وإقالته، فإن النار أولى به. واكتب إلى عمال ثغورك وأمراء أجنادك بما طرقك من المصيبة بأمير المؤمنين، وأعلمهم أن الله لم يرض الدنيا له ثوابا حتى قبضه إلى روحه وراحته وجنته، مغبوطا محمودا قائدا لجميع خلفائه إلى الجنة إن شاء الله ومرهم أن يأخذوا البيعه

على أجنادهم وخواصهم وعوامهم على مثل ما أمرتك به من أخذها على من قبلك وأوعز إليهم في ضبط ثغورهم، والقوة على عدوهم واعلمهم إني متفقد حالاتهم ولام شعثهم، وموسع عليهم، ولا تنى في تقويه اجنادى وانصارى، ولتكن كتبك إليهم كتبا عامة، لتقرأ عليهم، فإن في ذلك ما يسكنهم ويبسط أملهم. واعمل بما تامر به لمن حضرك، أو نأى عنك من أجنادك، على حسب ما ترى وتشاهد، فإن أخاك يعرف حسن اختيارك، وصحة رأيك، وبعد نظرك، وهو يستحفظ الله لك، ويسأله أن يشد بك عضده، ويجمع بك أمره، إنه لطيف لما يشاء وكتب بكر بْن المعتمر بين يدي وإملائي في شوال سنه ثنتين وتسعين ومائة. وإلى أخيه صالح: بسم الله الرحمن الرحيم. إذا ورد عليك كتابي هذا عند وقوع ما قد سبق في علم الله ونفذ من قضائه في خلفائه وأوليائه، وجرت به سنته في الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين، فقل: «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» ، فاحمدوا الله ما صار إليه أمير المؤمنين من عظيم ثوابه ومرافقه انبيائه، صلوات الله عليهم، وإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. وإياه نسأل أن يحسن الخلافة على أمه نبيه محمد ص، وقد كان لهم عصمة وكهفا، وبهم رءوفا رحيما، فشمر في أمرك، وإياك أن تلقي بيديك، فإن أخاك قد اختارك لما استنهضك له، وهو متفقد مواقع فقدانك، فحقق ظنه ونسأل الله التوفيق وخذ البيعة على من قبلك من ولد أمير المؤمنين وأهل بيته ومواليه وخاصته وعامته لمحمد أمير المؤمنين، ثم لعبد الله بن أمير المؤمنين، ثم للقاسم بْن أمير المؤمنين، على الشريطة التي جعلها أمير المؤمنين صلوات الله عليه من فسخها على القاسم أو إثباتها، فإن السعادة واليمن في الأخذ بعهده، والمضي على مناهجه وأعلم من قبلك من الخاصة والعامة رأيي في استصلاحهم، ورد مظالمهم وتفقد حالاتهم، وأداء أرزاقهم وأعطياتهم عليهم، فإن شغب شاغب، أو نعر ناعر، فاسط به سطوة تجعله نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خلفها

وموعظه للمتقين واضمم الى الميمون بن الميمون الفضل بن الربيع ولد أمير المؤمنين وخدمه وأهله، ومره بالمسير معهم فيمن معه من جنده ورابطته، وصير إلى عبد الله بْن مالك أمر العسكر وأحداثه، فإنه ثقة على ما يلي، مقبول عند العامة، واضمم إليه جميع جند الشرط من الروابط وغيرهم إلى من معه من جنده، ومره بالجد والتيقظ وتقديم الحزم في أمره كله، ليله ونهاره، فإن أهل العداوة والنفاق لهذا السلطان يغتنمون مثل حلول هذه المصيبة وأقر حاتم بْن هرثمة على ما هو عليه، ومره بحراسة ما يحفظ به قصور أمير المؤمنين، فإنه ممن لا يعرف إلا بالطاعة، ولا يدين إلا بها بمعاقد من الله مما قدم له من حال أبيه المحمود عند الخلفاء ومر الخدم باحضار روابطهم ممن يسد بهم وبأجنادهم مواضع الخلل من عسكرك، فإنهم حد من حدودك، وصير مقدمتك إلى أسد بْن يزيد بْن مزيد، وساقتك إلى يحيى بْن معاذ، فيمن معه من الجنود، ومرهما بمناوبتك في كل ليلة، والزم الطريق الأعظم، ولا تعدون المراحل، فإن ذلك أرفق بك ومر أسد بْن يزيد أن يتخير رجلا من أهل بيته أو قواده، فيصير الى مقدمته ثم يصير أمامه لتهيئة المنازل، أو بعض الطريق، فإن لم يحضرك في عسكرك بعض من سميت، فاختر لمواضعهم من تثق بطاعته ونصيحته وهيبته عند العوام، فإن ذلك لن يعوزك من قوادك وأنصارك إن شاء الله وإياك أن تنفذ رأيا أو تبرم أمرا إلا برأي شيخك وبقية آبائك الفضل بْن الربيع، وأقرر جميع الخدم على ما في أيديهم من الأموال والسلاح والخزائن وغير ذلك، ولا تخرجن أحدا منهم من ضمن ما يلي إلى أن تقدم علي. وقد أوصيت بكر بْن المعتمر بما سيبلغكه، واعمل في ذلك بقدر ما تشاهد وترى، وإن أمرت لأهل العسكر بعطاء أو رزق، فليكن الفضل بْن الربيع المتولي لإعطائهم على دواوين يتخذها لنفسه، بمحضر من أصحاب الدواوين، فإن الفضل بْن الربيع لم يزل يتقلد مثل ذلك لمهمات الأمور وأنفذ إلي عند وصول كتابي هذا إليك إسماعيل بْن صبيح وبكر بْن المعتمر على مركبيهما من البريد، ولا يكون لك عرجة ولا مهلة بموضعك الذي أنت فيه حتى توجه إلي بعسكرك

بما فيه من الأموال والخزائن إن شاء الله أخوك يستدفع الله عنك، ويسأله لك حسن التأييد برحمته. وكتب بكر بْن المعتمر بين يدي واملائى في شوال سنه ثنتين وتسعين ومائة. وخرج رجاء الخادم بالخاتم والقضيب والبردة، وبنعي هارون حين دفن حتى قدم بغداد ليلة الخميس- وقيل يوم الأربعاء- فكان من الخبر ما قد ذكرت قبل. وقيل: إن نعي الرشيد لما ورد بغداد صعد إسحاق بْن عيسى بْن عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قال: اعظم الناس رزيئه، واحسن الناس بقية رزؤنا، فإنه لم يرزأ أحد كرزئنا، فمن له مثل عوضنا! ثم نعاه إلى الناس، وحض الناس على الطاعة. وذكر الحسن الحاجب أن الفضل بْن سهل أخبره، قَالَ: استقبل الرشيد وجوه أهل خراسان، وفيهم الحسين بْن مصعب قَالَ: ولقيني فقال لي: الرشيد ميت أحد هذين اليومين، وامر محمد بن الرشيد ضعيف، والأمر أمر صاحبك، مد يدك فمد يده فبايع للمأمون بالخلافة قال: ثم أتاني بعد أيام ومعه الخليل بْن هشام، فقال: هذا ابن أخي، وهو لك ثقة خذ بيعته. وكان المأمون قد رحل من مرو إلى قصر خالد بْن حماد على فرسخ من مرو يريد سمرقند، وأمر العباس بْن المسيب بإخراج الناس واللحوق بالعسكر، فمر به إسحاق الخادم ومعه نعي الرشيد، فغم العباس قدومه، فوصل إلى المأمون فأخبره، فرجع المأمون إلى مرو، ودخل دار الإمارة، دار أبي مسلم، ونعى الرشيد على المنبر، وشق ثوبه ونزل، وأمر للناس بمال، وبايع لمحمد ولنفسه وأعطى الجند رزق اثني عشر شهرا. قَالَ: ولما قرأ الذين وردت عليهم كتب محمد بطوس من القواد والجند وأولاد هارون، تشاوروا في اللحاق بمحمد، فقال الفضل بْن الربيع: لا أدع ملكا حاضرا لآخر لا يدرى ما يكون من أمره، وأمر الناس بالرحيل، ففعلوا ذلك محبة منهم للحوق بأهلهم ومنازلهم ببغداد، وتركوا العهود التي كانت أخذت عليهم للمأمون، فانتهى الخبر بذلك من أمرهم إلى المأمون بمرو،

فجمع من معه من قواد أبيه، فكان معه منهم عبد الله بْن مالك، ويحيى ابن معاذ، وشبيب بْن حميد بْن قحطبة، والعلاء مولى هارون، والعباس بْن المسيب بْن زهير وهو على شرطته، وأيوب بْن أبي سمير وهو على كتابته، وكان معه من أهل بيته عبد الرحمن بْن عبد الملك بْن صالح، وذو الرياستين، وهو عنده من أعظم الناس قدرا وأخصهم به، فشاورهم وأخبرهم الخبر، فأشاروا عليه أن يلحقهم في ألفي فارس جريدة، فيردهم، وسمى لذلك قوم، فدخل عليه ذو الرياستين، فقال له: إن فعلت ما أشاروا به عليك جعلت هؤلاء هدية إلى محمد، ولكن الرأي أن تكتب إليهم كتابا، وتوجه إليهم رسولا، فتذكرهم البيعة، وتسألهم الوفاء، وتحذرهم الحنث، وما يلزمهم في ذلك في الدنيا والدين قَالَ: قلت له: إن كتابك ورسلك تقوم مقامك، فتستبرئ ما عند القوم، وتوجه سهل بْن صاعد- وكان على قهرمته- فإنه يأملك، ويرجو أن ينال أمله، فلن يألوك نصحا، وتوجه نوفلا الخادم مولى موسى أمير المؤمنين- وكان عاقلا فكتب كتابا، ووجههما فلحقاهم بنيسابور قد رحلوا ثلاث مراحل. فذكر الحسن بْن ابى سعيد عن سهل بن صاعد، انه قال له: فاوصلت إلى الفضل بْن الربيع كتابه، فقال لي: إنما أنا واحد منهم، قَالَ لي سهل: وشد علي عبد الرحمن بْن جبلة بالرمح، فأمره على جنبي، ثم قال لي: قل لصاحبك: والله لو كنت حاضرا لوضعت الرمح في فيك، هذا جوابي. قَالَ: ونال من المأمون، فرجعت بالخبر. قَالَ الفضل بْن سهل: فقلت للمأمون: أعداء قد استرحت منهم، ولكن افهم عني ما أقول لك، إن هذه الدولة لم تكن قط أعز منها أيام أبي جعفر، فخرج عليه المقنع وهو يدعي الربوبية، وقال بعضهم: طلب بدم أبي مسلم، فتضعضع العسكر بخروجه بخراسان، فكفاه الله المؤنة ثم خرج بعده يوسف البرم وهو عند بعض المسلمين كافر، فكفى الله المؤنة، ثم خرج استاذسيس

يدعو إلى الكفر، فسار المهدي من الري الى نيسابور فكفى المؤنه، ولكن ما أصنع! أكثر عليك! أخبرني كيف رأيت الناس حين ورد عليهم خبر رافع؟ قَالَ: رأيتهم اضطربوا اضطرابا شديدا، قلت: وكيف بك وأنت نازل في أخوالك، وبيعتك في أعناقهم! كيف يكون اضطراب أهل بغداد! اصبر وأنا أضمن لك الخلافة- ووضعت يدي على صدري- قَالَ: قد فعلت، وجعلت الأمر إليك فقم به قَالَ: قلت: والله لأصدقنك، أن عبد الله بْن مالك ويحيى بْن معاذ ومن سمينا من أمراء الرؤساء، إن قاموا لك بالأمر كانوا انفع منى لك برياستهم المشهورة، ولما عندهم من القوة على الحرب، فمن قام بالأمر كنت خادما له حتى تصير إلى محبتك، وترى رأيك في فلقيتهم في منازلهم، وذكرتهم البيعة التي في أعناقهم وما يجب عليهم من الوفاء. قَالَ: فكأني جئتهم بجيفة على طبق، فقال بعضهم: هذا لا يحل، اخرج، وقال بعضهم: من الذي يدخل بين امير المؤمنين وأخيه! فجئت فاخبرته، قَالَ: قم بالأمر، قَالَ: قلت: قد قرأت القرآن، وسمعت الأحاديث، وتفقهت في الدين، فالرأي أن تبعث إلى من بالحضرة من الفقهاء، فتدعوهم إلى الحق والعمل به وإحياء السنة، وتقعد على اللبود، وترد المظالم ففعلنا وبعثنا إلى الفقهاء، وأكرمنا القواد والملوك وأبناء الملوك، فكنا نقول للتميمي: نقيمك مقام موسى بْن كعب، وللربعى: نقيمك مقام أبي داود خالد بْن إبراهيم، ولليماني: نقيمك مقام قحطبة ومالك بْن الهيثم، فكنا ندعو كل قبيله الى نقباء رءوسهم، واستملنا الرءوس، وقلنا لهم مثل ذلك، وحططنا عن خراسان ربع الخراج، فحسن موقع ذلك منهم، وسروا به، وقالوا: ابن أختنا، وابن عم النبي ص. قَالَ علي بْن إسحاق: لما أفضت الخلافة الى محمد، وهذا الناس ببغداد، أصبح صبيحة السبت بعد بيعته بيوم، فأمر ببناء ميدان حول قصر أبي جعفر في المدينة للصوالجة واللعب، فقال في ذلك شاعر من أهل بغداد:

بنى أمين الله ميدانا ... وصير الساحة بستانا وكانت الغزلان فيه بانا ... يهدي إليه فيه غزلانا وفي هذه السنة شخصت أم جعفر من الرقة بجميع ما كان معها هنالك من الخزائن وغير ذلك في شعبان، فتلقاها ابنها محمد الأمين بالأنبار في جميع من كان ببغداد من الوجوه، وأقام المأمون على ما كان يتولى من عمل خراسان ونواحيها إلى الري، وكاتب الأمين، وأهدى إليه هدايا كثيرة، وتواترت كتب المأمون إلى محمد بالتعظيم والهدايا إليه من طرف خراسان من المتاع والآنية والمسك والدواب والسلاح. وفي هذه السنة دخل هرثمة حائط سمرقند، ولجأ رافع إلى المدينة الداخلة، وراسل رافع الترك فوافوه، فصار هرثمة بين رافع والترك، ثم انصرف الترك، فضعف رافع. وقتل في هذه السنة نقفور ملك الروم في حرب برجان، وكان ملكه- فيما قيل- سبع سنين، وملك بعده إستبراق بْن نقفور وهو مجروح، فبقي شهرين ومات وملك ميخائيل بْن جورجس ختنه على أخته. وحج بالناس في هذه السنة داود بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن علي، وكان والي مكة. وأقر محمد بْن هارون أخاه القاسم بْن هارون في هذه السنة على ما كان أبوه هارون ولاه من عمل الجزيرة، واستعمل عليها خزيمة بْن خازم، وأقر القاسم على قنسرين والعواصم.

سنه اربع وتسعين ومائه

ثم دخلت سنة أربع وتسعين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من مخالفة أهل حمص عاملهم إسحاق بْن سليمان، وكان محمد ولاه إياها، فلما خالفوه انتقل إلى سلمية، فصرفه محمد عنهم، وولى مكانه عبد الله بْن سعيد الحرشي ومعه عافية بْن سليمان، فحبس عدة من وجوههم، وضرب مدينتهم من نواحيها بالنار، وسألوه الأمان فأجابهم، وسكنوا ثم هاجوا، فضرب أيضا أعناق عدة منهم. وفيها عزل محمد أخاه القاسم عن جميع ما كان أبوه هارون ولاه من عمل الشام وقنسرين والعواصم والثغور، وولى مكانه خزيمة بْن خازم، وأمره بالمقام بمدينة السلام. وفي هذه السنة أمر محمد بالدعاء لابنه موسى على المنابر بالإمرة. ذكر تفاقم الخلاف بين الامين والمأمون وفيها مكر كل واحد منهما بصاحبه: محمد الأمين وعبد الله المأمون، وظهر بينهما الفساد. ذكر الخبر عن سبب ذلك: ذكر أن الفضل بن الربيع فكر بعد مقدمه العراق على محمد منصرفا عن طوس، وناكثا للعهود التي كان الرشيد أخذها عليه لابنه عبد الله، وعلم أن الخلافة إن أفضت إلى المأمون يوما وهو حي لم يبق عليه، وكان في ظفره به عطبه، فسعى في إغراء محمد به، وحثه على خلعه، وصرف ولاية العهد من بعده إلى ابنه موسى، ولم يكن ذلك من رأي محمد ولا عزمه، بل كان عزمه- فيما ذكر عنه- الوفاء لأخويه: عبد الله والقاسم، بما كان أخذ عليه لهما والده من العهود والشروط، فلم يزل الفضل به يصغر في عينه شأن المأمون،

ويزين له خلعه، حتى قَالَ له: ما تنتظر يا أمير المؤمنين بعبد الله والقاسم أخويك! فإن البيعة كانت لك متقدمة قبلهما، وإنما أدخلا فيها بعدك واحدا بعد واحد، وأدخل في ذلك من رأيه معه علي بْن عيسى بْن ماهان والسندي وغيرهما ممن بحضرته، فأزال محمدا عن رأيه. فأول ما بدأ به محمد عن رأي الفضل بْن الربيع فيما دبر من ذلك، أن كتب إلى جميع العمال في الأمصار كلها بالدعاء لابنه موسى بالإمرة بعد الدعاء له وللمأمون والقاسم بن الرشيد، فذكر الفضل بْن إسحاق بْن سليمان ان المأمون لما بلغه ما امر به محمد من الدعاء لابنه موسى وعزله القاسم عما كان الرشيد ضم إليه من الأعمال وإقدامه إياه مدينة السلام، علم أنه يدبر عليه في خلعه، فقطع البريد عن محمد، واسقط اسمه من الطرز والضرب. وكان رافع بْن الليث بْن نصر بْن سيار لما انتهى إليه من الخبر عن المأمون وحسن سيرته في أهل عمله وإحسانه إليهم، بعث في طلب الأمان لنفسه، فسارع إلى ذلك هرثمة وخرج رافع فلحق بالمأمون، وهرثمة بعد مقيم بسمرقند فأكرم المأمون رافعا وكان مع هرثمة في حصار رافع طاهر بن الحسين، فلما دخل رافع في الأمان، استأذن هرثمة المأمون في القدوم عليه، فعبر نهر بلخ بعسكره والنهر جامد، فتلقاه الناس، وولاه المأمون الحرس فأنكر ذلك كله محمد، فبدأ بالتدبير على المأمون، فكان من التدبير أنه كتب إلى العباس بْن عبد الله بْن مالك- وهو عامل المأمون على الري- وأمره أن يبعث إليه بغرائب غروس الري- مريدا بذلك امتحانه- فبعث اليه ما امره به، وكتم المأمون وذا الرياستين. فبلغ ذلك من أمره المأمون، فوجه الحسن بن على المامونى واردفه بالرستمى على البريد، وعزل العباس بْن عبد الله بن مالك، فذكر عن الرستمي أنه لم ينزل عن دابته حتى اجتمع إليه ألف رجل من أهل الري. ووجه محمد إلى المأمون ثلاثة أنفس رسلا: أحدهم العباس بْن موسى بْن عيسى، والآخر صالح صاحب المصلى، والثالث محمد بْن عيسى بْن نهيك،

وكتب معهم كتابا إلى صاحب الري، أن استقبلهم بالعدة والسلاح الظاهر. وكتب إلى والي قومس ونيسابور وسرخس بمثل ذلك، ففعلوا ثم وردت الرسل مرو، وقد أعد لهم من السلاح وضروب العدد والعتاد، ثم صاروا إلى المأمون، فأبلغوه رسالة محمد بمسألته تقديم موسى على نفسه، ويذكر له أنه سماه الناطق بالحق، وكان الذي أشار عليه بذلك علي بْن عيسى بْن ماهان، وكان يخبره أن أهل خراسان يطيعونه، فرد المأمون ذلك وأباه قَالَ: فقال لي ذو الرئاستين: قَالَ العباس بْن موسى بْن عيسى بْن موسى: وما عليك أيها الأمير من ذلك، فهذا جدي عيسى بْن موسى قد خلع فما ضره ذلك، قَالَ: فصحت به: اسكت، فإن جدك كان في أيديهم أسيرا، وهذا بين أخواله وشيعته قَالَ: فانصرفوا، وأنزل كل واحد منهم منزلا قال ذو الرياستين: فأعجبني ما رأيت من ذكاء العباس بْن موسى، فخلوت به فقلت: ايذهب عليك في فهمك وسنك أن تأخذ بحظك من الإمام- وسمي المأمون في ذلك اليوم بالإمام ولم يسم بالخلافة، وكان سبب ما سمي به الإمام ما جاء من خلع محمد له، وقد كان محمد قَالَ للذين أرسلهم: قد تسمى المأمون بالإمام، فقال لي العباس: قد سميتموه الإمام! قَالَ: قلت له: قد يكون إمام المسجد والقبيلة، فإن وفيتم لم يضركم، وإن غدرتم فهو ذاك. قَالَ: ثم قلت للعباس: لك عندي ولاية الموسم، ولا ولاية أشرف منها، ولك من مواضع الأعمال بمصر ما شئت. قَالَ: فما برح حتى أخذت عليه البيعة للمأمون بالخلافة، فكان بعد ذلك يكتب إلينا بالأخبار، ويشير علينا بالرأي. قَالَ: فأخبرني علي بْن يحيى السرخسي، قَالَ: مر بي العباس بْن موسى ذاهبا إلى مرو- وقد كنت وصفت له سيرة المأمون وحسن تدبير ذي الرياستين واحتماله الموضع، فلم يقبل ذلك مني- فلما رجع مر بي، فقلت له: كيف رأيت؟ قال: ذو الرياستين أكثر مما وصفت، فقلت: صافحت

الإمام؟ قَالَ: نعم، قلت: امسح يدك على رأسي قَالَ: ومضى القوم إلى محمد فأخبروه بامتناعه، قَالَ: فألح الفضل بْن الربيع وعلي بْن عيسى على محمد في البيعة لابنه وخلع المأمون، وأعطى الفضل الأموال حتى بايع لابنه موسى، وسماه الناطق بالحق، وأحضنه علي بْن عيسى وولاه العراق قَالَ: وكان أول من أخذ له البيعة بشر بْن السميدع الأزدي، وكان واليا على بلد، ثم أخذها صاحب مكة وصاحب المدينة على خواص من الناس قليل، دون العامة. قَالَ: ونهى الفضل بْن الربيع عن ذكر عبد الله والقاسم والدعاء لهما على شيء من المنابر، ودس لذكر عبد الله والوقيعة فيه، ووجه إلى مكة كتابا مع رسول من حجبة البيت يقال له محمد بْن عبد الله بْن عثمان بْن طلحة في أخذ الكتابين اللذين كان هارون كتبهما، وجعلهما في الكعبة لعبد الله على محمد، فقدم بهما عليه، وتكلم في ذلك بقية الحجبة، فلم يحفل بهم، وخافوا على أنفسهم، فلما صار بالكتابين إلى محمد قبضهما منه، واجازه بجائزه عظيمة، ومزقهما وأبطلهما. وكان محمد- فيما ذكر- كتب إلى المأمون قبل مكاشفة المأمون إياه بالخلاف عليه، يسأله أن يتجافى له عن كور من كور خراسان- سماها- وأن يوجه العمال إليها من قبل محمد، وأن يحتمل توجيه رجل من قبله يوليه البريد عليه ليكتب إليه بخبره فلما ورد إلى المأمون الكتاب بذلك، كبر ذلك عليه واشتد، فبعث إلى الفضل بْن سهل وإلى أخيه الحسن، فشاورهما في ذلك، فقال الفضل: الأمر مخطر، ولك من شيعتك وأهل بيتك بطانة، ولهم تأنيس بالمشاورة، وفي قطع الأمر دونهم وحشة، وظهوره قلة ثقة، فرأي الأمير في ذلك وقال الحسن: كان يقال: شاور في طلب الرأي من تثق بنصيحته، وتألف العدو فيما لا اكتتام له بمشاورته، فأحضر المأمون الخاصة من الرؤساء والأعلام، وقرأ عليهم الكتاب، فقالوا جميعا له: أيها الأمير،

تشاور في مخطر، فاجعل لبديهتنا حظا من الروية، فقال المأمون: ذلك هو الحزم، وأجلهم ثلاثا، فلما اجتمعوا بعد ذلك، قَالَ أحدهم: أيها الأمير، قد حملت على كرهين، ولست أرى خطأ مدافعة بمكروه أولهما مخافة مكروه آخرهما وقال آخر: كان يقال أيها الأمير، أسعدك الله، إذا كان الأمر مخطرا، فإعطاؤك من نازعك طرفا من بغيته أمثل من أن تصير بالمنع إلى مكاشفته. وقال آخر: إنه كان يقال: إذا كان علم الأمور مغيبا عنك، فخذ ما امكنك من هدنة يومك، فإنك لا تأمن أن يكون فساد يومك راجعا بفساد غدك وقال آخر: لئن خيفت للبذل عاقبة، إن أشد منها لما يبعث الآباء من الفرقة وقال آخر: لا أرى مفارقة منزلة سلامة، فلعلي أعطى معها العافية فقال الحسن: فقد وجب حقكم باجتهادكم، وإن كنت من الرأي على مخالفتكم، فقال له المأمون: فناظرهم، قَالَ: لذلك ما كان الاجتماع. وأقبل الحسن عليهم، فقال: هل تعلمون أن محمدا تجاوز إلى طلب شيء ليس له بحق؟ قالوا: نعم، ويحتمل ذلك لما نخاف من ضرر منعه قال: فهل تثقون بكفه بعد إعطائه إياها، فلا يتجاوز بالطلب إلى غيرها؟ قالوا: لا، ولعل سلامة تقع من دون ما يخاف ويتوقع قَالَ: فإن تجاوز بعدها بالمسألة، أفما ترونه قد توهن بما بذل منها في نفسه! قالوا: ندفع ما يعرض له في عاقبة بمدافعه محذور في عاجله! قَالَ: فهذا خلاف ما سمعناه من قول الحكماء قبلنا، قالوا: استصلح عاقبة أمرك باحتمال ما عرض من كره يومك، ولا تلتمس هدنة يومك بإخطار أدخلته على نفسك في غدك قَالَ المأمون للفضل: ما تقول فيما اختلفوا فيه؟ قَالَ: أيها الأمير، أسعدك الله، هل يؤمن محمد أن يكون طالبك بفضل قوتك ليستظهر بها عليك غدا على مخالفتك! وهل يصير الحازم إلى فضلة من عاجل الدعة بخطر يتعرض له في عاقبة، بل إنما أشار الحكماء بحمل ثقل فيما يرجون به صلاح عواقب أمورهم فقال المأمون: بل بإيثار العاجلة صار من صار إلى فساد العاقبة في امر دنيا او امر آخره. قَالَ القوم: قد قلنا بمبلغ الرأي، والله يؤيد الأمير بالتوفيق فقال: اكتب

يا فضل إليه، فكتب: قد بلغني كتاب امير المؤمنين يسألني التجافي عن مواضع سماها مما أثبته الرشيد في العقد، وجعل أمره إلي، وما أمر رآه أمير المؤمنين أحد يجاوز أكثره، غير أن الذي جعل إلي الطرف الذي أنابه، لا ظنين في النظر لعامته، ولا جاهل بما أسند إلي من أمره، ولو لم يكن ذلك مثبتا بالعهود والمواثيق المأخوذة، ثم كنت على الحال التي أنا عليها من إشراف عدو مخوف الشوكة، وعامة لا تتألف عن هضمها، وأجناد لا يستتبع طاعتها إلا بالأموال وطرف من الإفضال- لكان في نظر أمير المؤمنين لعامته وما يحب من لم أطرافه ما يوجب عليه أن يقسم له كثيرا من عنايته، وأن يستصلحه ببذل كثير من ماله، فكيف بمسألة ما أوجبه الحق، ووكد به مأخوذ العهد! وإني لأعلم أن أمير المؤمنين لو علم من الحال ما علمت لم يطلع بمسألة ما كتب بمسألته إلي ثم أنا على ثقة من القبول بعد البيان إن شاء الله. وكان المأمون قد وجه حارسة إلى الحد، فلا يجوز رسول من العراق حتى يوجهوه مع ثقات من الأمناء، ولا يدعه يستعلم خبرا ولا يؤثر أثرا، ولا يستتبع بالرغبة ولا بالرهبة أحدا، ولا يبلغ أحدا قولا ولا كتابا فحصر أهل خراسان من أن يستمالوا برغبة، أو أن تودع صدورهم رهبة، أو يحملوا على منزل خلاف أو مفارقة ثم وضع على مراصد الطرق ثقات من الحراس لا يجوز عليهم إلا من لا يدخل الظنة في أمره ممن أتى بجواز في مخرجه إلى دار مآبه، أو تاجر معروف مأمون في نفسه ودينه، ومنع الإشتاتات من جواز السبل والقطع بالمتاجر والوغول في البلدان في هيئة الطارئة والسابلة، وفتشت الكتب. وكان- فيما ذكر- أول من أقبل من قبل محمد مناظرا في منعه ما كان سأل جماعة، وإنما وجهوا ليعلم أنهم قد عاينوا وسمعوا، ثم يلتمس منهم ان يبذلوا او يحرموا فيكون مما قالوا حجة يحتج بها، أو ذريعه الى ما التمس منها فلما صاروا إلى حد الري، وجدوا تدبيرا مؤيدا، وعقدا مستحصدا متأكدا، وأخذتهم الأحراس من جوانبهم، فحفظوا في حال ظعنهم وإقامتهم من أن يخبروا أو يستخبروا، وكتب بخبرهم من مكانهم، فجاء الإذن في حملهم

فحملوا محروسين، لا خبر يصل إليهم، ولا خبر يتطلع منهم إلى غيرهم، وقد كانوا معدين لبث الخبر في العامة وإظهار الحجة بالمفارقة والدعاء لأهل القوة إلى المخالفة، يبذلون الأموال، ويضمنون لهم معظم الولايات والقطائع والمنازل، فوجدوا جميع ذلك ممنوعا محسوما، حتى صاروا إلى باب المأمون. وكان الكتاب النافذ معهم إلى المأمون: أما بعد، فإن أمير المؤمنين الرشيد وإن كان أفردك بالطرف، وضم ما ضم إليك من كور الجبل، تأييدا لأمرك، وتحصينا لطرفك، فإن ذلك لا يوجب لك فضلة المال عن كفايتك وقد كان هذا الطرف وخراجه كافيا لحدثه، ثم تتجاوز بعد الكفاية إلى ما يفضل من رده، وقد ضم لك إلى الطرف كورا من أمهات كور الأموال لا حاجة لك فيها، فالحق فيها أن تكون مردودة في أهلها، ومواضع حقها فكتبت إليك أسألك رد تلك الكور الى ما كانت عليه من حالها، لتكون فضول ردها مصروفة إلى مواضعها، وأن تأذن لقائم بالخبر يكون بحضرتك يؤدي إلينا علم ما نعني به من خبر طرفك، فكتبت تلط دون ذلك بما أن تم أمرك عليه صيرنا الحق إلى مطالبتك، فاثن عن همك أثن عن مطالبتك، إن شاء الله. فلما قرأ المأمون الكتاب كتب مجيبا له: أما بعد، فقد بلغني كتاب أمير المؤمنين، ولم يكتب فيما جهل فأكشف له عن وجهه، ولم يسال ما يوجبه حق فيلزمني الحجة بترك إجابته، وإنما يتجاوز المتناظران منزلة النصفة ما ضاقت النصفة عن أهلها، فمتى تجاوز متجاوز- وهي موجودة الوسع- ولم يكن تجاوزها إلا عن نقضها واحتمال ما في تركها، فلا تبعثني يا بن أبي علي مخالفتك وأنا مذعن بطاعتك، ولا على قطيعتك وأنا على إيثار ما تحب من صلتك، وارض بما حكم به الحق في أمرك أكن بالمكان الذي أنزلني به الحق فيما بيني وبينك والسلام. ثم أحضر الرسل، فقال: إن أمير المؤمنين كتب في امر كتبت له في جوابه، فأبلغوه الكتاب، وأعلموه أني لا أزال على طاعته، حتى يضطرني

بترك الحق الواجب إلى مخالفته فذهبوا يقولون، فقال: قفوا أنفسكم حيث وقفنا بالقول بكم، وأحسنوا تأدية ما سمعتم، فقد أبلغتمونا من كتابنا ما عسى ان تقولوه لنا فانصرف الرسل ولم يثبتوا لأنفسهم حجة، ولم يحملوا خبرا يؤدونه إلى صاحبهم، ورأوا جدا غير مشوب بهزل، في منع ما لهم من حقهم الواقع- بزعمهم. فلما وصل كتاب المأمون إلى محمد وصل منه ما فظع به، وتخمط غيظا بما تردد منه في سمعه، وأمر عند ذلك بما ذكرناه من الإمساك عن الدعاء له على المنابر، وكتب إليه: أما بعد، فقد بلغني كتابك غامطا لنعمة الله عليك فيما مكن لك من ظلها، متعرضا لحراق نار لا قبل لك بها، ولحظك عن الطاعة كان أودع لك، وإن كان قد تقدم مني متقدم، فليس بخارج من مواضع نفعك إذ كان راجعا على العامة من رعيتك، وأكثر من ذلك ما يمكن لك من منزله السلامة، ويثبت لك من حال الهدنة، فأعلمني رأيك أعمل عليه إن شاء الله. وذكر سهل بْن هارون عن الحسن بْن سهل، أن المأمون قال لذى الرياستين: إن ولدي وأهلي ومالي الذي أفرده الرشيد لي بحضرة محمد- وهو مائة ألف ألف- وأنا إليها محتاج، وهي قبله فما ترى في ذلك؟ وراجعه في ذلك مرارا فقال له ذو الرياستين: أيها الأمير، بك حاجة إلى فضلة مالك، وأن يكون أهلك في دارك وجنابك، وإن أنت كتبت فيه كتاب عزمة فمنعك صار إلى خلع عهده، فإن فعل حملك ولو بالكره على محاربته، وأنا أكره أن تكون المستفتح باب الفرقة ما أرتجه الله دونك، ولكن تكتب كتاب طالب لحقك، وتوجيه أهلك على ما لا يوجب عليه المنع نكثا لعهدك، فإن أطاع فنعمة وعافية، وإن ابى لم تكن بعثت على نفسك حربا او مشاقه فاكتب إليه، فكتب عنه: أما بعد، فإن نظر أمير المؤمنين للعامة نظر من لا يقتصر عنه على إعطاء النصفة من نفسه حتى يتجاوزها إليهم ببره وصلته، وإذا كان ذلك رأيه في

عامته، فأحر بأن يكون على مجاوزة ذلك بصنوه وقسيم نسبه، فقد تعلم يا أمير المؤمنين حالا أنا عليها من ثغور حللت بين لهواتها، وأجناد لا تزال موقنة بنشر غيها وبنكث آرائها، وقلة الخرج قبلي، والأهل والولد قبل أمير المؤمنين، وما للأهل- وإن كانوا في كفاية من بر أمير المؤمنين، فكان لهم والدا- بد من الإشراف والنزوع إلى كنفى، وما لي بالمال من القوة والظهير على لم الشعث بحضرتي، وقد وجهت لحمل العيال وحمل ذلك المال، فرأي أمير المؤمنين في إجازة فلان إلى الرقة في حمل ذلك المال، والأمر بمعونته عليه، غير محرج له فيه إلى ضيقة تقع بمخالفته، أو حامل له على رأي يكون على غير موافقة والسلام. فكتب إليه محمد: أما بعد، فقد بلغني كتابك بما ذكرت مما عليه رأي أمير المؤمنين في عامته فضلا عما يجب من حق لذي حرمته وخليط نفسه، ومحلك بين لهوات ثغور، وحاجتك لمحلك بينها إلى فضلة من المال لتأييد أمرك، والمال الذي سمي لك من مال الله، وتوجيهك من وجهت في حمله وحمل أهلك من قبل أمير المؤمنين. ولعمري ما ينكر أمير المؤمنين رأيا هو عليه مما ذكرت لعامته، يوجب عليه من حقوق أقربيه وعامته وبه إلى ذلك المال الذي ذكرت حاجة في تحصين أمور المسلمين، فكان أولى به إجراؤه منه على فرائضه، ورده على مواضع حقه، وليس بخارج من نفعك ما عاد بنفع العامة من رعيتك وأما ما ذكرت من حمل أهلك، فإن رأي أمير المؤمنين تولي أمرهم، وإن كنت بالمكان الذي أنت به من حق القرابة ولم أر من حملهم على سفرهم مثل الذي رايت من تعريضهم بالسفر للتشتت، وان أر ذلك من قبلي أوجههم إليك مع الثقة من رسلي إن شاء الله والسلام. قَالَ: ولما ورد الكتاب على المأمون، قَالَ: لاط دون حقنا يريد أن نتوهن مما يمنع من قوتنا، ثم يتمكن للوهنة من الفرصة في مخالفتنا فقال له ذو الرياستين: أو ليس من المعلوم دفع الرشيد ذلك المال إلى الأمين لجمعه، وقبض الأمين إياه على أعين الملأ من عامته، على أنه يحرسه قنيه، فهو

لا ينزع إليها، فلا تأخذ عليه مضايقها، وامل له ما لم تضطرك جريرته إلى مكاشفته بها، والرأي لزوم عروة الثقه، وحسم الفرقة، فان امسك فبنعمه وان تطلع إليها فقد تعرض لله بالمخالفة، وتعرضت منه بالإمساك للتأييد والمعونة. قَالَ: وعلم المأمون والفضل أنه سيحدث بعد كتابه من الحدث ما يحتاج الى لمه، ومن الخبر ما يحتاج أن يباشره بالثقة من أصحابه، وأنه لا يحدث في ذلك حدثا دون مواطأة رجال النباهة والأقدار من الشيعة وأهل السابقة، فرأى أن يختار رجلا يكتب معه إلى أعيان أهل العسكر من بغداد، فإن أحدث محمد خلعا للمأمون صار الى دفعها، وتلطف لعلم حالات أهلها، وإن لم يفعل من ذلك شيئا خنس في حقته، وأمسك عن إيصالها، وتقدم إليه في التعجيل. ولما قدم أوصل الكتب، وكان كتابه مع الرسول الذي وجهه لعلم الخبر: أما بعد، فإن أمير المؤمنين كأعضاء البدن، يحدث العلة في بعضها، فيكون كره ذلك مؤلما لجميعها، وكذلك الحدث في المسلمين، يكون في بعضهم فيصل كره ذلك إلى سائرهم، للذي يجمعهم من شريعة دينهم، ويلزمهم من حرمه اخوتهم، ثم ذلك من الأئمة أعظم للمكان الذي به الأئمة من سائر أممهم، وقد كان من الخبر ما لا احسبه الا سيعرب عن محنته، ويسفر عما استتر من وجهه، وما اختلف مختلفان فكان أحدهما مع امر الله إلا كان أول معونة المسلمين وموالاتهم في ذات الله، وأنت يرحمك الله من الأمر بمرأى ومسمع، وبحيث إن قلت آذن لقولك، وإن لم تجد للقول مساغا فأمسكت عن مخوف أقتدي فيه بك، ولن يضيع علي الله ثواب الإحسان مع ما يجب علينا بالإحسان من حقك، ولحظ حاز لك النصيبين أو أحدهما أمثل من الإشراف لأحد الحظين، مع التعرض لعدمهما، فاكتب إلي برأيك، وأعلم ذلك لرسولي ليؤديه إلي عنك إن شاء الله. وكتب إلى رجال النباهة من أهل العسكر بمثل ذلك. قَالَ: فوافق قدوم الرسول بغداد ما أمر به من الكف عن الدعاء للمأمون

في الخطبة يوم الجمعة، وكان بمكان الثقة من كل من كتب إليه معه، فمنهم من أمسك عن الجواب وأعرب للرسول عما في نفسه، ومنهم من أجاب عن كتابه، فكتب أحدهم: أما بعد فقد بلغني كتابك وللحق برهان يدل على نفسه تثبت به الحجة على كل من صار إلى مفارقته، وكفى غبنا بإضاعة حظ من حظ العاقبه، لمامول من حظ عاجله، وأبين من الغبن إضاعة حظ عاقبه مع التعرض للنكبة والوقائع، ولى من العلم بمواضع حظى ما أرجو أن يحسن معه النظر مني لنفسي، ويضع عني مؤنة استزادتي إن شاء الله قال: وكتب الرسول المتوجه الى بغداد الى المأمون وذي الرياستين: أما بعد، فإني وافيت البلدة، وقد أعلن خليطك بتنكره، وقدم علما من اعتراضه ومفارقته وامسك عما كان يجب ذكره وتوفيته بحضرته، ودفعت كتبك فوجدت أكثر الناس ولاة السريره ونفاه العلانية، ووجدت المشرفين بالرعية لا يحوطون الا عنها ولا يبالون ما احتملوا فيها، والمنازع مختلج الرأي، لا يجد دافعا منه عن همه، ولا راغبا في عامه، والمحلون بانفسهم يحلون تمام الحدث، ليسلموا من منهزم حدثهم، والقوم على جد، ولا تجعلوا للتوانى في امركم نصيبا إن شاء الله والسلام. قَالَ: ولما قدم على محمد من معسكر المأمون سعيد بْن مالك بْن قادم وعبد الله بْن حميد بْن قحطبة والعباس بْن الليث مولى أمير المؤمنين ومنصور بْن أبي مطر وكثير بْن قادره، الطفهم وقربهم، وأمر لمن كان قبض منهم الستة الأشهر برزق اثني عشر شهرا، وزادهم في الخاصة والعامة، ولمن لم يقبضها بثمانية عشر شهرا. قال: ولما عزم محمد على خلع المأمون دعا يحيى بْن سليم فشاوره في ذلك، فقال يحيى: يا أمير المؤمنين، كيف بذلك لك مع ما قد وكد الرشيد من بيعته، وتوثق بها من عهده، والأخذ للأيمان والشرائط في الكتاب الذي

كتبه! فقال له محمد: إن رأي الرشيد كان فلتة شبهها عليه جعفر بْن يحيى بسحره، واستماله برقاه وعقده، فغرس لنا غرسا مكروها لا ينفعنا ما نحن فيه معه إلا بقطعه، ولا تستقيم لنا الأمور إلا باجتثاثه والراحة منه فقال: أما إذا كان راى امير المؤمنين خلعه، فلا يجاهره مجاهرة فيستنكرها الناس، ويستشنعها العامة، ولكن تستدعي الجند بعد الجند والقائد بعد القائد، وتؤنسه بالألطاف والهدايا، وتفرق ثقاته ومن معه، وترغبهم بالأموال، وتستميلهم بالأطماع، فإذا أوهنت قوته، واستفرغت رجاله، أمرته بالقدوم عليك، فإن قدم صار إلى الذي تريد منه، وإن أبى كنت قد تناولته وقد كل حده وهيض جناحه، وضعف ركنه وانقطع عزه فقال محمد: ما قطع أمرا كصريمة، أنت مهذار خطيب، ولست بذي رأي، فزل عن هذا الرأي إلى الشيخ الموفق والوزير الناصح، قم فالحق بمدادك وأقلامك، قال يحيى: فقلت: غضب يشوبه صدق ونصيحه، اشرت الى راى يخلطه غش وجهل قال: فو الله ما ذهبت الأيام حتى ذكر كلامه، وقرعه بخطئه وخرقه. قال سهل بْن هارون: وقد كان الفضل بْن سهل دس قوما اختارهم ممن يثق به من القواد والوجوه ببغداد ليكاتبوه بالأخبار يوما يوما، فلما هم محمد بخلع المأمون، بعث الفضل بْن الربيع إلى أحد هؤلاء الرجال يشاوره فيما يرى من ذلك، فعظم الرجل عليه أمر نقض العهد للمأمون، وقبح الغدر به. فقال له الفضل: صدقت، ولكن عبد الله قد أحدث الحدث الذي وجب به نقض ما أخذ الرشيد له قال: افتثبت الحجة عند العوام بمعلوم حدثه كما تثبت الحجة بما جدد من عهده! قَالَ: لا، قَالَ: أفحدث هذا منكم يوجب عند العامة نقض عهدكم ما لم يكن حدثه معلوما يجب به فسخ عهده! قَالَ: نعم، قَالَ الرجل- ورفع صوته: بالله ما رأيت كاليوم رأي رجل يرتاد به النظر، يشاور في رفع ملك في يده بالحجة ثم يصير إلى مطالبته بالعناد والمغالبة! قَالَ: فأطرق الفضل مليا، ثم قال: صدقتني الرأي، واحتملت ثقل الأمانة، ولكن أخبرني ان نحن أغمضنا من قالة العامة ووجدنا مساعدين

من شيعتنا وأجنادنا، فما القول؟ قَالَ: أصلحك الله، وهل أجنادك إلا من عامتك في أخذ بيعتهم وتمكن برهان الحق في قلوبهم! افليسوا وان اعطوك ظاهر طاعه هم مع ما تأكد من وثائق العهد في معارفهم، قال: فان أعطونا بذلك الطاعة قال: لا طاعه دون ان تكون على تثبت من البصائر. قَالَ: نرغبهم بتشريف حظوظهم، قال: إذا يصيروا الى التقبل، ثم إلى خذلانك عند حاجتك إلى مناصحتهم قَالَ: فما ظنك بأجناد عبد الله؟ قَالَ: قوم على بصيره من امرهم لتقدم بيعتهم وما يتعاهدون من حظهم، قَالَ: فما ظنك بعامتهم؟ قَالَ: قوم كانوا في بلوى عظيمه من تحيف ولاتهم في أموالهم، ثم في أنفسهم صاروا به إلى الأمنية من المال والرفاغة في المعيشة، فهم يدافعون عن نعمة حادثة لهم، ويتذكرون بليه لا يأمنون العودة إليها قال: فهل من سبيل الى استفساد عظماء البلاد عليه، لتكون محاربتنا اياه بالمكيدة من ناحيته، لا بالزخرف نحوه لمناجزته! قال: اما الضعفاء فقد صاروا له البا لما نالوا به من الأمان والنصفة، وأما ذوو القوة فلم يجدوا مطعنا ولا موضع حجه والضعفاء السواد الأكثر قال: ما أراك ابقيت لنا موضع راى في اعتزالك الى اجنادنا، ولا تمكن النظر في ناحيته باحتيالنا، ثم أشد من ذلك ما قلت به وهنة أجنادنا وقوة أجناده في مخالفته وما تسخو نفس امير المؤمنين بترك ما لا يعرف من حقه، ولا نفسي بالهدنة مع تقدم جرى في امره، وربما اقبلت الأمور مشرفه بالمخالفة، ثم تكشف عن الفلج والدرك في العاقبه ثم تفرقا. قال: وكان الفضل بْن الربيع أخذ بالمراصد لئلا تجاوز الكتب الحد، فكتب الرسول مع امرأة، وجعل الكتاب وديعة في عود منقور من أعواد الأكاف، وكتب إلى صاحب البريد بتعجيل الخبر، وكانت المرأة تمضي على المسالح كالمجتازة من القرية إلى القرية، لا تهاج ولا تفتش وجاء الخبر إلى المأمون موافقا لسائر ما ورد عليه من الكتب، قد شهد بعضها ببعض، فقال لذى الرياستين: هذه أمور قد كان الرأي أخبر عن عيبها، ثم هذه طوالع تخبر عن أواخرها، وكفانا أن نكون مع الحق، ولعل كرها يسوق خيرا. قال: وكان أول ما دبره الفضل بْن سهل بعد ترك الدعاء للمأمون وصحه

أخبار متفرقة

الخبر به، أن جمع الأجناد التي كان أعدها بجنبات الري مع أجناد قد كان مكنها فيها، واجناد للقيام بامرهم، وكانت البلاد اجدبت بحضرتهم، فأعد لهم من الحمولة ما يحمل إليهم من كل فج وسبيل، حتى ما فقدوا شيئا احتاجوا إليه، وأقاموا بالحد لا يتجاوزونه ولا يطلقون يدا بسوء في عامد ولا مجتاز ثم أشخص طاهر بْن الحسين فيمن ضم إليه من قواده وأجناده، فسار طاهر مغذا لا يلوي على شيء، حتى ورد الري، فنزلها ووكل بأطرافها، ووضع مسالحه، وبث عيونه وطلائعه، فقال بعض شعراء خراسان: رمى أهل العراق ومن عليها ... إمام العدل والملك الرشيد بأحزم من مشى رأيا وحزما ... وكيدا نافذا فيما يكيد بداهيه ناد خنفقيق ... يشيب لهول صولتها الوليد وذكر أن محمدا وجه عصمة بْن حماد بْن سالم إلى همذان في ألف رجل، وولاه حرب كور الجبل، وأمره بالمقام بهمذان، وأن يوجه مقدمته إلى ساوة، واستخلف أخاه عبد الرحمن بْن حماد على الحرس، وجعل الفضل بْن الربيع وعلي بْن عيسى يلهبان محمدا، ويبعثانه على خلع المأمون والبيعه لابنه موسى. [أخبار متفرقة] وفي هذه السنة عقد محمد بْن هارون في شهر ربيع الأول لابنه موسى على جميع ما استخلفه عليه، وجعل صاحب أمره كله علي بْن عيسى بْن ماهان، وعلى شرطه محمد بْن عيسى بْن نهيك، وعلى حرسه عثمان بن عيسى ابن نهيك، وعلى خراجه عبد الله بْن عبيدة وعلى ديوان رسائله علي بْن صالح صاحب المصلى. وفي هذه السنة وثب الروم على ميخائيل صاحب الروم فهرب وترهب، وكان ملكه سنتين فيما قيل

وفيها ملك على الروم ليون القائد. وفيها صرف محمد بْن هارون إسحاق بْن سليمان عن حمص، وولاها عبد الله بْن سعيد الحرشي، ومعه عافية بْن سليمان، فقتل عدة من وجوههم، وحبس عدة، وحرق مدينتهم من نواحيها بالنار، فسألوه الأمان، فأجابهم فسكنوا ثم هاجوا، فضرب أعناق عدة منهم.

سنه خمس وتسعين ومائه

ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من أمر محمد بْن هارون بإسقاط ما كان ضرب لأخيه عبد الله المأمون من الدنانير والدراهم بخراسان في سنة أربع وتسعين ومائة، لأن المأمون كان أمر ألا يثبت فيها اسم محمد، وكان يقال لتلك الدنانير والدراهم الرباعية، وكانت لا تجوز حينا. النهى عن الدعاء للمأمون على المنابر وفيها نهى الأمين عن الدعاء على المنابر في عمله كله للمأمون والقاسم، وأمر بالدعاء له عليها ثم من بعده لابنه موسى، وذلك في صفر من هذه السنة، وابنه موسى يومئذ طفل صغير، فسماه الناطق بالحق، وكان ما فعل من ذلك عن رأي الفضل بْن الربيع، فقال في ذلك بعض الشعراء: أضاع الخلافة غش الوزير ... وفسق الأمير، وجهل المشير ففضل وزير، وبكر مشير ... يريدان ما فيه حتف الأمير فبلغ ذلك المأمون، فتسمى بإمام الهدى، وكوتب بذلك . عقد الإمرة لعلى بن عيسى وفيها عقد محمد لعلي بْن عيسى بْن ماهان يوم الأربعاء لليلة خلت من شهر ربيع الآخر على كور الجبل كلها: نهاوند وهمذان وقم وأصفهان،

شخوص على بن عيسى إلى حرب المأمون

حربها وخراجها، وضم إليه جماعة من القواد وأمر له- فيما ذكر- بمائتي ألف دينار، ولولده بخمسين ألف دينار، وأعطى الجند مالا عظيما، وأمر له من السيوف المحلاة بألفي سيف وستة آلاف ثوب للخلع، وأحضر محمد أهل بيته ومواليه وقواده المقصورة بالشماسية يوم الجمعة لثمان خلون من جمادى الآخرة، فصلى محمد الجمعة، ودخل وجلس لهم ابنه موسى في المحراب، ومعه الفضل ابن الربيع وجميع من أحضر، فقرأ عليهم كتابا من الأمين يعلمهم رأيه فيهم وحقه عليهم، وما سبق لهم من البيعة متقدما مفردا بها، ولزوم ذلك لهم، وما أحدث عبد الله من التسمي بالإمامة، والدعاء إلى نفسه، وقطع ذكره في دور الضرب والطرز، وأن ما أحدث من ذلك ليس له، ولا ما يدعي من الشروط التي شرطت له بجائزة له وحثهم على طاعته، والتمسك ببيعته. وقام سعيد بْن الفضل الخطيب بعد قراءة الكتاب، فعارض ما في الكتاب بتصديقه والقول بمثله ثم تكلم الفضل بْن الربيع وهو جالس، فبالغ في القول وأكثر، وذكر أنه لا حق لأحد في الإمامة والخلافة إلا لأمير المؤمنين محمد الأمين، وأن الله لم يجعل لعبد الله ولا لغيره في ذلك حظا له ولا نصيبا فلم يتكلم أحد من أهل بيت محمد ولا غيرهم بشيء إلا محمد بْن عيسى بْن نهيك ونفر من وجوه الحرس وقال الفضل بْن الربيع في كلامه: إن الأمير موسى ابْن أمير المؤمنين قد أمر لكم يا معاشر أهل خراسان من صلب ماله بثلاثة آلاف ألف درهم تقسم بينكم ثم انصرف الناس، وأقبل علي بْن عيسى علي محمد يخبره أن أهل خراسان كتبوا إليه يذكرون أنه إن خرج هو أطاعوه وانقادوا معه . شخوص على بن عيسى الى حرب المأمون وفيها شخص علي بْن عيسى إلى الري إلى حرب المأمون. ذكر الخبر عن شخوصه إليها وما كان من أمره في شخوصه ذلك: ذكر الفضل بْن إسحاق، أن علي بْن عيسى شخص من مدينة السلام

عشية الجمعة لخمس عشرة خلت من جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين ومائة، شخص عشية تلك فيما بين صلاة الجمعة إلى صلاة العصر الى معسكره بنهر بين، فأقام فيه في زهاء أربعين ألفا، وحمل معه قيد فضة ليقيد به المأمون بزعمه، وشخص معه محمد الأمين إلى النهروان يوم الأحد لست بقين من جمادى الأخرة، فعرض بها الذين ضموا إلى علي بْن عيسى، ثم أقام بقية يومه ذلك بالنهروان، ثم انصرف إلى مدينة السلام وأقام علي بْن عيسى بالنهروان ثلاثة أيام، ثم شخص إلى ما وجه له مسرعا حتى نزل همذان، فولى عليها عبد الله بْن حميد بْن قحطبة وقد كان محمد كتب إلى عصمة بْن حماد بالانصراف في خاصة أصحابه وضم بقية العسكر وما فيه من الأموال وغير ذلك إلى علي بْن عيسى، وكتب إلى أبي دلف القاسم بْن عيسى بالانضمام إليه فيمن معه من اصحابه، ووجه معه هلال بْن عبد الله الحضرمي، وأمر له بالفرض، ثم عقد لعبد الرحمن بْن جبله الابناوى على الدينور، وأمره بالسير في بقية أصحابه، ووجه معه الفى الف درهم حملت إليه قبل ذلك، ثم شخص علي بْن عيسى من همذان يريد الري قبل ورود عبد الرحمن عليه، فسار حتى بلغ الري على تعبئة، فلقيه طاهر بْن الحسين وهو في أقل من أربعة آلاف- وقيل كان في ثلاثة آلاف وثمانمائه- وخرج من عسكر طاهر ثلاثة أنفس إلى علي بْن عيسى يتقربون إليه بذلك، فسألهم: من هم؟ ومن أي البلدان هم؟ فأخبره احدهم انه كان من جند عيسى ابيه الذي قتله رافع قَالَ: فأنت من جندي! فأمر به فضرب مائتي سوط، واستخف بالرجلين وانتهى الخبر إلى أصحاب طاهر، فازدادوا جدا في محاربته ونفورا منه. فذكر أحمد بْن هشام أنه لم يكن ورد عليهم الكتاب من المأمون، بان تسمى بالخلافة، إذ التقيا- وكان أحمد على شرطة طاهر- فقلت لطاهر: قد ورد علي بْن عيسى فيمن ترى، فإن ظهرنا له، فقال: أنا عامل أمير المؤمنين وأقررنا له بذلك، لم يكن لنا أن نحاربه فقال لي طاهر: لم يجئني في هذا

شيء، فقلت: دعني وما أريد، قَالَ: شأنك، قَالَ: فصعدت المنبر، فخلعت محمدا، ودعوت للمأمون بالخلافة، وسرنا من يومنا أو من غد يوم السبت، وكان ذلك في شعبان سنة خمس وتسعين ومائة، فنزلنا قسطانة، وهي أول مرحلة من الري إلى العراق وانتهى علي بْن عيسى إلى برية يقال لها مشكويه، وبيننا وبينه سبعه فراسخ، وجعلنا مقدمتنا على فرسخين من جنده وكان علي بْن عيسى ظن أن طاهرا إذا رآه يسلم إليه العمل، فلما رأى الجد منه، قال: هذا موضع مفازة، وليس موضع مقام. فأخذ يساره إلى رستاق يقال له رستاق بني الرازي، وكان معنا الأتراك، فنزلنا على نهر، ونزل قريبا منا، وكان بيننا وبينه دكادك وجبال، فلما كان في آخر الليل جاءني رجل فأخبرني أن علي بْن عيسى دخل الري- وقد كان كاتبهم فأجابوه- فخرجت معه إلى الطريق، فقلت له: هذا طريقهم، وما هنا أثر حافر، وما يدل على أنه سار وجئت إلى طاهر فأنبهته، فقلت له: تصلي؟ قَالَ: نعم، فدعا بماء فتهيأ، فقلت له: الخبر كيت وكيت. وأصبحنا، فقال لي: تركب، فوقفنا على الطريق، فقال لي: هل لك أن تجوز هذه الدكادك؟ فأشرفنا على عسكر علي بْن عيسى وهم يلبسون السلاح، فقال: ارجع، أخطأنا، فرجعنا فقال لي: اخرج أصحابنا قَالَ: فدعوت المأموني والحسن بْن يونس المحاربي والرستمي، فخرجوا جميعا، فكان على الميمنة المأموني، وعلى الميسره الرستمي ومحمد بْن مصعب. قَالَ: وأقبل علي في جيشه، فامتلأت الصحراء بياضا وصفرة من السلاح والمذهب، وجعل على ميمنته الحسين بْن علي ومعه أبو دلف القاسم بْن عيسى بْن إدريس، وعلى ميسرته آخر، وكروا، فهزمونا حتى دخلوا العسكر، فخرج إليهم الساعة السوعاء فهزموهم. قَالَ: وقال طاهر لما رأى علي بْن عيسى: هذا ما لا قبل لنا به، ولكن نجعلها خارجية، فقصد قصد القلب، فجمع سبعمائة رجل من الخوارزمية،

فيهم ميكائيل وسبسل وداود سياه. قَالَ أحمد بْن هشام: قلنا لطاهر: نذكر علي بْن عيسى البيعة التي كانت، والبيعة التي أخذها هو للمأمون خاصة على معاشر أهل خراسان، فقال: نعم، قَالَ: فعلقناهما على رمحين، وقمت بين الصفين، فقلت: الأمان! لا ترمونا ولا نرميكم، فقال علي بْن عيسى: ذلك لك، فقلت: يا علي بْن عيسى، ألا تتقي الله! أليس هذه نسخة البيعة التي أخذتها أنت خاصة! اتق الله فقد بلغت باب قبرك، فقال: من أنت؟ قلت: أحمد بْن هشام- وقد كان علي بْن عيسى ضربه أربعمائة سوط- فصاح علي بْن عيسى: يا أهل خراسان، من جاء به فله ألف درهم قَالَ: وكان معنا قوم بخارية، فرموه، وقالوا: نقتلك ونأخذ مالك: وخرج من عسكره العباس بْن الليث مولى المهدي، وخرج رجل يقال له حاتم الطائي، فشد عليه طاهر، وشد يديه على مقبض السيف، فضربه فصرعه فقتله، وشد داود سياه على علي بْن عيسى فصرعه، وهو لا يعرفه وكان علي بْن عيسى على برذون أرحل، حمله عليه محمد- وذلك يكره في الحرب ويدل على الهزيمة- قَالَ: فقال داود: ناري أسنان كتبتم قَالَ: فقال طاهر الصغير- وهو طاهر بْن التاجي: علي بْن عيسى أنت؟ قَالَ: نعم، أنا على بن عيسى، وظن انه يهاب فلا يقدم عليه أحد، فشد عليه فذبحه بالسيف ونازعهم محمد بْن مقاتل بْن صالح الرأس، فنتف محمد خصلة من لحيته، فذهب بها إلى طاهر وبشره، وكانت ضربة طاهر هي الفتح، فسمي يومئذ ذا اليمينين بذلك السبب لأنه أخذ السيف بيديه جميعا وتناول أصحابه النشاب ليرمونا، فلم أعلم بقتل علي حتى قيل: قتل والله الأمير فتبعناهم فرسخين، وواقفونا اثني عشرة مرة، كل ذلك نهزمهم، فلحقني طاهر بن التاجى، ومعه راس على ابن عيسى، وكان آلى أن ينصب رأس أحمد عند المنبر الذي خلع عليه محمد، وقد كان على أمر أن يهيأ له الغداء بالري قَالَ: فانصرفت فوجدت عيبه

على فيها دراعة وجبة وغلالة، فلبستها، وصليت ركعتين شكرا لله تبارك وتعالى ووجدنا في عسكره سبعمائة كيس، في كل كيس ألف درهم، ووجدنا عدة بغال عليها صناديق في أيدي أولئك البخارية الذين شتموه، وظنوا أنه مال، فكسروا الصناديق، فإذا فيها خمر سوادي، وأقبلوا يفرقون القناني، وقالوا: عملنا الجد حتى نشرب. قَالَ أحمد بْن هشام: وجئت إلى مضرب طاهر، وقد اغتم لتأخري عنه، فقال: لي البشرى! هذه خصله من لحيه على، فقلت له: البشرى! هذا رأس علي قَالَ: فأعتق طاهر من كان بحضرته من غلمانه شكرا لله، ثم جاءوا بعلي وقد شد الأعوان يديه الى رجليه، فحمل على خشبة كما يحمل الحمار الميت وأمر به فلف في لبد وألقي في بئر قال: وكتب الى ذي الرياستين بالخبر. قَالَ: فسارت الخريطة وبين مرو وذلك الموضع نحو من خمسين ومائتي فرسخ، ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد، ووردت عليهم يوم الأحد. قال ذو الرياستين: كنا قد وجهنا هرثمة، واحتشدنا في السلاح مددا، وسار في ذلك اليوم، وشيعه المأمون فقلت للمأمون: لا تبرح، حتى يسلم عليك بالخلافة فقد وجبت لك، ولا نامن ان يقال: يصلح بين الأخوين، فإذا سلم عليك بالخلافة لم يمكن أن ترجع فتقدمت أنا وهرثمة والحسن بْن سهل، فسلمنا عليه بالخلافة، وتبادر شيعة المأمون، فرجعت وأنا كال تعب لم أنم ثلاثة أيام في جهاز هرثمة، فقال لي الخادم: هذا عبد الرحمن بْن مدرك- وكان يلي البريد، ونحن نتوقع الخريطة لنا أو علينا- فدخل وسكت، قلت: ويلك! ما وراءك؟ قَالَ: الفتح، فإذا كتاب طاهر إلي: أطال الله بقاءك، وكبت اعداءك، وجعل من يشنؤك فداءك، كتبت إليك ورأس علي بْن عيسى بين يدي، وخاتمه في أصبعي، والحمد لله رب العالمين فوثبت إلى دار أمير المؤمنين، فلحقني الغلام بالسواد، فدخلت على المأمون فبشرته، وقرأت عليه الكتاب، فأمر بإحضار أهل بيته والقواد ووجوه الناس، فدخلوا فسلموا عليه بالخلافة، ثم ورد رأس علي يوم الثلاثاء، فطيف به في خراسان

وذكر الحسن بْن أبي سعيد، قَالَ: عقدنا لطاهر سنة أربع وتسعين ومائة فاتصل عقده إلى الساعة. وذكر محمد بْن يحيى بْن عبد الملك النيسابوري، قَالَ: لما جاء نعي علي ابن عيسى وقتله الى محمد بن زبيدة- وكان في وقته ذلك على الشط يصيد السمك- فقال للذي أخبره: ويلك! دعني، فإن كوثرا قد اصطاد سمكتين وأنا ما اصطدت شيئا بعد قال: وكان بعض اهل الحسد يقول: ظن طاهر إن عليا يعلو عليه، وقال: متى يقوم طاهر لحرب علي مع كثرة جيشه وطاعة أهل خراسان له! فلما قتل علي تضاءل، وقال: والله لو لقيه طاهر وحده لقاتله في جيشه حتى يغلب أو يقتل دونه. وقال رجل من أصحاب علي له بأس ونجده في قتل على ولقاء طاهر: لقينا الليث مفترسا لديه ... وكنا ما ينهنهنا اللقاء نخوض الموت والغمرات قدما ... إذا ما كر ليس به خفاء فضعضع ركبنا لما التقينا ... وراح الموت وانكشف الغطاء وأردى كبشنا والرأس منا ... كأن بكفه كان القضاء ولما انتهى الخبر بقتل علي بْن عيسى إلى محمد والفضل، بعث إلى نوفل خادم المأمون- وكان وكيل المأمون ببغداد وخازنه، وقيمه في أهله وولده وضياعه وأمواله- عن لسان محمد، فأخذ منه الألف ألف درهم التي كان الرشيد وصل بها المأمون، وقبض ضياعه وغلاته بالسواد، وولى عمالا من قبله، ووجه عبد الرحمن الأبناوي بالقوة والعدة فنزل همذان. وذكر بعض من سمع عبد الله بْن خازم عند ذلك يقول: يريد محمد إزالة الجبال وفل العساكر بتدبيره والمنكوس من تظهيره، هيهات! هو والله كما قَالَ الأول: قد ضيع الله ذودا أنت راعيها

ولما بايع محمد لابنه موسى ووجه علي بْن عيسى، قَالَ الشاعر من أهل بغداد في ذلك لما رأى تشاغل محمد بلهوه وبطالته وتخليته عن تدبير على والفضل ابن الربيع: أضاع الخلافة غش الوزير ... وفسق الإمام وجهل المشير؟ ففضل وزير، وبكر مشير ... يريدان ما فيه حتف الأمير وما ذاك إلا طريق غرور ... وشر المسالك طرق الغرور لواط الخليفة أعجوبة ... وأعجب منه خلاق الوزير فهذا يدوس وهذا يداس ... كذاك لعمري اختلاف الأمور فلو يستعينان هذا بذاك ... لكانا بعرضة أمر ستير ولكن ذا لج في كوثر ... ولم يشف هذا دعاس الحمير فشنع فعلاهما منهما ... وصارا خلافا كبول البعير وأعجب من ذا وذا أننا ... نبايع للطفل فينا الصغير ومن ليس يحسن غسل استه ... ولم يخل من بوله حجر ظير وما ذاك إلا بفضل وبكر ... يريدان نقض الكتاب المنير وهذان لولا انقلاب الزمان ... أفي العير هذان أم في النفير ولكنها فتن كالجبال ... ترفع فيها الوضيع الحقير فصبرا ففي الصبر خير كثير ... وإن كان قد ضاق صدر الصبور فيا رب فاقبضهما عاجلا ... إليك واوردهم عذاب السعير ونكل بفضل وأشياعه ... وصلبهم حول هذي الجسور وذكر أن محمدا لما بعث إلى المأمون في البيعة لابنه موسى، ووجه الرسل إليه في ذلك، كتب المأمون جواب كتابه:

أما بعد، فقد انتهى إلي كتاب أمير المؤمنين منكرا لإبائي منزلة تهضمني بها، وأرادني على خلاف ما يعلم من الحق فيها، ولعمري ان لو رد امير المؤمنين الأمر الى النصفة فلم يطالب إلا بها، ولم يوجب نكرة على تركها، لانبسطت بالحجة مطالع مقالته، ولكنت محجوجا بمفارقه ما يجب من طاعته، فأما وأنا مذعن بها وهو على ترك أعمالها، فأولى به أن يدير الحق في أمره، ثم يأخذ به، ويعطي من نفسه، فإن صرت إلى الحق فرغت عن قلبه، وان أبيت الحق قام الحق بمعذرته واما ما وعد من بر بطاعته، وأوعد من الوطأة بمخالفته، فهل أحد فارق الحق في فعله فابقى للمستبين موضع ثقة بقوله! والسلام. قَالَ: وكتب إلى علي بْن عيسى لما بلغه ما عزم عليه: أما بعد، فإنك في ظل دعوة لم تزل أنت وسلفك بمكان ذب عن حريمها، وعلى العنايه بحفظها ورعاية لحقها، توجبون ذلك لأئمتكم، وتعتصمون بحبل جماعتكم، وتعطون بالطاعة من أنفسكم، وتكونون يدا على اهل مخالفتكم، وحزبا وأعوانا لأهل موافقتكم، تؤثرونهم على الآباء والأبناء، وتتصرفون فيما تصرفوا فيه من منزله شديده ورجاء، لا ترون شيئا أبلغ في صلاحكم من الأمر الجامع لألفتكم، ولا أحرى لبواركم مما دعا الى شتات كلمتكم، ترون من رغب عن ذلك جائرا عن القصد وعن أمه على منهاج الحق، ثم كنتم على أولئك سيوفا من سيوف نقم الله، فكم من أولئك قد صاروا وديعة مسبعة، وجزرا جامدة، قد سفت الرياح في وجهه، وتداعت السباع إلى مصرعه، غير ممهد ولا موسد قد صار إلى أمة، وغير عاجل حظه، ممن كانت الأئمة تنزلكم لذلك، بحيث أنزلتم أنفسكم، من الثقة بكم في أمورها، والتقدمة في آثارها، وأنت مستشعر دون كثير من ثقاتها وخاصتها، حتى بلغ الله بك في نفسك أن كنت قريع اهل دعوتك، والعلم القائم بمعظم امر ائمتك، إن قلت: ادنوا دنوا وإن أشرت: أقبلوا أقبلوا وان امسكت وقفوا وأقروا، وئاما لك واستنصاحا، وتزداد نعمة مع الزيادة في نفسك، ويزدادون نعمة مع الزيادة لك بطاعتك، حتى حللت المحل الذي

قربت به من يومك، وانقرض فيما دونه أكثر مدتك، لا ينتظر بعدها إلا ما يكون ختام عملك من خير فيرضى ما تقدم من صالح فعلك، أو خلاف فيضل له متقدم سعيك، وقد ترى يا أبا يحيى حالا عليها جلوت أهل نعمتك، والولاة القائمة بحق إمامتك، من طعن في عقده كنت القائم بشدها، وخثر بعهود توليت معاقد أخذها، يبدأ فيها بالأخصين، حتى أفضى الأمر إلى العامة من المسلمين، بالأيمان المحرجه والمواثيق المؤكدة وما طلع مما يدعو الى نشر كلمه، وتفريق امر أمه وشت امر جماعة، وتتعرض به لتبديل نعمة وزوال ما وطأت الأسلاف من الأئمة، ومتى زالت نعمة من ولاة أمركم وصل زوالها إليكم في خواص انفسكم، ولن يغير الله ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وليس الساعي في نشرها بساع فيها على نفسه دون السعى على حملتها، القائمين بحرمتها، قد عرضوهم أن يكونوا جزرا لاعدائهم، وطعمه قوم تتظفر مخالبهم في دمائهم ومكانك المكان الذي إن قلت رجع إلى قولك، وإن أشرت لم تتهم في نصيحتك، ولك مع إيثار الحق الحظوة عند أهل الحق ولا سواء من حظي بعاجل مع فراق الحق فأوبق نفسه في عاقبته، ومن أعان الحق فأدرك به صلاح العاقبة، مع وفور الحظ في عاجلته، وليس لك ما تستدعى ولا عليه ما تستعطف، ولكنه حق من حق إحسابك يجب ثوابه على ربك، ثم على من قمت بالحق فيه من أهل إمامتك، فإن أعجزك قول أو فعل فصر إلى الدار التي تأمن فيها على نفسك وتحكم فيها برأيك، وتنحاز إلى من يحسن تقبلا لصالح فعلك، ويكون مرجعك إلى عقدك وأموالك، ولك بذلك الله، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا* وإن تعذر ذلك بقية على نفسك، فإمساكا بيدك، وقولا بحق، ما لم تخف وقوعه بكرهك، فلعل مقتديا بك، ومغتبطا بنهيك. ثم أعلمني رأيك أعرفه إن شاء الله. قَالَ: فأتى علي بالكتاب إلى محمد، فشب أهل النكث من الكفاة من تلهيبه، وأوقدوا نيرانه، وأعان على ذلك حميا قدرته، وتساقط طبيعته، ورد الرأي إلى الفضل بْن الربيع لقيامه كان بمكانفته. وكانت كتب ذي الرياستين ترد إلى الدسيس الذي كان يشاوره في امره: ان

ابى القوم الا عزمه الخلاف، فالطف لأن يجعلوا أمره لعلي بْن عيسى وانما خص ذو الرياستين عليا بذلك لسوء أثره في أهل خراسان، واجتماع رأيهم على ما كرهه، وأن العامة قائلة بحربه فشاور الفضل الدسيس الذي كان يشاوره، فقال: على بن عيسى ان فعل فلم ترمهم بمثله، في بعد صوبه وسخاوة نفسه، ومكانه في بلاد خراسان في طول ولايته عليهم وكثرة صنائعه فيهم، ثم هو شيخ الدعوة وبقية أهل المشايعة، فأجمعوا على توجيه علي، فكان من توجيهه ما كان وكان يجتمع للمأمون بتوجيه علي جندان: أجناده الذين يحاربه بهم، والعامه من اهل خراسان حرب عليه لسوء أثره فيهم، وذلك رأي يكثر الإخطار به إلا في صدور رجال ضعاف الرأي لحال علي في نفسه، وما تقدم له ولسلفه، فكان ما كان من أمره ومقتله. وذكر سهل أن عمرو بْن حفص مولى محمد قَالَ: دخلت على محمد في جوف الليل- وكنت من خاصته أصل إليه حيث لا يصل إليه أحد من مواليه وحشمه- فوجدته والشمع بين يديه، وهو يفكر، فسلمت عليه فلم يرد علي، فعلمت أنه في تدبير بعض أموره، فلم أزل واقفا على رأسه حتى مضى أكثر الليل، ثم رفع رأسه إلي، فقال: أحضرني عبد الله بْن خازم، فمضيت إلى عبد الله، فأحضرته، فلم يزل في مناظرته حتى انقضى الليل، فسمعت عبد الله وهو يقول: أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تكون أول الخلفاء نكث عهده، ونقض ميثاقه، واستخف بيمينه، ورد رأي الخليفة قبله! فقال: أسكت، لله أبوك! فعبد الملك كان أفضل منك رأيا، وأكمل نظرا، حيث يقول: لا يجتمع فحلان في هجمة قَالَ عمرو بْن حفص: وسمعت محمدا يقول للفضل ابن الربيع: ويلك يا فضل! لا حياة مع بقاء عبد الله وتعرضه، ولا بد من خلعه، والفضل يعينه على ذلك، ويعده أن يفعل، وهو يقول: فمتى ذلك! إذا غلب على خراسان وما يليها! وذكر بعض خدم محمد أن محمدا لما هم بخلع المأمون والبيعة لابنه، جمع وجوه القواد، فكان يعرض عليهم واحدا واحدا، فيأبونه، وربما

ساعده قوم حتى بلغ إلى خزيمة بْن خازم، فشاوره في ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين، لم ينصحك من كذبك ولم يغشك من صدقك، لا تجرئ القواد على الخلع فيخلعوك، ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا عهدك وبيعتك، فإن الغادر مخذول، والناكث مفلول وأقبل علي بْن عيسى بْن ماهان، فتبسم محمد، ثم قَالَ: لكن شيخ هذه الدعوة، وناب هذه الدولة لا يخالف على إمامه، ولا يوهن طاعته، ثم رفعه إلى موضع لم أره رفعه إليه فيما مضى، فيقال: إنه أول القواد أجاب إلى خلع عبد الله، وتابع محمدا على رأيه. قَالَ أبو جعفر: ولما عزم محمد على خلع عبد الله، قال له الفضل بن الربيع: الا تعذر إليه يا أمير المؤمنين فإنه أخوك، ولعله يسلم هذا الأمر في عافية، فتكون قد كفيت مؤونته، وسلمت من محاربته ومعاندته! قَالَ: فأفعل ماذا؟ قَالَ: تكتب إليه كتابا، تستطيب به نفسه، وتسكن وحشته، وتسأله الصفح لك عما في يده، فإن ذلك أبلغ في التدبير، وأحسن في القالة من مكاثرته بالجنود، ومعالجته بالكيد فقال له: أعمل في ذلك برأيك فلما حضر إسماعيل بْن صبيح للكتاب إلى عبد الله قَالَ: يا أمير المؤمنين، إن مسألتك الصفح عما في يديه توليد للظن، وتقوية للتهمة، ومدعاة للحذر، ولكن اكتب إليه فأعلمه حاجتك إليه، وما تحب من قربه والاستعانة برأيه، وسله القدوم إليك، فإن ذلك أبلغ وأحرى أن يبلغ فيما يوجب طاعته وإجابته فقال الفضل: القول ما قَالَ يا أمير المؤمنين، قَالَ: فليكتب بما رأى، قَالَ: فكتب إليه: من عند الأمين محمد أمير المؤمنين إلى عبد الله بْن هارون أمير المؤمنين. أما بعد، فإن أمير المؤمنين روى في امرك، والموضع الذى أنت فيه من ثغره، وما يؤمل في قربك من المعاونة والمكانفه على ما حمله الله، وقلده من أمور عباده وبلاده، وفكر فيما كان أمير المؤمنين الرشيد أوجب لك من الولاية، وأمر به من افرادك على ما يصير إليك منها، فرجا أمير المؤمنين ألا يدخل عليه وكف في دينه، ولا نكث في يمينه، إذ كان إشخاصه إياك فيما يعود على

المسلمين نفعه، ويصل إلى عامتهم صلاحه وفضله وعلم أمير المؤمنين أن مكانك بالقرب منه أسد للثغور، وأصلح للجنود، وآكد للفيء، وأرد على العامة من مقامك ببلاد خراسان منقطعا عن أهل بيتك، متغيبا عن أمير المؤمنين وما يجب الاستمتاع به من رأيك وتدبيرك وقد رأى أمير المؤمنين أن يولي موسى بن أمير المؤمنين فيما يقلده من خلافتك ما يحدث إليه من أمرك ونهيك فاقدم على أمير المؤمنين على بركة الله وعونه، بأبسط أمل وأفسح رجاء وأحمد عاقبة، وأنفذ بصيرة، فإنك أولى من استعان به أمير المؤمنين على أموره، واحتمل عنه النصب فيما فيه من صلاح اهل ملته وذمته والسلام ودفع الكتاب إلى العباس بْن موسى بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن علي، وإلى عيسى بْن جعفر بْن أبي جعفر، وإلى محمد بْن عيسى بْن نهيك، وإلى صالح صاحب المصلى، وأمرهم أن يتوجهوا به الى عبد الله المأمون، والا يدعوا وجها من اللين والرفق إلا بلغوه، وسهلوا الأمر عليه فيه، وحمل بعضهم الأموال والألطاف والهدايا، وذلك في سنة أربع وتسعين ومائة فتوجهوا بكتابه، فلما وصلوا إلى عبد الله، أذن لهم، فدفعوا إليه كتاب محمد، وما كان بعث به معهم من الأموال والالطاف والهدايا ثم تكلم العباس بْن موسى بْن عيسى، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الأمير، إن أخاك قد تحمل من الخلافة ثقلا عظيما، ومن النظر في أمور الناس عبئا جليلا، وقد صدقت نيته في الخير، فأعوزه الوزراء والأعوان والكفاه في العدل، وقليل ما يأنس بأهل بيته، وأنت أخوه وشقيقه، وقد فزع إليك في أموره، واملك للموازره والمكانفه، ولسنا نستبطئك في بره اتهاما لنصرك له، ولا نحضك على طاعة تخوفا لخلافك عليه، وفي قدومك عليه أنس عظيم، وصلاح لدولته وسلطانه، فأجب أيها الأمير دعوة أخيك وآثر طاعته، وأعنه على ما استعانك عليه في أمره، فإن في ذلك قضاء الحق، وصلة الرحم، وصلاح الدولة، وعز الخلافة عزم الله للأمير على الرشد في أموره، وجعل له الخيرة والصلاح في عواقب رأيه

وتكلم عيسى بْن جعفر بْن أبي جعفر، فقال: ان الاكثار على الأمير- ايده الله- في القول خرق، والاقتصاد في تعريفه ما يجب من حق أمير المؤمنين تقصير، وقد غاب الأمير أكرمه الله عن أمير المؤمنين، ولم يستغن عن قربه، ومن شهد غيره من اهل بيته فلا يجد عنده غناء، ولا يجد منه خلفا ولا عوضا، والأمير أولى من بر أخاه، وأطاع إمامه، فليعمل الأمير فيما كتب به إليه أمير المؤمنين، بما هو أرضى وأقرب من موافقة أمير المؤمنين ومحبته، فإن القدوم عليه فضل وحظ عظيم، والإبطاء عنه وكف في الدين، وضرر ومكروه على المسلمين. وتكلم محمد بْن عيسى بْن نهيك، فقال: أيها الأمير، إنا لا نزيدك بالإكثار والتطويل فيما أنت عليه من المعرفة بحق امير المؤمنين، ولا نشحذ نيتك بالأساطير والخطب فيما يلزمك من النظر والعناية بأمور المسلمين وقد أعوز أمير المؤمنين الكفاة والنصحاء بحضرته، وتناولك فزعا إليك في المعونة والتقوية له على أمره، فإن تجب امير المؤمنين فيما دعاك فنعمه عظيمه تتلافى بها رعيتك وأهل بيتك، وإن تقعد يغن الله أمير المؤمنين عنك، ولن يضعه ذلك مما هو عليه من البر بك والاعتماد على طاعتك ونصيحتك. وتكلم صاحب المصلى، فقال: أيها الأمير، إن الخلافة ثقيلة والأعوان قليل، ومن يكيد هذه الدولة وينطوي على غشها والمعاندة لأوليائها من أهل الخلاف والمعصية كثير، وأنت أخو أمير المؤمنين وشقيقه، وصلاح الأمور وفسادها راجع عليك وعليه، إذ أنت ولي عهده، والمشارك في سلطانه وولايته، وقد تناولك أمير المؤمنين بكتابه، ووثق بمعاونتك على ما استعانك عليه من أموره، وفي إجابتك إياه إلى القدوم عليه صلاح عظيم في الخلافة، وأنس وسكون لأهل الملة والذمة وفق الله الأمير في أموره، وقضى له بالذي هو أحب إليه وأنفع له! فحمد الله المأمون وأثنى عليه، ثم قَالَ: قد عرفتموني من حق أمير المؤمنين أكرمه الله ما لا أنكره، ودعوتموني من الموازرة والمعونة إلى ما أوثره ولا أدفعه، وأنا لطاعة أمير المؤمنين مقدم، وعلى المسارعة إلى ما سره ووافقه حريص، وفي

الروية تبيان الرأي، وفي أعمال الرأي نصح الاعتزام، والأمر الذي دعاني إليه أمير المؤمنين أمر لا أتأخر عنه تثبطا ومدافعة، ولا أتقدم عليه اعتسافا وعجلة، وأنا في ثغر من ثغور المسلمين كلب عدوه، شديد شوكته، وإن أهملت أمره لم آمن دخول الضرر والمكروه على الجنود والرعية، وان اقمت لم آمن فوت ما أحب من معونة أمير المؤمنين وموازرته، وإيثار طاعته، فانصرفوا حتى أنظر في أمري، ونصح الرأي فيما أعتزم عليه من مسيري إن شاء الله ثم أمر بإنزالهم وإكرامهم والإحسان إليهم. فذكر سفيان بْن محمد أن المأمون لما قرأ الكتاب أسقط في يده، وتعاظمه ما ورد عليه منه، ولم يدر ما يرد عليه، فدعا الفضل بْن سهل، فأقرأه الكتاب، وقال: ما عندك في هذا الأمر؟ قَالَ: أرى أن تتمسك بموضعك، ولا تجعل عليك سبيلا، وأنت تجد من ذلك بدا قَالَ: وكيف يمكنني التمسك بموضعي ومخالفة محمد، وعظم القواد والجنود معه، وأكثر الأموال والخزائن قد صارت إليه، مع ما قد فرق في أهل بغداد من صلاته وفوائده! وإنما الناس مائلون مع الدراهم، منقادون لها، لا ينظرون إذا وجدوها حفظ بيعة، ولا يرغبون في وفاء عهد ولا أمانة فقال له الفضل: إذا وقعت التهمه حق الاحتراس، وانا الغدر محمد متخوف، ومن شرهه إلى ما في يديك مشفق، ولأن تكون في جندك وعزك مقيما بين ظهراني أهل ولايتك أحرى، فإن دهمك منه أمر جردت له وناجزته وكايدته، فإما أعطاك الله الظفر عليه بوفائك ونيتك، أو كانت الأخرى فمت محافظا مكرما، غير ملق بيديك، ولا ممكن عدوك من الاحتكام في نفسك ودمك قَالَ: إن هذا الأمر لو كان أتاني وأنا في قوة من أمري، وصلاح من الأمور، كان خطبه يسيرا، والاحتيال في دفعه ممكنا، ولكنه أتاني بعد إفساد خراسان واضطراب عامرها وغامرها، ومفارقه جبغويه الطاعة، والتواء خاقان صاحب التبت، وتهيؤ ملك كابل للغارة على ما يليه من بلاد خراسان، وامتناع ملك ابراز بنده بالضريبة التي كان يؤديها، وما لي بواحدة من هذه الأمور يد، وأنا أعلم أن محمدا لم يطلب قدومي

إلا لشر يريده، وما أرى إلا تخلية ما أنا فيه، واللحاق بخاقان ملك الترك، والاستجارة به وببلاده، فبالحرى أن آمن على نفسي، وأمتنع ممن أراد قهري والغدر بي. فقال له الفضل: أيها الأمير، إن عاقبة الغدر شديدة، وتبعه الظلم والبغي غير مأمون شرها، ورب مستذل قد عاد عزيزا، ومقهور قد عاد قاهرا مستطيلا، وليس النصر بالقلة والكثرة، وحرج الموت أيسر من حرج الذل والضيم، وما أرى أن تفارق ما أنت فيه وتصير إلى طاعة محمد متجردا من قوادك وجندك كالرأس المختزل عن بدنه، يجري عليك حكمه، فتدخل في جملة أهل مملكته من غير أن تبلي عذرا في جهاد ولا قتال، ولكن اكتب الى جبغويه وخاقان، فولهما بلادهما، وعدهما التقوية لهما في محاربة الملوك، وابعث إلى ملك كابل بعض هدايا خراسان وطرفها، وسله الموادعة تجده على ذلك حريصا، وسلم الملك ابراز بنده ضريبته في هذه السنه، وصيرها صله منك وصلته بها، ثم اجمع إليك أطرافك، واضمم إليك من شذ من جندك، ثم اضرب الخيل بالخيل، والرجال بالرجال، فإن ظفرت وإلا كنت على ما تريد من اللحاق بخاقان قادرا فعرف عبد الله صدق ما قَالَ، فقال: اعمل في هذا الأمر وغيره من أموري بما ترى، وأنفذ الكتب إلى أولئك العصاة، فرضوا وأذعنوا، وكتب إلى من كان شاذا عن مرو من القواد والجنود، فأقدمهم عليه، وكتب إلى طاهر بْن الحسين وهو يومئذ عامل عبد الله علي الري، فأمره أن يضبط ناحيته، وأن يجمع إليه أطرافه، ويكون على حذر وعده من جيش ان طرقه، أو عدو ان هجم عليه واستعد للحرب، وتهيأ لدفع محمد عن بلاد خراسان. ويقال: إن عبد الله بعث إلى الفضل بْن سهل فاستشاره في أمر محمد، فقال: ايها الأمير، انظرنى في يومي هذا أغد عليك برأي، فبات يدبر الرأي ليلته، فلما أصبح غدا عليه، فأعلمه أنه نظر في النجوم فرأى أنه سيغلبه، وأن العاقبة له فأقام عبد الله بموضعه، ووطن نفسه على محاربة محمد ومناجزته

فلما فرغ عبد الله مما أراد إحكامه من امر خراسان، كتب الى محمد: لعبد الله محمد أمير المؤمنين من عبد الله بْن هارون، أما بعد، فقد وصل إلي كتاب أمير المؤمنين، وإنما أنا عامل من عماله وعون من أعوانه، أمرني الرشيد صلوات الله عليه بلزوم هذا الثغر، ومكايدة من كايد أهله من عدو أمير المؤمنين، ولعمري أن مقامي به، أرد على أمير المؤمنين وأعظم غناء عن المسلمين من الشخوص إلى أمير المؤمنين، وإن كنت مغتبطا بقربه، مسرورا بمشاهدة نعمة الله عنده، فإن رأى أن يقرني على عملي، ويعفيني من الشخوص إليه، فعل إن شاء الله والسلام. ثم دعا العباس بْن موسى وعيسى بْن جعفر ومحمدا وصالحا، فدفع الكتاب إليهم، وأحسن إليهم في جوائزهم، وحمل إلى محمد ما تهيأ له من ألطاف خراسان، وسألهم أن يحسنوا أمره عنده، وأن يقوموا بعذره. قَالَ سفيان بْن محمد: لما قرأ محمد كتاب عبد الله، عرف أن المأمون لا يتابعه على القدوم عليه، فوجه عصمة بْن حماد بْن سالم صاحب حرسه، وأمره أن يقيم مسلحة فيما بين همذان والري، وأن يمنع التجار من حمل شيء إلى خراسان من الميرة، وأن يفتش المارة، فلا يكون معهم كتب باخباره وما يريد، وذلك سنة أربع وتسعين ومائة ثم عزم على محاربته، فدعا على ابن عيسى بْن ماهان، فعقد له على خمسين الف فارس ورجل من أهل بغداد، ودفع إليه دفاتر الجند، وأمره أن ينتقي ويتخير من أراد على عينه، ويخص من أحب ويرفع من أراد إلى الثمانين، وأمكنه من السلاح وبيوت الأموال، ثم وجهوا إلى المأمون. فذكر يزيد بْن الحارث، قَالَ: لما أراد علي الشخوص إلى خراسان ركب إلى باب أم جعفر، فودعها، فقالت: يا علي، إن أمير المؤمنين وإن كان ولدي، إليه تناهت شفقتي، وعليه تكامل حذري، فإني على عبد الله منعطفة مشفقة، لما يحدث عليه من مكروه وأذى، وإنما ابني ملك نافس أخاه في

سلطانه، وغاره على ما في يده، والكريم يأكل لحمه ويمنعه غيره، فاعرف لعبد الله حق والده وأخوته، ولا تجبهه بالكلام، فإنك لست نظيره، ولا تقتسره اقتسار العبيد، ولا ترهقه بقيد ولا غل، ولا تمنع منه جارية ولا خادما، ولا تعنف عليه في السير، ولا تساوه في المسير، ولا تركب قبله، ولا تستقل على دابتك حتى تأخذ بركابه، وإن شتمك فاحتمل منه، وإن سفه عليك فلا تراده ثم دفعت إليه قيدا من فضة، وقالت: إن صار في يدك فقيده بهذا القيد فقال لها: سأقبل أمرك، وأعمل في ذلك بطاعتك. وأظهر محمد خلع المأمون، وبايع لابنيه- في جميع الآفاق إلا خراسان- موسى وعبد الله، واعطى عند بيعتهما بني هاشم والقواد والجند الأموال والجوائز، وسمى موسى الناطق بالحق، وسمى عبد الله القائم بالحق ثم خرج علي بْن عيسى لسبع ليال خلون من شعبان سنة خمس وتسعين ومائة من بغداد حتى عسكر بالنهروان، وخرج معه يشيعه محمد، وركب القواد والجنود، وحشرت الأسواق، وأشخص معه الصناع والفعلة، فيقال: أن عسكره كان فرسخا بفسطاطيه وأهبته وأثقاله، فذكر بعض أهل بغداد أنهم لم يروا عسكرا كان أكثر رجالا، وأفره كراعا، وأظهر سلاحا، وأتم عدة، وأكمل هيئة، من عسكره. وذكر عمرو بْن سعيد أن محمدا لما جاز باب خراسان نزل على فترجل، وأقبل يوصيه، فقال: امنع جندك من العبث بالرعية والغارة على أهل القرى وقطع الشجر وانتهاك النساء، وول الري يحيى بْن علي، واضمم إليه جندا كثيفا، ومره ليدفع الى جنده أرزاقهم مما يجبى من خراجها، وول كل كورة ترحل عنها رجلا من أصحابك، ومن خرج إليك من جند أهل خراسان ووجوهها فأظهر إكرامه وأحسن جائزته، ولا تعاقب أخا بأخيه، وضع عن أهل خراسان ربع الخراج، ولا تؤمن أحدا رماك بسهم، أو طعن في أصحابك برمح، ولا تأذن لعبد الله في المقام أكثر من ثلاثة من اليوم الذي تظهر فيه عليه، فإذا اشخصته فليكن مع أوثق أصحابك عندك، فإن غره الشيطان فناصبك

فاحرص على أن تأسره أسرا، وإن هرب منك إلى بعض كور خراسان، فتول إليه المسير بنفسك أفهمت كل ما أوصيك به؟ قَالَ: نعم، أصلح الله أمير المؤمنين! قَالَ: سر على بركة الله وعونه! وذكر أن منجمه أتاه فقال: أصلح الله الأمير! لو انتظرت بمسيرك صلاح القمر، فإن النحوس عليه عالية، والسعود عنه ساقطة منصرفة! فقال لغلام له: يا سعيد، قل لصاحب المقدمة يضرب بطبله ويقدم علمه، فإنا لا ندري ما فساد القمر من صلاحه، غير أنه من نازلنا نازلناه، ومن وادعنا وادعناه وكففنا عنه، ومن حاربنا وقاتلنا لم يكن لنا إلا ارواء السيف من دمه إنا لا نعتد بفساد القمر، فإنا وطنا أنفسنا على صدق اللقاء ومناجزة الأعداء. قَالَ أبو جعفر: وذكر بعضهم أنه قَالَ: كنت فيمن خرج في عسكر علي بْن عيسى بْن ماهان، فلما جاز حلوان لقيته القوافل من خراسان، فكان يسألها عن الأخبار، يستطلع علم أهل خراسان، فيقال له: إن طاهرا مقيم بالري يعرض أصحابه، ويرم آلته، فيضحك ثم يقول: وما طاهر! فو الله ما هو إلا شوكة من أغصاني، أو شرارة من ناري، وما مثل طاهر يتولى على الجيوش، ويلقى الحروب، ثم التفت إلى أصحابه فقال: والله ما بينكم وبين أن ينقصف انقصاف الشجر من الريح العاصف، إلا أن يبلغه عبورنا عقبة همذان، فإن السخال لا تقوى على النطاح، والثعالب لا صبر لها على لقاء الأسد، فإن يقم طاهر بموضعه يكن أول معرض لظباة السيوف وأسنة الرماح. وذكر يزيد بْن الحارث أن علي بْن عيسى لما صار إلى عقبة همذان استقبل قافلة قدمت من خراسان، فسألهم عن الخبر، فقالوا: إن طاهرا مقيم بالري، وقد استعد للقتال، واتخذ آلة الحرب، وإن المدد يترى عليه من خراسان وما يليها من الكور، وإنه في كل يوم يعظم أمره، ويكثر

أصحابه، وإنهم يرون أنه صاحب جيش خراسان قَالَ علي: فهل شخص من أهل خراسان احد يعتد به؟ قالوا: لا، غير أن الأمور بها مضطربة، والناس رعبون، فأمر بطي المنازل والمسير، وقال لأصحابه: إن نهاية القوم الري، فلو قد صيرناها خلف ظهورنا فت ذلك في أعضادهم، وانتشر نظامهم، وتفرقت جماعتهم ثم أنفذ الكتب إلى ملوك الديلم وجبال طبرستان وما والاها من الملوك، يعدهم الصلات والجوائز وأهدى اليهم التيجان والأسورة والسيوف المحلاة بالذهب، وأمرهم أن يقطعوا طريق خراسان، ويمنعوا من أراد الوصول إلى طاهر من المدد، فأجابوه إلى ذلك، وسار حتى صار في أول بلاد الري، وأتاه صاحب مقدمته، فقال: لو كنت- أبقى الله الأمير- أذكيت العيون، وبعثت الطلائع، وارتدت موضعا تعسكر فيه، وتتخذ خندقا لأصحابك يأمنون به، كان ذلك أبلغ في الرأي، وآنس للجند قَالَ: لا، ليس مثل طاهر يستعد له بالمكايد والتحفظ، إن حال طاهر تؤول إلى أحد أمرين: إما أن يتحصن بالري فيبيته أهلها فيكفوننا مؤنته، أو يخليها ويدبر راجعا لو قربت خيولنا وعساكرنا منه وأتاه يحيى بْن علي، فقال: اجمع متفرق العسكر، واحذر على جندك البيات، ولا تسرح الخيل إلا ومعها كنف من القوم، فإن العساكر لا تساس بالتواني، والحروب لا تدبر بالاغترار، والثقة أن تحترز، ولا تقل: إن المحارب لي طاهر، فالشرارة الخفية ربما صارت ضراما، والثلمة من السيل ربما اغتر بها وتهون فصارت بحرا عظيما، وقد قربت عساكرنا من طاهر، فلو كان رأيه الهرب لم يتأخر إلى يومه هذا قَالَ: اسكت، فإن طاهرا ليس في هذا الموضع الذى ترى، وانما تتحفظ الرجال إذا لقيت أقرانها، وتستعد إذا كان المناوئ لها أكفاءها ونظراءها وذكر عبد الله بْن مجالد، قَالَ: أقبل علي بْن عيسى حتى نزل من الري على عشرة فراسخ، وبها طاهر قد سد أبوابها، ووضع المسالح على طرقها، واستعد لمحاربته، فشاور طاهر أصحابه، فأشاروا عليه أن يقيم بمدينة الري، ويدافع القتال ما قدر عليه إلى أن يأتيه من خراسان المدد من الخيل، وقائد

يتولى الأمر دونه، وقالوا: إن مقامك بمدينة الري ارفق باصحابك، وأقدر لهم على الميرة، وأكن من البرد، وأحرى إن دهمك قتال أن يعتصموا بالبيوت، وتقوى على المماطلة والمطاولة، إلى أن يأتيك مدد، أو ترد عليك قوة من خلفك فقال طاهر: إن الرأي ليس ما رأيتم، إن أهل الري لعلي هائبون، ومن معرته وسطوته متقون، ومعه من قد بلغكم من أعراب البوادي وصعاليك الجبال ولفيف القرى، ولست آمن إن هجم علينا مدينة الري أن يدعو أهلها خوفهم إلى الوثوب بنا، ويعينوه على قتالنا، مع أنه لم يكن قوم قط روعبوا في ديارهم، وتورد عليهم عسكرهم إلا وهنوا وذلوا، وذهب عزهم، واجترأ عليهم عدوهم وما الرأي إلا أن نصير مدينة الري قفا ظهورنا، فإن أعطانا الله الظفر، وإلا عولنا عليها فقاتلنا في سككها، وتحصنا في منعتها إلى أن يأتينا مدد أو قوة من خراسان قالوا: الرأي ما رأيت فنادى طاهر في أصحابه فخرجوا فعسكروا على خمسة فراسخ من الري بقرية يقال لها كلواص، وأتاه محمد بْن العلاء فقال: أيها الأمير، إن جندك قد هابوا هذا الجيش، وامتلأت قلوبهم خوفا ورعبا منه، فلو أقمت بمكانك، ودافعت القتال إلى أن يشامهم أصحابك، ويأنسوا بهم، ويعرفوا وجه المأخذ في قتالهم! فقال: لا، إني لا أوتى من قلة تجربة وحزم، إن أصحابي قليل، والقوم عظيم سوادهم كثير عددهم، فإن دافعت القتال، وأخرت المناجزة لم آمن أن يطلعوا على قلتنا وعورتنا، وأن يستميلوا من معي برغبة أو رهبة، فينفر عني أكثر أصحابي، ويخذلني أهل الحفاظ والصبر، ولكن ألف الرجال بالرجال، وألحم الخيل بالخيل، واعتمد على الطاعة والوفاء، واصبر صبر محتسب للخير، حريص على الفوز بفضل الشهاده، فان يرزق الله الظفر والفلج فذلك الذي نريد ونرجو، وإن تكن الأخرى، فلست بأول من قاتل فقتل، وما عند الله أجزل وأفضل. وقال علي لأصحابه: بادروا القوم، فان عددهم قليل، ولو زحفتم إليهم لم يكن لهم صبر على حرارة السيوف وطعن الرماح وعبا جنده ميمنة

وميسرة وقلبا، وصير عشر رايات، في كل راية ألف رجل، وقدم الرايات راية راية، فصير بين كل رايه ورايه غلوة، وأمر أمراءها: إذا قاتلت الأولى فصبرت وحمت وطال بها القتال أن تقدم التي تليها وتؤخر التي قاتلت حتى ترجع إليها أنفسها، وتستريح وتنشط للمحاربة والمعاودة وصير أصحاب الدروع والجواشن والخوذ أمام الرايات، ووقف في القلب في أصحابه من أهل البأس والحفاظ والنجدة منهم وكتب طاهر بْن الحسين كتائبه وكردس كراديسه، وسوى صفوفه، وجعل يمر بقائد قائد، وجماعة جماعة، فيقول: يا أولياء الله واهل الوفاء والشكر، انكم لستم كهؤلاء الذين ترون من أهل النكث والغدر، إن هؤلاء ضيعوا ما حفظتم وصغروا ما عظمتم، ونكثوا الإيمان التي رعيتم، وإنما يطلبون الباطل ويقاتلون على الغدر والجهل، أصحاب سلب ونهب، فلو قد غضضتم الأبصار، وأثبتم الأقدام! قد أنجز الله وعده، وفتح عليكم أبواب عزه ونصره، فجالدوا طواغيت الفتنة ويعاسيب النار عن دينكم، ودافعوا بحقكم باطلهم، فإنما هي ساعة واحدة حتى يحكم الله بينكم وهو خير الحاكمين. وقلق قلقا شديدا، وأقبل يقول: يا أهل الوفاء والصدق، الصبر الصبر الحفاظ الحفاظ! وتزاحف الناس بعضهم الى بعض، ووثب أهل الري، فغلقوا أبواب المدينة، ونادى طاهر: يا أولياء الله، اشتغلوا بمن أمامكم عمن خلفكم، فإنه لا ينجيكم إلا الجد والصدق وتلاحموا واقتتلوا قتالا شديدا، وصبر الفريقان جميعا، وعلت ميمنة علي على ميسرة طاهر ففضتها فضا منكرا، وميسرته على ميمنته فأزالتها عن موضعها وقال طاهر: اجعلوا بأسكم وجدكم على كراديس القلب، فإنكم لو فضضتم منها راية واحدة رجعت أوائلها على أواخرها فصبر أصحابه صبرا صادقا، ثم حملوا على اوائل رايات القلب فهزموهم، وأكثروا فيهم القتل، ورجعت الرايات بعضها على بعض، وانتقضت ميمنة علي ورأى أصحاب ميمنة طاهر وميسرته ما عمل أصحابه، فرجعوا على من كان في وجوههم، فهزموهم، وانتهت الهزيمة إلى علي

فجعل ينادي أصحابه: أين أصحاب الأسورة والأكاليل! يا معشر الأبناء، إلى الكرة بعد الفرة، معاودة الحرب من الصبر فيها ورماه رجل من أصحاب طاهر بسهم فقتله، ووضعوا فيهم السيوف يقتلونهم ويأسرونهم، حتى حال الليل بينهم وبين الطلب، وغنموا غنيمة كثيرة، ونادى طاهر في أصحاب علي: من وضع سلاحه فهو آمن، فطرحوا أسلحتهم، ونزلوا عن دوابهم، ورجع طاهر إلى مدينة الري، وبعث بالأسرى والرءوس إلى المأمون. وذكر أن عبد الله بْن علي بْن عيسى طرح نفسه في ذلك اليوم بين القتلى، وقد كانت به جراحات كثيرة، فلم يزل بين القتلى متشبها بهم يومه وليلته، حتى أمن الطلب، ثم قام فانضم إلى جماعة من فل العسكر، ومضى إلى بغداد، وكان من أكابر ولده. وذكر سفيان بْن محمد أن عليا لما توجه إلى خراسان بعث المأمون إلى من كان معه من القواد يعرض عليهم قتاله رجلا رجلا، فكلهم يصرح بالهيبة، ويعتل بالعلل، ليجدوا إلى الإعفاء من لقائه ومحاربته سبيلا. وذكر بعض أهل خراسان أن المأمون لما أتاه كتاب طاهر، بخبر علي وما أوقع الله به، قعد للناس، فكانوا يدخلون فيهنئونه ويدعون له بالعز والنصر. وإنه في ذلك اليوم اعلن خلع محمد، ودعى له بالخلافة في جميع كور خراسان وما يليها، وسر أهل خراسان، وخطب بها الخطباء، وأنشدت الشعراء، وفي ذلك يقول شاعر من اهل خراسان: أصبحت الأمة في غبطة ... من أمر دنياها ومن دينها إذ حفظت عهد إمام الهدى ... خير بني حواء مأمونها على شفا كانت فلما وفت ... تخلصت من سوء تحيينها قامت بحق الله إذ زبرت ... في ولده كتب دواوينها ألا تراها كيف بعد الردى ... وفقها الله لتزيينها! وهي أبيات كثيره

توجيه الامين عبد الرحمن بن جبله لحرب طاهر

وذكر علي بْن صالح الحربي أن علي بن عيسى لما قتل، ارجف الناس ببغداد إرجافا شديدا، وندم محمد على ما كان من نكثه وغدره، ومشى القواد بعضهم إلى بعض، وذلك يوم الخميس للنصف من شوال سنة خمس وتسعين ومائة، فقالوا: إن عليا قد قتل، ولسنا نشك أن محمدا يحتاج إلى الرجال واصطناع أصحاب الصنائع، وإنما يحرك الرجال أنفسها، ويرفعها بأسها وإقدامها، فليأمر كل رجل منكم جنده بالشغب وطلب الأرزاق والجوائز، فلعلنا أن نصيب منه في هذه الحالة ما يصلحنا، ويصلح جندنا فاتفق على ذلك رأيهم وأصبحوا، فتوافوا إلى باب الجسر وكبروا، فطلبوا الأرزاق والجوائز وبلغ الخبر عبد الله بْن خازم، فركب إليهم في أصحابه وفي جماعة غيره من قواد الأعراب، فتراموا بالنشاب والحجارة، واقتتلوا قتالا شديدا، وسمع محمد التكبير والضجيج، فأرسل بعض مواليه أن يأتيه بالخبر، فرجع إليه فأعلمه أن الجند قد اجتمعوا وشغبوا لطلب أرزاقهم قَالَ: فهل يطلبون شيئا غير الأرزاق؟ قَالَ: لا، قَالَ: ما أهون ما طلبوا! ارجع إلى عبد الله ابن خازم فمره فلينصرف عنهم، ثم أمر لهم بأرزاق أربعة أشهر، ورفع من كان دون الثمانين إلى الثمانين، وأمر للقواد والخواص بالصلات والجوائز . توجيه الامين عبد الرحمن بن جبله لحرب طاهر وفي هذه السنة وجه محمد المخلوع عبد الرحمن بْن جبلة الأبناوي إلى همذان لحرب طاهر. ذكر الخبر عن ذلك: ذكر عبد الله بْن صالح أن محمدا لما انتهى إليه قتل علي بْن عيسى بْن ماهان، واستباحة طاهر عسكره، وجه عبد الرحمن الأبناوي في عشرين ألف رجل من الأبناء، وحمل معه الأموال، وقواه بالسلاح والخيل، وأجازه بجوائز، وولاه حلوان إلى ما غلب عليه من أرض خراسان، وندب معه فرسان الأبناء وأهل البأس والنجدة والغناء منهم، وأمره بالإكماش في السير، وتقليل اللبث

والتضجع، حتى ينزل مدينة همذان، فيسبق طاهرا إليها، ويخندق عليه وعلى أصحابه، ويجمع إليه آله الحرب، ويغادي طاهرا وأصحابه إلى القتال وبسط يده وأنفذ أمره في كل ما يريد العمل به، وتقدم إليه في التحفظ والاحتراس، وترك ما عمل به علي من الاغترار والتضجع، فتوجه عبد الرحمن حتى نزل مدينة همذان، فضبط طرقها، وحصن سورها وأبوابها، وسد ثلمها، وحشر إليها الأسواق والصناع، وجمع فيها الآلات والمير، واستعد للقاء طاهر ومحاربته وكان يحيى بْن علي لما قتل أبوه هرب في جماعة من أصحابه، فأقام بين الري وهمذان، فكان لا يمر به أحد من فل أبيه إلا احتبسه، وكان يرى أن محمدا سيوليه مكان أبيه، ويوجه إليه الخيل والرجال، فأراد أن يجمع الفل إلى أن يوافيه القوة والمدد، وكتب إلى محمد يستمده ويستنجده، فكتب إليه محمد يعلمه توجيه عبد الرحمن الأبناوي، ويأمره بالمقام موضعه، وتلقى طاهر فيمن معه، وإن احتاج إلى قوة ورجال كتب إلى عبد الرحمن فقواه وأعانه. فلما بلغ طاهرا الخبر توجه نحو عبد الرحمن وأصحابه، فلما قرب من يحيى، قَالَ يحيى لأصحابه: إن طاهرا قد قرب منا ومعه من تعرفون من رجال خراسان وفرسانها، وهو صاحبكم بالأمس، ولا آمن إن لقيته بمن معي من هذا الفل أن يصدعنا صدعا يدخل وهنه على من خلفنا، وأن يعتل عبد الرحمن بذلك، ويقلدني به العار والوهن والعجز عند أمير المؤمنين، وأن أستنجد به واقمت على انتظار مدده، لم آمن أن يمسك عنا ضنا برجاله وإبقاء عليهم، وشحا بهم على القتل، ولكن نتزاحف إلى مدينة همذان فنعسكر قريبا من عبد الرحمن، فإن استعنا به قرب منا عونه، وإن احتاج إلينا أعناه وكنا بفنائه، وقاتلنا معه قالوا: الرأي ما رأيت، فانصرف يحيى، فلما قرب من مدينة همذان خذله أصحابه، وتفرق أكثر من كان اجتمع إليه، وقصد طاهر لمدينة همذان، فأشرف عليها، ونادى عبد الرحمن في أصحابه، فخرج على تعبئة، فصادف طاهرا، فاقتتلوا قتالا شديدا، وصبر الفريقان جميعا، وكثر القتلى

والجرحى فيهم ثم إن عبد الرحمن انهزم، فدخل مدينة همذان، فأقام بها أياما حتى قوي أصحابه، واندمل جرحاهم، ثم أمر بالاستعداد، وزحف إلى طاهر، فلما رأى طاهر أعلامه وأوائل أصحابه قد طلعوا، قَالَ لأصحابه: إن عبد الرحمن يريد ان يتراءى لكم، فإذا قربتم منه قاتلكم، فإن هزمتموه بادر إلى المدينة فدخلها، وقاتلكم على خندقها، وامتنع بأبوابها وسورها، وإن هزمكم اتسع لهم المجال عليكم، وأمكنته سعة المعترك من قتالكم، وقتل من انهزم، وولى منكم، ولكن قفوا من خندقنا وعسكرنا قريبا، فإن تقارب منا قاتلناه، وإن بعد من خندقهم قربنا منه فوقف طاهر مكانه، وظن عبد الرحمن أن الهيبة بطأت به من لقائه والنهود إليه، فبادر قتاله فاقتتلوا قتالا شديدا، وصبر طاهر، وأكثر القتل في أصحاب عبد الرحمن، وجعل عبد الرحمن يقول لأصحابه: يا معشر الأبناء، يا أبناء الملوك وألفاف السيوف، إنهم العجم، وليسوا بأصحاب مطاولة ولا صبر، فاصبروا لهم فداكم أبي وأمي! وجعل يمر على راية رايه، فيقول: اصبروا، انما صبرنا ساعه، هذا أول الصبر والظفر وقاتل بيديه قتالا شديدا، وحمل حملات منكرة ما منها حملة إلا وهو يكثر في أصحاب طاهر القتل، فلا يزول أحد ولا يتزحزح ثم إن رجلا من أصحاب طاهر حمل على أصحاب علم عبد الرحمن فقتله، وزحمهم أصحاب طاهر زحمة شديدة، فولوهم أكتافهم، فوضعوا فيهم السيوف، فلم يزالوا يقتلونهم حتى انتهوا بهم إلى باب مدينة همذان، فأقام طاهر على باب المدينة محاصرا لهم وله، فكان عبد الرحمن يخرج في كل يوم فيقاتل على أبواب المدينة، ويرمي أصحابه بالحجارة من فوق السور، واشتد بهم الحصار، وتأذى بهم أهل المدينة، وتبرموا بالقتال والحرب، وقطع طاهر عنهم المادة من كل وجه فلما رأى عبد الرحمن، ورأى أصحابه قد هلكوا وجهدوا، وتخوف أن يثب به أهل همذان أرسل إلى طاهر فسأله

تسميه طاهر بن الحسين ذا اليمينين

الأمان له ولمن معه، فآمنه طاهر ووفى له، واعتزل عبد الرحمن فيمن كان استأمن معه من أصحابه وأصحاب يحيى بْن علي. تسميه طاهر بن الحسين ذا اليمينين وفي هذه السنة سمي طاهر بْن الحسين ذا اليمينين. ذكر الخبر عن ذلك: قد مضى الخبر عن السبب الذي من أجله سمى بذلك، ونذكر الذي سماه بذلك. ذكر أن طاهرا لما هزم جيش علي بْن عيسى بْن ماهان، وقتل علي بْن عيسى، كتب إلى الفضل بْن سهل: أطال الله بقاءك، وكبت أعداءك، وجعل من يشنؤك فداك! كتبت إليك ورأس علي بْن عيسى في حجري، وخاتمه في يدي، والحمد لله رب العالمين فنهض الفضل، فسلم على المأمون بأمير المؤمنين، فأمد المأمون طاهر بْن الحسين بالرجال والقواد، وسماه ذا اليمينين، وصاحب حبل الدين، ورفع من كان معه في دون الثمانين الى الثمانين. ظهور السفياني بالشام وفي هذه السنة ظهر بالشام السفياني علي بْن عبد الله بْن خالد بْن يزيد بْن معاوية، فدعا إلى نفسه، وذلك في ذي الحجة منها، فطرد عنها سليمان بْن أبي جعفر بعد حصره إياه بدمشق- وكان عامل محمد عليها- فلم يفلت منه إلا بعد اليأس، فوجه إليه محمد المخلوع الحسين بْن علي بْن عيسى بْن ماهان، فلم ينفذ إليه، ولكنه لما صار إلى الرقة اقام بها. طرد طاهر عمال الامين عن قزوين وكور الجبال وفي هذه السنة طرد طاهر عمال محمد عن قزوين وسائر كور الجبال. ذكر الخبر عن سبب لك: ذكر علي بْن عبد الله بْن صالح أن طاهرا لما توجه إلى عبد الرحمن

ذكر قتل عبد الرحمن بن جبله الابناوى

الأبناوي بهمذان، تخوف أن يثب به كثير بن قادره- وهو بقزوين عامل من عمال محمد- في جيش كثيف إن هو خلفه وراء ظهره، فلما قرب طاهر من همذان أمر أصحابه بالنزول فنزلوا ثم ركب في ألف فارس وألف راجل، ثم قصد قصد كثير بْن قادرة، فلما قرب منه هرب كثير وأصحابه، وأخلى قزوين، وجعل طاهر فيها جندا كثيفا، وولاها رجلا من أصحابه، وأمر أن يحارب من أراد دخولها من اصحاب عبد الرحمن الابناوى وغيرهم. ذكر قتل عبد الرحمن بن جبله الابناوى وفي هذه السنة قتل عبد الرحمن بْن جبلة الأبناوي بأسداباذ. ذكر الخبر عن مقتله: ذكر عبد الرحمن بْن صالح أن محمدا المخلوع لما وجه عبد الرحمن الأبناوي إلى همذان، أتبعه بابني الحرشي: عبد الله وأحمد، في خيل عظيمة من أهل بغداد، وأمرهما أن ينزلا قصر اللصوص، وأن يسمعا ويطيعا لعبد الرحمن، ويكونا مددا له إن احتاج إلى عونهما فلما خرج عبد الرحمن إلى طاهر في الأمان أقام عبد الرحمن يري طاهرا وأصحابه أنه له مسالم، راض بعهودهم وأيمانهم، ثم اغترهم وهم آمنون فركب في أصحابه، فلم يشعر طاهر وأصحابه حتى هجموا عليهم، فوضعوا فيهم السيوف، فثبت لهم رجاله أصحاب طاهر بالسيوف والتراس والنشاب، وجثوا على الركب، فقاتلوه كأشد ما يكون من القتال، ودافعهم الرجال إلى أن أخذت الفرسان عدتها وأهبتها، وصدقوهم القتال، فاقتتلوا قتالا منكرا، حتى تقطعت السيوف، وتقصفت الرماح ثم إن أصحاب عبد الرحمن هربوا، وترجل هو في ناس من أصحابه، فقاتل حتى قتل، فجعل أصحابه يقولون له: قد أمكنك الهرب فاهرب، فإن القوم قد كلوا من القتال، وأتعبتهم الحرب، وليس بهم حراك ولا قوة على الطلب، فيقول: لا أرجع أبدا، ولا يرى أمير المؤمنين وجهي منهزما وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة، واستبيح عسكره، وانتهى من أفلت من أصحابه إلى عسكر عبد الله وأحمد ابني الحرشي، فدخلهم الوهن والفشل، وامتلأت

قلوبهم خوفا ورعبا فولوا منهزمين لا يلوون على شيء من غير أن يلقاهم أحد، حتى صاروا إلى بغداد، وأقبل طاهر وقد خلت له البلاد، يجوز بلدة بلدة، وكورة وكوره، حتى نزل بقرية من قرى حلوان يقال لها شلاشان، فخندق بها، وحصن عسكره، وجمع إليه أصحابه وقال رجل من الأبناء يرثي عبد الرحمن الأبناوي: ألا إنما تبكي العيون لفارس نفى العار عنه بالمناصل والقنا تجلى غبار الموت عن صحن وجهه وقد أحرز العليا من المجد واقتنى فتى لا يبالي ان دنا من مروءة أصاب مصون النفس أو ضيع الغنى يقيم لأطراف الذوابل سوقها ولا يرهب الموت المتاح إذا دنا وكان العامل في هذه السنة على مكة والمدينة من قبل محمد بْن هارون داود بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس، وهو الذي حج بالناس في هذه السنة وسنتين قبلها وذلك سنة ثلاث وتسعين ومائة، وأربع وتسعين ومائة. وعلى الكوفة العباس بْن موسى الهادي من قبل محمد. وعلى البصرة منصور بْن المهدي من قبل محمد. وبخراسان المأمون، وببغداد أخوه محمد.

سنه ست وتسعين ومائه

ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر توجيه الامين الجيوش لحرب طاهر بن الحسين فمما كان من ذلك حبس محمد بْن هارون أسد بْن يزيد بْن مزيد، وتوجيهه أحمد بْن مزيد وعبد الله بْن حميد بْن قحطبة إلى حلوان لحرب طاهر. ذكر الخبر عن سبب حبسه وتوجيهه من ذكرت: ذكر عن عبد الرحمن بْن وثاب أن أسد بْن يزيد بْن مزيد حدثه، أن الفضل بن الربيع بعث إليه بعد مقتل عبد الرحمن الأبناوي قَالَ: فأتيته، فلما دخلت عليه وجدته قاعدا في صحن داره، وفي يده رقعة قد قرأها، واحمرت عيناه، واشتد غضبه، وهو يقول: ينام نوم الظربان، وينتبه انتباه الذئب، همه بطنه، يخاتل الرعاء والكلاب ترصده. لا يفكر في زوال نعمة، ولا يروي في إمضاء رأي ولا مكيدة، قد ألهاه كأسه، وشغله قدحه، فهو يجري في لهوه، والأيام توضع في هلاكه، قد شمر عبد الله له عن ساقه، وفوق له اصوب أسهمه، يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ، والموت القاصد، قد عبى له المنايا على متون الخيل، وناط له البلاء في أسنة الرماح وشفار السيوف ثم استرجع، وتمثل بشعر البعيث: ومجدولة جدل العنان خريدة ... لها شعر جعد ووجه مقسم وثغر نقي اللون عذب مذاقه ... تضيء لها الظلماء ساعة تبسم وثديان كالحقين، والبطن ضامر ... خميص، وجهم ناره تتضرم لهوت بها ليل التمام ابن خالد ... وأنت بمرو الروذ غيظا تجرم

أظل أناغيها وتحت ابن خالد ... أمية نهد المركلين عثمثم طواها طراد الخيل في كل غارة ... لها عارض فيه الأسنة ترزم يقارع أتراك ابن خاقان ليلة ... إلى أن يرى الإصباح لا يتلعثم فيصبح من طول الطراد، وجسمه ... نحيل واضحى في النعيم اصمصم أباكرها صهباء كالمسك ريحها ... لها ارج في دنها حين ترشم فشتان ما بيني وبين ابن خالد ... أمية في الرزق الذي الله قاسم ثم التفت إلي فقال: يا أبا الحارث، إنا وإياك نجري إلى غاية، إن قصرنا عنها ذممنا، وإن اجتهدنا في بلوغها انقطعنا، وإنما نحن شعب من أصل، إن قوي قوينا، وإن ضعف ضعفنا، إن هذا قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكعاء، يشاور النساء، ويعتزم على الرؤيا، وقد امكن مسامعه من أهل اللهو والجسارة، فهم يعدونه الظفر، ويمنونه عقب الأيام، والهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرمل، وقد خشيت والله أن نهلك بهلاكه، ونعطب بعطبه، وأنت فارس العرب وابن فارسها، قد فزع إليك في لقاء هذا الرجل واطمعه فيما قبلك أمران، أما أحدهما فصدق طاعتك وفضل نصيحتك، والثاني يمن نقيبتك وشدة بأسك، وقد أمرني إزاحة علتك وبسط يدك فيما أحببت، غير أن الاقتصاد رأس النصيحة ومفتاح اليمن والبركة، فأنجز حوائجك، وعجل المبادرة إلى عدوك، فإني أرجو أن يوليك الله شرف هذا الفتح، ويلم بك شعث هذه الخلافة والدولة فقلت: أنا لطاعة أمير المؤمنين- أعزه الله- وطاعتك مقدم، ولكل ما أدخل الوهن والذل على عدوه وعدوك حريص، غير أن المحارب لا يعمل بالغرور، ولا يفتتح أمره بالتقصير والخلل، وإنما ملاك المحارب الجنود، وملاك الجنود المال، وقد ملأ أمير المؤمنين أعزه الله أيدي من شهد العسكر من جنوده، وتابع لهم الأرزاق الدارة والصلات والفوائد

الجزيلة، فإن سرت بأصحابي وقلوبهم متطلعة إلى من خلفهم من إخوانهم لم أنتفع بهم في لقاء من امامى، وقد فضل اهل السلم على اهل الحرب، وجاز باهل الدعة منازل أهل النصب والمشقة، والذي أسأل أن يؤمر لأصحابي برزق سنة، ويحمل معهم أرزاق سنة، ويخص من لا خاصة له منهم من أهل الغناء والبلاء، وأبدل من فيهم من الزمنى والضعفاء، وأحمل ألف رجل ممن معى على الخيل، ولا أسأل عن محاسبة ما افتتحت من المدن والكور. فقال: قد اشتططت، ولا بد من مناظرة أمير المؤمنين ثم ركب وركبت معه، فدخل قبلي على محمد، وأذن لي فدخلت، فما كان بيني وبينه إلا كلمتان حتى غضب وأمر بحبسي. وذكر عن بعض خاصة محمد أن أسدا قَالَ لمحمد: ادفع إلي ولدي عبد الله المأمون حتى يكونا أسيرين في يدي، فإن أعطاني الطاعة، وألقى إلي بيده، وإلا عملت فيهما بحكمي، وأنفذت فيهما أمري فقال: أنت أعرابي مجنون، أدعوك إلى ولاء أعنة العرب والعجم، وأطعمك خراج كور الجبال إلى خراسان، وأرفع منزلتك عن نظرائك من أبناء القواد والملوك، وتدعونني إلى قتل ولدي، وسفك دماء أهل بيتي! إن هذا للخرق والتخليط وكان ببغداد ابنان لعبد الله المأمون، وهما مع أمهما أم عيسى ابنة موسى الهادي، نزولا في قصر المأمون بغداد، فلما ظفر المأمون ببغداد خرجا إليه مع أمهما إلى خراسان، فلم يزالا بها حتى قدموا بغداد، وهما أكبر ولده. وذكر زياد بْن علي، قَالَ: لما غضب محمد على أسد بْن يزيد، وأمر بحبسه، قَالَ: هل في أهل بيت هذا من يقوم مقامه، فانى اكره ان استفسدهم مع سابقتهم وما تقدم من طاعتهم ونصيحتهم؟ قالوا: نعم، فيهم أحمد بْن مزيد، وهو أحسنهم طريقة، وأصحهم نية في الطاعة، وله مع هذا بأس ونجدة وبصر بسياسة الجنود ولقاء الحروب، فأنفذ إليه محمد بريدا يأمره بالقدوم عليه، فذكر بكر بْن أحمد، قَالَ: كان أحمد

متوجها إلى قرية تدعى إسحاقية، ومعه نفر من أهل بيته ومواليه وحشمه، فلما جاوز نهر أبان سمع صوت بريد في جوف الليل، فقال: ان هذا لعجيب، بريد في مثل هذه الساعة وفي مثل هذا الموضع! إن هذا الأمر لعجيب ثم لم يلبث البريد أن وقف، ونادى الملاح: هل معك احمد ابن مزيد؟ قَالَ: نعم، فنزل فدفع إليه كتاب محمد، فقراه ثم قال: انى قد بلغت ضيعتي، وإنما بيني وبينها ميل، فدعني أقعها وقعة فآمر فيها بما أريد ثم أغدو معك، فقال: لا، إن أمير المؤمنين أمرني ألا أنظرك ولا أرفهك، وأن أشخصك أي ساعة صادفتك فيها، من ليل أو نهار. فانصرف معه حتى أتى الكوفة، فأقام بها يوما حتى تجمل وأخذ أهبة السفر، ثم مضى إلى محمد. فذكر عن أحمد، قَالَ: لما دخلت بغداد، بدأت بالفضل بْن الربيع، فقلت: أسلم عليه، وأستعين بمنزلته ومحضره عند محمد، فلما أذن لي دخلت عليه، وإذا عنده عبد الله بْن حميد بْن قحطبة، وهو يريده على الشخوص إلى طاهر، وعبد الله يشتط عليه في طلب المال والإكثار من الرجال، فلما رآني رحب بي وأخذ بيدي، ورفعنى حتى صيرني معه على صدر المجلس، وأقبل على عبد الله يداعبه ويمازحه، فتبسم في وجهه، ثم قَالَ: إنا وجدنا لكم إذ رث حبلكم ... من آل شيبان أما دونكم وأبا الأكثرون إذا عد الحصى عددا ... والأقربون إلينا منكم نسبا فقال عبد الله: إنهم لكذلك، وإن منهم لسد الخلل ونكاء العدو، ودفع معرة أهل المعصية عن أهل الطاعة ثم أقبل علي الفضل، فقال: إن أمير المؤمنين أجرى ذكرك، فوصفتك له بحسن الطاعة وفضل النصيحة والشدة على أهل المعصية، والتقدم بالرأي، فأحب اصطناعك والتنويه باسمك، وأن يرفعك إلى منزلة لم يبلغها أحد من أهل بيتك والتفت إلى خادمه، فقال: يا سراج، مر دوابي، فلم ألبث أن أسرج له، فمضى ومضيت معه، حتى دخلنا على محمد وهو في صحن داره، له ساج، فلم يزل يأمرني بالدنو حتى كدت

ألاصقه، فقال: إنه قد كثر علي تخليط ابن أخيك وتنكره، وطال خلافه علي حتى أوحشني ذلك منه، وولد في قلبي التهمة له، وصيرني لسوء المذهب وخبث الطاعة إلى أن تناولته من الأدب والحبس بما لم أحب أن أكون أتناوله به، وقد وصفت لي بخير، ونسبت إلي جميل، فأحببت أن أرفع قدرك، وأعلي منزلتك، وأقدمك على أهل بيتك، وإن أوليك جهاد هذه الفئة الباغية الناكثة، وأعرضك للأجر والثواب في قتالهم ولقائهم، فانظر كيف تكون، وصحح نيتك، وأعن أمير المؤمنين على اصطناعك، وسره في عدوه ينعم سرورك وتشريفك فقلت: سأبذل في طاعة أمير المؤمنين أعزه الله مهجتي، وأبلغ في جهاد عدوه أفضل ما أمله عندي، ورجاه من غنائي وكفايتي، إن شاء الله فقال: يا فضل، قَالَ: لبيك يا أمير المؤمنين! قَالَ: ادفع إليه دفاتر أصحاب أسد، واضمم إليه من شهد العسكر من رجال الجزيرة والأعراب، وقال: أكمش على أمرك، وعجل المسير إليه فخرجت فانتخبت الرجال واعترضت الدفاتر، فبلغت عدة من صححت اسمه عشرين ألف رجل ثم توجهت بهم إلى حلوان. وذكر أن أحمد بْن مزيد لما أراد الشخوص دخل على محمد، فقال: أوصني أكرم الله أمير المؤمنين! فقال: أوصيك بخصال عدة: إياك والبغي، فإنه عقال النصر، ولا تقدم رجلا إلا باستخارة، ولا تشهر سيفا الا بعد اعذار، ومهما قدرت باللين فلا تتعده إلى الخرق والشره، وأحسن صحابة من معك من الجند، وطالعني بأخبارك في كل يوم، ولا تخاطر بنفسك طلب الزلفه عندي، ولا تستقها فيما تتخوف رجوعه علي، وكن لعبد الله أخا مصافيا، وقرينا برا، وأحسن مجامعته وصحبته ومعاشرته، ولا تخذله إن استنصرك، ولا تبطئ عنه إذا استصرخك، ولتكن أيديكما واحدة، وكلمتكما متفقة ثم قَالَ: سل حوائجك، وعجل السراح إلى عدوك فدعا له أحمد، وقال: يا أمير المؤمنين، كثر لي الدعاء ولا تقبل في قول باغ، ولا ترفضني قبل المعرفة بموضع قدمي لك، ولا تنقض على ما استجمع من راى، ومن على بالصفح عن ابن أخي، قال: ذلك لك ثم بعث إلى أسد فحل قيوده وخلي

سبيله، فقال أبو الأسد الشيباني في ذلك يمدح احمد ويذكر حاله ومنزلته. ليهن أبا العباس رأي إمامه ... وما عنده منه القضا بمزيد دعاه أمير المؤمنين إلى التي ... يقصر عنها ظل كل عميد فبادرها بالرأي والحزم والحجى ... ورأي أبي العباس رأي سديد نهضت بما أعيا الرجال بحمله ... وأنت بسعد حاضر وسعيد رددت بها للرائدين أعزهم ... ومثلك والى طارفا بتليد كفى أسدا ضيق الكبول وكربها ... وكان عليه عاطفا كيزيد وحصله فيها كليث غضنفر ... أبي أشبل عبل الذراع مديد وذكر يزيد بْن الحارث أن محمدا وجه أحمد بْن مزيد في عشرين ألف رجل من الأعراب، وعبد الله بْن حميد بْن قحطبة في عشرين ألف رجل من الأبناء، وأمرهما أن ينزلا حلوان، ويدفعا طاهرا وأصحابه عنها، وإن أقام طاهر بشلاشان أن يتوجها إليه في أصحابهما حتى يدفعاه، وينصبا له الحرب، وتقدم إليهما في اجتماع الكلمة والتواد والتحاب على الطاعة، فتوجها حتى نزلا قريبا من حلوان بموضع يقال له خانقين، وأقام طاهر بموضعه، وخندق عليه وعلى أصحابه، ودس الجواسيس والعيون إلى عسكريهما، فكانوا يأتونهم بالأراجيف، ويخبرونهم أن محمدا قد وضع العطاء لأصحابه، وقد أمر لهم من الأرزاق بكذا وكذا، ولم يزل يحتال في وقوع الاختلاف والشغب بينهم حتى اختلفوا، وانتقض أمرهم، وقاتل بعضهم بعضا، فأخلوا خانقين، ورجعوا عنها من غير أن يلقوا طاهرا، ويكون بينهم وبينه قتال وتقدم طاهر حتى نزل حلوان، فلما دخل طاهر حلوان لم يلبث إلا يسيرا حتى أتاه هرثمة ابن اعين بكتاب المأمون والفضل بن سهل، يأمرانه بتسليم ما حوى من المدن والكور إليه، والتوجه إلى الأهواز، فسلم ذلك إليه، وأقام هرثمة بحلوان فحصنها ووضع مسالحه ومراصده في طرقها وجبالها، وتوجه طاهر الى الاهواز

ذكر رفع منزله الفضل بن سهل عند المأمون

ذكر رفع منزله الفضل بن سهل عند المأمون وفي هذه السنة رفع المأمون منزلة الفضل بْن سهل وقدره. (ذكر الخبر عما كان من المأمون إليه في ذلك:) ذكر أن المأمون لما انتهى إليه الخبر عن قتل طاهر علي بْن عيسى واستيلائه على عسكره وتسميته إياه أمير المؤمنين، وسلم الفضل بْن سهل عليه بذلك، وصح عنده الخبر عن قتل طاهر عبد الرحمن بْن جبلة الأبناوي وغلبته على عسكره، دعا الفضل بْن سهل، فعقد له في رجب من هذه السنة على المشرق، من جبل همذان إلى جبل سقينان والتبت طولا، ومن بحر فارس والهند إلى بحر الديلم وجرجان عرضا، وجعل عمالته ثلاثة آلاف ألف درهم، وعقد له لواء على سنان ذي شعبتين، وأعطاه علما، وسماه ذا الرياستين، فذكر بعضهم أنه رأى سيفه عند الحسن بْن سهل مكتوبا عليه بالفضة من جانب: رياسه الحرب، ومن الجانب الآخر: رياسه التدبير فحمل اللواء علي بْن هشام، وحمل العلم نعيم بْن حازم، وولى الحسن بْن سهل ديوان الخراج . ذكر خبر ولايه عبد الملك بن صالح على الشام وفي هذه السنة ولى محمد بْن هارون عبد الملك بْن صالح بْن علي على الشام وأمره بالخروج إليها، وفرض له من رجالها جنودا يقاتل بها طاهرا وهرثمة. (ذكر الخبر عن سبب توليته ذلك:) ذكر داود بْن سليمان أن طاهرا لما قوي واستعلى أمره، وهزم من هزم من قواد محمد وجيوشه، دخل عبد الملك بْن صالح على محمد- وكان عبد الملك محبوسا في حبس الرشيد، فلما توفي الرشيد، وأفضى الأمر إلى محمد امر

بتخلية سبيله، وذلك في ذي القعدة سنة تسع وثلاثين ومائة، فكان عبد الملك يشكر ذلك لمحمد، ويوجب به على نفسه طاعته ونصيحته- فقال: يا أمير المؤمنين، إني أرى الناس قد طمعوا فيك وأهل العسكرين قد اعتمدوا ذلك، وقد بذلت سماحتك، فإن أتممت على أمرك أفسدتهم وأبطرتهم، وإن كففت أمرك عن العطاء والبذل أسخطتهم وأغضبتهم، وليس تملك الجنود بالإمساك، ولا يبقى ثبوت الأموال على الإنفاق والسرف، ومع هذا فإن جندك قد رعبتهم الهزائم، ونهكتهم وأضعفتهم الحرب والوقائع، وامتلأت قلوبهم هيبة لعدوهم، ونكولا عن لقائهم ومناهضتهم، فإن سيرتهم إلى طاهر غلب بقليل من معه كثيرهم، وهزم بقوة نيته ضعف نصائحهم ونياتهم، وأهل الشام قوم قد ضرستهم الحروب، وأدبتهم الشدائد، وجلهم منقاد إلي، مسارع إلى طاعتي، فإن وجهني أمير المؤمنين اتخذت له منهم جندا تعظم نكايتهم في عدوه، ويؤيد الله بهم أولياءه وأهل طاعته فقال محمد: فإني موليك أمرهم، ومقويك بما سألت من مال وعدة، فعجل الشخوص إلى ما هنالك، فاعمل عملا يظهر أثره، ويحمد بركته برأيك ونظرك فيه إن شاء الله فولاه الشام والجزيرة، واستحثه بالخروج استحثاثا شديدا، ووجه معه كنفا من الجند والأبناء وفي هذه السنة سار عبد الملك بْن صالح إلى الشام، فلما بلغ الرقة اقام بها. وانفذ رسله وكتبه الى رؤساء اجناد اهل الشام بجمع الرجال بها، وامداد محمد بهم لحرب طاهر. ذكر الخبر عن ذلك: قد تقدم ذكري سبب توجيه محمد إياه لذلك، فذكر داود بْن سليمان أنه لما قدم عبد الملك الرقة، أنفذ رسله، وكتب إلى رؤساء أجناد الشام ووجوه الجزيرة، فلم يبق أحد ممن يرجى ويذكر بأسه وغناؤه إلا وعده وبسط له في أمله وأمنيته، فقدموا عليه رئيسا بعد رئيس، وجماعة بعد جماعة، فكان لا يدخل عليه أحد إلا أجازه وخلع عليه وحمله، فأتاه أهل الشام: الزواقيل والأعراب من كل فج، واجتمعوا عنده حتى كثروا ثم ان

بعض جند أهل خراسان نظر إلى دابة كانت أخذت منه في وقعة سليمان بْن أبي جعفر تحت بعض الزواقيل، فتعلق بها، فجرى الأمر بينهما إلى أن اختلفا، واجتمعت جماعة من الزواقيل والجند، فتلاحموا، وأعان كل فريق منهم صاحبه، وتلاطموا وتضاربوا بالأيدي، ومشى بعض الأبناء إلى بعض، فاجتمعوا إلى محمد بن ابى خالد، فقالوا: أنت شيخنا وفارسنا، وقد ركب الزواقيل منا ما قد بلغك، فاجمع أمرنا وإلا استذلونا، وطمعوا فينا، وركبوا بمثل هذا في كل يوم فقال: ما كنت لأدخل في شغب، ولا أشاهدكم على مثل الحالة فاستعد الأبناء وتهيئوا، وأتوا الزواقيل وهم غارون، فوضعوا فيهم السيوف، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وذبحوهم في رحالهم، وتنادى الزواقيل، فركبوا خيولهم، ولبسوا أسلحتهم، ونشبت الحرب بينهم وبلغ ذلك عبد الملك بْن صالح، فوجه إليهم رسولا يأمرهم بالكف ووضع السلاح، فرموه بالحجارة، واقتتلوا يومهم ذلك قتالا شديدا، وأكثرت الأبناء القتل في الزواقيل، فأخبر عبد الملك بكثرة من قتل- وكان مريضا مدنفا- فضرب بيده على يد، ثم قال: وا ذلاه! تستضام العرب في دارها ومحلها وبلادها! فغضب من كان أمسك عن الشر من الأبناء، وتفاقم الأمر فيما بينهم، وقام بأمر الأبناء الحسين بْن علي بْن عيسى بْن ماهان، وأصبح الزواقيل، فاجتمعوا بالرقة، واجتمع الأبناء وأهل خراسان بالرافقة، وقام رجل من أهل حمص، فقال: يا أهل حمص، الهرب أهون من العطب، والموت أهون من الذل، إنكم بعدتم عن بلادكم، وخرجتم من أقاليمكم، ترجون الكثرة بعد القلة والعزة بعد الذلة! ألا وفي الشر وقعتم، وإلى حومة الموت أنختم إن المنايا في شوارب المسودة وقلانسهم النفير النفير، قبل أن ينقطع السبيل، وينزل الأمر الجليل، ويفوت المطلب، ويعسر المذهب، ويبعد العمل، ويقترب الأجل! وقام رجل من كلب في غرز ناقته، ثم قَالَ: شؤبوب حرب خاب من يصلاها ... قد شرعت فرسانها قناها

فأورد الله لظى لظاها ... إن غمرت كلب بها لحاها ثم قَالَ: يا معشر كلب، إنها الراية السوداء، والله ما ولت ولا عدلت ولا ذل ناصرها، ولا ضعف وليها، وإنكم لتعرفون مواقع سيوف أهل خراسان في رقابكم، وآثار أسنتهم في صدوركم اعتزلوا الشر قبل أن يعظم، وتخطوه قبل أن يضطرم شامكم شأمكم، داركم داركم! الموت الفلسطيني خير من العيش الجزري ألا وإني راجع، فمن أراد الانصراف فلينصرف معي. ثم سار وسار معه عامة أهل الشام، وأقبلت الزواقيل حتى أضرموا ما كان التجار جمعوا من الأعلاف بالنار، وأقام الحسين بْن علي بْن عيسى بْن ماهان مع جماعة أهل خراسان والأبناء على باب الرافقة تخوفا لطوق بْن مالك. فأتى طوقا رجل من بني تغلب، فقال: ألا ترى ما لقيت العرب من هؤلاء! انهض فإن مثلك لا يقعد عن هذا الأمر، قد مد أهل الجزيرة أعينهم إليك، وأملوا عونك ونصرك فقال: والله ما أنا من قيسها ولا يمنها، ولا كنت في أول هذا الأمر لأشهد آخره، وإني لأشد إبقاء على قومي، وأنظر لعشيرتي من أن أعرضهم للهلاك بسبب هؤلاء السفهاء من الجند وجهال قيس، وما أرى السلامة إلا في الاعتزال وأقبل نصر بْن شبث في الزواقيل على فرس كميت أغر، عليه دراعة سوداء قد ربطها خلف ظهره، وفي يده رمح وترس، وهو يقول: فرسان قيس اصمدن للموت ... لا ترهبنى عن لقاء الفوت دعى التمنى بعسى وليت. ثم حمل هو وأصحابه، فقاتل قتالا شديدا، فصبر لهم الجند، وكثر القتل في الزواقيل، وحملت الأبناء حملات، في كلها يقتلون ويجرحون، وكان أكثر القتل والبلاء في تلك الدفعة لكثير بْن قادرة وأبي الفيل وداود بن موسى ابن عيسى الخراساني، وانهزمت الزواقيل، وكان على حاميتهم يومئذ نصر ابن شبث وعمرو السلمي والعباس بْن زفر

ذكر خلع الامين والمبايعة للمأمون

وتوفي في هذه السنة عبد الملك بْن صالح . ذكر خلع الامين والمبايعة للمأمون وفي هذه السنة خلع محمد بْن هارون، وأخذت عليه البيعة لأخيه عبد الله المأمون ببغداد. وفيها حبس محمد بْن هارون في قصر أبي جعفر مع أم جعفر بنت جعفر. ابن أبي جعفر. ذكر الخبر عن سبب خلعه: ذكر عن داود بْن سليمان أن عبد الملك بْن صالح لما توفي بالرقة، نادى الحسين بْن علي بْن عيسى بْن ماهان في الجند، فصير الرجالة في السفن والفرسان على الظهر ووصلهم، وقوى ضعفاءهم، ثم حملهم حتى أخرجهم من بلاد الجزيرة، وذلك في سنة ست وتسعين ومائة. وذكر أحمد بْن عبد الله، أنه كان فيمن شهد مع عبد الملك الجزيرة لما انصرف بهم الحسين بْن علي، وذلك في رجب من سنة ست وتسعين ومائة وذكر أنه تلقاه الأبناء وأهل بغداد بالتكرمة والتعظيم، وضربوا له القباب، واستقبله القواد والرؤساء والأشراف، ودخل منزله في أفضل كرامة وأحسن هيئة، فلما كان في جوف الليل بعث اليه محمد يأمره بالركوب إليه، فقال للرسول: والله ما أنا بمغن ولا بمسامر ولا مضحك، ولا وليت له عملا، ولا جرى له على يدي مال، فلأي شيء يريدني في هذه الساعة! انصرف، فإذا أصبحت غدوت إليه إن شاء الله. فانصرف الرسول، وأصبح الحسين فوافى باب الجسر، واجتمع إليه الناس، فأمر بإغلاق الباب الذى يخرج منه الى قصر عبد الله بْن علي وباب سوق يحيى، وقال: يا معشر الأبناء، إن خلافة الله لا تجاور بالبطر، ونعمه

لا تستصحب بالتجبر والتكبر، وأن محمدا يريد أن يوتغ أديانكم، وينكث بيعتكم، ويفرق جمعكم، وينقل عزكم إلى غيركم، وهو صاحب الزواقيل بالأمس، وبالله إن طالت به مدة وراجعه من أمره قوة، ليرجعن وبال ذلك عليكم، وليعرفن ضرره ومكروهه في دولتكم ودعوتكم، فاقطعوا أثره قبل أن يقطع أثاركم، وضعوا عزه قبل ان يضع عزكم، فو الله لا ينصره منكم ناصر إلا خذل، ولا يمنعه مانع إلا قتل، وما عند الله لأحد هوادة، ولا يراقب على الاستخفاف بعهوده والحنث بأيمانه ثم أمر الناس بعبور الجسر فعبروا، حتى صاروا إلى سكة باب خراسان، واجتمعت الحربية وأهل الأرباض مما يلي باب الشام، وباب الأنبار وشط الصراة مما يلى باب الكوفه. وتسرعت خيول من خيول محمد من الأعراب وغيرهم إلى الحسين بْن علي، فاقتتلوا قتالا شديدا مليا من النهار، وأمر الحسين من كان معه من قواده وخاصة أصحابه بالنزول فنزلوا إليهم بالسيوف والرماح، وصدقوهم القتال، وكشفوهم حتى تفرقوا عن باب الخلد. قَالَ: فخلع الحسين بْن علي محمدا يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب سنة ست وتسعين ومائة، وأخذ البيعة لعبد الله المأمون من غد يوم الاثنين إلى الليل، وغدا إلى محمد يوم الثلاثاء، فوثب بعد الوقعة التي كانت بين الحسين وبين أصحاب محمد العباس بْن موسى بْن عيسى الهاشمي على محمد، ودخل عليه فأخرجه من قصر الخلد إلى قصر أبي جعفر، فحبسه هناك إلى صلاة الظهر، ثم وثب العباس بْن موسى بْن عيسى على أم جعفر فأمرها بالخروج من قصرها إلى مدينة أبي جعفر، فأبت، فدعا لها بكرسي، وأمرها بالجلوس فيه، فقنعها بالسوط وساءها، وأغلظ لها القول، فجلست فيه، ثم أمر بها فأدخلت المدينة مع ابنها وولدها فلما أصبح الناس من الغد طلبوا من الحسين بْن علي الأرزاق وماج الناس بعضهم في بعض، وقام محمد بْن أبي خالد بباب الشام، فقال: أيها الناس، والله ما أدري بأي سبب يتأمر الحسين بْن علي علينا، ويتولى هذا الأمر دوننا! ما هو بأكبرنا سنا، ولا أكرمنا حسبا، ولا أعظمنا منزلة، وإن فينا من لا يرضى بالدنية، ولا يقاد بالمخادعة،

وانى أولكم نقض عهده، واظهر التغيير عليه، والإنكار لفعله، فمن كان رأيه رأيي فليعتزل معي. وقام أسد الحربي، فقال: يا معشر الحربية، هذا يوم له ما بعده، إنكم قد نمتم وطال نومكم، وتأخرتم فقدم عليكم غيركم، وقد ذهب أقوام بذكر خلع محمد وأسره، فاذهبوا بذكر فكه وإطلاقه. فأقبل شيخ كبير من أبناء الكفاية على فرس، فصاح بالناس: اسكتوا، فسكتوا، فقال: أيها الناس، هل تعتدون على محمد بقطع منه لأرزاقكم؟ قالوا: لا، قَالَ: فهل قصر بأحد منكم أو من رؤسائكم وكبرائكم؟ قالوا: ما علمنا، قَالَ: فهل عزل أحدا من قوادكم؟ قالوا: معاذ الله أن يكون فعل ذلك! قَالَ: فما بالكم خذلتموه وأعنتم عدوه على اضطهاده وأسره! أما والله ما قتل قوم خليفتهم قط إلا سلط الله عليهم السيف القاتل، والحتف الجارف، انهضوا إلى خليفتكم وادفعوا عنه، وقاتلوا من أراد خلعه والفتك به. ونهضت الحربية، ونهض معهم عامه اهل الارباض في المشهرات والعدة الحسنة فقاتلوا الحسين بْن علي وأصحابه قتالا شديدا منذ ارتفاع النهار إلى انكسار الشمس، وأكثروا في أصحابه الجراح، وأسر الحسين بْن علي، ودخل أسد الحربي على محمد، فكسر قيوده وأقعده في مجلس الخلافة، فنظر محمد إلى قوم ليس عليهم لباس الحرب والجند، ولا عليهم سلاح، فأمرهم فأخذوا من السلاح الذي في الخزائن حاجتهم ووعدهم ومناهم، وانتهب الغوغاء بذلك السبب سلاحا كثيرا ومتاعا من خز وغير ذلك، وأتى بالحسين بْن على، فلامه محمد على خلافه وقال له: ألم أقدم أباك على الناس، وأوله أعنة الخيل وأملأ يده من الأموال، وأشرف أقداركم في أهل خراسان، وأرفع منازلكم على غيركم من القواد! قَالَ: بلى، قَالَ: فما الذي استحققت به منك أن تخلع طاعتي، وتؤلب الناس علي، وتندبهم إلى قتالي! قَالَ: الثقة بعفو أمير المؤمنين وحسن الظن بصفحه وتفضله قَالَ: فإن أمير المؤمنين قد فعل ذلك بك، وولاك الطلب بثأرك، ومن قتل من أهل بيتك ثم دعا له بخلعة فخلعها

عليه، وحمله على مراكب، وأمره بالمسير إلى حلوان، وولاه ما وراء بابه. وذكر عن عثمان بْن سعيد الطائي، قَالَ: كانت لي من الحسين بْن علي ناحية خاصة، فلما رضي عنه محمد، ورد إليه قيادته ومنزلته، عبرت إليه مع المهنئين، فوجدته واقفا بباب الجسر، فهنأته ودعوت له، ثم قلت له: إنك قد أصبحت سيد العسكرين، وثقة أمير المؤمنين، فاشكر العفو والإقالة، ثم داعبته ومازحته، ثم أنشأت أقول: هم قتلوه حين تم تمامه ... وصار معزا بالندى والتمجد أغر كأن البدر سنة وجهه ... إذا جاء يمشي في الحديد المسرد إذا جشأت نفس الجبان وهللت ... مضى قدما بالمشرفي المهند حليم لدى النادي جهول لدى الوغى ... عكور على الأعداء قليل التزيد فثأرك أدركه من القوم إنهم ... رموك على عمد بشنعا مزند فضحك، ثم قَالَ: ما أحرصني على ذاك إن ساعدني عمر، وأيدت بفتح ونصر ثم وقف على باب الجسر، وهرب في نفر من خدمه ومواليه، فنادى محمد في الناس، فركبوا في طلبه، فأدركوه بمسجد كوثر، فلما بصر بالخيل نزل وقيد فرسه، وصلى ركعتين وتحرم، ثم لقيهم فحمل عليهم حملات في محلها يهزمهم ويقتل فيهم ثم أن فرسه عثر به وسقط، وابتدره الناس طعنا وضربا وأخذوا راسه، وفي ذلك يقول علي بْن جبلة- وقيل الخريمى: الا قاتل الله الالى كفروا به ... وفازوا برأس الهرثمى حسين لقد أوردوا منه قناه صليبه ... بشطب يماني ورمح رديني رجا في خلاف الحق عزا وإمرة ... فألبسه التأميل خف حنين وقيل: إن محمدا لما صفح عن الحسين استوزره ودفع إليه خاتمه. وقتل الحسين بْن علي بْن عيسى بْن ماهان للنصف من رجب من هذه

ذكر الخبر عن مقتل محمد بن يزيد المهلبى ودخول طاهر إلى الاهواز

السنة في مسجد كوثر، وهو على فرسخ من بغداد في طريق النهرين. وجدد البيعة لمحمد يوم الجمعة لست عشرة خلت من رجب من هذه السنة، وكان حبس الحسين محمدا في قصر أبي جعفر يومين. وفي الليلة التي قتل فيها حسين بْن علي هرب الفضل بْن الربيع. وفي هذه السنة توجه طاهر بْن الحسين حين قدم عليه هرثمة من حلوان إلى الأهواز، فقتل عامل محمد عليها، وكان عامله عليها محمد بْن يزيد المهلبي بعد تقديم طاهر جيوشا أمامه إليها قبل انفصاله إليه لحربه. ذكر الخبر عن مقتل محمد بْن يزيد المهلبي ودخول طاهر إلى الأهواز ذكر عن يزيد بْن الحارث، قَالَ: لما نزل طاهر شلاشان، وجه الحسين ابن عمر الرستمي إلى الأهواز، وأمره أن يسير سيرا مقتصدا، ولا يسير إلا بطلائع، ولا ينزل إلا في موضع حصين يأمن فيه على أصحابه فلما توجه أتت طاهرا عيونه، فأخبروه أن محمد بْن يزيد المهلبي- وكان عاملا لمحمد على الأهواز- قد توجه في جمع عظيم يريد نزول جندي سابور- وهو حد ما بين الأهواز والجبل- ليحمي الأهواز، ويمنع من أراد دخولها من أصحاب طاهر، وإنه في عدة وقوة، فدعا طاهر عدة من أصحابه، منهم محمد بْن طالوت ومحمد بن العلاء والعباس بن بخار اخذاه والحارث بْن هشام وداود بْن موسى وهادي بْن حفص، وأمرهم أن يكمشوا السير حتى يتصل أولهم بآخر أصحاب الحسين بْن عمر الرستمي، فإن احتاج إلى إمداد أمدوه، أو لقيه جيش كانوا ظهرا له. فوجه تلك الجيوش، فلم يلقهم أحد حتى شارفوا الأهواز. وبلغ محمد بْن يزيد خبرهم، فعرض أصحابه، وقوى ضعفاءهم، وحمل الرجالة على البغال، وأقبل حتى نزل سوق عسكر مكرم، وصير العمران والماء وراء ظهره، وتخوف طاهر أن يعجل إلى أصحابه، فأمدهم بقريش بْن شبل، وتوجه هو بنفسه حتى كان قريبا منهم، ووجه الحسن بْن علي المأموني،

وأمره بمضامة قريش بْن شبل والحسين بْن عمر الرستمي، وسارت تلك العساكر حتى قاربوا محمد بْن يزيد بعسكر مكرم، فجمع أصحابه فقال: ما ترون؟ أطاول القوم القتال وأماطلهم اللقاء، أم أناجزهم كانت لي أم علي؟ فو الله ما ارى ان ارجع الى امير المؤمنين ابدا، ولا انصرف عن الاهواز، فقالوا له: الرأي ان ترجع الى الاهواز، فتتحصن بها وتغادى طاهرا القتال وتبعث الى البصره فتفرض بها الفروض، وتستجيش من قدرت عليه وتابعك من قومك فقبل ما أشاروا عليه، وتابعه قومه، فرجع حتى صار بسوق الأهواز وأمر طاهر قريش بْن شبل أن يتبعه، وأن يعاجله قبل أن يتحصن بسوق الأهواز، وأمر الحسن بْن علي المأموني والحسين بْن عمر الرستمي أن يسيرا بعقبه، فإن احتاج إلى معونتهما أعاناه ومضى قريش بْن شبل يقفو محمد بْن يزيد، كلما ارتحل محمد بْن يزيد من قرية نزلها قريش، حتى صاروا إلى سوق الأهواز. وسبق محمد بْن يزيد إلى المدينة فدخلها، واستند إلى العمران، فصيره وراء ظهره، وعبى أصحابه، وعزم على مواقعتهم، ودعا بالأموال فصبت بين يديه، وقال لأصحابه: من أحب منكم الجائزة والمنزلة فليعرفني أثره وأقبل قريش بْن شبل حتى صار قريبا منه، وقال لأصحابه: الزموا مواضعكم ومصافكم، وليكن أكثر ما قاتلتموهم وأنتم مريحون، فقاتلوهم بنشاط وقوة، فلم يبق أحد من أصحابه إلا جمع بين يديه ما قدر عليه من الحجارة، فلم يعبر إليهم محمد بْن يزيد، حتى أوهنوهم بالحجارة، وجرحوهم جراحات كثيرة بالنشاب، وعبرت طائفة من أصحاب محمد بْن يزيد، فأمر قريش أصحابه أن ينزلوا إليهم فنزلوا إليهم، فقاتلوهم قتالا شديدا حتى رجعوا، وتراد الناس بعضهم إلى بعض. والتفت محمد بْن يزيد إلى نفر كانوا معه من مواليه، فقال: ما رأيكم؟ قالوا: فيما ذا؟ قَالَ: إني أرى من معي قد انهزم، ولست آمن من خذلانهم، ولا آمل رجعتهم، وقد عزمت على النزول والقتال بنفسي، حتى يقضي الله ما أحب، فمن أراد منكم الانصراف فلينصرف، فو الله لأن تبقوا أحب إلي من أن تعطبوا وتهلكوا فقالوا: والله ما أنصفناك، إذا تكون أعتقتنا من الرق

ورفعتنا من الضعة، ثم أغنيتنا بعد القلة، ثم نخذلك على هذه الحال، بل نتقدم أمامك ونموت تحت ركابك، فلعن الله الدنيا والعيش بعدك ثم نزلوا فعرقبوا دوابهم، وحملوا على أصحاب قريش حملة منكرة، فأكثروا فيهم القتل، وشدخوهم بالحجارة وغير ذلك، وانتهى بعض أصحاب طاهر إلى محمد بْن يزيد، فطعنه بالرمح فصرعه، وتبادروا إليه بالضرب والطعن حتى قتلوه، فقال بعض اهل البصره يرثيه، ويذكر مقتله: من ذاق طعم الرقاد من فرح ... فإنني قد أضر بي سهري ولى فتى الرشد فافتقدت به ... قلبي وسمعي وغرني بصري كان غياثا لدى المحول فقد ... ولى غمام الربيع والمطر وفي العييني للإمام ولم ... يرهبه وقع المشطب الذكر ساور ريب المنون داهية ... لولا خضوع العباد للقدر فامض حميدا فكل ذي أجل ... يسعى إلى ما سعيت بالأثر وقال بعض المهالبة، وجرح في تلك الوقعة جراحات كثيرة وقطعت يده: فما لمت نفسي غير انى لم أطق ... حراكا وأني كنت بالضرب مثخنا ولو سلمت كفاي قاتلت دونه ... وضاربت عنه الطاهرى الملعنا فتى لا يرى أن يخذل السيف في الوغى ... إذا ادرع الهيجاء في النقع واكتنى وذكر عن الهيثم بْن عدي، قَالَ: لما دخل ابن أبي عيينة على طاهر فأنشده قوله: من آنسته البلاد لم يرم ... منها ومن أوحشته لم يقم حتى انتهى إلى قوله: ما ساء ظني إلا لواحدة ... في الصدر محصورة عن الكلم فتبسم طاهر، ثم قَالَ: أما والله لقد ساءني من ذلك ما ساءك، وآلمني ما آلمك، ولقد كنت كارها لما كان، غير أن الحتف واقع، والمنايا نازله،

ولا بد من قطع الأواصر والتنكر للأقارب في تأكيد الخلافة، والقيام بحق الطاعة، فظننا أنه يريد محمد بْن يزيد بْن حاتم. وذكر عمر بْن أسد، قَالَ: أقام طاهر بالأهواز بعد قتله محمد بْن يزيد ابن حاتم، وأنفذ عماله في كورها، وولى على اليمامة والبحرين وعمان مما يلي الأهواز، ومما يلي عمل البصرة، ثم أخذ على طريق البر متوجها إلى واسط، وبها يومئذ السندي بن يحيى بن الحرشي والهيثم خليفة خزيمة بْن خازم، فجعلت المسالح والعمال تتقوض، مسلحة مسلحة، وعاملا عاملا، كلما قرب طاهر منهم تركوا أعمالهم وهربوا عنها، حتى قرب من واسط، فنادى السندي بْن يحيى والهيثم بْن شعبة في أصحابهما، فجمعاهم إليهما، وهما بالقتال، وأمر الهيثم بْن شعبة صاحب مراكبه أن يسرج له دوابه، فقرب إليه فرسا، فأقبل يقسم طرفه بينها، واستقبلته عدة، فرأى المراكبي التغير والفزع في وجهه فقال: إن أردت الهرب فعليك بها، فإنها أبسط في الركض، وأقوى على السفر فضحك ثم قَالَ: قرب فرس الهرب، فإنه طاهر، ولا عار علينا في الهرب منه، فتركا واسطا، وهربا عنها ودخل طاهر واسطا، وتخوف إن سبق الهيثم والسندي إلى فم الصلح فيتحصنا بها فوجه محمد بْن طالوت، وأمره أن يبادرهما إلى فم الصلح، ويمنعهما من دخولها إن أرادا ذلك، ووجه قائدا من قواده يقال له أحمد بْن المهلب نحو الكوفة، وعليها يومئذ العباس بْن موسى الهادي، فلما بلغ العباس خبر أحمد بْن المهلب خلع محمدا، وكتب بطاعته إلى طاهر وببيعته للمأمون، ونزلت خيل طاهر فم النيل، وغلب على ما بين واسط والكوفة، وكتب المنصور بْن المهدي- وكان عاملا لمحمد على البصرة- إلى طاهر بطاعته، ورحل طاهر حتى نزل طرنايا، فأقام بها يومين فلم يرها موضعا للعسكر، فأمر بجسر فعقد وخندق له، وأنفذ كتبه بالتولية إلى العمال. وكانت بيعة المنصور بْن المهدي بالبصرة وبيعة العباس بْن موسى الهادي

ذكر خبر استيلاء طاهر على المدائن ونزوله بصرصر

بالكوفه، وبيعة المطلب بْن عبد الله بْن مالك بالموصل للمأمون، وخلعهم محمدا في رجب من سنة ست وتسعين ومائة. وقيل: إن الذي كان على الكوفة حين نزل طاهر من قبل محمد الفضل بْن العباس بْن موسى بْن عيسى. ولما كتب من ذكرت إلى طاهر ببيعتهم للمأمون وخلعهم محمدا، أقرهم طاهر على أعمالهم، وولى داود بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن علي الهاشمي مكة والمدينة، ويزيد بْن جرير البجلي اليمن، ووجه الحارث بْن هشام وداود ابن موسى الى قصر ابن هبيرة . ذكر خبر استيلاء طاهر على المدائن ونزوله بصرصر وفي هذه السنة أخذ طاهر بْن الحسين من اصحاب محمد المدائن، ثم صار منها إلى صرصر، فعقد جسرا، ومضى إلى صرصر. ذكر الخبر عن سبب دخوله المدائن ومصيره إلى صرصر: ذكر أن طاهرا لما وجه إلى قصر ابن هبيرة الحارث بن هشام وداود بن موسى، وبلغ محمدا خبر عامله بالكوفة وخلعه إياه وبيعته للمأمون، وجه محمد ابن سليمان القائد ومحمد بْن حماد البربري، وأمرهما أن يبيتا الحارث وداود بالقصر، فقيل لهما: إن سلكتما الطريق الأعظم لم يخف ذلك عليهما، ولكن اختصر الطريق إلى فم الجامع، فإنه موضع سوق ومعسكر، فانزلاه وبيتاهما إن أردتما ذلك، وقد قربتما منهما، فوجها الرجال من الياسرية إلى فم الجامع. وبلغ الحارث وداود الخبر، فركبا في خيل مجرد، وتهيأ للرجالة، فعبرا من مخاضة في سوراء إليهم، وقد نزلوا إلى جنبها، فأوقعا بهم وقعة شديدة. ووجه طاهر محمد بْن زياد ونصير بْن الخطاب مددا للحارث وداود، فاجتمعت العساكر بالجامع، وساروا حتى لقوا محمد بْن سليمان ومحمد بن حماد فيما ما بين نهر درقيط والجامع، فاقتتلوا قتالا شديدا، وانهزم أهل بغداد، وهرب

محمد بْن سليمان حتى صار إلى قرية شاهي، وعبر الفرات، وأخذ على طريق البرية إلى الأنبار، ورجع محمد بْن حماد إلى بغداد، وقال ابو يعقوب الخريمى في ذلك: هما عدوا بالنكث كي يصدعا به ... صفا الحق فانفضا بجمع مبدد وأفلتنا ابن البربري مضمر ... من الخيل يسمو للجياد ويهتدى وذكر يزيد بن الحارث، ان محمد بْن حماد البربري لما دخل بغداد، وجه محمد المخلوع الفضل بْن موسى بْن عيسى الهاشمي إلى الكوفة، وولاه عليها، وضم إليه أبا السلاسل وإياس الحرابي وجمهورا النجاري، وأمره بسرعة السير، فتوجه الفضل، فلما عبر نهر عيسى عثر به فرسه، فتحول منه إلى غيره وتطير، وقال: اللهم إني أسألك بركة هذا الوجه وبلغ طاهرا الخبر، فوجه محمد بْن العلاء، وكتب إلى الحارث بْن هشام وداود بْن موسى بالطاعة له، فلقي محمد بْن العلاء الفضل بقرية الأعراب، فبعث إليه الفضل: إني سامع مطيع لطاهر، وإنما كان مخرجي بالكيد مني لمحمد، فخل لي الطريق حتى أصير إليه، فقال له محمد: لست أعرف ما تقول ولا أقبله ولا أنكره، فإن أردت الأمير طاهرا فارجع وراءك، فخذ أسهل الطريق وأقصدها، فرجع وقال محمد لأصحابه: كونوا على حذر، فإني لست آمن مكر هذا، فلم يلبث أن كبر وهو يرى أن محمد بْن العلاء قد آمنه، فوجده على عدة وأهبة، واقتتلوا كأشد ما يكون من القتال، وكبا بالفضل فرسه، فقاتل عنه أبو السلاسل حتى ركب، وقال: أذكر هذا الموقف لأمير المؤمنين وحمل اصحاب محمد ابن العلاء على اصحاب الفضل فهزموه، ولم يزالوا يقتلونهم إلى كوثى، وأسر في تلك الوقعة إسماعيل بْن محمد القرشي وجمهور النجارى، وتوجه طاهر إلى المدائن، وفيها جند كثير من خيول محمد، عليهم البرمكي قد تحصن بها، والمدد يأتيه في كل يوم، والصلات والخلع من قبل محمد فلما قرب طاهر من المدائن- وكان منها على رأس فرسخين- نزل فصلى ركعتين، وسبح فأكثر التسبيح، فقال: اللهم إنا نسألك نصرا كنصرك المسلمين يوم المدائن ووجه

ذكر خبر خلع داود بن عيسى الامين

الحسن بْن علي المأموني وقريش بْن شبل، ووجه الهادي بْن حفص على مقدمته وسار فلما سمع أصحاب البرمكي صوت طبوله، أسرجوا الدواب، وأخذوا في تعبيتهم، وجعل من في أوائل الناس ينضم إلى أواخرهم، وأخذ البرمكي في تسوية الصفوف، فكلما سوى صفا انتقض واضطرب عليه أمرهم، فقال: اللهم إنا نعوذ بك من الخذلان، ثم التفت إلى صاحب ساقته، فقال: خل سبيل الناس، فإني أرى جندا لا خير عندهم، فركب بعضهم بعضا نحو بغداد، فنزل طاهر المدائن، وقدم منها قريش بن شبل والعباس بن بخار اخذاه إلى الدرزيجان، وأحمد بْن سعيد الحرشي ونصر بْن منصور بْن نصر بْن مالك معسكران بنهر ديائى، فمنعا أصحاب البرمكي من الجواز إلى بغداد، وتقدم طاهر حتى صار إلى الدرزيجان حيال أحمد ونصر بْن منصور، فسير إليهما الرجال، فلم يجر بينهما كثير قتال حتى انهزموا، وأخذ طاهر ذات اليسار إلى نهر صرصر، فعقد بها جسرا ونزلها . ذكر خبر خلع داود بن عيسى الامين وفي هذه السنة خلع داود بْن عيسى عامل مكة والمدينة محمدا- وهو عامله يومئذ عليهما- وبايع للمأمون، وأخذ البيعة بهما على الناس له، وكتب بذلك إلى طاهر والمأمون، ثم خرج بنفسه إلى المأمون. ذكر الخبر عن ذلك وكيف جرى الأمر فيه: ذكر أن الأمين لما أفضت الخلافة إليه، بعث إلى مكة والمدينة داود بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن عَلِيّ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس، وعزل عامل الرشيد على مكة، وكان عامله عليها محمد بْن عبد الرحمن بْن محمد المخزومي، وكان إليه الصلاة بها وأحداثها والقضاء بين أهلها، فعزل محمد عن ذلك كله بداود ابن عيسى، سوى القضاء فإنه أقره على القضاء فأقام داود واليا على مكة والمدينة لمحمد، وأقام للناس أيضا الحج سنة ثلاث وأربع وخمس وتسعين ومائة، فلما دخلت سنة ست وتسعين ومائة، بلغه خلع عبد الله المأمون أخاه،

وما كان فعل طاهر بقواد محمد، وقد كان محمد كتب إلى داود بْن عيسى يأمره بخلع عبد الله المأمون والبيعة لابنه موسى، وبعث محمد إلى الكتابين اللذين كان الرشيد كتبهما وعلقهما في الكعبة فأخذهما، فلما فعل ذلك جمع داود حجبة الكعبة والقرشيين والفقهاء ومن كان شهد على ما في الكتابين من الشهود- وكان داود أحدهم- فقال داود: قد علمتم ما أخذ علينا وعليكم الرشيد من العهد والميثاق عند بيت الله الحرام حين بايعنا لابنيه، لنكونن مع المظلوم منهما على الظالم، ومع المبغي عليه على الباغي، ومع المغدور به على الغادر، فقد رأينا ورأيتم أن محمدا قد بدأ بالظلم والبغي والغدر على أخويه عبد الله المأمون والقاسم المؤتمن، وخلعهما وبايع لابنه الطفل، رضيع صغير لم يفطم، واستخرج الشرطين من الكعبة عاصيا ظالما، فحرقهما بالنار وقد رأيت خلعه، وإن أبايع لعبد الله المأمون بالخلافة، إذ كان مظلوما مبغيا عليه. فقال له أهل مكة: رأينا تبع لرأيك، ونحن خالعوه معك، فوعدهم صلاة الظهيرة، وأرسل في فجاج مكة صائحا يصيح: الصلاة جامعة! فلما جاء وقت صلاة الظهر- وذلك يوم الخميس لسبع وعشرين ليلة خلت من رجب سنة ست وتسعين ومائة- خرج داود بْن عيسى، فصلى بالناس صلاة الظهر، وقد وضع له المنبر بين الركن والمقام، فصعد فجلس عليه، وأمر بوجوه الناس وأشرافهم فقربوا من المنبر، وكان داود خطيبا فصيحا جهير الصوت، فلما اجتمع الناس قام خطيبا، فقال: الحمد لله مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريك له، قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالدين، وختم به النبيين، وجعله رحمة للعالمين، صلى الله عليه في الأولين والآخرين أما بعد يا أهل مكة، فأنتم الأصل والفرع، والعشيرة والأسرة، والشركاء في النعمة، إلى بلدكم نفذ وفد الله، وإلى قبلتكم يأتم المسلمون، وقد علمتم ما أخذ عليكم الرشيد هارون رحمه الله عليه وصلاته حين بايع لا بينه محمد وعبد الله بين أظهركم من العهد والميثاق

لتنصرن المظلوم منهما على الظالم، والمبغى عليه على الباغي، والمغدور به على الغادر، ألا وقد علمتم وعلمنا أن محمد بْن هارون قد بدأ بالظلم والبغي والغدر، وخالف الشروط التي أعطاها من نفسه في بطن البيت الحرام، وقد حل لنا ولكم خلعه من الخلافة وتصييرها إلى المظلوم المبغي عليه المغدور به. ألا وإني أشهدكم أني قد خلعت محمد بْن هارون من الخلافة كما خلعت قلنسوتي هذه من رأسي- وخلع قلنسوته عن رأسه فرمى بها إلى بعض الخدم تحته، وكانت من برود حبرة مسلسلة حمراء، وأتى بقلنسوة سوداء هاشمية فلبسها- ثم قَالَ: قد بايعت لعبد الله عبد الله المأمون أمير المؤمنين بالخلافة، ألا فقوموا إلى البيعة لخليفتكم فصعد جماعة من الوجوه إليه إلى المنبر، رجل فرجل، فبايعه لعبد الله المأمون بالخلافة، وخلع محمدا، ثم نزل عن المنبر، وحانت صلاة العصر، فصلى بالناس، ثم جلس في ناحية المسجد، وجعل الناس يبايعونه جماعة بعد جماعة، يقرأ عليهم كتاب البيعة، ويصافحونه على كفه، ففعل ذلك أياما. وكتب الى ابنه سليمان بْن داود بْن عيسى وهو خليفته على المدينة، يأمره أن يفعل بأهل المدينة مثل ما فعل هو بأهل مكة، من خلع محمد والبيعة لعبد الله المأمون فلما رجع جواب البيعة من المدينة إلى داود وهو بمكة، رحل من فوره بنفسه وجماعة من ولده يريد المأمون بمرو على طريق البصرة، ثم على فارس، ثم على كرمان، حتى صار إلى المأمون بمرو، فأعلمه ببيعته وخلعه محمدا ومسارعة أهل مكة وأهل المدينة إلى ذلك، فسر بذلك المأمون، وتيمن ببركة مكة والمدينة، إذ كانوا أول من بايعه، وكتب إليهم كتابا لينا لطيفا يعدهم فيه الخبر، ويبسط أملهم وأمر أن يكتب لداود عهد على مكة والمدينة وأعمالها من الصلاة والمعاون والجباية، وزيد له ولاية عك، وعقد له على ذلك ثلاثة ألوية، وكتب له إلى الري بمعونة خمسمائة ألف درهم، وخرج داود بْن عيسى مسرعا مغذا مبادرا لإدراك الحج، ومعه ابن أخيه العباس بن موسى ابن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن علي بْن عبد الله بْن العباس، وقد عقد

ذكر خبر شغب الجند على طاهر بن الحسين

المأمون للعباس بْن موسى بْن عيسى على ولاية الموسم، فسار هو وعمه داود حتى نزلا بغداد على طاهر بْن الحسين، فأكرمهما وقربهما، وأحسن معونتهما، ووجه معهما يزيد بْن جرير بْن يزيد بْن خالد بْن عبد الله القسري، وقد عقد له طاهر على ولاية اليمن، وبعث معه خيلا كثيفة، وضمن لهم يزيد بْن جرير بْن يزيد بْن خالد بْن عبد الله القسري أن يستميل قومه وعشيرته من ملوك أهل اليمن وأشرافهم، ليخلعوا محمدا ويبايعوا عبد الله المأمون. فساروا جميعا حتى دخلوا مكة وحضر الحج، فحج باهل الموسم العباس ابن موسى بْن عيسى، فلما صدروا عن الحج انصرف العباس حتى اتى طاهر ابن الحسين- وهو على حصار محمد- وأقام داود بْن عيسى على عمله بمكة والمدينة، ومضى يزيد بْن جرير إلى اليمن، فدعا أهلها إلى خلع محمد وبيعة عبد الله على المأمون، وقرأ عليهم كتابا من طاهر بْن الحسين يعدهم العدل والإنصاف، ويرغبهم في طاعة المأمون، ويعلمهم ما بسط المأمون من العدل في رعيته، فأجاب أهل اليمن إلى بيعة المأمون، واستبشروا بذلك، وبايعوا للمأمون، وخلعوا محمد، فسار فيهم يزيد بْن جرير بْن يزيد بأحسن سيرة، وأظهر عدلا وإنصافا، وكتب بإجابتهم وبيعتهم الى المأمون والى طاهر ابن الحسين. وفي هذه السنة عقد محمد في رجب وشعبان منها نحوا من أربعمائة لواء لقواد شتى، وأمر على جميعهم علي بْن محمد بْن عيسى بْن نهيك، وأمرهم بالمسير إلى هرثمة بْن أعين، فساروا فالتقوا بجللتا في رمضان على أميال من النهروان، فهزمهم هرثمة، وأسر علي بْن محمد بْن عيسى بْن نهيك، وبعث به هرثمة إلى المأمون، وزحف هرثمة فنزل النهروان . ذكر خبر شغب الجند على طاهر بن الحسين 4 وفي هذه السنة استأمن إلى محمد من طاهر جماعة كثيرة، وشغب الجند

على طاهر، ففرق محمد فيمن صار إليه من أصحاب طاهر مالا عظيما، وقود رجالا، وغلف لحاهم بالغالية، فسموا بذلك قواد الغالية. ذكر الخبر عن سبب ذلك وإلى ما آل إليه الأمر فيه: ذكر عن يزيد بْن الحارث، قَالَ: أقام طاهر على نهر صرصر لما صار إليها، وشمر في محاربة محمد وأهل بغداد، فكان لا يأتيه جيش إلا هزمه، فاشتد على أصحابه ما كان محمد يعطي من الأموال والكسا، فخرج من عسكره نحو من خمسة آلاف رجل من أهل خراسان ومن التف إليهم، فسر بهم محمد، ووعدهم ومناهم، وأثبت أسماءهم في الثمانين قَالَ: فمكثوا بذلك أشهرا، وقود جماعة من الحربية وغيرهم ممن تعرض لذلك وطلبه، وعقد لهم، ووجههم إلى دسكرة الملك والنهروان، ووجه إليهم حبيب بْن جهم النمري الأعرابي في أصحابه، فلم يكن بينهم كثير قتال، وندب محمد قوادا من قواد بغداد، فوجههم الى الياسرية والكوثرية والسفينتين، وحمل إليهم الأطعمة، وقواهم بالأرزاق، وصيرهم ردءا لمن خلفهم، وفرق الجواسيس في أصحاب طاهر، ودس إلى رؤساء الجند الكتب بالأطماع والترغيب، فشغبوا على طاهر، واستأمن كثير منهم إلى محمد، ومع كل عشرة أنفس منهم طبل، فارعدوا وابرقوا واجلبوا، ودنوا حتى أشرفوا على نهر صرصر، فعبى طاهر أصحابه كراديس، ثم جعل يمر على كل كردوس منهم، فيقول: لا يغرنكم كثرة من ترون، ولا يمنعكم استئمان من استأمن منهم، فإن النصر مع الصدق والثبات، والفتح مع الصبر، ورب فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ثم أمرهم بالتقدم، فتقدموا واضطربوا بالسيوف مليا ثم إن الله ضرب أكتاف أهل بغداد فولوا منهزمين، وأخلوا موضع عسكرهم، فانتهب أصحاب طاهر كل ما كان فيه من سلاح ومال وبلغ الخبر محمدا، فأمر بالعطاء فوضع، وأخرج خزائنه وذخائره، وفرق الصلات وجمع أهل الأرباض، واعترض الناس على عينه، فكان لا يرى أحدا وسيما حسن الرواء إلا خلع عليه وقوده، وكان لا يقود أحدا إلا غلفت لحيته بالغالية، وهم الذين

يسمون قواد الغالية قَالَ: وفرق في قواده المحدثين لكل رجل منهم خمسمائة درهم وقارورة غالية، ولم يعط جند القواد وأصحابهم شيئا وأتت عيون طاهر وجواسيسه طاهرا بذلك، فراسلهم وكاتبهم، ووعدهم واستمالهم، وأغرى أصاغرهم بأكابرهم، فشغبوا على محمد يوم الأربعاء لست خلون من ذي الحجة سنة ست وتسعين ومائة، فقال رجل من أبناء أهل بغداد في ذلك: قل للأمين الله في نفسه ... ما شتت الجند سوى الغالية وطاهر نفسي تقي طاهرا ... برسله والعدة الكافية أضحى زمام الملك في كفه ... مقاتلا للفئة الباغية يا ناكثا أسلمه نكثه ... عيوبه من خبثه فاشية قد جاءك الليث بشداته ... مستكلبا في أسد ضاريه فاهرب ولا مهرب من مثله ... إلا إلى النار أو الهاويه قَالَ: ولما شغب الجند، وصعب الأمر على محمد شاور قواده، فقيل له: تدارك القوم، فتلاف امرك، فان بهم قوام ملك، وهم بعد الله أزالوه عنك أيام الحسين، وهم ردوه عليك، وهم من قد عرفت نجدتهم وبأسهم. فلج في أمرهم وأمر بقتالهم، فوجه إليهم التنوخي وغيره من المستأمنة والأجناد الذين كانوا معه، فعاجل القوم القتال وراسلهم طاهر وراسلوه، فأخذ رهائنهم على بذل الطاعة له، وكتب إليهم، فأعطاهم الأمان، وبذل لهم الأموال، ثم قدم فصار إلى البستان الذي على باب الأنبار يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، فنزل البستان بقواده وأجناده وأصحابه، ونزل من لحق بطاهر من المستأمنة من قواد محمد وجنده في البستان وفي الأرباض، وألحقهم جميعا بالثمانين في الأرزاق، وأضعف للقواد وأبناء القواد الخواص، وأجرى عليهم وعلى كثير من رجالهم الأموال، ونقب أهل السجون السجون وخرجوا منها، وفتن الناس، ووثب على أهل الصلاح الدعار والشطار، فعز الفاجر، وذل المؤمن، واختل الصالح، وساءت حال الناس إلا من كان في

عسكر طاهر لتفقده أمرهم، وأخذه على أيدي سفهائهم وفساقهم، واشتد في ذلك عليهم، وغادى القتال وراوحه، حتى تواكل الفريقان، وخربت الدار. وحج بالناس في هذه السنة العباس بْن موسى بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن علي من قبل طاهر، ودعا للمأمون بالخلافة، وهو أول موسم دعي له فيه بالخلافة بمكة والمدينة.

سنه سبع وتسعين ومائه

ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففي هذه السنة لحق القاسم بْن هارون الرشيد ومنصور بن المهدي بالمأمون من العراق، فوجه المأمون القاسم الى جرجان. ذكر خبر حصار الامين ببغداد وفيها حاصر طاهر وهرثمة وزهير بْن المسيب محمد بْن هارون ببغداد. ذكر الخبر عما آل إليه أمر حصارهم في هذه السنة، وكيف كان الحصار فيها: ذكر محمد بْن يزيد التميمي وغيره أن زهير بْن المسيب الضبي نزل قصر رقة كلواذى، ونصب المجانيق والعرادات واحتفر الخنادق، وجعل يخرج في الأيام عند اشتغال الجند بحرب طاهر، فيرمي بالعرادات من أقبل وأدبر، ويعشر أموال التجار ويجبي السفن، وبلغ من الناس كل مبلغ، وبلغ أمره طاهرا وأتاه الناس فشكوا إليه ما نزل بهم من زهير بْن المسيب، وبلغ ذلك هرثمة، فأمده بالجند، وقد كاد يؤخذ، فأمسك عنه الناس، فقال الشاعر من أهل الجانب الشرقي- لم يعرف اسمه- في زهير وقتله الناس بالمجانيق: لا تقرب المنجنيق والحجرا ... فقد رأيت القتيل إذ قبرا باكر كي لا يفوته خبر ... راح قتيلا وخلف الخبرا ماذا به كان من نشاط ومن ... صحة جسم به إذا ابتكرا أراد ألا يقال كان له ... أمر فلم يدر من به امرا

يا صاحب المنجنيق ما فعلت ... كفاك، لم تبقيا ولم تذرا كان هواه سوى الذي قدرا ... هيهات لن يغلب الهوى القدرا ونزل هرثمة نهر بين، وجعل عليه حائطا وخندقا، وأعد المجانيق والعرادات، وأنزل عبيد الله بْن الوضاح الشماسية، ونزل طاهر البستان بباب الأنبار، فذكر عن الحسين الخليع أنه قَالَ: لما تولى طاهر البستان بباب الأنبار، دخل محمدا أمر عظيم من دخوله بغداد، وتفرق ما كان في يده من الأموال، وضاق ذرعا، وتحرق صدرا، فأمر ببيع كل ما في الخزائن من الأمتعة، وضرب آنية الذهب والفضة دنانير ودراهم، وحملها إليه لأصحابه وفي نفقاته، وأمر حينئذ برمي الحربية بالنفط والنيران والمجانيق والعرادات، يقتل بها المقبل والمدبر، ففي ذلك يقول عمرو بْن عبد الملك العتري الوراق: يا رماة المنجنيق ... كلكم غير شفيق ما تبالون صديقا ... كان او غير صديق ويلكم تدرون ما ... ترمون مرار الطريق رب خود ذات دل ... وهي كالغصن الوريق اخرجت من جوف دنياها ... ومن عيش أنيق لم تجد من ذاك بدا ... أبرزت يوم الحريق وذكر عن محمد بْن منصور الباوردي، قَالَ: لما اشتدت شوكة طاهر على محمد، وهزمت عساكره، وتفرق قواده كان فيمن استأمن إلى طاهر سعيد بْن مالك بْن قادم، فلحق به، فولاه ناحية البغيين والأسواق هنالك وشاطئ دجلة، وما اتصل به أمامه إلى جسور دجلة، وأمره بحفر الخنادق وبناء الحيطان في كل ما غلب عليه من الدور والدروب، وأمده بالنفقات والفعلة والسلاح، وأمر الحربية بلزومه على النوائب، ووكل بطريق دار الرقيق وباب الشام واحدا بعد واحد، وأمر بمثل الذي أمر به سعيد بْن مالك، وكثر الخراب

والهدم حتى درست محاسن بغداد، ففي ذلك يقول العتري: من ذا أصابك يا بغداد بالعين ... ألم تكوني زمانا قرة العين! ألم يكن فيك قوم كان مسكنهم ... وكان قربهم زينا من الزين صاح الغراب بهم بالبين فافترقوا ... ماذا لقيت بهم من لوعة البين! أستودع الله قوما ما ذكرتهم ... إلا تحدر ماء العين من عيني كانوا ففرقهم دهر وصدعهم ... والدهر يصدع ما بين الفريقين قَالَ: ووكل محمد عليا فراهمرد، فيمن ضم إليه من المقاتلة، بقصر صالح وقصر سليمان بْن أبي جعفر إلى قصور دجلة وما والاها، فألح في إحراق الدور والدروب وهدمها بالمجانيق والعرادات على يدي رجل كان يعرف بالسمرقندي، فكان يرمي بالمنجنيق، وفعل طاهر مثل ذلك، وأرسل إلى أهل الأرباض من طريق الأنبار وباب الكوفة وما يليها، وكلما أجابه أهل ناحية خندق عليهم، ووضع مسالحه وأعلامه، ومن أبى إجابته والدخول في طاعته ناصبه وقاتله، وأحرق منزله، فكان كذلك يغدو ويروح بقواده وفرسانه ورجالته، حتى أوحشت بغداد، وخاف الناس أن تبقى خرابا، وفي ذلك يقول الحسين الخليع: اتسرع الرجله إغذاذا ... عن جانبي بغداذ أم ماذا! ألم تر الفتنة قد ألفت ... الى اولى الفتنة شذاذا وانتقضت بغداذ عمرانها ... عن رأي لا ذاك ولا هذا هدما وحرقا قد أبيد أهلها ... عقوبة لاذت بمن لاذا ما أحسن الحالات إن لم تعد ... بغداذ في القلة بغداذا قَالَ: وسمى طاهر الأرباض التي خالفه أهلها ومدينة أبي جعفر الشرقية، وأسواق الكرخ والخلد وما والاها دار النكث، وقبض ضياع من

لم ينحز إليه من بني هاشم والقواد والموالي وغلاتهم، حيث كانت من عمله، فذلوا وانكسروا وانقادوا، وذلت الأجناد وتواكلت عن القتال، إلا باعة الطريق والعراة وأهل السجون والأوباش والرعاع والطرارين وأهل السوق وكان حاتم بْن الصقر قد أباحهم النهب، وخرج الهرش والأفارقة، فكان طاهر يقاتلهم لا يفتر عن ذلك ولا يمله، ولا ينى فيه فقال الخريمى يذكر بغداد، ويصف ما كان فيها: قالوا: ولم يلعب الزمان ببغداد ... وتعثر بها عواثرها إذ هي مثل العروس باطنها ... مشوق للفتى وظاهرها جنه خلد ودار مغبطه ... قل من النائبات واترها درت خلوف الدنيا لساكنها ... وقل معسورها وعاسرها وانفرجت بالنعيم وانتجعت ... فيها بلذاتها حواضرها فالقوم منها في روضه انف ... اشرق غب القطار زاهرها من غره العيش في بلهنية ... لو أن دنيا يدوم عامرها دار ملوك رست قواعدها ... فيها وقرت بها منابرها اهل العلا والندى وأندية الفخر ... إذا عددت مفاخرها أفراخ نعمى في إرث مملكة ... شد عراها لها أكابرها فلم يزل والزمان ذو غير ... يقدح في ملكها أصاغرها حتى تساقت كأسا مثملة ... من فتنة لا يقال عاثرها وافترقت بعد ألفة شيعا ... مقطوعه بينها اواصرها يا هل رأيت الأملاك ما صنعت ... إذ لم يرعها بالنصح زاجرها أورد أملاكنا نفوسهم ... هوة غي اعيت مصادرها

ما ضرها لو وفت بموثقها ... واستحكمت في التقى بصائرها ولم تسافك دماء شيعتها ... وتبتعث فتية تكابرها وأقنعتها الدنيا التي جمعت ... لها ورعب النفوس ضائرها ما زال حوض الاملاك يحفره ... مسجورها بالهوى وساجرها تبغى فضول الدنيا مكاثرة ... حتى أبيحت كرها ذخائرها تبيع ما جمع الأبوة ... للأبناء لا أربحت متاجرها يا هل رأيت الجنان زاهرة ... يروق عين البصير زاهرها! وهل رأيت القصور شارعة ... تكن مثل الدمى مقاصرها وهل رأيت القرى التي غرس ... الأملاك مخضرة دساكرها محفوفة بالكروم والنخل و ... الريحان ما يستغل طائرها فإنها اصبحت خلايا من ... الإنسان قد ادميت محاجرها قفرا خلاء تعوي الكلاب بها ... ينكر منها الرسوم زائرها وأصبح البؤس ما يفارقها ... إلفا لها والسرور هاجرها بزندورد والياسرية والشطين ... حيث انتهت معابرها ويا ترلحى والخيزرانية العليا ... التي أشرفت قناطرها وقصر عبدويه عبره وهدى ... لكل نفس زكت سرائرها فأين حراسها وحارسها ... وأين مجبورها وجابرها! وأين خصيانها وحشوتها ... وأين سكانها وعامرها أين الجرادية الصقالب والأحبش ... تعدو هدلا مشافرها ينصدع الجند عن مواكبها ... تعدو بها سربا ضوامرها.

بالسند والهند والصقالب و ... النوبه شيبت بها برابرها طيرا أبابيل أرسلت عبثا ... يقدم سودانها أحامرها أين الظباء الأبكار في روضة الملك ... تهادى بها غرائرها! أين غضاراتها ولذتها ... وأين محبورها وحابرها! بالمسك والعنبر اليمان و ... اليلنجوج مشبوبه مجامرها يرفلن في الخز والمجاسد و ... الموشى محطومه مزامرها فأين رقاصها وزامرها ... يجبن حيث انتهت حناجرها تكاد اسماعهم تسك إذا ... عارض عيدانها مزاهرها أمست كجوف الحمار خالية ... يسعرها بالجحيم ساعرها كأنما أصبحت بساحتهم ... عاد ومستهم صراصرها لا تعلم النفس ما يبايتها ... من حادث الدهر أو يباكرها تضحي وتمسي درية غرضا ... حيث استقرت بها شراشرها لأسهم الدهر وهو يرشقها ... محنطها مرة وباقرها يا بؤس بغداد دار مملكة ... دارت على أهلها دوائرها أمهلها الله ثم عاقبها ... لما أحاطت بها كبائرها بالخسف والقذف والحريق و ... بالحرب التي أصبحت تساورها كم قد رأينا من المعاصي ببغداد ... فهل ذو الجلال غافرها! حلت ببغداد وهي آمنة ... داهية لم تكن تحاذرها طالعها السوء من مطالعه ... وأدركت أهلها جرائرها رق بها الدين واستخف بذي ... الفضل وعز النساك فاجرها وخطم العبد أنف سيده ... بالرغم واستعبدت حرائرها.

وصار رب الجيران فاسقهم ... وابتز أمر الدروب ذاعرها من ير بغداد والجنود بها ... قد ربقت حولها عساكرها كل طحون شهباء باسلة ... تسقط أحبالها زماجرها تلقي بغي الردى أوانسها ... يرهقها للقاء طاهرها والشيخ يعدو حزما كتائبه ... يقدم اعجازها يعاورها ولزهير بالفرك مأسدة ... مرقومة صلبة مكاسرها كتائب الموت تحت ألوية ... أبرح منصورها وناصرها يعلم أن الأقدار واقعة ... وقعا على ما أحب قادرها فتلك بغداد ما يبنى من ... الذلة في دورها عصافرها محفوفة بالردى منطقة ... بالصغر محصورة جبابرها ما بين شط الفرات منه الى ... دجلة حيث انتهت معابرها بارك هادي الشقراء نافره ... تركض من حولها أشاقرها يحرقها ذا وذاك يهدمها ... ويشتفي بالنهاب شاطرها والكرخ أسواقها معطلة ... يستن عيارها وعائرها أخرجت الحرب من سواقطها ... آساد غيل غلبا تساورها من البواري تراسها ومن ... الخوص إذا استلأمت مغافرها تغدو إلى الحرب في جواشنها ... الصوف إذا ما عدت أساورها كتائب الهرش تحت رايته ... ساعد طرارها مقامرها لا الرزق تبغي ولا العطاء ولا ... يحشرها للقاء حاشرها في كل درب وكل ناحية ... خطارة يستهل خاطرها بمثل هام الرجال من فلق ... الصخر يزود المقلاع بائرها.

كأنما فوق هامها فرق ... من القطا الكدر هاج نافرها والقوم من تحتها لهم زجل ... وهي ترامي بها خواطرها بل هل رأيت السيوف مصلتة ... أشهرها في الأسواق شاهرها والخيل تستن في أزقتها ... بالترك مسنونة خناجرها والنفط والنار في طرائقها ... وهابيا للدخان عامرها والنهب تعدو به الرجال وقد ... أبدت خلاخيلها حرائرها معصوصبات وسط الأزقة قد ... أبرزها للعيون ساترها كل رقود الضحى مخبأة ... لم تبد في أهلها محاجرها بيضة خدر مكنونة برزت ... للناس منشورة غدائرها تعثر في ثوبها وتعجلها ... كبه خيل ريعت حوافرها تسأل أين الطريق والهة ... والنار من خلفها تبادرها لم تجتل الشمس حسن بهجتها ... حتى اجتلتها حرب تباشرها يا هل رأيت الثكلى مولولة ... في الطرق تسعى والجهد باهرها! في إثر نعش عليه واحدها ... في صدره طعنه يساورها فرغاء ينقى الشنار مربدها ... يهزها بالسنان شاجرها تنظر في وجهه وتهتف بالثكل ... وجارى الدموع حادرها غرغر بالنفس ثم أسلمها ... مطلولة لا يخاف ثائرها وقد رأيت الفتيان في عرصة ... المعرك معفوره مناخرها كل فتى مانع حقيقته ... تشقى به في الوغى مساعرها باتت عليه الكلاب تنهشه ... مخضوبة من دم أظافرها أما رأيت الخيول جائلة ... بالقوم منكوبة دوائرها

تعثر بالأوجه الحسان من ... القتلى وغلت دما أشاعرها يطأن أكباد فتية نجد ... يفلق هاماتهم حوافرها أما رأيت النساء تحت المجانيق ... تعادي شعثا ضفائرها عقائل القوم والعجائز و ... العنس لم تحتبر معاصرها يحملن قوتا من الطحين على ... الأكتاف معصوبه مهاجرها وذات عيش ضنك ومقعسة ... تشدخها صخرة تعاورها تسأل عن أهلها وقد سلبت ... وابتز عن راسها غفائرها يا ليت شعرى والدهر ذو دول ... يرجى وأخرى تخشى بوادرها هل ترجعن أرضنا كما غنيت ... وقد تناهت بنا مصايرها من مبلغ ذا الرياستين رسا ... لات تأتى للنصح شاعرها بأن خير الولاة قد علم ... الناس إذا عددت مآثرها خليفة الله في بريته ... المأمون منتاشها وجابرها سمت إليه آمال أمته ... منقادة برها وفاجرها شاموا حيا العدل من مخايله ... وأصحرت بالتقى بصائرها وأحمدوا منك سيرة جلت ... الشك وأخرى صحت معاذرها واستجمعت طاعة برفقك ... للمأمون نجديها وغائرها وأنت سمع في العالمين له ... ومقلة ما يكل ناظرها فاشكر لذي العرش فضل نعمته ... اوجب فضل المزيد شاكرها واحذر فداء لك الرعية و ... الأجناد مأمورها وآمرها لا تردن غمرة بنفسك لا ... يصدر عنها بالرأي صادرها عليك ضحضاحها فلا تلج الغمرة ... ملتجة زواخرها والقصد أن الطريق ذو شعب ... أشأمها وعثها وجائرها

ذكر خبر وقعه قصر صالح

أصبحت في أمة أوائلها ... قد فارقت هديها أواخرها وأنت سرسورها وسائسها ... فهل على الحق أنت قاسرها! أدب رجالا رأيت سيرتهم ... خالف حكم الكتاب سائرها وامدد إلى الناس كف مرحمة ... تسد منهم بها مفاقرها أمكنك العدل إذ هممت به ... ووافقت مده مقادرها وأبصر الناس قصد وجههم ... وملكت أمة أخايرها تشرع أعناقها إليك إذ ... السادات يوما جمت عشائرها كم عندنا من نصيحة لك في الله ... وقربى عزت زوافرها وحرمه قربت اواصرها ... منك، وأخرى هل أنت ذاكرها! سعي رجال في العلم مطلبهم ... رائحها باكر وباكرها دونك غراء كالوذيلة لا ... تفقد في بلدة سوائرها لا طمعا قلتها ولا بطرا ... لكل نفس هوى يؤامرها سيرها الله بالنصيحة و ... الخشيه فاستدمجت مرائرها جاءتك تحكي لك الأمور كما ... ينشر بز التجار ناشرها حملتها صاحبا أخا ثقة ... يظل عجبا بها يحاضرها وفي هذه السنة استأمن الموكلون بقصر صالح من قبل محمد ذكر خبر وقعه قصر صالح وفيها كانت الوقعة التي كانت على أصحاب طاهر بقصر صالح. ذكر الخبر عن هذه الوقعة: ذكر عن محمد بْن الحسين بْن مصعب، أن طاهرا لم يزل مصابرا محمدا وجنده على ما وصفت من أمره، حتى مل أهل بغداد من قتاله، وأن علي

فراهمرد الموكل بقصري صالح وسليمان بْن أبي جعفر من قبل محمد، كتب إلى طاهر يسأله الأمان، ويضمن له أن يدفع ما في يده من تلك الأموال ومن الناحية إلى الجسور وما فيها من المجانيق والعرادات إليه، وأنه قبل ذلك منه، وأجابه إلى ما سأل، ووجه إليه أبا العباس يوسف بْن يعقوب الباذغيسي صاحب شرطه فيمن ضم إليه من قواده وذوي البأس من فرسانه ليلا، فسلم إليه كل ما كان محمد وكله به من ذلك ليلة السبت للنصف من جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين ومائة واستأمن إليه محمد بْن عيسى صاحب شرطه محمد، وكان يقاتل مع الأفارقة وأهل السجون والأوباش، وكان محمد بْن عيسى غير مداهن في أمر محمد، وكان مهيبا في الحرب، فلما استأمن هذان إلى طاهر، أشفى محمد على الهلاك، ودخله من ذلك ما أقامه وأقعده حتى استسلم، وصار على باب أم جعفر يتوقع ما يكون، وأقبلت الغواة من العيارين وباعة الطرق والأجناد، فاقتتلوا داخل قصر صالح وخارجه إلى ارتفاع النهار قَالَ: فقتل في داخل القصر أبو العباس يوسف بْن يعقوب الباذغيسي ومن كان معه من القواد والرؤساء المعدودين، وقاتل فراهمرد وأصحابه خارجا من القصر حتى فل وانحاز إلى طاهر، ولم تكن وقعة قبلها ولا بعدها أشد على طاهر وأصحابه منها، ولا أكثر قتيلا وجريحا معقورا من أصحاب طاهر من تلك الوقعة، فأكثرت الشعراء فيها القول من الشعر، وذكر ما كان فيها من شدة الحرب وقال فيها الغوغاء والرعاع، وكان مما قيل في ذلك قول الخليع: أمين الله ثق بالله ... تعط الصبر والنصره كل الأمر إلى الله ... كلاك الله ذو القدره لنا النصر بعون الله ... والكرة لا الفره وللمراق أعدائك ... يوم السوء والدبره وكأس تلفظ الموت ... كريه طعمها مره

سقينا وسقيناهم ... ولكن بهم الحره كذاك الحرب أحيانا ... علينا ولنا مره فذكر عن بعض الأبناء أن طاهرا بث رسله، وكتب إلى القواد والهاشميين وغيرهم بعد أن حاز ضياعهم وغلاتهم يدعوهم إلى الأمان والدخول في خلع محمد والبيعة للمأمون، فلحق به جماعة، منهم عبد الله بْن حميد بْن قحطبة الطائي وإخوته، وولد الحسن بْن قحطبة ويحيى بْن علي بْن ماهان ومحمد بْن أبي العاص، وكاتبه قوم من القواد والهاشميين في السر، وصارت قلوبهم وأهواؤهم معه. قَالَ: ولما كانت وقعة قصر صالح أقبل محمد على اللهو والشرب، ووكل الأمر إلى محمد بْن عيسى بْن نهيك وإلى الهرش، فوضعا مما يليهما من الدروب والأبواب وكلاءهما بأبواب المدينة والأرباض وسوق الكرخ وفرض دجلة وباب المحول والكناسة، فكان لصوصها وفساقها يسلبون من قدروا عليه من الرجال والنساء والضعفاء من اهل الملة والذمة، فكان منهم في ذلك ما لم يبلغنا أن مثله كان في شيء من سائر بلاد الحروب. قَالَ: ولما طال ذلك بالناس، وضاقت بغداد بأهلها، خرج عنها من كانت به قوة بعد الغرم الفادح والمضايقة الموجعة والخطر العظيم، فأخذ طاهر أصحابه بخلاف ذلك، واشتد فيه، وغلظ على اهل الريب وامر محمد ابن أبي خالد بحفظ الضعفاء والنساء وتجويزهم وتسهيل أمرهم، فكان الرجل والمرأة إذا تخلص من أيدي أصحاب الهرش، وصار إلى أصحاب طاهر ذهب عنه الروع وأمن، وأظهرت المرأة ما معها من ذهب وفضة أو متاع أو بز، حتى قيل: إن مثل أصحاب طاهر ومثل أصحاب الهرش وذويه ومثل الناس إذا تخلصوا، مثل السور الذي قَالَ الله تعالى ذكره: «فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ» فلما طال على الناس ما بلوا به ساءت حالهم، وضاقوا به ذرعا، وفي ذلك يقول بعض فتيان بغداد:

بكيت دما على بغداد لما ... فقدت غضارة العيش الأنيق تبدلنا هموما من سرور ... ومن سعة تبدلنا بضيق أصابتها من الحساد عين ... فافنت أهلها بالمنجيق فقوم أحرقوا بالنار قسرا ... ونائحة تنوح على غريق وصائحه تنادى وا صباحا ... وباكية لفقدان الشفيق وحوراء المدامع ذات دل ... مضمخة المجاسد بالخلوق تفر من الحريق إلى انتهاب ... ووالدها يفر إلى الحريق وسالبة الغزالة مقلتيها ... مضاحكها كلالاة البروق حيارى كالهدايا مفكرات ... عليهن القلائد في الحلوق ينادين الشفيق ولا شفيق ... وقد فقد الشقيق من الشقيق وقوم أخرجوا من ظل دنيا ... متاعهم يباع بكل سوق ومغترب قريب الدار ملقى ... بلا رأس بقارعة الطريق توسط من قتالهم جميعا ... فما يدرون من أي الفريق فلا ولد يقيم على أبيه ... وقد هرب الصديق بلا صديق ومهما أنس من شيء تولى ... فإني ذاكر دار الرقيق وذكر أن قائدا من قواد أهل خراسان ممن كان مع طاهر من أهل النجدة والبأس، خرج يوما إلى القتال، فنظر إلى قوم عراة، لا سلاح معهم، فقال لأصحابه: ما يقاتلنا إلا من أرى، استهانة بأمرهم واحتقارا لهم، فقيل له: نعم هؤلاء الذين ترى هم الآفة، فقال: أف لكم حين تنكصون عن هؤلاء وتخيمون عنهم، وأنتم في السلاح الظاهر، والعده والقوه، ولكم ما لكم من

ذكر خبر منع طاهر الملاحين من ادخال شيء إلى بغداد

الشجاعة والنجدة! وما عسى أن يبلغ كيد من أرى من هؤلاء ولا سلاح معهم ولا عدة لهم ولا جنة تقيهم! فأوتر قوسه وتقدم، وابصره بعضهم فقصد نحوه وفي يده بارية مقيرة، وتحت إبطه مخلاة فيها حجارة، فجعل الخراساني كلما رمى بسهم استتر منه العيار، فوقع في باريته أو قريبا منه، فيأخذه فيجعله في موضع من باريته، قد هيأه لذلك، وجعله شبيها بالجعبة وجعل كلما وقع سهم أخذه، وصاح: دانق، أي ثمن النشابة دانق قد أحرزه، ولم يزل تلك حالة الخراساني وحال العيار حتى أنفذ الخراساني سهامه، ثم حمل على العيار ليضربه بسيفه، فأخرج من مخلاته حجرا، فجعله في مقلاع ورماه فما أخطأ به عينه، ثم ثناه بآخر، فكاد يصرعه عن فرسه لولا تحاميه، وكر راجعا وهو يقول: ليس هؤلاء بإنس، قَالَ: فحدثت أن طاهرا حدث بحديثه فاستضحك وأعفى الخراساني من الخروج إلى الحرب، فقال بعض شعراء بغداد في ذلك: خرجت هذه الحروب رجالا ... لا لقحطانها ولا لنزار معشرا في جواشن الصوف يغدون ... إلى الحرب كالأسود الضواري وعليهم مغافر الخوص تجزيهم ... عن البيض، والتراس البواري ليس يدرون ما الفرار إذا الأبطال ... عاذوا من القنا بالفرار واحد منهم يشد على الفين ... عريان ماله من إزار ويقول الفتى إذا طعن الطعنة ... : خذها من الفتى العيار كم شريف قد أخملته وكم قد ... رفعت من مقامر طرار ذكر خبر منع طاهر الملاحين من ادخال شيء الى بغداد قال محمد بن جرير: وفي هذه السنه منع طاهر الملاحين وغيرهم من ادخال شيء الى بغداد الا الى من كان من عسكره منهم، ووضع الرصيد عليهم بسبب ذلك.

ذكر الخبر عما كان منه ومن اصحاب محمد المخلوع في ذلك

ذكر الخبر عما كان منه ومن أصحاب محمد المخلوع في ذلك وعن السبب الذي من أجله فعل ذلك طاهر: أما السبب في ذلك فإنه- فيما ذكر- كان أن طاهرا لما قتل من قتل في قصر صالح من أصحابه، ونالهم فيه من الجراح ما نالهم، مضه ذلك وشق عليه، لأنه لم يكن له وقعة إلا كانت له لا عليه، فلما شق عليه أمر بالهدم والإحراق عند ذلك، فهدم دور من خالفه ما بين دجلة ودار الرقيق وباب الشام وباب الكوفه، الى الصراة وارجاء أبي جعفر وربض حميد ونهر كرخايا والكناسة، وجعل يبايت أصحاب محمد ويدالجهم، ويحوي في كل يوم ناحية، ويخندق عليها المراصد من المقاتلة، وجعل أصحاب محمد ينقصون، ويزيدون، حتى لقد كان اصحاب طاهر يهدمون الدار وينصرفون، فيقلع أبوابها وسقوفها أصحاب محمد، ويكونون أضر على أصحابهم من أصحاب طاهر تعديا، فقال شاعر منهم- وذكر أنه عمرو بْن عبد الملك الوراق العتري- في ذلك: لنا كل يوم ثلمة لا نسدها ... يزيدون فيما يطلبون وننقص إذا هدموا دارا أخذنا سقوفها ... ونحن لأخرى غيرها نتربص وإن حرصوا يوما على الشر جهدهم ... فغوغاؤنا منهم على الشر أحرص فقد ضيقوا من أرضنا كل واسع ... وصار لهم اهل بها، وتعرصوا يثيرون بالطبل القنيص فإن بدا ... لهم وجه صيد من قريب تقنصوا لقد أفسدوا شرق البلاد وغربها ... علينا فما ندري إلى أين نشخص! إذا حضروا قالوا بما يعرفونه ... وان يروا شيئا قبيحا تخرصوا وما قتل الأبطال مثل مجرب ... رسول المنايا ليلة يتلصص ترى البطل المشهور في كل بلدة ... إذا ما رأى العريان يوما يبصبص

إذا ما رآه الشمري مقزلا ... على عقبيه للمخافة ينكص يبيعك رأسا للصبي بدرهم ... فإن قَالَ إني مرخص فهو مرخص فكم قاتل منا لآخر منهم ... بمقتله عنه الذنوب تمحص تراه إذا نادى الأمان مبارزا ... ويغمزنا طورا وطورا يخصص وقد رخصت قراؤنا في قتالهم ... وما قتل المقتول إلا المرخص وقال أيضا في ذلك: الناس في الهدم وفي الانتقال ... قد عرض الناس بقيل وقال يايها السائل عن شأنهم ... عينك تكفيك مكان السؤال قد كان للرحمن تكبيرهم ... فاليوم تكبيرهم للقتال اطرح بعينيك إلى جمعهم ... وانتظر الروح وعد الليال لم يبق في بغداد إلا امرؤ ... حالفه الفقر كثير العيال لا أم تحمي عن حماها ولا ... خال له يحمي ولا غير خال ليس له مال سوى مطرد ... مطرده في كفه رأس مال هان على الله فأجرى على ... كفيه للشقوة قتل الرجال إن صار ذا الأمر إلى واحد ... صار إلى القتل على كل حال ما بالنا نقتل من أجلهم ... سبحانك اللهم يا ذا الحلال! وقال أيضا: ولست بتارك بغداد يوما ... ترحل من ترحل أو أقاما إذا ما العيش ساعدنا فلسنا ... نبالي بعد من كان الإماما قَالَ عمرو بْن عبد الملك العتري: لما رأى طاهر أنهم لا يحفلون بالقتل والهدم والحرق امر عند ذلك بمنع التجار ان يجوزوا بشيء من الدقيق وغيره من

ذكر خبر وقعه الكناسة

المنافع من ناحيته إلى مدينة أبي جعفر والشرقية والكرخ، وأمر بصرف سفن البصرة وواسط بطرنايا إلى الفرات، ومنه إلى المحول الكبير وإلى الصراة، ومنها إلى خندق باب الأنبار، بما كان زهير بْن المسيب يبذرقه إلى بغداد، وأخذ من كل سفينة فيها حمولة ما بين الألف درهم إلى الألفين والثلاثة، وأكثر وأقل، وفعل عمال طاهر وأصحابه ببغداد في جميع طرقها مثل ذلك وأشد، فغلت الأسعار، وصار الناس في أشد الحصار، فيئسوا او كثير منهم من الفرج والروح، واغتبط من كان خرج منها، وأسف على مقامه من أقام. وفي هذه السنة استأمن ابن عائشة إلى طاهر، وكان قد قاتل مع محمد حينا بالياسريه . ذكر خبر وقعه الكناسة وفيها جعل طاهر قوادا من قواده بنواحي بغداد، فجعل العلاء بْن الوضاح الأزدي في اصحابه ومن ضم اليه بالوضاحيه على المحول الكبير، وجعل نعيم بْن الوضاح أخاه فيمن كان معه من الأتراك وغيرهم مما يلي ربض أبي أيوب على شاطئ الصراة، ثم غادى القتال وراوح أشهرا، وصبر الفريقان جميعا، فكانت لهم فيها وقعة بالكناسة، باشرها طاهر بنفسه، قتل فيها بشر كثير من أصحاب محمد، فقال عمرو بْن عبد الملك: وقعة يوم الأحد ... صارت حديث الأبد كم جسد أبصرته ... ملقى وكم من جسد وناظر كانت له ... منيه بالرصد أتاه سهم عائر ... فشك جوف الكبد وصائح يا والدي ... وصائح يا ولدي!

وكم غريق سابح ... كان متين الجلد! لم يفتقده أحد ... غير بنات البلد وكم فقيد بئس ... عز على المفتقد كان من النظارة ... الأولى شديد الحرد لو أنه عاين ما ... عاينه لم يعد لم يبق من كهل لهم ... فات ولا من أمرد وطاهر ملتهم ... مثل التهام الأسد خيم لا يبرح في ... العرصة مثل اللبد تقذف عيناه لدى ... الحرب بنار الوقد فقائل قد قتلوا ... ألفا ولما يزد وقائل أكثر بل ... ما لهم من عدد وهارب نحوهم ... يرهب من خوف غد هيهات لا تبصر ممن ... قد مضى من احد لا يرجع الماضى الى ... الباقى طوال الأبد قلت لمطعون وفيه ... روحه لم تبد من أنت يا ويلك يا ... مسكين من محمد فقال لا من نسب ... دان ولا من بلد لم أره قط ولم ... أجد له من صفد وقال لا للغي ... قاتلت ولا للرشد إلا لشيء عاجل ... يصير منه في يدي

ذكر خبر وقعه درب الحجاره

وذكر عن عمرو بْن عبد الملك أن محمدا أمر زريحا غلامه بتتبع الأموال وطلبها عند أهل الودائع وغيرهم، وأمر الهرش بطاعته، فكان يهجم على الناس في منازلهم، ويبيتهم ليلا، ويأخذ بالظنة، فجبى بذلك السبب أموالا كثيرة، وأهلك خلقا، فهرب الناس بعلة الحج، وفر الأغنياء، فقال القراطيسي في ذلك: أظهروا الحج وما ينوونه ... بل من الهرش يريدون الهرب كم أناس أصبحوا في غبطة ... وكل الهرش عليهم بالعطب كل من راد زريح بيته ... لقى الذل ووافاه الحرب ذكر خبر وقعه درب الحجاره وفيها كانت وقعة درب الحجارة. ذكر الخبر عنها: ذكر أن هذه الوقعة كانت بحضرة درب الحجارة، وكانت لأصحاب محمد على أصحاب طاهر، قتل فيها خلق كثير، فقال في ذلك عمرو بْن عبد الملك العتري: وقعة السبت يوم درب الحجارة ... قطعت قطعة من النظاره ذاك من بعد ما تفانوا ولكن ... أهلكتهم غوغاؤنا بالحجارة قدم الشورجين للقتل عمدا ... قَالَ إني لكم أريد الإماره فتلقاه كل لص مريب ... عمر السجن دهره بالشطاره ما عليه شيء يواريه منه ... أيره قائم كمثل المنارة فتولوا عنهم وكانوا قديما ... يحسنون الضراب في كل غاره

ذكر خبر وقعه باب الشماسيه

هؤلا مثل هؤلاك لدينا ... ليس يرعون حق جار وجاره كل من كان خاملا صار رأسا ... من نعيم في عيشه وغضاره حامل في يمينه كل يوم ... مطردا فوق رأسه طياره أخرجته من بيتها أم سوء ... طلب النهب أمه العياره يشتم الناس ما يبالي ... بإفصاح لذي الشتم لا يشير إشاره ليس هذا زمان حر كريم ... ذا زمان الأنذال أهل الزعاره كان فيما مضى القتال قتالا ... فهو اليوم يا علي تجاره وقال أيضا: بارية قيرت ظاهرها ... محمد فيها ومنصور العز والأمن أحاديثهم ... وقولهم قد أخذ السور وأي نفع لك في سورهم ... وأنت مقتول وما سور؟ قد قتلت فرسانكم عنوة ... وهدمت من دوركم دور هاتوا لكم من قائد واحد ... مهذب في وجهه نور يأيها السائل عن شأننا ... محمد في القصر محصور. ذكر خبر وقعه باب الشماسيه وفيها أيضا كانت وقعة بباب الشماسية، أسر فيها هرثمة. ذكر الخبر عن سبب ذلك وكيف كان وإلى ما آل الأمر فيه: ذكر عن علي بْن يزيد أنه قَالَ: كان ينزل هرثمة نهر بين، وعليه حائط وخندق، وقد أعد المجانيق والعرادات، وأنزل عبيد الله بْن الوضاح الشماسية، وكان يخرج أحيانا، فيقف بباب خراسان مشفقا من اهل

العسكر، كارها للحرب، فيدعو الناس إلى ما هو عليه فيشتمه، ويستخف به فيقف ساعة ثم ينصرف وكان حاتم بْن الصقر من قواد محمد، وكان قد واعد اصحابه الغزاة والعيارين ان يوافوا عبيد الله بْن الوضاح ليلا، فمضوا إلى عبيد الله مفاجأة وهو لا يعلم، فأوقعوا به وقعة أزالوه عن موضعه، وولى منهزما، فأصابوا له خيلا وسلاحا ومتاعا كثيرا، وغلب على الشماسيه حاتم ابن الصقر وبلغ الخبر هرثمة، فأقبل في أصحابه لنصرته، وليرد العسكر عنه إلى موضعه، فوافاه أصحاب محمد، ونشب الحرب بينهم، وأسر رجل من الغزاة هرثمة ولم يعرفه، فحمل بعض أصحاب هرثمة على الرجل، فقطع يده وخلصه، فمر منهزما، وبلغ خبره أهل عسكره، فتقوض بما فيه، وخرج أهله هاربين على وجوههم نحو حلوان، وحجز أصحاب محمد الليل عن الطلب، وما كانوا فيه من النهب والأسر فحدثت أن عسكر هرثمة لم يتراجع أهله يومين، وقويت الغزاة بما سار في أيديهم. وقيل في تلك الوقعة أشعار كثيرة، فمن ذلك قول عمرو الوراق: عريان ليس بذي قميص ... يغدو على طلب القميص يعدو على ذي جوشن ... يعمي العيون من البصيص في كفه طرادة ... حمراء تلمع كالفصوص حرصا على طلب القتال ... أشد من حرص الحريص سلس القياد كأنما ... يغدو على أكل الخبيص ليثا مغيرا لم يزل ... رأسا يعد من اللصوص أجرى وأثبت مقدما ... في الحرب من أسد رهيص يدنو على سنن الهوان ... وعيصه من شر عيص ينجو إذا كان النجاء ... على أخف من القلوص ما للكمي إذا لمقتله ... تعرض من محيص

كم من شجاع فارس ... قد باع بالثمن الرخيص يدعو: ألا من يشتري ... رأس الكمي بكف شيص! وقال بعض أصحاب هرثمة: يفنى الزمان وما يفنى قتالهم ... والدور تهدم والأموال تنتقص والناس لا يستطيعون الذي طلبوا ... لا يدفعون الردى عنهم وإن حرصوا يأتوننا بحديث لا ضياء له ... في كل يوم لأولاد الزنا قصص قَالَ: ولما بلغ طاهرا ما صنع الغزاة وحاتم بْن الصقر بعبيد الله بْن الوضاح وهرثمة اشتد ذلك عليه، وبلغ منه، وأمر بعقد جسر على دجلة فوق الشماسية، ووجه أصحابه وعبأهم، وخرج معهم إلى الجسر، فعبروا إليهم وقاتلوهم أشد القتال، وأمدهم بأصحابه ساعة بعد ساعة حتى ردوا أصحاب محمد، وأزالوهم عن الشماسية، ورد المهاجر عبيد الله بْن الوضاح وهرثمة. قَالَ: وكان محمد أعطى بنقض قصوره ومجالسه الخيزرانيه بعد ظفر الغزاة ألفي ألف درهم، فحرقها أصحاب طاهر كلها، وكانت السقوف مذهبه، وقتلوا من الغزاة والمنتهبين بشرا كثيرا، وفي ذلك يقول عمرو الوراق: ثقلان وطاهر بْن الحسين ... صبحونا صبيحة الاثنين جمعوا جمعهم بليل ونادوا ... اطلبوا اليوم ثأركم بالحسين ضربوا طبلهم فثار إليهم ... كل صلب القناة والساعدين يا قتيلا بالقاع ملقى على الشط ... هواه بطييء الجبلين ما الذي في يديك أنت إذا ما ... اصطلح الناس أنت بالخلتين أوزير أم قائد، بل بعيد ... أنت من ذين موضع الفرقدين كم بصير غدا بعينين كي ... يبصر ما حالهم فعاد بعين ليس يخطون ما يريدون ما ... يعمد راميهم سوى الناظرين

سائلي عنهم هم شر من ... أبصرت في الناس ليس غير كذين شر باق وشر ماض من الناس ... مضى أو رأيت في الثقلين قَالَ: وبلغ ذلك من فعل طاهر محمدا، فاشتد عليه وغمه واحزنه، فذكر كاتب لكوثر أن محمدا قَالَ- أو قيل على لسانه هذه الأبيات: منيت بأشجع الثقلين قلبا ... إذا ما طال ليس كما يطول له مع كل ذي بدن رقيب ... يشاهده ويعلم ما يقول فليس بمغفل أمرا عنادا ... إذا ما الأمر ضيعه الغفول وفي هذه السنة ضعف أمر محمد، وأيقن بالهلاك، وهرب عبد الله بْن خازم بْن خزيمة من بغداد إلى المدائن، فذكر عن الحسين بْن الضحاك أن عبد الله بْن خازم بْن خزيمة ظهرت له التهمة من محمد والتحامل عليه من السفلة والغوغاء، فهم على نفسه وماله، فلحق بالمدائن ليلا في السفن بعياله وولده، فأقام بها ولم يحضر شيئا من القتال. وذكر غيره أن طاهرا كاتبه وحذره قبض ضياعه واستئصاله، فحذره ونجا من تلك الفتنة وسلم، فقال بعض قرائبه في ذلك: وما جبن ابن خازم من رعاع ... وأوباش الطغام من الأنام ولكن خاف صولة ضيغمي ... هصور الشد مشهور العرام فذاع أمره في الناس، ومشى تجار الكرخ بعضهم إلى بعض، فقالوا: ينبغي لنا أن نكشف أمرنا لطاهر ونظهر له براءتنا من المعونة عليه، فاجتمعوا وكتبوا كتابا أعلموه فيه أنهم أهل السمع والطاعة والحب له، لما يبلغهم من إيثاره طاعة الله والعمل بالحق، والأخذ على يد المريب، وأنهم غير مستحلي النظر إلى الحرب، فضلا عن القتال، وأن الذي يكون حزبه من جانبهم ليس منهم، قد ضاقت بهم طرق المسلمين، حتى ان الرجال الذين بلوا من حربه من جانبهم ليس منهم، ولا لهم بالكرخ دور ولا عقار، وإنما هم

بين طرار وسواط ونطاف، وأهل السجون وإنما مأواهم الحمامات والمساجد، والتجار منهم إنما هم باعه الطريق يتجرون في محقرات البيوع، قد ضاقت بهم طرق المسلمين، حتى إن الرجل ليستقبل المرأة في زحمه الناس فيلتثان قبل التخلص، وحتى أن الشيخ ليسقط لوجهه ضعفا، وحتى أن الحامل الكيس في حجزته وكفه ليطر منه، وما لنا بهم يدان ولا طاقة، ولا نملك لأنفسنا معهم شيئا، وأن بعضنا يرفع الحجر عن الطريق لما جاء فيه من الحديث عن النبي ص، فكيف لو اقتدرنا على من في إقامته عن الطريق، وتخليده السجن، وتنفيته عن البلاد وحسم الشر والشغب ونفى الزعارة والطر والسرق، وصلاح الدين والدنيا، وحاش لله أن يحاربك منا أحد! فذكر أنهم كتبوا بهذا قصه، واتعد قوم على الانسلال إليه بها، فقال لهم أهل الرأي منهم والحزم: لا تظنوا أن طاهرا غبي عن هذا أو قصر عن إذكاء العيون فيكم وعليكم، حتى كأنه شاهدكم، والرأي ألا تشهروا أنفسكم بهذا، فإنا لا نأمن إن رآكم أحد من السفلة أن يكون به هلاككم وذهاب أموالكم، والخوف من تعرضكم لهؤلاء السفلة أعظم من طلبكم براءة الساحة عند طاهر خوفا، بل لو كنتم من أهل الآثام والذنوب لكنتم إلى صفحه وتغمده وعفوه أقرب، فتوكلوا على الله تبارك وتعالى وأمسكوا فأجابوهم وأمسكوا وقال ابن أبي طالب المكفوف: دعوا أهل الطريق فعن قليل ... تنالهم مخاليب الهصور فتهتك حجب أفئدة شداد ... وشيكا ما تصير إلى القبور فإن الله مهلكهم جميعا ... بأسباب التمني والفجور وذكر أن الهرش خرج ومعه الغوغاء والغزاة ولفيفهم حتى صار إلى جزيرة

العباس، وخرجت عصابة من أصحاب طاهر، فاقتتلوا قتالا شديدا، وكانت ناحية لم يقاتل فيها، فصار ذلك على الوجه بعد ذلك اليوم موضعا للقتال، حتى كان الفتح منه، وكان أول يوم قاتلوا فيه استعلى أصحاب محمد على أصحاب طاهر حتى بلغوا بهم دار ابى يزيد الشروى وخاف أهل الأرباض في تلك النواحي مما يلي طريق باب الأنبار، فذكر أن طاهرا لما رأى ذلك وجه إليهم قائدا من أصحابه، وكان مشتغلا بوجوه كثيرة يقاتل منها اصحاب محمد، فاوقع بهم فيها وقعة صعبة، وغرق في الصراة بشر كثير، وقتل آخرون، فقال في هزيمة طاهر في أول يوم عمرو الوراق: نادى منادي طاهر عندنا ... يا قوم كفوا واجلسوا في البيوت فسوف يأتيكم غد فاحذروا ... ليثا هريت الشدق فيه عيوت فثارت الغوغاء في وجهه ... بعد انتصاف الليل قبل القنوت في يوم سبت تركوا جمعه ... في ظلمة الليل سمودا خفوت وقال في الوقعة التي كانت على أصحاب محمد: كم قتيل قد رأينا ... ما سألناه لايش دارعا يلقاه عريان ... بجهل وبطيش إن تلقاه برمح ... يتلقاه بفيش حبشيا يقتل الناس ... على قطعة خيش مرتدٍ بالشمس راض ... بالمنى من كل عيش يحمل الحملة لا يقتل ... إلا رأس جيش كعلي أفراهمرد ... أو علاء أو قريش احذر الرمية يا ... طاهر من كف الحبيشي

وقال أيضا عمرو الوراق في ذلك: ذهبت بهجة بغداد ... وكانت ذات بهجه فلها في كل يوم ... رجة من بعد رجه ضجت الأرض إلى الله ... من المنكر ضجه أيها المقتول ما أنت ... على دين المحجه ليت شعري ما الذي نلت ... وقد أدلجت دلجه أإلى الفردوس وجهت ... أم النار توجه حجر أرداك أم ... أرديت قسرا بالأزجه إن تكن قاتلت برا ... فعلينا ألف حجه وذكر عن علي بْن يزيد أن بعض الخدم حدثه أن محمدا أمر ببيع ما بقي في الخزائن التي كانت أنهبت، فكتم ولاتها ما فيها لتسرق، فتضايق على محمد أمره، وفقد ما كان عنده، وطلب الناس الأرزاق، فقال يوما وقد ضجر مما يرد عليه: وددت أن الله عز وجل قتل الفريقين جميعا، وأراح الناس منهم، فما منهم إلا عدو ممن معنا وممن علينا، أما هؤلاء فيريدون مالي، وأما أولئك فيريدون نفسي وذكرت أبياتا قيل إنه قالها: تفرقوا ودعوني ... يا معشر الأعوان فكلكم ذو وجوه ... كخلقة الإنسان وما أرى غير إفك ... وترهات الأماني ولست أملك شيئا ... فسائلوا خزاني فالويل لي ما دهاني ... من ساكن البستان

قَالَ: وضعف أمر محمد، وانتشر جنده وارتاع في عسكره، وأحس من طاهر بالعلو عليه وبالظفر به. وحج بالناس في هذه السنة العباس بْن موسى بْن عيسى بتوجيه طاهر إياه على الموسم بأمر المأمون بذلك وكان على مكة في هذه السنة داود بْن عيسى.

سنه ثمان وتسعين ومائه

ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر خبر استيلاء طاهر على بغداد فمن ذلك ما كان من خلاف خزيمة بْن خازم محمد بْن هارون ومفارقته إياه واستئمانه إلى طاهر بْن الحسين ودخول هرثمة الجانب الشرقي. ذكر الخبر عن سبب فراقه إياه وكيف كان الأمر في مصيره والدخول في طاعة طاهر: ذكر أن السبب في ذلك كان أن طاهرا كتب إلى خزيمة يذكر له أن الأمر إن يقطع بينه وبين محمد ولم يكن له اثر في نصرته، لم يقصر في أمره. فلما وصل كتابه إليه شاور ثقات أصحابه وأهل بيته، فقالوا له: نرى والله أن هذا الرجل أخذ بقفا صاحبنا، فاحتل لنفسك ولنا، فكتب إلى طاهر بطاعته، وأخبره أنه لو كان هو النازل في الجانب الشرقي مكان هرثمة لكان يحمل نفسه له على كل هول، وأعلمه قلة ثقته بهرثمة، ويناشده ألا يحمله على مكروه من أمره إلا أن يضمن له القيام دونه، وإدخال هرثمة إليه ليقطع الجسور، ويتبع هو أمرا يؤثر رأيه ورضاه، وأنه إن لم يضمن له ذلك، فليس يسعه تعريضه للسفله والغوغاء والرعاع والتلف فكتب طاهر إلى هرثمة يلومه ويعجزه، ويقول: جمعت الأجناد، وأتلفت الأموال، وأقطعتها دون أمير المؤمنين ودوني، وفي مثل حاجتي إلى الكلف والنفقات، وقد وقفت على قوم هينة شوكتهم، يسير أمرهم، وقوف المحجم الهائب، إن في ذلك جرما، فاستعد للدخول، فقد أحكمت الأمر على دفع العسكر وقطع الجسور،

وأرجو ألا يختلف عليك في ذلك اثنان إن شاء الله. قَالَ: وكتب إليه هرثمة: أنا عارف ببركة رأيك، ويمن مشورتك، فمر بما أحببت، فلن أخالفك، قَالَ: فكتب طاهر بذلك إلى خزيمة. وقد ذكر أن طاهرا لما كاتب خزيمة كتب أيضا إلى محمد بْن علي بْن عيسى بْن ماهان بمثل ذلك قيل: فلما كانت ليلة الأربعاء لثمان بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة وثب خزيمة بْن خازم ومحمد بْن علي بْن عيسى على جسر دجلة فقطعاه، وركزا أعلامهما عليه، وخلعا محمدا، ودعوا لعبد الله المأمون، وسكن أهل عسكر المهدي ولزموا منازلهم وأسواقهم في يومهم ذلك، ولم يدخل هرثمة حتى مضى إليه نفر يسير غيرهما من القواد، فحلفوا له أنه لا يرى منهم مكروها، فقبل ذلك منهم، فقال حسين الخليع في قطع خزيمة الجسر: علينا جميعا من خزيمة منة ... بها أخمد الرحمن ثائرة الحرب تولى أمور المسلمين بنفسه ... فذب وحامى عنهم أشرف الذب ولولا أبو العباس ما انفك دهرنا ... يبيت على عتب ويغدو على عتب خزيمة لم ينكر له مثل هذه ... إذا اضطربت شرق البلاد مع الغرب أناخ بجسري دجلة القطع والقنا ... شوارع والأرواح في راحة العضب وأم المنايا بالمنايا مخيلة ... تفجع عن خطب، وتضحك عن خطب فكانت كنار ماكرتها سحابة ... فأطفأت اللهب الملفف باللهب وما قتل نفس في نفوس كثيرة ... إذا صارت الدنيا إلى الأمن والخصب بلاء أبي العباس غير مكفر ... إذا فزع الكرب المقيم إلى الكرب فذكر عن يحيى بْن سلمة الكاتب أن طاهرا غدا يوم الخميس على المدينة الشرقية وأرباضها، والكرخ وأسواقها، وهدم قنطرتي الصراة العتيقة والحديثه

واشتد عندهما القتال، واشتد طاهر على أصحابه، وباشر القتال بنفسه، وقاتل من كان معه بدار الرقيق فهزمهم حتى ألحقهم بالكرخ، وقاتل طاهر بباب الكرخ وقصر الوضاح، فهزمهم أصحاب محمد وردوا على وجوههم، ومر طاهر لا يلوي على أحد حتى دخل قسرا بالسيف وأمر مناديه فنادى بالأمان لمن لزم منزله، ووضع بقصر الوضاح وسوق الكرخ والأطراف قوادا وجندا في كل موضع على قدر حاجته منهم، وقصد إلى مدينة أبي جعفر، فأحاط بها وبقصر زبيدة وقصر الخلد من لدن باب الجسر إلى باب خراسان وباب الشام وباب الكوفة وباب البصرة وشاطئ الصراة إلى مصبها في دجلة بالخيول والعدة والسلاح، وثبت على قتال طاهر حاتم بْن الصقر والهرش والأفارقة، فنصب المجانيق خلف السور على المدينة وبإزاء قصر زبيدة وقصر الخلد ورمى، وخرج محمد بأمه وولده إلى مدينة أبي جعفر، وتفرق عنه عامة جنده وخصيانه وجواريه في السكك والطرق، لا يلوي منهم أحد على أحد، وتفرق الغوغاء والسفلة، وفي ذلك يقول عمرو الوراق: يا طاهر الظهر الذي ... مثاله لم يوجد يا سيد بن السيد ... بن السيد بن السيد رجعت إلى أعمالها ... الأولى غزاة محمد من بين نطاف وسواط ... وبين مقرد ومجرد يأوي إلى ... عيارة ومجرد ومقيد نقب السجون ... فعاد غير مقيد ومسود بالنهب ساد ... وكان غير مسود ذلوا لعزك واستكانوا ... بعد طول تمرد وذكر عن علي بْن يزيد، أنه قَالَ: كنت يوما عند عمرو الوراق أنا وجماعة، فجاء رجل، فحدثنا بوقعة طاهر بباب الكرخ وانهزام الناس عنه،

فقال عمرو: ناولني قدحا، وقال في ذلك: خذها فللخمرة أسماء ... لها دواء ولها داء يصلحها الماء إذا صفقت ... يوما وقد يفسدها الماء وقائل كانت لهم وقعة ... في يومنا هذا وأشياء قلت له: أنت امرؤ جاهل ... فيك عن الخيرات إبطاء اشرب ودعنا من أحاديثهم ... يصطلح الناس إذا شاءوا قَالَ: ودخل علينا آخر، فقال: قاتل فلان الغزاة، وأقدم فلان، وانتهب فلان قَالَ: فقال أيضا: أي دهر نحن فيه ... مات فيه الكبراء هذه السفلة والغوغاء ... فينا أمناء ما لنا شيء من الأشياء ... إلا ما يشاء ضجت الأرض وقد ضجت ... إلى الله السماء رفع الدين وقد هانت ... على الله الدماء يا أبا موسى لك الخيرات ... قد حان اللقاء هاكها صرفا عقارا ... قد أتاك الندماء وقال أيضا عمرو الوراق في ذلك: إذا ما شئت أن تغضب ... جنديا وتستأمر فقل: يا معشر الأجناد ... قد جاءكم طاهر قَالَ وتحصن محمد بالمدينة هو ومن يقاتل معه، وحصره طاهر وأخذ عليه الأبواب، ومنع منه ومن أهل المدينة الدقيق والماء وغيرهما

فذكر عن الحسين بْن أبي سعيد أن طارقا الخادم- وكان من خاصة محمد، وكان المأمون بعد مقدمه أخبره أن محمدا سأله يوما من الأيام وهو محصور، أو قَالَ في آخر يوم من أيامه، أن يطعمه شيئا- قَالَ: فدخلت المطبخ فلم أجد شيئا، فجئت الى جمره العطارة- وكانت جارية الجوهر- فقلت لها: إن أمير المؤمنين جائع، فهل عندك شيء، فإني لم أجد في المطبخ شيئا؟ فقالت لجارية لها يقال لها بنان: أي شيء عندك؟ فجاءت بدجاجة ورغيف، فأتيته بهما فأكل، وطلب ماء يشربه فلم يوجد في خزانة الشراب، فأمسى وقد كان عزم على لقاء هرثمة، فما شرب ماء حتى أتى عليه. وذكر عن محمد بْن راشد أن إبراهيم بْن المهدي أخبره أنه كان نازلا مع محمد المخلوع في مدينة المنصور في قصره بباب الذهب، لما حصره طاهر. قَالَ: فخرج ذات ليلة من القصر يريد أن يتفرج من الضيق الذي هو فيه، فصار إلى قصر القرار- في قرن الصراة، أسفل من قصر الخلد- في جوف الليل، ثم أرسل إلي فصرت إليه، فقال: يا إبراهيم، أما ترى طيب هذه الليلة، وحسن القمر في السماء، وضوءه في الماء! ونحن حينئذ في شاطئ دجلة، فهل لك في الشرب! فقلت: شأنك، جعلني الله فداك! فدعا برطل نبيذ فشربه، ثم أمر فسقيت مثله قَالَ: فابتدأت أغنيه من غير أن يسألني، لعلمي بسوء خلقه، فغنيت ما كنت أعلم أنه يحبه، فقال لي: ما تقول فيمن يضرب عليك؟ فقلت: ما أحوجني إلى ذلك، فدعا بجارية متقدمة عنده يقال لها ضعف، فتطيرت من اسمها، ونحن في تلك الحال التي هو عليها، فلما صارت بين يديه، قَالَ: تغني، فغنت بشعر النابغة الجعدى: كليب لعمري كان أكثر ناصرا ... وأيسر ذنبا منك ضرج بالدم قَالَ: فاشتد ما غنت به عليه، وتطاير منه، وقال لها: غني غير هذا، فتغنت:

أبكى فراقهم عيني وأرقها ... إن التفرق للأحباب بكاء ما زال يعدو عليهم ريب دهرهم ... حتى تفانوا وريب الدهر عداء فقال لها: لعنك الله! أما تعرفين من الغناء شيئا غير هذا! قالت: يا سيدي، ما تغنيت إلا بما ظننت أنك تحبه، وما أردت ما تكرهه، وما هو إلا شيء جاءني ثم أخذت في غناء آخر: أما ورب السكون والحرك ... إن المنايا كثيرة الشرك ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجوم السماء في الفلك إلا لنقل النعيم من ملك ... عان بحب الدنيا إلى ملك وملك ذي العرش دائم أبدا ... ليس بفان ولا بمشترك فقال لها: قومي غضب الله عليك! قَالَ: فقامت وكان له قدح بلور حسن الصنعة، وكان محمد يسميه زب رباح، وكان موضوعا بين يديه، فقامت الجارية منصرفة فتعثرت بالقدح فكسرته- قَالَ إبراهيم: والعجب أنا لم نجلس مع هذه الجارية قط إلا رأينا ما نكره في مجلسنا ذلك- فقال لي: ويحك يا إبراهيم! ما ترى ما جاءت به هذه الجارية، ثم ما كان من أمر القدح! والله ما أظن أمري إلا وقد قرب، فقلت: يطيل الله عمرك، ويعز ملكك، ويديم لك، ويكبت عدوك فما استتم الكلام حتى سمعنا صوتا من دجلة: «قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ» ، فقال: يا إبراهيم، ما سمعت ما سمعت! قلت: لا والله، ما سمعت شيئا- وقد كنت سمعت- قَالَ: تسمع حسا! قَالَ: فدنوت من الشط فلم أر شيئا، ثم عاودنا الحديث، فعاد الصوت: «قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ» ، فوثب من مجلسه ذلك مغتما، ثم ركب فرجع إلى موضعه بالمدينة، فما كان بعد هذا إلا ليلة أو ليلتان حتى حدث ما حدث من قتله، وذلك يوم الأحد لست- أو لأربع- خلون من صفر، سنة ثمان وتسعين ومائة

ذكر الخبر عن قتل الامين

وذكر عن أبي الحسن المدائني، قَالَ: لما كان ليلة الجمعة لسبع بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، دخل محمد بْن هارون مدينة السلام هاربا من القصر الذي كان يقال له الخلد، مما كان يصل إليه من حجارة المنجنيق، وأمر بمجالسه وبسطه أن تحرق فأحرقت، ثم صار إلى المدينة، وذلك لأربع عشرة شهرا، منذ ثارت الحرب مع طاهر الا اثنى عشر يوما . ذكر الخبر عن قتل الامين وفي هذه السنة قتل محمد بْن هارون. ذكر الخبر عن مقتله: ذكر عن محمد بْن عيسى الجلودي أنه قَالَ: لما صار محمد إلى المدينة، وقر فيها، وعلم قواده أنه ليس لهم ولا له فيها عدة للحصار، وخافوا أن يظفر بهم، دخل على محمد حاتم بْن الصقر ومحمد بْن إبراهيم بْن الأغلب الإفريقي وقواده، فقالوا: قد آلت حالك وحالنا إلى ما ترى، وقد رأينا رأيا نعرضه عليك، فانظر فيه واعتزم عليه، فإنا نرجو أن يكون صوابا، ويجعل الله فيه الخيرة إن شاء الله قَالَ: ما هو؟ قالوا: قد تفرق عنك الناس، وأحاط بك عدوك من كل جانب، وقد بقي من خيلك معك ألف فرس من خيارها وجيادها، فنرى أن نختار من قد عرفناه بمحبتك من الأبناء سبعمائة رجل، فنحملهم على هذه الخيل ونخرج ليلا على باب من هذه الأبواب فإن الليل لأهله، ولن يثبت لنا أحد إن شاء الله، فنخرج حتى نلحق بالجزيرة والشام فتفرض الفروض، وتجبي الخراج، وتصير في مملكة واسعة، وملك جديد، فيسارع إليك الناس، وينقطع عن طلبك الجنود، والى ذلك ما قد أحدث الله عز وجل في مكر الليل والنهار أمورا فقال لهم: نعم ما رأيتم، واعتزم على ذلك. وخرج الخبر إلى طاهر، فكتب إلى سليمان بْن أبي جعفر، وإلى محمد بْن

عيسى بْن نهيك وإلى السندي بْن شاهك: والله لئن لم تقروه وتردوه عن هذا الرأي لا تركت لكم ضيعة إلا قبضتها، ولا تكون لي همة إلا أنفسكم. فدخلوا على محمد، فقالوا: قد بلغنا الذي عزمت عليه، فنحن نذكرك الله في نفسك! إن هؤلاء صعاليك، وقد بلغ الأمر إلى ما ترى من الحصار، وضاق عليهم المذهب، وهم يرون ألا أمان لهم على أنفسهم وأموالهم عند أخيك وعند طاهر وهرثمة لما قد انتشر عنهم من مباشره الحرب والجد فيها، ولسنا نأمن إذا برزوا بك، وحصلت في أيديهم أن يأخذوك أسيرا، ويأخذوا رأسك فيتقربوا بك، ويجعلوك سبب أمانهم، وضربوا له فيه الأمثال. قَالَ محمد بْن عيسى الجلودي: وكان أبي وأصحابه قعودا في رواق البيت الذي محمد وسليمان وأصحابه فيه قَالَ: فلما سمعوا كلامهم، ورأوا أنه قد قبله مخافة أن يكون الأمر على ما قالوا له، هموا أن يدخلوا عليهم فيقتلوا سليمان وأصحابه، ثم بدا لهم وقالوا: حرب من داخل، وحرب من خارج. فكفوا وأمسكوا. قَالَ محمد بن عيسى: فلما نكت ذلك في قلب محمد، ووقع في نفسه ما وقع منه، أضرب عما كان عزم عليه، ورجع إلى قبول ما كانوا بذلوا له من الأمان والخروج، فأجاب سليمان والسندي ومحمد بْن عيسى إلى ما سألوه من ذلك، فقالوا: إنما غايتك اليوم السلامة واللهو، وأخوك يتركك حيث أحببت، ويفردك في موضع، ويجعل لك كل ما يصلحك وكل ما تحب وتهوى، وليس عليك منه بأس ولا مكروه فركن إلى ذلك، وأجابهم إلى الخروج إلى هرثمة. قَالَ محمد بْن عيسى: وكان أبي وأصحابه يكرهون الخروج إلى هرثمة، لأنهم كانوا من أصحابه، وقد عرفوا مذاهبه، وخافوا أن يجفوهم ولا يخصهم، ولا يجعل لهم مراتب، فدخلوا على محمد فقالوا له: إذ أبيت أن تقبل منا ما أشرنا عليك- وهو الصواب- وقبلت من هؤلاء المداهنين، فالخروج الى

طاهر خير لك من الخروج إلى هرثمة قَالَ محمد بْن عيسى: فقال لهم: ويحكم! أنا أكره طاهرا، وذلك أني رأيت في منامي كأني قائم على حائط من آجر شاهق في السماء، عريض الأساس وثيق، لم أر حائطا يشبهه في الطول والعرض والوثاقة، وعلى سوادي ومنطقتي وسيفي وقلنسوتي وخفي، وكان طاهر في أصل ذلك الحائط، فما زال يضرب أصله حتى سقط الحائط وسقطت، وندرت قلنسوتي من رأسي، وأنا أتطير من طاهر، وأستوحش منه، وأكره الخروج إليه لذلك، وهرثمة مولانا وبمنزلة الوالد، وأنا به أشد أنسا وأشد ثقة وذكر عن محمد بْن إسماعيل، عن حفص بْن أرميائيل، أن محمدا لما أراد أن يعبر من الدار بالقرار إلى منزل كان في بستان موسى- وكان له جسر في ذلك الموضع- أمر أن يفرش في ذلك المجلس ويطيب قَالَ: فمكثت ليلتي أنا وأعواني نتخذ الروائح والطيب ونكثب التفاح والرمان والأترج، ونضعه في البيوت، فسهرت ليلتي أنا وأعواني، ولما صليت الصبح دفعت إلى عجوز قطعة بخور من عنبر، فيها مائة مثقال كالبطيخة، وقلت لها: إني سهرت ونعست نعاسا شديدا، ولا بد لي من نومة، فإذا نظرت إلى أمير المؤمنين قد أقبل على الجسر، فضعي هذا العنبر على الكانون وأعطيتها كانونا من فضة صغيرا عليه جمر، وأمرتها أن تنفخ حتى تحرقها كلها، ودخلت حراقة فنمت، فما شعرت إلا وبالعجوز قد جاءت فزعة حتى أيقظتني، فقالت لي: قم يا حفص، فقد وقعت في بلاء، قلت: وما هو؟ قالت: نظرت إلى رجل مقبل على الجسر منفرد، شبيه الجسم بجسم أمير المؤمنين، وبين يديه جماعة وخلفه جماعة، فلم أشك أنه هو، فأحرقت العنبرة، فلما جاء، فإذا هو عبد الله بْن موسى، وهذا أمير المؤمنين قد أقبل قَالَ: فشتمتها وعنفتها قَالَ: وأعطيتها أخرى مثل تلك لتحرقها بين يديه، ففعلت، وكان هذا من أوائل الأدبار. وذكر علي بْن يزيد، قَالَ: لما طال الحصار على محمد، فارقه سليمان بْن أبي جعفر وإبراهيم بْن المهدي ومحمد بْن عيسى بْن نهيك، ولحقوا جميعا

بعسكر المهدي، ومكث محمد محصورا في المدينة يوم الخميس ويوم الجمعة والسبت وناظر محمد أصحابه ومن بقي معه في طلب الأمان، وسألهم عن الجهة في النجاة من طاهر، فقال له السندي: والله يا سيدي، لئن ظفر بنا المأمون لعلى رغم منا وتعس جدودنا، وما أرى فرجا إلا هرثمة قَالَ له: وكيف بهرثمة وقد أحاط الموت بي من كل جانب! وأشار عليه آخرون بالخروج إلى طاهر وقالوا: لو حلفت له بما يتوثق به منك أنك مفوض إليه ملكك، فلعله كان سيركن إليك فقال لهم: أخطأتم وجه الرأي، وأخطأت في مشاورتكم، هل كان عبد الله أخي لو جهد نفسه وولى الأمور برأيه بالغا عشر ما بلغه له طاهر! وقد محصته وبحثت عن رأيه، فما رأيته يميل إلى غدر به، ولا طمع فيما سواه، ولو أجاب إلى طاعتي، وانصرف إلي ثم ناصبني أهل الأرض ما اهتممت بأمر، ولوددت أنه أجاب إلى ذلك، فمنحته خزائني وفوضت إليه أمري، ورضيت أن أعيش في كنفه، ولكني لا أطمع في ذلك منه فقال له السندي: صدقت يا أمير المؤمنين، فبادر بنا إلى هرثمة، فإنه يرى ألا سبيل عليك إذا خرجت إليه من الملك، وقد ضمن إلي أنه مقاتل دونك إن هم عبد الله بقتلك، فاخرج ليلا في ساعة قد نوم الناس فيها، فإني أرجو أن يغبى على الناس أمرنا. وقال أبو الحسن المدائني: لما هم محمد بالخروج إلى هرثمة، وأجابه إلى ما أراد، اشتد ذلك على طاهر، وأبى أن يرفه عنه ويدعه يخرج، وقال: هو في حيزي والجانب الذي أنا فيه، وأنا أخرجته بالحصار والحرب، حتى صار إلى طلب الأمان، ولا أرضى أن يخرج إلى هرثمة دوني، فيكون الفتح له. ولما رأى هرثمة والقواد ذلك، اجتمعوا في منزل خزيمة بْن خازم، فصار إليهم طاهر وخاصة قواده، وحضرهم سليمان بْن المنصور ومحمد بْن عيسى بْن نهيك والسندي بْن شاهك، وأداروا الرأي بينهم، ودبروا الأمر، وأخبروا طاهرا أنه لا يخرج إليه أبدا، وأنه إن لم يجب إلى ما سأل لم يؤمن أن يكون الأمر في أمره مثله في أيام الحسين بْن علي بْن عيسى بْن ماهان، فقالوا له:

يخرج ببدنه إلى هرثمة- إذ كان يأمن به ويثق بناحيته، وكان مستوحشا منك، ويدفع إليك الخاتم والقضيب والبردة- وذلك الخلافة- ولا تفسد هذا الأمر واغتنمه إذ يسره الله فأجاب إلى ذلك ورضي به ثم قيل: إن الهرش لما علم بالخبر، أراد التقرب إلى طاهر، فخبره أن الذي جرى بينهم وبينه مكر، وأن الخاتم والبردة والقضيب تحمل مع محمد إلى هرثمة فقبل طاهر ذلك منه، وظن أنه كما كتب به إليه، فاغتاظ وكمن حول قصر أم جعفر وقصور الخلد كمناء بالسلاح ومعهم العتل والفؤوس، وذلك ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، وفي الشهر السرياني خمسة وعشرون من أيلول. فذكر الحسن بْن أبي سعيد، قَالَ: أخبرني طارق الخادم، قَالَ: لما هم محمد بالخروج إلى هرثمة عطش قبل خروجه، فطلبت له في خزانة شرابه ماء فلم أجده قَالَ: وأمسى فبادر يريد هرثمة للوعد الذي كان بينه وبينه، ولبس ثياب الخلافة، دراعة وطيلسانا والقلنسوة الطويلة، وبين يديه شمعة. فلما انتهينا إلى دار الحرس من باب البصرة، قَالَ: اسقني من جباب الحرس، فناولته كوزا من ماء، فعافه لزهوكته فلم يشرب منه، وصار إلى هرثمة. فوثب به طاهر، وأكمن له نفسه في الخلد، فلما صار إلى الحراقة، خرج طاهر وأصحابه فرموا الحراقة بالسهام والحجارة، فمالوا ناحية الماء، وانكفأت الحراقة، فغرق محمد وهرثمة ومن كان فيها، فسبح محمد حتى عبر وصار إلى بستان موسى، وظن أن غرقه إنما كان حيلة من هرثمة، فعبر دجلة حتى صار إلى قرب الصراة، وكان على المسلحة إبراهيم بن جعفر البلخى ومحمد بن حميد هو ابن أخي شكلة أم إبراهيم بْن المهدي- وكان طاهر ولاه وكان إذا ولى رجلا من أصحابه خراسانيا ضم إليه قوما- فعرفه محمد بْن حميد وهو المعروف بالطاهري، وكان طاهر يقدمه في الولايات، فصاح بأصحابه فنزلوا، فأخذوه، فبادر محمدا لما، فأخذ بساقيه فجذبه، وحمل على

برذون، وألقي عليه إزار من أزر الجند غير مفتول، وصار به إلى منزل إبراهيم بْن جعفر البلخي، وكان ينزل بباب الكوفة، وأردف رجلا خلفه يمسكه لئلا يسقط، كما يفعل بالأسير. فذكر عن الحسن بْن أبي سعيد، أن خطاب بْن زياد حدثه أن محمدا وهرثمة لما غرقا، بادر طاهر إلى بستان مؤنسة، بإزاء باب الأنبار، موضع معسكره لئلا يتهم بغرق هرثمة قَالَ: فلما انتهى طاهر- ونحن معه في الموكب والحسن ابن علي المأموني والحسن الكبير الخادم للرشيد- إلى باب الشام، لحقنا محمد بْن حميد، فترجل ودنا من طاهر، فأخبره أنه قد أسر محمدا، ووجه به إلى باب الكوفة إلى منزل إبراهيم البلخي قَالَ: فالتفت إلينا طاهر، فأخبرنا الخبر، وقال: ما تقولون؟ فقال له المأموني: مكن، أي لا تفعل فعل حسين ابن علي قَالَ: فدعا طاهر بمولى له يقال له قريش الدنداني، فأمره بقتل محمد قَالَ: وأتبعه طاهر يريد باب الكوفة إلى الموضع. وأما المدائني فإنه ذكر عن محمد بْن عيسى الجلودي، قَالَ: لما تهيأ للخروج- وكان بعد عشاء الآخرة من ليلة الأحد- خرج إلى صحن القصر، فقعد على كرسي، وعليه ثياب بيض وطيلسان أسود، فدخلنا عليه، فقمنا بين يديه بالأعمدة قَالَ: فجاء كتلة الخادم، فقال: يا سيدي، أبو حاتم يقرئك السلام، ويقول: يا سيدي وافيت للميعاد لحملك، ولكني أرى ألا تخرج الليلة، فإني رأيت في دجلة على الشط أمرا قد رابني، وأخاف أن أغلب فتؤخذ من يدي أو تذهب نفسك، ولكن أقم بمكانك حتى أرجع ثم استعد ثم آتيك القابلة فأخرجك، فإن حوربت حاربت دونك ومعي عدتي قَالَ: فقال له محمد: ارجع إليه، فقل له: لا تبرح، فإني خارج إليك الساعة لا محالة، ولست أقيم إلى غد قَالَ: وقلق وقال: قد تفرق عني الناس ومن على بابي من الموالي والحرس، ولا آمن إن أصبحت وانتهى الخبر بتفريقهم إلى طاهر أن يدخل علي فيأخذني ودعا بفرس له أدهم محذوف أغر محجل، كان يسميه الزهري، ثم دعا بابنيه فضمهما إليه، وشمهما وقبلهما،

وقال: أستودعكما الله، ودمعت عيناه، وجعل يمسح دموعه بكمه، ثم قام فوثب على الفرس، وخرجنا بين يديه إلى باب القصر، حتى ركبنا دوابنا، وبين يديه شمعة واحدة فلما صرنا الى الطاقات مما يلى باب خراسان، قَالَ لي أبي: يا محمد، ابسط يدك عليه، فإني أخاف أن يضربه إنسان بالسيف، فإن ضرب كان الضرب بك دونه قَالَ: فألقيت عنان فرسي بين معرفته، وبسطت يدي عليه حتى انتهينا إلى باب خراسان، فأمرنا به ففتح، ثم خرجنا إلى المشرعة، فإذا حراقة هرثمة، فرقي إليها، فجعل الفرس يتلكأ وينفر، وضربه بالسوط وحمله عليها، حتى ركبها في دجلة، فنزل في الحراقة، وأخذنا الفرس، ورجعنا إلى المدينة، فدخلناها وأمرنا بالباب فأغلق، وسمعنا الواعية، فصعدنا على القبة التي على الباب، فوقفنا فيها نسمع الصوت. فذكر عن أحمد بْن سلام صاحب المظالم أنه قَالَ: كنت فيمن ركب مع هرثمة من القواد في الحراقة، فلما نزلها محمد قمنا على أرجلنا إعظاما، وجثى هرثمة على ركبتيه، وقال له: يا سيدي، ما أقدر على القيام لمكان النقرس الذي بي، ثم احتضنه وصيره في حجره، ثم جعل يقبل يديه ورجليه وعينيه، ويقول: يا سيدي ومولاي وابن سيدي ومولاي قَالَ: وجعل يتصفح وجوهنا، قَالَ: ونظر إلى عبيد الله بْن الوضاح، فقال له: أيهم أنت؟ قَالَ: أنا عبيد الله بْن الوضاح، قَالَ: نعم، فجزاك الله خيرا، فما أشكرني لما كان منك من أمر الثلج! ولو قد لقيت أخي أبقاه الله لم أدع أن أشكرك عنده، وسألته مكافأتك عني قَالَ: فبينا نحن كذلك- وقد أمر هرثمة بالحراقة أن تدفع- إذ شد علينا أصحاب طاهر في الزواريق والشذوات وعطعطوا وتعلقوا بالسكان، فبعض يقطع السكان، وبعض ينقب الحراقة، وبعض يرمي بالآجر والنشاب قَالَ: فنقبت الحراقة، فدخلها الماء فغرقت، وسقط هرثمة إلى الماء، فأخرجه ملاح، وخرج كل واحد منا على حيله، ورايت

محمدا حين صار إلى تلك الحال قد شق عليه ثيابه، ورمى بنفسه إلى الماء. قَالَ: فخرجت إلى الشط، فعلقني رجل من أصحاب طاهر، فمضى بي إلى رجل قاعد على كرسي من حديد على شط دجلة في ظهر قصر أم جعفر، بين يديه نار توقد، فقال بالفارسية: هذا رجل خرج من الماء ممن غرق من أهل الحراقة، فقال لي: من أنت؟ قلت: من أصحاب هرثمة، انا احمد ابن سلام صاحب شرطة مولى أمير المؤمنين، قَالَ: كذبت فاصدقني، قَالَ: قلت قد صدقتك، قَالَ: فما فعل المخلوع؟ قلت: قد رأيته حين شق عليه ثيابه، وقذف بنفسه في الماء قَالَ: قدموا دابتي، فقدموا دابته، فركب وأمر بي أن أجنب قَالَ: فجعل في عنقي حبل وجنبت، وأخذ في درب الرشدية، فلما انتهى إلى مسجد أسد بْن المرزبان، انبهرت من العدو فلم أقدر أن أعدو، فقال الذي يجنبني: قد قام هذا الرجل، وليس يعدو، قال: انزل، فحذ رأسه، فقلت له: جعلت فداك! لم تقتلني وأنا رجل علي من الله نعمة، ولم أقدر على العدو، وأنا أفدي نفسي بعشرة آلاف درهم قَالَ: فلما سمع ذكر العشرة آلاف درهم، قلت: تحبسني عندك حتى تصبح وتدفع إلي رسولا حتى أرسله إلى وكيلي في منزلي في عسكر المهدي، فإن لم يأتك بالعشرة آلاف فاضرب عنقي قَالَ: قد أنصفت، فأمر بحملي، فحملت ردفا لبعض أصحابه، فمضى بي إلى دار صاحبه، دار أبي صالح الكاتب، فأدخلني الدار، وأمر غلمانه أن يحتفظوا بي، وتقدم إليهم، وأوعز وتفهم مني خبر محمد ووقوعه في الماء، ومضى إلى طاهر ليخبره خبره، فإذا هو إبراهيم البلخي قَالَ: فصيرني غلمانه في بيت من بيوت الدار فيه بوار ووسادتان أو ثلاث- وفي رواية حصر مدرجة- قَالَ: فقعدت في البيت، وصيروا فيه سراجا، وتوثقوا من باب الدار، وقعدوا يتحدثون قَالَ: فلما ذهب من الليل ساعة، إذا نحن بحركة الخيل فدقوا الباب، ففتح لهم، فدخلوا وهم يقولون: يسر زبيدة قَالَ: فأدخل علي رجل عريان عليه سراويل وعمامة متلثم بها، وعلى كتفيه خرقة خلقة، فصيروه معي، وتقدموا إلى من في الدار في حفظه، وخلفوا معهم قوما آخرين أيضا منهم

قَالَ: فلما استقر في البيت حسر العمامة عن وجهه، فإذا هو محمد، فاستعبرت واسترجعت فيما بيني وبين نفسي قَالَ: وجعل ينظر إلي، ثم قَالَ: أيهم أنت؟ قَالَ: قلت: أنا مولاك يا سيدي، قَالَ: وأي الموالي؟ قلت: أحمد بْن سلام صاحب المظالم، فقال: وأعرفك بغير هذا، كنت تأتيني بالرقة؟ قَالَ: قلت: نعم، قَالَ: كنت تأتيني وتلطفني كثيرا، لست مولاي بل أنت أخي ومني ثم قَالَ: يا أحمد، قلت: لبيك يا سيدي، قال: ادن منى وضمني إليك، فانى أجد وحشة شديدة قَالَ: فضممته إلي، فإذا قلبه يخفق خفقا شديدا كاد أن يفرج عن صدره فيخرج قَالَ: فلم أزل أضمه إلي وأسكنه قَالَ: ثم قَالَ: يا أحمد، ما فعل أخي؟ قَالَ: قلت: هو حي، قَالَ: قبح الله صاحب بريدهم ما أكذبه! كان يقول: قد مات، شبه المعتذر من محاربته، قال: قلت: بل قبح الله وزراءك! قَالَ: لا تقل لوزرائي إلا خيرا، فما لهم ذنب، ولست بأول من طلب أمرا فلم يقدر عليه قَالَ: ثم قَالَ: يا أحمد، ما تراهم يصنعون بي؟ أتراهم يقتلوني أو يفون لي بأيمانهم؟ قَالَ: قلت: بل يفون لك يا سيدي قَالَ: وجعل يضم على نفسه الخرقة التي على كتفيه، ويضمها ويمسكها بعضده يمنة ويسرة قَالَ: فنزعت مبطنة كانت علي ثم قلت: يا سيدي، ألق هذه عليك قَالَ: ويحك! دعني، هذا من الله عز وجل، لي في هذا الموضع خير. قَالَ: فبينا نحن كذلك، إذ دق باب الدار، ففتح، فدخل علينا رجل عليه سلاحه، فتطلع في وجهه مستثبتا له، فلما أثبته معرفة، انصرف وغلق الباب، وإذا هو محمد بْن حميد الطاهري، قَالَ: فعلمت أن الرجل مقتول. قَالَ: وكان بقي علي من صلاتي الوتر، فخفت أن أقتل معه ولم أوتر، قَالَ: فقمت أوتر، فقال لي: يا أحمد، لا تتباعد مني، وصل إلى جانبي، أجد وحشة شديدة قَالَ: فاقتربت منه، فلما انتصف الليل أو قارب، سمعت حركة الخيل، ودق الباب، ففتح، فدخل الدار قوم من العجم بأيديهم السيوف مسللة، فلما رآهم قام قائما، وقال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! ذهبت والله

نفسي في سبيل الله! أما من حيلة! أما من مغيث! أما من أحد من الأبناء! قَالَ: وجاءوا حتى قاموا على باب البيت الذي نحن فيه، فأحجموا عن الدخول، وجعل بعضهم يقول لبعض: تقدم، ويدفع بعضهم بعضا قَالَ: فقمت فصرت خلف الحصر المدرجة في زاوية البيت، وقام محمد، فأخذ بيده وسادة، وجعل يقول: ويحكم! إني ابن عم رسول الله ص، أنا ابن هارون، وأنا أخو المأمون، الله الله في دمي! قَالَ: فدخل عليه رجل منهم يقال له خمارويه- غلام لقريش الدنداني مولى طاهر- فضربه بالسيف ضربة وقعت على مقدم رأسه، وضرب محمد وجهه بالوسادة التي كانت في يده، واتكأ عليه ليأخذ السيف من يده فصاح خمارويه: قتلني قتلني- بالفارسية قَالَ: فدخل منهم جماعة، فنخسه واحد منهم بالسيف في خاصرته، وركبوه فذبحوه ذبحا من قفاه، وأخذوا رأسه، فمضوا به إلى طاهر، وتركوا جثته. قَالَ: ولما كان في وقت السحر جاءوا إلى جثته فأدرجوها في جل، وحملوها. قَالَ: فأصبحت فقيل لي: هات العشرة آلاف درهم وإلا ضربنا عنقك. قَالَ: فبعثت إلى وكيلي فأتاني، فأمرته فأتاني بها، فدفعتها إليه قَالَ: وكان دخول محمد المدينة يوم الخميس، وخرج إلى دجلة يوم الأحد وذكر عن أحمد بْن سلام في هذه القصة أنه قَالَ: قلت لمحمد لما دخل علي البيت وسكن: لا جزى الله وزراءك خيرا، فإنهم أوردوك هذا المورد! فقال لي: يا أخي، ليس بموضع عتاب ثم قَالَ: أخبرني عن المأمون أخي، أحي هو؟ قلت: نعم، هذا القتال عمن إذا! هو إلا عنه! قَالَ: فقال لي: أخبرني يحيى أخو عامر بْن إسماعيل بْن عامر- وكان يلي الخبر في عسكر هرثمة- أن المأمون مات، فقلت له: كذب قَالَ: ثم قلت له: هذا الإزار الذي عليك إزار غليظ فالبس إزاري وقميصي هذا فإنه لين، فقال لي: من كانت حاله مثل حالي فهذا له كثير قَالَ: فلقنته ذكر الله والاستغفار، فجعل يستغفر قَالَ: وبينا نحن كذلك، إذ هدة تكاد الأرض ترجف منها، وإذا أصحاب طاهر قد دخلوا الدار وأرادوا البيت، وكان في الباب ضيق، فدافعهم محمد بمجنة كانت معه في البيت، فما وصلوا إليه حتى عرقبوه، ثم

هجموا عليه، فحزوا رأسه واستقبلوا به طاهرا، وحملوا جثته إلى بستان مؤنسة إلى معسكره، إذ أقبل عبد السلام بْن العلاء صاحب حرس هرثمة فأذن له- وكان عبر إليه على الجسر الذي كان بالشماسية- فقال له: أخوك يقرئك السلام، فما خبرك؟ قَالَ: يا غلام، هات الطس، فجاءوا به وفيه رأس محمد، فقال: هذا خبري فأعلمه فلما أصبح نصب رأس محمد على باب الأنبار، وخرج من أهل بغداد للنظر إليه ما لا يحصى عددهم، وأقبل طاهر يقول: رأس المخلوع محمد. وذكر محمد بْن عيسى أنه رأى المخلوع على ثوبه قملة، فقال: ما هذا؟ فقالوا: شيء يكون في ثياب الناس، فقال: أعوذ بالله من زوال النعمة! فقتل من يومه. وذكر عن الحسن بْن أبي سعيد أن الجندين: جند طاهر وجند أهل بغداد، ندموا على قتل محمد، لما كانوا يأخذون من الأموال. وذكر عنه أنه ذكر أن الخزانة التي كان فيها رأس محمد ورأس عيسى ابن ماهان ورأس أبي السرايا كانت إليه قَالَ: فنظرت في رأس محمد، فإذا فيه ضربة في وجهه، وشعر رأسه ولحيته صحيح لم يتحات منه شيء، ولونه على حاله قَالَ: وبعث طاهر برأس محمد إلى المأمون مع البردة والقضيب والمصلى- وهو من سعف مبطن- مع محمد بْن الحسن بْن مصعب ابن عمه، فامر له بألف الف درهم، فرايت ذا الرياستين، وقد أدخل رأس محمد على ترس بيده إلى المأمون، فلما رآه سجد. قَالَ الحسن: فأخبرني ابن أبي حمزة، قَالَ: حدثني علي بْن حمزة العلوي، قَالَ: قدم جماعة من آل أبي طالب على طاهر وهو بالبستان حين قتل محمد بن زبيدة ونحن بالحضرة، فوصلهم ووصلنا، وكتب إلى المأمون بالإذن لنا أو لبعضنا، فخرجنا إلى مرو، وانصرفنا إلى المدينة، فهنئونا بالنعمة، ولقينا من بها من أهلها وسائر أهل المدينة، فوصفنا لهم قتل محمد، وأن طاهر بْن الحسين دعا مولى يقال له قريش الدنداني، وأمره بقتله قَالَ: فقال لنا شيخ منهم:

كيف قلت! فأخبرته، فقال الشيخ: سبحان الله! كنا نروي هذا أن قريشا يقتله، فذهبنا إلى القبيلة، فوافق الاسم الاسم! وذكر عن محمد بْن أبي الوزير أن علي بْن محمد بْن خالد بْن برمك أخبره أن إبراهيم بْن المهدي لما بلغه قتل محمد، استرجع وبكى طويلا، ثم قَالَ: عوجا بمغنى طلل داثر بالخلد ذات الصخر والآجر والمرمر المسنون يطلى به والباب باب الذهب الناضر عوجا بها فاستيقنا عندها على يقين قدرة القادر وأبلغا عني مقالا إلى المولى على المأمور والأمر قولا له: يا بن ولي الهدى طهر بلاد الله من طاهر لم يكفه أن حز أوداجه ذبح الهدايا بمدى الجازر حتى أتى يسحب أوصاله في شطن يفنى مدى السائر قد برد الموت على جنبه وطرفه منكسر الناظر قَالَ: وبلغ ذلك المأمون فاشتد عليه. وذكر عن المدائني أن طاهرا كتب إلى المأمون بالفتح: أما بعد، فالحمد لله المتعالي ذي العزة والجلال، والملك والسلطان، الذي إذا أراد أمرا فإنما يقول له كن فيكون، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. كان فيما قدر الله فأحكم، ودبر فأبرم، انتكاث المخلوع ببيعته، وانتقاضه بعهده، وارتكاسه في فتنته، وقضاؤه عليه القتل بما كسبت يداه وما الله بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ* وقد كتبت إلى أمير المؤمنين- أطال الله بقاءه- في

إحاطة جند الله بالمدينة والخلد، وأخذهم بأفواهها وطرقها ومسالكها في دجلة نواحي أزقة مدينة السلام وانتظام المسالح حواليها وحدرى السفن والزواريق بالعرادات والمقاتلة، إلى ما واجه الخلد وباب خراسان، تحفظا بالمخلوع، وتخوفا من أن يروغ مراغا، ويسلك مسلكا يجد به السبيل إلى اثاره فتنه، واحياء ثائره، أو يهايج قتالا بعد أن حصره الله عز وجل وخذله، ومتابعة الرسل بما يعرض عليه هرثمة بْن أعين مولى أمير المؤمنين، ويسألني من تخلية الطريق له في الخروج إليه واجتماعي وهرثمة بْن أعين، لنتناظر في ذلك، وكراهتي ما أحدث وراءه من أمره بعد إرهاق الله إياه، وقطعه رجاءه من كل حيلة ومتعلق، وانقطاع المنافع عنه، وحيل بينه وبين الماء، فضلا عن غيره، حتى هم به خدمه وأشياعه من أهل المدينة ومن نجا معه إليها، وتحزبوا على الوثوب به للدفع عن أنفسهم والنجاة بها، وغير ذلك مما فسرت لأمير المؤمنين أطال الله بقاءه مما أرجو أن يكون قد أتاه. وإني أخبر أمير المؤمنين أني رويت فيما دبر هرثمة بْن أعين مولى أمير المؤمنين في المخلوع، وما عرض عليه وأجابه إليه، فوجدت الفتنة في تخلصه من موضعه الذي قد أنزله الله فيه بالذلة والصغار وصيره فيه إلى الضيق والحصار تزداد، ولا يزيد أهل التربص في الأطراف إلا طمعا وانتشارا، وأعلمت ذلك هرثمة بْن أعين، وكراهتي ما أطمعه فيه وأجابه إليه، فذكر أنه لا يرى الرجوع عما أعطاه، فصادرته- بعد يأس من انصرافه- عن رأيه، على أن يقدم المخلوع رداء رسول الله ص وسيفه وقضيبه قبل خروجه، ثم أخلى له طريق الخروج إليه، كراهة أن يكون بيني وبينه اختلاف نصير منه إلى أمر يطمع الأعداء فينا، أو فراق القلوب بخلاف ما نحن عليه من الائتلاف والاتفاق على ذلك، وعلى أن نجتمع لميعادنا عشية السبت. فتوجهت في خاصة ثقاتي الذين اعتمدت عليهم، وأثق بهم، بربط الجأش، وصدق البأس، وصحة المناصحة، حتى طالعت جميع أمر كل

من كنت وكلت بالمدينة والخلد برا وبحرا، والتقدمة إليهم في التحفظ والتيقظ والحراسة والحذر، ثم انكفأت إلى باب خراسان، وكنت أعددت حراقات وسفنا، سوى العدة التي كانت لأركبها بنفسي لوقت ميعادي بيني وبين هرثمة، فنزلتها في عدة ممن كان ركب معي من خاصة ثقاتي وشاكريتي، وصيرت عدة منهم فرسانا ورجالة بين باب خراسان والمشرعة وعلى الشط وأقبل هرثمة بْن أعين حتى صار بقرب باب خراسان معدا مستعدا، وقد خاتلني بالرسالة إلى المخلوع إلى أن يخرج إليه إذا وافى المشرعة، ليحمله قبل أن أعلم، أو يبعث إلي بالرداء والسيف والقضيب، على ما كان فارقني عليه من ذلك فلما وافى خروج المخلوع على من وكلت بباب خراسان، نهضوا عند طلوعه عليهم ليعرفوا الطابع لأمري كان أتاهم، وتقدمي إليهم ألا يدعو أحدا يجوزهم إلا بأمري فبادرهم نحو المشرعة، وقرب هرثمة إليه الحراقة، فسبق الناكث أصحابي إليها، وتأخر كوثر، فظفر به قريش مولاي، ومعه الرداء والقضيب والسيف، فأخذه وما معه، فنفر اصحاب المخلوع عند ما رأوا من إرادة أصحابي منع مخلوعهم من الخروج، فبادر بعضهم حراقة هرثمة، فتكفأت بهم حتى أغرقت في الماء ورسبت، فانصرف بعضهم إلى المدينة، ورمى المخلوع عند ذلك بنفسه من الحراقة في دجلة متخلصا إلى الشط، نادما على ما كان من خروجه، ناقضا للعهد، داعيا بشعاره، فابتدره عدة من أوليائي الذين كنت وكلتهم بما بين مشرعة باب خراسان وركن الصراة، فأخذوه عنوة قهرا بلا عهد ولا عقد، فدعا بشعاره، وعاد في نكثه، فعرض عليهم مائة حبة، ذكر أن قيمة كل حبة مائة ألف درهم، فأبوا إلا الوفاء لخليفتهم أبقاه الله، وصيانة لدينهم، وإيثارا للحق الواجب عليهم، فتعلقوا به، قد أسلمه الله وأفرده، كل يرغبه، ويريد أن يفوز بالحظوة عندي دون صاحبه، حتى اضطربوا فيما بينهم، وتناولوه

بأسيافهم منازعة فيه، وتشاحا عليه، إلى أن اتيح له مغيظ لله ودينه ورسوله وخليفته، فاتى عليه وأتاني الخبر بذلك، فأمرت بحمل رأسه إلي، فلما أتيت به تقدمت إلى من كنت وكلت بالمدينة والخلد وما حواليها وسائر من في المسالح، في لزوم مواضعهم، والاحتفاظ بما يليهم، إلى أن يأتيهم أمري. ثم انصرفت فأعظم الله لأمير المؤمنين الصنع والفتح عليه وعلى الإسلام به وفيه. فلما أصبحت هاج الناس واختلفوا في المخلوع، فمصدق بقتله، ومكذب وشاك وموقن، فرأيت أن أطرح عنهم الشبهة في أمره، فمضيت برأسه، لينظروا إليه فيصح بعينهم، وينقطع بذلك بعل قلوبهم، ودخل التياث المستشرفين للفساد والمستوفزين للفتنة، وغدوت نحو المدينة فاستسلم من فيها، وأعطى أهلها الطاعة، واستقام لأمير المؤمنين شرقي ما يلي مدينة السلام وغربيه وأرباعه وأرباضه ونواحيه، وقد وضعت الحرب أوزارها وتلافى بالسلام والإسلام أهله، وبعد الله الدغل عنهم، وأصارهم ببركة أمير المؤمنين إلى الأمن والسكون والدعة والاستقامة والاغتباط، والصنع من الله جل وعز والخيرة، والحمد لله على ذلك. فكتبت إلى أمير المؤمنين حفظه الله، وليس قبلي داع إلى فتنة، ولا متحرك ولا ساع في فساد، ولا أحد إلا سامع مطيع باخع حاضر، قد أذاقه الله حلاوة أمير المؤمنين ودعة ولايته، فهو يتقلب في ظلها، يغدو في متجره ويروح في معايشه، والله ولى صنع من ذلك، والمتمم له، والمان بالزيادة فيه برحمته. وانا اسال الله ان تهني أمير المؤمنين نعمته، ويتابع له فيها مزيده ويوزعه عليها شكره، وأن يجعل منته لديه متواليه دائما متواصلة، حتى يجمع الله له خير الدنيا والآخرة، ولأوليائه وأنصار حقه ولجماعة المسلمين ببركته وبركة ولايته ويمن خلافته، إنه ولي ذلك منهم وفيه، إنه سميع لطيف لما يشاء

وكتب يوم الأحد لأربع بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة. وذكر عن محمد المخلوع انه قبل مقتله، وبعد ما صار في المدينة، ورأى الأمر قد تولى عنه، وأنصاره يتسللون فيخرجون إلى طاهر، قعد في الجناح الذي كان عمله على باب الذهب- وكان تقدم في بنائه قبل ذلك- وأمر بإحضار كل من كان معه في المدينة من القواد والجند، فجمعوا في الرحبة، فأشرف عليهم، وقال: الحمد لله الذي يرفع ويضع، ويعطي ويمنع، ويقبض ويبسط، وإليه المصير أحمده على نوائب الزمان، وخذلان الأعوان، وتشتت الرجال، وذهاب الأموال، وحلول النوائب، وتوفد المصائب، حمدا يدخر لي به أجزل الجزاء، ويرفدني أحسن العزاء وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريك له كما شهد لنفسه، وشهدت له ملائكته، وأن محمدا عبده الامين، ورسوله الى المسلمين، ص، آمين رب العالمين. أما بعد يا معشر الأبناء، وأهل السبق إلى الهدى، فقد علمتم غفلتي كانت أيام الفضل بْن الربيع وزير علي ومشير، فمادت به الأيام بما لزمني به من الندامة في الخاصة والعامة، إلى ان نبهتمونى فانتبهت، واستعنتموني في جميع ما كرهتهم من نفسي وفيكم، فبذلت لكم ما حواه ملكي، ونالته مقدرتي، مما جمعته وورثته عن آبائي، فقودت من لم يجز، واستكفيت من لم يكف، واجتهدت- علم الله- في طلب رضاكم بكل ما قدرت عليه، واجتهدتم- علم الله- في مساءتي في كل ما قدرتم عليه، من ذلك توجيهى إليكم علي بْن عيسى شيخكم وكبيركم وأهل الرأفة بكم والتحنن عليكم، فكان منكم ما يطول ذكره، فغفرت الذنب، وأحسنت واحتملت، وعزيت نفسي عند معرفتي بشرود الظفر، وحرصي على مقامكم مسلحة بحلوان مع ابن كبير صاحب دعوتكم، ومن على يدي أبيه كان فخركم، وبه تمت طاعتكم: عبد الله بْن حميد بْن قحطبة، فصرتم من التألب عليه إلى ما لا طاقة

له به، ولا صبر عليه يقودكم رجل منكم وأنتم عشرون ألفا، الى عامدين، وعلى سيدكم متوثبين مع سعيد الفرد، سامعين له مطيعين ثم وثبتم مع الحسين علي، فخلعتموني وشتمتموني، وانتهبتموني وحبستموني، وقيدتموني، وأشياء منعتموني من ذكرها، حقد قلوبكم وتلكؤ طاعتكم أكبر وأكثر. فالحمد لله حمد من أسلم لأمره، ورضي بقدره، والسلام وقيل: لما قتل محمد، وارتفعت الثائرة، وأعطي الأمان الأبيض والأسود، وهدأ الناس، ودخل طاهر المدينة يوم الجمعة، فصلى بالناس، وخطبهم خطبة بليغة، نزع فيها من قوارع القرآن، فكان مما حفظ من ذلك أن قَالَ: الحمد لله مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. في آي من القرآن أتبع بعضها بعضا، وحض على الطاعة ولزوم الجماعة، ورغبهم في التمسك بحبل الطاعة وانصرف إلى معسكره. وذكر أنه لما صعد المنبر يوم الجمعة، وحضره من بني هاشم والقواد وغيرهم جماعة كثيرة، قَالَ: الحمد لله مالك الملك، يؤتيه من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لا يصلح عمل المفسدين، ولا يهدي كيد الخائنين، إن ظهور غلبتنا لم يكن من أيدينا ولا كيدنا، بل اختار الله للخلافة إذ جعلها عمادا لدينه، وقواما لعباده، وضبط الأطراف وسد الثغور، وإعداد العدة، وجمع الفيء، وإنفاذ الحكم، ونشر العدل، وإحياء السنة، بعد إذبال البطالات، والتلذذ بموبق الشهوات والمخلد إلى الدنيا مستحسن لداعي غرورها، محتلب دره نعمتها، الف لزهره روضتها، كلف برونق بهجتها وقد رأيتم من وفاء موعود الله عز وجل لمن بغى عليه، وما أحل به من بأسه ونقمته، لما نكب عن عهده، وارتكب معصيته، وخالف أمره، وغيره ناهيه، وعظته مرديه، فتمسكوا بوثائق عصم الطاعة، واسلكوا مناحي سبيل الجماعة، واحذروا مصارع أهل الخلاف

وثوب الجند بطاهر بن الحسين بعد مقتل الامين

والمعصية، الذين قدحوا زناد الفتنة، وصدعوا شعب الألفة، فأعقبهم الله خسار الدنيا والآخرة. ولما فتح طاهر بغداد كتب إلى أبي إسحاق المعتصم- وقد ذكر بعضهم أنه إنما كتب بذلك إلى إبراهيم بْن المهدي، وقال الناس: كتبه إلى أبي إسحاق المعتصم: أما بعد، فإنه عزيز علي أن أكتب إلى رجل من أهل بيت الخلافة بغير التأمير، ولكنه بلغني أنك تميل بالرأي، وتصغي بالهوى، إلى الناكث المخلوع، وإن كان كذلك فكثير ما كتبت به إليك، وإن كان غير ذلك فالسلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته وكتب في أسفل الكتاب هذه الأبيات: ركوبك الأمر ما لم تبل فرصته ... جهل ورأيك بالتغرير تغرير أقبح بدنيا ينال المخطئون بها ... حظ المصيبين والمغرور مغرور. وثوب الجند بطاهر بن الحسين بعد مقتل الامين وفي هذه السنة وثب الجند بعد مقتل محمد بطاهر، فهرب منهم وتغيب أياما حتى أصلح أمرهم. ذكر الخبر عن سبب وثوبهم به وإلى ما آل أمره وأمرهم: ذكر عن سعيد بْن حميد، أنه ذكر أن أباه حدثه، أن أصحاب طاهر

بعد مقتل محمد بخمسة أيام، وثبوا به، ولم يكن في يديه مال، فضاق به أمره، وظن أن ذلك عن مواطأة من اهل الارباض إياهم، وانهم معهم عليه، ولم يكن تحرك في ذلك من أهل الأرباض أحد، فاشتدت شوكة أصحابه، وخشي على نفسه، فهرب من البستان، وانتهبوا بعض متاعه، ومضى الى عقرقوف وكان قد أمر بحفظ أبواب المدينة وباب القصر على أم جعفر، وموسى وعبد الله ابني محمد، ثم أمر بتحويل زبيدة وموسى وعبد الله ابني محمد معها من قصر أبي جعفر إلى قصر الخلد، فحولوا ليلة الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول، ثم مضى بهم من ليلتهم في حراقة إلى همينيا على الغربي من الزاب الأعلى، ثم أمر بحمل موسى وعبد الله إلى عمهما بخراسان على طريق الأهواز وفارس. قَالَ: ولما وثب الجند بطاهر، وطلبوا الأرزاق، أحرقوا باب الأنبار الذي على الخندق وباب البستان، وشهروا السلاح، وكانوا كذلك يومهم ومن الغد، ونادوا موسى: يا منصور وصوب الناس إخراج طاهر موسى وعبد الله، وقد كان طاهر انحاز ومن معه من القواد، وتعبأ لقتالهم ومحاربتهم، فلما بلغ ذلك القواد والوجوه صاروا إليه واعتذروا، وأحالوا على السفهاء والأحداث، وسألوه الصفح عنهم وقبول عذرهم والرضا عنهم، وضمنوا له ألا يعودوا لمكروه له ما أقام معهم فقال لهم طاهر: والله ما خرجت عنكم إلا لوضع سيفي فيكم، وأقسم بالله لئن عدتم لمثلها لأعودن إلى رأيي فيكم، ولأخرجن إلى مكروهكم، فكسرهم بذلك، وأمر لهم برزق أربعة أشهر، فقال في ذلك بعض الأبناء: آلى الأمير- وقوله وفعاله ... حق- بجمع معاشر الزعار إن هاج هائجهم وشغب شاغب ... من كل ناحية من الأقطار ألا يناظر معشرا من جمعهم ... إمهال ذي عدل وذي إنظار حتى ينيخ عليهم بعظيمة ... تدع الديار بلاقع الآثار

فذكر عن المدائني أن الجند لما شغبوا، وانحاز طاهر، ركب اليه سعيد ابن مالك بْن قادم ومحمد بْن أبي خالد وهبيرة بْن خازم، في مشيخة من أهل الأرباض، فحلفوا بالمغلظة من الأيمان، أنه لم يتحرك في هذه الأيام أحد من أبناء الأرباض، ولا كان ذلك عن رأيهم، ولا أرادوه، وضمنوا له صلاح نواحيهم من الأرباض، وقيام كل إنسان منهم في ناحيته بكل ما يجب عليه، حتى لا يأتيه من ناحية أمر يكرهه وأتاه عميرة- أبو شيخ بن عميرة الأسدي- وعلى ابن يزيد، في مشيخة من الأبناء، فلقوه بمثل ما لقيه به ابن أبي خالد وسعيد ابن مالك وهبيرة، وأعلموه حسن رأي من خلفهم من الأبناء ولين طاعتهم له، وأنهم لم يدخلوا في شيء مما صنع أصحابه في البستان فطابت نفسه إلا أنه قَالَ لهم: إن القوم يطلبون أرزاقهم، وليس عندي مال فضمن لهم سعيد ابن مالك عشرين ألف دينار، وحملها إليه، فطابت بها نفسه، وانصرف إلى معسكره بالبستان وقال طاهر لسعيد: إني أقبلها منك على أن تكون علي دينا، فقال له: بل هي إنما صلة وقليل لغلامك وفيما أوجب الله من حقك. فقبلها منه، وأمر للجند برزق أربعة أشهر، فرضوا وسكنوا. قَالَ المدائني: وكان مع محمد رجل يقال له السمرقندي، وكان يرمي عن مجانيق كانت في سفن من باطن دجلة، وربما كان يشتد أمر أهل الأرباض على من بإزائهم من أصحاب محمد في الخنادق، فكان يبعث إليه، فيجيء به فيرميهم- وكان راميا لم يكن حجره يخطئ- ولم يقتل الناس يومئذ بالحجارة كما قيل، فلما قتل محمد قطع الجسر، وأحرقت المجانيق التي كانت في دجلة يرمي عنها، فأشفق على نفسه، وتخوف من بعض من وتره أن يطلبه، فاستخفى، وطلبه الناس، فتكارى بغلا، وخرج إلى ناحية خراسان هاربا، فمضى حتى إذا كان في بعض الطريق استقبله رجل فعرفه، فلما جازه قَالَ الرجل للمكاري: ويحك! أين تذهب مع هذا الرجل! والله لئن ظفر بك معه لتقتلن، وأهون ما هو مصيبك أن تحبس، قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! قد والله عرفت اسمه، وسمعت به قتله الله! فانطلق المكاري إلى أصحابه- أو مسلحة انتهى إليها- فاخبرهم خبره، وكانوا من اصحاب كند غوش من أصحاب هرثمة،

ذكر الخبر عن صفه محمد ابن هارون وكنيته وقدر ما ولى ومبلغ عمره

فأخذوه وبعثوا به إلى هرثمة، وبعث به هرثمة إلى خزيمة بْن خازم بمدينة السلام، فدفعه خزيمة إلى بعض من وتره فأخرجه إلى شاطئ دجلة من الجانب الشرقي فصلب حيا، فذكروا أنه لما أرادوا شدة على خشبته، اجتمع خلق كثير، فجعل يقول قبل أن يشدوه: أنتم بالأمس تقولون: لا قطع الله يا سمرقندي يدك، واليوم قد هيأتم حجارتكم ونشابكم لترموني! فلما رفعت الخشبة أقبل الناس عليه رميا بالحجارة والنشاب وطعنا بالرماح حتى قتلوه، وجعلوا يرمونه بعد موته، ثم أحرقوه من غد، وجاءوا بنار ليحرقوه بها، وأشعلوها فلم تشتعل، وألقوا عليه قصبا وحطبا، فأشعلوها فيه، فاحترق بعضه، وتمزقت الكلاب بعضه، وذلك يوم السبت لليلتين خلتا من صفر. ذكر الخبر عن صفه محمد ابن هارون وكنيته وقدر ما ولي ومبلغ عمره قَالَ هشام بْن محمد وغيره: ولي محمد بْن هارون وهو أبو موسى يوم الخميس لإحدى عشرة بقيت من جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين ومائه، وقتل ليله الأحد لست بقين من صفر سنة سبع وتسعين ومائة وأمه زبيدة ابنة جعفر الأكبر بْن أبي جعفر، فكانت خلافته أربع سنين وثمانية أشهر وخمسة أيام: وقد قيل: كانت كنيته أبا عبد الله. وأما محمد بْن موسى الخوارزمي فإنه ذكر عنه أنه قَالَ: أتت الخلافة محمد بْن هارون للنصف من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة، وحج بالناس في هذه السنة التي ولي فيها داود بْن عيسى بْن موسى، وهو على مكة وأبو البختري على ولايته، وبعد ولايته بعشره اشهر وخمسه ايام وجه عصمه ابن أبي عصمة ألى ساوة، وعقد ولايته لابنه موسى بولاية العهد لثلاث خلون من شهر ربيع الأول، وكان على شرطه علي بْن عيسى بْن ماهان. وحج بالناس سنة أربع وتسعين ومائه على بن الرشيد، وعلى المدينة إسماعيل بْن العباس بْن محمد، وعلى مكة داود بْن عيسى، وكان بين ان

عقد لابنه الى التقاء علي بْن عيسى بْن ماهان وطاهر بْن الحسين وقتل علي بْن عيسى بْن ماهان سنة خمس وتسعين ومائة، سنة وثلاثة أشهر وتسعة وعشرون يوما قَالَ: وقتل المخلوع ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم، قَالَ: فكانت ولايته مع الفتنة أربع سنين وسبعة أشهر وثلاثة أيام. ولما قتل محمد ووصل خبره إلى المأمون في خريطة من طاهر يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من صفر سنة ثمان وتسعين ومائة أظهر المأمون الخبر، وأذن للقواد فدخلوا عليه وقام الفضل بْن سهل فقرا الكتاب بالخبر، فهنىء بالظفر، ودعوا الله له وورد الكتاب من المأمون بعد قتل محمد على طاهر وهرثمة بخلع القاسم بْن هارون، فأظهرا ذلك، ووجها كتبهما به، وقرئ الكتاب بخلعه يوم الجمعة لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأول سنة سبع وتسعين ومائة، وكان عمر محمد كله- فيما بلغني- ثمانيا وعشرين سنة وكان سبطا أنزع أبيض صغير العينين أقنى، جميلا، عظيم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين وكان مولده بالرصافة. وذكر أن طاهرا قَالَ حين قتله: قتلت الخليفة في داره ... وأنهبت بالسيف أمواله وقال أيضا: ملكت الناس قسرا واقتدارا ... وقتلت الجبابرة الكبارا ووجهت الخلافة نحو مرو ... إلى المأمون تبتدر ابتدارا.

ذكر ما قيل في محمد بن هارون ومرثيته

ذكر ما قيل في محمد بْن هارون ومرثيته فما قيل في هجائه: لم نبكيك لماذا؟ للطرب! ... يا أبا موسى وترويج اللعب ولترك الخمس في أوقاتها ... حرصا منك على ماء العنب وشنيف أنا لا أبكي له ... وعلى كوثر لا أخشى العطب لم تكن تعرف ما حد الرضا ... لا ولا تعرف ما حد الغضب لم تكن تصلح للملك ولم ... تعطك الطاعة بالملك العرب أيها الباكي عليه لا بكت ... عين من أبكاك إلا للعجب لم نبكيك لما عرضتنا ... للمجانيق وطورا للسلب ولقوم صيرونا اعبدا ... لهم ينزو على الرأس الذنب في عذاب وحصار مجهد ... سدد الطرق فلا وجه طلب زعموا أنك حي حاشر ... كل من قال بهذا قد كذب ليت من قد قاله في وحدة ... من جميع ذاهب حيث ذهب أوجب الله علينا قتله ... فإذا ما أوجب الأمر وجب كان والله علينا فتنة ... غضب الله عليه وكتب وقال عمرو بْن عبد الملك الوراق يبكي بغداد، ويهجو طاهرا ويعرض به: من ذا أصابك يا بغداد بالعين ... ألم تكوني زمانا قرة العين! ألم يكن فيك أقوام لهم شرف ... بالصالحات وبالمعروف يلقوني ألم يكن فيك قوم كان مسكنهم ... وكان قربهم زينا من الزين صاح الزمان بهم بالبين فانقرضوا ... ماذا الذي فجعتني لوعة البين

أستودع الله قوما ما ذكرتهم ... إلا تحدر ماء العين من عيني كانوا ففرقهم دهر وصدعهم ... والدهر يصدع ما بين الفريقين كم كان لي مسعد منهم على زمني ... كم كان منهم على المعروف من عون لله در زمان كان يجمعنا ... أين الزمان الذي ولى ومن اين! يا من يخرب بغدادا ليعمرها ... أهلكت نفسك ما بين الطريقين كانت قلوب جميع الناس واحدة ... عينا، وليس لكون العين كالدين لما أشتهم فرقتهم فرقا ... والناس طرا جميعا بين قلبين وذكر عمر بْن شبة أن محمد بْن أحمد الهاشمي حدثه، ان لبانه ابنه على ابن المهدي قالت: أبكيك لا للنعيم والأنس ... بل للمعالي والرمح والترس أبكي على هالك فجعت به ... أرملني قبل ليلة العرس وقد قيل إن هذا الشعر لابنة عيسى بْن جعفر، وكانت مملكة بمحمد. وقال الحسين بْن الضحاك الأشقر، مولى باهلة، يرثي محمدا، وكان من ندمائه، وكان لا يصدق بقتله، ويطمع في رجوعه: يا خير أسرته وإن زعموا ... إني عليك لمثبت أسف الله يعلم أن لي كبدا ... حرى عليك ومقلة تكف ولئن شجيت بما رزئت به ... إني لأضمر فوق ما أصف هلا بقيت لسد فاقتنا ... أبدا، وكان لغيرك التلف!

فلقد خلفت خلائفا سلفوا ... ولسوف يعوز بعدك الخلف لا بات رهطك بعد هفوتهم ... إني لرهطك بعدها شنف هتكوا بحرمتك التي هتكت ... حرم الرسول ودونها السجف وثبت أقاربك التي خذلت ... وجميعها بالذل معترف لم يفعلوا بالشط إذ حضروا ... ما تفعل الغيرانة الأنف تركوا حريم أبيهم نفلا ... والمحصنات صوارخ هتف أبدت مخلخلها على دهش ... أبكارهن ورنت النصف سلبت معاجرهن واجتليت ... ذات النقاب ونوزع الشنف فكأنهن خلال منتهب ... در تكشف دونه الصدف ملك تخون ملكه قدر ... فوهى وصرف الدهر مختلف هيهات بعدك أن يدوم لنا ... عز وأن يبقى لنا شرف لا هيبوا صحفا مشرفة ... للغادرين وتحتها الجدف أفبعد عهد الله تقتله ... والقتل بعد أمانة سرف فستعرفون غدا بعاقبة ... عز الإله فأوردوا وقفوا يا من يخون نومه أرق ... هدت الشجون وقلبه لهف قد كنت لي أملا غنيت به ... فمضى وحل محله الأسف مرج النظام وعاد منكرنا ... عرفا وأنكر بعدك العرف فالشمل منتشر لفقدك والدنيا ... سدى والبال منكسف

وقال أيضا يرثيه: إذا ذكر الأمين نعى الأمينا ... وإن رقد الخلي حمى الجفونا وما برحت منازل بين بصرى ... وكلواذى تهيج لي شجونا عراص الملك خاوية تهادى ... بها الأرواح تنسجها فنونا تخون عز ساكنها زمان ... تلعب بالقرون الأولينا فشتت شملهم بعد اجتماع ... وكنت بحسن ألفتهم ضنينا فلم أر بعدهم حسنا سواهم ... ولم ترهم عيون الناظرينا فوا أسفا وإن شمت الأعادي ... وآه على أمير المؤمنينا أضل العرف بعدك متبعوه ... ورفه عن مطايا الراغبينا وكن الى جنابك كل يوم ... يرحن على السعود ويغتدينا هو الجبل الذي هوت المعالي ... لهدته وريع الصالحونا ستندب بعدك الدنيا جوارا ... وتندب بعدك الدين المصونا فقد ذهبت بشاشة كل شيء ... وعاد الدين مطروحا مهينا تعقد عز متصل بكسرى ... وملته وذل المسلمونا وقال أيضا يرثيه: أسفا عليك سلاك أقرب قربة ... مني وأحزاني عليك تزيد وقال عبد الرحمن بْن أبي الهداهد يرثي محمدا: يا غرب جودي قد بت من وذمه ... فقد فقدنا العزيز من ديمه ألوت بدنياك كف نائبة ... وصرت مغضى لنا على نقمه أصبح للموت عندنا علم ... يضحك سن المنون من علمه ما استنزلت درة المنون على ... أكرم من حل في ثرى رحمه خليفة الله في بريته ... تقصر أيدي الملوك عن شيمه

يفتر عن وجهه سنا قمر ... ينشق عن نوره دجى ظلمه زلزلت الأرض من جوانبها ... إذ أولغ السيف من نجيع دمه من سكتت نفسه لمصرعة ... من عمم الناس أو ذوي رحمه رأيته مثل ما رآه به ... حتى تذوق الأمر من سقمه كم قد رأينا عزيز مملكة ... ينقل عن أهله وعن خدمه يا ملكا ليس بعده ملك ... لخاتم الأنبياء في أممه جاد وحيا الذي أقمت به ... سح غزير الوكيف من ديمه لو أحجم الموت عن أخي ثقة ... أسوي في العز مستوى قدمه أو ملك لا ترام سطوته ... إلا مرام الشتيم في أجمه خلدك العز ما سرى سدف ... أو قام طفل العشي في قدمه أصبح ملك إذا اتزرت به ... يقرع سن الشقاة من ندمه أثر ذو العرش في عداك كما ... أثر في عاده وفي إرمه لا يبعد الله سوره تليت ... لخير داع دعاه في حرمه ما كنت إلا كحلم ذي حلم ... أولج باب السرور في حلمه حتى إذا أطلقته رقدته ... عاد إلى ما اعتراه من عدمه وقال أيضا يرثيه: أقول وقد دنوت من الفرار ... سقيت الغيث يا قصر القرار رمتك يد الزمان بسهم عين ... فصرت ملوحا بدخان نار أبن لي عن جميعك أين حلوا ... وأين مزارهم بعد المزار وأين محمد وابناه ما لي ... أرى أطلالهم سود الديار! كأن لم يؤنسوا بأنيس ملك ... يصون على الملوك بخير جار إمام كان في الحدثان عونا ... لنا والغيث يمنح بالقطار

لقد ترك الزمان بني أبيه ... وقد غمرتهم سود البحار أضاعوا شمسهم فجرت بنحس ... فصاروا في الظلام بلا نهار وأجلوا عنهم قمرا منيرا ... وداستهم خيول بني الشرار ولو كانوا لهم كفوا ومثلا ... إذا ما توجوا تيجان عار ألا بان الإمام ووارثاه ... لقد ضرما الحشا منا بنار وقالوا الخلد بيع فقلت ذلا ... يصير ببائعيه إلى صغار كذاك الملك يتبع أوليه ... إذا قطع القرار من القرار وقال مقدس بْن صيفي يرثيه: خليلي ما أتتك به الخطوب ... فقد أعطتك طاعته النحيب تدلت من شماريخ المنايا ... منايا ما تقوم لها القلوب خلال مقابر البستان قبر ... يجاور قبره أسد غريب لقد عظمت مصيبته على من ... له في كل مكرمة نصيب على أمثاله العبرات تذرى ... وتهتك في مآتمه الجيوب وما اذخرت زبيدة عنه دمعا ... تخص به النسيبة والنسيب دعوا موسى ابنه لبكاء دهر ... على موسى ابنه دخل الحزيب رأيت مشاهد الخلفاء منه ... خلاء ما بساحتها مجيب ليهنك أنني كهل عليه ... أذوب، وفي الحشا كبد تذوب أصيب به البعيد فخر حزنا ... وعاين يومه فيه المريب أنادي من بطون الأرض شخصا ... يحركه النداء فما يجيب لئن نعت الحروب إليه نفسا ... لقد فجعت بمصرعه الحروب

وقال خزيمة بْن الحسن يرثيه على لسان أم جعفر: لخير إمام قام من خير عنصر ... وأفضل سام فوق أعواد منبر لوارث علم الأولين وفهمهم ... وللملك المأمون من أم جعفر كتبت وعيني مستهل دموعها ... إليك ابن عمي من جفوني ومحجري وقد مسني ضر وذل كابه ... وارق عيني يا بن عمي تفكري وهمت لما لاقيت بعد مصابه ... فأمري عظيم منكر جد منكر سأشكو الذي لاقيته بعد فقده ... إليك شكاة المستهام المقهر وأرجو لما قد مر بي مذ فقدته ... فأنت لبثي خير رب مغير أتى طاهر لا طهر الله طاهرا ... فما طاهر فيما أتى بمطهر فأخرجني مكشوفة الوجه حاسرا ... وأنهب أموالي وأحرق آدري يعز على هارون ما قد لقيته ... وما مر بي من ناقص الخلق أعور فإن كان ما أسدى بأمر أمرته ... صبرت لأمر من قدير مقدر تذكر أمير المؤمنين قرابتي ... فديتك من ذي حرمة متذكر وقال أيضا يرثيه: سبحان ربك رب العزة الصمد ... ماذا أصبنا به في صبحة الأحد وما أصيب به الإسلام قاطبة ... من التضعضع في ركنيه والاود من لم يصب بأمير المؤمنين ولم ... يصبح بمهلكة والهم في صعد فقد أصبت به حتى تبين في ... عقلي وديني وفي دنياى والجسد يا ليلة يشتكي الإسلام مدتها ... والعالمون جميعا آخر الأبد

غدرت بالملك الميمون طائره ... وبالإمام وبالضرغامة الأسد سارت إليه المنايا وهي ترهبه ... فواجهته بأوغاد ذوي عدد بشورجين واغتام يقودهم ... قريش بالبيض في قمص من الزرد فصادفوه وحيدا لا معين له ... عليهم غائب الأنصار بالمدد فجرعوه المنايا غير ممتنع ... فردا فيا لك من مستسلم فرد يلقى الوجوه بوجه غير مبتذل ... ابهى وانقى من القوهية الجدد وا حسرتا وقريش قد أحاط به ... والسيف مرتعد في كف مرتعد فما تحرك بل ما زال منتصبا ... منكس الرأس لم يبدي ولم يعد حتى إذا السيف وافى وسط مفرقه ... أذرته عنه يداه فعل متئد وقام فاعتلقت كفاه لبته ... كضيغم شرس مستبسل لبد فاحتزه ثم أهوى فاستقل به ... للأرض من كف ليث محرج حرد فكاد يقتله لو لم يكاثره ... وقام منفلتا منه ولم يكد هذا حديث أمير المؤمنين وما ... نقصت من أمره حرفا ولم أزد لا زلت أندبه حتى الممات وإن ... أخنى عليه الذي أخنى على لبد وذكر عن الموصلي أنه قَالَ: لما بعث طاهر برأس محمد إلى المأمون بكى ذو الرياستين، وقال: سل علينا سيوف الناس والسنتهم، أمرناه أن يبعث به أسيرا فبعث به عقيرا! وقال له المأمون: قد مضى ما مضى فاحتل في الاعتذار منه، فكتب الناس فأطالوا، وجاء أحمد بْن يوسف بشبر من قرطاس فيه: أما بعد، فإن المخلوع كان قسيم أمير المؤمنين في النسب واللحمة، وقد فرق الله بينه وبينه في الولاية والحرمه، لمفارقته عصم الدين، وخروجه من الأمر الجامع للمسلمين، يقول الله عز وجل حين اقتص علينا نبأ ابن نوح: «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ» ، فلا طاعة لأحد في معصية

ذكر الخبر عن بعض سير المخلوع محمد بن هارون

الله، ولا قطيعة إذا كانت القطيعة في جنب الله وكتابي إلى أمير المؤمنين وقد قتل الله المخلوع، ورداه رداء نكثه، وأحصد لأمير المؤمنين أمره، وأنجز له وعده، وما ينتظر من صادق وعده حين رد به الإلفة بعد فرقتها، وجمع الأمة بعد شتاتها، وأحيا به أعلام الإسلام بعد دروسها. ذكر الخبر عن بعض سير المخلوع محمد بْن هارون ذكر عن حميد بْن سعيد، قَالَ: لما ملك محمد، وكاتبه المأمون، وأعطاه بيعته، طلب الخصيان وابتاعهم، وغالى بهم، وصيرهم لخلوته في ليله ونهاره، وقوام طعامه وشرابه، وأمره ونهيه، وفرض لهم فرضا سماهم الجرادية، وفرضا من الحبشان سماهم الغرابية، ورفض النساء الحرائر والإماء حتى رمى بهن، ففي ذلك يقول بعضهم: ألا يا مزمن المثوى بطوس ... عزيبا ما يفادى بالنفوس لقد أبقيت للخصيان بعلا ... تحمل منهم شؤم البسوس فأما نوفل فالشأن فيه ... وفي بدر، فيا لك من جليس! وما العصمي بشار لديه ... إذا ذكروا بذي سهم خسيس وما حسن الصغير أخس حالا ... لديه عند مخترق الكئوس لهم من عمره شطر وشطر ... يعاقر فيه شرب الخندريس وما للغانيات لديه حظ ... سوى التقطيب بالوجه العبوس إذا كان الرئيس كذا سقيما ... فكيف صلاحنا بعد الرئيس! فلو علم المقيم بدار طوس ... لعز على المقيم بدار طوس قَالَ حميد: ولما ملك محمد وجه إلى جميع البلدان في طلب الملهين وضمهم إليه، وأجرى لهم الأرزاق، ونافس في ابتياع فره الدواب، وأخذ

الوحوش والسباع والطير وغير ذلك، واحتجب عن إخوته وأهل بيته وقواده، واستخف بهم، وقسم ما في بيوت الأموال وما بحضرته من الجوهر في خصيانه وجلسائه ومحدثيه، وحمل إليه ما كان في الرقة من الجوهر والخزائن والسلاح، وأمر ببناء مجالس لمتنزهاته ومواضع خلوته ولهوه ولعبه بقصر الخلد والخيزرانية وبستان موسى وقصر عبدويه وقصر المعلى ورقة كلواذى وباب الأنبار وبناورى والهوب، وأمر بعمل خمس حراقات في دجلة على خلقة الأسد والفيل والعقاب والحية والفرس، وأنفق في عملها مالا عظيما، فقال أبو نواس يمدحه: سخر الله للأمين مطايا ... لم تسخر لصاحب المحراب فإذا ما ركابه سرن برا ... سار في الماء راكبا ليث غاب أسدا باسطا ذراعيه يهوى ... اهرت الشدق كالح الأنياب لا يعانيه باللجام ولا السوط ... ولا غمز رجله في الركاب عجب الناس إذ رأوك على صورة ... ليث تمر مر السحاب سبحوا إذ رأوك سرت عليه ... كيف لو أبصروك فوق العقاب ذات زور ومنسر وجناحين ... تشق العباب بعد العباب تسبق الطير في السماء إذا ما ... استعجلوها بجيئة وذهاب بارك الله للأمير وأبقاه ... وأبقى له رداء الشباب ملك تقصر المدائح عنه ... هاشمي موفق للصواب وذكر عن الحسين بْن الضحاك، قَالَ: ابتنى الأمير سفينة عظيمة، أنفق عليها ثلاثة آلاف ألف درهم، واتخذ أخرى على خلقة شيء يكون في البحر يقال له الدلفين، فقال في ذلك أبو نواس الحسن بن هانئ:

قد ركب الدلفين بدر الدجى ... مقتحما في الماء قد لججا فأشرقت دجلة في حسنه ... واشرق الشطان واستبهجا لم تر عيني مثله مركبا ... أحسن ان سار وان احنجا إذا استحثثته مجاديفه ... أعنق فوق الماء أو هملجا خص به الله الأمين الذي ... أضحى بتاج الملك قد توجا وذكر عن أحمد بْن إسحاق بْن برصوما المغني الكوفي أنه قَالَ: كان العباس بْن عبد الله بْن جعفر بْن أبي جعفر من رجالات بني هاشم جلدا وعقلا وصنيعا، وكان يتخذ الخدم، وكان له خادم من آثر خدمه عنده يقال له منصور، فوجد الخادم عليه، فهرب إلى محمد، وأتاه وهو بقصر أم جعفر المعروف بالقرار، فقبله محمد أحسن قبول، وحظي عنده حظوة عجيبة. قَالَ: فركب الخادم يوما في جماعة خدم كانوا لمحمد يقال لهم السيافة، فمر بباب العباس بْن عبد الله، يريد بذلك أن يري خدم العباس هيئته وحاله التي هو عليها وبلغ ذلك الخبر العباس، فخرج محضرا في قميص حاسرا، في يده عمود عليه كيمخت، فلحقه في سويقة أبي الورد، فعلق بلجامه، ونازعه أولئك الخدم، فجعل لا يضرب أحدا منهم إلا أوهنة، حتى تفرقوا عنه، وجاء به يقوده حتى أدخله داره وبلغ الخبر محمدا، فبعث إلى داره جماعه، فوقفوا حيالها، وصف العباس غلمانه ومواليه على سور داره، ومعهم الترسه والسهام، فقام أحمد بْن إسحاق: فخفنا والله النار أن تحرق منازلنا، وذلك أنهم أرادوا أن يحرقوا دار العباس قَالَ: وجاء رشيد الهاروني، فاستأذن عليه فدخل إليه، فقال: ما تصنع! أتدري ما أنت فيه وما قد جاءك! لو أذن لهم لاقتلعوا دارك بالأسنة، ألست في الطاعة! قَالَ: بلى، قَالَ: فقم فاركب قَالَ: فخرج في سواده، فلما صار على باب داره، قَالَ: يا غلام، هلم دابتي

فقال رشيد: لا ولا كرامة! ولكن تمضي راجلا قَالَ: فمضى، فلما صار إلى الشارع نظر، فإذا العالمون قد جاءوا، وجاءه الجلودي والإفريقي وأبو البط وأصحاب الهرش قَالَ: فجعل ينظر إليهم، وأنا أراه راجلا ورشيد راكب قَالَ: وبلغ أم جعفر الخبر، فدخلت على محمد، وجعلت تطلب إلى محمد، فقال لها: نفيت من قرابتي من رسول الله ص إن لم أقتله! وجعلت تلح عليه، فقال لها: والله إني لأظنني سأسطو بك قَالَ: فكشفت شعرها، وقالت: ومن يدخل علي وأنا حاسر! قَالَ: فبينا محمد كذلك- ولم يأت العباس بعد- إذ قدم صاعد الخادم عليه بقتل علي بْن عيسى بْن ماهان، فاشتغل بذلك، وأقام العباس في الدهليز عشرة أيام، ونسيه ثم ذكره، فقال: يحبس في حجرة من حجر داره، ويدخل عليه ثلاثة رجال من مواليه من مشايخهم يخدمونه، ويجعل له وظيفة في كل يوم ثلاثة ألوان قَالَ: فلم يزل على هذه الحال حتى خرج حسين بْن علي بْن عيسى بْن ماهان، ودعا إلى المأمون، وحبس محمد قَالَ: فمر إسحاق بْن عيسى بْن علي ومحمد بْن محمد المعبدي بالعباس بْن عبد الله وهو في منظرة، فقالا له: ما قعودك؟ اخرج إلى هذا الرجل- يعنيان حسين بْن علي- قَالَ: فخرج فأتى حسينا، ثم وقف عند باب الجسر، فما ترك لأم جعفر شيئا من الشتم إلا قاله، وإسحاق بْن موسى يأخذ البيعة للمأمون قَالَ: ثم لم يكن إلا يسيرا حتى قتل الحسين، وهرب العباس الى نهر بين إلى هرثمة، ومضى ابنه الفضل بْن العباس إلى محمد، فسعى إليه بما كان لأبيه، ووجه محمد إلى منزله، فأخذ منه أربعة آلاف الف درهم وثلاثمائة ألف دينار، وكانت في قماقم في بئر، وأنسوا قمقمين من تلك القماقم، فقال: ما بقي من ميراث أبي سوى هذين القمقمين، وفيهما سبعون ألف دينار. فلما انقضت الفتنة وقتل محمد رجع إلى منزله فأخذ القمقمين وجعلهما. وحج في تلك السنه، وهي سنه ثمان وتسعين ومائة. قَالَ أحمد بْن إسحاق: وكان العباس بْن عبد الله يحدث بعد ذلك،

فيقول: قَالَ لي سليمان بْن جعفر ونحن في دار المأمون: أما قتلت ابنك بعد؟ فقلت: يا عم، جعلت فداك! ومن يقتل ابنه! فقال لي: اقتله، فهو الذي سعى بك وبمالك فأفقرك. وذكر عن أحمد بْن إسحاق بْن برصوما، قَالَ: لما حصر محمد وضغطه الأمر، قَالَ: ويحكم! ما أحد يستراح إليه! فقيل له: بلى، رجل من العرب من أهل الكوفة، يقال له وضاح بْن حبيب بْن بديل التميمي، وهو بقية من بقايا العرب، وذو رأي أصيل، قَالَ: فأرسلوا إليه، قَالَ: فقدم علينا، فلما صار إليه قَالَ له: إني قد خبرت بمذهبك ورأيك، فأشر علينا في أمرنا، قَالَ له: يا أمير المؤمنين، قد بطل الرأي اليوم وذهب، ولكن استعمل الأراجيف، فإنها من آلة الحرب، فنصب رجلا كان ينزل دجيلا يقال له بكير بْن المعتمر، فكان إذا نزلت بمحمد نازلة وحادثة هزيمة قَالَ له: هات، فقد جاءنا نازلة، فيضع له الأخبار، فإذا مشى الناس تبينوا بطلانها. قَالَ أحمد بْن إسحاق: كأني أنظر إلى بكير بْن المعتمر شيخ عظيم الخلق. وذكر عن العباس بْن أحمد بْن أبان الكاتب، قَالَ: حدثنا إبراهيم بْن الجراح، قَالَ: حدثني كوثر، قَالَ: أمر محمد بن زبيدة يوما أن يفرش له على دكان في الخلد، فبسط له عليه بساط زرعي، وطرحت عليه نمارق وفرش مثله، وهيئ له من آنية الفضة والذهب والجوهر أمر عظيم، وامر قيمه جواريه ان تهيئ له مائة جارية صانعة، فتصعد إليه عشرا عشرا، بأيديهن العيدان يغنين بصوت واحد، فأصعدت إليه عشرا، فلما استوين على الدكان اندفعن فغنين: هم قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما غدرت يوما بكسرى مرازبه قَالَ: فتأفف من هذا، ولعنها ولعن الجواري، فأمر بهن فأنزلن، ثم لبث هنيهة وأمرها أن تصعد عشرا، فلما استوين على الدكان اندفعن فغنين:

من كان مسرورا بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار يجد النساء حواسرا يندبنه ... يلطمن قبل تبلج الأسحار قَالَ: فضجر وفعل مثل فعلته الأولى، وأطرق طويلا، ثم قَالَ: أصعدي عشرا، فأصعدتهن، فلما وقفن على الدكان، اندفعن يغنين بصوت واحد: كليب لعمري كان أكثر ناصرا ... وأيسر ذنبا منك ضرج بالدم قَالَ: فقام من مجلسه، وأمر بهدم ذلك المكان تطيرا مما كان. وذكر عن محمد بْن عبد الرحمن الكندي، قَالَ: حدثني محمد بْن دينار، قَالَ: كان محمد المخلوع قاعدا يوما، وقد اشتد عليه الحصار، فاشتد اغتمامه، وضاق صدره، فدعا بندمائه والشراب ليتسلى به، فأتى به، وكانت له جارية يتحظاها من جواريه، فأمرها أن تغني، وتناول كأسا ليشربه، فحبس الله لسانها عن كل شيء، فغنت: كليب لعمري كان أكثر ناصرا ... وأيسر ذنبا منك ضرج بالدم فرماها بالكأس الذي في يده، وأمر بها فطرحت للأسد، ثم تناول كأسا أخرى، ودعا بأخرى فغنت: هم قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما غدرت يوما بكسرى مرازبه فرمى وجهها بالكأس، ثم تناول كأسا أخرى ليشربها، وقال لأخرى: غني، فغنت: قومي هم قتلوا اميم أخي

قال: فرمى وجهها بالكأس، ورمى الصينية برجله، وعاد إلى ما كان فيه من همه، وقتل بعد ذلك بأيام يسيرة. وذكر عن أبي سعيد أنه قَالَ: ماتت فطيم- وهي أم موسى بْن محمد بْن هارون المخلوع- فجزع عليها جزعا شديدا، وبلغ أم جعفر، فقالت: احملوني إلى أمير المؤمنين، قَالَ: فحملت إليه، فاستقبلها، فقال: يا سيدتي، ماتت فطيم، فقالت: نفسي فداؤك لا يذهب بك اللهف ... ففي بقائك ممن قد مضى خلف عوضت موسى فهانت كل مرزئة ... ما بعد موسى على مفقودة أسف وقالت: أعظم الله أجرك، ووفر صبرك، وجعل العزاء عنها ذخرك! وذكر عن إبراهيم بْن إسماعيل بْن هانئ، ابن أخي أبي نواس، قَالَ: حدثني أبي قَالَ: هجا عمك أبو نواس مضر في قصيدته التي يقول فيها: أما قريش فلا افتخار لها ... إلا التجارات من مكاسبها وأنها إن ذكرت مكرمة ... جاءت قريش تسعى بغالبها إن قريشا إذا هي انتسبت ... كان لها الشطر من مناسبها قَالَ: يريد أن أكرمها يغالب قَالَ: فبلغ ذلك الرشيد في حياته، فأمر بحبسه، فلم يزل محبوسا حتى ولي محمد، فقال يمدحه، وكان انقطاعه إليه أيام إمارته، فقال: تذكر أمين الله والعهد يذكر ... مقامي وإنشاديك والناس حضر ونثري عليك الدر يا در هاشم ... فيأمن رأى درا على الدر ينثر! أبوك الذي لم يملك الأرض مثله ... وعمك موسى عدله المتخير وجدك مهدي الهدى وشقيقه ... أبو أمك الأدنى أبو الفضل جعفر

وما مثل منصوريك: منصور هاشم ... ومنصور قحطان إذا عد مفخر فمن ذا الذي يرمي بسهميك في العلا ... وعبد مناف والداك وحمير قَالَ: فتغنت بهذه الأبيات جارية بين يدي محمد، فقال لها: لمن الأبيات؟ فقيل له: لأبي نواس، فقال: وما فعل؟ فقيل له: محبوس، فقال: ليس عليه بأس قَالَ: فبعث إليه إسحاق بْن فراشة وسعيد بْن جابر أخا محمد من الرضاعة، فقالا: إن أمير المؤمنين ذكرك البارحة فقال: ليس عليه بأس، فقال أبياتا، وبعث بها إليه، وهي هذه الأبيات: أرقت وطار عن عيني النعاس ... ونام السامرون ولم يؤاسوا أمين الله قد ملكت ملكا ... عليك من التقى فيه لباس ووجهك يستهل ندى فيحيا ... به في كل ناحية أناس كأن الخلق في تمثال روح ... له جسد وأنت عليه راس أمين الله إن السجن بأس ... وقد أرسلت: ليس عليك باس فلما أنشده قَالَ: صدق، علي به، فجيء به في الليل، فكسرت قيوده، وأخرج حتى أدخل عليه، فأنشأ يقول: مرحبا مرحبا بخير إمام ... صيغ من جوهر الخلافة نحتا يا أمين الإله يكلؤك الله ... مقيما وظاعنا حيث سرتا إنما الأرض كلها لك دار ... فلك الله صاحب حيث كنتا

قَالَ: فخلع عليه، وخلى سبيله، وجعله في ندمائه. وذكر عن عبد الله بْن عمرو التميمي، قَالَ: حدثني أحمد بْن إبراهيم الفارسي، قَالَ: شرب أبو نواس الخمر، فرفع ذلك إلى محمد في أيامه، فأمر بحبسه، فحبسه الفضل بْن الربيع ثلاثة أشهر، ثم ذكره محمد، فدعا به وعنده بنو هاشم وغيرهم، ودعا له بالسيف والنطع يهدده بالقتل، فأنشده أبو نواس هذه الأبيات: تذكر أمين الله والعهد يذكر. الشعر الذي ذكرناه قبل، وزاد فيه: تحسنت الدنيا بحسن خليفة ... هو البدر إلا أنه الدهر مقمر إمام يسوس الناس سبعين حجة ... عليه له منها لباس ومئزر يشير إليه الجود من وجناته ... وينظر من أعطافه حين ينظر أيا خير مأمول يرجى، أنا امرؤ ... رهين أسير في سجونك مقفر مضى أشهر لي مذ حبست ثلاثة ... كأني قد أذنبت ما ليس يغفر فإن كنت لم أذنب ففيم تعقبي! ... وإن كنت ذا ذنب فعفوك أكثر قَالَ: فقال له محمد: فإن شربتها؟ قَالَ: دمي لك حلال يا أمير المؤمنين، فأطلقه قَالَ: فكان أبو نواس يشمها ولا يشربها وهو قوله: لا أذوق المدام إلا شميما وذكر عن مسعود بْن عيسى العبدي، قَالَ: أخبرني يحيى بْن المسافر القرقسائي، قَالَ: أخبرني دحيم غلام أبي نواس، أن أبا نواس عتب عليه محمد في شرب الخمر، فطبق به- وكان للفضل بْن الربيع خال يستعرض أهل السجون ويتعاهدهم ويتفقدهم- ودخل في حبس الزنادقة، فرأى فيه أبا نواس- ولم يكن يعرفه- فقال له: يا شاب، أنت مع الزنادقة! قَالَ: معاذ الله، قَالَ: فلعلك ممن يعبد الكبش! قَالَ: أنا آكل الكبش بصوفه،

قَالَ: فلعلك ممن يعبد الشمس؟ قَالَ: إني لأتجنب القعود فيها بغضا لها، قَالَ: فبأي جرم حبست؟ قَالَ: حبست بتهمة أنا منها بريء، قَالَ: ليس إلا هذا؟ قَالَ: والله لقد صدقتك قَالَ: فجاء إلى الفضل، فقال له: يا هذا، لا تحسنون جوار نعم الله عز وجل! أيحبس الناس بالتهمة! قَالَ: وما ذاك؟ فأخبره بما ادعى من جرمه، فتبسم الفضل، ودخل على محمد، فأخبره بذلك، فدعا به، وتقدم إليه أن يجتنب الخمر والسكر، قَالَ: نعم، قيل له: فبعهد الله! قَالَ: نعم، قَالَ: فأخرج، فبعث إليه فتيان من قريش فقال لهم: إني لا أشرب، قالوا: وإن لم تشرب فآنسنا بحديثك، فأجاب، فلما دارت الكأس بينهم، قالوا: ألم ترتح لها؟ قال: لا سبيل والله الى شربها، وأنشأ يقول: أيها الرائحان باللوم لوما ... لا أذوق المدام إلا شميما نالني بالملام فيها إمام ... لا أرى في خلافه مستقيما فاصرفاها إلى سواي فإني ... لست إلا على الحديث نديما إن حظي منها إذا هي دارت ... أن أراها وأن أشم النسيما فكأني وما أحسن منها ... قعدي يزين التحكيما كل عن حملة السلاح إلى الحرب ... فأوصى المطيق ألا يقيما وذكر عن أبي الورد السبعي أنه قَالَ: كنت عند الفضل بْن سهل بخراسان، فذكر الأمين، فقال: كيف لا يستحل قتال محمد وشاعره يقول في مجلسه: ألا سقني خمرا وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر قَالَ: فبلغت القصة محمدا، فأمر الفضل بْن الربيع فأخذ أبا نواس فحبسه

وذكر كامل بْن جامع عن بعض أصحاب أبي نواس ورواته، قَالَ: كان أبو نواس قَالَ أبياتا بلغت الأمين في آخرها: وقد زادني تيها على الناس أنني ... أراني أغناهم إذا كنت ذا عسر ولو لم أنل فخرا لكانت صيانتي ... فمي عن جميع الناس حسبي من الفخر ولا يطمعن في ذاك مني طامع ... ولا صاحب التاج المحجب في القصر قَالَ: فبعث إليه الأمين- وعنده سليمان بْن أبي جعفر- فلما دخل عليه، قَالَ: يا عاض بظر أمه العاهره! يا بن اللخناء- وشتمه أقبح الشتم- أنت تكسب بشعرك أوساخ أيدي اللئام، ثم تقول: ولا صاحب التاج المحجب في القصر. أما والله لا نلت مني شيئا أبدا فقال له سليمان بْن أبي جعفر: والله يا أمير المؤمنين، وهو من كبار الثنوية، فقال محمد: هل يشهد عليه بذلك شاهد؟ فاستشهد سليمان جماعة، فشهد بعضهم أنه شرب في يوم مطير، ووضع قدحه تحت السماء، فوقع فيه القطر، وقال: يزعمون أنه ينزل مع كل قطرة ملك، فكم ترى أني أشرب الساعة من الملائكة! ثم شرب ما في القدح، فأمر محمد بحبسه، فقال أبو نواس في ذلك: يا رب إن القوم قد ظلموني ... وبلا اقتراف تعطل حبسوني وإلى الجحود بما عرفت خلافه ... مني إليه بكيدهم نسبوني ما كان إلا الجري في ميدانهم ... في كل جري والمخافة ديني لا العذر يقبل لي فيفرق شاهدي ... منهم ولا يرضون حلف يميني ولكان كوثر كان أولى محبسا ... في دار منقصة ومنزل هون أما الأمين فلست أرجو دفعه ... عني، فمن لي اليوم بالمأمون!

قَالَ: وبلغت المأمون أبياته، فقال: والله لئن لحقته لأغنينه غنى لا يؤمله، قَالَ: فمات قبل دخول المأمون مدينة السلام. قَالَ: ولما طال حبس أبي نواس، قَالَ في حبسه- فيما ذكر- عن دعامة: احمدوا الله جميعا ... يا جميع المسلمينا ثم قولوا لا تملوا ... ربنا أبق الأمينا صير الخصيان حتى ... صير التعنين دينا فاقتدى الناس جميعا ... بأمير المؤمنينا قَالَ: وبلغت هذه الأبيات أيضا المأمون وهو بخراسان، فقال: إني لأتوكفه أن يهرب إلي. وذكر يعقوب بْن إسحاق، عمن حدثه، عن كوثر خادم المخلوع، أن محمدا أرق ذات ليلة، وهو في حربه مع طاهر، فطلب من يسامره فلم يقرب إليه أحد من حاشيته، فدعا حاجبه، فقال: ويلك! قد خطرت بقلبي خطرات فأحضرني شاعرا ظريفا أقطع به بقية ليلتي، فخرج الحاجب، فاعتمد أقرب من بحضرته، فوجد أبا نواس، فقال له: أجب أمير المؤمنين، فقال له: لعلك أردت غيري! قَالَ: لم أرد أحدا سواك فأتاه به، فقال: من أنت؟ قَالَ: خادمك الحسن بْن هانئ، وطليقك بالأمس، قَالَ: لا ترع، إنه عرضت بقلبي أمثال أحببت أن تجعلها في شعر، فإن فعلت ذلك أجزت حكمك فيما تطلب، فقال: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قَالَ: قولهم: عفا الله عما سلف، وبئس والله ما جرى فرسي، واكسري عودا على أنفك، وتمنعي أشهى لك قَالَ: فقال أبو نواس حكمي أربع وصائف مقدودات، فأمر بإحضارهن، فقال: فقدت طول اعتلالك ... وما أرى في مطالك لقد اردت جفائى ... وقد اردت وصالك

ماذا أردت بهذا! ... تمنعي أشهى لك وأخذ بيد وصيفة فعزلها، ثم قَالَ: قد صحت الأيمان من حلفك ... وصحت حتى مت من خلفك بالله يا ستي احنثي مرة ... ثم اكسري عودا على أنفك ثم عزل الثانية، ثم قَالَ: فديتك ماذا الصلف ... وشتمك أهل الشرف! صلى عاشقا مدنفا ... قد أعتب مما اقترف ولا تذكري ما مضى ... عفا الله عما سلف ثم عزل الثالثة، وقال: وباعثات إلي في الغلس ... أن ائتنا واحترس من العسس حتى إذا نوم العداة ولم ... أخش رقيبا ولا سنا قبس ركبت مهري وقد طربت إلى ... حور حسان نواعم لعس فجئت والصبح قد نهضت له ... فبئس والله ما جرى فرسي فقال: خذهن لا بارك الله لك فيهن! وذكر عن الموصلي، عن حسين خادم الرشيد، قَالَ: لما صارت الخلافة إلى محمد هيئ له منزل من منازله على الشط، بفرش أجود ما يكون من فرش الخلافة وأسواه، فقال: يا سيدي، لم يكن لأبيك فرش يباهي به الملوك والوفود الذين يردون عليه أحسن من هذا، فأحببت أن أفرشه لك، قَالَ: فأحببت أن يفرش لي في أول خلافتي المردراج، وقال: مزقوه، قَالَ: فرأيت والله الخدم والفراشين قد صيروه ممزقا وفرقوه. وذكر عن محمد بْن الحسن، قَالَ: حدثني أحمد بْن محمد البرمكي أن إبراهيم بن المهدى غنى محمد بن زبيده:

هجرتك حتى قيل لا يعرف القلى ... وزرتك حتى قيل ليس له صبر فطرب محمد، وقال: أوقروا زورقه ذهبا. وذكر عن علي بْن محمد بْن إسماعيل، عن مخارق، قَالَ: انى لعند محمد بن زبيدة يوما ماطرا، وهو مصطبح، وأنا جالس بالقرب منه، وأنا أغني وليس معه أحد، وعليه جبة وشي، لا والله ما رأيت أحسن منها فأقبلت أنظر إليها، فقال: كأنك استحسنتها يا مخارق! قلت: نعم يا سيدي، عليك لأن وجهك حسن فيها، فأنا أنظر إليه وأعوذك قَالَ: يا غلام، فأجابه الخادم، قَالَ: فدعا بجبة غير تلك، فلبسها وخلع التي عليه علي، ومكثت هنيهة ثم نظرت إليه، فعاودني بمثل ذلك الكلام، وعاودته، فدعا بأخرى حتى فعل ذلك بثلاث جباب ظاهرت بينها قَالَ: فلما رآها علي ندم وتغير وجهه، وقال: يا غلام، اذهب إلى الطباخين فقل لهم: يطبخوا لنا مصليه، ويجيدوا صنعتها، وأتني بها الساعة، فما هو إلا أن ذهب الغلام حتى جاء الخوان، وهو لطيف صغير، في وسطه غضارة ضخمة ورغيفان، فوضعت بين يديه، فكسر لقمة فأهوى بها إلى الصحيفة، ثم قَالَ: كل يا مخارق، قلت: يا سيدي، أعفني من الأكل، قَالَ: لست أعفيك فكل، فكسرت لقمة، ثم تناولت شيئا، فلما وضعته في فمي، قَالَ: لعنك الله! ما أشرهك! نغصتها علي وأفسدتها، وأدخلت يدك فيها، ثم رفع الغضارة بيده، فإذا هي في حجري، وقال: قم لعنك الله! فقمت، وذاك الودك والمرق يسيل من الجباب، فخلعتها وأرسلت بها الى منزلي، ودعوت القصارين والوشاءين، فجهدت جهدي أن تعود كما كانت فما عادت. وذكر عن البحتري أبي عبادة، عن عبيد الله بْن أبي غسان، قَالَ: كنت عند محمد في يوم شات شديد البرد، وهو في مجلس له مفرد مفروش بفرش، قلما رأيت أرفع قيمة مثله ولا أحسن، وأنا في ذلك اليوم طاو ثلاثة أيام ولياليهن إلا من النبيذ، والله لا أستطيع أن أتكلم ولا أعقل، فنهض نهضة

البول، فقلت لخادم من خدم الخاصة: ويلك! قد والله مت، فهل من حيلة إلى شيء تلقيه في جوفي يبرد عني ما أنا فيه! فقال: دعني حتى أحتال لك وأنظر ما أقول، وصدق مقالتي، فلما رجع محمد وجلس نظر الخادم إلي نظرة، فتبسم، فرآه محمد، فقال: مم تبسمت؟ قَالَ: لا شيء يا سيدي، فغضب قَالَ البحتري: فقال: شيء في عبيد الله بْن أبي غسان، لا يستطيع أن يشم رائحة البطيخ ولا يأكله، ويجزع منه جزعا شديدا فقال: يا عبيد الله هذا فيك؟ قَالَ: قلت: إي والله يا سيدي، ابتليت به، قَالَ: ويحك! مع طيب البطيخ وطيب ريحه! قَالَ: فقلت: أنا كذا، قَالَ: فتعجب ثم قَالَ: علي ببطيخ، فأتى منه بعدة، فلما رأيته أظهرت القشعريرة منه، وتنحيت قَالَ: خذوه، وضعوا البطيخ بين يديه، قَالَ: فأقبلت أريه الجزع والاضطراب من ذلك، وهو يضحك، ثم قَالَ: كل واحدة، قَالَ: فقلت: يا سيدي، تقتلني وترمي بكل شيء في جوفي وتهيج علي العلل، الله الله في! قَالَ: كل بطيخة ولك فرش هذا البيت، علي عهد الله بذلك وميثاقه، قلت: ما أصنع بفرش بيت، وأنا اموت ان أكلت! قَالَ: فتأبيت، وألح علي، وجاء الخادم بالسكاكين فقطعوا بطيخة، فجعلوا يحشونها في فمي، وأنا أصرخ وأضطرب، وأنا مع ذلك أبلع، وأنا أريه أني بكره أفعل ذلك وألطم رأسي، وأصيح وهو يضحك، فلما فرغت تحول إلى بيت آخر، ودعا الفراشين، فحملوا فرش ذلك البيت إلى منزلي، ثم عاودني في فرش ذلك البيت في بطيخة أخرى، ثم فعل كفعله الأول، وأعطاني فرش البيت، حتى أعطاني فرش ثلاثة أبيات، وأطعمني ثلاث بطيخات، قَالَ: وحسنت والله حالي، واشتد ظهري. قَالَ: وكان منصور بْن المهدي يريه أنه ينصح له، فجاء وقد قام محمد يتوضأ، وعلمت ان محمدا سيعقبنى بشر ندامة على ما خرج من يديه، فأقبل علي منصور ومحمد غائب عن المجلس، وقد بلغه الخبر، فقال: يا بن الفاعلة، تخدع أمير المؤمنين، فتأخذ متاعه! والله لقد هممت أفعل وأفعل، فقلت: يا سيدي، قد كان ذاك، وكان السبب فيه كذا وكذا، فإن احببت ان

تقتلني فتأثم فشأنك، وإن تفضلت فأهل لذلك أنت، ولست أعود قَالَ: فإني أتفضل عليك قَالَ: وجاء محمد، فقال: افرشوا لنا على تلك البركة، ففرشوا له عليها، فجلس وجلسنا وهي مملوءة ماء، فقال: يا عم، اشتهيت أن اصنع شيئا، أرمي بعبيد الله إلى البركة وتضحك منه قَالَ: يا سيدي إن فعلت هذا قتلته لشدة برد الماء وبرد يومنا هذا، ولكني أدلك على شيء خيرت به، طيب، قَالَ: ما هو؟ قَالَ: تأمر به يشد في تخت، ويطرح على باب المتوضأ، ولا يأتي باب المتوضأ أحد إلا بال على رأسه فقال: طيب والله، ثم أتى بتخت فأمر فشددت فيه، ثم أمر فحملت والقيت على باب المتوضإ، وجاء الخدم فأرخوا الرباط عني، وأقبلوا يرونه أنهم يبولون علي وأنا أصرخ، فمكث بذلك ما شاء الله وهو يضحك ثم أمر بي فحللت وأريته أني تنظفت وأبدلت ثيابي وجاوزت عليه وذكر عن عبد الله بن العباس بن الفضل بْن الربيع عن أبيه وكان حاجب المخلوع- قَالَ: كنت قائما على رأسه، فأتي بغداء فتغدى وحده، وأكل أكلا عجيبا، وكان يوما يعد للخلفاء قبله على هيئة ما كان يهيأ لكل واحد منهم يأكل من كل طعام، ثم يؤتى بطعامه قَالَ: فأكل حتى فرغ ثم رفع رأسه إلى أبي العنبر- خادم كان لأمه- فقال: اذهب إلى المطبخ، فقل لهم يهيئون لي بزماورد، ويتركونه طوالا لا يقطعونه، ويكون حشوة شحوم الدجاج والسمن والبقل والبيض والجبن والزيتون والجوز، ويكثرون منه ويعجلونه، فما مكث إلا يسيرا حتى جاءوا به في خوان مربع، وقد جعل عليه البزماورد الطوال، على هيئة القبة العبد صمدية، حتى صير أعلاها بزماوردة واحدة، فوضع بين يديه، فتناول واحدة فأكلها، ثم لم يزل كذلك حتى لم يبق على الخوان شيئا. وذكر عن علي بْن محمد أن جابر بْن مصعب حدثه، قَالَ: حدثني مخارق، قَالَ: مرت بي ليلة ما مرت بي مثلها قط، إني لفي منزلي بعد ليل،

إذ أتاني رسول محمد- وهو خليفة- فركض بي ركضا، فانتهى بي إلى داره، فأدخلت فإذا إبراهيم بْن المهدي قد أرسل إليه كما أرسل إلي، فوافينا جميعا، فانتهى إلى باب مفض إلى صحن، فإذا الصحن مملوء شمعا من شمع محمد العظام، وكأن ذلك الصحن في نهار، وإذا محمد في كرج، وإذا الدار مملوءة وصائف وخدما، وإذا اللعابون يلعبون، ومحمد وسطهم في الكرج يرقص فيه، فجاءنا رسول يقول: قَالَ لكما: قوما في هذا الموضع على هذا الباب مما يلي الصحن، ثم ارفعا أصواتكما معبرا ومقصرا عن السورناي، واتبعاه في لحنة قَالَ: وإذا السورناي والجواري واللعابون في شيء واحد: هذي دنانير تنساني واذكرها. تتبع الزمار قال: فو الله ما زلت وإبراهيم قائمين نقولها، نشق بها حلوقنا حتى انفلق الصبح، ومحمد في الكرج ما يسأمه ولا يمله حتى أصبح يدنو منا، أحيانا نراه، وأحيانا يحول بيننا وبينه الجواري والخدم. وذكر الحسين بْن فراس مولى بني هاشم، قَالَ: غزا الناس في زمان محمد على أن يرد عليهم الخمس، فرد عليهم، فأصاب الرجل ستة دنانير، وكان ذلك مالا عظيما. وذكر عن ابن الإعرابي، قَالَ: كنت حاضر الفضل بْن الربيع، وأتي بالحسن بْن هانئ، فقال: رفع إلى أمير المؤمنين إنك زنديق، فجعل يبرأ من ذلك ويحلف، وجعل الفضل يكرر عليه، وسأله أن يكلم الخليفة فيه، ففعل وأطلقه، فخرج وهو يقول: أهلي أتيتكم من القبر ... والناس محتبسون للحشر لولا أبو العباس ما نظرت ... عيني إلى ولد ولا وفر فالله ألبسني به نعما ... شغلت حسابتها يدي شكري لقيتها من مفهم فهم ... فمددتها بأنامل عشر

وذكر عن الرياشي أن أبا حبيب الموشي حدثه، قال: كنت مع مؤنس ابن عمران، ونحن نريد الفضل بْن الربيع ببغداد، فقال لي مؤنس: لو دخلنا على أبي نواس! فدخلنا عليه السجن، فقال لمؤنس: يا أبا عمران، أين تريد؟ قَالَ: أردت أبا العباس الفضل بْن الربيع، قَالَ: فتبلغه رقعة أعطيكها؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فأعطاه رقعة فيها: ما من يد في الناس واحدة ... إلا أبو العباس مولاها نام الثقات على مضاجعهم ... وسرى إلى نفسي فأحياها قد كنت خفتك ثم أمنني ... من أن أخافك خوفك الله فعفوت عني عفو مقتدر ... وجبت له نقم فألغاها قَالَ: فكانت هذه الأبيات سبب خروجه من الحبس وذكر عن محمد بْن خلاد الشروي، قَالَ: حدثني أبي قَالَ: سمع محمد شعر أبي نواس وقوله: ألا سقني خمرا وقل لي هي الخمر. وقوله: اسقنيها يا ذفافه ... مزة الطعم سلافه ذل عندي من قلاها ... لرجاء أو مخافه مثل ما ذلت وضاعت ... بعد هارون الخلافه قَالَ: ثم أنشد له: فجاء بها زيتية ذهبية ... فلم نستطع دون السجود لها صبرا قَالَ: فحبسه محمد على هذا، وقال: إيه! أنت كافر، وأنت زنديق. فكتب في ذلك إلى الفضل بْن الربيع:

أنت يا بن الربيع علمتني الخير ... وعودتنيه والخير عاده فارعوى باطلي وأقصر جهلي ... وأظهرت رهبة وزهاده لو تراني شبهت بي الحسن البصري ... في حال نسكه وقتاده بركوع أزينه بسجود ... واصفرار مثل اصفرار الجراده فادع بي لا عدمت تقويم مثلي ... فتأمل بعينك السجاده لو رآها بعض المرائين يوما ... لاشتراها يعدها للشهاده.

خلافه المأمون عبد الله بن هارون

خلافة المأمون عبد الله بْن هارون وفي هذه السنة وضعت الحرب- بين محمد وعبد الله ابنى هارون الرشيد- أوزارها، واستوسق الناس بالمشرق والعراق والحجاز لعبد الله المأمون بالطاعة. وفيها خرج الحسن بن الهرش في ذي الحجة منها يدعو إلى الرضى من آل محمد- بزعمه- في سفلة الناس، وجماعة كثيرة من الأعراب، حتى أتى النيل، فجبى الأموال، وأغار على التجار، وانتهب القرى، واستاق المواشي. وفيها ولى المأمون كل ما كان طاهر بْن الحسين افتتحه من كور الجبال وفارس والأهواز والبصرة والكوفة والحجاز واليمن الحسن بن سهل أخا الفضل ابن سهل، وذلك بعد مقتل محمد المخلوع ودخول الناس في طاعة المأمون. وفيها كتب المأمون إلى طاهر بْن الحسين، وهو مقيم ببغداد بتسليم جميع ما بيده من الأعمال في البلدان كلها إلى خلفاء الحسن بْن سهل، وأن يشخص عن ذلك كله إلى الرقة، وجعل إليه حرب نصر بْن شبث وولاه الموصل والجزيرة والشام والمغرب. وفيها قدم علي بْن أبي سعيد العراق خليفة للحسن بْن سهل على خراجها، فدافع طاهر عليا بتسليم الخراج إليه، حتى وفى الجند أرزاقهم، فلما وفاهم سلم إليه العمل. وفيها كتب المأمون إلى هرثمة يأمره بالشخوص إلى خراسان. وحج بالناس في هذه السنة العباس بْن موسى بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بن على

سنه تسع وتسعين ومائه

ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائة ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث المشهورة فمن ذلك قدوم الحسن بْن سهل فيها بغداد من عند المأمون، وإليه الحرب والخراج، فلما قدمها فرق عماله في الكور والبلدان. وفيها شخص طاهر إلى الرقة في جمادى الأولى، ومعه عيسى بْن محمد بْن أبي خالد وفيها شخص أيضا هرثمة إلى خراسان. وفيها خرج أزهر بْن زهير بْن المسيب إلى الهرش، فقتله في المحرم. وفيها خرج بالكوفة محمد بْن إبراهيم بْن إسماعيل بْن ابراهيم بن الحسن ابن الحسن بْن علي بْن أبي طالب يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة يدعو إلى الرضى من آل محمد والعمل بالكتاب والسنة، وهو الذي يقال له ابن طباطبا، وكان القيم بأمره في الحرب وتدبيرها وقيادة جيوشه ابو السرايا، واسمه السري بْن منصور، وكان يذكر أنه من ولد هانئ بْن قبيصة بْن هانئ بْن مسعود بْن عامر بْن عمرو بْن أبي ربيعة بْن ذهل بْن شيبان. ذكر الخبر عن سبب خروج محمد بْن إبراهيم بْن طباطبا اختلف في ذلك، فقال بعضهم: كان سبب خروجه صرف المأمون طاهر ابن الحسين عما كان إليه من أعمال البلدان التي فتحها وتوجيهه إلى ذلك الحسن بْن سهل، فلما فعل ذلك تحدث الناس بالعراق بينهم أن الفضل بْن سهل قد غلب على المأمون، وانه قد انزله قصرا حجبه فيه عن أهل بيته ووجوه قواده من الخاصة والعامة، وأنه يبرم الأمور على هواه، ويستبد بالرأي دونه. فغضب لذلك بالعراق من كان بها من بني هاشم ووجوه الناس، وأنفوا من

ذكر الوقعه بين اهل الكوفه وزهير بن المسيب

غلبة الفضل بْن سهل على المأمون، واجترءوا على الحسن بْن سهل بذلك، وهاجت الفتن في الأمصار، فكان أول من خرج بالكوفة ابن طباطبا الذي ذكرت. وقيل كان سبب خروجه أن أبا السرايا كان من رجال هرثمة، فمطله بأرزاقه وأخره بها، فغضب أبو السرايا من ذلك، ومضى إلى الكوفة فبايع محمد بن ابراهيم وأخذ الكوفه، واستوسق له أهلها بالطاعة، وأقام محمد بْن إبراهيم بالكوفه، وأتاه الناس من نواحي الكوفه والاعراب وغيرهم. ذكر الوقعة بين أهل الكوفة وزهير بْن المسيب وفيها وجه الحسن بْن سهل زهير بْن المسيب في أصحابه إلى الكوفة- وكان عامل الكوفة يومئذ حين دخلها ابن طباطبا سليمان بْن أبي جعفر المنصور- من قبل الحسن بْن سهل، وكان خليفة سليمان بْن أبي جعفر بها خالد بْن محجل الضبي- فلما بلغ الخبر الحسن بْن سهل عنف سليمان وضعفه، ووجه زهير بْن المسيب في عشرة آلاف فارس وراجل، فلما توجه إليهم وبلغهم خبر شخوصه إليهم تهيئوا للخروج إليه، فلم تكن لهم قوة على الخروج، فأقاموا حتى إذا بلغ زهير قرية شاهي خرجوا فأقاموا حتى إذا بلغوا القنطرة أتاهم زهير، فنزل عشية الثلاثاء صعنبا، ثم واقعهم من الغد فهزموه واستباحوا عسكره، وأخذوا ما كان معه من مال وسلاح ودواب وغير ذلك يوم الأربعاء. فلما كان من غد اليوم الذي كانت فيه الوقعة بين اهل الكوفه وزهير ابن المسيب- وذلك يوم الخميس لليلة خلت من رجب سنة تسع وتسعين ومائة- مات محمد بْن إبراهيم بْن طباطبا فجاءة، فذكر أن أبا السرايا سمه، وكان السبب في ذلك- فيما ذكر- أن ابن طباطبا لما أحرز ما في عسكر زهير من المال والسلاح والدواب وغير ذلك منعه أبا السرايا، وحظره عليه، وكان الناس له مطيعين، فعلم أبو السرايا أنه لا أمر له معه فسمه، فلما مات ابن طباطبا أقام أبو السرايا مكانه غلاما أمرد حدثا يقال له محمد بْن محمد بْن زيد بْن علي بْن الحسين بْن علي بْن أبي طالب، فكان أبو السرايا هو الذي ينفذ

الأمور، ويولي من رأى، ويعزل من أحب، وإليه الأمور كلها، ورجع زهير من يومه الذي هزم فيه إلى قصر ابن هبيرة، فأقام به وكان الحسن بْن سهل قد وجه عبدوس بْن محمد بْن أبي خالد المروروذي إلى النيل حين وجه زهير إلى الكوفة، فخرج بعد ما هزم زهير عبدوس يريد الكوفة بأمر الحسن بْن سهل، حتى بلغ الجامع هو وأصحابه، وزهير مقيم بالقصر، فتوجه أبو السرايا إلى عبدوس، فواقعه بالجامع، يوم الأحد لثلاث عشرة بقيت من رجب فقتله، وأسر هارون بْن محمد بْن أبي خالد، واستباح عسكره وكان عبدوس- فيما ذكر- في أربعة آلاف فارس، فلم يفلت منهم أحد، كانوا بين قتيل وأسير، وانتشر الطالبيون في البلاد، وضرب أبو السرايا الدراهم بالكوفة، ونقش عليها: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ» ، ولما بلغ زهيرا قتل أبي السرايا عبدوسا وهو بالقصر، انحاز بمن معه إلى نهر الملك. ثم إن أبا السرايا أقبل حتى نزل قصر ابن هبيرة بأصحابه، وكانت طلائعه تأتي كوثى ونهر الملك، فوجه أبو السرايا جيوشا إلى البصرة وواسط فدخلوهما، وكان بواسط ونواحيها عبد الله بْن سعيد الحرشي واليا عليها من قبل الحسن ابن سهل، فواقعه جيش أبي السرايا قريبا من واسط فهزموه، فانصرف راجعا إلى بغداد، وقد قتل من أصحابه جماعة وأسر جماعة فلما راى الحسن ابن سهل أن أبا السرايا ومن معه لا يلقون له عسكرا إلا هزموه، ولا يتوجهون إلى بلدة إلا دخلوها، ولم يجد فيمن معه من القواد من يكفيه حربه، اضطر إلى هرثمة- وكان هرثمة حين قدم عليه الحسن بْن سهل العراق واليا عليها من قبل المأمون، سلم ما كان بيده من الأعمال، وتوجه نحو خراسان مغاضبا للحسن، فسار حتى بلغ حلوان- فبعث إليه السندي وصالحا صاحب المصلى يسأله الانصراف إلى بغداد لحرب أبي السرايا، فامتنع وأبى وانصرف الرسول إلى الحسن بإبائه، فأعاد إليه السندي بكتب لطيفة، فأجاب، وانصرف إلى

بغداد، فقدمها في شعبان، فتهيأ للخروج إلى الكوفة، وأمر الحسن بْن سهل علي بْن أبي سعيد أن يخرج إلى ناحية المدائن وواسط والبصرة، فتهيئوا لذلك. وبلغ الخبر أبا السرايا وهو بقصر ابن هبيرة، فوجه إلى المدائن، فدخلها أصحابه في رمضان، وتقدم هو بنفسه وبمن معه حتى نزل نهر صرصر مما يلي طريق الكوفة في شهر رمضان وكان هرثمة لما احتبس قدومه على الحسن ببغداد أمر المنصور بْن المهدي أن يخرج فيعسكر بالياسرية إلى قدوم هرثمة، فخرج فعسكر، فلما قدم هرثمة خرج فعسكر بالسفينتين بين يدي منصور، ثم مضى حتى عسكر بنهر صرصر بإزاء أبي السرايا، والنهر بينهما، وكان على ابن أبي سعيد معسكرا بكلواذى، فشخص يوم الثلاثاء بعد الفطر بيوم، ووجه مقدمته إلى المدائن، فقاتل بها أصحاب أبي السرايا غداة الخميس إلى الليل قتالا شديدا فلما كان الغد غدا وأصحابه على القتال فانكشف أصحاب أبي السرايا وأخذ ابن أبي سعيد المدائن وبلغ الخبر أبا السرايا وأخذ ابن أبي سعيد المدائن، فلما كان ليلة السبت لخمس خلون من شوال رجع أبو السرايا من نهر صرصر إلى قصر ابن هبيرة، فنزل به، وأصبح هرثمة فجد في طلبه، فوجد جماعة كثيرة من أصحابه فقتلهم، وبعث برءوسهم إلى الحسن ابن سهل، ثم صار هرثمة إلى قصر ابن هبيرة، فكانت بينه وبين أبي السرايا وقعة قتل فيها من أصحاب أبي السرايا خلق كثير، فانحاز أبو السرايا إلى الكوفة، فوثب محمد بْن محمد ومن معه من الطالبيين على دور بني العباس ودور مواليهم وأتباعهم بالكوفة، فانتهبوها وخربوها وأخرجوهم من الكوفة، وعملوا في ذلك عملا قبيحا، واستخرجوا الودائع التي كانت لهم عند الناس فأخذوها وكان هرثمة- فيما ذكر- يخبر الناس أنه يريد الحج، فكان قد حبس من يريد الحج من خراسان والجبال والجزيرة وحاج بغداد وغيرهم، فلم يدع أحدا يخرج، رجاء أن يأخذ الكوفة، ووجه أبو السرايا إلى مكة والمدينة من يأخذهما، ويقيم الحج للناس. وكان الوالي على مكة والمدينة داود بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن علي بْن عبد الله بْن العباس، وكان الذي وجهه أبو السرايا الى مكة

حسين بْن حسن الأفطس بْن علي بْن الحسين بْن علي بْن أبي طالب والذي وجهه إلى المدينة محمد بْن سليمان بْن داود بن الحسن بْن الحسن بْن علي بْن أبي طالب، فدخلها ولم يقاتله بها أحد، ومضى حسين بْن حسن يريد مكة فلما قرب منها وقف هنيهة لمن فيها وكان داود بْن عيسى لما بلغه توجيه أبي السرايا حسين بن حسن إلى مكة لإقامة الحج للناس جمع موالي بني العباس وعبيد حوائطهم، وكان مسرور الكبير الخادم قد حج في تلك السنة في مائتي فارس من أصحابه، فتعبأ لحرب من يريد دخول مكة وأخذها من الطالبيين، فقال لداود بْن عيسى: أقم لي شخصك أو شخص بعض ولدك، وأنا أكفيك قتالهم، فقال له داود: لا أستحل القتال في الحرم، والله لئن دخلوا من هذا الفج لأخرجن من هذا الفج الآخر، فقال له مسرور: تسلم ملكك وسلطانك إلى عدوك ومن لا يأخذه فيك لومة لائم في دينك ولا حرمك ولا مالك! قَالَ له داود: أي ملك لي! والله لقد أقمت معهم حتى شيخت فما ولوني ولاية حتى كبرت سني، وفني عمري، فولوني من الحجاز ما فيه القوت، إنما هذا الملك لك وأشباهك، فقاتل إن شئت أو دع فانحاز داود من مكة إلى ناحية المشاش، وقد شد أثقاله على الإبل، فوجه بها في طريق العراق، وافتعل كتابا من المأمون بتولية ابنه محمد بْن داود على صلاة الموسم، فقال له: اخرج فصل بالناس الظهر والعصر بمنى، والمغرب والعشاء، وبت بمنى، وصل بالناس الصبح، ثم اركب دوابك فانزل طريق عرفه، وخذ على يسارك في شعب عمرو، حتى تأخذ طريق المشاش، حتى تلحقني ببستان ابن عامر. ففعل ذلك، وافترق الجمع الذي كان داود بْن عيسى معهم بمكة من موالي بني العباس وعبيد الحوائط، وفت ذلك في عضد مسرور الخادم، وخشي إن قاتلهم أن يميل أكثر الناس معهم، فخرج في أثر داود راجعا إلى العراق، وبقي الناس بعرفة، فلما زالت الشمس وحضرت الصلاة، تدافعها قوم من أهل مكة، فقال أحمد بْن محمد بْن الوليد الردمي- وهو المؤذن وقاضي الجماعة والإمام بأهل المسجد الحرام: إذ لم تحضر الولاة- لقاضي مكة محمد بْن عبد الرحمن

المخزومي: تقدم فاخطب بالناس، وصل بهم الصلاتين، فإنك قاضي البلد. قَالَ: فلمن أخطب وقد هرب الإمام، وأطل هؤلاء القوم على الدخول! قَالَ: لا تدع لأحد، قَالَ له محمد: بل أنت فتقدم واخطب، وصل بالناس، فأبى، حتى قدموا رجلا من عرض أهل مكة، فصلى بالناس الظهر والعصر بلا خطبة، ثم مضوا فوقفوا جميعا بالموقف من عرفة حتى غربت الشمس، فدفع الناس لأنفسهم من عرفة بغير إمام، حتى أتوا مزدلفة، فصلى بهم المغرب والعشاء رجل أيضا من عرض الناس وحسين بْن حسن يتوقف بسرف يرهب أن يدخل مكة، فيدفع عنها ويقاتل دونها، حتى خرج إليه قوم من أهل مكة ممن يميل إلى الطالبيين، ويتخوف من العباسيين، فأخبروه أن مكة ومنى وعرفة قد خلت ممن فيها من السلطان، وأنهم قد خرجوا متوجهين إلى العراق. فدخل حسين بْن حسن مكة قبل المغرب من يوم عرفة، وجميع من معه لا يبلغون عشرة، فطافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة، ومضوا إلى عرفة في الليل، فوقفوا بها ساعة من الليل، ثم رجع إلى مزدلفة فصلى بالناس الفجر، ووقف على قزح، ودفع بالناس منه. وأقام بمنى ايام الحج، فلم يزل مقيما حتى انقضت سنة تسع وتسعين ومائة، وأقام محمد بْن سليمان بْن داود الطالبي بالمدينة السنة أيضا، فانصرف الحاج ومن كان شهد مكة والموسم، على أن أهل الموسم قد أفاضوا من عرفة بغير إمام. وقد كان هرثمة لما تخوف أن يفوته الحج- وقد نزل قرية شاهي- واقع أبا السرايا وأصحابه في المكان الذي واقعه فيه زهير، فكانت الهزيمة على هرثمة في أول النهار، فلما كان آخر النهار كانت الهزيمة على أصحاب أبي السرايا، فلما رأى هرثمة أنه لم يصر إلى ما أراد، أقام بقرية شاهي، ورد الحاج وغيرهم، وبعث إلى المنصور بْن المهدي فأتاه بقرية شاهي، وصار يكاتب رؤساء أهل الكوفة، وقد كان علي بْن أبي سعيد لما أخذ المدائن توجه إلى واسط فأخذها، ثم إنه توجه إلى البصرة فلم يقدر على أخذها حتى انقضت سنة تسع وتسعين ومائه.

سنه مائتين

ثم دخلت سنة مائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر الخبر عن هرب ابى السرايا وما آل اليه امره فمما كان فيها من ذلك هرب أبي السرايا من الكوفة ودخول هرثمة إليها. ذكر أن أبا السرايا هرب هو ومن معه من الطالبيين من الكوفة ليلة الأحد لأربع عشرة ليلة بقيت من المحرم من سنة مائتين، حتى اتى القادسية ودخل منصور ابن المهدي وهرثمة الكوفة صبيحة تلك الليلة، وآمنوا أهلها، ولم يعرضوا لأحد منهم، فأقاموا بها يومهم إلى العصر، ثم رجعوا إلى معسكرهم، وخلفوا بها رجلا منهم يقال له غسان بْن أبي الفرج أبو إبراهيم بْن غسان صاحب حرس صاحب خراسان، فنزل في الدار التي كان فيها محمد بْن محمد وأبو السرايا ثم أن أبا السرايا خرج من القادسية هو ومن معه حتى أتوا ناحية واسط، وكان بواسط علي بْن أبي سعيد، وكانت البصرة بيد العلويين بعد، فجاء أبو السرايا حتى عبر دجلة أسفل من واسط، فأتى عبدسي، فوجد بها مالا كان حمل من الأهواز، فأخذه ثم مضى حتى أتى السوس، فنزلها ومن معه، وأقام بها أربعة ايام، وجعل يعطى الفارس ألفا والراجل خمسمائة، فلما كان اليوم الرابع أتاهم الحسن بْن علي الباذغيسي المعروف بالمأموني فأرسل إليهم: اذهبوا حيث شئتم، فإنه لا حاجة لي في قتالكم، وإذا خرجتم من عملي فلست أتبعكم فأبى أبو السرايا إلا القتال، فقاتلهم، فهزمهم الحسن، واستباح عسكرهم، وجرح أبو السرايا جراحة شديده، فهرب، واجتمع هو ومحمد بن محمد وأبو الشوك، وقد تفرق أصحابهم، فأخذوا ناحية طريق الجزيرة يريدون منزل أبي السرايا برأس العين، فلما انتهوا إلى جلولاء عثر بهم، فأتاهم حماد الكندغوش فأخذهم، فجاء بهم إلى الحسن بْن سهل، وكان مقيما بالنهروان

ذكر الخبر عن خروج ابراهيم بن موسى باليمن

حين طردته الحربية، فقدم بأبي السرايا، فضرب عنقه يوم الخميس لعشر خلون من ربيع الاول وذكروا أن الذي تولى ضرب عنقه هارون بْن محمد بْن أبي خالد، وكان أسيرا في أيدي ابى السرايا وذكروا أنه لم يروا أحدا عند القتل أشد جزعا من أبي السرايا، كان يضطرب بيديه ورجليه، ويصيح أشد ما يكون من الصياح، حتى جعل في رأسه حبل، وهو في ذلك يضطرب ويلتوي ويصيح، حتى ضربت عنقه ثم بعث برأسه فطيف به في عسكر الحسن بْن سهل، وبعث بجسده إلى بغداد، فصلب نصفين على الجسر، في كل جانب نصف، 4 وكان بين خروجه بالكوفة وقتله عشرة أشهر. وكان علي بْن أبي سعيد حين عبر أبو السرايا توجه إليه، فلما فاته توجه إلى البصرة فافتتحها والذي كان بالبصرة من الطالبيين زيد بْن موسى بْن جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ بْن علي بْن أبي طالب ومعه جماعة من أهل بيته، وهو الذي يقال له زيد النار- وإنما سمي زيد النار لكثرة ما حرق من الدور بالبصرة من دور بني العباس وأتباعهم، وكان إذا أتي برجل من المسودة كانت عقوبته عنده أن يحرقه بالنار- وانتهبوا بالبصرة أموالا، فأخذه علي بْن أبي سعيد أسيرا وقيل إنه طلب الأمان فآمنه وبعث علي بْن أبي سعيد ممن كان معه من القواد عيسى بْن يزيد الجلودي وورقاء بْن جميل وحمدويه بْن علي بْن عيسى بْن ماهان وهارون بْن المسيب إلى مكة والمدينة واليمن، وأمرهم بمحاربة من بها من الطالبيين وقال التميمي في قتل الحسن بْن سهل أبا السرايا: ألم تر ضربة الحسن بْن سهل ... بسيفك يا أمير المؤمنينا أدارت مرو رأس أبي السرايا ... وأبقت عبرة للعابرينا وبعث الحسن بْن سهل محمد بْن محمد حين قتل ابو السرايا الى المأمون بخراسان . ذكر الخبر عن خروج ابراهيم بن موسى باليمن وفي هذه السنة خرج إبراهيم بْن موسى بْن جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ بْن علي بْن أبي طالب باليمن

ذكر ما فعله الحسين بن الحسن الافطس بمكة

ذكر الخبر عنه وعن أمره: وكان إبراهيم بْن موسى- فيما ذكر- وجماعة من أهل بيته بمكة حين خرج أبو السرايا وأمره وأمر الطالبيين بالعراق ما ذكر وبلغ إبراهيم بْن موسى خبرهم، فخرج من مكة مع من كان معه من أهل بيته يريد اليمن، ووالي اليمن يومئذ المقيم بها من قبل المأمون إسحاق بْن موسى بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بن عَلِيّ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس فلما سمع بإقبال إبراهيم بْن موسى العلوي وقربه من صنعاء، خرج منصرفا عن اليمن، في الطريق النجدية بجميع من في عسكره من الخيل والرجل، وخلى لإبراهيم بْن موسى بْن جعفر اليمن وكره قتاله، وبلغه ما كان من فعل عمه داود بْن عيسى بمكة والمدينة، ففعل مثل فعله، وأقبل يريد مكة، حتى نزل المشاش، فعسكر هناك، وأراد دخول مكة، فمنعه من كان بها من العلويين، وكانت أم إسحاق بْن موسى بْن عيسى متوارية بمكة من العلويين، وكانوا يطلبونها فتوارت منهم، ولم يزل إسحاق بْن موسى معسكرا بالمشاش، وجعل من كان بمكة مستخفيا يتسللون من رءوس الجبال، فأتوا بها ابنها في عسكره وكان يقال لإبراهيم بْن موسى: الجزار، لكثرة من قتل باليمن من الناس وسبى وأخذ من الأموال . ذكر ما فعله الحسين بن الحسن الافطس بمكة وفي هذه السنة في أول يوم من المحرم منها بعد ما تفرق الحاج من مكة جلس حسين بْن حسن الأفطس خلف المقام على نمرقة مثنية، فأمر بثياب الكعبة التي عليها فجردت منها حتى لم يبق عليها من كسوتها شيئا، وبقيت حجارة مجردة، ثم كساها ثوبين من قز رقيق، كان ابو السرايا وجه بهما معه مكتوب عليهما: أمر به الأصفر بْن الأصفر أبو السرايا داعية آل محمد، لكسوة بيت الله الحرام، وأن يطرح عنه كسوة الظلمه من ولد العباس، لتطهر من كسوتهم وكتب في سنة تسع وتسعين ومائة. ثم أمر حسين بْن حسن بالكسوة التي كانت على الكعبة فقسمت بين أصحابه من العلويين وأتباعهم على قدر منازلهم عنده، وعمد إلى ما في خزانة

الكعبة من مال فأخذه، ولم يسمع بأحد عنده وديعة لأحد من ولد العباس وأتباعهم إلا هجم عليه في داره، فإن وجد من ذلك شيئا أخذه وعاقب الرجل، وإن لم يجد عنده شيئا حبسه وعذبه حتى يفتدي نفسه بقدر طوله، ويقر عند الشهود أن ذلك للمسودة من بني العباس وأتباعهم، حتى عم هذا خلقا كثيرا. وكان الذي يتولى العذاب لهم رجلا من أهل الكوفة يقال له محمد بْن مسلمة، كان ينزل في دار خالصة عند الحناطين، فكان يقال لها دار العذاب، وأخافوا الناس، حتى هرب منهم خلق كثير من أهل النعم، فتعقبوهم بهدم دورهم حتى صاروا من أمر الحرم، وأخذ أبناء الناس في أمر عظيم، وجعلوا يحكون الذهب الرقيق الذي في رءوس أساطين المسجد، فيخرج من الأسطوانة بعد التعب الشديد قدر مثقال ذهب أو نحوه، حتى عم ذلك أكثر أساطين المسجد الحرام، وقلعوا الحديد الذي على شبابيك زمزم، ومن خشب الساج، فبيع بالثمن الخسيس فلما رأى حسين بْن حسن ومن معه من أهل بيته تغير الناس لهم بسيرتهم، وبلغهم أن أبا السرايا قد قتل، وأنه قد طرد من الكوفة والبصرة وكور العراق من كان بها من الطالبيين، ورجعت الولاية بها لولد العباس، اجتمعوا إلى محمد بْن جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ بْن علي بْن أبي طالب- وكان شيخا وداعا محببا في الناس، مفارقا لما عليه كثير من أهل بيته من قبح السيرة، وكان يروي العلم عن أبيه جعفر بْن محمد، وكان الناس يكتبون عنه، وكان يظهر سمتا وزهدا- فقالوا له: قد تعلم حالك في الناس، فأبرز شخصك نبايع لك بالخلافة، فإنك إن فعلت ذلك لم يختلف عليك رجلان، فأبى ذلك عليهم، فلم يزل به ابنه علي بْن محمد بْن جعفر وحسين بْن حسن الأفطس حتى غلبا الشيخ على رأيه، فأجابهم فأقاموه يوم صلاة الجمعة بعد الصلاة لست خلون من ربيع الآخر، فبايعوه بالخلافة، وحشروا إليه الناس من أهل مكة والمجاورين، فبايعوه طوعا وكرها، وسموه بإمرة المؤمنين، فأقام بذلك أشهرا، وليس له من الأمر إلا اسمه، وابنه علي وحسين بْن حسن وجماعة منهم أسوأ ما كانوا سيرة، وأقبح ما كانوا فعلا، فوثب حسين بْن حسن على امرأة من قريش من بني فهر- وزوجها رجل من بني مخزوم، وكان لها

جمال بارع- فأرسل إليها لتأتيه، فامتنعت عليه، فأخاف زوجها وامر بطلبها فتوارت منه، فأرسل ليلا جماعة من أصحابه فكسروا باب الدار، واغتصبوها نفسها، وذهبوا بها إلى حسين، فلبثت عنده إلى قرب خروجه من مكة، فهربت منه، ورجعت إلى أهلها وهم يقاتلون بمكة ووثب علي بْن محمد بْن جعفر على غلام من قريش، ابن قاض بمكة يقال له إسحاق بْن محمد، وكان جميلا بارعا في الجمال- فاقتحم عليه بنفسه نهارا جهارا في داره على الصفا مشرفا على المسعى، حتى حمله على فرسه في السرج وركب علي بْن محمد على عجز الفرس، وخرج به يشق السوق حتى أتى بئر ميمون- وكان ينزل في دار داود بْن عيسى في طريق منى- فلما رأى ذلك أهل مكة ومن بها من المجاورين، خرجوا فاجتمعوا في المسجد الحرام، وغلقت الدكاكين، ومال معهم أهل الطواف بالكعبة، حتى أتوا محمد بْن جعفر بْن محمد، وهو نازل دار داود، فقالوا: والله لنخلعنك ولنقتلنك، أو تردن إلينا هذا الغلام الذي ابنك أخذه جهرة فأغلق باب الدار، وكلمهم من الشباك الشارع في المسجد، فقال: والله ما علمت، وأرسل إلى حسين بْن حسن يسأله أن يركب إلى ابنه علي فيستنقذ الغلام منه فأبى ذلك حسين، وقال: والله إنك لتعلم أني لا أقوى على ابنك، ولو جئته لقاتلني وحاربني في أصحابه فلما رأى ذلك محمد قَالَ لأهل مكة: آمنوني حتى أركب إليه وآخذ الغلام منه فآمنوه وأذنوا له في الركوب، فركب بنفسه حتى صار إلى ابنه، فأخذ الغلام منه وسلمه إلى أهله قَالَ: فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى أقبل إسحاق بْن موسى بْن عيسى العباسي مقبلا من اليمن حتى نزل المشاش، فاجتمع العلويون إلى محمد بْن جعفر بْن محمد، فقالوا له: يا أمير المؤمنين، هذا إسحاق بْن موسى مقبلا إلينا في الخيل والرجال، وقد رأينا أن نخندق خندقا بأعلى مكة، وتبرز شخصك ليراك الناس ويحاربوا معك وبعثوا إلى من حولهم من الأعراب، ففرضوا لهم، وخندقوا على مكة ليقاتلوا إسحاق بْن موسى من ورائه، فقاتلهم إسحاق أياما ثم أن إسحاق كره القتال والحرب، وخرج يريد العراق، فلقيه ورقاء بْن جميل في أصحابه ومن كان معه من اصحاب الجلودي، فقالوا: ارجع معنا إلى مكة ونحن نكفيك القتال فرجع معهم حتى أتوا مكة

فنزلوا المشاش واجتمع إلى محمد بْن جعفر من كان معه من غوغائها، ومن سودان أهل المياه، ومن فرض له من الأعراب، فعبأهم ببئر ميمون، وأقبل إليهم إسحاق بْن موسى وورقاء بْن جميل بمن معه من القواد والجند، فقاتلهم ببئر ميمون، فوقعت بينهم قتلى وجراحات ثم رجع إسحاق وورقاء إلى معسكرهم، ثم عاودهم بعد ذلك بيوم فقاتلهم، فكانت الهزيمة على محمد بْن جعفر وأصحابه، فلما رأى ذلك محمد، بعث رجالا من قريش فيهم قاضي مكة يسألون لهم الأمان، حتى يخرجوا من مكة، ويذهبوا حيث شاءوا، فأجابهم إسحاق وورقاء بْن جميل إلى ذلك، وأجلوهم ثلاثة أيام، فلما كان في اليوم الثالث، دخل إسحاق وورقاء إلى مكة في جمادى الآخرة وورقاء الوالي على مكة للجلودي، وتفرق الطالبيون من مكة، فذهب كل قوم ناحية، فأما محمد بْن جعفر فأخذ ناحية جده، ثم خرج يريد الجحفة، فعرض له رجل من موالي بني العباس يقال له محمد بْن حكيم بْن مروان، قد كان الطالبيون انتهبوا داره بمكة، وعذبوه عذابا شديدا، وكان يتوكل لبعض العباسيين بمكة لآل جعفر بْن سليمان، فجمع عبيد الحوائط من عبيد العباسيين حتى لحق محمد بْن جعفر بين جدة وعسفان، فانتهب جميع ما معه مما خرج به من مكة، وجرده حتى تركه في سراويل، وهم بقتله، ثم طرح عليه بعد ذلك قميصا وعمامة ورداء ودريهمات يتسبب بها، فخرج محمد بْن جعفر حتى أتى بلاد جهينة على الساحل، فلم يزل مقيما هنالك حتى انقضى الموسم، وهو في ذلك يجمع الجموع وقد وقع بينه وبين هارون بْن المسيب والي المدينة وقعات عند الشجرة وغيرها، وذلك أن هارون بعث ليأخذه، فلما راى ذلك أتاه بمن اجتمع حتى بلغ الشجرة، فخرج إليه هارون فقاتله، فهزم محمد بْن جعفر، وفقئت عينه بنشابة، وقتل من أصحابه بشر كثير، فرجع حتى أقام بموضعه الذي كان فيه ينتظر ما يكون من أمر الموسم، فلم يأته من كان وعده فلما رأى ذلك وانقضى الموسم، طلب الأمان من الجلودي ومن رجاء ابن عم الفضل بْن سهل، وضمن له رجاء على المأمون وعلى الفضل بْن سهل ألا يهاج، وأن يوفى له بالأمان، فقبل ذلك ورضيه، ودخل به إلى مكة، يوم الأحد بعد النفر الأخير بثمانية أيام لعشر بقين من ذي الحجة، فأمر عيسى بْن يزيد

الجلودي ورجاء بْن أبي الضحاك ابن عم الفضل بْن سهل بالمنبر، فوضع بين الركن والمقام حيث كان محمد بْن جعفر بويع له فيه، وقد جمع الناس من القريشيين وغيرهم، فصعد الجلودي رأس المنبر، وقام محمد بْن جعفر تحته بدرجة، وعليه قباء أسود وقلنسوة سوداء، وليس عليه سيف ليخلع نفسه. ثم قام محمد، فقال: أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا محمد بْن جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ بْن علي بن أبي طالب، فإنه كان لعبد الله عبد الله أمير المؤمنين في رقبتي بيعة بالسمع والطاعة، طائعا غير مكره، وكنت أحد الشهود الذين شهدوا في الكعبة في الشرطين لهارون الرشيد على ابنيه: محمد المخلوع وعبد الله المأمون أمير المؤمنين ألا وقد كانت فتنة غشيت عامة الأرض منا ومن غيرنا وكان نمي إلي خبر، أن عبد الله عبد الله المأمون أمير المؤمنين كان توفي، فدعاني ذلك إلى أن بايعوا لي بإمرة المؤمنين، واستحللت قبول ذلك لما كان علي من العهود والمواثيق في بيعتي لعبد الله عبد الله الإمام المأمون، فبايعتموني- أو من فعل منكم- ألا وقد بلغني وصح عندي أنه حي سوي ألا وإني أستغفر الله مما دعوتكم إليه من البيعة، وقد خلعت نفسي من بيعتي التي بايعتموني عليها، كما خلعت خاتمي هذا من أصبعي، وقد صرت كرجل من المسلمين فلا بيعة لي في رقابهم، وقد أخرجت نفسي من ذلك، وقد رد الله الحق إلى الخليفة المأمون عبد الله عبد الله المأمون أمير المؤمنين، والحمد لله رب العالمين، والصلاة على محمد خاتم النبيين والسلام عليكم أيها المسلمون ثم نزل فخرج به عيسى بْن يزيد الجلودي إلى العراق، واستخلف على مكة ابنه محمد بْن عيسى في سنة إحدى ومائتين، وخرج عيسى ومحمد بْن جعفر حتى سلمة إلى الحسن بْن سهل، فبعث به الحسن بْن سهل إلى المأمون بمرو مع رجاء بْن أبي الضحاك. وفي هذه السنة وجه إبراهيم بْن موسى بْن جعفر بْن محمد الطالبي بعض ولد عقيل بْن أبي طالب من اليمن في جند كثيف إلى مكة ليحج بالناس، فحورب العقيلي فهزم، ولم يقدر على دخول مكة.

ذكر الخبر عن امر ابراهيم والعقيلي الذى ذكرنا امره

ذكر الخبر عن امر ابراهيم والعقيلي الذي ذكرنا أمره ذكر أن أبا إسحاق بْن هارون الرشيد حج بالناس في سنة مائتين، فسار حتى دخل مكة، ومعه قواد كثير، فيهم حمدويه بْن علي بْن عيسى بْن ماهان، وقد استعمله الحسن بْن سهل على اليمن، ودخلوا مكة، وبها الجلودي في جنده وقواده، ووجه إبراهيم بْن موسى بْن جعفر بن محمد العلوي من اليمن راجلا من ولد عقيل بْن أبي طالب، وأمره أن يحج بالناس، فلما صار العقيلي إلى بستان ابْن عامر، بلغه أن أبا إسحاق بْن هارون الرشيد قد ولي الموسم، وأن معه من القواد والجنود مالا قبل لأحد به، فأقام ببستان ابن عامر، فمرت به قافلة من الحاج والتجار، فيها كسوة الكعبة وطيبها، فأخذ أموال التجار وكسوة الكعبة وطيبها، وقدم الحاج والتجار مكة عراة مسلبين، فبلغ ذلك أبا إسحاق بن الرشيد وهو نازل بمكة في دار القوارير، فجمع إليه القواد فشاورهم، فقال له الجلودي- وذلك قبل التروية بيومين أو ثلاثة: أصلح الله الأمير! أنا أكفيكهم، أخرج إليهم في خمسين من نخبة أصحابي، وخمسين أنتخبهم من سائر القواد. فأجابوه إلى ذلك، فخرج الجلودي في مائة حتى صبح العقيلي وأصحابه ببستان ابن عامر، فأحدق بهم، فأسر أكثرهم وهرب من هرب منهم يسعى على قدميه، فأخذ كسوة الكعبة إلا شيئا كان هرب به من هرب قبل ذلك بيوم واحد، وأخذ الطيب وأموال التجار والحاج، فوجه به إلى مكة، ودعا بمن أسر من أصحاب العقيلي، فأمر بهم فقنع كل رجل منهم عشرة أسواط، ثم قَالَ: اعزبوا يا كلاب النار، فو الله ما قتلكم وعر، ولا في أسركم جمال وخلى سبيلهم، فرجعوا إلى اليمن يستطعمون في الطريق حتى هلك أكثرهم جوعا وعريا. وخالف ابن أبي سعيد على الحسن بْن سهل، فبعث المأمون بسراج الخادم، وقال له: إن وضع على يده في يد الحسن او شخص الى بمرو والا فاضرب عنقه فشخص إلى المأمون مع هرثمة بْن أعين. وفي هذه السنة شخص هرثمة في شهر ربيع الأول منها من معسكره إلى المأمون بمرو.

ذكر الخبر عن شخوص هرثمة إلى المأمون وما آل اليه امره في مسيره ذلك

ذكر الخبر عن شخوص هرثمة إلى المأمون وما آل إليه أمره في مسيره ذلك ذكر أن هرثمة لما فرغ من أمر أبي السرايا ومحمد بْن محمد العلوي، ودخل الكوفة، أقام في معسكره إلى شهر ربيع الأول، فلما أهل الشهر خرج حتى أتى نهر صرصر، والناس يرون أنه يأتي الحسن بْن سهل بالمدائن، فلما بلغ نهر صرصر خرج على عقرقوف، ثم خرج حتى أتى البردان، ثم أتى النهروان، ثم خرج حتى اتى الى خراسان، وقد اتته كتب المأمون في غير منزل، أن يرجع فيلي الشام أو الحجاز، فأبى وقال: لا أرجع حتى ألقى أمير المؤمنين، أدلالا منه عليه، لما كان يعرف من نصيحته له ولآبائه، وأراد أن يعرف المأمون ما يدبر عليه الفضل بْن سهل، وما يكتم عنه من الأخبار، وألا يدعه حتى يرده إلى بغداد، دار خلافة آبائه وملكهم ليتوسط سلطانه، ويشرف على أطرافه فعلم الفضل ما يريد، فقال للمأمون: إن هرثمة قد أنغل عليك البلاد والعباد، وظاهر عليك عدوك، وعادى وليك، ودس أبا السرايا، وهو جندي من جنده حتى عمل ما عمل، ولو شاء هرثمة ألا يفعل ذلك أبو السرايا ما فعله وقد كتب إليه أمير المؤمنين عدة كتب، أن يرجع فيلي الشام أو الحجاز فأبى، وقد رجع إلى باب أمير المؤمنين عاصيا مشاقا، يظهر القول الغليظ، ويتواعد بالأمر الجليل، وان اطلق هذا كان مفسدة لغيره فأشرب قلب أمير المؤمنين عليه. وأبطأ هرثمة في المسير فلم يصل إلى خراسان حتى كان ذو القعدة، فلما بلغ مرو خشي أن يكتم المأمون قدومه، فضرب بالطبول لكي يسمعها المأمون، فسمعها فقال: ما هذا؟ قالوا: هرثمة قد أقبل يرعد ويبرق، وظن هرثمة أن قوله المقبول فأمر بإدخاله، فلما أدخل- وقد أشرب قلبه ما

ذكر الخبر عن وثوب الحربية ببغداد

أشرب- قَالَ له المأمون: مالأت أهل الكوفة والعلويين وداهنت ودسست إلى أبي السرايا حتى خرج وعمل ما عمل، وكان رجلا من أصحابك، ولو أردت أن تأخذهم جميعا لفعلت، ولكنك أرخيت خناقهم، وأجررت لهم رسنهم فذهب هرثمة ليتكلم ويعتذر، ويدفع عن نفسه ما قرف به فلم يقبل ذلك منه، وأمر به فوجئ على أنفه، وديس بطنه، وسحب من بين يديه وقد تقدم الفضل بْن سهل إلى الأعوان بالغلظ عليه والتشديد حتى حبس، فمكث في الحبس أياما، ثم دسوا اليه فقتلوه وقالوا له: انه مات. ذكر الخبر عن وثوب الحربية ببغداد وفي هذه السنة هاج الشغب ببغداد بين الحربية والحسن بْن سهل. ذكر الخبر عن ذلك وكيف كان: ذكر أن الحسن بْن سهل كان بالمدائن حين شخص هرثمة إلى خراسان، ولم يزل مقيما بها إلى أن اتصل بأهل بغداد والحربية ما صنع به، فبعث الحسن ابن سهل إلى علي بْن هشام- وهو والي بغداد، من قبله: إن أمطل الجند من الحربية والبغداديين أرزاقهم، ومنهم ولا تعطهم وقد كان الحسن قبل ذلك اتعدهم أن يعطيهم أرزاقهم، وكانت الحربية حين خرج هرثمة إلى خراسان وثبوا وقالوا: لا نرضى حتى نطرد الحسن بْن سهل عن بغداد، وكان من عماله بها محمد بْن أبي خالد وأسد بْن أبي الأسد، فوثبت الحربية عليهم فطردوهم، وصيروا إسحاق بْن موسى بْن المهدي خليفة للمأمون ببغداد، فاجتمع أهل الجانبين على ذلك، ورضوا به، فدس الحسن إليهم، وكاتب قوادهم حتى وثبوا من جانب عسكر المهدي، وجعل يعطي الجند أرزاقهم لستة أشهر عطاء نزرا، فحول الحربية إسحاق إليهم، وأنزلوه على دجيل. وجاء زهير بْن المسيب فنزل في عسكر المهدي، وبعث الحسن بْن سهل علي بْن هشام، فجاء من الجانب الآخر، حتى نزل نهر صرصر، ثم جاء هو

ومحمد بْن أبي خالد وقوادهم ليلا، حتى دخلوا بغداد، فنزل علي بْن هشام دار العباس بْن جعفر بْن محمد بْن الأشعث الخزاعي على باب المحول لثمان خلون من شعبان، وقبل ذلك ما كان الحربية حين بلغهم أن أهل الكرخ يريدون أن يدخلوا زهيرا وعلي بْن هشام، شدوا على باب الكرخ فاحرقوه، وانهبوا من حد قصر الوضاح إلى داخل باب الكرخ إلى أصحاب القراطيس ليلة الثلاثاء، ودخل علي بْن هشام صبيحة تلك الليلة، فقاتل الحربية ثلاثة أيام على قنطرة الصراة العتيقة والجديدة والأرحاء. ثم أنه وعد الحربية أن يعطيهم رزق ستة أشهر إذا أدركت الغلة، فسألوه أن يعجل لهم خمسين درهما لكل رجل لينفقوها في شهر رمضان، فأجابهم إلى ذلك، وجعل يعطي، فلم يتم لهم إعطاءهم، حتى خرج زيد بْن موسى بْن جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ بْن علي بْن أبي طالب، الخارج بالبصرة المعروف بزيد النار، كان أفلت من الحبس عند علي بْن أبي سعيد، فخرج في ناحية الأنبار ومعه أخو أبي السرايا في ذي القعدة سنة مائتين، فبعثوا إليه، فأخذ، فأتى به علي بْن هشام، فلم يلبث إلا جمعة حتى هرب من الحربية، فنزل نهر صرصر، وذلك أنه كان يكذبهم، ولم يف لهم بإعطاء الخمسين، إلى أن جاء الأضحى، وبلغهم خبر هرثمة وما صنع به، فشدوا على علي فطردوه. وكان المتولي ذلك والقائم بأمر الحرب محمد بْن أبي خالد، وذلك ان على ابن هشام لما دخل بغداد كان يستخف به، فوقع بين محمد بْن أبي خالد وبين زهير بْن المسيب إلى أن قنعه زهير بالسوط فغضب محمد من ذلك، وتحول إلى الحربية في ذي القعدة، ونصب لهم الحرب، واجتمع إليه الناس فلم يقو بهم علي بْن هشام حتى أخرجوه من بغداد، ثم اتبعه حتى هزمهم من نهر صرصر. وفي هذه السنة وجه المأمون رجاء بن أبي الضحاك وفرناس الخادم لإشخاص علي بْن موسى بْن جعفر بْن محمد ومحمد بْن جعفر

وأحصي في هذه السنة ولد العباس، فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفا ما بين ذكر واثنى. وفي هذه السنة قتلت الروم ملكها ليون، فكان قد ملك عليهم سبع سنين وستة أشهر، وملكوا عليهم ميخائيل بْن جورجس ثانية. وفيها قتل المأمون يحيى بْن عامر بْن إسماعيل، وذلك أن يحيى أغلظ له، فقال له: يا أمير الكافرين، فقتل بين يديه. وأقام للناس الحج في هذه السنة أبو إسحاق بن الرشيد.

سنه احدى ومائتين

ثم دخلت سنة إحدى ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ولايه منصور بن المهدى ببغداد فمما كان فيها من ذلك مراودة أهل بغداد منصور بْن المهدي على الخلافة وامتناعه عليهم، فلما امتنع من ذلك راوده على الإمرة عليهم، على أن يدعو للمأمون بالخلافة، فأجابهم إلى ذلك. ذكر الخبر عن سبب ذلك وكيف كان الأمر فيه: قد ذكرنا قبل ذلك سبب إخراج أهل بغداد علي بْن هشام من بغداد. ويذكر عن الحسن بن سهل ان الخبر عن إخراج أهل بغداد علي بْن هشام من بغداد لما اتصل به وهو بالمدائن، انهزم حتى صار إلى واسط، وذلك في أول سنة إحدى ومائتين. وقد قيل إن سبب إخراج أهل بغداد علي بْن هشام من بغداد، كان أن الحسن بْن سهل وجه محمد بْن خالد المروروذي بعد ما قتل أبو السرايا، أفسده وولي علي بْن هشام الجانب الغربي من بغداد وزهير بْن المسيب يلي الجانب الشرقي، وأقام هو بالخيزرانية، وضرب الحسن عبد الله بْن علي بْن عيسى ابن ماهان حدا بالسياط، فغضب الأبناء، فشغب الناس، فهرب الى بربخا ثم إلى باسلاما، وأمر بالأرزاق لأهل عسكر المهدي، ومنع أهل الغربي، واقتتل أهل الجانبين، ففرق محمد بْن أبي خالد على الحربية مالا، فهزم على ابن هشام، فانهزم الحسن بْن سهل بانهزام علي بْن هشام، فلحق بواسط، فتبعه محمد بْن أبي خالد بْن الهندوان مخالفا له، وقد تولى القيام بأمر الناس، وولي سعيد بْن الحسن بْن قحطبة الجانب الغربي ونصر بْن حمزة بْن مالك الشرقي، وكنفه ببغداد منصور بْن المهدي وخزيمة بْن خازم والفضل بْن الربيع

وقد قيل إن عيسى بْن محمد بْن أبي خالد قدم في هذه السنة من الرقة، وكان عند طاهر بْن الحسين، فاجتمع هو وأبوه على قتال الحسن، فمضيا حتى انتهيا ومن معهما من الحربية وأهل بغداد إلى قرية أبي قريش قرب واسط، وكان كلما أتيا موضعا فيه عسكر من عساكر الحسن فيكون بينهما فيه وقعة، تكون الهزيمة فيه على أصحاب الحسن. ولما انتهى محمد بن خالد إلى دير العاقول، أقام به ثلاثا، وزهير بْن المسيب حينئذ مقيم بإسكاف بني الجنيد، وهو عامل الحسن على جوخى مقيم في عمله، فكان يكاتب قواد أهل بغداد فبعث ابنه الأزهر، فمضى حتى انتهى إلى نهر النهروان، فلقي محمد بْن أبي خالد، فركب إليه، فأتاه بإسكاف، فأحاط به فأعطاه الأمان، وأخذه أسيرا، فجاء به إلى عسكره بدير العاقول، وأخذ أمواله ومتاعه وكل قليل وكثير وجد له ثم تقدم محمد بْن أبي خالد، فلما صار إلى واسط بعث به إلى بغداد، فحبسه عند ابن له مكفوف، يقال له جعفر، فكان الحسن مقيما بجرجرايا، فلما بلغه خبر زهير، وأنه قد صار في يد محمد بْن أبي خالد ارتحل حتى دخل واسط، فنزل بفم الصلح، ووجه محمد من دير العاقول ابنه هارون إلى النيل وبها سعيد بْن الساجور الكوفي، فهزمه هارون، ثم تبعه حتى دخل الكوفة، فأخذها هارون، وولى عليها وقدم عيسى ابن يزيد الجلودي من مكة، ومعه محمد بْن جعفر، فخرجوا جميعا حتى أتوا واسط في طريق البر، ثم رجع هارون إلى أبيه، فاجتمعوا جميعا في قرية أبي قريش ليدخلوا واسط، وبها الحسن بْن سهل، فتقدم الحسن بْن سهل، فنزل خلف واسط في أطرافها. وكان الفضل بْن الربيع مختفيا من حين قتل المخلوع، فلما راى ان محمد ابن أبي خالد قد بلغ واسط بعث إليه يطلب الأمان منه، فأعطاه إياه وظهر. ثم تعبأ محمد بْن أبي خالد للقتال، فتقدم هو وابنه عيسى وأصحابهما، حتى صاروا على ميلين من واسط، فوجه إليهم الحسن أصحابه وقواده، فاقتتلوا قتالا شديدا عند أبيات واسط فلما كان بعد العصر هبت ريح شديدة وغبرة حتى اختلط القوم بعضهم ببعض، وكانت الهزيمة على أصحاب محمد بْن

أبي خالد، فثبت للقوم فأصابته جراحات شديدة في جسده، فانهزم هو وأصحابه هزيمة شديدة قبيحة، فهزم أصحابه الحسن، وذلك يوم الأحد لسبع بقين من شهر ربيع الأول سنة إحدى ومائتين. فلما بلغ محمد فم الصلح خرج عليهم أصحاب الحسن فصافهم للقتال، فلما جنهم الليل، ارتحل هو وأصحابه حتى نزلوا المبارك، فأقاموا به، فلما أصبحوا غدا عليهم أصحاب الحسن فصافوهم، واقتتلوا. فلما جنهم الليل ارتحلوا حتى أتوا جبل، فأقاموا بها، ووجه ابنه هارون إلى النيل، فأقام بها، وأقام محمد بجرجرايا، فلما اشتدت به الجراحات خلف قواده في عسكره، وحمله ابنه أبو زنبيل حتى أدخله بغداد ليلة الاثنين لست خلون من شهر ربيع الآخر، فدخل أبو زنبيل ليلة الاثنين، ومات محمد بْن أبي خالد من ليلته من تلك الجراحات، ودفن من ليلته في داره سرا. وكان زهير بْن المسيب محبوسا عند جعفر بْن محمد بْن أبي خالد، فلما قدم أبو زنبيل أتى خزيمة بْن خازم يوم الاثنين لثمان خلون من شهر ربيع الآخر، فأعلمه أمر أبيه، فبعث خزيمة إلى بني هاشم والقواد وأعلمهم ذلك، وقرأ عليهم كتاب عيسى بْن محمد بْن أبي خالد، وأنه يكفيهم الحرب فرضوا بذلك، فصار عيسى مكان أبيه على الحرب، وانصرف أبو زنبيل من عند خزيمة حتى أتى زهير بْن المسيب، فأخرجه من حبسه، فضرب عنقه. ويقال: إنه ذبحه ذبحا وأخذ رأسه، فبعث به إلى عيسى في عسكره، فنصبه على رمح وأخذوا جسده، فشدوا في رجليه حبلا، ثم طافوا به في بغداد، ومروا به على دوره ودور أهل بيته عند باب الكوفة، ثم طافوا به في الكرخ، ثم ردوه إلى باب الشام بالعشي، فلما جنهم الليل طرحوه في دجلة، وذلك يوم الاثنين لثمان خلون من شهر ربيع الآخر. ثم رجع أبو زنبيل حتى انتهى إلى عيسى فوجهه عيسى إلى فم الصراة. وبلغ الحسن بْن سهل موت محمد بْن أبي خالد، فخرج من واسط حتى

انتهى إلى المبارك، فأقام بها فلما كان جمادى الآخرة وجه حميد بْن عبد الحميد الطوسى ومعه عركو الأعرابي وسعيد بن الساجور وأبو البط ومحمد بْن إبراهيم الإفريقي، وعدة سواهم من القواد، فلقوا أبا زنبيل بفم الصراة فهزموه، وانحاز إلى أخيه هارون بالنيل، فالتقوا عند بيوت النيل، فاقتتلوا ساعة، فوقعت الهزيمة على أصحاب هارون، وأبي زنبيل، فخرجوا هاربين حتى أتوا المدائن، وذلك يوم الاثنين لخمس بقين من جمادى الآخرة ودخل حميد وأصحابه النيل فانتهبوها ثلاثة أيام، فانتهبوا أموالهم وأمتعتهم، وانتهبوا ما كان حولهم من القرى، وقد كان بنو هاشم والقواد حين مات محمد بْن أبي خالد تكلموا في ذلك، وقالوا: نصير بعضنا خليفة ونخلع المأمون، فكانوا يتراضون في ذلك، إذ بلغهم خبر هارون وأبي زنبيل وهزيمتهم، فجدوا فيما كانوا فيه، وأرادوا منصور بْن المهدي على الخلافة، فأبى ذلك عليهم، فلم يزالوا به حتى صيروه أميرا خليفة للمأمون ببغداد والعراق، وقالوا: لا نرضى بالمجوسي ابن المجوسي الحسن بْن سهل، ونطرده حتى يرجع إلى خراسان. وقد قيل: إن عيسى بْن محمد بْن أبي خالد لما اجتمع إليه أهل بغداد، وساعدوه على حرب الحسن بْن سهل، رأى الحسن أنه لا طاقة له بعيسى، فبعث إليه وهب بْن سعيد الكاتب، وبذل له المصاهرة ومائة ألف دينار والأمان له ولأهل بيته ولأهل بغداد وولاية أي النواحي أحب، فطلب كتاب المأمون بذلك بخطه، فرد الحسن بْن سهل وهبا بإجابته، فغرق وهب بين المبارك وجبل، فكتب عيسى إلى أهل بغداد: إني مشغول بالحرب عن جباية الخراج، فولوا رجلا من بني هاشم، فولوا منصور بْن المهدي، وعسكر منصور بْن المهدي بكلواذى، وأرادوه على الخلافة فأبى، وقال: أنا خليفة أمير المؤمنين حتى يقدم أو يولي من أحب، فرضي بذلك بنو هاشم والقواد والجند، وكان القيم بهذا الأمر خزيمة بْن خازم، فوجه القواد في كل ناحية، وجاء حميد الطوسي من فوره في طلب بني محمد حتى انتهى إلى المدائن، فأقام بها يومه، ثم انصرف إلى النيل

فلما بلغ منصورا خبره خرج حتى عسكر بكلواذى، وتقدم يحيى بْن علي بْن عيسى بْن ماهان إلى المدائن. ثم أن منصورا وجه إسحاق بْن العباس بْن محمد الهاشمي من الجانب الآخر، فعسكر بنهر صرصر، ووجه غسان بْن عباد بْن أبي الفرج أبا إبراهيم بْن غسان صاحب حرس صاحب خراسان ناحية الكوفة، فتقدم حتى أتى قصر ابن هبيرة، فأقام به فلما بلغ حميدا الخبر لم يعلم غسان إلا وحميد قد أحاط بالقصر، فأخذ غسان أسيرا، وسلب أصحابه، وقتل منهم، وذلك يوم الاثنين لأربع خلون من رجب. ثم لم يزل كل قوم مقيمين في عساكرهم، إلا أن محمد بْن يقطين بْن موسى كان مع الحسن بْن سهل، فهرب منه إلى عيسى، فوجهه عيسى إلى منصور، فوجهه منصور إلى ناحية حميد، وكان حميد مقيما بالنيل إلا أن له خيلا بالقصر. وخرج ابن يقطين من بغداد يوم السبت لليلتين خلتا من شعبان حتى أتى كوثى وبلغ حميدا الخبر، فلم يعلم ابن يقطين حتى أتاه حميد وأصحابه إلى كوثى، فقاتلوه فهزموه، وقتلوا من أصحابه، وأسروا، وغرق منهم بشر كثير، وانتهب حميد وأصحابه ما كان حول كوثي من القرى وأخذوا البقر والغنم والحمير وما قدروا عليه من حلى ومتاع وغير ذلك، ثم انصرف حتى النيل، وراجع ابن يقطين، فأقام بنهر صرصر. وفي محمد بْن أبي خالد قَالَ أبو الشداخ: هوى خيل الأبناء بعد محمد ... وأصبح منها كاهل العز أخضعا فلا تشمتوا يا آل سهل بموته ... فإن لكم يوما من الدهر مصرعا وأحصى عيسى بْن محمد بْن أبي خالد ما كان في عسكره، فكانوا مائة ألف وخمسة وعشرين ألفا بين فارس وراجل، فأعطى الفارس اربعين درهما، والراجل عشرين درهما.

ذكر خبر خروج المطوعة للنكير على الفساق

ذكر خبر خروج المطوعة للنكير على الفساق وفي هذه السنة تجردت المطوعة للنكير على الفساق ببغداد، ورئيسهم خالد الدريوش وسهل بْن سلامة الأنصاري أبو حاتم من أهل خراسان. ذِكْرُ الْخَبَرِ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ فعلت المطوعة ما ذكرت: كان السبب في ذلك أن فساق الحربية والشطار الذين كانوا ببغداد والكرخ آذوا الناس أذى شديدا، وأظهروا الفسق وقطع الطريق وأخذ الغلمان والنساء علانية من الطرق، فكانوا يجتمعون فيأتون الرجل، فيأخذون ابنه، فيذهبون به فلا يقدر أن يمتنع، وكانوا يسألون الرجل أن يقرضهم أو يصلهم فلا يقدر أن يمتنع عليهم، وكانوا يجتمعون فيأتون القرى، فيكاثرون أهلها، ويأخذون ما قدروا عليه من متاع ومال وغير ذلك، لا سلطان يمنعهم، ولا يقدر على ذلك منهم، لأن السلطان كان يعتز بهم، وكانوا بطانته، فلا يقدر أن يمنعهم من فسق يركبونه، وكانوا يجبون المارة في الطرق وفي السفن وعلى الظهر ويخفرون البساتين، ويقطعون الطرق علانية، ولا أحد يعدو عليهم، وكان الناس منهم في بلاء عظيم، ثم كان آخر أمرهم أنهم خرجوا إلى قطربل، فانتهبوها علانية، وأخذوا المتاع والذهب والفضة والغنم والبقر والحمير وغير ذلك، وأدخلوها بغداد، وجعلوا يبيعونها علانية، وجاء أهلها فاستعدوا السلطان عليهم، فلم يمكنه اعداؤهم عليهم، ولم يرد عليهم شيئا مما كان أخذ منهم، وذلك آخر شعبان. فلما رأى الناس ذلك وما قد أخذ منهم، وما بيع من متاع الناس في أسواقهم، وما قد أظهروا من الفساد في الأرض والظلم والبغي وقطع الطريق، وأن السلطان لا يغير عليهم، قام صلحاء كل ربض وكل درب، فمشى بعضهم إلى بعض، وقالوا: إنما في الدرب الفاسق والفاسقان إلى العشرة، وقد غلبوكم وأنتم أكثر منهم، فلو اجتمعتم حتى يكون أمركم واحدا، لقمعتم هؤلاء

الفساق، وصاروا لا يفعلون ما يفعلون من إظهار الفسق بين أظهركم. فقام رجل من ناحية طريق الأنبار يقال له خالد الدريوش، فدعا جيرانه وأهل بيته وأهل محلته على أن يعاونوه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأجابوه إلى ذلك، وشد على من يليه من الفساق والشطار، فمنعهم مما كانوا يصنعون، فامتنعوا عليه، وأرادوا قتاله، فقاتلهم فهزمهم وأخذ بعضهم، فضربهم وحبسهم ورفعهم إلى السلطان، إلا أنه كان لا يرى أن يغير على السلطان شيئا، ثم قام من بعده رجل من أهل الحربية، يقال له سهل بْن سلامة الأنصاري من أهل خراسان، يكنى أبا حاتم، فدعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل بكتاب الله جل وعز وسنة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلق مصحفا في عنقه، ثم بدأ بجيرانه وأهل محلته، فأمرهم ونهاهم فقبلوا منه، ثم دعا الناس جميعا إلى ذلك، الشريف منهم والوضيع، بني هاشم ومن دونهم، وجعل له ديوانا يثبت فيه اسم من أتاه منهم، فبايعه على ذلك، وقتال من خالفه وخالف ما دعا إليه كائنا من كان، فأتاه خلق كثير، فبايعوا. ثم إنه طاف ببغداد وأسواقها وأرباضها وطرقها، ومنع كل من يخفر ويجبي المارة والمختلفة، وقال: لا خفارة في الإسلام- والخفارة أنه كان يأتي الرجل بعض أصحاب البساتين فيقول: بستانك في خفري، أدفع عنه من أراده بسوء، ولي في عنقك كل شهر كذا وكذا درهما، فيعطيه ذلك شائيا وآبيا- فقوي على ذلك إلا أن الدريوش خالفه، وقال: أنا لا أعيب على السلطان شيئا ولا أغيره، ولا أقاتله، ولا آمره بشيء ولا أنهاه وقال سهل بْن سلامة: لكني أقاتل كل من خالف الكتاب والسنة كائنا من كان، سلطانا أو غيره، والحق قائم في الناس أجمعين، فمن بايعني على هذا قبلته، ومن خالفني قاتلته فقام في ذلك سهل يوم الخميس لأربع خلون من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين في مسجد طاهر بْن الحسين، الذي كان بناه في الحربية

وكان خالد الدريوش قام قبله بيومين أو ثلاثة، وكان منصور بْن المهدي مقيما بعسكره بجبل، فلما كان من ظهور سهل بْن سلامة وأصحابه ما كان، وبلغ ذلك منصورا وعيسى- وإنما كان عظم أصحابهما الشطار، ومن لا خير فيه- كسرهما ذلك، ودخل منصور بغداد. وقد كان عيسى يكاتب الحسن بْن سهل، فلما بلغه خبر بغداد، سأل الحسن بْن سهل أن يعطيه الأمان له ولأهل بيته ولأصحابه، على أن يعطي الحسن أصحابه وجنده وسائر أهل بغداد رزق ستة أشهر إذا أدركت له الغلة، فأجابه الحسن، وارتحل عيسى من معسكره، فدخل بغداد يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من شوال، وتقوضت جميع عساكرهم، فدخلوا بغداد، فأعلمهم عيسى ما دخل لهم فيه من الصلح، فرضوا بذلك. ثم رجع عيسى الى المدائن، وجاء يحيى بْن عبد الله، ابن عم الحسن بْن سهل، حتى نزل دير العاقول، فولوه السواد، وأشركوا بينه وبين عيسى في الولاية، وجعلوا لكل عدة من الطساسيج وأعمال بغداد فلما دخل عيسى فيما دخل فيه- وكان أهل عسكر المهدي مخالفين له- وثب المطلب بْن عبد الله بْن مالك الخزاعي يدعو إلى المأمون وإلى الفضل والحسن ابني سهل، فامتنع عليه سهل بْن سلامة، وقال: ليس على هذا بايعتني. وتحول منصور بْن المهدي وخزيمة بْن خازم والفضل بْن الربيع- وكانوا يوم تحولوا بايعوا سهل بْن سلامة على ما يدعو إليه من العمل بالكتاب والسنة- فنزلوا بالحربيه فرارا من الطلب، وجاء سهل بْن سلامة إلى الحسن، وبعث إلى المطلب أن يأتيه، وقال: ليس على هذا بايعتني، فأبى المطلب أن يجيئه، فقاتله سهل يومين أو ثلاثة قتالا شديدا، حتى اصطلح عيسى والمطلب، فدس عيسى إلى سهل من اغتاله فضربه ضربة بالسيف، إلا أنها لم تعمل فيه، فلما اغتيل سهل رجع إلى منزله، وقام عيسى بأمر الناس، فكفوا عن القتال. وقد كان حميد بْن عبد الحميد مقيما بالنيل، فلما بلغه هذا الخبر

ذكر خبر البيعه لعلى بن موسى بولاية العهد

دخل الكوفة، فأقام بها أياما ثم أنه خرج منها حتى أتى قصر ابن هبيرة، فأقام به، واتخذ منزلا وعمل عليه سورا وخندقا، وذلك في آخر ذي القعدة. وأقام عيسى ببغداد يعرض الجند ويصححهم، إلى أن تدرك الغلة، وبعث إلى سهل بْن سلامة فاعتذر إليه مما كان صنع به، وبايعه وأمره أن يعود إلى ما كان عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه عونه على ذلك، فقام سهل بما كان قام به أولا من الدعاء إلى العمل بالكتاب والسنه . ذكر خبر البيعه لعلى بن موسى بولاية العهد وفي هذه السنة جعل المأمون علي بْن موسى بْن جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ بْن عَلِيّ بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ولي عهد المسلمين والخليفة من بعده، وسماه الرضى من آل محمد ص، وأمر جنده بطرح السواد ولبس ثياب الخضرة، وكتب بذلك إلى الآفاق. ذكر الخبر عن ذلك وعما كان سبب ذلك وما آل الأمر فيه إليه: ذكر أن عيسى بْن محمد بْن أبي خالد، بينما هو فيما هو فيه من عرض أصحابه بعد منصرفه من عسكره إلى بغداد، إذ ورد عليه كتاب من الحسن بْن سهل يعلمه أن أمير المؤمنين المأمون قد جعل علي بْن موسى بْن جعفر بْن محمد ولي عهده من بعده، وذلك أنه نظر في بني العباس وبني علي، فلم يجد أحدا هو أفضل ولا أورع ولا أعلم منه، وأنه سماه الرضى من آل محمد، وأمره بطرح لبس الثياب السود ولبس ثياب الخضرة، وذلك يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين، ويأمره أن يأمر من قبله من أصحابه والجند والقواد وبني هاشم بالبيعة له، وأن يأخذهم بلبس الخضرة في أقبيتهم وقلانسهم وأعلامهم، ويأخذ أهل بغداد جميعا بذلك. فلما أتى عيسى الخبر دعا أهل بغداد إلى ذلك على أن يعجل لهم رزق شهر، والباقي إذا أدركت الغلة، فقال بعضهم: نبايع ونلبس الخضرة، وقال

ذكر الدعوة لمبايعه ابراهيم بن المهدى وخلع المأمون

بعضهم: لا نبايع ولا نلبس الخضرة، ولا نخرج هذا الأمر من ولد العباس، وإنما هذا دسيس من الفضل بْن سهل، فمكثوا بذلك أياما وغضب ولد العباس من ذلك، واجتمع بعضهم إلى بعض، وتكلموا فيه، وقالوا: نولي بعضنا، ونخلع المأمون، وكان المتكلم في هذا والمختلف والمتقلد له إبراهيم ومنصور ابنا المهدى. ذكر الدعوة لمبايعه ابراهيم بن المهدى وخلع المأمون وفي هذه السنة بايع أهل بغداد إبراهيم بْن المهدي بالخلافة وخلعوا المأمون. ذكر السبب في ذلك: قد ذكرنا سبب إنكار العباسيين ببغداد على المأمون ما أنكروا عليه، واجتماع من اجتمع على محاربة الحسن بْن سهل منهم، حتى خرج عن بغداد ولما كان من بيعة المأمون لعلي بْن موسى بْن جعفر- وأمره الناس بلبس الخضرة ما كان، وورود كتاب الحسن على عيسى بْن محمد بْن أبي خالد يأمره بذلك، وأخذ الناس به ببغداد، وذلك يوم الثلاثاء لخمس بقين من ذي الحجة- أظهر العباسيون ببغداد أنهم قد بايعوا إبراهيم بْن المهدي بالخلافة، ومن بعده ابن أخيه إسحاق بْن موسى بْن المهدي، وأنهم قد خلعوا المأمون، وأنهم يعطون عشرة دنانير كل إنسان، أول يوم من المحرم أول يوم من السنة المستقبلة. فقبل بعض ولم يقبل بعض حتى يعطى، فلما كان يوم الجمعة وأرادوا الصلاة أرادوا أن يجعلوا إبراهيم خليفة للمأمون مكان منصور، فأمروا رجلا يقول حين أذن المؤذن: إنا نريد أن ندعو للمأمون ومن بعده لإبراهيم يكون خليفة، وكانوا قد دسوا قوما، فقالوا لهم: إذا قام يقول: ندعو للمأمون، فقوموا أنتم فقولوا: لا نرضى إلا أن تبايعوا لإبراهيم ومن بعده لإسحاق، وتخلعوا المأمون أصلا، ليس نريد ان تأخذوا أموالنا كما صنع منصور، ثم تجلسوا في بيوتكم فلما قام من يتكلم أجابه هؤلاء، فلم يصل بهم تلك الجمعة صلاة الجمعة، ولا خطب أحد، إنما صلى الناس أربع ركعات ثم انصرفوا، وذلك يوم الجمعة لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة إحدى ومائتين

وفي هَذِهِ السنة افتتح عَبْد اللَّهِ بْن خرداذ به وهو والي طبرستان اللارز والشيرز، من بلاد الديلم، وزادهما في بلاد الإسلام، وافتتح جبال طبرستان، وأنزل شهريار بْن شروين عنها، فقال سلام الخاسر: إنا لنأمل فتح الروم والصين ... بمن ادال لنا من ملك شروين فاشدد يديك بعبد الله إن له ... مع الأمانة رأي غير موهون وأشخص مازيار بْن قارن إلى المأمون، وأسر أبا ليلى ملك الديلم بغير عهد في هذه السنة. وفيها مات محمد بْن محمد صاحب أبي السرايا. وفيها تحرك بابك الخرمي في الجاويذانية أصحاب جاويذان بْن سهل، صاحب البذ، وادعى أن روح جاويذان دخلت فيه، وأخذ في العيث والفساد. وفيها أصاب أهل خراسان والري وأصبهان مجاعة، وعز الطعام، ووقع الموت. وحج بالناس فيها إسحاق بْن موسى بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بن على.

سنه اثنتين ومائتين

ثم دخلت سنة اثنتين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر الخبر بيعه ابراهيم بن المهدى فمما كان فيها من ذلك بيعة أهل بغداد لإبراهيم بْن المهدي بالخلافة، وتسميتهم إياه المبارك وقيل إنهم بايعوه في أول يوم من المحرم بالخلافة، وخلعوا المأمون، فلما كان يوم الجمعة صعد إبراهيم المنبر، فكان أول من بايعه عبيد الله بْن العباس بْن محمد الهاشمي، ثم منصور بْن المهدي، ثم سائر بني هاشم، ثم القواد وكان المتولي لأخذ البيعة المطلب بْن عبد الله بْن مالك، وكان الذي سعى في ذلك وقام به السندي وصالح صاحب المصلى ومنجاب ونصير الوصيف وسائر الموالي، إلا أن هؤلاء كانوا الرؤساء والقادة غضبا منهم على المأمون حين أراد إخراج الخلافة من ولد العباس إلى ولد علي، ولتركه لباس آبائه من السواد ولبسه الخضرة. ولما فرغ من البيعة وعد الجند ان يعطيهم ارزاق سته الأشهر، فدافعهم بها، فلما رأوا ذلك شغبوا عليه، فأعطاهم مائتي درهم لكل رجل، وكتب لبعضهم الى السواد بقيمة بقية مالهم حنطة وشعيرا فخرجوا في قبضها فلم يمروا بشيء إلا انتهبوه، فأخذوا النصيبين جميعا، نصيب أهل البلاد ونصيب السلطان وغلب إبراهيم مع أهل بغداد على أهل الكوفة والسواد كله، وعسكر بالمدائن وولى الجانب الشرقي من بغداد العباس بْن موسى الهادي والجانب الغربي إسحاق بْن موسى الهادي وقال إبراهيم بْن المهدي: ألم تعلموا يا آل فهر بأنني ... شريت بنفسي دونكم في المهالك.

خبر تحكيم مهدى بن علوان الحروري

خبر تحكيم مهدى بن علوان الحروري وفي هذه السنة حكم مهدي بْن علوان الحروري، وكان خروجه ببزرجسابور، وغلب على طساسيج هنالك وعلى نهر بوق والراذانين وقد قيل: إن خروج مهدي كان في سنة ثلاث ومائتين في شوال منها، فوجه إليه إبراهيم بْن المهدي أبا إسحاق بن الرشيد في جماعة من القواد، منهم أبو البط وسعيد بْن الساجور، ومع أبي إسحاق غلمان له أتراك، فذكر عن شبيل صاحب السلبة، أنه كان معه وهو غلام، فلقوا الشراة، فطعن رجل من الأعراب أبا إسحاق، فحامى عنه غلام له تركي، وقال له: أشناس مرا، أي اعرفني، فسماه يومئذ أشناس، وهو أبو جعفر أشناس، وهزم مهدي إلى حولايا. وقال بعضهم: إنما وجه إبراهيم إلى مهدى بن علوان الدهقاني الحروري المطلب، فسار إليه، فلما قرب منه أخذ رجلا من قعد الحرورية يقال له أقذى، فقتله، واجتمعت الأعراب فقاتلوه فهزموه حتى أدخلوه بغداد. وفي هذه السنة وثب أخو أبي السرايا بالكوفة، فبيض، واجتمعت إليه جماعة، فلقيه غسان بْن أبي الفرج في رجب فقتله، وبعث برأسه الى ابراهيم ابن المهدي . ذكر الخبر عن تبييض أخي أبي السرايا وظهوره بالكوفة ذكر أن الحسن بْن سهل أتاه وهو مقيم بالمبارك في معسكره كتاب المأمون يأمره بلبس الخضرة، وأن يبايع لعلي بْن موسى بْن جعفر بْن محمد بولاية العهد من بعده، ويأمره أن يتقدم إلى بغداد حتى يحاصر أهلها، فارتحل حتى نزل سمر، وكتب إلى حميد بْن عبد الحميد أن يتقدم إلى بغداد حتى يحاصر أهلها من ناحية أخرى، ويأمره بلباس الخضرة، ففعل ذلك حميد وكان سعيد بْن

الساجور وأبو البط وغسان بْن أبي الفرج ومحمد بْن إبراهيم الإفريقي وعدة من قواد حميد كاتبوا إبراهيم بْن المهدي، على أن يأخذوا له قصر ابن هبيرة. وكان قد تباعد ما بينهم وبين حميد، فكانوا يكتبون إلى الحسن بْن سهل يخبرونه أن حميدا يكاتب ابراهيم، وكان يكتب فيهم بمثل ذلك، وكان الحسن يكتب إلى حميد يسأله أن يأتيه فلم يفعل، وخاف إن هو خرج إلى الحسن أن يثب الآخرون بعسكره، فكانوا يكتبون إلى الحسن أنه ليس يمنعه من إتيانك إلا أنه مخالف لك، وأنه قد اشترى الضياع بين الصراة وسورا والسواد فلما ألح عليه الحسن بالكتب، خرج إليه يوم الخميس لخمس خلون من ربيع الآخر فكتب سعيد وأصحابه إلى إبراهيم يعلمونه، ويسألون أن يبعث إليهم عيسى بْن محمد بْن أبي خالد، حتى يدفعوا إليه القصر وعسكر حميد، وكان إبراهيم قد خرج من بغداد يوم الثلاثاء حتى عسكر بكلواذى يريد المدائن، فلما أتاه الكتاب وجه عيسى إليهم. فلما بلغ أهل عسكر حميد خروج عيسى ونزوله قرية الأعراب على فرسخ من القصر تهيئوا للهرب، وذلك ليلة الثلاثاء، وشد أصحاب سعيد وأبي البط والفضل بْن محمد بْن الصباح الكندي الكوفي على عسكر حميد، فانتهبوا ما فيه، وأخذوا لحميد- فيما ذكر- مائة بدرة أموالا ومتاعا، وهرب ابن لحميد ومعاذ بْن عبد الله، فأخذ بعضهم نحو الكوفة وبعض نحو النيل، فأما ابن حميد، فإنه انحدر بجواري أبيه إلى الكوفة، فلما أتى الكوفة اكترى بغالا ثم أخذ الطريق، ثم لحق بأبيه بعسكر الحسن، ودخل عيسى القصر وسلمه له سعيد وأصحابه، وصار عيسى وأخذه منهم، وذلك يوم الثلاثاء لعشر خلون من ربيع الآخر وبلغ الحسن بْن سهل وحميد عنده، فقال له حميد: ألم أعلمك بذلك! ولكن خدعت، وخرج من عنده حتى أتى الكوفة، فأخذ أموالا له كانت هنالك ومتاعا وولى على الكوفة العباس بْن موسى بْن جعفر العلوي، وامره بلباس الحضره، وأن يدعو للمأمون ومن بعده لأخيه علي بْن موسى، وأعانه بمائة ألف درهم، وقال له: قاتل عن أخيك، فإن أهل الكوفة يجيبونك إلى ذلك، وأنا معك

فلما كان الليل خرج حميد من الكوفة وتركه، وقد كان الحسن وجه حكيما الحارثي حين بلغه الخبر إلى النيل، فلما بلغ ذلك عيسى وهو بالقصر تهيأ هو وأصحابه، حتى خرجوا إلى النيل، فلما كان ليلة السبت لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر طلعت حمرة في السماء، ثم ذهبت الحمرة، وبقي عمودان أحمران في السماء إلى آخر الليل، وخرج غداة السبت عيسى وأصحابه من القصر إلى النيل، فواقعهم حكيم، وأتاهم عيسى وسعيد وهم في الوقعة، فانهزم حكيم، ودخلوا النيل. فلما صاروا بالنيل، بلغهم خبر العباس بْن موسى بْن جعفر العلوي، وما يدعو إليه أهل الكوفة، وأنه قد أجابه قوم كثير منهم، وقال له قوم آخرون: إن كنت تدعو للمأمون ثم من بعده لأخيك فلا حاجة لنا في دعوتك، وإن كنت تدعو إلى أخيك أو بعض أهل بيتك أو إلى نفسك أجبناك فقال: أنا أدعو إلى المأمون ثم من بعده لأخي، فقعد عنه الغالية من الرافضة وأكثر الشيعة وكان يظهر أن حميدا يأتيه فيعينه ويقويه، وأن الحسن يوجه إليه قوما من قبله مددا، فلم يأته منهم أحد، وتوجه إليه سعيد وأبو البط من النيل إلى الكوفة، فلما صاروا بدير الأعور، أخذوا طريقا يخرج بهم إلى عسكر هرثمة عند قرية شاهي. فلما التأم إليه أصحابه، خرجوا يوم الاثنين لليلتين خلتا من جمادى الأولى. فلما صاروا قرب القنطرة خرج عليهم علي بْن محمد بن جعفر العلوي، ابن المبايع له بمكة، وأبو عبد الله أخو أبي السرايا ومعهم جماعة كثيرة، وجههم مع علي بْن محمد ابن عمه صاحب الكوفة العباس بْن موسى بْن جعفر، فقاتلوهم ساعة، فانهزم علي وأصحابه حتى دخلوا الكوفة، وجاء سعيد وأصحابه حتى نزلوا الحيرة، فلما كان يوم الثلاثاء غدوا فقاتلوهم مما يلي دار عيسى بْن موسى، وأجابهم العباسيون ومواليهم، فخرجوا إليهم من الكوفة، فاقتتلوا يومهم إلى الليل، وشعارهم: يا إبراهيم يا منصور، لا طاعة للمأمون، وعليهم السواد، وعلى العباس وأصحابه من أهل الكوفة الخضرة. فلما كان يوم الأربعاء اقتتلوا في ذلك الموضع، فكان كل فريق منهم إذا

ظهروا على شيء أحرقوه فلما رأى ذلك رؤساء أهل الكوفة، أتوا سعيدا وأصحابه، فسألوه الأمان للعباس بْن موسى بْن جعفر وأصحابه، على أن يخرج من الكوفة، فأجابوهم إلى ذلك، ثم أتوا العباس فأعلموه، وقالوا: إن عامة من معك غوغاء، وقد ترى ما يلقى الناس من الحرق والنهب والقتل، فأخرج من بين أظهرنا، فلا حاجة لنا فيك فقبل منهم، وخاف أن يسلموه، وتحول من منزله الذي كان فيه بالكناسة، ولم يعلم أصحابه بذلك، وانصرف سعيد وأصحابه إلى الحيرة، وشد أصحاب العباس بْن موسى على من بقي من أصحاب سعيد وموالي عيسى بْن موسى العباسي، فهزموهم حتى بلغوا بهم الخندق، ونهبوا ربض عيسى بْن موسى، فأحرقوا الدور، وقتلوا من ظهروا به فبعث العباسيون ومواليهم إلى سعيد يعلمونه بذلك، وأن العباس قد رجع عما كان طلب من الأمان فركب سعيد وأبو البط وأصحابهما حتى أتوا الكوفة عتمة، فلم يظفروا بأحد منهم ينتهب إلا قتلوه، ولم يظهروا على شيء مما كان في أيدي أصحاب العباس إلا أحرقوه، حتى بلغوا الكناسة، فمكثوا بذلك عامة الليل حتى خرج إليهم رؤساء أهل الكوفة، فأعلموهم أن هذا من عمل الغوغاء، وأن العباس لم يرجع عن شيء فانصرفوا عنهم. فلما كان غداة الخميس لخمس خلون من جمادى الأولى، جاء سعيد وأبو البط حتى دخلوا الكوفة، ونادى مناديهم: أمن الأبيض والأسود، ولم يعرضوا لأحد من الخلق إلا بسبيل خير، وولوا على الكوفة الفضل بْن محمد بْن الصباح الكندي، من أهلها فكتب إليهم إبراهيم بْن المهدي يأمرهم بالخروج إلى ناحية واسط، وكتب إلى سعيد أن يستعمل على الكوفة غير الكندي، لميله إلى أهل بلده، فولاها غسان بن ابى الفرج، ثم عزله بعد ما قتل أبا عبد الله أخا أبي السرايا، فولاها سعيد ابن أخيه الهول، فلم يزل واليا عليها حتى قدمها حميد ابن عبد الحميد، وهرب الهول منها، وأمر إبراهيم بن المهدى عيسى بن محمد ابن أبي خالد أن يسير إلى ناحية واسط على طريق النيل، وأمر ابن عائشة الهاشمي ونعيم بن خازم ان يسيرا جميعا، فخرجا مما يلي جوخى، وبذلك

ظفر ابراهيم بن المهدى بسهل بن سلامه المطوعى

أمرهما، وذلك في جمادى الأولى ولحق بهما سعيد وأبو البط والإفريقي حتى عسكروا بالصيادة قرب واسط، فاجتمعوا جميعا في مكان واحد، وعليهم عيسى بْن محمد بْن أبي خالد، فكانوا يركبون حتى يأتوا عسكر الحسن وأصحابه بواسط في كل يوم، فلا يخرج إليهم من أصحاب الحسن أحد، وهم متحصنون بمدينة واسط. ثم أن الحسن أمر أصحابه بالتهيؤ للخروج للقتال، فخرجوا إليهم يوم السبت لأربع بقين من رجب، فاقتتلوا قتالا شديدا إلى قريب الظهر ثم وقعت الهزيمة على عيسى وأصحابه، فانهزموا حتى بلغوا طرنايا والنيل، وأخذ أصحاب الحسن جميع ما كان في عسكرهم من سلاح ودواب وغير ذلك . ظفر إبراهيم بْن المهدي بسهل بْن سلامة المطوعى وفي هذه السنة ظفر إبراهيم بْن المهدي بسهل بْن سلامة المطوعي فحبسه وعاقبه. ذكر الخبر عن سبب ظفره به وحبسه إياه: ذكر أن سهل بْن سلامة كان مقيما ببغداد، يدعو إلى العمل بكتاب الله وسنه نبيه ص، فلم يزل كذلك حتى اجتمع إليه عامة أهل بغداد ونزلوا عنده، سوى من هو مقيم في منزله، وهواه ورأيه معه، وكان إبراهيم قد هم بقتاله قبل الوقعة، ثم أمسك عن ذلك، فلما كانت هذه الوقعة وصارت الهزيمة على أصحاب عيسى ومن معه أقبل على سهل بْن سلامة، فدس إليه وإلى أصحابه الذين بايعوه على العمل بالكتاب والسنة، وألا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فكان كل من أجابه إلى ذلك قد عمل على باب داره برجا بجص وآجر، ونصب عليه السلاح والمصاحف، حتى بلغوا قرب باب الشام، سوى من أجابه من أهل الكرخ وسائر الناس، فلما رجع عيسى من الهزيمة إلى بغداد، أقبل هو وإخوته وجماعة اصحابه نحو سهل

ابن سلامة، لأنه كان يذكرهم بأسوأ أعمالهم وفعالهم، ويقول: الفساق، لم يكن لهم عنده اسم غيره، فقاتلوه أياما، وكان الذي تولى قتاله عيسى ابن محمد بْن أبي خالد، فلما صار إلى الدروب التي قرب سهل أعطى أهل الدروب الالف الدرهم والألفين درهما، على ان يتنحوا له عن الدروب، فأجابوه إلى. ذلك، فكان نصيب الرجل الدرهم والدرهمين ونحو ذلك، فلما كان يوم السبت لخمس بقين من شعبان تهيئوا له من كل وجه، وخذله أهل الدروب حتى وصلوا إلى مسجد طاهر بْن الحسين وإلى منزله، وهو بالقرب من المسجد، فلما وصلوا إليه اختفى منهم، وألقى سلاحه، واختلط بالنظارة، ودخل بين النساء فدخلوا منزله. فلما لم يظفروا به جعلوا عليه العيون، فلما كان الليل أخذوه في بعض الدروب التي قرب منزله، فأتوا به إسحاق بْن موسى الهادي- وهو ولي العهد بعد عمه إبراهيم بْن المهدي وهو بمدينة السلام- فكلمه وحاجه، وجمع بينه وبين أصحابه، وقَالَ له: حرضت علينا الناس، وعبت أمرنا! فقال له: إنما كانت دعوتي عباسية، وإنما كنت أدعو إلى العمل بالكتاب والسنة، وأنا على ما كنت عليه أدعوكم إليه الساعة فلم يقبلوا ذلك منه ثم قالوا له: اخرج إلى الناس، فقل لهم: إن ما كنت أدعوكم إليه باطل فأخرج إلى الناس وقال: قد علمتم ما كنت أدعوكم إليه من العمل بالكتاب والسنة، وأنا أدعوكم إليه الساعة فلما قَالَ لهم هذا وجئوا عنقه، وضربوا وجهه، فلما صنعوا ذلك به قَالَ: المغرور من غررتموه يا أصحاب الحربية، فأخذ فأدخل إلى إسحاق، فقيده، وذلك يوم الأحد فلما كان ليلة الاثنين خرجوا به إلى إبراهيم بالمدائن، فلما دخل عليه كلمه بما كلم به إسحاق، فرد عليه مثل ما رد على إسحاق وقد كانوا أخذوا رجلا من أصحابه يقال له محمد الرواعى، فضربه إبراهيم، ونتف لحيته، وقيده وحبسه، فلما أخذ سهل ابن سلامه حبسوه أيضا، وادعوا أنه كان دفع إلى عيسى، وأن عيسى قتله،

ذكر خبر شخوص المأمون إلى العراق

وإنما أشاعوا ذلك تخوفا من الناس أن يعلموا بمكانه فيخرجوه، فكان بين خروجه وبين اخذه وحبسه اثنا عشر شهرا. ذكر خبر شخوص المأمون الى العراق وفي هذه السنة شخص المأمون من مرو يريد العراق. ذكر الخبر عن شخوصه منها: ذكر أن علي بْن موسى بْن جعفر بْن محمد العلوي أخبر المأمون بما فيه الناس من الفتنة والقتال منذ قتل أخوه، وبما كان الفضل بْن سهل يستر عنه من الأخبار، وأن أهل بيته والناس قد نقموا عليه أشياء، وأنهم يقولون إنه مسحور مجنون، وأنهم لما رأوا ذلك بايعوا لعمه إبراهيم بْن المهدي بالخلافة. فقال المأمون: إنهم لم يبايعوا له بالخلافة، وإنما صيروه أميرا يقوم بأمرهم، على ما أخبره به الفضل، فأعلمه أن الفضل قد كذبه وغشه، وأن الحرب قائمة بين إبراهيم والحسن بْن سهل، وأن الناس ينقمون عليك مكانه ومكان أخيه ومكاني ومكان بيعتك لي من بعدك، فقال: ومن يعلم هذا من أهل عسكري؟ فقال له: يحيى بْن معاذ وعبد العزيز بْن عمران وعدة من وجوه أهل العسكر، فقال له: أدخلهم علي حتى أسائلهم عما ذكرت، فأدخلهم عليه، وهم يحيى بْن معاذ وعبد العزيز بْن عمران وموسى وعلي بْن أبي سعيد- وهو ابن أخت الفضل- وخلف المصري، فسألهم عما أخبره، فأبوا أن يخبروه حتى يجعل لهم الأمان من الفضل بْن سهل، ألا يعرض لهم، فضمن ذلك لهم، وكتب لكل رجل منهم كتابا بخطه، ودفعه إليهم، فاخبروه بما فيه الناس من الفتن، وبينوا ذلك له، وأخبروه بغضب أهل بيته ومواليه وقواده عليه في أشياء كثيرة، وبما موه عليه الفضل من أمر هرثمة، وأن هرثمة إنما جاءه لينصحه وليبين له ما يعمل عليه، وأنه إن لم يتدارك أمره خرجت الخلافة منه ومن أهل بيته، وأن الفضل دس إلى هرثمة من قتله، وأنه أراد

نصحه، وأن طاهر بْن الحسين قد أبلى في طاعته ما أبلى، وافتتح ما افتتح، وقاد إليه الخلافة مزمومة، حتى إذا وطأ الأمر أخرج من ذلك كله، وصير في زاوية من الأرض بالرقة، قد حظرت عليه الأموال حتى ضعف أمره فشغب عليه جنده، وأنه لو كان على خلافتك ببغداد لضبط الملك، ولم يجترأ عليه بمثل ما اجترئ به على الحسن بْن سهل، وأن الدنيا قد تفتقت من أقطارها، وأن طاهر بْن الحسين قد تنوسي في هذه السنين منذ قتل محمد في الرقة، لا يستعان به في شيء من هذه الحروب، وقد استعين بمن هو دونه أضعافا، وسألوا المأمون الخروج الى بغداد في بني هاشم والموالي والقواد، والجند لو رأوا عزتك سكنوا الى ذلك، وبخعوا بالطاعة. فلما تحقق ذلك عند المأمون أمر بالرحيل إلى بغداد، فلما أمر بذلك علم الفضل بْن سهل ببعض ذلك من أمرهم، فتعنتهم حتى ضرب بعضهم بالسياط وحبس بعضا، ونتف لحى بعض، فعاوده علي بْن موسى في أمرهم، وأعلمه ما كان من ضمانه لهم، فأعلمه أنه يداري ما هو فيه ثم ارتحل من مرو فلما أتى سرخس شد قوم على الفضل بْن سهل وهو في الحمام، فضربوه بالسيوف حتى مات، وذلك يوم الجمعة لليلتين خلتا من شعبان سنة اثنتين ومائتين فأخذوا وكان الذين قتلوا الفضل من حشم المأمون وهم أربعة نفر: أحدهم غالب المسعودي الأسود، وقسطنطين الرومي، وفرج الديلمي، وموفق الصقلبي، وقتلوه وله ستون سنة، وهربوا فبعث المأمون في طلبهم، وجعل لمن جاء بهم عشرة آلاف دينار، فجاء بهم العباس بْن الهيثم بْن بزرجمهر الدينوري، فقالوا للمأمون: أنت أمرتنا بقتله، فأمر بهم فضربت أعناقهم. وقد قيل: إن الذين قتلوا الفضل لما أخذوا ساءلهم المأمون، فمنهم من قَالَ: إن علي بْن أبي سعيد، ابن أخت الفضل دسهم، ومنهم من أنكر ذلك. وأمر بهم فقتلوا ثم بعث إلى عبد العزيز بْن عمران وعلي وموسى وخلف فساء لهم فأنكروا ان يكونوا علموا بشيء من ذلك، فلم يقبل ذلك منهم وأمر بهم فقتلوا، وبعث برءوسهم إلى الحسن بْن سهل إلى واسط، وأعلمه ما دخل عليه من المصيبة بقتل الفضل، وأنه قد صيره مكانه ووصل الكتاب بذلك إلى الحسن

وفي هذه السنه تزوج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل

في شهر رمضان، فلم يزل الحسن وأصحابه حتى أدركت الغلة وجبي بعض الخراج، ورحل المأمون من سرخس نحو العراق يوم الفطر، وكان ابراهيم ابن المهدي بالمدائن وعيسى وأبو البط وسعيد بالنيل وطرنايا يراوحون القتال ويغادونه، وقد كان المطلب بْن عبد الله بْن مالك بْن عبد الله قدم من المدائن، فاعتل بأنه مريض، وجعل يدعو في السر إلى المأمون، على أن المنصور بْن المهدي خليفة المأمون، ويخلعون إبراهيم، فأجابه إلى ذلك منصور وخزيمة بْن خازم وقواد كثير من أهل الجانب الشرقي، وكتب المطلب الى حميد وعلى ابن هشام أن يتقدما فينزل حميد نهر صرصر وعلي النهروان، فلما تحقق عند إبراهيم الخبر خرج من المدائن إلى بغداد، فنزل زندورد يوم السبت لأربع عشرة خلت من صفر، وبعث إلى المطلب ومنصور وخزيمة، فلما أتاهم رسوله اعتلوا عليه، فلما رأى ذلك بعث إليهم عيسى بْن محمد بْن أبي خالد وإخوته، فأما منصور وخزيمة فأعطوا بأيديهما، وأما المطلب فإن مواليه وأصحابه قاتلوا عن منزله حتى كثر الناس عليهم، وامر ابراهيم مناديا فنادى: من أراد النهب فليأت دار المطلب، فلما كان وقت الظهر وصلوا إلى داره، فانتهبوا ما وجدوا فيها، وانتهبوا دور أهل بيته، وطلبوه فلم يظفروا به، وذلك يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقيت من صفر. فلما بلغ حميدا وعلي بْن هشام الخبر بعث حميد قائدا فأخذ المدائن، وقطع الجسر، ونزل بها، وبعث علي بْن هشام قائدا فنزل المدائن، وأتى نهر ديالي فقطعه، وأقاموا بالمدائن، وندم إبراهيم حيث صنع بالمطلب ما صنع، ثم لم يظفر به. وفي هذه السنة تزوج المأمون بوران بنت الحسن بْن سهل . وفيها زوج المأمون علي بْن موسى الرضى ابنته أم حبيب، وزوج محمد ابن علي بْن موسى ابنته أم الفضل

وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن موسى بْن جعفر بْن محمد، فدعا لأخيه بعد المأمون بولاية العهد. وكان الحسن بْن سهل كتب إلى عيسى بْن يزيد الجلودي، وكان بالبصرة فوافى مكة في أصحابه، فشهد الموسم، ثم انصرف ومضى إبراهيم بْن موسى إلى اليمن، وكان قد غلب عليها حمدويه بْن علي بْن عيسى بْن ماهان

سنه ثلاث ومائتين

ثم دخلت سنة ثلاث ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) موت على بن موسى الرضى ذكر أن مما كان فيها موت علي بْن موسى بْن جعفر ذكر الخبر عن سبب وفاته: ذكر أن المأمون شخص من سرخس حتى صار إلى طوس، فلما صار بها أقام بها عند قبر أبيه أياما ثم أن علي بْن موسى أكل عنبا فأكثر منه، فمات فجأة، وذلك في آخر صفر، فامر به المأمون فدفن عند قبر الرشيد، وكتب في شهر ربيع الأول إلى الحسن بْن سهل يعلمه أن علي بْن موسى بْن جعفر مات، ويعلمه ما دخل عليه من الغم والمصيبة بموته، وكتب إلى بني العباس والموالي وأهل بغداد يعلمهم موت علي بْن موسى، وأنهم إنما نقموا بيعته له من بعده، ويسألهم الدخول في طاعته فكتبوا إليه وإلى الحسن جواب الكتاب بأغلظ ما يكتب به إلى أحد وكان الذي صلى على علي بْن موسى المأمون. ورحل المأمون في هذه السنة من طوس يريد بغداد، فلما صار إلى الري أسقط من وظيفتها ألفي ألف درهم. وفي هذه السنة غلبت السوداء على الحسن بْن سهل، فذكر سبب ذلك أنه كان مرض مرضا شديدا، فهاج به من مرضه تغير عقله، حتى شد في الحديد وحبس في بيت وكتب بذلك قواد الحسن إلى المأمون، فأتاهم

خبر حبس ابراهيم بن المهدى عيسى بن محمد بن ابى خالد

جواب الكتاب أن يكون على عسكره دينار بْن عبد الله، ويعلمهم أنه قادم على اثر كتابه . خبر حبس إبراهيم بْن المهدي عيسى بْن محمد بْن ابى خالد وفي هذه السنة ضرب إبراهيم بْن المهدي عيسى بْن محمد بْن أبي خالد وحبسه. ذكر الخبر عن سبب ذلك: ذكر أن عيسى بْن محمد بْن أبي خالد كان يكاتب حميدا والحسن، وكان الرسول بينهم محمد بْن محمد المعبدي الهاشمي، وكان يظهر لإبراهيم الطاعة والنصيحة، ولم يكن يقاتل حميدا ولا يعرض له في شيء من عمله، وكان كلما قَالَ إبراهيم: تهيأ للخروج لقتال حميد، يعتل عليه بأن الجند يريدون أرزاقهم، ومرة يقول: حتى تدرك الغلة، فما زال بذلك حتى إذا توثق مما يريد مما بينه وبين الحسن وحميد فارقهم، على أن يدفع إليهم إبراهيم بْن المهدي يوم الجمعة لانسلاخ شوال وبلغ الخبر إبراهيم، فلما كان يوم الخميس، جاء عيسى إلى باب الجسر، فقال للناس: إني قد سالمت حميدا، وضمنت له الا ادخل عمله، وضمن لي الا يدخل عملي ثم أمر أن يحفر خندق بباب الجسر وباب الشام، وبلغ إبراهيم ما قَالَ وما صنع، وقد كان عيسى سأل إبراهيم أن يصلي الجمعة بالمدينة، فأجابه إلى ذلك، فلما تكلم عيسى بما تكلم به، وبلغ إبراهيم الخبر وأنه يريد أخذه حذر. وذكر أن هارون أخا عيسى أخبر إبراهيم بما يريد أن يصنع به عيسى، فلما أخبره، بعث إليه أن يأتيه حتى يناظره في بعض ما يريد، فاعتل عليه عيسى، فلم يزل إبراهيم يعيد إليه الرسل حتى أتاه إلى قصره بالرصافة، فلما دخل عليه حجب الناس، وخلا إبراهيم وعيسى، وجعل يعاتبه، وأخذ عيسى يعتذر إليه مما يعتبه به، وينكر بعض ما يقول، فلما قرره بأشياء أمر به فضرب. ثم أنه حبسه وأخذ عدة من قواده فحبسهم، وبعث إلى منزله، فأخذ أم ولده

ذكر خبر خلع اهل بغداد ابراهيم بن المهدى

وصبيانا له صغارا، فحبسهم، وذلك ليلة الخميس لليلة بقيت من شوال. وطلب خليفة له يقال له العباس فاختفى فلما بلغ حبس عيسى أهل بيته وأصحابه، مشى بعضهم إلى بعض، وحرض أهل بيته وإخوته الناس على إبراهيم واجتمعوا، وكان رأسهم عباس خليفة عيسى، فشدوا على عامل إبراهيم على الجسر فطردوه، وعبر إلى إبراهيم فأخبره الخبر، وأمر بقطع الجسر فطردوا كل عامل كان لإبراهيم في الكرخ وغيره، وظهر الفساق والشطار، فقعدوا في المسالح وكتب عباس إلى حميد يسأله أن يقدم إليهم حتى يسلموا إليه بغداد، فلما كان يوم الجمعة صلوا في مسجد المدينة أربع ركعات، صلى بهم المؤذن بغير خطبه . ذكر خبر خلع اهل بغداد ابراهيم بن المهدى وفي هذه السنة خلع أهل بغداد إبراهيم بْن المهدي، ودعوا للمأمون بالخلافة. ذكر الخبر عن سبب ذلك: قد ذكرنا قبل ما كان من إبراهيم وعيسى بْن محمد بْن أبي خالد وحبس إبراهيم إياه، واجتماع عباس خليفة عيسى وإخوة عيسى على إبراهيم، وكتابهم إلى حميد يسألونه المصير إليهم ليسلموا بغداد إليه، فذكر أن حميدا لما أتاه كتابهم، وفيه شرط منهم عليه أن يعطي جند أهل بغداد، كل رجل منهم خمسين درهما، فأجابهم الى ذلك، وجاء حتى نزل صرصر بطريق الكوفة يوم الأحد، وخرج إليه عباس وقواد اهل بغداد، فلقوه غداه الاثنين، فوعدهم ومناهم، وقبلوا ذلك منه، فوعدهم أن يضع لهم العطاء يوم السبت في الياسرية، على أن يصلوا الجمعة فيدعو للمأمون، ويخلعوا إبراهيم، فأجابوه إلى ذلك فلما بلغ ابراهيم الخبر اخرج عيسى واخوته من الحبس، وسأله أن يرجع إلى منزله، ويكفيه أمر هذا الجانب، فأبى ذلك عليه. فلما كان يوم الجمعة بعث عباس إلى محمد بْن أبي رجاء الفقيه، فصلى بالناس الجمعة، ودعا للمأمون، فلما كان يوم السبت جاء حميد إلى الياسرية

ذكر خبر اختفاء ابراهيم بن المهدى

فعرض حميد جند أهل بغداد، وأعطاهم الخمسين التي وعدهم، فسألوه أن ينقصهم عشرة عشرة، فيعطيهم أربعين أربعين درهما لكل رجل منهم، لما كانوا تشاءموا به من علي بْن هشام حين أعطاهم الخمسين فغدر بهم، وقطع العطاء عنهم، فقال لهم حميد: لا بل أزيدكم وأعطيكم ستين درهما لكل رجل فلما بلغ ذلك إبراهيم دعا عيسى فسأله أن يقاتل حميدا، فأجابه إلى ذلك، فخلى سبيله، وأخذ منه كفلاء، فكلم عيسى الجند أن يعطيهم مثل ما أعطى حميد، فأبوا ذلك عليه، فلما كان يوم الاثنين عبر إليهم عيسى وإخوته وقواد أهل الجانب الشرقي، فعرضوا على أهل الجانب الغربي أن يزيدوهم على ما أعطى حميد، فشتموا عيسى وأصحابه، وقالوا: لا نريد إبراهيم. فخرج عيسى وأصحابه حتى دخلوا المدينة، وأغلقوا الأبواب، وصعدوا السور، وقاتلوا الناس ساعة فلما كثر عليهم الناس انصرفوا راجعين، حتى أتوا باب خراسان، فركبوا في السفن، ورجع عيسى كأنه يريد أن يقاتلهم، ثم احتال حتى صار في أيديهم شبه الأسير، فأخذه بعض قواده فأتي به منزله، ورجع الباقون إلى إبراهيم فأخبروه الخبر، فاغتم لذلك غما شديدا، وقد كان المطلب ابن عبد الله بْن مالك اختفى من إبراهيم، فلما قدم حميد أراد العبور إليه فأخذه المعبر، فذهب إلى إبراهيم فحبسه عنده ثلاثة أيام أو أربعة، ثم أنه خلى عنه ليلة الاثنين لليلة خلت من ذي الحجه. ذكر خبر اختفاء ابراهيم بن المهدى وفي هذه السنة اختفى إبراهيم بْن المهدي، وتغيب بعد حرب بينه وبين حميد بْن عبد الحميد، وبعد أن أطلق سعد بْن سلامة من حبسه. ذكر الخبر عن اختفائه والسبب في ذلك: ذكر أن سهل بْن سلامة كان الناس يذكرون أنه مقتول، وهو عند إبراهيم محبوس، فلما صار حميد إلى بغداد ودخلها أخرجه ابراهيم وكان

يدعو في مسجد الرصافة كما كان يدعو، فإذا كان الليل رده إلى حبسه، فمكث بذلك أياما، فأتاه أصحابه ليكونوا معه، فقال لهم: الزموا بيوتكم، فانى ارزا هذا- يعنى ابراهيم- فلما كان ليلة الاثنين لليلة خلت من ذي الحجة خلى سبيله، فذهب فاختفى، فلما رأى أصحاب إبراهيم وقواده أن حميدا قد نزل في ارحاء عبد الله بْن مالك، تحول عامتهم إليه، وأخذوا له المدائن، فلما رأى ذلك إبراهيم، أخرج جميع من عنده حتى يقاتلوا، فالتقوا على جسر نهر ديالي، فاقتتلوا، فهزمهم حميد، فقطعوا الجسر، فتبعهم أصحابه حتى أدخلوهم بيوت بغداد، وذلك يوم الخميس لانسلاخ ذي القعدة. فلما كان يوم الأضحى أمر إبراهيم القاضي أن يصلي بالناس في عيساباذ، فصلى بهم فانصرف الناس، واختفى الفضل بْن الربيع، ثم تحول الى حميد، ثم تحول على بن ريطة إلى عسكر حميد، وجعل الهاشميون والقواد يلحقون بحميد واحدا بعد واحد، فلما رأى ذلك إبراهيم أسقط في يديه، فشق عليه. وكان المطلب يكاتب حميدا على أن يأخذ له الجانب الشرقى، وكان سعيد ابن الساجور وأبو البط وعبدويه وعدة معهم من القواد يكاتبون علي بْن هشام، على أن يأخذوا له إبراهيم، فلما علم إبراهيم بأمرهم وما اجتمع عليه كل قوم من أصحابه، وأنهم قد أحدقوا به، جعل يداريهم، فلما جنه الليل اختفى ليلة الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من ذي الحجة سنة ثلاث ومائتين، وبعث المطلب إلى حميد يعلمه أنه قد أحدق بدار إبراهيم هو وأصحابه، فإن كان يريده فليأته. وكتب ابن الساجور وأصحابه إلى علي بْن هشام، فركب حميد من ساعته، وكان نازلا في ارحاء عبد الله، فأتى باب الجسر، وجاء علي بن هشام حتى نزل نهر بين، وتقدم الى مسجد كوثر، وخرج إليه ابن الساجور وأصحابه، وجاء المطلب إلى حميد، فلقوه بباب الجسر، فقربهم ووعدهم ونبأهم أن يعلم المأمون ما صنعوا، فأقبلوا إلى دار إبراهيم، وطلبوه فيها فلم يجدوه، فلم يزل إبراهيم متواريا حتى قدم المأمون وبعد ما قدم، حتى كان من أمره ما كان

وقد كان سهل بْن سلامة حيث اختفى وتحول إلى منزله وظهر، وبعث إليه حميد، فقربه وأدناه، وحمله على بغل، ورده إلى أهله، فلم يزل مقيما حتى قدم المأمون، فأتاه فأجازه ووصله، وأمره أن يجلس في منزله. وفي هذه السنة انكسفت الشمس يوم الأحد لليلتين بقيتا من ذي الحجة حتى ذهب ضوءها، وكان غاب أكثر من ثلثيها، وكان انكسافها ارتفاع النهار، فلم يزل كذلك حتى قرب الظهر ثم انجلت. فكانت أيام إبراهيم بْن المهدي كلها سنة وأحد عشر شهرا واثني عشر يوما. وغلب علي بْن هشام على شرقي بغداد وحميد بْن عبد الحميد على غربيها، وصار المأمون إلى همذان في آخر ذي الحجة وحج بالناس في هذه السنة سليمان بْن عبد الله بْن سليمان بن على.

سنه اربع ومائتين

ثم دخلت سنة أربع ومائتين (ذكر الأحداث التي كانت فيها) خبر قدوم المأمون الى بغداد فمما كان فيها من ذلك قدوم المأمون العراق، وانقطاع مادة الفتن ببغداد. ذكر الخبر عن مقدمه العراق وما كان فيه بها عند مقدمه: ذكر عن المأمون أنه لما قدم جرجان أقام بها شهرا، ثم خرج منها، فصار إلى الري في ذي الحجة، فأقام بها أياما، ثم خرج منها، فجعل يسير المنازل، ويقيم اليوم واليومين حتى صار إلى النهروان، وذلك يوم السبت، فأقام فيه ثمانية أيام، وخرج إليه أهل بيته والقواد ووجوه الناس، فسلموا عليه، وقد كان كتب إلى طاهر بْن الحسين من الطريق وهو بالرقة، أن يوافيه إلى النهروان، فوافاه بها، فلما كان السبت الآخر دخل بغداد ارتفاع النهار، لأربع عشرة ليلة بقيت من صفر سنة أربع ومائتين، ولباسه ولباس أصحابه، أقبيتهم وقلانسهم وطراداتهم وأعلامهم كلها الخضرة فلما قدم نزل الرصافة، وقدم معه طاهر، فأمره بنزول الخيزرانية مع أصحابه، ثم تحول فنزل قصره على شط دجلة، وأمر حميد بْن عبد الحميد وعلي بْن هشام وكل قائد كان في عسكره أن يقيم في عسكره، فكانوا يختلفون إلى دار المأمون في كل يوم، ولم يكن يدخل عليه أحد إلا في الثياب الخضر، ولبس ذلك أهل بغداد وبنو هاشم أجمعون، فكانوا يخرقون كل شيء يرونه من السواد على إنسان إلا القلنسوة، فإنه كان يلبسها الواحد بعد الواحد على خوف ووجل، فأما قباء أو علم فلم يكن أحد يجترئ أن يلبس شيئا من ذلك ولا يحمله فمكثوا بذلك ثمانية أيام، فتكلم في ذلك بنو هاشم وولد العباس خاصة، وقالوا له:

يا أمير المؤمنين، تركت لباس آبائك وأهل بيتك ودولتهم، ولبست الخضرة. وكتب إليه في ذلك قواد أهل خراسان. وقيل إنه أمر طاهر بْن الحسين أن يسأله حوائجه، فكان أول حاجة سأله أن يطرح لباس الخضرة، ويرجع إلى لبس السواد وزي دولة الآباء، فلما رأى طاعة الناس له في لبس الخضرة وكراهتهم لها، وجاء السبت قعد لهم وعليه ثياب خضر، فلما اجتمعوا عنده دعا بسواد فلبسه، ودعا بخلعه سواد فألبسها طاهرا، ثم دعا بعدة من قواده، فألبسهم أقبية وقلانس سودا، فلما خرجوا من عنده وعليهم السواد، طرح سائر القواد والجند لبس الخضرة، ولبسوا السواد، وذلك يوم السبت لسبع بقين من صفر. وقد قيل: إن المأمون لبس الثياب الخضر بعد دخوله بغداد سبعة وعشرين، ثم مزقت. وقيل: إنه لم يزل مقيما ببغداد في الرصافة حتى بنى منازل على شط دجلة عند قصره الأول، وفي بستان موسى. وذكر عن إبراهيم بْن العباس الكاتب، عن عمرو بن مسعده، ان احمد ابن أبي خالد الأحول قَالَ: لما قدمنا من خراسان مع المأمون وصرنا في عقبة حلوان- وكنت زميله- قَالَ لي: يا أحمد، إني أجد رائحة العراق، فأجبت بغير جوابه، وقلت: ما أخلقه! قَالَ: ليس هذا جوابي، ولكني أحسبك سهوت أو كنت مفكرا، قَالَ: قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قَالَ: فيم فكرت؟ قَالَ: قلت: يا أمير المؤمنين، فكرت في هجومنا على أهل بغداد وليس معنا إلا خمسون ألف درهم، مع فتنة غلبت على قلوب الناس، فاستعذبوها، فكيف يكون حالنا إن هاج هائج، او تحرك متحرك! قَالَ: فأطرق مليا، ثم قَالَ: صدقت يا أحمد، ما أحسن ما فكرت، ولكني أخبرك، الناس على طبقات ثلاث في هذه المدينة: ظالم، ومظلوم، ولا ظالم ولا مظلوم، فأما الظالم فليس يتوقع إلا عفونا وإمساكنا، وأما المظلوم فليس يتوقع أن ينتصف إلا بنا، ومن كان لا ظالما ولا مظلوما فبيته يسعه فو الله ما كان إلا كما قَالَ

وأمر المأمون في هذه السنة بمقاسمة أهل السواد على الخمسين، وكانوا يقاسمون على النصف، واتخذ القفيز الملجم- وهو عشرة مكاكيك بالمكوك الهاروني- كيلا مرسلا. وفي هذه السنة واقع يحيى بْن معاذ بابك، فلم يظفر واحد منهما بصاحبه. وولى المأمون صالح بن الرشيد البصرة، وولى عبيد الله بْن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بْن أبي طالب الحرمين. وحج بالناس في هذه السنة عبيد الله بْن الحسن.

سنه خمس ومائتين

ثم دخلت سنة خمس ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِي هَذِهِ السنة من الأحداث) ولايه طاهر بن الحسين خراسان فمن ذلك تولية المأمون فيها طاهر بْن الحسين من مدينة السلام إلى أقصى عمل المشرق، وقد كان قبل ذلك ولاه الجزيرة والشرط وجانبي بغداد ومعاون السواد، وقعد للناس. ذكر الخبر عن سبب توليته: وكان سبب توليته إياه خراسان والمشرق، ما ذكر عن حماد بْن الحسن، عن بشر بْن غياث المريسي، قَالَ: حضرت عبد الله المأمون أنا وثمامة ومحمد ابن أبي العباس وعلي بْن الهيثم، فتناظروا في التشيع، فنصر محمد بن ابى العباس الإمامة، ونصر علي بْن الهيثم الزيدية، وجرى الكلام بينهما، إلى أن قَالَ محمد لعلي: يا نبطي، ما أنت والكلام! قَالَ: فقال المأمون- وكان متكئا فجلس: الشتم على، والبذاء لؤم، إنا قد أبحنا الكلام، وأظهرنا المقالات، فمن قَالَ بالحق حمدناه، ومن جهل ذلك وقفناه، ومن جهل الأمرين حكمنا فيه بما يجب، فاجعلا بينكما أصلا، فإن الكلام فروع، فإذا افترعتم شيئا رجعتم إلى الأصول قَالَ: فإنا نقول: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ له، وأن محمدا عبده ورسوله، وذكرا الفرائض والشرائع في الإسلام، وتناظرا بعد ذلك. فأعاد محمد لعلي بمثل المقالة الأولى، فقال له علي: والله لولا جلالة مجلسه وما وهب الله من رأفته، ولولا ما نهى عنه لأعرقت جبينك، وبحسبك من جهلك غسلك المنبر بالمدينة. قَالَ: فجلس المأمون- وكان متكئا- فقال: وما غسلك المنبر؟ ألتقصير مني في أمرك أو لتقصير المنصور كان في أمر أبيك؟ لولا أن الخليفة

إذا وهب شيئا استحيا أن يرجع فيه لكان أقرب شيء بيني وبينك إلى الأرض رأسك، قم وإياك ما عدت. قَالَ: فخرج محمد بْن أبي العباس، ومضى إلى طاهر بْن الحسين- وهو زوج أخته- فقال له: كان من قصتي كيت وكيت، وكان يحجب المأمون على النبيذ فتح الخادم، وياسر يتولى الخلع، وحسين يسقي، وأبو مريم غلام سعيد الجوهري يختلف في الحوائج فركب طاهر إلى الدار، فدخل فتح، فقال: طاهر بالباب، فقال: إنه ليس من أوقاته، ائذن له: فدخل طاهر فسلم عليه، فرد ع، وقال: اسقوه رطلا، فأخذه في يده اليمنى، وقال له: اجلس، فخرج فشربه ثم عاد، وقد شرب المأمون رطلا آخر، فقال: اسقوه ثانيا، ففعل كفعله الأول، ثم دخل، فقال له المأمون: اجلس، فقال يا أمير المؤمنين، ليس لصاحب الشرطة أن يجلس بين يدي سيده، فقال له المأمون: ذلك في مجلس العامة، فأما مجلس الخاصة فطلق، قَالَ: وبكى المأمون، وتغرغرت عيناه، فقال له طاهر: يا أمير المؤمنين، لم تبكي لا أبكى الله عينيك! فو الله لقد دانت لك البلاد، وأذعن لك العباد، وصرت إلى المحبة في كل أمرك فقال: أبكي لأمر ذكره ذل، وستره حزن، ولن يخلو أحد من شجن، فتكلم بحاجة إن كانت لك، قَالَ: يا أمير المؤمنين، محمد بْن أبي العباس أخطأ فأقله عثرته، وارض عنه قَالَ: قد رضيت عنه، وأمرت بصلته، ورددت عليه مرتبته، ولولا أنه ليس من أهل الإنس لأحضرته. قَالَ: وانصرف طاهر، فأعلم ابن ابى العباس ذلك، ودعا بهارون بن جبغويه، فقال له: إن للكتاب عشيرة، وإن أهل خراسان يتعصب بعضهم لبعض، فخذ معك ثلاثمائة ألف درهم، فأعط الحسين الخادم مائتي ألف، وأعط كاتبه محمد بْن هارون مائة ألف، وسله ان يسال المأمون: لم بكى؟ قَالَ: ففعل ذلك، قَالَ: فلما تغدى قَالَ: يا حسين اسقني، قَالَ: لا والله

لاسقينك أو تقول لي: لم بكيت حين دخل عليك طاهر؟ قَالَ: يا حسين، وكيف عنيت بهذا حتى سألتني عنه! قَالَ: لغمي بذاك، قَالَ: يا حسين هو أمر إن خرج من رأسك قتلتك، قَالَ: يا سيدي، ومتى أخرجت لك سرا! قَالَ: إني ذكرت محمدا أخي، وما ناله من الذلة، فخنقتني العبرة فاسترحت إلى الإفاضة، ولن يفوت طاهرا مني ما يكره قَالَ: فأخبر حسين طاهرا بذلك، فركب طاهر إلى أحمد بْن أبي خالد، فقال له: إن الثناء مني ليس برخيص، وإن المعروف عندي ليس بضائع، فغيبني عن عينه، فقال له: سأفعل، فبكر إلي غدا قَالَ: فركب ابن أبي خالد إلى المأمون، فلما دخل عليه قَالَ: ما نمت البارحة، فقال: لم ويحك! فقال: لأنك وليت غسان خراسان، وهو ومن معه أكلة رأس، فأخاف أن يخرج عليه خارجة من الترك فتصطلمه، فقال له: لقد فكرت فيما فكرت فيه، قَالَ: فمن ترى؟ قَالَ: طاهر بْن الحسين، قَالَ: ويلك يا أحمد! هو والله خالع، قَالَ: أنا الضامن له، قَالَ: فأنفذه، قَالَ: فدعا بطاهر من ساعته، فعقد له، فشخص من ساعته، فنزل في بستان خليل بْن هاشم، فحمل إليه في كل يوم ما أقام فيه مائة ألف فأقام شهرا، فحمل إليه عشرة آلاف ألف، التي تحمل إلى صاحب خراسان. قَالَ أبو حسان الزيادي: وكان قد عقد له على خراسان والجبال من حلوان إلى خراسان، وكان شخوصه من بغداد يوم الجمعة لليلة بقيت من ذي القعدة سنة خمس ومائتين، وقد كان عسكر قبل ذلك بشهرين، فلم يزل مقيما في عسكره قَالَ أبو حسان: وكان سبب ولايته- فيما اجتمع الناس عليه- أن عبد الرحمن المطوعي جمع جموعا بنيسابور ليقاتل بهم الحرورية بغير أمر والي خراسان، فتخوفوا أن يكون ذلك لاصل عمله عليه وكان غسان بْن عباد يتولى خراسان من قبل الحسن بْن سهل، وهو ابْن عم الفضل بْن سهل. وذكر عن علي بْن هارون أن طاهر بْن الحسين قبل خروجه إلى خراسان وولايته لها، ندبه الحسن بْن سهل للخروج إلى محاربة نصر بْن شبث، فقال:

حاربت خليفة، وسقت الخلافة إلى خليفة، وأومر بمثل هذا! وإنما كان ينبغي أن توجه لهذا قائدا من قوادي، فكان سبب المصارمة بين الحسن وطاهر. قَالَ: وخرج طاهر إلى خراسان لما تولاها، وهو لا يكلم الحسن بْن سهل، فقيل له في ذلك، فقال: ما كنت لأحل عقدة عقدها لي في مصارمته. وفي هذه السنة ورد عبد الله بْن طاهر بغداد منصرفا من الرقة، وكان أبوه طاهر استخلفه عليها، وأمره بقتال نصر بْن شبث، وقدم يحيى بْن معاذ فولاه المأمون الجزيرة. وفيها ولى المأمون عيسى بْن محمد بْن أبي خالد أرمينية وأذربيجان ومحاربة بابك. وفيها مات السري بْن الحكم بمصر، وكان واليها. وفيها مات داود بْن يزيد عامل السند، فولاها المأمون بشر بْن داود على أن يحمل إليه في كل سنة ألف ألف درهم. وفيها ولى المأمون عيسى بْن يزيد الجلودي محاربة الزط. وفيها شخص طاهر بْن الحسين إلى خراسان في ذي القعدة، وأقام شهرين حتى بلغه خروج عبد الرحمن النيسابوري المطوعي بنيسابور، فشخص ووافى التغرغزيه أشروسنة. وفيها أخذ فرج الرخجي عبد الرحمن بْن عمار النيسابوري. وحج بالناس في هذه السنة عبيد الله بْن الحسن، وهو والي الحرمين.

سنه ست ومائتين

ثم دخلت سنة ست ومائتين (ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك توليه المأمون داود بْن ماسجور محاربة الزط وأعمال البصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين. وفيها كان المد الذي غرق منه السواد وكسكر وقطيعة أم جعفر وقطيعة العباس وذهب بأكثرها. وفيها نكب بابك بعيسى بْن محمد بن ابى خالد. ولايه عبد الله بن طاهر على الرقة وفيها ولى المأمون عبد الله بْن طاهر الرقة لحرب نصر بْن شبث ومضر. ذكر الخبر عن سبب توليته إياه: وكان السبب في ذلك- فيما ذكر- أن يحيى بْن معاذ كان المأمون ولاه الجزيرة، فمات في هذه السنة، واستخلف ابنه أحمد على عمله، فذكر عن يحيى بْن الحسن بْن عبد الخالق، أن المأمون دعا عبد الله بْن طاهر في شهر رمضان، فقال بعض: كان ذلك في سنة خمس ومائتين، وقال بعض: في سنة ست وقال بعض: في سنة سبع فلما دخل عليه، قَالَ: يا عبد الله أستخير الله منذ شهر، وأرجو أن يخير الله لي، ورأيت الرجل يصف ابنه ليطريه لرأيه فيه، وليرفعه، ورأيتك فوق ما قال ابوك فيك، وقد مات يحيى ابن معاذ، واستخلف ابنه أحمد بْن يحيى، وليس بشيء، وقد رأيت توليتك مضر ومحاربة نصر بْن شبث، فقال: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين، وأرجو أن يجعل الله الخيرة لأمير المؤمنين وللمسلمين. قَالَ: فعقد له، ثم أمر أن تقطع حبال القصارين عن طريقه، وتنحى عن الطرقات المظال، كيلا يكون في طريقه ما يرد لواءه، ثم عقد له لواء

وصيه طاهر إلى ابنه عبد الله

مكتوبا عليه بصفرة ما يكتب على الألوية، وزاد فيه المأمون: يا منصور، وخرج ومعه الناس فصار إلى منزله، ولما كان من غد ركب إليه الناس، وركب إليه الفضل بْن الربيع، فأقام عنده إلى الليل، فقام الفضل، فقال عبد الله: يا أبا العباس، قد تفضلت وأحسنت، وقد تقدم أبي وأخوك الى الا أقطع أمرا دونك، وأحتاج أن أستطلع رأيك، وأستضيء بمشورتك، فإن رأيت أن تقيم عندي إلى أن نفطر فافعل. فقال له: إن لي حالات ليس يمكنني معها الافطار هاهنا قَالَ: إن كنت تكره طعام أهل خراسان فابعث الى مطبخك يأتون بطعامك، فقال له: إن لي ركعات بين العشاء والعتمة، قَالَ: ففي حفظ الله، وخرج معه إلى صحن داره يشاوره في خاص أموره. وقيل: كان خروج عبد الله الصحيح إلى مضر، لقتال نصر بْن شبث بعد خروج ابيه الى خراسان، بسته اشهر. وصيه طاهر الى ابنه عبد الله وكان طاهر حين ولى ابنه عبد الله ديار ربيعه، كتب اليه كتابا نسخته: (بسم الله الرحمن الرحيم) عليك بتقوى الله وحده لا شريك له، وخشيته ومراقبته ومزايلة سخطه وحفظ رعيتك، والزم ما ألبسك الله من العافية بالذكر لمعادك، وما أنت صائر إليه، وموقوف عليه، ومسئول عنه، والعمل في ذلك كله بما يعصمك الله، وينجيك يوم القيامة من عذابه وأليم عقابه، فإن الله قد أحسن إليك وأوجب عليك الرأفة بمن استرعاك أمرهم من عباده، وألزمك العدل عليهم، والقيام بحقه وحدوده فيهم، والذب عنهم، والدفع عن حريمهم وبيضتهم، والحقن لدمائهم، والأمن لسبيلهم، وإدخال الراحة عليهم في معايشهم، ومؤاخذك بما فرض عليك من ذلك، وموقفك عليه، ومسائلك عنه، ومثيبك عليه بما قدمت

واخرت، ففرغ لذلك فكرك وعقلك وبصرك ورؤيتك، ولا يذهلك عنه ذاهل، ولا يشغلك عنه شاغل، فإنه رأس أمرك، وملاك شأنك، وأول ما يوفقك الله به لرشدك. وليكن أول ما تلزم به نفسك، وتنسب إليه فعالك، المواظبة على ما افترض الله عليك من الصلوات الخمس، والجماعة عليها بالناس قبلك في مواقيتها على سننها، في إسباغ الوضوء لها، وافتتاح ذكر الله فيها وترتل في قراءتك، وتمكن في ركوعك وسجودك وتشهدك، ولتصدق فيها لربك نيتك. واحضض عليها جماعة من معك وتحت يدك، واداب عليها فإنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ثم أتبع ذلك الأخذ بسنن رسول الله ص والمثابرة على خلائفه، واقتفاء آثار السلف الصالح من بعده، وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة الله وتقواه ولزوم ما أنزل الله في كتابه، من أمره ونهيه، وحلاله وحرامه، وائتمام ما جاءت به الآثار على النبي ص، ثم قم فيه بما يحق لله عليك، ولا تمل عن العدل فيما أحببت أو كرهت لقريب من الناس أو بعيد وآثر الفقه واهله، والدين وحملته، وكتاب الله والعاملين به، فإن أفضل ما تزين به المرء الفقه في دين الله، والطلب له، والحث عليه، والمعرفة بما يتقرب فيه منه إلى الله، فإنه الدليل على الخير كله، والقائد له، والآمر به، والناهي عن المعاصي والموبقات كلها وبها مع توفيق الله تزداد العباد معرفة بالله عز وجل، وإجلالا له، ودركا للدرجات العلا في المعاد، مع ما في ظهوره للناس من التوقير لأمرك، والهيبة لسلطانك، والأنسة بك والثقة بعدلك. وعليك بالاقتصاد في الأمور كلها، فليس شيء أبين نفعا، ولا أحضر أمنا، ولا أجمع فضلا من القصد، والقصد داعية إلى الرشد، والرشد دليل على التوفيق، والتوفيق منقاد إلى السعادة، وقوام الدين والسنن الهادية بالاقتصاد،

فآثره في دنياك كلها، ولا تقصر في طلب الآخرة والأجر والأعمال الصالحة والسنن المعروفة، ومعالم الرشد فلا غاية للاستكثار من البر والسعي له، إذا كان يطلب به وجه الله ومرضاته، ومرافقة أوليائه في دار كرامته. واعلم أن القصد في شأن الدنيا يورث العز، ويحصن من الذنوب، وإنك لن تحوط نفسك ومن يليك، ولا تستصلح أمورك بأفضل منه، فاته واهتد به، تتم امورك، وتزدد مقدرتك، وتصلح خاصتك وعامتك. وأحسن الظن بالله عز وجل تستقم لك رعيتك، والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلها تستدم به النعمة عليك، ولا تنهض أحدا من الناس فيما توليه من عملك قبل تكشف أمره بالتهمة، فإن إيقاع التهم بالبراء والظنون السيئة بهم مأثم واجعل من شانك حسن الظن باصحابك واطرد عنهم سوء الظن بهم، وارفضه عنهم يعنك ذلك على اصطناعهم ورياضتهم. ولا يجدن عدو الله الشيطان في أمرك مغمزا، فإنه إنما يكتفي بالقليل من وهنك فيدخل عليك من الغم في سوء الظن ما ينغصك لذاذة عيشك. واعلم أنك تجد بحسن الظن قوة وراحة، وتكفي به ما أحببت كفايته من أمورك، وتدعو به الناس إلى محبتك والاستقامة في الأمور كلها لك ولا يمنعك حسن الظن بأصحابك والرأفة برعيتك أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك، والمباشرة لأمور الأولياء، والحياطة للرعية والنظر فيما يقيمها ويصلحها، بل لتكن المباشرة لأمور الأولياء والحياطة للرعية والنظر في حوائجهم وحمل مؤناتهم آثر عندك مما سوى ذلك، فإنه أقوم للدين، وأحيا للسنة. وأخلص نيتك في جميع هذا، وتفرد بتقويم نفسك تفرد من يعلم أنه مسئول عما صنع، ومجزي بما أحسن، ومأخوذ بما أساء، فإن الله جعل الدين حرزا وعزا، ورفع من اتبعه وعززه، فاسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين وطريقة الهدى وأقم حدود الله في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم، وما استحقوه. ولا تعطل ذلك ولا تهاون به ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة، فإن في تفريطك

في ذلك لما يفسد عليك حسن ظنك واعزم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة، وجانب الشبه والبدعات، يسلم لك دينك، وتقم لك مروءتك وإذا عاهدت عهدا فف به، وإذا وعدت الخير فأنجزه، واقبل الحسنة، وادفع بها، واغمض عن عيب كل ذي عيب من رعيتك، واشدد لسانك عن قول الكذب والزور، وابغض أهله، وأقص أهل النميمة، فإن أول فساد أمرك في عاجل الأمور وآجلها تقريب الكذوب والجرأة على الكذب، لأن الكذب رأس المآثم، والزور والنميمة خاتمتها، لأن النميمة لا يسلم صاحبها، وقائلها لا يسلم له صاحب، ولا يستقيم لمطيعها أمر. وأحب أهل الصدق والصلاح، وأعن الأشراف بالحق، وواصل الضعفاء، وصل الرحم، وابتغ بذلك وجه الله وعزة أمره، والتمس فيه ثوابه والدار الآخرة. واجتنب سوء الأهواء والجور، واصرف عنهما رأيك، وأظهر براءتك من ذلك لرعيتك، وانعم بالعدل سياستهم، وقم بالحق فيهم وبالمعرفة التي تنتهي بك إلى سبيل الهدى، واملك نفسك عند الغضب، وآثر الوقار والحلم، وإياك والحدة والطيرة والغرور فيما أنت بسبيله. وإياك أن تقول إني مسلط أفعل ما أشاء، فإن ذلك سريع فيك إلى نقص الرأي، وقلة اليقين بالله وحده لا شريك له وأخلص لله النية فيه واليقين به، واعلم أن الملك لله يعطيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ولن تجد تغير النعمة وحلول النقمة إلى أحد أسرع منه إلى حملة النعمة من أصحاب السلطان والمبسوط لهم في الدولة إذا كفروا بنعم الله وإحسانه، واستطالوا بما آتاهم الله من فضله. ودع عنك شره نفسك ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تدخر وتكنز البر والتقوى والمعدلة واستصلاح الرعية، وعمارة بلادهم، والتفقد لأمورهم، والحفظ لدهمائهم، والإغاثة لملهوفهم. واعلم أن الأموال إذا كثرت وذخرت في الخزائن لا تثمر، وإذا كانت في إصلاح الرعية وإعطاء حقوقهم وكف المؤنة عنهم نمت وربت، وصلحت

به العامه، وتزينت الولاة، وطاب به الزمان، واعتقد فيه العز والمنعة، فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله، ووفر منه على أولياء أمير المؤمنين قبلك حقوقهم، وأوف رعيتك من ذلك حصصهم، وتعهد ما يصلح أمورهم ومعايشهم، فإنك إذا فعلت ذلك قرت النعمة عليك، واستوجبت المزيد من الله، وكنت بذلك على جباية خراجك وجمع أموال رعيتك وعملك أقدر، وكان الجمع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسلس لطاعتك، وأطيب أنفسا لكل ما أردت. فاجهد نفسك فيما حددت لك في هذا الباب، ولتعظم حسبتك فيه، فإنما يبقى من المال ما أنفق في سبيل حقه، واعرف للشاكرين شكرهم وأثبهم عليه وإياك أن تنسيك الدنيا وغرورها هول الآخرة فتتهاون بما يحق عليك، فإن التهاون يوجب التفريط، والتفريط يورث البوار وليكن عملك لله وفيه تبارك وتعالى، وارج الثواب، فإن الله قد أسبغ عليك نعمته في الدنيا، وأظهر لديك فضله، فاعتصم بالشكر، وعليه فاعتمد يزدك الله خيرا وإحسانا، فإن الله يثيب بقدر شكر الشاكرين وسيرة المحسنين، وقض الحق فيما حمل من النعم، وألبس من العافية والكرامة ولا تحقرن ذنبا، ولا تمايلن حاسدا، ولا ترحمن فاجرا، ولا تصلن كفورا، ولا تداهنن عدوا، ولا تصدقن نماما، ولا تأمنن غدارا، ولا توالين فاسقا، ولا تتبعن غاويا، ولا تحمدن مرائيا، ولا تحقرن إنسانا، ولا تردن سائلا فقيرا، ولا تجيبن باطلا، ولا تلاحظن مضحكا، ولا تخلفن وعدا، ولا ترهبن فجرا، ولا تعملن غضبا، ولا تأتين بذخا، ولا تمشين مرحا، ولا تركبن سفها، ولا تفرطن في طلب الآخرة، ولا تدفع الأيام عيانا، ولا تغمضن عن الظالم رهبة أو مخافة، ولا تطلبن ثواب الآخرة بالدنيا وأكثر مشاورة الفقهاء، واستعمل نفسك بالحلم، وخذ عن أهل التجارب وذوي العقل والرأي والحكمة،

ولا تدخلن في مشورتك أهل الدقة والبخل، ولا تسمعن لهم قولا، فإن ضررهم أكثر من منفعتهم، وليس شيء أسرع فسادا لما استقبلت في أمر رعيتك من الشح واعلم إنك إذا كنت حريصا كنت كثير الأخذ، قليل العطية، وإذا كنت كذلك لم يستقم لك أمرك إلا قليلا، فإن رعيتك إنما تعتقد على محبتك بالكف عن أموالهم وترك الجور عنهم، ويدوم صفاء أوليائك لك بالأفضال عليهم وحسن العطية لهم، فاجتنب الشح، واعلم إنه أول ما عصى به الإنسان ربه، وأن العاصي بمنزلة خزي، وهو قول الله عز وجل: «وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ*» ، فسهل طريق الجود بالحق، واجعل للمسلمين كلهم من نيتك حظا ونصيبا، وأيقن أن الجود من أفضل أعمال العباد، فاعدده لنفسك خلقا، وارض به عملا ومذهبا. وتفقد أمور الجند في دواوينهم ومكاتبهم، وأدرر عليهم أرزاقهم، ووسع عليهم في معايشهم، ليذهب بذلك الله فاقتهم، ويقوم لك أمرهم، ويزيد به قلوبهم في طاعتك وأمرك خلوصا وانشراحا، وحسب ذي سلطان من السعادة أن يكون على جنده ورعيته رحمة في عدله وحيطته وإنصافه وعنايته وشفقته وبره وتوسعته، فزايل مكروه إحدى البليتين باستشعار تكملة الباب الآخر، ولزوم العمل به تلق إن شاء الله نجاحا وصلاحا وفلاحا. واعلم إن القضاء من الله بالمكان الذي ليس به شيء من الأمور، لأنه ميزان الله الذى تعتدل عليه الأحوال في الأرض، وبإقامة العدل في القضاء والعمل، تصلح الرعية، وتأمن السبل، وينتصف المظلوم، ويأخذ الناس حقوقهم وتحسن المعيشة، ويؤدى حق الطاعة، ويرزق الله العافية والسلامة، ويقوم الدين، وتجري السنن والشرائع، وعلى مجاريها ينتجز الحق والعدل في القضاء. واشتد في أمر الله، وتورع عن النطف وامض لإقامة الحدود، وأقلل العجلة، وابعد من الضجر والقلق، واقنع بالقسم، ولتسكن ريحك، ويقر جدك، وانتفع بتجربتك، وانتبه في صمتك، واسدد في منطقك، وأنصف الخصم،

وقف عند الشبهة، وأبلغ في الحجة، ولا يأخذك في أحد من رعيتك محاباة ولا محاماة، ولا لوم لائم، وتثبت وتأن، وراقب وانظر، وتدبر وتفكر، واعتبر، وتواضع لربك، وارأف بجميع الرعية، وسلط الحق على نفسك، ولا تسرعن إلى سفك دم- فإن الدماء من الله بمكان عظيم- انتهاكا لها بغير حقها وانظر هذا الخراج الذي قد استقامت عليه الرعية، وجعله الله للإسلام عزا ورفعة، ولأهله سعة ومنعة، ولعدوه وعدوهم كبتا وغيظا، ولأهل الكفر من معاهدتهم ذلا وصغارا، فوزعه بين أصحابه بالحق والعدل، والتسوية والعموم فيه، ولا ترفعن منه شيئا عن شريف لشرفه، وعن غني لغناه، ولا عن كاتب لك، ولا أحد من خاصتك، ولا تأخذن منه فوق الاحتمال له، ولا تكلفن أمرا فيه شطط واحمل الناس كلهم على مر الحق، فإن ذلك أجمع لألفتهم وألزم لرضا العامة واعلم أنك جعلت بولايتك خازنا وحافظا وراعيا، وإنما سمي أهل عملك رعيتك، لأنك راعيهم وقيمهم، تأخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ومقدرتهم، وتنفقه في قوام أمرهم وصلاحهم، وتقويم أودهم، فاستعمل عليهم في كور عملك ذوي الرأي والتدبير والتجربه والخبره بالعمل والعلم بالسياسة والعفاف، ووسع عليهم في الرزق، فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلدت وأسند إليك، ولا يشغلنك عنه شاغل، ولا يصرفنك عنه صارف، فإنك متى آثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النعمة من ربك، وحسن الاحدوثه في اعمالك، واحترزت النصيحة من رعيتك، وأعنت على الصلاح، فدرت الخيرات ببلدك، وفشت العمارة بناحيتك، وظهر الخصب في كورك، فكثر خراجك، وتوفرت أموالك، وقويت بذلك على ارتباط جندك، وإرضاء العامة بإقامة العطاء فيهم من نفسك، وكنت محمود السياسة، مرضي العدل في ذلك عند عدوك، وكنت في أمورك كلها

ذا عدل وقوه، وآله وعده، وفنافس في هذا ولا تقدم عليه شيئا تحمد مغبة أمرك إن شاء الله. واجعل في كل كورة من عملك أمينا يخبرك أخبار عمالك، ويكتب إليك بسيرتهم وأعمالهم، حتى كأنك مع كل عامل في عمله، معاين لأمره كله وإن أردت أن تأمره بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك، فإن رأيت السلامة فيه والعافية، ورجوت فيه حسن الدفاع والنصح والصنع فأمضه، وإلا فتوقف عنه وراجع أهل البصر والعلم، ثم خذ فيه عدته، فإنه ربما نظر الرجل في أمر من أمره قد واتاه على ما يهوى، فقواه ذلك وأعجبه، وإن لم ينظر في عواقبه أهلكه، ونقض عليه أمره. فاستعمل الحزم في كل ما أردت، وباشره بعد عون الله بالقوة، وأكثر استخارة ربك في جميع أمورك، وافرغ من عمل يومك ولا تؤخره لغدك، وأكثر مباشرته بنفسك، فإن لغد أمورا وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت وأعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه، وإذا أخرت عمله اجتمع عليك أمر يومين، فشغلك ذلك حتى تعرض عنه، فإذا أمضيت لكل يوم عمله أرحت نفسك وبدنك، وأحكمت أمور سلطانك. وانظر أحرار الناس وذوي الشرف منهم، ثم استيقن صفاء طويتهم وتهذيب مودتهم لك، ومظاهرتهم بالنصح والمخالصة على أمرك، فاستخلصهم وأحسن إليهم، وتعاهد أهل البيوتات ممن قد دخلت عليهم الحاجة، فاحتمل مؤنتهم، وأصلح حالهم، حتى لا يجدوا لخلتهم مسا وأفرد نفسك للنظر في أمور الفقراء والمساكين، ومن لا يقدر على رفع مظلمة إليك والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقه، فاسأل عنه احفى مسألة، ووكل بأمثاله أهل الصلاح من رعيتك، ومرهم برفع حوائجهم وحالاتهم إليك، لتنظر فيها بما يصلح الله أمرهم وتعاهد ذوي البأساء ويتاماهم وأراملهم، واجعل لهم أرزاقا من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين أعزه الله، في العطف عليهم، والصلة لهم، ليصلح

الله بذلك عيشهم ويرزقك به بركة وزيادة واجر للإضراء من بيت المال، وقدم حملة القرآن منهم والحافظين لأكثره في الجراية على غيرهم، وانصب لمرضى المسلمين دورا تؤويهم، وقواما يرفقون بهم، وأطباء يعالجون أسقامهم، وأسعفهم بشهواتهم ما لم يؤد ذلك إلى سرف في بيت المال واعلم أن الناس إذا أعطوا حقوقهم وأفضل أمانيهم لم يرضهم ذلك، ولم تطب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم طمعا في نيل الزيادة، وفضل الرفق منهم، وربما برم المتصفح لأمور الناس لكثرة ما يرد عليه، ويشغل فكره وذهنه منها ما يناله به مؤنة ومشقة، وليس من يرغب في العدل، ويعرف محاسن أموره في العاجل وفضل ثواب الآجل، كالذي يستقبل ما يقربه إلى الله، ويلتمس رحمته به وأكثر الإذن للناس عليك، وأبرز لهم وجهك، وسكن لهم أحراسك، واخفض لهم جناحك، وأظهر لهم بشرك، ولن لهم في المسألة والمنطق، واعطف عليهم بجودك وفضلك، وإذا أعطيت فأعط بسماحة وطيب نفس، والتمس الصنيعة والأجر غير مكدر ولا منان، فإن العطية على ذلك تجارة مربحة إن شاء الله. واعتبر بما ترى من أمور الدنيا ومن مضى من قبلك من أهل السلطان والرياسة في القرون الخالية والأمم البائدة، ثم اعتصم في أحوالك كلها بأمر الله، والوقوف عند محبته، والعمل بشريعته وسنته وإقامة دينه وكتابه، واجتنب ما فارق ذلك وخالفه، ودعا إلى سخط الله واعرف ما يجمع عمالك من الأموال وينفقون منها ولا تجمع حراما، ولا تنفق إسرافا، وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم وليكن هواك اتباع السنن وإقامتها، وإيثار مكارم الأمور ومعاليها، وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيبا فيك لم تمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك في سر، وإعلامك ما فيه من النقص، فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهريك. وانظر عمالك الذين بحضرتك وكتابك، فوقت لكل رجل منهم في كل

يوم وقتا يدخل عليك فيه بكتبه ومؤامرته، وما عنده من حوائج عمالك، وأمر كورك ورعيتك، ثم فرغ لما يورده عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهمك وعقلك، وكرر النظر إليه والتدبير له، فما كان موافقا للحزم والحق فأمضه واستخر الله فيه، وما كان مخالفا لذلك فاصرفه إلى التثبت فيه، والمسألة عنه. ولا تمنن على رعيتك ولا على غيرهم بمعروف تأتيه إليهم، ولا تقبل من أحد منهم إلا الوفاء والاستقامة والعون في أمور أمير المؤمنين، ولا تضعن المعروف إلا على ذلك. وتفهم كتابي إليك، وأكثر النظر فيه والعمل به، واستعن بالله على جميع أمورك واستخره، فإن الله مع الصلاح وأهله، وليكن أعظم سيرتك وأفضل رغبتك ما كان لله رضا ولدينه نظاما، ولأهله عزا وتمكينا، وللذمة والملة عدلا وصلاحا. وأنا أسأل الله أن يحسن عونك وتوفيقك ورشدك وكلاءك، وأن ينزل عليك فضله ورحمته بتمام فضله عليك وكرامته لك، حتى يجعلك افضل مثالك نصيبا، وأوفرهم حظا، وأسناهم ذكرا، وأمرا، وأن يهلك عدوك ومن ناوأك وبغى عليك، ويرزقك من رعيتك العافية، ويحجز الشيطان عنك وساوسه، حتى يستعلي أمرك بالعز والقوة والتوفيق، إنه قريب مجيب. وذكر أن طاهرا لما عهد إلى ابنه عبد الله هذا العهد تنازعه الناس وكتبوه، وتدارسوه وشاع أمره، حتى بلغ المأمون فدعا به وقرئ عليه، فقال: ما بقي أبو الطيب شيئا من أمر الدين والدنيا والتدبير والرأي والسياسة وإصلاح الملك والرعية وحفظ البيضة وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة إلا وقد أحكمه، وأوصى به وتقدم، وأمر أن يكتب بذلك إلى جميع العمال في نواحي الأعمال. وتوجه عبد الله إلى عمله فسار بسيرته، واتبع أمره وعمل بما عهد إليه

وفي هذه السنة ولى عبد الله بن طاهر إسحاق بْن إبراهيم الجسرين، وجعله خليفته على ما كان طاهر أبوه استخلفه فيه من الشرط وأعمال بغداد، وذلك حين شخص إلى الرقة لحرب نصر بْن شبث. وحج بالناس في هذه السنة عبيد الله بْن الحسن، وهو والي الحرمين.

سنه سبع ومائتين

ثم دخلت سنة سبع ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر خروج عبد الرحمن بن احمد العلوي باليمن فمن ذلك خروج عبد الرحمن بْن أحمد بْن عبد الله بْن محمد بْن عمر بن على بن ابى طالب ببلادعك من اليمن يدعو إلى الرضى من آل محمد ص. ذكر الخبر عن سبب خروجه: وكان السبب في خروجه أن العمال باليمن أساءوا السيرة، فبايعوا عبد الرحمن هذا، فلما بلغ ذلك المأمون وجه إليه دينار بْن عبد الله في عسكر كثيف، وكتب معه بأمانه، فحضر دينار بْن عبد الله الموسم وحج، فلما فرغ من حجه سار إلى اليمن حتى أتى عبد الرحمن، فبعث إليه بأمانه من المأمون، فقبل ذلك، ودخل ووضع يده في يد دينار، فخرج به إلى المأمون، فمنع المأمون عند ذلك الطالبين من الدخول عليه، وأمر بأخذهم بلبس السواد، وذلك يوم الخميس لليلة بقيت من ذي القعده . ذكر الخبر عن وفاه طاهر بن الحسين وفي هذه السنة كانت وفاة طاهر بْن الحسين. ذكر الخبر عن وفاته: ذكر عن مطهر بْن طاهر، أن وفاة ذي اليمينين كانت من حمى وحرارة أصابته، وأنه وجد في فراشه ميتا

وذكر أن عميه علي بْن مصعب وأخاه أحمد بْن مصعب، صارا إليه يعودانه، فسألا الخادم عن خبره- وكان يغلس بصلاة الصبح- فقال الخادم هو نائم لم ينتبه، فانتظراه ساعة، فلما انبسط الفجر، وتأخر عن الحركة في الوقت الذي كان يقوم فيه للصلاة، أنكرا ذلك، وقالا للخادم: أيقظه، فقال الخادم: لست أجسر على ذلك، فقالا له: اطرق لنا لندخل إليه، فدخلا فوجداه ملتفا في دواج، قد أدخله تحته، وشده عليه من عند رأسه ورجليه، فحركاه فلم يتحرك، فكشفا عن وجهه فوجداه قد مات. ولم يعلما الوقت الذي توفي فيه، ولا وقف أحد من خدمه على وقت وفاته، وسألا الخادم عن خبره وعن آخر ما وقف عليه منه، فذكر أنه صلى المغرب والعشاء الآخرة، ثم التف في دواجه قَالَ الخادم: فسمعته يقول بالفارسية كلاما وهو در مرك ينز مردى ويذ، تفسيره أنه يحتاج في الموت أيضا إلى الرجلة. وذكر عن كلثوم بْن ثابت بْن أبي سعد- وكان يكنى أبا سعدة- قَالَ: كنت على بريد خراسان، ومجلسي يوم الجمعة في أصل المنبر، فلما كان في سنة سبع ومائتين، بعد ولاية طاهر بْن الحسين بسنتين، حضرت الجمعة، فصعد طاهر المنبر، فخطب، فلما بلغ إلى ذكر الخليفة أمسك عن الدعاء له، فقال: اللهم أصلح أمة محمد بما اصلحت به أولياءك، واكفها مئونة من بغى فيها، وحشد عليها، بلم الشعث، وحقن الدماء، وإصلاح ذات البين قَالَ: فقلت في نفسي: أنا أول مقتول، لأني لا أكتم الخبر، فانصرفت واغتسلت بغسل الموتى، وائتزرت بإزار الموتى، ولبست قميصا، وارتديت رداء، وطرحت السواد، وكتبت إلى المأمون قَالَ: فلما صلى العصر دعاني، وحدث به حادث في جفن عينه وفي مأقه، فخر ميتا قَالَ: فخرج طلحه ابن طاهر، فقال: ردوه ردوه- وقد خرجت- فردوني، فقال: هل كتبت

بما كان؟ قلت: نعم، قَالَ: فاكتب بوفاته، وأعطاني خمسمائة ألف ومائتي ثوب، فكتبت بوفاته وبقيام طلحة بالجيش. قَالَ: فوردت الخريطة على المأمون بخلعه غدوة، فدعا ابن أبي خالد فقال له: اشخص: فأت به- كما زعمت، وضمنت- قَالَ: أبيت ليلتي، قَالَ: لا لعمري لا تبيت إلا على ظهر فلم يزل يناشده حتى أذن له في المبيت قَالَ: ووافت الخريطة بموته ليلا، فدعاه فقال: قد مات، فمن ترى؟ قَالَ: ابنه طلحة، قَالَ: الصواب ما قلت، فاكتب بتوليته فكتب بذلك، وأقام طلحة واليا على خراسان في أيام المأمون سبع سنين بعد موت طاهر، ثم توفي، وولي عبد الله خراسان- وكان يتولى حرب بابك- فأقام بالدينور، ووجه الجيوش، ووردت وفاة طلحة على المأمون، فبعث إلى عبد الله يحيى بْن أكثم يعزيه عن أخيه ويهنئه بولاية خراسان، وولى علي بْن هشام حرب بابك. وذكر عن العباس أنه قَالَ: شهدت مجلسا للمأمون، وقد أتاه نعي الطاهر، فقال: لليدين وللفم! الحمد لله الذي قدمه وأخرنا. وقد ذكر في أمر ولاية طلحة خراسان بعد أبيه طاهر غير هذا القول، والذي قيل من ذلك، أن طاهرا لما مات- وكان موته في جمادى الأولى- وثب الجند، فانتهبوا بعض خزائنه، فقام بأمرهم سلام الأبرش الخصي، فأمر فأعطوا رزق ستة أشهر فصير المأمون عمله إلى طلحة خليفة لعبد الله بْن طاهر، وذلك أن المأمون ولى عبد الله في قول هؤلاء بعد موت طاهر عمل طاهر كله- وكان مقيما بالرقة على حرب نصر بْن شبث- وجمع له مع ذلك الشام، وبعث إليه بعهده على خراسان وعمل أبيه، فوجه عبد الله أخاه طلحة بخراسان، واستخلف بمدينة السلام إسحاق بْن إبراهيم، وكاتب المأمون طلحة باسمه، فوجه المأمون أحمد بْن أبي خالد إلى خراسان للقيام بأمر طلحة، فشخص أحمد إلى ما وراء النهر، فافتتح أشروسنة، وأسر كاوس بْن خاراخره وابنه الفضل، وبعث بهما إلى المأمون، ووهب طلحة لابن أبي خالد ثلاثة آلاف ألف درهم وعروضا بألفي ألف، ووهب لإبراهيم بْن العباس كاتب احمد بن ابى خالد خمسمائة الف درهم

وفي هذه السنه غلا السعر ببغداد والبصرة والكوفة حتى بلغ سعر القفيز من الحنطة بالهارونى اربعين درهما الى الخمسين بالقفيز الملجم. وفي هذه السنة ولي موسى بْن حفص طبرستان والرويان ودنباوند. وحج بالناس في هذه السنه ابو عيسى بن الرشيد.

سنه ثمان ومائتين

ثم دخلت سنة ثمان ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك مصير الحسن بْن الحسين بْن مصعب من خراسان إلى كرمان ممتنعا بها، ومصير احمد بن خالد إليه حتى أخذه، فقدم به على المأمون، فعفا عنه. وفيها ولى المأمون محمد بْن عبد الرحمن المخزومي قضاء عسكر المهدي في المحرم. وفيها استعفى محمد بْن سماعة القاضي من القضاء فأعفي، وولي مكانه إسماعيل بْن حماد بْن أبي حنيفة. وفيها عزل محمد بْن عبد الرحمن عن القضاء بعد أن وليه فيها في شهر ربيع الأول، ووليه بشر بْن الوليد الكندي، فقال بعضهم: يأيها الملك الموحد ربه ... قاضيك بشر بْن الوليد حمار ينفي شهادة من يدين بما به ... نطق الكتاب وجاءت الأخبار ويعد عدلا من يقول بأنه ... شيخ يحيط بجسمه الأقطار ومات موسى بْن محمد المخلوع في شعبان، ومات الفضل بْن الربيع في ذي القعدة. وحج بالناس في هذه السنة صالح بْن الرشيد.

سنه تسع ومائتين

ثم دخلت سنة تسع ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) خبر الظفر بنصر بن شبث فمن ذلك ما كان من حصر عبد الله بْن طاهر نصر بْن شبث وتضييقه عليه، حتى طلب الأمان، فذكر عن جعفر بْن محمد العامري أنه قَالَ: قَالَ المأمون لثمامة: ألا تدلني على رجل من أهل الجزيرة له عقل وبيان ومعرفة، يؤدي عني ما أوجهه به إلى نصر بْن شبث؟ قَالَ: بلى يا أمير المؤمنين، رجل من بنى عامر يقال له جعفر بْن محمد، قَالَ له: أحضرنيه، قَالَ جعفر: فأحضرني ثمامة، فأدخلني عليه، فكلمني بكلام كثير، ثم أمرني أن أبلغه نصر بْن شبث. قَالَ: فأتيت نصرا وهو بكفر عزون بسروج، فأبلغته رسالته، فأذعن وشرط شروطا، منها ألا يطأ له بساطا قَالَ: فأتيت المأمون فأخبرته، فقال: لا أجيبه والله إلى هذا أبدا، ولو أفضيت إلى بيع قميصي حتى يطأ بساطي، وما باله ينفر مني! قَالَ: قلت: لجرمه وما تقدم منه، فقال: أتراه أعظم جرما عندي من الفضل بْن الربيع ومن عيسى بْن أبي خالد! أتدري ما صنع بي الفضل! أخذ قوادي وجنودي وسلاحي وجميع ما أوصى به لي أبي، فذهب به إلى محمد وتركني بمرو وحيدا فريدا وأسلمني، وأفسد علي أخي، حتى كان من أمره ما كان، وكان أشد علي من كل شيء أتدري ما صنع بي عيسى بْن أبي خالد! طرد خليفتي من مدينتي ومدينة آبائي، وذهب بخراجي وفيئي، وأخرب علي دياري، وأقعد إبراهيم خليفة دوني، ودعاه باسمي. قَالَ: قلت: يا أمير المؤمنين، أتأذن لي في الكلام فأتكلم؟ قَالَ: تكلم، قلت: الفضل بْن الربيع رضيعكم ومولاكم، وحال سلفه حالكم، وحال سلفكم حاله، ترجع عليه بضروب كلها تردك اليه، واما عيسى بْن أبي خالد فرجل

من أهل دولتك، وسابقته وسابقة من مضى من سلفه سابقتهم ترجع عليه بذلك، وهذا رجل لم تكن له يد قط فيحمل عليها، ولا لمن مضى من سلفه، إنما كانوا من جند بني أمية قَالَ: إن كان ذلك كما تقول، فكيف بالحنق والغيظ، ولكني لست أقلع عنه حتى يطأ بساطي، قَالَ: فأتيت نصرا فأخبرته بذلك كله، قَالَ: فصاح بالخيل صيحة فجالت، ثم قَالَ: ويلي عليه! هو لم يقو على أربعمائة ضفدع تحت جناحه- يعني الزط- يقوى على حلبة العرب! فذكر أن عبد الله بْن طاهر لما جاده القتال وحصره وبلغ منه، طلب الأمان فأعطاه، وتحول من معسكره إلى الرقة سنة تسع ومائتين، وصار إلى عبد الله بْن طاهر، وكان المأمون قد كتب إليه قبل ذلك بعد أن هزم عبد الله ابن طاهر جيوشه كتابا يدعوه إلى طاعته ومفارقة معصيته، فلم يقبل، فكتب عبد الله إليه- وكان كتاب المأمون إليه من المأمون كتبه عمرو بْن مسعدة: أما بعد، فإنك يا نصر بْن شبث قد عرفت الطاعة وعزها وبرد ظلها وطيب مرتعها وما في خلافها من الندم والخسار، وإن طالت مدة الله بك، فإنه إنما يملي لمن يلتمس مظاهرة الحجة عليه لتقع عبره بأهلها على قدر إصرارهم واستحقاقهم وقد رأيت إذكارك وتبصيرك لما رجوت أن يكون لما أكتب به إليك موقع منك، فإن الصدق صدق والباطل باطل، وإنما القول بمخارجه وبأهله الذين يعنون به، ولم يعاملك من عمال أمير المؤمنين أحد أنفع لك في مالك ودينك ونفسك، ولا احرص على استنقاذك والانتياش لك من خطائك مني، فبأي أول أو آخر أو سطة أو إمرة إقدامك يا نصر على أمير المؤمنين! تأخذ أمواله، وتتولى دونه ما ولاه الله، وتريد أن تبيت آمنا أو مطمئنا، او وادعا او ساكنا او هادئا! فو عالم السر والجهر، لئن لم تكن للطاعة مراجعا وبها خانعا، لتستوبلن وخم العاقبه، ثم لا بد ان بك قبل كل عمل، فإن قرون الشيطان إذا لم تقطع كانت في الأرض فتنة وفسادا

كبيرا، ولأطأن بمن معي من أنصار الدولة كواهل رعاع أصحابك، ومن تأشب إليك من أداني البلدان وأقاصيها وطغامها وأوباشها، ومن انضوى إلى حوزتك من خراب الناس، ومن لفظه بلده، ونفته عشيرته، لسوء موضعه فيهم وقد أعذر من أنذر والسلام. وكان مقام عبد الله بْن طاهر على نصر بْن شبث محاربا له- فيما ذكر- خمس سنين حتى طلب الأمان، فكتب عبد الله إلى المأمون يعلمه أنه حصره وضيق عليه، وقتل رؤساء من معه، وإنه قد عاذ بالأمان وطلبه، فأمره أن يكتب له كتاب أمان، فكتب اليه، أمانا نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإن الإعذار بالحق حجة الله المقرون بها النصر، والاحتجاج بالعدل دعوة الله الموصول بها العز، ولا يزال المعذر بالحق، المحتج بالعدل في استفتاح أبواب التأييد، واستدعاء أسباب التمكين، حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين، ويمكن وهو خير الممكنين، ولست تعدو أن تكون فيما لهجت به أحد ثلاثة: طالب دين، أو ملتمس دنيا، أو متهورا يطلب الغلبة ظلما، فإن كنت للدين تسعى بما تصنع، فأوضح ذلك لأمير المؤمنين يغتنم قبوله إن كان حقا، فلعمري ما همته الكبرى، ولا غايته القصوى إلا الميل مع الحق حيث مال، والزوال مع العدل حيث زال، وإن كنت للدنيا تقصد، فأعلم أمير المؤمنين غايتك فيها، والأمر الذي تستحقها به، فإن استحققتها وأمكنه ذلك فعله بك. فلعمري ما يستجيز منع خلق ما يستحقه وإن عظم، وإن كنت متهورا فسيكفي الله أمير المؤمنين مؤنتك، ويعجل ذلك كما عجل كفايته مؤن قوم سلكوا مثل طريقك كانوا أقوى يدا، وأكثف جندا وأكثر جمعا وعددا ونصرا منك فيما أصارهم إليه من مصارع الخاسرين، وأنزل بهم من جوائح الظالمين وأمير المؤمنين يختم كتابه بشهادة أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريك له، وان محمدا عبده ورسوله ص، وضمانه لك في دينه وذمته الصفح عن سوالف جرائمك، ومتقدمات جرائرك، وإنزالك ما تستأهل من منازل العز والرفعة إن أتيت وراجعت، إن شاء الله والسلام

ولما خرج نصر بْن شبث إلى عبد الله بْن طاهر بالأمان هدم كيسوم وخربها. وفي هذه السنة ولى المأمون صدقة بْن علي المعروف بزريق أرمينية وأذربيجان ومحاربة بابك، وانتدب للقيام بأمره أحمد بْن الجنيد بْن فرزندي الأسكافي، ثم رجع أحمد بْن الجنيد بْن فرزندي إلى بغداد، ثم رجع إلى الخرمية، فأسره بابك، فولى إبراهيم بْن الليث بْن الفضل التجيبي أذربيجان. وحج بالناس في هذه السنة صالح بْن العباس بن محمد بْن علي، وهو والي مكة. وفيها مات ميخائيل بْن جورجس صاحب الروم، وكان ملكه تسع سنين، وملكت الروم عليهم ابنه توفيل بن ميخائيل.

سنه عشر ومائتين

ثم دخلت سنة عشر ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك وصول نصر بْن شبث فيها إلى بغداد، وجه به عبد الله بْن طاهر إلى المأمون، فكان دخوله إليها يوم الاثنين لسبع خلون من صفر، فأنزله مدينة أبي جعفر ووكل به من يحفظه. ذكر الخبر عن ظفر المأمون بابن عائشة ورفقائه وفيها ظهر المأمون على إبراهيم بْن محمد بْن عبد الوهاب بْن إبراهيم الإمام، الذي يقال له ابن عائشة ومحمد بْن إبراهيم الأفريقي ومالك بْن شاهي وفرج البغواري ومن كان معهم ممن كان يسعى في البيعة لإبراهيم بن المهدي، وكان الذي أطلعه عليهم وعلى ما كانوا يسعون فيه من ذلك عمران القطربلي، فأرسل إليهم المأمون يوم السبت- فيما ذكر- لخمس خلون من صفر سنة عشر ومائتين، فامر المأمون بابراهيم بن عائشة أن يقام ثلاثة أيام في الشمس على باب دار المأمون، ثم ضربه يوم الثلاثاء بالسياط، ثم حبسه في المطبق، ثم ضرب مالك بْن شاهي وأصحابه، وكتبوا للمأمون أسماء من دخل معهم في هذا الأمر من القواد والجند وسائر الناس، فلم يعرض المأمون لأحد ممن كتبوا له، ولم يأمن أن يكونوا قد قذفوا أقواما براء، وكانوا اتعدوا أن يقطعوا الجسر إذا خرج الجند يتلقون نصر بْن شبث، فغمر بهم فأخذوا، ودخل نصر بْن شبث بعد ذلك وحده، ولم يوجه إليه أحد من الجند، فأنزل عند إسحاق بْن إبراهيم، ثم حول الى مدينه ابى جعفر.

ذكر خبر الظفر بابراهيم بن المهدى

ذكر خبر الظفر بابراهيم بن المهدى وفيها أخذ إبراهيم بْن المهدي ليلة الأحد لثلاث عشرة من ربيع الآخر، وهو متنقب مع امرأتين في زي امرأة، أخذه حارس أسود ليلا، فقال: من أنتن؟ وأين تردن في هذا الوقت؟ فأعطاه إبراهيم- فيما ذكر- خاتم ياقوت كان في يده، له قدر عظيم، ليخليهن، فلما نظر الحارس إلى الخاتم استراب بهن، وقال: هذا خاتم رجل له شأن، فرفعهن إلى صاحب المسلحة، فأمرهن أن يسفرن، فتمنع إبراهيم، فجبذه صاحب المسلحة، فبدت لحيته، فرفعه إلى صاحب الجسر فعرفه، فذهب به إلى باب المأمون، فأعلم به، فأمر بالاحتفاظ به في الدار، فلما كان غداة الأحد أقعد في دار المأمون لينظر إليه بنو هاشم والقواد والجند، وصيروا المقنعة التي كان متنقبا بها في عنقه، والملحفة التي كان ملتحفا بها في صدره، ليراه الناس ويعلموا كيف أخذ فلما كان يوم الخميس حوله المأمون إلى منزل أحمد بْن أبي خالد فحبسه عنده، ثم اخرجه المأمون معه حيث خرج إلى الحسن بْن سهل بواسط، فقال الناس: إن الحسن كلمه فيه، فرضي عنه وخلى سبيله، وصيره عند أحمد بْن أبي خالد، وصير معه أحمد بْن يحيى بْن معاذ وخالد بْن يزيد بْن مزيد يحفظانه، إلا أنه موسع عليه، عنده أمه وعياله، ويركب إلى دار المأمون، وهؤلاء معه يحفظونه . ذكر خبر قتل ابن عائشة وفي هذه السنه قتل المأمون ابراهيم بن عائشة وصلبه. ذكر الخبر عن سبب قتله إياه: كان السبب في ذلك أن المأمون حبس ابن عائشة ومحمد بْن إبراهيم الأفريقي ورجلين من الشطار، يقال لأحدهما أبو مسمار وللآخر عمار، وفرج البغواري ومالك بْن شاهي وجماعة معهم ممن كان سعى في البيعة لإبراهيم، بعد أن

العفو عن ابراهيم بن المهدى

ضربوا بالسياط ما خلا عمارا، فانه او من لما كان من إقراره على القوم في المطبق، فرفع بعض أهل المطبق أنهم يريدون أن يشغبوا وينقبوا السجن- وكانوا قبل ذلك بيوم قد سدوا باب السجن من داخل فلم يدعوا أحدا يدخل عليهم- فلما كان الليل وسمعوا شغبهم، بلغ المأمون خبرهم، فركب إليهم من ساعته بنفسه، فدعا بهؤلاء الأربعة فضرب أعناقهم صبرا، وأسمعه ابن عائشة شتما قبيحا، فلما كانت الغداة صلبوا على الجسر الأسفل، فلما كان من الغداة يوم الأربعاء انزل ابراهيم بن عائشة، فكفن وصلي عليه، ودفن في مقابر قريش، وأنزل ابن الأفريقي فدفن في مقابر الخيزران وترك الباقون. العفو عن ابراهيم بن المهدى وذكر أن إبراهيم بْن المهدي لما أخذ صير به الى دار ابى إسحاق بن الرشيد- وابو اسحق عند المأمون- فحمل رديفا لفرج التركي، فلما أدخل على المأمون قَالَ له: هيه يا إبراهيم! فقال: يا أمير المؤمنين، ولي الثأر محكم في القصاص، والعفو أقرب للتقوى، ومن تناوله الاغترار بما مد له من أسباب الشقاء أمكن عادية الدهر من نفسه، وقد جعلك الله فوق كل ذي ذنب، كما جعل كل ذي ذنب دونك، فإن تعاقب فبحقك، وأن تعف فبفضلك، قَالَ: بل أعفو يا إبراهيم، فكبر ثم خر ساجدا. وقيل ان ابراهيم كتب بهذا الكلام إلى المأمون وهو مختف، فوقع المأمون في حاشية رقعته: القدرة تذهب الحفيظة، والندم توبة، وبينهما عفو الله، وهو أكبر ما نسأله، فقال إبراهيم يمدح المأمون: يا خير من ذملت يمانية به ... بعد الرسول لآيس ولطامع وأبر من عبد الإله على التقى ... عينا وأقوله بحق صادع عسل الفوارع ما أطعت فإن تهج ... فالصاب يمزج بالسمام الناقع

متيقظا حذرا وما يخشى العدى ... نبهان من وسنات ليل الهاجع ملئت قلوب الناس منك مخافة ... وتبيت تكلؤهم بقلب خاشع بأبي وأمي فدية وبنيهما ... من كل معضلة وريب واقع ما ألين الكنف الذي بوأتني ... وطنا وأمرع رتعه للراتع للصالحات أخا جعلت وللتقى ... وأبا رءوفا للفقير القانع نفسي فداؤك إذ تضل معاذري ... وألوذ منك بفضل حلم واسع أملا لفضلك والفواضل شيمة ... رفعت بناءك بالمحل اليافع فبذلت أفضل ما يضيق ببذله ... وسع النفوس من الفعال البارع وعفوت عمن لم يكن عن مثله ... عفو، ولم يشفع إليك بشافع الا العلو عن العقوبة بعد ما ... ظفرت يداك بمستكين خاضع فرحمت أطفالا كأفراخ القطا ... وعويل عانسة كقوس النازع وعطفت آصرة على كما وعى ... بعد انهياض الوشى عظم الظالع الله يعلم ما أقول فإنها ... جهد الألية من حنيف راكع ما أن عصيتك والغواة تقودني ... أسبابها إلا بنية طائع حتى إذا علقت حبائل شقوتي ... بردى إلى حفر المهالك هائع لم أدر أن لمثل جرمي غافرا ... فوقفت أنظر أي حتف صارعي رد الحياة علي بعد ذهابها ... ورع الإمام القادر المتواضع أحياك من ولاك أطول مدة ... ورمى عدوك في الوتين بقاطع كم من يد لك لم تحدثني بها ... نفسي إذا آلت إلي مطامعي

ذكر الخبر عن بناء المأمون ببوران

أسديتها عفوا إلي هنيئة ... فشكرت مصطنعا لأكرم صانع إلا يسيرا عند ما أوليتني ... وهو الكثير لدى غير الضائع إن أنت جدت بها علي تكن لها ... أهلا، وأن تمنع فأعدل مانع إن الذي قسم الخلافة حازها ... في صلب آدم للإمام السابع جمع القلوب عليك جامع أمرها ... وحوى رداؤك كل خير جامع فذكر أن المأمون حين أنشده إبراهيم هذه القصيدة، قَالَ: أقول ما قَالَ يوسف لإخوته: «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» ذكر الخبر عن بناء المأمون ببوران وفي هذه السنة بنى المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل في رمضان منها. ذكر الخبر عن أمر المأمون في ذلك وما كان في أيام بنائه: ذكر أن المأمون لما مضى إلى فم الصلح إلى معسكر الحسن بْن سهل، حمل معه إبراهيم بْن المهدي، وشخص المأمون من بغداد حين شخص إلى ما هنالك للبناء ببوران، راكبا زورقا، حتى أرسى على باب الحسن، وكان العباس بن المأمون قد تقدم أباه على الظهر، فتلقاه الحسن خارجا عسكره في موضع قد اتخذ له على شاطئ دجلة، بني له فيه جوسق، فلما عاينه العباس ثنى رجله لينزل، فحلف عليه الحسن الا يفعل، فلما ساواه ثنى رجله الحسن لينزل، فقال له العباس: بحق أمير المؤمنين لا تنزل، فاعتنقه الحسن وهو راكب ثم أمر أن يقدم إليه دابته، ودخلا جميعا منزل الحسن، ووافى المأمون في وقت العشاء، وذلك في شهر رمضان من سنة عشر ومائتين، فأفطر هو والحسن والعباس- ودينار بْن عبد الله قائم على رجله- حتى فرغوا من الإفطار،

وغسلوا أيديهم، فدعا المأمون بشراب، فأتى بجام ذهب فصب فيه وشرب، ومد يده بجام فيه شراب إلى الحسن، فتباطأ عنه الحسن، لأنه لم يكن يشرب قبل ذلك، فغمز دينار بْن عبد الله الحسن، فقال له الحسن: يا أمير المؤمنين، أشربه بإذنك وأمرك؟ فقال له المأمون: لولا أمري لم أمدد يدي إليك، فأخذ الجام فشربه فلما كان في الليلة الثانية، جمع بين محمد بْن الحسن بْن سهل والعباسة بنت الفضل ذي الرئاستين، فلما كان في الليلة الثالثة دخل على بوران، وعندها حمدونة وأم جعفر وجدتها، فلما جلس المأمون معها نثرت عليها جدتها ألف درة كانت في صينية ذهب، فأمر المأمون أن تجمع، وسألها عن عدد ذلك الدر كم هو؟ فقالت: ألف حبة، فأمر بعدها فنقصت عشرا، فقال: من أخذها منكم فليردها، فقالوا: حسين زجلة، فأمره بردها، فقال: يا أمير المؤمنين، إنما نثر لنأخذه، قَالَ: ردها فإني أخلفها عليك، فردها وجمع المأمون ذلك الدر في الآنية كما كان، فوضع في حجرها، وقال: هذه نحلتك، وسلي حوائجك، فأمسكت فقالت لها جدتها: كلمي سيدك، وسليه حوائجك فقد أمرك، فسألته الرضا عن إبراهيم بن المهدي، فقال: قد فعلت، وسألته الإذن لأم جعفر في الحج، فأذن لها وألبستها أم جعفر البدنة الأموية، وابتنى بها في ليلته، وأوقد في تلك الليلة شمعة عنبر، فيها أربعون منا في تور ذهب فأنكر المأمون ذلك عليهم، وقال: هذا سرف، فلما كان من الغد دعا بإبراهيم بْن المهدي فجاء يمشي من شاطئ دجلة، عليه مبطنة ملحم، وهو معتم بعمامة، حتى دخل، فلما رفع الستر عن المأمون رمى بنفسه، فصاح المأمون: يا عم، لا بأس عليك، فدخل فسلم عليه تسليم الخلافة، وقبل يده، وأنشد شعره، ودعا بالخلع فخلع عليه خلعه ثانية، ودعا له بمركب وقلده سيفا، وخرج فسلم الناس، ورد إلى موضعه

وذكر أن المأمون أقام عند الحسن بْن سهل سبعة عشر يوما يعد له في كل يوم لجميع من معه جميع ما يحتاج إليه، وأن الحسن خلع على القواد على مراتبهم، وحملهم ووصلهم، وكان مبلغ النفقة عليهم خمسين ألف ألف درهم قَالَ: وأمر المأمون غسان بْن عباد عند منصرفه أن يدفع إلى الحسن عشرة آلاف ألف من مال فارس، وأقطعه الصلح فحملت إليه على المكان، وكانت معدة عند غسان بْن عباد، فجلس الحسن ففرقها في قواده وأصحابه وحشمه وخدمه، فلما انصرف المأمون شيعه الحسن، ثم رجع إلى فم الصلح. فذكر عن أحمد بْن الحسن بْن سهل، قَالَ: كان أهلنا يتحدثون أن الحسن بْن سهل كتب رقاعا فيها أسماء ضياعه، ونثرها على القواد وعلى بني هاشم، فمن وقعت في يده رقعة منها فيها اسم ضيعة بعث فتسلمها. وذكر عن أبي الحسن علي بْن الحسين بْن عبد الأعلى الكاتب، قَالَ: حدثني الحسن بْن سهل يوما بأشياء كانت في أم جعفر، ووصف رجاحة عقلها وفهمها، ثم قَالَ: سألها يوما المأمون بفم الصلح حيث خرج إلينا عن النفقة على بوران، وسأل حمدونة بنت غضيض عن مقدار ما أنفقت في ذلك الأمر. قَالَ: فقالت حمدونة: أنفقت خمسة وعشرين ألف ألف، قَالَ: فقالت أم جعفر: ما صنعت شيئا، قد أنفقت ما بين خمسة وثلاثين ألف ألف إلى سبعة وثلاثين ألف ألف درهم قَالَ: وأعددنا له شمعتين من عنبر، قَالَ: فدخل بها ليلا، فأوقدتا بين يديه، فكثر دخانهما، فقال: ارفعوهما قد أذانا الدخان، وهاتوا الشمع قَالَ: ونحلتها أم جعفر في ذلك اليوم الصلح قَالَ: فكان سبب عود الصلح إلى ملكي، وكانت قبل ذلك لي، فدخل علي يوما حميد الطوسي فأقرأني اربعه ابيات امتدح بها ذا الرياستين، فقلت له: ننفذها لك ذي الرياستين، وأقطعك الصلح في العاجل إلى أن تأتي مكافاتك

من قبله فأقطعته إياها، ثم ردها المأمون على أم جعفر فنحلتها بوران. وروى علي بْن الحسين أن الحسن بْن سهل كان لا ترفع الستور عنه، ولا يرفع الشمع من بين يديه حتى تطلع الشمس ويتبينها إذا نظر إليها وكان متطيرا يحب أن يقال له إذا دخل عليه: انصرفنا من فرح وسرور، ويكره أن يذكر له جنازة أو موت أحد قَالَ: ودخلت عليه يوما فقال له قائل: إن علي بْن الحسين أدخل ابنه الحسن اليوم الكتاب، قَالَ: فدعا لي وانصرفت، فوجدت في منزلي عشرين ألف درهم هبة للحسن وكتابا بعشرين ألف درهم. قَالَ: وكان قد وهب لي من أرضه بالبصرة ما قوم بخمسين ألف دينار، فقبضه عني بغا الكبير، وأضافه إلى أرضه. وذكر عن أبي حسان الزيادي أنه قَالَ: لما صار المأمون إلى الحسن بْن سهل، أقام عنده أياما بعد البناء ببوران، وكان مقامه في مسيره وذهابه ورجوعه أربعين يوما ودخل إلى بغداد يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال. وذكر عن محمد بْن موسى الخوارزمي أنه قَالَ: خرج المأمون نحو الحسن ابن سهل إلى فم الصلح لثمان خلون من شهر رمضان، ورحل من فم الصلح لتسع بقين من شوال سنة عشر ومائتين. وهلك حميد بْن عبد الحميد يوم الفطر من هذه السنة، وقالت جاريته عذل: من كان أصبح يوم الفطر مغتبطا ... فما غبطنا به والله محمود أو كان منتظرا في الفطر سيده ... فإن سيدنا في الترب ملحود وفي هَذِهِ السنة افتتح عَبْد اللَّهِ بْن طاهر مصر، واستأمن إليه عبيد الله بْن السري بن الحكم.

ذكر الخبر عن سبب شخوص عبد الله بن طاهر من الرقة إلى مصر وسبب خروج ابن السرى اليه في الامان

ذكر الخبر عن سبب شخوص عبد الله بْن طاهر من الرقة إلى مصر وسبب خروج ابن السري إليه في الأمان ذكر أن عبد الله بْن طاهر لما فرغ من نصر بْن شبث العقيلي، ووجهه إلى المأمون فوصل إليه ببغداد كتب المأمون يأمره بالمصير إلى مصر، فحدثني أحمد بْن محمد بْن مخلد، أنه كان يومئذ بمصر، وأن عبد الله بْن طاهر لما قرب منها، وصار منها على مرحلة، قدم قائدا من قواده إليها ليرتاد لمعسكره موضعا يعسكر فيه، وقد خندق ابن السري عليها خندقا، فاتصل الخبر بابن السري عن مصير القائد إلى ما قرب منها، فخرج بمن استجاب له من أصحابه إلى القائد الذي كان عبد الله بْن طاهر وجهه لطلب موضع معسكره، فالتقى جيش ابن السري وقائد عبد الله وأصحابه وهم في قلة، فجال القائد وأصحابه جولة، وأبرد القائد إلى عبد الله بريدا يخبره بخبره وخبر ابن السري، فحمل رجاله على البغال، على كل بغل رجلين بالتهما وادواتهما، وجنبوا الخيل، وأسرعوا السير حتى لحقوا القائد وابن السرى، فلم تكن من عند الله واصحابه الا جمله واحدة حتى انهزم ابن السري وأصحابه، وتساقطت عامة أصحابه- يعني ابن السري- في الخندق، فمن هلك منهم بسقوط بعضهم على بعض في الخندق كان أكثر ممن قتله الجند بالسيف، وانهزم ابن السري، فدخل الفسطاط، وأغلق على نفسه وأصحابه ومن فيها الباب، وحاصره عبد الله بْن طاهر، فلم يعاوده ابن السري الحرب بعد ذلك حتى خرج إليه في الأمان. وذكر عن ابن ذي القلمين، قَالَ: بعث ابن السري إلى عبد الله بْن طاهر لما ورد مصر ومانعه من دخولها بألف وصيف ووصيفة، مع كل وصيف ألف دينار في كيس حرير، وبعث بهم ليلا قَالَ: فرد ذلك عليه عبد الله وكتب إليه: لو قبلت هديتك نهارا لقبلتها ليلا «بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ

ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ» قَالَ: فحينئذ طلب الأمان منه، وخرج إليه. وذكر أحمد بْن حفص بْن عمر، عن أبي السمراء، قَالَ: خرجنا مع الأمير عبد الله بْن طاهر متوجهين إلى مصر، حتى إذا كنا بين الرملة ودمشق، إذا نحن بأعرابي قد اعترض، فإذا شيخ فيه بقية على بعير له أورق، فسلم علينا فرددنا ع قَالَ أبو السمراء: وأنا وإسحاق بْن إبراهيم الرافقي وإسحاق بْن أبي ربعي، ونحن نساير الأمير، وكنا يومئذ أفره من الأمير دواب، وأجود منه كسا قَالَ: فجعل الأعرابي ينظر في وجوهنا، قَالَ: فقلت: يا شيخ، قد ألححت في النظر، أعرفت شيئا أم أنكرته؟ قَالَ: لا والله ما عرفتكم قبل يومي هذا، ولا أنكرتكم لسوء أراه فيكم، ولكني رجل حسن الفراسة في الناس، جيد المعرفة بهم، قَالَ: فأشرت له إلى إسحاق بْن أبي ربعي، فقلت: ما تقول في هذا؟ فقال: أرى كاتبا داهي الكتابة بين ... عليه وتأديب العراق منير له حركات قد يشاهدن أنه ... عليم بتقسيط الخراج بصير ونظر إلى إسحاق بْن إبراهيم الرافقي، فقال: ومظهر نسك ما عليه ضميره ... يحب الهدايا، بالرجال مكور أخال به جبنا وبخلا وشيمة ... تخبر عنه أنه لوزير ثم نظر إلي وأنشأ يقول: وهذا نديم للأمير ومؤنس ... يكون له بالقرب منه سرور أخاله للإشعار والعلم راويا ... فبعض نديم مرة وسمير

ثم نظر إلى الأمير وأنشأ يقول: وهذا الأمير المرتجى سيب كفه ... فما إن له فيمن رأيت نظير عليه رداء من جمال وهيبة ... ووجه بإدراك النجاح بشير لقد عصم الإسلام منه بدابد ... به عاش معروف ومات نكير ألا إنما عبد الإله بْن طاهر ... لنا والد بر بنا، وأمير قَالَ: فوقع ذلك من عبد الله أحسن موقع، وأعجبه ما قال الشيخ، فامر له بخمسمائة دينار، وأمره أن يصحبه. وذكر عن الحسن بْن يحيى الفهري، قَالَ: لقينا البطين الشاعر الحمصي، ونحن مع عبد الله بْن طاهر فيما بين سلمية وحمص، فوقف على الطريق، فقال لعبد الله بْن طاهر: مرحبا مرحبا وأهلا وسهلا ... بابن ذي الجود طاهر بْن الحسين مرحبا مرحبا وأهلا وسهلا ... بابن ذي الغرتين في الدعوتين مرحبا مرحبا بمن كفه البحر ... إذا فاض مزبد الرجوين ما يبالي المأمون أيده الله ... إذا كنتما له باقيين أنت غرب وذاك شرق مقيما ... أي فتق أتى من الجانبين وحقيق إذ كنتما في قديم ... لزريق ومصعب وحسين أن تنالا ما نلتماه من المجد ... وأن تعلوا على الثقلين قَالَ: من أنت ثكلتك أمك! قَالَ: أنا البطين الشاعر الحمصي، قَالَ: اركب يا غلام وانظر كم بيتا؟ قَالَ: قَالَ: سبعة، فأمر له بسبعه آلاف درهم او بسبعمائة دينار، ثم لم يزل معه حتى دخلوا مصر والإسكندرية، حتى انخسف به وبدابته مخرج، فمات فيه بالإسكندرية.

ذكر الخبر عن فتح عبد الله بن طاهر الإسكندرية

ذكر الخبر عن فتح عبد الله بن طاهر الإسكندرية وفي هذه السنة فتح عبد الله بْن طاهر الإسكندرية- وقيل كان فتحه إياها في سنة إحدى عشرة ومائتين- وأجلى من كان تغلب عليها من أهل الأندلس عنها. (ذكر الخبر عن أمره وأمرهم) : حدثني غير واحد من أهل مصر، أن مراكب أقبلت من بحر الروم من قبل الأندلس، فيها جماعة كبيرة أيام شغل الناس قبلهم بفتنة الجروي وابن السري، حتى أرسوا مراكبهم بالإسكندرية، ورئيسهم يومئذ رجل يدعى أبا حفص، فلم يزالوا بها مقيمين حتى قدم عبد الله بْن طاهر مصر قَالَ لي يونس بْن عبد الأعلى: قدم علينا من قبل المشرق فتى حدث- يعني عبد الله بْن طاهر- والدنيا عندنا مفتونة، قد غلب على كل ناحية من بلادنا غالب، والناس منهم في بلاء، فأصلح الدنيا، وأمن البريء، واخاف السقيم، واستوسقت له الرعية بالطاعة ثم قَالَ: أخبرنا عبد الله بْن وهب، قَالَ: أخبرني عبد الله بْن لهيعة، قَالَ: لا أدري رفعه إلي قبل أم لا! فلم نجد فيما قرأنا من الكتب أن لله بالمشرق جندا لم يطغ عليه أحد من خلقه إلا بعثهم عليه، وانتقم بهم منه- أو كلاما هذا معناه- فلما دخل عبد الله بْن طاهر بْن الحسين مصر، أرسل إلى من كان بها من الأندلسيين، وإلى من كان انضوى إليهم، يؤذنهم بالحرب إن هم لم يدخلوا في الطاعة، فأخبروني أنهم أجابوه إلى الطاعة، وسألوه الأمان، على أن يرتحلوا من الإسكندرية إلى بعض أطراف الروم التي ليست من بلاد الإسلام، فأعطاهم الأمان على ذلك، وأنهم رحلوا عنها، فنزلوا جزيرة من جزائر البحر، يقال لها إقريطش، فاستوطنوها وأقاموا بها، وفيها بقايا أولادهم الى اليوم.

ذكر الخبر عن خروج اهل قم على السلطان

ذكر الخبر عن خروج اهل قم على السلطان وفي هذه السنة خلع أهل قم السلطان ومنعوا الخراج. ذكر الخبر عن سبب خلعهم السلطان ومآل أمرهم في ذلك: ذكر أن سبب خلعهم إياه كان أنهم كانوا استكثروا ما عليهم من الخراج، وكان خراجهم ألفي ألف درهم، وكان المأمون قد حط عن أهل الري حين دخلها منصرفا من خراسان إلى العراق، ما قد ذكرت قبل، فطمع أهل قم من المأمون في الفعل بهم في الحط عنهم والتخفيف مثل الذي فعل من ذلك بأهل الري، فرفعوا إليه يسألونه الحط، ويشكون إليه ثقله عليهم، فلم يجبهم المأمون إلى ما سألوه، فامتنعوا من أدائه، فوجه المأمون إليهم علي بْن هشام، ثم أمده بعجيف بْن عنبسة، وقدم قائد لحميد يقال له محمد بن يوسف الكح بعرض من خراسان، فكتب إليه بالمصير إلى قم لحرب أهلها مع علي بْن هشام، فحاربهم علي فظفر بهم، وقتل يحيى بْن عمران وهدم سور قم، وجباها سبعة آلاف ألف درهم بعد ما كانوا يتظلمون من ألفي ألف درهم. ومات في هذه السنة شهريار، وهو ابن شروين، وصار في موضعه ابنه سابور، فنازعه مازيار بْن قارن فأسره وقتله، وصارت الجبال في يدي مازيار ابن قارن. وحج بالناس في هذه السنة صالح بْن العباس بْن محمد وهو يومئذ والي مكة.

سنه احدى عشره ومائتين

ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) امر عبيد الله بن السرى فمن ذلك خروج عبيد الله بْن السري إلى عبد الله بْن طاهر بالأمان، ودخول عبد الله بْن طاهر مصر- وقيل إن ذلك في سنة عشر ومائتين- وذكر بعضهم أن ابن السري خرج إلى عبد الله بْن طاهر يوم السبت لخمس بقين من صفر سنة إحدى عشرة ومائتين، وأدخل بغداد لسبع بقين من رجب سنة إحدى عشرة ومائتين، وأنزل مدينة أبي جعفر، وأقام عبد الله بْن طاهر بمصر واليا عليها وعلى سائر الشام والجزيرة، فذكر عن طاهر بْن خالد ابن نزار الغساني، قَالَ: كتب المأمون إلى عبد الله بْن طاهر وهو بمصر حين فتحها في أسفل كتاب له: أخي أنت ومولاي ... ومن أشكر نعماه فما أحببت من أمر ... فإني الدهر أهواه وما تكره من شيء ... فإني لست أرضاه لك الله على ذاك ... لك الله لك الله وذكر عن عطاء صاحب مظالم عبد الله بْن طاهر، قَالَ: قَالَ رجل من أخوة المأمون للمأمون: يا أمير المؤمنين، إن عبد الله بْن طاهر يميل إلى ولد أبي طالب، وكذا كان أبوه قبله قَالَ: فدفع المأمون ذلك وأنكره، ثم عاد بمثل هذا القول، فدس إليه رجلا ثم قَالَ له: امض في هيئة القراء والنساك إلى مصر، فادع جماعة من كبرائها إلى القاسم بْن إبراهيم بْن طباطبا، واذكر مناقبه وعلمه وفضائله، ثم صر بعد ذلك إلى بعض بطانة عبد الله بْن طاهر، ثم ائته فادعه ورغبه في استجابته له، وابحث عن دفين نيته بحثا شافيا، وائتني بما تسمع منه قَالَ: ففعل الرجل ما قَالَ له، وأمره به، حتى إذا

دعا جماعة من الرؤساء والأعلام، قعد يوما بباب عبد الله بْن طاهر، وقد ركب الى عبيد الله بن السري بعد صلحه وأمانه، فلما انصرف قام إليه الرجل، فأخرج من كمه رقعة فدفعها إليه، فأخذها بيده، فما هو إلا أن دخل فخرج الحاجب إليه، فأدخله عليه وهو قاعد على بساطه، ما بينه وبين الأرض غيره، وقد مد رجليه، وخفاه فيهما، فقال له: قد فهمت ما في رقعتك من جملة كلامك، فهات ما عندك، قَالَ: ولي أمانك وذمة الله معك؟ قَالَ: لك ذلك، قَالَ: فأظهر له ما أراد، ودعاه إلى القاسم، وأخبره بفضائله وعلمه وزهده، فقال له عبد الله: أتنصفني؟ قَالَ: نعم، قَالَ: هل يجب شكر الله على العباد؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فهل يجب شكر بعضهم لبعض عند الإحسان والمنة والتفضل؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فتجيء إلي وأنا في هذه الحالة التي ترى، لي خاتم في المشرق جائز وفي المغرب كذلك، وفيما بينهما أمري مطاع، وقولي مقبول، ثم ما التفت يميني ولا شمالي وورائي وقد أمي إلا رأيت نعمة لرجل أنعمها علي، ومنة ختم بها رقبتي، ويدا لائحة بيضاء ابتدأني بها تفضلا وكرما، فتدعوني إلى الكفر بهذه النعمة وهذا الإحسان، وتقول: اغدر بمن كان أولا لهذا وآخرا، واسع في إزالة خيط عنقه وسفك دمه! تراك لو دعوتني إلى الجنة عيانا من حيث أعلم، أكان الله يحب أن أغدر به، وأكفر إحسانه ومنته، وأنكث بيعته! فسكت الرجل، فقال له عبد الله: أما إنه قد بلغني أمرك، وتالله ما أخاف عليك إلا نفسك، فارحل عن هذا البلد، فإن السلطان الأعظم إن بلغه أمرك- وما آمن ذلك عليك- كنت الجاني على نفسك ونفس غيرك. فلما أيس الرجل مما عنده جاء إلى المأمون، فأخبره الخبر، فاستبشر وقال: ذلك غرس يدي، وإلف أدبي، وترب تلقيحي، ولم يظهر من ذلك لأحد شيئا، ولا علم به عبد الله إلا بعد موت المأمون. وذكر عن عبد الله بْن طاهر أنه قَالَ وهو محاصر بمصر عبيد الله بن السرى:

بكرت تسبل دمعا ... إن رأت وشك براحي وتبدلت صقيلا ... يمنيا بوشاحي وتماديت بسير ... لغدو ورواح زعمت جهلا بأني ... تعب غير مراح أقصري عني فإني ... سالك قصد فلاحي أنا للمأمون عبد ... منه في ظل جناح إن يعاف الله يوما ... فقريب مستراحي أو يكن هلك فقولي ... بعويل وصياح: حل في مصر قتيل ... ودعي عنك التلاحي وذكر عن عبد الله بْن أحمد بْن يوسف أن أباه كتب إلى عبد الله بْن طاهر عند خروج عبيد الله بْن السري إليه يهنئه بذلك الفتح: بلغني أعز الله الأمير ما فتح الله عليك، وخروج ابن السري إليك، فالحمد لله الناصر لدينه، المعز لدولة خليفته على عباده، المذل لمن عند عنه وعن حقه، ورغب عن طاعته ونسأل الله أن يظاهر له النعم، ويفتح له بلدان الشرك، والحمد لله على ما وليك به مذ ظعنت لوجهك، فإنا ومن قبلنا نتذاكر سيرتك في حربك وسلمك، ونكثر التعجب لما وفقت له من الشدة والليان في مواضعهما، ولا نعلم سائس جند ورعية عدل بينهم عدلك، ولا عفا بعد القدرة عمن آسفه وأضغنه عفوك، ولقل ما رأينا ابن شرف لم يلق بيده متكلا على ما قدمت له أبوته، ومن أوتي حظا وكفاية وسلطانا وولاية لم يخلد إلى ما عفا حتى يخل بمساماة ما أمامه ثم لا نعلم سائسا استحق النجح لحسن السيرة وكف معرة الاتباع استحقاقك وما يستجيز أحد ممن قبلنا أن يقدم عليك أحدا يهوى عند الحاقة والنازلة المعضلة

فليهنك منة الله ومزيده، ويسوغك الله هذه النعمة التي حواها لك بالمحافظة على ما به تمت لك، من التمسك بحبل إمامك ومولاك ومولى جميع المسلمين، وملاك وإيانا العيش ببقائه. وأنت تعلم أنك لم تزل عندنا وعند من قبلنا مكرما مقدما معظما، وقد زادك الله في أعين الخاصة والعامه جلاله وبجالة، فأصبحوا يرجونك لأنفسهم، ويعدونك لأحداثهم ونوائبهم، وأرجو أن يوفقك الله لمحابه كما وفق لك صنعه وتوفيقه، فقد أحسنت جوار النعمة فلم تطغك، ولم تزدد إلا تذللا وتواضعا، فالحمد لله على ما انا لك وأبلاك، وأودع فيك والسلام. وفي هذه السنة قدم عبد الله بْن طاهر بْن الحسين مدينه السلام من المغرب، فتلقاه العباس بن المأمون وأبو إسحاق المعتصم وسائر الناس، وقدم معه بالمتغلبين على الشام كابن السرج وابن أبي الجمل وابن أبي الصفر ومات موسى بْن حفص، فولي محمد بْن موسى طبرستان مكان أبيه. وولي حاجب بْن صالح الهند فهزمه بشر بْن داود، فانحاز إلى كرمان. وفيها أمر المأمون مناديا فنادى: برئت الذمة ممن ذكر معاوية بخير، أو فضله على احد من اصحاب رسول الله ص. وحج بالناس في هذه السنة صالح بْن العباس وهو والي مكة. وفيها مات أبو العتاهية الشاعر.

سنه اثنتى عشره ومائتين

ثم دخلت سنة اثنتي عشرة ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من توجيه المأمون محمد بْن حميد الطوسي إلى بابك لمحاربته على طريق الموصل وتقويته إياه، فأخذ محمد بْن حميد يعلى بْن مرة ونظراءه من المتغلبة بأذربيجان، فبعث بهم إلى المأمون. وفيها خلع أحمد بْن محمد العمري المعروف بالأحمر العين باليمن. وفيها ولى المأمون محمد بْن عبد الحميد المعروف بأبي الرازي اليمن. وفيها أظهر المأمون القول بخلق القرآن وتفضيل علي بْن ابى طالب ع، وقال: هو أفضل الناس بعد رسول الله ص، وذلك في شهر ربيع الأول منها. وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن عبيد الله بْن العباس بْن محمد

سنه ثلاث عشره ومائتين

ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ومائتين ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث فمن ذلك ما كان من خلع عبد السلام وابن جليس بمصر في القيسية واليمانيه وو ثوبهما بها. وفيها مات طلحة بْن طاهر بخراسان. وفيها ولى المأمون أخاه أبا إسحاق الشام ومصر، وولى ابنه العباس بن المأمون الجزيرة والثغور والعواصم، وأمر لكل واحد منهما ومن عبد الله بن طاهر بخمسمائة ألف دينار. وقيل: إنه لم يفرق في يوم من المال مثل ذلك. ذكر الخبر عن ولايه غسان بن عباد السند وفيها ولى غسان بْن عباد السند. ذكر الخبر عن سبب توليته إياه السند: وكان السبب في ذلك- فيما بلغني- أن بشر بن داود بن يزيد خالف المأمون، وجبى الخراج فلم يحمل إلى المأمون شيئا منه، فذكر أن المأمون قَالَ يوما لأصحابه: أخبروني عن غسان بْن عباد، فإني أريده لأمر جسيم- وكان قد عزم على أن يوليه السند لما كان من أمر بشر بْن داود- فتكلم من حضر، وأطنبوا في مدحه، فنظر المأمون إلى أحمد بن يوسف وهو ساكت، فقال له: ما تقول يا أحمد؟ قَالَ: يا أمير المؤمنين ذاك رجل محاسنه أكثر من مساويه، لا تصرف به إلى طبقة إلا انتصف منهم، فمهما تخوفت

عليه، فإنه لن يأتي أمرا يعتذر منه، لأنه قسم أيامه بين أيام الفضل، فجعل لكل خلق نويه، إذا نظرت في أمره لم تدر أي حالاته أعجب! أما هداه إليه عقله، أم أما اكتسبه بالأدب، قَالَ: لقد مدحته على سوء رأيك فيه! قَالَ: لأنه فيما قلت كما قَالَ الشاعر: كفى شكرا بما أسديت أني ... مدحتك في الصديق وفي عداتي قَالَ: فأعجب المأمون كلامه، واسترجح أدبه. وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بْن عبيد الله بْن العباس بْن محمد.

سنه اربع عشره ومائتين

ثم دخلت سنة أربع عشرة ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك مقتل محمد بْن حميد الطوسي، قتله بابك بهشتادسر، يوم السبت لخمس ليال بقين من شهر ربيع الأول، ورفض عسكره، وقتل جمعا كثيرا ممن كان معه. وفيها قتل أبو الرازي باليمن. وفيها قتل عمير بْن الوليد الباذغيسي عامل أبي إسحاق بن الرشيد بمصر بالحوف في شهر ربيع الأول، فخرج أبو إسحاق إليها فافتتحها، وظفر بعبد السلام وابن جليس، فقتلهما فضرب المأمون بن الحروري ورده إلى مصر وفيها خرج بلال الضبابي الشاري، فشخص المأمون إلى العلث، ثم رجع إلى بغداد، فوجه عباسا ابنه في جماعة من القواد، فيهم علي بْن هشام وعجيف وهارون بْن محمد بْن أبي خالد، فقتل هارون بلالا. وفيها خرج عبد الله بْن طاهر إلى الدينور، فبعث المأمون إليه إسحاق ابن إبراهيم ويحيى بْن أكثم يخيرانه بين خراسان والجبال وأرمينية وأذربيجان، ومحاربة بابك، فاختار خراسان، وشخص إليها. وفيها تحرك جعفر بْن داود القمي، فظفر به عزيز مولى عبد الله بن طاهر، وكان هرب من مصر فرد إليها. وفيها ولي علي بْن هشام الجبل وقم وإصبهان وأذربيجان. وحج بالناس في هذه السنة إسحاق بْن العباس بن محمد.

سنه خمس عشره ومائتين

ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر خبر شخوص المأمون لحرب الروم وفي هذه السنة شخص المأمون من مدينة السلام لغزو الروم، وذلك يوم السبت- فيما قيل- لثلاث بقين من المحرم- وقيل كان ارتحاله من الشماسية إلى البردان يوم الخميس بعد صلاة الظهر، لست بقين من المحرم سنة خمس عشرة ومائتين- واستخلف حين رحل عن مدينة السلام عليها إسحاق بْن إبراهيم بْن مصعب، وولي مع ذلك السواد وحلوان وكور دجلة. فلما صار المأمون بتكريت قدم عليه محمد بْن علي بْن موسى بْن جعفر بْن مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ بن أبي طالب رحمه الله، من المدينة في صفر ليلة الجمعة من هذه السنة، ولقيه بها فأجازه، وأمره أن يدخل بابنته أم الفضل وكان زوجها منه، فأدخلت عليه في دار أحمد بْن يوسف التي على شاطئ دجلة، فأقام بها، فلما كان أيام الحج خرج بأهله وعياله حتى أتى مكة، ثم أتى منزله بالمدينة، فأقام بها، ثم سلك المأمون طريق الموصل، حتى صار إلى منبج، ثم إلى دابق، ثم إلى أنطاكية، ثم إلى المصيصة، ثم خرج منها إلى طرسوس، ثم دخل من طرسوس إلى بلاد الروم للنصف من جمادى الأولى ورحل العباس بن المأمون من ملطية، فأقام المأمون على حصن يقال له قرة، حتى فتحه عنوة، وأمر بهدمه، وذلك يوم الأحد لأربع بقين من جمادى الأولى، وكان قد افتتح قبل ذلك حصنا يقال له ماجدة، فمن على أهلها. وقيل إن المأمون لما أناخ على قرة، فحارب أهلها طلبوا الأمان، فآمنهم المأمون، فوجه أشناس إلى حصن سندس، فأتاه برئيسه، ووجه عجيفا وجعفرا

أخبار متفرقة

الخياط إلى صاحب حصن سنان، فسمع وأطاع. [أخبار متفرقة] وفي هذه السنه انصرف ابو إسحاق بن الرشيد من مصر، فلقي المأمون قبل دخوله الموصل، ولقيه متويل وعباس ابنه برأس العين. وفيها شخص المأمون بعد خروجه من أرض الروم إلى دمشق. وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بْن عبيد الله بْن العباس بْن محمد.

سنه ست عشره ومائتين

ثم دخلت سنة ست عشرة ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) عود الى ذكر غزو المأمون ارض الروم فمن ذلك كر المأمون إلى أرض الروم. ذكر السبب في كره إليها: اختلف في ذلك، فقيل: كان السبب فيه ورود الخبر على المأمون بقتل ملك الروم قوما من أهل طرسوس والمصيصة، وذلك- فيما ذكر- ألف وستمائه. فلما بلغه ذلك شخص حتى دخل أرض الروم يوم الاثنين لإحدى عشرة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة، فلم يزل مقيما فيها إلى النصف من شعبان. وقيل: أن سبب ذلك أن توفيل بْن ميخائيل كتب إليه، فبدأ بنفسه، فلما ورد الكتاب عليه لم يقرأه، وخرج إلى أرض الروم، فوافاه رسل توفيل بْن ميخائيل بأذنه، ووجه بخمسمائة رجل من أسارى المسلمين إليه، فلما دخل المأمون أرض الروم، ونزل على أنطيغوا، فخرج أهلها على صلح وصار إلى هرقلة. فخرج أهلها إليه على صلح، ووجه أخاه أبا إسحاق، فافتتح ثلاثين حصنا ومطمورة ووجه يحيى بن أكثم من طوانة، فأغار وقتل وحرق، وأصاب سبيا ورجع إلى العسكر ثم خرج المأمون إلى كيسوم، فأقام بها يومين أو ثلاثة، ثم ارتحل إلى دمشق. وفي هذه السنة ظهر عبدوس الفهري، فوثب بمن معه على عمال أبي إسحاق، فقتل بعضهم، وذلك في شعبان، فشخص المأمون من دمشق يوم الأربعاء لأربع عشرة بقيت من ذي الحجة إلى مصر. وفيها قدم الأفشين من برقة منصرفا عنها، فأقام بمصر

وفيها كتب المأمون إلى إسحاق بْن إبراهيم يأمره بأخذ الجند بالتكبير إذا صلوا، فبدءوا بذلك في مسجد المدينة والرصافة يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان من هذه السنة، حين قضوا الصلاة، فقاموا قياما، فكبروا ثلاث تكبيرات، ثم فعلوا ذلك في كل صلاة مكتوبة. وفيها غضب المأمون على علي بْن هشام، فوجه إليه عجيف بْن عنبسة وأحمد بْن هشام، وأمر بقبض أمواله وسلاحه. وفيها ماتت أم جعفر ببغداد في جمادى الأولى. وفيها قدم غسان بْن عباد من السند، وقد استأمن إليه بشر بْن داود المهلبي، وأصلح السند، واستعمل عليها عمران بْن موسى البرمكي، فقال الشاعر: سيف غسان رونق الحرب فيه ... وسمام الحتوف في ظبتيه فإذا جره إلى بلد السند ... فألقى المقاد بشر إليه مقسما لا يعود ما حج لله ... مصل وما رمى جمرتيه غادرا يخلع الملوك ويغتال ... جنودا تأوي إلى ذروتيه فرجع غسان إلى المأمون، وهرب جعفر بْن داود القمي إلى قم، وخلع بها وفي هذه السنة كان البرد الشديد. وحج بالناس- في قول بعضهم- في هذه السنة سليمان بْن عبد الله بْن سليمان بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس وفي قول بعضهم: حج بهم في هذه السنة عبد الله بْن عبيد الله بْن العباس بْن محمد بْن علي بْن عبد الله بْن العباس، وكان المأمون ولاه اليمن، وجعل إليه ولاية كل بلدة يدخلها حتى يدخل إلى اليمن، فخرج من دمشق حتى قدم بغداد، فصلى بالناس بها يوم الفطر، فشخص من بغداد يوم الاثنين لليلة خلت من ذي القعدة، وأقام الحج للناس.

سنه سبع عشره ومائتين

ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائتين ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث فمن ذلك ظفر الأفشين فيها بالبيما، وهي من أرض مصر، ونزل أهلها بأمان على حكم المأمون، قرئ كتاب فتحها لليلة بقيت من شهر ربيع الآخر. وورد المأمون فيها مصر في المحرم، فأتى بعبدوس الفهري فضرب عنقه، وانصرف الى الشام. ذكر الخبر عن قتل على وحسين ابنى هشام وفيها قتل المأمون ابني هشام عليا وحسينا بأذنة في جمادى الأولى ذكر الخبر عن سبب قتله عليا: وكان سبب ذلك، أن المأمون للذي بلغه من سوء سيرته في أهل عمله الذي كان المأمون ولاه- وكان ولاه كور الجبال- وقتله الرجال، وأخذه الأموال، فوجه إليه عجيف، فأراد أن يفتك به ويلحق ببابك، فظفر به عجيف، فقدم به على المأمون، فأمر بضرب عنقه، فتولى قتله ابن الجليل وتولى ضرب عنق الحسين محمد بْن يوسف ابن أخيه بأذنة، يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى، ثم بعث رأس علي بْن هشام إلى بغداد وخراسان، فطيف به، ثم رد إلى الشام والجزيرة فطيف به كورة كورة، فقدم به دمشق في ذي الحجة، ثم ذهب به إلى مصر، ثم ألقي بعد ذلك في البحر. وذكر أن المأمون لما قتل علي بْن هشام، أمر أن يكتب رقعة وتعلق على رأسه ليقرأها الناس، فكتب:

أما بعد، فإن أمير المؤمنين كان دعا علي بْن هشام فيمن دعا من أهل خراسان أيام المخلوع، إلى معاونته والقيام بحقه، وكان فيمن أجاب وأسرع الإجابة، وعاون فأحسن المعاونة فرعى أمير المؤمنين ذلك له واصطنعه، وهو يظن به تقوى الله وطاعته والانتهاء إلى أمر أمير المؤمنين في عمل إن أسند إليه في حسن السيرة وعفاف الطعمة، وبدأه أمير المؤمنين بالإفضال عليه، فولاه الأعمال السنية، ووصله بالصلات الجزيلة التي أمر أمير المؤمنين بالنظر في قدرها، فوجدها أكثر من خمسين ألف ألف درهم، فمد يده إلى الخيانة والتضييع لما استرعاه من الأمانة، فباعده عنه وأقصاه، ثم استقال أمير المؤمنين عثرته فأقاله إياها، وولاه الجبل وأذربيجان وكور أرمينية، ومحاربه أعداء الله الخرمية، على الا يعود لما كان منه، فعاود أكثر ما كان بتقديمه الدينار والدرهم على العمل لله ودينه، وأساء السيرة وعسف الرعية وسفك الدماء المحرمة، فوجه أمير المؤمنين عجيف بْن عنبسة مباشرا لأمره، وداعيا إلى تلافي ما كان منه، فوثب بعجيف يريد قتله، فقوى الله عجيفا بنيته الصادقة في طاعة أمير المؤمنين، حتى دفعه عن نفسه، ولو تم ما أراد بعجيف لكان في ذلك ما لا يستدرك ولا يستقال، ولكن الله إذا أراد أمرا كان مفعولا فلما أمضى أمير المؤمنين حكم الله في علي بْن هشام، رأى الا يؤاخذ من خلفه بذنبه، فأمر أن يجري لولده ولعياله ولمن أتصل بهم ومن كان يجري عليهم مثل الذي كان جاريا لهم في حياته، ولولا أن علي بْن هشام أراد العظمى بعجيف، لكان في عداد من كان في عسكره ممن خالف وخان، كعيسى بْن منصور ونظرائه. والسلام: وفي هذه السنة دخل المأمون أرض الروم، فأناخ على لؤلؤة مائة يوم، ثم رحل عنها وخلف عليها عجيفا، فاختدعه أهلها وأسروه، فمكث أسيرا في أيديهم ثمانية أيام، ثم أخرجوه، وصار توفيل إلى لؤلؤة، فأحاط بعجيف، فصرف المأمون الجنود إليه، فارتحل توفيل قبل موافاتهم، وخرج أهل لؤلؤه الى عجيف بأمان.

كتاب توفيل إلى المأمون ورد المأمون عليه

كتاب توفيل الى المأمون ورد المأمون عليه وفيها كتب توفيل صاحب الروم إلى المأمون يسأله الصلح، وبدأ بنفسه في كتابه، وقدم بالكتاب الفضل وزير توفيل يطلب الصلح، وعرض الفدية. وكانت نسخة كتاب توفيل إلى المأمون: أما بعد، فإن اجتماع المختلفين على حظهما أولى بهما في الرأي مما عاد بالضرر عليهما، ولست حريا أن تدع لحظ يصل إلى غيرك حظا تحوزه إلى نفسك، وفي علمك كاف عن إخبارك، وقد كنت كتبت إليك داعيا إلى المسالمة، راغبا في فضيلة المهادنة، لتضع أوزار الحرب عنا، ونكون كل واحد لكل واحد وليا وحزبا، مع اتصال المرافق والفسح في المتاجر، وفك المستأسر، وأمن الطرق والبيضة، فإن أبيت فلا أدب لك في الخمر، ولا ازخرف لك في القول، فإني لخائض إليك غمارها، آخذ عليك أسدادها، شان خيلها ورجالها، وأن أفعل فبعد أن قدمت المعذرة، وأقمت بيني وبينك علم الحجة والسلام. (فكتب إليه المأمون:) أما بعد، فقد بلغني كتابك فيما سألت من الهدنة، ودعوت إليه من الموادعة، وخلطت فيه من اللين والشدة، مما استعطفت به، من شرح المتاجر واتصال المرافق، وفك الأسارى، ورفع القتل والقتال، فلولا ما رجعت إليه من أعمال التؤدة والأخذ بالحظ في تقليب الفكرة، وألا أعتقد الرأي في مستقبله إلا في استصلاح ما أوثره في معتقبه، لجعلت جواب كتابك خيلا تحمل رجالا

أخبار متفرقة

من أهل البأس والنجدة والبصيرة ينازعونكم عن ثكلكم ويتقربون إلى الله بدمائكم، ويستقلون في ذات الله ما نالهم من ألم شوكتكم، ثم أوصل إليهم من الأمداد، وأبلغ لهم كافيا من العدة والعتاد، هم أظمأ إلى موارد المنايا منكم إلى السلامة من مخوف معرتهم عليكم، موعدهم إحدى الحسنيين: عاجل غلبة، أو كريم منقلب، غير أني رأيت أن اتقدم إليك بالموعظة التي يثبت الله بها عليك الحجة، من الدعاء لك ولمن معك إلى الوحدانية والشريعة الحنيفية، فإن أبيت ففدية توجب ذمة، وتثبت نظرة، وإن تركت ذلك، ففي يقين المعاينة لنعوتنا ما يغني عن الإبلاغ في القول والإغراق في الصفة والسلام على من اتبع الهدى. [أخبار متفرقة] وفيها صار المأمون إلى سلغوس. وفيها بعث علي بْن عيسى القمي جعفر بْن داود القمي فضرب أبو إسحاق ابْن الرشيد عنقه. وحج بالناس في هذه السنة سليمان بْن عبد الله بْن سليمان بْن علي.

سنه ثمان عشره ومائتين

ثم دخلت سنه ثمان عشرة ومائتين ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث فمن ذلك ما كان من شخوص المأمون من سلغوس إلى الرقة، وقتله بها ابن أخت الداري. وفيها أمر بتفريغ الرافقة لينزلها حشمه، فضج من ذلك أهلها فاعفاهم. وفيها وجه المأمون ابنه العباس إلى أرض الروم، وأمره بنزول الطوانة وبنائها، وكان قد وجه الفعلة والفروض، فابتدأ البناء، وبناها ميلا في ميل، وجعل سورها على ثلاثة فراسخ، وجعل لها أربعة أبواب، وبنى على كل باب حصنا، وكان توجيهه ابنه العباس في ذلك في أول يوم من جمادى. وكتب إلى أخيه ابى إسحاق بن الرشيد، أنه قد فرض على جند دمشق وحمص والأردن وفلسطين أربعة آلاف رجل، وأنه يجري على الفارس مائة درهم، وعلى الراجل أربعين درهما، وفرض على مصر فرضا، وكتب إلى العباس بمن فرض على قنسرين والجزيرة، وإلى إسحاق بْن إبراهيم بمن فرض على أهل بغداد وهم ألفا رجل، وخرج بعضهم حتى وافى طوانه ونزلها مع العباس. ذكر خبر المحنة بالقرآن وفي هذه السنة كتب المأمون إلى إسحاق بْن إبراهيم في امتحان القضاة والمحدثين، وأمر بإشخاص جماعة منهم إليه إلى الرقة، وكان ذلك أول كتاب كتب في ذلك، ونسخة كتابه إليه: أما بعد، فإن حق الله على أئمة المسلمين وخلفائهم الاجتهاد في إقامة دين الله الذي استحفظهم، ومواريث النبوة التي أورثهم، وأثر العلم الذي استودعهم، والعمل بالحق في رعيتهم والتشمير لطاعة الله فيهم، والله

يسأل أمير المؤمنين أن يوفقه لعزيمة الرشد وصريمته والإقساط فيما ولاه الله من رعيته برحمته ومنته وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو الرعية وسفلة العامة ممن لا نظر له ولا روية ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته والاستضاءة بنور العلم وبرهانه في جميع الأقطار والآفاق أهل جهالة بالله، وعمى عنه، وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده والإيمان به. ونكوب عن واضحات أعلامه وواجب سبيله، وقصور أن يقدروا الله حق قدره، ويعرفوه كنه معرفته، ويفرقوا بينه وبين خلقه، لضعف آرائهم ونقص عقولهم وجفائهم عن التفكر والتذكر، وذلك أنهم ساووا بين الله تبارك وتعالى وبين ما أنزل من القرآن، فأطبقوا مجتمعين، واتفقوا غير متعاجمين، على أنه قديم أول لم يخلقه الله ويحدثه ويخترعه، وقد قَالَ الله عز وجل في محكم كتابه الذي جعله لما في الصدور شفاء، وللمؤمنين رحمة وهدى: «إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا» ، فكل ما جعله الله فقد خلقه، وقال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ» ، وقال عز وجل: «كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ» ، فأخبر أنه قصص لأمور أحدثه بعدها وتلا به متقدمها، وقال: «الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» ، وكل محكم مفصل فله محكم مفصل، والله محكم كتابه ومفصله، فهو خالقه ومبتدعه. ثم هم الذين جادلوا بالباطل فدعوا إلى قولهم، ونسبوا أنفسهم إلى السنة، وفي كل فصل من كتاب الله قصص من تلاوته مبطل قولهم، ومكذب دعواهم، يرد عليهم قولهم ونحلتهم ثم أظهروا مع ذلك أنهم أهل الحق والدين والجماعة، وأن من سواهم أهل الباطل والكفر والفرقة، فاستطالوا بذلك على الناس، وغروا به الجهال حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب، والتخشع لغير الله، والتقشف لغير الدين إلى موافقتهم عليه، ومواطأتهم على سيئ آرائهم، تزينا

بذلك عندهم وتصنعا للرئاسة والعدالة فيهم، فتركوا الحق إلى باطلهم، واتخذوا دون الله وليجة إلى ضلالتهم، فقبلت بتزكيتهم لهم شهادتهم، ونفذت أحكام الكتاب بهم على دغل دينهم، ونغل أديمهم، وفساد نياتهم ويقينهم. وكان ذلك غايتهم التي إليها أجروا، وإياها طلبوا في متابعتهم والكذب على مولاهم، وقد أخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق، ودرسوا ما فيه، أولئك الذين أصمهم الله واعمى أبصارهم، «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها» . فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة ورءوس الضلالة، المنقوصون من التوحيد حظا، والمخسوسون من الإيمان نصيبا، وأوعية الجهالة وأعلام الكذب ولسان إبليس الناطق في أوليائه، والهائل على أعدائه، من أهل دين الله، وأحق من يتهم في صدقه، وتطرح شهادته، لا يوثق بقوله ولا عمله، فإنه لا عمل إلا بعد يقين، ولا يقين إلا بعد استكمال حقيقة الإسلام، وإخلاص التوحيد، ومن عمي عن رشده وحظه من الإيمان بالله وبتوحيده، كان عما سوى ذلك من عمله والقصد في شهادته أعمى وأضل سبيلا ولعمر أمير المؤمنين إن أحجى الناس بالكذب في قوله، وتخرص الباطل في شهادته، من كذب على الله ووحيه، ولم يعرف الله حقيقة معرفته، وإن أولاهم برد شهادته في حكم الله ودينه من رد شهادة الله على كتابه، وبهت حق الله بباطله. فاجمع من بحضرتك من القضاة، واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك، فابدأ بامتحانهم فيما يقولون وتكشيفهم عما يعتقدون، في خلق الله القرآن وإحداثه، وأعلمهم أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله، ولا واثق فيما قلده الله، واستحفظه من أمور رعيته بمن لا يوثق بدينه وخلوص توحيده ويقينه، فإذا أقروا بذلك ووافقوا أمير المؤمنين فيه، وكانوا على سبيل الهدى والنجاة فمرهم بنص من يحضرهم من الشهود على الناس ومسألتهم عن علمهم في القرآن، وترك إثبات شهادة من لم يقر أنه مخلوق محدث ولم يره، والامتناع من توقيعها

عنده واكتب إلى أمير المؤمنين بما يأتيك عن قضاة أهل عملك في مسألتهم، والأمر لهم بمثل ذلك، ثم أشرف عليهم وتفقد آثارهم حتى لا تنفذ أحكام الله إلا بشهادة أهل البصائر في الدين والإخلاص للتوحيد، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون في ذلك، إن شاء الله. وكتب في شهر ربيع الاول سنه ثمان عشرة ومائتين. وكتب المأمون إلى إسحاق بْن إبراهيم في إشخاص سبعة نفر، منهم محمد ابن سعد كاتب الواقدي، وأبو مسلم مستملي يزيد بْن هارون، ويحيى بْن معين، وزهير بْن حرب ابو خيثمة، وإسماعيل بْن داود، وإسماعيل بْن أبي مسعود، واحمد بن الدورقي، فأشخصوا إليه، فامتحنهم وسألهم عن خلق القرآن، فأجابوا جميعا أن القرآن مخلوق، فأشخصهم إلى مدينة السلام وأحضرهم إسحاق بْن إبراهيم داره، فشهر أمرهم وقولهم بحضرة الفقهاء والمشايخ من أهل الحديث، فأقروا بمثل ما أجابوا به المأمون، فخلى سبيلهم وكان ما فعل من ذلك إسحاق بْن إبراهيم بأمر المأمون. وكتب المأمون بعد ذلك إلى إسحاق بْن إبراهيم: أما بعد، فإن من حق الله على خلفائه في أرضه، وأمنائه على عباده، الذين ارتضاهم لإقامة دينه، وحملهم رعاية خلقه وإمضاء حكمه وسننه والائتمام بعدله في بريته، أن يجهدوا لله أنفسهم، وينصحوا له فيما استحفظهم وقلدهم، ويدلوا عليه- تبارك اسمه وتعالى- بفضل العلم الذي أودعهم، والمعرفة التي جعلها فيهم، ويهدوا إليه من زاغ عنه، ويردوا من أدبر عن أمره، وينهجوا لرعاياهم سمت نجاتهم، ويقفوهم على حدود إيمانهم وسبيل فوزهم وعصمتهم ويكشفوا لهم مغطيات أمورهم ومشتبهاتها عليهم، بما يدفعون الريب عنهم، ويعود بالضياء والبينة على كافتهم، وأن يؤثروا ذلك من إرشادهم وتبصيرهم، إذ كان جامعا لفنون مصانعهم، ومنتظما لحظوظ عاجلتهم

وآجلتهم، ويتذكروا ما الله مرصد من مساءلتهم عما حملوه، ومجازاتهم بما أسلفوه وقدموا عنده، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله وحده، وحسبه الله وكفى به ومما بينه أمير المؤمنين برؤيته، وطالعه بفكره، فتبين عظيم خطره، وجليل ما يرجع في الدين من وكفه وضرره، ما ينال المسلمون بينهم من القول في القرآن الذي جعله الله إماما لهم، وأثرا من رسول الله ص وصفيه محمد ص باقيا لهم، واشتباهه على كثير منهم، حتى حسن عندهم، وتزين في عقولهم ألا يكون مخلوقا، فتعرضوا بذلك لدفع خلق الله الذي بان به عن خلقه، وتفرد بجلالته، من ابتداع الأشياء كلها بحكمته وإنشائها بقدرته، والتقدم عليها بأوليته التي لا يبلغ أولاها، ولا يدرك مداها، وكان كل شيء دونه خلقا من خلقه، وحدثا هو المحدث له، وإن كان القرآن ناطقا به ودالا عليه، وقاطعا للاختلاف فيه، وضاهوا به قول النصارى في دعائهم في عيسى بن مريم: أنه ليس بمخلوق، إذ كان كلمة الله، والله عز وجل يقول: «إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا» ، وتأويل ذلك إنا خلقناه كما قَالَ جل جلاله: «وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها» وقال: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً» ، «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» فسوى عز وجل بين القرآن وبين هذه الخلائق التي ذكرها في شية الصنعة، وأخبر انه جاعله وحده، فقال: «بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ» ، فدل ذلك على إحاطة اللوح بالقرآن، ولا يحاط الا بمخلوق، وقال لنبيه ص: «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ » وقال: «مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ» ،

وقال: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ» ، وأخبر عن قوم ذمهم بكذبهم إنهم قالوا: «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ» ، ثم أكذبهم على لسان رسوله فقال لرسوله: «قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى» ، فسمى الله تعالى القرآن قرآنا وذكرا وإيمانا ونورا وهدى ومباركا وعربيا وقصصا، فقال: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ» ، وقال: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ» ، وقال: «قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ» ، وقال: «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ» فجعل له أولا وآخرا، ودل عليه أنه محدود مخلوق وقد عظم هؤلاء الجهلة بقولهم في القرآن الثلم في دينهم، والحرج في أمانتهم، وسهلوا السبيل لعدو الإسلام، واعترفوا بالتبديل والإلحاد على قلوبهم حتى عرفوا ووصفوا خلق الله وفعله بالصفة التي هي لله وحده، وشبهوه به، والاشتباه أولى بخلقه وليس يرى أمير المؤمنين لمن قَالَ بهذه المقالة حظا في الدين، ولا نصيبا من الإيمان واليقين، ولا يرى أن يحل أحدا منهم محل الثقة في أمانة، ولا عدالة ولا شهادة ولا صدق في قول ولا حكاية، ولا تولية لشيء من أمر الرعية، وإن ظهر قصد بعضهم، وعرف بالسداد مسدد فيهم، فإن الفروع مردودة إلى أصولها، ومحمولة في الحمد والذم عليها، ومن كان جاهلا بأمر دينه الذي أمره الله به من وحدانيته فهو بما سواه أعظم جهلا، وعن الرشد في غيره أعمى وأضل سبيلا. فاقرأ على جعفر بْن عيسى وعبد الرحمن بْن إسحاق القاضي كتاب

امير المؤمنين بما كتب به إليك، وانصصها عن علمهما في القرآن، وأعلمهما أن أمير المؤمنين لا يستعين على شيء من أمور المسلمين إلا بمن وثق بإخلاصه وتوحيده، وأنه لا توحيد لمن لم يقر بأن القرآن مخلوق فإن قالا بقول أمير المؤمنين في ذلك، فتقدم إليهما في امتحان من يحضر مجالسهما بالشهادات على الحقوق، ونصهم عن قولهم في القرآن، فمن لم يقل منهم أنه مخلوق أبطلا شهادته، ولم يقطعا حكما بقوله، وإن ثبت عفافه بالقصد والسداد في أمره. وافعل ذلك بمن في سائر عملك من القضاة، وأشرف عليهم إشرافا يزيد الله به ذا البصيرة في بصيرته، ويمنع المرتاب من إغفال دينه، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون منك في ذلك إن شاء الله. قَالَ: فأحضر إسحاق بْن إبراهيم لذلك جماعة من الفقهاء والحكام والمحدثين، وأحضر أبا حسان الزيادي وبشر بْن الوليد الكندي وعلي بْن ابى مقاتل والفضل ابن غانم والذيال بْن الهيثم وسجادة والقواريري وأحمد بْن حنبل وقتيبة وسعدويه الواسطي وعلي بْن الجعد وإسحاق بْن أبي إسرائيل وابن الهرش وابن علية الأكبر ويحيى بْن عبد الرحمن العمري وشيخا آخر من ولد عمر بْن الخطاب- كان قاضي الرقة- وأبا نصر التمار وأبا معمر القطيعي ومحمد بْن حاتم بْن ميمون ومحمد بْن نوح المضروب وابن الفرخان، وجماعة منهم النضر بْن شميل وابن علي بْن عاصم وأبو العوام البزاز وابن شجاع وعبد الرحمن بْن إسحاق، فأدخلوا جميعا على إسحاق، فقرأ عليهم كتاب المأمون هذا مرتين حتى فهموه، ثم قَالَ لبشر بْن الوليد: ما تقول في القرآن؟ فقال: قد عرفت مقالتي لأمير المؤمنين غير مرة، قَالَ: فقد تجدد من كتاب أمير المؤمنين ما قد ترى، فقال: أقول: القرآن كلام الله، قَالَ: لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟ قَالَ: الله خالق كل شيء، قَالَ: ما القرآن شيء؟ قال: هو شيء، قَالَ: فمخلوق؟ قَالَ: ليس بخالق، قَالَ: ليس أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟ قَالَ: ما أحسن غير ما قلت لك، وقد استعهدت امير المؤمنين الا اتكلم

فيه، وليس عندي غير ما قلت لك فأخذ إسحاق بْن إبراهيم رقعة كانت بين يديه، فقرأها عليه، ووقفه عليها، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ أحدا فردا، لم يكن قبله شيء ولا بعده شيء، ولا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني، ولا وجه من الوجوه، قَالَ: نعم، وقد كنت أضرب الناس على دون هذا، فقال للكاتب: اكتب ما قَالَ. ثم قَالَ لعلي بْن أبي مقاتل: ما تقول يا علي؟ قَالَ: قد سمعت كلامي لأمير المؤمنين في هذا غير مرة وما عندي غير ما سمع، فامتحنه بالرقعة فأقر بما فيها، ثم قَالَ: القرآن مخلوق؟ قَالَ: القرآن كلام الله، قَالَ: لم أسألك عن هذا، قَالَ: هو كلام الله، وإن أمرنا أمير المؤمنين بشيء سمعنا وأطعنا فقال للكاتب: اكتب مقالته. ثم قَالَ للذيال نحوا من مقالته لعلي بْن أبي مقاتل، فقال له مثل ذلك. ثم قَالَ لأبي حسان الزيادي: ما عندك؟ قَالَ: سل عما شئت، فقرأ عليه الرقعة ووقفه عليها، فأقر بما فيها، ثم قَالَ: من لم يقل هذا القول فهو كافر، فقال: القرآن مخلوق هو؟ قَالَ: القرآن كلام الله والله خالق كل شيء، وما دون الله مخلوق، وأمير المؤمنين إمامنا وبسببه سمعنا عامة العلم، وقد سمع ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، وقد قلده الله أمرنا، فصار يقيم حجنا وصلاتنا، ونؤدي إليه زكاة أموالنا، ونجاهد معه، ونرى إمامته إمامة، ان أمرنا ائتمرنا، وإن نهانا انتهينا، وإن دعانا أجبنا قَالَ: القرآن مخلوق هو؟ فأعاد عليه أبو حسان مقالته، قَالَ: إن هذه مقالة أمير المؤمنين، قَالَ: قد تكون مقالة أمير المؤمنين ولا يأمر بها الناس ولا يدعوهم إليها، وإن أخبرتني أن أمير المؤمنين أمرك أن أقول، قلت ما أمرتني به، فإنك الثقه المأمون فيما أبلغتني عنه من شيء، فإن أبلغتني عنه بشيء صرت إليه، قَالَ: ما أمرني ان ابلغك شيئا قال على ابن أبي مقاتل: قد يكون قوله كاختلاف أصحاب رسول الله ص في الفرائض والمواريث، ولم يحملوا الناس عليها، قَالَ له أبو حسان: ما عندي إلا السمع والطاعة، فمرني آتمر، قَالَ: ما أمرني أن آمرك، وإنما أمرني أن أمتحنك

ثم عاد إلى أحمد بْن حنبل، فقال له: ما تقول في القرآن؟ قَالَ: هو كلام الله، قَالَ: أمخلوق هو؟ قَالَ: هو كلام الله لا أزيد عليها، فامتحنه بما في الرقعة، فلما اتى على لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، قال: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» وأمسك عن لا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني، ولا وجه من الوجوه، فاعترض عليه ابن البكاء الأصغر، فقال: أصلحك الله! إنه يقول: سميع من أذن، بصير من عين، فقال إسحاق لأحمد بْن حنبل: ما معنى قوله: «سميع بصير» ؟ قَالَ: هو كما وصف نفسه، قَالَ: فما معناه؟ قَالَ: لا أدري، هو كما وصف نفسه. ثم دعا بهم رجلا رجلا، كلهم يقول: القرآن كلام الله، إلا هؤلاء النفر: قتيبة وعبيد الله بْن محمد بْن الحسن وابن عليه الاكبر وابن البكاء وعبد المنعم ابن إدريس ابن بنت وهب بْن منبه والمظفر بْن مرجا، ورجلا ضريرا ليس من أهل الفقه، ولا يعرف بشيء منه، إلا أنه دس في ذلك الموضع، ورجلا من ولد عمر بْن الخطاب قاضي الرقة، وابن الأحمر، فأما ابن البكاء الأكبر فإنه قَالَ: القرآن مجعول لقول الله تعالى: «إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا» والقرآن محدث لقوله: «مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ» قَالَ له إسحاق: فالمجعول مخلوق؟ قَالَ: نعم، قال: فالقرآن مخلوق؟ قَالَ: لا أقول مخلوق، ولكنه مجعول، فكتب مقالته. فلما فرغ من امتحان القوم، وكتب مقالاتهم اعترض ابن البكاء الأصغر، فقال: أصلحك الله! إن هذين القاضيين أئمة، فلو أمرتهما فأعادا الكلام! قَالَ له إسحاق: هما ممن يقوم بحجة أمير المؤمنين، قَالَ: فلو أمرتهما أن يسمعانا مقالتهما، لنحكي ذلك عنهما! قَالَ له إسحاق: إن شهدت

عندهما بشهادة، فستعلم مقالتهما إن شاء الله. فكتب مقالة القوم رجلا رجلا، ووجهت إلى المأمون، فمكث القوم تسعة أيام، ثم دعا بهم وقد ورد كتاب المأمون جواب كتاب إسحاق بْن إبراهيم في أمرهم، ونسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك جواب كتابه كان إليك، فيما ذهب إليه متصنعة أهل القبلة وملتمسو الرئاسة، فيما ليسوا له بأهل من أهل الملة من القول في القرآن، وأمرك به أمير المؤمنين من امتحانهم، وتكشيف أحوالهم وأحلالهم محالهم تذكر إحضارك جعفر بْن عيسى وعبد الرحمن ابن إسحاق عند ورود كتاب أمير المؤمنين مع من أحضرت ممن كان ينسب إلى الفقه، ويعرف بالجلوس للحديث، وينصب نفسه للفتيا بمدينة السلام، وقراءتك عليهم جميعا كتاب أمير المؤمنين، ومسألتك إياهم عن اعتقادهم في القرآن، والدلالة لهم على حظهم، وإطباقهم على نفي التشبيه واختلافهم في القرآن، وأمرك من لم يقل منهم أنه مخلوق بالإمساك عن الحديث والفتوى في السر والعلانية، وتقدمك إلى السندي وعباس مولى أمير المؤمنين بما تقدمت به فيهم إلى القاضيين بمثل ما مثل لك أمير المؤمنين من امتحان من يحضر مجالسهما من الشهود، وبث الكتب إلى القضاة في النواحي من عملك بالقدوم عليك، لتحملهم وتمتحنهم على ما حده أمير المؤمنين، وتثبيتك في آخر الكتاب أسماء من حضر ومقالاتهم، وفهم أمير المؤمنين ما اقتصصت. وامير المؤمنين يحمد الله كثيرا كما هو أهله، ويسأله أن يصلى على عبده ورسوله محمد ص، ويرغب إلى الله في التوفيق لطاعته، وحسن المعونة على صالح نيته برحمته وقد تدبر أمير المؤمنين ما كتبت به من أسماء من سألت عن القرآن، وما رجع إليك فيه كل امرئ منهم، وما شرحت من مقالتهم. فأما ما قَالَ المغرور بشر بْن الوليد في نفي التشبيه، وما أمسك عنه من أن القرآن

مخلوق، وادعى من تركه الكلام في ذلك واستعهاده أمير المؤمنين، فقد كذب بشر في ذلك وكفر، وقال الزور والمنكر، ولم يكن جرى بين أمير المؤمنين وبينه في ذلك ولا في غيره عهد ولا نظر أكثر من إخباره أمير المؤمنين من اعتقاده كلمة الإخلاص، والقول بأن القرآن مخلوق، فادع به إليك، وأعلمه ما أعلمك به أمير المؤمنين من ذلك، وأنصصه عن قوله في القرآن، واستتبه منه، فإن أمير المؤمنين يرى أن تستتيب من قَالَ بمقالته، إذ كانت تلك المقالة الكفر الصراح، والشرك المحض عند أمير المؤمنين، فإن تاب منها فأشهر أمره، وأمسك عنه، وإن أصر على شركه، ودفع أن يكون القرآن مخلوقا بكفره وإلحاده، فاضرب عنقه، وابعث إلى أمير المؤمنين برأسه، إن شاء الله. وكذلك إبراهيم بْن المهدي فامتحنه بمثل ما تمتحن به بشرا، فإنه كان يقول بقوله وقد بلغت أمير المؤمنين عنه بوالغ، فإن قَالَ: إن القرآن مخلوق فأشهر أمره واكشفه، وإلا فاضرب عنقه وابعث إلى أمير المؤمنين برأسه، إن شاء الله. وأما علي بْن أبي مقاتل، فقل له: ألست القائل لأمير المؤمنين: إنك تحلل وتحرم، والمكلم له بمثل ما كلمته به، مما لم يذهب عنه ذكره! وأما الذيال بْن الهيثم، فأعلمه أنه كان في الطعام الذي كان يسرقه في الأنبار وفيما يستولي عليه من أمر مدينة أمير المؤمنين أبي العباس ما يشغله، وأنه لو كان مقتفيا آثار سلفه، وسالكا مناهجهم، ومحتذيا سبيلهم لما خرج إلى الشرك بعد إيمانه. وأما أحمد بْن يزيد المعروف بأبي العوام، وقوله إنه لا يحسن الجواب في القرآن، فأعلمه أنه صبي في عقله لا في سنه، جاهل، وإنه إن كان لا يحسن الجواب في القرآن فسيحسنه إذا أخذه التأديب، ثم إن لم يفعل كان السيف من وراء ذلك، إن شاء الله. وأما أحمد بْن حنبل وما تكتب عنه، فأعلمه أن أمير المؤمنين قد عرف

فحوى تلك المقالة وسبيله فيها، واستدل على جهله وآفته بها. وأما الفضل بْن غانم، فأعلمه أنه لم يخف على أمير المؤمنين ما كان منه بمصر، وما اكتسب من الأموال في أقل من سنة، وما شجر بينه وبين المطلب ابن عبد الله في ذلك، فإنه من كان شأنه شأنه، وكانت رغبته في الدينار والدرهم رغبته، فليس بمستنكر أن يبيع إيمانه طمعا فيهما، وإيثارا لعاجل نفعهما، وأنه مع ذلك القائل لعلي بْن هشام ما قَالَ، والمخالف له فيما خالفه فيه، فما الذي حال به عن ذلك ونقله إلى غيره! وأما الزيادى، فاعلمه انه كان منتحلا، ولا كاول دعي كان في الإسلام خولف فيه حكم رسول الله ص، وكان جديرا أن يسلك مسلكه، فأنكر أبو حسان أن يكون مولى لزياد أو يكون مولى لأحد من الناس، وذكر أنه إنما نسب إلى زياد لأمر من الأمور. وأما المعروف بأبي نصر التمار، فإن أمير المؤمنين شبه خساسة عقله بخساسة متجره. وأما الفضل بْن الفرخان، فأعلمه أنه حاول بالقول الذي قاله في القرآن أخذ الودائع التي أودعها إياه عبد الرحمن بْن إسحاق وغيره تربصا بمن استودعه، وطمعا في الاستكثار لما صار في يده، ولا سبيل عليه عن تقادم عهده، وتطاول الأيام به، فقل لعبد الرحمن بْن إسحاق: لا جزاك الله خيرا عن تقويتك مثل هذا واتمانك إياه، وهو معتقد للشرك منسلخ من التوحيد. وأما محمد بْن حاتم وابن نوح والمعروف بأبي معمر، فأعلمهم أنهم مشاغيل بأكل الربا عن الوقوف على التوحيد، وأن أمير المؤمنين لو لم يستحل محاربتهم في الله ومجاهدتهم إلا لإربائهم، وما نزل به كتاب الله في أمثالهم، لاستحل ذلك، فكيف بهم وقد جمعوا مع الارباء شركا، وصار للنصارى مثلا! وأما أحمد بْن شجاع، فأعلمه أنك صاحبه بالأمس، والمستخرج منه

ما استخرجته من المال الذي كان استحله من مال علي بْن هشام، وأنه ممن الدينار والدرهم دينه وأما سعدويه الواسطي، فقل له: قبح الله رجلا بلغ به التصنع للحديث، والتزين به، والحرص على طلب الرئاسة فيه، أن يتمنى وقت المحنة، فيقول بالتقرب بها متى يمتحن، فيجلس للحديث! وأما المعروف بسجادة، وإنكاره أن يكون سمع ممن كان يجالس من أهل الحديث وأهل الفقه القول بأن القرآن مخلوق، فأعلمه أنه في شغله بإعداد النوى وحكه لإصلاح سجادته وبالودائع التي دفعها إليه علي بْن يحيى وغيره ما أذهله عن التوحيد وألهاه، ثم سله عما كان يوسف بن ابى يوسف ومحمد ابن الحسن يقولانه، إن كان شاهدهما وجالسهما. وأما القواريري، ففيما تكشف من أحواله وقبوله الرشا والمصانعات، ما أبان عن مذهبه وسوء طريقته وسخافة عقله ودينه، وقد انتهى إلى أمير المؤمنين أنه يتولى لجعفر بْن عيسى الحسني مسائلة، فتقدم إلى جعفر بْن عيسى في رفضه، وترك الثقة به والاستنامة إليه. وأما يحيى بْن عبد الرحمن العمري، فإن كان من ولد عمر بْن الخطاب، فجوابه معروف. وأما محمد بْن الحسن بْن علي بْن عاصم، فإنه لو كان مقتديا بمن مضى من سلفه، لم ينتحل النحلة التي حكيت عنه، وإنه بعد صبي يحتاج إلى تعلم. وقد كان أمير المؤمنين وجه إليك المعروف بأبي مسهر بعد أن نصه أمير المؤمنين عن محنته في القرآن، فجمجم عنها ولجلج فيها، حتى دعا له أمير المؤمنين بالسيف، فأقر ذميما، فأنصصه عن إقراره، فإن كان مقيما عليه فأشهر ذلك وأظهره، إن شاء الله. ومن لم يرجع عن شركه ممن سميت لأمير المؤمنين في كتابك، وذكره

أمير المؤمنين لك، أو أمسك عن ذكره في كتابه هذا، ولم يقل إن القرآن مخلوق، بعد بشر بْن الوليد وإبراهيم بْن المهدي فاحملهم أجمعين موثقين إلى عسكر أمير المؤمنين، مع من يقوم بحفظهم وحراستهم في طريقهم، حتى يؤديهم إلى عسكر أمير المؤمنين، ويسلمهم إلى من يؤمن بتسليمهم إليه، لينصهم أمير المؤمنين، فإن لم يرجعوا ويتوبوا حملهم جميعا على السيف، إن شاء اللَّه، ولا قوة إلا بالله. وقد أنفذ أمير المؤمنين كتابه هذا في خريطة بندارية، ولم ينظر به اجتماع الكتب الخرائطية، معجلا به، تقربا إلى الله عز وجل بما أصدر من الحكم ورجاء ما اعتمد، وإدراك ما أمل من جزيل ثواب الله عليه، فأنفذ لما أتاك من أمر المؤمنين، وعجل إجابة أمير المؤمنين بما يكون منك في خريطة بندارية مفردة عن سائر الخرائط، لتعرف أمير المؤمنين ما يعملونه إن شاء الله. وكتب سنة ثمان عشرة ومائتين. فأجاب القوم كلهم حين أعاد القول عليهم إلى أن القرآن مخلوق، إلا أربعة نفر، منهم أحمد بْن حنبل وسجادة والقواريري ومحمد بْن نوح المضروب. فأمر بهم إسحاق بْن إبراهيم فشدوا في الحديد، فلما كان من الغد دعا بهم جميعا يساقون في الحديد، فأعاد عليهم المحنة، فأجابه سجادة إلى أن القرآن مخلوق، فأمر بإطلاق قيده وخلى سبيله، وأصر الآخرون على قولهم، فلما كان من بعد الغد عاودهم أيضا، فأعاد عليهم القول، فأجاب القواريري إلى أن القرآن مخلوق، فأمر بإطلاق قيده، وخلى سبيله، وأصر أحمد بْن حنبل ومحمد بْن نوح على قولهما، ولم يرجعا، فشدا جميعا في الحديد، ووجها إلى طرسوس، وكتب معهما كتابا بإشخاصهما، وكتب كتابا مفردا بتأويل القوم فيما أجابوا إليه فمكثوا أياما، ثم دعا بهم فإذا كتاب قد ورد من المأمون على إسحاق بْن إبراهيم، أن قد فهم أمير المؤمنين ما أجاب القوم إليه، وذكر سليمان بْن يعقوب صاحب الخبر أن بشر بْن الوليد تأول الآية التي أنزلها الله تعالى في عمار بْن ياسر: «إِلا مَنْ أُكْرِهَ وقلبه مطمئن بالايمان»

كتب المأمون إلى عماله ووصيته في كتبه

وقد أخطأ التأويل، إنما عنى الله عز وجل بهذه الآية من كان معتقد الإيمان، مظهر الشرك، فأما من كان معتقد الشرك مظهر الإيمان، فليس هذه له فأشخصهم جميعا إلى طرسوس، ليقيموا بها إلى خروج أمير المؤمنين من بلاد الروم. فأخذ إسحاق بْن إبراهيم من القوم الكفلاء ليوافوا العسكر بطرسوس، فأشخص أبا حسان وبشر بْن الوليد والفضل بْن غانم وعلي بْن أبي مقاتل والذيال بْن الهيثم ويحيى بْن عبد الرحمن العمري وعلي بْن الجعد وأبا العوام وسجادة والقواريري وابن الحسن بْن علي بْن عاصم وإسحاق بْن أبي إسرائيل والنضر بْن شميل وأبا نصر التمار وسعدويه الواسطي ومحمد بْن حاتم بْن ميمون وأبا معمر وابن الهرش وابن الفرخان واحمد بن شجاع وأبا هارون بن البكاء. فلما صاروا الى الرقة بلغتهم وفاة المأمون، فأمر بهم عنبسة بْن إسحاق- وهو والي الرقة- أن يصيروا إلى الرقة، ثم أشخصهم إلى إسحاق بْن إبراهيم بمدينة السلام مع الرسول المتوجه بهم إلى أمير المؤمنين، فسلمهم إليه، فأمرهم إسحاق بلزوم منازلهم، ثم رخص لهم بعد ذلك في الخروج، فأما بشر بْن الوليد والذيال وابو العوام وعلى بن أبي مقاتل، فإنهم شخصوا من غير أن يؤذن لهم حتى قدموا بغداد، فلقوا من إسحاق بْن إبراهيم في ذلك أذى، وقدم الآخرون مع رسول إسحاق بْن إبراهيم، فخلى سبيلهم. كتب المأمون الى عماله ووصيته في كتبه وفي هذه السنة نفذت كتب المأمون إلى عماله في البلدان: من عبد الله عبد الله الإمام المأمون أمير المؤمنين وأخيه الخليفة من بعده ابى إسحاق بن أمير المؤمنين الرشيد وقيل إن ذلك لم يكتبه المأمون كذلك، وإنما كتب في حال إفاقة من غشية أصابته في مرضه بالبدندون، عن امر المأمون الى

ذكر الخبر عن وفاه المأمون

العباس بن المأمون، وإلى إسحاق وعبد الله بْن طاهر، أنه إن حدث به حدث الموت في مرضه هذا، فالخليفة من بعده أبو إسحاق بن أمير المؤمنين الرشيد. فكتب بذلك محمد بْن داود، وختم الكتب وأنفذها. فكتب أبو إسحاق إلى عماله: من أبي إسحاق أخي أمير المؤمنين والخليفة من بعد أمير المؤمنين. فورد كتاب من أبي إسحاق محمد بْن هارون الرشيد إلى إسحاق بْن يحيى بْن معاذ عامله على جند دمشق يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب، عنوانه: من عبد الله عبد الله الإمام المأمون أمير المؤمنين والخليفة من بعد أمير المؤمنين أبي إسحاق ابن أمير المؤمنين الرشيد: أما بعد، فإن أمير المؤمنين أمر بالكتاب إليك في التقدم إلى عمالك في حسن السيرة وتخفيف المئونة وكف الأذى عن أهل عملك، فتقدم إلى عمالك في ذلك أشد التقدمة، واكتب إلى عمال الخراج بمثل ذلك. وكتب إلى جميع عماله في أجناد الشام، جند حمص والأردن وفلسطين بمثل ذلك، فلما كان يوم الجمعة لإحدى عشرة بقيت من رجب صلى الجمعة إسحاق بْن يحيى بْن معاذ في مسجد دمشق، فقال في خطبته بعد دعائه لأمير المؤمنين: اللهم وأصلح الأمير أخا المؤمنين والخليفة من بعد امير المؤمنين أبا إسحاق بن امير المؤمنين الرشيد. ذكر الخبر عن وفاه المأمون وفي هذه السنة توفي المأمون. ذكر الخبر عن سبب المرض الذي كانت فيه وفاته: ذكر عن سعيد العلاف القارئ، قَالَ: أرسل إلي المأمون وهو ببلاد الروم- وكان دخلها من طرسوس يوم الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من جمادى الآخرة- فحملت إليه وهو في البدندون، فكان يستقرئني، فدعاني يوما، فجئت فوجدته جالسا على شاطئ البدندون، وأبو إسحاق المعتصم جالس عن يمينه، فأمرني فجلست نحوه منه، فإذا هو وأبو إسحاق مدليان

أرجلهما في ماء البدندون، فقال: يا سعيد، دل رجليك في هذا الماء وذقه، فهل رأيت ماء قط أشد بردا، ولا أعذب ولا أصفى صفاء منه! ففعلت وقلت: يا أمير المؤمنين، ما رأيت مثل هذا قط، قَالَ: أي شيء يطيب أن يؤكل ويشرب هذا الماء عليه؟ فقلت: أمير المؤمنين أعلم، فقال: رطب الآزاذ، فبينا هو يقول هذا إذا سمع وقع لجم البريد فالتفت، فنظر فإذا بغال من بغال البريد، على أعجازها حقائب فيها الألطاف، فقال لخادم له: اذهب فانظر: هل في هذه الالطاف رطب؟ فانظره، فان كان آزاذ فأت به، فجاء يسعى بسلتين فيهما رطب آزاذ، كأنما جني من النخل تلك الساعة، فأظهر شكرا لله تعالى، وكثر تعجبنا منه، فقال: ادن فكل، فأكل هو وأبو إسحاق، وأكلت معهما، وشربنا جميعا من ذلك الماء، فما قام منا أحد إلا وهو محموم، فكانت منية المأمون من تلك العلة، ولم يزل المعتصم عليلا حتى دخل العراق، ولم أزل عليلا حتى كان قريبا. ولما اشتدت بالمأمون علته بعث إلى ابنه العباس، وهو يظن أن لن يأتيه، فأتاه وهو شديد المرض متغير العقل، قد نفذت الكتب بما نفذت له في أمر ابى إسحاق بن الرشيد، فأقام العباس عند أبيه أياما، وقد أوصى قبل ذلك إلى أخيه أبي إسحاق. وقيل: لم يوص إلا والعباس حاضر، والقضاة والفقهاء والقواد والكتاب، وكانت وصيته: هذا ما أشهد عليه عبد الله بْن هارون أمير المؤمنين بحضرة من حضره، أشهدهم جميعا على نفسه أنه يشهد ومن حضره أن الله عز وجل وحده لا شريك له في ملكه، ولا مدبر لأمره غيره، وأنه خالق وما سواه مخلوق، ولا يخلو القرآن أن يكون شيئا له مثل، ولا شيء مثله تبارك وتعالى، وإن الموت حق، والبعث حق، والحساب حق، وثواب المحسن الجنة وعقاب المسيء، النار، وان محمدا ص قد بلغ عن ربه شرائع دينه، وأدى نصيحته إلى أمته، حَتَّى قبضه اللَّه إِلَيْهِ صلى اللَّه عَلَيْهِ افضل صلاه

صلاها على أحد من ملائكته المقربين وأنبيائه والمرسلين، وإني مقر مذنب، أرجو وأخاف، إلا أني إذا ذكرت عفو الله رجوت، فإذا أنا مت فوجهوني وغمضوني، وأسبغوا وضوئي وطهوري، وأجيدوا كفني، ثم أكثروا حمد الله على الإسلام ومعرفة حقه عليكم في محمد، إذ جعلنا من أمته المرحومة، ثم أضجعوني على سريري، ثم عجلوا بي، فإذا أنتم وضعتموني للصلاة، فليتقدم بها من هو أقربكم بي نسبا، وأكبركم سنا، فليكبر خمسا، يبدأ في الأولى في أولها بالحمد لله والثناء عليه والصلاة على سيدي وسيد المرسلين جميعا، ثم الدعاء للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، ثم الدعاء للذين سبقونا بالإيمان، ثم ليكبر الرابعة، فيحمد الله ويهلله ويكبره ويسلم في الخامسة، ثم أقلوني فأبلغوا بي حفرتي، ثم لينزل أقربكم إلي قرابة، وأودكم محبة، وأكثروا من حمد الله وذكره، ثم ضعوني على شقي الأيمن واستقبلوا بي القبلة، وحلوا كفني عن رأسي ورجلي، ثم سدوا اللحد باللبن، واحثوا ترابا على، واخرجوا عنى وخلونى وعملي، فكلكم لا يغني عني شيئا، ولا يدفع عني مكروها، ثم قفوا بأجمعكم فقولوا خيرا إن علمتم، وأمسكوا عن ذكر شر إن كنتم عرفتم، فإني مأخوذ من بينكم بما تقولون وما تلفظون به، ولا تدعوا باكية عندي، فإن المعول عليه يعذب رحم الله امرأ اتعظ وفكر فيما حتم الله على جميع خلقه من الفناء، وقضى عليهم من الموت الذي لا بد منه، فالحمد لله الذي توحد بالبقاء، وقضى على جميع خلقه الفناء ثم لينظر ما كنت فيه من عز الخلافة، هل أغنى ذلك عني شيئا إذ جاء أمر الله! لا والله، ولكن أضعف علي به الحساب، فيا ليت عبد الله بْن هارون لم يكن بشرا، بل ليته لم يكن خلقا! يا أبا إسحاق، ادن مني، واتعظ بما ترى، وخذ بسيرة أخيك في القرآن، واعمل في الخلافة إذا طوقكها الله عمل المريد لله، الخائف من عقابه وعذابه، ولا تغتر بالله ومهلته، فكان قد نزل بك الموت ولا تغفل أمر الرعية الرعية الرعية! العوام العوامّ! فإن الملك بهم وبتعهدك المسلمين والمنفعة لهم الله الله فيهم وفي غيرهم من المسلمين!

ولا ينهين إليك أمر فيه صلاح للمسلمين ومنفعة لهم إلا قدمته وآثرته على غيره من هواك، وخذ من أقويائهم لضعفائهم، ولا تحمل عليهم في شيء، وأنصف بعضهم من بعض بالحق بينهم، وقربهم وتأتهم، وعجل الرحلة عني، والقدوم إلى دار ملكك بالعراق، وانظر هؤلاء القوم الذين أنت بساحتهم فلا تغفل عنهم في كل وقت والخرمية فأغزهم ذا حزامة وصرامة وجلد، وأكنفه بالأموال والسلاح والجنود من الفرسان والرجالة، فإن طالت مدتهم فتجرد لهم بمن معك من أنصارك وأوليائك، واعمل في ذلك عمل مقدم النيه فيه، راجيا بثواب الله عليه واعلم أن العظة إذا طالت أوجبت على السامع لها والموصي بها الحجة، فاتق الله في أمرك كله، ولا تفتن. ثم دعا أبا إسحاق بعد ساعة حين اشتد به الوجع، وأحس بمجيء أمر الله فقال له: يا أبا إسحاق، عليك عهد الله وميثاقه وذمه رسول الله ص لتقومن بحق الله في عباده، ولتؤثرن طاعته على معصيته، إذ أنا نقلتها من غيرك إليك؟ قَالَ: اللهم نعم، قَالَ: فانظر من كنت تسمعني أقدمه على لساني فأضعف له التقدمة، عبد الله بْن طاهر أقره على عمله ولا تهجه، فقد عرفت الذي سلف منكما أيام حياتي وبحضرتي، استعطفه بقلبك، وخصه ببرك، فقد عرفت بلاءه وغناءه عن أخيك وإسحاق بْن إبراهيم فأشركه في ذلك، فإنه أهل له وأهل بيتك، فقد علمت إنه لا بقية فيهم وإن كان بعضهم يظهر الصيانة لنفسه عبد الوهاب عليك به من بين أهلك، فقدمه عليهم، وصير أمرهم إليه وابو عبد الله بن أبي داود فلا يفارقك، وأشركه في المشورة في كل أمرك، فإنه موضع لذلك منك، ولا تتخذن بعدي وزيرا تلقي إليه شيئا، فقد علمت ما نكبني به يحيى بْن أكثم في معاملة الناس وخبث سيرته حتى أبان الله ذلك منه في صحة مني، فصرت إلى مفارقته! قاليا له غير راض بما صنع في أموال الله وصدقاته، لا جزاه الله عن الإسلام خيرا! وهؤلاء بنو عمك من ولد أمير المؤمنين عَلِيّ بْن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،

ذكر الخبر عن وقت وفاته والموضع الذى دفن فيه ومن صلى عليه ومبلغ سنه وقدر مده خلافته

فأحسن صحبتهم، وتجاوز عن مسيئهم، واقبل من محسنهم، وصلاتهم فلا تغفلها في كل سنة عند محلها، فإن حقوقهم تجب من وجوه شتى اتَّقُوا اللَّهَ ربكم حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ اتقوا الله واعملوا له، اتقوا الله في أموركم كلها أستودعكم الله ونفسي وأستغفر الله مما سلف، وأستغفر الله مما كان مني، إنه كان غفارا، فإنه ليعلم كيف ندمي على ذنوبي، فعليه توكلت من عظيمها، وإليه أنيب ولا قوة إلا بالله، حسبي الله ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد نبي الهدى والرحمة!. ذكر الخبر عن وقت وفاته والموضع الذي دفن فيه ومن صلى عليه ومبلغ سنه وقدر مده خلافته قال ابو جعفر: وأما وقت وفاته، فإنه اختلف فيه، فقال بعضهم: توفي يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب بعد العصر سنة ثمان عشرة ومائتين. وقال آخرون: بل توفي في هذا اليوم مع الظهر، ولما توفي حمله ابنه العباس واخوه ابو إسحاق محمد بن الرشيد إلى طرسوس، فدفناه في دار كانت لخاقان خادم الرشيد، وصلى عليه أخوه أبو إسحاق المعتصم، ثم وكلوا به حرسا من أبناء أهل طرسوس وغيرهم مائة رجل، وأجري على كل رجل منهم تسعون درهما. وكانت خلافته عشرين سنة وخمسة أشهر وثلاثة وعشرين يوما، وذلك سوى سنتين كان دعي له فيهما بمكة واخوه الامين محمد بن الرشيد محصور ببغداد. وكان ولد للنصف من ربيع الأول سنة سبعين ومائة

ذكر بعض اخبار المأمون وسيره

وكان يكنى- فيما ذكر ابن الكلبي- أبا العباس. وكان ربعة أبيض جميلا، طويل اللحية، قد وخطه الشيب وقيل كان أسمر تعلوه صفرة، أحنى أعين طويل اللحية رقيقها، أشيب، ضيق الجبهة، بخده خال أسود. واستخلف يوم الخميس لخمس ليال بقين من المحرم. ذكر بعض أخبار المأمون وسيره ذكر عن محمد بْن الهيثم بْن عدي، أن إبراهيم بْن عيسى بْن بريهة بْن المنصور، قَالَ: لما أراد المأمون الشخوص إلى دمشق هيأت له كلاما، مكثت فيه يومين وبعض آخر، فلما مثلت بين يديه قلت: أطال الله بقاء أمير المؤمنين، في أدوم العز وأسبغ الكرامة، وجعلني من كل سوء فداه! أن من أمسى وأصبح يتعرف من نعمة الله، له الحمد كثيرا عليه برأي أمير المؤمنين أيده الله فيه، وحسن تأنيسه له، حقيق بأن يستديم هذه النعمة، ويلتمس الزيادة فيها بشكر الله وشكر أمير المؤمنين، مد الله في عمره عليها وقد أحب أن يعلم أمير المؤمنين أيده الله إني لا أرغب بنفسي عن خدمته أيده الله بشيء من الخفض والدعة، إذ كان هو أيده الله يتجشم خشونة السفر ونصب الظعن، وأولى الناس بمواساته في ذلك وبذل نفسه فيه أنا، لما عرفني الله من رأيه، وجعل عندي من طاعته ومعرفه ما أوجب الله من حقه، فإن رأى أمير المؤمنين أكرمه الله أن يكرمني بلزوم خدمته، والكينونة معه فعل فقال لي مبتدئا من غير تروية: لم يعزم أمير المؤمنين في ذلك على شيء، وإن استصحب أحدا من أهل بيتك بدأ بك، وكنت المقدم عنده في ذلك، ولا سيما إذ أنزلت نفسك بحيث أنزلك أمير المؤمنين من نفسه، وان ترك ذلك فمن غير قلا لمكانك، ولكن بالحاجة إليك قَالَ: فكان والله ابتداؤه أكثر من ترويتي

وذكر عن محمد بْن علي بْن صالح السرخسي، قَالَ: تعرض رجل للمأمون بالشام مرارا، فقال له: يا أمير المؤمنين، انظر لعرب الشام كما نظرت لعجم أهل خراسان! فقال: أكثرت علي يا أخا أهل الشام، والله ما انزلت قيسا عن ظهور الخيل إلا وأنا أرى إنه لم يبق في بيت مالي درهم واحد، واما اليمن فو الله ما أحببتها ولا أحبتني قط، وأما قضاعة فسادتها تنتظر السفياني وخروجه فتكون من أشياعه، وأما ربيعة فساخطة على الله منذ بعث نبيه من مضر، ولم يخرج اثنان إلا خرج أحدهما شاريا، اعزب فعل الله بك! وذكر عن سعيد بْن زياد أنه لما دخل على المأمون بدمشق قَالَ له: أرني الكتاب الذى كتبه رسول الله ص لكم، قَالَ: فأريته، قَالَ: فقال: إني لأشتهي أن أدري أي شيء هذا الغشاء على هذا الخاتم؟ قَالَ: فقال له أبو إسحاق: حل العقد حتى تدري ما هو، قَالَ: فقال: ما اشك ان النبي ص عقد هذا العقد، وما كنت لأحل عقدا عقده رسول الله ص ثم قَالَ للواثق: خذه فضعه على عينك، لعل الله أن يشفيك قَالَ: وجعل المأمون يضعه على عينه ويبكي وذكر عن العيشي صاحب إسحاق بْن إبراهيم، أنه قَالَ: كنت مع المأمون بدمشق، وكان قد قل المال عنده حتى ضاق، وشكا ذلك إلى أبي إسحاق المعتصم، فقال له: يا أمير المؤمنين، كأنك بالمال وقد وافاك بعد جمعه قَالَ: وكان حمل إليه ثلاثون ألف ألف من خراج ما يتولاه له، قَالَ: فلما ورد عليه ذلك المال، قَالَ المأمون ليحيى بْن أكثم: اخرج بنا ننظر إلى هذا المال، قَالَ: فخرجا حتى أصحرا، ووقفا ينظرانه، وكان قد هيئ بأحسن هيئة، وحليت أباعره، وألبست الأحلاس الموشاة والجلال المصبغة وقلدت العهن، وجعلت البدر بالحرير الصيني الأحمر والأخضر والأصفر، وأبديت رءوسها قَالَ: فنظر المأمون إلى شيء حسن، واستكثر ذلك، فعظم في عينه، واستشرفه الناس ينظرون إليه، ويعجبون منه، فقال المأمون ليحيى: يا أبا محمد، ينصرف أصحابنا هؤلاء الذين تراهم الساعة خائبين الى منازلهم،

وننصرف بهذه الأموال قد ملكناها دونهم! إنا إذا للئام ثم دعا محمد بْن يزداد، فقال له: وقع لآل فلان بألف ألف، ولآل فلان بمثلها، ولال فلان بمثلها قال: فو الله إن زال كذلك حتى فرق أربعة وعشرين ألف ألف درهم ورجله في الركاب، ثم قَالَ: ادفع الباقي إلى المعلى يعطي جندنا قَالَ العيشي: فجئت حتى قمت نصب عينه، فلم أرد طرفي عنها، لا يلحظني إلا رآني بتلك الحال فقال: يا أبا محمد، وقع لهذا بخمسين ألف درهم من الستة الآلاف الف، لا يختلس ناظري قَالَ: فلم يأت علي ليلتان حتى أخذت المال. وذكر عن محمد بْن أيوب بْن جعفر بْن سليمان، أنه كان بالبصرة رجل من بني تميم، وكان شاعرا ظريفا خبيثا منكرا، وكنت أنا والي البصرة، أنس به وأستحليه، فأردت أن أخدعه واستنزله، فقلت له: أنت شاعر وأنت ظريف، والمأمون أجود من السحاب الحافل والريح العاصف، فما يمنعك منه؟ قَالَ: ما عندي ما يقلني، قلت: فأنا أعطيك نجيبا فارها، ونفقة سابغة، وتخرج إليه وقد امتدحته، فإنك إن حظيت بلقائه، صرت إلى أمنيتك قَالَ: والله أيها الأمير ما أخالك أبعدت، فأعد لي ما ذكرت. قَالَ: فدعوت له بنجيب فاره، فقلت: شأنك به فامتطه، قَالَ: هذه إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، فما بال الاخرى! فدعوت له بثلاثمائة درهم، وقلت: هذه نفقتك، قَالَ: أحسبك أيها الأمير قصرت في النفقة، قلت: لا، هي كافية، وإن قصرت عن السرف قَالَ: ومتى رأيت في أكابر سعد سرفا حتى تراه في أصاغرها! فأخذ النجيب والنفقة، ثم عمل ارجوزه ليست بالطويله، فانشد فيها وحذف منها ذكري والثناء علي- وكان ماردا- فقلت له: ما صنعت شيئا قَالَ: وكيف؟ قلت: تأتي الخليفة ولا تثني على أميرك! قال: أيها الأمير أردت أن تخدعني فوجدتني خداعا، ولمثلها ضرب هذا المثل: من ينك العير ينك نياكا، أما والله ما لكرامتي حملتني على نجيبك، ولا جدت لي بمالك الذي ما رامه أحد قط إلا جعل الله خده الأسفل، ولكن لأذكرك

في شعري وأمدحك عند الخليفة، أفهم هذا قلت: قد صدقت، فقال: أما إذ أبديت ما في ضميرك، فقد ذكرتك، وأثنيت عليك، فقلت: فأنشدني ما قلت، فأنشدنيه، فقلت: أحسنت، ثم ودعني وخرج فأتى الشام، وإذا المأمون بسلغوس قَالَ: فأخبرني، قَالَ: بينا أنا في غزاة قرة، قد ركبت نجيبي ذاك، ولبست مقطعاتي، وأنا أروم العسكر، فإذا أنا بكهل على بغل فاره ما يقر قراره، ولا يدرك خطاه قال: فلتقانى مكافحة ومواجهة، وأنا أردد نشيد أرجوزتي، فقال: سلام عليكم- بكلام جهوري ولسان بسيط- فقلت: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، قَالَ: قف إن شئت، فوقفت فتضوعت منه رائحة العنبر والمسك الأذفر، فقال: ما أولك؟ قلت: رجل من مضر، قَالَ: ونحن من مضر، ثم قَالَ: ثم ماذا؟ قلت: رجل من بني تميم، قَالَ: وما بعد تميم؟ قلت: من بني سعد، قَالَ: هيه، فما أقدمك هذا البلد؟ قَالَ: قلت: قصدت هذا الملك الذي ما سمعت بمثله أندى رائحة، ولا أوسع راحة، ولا أطول باعا، ولا أمد يفاعا منه. قَالَ: فما الذي قصدته به؟ قلت: شعر طيب يلذ على الأفواه، وتقتفيه الرواة، ويحلو في آذان المستمعين، قَالَ: فأنشدنيه، فغضبت وقلت: يا ركيك، أخبرتك أني قصدت الخليفة بشعر قلته، ومديح حبرته، تقول: أنشدنيه! قَالَ: فتغافل والله عنها، وتطأمن لها، وألغى عن جوابها، قَالَ: وما الذي تأمل منه؟ قلت: إن كان على ما ذكر لي عنه فألف دينار، قَالَ: فأنا أعطيك ألف دينار إن رأيت الشعر جيدا والكلام عذبا وأضع عنك العناء، وطول الترداد، ومنى تصل إلى الخليفة وبينك وبينه عشرة آلاف رامح ونابل! قلت: فلي الله عليك أن تفعل! قَالَ: نعم لك الله علي أن أفعل، قلت: ومعك الساعة مال؟ قَالَ: هذا بغلي وهو خير من ألف دينار، أنزل لك عن ظهره، قَالَ: فغضبت أيضا وعارضني نرق سعد وخفة أحلامها، فقلت: ما يساوي هذا البغل هذا النجيب! قَالَ:

فدع عنك البغل، ولك الله علي أن أعطيك الساعة ألف دينار، قَالَ: فأنشدته: مأمون يا ذا المنن الشريفه ... وصاحب المرتبة المنيفه وقائد الكتيبة الكثيفه ... هل لك في أرجوزة ظريفه أظرف من فقه أبي حنيفه ... لا والذي أنت له خليفه ما ظلمت في أرضنا ضعيفه ... أميرنا مؤنته خفيفه وما اجتبى شيئا سوى الوظيفه ... فالذئب والنعجة في سقيفه واللص والتاجر في قطيفه. قال: فو الله ما عدا ان انشدته، فإذا زهاء عشرة آلاف فارس قد سدوا الأفق، يقولون: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وبركاته! قَالَ: فأخذني أفكل، ونظر إلي بتلك الحال، فقال: لا بأس عليك أي أخي، قلت: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! أتعرف لغات العرب؟ قَالَ: أي لعمر الله، قلت: فمن جعل الكاف منهم مكان القاف؟ قَالَ: هذه حمير، قلت: لعنها الله، ولعن من استعمل هذه اللغة بعد اليوم! فضحك المأمون، وعلم ما أردت، والتفت إلى خادم إلى جانبه، فقال: أعطه ما معك، فأخرج إلي كيسا فيه ثلاثة آلاف دينار، فقال: هاك، ثم قَالَ: السلام عليك، ومضى فكان آخر العهد به. وقال أبو سعيد المخزومي: هل رأيت النجوم أغنت عن المأمون ... شيئا أو ملكه المأسوس خلفوه بعرصتي طرسوس ... مثل ما خلفوا أباه بطوس وقال علي بْن عبيدة الريحاني: ما أقل الدموع للمأمون ... لست أرضى إلا دما من جفوني

وذكر أبو موسى هارون بْن محمد بْن اسماعيل بن موسى الهادي ان على ابن صالح حدثه، قَالَ: قَالَ لي المأمون يوما: أبغني رجلا من أهل الشام، له أدب، يجالسني ويحدثني، فالتمست ذلك فوجدته، فدعوته فقلت له: إني مدخلك على أمير المؤمنين، فلا تسأله عن شيء حتى يبتدئك، فإني أعرف الناس بمسألتكم يا أهل الشام، فقال: ما كنت متجاوزا ما أمرتني به. فدخلت على المأمون، فقلت له: قد أصبت الرجل يا أمير المؤمنين، فقال: أدخله، فدخل فسلم، ثم استدناه- وكان المأمون على شغله من الشراب- فقال له: إني أردتك لمجالستي ومحادثنى، فقال الشامي: يا أمير المؤمنين، إن الجليس إذا كانت ثيابه دون ثياب جليسه دخله لذلك غضاضة، قَالَ: فأمر المأمون أن يخلع عليه، قَالَ: فدخلني من ذلك ما الله به أعلم، قَالَ: فلما خلع عليه، ورجع إلى مجلسه، قَالَ: يا أمير المؤمنين، إن قلبي إذا كان متعلقا بعيالي لم تنتفع بمحادثتي، قَالَ: خمسون ألفا تحمل إلى منزله، ثم قَالَ: يا أمير المؤمنين، وثالثة، قَالَ: وما هي؟ قَالَ: قد دعوت بشيء يحول بين المرء وعقله، فإن كانت مني هنة فاغتفرها، قَالَ: وذاك! قَالَ علي: فكأن الثالثة جلت عني ما كان بي. وذكر أبو حشيشة محمد بْن علي بْن أمية بْن عمرو، قَالَ: كنا قدام أمير المؤمنين المأمون بدمشق، فغنى علويه: برئت من الإسلام إن كان ذا الذى ... أتاك به الواشوان عني كما قالوا ولكنهم لما رأوك سريعة ... إلي، تواصوا بالنميمة واحتالوا فقال: يا علويه، لمن هذا الشعر؟ فقال: للقاضي، قَالَ: أي قاض ويحك! قَالَ: قاضي دمشق، فقال: يا أبا إسحاق، اعزله، قَالَ: قد عزلته، قَالَ: فيحضر الساعة قَالَ: فأحضر شيخ مخضوب قصير، فقال له المأمون: من تكون؟ قال: فلان ابن فلان الفلاني، قَالَ: تقول الشعر؟ قَالَ: قد كنت أقوله، فقال: يا علويه، أنشده الشعر، فانشده، فقال:

هذا الشعر لك؟ قَالَ: نعم يا أمير المؤمنين، ونساؤه طوالق وكل ما يملك في سبيل الله إن كان قَالَ الشعر منذ ثلاثون سنة إلا في زهد أو معاتبة صديق، فقال: يا أبا إسحاق اعزله، فما كنت أولى رقاب المسلمين من يبدأ في هزله بالبراءة من الإسلام ثم قَالَ: اسقوه، فأتي بقدح فيه شراب، فأخذه وهو يرتعد، فقال: يا أمير المؤمنين ما ذقته قط، قَالَ: فلعلك تريد غيره! قَالَ: لم أذق منه شيئا قط، قَالَ: فحرام هو؟ قَالَ: نعم يا أمير المؤمنين، قَالَ: أولى لك! بها نجوت، اخرج ثم قَالَ: يا علويه، لا تقل: برئت من الإسلام، ولكن قل: حرمت مناي منك إن كان ذا الذي ... أتاك به الواشون عني كما قالوا قَالَ: وكنا مع المأمون بدمشق، فركب يريد جبل الثلج، فمر ببركة عظيمة من برك بني أمية، وعلى جوانبها أربع سروات، وكان الماء يدخلها سيحا، ويخرج منها، فاستحسن المأمون الموضع، فدعا ببزماورد ورطل، وذكر بني أمية، فوضع منهم وتنقصهم، فأقبل علويه على العود، واندفع يغني: أولئك قومي بعد عز وثروة ... تفانوا فألا أذرف العين أكمدا فضرب المأمون الطعام برجله، ووثب وقال لعلويه: يا بن الفاعلة، لم يكن لك وقت تذكر فيه مواليك إلا في هذا الوقت! فقال: مولاكم زرياب عند موالي يركب في مائة غلام، وأنا عندكم أموت من الجوع! فغضب عليه عشرين يوما، ثم رضي عنه. قَالَ: وزرياب مولى المهدي، صار إلى الشام ثم صار إلى المغرب، إلى بني أمية هناك. وذكر السليطي أبو علي، عن عمارة بْن عقيل، قَالَ: أنشدت المأمون قصيدة فيها مديح له، هي مائة بيت، فابتدئ بصدر البيت فيبادرني الى قافيته

كما قفيته، فقلت: والله يا أمير المؤمنين، ما سمعها مني أحد قط، قَالَ: هكذا ينبغي أن يكون، ثم أقبل علي، فقال لي: أما بلغك أن عمر بْن أبي ربيعة أنشد عبد الله بْن العباس قصيدته التي يقول فيها. تشط غدا دار جيراننا. فقال ابن العباس وللدار بعد غد أبعد. حتى أنشده القصيدة، يقفيها ابن عباس! ثم قَالَ: أنا ابن ذاك. وذكر عن أبي مروان كازر بْن هارون، أنه قَالَ: قَالَ المأمون: بعثتك مرتادا ففزت بنظرة ... وأغفلتني حتى أسأت بك الظنا فناجيت من أهوى وكنت مباعدا ... فيا ليت شعري عن دنوك ما اغنى! أرى أثرا منه بعينيك بينا ... لقد أخذت عيناك من عينه حسنا قَالَ أبو مروان: وإنما عول المأمون في قوله في هذا المعنى على قول العباس ابن الأحنف، فإنه اخترع: إن تشق عيني بها فقد سعدت ... عين رسولي، وفزت بالخبر وكلما جاءني الرسول لها ... رددت عمدا في طرفه نظري تظهر في وجهه محاسنها ... قد أثرت فيه أحسن الأثر خذ مقلتي يا رسول عارية ... فانظر بها واحتكم على بصري قَالَ أبو العتاهية: وجه إلي المأمون يوما، فصرت إليه، فألفيته مطرقا مفكرا، فأحجمت عن الدنو منه في تلك الحال، فرفع رأسه، فنظر إلي وأشار بيده، أن ادن، فدنوت ثم أطرق مليا، ورفع رأسه، فقال: يا أبا إسحاق، شأن النفس الملل وحب الاستطراف، تأنس بالوحدة كما تأنس بالألفة، قلت: أجل يا أمير المؤمنين، ولي في هذا بيت، قَالَ: وما هو؟ قلت:

لا يصلح النفس إذ كانت مقسمة ... إلا التنقل من حال إلى حال وذكر عن أبي نزار الضرير الشاعر أنه قَالَ: قَالَ لي علي بْن جبلة: قلت لحميد بْن عبد الحميد: يا أبا غانم، قد امتدحت أمير المؤمنين بمدح لا يحسن مثله أحد من أهل الأرض، فاذكرني له، فقال: أنشدنيه، فأنشدته، فقال: أشهد أنك صادق، فأخذ المديح فأدخله على المأمون، فقال: يا أبا غانم، الجواب في هذا واضح، إن شاء عفونا عنه وجعلنا ذلك ثوابا بمديحه، وإن شاء جمعنا بين شعره فيك وفي أبي دلف القاسم بْن عيسى، فإن كان الذي قَالَ فيك وفيه أجود من الذي مدحنا به ضربنا ظهره، وأطلنا حبسه، وإن كان الذي قَالَ فينا أجود أعطيته بكل بيت من مديحه ألف درهم، وإن شاء أقلناه فقلت: يا سيدي، ومن أبو دلف! ومن أنا حتى يمدحنا بأجود من مديحك! فقال: ليس هذا الكلام من الجواب عن المسألة في شيء، فاعرض ذلك على الرجل قَالَ علي بْن جبلة: فقال لي حميد: ما ترى؟ قلت: الا قاله أحب إلي، فأخبر المأمون، فقال: هو أعلم، قَالَ حميد: فقلت لعلي بْن جبلة: إلى أي شيء ذهب في مدحك أبا دلف وفي مدحك لي؟ قَالَ: إلى قول في أبي دلف: إنما الدنيا أبو دلف ... بين مغزاه ومحتضره فإذا ولى أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره وإلى قولي فيك: لولا حميد لم يكن ... حسب يعد ولا نسب يا واحد العرب الذي ... عزت بعزته العرب قَالَ: فأطرق حميد ساعة، ثم قَالَ: يا أبا الحسن، لقد انتقد عليك أمير المؤمنين وأمر لي بعشرة آلاف درهم وحملان وخلعة وخادم، وبلغ ذلك

أبا دلف فأضعف لي العطية، وكان ذلك منهما في ستر لم يعلم به أحد إلى أن حدثتك يا أبا نزار بهذا. قَالَ أبو نزار: وظننت أن المأمون تعقد عليه هذا البيت في أبي دلف: تحدر ماء الجود من صلب آدم ... فأثبته الرحمن في صلب قاسم وذكر عن سليمان بْن رزين الخزاعي، ابن أخي دعبل، قَالَ: هجا دعبل المأمون، فقال: ويسومني المأمون خطة عارف ... أو ما رأى بالأمس رأس محمد يوفي على هام الخلائف مثل ما ... يوفي الجبال على رءوس القردد ويحل في أكناف كل ممنع ... حتى يذلل شاهقا لم يصعد إن الترات مسهد طلابها ... فاكفف لعابك عن لعاب الأسود فقيل للمأمون: إن دعبلا هجاك، فقال: هو يهجو أبا عباد لا يهجوني. يريد حدة أبي عباد، وكان أبو عباد إذا دخل على المأمون كثيرا ما يضحك المأمون، ويقول له: ما أراد دعبل منك حين يقول: وكأنه من دير هزقل مفلت ... حرد يجر سلاسل الأقياد

وكان المأمون يقول لإبراهيم بْن شكلة إذا دخل عليه: لقد أوجعك دعبل حين يقول: إن كان إبراهيم مضطلعا بها ... فلتصلحن من بعده لمخارق ولتصلحن من بعد ذاك لزلزل ... ولتصلحن من بعده للمارق أنى يكون ولا يكون ولم يكن ... لينال ذلك فاسق عن فاسق! وذكر محمد بْن الهيثم الطائي أن القاسم بْن محمد الطيفوري حدثه، قَالَ: شكا اليزيدي إلى المأمون خلة أصابته، ودينا لحقه، فقال: ما عندنا في هذه الأيام ما أن أعطيناكه بلغت به ما تريد، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الأمر قد ضاق علي، وإن غرمائي قد أرهقوني قَالَ: فرم لنفسك أمرا تنال به نفعا فقال: لك منادمون فيهم من أن حركته نلت منه ما أحب، فأطلق لي الحيلة فيهم، قَالَ: قل ما بدا لك، قَالَ: فإذا حضروا وحضرت فمر فلانا الخادم أن يوصل إليك رقعتي، فإذا قرأتها، فأرسل إلي: دخولك في هذا الوقت متعذر، ولكن اختر لنفسك من أحببت قَالَ: فلما علم أبو محمد بجلوس المأمون واجتماع ندمائه إليه، وتيقن أنهم قد ثملوا من شربهم، أتى الباب، فدفع إلى ذلك الخادم رقعة قد كتبها، فأوصلها له إلى المأمون، فقرأها فإذا فيها: يا خير إخواني وأصحابي ... هذا الطفيلي لدى الباب خبر أن القوم في لذة ... يصبو إليها كل أواب فصيروني واحدا منكم ... أو أخرجوا لي بعض أترابي

قَالَ: فقرأها المأمون على من حضره، فقالوا: ما ينبغي أن يدخل هذا الطفيلي على مثل هذه الحال فأرسل إليه المأمون: دخولك في هذا الوقت متعذر، فاختر لنفسك من أحببت تنادمه، فقال: ما أرى لنفسي اختيارا غير عبد الله بْن طاهر، فقال له المأمون: قد وقع اختياره عليك، فصر إليه، قَالَ: يا أمير المؤمنين، فأكون شريك الطفيلي! قَالَ: ما يمكن رد أبي محمد عن أمرين، فإن أحببت أن تخرج، وإلا فافتد نفسك، قَالَ: فقال: يا أمير المؤمنين، له علي عشرة آلاف درهم، قَالَ: لا أحسب ذلك يقنعه منك ومن مجالستك، قَالَ: فلم يزل يزيده عشرة عشرة، والمأمون يقول له: لا أرضى له بذلك، حتى بلغ المائة ألف قَالَ: فقال له المأمون: فعجلها له، قَالَ: فكتب له بها إلى وكيله، ووجه معه رسولا، فأرسل إليه المأمون: قبض هذه في هذه الحال أصلح لك من منادمته على مثل حاله، وأنفع عاقبة. وذكر عن محمد بْن عبد الله صاحب المراكب قَالَ: أخبرني ابى عن صالح بن الرشيد، قَالَ: دخلت على المأمون، ومعي بيتان للحسين بْن الضحاك، فقلت: يا أمير المؤمنين، أحب أن تسمع مني بيتين، قَالَ: أنشدهما، قَالَ: فأنشده صالح: حمدنا الله شكرا إذ حبانا ... بنصرك يا أمير المؤمنينا فأنت خليفة الرحمن حقا ... جمعت سماحة وجمعت دينا فاستحسنهما المأمون، وقال: لمن هذان البيتان يا صالح؟ قلت: لعبدك يا أمير المؤمنين الحسين بْن الضحاك، قَالَ: قد أحسن، قلت: وله يا أمير المؤمنين ما هو أجود من هذا، قَالَ: وما هو؟ فأنشدته: أيبخل فرد الحسن فرد صفاته ... علي، وقد أفردته بهوى فرد! رأى الله عبد الله خير عباده ... فملكه والله أعلم بالعبد وذكر عن عمارة بْن عقيل، أنه قَالَ: قَالَ لي عبد الله بْن أبي السمط:

علمت أن المأمون لا يبصر الشعر، قَالَ: قلت: ومن ذا يكون اعلم منه! فو الله إنك لترانا ننشده أول البيت فيسبقنا إلى آخره، قال: أنشدته بيتا أجدت فيه، فلم أره تحرك له، قَالَ: قلت: وما الذي أنشدته؟ قَالَ: أنشدته: أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلا ... بالدين والناس بالدنيا مشاغيل قَالَ: فقلت له: إنك والله ما صنعت شيئا، وهل زدت على أن جعلته عجوزا في محرابها، في يدها سبحتها! فمن القائم بأمر الدنيا إذا تشاغل عنها، وهو المطوق بها! هلا قلت فيه كما قَالَ عمك جرير في عبد العزيز ابن الوليد: فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ... ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله فقال: الآن علمت أني قد أخطأت. وذكر عن محمد بن ابراهيم السيارى قَالَ: لما قدم العتابي على المأمون مدينة السلام أذن له، فدخل عليه، وعنده إسحاق بْن إبراهيم الموصلي- وكان شيخا جليلا- فسلم عليه، فرد ع، وأدناه وقربه حتى قرب منه، فقبل يده، ثم أمره بالجلوس فجلس، وأقبل عليه يسائله عن حاله، فجعل يجيبه بلسان طلق، فاستطرف المأمون ذلك، فأقبل عليه بالمداعبة والمزاح، فظن الشيخ أنه استخف به، فقال: يا أمير المؤمنين، الإبساس قبل الإيناس قَالَ: فاشتبه على المأمون الإبساس، فنظر إلى إسحاق بْن إبراهيم، ثم قَالَ: نعم، يا غلام ألف دينار، فأتى بها، ثم صبت بين يدي العتابي، ثم

أخذوا في المفاوضة والحديث، وغمز عليه إسحاق بْن إبراهيم، فأقبل لا يأخذ العتابي في شيء إلا عارضه إسحاق بأكثر منه، فبقي متعجبا، ثم قال: يا امير المؤمنين، ايذن لي في مسألة هذا الشيخ عن اسمه، قَالَ: نعم، سله، قَالَ: يا شيخ، من أنت؟ وما اسمك؟ قَالَ: أنا من الناس، واسمي كل بصل، قَالَ: أما النسبة فمعروفة، وأما الاسم فمنكر، وما كل بصل من الأسماء؟ فقال له إسحاق: ما أقل إنصافك! وما كل ثوم من الأسماء! البصل أطيب من الثوم، فقال العتابي: لله درك! ما أحجك! يا أمير المؤمنين، ما رأيت كالشيخ قط، أتأذن لي في صلته بما وصلني به أمير المؤمنين، فقد والله غلبني! فقال المأمون: بل هذا موفر عليك، ونأمر له بمثله، فقال له إسحاق: اما إذا أقررت بهذه فتوهمني تجدني، فقال: والله ما أظنك إلا الشيخ الذي يتناهى إلينا خبره من العراق، ويعرف بابن الموصلي! قَالَ: أنا حيث ظننت، فأقبل عليه بالتحية والسلام، فقال المأمون وقد طال الحديث بينهما: أما إذا اتفقتما على الصلح والمودة، فقوما فانصرفا متنادمين، فانصرف العتابي إلى منزل إسحاق فأقام عنده. وذكر عن محمد بْن عبد الله بْن جشم الربعي أن عمارة بْن عقيل قَالَ: قَالَ لي المأمون يوما وأنا أشرب عنده: ما أخبثك يا أعرابي! قَالَ: قلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ وهمتني نفسي، قَالَ: كيف قلت: قالت مفداه لما أن رأت أرقي ... والهم يعتادني من طيفه لمم نهبت مالك في الأدنين آصرة ... وفي الأباعد حتى حفك العدم

فاطلب إليهم ترى ما كنت من حسن ... تسدي إليهم فقد باتت لهم صرم فقلت عذلك قد أكثرت لائمتي ... ولم يمت حاتم هزلا ولا هرم فقال لي المأمون: أين رميت بنفسك إلى هرم بْن سنان سيد العرب وحاتم الطائي! فعلا كذا وفعلا كذا، وأقبل ينثال علي بفضلهما، قَالَ: فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا خير منهما، أنا مسلم وكانا كافرين، وأنا رجل من العرب. وذكر عن محمد بْن زكرياء بْن ميمون الفرغاني، قَالَ: قَالَ المأمون لمحمد بْن الجهم: أنشدني ثلاثة أبيات في المديح والهجاء والمراثي، ولك بكل بيت كورة، فأنشده في المديح: يجود بالنفس إذ ضن الجواد بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود وأنشده في الهجاء: قبحت مناظرهم فحين خبرتهم ... حسنت مناظرهم لقبح المخبر وأنشده في المراثي: أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه ... فطيب تراب القبر دل على القبر وذكر عن العباس بْن أحمد بْن أبان بْن القاسم الكاتب، قَالَ: أخبرني الحسين بْن الضحاك، قَالَ: قَالَ لي علويه: أخبرك أنه مر بي مرة ما أيست من نفسي معه لولا كرم المأمون، فإنه دعا بنا، فلما أخذ فيه النبيذ، قَالَ: غنوني، فسبقني مخارق، فاندفع فغنى صوتا لابن سريج في شعر جرير:

لما تذكرت بالديرين أرقني ... صوت الدجاج وضرب بالنواقيس فقلت للركب إذ جد المسير بنا ... يا بعد يبرين من باب الفراديس! قال: فحين لي ان تغنيت، وكان قد هم بالخروج إلى دمشق يريد الثغر: الحين ساق إلى دمشق وما ... كانت دمشق لأهلها بلدا فضرب بالقدح الأرض، وقال: ما لك! عليك لعنة الله ثم قَالَ: يا غلام، أعط مخارقا ثلاثة آلاف درهم، وأخذ بيدي فأقمت وعيناه تدمعان، وهو يقول للمعتصم: هو والله آخر خروج، ولا أحسبني أن أرى العراق ابدا، فكان والله آخر عهده بالعراق عند خروجه كما قال.

خلافه ابى إسحاق المعتصم محمد بن هارون الرشيد

خلافة أبي إسحاق المعتصم محمد بْن هارون الرشيد وفي هذه السنة بويع لأبي إسحاق محمد بْن هارون الرشيد بْن محمد المهدي ابن عبد الله المنصور بالخلافة، وذلك يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ثمان عشرة ومائتين وذكر أن الناس كانوا قد أشفقوا من منازعه العباس بن المأمون له في الخلافة، فسلموا من ذلك. ذكر أن الجند شغبوا لما بويع لأبي إسحاق بالخلافة، فطلبوا العباس ونادوه باسم الخلافة، فأرسل أبو إسحاق إلى العباس فأحضره، فبايعه ثم خرج إلى الجند، فقال: ما هذا الحب البارد! قد بايعت عمي، وسلمت الخلافة إليه، فسكن الجند. وفيها أمر المعتصم بهدم ما كان المأمون أمر ببنائه بطوانة، وحمل ما كان بها من السلاح والآلة وغير ذلك مما قدر على حمله، وأحرق ما لم يقدر على حمله، وأمر بصرف من كان المأمون أسكن ذلك من الناس إلى بلادهم. وفيها انصرف المعتصم إلى بغداد، ومعه العباس بن المأمون، فقدمها- فيما ذكر- يوم السبت مستهل شهر رمضان. وفيها دخل- فيما ذكر- جماعة كثيرة من أهل الجبال من همذان وأصبهان وماسبذان ومهرجانقذق في دين الخرمية، وتجمعوا، فعسكروا في عمل همذان، فوجه المعتصم إليهم عساكر، فكان آخر عسكر وجه إليهم

أخبار متفرقة

عسكر وجهه مع إسحاق بْن إبراهيم بْن مصعب، وعقد له على الجبال في شوال في هذه السنة، فشخص إليهم في ذي القعدة، وقرئ كتابه بالفتح يوم التروية، وقتل في عمل همذان ستين ألفا، وهرب باقيهم الى بلاد الروم. [أخبار متفرقة] وحج بالناس في هذه السنة صالح بْن العباس بْن محمد، وضحى أهل مكة يوم الجمعه، واهل بغداد يوم السبت.

الجزء التاسع

الجزء التاسع سنه 219 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر خلاف محمد بن القاسم العلوي فمن ذلك ما كان من ظهور محمد بن القاسم بن عمر بن على بن الحسين ابن علي بن أبي طالب بالطالقان من خراسان، يدعو الى الرضا من آل محمد ص، فاجتمع إليه بها ناس كثير، وكانت بينه وبين قواد عبد الله بن طاهر وقعات بناحية الطالقان وجبالها، فهزم هو وأصحابه، فخرج هاربا يريد بعض كور خراسان، كان أهله كاتبوه، فلما صار بنسا، وبها والد لبعض من معه، مضى الرجل الذي معه من أهل نسا إلى والده ليسلم عليه، فلما لقي أباه سأله عن الخبر، فأخبره بأمرهم، وأنهم يقصدون كورة كذا، فمضى أبو ذلك الرجل إلى عامل نسا، فأخبره بأمر محمد بن القاسم، فذكر أن العامل بذل له عشرة آلاف درهم على دلالته عليه فدله عليه، فجاء العامل إلى محمد بن القاسم، فأخذه واستوثق منه، وبعث به إلى عبد الله بن طاهر، فبعث به عبد الله بن طاهر إلى المعتصم، فقدم به عليه يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر، فحبس- فيما ذكر- بسامرا عند مسرور الخادم الكبير في محبس ضيق، يكون قدر ثلاث أذرع في ذراعين، فمكث فيه ثلاثة أيام، ثم حول إلى موضع أوسع من ذلك، وأجري عليه طعام، ووكل به قوم يحفظونه، فلما كان ليلة الفطر، واشتغل الناس بالعيد والتهنئة احتال للخروج، ذكر أنه هرب من الحبس بالليل، وأنه دلي إليه حبل من كوة كانت في أعلى البيت، يدخل عليه منها الضوء، فلما أصبحوا أتوا بالطعام

ذكر الخبر عن محاربه الزط

للغداء افتقد، فذكر أنه جعل لمن دل عليه مائة ألف درهم، وصاح بذلك الصائح، فلم يعرف له خبر. وفي هذه السنة قدم إسحاق بن إبراهيم بغداد من الجبل، يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى، ومعه الأسرى من الخرمية والمستأمنة. وقيل: إن إسحاق بن ابراهيم قتل منهم في محاربته إياهم نحوا من مائة ألف، سوى النساء والصبيان . ذكر الخبر عن محاربه الزط وفي هذه السنة وجه المعتصم عجيف بن عنبسة في جمادى الآخرة منها لحرب الزط الذين كانوا قد عاثوا في طريق البصرة، فقطعوا فيه الطريق، واحتملوا الغلات من البيادر بكسكر وما يليها من البصرة، وأخافوا السبيل، ورتب الخيل في كل سكة من سكك البرد تركض بالأخبار، فكان الخبر يخرج من عند عجيف، فيصل إلى المعتصم من يومه، وكان الذي يتولى النفقة على عجيف من قبل المعتصم محمد بن منصور كاتب إبراهيم بن البختري، فلما صار عجيف إلى واسط، ضرب عسكره بقرية أسفل واسط يقال لها الصافية في خمسة آلاف رجل، وصار عجيف إلى نهر يحمل من دجلة يقال له بردودا، فلم يزل مقيما عليه حتى سده وقيل إن عجيفا إنما ضرب عسكره بقرية أسفل واسط يقال لها نجيدا، ووجه هارون بن نعيم ابن الوضاح القائد الخراساني إلى موضع يقال له الصافية في خمسة آلاف رجل، ومضى عجيف في خمسة آلاف إلى بردودا، فأقام عليه حتى سده وسد أنهارا أخر كانوا يدخلون منها ويخرجون، فحصرهم من كل وجه، وكان من الأنهار التي سدها عجيف، نهر يقال له العروس، فلما أخذ عليهم طرقهم حاربهم، وأسر منهم خمسمائة رجل، وقتل منهم في المعركة ثلاثمائة

رجل، فضرب أعناق الأسرى، وبعث برءوس جميعهم إلى باب المعتصم، ثم أقام عجيف بإزاء الزط خمسة عشر يوما، فظفر منهم بخلق كثير وكان رئيس الزط رجلا يقال له محمد بن عثمان، وكان صاحب أمره والقائم بالحرب سملق، ومكث عجيف يقاتلهم- فيما قيل- تسعة أشهر. وحج بالناس في هذه السنة صالح بْن العباس بن محمد.

سنه عشرين ومائتين

ثم دخلت سنة عشرين ومائتين (ذكر ما كان فيها من الاحداث) ذكر ظفر عجيف بالزط فمن ذلك ما كان من دخول عجيف بالزط بغداد، وقهره إياهم حتى طلبوا منه الأمان فآمنهم، فخرجوا إليه في ذي الحجة سنة تسع عشرة ومائتين على أنهم آمنون على دمائهم وأموالهم، وكانت عدتهم- فيما ذكر- سبعة وعشرين ألفا، المقاتلة منهم اثنا عشر ألفا، وأحصاهم عجيف سبعة وعشرين ألف إنسان، بين رجل وامرأة وصبي، ثم جعلهم في السفن، وأقبل بهم حتى نزل الزعفرانية، فأعطى اصحابه دينارين دينارين جائزه، واقام بها يوما، ثم عباهم في زواريقهم على هيئتهم في الحرب، معهم البوقات، حتى دخل بهم بغداد يوم عاشوراء سنة عشرين ومائتين والمعتصم بالشماسية في سفينة يقال لها الزو، حتى مر به الزط على تعبئتهم ينفخون بالبوقات، فكان أولهم بالقفص وآخرهم بحذاء الشماسية، وأقاموا في سفنهم ثلاثة أيام، ثم عبر بهم إلى الجانب الشرقي، فدفعوا إلى بشر بن السميدع، فذهب بهم إلى خانقين، ثم نقلوا إلى الثغر إلى عين زربة، فأغارت عليهم الروم، فاجتاحوهم فلم يفلت منهم أحد، فقال شاعرهم: يا أهل بغداد موتوا دام غيظكم ... شوقا إلى تمر برني وشهريز نحن الذين ضربناكم مجاهرة ... قسرا وسقناكم سوق المعاجيز لم تشكروا الله نعماه التي سلفت ... ولم تحوطوا إياديه بتعزيز فاستنصروا العبد من أبناء دولتكم ... من يازمان ومن بلج ومن توز ومن شناس وأفشين، ومن فرج ... المعلمين بديباج وابريز

ذكر خبر مسير الافشين لحرب بابك

واللابسى كيمخار الصين قد خرطت ... أردانه درز برواز الدخاريز والحاملين الشكي نيطت علائقها ... إلى مناطق خاص غير مخروز يفري ببيض من الهندي هامهم ... بنو بهلة في أبناء فيروز فوارس خيلها دهم مودعة ... على الخراطيم منها والفراريز مسخرات لها في الماء أجنحة ... كالآبنوس إذا استحضرن والشيز متى تروموا لنا في غمر لجتنا ... حذرا نصيدكم صيد المعافيز او اختطافا وازهاقا كما اختطفت ... طير الدحال حثاثا بالمناقيز ليس الجلاد جلاد الزط فاعترفوا ... أكل الثريد ولا شرب القواقيز نحن الذين سقينا الحرب درتها ... ونقنقنا مقاساه الكواليز لنسفعنكم سفعا يذل له ... رب السرير ويشجي صاحب التيز فابكوا على التمر أبكى الله أعينكم ... في كل اضحى، وفي فطر ونيروز ذكر خبر مسير الافشين لحرب بابك وفي هذه السنه عقد المعتصم للافشين خيذر بن كاوس على الجبال، ووجه به لحرب بابك، وذلك يوم الخميس لليلتين خلتا من جمادى الآخرة، فعسكر بمصلى بغداد، ثم صار إلى برزند. ذكر الخبر عن أمر بابك ومخرجه: ذكر أن ظهور بابك كان في سنه احدى ومائتين، وكانت قريته ومدينته البذ، وهزم من جيوش السلطان، وقتل من قواده جماعة، فلما أفضى الأمر إلى المعتصم، وجه أبا سعيد محمد بن يوسف إلى أردبيل، وأمره أن يبني الحصون التي خربها بابك فيما بين زنجان وأردبيل، ويجعل فيها الرجال مسالح لحفظ الطريق لمن يجلب الميرة إلى أردبيل، فتوجه أبو سعيد لذلك، وبنى الحصون التي خربها بابك، ووجه بابك سرية له في بعض غاراته، وصير أميرهم رجلا

يقال له معاوية، فخرج فأغار على بعض النواحي، ورجع منصرفا، فبلغ ذلك أبا سعيد محمد بن يوسف، فجمع الناس وخرج إليه يعترضه في بعض الطريق، فواقعه، فقتل من أصحابه جماعة، وأسر منهم جماعة، واستنقذ ما كان حواه، فهذه أول هزيمة كانت على اصحاب بابك ووجه ابو سعيد الرءوس والأسرى إلى المعتصم بالله. ثم كانت الأخرى لمحمد بن البعيث، وذلك أن محمد بن البعيث كان في قلعة له حصينة تسمى شاهي، كان ابن البعيث أخذها من الوجناء بن الرواد، عرضها نحو من فرسخين، وهي من كورة أذربيجان، وله حصن آخر في بلاد أذربيجان يسمى تبريز، وشاهي أمنعهما، وكان ابن البعيث مصالحا لبابك، إذا توجهت سراياه نزلت به فأضافهم، وأحسن إليهم حتى أنسوا به، وصارت لهم عادة ثم أن بابك وجه رجلا من اصحابه يقال له عصمه من اصبهبذته في سرية، فنزل بابن البعيث، فأنزل إليه ابن البعيث على العادة الجارية الغنم والإنزال وغير ذلك، وبعث إلى عصمة أن يصعد إليه في خاصته ووجوه أصحابه، فصعد فغداهم وسقاهم حتى أسكرهم، ثم وثب على عصمة فاستوثق منه، وقتل من كان معه من أصحابه، وأمره أن يسمى رجلا رجلا من أصحابه باسمه، فكان يدعى بالرجل باسمه فيصعد، ثم يأمر به فيضرب عنفه، حتى علموا بذلك، فهربوا ووجه ابن البعيث بعصمة إلى المعتصم- وكان البعيث أبو محمد صعلوكا من صعاليك ابن الرواد- فسأل المعتصم عصمة عن بلاد بابك، فأعلمه طرقها ووجوه القتال فيها، ثم لم يزل عصمة محبوسا إلى أيام الواثق ولما صار الأفشين إلى برزند عسكر بها، ورم الحصون فيما بين برزند وأردبيل، وأنزل محمد بن يوسف بموضع يقال له خش، فاحتفر فيه خندقا، وأنزل الهيثم الغنوي القائد من أهل الجزيرة في رستاق يقال له أرشق، فرم حصنه، وحفر حوله خندقا، وأنزل علويه الأعور من قواد الأبناء في حصن مما يلي أردبيل يسمى حصن النهر، فكانت السابلة

ذكر خبر وقعه الافشين مع بابك بارشق

والقوافل تخرج من أردبيل معها من يبذرقها حتى تصل إلى حصن النهر، ثم يبذرقها صاحب حصن النهر إلى الهيثم الغنوي، ويخرج هيثم فيمن جاء من ناحيته حتى يسلمه إلى أصحاب حصن النهر، ويبذرق من جاء من أردبيل حتى يصير الهيثم وصاحب حصن النهر في منتصف الطريق، فيسلم صاحب حصن النهر من معه إلى هيثم، ويسلم هيثم من معه إلى صاحب حصن النهر، فيسير هذا مع هؤلاء. وهذا مع هؤلاء وإن سبق أحدهما صاحبه إلى الموضع لم يجزه حتى يجيء الآخر، فيدفع كل واحد منهما من معه إلى صاحبه ليبذرقهم، هذا إلى أردبيل، وهذا إلى عسكر الأفشين، ثم يبذرق الهيثم الغنوي من كان معه إلى أصحاب أبي سعيد، وقد خرجوا فوقفوا على منتصف الطريق، معهم قوم، فيدفع أبو سعيد وأصحابه من معهم إلى الهيثم، ويدفع الهيثم من معه إلى أصحاب أبي سعيد، فيصير أبو سعيد وأصحابه بمن في القافلة إلى خش، وينصرف الهيثم وأصحابه بمن صار في أيديهم إلى أرشق حتى يصيروا به من غد، فيدفعوهم إلى علوية الأعور وأصحابه ليوصلوهم إلى حيث يريدون، ويصير أبو سعيد ومن معه إلى خش، ثم إلى عسكر الأفشين، فتلقاه صاحب سيارة الأفشين، فيقبض منه من في القافلة، فيؤديهم إلى عسكر الأفشين، فلم يزل الأمر جاريا على هذا، وكلما صار إلى أبي سعيد او الى أحد من المسالح أحد من الجواسيس وجهوا به إلى الأفشين، فكان الأفشين لا يقتل الجواسيس ولا يضربهم، ولكن يهب لهم ويصلهم ويسألهم ما كان بابك يعطيهم، فيضعفه لهم، ويقول للجاسوس: كن جاسوسا لنا. سنه 220 ذكر خبر وقعه الافشين مع بابك بارشق وفيها كانت وقعة بين بابك وأفشين بأرشق، قتل فيها الأفشين من

أصحاب بابك خلقا كثيرا، قيل أكثر من ألف، وهرب بابك إلى موقان، ثم شخص منها إلى مدينته التي تدعى البذ. ذكر الخبر عن سبب هذه الوقعة بين الأفشين وبابك: ذكر أن سبب ذلك أن المعتصم وجه مع بغا الكبير بمال إلى الأفشين عطاء لجنده وللنفقات، فقدم بغا بذلك المال إلى أردبيل، فلما نزل أردبيل بلغ بابك وأصحابه خبره، فتهيأ بابك وأصحابه ليقطعوا عليه قبل وصوله إلى الأفشين، فقدم صالح الجاسوس على الأفشين، فأخبره أن بغا الكبير قد قدم بمال، وان بابك واصحابه تهيئوا ليقتطعوه قبل وصوله إليك. وقيل: كان مجيء صالح إلى أبي سعيد، فوجه به أبو سعيد إلى الأفشين وهيأ بابك كمينا في مواضع، فكتب الأفشين إلى أبي سعيد يأمره أن يحتال لمعرفة صحة خبر بابك، فمضى أبو سعيد متنكرا هو وجماعة من أصحابه، حتى نظروا إلى النيران والوقود في المواضع التي وصفها لهم صالح، فكتب الأفشين إلى بغا، أن يقيم بأردبيل حتى يأتيه رأيه، وكتب أبو سعيد إلى الأفشين بصحة خبر صالح، فوعد الأفشين صالحا وأحسن إليه ثم كتب الأفشين إلى بغا أن يظهر أنه يريد الرحيل، ويشد المال على الإبل ويقطرها، ويسير متوجها من أردبيل، كأنه يريد برزند، فإذا صار إلى مسلحة النهر، أو سار شبيها بفرسخين، احتبس القطار حتى يجوز من صحب المال إلى برزند، فإذا جازت القافلة رجع بالمال إلى أردبيل ففعل ذلك بغا، وسارت القافلة حتى نزلت النهر، وانصرف جواسيس بابك اليه يعلمونه ان المال قد حمل، وعاينوه محمولا حتى صار إلى النهر، ورجع بغا بالمال إلى أردبيل، وركب الأفشين في اليوم الذي وعد فيه بغا عند العصر من برزند، فوافى خش مع غروب الشمس، فنزل معسكرا خارج خندق أبي سعيد، فلما أصبح ركب في سر، لم يضرب طبلا ولا نشر علما، وأمر أن يلف الأعلام، وأمر الناس بالسكوت، وجد في السير، ورحلت القافلة التي كانت توجهت في ذلك اليوم من النهر إلى ناحية الهيثم الغنوي، ورحل الأفشين

من خش يريد ناحية الهيثم ليصادفه في الطريق، ولم يعلم الهيثم بمن كان معه، فرحل بمن كان معه من القافلة يريد بها النهر. وتعبأ بابك في خيله ورجاله وعساكره، وصار على طريق النهر، وهو يظن ان المال موافيه، وخرج صاحب النهر ببذرق من قبله إلى الهيثم، فخرجت عليه خيل بابك، وهم لا يشكون أن المال معه، فقاتلهم صاحب النهر، فقتلوه وقتلوا من كان معه من الجند والسابلة، وأخذوا جميع ما كان معهم من المتاع وغيره، وعلموا أن المال قد فاتهم، وأخذوا علمه، وأخذوا لباس أهل النهر ودراريعهم وطراداتهم وخفاتينهم فلبسوها، وتنكروا ليأخذوا الهيثم الغنوي ومن معه أيضا، ولا يعلمون بخروج الأفشين، وجاءوا كأنهم أصحاب النهر، فلما جاءوا لم يعرفوا الموضع الذي كان يقف فيه علم صاحب النهر، فوقفوا في غير موضع صاحب النهر، وجاء الهيثم فوقف في موقفه، فأنكر ما رأى، فوجه ابن عم له، فقال له: اذهب إلى هذا البغيض، فقل له: لأي شيء وقوفك؟ فجاء ابن عم الهيثم، فلما رأى القوم أنكرهم لما دنا منهم، فرجع إلى الهيثم، فقال له: إن هؤلاء القوم لست أعرفهم، فقال له الهيثم: أخزاك الله! ما أجبنك! ووجه خمسة فرسان من قبله، فلما جاءوا وقربوا من بابك، خرج من الخرمية رجلان فتلقوهما وأنكروهما، وأعلموهما أنهم قد عرفوهما، ورجعوا إلى الهيثم ركضا، فقالوا: إن الكافر قد قتل علويه وأصحابه، وأخذوا أعلامهم ولباسهم، فرحل هيثم منصرفا، فأتى القافلة التي جاء بها معه، وأمرهم أن يركضوا ويرجعوا، لئلا يؤخذوا، ووقف هو في أصحابه، يسير بهم قليلا قليلا، ويقف بهم قليلا، ليشغل الخرمية عن القافلة، وصار شبيها بالحامية لهم، حتى وصلت القافلة إلى الحصن الذي يكون فيه الهيثم- وهو أرشق- وقال لأصحابه: من يذهب منكم إلى الأمير وإلى أبي سعيد فيعلمهما وله عشرة آلاف درهم وفرس بدل فرسه أن نفق فرسه فله مثل فرسه على مكانه؟ فتوجه رجلان من أصحابه على فرسين فارهين يركضان، ودخل الهيثم الحصن، وخرج بابك فيمن معه، فنزل بالحصن، ووضع له كرسي وجلس على شرف

بحيال الحصن، وأرسل إلى الهيثم: خل عن الحصن وانصرف حتى أهدمه. فأبى الهيثم وحاربه وكان مع الهيثم في الحصن ستمائه راجل وأربعمائة فارس، وله خندق حصين فقاتله، وقعد بابك فيمن معه، ووضع الخمر بين يديه ليشربها، والحرب مشتبكة كعادته، ولقي الفارسان الأفشين على أقل من فرسخ من أرشق، فساعة نظر إليهما من بعيد قال لصاحب مقدمته: أرى فارسين يركضان ركضا شديدا، ثم قال: اضربوا الطبل، وانشروا الأعلام، واركضوا نحو الفارسين ففعل أصحابه ذلك، وأسرعوا السير، وقال لهم: صيحوا بهما: لبيك لبيك! فلم يزل الناس في طلق واحد متراكضين، يكسر بعضهم بعضا حتى لحقوا بابك، وهو جالس، فلم يتدارك أن يتحول ويركب حتى وافته الخيل والناس، واشتبكت الحرب، فلم يفلت من رجالة بابك أحد، وأفلت هو في نفر يسير، ودخل موقان، وقد تقطع عنه أصحابه، وأقام الأفشين في ذلك الموضع، وبات ليلته، ثم رجع إلى معسكره ببرزند، فأقام بابك بموقان أياما ثم أنه بعث إلى البذ، فجاءه في الليل عسكر فيه رجالة، فرحل بهم من موقان حتى دخل البذ، فلم يزل الأفشين معسكرا ببرزند، فلما كان في بعض الأيام مرت به قافلة من خش إلى برزند، ومعها رجل من قبل أبي سعيد يسمى صالح آب كش- تفسيره السقاء- فخرج عليه أصبهبذ بابك، فأخذ القافلة، وقتل من فيها، وقتل من كان مع صالح، وأفلت صالح بلا خف مع من أفلت، وقتل جميع أهل القافلة، وانتهب متاعهم، فقحط عسكر الأفشين من أجل تلك القافلة التي أخذت من الآب كش، وذلك أنها كانت تحمل الميرة، فكتب الأفشين إلى صاحب المراغة يأمره بحمل الميرة وتعجليها عليه، فإن الناس قد قحطوا وجاعوا، فوجه إليه صاحب المراغة بقافلة ضخمة، فيها قريب من ألف ثور سوى الحمر والدواب وغير ذلك، تحمل الميرة، ومعها جند يبذرقونها، فخرجت عليهم أيضا سرية لبابك، كان عليها طرخان- أو آذين- فاستباحوها عن آخرها بجميع ما فيها، وأصاب الناس ضيق شديد، فكتب الأفشين إلى صاحب السيروان

ذكر الخبر عن خروج المعتصم إلى القاطول

أن يحمل إليه طعاما، فحمل إليه طعاما كثيرا، وأغاث الناس في تلك السنة، وقدم بغا على الافشين بمال ورجال . ذكر الخبر عن خروج المعتصم الى القاطول وفي هذه السنة خرج المعتصم إلى القاطول، وذلك في ذي القعدة منها. ذكر الخبر عن سبب خروجه إليها: ذكر عن أبي الوزير أحمد بن خالد، أنه قال: بعثني المعتصم في سنة تسع عشرة ومائتين، وقال لي: يا أحمد، اشتر لي بناحية سامرا موضعا أبني فيه مدينة، فإني أتخوف أن يصيح هؤلاء الخرمية صيحة، فيقتلوا غلماني، حتى أكون فوقهم، فإن رابني منهم ريب أتيتهم في البر والبحر، حتى آتي عليهم وقال لي: خذ مائة ألف دينار، قال: قلت: آخذ خمسة آلاف دينار، فكلما احتجت إلى زيادة بعثت إليك فاستزدت؟ قال: نعم، فأتيت الموضع، فاشتريت سامرا بخمسمائة درهم من النصارى أصحاب الدير، واشتريت موضع البستان الخاقاني بخمسة آلاف درهم، واشتريت عدة مواضع حتى أحكمت ما أردت، ثم انحدرت فأتيته بالصكاك، فعزم على الخروج إليها في سنة عشرين ومائتين، فخرج حتى إذا قارب القاطول، ضربت له فيه القباب والمضارب، وضرب الناس الأخبية، ثم لم يزل يتقدم، وتضرب له القباب حتى وضع البناء بسامرا في سنة إحدى وعشرين ومائتين. فذكر عن أبي الحسن بن أبي عباد الكاتب، أن مسرورا الخادم الكبير، قال: سألني المعتصم: أين كان الرشيد يتنزه إذا ضجر من المقام ببغداد؟ قال: قلت له: بالقاطول، وقد كان بنى هناك مدينة آثارها وسورها قائم، وقد كان خاف من الجند ما خاف المعتصم، فلما وثب أهل الشام بالشام وعصوا، خرج الرشيد إلى الرقة فأقام بها، وبقيت مدينة القاطول لم تستتم، ولما خرج المعتصم إلى القاطول استخلف ببغداد ابنه هارون الواثق

ذكر الخبر عن غضب المعتصم على الفضل بن مروان

وقد حدثني جعفر بن محمد بن بوازة الفراء، أن سبب خروج المعتصم إلى القاطول، كان أن غلمانه الأتراك كانوا لا يزالون يجدون الواحد بعد الواحد منهم قتيلا في أرباضها، وذلك أنهم كانوا عجما جفاه يركبون الدواب، فيتراكضون في طرق بغداد وشوارعها، فيصدمون الرجل والمرأة ويطئون الصبي، فيأخذهم الأبناء فينكسونهم عن دوابهم ويجرحون بعضهم، فربما هلك من الجراح بعضهم، فشكت الأتراك ذلك إلى المعتصم، وتأذت بهم العامة، فذكر أنه رأى المعتصم راكبا منصرفا من المصلى في يوم عيد أضحى أو فطر، فلما صار في مربعة الحرشى، نظر إلى شيخ قد قام إليه، فقال له: يا أبا إسحاق، قال: فابتدره الجند ليضربوه، فأشار إليهم المعتصم فكفهم عنه، فقال للشيخ: مالك! قال: لا جزاك الله عن الجوار خيرا! جاورتنا وجئت بهؤلاء العلوج فأسكنتهم بين أظهرنا، فأيتمت بهم صبياننا، وأرملت بهم نسواننا، وقتلت بهم رجالنا! والمعتصم يسمع ذلك كله، قال: ثم دخل داره فلم ير راكبا إلى السنة القابلة في مثل ذلك اليوم، فلما كان في العام المقبل في مثل ذلك اليوم خرج فصلى بالناس العيد، ثم لم يرجع إلى منزله ببغداد، ولكنه صرف وجه دابته إلى ناحية القاطول، وخرج من بغداد ولم يرجع إليها . ذكر الخبر عن غضب المعتصم على الفضل بن مروان وفي هذه السنة غضب المعتصم على الفضل بن مروان وحبسه ذكر الخبر عن سبب غضبه عليه وحبسه إياه وسبب اتصاله بالمعتصم: ذكر أن الفضل بن مروان- وهو رجل من اهل البردان- كان متصلا برجل من العمال يكتب له، وكان حسن الخط، ثم صار مع كاتب كان للمعتصم يقال له يحيى الجرمقانى، وكان الفضل بن مروان يخط بين يديه، فلما مات الجرمقاني صار الفضل في موضعه، وكان يكتب للفضل علي بن

حسان الأنباري، فلم يزل كذلك حتى بلغ المعتصم الحال التي بلغها، والفضل كاتبه، ثم خرج معه إلى معسكر المأمون، ثم خرج معه إلى مصر، فاحتوى على أموال مصر، ثم قدم الفضل قبل موت المأمون بغداد، ينفذ أمور المعتصم، ويكتب على لسانه بما أحب حتى قدم المعتصم خليفة، فصار الفضل صاحب الخلافة، وصارت الدواوين كلها تحت يديه وكنز الأموال، وأقبل أبو إسحاق حين دخل بغداد يأمره بإعطاء المغنى والملهى، فلا ينفذ الفضل ذلك، فثقل على أبي إسحاق. فحدثني إبراهيم بن جهرويه أن إبراهيم المعروف بالهفتى- وكان مضحكا- امر له المعتصم بمال، وتقدم إلى الفضل بن مروان في إعطائه ذلك، فلم يعطه الفضل ما امر به المعتصم، فبينا الهفتي يوما عند المعتصم، بعد ما بنيت له داره التي ببغداد، واتخذ له فيها بستان، قام المعتصم يتمشى في البستان ينظر إليه وإلى ما فيه من أنواع الرياحين والغروس، ومعه الهفتي، وكان الهفتي يصحب المعتصم قبل أن تفضي الخلافة إليه، فيقول فيما يداعبه: والله لا تفلح أبدا! قال: وكان الهفتي رجلا مربوعا ذا كدنة، والمعتصم رجلا معرقا خفيف اللحم، فجعل المعتصم يسبق الهفتي في المشي، فإذا تقدمه ولم ير الهفتي معه التفت إليه، فقال له: ما لك لا تمشي! يستعجله المعتصم في المشي ليلحق به، فلما كثر ذلك من أمر المعتصم على الهفتي، قال له الهفتي، مداعبا له: كنت أصلحك الله، أراني أماشي خليفة، ولم أكن أراني أماشي فيجا، والله لا أفلحت! فضحك منها المعتصم، وقال: ويلك! هل بقي من الفلاح شيء لم أدركه! أبعد الخلافة تقول هذا لي! فقال له الهفتي: أتحسب أنك قد أفلحت الآن! إنما لك من الخلافة الاسم، والله ما يجاوز أمرك أذنيك، وإنما الخليفة الفضل بن مروان، الذي يأمر فينفذ أمره من ساعته، فقال له المعتصم: وأي أمر لي لا ينفذ! فقال له: الهفتي: أمرت لي بكذا وكذا منذ شهرين، فما أعطيت مما أمرت به منذ ذاك حبه!

قال: فاحتجنها على الفضل المعتصم حتى أوقع به. فقيل: إن أول ما أحدثه في أمره حين تغير له أن صير أحمد بن عمار الخراساني زماما عليه في نفقات الخاصة، ونصر بن منصور بن بسام زماما عليه في الخراج وجميع الأعمال، فلم يزل كذلك، وكان محمد بن عبد الملك الزيات يتولى ما كان أبوه يتولاه للمأمون من عمل المشمس والفساطيط وآلة الجمازات ويكتب على ذلك مما جرى على يدي محمد بن عبد الملك، وكان يلبس إذا حضر الدار دراعة سوداء وسيفا بحمائل، فقال له الفضل بن مروان: إنما أنت تاجر، فما لك وللسواد والسيف! فترك ذلك محمد، فلما تركه أخذه الفضل برفع حسابه إلى دليل بن يعقوب النصراني، فرفعه، فأحسن دليل في أمره، ولم يرزأه شيئا، وعرض عليه محمد هدايا، فأبى دليل أن يقبل منها شيئا، فلما كانت سنة تسع عشرة ومائتين- وقيل سنة عشرين، وذلك عندي خطأ- خرج المعتصم يريد القاطول، ويريد البناء بسامرا، فصرفه كثرة زيادة دجلة، فلم يقدر على الحركة، فانصرف إلى بغداد إلى الشماسية، ثم خرج بعد ذلك، فلما صار بالقاطول غضب على الفضل بن مروان وأهل بيته في صفر، وأمرهم برفع ما جرى على أيديهم، وأخذ الفضل وهو مغضوب عليه في عمل حسابه، فلما فرغ من الحساب لم يناظر فيه، وأمر بحبسه، وأن يحمل إلى منزله ببغداد في شارع الميدان، وحبس أصحابه، وصير مكانه محمد بن عبد الملك الزيات، فحبس دليلا، ونفى الفضل إلى قرية في طريق الموصل يقال لها السن، فلم يزل بها مقيما، فصار محمد بن عبد الملك وزيرا كاتبا، وجرى على يديه عامة ما بنى المعتصم بسامرا من الجانبين الشرقي والغربي، ولم يزل في مرتبته حتى استخلف المتوكل، فقتل محمد بن عبد الملك. وذكر أن المعتصم لما استوزر الفضل بن مروان حل من قبله المحل الذي لم يكن أحد يطمع في ملاحظته، فضلا عن منازعته ولا في الاعتراض في أمره

ونهيه، وإرادته وحكمه، فكانت هذه صفته ومقداره، حتى حملته الدالة، وحركته الحرمة على خلافه في بعض ما كان يأمره به، ومنعه ما كان يحتاج إليه من الأموال في مهم أموره، فذكر عن ابن ابى داود أنه قال: كنت أحضر مجلس المعتصم، فكثيرا ما كنت أسمعه يقول للفضل بن مروان: احمل إلى كذا وكذا من المال، فيقول: ما عندي، فيقول: فاحتلها من وجه من الوجوه، فيقول: ومن أين أحتالها! ومن يعطيني هذا القدر من المال؟ وعند من أجده؟ فكان ذلك يسوءه وأعرفه في وجهه، فلما كثر هذا من فعله ركبت إليه يوما فقلت له مستخليا به: يا أبا العباس، إن الناس يدخلون بيني وبينك بما أكره وتكره، وأنت أمرؤ قد عرفت أخلاقك، وقد عرفها الداخلون بيننا، فإذا حركت فيك بحق فاجعله باطلا، وعلى ذلك فما أدع نصيحتك وأداء ما يجب علي في الحق لك، وقد أراك كثيرا ما ترد على أمير المؤمنين أجوبة غليظة ترمضه، وتقدح في قلبه، والسلطان لا يحتمل هذا لابنه، لا سيما إذا كثر ذلك وغلظ قال: وما ذاك يا أبا عبد الله؟ قلت: أسمعه كثيرا ما يقول لك: نحتاج إلى كذا من المال لنصرفه في وجه كذا، فتقول: ومن يعطيني هذا! وهذا ما لا يحتمله الخلفاء، قال: فما أصنع إذا طلب مني ما ليس عندي؟ قلت: تصنع أن تقول: يا أمير المؤمنين، نحتال في ذاك بحيلة، فتدفع عنك أياما إلى أن يتهيأ، وتحمل إليه بعض ما يطلب وتسوفه بالباقي، قال: نعم أفعل وأصير إلى ما أشرت به قال: فو الله لكأني كنت أغريه بالمنع، فكان إذا عاوده بمثل ذلك من القول، عاد إلى مثل ما يكره من الجواب قال: فلما كثر ذلك عليه، دخل يوما إليه وبين يديه حزمة نرجس غض، فأخذها المعتصم فهزها، ثم قال: حياك الله يا أبا العباس! فأخذها الفضل بيمينه، وسل

المعتصم خاتمه من أصبعه بيساره، وقال له بكلام خفي: أعطني خاتمي، فانتزعه من يده، ووضعه في يد ابن عبد الملك. وحج بالناس في هذه السنة صالح بن العباس بن محمد.

سنه احدى وعشرين ومائتين

ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك الوقعة التي كانت بين بابك وبغا الكبير من ناحيه هشتاد سر، فهزم بغا واستبيح عسكره. ذكر الخبر عن وقعه الافشين مع بابك في هذه السنه وفيها واقع الأفشين بابك وهزمه. ذكر الخبر عن هذه الوقعة وكيف كان السبب فيها: ذكر أن بغا الكبير قدم بالمال الذي قد مضى ذكره، وأن المعتصم وجهه معه إلى الأفشين عطاء للجند الذي كان معه ولنفقات الأفشين، على الأفشين، وبالرجال الذين توجهوا معه إليه، فأعطى الأفشين أصحابه، وتجهز بعد النيروز، ووجه بغا في عسكر ليدور حول هشتاد سر، وينزل في خندق محمد بن حميد ويحفره ويحكمه وينزله فتوجه بغا إلى خندق محمد بن حميد، وصار إليه، ورحل الأفشين من برزند، ورحل أبو سعيد من خش يريد بابك، فتوافوا بموضع يقال له دروذ، فاحتفر الأفشين بها خندقا، وبنى حوله سورا، ونزل هو وأبو سعيد في الخندق مع من كان صار إليه من المطوعة، فكان بينه وبين البذ ستة أميال ثم إن بغا تجهز، وحمل معه الزاد من غير أن يكون الأفشين كتب إليه ولا أمره بذلك، فدار حول هشتاد سر حتى دخل إلى قرية البذ، فنزل في وسطها، وأقام بها يوما واحدا، ثم وجه الف رجل في علافه له، فخرج عسكر من عساكر بابك، فاستباح العلافة، وقتل جميع من قاتله منهم، وأسر من قدر عليه، وأخذ بعض الأسرى، فأرسل

منهم رجلين مما يلي الأفشين، وقال لهما: اذهبا إلى الأفشين، وأعلماه ما نزل بأصحابكم فأشرف الرجلان، فنظر إليهما صاحب الكوهبانية، فحرك العلم، فصاح أهل العسكر: السلاح السلاح! وركبوا يريدون البذ، فتلقاهم الرجلان عريانين، فأخذهما صاحب المقدمة، فمضى بهما إلى الأفشين، فأخبراه بقضيتهما، فقال: فعل شيئا من غير أن نأمره ورجع بغا إلى خندق محمد بن حميد شبيها بالمنهزم، وكتب إلى الأفشين يعلمه ذلك، ويسأله المدد، ويعلمه أن العسكر مفلول، فوجه إليه الأفشين أخاه الفضل بن كاوس وأحمد بن الخليل بن هشام وابن جوشن وجناحا الأعور السكري وصاحب شرطة الحسن بن سهل- وأحد الأخوين قرابة الفضل بن سهل- فداروا حول هشتاد سر، فسر أهل عسكره بهم، ثم كتب الأفشين إلى بغا يعلمه أنه يغزو بابك في يوم سماه له، ويأمره أن يغزوه في ذلك اليوم بعينه، ليحاربه من كلا الوجهين، فخرج الأفشين في ذلك اليوم من دروذ يريد بابك، وخرج بغا من خندق محمد بن حميد، فصعد الى هشتاد سر، فعسكر على دعوة بجنب قبر محمد بن حميد، فهاجت ريح باردة ومطر شديد، فلم يكن للناس عليها صبر لشدة البرد وشدة الريح، فانصرف بغا إلى عسكره، وواقعهم الأفشين من الغد، وقد رجع بغا إلى عسكره، فهزمه الأفشين، وأخذ عسكره وخيمته وامرأة كانت معه في العسكر ونزل الأفشين في معسكر بابك. ثم تجهز بغا من الغد، وصعد هشتاد سر، فأصاب العسكر الذي كان مقيما بإزائه بهشتادسر، قد انصرف إلى بابك، ورحل بغا إلى موضعه، فأصاب خرثيا وقماشا، وانحدر من هشتاد سر يريد البذ، فأصاب رجلا وغلاما نائمين فأخذهما داود سياه- وكان على مقدمته- فساءلهما، فذكرا أن رسول بابك أتاهم في الليلة التي انهزم فيها بابك، فأمرهم أن يوافوه بالبذ، فكان الرجل والغلام سكرانين، فذهب بهما النوم، فلا يعرفان من الخبر غير

هذا، وكان ذلك قبل صلاة العصر فبعث بغا الى داود سياه: قد توسطنا الموضع الذي نعرفه- يعني الذى كنا فيه في المرة الأولى- وهذا وقت المساء، وقد تعب الرجالة، فانظر جبلا حصينا يسع عسكرنا حتى نعسكر فيه ليلتنا هذه فالتمس داود سياه ذلك، فصعد إلى بعض الجبال، فالتمس أعلاه فأشرف، فراى اعلام الافشين ومعسكره شبه الخيال فقال: هذا موضعنا إلى غدوة، وننحدر من الغد إلى الكافر إن شاء الله فجاءهم في تلك الليلة سحاب وبرد ومطر وثلج كثير، فلم يقدر أحد حين أصبحوا أن ينزل من الجبل يأخذ ماء، ولا يسقي دابته من شدة البرد وكثرة الثلج، وكأنهم كانوا في ليل من شدة الظلمة والضباب فلما كان اليوم الثالث قال الناس لبغا: قد فني ما معنا من الزاد، وقد اضربنا البرد، فانزل على أي حالة كانت، إما راجعين وإما إلى الكافر وكان في أيام الضباب فبيت بابك الافشين ونقض عسكره، وانصرف الأفشين عنه إلى معسكره، فضرب بغا بالطبل، وانحدر يريد البذ حتى صار إلى البطن، فنظر إلى السماء منجلية، والدنيا طيبة، غير رأس الجبل الذي كان عليه بغا، فعبى بغا أصحابه ميمنة وميسرة ومقدمة، وتقدم يريد البذ، وهو لا يشك أن الأفشين في موضع معسكره، فمضى حتى صار بلزق جبل البذ، ولم يبق بينه وبين ان يشرف على ابيات البذ إلا صعود قدر نصف ميل، وكان على مقدمته جماعة فيهم غلام لابن البعيث، له قرابة بالبذ، فلقيتهم طلائع لبابك، فعرف بعضهم الغلام، فقال له: فلان، فقال: من هذا هاهنا؟ فسمي له من كان معه من أهل بيته، فقال: ادن حتى أكلمك، فدنا الغلام منه، فقال له: ارجع وقل لمن تعني به يتنحى، فإنا قد بيتنا الأفشين، وانهزم إلى خندقه وقد هيأنا لكم عسكرين، فعجل الانصراف لعلك أن تفلت فرجع الغلام فأخبر ابن البعيث بذلك، وسمي له الرجل، فعرفه ابن البعيث، فأخبر ابن البعيث بغا بذلك، فوقف بغا شاور أصحابه، فقال بعضهم: هذا باطل، هذه

خدعة ليس من هذا شيء، فقال بعض الكوهبانيين: إن هذا رأس جبل أعرفه، من صعد إلى رأسه نظر إلى عسكر الأفشين فصعد بغا والفضل بن كاوس وجماعة منهم ممن نشط، فأشرفوا على الموضع، فلم يروا فيه عسكر الأفشين فتيقنوا أنه قد مضى، وتشاوروا، فرأوا أن ينصرف الناس راجعين في صدر النهار قبل أن يجنهم الليل، فأمر بغا داود سياه بالانصراف، فتقدم داود وجد في السير، ولم يقصد الطريق الذي كان دخل منه الى هشتاد سر مخافة المضايق والعقاب، وأخذ الطريق الذي كان دخل منه في المرة الأولى، يدور حول هشتاد سر، وليس فيه مضيق إلا في موضع واحد فسار بالناس، وبعث بالرجالة، فطرحوا رماحهم وأسلحتهم في الطريق، ودخلتهم وحشة شديدة ورعب، وصار بغا والفضل بن كاوس وجماعة القواد في الساقة، وظهرت طلائع بابك، فكلما نزل هؤلاء جبلا صعدته طلائع بابك، يتراءون لهم مرة ويغيبون عنهم مرة، وهم في ذلك يقفون آثارهم، وهم قدر عشرة فرسان، حتى كان بين الصلاتين: الظهر والعصر، فنزل بغا ليتوضأ ويصلي، فتدانت منهم طلائع بابك، فبرزوا لهم، وصلى بغا، ووقف في وجوههم، فوقفوا حين رأوه، فتخوف بغا على عسكره أن يواقعه الطلائع من ناحية، ويدور عليهم في بعض الجبال والمضايق. قوم آخرون، فشاور من حضره وقال: لست آمن أن يكونوا جعلوا هؤلاء مشغلة، يحبسوننا عن المسير، ويقدمون أصحابهم ليأخذوا على أصحابنا المضايق فقال له الفضل بن كاوس: ليس هؤلاء أصحاب نهار، وإنما هم أصحاب ليل، وإنما يتخوف على أصحابنا من الليل، فوجه إلى داود سياه ليسرع السير ولا ينزل، ولو صار إلى نصف الليل حتى يجاوز المضيق، ونقف نحن هاهنا، فإن هؤلاء ما داموا يروننا في وجوههم لا يسيرون، فنماطلهم وندافعهم قليلا قليلا حتى تجيء الظلمة، فإذا جاءت الظلمة لم يعرفوا لنا موضعا، وأصحابنا يسيرون فينفذون أولا فأولا، فإن أخذ علينا نحن المضيق تخلصنا من طريق هشتاد سر أو من طريق آخر

وأشار غيره على بغا فقال: إن العسكر قد تقطع، وليس يدرك أوله آخره، والناس قد رموا بسلاحهم، وقد بقي المال والسلاح على البغال، وليس معه أحد، ولا نأمن أن يخرج عليه من يأخذ المال والأسير- وكان ابن جويدان معهم أسيرا أرادوا أن يفادوا به كاتبا لعبد الرحمن بن حبيب، أسره بابك- فعزم بغا على أن يعسكر بالناس حين ذكر له المال والسلاح والأسير، فوجه الى داود سياه: حيثما رأيت جبلا حصينا، فعسكر عليه. فعدل داود إلى جبل مؤرب، لم يكن للناس موضع يقعدون فيه من شدة هبوطه، فعسكر عليه، فضرب مضربا لبغا على طرف الجبل في موضع شبيه بالحائط، ليس فيه مسلك، وجاء بغا فنزل، وأنزل الناس وقد تعبوا وكلوا، وفنيت أزوادهم، فباتوا على تعبئة وتحارس من ناحية المصعد، فجاءهم العدو من الناحية الأخرى، فتعلقوا بالجبل حتى صاروا إلى مضرب بغا، فكبسوا المضرب، وبيتوا العسكر، وخرج بغا راجلا حتى نجا، وجرح الفضل بن كاوس، وقتل جناح السكري، وقتل ابن جوشن، وقتل أحد الأخوين قرابه الفضل ابن سهل، وخرج بغا من العسكر راجلا، فوجد دابة فركبها، ومر بابن البعيث فأصعده على هشتاد سر، حتى انحدر به على عسكر محمد بن حميد، فوافاه في جوف الليل، وأخذ الخرمية المال والسلاح والأسير ابن جويدان، ولم يتبعوا الناس، ومر الناس منهزمين منقطعين حتى وافوا بغا، وهو في خندق محمد بن حميد، فأقام بغا في خندق محمد بن حميد خمسة عشر يوما، فأتاه كتاب الأفشين يأمره بالرجوع إلى المراغة، وأن يرد إليه المدد الذي كان امده به، فمضى بغا إلى المراغة، وانصرف الفضل بن كاوس وجميع من كان جاء معه من معسكر الأفشين إلى الأفشين، وفرق الافشين الناس في مشاتيهم تلك السنة، حتى جاء الربيع من السنة المقبلة.

خبر مقتل طرخان قائد بابك

خبر مقتل طرخان قائد بابك وفي هذه السنة قتل قائد لبابك كان يقال له طرخان. ذكر سبب قتله: ذكر أن طرخان هذا كان عظيم المنزلة عند بابك، وكان أحد قواده، فلما دخل الشتاء من هذه السنة، استأذن بابك في الإذن له أن يشتو في قرية له بناحية المراغة- وكان الأفشين يرصده، ويحب الظفر به، لمكانه من بابك- فأذن له بابك، فصار إلى قريته ليشتو بها بناحيه هشتاد سر، فكتب الأفشين إلى ترك مولى إسحاق بن ابراهيم بن مصعب وهو بالمراغة، أن يسري إلى تلك القرية- ووصفها له- حتى يقتل طرخان، أو يبعث به إليه أسيرا فأسرى ترك إلى طرخان، فصار إليه في جوف الليل، فقتل طرخان وبعث برأسه الى الافشين وفي هذه السنه قدم صول أرتكين وأهل بلاده في قيود فنزعت قيودهم، وحمل على الدواب منهم نحو من مائتي رجل. وفيها غضب الأفشين على رجاء الحضاري وبعث به مقيدا. وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس، وهو والي مكة

سنه اثنتين وعشرين ومائتين

ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائتين ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث فمن ذلك ما كان من توجيه المعتصم جعفر بن دينار الخياط إلى الأفشين مددا له، ثم إتباعه بعد ذلك بإيتاخ وتوجيهه معه ثلاثين ألف ألف درهم عطاء للجند وللنفقات . ذكر خبر الوقعه بين اصحاب الافشين وآذين قائد بابك وفيها كانت وقعة بين أصحاب الأفشين وقائد لبابك يقال له آذين. ذكر الخبر عن هذه الوقعة وما كان سببها: ذكر أن الشتاء لما انقضى من سنة إحدى وعشرين ومائتين وجاء الربيع، ودخلت سنة اثنتين وعشرين ومائتين، ووجه المعتصم الى الافشين ما وجهه إليه من المدد والمال، فوافاه ذلك كله وهو ببرزند، سلم إيتاخ إلى الأفشين المال والرجال الذين كانوا معه وانصرف، وأقام جعفر الخياط مع الأفشين مدة، ثم رحل الأفشين عند إمكان الزمان، فصار إلى موضع يقال له كلان روذ، فاحتفر فيه خندقا، وكتب إلى أبي سعيد، فرحل من برزند إلى إزائه على طرف رستاق كلان روذ، وتفسيره: نهر كبير، بينهما قدر ثلاثة أميال، فأقام معسكرا في خندق، فأقام بكلان روذ خمسة أيام، فأتاه من أخبره أن قائدا من قواد بابك يدعى آذين، قد عسكر بإزاء الأفشين، وأنه قد صير عياله في جبل يشرف على روذ الروذ، وقال: لا أتحصن من اليهود- يعني المسلمين- ولا أدخل عيالي حصنا، وذلك أن بابك قال له: أدخل عيالك الحصن، قال: أنا أتحصن من اليهود! والله لا أدخلتهم حصنا أبدا، فنقلهم إلى هذا الجبل، فوجه الأفشين ظفر بن العلاء السعدي والحسين بن خالد المدائني من قواد أبي سعيد في جماعة من الفرسان والكوهبانية،

فساروا ليلتهم من كلان روذ، حتى انحدرا في مضيق لا يمر فيه راكب واحد إلا بجهد، فأكثر الناس قادوا دوابهم، وانسلوا رجلا خلف رجل، فأمرهم أن يصيروا قبل طلوع الفجر على روذ الروذ، فيعبر الكوهبانية رجالة، لأنه لا يمكن الفارس أن يتحرك هناك، ويتسلقوا الجبل، فصاروا على روذ الروذ قبل السحر، ثم امر من اطاق من الفرسان أن يترجل وينزع ثيابه، فترجل عامة الفرسان، وعبروا وعبر معهم الكوهبانية جميعا، وصعدوا الجبل، فأخذوا عيال آذين وبعض ولده، وعبروا بهم، وبلغ آذين الخبر بأخذ عياله، وكان الأفشين عند توجه هؤلاء الرجالة ودخولهم المضيق يخاف أن يؤخذ عليهم المضيق، فأمر الكوهبانية أن يكون معهم أعلام، وأن يكونوا على رءوس الجبال الشواهق في المواضع التي يشرفون منها على ظفر بن العلاء وأصحابه، فإن رأوا أحدا يخافونه حركوا الأعلام، فبات الكوهبانية على رءوس الجبال، فلما رجع ابن العلاء والحسين بن خالد بمن أخذوا من عيال آذين، وصاروا في بعض الطريق قبل أن يصيروا إلى المضيق، انحدر عليهم رجالة آذين فحاربوهم قبل أن يدخلوا المضيق، فوقع بينهم قتلى، واستنقذوا بعض النساء ونظر إليهم الكوهبانية الذين رتبهم الأفشين، وكان آذين قد وجه عسكرين، عسكرا يقاتلهم، وعسكرا يأخذ عليهم المضيق، فلما حركوا الأعلام وجه الأفشين مظفر بن كيدر في كردوس من أصحابه، فأسرع الركض. ووجه أبا سعيد خلف المظفر، وأتبعهما ببخاراخذاه، فوافوا، فلما نظر إليهم رجالة آذين الذين كانوا على المضيق انحدروا عن المضيق، وانضموا إلى أصحابهم، ونجا ظفر بن العلاء والحسين بن خالد ومن معهما من أصحابهما، ولم يقتل منهم إلا من قتل في الوقعة الأولى، وجاءوا جميعا إلى عسكر الافشين، ومعهم النساء اللواتي اخذوهن.

ذكر خبر فتح البذ مدينه بابك

ذكر خبر فتح البذ مدينه بابك وفي هذه السنة فتحت البذ مدينة بابك، ودخلها المسلمون، واستباحوها، وذلك في يوم الجمعة لعشر بقين من شهر رمضان في هذه السنة. ذكر الخبر عن أمرها وكيف فتحت والسبب في ذلك: ذكر أن الأفشين لما عزم على الدنو من البذ والارتحال من كلان روذ جعل يزحلف قليلا قليلا- على خلاف زحفه قبل ذلك- إلى المنازل التي كان ينزلها، فكان يتقدم الأميال الأربعة، فيعسكر في موضع على طريق المضيق الذي ينحدر إلى روذ الروذ، ولا يحفر خندقا، ولكنه يقيم معسكرا في الحسك، وكتب اليه المعتصم يأمره أن يجعل الناس نوائب كراديس تقف على ظهور الخيل، كما يدور العسكر بالليل، فبعض القوم معسكرون وبعض وقوف على ظهور دوابهم على ميل كما يدور العسكر بالليل والنهار مخافة البيات، كي إن دهمهم امر يكون الناس على تعبئة والرجالة في العسكر، فضج الناس من التعب، وقالوا: كم نقعدها هنا في المضيق ونحن قعود في الصحراء، وبيننا وبين العدو اربعه فراسخ، ونحن نفعل فعلا، كان العدو بازائنا! قد استحينا من الناس والجواسيس الذين يمرون بيننا وبين العدو اربعه فراسخ، ونحن قد متنا من الفزع، أقدم بنا، فإما لنا وإما علينا، فقال: أنا والله أعلم أن ما تقولون حق، ولكن أمير المؤمنين أمرني بهذا ولا أجد منه بدا. فلم يلبث أن جاءه كتاب المعتصم يأمره أن يتحرى بدراجه الليل على حسب ما كان، فلم يزل كذلك أياما، ثم انحدر في خاصته حتى نزل إلى روذ الروذ، وتقدم حتى شارف الموضع الذي به الركوة التي واقعه عليها بابك في العام الماضي، فنظر إليها، ووجد عليها كردوسا من الخرمية، فلم يحاربوه ولم يحاربهم، فقال بعض العلوج: ما لكم تجيئون وتفرون! أما تستحيون! فأمر الأفشين ألا يجيئوهم ولا يبرز إليهم أحد، فلم يزل مواقفهم إلى قريب

من الظهر، ثم رجع إلى عسكره، فمكث فيه يومين، ثم انحدر أيضا في أكثر مما كان انحدر في المرة الأولى، فأمر أبا سعيد أن يذهب فيواقفهم على حسب ما كان واقفهم في المرة الأولى، ولا يحركهم ولا يهجم عليهم. وقام الأفشين بروذ الروذ، وأمر الكوهبانية أن يصعدوا إلى رءوس الجبال التي يظنون أنها حصينة، فيتراءوا له فيها، ويختاروا له في رءوس الجبال مواضع يتحصن فيها الرجالة، فاختاروا له ثلاثة أجبل، قد كانت عليها حصون فيما مضى، فخربت فعرفها، ثم بعث إلى أبي سعيد، فصرفه يومه ذلك، فلما كان بعد يومين انحدر من معسكره الى روذ الروذ، وأخذ معه الكلغرية- وهم الفعلة- وحملوا معهم شكاء الماء والكعك، فلما صاروا إلى روذ الروذ وجه أبا سعيد، وأمره أن يواقفهم أيضا على حسب ما كان أمره به في اليوم الأول، وأمر الفعلة بنقل الحجارة وتحصين الطرق التي تسلك إلى تلك الثلاثة الأجبل، حتى صارت شبه الحصون، وأمر فاحتفر على كل طريق وراء تلك الحجارة إلى المصعد خندقا، فلم يترك مسلكا إلى جبل منها إلا مسلكا واحدا ثم أمر أبا سعيد بالانصراف، فانصرف، ورجع الأفشين إلى معسكره قال: فلما كان في اليوم الثامن من الشهر، واستحكم الحصر، دفع إلى الرجالة كعكا وسويقا، ودفع إلى الفرسان الزاد والشعير، ووكل بمعسكره ذلك من يحفظه وانحدروا، وأمر الرجالة أن يصعدوا إلى رءوس تلك الجبال، وأن يصعدوا معهم بالماء، وبجميع ما يحتاجون إليه، ففعلوا ذلك، وعسكر ناحية، ووجه أبا سعيد ليواقف القوم على حسب ما كان يواقفهم، وأمر الناس بالنزول في سلاحهم، والا يأخذ الفرسان سروج دوابهم ثم خط الخندق، وأمر الفعلة بالعمل فيه، ووكل بهم من يستحثهم، ونزل هو والفرسان، فوقفوا تحت الشجر في ظل يرعون دوابهم، فلما صلى العصر، أمر الفعلة بالصعود إلى رءوس الجبال التي حصنها مع الرجالة، وأمر الرجالة أن

يتحارسوا ولا يناموا، ويدعوا الفعلة فوق الجبال ينامون، وأمر الفرسان بالركوب عند اصفرار الشمس، فصيرهم كراديس وقفها حيالهم، بين كل كردوس وكردوس قدر رمية سهم، وتقدم إلى جميع الكراديس الا يلتفتن كل واحد منكم إلى الآخر، ليحفظ كل واحد منكم ما يليه، فإن سمعتم هدة فلا يلتفتن أحد منكم إلى أحد، وكل كردوس منكم قائم بما يليه، فإنه لا بهدة يأخذ فلم يزل الكراديس وقوفا على ظهور دوابهم إلى الصباح، والرجالة فوق رءوس الجبال يتحارسون وتقدم إلى الرجالة: متى ما أحسوا في الليل بأحد فلا يكترثوا، وليلزم كل قوم منهم المواضع التي لهم، وليحفظوا جبلهم وخندقهم فلا يلتفتن أحد إلى أحد فلم يزالوا كذلك إلى الصباح، ثم أمر من يتعاهد الفرسان والرجالة بالليل، فينظر إلى حالتهم، فلبثوا في حفر الخندق عشرة أيام، ودخله اليوم العاشر فقسمه بين الناس، وأمر القواد أن يبعثوا إلى أثقالهم وأثقال أصحابهم على الرفق، وأتاه رسول بابك ومعه قثاء وبطيخ وخيار، يعلمه أنه في أيامه هذه في جفاء، إنما يأكل الكعك والسويق هو وأصحابه، وأنه أحب أن يلطفه بذلك فقال الأفشين للرسول: قد عرفت أي شيء أراد أخي بهذا، إنما أراد أن ينظر إلى العسكر، وأنا أحق من قبل بره، وأعطاه شهوته، فقد صدق، أنا في جفاء وقال للرسول: أما أنت فلا بد لك أن تصعد حتى ترى معسكرنا، فقد رأيت ما هاهنا، وترى ما وراءنا أيضا، فأمر بحمله على دابة، وأن يصعد به حتى يرى الخندق، ويرى خندق كلان روذ وخندق برزند، ولينظر الى الخنادق الثلاثة ويتأملها، ولا يخفى عليه منها شيء ليخبر به صاحبه ففعل به ذلك، حتى صار إلى برزند، ثم رده إليه، فأطلقه وقال له: اذهب، فأقرئه مني السلام- وكان من الخرمية الذين يتعرضون لمن يجلب الميرة إلى العسكر- ففعل ذلك مرة أو مرتين، ثم جاءت الخرمية بعد ذلك في ثلاثة كراديس، حتى صاروا قريبا من سور خندق الأفشين يصيحون، فأمر الأفشين الناس ألا ينطق أحد منهم، ففعلوا

ذلك ليلتين أو ثلاث ليال، وجعلوا يركضون دوابهم خلف السور، ففعلوا ذلك غير مرة، فلما أنسوا هيأ لهم الأفشين أربعة كراديس من الفرسان والرجالة، فكانت الرجالة ناشبة، فكمنوا لهم في الأودية، ووضع عليهم العيون، فلما انحدروا في وقتهم الذي كانوا ينحدرون فيه في كل مرة، وصاحوا وجلبوا كعادتهم شدت عليهم الخيل والرجالة الذين رتبوا، فأخذوا عليهم طريقهم. وأخرج الأفشين إليهم كردوسين من الرجالة في جوف الليل، فأحسوا أن قد أخذت عليهم العقبة، فتفرقوا في عدة طرق، حتى أقبلوا يتسلقون الجبال، فمروا فلم يعودوا إلى ما كانوا يفعلون، ورجع الناس من الطلب مع صلاة الغداة إلى الخندق بروذ الروذ، ولم يلحقوا من الخرمية أحدا. ثم إن الأفشين كان في كل أسبوع يضرب بالطبول نصف الليل، ويخرج بالشمع والنفاطات إلى باب الخندق، وقد عرف كل إنسان منهم كردوسه، من كان في الميمنة ومن كان في الميسرة، فيخرج الناس فيقفون في مواقفهم ومواضعهم وكان الأفشين يحمل أعلاما سودا كبارا، اثني عشر علما يحملها على البغال، ولم يكن يحملها على الخيل لئلا تزعزع، يحملها على اثنى عشر بغلا، وكانت طبوله الكبار واحدا وعشرين طبلا، وكانت الأعلام الصغار نحوا من خمسمائة علم، فيقف أصحابه كل فرق على مرتبتهم من ربع الليل، حتى إذا طلع الفجر ركب الأفشين من مضربه، فيؤذن المؤذن بين يديه ويصلي، ثم يصلي الناس بغلس، ثم يأمر بضرب الطبول، ويسير زحفا وكانت علامته في المسير والوقوف تحريك الطبول وسكونها، لكثرة الناس ومسيرهم في الجبال والأزقة على مصافهم، كلما استقبلوا جبلا صعدوه، وإذا هبطوا إلى واد مضوا فيه، إلا أن يكون جبلا منيعا لا يمكنهم صعوده وهبوطه، فإنهم كانوا ينضمون إلى العساكر، ويرجعون إذا جاءوا إلى الجبل إلى مصافهم ومواضعهم، وكانت علامة المسير ضرب الطبول، فان أراد أن يقف أمسك عن ضرب الطبول، فيقف الناس جميعا من كل ناحية على جبل، أو في واد أو في مكانهم، وكان يسير قليلا قليلا، كلما جاءه كوهباني بخبر وقف

قليلا، وكان يسير هذه الستة الأميال التي بين روذ الروذ، وبين البذ، ما بين طلوع الفجر إلى الضحى الأكبر، فإذا أراد أن يصعد إلى الركوة التي كانت الحرب تكون عليها في العام الماضى، خلف بخاراخذاه على راس العقبه مع الف فارس وستمائه راجل، يحفظون عليه الطريق، لا يخرج أحد من الخرمية، فيأخذ عليه الطريق وكان بابك إذا أحس بالعسكر أنه وارد عليه وجه عسكرا له فيه رجالة إلى واد تحت تلك العقبة التي كان عليها بخاراخذاه، ويكمنون لمن يريد ان يأخذ عليه الطريق سنه 222 وكان الافشين يقف بخارا خذاه يحفظ هذه العقبة التي وجه بابك عسكره إليها ليأخذها على الأفشين، وكان بخاراخذاه يقف بها أبدا، ما دام الأفشين داخل البذ على الركوة، وكان الأفشين يتقدم إلى بخاراخذاه أن يقف على واد فيما بينه وبين البذ شبه الخندق. وكان يأمر أبا سعيد محمد بن يوسف أن يعبر ذلك الوادي في كردوس من أصحابه، ويأمر جعفرا الخياط أن يقف أيضا في كردوس من أصحابه، ويأمر أحمد بن الخليل فيقف في كردوس آخر، فيصير في جانب ذلك الوادي ثلاثة كراديس في طرف أبياتهم، وكان بابك يخرج عسكرا مع آذين، فيقف على تل بإزاء هؤلاء الثلاثة الكراديس خارجا من البذ لئلا يتقدم أحد من عساكر الأفشين إلى باب البذ وكان الأفشين يقصد إلى باب البذ، ويأمرهم إذا عبروا بالوقوف فقط، وترك المحاربة، وكان بابك إذا أحس بعساكر الأفشين أنها قد تحركت من الخندق تريده فرق أصحابه كمناء، ولم يبق معه إلا نفير يسير، وبلغ ذلك الأفشين، ولم يكن يعرف الواضع التي يكمنون فيها ثم أتاه الخبر بأن الخرمية قد خرجوا جميعا، ولم يبق مع بابك إلا شرذمة من أصحابه وكان الأفشين إذا صعد إلى ذلك الموضع بسط له نطع، ووضع له كرسي، وجلس على تل مشرف يشرف على باب قصر بابك، والناس كراديس وقوف، من كان معه من جانب الوادى هذا امره بالنزول

عن دابته، ومن كان من ذاك الجانب مع أبي سعيد وجعفر الخياط وأصحابه وأحمد بن الخليل لم ينزل لقربه من العدو، فهم وقوف على ظهور دوابهم، ويفرق رجالته الكوهبانية ليفتشوا الأودية، طمع أن يقع على مواضع الكمناء فيعرفها، فكانت هذه حالته في التفتيش إلى بعد الظهر، والخرمية بين يدي بابك يشربون النبيذ، ويزمرون بالسرنيايات، ويضربون بالطبول، حتى إذا صلى الأفشين الظهر، تقدم فانحدر إلى خندقه بروذ الروذ، فكان أول من ينحدر أبو سعيد ثم أحمد بن الخليل ثم جعفر بن دينار، ثم ينصرف الأفشين، وكان مجيئه ذلك مما يغيظ بابك، وانصرافه فإذا دنا الانصراف، ضربوا بصنوجهم، ونفخوا بوقاتهم استهزاء، ولا يبرح بخاراخذاه من العقبة التي هو عليها، حتى تجوزه الناس جميعا، ثم ينصرف في آثارهم، فلما كان في بعض أيامهم ضجرت الخرمية من المعادلة والتفتيش الذي كان يفتش عليهم، فانصرف الأفشين كعادته، وانصرفت الكراديس أولا فأولا، وعبر أبو سعيد الوادي، وعبر أحمد بن الخليل، وعبر بعض أصحاب جعفر الخياط، وفتح الخرمية باب خندقهم، وخرج منهم عشرة فوارس، وحملوا على من بقي من أصحاب جعفر الخياط في ذلك الموضع، وارتفعت الضجة في العسكر، فرجع جعفر مع كردوس من أصحابه بنفسه، فحمل على أولئك الفرسان حتى ردهم إلى باب البذ، ثم وقعت الضجة في العسكر، فرجع الأفشين وجعفر وأصحابه من ذلك الجانب يقاتلون، وقد خرج من أصحاب جعفر عدة، وخرج بابك بعدة فرسان لم يكن معهم رجالة، لا من أصحاب الأفشين، ولا من أصحاب بابك، كان هؤلاء يحملون، وهؤلاء يحملون، فوقعت بينهم جراحات، ورجع الأفشين حتى طرح له النطع والكرسي، فجلس في موضعه الذي كان يجلس فيه، وهو يتلظى على جعفر، ويقول: قد أفسد علي تعبيتي وما أريد

وارتفعت الضجة، وكان مع أبي دلف في كردوس قوم من المطوعة من أهل البصرة وغيرهم، فلما نظروا إلى جعفر يحارب، انحدر أولئك المطوعة بغير أمر الأفشين، وعبروا إلى ذلك جانب الوادي، حتى صاروا إلى جانب البذ، فتعلقوا به، وأثروا فيه آثارا، وكادوا يصعدونه فيدخلون البذ، ووجه جعفر إلى الأفشين: ان امدنى بخمسمائة راجل من الناشبة، فإني أرجو أن أدخل البذ إن شاء الله، ولست أرى في وجهي كثير أحد إلا هذا الكردوس الذي تراه أنت فقط- يعني كردوس آذين- فبعث إليه الأفشين أن قد أفسدت علي أمري، فتخلص قليلا قليلا، وخلص أصحابك وانصرف وارتفعت الضجة من المطوعة حين تعلقوا بالبذ، وظن الكمناء الذين أخرجهم بابك أنها حرب قد اشتبكت، فنعروا ووثبوا من تحت عسكر بخاراخذاه، ووثب كمين آخر من وراء الركوة التي كان الأفشين يقعد عليها، فتحركت الخرمية، والناس وقوف على رءوسهم لم يزل منهم أحد، فقال الأفشين: الحمد لله الذي بين لنا مواضع هؤلاء. ثم انصرف جعفر وأصحابه والمطوعة، فجاء جعفر إلى الأفشين، فقال له: إنما وجهني سيدي أمير المؤمنين للحرب التي ترى، ولم يوجهني للقعود هاهنا، وقد قطعت بي في موضع حاجتي ما كان يكفيني الا خمسمائة راجل حتى أدخل البذ أو جوف داره، لأني قد رأيت من بين يدي فقال له الأفشين: لا تنظر إلى ما بين يديك، ولكن انظر إلى ما خلفك وما قد وثبوا ببخار اخذاه وأصحابه فقال الفضل بن كاوس لجعفر الخياط: لو كان الأمر إليك ما كنت تقدر أن تصعد إلى هذا الموضع الذي أنت عليه واقف، حتى تقول: كنت وكنت فقال له جعفر: هذه الحرب، وها أنا واقف لمن جاء فقال له الفضل: لولا مجلس الأمير لعرفتك نفسك الساعة، فصاح بهما الأفشين، فأمسكا، وأمر أبا دلف أن يرد المطوعة عن السور، فقال أبو دلف للمطوعة: انصرفوا فجاء رجل منهم ومعه صخرة، فقال: أتردنا

وهذا الحجر أخذته من السور! فقال له: الساعة، إذا انصرفت تدري من على طريقك جالس- يعني العسكر الذي وثب على بخاراخذاه من وراء الناس. ثم قال الأفشين لأبي سعيد في وجه جعفر: أحسن الله جزاءك عن نفسك وعن أمير المؤمنين، فإني ما علمتك عالما بأمر هذه العساكر وسياستها، ليس كل من حف رأسه يقول: إن الوقوف في الموضع الذي يحتاج إليه خير. من المحاربة في الموضع الذي لا يحتاج إليه، لو وثب هؤلاء الذين تحتك- وأشار إلى الكمين الذي تحت الجبل- كيف كنت ترى هؤلاء المطوعة الذين هم في القمص؟ أي شيء كان يكون حالهم، ومن كان يجمعهم؟ الحمد لله الذي سلمهم، فقف هاهنا فلا تبرح حتى لا يبقى هاهنا أحد وانصرف الأفشين، وكان من سنته إذا بدا بالانصراف ينحدر علم الكراديس وفرسانه ورجالته، والكردوس الآخر واقف بينه وبينه قدر رمية سهم، لا يدنو من العقبة، ولا من المضيق، حتى يرى أنه قد عبر كل من في الكردوس الذي بين يديه وخلا به الطريق، ثم يدنو بعد ذلك فينحدر في الكردوس الآخر بفرسانه ورجالته، ولا يزال كذلك، وقد عرف كل كردوس من خلف من ينصرف، فلم يكن يتقدم أحد منهم بين يدي صاحبه، ولا يتأخر هكذا، حتى إذا نفذت الكراديس كلها ولم يبق أحد غير بخاراخذاه، انحدر بخاراخذاه وخلى العقبة. فانصرف ذلك اليوم على هذه الهيئة، وكان أبو سعيد آخر من انصرف، وكلما مر العسكر بموضع بخاراخذاه، ونظروا إلى الموضع الذي كان فيه الكمين، علموا ما كان وطيء لهم، وتفرق أولئك الأعلاج الذين أرادوا أخذ الموضع الذي كان بخاراخذاه يحفظه، ورجعوا إلى مواضعهم، فأقام الأفشين في خندقه بروذ الروذ أياما، فشكا إليه المطوعة الضيق في العلوفة والأزواد والنفقات، فقال لهم: من صبر منكم فليصبر، ومن لم يصبر فالطريق واسع فلينصرف بسلام، معي جند أمير المؤمنين، ومن هو في أرزاقه يقيمون معي في الحر والبرد، ولست ابرح من هاهنا حتى يسقط الثلج فانصرف المطوعة وهم يقولون: لو ترك الأفشين جعفرا وتركنا لأخذنا البذ، هذا لا يشتهي

إلا المماطلة، فبلغه ذلك وما كثر المطوعة فيه، ويتناولونه بألسنتهم وأنه لا يحب المناجزة، وإنما يريد التطويل، حتى قال بعضهم إنه راى في المنام، ان رسول الله ص قال له: قل للأفشين: إن أنت حاربت هذا الرجل وجددت في أمره وإلا أمرت الجبال أن ترجمك بالحجارة، فتحدث الناس بذلك في العسكر علانية، كأنه مستور، فبعث الأفشين إلى رؤساء المطوعة، فأحضرهم وقال لهم: أحب أن تروني هذا الرجل، فإن الناس يرون في المنام أبوابا، فأتوه بالرجل في جماعة من الناس، فسلم عليه، فقربه وأدناه، وقال له: قص علي رؤياك، لا تحتشم ولا تستحي، فإنما تؤدي قال: رأيت كذا ورأيت كذا، فقال: الله يعلم كل شيء قبل كل أحد، وما أريد بهذا الخلق إن الله تبارك وتعالى لو أراد أن يأمر الجبال أن ترجم أحدا لرجم الكافر، وكفانا مؤنته، كيف يرجمني حتى أكفيه مؤنة الكافر كان يرجمه، ولا يحتاج أن أقاتله أنا، وأنا أعلم أن الله عز وجل لا يخفى عليه خافية، فهو مطلع على قلبي، وما أريد بكم يا مساكين! فقال رجل من المطوعة من اهل الدين: يايها الأمير، لا تحرمنا شهادة إن كانت قد حضرت، وإنما قصدنا وطلبنا ثواب الله ووجهه، فدعنا وحدنا حتى نتقدم بعد أن يكون بإذنك، فلعل الله أن يفتح علينا فقال الأفشين: إني أرى نياتكم حاضرة، وأحسب هذا الأمر يريده الله، وهو خير إن شاء الله، وقد نشطتم ونشط الناس، والله أعلم ما كان هذا رأيي، وقد حدث الساعة لما سمعت من كلامكم، وأرجو أن يكون أراد هذا الأمر وهو خير، اعزموا على بركة الله أي يوم أحببتم حتى نناهضهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فخرج القوم مستبشرين فبشروا أصحابهم، فمن كان أراد أن ينصرف أقام، ومن كان في القرب وقد خرج مسيرة أيام فسمع بذلك رجع، ووعد الناس ليوم، وأمر الجند والفرسان والرجالة وجميع الناس بالأهبة، وأظهر أنه يريد الحرب لا محالة وخرج الأفشين وحمل المال والزاد، ولم يبق في العسكر بغل إلا وضع عليه محمل للجرحى، وأخرج معه المتطببين، وحمل الكعك والسويق وغير ذلك، وجميع ما يحتاج اليه، وزحف

الناس حتى صعد إلى البذ، وخلف بخاراخذاه في موضعه الذي كان يخلفه عليه على العقبة، ثم طرح النطع ووضع له الكرسي، وجلس عليه كما كان يفعل، وقال لأبي دلف: قل للمطوعة: أي ناحية هي أسهل عليكم، فاقتصروا عليها وقال لجعفر: العسكر كله بين يديك، والناشبة والنفاطون، فإن أردت رجالا دفعتهم إليك، فخذ حاجتك وما تريد، واعزم على بركة الله، فاذن من أي موضع تريد قال: أريد أن أقصد الموضع الذي كنت عليه، قال: امض إليه ودعا أبا سعيد، فقال له: قف بين يدي، أنت وجميع أصحابك، ولا يبرحن منكم أحد ودعا أحمد بن الخليل فقال له: قف أنت وأصحابك هاهنا، ودع جعفرا يعبر وجميع من معه من الرجال، فإن أراد رجالا أو فرسانا أمددناه، ووجهنا بهم إليه، ووجه أبا دلف وأصحابه من المطوعة، فانحدروا إلى الوادي، وصعدوا إلى حائط البذ من الموضع الذي كانوا صعدوا عليه تلك المرة، وعلقوا بالحائط على حسب ما كانوا فعلوا ذلك اليوم، وحمل جعفر حملة حتى ضرب باب البذ، على حسب ما كان فعل تلك المرة الأولى، ووقف على الباب، وواقفه الكفرة ساعة صالحة، فوجه الأفشين برجل معه بدرة دنانير، وقال له: اذهب إلى أصحاب جعفر، فقل: من تقدم، فاحث له ملء كفك، ودفع بدرة أخرى إلى رجل من أصحابه، وقال له: اذهب الى المطوعة ومعك هذا المال واطواق واسوره، وقل لأبي دلف: كل من رأيته محسنا من المطوعة وغيرهم فأعطه ونادى صاحب الشراب، فقال له: اذهب فتوسط الحرب معهم حتى أراك بعيني معك السويق والماء، لئلا يعطش القوم فيحتاجوا إلى الرجوع، وكذلك فعل بأصحاب جعفر في الماء والسويق، ودعا صاحب الكلغرية، فقال له: من رأيته في وسط الحرب من المطوعة في يده فأس فله عندي خمسون درهما، ودفع إليه بدرة دراهم، وفعل مثل ذلك بأصحاب جعفر، ووجه إليهم الكلغرية بأيديهم الفئوس، ووجه إلى جعفر بصندوق فيه أطواق وأسورة، فقال له: ادفع إلى من اردت من

أصحابك هذا سوى ما لهم عندي، وما تضمن لهم علي من الزيادة في أرزاقهم والكتاب إلى أمير المؤمنين بأسمائهم فاشتبكت الحرب على الباب طويلا، ثم فتح الخرمية لباب، وخرجوا على أصحاب جعفر، فنحوهم عن الباب، وشدوا على المطوعة من الناحية الأخرى، فأخذوا منهم علمين طرحوهم عن السور، وجرحوهم بالصخر حتى أثروا فيهم، فرقوا عن الحرب، ووقفوا، وصاح جعفر بأصحابه، فبدر منهم نحو من مائة رجل، فبركوا خلف تراسهم التي كانت معهم، وواقفوهم متحاجزين، لا هؤلاء يقدمون على هؤلاء، ولا هؤلاء يقدمون على هؤلاء، فلم يزالوا كذلك حتى صلى الناس الظهر، وكان الأفشين قد حمل عرادات، فنصب عرادة منها مما يلي جعفرا على الباب، وعرادة أخرى من طرف الوادي من ناحية المطوعة، فأما العرادة التي من ناحية جعفر، فدافع عنها جعفر حتى صارت العرادة فيما بينهم وبين الخرمية ساعة طويلة، ثم تخلصها أصحاب جعفر بعد جهد، فقلعوها وردوها إلى العسكر، فلم يزل الناس متواقفين متحاجزين، يختلف بينهم النشاب والحجارة أولئك على سورهم والباب، وهؤلاء قعود تحت أتراسهم، ثم تناجزوا بعد ذلك، فلما نظر الأفشين إلى ذلك كره أن يطمع العدو في الناس، فوجه الرجالة الذين كان أعدهم قبله، حتى وقفوا في موضع المطوعة، وبعث إلى جعفر بكردوس فيه رجالة، فقال جعفر: لست اوتى من قله الرجاله معي رجال فرة ولكني لست أرى للحرب موضعا يتقدمون، انما هاهنا موضع مجال رجل أو رجلين قد وقفوا عليه، وانقطعت الحرب، فبعث إليه: انصرف على بركة الله، فانصرف جعفر، وبعث الأفشين بالبغال التي كان جاء بها معه، عليها المحامل، فجعلت فيها الجرحى ومن كان به وهن من الحجارة ولا يقدر على المشي، وأمر الناس بالانصراف، فانصرفوا إلى خندقهم بروذ الروذ، وأيس الناس من الفتح في تلك السنة، وانصرف اكثر المطوعة سنه 222 ثم أن الأفشين تجهز بعد جمعتين، فلما كان في جوف الليل، بعث الرجالة الناشبة، وهم مقدار ألف رجل، فدفع إلى كل واحد منهم شكوة

وكعكا، ودفع إلى بعضهم أعلاما سودا وغير ذلك، وأرسلهم عند مغيب الشمس، وبعث معهم أدلاء، فساروا ليلتهم في جبال منكرة صعبة على غير الطريق، حتى داروا، فصاروا خلف التل الذي يقف آذين عليه- وهو جبل شاهق- وأمرهم ألا يعلم بهم أحد، حتى إذا رأوا أعلام الأفشين وصلوا الغداة ورأوا الوقعة، ركبوا تلك الأعلام في الرماح، وضربوا الطبول، وانحدروا من فوق الجبل، ورموا بالنشاب والصخر على الخرمية، وإن هم لم يروا الأعلام لم يتحركوا حتى يأتيهم خبره، ففعلوا ذلك فوافوا رأس الجبل عند السحر، وجعلوا في تلك الشكاء الماء من الوادي، وصاروا فوق الجبل، فلما كان في بعض الليل وجه الأفشين إلى القواد أن يتهيئوا في السلاح، فإنه يركب في السحر، فلما كان في بعض الليل، وجه بشيرا التركي وقوادا من الفراغنة كانوا معه، فأمرهم أن يسيروا حتى يصيروا تحت التل مع أسفل الوادي الذي حملوا منه الماء، وهو تحت الجبل الذي كان عليه آذين، وقد كان الأفشين علم أن الكافر يكمن تحت ذلك الجبل كلما جاءه العسكر، فقصد بشير والفراغنة إلى ذلك الموضع الذي علم أن للخرمية فيه عسكرا كامنين، فساروا في بعض الليل، ولا يعلم بهم أكثر أهل العسكر ثم بعث للقواد: تأهبوا للركوب في السلاح، فإن الأمير يغدو في السحر، فلما كان السحر خرج وأخرج الناس، وأخرج النفاطين والنفاطات والشمع على حسب ما كان يخرج، فصلى الغداة، وضرب الطبل، وركب حتى وافى الموضع الذى كان يقف فيه في كل مرة، وبسط له النطع، ووضع له الكرسي كعادته. وكان بخاراخذاه يقف على العقبة التي كان يقف عليها في كل يوم، فلما كان ذلك اليوم صير بخاراخذاه في المقدمة مع أبي سعيد وجعفر الخياط وأحمد بن الخليل، فأنكر الناس هذه التعبئة في ذلك الوقت، وأمرهم أن يدنوا من التل الذي عليه آذين، فيحدقوا به، وقد كان ينهاهم عن هذا قبل ذلك اليوم، فمضى الناس مع هؤلاء القواد الأربعة الذين سمينا، حتى صاروا حول التل وكان جعفر الخياط مما يلي باب البذ، وكان أبو سعيد مما يليه، وبخاراخذاه مما يلي أبا سعيد، وأحمد بن الخليل بن هشام مما يلى بخاراخذاه،

فصاروا جميعا حلقة حول التل، وارتفعت الضجة من أسفل الوادي، وإذا الكمين الذي تحت التل الذي كان يقف عليه آذين قد وثب ببشير التركي والفراغنة، فحاربوهم واشتبكت الحرب بينهم ساعة. وسمع أهل العسكر ضجتهم، فتحرك الناس، فأمر الأفشين أن ينادوا: أيها الناس، هذا بشير التركي والفراغنة قد وجهتهم، فأثاروا كمينا فلا تتحركوا فلما سمع الرجالة الناشبة الذين كانوا تقدموا، وصاروا فوق الجبل ركبوا الأعلام كما أمرهم الأفشين، فنظر الناس إلى أعلام تجيء من جبل شاهق، أعلام سود، وبين العسكر وبين الجبل نحو فرسخ، وهم ينحدرون على جبل آذين من فوقهم، قد ركبوا الأعلام، وجعلوا ينحدرون يريدون آذين، فلما نظر إليهم أهل عسكر آذين وجه آذين إليهم بعض رجالته الذين معه من الخرمية ولما نظر الناس إليهم راعوهم، فبعث إليهم الأفشين: أولئك رجالنا أنجدتنا على آذين، فحمل جعفر الخياط وأصحابه على آذين وأصحابه، حتى صعدوا إليهم، فحملوا عليهم حملة شديدة، قلبوه وأصحابه في الوادي، وحمل عليهم رجل ممن في ناحية أبي سعيد من أصحاب أبي سعيد، يقال له معاذ بن محمد- أو محمد بن معاذ- في عدة معه، فإذا تحت حوافر دوابهم آبار محفورة تدخل أيدي الدواب فيها، فتساقطت فرسان أبي سعيد فيها، فوجه الأفشين الكلغرية يقلعون حيطان منازلهم، ويطمون بها تلك الآبار، ففعلوا ذلك، فحمل الناس عليهم حملة واحدة، وكان آذين قد هيأ فوق الجبل عجلا عليها صخر، فلما حمل الناس عليه، دفع العجل على الناس فأفرجوا عنها، فقد حرجت، ثم حمل الناس من كل وجه. فلما نظر بابك إلى أصحابه قد أحدق بهم، خرج من طرف البذ، من باب مما يلي الأفشين، يكون بين هذا الباب وبين التل الذي عليه الأفشين قدر ميل فأقبل بابك في جماعة معه يسألون عن الأفشين، فقال لهم أصحاب أبي دلف: من هذا؟ فقالوا: هذا بابك يريد الأفشين، فأرسل أبو دلف

إلى الأفشين يعلمه ذلك، فأرسل الأفشين رجلا يعرف بابك، فنظر إليه، ثم عاد إلى الأفشين، فقال: نعم هو بابك، فركب إليه الأفشين، فدنا منه حتى صار في موضع يسمع كلامه وكلام أصحابه، والحرب مشتبكة في ناحية آذين، فقال له: أريد الأمان من أمير المؤمنين، فقال له الأفشين: قد عرضت عليك هذا، وهو لك مبذول متى شئت، فقال: قد شئت الآن، على أن تؤجلني أجلا أحمل فيه عيالي، وأتجهز فقال له الأفشين: قد والله نصحتك غير مرة فلم تقبل نصيحتي، وأنا أنصحك الساعة، خروجك اليوم في الأمان خير من غد قال: قد قبلت أيها الأمير، وأنا على ذلك، فقال له الأفشين: فابعث بالرهائن الذين كنت سألتك قال: نعم، أما فلان وفلان فهم على ذلك التل، فمر أصحابك بالتوقف. قال: فجاء رسول الأفشين ليرد الناس، فقيل له: إن أعلام الفراغنة قد دخلت البذ وصعدوا بها القصور فركب وصاح بالناس، فدخل ودخلوا، وصعد الناس بالأعلام فوق قصور بابك، وكان قد كمن في قصوره- وهي اربعه- ستمائه رجل، فوافاهم الناس، فصعدوا بالأعلام فوق القصور، وامتلأت شوارع البذ وميدانها من الناس، وفتح أولئك الكمناء أبواب القصور، وخرجوا رجالة يقاتلون الناس ومر بابك حتى دخل الوادي الذي يلى هشتاد سر، واشتغل الأفشين وجميع قواده بالحرب على أبواب القصور، فقاتل الخرمية قتالا شديدا، وأحضر النفاطين، فجعلوا يصبون عليهم النفط والنار، والناس يهدمون القصور، حتى قتلوا عن آخرهم وأخذ الأفشين أولاد بابك ومن كان معهم في البذ من عيالاتهم، حتى أدركهم المساء، فأمر الأفشين بالانصراف فانصرفوا، وكان عامة الخرمية في البيوت، فرجع الأفشين إلى الخندق بروذ الروذ. فذكر أن بابك وأصحابه الذين نزلوا معه الوادي حين علموا أن الأفشين قد رجع إلى خندقه، رجعوا إلى البذ، فحملوا من الزاد ما أمكنهم حمله، وحملوا أموالهم، ثم دخلوا الوادى الذى يلى هشتاد سر فلما كان في الغد خرج

الأفشين حتى دخل البذ، فوقف في القرية، وأمر بهدم القصور، ووجه الرجالة يطوفون في أطراف القرية، فلم يجدوا فيها أحدا من العلوج، فأصعد الكلغرية، فهدموا القصور وأحرقوها، فعل ذلك ثلاثة أيام حتى أحرق خزائنه وقصوره، ولم يدع فيها بيتا ولا قصرا إلا أحرقه وهدمه، ثم رجع وعلم أن بابك قد أفلت في بعض أصحابه، فكتب الأفشين إلى ملوك أرمينية وبطارقتها يعلمهم أن بابك قد هرب وعدة معه، وصار إلى واد، وخرج منه إلى ناحية أرمينية، وهو مار بكم، وأمرهم أن يحفظ كل واحد منهم ناحيته، ولا يسلكها أحد إلا أخذوه حتى يعرفوه فجاء الجواسيس إلى الأفشين، فأخبروه بموضعه في الوادي، وكان واديا كثير العشب والشجر، طرفه بأرمينية وطرفه الآخر بأذربيجان، ولم يمكن الخيل أن تنزل إليه، ولا يرى من يستخفي فيه لكثرة شجره ومياهه، إنما كانت غيضة. واحدة، ويسمى هذا الوادي غيضة فوجه الأفشين إلى كل موضع يعلم أن منه طريقا ينحدر منه إلى تلك الغيضة، أو يمكن بابك أن يخرج من ذلك الطريق، فصير على كل طريق وموضع من هذه المواضع عسكرا فيه ما بين أربعمائة الى خمسمائة مقاتل، ووجه معهم الكوهبانية ليقفوهم على الطريق، وأمرهم بحراسة الطريق في الليل لئلا يخرج منه أحد. وكان يوجه إلى كل عسكر من هذه العساكر الميرة من عسكره، وكانت هذه العساكر خمسة عشر عسكرا، فكانوا كذلك حتى ورد كتاب أمير المؤمنين المعتصم بالذهب مختوما، فيه أمان لبابك فدعا الأفشين من كان استأمن إليه من أصحاب بابك، وفيهم ابن له كبير، أكبر ولده، فقال له وللأسرى: هذا ما لم أكن أرجوه من أمير المؤمنين، ولا أطمع له فيه أن يكتب إليه وهو في هذه الحال بأمان، فمن يأخذه منكم ويذهب به إليه؟ فلم يجسر على ذلك أحد منهم، فقال بعضهم: أيها الأمير، ما فينا أحد يجترئ أن يلقاه بهذا، فقال له الأفشين: ويحك! إنه يفرح بهذا، قالوا: أصلح الله الأمير! نحن أعرف بهذا منك، قال: فلا بد لكم من أن تهبوا لي أنفسكم، وتوصلوا

هذا الكتاب إليه فقام رجلان منهم، فقالا له: اضمن لنا أنك تجري على عيالاتنا، فضمن لهما الأفشين ذلك، وأخذا الكتاب وتوجها فلم يزالا يدوران في الغيضة حتى أصاباه، وكتب معهما ابن بابك بكتاب يعلمه الخبر، ويسأله أن يصير إلى الأمان، فهو أسلم له وخير فدفعا إليه كتاب ابنه، فقرأه، وقال: أي شيء كنتم تصنعون؟ قالا: أسر عيالاتنا في تلك الليلة وصبياننا، ولم نعرف موضعك فنأتيك، وكنا في موضع تخوفنا أن يأخذونا، فطلبنا الأمان فقال للذي كان الكتاب معه: هذا لا اعرفه، ولكن أنت يا بن الفاعلة، كيف اجترأت على هذا أن تجيئني من عند ذاك ابن الفاعلة! فأخذه وضرب عنقه، وشد الكتاب على صدره مختوما لم يفضه، ثم قال للآخر: اذهب وقل لذاك ابن الفاعلة- يعني ابنه- حيث يكتب إلي، وكتب إليه: لو أنك لحقت بي واتبعت دعوتك حتى يجيئك الأمر يوما كنت ابني، وقد صح عندي الساعة فساد أمك الفاعلة يا بن الفاعلة، عسى أن أعيش بعد اليوم! قد كنت باسم هذه الرياسة وحيثما كنت أو ذكرت كنت ملكا، ولكنك من جنس لا خير فيه، وأنا أشهد أنك لست يا بنى، تعيش يوما واحدا وأنت رئيس خير، أو تعيش أربعين سنة وأنت عبد ذليل! ورحل من موضعه، ووجه مع الرجل ثلاثة نفر حتى أصعدوه من موضع من المواضع، ثم لحقوا ببابك، فلم يزل في تلك الغيضة حتى فني زاده، وخرج مما يلي طريقا كان عليه بعض العساكر، وكان موضع الطريق جبلا ليس فيه ماء، فلم يقدر العسكر أن يقيم على الطريق لبعده عن الماء، فتنحى العسكر عن الطريق إلى قرب الماء، وصيروا كوهبانيين وفارسين على طرف الطريق يحرسونه، والعسكر بينه وبين الطريق نحو من ميل ونصف، كان ينوب على الطريق كل يوم فارسان وكوهبانيان، فبينا هم ذات يوم نصف النهار، إذ خرج بابك وأصحابه، فلم يروا أحدا، ولم يروا الفارسين والكوهبانيين، وظنوا أن ليس هناك عسكر، فخرج هو وأخواه: عبد الله ومعاوية، وأمه وامرأة له

يقال لها ابنة الكلندانية فخرجوا من الطريق، وساروا يريدون أرمينية، ونظر إليهم الفارسان والكوهبانيان، فوجهوا إلى العسكر، وعليه أبو الساج: إنا قد رأينا فرسانا يمرون ولا ندري من هم فركب الناس، وساروا، فنظروا إليهم من بعد وقد نزلوا على عين ماء يتغدون عليها، فلما نظروا إلى الناس بادر الكافر فركب وركب من كان معه، فأفلت وأخذ معاوية وأم بابك والمرأة التي كانت معه، ومع بابك غلام له، فوجه أبو الساج بمعاوية والمرأتين إلى العسكر، ومر بابك متوجها حتى دخل جبال أرمينية يسير في الجبال متكمنا، فاحتاج إلى طعام، وكان جميع بطارقة أرمينية قد تحفظوا بنواحيهم وأطرافهم، وأوصوا مسالحهم ألا يجتاز عليهم أحد إلا أخذوه حتى يعرفوه، فكان أصحاب المسالح كلهم متحفظين، وأصاب بابك الجوع، فأشرف فإذا هو بحراث يحرث على فدان له في بعض الأودية، فقال لغلامه: انزل إلى هذا الحراث، وخذ معك دنانير ودراهم، فإن كان معه خبز فخذه وأعطه، وكان للحراث شريك ذهب لحاجته، فنزل الغلام إلى الحراث، فنظر إليه شريكه من بعيد، فوقف بالبعد يفرق من أن يجيء إلى شريكه وهو ينظر ما يصنع شريكه، فدفع الغلام إلى الحراث شيئا، فجاء الحراث فأخذ الخبز، فدفعه إلى الغلام وشريكه قائم ينظر إليه، ويظن إنما اغتصبه خبزه، ولم يظن أنه أعطاه شيئا، فعدا إلى المسلحة، فأعلمهم أن رجلا جاءهم عليه سيف وسلاح، وأنه أخذ خبز شريكه من الوادي، فركب صاحب المسلحة- وكان في جبال ابن سنباط- ووجه إلى سهل بن سنباط بالخبر، فركب ابن سنباط وجماعة معه حتى جاءه مسرعا، فوافى الحراث والغلام عنده، فقال له: ما هذا؟ قال له الحراث: هذا رجل مر بي، فطلب مني خبزا فأعطيته، فقال للغلام: واين مولاك؟ قال: هاهنا- وأومى إليه- فاتبعه فأدركه وهو نازل، فلما رأى وجهه عرفه، فترجل له ابن سنباط عن دابته، ودنا منه فقبل يده، ثم قال له: يا سيداه، إلى أين؟ قال: أريد بلاد الروم- أو موضعا سماه- فقال له: لا تجد موضعا ولا أحدا أعرف بحقك، ولا أحق أن تكون عنده مني، تعرف موضعي، ليس بيني وبين

السلطان عمل، ولا تدخل على احد من أصحاب السلطان وأنت عارف بقضيتي وبلدي، وكل من هاهنا من البطارقة إنما هم أهل بيتك، قد صار لك منهم أولاد، وذلك أن بابك كان إذا علم أن عند بعض البطارقة ابنة أو أختا جميلة وجه إليها يطلبها، فإن بعث بها إليه وإلا بيته وأخذها، وأخذ جميع ماله من متاع وغير ذلك، وصار به إلى بلده غصبا سنه 222 ثم قال ابن سنباط له: صر عندي في حصني، فإنما هو منزلك، وأنا عبدك، كن فيه شتوتك هذه ثم ترى رأيك وكان بابك قد أصابه الضر والجهد، فركن إلى كلام سهل بن سنباط، وقال له: ليس يستقيم أن أكون أنا وأخي في موضع واحد، فلعله أن يعثر بأحدنا فيبقى الآخر، ولكن أقيم عندك أنا، ويتوجه عبد الله أخي إلى ابن اصطفانوس، لا ندري ما يكون، وليس لنا خلف يقوم بدعوتنا فقال له ابن سنباط: ولدك كثير، قال: ليس فيهم خير وعزم على أن يصير أخاه في حصن ابن اصطفانوس- وكان يثق به- فصار هو مع ابن سنباط في حصنه، فلما أصبح عبد الله مضى إلى حصن ابن اصطفانوس، وأقام بابك عند ابن سنباط، وكتب ابن سنباط إلى الأفشين يعلمه أن بابك عنده في حصنه فكتب إليه: إن كان هذا صحيحا فلك عندي وعند أمير المؤمنين- أيده الله- الذي تحب، وكتب يجزيه خيرا، ووصف الأفشين صفة بابك لرجل من خاصته، ممن يثق به، ووجه به إلى ابن سنباط وكتب إليه يعلمه أنه قد وجه إليه برجل من خاصته، يحب أن يرى بابك ليحكي للأفشين ذلك فكره ابن سنباط ان يوحش بابك، فقال للرجل: ليس يمكن أن تراه إلا في الوقت الذي يكون منكبا على طعامه يتغدى، فإذا رأيتنا قد دعونا بالغداء فالبس ثياب الطباخين الذين معنا على هيئة علوجنا وتعال كأنك تقدم الطعام، أو تناول شيئا، فإنه يكون منكبا على الطعام، فتفقد منه ما تريد، فاذهب فاحكه لصاحبك. ففعل ذلك في وقت الطعام، فرفع بابك رأسه فنظر إليه فأنكره، فقال: من هذا الرجل؟ فقال له ابن سنباط: هذا رجل من أهل خراسان، منقطع

إلينا منذ زمان، نصراني فلقن ابن سنباط الأشروسني ذلك، فقال له بابك: منذ كم أنت هاهنا؟ قال: منذ كذا وكذا سنة، قال: وكيف اقمت هاهنا؟ قال: تزوجت هاهنا، قال: صدقت إذا قيل للرجل: من أين أنت؟ قال: من حيث امرأتي. ثم رجع إلى الأفشين فأخبره، ووصف له جميع ما رأى ثم من بابك. ووجه الأفشين أبا سعيد وبوزباره إلى ابن سنباط، وكتب إليه معهما، وأمرهما إذا صارا إلى بعض الطريق قد ما كتابه إلى ابن سنباط مع علج من الأعلاج، وأمرهما ألا يخالفا ابن سنباط فيما يشير به عليهما ففعلا ذلك، فكتب إليهما ابن سنباط في المقام بموضع- قد سماه ووصفه لهما- إلى أن يأتيهما رسوله فلم يزالا مقيمين بالموضع الذي وصفه لهما، ووجه إليهما ابن سنباط بالميرة والزاد، حتى تحرك بابك للخروج الى الصيد، فقال له: هاهنا واد طيب، وأنت مغموم في جوف هذا الحصن! فلو خرجنا ومعنا بازي وباشق وما يحتاج إليه، فنتفرج إلى وقت الغداء بالصيد! فقال له بابك: إذا شئت فانفذ ليركبا بالغداة، وكتب ابن سنباط إلى أبي سعيد وبو زباره يعلمهما ما قد عزم عليه، ويأمرهما أن يوافياه، واحد من هذا الجانب من الجبل والآخر من الجانب الآخر في عسكرهما وأن يسيرا متكمنين مع صلاة الصبح، فإذا جاءهما رسوله أشرفا على الوادي، فانحدروا عليه إذا رأوهم وأخذوهم. فلما ركب ابن سنباط وبابك بالغداة وجه ابن سنباط رسولا إلى أبي سعيد ورسولا الى بو زباره، وقال لكل رسول: جيء بهذا إلى موضع كذا، وجيء بهذا إلى موضع كذا، فأشرفا علينا، فإذا رأيتمونا فقولوا: هم هؤلاء خذوهم، وأراد أن يشبه على بابك، فيقول: هذه خيل جاءتنا، فأخذتنا، ولم يحب أن يدفعه إليهما من منزله، فصار الرسولان إلى أبي سعيد وبو زباره، فمضيا بهما حتى أشرفا على الوادي، فإذا هما ببابك وابن سنباط، فنظرا إليه وانحدرا وأصحابهما عليه، هذا من هاهنا، وهذا من هاهنا، وأخذاهما ومعهما البواشيق، وعلى بابك دراعة بيضاء وعمامة بيضاء، وخف قصير ويقال كان بيده باشق، فلما نظر إلى

العساكر قد أحدقت به وقف، فنظر إليهما، فقالا له: انزل، فقال: ومن أنتما؟ فقال أحدهما: أنا أبو سعيد، والآخر: أنا بوزباره، فقال: نعم، وثنى رجله، فنزل، وكان ابن سنباط ينظر إليه، فرفع رأسه إلى ابن سنباط فشتمه، وقال: إنما بعتني لليهود بالشيء اليسير، لو أردت المال وطلبته لأعطيتك أكثر مما يعطيك هؤلاء، فقال له أبو سعيد: قم فاركب، قال: نعم. فحملوه وجاءوا به إلى الأفشين، فلما قرب من العسكر صعد الأفشين برزند، فضربت له خيمة على برزند، وأمر الناس فاصطفوا صفين، وجلس الأفشين في فازة، وجاءوا به، وأمر الأفشين ألا يتركوا عربيا يدخل بين الصفين فرقا أن يقتله إنسان أو يجرحه ممن قتل أولياءه، أو صنع به داهية. وكان قد صار إلى الأفشين نساء كثير وصبيان، ذكروا أن بابك كان أسرهم، وأنهم أحرار من العرب والدهاقين، فأمر الأفشين فجعلت لهم حظيرة كبيرة، وأسكنهم فيها، وأجرى لهم الخبز، وأمرهم أن يكتبوا إلى أوليائهم حيث كانوا، فكان كل من جاء فعرف امرأة أو صبيا أو جارية، وأقام شاهدين أنه يعرفها وأنها حرمة له أو قرابة دفعها إليه، فجاء الناس، فأخذوا منهم خلقا كثيرا، وبقي منهم ناس كثير ينتظرون أن يجيء أولياؤهم. ولما كان ذلك اليوم الذي أمر الأفشين الناس أن يصطفوا، فصار بين بابك وبينه قدر نصف ميل، أنزل بابك يمشي بين الصفين في دراعته وعمامته وخفيه، حتى جاء فوقف بين يدي الأفشين فنظر إليه الأفشين، ثم قال: انزلوا به إلى العسكر، فنزلوا به راكبا، فلما نظر النساء والصبيان الذين في الحظيرة إليه لطموا على وجوههم، وصاحوا وبكوا حتى ارتفعت أصواتهم، فقال لهم الأفشين: أنتم بالأمس، تقولون أسرنا، وأنتم اليوم تبكون عليه! عليكم لعنة الله قالوا: كان يحسن إلينا فأمر به الأفشين فأدخل بيتا، ووكل به رجالا من أصحابه. وكان عبد الله أخو بابك لما أقام بابك عند ابن سنباط، صار الى عيسى

ابن يوسف بن اصطفانوس، فلما أخذ الأفشين بابك، وصيره معه في عسكره ووكل به، أعلم بمكان عبد الله أنه عند ابن اصطفانوس، فكتب الأفشين إلى ابن اصطفانوس أن يوجه إليه بعبد الله، فوجه به ابن اصطفانوس إلى الأفشين، فلما صار في يد الأفشين حبسه مع أخيه في بيت واحد، ووكل بهما قوما يحفظونهما. وكتب الأفشين إلى المعتصم بأخذه بابك وأخاه، فكتب المعتصم إليه يأمره بالقدوم بهما عليه، فلما أراد أن يسير إلى العراق وجه إلى بابك فقال: إني أريد أن أسافر بك، فانظر ما تشتهي من بلاد أذربيجان، فقال: أشتهي أن أنظر إلى مدينتي فوجه معه الأفشين قوما في ليلة مقمرة إلى البذ حتى دار فيه، ونظر إلى القتلى والبيوت إلى وقت الصبح، ثم رده إلى الأفشين، وكان الأفشين قد وكل به رجلا من أصحابه فاستعفاه منه بابك، فقال له الأفشين: لم استعفيت منه؟ قال: يجيء ويده ملأى غمرا، حتى ينام عند رأسي فيؤذيني ريحها فأعفاه منه وكان وصول بابك إلى الأفشين ببرزند لعشر خلون من شوال بين بوزبارة وديوداذ. وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.

سنه ثلاث وعشرين ومائتين

ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر خبر قدوم الافشين ببابك على المعتصم فمن ذلك قدوم الأفشين على المعتصم ببابك وأخيه، ذكر أن قدومه عليه به كان ليلة الخميس لثلاث خلون من صفر بسامرا، وأن المعتصم كان يوجه إلى الأفشين كل يوم من حين فصل من برزند إلى أن وافى سامرا فرسا وخلعة، وأن المعتصم لعنايته بأمر بابك وأخباره ولفساد الطريق بالثلج وغيره، جعل من سامرا إلى عقبة حلوان خيلا مضمرة، على رأس كل فرسخ فرسا معه مجر مرتب، فكان يركض بالخبر ركضا حتى يؤديه من واحد إلى واحد، يدا بيد، وكان ما خلف حلوان إلى أذربيجان قد رتبوا فيه المرج، فكان يركض بها يوما أو يومين ثم تبدل ويصير غيرها، ويحمل عليها غلمان من أصحاب المرج كل دابة على رأس فرسخ، وجعل لهم ديادبة على رءوس الجبال بالليل والنهار، وأمرهم أن ينعروا إذا جاءهم الخبر، فإذا سمع الذي يليه النعير تهيأ فلا يبلغ إليه صاحبه الذي نعر حتى يقف له على الطريق، فيأخذ الخريطة منه، فكانت الخريطة تصل من عسكر الأفشين إلى سامرا في أربعة ايام وأقل، فلما صار الأفشين بقناطر حذيفة تلقاه هارون بن المعتصم وأهل بيت المعتصم، فلما صار الأفشين ببابك إلى سامرا أنزله الأفشين في قصره بالمطيرة، فلما كان في جوف الليل ذهب أحمد بن أبي دواد متنكرا، فرآه وكلمه، ثم رجع إلى المعتصم، فوصفه له، فلم يصبر المعتصم حتى ركب إليه بين الحائطين في الحير، فدخل إليه متنكرا، ونظر إليه وتأمله، وبابك لا يعرفه، فلما كان من غد قعد له المعتصم يوم اثنين أو خميس، واصطف الناس من باب العامة إلى المطيرة، وأراد المعتصم أن يشهره ويريه الناس، فقال: على أي

شيء يحمل هذا؟ وكيف يشهر! فقال حزام: يا أمير المؤمنين، لا شيء أشهر من الفيل، فقال: صدقت، فأمر بتهيئة الفيل، وأمر به فجعل في قباء ديباج وقلنسوة سمور مدورة، وهو وحده، فقال محمد بن عبد الملك الزيات: قد خضب الفيل كعاداته ... يحمل شيطان خراسان والفيل لا تخضب أعضاؤه ... إلا لذي شأن من الشان فاستشرفه الناس من المطيرة إلى باب العامة، فأدخل دار العامة إلى أمير المؤمنين، وأحضر جزارا ليقطع يديه ورجليه، ثم أمر أن يحضر سيافه، فخرج الحاجب من باب العامه، وهو ينادى: نودنود- وهو اسم سياف بابك- فارتفعت الصيحة بنودنود حتى حضر، فدخل دار العامة، فأمره أمير المؤمنين أن يقطع يديه ورجليه، فقطعهما فسقط، وأمر أمير المؤمنين بذبحه وشق بطن أحدهما، ووجه برأسه إلى خراسان، وصلب بدنه بسامرا عند العقبة، فموضع خشبته مشهور، وأمر بحمل أخيه عبد الله مع ابن شروين الطبري إلى إسحاق بن إبراهيم خليفته بمدينة السلام، وأمره بضرب عنقه، وأن يفعل به مثل ما فعل بأخيه، وصلبه، فلما صار به الطبري إلى البردان، نزل به ابن شروين في قصر البردان، فقال عبد الله أخو بابك لابن شروين: من أنت؟ فقال: ابن شروين ملك طبرستان، فقال: الحمد لله الذي وفق لي رجلا من الدهاقين يتولى قتلي قال: إنما يتولى قتلك هذا- وكان عنده نودنود، وهو الذي قتل بابك- فقال له: أنت صاحبي، وإنما هذا علج، فأخبرني، أأمرت ان تطعمني شيئا أم لا؟ قال: قل ما شئت، قال: اضرب لي فالوذجة، قال: فأمر فضربت له فالوذجة في جوف الليل، فأكل منها حتى تملأ، ثم قال: يا أبا فلان، ستعلم غدا أني دهقان إن شاء الله ثم قال: تقدر أن تسقيني نبيذا؟ قال: نعم، ولا تكثر، قال: فإني لا أكثر، قال: فأحضر أربعة أرطال خمر، فقعد فشربها على مهل إلى قريب من الصبح، ثم رحل

في السحر، فوافى به مدينة السلام، ووافى به راس الجسر، وامر إسحاق ابن إبراهيم بقطع يديه ورجليه، فلم ينطق ولم يتكلم، وأمر بصلبه فصلب في الجانب الشرقي بين الجسرين بمدينة السلام وذكر عن طوق بن أحمد، أن بابك لما هرب صار إلى سهل بن سنباط فوجه الأفشين أبا سعيد وبو زباره، فأخذاه منه، فبعث سهل مع بابك بمعاوية ابنه إلى الأفشين، فأمر لمعاوية بمائة ألف درهم، وأمر لسهل بألف ألف درهم استخرجها له من أمير المؤمنين، ومنطقة مغرقة بالجوهر وتاج البطرقة، فبطرق سهل بهذا السبب، والذي كان عنده عبد الله أخو بابك عيسى بن يوسف المعروف بابن أخت اصطفانوس ملك البيلقان. وذكر عن محمد بن عمران كاتب علي بن مر، قال: حدثني علي بن مر، عن رجل من الصعاليك يقال له مطر، قال: كان والله يا أبا الحسن بابك ابني، قلت: وكيف؟ قال: كنا مع ابن الرواد، وكانت أمه ترتوميذ العوراء من علوج ابن الرواد، فكنت انزل عليها، وكانت مصكة، فكانت تخدمني وتغسل ثيابي، فنظرت إليها يوما، فواثبتها بشبق السفر وطول الغربة، فأقررته في رحمها ثم قال: غبنا غيبة بعد ذلك، ثم قدمنا فإذا هي تطلبنى، فنزلت في منزل آخر، فصارت إلي يوما، فقالت: حين ملات بطنى تنزل هاهنا وتتركني! فأذاعت أنه مني، فقلت: والله لئن ذكرتني لأقتلنك، فأمسكت عني، فهو والله ابني. وكان يجزي الأفشين في مقامه بإزاء بابك سوى الأرزاق، والأنزال والمعاون في كل يوم يركب فيه عشرة آلاف درهم. وفي كل يوم لا يركب فيه خمسة آلاف درهم وكان جميع من قتل بابك في عشرين سنه مائتي الف وخمسه وخمسين

ذكر خبر إيقاع الروم باهل زبطره

ألفا وخمسمائة إنسان وغلب يحيى بن معاذ وعيسى بن محمد بن أبي خالد وأحمد بن الجنيد، وأسره وزريق بن علي بن صدقة ومحمد بن حميد الطوسي وإبراهيم بن الليث، وأسر مع بابك ثلاثة آلاف وثلاثمائة وتسعة أناسى، واستنقذ ممن كان في يده من المسلمات وأولادهم سبعه آلاف وستمائه إنسان، وعدة من صار في يد الأفشين من بني بابك سبعة عشر رجلا ومن البنات والكنات ثلاث وعشرون امرأة، فتوج المعتصم الأفشين وألبسه وشاحين بالجوهر، ووصله بعشرين ألف ألف درهم، منها عشرة آلاف ألف صلة وعشرة آلاف ألف درهم يفرقها في أهل عسكره، وعقد له على السند وأدخل عليه الشعراء يمدحونه، وأمر للشعراء بصلات، وذلك يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر، وكان مما قيل فيه قول أبي تمام الطائي: بذ الجلاد البذ فهو دفين ... ما ان به إلا الوحوش قطين لم يقر هذا السيف هذا الصبر في ... هيجاء إلا عز هذا الدين قد كان عذرة سودد فافتضها ... بالسيف فحل المشرق الأفشين فأعادها تعوي الثعالب وسطها ... ولقد ترى بالأمس وهي عرين هطلت عليها من جماجم أهلها ... ديم إمارتها طلى وشئون كانت من المهجات قبل مفازة ... عسرا، فأضحت وهي منه معين. ذكر خبر إيقاع الروم باهل زبطره وفي هذه السنة أوقع توفيل بن ميخائيل صاحب الروم بأهل زبطرة، فأسرهم وخرب بلدهم، ومضى من فوره إلى ملطية فأغار على أهلها وعلى أهل حصون من حصون المسلمين، إلى غير ذلك، وسبا من المسلمات- فيما قيل- أكثر من ألف امرأة، ومثل بمن صار في يده من المسلمين، وسمل أعينهم، وقطع آذانهم وآنافهم.

ذكر الخبر عن سبب فعل صاحب الروم بالمسلمين ما فعل من ذلك:

ذكر الخبر عن سبب فعل صاحب الروم بالمسلمين ما فعل من ذلك: ذكر أن السبب في ذلك كان ما لحق بابك من تضييق الأفشين عليه وإشرافه على الهلاك، وقهر الأفشين إياه، فلما أشرف على الهلاك، وأيقن بالضعف من نفسه عن حربه، كتب الى ملك الروم توفيل بن ميخائيل بن جورجس، يعلمه أن ملك العرب قد وجه عساكره ومقاتلته إليه حتى وجه خياطه- يعني جعفر بن دينار- وطباخه- يعني إيتاخ- ولم يبق على بابه أحد، فإن أردت الخروج إليه فاعلم أنه ليس في وجهك أحد يمنعك، طمعا منه بكتابه ذلك إليه في أن ملك الروم أن تحرك انكشف عنه بعض ما هو فيه بصرف المعتصم بعض من بإزائه من جيوشه إلى ملك الروم، واشتغاله به عنه. فذكر أن توفيل خرج في مائة ألف- وقيل أكثر- فيهم من الجند نيف وسبعون ألفا، وبقيتهم أتباع حتى صار إلى زبطرة، ومعه من المحمرة الذين كانوا خرجوا بالجبال فلحقوا بالروم حين قاتلهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب جماعة رئيسهم بارسيس وكان ملك الروم قد فرض لهم، وزوجهم وصيرهم مقاتلة يستعين بهم في أهم أموره إليه، فلما دخل ملك الروم زبطرة وقتل الرجال الذين فيها، وسبى الذراري والنساء التي فيها وأحرقها، بلغ النفير- فيما ذكر- إلى سامرا، وخرج أهل ثغور الشام والجزيرة وأهل الجزيرة إلا من لم يكن عنده دابة ولا سلاح، واستعظم المعتصم ذلك. فذكر أنه لما انتهى إليه الخبر بذلك صاح في قصره النفير، ثم ركب دابته وسمط خلفه شكالا وسكة حديد وحقيبة، فلم يستقم له أن يخرج إلا بعد التعبئة، فجلس- فيما ذكر- في دار العامة، وقد أحضر من أهل مدينة السلام قاضيها عبد الرحمن بن إسحاق وشعيب بن سهل، ومعهما ثلاثمائة وثمانية وعشرون رجلا من أهل العدالة، فأشهدهم على ما وقف من الضياع، فجعل ثلثا لولده، وثلثا لله، وثلثا لمواليه ثم عسكر بغربي دجلة، وذلك يوم الاثنين لليلتين خلتا من جمادى الأولى

ذكر الخبر عن فتح عموريه

ووجه عجيف بن عنبسة وعمرا الفرغاني ومحمد كوته وجماعة من القواد إلى زبطرة إعانة لأهلها، فوجدوا ملك الروم قد انصرف إلى بلاده بعد ما فعل ما قد ذكرناه، فوقفوا قليلا، حتى تراجع الناس إلى قراهم، واطمأنوا فلما ظفر المعتصم ببابك، قال: أي بلاد الروم أمنع وأحصن؟ فقيل: عمورية، لم يعرض لها أحد من المسلمين منذ كان الإسلام، وهي عين النصرانية وبنكها، وهي اشرف عندهم من القسطنطينية. ذكر الخبر عن فتح عموريه وفي هذه السنة شخص المعتصم غازيا إلى بلاد الروم وقيل كان شخوصه إليها من سامرا في سنة أربع وعشرين ومائتين- وقيل في سنة اثنتين وعشرين ومائتين- بعد قتله بابك. فذكر أنه تجهز جهازا لم يتجهز مثله قبله خليفة قط، من السلاح والعدد والآلة وحياض الأدم والبغال والروايا والقرب وآلة الحديد والنفط، وجعل على مقدمته أشناس، ويتلوه محمد بن إبراهيم، وعلى ميمنته إيتاخ، وعلى ميسرته جعفر بن دينار بن عبد الله الخياط، وعلى القلب عجيف بن عنبسة. ولما دخل بلاد الروم أقام على نهر اللمس، وهو على سلوقية قريبا من البحر، بينه وبين طرسوس مسيرة يوم، وعليه يكون الفداء إذا فودي بين المسلمين والروم، وأمضى المعتصم الأفشين خيذر بن كاوس إلى سروج، وأمره بالبروز منها والدخول من درب الحدث، وسمى له يوما أمره أن يكون دخوله فيه، وقدر لعسكره وعسكر أشناس يوما جعله بينه وبين اليوم الذي يدخل فيه الأفشين، بقدر ما بين المسافتين إلى الموضع الذي رأى أن يجتمع العساكر فيه- وهو أنقرة- ودبر النزول على أنقرة، فإذا فتحها الله عليه صار

إلى عمورية، إذ لم يكن شيء مما يقصد له من بلاد الروم أعظم من هاتين المدينتين، ولا أحرى أن تجعل غايته التي يؤمها. وأمر المعتصم أشناس أن يدخل من درب طرسوس، وامره بانتظاره بالصفصاف فكان شخوص أشناس يوم الأربعاء لثمان بقين من رجب، وقدم المعتصم وصيفا في أثر أشناس على مقدمات المعتصم، ورحل المعتصم يوم الجمعة لست بقين من رجب. فلما صار أشناس بمرج الأسقف، ورد عليه كتاب المعتصم من المطامير يعلمه أن الملك بين يديه، وأنه يريد أن يجوز العساكر اللمس، فيقف على المخاضة، فيكبسهم، ويأمره بالمقام بمرج الأسقف- وكان جعفر بن دينار على ساقة المعتصم- وأعلم المعتصم أشناس في كتابه أن ينتظر موافاة الساقة، لأن فيها الأثقال والمجانيق والزاد وغير ذلك، وكان ذلك بعد في مضيق الدرب لم يخلص، ويأمره بالمقام إلى أن يتخلص صاحب الساقة من مضيق الدرب بمن معه، ويصحر حتى يصير في بلاد الروم. فأقام أشناس بمرج الأسقف ثلاثة أيام، حتى ورد كتاب المعتصم، يأمره أن يوجه قائدا من قواده في سرية يلتمسون رجلا من الروم، يسألونه عن خبر الملك ومن معه، فوجه أشناس عمرا الفرغاني في مائتي فارس، فساروا ليلتهم حتى أتوا حصن قرة فخرجوا يلتمسون رجلا من حول الحصن، فلم يمكن ذلك، ونذر بهم صاحب قرة، فخرج في جميع فرسانه الذين كانوا معه بالقرة، وكمن في الجبل الذي فيما بين قرة ودرة، وهو جبل كبير يحيط برستاق يسمى رستاق قرة، وعلم عمرو الفرغاني أن صاحب قرة قد نذر بهم، فتقدم إلى درة، فكمن بها ليلته، فلما انفجر عمود الصبح صير عسكره ثلاثة كراديس، وأمرهم أن يركضوا ركضا سريعا، بقدر ما يأتونه بأسير عنده خبر الملك، ووعدهم أن يوافوه به في بعض المواضع التي عرفها الأدلاء، ووجه مع كل كردوس دليلين

وخرجوا مع الصبح، فتفرقوا في ثلاثة وجوه، فأخذوا عدة من الروم، بعضهم من أهل عسكر الملك، وبعضهم من الضواحي، وأخذ عمرو رجلا من الروم من فرسان أهل القرة، فسأله عن الخبر، فأخبره أن الملك وعسكره بالقرب منه وراء اللمس بأربعة فراسخ، وأن صاحب قرة نذر بهم في ليلتهم هذه، وأنه ركب فكمن في هذا الجبل فوق رءوسهم، فلم يزل عمرو في الموضع الذي كان وعد فيه أصحابه، وأمر الأدلاء الذين معه أن يتفرقوا في رءوس الجبال، وأن يشرفوا على الكراديس الذين وجههم إشفاقا أن يخالفهم صاحب قرة إلى أحد الكراديس، فرآهم الأدلاء، ولوحوا لهم، فأقبلوا فتوافوا هم وعمرو في موضع غير الموضع الذي كانوا اتعدوا له، ثم نزلوا قليلا، ثم ارتحلوا يريدون العسكر، وقد أخذوا عدة ممن كان في عسكر الملك، فصاروا إلى أشناس في اللمس، فسألهم عن الخبر، فأخبروه أن الملك مقيم منذ أكثر من ثلاثين يوما ينتظر عبور المعتصم ومقدمته باللمس، فيواقعهم من وراء اللمس، وأنه جاءه الخبر قريبا، أنه قد رحل من ناحية الأرمنياق عسكر ضخم، وتوسط البلاد- يعني عسكر الأفشين- وأنه قد صار خلفه. فأمر الملك رجلا من أهل بيته ابن خاله، فاستخلفه على عسكره، وخرج ملك الروم في طائفة من عسكره يريد ناحية الأفشين، فوجه أشناس بذلك الرجل الذي أخبره بهذا الخبر إلى المعتصم، فأخبره بالخبر، فوجه المعتصم من عسكره قوما من الأدلاء، وضمن لهم لكل رجل منهم عشرة آلاف درهم، على أن يوافوا بكتابه الأفشين، وأعلمه فيه أن أمير المؤمنين مقيم، فليقم إشفاقا من أن يواقعه ملك الروم وكتب إلى أشناس كتابا يأمره أن يوجه من قبله رسولا من الأدلاء الذين يعرفون الجبال والطرق والمشبهة بالروم، وضمن لكل رجل منهم عشرة آلاف درهم إن هو أوصل الكتاب، ويكتب إليه أن ملك الروم قد اقبل نحوه فليقم مكانه حتى يوافيه كتاب أمير المؤمنين. فتوجهت الرسل إلى ناحية الأفشين، فلم يلحقه أحد منهم، وذلك أنه كان

وغل في بلاد الروم، وتوافت آلات المعتصم وأثقاله مع صاحب الساقة إلى العسكر، فكتب إلى أشناس يأمره بالتقدم، فتقدم أشناس والمعتصم من ورائه، بينهم مرحلة، ينزل هذا ويرحل هذا ولم يرد عليهم من الأفشين خبر، حتى صاروا من أنقرة على مسيرة ثلاث مراحل، وضاق عسكر المعتصم ضيقا شديدا من الماء والعلف سنه 223 وكان اشناس قد اسر عده اسرى في طريقه، فأمر بهم فضربت أعناقهم حتى بقي منهم شيخ كبير، فقال الشيخ: ما تنتفع بقتلي، وأنت في هذا الضيق، وعسكرك أيضا في ضيق من الماء والزاد، وهاهنا قوم قد هربوا من أنقرة خوفا من أن ينزل بهم ملك العرب، وهم بالقرب منا هاهنا، معهم من الميرة والطعام والشعير شيء كثير، فوجه معي قوما لأدفعهم إليهم، وخل سبيلي! فنادى منادي أشناس: من كان به نشاط فليركب، فركب معه قريب من خمسمائة فارس، فخرج أشناس حتى صار من العسكر على ميل، وبرز معه من نشط من الناس، ثم برز فضرب دابته بالسوط، فركض قريبا من ميلين ركضا شديدا، ثم وقف ينظر إلى أصحابه خلفه، فمن لم يلحق بالكردوس لضعف دابته رده إلى العسكر، ودفع الرجل الأسير إلى مالك بن كيدر، وقال له: متى ما أراك هذا سبيا وغنيمة كثيرة فخل سبيله على ما ضمنا له فسار بهم الشيخ إلى وقت العتمة، فأوردهم على واد وحشيش كثير، فأمرج الناس دوابهم في الحشيش حتى شبعت، وتعشى الناس وشربوا حتى رووا، ثم سار بهم حتى أخرجهم من الغيضة، وسار أشناس من موضعه الذي كان به متوجها إلى أنقرة. وأمر مالك بن كيدر والأدلاء الذين معه أن يوافوه بأنقرة، فسار بهم الشيخ العلج بقية ليلتهم يدور بهم في جبل ليس يخرجهم منه، فقال الأدلاء

لمالك بن كيدر: هذا الرجل يدور بنا، فسأله مالك عما ذكر الأدلاء، فقال: صدقوا، القوم الذين تريدهم خارج الجبل، وأخاف أن أخرج من الجبل بالليل فيسمعوا صوت حوافر الخيل على الصخر، فيهربوا، فإذا خرجنا من الجبل ولم نر أحدا قتلني، ولكن أدور بك في هذا الجبل إلى الصبح، فإذا أصبحنا خرجنا إليهم، فأريتك إياهم حتى آمن ألا تقتلني فقال له مالك: ويحك! فأنزلنا في هذا الجبل حتى نستريح، فقال: رأيك، فنزل مالك ونزل الناس على الصخرة، وأمسكوا لجم دوابهم حتى انفجر الصبح، فلما طلع الفجر قال: وجهوا رجلين يصعدان هذا الجبل، فينظران ما فوقه، فيأخذان من أدركا فيه، فصعد أربعة من الرجال، فأصابوا رجلا وامرأة، فانزلوهما، فساء لهما العلج: أين بات أهل انقرة؟ فسموا لهم الموضع الذي باتوا فيه، فقال لمالك: خل عن هذين، فإنا قد أعطيناهما الأمان حتى دلونا، فخلى مالك عنهما، ثم سار بهم العلج إلى الموضع الذي سماه لهم، فأشرف بهم على العسكر عسكر أهل أنقرة، وهم في طرف ملاحة، فلما رأوا العسكر صاحوا بالنساء والصبيان، فدخلوا الملاحة، ووقفوا لهم على طرف الملاحة يقاتلون بالقنا، ولم يكن موضع حجارة ولا موضع خيل، وأخذوا منهم عدة أسرى، وأصابوا في الأسرى عدة بهم جراحات عتق من جراحات متقدمة، فساءلوهم عن تلك الجراحات، فقالوا: كنا في وقعة الملك مع الأفشين، فقالوا لهم: حدثونا بالقضية فأخبروهم أن الملك كان معسكرا على أربعة فراسخ من اللمس، حتى جاءه رسول، أن عسكرا ضخما قد دخل من ناحية الأرمنياق، فاستخلف على عسكره رجلا من أهل بيته، وأمره بالمقام في موضعه، فإن ورد عليه مقدمة ملك العرب، واقعه إلى أن يذهب هو فيواقع العسكر الذي دخل الأرمنياق- يعني عسكر الأفشين- فقال أميرهم: نعم، وكنت ممن سار مع الملك، فواقعناهم صلاة الغداة فهزمناهم، وقتلنا رجالتهم كلهم، وتقطعت عساكرنا في طلبهم، فلما كان الظهر رجع فرسانهم، فقاتلونا قتالا شديدا حتى حرقوا

عسكرنا، واختلطوا بنا واختلطنا بهم، فلم ندر في أي كردوس الملك! فلم نزل كذلك إلى وقت العصر، ثم رجعنا إلى موضع عسكر الملك الذي كنا فيه فلم نصادفه، فرجعنا إلى موضع معسكر الملك الذي خلفه على اللمس، فوجدنا العسكر قد انتقض، وانصرف الناس عن الرجل قرابة الملك الذي كان الملك استخلفه على العسكر، فأقمنا على ذلك ليلتنا، فلما كان الغد، وافانا الملك في جماعة يسيرة، فوجد عسكره قد اختل، وأخذ الذي استخلفه على العسكر، فضرب عنقه، وكتب إلى المدن والحصون ألا يأخذوا رجلا ممن انصرف من عسكر الملك إلا ضربوه بالسياط، او يرجع إلى موضع سماه لهم الملك انحاز إليه ليجتمع إليه الناس، ويعسكر به، ليناهض ملك العرب، ووجه خادما له خصيا إلى أنقرة على أن يقيم بها، ويحفظ أهلها إن نزل بها ملك العرب. قال الأسير: فجاء الخصي إلى أنقرة، وجئنا معه، فإذا أنقرة قد عطلها أهلها، وهربوا منها، فكتب الخصي إلى ملك الروم يعلمه ذلك، فكتب إليه الملك يأمره بالمسير إلى عمورية. قال: وسألت عن الموضع الذي قصد إليه أهلها- يعني أهل أنقرة- فقالوا لي: إنهم بالملاحة فلحقنا بهم. قال مالك بن كيدر: فدعوا الناس كلهم، خذوا ما أخذتم، ودعوا الباقي، فترك الناس السبي والمقاتلة وانصرفوا راجعين يريدون عسكر أشناس، وساقوا في طريقهم غنما كثيرا وبقرا، وأطلق ذلك الشيخ الأسير مالك، وسار إلى عسكر أشناس بالأسرى، حتى لحق بأنقرة، فمكث أشناس يوما واحدا، ثم لحقه المعتصم من غد، فأخبره بالذي أخبره به الأسير، فسر المعتصم بذلك. فلما كان اليوم الثالث جاءت البشرى من ناحية الأفشين يخبرون بالسلامة، وأنه وارد على أمير المؤمنين بأنقرة. قال: ثم ورد على المعتصم الأفشين بعد ذلك اليوم بيوم بأنقرة، فأقاموا بها

أياما، ثم صير العسكر ثلاثة عساكر: عسكر فيه أشناس في الميسرة، والمعتصم في القلب، والأفشين في الميمنة، وبين كل عسكر وعسكر فرسخان، وأمر كل عسكر منهم أن يكون له ميمنة وميسرة، وأن يحرقوا القرى ويخربوها، ويأخذوا من لحقوا فيها من السبي، وإذا كان وقت النزول توافى كل أهل عسكر إلى صاحبهم ورئيسهم، يفعلون ذلك فيما بين أنقرة إلى عمورية، وبينهما سبع مراحل، حتى توافت العساكر بعمورية. قال: فلما توافت العساكر بعمورية، كان أول من وردها أشناس، وردها يوم الخميس ضحوه، فدار حولها دورة، ثم نزل على ميلين منها بموضع فيه ماء وحشيش، فلما طلعت الشمس من الغد، ركب المعتصم، فدار حولها دورة، ثم جاء الأفشين في اليوم الثالث، فقسمها أمير المؤمنين بين القواد كما تدور، صير إلى كل واحد منهم أبراجا منها على قدر كثرة أصحابه وقلتهم، وصار لكل قائد منهم ما بين البرجين إلى عشرين برجا، وتحصن أهل عمورية وتحرزوا. وكان رجل من المسلمين قد أسره أهل عمورية، فتنصر وتزوج فيهم، فحبس نفسه عند دخولهم الحصن، فلما رأى أمير المؤمنين ظهر وصار إلى المسلمين، وجاء إلى المعتصم، وأعلمه أن موضعا من المدينة حمل الوادي عليه من مطر جاءهم شديد، فحمل الماء عليه، فوقع السور من ذلك الموضع، فكتب ملك الروم إلى عامل عمورية أن يبني ذلك الموضع، فتوانى في بنائه حتى كان خروج الملك من القسطنطينية إلى بعض المواضع، فتخوف الوالي أن يمر الملك على تلك الناحية فيمر بالسور، فلا يراه بني، فوجه خلف الصناع فبنى وجه السور بالحجارة حجرا حجرا، وصير وراءه من جانب المدينة حشوا، ثم عقد فوقه الشرف كما كان، فوقف ذلك الرجل المعتصم على هذه الناحية التي وصف، فأمر المعتصم فضرب مضربه في ذلك الموضع، ونصب المجانيق على ذلك البناء، فانفرج السور من ذلك الموضع، فلما رأى أهل عموريه انفراج

السور، علقوا عليه الخشب الكبار، كل واحد بلزق الأخرى، فكان حجر المنجنيق إذا وقع على الخشب تكسر، فعلقوا خشبا غيره، وصيروا فوق الخشب البراذع ليترسوا السور. فلما ألحت المجانيق على ذلك الموضع، انصدع السور، فكتب ياطس والخصي إلى ملك الروم، كتابا يعلمانه أمر السور، ووجها الكتاب مع رجل فصيح بالعربية وغلام رومي، واخرجاهما من الفصيل، فعبرا الخندق، ووقعا إلى ناحية أبناء الملوك المضمومين إلى عمرو الفرغاني، فلما خرجا من الخندق أنكروهما، فسألوهما، من أين أنتما؟ قالا لهم: نحن من أصحابكم، قالوا: من أصحاب من أنتم؟ فلم يعرفا أحدا من قواد أهل العسكر يسميانه لهم، فأنكروهما، وجاءوا بهما إلى عمرو الفرغاني بن أربخا، فوجه بهما عمرو إلى أشناس، فوجه بهما أشناس إلى المعتصم، فساءلهما المعتصم، وفتشهما، فوجد معهما كتابا من ياطس إلى ملك الروم، يعلمه فيه أن العسكر قد أحاط بالمدينة في جمع كثير، وقد ضاق بهم الموضع وقد كان دخوله ذلك الموضع خطأ- وأنه قد اعتزم على أن يركب، ويحمل خاصة أصحابه على الدواب التي في الحصن، ويفتح الأبواب ليلا غفلة، ويخرج فيحمل على العسكر كائنا فيه ما كان، أفلت فيه من أفلت، وأصيب فيه من أصيب، حتى يتخلص من الحصار، ويصير إلى الملك. فلما قرأ المعتصم الكتاب أمر للرجل الذي يتكلم منهما بالعربية والغلام الرومي الذي معه ببدرة، فأسلما وخلع عليهما، وأمر بهما حين طلعت الشمس فأداروهما حول عموريه، فقالا: يا طس يكون في هذا البرج، فأمر بهما فوقفا بحذاء البرج الذي فيه ياطس طويلا، وبين أيديهما رجلان يحملان لهما الدراهم وعليهما الخلع، ومعهما الكتاب حتى فهمهما ياطس وجميع الروم، وشتموهما من فوق السور، ثم أمر بهما المعتصم فنحوهما، وامر المعتصم ان يكون الحراسة بينهم نوائب، في كل ليلة يحضرها الفرسان، يبيتون على دوابهم بالسلاح

وهم وقوف عليها، لئلا يفتح الباب ليلا، فيخرج من عمورية إنسان، فلم يزل الناس يبيتون كذلك نوائب على ظهور الدواب في السلاح ودوابهم بسروجها، حتى انهدم السور ما بين برجين من الموضع الذي وصف للمعتصم أنه لم يحكم عمله. وسمع أهل العسكر الوجبة فتشوفوا، وظنوا أن العدو قد خرج على بعض الكراديس حتى أرسل المعتصم من طاف على الناس في العسكر يعلمهم أن ذلك صوت السور وقد سقط، فطيبوا نفسا. وكان المعتصم حين نزل عمورية ونظر إلى سعة خندقها وطول سورها، وكان قد استاق في طريقه غنما كثيرة، فدبر في ذلك أن يتخذ مجانيق كبارا على قدر ارتفاع السور، يسع كل منجنيق منها أربعة رجال، وعملها أوثق ما يكون وأحكمه، وجعلها على كراسي تحتها عجل، ودبر في ذلك أن يدفع الغنم إلى أهل العسكر إلى كل رجل شاة، فيأكل لحمها، ويحشو جلدها ترابا ثم يؤتى بالجلود مملوءة ترابا، حتى تطرح في الخندق. ففعل ذلك بالخندق، وعمل دبابات كبارا تسع كل دبابة عشرة رجال، وأحكمها على أن يدحرجها على الجلود المملوءة ترابا حتى يمتلئ الخندق، ففعل ذلك، وطرحت الجلود فلم تقع الجلود، مستوية منضدة خوفا منهم من حجارة الروم، فوقعت مختلفة، ولم يمكن تسويتها، فأمر أن يطرح فوقها التراب حتى استوت، ثم قدمت دبابة فدحرجها، فلما صارت من الخندق في نصفه تعلقت بتلك الجلود، وبقي القوم فيها، فما تخلصوا منها إلا بعد جهد ثم مكثت تلك العجله مقيمه هناك، لم يمكن فيها حيلة حتى فتحت عمورية، وبطلت الدبابات والمنجنيقات والسلاليم وغير ذلك، حتى أحرقت. فلما كان من الغد قاتلهم على الثلمة، وكان أول من بدأ بالحرب أشناس وأصحابه، وكان الموضع ضيقا، فلم يمكنهم الحرب فيه، فأمر المعتصم بالمنجنيقات الكبار التي كانت متفرقة حول السور، فجمع بعضها إلى بعض،

وصيرها حول الثلمة، وأمر أن يرمى ذلك الموضع، وكانت الحرب في اليوم الثاني على الأفشين وأصحابه، فأجادوا الحرب وتقدموا وكان المعتصم واقفا على دابته بإزاء الثلمة وأشناس وأفشين وخواص القواد معه، وكان باقي القواد الذين دون الخاصة وقوفا رجالة، فقال المعتصم: ما كان أحسن الحرب اليوم! فقال عمرو الفرغاني: الحرب اليوم أجود منها أمس، وسمعها أشناس فأمسك، فلما انتصف النهار، وانصرف المعتصم إلى مضربه، فتغدى وانصرف القواد إلى مضاربهم يتغدون، وقرب أشناس من باب مضربه، ترجل له القواد كما كانوا يفعلون، وفيهم عمرو الفرغاني وأحمد بن الخليل بن هشام، فمشوا بين يديه كعادتهم عند مضربه، فقال لهم أشناس: يا أولاد الزنا، أيش تمشون بين يدي! كان ينبغي أن تقاتلوا أمس حيث تقفون بين يدي أمير المؤمنين، فتقولون: أن الحرب اليوم أحسن منها أمس، كان أمس يقاتل غيركم، انصرفوا إلى مضاربكم فلما انصرف عمرو الفرغاني وأحمد بن الخليل بن هشام، قال أحدهما للآخر: أما ترى هذا العبد ابن الفاعلة- يعني أشناس- ما صنع بنا اليوم! أليس الدخول إلى بلاد الروم أهون من هذا الذي سمعناه اليوم! فقال عمرو الفرغاني لأحمد بن الخليل- وكان عند عمرو خبر-: يا أبا العباس، سيكفيك الله أمره، عن قريب أبشر فأوهم أحمد أن عنده خبرا، فألح عليه أحمد يسأله، فأخبره بما هم فيه، وقال: إن العباس بن المأمون قد تم أمره، وسنبايع له ظاهرا، ونقتل المعتصم وأشناس وغيرهما عن قريب ثم قال له: أشير عليك أن تأتي العباس، فتقدم فتكون في عداد من مال إليه فقال له أحمد: هذا أمر لا أحسبه يتم، فقال له عمرو: قد تم وفرغ، وأرشده إلى الحارث السمرقندي- قرابة سلمة بن عبيد الله بن الوضاح، وكان المتولي لإيصال الرجال إلى العباس وأخذ البيعة عليهم- فقال له عمرو: أنا أجمع بينك وبين الحارث حتى تصير في عداد أصحابنا، فقال له أحمد: أنا معكم إن كان هذا الأمر

يتم فيما بيننا وبين عشرة أيام، وإن جاوز ذلك فليس بيني وبينكم عمل، فذهب الحارث، فلقي العباس فأخبره أن عمرا قد ذكره لأحمد بن الخليل، فقال له: ما كنت أحب ان يطلع الخليل على شيء من أمرنا، أمسكوا عنه. ولا تشركوه في شيء من أمركم، دعوه بينهما فأمسكوا عنه فلما كان في اليوم الثالث كانت الحرب على أصحاب أمير المؤمنين خاصة، ومعهم المغاربة والأتراك، والقيم بذلك إيتاخ، فقاتلوا فأحسنوا واتسع لهم الموضع المنثلم، فلم تزل الحرب كذلك حتى كثرت في الروم الجراحات. وكان قواد ملك الروم عند ما نزل بهم عسكر المعتصم اقتسموا البروج، لكل قائد وأصحابه عدة أبرجة، وكان الموكل بالموضع الذي انثلم من السور رجلا من قواد الروم يقال له وندوا، وتفسيره بالعربية ثور، فقاتل الرجل وأصحابه قتالا شديدا بالليل والنهار والحرب عليه وعلى أصحابه، لم يمده ياطس ولا غيره بأحد من الروم، فلما كان بالليل مضى القائد الموكل بالثلمة إلى الروم، فقال: إن الحرب علي وعلى أصحابي، ولم يبق معي أحد إلا قد جرح، فصيروا أصحابكم على الثلمة يرمون قليلا، وإلا افتضحتم وذهبت المدينة فأبوا أن يمدوه بأحد، فقالوا: سلم السور من ناحيتنا، وليس نسألك أن تمدنا، فشأنك وناحيتك، فليس لك عندنا مدد فاعتزم هو واصحابه على ان يخرجوا إلى أمير المؤمنين المعتصم، ويسألوه الأمان على الذرية، ويسلموا إليه الحصن بما فيه من الخرثي والمتاع والسلاح وغير ذلك. فلما أصبح وكل أصحابه بجنبي الثلمة، وخرج فقال: إني أريد أمير المؤمنين، وأمر أصحابه ألا يحاربوا حتى يعود إليهم، فخرج حتى وصل إلى المعتصم، فصار بين يديه، والناس يتقدمون إلى الثلمة، وقد أمسك الروم عن الحرب حتى وصلوا إلى السور، والروم يقولون بأيديهم: لا تحيوا، وهم يتقدمون، ووندوا بين يدي المعتصم جالس، فدعا المعتصم

بفرس فحمله عليه، وقابل حتى صار الناس معهم على حرف الثلمة، وعبد الوهاب ابن علي بين يدي المعتصم، فأومأ إلى الناس بيده: أن ادخلوا، فدخل الناس المدينة، فالتفت وندوا، وضرب بيده إلى لحيته، فقال له المعتصم: مالك؟ قال: جئت أريد أن أسمع كلامك وتسمع كلامي، فغدرت بي، فقال المعتصم: كل شيء تريد أن تقوله فهو لك علي، قل ما شئت، فإني لست أخالفك قال: أيش لا تخالفني وقد دخلوا المدينة! فقال المعتصم: اضرب بيدك إلى ما شئت فهو لك، وقل ما شئت فإني أعطيكه فوقف في مضرب المعتصم وكان ياطس في برجه الذي هو فيه وحوله جماعة من الروم مجتمعين، وصارت طائفة منهم إلى كنيسة كبيرة في زاوية عمورية، فقاتلوا قتالا شديدا، فأحرق الناس الكنيسة عليهم فاحترقوا عن آخرهم، وبقي ياطس في برجه حوله أصحابه، وباقي الروم وقد أخذتهم السيوف، فبين مقتول ومجروح، فركب المعتصم عند ذلك حتى جاء فوقف حذاء ياطس، وكان مما يلي عسكر أشناس، فصاحوا: يا ياطس، هذا أمير المؤمنين، فصاح الروم من فوق البرج: ليس ياطس هاهنا، قالوا: بلى، قولوا له: إن أمير المؤمنين واقف، فقالوا: ليس ياطس هاهنا فمر أمير المؤمنين مغضبا، فلما جاوز صاح الروم: هذا ياطس، هذا ياطس! فرجع المعتصم إلى حيال البرج حتى وقف، ثم أمر بتلك السلاليم التي هيئت، فحمل سلم منها، فوضع على البرج الذي هو فيه، وصعد عليه الحسن الرومي- غلام لأبي سعيد محمد بن يوسف- وكلمه ياطس، فقال: هذا أمير المؤمنين، فانزل على حكمه، فنزل الحسن، فأخبر المعتصم أنه قد رآه وكلمه، فقال المعتصم: قل له فلينزل، فصعد الحسن ثانية، فخرج ياطس من البرج متقلدا سيفا حتى وقف على البرج والمعتصم ينظر إليه، فخلع سيفه من عنقه، فدفعه إلى الحسن، ثم نزل ياطس، فوقف بين يدي المعتصم، فقنعه سوطا، وانصرف المعتصم إلى مضربه، وقال: هاتوه، فمشى قليلا، ثم جاءه رسول المعتصم، أن احملوه، فحملوه، فذهب به إلى مضرب أمير المؤمنين

ثم أقبل الناس بالأسرى والسبي من كل وجه حتى امتلأ العسكر، فأمر المعتصم بسيل الترجمان أن يميز الأسرى، فيعزل منهم أهل الشرف والقدر من الروم في ناحية، ويعزل الباقين في ناحية، ففعل ذلك بسيل ثم أمر المعتصم فوكل بالمقاسم قواده، ووكل أشناس بما يخرج من ناحيته، وأمره أن ينادي عليه، ووكل الأفشين بما يخرج من ناحيته، وامره ان ينادى ويبيع، وامر إيتاخ بناحيته مثل ذلك، وجعفرا الخياط بمثل ذلك في ناحيته، ووكل مع كل قائد من هؤلاء رجلا من قبل أحمد بن ابى دواد يحصي عليه، فبيعت المقاسم في خمسة أيام، بيع منها ما استباع، وأمر بالباقي فضرب بالنار، وارتحل المعتصم منصرفا إلى أرض طرسوس. ولما كان يوم إيتاخ قبل أن يرتحل المعتصم منصرفا، وثب الناس على المغنم الذي كان إيتاخ على بيعه، وهو اليوم الذي كان عجيف وعد الناس فيه أن يثب بالمعتصم، فركب المعتصم بنفسه ركضا، وسل سيفه، فتنحى الناس عنه من بين يديه، وكفوا عن انتهاب المغنم، فرجع إلى مضربه، فلما كان من الغد أمر ألا ينادى على السبي إلا ثلاثة أصوات، ليتروج البيع، فمن زاد بعد ثلاثة أصوات، وإلا بيع العلق، فكان يفعل ذلك في اليوم الخامس، فكان ينادي على الرقيق خمسة خمسة، وعشرة عشرة، والمتاع الكثير جملة واحدة. قال: وكان ملك الروم قد وجه رسولا في أول ما نزل المعتصم على عمورية فأمر به المعتصم فأنزل على موضع الماء الذي كان الناس يستقون منه، وكان بينه وبين عمورية ثلاثة أميال، ولم يأذن له في المصير إليه حتى فتح عمورية، فلما فتحها أذن له في الانصراف إلى ملك الروم، فانصرف وانصرف المعتصم يريد الثغور، وذلك أنه بلغه أن ملك الروم يريد الخروج في أثره، أو يريد التعبث بالعسكر، فمضى في طريق الجادة مرحلة، ثم رجع إلى عمورية، وأمر الناس بالرجوع، ثم عدل عن طريق الجادة إلى طريق وادي الجور،

ففرق الأسرى على القواد، ودفع إلى كل قائد من القواد طائفة منهم يحفظهم، ففرقهم القواد على أصحابهم، فساروا في طريق نحوا من أربعين ميلا، ليس فيه ماء، فكان كل من امتنع من الأسرى أن يمشي معهم لشدة العطش الذي أصابهم ضربوا عنقه، فدخل الناس في البرية في طريق وادي الجور فأصابهم العطش، فتساقط الناس والدواب وقتل بعض الأسرى بعض الجند وهرب. وكان المعتصم قد تقدم العسكر، فاستقبل الناس، ومعه الماء قد حمله من الموضع الذي نزله، وهلك الناس في هذا الوادي من العطش، وقال الناس للمعتصم: إن هؤلاء الأسرى قد قتلوا بعض جندنا، فأمر عند ذلك بسيل الرومي بتمييز من له القدر منهم، فعزلوا ناحية، ثم امر بالباقين فأصعدوا إلى الجبال، وأنزلوا إلى الأودية فضربت أعناقهم جميعا، وهم مقدار ستة آلاف رجل، قتلوا في موضعين بوادي الجور وموضع آخر. ورحل المعتصم من ذلك الموضع يريد الثغر حتى دخل طرسوس، وكان قد نصب له الحياض من الأدم حول العسكر من الماء إلى العسكر بعمورية والحياض مملوءة، والناس يشربون منها لا يتعبون في طلب الماء. وكانت الوقعة التي وقعت بين الأفشين وملك الروم- فيما ذكر- يوم الخميس لخمس بقين من شعبان وكانت إناخة المعتصم على عمورية يوم الجمعة لست خلون من شهر رمضان، وقفل بعد خمسة وخمسين يوما. وقال الحسين بن الضحاك الباهلي يمدح الأفشين، ويذكر وقعته التي كانت بينه وبين ملك الروم: أثبت المعصوم عزا لأبي ... حسن أثبت من ركن إضم كل مجد دون ما أثله ... لبني كاوس أملاك العجم إنما الأفشين سيف سله ... قدر الله بكف المعتصم

ذكر خبر المعتصم مع العباس بن المأمون

لم يدع بالبذ من ساكنة ... غير أمثال كأمثال إرم ثم أهدى سلما بابكه ... رهن حجلين نجيا للندم وقرا توفيل طعنا صادقا ... فض جمعيه جميعا وهزم قتل الأكثر منهم ونجا ... من نجا لحما على ظهر وضم ذكر خبر المعتصم مع العباس بن المأمون وفي هذه السنة حبس المعتصم العباس بن المأمون وأمر بلعنه. ذكر الخبر عن سبب فعله ذلك: ذكر أن السبب كان في ذلك أن عجيف بن عنبسة حين وجهه المعتصم إلى بلاد الروم، لما كان من أمر ملك الروم بزبطرة مع عمرو بن أربخا الفرغاني ومحمد كوته، لم يطلق يد عجيف في النفقات كما أطلقت يد الأفشين، واستقصر المعتصم أمر عجيف وأفعاله، واستبان ذلك لعجيف، فوبخ عجيف العباس على ما تقدم من فعله عند وفاة المأمون حين بايع أبا إسحاق وعلى تفريطه فيما فعل، وشجعه على أن يتلافى ما كان منه. فقبل العباس ذلك، ودس رجلا يقال له الحارث السمرقندي، قرابة عبيد الله بن الوضاح- وكان العباس يأنس به، وكان الحارث رجلا أديبا له عقل ومداراة- فصيره العباس رسوله وسفيره إلى القواد، فكان يدور في العسكر حتى تألف له جماعة من القواد، وبايعوه وبايعه منهم خواص، وسمى لكل رجل من قواد المعتصم رجلا من ثقات أصحابه ممن بايعه، ووكله بذلك، وقال: إذا أمرنا بذلك، فليثب كل رجل منكم على من ضمناه أن يقتله، فضمنوا له ذلك، فكان يقول للرجل ممن بايعه: عليك يا فلان أن تقتل فلانا، فيقول: نعم، فوكل من بايعه من خاصة المعتصم بالمعتصم ومن خاصة الأفشين بالأفشين، ومن خاصه اشناس باشناس، ممن بايعه من

الأتراك، فضمنوا ذلك جميعا فلما أرادوا أن يدخلوا الدرب وهم يريدون أنقرة وعمورية، ودخل الأفشين من ناحية ملطية، أشار عجيف على العباس ان يثب على المعتصم في الدرب وهو في قلة من الناس، وقد تقطعت عنه العساكر، فيقتله ويرجع إلى بغداد، فكان الناس يفرحون بانصرافهم من الغزو، فأبى العباس عليه، وقال: لا أفسد هذه الغزاة، حتى دخلوا بلاد الروم، وافتتحوا عمورية، فقال عجيف للعباس: يا نائم، كم تنام! قد فتحت عمورية، والرجل ممكن، دس قوما ينتبهون هذا الخرثي، فإنه إذا بلغه ذلك ركب بسرعة، فتأمر بقتله هناك، فأبى عليه العباس، وقال، أنتظر حتى يصير إلى الدرب، فيخلو كما خلا في البدأة، فهو أمكن منه هاهنا وكان عجيف قد أمر من ينتهب المتاع، فانتهب بعض الخرثي في عسكر إيتاخ. فركب المعتصم وجاء ركضا، فسكن الناس، ولم يطلق العباس أحدا من أولئك الرجال الذين كان واعدهم، فلم يحدثوا شيئا، وكرهوا أن يفعلوا شيئا بغير أمره. وكان عمرو الفرغاني قد بلغه الخبر ذلك اليوم، ولعمرو الفرغاني قرابة، غلام أمرد في خاصة المعتصم، فجاء الغلام الى ولد عمرو يشرب عندهم تلك في الليلة، فأخبرهم أن أمير المؤمنين ركب مستعجلا، وأنه كان يعدو بين يديه، وقال: إن أمير المؤمنين قد غضب اليوم، فأمرني أن أسل سيفي، وقال: لا يستقبلك أحد إلا ضربته، فسمع عمرو ذلك من الغلام، فأشفق عليه أن يصاب، فقال له: يا بني، أنت أحمق، أقل من الكينونة عند أمير المؤمنين بالليل، والزم خيمتك، فإن سمعت صيحة مثل هذه الصيحة، أو شغبا أو شيئا فلا تبرح من خيمتك، فإنك غلام غر، لست تعرف بعد العساكر. فعرف الغلام مقالة عمرو. وارتحل المعتصم من عمورية يريد الثغر، ووجه الأفشين ابن الأقطع في طريق خلاف طريق المعتصم، وأمره أن يغير على موضع سماه له، وأن يوافيه في بعض الطريق، فمضى ابن الأقطع، وتوجه المعتصم يريد الثغر، فسار حتى صار إلى موضع أقام فيه ليريح ويستريح، وليسلك الناس من المضيق الذي

بين أيديهم ووافى ابن الأقطع عسكر الأفشين بما أصاب من الغنائم، وكان عسكر المعتصم على حدة وعسكر الأفشين على حدة، بين كل عسكر قدر ميلين أو أكثر، واعتل أشناس فركب المعتصم صلاة الغداة يعوده، فجاء إلى مضربه فعاده، ولم يكن الأفشين لحقه بعد. ثم خرج المعتصم منصرفا، فتلقاه الأفشين في الطريق، فقال له المعتصم: تريد أبا جعفر وكان عمرو الفرغاني وأحمد بن الخليل عند منصرف المعتصم من عيادة أشناس توجها إلى ناحية عسكر الأفشين لينظرا ما جاء به ابن الأقطع من السبي فيشتريا منه ما أعجبهما، فتوجها ناحية عسكر الأفشين ولقيهما الأفشين يريد أشناس- فترجلا، وسلما عليه، ونظر إليهما حاجب أشناس من بعد، فدخل الأفشين إلى أشناس، ثم انصرف، وتوجها إلى عسكر الأفشين، فلم يكن السبي أخرج بعد، فوقفا ناحية ينتظران أن ينادي على السبي، فيشتريا منه، ودخل حاجب أشناس على أشناس، فقال: إن عمرا الفرغاني وأحمد بن الخليل تلقيا الأفشين، وهما يريدان عسكره، فترجلا وسلما عليه، وتوجها الى عسكره سنه 223 فدعا أشناس محمد بن سعيد السعدي، فقال له: اذهب إلى عسكر الأفشين، فانظر هل ترى هناك عمرا الفرغاني وأحمد بن الخليل! وانظر عند من نزلا، وأي شيء قصتهما؟ فجاء محمد بن سعيد، فأصابهما واقفين على ظهور دوابهما فقال: ما اوقفكما هاهنا؟ قالا: وقفنا ننتظر سبي ابن الأقطع يخرج، فنشتري بعضه، فقال لهما محمد بن سعيد: وكلا وكيلا يشترى لكما، فقال: لا نحب أن نشتري إلا ما نراه، فرجع محمد، فأخبر أشناس بذلك، فقال لحاجبه: قل لهؤلاء الزموا عسكركم: فهو خير لكم- يعنى عمرا وابن الخليل- ولا تذهبوا هاهنا وهاهنا فذهب الحاجب إليهما، فأعلمهما، فاغتما لذلك واتفقا على أن يذهبا إلى صاحب خبر العسكر، فيستعفياه من أشناس، فصارا إلى صاحب الخبر، فقالا: نحن عبيد أمير المؤمنين، يضمنا إلى من شاء، فإن هذا الرجل يستخف بنا، قد شتمنا وتوعدنا، ونحن نخاف أن يقدم علينا، فليضمنا أمير المؤمنين إلى من أحب

فأنهى صاحب الخبر ذلك إلى المعتصم من يومه، واتفق الرحيل صلاة الغداة، وكان إذا ارتحل الناس سارت العساكر على حيالها، وسار أشناس والأفشين وجميع القواد في عسكر أمير المؤمنين، ووكلوا خلفاءهم بالعساكر، فيسيرون بها وكان الافشين على الميسره وأشناس على الميمنة، فلما ذهب أشناس إلى المعتصم، قال له: أحسن أدب عمرو الفرغاني وأحمد بن الخليل، فإنهما قد حمقا أنفسهما، فجاء اشناس ركضا إلى معسكره، فسأل عن عمرو وابن الخليل، فأصاب عمرا، وكان ابن الخليل قد مضى في الميسرة يبادر الروم، فجاءوه بعمرو الفرغاني، وقال: هاتوا سياطا، فمكث طويلا مجردا ليس يؤتى بالسياط، فتقدم عمه إلى أشناس، فكلمه في عمرو- وكان عمه أعجميا- وعمرو واقف، فقال: احملوه، فالبسوه قباء طاق، فحملوه على بغل في قبة، وساروا به إلى العسكر، وجاء أحمد بن الخليل وهو يركض، فقال: احبسوا هذا معه، فأنزل عن دابته، وصير عديله، ودفعا إلى محمد بن سعيد السعدي يحفظهما، فكان يضرب لهما مضربا في فازة وحجرة ومائدة، ويفرش لهما فرشا وطية، وحوضا من ماء وأثقالهما وغلمانهما في العسكر، لم يحرك منها شيء، فلم يزالا كذلك حتى صارا إلى جبل الصفصاف وكان أشناس على الساقة، وكان بغا على ساقه عسكر المعتصم، فلما صار بالصفصاف، وسمع الغلام الفرغاني قرابة عمرو بحبس عمرو، ذكر الغلام للمعتصم ما دار بينه وبين عمرو من الكلام في تلك الليلة، مما قال له عمرو، إذا رأيت شغبا فالزم خيمتك، فقال المعتصم لبغا: لا ترحل غدا حتى تجيء أشناس، فتأخذ منه عمرا، وتلحقنى به، وكان هذا بالصفصاف. فوقف بغا بأعلامه ينتظر أشناس، وجاء محمد بن سعيد ومعه عمرو واحمد ابن الخليل، فقال بغا لأشناس: أمرني أمير المؤمنين أن أوافيه بعمرو الساعة، فأنزل عمرو، وجعل مع أحمد بن الخليل في القبة رجل يعادله، ومضى بغا بعمرو إلى المعتصم، فأرسل أحمد بن الخليل غلاما من غلمانه إلى عمرو، لينظر ما يصنع به، فرجع الغلام فاخبره انه ادخل على أمير المؤمنين، فمكث ساعة

ثم دفع إلى إيتاخ، وكان أمير المؤمنين لما دخل ساء له عن الكلام الذي قاله للغلام قرابته، فأنكر وقال: هذا الغلام كان سكران، ولم يفهم ولم أقل شيئا مما ذكره، فأمر به فدفع إلى إيتاخ، وسار المعتصم حتى صار إلى باب مضايق البدندون، وأقام أشناس ثلاثة أيام على مضيق البدندون ينتظر أن تتخلص عساكر أمير المؤمنين، لأنه كان على الساقة، فكتب أحمد بن الخليل إلى أشناس رقعة يعلمه أن لأمير المؤمنين عنده نصيحة، وأشناس مقيم على مضيق البدندون، فبعث إليه أشناس باحمد بن الخصيب وابى سعيد محمد ابن يوسف يسألانه عن النصيحة، فذكر أنه لا يخبر بها إلا أمير المؤمنين، فرجعا فأخبرا أشناس بذلك، فقال: ارجعا فاحلفا له: إني حلفت بحياة أمير المؤمنين، إن هو لم يخبرني بهذه النصيحة أن أضربه بالسياط حتى يموت، فرجعا فأخبرا أحمد بن الخليل بذلك. فأخرج جميع من عنده، وبقي أحمد بن الخصيب وأبو سعيد فأخبرهما بما ألقى إليه عمرو الفرغاني من أمر العباس، وشرح لهما جميع ما كان عنده، وأخبرهما بخبر الحارث السمرقندي، فانصرفا إلى أشناس، فأخبراه بذلك، فبعث أشناس في طلب الحدادين، فجاءوا بحدادين من الجند، فدفع إليهما حديدا، فقال: اعملا لي قيدا مثل قيد أحمد بن الخليل، وعجلا به الساعة، ففعلا ذلك، فلما كان عنده حبسه، وكان حاجب أشناس يبيت عند أحمد بن الخليل مع محمد بن سعيد السعدي. فلما كان تلك الليلة عند العتمة ذهب الحاجب الى خيمه الحارث السمرقندي فاخرجه منها، وجاء به الى اشناس فقيده، وامر الحاجب أن يحمله إلى أمير المؤمنين، فحمله الحاجب إليه، واتفق رحيل أشناس صلاة الغداة، فجاء أشناس إلى موضع معسكره، فتلقاه الحارث معه رجل من قبل المعتصم، وعليه خلع، فقال له أشناس: مه، فقال: القيد الذي كان في رجلي صار في

رجل العباس وسأل المعتصم الحارث حين صار إليه عن أمره، فأقر أنه كان صاحب خبر العباس، وأخبره بجميع أمره وجميع من بايع العباس من القواد فأطلق المعتصم الحارث وخلع عليه، ولم يصدق على أولئك القواد لكثرتهم وكثرة من سمي منهم. وتحير المعتصم في أمر العباس، فدعا به حين خرج إلى الدرب فأطلقه ومناه، وأوهمه أنه قد صفح عنه، وتغدى معه، وصرفه إلى مضربه، ثم دعاه بالليل، فنادمه على النبيذ، وسقاه حتى أسكره، واستحلفه ألا يكتمه من أمره شيئا، فشرح له قصته، وسمى له جميع من كان دب في أمره، وكيف كان السبب في ذلك في كل واحد منهم، فكتبه المعتصم وحفظه، ثم دعا الحارث السمرقندي بعد ذلك، فسأله عن الأسباب، فقص عليه مثل ما قص عليه العباس، ثم أمر بعد ذلك بتقييد العباس، ثم قال للحارث: قد رضتك على أن تكذب، فأجد السبيل إلى سفك دمك فلم تفعل، فقد أفلت، فقال له: يا أمير المؤمنين، لست بصاحب كذب. ثم دفع العباس إلى الأفشين، ثم تتبع المعتصم أولئك القواد، فأخذوا جميعا، فأمر أن يحمل أحمد بن الخليل على بغل بإكاف بلا وطاء، ويطرح في الشمس إذا نزل، ويطعم في كل يوم رغيفا واحدا، وأخذ عجيف بن عنبسة فيمن أخذ من القواد، فدفع من سائر القواد إلى إيتاخ، ودفع ابن الخليل إلى أشناس، فكان عجيف وأصحابه يحملون في الطريق على بغال باكف بلا وطاء، وأخذ الشاه بن سهل- وهو الرأس ابن الرأس من أهل قرية من خراسان يقال لها سجستان- فدعا به المعتصم والعباس بين يديه، فقال له: يا بن الزانية، أحسنت إليك فلم تشكر! فقال له الشاه بن سهل: ابن الزانية هذا الذي بين يديك- يعني العباس- لو تركني هذا كنت أنت الساعة لا تقدر أن تقعد في هذا المجلس وتقول لي: يا بن الفاعلة؟ فأمر به المعتصم، فضربت عنقه، وهو أول من قتل من القواد ومعه صحبه، ودفع

عجيف إلى إيتاخ فعلق عليه حديدا كثيرا وحمله على بغل في محمل بلا وطاء. وأما العباس فكان في يدي الأفشين، فلما نزل المعتصم منبج- وكان العباس جائعا- سأل الطعام، فقدم إليه طعام كثير، فأكل فلما طلب الماء منع وأدرج في مسح، فمات بمنبج، وصلى عليه بعض إخوته. وأما عمرو الفرغاني، فإنه لما نزل المعتصم بنصيبين في بستان، دعا صاحب البستان، فقال له: احفر بئرا في موضع أومأ إليه بقدر قامة، فبدأ صاحب البستان فحفرها، ثم دعا بعمرو والمعتصم جالس في البستان، قد شرب أقداحا من نبيذ، فلم يكلمه المعتصم، ولم يتكلم عمرو حتى مثل بين يديه، فقال: جردوه، فجرد، وضرب بالسياط ضربة الأتراك، والبئر تحفر، حتى إذا فرغ من حفرها قال صاحب البستان: قد حفرتها، فأمر المعتصم عند ذلك فضرب وجه عمرو وجسده بالخشب، فلم يزل يضرب حتى سقط، ثم قال: جروه إلى البئر فاطرحوه فيها، فلم يتكلم عمرو ولم ينطق يومه ذلك، حتى مات فطرح في البئر، وطمت عليه. وأما عجيف بن عنبسة، فلما صار بباعيناثا، فوق بلد قليلا، مات في المحمل، فطرح عند صاحب المسلحة، وأمر أن يدفن فيها، فجاء به إلى جانب حائط خرب فطرحه عليه فقبر هناك. وذكر عن علي بن حسن الريداني أنه قال: كان عجيف في يد محمد ابن إبراهيم بن مصعب، فسأله المعتصم عنه، فقال له: يا محمد، لم يمت عجيف؟ قال: يا سيدي اليوم يموت، ثم أتى محمد مضربه، فقال لعجيف يا أبا صالح، أي شيء تشتهي؟ قال أسفيدباج وحلوى فالوذج، فأمر أن يعمل له من كل طعام، فأكل وطلب الماء فمنع، فلم يزل يطلب وهو يسوق حتى مات، فدفن بباعيناثا

قال: وأما التركي الذي كان ضمن للعباس قتل أشناس متى ما أمره العباس- وكان كريما على أشناس ينادمه ولا يحجب عنه في ليل ولا نهار- فإنه أمر بحبسه، فحبسه أشناس قبله في بيت، وطين عليه الباب، وكان يلقي إليه في كل يوم رغيفا وكوز ماء، فأتاه ابنه في بعض أيامه، فكلمه من وراء الحائط، فقال له: يا بني، لو كنت تقدر لي على سكين كنت أقدر أن أتخلص من موضعي هذا، فلم يزل ابنه يتلطف في ذلك حتى أوصل إليه سكينا، فقتل به نفسه. وأما السندي بن بختاشه، فأمر المعتصم أن يوهب لأبيه بختاشه- لأن بختاشه لم يكن يتلطخ بشيء من أمر العباس- فقال المعتصم: لا يفجع هذا الشيخ بابنه، فأمر بتخلية سبيله. وأما أحمد بن الخليل، فإنه دفعه أشناس إلى محمد بن سعيد السعدي، فحفر له بئرا في الجزيرة بسامرا، فسأل عنه المعتصم يوما من الأيام، فقال لأشناس: ما فعل أحمد بن الخليل؟ فقال له أشناس: هو عند محمد بن سعيد السعدي، قد حفر له بئرا وأطبق عليه، وفتح له فيها كوة ليرمي إليه بالخبز والماء فقال المعتصم: هذا أحسبه قد سمن على هذه الحال، فأخبر أشناس محمد بن سعيد بذلك، فأمر محمد بن سعيد أن يسقى الماء، ويصب عليه في البئر حتى يموت: ويمتلئ البئر، فلم يزل يصب عليه الماء، والرمل ينشف الماء، فلم يغرق ولم يمتلئ البئر، فأمر أشناس بدفعه إلى غطريف الخجندي، فدفع إليه، فمكث عنده أياما، ثم مات فدفن. وأما هرثمة بن النضر الختلي، فكان واليا على المراغة، وكان في عداد من سماه العباس أنه من أصحابه، فكتب في حمله في الحديد، فتكلم فيه الأفشين، واستوهبه من المعتصم، فوهبه له، فكتب الأفشين كتابا إلى هرثمة ابن النضر يعلمه أن أمير المؤمنين قد وهبه له، وأنه قد ولاه البلد الذي يصل إليه الكتاب فيه، فورد به الدينور عند العشاء مقيدا، فطرح في الخان، وهو موثق في الحديد، فوافاه الكتاب في جنح الليل، فأصبح وهو والي الدينور

وقتل باقي القواد ومن لم يحفظ اسمه من الأتراك والفراغنة وغيرهم، قتلوا جميعا. وورد المعتصم سامرا سالما بأحسن حال، فسمي العباس: اللعين يومئذ، ودفع ولد سندس من ولد المأمون إلى إيتاخ، فحبسوا في سرداب من داره ثم ماتوا بعد. وجرح في هذه السنة في شوال إسحاق بن إبراهيم، جرحه خادم له. وحج بالناس فيها محمد بن داود.

سنه اربع وعشرين ومائتين

ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر الخبر عن مخالفه مازيار بطبرستان فمما كان فيها من ذلك إظهار مازيار بن قارن بن وندا هرمز بطبرستان الخلاف على المعتصم، ومحاربته أهل السفح والأمصار منها. ذكر الخبر عن سبب إظهاره الخلاف على المعتصم وفعله ما فعل من الوثوب بأهل السفح: ذكر أن السبب في ذلك، كان أن مازيار بن قارن كان منافرا لآل طاهر، لا يحمل إليهم الخراج، وكان المعتصم يكتب إليه يأمره بحمله إلى عبد الله بن طاهر، فيقول: لا أحمله إليه، ولكني أحمله إلى أمير المؤمنين، فكان المعتصم إذا حمل المازيار إليه الخراج، يأمر: إذا بلغ المال همذان رجلا من قبله أن يستوفيه ويسلمه إلى صاحب عبد الله بن طاهر ليرده إلى خراسان، فكانت هذه حالة في السنين كلها ونافر آل طاهر حتى تفاقم الأمر بينهم. وكان الافشين يسمع من المعتصم أحيانا كلاما يدل على أنه يريد عزل آل طاهر عن خراسان، فلما ظفر الأفشين ببابك، ونزل من المعتصم المنزلة التي لم يتقدمه فيها أحد، طمع في ولاية خراسان، وبلغته منافرة مازيار آل طاهر، فرجا أن يكون ذلك سببا لعزل عبد الله بن طاهر، فدس الأفشين الكتب إلى المازيار يستميله بالدهقنة، ويعلمه ما هو عليه من المودة له، وأنه قد وعد ولاية خراسان، فدعا ذلك المازيار إلى ترك حمل خراجه إلى عبد الله ابن طاهر، وواتر عبد الله بن طاهر الكتب فيه إلى المعتصم، حتى أوحش

المعتصم منه وأغضبه عليه، وحمل ذلك المازيار إلى أن وثب وخالف، ومنع الخراج، وضبط جبال طبرستان وأطرافه. وكان ذلك مما يسر الأفشين ويطمعه في الولاية، فكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر يأمره بمحاربة مازيار، وكتب الأفشين إلى المازيار يأمره بمحاربة عبد الله بن طاهر، ويعلمه أنه يقوم له عند المعتصم بما يحب، وكاتبه المازيار أيضا، فلا يشك الأفشين أن المازيار سيواقف عبد الله بن طاهر ويقاومه، حتى يحتاج المعتصم إلى أن يوجهه وغيره إليه. فذكر عن محمد بن حفص الثقفي الطبري أن المازيار لما عزم على الخلاف، دعا الناس إلى البيعة، فبايعوه كرها، وأخذ منهم الرهائن، فحبسهم في برج الأصبهبذ، وأمر أكرة الضياع بالوثوب بأرباب الضياع وانتهاب أموالهم، وكان المازيار يكاتب بابك، ويحرضه ويعرض عليه النصرة فلما فرغ المعتصم من أمر بابك، أشاع الناس أن أمير المؤمنين يريد المسير إلى قرماسين، ويوجه الأفشين إلى الري لمحاربة مازيار، فلما سمع المازيار بإرجاف الناس بذلك، أمر أن يمسح البلد، خلا من قاطع على ضياعه بزيادة العشرة ثلاثة، ومن لم يقاطع رجع عليه، فحسب ما عليه من الفضل ولم يحسب له النقصان. ثم أنشأ كتابا إلى عامله على الخراج، وكان عامله عليه رجلا يقال له شاذان بن الفضل، نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، إن الأخبار تواترت علينا، وصحت عندنا بما يرجف به جهال أهل خراسان وطبرستان فينا، ويولدون علينا من الاخبار ويحملون عليه رءوسهم، من التعصب لدولتنا والطعن في تدبيرنا، والمراسلة لأعدائنا وتوقع الفتن، وانتظار الدوائر فينا، جاحدين للنعم مستقلين للأمن والدعة والرفاهية والسعة التي آثرهم الله بها، فما يرد الري قائد ولا مشرق ولا مغرب، ولا يأتينا رسول صغير ولا كبير إلا قالوا كيت وكيت، ومدوا أعناقهم نحوه،

وخاضوا فيما قد كذب الله أحدوثتهم، وخيب أمانيهم فيه مره بعد مره، فلا تنهاهم الأولى عن الآخرة، ولا يزجرهم عن ذلك تقية ولا خشية، كل ذلك نغضي عليه، ونتجرع مكروهه، استبقاء على كافتهم، وطلبا للصلاح والسلامة لهم إلحاحا، فلا يزيدهم استبقاؤنا إلا لجاجا، ولا كفنا عن تأديبهم إلا إغراء، إن أخرنا عنهم افتتاح الخراج نظرا لهم ورفقا بهم قالوا: معزول، وإن بادرنا به قالوا: لحادث أمر، لا يزدجرون عن ذلك بالشدة إن أغلظنا، ولا برفق إن أنعمنا، والله حسبنا وهو ولينا، عليه نتوكل وإليه ننيب وقد أمرنا بالكتاب إلى بندار آمل والرويان في استغلاق الخراج في عملهما، وأجلناهما في ذلك إلى سلخ تير ماه، فاعلم ذلك، وجرد جبايتك، واستخرج ما على اهل ناحيتك كملا، ولا يمضين عنك تير ماه، ولك درهم باق، فإنك إن خالفت ذلك إلى غيره لم يكن جزاؤك عندنا إلا الصلب، فانظر لنفسك، وحام عن مهجتك، وشمر في أمرك، وتابع كتابك إلى العباس وإياك والتغرير، واكتب بما يحدث منك من الانكماش والتشمير، فإنا قد رجونا أن يكون في ذلك مشغلة لهم عن الأراجيف، ومانع عن التسويف، فقد أشاعوا في هذه الأيام أن أمير المؤمنين أكرمه الله صائر إلى قرماسين، وموجه الافشين الى الري ولعمري لئن فعل أيده الله ذلك، أنه لمما يسرنا الله به، ويؤنسنا بجواره، ويبسط الأمل فيما قد عودنا من فوائده وأفضاله، ويكبت أعداءه وأعداءنا، ولن يهمل أكرمه الله أموره، ويرفض ثغوره، والتصرف في نواحي ملكه، لأراجيف مرجف بعماله، وقول قائل في خاصته، فإنه لا يسرب أكرمه الله جنده إذا سرب، ولا يندب قواده إذا ندب، إلا إلى المخالف فاقرأ كتابنا هذا على من بحضرتك من اهل الخراج، ليبلغ شاهدهم غائبهم، وعنف عليهم في استخراجه، ومن هم بكسره فليبد بذلك صفحته، لينزل الله به ما أنزل بأمثاله، فإن لهم أسوة في الوظائف وغيرها بأهل جرجان والري وما والاهما، فإنما خفف الخلفاء عنهم خراجهم، ورفعت الرفائع عنهم للحاجة التي كانت إليهم في محاربة أهل

الجبال ومغازي الديلم الضلال، وقد كفى الله أمير المؤمنين أعزه الله ذلك كله، وجعل أهل الجبال والديلم جندا وأعوانا، والله المحمود. قال: فلما ورد كتاب المازيار على شاذان بن الفضل عامله على الخراج، أخذ الناس بالخراج، فجبى جميع الخراج في شهرين، وكان يجبى في اثني عشر شهرا، في كل أربعة أشهر الثلث، وإن رجلا يقال له علي بن يزداد العطار، وهو ممن أخذ منه رهينة، هرب وخرج من عمل المازيار، فأخبر أبو صالح سرخاستان بذلك، وكان خليفة المازيار على سارية، فجمع وجوه أهل مدينة سارية، وأقبل يوبخهم، ويقول: كيف يطمئن الملك إليكم! أم كيف يثق بكم! وهذا علي بن يزداد ممن قد حلف وبايع، وأعطى الرهينة ثم نكث وخرج، وترك رهينه، فأنتم لا تفون بيمين، ولا تكرهون الخلف والحنث، فكيف يثق بكم الملك، أم كيف يرجع لكم إلى ما تحبون! فقال بعضهم: نقتل الرهينة حتى لا يعود غيره إلى الهرب، فقال لهم: أتفعلون ذلك؟ قالوا: نعم، فكتب إلى صاحب الرهائن، فأمره أن يوجه بالحسن بن علي بن يزداد وهو رهينة أبيه، فلما صاروا به إلى سارية ندم الناس على ما قالوا لأبي صالح، وجعلوا يرجعون على الذي أشار بقتله بالتعنيف ثم جمعهم سرخاستان، وقد أحضر الرهينة، فقال لهم: إنكم قد ضمنتم شيئا، وهذا الرهينة فاقتلوه، فقال له عبد الكريم بن عبد الرحمن الكاتب: أصلحك الله! إنك أجلت من خرج من هذا البلد شهرين، وهذا الرهينة قبلك، نسألك أن تؤجله شهرين، فإن رجع أبوه وإلا أمضيت فيه رأيك. قال: فغضب على القوم، ودعا بصاحب حرسه- وكان يقال له رستم ابن بارويه- فأمره بصلب الغلام وإن الغلام سأله أن يأذن له أن يصلي ركعتين، فأذن له، فطول في صلاته وهو يرعد، وقد مد له جذع، فجذبوا الغلام من صلاته، ومدوه فوق الجذع، وشدوا حلقه معه حتى اختنق، وتوفي فوقه، وأمر سرخاستان أهل مدينة سارية أن يخرجوا إلى آمل، وتقدم

إلى أصحاب المسالح في إحضار أهل الخنادق من الأبناء والعرب، فأحضروا ومضى مع أهل سارية إلى آمل، وقال لهم: إني أريد أن أشهدكم على أهل آمل، وأشهد أهل آمل عليكم، وأرد ضياعكم وأموالكم، فإن لزمتم الطاعة والمناصحة زدناكم من عندنا ضعف ما كنا أخذنا منكم فلما وافوا آمل جمعهم بقصر الخليل بن وندا سنجان، وصير أهل سارية ناحية عن غيرهم ووكل بهم اللوزجان، وكتب أسماء جميع أهل آمل حتى لم يخف منهم أحد عليه، ثم عرضهم بعد ذلك على الأسماء حتى اجتمعوا، ولم يتخلف منهم احد، واحدق الرجال في السلاح بهم، وصفوا جميعا، ووكل بكل واحد منهم رجلين بالسلاح، وأمر الموكل بهم أن يحمل رأس كل من كاع عن المشي، وساقهم مكتفين حتى وافى بهم جبلا يقال له هرمز داباذ، على ثمانية فراسخ من آمل وثمانية فراسخ من مدينة سارية، وكبلهم بالحديد، وحبسهم. وبلغت عدتهم عشرين ألفا، وذلك في سنة خمس وعشرين ومائتين فيما ذكر عن محمد بن حفص. فأما غيره من أهل الأخبار وجماعة ممن أدرك ذلك فإنهم قالوا: كان ذلك في سنة أربع وعشرين ومائتين، وهذا القول عندي أولى بالصواب، وذلك أن مقتل مازيار كان في سنة خمس وعشرين ومائتين وكان فعله ما فعل بأهل طبرستان قبل ذلك بسنة. رجع الحديث إلى الخبر عن قصة مازيار وفعله بأهل آمل على ما ذكر عن محمد بن حفص قال: وكتب إلى الدري ليفعل ذلك بوجوه العرب والأبناء ممن كان معه بمرو، وكبلهم بالحديد، وحبسهم، ووكل بهم الرجال في حبسهم، فلما تمكن المازيار، واستوى له أمره وأمر القوم، جمع أصحابه، وأمر سرخاستان بتخريب سور مدينة آمل، فخربه بالطبول والمزامير، ثم سار إلى مدينة سارية، ففعل بها مثل ذلك. ثم وجه مازيار أخاه فوهيار إلى مدينة طميس- وهي على حد جرجان من عمل طبرستان- فخرب سورها ومدينتها، وأباح أهلها، فهرب منهم من

هرب، وبلي من بلي ثم توجه بعد ذلك إلى طميس سرخاستان، وانصرف عنها قوهيار، فلحق بأخيه المازيار، فعمل سرخاستان سورا من طميس إلى البحر، ومده في البحر مقدار ثلاثة أميال وكانت الأكاسرة بنته بينها وبين الترك، لان الترك كانت تغير على أهل طبرستان في أيامها، ونزل معسكرا بطميس سرخاستان وصير حولها خندقا وثيقا وابراجا للحرس، وصير عليها بابا وثيقا، ووكل به الرجال الثقات، ففزع أهل جرجان وخافوا على أموالهم ومدينتهم، فهرب منها نفر إلى نيسابور، وانتهى الخبر إلى عبد الله بن طاهر وإلى المعتصم، فوجه إليه عبد الله بن طاهر عمه الحسن بن الحسين بن مصعب، وضم إليه جيشا كثيفا يحفظ جرجان، وأمره أن يعسكر على الخندق، فنزل الحسن بن الحسين معسكرا على الخندق الذى عمله سرخستان، وصار بين العسكرين عرض الخندق، ووجه أيضا عبد الله بن طاهر حيان بن جبلة في أربعة آلاف إلى قومس معسكرا على حد جبال شروين، ووجه المعتصم من قبله محمد بن إبراهيم بن مصعب أخا إسحاق بن إبراهيم في جمع كثيف، وضم إليه الحسن بن قارن الطبري القائد ومن كان بالباب من الطبرية، ووجه منصور بن الحسن هار صاحب دنباوند إلى مدينة الري ليدخل طبرستان من ناحية الري، ووجه أبا الساج إلى اللارز ودنباوند، فلما أحدقت الخيل بالمازيار من كل جانب بعث عند ذلك إبراهيم بن مهران صاحب شرطته وعلي بن ربن الكاتب النصراني، ومعهما خليفة صاحب الحرس إلى أهل المدن المحتبسين عنده، أن الخيل قد زحفت الى من كل جانب، وانما حبستكم ليبعث إلي هذا الرجل فيكم- يعني المعتصم- فلم يفعل، وقد بلغنى ان الحجاج ابن يوسف غضب على صاحب السند في امرأة أسرت من المسلمين، وأدخلت إلى بلاد السند حتى غزا السند، وأنفق بيوت الأموال حتى استنفذ المرأة وردها إلى مدينتها، وهذا الرجل لا يكترث بعشرين ألفا، ولا يبعث إلي يسأل فيكم، وإني لا أقدم على حربه، وأنتم ورائي، فأدوا إلي خراج سنتين، وأخلي سبيلكم، ومن كان منكم شابا قويا قدمته للقتال، فمن وفى لي منكم رددت عليه ماله، ومن لم يف أكون قد أخذت ديته، ومن كان شيخا أو ضعيفا صيرته من الحفظه والبوابين

فقال رجل يقال له موسى بن هرمز الزاهد- كان يقال أنه لم يشرب الماء منذ عشرين سنة- أنا أؤدي إليك خراج سنتين، وأقوم به، فقال خليفة صاحب الحرس لأحمد بن الصقير: لم لا تتكلم، وقد كنت أحظى القوم عند الأصبهبذ، وقد كنت أراك تتغذى معه، وتتكئ على وسادته! وهذا شيء لم يفعله الملك بأحد غيرك، فأنت أولى بالقيام بهذا الأمر من موسى، قال أحمد: إن موسى لا يقدر على القيام بجباية درهم واحد، وإنما أجابكم بجهل وبما هو عليه وعلى الناس أجمع، ولو علم صاحبكم أن عندنا درهما واحدا لم يحبسنا، وانما حبسنا بعد ما استنظف كل ما عندنا من الأموال والذخائر، فإن أراد الضياع بهذا المال أعطيناه فقال له علي بن ربن الكاتب: الضياع للملك لا لكم، فقال له إبراهيم بن مهران: أسألك بالله يا أبا محمد، لما سكت عن هذا الكلام! فقال له أحمد: لم أزل ساكتا حتى كلمني هذا بما قد سمعت سنه 224 ثم انصرفت الرسل على ضمان موسى الزاهد، وأعلموا المازيار ضمانه، وانضم إلى موسى الزاهد قوم من السعاة، فقالوا: فلان يحتمل عشرة آلاف، وفلان يحتمل عشرين ألفا وأقل وأكثر، وجعلوا يستأكلون الناس أهل الخراج وغيرهم، فلما مضى لذلك أيام، رد مازيار الرسل مقتضيا المال، ومتنجزا ما كان من ضمان موسى الزاهد، فلم ير لذلك أثرا ولا تحقيقا، وتحقق قول أحمد، وألزمه الذنب وعلم المازيار أن ليس عند القوم ما يؤدون، وإنما أراد أن يلقي الشر بين أصحاب الخراج، ومن لا خراج عليه من التجار والصناع. قال: ثم إن سرخاستان كان معه ممن اختار من أبناء القواد وغيرهم من أهل آمل فتيان لهم جلد وشجاعة، فجمع منهم في داره مائتين وستين فتى ممن يخاف ناحيته، وأظهر أنه يريد جمعهم للمناظرة، وبعث إلى الأكرة المختارين من الدهاقين، فقال لهم: إن الأبناء هواهم مع العرب والمسودة، ولست آمن غدرهم ومكرهم، وقد جمعت أهل الظنة ممن أخاف ناحيته، فاقتلوهم لتأمنوا، ولا يكون في عسكركم ممن يخالف هواه هواكم ثم أمر بكتفهم

ودفعهم إلى الأكره ليلا، فدفعوهم إليهم، وصاروا بهم إلى قناة هناك، فقتلوهم ورموا بهم في آبار تلك القناة وانصرفوا فلما ثاب إلى الأكرة عقولهم ندموا على فعلهم، وفزعوا من ذلك، فلما علم المازيار أن القوم ليس عندهم ما يؤدونه إليه، بعث إلى الأكرة المختارين الذين قتلوا المائتين والستين فتى، فقال لهم: إني قد أبحتكم منازل أرباب الضياع وحرمهم- إلا ما كان من جارية جميلة من بناتهم، فإنها تصير للملك- وقال لهم: صيروا إلى الحبس فاقتلوا أرباب الضياع جميعهم قبل ذلك، ثم حوزوا بعد ذلك، ما وهبت لكم من المنازل والحرم، فجبن القوم عن ذلك وخافوا وحذروا فلم يفعلوا ما أمرهم به. قال: وكان الموكلون بالسور من أصحاب سرخاستان يتحدثون ليلا مع حرس الحسن بن الحسين بن مصعب، وبينهم عرض الخندق، حتى استأنس بعضهم ببعض، وتآمروا وحرس سرخاستان بتسليم السور إليهم، فسلموه، ودخل أصحاب الحسن بن الحسين من ذلك الموضع إلى عسكر سرخاستان في غفلة من الحسن بن الحسين ومن سرخاستان، فنظر أصحاب الحسن إلى قوم يدخلون من الحائط، فدخلوا معهم، فنظر الناس بعضهم إلى بعض، فثاروا. وبلغ الحسن بن الحسين بن مصعب، فجعل يصيح بالقوم ويمنعهم، ويقول: يا قوم، إني أخاف عليكم أن تكونوا مثل قوم داوندان، ومضى أصحاب قيس بن زنجويه- وهو من أصحاب الحسن بن الحسين- حتى نصبوا العلم على السور في معسكر سرخاستان، وانتهى الخبر إلى سرخاستان أن العرب قد كسروا السور، ودخلوا بغتة، فلم تكن له همة إلا الهرب، وكان سرخاستان في الحمام، فسمع الصياح، فخرج هاربا في غلالة وقال الحسن بن الحسين حين لم يقدر على رد أصحابه: اللهم إنهم قد عصوني وأطاعوك، اللهم فاحفظهم وانصرهم، ولم يزل أصحاب الحسن يتبعون القوم حتى صاروا إلى الدرب الذي على السور فكسروه، ودخل الناس من غير مانع حتى استولوا على جميع ما في العسكر، ومضى قوم في الطلب. وذكر عن زراره بن يوسف السجزى أنه قال: مررت في الطلب، فبينا

أنا كذلك، إذ صرت إلى موضع عن يسرة الطريق، فوجلت من الممر فيه، ثم تقحمته بالرمح من غير أن أرى أحدا، وصحت: من أنت؟ ويلك! فإذا شيخ جسيم قد صاح زينهار- يعني الأمان- قال: فحملت عليه، فأخذته، وشددت كتافه، فإذا هو شهريار أخو أبي صالح سرخاستان، صاحب العسكر، قال: فدفعته إلى قائدي يعقوب بن منصور، وحال الليل بيننا وبين الطلب، فرجع الناس إلى المعسكر، وأتي بشهريار إلى الحسن بن الحسين فضرب عنقه وأما أبو صالح فمضى حتى صار على خمسة فراسخ من معسكره، وكان عليلا، فجهده العطش والفزع، فنزل في غيضة يمنة الطريق إلى سفح جبل، وشد دابته واستلقى، فبصر به غلام له ورجل من أصحابه يقال له جعفر بن ونداميد، فنظر إليه نائما، فقال سرخاستان: يا جعفر، شربة ماء، فقد جهدني العطش، قال: فقلت: ليس معي إناء أغرف به من هذا الموضع، فقال سرخاستان: خذ رأس جعبتي فاسقني به، قال جعفر: وملت إلى عداد من أصحابي، فقلت لهم: هذا الشيطان قد أهلكنا فلم لا نتقرب به إلى السلطان، ونأخذ لأنفسنا الأمان! فقالوا لجعفر: كيف لنا به؟ قال: فوقفهم عليه، وقال لهم: أعينوني ساعة، وأنا أثاوره، فأخذ جعفر خشبة عظيمة وسرخاستان مستلق، فألقى نفسه عليه، وملكوه وشدوه كتافا مع الخشبة، فقال لهم أبو صالح: خذوا مني مائة ألف درهم واتركوني، فإن العرب لا تعطيكم شيئا، قالوا له: أحضرها، قال: هاتوا ميزانا، قالوا: ومن اين هاهنا ميزان؟ قال: فمن اين هاهنا ما أعطيكم! ولكن صيروا معي إلى المنزل، وأنا أعطيكم العهود والمواثيق أني أفي لكم بذلك، وأوفر عليكم، فصاروا به إلى الحسن بن الحسين، فاستقبلتهم خيل للحسن بن الحسين، فضربوا رءوسهم، وأخذوا سرخاستان منهم، فهمتهم أنفسهم، ومضى أصحاب الحسن بأبي صالح إلى الحسن، فلما وقفوه بين يديه، دعا الحسن قواد طبرستان، مثل محمد بن المغيرة بن شعبة الأزدي وعبد الله بن محمد القطقطي الضبي والفتح بن قراط وغيرهم، فسألهم: هذا سرخاستان؟ قالوا: نعم، فقال لمحمد

ذكر خبر ابى شاس الشاعر

ابن المغيرة، قم فاقتله بابنك وأخيك، فقام إليه فضربه بالسيف، وأخذته السيوف فقتل. ذكر خبر أبي شاس الشاعر وكان أبو شاس الشاعر، وهو الغطريف بن حصين بن حنش فتى من أهل العراق، ربي بخراسان، أديبا فهما، وكان سرخاستان ألزمه نفسه يتعلم منه أخلاق العرب ومذاهبها، فلما نزل بسرخاستان ما نزل به، وأبو شاس في معسكره، ومعه دواب واثقال، هجم عليه قوم البخارية، من أصحاب الحسن، فانتهبوا جميع ما كان معه، وأصابته جراحات، فبادر أبو شاس فأخذ جرة كانت معه، فوضعها على عاتقه، وأخذ بيده قدحا، وصاح: الماء للسبيل، حتى أصاب غفلة من القوم، فهرب من مضربه، وقد أصابته جراحة، فبصر به غلام- وقد كان مر بمضرب عبد الله بن محمد بن حميد القطقطي الطبري، وكان كاتب الحسن بن الحسين- فعرفوه، عرفه خدمه، وعلى عاتقه الجرة وهو يسقي الماء، فأدخلوه خيمتهم، وأخبروا صاحبهم بمكانه، فأدخل عليه، فحمله وكساه، وأكرمه غاية الإكرام، ووصفه للحسن بن الحسين، وقال له: قل في الأمير قصيدة، فقال أبو شاس: والله لقد امحى ما في صدري من كتاب الله من الهول، فكيف أحسن الشعر! ووجه الحسن برأس أبي صالح سرخاستان إلى عبد الله بن طاهر، ولم يزل من معسكره وذكر عن محمد بن حفص أن حيان بن جبلة مولى عبد الله بن طاهر، كان أقبل مع الحسن بن الحسين إلى ناحية طميس، فكاتب قارن بن شهريار، ورغبه في الطاعة، وضمن له أن يملكه على جبال أبيه وجده، وكان قارن من قواد مازيار وهو ابن أخيه وكان مازيار صيره مع أخيه عبد الله بن قارن، وضم إليهما عدة من ثقات قواده وقراباته، فلما استماله حيان، وكان قارن قد ضمن له أن يسلم له الجبال، ومدينة سارية إلى حد جرجان، على أن يملكه على جبال أبيه وجده إذا وفى له بالضمان، وكتب بذلك حيان إلى عبد الله بن طاهر، سجل له عبد الله بن طاهر بكل ما سأل، وكتب إلى حيان بأن

يتوقف ولا يدخل الجبل ولا يوغل حتى يكون من قارن ما يستدل به على الوفاء، لئلا يكون منه مكر، فكتب حيان إلى قارن بذلك، فدعا قارن بعبد الله ابن قارن وهو أخو مازيار، ودعا جميع قواده إلى طعامه، فلما أكلوا ووضعوا سلاحهم واطمأنوا أحدق بهم أصحابه في السلاح الشاك، وكتفهم ووجه بهم إلى حيان بن جبلة، فلما صاروا إليه استوثق منهم، وركب حيان في جمعه حتى دخل جبال قارن. وبلغ مازيار الخبر فاغتم لذلك، وقال له القوهيار أخوه: في حبسك عشرون ألفا من المسلمين، من بين إسكاف وخياط، وقد شغلت نفسك بهم، وإنما أتيت من مأمنك وأهل بيتك وقرابتك، فما تصنع بهؤلاء المحبسين عندك؟ قال: فأمر مازيار بتخلية جميع من في حبسه، ثم دعا إبراهيم بن مهران صاحب شرطته، وعلي بن ربن النصراني كاتبه، وشاذان بن الفضل صاحب خراجه، ويحيى بن الروذبهار جهبذه، وكان من أهل السهل عنده، فقال لهم: إن حرمكم ومنازلكم وضياعكم بالسهل، وقد دخلت العرب إليكم، وأكره أن أشومكم، فاذهبوا إلى منازلكم، وخذوا لأنفسكم الأمان ثم وصلهم، وأذن لهم في الانصراف، فصاروا إلى منازلهم وأخذوا الأمان لأنفسهم. ولما بلغ أهل مدينة سارية أخذ سرخاستان واستباحة عسكره ودخول حيان ابن جبلة جبل شروين، وثبوا على عامل مازيار بسارية- وكان يقال له مهريستاني بن شهريز- فهرب منهم، ونجا بنفسه، وفتح الناس باب السجن، وأخرجوا من فيه، ووافى حيان بعد ذلك مدينة سارية وبلغ قوهيار أخا مازيار موافاة حيان سارية، فأطلق محمد بن موسى بن حفص الذي كان عامل طبرستان من حبسه، وحمله على بغل بسرج، ووجه به إلى حيان ليأخذ له الأمان، ويجعل له جبال أبيه وجده على أن يسلم إليه مازيار، ويوثق

له بذلك بضمان محمد بن موسى بن حفص وأحمد بن الصقير، فلما صار محمد بن موسى إلى حيان، وأخبره برسالة قوهيار إليه، قال له حيان: من هذا؟ يعني احمد، قال: شيخ البلاد، وبقية الخلفاء والأمير عبد الله بن طاهر به عارف، فبعث حيان إلى أحمد، فأتاه فأمره بالخروج إلى مسلحة خرماباذ مع محمد بن موسى وكان لأحمد ابن يقال له إسحاق، وكان قد هرب من مازيار، يأوي نهاره الغياض، ويصير بالليل إلى ضيعة يقال لها ساواشريان، وهي على طريق الجادة من قدح الأصبهبذ الذي فيه قصر مازيار. فذكر عن إسحاق، أنه قال: كنت في هذه الضيعة، فمر بي عدة من أصحاب مازيار، معهم دواب تقاد وغير ذلك، قال: فوثبت على فرس منها هجين ضخم، فركبته عريا، وصرت إلى مدينة سارية، فدفعته إلى أبي، فلما أراد أحمد الخروج إلى خرماباذ ركب ذلك الفرس، فنظر إليه حيان، فأعجبه، فالتفت حيان إلى اللوزجان- وكان من أصحاب قارن- فقال له: رأيت هذا الشيخ على فرس نبيل قل ما رأيت مثله، فقال له اللوزجان: هذا الفرس كان لمازيار، فبعث حيان إلى أحمد يسأله البعثة بالفرس إليه، لينظر إليه، فبعث به إليه، فلما تأمل النظر وفتشه وجده مشطب اليدين، فزهد فيه، ودفعه إلى اللوزجان، وقال لرسول أحمد: هذا لمازيار، ومال مازيار لأمير المؤمنين، فرجع الرسول فأخبر أحمد، فغضب على اللوزجان من ذلك، فبعث إليه أحمد بالشتيمة، فقال اللوزجان: ما لي في هذا ذنب! ورد الفرس إلى أحمد، ومعه برذون وشهرى فاره، فأمر رسوله فدفعهما إليه. وغضب أحمد من فعل حيان به، وقال: هذا الحائك يبعث إلى شيخ مثلي فيفعل به ما فعل! ثم كتب إلى قوهيار: ويحك! لم تغلط في أمرك وتترك مثل الحسن بن الحسين عم الأمير عبد الله بن طاهر، وتدخل في أمان هذا العبد الحائك، وتدفع أخاك، وتضع قدرك، وتحقد عليك الحسن بن الحسين

بتركك إياه وميلك إلى عبد من عبيده! فكتب إليه قوهيار: قد غلطت في أول الأمر، وواعدت الرجل أن أصير إليه بعد غد، ولا آمن إن خالفته أن يناهضني ويحاربني، ويستبيح منازلي وأموالي، وإن قاتلته فقتلت من أصحابه، وجرت الدماء بيننا وقعت الشحناء، ويبطل هذا الأمر الذي التمسته. فكتب إليه أحمد: إذا كان يوم الميعاد فابعث إليه رجلا من أهل بيتك، واكتب إليه أنه قد عرضت لك علة منعتك من الحركة، وإنك تتعالج ثلاثة أيام، فإن عوفيت وإلا صرت إليه في محمل، وسنحمله نحن على قبول ذلك منك، والمصير في الوقت. وإن أحمد بن الصقير ومحمد بن موسى بن حفص كتبا إلى الحسن بن الحسين وهو في معسكره بطميس ينتظر أمر عبد الله بن طاهر وجواب كتابه بقتل سرخاستان وفتح طميس، فكتبا إليه أن اركب إلينا لندفع إليك مازيار والجبل، والا فاتك، فلا تقم ووجها الكتاب مع شاذان بن الفضل الكاتب، وامراه أن يعجل السير. فلما وصل الكتاب إلى الحسن ركب من ساعته، وسار مسيرة ثلاثة أيام في ليلة، حتى انتهى إلى سارية، فلما أصبح سار إلى خرماباذ- وهو يوم موعد قوهيار- وسمع حيان وقع طبول الحسن، فركب فتلقاه على راس فرسخ، فقال له الحسن: ما تصنع هاهنا! فما يؤمنك أن يبدو للقوم، فيغدروا بك، فينتقض عليك جميع ما عملت ارجع إلى الجبل، فصير مسالحك في النواحي والأطراف، وأشرف على القوم أشرافا لا يمكنهم الغدر، إن هموا به. فقال له حيان: أنا على الرجوع، وأريد أن أحمل أثقالي، وأتقدم إلى رجالي بالرحلة، فقال له الحسن: امض أنت، فأنا باعث بأثقالك ورجالك خلفك، وبت الليلة بمدينة سارية حتى يوافوك، ثم تبكر من غد، فخرج حيان من فوره كما أمره الحسن إلى سارية، ثم ورد عليه كتاب عبد الله بن طاهر أن

يعسكر بلبورة- وهي من جبال ونداهرمز، وهي أحصن موضع من جباله، وكان أكثر مال مازيار بها- وأمره عبد الله ألا يمنع قارن مما يريد من تلك الجبال والأموال فاحتمل قارن ما كان لمازيار هنالك من المال، والذي كان بأسباندرة من ذخائر مازيار، وما كان لسرخاستان بقدح السلتان، واحتوى على ذلك كله. فانتقض على حيان جميع ما كان سنح له بسبب ذلك الفرس، وتوفي بعد ذلك حيان بن جبلة فوجه عبد الله مكانه على أصحابه محمد الحسين بن مصعب، وتقدم إليه عبد الله ألا يضرب على يدي قارن في شيء يريده، وصار الحسن ابن الحسين إلى خرماباذ، فأتاه محمد بن موسى بن حفص واحمد بن الصقير، فتناظروا سرا، فجزاهما خيرا، وكتب هو إلى قوهيار، فوافى خرماباذ، وصار إلى الحسن، فبره وأكرمه وأجابه إلى كل ما سال، واتعدا على يوم، ثم صرفه وصار قوهيار إلى مازيار، فأعلمه أنه قد أخذ له الأمان، واستوثق له وكان الحسين بن قارن قد كاتب قوهيار من ناحية محمد بن إبراهيم بن مصعب، وضمن له الرغائب عن أمير المؤمنين، فأجابه قوهيار، وضمن له ما ضمن لغيره، كل ذلك ليردهم عن الحرب ومال إليه فركب محمد بن إبراهيم من مدينة آمل، وبلغ الحسن بن الحسين الخبر فذكر عن إبراهيم بن مهران أنه كان يتحدث عند أبي السعدي، فلما قرب وكان طريقه على باب مضرب الحسن قال: فلما حاذيت مضربه، إذا بالحسن الزوال انصرف يريد منزله راكب وحده، لم يتبعه إلا ثلاثة غلمان له أتراك، قال: فرميت بنفسي، وسلمت عليه، فقال: اركب، فلما ركبت قال: أين طريق آرم؟ قلت: هي على هذا الوادي، فقال لي: امض أمامي، قال: فمضيت حتى بلغت دربا على ميلين من آرم، قال: ففزعت، وقلت: أصلح الله الأمير! هذا موضع مهول، ولا يسلكه الا الف فارس، فأرى لك أن تنصرف

ولا تدخله قال: فصاح بي: امض، فمضيت وأنا طائش العقل، ولم نر في طريقنا أحدا حتى وافينا آرم، فقال لي: أين طريق هرمزداباذ؟ قلت: على هذا الجبل في هذا الشراك، قال: فقال لي: سر إليها، فقلت: أعز الله الأمير! الله الله في نفسك وفينا وفي هذا الخلق الذي معك! قال: فصاح بي: امض يا بن اللخناء، قال: فقلت له: أعزك الله! اضرب أنت عنقي، فإنه أحب إلي من أن يقتلني مازيار، ويلزمني الأمير عبد الله بن طاهر الذنب. قال: فانتهرني حتى ظننت أنه سيبطش بي، ومضيت وأنا خليع الفؤاد، وقلت في نفسي: الساعة نؤخذ جميعا، او نوقف بين يدي مازيار فيوبخني، ويقول: جئت دليلا علي! فبينا نحن كذلك إذ وافينا هرمزداباذ مع اصفرار الشمس، فقال لي: أين كان سجن المسلمين هاهنا؟ فقلت له: في هذا الموضع. قال: فنزل فجلس ونحن صيام، والخيل تلحقنا متقطعة، وذلك أنه ركب من غير علم الناس، فعلموا بعد ما مضى، فدعا الحسن بيعقوب بن منصور، فقال له: يا أبا طلحة، أحب أن تصير إلى الطالقانية، فتلطف بحيلك لجيش أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن مصعب هنالك ساعتين أو ثلاث ساعات أو أكثر، ما أمكنك وكان بينه وبين الطالقانية فرسخان أو ثلاثة فراسخ، قال إبراهيم: فبينا نحن وقوف بين يدي الحسن، إذ دعا بقيس بن زنجويه، فقال له: امض إلى درب لبورة، وهو على أقل من فرسخ، فابرز بأصحابك على الدرب. قال: فلما صلينا المغرب وأقبل الليل، إذا أنا بفرسان بين أيديهم الشمع مشتعلا مقبلين من طريق لبورة، فقال لي: يا إبراهيم، أين طريق لبورة؟ فقلت: أرى نيرانا وفرسانا قد أقبلوا من ذلك الطريق، قال: وأنا داهش لا أقف على ما نحن فيه، حتى قربت النيران منا، فأنظر فإذا المازيار مع القوهيار، فلم

أشعر حتى نزلا، وتقدم المازيار، فسلم على الحسن بالإمرة، فلم يرد عليه، وقال لطاهر بن إبراهيم وأوس البلخي: خذاه إليكما. وذكر عن أخي وميدوار بن خواست جيلان، أنه في تلك الليلة صار مع نفر إلى قوهيار، وقال له: اتق الله، قد خلفت سرواتنا، فأذن لي أكنف هؤلاء العرب كلهم، فإن الجند حيارى جياع، وليس لهم طريق يهربون، فتذهب بشرفها ما بقي الدهر، ولا تثق بما يعطيك العرب، فليس لهم وفاء! فقال قوهيار: لا تفعلوا، وإذا قوهيار قد عبى علينا العرب، ودفع مازيار وأهل بيته إلى الحسن لينفرد بالملك، ولا يكون أحد ينازعه ويضاده. فلما كان في السحر، وجه الحسن بالمازيار مع طاهر بن إبراهيم وأوس البلخي إلى خرماباذ، وأمرهما أن يمرا به إلى مدينة سارية، وركب الحسن، وأخذ على وادي بابك إلى الكانية مستقبلا محمد بن إبراهيم بن مصعب، فالتقيا ومحمد يريد المصير إلى هرمزداباذ لأخذ المازيار، فقال له الحسن: يا أبا عبد الله، أين تريد؟ قال: أريد المازيار، فقال: هو بسارية، وقد صار إلي، ووجهت به إلى هنالك، فبقي محمد بن إبراهيم متحيرا وكان القوهيار قد هم بالغدر بالحسن، ودفع المازيار إلى محمد بن إبراهيم، فسبق الحسن إلى ذلك، وتخوف القوهيار منه أن يحاربه حين رآه متوسطا الجبل ان أحمد بن الصقير كتب إلى القوهيار: لا أرى لك التخليط والمناصبة لعبد الله بن طاهر، وقد كتب اليه بخبرك وضمانك فلا تكن ذا قلبين، فعند ذلك حذره ودفعه إلى الحسن، وصار محمد بن إبراهيم والحسن بن الحسين إلى هرمزداباذ، فأحرقا قصر المازيار بها، وأنهبا ماله، ثم صارا إلى معسكر الحسن بخرماباذ، ووجها إلى إخوة المازيار، فحبسوا هناك في داره، ووكل بهم ثم رحل الحسن إلى مدينة سارية، فأقام بها، وحبس المازيار بقرب خيمة الحسن، وبعث الحسن إلى محمد بن موسى بن حفص يسأله عن القيد الذي كان قيده به المازيار، فبعث به محمد إليه، فقيد المازيار بذلك القيد، ووافى محمد بن إبراهيم الحسن بمدينة سارية ليناظره في مال المازيار وأهل بيته، فكتبا بذلك

إلى عبد الله بن طاهر، وانتظرا أمره، فورد كتاب عبد الله إلى الحسن بتسليم المازيار وإخوته وأهل بيته إلى محمد بن إبراهيم، ليحملهم إلى أمير المؤمنين المعتصم، ولم يعرض عبد الله لأموالهم، وأمره أن يستصفي جميع ما للمازيار ويحرزه، فبعث الحسن إلى المازيار فأحضره، وسأله عن أمواله فذكر أن ماله عند قوم سماهم، من وجوه أهل سارية وصلحائهم عشرة نفر، وأحضر القوهيار، وكتب عليه كتابا، وضمنه توفير هذه الأموال التي ذكرها المازيار أنها عند خزانه وأصحاب كنوزه، فضمن القوهيار ذلك وأشهد على نفسه. ثم أن الحسن أمر الشهود الذين أحضرهم أن يصيروا إلى المازيار، فيشهدوا عليه، فذكر عن بعضهم، أنه قال: لما دخلنا على المازيار، تخوفت من أحمد بن الصقير أن يفزعه بالكلام، فقلت له: أحب أن تمسك عنه، ولا تذكر ما كنت أشرت به، فسكت أحمد عند ذلك، فقال المازيار: اشهدوا أن جميع ما حملت من أموالي وصحبني ستة وتسعون ألف دينار، وسبع عشرة قطعة زمرد، وست عشرة قطعة ياقوت أحمر، وثمانية أوقار سلال مجلدة، فيها ألوان الثياب، وتاج وسيف من ذهب وجوهر، وخنجر من ذهب مكلل بالجوهر، وحق كبير مملوء جوهرا، وقد وضعه بين أيدينا، وقد سلمت ذلك إلى محمد بن الصباح، وهو خازن عبد الله بن طاهر وصاحب خبره على العسكر وإلى القوهيار قال: فخرجنا إلى الحسن بن الحسين، فقال: أشهدتم على الرجل؟ قال: قلنا: نعم، قال: هذا شيء كنت اخترته لي، فأحببت أن يعلم قلته وهو انه عندي. وذكر عن علي بن ربن النصراني الكاتب أن ذلك الحق كان شري جوهره على المازيار وجده وشهريار ثمانية عشر ألف ألف درهم، وكان المازيار حمل ذلك كله إلى الحسن بن الحسين، على أن يظهر أنه خرج إليه في الأمان، وأنه قد آمنه على نفسه وماله وولده، وجعل له جبال أبيه، فامتنع الحسن بن

الحسين من هذا وعف عنه- وكان أعف الناس عن أخذ درهم أو دينار- فلما أصبح أنفذ المازيار مع طاهر بن إبراهيم وعلي بن إبراهيم الحربي، وورد كتاب عبد الله بن طاهر في إنفاذه مع يعقوب بن منصور، وقد ساروا بالمازيار ثلاث مراحل، فبعث الحسن فرده، وأنفذه مع يعقوب بن منصور ثم أمر الحسن بن الحسين القوهيار أخا المازيار أن يحمل الأموال التي ضمنها، ودفع إليه بغالا من العسكر، وأمر بإنفاذ جيش معه، فامتنع القوهيار، وقال: لا حاجة لي بهم، وخرج بالبغال هو وغلمانه، فلما ورد الجبل وفتح الخزائن، وأخرج الأموال وعباها ليحملها، وثب عليه مماليك المازيار من الديالمة- وكانوا ألفا ومائتين- فقالوا له: غدرت بصاحبنا، وأسلمته إلى العرب، وجئت لتحمل أمواله! فأخذوه وكبلوه بالحديد، فلما جنه الليل قتلوه، وانتهبوا تلك الأموال والبغال، فانتهى الخبر إلى الحسن، فوجه جيشا إلى الذين قتلوا القوهيار، ووجه قارن جيشا من قبله في أخذهم، فأخذ منهم صاحب قارن عدة، منهم ابن عم للمازيار، يقال له شهريار بن المصمغان- وكان رأس العبيد ومحرضهم- فوجه به قارن إلى عبد الله بن طاهر، فلما صار بقومس مات، وكان جماعة أولئك الديالمة أخذوا على السفح والغيضة يريدون الديلم، فنذر بهم محمد بن إبراهيم بن مصعب، فوجه من قبله الطبرية وغيرهم حتى عارضوهم، وأخذوا عليهم الطريق، فأخذوا، فبعث بهم إلى مدينة سارية مع علي بن إبراهيم، وكان مدخل محمد بن إبراهيم حين دخل من شلنبة على طريق الروذبار الى الوريان. وقيل: إن فساد أمر مازيار وهلاكه كان من قبل ابن عم له يقال له كان في يديه جبال طبرستان كلها، وكان في يد المازيار السهل، وكان ذلك كالقسمة بينهم يتوارثونه، فذكر عن محمد بن حفص الطبري أن الجبال بطبرستان ثلاثة: جبل ونداهرمز في وسط جبال طبرستان، والثاني جبل أخيه

وندا سبجان بن الأنداد بن قارن، والثالث جبل شروين بن سرخاب ابن باب، فلما قوي أمر المازيار بعث إلى ابن عمه ذلك، وقيل هو أخوه القوهيار، فألزمه بابه، وولى الجبل واليا من قبله. يقال له دري، فلما احتاج المازيار إلى الرجال لمحاربة عبد الله بن طاهر، دعا بابن عمه أو أخيه القوهيار، فقال له: أنت أعرف بجبلك من غيرك، وأظهره على أمر الأفشين ومكاتبته له، وقال له: صر في ناحية الجبل، فاحفظ علي الجبل. وكتب المازيار إلى الدري يأمره بالقدوم عليه، فقدم عليه، فضم إليه العساكر، ووجهه في وجه عبد الله بن طاهر، وظن أنه قد توثق من الجبل بابن عمه أو أخيه القوهيار، وذلك أن الجبل لم يظن أنه يؤتى منه لأنه ليس فيه للعساكر والمحاربة طريق لكثرة المضايق والشجر الذي فيه، وتوثق من المواضع التي يتخوف منها بالدري وأصحابه، وضم إليه المقاتلة وأهل عسكره، فوجه عبد الله بن طاهر عمه الحسن بن الحسين بن مصعب في جيش كثيف من خراسان إلى المازيار، ووجه المعتصم محمد بن إبراهيم بن مصعب، ووجه معه صاحب خبر يقال له يعقوب بن إبراهيم البوشنجي مولى الهادي، ويعرف بقوصرة، يكتب بخبر العسكر، فوافى محمد بن إبراهيم الحسن بن الحسين، وزحفت العساكر نحو المازيار حتى قربوا منه، والمازيار لا يشك أنه قد توثق من الموضع الذى تلقاه الجبل فيه. وكان المازيار في مدينته في نفر يسير، فدعا ابن عم المازيار الحقد الذي كان في قلبه على المازيار وصنيعه به وتنحيته إياه عن جبله، أن كاتب الحسن ابن الحسين، وأعلمه جميع ما في عساكره، وأن الأفشين كاتب المازيار. فأنفذ الحسن كتاب ابن عم المازيار إلى عبد الله بن طاهر، فوجه به عبد الله برجل إلى المعتصم، وكاتب عبد الله والحسن بن الحسين ابن عم المازيار- وقيل القوهيار- وضمنا له جميع ما يريد، وكان ابن عم المازيار أعلم عبد الله

ابن طاهر أن الجبل الذي هو عليه كان له ولأبيه ولآبائه من قبل المازيار، وأن المازيار عند تولية الفضل بن سهل إياه طبرستان انتزع الجبل من يديه، وألزمه بابه، واستخف به، فشرط له عبد الله بن طاهر إن هو وثب بالمازيار، واحتال له أن يصير الجبل في يديه على حسب ما لم يزل، ولا يعرض له فيه، ولا يحارب. فرضي بذلك ابن عم المازيار، فكتب له عبد الله بن طاهر بذلك كتابا، وتوثق له فيه، فوعد ابن عم المازيار الحسن بن الحسين ورجالهم أن يدخلهم الجبل، فلما كان وقت الميعاد، أمر عبد الله بن طاهر الحسن بن الحسين أن يزحف للقاء الدري، ووجه عسكرا ضخما عليه قائد من قواده في جوف الليل، فوافوا ابن عم المازيار في الجبل، فسلم الجبال إليهم، وأدخلهم إليها، وصاف الدري العسكر الذي بإزائه، فلم يشعر المازيار وهو في قصره حتى وقفت الرجالة والخيل على باب قصره، والدري يحارب العسكر الآخر، فحصروا المازيار، وأنزلوه على حكم أمير المؤمنين المعتصم. وذكر عمرو بن سعيد الطبري أن المازيار كان يتصيد، فوافته الخيل في الصيد، فأخذ أسيرا، ودخل قصره عنوة، وأخذ جميع ما فيه، وتوجه الحسن بن الحسين بالمازيار، والدري يقاتل العسكر الذي بإزائه، لم يعلم بأخذ المازيار، فلم يشعر إلا وعسكر عبد الله بن طاهر من ورائه، فتقطعت عساكره، فانهزم ومضى يريد الدخول إلى بلاد الديلم، فقتل أصحابه، واتبعوه فلحقوه في نفر من أصحابه، فرجع يقاتلهم، فقتل وأخذ رأسه، فبعث به إلى عبد الله بن طاهر وقد صار المازيار في يده، فوعده عبد الله ابن طاهر إن هو أظهره على كتب الأفشين أن يسأل أمير المؤمنين الصفح عنه، وأعلمه عبد الله أنه قد علم أن الكتب عنده فأقر المازيار بذلك، فطلبت الكتب فوجدت، وهي عدة كتب، فأخذها عبد الله بن طاهر،

فوجه بها مع المازيار إلى إسحاق بن إبراهيم، وأمره ألا يخرج الكتب من يده ولا المازيار إلا إلى يد أمير المؤمنين، لئلا يحتال للكتب والمازيار، ففعل إسحاق ذلك، فأوصلها من يده إلى يد المعتصم، فسأل المعتصم المازيار عن الكتب، فلم يقر بها، فأمر بضرب المازيار حتى مات، وصلب إلى جانب بابك. وكان المأمون يكتب إلى المازيار: من عبد الله المأمون إلى جيل جيلان أصبهبذ أصبهبذان بشوار جرشاه محمد بن قارن مولى أمير المؤمنين. وقد ذكر أن بدء وهي أمر الدري، كان أنه لما بلغه بعد ما ضم إليه المازيار الجيش نزول جيش محمد بن إبراهيم دنباوند، وجه أخاه بزرجشنس، وضم إليه محمدا وجعفرا ابني رستم الكلاري ورجالا من اهل الثغر واهل اهل الرويان، وأمرهم أن يصيروا إلى حد الرويان والري لمنع الجيش، وكان الحسن بن قارن قد كاتب محمدا وجعفرا ابني رستم، ورغبهما، وكانا من رؤساء أصحاب الدري، فلما التقى جيش الدري وجيش محمد بن إبراهيم، انقلب ابنا رستم وأهل الثغرين وأهل الرويان على بزرجشنس أخي الدري، فأخذوه أسيرا، وصاروا مع محمد بن إبراهيم على مقدمته، وكان الدري بموضع يقال له مزن في قصره مع أهله وجميع عسكره فلما بلغه غدر محمد وجعفر ابني رستم ومتابعة أهل الثغرين والرويان لهما وأسر أخيه بزرجشنس، اغتم لذلك غما شديدا، وأذعن أصحابه، وهمتهم أنفسهم، وتفرق عامتهم يطلبون الأمان، ويحتالون لأنفسهم فبعث الدري إلى الديالمة فصار ببابه مقدار أربعة آلاف رجل منهم، فرغبهم ومناهم ووصلهم ثم ركب وحمل الأموال معه، ومضى كأنه يريد أن يستنقذ أخاه ويحارب محمد بن إبراهيم، وإنما أراد الدخول إلى الديلم، والاستظهار بهم على محمد بن إبراهيم. فاستقبله محمد بن إبراهيم في جيشه، فكانت بينهم وقعة صعبه، فلما

أخبار متفرقة

مضى الدري هرب الموكلون بالسجن، وكسر أهل السجن أقيادهم، وخرجوا هاربين، ولحق كل إنسان ببلده واتفق خروج أهل سارية الذين كانوا في حبس المازيار وخروج هؤلاء الذين كانوا في حبس الدري في يوم واحد، وذلك في شعبان لثلاث عشرة ليلة خلت منه سنة خمس وعشرين ومائتين في قول محمد بن حفص وقال غيره: كان ذلك في سنة أربع وعشرين ومائتين. وذكر عن داود بن قحذم أن محمد بن رستم، قال: لما التقى الدري ومحمد ابن إبراهيم بساحل البحر، بين الجبل والغيضة والبحر، والغيضة متصلة بالديلم، وكان الدري شجاعا بطلا، فكان يحمل بنفسه على أصحاب محمد حتى يكشفهم، ثم يحمل معارضة من غير هزيمة، يريد دخول الغيضة، شد عليه رجل من أصحاب محمد بن إبراهيم يقال له فند بن حاجبة، فأخذه أسيرا واسترجع، واتبع الجند أصحابه وأخذ جميع ما كان معه من الأثاث والمال والدواب والسلاح، فأمر محمد بن إبراهيم بقتل بزرجشنس أخي الدري، ودعي بالدري فمد يده فقطعت من مرفقه، ومدت رجله فقطعت من الركبة، وكذا باليد الأخرى والرجل الأخرى، فقعد الدري على استه، ولم يتكلم ولم يتزعزع، فأمر بضرب عنقه وظفر محمد بن ابراهيم باصحاب الدري فحملهم مكبلين. [أخبار متفرقة] وفي هذه السنة ولي جعفر بن دينار اليمن. وفيها تزوج الحسن بن الأفشين أترنجة بنت أشناس، ودخل بها في العمري، قصر المعتصم في جمادى الآخرة، وأحضر عرسها عامة أهل سامرا فحدثت أنهم كانوا يغلفون العامة فيها بالغالية في تغار من فضة، وأن المعتصم كان يباشر بنفسه تفقد من حضرها. وفيها امتنع عبد الله الورثانى بورثان.

ذكر الخبر عن خلاف منكجور الاشروسنى

ذكر الخبر عن خلاف منكجور الاشروسنى وفيها خالف منكجور الأشروسني قرابة الأفشين بأذربيجان. ذكر الخبر عن سبب خلافه: ذكر أن الأفشين عند فراغه من أمر بابك ومنصرفه من الجبال ولي أذربيجان- وكانت من عمله- وإليه منكجور هذا، فأصاب في قرية بابك في بعض منازله مالا عظيما، فاحتجنه لنفسه، ولم يعلم به الأفشين ولا المعتصم، وكان على البريد بأذربيجان رجل من الشيعة يقال له عبد الله بن عبد الرحمن، فكتب إلى المعتصم بخبر ذلك المال، وكتب منكجور يكذب ذلك، فوقعت المناظرة بين منكجور وعبد الله بن عبد الرحمن، حتى هم منكجور بقتل عبد الله بن عبد الرحمن، فاستغاث عبد الله بأهل أردبيل، فمنعوه مما أراد به منكجور، وبلغ ذلك المعتصم، فأمر الأفشين أن يوجه رجلا من قبله بعزل منكجور، فوجه رجلا من قواده في عسكر ضخم، فلما بلغ منكجور ذلك، خلع وجمع إليه الصعاليك، وخرج من أردبيل، فرآه القائد فواقعه، فانهزم منكجور، وصار إلى حصن من حصون أذربيجان- التي كان بابك أخربها- حصين في جبل منيع، فبناه وأصلحه، وتحصن فيه، فلم يلبث إلا أقل من شهر حتى وثب به أصحابه الذين كانوا معه في الحصن، فأسلموه ودفعوه إلى القائد الذي كان يحاربه، فقدم به إلى سامرا، فأمر المعتصم بحسبه، فاتهم الأفشين في أمره. وقيل: إن القائد الذي وجه لحرب منكجور هذا كان بغا الكبير. وقيل: إن بغا لما لقي منكجور خرج منكجور إليه بأمان. وفيها مات ياطس الرومي، وصلب بسامرا إلى جانب بابك. وفيها مات إبراهيم بن المهدي في شهر رمضان وصلى عليه المعتصم. وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.

سنه خمس وعشرين ومائتين

ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائتين ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث فمن ذلك كان قدوم الورثاني على المعتصم في المحرم بالأمان. وفيها قدم بغا الكبير بمنكجور سامرا. وفيها خرج المعتصم إلى السن، واستخلف أشناس. وفيها أجلس المعتصم أشناس على كرسي، وتوجه ووشحه في شهر ربيع الأول. وفيها أحرق غنام المرتد. وفيها غضب المعتصم على جعفر بن دينار، وذلك من أجل وثوبه على من كان معه من الشاكرية، وحبسه عند أشناس خمسة عشر يوما، وعزله عن اليمن، وولاها إيتاخ، ثم رضي عن جعفر. وفيها عزل الأفشين عن الحرس ووليه إسحاق بن يحيى بن معاذ. وفيها وجه عبد الله بن طاهر بمازيار، فخرج إسحاق بن إبراهيم إلى الدسكرة، فأدخله سامرا في شوال، وأمر بحمله على الفيل، فقال محمد بن عبد الملك الزيات: قد خضب الفيل كعاداته ... يحمل جيلان خراسان والفيل لا تخضب أعضاؤه ... إلا لذي شأن من الشان فأبى مازيار أن يركب الفيل، فأدخل على بغل بإكاف، فجلس المعتصم في دار العامة، لخمس ليال خلون من ذي القعدة، وأمر فجمع بينه وبين الأفشين، وقد كان الأفشين حبس قبل ذلك بيوم، فأقر المازيار أن

ذكر الخبر عن غضب المعتصم على الافشين وحبسه

الأفشين كان يكاتبه، ويصوب له الخلاف والمعصية، فأمر برد الأفشين إلى محبسه، وأمر بضرب مازيار، فضرب أربعمائة سوط وخمسين سوطا، وطلب ماء فسقي، فمات من ساعته. ذكر الخبر عن غضب المعتصم على الافشين وحبسه وفيها غضب المعتصم على الأفشين فحبسه. ذكر الخبر عن سبب غضبه عليه وحبسه إياه: ذكر أن الأفشين كان أيام حربه بابك ومقامه بأرض الخرمية، لا يأتيه هدية من أهل أرمينية إلا وجه بها إلى أشروسنة، فيجتاز ذلك بعبد الله بن طاهر، فيكتب عبد الله إلى المعتصم بخبره، فكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر يأمر بتعريف جميع ما يوجه به الأفشين من الهدايا إلى أشروسنة، ففعل عبد الله بذلك، وكان الأفشين كلما تهيأ عنده مال حمله أوساط اصحابه من الدنانير في وسطه، فأخبر عبد الله بذلك، فبينا هو في يوم من الأيام، وقد نزل رسل الأفشين معهم الهدايا نيسابور وجه إليهم عبد الله بن طاهر، وأخذهم ففتشهم، فوجد في أوساطهم همايين، فأخذها منهم، وقال لهم: من أين لكم هذا المال؟ فقالوا: هذه هدايا الأفشين، وهذه أمواله فقال: كذبتم، لو أراد أخي الأفشين أن يرسل بمثل هذه الأموال لكتب إلي يعلمني ذلك لآمر بحراسته وبذرقته، لأن هذا مال عظيم، وإنما أنتم لصوص. فأخذ عبد الله بن طاهر المال، وأعطاه الجند قبله، وكتب إلى الأفشين يذكر له ما قال القوم، وقال: أنا أنكر أن تكون وجهت بمثل هذا المال إلى أشروسنة، ولم تكتب إلي تعلمني لأبذرقه، فإن كان هذا المال ليس لك فقد أعطيته الجند مكان المال الذي يوجهه إلي أمير المؤمنين في كل سنة، وإن كان المال لك- كما زعم القوم فإذا جاء المال من قبل أمير المؤمنين رددته إليك، وإن يكن غير ذلك فأمير المؤمنين أحق بهذا المال، وإنما دفعته إلى الجند

لأني أريد أن أوجههم إلى بلاد الترك. فكتب إليه الأفشين يعلمه أن ماله ومال أمير المؤمنين واحد، ويسأله إطلاق القوم ليمضوا إلى أشروسنة، فأطلقهم عبد الله بن طاهر، فمضوا، فكان ذلك سبب الوحشة بين عبد الله بن طاهر وبين الأفشين. ثم جعل عبد الله يتتبع عليه، وكان الأفشين يسمع أحيانا من المعتصم كلاما يدل على أنه يريد أن يعزل آل طاهر عن خراسان، فطمع الأفشين في ولايتها، فجعل يكاتب مازيار، ويبعثه على الخلاف، ويضمن له القيام بالدفع عنه عند السلطان، ظنا منه أن مازيار إن خالف احتاج المعتصم إلى أن يوجهه لمحاربته، ويعزل عبد الله بن طاهر ويوليه خراسان، فكان من أمر مازيار ما قد مضى ذكره. وكان من أمر منكجور بأذربيجان ما قد وصفنا قبل، فتحقق عند المعتصم- بما كان من أمر الأفشين ومكاتبته مازيار بما كان يكاتبه به- ما كان اتهمه به من أمر منكجور، وأن ذلك كان عن رأي الأفشين وأمره إياه به، فتغير المعتصم للأفشين لذلك، وأحس الأفشين بذلك، وعلم تغير حاله عنده، فلم يدر ما يصنع، فعزم- فيما ذكر- على أن يهيئ أطوافا في قصره، ويحتال في يوم شغل المعتصم وقواده أن يأخذ طريق الموصل، ويعبر الزاب على تلك الأطواف، حتى يصير إلى بلاد أرمينية، ثم إلى بلاد الخزر، فعسر ذلك عليه، فهيأ سما كثيرا، وعزم على أن يعمل طعاما ويدعو المعتصم وقواده فيسقيهم، فان لم يجبه المعتصم استاذنه في قواد الأتراك، مثل أشناس وإيتاخ وغيرهم في يوم تشاغل أمير المؤمنين، فإذا صاروا إليه أطعمهم وسقاهم وسمهم، فإذا انصرفوا من عنده خرج من أول الليل، وحمل تلك الأطواف والآلة التي يعبر بها على ظهور الدواب حتى يجيء الى الزاب فيعبر باثقاله على الاطواف، ويعبر الدواب سباحة كما أمكنه، ثم يرسل الأطواف حتى يعبر في دجلة، ويدخل هو بلاد أرمينية، وكانت ولاية أرمينية إليه، ثم

يصير هو إلى بلاد الخزر مستأمنا، ثم يدور من بلاد الخزر إلى بلاد الترك، ويرجع من بلاد الترك إلى بلاد أشروسنة، ثم يستميل الخزر على أهل الإسلام، فكان في تهيئة ذلك. وطال به الأمر فلم يمكنه ذلك وكان قواد الأفشين ينوبون في دار أمير المؤمنين كما ينوب القواد، فكان واجن الأشروسني قد جرى بينه وبين من قد اطلع على أمر الأفشين حديث، فذكر له واجن أن هذا الأمر لا أراه يمكن ولا يتم، فذهب ذلك الرجل الذي سمع قول واجن، فحكاه للأفشين وسمع بعض من يميل إلى واجن من خدم الأفشين وخاصته ما قال الأفشين في واجن، فلما انصرف واجن من النوبة في بعض الليل أتاه فأخبره أن قد ألقي ذلك إلى الأفشين، فحذر واجن على نفسه، فركب من ساعته في جوف الليل حتى أتى دار أمير المؤمنين، وقد نام المعتصم، فصار إلى إيتاخ، فقال: إن لأمير المؤمنين عندي نصيحة، فقال له إيتاخ: أليس الساعة كنت هاهنا! قد نام أمير المؤمنين فقال له واجن: ليس يمكنني أن أصبر إلى غد، فدق إيتاخ الباب على بعض من يعلم المعتصم بالذي قال واجن، فقال المعتصم: قل له ينصرف الليلة إلى منزله، ويبكر علي في غد فقال واجن: إن انصرفت الليلة ذهبت نفسي، فأرسل المعتصم إلى إيتاخ: بيته الليلة عندك فبيته إيتاخ عنده، فلما أصبح بكر به مع صلاة الغداة، فأوصله إلى المعتصم، فأخبره بجميع ما كان عنده، فدعا المعتصم محمد بن حماد بن دنقش الكاتب، فوجهه يدعو الافشين، فجاء الافشين في سواد، فأمر المعتصم بأخذ سواده، وحبسه، فحبس في الجوسق، ثم بنى له حبسا مرتفعا، وسماه لؤلؤه داخل الجوسق، وهو يعرف الى الان بالافشين. وكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر في الاحتيال للحسن بن الأفشين- وكان الحسن قد كثرت كتبه إلى عبد الله بن طاهر في نوح بن أسد- يعلمه تحامله على ضياعه وناحيته، فكتب عبد الله بن طاهر إلى نوح بن أسد يعلمه ما كتب به امير المؤمنين في امره، ويأمره بجمع أصحابه والتأهب له، فإذا قدم عليه الحسن ابن الأفشين بكتاب ولايته استوثق منه، وحمله إليه فكتب عبد الله بن طاهر

إلى الحسن بن الأفشين يعلمه أنه عزل نوح بن أسد، وأنه قد ولاه الناحية، ووجه إليه بكتاب عزل نوح بن أسد. فخرج الحسن بن الأفشين في قلة من أصحابه وسلاحه، حتى ورد على نوح بن أسد، وهو يظن أنه والي الناحية، فأخذه نوح بن اسد، وشده وثاقا. ووجه به إلى عبد الله بن طاهر، فوجه به عبد الله إلى المعتصم وكان الحبس الذي بني للأفشين شبيها بالمنارة، وجعل في وسطها مقدار مجلسه، وكان الرجال ينوبون تحتها كما تدور وذكر عن هارون بن عيسى بن المنصور، أنه قال: شهدت دار المعتصم وفيها أحمد بن أبي دواد وإسحاق بن إبراهيم بن مصعب ومحمد بن عبد الملك الزيات، فاتى بالافشين ولم يكن بعد في الحبس الشديد، فأحضر قوم من الوجوه لتبكيت الأفشين بما هو عليه ولم يترك في الدار أحد من أصحاب المراتب إلا ولد المنصور، وصرف الناس. وكان المناظر له محمد بن عبد الملك الزيات، وكان الذين أحضروا المازيار صاحب طبرستان والموبذ والمرزبان بن تركش- وهو أحد ملوك السغد- ورجلان من أهل السغد، فدعا محمد بن عبد الملك بالرجلين، وعليهما ثياب رثة، فقال لهما محمد بن عبد الملك: ما شأنكما؟ فكشفا عن ظهورهما وهي عارية من اللحم، فقال له محمد: تعرف هذين؟ قال: نعم، هذا مؤذن، وهذا إمام، بنيا مسجدا بأشروسنة فضربت كل واحد منهما ألف سوط، وذلك أن بيني وبين ملوك السغد عهدا وشرطا، أن أترك كل قوم على دينهم وما هم عليه، فوثب هذان على بيت كان فيه أصنامهم- يعني أهل أشروسنة- فأخرجا الأصنام، واتخذاه مسجدا، فضربتهما على هذا ألفا ألفا لتعديهما، ومنعهما القوم من بيعتهم فقال له محمد: ما كتاب عندك قد زينته بالذهب والجواهر والديباج، فيه الكفر بالله؟ قال: هذا كتاب ورثته عن أبي، فيه أدب من آداب العجم، وما ذكرت من الكفر، فكنت أستمتع منه بالأدب، وأترك ما سوى ذلك، ووجدته محلى، فلم تضطرني الحاجة إلى

أخذ الحلية منه، فتركته على حاله، ككتاب كليلة ودمنة وكتاب مزدك في منزلك، فما ظننت أن هذا يخرج من الإسلام. قال: ثم تقدم الموبذ، فقال: إن هذا كان يأكل المخنوقة، ويحملني على أكلها، ويزعم أنها أرطب لحما من المذبوحة، وكان يقتل شاة سوداء كل يوم أربعاء، يضرب وسطها بالسيف يمشي بين نصفيها ويأكل لحمها. وقال لي يوما: إني قد دخلت لهؤلاء القوم في كل شيء أكرهه، حتى أكلت لهم الزيت وركبت الجمل، ولبست النعل، غير أني إلى هذه الغاية لم تسقط عني شعرة- يعني لم يطل ولم يختتن. فقال الأفشين: خبروني عن هذا الذي يتكلم بهذا الكلام، ثقة هو في دينه؟ - وكان الموبذ مجوسيا أسلم بعد على يد المتوكل ونادمه- قالوا: لا، قال: فما معنى قبولكم شهادة من لا تثقون به ولا تعدلونه! ثم أقبل على الموبذ، فقال: هل كان بين منزلي ومنزلك باب أو كوة تطلع علي منها وتعرف أخباري منها؟ قال: لا، قال: أفليس كنت ادخلك الى وابثك سري وأخبرك بالأعجمية وميلي إليها وإلى أهلها؟ قال: نعم، قال: فلست بالثقة في دينك ولا بالكريم في عهدك، إذا أفشيت علي سرا أسررته إليك. ثم تنحى الموبذ، وتقدم المرزبان بن تركش، فقالوا للأفشين: هل تعرف هذا؟ قال: لا، فقيل للمرزبان: هل تعرف هذا؟ قال: نعم، هذا الأفشين، قالوا له: هذا المرزبان، فقال له المرزبان: يا ممخرق، كم تدافع وتموه! قال له الأفشين: يا طويل اللحية، ما تقول؟ قال: كيف يكتب إليك أهل مملكتك؟ قال: كما كانوا يكتبون إلى أبي وجدي قال: فقل، قال: لا أقول، فقال المرزبان: أليس يكتبون إليك بكذا وكذا بالأشروسنية؟ قال: بلى، قال: أفليس تفسيره بالعربية إلى إله الآلهة من

عبده فلان بن فلان، قال: بلى! قال محمد بن عبد الملك: والمسلمون يحتملون أن يقال لهم هذا! فما بقيت لفرعون حين قال لقومه: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» ! قال: كانت هذه عادة القوم لأبي وجدي، ولي قبل أن أدخل في الإسلام، فكرهت أن أضع نفسي دونهم فتفسد علي طاعتهم فقال له إسحاق بن ابراهيم بن مصعب: ويحك يا خيذر! كيف تحلف بالله لنا فنصدقك ونصدق يمينك ونجريك مجرى المسلمين، وأنت تدعي ما ادعى فرعون! قال: يا أبا الحسين، هذه سورة قرأها عجيف على علي بن هشام، وأنت تقرؤها علي، فانظر غدا من يقرؤها عليك! قال: ثم قدم مازيار صاحب طبرستان، فقالوا للأفشين: تعرف هذا؟ قال: لا، قالوا للمازيار: تعرف هذا؟ قال: نعم، هذا الأفشين، فقالوا له: هذا المازيار؟ قال: نعم، قد عرفته الآن، قالوا: هل كاتبته؟ قال: لا، قالوا للمازيار: هل كتب إليك؟ قال: نعم، كتب أخوه خاش إلى أخي قوهيار، أنه لم يكن ينصر هذا الدين الأبيض غيري وغيرك وغير بابك، فاما بابك فانه بحمقه قتيل نفسه ولقد جهدت أن أصرف عنه الموت فأبى حمقه إلا أن دلاه فيما وقع فيه، فإن خالفت لم يكن للقوم من يرمونك به غيري ومعي الفرسان وأهل النجدة والبأس، فإن وجهت إليه لم يبق أحد يحاربنا إلا ثلاثة: العرب، والمغاربة، والأتراك، والعربي بمنزلة الكلب اطرح له كسرة ثم اضرب رأسه بالدبوس، وهؤلاء الذباب- يعني المغاربة- إنما هم أكلة رأس، وأولاد الشياطين- يعني الأتراك- فإنما هي ساعه حتى تنفذ سهامهم، ثم تجول الخيل عليهم جولة فتأتي على آخرهم، ويعود الدين إلى ما لم يزل عليه أيام العجم فقال الأفشين: هذا يدعي على أخيه وأخي دعوى لا تجب علي، ولو كنت كتبت بهذا الكتاب إليه لأستميله إلي ويثق بناحيتي كان غير مستنكر، لأني إذا نصرت الخليفة بيدي، كنت بالحيلة أحرى أن أنصره لآخذ بقفاه، وآتي به الخليفة لأحظى به عنده، كما حظي

أخبار متفرقة

به عبد الله بن طاهر عند الخليفة ثم نحى المازيار. ولما قال الأفشين للمرزبان التركشى ما قال، وقال لإسحاق بن إبراهيم ما قال، زجر ابن ابى دواد الأفشين، فقال له الأفشين: أنت يا أبا عبد الله ترفع طيلسانك بيدك، فلا تضعه على عاتقك حتى تقتل به جماعة، فقال له ابن ابى دواد: أمطهر أنت؟ قال: لا، قال: فما منعك من ذلك، وبه تمام الإسلام، والطهور من النجاسة! قال: أوليس في دين الإسلام استعمال التقية؟ قال: بلى، قال: خفت أن أقطع ذلك العضو من جسدي فأموت، قال: أنت تطعن بالرمح، وتضرب بالسيف، فلا يمنعك ذلك من أن تكون في الحرب وتجزع من قطع قلفة! قال: تلك ضرورة تعنيني فأصبر عليها إذا وقعت، وهذا شيء أستجلبه فلا آمن معه خروج نفسي، ولم أعلم أن في تركها الخروج من الإسلام، فقال ابن ابى دواد: قد بان لكم أمره يا بغا- لبغا الكبير أبي موسى التركي- عليك به! قال: فضرب بيده بغا على منطقته فجذبها، فقال قد كنت أتوقع هذا منكم قبل اليوم، فقلب بغا ذيل القباء على رأسه، ثم أخذ بمجامع القباء من عند عنقه، ثم اخرجه من باب الوزيري الى محبسه. [أخبار متفرقة] وفي هذه السنة حمل عبد الله بن طاهر الحسن بن الأفشين وأترنجة بنت أشناس إلى سامرا. وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود

سنه ست وعشرين ومائتين

ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) خبر وثوب على بن إسحاق برجاء بن ابى الضحاك فمن ذلك ما كان فيها من وثوب علي بن إسحاق بن يحيى بن معاذ- وكان على المعونة بدمشق من قبل صول أرتكين- برجاء بن أبي الضحاك، وكان على الخراج، فقتله، وأظهر الوسواس، ثم تكلم أحمد بن أبي دواد فيه، فأطلق من محبسه، فكان الحسن بن رجاء يلقاه في طريق سامرا، فقال البحتري الطائي: عفا علي بن إسحاق بفتكته ... على غرائب تيه كن في الحسن أنسته تنقيعه في اللفظ نازلة ... لم تبق فيه سوى التسليم للزمن فلم يكن كابن حجر حين ثار ولا ... أخي كليب ولا سيف بن ذي يزن ولم يقل لك في وتر طلبت به ... تلك المكارم لا قعبان من لبن وفيها مات محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين، فصلى عليه المعتصم في دار محمد . ذكر الخبر عن موت الافشين وفيها مات الأفشين. ذكر الخبر عن موته وما فعل به عند موته وبعده: ذكر عن حمدون بن إسماعيل، أنه قال: لما جاءت الفاكهة الحديثة، جمع المعتصم من الفواكه الحديثة في طبق، وقال لابنه هارون الواثق: اذهب

بهذه الفاكهة بنفسك إلى الأفشين، فأدخلها إليه فحملت مع هارون الواثق حتى صعد بها اليه في البناء الذى بنى له الذى يسمى لؤلؤه، فحبس فيه، فنظر إليه الأفشين، فافتقد بعض الفاكهة، إما الإجاص وإما الشاهلوج، فقال للواثق: لا إله الا الله، ما أحسنه من طبق، ولكن ليس لي فيه إجاص ولا شاهلوج! فقال له الواثق: هو ذا، انصرف أوجه به إليك، ولم يمس من الفاكهة شيئا، فلما أراد الواثق الانصراف قال له الأفشين: أقرئ سيدي السلام، وقل له: أسألك أن توجه إلي ثقة من قبلك يؤدي عني ما أقول، فأمر المعتصم حمدون بن إسماعيل- وكان حمدون في أيام المتوكل في حبس سليمان بن وهب في حبس الأفشين هذا، فحدث بهذا الحديث وهو فيه: قال حمدون: فبعث بي المعتصم إلى الأفشين، فقال لي: إنه سيطول عليك فلا تحتبس قال: فدخلت عليه، وطبق الفاكهة بين يديه لم يمس منه واحدة فما فوقها، فقال لي: اجلس، فجلست فاستمالني بالدهقنة، فقلت: لا تطول، فإن أمير المؤمنين قد تقدم إلي ألا أحتبس عندك، فأوجز. فقال: قل لأمير المؤمنين، أحسنت إلي وشرفتني، وأوطأت الرجال عقبي، ثم قبلت في كلاما لم يتحقق عندك، ولم تتدبره بعقلك، كيف يكون هذا، وكيف يجوز لي أن أفعل هذا الذي بلغك! تخبر بأني دسست إلى منكجور أن يخرج، وتقبله، وتخبر أني قلت للقائد الذي وجهته إلى منكجور: لا تحاربه، واعذر، وإن أحسست بأحد منا فانهزم من بين يديه، أنت رجل قد عرفت الحرب، وحاربت الرجال، وسست العساكر، هذا يمكن رأس عسكر يقول لجند يلقون قوما: افعلوا كذا وكذا، هذا ما لا يسوغ لأحد أن يفعله، ولو كان هذا يمكن ما كان ينبغي أن تقبله من عدو قد عرفت سببه، وأنت أولى بي، إنما أنا عبد من عبيدك، وصنيعك، ولكن مثلي ومثلك يا أمير المؤمنين مثل رجل ربى عجلا له حتى أسمنه وكبر، وحسنت

حاله، وكان له أصحاب اشتهوا أن يأكلوا من لحمه، فعرضوا له بذبح العجل فلم يجبهم إلى ذلك، فاتفقوا جميعا على أن قالوا له ذات يوم: ويحك! لم تربي هذا الأسد؟ هذا سبع، وقد كبر، والسبع إذا كبر يرجع إلى جنسه! فقال لهم: ويحك هذا عجل بقر، ما هو سبع، فقالوا: هذا سبع، سل من شئت عنه، وقد تقدموا إلى جميع من يعرفونه، فقالوا له: إن سألكم عن العجل، فقولوا له: هذا سبع، فكلما سأل الرجل إنسانا عنه، وقال له: أما ترى هذا العجل ما أحسنه! قال الآخر: هذا سبع، هذا أسد، ويحك! فأمر بالعجل فذبح، ولكني أنا ذلك العجل، كيف أقدر أن أكون أسدا! الله الله في امرى، اصطنعتنى وشرفتني وأنت سيدي ومولاي، أسأل الله أن يعطف بقلبك علي قال حمدون: فقمت فانصرفت، وتركت الطبق على. حاله لم يمس منه شيئا، ثم ما لبثنا إلا قليلا، حتى قيل: إنه يموت أو قد مات، فقال المعتصم: أروه ابنه، فأخرجوه فطرحوه بين يديه، فنتف لحيته وشعره، ثم أمر به فحمل إلى منزل إيتاخ. قال: وكان أحمد بن أبي دواد دعا به في دار العامة من الحبس، فقال له: قد بلغ أمير المؤمنين أنك يا خيدر، أقلف، قال: نعم، وإنما أراد ابن أبي دواد أن يشهد عليه، فإن تكشف نسب إلى الخرع، وإن لم يتكشف صح عليه أنه أقلف، فقال: نعم، أنا أقلف، وحضر الدار ذلك اليوم جميع القواد والناس، وكان ابن ابى دواد أخرجه إلى دار العامة قبل مصير الواثق إليه بالفاكهة، وقبل مصير حمدون بن إسماعيل إليه. قال حمدون: فقلت له: أنت أقلف كما زعمت؟ فقال الأفشين: أخرجني إلى مثل ذلك الموضع، وجميع القواد والناس قد اجتمعوا، فقال لي ما قال، وإنما أراد أن يفضحني، إن قلت له: نعم لم يقبل قولي، وقال لي: تكشف، فيفضحني بين الناس، فالموت كان أحب إلي من أن أتكشف

بين أيدي الناس، ولكن يا حمدون إن أحببت أن أتكشف بين يديك حتى تراني فعلت، قال حمدون: فقلت له: أنت عندي صدوق، وما أريد أن تكشف. فلما انصرف حمدون فأبلغ المعتصم رسالته، أمر بمنع الطعام منه إلا القليل، فكان يدفع إليه في كل يوم رغيف حتى مات، فلما ذهب به بعد موته إلى دار إيتاخ، أخرجوه فصلبوه على باب العامة ليراه الناس، ثم طرح بباب العامة مع خشبته، فأحرق وحمل الرماد، وطرح في دجلة. وكان المعتصم حين أمر بحبسه وجه سليمان بن وهب الكاتب يحصي جميع ما في دار الأفشين ويكتبه في ليلة من الليالي، وقصر الأفشين بالمطيرة، فوجد في داره بيت فيه تمثال إنسان من خشب، عليه حلية كثيرة وجوهر، وفي أذنيه حجران أبيضان مشتبكان، عليهما ذهب، فأخذ بعض من كان مع سليمان أحد الحجرين، وظن أنه جوهر له قيمة، وكان ذلك ليلا، فلما أصبح ونزع عنه شباك الذهب، وجده حجرا شبيها بالصدف الذي يسمى الحبرون، من جنس الصدف الذي يقال له البوق، من صدف اخرج من منزله صور السماجة وغيرها وأصنام وغير ذلك، والاطواف والخشب التي كان أعدها، وكان له متاع بالوزيرية، فوجد فيه أيضا صنم آخر، ووجدوا في كتبه كتابا من كتب المجوس يقال له زراوه وأشياء كثيرة من الكتب، فيها ديانته التي كان يدين بها ربه. وكان موت الأفشين في شعبان من سنة ست وعشرين ومائتين. وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود بأمر أشناس، وكان أشناس. حاجا في هذه السنة، فولي كل بلدة يدخلها فدعي له على جميع المنابر التي

مر بها من سامرا إلى مكة والمدينة. وكان الذي دعا له على منبر الكوفة محمد بن عبد الرحمن بن عيسى بن موسى، وعلى منبر فيد هارون بن محمد بن أبي خالد المروروذي، وعلى منبر المدينة محمد بن أيوب بن جعفر بن سليمان، وعلى منبر مكة محمد بن داود بن عيسى بن موسى، وسلم عليه في هذه الكور كلها بالإمارة، وكانت له ولايتها إلى أن رجع إلى سامرا.

سنه سبع وعشرين ومائتين

ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر خبر خروج ابى حرب المبرقع فمن ذلك ما كان من خروج أبي حرب المبرقع اليماني بفلسطين وخلافه على السلطان. ذكر الخبر عن سبب خروجه وما آل إليه أمره: ذكر لي بعض أصحابي ممن ذكر أنه خبير بأمره، أن سبب خروجه على السلطان كان أن بعض الجند أراد النزول في داره وهو غائب عنها، وفيها إما زوجته وإما أخته، فمانعته ذلك، فضربها بسوط كان معه، فاتقته بذراعها، فأصاب السوط ذراعها، فأثر فيها، فلما رجع أبو حرب إلى منزله بكت وشكت إليه ما فعل بها، وأرته الأثر الذي بذراعها من ضربه، فأخذ أبو حرب سيفه ومشى إلى الجندي وهو غار، فضربه به حتى قتله، ثم هرب وألبس وجهه برقعا كي لا يعرف، فصار إلى جبل من جبال الأردن، فطلبه السلطان فلم يعرف له خبر، وكان أبو حرب يظهر بالنهار فيقعد على الجبل الذي أوى إليه متبرقعا، فيراه الرائي فيأتيه، فيذكره ويحرضه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويذكر السلطان وما يأتي إلى الناس ويعيبه، فما زال ذلك دأبه حتى استجاب له قوم من حراثي أهل تلك الناحية وأهل القرى، وكان يزعم أنه أموي، فقال الذين استجابوا له: هذا هو السفياني، فلما كثرت غاشيته وتباعه من هذه الطبقة من الناس، دعا أهل البيوتات من أهل تلك الناحية، فاستجاب له منهم جماعة من رؤساء اليمانية، منهم رجل يقال له ابن بيهس، كان مطاعا في أهل اليمن ورجلان آخران من أهل دمشق، فاتصل الخبر

بالمعتصم وهو عليل، علته التي مات فيها، فبعث إليه رجاء بن أيوب الحضاري في زهاء الف من الجند، فلما صار رجاء إليه وجده في عالم من الناس. فذكر الذي أخبرني بقصته أنه كان في زهاء مائة ألف، فكره رجاء مواقعته وعسكر بحذائه، وطاوله، حتى كان أول عمارة الناس الأرضين وحراثتهم، وانصرف من كان من الحراثين مع أبي حرب الى الحراثة وارباب الارضين الى ارضيهم، وبقي أبو حرب في نفر زهاء ألف أو ألفين، ناجزه رجاء الحرب، فالتقى العسكران: عسكر رجاء وعسكر المبرقع، فلما التقوا تأمل رجاء عسكر المبرقع، فقال لأصحابه: ما أرى في عسكره رجلا له فروسية غيره، وإنه سيظهر لأصحابه من نفسه بعض ما عنده من الرجلة، فلا تعجلوا عليه قال: وكان الأمر كما قال رجاء، فما لبث المبرقع أن حمل على عسكر رجاء، فقال رجاء لأصحابه: أفرجوا له، فأفرجوا له، حتى جاوزهم ثم كر راجعا، فأمر رجاء أصحابه أن يفرجوا له، فأفرجوا له حتى جاوزهم، ورجع إلى عسكر نفسه، ثم أمهل رجاء، وقال لأصحابه: إنه سيحمل عليكم مرة أخرى، فأفرجوا له، فإذا أراد الرجوع فحولوا بينه وبين ذلك، وخذوه ففعل المبرقع ذلك، فحمل على أصحاب رجاء، فأفرجوا له حتى جاوزهم، ثم كر راجعا فأحاطوا به، فأخذوه فأنزلوه عن دابته. قال: وقد كان قدم على رجاء حين ترك معاجلة المبرقع الحرب من قبل المعتصم مستحث، فأخذ الرسول فقيده إلى أن كان من أمره، وأمر أبي حرب ما كان مما ذكرنا، ثم أطلقه. قال: فلما كان يوم قدوم رجاء بأبي حرب على المعتصم، عزله المعتصم على ما فعل برسوله، فقال له رجاء: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! وجهتني في ألف إلى مائة ألف، فكرهت أن أعاجله فأهلك ويهلك من معي، ولا نغني شيئا، فتمهلت حتى خف من معه، ووجدت فرصة،

ذكر الخبر عن وفاه المعتصم والعله التي مات بها

ورأيت لحربه وجها وقياما، فناهضته وقد خف من معه وهو في ضعف، ونحن في قوة، وقد جئتك بالرجل أسيرا. قال أبو جعفر: وأما غير من ذكرت أنه حدثني حديث أبي حرب على ما وصفت، فإنه زعم أن خروجه إنما كان في سنة ست وعشرين ومائتين بالرملة، فقالوا: إنه سفياني، فصار في خمسين ألفا من أهل اليمن وغيرهم، واعتقد ابن بيهس وآخران معه من أهل دمشق، فوجه إليهم، المعتصم رجاء الحضاري في جماعة كبيرة، فواقعهم بدمشق، فقتل من أصحاب ابن بيهس وصاحبيه نحوا من خمسة آلاف، وأخذ ابن بيهس أسيرا، وقتل صاحبيه، وواقع أبا حرب بالرملة، فقتل من أصحابه نحوا من عشرين ألفا، وأسر أبا حرب، فحمل إلى سامرا، فجعل وابن بيهس في المطبق وفي هذه السنة أظهر جعفر بن مهرجش الكردي الخلاف، فبعث إليه المعتصم في المحرم إيتاخ إلى جبال الموصل لحربه، فوثب بجعفر بعض أصحابه فقتله. وفيها كانت وفاة بشر بن الحارث الحافي في شهر ربيع الأول وأصله من مرو ذكر الخبر عن وفاه المعتصم والعله التي مات بها وفيها كانت وفاة المعتصم وذلك- فيما ذكر- يوم الخميس، فقال بعضهم: لثماني عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ لساعتين مضتا من النهار. ذكر الخبر عن العلة التي كانت منها وفاته وقدر مدة عمره وصفته: ذكر أن بدء علته أنه احتجم أول يوم من المحرم، واعتل عندها، فذكر عن محمد بن أحمد بن رشيد عن زنام الزامر، قال: قد وجد المعتصم في علته التي توفى فيها افاقه، فقال: هيئوا الى الزلال لاركب، فركب وركبت معه، فمر في دجلة بإزاء منازله، فقال: يا زنام، ازمر لي:

يا منزلا لم تبل أطلاله ... حاشى لأطلالك أن تبلى لم أبك أطلالك لكنني ... بكيت عيشي فيك إذ ولى والعيش أولى ما بكاه الفتى ... لا بد للمحزون أن يسلى قال: فما زلت أزمر هذا الصوت حتى دعا برطلية، فشرب منها قدحا وجعلت أزمره وأكرره، وقد تناول منديلا بين يديه، فما زال يبكي ويمسح دموعه فيه وينتحب، حتى رجع إلى منزله، ولم يستتم شرب الرطلية. وذكر عن علي بن الجعدانة، قال: لما احتضر المعتصم جعل يقول: ذهبت الحيل ليست حيلة، حتى أصمت. وذكر عن غيره أنه جعل يقول: إني أخذت من بين هذا الخلق. وذكر عنه أنه قال: لو علمت أن عمري هكذا قصير ما فعلت. ما فعلت فلما مات دفن بسامرا، فكانت خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر ويومين. وقيل: كان مولده سنة ثمانين ومائة في شعبان وقيل: كان في سنة تسع وسبعين ومائة، فإن كان مولده سنة ثمانين ومائة فإن عمره كله كان ستا وأربعين سنة وسبعة أشهر وثمانية عشر يوما. وإن كان مولده سنة تسع وسبعين ومائة، فإن عمره كان سبعا وأربعين سنة وشهرين وثمانية عشر يوما وكان- فيما ذكر- أبيض أصهب اللحية طويلها، مربوعا مشرب اللون حمرة، حسن العينين. وكان مولده بالخلد وقال بعضهم: ولد سنة ثمانين ومائة في الشهر الثامن. وهو ثامن الخلفاء، والثامن من ولد العباس، وعمره كان ثمانيا وأربعين سنة. ومات عن ثمانية بنين وثمان بنات، وملك ثمان سنين وثمانية أشهر، فقال محمد بن عبد الملك الزيات: قد قلت إذ غيبوك واصطفقت ... عليك أيد بالترب والطين اذهب فنعم الحفيظ كنت على ... الدنيا ونعم الظهير للدين لا جبر الله أمة فقدت ... مثلك إلا بمثل هارون

ذكر الخبر عن بعض اخلاق المعتصم وسيره

وقال مروان بن أبي الجنوب وهو ابن أبي حفصة: أبو إسحاق مات ضحى فمتنا ... وأمسينا بهارون حيينا لئن جاء الخميس بما كرهنا ... لقد جاء الخميس بما هوينا ذكر الخبر عن بعض أخلاق المعتصم وسيره ذكر عن ابن ابى دواد أنه ذكر المعتصم بالله، فأسهب في ذكره، وأكثر في وصفه، وأطنب في فضله، وذكر من سعة أخلاقه وكرم أعراقه وطيب مركبه ولين جانبه، وجميل عشرته، فقال: قال لي يوما ونحن بعمورية: ما تقول في البسر يا أبا عبد الله؟ قلت: يا أمير المؤمنين، نحن ببلاد الروم والبسر بالعراق، قال: صدقت قد وجهت إلى مدينة السلام، فجاءوا بكباستين، وعلمت أنك تشتهيه ثم قال: يا إيتاخ، هات إحدى الكباستين، فجاء بكباسة بسر، فمد ذراعه، وقبض عليها بيده، وقال: كل بحياتي عليك من يدي، فقلت: جعلني الله فداك يا أمير المؤمنين! بل تضعها فآكل كما أريد، قال: لا والله إلا من يدي، قال: فو الله ما زال حاسرا عن ذراعه، ومادا يده، وانا اجتنى من العذق، وآكل حتى رمى به خاليا ما فيه بسرة. قال: وكنت كثيرا ما أزامله في سفره ذلك، إلى أن قلت له يوما: يا أمير المؤمنين، لو زاملك بعض مواليك وبطانتك فاسترحت مني إليهم مرة، ومنهم إلي مرة أخرى، كان ذلك أنشط لقلبك، وأطيب لنفسك، وأشد لراحتك، قال: فإن سيما الدمشقي يزاملني اليوم، فمن يزاملك أنت؟ قلت: الحسن ابن يونس، قال: فأنت وذاك قال: فدعوت الحسن فزاملني وتهيأ أن ركب المعتصم بغلا، فاختار أن يكون منفردا، قال: فجعل يسير بسير بعيري، فإذا أراد أن يكلمني رفع رأسه إلي، وإذا أردت أن أكلمه خفضت رأسي،

قال: فانتهينا الى واد ولم نعرف غوره، وقد خلفنا العسكر وراءنا، فقال لي: مكانك حتى أتقدم فأعرف غور الماء وأطلب قلته، واتبع أنت موضع سيري، قال: فتقدم فدخل الوادي. وجعل يطلب قلة الماء، فمره ينحرف عن يمينه، ومره ينحرف عن شماله، وتارة يمشي لسننه، وأنا خلفه متبع لأثره حتى قطعنا الوادي قال: واستخرجت منه لأهل الشاش ألفي ألف درهم لكري نهر لهم اندفن في صدر الإسلام، فأضر ذلك بهم، فقال لي: يا أبا عبد الله، ما لي ولك، تأخذ مالي لأهل الشاش وفرغانة! قلت: هم رعيتك يا أمير المؤمنين، والأقصى والأدنى في حسن نظر الإمام سواء. وقال غيره: إنه إذا غضب لا يبالي من قتل ولا ما فعل. وذكر عن الفضل بن مروان أنه قال: لم يكن للمعتصم لذة في تزيين البناء، وكانت غايته فيه الأحكام قال: ولم يكن بالنفقة على شيء أسمح منه بالنفقة في الحرب. وذكر محمد بن راشد، قال: قال لي أبو الحسين إسحاق بن إبراهيم: دعاني أمير المؤمنين المعتصم يوما، فدخلت عليه وعليه صدرة وشي ومنطقة ذهب وخف أحمر، فقال لي: يا إسحاق، أحببت أن أضرب معك بالصوالجة، فبحياتي عليك إلا لبست مثل لباسي، فاستعفيته من ذلك فأبى، فلبست مثل لباسه، ثم قدم إليه فرس محلاة بحلية الذهب، ودخلنا الميدان، فلما ضرب ساعة، قال لي: أراك كسلان، وأحسبك تكره هذا الزي، فقلت: هو ذاك يا أمير المؤمنين، فنزل وأخذ بيدي، ومضى يمشي وأنا معه إلى أن صار إلى حجرة الحمام، فقال: خذ ثيابي يا إسحاق، فأخذت ثيابه حتى تجرد، ثم أمرني بنزع ثيابي ففعلت، ثم دخلنا انا وهو الحمام، وليس معنا غلام، فقمت عليه ودلكته، وتولى أمير المؤمنين المعتصم مني مثل ذلك، وأنا في كل ذلك أستعفيه، فيأبى علي، ثم خرج من الحمام فأعطيته ثيابه، ولبست ثيابي، ثم أخذ بيدي ومضى يمشي، وأنا معه حتى صار إلى مجلسه فقال:

يا إسحاق، جئني بمصلى ومخدتين، فجئته بذلك، فوضع المخدتين، ونام على وجهه، ثم قال: هات مصلى ومخدتين، فجئت بهما، فقال: ألقه ونم عليه بحذائي، فحلفت ألا أفعل، فجلست عليه، ثم حضر إيتاخ التركي وأشناس، فقال لهما: امضيا إلى حيث إذا صحت سمعتما، ثم قال: يا إسحاق، في قلبي أمر أنا مفكر فيه منذ مدة طويلة، وإنما بسطتك في هذا الوقت لأفشيه إليك، فقلت: قل يا سيدي يا أمير المؤمنين، فإنما أنا عبدك وابن عبدك، قال: نظرت إلى أخي المأمون وقد اصطنع أربعة أنجبوا، واصطنعت أنا أربعة لم يفلح أحد منهم، قلت: ومن الذين اصطنعهم أخوك؟ قال: طاهر بن الحسين، فقد رأيت وسمعت، وعبد الله بن طاهر، فهو الرجل الذي لم ير مثله، وأنت، فأنت والله لا يعتاض السلطان منك أبدا، وأخوك محمد بن إبراهيم، وأين مثل محمد! وأنا فاصطنعت الأفشين فقد رأيت إلى ما صار أمره، وأشناس ففشل أيه وإيتاخ فلا شيء، ووصيف فلا مغنى فيه، فقلت: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! أجيب على أمان من غضبك، قال: قل، قلت: يا أمير المؤمنين أعزك الله نظر أخوك إلى الأصول، فاستعملها، فأنجبت فروعها، واستعمل أمير المؤمنين فروعا لم تنجب إذ لا أصول لها، قال: يا إسحاق لمقاساة ما مر بي في طول هذه المدة أسهل علي من هذا الجواب. وذكر عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي، أنه قال: أتيت أمير المؤمنين المعتصم بالله يوما وعنده قينة كان معجبا بها، وهي تغنيه، فلما سلمت وأخذت مجلسي، قال لها: خذي فيما كنت فيه، فغنت فقال لي: كيف تراها يا إسحاق؟ قلت: يا أمير المؤمنين، أراها تقهره بحذق وتختله برفق، ولا تخرج من شيء إلا إلى أحسن منه، وفي صوتها قطع شذور أحسن من نظم الدر على النحور، فقال: يا إسحاق، لصفتك لها احسن منها ومن غنائها، وقال لابنه هارون: اسمع هذا الكلام. وذكر عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي أنه قال: قلت للمعتصم في شيء، فقال لي: يا إسحاق، إذا نصر الهوى بطل الرأي، فقلت له: كنت أحب

خلافه هارون الواثق ابى جعفر

يا أمير المؤمنين أن يكون معي شبابي، فأقوم من خدمتك بما أنويه، قال لي: أولست كنت تبلغ إذ ذاك جهدك؟ قلت: بلى، قال: فأنت الآن تبلغ جهدك فسيان إذا. وذكر عن أبي حسان أنه قال: كانت أم أبي إسحاق المعتصم من مولدات الكوفة يقال لها ماردة. وذكر عن الفضل بن مروان، أنه قال: كانت أم المعتصم ماردة سغدية، وكان أبوها نشأ بالسواد، قال: أحسبه بالبندنيجين. وكان للرشيد من ماردة مع أبي إسحاق، أبو إسماعيل، وأم حبيب، وآخران لم يعرف اسماهما. وذكر عن احمد بن ابى دواد أنه قال: تصدق المعتصم ووهب على يدي وبسببي بقيمة مائة ألف ألف درهم . خلافة هارون الواثق أبي جعفر وبويع في يوم توفى المعتصم ابنه هارون الواثق بن محمد المعتصم، وذلك في يوم الأربعاء لثمان ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين وكان يكنى أبا جعفر، وأمه أم ولد رومية تسمى قراطيس. وهلك هذه السنة توفيل ملك الروم وكان ملكه اثنتي عشرة سنة وفيها ملكت بعده امرأته تذوره، وابنها ميخائيل بن توفيل صبي. وحج بالناس فيها جعفر بن المعتصم، وكانت أم الواثق خرجت معه تريد الحج، فماتت بالحيرة لأربع خلون من ذي القعدة ودفنت بالكوفة في دار داود بن عيسى.

سنه ثمان وعشرين ومائتين

ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من الواثق إلى أشناس أن توجه وألبسه وشاحين بالجوهر في شهر رمضان. وفيها مات أبو الحسن المدائني في منزل إسحاق بن إبراهيم الموصلي وفيها مات حبيب بن أوس الطائي أبو تمام الشاعر. وفيها حج سليمان بن عبد الله بن طاهر وفيها غلا السعر بطريق مكة، فبلغ رطل خبز بدرهم وراوية ماء بأربعين درهما وأصاب الناس في الموقف حر شديد ثم مطر شديد فيه برد، فأضر بهم شدة الحر، ثم شده البرد في ساعه واحده، ومطروا بمنى في يوم النحر مطرا شديدا لم يروا مثله، وسقطت قطعة من الجبل عند جمرة العقبة قتلت عدة من الحاج. وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.

سنه تسع وعشرين ومائتين

ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر الخبر عن حبس الواثق الكتاب وإلزامهم الأموال فمن ذلك ما كان من حبس الواثق بالله الكتاب وإلزامهم أموالا، فدفع أحمد بن إسرائيل إلى إسحاق بن يحيى بن معاذ صاحب الحرس، وأمر بضربه كل يوم عشرة أسواط، فضربه- فيما قيل- نحوا من ألف سوط، فأدى ثمانين ألف دينار، وأخذ من سليمان بن وهب كاتب ايتاخ أربعمائة ألف دينار، ومن الحسن بن وهب أربعة عشر الف دينار، وأخذ من أحمد بن الخصيب وكتابه ألف ألف دينار، ومن إبراهيم بن رباح وكتابه مائة ألف دينار، ومن نجاح ستين ألف دينار، ومن أبي الوزير صلحا مائة ألف وأربعين ألف دينار، وذلك سوى ما أخذ من العمال بسبب عمالاتهم ونصب محمد بن عبد الملك لابن ابى دواد وسائر أصحاب المظالم العداوة، فكشفوا وحبسوا، وأجلس إسحاق بن إبراهيم، فنظر في أمرهم وأقيموا للناس ولقوا كل جهد. ذكر الخبر عن السبب الذي بعث الواثق على فعله ما ذكرت بالكتاب في هذه السنة: ذكر عن عزون بن عبد العزيز الأنصاري، أنه قال: كنا ليلة في هذه السنة عند الواثق، فقال: لست أشتهي الليلة النبيذ، ولكن هلموا نتحدث الليلة، فجلس في رواقه الأوسط في الهاروني في البناء الأول الذي كان إبراهيم ابن رباح بناه، وقد كان في أحد شقي ذلك الرواق قبة مرتفعة في السماء بيضاء، كأنها بيضه الا قدر ذراع- فيما ترى العين- حولها في وسطها ساج منقوش مغشى باللازورد والذهب، وكانت تسمى قبة المنطقة، وكان ذلك الرواق يسمى رواق قبة المنطقة

قال: فتحدثنا عامة الليل، فقال الواثق: من منكم يعلم السبب الذي به وثب جدي الرشيد على البرامكة فأزال نعمتهم؟ قال عزون: فقلت: أنا والله أحدثك يا أمير المؤمنين، كان سبب ذلك أن الرشيد ذكرت له جارية لعون الخياط، فأرسل إليها فاعترضها، فرضي جمالها وعقلها وحسن أدبها، فقال لعون: ما تقول في ثمنها؟ قال: يا أمير المؤمنين، أمر ثمنها واضح مشهور، حلفت بعتقها وعتق رقيقي جميعا وصدقة مالي الأيمان المغلظة التي لا مخرج منها لي، وأشهدت علي بذلك العدول الا انقص ثمنها عن مائة ألف دينار، ولا أحتال في ذلك بشيء من الحيل، هذه قضيتها فقال أمير المؤمنين: قد أخذتها منك بمائة ألف دينار، ثم أرسل إلى يحيى بن خالد يخبره بخبر الجارية، ويأمره أن يرسل إليه بمائة ألف دينار، فقال يحيى: هذا مفتاح سوء، إذا اجترأ في ثمن جارية واحدة على طلب مائة ألف دينار فهو أحرى أن يطلب المال على قدر ذلك، فأرسل يخبره أنه لا يقدر على ذلك، فغضب عليه الرشيد، وقال: ليس في بيت مالي مائة ألف دينار، فأعاد عليه: لا بد منها، فقال يحيى: اجعلوها دراهم، ليراها فيستكثرها، فلعله يردها، فأرسل بها دراهم، وقال: هذه قيمة مائة ألف دينار، وأمر أن توضع في رواقه الذي يمر فيه إذا أراد المتوضأ لصلاة الظهر قال: فخرج الرشيد في ذلك الوقت، فإذا جبل من بدر، فقال: ما هذا؟ قالوا: ثمن الجارية، لم تحضر دنانير، فأرسل قيمتها دراهم، فاستكثر الرشيد ذلك، ودعا خادما له، فقال: اضمم هذه إليك، واجعل لي بيت مال لاضم اليه ما أريده وسماه بيت مال العروس، وأمر برد الجارية إلى عون، وأخذ في التفتيش عن المال، فوجد البرامكة قد استهلكوه، فأقبل يهم بهم ويمسك، فكان يرسل إلى الصحابة وإلى قوم من أهل الأدب من غيرهم فيسامرهم، ويتعشى معهم، فكان فيمن يحضر إنسان كان معروفا بالأدب، وكان يعرف بكنيته يقال له أبو العود، فحضر ليلة فيمن حضره، فأعجبه حديثه، فأمر خادما له أن يأتي يحيى بن خالد

إذا أصبح، فيأمره أن يعطيه ثلاثين ألف درهم ففعل، فقال يحيى لأبي العود: أفعل، وليس بحضرتنا اليوم مال، غدا يجيء المال، ونعطيك إن شاء الله ثم دافعه حتى طالت به الأيام، قال: فأقبل أبو العود يحتال أن يجد من الرشيد وقتا يحرضه فيه على البرامكة- وقد كان شاع في الناس ما كان يهم به الرشيد في أمرهم- فدخل عليه ليلة، فتحدثوا، فلم يزل أبو العود يحتال للحديث حتى وصله بقول عمر بن أبي ربيعة: وعدت هند وما كانت تعد ... ليت هندا أنجزتنا ما تعد واستبدت مرة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد فقال الرشيد: أجل والله، إنما العاجز من لا يستبد، حتى انقضى المجلس وكان يحيى قد اتخذ من خدم الرشيد خادما يأتيه بأخباره، وأصبح يحيى غاديا على الرشيد، فلما رآه قال: قد أردت البارحة أن أرسل إليك بشعر أنشدنيه بعض من كان عندي، ثم كرهت أن أزعجك، فأنشده البيتين، فقال: ما أحسنهما يا أمير المؤمنين! وفطن لما أراد، فلما انصرف أرسل إلى ذلك الخادم، فسأله عن إنشاد ذلك الشعر، فقال: أبو العود أنشده، فدعا الوزير يحيى بأبي العود، فقال له: إنا كنا قد لويناك بمالك، وقد جاءنا مال، ثم قال لبعض خدمه: اذهب فأعطه ثلاثين ألف درهم من بيت مال أمير المؤمنين، وأعطه من عندي عشرين ألف درهم لمطلنا إياه، واذهب إلى الفضل وجعفر فقل لهما هذا رجل مستحق أن يبر، وقد كان أمير المؤمنين أمر له بمال فأطلت مطله، ثم حضر المال، فأمرت أن يعطى ووصلته من عندي صلة، وقد أحببت أن تصلاه، فسألا: بكم وصله قال: بعشرين ألف درهم، فوصله كل واحد منهما بعشرين ألف درهم، فانصرف بذلك المال كله إلى منزله وجد الرشيد في أمرهم حتى وثب عليهم، وأزال نعمتهم، وقتل جعفرا وصنع ما صنع

فقال الواثق: صدق والله جدي، إنما العاجز من لا يستبد! وأخذ في ذكر الخيانة وما يستحق أهلها. قال عزون: أحسبه: سيوقع بكتابه، فما مضى أسبوع حتى أوقع بكتابه، وأخذ إبراهيم بن رباح وسليمان بن وهب وأبا الوزير وأحمد بن الخصيب وجماعتهم. قال: وأمر الواثق بحبس سليمان بن وهب كاتب ايتاخ، واخذه بمائتي ألف درهم- وقيل دينار- فقيد وألبس مدرعة من مدارع الملاحين، فأدى مائة ألف درهم، وسال ان يؤخذ بالباقي عشرين شهرا، فأجابه الواثق إلى ذلك، وأمر بتخلية سبيله ورده إلى كتابة إيتاخ، وأمره بلبس السواد. وفي هذه السنة ولي شارباميان لإيتاخ اليمن وشخص إليها في شهر ربيع الآخر. وفيها ولي محمد بن صالح بن العباس المدينة. وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.

سنه ثلاثين ومائتين

ثم دخلت سنة ثلاثين ومائتين (ذكر خبر الخبر عما كان فيها من الأحداث) ذكر مسير بغا الى الاعراب بالمدينة فمن ذلك ما كان من توجيه الواثق بغا الكبير إلى الأعراب الذين عاثوا بالمدينة وما حواليها. ذكر الخبر عن ذلك: ذكر ان بدء ذلك كان أن بني سليم كانت تطاول على الناس حول المدينة بالشر، وكانوا إذا وردوا سوقا من أسواق الحجاز أخذوا سعرها كيف شاءوا، ثم ترقى بهم الأمر إلى ان أوقعوا بالحجاز بناس من بني كنانة وباهلة، فأصابوهم وقتلوا بعضهم، وذلك في جمادى الآخرة سنة ثلاثين ومائتين، وكان رأسهم عزيزة بن قطاب السلمي فوجه إليهم محمد بن صالح بن العباس الهاشمي، وهو يومئذ عامل المدينة، مدينة الرسول ص حماد بن جرير الطبري- وكان الواثق وجه حمادا مسلحة للمدينة لئلا يتطرقها الأعراب، في مائتي فارس من الشاكرية- فتوجه إليهم حماد في جماعة من الجند ومن تطوع للخروج من قريش والأنصار ومواليهم وغيرهم من أهل المدينة، فسار إليهم فلقيته طلائعهم وكانت بنو سليم كارهة للقتال، فأمر حماد بن جرير بقتالهم، وحمل عليهم بموضع يقال له الرويثة من المدينة على ثلاث مراحل، وكانت بنو سليم يومئذ وامدادها جاءوا من البادية في ستمائه وخمسين، وعامة من لقيهم من بني عوف من بنى سليم، ومعهم اشهب

ابن دويكل بن يحيى بن حمير العوفي وعمه سلمه بن يحيى وعزيره بن قطاب اللبيدي من بني لبيد بن سليم، فكان هؤلاء قوادهم، وكانت خيلهم مائة وخمسين فرسا، فقاتلهم حماد واصحابه، ثم أتت بنى سليم امدادها خمسمائة من موضع فيه بدوهم، وهو موضع يسمى أعلى الرويثة، بينها وبين موضع القتال أربعة أميال، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت سودان المدينة بالناس، وثبت حماد وأصحابه وقريش والأنصار، فصلوا بالقتال حتى قتل حماد وعامة أصحابه، وقتل ممن ثبت من قريش والأنصار عدد صالح، وحازت بنو سليم الكراع والسلاح والثياب، وغلظ أمر بني سليم، فاستباحت القرى والمناهل، فيما بينها وبين مكة والمدينة، حتى لم يمكن أحدا أن يسلك ذلك الطريق، وتطرقوا من يليهم من قبائل العرب. فوجه إليهم الواثق بغا الكبير أبا موسى التركي في الشاكرية والأتراك والمغاربة، فقدمها بغا في شعبان سنة ثلاثين ومائتين، وشخص إلى حرة بني سليم، لأيام بقين من شعبان، وعلى مقدمته طردوش التركي، فلقيهم ببعض مياه الحرة، وكانت الوقعة بشق الحرة من وراء السوارقية، وهي قريتهم التي كانوا يأوون إليها- والسوارقية حصون- وكان جل من لقيه منهم من بني عوف فيهم عزيزة بن قطاب والأشهب- وهما رأسا القواد يومئذ- فقتل بغا منهم نحوا من خمسين رجلا، وأسر مثلهم، فانهزم الباقون، وانكشف بنو سليم لذلك، ودعاهم بغا بعد الوقعة إلى الأمان على حكم أمير المؤمنين الواثق، واقام بالسوارقيه فاتوه، واجتمعوا إليه، وجمعهم من عشرة واثنين وخمسة وواحد، وأخذ من جمعت السوارقيه من غير بني سليم من أفناء الناس، وهربت خفاف بني سليم إلا أقلها، وهي التي كانت تؤذي الناس، وتطرق الطريق، وجل من صار في يده ممن ثبت من بني عوف، وكان آخر من أخذ منهم من بني حبشي من بني سليم، فاحتبس عنده من وصف بالشر

ذكر الخبر عن وفاه عبد الله بن طاهر

والفساد، وهم زهاء ألف رجل، وخلى سبيل سائرهم، ثم رحل عن السوارقية بمن صار في يده من أسارى بني سليم ومستأمنيهم إلى المدينة في ذي القعدة سنة ثلاثين ومائتين، فحبسهم فيها في الدار المعروفة بيزيد بن معاوية، ثم شخص إلى مكة حاجا في ذي الحجة، فلما انقضى الموسم انصرف إلى ذات عرق، ووجه إلى بني هلال من عرض عليهم مثل الذي عرض على بني سليم فأقبلوا، فأخذ من مردتهم وعتاتهم نحوا من ثلاثمائة رجل، وخلى سائرهم، ورجع من ذات عرق وهي على مرحلة من البستان، بينها وبين مكة مرحلتان . ذكر الخبر عن وفاه عبد الله بن طاهر وفي هذه السنة مات أبو العباس عبد الله بن طاهر بنيسابور يوم الاثنين لإحدى عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ بعد موت أشناس التركي بتسعة أيام. ومات عبد الله بن طاهر وإليه الحرب والشرطة والسواد وخراسان وأعمالها والري وطبرستان وما يتصل بها وكرمان، وخراج هذه الأعمال كان يوم مات ثمانية وأربعين ألف ألف درهم، فولى الواثق أعمال عبد الله بن طاهر كلها ابنه طاهرا. وحج في هذه السنة إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فولى أحداث الموسم. وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.

سنه احدى وثلاثين ومائتين

ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من أمر الفداء الذي جرى على يد خاقان الخادم بين المسلمين والروم في المحرم منها، فبلغت عدة المسلمين- فيما قيل- اربعه آلاف وثلاثمائة واثنين وستين إنسانا. ذكر الخبر عن امر بنى سليم وغيرهم من القبائل وفيها قتل من قتل من بني سليم بالمدينة في حبس بغا. ذكر الخبر عن سبب قتلهم وما كان من أمرهم: ذكر أن بغا لما صار إليه بنو هلال بذات عرق، فأخذ منهم من ذكرت أنه أخذ منهم، شخص معتمرا عمرة المحرم، ثم انصرف الى المدينة، فجمع كل من أخذ من بني هلال واحتبسهم عنده مع الذين كان أخذ من بني سليم، وجمعهم جميعا في دار يزيد بن معاوية في الأغلال والأقياد وكانت بنو سليم حبست قبل ذلك بأشهر ثم سار بغا إلى بني مرة، وفي حبس المدينة نحو من الف وثلاثمائة رجل من بني سليم وهلال، فنقبوا الدار ليخرجوا، فرأت امرأة من أهل المدينة النقب، فاستصرخت أهل المدينة فجاءوا، فوجدوهم قد وثبوا على الموكلين بهم، فقتلوا منهم رجلا أو رجلين، وخرج بعضهم أو عامتهم، فأخذوا سلاح الموكلين بهم، واجتمع عليهم أهل المدينة، أحرارهم وعبيدهم- وعامل المدينة يومئذ عبد الله بن أحمد بن داود الهاشمي- فمنعوهم الخروج، وباتوا محاصريهم حول الدار حتى أصبحوا، وكان وثوبهم عشية الجمعة، وذلك أن عزيزة بن قطاب قال لهم: إني أتشاءم بيوم السبت،

ولم يزل اهل المدينة يعتقبون القتال، وقاتلتهم بنو سليم، فظهر أهل المدينة عليهم، فقتلوهم أجمعين، وكان عزيزة يرتجز، ويقول: لا بد من زحم وإن ضاق الباب ... إني أنا عزيزة بن القطاب للموت خير للفتى من العاب ... هذا وربي عمل للبواب وقيده في يده قد فكه، فرمى به رجلا، فخر صريعا وقتلوا جميعا، وقتلت سودان المدينة من لقيت من الأعراب في أزقة المدينة ممن دخل يمتار، حتى لقوا أعرابيا خارجا من قبر النبي ص فقتلوه، وكان أحد بني أبي بكر بن كلاب من ولد عبد العزيز بن زرارة وكان بغا غائبا عنهم، فلما قدم فوجدهم قد قتلوا شق ذلك عليه، ووجد منه وجدا شديدا. وذكر أن البواب كان قد ارتشى منهم، ووعدهم أن يفتح لهم الباب، فعجلوا قبل ميعاده، فكانوا يرتجزون ويقولون وهم يقاتلون: الموت خير للفتى من العار ... قد أخذ البواب ألف دينار وجعلوا يقولون حين أخذهم بغا: يا بغية الخير وسيف المنتبه ... وجانب الجور البعيد المشتبه من كان منا جانيا فلست به ... افعل هداك الله ما أمرت به فقال: أمرت أن أقتلكم وكان عزيزة بن قطاب رأس بني سليم حين قتل أصحابه صار إلى بئر، فدخلها، فدخل عليه رجل من أهل المدينة فقتله، وصفت القتلى على باب مروان بن الحكم، بعضها فوق بعض. وحدثني أحمد بن محمد أن مؤذن أهل المدينة أذن ليلة حراستهم بني سليم بليل ترهيبا لهم بطلوع الفجر، وأنهم قد أصبحوا، فجعل الأعراب يضحكون، ويقولون: يا شربة السويق، تعلموننا بالليل، ونحن أعلم به منكم! فقال رجل من بني سليم:

متى كان ابن عباس أميرا ... يصل لصقل نابيه صريف يجور ولا يرد الجور منه ... ويسطو ما لوقعته ضعيف وقد كنا نرد الجور عنا ... إذا انتضيت بأيدينا السيوف أمير المؤمنين سما إلينا ... سمو الليث ثار من الغريف فإن يمنن فعفو الله نرجو ... وإن يقتل فقاتلنا شريف وكان سبب غيبة بغا عنهم أنه توجه إلى فدك لمحاربة من فيها ممن كان تغلب عليها من بني فزارة ومرة، فلما شارفهم وجه إليهم رجلا من فزارة يعرض عليهم الأمان، ويأتيه بأخبارهم، فلما قدم عليهم الفزاري حذرهم سطوته، وزين لهم الهرب، فهربوا ودخلوا في البر، ودخلوا فدك إلا نفرا بقوا فيها منهم، وكان قصدهم خيبر وجنفاء ونواحيها، فظفر ببعضهم، واستأمن بعضهم، وهرب الباقون مع رأس لهم يقال له الركاض إلى موضع من البلقاء من عمل دمشق، وأقام بغا بجنفاء وهي قرية من حد عمل الشام، مما يلي الحجاز نحوا من أربعين ليلة، ثم انصرف إلى المدينة بمن صار في يديه من بني مرة وفزارة. وفي هذه السنة صار إلى بغا من بطون غطفان وفزارة وأشجع جماعة، وكان وجه إليهم وإلى بني ثعلبة، فلما صاروا إليه- فيما ذكر- امر محمد ابن يوسف الجعفري، فاستحلفهم الايمان المؤكدة ألا يتخلفوا عنه متى دعاهم فحلفوا، ثم شخص إلى ضرية لطلب بني كلاب، ووجه إليهم رسله، فاجتمع إليه منهم- فيما قيل- نحو من ثلاثة آلاف رجل، فاحتبس منهم من أهل الفساد نحوا من ألف رجل وثلاثمائة رجل، وخلى سائرهم، ثم قدم بهم المدينة في شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، فحبسهم في دار يزيد بن معاوية، ثم شخص إلى مكة بغا، وأقام بها حتى شهد الموسم، فبقي

ذكر مقتل احمد بن نصر الخزاعي على يد الواثق

بنو كلاب في الحبس لا يجري عليهم شيء مدة غيبة بغا، حتى رجع إلى المدينة، فلما صار إلى المدينة أرسل إلى من كان استحلف من ثعلبة وأشجع وفزارة فلم يجيبوه، وتفرقوا في البلاد، فوجه في طلبهم فلم يلحق منهم كثير احد. ذكر مقتل احمد بن نصر الخزاعي على يد الواثق وفي هذه السنة تحرك ببغداد قوم في ربض عمرو بن عطاء، فأخذوا على أحمد بن نصر الخزاعي البيعة. ذكر الخبر عن سبب حركة هؤلاء القوم وما آل إليه أمرهم وأمر أحمد بن نصر: وكان السبب في ذلك أن أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعي- ومالك بن الهيثم أحد نقباء بني العباس، وكان ابنه أحمد يغشاه أصحاب الحديث، كيحيى بن معين وابن الدورقى وابن خيثمة، وكان يظهر المباينة لمن يقول: القرآن مخلوق، مع منزلة أبيه كانت من السلطان في دولة بني العباس، ويبسط لسانه فيمن يقول ذلك، مع غلظة الواثق كانت على من يقول ذلك وامتحانه إياهم فيه، وغلبه أحمد بن ابى دواد عليه- فحدثني بعض أشياخنا، عمن ذكره، أنه دخل على أحمد بن نصر في بعض تلك الأيام وعنده جماعة من الناس، فذكر عنده الواثق، فجعل يقول: ألا فعل هذا الخنزير! أو قال: هذا الكافر، وفشا ذلك من أمره، فخوف بالسلطان، وقيل له: قد اتصل أمرك به، فخافه. وكان فيمن يغشاه رجل- فيما ذكر- يعرف بأبي هارون السراج وآخر يقال له طالب، وآخر من أهل خراسان من أصحاب إسحاق بن إبراهيم بن

مصعب صاحب الشرطة ممن يظهر له القول بمقالته، فحرك المطيفون به- يعني أحمد بن نصر- من أصحاب الحديث، وممن ينكر القول بخلق القرآن من أهل بغداد- أحمد، وحملوه على الحركة لإنكار القول بخلق القرآن، وقصدوه بذلك دون غيره، لما كان لأبيه وجده في دولة بني العباس من الأثر، ولما كان له ببغداد، وأنه كان أحد من بايع له أهل الجانب الشرقي على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسمع له في سنه احدى ومائتين، لما كثر الدعار بمدينة السلام، وظهر بها الفساد والمأمون بخراسان، وقد ذكرنا خبره فيما مضى وأنه لم يزل أمره على ذلك ثابتا إلى أن قدم المأمون بغداد في سنة أربع ومائتين، فرجوا استجابة العامة له إذا هو تحرك للأسباب التي ذكرت. فذكر أنه أجاب من سأله ذلك، وأن الذي كان يسعى له في دعاء الناس له الرجلان اللذان ذكرت اسميهما قبل وأن أبا هارون السراج وطالبا فرقا في قوم مالا، فأعطيا كل رجل منهم دينارا دينارا، وواعداهم ليلة يضربون فيها الطبل للاجتماع في صبيحتها للوثوب بالسلطان، فكان طالب بالجانب الغربي من مدينة السلام فيمن عاقده على ذلك، وأبو هارون بالجانب الشرقي فيمن عاقده عليه، وكان طالب وأبو هارون أعطيا فيمن أعطيا رجلين من بني أشرس القائد دنانير يفرقانها في جيرانهم، فانتبذ بعضهم نبيذا، واجتمع عدة منهم على شربه، فلما ثملوا ضربوا بالطبل ليلة الأربعاء قبل الموعد بليلة، وكان الموعد لذلك ليلة الخميس في شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، لثلاث تخلو منه، وهم يحسبونها ليلة الخميس التي اتعدوا لها، فأكثروا ضرب الطبل، فلم يجبهم أحد وكان إسحاق بن إبراهيم غائبا عن بغداد وخليفته بها أخوه محمد بن إبراهيم، فوجه إليهم محمد بن إبراهيم غلاما له يقال له رحش، فأتاهم فسألهم عن قصتهم، فلم يظهر له أحد ممن ذكر بضرب الطبل، فدل على رجل يكون في الحمامات مصاب بعينه، يقال له

عيسى الأعور، فهدده بالضرب، فأقر على ابني أشرس وعلى أحمد بن نصر بن مالك وعلى آخرين سماهم، فتتبع القوم من ليلتهم، فأخذ بعضهم، وأخذ طالبا ومنزله في الربض من الجانب الغربي، وأخذ أبا هارون السراج ومنزله في الجانب الشرقي، وتتبع من سماه عيسى الأعور في أيام وليال، فصيروا في الحبس في الجانب الشرقي والغربي، كل قوم في ناحيتهم التي أخذوا فيها، وقيد أبو هارون وطالب بسبعين رطلا من الحديد كل واحد منهما، وأصيب في منزل ابني أشرس علمان أخضران فيهما حمرة في بئر، فتولى إخراجهما رجل من أعوان محمد بن عياش- وهو عامل الجانب الغربي، وعامل الجانب الشرقي العباس بن محمد بن جبريل القائد الخراساني- ثم أخذ خصي لأحمد ابن نصر فتهدد، فأقر بما أقر به عيسى الأعور، فمضى إلى أحمد بن نصر وهو في الحمام، فقال لأعوان السلطان: هذا منزلي، فإن أصبتم فيه علما أو عدة أو سلاحا لفتنة فأنتم في حل منه ومن دمي، ففتش فلم يوجد فيه شيء، فحمل إلى محمد بن إبراهيم بن مصعب وأخذوا خصيين وابنين له ورجلا ممن كان يغشاه يقال له إسماعيل بن محمد بن معاوية بن بكر الباهلي، ومنزله بالجانب الشرقي، فحمل هؤلاء الستة إلى أمير المؤمنين الواثق وهو بسامرا على بغال باكف ليس تحتهم وطاء، فقيد أحمد بن نصر بزوج قيود، وأخرجوا من بغداد يوم الخميس لليلة بقيت من شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وكان الواثق قد أعلم بمكانهم، وأحضر ابن ابى دواد وأصحابه، وجلس لهم مجلسا عاما ليمتحنوا امتحانا مكشوفا، فحضر القوم واجتمعوا عنده. وكان أحمد بن ابى دواد- فيما ذكر- كارها قتله في الظاهر، فلما أتي بأحمد بن نصر لم يناظره الواثق في الشغب ولا فيما رفع عليه من إرادته الخروج عليه، ولكنه قال له: يا أحمد، ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله- وأحمد بن نصر مستقتل قد تنور وتطيب، قال: أفمخلوق هو؟ قال: هو

كلام الله، قال: فما تقول في ربك، أتراه يوم القيامة؟ قال: يا أمير المؤمنين [جاءت الآثار عن رسول الله ص أنه قال: ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته،] فنحن على الخبر قال: [وحدثنى سفيان ابن عيينة بحديث يرفعه: أن قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الله يقلبه،] وكان النبي ص يدعو: يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك، فقال له إسحاق بن إبراهيم: ويلك! انظر ماذا تقول! قال: أنت أمرتني بذلك، فأشفق إسحاق من كلامه، وقال: أنا أمرتك بذلك! قال: نعم، أمرتني أن أنصح له إذ كان أمير المؤمنين، ومن نصيحتي له الا يخالف حديث رسول الله ص فقال الواثق لمن حوله: ما تقولون فيه؟ فأكثروا، فقال عبد الرحمن بن إسحاق- وكان قاضيا على الجانب الغربي فعزل، وكان حاضرا وكان أحمد بن نصر ودا له-: يا أمير المؤمنين، هو حلال الدم، وقال أبو عبد الله الأرمني صاحب ابن أبي دواد: اسقني دمه يا أمير المؤمنين، فقال الواثق: القتل يأتي على ما تريد، وقال ابن ابى دواد: يا أمير المؤمنين كافر يستتاب، لعل به عاهة أو تغير عقل- كأنه كره أن يقتل بسببه- فقال الواثق: إذا رأيتموني قد قمت إليه، فلا يقومن أحد معي، فإني أحتسب خطاي إليه ودعا بالصمصامة- سيف عمرو بن معديكرب الزبيدي وكان في الخزانة، كان أهدي إلى موسى الهادي، فأمر سلما الخاسر الشاعر أن يصفه له، فوصفه فأجازه- فأخذ الواثق الصمصامة- وهي صفيحة موصولة من أسفلها مسمورة بثلاثة مسامير تجمع بين الصفيحة والصلة- فمشى إليه وهو في وسط الدار، ودعا بنطع فصير في وسطه، وحبل فشد رأسه، ومد الحبل، فضربه الواثق ضربة، فوقعت على حبل العاتق، ثم ضربه أخرى على رأسه، ثم انتضى سيما الدمشقي سيفه، فضرب عنقه وحز رأسه. وقد ذكر أن بغا الشرابي ضربه ضربة أخرى، وطعنه الواثق بطرف

الصمصامة في بطنه، فحمل معترضا حتى أتي به الحظيرة التي فيها بابك، فصلب فيها وفي رجله زوج قيود، وعليه سراويل وقميص، وحمل رأسه إلى بغداد، فنصب في الجانب الشرقي أياما، وفي الجانب الغربي أياما، ثم حول إلى الشرقي، وحظر على الرأس حظيرة، وضرب عليه فسطاط، وأقيم عليه الحرس، وعرف ذلك الموضع برأس أحمد بن نصر، وكتب في أذنه رقعة: هذا رأس الكافر المشرك الضال، وهو أحمد بن نصر بن مالك، ممن قتله الله على يدي عبد الله هارون الإمام الواثق بالله أمير المؤمنين، بعد أن أقام عليه الحجة في خلق القرآن ونفي التشبيه، وعرض عليه التوبة، ومكنه من الرجوع إلى الحق، فأبى إلا المعاندة والتصريح، والحمد لله الذي عجل به إلى ناره وأليم عقابه وإن أمير المؤمنين سأله عن ذلك، فأقر بالتشبيه وتكلم بالكفر، فاستحل بذلك أمير المؤمنين دمه، ولعنه وأمر أن يتتبع من وسم بصحبة أحمد بن نصر، ممن ذكر انه كان متشايعا له، فوضعوا في الحبوس، ثم جعل نيف وعشرون رجلا وسموا في حبوس الظلمة، ومنعوا من أخذ الصدقة التي يعطاها أهل السجون، ومنعوا من الزوار، وثقلوا بالحديد وحمل أبو هارون السراج وآخر معه إلى سامرا، ثم ردوا إلى بغداد، فجعلوا في المحابس. وكان سبب أخذ الذين أخذوا بسبب أحمد بن نصر، أن رجلا قصارا كان في الربض جاء إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فقال: أنا أدلك على أصحاب أحمد بن نصر، فوجه معه من يتبعهم، فلما اجتمعوا وجدوا على القصار سببا حبسوه معهم، وكان له في المهرزار نخل، فقطع وانتهب منزله، وكان ممن حبس بسببه قوم من ولد عمرو بن اسفنديار، فماتوا في الحبس، فقال بعض الشعراء في احمد بن ابى دواد: ما إن تحولت من إياد ... صرت عذابا على العباد

أنت كما قلت من اياد ... فارفق بهذا الخلق يا إيادي وفي هذه السنة أراد الواثق الحج، فاستعد له، ووجه عمر بن فرج إلى الطريق لإصلاحه، فرجع فأخبره بقلة الماء فبدا له وحج بالناس فيها محمد بن داود بن عيسى وفيها ولى الواثق جعفر بن دينار اليمن، فشخص إليها في شعبان وحج هو وبغا الكبير، وعلى أحداث الموسم بغا الكبير، وكان شخوص جعفر إلى اليمن في أربعة آلاف فارس وألفي راجل وأعطي رزق ستة أشهر وعقد محمد بن عبد الملك الزيات لإسحاق بن إبراهيم بن أبي خميصة مولى بني قشير من أهل أضاخ فيها على اليمامة والبحرين وطريق مكة، مما يلي البصرة في دار الخلافة، ولم يذكر أن أحدا عقد لأحد في دار الخلافة إلا الخليفة غير محمد بن عبد الملك الزيات وفي هذه السنة نقب قوم من اللصوص بيت المال الذي في دار العامة في جوف القصر، وأخذوا اثنين وأربعين ألفا من الدراهم، وشيئا من الدنانير يسيرا، فأخذوا بعد وتتبع أخذهم يزيد الحلواني، صاحب الشرطة خليفة إيتاخ وفيها خرج محمد بن عمرو الخارجي من بني زيد بن تغلب في ثلاثة عشر رجلا في ديار ربيعة، فخرج إليه غانم بن أبي مسلم بن حميد الطوسي، وكان على حرب الموصل في مثل عدته، فقتل من الخوارج اربعه، وأخذ محمد ابن عمرو أسيرا فبعث به إلى سامرا، فبعث به إلى مطبق بغداد، ونصبت رءوس أصحابه وأعلامه عند خشبة بابك وفي هذه السنة قدم وصيف التركي من ناحية أصبهان والجبال وفارس، وكان شخص في طلب الأكراد، لأنهم قد كانوا تطرقوا إلى هذه النواحي، وقدم معه منهم بنحو من خمسمائة نفس، فيهم غلمان صغار، جمعهم في قيود

خبر الفداء بين المسلمين والروم

وأغلال، فأمر بحبسهم، وأجيز وصيف بخمسة وسبعين الف دينار، وقلد سيفا وكسى. خبر الفداء بين المسلمين والروم وفي هذه السنة، تم الفداء بين المسلمين وصاحب الروم، واجتمع فيها المسلمون والروم على نهر يقال له. اللمس على سلوقية على مسيرة يوم من طرسوس. ذكر الخبر عن سبب هذا الفداء وكيف كان: ذكر عن أحمد بن أبي قحطبة صاحب خاقان الخادم- وكان خادم الرشيد، وكان قد نشأ بالثغر- أن خاقان هذا قدم على الواثق، وقدم معه نفر من وجوه أهل طرسوس وغيرها يشكون صاحب مظالم كان عليهم، يكنى أبا وهب، فأحضر، فلم يزل محمد بن عبد الملك يجمع بينه وبينهم في دار العامة عند انصراف الناس يوم الاثنين والخميس، فيمكثون إلى وقت الظهر، وينصرف محمد بن عبد الملك وينصرفون، فعزل عنهم، وأمر الواثق بامتحان أهل الثغور في القرآن، فقالوا بخلقه جميعا، إلا أربعة نفر، فأمر الواثق بضرب أعناقهم إن لم يقولوه، وأمر لجميع أهل الثغور بجوائز على ما رأى خاقان، وتعجل أهل الثغور إلى ثغورهم، وتأخر خاقان بعدهم قليلا، فقدم على الواثق رسل صاحب الروم- وهو ميخائيل بن توفيل بن ميخائيل ابن اليون بن جورجس- يسأله أن يفادي بمن في يده من أسارى المسلمين، فوجه الواثق خاقان في ذلك، فخرج خاقان ومن معه في فداء أسارى المسلمين في آخر سنة ثلاثين ومائتين على موعد بين خاقان ورسل صاحب الروم للالتقاء للفداء في يوم عاشوراء، وذلك في العاشر من المحرم سنة إحدى وثلاثين

ومائتين ثم عقد الواثق لأحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي على الثغور والعواصم، وأمره بحضور الفداء، فخرج على سبعة عشر من البرد وكان الرسل الذين قدموا في طلب الفداء قد جرى بينهم وبين ابن الزيات اختلاف في الفداء، قالوا: لا نأخذ في الفداء امرأة عجوزا ولا شيخا كبيرا ولا صبيا، فلم يزل ذلك بينهم أياما حتى رضوا عن كل نفس بنفس. فوجه الواثق إلى بغداد والرقة في شري من يباع من الرقيق من مماليك، فاشترى من قدر عليه منهم، فلم تتم العدة، فأخرج الواثق من قصره من النساء الروميات العجائز وغيرهن، حتى تمت العدة، ووجه ممن مع ابن أبي دواد رجلين، يقال لأحدهما يحيى بن آدم الكرخي، ويكنى أبا رملة، وجعفر بن احمد بن الحذاء، ووجه معهما كاتبا من كتاب العرض، يقال له طالب بن داود، وأمره بامتحانهم هو وجعفر، فمن قال: القرآن مخلوق فودي به، ومن أبى ذلك ترك في أيدي الروم، وأمر لطالب بخمسة آلاف درهم، وأمر أن يعطوا جميع من قال: إن القرآن مخلوق، ممن فودي به دينارا لكل إنسان من ماله حمل معهم، فمضى القوم. فذكر عن أحمد بن الحارث أنه قال: سألت ابن أبي قحطبة صاحب خاقان الخادم- وكان السفير الموجه بين المسلمين والروم، وجه ليعرف عدة المسلمين في بلاد الروم فأتى ملك الروم وعرف عدتهم قبل الفداء- فذكر أنه بلغت عدتهم ثلاثة آلاف رجل وخمسمائة امرأة، فأمر الواثق بفدائهم، وعجل أحمد بن سعيد على البريد ليكون الفداء على يديه، ووجه من يمتحن الأسراء من المسلمين، فمن قال منهم: إن القرآن مخلوق، وإن الله عز وجل لا يرى في الآخرة فودي به، ومن لم يقل ذلك ترك في أيدي الروم، ولم يكن فداء منذ أيام محمد بن زبيدة في سنة أربع أو خمس وتسعين ومائة

قال: فلما كان يوم عاشوراء، لعشر خلون من المحرم سنة إحدى وثلاثين ومائتين، اجتمع المسلمون ومن معهم من العلوج وقائدان من قواد الروم، يقال لأحدهما انقاس وللآخر لمسنوس، والمسلمون والمطوعة في أربعة آلاف بين فارس وراجل، فاجتمعوا بموضع يقال له اللمس، فذكر عن محمد بن أحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي أن كتاب أبيه أتاه، أن من فودي به من المسلمين ومن كان معهم من أهل ذمتهم اربعه آلاف وستمائه انسان، منهم صبيان ونساء ستمائه، ومنهم من اهل الذمة اقل من خمسمائة والباقون رجال من جميع الآفاق. وذكر أبو قحطبة- وكان رسول خاقان الخادم إلى ملك الروم لينظركم عدد الأسرى، ويعلم صحة ما عزم عليه ميخائيل ملك الروم- أن عدد المسلمين قبل الفداء كان ثلاثة آلاف رجل وخمسمائة امرأة وصبي، ممن كان بالقسطنطينية وغيرها، إلا من أحضره الروم ومحمد بن عبد الله الطرسوسي- وكان عندهم- فأوفده أحمد بن سعيد بن سلم وخاقان مع نفر من وجوه الأسرى على الواثق، فحملهم الواثق على فرس فرس، وأعطى لكل رجل منهم ألف درهم. وذكر محمد هذا أنه كان أسيرا في أيدي الروم ثلاثين سنة، وأنه كان أسر في غزاة رامية كان في العلافة فأسر، وكان فيمن فودي به في هذا الفداء، وقال: فودي بنا في يوم عاشوراء على نهر يقال له اللامس، على سلوقية قريبا من البحر، وأن عدتهم كانت أربعة آلاف وأربعمائة وستين نفسا، النساء وازواجهن وصبيانهن ثمانمائه وأهل ذمة المسلمين مائة أو أكثر، فوقع الفداء كل نفس عن نفس صغيرا أو كبيرا، فاستفرغ خاقان جميع من كان في بلد الروم من المسلمين ممن علم موضعه. قال: فلما جمعوا للفداء، وقف المسلمون من جانب النهر الشرقي والروم من الجانب الغربي- وهو مخاضه- فكان هؤلاء يرسلون من هاهنا رجلا وهؤلاء

من هاهنا رجلا، فيلتقيان في وسط النهر، فإذا صار المسلم إلى المسلمين كبر وكبروا وإذا صار الرومي إلى الروم تكلم بكلامهم، وتكلموا شبيها بالتكبير. وذكر عن السندي مولى حسين الخادم، أنه قال: عقد المسلمون جسرا على النهر، وعقد الروم جسرا، فكنا نرسل الرومي على جسرنا ويرسل الروم المسلم على جسرهم، فيصير هذا إلينا وذاك إليهم، وأنكر أن يكون مخاضة. وذكر عن محمد بن كريم أنه قال: لما صرنا في أيدي المسلمين، امتحننا جعفر ويحيى، فقلنا، وأعطينا دينارين دينارين قال: وكان البطريقان اللذان قدما بالأسرى لا بأس بهما في معاشرتهما. قال: وخاف الروم عدد المسلمين لقلتهم وكثرة المسلمين، فآمنهم خاقان من ذلك، وضرب بينهم وبين المسلمين أربعين يوما لا يغزون حتى يصلوا إلى بلادهم ومأمنهم، وكان الفداء في أربعة أيام، ففضل مع خاقان ممن كان أمير المؤمنين أعد لفداء المسلمين عدة كبيرة، وأعطى خاقان صاحب الروم ممن كان قد فضل في يده مائة نفس، ليكون عليهم الفضل استظهارا مكان من يخشى أن يأسروه من المسلمين إلى انقضاء المدة، ورد الباقين إلى طرسوس، فباعهم. قال: وكان خرج معنا ممن كان تنصر ببلاد الروم من المسلمين نحو من ثلاثين رجلا فودي بهم. قال محمد بن كريم: ولما انقضت المدة بين خاقان والروم الأربعون يوما، غزا أحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة، فأصاب الناس الثلج والمطر، فمات منهم قدر مائتي إنسان وغرق منهم في البدندون قوم كثير، وأسر منهم نحو من مائتين، فوجد أمير المؤمنين الواثق عليه لذلك، وحصل جميع من مات وغرق خمسمائة إنسان، وكان أقبل إلى أحمد بن سعيد وهو في سبعة آلاف

بطريق من عظمائهم فجبن عنه، فقال له وجوه الناس: إن عسكرا فيه سبعة آلاف لا يتخوف عليه، فإن كنت لا تواجه القوم فتطرق بلادهم. فأخذ نحوا من ألف بقرة وعشرة آلاف شاة، وخرج فعزله الواثق، وعقد لنصر بن حمزة الخزاعي يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة. وفي هذه السنة مات الحسن بن الحسين، أخو طاهر بن الحسين بطبرستان في شهر رمضان. وفيها مات الخطاب بن وجه الفلس وفيها مات ابو عبد الله الأعرابي الراوية يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من شعبان وهو ابن ثمانين سنة. وفيها ماتت أم أبيها بنت موسى أخت علي بن موسى الرضى وفيها مات مخارق المغني، وأبو نصر أحمد بن حاتم راوية الأصمعي، وعمرو ابن أبي عمرو الشيباني ومحمد بن سعدان النحوي.

سنه اثنتين وثلاثين ومائتين

ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر الخبر عن مسير بغا الكبير الى حرب بنى نمير فمن ذلك ما كان من مسير بغا الكبير إلى بني نمير حتى أوقع بهم. ذكر الخبر عن سبب مسيره إليهم وكيف كان الأمر بينه وبينهم: حدثني أحمد بن محمد بن مخلد بمعظم خبرهم، وذكر أنه كان مع بغا في ذلك السفر، وأما سياق الكلام فلغيره ذكر أن سبب شخوص بغا إلى بني نمير كان أن عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن الخطفى امتدح الواثق بقصيدة، فدخل عليه فأنشده إياها، فامر له بثلاثين الف درهم، وبنزل فكلم عمارة الواثق في بني نمير، وأخبره بعبثهم وفسادهم في الأرض، وإغارتهم على الناس وعلى اليمامة وما قرب منها، فكتب الواثق إلى بغا يأمره بحربهم. فذكر أحمد بن محمد أن بغا لما أراد الشخوص من المدينة إليهم حمل معه محمد بن يوسف الجعفري دليلا له على الطريق، فمضى نحو اليمامة يريدهم، فلقي منهم جماعة بموضع يقال له الشريف، فحاربوه، فقتل بغا منهم نيفا وخمسين رجلا، وأسر نحوا من أربعين، ثم سار إلى حظيان، ثم سار إلى قرية لبني تميم من عمل اليمامة تدعى مرأة، فنزل بها، ثم تابع إليهم رسله، يعرض عليهم الأمان، ودعاهم إلى السمع والطاعة، وهم في ذلك يمتنعون عليه، ويشتمون رسله، ويتفلتون إلى حربه، حتى كان آخر من وجه إليهم رجلين، أحدهما من بني عدي من تميم والآخر من بني نمير، فقتلوا التميمي وأثبتوا النميري جراحا، فسار بغا إليهم من مرأة وكان مسيره إليهم في أول صفر من سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، فورد بطن نخل، وسار حتى دخل نخيلة، وأرسل

إليهم أن ائتوني، فاحتملت بنو ضبة من نمير، فركبت جبالها مياسر جبال السود- وهو جبل خلف اليمامة أكثر أهله باهلة- فأرسل إليهم فأبوا أن يأتوه، فأرسل إليهم سرية فلم تدركهم، فوجه سرايا، فأصابت فيهم وأسرت منهم. ثم إنه أتبعهم بجماعة من معه وهم نحو من ألف رجل سوى من تخلف في العسكر من الضعفاء والأتباع، فلقيهم وقد جمعوا له، وحشدوا لحربه، وهم يومئذ نحو من ثلاثة آلاف، بموضع يقال له روضة الأبان وبطن السر من القرنين على مرحلتين، ومن أضاخ على مرحلة، فهزموا مقدمته، وكشفوا ميسرته، وقتلوا من أصحابه نحوا من مائة وعشرين أو مائة وثلاثين رجلا، وعقروا من ابل عسكره نحوا من سبعمائة بعير ومائة دابة، وانتهبوا الأثقال وبعض ما كان مع بغا من الأموال. قال لي أحمد: لقيهم بغا وهجم عليهم، وغلبه الليل، فجعل بغا يناشدهم، ويدعوهم إلى الرجوع وإلى طاعه امير المؤمنين، ويكلمهم بذلك محمد ابن يوسف الجعفري، فجعلوا يقولون له: يا محمد بن يوسف، قد والله ولدناك فما رعيت حرمه الرحيم، ثم جئتنا بهؤلاء العبيد والعلوج تقاتلنا بهم! والله لنرينك العبر، ونحو ذلك من القول فلما دنا الصبح قال محمد بن يوسف لبغا: أوقع بهم من قبل أن يضيء الصبح، فيروا قلة عددنا، فيجترئوا علينا، فأبى بغا عليه، فلما أضاء الصبح ونظروا إلى عدد من مع بغا- وكانوا قد جعلوا رجالتهم أمامهم وفرسانهم وراءهم ونعمهم ومواشيهم من ورائهم- حملوا علينا، فهزمونا حتى بلغت هزيمتنا معسكرنا، وأيقنا بالهلكة. قال: وكان قد بلغ بغا أن خيلا لهم بمكان من بلادهم، فوجه من أصحابه نحوا من مائتي فارس إليها قال: فبينا نحن فيما نحن فيه من الإشراف على العطب، وقد هزم بغا ومن معه إذ خرجت الجماعة التي كان بغا وجهها من الليل إلى تلك الخيل، وقد أقبلت منصرفة من الموضع الذي وجهت

إليه من العسكر في ظهور بني نمير، وقد فعلوا ما فعلوا ببغا وأصحابه، فنفخوا في صفاراتهم، فلما سمعوا نفخ الصفارات، ونظروا إلى من خرج عليهم في أدبارهم، قالوا: غدر والله العبد، وولوا هاربين، وأسلم فرسانهم رجالتهم بعد أن كانوا على غاية المحاماة عليهم. قال لي أحمد بن محمد: فلم يفلت من رجالتهم كثير احد، حتى قتلوا عن آخرهم، وأما الفرسان فطاروا هرابا على ظهور الخيل. وأما غير أحمد بن محمد فإنه قال: لم تزل الهزيمة على بغا وأصحابه منذ غدوة إلى انتصاف النهار، وذلك يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة سنة ثنتين وثلاثين ومائتين، ثم تشاغلوا بالنهب وعقر الإبل والدواب حتى ثاب إلى بغا من كان انكشف من أصحابه، واجتمع إليه من كان تفرق عنه، فكروا على بني نمير، فهزمهم وقتل منهم منذ زوال الشمس إلى وقت العصر زهاء ألف وخمسمائة رجل وأقام بغا بموضع الوقعة على الماء المعروف ببطن السر، حتى جمعت له رءوس من قتل من بني نمير، واستراح هو وأصحابه ثلاثة أيام. فحدثني أحمد بن محمد أن من هرب من فرسان بني نمير من الوقعة أرسلوا إلى بغا يطلبون منه الأمان، فأعطاهم الأمان، فصاروا إليه، فقيدهم وأشخصهم معه. وأما غيره فإنه قال: سار بغا من موضع الوقعة في طلب من شذ عنه منهم، فلم يدرك إلا الضعيف ممن لم يكن له نهوض منهم وبعض المواشي والنعم، ورجع إلى حصن باهلة قال: وإنما قاتل بغا من بني نمير بنو عبد الله بن نمير وبنو بسره وبلحجاج وبنو قطن وبنو سلاه وبنو شريح وبطون من الخوالف- وهم من بني عبد الله بن نمير، ولم يكن في القتال من بني عامر بن نمير إلا القليل- وبنو عامر بن نمير أصحاب نخل وشاء، وليسوا أصحاب خيل، وعبد الله بن نمير هي التي تحارب العرب- فقال عماره

ابن عقيل لبغا: تركت الأعقفين وبطن قو ... وملأت السجون من القماش فحدثني أحمد بن محمد أن الذين دخلوا إلى بغا بالأمان من بني نمير لما قيدهم وحبسهم وأشخصهم معه شغبوا في الطريق، وحاولوا كسر قيودهم والهرب، فأمر بإحضارهم واحدا بعد واحد، فكان إذا حضر الواحد يضربه ما بين الاربعمائه الى الخمسمائة وأقل من ذلك وأكثر، فزعم أحمد أنه حضر ضربهم ولم ينطق منهم ناطق يتوجع من الضرب، وأنه أحضر منهم شيخ قد علق في عنقه مصحفا، ومحمد بن يوسف جالس إلى جنب بغا، فضحك منه محمد بن يوسف، وقال لبغا: هذا أخبث ما كان- أصلحك الله- حين علق المصحف في عنقه! فضربه أربعمائة او خمسمائة، فما توجع وما استغاث. وذكر أن فارسا من بني نمير لقي بغا في وقعتهم التي ذكرت امرها يدعى المجنون، فطعن بغا ورمى المجنون رجل من الأتراك فأفلت، وعاش أياما ثلاثة، ثم مات من رميته. قال: ثم قدم عليه واجن الاشروسنى الصغدي في سبعمائة رجل مددا له من الأشروسنية الإشتيخنية، فوجهه بغا ومحمد بن يوسف الجعفري في أثرهم، فلم يزل يتبعهم حتى وغلوا في البلاد، وصاروا بتبالة وما يليها من حد عمل اليمن وفاتوه، فانصرف ولم يصر في يديه منهم إلا ستة نفر أو سبعة، وأقام بحصن باهلة، ووجه إلى جبال بني نمير وسهلها من هلان والسود وغيرها من عمل اليمامة سرايا في محاربه من امتنع ممن قبل الامان منهم، فقتلوا جماعة وأسروا جماعة، وأقبل عدة من ساداتهم، كلهم يطلب الامان لنفسه والبطن الذي هو منه، فقبل ذلك منهم وبسطهم وآنسهم، ولم يزل مقيما إلى أن جمع إليه كل من ظن أنه كان في هذه النواحي منهم، وأخذ منهم زهاء ثمانمائه رجل، فأثقلهم بالحديد وحملهم إلى البصرة، في ذي القعدة من سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وكتب إلى صالح العباسي بالمسير بمن قبله في المدينة

ذكر خبر موت الواثق

من بني كلاب وفزارة ومرة وثعلبة وغيرهم واللحاق به، فوافاه صالح العباسي ببغداد، وصاروا جميعا في المحرم إلى سامرا سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، وكانت عدة من قدم به بغا وصالح العباسي من الأعراب سوى من مات منهم وهرب وقتل في هذه الوقائع التي وصفناها الفى رجل ومائتي رجل من بني نمير ومن بني كلاب ومن مرة وفزارة ومن ثعلبة وطيئ وفي هذه السنة أصاب الحاج في المرجع عطش شديد في اربعه منازل الى الربذة، فبلغت الشربة عدة دنانير ومات خلق كثير من العطش. وفيها ولي محمد بن إبراهيم بن مصعب فارس. وفيها أمر الواثق بترك جباية أعشار سفن البحر. وفيها اشتد البرد في نيسان حتى جمد الماء لخمس خلون منه. ذكر خبر موت الواثق وفيها مات الواثق. ذكر الخبر عن العلة التي كانت بها وفاته: ذكر لي جماعة من أصحابنا أن علته التي توفي منها كانت الاستسقاء، فعولج بالإقعاد في تنور مسخن، فوجد لذلك راحة وخفة مما كان به، فأمرهم من غد ذلك اليوم بزيادة في إسخان التنور، ففعل ذلك وقعد فيه أكثر من قعوده في اليوم الذي قبله، فحمي عليه، فأخرج منه، وصير في محفة، وحضره الفضل بن إسحاق الهاشمي وعمر بن فرج وغيرهم، ثم حضر ابن الزيات وابن أبي دواد، فلم يعلموا بموته حتى ضرب بوجهه المحفة، فعلموا أنه قد مات. وقد قيل: إن احمد بن ابى دواد حضره وقد أغمي عليه، فقضي وهو

ذكر الخبر عن صفه الواثق وسنه وقدر مده خلافته

عنده فأقبل يغمضه ويصلح من شأنه وكانت وفاته لست بقين من ذي الحجة ودفن في قصره بالهاروني وكان الذي صلى عليه وأدخله قبره وتولى أمره أحمد بن أبي دواد، وكان الواثق امر احمد بن ابى دواد أن يصلي بالناس يوم الأضحى في المصلى، فصلى بهم العيد، لأن الواثق كان شديد العلة فلم يقدر على الحضور إلى المصلى، ومات من علته تلك. ذكر الخبر عن صفه الواثق وسنه وقدر مده خلافته ذكر من رآه وشاهده انه كان أبيض مشربا حمرة، جميلا ربعة، حسن الجسم، قائم العين اليسرى، وفيها نكتة بياض. وتوفي- فيما زعم بعضهم- وهو ابن ست وثلاثين سنة، وفي قول بعضهم: وهو ابن اثنتين وثلاثين سنة، فقال الذين زعموا أنه كان ابن ست وثلاثين: كان مولده سنة ست وتسعين ومائة، وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وخمسة أيام وقال بعضهم: وسبعة أيام واثنتي عشرة ساعة. وكان ولد بطريق مكة، وأمه أم ولد رومية، يقال لها قراطيس. واسمه هارون وكنيته أبو جعفر. وذكر أنه لما اعتل علته التي مات فيها وسقي بطنه أمر بإحضار المنجمين، فأحضروا، وكان ممن حضر الحسن بن سهل، أخو الفضل بن سهل، والفضل بن إسحاق الهاشمي وإسماعيل بن نوبخت ومحمد بن موسى الخوارزمي المجوسي القطربلي وسند صاحب محمد بن الهيثم وعامة من ينظر في النجوم، فنظروا في علته ونجمه ومولده، فقالوا: يعيش دهرا طويلا، وقدروا له خمسين سنة مستقبلة، فلم يلبث إلا عشرة أيام حتى مات. ذكر بعض أخباره ذكر الحسين بن الضحاك أنه شهد الواثق بعد أن مات المعتصم بأيام،

وقد قعد مجلسا كان أول مجلس قعده، فكان أول ما تغني به من الغناء في ذلك المجلس، ان تغنت شاريه جارية إبراهيم بن المهدي: ما درى الحاملون يوم استقلوا ... نعشه للثواء أم للفناء فليقل فيك باكياتك ما شئن ... صباحا ووقت كل مساء قال: فبكى والله وبكينا حتى شغلنا البكاء عن جميع ما كنا فيه، ثم اندفع بعض المغنيين فغنى: ودع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيها الرجل! قال: فازداد والله في البكاء، وقال: ما سمعت كاليوم قط تعزيه باب ونعى نفس، ثم ارفض ذلك المجلس. وذكر عن عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع أن علي بن الجهم قال في الواثق بعد أن ولي الخلافة: قد فاز ذو الدنيا وذو الدين ... بدولة الواثق هارون أفاض من عدل ومن نائل ... ما أحسن الدنيا مع الدين! قد عم بالإحسان في فضله ... فالناس في خفض وفي لين ما أكثر الداعي له بالبقا ... وأكثر التالي بآمين وقال علي بن الجهم أيضا فيه: وثقت بالملك الواثق ... بالله النفوس ملك يشقى به المال ... ولا يشقى الجليس أنس السيف به واستوحش ... العلق النفيس أسد تضحك عن ... شداته الحرب العبوس يا بني العباس يأبى الله إلا أن تسوسوا

فغنت قلم جارية صالح بن عبد الوهاب في هذين الشعرين، وغنت في شعر محمد بن كناسة: في انقباض وحشمة فإذا ... جالست أهل الوفاء والكرم أرسلت نفسي على سجيتها ... وقلت ما شئت غير محتشم فغنته الواثق، فاستحسنه، فبعث إلى ابن الزيات: ويحك من صالح ابن عبد الوهاب هذا! فابعث إليه فأشخصه، وليحمل جاريته، فغدا بها صالح إلى الواثق، فأدخلت عليه، فلما تغنت ارتضاها، فبعث إليه، فقال: قل، فقال: مائة ألف دينار يا أمير المؤمنين وولاية مصر، فردها، ثم قال أحمد بن عبد الوهاب أخو صالح في الواثق: أبت دار الأحبة أن تبينا ... أجدك ما رأيت لها معينا تقطع حسرة من حب ليلى ... نفوس ما أثبن ولا جزينا فصنعت فيه قلم جارية صالح، فغناه زرزر الكبير للواثق، فقال: لمن ذا؟ فقال: لقلم، فبعث الى ابن الزيات، فاشخص صالحا ومعه قلم، فلما دخلت عليه، قال: هذا لك؟ قالت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: بارك الله عليك! وبعث إلى صالح: استم وقل قولا يتهيأ أن تعطاه، فبعث إليه: قد أهديتها إلى أمير المؤمنين، فبارك الله لأمير المؤمنين فيها. قال: قد قبلتها، يا محمد، عوضه خمسة آلاف دينار، وسماها اغتباط فمطله ابن الزيات، فأعادت الصوت وهو: أبت دار الأحبة ان تبينا ... اجدك هل رايت لها معينا فقال لها: بارك الله عليك وعلى من رباك، فقالت: يا سيدي وما ينتفع من رباني، وقد أمرت له بشيء لم يصل اليه! فقال الواثق: يا سمانه، الدواة، فكتب إلى ابن الزيات: ادفع إلى صالح بن عبد الوهاب ما عوضناه من ثمن

خلافه جعفر المتوكل على الله

اغتباط خمسة آلاف دينار، وأضعفها قال صالح: فصرت إلى ابن الزيات فقربني، وقال: هذه الخمسة الأولى، خذها، والخمسة آلاف الأخرى أدفعها إليك بعد جمعة، فإن سئلت، فقل: إني قبضت المال قال: فكرهت أن أسأل فأقر بالقبض، فاختفيت في منزلي حتى دفع إلي المال، فقال لي سمانه: قبضت المال؟ قلت: نعم، وترك عمل السلطان، وتجر بها، حتى توفي. خلافة جعفر المتوكل على الله وفي هذه السنة بويع لجعفر المتوكل على الله بالخلافة، وهو جعفر بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد ذي الثفنات بن علي السجاد ابن عَبْد اللَّهِ بْن العباس بْن عبد المطلب. ذكر الخبر عن سبب خلافته ووقتها حدثني غير واحد، أن الواثق لما توفي حضر الدار احمد بن ابى دواد وإيتاخ ووصيف وعمر بن فرج وابن الزيات وأحمد بن خالد أبو الوزير، فعزموا على البيعة لمحمد بن الواثق، وهو غلام أمرد، فألبسوه دراعة سوداء وقلنسوة رصافية، فإذا هو قصير، فقال لهم وصيف: أما تتقون الله! تولون مثل هذا الخلافة، وهو لا يجوز معه الصلاة! قال: فتناظروا فيمن يولونها، فذكروا عدة، فذكر عن بعض من حضر الدار مع هؤلاء، أنه قال: خرجت من الموضع الذي كنت فيه، فمررت بجعفر المتوكل، فإذا هو في قميص وسروال قاعد مع أبناء الأتراك، فقال لي: ما الخبر؟ فقلت: لم ينقطع أمرهم، ثم دعوا به، فأخبره بغا الشرابي الخبر، وجاء به، فقال: أخاف أن يكون الواثق لم يمت، قال: فمر به، فنظر إليه مسجى، فجاء فجلس، فألبسه أحمد بن ابى دواد الطويلة وعممه وقبله بين عينيه، وقال: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وبركاته! ثم غسل الواثق وصلي عليه ودفن، ثم صاروا من فورهم إلى دار العامة، ولم يكن لقب المتوكل

وذكر أنه كان يوم بويع له ابن ست وعشرين سنة، ووضع العطاء للجند لثمانية أشهر، وكان الذي كتب البيعة له محمد بن عبد الملك الزيات، وهو إذ ذاك على ديوان الرسائل، واجتمعوا بعد ذلك على اختيار لقب له، فقال ابن الزيات: نسميه المنتصر بالله، وخاض الناس فيها حتى لم يشكوا فيها، فلما كان غداة يوم بكر أحمد بن ابى دواد إلى المتوكل، فقال: قد رويت في لقب أرجو أن يكون موافقا حسنا إن شاء الله، وهو المتوكل على الله، فأمر بإمضائه، وأحضر محمد بن عبد الملك، فأمر بالكتاب بذلك إلى الناس، فنفذت إليهم الكتب، نسخة ذلك: بسم الله الرحمن الرحيم، امر- ابقاك الله- أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، أن يكون الرسم الذي يجري به ذكره على أعواد منابره، وفي كتبه إلى قضاته وكتابه وعماله وأصحاب دواوينه وغيرهم من سائر من تجرى المكاتبة بينه وبينه: من عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين، فرأيك في العمل بذلك وإعلامي بوصول كتابي إليك موفقا إن شاء الله. وذكر أنه لما أمر للأتراك برزق أربعة أشهر وللجند والشاكرية ومن يجري مجراهم من الهاشميين برزق ثمانية أشهر، أمر للمغاربة برزق ثلاثة أشهر، فأبوا أن يقبضوا، فأرسل اليهم: من كان منكم مملوكا، فليمض إلى أحمد بن ابى دواد حتى يبيعه، ومن كان حرا صيرناه أسوة الجند، فرضوا بذلك، وتكلم وصيف فيهم حتى رضي عنهم، فأعطوا ثلاثة، ثم أجروا بعد ذلك مجرى الأتراك وبويع للمتوكل ساعة مات الواثق بيعة الخاصة وبايعته العامة حين زالت الشمس من ذلك اليوم. وذكر عن سعيد الصغير أن المتوكل قبل أن يستخلف ذكر له ولجماعة معه أنه رأى في المنام أن سكرا سليمانيا يسقط عليه من السماء، مكتوبا عليه جعفر المتوكل على الله، فعبرها علينا، فقلنا: هي والله أيها الأمير أعزك الله الخلافة، قال: وبلغ الواثق ذلك فحبسه، وحبس سعيدا معه، وضيق على جعفر بسبب ذلك. وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.

سنه ثلاث وثلاثين ومائتين

ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر خبر حبس محمد بن عبد الملك الزيات ووفاته فمن ذلك ما كان من غضب المتوكل على محمد بن عبد الملك الزيات وحبسه إياه. ذكر الخبر عن سبب ذلك وإلى ما آل اليه الأمر فيه: أما السبب في غضبه عليه، فإنه كان- فيما ذكر- أن الواثق كان استوزر محمد بن عبد الملك الزيات وفوض إليه الأمور، وكان الواثق قد غضب على أخيه جعفر المتوكل لبعض الأمور، فوكل عليه عمر بن فرج الرخجي ومحمد بن العلاء الخادم، فكانا يحفظانه ويكتبان بأخباره في كل وقت، فصار جعفر إلى محمد بن عبد الملك يسأله أن يكلم له أخاه الواثق ليرضى عنه، فلما دخل عليه مكث واقفا بين يديه مليا لا يكلمه، ثم أشار إليه أن يقعد فقعد، فلما فرغ من نظره في الكتب، التفت إليه كالمتهدد له، فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت لتسأل أمير المؤمنين الرضا عني، فقال لمن حوله: انظروا إلى هذا، يغضب أخاه، ويسألني أن أسترضيه له! اذهب فإنك إذا صلحت رضي عنك، فقام جعفر كئيبا حزينا لما لقيه به من قبح اللقاء والتقصير به، فخرج من عنده، فأتى عمر بن فرج ليسأله أن يختم له صكه ليقبض أرزاقه، فلقيه عمر بن فرج بالخيبة، وأخذ الصك، فرمى به إلى صحن المسجد. وكان عمر يجلس في مسجد، وكان أبو الوزير أحمد بن خالد حاضرا، فقام لينصرف، فقام معه جعفر، فقال: يا أبا الوزير، أرأيت ما صنع بي عمر ابن فرج؟ قال: جعلت فداك! أنا زمام عليه، وليس يختم صكى بارزاقى

إلا بالطلب والترفق به، فابعث إلي بوكيلك، فبعث جعفر بوكيله، فدفع إليه عشرين ألفا، وقال: أنفق هذا حتى يهيئ الله أمرك، فأخذها ثم أعاد إلى أبي الوزير رسوله بعد شهر، يسأله إعانته، فبعث إليه بعشرة آلاف درهم، ثم صار جعفر من فوره حين خرج من عند عمر الى احمد بن ابى دواد، فدخل عليه، فقام له أحمد، واستقبله على باب البيت، وقبله والتزمه، وقال: ما جاء بك، جعلت فداك! قال: قد جئت لتسترضي لي أمير المؤمنين، قال: أفعل ونعمة عين وكرامة، فكلم احمد بن ابى دواد الواثق فيه، فوعده ولم يرض عنه، فلما كان يوم الحلبة كلم أحمد بن أبي دواد الواثق، وقال: معروف المعتصم عندي معروف، وجعفر ابنه، فقد كلمتك فيه، ووعدت الرضا، فبحق المعتصم يا أمير المؤمنين إلا رضيت عنه! فرضي عنه من ساعته وكساه، وانصرف الواثق وقد قلد احمد بن ابى دواد جعفرا بكلامه حتى رضي عنه أخوه شكرا، فأحظاه ذلك عنده حين ملك. وذكر أن محمد بن عبد الملك كان كتب إلى الواثق حين خرج جعفر من عنده: يا أمير المؤمنين، أتاني جعفر بن المعتصم يسألني ان اسال امير المؤمنين الرضا عنه في زي المخنثين له شعر قفا، فكتب إليه الواثق: ابعث إليه فأحضره، ومر من يجز شعر قفاه، ثم مر من يأخذ من شعره ويضرب به وجهه، واصرفه إلى منزله فذكر عن المتوكل أنه قال: لما أتاني رسوله، لبست سوادا لي جديدا، وأتيته رجاء أن يكون قد أتاه الرضا عنى، فقال: يا غلام، ادع لي حجاما، فدعي به، فقال: خذ شعره واجمعه، فأخذه على السواد الجديد ولم يأته بمنديل، فأخذ شعره وشعر قفاه وضرب به وجهه. قال المتوكل: فما دخلني من الجزع على شيء مثل ما دخلني حين أخذني على السواد الجديد، وقد جئته فيه طامعا في الرضا، فاخذ شعرى عليه. ولما توفي الواثق أشار محمد بن عبد الملك بابن الواثق، وتكلم في ذلك

وجعفر في حجرة غير الحجرة التي يتشاورون فيها، فيمن يعقدون، حتى بعث إليه، فعقد له هناك، فكان سبب هلاك ابن الزيات وكان بغا الشرابي الرسول إليه يدعوه، فسلم عليه بالخلافة في الطريق، فعقدوا له وبايعوا، فأمهل حتى إذا كان يوم الأربعاء لسبع خلون من صفر، وقد عزم المتوكل على مكروه أن يناله به، أمر إيتاخ بأخذه وعذابه، فبعث إليه إيتاخ، فظن أنه دعي به، فركب بعد غدائه مبادرا يظن أن الخليفة دعا به، فلما حاذى منزل إيتاخ قيل له: اعدل إلى منزل أبي منصور، فعدل وأوجس في نفسه خيفة، فلما جاء إلى الموضع الذي كان ينزل فيه إيتاخ عدل به يمنه، فأحس بالشر، ثم أدخل حجرة، وأخذ سيفه ومنطقته وقلنسوته ودراعته، فدفع إلى غلمانه، وقيل لهم: انصرفوا، فانصرفوا لا يشكون أنه مقيم عند إيتاخ ليشرب النبيذ. قال: وقد كان إيتاخ أعد له رجلين من وجوه أصحابه، يقال لهما يزيد ابن عبد الله الحلواني وهرثمة شارباميان فلما حصل محمد بن عبد الملك خرجا يركضان في جندهما وشاكريتهما، حتى أتيا دار محمد بن عبد الملك، فقال لهم غلمان محمد: أين تريدون؟ قد ركب أبو جعفر، فهجما على داره، وأخذا جميع ما فيها. فذكر عن ابن الحلواني أنه قال: أتيت البيت الذي كان محمد بن عبد الملك يجلس فيه، فرأيته رث الهيئة قليل المتاع، ورأيت فيه طنافس أربعة وقناني رطليات، فيها شراب، ورأيت بيتا ينام فيه جواريه، فرأيت فيه بوريا ومخاد منضدة في جانب البيت، على أن جواريه كن ينمن فيه بلا فرش. وذكر أن المتوكل وجه في هذا اليوم من قبض ما في منزله من متاع ودواب وجوار وغلمان، فصير ذلك كله في الهاروني، ووجه راشدا المغربي إلى بغداد في قبض ما هنالك من أمواله وخدمه، وأمر أبا الوزير بقبض ضياعه وضياع أهل بيته حيث كانت فأما ما كان بسامرا فحمل إلى خزائن

مسرور سمانه، بعد أن اشتري للخليفة، وقيل لمحمد بن عبد الملك: وكل ببيع متاعك وأتوه بالعباس بن أحمد بن رشيد كاتب عجيف، فوكله بالبيع عليه، فلم يزل أياما في حبسه مطلقا، ثم أمر بتقييده فقيد، وامتنع من الطعام، وكان لا يذوق شيئا، وكان شديد الجزع في حبسه، كثير البكاء، قليل الكلام، كثير التفكر، فمكث أياما ثم سوهر، ومنع من النوم، يساهر وينخس بمسلة، ثم ترك يوما وليلة، فنام وانتبه، فاشتهى فاكهة وعنبا، فأتي به، فأكل ثم أعيد إلى المساهرة، ثم أمر بتنور من خشب فيه مسامير حديد قيام فذكر عن ابن ابى دواد وأبي الوزير أنهما قالا: هو أول من أمر بعمل ذلك، فعذب به ابن أسباط المصري حتى استخرج منه جميع ما عنده، ثم ابتلي به فعذب به أياما. فذكر عن الدنداني الموكل بعذابه أنه قال: كنت أخرج وأقفل الباب عليه، فيمد يديه إلى السماء جميعا حتى يدق موضع كتفيه، ثم يدخل التنور فيجلس، والتنور فيه مسامير حديد وفي وسطه خشبة معترضة، يجلس عليها المعذب، إذا أراد أن يستريح، فيجلس على الخشبة ساعة، ثم يجيء الموكل به، فإذا هو سمع صوت الباب يفتح قام قائما كما كان، ثم شددوا عليه. قال المعذب له: خاتلته يوما، واريته انى اقفلت الباب ولم أقفله، إنما أغلقته بالقفل، ثم مكثت قليلا، ثم دفعت الباب غفلة، فإذا هو قاعد في التنور على الخشبة، فقلت: أراك تعمل هذا العمل! فكنت إذا خرجت بعد ذلك شددت خناقه، فكان لا يقدر على القعود، واستللت الخشبة حتى كانت تكون بين رجليه، فما مكث بعد ذلك إلا أياما حتى مات. واختلف في الذي قتل به، فقيل: بطح، فضرب على بطنه خمسين مقرعة، ثم قلب فضرب على استه مثلها، فمات وهو يضرب، وهم لا يعلمون، فأصبح ميتا قد التوت عنقه، ونتفت لحيته وقيل: مات بغير ضرب وذكر عن مبارك المغربي أنه قال: ما أظنه أكل في طول حبسه الا رغيفا

واحدا، وكان يأكل العنبة والعنبتين قال: وكنت أسمعه قبل موته بيومين أو ثلاثة يقول لنفسه: يا محمد بن عبد الملك، لم يقنعك النعمة والدواب الفرة والدار النظيفة والكسوة الفاخرة، وأنت في عافية حتى طلبت الوزارة، ذق ما عملت بنفسك! فكان يكرر ذلك على نفسه، فلما كان قبل موته بيوم، ذهب عنه عتاب نفسه، فكان لا يزيد على التشهد وذكر الله، فلما مات احضر ابناه سليمان وعبيد الله- كانا محبوسين- وقد طرح على باب من خشب في قميصه الذي حبس فيه، وقد اتسخ فقالا: الحمد لله الذي أراح من هذا الفاسق، فدفعت جثته إليهما، فغسلاه على الباب الخشب، ودفناه وحفرا له، فلم يعمقا، فذكر أن الكلاب نبشته، وأكلت لحمه وكان إبراهيم بن العباس على الأهواز، وكان محمد بن عبد الملك له صديقا، فوجه إليه محمد أحمد بن يوسف أبا الجهم، فأقامه للناس فصالحه عن نفسه بألف الف درهم وخمسمائة ألف درهم، فقال إبراهيم: وكنت أخي بإخاء الزمان ... فلما نبا عدت حربا عوانا وكنت أذم إليك الزمان ... فأصبحت منك أذم الزمانا وكنت أعدك للنائبات ... فها أنا أطلب منك الأمانا وقال: أصبحت من رأي أبي جعفر ... في هيئة تنذر بالصيلم من غير ما ذنب ولكنها ... عداوة الزنديق للمسلم وأحدر بعد ما قبض عليه مع راشد المغربي إلى بغداد، لأخذ ماله بها، فوردها، فأخذ روحا غلامه- وكان قهرمانه- في يده أمواله يتجر بها، وأخذ عدة من أهل بيته، وأخذ معهم حمل بغل، ووجدت له بيوت فيها أنواع التجارة من الحنطة والشعير والدقيق والحبوب والزيت والزبيب والتين وبيت

ذكر غضب المتوكل على عمر بن فرج

مملوء ثوما، فكان جميع ما قبض له مع قيمته تسعين ألف دينار، وكان حبس المتوكل إياه يوم الأربعاء لسبع خلون من صفر ووفاته يوم الخميس لإحدى عشره بقيت من شهر ربيع الاول. ذكر غضب المتوكل على عمر بن فرج وفيها غضب المتوكل على عمر بن فرج، وذلك في شهر رمضان، فدفع إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فحبس عنده، وكتب في قبض ضياعه وأمواله، وصار نجاح بن سلمة إلى منزله، فلم يجد فيه إلا خمسه عشر الف درهم، وحضر مسرور سمانه، فقبض جواريه، وقيد عمر ثلاثين رطلا، وأحضر مولاه نصر من بغداد، فحمل ثلاثين ألف دينار، وحمل نصر من مال نفسه أربعة عشر ألف دينار، وأصيب له بالأهواز أربعون ألف دينار، ولأخيه محمد بن فرج مائة ألف دينار وخمسون ألف دينار، وحمل من داره من المتاع ستة عشر بعيرا فرشا، ومن الجوهر قيمة أربعين ألف دينار، وحمل من متاعه وفرشه على خمسين جملا، كرت مرارا، وألبس فرجية صوف وقيد، فمكث بذلك سبعا، ثم أطلق عنه وقبض قصره، وأخذ عياله، ففتشوا وكن مائة جارية، ثم صولح على عشرة آلاف ألف درهم، على أن يرد عليه ما حيز عنه من ضياع الأهواز فقط، ونزعت عنه الجبة الصوف والقيد، وذلك في شوال وقال علي بن الجهم بن بدر لنجاح بن سلمة يحرضه على عمر بن فرج: أبلغ نجاحا فتى الكتاب مالكه ... تمضى بها الريح اصدرا وإيرادا لا يخرج المال عفوا من يدي عمر ... أو يغمد السيف في فوديه إغمادا الرخجيون لا يوفون ما وعدوا ... والرخجيات لا يخلفن ميعادا وقال أيضا يهجوه: جمعت أمرين ضاع الحزم بينهما ... تيه الملوك وأفعال المماليك

ذكر غضب المتوكل على ابى الوزير وغيره

أردت شكرا بلا بر ومرزئة ... لقد سلكت سبيلا غير مسلوك ظننت عرضك لم يقرع بقارعة ... وما أراك على حال بمتروك وفي هذه السنة أمر المتوكل بإبراهيم بن الجنيد النصراني، أخي أيوب كاتب سمانه، فضرب. له بالأعمدة حتى أقر بسبعين ألف دينار، فوجه معه مباركا المغربي إلى بغداد حتى استخرجها من منزله، وجيء به فحبس . ذكر غضب المتوكل على ابى الوزير وغيره وفيها غضب المتوكل على أبي الوزير في ذي الحجة، وأمر بمحاسبته، فحمل نحوا من ستين ألف دينار، وحمل بدور دراهم وحليا، وأخذ له من متاع مصر اثنين وستين سفطا واثنين وثلاثين غلاما وفرشا كثيرا، وحبس بخيانته محمد بن عبد الملك أخا موسى بن عبد الملك والهيثم بن خالد النصراني وابن أخيه سعدون بن علي، وصولح سعدون على أربعين ألف دينار، وصولح ابنا أخيه عبد الله وأحمد على نيف وثلاثين ألف دينار، وأخذت ضياعهم بذلك. [أخبار متفرقة] وفي هذه السنة استكتب المتوكل محمد بن الفضل الجرجرائي. وفي هذه السنة عزل المتوكل يوم الأربعاء لثلاث عشره بقيت من شهر رمضان عن ديوان الخراج الفضل بن مروان، وولاه يحيى بن خاقان الخراساني مولى الأزد، وولى إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول في هذا اليوم ديوان زمام النفقات وعزل عنه أبا الوزير وفيها ولى المتوكل ابنه محمدا المنتصر الحرمين واليمن والطائف، وعقد له

يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان. وفيها فلج أحمد بن أبي دواد لست خلون من جمادى الآخرة. وفيها قدم يحيى بن هرثمة مكة وهو والي طريق مكة بعلي بن محمد بن علي الرضى بن موسى بن جعفر من المدينة. وفيها وثب ميخائيل بن توفيل على أمه تذورة فشمسها وأدخلها الدير، وقتل اللغثيط لأنه اتهمها به، وكان ملكها ست سنين. وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.

سنه اربع وثلاثين ومائتين

ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر الخبر عن هرب محمد بن البعيث فمن ذلك ما كان من هرب محمد بن البعيث بن حلبس، جيء به أسيرا من قبل أذربيجان فحبس. ذكر الخبر عن سبب هربه وما كان آل إليه أمره: ذكر أن السبب في ذلك كان أن المتوكل كان اعتل في هذه السنة، وكان مع ابن البعيث رجل يخدمه يسمى خليفة، فأخبره بأن المتوكل قد توفي، واعد له دواب، فهرب هو وخليفة الذي أخبره الخبر إلى موضعه من أذربيجان، وموضعه منها مرند- وقيل: كانت له قلعتان تدعى إحداهما شاهي والأخرى يكدر- ويكدر خارج البحيرة، وشاهي في وسط البحيرة، والبحيرة قدر خمسين فرسخا من حد أرمية، إلى رستاق داخرقان بلاد محمد بن الرواد، وشاهي قلعة ابن البعيث حصينة يحيط بها ماء قائم ثم، يركب الناس من أطراف المراغة إلى أرمية وهي بحيرة لا سمك فيها ولا خير. وذكر أن ابن البعيث كان في حبس إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فتكلم فيه بغا الشرابي، وأخذ منه الكفلاء نحوا من ثلاثين كفيلا، منهم محمد بن خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني، فكان يتردد بسامرا، فهرب إلى مرند، فجمع بمرند الطعام، وفيها عيون ماء، فرم ما كان وهي من سورها، وأتاه من أراد الفتنة من كل ناحية، من ربيعة وغيرهم، فصار في نحو من ألفين ومائتي رجل. وكان الوالي بأذربيجان محمد بن حاتم بن هرثمة، فقصر في طلبه، فولى

المتوكل حمدويه بن علي بن الفضل السعدي أذربيجان، ووجهه من سامرا على البريد، فلما صار إليهما جمع الجند والشاكرية ومن استجاب له، فصار في عشرة آلاف، فزحف إلى ابن البعيث، فألجأه إلى مدينة مرند- وهي مدينة استدارتها فرسخان وفي داخلها بساتين كثيرة، ومن خارجها كما تدور شجر إلا في موضع أبوابها- وقد جمع فيها ابن البعيث آلة الحصار، وفيها عيون ماء، فلما طالت مدته، وجه المتوكل زيرك التركي في مائتي ألف فارس من الأتراك، فلم يصنع شيئا، فوجه إليه المتوكل عمرو بن سيسل بن كال في تسعمائة من الشاكرية، فلم يغن شيئا، فوجه إليه بغا الشرابي في أربعة آلاف ما بين تركي وشاكري ومغربي، وكان حمدويه بن علي وعمر بن سيسل وزيرك زحفوا إلى مدينة مرند، وقطعوا ما حولها من الشجر، فقطعوا نحوا من مائة ألف شجرة وغير ذلك من شجر الغياض، ونصبوا عليها عشرين منجنيقا، وبنوا بحذاء المدينة ما يستكنون فيه، ونصب عليهم ابن البعيث من المجانيق مثل ذلك، وكان من معه من علوج رساتيقه يرمون بالمقاليع، فكان الرجل لا يقدر على الدنو من سور المدينة، فقتل من أولياء السلطان في حربه في ثمانية أشهر نحو من مائه رجل، وجرح نحو من أربعمائة، وقتل وجرح من أصحابه مثل ذلك. وكان حمدويه وعمرو وزيرك يغادونه القتال ويراوحونه، وكان السور من قبل المدينة ذليلا، ومن القرار نحوا من عشرين ذراعا، وكانت الجماعة من أصحاب ابن البعيث يتدلون بالحبال معهم الرماح فيقاتلون، فإذا حمل عليهم من أصحاب السلطان لجئوا إلى الحائط، وكانوا ربما فتحوا بابا يقال له باب الماء، فيخرج منه العدة يقاتلون ثم يرجعون. ولما قرب بغا الشرابي من مرند بعث- فيما ذكر- عيسى بن الشيخ بن السليل الشيباني، ومعه أمانات لوجوه أصحاب ابن البعيث، ولابن البعيث أن ينزلوا وينزل على حكم أمير المؤمنين، وإلا قاتلهم، فإن ظفر بهم لم يستبق منهم أحدا، ومن نزل فله الامان، وكان عامة من مع ابن البعيث من ربيعة من قوم عيسى بن الشيخ، فنزل منهم قوم كثير بالحبال، ونزل ختن ابن البعيث

ذكر الخبر عن حج ايتاخ وسببه

على أخته أبو الأغر. وذكر عن أبي الأغر هذا أنه قال: ثم فتحوا باب المدينة، فدخل أصحاب حمدويه وزيرك، وخرج ابن البعيث من منزله هاربا يريد أن يخرج من وجه آخر، فلحقه قوم من الجند، معهم منصور قهرمانه، وهو راكب دابة، يريد أن يصير إلى نهر عليه رحا ليستخفي في الرحا، وفي عنقه السيف، فأخذوه أسيرا وانتهب الجند منزله ومنازل أصحابه وبعض منازل أهل المدينة، ثم نودي بعد ما انتهب الناس: برئت الذمة ممن انتهب وأخذوا له أختين وثلاث بنات وخالته والبواقي سراري، فحصل في يد السلطان من حرمه ثلاث عشرة امرأة، وأخذ من وجوه أصحابه المذكورين نحو من مائتي رجل، وهرب الباقون، فوافاهم بغا الشرابي من غد، فنادى مناديه بالمنع من النهب، فكتب بغا الشرابي بالفتح لنفسه. وخرج المتوكل فيها إلى المدائن في جمادى الأولى . ذكر الخبر عن حج ايتاخ وسببه وحج في هذه السنة إيتاخ، وكان والي مكة والمدينة والموسم، ودعي له على المنابر. ذكر الخبر عن سبب حجه في هذه السنة: ذكر أن إيتاخ كان غلاما خزريا لسلام الأبرش طباخا، فاشتراه منه المعتصم في سنة تسع وتسعين ومائة، وكان لإيتاخ رجلة وبأس، فرفعه المعتصم ومن بعده الواثق، حتى ضم إليه من أعمال السلطان أعمالا كثيرة، وولاه المعتصم معونة سامرا مع إسحاق بن إبراهيم، وكان من قبله رجل، ومن قبل إسحاق رجل، وكان من أراد المعتصم أو الواثق قتله فعند إيتاخ

يقتل، وبيده يحبس، منهم محمد بن عبد الملك الزيات، وأولاد المأمون من سندس، وصالح بن عجيف وغيرهم، فلما ولي المتوكل كان إيتاخ في مرتبته، إليه الجيش والمغاربة والأتراك والموالي والبريد والحجابة ودار الخلافة، فخرج المتوكل بعد ما استوت له الخلافة متنزها إلى ناحية القاطول، فشرب ليلة، فعربد على إيتاخ، فهم إيتاخ بقتله، فلما أصبح المتوكل قيل له، فاعتذر إليه والتزمه، وقال له: أنت أبي وربيتني، فلما صار المتوكل إلى سامرا دس إليه من يشير عليه بالاستئذان للحج، ففعل وأذن له، وصيره أمير كل بلدة يدخلها، وخلع عليه، وركب جميع القواد معه، وخرج معه من الشاكرية والقواد والغلمان سوى غلمانه وحشمه بشر كثير، فحين خرج صيرت الحجابة إلى وصيف، وذلك يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة وقد قيل إن هذه القصة من أمر إيتاخ كانت في سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وأن المتوكل إنما صير إلى وصيف الحجابة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة من سنة ثلاث وثلاثين ومائتين. وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود بن عيسى بن موسى.

سنه خمس وثلاثين ومائتين

ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر الخبر عن مقتل ايتاخ فمن ذلك مقتل إيتاخ الخزري. ذكر الخبر عن صفة مقتله: ذكر عن إيتاخ أنه لما انصرف من مكة راجعا إلى العراق، وجه المتوكل إليه سعيد بن صالح الحاجب مع كسوة وألطاف، وأمره أن يلقاه بالكوفة أو ببعض طريقه، وقد تقدم المتوكل إلى عامله على الشرطة ببغداد بأمره فيه. فذكر عن إبراهيم بن المدبر، أنه قال: خرجت مع إسحاق بن إبراهيم حين قرب إيتاخ من بغداد، وكان يريد أن يأخذ طريق الفرات إلى الأنبار، ثم يخرج إلى سامرا، فكتب إليه إسحاق بن إبراهيم: أن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، قد أمر أن تدخل بغداد، وأن يلقاك بنو هاشم ووجوه الناس، وأن تقعد لهم في دار خزيمة بن خازم، فتأمر لهم بجوائز قال: فخرجنا حتى إذا كنا بالياسرية، وقد شحن ابن إبراهيم الجسر بالجند والشاكرية، وخرج في خاصته، وطرح له بالياسرية صفة، فجلس عليها حتى قالوا: قد قرب منك فركب فاستقبله، فلما نظر إليه أهوى إسحاق لينزل، فحلف عليه إيتاخ ألا يفعل. قال: وكان إيتاخ في ثلاثمائة من أصحابه وغلمانه، عليه قباء أبيض، متقلدا سيفا بحمائل، فسارا جميعا، حتى إذا صارا عند الجسر تقدمه إسحاق عند الجسر، وعبر حتى وقف على باب خزيمة بن خازم، وقال لإيتاخ تدخل أصلح الله الأمير! وكان الموكلون بالجسر كلما مر بهم غلام من غلمانه قدموه، حتى بقي في خاصة غلمانه، ودخل بين يديه قوم، وقد فرشت له دار خزيمة، وتأخر إسحاق، وأمر ألا يدخل الدار من غلمانه الا

ثلاثة أو أربعة، وأخذت عليه الأبواب، وأمر بحراسته من ناحية الشط، وكسرت كل درجة في قصر خزيمة بن خازم، فحين دخل أغلق الباب خلفه، فنظر فإذا ليس معه إلا ثلاثة غلمان، فقال: قد فعلوها! ولو لم يؤخذ ببغداد ما قدروا على أخذه، ولو دخل إلى سامرا، فأراد بأصحابه قتل جميع من خالفه امكنه ذلك قال: فأتي بطعام قرب الليل، فأكل فمكث يومين أو ثلاثة، ثم ركب إسحاق في حراقة وأعد لإيتاخ أخرى، ثم أرسل إليه أن يصير إلى الحراقة، وأمر بأخذ سيفه، فحدروه إلى الحراقة، وصير معه قوم في السلاح وصاعد إسحاق، حتى صار إلى منزله، وأخرج إيتاخ حين بلغ دار إسحاق، فأدخل ناحية منها، ثم قيد فأثقل بالحديد في عنقه ورجليه، ثم قدم بابنيه منصور ومظفر، وبكاتبيه سليمان بن وهب وقدامة بن زياد النصراني بغداد. وكان سليمان على أعمال السلطان، وقدامة على ضياع إيتاخ خاصة، فحبسوا ببغداد، فأما سليمان وقدامة فضربا، فأسلم قدامة وحبس منصور ومظفر. وذكر عن ترك مولى إسحاق أنه قال: وقفت على باب البيت الذي فيه إيتاخ محبوس، فقال لي: يا ترك، قلت: ما تريد يا منصور؟ قال: أقرئ الأمير السلام، وقل له: قد علمت ما كان يأمرني به المعتصم والواثق في أمرك، فكنت أدفع عنك ما أمكنني، فلينفعني ذلك عندك، أما أنا فقد مر بي شدة ورخاء، فما أبالي ما أكلت وما شربت، وأما هذان الغلامان، فإنهما عاشا في نعمة ولم يعرفا البؤس، فصير لهما مرقة ولحما وشيئا يأكلان منه قال: ترك فوقفت على باب مجلس إسحاق، قال لي: ما لك يا ترك؟ أتريد أن تتكلم بشيء؟ قلت: نعم، قال لي ايتاخ كذا، كذا، قال: وكانت وظيفة إيتاخ رغيفا وكوزا من ماء، ويأمر لابنيه بخوان فيه سبعة أرغفة وخمس غرف، فلم يزل ذلك قائما حياة إسحاق، ثم لا أدري ما صنع بهما، فأما إيتاخ فقيد وصير في عنقه ثمانون رطلا، وقيد ثقيل، فمات يوم الأربعاء لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين ومائتين، وأشهد إسحاق على موته أبا الحسن إسحاق بن ثابت بن أبي عباد وصاحب بريد بغداد والقضاة، وأراهم إياه لا ضرب به ولا أثر

ذكر خبر اسر ابن البعيث وموته

وحدثني بعض شيوخنا أن إيتاخ كان موته بالعطش، وأنه أطعم فاستسقى فمنع الماء، حتى مات عطشا، وبقي ابناه في الحبس حياة المتوكل، فلما أفضى الأمر إلى المنتصر أخرجهما، فأما مظفر فإنه لم يعش بعد أن أخرج من السجن إلا ثلاثة أشهر حتى مات، واما منصور فعاش بعده. ذكر خبر اسر ابن البعيث وموته وفي هذه السنة قدم بغا الشرابي بابن البعيث في شوال وبخليفته أبي الأغر وبأخوي ابن البعيث صقر وخالد- وكانا نزلا بأمان- وبابن لابن البعيث، يقال له العلاء، خرج بأمان، وقدم من الأسرى بنحو من مائة وثمانين رجلا، ومات باقيهم قبل أن يصلوا، فلما قربوا من سامرا حملوا على الجمال يستشرفهم الناس، فأمر المتوكل بحبسه وحبسهم، وأثقله حديدا فذكر عن علي بن الجهم، أنه قال: أتي المتوكل بمحمد بن البعيث، فأمر بضرب عنقه، فطرح على نطع، وجاء السيافون فلوحوا له، فقال المتوكل، وغلظ عليه: ما دعاك يا محمد إلى ما صنعت؟ قال: الشقوة، وأنت الحبل الممدود بين الله وبين خلقه، وإن لي فيك لظنين أسبقهما إلى قلبي أولاهما بك، وهو العفو، ثم اندفع بلا فضل، فقال: أبى الناس إلا أنك اليوم قاتلي ... إمام الهدى والصفح بالناس أجمل وهل أنا إلا جبلة من خطية ... وعفوك من نور النبوه يجبل فإنك خير السابقين الى العلا ... ولا شك أن خير الفعالين تفعل قال علي: ثم التفت إلي المتوكل، فقال: إن معه لأدبا، وبادرت فقلت: بل يفعل أمير المؤمنين خيرهما ويمن عليك، فقال: ارجع إلى منزلك. وحدثني أنه أنشدني بالمراغة جماعة من أشياخها أشعارا لابن

امر المتوكل مع النصارى

البعيث بالفارسية، ويذكرون أدبه وشجاعته، وله أخبار وأحاديث. وحدثني بعض من ذكر أنه شهد المتوكل حين أتي بابن البعيث، وكلمه ابن البعيث بما كلمه به، فتكلم فيه المعتز، وهو جالس مع أبيه المتوكل، فاستوهبه فوهب له، وعفي عنه. وكان ابن البعيث حين هرب قال: كم قد قضيت أمورا كان أهملها ... غيري وقد أخذ الإفلاس بالكظم لا تعذليني فيما ليس ينفعني ... إليك عني جرى المقدار بالقلم سأتلف المال في عسر وفي يسر ... إن الجواد الذي يعطي على العدم وكان ابن البعيث حين هرب خلف في منزله ثلاثة بنين له، يقال لهم: البعيث وجعفر وحلبس، وجواري، فحبسوا ببغداد في قصر الذهب، فتكلم بغا الشرابي بعد موت ابن البعيث- ومات بعد دخوله سامرا بشهر- في أبي الأغر ختنه، فأطلق وأطلقت خالة لابن البعيث، فخرجت من السجن، فماتت فرحا من يومها، وبقي الباقون في الحبس. وذكر أن ابن البعيث صير في عنقه مائة رطل، فلم يزل مكبوبا على وجهه حتى مات. ولما أخذ ابن البعيث أخرج من الحبس من كان محبوسا بسبب كفالته به، وقد كان بعضهم مات في الحبس، فأخرج بعد باقي عياله وصير بنوه: حلبس والبعيث وجعفر في عداد الشاكريه مع عبيد الله بن خاقان، واجريت عليهم الأنزال. امر المتوكل مع النصارى وفي هذه السنة أمر المتوكل بأخذ النصارى وأهل الذمة كلهم بلبس الطيالسة العسلية والزنانير وركوب السروج بركب الخشب وبتصيير كرتين على مؤخر السروج، وبتصيير زرين على قلانس من لبس منهم قلنسوة مخالفة لون القلنسوة التي يلبسها المسلمون، وبتصيير رقعتين على ما ظهر من لباس

مماليكهم مخالف لونهما لون الثوب الظاهر الذي عليه، وأن تكون إحدى الرقعتين بين يديه عند صدره، والأخرى منهما خلف ظهره، وتكون كل واحدة من الرقعتين قدر أربع أصابع، ولونهما عسليا، ومن لبس منهم عمامة فكذلك يكون لونها لون العسلي، ومن خرج من نسائهم فبرزت فلا تبرز إلا في إزار عسلي، وأمر بأخذ مماليكهم بلبس الزنانير وبمنعهم لبس المناطق، وأمر بهدم بيعهم المحدثة، وبأخذ العشر من منازلهم، وان كان الموضع واسعا صير مسجدا، وإن كان لا يصلح أن يكون مسجدا صير فضاء، وأمر أن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب مسمورة، تفريقا بين منازلهم وبين منازل المسلمين، ونهى أن يستعان بهم في الدواوين وأعمال السلطان التي يجري أحكامهم فيها على المسلمين، ونهى أن يتعلم أولادهم في كتاتيب المسلمين، ولا يعلمهم مسلم، ونهى أن يظهروا في شعانينهم صليبا، وأن يشمعلوا في الطريق، وأمر بتسوية قبورهم مع الأرض، لئلا تشبه قبور المسلمين. وكتب إلى عماله في الآفاق: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإن الله تبارك وتعالى بعزته التي لا تحاول وقدرته على ما يريد، اصطفى الإسلام فرضيه لنفسه، وأكرم به ملائكته، وبعث به رسله، وأيد به أولياءه، وكنفه بالبر، وحاطه بالنصر، وحرسه من العاهة، وأظهره على الأديان، مبرأ من الشبهات، معصوما من الآفات، محبوا بمناقب الخير، مخصوصا من الشرائع بأطهرها وأفضلها، ومن الفرائض بأزكاها وأشرفها، ومن الأحكام بأعدلها وأقنعها، ومن الأعمال بأحسنها وأقصدها، وأكرم أهله بما أحل لهم من حلاله، وحرم عليهم من حرامه، وبين لهم من شرائعه وأحكامه، وحد لهم من حدوده ومناهجه، وأعد لهم من سعة جزائه وثوابه، فقال في كتابه فيما أمر به ونهى عنه، وفيما حض عليه فيه ووعظ: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» ، وقال فيما حرم على اهله

مما غمط فيه اهل الأديان من رديء المطعم والمشرب والمنكح لينزههم عنه وليظهر به دينهم، ليفضلهم عليهم تفضيلا: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ» إلى آخر الآية، ثم ختم ما حرم عليهم من ذلك في هذه الآية بحراسة دينه، ممن عند عنه وبإتمام نعمته على أهله الذين اصطفاهم، فقال عز وجل: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» الآية، وقال عز وجل: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ» وقال: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» الآية، فحرم على المسلمين من مآكل أهل الأديان أرجسها وأنجسها، ومن شرابهم أدعاه إلى العداوة والبغضاء، وأصده عن ذكر الله وعن الصلاة، ومن مناكحهم أعظمها عنده وزرا، وأولاها عند ذوي الحجى والألباب تحريما، ثم حباهم محاسن الأخلاق وفضائل الكرامات، فجعلهم أهل الإيمان والأمانة، والفضل والتراحم واليقين والصدق، ولم يجعل في دينهم التقاطع والتدابر، ولا الحمية ولا التكبر، ولا الخيانة ولا الغدر، ولا التباغي ولا التظالم، بل أمر بالأولى ونهى عن الأخرى، ووعد وأوعد عليها جنته وناره، وثوابه وعقابه، فالمسلمون بما اختصهم الله من كرامته، وجعل لهم من الفضيلة بدينهم الذي اختاره لهم، بائنون على الأديان بشرائعهم الزاكية، وأحكامهم المرضية الطاهرة، وبراهينهم المنيرة، وبتطهير الله دينهم بما أحل وحرم فيه لهم وعليهم، قضاء من الله عز وجل في إعزاز دينه، حتما ومشيئة منه في إظهار حقه ماضية، واراده منه في اتمام نعمته على أهله نافذة «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» ، وليجعل الله الفوز والعاقبة للمتقين، والخزي في الدنيا والآخرة على الكافرين. وقد رأى أمير المؤمنين- وبالله توفيقه وإرشاده- أن يحمل أهل الذمة جميعا

بحضرته وفي نواحي أعماله، أقربها وأبعدها، وأخصهم وأخسهم على تصيير طيالستهم التي يلبسونها، من لبسها من تجارهم وكتابهم، وكبيرهم وصغيرهم، على ألوان الثياب العسلية، لا يتجاوز ذلك منهم متجاوز إلى غيره، ومن قصر عن هذه الطبقة من أتباعهم وأرذالهم، ومن يقعد به حاله عن لبس الطيالسة منهم أخذ بتركيب خرقتين صبغهما ذلك الصبغ يكون استدارة كل واحدة منهما شبرا تاما في مثله، على موضع أمام ثوبه الذي يلبسه، تلقاء صدره، ومن وراء ظهره، وان يؤخذ الجميع منهم في قلانسهم بتركيب أزرة عليها تخالف ألوانها ألوان القلانس، ترتفع في أماكنها التي تقع بها، لئلا تلصق فتستر ولا ما يركب منها على حباك فتخفى، وكذلك في سروجهم باتخاذ ركب خشب لها، ونصب أكر على قرابيسها، تكون ناتئة عنها، وموفية عليها، لا يرخص لهم في إزالتها عن قرابيسهم، وتأخيرها إلى جوانبها، بل يتفقد ذلك منهم، ليقع ما وقع من الذي أمر أمير المؤمنين بحملهم عليه ظاهرا يتبينه الناظر من غير تأمل، وتأخذه الأعين من غير طلب، وأن تؤخذ عبيدهم وإماؤهم، ومن يلبس المناطق من تلك الطبقة بشد الزنانير والكساتيج مكان المناطق التي كانت في أوساطهم، وأن توعز إلى عمالك فيما أمر به أمير المؤمنين في ذلك إيعازا تحدوهم به إلى استقصاء ما تقدم إليهم فيه، وتحذرهم إدهانا وميلا، وتتقدم إليهم في إنزال العقوبة بمن خالف ذلك من جميع أهل الذمة عن سبيل عناد وتهوين إلى غيره، ليقتصر الجميع منهم على طبقاتهم وأصنافهم على السبيل التي أمر أمير المؤمنين بحملهم عليها، وأخذهم بها إن شاء الله. فاعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين وأمره، وانفذ إلى عمالك في نواحي عملك ما ورد عليك من كتاب أمير المؤمنين بما تعمل به إن شاء الله، وأمير المؤمنين يسأل الله ربه ووليه أن يصلي على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وملائكته، وأن يحفظه فيما استخلفه عليه من أمر دينه، ويتولى ما ولاه مما لا يبلغ حقه فيه إلا بعونه، حفظا يحمل به ما حمله، وولاية يقضي بها حقه منه ويوجب بها له أكمل ثوابه، وأفضل مزيده، أنه كريم رحيم. وكتب إبراهيم بن العباس في شوال سنة خمس وثلاثين ومائتين

ظهور محمود بن الفرج النيسابورى

فقال علي بن الجهم: العسليات التي فرقت ... بين ذوي الرشدة والغي وما على العاقل ان تكثروا ... فانه اكثر للفيء ظهور محمود بن الفرج النيسابورى وفي هذه السنة ظهر بسامرا رجل يقال له محمود بن الفرج النيسابوري فزعم أنه ذو القرنين، ومعه سبعة وعشرون رجلا عند خشبة بابك، وخرج من أصحابه بباب العامة رجلان، وببغداد في مسجد مدينتها آخران، وزعما أنه نبي، وأنه ذو القرنين، فأتي به وبأصحابه المتوكل، فأمر بضربه بالسياط، فضرب ضربا شديدا، فمات من بعد من ضربه ذلك، وحبس أصحابه، وكانوا قدموا من نيسابور، ومعهم شيء يقرءونه، وكان معهم عيالاتهم، وفيهم شيخ يشهد له بالنبوة، ويزعم أنه يوحى إليه، وأن جبريل يأتيه بالوحي، فضرب محمود مائة سوط، فلم ينكر نبوته حين ضرب، وضرب الشيخ الذي كان يشهد له أربعين سوطا، فأنكر نبوته حين ضرب وحمل محمود إلى باب العامة، فأكذب نفسه، وقال: الشيخ قد اختدعني، وأمر أصحاب محمود أن يصفعوه فصفعوه، كل واحد منهم عشر صفعات، وأخذ له مصحف فيه كلام قد جمعه ذكر أنه قرآنه، وان جبريل ع كان يأتيه به، ثم مات يوم الأربعاء لثلاث خلون من ذي الحجة في هذه السنه ودفن في الجزيرة. ذكر عقد المتوكل البيعه لبنيه الثلاثة وفي هذه السنة عقد المتوكل البيعة لبنيه الثلاثة: لمحمد وسماه المنتصر، ولأبي عبد الله بن قبيحة- ويختلف في اسمه، فقيل إن اسمه محمد، وقيل:

اسمه الزبير، ولقبه المعتز- ولإبراهيم وسماه المؤيد بولاية العهد، وذلك- فيما قيل- يوم السبت لثلاث بقين من ذي الحجة- وقيل لليلتين بقيتا منه- وعقد لكل واحد منهم لواءين، أحدهما أسود وهو لواء العهد، والآخر أبيض وهو لواء العمل، وضم إلى كل واحد من العمل ما أنا ذاكره. فكان ما ضم إلى ابنه محمد المنتصر من ذلك إفريقية والمغرب كله من عريش مصر إلى حيث بلغ سلطانه من المغرب وجند قنسرين والعواصم والثغور الشامية والجزرية وديار مضر وديار ربيعه والموصل وهيت وعانات والخابور وقرقيسيا وكورباجرمى وتكريت وطساسيج السواد وكور دجلة والحرمين واليمن وعك وحضر موت واليمامة والبحرين والسند ومكران وقندابيل وفرج بيت الذهب وكور الأهواز والمستغلات بسامرا وماه الكوفة وماه البصره وماسبذان ومهرجانقذق وشهرزور ودراباذ والصامغان وأصبهان وقم وقاشان وقزوين وأمور الجبل والضياع المنسوبة إلى الجبال وصدقات العرب بالبصرة. وكان ما ضم إلى ابنه المعتز كور خراسان وما يضاف إليها، وطبرستان والري وأرمينية وأذربيجان وكور فارس ضم إليه في سنة أربعين خزن بيوت الأموال في جميع الآفاق، ودور الضرب، وأمر بضرب اسمه على الدراهم. وكان ما ضم إلى ابنه المؤيد جند دمشق وجند حمص وجند الأردن وجند فلسطين، فقال أبو الغصن الأعرابي: إن ولاة المسلمين الجله ... محمد ثم أبو عبد الله ثمت إبراهيم آبي الذله ... بورك في بني خليفة الله وكتب بينهم كتابا نسخته: هذا كتاب كتبه عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين، وأشهد الله على نفسه بجميع ما فيه ومن حضر من أهل بيته وشيعته وقواده وقضاته وكفاته وفقهائه وغيرهم من المسلمين لمحمد المنتصر بالله، ولأبي عبد الله المعتز بالله، وإبراهيم المؤيد بالله، بني أمير المؤمنين، في أصالة من رأيه، وعموم من عافية بدنه، واجتماع من فهمه، مختارا لما شهد به، متوخيا بذلك طاعة ربه، وسلامة رعيته واستقامتها وانقياد طاعتها، واتساع كلمتها،

وصلاح ذات بينها، وذلك في ذي الحجة سنه خمسه وثلاثين ومائتين انه جعل، إلى محمد المنتصر بالله بن جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين ولاية عهد المسلمين في حياته والخلافة عليهم من بعده، وأمره بتقوى الله التي هي عصمة من اعتصم بها ونجاة من لجأ إليها، وعز من اقتصر عليها، فإن بطاعة الله تتم النعمة، وتجب من الله الرحمة، والله غفور رحيم وجعل عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين الخلافة من بعد محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين إلى أبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين، ثم من بعد أبي عبد الله المعتز ابن أمير المؤمنين الخلافة إلى إبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين وجعل عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين لمحمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين على أبي عبد الله المعتز بالله وإبراهيم المؤيد بالله ابنى امير المؤمنين السمع والطاعة والنصيحة والمشايعة والموالاة لأوليائه والمعاداة لأعدائه، في السر والجهر، والغضب والرضا، والمنع والإعطاء، والتمسك ببيعته، والوفاء بعهده، لا يبغيانه غائلة، ولا يحاولانه مخاتلة، ولا يمالئان عليه عدوا، ولا يستبدان دونه بأمر يكون فيه نقض لما جعل إليه أمير المؤمنين من ولاية العهد في حياته والخلافة من بعده. وجعل عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين على محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين لأبي عبد الله المعتز بالله وإبراهيم المؤيد بالله ابني أمير المؤمنين الوفاء بما عقده لهما، وعهد به إليهما من الخلافة بعد محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين، وإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين الخليفة من بعد أبي عبد الله المعتز بالله ابن امير المؤمنين، والإتمام على ذلك، والا يخلعهما ولا واحدا منهما، ولا يعقد دونهما ولا دون واحد منهما بيعة لولد، ولا لأحد من جميع البرية، ولا يؤخر منهما مقدما، ولا يقدم منهما مؤخرا، ولا ينقصهما ولا واحدا منهما شيئا من أعمالهما التي ولاهما عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين وكل واحد منهما، من الصلاة والمعاون والقضاء

والمظالم والخراج والضياع والغنيمة والصدقات وغير ذلك من حقوق أعمالهما، وما في عمل كل واحد منهما، من البريد والطرر وخزن بيوت الأموال والمعاون ودور الضرب وجميع الأعمال التي جعلها أمير المؤمنين، ويجعلها إلى كل واحد منهما، ولا ينقل عن واحد منهما أحدا من ناحيته من القواد والجند والشاكرية والموالي والغلمان وغيرهم، ولا يعترض عليه في شيء من ضياعه وإقطاعاته وسائر أمواله وذخائره وجميع ما في يده، وما حواه وملكت يده من تالد وطارف، وقديم ومستأنف، وجميع ما يستفيده ويستفاد له بنقص، ولا يحرم ولا يجنف، ولا يعرض لأحد من عماله وكتابه وقضاته وخدمه ووكلائه وأصحابه، وجميع أسبابه بمناظرة ولا محاسبة، ولا غير ذلك من الوجوه والأسباب كلها، ولا يفسخ فيما وكده أمير المؤمنين لهما في هذا العقد والعهد، بما يزيل ذلك عن جهته، أو يؤخره عن وقته، أو يكون ناقضا لشيء منه. وجعل عبد الله جعفر المتوكل على الله أمير المؤمنين على أبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين إن أفضت إليه الخلافة بعد محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين لإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين مثل الشرائط التي اشترطها على محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين بجميع ما سمى فيه ووصف في هذا الكتاب، وعلى ما بين وفسر، مع الوفاء من أبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين، بما جعله أمير المؤمنين لإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين من الخلافة وتسليم ذلك راضيا به ممضيا له، مقدما ما فيه حق الله عليه وما أمره به أمير المؤمنين، غير ناكث ولا ناكب بذلك، ولا مبدل، فإن الله تعالى جده وعز ذكره يتوعد من خالف أمره، وعند عن سبيله في محكم كتابه: «فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. » على أن لأبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين ولإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين على محمد المنتصر بالله ابن امير المؤمنين، الامان، وهما مقيمان بحضرته أو أحدهما، أو كانا غائبين عنه، أو مجتمعين كانا أو متفرقين ويستمر أبو عبد الله

المعتز بالله ابن أمير المؤمنين في ولايته بخراسان وأعمالها المتصلة بها والمضمومة إليها، ويستمر إبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين في ولايته بالشام وأجنادها، فعلى محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين، أن يمضي أبا عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين إلى خراسان وأعمالها المتصلة بها والمضمومة إليها، وأن يسلم له ولايتها وأعمالها كلها وأجنادها والكور الداخلة فيما ولي جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين أبا عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين، فلا يعوقه عنها، ولا يحبسه قبله ولا في شيء من البلدان دون خراسان والكور والأعمال المضمومة إليها، وإن يعجل إشخاصه إليها واليا عليها وعلى جميع أعمالها، مفردا بها مفوضا إليه أعمالها كلها، لينزل حيث أحب من كور عمله، ولا ينقله عنها، وأن يشخص معه جميع من ضم إليه أمير المؤمنين، ويضم من مواليه وقواده وشاكريته وأصحابه وكتابه وعماله وخدمه ومن اتبعه من صنوف الناس بأهاليهم وأولادهم وعيالهم وأموالهم، ولا يحبس عنه أحدا، ولا يشرك في شيء من أعماله أحدا، ولا يوجه عليه أمينا ولا كاتبا ولا بريدا، ولا يضرب على يده في قليل ولا كثير. وأن يطلق محمد المنتصر بالله لإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين الخروج إلى الشام وأجنادها فيمن ضم أمير المؤمنين ويضمه إليه من مواليه وقواده وخدمه وجنوده وشاكريته وصحابته وعماله وخدامه ومن اتبعه من صنوف الناس باهاليها وأولادهم وأموالهم، ولا يحبس عنهم أحدا، ويسلم اليه ولايتها وأعمالها وجنودها كلها، لا يعوقه عنها، ولا يحبسه قبله ولا في شيء من البلدان دونها، وأن يعجل إشخاصه إلى الشام وأجنادها واليا عليها، ولا ينقله عنها، وأن عليه له فيمن ضم إليه من القواد والموالي والغلمان والجنود والشاكرية وأصناف الناس وفي جميع الأسباب والوجوه مثل الذي اشترط على محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين لأبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين في خراسان وأعمالها على ما رسم من ذلك، وبين ولخص، وشرح في هذا الكتاب. ولإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين على أبي عبد الله المعتز بالله ابن

أمير المؤمنين- إذا أفضت الخلافة إليه، وإبراهيم المؤيد بالله مقيم بالشام- أن يقره بها أو كان بحضرته، أو كان غائبا عنه، أن يمضيه إلى عمله من الشام، ويسلم إليه أجنادها وولايتها وأعمالها كلها، ولا يعوقه عنها، ولا يحبسه قبله ولا في شيء من البلدان دونها، وأن يعجل إشخاصه إليها واليا عليها وعلى جميع أعمالها، على مثل الشرط الذي أخذ لأبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين على محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين في خراسان وأعمالها، على ما رسم ووصف وشرط في هذا الكتاب، لم يجعل أمير المؤمنين لواحد ممن وقعت عليه وله هذه الشروط، من محمد المنتصر بالله، وأبي عبد الله المعتز بالله، وإبراهيم المؤيد بالله، بني أمير المؤمنين، أن يزيل شيئا مما اشترطنا في هذا الكتاب، ووكدنا، وعليهم جميعا الوفاء به، لا يقبل الله منهم إلا ذلك، ولا التمسك إلا بعهد الله فيه، وكان عهد الله مسؤلا. أشهد الله رب العالمين جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين ومن حضره من المسلمين بجميع ما في هذا الكتاب على إمضائه إياه، على محمد المنتصر بالله، وأبي عبد الله المعتز بالله، وإبراهيم المؤيد بالله، بني أمير المؤمنين بجميع ما سمى ووصف فيه، وكفى بالله شهيدا ومعينا لمن أطاعه راجيا، ووفى بعهده خائفا وحسيبا، ومعاقبا من خالفه معاندا، أو صدف عن أمره مجاهدا. وقد كتب هذا الكتاب أربع نسخ، وقعت شهادة الشهود بحضرة أمير المؤمنين في كل نسخة منها، في خزانة أمير المؤمنين نسخة، وعند محمد المنتصر ابن أمير المؤمنين نسخة، وعند أبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين نسخة، ونسخة عند إبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين. وقد ولى جعفر الإمام المتوكل على الله أبا عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين أعمال فارس وأرمينية وأذربيجان إلى ما يلي أعمال خراسان وكورها والأعمال المتصلة بها والمضمومة إليها، على أن يجعل له على محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين في ذلك الذي جعل له في الحياطة في نفسه والوثاق في أعماله، والمضمومين إليه، وسائر من يستعين به من الناس جميعا في خراسان والكور المضمومة إليها والمتصلة بها على ما سمى ووصف في هذا الكتاب

وقال إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول يمدح بني المتوكل الثلاثة: المنتصر، والمعتز، والمؤيد: أضحت عرى الإسلام وهي منوطة ... بالنصر والإعزاز والتأييد بخليفة من هاشم وثلاثة ... كنفوا الخلافة من ولاة عهود قمر توالت حوله أقماره ... يكنفن مطلع سعده بسعود كنفتهم الآباء واكتنفت بهم ... فسعوا بأكرم أنفس وجدود وله في المعتز بالله: أشرق المشرق بالمعتز بالله ولاحا ... إنما المعتز طيب بث في الناس ففاحا وله أيضا فيها: الله أظهر دينه وأعزه بمحمد ... والله أكرم بالخلافة جعفر بن محمد والله أيد عهده بمحمد ومحمد ... ومؤيد لمؤيدين إلى النبي محمد وفيها كانت وفاة إسحاق بن إبراهيم صاحب الجسر في يوم الثلاثاء لست بقين من ذي الحجة وقيل كانت وفاته لسبع بقين منه، وصير ابنه مكانه، وكسي خمس خلع، وقلد سيفا، وبعث المتوكل حين انتهى إليه خبر مرضه بابنه المعتز لعيادته مع بغا الشرابي وجماعة من القواد والجند وذكر أن ماء دجلة تغير في هذه السنة إلى الصفرة ثلاثة أيام، ففزع

الناس لذلك، ثم صار في لون ماء المدود وذلك في ذي الحجة. وفيها أتي المتوكل بيحيى بن عمر بن حسين بن زيد بن علي بن ابى طالب ع من بعض النواحي، وكان- فيما ذكر- قد جمع قوما، فضربه عمر بن فرج ثمان عشرة مقرعة، وحبس ببغداد في المطبق. وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.

سنه ست وثلاثين ومائتين

ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) خبر مقتل محمد بن ابراهيم بن مصعب فمن ذلك ما كان من مقتل محمد بن إبراهيم بن مصعب بن زريق، أخي إسحاق بن إبراهيم بفارس. ذكر الخبر عن مقتله وكيف قتل: حدثني غير واحد، عن محمد بن إسحاق بن إبراهيم، أن أباه إسحاق بلغه عنه أنه أكول لا يملأ جوفه شيء، وأنه أمر باتخاذ الطعام والإكثار منه، ثم أرسل إليه فدعاه، ثم أمره أن يأكل، وقال له: إني أحب أن أرى أكلك، فأكل وأكثر حتى عجب إسحاق منه، ثم قدم إليه بعد ما ظن أنه شبع وامتلأ من الطعام حمل مشوي، فأكل منه حتى لم يبق منه إلا عظامه، فلما فرغ من أكله، قال: يا بني، مال أبيك لا يقوم بطعام بطنك، فالحق أمير المؤمنين، فإن ماله أحمل لك من مالي فوجهه الى الباب والزمه الخدمه، فكان في خدمة السلطان حياة أبيه، وخليفة أبيه ببابه، حتى مات أبوه إسحاق، فعقد له المعتز على فارس، وعقد له المنتصر على اليمامة والبحرين وطريق مكة، في المحرم من هذه السنة، وضم إليه المتوكل أعمال أبيه كلها، وزاده المنتصر ولاية مصر، وذلك أنه كان- فيما ذكر- حمل إلى المتوكل وأولياء عهده مما كان في خزائن أبيه من الجواهر والأشياء النفيسة ما حظي به عندهم، فرفعوه ورفعوا مرتبته. فلما بلغ محمد بن إبراهيم ما فعل بابن أخيه محمد بن إسحاق تنكر للسلطان، وبلغ المتوكل عنه أمور أنكرها، فأخبرني بعضهم أن تنكر محمد بن إبراهيم إنما كان لابن أخيه محمد بن إسحاق، واعتلاله عليه بحمل خراج فارس

ذكر خبر وفاه الحسن بن سهل

إليه وأن محمدا شكا إلى المتوكل ما كان من تنكر عمه محمد بن إبراهيم في ذلك، فبسط يده عليه، وأطلق له العمل فيه بما أحب، فولى محمد بن إسحاق الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن مصعب فارس، وعزل عمه، وتقدم محمد إلى الحسين بن إسماعيل في قتل عمه محمد بن إبراهيم، فذكر أنه لما صار إلى فارس أهدى إليه في يوم النيروز هدايا، فكان فيما اهدى اليه حلواء، فأكل محمد بن إبراهيم منها، ثم دخل الحسين بن إسماعيل عليه، فأمر بإدخاله إلى موضع آخر واعاده الحلواء عليه، فأكل أيضا منها، فعطش فاستسقى، فمنع الماء، ورام الخروج من الموضع الذي أدخل إليه، فإذا هو محبوس لا سبيل له إلى الخروج، فعاش يومين وليلتين، ومات فحمل ماله وعياله إلى سامرا على مائة جمل ولما ورد نعي محمد بن إبراهيم على المتوكل امر بالكتاب فيه إلى طاهر بن عبد الله بن طاهر بالتعزية فكتب: أما بعد، فإن أمير المؤمنين يوجب لك مع كل فائدة ونعمة تهنئتك بمواهب الله وتعزيتك عن ملمات أقداره، وقد قضى الله في محمد بن إبراهيم مولى أمير المؤمنين ما هو قضاؤه في عباده، حتى يكون الفناء لهم والبقاء له. وأمير المؤمنين يعزيك عن محمد بما أوجب الله لمن عمل بما أمره به في مصائبه، من جزيل ثوابه وأجره، فليكن الله وما قربك منه أولى بك في أحوالك كلها، فإن مع شكر الله مزيده، ومع التسليم لأمر الله رضاه، وبالله توفيق أمير المؤمنين. والسلام . ذكر خبر وفاه الحسن بن سهل وفي هذه السنة توفي الحسن بن سهل في قول بعضهم في أول ذي الحجة منها، وقال قائل هذه المقالة: مات محمد بن إسحاق بن إبراهيم في هذا الشهر لأربع بقين منه وذكر عن القاسم بن احمد الكوفى، انه قال: كنت في خدمة الفتح بن خاقان في سنة خمس وثلاثين ومائتين، وكان الفتح يتولى للمتوكل أعمالا، منها أخبار الخاصة والعامة بسامرا والهاروني وما يليها، فورد

ذكر خبر هدم قبر الحسين بن على

كتاب إبراهيم بن عطاء المتولي الأخبار بسامرا يذكر وفاة الحسن بن سهل، وأنه شرب شربة دواء في صبيحة يوم الخميس لخمس ليال بقين من ذي القعدة من سنة خمس وثلاثين ومائتين أفرطت عليه، وأنه توفي في هذا اليوم وقت الظهر، وأن المتوكل أمر بتجهيز جهازه من خزائنه فلما وضع على سريره تعلق به جماعة من التجار من غرماء الحسن بن سهل، ومنعوه من دفنه، فتوسط أمرهم يحيى بن خاقان وإبراهيم بن عتاب ورجل يعرف ببرغوث، فقطعوا أمرهم، ودفن فلما كان من الغد ورد كتاب صاحب البريد بمدينة السلام بوفاة محمد بن إسحاق بن إبراهيم بعد الظهر يوم الخميس لخمس خلون من ذي الحجة، فجزع عليه المتوكل جزعا، وقال: تبارك الله وتعالى! كيف توافت منية الحسن ومحمد بن إسحاق في وقت واحد! ذكر خبر هدم قبر الحسين بن على وفيها أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأن يحرث ويبذر ويسقى موضع قبره، وأن يمنع الناس من إتيانه، فذكر أن عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية: من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة بعثنا به إلى المطبق، فهرب الناس، وامتنعوا من المصير إليه، وحرث ذلك الموضع، وزرع ما حواليه. وفيها استكتب المتوكل عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وصرف محمد بن الفضل الجرجرائي وفيها حج محمد المنتصر، وحجت معه جدته شجاع أم المتوكل، فشيعها المتوكل إلى النجف. وفيها هلك أبو سعيد محمد بن يوسف المروزي الكبح فجاءه، ذكر أن فارس بن بغا الشرابي وهو خليفة أبيه، عقد لأبي سعيد هذا، وهو مولى طيئ على أذربيجان وأرمينية، فعسكر بالكرخ، كرخ فيروز، فلما كان لسبع بقين من شوال وهو بالكرخ مات فجاءة، لبس أحد خفيه ومد الآخر ليلبسه

فسقط ميتا، فولى المتوكل ابنه يوسف ما كان أبوه وليه من الحرب، وولاه بعد ذلك خراج الناحية وضياعها، فشخص إلى الناحية فضبطها، ووجه عماله في كل ناحية. وحج بالناس في هذه السنة المنتصر محمد بن جعفر المتوكل.

سنه سبع وثلاثين ومائتين

ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر وثوب اهل أرمينية بعاملهم يوسف بن محمد فمن ذلك ما كان من وثوب أهل أرمينية بيوسف بن محمد فيها. ذكر الخبر عن سبب وثوبهم به: قد ذكرنا فيما مضى قبل سبب استعمال المتوكل يوسف بن محمد هذا اياه على أرمينية، فأما سبب وثوب أهل أرمينية به، فإنه كان- فيما ذكر- أنه لما صار إلى عمله من أرمينية خرج رجل من البطارقة يقال له بقراط بن أشوط، وكان يقال له بطريق البطارقة، يطلب الإمارة، فأخذه يوسف بن محمد، وقيده وبعث به إلى باب الخليفة، فأسلم بقراط وابنه، فذكر أن يوسف لما حمل بقراط بن أشوط اجتمع عليه ابن أخي بقراط بن أشوط وجماعة من بطارقة أرمينية، وكان الثلج قد وقع في المدينة التي فيها يوسف، وهي- فيما قيل- طرون، فلما سكن الثلج أناخوا عليها من كل ناحية، وحاصروا يوسف ومن معه في المدينة، فخرج يوسف إلى باب المدينة، فقاتلهم فقتلوه وكل من قاتل معه، فأما من لم يقاتل معه، فإنهم قالوا له: ضع ثيابك، وانج عريانا، فطرح قوم منهم كثير ثيابهم، ونجوا عراة حفاة، فمات أكثرهم من البرد، وسقطت أصابع قوم منهم ونجوا، وكانت البطارقة لما حمل يوسف بقراط بن أشوط تحالفوا على قتله، ونذروا دمه، ووافقهم على ذلك موسى بن زرارة، وهو على ابنة بقراط، فنهى سوادة بن عبد الحميد الحجافي يوسف بن أبي سعيد عن المقام بموضعه، وأعلمه بما أتاه من أخبار البطارقة، فأبى أن يفعل، فوافاه القوم في شهر رمضان، فأحدقوا بسور المدينة والثلج ما بين عشرين ذراعا إلى أقل حول المدينة إلى خلاط إلى دبيل، والدنيا كلها ثلج

وكان يوسف قبل ذلك قد فرق أصحابه في رساتيق عمله، فتوجه إلى كل ناحية منها قوم من أصحابه، فوجه إلى كل طائفة منهم من البطارقة، وممن معهم جماعة، فقتلوهم في يوم واحد، وكانوا قد حاصروه في المدينة أياما، فخرج إليهم فقاتل حتى قتل، فوجه المتوكل بغا الشرابي إلى أرمينية طالبا بدم يوسف، فشخص إليها من ناحية الجزيرة، فبدأ بأرزن بموسى بن زرارة، وهو ابو الحر وله إخوة: إسماعيل وسليمان وأحمد وعيسى ومحمد وهارون، فحمل بغا موسى بن زرارة إلى باب الخليفة، ثم سار فأناخ بجبل الخويثية، وهم جمة أهل أرمينية، وقتلة يوسف بن محمد، فحاربهم فظفر بهم، فقتل زهاء ثلاثين ألفا، وسبى منهم خلقا كثيرا، فباعهم بأرمينية، ثم سار إلى بلاد الباق فأسر أشوط بن حمزة أبا العباس وهو صاحب الباق- والباق من كور البسفرجان وبني النشوى، ثم سار إلى مدينة دبيل من أرمينية، فأقام بها شهرا، ثم سار إلى تفليس. وفي هذه السنة ولي عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم بغداد ومعاون السواد. وفيها قدم محمد بن عبد الله بن طاهر من خراسان، لثمان بقين من شهر ربيع الآخر، فولي الشرطة والجزية وأعمال السواد وخلافة أمير المؤمنين بمدينة السلام، ثم صار إلى بغداد. وفيها عزل المتوكل محمد بن أحمد بن ابى دواد عن المظالم، وولاها محمد ابن يعقوب المعروف بأبي الربيع. وفيها رضي عن ابن أكثم، وكان ببغداد فأشخص إلى سامرا، فولي القضاء على القضاة، ثم ولي أيضا المظالم، وكان عزل المتوكل محمد بن أحمد ابن ابى دواد عن مظالم سامرا لعشر بقين من صفر من هذه السنه.

ذكر غضب المتوكل على ابن ابى دواد

ذكر غضب المتوكل على ابن ابى دواد وفيها غضب المتوكل على ابن ابى دواد، وامر بالتوكيل على ضياع احمد ابن ابى دواد لخمس بقين من صفر، وحبس يوم السبت لثلاث خلون من شهر ربيع الأول ابنه أبو الوليد محمد بن أحمد بن أبي دواد في ديوان الخراج، وحبس إخوته عند عبيد الله بن السري خليفة صاحب الشرطة فلما كان يوم الاثنين حمل أبو الوليد مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار وجواهر بقيمة عشرين ألف دينار، ثم صولح بعد ذلك على ستة عشر ألف ألف درهم، وأشهد عليهم جميعا ببيع كل ضيعة لهم، وكان احمد بن ابى دواد قد فلج، فلما كان يوم الأربعاء لسبع خلون من شعبان، أمر المتوكل بولد أحمد بن ابى دواد، فحدروا إلى بغداد، فقال أبو العتاهية: لو كنت في الرأي منسوبا إلى رشد ... وكان عزمك عزما فيه توفيق لكان في الفقه شغل لو قنعت به ... عن أن تقول: كلام الله مخلوق ماذا عليك وأصل الدين يجمعهم ... ما كان في الفرع لولا الجهل والموق وأقيم فيها الخلنجي للناس في جمادى الآخرة. وفيها ولى ابن أكثم قضاء الشرقية حيان بن بشر، وولى سوار بن عبد الله العنبري قضاء الجانب الغربي، وكلاهما أعور، فقال الجماز: رأيت من الكبائر قاضيين ... هما أحدوثة في الخافقين هما اقتسما العمى نصفين قدا ... كما اقتسما قضاء الجانبين وتحسب منهما من هز رأسا ... لينظر في مواريث ودين كأنك قد وضعت عليه دنا ... فتحت بزاله من فرد عين هما فأل الزمان بهلك يحيى ... إذ افتتح القضاء باعورين

خبر انزال جثه ابن نصر ودفعه إلى اوليائه

خبر انزال جثه ابن نصر ودفعه الى اوليائه وفيها أمر المتوكل في يوم الفطر منها بإنزال جثة أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي، ودفعه إلى أوليائه ذكر الخبر عما فعل به وما كان من الأمر بسبب ذلك: ذكر أن المتوكل لما أمر بدفع جثته إلى أوليائه لدفنه، فعل ذلك، فدفع إليهم، وقد كان المتوكل لما أفضت إليه الخلافة، نهى عن الجدال في القرآن وغيره، ونفذت كتبه بذلك إلى الآفاق، وهم بإنزال أحمد بن نصر عن خشبته، فاجتمع الغوغاء والرعاع إلى موضع تلك الخشبة، وكثروا وتكلموا، فبلغ ذلك المتوكل، فوجه إليهم نصر بن الليث، فأخذ منهم نحوا من عشرين رجلا، فضربهم وحبسهم، وترك إنزال أحمد بن نصر من خشبته لما بلغه من تكثير العامة في أمره، وبقي الذين أخذوا بسببه في الحبس حينا، ثم أطلقوا، فلما دفع بدنه إلى أوليائه في الوقت الذي ذكرت، حمله ابن أخيه موسى إلى بغداد، وغسل ودفن، وضم رأسه إلى بدنه، وأخذ عبد الرحمن بن حمزة جسده في منديل مصري، فمضى به إلى منزله، فكفنه وصلى عليه، وتولى إدخاله القبر مع بعض أهله رجل من التجار، ويقال له الأبزاري فكتب صاحب البريد ببغداد- وكان يعرف بابن الكلبي، من موضع بناحية واسط، يقال له الكلبانيه- إلى المتوكل بخبر العامة، وما كان من اجتماعها وتمسحها بالجنازة، جنازة أحمد بن نصر وبخشبه رأسه، فقال المتوكل ليحيى بن أكثم: كيف دخل ابن الأبزاري القبر على كبرة خزاعة! فقال: يا أمير المؤمنين، كان صديقا له فأمر المتوكل بالكتاب إلى محمد بن عبد الله ابن طاهر بمنع العامة من الاجتماع والحركة في مثل هذا وشبهه، وكان

بعضهم أوصى ابنه عند موته أن يرهب العامة، فكتب المتوكل ينهى عن الاجتماع. وغزا الصائفة في هذه السنة علي بن يحيى الأرمني وحج بالناس فيها علي بن عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور، وكان والى مكة.

سنه ثمان وثلاثين ومائتين

ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر ظفر بغا بإسحاق بن اسماعيل وإحراقه مدينه تفليس فمن ذلك ما كان من ظفر بغا بإسحاق بن إسماعيل مولى بني أمية بتفليس وإحراقه مدينة تفليس. ذكر الخبر عما كان من بغا في ذلك: ذكر أن بغا لما صار إلى دبيل بسبب قتل القاتلين من اهل أرمينية يوسف ابن محمد، أقام بها شهرا، فلما كان يوم السبت لعشر خلون من شهر ربيع الأول من سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وجه بغا زيرك التركي، فجاوز الكر- وهو نهر عظيم مثل الصراة ببغداد وأكبر، وهو ما بين المدينة وتفليس في الجانب الغربي وصغدبيل في الجانب الشرقي- وكان معسكر بغا في الشرقي، فجاوز زيرك الكر إلى ميدان تفليس، ولتفليس خمسة أبواب: باب الميدان، وباب قريس، وباب الصغير، وباب الربض، وباب صغدبيل- والكر نهر ينحدر مع المدينة- ووجه بغا أيضا أبا العباس الواثي النصراني إلى أهل أرمينية عربها وعجمها، فأتاهم زيرك مما يلي الميدان وأبو العباس مما يلي باب الربض، فخرج إسحاق بن إسماعيل إلى زيرك، فناوشه القتال، ووقف بغا على تل مطل على المدينة مما يلي صغدبيل، لينظر ما يصنع زيرك وأبو العباس، فبعث بغا النفاطين فضربوا المدينة بالنار، وهي من خشب الصنوبر، فهاجت الريح في الصنوبر، فأقبل إسحاق بن إسماعيل إلى المدينة لينظر، فإذا النار قد أخذت في قصره وجواريه، وأحاطت به النار، ثم أتاه الأتراك والمغاربة فأخذوه أسيرا، وأخذوا ابنه عمرا، فأتوا بهما بغا، فأمر بغا به، فرد إلى باب

ذكر مقدم الروم بمراكبهم إلى دمياط

الحسك، فضربت عنقه هناك صبرا، وحمل رأسه إلى بغا، وصلبت جيفته على الكر، وكان شيخا محدودا ضخم الرأس، يخضب بالوسمة، آدم أصلع أحول، فنصب رأسه على باب الحسك. وكان الذي تولى قتله غامش خليفة بغا، واحترق في المدينة نحو من خمسين الف انسان، واطفئت النار في يوم وليلة، لأنها نار الصنوبر، لا بقاء لها، وصبحهم المغاربة، فأسروا من كان حيا، وسلبوا الموتى. وكانت امرأة إسحاق نازلة بصغدبيل، وهي حذاء تفليس في الجانب الشرقي، وهي مدينة بناها كسرى أنوشروان، وكان إسحاق قد حصنها وحفر خندقها، وجعل فيها مقاتلة من الخويثية وغيرهم وأعطاهم بغا الأمان على ان يضعوا أسلحتهم، ويذهبوا حيث شاء وكانت امرأة إسحاق ابنة صاحب السرير. ثم وجه بغا- فيما ذكر- زيرك إلى قلعة الجردمان- وهي بين برذعة وتفليس- في جماعة من جنده، ففتح زيرك الجردمان، وأخذ بطريقها القطريج أسيرا، فحمله إلى العسكر ثم نهض بغا إلى عيسى بن يوسف ابن أخت اصطفانوس، وهو في قلعة كثيش من كورة البيلقان، وبينها وبين البيلقان عشرة فراسخ، وبينها وبين برذعة خمسة عشر فرسخا، فحاربه، ففتحها، وأخذه وحمله وحمل ابنه معه وأباه، وحمل أبا العباس الواثي- واسمه سنباط بن أشوط- وحمل معه معاوية بن سهل بن سنباط بطريق اران، وحمل آذر نرسى بن إسحاق الخاشنى . ذكر مقدم الروم بمراكبهم الى دمياط وفي هذه السنه جاءت للروم ثلاثمائة مركب مع عرفا وابن قطونا وامردناقه- وهم كانوا الرؤساء في البحر- مع كل واحد منهم مائة مركب، فأناخ ابن قطونا

بدمياط، وبينها وبين الشط شبيه بالبحيرة يكون فيها الماء إلى صدر الرجل، فمن جازها إلى الأرض أمن من مراكب البحر، فجازها قوم فسلموا، وغرق قوم كثير من نساء وصبيان، واحتمل من كانت له قوة في السفن، فنجوا إلى ناحية الفسطاط، وبينها وبين الفسطاط مسيرة أربعة أيام وكان والي معونة مصر عنبسة بن إسحاق الضبي، فلما قرب العيد، أمر الجند الذين بدمياط أن يحضروا الفسطاط لتحمل لهم في العيد، وأخلى دمياط من الجند، فانتهى مراكب الروم من ناحية شطا التي يعمل فيها الشطوي، فأناخ بها مائة مركب من الشلنديه، تحمل كل مركب ما بين الخمسين رجلا إلى المائه، فخرجوا اليه وأحرقوا ما وصلوا إليه من دورها وأخصاصها، واحتملوا سلاحا كان فيها أرادوا حمله إلى أبي حفص صاحب إقريطش نحوا من ألف قناة وآلتها، وقتلوا من أمكنهم قتله من الرجال، وأخذوا من الأمتعة والقند والكتان ما كان عبئ ليحمل إلى العراق، وسبوا من المسلمات والقبطيات نحوا من ستمائه امرأة، ويقال إن المسلمات منهن مائة وخمس وعشرون امرأة والباقي من نساء القبط. ويقال إن الروم الذين كانوا في الشلنديات التي أناخت بدمياط كانوا نحوا من خمسة آلاف رجل، فأوقروا سفنهم من المتاع والأموال والنساء، وأحرقوا خزانة القلوع وهي شرع السفن، وأحرقوا مسجد الجامع بدمياط، وأحرقوا كنائس، وكان من حزر منهم ممن غرق في بحيرة دمياط من النساء والصبيان أكثر ممن سباه الروم ثم رحل الروم عنها. وذكر أن ابن الأكشف كان محبوسا في سجن دمياط، حبسه عنبسة، فكسر قيده وخرج، فقاتلهم، وأعانه قوم، فقتل من الروم جماعة، ثم صاروا إلى أشتوم تنيس، فلم يحمل الماء سفنهم إليها، فخشوا أن توحل، فلما لم يحملهم الماء صاروا إلى أشتومها- وهي مرسى بينه وبين تنيس أربعة فراسخ وأقل، وله سور وباب حديد كان المعتصم أمر بعمله- فخربوا عامته، وأحرقوا ما فيه من

المجانيق والعرادات، وأخذوا بابيه الحديد، فحملوها، ثم توجهوا إلى بلادهم، لم يعرض لهم أحد. وخرج المتوكل في هذه السنة يوم الاثنين لخمس خلون من جمادى الآخرة من سامرا يريد المدائن، فصار إلى الشماسية يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة، فأقام هنالك إلى يوم السبت، وعبر بالعشي إلى قطربل، ثم رجع ودخل بغداد يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت منه فمضى في سوقها وشارعها حتى نزل الزعفرانية، ثم صار إلى المدائن. وغزا الصائفة فيها علي بن يحيى الأرمني وحج بالناس فيها علي بن عيسى بن جعفر بن أبي جعفر.

سنه تسع وثلاثين ومائتين

ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك أمر المتوكل بأخذ أهل الذمة بلبس دراعتين عسليتين على الأقبية والدراريع في المحرم منها، ثم أمره في صفر بالاقتصار في مراكبهم على ركوب البغال والحمر دون الخيل والبراذين. وفيها نفى المتوكل على بن الجهم بن بدر إلى خراسان. وفيها قتل صاحب الصنارية بباب العامة في جمادى الآخرة منها. وفيها أمر المتوكل بهدم البيع المحدثة في الإسلام. وفيها مات أبو الوليد محمد بن أحمد بن ابى دواد ببغداد في ذي الحجة. وفيها غزا الصائفة علي بن يحيى الأرمني وحج بالناس فيها عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى بن موسى بن محمد ابن علي، وكان والي مكة. وفيها حج جعفر بن دينار، وكان والي طريق مكة مما يلي الكوفة فولي أحداث الموسم. وفيها اتفق شعانين النصارى ويوم النيروز، وذلك يوم الأحد لعشرين ليلة خلت من ذي القعدة، فذكر أن النصارى زعمت أنهما لم يجتمعا في الاسلام قط.

سنه اربعين ومائتين

ثم دخلت سنة أربعين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر الخبر عن وثوب اهل حمص بعاملهم 4 فمما كان فيها من ذلك وثوب أهل حمص بعاملهم على المعونة. ذكر الخبر عن سبب ذلك وما آل إليه أمرهم ووثوبهم: ذكر أن عاملهم على المعونة قتل رجلا كان من رؤسائهم، وكان العامل يومئذ أبو المغيث الرافعي موسى بن إبراهيم، فوثب أهل حمص في جمادى الآخرة من هذه السنة، فقتلوا جماعة من أصحابه، ثم أخرجوه وأخرجوا صاحب الخراج من مدينتهم، فبلغ ذلك المتوكل، فوجه إليهم عتاب بن عتاب، ووجه معه محمد بن عبدويه كرداس الأنباري، وأمره أن يقول لهم: إن أمير المؤمنين قد أبدلكم رجلا مكان رجل، فإن سمعوا وأطاعوا ورضوا، فول عليهم محمد بن عبدويه، وإن أبوا وثبتوا على الخلاف فأقم بمكانك، واكتب إلى أمير المؤمنين حتى يوجه إليك رجاء، أو محمد بن رجاء الحضاري أو غيره من الخيل لمحاربتهم، فخرج عتاب بن عتاب من سامرا يوم الاثنين لخمس بقين من شهر جمادى الآخرة، فرضوا بمحمد بن عبدويه، فولاه عليهم ففعل فيهم الأعاجيب. [أخبار متفرقة] وفيها مات احمد بن ابى دواد ببغداد في المحرم بعد ابنه أبي الوليد محمد، وكان ابنه محمد توفي قبله بعشرين يوما في ذي الحجة ببغداد. وفيها عزل يحيى بن أكثم عن القضاء في صفر، وقبض منه ما كان له

ببغداد ومبلغه خمسة وسبعون ألف دينار، ومن أسطوانة في داره ألفا دينار وأربعة آلاف جريب بالبصرة. وفيها ولي جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان بن علي القضاء على القضاة في صفر. وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن محمد بن داود وحج جعفر بن دينار وهو والي الأحداث بالموسم

سنه احدى واربعين ومائتين

ثم دخلت سنة إحدى وأربعين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر الخبر عن وثوب اهل حمص بعاملهم مره اخرى فمن ذلك ما كان من وثوب أهل حمص بعاملهم على المعونة، وهو محمد ابن عبدويه. ذكر الخبر عما كان من أمرهم فيها وما آل إليه الأمر بينهم. ذكر أن أهل حمص وثبوا في جمادى الآخرة من هذه السنة بمحمد بن عبدويه عاملهم على المعونة، وأعانهم على ذلك قوم من نصارى حمص، فكتب بذلك إلى المتوكل، فكتب إليه يأمره بمناهضتهم، وأمده بجند من راتبة دمشق، مع صالح العباسي التركي، وهو عامل دمشق وجند من جند الرملة، فأمره أن يأخذ من رؤسائهم ثلاثة نفر فيضربهم بالسياط ضرب التلف، فإذا ماتوا صلبهم على أبوابهم، وأن يأخذ بعد ذلك من وجوههم عشرين إنسانا فيضربهم ثلاثمائة سوط، كل واحد منهم، ويحملهم في الحديد إلى باب أمير المؤمنين، وأن يخرب ما بها من الكنائس والبيع، وأن يدخل البيعة التي الى جانب مسجدها في المسجد، والا يترك في المدينة نصرانيا إلا أخرجه منها، وينادى فيهم قبل ذلك، فمن وجده فيها بعد ثلاثة أحسن أدبه وأمر لمحمد بن عبدويه بخمسين ألف درهم، وأمر لقواده ووجوه أصحابه بصلات، وأمر لخليفته علي بن الحسين بخمسة عشر ألف درهم، ولقواده بخمسة آلاف خمسه آلاف درهم، وأمر بخلع، فأخذ محمد بن عبدويه عشرة منهم، فكتب بأخذهم، وأنه قد حملهم إلى دار أمير المؤمنين ولم

ذكر الخبر عن ضرب عيسى بن جعفر وما آل اليه امره

يضربهم، فوجه المتوكل رجلا من أصحاب الفتح بن خاقان يقال له محمد بن رزق الله، ليرد من الذين وجه بهم ابن عبدويه محمد بن عبد الحميد الحميدى والقاسم بن موسى بن فوعوس إلى حمص، وأن يضربهما ضرب التلف، ويصلبهما على باب حمص، فردهما وضربهما بالسياط حتى ماتا، وصلبهما على باب حمص، وقدم بالآخرين سامرا وهم ثمانية، فلما صاروا بنصيبين مات واحد منهم، فأخذ المتوكل بهم رأسه، وقدم بسبعة منهم سامرا وبرأس الميت ثم كتب محمد بن عبدويه أنه أخذ عشرة نفر منهم بعد ذلك، وضرب منهم خمسة نفر بالسياط فماتوا، ثم ضرب خمسة فلم يموتوا ثم كتب محمد ابن عبدويه بعد ذلك أنه ظفر برجل منهم من المخالفين يقال له عبد الملك بن إسحاق ابن عمارة- وكان فيما ذكر- رأسا من رءوس الفتنة، فضربه بباب حمص بالسياط حتى مات، وصلبه على حصن يعرف بتل العباس. قال ابو جعفر: وفي هذه السنة مطر الناس- فيما ذكر- بسامرا مطرا جودا في آب وفيها ولي القضاء بالشرقية في المحرم أبو حسان الزيادي . ذكر الخبر عن ضرب عيسى بن جعفر وما آل اليه امره وفيها ضرب عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم صاحب خان عاصم ببغداد- فيما قيل- ألف سوط. ذكر الخبر عن سبب ضربه وما كان من أمره في ذلك: وكان السبب في ذلك أنه شهد عند أبي حسان الزيادي قاضي الشرقية عليه أنه شتم أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة، سبعة عشر رجلا، شهاداتهم- فيما ذكر- مختلفة من هذا النحو، فكتب بذلك صاحب بريد بغداد الى عبيد الله ابن يحيى بن خاقان، فأنهى عبيد الله ذلك إلى المتوكل، فأمر المتوكل أن

يكتب إلى محمد بن عبد الله بن طاهر يأمره بضرب عيسى هذا بالسياط، فإذا مات رمى به في دجلة، ولم تدفع جيفته إلى أهله. فكتب عبيد الله إلى الحسن بن عثمان جواب كتابه إليه في عيسى: بسم الله الرحمن الرحيم، أبقاك الله وحفظك، وأتم نعمته عليك، وصل كتابك في الرجل المسمى عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم صاحب الخانات، وما شهد به الشهود عليه من شتم أصحاب رسول الله ص ولعنهم وإكفارهم، ورميهم بالكبائر، ونسبتهم إلى النفاق، وغير ذلك مما خرج به إلى المعاندة لله ولرسوله ص، وتثبتك في أمر أولئك الشهود وما شهدوا به، وما صح عندك من عدالة من عدل منهم، ووضح لك من الأمر فيما شهدوا به، وشرحك ذلك في رقعة درج كتابك، فعرضت على أمير المؤمنين أعزه الله ذلك، فأمر بالكتاب إلي أبي العباس محمد بن طاهر مولى أمير المؤمنين أبقاه الله بما قد نفذ إليه، مما يشبه ما عنده ابقاه الله، في نصرة دين الله، وإحياء سنته، والانتقام ممن ألحد فيه، وأن يضرب الرجل حدا في مجمع الناس حد الشتم، وخمسمائة سوط بعد الحد للأمور العظام التي اجترأ عليها، فان مات القى في الماء من غير صلاة ليكون ذلك ناهيا لكل ملحد في الدين، خارج من جماعة المسلمين، وأعلمتك ذلك لتعرفه إن شاء الله تعالى- والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. وذكر أن عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم هذا- وقد قال بعضهم: إن اسمه أحمد بن محمد بن عاصم- لما ضرب ترك في الشمس حتى مات، ثم رمي به في دجلة. وفي هذه السنة انقضت الكواكب ببغداد وتناثرت، وذلك ليلة الخميس لليلة خلت من جمادى الآخرة وفيها وقع بها الصدام فنفقت الدواب والبقر. وفيها أغارت الروم على عين زربة، فأسرت من كان بها من الزط، مع نسائهم وذراريهم وجواميسهم وبقرهم

خبر الفداء بين المسلمين والروم في هذه السنه وفيها كان الفداء بين المسلمين والروم. ذكر الخبر عن السبب الذي كان ذلك من أجله: ذكر أن تذورة صاحبة الروم أم ميخائيل، وجهت رجلا يقال له جورجس بن قريافس يطلب الفداء لمن في أيدي الروم من المسلمين، وكان المسلمون قد قاربوا عشرين ألفا، فوجه المتوكل رجلا من الشيعة يقال له نصر بن الأزهر بن فرج، ليعرف صحة من في أيدي الروم من أسارى المسلمين، ليأمر بمفاداتهم، وذلك في شعبان من هذه السنة بعد أن أقام عندهم حينا فذكر أن تذورة امرت بعد خروج نصر بعرض من في اسارها من المسلمين على النصرانية، فمن تنصر منهم كان أسوة من تنصر قبل ذلك، ومن ابى قتلته، فذكر أنها قتلت من الأسرى اثني عشر ألفا، ويقال ان قنقله الخصي كان يقتلهم من غير أمرها ونفذ كتاب المتوكل إلى عمال الثغور الشامية والجزرية أن شنيفا الخادم قد جرى بينه وبين جورجس رسول عظيم الروم في أمر الفداء قول، وقد اتفق الأمر بينهما، وسأل جورجس هذا هدنة لخمس ليال تخلو من رجب سنة إحدى وأربعين ومائتين إلى سبع ليال بقين من شوال من هذه السنة، ليجمعوا الأسرى، ولتكون مدة لهم إلى إنصرافهم إلى مأمنهم فنفذ الكتاب بذلك يوم الأربعاء لخمس خلون من رجب، وكان الفداء يقع في يوم الفطر من هذه السنة وخرج جورجس رسول ملكة الروم إلى ناحية الثغور يوم السبت لثمان بقين من رجب على سبعين بغلا اكتريت له، وخرج معه أبو قحطبة المغربي الطرطوسي لينظروا وقت الفطر، وكان جورجس قدم معه جماعة من البطاركة وغلمانه بنحو من خمسين إنسانا، وخرج شنيف الخادم للفداء في النصف من شعبان، معه مائة فارس: ثلاثون من الأتراك، وثلاثون من المغاربة، وأربعون من فرسان الشاكرية، فسأل جعفر بن عبد الواحد- وهو قاضي القضاة- أن يؤذن

ذكر غاره البجه على حرس من ارض مصر

له في حضور الفداء، وأن يستخلف رجلا يقوم مقامه- فأذن له، وأمر له بمائة وخمسين ألفا معونة وأرزاق ستين ألفا، فاستخلف ابن أبي الشوارب- وهو يومئذ فتى حدث السن- وخرج فلحق شنيفا، وخرج أهل بغداد من أوساط الناس، فذكر أن الفداء وقع من بلاد الروم على نهر اللامس، يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال سنة إحدى وأربعين ومائتين، فكان أسرى المسلمين سبعمائة وخمسه وثمانين إنسانا، ومن النساء مائه وخمسا وعشرين امرأة. وفي هذه السنة جعل المتوكل كورة شمشاط عشرا، ونقلهم من الخراج إلى العشر، واخرج لهم بذلك كتابا. ذكر غاره البجه على حرس من ارض مصر وفي هذه السنة غارت البجة على حرس من أرض مصر، فوجه المتوكل لحربهم محمد بن عبد الله القمي ذكر الخبر عن أمرهم وما آلت إليه حالهم: ذكر أن البجة كانت لا تغزو المسلمين ولا يغزوهم المسلمون لهدنة بينهم قديمة، قد ذكرناها فيما مضى قبل من كتابنا هذا، وهم جنس من أجناس الحبش بالمغرب، وبالمغرب من السودان- فيما ذكر- البجة وأهل غانة الغافر وبينور ورعوين والفرويه وبكسوم ومكاره اكرم والنوبه والحبش وفي بلاد البجة معادن ذهب، فهم يقاسمون من يعمل فيها، ويؤدون إلى عمال السلطان في مصر في كل سنة عن معادنهم أربعمائة مثقال تبر قبل أن يطبخ ويصفى فلما كان أيام المتوكل امتنعت البجة عن أداء ذلك الخراج سنين متوالية فذكر أن المتوكل ولى بريد مصر رجلا من خدمه يقال له يعقوب بن إبراهيم الباذغيسي مولى الهادي، وهو المعروف بقوصرة، وجعل إليه بريد مصر والإسكندرية وبرقة ونواحي المغرب، فكتب يعقوب إلى المتوكل أن البجة قد نقضت العهد

الذي كان بينها وبين المسلمين، وخرجت من بلادها إلى معادن الذهب والجوهر، وهي على التخوم فيما بين أرض مصر وبلاد البجة، فقتلوا عدة من المسلمين ممن كان يعمل في المعادن ويستخرج الذهب والجوهر، وسبوا عدة من ذراريهم ونسائهم، وذكروا أن المعادن لهم في بلادهم، وأنهم لا يأذنون للمسلمين في دخولها، وأن ذلك أوحش جميع من كان يعمل في المعادن من المسلمين، فانصرفوا عنها خوفا على أنفسهم وذراريهم فانقطع بذلك ما كان يؤخذ للسلطان بحق الخمس من الذهب والفضة والجوهر الذي يستخرج من المعادن، فاشتد إنكار المتوكل لذلك وأحفظه، وشاور في أمر البجة، فأنهي إليه أنهم قوم أهل بدو وأصحاب إبل وماشية، وأن الوصول إلى بلادهم صعب لا يمكن أن يسلك إليهم الجيوش، لأنها مفاوز وصحاري، وبين أرض الإسلام وبينها مسيره شهر، في ارض قفر وجبال وعر، لا ماء فيها ولا زرع ولا معقل، ولا حصن، وأن من يدخلها من أولياء السلطان يحتاج أن يتزود لجميع المدة التي يتوهم أن يقيمها في بلادهم إلى أن يخرج إلى أرض الإسلام، فإن امتد به المقام حتى يتجاوز تلك المدة هلك وجميع من معه، وأخذتهم البجة بالأيدي دون المحاربة، وأن أرضهم أرض لا ترد على السلطان شيئا من خراج ولا غيره. فأمسك المتوكل عن التوجيه إليهم، وجعل أمرهم يتزيد، وجرأتهم على المسلمين تشتد حتى خاف أهل الصعيد من أرض مصر على أنفسهم وذراريهم منهم، فولى المتوكل محمد بن عبد الله المعروف بالقمي محاربتهم، وولاه معاون تلك الكور- وهي قفط والأقصر وإسنا وأرمنت وأسوان- وتقدم إليه في محاربة البجة، وأن يكاتب عنبسة بن إسحاق الصبى العامل على حرب مصر وكتب إلى عنبسة بإعطائه جميع ما يحتاج إليه من الجند والشاكرية المقيمين بمصر. فأزاح عنبسة علته في ذلك، وخرج إلى أرض البجة، وانضم إليه

جميع من كان يعمل في المعادن وقوم كثير من المتطوعة، فكانت عدة من معه نحوا من عشرين ألف إنسان، بين فارس وراجل، ووجه إلى القلزم، فحمل في البحر سبعة مراكب موقرة بالدقيق والزيت والتمر والسويق والشعير، وأمر قوما من أصحابه أن يلججوا بها في البحر حتى يوافوه في ساحل البحر من أرض البجة، فلم يزل محمد بن عبد الله القمي يسير في أرض البجة حتى جاوز المعادن التي يعمل فيها الذهب، وصار إلى حصونهم وقلاعهم، وخرج إليه ملكهم- واسمه علي بابا واسم ابنه لعيس- في جيش كثير وعدد أضعاف من كان مع القمي من الناس، وكانت البجة على إبلهم ومعهم الحراب وإبلهم فرة تشبه بالمهاري في النجابة، فجعلوا يلتقون أياما متوالية، فيتناوشون ولا يصححون المحاربة، وجعل ملك البجة يتطارد للقمي لكي تطول الأيام طمعا في نفاد الزاد والعلوفة التي معهم، فلا يكون لهم قوة، ويموتون هزلا، فيأخذهم البجة بالأيدي. فلما توهم عظيم البجة أن الأزواد قد نفدت، أقبلت السبع المراكب التي حملها القمي حتى خرجت إلى ساحل من سواحل البحر في موضع يعرف بصنجة، فوجه القمي إلى هنالك جماعة من أصحابه يحمون المراكب من البجة، وفرق ما كان فيها على اصحابه، فاتسعوا في الزاد والعلوفة، فلما رأى ذلك علي بابا رئيس البجة قصد لمحاربتهم، وجمع لهم، والتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا، وكانت الإبل التي يحاربون عليها إبلا زعرة، تكثر الفزع والرعب من كل شيء، فلما رأى ذلك القمي جمع أجراس الإبل والخيل التي كانت في عسكره كلها، فجعلها في أعناق الخيل، ثم حمل على البجة، فنفرت إبلهم لأصوات الأجراس، واشتد رعبها، فحملتهم على الجبال والأودية، فمزقتهم كل ممزق، واتبعهم القمي بأصحابه، فأخذهم قتلا وأسرا حتى أدركه الليل، وذلك في أول سنة احدى واربعين، ثم رجع إلى معسكره ولم يقدر على إحصاء القتلى لكثرتهم، فلما أصبح القمي وجدهم قد جمعوا جمعا من الرجالة، ثم صاروا إلى موضع أمنوا فيه طلب القمي، فوافاهم القمي في

الليل في خيله، فهرب ملكهم، فأخذ تاجه ومتاعه، ثم طلب علي بابا الأمان على أن يرد إلى مملكته وبلاده، فأعطاه القمي ذلك، فأدى إليه الخراج للمدة التي كان منعها- وهي اربع سنين- لكل سنه أربعمائة مثقال، واستخلف علي بابا على مملكته ابنه لعيس، وانصرف القمي بعلي بابا إلى باب المتوكل، فوصل إليه في آخر سنة إحدى وأربعين ومائتين، فكسا علي بابا هذا دراعة ديباج وعمامة سوداء، وكسا جمله رحلا مدبجا وجلال ديباج، ووقف بباب العامة مع قوم من البجة نحو من سبعين غلاما على الإبل بالرحال، ومعهم الحراب في رءوس حرابهم رءوس القوم الذين قتلوا من عسكرهم، قتلهم القمي فأمر المتوكل أن يقبضوا من القمي يوم الأضحى من سنة إحدى وأربعين ومائتين وولى المتوكل البجة وطريق ما بين مصر ومكة سعدا الخادم الإيتاخي، فولى سعد محمد بن عبد الله القمي، فخرج القمي بعلي بابا، وهو مقيم على دينه، فذكر بعضهم أنه رأى معه صنما من حجارة كهيئة الصبي يسجد له. ومات في هذه السنة يعقوب بن إبراهيم المعروف بقوصرة في جمادى الآخرة. وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن محمد بن داود، وحج جعفر بن دينار فيها، وهو والي طريق مكة واحداث الموسم.

سنه اثنتين واربعين ومائتين

ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر احداث الزلازل بالبلاد فمما كان فيها من ذلك الزلازل الهائلة التي كانت بقومس ورساتيقها في شعبان، فتهدمت فيها الدور، ومات من الناس بها مما سقط عليهم من الحيطان وغيرها بشر كثير، ذكر أنه بلغت عدتهم خمسة وأربعين ألفا وستة وتسعين نفسا، وكان عظم ذلك بالدامغان وذكر أنه كان بفارس وخراسان والشام في هذه السنة زلازل وأصوات منكرة، وكان باليمن أيضا مثل ذلك مع خسف بها. ذكر خروج الروم من ناحيه شمشاط وفيها خرجت الروم من ناحية شمشاط بعد خروج علي بن يحيى الأرمني من الصائفة حتى قاربوا آمد، ثم خرجوا من الثغور الجزرية، فانتهبوا عدة قرى، وأسروا نحوا من عشرة آلاف إنسان، وكان دخولهم من ناحية أبريق، قرية قربياس، ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم، فخرج قربياس وعمر بن عبد الله الأقطع وقوم من المتطوعة في أثرهم، فلم يلحقوا منهم أحدا، فكتب إلى علي بن يحيى أن يسير إلى بلادهم شاتيا. وفيها قتل المتوكل عطاردا- رجلا كان نصرانيا فأسلم- فمكث مسلما

سنين كثيرة ثم ارتد فاستتيب، فأبى الرجوع إلى الإسلام، فضربت عنقه لليلتين خلتا من شوال، وأحرق بباب العامة. وفي هذه السنة مات أبو حسان الزيادي قاضي الشرقية في رجب. وفيها مات الحسن بن علي بن الجعد قاضي مدينة المنصور. وحج بالناس فيها عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام بن محمد بن علي، وهو والي مكة. وحج فيها جعفر بن دينار وهو والي طريق مكة وأحداث الموسم.

سنه ثلاث واربعين ومائتين

ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففيها كان شخوص المتوكل إلى دمشق لعشر بقين من ذي القعدة، فضحى ببلد، فقال يزيد بن محمد المهلبي حين خرج: أظن الشام تشمت بالعراق ... إذا عزم الإمام على انطلاق فإن تدع العراق وساكنيها ... فقد تبلى المليحة بالطلاق وفيها مات إبراهيم بن العباس، فولي ديوان الضياع الحسن بن مخلد بن الجراح، خليفة إبراهيم في شعبان، ومات هاشم بن بنجور في ذي الحجة. وحج بالناس فيها عبد الصمد بن موسى. وحج جعفر بن دينار، وهو والي طريق مكة وأحداث الموسم.

سنه اربع واربعين ومائتين

ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك دخول المتوكل دمشق في صفر، وكان من لدن شخص من سامرا إلى أن دخلها سبعة وتسعون يوما- وقيل سبعة وسبعون يوما- وعزم على المقام بها، ونقل دواوين الملك إليها، وأمر بالبناء بها فتحرك الأتراك في أرزاقهم وأرزاق عيالاتهم، فأمر لهم بما أرضاهم به ثم استوبأ البلد، وذلك أن الهواء بها بارد ندي والماء ثقيل، والريح تهب فيها مع العصر، فلا تزال تشتد حتى يمضي عامة الليل، وهي كثيرة البراغيث، وغلت فيها الأسعار، وحال الثلج بين السابلة والميرة. وفيها وجه المتوكل بغا من دمشق لغزو الروم في شهر ربيع الآخر، فغزا الصائفة فافتتح صملة، وأقام المتوكل بدمشق شهرين وأياما، ثم رجع إلى سامرا، فأخذ في منصرفه على الفرات، ثم عدل إلى الأنبار، ثم عدل من الأنبار على طريق الحرف إليها، فدخلها يوم الاثنين لسبع بقين من جمادى الآخرة. وفيها عقد المتوكل لأبي الساج على طريق مكة مكان جعفر بن دينار- فيما زعم بعضهم- والصواب عندي أنه عقد له على طريق مكة في سنة ثنتين وأربعين ومائتين. وفيها أتي المتوكل- فيما ذكر- بحربة كانت للنبي ص تسمى العنزة، ذكر أنها كانت للنجاشي ملك الحبشة، فوهبها للزبير بن العوام، فأهداها الزبير لرسول الله ص، فكانت عند المؤذنين، وكان يمشى بها بين يدي رسول الله ص في العيدين، وكانت

تركز بين يديه في الفناء فيصلي إليها فأمر المتوكل بحملها بين يديه، فكان يحملها بين يديه صاحب الشرطة، ويحمل حربته خليفة صاحب الشرطة. وفيها غضب المتوكل على بختيشوع، وقبض ماله، ونفاه إلى البحرين، فقال أعرابي: يا سخطة جاءت على مقدار ... ثار له الليث على اقتدار منه وبختيشوع في اغترار ... لما سعى بالسادة الأقمار بالأمراء القادة الأبرار ... ولاة عهد السيد المختار وبالموالي وبني الأحرار ... رمى به في موحش القفار بساحل البحرين للصغار. وفي هذه السنة اتفق عيد المسلمين الأضحى وشعانين النصارى وعيد الفطر لليهود. وحج بالناس فيها عبد الصمد بن موسى.

سنه خمس واربعين ومائتين

ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر خبر بناء الماحوزه ففيها أمر المتوكل ببناء الماحوزة، وسماها الجعفري، وأقطع القواد وأصحابه فيها، وجد في بنائها، وتحول إلى المحمدية ليتم أمر الماحوزة، وأمر بنقض القصر المختار والبديع، وحمل ساجهما إلى الجعفري، وأنفق عليها- فيما قيل- أكثر من ألفي ألف دينار، وجمع فيها القراء فقرءوا، وحضر أصحاب الملاهي فوهب لهم ألفي ألف درهم، وكان يسميها هو وأصحابه الخاصة المتوكلية، وبنى فيها قصرا سماه لؤلؤة، لم ير مثله في علوه، وأمر بحفر نهر يأخذ رأسه خمسة فراسخ فوق الماحوزة من موضع يقال له كرمى يكون شربا لما حولها من فوهه النهر إليها، وأمر بأخذ جبلتا والخصاصة العليا والسفلى وكرمى، وحمل أهلها على بيع منازلهم وأرضهم، فأجبروا على ذلك حتى تكون الأرض والمنازل في تلك القرى كلها له، ويخرجهم عنها، وقدر للنهر من النفقة مائتي ألف دينار، وصير النفقة عليه إلى دليل بن يعقوب النصراني كاتب بغا في ذي الحجة من سنة خمس وأربعين ومائتين، وألقى في حفر النهر اثني عشر ألف رجل يعملون فيه، فلم يزل دليل يعتمل فيه، ويحمل المال بعد المال ويقسم عامته في الكتاب، حتى قتل المتوكل، فبطل النهر، وأخربت الجعفرية، ونقضت ولم يتم أمر النهر. وزلزلت في هذه السنة بلاد المغرب حتى تهدمت الحصون والمنازل والقناطر، فأمر المتوكل بتفرقة ثلاثة آلاف درهم في الذين أصيبوا بمنازلهم، وزلزل عسكر

المهدي ببغداد فيها، وزلزلت المدائن وبعث ملك الروم فيها بأسرى من المسلمين، وبعث يسأل المفاداة بمن عنده، وكان الذي قدم من قبل صاحب الروم رسولا إلى المتوكل شيخا يدعى اطروبيليس معه سبعة وسبعون رجلا من أسرى المسلمين، اهداهم ميخائيل ابن توفيل ملك الروم إلى المتوكل، وكان قدومه عليه لخمس بقين من صفر من هذه السنة، فأنزل على شنيف الخادم ثم وجه المتوكل نصر بن الأزهر الشيعي مع رسول صاحب الروم، فشخص في هذه السنة، ولم يقع الفداء إلا في سنة ست وأربعين. وذكر أنه كانت في هذه السنة بأنطاكية زلزلة ورجفة في شوال، قتلت خلقا كثيرا، وسقط منها الف وخمسمائة دار، وسقط من سورها نيف وتسعون برجا، وسمعوا أصواتا هائلة لا يحسنون وصفها من كوي المنازل، وهرب أهلها إلى الصحارى، وتقطع جبلها الأقرع، وسقط في البحر، فهاج البحر في ذلك اليوم، وارتفع منه دخان أسود مظلم منتن، وغار منها نهر على فرسخ لا يدرى أين ذهب وسمع فيها- فيما قيل- أهل تنيس في مصر ضجة دائمة هائلة، فمات منها خلق كثير وفيها زلزلت بالس والرقة وحران ورأس عين وحمص ودمشق والرها وطرسوس والمصيصة واذنه وسواحل الشام ورجفت اللاذقية، فما بقي منها منزل، ولا أفلت من أهلها إلا اليسير، وذهبت جبلة بأهلها وفيها غارت مشاش- عين مكة- حتى بلغ ثمن القربة بمكة ثمانين درهما، فبعثت أم المتوكل فانفقت عليها. وفيها مات إسحاق بن أبي إسرائيل وسوار بن عبد الله وهلال الرازى.

ذكر الخبر عن هلاك نجاح بن سلمه

ذكر الخبر عن هلاك نجاح بن سلمه وفيها هلك نجاح بن سلمة. ذكر الخبر عن سبب هلاكه: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بن أبي أسامة ببعض ما أنا ذاكره من أخباره وببعض ذلك غيره، أن نجاح بن سلمة كان على ديوان التوقيع والتتبع على العمال، وكان قبل ذلك كاتب إبراهيم بن رباح الجوهري، وكان على الضياع، فكان جميع العمال يتقونه ويقضون حوائجه، ولا يقدرون على منعه من شيء يريده، وكان المتوكل ربما نادمه، وكان انقطاع الحسن بن مخلد وموسى بن عبد الملك إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان وهو وزير المتوكل، وكانا يحملان إليه كل ما يأمرهما به، وكان الحسن بن مخلد على ديوان الضياع، وموسى على ديوان الخراج، فكتب نجاح بن سلمة رقعة إلى المتوكل في الحسن وموسى يذكر أنهما قد خانا وقصرا فيما هما بسبيله، وأنه يستخرج منهما أربعين ألف ألف درهم، فأدناه المتوكل وشاربه تلك العشية، وقال: يا نجاح، خذل الله من يخذلك، فبكر إلي غدا حتى أدفعهما إليك، فغدا وقد رتب أصحابه، وقال: يا فلان خذ أنت الحسن، ويا فلان خذ أنت موسى، فغدا نجاح إلى المتوكل، فلقي عبيد الله، وقد أمر عبيد الله أن يحجب نجاح عن المتوكل، فقال له: يا أبا الفضل، انصرف حتى ننظر وتنظر في هذا الأمر، وأنا أشير عليك بأمر لك فيه صلاح، قال: وما هو؟ قال: أصلح بينك وبينهما، وتكتب رقعة تذكر فيها أنك كنت شاربا، وأنك تكلمت بأشياء تحتاج إلى معاودة النظر فيها، وأنا أصلح الأمر عند أمير المؤمنين، فلم يزل يخدعه حتى كتب رقعة بما أمره به، فأدخلها على المتوكل، وقال: يا أمير المؤمنين قد رجع نجاح عما قال البارحة، وهذه رقعة موسى والحسن يتقبلان به بما كتبا، فتأخذ ما ضمنا عنه، ثم تعطف عليهما، فتأخذ منهما قريبا مما ضمن لك عنهما. فسر المتوكل، وطمع فيما قال له عبيد الله، فقال: ادفعه إليهما،

فانصرفا به، وامرا بأخذ قلنسوته عن رأسه وكانت خزا، فوجد البرد، فقال: ويحك يا حسن! قد وجدت البرد، فأمر بوضع قلنسوته على رأسه، وصار به موسى إلى ديوان الخراج، ووجها إلى ابنيه أبي الفرج وأبي محمد، فأخذ أبو الفرج وهرب أبو محمد، ابن بنت حسن بن شنيف، وأخذ كاتبه إسحاق بن سعد بن مسعود القطر بلى وعبد الله بن مخلد المعروف بابن البواب- وكان انقطاعه إلى نجاح- فأقر لهما نجاح وابنه بنحو من مائة وأربعين ألف دينار سوى قيمة قصورهما وفرشهما ومستغلاتهما بسامرا وبغداد، وسوى ضياع لهما كثيرة، فأمر بقبض ذلك كله، وضرب مرارا بالمقارع في غير موضع الضرب نحوا من مائتي مقرعة، وغمز وخنق، خنقه موسى الفرانق والمعلوف. فأما الحارث فإنه قال: عصر خصيتيه حتى مات، فأصبح ميتا يوم الاثنين لثمان بقين من ذي القعدة من هذه السنة، فأمر بغسله ودفنه، فدفن ليلا، وضرب ابنه محمد وعبد الله بن مخلد وإسحاق بن سعد نحوا من خمسين خمسين، فأقر إسحاق بخمسين ألف دينار، وأقر عبد الله بن مخلد بخمسة عشر ألف دينار. وقيل عشرين ألف دينار وكان ابنه احمد بن بنت حسن قد هرب فظفر به بعد موت نجاح، فحبس في الديوان، وأخذ جميع ما في دار نجاح وابنه أبي الفرج من متاع، وقبضت دورهما وضياعهما حيث كانت وأخرجت عيالهما، وأخذ وكيله بناحية السواد، وهو ابن عياش، فأقر بعشرين ألف دينار، وبعث إلى مكة في طلب الحسن بن سهل بن نوح الأهوازي وحسن بن يعقوب البغدادي، وأخذ بسببه قوم فحبسوا. وقد ذكر في سبب هلاكه غير ما قد ذكرناه، ذكر أنه كان يضاد عبيد الله بن يحيى بن خاقان- وكان عبيد الله متمكنا من المتوكل، وإليه الوزارة وعامة أعماله، وإلى نجاح توقيع العامة- فلما عزم المتوكل على بناء الجعفري قال له نجاح- وكان في الندماء- يا أمير المؤمنين، أسمي

لك قوما تدفعهم إلي حتى أستخرج لك منهم أموالا تبني بها مدينتك هذه، أنه يلزمك من الأموال في بنائها ما يعظم قدره، ويجل ذكره فقال له: سمهم، فرفع رقعة يذكر فيها موسى بن عبد الملك وعيسى بن فرخان شاه خليفة الحسن بن مخلد، والحسن بن مخلد وزيدان بن إبراهيم، خليفة موسى بن عبد الملك، وعبيد الله بن يحيى وأخويه: عبد الله بن يحيى وزكرياء وميمون بن إبراهيم ومحمد بن موسى المنجم وأخاه أحمد بن موسى، وعلي بن يحيى بن أبي منصور وجعفرا المعلوف مستخرج ديوان الخراج وغيرهم نحوا من عشرين رجلا، فوقع ذلك من المتوكل موقعا أعجبه، وقال له: اغد غدوة، فلما أصبح لم يشك في ذلك وناظر عبيد الله بن يحيى المتوكل، فقال له: يا أمير المؤمنين، أراد ألا يدع كاتبا ولا قائدا إلا أوقع بهم، فمن يقوم بالأعمال يا أمير المؤمنين! وغدا نجاح، فأجلسه عبيد الله في مجلسه، ولم يؤذن له، وأحضر موسى بن عبد الملك والحسن بن مخلد، فقال لهما عبيد الله: أنه إن دخل إلي أمير المؤمنين دفعكما إليه فقتلكما وأخذ ما تملكان، ولكن اكتبان إلى أمير المؤمنين رقعة تقبلان به فيها بألفي ألف دينار، فكتبا رقعه بخطوطهما، وأوصلها عبيد الله ابن يحيى، وجعل يختلف بين أمير المؤمنين ونجاح وموسى بن عبد الملك والحسن ابن مخلد، فلم يزل يدخل ويخرج ويعين موسى والحسن، ثم أدخلهما على المتوكل، فضمنا ذلك، وخرج معهما فدفعه إليهما جميعا، والناس جميعا الخواص والعوام، وهما لا يشكان أنهما وعبيد الله بن يحيى مدفوعون إلى نجاح، للكلام الذي دار بينه وبين المتوكل، فأخذاه، وتولى تعذيبه موسى بن عبد الملك، فحبسه في ديوان الخراج بسامرا، وضربه دررا وأمر المتوكل بكاتبه إسحاق ابن سعد- وكان يتولى خاص أموره وأمر ضياع بعض الولد- أن يغرم واحدا وخمسين ألف دينار، وحلف على ذلك، وقال: أنه أخذ مني في أيام الواثق وهو يخلف عن عمر بن فرج خمسين دينارا، حتى أطلق أرزاقي، فخذوا لكل دينار ألفا وزيادة ألف فضلا كما أخذ فضلا فحبس ونجم عليه في ثلاثة

أنجم، ولم يطلق حتى أدى تعجيل سبعة عشر ألف دينار، وأطلق بعد أن أخذ منه كفلاء بالباقي، وأخذ عبد الله بن مخلد، فأغرم سبعة عشر ألف دينار ووجه عبيد الله الحسين بن إسماعيل- وكان أحد حجاب المتوكل- وعتاب ابن عتاب عن رسالة المتوكل أن يضرب نجاح خمسين مقرعة إن هو لم يقر ويؤد ما وصف عليه، فضربه ثم عاوده في اليوم الثاني بمثل ذلك، ثم عاوده في اليوم الثالث بمثل ذلك، فقال: أبلغ أمير المؤمنين انى ميت وامر موسى ابن عبد الملك جعفرا المعلوف ومعه عونان من أعوان ديوان الخراج، فعصروا مذاكيره حتى برد فمات وأصبح فركب إلى المتوكل فأخبره بما حدث من وفاة نجاح، فقال لهما المتوكل: انى اريد مالي الذى ضمنتاه، فاحتالاه، فقبضا من أمواله وأموال ولده جملة، وحبسا أبا الفرج- وكان على ديوان زمام الضياع من قبل أبي صالح بن يزداد- وقبضا أمتعته كلها وجميع ملكه، وكتبا على ضياعه لأمير المؤمنين، وأخذا ما أخذا من أصحابه، فكان المتوكل كثيرا ما يقول لهما كلما شرب: ردوا على كاتبي، وإلا فهاتوا المال، وضم توقيع ديوان العامة إلى عبيد الله بن يحيى، فاستخلف عليه يحيى بن عبد الرحمن بن خاقان، ابن عمه، ومكث موسى بن عبد الملك والحسن بن مخلد على ذلك يطالبهما المتوكل بالأموال التي ضمناها من قبل نجاح، فما أتى على ذلك الا يسيرا حتى ركب موسى بن عبد الملك يشيع المنتصر من الجعفري، وهو يريد سامرا إلى منزله الذي ينزله بالجوسق، فبلغه معه ساعة، ثم انصرف راجعا، فبينا هو يسير إذ صاح بمن معه خذوني، فبدروه فسقط على أيديهم مفلوجا، فحمل إلى منزله، فمكث يومه وليلته، ثم توفي، فصير على ديوان الخراج أيضا عبيد الله ابن يحيى بن خاقان، فاستخلف عليه أحمد بن إسرائيل كاتب المعتز، وكان أيضا خليفته على كتابة المعتز فقال القصافي: ما كان يخشى نجاح صولة الزمن ... حتى أديل لموسى منه والحسن غدا على نعم لاحرار يسلبها ... فراح وهو سليب المال والبدن

غاره الروم على سميساط

وفيها ضرب بختيشوع المتطبب مائة وخمسين مقرعة، وأثقل بالحديد، وحبس في المطبق في رجب . غاره الروم على سميساط وفيها أغارت الروم على سميساط، فقتلوا وسبوا نحوا من خمسمائة وغزا علي بن يحيى الأرمني الصائفة ومنع أهل لؤلؤة رئيسهم من الصعود إليها ثلاثين يوما، فبعث ملك الروم إليهم بطريقا يضمن لكل رجل منهم ألف دينار، على أن يسلموا إليه لؤلؤة، فأصعدوه إليهم ثم أعطوا أرزاقهم الفائتة وما أرادوا، فسلموا لؤلؤة والبطريق إلى بلكاجور في ذي الحجة، وكان البطريق الذي كان صاحب الروم وجهه إليهم يقال له لغثيط، فلما دفعه أهل لؤلؤة إلى بلكاجور وقيل: إن علي بن يحيى الأرمني حمله إلى المتوكل إلى الفتح بن خاقان، فعرض عليه الإسلام فأبى، فقالوا: نقتلك، فقال: أنتم أعلم، وكتب ملك الروم يبذل مكانه ألف رجل من المسلمين. وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن سليمان بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم الإمام، وهو يعرف بالزينبي، وهو والي مكة. وكان نيروز المتوكل الذي أرفق أهل الخراج بتأخيره إياه عنهم فيها يوم السبت لإحدى عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، ولسبع عشرة ليلة خلت من حزيران ولثمان وعشرين من أرديوهشت ماه، فقال البحتري الطائي: إن يوم النيروز عاد إلى العهد ... الذي كان سنه أردشير.

سنه ست واربعين ومائتين

ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائتين ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث فمن ذلك غزو عمر بن عبد الله الأقطع الصائفة، فأخرج سبعة آلاف رأس وغزوة قربياس، فأخرج خمسة آلاف رأس، وغزو الفضل بن قارن بحرا في عشرين مركبا، فافتتح حصن انطاليه وغزوة بلكاجور فغنم وسبى. وغزو علي بن يحيى الأرمني الصائفة، فأخرج خمسة آلاف رأس ومن الدواب والرمك والحمير نحوا من عشرة آلاف وفيها تحول المتوكل إلى المدينة التي بناها الماحوزه، فنزلها يوم عاشوراء من هذه السنه. ذكر خبر الفداء بين الروم والمسلمين في هذه السنة وفيها كان الفداء في صفر على يدي علي بن يحيى الأرمني، ففودي بألفين وثلاثمائة وسبعة وستين نفسا وقال بعضهم: لم يتم الفداء في هذه السنة إلا في جمادى الأولى. وذكر عن نصر بن الأزهر الشيعي- وكان رسول المتوكل إلى ملك الروم في أمر الفداء- أنه قال: لما صرت إلى القسطنطينية حضرت دار ميخائيل الملك بسوادي وسيفي وخنجري وقلنسوتي، فجرت بيني وبين خال الملك بطرناس المناظرة- وهو القيم بشأن الملك- وأبوا أن يدخلوني بسيفي وسوادي، فقلت: أنصرف، فانصرفت فرددت من الطريق ومعي الهدايا نحو من ألف نافجة مسك وثياب حرير وزعفران كثير وطرائف، وقد كان أذن لوفود برجان وغيرهم ممن ورد عليه، وحملت الهدايا التي معي، فدخلت عليه، فإذا هو على

سرير فوق سرير، وإذا البطارقة حوله قيام، فسلمت ثم جلست على طرف السرير الكبير، وقد هيئ لي مجلس، ووضعت الهدايا بين يديه، وبين يديه ثلاثة تراجمة: غلام فراش كان لمسرور الخادم، وغلام لعباس بن سعيد الجوهري، وترجمان له قديم يقال له سرحون، فقالوا لي: ما نبلغه؟ قلت: لا تزيدون على ما أقول لكم شيئا، فأقبلوا يترجمون ما أقول، فقبل الهدايا ولم يأمر لأحد منها بشيء، وقربني وأكرمني، وهيأ لي منزلا بقربه، فخرجت فنزلت في منزلي، وأتاه أهل لؤلؤة برغبتهم في النصرانية، وأنهم معه، ووجهوا برجلين ممن فيها رهينة من المسلمين. قال: فتغافل عني نحوا من أربعة أشهر، حتى أتاه كتاب مخالفة أهل لؤلؤة، وأخذهم رسله واستيلاء العرب عليها، فراجعوا مخاطبتي، وانقطع الأمر بيني وبينهم في الفداء، على أن يعطوا جميع من عندهم وأعطي جميع من عندي، وكانوا أكثر من ألف قليلا، وكان جميع الأسرى الذين في أيديهم أكثر من ألفين، منهم عشرون امرأة، معهن عشرة من الصبيان، فأجابوني إلى المخالفة، فاستحلفت خاله، فحلف عن ميخائيل، فقلت: أيها الملك قد حلف لي خالك، فهذه اليمين لازمة لك؟ فقال برأسه: نعم، ولم اسمعه يتكلم بكلمة منذ دخلت بلاد الروم إلى أن خرجت منها، إنما يقول الترجمان وهو يسمع، فيقول برأسه: نعم أو لا، وليس يتكلم وخاله المدبر أمره، ثم خرجت من عنده بالأسرى بأحسن حال، حتى إذا جئنا موضع الفداء أطلقنا هؤلاء جملة وهؤلاء جملة، وكان عداد من صار في أيدينا من المسلمين أكثر من ألفين منهم عدة ممن كان تنصر وصار في أيديهم أكثر من ألف قليلا، وكان قوم تنصروا، فقال لهم ملك الروم: لا أقبل منكم حتى تبلغوا موضع الفداء، فمن أراد أن أقبله في النصرانية فليرجع من موضع الفداء، وإلا فليضمن ويمض مع أصحابه، وأكثر من تنصر أهل المغرب، وأكثر من تنصر بالقسطنطينية، وكان هنالك صائغان قد تنصرا، فكانا يحسنان إلى الأسرى، فلم يبق في بلاد الروم من المسلمين ممن ظهر عليه الملك إلا سبعة نفر، خمسة أتي بهم من سقلية، أعطيت فداءهم على أن يوجه بهم الى سقليه، ورجلان كانا من رهائن لؤلؤة،

فتركتهما، وقلت: اقتلوهما، فإنهما رغبا في النصرانية. ومطر أهل بغداد في هذه السنة واحدا وعشرين يوما في شعبان ورمضان، حتى نبت العشب فوق الأجاجير. وصلى المتوكل فيها صلاة الفطر بالجعفرية، وصلى عبد الصمد بن موسى في مسجد جامعها، ولم يصل بسامرا أحد. وورد فيها الخبر أن سكة بناحية بلخ تنسب إلى الدهاقين مطرت دما عبيطا. وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن سليمان الزينبي. وحج فيها محمد بن عبد الله بن طاهر، فولي أعمال الموسم. وضحى أهل سامرا فيها يوم الاثنين على الرؤية وأهل مكة يوم الثلاثاء.

سنه سبع واربعين ومائتين

ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر الخبر عن مقتل المتوكل فمما كان فيها من ذلك مقتل المتوكل. ذكر الخبر عن سبب مقتله وكيف قتل: قال أبو جعفر: ذكر لي أن سبب ذلك كان أن المتوكل كان أمر بإنشاء الكتب بقبض ضياع وصيف بأصبهان والجبل وإقطاعها الفتح بن خاقان، فكتبت الكتب بذلك، وصارت الى الخاتم على ان تنفذ يوم الخميس لخمس خلون من شعبان، فبلغ ذلك وصيفا، واستقر عنده الذي أمر به في أمره، وكان المتوكل أراد أن يصلي بالناس يوم الجمعة في شهر رمضان في آخر جمعة منه، وكان قد شاع في الناس في أول رمضان أن أمير المؤمنين يصلى في آخر جمعه من الشهر بالناس، فاجتمع الناس لذلك واحتشدوا، وخرج بنو هاشم من بغداد لرفع القصص وكلامه إذا هو ركب فلما كان يوم الجمعة أراد الركوب للصلاة، فقال له عبيد الله بن يحيى والفتح بن خاقان: يا أمير المؤمنين، إن الناس قد اجتمعوا وكثروا، من اهل بيتك وغيرهم، وبعض متظلم وبعض طالب حاجة، وأمير المؤمنين يشكو ضيق الصدر ووعكة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بعض ولاة العهود بالصلاة، ونكون معه جميعا فليفعل فقال: قد رأيت ما رأيتما، فأمر المنتصر بالصلاة، فلما نهض المنتصر ليركب للصلاة قالا: يا أمير المؤمنين، قد رأينا رأيا، وأمير المؤمنين أعلى عينا، قال: وما هو؟ اعرضاه علي، قالا: يا أمير المؤمنين، مر أبا عبد الله المعتز بالله الصلاة

لتشرفه بذلك في هذا اليوم الشريف، فقد اجتمع أهل بيته، والناس جميعا فقد بلغ الله به. قال: وقد كان ولد للمعتز قبل ذلك بيوم، فأمر المعتز، فركب وصلى بالناس، فأقام المنتصر في منزله- وكان بالجعفرية- وكان ذلك مما زاد في اغرائه به، فلما فرغ المعتز من خطبته قام إليه عبيد الله بن يحيى والفتح بن خاقان، فقبلا يديه ورجليه، وفرغ المعتز من الصلاة، فانصرف وانصرفا معه، ومعهم الناس في موكب الخلافة، والعالم بين يديه، حتى دخل على أبيه وهما معه، ودخل معه داود بن محمد بن أبي العباس الطوسي، فقال داود: يا أمير المؤمنين، ائذن لي فأتكلم، قال: قل، فقال: والله يا أمير المؤمنين، لقد رايت الامين والمأمون ورايت المعتصم صلوات الله عليهم، ورايت الواثق بالله، فو الله ما رأيت رجلا على منبر أحسن قواما، ولا أحسن بديها، ولا أجهر صوتا، ولا أعذب لسانا، ولا أخطب من المعتز بالله، أعزه الله يا أمير المؤمنين ببقائك، وأمتعك الله وإيانا بحياته! فقال له المتوكل: أسمعك الله خيرا، وأمتعنا بك، فلما كان يوم الأحد، وذلك يوم الفطر وجد المتوكل فترة، فقال: مروا المنتصر فليصل بالناس، فقال له عبيد الله بن يحيى بن خاقان: يا أمير المؤمنين، قد كان الناس تطلعوا إلى رؤية أمير المؤمنين في يوم الجمعة فاجتمعوا واحتشدوا، فلم يركب أمير المؤمنين، ولا نأمن إن هو لم يركب أن يرجف الناس بعلته، ويتكلموا في أمره، فإن رأى أمير المؤمنين أن يسر الأولياء ويكبت الأعداء بركوبه فعل فأمرهم بالتأهب والتهيؤ لركوبه، فركب فصلى بالناس وانصرف إلى منزله، فأقام يومه ذلك ومن الغد لم يدع بأحد من ندمائه. وذكر أنه ركب يوم الفطر، وقد ضربت له المصاف نحوا من أربعة أميال، وترجل الناس بين يديه، فصلى بالناس، ورجع إلى قصره، فأخذ حفنة من تراب، فوضعها على رأسه، فقيل له في ذلك، فقال: إني رايت

كثرة هذا الجمع، ورأيتهم تحت يدي، فأحببت أن أتواضع لله عز وجل، فلما كان من غد يوم الفطر لم يدع بأحد من ندمائه، فلما كان اليوم الثالث وهو يوم الثلاثاء لثلاث خلون من شوال- أصبح نشيطا فرحا مسرورا، فقال: كأني أجد مس الدم، فقال الطيفوري وابن الأبرش- وهما طبيباه: يا أمير المؤمنين، عزم الله لك على الخير، افعل، ففعل، واشتهى لحم جزور، فأمر به فأحضر بين يديه، فاتخذه بيده. وذكر عن ابن الحفصي المغني أنه كان حاضر المجلس، قال ابن الحفصي: وما كان احد ممن يأكل بين يديه حاضرا غيري وغير عثعث وزنام وبنان غلام أحمد بن يحيى بن معاذ، فإنه جاء مع المنتصر قال: وكان المتوكل والفتح بن خاقان يأكلان معا، ونحن في ناحية بإزائهم والندماء مفترقون في حجرهم، لم يدع بأحد منهم بعد قال ابن الحفصي: فالتفت إلي أمير المؤمنين، فقال: كل أنت وعثعث بين يدي ويأكل معكما نصر بن سعيد الجهبذ، قال: فقلت: يا سيدي، نصر والله يأكلني، فكيف ما يوضع بين أيدينا! فقال: كلوا بحياتي، فأكلنا ثم علقنا أيدينا بحذائه قال: فالتفت أمير المؤمنين التفاتة، فنظر إلينا معلقي الأيدي، فقال: ما لكم لا تأكلون؟ قلت: يا سيدي، قد نفد ما بين أيدينا، فأمر أن يزاد، فغرف لنا من بين يديه. قال ابن الحفصي: ولم يكن أمير المؤمنين في يوم من الأيام أسر منه في ذلك اليوم قال: وأخذ مجلسه، ودعا بالندماء والمغنين فحضروا، وأهدت إليه قبيحة أم المعتز مطرف خز أخضر، لم ير الناس مثله حسنا، فنظر إليه فأطال النظر، فاستحسنه وكثر تعجبه منه، وأمر به فقطع نصفين، وأمر برده عليها، ثم قال لرسولها: أذكرتني به، ثم قال: والله إن نفسي لتحدثني أني لا ألبسه، وما أحب أن يلبسه أحد بعدي، وإنما أمرت بشقه لئلا يلبسه أحد بعدي، فقلنا له: يا سيدنا، هذا يوم سرور

يا أمير المؤمنين نعيذك بالله أن تقول هذا يا سيدنا، قال: وأخذ في الشراب واللهو، ولهج بان يقول: أنا والله مفارقكم عن قليل، قال: فلم يزل في لهوه وسروره إلى الليل. وذكر بعضهم أن المتوكل عزم هو والفتح أن يصيرا غداءهما عند عبد الله ابن عمر البازيار يوم الخميس لخمس ليال خلون من شوال، على أن يفتك بالمنتصر، ويقتل وصيفا وبغا وغيرهما من قواد الأتراك ووجوههم، فكثر عبثه يوم الثلاثاء قبل ذلك بيوم- فيما ذكر ابن الحفصي- بابنه المنتصر مرة يشتمه، ومرة يسقيه فوق طاقته، ومرة يأمر بصفعه، ومرة يتهدده بالقتل. فذكر عن هارون بن محمد بن سليمان الهاشمي أنه قال: حدثني بعض من كان في الستارة من النساء، أنه التفت إلى الفتح، فقال له: برئت من الله ومن قرابتي من رسول الله ص إن لم تلطمه- يعني المنتصر- فقام الفتح ولطمه مرتين، يمر يده على قفاه، ثم قال المتوكل لمن حضر: اشهدوا جميعا أني قد خلعت المستعجل- المنتصر- ثم التفت إليه، فقال: سميتك المنتصر، فسماك الناس لحمقك المنتظر، ثم صرت الآن المستعجل، فقال المنتصر: يا أمير المؤمنين، لو أمرت بضرب عنقي كان أسهل علي مما تفعله بي، فقال: اسقوه، ثم أمر بالعشاء فأحضر وذلك في جوف الليل، فخرج المنتصر من عنده، وامر بنانا غلام احمد ابن يحيى أن يلحقه، فلما خرج وضعت المائدة بين يدي المتوكل، وجعل يأكلها ويلقم وهو سكران. وذكر عن ابن الحفصي أن المنتصر لما خرج إلى حجرته أخذ بيد زرافة، فقال له: امض معي، فقال: يا سيدي، إن أمير المؤمنين لم يقم، فقال: إن أمير المؤمنين قد أخذه النبيذ، والساعة يخرج بغا والندماء، وقد أحببت أن تجعل أمر ولدك الى، فان اوتامش سألني أن أزوج ابنه من ابنتك، وابنك من ابنته، فقال له زرافة: نحن عبيدك يا سيدي، فمرنا بأمرك وأخذ المنتصر

بيده وانصرف به معه قال: وكان زرافة قد قال لي قبل ذلك: ارفق بنفسك، فإن أمير المؤمنين سكران والساعة يفيق، وقد دعاني تمرة، وسألني أن أسألك أن تصير إليه فنصير جميعا إلى حجرته قال: فقلت له: أنا أتقدمك إليه، قال: ومضى زرافة مع المنتصر إلى حجرته. فذكر بنان غلام أحمد بن يحيى أن المنتصر قال له: قد املكت ابن زرافه من ابنه اوتامش وابن اوتامش من ابنة زرافة؟ قال بنان: فقلت للمنتصر: يا سيدي، فأين النثار فهو يحسن الإملاك؟ فقال: غدا إن شاء الله، فإن الليل قد مضى قال: وانصرف زرافة إلى حجرة تمرة، فلما دخل دعا بالطعام فأتي به، فما أكل إلا أيسر ذلك حتى سمعنا الضجة والصراخ، فقمنا، فقال بنان: فما هو إلا أن خرج زرافة من منزل تمرة، إذا بغا استقبل المنتصر، فقال المنتصر: ما هذه الضجة؟ قال: خير يا أمير المؤمنين، قال: ما تقول، ويلك! قال: أعظم الله أجرك في سيدنا امير المؤمنين! كان عبدا لله دعاه فأجابه، قال: فجلس المنتصر، وأمر بباب البيت الذي قتل فيه المتوكل والمجلس، فأغلق وأغلقت الأبواب كلها، وبعث إلى وصيف يأمره بإحضار المعتز والمؤيد عن رسالة المتوكل. وذكر عن عثعث أن المتوكل دعا بالمائدة بعد قيام المنتصر وخروجه ومعه زرافة، وكان بغا الصغير المعروف بالشرابي قائما عند الستر، وذلك اليوم كان نوبة بغا الكبير في الدار، وكان خليفته في الدار ابنه موسى- وموسى هذا هو ابن خالة المتوكل، وبغا الكبير يومئذ بسميساط- فدخل بغا الصغير إلى المجلس، فأمر الندماء بالانصراف إلى حجرهم، فقال له الفتح: ليس هذا وقت انصرافهم، وأمير المؤمنين لم يرتفع، فقال له بغا: إن أمير المؤمنين أمرني إذا جاوز السبعة ألا أترك في المجلس أحدا، وقد شرب أربعة عشر رطلا، فكره الفتح قيامهم، فقال له بغا: إن حرم أمير المؤمنين خلف الستارة، وقد سكر، فقوموا فاخرجوا، فخرجوا جميعا، فلم يبق إلا الفتح وعثعث وأربعة من خدم الخاصة، منهم شفيع وفرج الصغير ومؤنس وأبو عيسى مارد

المحرزي قال: ووضع الطباخ المائدة بين يدي المتوكل، فجعل يأكل ويلقم، ويقول لمارد: كل معي حتى أكل بعض طعامه وهو سكران، ثم شرب أيضا بعد ذلك. فذكر عثعث أن أبا أحمد بن المتوكل أخا المؤيد لأمه- كان معهم في المجلس، فقام إلى الخلاء، وقد كان بغا الشرابي أغلق الأبواب كلها غير باب الشط، ومنه دخل القوم الذين عينوا لقتله، فبصر بهم أبو أحمد، فصاح بهم: ما هذا يا سفل! وإذا بسيوف مسللة، قال: وقد كان تقدم النفر الذين تولوا قتله بغلون التركي وباغر وموسى بن بغا وهارون بن صوارتكين وبغا الشرابي، فلما سمع المتوكل صوت أبي أحمد رفع رأسه، فرأى القوم، فقال: يا بغا، ما هذا؟ قال: هؤلاء رجال النوبة التي تبيت على باب سيدي أمير المؤمنين، فرجع القوم إلى ورائهم عند كلام المتوكل لبغا، ولم يكن واجن وأصحابه وولد وصيف حضروا معهم بعد قال عثعث: فسمعت بغا يقول لهم: يا سفل، أنتم مقتولون لا محالة، فموتوا كراما، فرجع القوم إلى المجلس، فابتدره بغلون فضربه ضربة على كتفه وأذنه فقده، فقال: مهلا قطع الله يدك! ثم قام وأراد الوثوب به، فاستقبله بيده فأبانها، وشركه باغر، فقال الفتح: ويلكم، أمير المؤمنين! فقال بغا: يا حلقى، لا تسكت! فرمى الفتح بنفسه على المتوكل، فبجعه هارون بسيفه، فصاح: الموت! واعتوره هارون وموسى بن بغا بأسيافهما، فقتلاه وقطعاه، وأصابت عثعث ضربة في رأسه وكان مع المتوكل خادم صغير، فدخل تحت الستارة، فنجا، وتهارب الباقون قال: وقد كانوا قالوا لوصيف في وقت ما جاءوا إليه: كن معنا فإنا نتخوف ألا يتم ما نريد فنقتل، فقال: لا بأس عليكم، فقالوا له: فأرسل معنا بعض ولدك، فأرسل معهم خمسة من ولده: صالحا، وأحمد، وعبد الله، ونصرا، وعبيد الله، حتى صاروا إلى ما أرادوا. وذكر عن زرقان خليفة زرافة على البوابين وغيرهم أن المنتصر لما أخذ بيد

زرافة فأخرجه من الدار ودخل القوم، نظر إليهم عثعث، فقال للمتوكل: قد فرغنا من الأسد والحيات والعقارب، وصرنا إلى السيوف، وذلك أنه كان ربما أشلى الحية والعقرب أو الأسد، فلما ذكر عثعث السيوف، قال له: ويلك! أي شيء تقول؟ فما استتم كلامه حتى دخلوا عليه، فقام الفتح في وجوههم، فقال لهم: يا كلاب، وراءكم وراءكم! فبدر إليه بغا الشرابي، فبعج بطنه بالسيف، وبدر الباقون إلى المتوكل، وهرب عثعث على وجهه. وكان أبو أحمد في حجرته، فلما سمع الضجة خرج فوقع على أبيه، فبادره بغلون فضربه ضربتين، فلما رأى السيوف تأخذه خرج وتركهم، وخرج القوم إلى المنتصر، فسلموا عليه بالخلافة، وقالوا: مات أمير المؤمنين، وقاموا على رأس زرافة بالسيوف، فقالوا له: بايع، فبايعه وأرسل المنتصر إلى وصيف: أن الفتح قتل ابى، فقتلته، فاحضر في وجوه أصحابك فحضر وصيف وأصحابه فبايعوا قال: وكان عبيد الله بن يحيى في حجرته لا يعلم بشيء من أمر القوم ينفذ الأمور وقد ذكر أن امرأة من نساء الأتراك ألقت رقعة تخبر ما عزم عليه القوم، فوصلت الرقعة إلى عبيد الله، فشاور الفتح فيها، وكان ذلك وقع إلى أبي نوح عيسى بن إبراهيم كاتب الفتح بن خاقان، فأنهاه إلى الفتح، فاتفق رأيهم على كتمان المتوكل لما رأوا من سروره، فكرهوا أن ينغصوا عليه يومه، وهان عليهم أمر القوم، ووثقوا بأن ذلك لا يجسر عليه أحد ولا يقدر. فذكر أن أبا نوح احتال في الهرب من ليلته، وعبيد الله جالس في عمله ينفذ الأمور، وبين يديه جعفر بن حامد، إذ طلع عليه بعض الخدم، فقال: يا سيدي، ما يجلسك؟ قال: وما ذاك! قال: الدار سيف واحد، فأمر جعفرا بالخروج، فخرج وعاد، فأخبره أن أمير المؤمنين والفتح قد قتلا، فخرج فيمن معه من خدمه وخاصته، فأخبر أن الأبواب مغلقة، فأخذ نحو الشط، فإذا أبوابه أيضا مغلقة، فأمر بكسر ما كان مما يلي الشط، فكسرت ثلاثة أبواب حتى

خرج إلى الشط، فصار إلى زورق، فقعد فيه ومعه جعفر بن حامد، وغلام له، فصار إلى منزل المعتز، فسأل عنه فلم يصادفه، فقال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! قتلني وقتل نفسه، وتلهف عليه، واجتمع إلى عبيد الله أصحابه غداة يوم الأربعاء من الأبناء والعجم والأرمن والزواقيل والاعراب والصعاليك وغيرهم وقد اختلف في عدتهم، فقال بعضهم: كانوا زهاء عشرين ألف فارس وقال آخرون: كان معه ثلاثة عشر ألف رجل، وقال آخرون: كان معه ثلاثة عشر ألف لجام، وقال المقللون: ما بين الخمسة آلاف إلى العشرة آلاف، فقالوا له: إنما كنت تصطنعنا لهذا اليوم، فأمر بأمرك، وأذن لنا نمل على القوم ميلة، نقتل المنتصر ومن معه من الأتراك وغيرهم فأبى ذلك، وقال: ليس في هذا حيلة، والرجل في أيديهم- يعني المعتز وذكر عن علي بن يحيى المنجم أنه قال: كنت أقرأ على المتوكل قبل قتله بأيام كتابا من كتب الملاحم، فوقفت عن قراءته وقطعته، فقال لي: ما لك قد وقفت! قلت: خير، قال: لا بد والله من أن تقرأه، فقرأته وحدت عن ذكر الخلفاء، فقال المتوكل: ليت شعري من هذا الشقي المقتول! وذكر عن سلمة بن سعيد النصراني أن المتوكل رأى أشوط بن حمزة الأرمني قبل قتله بأيام، فتأفف برؤيته، وأمر بإخراجه، فقيل له: يا أمير المؤمنين، أليس قد كنت تحب خدمته؟ قال: بلى، ولكني رأيت في المنام منذ ليال كأني قد ركبته، فالتفت إلي وقد صار رأسه مثل رأس البغل فقال لي: إلى كم تؤذينا! إنما بقي من أجلك تمام خمسة عشر سنه غير ايام قال: فكان بعدد أيام خلافته. وذكر عن ابن أبي ربعي أنه قال: رأيت في منامي كأن رجلا دخل من باب الرستن على عجلة ووجهه إلى الصحراء وقفاه إلى المدينة، وهو ينشد:

ذكر الخبر عن بعض امور المتوكل وسيرته:

يا عين ويلك فاهملي ... بالدمع سحا واسبلي دلت على قرب القيامة ... قتلة المتوكل وذكر أن حبشي بن أبي ربعي مات قبل قتل المتوكل بسنتين. وذكر عن محمد بن سعيد، قال: قال أبو الوارث قاضي نصيبين: رأيت في النوم آتيا أتاني، وهو يقول: يا نائم العين في جثمان يقظان ... ما بال عينك لا تبكي بتهتان! أما رأيت صروف الدهر ما فعلت ... بالهاشمي وبالفتح بن خاقان! وسوف يتبعهم قوم لهم غدروا ... حتى يصيروا كأمس الذاهب الفاني فأتى البريد بعد أيام بقتلهما جميعا. قال أبو جعفر: وقتل ليلة الأربعاء بعد العتمة بساعة لأربع خلون من شوال- وقيل: بل قتل ليلة الخميس- فكانت خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاثة أيام وقتل يوم قتل وهو- فيما قيل- ابن أربعين سنة، وكان ولد بفم الصلح في شوال من سنة ست ومائتين. وكان أسمر حسن العينين خفيف العارضين نحيفا . ذكر الخبر عن بعض أمور المتوكل وسيرته: ذكر عن مروان بن أبي الجنوب أبي السمط، أنه قال: أنشدت أمير المؤمنين فيه شعرا، وذكرت الرافضة فيه، فعقد لي على البحرين واليمامة، وخلع علي أربع خلع في دار العامة، وخلع علي المنتصر وأمر لي بثلاثة آلاف دينار، فنثرت على رأسي، وأمر ابنه المنتصر وسعدا الإيتاخي يلقطانها لي، ولا أمس منها شيئا، فجمعاها، فانصرفت بها

قال: والشعر الذي قال فيه: ملك الخليفة جعفر ... للدين والدنيا سلامه لكم تراث محمد ... وبعدلكم تنفى الظلامه يرجو التراث بنو البنات ... وما لهم فيها قلامه والصهر ليس بوارث ... والبنت لا ترث الإمامه ما للذين تنحلوا ... ميراثكم إلا الندامه أخذ الوراثة أهلها ... فعلام لومكم علامه! لو كان حقكم لما ... قامت على الناس القيامه ليس التراث لغيركم ... لا والإله ولا كرامه أصبحت بين محبكم ... والمبغضين لكم علامه ثم نثر على رأسي- بعد ذلك لشعر قلته في هذا المعنى- عشرة آلاف درهم. وذكر عن مروان بن أبي الجنوب، أنه قال: لما استخلف المتوكل بعثت بقصيدة- مدحت فيها ابن ابى دواد- الى ابن ابى دواد، وكان في آخرها بيتان ذكرت فيهما أمر ابن الزيات وهما: وقيل لي الزيات لاقى حمامه ... فقلت أتاني الله بالفتح والنصر لقد حفر الزيات بالغدر حفرة ... فألقي فيها بالخيانة والغدر قال: فلما صارت القصيدة إلى ابن ابى دواد ذكرها للمتوكل، وأنشده البيتين فأمره بإحضاره، فقال: هو باليمامة، كان الواثق نفاه لمودته لأمير المؤمنين قال: يحمل، قال: عليه دين، قال: كم هو؟ قال: ستة آلاف دينار، قال: يعطاها، فأعطي وحمل من اليمامة، فصار إلى سامرا، وامتدح المتوكل بقصيدة يقول فيها: رحل الشباب وليته لم يرحل ... والشيب حل وليته لم يحلل

فلما صار إلى هذين البيتين من القصيدة: كانت خلافة جعفر كنبوة ... جاءت بلا طلب ولا بتنحل وهب الإله له الخلافة مثل ما ... وهب النبوة للنبي المرسل أمر له بخمسين ألف درهم. وذكر عن أبي يحيى بن مروان بن محمد الشني الكلبي، قال: أخبرني أبو السمط مروان بن أبي الجنوب، قال: لما صرت إلى أمير المؤمنين المتوكل على الله مدحت ولاة العهود، وأنشدته: سقى الله نجدا والسلام على نجد ... ويا حبذا نجد على النأي والبعد! نظرت إلى نجد وبغداد دونها ... لعلي أرى نجدا وهيهات من نجد! ونجد بها قوم هواهم زيارتي ... ولا شيء أحلى من زيارتهم عندي قال: فلما استتممت إنشادها، أمر لي بعشرين ومائة ألف درهم وخمسين ثوبا وثلاثة من الظهر: فرس وبغلة وحمار، فما برحت حتى قلت في شكره: تخير رب الناس للناس جعفرا ... فملكه أمر العباد تخيرا قال: فلما صرت إلى هذا البيت: فأمسك ندى كفيك عني ولا تزد ... فقد خفت أن أطغى وأن أتجبرا قال: لا والله، لا أمسك حتى أعرفك بجودي، ولا برحت حتى تسأل حاجة، قلت: يا أمير المؤمنين، الضيعة التي أمرت بإقطاعي إياها باليمامة، ذكر ابن المدبر أنها وقف من المعتصم على ولده، ولا يجوز إقطاعها قال: فإني أقبلكها بدرهم في السنة مائة سنة، قلت: لا يحسن يا أمير المؤمنين أن يؤدى درهم في الديوان، قال: فقال ابن المدبر: فالف درهم؟ فقلت: نعم، فأنفذها لي ولعقبي، ثم قال: ليس هذه حاجة، هذه قبالة، قلت: فضياعي التي كانت لي كان الواثق أمر بإقطاعي إياها، فنفاني ابن الزيات، وحال بيني وبينها، فتنفذها لي فأمر بإنفاذها بمائة درهم في السنة وهي السيوح

وذكر عن أبي حشيشة أنه كان يقول: كان المأمون يقول: إن الخليفة بعدي في اسمه عين، فكان يظن أنه العباس ابنه فكان المعتصم، وكان يقول: وبعده هاء، فيظن أنه هارون، فكان الواثق، وكان يقول: وبعده اصفر الساقين، فكان يظن انه ابو الحائز العباس فكان المتوكل ذلك، فلقد رأيته إذا جلس على السرير يكشف ساقيه، فكانا أصفرين، كأنما صبغا بزعفران. وذكر عن يحيى بن أكثم، أنه قال: حضرت المتوكل، فجرى بيني وبينه ذكر المأمون وكتبه إلى الحسن بن سهل، فقلت بتفضيله وتقريظه ووصف محاسنه وعلمه ومعرفته ونباهته قولا كثيرا، لم يقع بموافقة بعض من حضر، فقال المتوكل: كيف كان يقول في القرآن؟ قلت: كان يقول: ما مع القرآن حاجة إلى علم فرض، ولا مع سنه الرسول ص وحشة إلى فعل أحد، ولا مع البيان والإفهام حجة لتعلم، ولا بعد الجحود للبرهان والحق إلا السيف لظهور الحجة فقال له المتوكل: لم أرد منك ما ذهبت إليه من هذا المعنى، قال له يحيى: القول بالمحاسن في المغيب فريضة على ذي نعمة، قال: فما كان يقول خلال حديثه، فإن المعتصم بالله يرحمه الله كان يقوله، وقد أنسيته؟ فقال: كان يقول: اللهم إني أحمدك على النعم التي لا يحصيها احد غيرك، وأستغفرك من الذنوب التي لا يحيط بها إلا عفوك. قال: فما كان يقول إذا استحسن شيئا أو بشر بشيء، فقد كان المعتصم بالله أمر علي بن يزداد أن يكتبه لنا، فكتبه فعلمناه ثم أنسيناه؟ قال: كان يقول: إن ذكر آلاء الله ونشرها وتعداد نعمه والحديث بها فرض من الله على أهلها، وطاعة لأمره فيها، وشكر له عليها، فالحمد لله العظيم الآلاء، السابغ النعماء بما هو أهله، ومستوجبه من محامده القاضية حقه، البالغة شكره، الموجبة مزيده على ما لا يحصيه تعدادنا، ولا يحيط به ذكرنا، من ترادف مننه، وتتابع فضله، ودوام طوله، حمد من يعلم أن ذلك منه، والشكر له عليه فقال المتوكل: صدقت، هذا هو الكلام بعينه، وهذا كله حكم من ذي حنكة وعلم، وانقضى المجلس

خلافه المنتصر محمد بن جعفر

وقدم فِي هَذِهِ السنة مُحَمَّد بن عَبْدِ اللَّهِ بن طاهر بغداد منصرفا من مكة في صفر، فشكا ما ناله من الغم بما وقع من الخلاف في يوم النحر، فأمر المتوكل بإنفاذ خريطة صفراء من الباب إلى أهل الموسم برؤية هلال ذي الحجة، وأن يسار بها كما يسار بالخريطة الواردة بسلامة الموسم، وأمر أن يقام على المشعر الحرام وسائر المشاعر الشمع مكان الزيت والنفط. وفيها ماتت أم المتوكل بالجعفرية لست خلون من شهر ربيع الآخر وصلى عليها المنتصر، ودفنت عند المسجد الجامع . خلافه المنتصر محمد بن جعفر وفيها بويع للمنتصر محمد بن جعفر بالخلافة في يوم الأربعاء لأربع خلون من شوال- وقيل لثلاث خلون منه- وهو ابن خمس وعشرين سنة وكنيته أبو جعفر بالجعفرية، فأقام بها بعد ما بويع له عشرة أيام، ثم تحول منه بعياله وقواده وجنوده الى سامرا. وكان قد بايعه ليلة الأربعاء الذين ذكرناهم قبل، فذكر عن بعضهم، أنه قال: لما كان صبيحة يوم الأربعاء، حضر الناس الجعفرية من القواد والكتاب والوجوه والشاكرية والجند وغيرهم، فقرأ عليهم أحمد بن الخصيب كتابا يخبر فيه عن أمير المؤمنين المنتصر، أن الفتح بن خاقان قتل أباه جعفرا المتوكل، فقتله به، فبايع الناس، وحضر عبيد الله بن يحيى بن خاقان، فبايع وانصرف. وذكر عن أبي عثمان سعيد الصغير أنه قال: لما كانت الليلة التي قتل فيها المتوكل، كنا في الدار مع المنتصر، فكان كلما خرج الفتح خرج معه، وكلما رجع قام لقيامه وجلس لجلوسه، وخرج في أثره، وكلما ركب أخذ بركابه، وسوى عليه ثيابه في سرج دابته، وكان اتصل بنا الخبر أن عبيد الله بن يحيى قد أعد له قوما في طريقه ليغتالوه عند انصرافه، وقد كان

المتوكل أسمعه وأحفظه قبل انصرافه، ووثب به، فانصرف على غضب، وانصرفنا معه، فلما صار إلى داره أرسل إلى ندمائه وخاصته- وقد كان واعد الأتراك على قتل المتوكل قبل انصرافه إذا ثمل من النبيذ- قال: فلم ألبث أن جاءني الرسول: أن أحضر فقد جاءت رسل أمير المؤمنين إلى الأمير، وهو على الركوب، فوقع في نفسي ما كان دار بيننا أنهم على اغتيال المنتصر، وأنه إنما يدعى لذلك، فركبت في سلاح وعدة، وصرت إلى باب الأمير، فإذا هم يموجون، وإذا واجن قد جاءه فأخبره أنه قد فرغ من أمره، فركب فلحقته في بعض الطريق وأنا مرعوب، فرأى ما بي، فقال: ليس عليك! إن أمير المؤمنين قد شرق بقدح شربه بعد انصرافنا، فمات رحمه الله. فأكبرت ذلك، وشق علي، ومضينا وأحمد بن الخصيب وجماعة من القواد معنا حتى دخلنا الحير، وتتابعت الأخبار بقتل المتوكل، فأخذت الأبواب، ووكل بها، وقلت: يا أمير المؤمنين، وسلمت عليه بالخلافة، وقلت: لا ينبغي أن نفارقك لموضع الشفقة عليك من مواليك في هذا الوقت، قال: أجل، فكن أنت من ورائي وسليمان الرومي وألقي منديل، فجلس عليه، وأحطنا به، وحضر أحمد بن الخصيب وكاتبه سعيد بن حميد لأخذ البيعة. فذكر عن سعيد بن حميد ان احمد بن الخصيب، قال له: ويلك يا سعيد! معك كلمتان أو ثلاث تأخذ بها البيعة، قلت: نعم، وكلمات وعملت كتاب البيعة، وأخذتها على من حضر وكل من جاء حتى جاء سعيد الكبير، فأرسله إلى المؤيد، وقال لسعيد الصغير: امض أنت إلى المعتز حتى تحضره، قال سعيد الصغير: فقلت: أما ما دمت يا أمير المؤمنين في قلة ممن معك فلا أبرح والله من وراء ظهرك، حتى يجتمع الناس. قال أحمد بن الخصيب: هاهنا من يكفيك، فامض، فقلت: لا أمضي حتى يجتمع من يكفي، فإني الساعة أولى به منك! فلما كثر القواد، وبايعوا، ومضيت وأنا آيس من نفسي، ومعي غلامان، فلما صرت إلى باب أبي نوح،

والناس يموجون ويذهبون ويجيئون، وإذا على الباب جمع كبير في سلاح وعدة، فلما أحسوا بي لحقني فارس منهم، فسألني وهو لا يعرفني: من أنت؟ فعميت عليه خبري، وأخبرته أني من بعض أصحاب الفتح، ومضيت حتى صرت إلى باب المعتز، فلم أجد به أحدا من الحرس والبوابين والمكبرين ولا خلقا من خلق الله حتى صرت إلى الباب الكبير، فدققته دقا عنيفا مفرطا، فأجبت بعد مدة طويلة، فقيل لي: من هذا؟ فقلت: سعيد الصغير، رسول أمير المؤمنين المنتصر، فمضى الرسول، وأبطأ علي، وأحسست بالمنكر وضاقت علي الأرض ثم فتح الباب فإذا ببيدون الخادم قد خرج، وقال لي: ادخل وأغلق الباب دوني، فقلت: ذهبت والله نفسي، ثم سألني عن الخبر، فأخبرته أن أمير المؤمنين شرق بكأس شربها ومات من ساعته، وأن الناس قد اجتمعوا وبايعوا المنتصر، وأنه أرسلني إلى الأمير أبي عبد الله المعتز بالله ليحضر البيعة فدخل ثم خرج إلي، فقال: ادخل، فدخلت على المعتز، فقال لي: ويلك يا سعيد! ما الخبر؟ فأخبرته بمثل ما أخبرت به بيدون، وعزيته وبكيت، وقلت: تحضر يا سيدي، وتكون في أوائل من بايع، فتستدعي بذلك قلب أخيك، فقال لي: ويلك حتى نصبح! فما زلت افتله في الحبل والغارب، ويعينني عليه بيدون الخادم، حتى تهيأ للصلاة، ودعا بثيابه فلبسها، وأخرج له دابة، وركب وركبت معه، وأخذت طريقا غير طريق الجادة، وجعلت أحدثه وأسهل الأمر عليه، وأذكره أشياء يعرفها من أخيه، حتى إذا صرنا إلى باب عبيد الله بن يحيى بن خاقان سألني عنه، فقلت: هو يأخذ البيعه على الناس، والفتح قد بايع، فيئس حينئذ، وإذا بفارس قد لحق بنا، وصار إلى بيدون الخادم، فساره بشيء لا أعلمه، فصاح به بيدون، فمضى ثم رجع ثلاثا، كل ذلك يرده بيدون ويصيح به: دعنا، حتى وافينا باب الحير فاستفتحه فقيل لي: من أنت؟ قلت: سعيد الصغير والأمير المعتز، ففتح لي الباب، وصرنا إلى المنتصر، فلما رآه قربه وعانقه وعزاه، وأخذ البيعة عليه، ثم وافى المؤيد مع سعيد الكبير، ففعل به مثل

أخبار متفرقة

ذلك، وأصبح الناس، وصار المنتصر إلى الجعفري فأمر بدفن المتوكل والفتح، وسكن الناس، فقال سعيد الصغير: ولم أزل أطالب المعتز بالبشرى بخلافة المنتصر وهو محبوس في الدار، حتى وهب لي عشره آلاف درهم. [أخبار متفرقة] وفي هذه السنه خلع المعتز والمؤيد أنفسهما، واظهر خلعهما في القصر الجعفري المحدث وكانت نسخة البيعة التي أخذت للمنتصر: بسم الله الرحمن الرحيم تبايعون عبد الله المنتصر بالله أمير المؤمنين بيعة طوع واعتقاد ورضا، ورغبة بإخلاص من سرائركم، وانشراح من صدوركم، وصدق من نياتكم، لا مكرهين ولا مجبرين، بل مقرين عالمين بما في هذه البيعة وتأكيدها من طاعة الله وتقواه، وإعزاز دين الله وحقه، ومن عموم صلاح عباد الله، واجتماع الكلمة، ولم الشعث، وسكون الدهماء، وأمن العواقب، وعز الأولياء، وقمع الملحدين، على أن محمدا الإمام المنتصر بالله عبد الله وخليفته المفترض عليكم طاعته ومناصحته والوفاء بحقه وعقده، لا تشكون ولا تدهنون، ولا تميلون ولا ترتابون، وعلى السمع له، والطاعة والمسالمة، والنصرة والوفاء والاستقامة، والنصيحة في السر والعلانية، والخفوف والوقوف عند كل ما يأمر به عبد الله الإمام المنتصر بالله أمير المؤمنين، وعلى أنكم أولياء أوليائه، وأعداء أعدائه، من خاص وعام، وأبعد وأقرب، وتتمسكون ببيعته بوفاء العقد، وذمة العهد، سرائركم في ذلك مثل علانيتكم، وضمائركم مثل ألسنتكم، راضين بما يرضاه لكم أمير المؤمنين في عاجلكم وآجلكم وعلى إعطائكم أمير المؤمنين بعد تجديدكم بيعته هذه على أنفسكم، وتأكيدكم إياها في أعناقكم، صفقة أيمانكم، راغبين طائعين، عن سلامة من قلوبكم وأهوائكم ونياتكم، وعلى ألا تسعوا في نقض شيء مما أكد الله عليكم، وعلى ألا يميل بكم مميل في ذلك عن نصرة وإخلاص، ونصح وموالاة، وعلى ألا تبدلوا، ولا يرجع منكم راجع عن نيته، وانطوائه إلى غير علانيته، وعلى أن تكون

بيعتكم التي أعطيتم بها ألسنتكم وعهودكم بيعة يطلع الله من قلوبكم على اجتبائها واعتقادها، وعلى الوفاء بذمته بها، وعلى إخلاصكم في نصرتها وموالاة أهلها، لا يشوب ذلك منكم دغل ولا إدهان ولا احتيال ولا تأول، حتى تلقوا الله، موفين بعهده، ومؤدين حقه عليكم، غير مستشرفين ولا ناكثين، إذ كان الذين يبايعون منكم أمير المؤمنين إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً. عليكم بذلك وبما أكدت هذه البيعة في أعناقكم، وأعطيتم بها من صفقة أيمانكم، وبما اشترط عليكم بها من وفاء ونصر، وموالاة واجتهاد ونصح، وعليكم عهد الله، إن عهده كان مسئولا، وذمة الله وذمة رسوله وأشد ما أخذ على أنبيائه ورسله، وعلى أحد من عباده من متأكد وثائقه، أن تسمعوا ما أخذ عليكم في هذه البيعة ولا تبدلوا، وأن تطيعوا ولا تعصوا، وأن تخلصوا ولا ترتابوا، وأن تتمسكوا بما عاهدتم عليه تمسك أهل الطاعة بطاعتهم وذوي العهد والوفاء بوفائهم وحقهم، لا يلفتكم عن ذلك هوى ولا مميل، ولا يزيغ بكم فيه ضلال عن هدى، باذلين في ذلك أنفسكم واجتهادكم، ومقدمين فيه حق الدين والطاعة بما جعلتم على أنفسكم، لا يقبل الله منكم في هذه البيعة إلا الوفاء بها. فمن نكث منكم ممن بايع أمير المؤمنين هذه البيعة عما أكد عليه مسرا أو معلنا، أو مصرحا أو محتالا، فأدهن فيما أعطى الله من نفسه، وفيما أخذت به مواثيق أمير المؤمنين، وعهود الله عليه، مستعملا في ذلك الهوينى دون الجد، والركون إلى الباطل دون نصرة الحق، وزاغ عن السبيل التي يعتصم بها أولو الوفاء منهم بعهودهم، فكل ما يملك كل واحد ممن خان في ذلك بشيء نقض عهده من مال أو عقار أو سائمة، أو زرع أو ضرع صدقة على المساكين في وجوه سبيل الله، محرم عليه أن يرجع شيء من ذلك إلى ماله عن حيلة يقدمها لنفسه أو يحتال بها وما أفاد في بقية عمره من فائدة مال يقل خطرها أو يجل قدرها، فتلك سبيله إلى أن توافيه منيته، ويأتي عليه أجله، وكل مملوك يملكه اليوم إلى ثلاثين سنة من ذكر أو أنثى أحرار لوجه الله، ونساؤه

في يوم يلزمه الحنث، ومن يتزوجه بعدهن إلى ثلاثين سنة طوالق البتة طلاق الحرج والسنة، لا مثنوية فيه ولا رجعة وعليه المشي إلى بيت الله الحرام ثلاثين حجة، لا يقبل الله منه إلا الوفاء بها، وهو بريء من الله ورسوله، والله ورسوله منه بريئان، ولا قبل الله منه صرفا ولا عدلا، والله عليكم بذلك شهيد، وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً. * وذكر أنه لما كانت صبيحة اليوم الذي بويع فيه المنتصر شاع الخبر في الماحوزة- وهي المدينة التي كان جعفر بناها في أهل سامرا- بقتل جعفر، وتوافى الجند والشاكرية بباب العامة بالجعفري وغيرهم من الغوغاء والعوام، وكثر الناس وتسامعوا، وركب بعضهم بعضا، وتكلموا في أمر البيعة، فخرج إليهم عتاب بن عتاب- وقيل: إن الذي خرج إليهم زرافة- فأبلغهم عن المنتصر ما يحبون، فاسمعوه، فدخل إلى المنتصر فأخبره، فخرج وبين يديه جماعة من المغاربة، فصاح بهم: يا كلاب! خذوهم، فحملوا على الناس فدفعوهم إلى الثلاثة الأبواب، فازدحم الناس ووقع بعضهم على بعض، ثم تفرقوا عن عدة قد ماتوا من الزحمة والدوس، فمنهم من ذكر أنهم كانوا ستة نفر، ومنهم من قال: كانوا ما بين الثلاثة إلى الستة. وفيها ولي المنتصر أبا عمرة أحمد بن سعيد- مولى بني هاشم، بعد البيعة له بيوم- المظالم، فقال قائل: يا ضيعة الإسلام لما ولي ... مظالم الناس أبو عمره صير مأمونا على أمة ... وليس مأمونا على بعره وفي ذي الحجة من هذه السنة أخرج المنتصر علي بن المعتصم من سامرا إلى بغداد ووكل به. وحج بالناس فيها محمد بن سليمان الزينبي.

سنه ثمان واربعين ومائتين

ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر غزاه وصيف التركى الروم فمن ذلك ما كان من إغزاء المنتصر وصيفا التركي صائفة أرض الروم. ذكر الخبر عن سبب ذلك، وما كان في ذلك من وصيف: ذكر أن السبب في ذلك أنه كان بين أحمد بن الخصيب ووصيف شحناء وتباغض، فلما استخلف المنتصر، وابن الخصيب وزيره، حرض أحمد بن الخصيب المنتصر على وصيف، وأشار عليه بإخراجه من عسكره غازيا إلى الثغر، فلم يزل به حتى أحضره المنتصر، فأمره بالغزو. وقد ذكر عن المنتصر أنه لما عزم على أن يغزي وصيفا الثغر الشامي، قال له أحمد بن الخصيب: ومن يجترئ على الموالي حتى تأمر وصيفا بالشخوص! فقال المنتصر لبعض من الحجبة: ائذن لمن حضر الدار، فاذن لهم وفيهم وصيف، فأقبل عليه، فقال له: يا وصيف، أتانا عن طاغية الروم أنه أقبل يريد الثغور، وهذا أمر لا يمكن الإمساك عنه، فإما شخصت وإما شخصت، فقال وصيف: بل أشخص يا أمير المؤمنين، قال: يا أحمد، انظر ما يحتاج إليه على أبلغ ما يكون فأقمه له قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: ما نعم! قم الساعة لذلك، يا وصيف مر كاتبك يوافقه على ما يحتاج إليه، ويلزمه حتى يزيح علتك فيه فقام أحمد بن الخصيب، وقام وصيف، فلم يزل في جهازه حتى خرج، فما أفلح ولا أنجح. وذكر أن المنتصر لما أحضر وصيفا وأمره بالغزو، قال له: إن الطاغية- يعني ملك الروم- قد تحرك، ولست آمنه أن يهلك كل ما يمر به من بلاد

الإسلام، ويقتل ويسبي الذراري، فإذا غزوت وأردت الرجعة انصرفت إلى باب أمير المؤمنين من فورك وأمر جماعة من القواد وغيرهم بالخروج معه وانتخب له الرجال، فكان معه من الشاكرية والجند والموالي زهاء عشرة آلاف رجل، فكان على مقدمته في بدأته مزاحم بن خاقان، أخو الفتح بن خاقان، وعلى الساقة محمد بن رجاء، وعلى الميمنة السندي بن بختاشة، وعلى الدراجة نصر بن سعيد المغربي، واستعمل على الناس والعسكر أبا عون خليفته، وكان على الشرطة بسامرا. وكتب المنتصر عند إغزائه وصيفا مولاه إلى محمد بن عبد الله بن طاهر كتابا نسخته: بسم اللَّه الرحمن الرحيم: من عبد اللَّه محمد المنتصر بالله أمير المؤمنين إلى محمد بْن عبد الله مولى أمير المؤمنين. سلام عليك، فإن أمير المؤمنين يحمد إليك اللَّه الَّذِي لا إله إلا هُوَ، ويسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله أما بعد: فإن الله وله الحمد على آلائه، والشكر بجميل بلائه، اختار الإسلام وفضله، وأتمه وأكمله، وجعله وسيلة إلى رضاه ومثوبته، وسبيلا نهجا إلى رحمته، وسببا إلى مذخور كرامته، فقهر له من خالفه، وأذل له من عند عن حقه، وابتغى غير سبيله، وخصه بأتم الشرائع وأكملها، وأفضل الأحكام وأعدلها، وبعث به خيرته من خلقه وصفوته من عباده محمدا صلى الله عليه وسلم، وجعل الجهاد أعظم فرائضه منزلة عنده، وأعلاها رتبة لديه، وأنجحها وسيلة إليه، لأن الله عز وجل أعز دينه، وأذل عتاة الشرك، قال عز وجل أمرا بالجهاد، ومفترضا له: «انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ، وليست تمضي بالمجاهد في سبيل الله حال لا يكابد في الله نصبا ولا أذى، ولا ينفق نفقة ولا يقارع عدوا، ولا يقطع بلدا، ولا يطأ أرضا، إلا وله بذلك امر

مكتوب، وثواب جزيل، وأجر مأمول، قال الله عز وجل: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. » ثم أثنى عز وجل بفضل منزلة المجاهدين على القاعدين عنده، وما وعدهم من جزائه ومثوبته، وما لهم من الزلفى عنده، فقال: «لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً» فبالجهاد اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، وجعل جنته ثمنا لهم، ورضوانه جزاء لهم على بذلها، وعدا منه حقا لا ريب فيه، وحكما عدلا لا تبديل له، قال الله عز وجل: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» وحكم الله عز وجل لإحياء المجاهدين بنصره، والفوز برحمته، وأشهد لموتاهم بالحياة الدائمة، والزلفى لديه، والحظ الجزيل من ثوابه، فقال: «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا

بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. » وليس من شيء يتقرب به المؤمنون إلى الله عز وجل من أعمالهم، ويسعون به في حط أوزارهم، وفكاك رقابهم، ويستوجبون به الثواب من ربهم، إلا والجهاد عنده أعظم منه منزلة، وأعلى لديه رتبة، وأولى بالفوز في العاجلة والآجلة، لان اهله بذلوا الله أنفسهم، لتكون كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا، وسمحوا بها دون من وراءهم من إخوانهم وحريم المسلمين وبيضتهم، ووقموا بجهادهم العدو. وقد رأى أمير المؤمنين- لما يحبه من التقرب إلى الله بجهاد عدوه، وقضاء حقه عليه فيما استحفظه من دينه، والتماس الزلفى له في إعزاز أوليائه، وإحلال البأس والنقمة بمن حاد عن دينه، وكذب رسله، وفارق طاعته- أن ينهض وصيفا مولى أمير المؤمنين في هذا العام إلى بلاد أعداء الله الكفرة والروم، غازيا لما عرف الله أمير المؤمنين من طاعته ومناصحته ومحمود نقيبته وخلوص نيته، في كل ما قربه من الله ومن خليفته. وقد رأى أمير المؤمنين- والله ولي معونته وتوفيقه- أن تكون موافاة وصيف فيمن أنهض أمير المؤمنين معه من مواليه وجنده وشاكريته ثغر ملطية لاثنتي عشرة ليلة تخلو من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين، وذلك من شهور العجم للنصف من حزيران ودخوله بلاد أعداء الله في أول يوم من تموز، فاعلم ذلك واكتب إلى عمالك على نواحي عملك بنسخة كتاب أمير المؤمنين هذا، ومرهم بقراءته على من قبلهم من المسلمين وترغيبهم في الجهاد، وحثهم عليه واستنفارهم إليه، وتعريفهم ما جعل الله من الثواب لأهله، ليعمل ذوو النيات والحسبة والرغبة في الجهاد على حسب ذلك في النهوض إلى عدوهم والخفوف إلى معاونة إخوانهم والذياد عن دينهم والرمي من وراء حوزتهم بموافاة عسكر وصيف مولى أمير المؤمنين ملطية في الوقت الذي حده أمير المؤمنين لهم إن شاء الله والسلام عليك ورحمة الله وبركاته وكتب أحمد بن الخصيب لسبع ليال خلون من المحرم سنة ثمان وأربعين

ذكر خبر خلع المعتز والمؤيد أنفسهما

ومائتين، وصير على ما ذكر على نفقات عسكر وصيف والمغانم والمقاسم المعروف بأبي الوليد الجريري البجلي. وكتب معه المنتصر كتابا إلى وصيف يأمره بالمقام ببلاد الثغر إذا هو انصرف من غزاته أربع سنين، يغزو في أوقات الغزو منها إلى أن يأتيه رأي امير المؤمنين. ذكر خبر خلع المعتز والمؤيد أنفسهما وفي هذه السنه خلع المعتز والمؤيد أنفسهما، وأظهر المنتصر خلعهما في القصر الجعفري المحدث. ذكر الخبر عن خلعهما أنفسهما: ذكر أن محمدا المنتصر بالله لما استقامت له الأمور، قال أحمد بن الخصيب لوصيف وبغا: إنا لا نأمن الحدثان، وأن يموت أمير المؤمنين، فيلي الأمر المعتز، فلا يبقي منا باقية، ويبيد خضراءنا، والرأي أن نعمل في خلع هذين الغلامين قبل أن يظفرا بنا فجد الأتراك في ذلك، وألحوا على المنتصر وقالوا: يا أمير المؤمنين، تخلعهما من الخلافة، وتبايع لابنك عبد الوهاب، فلم يزالوا به حتى فعل، ولم يزل مكرما المعتز والمؤيد، على ميل منه شديد إلى المؤيد، فلما كان بعد أربعين يوما من ولايته، أمر بإحضار المعتز والمؤيد بعد انصرافهما من عنده، فأحضرا وجعلا في دار، فقال المعتز للمؤيد: يا أخي، لم ترانا أحضرنا؟ فقال: يا شقي، للخلع! فقال: لا أظنه يفعل بنا ذلك، فبينا هم كذلك، إذ جاءهم الرسل بالخلع، فقال المؤيد: السمع والطاعة، وقال المعتز: ما كنت لأفعل، فإن أردتم القتل فشأنكم، فرجعوا إليه، فأعلموه ثم عادوا بغلظة شديدة، فأخذوا المعتز بعنف، وأدخلوه إلى بيت، وأغلقوا عليه الباب. فذكر عن يعقوب بن السكيت، أنه قال: حدثني المؤيد، قال: لما رأيت ذلك قلت لهم بجرأة واستطالة: ما هذا يا كلاب! فقد ضريتم على دمائنا، تثبون على مولاكم هذا الوثوب! اعزبوا قبحكم الله! دعوني اكلمه، فكاعوا

عن جوابي بعد تسرع كان منهم، وأقاموا ساعة، ثم قالوا لي: القه إن أحببت، فظننت أنهم استأمروا، فقمت إليه، فإذا هو في البيت يبكي، فقلت: يا جاهل، تراهم قد نالوا من أبيك- وهو هو- ما نالوا، ثم تمتنع عليهم! اخلع ويلك ولا تراجعهم!، قال: سبحان الله! أمر قد مضيت عليه، وجرى في الآفاق أخلعه من عنقي! فقلت: هذا الأمر قتل أباك، فليته لا يقتلك! اخلعه ويلك! فو الله لئن كان في سابق علم الله أن تلي لتلين. قال: أفعل قال: فخرجت فقلت: قد أجاب، فأعلموا أمير المؤمنين، فمضوا ثم عادوا فجزوني خيرا، ودخل معهم كاتب قد سماه، ومعه دواة وقرطاس، فجلس، ثم أقبل على أبي عبد الله، فقال: اكتب بخطك خلعك، فتلكأ، فقلت للكاتب: هات قرطاسا، أملل ما شئت، فأملى علي كتابا إلى المنتصر، أعلمه فيه ضعفي عن هذا الأمر، وأني علمت أنه لا يحل أن أتقلده، وكرهت أن يأثم المتوكل بسببي إذ لم أكن موضعا له، وأسأله الخلع، وأعلمه أني خلعت نفسي، وأحللت الناس من بيعتي فكتبت كل ما أراد، ثم قلت: اكتب يا أبا عبد الله، فامتنع، فقلت: اكتب ويلك! فكتب وخرج الكاتب عنا، ثم دعانا فقلت: نجدد ثيابنا أو نأتي في هذه؟ فقال: بل جددا، فدعوت بثياب فلبستها، وفعل أبو عبد الله كذلك، وخرجنا فدخلنا، وهو في مجلسه، والناس على مراتبهم، فسلمنا فردوا، وأمر بالجلوس، ثم قال: هذا كتابكما؟ فسكت المعتز، فبدرت فقلت: نعم يا أمير المؤمنين! هذا كتابي بمسألتي ورغبتي، وقلت للمعتز: تكلم، فقال مثل ذلك، ثم أقبل علينا والأتراك وقوف، وقال: أترياني خلعتكما طمعا في أن أعيش حتى يكبر ولدي وأبايع له! والله ما طمعت في ذلك ساعة قط، وإذا لم يكن في ذلك طمع، فو الله لأن يليها بنو أبي أحب إلي من ان يليها بنو عمى، ولكن

هؤلاء- واما إلى سائر الموالي ممن هو قائم وقاعد- ألحوا علي في خلعكما، فخفت إن لم أفعل أن يعترضكما بعضهم بحديدة، فيأتي عليكما، فما تريانى صانعا! اقتله؟ فو الله ما تفي دماؤهم كلهم بدم بعضكم، فكانت إجابتهم إلى ما سألوا أسهل علي قال: فأكبا عليه، فقبلا يده، فضمهما إليه، ثم انصرفا. وذكر أنه لما كان يوم السبت لسبع بقين من صفر سنة ثمان وأربعين ومائتين خلع المعتز والمؤيد أنفسهما، وكتب كل واحد منها رقعة بخطه أنه خلع نفسه من البيعة التي بويع له، وأن الناس في حل من حلها ونقضها، وأنهما يعجزان عن القيام بشيء منها، ثم قاما بذلك على رءوس الناس والأتراك والوجوه والصحابة والقضاة، وجعفر بن عبد الواحد قاضي القضاة، والقواد وبني هاشم، وولاة الدواوين والشيعة ووجوه الحرس، ومحمد بن عبد الله بن طاهر، ووصيف وبغا الكبير وبغا الصغير، وجميع من حضر دار الخاصة والعامة، ثم انصرف الناس بعد ذلك. والنسخة التي كتباها: بسم الله الرحمن الرحيم: إن أمير المؤمنين المتوكل على الله رضي الله عنه قلدني هذا الأمر، وبايع لي وأنا صغير، من غير إرادتي ومحبتي، فلما فهمت أمري علمت أني لا أقوم بما قلدني، ولا أصلح لخلافة المسلمين، فمن كانت بيعتي في عنقه فهو من نقضها في حل، وقد احللتكم منها، وأبرأتكم من أيمانكم، ولا عهد لي في رقابكم ولا عقد، وأنتم براء من ذلك. وكان الذي قرأ الرقاع أحمد بن الخصيب ثم قام كل واحد منهما قائما، فقال لمن حضر: هذه رقعتي وهذا قولي، فاشهدوا علي، وقد أبرأتكم من

نسخه كتاب المنتصر بالله إلى ابى العباس محمد بن عبد الله

أيمانكم، وحللتكم منها، فقال لهما المنتصر عند ذلك: قد خار الله لكما وللمسلمين، وقام فدخل وكان قد قعد للناس، وأقعدهما بالقرب منه، فكتب كتابا إلى العمال بخلعهما وذلك في صفر سنة ثمان وأربعين ومائتين. نسخة كتاب المنتصر بالله إلى أبي العباس محمد بن عبد الله ابن طاهر مولى أمير المؤمنين في خلع أبي عبد الله المعتز وإبراهيم المؤيد من عبد الله محمد الإمام المنتصر بالله أمير المؤمنين إلى محمد بْن عبد الله مولى أمير المؤمنين، أما بعد، فإن الله وله الحمد على آلائه، والشكر بجميل بلائه، جعل ولاة الأمر من خلفائه القائمين بما بعث به رسوله ص والذابين عن دينه، والداعين إلى حقه والممضين لأحكامه، وجعل ما اختصهم به من كرامته قواما لعباده، وصلاحا لبلاده، ورحمه غمر بها خلقه وافترض طاعتهم، ووصلها بطاعته وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأوجبها في محكم تنزيله، لما جمع فيها من سكون الدهماء، واتساق الأهواء، ولم الشعث، وأمن السبل، ووقم العدو، وحفظ الحريم، وسد الثغور، وانتظام الأمور، فقال: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» ، فمن الحق على خلفاء الله الذين حباهم بعظيم نعمته، واختصهم بأعلى رتب كرامته، واستحفظهم فيما جعله وسيلة إلى رحمته، وسببا لرضاه ومثوبته، لأن يؤثروا طاعته في كل حال تصرفت بهم، ويقيموا حقه في أنفسهم والأقرب فالأقرب منهم، وأن يكون محلهم من الاجتهاد في كل ما قرب من الله عز وجل حسب موقعهم من الدين وولاية أمر المسلمين. وأمير المؤمنين يسأل الله مسألة رغبة إليه، وتذللا لعظمته، أن يتولاه فيما استرعاه ولاية يجمع له بها صلاح ما قلده، ويحمل عنه أعباء ما حمله، ويعينه بتوفيقه

على طاعته، أنه سميع قريب. وقد علمت ما حضرت من رفع أبي عبد الله وإبراهيم ابني أمير المؤمنين المتوكل على الله رضي الله عنه إلى أمير المؤمنين رقعتين بخطوطهما، يذكران فيهما ما عرفهما الله من عطف أمير المؤمنين عليهما، ورأفته بهما، وجميل نظره لهما، وما كان أمير المؤمنين المتوكل على الله عقده لأبي عبد الله من ولاية عهد أمير المؤمنين ولإبراهيم من ولاية العهد بعد أبي عبد الله وإن ذلك العقد كان وأبو عبد الله طفل لم يبلغ ثلاث سنين، ولم يفهم ما عقد له ولا وقف على ما قلده، وإبراهيم صغير لم يبلغ الحلم، ولم يجر أحكامهما ولا جرت أحكام الإسلام عليهما، وإنه قد يجب عليهما إذ بلغا ووقفا على عجزهما عن القيام بما عقد لهما من العهد، وأسند إليهما من الأعمال أن ينصحا لله ولجماعة المسلمين، بأن يخرجا من هذا الأمر الذي عقد لهما أنفسهما، ويعتزلا الأعمال التي قلداها، ويجعلا كل من في عنقه لهما بيعة وعليه يمين في حل، إذ كانا لا يقومان بما رشحا له، ولا يصلحان لتقلده، وأن يخرج من كان ضم إليهما ممن في نواحيهما من قواد أمير المؤمنين ومواليه وغلمانه وجنده وشاكريته وجميع من مع أولئك القواد بالحضرة وخراسان وسائر النواحي عن رسومهما، ويزال عنهم جميعا ذكر الضم إليهما، وأن يكونا سوقة من سوق المسلمين وعامتهم، ويصفان ما لم يزالا يذكران لأمير المؤمنين من ذلك، ويسألانه فيه، منذ أفضى الله بخلافته إليه، وانهما قد خلعا أنفسهما من ولاية العهد، وخرجا منها، وجعلا كل من لهما عليه بيعة ويمين من قواد أمير المؤمنين وجميع أوليائه ورعيته، قريبهم وبعيدهم، وحاضرهم وغائبهم، في حل وسعة من بيعتهم وأيمانهم، ليخلعوهما كما خلعا أنفسهما. وجعلا لأمير المؤمنين على أنفسهما عهد الله، وأشد ما أخذ على ملائكته وأنبيائه وعباده من عهد وميثاق، وجميع ما أكده أمير المؤمنين عليهما من الأيمان، بإقامتهما على طاعته ومناصحته وموالاته في السر والعلانية، ويسألان أمير المؤمنين

أن يظهر ما فعلاه، وينشره، ويحضر جميع أوليائه، ليسمعوا ذلك منهما طالبين راغبين، طائعين غير مكرهين ولا مجبرين، ويقرأ عليهم الرقعتان اللتان رفعاهما بخطوطهما، بما ذكرا من وقوع الأمر لهما من ولاية العهد، وهما صبيان، وخلعهما أنفسهما بعد بلوغهما، وما سألا من صرفهما عن الأعمال التي يتوليانها وإخراج من كان بها ممن ضم إليهما في نواحيهما من قواد أمير المؤمنين وجنده وغلمانه وشاكريته وجميع من مع أولئك القواد بالحضرة وخراسان وسائر النواحي عن رسومهما وإزالة ذكر الضم إليهما عنهم، وأن يكتب بالكتاب بذلك إلى جميع عمال النواحي وإن أمير المؤمنين وقف على صدقهما فيما ذكرا ورفعا، وتقدم في إحضار جميع إخوته ومن بحضرته من أهل بيته وقواده ومواليه وشيعته ورؤساء جنده وشاكريته وكتابه وقضاته والفقهاء وغيرهم، وسائر أوليائه الذين كانت وقعت البيعة لهما بذلك عليهم وحضر أبو عبد الله وإبراهيم ابنا أمير المؤمنين المتوكل على الله رضي الله عنه، وقرئت رقعتاهما بخطوطهما بحضرتهما، إلى مجلس أمير المؤمنين عليهما وعلى جميع من حضر، وأعادا من القول بعد قراءة الرقعتين مثل الذي كتبا به ورأى أمير المؤمنين أن يجمع في إجابتهما إلى نشر ما فعلاه وإظهاره، وإمضائه ذلك، قضاء حقوق ثلاثة: منها حق الله عز وجل فيما استحفظه من خلافته، وأوجب عليه من النظر لأوليائه فيما يجمع لهم كلمتهم في يومهم وغدهم، ويؤلف بين قلوبهم ومنها حق الرعية الذين هم ودائع الله عنده حتى يكون المتقلد لأمورهم ممن يراعيهم آناء الليل والنهار بعنايته ونظره وتفقده وعدله ورأفته، ومن يقوم بأحكام الله في خلقه، ومن يضطلع بثقل السياسة وصواب التدبير ومنها حق أبي عبد الله وإبراهيم فيما يوجبه أمير المؤمنين لهما بأخوتهما وماس رحمهما، لأنهما لو أقاما على ما خرجا منه، لم

يؤمن أن يؤدي ذلك إلى ما يعظم في الدين ضرره، ويعم المسلمين مكروهه، ويرجع عليهما عظيم الوزر فيه، فخلعهما أمير المؤمنين إذ خلفا أنفسهما من ولاية العهد، وخلعهما جميع إخوة أمير المؤمنين ومن بحضرته، من أهل بيته، وخلعهما جميع من حضر من قواد أمير المؤمنين ومواليه وشيعته ورؤساء جنده وشاكريته وكتابه وقضاته والفقهاء وغيرهم من سائر أولياء أمير المؤمنين، الذين كانت أخذت لهما البيعة عليهم وأمر أمير المؤمنين بإنشاء الكتب بذلك إلى جميع العمال، ليتقدموا في العمل بحسب ما فيها، ويخلعوا أبا عبد الله وإبراهيم من ولاية العهد، إذ كانا قد خلعا أنفسهما من ذلك، وحللا الخاص والعام، والحاضر والغائب، والداني والقاصي منه، ويسقطوا ذكرهما بولاية العهد، وذكر ما نسبا إليه من نسب ولاية العهد من المعتز بالله والمؤيد بالله من كتبهم وألفاظهم، والدعاء لهما على المنابر، ويسقطوا كل ما ثبت في دواوينهم من رسومهما القديمة والحديثة الواقعة على من كان مضموما إليهما، ويزيلوا ما على الأعلام والمطارد من ذكرهما، وما وسمت به دواب الشاكرية والرابطة من أسمائهما ومحلك من أمير المؤمنين وحالك عنده على حسب ما أخلص الله لأمير المؤمنين من طاعتك ومناصحتك، وموالاتك ومشايعتك، ما أوجب الله لك بسلفك ونفسك، وما عرف الله أمير المؤمنين من طاعتك ويمن نقيبتك، واجتهادك في قضاء الحق وقد أفردك أمير المؤمنين بقيادتك، وإزالة الضم إلى أبي عبد الله عنك وعمن في ناحيتك بالحضرة وسائر النواحي. ولم يجعل أمير المؤمنين بينك وبينه احد يرؤسك، وخرج أمره بذلك إلى ولاة دواوينه. فاعلم ذلك واكتب إلى عمالك بنسخة كتاب أمير المؤمنين هذا إليك، وأوعز إليهم في العمل على حسبه إن شاء الله، والسلام

ذكر الخبر عن وفاه المنتصر

وكتب أحمد بن الخصيب يوم السبت لعشر بقين من صفر سنة ثمان وأربعين ومائتين. ذكر الخبر عن وفاه المنتصر وفي هذه السنة توفي المنتصر. ذكر الخبر عن العلة التي كانت فيها وفاته والوقت الذي توفي فيه وقدر المدة التي كانت فيها حياته: فأما العلة التي كانت بها وفاته، فإنه اختلف فيها، فقال بعضهم: أصابته الذبحة في حلقه يوم الخميس لخمس بقين من شهر ربيع الأول، ومات مع صلاة العصر من يوم الأحد لخمس ليال خلون من شهر ربيع الآخر. وقيل: توفي يوم السبت وقت العصر لأربع خلون من شهر ربيع الآخر، وإن علته كانت من ورم في معدته، ثم تصعد إلى فؤاده فمات، وإن علته كانت ثلاثة أيام أو نحوها. وحدثني بعض أصحابنا انه كان وجد حرارة، فدعا بعض من كان يتطبب له، وأمره بفصده، ففصده بمبضع مسموم، فكان فيه منيته، وإن الطبيب الذي فصده انصرف إلى منزله، وقد وجد حرارة، فدعا تلميذا له، فأمره بفصده ووضع مباضعه بين يديه ليتخير أجودها، وفيها المبضع المسموم الذي فصد به المنتصر، وقد نسيه فلم يجد التلميذ في المباضع التي وضعت بين يديه مبضعا أجود من المبضع المسموم، ففصد به أستاذه وهو لا يعلم أمره، فلما فصده به نظر إليه صاحبه فعلم أنه هالك، فأوصى من ساعته، وهلك من يومه

وقد ذكر أنه وجد في رأسه علة فقطر ابن الطيفوري في أذنه دهنا، فورم رأسه، وعوجل فمات وقد قيل: إن ابن الطيفورى انما سمه في محاجمه. قال ابو جعفر: ولم أزل أسمع الناس حين أفضت إليه الخلافة من لدن ولي إلى أن مات يقولون: إنما مدة حياته ستة أشهر، مدة شيرويه ابن كسرى قاتل أبيه، مستفيضا ذلك على ألسن العامة والخاصة. وذكر عن يسر الخادم، وكان- فيما ذكر- يتولى بيت المال للمنتصر في أيام إمارته، أنه قال: كان المنتصر يوما من الأيام في خلافته نائما في إيوانه، فانتبه وهو يبكى وينتخب، قال: فهبته أن أسأله عن بكائه، ووقفت وراء الباب، فإذا عبد الله بن عمر البازيار قد وافى فسمع نحيبه وشهيقه، فقال لي: ما له؟ ويحك يا يسر! فأعلمته أنه كان نائما فانتبه باكيا، فدنا منه، فقال له: ما لك يا أمير المؤمنين تبكي لا أبكى الله عينك؟! قال: ادن مني يا عبد الله، فدنا منه فقال له: كنت نائما، فرأيت فيما يرى النائم كأن المتوكل قد جاءني، فقال لي: ويلك يا محمد! قتلتني وظلمتني وغبنتنى في خلافتي، والله لا تمتعت بها بعدي إلا أياما يسيرة، ثم مصيرك إلى النار. فانتبهت، وما أملك عيني ولا جزعي فقال له عبد الله: هذه رؤيا، وهي تصدق وتكذب، بل يعمرك ويسرك الله، فادع الآن بالنبيذ، وخذ في اللهو، ولا تعبأ بالرؤيا قال: ففعل ذلك، وما زال منكسرا إلى أن توفي. وذكر أن المنتصر كان شاور في قتل أبيه جماعة من الفقهاء، وأعلمهم بمذاهبه، وحكي عنه أمورا قبيحة كرهت ذكرها في الكتاب، فأشاروا عليه بقتله، فكان من أمره ما ذكرنا بعضه. وذكر عنه أنه لما اشتدت به علته، خرجت إليه أمه فسألته عن حاله، فقال: ذهبت والله مني الدنيا والآخرة. قال ابراهيم بن جيش: حدثنى موسى بن عيسى الكاتب، كاتب عمى يعقوب وابن عمى يزيد، ان المنتصر لما افضت الخلافه اليه، كان يكثر إذا سكر قتل ابيه المتوكل، ويقول في الاتراك: هؤلاء قتله الخلفاء، ويذكر من ذلك ما تخوفوه، فجعلوا الخادم له ثلاثين الف دينار على ان يحتال في سمه،

وجعلوا لعلى بن طيفور جمله، وكان المنتصر يكثر اكل الكمثرى إذا قدمت اليه الفاكهة، فعمد ابن طيفور الى كمثراه كبيره نضيجه، فادخل في راسها خلاله، ثم سقاها سما، فجعلها الخادم في اعلى الكمثرى الذى قدمه اليه، فلما نظر إليها المنتصر امره ان يقشرها ويطعمه إياها، فقشرها وقطعها، ثم اعطاه قطعه قطعه حتى اتى عليها، فلما أكلها وجد فتره، فقال لابن طيفور: أجد حراره، فقال: يا امير المؤمنين، احتجم تبرا من عله الدم، وقدر انه إذ خرج الدم قوى عليه السم فحجم فحم، وغلظت علته عليه فتخوف هو والاتراك ان تطول علته، فقال له: يا امير المؤمنين، ان الحجامة لم يكن فيها ما قدرنا في عافيتك، وتحتاج الى الفصد، فانه انجح لما تريد، فقال: افعل، ففصده بمبضع مسموم، ودهش، فالقاه في مباضعه- وكان أحدها وأجودها ثم ان على بن طيفور، وجد حراره، فدعا تلميذا له ليفصده، فنظر في المباضع فلم يجد احد منه، ولا اخير ففصده، فكانت منيته فيه. وذكر عن ابن دهقانه أنه قال: كنا في مجلس المنتصر يوما بعد ما قتل المتوكل، فتحدث المسدود الطنبوري بحديث، فقال المنتصر: متى كان هذا؟ فقال: ليلة لا ناه ولا زاجر، فأحفظ ذلك المنتصر. وذكر عن سعيد بن سلمة النصراني أنه قال: خرج علينا أحمد بن الخصيب مسرورا يذكر أن أمير المؤمنين المنتصر رأى في ليلة في المنام، أنه صعد درجة حتى انتهى إلى خمس وعشرين مرقاة منها، فقيل له: هذا ملكك، وبلغ الخبر ابن المنجم، فدخل عليه محمد بن موسى وعلي بن يحيى المنجم مهنئين له بالرؤيا، فقال: لم يكن الأمر على ما ذكر لكم احمد ابن الخصيب، ولكني حين بلغت أخر المراقي، قيل لي: قف فهذا آخر عمرك، واغتم لذلك غما شديدا، فعاش بعد ذلك أياما تتمة سنة، ثم مات وهو ابن خمس وعشرين سنة وقيل: توفي وهو ابن خمس وعشرين سنة. وستة أشهر وقيل: بل كان عمره أربعا وعشرين سنة، وكانت مدة خلافته ستة اشهر

ذكر بعض سيره

في قول بعضهم ويومين. وقيل: كانت ستة أشهر سواء. وقيل: كانت مائة يوم وتسعة وسبعين يوما. وكان وفاته بسامرا بالقصر المحدث، بعد أن أظهر في إخوته ما أظهر بأربع وأربعين ليلة، وذكر أنه لما حضرته الوفاة قال: فما فرحت نفسي بدنيا أخذتها ... ولكن إلى الرب الكريم أصير وصلى عليه أحمد بن محمد بن المعتصم بسامرا، وبها كان مولده. وكان أعين أقنى قصيرا جيد البضعة وكان- فيما ذكر- مهيبا. وهو أول خليفة من بني العباس- فيما بعد- عرف قبره. وذلك أن أمه طلبت إظهار قبره وكانت كنيته أبا جعفر واسم أمه حبشية وهي أم ولد رومية . ذكر بعض سيره ذكر أن المنتصر لما ولي الخلافة كان أول شيء أحدث من الأمور عزل صالح عن المدينة وتوليه علي بن الحسين بن إسماعيل بن العباس بن محمد إياها، فذكر عن علي بن الحسين، أنه قال: دخلت عليه أودعه، فقال لي: يا علي، إني أوجهك إلى لحمي ودمي- ومد جلد ساعده- وقال: إلى هذا وجهتك، فانظر كيف تكون للقوم، وكيف تعاملهم! يعني آل أبي طالب، فقلت: أرجو أن أمتثل رأي أمير المؤمنين أيده الله فيهم إن شاء الله، فقال: إذا تسعد بذلك عندي وذكر عن محمد بن هارون، كاتب محمد بن علي برد الخيار وخليفته على ديوان ضياع إبراهيم المؤيد، أنه أصيب مقتولا على فراشه، به عده ضربات

بالسيف، فأحضر ولده خادما أسود كان له ووصيفا، ذكر أن الوصيف أقر على الأسود، فأدخل على المنتصر، وأحضر جعفر بن عبد الواحد، فسئل عن قتله مولاه، فأقر به، ووصف فعله به وسبب قتله إياه، فقال له المنتصر: ويلك! لم قتلته؟ فقال له الأسود: لما قتلت أنت أباك المتوكل! فسأل الفقهاء في أمره، فأشاروا بقتله، فضرب عنقه وصلبه، عند خشبة بابك 4 وفي هذه السنة حكم محمد بن عمرو الشاري، وخرج بناحية الموصل، فوجه إليه المنتصر إسحاق بن ثابت الفرغاني، فأخذه أسيرا مع عدة من أصحابه، فقتلوا وصلبوا 34 وفيها تحرك يعقوب بن الليث الصفار من سجستان، فصار إلى هراة. وذكر عن أحمد بن عبد الله بن صالح صاحب المصلى أنه قال: كان لأبي مؤذن، فرآه بعض أهلنا في المنام كأنه أذن أذانا لبعض الصلوات، ثم دنا من بيت فيه المنتصر، فنادى: يا محمد، يا منتصر، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ. وذكر عن بنان المغني- وكان فيما قيل أخص الناس بالمنتصر في حياة أبيه وبعد ما ولي الخلافة- أنه قال: سألت المنتصر أن يهب لي ثوب ديباج وهو خليفة، فقال: او خير لك من الثوب الديباج؟ قلت: وما هو؟ قال: تتمارض حتى أعودك، فإنه سيهدى لك أكثر من الثوب الديباج، قال: فمات في تلك الأيام، ولم يهب لي شيئا. وفي هذه السنة بويع بالخلافة أحمد بن محمد بن المعتصم.

خلافه احمد بن محمد بن المعتصم وهو المستعين ويكنى أبا العباس

خلافة أحمد بن محمد بن المعتصم وهو المستعين ويكنى أبا العباس ذكر الخبر عن سبب ولايته والوقت الذي بويع له فيه: ذكر أن المنتصر لما توفي، وذلك يوم السبت عند العصر لأربع خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخَرِ مِنْ سَنَةِ ثمان وأربعين ومائتين، اجتمع الموالي إلى الهاروني يوم الأحد، وفيهم بغا الصغير وبغا الكبير اوتامش ومن معهم، فاستحلفوا قواد الأتراك والمغاربة والأشروسنية- وكان الذى يستحلفهم على بن الحسين ابن عبد الأعلى الإسكافي كاتب بغا الكبير- على ان يرضوا بمن يرضى به بغا الصغير وبغا الكبير اوتامش، وذلك بتدبير أحمد بن الخصيب، فحلف القوم وتشاوروا بينهم، وكرهوا أن يتولى الخلافة أحد من ولد المتوكل، لقتلهم أباه، وخوفهم أن يغتالهم من يتولى الخلافة منهم، فأجمع أحمد بن الخصيب ومن حضر من الموالي على أحمد بن محمد بن المعتصم، فقالوا: لا نخرج الخلافة من ولد مولانا المعتصم، وقد كانوا قبله ذكروا جماعة من بني هاشم، فبايعوه وقت العشاء الآخرة من ليلة الاثنين، لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخَرِ مِنْ السنة، وهو ابن ثمان وعشرين سنة، ويكنى أبا العباس. فاستكتب أحمد بن الخصيب، واستوزر اوتامش فلما كان يوم الاثنين لست خلون من شهر ربيع الآخر صار إلى دار العامة من طريق العمري بين البساتين، وقد ألبسوه الطويلة وزي الخلافة، وحمل إبراهيم بن إسحاق بين يديه الحربة قبل طلوع الشمس، ووافى واجن الأشروسني باب العامة من طريق الشارع على بيت المال، فصف أصحابه صفين، وقام في الصف هو وعدة من وجوه أصحابه، وحضر الدار أصحاب المراتب من ولد المتوكل والعباسيين والطالبيين وغيرهم ممن لهم مرتبه، فبينا هم كذلك، وقد مضى من النهار ساعة ونصف، جاءت صيحة من ناحية الشارع والسوق، فإذا نحو من خمسين فارسا من الشاكرية، ذكروا أنهم من أصحاب

أبي العباس محمد بن عبد الله، ومعهم قوم من فرسان طبرية وأخلاط من الناس ومعهم من الغوغاء والسوقة نحو من ألف رجل، فشهروا السلاح، وصاحوا: يا معتز يا منصور، وشدوا على صفي الأشروسنية اللذين صفهما واجن، فتضعضعوا، وانضم بعضهم إلى بعض، ونفر من على باب العامة من المبيضة مع الشاكرية، فكثروا، فشد عليهم المغاربة والأشروسنية، فهزموهم حتى أدخلوهم الدرب الكبير المعروف بزرافة وعزون وحمل قوم منهم على المعتزية، فكشفوهم، حتى جاوزوا بهم دار أخي عزون بن إسماعيل وهم في مضيق الطريق، فوقف المعتزية هنالك، ورمى الأشروسنية عدة منهم بالنشاب، وضربوهم بالسيوف، ونشبت الحرب بينهم، وأقبلت المعتزية والغوغاء يكبرون، فوقعت بينهم قتلى كثيرة، إلى أن مضى من النهار ثلاث ساعات ثم انصرف الأتراك وقد بايعوا أحمد بن محمد بن المعتصم، وانصرفوا مما يلي العمري والبساتين، وأخذ الموالي قبل انصرافهم البيعة على من حضر الدار من الهاشميين وغيرهم وأصحاب المراتب وخرج المستعين من باب العامة منصرفا إلى الهاروني، فبات هنالك ومضى الأشروسنية إلى الهاروني، وقد قتل من الفريقين عدد كثير، ودخل قوم من الأشروسنية دورا، فظفرت بهم الغوغاء، فأخذوا دروعهم وسلاحهم وجواشنهم ودوابهم، ودخل الغوغاء والمنتهبة دار العامة منصرفين إلى الهاروني، فانتهبوا الخزانه التي فيها السلاح والدروع والجواشن واللجم المغربية وأكثروا منها، وربما مر أحدهم بالجواشن والحراب فأكثر، وانتهبوا في دار أرمش ابن أبي أيوب بحضرة أصحاب الفقاع تراس خيزران وقنا بلا أسنة، فكثرت الرماح والتراس في أيدي الغوغاء وأصحاب الحمامات وغلمان الباقلي، ثم جاءتهم جماعة من الأتراك منهم بغا الصغير من درب زرافه، فاحلوهم من الخزانة، وقتلوا منهم عدة، وأمسكوا قليلا ثم انصرف الفريقان، وقد كثرت القتلى بينهم، وأقبل الغوغاء لا يمر أحد من الأتراك من أسافل سامرا يريد باب العامة إلا انتهبوا سلاحه، وقتلوا جماعة منهم عند دار مبارك المغربي، وعند دار حبش

أخي يعقوب قوصرة في شوارع سامرا، وعامة من انتهب- فيما ذكر- هذا السلاح أصحاب الفقاع والناطف وأصحاب الحمامات والسقاءون وغوغاء الأسواق، فلم يزل ذلك أمرهم إلى نصف النهار، وتحرك أهل السجن بسامرا في هذا اليوم، فهرب منهم جماعة، ثم وضع العطاء على البيعة، وبعث بكتاب البيعة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر في اليوم الذي بويع له فيه، وكان وصوله إلى محمد في اليوم الثاني، ووافى به أخ لأتامش ومحمد بن عبد الله في نزهة له، فوجه الحاجب إليه، وأعلمه مكانه، فرجع من ساعته، وبعث إلى الهاشميين والقواد والجند، ووضع لهم الأرزاق وورد في هذه السنة على المستعين وفاة طاهر بن عبد الله بن طاهر بخراسان في رجب، فعقد المستعين لابنه محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر على خراسان، ولمحمد بن عبد الله على العراق، وجعل إليه الحرمين والشرطة ومعاون السواد برأسه وأفرده به، وعقد في الجوسق لمحمد بن طاهر بن عبد الله ابن طاهر على خراسان والاعمال المضمومة إليها خاصة يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من شعبان. ومرض بغا الكبير في جمادى الآخرة، فعاده المستعين في النصف منها، ومات بغا من يومه، فعقد لموسى ابنه على أعماله وعلى أعمال أبيه كلها وولي ديوان البريد. وفي هذه السنه وجه انوجو التركي إلى أبي العمود الثعلبي، فقتله يوم السبت بكفرتوثى لخمس بقين من شهر ربيع الآخر. وفيها خرج عبيد الله بن يحيى بن خاقان إلى الحج، فوجه خلفه رسول من الشيعة اسمه شعيب بنفيه إلى برقة، ومنعه من الحج. وفيها ابتاع المستعين من المعتز والمؤيد في جمادى الأولى منها جميع ما كان لهما، خلا شيئا استثنى منه المعتز قيمته مائة ألف دينار، وأخذ له ولإبراهيم غلة بثمانين ألف دينار في السنة، فلما كان يَوْمَ الاثْنَيْنِ لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ

من رمضان ابتيع من المعتز والمؤيد جميع ما لهما من الدور والمنازل والضياع والقصور والفرش والآلة وغير ذلك بعشرين ألف دينار، وأشهدا عليهما بذلك الشهود والعدول والقضاة وغيرهم وقيل: ابتيع ما لهما من الضياع وترك إلى أبي عبد الله ما يكون غلته من العين في السنة عشرين ألف دينار، ولإبراهيم ما تبلغ قيمة غلته في السنة خمسة آلاف دينار، فكان ما ابتيع من أبي عبد الله بعشرة آلاف ألف دينار وعشر حبات لؤلؤ، ومن إبراهيم بثلاثة آلاف ألف درهم وثلاث حبات لؤلؤ، وأشهدا عليهما بذلك الفقهاء والقضاة وكان الشراء باسم الحسن بن مخلد للمستعين، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين وحبسا في حجرة الجوسق، ووكل بهما، وجعل أمرهما إلى بغا الصغير، وكان الأتراك قد أرادوا حين شغب الغوغاء والشاكرية قتلهما، فمنعهم من ذلك أحمد بن الخصيب، وقال: ليس لهما ذنب ولا المشغبة من أصحابهما، وإنما المشغبة من أصحاب ابن طاهر، ولكن احبسوهما فحبسا. وفيها غضب الموالي على أحمد بن الخصيب، وذلك في جمادى الأولى منها، واستصفي ماله ومال ولده، ونفي إلى أقريطش. وفيها صرف علي بن يحيى عن الثغور الشامية، وعقد له على أرمينية وأذربيجان في شهر رمضان من هذه السنة. وفيها شغب أهل حمص على كيدر بن عبيد الله عامل المستعين عليها فأخرجوه منها، فوجه إليهم الفضل بن قارن، فمكر بهم حتى أخذهم، وقتل منهم خلقا كثيرا، وحمل منهم مائة رجل من عيونهم إلى سامرا، وهدم سورهم. وفيها غزا الصائفة وصيف، وكان مقيما بالثغر الشامي حتى ورد عليه موت

المنتصر، ثم دخل بلاد الروم، فافتتح حصنا يقال له فروريه، وعقد المستعين فيها لاوتامش على مصر والمغرب واتخذه وزيرا. وفيها عقد لبغا الشرابي على حلوان وماسبذان ومهرجانقذق، وصير المستعين شاهك الخادم على داره وكراعه وحرمه وخزائنه وخاص أموره، وقدمه اوتامش على جميع الناس. وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن سليمان الزينبي.

سنه تسع واربعين ومائتين

ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائتين ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث فمما كان فيها من ذلك غزو جعفر بن دينار الصائفة، فافتتح حصنا ومطامير، واستأذنه عمر بن عبيد الله الأقطع في المصير إلى ناحية من بلاد الروم، فأذن له، فسار ومعه خلق كثير من أهل ملطية، فلقيه الملك في جمع من الروم عظيم بموضع، يقال له أرز من مرج الأسقف، فحاربه بمن معه محاربة شديدة، قتل فيها خلق كثير من الفريقين، ثم أحاطت به الروم وهم خمسون ألفا، فقتل عمر وألفا رجل من المسلمين، وذلك في يوم الجمعة للنصف من رجب. خبر قتل على بن يحيى الأرمني وفيها قتل علي بن يحيى الأرمني. ذكر الخبر عن سبب قتله: ذكر أن الروم لما قتلت عمر بن عبيد الله، خرجوا إلى الثغور الجزرية، وكلبوا عليها وعلى حرم المسلمين بها، فبلغ ذلك علي بن يحيى وهو قافل من أرمينية إلى ميافارقين، فنفر إليهم في جماعة من أهل ميافارقين والسلسلة، فقتل في نحو من أربعمائة رجل، وذلك في شهر رمضان. شغب الجند والشاكريه ببغداد وشغب الجند والشاكرية ببغداد في هذه السنة في أول يوم من صفر

ذكر الخبر عن السبب في ذلك: وكان السبب في ذلك أن الخبر لما اتصل بأهل مدينة السلام وسامرا وسائر ما قرب منهما من مدن الإسلام بمقتل عمر بن عبيد الله الأقطع وعلي بن يحيى الأرمني- وكانا نابين من أنياب المسلمين، شديدا بأسهما، عظيما غناؤهما عنهم في الثغور التي هما بها- شق ذلك عليهم، وعظم مقتلهما في صدورهم، مع قرب مقتل أحدهما من مقتل الآخر، ومع ما لحقهم من استفظاعهم من الأتراك قتل المتوكل واستيلائهم على أمور المسلمين، وقتلهم من أرادوا قتله من الخلفاء، واستخلافهم من أحبوا استخلافه من غير رجوع منهم إلى ديانة، ولا نظر للمسلمين، فاجتمعت العامة ببغداد بالصراخ والنداء بالنفير، وانضمت إليها الأبناء والشاكرية تظهر أنها تطلب الأرزاق، وذلك أول يوم من صفر، ففتحوا سجن نصر بن مالك، وأخرجوا من فيه وفي القنطرة بباب الجسر، وكان فيها جماعة- فيما ذكر- من رفوغ خراسان والصعاليك من أهل الجبال والمحمرة وغيرهم، وقطعوا أحد الجسرين وضربوا الآخر بالنار، وانحدرت سفنه، وانتهب ديوان قصص المحبسين، وقطعت الدفاتر، وألقيت في الماء، وانتهبوا دار بشر وإبراهيم ابني هارون النصرانيين كاتبي محمد بن عبد الله، وذلك كله بالجانب الشرقي من بغداد وكان والي الجانب الشرقي حينئذ أحمد بن محمد بن خالد بن هرثمة ثم أخرج أهل اليسار من أهل بغداد وسامرا أموالا كثيرة من أموالهم، فقووا من خف للنهوض إلى الثغور لحرب الروم بذلك، وأقبلت العامة من نواحي الجبل وفارس والأهواز وغيرها لغزو الروم، فلم يبلغنا أنه كان للسلطان فيما كان من الروم إلى المسلمين من ذلك تغيير، ولا توجيه جيش إليهم لحربهم في تلك الأيام. ولتسع بقين من شهر ربيع الأول، وثب نفر من الناس لا يدرى من هم يوم الجمعة بسامرا، ففتحوا السجن بها، وأخرجوا من فيه، فوجه في طلب النفر الذين فعلوا ذلك زرافة في جماعة من الموالي، فوثبت بهم العامة فهزموهم، ثم ركب في ذلك

ذكر خبر قتل اوتامش وكاتبه

اوتامش ووصيف وبغا وعامة الأتراك، فقتلوا من العامة جماعة، وألقي على وصيف- فيما ذكر لي- قدر مطبوخ، ويقال: بل رماه قوم من العامه عند السريجه بحجر، فأمر وصيف النفاطين، فقذفوا ما هنالك من حوانيت التجار ومنازل الناس بالنار، فأنا رأيت ذلك الموضع محترقا، وذلك بسامرا عند دار إسحاق. وذكر أن المغاربة انتهبت منازل جماعة من العامة في ذلك اليوم، ثم سكن الأمر في آخر ذلك اليوم، وعزل بسبب ما كان من العامه والنفر الذين ذكرت في ذلك اليوم من الحركة، أحمد بن جميل عما كان إليه من المعونة بسامرا، وولى مكانه ابراهيم بن سهل الدارج . ذكر خبر قتل اوتامش وكاتبه وفي هذه السنه قتل اوتامش وكاتبه شجاع بن القاسم، وذلك يوم السبت لأربع عشرة خلون من شهر ربيع الآخر منها. ذكر الخبر عن سبب مقتله: ذكر أن المستعين لما أفضت اليه الخلافه، اطلق يد اوتامش وشاهك الخادم في بيوت الأموال، وأباحهما فعل ما أرادا فعله فيها، وفعل ذلك أيضا بأم نفسه، فلم يمنعها من شيء تريده، وكان كاتبها سلمه بن سعيد النصراني، وكانت الأموال التي ترد على السلطان من الآفاق إنما يصير معظمها إلى هؤلاء الثلاثة الأنفس، فعمد اوتامش إلى ما في بيوت الأموال من الأموال فاكتسحه، وكان المستعين قد جعل ابنه العباس في حجر اوتامش، فكان ما فضل من الأموال عن هؤلاء الثلاثة الأنفس يؤخذ للعباس، فيصرف في نفقاته وأسبابه- وصاحب ديوان ضياعه يومئذ دليل- فاقتطع من ذلك أموالا جليلة لنفسه، وجعلت الموالي تنظر إلى الأموال تستهلك، وهم في ضيقة، وجعل اوتامش وهو صاحب المستعين وصاحب أمره، والمستولي عليه ينفذ أمور الخلافة، ووصيف

مقتل على بن الجهم

وبغا من ذلك كله بمعزل، فأغريا الموالي به، ولم يزالا يدبران الأمر عليه حتى احكما التدبير، فتذمرت الاتراك والفراغنه على اوتامش، وخرج إليه منهم يوم الخميس لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخر من هذه السنة أهل الدور والكرخ، فعسكروا وزحفوا إليه وهو في الجوسق مع المستعين. وبلغه الخبر، فأراد الهرب، فلم يمكنه، واستجار بالمستعين فلم يجره فأقاموا على ذلك من أمرهم يوم الخميس ويوم الجمعة، فلما كان يوم السبت دخلوا الجوسق، فاستخرجوا اوتامش من موضعه الذي توارى فيه، فقتل وقتل كاتبه شجاع بن القاسم، وانتهبت دار اوتامش، فأخذ منها- فيما بلغني- أموال جليلة ومتاع وفرش وآله. ولما قتل اوتامش استوزر المستعين أبا صالح عبد الله بن محمد بن يزداد، وعزل الفضل بن مروان عن ديوان الخراج، ووليه عيسى بن فرخان شاه، وولي وصيف الأهواز، وبغا الصغير فلسطين في شهر ربيع الآخر ثم غضب بغا الصغير وحزبه على أبي صالح بن يزداد، فهرب أبو صالح إلى بغداد في شعبان، وصير المستعين مكانه محمد بن الفضل الجرجرائي، فصير ديوان الرسائل إلى سعيد بن حميد رياسة، فقال في ذلك الحمدوني: ليس السيف سعيد بعد ما ... عاش ذا طمرين لا نوبة له إن لله لآيات وذا ... آية لله فينا منزله مقتل على بن الجهم وفيها قتل علي بن الجهم بن بدر، وكان سبب ذلك أنه توجه من بغداد إلى الثغر، فلما كان بقرب حلب بموضع يقال له خساف، لقيته خيل لكلب، فقتلته، وأخذ الأعراب ما كان معه، فقال وهو في السياق: أزيد في الليل ليل ... أم سال بالصبح سيل

ذكرت أهل دجيل ... وأين مني دجيل! وكان منزله في شارع الدجيل. وفيها عزل جعفر بن عبد الواحد عن القضاء، ووليه جعفر بن محمد بن عمار البرجمي من أهل الكوفة، وقد قيل إن ذلك في سنة خمسين ومائتين. وفيها أصاب أهل الري في ذي الحجة زلزلة شديدة ورجفة تهدمت منها الدور، ومات خلق من أهلها وهرب الباقون من أهلها من المدينة، فنزلوا خارجها ومطر أهل سامرا يوم الجمعة لخمس بقين من جمادى الأولى، وذلك يوم السادس عشر من تموز مطر جود برعد وبرق، فأطبق الغيم ذلك اليوم، ولم يزل المطر جودا سائلا يومئذ إلى اصفرار الشمس ثم سكن. وتحركت المغاربة في هذه السنة يوم الخميس لثلاث خلون من جمادى الأولى، وكانوا يجتمعون قرب الجسر بسامرا، ثم تفرقوا يوم الجمعة. وحج بالناس في هذه السنة عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام وهو والى مكة.

سنه خمسين ومائتين

ثم دخلت سنة خمسين ومائتين ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث ظهور يحيى بن عمر الطالبي ثم مقتله فمن ذلك ما كان من ظهور يحيى بن عمر بن يحيى بن حسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، المكنى بأبي الحسين بالكوفة، وفيها كان مقتله رضي الله عنه. ذكر الخبر عن سبب ظهوره وما آل إليه أمره: ذكر أن أبا الحسين يحيى بن عمر- وأمه أم الحسين فاطمه بنت الحسين ابن عبد الله بْن إسماعيل بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- نالته ضيقة شديدة، ولزمه دين ضاق به ذرعا، فلقي عمر بن فرج- وهو يتولى امر الطالبين- عند مقدمه من خراسان أيام المتوكل، فكلمه في صلته، فأغلظ عليه عمر القول، فقذفه يحيى بن عمر في مجلسه، فحبس، فلم يزل محبوسا إلى أن كفل به أهله، فأطلق، فشخص إلى مدينة السلام، فأقام بها بحال سيئة، ثم صار إلى سامرا، فلقي وصيفا في رزق يجرى له، فأغلظ له وصيف في القول، وقال: لأي شيء يجري على مثلك! فانصرف عنه. فذكر ابن أبي طاهر أن ابن الصوفي الطالبي حدثه، أنه أتاه في الليلة التي كان خروجه في صبيحتها، فبات عنده، ولم يعلمه بشيء مما عزم عليه، وأنه عرض عليه الطعام، وتبين فيه أنه جائع، فأبى أن يأكل، وقال: إن عشنا أكلنا، قال: فتبينت أنه قد عزم على فتكة، وخرج من عندي،

فجعل وجهه إلى الكوفة، وبها أيوب بن الحسن بن موسى بن جعفر بن سليمان عاملا عليها من قبل محمد بن عبد الله بن طاهر، فجمع يحيى بن عمر جمعا كثيرا من الأعراب، وضوى إليه جماعة من أهل الكوفة، فأتى الفلوجة، فصار إلى قرية تعرف بالعمد، فكتب صاحب البريد بخبره، فكتب محمد بن عبد الله بن طاهر إلى أيوب بن الحسن وعبد الله بن محمود السرخسي- وكان عامل محمد بن عبد الله على معاون السواد- يأمرهما بالاجتماع على محاربه يحيى ابن عمر- وكان على الخراج بالكوفة بدر بن الأصبغ- فمضى يحيى بن عمر في سبعة نفر من الفرسان إلى الكوفة فدخلها، وصار إلى بيت مالها، فأخذ ما فيه، والذي وجد فيه ألفا دينار وزيادة شيء، ومن الورق سبعون ألف درهم، وأظهر أمره بالكوفة وفتح السجنين، وأخرج جميع من كان فيهما، وأخرج عمالها عنها، فلقيه عبد الله بن محمود السرخسي- وكان في عداد الشاكرية، فضربه يحيى بن عمر ضربة على قصاص شعره في وجهه أثخنته، فانهزم ابن محمود مع أصحابه، وحوى يحيى ما كان مع ابن محمود من الدواب والمال ثم خرج يحيى بن عمر من الكوفة إلى سوادها، فصار إلى موضع يقال له بستان- أو قريبا منه- على ثلاثة فراسخ من جنبلاء، ولم يقم بالكوفه، وتبعته جماعه من الزيدية، واجتمعت على نصرته جماعة من قرب من تلك الناحية من الأعراب وأهل الطفوف والسيب الأسفل، وإلى ظهر واسط ثم أقام بالبستان، فكثر جمعه، فوجه محمد بن عبد الله لمحاربته الحسين بن اسماعيل ابن إبراهيم بن مصعب، وضم إليه من ذوي البأس والنجدة من قواده جماعة، مثل خالد بن عمران وعبد الرحمن بن الخطاب المعروف بوجه الفلس، وأبي السناء الغنوي، وعبد الله بن نصر بن حمزة، وسعد الضبابي، ومن الاسحاقيه احمد ابن محمد بن الفضل وجماعة من خاصة الخراسانية وغيرهم. وشخص الحسين بن إسماعيل، فنزل بإزاء هفندى في وجه يحيى بن عمر، لا يقدم عليه الحسين بن إسماعيل ومن معه، وقصد يحيى نحو البحرية

- وهي قرية بينها وبين قسين خمسة فراسخ، ولو شاء الحسين أن يلحقه لحقه- ثم مضى يحيى بن عمر في شرقي السيب والحسين في غربيه، حتى صار الى احمداباذ فعبر إلى ناحية سورا، وجعل الجند لا يلحقون ضعيفا عجز عن اللحاق بيحيى إلا اخذوه، واوقعوه بمن صار إلى يحيى بن عمر من أهل تلك القرى. وكان أحمد بن الفرج المعروف بابن الفزاري يتولى معونة السيب لمحمد ابن عبد الله، فحمل ما اجتمع عنده من حاصل السيب قبل دخول يحيى بن عمر احمداباذ، فلم يظفر به. ومضى يحيى بن عمر نحو الكوفة، فلقيه عبد الرحمن بن الخطاب وجه الفلس، فقاتله بقرب جسر الكوفة قتالا شديدا، فانهزم عبد الرحمن بن الخطاب، وانحاز إلى ناحية شاهي، ووافاه الحسين بن إسماعيل، فعسكر بها، ودخل يحيى بن عمر الكوفة، واجتمعت إليه الزيدية، ودعا إلى الرضا من آل محمد وكثف أمره، واجتمعت إليه جماعة من الناس وأحبوه، وتولاه العامة من أهل بغداد- ولا يعلم أنهم تولوا من أهل بيته غيره- وبايعه بالكوفة جماعة لهم بصائر وتدبير في تشيعهم، ودخل فيهم أخلاط لا ديانة لهم. وأقام الحسين بن إسماعيل بشاهي، واستراح وأراح أصحابه دوابهم، ورجعت إليهم أنفسهم، وشربوا العذب من ماء الفرات، واتصلت بهم الأمداد والميرة والأموال وأقام يحيى بن عمر بالكوفة يعد العدد، ويطبع السيوف، ويعرض الرجال، ويجمع السلاح. وإن جماعة من الزيدية ممن لا علم له بالحرب، أشاروا على يحيى بمعاجلة الحسين، وألحت عليه عوام أصحابه بمثل ذلك، فزحف إليه من ظهر الكوفة من وراء الخندق ليلة الاثنين لثلاث عشرة خلت من رجب، ومعه الهيضم العجلي، في فرسان من بني عجل وأناس من بني أسد ورجالة من أهل الكوفة ليسوا بذوي علم ولا تدبير ولا شجاعة، فأسروا ليلتهم، ثم صبحوا حسينا وأصحابه- وأصحاب حسين مستريحون ومستعدون- فثاروا إليهم في الغلس

فرموا ساعة، ثم حمل عليهم أصحاب الحسين فانهزموا، ووضع فيهم السيف، فكان أول أسير الهيضم بن العلاء بن جمهور العجلي، فانهزم رجالة أهل الكوفة، وأكثرهم عزل بغير سلاح، ضعفي القوى، خلقان الثياب، فداستهم الخيل، وانكشف العسكر عن يحيى بن عمر، وعليه جوشن تبتي، وقد تقطر به البرذون الذي أخذه من عبد الله بن محمود، فوقف عليه ابن لخالد بن عمران يقال له خير، فلم يعرفه، وظن أنه رجل من أهل خراسان، لما رأى عليه الجوشن، ووقف عليه أيضا أبو الغور بن خالد بن عمران، فقال لخير بن خالد: يا أخي، هذا والله أبو الحسين قد انفرج قلبه، وهو نازل لا يعرف القصة لانفراج قلبه، فأمر خير رجلا من أصحابه المواصلين من العرفاء يقال له محسن بن المنتاب، فنزل إليه فذبحه، وأخذ رأسه وجعله في قوصرة، ووجهه مع عمر بن الخطاب، أخي عبد الرحمن بن الخطاب إلى محمد بن عبد الله بن طاهر. وادعى قتله غير واحد، فذكر عن العرس بن عراهم أنهم وجدوه باركا، ووجدوا خاتمه مع رجل يعرف بالعسقلاني مع سيفه، وادعى أنه طعنه وسلبه، وادعى سعد الضبابي أنه قتله. وذكر عن أبي الحسين خال أبي السناء أنه طعن في الغلس رجلا في ظهره لا يعرفه، فأصابوا في ظهر أبي الحسين طعنة ولا يدرى من قتله، لكثرة من ادعاه، وورد الرأس دار محمد بن عبد الله بن طاهر، وقد تغبر، فطلبوا من يقور ذلك اللحم، ويخرج الحدقة والغلصمة، فلم يوجد، وهرب الجزارون، وطلب ممن في السجن من الخرمية الذباحين من يفعل ذلك فلم يقدم عليه أحد، إلا رجل من عمال السجن الجديد، يقال له سهل بن الصغدي، فإنه تولى إخراج دماغه وعينيه وقوره بيديه، وحشي بالصبر والمسك والكافور بعد أن غسل وصير في القطن وذكر أنهم رأوا بجنبيه ضربة بالسيف منكرة

ثم إن محمد بن عبد الله بن طاهر أمر بحمل رأسه إلى المستعين من غد اليوم الذي وافاه فيه، وكتب إليه بالفتح بيده، ونصب رأسه بباب العامة بسامرا، واجتمع الناس لذلك، وكثروا وتذمروا، وتولى إبراهيم الديرج نصبه، لأن إبراهيم بن إسحاق خليفة محمد بن عبد الله أمره فنصبه لحظة، ثم حط، ورد إلى بغداد لينصب بها بباب الجسر، فلم يتهيأ ذلك لمحمد بن عبد الله لكثرة من اجتمع من الناس وذكر لمحمد بن عبد الله أنهم على أخذه اجتمعوا، فلم ينصبه، وجعله في صندوق في بيت السلاح في داره، ووجه الحسين ابن إسماعيل بالأسرى ورءوس من قتل معه مع رجل يقال له أحمد بن عصمويه، ممن كان مع إسحاق بن إبراهيم، فكدهم وأجاعهم وأساء بهم، فأمر بهم فحبسوا في سجن الجديد، وكتب فيهم محمد بن عبد الله يسأل الصفح عنهم، فأمر بتخليتهم، وأن تدفن الرءوس ولا تنصب، فدفنت في قصر بباب الذهب. وذكر عن بعض الطاهرين أنه حضر مجلس محمد بن عبد الله وهو يهنأ بمقتل يحيى بن عمرو بالفتح وجماعة من الهاشميين والطالبيين وغيرهم حضور، فدخل عليه داود بن القاسم أبو هاشم الجعفري فيمن دخل، فسمعهم يهنئونه، فقال: أيها الأمير، إنك لتهنَّأ بقتل رجل لو كان رسول الله ص حيا لعزي به! فما رد عليه محمد بن عبد الله شيئا، فخرج أبو هاشم الجعفري، وهو يقول: يا بني طاهر كلوه وبيا ... إن لحم النبي غير مري إن وترا يكون طالبه الله ... لوتر نجاحه بالحري وكان المستعين قد وجه كلباتكين مددا للحسين ومستظهرا به، فلحق حسينا بعد ما هزم القوم وقتل يحيى بن عمر، فمضى ومعهم صاحب بريد الكوفة فلقي جماعة ممن كان مع يحيى بن عمر، ومعهم أسوقة وأطعمة يريدون عسكر يحيى، فوضع فيهم السيف فقتلهم، ودخل الكوفة، فأراد أن

ذكر خبر خروج الحسن بن زيد العلوي

ينهبها ويضع السيف في اهلم، فمنعه الحسين وآمن الأسود والأبيض بها، وأقام أياما ثم انصرف عنها ذكر خبر خروج الحسن بن زيد العلوي وفي هذه السنة كان خروج الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن ابن زيد بْن الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي شهر رمضان منها. ذكر الخبر عن سبب خروجه: حدثني جماعة من أهل طبرستان وغيرهم، أن سبب ذلك كان أن محمد بن عبد الله بن طاهر لما جرى على يده ما جرى من قتل يحيى بن عمر، ودخول أصحابه وجيشه الكوفة بعد فراغهم من قتل يحيى، أقطعه المستعين من صوافي السلطان بطبرستان قطائع، وأن من تلك القطائع التي أقطعها قطيعة فيما قرب من ثغري طبرستان مما يلي الديلم، وهما كلار وسالوس، كان بحذائها أرض لأهل تلك الناحية فيها مرافق، منها محتطبهم ومراعي مواشيهم ومسرح سارحتهم، وليس لأحد عليها ملك، وإنما هي صحراء من موتان الأرض، غير أنها ذات غياض وأشجار وكلأ. فوجه- فيما ذكر لي- محمد بن عبد الله بن طاهر أخا لكاتبه بشر بن هارون النصراني يقال له جابر بن هارون، لحيازة ما أقطع هنالك من الأرض، وعامل طبرستان يومئذ سليمان بن عبد الله خليفة محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر، أخو محمد بن عبد الله بن طاهر، والمستولي على سليمان، والغالب على أمره محمد بن أوس البلخي، وقد فرق محمد بن أوس ولده في مدن طبرستان، وجعلهم ولاتها، وضم إلى كل واحد منهم مدينة منها، وهم أحداث سفهاء، قد تأذى بهم وبسفههم من تحت أيديهم من الرعية واستنكروا منهم ومن والدهم ومن سليمان بن عبد الله سفههم وسيرهم فيهم، وغلظ عليهم سوء

أثرهم فيهم، بقصص يطول الكتاب بشرح أكثرها. ووتر مع ذلك- فيما ذكر لي- محمد بن أوس الديلم بدخوله إلى ما قرب من بلادهم من حدود طبرستان، وهم أهل سلم وموادعة لأهل طبرستان على اغترار من الديلم بما يلتمس بدخوله إليهم بغارة، فسبى منهم وقتل، ثم انكفأ راجعا إلى طبرستان، فكان ذلك مما زاد أهل طبرستان عليه حنقا وغيظا، فلما صار رسول محمد بن عبد الله- وهو جابر بن هارون النصراني- إلى طبرستان لحيازة ما أقطعه هنالك محمد، عمد- فيما قيل لي- جابر بن هارون إلى ما أقطع محمد بن عبد الله من صوافي السلطان فحازه، وحاز ما اتصل به من موات الأرض التي يرتفق بها أهل تلك الناحية- فيما ذكر- فكان فيما رام حيازته من ذلك الموات الذى بقرب من الثغرين اللذين يسمى أحدهما كلار والآخر سالوس، وكان في تلك الناحية يومئذ رجلان معروفان بالبأس والشجاعة، وكانا مذكورين قديما بضبط تلك الناحية ممن رامها من الديلم، وبإطعام الناس بها وبالإفضال عن من ضوى إليهما، يقال لأحدهما محمد وللآخر جعفر، وهما ابنا رستم أخوان، فأنكرا ما فعل جابر بن هارون من حيازته الموات الذي وصفت أمره، ومانعاه ذلك وكان ابنا رستم في تلك الناحية مطاعين فاستنهضا من أطاعهما ممن في ناحيتهما لمنع جابر بن هارون من حيازة ما رام حيازته من الموات الذي هو مرفق لأهل تلك الناحية- فيما ذكر- وغير داخل فيما أقطعه صاحبه محمد بن عبد الله، فنهضوا معهما، وهرب جابر بن هارون خوفا على نفسه منهما وممن قد نهض معهما، لإنكار ما رام جابر النصراني فعله فلحق بسليمان بن عبد الله ابن طاهر، وأيقن محمد وجعفر ابنا رستم ومن نهض معهما في منع جابر عما حاول من حيازة ما حاول حيازته من الموات الذي ذكرت بالشر، وذلك أن عامل طبرستان كلها سليمان بن عبد الله، وهو أخو محمد بن عبد الله بن طاهر وعم محمد ابن طاهر بن عبد الله عامل المستعين على خراسان وطبرستان والري والمشرق كله يومئذ

فلما ايقن القوم بذلك، راسلوا جيرانهم من الديلم، وذكروهم وفاءهم لهم بالعهد الذي بينهم وبينهم، وما ركبهم به محمد بن أوس من الغدر والقتل والسبي، وأنهم لا يأمنون من ركوبه إياهم بمثل الذي ركبهم به، ويسألونهم مظاهرتهم عليه وعلى من معه، فأعلمهم الديلم أن ما يلي أرضهم من جميع نواحيها من الأرضين والبلاد، إنما عمالها إما عمال لطاهر، واما عمال من يتخذ آل طاهر إن احتاجوا إلى إنجادهم، وإن ما سألوا من معاونتهم لا سبيل لهم إليه إلا بزوال الخوف عنهم من أن يؤتوا من قبل ظهورهم إذا هم اشتغلوا بحرب من بين أيديهم من عمال سليمان بن عبد الله، فأعلمهم الذين سألوهم المظاهرة على حرب سليمان وعماله أنهم لا يغفلون عن كفايتهم ذلك، حتى يأمنوا مما خافوا منه فأجابهم الديلم إلى ما سألوهم من ذلك، وتعاقدوا هم وأهل كلار وسالوس على معاونه بعضهم بعضا على حرب سليمان ابن عبد الله وابن أوس وغيرهم ممن قصدهم بحرب. ثم أرسل ابنا رستم محمد وجعفر- فيما ذكر- إلى رجل من الطالبيين المقيمين كانوا يومئذ بطبرستان، يقال له محمد بن إبراهيم، يدعونه إلى البيعة له، فأبى وامتنع عليهم، وقال لهم: لكني أدلكم على رجل منا هو أقوم بما دعوتموه إليه مني، فقالوا: من هو؟ فأخبرهم أنه الحسن بن زيد، ودلهم على منزله ومسكنه بالري فوجه القوم إلى الري عن رسالة محمد بن إبراهيم العلوي إليه من يدعوه إلى الشخوص معه إلى طبرستان، فشخص معه إليها، فوافاهم الحسن بن زيد، وقد صارت كلمة الديلم وأهل كلار وسالوس ورويان على بيعته وقتال سليمان بن عبد الله واحدة، فلما وافاهم الحسن بن زيد بايع له ابنا رستم، وجماعة أهل الثغور ورؤساء الديلم: كجايا ولاشام ووهسودان بن جستان، ومن أهل رويان عبد الله بن ونداميد- وكان عندهم من أهل التأله والتعبد- ثم ناهضوا من في تلك النواحي من عمال ابن أوس فطردوهم عنها، فلحقوا بابن أوس وسليمان بن عبد الله، وهما بمدينه ساريه، وانضم الى الحسن ابن زيد مع من بايعه من أهل النواحي التي ذكرت، لما بلغهم ظهوره بها

حوزيه جبال طبرستان كما صمغان وفادسبان وليث بن قباذ، ومن أهل السفح خشكجستان بن ابراهيم بن الخليل بن وندا سفجان، خلا ما كان من سكان جبل فريم، فإن رئيسهم كان يومئذ والمتملك عليهم قارن بن شهريار، فإنه كان ممتنعا بجبله وأصحابه، فلم ينقد للحسن بن زيد ولا من معه حتى مات ميتة نفسه، مع موادعة كانت بينهما في بعض الاحوال، ومخاتنه ومصاهرة كفا من قارن بذلك من فعله عادية الحسن بن زيد ومن معه. ثم زحف الحسن بن زيد وقواده من أهل النواحي التي ذكرت نحو مدينة آمل، وهي أول مدن طبرستان مما يلي كلار وسالوس من السفح- وأقبل ابن أوس من سارية إليها يريد دفعه عنها، فالتقى جيشاهما في بعض نواحي آمل، ونشبت الحرب بينهم وخالف الحسن بن زيد وجماعة ممن معه من أصحابه موضع معركة القوم إلى ناحية أخرى، فدخلوها فاتصل الخبر بدخوله مدينة آمل بابن أوس، وهو مشتغل بحرب من هو في وجهه من رجال الحسن بن زيد، فلم يكن له هم إلا النجاء بنفسه واللحاق بسليمان بسارية، فلما دخل الحسن بن زيد آمل كثف جيشه، وغلظ أمره، وانقض إليه كل طالب نهب ومريد فتنة من الصعاليك والحوزية وغيرهم، فأقام- فيما حدثت- الحسن بن زيد بآمل أياما، حتى جبى الخراج من أهلها، واستعد ثم نهض بمن معه نحو سارية مريدا سليمان بن عبد الله، فخرج سليمان وابن أوس بمن معهما من جيوشهما، فالتقى الفريقان خارج مدينة سارية، ونشبت الحرب بينهم، فخالف الوجه الذي التقى فيه الجيشان بعض قواد الحسن بن زيد إلى وجه آخر من وجوه سارية، فدخلها برجاله وأصحابه، فانتهى الخبر إلى سليمان بن عبد الله ومن معه من الجند، فلم يكن لهم هم غير النجاة بأنفسهم. ولقد حدثني جماعة من أهل تلك الناحية وغيرها، أن سليمان بن عبد الله هرب وترك أهله وعياله وثقله وكل ما كان له بسارية من مال وأثاث وغير ذلك بغير مانع ولا دافع، فلم يكن له ناهية دون جرجان وغلب على ما كان له ولغيره بها من جنده الحسن بن زيد وأصحابه

فأما عيال سليمان وأهله وأثاثه فإنه بلغني أن الحسن بن زيد أمر لهم بمركب حملهم فيه حتى ألحقهم بسليمان وهو بجرجان، وأما ما كان لأصحابه فإن من كان مع الحسن بن زيد من التبع انتهبه، فاجتمع للحسن بن زيد بلحاق سليمان بن عبد الله بجرجان إمرة طبرستان كلها. فلما اجتمعت للحسن بن زيد طبرستان، وأخرج عنها سليمان ابن عبد الله وأصحابه وجه إلى الري خيلا مع رجل من أهل بيته، يقال له الحسن بن زيد، فصار إليها، فطرد عنها عاملها من قبل الطاهرية، فلما دخل الموجه به من قبل الطالبيين الري هرب منها عاملها، فاستخلف بها رجلا من الطالبيين يقال له محمد بن جعفر، وانصرف عنها، فاجتمعت للحسن بن زيد مع طبرستان الري إلى حد همذان، وورد الخبر بذلك على المستعين، ومدبر أمره يومئذ وصيف التركي، وكاتبه أحمد بن صالح بن شيرزاد، وإليه خاتم المستعين ووزارته فوجه إسماعيل بن فراشة في جمع الى همذان، وامره بالمقام بها وضبطها الى أن يتجاوز إليها خيل الحسن بن زيد، وذلك أن ما وراء عمل همذان كان إلى محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر، وبه عماله، وعليه صلاحه. فلما استقر بمحمد بن جعفر الطالبي القرار بالري ظهرت منه- فيما ذكر- أمور كرهها أهل الري، فوجه محمد بن طاهر بن عبد الله قائدا له من قبله، يقال له محمد بن ميكال- وهو أخو الشاه بن ميكال- في جمع من الخيل والرجالة إلى الري، فالتقى هو ومحمد بن جعفر الطالبي، خارج الري، فذكر أن محمد بن ميكال أسر محمد بن جعفر الطالبي، وفض جيشه، ودخل الري، فأقام بها، ودعا بها للسلطان، فلم يتطاول بها مكثه حتى وجه الحسن بن زيد إليه خيلا، عليها قائد له من اهل اللازر، يقال له واجن فلما صار واجن إلى الري خرج إليه محمد بن ميكال، فاقتتلا، فهزم واجن وأصحابه محمد بن ميكال وجيشه، والتجأ محمد بن ميكال إلى مدينة الري معتصما بها، فاتبعه واجن وأصحابه حتى قتلوه، وصارت الري إلى أصحاب الحسن بن زيد فلما كان يوم عرفة من هذه السنة بعد مقتل محمد بن ميكال، ظهر بالري أحمد بن عيسى بن علي بن حسين الصغير بْن علي بْن حسين بْن علي بْن

أخبار متفرقة

أبي طالب رضي الله عنه وإدريس بن موسى بْن عبد الله بْن موسى بْن عبد الله ابن حسن بْن حسن بْن علي بْن أبي طالب، فصلى أحمد بن عيسى بأهل الري صلاة العيد، ودعا للرضا من آل محمد، فحاربه محمد بن علي بن طاهر، فهزمه احمد بن عيسى، فصار الى قزوين . [أخبار متفرقة] وفي هذه السنة غضب على جعفر بن عبد الواحد، لأنه كان بعث إلى الشاكرية، فزعم وصيف أنه أفسدهم، فنفي إلى البصرة لسبع بقين من شهر ربيع الأول. وفيها أسقطت مرتبة من كانت له مرتبة في دار العامة من بني أمية، كابن أبي الشوارب والعثمانيين. وأخرج في هذه السنة من الحبس الحسن بن الأفشين. وأجلس فيها العباس بن أحمد بن محمد، فعقد لجعفر بن الفضل بن عيسى ابن موسى المعروف ببشاشات على مكة في جمادى الأولى. وفيها وثب أهل حمص وقوم من كلب- عليهم رجل يقال له عطيف ابن نعمة الكلبي- بالفضل بن قارن أخي مازيار بن قارن، وهو يومئذ عامل السلطان على حمص، فقتلوه في رجب، فوجه المستعين إليهم موسى بن بغا الكبير، فشخص موسى من سامرا يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، فلما قرب موسى تلقاه أهلها فيما بينها وبين الرستن، فحاربهم فهزمهم، وافتتح حمص وقتل من أهلها مقتلة عظيمة، وأحرقها وأسر جماعة من رؤساء أهلها، وكان عطيف قد لحق بالبدو. وفيها مات جعفر بن أحمد بن عمار القاضي يوم الأحد لسبع بقين من شهر رمضان. وفيها مات أحمد بن عبد الكريم الجواري والتيمي قاضي البصرة. وفيها ولي أحمد بن الوزير قضاء سامرا

وفيها وثبت الشاكرية والجند بفارس بعبد الله بن إسحاق بن إبراهيم، فانتهبوا منزله، وقتلوا محمد بن الحسن بن قارن، وهرب عبد الله بن إسحاق. وفيها وجه محمد بن طاهر من خراسان بفيلين كان وجه بهما إليه من كابل وأصنام وفوائح. وغزا الصائفة فيها بلكاجور. وحج بالناس في هذه السنة جعفر بن الفضل بشاشات وهو والي مكة.

سنه احدى وخمسين ومائتين

ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر خبر قتل باغر التركى فمما كان فيها من ذلك قتل وصيف وبغا الصغير باغر التركي واضطراب أمر الموالي. ذكر الخبر عن سبب قتلهما باغر: ذكر أن سبب ذلك كان أن باغر كان أحد قتلة المتوكل، فزيد لذلك في أرزاقه، وأقطع قطائع، فكان مما أقطع ضياع بسواد الكوفة، فتضمن تلك الضياع التي أقطعها باغر هنالك من كاتب كان لباغر يهودي- رجل من دهاقين باروسما ونهر الملك- بألفي دينار في السنة، فعدا رجل بتلك الناحية، يقال له ابن مارمة على وكيل لباغر هنالك، فتناوله أو دس إليه من تناوله، فحبس ابن مارمة، وقيد، ثم عمل حتى تخلص من الحبس، فصار إلى سامرا، فلقي دليل بن يعقوب النصراني وهو يومئذ كاتب بغا الشرابي وصاحب أمره، وإليه أمر العسكر، يركب إليه القواد والعمال، لمكانه من بغا وكان ابن مارمة صديقا لدليل، وكان باغر أحد قواد بغا، فمنع دليل باغر من ظلم أحمد بن مارمة، وانتصف له منه، فأوغر ذلك من فعله بصدر باغر، وباين كل واحد من دليل وباغر صاحبه بذلك السبب، وباغر شجاع بطل معروف القدر في الاتراك، يتوقاه بغا وغيره، ويخافون شره. فذكر أن باغر جاء يوم الثلاثاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة خمسين ومائتين إلى بغا، وبغا في الحمام، وباغر سكران شديد السكر، وانتظره حتى خرج من الحمام، ثم دخل عليه، فقال له: والله ما من قتل دليل بد

ثم سبه، فقال له بغا: لو أردت قتل ابني فارس ما منعتك، فكيف دليل النصراني! ولكن أمري وأمر الخلافة في يديه فتنتظر حتى اصير مكانه إنسانا، وشانك به ثم وجه بغا إلى دليل يأمره ألا يركب، وقيل: بل تلقاه طبيب لبغا، يقال له ابن سرجويه، فأخبره بالقصة، فرجع إلى منزله، فاستخفى، وبعث بغا إلى محمد بن يحيى بن فيروز، وكان ابن فيروز يكتب له قبل ذلك، فجعله مكان دليل، فيوهم باغر أنه قد عزل دليلا، فسكن باغر، ثم أصلح بغا بين دليل وباغر، وباغر يتهدد دليلا بالقتل إذا خلا بأصحابه، ثم تلطف باغر للمستعين، ولزم الخدمة في الدار، وكره المستعين مكانه، فلما كان يوم نوبة بغا في منزله قال المستعين: أي شيء كان إلى إيتاخ من الأعمال؟ فأخبره وصيف، فقال: ينبغي أن تصيروا هذه الأعمال إلى أبي محمد باغر، فقال وصيف: نعم، وبلغت القصة دليلا، فركب إلى بغا فقال له: أنت في بيتك، وهم في تدبير عزلك عن كل أعمالك، فإذا عزلت فما بقاؤك إلا أن يقتلوك! فركب بغا إلى دار الخلافة في اليوم الذي نوبته في منزله بالعشي، فقال لوصيف: أردت أن تزيلني عن مرتبتي، وتجيء بباغر فتصيره مكاني، وإنما باغر عبد من عبيدي ورجل من أصحابي، فقال له وصيف: ما علمت ما أراد الخليفة من ذلك فتعاقد وصيف وبغا على تنحية باغر من الدار والاحتيال له، وأرجفوا له انه يؤمر ويضم إليه جيش سوى جيشه، ويخلع عليه، ويجلس في الدار مجلس بغا ووصيف- وهما يسميان الأميرين- ودافعوه بذلك وإنما كان المستعين تقرب إليه بذلك ليأمن ناحيته، فأحس هو ومن في ناحيته بالشر، فجمع إليه الجماعة الذين كانوا بايعوه على قتل المتوكل أو بعضها مع غيرهم، فلما جمعهم ناظرهم ووكد البيعة عليهم كما وكدها في قتل المتوكل، فقالوا: نحن على بيعتنا، فقال: الزموا الدار حتى نقتل المستعين وبغا ووصيفا، ونجيء بعلي بن المعتصم أو بابن الواثق، فنقعده خليفة حتى يكون الأمر لنا، كما هو لهذين اللذين قد

استوليا على أمر الدنيا، وبقينا نحن في غير شيء، فأجابوه إلى ذلك، وانتهى الخبر إلى المستعين فبعث إلى بغا ووصيف، وذلك يوم الاثنين، فقال لهما: ما طلبت إليكما أن تجعلاني خليفة، وإنما جعلتماني وأصحابكما، ثم تريدان أن تقتلاني! فحلفا له أنهما ما علما بذلك، فأعلمهما الخبر. وقيل: إن امرأة لباغر كانت مطلقة منه، سعت إلى أم المستعين وإلى بغا بذلك، وبكر دليل إلى بغا، وحضر وصيف إلى منزل بغا ومع وصيف أحمد بن صالح كاتبه، فاتفق رأيهم على أخذ باغر واثنين من الأتراك معه وحبسهم حتى يروا رأيهم فيهم، فأحضروا باغر، فأقبل في عدة حتى دخل الدار إلى بغا فذكر عن بشر بن سعيد المرثدي أنه قال: كنت حاضرا دخوله، فمنع من الوصول إلى بغا ووصيف، وعطف به إلى حمام لبغا، ودعي له بالقيود، فامتنع عليهم، فحبسوه في الحمام، وبلغ ذلك الأتراك في الهاروني والكرخ والدور، فوثبوا على إصطبل السلطان، فأخذوا ما كان فيه من الدواب فانتهبوها وركبوها، وحضروا الجوسق بالسلاح، فلما أمسوا أمر وصيف وبغا رشيد بن سعاد أخت وصيف أن يقتل باغر، فأتاه في عدة، فشدخوه بالطبرزينات حتى أسكنوه، فلما علم المستعين باجتماعهم، ركب ووصيف وبغا حراقة، وصاروا إلى دار وصيف جميعا، وتراكض الناس يومهم- وهو يوم الثلاثاء وليلته- بالسلاح جائين وذاهبين، فقال لهم وصيف: ترفقوا حتى تنظروا، فإن ثبتوا على المقاومة رمينا إليهم برأسه فلما انتهى قتله إلى الأتراك المشغبة، أقاموا على ما هم عليه من الشغب حتى علموا أن المستعين وبغا ووصيف قد انحدروا إلى بغداد، وقد كان وصيف أعطى قوما من المغاربة فرسانا ورجالة السلاح والرماح، ووجه بهم إلى هؤلاء المشغبة، وبعث

إلى الشاكرية أن يكونوا على عدة إن احتيج إليهم، وسكن الناس عند الظهر، وهدأت الأمور، وقد كان عدة من قواد الأتراك صاروا إلى هؤلاء المشغبين وسألوهم الانصراف، فقالوا: يوق يوق، أي لا لا فذكر عن بشر بن سعيد عن جامع بن خالد- وكان أحد خلفاء وصيف من الأتراك- أنه كان المتولي مخاطبتهم مع عدة ممن يعرف التركية، فأعلموهم أن المستعين وبغا ووصيف قد خرجوا إلى بغداد، فأظهروا التندم، وانصرفوا منكسرين، فلما انتشر الخبر بخروج المستعين صار الأتراك الى دور دليل ابن يعقوب ودور أهل بيته ممن قرب منه وجيرانه، فانتهبوا ما فيها حتى صاروا إلى الخشب والدروندات، وقتلوا ما قدروا عليه من البغال، وانتهبوا علف الدواب والخمر التي في خزانة الشراب، ودفع عن دار سلمة بن سعيد النصراني جماعة كان وكلهم بها، من المصارعين وغيرهم من جيرانهم، ومنعوهم من دخول الدار، لأنهم أرادوا دار إبراهيم بن مهران النصراني العسكري، فدفعوهم عنها، وسلم سلمة وإبراهيم من النهب. وقال في قتل باغر والفتنة التي هاجت بسببه بعض الشعراء، ذكر أن قائله أحمد بن الحارث اليمامي: لعمري لئن قتلوا باغرا ... لقد هاج باغر حربا طحونا وفر الخليفة والقائدان ... بالليل يلتمسان السفينا وصاحوا بميسان ملاحهم ... فجاءهم يسبق الناظرينا فألزمهم بطن حراقة ... وصرت مجاذيفهم سائرينا وما كان قدر ابن مارمه ... فتكسب فيه الحروب الزبونا ولكن دليل سعى سعية ... فأخزى الإله بها العالمينا فحل ببغداد قبل الشروق ... فحل بها منه ما يكرهونا فليت السفينة لم تأتنا ... وغرقها الله والراكبينا

وقوع الفتنة ببغداد بين أهلها وبين جند السلطان

وأقبلت الترك والمغربون ... وجاء الفراغنة الدارعونا تسير كراديسهم في السلاح ... يروحون خيلا ورجلا ثبينا فقام بحربهم عالم ... بأمر الحروب تولاه حينا فجدد سورا على الجانبين ... حتى أحاطهم أجمعينا وأحكم أبوابها المصمتات ... على السور يحمي بها المستعينا وهيا مجانيق خطارة ... تفيت النفوس وتحمي العرينا وعبى فروضا وجيشية ... ألوف ألوف إذ تحسبونا وعبى المجانيق منظومة ... على السور حتى أغار العيونا فذكر أنهم لما قدموا بغداد اعتل ابن مارمة، فعاده دليل بن يعقوب، فقال له: ما سبب علتك؟ قال: عقر القيد انتقض علي، فقال دليل: لئن عقرك القيد، لقد نقضت الخلافة، وبعثت فتنة ومات ابن مارمة في تلك الأيام، فقال أبو علي اليمامي الحنفي في شخوص المستعين إلى بغداد: ما زال إلا لزوال ملكه ... وحتفه من بعده وهلكه ومنع الأتراك الناس من الانحدار إلى بغداد، فذكر أنهم أخذوا ملاحا قد أكرى سفينته، فضربوه مائتي سوط، وصلبوه على دقل سفينته، فامتنع أصحاب السفن من الانحدار الا سرا او بمؤنه ثقيله. وقوع الفتنة ببغداد بين أهلها وبين جند السلطان وفي هذه السنة هاجت الفتنة ووقعت الحرب بين أهل بغداد وجند السلطان الذين كانوا بسامرا، فبايع كل من كان بسامرا منهم المعتز، وأقام من ببغداد منهم على الوفاء ببيعة المستعين. ذكر الخبر عن سبب هيج هذه الفتنة، وسبب بيعة من كان بسامرا من الجند المعتز وخلعهم المستعين، ونصبهم الحرب لمن اقام على الوفاء ببيعته:

قال ابو جعفر: قد ذكرنا قبل موافاة المستعين وشاهك الخادم ووصيف وبغا وأحمد بن صالح بن شيرزاد بغداد، وكانت موافاتهم إياها يوم الأربعاء لثلاث ساعات مضين من النهار لأربعة أيام- وقيل لخمسة أيام- خلون من المحرم من هذه السنة، فلما وافاها، نزل المستعين على محمد بن عبد الله بن طاهر في داره، ثم وافى بغداد خليفة لوصيف على أعماله، يعرف بسلام، فاستعلم ما عنده، ثم انصرف راجعا إلى منزله بسامرا، فوافى القواد خلا جعفر الخياط وسليمان بن يحيى بن معاذ بغداد مع جلة الكتاب والعمال وبني هاشم، ثم وافى بعد ذلك من قواد الأتراك الذين في ناحيه وصيف كلباتكين القائد وطيغج الخليفة، تركي، وابن عجوز الخليفة، نسائي، وممن في ناحية بغا بايكباك القائد من غلمان الخدمة مع عدة من خلفاء بغا. وكان- فيما ذكر- وجه إليهم وصيف وبغا قبل قدومهم رسولا، يأمرانهم أن يصيروا إذا قدموا بغداد إلى الجزيرة التي حذاء دار محمد بن عبد الله بن طاهر، ولا يصيروا إلى الجسر، فيرعبوا العامة بدخولهم ففعلوا وصاروا إلى الجزيرة، فنزلوا عن دوابهم، فوجهت إليهم زواريق حتى عبروا فيها، فصعد كلباتكين وبايكباك والقواد من أهل الدور وأرناتجور التركي، فدخلوا على المستعين، فرموا بأنفسهم بين يديه، وجعلوا مناطقهم في أعناقهم تذللا وخضوعا، وكلموا المستعين وسألوه الصفح عنهم والرضا، فقال لهم: أنتم أهل بغي وفساد واستقلال للنعم، ألم ترفعوا إلي في أولادكم، فألحقتهم بكم، وهم نحو من ألفي غلام، وفي بناتكم فأمرت بتصييرهن في عداد المتزوجات وهن نحو من أربعة آلاف امرأة في المدركين والمولودين! وكل هذا قد أجبتكم إليه، وأدررت لكم الأرزاق حتى سبكت لكم آنية الذهب والفضة، ومنعت نفسي لذتها وشهوتها، كل ذلك إرادة لصلاحكم ورضاكم، وأنتم تزدادون بغيا وفسادا وتهددا وإبعادا! فتضرعوا، وقالوا: قد أخطأنا، وأمير المؤمنين الصادق في كل قوله، ونحن

نسأله العفو عنا والصفح عن زلتنا! فقال المستعين: قد صفحت عنكم ورضيت، فقال له بايكباك: فإن كنت قد رضيت عنا وصفحت، فقم فاركب معنا إلى سامرا، فإن الأتراك ينتظرونك، فأومأ محمد بن عبد الله إلى محمد بن أبي عون، فلكز في حلق بايكباك وقال له محمد بن عبد الله: هكذا يقال لأمير المؤمنين، قم فاركب معنا! فضحك المستعين من ذلك وقال: هؤلاء قوم عجم، ليس لهم معرفة بحدود الكلام وقال لهم المستعين، تصيرون الى إلى سامرا، فإن أرزاقكم دارة عليكم، وأنظر في امرى هاهنا ومقامي. فانصرفوا آيسين منه، وأغضبهم ما كان من محمد بن عبد الله، وأخبروا من وردوا عليه من الأتراك خبرهم، وخالفوا فيما رد عليهم تحريضا لهم على خلعه والاستبدال به، وأجمع رأيهم على إخراج المعتز والبيعة له، وكان المعتز والمؤيد في حبس في الجوسق في حجرة صغيرة، مع كل واحد منهما غلام يخدمه، موكل بهم رجل من الأتراك يقال له عيسى خليفة بليار ومعه عدة من الأعوان، فأخرجوا المعتز من يومهم، فأخذوا من شعره، وقد كان بويع له بالخلافة، وأمر للناس برزق عشرة أشهر للبيعة، فلم يتم المال، فأعطوا شهرين لقلة المال عندهم. وكان المستعين خلف بسامرا في بيت المال مما كان طلمجور وأساتكين القائدان قدما به من ناحية الموصل من مال الشام نحوا من خمسمائة ألف دينار، وفي بيت مال أم المستعين قيمة ألف ألف دينار، وفي بيت مال العباس ابن المستعين قيمه ستمائه ألف دينار، فذكر أن نسخة البيعة التي أخذت: بسم الله الرحمن الرحيم تبايعون عبد الله الإمام المعتز بالله أمير المؤمنين بيعة طوع واعتقاد، ورضا ورغبة وإخلاص من سرائركم، وانشراح من صدوركم، وصدق من نياتكم، لا مكرهين ولا مجبرين، بل مقرين عالمين بما في هذه البيعة وتأكيدها من تقوى الله وإيثار طاعته، وإعزاز حقه ودينه، ومن عموم صلاح عباد الله واجتماع الكلمة، ولم الشعث، وسكون الدهماء، وأمن

العواقب، وعز الأولياء، وقمع الملحدين، على أن أبا عبد الله المعتز بالله عبد الله وخليفته المفترض عليكم طاعته ونصيحته والوفاء بحقه وعهده، لا تشكون ولا تدهنون، ولا تميلون ولا ترتابون، وعلى السمع والطاعة، والمشايعة والوفاء، والاستقامة والنصيحة في السر والعلانية، والخفوف والوقوف عند كل ما يأمر به عبد الله أبو عبد الله الإمام المعتز بالله أمير المؤمنين، من موالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، من خاص وعام، وقريب وبعيد، متمسكين ببيعته بوفاء العقد وذمة العهد، سرائركم في ذلك كعلانيتكم، وضمائركم فيه كمثل ألسنتكم، راضين بما يرضى به أمير المؤمنين بعد بيعتكم هذه على أنفسكم، وتأكيدكم إياها في أعناقكم صفقة، راغبين طائعين، عن سلامة من قلوبكم وأهوائكم ونياتكم، وبولاية عهد المسلمين لإبراهيم المؤيد بالله أخي أمير المؤمنين، وعلى ألا تسعوا في نقض شيء مما أكد عليكم، وعلى ألا يميل بكم في ذلك مميل عن نصرة وإخلاص وموالاة، وعلى ألا تبدلوا ولا تغيروا، ولا يرجع منكم راجع عن بيعته وانطوائه على غير علانيته، وعلى أن تكون بيعتكم التي أعطيتموها بألسنتكم وعهودكم بيعة يطلع الله من قلوبكم على اجتبائها واعتمادها. وعلى الوفاء بذمة الله فيها، وعلى إخلاصكم في نصرتها وموالاة أهلها، لا يشوب ذلك منكم نفاق ولا إدهان ولا تأول، حتى تلقوا الله موفين بعهده، مؤدين حقه عليكم، غير مستريبين ولا ناكثين، إذ كان الذين يبايعون منكم أمير المؤمنين بيعة خلافته وولاية العهد من بعده لإبراهيم المؤيد بالله أخي أمير المؤمنين: «إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً. » عليكم بذلك وبما أكدت عليكم به هذه البيعة في أعناقكم، وأعطيتم بها من صفقة أيمانكم، وبما اشترط عليكم من وفاء ونصرة، وموالاة واجتهاد وعليكم عهد الله إن عهده كان مسئولا، وذمة الله عز وجل وذمة محمد ص، وما أخذ الله على أنبيائه ورسله، وعلى أحد من عباده من مواكيده ومواثيقه،

أن تسمعوا ما أخذ عليكم في هذه البيعة ولا تبدلوا ولا تميلوا، وأن تمسكوا بما عاهدتم الله عليه تمسك أهل الطاعة بطاعتهم، وذوي الوفاء والعهد بوفائهم، ولا يلفتكم عن ذلك هوى ولا ميل، ولا يزيغ قلوبكم فتنة أو ضلالة عن هدى، باذلين في ذلك أنفسكم واجتهادكم، ومقدمين فيه حق الدين والطاعة والوفاء بما جعلتم على أنفسكم، لا يقبل الله منكم في هذه البيعة إلا الوفاء بها. فمن نكث منكم ممن بايع أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين أخا أمير المؤمنين هذه البيعة على ما أخذ عليكم، مسرا أو معلنا، مصرحا أو محتالا أو متأولا، وادهن فيما أعطى الله من نفسه، وفيما أخذ عليه من مواثيق الله وعهوده، وزاغ عن السبيل التي يعتصم بها أولو الرأي، فكل ما يملك كل واحد منكم ممن ختر في ذلك منكم عهده، من مال أو عقار أو سائمة أو زرع أو ضرع صدقة على المساكين في وجوه سبيل الله، محبوس محرم عليه أن يرجع شيئا من ذلك إلى ماله، عن حيلة يقدمها لنفسه، أو يحتال له بها، وما أفاد في بقية عمره من فائدة مال يقل خطرها أو يجل، فذلك سبيلها، إلى أن توافيه منيته، ويأتي عليه أجله وكل مملوك يملكه اليوم وإلى ثلاثين سنة، ذكر أو أنثى، أحرار لوجه الله، ونساؤه يوم يلزمه فيه الحنث ومن يتزوج بعدهن إلى ثلاثين سنة طوالق طلاق الحرج، لا يقبل الله منه إلا الوفاء بها، وهو بريء من الله ورسوله، والله ورسوله منه بريئان، ولا قبل الله منه صرفا ولا عدلا، والله عليكم بذلك شهيد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وأحضر- فيما ذكر- البيعة ابو احمد بن الرشيد وبه النقرس محمولا في محفة، فأمر بالبيعة فامتنع، وقال للمعتز: خرجت إلينا خروج طائع فخلعتها، وزعمت أنك لا تقوم بها، فقال المعتز: أكرهت على ذلك وخفت السيف فقال أبو أحمد: ما علينا أنك أكرهت، وقد بايعنا هذا الرجل، فتريد أن نطلق نساءنا، ونخرج من أموالنا، ولا ندري ما يكون! إن تركتني على أمري حتى يجتمع الناس، وإلا فهذا السيف فقال المعتز اتركوه، فرد إلى منزله من غير بيعة

وكان ممن بايع إبراهيم الديرج وعتاب بن عتاب، فهرب فصار إلى بغداد وأما الديرج فخلع عليه، وأقر على الشرطة، وخلع على سليمان بن يسار الكاتب، وصير على ديوان الضياع، وأقام يومه يأمر وينهى وينفذ الأعمال، ثم توارى في الليل، وصار إلى بغداد ولما بايع الأتراك المعتز ولي عماله، فولى سعيد بن صالح الشرطه، وجعفر ابن دينار الحرس، وجعفر بن محمود الوزارة، وأبا الحمار ديوان الخراج، ثم عزل وجعل مكانه محمد بن ابراهيم منقار، وولى ديوان جيش الأتراك المعروف بأبي عمر كاتب سيما الشرابي، وولى مقلدا كيد الكلب أخا أبي عمر بيوت الأموال وإعطاء الأتراك والمغاربة والشاكرية، وولى بريد الآفاق والخاتم سيما السارباني، واستكتب أبا عمر، فكان في حد الوزارة. ولما اتصل بمحمد بن عبد الله خبر البيعة للمعتز وتوجيهه العمال، أمر بقطع الميرة عن أهل سامرا، وكتب إلى مالك بن طوق في المصير إلى بغداد هو ومن معه من أهل بيته وجنده، وإلى نجوبة بن قيس وهو على الأنبار في الاحتشاد والجمع، وإلى سليمان بن عمران الموصلي في جمع أهل بيته ومنع السفن أو شيء من الميرة أن ينحدر إلى سامرا، ومنع أن يصعد شيء من الميرة من بغداد إلى سامرا، وأخذت سفينة فيها أرز وسقط، فهرب الملاح منها وبقيت السفينة حتى غرقت، وأمر المستعين محمد بن عبد الله بن طاهر بتحصين بغداد، فتقدم في ذلك، فأدير عليها السور من دجلة من باب الشماسية إلى سوق الثلاثاء حتى أورده دجلة ومن دجلة من باب قطيعة أم جعفر، حتى أورده قصر حميد بن عبد الحميد، ورتب على كل باب قائدا في جماعة من أصحابه وغيرهم وأمر بحفر الخنادق حول السورين كما يدوران في الجانبين جميعا ومظلات يأوي إليها الفرسان في الحر والأمطار، فبلغت النفقة- فيما ذكر- على السورين وحفر الخنادق والمظلات ثلاثمائة ألف دينار وثلاثين ألف دينار، وجعل على باب الشماسية خمس شداخات بعرض الطريق، فيها

العوارض والألواح والمسامير الطوال الظاهرة، وجعل من خارج الباب الثاني باب معلق بمقدار الباب ثخين، قد ألبس بصفائح الحديد، وشد بالحبال كي إن وافى أحد ذلك الباب أرسل عليه الباب المعلق، فقتل من تحته وجعل على الباب الداخل عرادة، وعلى الباب الخارج خمسة مجانيق كبار، وفيها واحد كبير سموه الغضبان، وست عرادات ترمي بها إلى ناحية رقة الشماسية، وصير على باب البردان ثماني عرادات، في كل ناحية أربع، وأربع شداخات وكذلك على كل باب من أبواب بغداد في الجانب الشرقي والغربي، وجعل على كل باب من أبوابها قوادا برجالهم وجعل لكل باب من أبوابها دهليزا بسقائف تسع مائة فارس ومائة راجل، ولكل منجنيق وعرادة رجالا مرتبين يمدون بحباله وراميا يرمي إذا كان القتال وفرض فروضا ببغداد ومر قوم من اهل خراسان قدموا حجاجا، فسألوا المعونة على قتال الاتراك. فأعينوا وأمر محمد بن عبد الله بن طاهر أن يفرض من العيارين فرض، وأن يجعل عليهم عريف، ويعمل لهم تراس من البواري المقيرة، وأن يعمل لهم مخال تملأ حجارة ففعل ذلك وتولى- فيما ذكر- عمل البواري المقيرة محمد بن أبي عون وكان الرجل منهم يقوم خلف البارية فلا يرى منها. عملت نسائجات، أنفق عليها زيادة على مائة دينار، وكان العريف على أصحاب البواري المقيرة من العيارين رجلا يقال له ينتويه وكان الفراغ من عمل السور يوم الخميس لسبع بقين من المحرم. وكتب المستعين إلى عمال الخراج بكل بلدة وموضع أن يكون حملهم ما يحملون من الأموال إلى السلطان إلى بغداد، ولا يحملون إلى سامرا شيئا، وإلى عمال المعاون في رد كتب الأتراك وأمر بالكتاب إلى الأتراك والجند الذين بسامرا يأمرهم بنقض بيعة المعتز ومراجعة الوفاء ببيعتهم إياه، ويذكرهم أياديه عندهم، وينهاهم عن معصيته ونكث بيعته، وكان كتابه بذلك إلى سيما الشرابي

ثم جرت بين المعتز ومحمد بن عبد الله بن طاهر مكاتبات ومراسلات، يدعو المعتز محمدا إلى الدخول فيما دخل فيه من بايعه بالخلافة وخلع المستعين، ويذكره ما كان أبوه المتوكل أخذ له عليه بعد أخيه المنتصر من العهد وعقد الخلافة، ودعوة محمد بن عبد الله المعتز إلى ما عليه من الأوبة إلى طاعة المستعين، واحتجاج كل واحد منهما على صاحبه فيما يدعوه إليه من ذلك بما يراه حجة له، تركت ذكرها كراهة الإطالة بذكرها. وأمر محمد بن عبد الله بكسر القناطر وبثق المياه بطسوج الأنبار وما قرب منه من طسوج بادوريا، ليقطع طريق الأتراك حين تخوف من ورودهم الأنبار. وكان الذي تولى ذلك نجوبة بن قيس ومحمد بن حمد بن منصور السعدي. وبلغ محمد بن عبد الله توجيه الأتراك لاستقبال الشمسة التي كانت مع البينوق الفرغاني من يحميها من أصحابه فوجه محمد ليلة الأربعاء لعشر بقين من المحرم خالد بن عمران وبندار الطبري إلى ناحية الأنبار. ثم وجه بعدهما رشيد بن كاوس، فصادفوا البينوق ومن معه من الأتراك والمغاربة، وطالبهم خالد وبندار بالشمسة، فصار البينوق وأصحابه مع خالد وبندار إلى بغداد إلى المستعين وكان محمد بن الحسن بن جيلويه الكردي يتولى معونة عكبراء، وكان على الراذان رجل من المغاربة قد اجتمع عنده مال، فتوجه إليه ابن جيلويه، ودعاه إلى حمل مال الناحية، فامتنع عليه، ونصب له الحرب، فأسر ابن جيلويه المغربي، وحمله إلى باب محمد بن عبد الله، ومعه من مال الناحية اثنا عشر ألف دينار وثلاثون ألف درهم، فأمر محمد بن عبد الله لابن جيلويه بعشرة آلاف درهم وكتب كل واحد من المستعين والمعتز إلى موسى بن بغا، وهو مقيم بأطراف الشام قرب الجزيرة- وكان خرج إلى حمص لحرب أهلها- يدعوه إلى نفسه، وبعث كل واحد منهما إليه بعدة ألوية يعقدها لمن أحب، ويأمره المستعين بالانصراف إلى مدينة السلام، ويستخلف على عمله من رأى فانصرف

إلى المعتز وصار معه وقدم عبد الله بن بغا الصغير بغداد على ابيه، وكان قد تخلف بسامرا حين خرج أبوه منها مع المستعين، وصار إلى المستعين، فاعتذر إليه وقال لأبيه: إنما قدمت إليك لأموت تحت ركابك وأقام ببغداد أياما، ثم استأذن ليخرج إلى قرية بقرب بغداد على طريق الأنبار، فأذن له، فأقام فيها إلى الليل، ثم هرب من تحت ليلته، فمضى في الجانب الغربي الى سامرا مجانبا لأبيه، وممالئا عليه، واعتذر إلى المعتز من مصيره إلى بغداد، وأخبره أنه إنما صار إليها ليعرف اخبارهم، وليصير اليه فيعرفه صحتها فقبل ذلك منه، ورده إلى خدمته. وورد الحسن بن الأفشين بغداد، فخلع عليه المستعين، وضم إليه من الأشروسنية وغيرهم جماعة كثيرة، وزاد في أرزاقه ستة عشر ألف درهم في كل شهر. ولم يزل أسد بن داود سياه مقيما بسامرا، حتى هرب منها، فذكر أن الأتراك بعثوا في طلبه إلى ناحية الموصل والأنبار والجانب الغربي في كل ناحية خمسين فارسا، فوافى مدينة السلام، فدخل على محمد بن عبد الله، فضم إليه من أصحاب إبراهيم الديرج مائة فارس ومائتي راجل، ووكله بباب الأنبار مع عبد الله بن موسى بن ابى خالد. وعقد المعتز لأخيه أبي أحمد بن المتوكل يوم السبت لسبع بقين من المحرم من هذه السنة- وهي سنة إحدى وخمسين ومائتين- على حرب المستعين وابن طاهر، وولاه ذلك، وضم إليه الجيش، وجعل إليه الأمر والنهي، وجعل التدبير الى كلباتكين التركي، فعسكر بالقاطول في خمسة آلاف من الأتراك والفراغنة وألفين من المغاربة، وضم المغاربة إلى محمد بن راشد المغربي، فوافوا عكبراء ليلة الجمعة لليلة بقيت من المحرم، فصلى أبو أحمد، ودعا للمعتز بالخلافة، وكتب بذلك نسخا إلى المعتز، فذكر جماعة من أهل عكبراء أنهم رأوا الأتراك والمغاربة وسائر أتباعهم، وهم على خوف شديد، يرون أن محمد بن

عبد الله قد خرج إليهم فسبقهم إلى حربهم، وجعلوا ينتهبون القرى ما بين عكبراء وبغداد وأوانا وسائر القرى من الجانب الغربي، تخوفا على أنفسهم وخلوا عن الغلات والضياع، فخربت الضياع، وانتهبت الغلات والأمتعة وهدمت المنازل، وسلب الناس في الطريق. ولما وافى أبو أحمد عكبراء ومن معه خرج جماعة من الأتراك الذين كانوا مع بغا الشرابي بمدينة السلام من مواليه والمضمومين إليه، فهربوا ليلا، فاجتازوا بباب الشماسية، وكان على الباب عبد الرحمن بن الخطاب، ولم يعلم بخبرهم، وبلغ محمد بن عبد الله ذلك، فأنكره عليه وعنفه، وتقدم في حفظ الأبواب وحراستها والنفقة على من يتولاها. ولما وافى الحسن بن الأفشين مدينة السلام وكل بباب الشماسية. ثم وافى أبو أحمد وعسكره الشماسية ليلة الأحد لسبع خلون من صفر، ومعه كاتبه محمد بن عبد الله بن بشر بن سعد المرثدي، وصاحب خبر العسكر من قبل المعتز الحسن بن عمرو بن قماش ومن قبله، صاحب خبر له يقال له جعفر بن احمد البناتى، يعرف بابن الخبازة، فقال رجل من البصريين كان في عسكره ويعرف بباذنجانة: يا بني طاهر أتتكم جنود الله ... والموت بينها منثور وجيوش أمامهن أبو أحمد ... نعم المولى ونعم النصير ولما صار أبو أحمد بباب الشماسية ولى المستعين الحسين بن اسماعيل باب الشماسيه، وصير من هناك من القواد تحت يده، فلم يزل مقيما هناك مدة الحرب إلى أن شخص إلى الأنبار، فولى مكانه إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم، ولثلاث عشرة مضت من صفر، صار إلى محمد بن عبد الله جاسوس له، فأعلمه أن أبا أحمد قد عبى قوما يحرقون ظلال الأسواق من جانبي بغداد، فكشطت في ذلك اليوم

وذكر أن محمد بن عبد الله وجه محمد بن موسى المنجم والحسين بن إسماعيل، وأمرهما أن يخرجا من الجانب الغربي، وأن يرتفعا حتى يجاوزا عسكر أبي أحمد ويحزرا: كم في عسكره؟ فزعم محمد بن موسى أنه حزرهم ألفي إنسان، معهم ألف دابة، فلما كان يوم الاثنين لعشر خلون من صفر وافت طلائع الأتراك إلى باب الشماسية، فوقفوا بالقرب منه، فوجه محمد بن عبد الله الحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال وبندار الطبري فيمن معهم، وعزم على الركوب لمقاتلتهم، فانصرف إليه الشاه، فأعلمه أنه وافى بمن معه باب الشماسية. فلما عاين الأتراك الأعلام والرايات وقد أقبلت نحوهم انصرفوا إلى معسكرهم، فانصرف الشاه والحسين، وترك محمد الركوب يومئذ. فلما كان يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر عزم محمد بن عبد الله على توجيه الجيوش إلى القفص ليعرض جنده، هنالك، ويرهب بذلك الأتراك، وركب معه وصيف وبغا في الدروع، وعلى محمد درع، وفوق الدرع صدرة من درع طاهر، وعليه ساعد حديد، ومضى معه بالفقهاء والقضاة، وعزم على دعائهم إلى الرجوع عما هم عليه من التمادي في الطغيان واللجاج والعصيان، وبعث يبذل لهم الأمان على أن يكون أبو عبد الله ولي العهد بعد المستعين، فإن قبلوا الأمان وإلا باكرهم بالقتال يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة تخلو من صفر، فمضى نحو باب قطربل، فنزل على شاطئ دجلة هو ووصيف وبغا، ولم يمكنه التقدم لكثرة الناس، وعارضهم من جانب دجلة الشرقي محمد بن راشد المغربي. ثم انصرف محمد، فلما كان من الغد وافته رسل عبد الرحمن بن الخطاب وجه الفلس وعلك القائد ومن معهما من القواد، يعلمونه أن القوم قد دنوا منهم، وأنهم قد رجعوا إلى عسكرهم إلى رقة الشماسية، فنزلوا وضربوا مضاربهم فأرسل إليهم ألا تبدءوهم، وإن قاتلوكم فلا تقاتلوهم، وادفعوهم اليوم فوافى باب الشماسية اثنا عشر فارسا من عسكر الأتراك- وكان على باب الشماسية

باب وسرب، وعلى السرب باب، فوقف الاثنا عشر الفارس بإزاء الباب، وشتموا من عليه، ورموا بالسهام، ومن باب الشماسية سكوت عنهم، فلما أكثروا أمر علك صاحب المنجنيق أن يرميهم، فرماهم فأصاب منهم رجلا فقتله، فنزل أصحابه إليه، فحملوه وانصرفوا إلى عسكرهم بباب الشماسية. وقدم عبد الله بن سليمان خليفة وصيف التركي الموجه إلى طريق مكة لضبط الطريق مع أبي الساج في ثلاثمائة رجل من الشاكرية، فدخل على محمد بن عبد الله، فخلع عليه خمس خلع، وعلى آخر ممن معه أربع خلع. ودخل أيضا في هذا اليوم رجل من الأعراب من أهل الثعلبية يطلب الفرض معه خمسون رجلا، وورد الشاكرية القادمون من سامرا من قيادات شتى، وهم أربعون رجلا، فأمر بإعطائهم وإنزالهم فأعطوا. ووافى الأتراك في هذا اليوم باب الشماسية، فرموا بالسهام والمنجنيق والعرادات، وكان بينهم قتلى وجرحى كثير، وكان الأمير الحسين بن اسماعيل لمحاربتهم، ثم أمد بأربعمائة رجل من الملطيين مع رجل يعرف بأبي السنا الغنوي وهو ابن أخت الهيثم الغنوي، ثم أمدهم بقوم من الاعراب نحو من ثلاثمائة رجل، وحمل في هذا اليوم من الصلات لمن أبلى في الحرب. خمسة وعشرين ألف درهم، واطوقه واسوره من ذهب، فصار ذلك الى الحسين ابن إسماعيل وعبد الرحمن بن الخطاب وعلك ويحيى بن هرثمة والحسن بن الأفشين وصاحب الحرب الحسين بن إسماعيل، فكان الجرحى من أهل بغداد أكثر من مائتي إنسان، والقتلى عدة، وكذلك الجراحات في الأتراك والقتلى أكثرهم بالمجانيق، وانهزم أكثر عامة أهل بغداد، وثبت أصحاب البواري وانصرفوا جميعا، وهم في القتلى والجرحى شبيه بالسواء، وجرح من هؤلاء- فيما ذكر- مائتان، ومن هؤلاء مائتان، وقتل جماعة من الفريقين. وجاء كردوس من الفراغنة والأتراك في هذا اليوم إلى باب خراسان من

الجانب الشرقي ليدخلوا منه، وأتى الصريخ محمد بن عبد الله، وثبت لهم المبيضة والغوغاء فردوهم وقد كان محمد أمر أن يمخر تلك الناحية، فلما أرادوا الانصراف، وحلت عامة دوابهم، ونجا أكثرهم، أحضر الأتراك منجنيقا، فغلبهم الغوغاء عليه والمبيضة، وكسروا قائمة من قوائمه، وقتل اثنان من الشاشية من الحجاج، وأمر بحمل الآجر من قصر الطين وتلك الناحية إلى باب الشماسية، وفتحوا باب الشماسية، وأخرجوا إلى الآجر من لقطه، وردوه إلى هذا الجانب من السور. وكان محمد بن عبد الله اتصل به أن جماعة من الأتراك قد صاروا إلى ناحية النهروان، فوجه قائدين من قواده يقال لهما عبد الله بن محمود السرخسي ويحيى بن حفص المعروف بحبوس في خمسمائة من الفرسان والرجالة إلى هذه الناحية، ثم اردفهم بسبعمائة رجل أيضا، وأمرهم بالمقام هناك، ومنع من أراده من الأتراك، فتوجه آخرهم إلى هذه الناحية يوم الجمعة لسبع خلون من صفر. فلما كان ليلة الاثنين لثلاث عشرة بقيت من صفر، صار قوم من الأتراك إلى النهروان، فخرج جماعة ممن كان مع عبد الله بن محمود، فرجعوا هرابا، وأخذت دوابهم، وانصرف من نجا منهم إلى مدينة السلام مفلولين، وقتل زهاء خمسين رجلا، وأخذوا ستين دابة، وعدة من البغال قد كانت جاءت من ناحيه حلوان عليها الثلج، فوجهوا بها إلى سامرا، ووجهوا برءوس من قتلوا من الجند، فكانت أول رءوس وافت في تلك الحرب سامرا. وانصرف عبد الله بن محمود مفلولا في شرذمة، وصار طريق خراسان في أيدي الأتراك، وانقطع الطريق من بغداد إلى خراسان. وكان إسماعيل بن فراشة وجه إلى همذان للمقام بها، فكتب إليه بالانصراف، فانصرف، فأعطي هو وأصحابه استحقاقهم

ووجه المعتز عسكرا من الأتراك والمغاربة والفراغنة ومن هو في عدادهم. وعلى الأتراك والفراغنة الدرغمان الفرغاني، وعلى المغاربة ربلة المغربي، فساروا إلى مدينة السلام من الجانب الغربي، فجازوا قطربل إلى بغداد، وضربوا عسكرهم بين قطربل وقطيعة أم جعفر، وذلك عشية الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر فلما كان يوم الأربعاء من غد هذه الليلة، وجه محمد بن عبد الله بن طاهر الشاه بن ميكال من باب القطيعة وبندارا وخالد بن عمران فيمن معهم من أصحابهم من الفرسان والرجالة فصافهم الشاه وأصحابه، فتراموا بالحجارة والسهام، وألجئوا الشاه إلى مضيق عند باب القطيعة، وكثر المبيضة من أهل بغداد، ثم حمل الشاه والمبيضة حملة واحدة أزالوا بها الأتراك والمغاربة ومن معهم عن موضعهم، وحمل عليهم المبيضة، وأصحروا بهم، وحمل عليهم الطبرية فخالطوهم، وخرج عليهم بندار وخالد بن عمران من الكمين، وكانوا كمنوا في ناحية قطربل، فوضعوا في أصحاب أبي أحمد الأتراك منهم وغيرهم السيف، فقتلوهم أبرح قتل، فلم يفلت منهم إلا القليل، وانتهب المبيضة عسكرهم وما كان فيه من المتاع والأهل والأثقال والمضارب والخرثي، فكل من أفلت منهم من السيف رمى بنفسه في دجلة ليعبر إلى عسكر أبي أحمد، فأخذه أصحاب الشبارات، وكانت الشبارات قد شحنت بالمقاتلة- فقتلوا وأسروا، وجعل القتلى والرءوس من الأتراك والمغاربة وغيرهم في الزواريق، فنصبت بعضها في الجسرين، وعلى باب محمد بن عبد الله، فأمر محمد بن عبد الله لمن أبلى في هذا اليوم بالأسورة، فسور قوم كثير من الجند وغيرهم، فطلب المنهزمة، فبلغ بعضهم أوانا، وبلغ بعضهم ناحية عسكر أبي أحمد عبر دجلة، وبعضهم نفذ إلى سامرا. وذكر أن عسكر الاتراك يوم هزموا بباب القطيعة كانوا أربعة آلاف، فقتل منهم يوم الوقعة هنالك ألفان، وكان وضع فيهم بالسيف من باب

القطيعة إلى القفص، فقتلوا من قتلوا، وغرق من غرق، وأسر منهم جماعة، فخلع محمد بن عبد الله على بندار أربع خلع ملحم، ووشي وسواد وخز، وطوقه طوقا من ذهب، وخلع على أبي السنا أربع خلع، وعلى خالد بن عمران وجميع القواد، كل رجل أربع خلع وكان انصرافهم من الوقعة مع المغرب، وسخرت البغال، وأخذ لها الجواليق لتحمل فيها الرءوس إلى بغداد. وكان كل من وافى دار محمد برأس تركي أو مغربي أعطوه خمسين درهما، وكان أكثر ذلك العمل للمبيضه والعيارين، ثم وافى عيار وبغداد قطربل، فانتهبوا ما تركه الأتراك من متاع أهل قطربل وأبواب دورهم، فوجه محمد في آخر هذا اليوم أخاه أبا أحمد عبيد الله بن عبد الله والمظفر بن سيسل في أثر المنهزمين حياطة لأهل بغداد، لأنه لم يأمن رجعتهم عليه فبلغا القفص، وانصرفا سالمين، وزعجا من اقام من الرجاله والعيار بن بناحية قطربل، وأشير على محمد بن عبد الله أن يتبعهم بعسكر في اليوم الثاني وفي تلك الليلة، ليوغل في آثارهم، فأبى ذلك ولم يتبع موليا، ولم يأمر أن يجهز على جريح، وقبل أمان من استأمن، وأمر سعيد بن حميد فكتب كتابا يذكر فيه هذه الوقعة، فقرئ على أهل بغداد في مسجد جامعها، نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فالحمد لله المنعم فلا يبلغ أحد شكر نعمته، والقادر فلا يعارض في قدرته، والعزيز فلا يغالب في امره، والحكم العدل فلا يرد حكمه، والناصر فلا يكون نصره إلا للحق وأهله، والمالك لكل شيء فلا يخرج أحد عن أمره، والهادي إلى الرحمة فلا يضل من انقاد لطاعته، والمقدم إعذاره ليظاهر به حجته، الذي جعل دينه لعباده رحمة، وخلافته لدينه عصمة، وطاعة خلفائه فرضا واجبا على كافة الأمة، فهم المستحفظون في ارضه على

ما بعث به رسله، وأمناؤه على خلقه فيما دعاهم إليه من دينه، والحاملون لهم على منهاج حقه، لئلا يتشعب بهم الطريق إلى المخالفة لسبيله، والهادي لهم إلى صراطه، ليجمعهم على الجادة التي ندب إليها عباده الذين بهم يحمى الدين من الغواة والمخالفين، محتجين على الأمم بكتاب الله الذي استعملهم به، ودعا الأمة بحق الله الذي اختارهم له، إن جاهدوا كانت حجة الله معهم، وإن حاربوا حكم بالنصر لهم، وإن بغاهم عدو كانت كفاية الله حائلة دونهم ومعقلا لهم، وإن كادهم كائد فالله من وراء عونهم، نصبهم الله لإعزاز دينه، فمن عاداهم فإنما عادى الدين الذي أعزه وحرسه بهم، ومن ناواهم فإنما طعن على الحق الذي يكلؤه بحراستهم، جيوشهم بالنصر والعز منصورة، وكتائبهم بسلطان الله من عدوهم محفوظة، وأيديهم عن دين الله دافعة، وأشياعهم بتناصرهم في الحق عالية، وأحزاب أعدائهم ببغيهم مقموعة، وحجتهم عند الله وعند خلقه داحضه، ووسائلهم إلى النصر مردودة، تجمعهم مواطن التحاكم، وأحكام الله بخذلانهم واقعة، وأقداره بإسلامهم إلى أوليائه جارية، وعاداتهم في الأمم السالفة والقرون الخالية ماضية، ليكون أهل الحق على ثقة من انجاز سابق الوعد، واعداؤه محجوبون بما قدم إليهم من الإنذار، معجلة لهم نقمة الله بأيدي أوليائه، معد لهم العذاب عند ربهم، والخزي موصول بنواصيهم في دنياهم، وعذاب الآخرة من ورائهم وما الله بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. وصلى الله على نبيه المصطفى، ورسوله المرتضى، والمنقذ من الضلالة إلى الهدى، صلاة تامة نامية بركاتها، دائمة اتصالها، وسلم تسليما. والحمد لله تواضعا لعظمته، والحمد لله إقرارا بربوبيته، والحمد لله اعترافا بقصور أقصى منازل الشكر عن أدنى منزلة من منازل كرامته والحمد لله الهادي إلى حمده، والموجب به مزيده، والمحصي به عوائد إحسانه، حمدا يرضاه ويتقبله، ويوجب طوله وأفضاله والحمد لله الذي حكم بالخذلان على من

بغى على أهل دينه، وسبق وعده بالنصر لمن بغي عليه من أنصار حقه. وأنزل بذلك كتابه العزيز، موعظة للباغين، فإن أقلعوا كانت التذكرة نافعة لهم، والحجة عند الله لمن قام بها فيهم، ثم أوجب بعد التذكرة والإصرار جهادهم، فقال فيما قدم من وعده، وأبان من برهانه: «ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ» ، وعدا من الله حقا نهى به أعداءه عن معصيته، وثبت به أولياءه على سبيله، والله لا يخلف الميعاد ولله عند أمير المؤمنين في رئيس دعوته، وسيف دولته، والمحامي عن سلطانه ومحل ثقته، والمتقدم في طاعته ونصيحته لأوليائه، والذاب عن حقه، والقائم بمجاهدة أعدائه، محمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين، نعمة يرغب إلى الله في إتمامها، والتوفيق لشكرها، والتطول بمن أراد المزيد فيها، فإن الله قدر لآبائه القيام بالدعوة الأولى لآباء أمير المؤمنين، ثم جمع له آثارهم بقيامه بالدولة الثانية، حين حاول أعداء الله أن يطمسوا معالم دينه ويعفوها، فقام بحق الله وحق خليفته، محاميا عنها، ومراميا من ورائها، متناولا للبعيد برأيه ونظره، مباشرا للقريب بإشرافه وتفقده، باذلا نفسه في كل ما قربه من الله، وأوجب له الزلفة عنده، وسيمتع الله أمير المؤمنين به وليا، مكانفا على الحق، وناصرا موازرا على الخير، وظهيرا مجاهدا لعدو الدين وقد علمتم ما كان كتاب أمير المؤمنين تقدم به إليكم فيما أحدثته الفرقة الضالة عن سبيل ربها، المفارقة لعصمة دينها، الكافرة لنعم الله ونعم خليفته عندها، المباينة لجماعة الأمة التي ألف الله بخلافته نظامها، المحاولة لتشتيت الكلمة بعد اجتماعها، الناكثة لبيعته، الخالعة لربقة الإسلام من أعناقها، الموالي الأتراك، وما صارت إليه من نصر الغلام المعروف بأبي عبد الله بن المتوكل لإقامتها عند مصير أمير المؤمنين إلى مدينة السلام، محل سلطانه، ومجتمع أنصاره وأبناء أنصار آبائه، وما قابل به أمير المؤمنين خيانتهم وآثره من الأناة في أمرهم

ثم إن هؤلاء الناكثين جمعوا جمعا من الأتراك والمغاربة، ومن ولج في سوادهم، ودخل في غمارهم، مؤاتيا للفتنة من ألفاف الغي، ورأسوا عليهم المعروف بأبي أحمد بن المتوكل، ثم ساروا نحو مدينة السلام في الجانب الشرقي، معلنين للبغي والاقتدار، مظهرين للغي والإصرار، فتأناهم أمير المؤمنين، وفسح لهم في النظرة لهم، وأمر بالكتاب إليهم بما فيه تبصيرهم الرشد، وتذكيرهم بما قدموا من البيعة، وإفهامهم ما لله عليهم وله في ذلك من الحق، وأن خروجهم مما دخلوا فيه من بيعتهم طوعا، الخروج من دين الله والبراءة منه ومن رسوله، وتحريمهم أموالهم ونساءهم عليهم، وأن في تمسكهم به سلامة أديانهم، وبقاء نعمتهم، والاحتراس من حلول النقم بهم، وأن يبين لهم ما سلف من بلائه عندهم، من أسنى المواهب، وأرفع الرغائب، والاختصاص بسني المراتب، والتقدم في المحافل، فأبوا إلا تماديا ونفارا، وتمسكا بالغي وإصرارا. فقلد أمير المؤمنين نصيحة المؤتمن ووليه محمد بن عبد الله مولى امير المؤمنين تدبير أمورهم ودعائهم إلى الحق ما كانت الإنابة او محاربتهم ان جنح بهم غيهم، وتتابعوا في ضلالهم، فلم يألهم نظرا وإفهاما، وتبيينا وإرشادا، وهم في ذلك رافعون أصواتهم بالتوعد لأهل لمدينه السلام، بسفك دمائهم وسبي نسائهم وتغنم أموالهم، وقبل ذلك ما كانوا في مسيرهم على السبيل التي يستعملها أهل الشرك في غاراتهم، ويميلون إليها عند إمكان النهزة لهم، لا يجتازون بعامر إلا أخربوه، ولا بحريم لمسلم ولا غيره إلا أباحوه، ولا بمسلم يعجز عنهم إلا قتلوه، ولا بمال لمسلم ولا ذمي إلا أخذوه، حتى انتقل كثير ممن سبقت إليه أخبارهم ممن أمامهم عن أوطانهم، وفارقوا منازلهم ورباعهم، وفزعوا إلى باب أمير المؤمنين تحصنا من معرتهم، لا يمرون بغني إلا خلعوا عنه لباس الغنى، ولا بمستور إلا هتكوا عن الذرية والنساء ستره، لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً، ولا يتوقفون عن مسلم بهتك ولا مثلة، ولا يرغبون عما حرم الله من دم ولا حرمة. ثم تلقوا التذكرة بالحرب، وقابلوا الموعظة بالإصرار على الذنب، وعارضوا

التبصير بالاستبصار في الباطل، فذلفوا نحو باب الشماسيه، وقد رتب محمد ابن عبد الله مولى أمير المؤمنين بذلك الباب والأبواب التي سبيلها سبيله من أبواب مدينة السلام الجيوش في العدة الكاملة، والعدة المتظاهرة، معاقلهم التوكل على ربهم، وحصونهم الاعتصام بطاعته، وشعارهم التكبير والتهليل أمام عدوهم. ومحمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين، يأمرهم بتحصين ما يليهم والإمساك عن الحرب ما كانت مندوحة لهم، فباداهم الأولياء بالموعظة، وبدأهم الغواة الناكثون بحربهم، وعادوهم أياما بجموعهم وعدادهم، مدلين بعدتهم ومقدرين ألا غالب لهم، ولا يعلمون بالله أن قدرته فوق قدرتهم، وأن أقداره نافذة بخلاف إرادتهم، وأحكامه عادلة ماضية لأهل الحق عليهم، حتى إذا كان يوم السبت للنصف من صفر وافوا باب الشماسية بأجمعهم، قد نشروا أعلامهم، وتنادوا بشعارهم، وتحصنوا بأسلحتهم، وبدا الأمر منهم لمن عاينهم، ليس لهم وعيد دون سفك الدماء، وسبي النساء، واستباحة الأموال، فبدأهم الأولياء بالموعظة فلم يسمعوا، وقابلوهم بالتذكرة فلم يصغوا إليها، وبدءوا بالحرب منابذين لها، فتسرع الأولياء عند ذلك إليهم، واستنصروا عليهم، واستحكمت بالله ثقتهم، ونفذت به بصائرهم، فلم تزل الحرب بينهم إلى وقت العصر من هذا اليوم، فقتل الله من حماتهم وفرسانهم ورؤسائهم وقاده باطلهم جماعه كثيرا عددها، ونالت الجراحة المثخنة التي تأتي على من نالته أكثر عامتهم. فلما رأى أعداء الله وأعداء دينه أن قد أكذب ظنونهم، وحال بينهم وبين أمانيهم، وجعل عواقبها حسرات عليهم، استنهضوا جيشا من سامرا من الأتراك والمغاربة في العتاد والعدة والجلد والأسلحة في الجانب الغربي، طالبين المعرة، ومؤملين أن ينالوا نيلا من أهله باشتغال إخوانهم في الجانب الشرقي بأعدائهم. وقد كان محمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين شحن الجانبين جميعا

بالرجال والعدة، ووكل بكل ناحية من يقوم بحفظها وحراستها، ويكف عن الرعية بوائق أعدائهم، ووكل بكل باب من الأبواب قائدا في جمع كثيف، ورتب على السور من يراعيه في الليل والنهار وبث الرجال ليعرف أخبار أعداء الله في حركاتهم ونهوضهم ومقامهم وتصرفهم، فيعامل كل حال لهم بحال يفت الله في أعضادهم بها. فلما كان يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من صفر، وافى الجيش الذي أنهضوه من الجانب الغربي الباب المعروف بباب قطربل، فوقفوا بإزاء الناكثين المعسكرين بالجانب الشرقي من دجلة في عدد لا يسعه إلا الفضاء، ولا يحمله إلا المجال الفسيح، وقد تواعدوا أن يكون دنوهم من الأبواب معا لشغل الأولياء بحربهم من الجهات، فيضعفوا عنهم ويغلبوا حقهم بباطلهم، املا كاذبا كادهم الله فيه غير صادق، وظنا خائبا لله فيه قضاء نافذ. وأنهض محمد بن عبد الله نحوهم محمد بن أبي عون وبندار بن موسى الطبري مولى أمير المؤمنين وعبد الله بن نصر بن حمزة من باب قطربل، وأمرهم بتقوى الله وطاعته، والاتباع لأمره والتصرف مع كتابه، والتوقف عن الحرب حتى تسبق التذكره الاسماع، وتزول الحجة بالتتابع منهم والإصرار، فنفذوا في جمع يقابل جمعهم، مستبصرين في حق الله عليهم، مسارعين إلى لقاء عدوهم، محتسبين خطاهم ومسيرهم، واثقين بالثواب الآجل والجزاء العاجل فتلقاهم ومن معهم أعداء الله، قد أطلقوا نحوهم أعنتهم، وأشرعوا لنحورهم أسنتهم، لا يشكون أنهم نهزة المختلس، وغنيمه المنتهب، فنادوهم بالموعظة نداء مسمعا، فمجتها أسماعهم، وعميت عنها أبصارهم، وصدقهم أولياء الله في لقائهم، بقلوب مستجمعة لهم، وعلم بأن الله لا يخلف وعده فيهم، فجالت الخيل بهم جولة، وعاودت كرة بعد كرة عليهم، طعنا بالرماح، وضربا بالسيوف، ورشقا بالسهام، فلما مسهم ألم جراحها، وكلمتهم الحرب بأنيابها، ودارت

عليهم رحاها، وصمم عليهم أبناؤها، ظمأ إلى دمائهم، ولوا أدبارهم، ومنح الله أكتافهم، وأوقع بأسه بهم، فقتلت منهم جماعة لم يحترسوا من عذاب الله بتوبة، ولم يتحصنوا من عقابه بأمانة، ثم ثابت ثانية، فوقفوا بإزاء الأولياء، وعبر إليهم أشياعهم الغاوون من عسكرهم بباب الشماسية ألف رجل من أنجادهم في السفن، معاونين لهم على ضلالتهم، فانهض لهم محمد بن عبد الله خالد بن عمران والشاه بن ميكال مولى طاهر نحوهم، فنفذوا ببصيرة لا يتخونها فتور، ونية لا يلحقها تقصير، ومعهما العباس بن قارن مولى أمير المؤمنين. فلما وافى الشاه فيمن معه أعداء الله، وكل بالمواضع التي يتخوف منها مدخل الكمناء، ثم حمل من توجه معه من القواد المسمين ماضين لا يغويهم الوعيد، ولا يشكون من الله في النصر والتأييد، فوضعوا أسيافهم فيهم، تمضي أحكام الله عليهم، حتى ألحقوهم بالمعسكر الذي كانوا عسكروا فيه وجاوزوه، وسلبوهم كل ما كان من سلاح وكراع وعتاد الحرب، فمن قتيل غودرت جثته بمصرعه، ونقلت هامته إلى مصير فيه معتبر لغيره، ومن لاجئ من السيف إلى الغرق لم يجره الله من حذاره، ومن أسير مصفود يقاد إلى دار أولياء الله وحزبه، ومن هارب بحشاشة نفسه، قد أسكن الله الخوف قلبه، فكانت النقمة بحمد الله واقعة بالفريقين ممن وافى الجانب الغربي قادما، ومن عبر إليهم من الجانب الشرقي منجدا، لم ينج منهم ناج، ولم يعتصم منهم بالتوبة معتصم، ولا أقبل إلى الله مقبل، فرقا أربعا يجمعها النار، ويشملها عاجل النكال، عظة ومعتبرا لأولي الأبصار، فكانوا كما قال اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ. » ولم تزل الحرب بين الأولياء وبين الفرقة التي كانت في الجانب الشرقي والقتل محتفل في أعلامهم، والجراح فاشية فيهم، حتى إذا عاينوا ما أنزل الله بأشياعهم من البوار، وأحل بهم من النقمة والاستئصال، ما لهم من الله من عاصم، ولا من أوليائه ملجأ ولا موئل، ولوا منهزمين مفلولين منكوبين، قد

أراهم الله العبر في إخوانهم الغاوية، وطوائفهم المضلة، وضل ما كان في أنفسهم لما رأوا من نصر الله لجنده، وإعزازه لأوليائه، والحمد لله رب العالمين، قامع الغواة الناكبين عن دينه، والبغاة الناقضين لعهده، والمراق الخارجين من جملة أهل حقه، حمدا مبلغا رضاه، وموجبا أفضل مزيده وصلى الله أولا وآخرا على محمد عبده ورسوله، الهادي إلى سبيله، والداعي إليه بإذنه، وسلم تسليما. وكتب سعيد بن حميد يوم السبت لسبع خلون من صفر سنة إحدى وخمسين ومائتين وركب محمد بن عبد الله بن طاهر يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر إلى باب الشماسية، وأمر بهدم ما وراء سور بغداد من الدور والحوانيت والبساتين وقطع النخل والشجر من باب الشماسيه الى ثلاثة أبواب، لتتسع الناحية على من يحارب فيها، وكان وجه من ناحية فارس والأهواز نيف وسبعون حمارا بمال إلى بغداد، قدم به- فيما ذكر- منكجور بن قارن الأشروسني القائد، فوجه الاتراك وأبو أحمد بن بابك إلى طرارستان في ثلاثمائة فارس وراجل، ليلتقى ذلك المال إذا صار إليها فوجه محمد بن عبد الله قائدا له يقال له يحيى بن حفص، يحمل ذلك المال، فعدل به عن طرارستان، خوفا من ابن بابك، فلما علم ابن بابك أن المال قد فاته صار بمن معه إلى النهروان، فأوقع من كان معه من الجند بأهلها، وأخرج أكثرهم، وأحرق سفن الجسر، وهي أكثر من عشرين سفينة، وانصرف إلى سامرا. وقدم محمد بن خالد بن يزيد- وكان المستعين قلده الثغور الجزرية، وكان مقيما بمدينة بلد ينتظر من يصير إليه من الجند والمال- فلما كان من اضطراب أمر الأتراك ودخول المستعين بغداد ما كان، لم يمكنه المصير إلى بغداد إلا من طريق الرقة، فصار إليها بمن معه من خاصته وأصحابه، وهم زهاء أربعمائة فارس وراجل، ثم انحدر منها إلى مدينة السلام، فدخلها يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر، فصار إلى دار محمد بن عبد الله بن طاهر، فخلع عليه خمس خلع: دبيقي، وملحم، وخز، ووشي، وسواد،

ثم وجهه في جيش كثيف لمحاربة أيوب بن أحمد، فأخذ على ظهر الفرات فحاربه في نفر يسير، فهزم وصار إلى ضيعته بالسواد. فذكر عن سعيد بن حميد أنه قال: لما انتهى خبر هزيمة محمد بن عبد الله، قال: ليس يفلح أحد من العرب إلا أن يكون معه نبي ينصره به. وفي هذا اليوم كانت للأتراك وقعة بباب الشماسيه، كانوا صاروا إلى الباب، فقاتلوا عليه قتالا شديدا حتى كشفوا من عليه، ورموا المنجنيق المنصوب بسره الباب بالنفط والنار، فلم يعمل فيه نارهم، وكثرهم من على الباب من الجند حتى أزالوهم عن موقفهم، ودفعوهم عن الباب بعد قتلهم عدة يسيرة من أهل بغداد، وجرحهم منهم جماعة كثيرة بالسهام فوجه محمد بن عبد الله إليهم عند ذلك العرادات التي كانت تحمل في السفن والزواريق، فرموهم بها رميا شديدا، فقتلوا منهم جماعة كثيرة نحوا من مائة إنسان، فتنحوا عن الباب، وكان بعض المغاربة صار في هذا اليوم إلى سور باب الشماسيه، فرمى كلاب إلى السور، وتعلق به وصعد، فأخذه الموكلون بالسور فقتلوه، ورموا برأسه في المنجنيق إلى عسكر الأتراك، وانصرفوا عند ذلك إلى معسكرهم. وذكر أن بعض الموكلين بسور باب الشماسية من الأبناء هاله ما رأى من كثرة من ورد باب الشماسيه في هذا اليوم من الأتراك والمغاربة، وكانوا قربوا من الباب بأعلامهم وطبولهم، ووضع بعض المغاربة كلابا على السور، فأراد بعض الموكلين بالسور أن يصيح: يا مستعين، يا منصور، فغلط، فصاح: يا معتز، يا منصور، فظنه بعض الموكلين بالباب من المغاربة، فقتلوه وبعثوا برأسه الى دار محمد بن عبد الله، فأمر بنصبه، فجاءت أمه وأخوه في عشية هذا اليوم بجثته في محمل يصيحان ويطلبان رأسه، فلم يدفع إليهما، ولم يزل منصوبا على الجسر إلى أن أنزل مع ما أنزل من الرءوس. ووافى ليلة الجمعة لسبع بقين من صفر جماعة من الأتراك باب البردان، وكان الموكل به محمد بن رجاء، وذلك قبل شخوصه إلى ناحية واسط، فقتل منهم

ستة نفر، وأسر أربعة، وكان الدرغمان شجاعا بطلا، وصار في بعض الأيام مع الأتراك إلى باب الشماسية، فرمى بحجر منجنيق، فأصاب صدره، فانصرف به إلى سامرا، فمات بين بصرى وعكبراء، فحمل إلى سامرا، فذكر يحيى بن العكي القائد المغربي أنه كان إلى جنب الدرغمان في يوم من ايامهم، إذ وافاه ناوكي، فأصاب عينه، ثم أصابه بعد ذلك حجر فأطار رأسه، فحمل ميتا. وذكر عن علي بن حسن الرامي، أنه قال: كنا قد جمعنا على السور على باب الشماسية من الرماة جماعة، وكان مغربي يجيء حتى يقرب من الباب، ثم يكشف استه ثم يضرط ويصيح، قال: فانتخبت له سهما فأنفذته في دبره حتى خرج من حلقه، وسقط ميتا وخرج من الباب جماعة فنصبوه كالمصلوب، وجاءت المغاربة بعد ذلك، فاحتملوه. وذكر أن الغوغاء اجتمعوا بسامرا بعد هزيمة الأتراك يوم قطربل، ورأوا ضعف أمر المعتز، فانتهبوا سوق أصحاب الحلي والسيوف والصيارفة، وأخذوا جميع ما وجدوا فيها من متاع وغيره، فاجتمع التجار إلى إبراهيم المؤيد أخي المعتز، فشكوا ذلك اليه، واعلموه انهم قد كانوا ضمنوا لهم أموالهم وحفظها عليهم قال: فقال لهم: كان ينبغي لكم أن تحولوا متاعكم الى منازلكم، وكبر عنده ذلك وقدم بحونه بن قيس بن أبي السعدي يوم السبت لثمان بقين من صفر بمن فرض من الاعراب وهم ستمائه راجل ومائتا فارس وقدم في هذا اليوم عشرة نفر من وجوه أهل طرسوس يشكون بلكاجور، ويزعمون أن بيعة المعتز وردت عليه، فخرج بعد ساعتين من وصول الكتاب، ودعا إلى بيعة المعتز، وأخذ القواد وأهل الثغر بذلك. فبايع أكثرهم، وامتنع بعض، فأقبل على من امتنع بالضرب والقيد والحبس، وذكر أنهم امتنعوا وهربوا لما أخذهم بالبيعة

كرها، فقال وصيف: ما أظن الرجل إلا اغترموه عليه وإن الوارد عليه بكتاب المعتز هو الليث بن بابك، وذكر له أن المستعين مات، وأقاموا المعتز مكانه، فتكلم هؤلاء النفر يشكون بلكاجور، ونسبوه إلى أنه فعل ذلك على عمد، ورفعوا عليه أنه كان يرى في بني الواثق، وقد ورد كتاب بلكاجور يوم الأربعاء لأربع بقين من صفر مع رجل يقال له على الحسين المعروف بابن الصعلوك، يذكر فيه أنه ورد عليه كتاب من أبي عبد الله بن المتوكل، أنه قد ولي الخلافة، وبايع له فلما ورد عليه كتاب المستعين بصحة الأمر، جدد أخذ البيعة على من قبله، وأنه على السمع والطاعة له فأمر للرسول بألف درهم فقبضها، وقد كان أمر بالكتاب إلى محمد بن علي الأرمني المعروف بأبي نصر بولايته على الثغور الشامية فلما ورد كتاب بلكاجور بالطاعة أمسك عن إنفاذ كتاب محمد بن علي الأرمني بالولاية. وفي يوم الاثنين لست بقين من صفر من هذه السنة قدم إسماعيل بن فراشة من ناحيه همذان في نحو ثلاثمائة فارس، وكان جنده ألفا وخمسمائة، فتقدم بعضهم وتأخر بعض، وتفرقوا، وقدم معه برسول للمعتز، كان وجه إليه لأخذ البيعة، فقيد الرسول، وصار به إلى مدينة السلام على بغل بلا اكاف، فخلع على إسماعيل خمس خلع وورد برجل ذكر أنه علوي أخذ بناحية الري وطبرستان، متوجها إلى من هناك من العلوية، وكان معه دواب وغلمان، فأمر به فحبس في دار العامة أشهرا، ثم أخذ منه كفيل وأطلق. وقرئ في هذا اليوم كتاب موسى بن بغا يذكر فيه أنه ورد كتاب المعتز، وأنه دعا أصحابه، وأخبرهم بما حدث، وأمرهم بالانصراف معه إلى مدينة السلام، فامتنعوا، وأجابه الشاكرية والأبناء، واعتزله الأتراك ومن كانفهم، وحاربوه فقتل منهم جماعة وأسر أسرى، فهم قادمون معه فكبروا في دار ابن طاهر عند قراءتهم كتابه. ولخمس بقين من صفر دخل من البصرة عشر سفائن بحرية، تسمى

البوارج، في كل سفينة اشتيام وثلاثة نفاطين ونجار وخباز وتسعة وثلاثون رجلا من الجذافين والمقاتلة، فذلك في كل سفينة خمسة وأربعون رجلا. فمدت إلى الجزيرة التي بحذاء دار ابن طاهر، ولعب أصحابها بالنيران، ثم مدت إلى ناحية الشماسية في هذه الليلة، فرمى من فيها من الأتراك بالنيران، فعزموا على الانتقال من معسكرهم برقه الشماسيه الى بستان ابى جعفر بالحير، ثم بدا لهم فارتفعوا فوق عسكرهم في موضع لا ينالهم شيء من النار. ولليلة بقيت من صفر صار الأتراك والمغاربة إلى أبواب مدينة السلام من الجانب الشرقي، فأغلقت الأبواب في وجوههم، ورموا بالسهام والمنجنيقات والعرادات، فقتل من الفريقين وجرح جماعة كثيرة، فلم يزالوا كذلك إلى العصر. وفي هذه السنة كر سليمان بن عبد الله راجعا من جرجان إلى طبرستان وشخص من آمل، وخرج بجمع كثير وخيل وسلاح، فتنحى الحسن بن زيد ولحق بالديلم، فكتب إلى السلطان ابن أخيه محمد بن طاهر بدخوله طبرستان، فقرئ كتابه ببغداد، وكتب نسخة ذلك المستعين إلى بغا الصغير مولى أمير المؤمنين بفتح طبرستان على يدي محمد بن طاهر وهزيمه الحسن ابن زيد، وأن سليمان بن عبد الله دخل سارية على حال من السلامة، وأنه ورد عليه ابنان لقارن بن شهريار مولى أمير المؤمنين، يقال لهما مازيار ورستم، في خمسمائة رجل، إلى ما ذكر من غير ذلك في الفتح، وأن أهل آمل أتوه منيبين مظهرين إنابتهم، مستقيلين عثراتهم، فلقيهم بما زاد في سكونهم وثقتهم، ونهض بعسكره على تعبيته، مستقرئا للقرى والطرق، وتقدم بالنهي عن القتل، وترك العرض لأحد في سلب وغيره، وتوعد من جاوز ذلك، وأن كتاب أسد بن جندان وافاه بهزيمة علي بن عبد الله الطالبي المسمى بالمرعشي فيمن كان معه، وهم أكثر من ألفي رجل ورجلين من رؤساء الجبل، في جمع عظيم عند تأدي الخبر إليهم بانهزام الحسن بن زيد ودخوله بالأولياء إلى تلك الناحية، وأنه دخل مدينة آمل في احسن هيئة، واظهر عزه وسلامه شامله،

وانقطعت عنه أسباب الفتنة ولخمس بقين من المحرم من هذه السنة ورد كتاب العلاء بن أحمد عامل بغا الشرابي على الخراج والضياع بأرمينية، بما كان من خروج رجلين بتلك الناحية، سماهما وذكر إيقاعه بهما، وأنهما التجآ إلى قلعة، فوضع عليها المجانيق حتى جهدها، وأنهما خرجا من القلعة هاربين، وخفي أمرهما وصارت القلعة في أيدي الأولياء. وفيها أيضا ورد كتاب مؤرخ لإحدى عشرة ليلة بقيت من المحرم بانتقاض أهل أردبيل، وكتاب الطالبي إليهم، وأنه بعث أربعة عساكر على أربعة أبواب مدينتهم ليحاصرهم وفيها ورد كتاب مخبر عن الحرب التي كانت بين عيسى بن الشيخ والموفق الخارجي وأسر عيسى الموفق، ومسألة عيسى المستعين توجيه ما يحتاج إليه من السلاح، ليكون عدة له في البلد، يقوى به الجند على الغزو، وأن يكتب إلى صاحب الصور في توجيه أربع مراكب إليه بجميع آلتها، تكون قبله مع ما قبله منها وفيها أيضا ورد كتاب محمد بن طاهر بخبر الطالبي الذي ظهر بالري ونواحيها، وما أعد له من العساكر، ووجه اليه من المقاتله، وبهرب الحسن ابن زيد عند مصيره إلى المحمدية وإحاطة عسكره بها، وأنه عند دخوله المحمدية وكل بالمسالك والطرق، وبث أصحابه، وأن الله أظفره بمحمد بن جعفر أسيرا على غير عقد ولا عهد والذي صار إلى الري من العلوية في المرة الثانية بعد ما أسر محمد بن جعفر أحمد بن عيسى بن علي بن حسين الصغير بن على ابن الحسين بن علي بن أبي طالب، وإدريس بن موسى بْن عبد الله بْن موسى بْن

عبد الله بْن حسن بْن علي بْن أبي طالب، وهو الذي خرج في مصعد الحاج، والذي بطبرستان الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بْن الحسن بْن زيد بْن الحسن بْن علي بن أبي طالب رحمة الله عليه ورضوانه وفيها أيضا ورد كتاب من محمد بن طاهر على المستعين، يذكر فيه انهزام الحسن بن زيد منه، وأنه لقيه في زهاء ثلاثين ألفا، فجرت فيما بينه وبينه حرب، وأنه قتل من رءوس اصحابه ثلاثمائة ونيفا وأربعين رجلا وأمر المستعين أن يقرأ نسخة كتابه في الآفاق 4 وفيها خرج يوسف بن إسماعيل العلوي ابن أخت موسى بن عبد الله الحسيني وفي شهر ربيع الأول منها أمر محمد بن عبد الله أن يتخذ لعيارى اهل بغداد كافر كوبات، وأن يصير فيها مسامير الحديد، ويجعل ذلك في دار المظفر بن سيسل، لأنهم كانوا يحضرون القتال بغير سلاح، وكانوا يرمون بالآجر، ثم أمر مناديا، فنادى: من أراد السلاح فليحضر دار المظفر، فوافاها العيارون من كل جانب، فقسم ذلك فيهم، وأثبت أسماءهم، ورأس العيارون عليهم رجلا يدعى ينتويه، ويكنى أبا جعفر وعدة أخر، يدعى أحدهم دونل، والآخر دمحال، والآخر أبا نملة، والآخر أبا عصارة، فلم يثبت منهم إلا ينتويه، فإنه لم يزل رئيسا على عياري الجانب الغربي، حتى انقضى امر هذه الفتنة ولما اعطى العيارون الكافر كوبات تفرقوا على أبواب بغداد، فقتلوا من الأتراك ومن أتباعهم نحوا من خمسين نفسا في ذلك اليوم، وقتل منهم عشره انفس وجرح منهم خمسمائة بالنشاب، وأخذوا من الأتراك علمين وسلمين. وفيها كانت لبحونه بن قيس وقعة مع جماعة من الأتراك بناحيه بزوغى،

لقيهم هو ومحمد بن أبي عون وغيرهما، فأسروا منهم سبعة، وقتلوا ثلاثة، ورمى بعضهم بنفسه في الماء، فغرق بعضهم ونجا بعضهم. وذكر عن أحمد بن صالح بن شيرزاد، أنه سأل رجلا من الأسرى عن عدة القوم الذين لقيهم بحونه، قال: كنا اربعين رجلا، فلقينا بحونه وأصحابه سحرا، فقتل منا ثلاثة، وغرق ثلاثة، وأسر ثمانية، وأفلت الباقون، وأخذ ثماني عشرة دابة وجواشن وراية لعامل أوانا، وهو أخو هارون بن شعيب. وكانت الوقعة بأوانا يوم الأربعاء، واقام جند بحونه وعبد الله بن نصر بن حمزة بقطربل مسلحة. وخرج- فيما ذكر- ينتويه وأصحابه من العيارين في بعض هذه الأيام من باب قطربل، فمضوا يشتمون الأتراك حتى جازوا قطربل، فعبر من عبر إليهم من الأتراك ناشبة في الزواريق، فقتلوا منهم رجلا، وجرحوا منهم عشرة، وكاثرهم العيارون بالحجارة فأثخنوهم، فرجعوا إلى معسكرهم، فأحضر ينتويه دار ابن طاهر، فأمر ألا يخرج إلا في يوم قتال، وسور، وامر له بخمسمائة درهم. ولأربع عشرة خلت من ربيع الأول منها، قدم من ناحية الرقة مزاحم بن خاقان، وأمر القواد وبني هاشم وأصحاب الدواوين بتلقيه، وقدم معه من كان معه من اصحابه من الخراسانية والأتراك والمغاربة، وكانوا زهاء ألف رجل، معهم عتاد الحرب من كل صنف، ودخل بغداد، ووصيف عن يمينه وبغا عن شماله، وعبيد الله بن عبد الله بن طاهر عن يسار بغا، وإبراهيم بن إسحاق خلفهم، وهو بوقار ظاهر، فلما وصل خلع عليه سبع خلع، وقلد سيفا، وخلع على ابنيه، على كل واحد منهما خمس خلع ثم أمر أن يفرض له ثلاثة آلاف رجل من الفرسان والرجالة، ووجه المعتز موسى بن اشناس ومعه حاتم بن داود بن بنحور في ثلاثة آلاف رجل من الفرسان والرجالة فعسكر بإزاء عسكر أبي أحمد من الجانب الغربي بباب قطربل لليلة خلت

من ربيع الأول وخرج رجل من العيارين يعرف بديكويه على حمار وخليفته على حمار، ومعهم ترسة وسلاح، وخرج آخر في الجانب الشرقي يكنى أبا جعفر ويعرف بالمخرمي في خمسمائة رجل في سلاح ظاهر، معهم الترسة وبواري مقيره وسيوف وسكاكين في مناطقهم، ومعهم كافر كوبات، وقرب العسكر الوارد من سامرا إلى الجانب الغربي من بغداد فركب محمد بن عبد الله ومعه أربعة عشر قائدا من قواده في عدة كاملة، وخرج من المبيضة والنظارة خلق كثير، فسار حتى حاذى عسكر أبي أحمد، وكانت بينهم في الماء جولة قتل من عسكر أبي أحمد أكثر من خمسين رجلا، ومضى المبيضة حتى جازت العسكر بأكثر من نصف فرسخ، فعبرت إليهم شبارات من عسكر أبي أحمد، فكانت بينهم مناوشة، وأخذوا عدة من الشبارات بما فيها من المقاتلة والملاحين، فاستوثق منهم، وانصرف محمد بن عبد الله، وأمر ابن أبي عون أن يصرف الناس، فوجه ابن أبي عون إلى النظارة والعامة من صرفهم وأغلظ لهم القول، وشتمهم وشتموه، وضرب رجلا منهم فقتله وحملت عليه العامة، فانكشف من بين أيديهم، وقد كان أربع شبارات من شبارات أهل بغداد تخلفت، فلما انصرف ابن أبي عون منهزما من العامة نظر إليها أهل عسكر أبي أحمد فوجهوا في طلبها شبارات، فأخذوها وأحرقوا سفينة فيها عرادة لأهل بغداد وصار العامة من فورهم إلى دار ابن أبي عون لينهبوها، وقالوا: مايل الأتراك، وأعانهم وانهزم بأصحابه، وكلموا محمد بن عبد الله في صرفه وضجوا، فوجه المظفر بن سيسل في أصحابه، وأمره أن يصرف العامة ويمنعهم أن يأخذوا لابن أبي عون شيئا من متاعه، وأعلمهم أنه قد عزله عن امر الشبارات والبحريات والحرب، وصير ذلك إلى أخيه عبيد الله بن عبد الله، فمضى مظفر، فصرف الناس عن دار محمد بن أبي عون. وفي يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول وافى عسكر الأتراك الشاخص من سامرا إلى بغداد عكبراء، فأخرج ابن طاهر بندار الطبري وأخاه عبيد الله وأبا السنا ومزاحم بن خاقان وأسد بن داود سياه وخالد

ابن عمران وغيرهم من قواده، فمضوا حتى بلغوا قطربل، وفيها كمين الأتراك فأوقع بهم، ونشبت الحرب بينهم، فدفعهم الأتراك حتى بلغوا الحائطين بطريق قطربل وقاتل أبو السنا وأسد بن داود قتالا شديدا، وقتل كل واحد منهما عدة من الأتراك والمغاربة، ومال أبو السنا ميله، وتبعه الناس، فقتل قائدا من قواد الأتراك يقال له سور، ورفع رأسه فصار من فوره إلى دار ابن طاهر، وأعلمه هزيمة الناس وسأله المدد، فأمر ابن طاهر به فطوق- وكان وزن الأطواق كل طوق ثلاثين دينارا، وكل سوار سبعة مثاقيل ونصف- وانصرف أبو السنا راجعا إلى الناس فيمن أخرج إليهم من المدد من جميع الأبواب، فذكر أن محمد بن عبد الله عنف أبا السنا بإخلاله بموضعه ومجيئه نفسه بالراس، وقال له: اخللت بالفاس، فقبح الله هذا الرأس ومجيئك به! ولما انصرف محمد بن عبدوس قاتل أسد بن داود أشد قتال بعد تفرق الناس عنه، فقتل وثاب إلى موضعه قوم من أهل بغداد بعد ما أخذ الأتراك رأسه، فدافعوهم عن جثته، فحملوه إلى بغداد في زورق، وبلغ الأتراك باب قطربل، فخرج الناس إليهم فدفعوهم عن الباب دفعا شديدا، واتبعوهم حتى نحوهم، فأتي دار ابن طاهر بعدة رءوس ممن قتل من الأتراك والمغاربة في هذا اليوم، فأمر بنصبها بباب الشماسية، فنصبت هنالك، ثم رجع الاتراك والمغاربه على اهل بغداد ممن ناحية قطربل، فقتل من أهل بغداد خلق كثير، وقتل من الأتراك جمع كثير، ولم يزل بندار ومن معه يقاتلونهم حتى أمسوا وانصرف بندار بالناس، وغلقت الأبواب، وأمر ابن طاهر المظفر بن سيسل ورشيد ابن كاوس وقائدا معهم فتوجهوا في نحو من خمسمائة فارس من باب قطربل إلى ناحية عسكر ابن أشناس، فوافوهم على حال سكون وأمن، فقتلوا منهم نحوا من ثلاثمائة، وأسروا عدة وانصرفوا. وذكر أن الأتراك والمغاربة وافوا في هذا اليوم باب القطيعة، فنقبوا نقبا

بقرب الحمام الذي يعرف بباب القطيعة، فقتل أول من خرج منهم من النقب، وكان القتل في هذا اليوم أكثر في الأتراك والمغاربة والجراح بالسهام في أهل بغداد. وسمعت جماعة يذكرون أنه حضر هذه الوقعة غلام لم يبلغ الحلم، ومعه مخلاة فيها حجارة ومقلاع في يده، يرمي عنه فلا يخطئ وجوه الأتراك ووجوه دوابهم وأن أربعة من فرسان الأتراك الناشبة جعلوا يرمونه فيخطئونه، وجعل يرميهم فلا يخطئ، وتقطر بهم دوابهم، فمضوا حتى جاءوا معهم بأربعة من رجالة المغاربة بأيديهم الرماح والتراس، فجعلوا يحملون عليه، ثم داخله اثنان منهم، فرمى بنفسه في الماء، ودخلا خلفه فلم يلحقاه، وعبر إلى الجانب الشرقي، وصيح بهما، وكبر الناس، فرجعوا ولم يصلوا إليه. وذكر أن عبيد الله بن عبد الله دعا القواد في هذا اليوم وهم خمسة نفر، فأمر كل واحد منهم بناحية، ثم مضى الناس إلى الحرب، وانصرف هو إلى الباب، فقال لعبد الله بن جهم وهو موكل بباب قطربل: إياك أن تدع منهم أحدا يدخل منهزما من الباب ونشبت الحرب، وتشتت الناس، ووقعت الهزيمة، وثبت أسد بن داود، حتى قتل وقتل بيده ثلاثة، ثم أتاه سهم غرب، فوقع في حلقه فولى، وجاء سهم آخر فوقع في كفل دابته فشبت به فصرعته، ولم يثبت معه أحد إلا ابنه، فجرح، وكان إغلاق الباب على المنهزمين أشد من عدوهم، وحمل- فيما ذكر- إلى سامرا من أهل بغداد سبعون أسيرا، ومن الرءوس ثلاثمائة رأس. وذكر أن الاسرى لما قربوا من سامرا أمر الذي وجه به معهم ألا يدخلهم سامرا إلا مغطي الوجوه، وأن أهل سامرا لما رأوهم كثر ضجيجهم وبكاؤهم، وارتفعت أصواتهم وأصوات نسائهم بالصراخ والدعاء، فبلغ ذلك المعتز، فكره ان تغلظ قلوب من بحضرته من الناس عليه، فأمر لكل أسير بدينارين،

وتقدم إليهم بترك معاودة القتال، وأمر بالرءوس فدفنت. وكان في الأسرى ابن لمحمد بن نصر بن حمزة وأخ لقسطنطينة جارية أم حبيب وخمسة من وجوه بغداد ممن كان في النظارة، فأما ابن محمد بن نصر، فذكر أنه قتل وصلب بإزاء باب الشماسية لمكان أبيه. وفي يوم الخميس لأربع بقين من شهر ربيع الأول، قدم أبو الساج من طريق مكة في نحو من سبعمائة فارس ومعه ثمانية عشر محملا فيها ستة وثلاثون أسيرا من أسارى الأعراب في الأغلال، ودخل هو وأصحابه بغداد في زي حسن وسلاح ظاهر، فصار إلى الدار، فخلع عليه خمس خلع، وقلد سيفا، وانصرف إلى منزله مع أصحابه. وقد خلع على أربع نفر من أصحابه وفي يوم الاثنين لانسلاخ شهر ربيع الأول، وافى باب الشماسية- فيما قيل- جماعة من الأتراك، معهم من المعتز كتاب إلى محمد بن عبد الله، وسألوا إيصاله إليه، فامتنع الحسين بن إسماعيل من قبوله حتى استأمر، فأمر بقبوله، فوافى يوم الجمعة ثلاثة فوارس، فأخرج إليهم الحسين بن إسماعيل رجلا معه سيف وترس، فأخذ الكتاب من خريطة، فأخرج، فأوصله إلى محمد، فإذا فيه تذكير محمد بما يجب عليه من حفظه لقديم العهد بينه وبين المعتز والحرمة، وأن الواجب كان عليه أن يكون أول من سعى في أمره وتوجيه خلافته، وذكر أن ذلك أول كتاب ورد عليه من المعتز بعد الحرب. وفي يوم السبت لخمس خلون من ربيع الآخر وافى بغداد حبشون ابن بغا الكبير ومعه يوسف بن يعقوب قوصرة مولى الهادي فيمن كان مع موسى ابن بغا من الشاكرية، وانضم إليهم عامة الشاكرية المقيمين بالرقة، وهم في نحو من ألف وثلاثمائة، فخلع عليه خمس خلع، وعلى يوسف أربع خلع، وعلى نحو من عشرين من وجوه الشاكرية، وانصرفوا إلى منازلهم

وقدم بغداد رجل ذكر أن عدة الأتراك والمغاربة وحشوهم في الجانب الغربي اثنا عشر ألف رجل ورأسهم بايكباك القائد، وأن عدة من مع أبي أحمد في الجانب الشرقي سبعة آلاف رجل خليفته عليهم الدرغمان الفرغاني، وأنه ليس بسامرا من قواد الأتراك ولا من قواد المغاربة إلا ستة نفر، وكلوا بحفظ الأبواب وكانت بين الفريقين وقعة يوم الأربعاء لسبع خلون من شهر ربيع الآخر، فقتل- فيما ذكر- فيها من أصحاب المعتز مع من غرق منهم أربعمائة رجل، وقتل من أصحاب ابن طاهر مع من غرق ثلاثمائة رجل، لم يكن فيهم إلا جندي، وذلك أنه لم يخرج في ذلك اليوم من الغوغاء أحد وقتل الحسن بن علي الحربي، وكان يوما صعبا على الفريقين جميعا. وذكر أن مزاحم بن خاقان رمى فيه موسى بن أشناس بسهم فأصابه، فانصرف مجروحا، وافتقد من عسكر أبي أحمد نحو من عشرين قائدا من الأتراك والمغاربة. ولما كان يوم الخميس لأربع عشرة بقيت من شهر ربيع الآخر خلع على أبي الساج خمس خلع، وعلى ابن فراشة أربع خلع، وعلى يحيى بن حفص حبوس ثلاث خلع وعسكر أبو الساج في سوق الثلاثاء، وأعطى الجند بغالا من بغال السلطان يحمل عليها الرجالة، وحول مزاحم بن خاقان من باب حرب إلى باب السلامة، وصار مكان مزاحم خالد بن عمران الطائي الموصلي. وذكر أن أبا الساج لما أمره ابن طاهر بالشخوص قال له: أيها الأمير، عندي مشورة أشير بها، قال: قل يا أبا جعفر، فإنك غير متهم، قال: إن كنت تريد أن تجاد هؤلاء القوم فالرأي لك ألا تفارق قوادك ولا تفرقهم، واجمعهم حتى تفض هذا العسكر المقيم بإزائك، فإنك إذا فرغت من هؤلاء فما أقدرك على من وراءك! فقال: ان لي تدبيرا، ويكفى ان شاء فقال

أبو الساج: السمع والطاعة، ومضى لما أمر به. وذكر أن المعتز كتب إلى أبي أحمد يلومه للتقصير في قتال أهل بغداد، فكتب إليه: لأمر المنايا علينا طريق ... وللدهر فيه اتساع وضيق فأيامنا عبر للأنام ... فمنها البكور ومنها الطروق ومنها هنات تشيب الوليد ... ويخذل فيها الصديق الصديق وسور عريض له ذروة ... تفوت العيون وبحر عميق قتال مبيد، وسيف عتيد ... وخوف شديد، وحصن وثيق وطول صياح لداعي الصباح ... السلاح السلاح، فما يستفيق فهذا قتيل وهذا جريح ... وهذا حريق وهذا غريق وهذا قتيل وهذا تليل ... وآخر يشدخه المنجنيق هناك اغتصاب وثم انتهاب ... ودور خراب وكانت تروق إذا ما سمونا إلى مسلك ... وجدناه قد سد عنا الطريق فبالله نبلغ ما نرتجيه ... وبالله ندفع ما لا نطيق فأجابه محمد بن عبد الله- أو قيل على لسانه: ألا كل من زاغ عن أمره ... وجار به عن هداه الطريق ملاق من الأمر ما قد وصفت ... وهذا بأمثال هذا خليق ولا سيما ناكث بيعة ... وتوكيدها فيه عهد وثيق يسد عليه طريق الهدى ... ويلقى من الأمر ما لا يطيق وليس ببالغ ما يرتجيه ... من كان عن غيه لا يفيق

ذكر خبر المدائن في هذه الفتنة

أتانا به خبر سائر ... رواه لنا عن خلوق خلوق وهذا الكتاب لنا شاهد ... يصدقه ذا النبي الصدوق أما الشعر الأول، فإنه ينشد لعلي بن أمية في فتنة المخلوع والمأمون، والجواب لا يعرف قائله. وفي ربيع الآخر من هذه السنة ذكر أن مائتي نفس من بين فارس وراجل مضوا من قبل المعتز الى ناحيه البندنيجين ورئيسهم تركي يدعى أبلج، فقصدوا الحسن بن علي، فانتهبوا داره، وأغاروا على قريته، ثم صاروا إلى قرية قريبة منها، فأكلوا وشربوا، فلما اطمأنوا استصرخ عليهم الحسن بن علي أكرادا من أخواله وقوما من قرى حوله، فصاروا إليهم وهم غارون، فأوقع بهم وقتل أكثرهم، وأسر سبعة عشر رجلا منهم، وقتل أبلج، وهرب من بقي منهم ليلا، ثم بعث الحسن بن علي الأسرى ورأس أبلج ورءوس من قتل معه إلى بغداد. والحسن بن علي هذا رجل من شيبان كان يخلف- فيما ذكر- يحيى بن حفص في عمله، وأمه من الأكراد. ذكر خبر المدائن في هذه الفتنة ذكر أن أبا الساج وإسماعيل بن فراشة ويحيى بن حفص، لما خلع عليهم للشخوص نحو المدائن، عسكروا بسوق الثلاثاء، فلما كان يوم الأحد لعشر بقين من شهر ربيع الأول، حمل رجالته على البغال، وصار إلى المدائن، ثم إلى الصيادة، وابتدأ في حفر خندق المدائن- وهو خندق كسرى- وكتب يستمد، فوجه اليه خمسمائة رجل من رجاله الجيشية، وكان شخوصه في ثلاثة آلاف فارس وراجل، ثم استمده فأمده، فحصل في عسكره ثلاثة آلاف فارس وألفا راجل، ثم أمد بمائتي راجل من الشاكرية القدماء، وحملوا في السفن، وانحدروا إليه يوم الأحد لأربع خلون من جمادى الآخرة

ذكر الخبر عن أمر الأنبار وما كان فيها من هذه الفتنة فمما كان بها ان محمد بن عبد الله وجه بحونه بن قيس في الأعراب إلى الأنبار، وأمره بالمقام بها والفرض لأعراب الناحية، ففرض قوما منهم ومن المشبهة بهم نحوا من ألفي رجل، فأقام بالأنبار وضبطها، فبلغه أن قوما من الأتراك قد قصدوه، فبثق الماء من الفرات إلى خندق الأنبار، فامتلأ الخندق لزيادة الماء، وفاض على ما يليه من الصحاري، فصار الماء إلى السالحين فصار ما يلي الأنبار بطيحة واحدة، وقطع القناطر التي توصل إلى الأنبار، وكتب يستمد فندب للخروج إليه رشيد بن كاوس أخو الأفشين، وضم إليه ممن كان معه من رجاله تتمة ألف رجل، خمسمائة فارس وخمسمائة راجل، فشخص وعسكر في قصر عبدويه، وأمده ابن طاهر بثلاثمائة راجل من الملطيين القادمين من الثغور، وانتخبوا، ودفع إليهم استحقاقهم، ونفذوا إليه يوم الثلاثاء ورحل من قصر عبدويه يوم الاثنين سلخ ربيع الآخر في نحو من الف وخمسمائة رجل، وأخرج المعتز أبا نصر بن بغا من سامرا على طريق الإسحاقي يوم الثلاثاء، فسار يومه وليلته، فصبح الأنبار ساعة نزلها رشيد بن كاوس. وكان بحونه نازلا في المدينة ورشيد خارجها، فلما وافى أبو نصر عاجل رشيدا وأصحابه وهم غارون على غير تعبئة، فوضع أصحابه فيهم السيف، ورموهم بالنشاب فقتلوا عدة، وثار بعض أصحاب رشيد إلى أسلحتهم، فقاتلوا الاتراك والمغاربه قتالا شديدا، وقتلوا منهم جماعة، ثم انهزم الشاكرية ورشيد على الطريق الذي جاءوا فيه منصرفين الى بغداد. ولما بلغ بجونه ما لقيه أصحاب رشيد، وأن الأتراك قد مالوا عند انهزام رشيد إلى الأنبار عبر إلى الجانب الغربي، وقطع جسر الأنبار، وعبر معه جماعة من أصحابه، وصار رشيد إلى المحول في ليلته، وسار بحونه

في الجانب الغربي حتى وافى بغداد يوم الخميس بالعشي ثم دخل رشيد في هذه العشية الى دار ابن طاهر، فاعلم بحونه محمد بن عبد الله أنه عند مصير الأتراك إلى الأنبار وجه إلى رشيد يسأله أن يوجه إليه مائة رجل من الناشبة ليرتبهم قدام أصحابه، فامتنع من ذلك، وسأله أن يضم إليه ناشبة من الفرسان والرجالة ليصير إلى بني عمه، وذكر أنهم مقيمون هنالك في الجانب الغربي على الطاعة وانتظار أمير المؤمنين، وضمن أن يتلافى ما كان منه فضم اليه ثلاثمائة رجل من فرسان الشاكرية الناشبة ورجالتهم، وخلع عليه خمس خلع، ومضى إلى قصر ابن هبيرة يستعد هنالك. ثم اختار محمد بن عبد الله الحسين بن إسماعيل للأنبار، ووجه محمد بن رجاء الحضاري معه وعبد الله بن نصر بن حمزة ورشيد بن كاوس ومحمد بن يحيى وجماعة من الناس، وأمر بإخراج المال لمن يخرج مع الحسين ومع هؤلاء القوم، فامتنع من كان قدم من ملطية من الشاكرية وهم عظم الناس من قبض رزق أربعة أشهر، لأن أكثرهم كان بغير دواب، وقالوا: نحتاج إلى أن نقوى في أنفسنا، ونشتري الدواب وكان الذي أطلق لهم أربعة آلاف دينار، ثم رضوا بقبض أربعة أشهر، فجلس الحسين في مجلس على باب محمد بن عبد الله، وتقدم في تصحيح الجرائد، ليكون عرضه الناس وأصحابه في مدينة أبي جعفر، فأعطى في ذلك اليوم جماعة من خاصته ثم صار الحسين وأصحاب الدواوين بعد ذلك الى مدينة أبي جعفر، ووضع العطاء لمن يخرج معه من الجند في ثلاثة مجالس، واستتم إعطاؤهم يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى. فلما كان يوم الاثنين أحضر الحسين بن إسماعيل الدار ومعه القواد الخارجون معه: رشيد بن كاوس، ومحمد بن رجاء، وعبد الله بن نصر بن حمزه، وارمش الفرغاني، ومحمد بن يعقوب أخو حزام، ويوسف بن منصور بن يوسف البرم، والحسين بن علي بن يحيى الأرمني، والفضل بن محمد بن الفضل، ومحمد بن هرثمة بن النصر،، وخلع على الحسين، وقدمت مرتبته

إلى الفوج الثاني- وكان في الفوج الرابع- وخلع على هؤلاء القواد، وصير رشيد بن كاوس على المقدمة، ومحمد بن رجاء على الساقة، ومضى الحسين ومن ضم إليه من عشيرته وقواده إلى معسكرهم، وأمر وصيف وبغا أن يسبقا الحسين إلى معسكره، وشيعه عبيد الله بن عبد الله وجميع قواد ابن طاهر وكتابه وبنو هاشم والوجوه إلى الياسرية، وأخرج لأهل العسكر من المال ستة وثلاثون ألف دينار، وحمل إلى معسكر الياسرية بعد لاعطاء من بقي الف وثمانمائه دينار، تمام استحقاقهم. فلما كان يوم الخميس سارت مقدمة الحسين والمقلد لها عبد الله بن نصر ومحمد بن يعقوب في ألف فارس وراجل، فنزلوا البثق المعروف بالقاطوفة، وكان الأتراك قد وجهوا إلى المنصورية على خمسة فراسخ من بغداد جماعة منهم ومن المغاربة والغوغاء زهاء مائة إنسان، فظفر بسبعة من المغاربة، فوجه بهم إلى الحسين، فأنفذهم إلى الباب، وسار الحسين يوم الجمعة لسبع بقين من جمادى الأولى وقد كان أهل الأنبار حين تنحى بحونه ورشيد، وصار الأتراك والمغاربة إلى الأنبار ونادوا الأمان، فأعطوه، وأمروا بفتح حوانيتهم والتسوق فيها والانتشار في أمورهم، واطمأنوا إلى ذلك منهم وسكنوا، وطمعوا فيهم أن يفوا لهم، فأقاموا بذلك يومهم وليلتهم حتى أصبحوا، وكان في وقت غلبتهم عليها وافتهم سفن من الرقة فيها دقيق وأطواف فيها زيت وغير ذلك، فأخذوه وجمعوا ما وجدوا فيها من إبل ودواب وبغال وحمير، ووجهوا بذلك مع من يؤديه إلى منازلهم بسامرا، وانتهبوا ما وجدوا، ووجهوا برءوس من قتل من أصحاب رشيد وبحونه وأهل بغداد وبمن أسروا وكانوا مائة وعشرين رجلا، والرءوس سبعون رأسا، وجعلوا الأسرى في الجوالقات، قد أخرجوا منها رءوسهم حتى صاروا إلى سامرا، وصار الأتراك إلى فم الأستانة، وحاولوا سدها ليقطعوا ماء الفرات عن بغداد، فوجهوا رجلا، ودفعوا إليه مالا لآلة السكر وسده مع القلوس والصواري، ففطن به وهو يبتاع ذلك، فحمل إلى دار

ابن طاهر بعد أن نالته العامة بالضرب والشتم، حتى أشفى على الموت، فسئل عن أمره فصدق، فوجه به إلى الحبس. وكان ابن طاهر قد وجه الحارث خليفة أبي الساج، فكان على طريق مكة إلى قصر ابن هبيرة، وضم اليه خمسمائة رجل من فرسان الشاكرية القادمين معه، فنفذ ومن معه لسبع خلون من جمادى الأولى، ووجه ابن ابى دلف هشام ابن القاسم في مائتي راجل وفارس إلى السيبين، ليقيم هناك، فلما توجه الحسين إلى الأنبار كتب إليه باللحاق بعسكر الحسين ليصير معه إلى الأنبار، ونودي ببغداد في أصحاب الحسين ومزاحم بن خاقان أن يلحقوا بقوادهم فسار الحسين، وتقدم خالد بن عمران حتى نزل دمما، فأراد أن يعقد على نهر أنق جسرا ليعبر عليه أصحابه، فمانعه الأتراك، فعبر إليهم جماعة من الرجالة فكشفوهم، وعقد خالد الجسر، فعبر هو وأصحابه، وصار الحسين إلى دمما فعسكر خارجها، وأقام في معسكره يوما، ووافته طلائع الأتراك مما يلي نهر أنق ونهر رفيل فوق قرية دمما، فصف الحسين أصحابه من جانب النهر والأتراك من الجانب الآخر، وهم زهاء ألف رجل، وتراشقوا بالسهام، فجرح بينهم عداد، وانصرف الأتراك إلى الأنبار. وكان بحونه مقيما بقصر ابن هبيرة، فانضم إلى الحسين في جميع من كان معه من الأعراب وغيرهم، وكتب بحونه يسأل مالا لإعطاء أصحابه، فأمر أن يحمل الى معسكر الحسين لاعطاء اصحاب بحونه ثلاثة آلاف دينار، وحمل إلى الحسين مال واطواق واسوره وجوائز لمن أبلى في الحرب، وكان الحسين وعد أن يمد بالرجال حتى يكمل عسكره عشره آلاف رجل، فكتب ينتجز ذلك، فأمر بتوجيه أبي السنا محمد بن عبدوس الغنوي والجحاف بن سواد في ألف فارس وراجل من الملطيين وجند انتخبوا من قيادات شتى، فقبضوا أنزالهم لليلتين بقيتا من جمادى وساروا مع أبي السناء والجحاف على نهر كرخايا إلى المحول، ثم إلى دمما، ونزل الحسين بعسكره في موضع يعرف

بالقطيعة واسع يحتمل العسكر، فأقام فيه يومه، ثم عزم على الرحلة منه إلى قرب الأنبار، فأشار عليه رشيد والقواد أن ينزل عسكره بهذا الموضع لسعته وحصانته، ويسير هو وقواده في خيل جريدة، فإن كان الأمر له كان قادرا أن ينقل عسكره، وإن كان عليه انحاز إلى عسكره وراجع عدوه، فلم يقبل الرأي، وحملهم على المسير من موضعهم، فساروا بين الموضعين فرسخان أو نحوهما فلما بلغوا الموضع الذي أراد الحسين النزول فيه، أمر الناس بالنزول، وكان جواسيس الأتراك في عسكر الحسين، فساروا إليهم، وأعلموهم رحلة الحسين، وضيق العسكر بالموضع الذي نزل فيه، فوافوهم والناس يحطون أثقالهم، فسار أهل العسكر، ونادوا السلاح، فصافوهم، فكانت بينهم قتلى من الفريقين، وحمل أصحاب الحسين عليهم فكشفوهم كشفا قبيحا، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وغرق منهم خلق كثير في الفرات وكان الأتراك قد كمنوا قوما، فخرج الكمين عند ذلك على بقية العسكر، فلم يكن لهم ملجأ إلا الفرات وغرق من أصحاب الحسين خلق كثير، وقتل جماعة وأسر من الرجالة جماعة، وأما الفرسان فضربوا دوابهم هرابا لا يلوون على شيء، والقواد ينادونهم يسألونهم الرجعة، فلم يرجع منهم أحد، وأبلى محمد بن رجاء ورشيد يومئذ بلاء حسنا، ولم يكن لمن انهزم معقل دون الياسرية على باب بغداد، فلم يملك القواد أمور أصحابهم، فأشفقوا حينئذ على أنفسهم، فانثنوا راجعين وراءهم، يحمونهم من أدبارهم أن يتبعوا، وحوى الأتراك جميع عسكر الحسين بما فيه من المضارب وأثاث الجند وتجارات أهل السوق، وكان معه في السفن سلاح سلم، لأن الملاحين حرزوا سفنهم، فسلم ما كان معهم من السلاح ومن تجارات التجار. وذكر عن ابن زنبور كاتب الحسين أنه أخذ للحسين اثنا عشر صندوقا فيها كسوة ومال من مال السلطان مبلغه ثمانية آلاف دينار، ونحو من أربعة آلاف دينار لنفسه، ونحو من مائة بغل، وانتهب فروض الحسين مضارب الحسين وأصحابه، وطاروا مع من طار، فوافوا الياسرية، وكان اكثر

النهب مع أصحاب أبي السنا ووافى الحسين والفل الياسرية يوم الثلاثاء لست خلون من جمادى الآخرة. ولقي الحسين رجل من التجار في جماعة ممن ذهبت أموالهم في عسكره، فقال: الحمد لله الذي بيض وجهك! أصعدت في اثني عشر يوما، وانصرفت في يوم واحد! فتغافل عنه. قال أبو جعفر: ومما انتهى إلينا من خبر الحسين بن إسماعيل ومن كان معه من القواد والجند الذين كان محمد بن عبد الله بن طاهر استنهضهم من بغداد في هذه السنة لحرب من كان قصد الأنبار وما اتصل بها من البلاد من الأتراك والمغاربة، أنه لما صار إلى الياسرية منصرفه مهزوما من دمما، أقام بها في بستان ابن الحروري، وأقام من وافى الياسرية من المنهزمة في الجانب الغربي من الياسرية، ومنعوا من العبور، ونودي ببغداد فيمن دخلها من الجند الذين في عسكر الحسين أن يلحقوا بالحسين في معسكره، وأجلوا ثلاثة ايام، فمن وجد منهم ببغداد بعد ثلاثة ضرب ثلاثمائة سوط، ومحي اسمه من الديوان. فخرج الناس، وأمر خالد بن عمران في الليلة التي قدم فيها الحسين أن يعسكر في أصحابه بالمحول، وأعطى أصحابه أرزاقهم في تلك الليلة في الشرج، ونودي في أصحابه بالمحول باللحاق به. ونودي في الفرض القدماء الذين كانوا فرضوا بسبب أبي الحسين يحيى بن عمر بالكوفه وهم خمسمائة رجل، وأصحاب خالد وهم نحو من ألف رجل، فعسكروا بالمحول يوم الثلاثاء لسبع خلون من جمادى الآخرة وأمر ابن طاهر الشاه بن ميكال في صبيحة الليلة التي وافى فيها الحسين أن يتلقاه ويمنعه من دخول بغداد فلقيه في الطريق، فرده إلى بستان ابن الحروري، وأقاموا يومهم، فلما كان الليل صاروا إلى دار ابن طاهر، فوبخه ابن طاهر وأمره بالرجوع إلى الياسرية لينفذ إلى الأنبار مع من ينفذ إليها من الجند، فصار من ليلته إلى الياسرية، ثم أمر بإخراج مال لإعطاء شهر واحد لآل هذا العسكر

فحمل تسعة آلاف دينار، وصار كتاب ديوان العطاء وديوان العرض إلى الياسرية لعرض الجند وإعطائهم. فلما كان يوم الجمعة لسبع خلون من جمادى الآخرة توجه خالد بن عمران مصعدا إلى قنطرة بهلايا- وهي موضع السكر- وخرجت معه نحو من عشرين سفينة وركب عبيد الله بن عبد الله وأحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد إلى عسكر الحسين بن إسماعيل بالياسرية، فقرءوا على الحسين والقواد كتابا كتب به عن المستعين، يخبرهم فيه بسوء طاعتهم وما ركبوا من العصيان والتخاذل، فقرئ عليهم والعسكر مقيم، والعراض يعرضونهم ليتعرفوا من قتل ومن غرق من كل قيادة، ونودي باللحاق بعسكرهم، فخرجوا. وأتاهم كتاب بعض عيونهم بالأنبار يخبر أن القتلى كانت من الأتراك أكثر من مائتين، والجرحى نحوا من أربعمائة، وأن جميع من أسره الأتراك من أهل بغداد الجيشية والفروض من الرجالة مائتان وعشرون إنسانا، وأنه عد رءوس من قتل فوجدها سبعين رأسا، وكانوا أخذوا جماعة من أهل الأسواق. فصاحوا لأبي نصر: نحن أهل السوق، فقال: ما بالكم معهم! فقالوا: أكرهنا فخرجنا، شئنا او أبينا فأطلق من كان منهم يشبه السوقة، وأمر بحبس الأسرى في القطيعة. وذكر عن صاحب بغال السلطان: أن جميع ما ذهب من بغال السلطان مائة وعشرون بغلا. ورحل الحسين يوم الاثنين لاثنتي عشرة بقيت من جمادى الآخرة، وكتب إلى خالد بن عمران وهو مقيم على السكر، أن يرحل متقدما أمامه، فامتنع خالد من ذلك، وذكر أنه لا يبرح من موضعه إلا أن يأتيه قائد في جند كثيف فيقيم مكانه، لأنه يتخوف أن يأتيه الأتراك من خلفه من عسكرهم بناحية قطربل وأمر ابن طاهر بمال، فحمل إلى الحسين بن إسماعيل لإعطاء جميع من في عسكره رزق شهر واحد، ليفرق فيهم بدمما، وأمر أن يخرج معه الكتاب والعراض لأصحابه هنالك، وقلد أمر نفقات

عسكره وإعطاء الجند من قبل ديوان الخراج الفضل بن مظفر السبعي، وحمل المال مع السبعي إلى معسكر الحسين، لينفذ. معه إذا نفذ وقد قيل: إن الحسين ارتحل إلى الأنبار في النصف من ليلة الأربعاء لعشر بقين من جمادى الآخرة، فسار وتبعه من في عسكره يوم الأربعاء، ونودي في أصحابه باللحاق به، فسار حتى نزل دمما، وأراد أن يعقد على نهر أنق جسرا ليعبر عليه، فمانعه الأتراك، فعبر إليهم جماعة من أصحابه من الرجالة، فحاربوهم حتى كشفوهم وعقد خالد الجسر، فعبر اصحابه ووجه محمد بن عبد الله بكاتبه محمد بن عيسى بشيء شافهه به، فيقال: أنه حمل معه أطواقا وأسورة، وانصرف إلى منزله، وصار إلى الحسين يوم السبت لثمان خلون من رجب رجل، فأخبره أن الأتراك قد دلوا على عدة مواضع في الفرات، تخاض إلى عسكره، فأمر بضرب الرجل مائتي سوط، ووكل بالمخاوض رجلا من قواده، يقال له الحسين بن علي بن يحيى الأرمني في مائة راجل ومائة فارس، فطلع أول القوم، فخرج عليهم وقد أتاه منهم أربعة عشر علما، فقاتل أصحابه ساعة، ووكل بالقنطرة أبا السنا، وأمره أن يمنع من انهزم من العبور، فأتى الأتراك المخاضة، فرأوا الموكل بها، فتركوه واقفا، وصاروا إلى مخاضة أخرى خلف الموكل فقاتلوهم، فصبر الحسين بن علي وقاتل، فقيل للحسين بن إسماعيل، فقصد نحوه، ولم يصل إليه حتى انهزم، وانهزم خالد بن عمران معه ومن معه، ومنعهم أبو السنا من العبور على القنطرة، فرجع الرجالة والخراسانية فرموا بأنفسهم في الفرات، فغرق من لم يحسن السباحة، وعبر من كان يحسن السباحة، فنجا عريانا، وخرج إلى جزيرة لا يصل منها إلى الشط، لما على الشط من الأتراك، فذكر عن بعض جند الحسين، أنه قال: بعث الحسين بن علي الأرمني إلى الحسين بن إسماعيل أن الأتراك قد وافوا المخاضة، فأتاه الرسول، فقيل: الأمير نائم، فرجع الرسول فأعلمه، فرد آخر، فقال له الحاجب: الأمير في المخرج، فرجع فأخبره، فرد

رسولا ثالثا، فقال: قد خرج من المخرج ونام، فعلت الصيحة فعبر الاتراك، فقعد الحسين في زورق أو شبارة، وانحدر واستأثر قوم من الخراسانية، ورموا ثيابهم وسلاحهم، وقعدوا على الشط عراة، وشد أصحاب أعلام الأتراك حتى ضربوا أعلامهم على مضرب الحسين بن إسماعيل، واقتطعوا السوق، وانحدرت عامة السفن، فسلمت إلا ما كان موكلا به منها، ولحق الأتراك أصحاب الحسين، فوضعوا فيهم السيف، فقتلوا وأسروا نحوا من مائتين، وغرق خلق كثير، ووافى الحسين والمنهزمة بغداد نصف الليل، ووافى فلهم وبقيتهم في النهار، وفيهم جرحى كثيرة، فلم يزالوا إلى نصف النهار يتتابعون عراة مجرحين، وفقد من قواد الحسين بن يوسف البرم وغيره. ثم جاء كتابه أنه أسير في أيدي الأتراك عند مفلح، وأن عدة الأسرى من وقعة الحسين الثانية مائة ونيف وسبعون إنسانا، والقتلى مائة، والدواب نحو من ألفي دابة ومائتي بغل وأكثر، وقيمة السلاح والثياب وغير ذلك اكثر من مائه الف دينار، فقال الهندواني في الحسين بن إسماعيل: يا أحزم الناس رأيا في تخلفه ... عن القتال خلطت الصفو بالكدر لما رأيت سيوف الترك مصلتة ... علمت ما في سيوف الترك من قدر فصرت منحجزا ذلا ومنقصة ... والنجح يذهب بين العجز والضجر ولحق بالمعتز في جمادى الآخرة منها من بغداد جماعة من الكتاب وبني هاشم، ومن القواد مزاحم بن خاقان أرطوج، ومن الكتاب عيسى بن ابراهيم ابن نوح ويعقوب بن إسحاق ونماري ويعقوب بن صالح بن مرشد ومقله وابن لأبي مزاحم بن يحيى بن خاقان ومن بني هاشم على ومحمد ابنا الواثق، ومحمد ابن هارون بن عيسى بن جعفر، ومحمد بن سليمان من ولد عبد الصمد بن علي وفيها كانت وقعة بين محمد بن خالد بن يزيد وأحمد المولد وأيوب بن أحمد

بالسكير من أرض بني تغلب، قتل بين الفريقين جماعه كثيره، وانهزم محمد ابن خالد، وانتهب الآخرون متاعه، وهدم أيوب دور آل هارون بن معمر. وقتل من ظفر به من رجالهم وفيها كانت لبلكاجور غزوة فتح- فيما ذكر- فيها مطمورة أصاب فيها غنيمة كثيرة، وأسر جماعة من الأعلاج، وورد بذلك على المستعين كتاب تاريخه يوم الأربعاء لثلاث ليال بقين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وخمسين ومائتين وفي يوم السبت لثمان بقين من رجب من هذه السنة كانت وقعه بين محمد ابن رجاء وإسماعيل بن فراشة وبين جعلان التركي بناحية بادرايا وباكسايا، فهزم ابن رجاء وابن فراشة جعلان، وقتلا من أصحابه جماعة. وأسرا جماعة وفي رجب منها كان- فيما ذكر- وقعة بين ديوداد أبي الساج وبين بايكباك بناحية جرجرايا، قتل فيها أبو الساج بايكباك، وقتل من رجاله جماعة، وأسر منهم جماعة، وغرق منهم في النهروان جماعة. وفي النصف من رجب منها اجتمع من كان ببغداد من بني هاشم من العباسيين، فصاروا إلى الجزيرة التي بإزاء دار محمد بن عبد الله، فصاحوا بالمستعين وتناولوا محمد بن عبد الله بالشتم القبيح، وقالوا: قد منعنا أرزاقنا، وتدفع الأموال إلى غيرنا ممن لا يستحقها، ونحن نموت هزلا وجوعا! فإن دفعت إلينا أرزاقنا وإلا قصدنا إلى الأبواب ففتحناها، وأدخلنا الأتراك، فليس يخالفنا أحد من أهل بغداد فعبر إليهم الشاه بن ميكال، فكلمهم ورفق بهم، وسألهم أن يعبر معه منهم ثلاثة أنفس ليدخلهم على ابن طاهر، فامتنعوا من ذلك، وأبوا إلا الصياح وشتم محمد بن عبد الله، فانصرف عنهم الشاه، فلم يزالوا على حالهم إلى قرب الليل، ثم انصرفوا واجتمعوا من غد ذلك اليوم، فوجه إليهم محمد بن عبد الله، فأمرهم بحضور الدار يوم الاثنين ليأمر من يناظرهم،

خروج الحسين بن محمد الطالبي وما آل اليه امره

فصاروا إلى الدار، فأمر محمد بن داود الطوسي بمناظرتهم، وبذل لهم رزق شهر واحد، وأمرهم أن يقبضوا ذلك، ولا يكلفوا الخليفة أكثر من هذا، فأبوا أن يقبضوا رزق شهر، وانصرفوا. خروج الحسين بن محمد الطالبي وما آل اليه امره وفيها خرج بالكوفة رجل من الطالبيين يقال له الحسين بن محمد بن حمزة بن عبد الله بن الحسين بْن علي بْن حسين بْن علي بْن أبي طالب، فاستخلف بها رجلا منهم يقال له محمد بن جعفر بن الحسين بن جعفر بن الحسين بن حسن، ويكنى أبا أحمد، فوجه إليه المستعين مزاحم بن خاقان أرطوج، وكان العلوي بسواد الكوفه في ثلاثمائة رجل من بنى اسد وثلاثمائة رجل من الجارودية والزيدية وعامتهم صوافية، وكان العامل يومئذ بالكوفه احمد ابن نصر بن مالك الخزاعي، فقتل العلوي من أصحاب ابن نصر أحد عشر رجلا، منهم من جند الكوفة أربعة، وهرب أحمد بن نصر إلى قصر ابن هبيرة، فاجتمع هو وهشام بن أبي دلف، وكان يلي بعض سواد الكوفة- فلما صار مزاحم إلى قرية شاهي كتب إليه في المقام حتى يوجه إلى العلوي من يرده إلى الفيئة والرجوع فوجه إليه داود بن القاسم الجعفري، وأمر له بمال، فتوجه إليه وأبطأ داود وخبره على مزاحم، فزحف مزاحم إلى الكوفة من قرية شاهي، فدخلها وقصد العلوي فهرب، فوجه في طلبه قائدا، وكتب بفتحه الكوفة في خريطة مريشة 4 وقد ذكر أن أهل الكوفة عند ورود مزاحم حملوا العلوي على قتاله، ووعدوه النصر، فخرج في غربي الفرات، فوجه مزاحم قائدا من قواده في الشرقي من الفرات، وأمره أن يمضي حتى يعبر قنطرة الكوفة ثم يرجع، فمضى القائد لذلك، وأمر مزاحم بعض أصحابه الذين بقوا معه أن يعبروا مخاضة الفرات في

قرية شاهي، وأن يتقدموا حتى يحاربوا أهل الكوفة ويصافوهم من أمامهم فساروا ومعهم مزاحم، وعبر الفرات، وخلف أثقاله ومن بقي معه من أصحابه، فلما رآهم أهل الكوفة ناوشوهم الحرب، ووافاهم قائد مزاحم، فقاتلهم من ورائهم ومزاحم من أمامهم، فأطبقوا عليهم جميعا فلم يفلت منهم أحد. وذكر عن ابن الكردية أن مزاحما قتل من أصحابه قبل دخوله الكوفة ثلاثة عشر رجلا، وقتل من الزيدية أصحاب الصوف سبعة عشر رجلا، ومن الأعراب ثلاثمائة رجل، وأنه لما دخل الكوفة رمي بالحجارة فضرب ناحيتي الكوفة. بالنار، وأحرق سبعة أسواق، حتى خرجت النار إلى السبيع، وهجم على الدار التي فيها العلوي فهرب، ثم أتي به وقتل في المعركة من العلوية رجل وذكر أنه حبس جميع من بالكوفة من العلوية، وحبس أبناء هاشم، وكان العلوي فيهم. وذكر عن أبي إسماعيل العلوي أن مزاحما أحرق بالكوفة ألف دار، وأنه أخذ ابنة الرجل منهم فعنفها. وذكر أنه أخذ للعلوي جوار، فيهم امرأة حرة مضمومة، فأقامها على باب المسجد ونادى عليها. وفي النصف من رجب من هذه السنة، ورد على مزاحم كتاب من المعتز يأمره بالمصير إليه، ويعده وأصحابه ما يحب ويحبون فقرأ الكتاب مزاحم على أصحابه، فأجابه الأتراك والفراغنة والمغاربة، وأبي الشاكرية ذلك، فمضى فيمن أطاعه منهم وهم زهاء أربعمائة إنسان وقد كان أبو نوح تقدمه إلى سامرا، فأشار بالكتاب إليه، وكان مزاحم ينتظر أمر الحسين بن إسماعيل، فلما انهزم الحسين مضى إلى سامرا، وقد كان المستعين وجه إلى مزاحم عند فتح الكوفة عشرة آلاف دينار وخمس خلع وسيفا ونفذ الرسول إليه، والفى الجند الذين كانوا معه في الطريق، فردوا جميع ذلك معهم، وصاروا إلى باب محمد بن عبد الله، وأعلموه ما فعل مزاحم وكان في الجند والشاكرية خليفة

أخبار متفرقة

الحسين بن يزيد الحراني وهشام بن أبي دلف والحارث خليفة أبي الساج، فأمر ابن طاهر أن يخلع على كل واحد منهم ثلاث خلع وذكر أن هذا العلوي كان قد ظهر بنينوى في آخر جمادى الآخرة من هذه السنة، فاجتمع إليه جماعة من الأعراب، وفيهم قوم ممن كان خرج مع يحيى بن عمر في سنة خمسين ومائتين، وقد كان قدم إلى تلك الناحية هشام ابن ابى دلف، فواقعهم العلوي في جماعه نحو من خمسين رجلا، فهزمه وقتل عدة من أصحابه، وأسر عشرين رجلا وغلاما، وهرب العلوى إلى الكوفة، فاختفى بها، ثم ظهر بعد ذلك وحمل الأسرى والرءوس إلى بغداد، فعرف خمسة نفر ممن كان مع أصحاب أبي الحسين يحيى بن عمر، فأطلقوا. وأمر محمد بن عبد الله أن يضرب كل واحد ممن اطلق وعاد خمسمائة سوط، فضربوا في آخر يوم من جمادى الآخرة وذكر أن كتب أبي الساج لما وردت بما كان من إيقاعه ببايكباك، وذلك لاثنتي عشرة بقيت من رجب من هذه السنة، وجه إليه بعشرة آلاف دينار معونة له، وبخلعه فيها خمسه أثواب وسيف. [أخبار متفرقة] وفيها كانت وقعة- فيما ذكر- بين منكجور بن خيدر وبين جماعة من الأتراك بباب المدائن هزمهم فيها منكجور، وقتل منهم جماعة وفيها كانت لبلكاجور صائفة، فتح فيها فتوحا فيما ذكر وفيها كانت وقعة بين يحيى بن هرثمة وأبي الحسين بن قريش، قتل من الفريقين جماعة، ثم انهزم أبو الحسين بن قريش وفي يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة خلت من شعبان كانت بباب بغواريا وقعة بين الأتراك وأصحاب ابن طاهر، وكان السبب في ذلك ان الموكل كان بباب بغواريا إبراهيم بن محمد بن حاتم والقائد المعروف بالنساوى في نحو من

ثلاثمائة فارس وراجل، فجاءت الأتراك والمغاربة في جمع كثير، فنقبوا السور في موضعين، فدخلوا منهما، فقاتلهم النساوي فهزموه، ووافوا باب الأنبار، وعليه إبراهيم بن مصعب وابن أبي خالد وابن أسد بن داود سياه، وهم لا يعلمون بدخولهم باب بغواريا، فقاتلهم قتالا شديدا، فقتل من الفريقين جماعة ثم إن من كان على باب الأنبار من أهل بغداد انهزموا لا يلوون على شيء، فضرب الأتراك والمغاربة باب الأنبار بالنار فاحترق، وأحرقوا ما كان على باب الأنبار من المجانيق والعرادات، ودخلوا بغداد حتى صاروا إلى باب الحديد ومقابر الرهينة ومن ناحية الشارع إلى موضع أصحاب الدواليب، فاحرقوا ما هنالك وأحرقوا كل ما قرب من ذلك من أمامهم وورائهم، ونصبوا أعلامهم على الحوانيت التي تقرب من ذلك الموضع، وانهزم الناس، حتى لم يقف بين أيديهم أحد، وكان ذلك مع صلاة الغداة، فوجه ابن طاهر إلى القواد، ثم ركب في السلاح فوقف على باب درب صالح المسكين، ووافاه القواد، فوجههم إلى باب الأنبار وباب بغواريا وجميع الأبواب التي في الجانب الغربي، وشحنها بالرجال، وركب بغا ووصيف، فتوجه بغا في أصحابه وولده إلى باب بغواريا، وصار الشاه بن ميكال والعباس بن قارن والحسين بن إسماعيل إلى باب الأنبار والغوغاء، فالتقوا والأتراك في داخل الباب، فبادرهم العباس بن قارن، فقتل- فيما ذكر- في مقام واحد جماعة من الأتراك، ووجه برءوسهم إلى باب ابن طاهر، وكاثرهم الناس على هذه الأبواب، فدفعوهم حتى أخرجوهم بعد أن قتل منهم جماعة، وكان بغا الشرابي خرج إلى باب بغواريا في جمع كثير، فوافاهم وهم غارون، فقتل منهم جماعة كثيرة، وهرب الباقون، فخرجوا من الباب، فلم يزل بغا يحاربهم إلى العصر، ثم انهزموا وانصرفوا، ووكل بالباب من يحفظه، وانصرف إلى باب الأنبار، ووجه في حمل الجص والآجر، وأمر بسده. وفي هذا اليوم أيضا كانت حرب شديدة بباب الشماسية، قتل من الفريقين- فيما ذكر- جماعة كثيرة، وجرح آخرون، وكان الذي قاتل الأتراك في هذا اليوم- فيما ذكر- يوسف بن يعقوب قوصرة

ذكر خبر قتل بالفردل

وفيها أمر محمد بن عبد الله المظفر بن سيسل أن يعسكر بالياسرية، ففعل ذلك، ثم انتقل إلى الكناسة إلى أن وافاه بالفردل بن إيزنكجيك الأشروسني، فأمر له بفرض، وضم إليه رجالا من الشاكرية وغيرهم، وأمر أن يضام المظفر ويعسكر بالكناسة، ويكون أمرهما واحدا، ويضبط تلك الناحية، فأقاما هنالك حينا، ثم أمر بالفردل المظفر بالمضي، ليعرف خبر الأتراك ليدبر في أمرهم بما يراه، فامتنع من ذلك المظفر، وزعم أن الأمير لم يأمره بشيء مما سأله، وكتب كل واحد منهما يشكو صاحبه، وكتب المظفر يستعفي من المقام بالكناسة، ويزعم أنه ليس بصاحب حرب، فأعفي، وأمر بالانصراف ولزوم البيت، وقلد أمر ذلك العسكر ومن فيه من الجند النائبة والأثبات بالفردل، وضم إليه أثبات المظفر وأفرد بالناحية. وفي شهر رمضان من هذه السنة التقى هشام بن أبي دلف والعلوي الخارج بنينوى، ومعه رجل من بني أسد، فاقتتلوا فقتل من أصحاب العلوي- فيما ذكر- نحو من أربعين رجلا، ثم افترقا، فدخل العلوي الكوفة فبايع أهلها المعتز، ودخل هشام بن أبي دلف بغداد وفي شهر رمضان من هذه السنة كانت بين أبي الساج والأتراك وقعه بناحيه جرجرايا، هزمهم فيها أبو الساج، وقتل منهم جماعة كثيرة، واسر منهم جماعه اخر. ذكر خبر قتل بالفردل ولليلة بقيت من شهر رمضان منها قتل بالفردل، وكان سبب قتله أن أبا نصر بن بغا لما غلب على الأنبار وما قرب منها، وهزم جيوش ابن طاهر من تلك الناحية وأجلاهم عنها، بث خيله ورجاله في أطراف بغداد من الجانب الغربي، وصار الى قصر ابن هبيرة، وبها بحونه بن قيس من قبل ابن طاهر، فهرب منه من غير قتال جرى بينه وبينه، ثم صار أبو نصر إلى نهر صرصر،

واتصل بابن طاهر خبره وخبر الوقعة التي كانت بين أبي الساج والأتراك بجرجرايا وخذلان من معه من الفروض إياه عند احمرار البأس فندب بالفردل إلى اللحاق بأبي الساج والمسير بمن معه إليه، فسار بالفردل فيمن معه غداة يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من شهر رمضان، فسار يومه وصبح المدائن، فوافاها مع موافاة الأتراك ومن هو مضموم إليهم من غيرهم، وبالمدائن رجال ابن طاهر وقواده، فقاتلهم الأتراك، فانهزموا ولحق من فيها من القواد بأبي الساج، وقاتل بالفردل قتالا شديدا، ولما راى انهزام من هنا لك من أصحاب ابن طاهر مضى متوجها نحو أبي الساج بمن معه فأدرك فقتل. وذكر عن ابن القواريري- وكان أحد القواد- قال: كنت وابو الحسين ابن هشام موكلين بباب بغداد ومنكجور منفرد بباب ساباط، وكان بقرب بابه ثلمة في سور المدائن، فسألت منكجور أن يسدها فأبى، فدخل الأتراك منها، وتفرق أصحابه قال: وبقيت في نحو من عشرة أنفس، ووافى بالفردل هو وأصحابه، فقال: أنا الأمير، أنا فارس ومعي فرسان، نمضي على الشط، وتكون الرجالة على السفن، فدافع ساعه ثم مضى لوجهه وعسكره في السفن على حالهم يريد أبا الساج، أو تلك الناحية، وأقمت بعده ساعة تامة، وتحتي أشقر عليه حلية، فصرت إلى نهر فعثر بي، فسقطت عنه، وقصدوني يقولون: صاحب الأشقر! فخرجت من النهر راجلا قد طرحت عني السلاح، فنجوت. وغضب ابن طاهر على ابن القواريري وأصحابه، وأمرهم بلزوم منازلهم، وغرق بالفردل. ولأربع خلون من شوال من هذه السنة، جمع- فِيمَا ذكر- مُحَمَّد بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طاهر جميع قواده الموكلين بأبواب بغداد وغيرهم، فشاورهم جميعا في الأمور، وأعلمهم ما ورد عليهم من الهزائم، فكل أجاب بما أحب من بذل النفس والدم والأموال، فجزاهم خيرا وأدخلهم إلى المستعين، وأعلمه ما ناظرهم

ذكر خبر هزيمه الاتراك ببغداد

فيه وما ردوا عليه من الجواب، فقال لهم المستعين: والله يا معشر القواد، لئن قاتلت عن نفسي وسلطاني ما أقاتل إلا عن دولتكم وعامتكم، وأن يرد الله إليكم أموركم قبل مجيء الأتراك وأشباههم، فقد يجب عليكم المناصحة والجهد في قتال هؤلاء الفسقة، فردوا أحسن مرد، وجزاهم الخير، وأمرهم بالانصراف الى مراكزهم فانصرفوا. ذكر خبر هزيمه الاتراك ببغداد وفي يوم الاثنين لأيام خلت من ذي القعدة من هذه السنة كانت وقعة عظيمة لأهل بغداد، هزموا فيها الأتراك، وانتهبوا عسكرهم، وكان سبب ذلك أن الأبواب كلها من الجانبين فتحت ونصبت المجانيق والعرادات في الأبواب كلها والشبارات في دجلة، وخرج منها الجند كلهم، وخرج ابن طاهر وبغا ووصيف حين تزاحف الفريقان، واشتدت الحرب إلى باب القطيعة، ثم عبروا إلى باب الشماسية، وقعد ابن طاهر في قبة ضربت له، وأقبلت الرماة من بغداد بالناوكية في الزواريق، ربما انتظم السهم الواحد عدة منهم فقتلهم، فهزمت الأتراك، وتبعهم أهل بغداد حتى صاروا إلى عسكرهم، وانتهبوا سوقهم هنالك، وضربوا زورقا لهم كان يقال له الحديدي، كان آفة على أهل بغداد بالنار، وغرق من فيه، وأخذوا لهم شبارتين، وهرب الأتراك على وجوههم لا يلوون على شيء، وجعل وصيف وبغا يقولان كلما جيء برأس: ذهب والله الموالي واتبعهم أهل بغداد إلى الروذبار، ووقف أبو أحمد بن المتوكل يرد الموالي، ويخبرهم أنهم إن لم يكروا لم يبق لهم بقية، وأن القوم يتبعونهم إلى سامرا فتراجعوا، وثاب بعضهم، وأقبلت العامة تحز رءوس من قتل، وجعل محمد بن عبد الله يطوق كل من جاء برأس ويصله، حتى كثر ذلك، وبدت الكراهة في وجوه من مع بغا ووصيف من الأتراك والموالي، ثم ارتفعت غبرة من ريح جنوب، وارتفع الدخان مما احترق،

خبر وقعه ابى السلاسل مع المغاربه

وأقبلت أعلام الحسن بن الأفشين مع أعلام الأتراك يقدمها علم أحمر، قد استلبه غلام لشاهك، فنسي أن ينكسه، فلما رأى الناس العلم الأحمر ومن خلفه، توهموا أن الأتراك قد رجعوا عليهم وانهزموا، وأراد بعض من وقف أن يقتل غلام شاهك، ففهمه، فنكس العلم، والناس قد ازدحموا منهزمين، وتراجع الأتراك إلى معسكرهم ولم يعلموا بهزيمة أهل بغداد، فتحملوا عليهم، فانصرف الفريقان بعضهم عن بعض . خبر وقعه ابى السلاسل مع المغاربه وفيها كانت وقعة لأبي السلاسل وكيل وصيف بناحية الجبل مع المغاربة، وكان سبب ذلك- فيما ذكر- أن رجلا من المغاربة يقال له نصر سلهب، صار بجماعة من المغاربة إلى عمل بعض ما إلى أبي الساج من الأرض، وانتهب هو وأصحابه ما هنالك من القوى، فكتب أبو السلاسل إلى أبي الساج يعلمه ذلك، فوجه أبو الساج إليه- فيما ذكر- بنحو من مائة نفس بين فارس وراجل، فلما صاروا إليه كبس أولئك المغاربة، فقتل منهم تسعة، وأسر عشرين، وأفلت نصر سهلب ساريا . ذكر خبر وقوع الصلح بين الموالي وابن طاهر ووضعت الحرب أوزارها بعد هذه الوقعة بين الموالي وابن طاهر، فلم يعودوا لها، وكان السبب في ذلك- فيما ذكر- أن ابن الطاهر قد كان كاتب المعتز قبل ذلك في الصلح، فلما كانت هذه الوقعة أنكرت عليه، فكتب إليه، فذكر أنه لا يعود بعدها لشيء يكرهه، ثم أغلقت بعد ذلك على أهل بغداد أبوابها، فاشتد عليهم الحصار، فصاحوا في أول ذي القعدة من هذه السنة في يوم الجمعة: الجوع! ومضوا إلى الجزيرة التي هي تلقاء دار ابن طاهر، فأرسل إليهم ابن طاهر: وجهوا إلي منكم خمسة مشايخ، فوجهوا بهم، فأدخلوا عليه، فقال لهم: إن من الأمور أمورا لا يعلم بها العامة، وأنا عليل، ولعلي

أعطي الجند أرزاقهم ثم أخرج بهم إلى عدوكم فطابت أنفسهم، وخرجوا عن غير شيء، وعادت العامة والتجار بعد إلى الجزيرة التي بحذاء دار ابن طاهر، فصاحوا وشكوا ما هم فيه من غلاء السعر، فبعث إليهم فسكنهم، ووعدهم ومناهم وأرسل ابن طاهر إلى المعتز في الصلح واضطرب أمر أهل بغداد، فوافى بغداد للنصف من ذي القعدة من هذه السنه حماد بن إسحاق ابن حماد بن زيد، ووجه مكانه أبو سعيد الأنصاري إلى عسكر أبي أحمد رهينة، فلقي حماد بن إسحاق ابن طاهر، فخلا به فلم يذكر ما جرى بينهما. ثم انصرف حماد إلى عسكر أبي أحمد، ورجع أبو سعيد الأنصاري، ثم رجع حماد إلى ابن طاهر، فجرت بين ابن طاهر وبين أبي أحمد رسائل مع حماد. ولتسع بقين من ذي القعدة خرج أحمد بن إسرائيل إلى عسكر أبي أحمد مع حماد وأحمد بن إسحاق وكيل عبيد الله بن يحيى بإذن ابن طاهر لمناظرة أبي أحمد في الصلح. ولسبع بقين من ذي القعدة أمر ابن طاهر بإطلاق جميع من في الحبوس ممن كان حبس بسبب ما كان بينه وبين أبي أحمد من الحروب ومعاونته إياه عليه فأطلقه ومن غد هذا اليوم اجتمع قوم من رجالة الجند وكثير من العامة، فطلب الجند أرزاقهم، وشكت العامة سوء الحال التي هم بها من الضيق وغلاء السعر وشدة الحصار، وقالوا: إما خرجت فقاتلت، وإما تركتنا، فوعدهم أيضا الخروج أو فتح الباب للصلح، ومناهم فانصرفوا. فلما كان بعد ذلك، وذلك لخمس بقين من ذي القعدة شحن السجون والجسر وباب داره والجزيرة بالجند والرجال، فحضر الجزيرة بشر كثير، فطردوا من كان ابن طاهر صيرهم فيها، ثم صاروا إلى الجسر من الجانب الشرقي، ففتحوا سجن النساء، وأخرجوا من فيه، ومنعهم علي بن جهشيار ومن معه من الطبرية من سجن الرجال، ومانعهم أبو مالك الموكل بالجسر الشرقي، فشجوه وجرحوا دابتين لأصحابه، فدخل داره وخلاهم، فانتهبوا ما في

ذكر بدء عزم ابن طاهر على خلع المستعين والبيعه للمعتز

مجلسه، وشد عليهم الطبرية فنحوهم حتى أخرجوهم من الأبواب، وأغلقوها دونهم، وخرج منهم جماعة، ثم عبر إليهم محمد بن أبي عون، فضمن للجند رزق أربعة أشهر، فانصرفوا على ذلك، وأمر ابن طاهر بإعطاء أصحاب ابن جهشيار أرزاقهم لشهرين من يومهم فأعطوا. ذكر بدء عزم ابن طاهر على خلع المستعين والبيعه للمعتز ووجه أبو أحمد خمس سفائن من دقيق وحنطة وشعير وقت وتبن إلى ابن طاهر في هذه الأيام، فوصلت إليه ولما كان يوم الخميس لأربع خلون من ذي الحجة علم الناس ما عليه ابن طاهر من خلعه المستعين وبيعته للمعتز، ووجه ابن طاهر قواده إلى أبي أحمد حتى بايعوه للمعتز، فخلع على كل واحد منهم أربع خلع، وظنت العامة أن الصلح جرى بإذن الخليفة المستعين، وان المعتز ولى عهده. خروج العامه ونصره المستعين على ابن طاهر ولما كان يوم الأربعاء خرج رشيد بن كاوس- وكان موكلا بباب السلامة- مع قائد يقال له نهشل بن صخر بن خزيمة بن خازم وعبد الله بن محمود، ووجه إلى الأتراك بأنه على المصير إليهم ليكون معهم، فوافاه من الأتراك زهاء ألف فارس، فخرج إليهم على سبيل التسليم عليهم، على ان الصلح قد وقع، فسلم عليهم، وعانق من عرف منهم، وأخذوا بلجام دابته، ومضوا به وبابنه في أثره، فلما كان يوم الاثنين صار رشيد إلى باب الشماسية فكلم الناس، وقال: ان امير المؤمنين وأبا جعفر يقرئان عليكم السلام، ويقولان لكم: من دخل في طاعتنا قربناه ووصلناه، ومن آثر غير ذلك فهو أعلم، فشتمه العامة ثم طاف على جميع أبواب الشرقية بمثل ذلك، وهو يشئم في كل باب، ويشتم المعتز فلما فعل رشيد ذلك علمت العامة ما عليه ابن طاهر، فمضت إلى الجزيرة التي بحذاء دار ابن طاهر، فصاحوا به وشتموه أقبح شتم، ثم صاروا إلى بابه، ففعلوا مثل ذلك، فخرج إليهم راغب الخادم، فحضهم على ما فعلوا، وسألهم الزيادة فيما هم فيه من نصرة المستعين، ثم مضى إلى الحظيرة

التي فيها الجيش، فمضى بهم وجماعة أخر غيرهم وهم زهاء ثلاثمائة في السلاح، فصاروا إلى باب ابن طاهر، فكشفوا من عليه وردوهم، فلم يبرحوا يقاتلونهم، حتى صاروا إلى دهليز الدار، وأرادوا إحراق الباب الداخل فلم يجدوا نارا، وقد كانوا باتوا بالجزيرة الليل كله يشتمونه ويتناولنه بالقبيح. وذكر عن ابن شجاع البلخي أنه قال: كنت عند الأمير وهو يحدثني ويسمع ما يقذف به من كل إنسان، حتى ذكروا اسم أمه، فضحك وقال: يا أبا عبد الله، ما أدري كيف عرفوا اسم أمي! ولقد كان كثير من جواري أبي العباس عبد الله بن طاهر لا يعرفون اسمها، فقلت له: أيها الأمير، ما رأيت أوسع من حلمك، فقال لي: يا أبا عبد الله، ما رأيت أوفق من الصبر عليهم، ولا بد من ذلك فلما أصبحوا وافوا الباب، فصاحوا، فصار ابن طاهر إلى المستعين يسأله أن يطلع إليهم ويسكنهم ويعلمهم ما هو عليه لهم، فأشرف عليهم من أعلى الباب وعليه البردة والطويلة، وابن طاهر إلى جانبه، فحلف لهم بالله ما اتهمه، وإني لفي عافية ما علي منه بأس، وإنه لم يخلع، ووعدهم أنه يخرج في غد يوم الجمعة ليصلي بهم، ويظهر لهم فانصرف عامتهم بعد قتلى وقعت ولما كان يوم الجمعة بكر الناس بالصياح يطلبون المستعين، وانتهبوا دواب علي بن جهشيار- وكانت في الخراب، على باب الجسر الشرقي- وانتهب جميع ما كان في منزله وهرب، وما زال الناس وقوفا على ما هم عليه إلى ارتفاع النهار، فوافى وصيف وبغا وأولادهما ومواليهما وقوادهما وأخوال المستعين، فصار الناس جميعا إلى الباب، فدخل وصيف وبغا في خاصتهما، ودخل أخوال المستعين معهم إلى الدهليز، ووقفوا على دوابهم، وأعلم ابن طاهر بمكان الأخوال، فأذن لهم. بالنزول فأبوا، وقالوا: ليس هذا يوم نزولنا عن ظهور دوابنا حتى نعلم نحن والعامه ما نحن عليه، ولم تزل الرسل تختلف إليهم، وهم يأبون،

فخرج إليهم محمد بن عبد الله نفسه، فسألهم النزول والدخول إلى المستعين، فأعلموه أن العامة قد ضجت مما بلغها وصح عندها ما أنت عليه من خلع المستعين والبيعة للمعتز، وتوجيهك القواد بعد القواد للبيعة للمعتز، وإرادتك التهويل ليصير الأمر اليه وادخاله الأتراك والمغاربة بغداد، فيحكموا فيهم بحكمهم فيمن ظهروا عليه من أهل المدائن والقرى، واستراب بك أهل بغداد. واتهموك على خليفتهم وأموالهم وأولادهم وأنفسهم، وسألوا إخراج الخليفة إليهم ليروه ويكذبوا ما بلغهم عنه فلما تبين محمد بن عبد الله صحة قولهم، ونظر إلى كثرة اجتماع الناس وضجيجهم سأل المستعين الخروج إليهم، فخرج إلى دار العامة التي كان يدخلها جميع الناس، فنصب له فيها كرسي، وأدخل إليه جماعة من الناس فنظروا إليه، ثم خرجوا إلى من وراءهم، فأعلموهم صحة أمره، فلم يقنعوا بذلك، فلما تبين له أنهم لا يسكنون دون أن يخرج إليهم- وقد كان عرف كثرة الناس- أمر بإغلاق الباب الحديد الخارج فأغلق، وصار المستعين وأخواله ومحمد بن موسى المنجم ومحمد بن عبد الله إلى الدرجة التي تفضي إلى سطوح دار العامة وخزائن السلاح، ثم نصب لهم سلاليم على سطح المجلس الذي يجلس فيه محمد بن عبد الله والفتح بن سهل، فأشرف المستعين على الناس وعليه سواد، وفوق السواد برده النبي ص، ومعه القضيب، فكلم الناس وناشدهم، وسألهم بحق صاحب البردة إلا انصرفوا، فإنه في أمن وسلامة، وإنه لا بأس عليه من محمد بن عبد الله، فسألوه الركوب معهم والخروج من دار محمد بن عبد الله لأنهم لا يأمنونه عليه، فأعلمهم أنه على النقلة منها إلى دار عمته أم حبيب ابنة الرشيد، بعد أن يصلح له ما ينبغي أن يسكن فيه، وبعد أن يحول أمواله وخزائنه وسلاحه وفرشه وجميع ماله في دار محمد بن عبد الله، فانصرف أكثر الناس، وسكن أهل بغداد ولما فعل أهل بغداد ما فعلوا من اجتماعهم على ابن طاهر مرة بعد مرة وإسماعهم إياه المكروه، تقدم إلى أصحاب المعاون ببغداد بتسخير ما قدروا

ذكر خبر انتقال المستعين إلى دار رزق الخادم بالرصافة

عليه من الإبل والبغال والحمير لينتقل عنها. وذكروا أنه أراد أن يقصد المدائن، واجتمع على بابه جماعة من مشايخ الحربية والأرباض جميعا، يعتذرون إليه، ويسألونه الصفح عما كان منهم، ويذكرون أن الذي فعل ذلك الغوغاء والسفهاء لسوء الحال التي كانوا بها والفاقة التي نالتهم، فرد عليهم- فيما ذكر- مردا جميلا، وقال لهم قولا حسنا، وأثنى عليهم، وصفح عما كان منهم، وتقدم إليهم بالتقدم إلى شبابهم وسفهائهم في الأخذ على أيديهم، وأجابهم إلى ترك النقلة، وكتب إلى أصحاب المعاون بترك السخره. ذكر خبر انتقال المستعين الى دار رزق الخادم بالرصافة ولأيام خلون من ذي الحجة انتقل المستعين من دار محمد بن عبد الله، وركب منها، فصار إلى دار رزق الخادم في الرصافة، ومر بدار علي بن المعتصم، فخرج إليه علي، فسأله النزول عنده، فأمره بالركوب، فلما صار إلى دار رزق الخادم نزلها، فوصل إليها- فيما ذكر- مساء، فأمر للفرسان من الجند حين صار إليها بعشرة دنانير لكل فارس منهم، وبخمسة دنانير لكل راجل وركب بركوب المستعين ابن طاهر، وبيده الحربة يسير بها بين يديه، والقواد خلفه، وأقام- فيما ذكر- مع المستعين ليلة انتقل إلى دار رزق محمد بن عبد الله إلى ثلث الليل، ثم انصرف، وبات عنده وصيف وبغا حتى السحر، ثم انصرفا إلى منازلهما ولما كان صبيحة الليلة التي انتقل المستعين فيها من دار ابن طاهر اجتمع الناس في الرصافة، وأمر القواد وبنو هاشم بالمصير إلى ابن طاهر والسلام عليه، وأن يسيروا معه إذا ركب إلى الرصافة فصاروا إليه، فلما كان الضحى الأكبر من ذلك اليوم، ركب ابن طاهر وجميع قواده في تعبئه

وحوله ناشبة رجالة، فلما خرج من داره وقف للناس، فعاتبهم وحلف أنه ما أضمر لأمير المؤمنين- أعزه الله- ولا لولي له ولا لأحد من الناس سوءا، وأنه ما يريد إلا إصلاح أحوالهم، وما تدوم به النعمة عليهم، وأنهم قد توهموا عليه ما لا يعرفه، حتى أبكى الناس فدعا له من حضر، وعبر الجسر، وصار إلى المستعين، وبعث فأحضر جيرانه ووجوه أهل الأرباض من الجانب الغربي، فخاطبهم بكلام عاتبهم فيه، واعتذر إليهم مما بلغهم، ووجه وصيف وبغا من طاف على أبواب بغداد، ووكلا صالح بن وصيف بباب الشماسية. وذكر أن المستعين كان كارها لنقله عن دار محمد، ولكنه انتقل عنها من أجل أن الناس ركبوا الزواريق بالنفاطين ليضربوا روشن ابن طاهر بالنار لما صعب عليهم فتح بابه يوم الجمعة. وذكر أن قوما منهم كنجور، وقفوا بباب الشماسية من قبل أبي أحمد، فطلبوا ابن طاهر ليكلموه، فكتب إلى وصيف يعلمه خبر القوم، ويسأله أن يعلم المستعين ذلك ليأمر فيه بما يرى، فرد المستعين الأمر في ذلك إليه، وأن التدبير في جميع ذلك مردود إليه، فيتقدم في ذلك بما رأى وذكر أن علي بن يحيى بن أبي منصور المنجم كلم محمد بن عبد الله في ذلك بكلام غليظ، فوثب عليه محمد بن أبي عون فأسمعه وتناوله. وذكر عن سعيد بن حميد أن أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد وعبيد الله بن يحيى خلوا بابن طاهر، فما زالوا يفتلونه في الذروة والغارب، ويشيرون عليه بالصلح، وأنه ربما كان عنده قوم فأجروا الكلام في خلاف الصلح، فيكشر في وجوههم، ويعرض عنهم، فإذا حضر هؤلاء الثلاثة أقبل عليهم وحادثهم وشاورهم. وذكر عن بعضهم أنه قال: قلت لسعيد بن حميد يوما: ما ينبغي إلا أن يكون قد كان انطوى على المداهنة في أول أمره، قال: وددت أنه كان كذلك، لا والله ما هو إلا أن هزم أصحابه من المدائن والأنبار حتى

ذكر بدء المفاوضه في امر خلع المستعين

كاتب القوم، وأجابهم بعد أن كان قد جادهم. وحدثني أحمد بن يحيى النحوي- وكان يؤدب ولد ابن طاهر- أن محمد بن عبد الله لم يزل جادا في نصرة المستعين حتى أحفظه عبيد الله بن يحيى ابن خاقان، فقال له: أطال الله بقاءك! إن هذا الذي تنصره وتجد في أمره من أشد الناس نفاقا، وأخبثهم دينا، والله لقد أمر وصيفا وبغا بقتلك، فاستعظما ذلك ولم يفعلاه، وإن كنت شاكا فيما وصفت من أمره، فسل تخبره، وإن من ظاهر نفاقه أنه كان وهو بسامرا لا يجهر في صلاته ببسم الله الرحمن الرحيم، فلما صار إلى ما قبلك، جهر بها مراءاة لك، وتترك نصرة وليك وصهرك وتربيتك، ونحو ذلك من كلام كلمه به، فقال محمد بن عبد الله: أخزى الله هذا، لا يصلح لدين ولا دنيا، قال: وكان أول من تقدم على صرف محمد بن عبد الله عن الجد في أمر المستعين عبيد الله بن يحيى في هذا المجلس، ثم ظاهر عبيد الله بن يحيى على ذلك أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد، فلم يزالوا به حتى صرفوه عما كان عليه من الرأي في نصرة المستعين. وفي يوم الأضحى من هذه السنة صلى بالناس المستعين صلاة الأضحى في الجزيرة التي بحذاء دار ابن طاهر، وركب وبين يديه عبيد الله بن عبد الله، معه الحربة التي لسليمان، وبيد الحسين بن إسماعيل حربة السلطان، وبغا ووصيف يكنفانه، ولم يركب محمد بن عبد الله بن طاهر، وصلى عبد الله ابن إسحاق في الرصافه. ذكر بدء المفاوضه في امر خلع المستعين وفي يوم الخميس ركب محمد بن عبد الله إلى المستعين، وحضره عدة من الفقهاء والقضاة، فذكر أنه قال للمستعين: قد كنت فارقتني على ان

تنفذ في كل ما أعزم عليه، ولك عندي بخطك رقعة بذلك، فقال المستعين: أحضر الرقعة فأحضرها، فإذا فيها ذكر الصلح، وليس فيها ذكر الخلع، فقال: نعم، أنفذ الصلح، فقام الحلنجى فقال: يا أمير المؤمنين، أنه يسألك أن تخلع قميصا قمصك به الله وتكلم علي بن يحيى المنجم فاغلظ لمحمد ابن عبد الله. ثم ركب بعد ذلك محمد بن عبد الله- وذلك للنصف من ذي الحجة- إلى المستعين بالرصافة، ثم انصرف ومعه وصيف وبغا، فمضوا جميعا حتى صاروا إلى باب الشماسية، فوقف محمد بن عبد الله على دابته، ومضى وصيف وبغا إلى دار الحسن بن الأفشين، وانحدرت المبيضة والغوغاء من السور، ولم يطلق لأحد فتح الأبواب، وقد كان خرج قبل ذلك جماعة كثيرة إلى عسكر أبي أحمد، فاشتروا ما أرادوا، فلما خرج من ذكرنا إلى باب الشماسية نودي في أصحاب أبي أحمد ألا يباع من أحد من أهل بغداد شيء، فمنعوا من الشراء، وكان قد ضرب لمحمد بن عبد الله بباب الشماسية مضرب كبير أحمر، وكان مع ابن طاهر بندار الطبرى وأبو السنا ونحو من مائتي فارس ومائتي راجل، وجاء أبو أحمد في زلال حتى قرب من المضرب، ثم خرج ودخل المضرب مع محمد بن عبد الله، ووقف الذين مع كل واحد منهما من الجند ناحية، فتناظر ابن طاهر وأبو أحمد طويلا، ثم خرجا من المضرب، وانصرف ابن طاهر من مضربه إلى داره في زلال، فلما صار إليها خرج من الزلال، فركب ومضى إلى المستعين ليخبره بما دار بينه وبين أبي أحمد، وأقام عنده إلى العصر، ثم انصرف، فذكر أنه فارقه على أن يعطى خمسين ألف دينار، ويقطع غلة ثلاثين ألف دينار في السنة، وأن يكون مقامه بغداد حتى يجتمع لهم مال يعطون الجند، وعلى أن يولي بغا مكة والمدينة والحجاز، ووصيف الجبل وما والاه، ويكون ثلث ما يجيء من المال لمحمد بن عبد الله، وجند بغداد والثلثان للموالي والاتراك

وذكر أن أحمد بن إسرائيل لما صار إلى المعتز ولاه ديوان البريد، وفارقه على ان يكون هو الوزير وعيسى بن فرخان شاه على ديوان الخراج وأبو نوح على الخاتم والتوقيع، فاقتسموا الأعمال، فوردت خريطة الموسم إلى بغداد بالسلامة، فبعث بها إلى أبي أحمد، ثم ركب ابن طاهر- فيما قيل- لأربع عشرة بقيت من ذي الحجة من هذه السنة إلى المستعين، لمناظرته في الخلع، فناظره فامتنع عليه المستعين، وظن المستعين أن بغا ووصيفا معه، فكاشفاه، فقال المستعين: هذا عنقي والسيف والنطع، فلما رأى امتناعه انصرف عنه، فبعث المستعين إلى ابن طاهر بعلي بن يحيى المنجم وقوم من ثقاته، وقال: قولوا له: اتق الله، فإنما جئتك لتدفع عني، فإن لم تدفع عني فكف عني فرد عليه، أما أنا فأقعد في بيتي، ولكن لا بد لك من خلعها طائعا أو مكرها. وذكر عن علي بن يحيى أنه قال له: قل له: إن خلعتها فلا باس، فو الله لقد تمزقت تمزقا لا يرقع، وما تركت فيها فضلا فلما رأى المستعين ضعف أمره وخذلان ناصريه أجاب إلى الخلع، فلما كان يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة، وجه ابن طاهر ابن الكردية وهو محمد بن إبراهيم بن جعفر الأصغر بن المنصور والخلنجي وموسى بن صالح بن شيخ وأبا سعيد الأنصاري وأحمد بن إسرائيل ومحمد بن موسى المنجم الى عسكر ابى أحمد ليوصلوا كتاب محمد إليه بأشياء سألها المستعين من حين ندب إلى أن يخلع نفسه فأوصلوا الكتاب، فأجاب إلى ما سأل وكتب الجواب بأن يقطع وينزل مدينة الرسول ص، وأن يكون مضطربه من مكة إلى المدينة ومن المدينة إلى مكة فأجابه إلى ذلك، فلم يقنع المستعين إلا بخروج ابن الكردية بما سأل إلى المعتز، حتى يكتب بإجابته بذلك بخطه بعد مشافهة ابن الكردية المعتز بذلك، فتوجه ابن الكردية بها. وكان سبب إجابة المستعين إلى الخلع- فيما ذكر- أن وصيفا وبغا وابن طاهر ناظروه في ذلك وأشاروا عليه، فأغلظ لهم، فقال له وصيف:

أنت أمرتنا بقتل باغر، فصرنا إلى ما نحن فيه، وأنت عرضتنا لقتل اوتامش، وقلت: إن محمدا ليس بناصح، وما زالوا يفزعونه ويحتالون له، فقال محمد ابن عبد الله: وقد قلت لي إن أمرنا لا يصطلح إلا باستراحتنا من هذين، فلما اجتمعت كلمتهم أذعن لهم بالخلع، وكتب بما اشترط لنفسه عليهم، وذلك لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة. ولما كان يوم السبت لعشر بقين من ذي الحجة، ركب محمد بن عبد الله إلى الرصافة وجميع القضاة والفقهاء، وأدخلهم على المستعين فوجا فوجا، واشهدهم عليه انه قد صير أمره إلى محمد بن عبد الله بن طاهر، ثم أدخل عليه البوابين والخدم، وأخذ منه جوهر الخلافة، وأقام عنده حتى مضى هوي من الليل، وأصبح الناس يرجفون بألوان الأراجيف، وبعث ابن طاهر إلى قواده في موافاته، مع كل قائد منهم عشرة نفر من وجوه أصحابه، فوافوه، فأدخلهم ومناهم، وقال لهم: إنما أردت بما فعلت صلاحكم وسلامتكم وحقن الدماء وأعد للخروج إلى المعتز في الشروط التي اشترطها للمستعين ولنفسه ولقواده قوما ليوقع المعتز في ذلك بخطه ثم أخرجهم إلى المعتز، فمضوا إليه حتى وقع في ذلك بخطه إمضاء كل ما سأل المستعين وابن طاهر لأنفسهما من الشروط، وشهدوا عليه بإقراره بذلك كله، وخلع المعتز على الرسل، وقلدهم سيوفا، وانصرفوا بغير جائزة ولا نظر في حاجة لهم، ووجه معهم لأخذ البيعة له على المستعين جماعة من عنده، ولم يأمر للجند بشيء. وحمل إلى المستعين أمه وابنته وعياله بعد ما فتش عياله، وأخذ منهم بعض ما كان معهم مع سعيد بن صالح، فكان دخول الرسل بغداد منصرفهم من عند المعتز يوم الخميس لثلاث خلون من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين. وذكر أن رسل المعتز لما صاروا بالشماسية، قال ابن سجادة: أنا أخاف من أهل بغداد، فإما أن يحمل المستعين إلى الشماسية أو إلى دار محمد بن عبد الله ليبايع المعتز، ويخلع نفسه ويؤخذ منه القضيب والبرده

ذكر خبر خروج اسماعيل بن يوسف بمكة

وفي شهر ربيع الأول من هذه السنة كان ظهور المعروف بالكوكبي بقزوين وزنجان وغلبته عليها وطرده عنها آل طاهر، واسم الكوكبي الحسين بن احمد ابن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الأرقط بن مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ ابن أبي طالب رضي الله عنه. وفيها قطعت بنو عقيل طريق جدة، فحاربهم جعفر بشاشات، فقتل من اهل مكة نحو من ثلاثمائة رجل، وبعض بني عقيل القائل: عليك ثوبان وأمي عاريه ... فالق لي ثوبك يا بن الزانية فلما فعل بنو عقيل ما فعلوا غلت بمكة الأسعار، وأغارت الأعراب على القرى. ذكر خبر خروج اسماعيل بن يوسف بمكة وفيها ظهر إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن ابن علي بن أبي طالب بمكة، فهرب جعفر بن الفضل بن عيسى بن موسى العاملي على مكة، فانتهب إسماعيل بن يوسف منزل جعفر ومنزل أصحاب السلطان، وقتل الجند وجماعة من أهل مكة، وأخذ ما كان حمل لإصلاح العين من المال وما كان في الكعبة من الذهب، وما في خزائنها من الذهب والفضة والطيب وكسوة الكعبة، وأخذ من الناس نحوا من مائتي ألف دينار، وأنهب مكة، وأحرق بعضها في شهر ربيع الأول منها ثم خرج منها بعد خمسين يوما، ثم صار إلى المدينة، فتوارى علي بن الحسين بن إسماعيل العامل عليها، ثم رجع إسماعيل إلى مكة في رجب، فحصرهم حتى تماوت أهلها جوعا وعطشا، وبلغ الخبز ثلاث أواق بدرهم، واللحم رطل بأربعة دراهم، وشربة ماء ثلاثة دراهم، ولقي أهل مكة منه كل بلاء ثم رحل بعد مقام سبعة وخمسين يوما إلى جدة، فحبس عن الناس الطعام، وأخذ أموال التجار

وأصحاب المراكب، فحمل إلى مكة الحنطة والذرة من اليمن، ثم وافت المراكب من القلزم، ثم وافى إسماعيل بن يوسف الموقف، وذلك يوم عرفة، وبه محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور الملقب كعب البقر، وعيسى بن محمد المخزومي صاحب جيش مكة- وكان المعتز وجههما إليها- فقاتلهم، فقتل نحو من ألف ومائة من الحاج، وسلب الناس، وهربوا إلى مكة، ولم يقفوا بعرفة ليلا ولا نهارا، ووقف إسماعيل وأصحابه، ثم رجع إلى جدة فأفنى أموالها

سنه اثنتين وخمسين ومائتين

ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر خبر خلع المستعين وبيعه المعتز فمن ذلك ما كان من خلع المستعين أحمد بن محمد بن المعتصم نفسه من الخلافة، وبيعته للمعتز محمد بن جعفر المتوكل بن محمد المعتصم، والدعاء للمعتز على منبري بغداد ومسجدي جانبيها الشرقي منها والغربي، يوم الجمعة لأربع خلون من المحرم من هذه السنة، وأخذ البيعة له بها على من كان يومئذ بها من الجند. وذكر أن ابن طاهر دخل على المستعين ومعه سعيد بن حميد حين كتب له بشروط الأمان، فقال له: يا أمير المؤمنين، قد كتب سعيد كتب الشروط وأكد غاية التأكيد، فنقرؤه عليك فتسمعه؟ فقال له المستعين: لا عليك! ألا تركتها يا أبا العباس، فما القوم بأعلم بالله منك، قد أكدت على نفسك قبلهم فكان ما قد علمت، فما رد عليه محمد شيئا. ولما بايع المستعين المعتز، وأخذ عليه البيعة ببغداد، وأشهد عليه الشهود من بني هاشم والقضاة والفقهاء والقواد نقل من الموضع الذي كان به من الرصافة إلى قصر الحسن بن سهل بالمخرم هو وعياله وولده وجواريه، فأنزلوهم فيه جميعا، ووكل بهم سعيد بن رجاء الحضاري في أصحابه، وأخذ المستعين البردة والقضيب والخاتم، ووجه مع عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وكتب معه: أما بعد، فالحمد لله متمم النعم برحمته، والهادي إلى شكره بفضله، وصلى

الله على محمد عبده ورسوله، الذي جمع له ما فرق من الفضل في الرسل قبله، وجعل تراثه راجعا إلى من خصه بخلافته، وسلم تسليما كتابي إلى أمير المؤمنين وقد تمم الله له أمره، وتسلمت تراث رسول الله ص ممن كان عنده، وأنفذته إلى أمير المؤمنين مع عبيد الله بن عبد الله مولى أمير المؤمنين وعبده. ومنع المستعين الخروج إلى مكة، واختار أن ينزل البصرة فذكر عن سعيد ابن حميد أن محمد بن موسى بن شاكر قال: البصرة وبية، فكيف اخترت أن تنزلها! فقال المستعين: هي أوبى، أو ترك الخلافة! وذكر أن قرب جارية قبيحة جاءت برسالة إلى المستعين من المعتز، يسأله أن ينزل عن ثلاث جوار كان المستعين تزوجهن من جواري المتوكل، فنزل عنهن، وجعل أمرهن إليهن، وكان احتبس عنده من الجوهر خاتمين يقال لأحدهما البرج وللآخر الجبل، فوجه إليه محمد بن عبد الله بقرب خاصية المعتز وجماعة، فدفعهما إليهم، وانصرفوا بذلك إلى محمد بن عبد الله، فوجه به إلى المعتز. ولست خلون من المحرم دخل- فيما قيل- بغداد أكثر من مائتي سفينة، فيها من صنوف التجارات وغنم كثير، وأشخص المستعين مع محمد بن مظفر ابن سيسل وابن أبي حفصة إلى واسط في نحو من أربعمائة فرسان ورجالة. وقدم بعد ذلك على ابن طاهر عيسى بن فرخان شاه وقرب، فأخبراه أن ياقوتة من جوهر الخلافة قد حبسها أحمد بن محمد عنده، فوجه ابن طاهر الحسين ابن إسماعيل فأخرجها، فإذا ياقوتة بهية، أربع أصابع طولا في عرض مثل ذلك، وإذا هو قد كتب عليها اسمه، فدفعت إلى قرب، فبعثت بها إلى المعتز. واستوزر المعتز أحمد بن إسرائيل، وخلع عليه، ووضع تاجا على رأسه، وشخص أبو أحمد إلى سامرا يوم السبت لاثنتي عشرة خلت من المحرم منها، وشيعه محمد بن عبد الله والحسن بن مخلد، فخلع على محمد بن عبد الله خمس خلع وسيفا، ورجع من الروذبار

وقال بعض الشعراء في خلع المستعين: خلع الخلافة أحمد بن محمد ... وسيقتل التالي له أو يخلع ويزول ملك بني أبيه ولا يرى ... أحد تملك منهم يستمتع إيها بني العباس إن سبيلكم ... في قتل أعبدكم طريق مهيع رقعتم دنياكم فتمزقت ... بكم الحياة تمزقا لا يرقع وقال بعض البغداديين: إني أراك من الفراق جزوعا ... أضحى الإمام مسيرا مخلوعا كانت به الآفاق تضحك بهجة ... وهو الربيع لمن أراد ربيعا لا تنكري حدث الزمان وريبه ... إن الزمان يفرق المجموعا لبس الخلافة واستجد محبة ... يقضي أمور المسلمين جميعا فجنت عليه يد الزمان بصرفه ... حربا وكان عن الحروب شسوعا وتجانف الأتراك عنه تمردا ... أضحى، وكان ولا يراع مروعا فنزا بهم، فنزوا به وتعاورت ... أيدي الكماة من الرءوس نجيعا فأزاله المقدار عن رتب العلا ... فثوى بواسط لا يحس رجوعا غدروا به، مكروا به، خانوا به ... لزم الفراش، وحالف التضجيعا وتكنفوا بغداد من أقطارها ... قد ذللوا ما كان قبل منيعا ولو أنه سعر الحروب بنفسه ... متلببا للقائهن دروعا حتى يصادم بالكماة كماته ... فيكون من قصد الحروب صريعا لغدا على ريب الزمان محرما ... ولكان إذ غدر اللئام منيعا لكن عصى رأي الشفيق وعذله ... وغدا لأمر الناكثين مطيعا

والملك ليس بمالك سلطانه ... من كان للرأي السديد مضيعا ما زال يخدع نفسه عن نفسه ... حتى غدا عن ملكه مخدوعا باع ابن طاهر دينه عن بيعة ... أمسى بها ملك الإمام منيعا خلع الخلافة والرعية فاغتدي ... من دين رب محمد مخلوعا فليجرعن بذاك كأسا مرة ... وليلفين لتابعيه تبيعا وقال محمد بن مروان بن أبي الجنوب بن مروان حين خلع المستعين، وصار إلى واسط: إن الأمور إلى المعتز قد رجعت ... والمستعان إلى حالاته رجعا وكان يعلم أن الملك ليس له ... وأنه لك لكن نفسه خدعا ومالك الملك مؤتيه ونازعه ... آتاك ملكا ومنه الملك قد نزعا إن الخلافة كانت لا تلائمه ... كانت كذات حليل زوجت متعا ما كان أقبح عند الناس بيعته ... وكان أحسن قول الناس قد خلعا ليت السفين إلى قاف دفعن به ... نفسي الفداء لملاح به دفعا كم ساس قبلك أمر الناس من ملك ... لو كان حمل ما حملته ظلعا أمسى بك الناس بعد الضيق في سعة ... والله يجعل بعد الضيق متسعا والله يدفع عنك السوء من ملك ... فإنه بك عنا السوء قد دفعا ما ضاع مدحي ولا ضاع اصطناعك لي ... وقد وجدت بحمد الله مصطنعا فاردد علي بنجد ضيعة قبضت ... فإن مثلك مثلي يقطع الضيعا فإن رددت إمام العدل غلتها ... فالله آنف حسادي به جدعا وقال يمدح المعتز بعد خلع المستعين: قد عادت الدنيا إلى حالها ... وسرنا الله بإقبالها دنيا بك الله كفى أهلها ... ما كان من شده أهوالها

وكان قد ملكها جاهل ... لا تصلح الدنيا لجهالها قد كانت الدنيا به قفلت ... فكنت مفتاحا لأقفالها إن التي فزت بها دونه ... عادت إلى أحسن أحوالها خلافة كنت حقيقا بها ... فضلك الله بسربالها فرده الله إلى حاله ... وردها الله إلى حالها ولم تكن أول عارية ... ردت على رغم إلى آلها والله لو كان على قرية ... ما كان يجزي بعض أعمالها أدخل في الملك يدا رعدة ... أخرجها من بعد إدخالها بدلنا الله به سيدا ... أسكن دنيا بعد زلزالها بدلت الأمة هذا بذا ... كأنها في وقت دجالها وقام بالملك وأثقاله ... وقام بالحرب وأثقالها أبطل ما كان العدا أملوا ... رميك بالخيل وأبطالها تعمل خيلا طالما نجحت ... ما عملت خيل كأعمالها وقال الوليد بن عبيد البحتري في خلع المستعين ومدح المعتز: ألا هل أتاها أن مظلمة الدجى ... تجلت وأن العيش سهل جانبه وأنا رددنا المستعار مذمما ... على أهله واستأنف الحق صاحبه عجبت لهذا الدهر أعيت صروفه ... وما الدهر إلا صرفه وعجائبه متى امل الدياك أن يصطفى له ... عرى التاج أو يثنى عليه عصائبه وكيف ادعى حق الخلافة غاصب ... حوى دونه إرث النبي أقاربه بكى المنبر الشرقي إذ خار فوقه ... على الناس ثور قد تدلت غباغبه ثقيل على جنب الثريد مراقب ... لشخص الخوان يبتدي فيواثبه

إذا ما احتشى من حاضر الزاد لم يبل ... أضاء شهاب الملك أم كل ثاقبه إذا بكر الفراش ينثو حديثه ... تضاءل مطريه وأطنب عائبه تخطى إلى الأمر الذي ليس أهله ... فطورا يناغيه وطورا يشاغبه فكيف رأيت الحق قر قراره ... وكيف رأيت الظلم زالت عواقبه ولم يكن المعتز بالله إذ سرى ... ليعجز والمعتز بالله طالبه رمى بالقضيب عنوة وهو صاغر ... وعري من برد النبي مناكبه وقد سرني أن قيل وجه مسرعا ... الى الشرق تحدى سفنه وركائبه إلى كسكر خلف الدجاج ولم يكن ... لتنشب إلا في الدجاج مخالبه وما لحية القصار حيث تنفشت ... بجالبة خيرا على من يناسبه يحوز ابن خلاد على الشعر عنده ... ويضحي شجاع وهو للجهل كاتبه فأقسمت بالوادي الحرام وما حوت ... أباطحه من محرم وأخاشبه لقد حمل المعتز أمة أحمد ... على سنن يسري إلى الحق لاحبه تدارك دين الله من بعد ما عفت ... معالمه فينا وغارت كواكبه وضم شعاع الملك حتى تجمعت ... مشارقه موفورة ومغاربه وانصرف أبو الساج ديوداد بن ديودست إلى بغداد لسبع بقين من المحرم من هذه السنة، فقلده محمد بن عبد الله معاون ما سقى الفرات من السواد، فوجه أبو الساج خليفة له يقال له كربه إلى الأنبار، ووجه قوما من أصحابه إلى قصر ابن هبيرة مع خليفة له، ووجه الحارث بن اسد في خمسمائة فارس وراجل، يستقرئ أعماله، ويطرد الأتراك والمغاربة عنها، وقد كانوا عاثوا في النواحي وتلصصوا ثم شخص أبو الساج من بغداد لثلاث خلون من ربيع الأول، ففرق أصحابه في طساسيج الفرات، ونزل قصر ابن هبيرة، ثم صار إلى الكوفة، ووافى أبو أحمد سامرا منصرفا من معسكره إليها لإحدى

ذكر خبر قتل شريح الحبشي

عشرة بقيت من المحرم، فخلع المعتز عليه ستة أثواب وسيفا، وتوج تاج ذهب بقلنسوة مجوهرة، ووشح وشاحي ذهب بجوهر، وقلد سيفا آخر مرصعا بالجوهر، وأجلس على كرسي، وخلع على الوجوه من القواد. ذكر خبر قتل شريح الحبشي وفيها قتل شريح الحبشي، وكان سبب ذلك أنه حين وقع الصلح، هرب في عدة من الحبشة، فقطع الطريق فيما بين واسط وناحية الجبل والأهواز، ونزل قرية من قرى أم المتوكل يقال لها ديري، فنزل في خانها في خمسه عشر رجلا، فشربوا وسكروا، فوثب عليهم أهل القرية فكتفوهم، وحملوهم إلى واسط، إلى منصور بن نصر، فحملهم منصور إلى بغداد، فأنفذهم محمد ابن عبد الله إلى العسكر، فلما وصلوا قام بايكباك إلى شريح فوسطه بالسيف وصلب على خشبة بابك، وضرب أصحابه بالسياط ما بين الخمسمائة إلى الألف. وفي شهر ربيع الآخر منها توفي عبيد الله بن يحيى بن خاقان في مدينه ابى جعفر. ذكر حال بغا ووصيف وفيها كتب المعتز إلى محمد بن عبد الله في إسقاط اسم بغا ووصيف ومن كان في رسمهما من الدواوين. وذكر أن محمد بن أبي عون أحد قواد محمد بن عبد الله ناظره لما صار أبو أحمد إلى سامرا في قتل بغا ووصيف، فوعده أن يقتلهما، فبعث المعتز إلى محمد ابن عبد الله بلواء، وعقد لمحمد بن أبي عون لواء على البصرة واليمامة والبحرين،

فكتب قوم من أصحاب بغا ووصيف إليهما بذلك، وحذروهما محمد بن عبد الله، فركب وصيف وبغا إليه يوم الثلاثاء لخمس بقين من ربيع الأول، فقال له بغا: بلغنا أيها الأمير ما ضمنه ابن أبي عون من قتلنا، والقوم قد غدروا وخالفوا ما فارقونا عليه، والله لو أرادوا أن يقتلونا ما قدروا عليه فحلف لهما أنه ما علم بشيء من ذلك، وتكلم بغا بكلام شديد، ووصيف يكفه، وقال وصيف: أيها الأمير، قد غدر القوم ونحن نمسك ونقعد في منازلنا حتى يجيء من يقتلنا! وكانا دخلا مع جماعة، ثم رجعا إلى منازلهما، فجمعا جندهما ومواليهما، وأخذا في الاستعداد وشرى السلاح وتفريق الأموال في جيرانهما إلى سلخ ربيع وكان وصيف وبغا عند قدوم قرب، وجه إليهما محمد ابن عبد الله كاتبه محمد بن عيسى، فأقبلا معه حتى صارا عند دار محمد بن عبد الله بقرب الجسر، فلقيهما جعفر الكردي وابن خالد البرمكي، فتعلق كل واحد منهما بلجام واحد منهما، وقال لهما: إنما دعيتما لتحملا إلى العسكر، وقد أعد لكما لذلك قوم أو لتقتلا، فرجعا وجمعا جمعا، وأجريا على كل رجل كل يوم درهمين، فأقاما في منازلهما. وكان وصيف وجه أخته سعاد إلى المؤيد، وكان المؤيد في حجرها، فأخرجت من قصر وصيف الف الف دينار كانت مدفونة فيه، فدفعتها إلى المؤيد، فكلم المؤيد المعتز في الرضا عن وصيف، فكتب إليه بالرضا عنه، فضرب مضاربه بباب الشماسية على ان يخرج، وتكلم ابو احمد ابن المتوكل في الرضا عن بغا، فكتب إليه بالرضا، واضطرب أمرهما وهما مقيمان ببغداد. ثم اجتمع على المعتز الأتراك فسألوه الأمر بإحضارهما، وقالوا: هما كبيرانا ورئيسانا، فكتب إليهما بذلك، فجاء بالكتاب بايكباك في نحو من ثلاثمائة رجل، فأقام بالبردان، ووجه إليهما الكتاب لسبع بقين من شهر رمضان من هذه السنة، فكتب إلى محمد بن عبد الله بمنعهما، فوجها بكاتبيهما احمد

ذكر الفتنة بين جند بغداد واصحاب محمد بن عبد الله بن طاهر

ابن صالح ودليل بن يعقوب إلى محمد بن عبد الله ليستأذناه، فأتاهما جيش من الأتراك، فنزلوا بالمصلى، وخرج وصيف وبغا وأولادهما وفرسانهما في نحو من أربعمائة إنسان، وخلفا في دورهما الثقل والعيال، ودعا أهل بغداد لهما ودعوا لهم. وقد كان ابن طاهر وجه محمد بن يحيى الواثقي وبندار الطبرى الى باب الشماسيه وباب البرد ان ليمنعوهما، ومضيا من باب خراسان، ونفذا ولم يعلم كاتباهما حتى قال محمد بن عبد الله لأحمد ودليل: ما صنع صاحبا كما؟ فقال احمد ابن صالح: خلفت وصيفا في منزله قال: فإنه قد شخص الساعة، قال: ما علمت، فلما صار إلى سامرا بكر أحمد بن إسرائيل يوم الأحد لتسع بقين من شوال من هذه السنة في السحر إلى وصيف، وأقام عنده مليا، ثم انصرف إلى بغا، فأقام عنده مليا، ثم صار إلى الدار، فاجتمع الموالي وسألوا ردهما إلى مراتبهما، فأجيبوا إلى ذلك، وبعث إليهما، فحضرا ورتبا في مرتبتهما التي كانت قبل مصيرهما إلى بغداد، وأمر برد ضياعهما، وخلع عليهما خلع المرتبة ثم ركب المعتز إلى دار العامة، وعقد لبغا ووصيف على أعمالهما ورد ديوان البريد كما كان قبل إلى موسى بن بغا الكبير، فقبل موسى ذلك. ذكر الفتنة بين جند بغداد وأصحاب محمد بن عبد الله بن طاهر وفي شهر رمضان من هذه السنة كانت وقعة بين جند بغداد وأصحاب محمد بن عبد الله بن طاهر، ورئيس الجند يومئذ ابن الخيل وكان السبب في ذلك- فيما ذكر- أن المعتز كتب إلى محمد بن عبد الله في بيع غله طساسيج ضياع بادوريا وقطربل ومسكن وغيرها، كل كرين بالمعدل بخمسة وثلاثين دينارا من غلة سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وكان المعتز ولى بريد بغداد رجلا يقال له صالح بن الهيثم، وكان أخوه منقطعا إلى أتامش أيام

المتوكل، فارتفع أمر صالح هذا أيام المستعين، وكان ممن أقام بسامرا، وهو من أهل المخرم، وكان أبوه حائكا ثم صار يبيع الغزل، ثم انتقل أخوه إليه لما ارتفع فلما اقام ببغداد كتب اليه يؤمر أن يقرأ الكتاب على قواد أهل بغداد كعتاب بن عتاب ومحمد بن يحيى الواثقي ومحمد بن هرثمة ومحمد بن رجاء وشعيب ابن عجيف ونظرائهم، فقرأه عليهم، فصاروا إلى محمد بن عبد الله، فأخبروه، فأمر محمد بن عبد الله فأحضر صالح بن الهيثم، وقال: ما حملك على هذا بغير علمي! وتهدده وأسمعه وقال للقواد: انتظروا حتى أرى رأيي، وآمركم بما أعزم عليه، فانصرفوا من عنده على ذلك، وشخص بعد ذلك، واجتمع الفروض والشاكرية والنائبة إلى باب محمد بن عبد الله يطلبون أرزاقهم لعشر خلون من شهر رمضان، فأخبرهم أن كتاب الخليفة ورد عليه، جواب كتاب له كان كتب بمسألة أرزاق جند بغداد، إن كنت فرضت الفروض لنفسك، فأعطهم أرزاقهم، وإن كنت فرضت لنا فلا حاجة لنا فيهم فلما ورد الكتاب عليه أخرج لهم بعد شغبهم بيوم ألفي دينار، فوضعت لهم ثم سكنوا. ثم اجتمعوا لإحدى عشرة خلت من شهر رمضان، ومعهم الأعلام والطبول، وضربوا المضارب والخيم على باب حرب وباب الشماسية وغيرهما، وبنوا بيوتا من بواري وقصب، وباتوا ليلتهم فلما أصبحوا كثر جمعهم، وبيت ابن طاهر قوما من خاصته في داره، وأعطاهم درهما درهما، فلما أصبحوا مضوا من داره إلى المشغبة، فصاروا معهم فجمع ابن طاهر جنده القادمين معه من خراسان، وأعطاهم لشهرين، وأعطى جند بغداد القدماء، الفارس دينارين والراجل دينارا، وشحن داره بالرجال، فلما كان يوم الجمعة اجتمع من المشغبة خلق كثير بباب حرب بالسلاح والأعلام والطبول، ورئيسهم رجل يقال له عبدان بن الموفق، ويكنى أبا القاسم، وكان من أثبات عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وكان ديوان عبدان في ديوان وصيف، فقدم بغداد، فباع دارا له بمائة ألف دينار، فشخص إلى سامرا، فلما وثبت الشاكرية بباب العامة كان معهم، فضربه سعيد الحاجب خمسمائة سوط، وحبسه حبسا طويلا،

ثم أطلق فلما كان فتنة المستعين صار إلى بغداد، وانضم إليه هؤلاء المشغبة، فحضهم على الطلب بأرزاقهم وفائتهم، وضمن لهم أن يكون لهم رأسا يدبر أمرهم فأجابوه إلى ذلك، فأنفق عليهم يوم الأربعاء ويوم الخميس ويوم الجمعة نحوا من ثلاثين دينارا فيما أقام لهم من الطعام، ومن كانت لهم كفاية لم يحتج إلى نفقته، فكان ينصرف إلى منزله، فلما كان يوم الجمعة اجتمعت منهم جماعة كثيرة، وعزموا على المصير إلى المدينة ليمضوا إلى الأمام فيمنعوه من الصلاة والدعاء للمعتز، فساروا على تعبئة في شارع باب حرب، حتى انتهوا إلى باب المدينة في شارع باب الشام، وجعل أبو القاسم هذا على كل درب يمر به قوما من المشغبة، من بين رامح وصاحب سيف ليحفظوا الدروب، كيلا يخرج منها أحد لقتالهم. ولما انتهى إلى باب المدينة دخل معهم المدينة جماعة كثيرة، فصاروا بين البابين وبين الطاقات، فأقاموا هناك ساعة، ثم وجهوا جماعه منهم يكونون نحوا من ثلاثمائة رجل بالسلاح إلى رحبة الجامع بالمدينة، ودخل معهم من العامة خلق كثير، فأقاموا في الرحبة، وصاروا إلى جعفر بن العباس الإمام، فأعلموه أنهم لا يمنعونه من الصلاة، وأنهم يمنعونه من الدعاء للمعتز فأعلمهم جعفر أنه مريض لا يقدر على الخروج إلى الصلاة، فانصرفوا عنه، وصاروا إلى درب أسد بن مرزبان، فشحنوا الشارع النافذ إلى درب الرقيق، ووكلوا بباب درب سليمان بن أبي جعفر جماعة، ثم مضوا يريدون الجسر في شارع الحدادين، فوجه إليهم ابن طاهر عدة من قواده فيهم الحسين بن اسماعيل والعباس ابن قارن وعلي بن جهشيار وعبد الله بن الأفشين في جماعة من الفرسان، فناظروهم ودفعوهم دفعا رفيقا، وحمل عليهم الجند والشاكرية حملة جرحوا فيها جماعة من قواد ابن طاهر، وأخذوا دابة ابن قارن وابن جهشيار ورجل من فرض عبيد الله بن يحيى من الشاميين يقال له سعد الضبابي، وجرحوا المعروف بأبي السنا، ودفعوهم عن الجسر حتى صيروهم إلى باب عمرو بن مسعدة

فلما رأى الذين بالجانب الشرقي منهم أن أصحابهم قد أزالوا أصحاب ابن طاهر عن الجسر كبروا، وحملوا يريدون العبور إلى أصحابهم، وكان ابن طاهر قد أعد سفينة فيها شوك وقصب ليضرم فيها النار، ويرسلها على الجسر الأعلى، ففعل ذلك، فأحرقت عامة سفنه وقطعته، وصارت إلى الآخر، فأدركها أهل الجانب الغربي، ففرقوها وأطفئوا النار التي تعلقت بسفن الجسر وعبر من الجانب الشرقي إلى الجانب الغربي خلق كثير، ودفعوا أصحاب ابن طاهر عن ساباط عمرو بن مسعدة، وصاروا إلى باب ابن طاهر، وصار الشاكرية والجند إلى ساباط عمرو بن مسعدة، وقتل من الفريقين إلى الظهر نحو من عشرة نفر، وصار جماعة من الغوغاء والعامة إلى المجلس الذي يعرف بمجلس الشرطة في الجسر. من الجانب الغربي إلى بيت يقال له بيت الرفوع، فكسروا الباب، وانتهبوا ما فيه، وكان فيه أصناف من المتاع، فاقتتلوا عليه فلم يتركوا فيه شيئا، وكان كثيرا جليلا وأحرق ابن طاهر الجسرين لما رأى الجند قد ظهروا على أصحابه، وأمر بالحوانيت التي على باب الجسر التي تتصل بدرب سليمان أن تحرق يمنة ويسرة، ففعل فاحترق فيها للتجار متاع كثير، وتهدم حيطان مجلس صاحب الشرطة، فلما ضربت الحوانيت بالنار حالت النار بين الفريقين، وكبرت الجند عند ذلك تكبيرة شديدة، ثم انصرفوا إلى معسكرهم بباب حرب، وصار الحسين بن إسماعيل مع جماعة من القواد والشاكرية إلى باب الشام، فوقف على التجار والعامة فوبخهم على معونتهم الجند، وقال: هؤلاء قاتلوا على خبزهم وهم معذورون، وأنتم جيران الأمير ومن يجب عليه نصرته، فلم فعلتم ما فعلتم، وأعنتم الشاكرية عليه ورميتم بالحجارة، والأمير متحول عنكم! ثم صار محمد بن أبي عون إليهم، فقال لهم مثل ذلك، وانصرف إلى ابن طاهر، فمكث الجند المشتغبون في مواضعهم ومعسكرهم، وانضم إلى ابن طاهر جماعة من الأثبات وجمع جميع أصحابه، فجعل بعضهم في داره، وبعضهم في الشارع النافذ من الجسر إلى داره، قد عباهم تعبئة الحرب، حذارا من كرة الجند عليه أياما، فلم يكن لهم عودة، فصار في بعض الأيام

التي كان من عودتهم ابن طاهر على وجل- فيما ذكر- رجلان من المشغبة استأمنا إليه، فأخبراه بعورة أصحابهما، فأمر لهما بمائتي دينار، ثم أمر الشاه بن ميكال والحسين بن إسماعيل بعد العشاء الآخرة بالمصير في جماعة من أصحابهما إلى باب حرب، فتلطفا لأبي القاسم رئيس القوم وابن الخليل- وكان من أصحاب محمد بن أبي عون- فصاروا إلى ما هناك، وكان أبو القاسم وابن الخليل قد صار كل واحد منهما عند مفارقة الرجلين اللذين صارا إلى ابن طاهر ورجل آخر يقال له القمي، وتفرق الشاكرية عنهما الى ناحيه خوفا على انفسهم، فمضى الشاه والحسين في طلبهما حتى خرجا من باب الأنبار، وتوجها نحو جسر بطاطيا، فذكر أن ابن الخليل استقبلهما قبل أن يصيرا إلى جسر بطاطيا، فصاح بهما ابن الخليل وبمن معهما من هؤلاء، وصاحوا به، فلما عرفهم حمل عليهم، فجرح منهم عدة، فأحدقوا به، وصار في وسط القوم، فطعنه رجل من أصحاب الشاه، فرمى به إلى الأرض، فبعجه علي بن جهشيار بالسيف وهو في الأرض، ثم حمل على بغل وبه رمق، فلم يصلوا به إلى ابن طاهر حتى قضى وأمر الشاه بطرحه في كنيف في دهليز الدار إلى أن حمل إلى الجانب الشرقي، وأما عبدان بن الموفق فإنه كان قد صار إلى منزله وإلى موضع اختفى فيه، فدل عليه، وأخذ وحمل إلى ابن طاهر، وتفرق الشاكرية الذين كانوا بباب حرب، وصاروا إلى منازلهم، وقيد عبدان بن الموفق بقيدين فيهما ثلاثون رطلا ثم صار الحسين بن إسماعيل إلى الحبس الذي هو فيه في دار العامة، وقعد على كرسي، ودعا به، فسأله: هل هو دسيس لأحد، أو فعل ما فعل من قبل نفسه؟ فأخبره أنه لم يدسه أحد، وإنما هو رجل من الشاكرية طلب بخبزه فرجع الحسين إلى ابن طاهر فأعلمه ذلك، فخرج طاهر بن محمد وأخوه إلى دار العامة الداخلة، فقعدا وأحضرا من بات في الدار من القواد والحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال، وأحضرا عبدان، فحمله رجلان، فكان المخاطب له الحسين، فقال: أنت رئيس القوم؟ فقال: لا، إنما أنا رجل منهم، طلبت ما طلبوا، فشتمه

ذكر الخبر عن خلع المؤيد ثم موته

الحسين، وقال حرب بن محمد بن عبد الله بن حرب: كذبت، بل أنت رئيس القوم، وقد رأيناك تعبيهم بباب حرب وفي المدينة وباب الشام، فقال: ما كنت لهم برأس، وإنما أنا رجل منهم، طلبت ما طلبوا، فأعاد عليه الحسين الشتم، وأمر بصفعه فصفع، وأمر بسحبه فسحب بقيوده إلى أن أخرج من الدار، وشتمه كل من لحقه، ودخل طاهر بن محمد إلى أبيه فأخبره خبره، وحمل عبدان على بغل، ومضى به إلى الحبس، وحمل ابن الخليل في زورق عبر به إلى الجانب الشرقي، وصلب، وأمر بعبدان فجرد وضرب مائة سوط بثمارها وأراد الحسين قتله، فقال لمحمد بن نصر: ما ترى في ضربه خمسين سوطا على خاصرته؟ فقال له محمد: هذا شهر عظيم، ولا يحل لك أن تصنع به هذا، فأمر به فصلب حيا، وحمل على سلم حتى صلب على الجسر، وربط بالحبال، فاستسقى بعد ما صلب، فمنعه الحسين فقيل له: إن شرب الماء مات، قال: فاسقوه إذا، فسقوه، فترك مصلوبا إلى وقت العصر، ثم حبس، فلم يزل في الحبس يومين ثم مات اليوم الثالث مع الظهر، وأمر بصلبه على الخشبة التي كان صلب عليها ابن الخليل، ودفع ابن الخليل الى اوليائه فدفن. ذكر الخبر عن خلع المؤيد ثم موته وفي رجب من هذه السنة خلع المعتز المؤيد أخاه من ولاية العهد بعده. ذكر الخبر عن سبب خلعه إياه: كان السبب في ذلك- فيما بلغنا- أن العلاء بن أحمد عامل أرمينية بعث إلى إبراهيم المؤيد بخمسة آلاف دينار ليصلح بها أمره، فبعث ابن فرخان شاه إليه، فأخذها، فأغرى المؤيد الأتراك بعيسى بن فرخان شاه، وخالفهم المغاربة، فبعث المعتز إلى أخويه: المؤيد وأبي أحمد، فحبسهما في الجوسق، وقيد المؤيد وصيره في حجرة ضيقة، وأدر العطاء للأتراك والمغاربة، وحبس كنجور حاجب المؤيد، وضربه خمسين مقرعه، وضرب خليفته أبا الهول خمسمائة

ذكر الخبر عن مقتل المستعين

سوط وطوف به على جمل، ثم رضي عنه وعن كنجور، فصرف إلى منزله. وقد ذكر أنه ضرب أخاه المؤيد أربعين مقرعة، ثم خلع بسامرا يوم الجمعة لسبع خلون من رجب، وخلع ببغداد يوم الأحد لإحدى عشرة خلت من رجب، وأخذت رقعة بخطه بخلع نفسه. ولست بقين من رجب من هذه السنة- وقيل لثمان بقين منه- كانت وفاة إبراهيم بن جعفر المعروف بالمؤيد ذكر الخبر عن سبب وفاته: ذكر أن امرأة من نساء الأتراك جاءت محمد بن راشد المغربي، فأخبرته أن الأتراك يريدون إخراج إبراهيم المؤيد من الحبس، وركب محمد بن راشد إلى المعتز، فأعلمه ذلك، فدعا بموسى بن بغا، فسأله فأنكر، وقال: يا أمير المؤمنين، إنما أرادوا أن يخرجوا أبا أحمد بن المتوكل لأنسهم به كان في الحرب التي كانت، وأما المؤيد فلا فلما كان يوم الخميس لثمان بقين من رجب دعا بالقضاة والفقهاء والشهود والوجوه، فأخرج إليهم إبراهيم المؤيد ميتا لا أثر به ولا جرح، وحمل الى أمه إسحاق- وهي أم أبي أحمد- على حمار، وحمل معه كفن وحنوط وأمر بدفنه، وحول أبو أحمد إلى الحجرة التي كان فيها المؤيد. وذكر أن المؤيد أدرج في لحاف سمور، ثم أمسك طرفاه حتى مات. وقيل: أنه أقعد في حجر من ثلج، ونضدت عليه حجارة الثلج فمات بردا. ذكر الخبر عن مقتل المستعين وفي شوال منها قتل أحمد بن محمد المستعين. ذكر الخبر عن قتله: ذكر أن المعتز لما هم بقتل المستعين، ورد كتابه على محمد بن عبد الله

ابن طاهر بنكبته، وأمره بتوجيه أصحاب معاونه في الطساسيج، ثم ورد عليه منه بعد ذلك كتاب مع خادم يدعى سيما، يؤمر فيه بالكتاب الى منصور ابن نصر بن حمزة- وهو على واسط- بتسليم المستعين إليه، وكان المستعين بها مقيما، وكان الموكل به ابن أبي خميصة وابن المظفر بن سيسل ومنصور ابن نصر بن حمزة وصاحب البريد، فكتب محمد في تسليم المستعين إليه، ثم وجه- فيما قيل- أحمد بن طولون التركي في جيش، فأخرج المستعين لست بقين من شهر رمضان، فوافى به القاطول لثلاث خلون من شوال. وقيل أن أحمد بن طولون كان موكلا بالمستعين، فوجه سعيد بن صالح إلى المستعين في حمله، فصار إليه سعيد فحمله. وقيل أن سعيدا إنما تسلم المستعين من ابن طولون في القاطول بعد ما صار به ابن طولون إليها، ثم اختلف في أمرهما، فقال بعضهم: قتله سعيد بالقاطول، فلما كان غد اليوم الذي قتله فيه أحضر جواريه وقال: انظرن إلى مولاكن قد مات، وقد قال بعضهم: بل أدخله سعيد وابن طولون سامرا، ثم صار به سعيد إلى منزل له فعذبه حتى مات. وقيل: بل ركب معه في زورق ومعه عدة حتى حاذى به فم دجيل، وشد في رجله حجرا، وألقاه في الماء. وذكر عن متطبب كان مع المستعين نصراني يقال له فضلان، أنه قال: كنت معه حين حمل، وأنه أخذ به على طريق سامرا، فلما انتهى إلى نهر نظر إلى موكب وأعلام وجماعة، فقال لفضلان: تقدم فانظر من هذا، فإن كان سعيدا فقد ذهبت نفسي، قال فضلان فتقدمت إلى أول الجيش، فسألتهم فقالوا: سعيد الحاجب، فرجعت إليه فأعلمته- وكان في قبة تعادله امرأة- فقال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! ذهبت نفسي والله! وتأخرت عنه قليلا.

قال: فلقيه أول الجيش، فأقاموا عليه وأنزلوه ودابته، فضربوه ضربه بالسيف، فصاح وصاحت دايته، ثم قتل، فلما قتل انصرف الجيش. قال: فصرت إلى الموضع، فإذا هو مقتول في سراويل بلا رأس، وإذا المرأة مقتولة، وبها عدة ضربات، فطرحنا عليهما نحن تراب النهر حتى واريناهما، ثم انصرفنا. قال: وأتي المعتز برأسه وهو يلعب بالشطرنج، فقيل: هذا رأس المخلوع فقال: ضعوه هنالك، ثم فرغ من لعبه، ودعا به فنظر إليه، ثم أمر بدفنه، وأمر لسعيد بخمسين ألف درهم وولي معونة البصرة. وذكر عن بعض غلمان المستعين ان سعيدا لما استقبله أنزله، ووكل به رجلا من الأتراك يقتله، فسأله، أن يمهله حتى يصلي ركعتين، وكانت عليه جبة، فسأل سعيد التركي الموكل بقتله أن يطلبها منه قبل قتله، ففعل ذلك، فلما سجد في الركعة الثانية قتله واحتز رأسه، وأمر بدفنه، وخفي مكانه. وقال محمد بن مروان بن أبي الجنوب بن مروان بن أبي حفصة في أمر المؤيد، ويمدح المعتز: أنت الذي يمسك الدنيا إذا اضطربت ... يا ممسك الدين والدنيا إذا اضطربا إن الرعية- أبقاك الإله لها ... - ترجو بعدلك أن تبقى لها حقبا لقد عنيت بحرب غير هينة ... وكان عودك نبعا لم يكن غربا ما كنت أول رأس خانه ذنب ... والرأس كنت وكان الناكث الذنبا لو كان تم له ما كان دبره ... لأصبح الملك والإسلام قد ذهبا أراد يهلك دنيانا ويعطبها ... وقد أراد هلاك الدين والعطبا

لما أراد وثوبا من سفاهته ... أمسى عليه إمام العدل قد وثبا لقد رماك بسهم لم يصبك به ... ومن رماك عليه سهمه انقلبا لقد رعيت له ما كان من سبب ... فما رعى لك إحسانا ولا سببا كحسن فعلك لم يفعل أخ بأخ ... كنا لذاك شهودا لم نكن غيبا قد كنت مشتغلا بالحرب ذا تعب ... وكان يلعب ما كلفته تعبا قد كان يا ذا الندى يعطى بلا طلب ... وكنت يا ذا الندى تعطيه ما طلبا وكنت أكثر برا من أبيه به ... ولم تكن بأخ في البر، كنت أبا وكان قرب سرير الملك مجلسه ... فقد تباعد منه بعد ما اقتربا وكان في نعم زالت وكان له ... باب يزار فأمسى اليوم محتجبا أمسى وحيدا وقد كانت مواكبه ... عشرين ألفا تراهم خلفه عصبا أين الصفوف التي كانت تقوم له ... كما يقوم إذا ما جاء أو ذهبا وذل بعد تماديه ونخوته ... كالحوت أصبح عنه الماء قد نضبا وقد فسخت عن الأعناق بيعته ... فلا خطيب له يدعو إذا اختطبا لقبته نقبا من بعد إمرته ... والله بدله بالإمرة اللقبا كسوته ثوب عز فاستهان به ... ولم يصنه فأمسى عنه مغتصبا كم نعمة لك فيها كنت تشركه ... والله أخرجه منها بما اكتسبا شبهته بسراج كان ذا لهب ... فما تركت له نورا ولا لهبا أمست قطيعة إبراهيم قد قطعت ... حبل الصفاء وحبل الود فانقضبا وما تؤاخذ يا حلف الندى أحدا ... حتى تبين فيه النكث والريبا إني بمدح بني العباس ذو حسب ... وكان مدح بني العباس لي حسبا

امر المعتز مع اهل بغداد

إن التقى يا بني العباس أدبكم ... حتى استفادت قريش منكم الأدبا من كان مقتضبا في حول مدحكم ... فلست فيه بحمد الله مقتضبا. امر المعتز مع اهل بغداد ذكر عن أبي عبد الرحمن الفاني أن فتى من اهل سامرا املى عليه مما عمله بعض أهلها عن ألسن الأتراك أن المعتز لما أفضت إليه الخلافة، وقلده الله القيام بأمر عباده في المشارق والمغارب، والبر والبحر، والبدو والحضر، والسهل والجبل، تألم بسوء اختيار أهل بغداد وفتنتهم، فأمر المعتز بالله بإحضار جماعة ممن صفت أذهانهم، ورقت طبائعهم، ولطف ظنهم، وصحت نحائزهم، وجادت غرائزهم، وكملت عقولهم بالمشورة، فقال أمير المؤمنين: أما تنظرون إلى هذه العصابة التي ذاع نفاقهم، وغار شأوهم، الهمج الطغام، والأوغاد الذين لا مسكة بهم، ولا اختيار لهم، ولا تمييز معهم، قد زين لهم تقحم الخطا سوء أعمالهم، فهم الأقلون وإن كثروا والمذمومون إن ذكروا، وقد علمت أنه لا يصلح لقود الجيوش وسد الثغور وإبرام الأمور وتدبير الأقاليم إلا رجل قد تكاملت فيه خلال أربع: حزم يقف به عند موارد الأمور حقائق مصادرها، وعلم يحجزه عن التهور والتغرير في الأشياء إلا مع إمكان فرصتها، وشجاعة لا ينقصها الملمات مع تواتر حوائجها، وجود يهون به تبذير جلائل الأموال عند سؤالها وأما الثلاث: فسرعة مكافأة الإحسان إلى صالح الأعوان، وثقل الوطأة على أهل الزيغ والعدوان، والاستعداد للحوادث، إذ لا تؤمن من نوائب الزمان وأما الاثنتان، فإسقاط الحاجب عن الرعية، والحكم بين القوي والضعيف بالسوية وأما الواحدة فالتيقظ في الأمور مع عدم تأخير عمل اليوم لغد، فما ترون، وقد اخترت رجالا لهم من موالي، أحدهم شديد الشكيمة، ماضي العزيمة، لا تبطره السراء، ولا تدهشه الضراء، لا يهاب ما وراءه، ولا يهوله ما تلقاءه، وهو كالحريش في أصل السلام، إن

حرك حمل، وإن نهش قتل، عدته عتيدة، ونقمته شديدة، يلقى الجيش في النفر القليل العدد بقلب أشد من الحديد طالب للثأر، لا يفله العساكر، باسل البأس، مقتضب الأنفاس لا يعوزه ما طلب، ولا يفوته من هرب، واري الزناد، مطلع العماد، لا تشرهه الرغائب، ولا تعجزه النوائب، إن ولي كفى، وإن وعد وفى، وإن نازل فبطل، وإن قال فعل، ظله لوليه ظليل، وبأسه في الهياج عليه دليل، يفوق من ساماه، ويعجز من ناواه، ويتعب من جاراه، وينعش من والاه. فقام إليه رجل من القوم، فقال: قد جمع الله لك يا أمير المؤمنين فضائل الأدب، وخصك بإرث النبوة، وألقى إليك أزمة الحكمة، ووفر نصيبك من حباء الكرامة، وفسح لك في الفهم، ونور قلبك بأنفس العلوم وصفاء الذهن، فأفصح عن القلب البيان، وأدرك فهمك يا أمير المؤمنين ما والله خبىء على من لم يحب بما حبيت من المنن العظام، والأيادي الجسام، والفضائل المحمودة، وشرف الطباع فنطقت الحكمة على لسانك، فما ظننته فهو صواب، وما فهمته فهو الحق الذي لا يعاب، وأنت والله يا أمير المؤمنين نسيج وحده، وقريع دهره، لا يبلغ كلية فضله الوصف، ولا يحصر أجزاء شرف فضله النعت. ثم أمر أمير المؤمنين بالعقد لأنصاره على النواحي، وأطلقهم في أشعار أعدائهم وأبشارهم ودمائهم، فلما بلغ محمد بن عبد الله ما أمر به في النواحي أنشأ كتابا نسخته: أما بعد فإن زيغ الهوى صدف بكم عن حزم الرأي، فأقحمكم حبائل الخطا، ولو ملكتم الحق عليكم، وحكمتم به فيكم لاوردكم البصيره، ونفى عنكم غيايه الحيرة، والآن فإن تجنحوا للسلم تحقنوا دماءكم، وترغدوا عيشكم، ويصفح أمير المؤمنين عن جريرة جارمكم، وأخلى لكم ذروة سبوغ النعمة عليكم، وإن مضيتم على غلوائكم، وسول لكم الأمل أسوأ أعمالكم، فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، بعد نبذ المعذرة إليكم، وإقامة الحجة عليكم،

ولئن شنت الغارات، وشب ضرام الحرب، ودارت رحاها على قطبها، وحسمت الصوارم أوصال حماتها، واستجرت العوالي من نهمها، ودعيت نزال، والتحم الأبطال، وكلحت الحرب عن أنيابها أشداقها، وألقت للتجرد عنها قناعها، واختلفت أعناق الخيل، وزحف أهل النجدة إلى أهل البغي، لتعلمن أي الفريقين أسمح بالموت نفسا، وأشد عند اللقاء بطشا، ولات حين معذرة، ولا قبول فدية! وقد أعذر من أنذر، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ! فبلغ كتاب محمد بن عبد الله الأتراك، فكتبوا جواب كتابه: إن شخص الباطل تصور لك في صورة الحق، فتخيل لك الغي رشدا كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماء حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً، ولو راجعت عزوب عقلك أنار لك برهان البصيرة، وحسم عنك مواد الشبهة، لكن حصت عن سنه الحقيقة، ونكصت على عقبيك لما ملك طباعك من دواعي الحيرة، فكنت في الإصغاء لهتافه والتجرد إلى وروده كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران ولعمرك يا محمد، لقد ورد وعدك لنا ووعيدك إيانا، فلم يدننا منك، ولم ينئنا عنك، إذ كان فحص اليقين قد كشف عن مكنون ضميرك، وألفاك كالمكتفي بالبرق نهجا، إذا أضاء له مشى فيه، وإذا أظلم عليه قام ولعمرك لئن اشتد في البغى شاوك، ومتعت بصبابه من الأمل ليكونن أمرك عليك غمة، ولنأتينك بجنود لا قبل لك بها، ولنخرجنك منها ذليلا، وأنت من الصاغرين ولولا انتظارنا كتاب أمير المؤمنين بأعلامنا ما نعمل في شاكلته، بلغنا بالسياط النياط، وغمدنا السيوف وهي كالة، وجعلنا عاليها سافلها، وجعلناها مأوى الظلمان والحيات والبوم، وقد ناديناك من كثب، وأسمعناك إن كنت حيا، فإن تجب تفلح، وإن تأب إلا غيا نخزك به، وعما قليل لتصبحن نادمين.

وقوع الفتنة بين الاتراك والمغاربه

وقوع الفتنة بين الاتراك والمغاربه وفي أول يوم من رجب من هذه السنة كانت بين المغاربة والأتراك ملحمة، وذلك أن المغاربة اجتمعت فيه مع محمد بن راشد ونصر بن سعيد، فغلبوا الأتراك على الجوسق، وأخرجوهم منه، وقالوا لهم: في كل يوم تقتلون خليفة، وتخلعون آخر، وتقتلون وزيرا! وكانوا قد وثبوا على عيسى بن فرخان شاه، فتناولوه بالضرب، وأخذوا دوابه ولما أخرجت المغاربة الأتراك من الجوسق، وغلبوهم على بيت المال، أخذوا خمسين دابة مما كان الأتراك يركبونها، فاجتمع الأتراك، وأرسلوا إلى من بالكرخ والدور منهم، فتلاقوا هم والمغاربة، فقتل من المغاربة رجل، فأخذت المغاربة قاتله، وأعانت المغاربة الغوغاء والشاكريه، فضعف الأتراك، وانقادوا للمغاربة فأصلح جعفر بن عبد الواحد بين الفريقين، فاصطلحوا على ألا يحدثوا شيئا، ويكون في كل موضع يكون فيه رجل من قبل أحد الفريقين يكون فيه آخر من الفريق الآخر، فمكثوا على ذلك مديده. وبلغ الأتراك اجتماع المغاربة إلى محمد بن راشد ونصر بن سعيد، واجتمع الأتراك إلى بايكباك، فقالوا: نطلب هذين الرأسين، فإن ظفرنا بهما فلا أحد ينطق، وكان محمد بن راشد ونصر بن سعيد قد اجتمعا في صدر اليوم الذي عزم الأتراك فيه على الوثوب بهما، ثم انصرفا إلى منازلهما، فبلغهما أن بايكباك قد صار إلى منزل ابن راشد، فعدل محمد بن راشد ونصر بن سعيد إلى منزل محمد بن عزون ليكونا عنده حتى يسكن الأتراك، ثم يرجعا إلى جمعهما، فغمز الى بايكباك رجل، ودله عليهما وقيل إن ابن عزون هو الذي دس من دل بايكباك والأتراك عليهما، فأخذهما الأتراك فقتلوهما، فبلغ ذلك المعتز، فأراد قتل ابن عزون، فكلم فيه فنفاه الى بغداد. ذكر خبر حمل الطالبيين من بغداد الى سامرا وفيها حمل محمد بن علي بن خلف العطار وجماعة من الطالبيين من بغداد إلى سامرا، فيهم أبو أحمد محمد بن جعفر بن حسن بن جعفر بْن حسن بْن

حسن بن علي بن أبي طالب، وحمل معهم أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري وذلك لثمان خلون من شعبان منها ذكر السبب في حملهم: وكان السبب- فيما ذكر- أن رجلا من الطالبيين شخص من بغداد في جماعة من الجيشية والشاكرية إلى ناحية الكوفة، وكانت الكوفة وسوادها من عمل أبي الساج في تلك الأيام، وكان مقيما ببغداد لمناظرة ابن طاهر إياه في الخروج إلى الري، فلما بلغ ابن طاهر خبر الطالبي الشاخص من بغداد إلى ناحية الكوفة، أمر أبا الساج بالشخوص إلى عمله بالكوفة، فقدم أبو الساج خليفته عبد الرحمن إلى الكوفة، فلقي أبا الساج أبو هاشم الجعفري مع جماعة معه من الطالبيين ببغداد، فكلموه في أمر الطالبي الشاخص إلى الكوفة، فقال لهم أبو الساج: قولوا له يتنحى عني، ولا أراه فلما صار عبد الرحمن خليفة أبي الساج إلى الكوفة ودخلها رمي بالحجارة حتى صار إلى المسجد، فظنوا أنه جاء لحرب العلوي، فقال لهم: إني لست بعامل، إنما أنا رجل وجهت لحرب الأعراب، فكفوا عنه، وأقام بالكوفة وكان أبو أحمد محمد بن جعفر الطالبي الذى ذكرت انه حمل من الطالبيين إلى سامرا كان المعتز ولاه الكوفة بعد ما هزم مزاحم بن خاقان العلوي الذي كان وجه لقتاله بها الذي قد مضى ذكره قبل في موضعه، فعاث- فيما ذكر- أبو أحمد هذا في نواحي الكوفة وآذى الناس، وأخذ أموالهم وضياعهم فلما أقام خليفة أبي الساج بالكوفة لطف لأبي أحمد العلوي هذا وآنسه حتى خالطه في المؤاكلة والمشاربة، وداخله ثم خرج متنزها معه إلى بستان من بساتين الكوفة، فأمسى وقد عبى له عبد الرحمن اصحابه، فقيده وحمله مقيدا بالليل على بغال الدخول، حتى ورد به بغداد في أول شهر ربيع الآخر، فلما أتي به محمد بن عبد الله حبسه عنده، ثم أخذ منه كفيلا وأطلقه، ووجدت مع ابن أخ لمحمد بن علي بن خلف العطار كتب من الحسن بن زيد، فكتب بخبره إلى المعتز، فورد الكتاب بحمله مع عتاب بن عتاب، وحمل هؤلاء الطالبيين، فحملوا جميعا

مع خمسين فارسا، وحمل أبو أحمد هذا وأبو هاشم الجعفري وعلي بن عبيد الله ابن عبد الله بن حسن بن جعفر بْن حسن بْن حسن بْن علي بْن أبي طالب، وتحدث الناس في علي بن عبيد الله أنه إنما استأذن في المصير إلى منزله بسامرا، فأذن له ووصله- فيما قيل- محمد بن عبد الله بألف درهم، لأنه شكا إليه ضيقه، وودع أبو هاشم أهله. وقيل إن سبب حمل أبي هاشم، إنما كان ابن الكردية وعبد الله بن داود بن عيسى بن موسى قالا للمعتز: إنك إن كتبت إلى محمد بن عبد الله في حمل داود بن القاسم لم يحمله، فاكتب إليه، وأعلمه أنك تريد توجيهه إلى طبرستان لإصلاح أمرها، فإذا صار إليك رأيت فيه رأيك، فحمل على هذا السبيل ولم يعرض له بمكروه. وفيها ولي الحسن بن أبي الشوارب قضاء القضاة، وكان محمد بن عمران الضبي مؤدب المعتز قد سمى رجالا للمعتز للقضاء نحو ثمانية رجال، فيهم الخلنجي والخصاف، وكتب كتبهم، فوقع فيه شفيع الخادم ومحمد بن إبراهيم بن الكردية وعبد السميع بن هارون بن سليمان بن أبي جعفر، وقالوا: انهم من اصحاب ابن ابى داود، وهم رافضة وقدرية وزيدية وجهمية. فأمر المعتز بطردهم وإخراجهم إلى بغداد، ووثب العامة بالخصاف، وخرج الآخرون إلى بغداد، وعزل الضبي إلا عن المظالم. وذكر أن أرزاق الأتراك والمغاربة والشاكرية قدرت في هذه السنة، فكان مبلغ ما يحتاجون إليه في السنة مائتي ألف ألف دينار، وذلك خراج المملكة كلها لسنتين. وفيها توجه أبو الساج إلى طريق مكة، وكان سبب ذلك- فيما ذكر- إن وصيفا لما صلح أمره، ودفع المعتز اليه خاتمه كتب إلى أبي الساج يأمره

بالخروج إلى طريق مكة ليصلحه، ووجه إليه من المال ما يحتاج إليه، فأخذ في الجهاز، فكتب محمد بن عبد الله يسأل أن يصير طريق مكة إليه، فأجيب إلى ذلك، فوجه أبا الساج من قبله. وفي أول ذي الحجة عقد لعيسى بن الشيخ بن السليل على الرملة، فأنفذ خليفته أبا المغراء إليها، فقيل: أنه أعطى بغا أربعين ألف دينار على ذلك، أو ضمنها إليه. وفيها كتب وصيف إلى عبد العزيز بن أبي دلف بتوليته الجبل، وبعث إليه بخلع، فتولى ذلك من قبله. وفيها قتل محمد بن عمرو الشاري بديار ربيعة، قتله خليفة لأيوب بن أحمد في ذي القعدة. وفيها سخط على كنجور، وأمر بحبسه في الجوسق، ثم حمل إلى بغداد مقيدا، ثم وجه به إلى اليمامة فحبس هنالك وفيها أغار ابن جستان صاحب الديلم مع أحمد بن عيسى العلوي والحسين ابن احمد الكوكبى على الري فقتلوا وسبوا، وكان ما بها حين قصدوها عبد الله ابن عزيز، فهرب منها، فصالحهم أهل الري على الفى درهم، فأدوها، وارتحل عنها ابن جستان، وعاد إليها ابن عزيز، فأسر أحمد بن عيسى وبعث به إلى نيسابور. وفيها مات إسماعيل بن يوسف الطالبي الذي كان فعل بمكة ما فعل. وحج فيها بالناس محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور من قبل المعتز.

سنه ثلاث وخمسين ومائتين

ثم دخلت سنه ثلاث وخمسين ومائتين ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث فمن ذلك ما كان من عقد المعتز في اليوم الرابع من رجب لموسى بن بغا الكبير على الجبل، ومعه من الجيش يومئذ من الأتراك ومن يجري مجراهم الفان وأربعمائة وثلاثة وأربعون رجلا، منهم مع مفلح ألف ومائه وثلاثون رجلا. ذكر خبر أخذ الكرج من ابن ابى دلف وفيها أوقع مفلح وهو على مقدمة موسى بن بغا بعبد العزيز بن أبي دلف لثمان ليال بقين من رجب من هذه السنة وعبد العزيز في زهاء عشرين ألفا من الصعاليك وغيرهم، وكانت الوقعة بينهما- فيما قيل- خارج همذان على نحو من ميل، فهزمه مفلح ثلاثة فراسخ يقتلون ويأسرون، ثم رجع مفلح ومن معه سالمين، وكتب بالفتح في ذلك اليوم فلما كان في شهر رمضان عبا مفلح خيله نحو الكرج، وجعل لهم كمنين، ووجه عبد العزيز عسكرا فيه أربعة آلاف فقاتلهم مفلح، وخرج كمين مفلح على أصحاب عبد العزيز فانهزموا، ووضع أصحاب مفلح فيهم السيف، فقتلوا وأسروا، وأقبل عبد العزيز معينا لأصحابه، فانهزم بانهزام أصحابه، وترك الكرج، ومضى إلى قلعة له في الكرج يقال له زز، متحصنا بها، ودخل مفلح الكرج، فأخذ جماعة من آل أبي دلف أسرا، وأخذ نساء من نسائهم، يقال أنه كان فيهم أم عبد العزيز، فأوثقهم. وذكر أنه وجه سبعين حملا من الرءوس إلى سامرا وأعلاما كثيرة. وشخص فيها موسى بن بغا من سامرا إلى همذان فنزلها. وفيها خلع المعتز على بغا الشرابي في شهر رمضان، وألبسه التاج والوشاحين، فخرج فيهما الى منزله.

ذكر الخبر عن قتل وصيف

ذكر الخبر عن قتل وصيف وفيها قتل وصيف التركي، وذلك لثلاث بقين من شوال منها، وكان السبب في ذلك- فيما ذكر- أن الأتراك والفراغنة والأشروسنية شغبوا وطلبوا أرزاقهم لاربعه اشهر، فخرج إليهم بغا ووصيف وسيما الشرابي في نحو من مائة إنسان من أصحابهم، فكلمهم وصيف، وقال: ما تريدون؟ قالوا: أرزاقنا، فقال: خذوا ترابا، وهل عندنا مال! وقال بغا: نعم، نسأل أمير المؤمنين في ذلك، ونتناظر في دار أشناس، وينصرف عنكم من ليس منكم، فدخلوا دار أشناس، ومضى سيما الشرابي منصرفا الى سامرا، ثم تبعه بغا لاستمار الخليفة في إعطائهم، وكان وصيف في أيديهم، فوثب عليه بعضهم، فضربه بالسيف ضربتين، ووجأه آخر بسكين، فاحتمله نوشري بن طاجبك- وهو أحد قواده- إلى منزله، فلما أبطأ عليهم بغا ظنوا انهم في التعبئة عليهم، فاستخرجوه من منزل نوشري، فضربوه بالطبرزينات حتى كسروا عضديه، ثم ضربوا عنقه، ونصبوا رأسه على محراك تنور، وقصدت العامة بسامرا الانتهاب لمنازل وصيف وولده، فرجع بنو وصيف، فمنعوا منازلهم، ثم جعل المعتز ما كان إلى وصيف من الأمور إلى بغا الشرابي. ذكر الخبر عن قتل بندار الطبرى وفي يوم الفطر من هذه السنة قتل بندار الطبري. ذكر سبب قتله: فكان سبب ذلك أنه حكم بالبوازيج محكم يدعى مساور بن عبد الحميد، في رجب من هذه السنة، فوجه المعتز إليه في شهر رمضان ساتكين، فمال إلى ناحية طريق خراسان، فوجه محمد بن عبد الله إليه، وذلك أن طريق خراسان كان إليه بندار ومظفر بن سيسل مسلحة، فلما صارا بدسكرة الملك أقاما، فذكر أن بندار خرج في آخر يوم من شهر رمضان متصيدا، فبعد في

طلب الصيد حتى جاوز دور الدسكرة بنحو فرسخ، فبينا هو كذلك، إذ نظر إلى علمين مقبلين معهما جماعة مقبلة نحو الدسكرة، فوجه بعض أصحابه لينظر ما الأعلام، فأخبره صاحب الجماعة أنه عامل كرخ جدان، وأنه انتهى إليه أن رجلا يقال له مساور بن عبد الحميد من الدهاقين من أهل البوازيج شرى، وأنه بلغه أنه يصير إلى كرخ جدان، فلما بلغه ذلك خرج هاربا إلى الدسكرة ليأنس بقرب بندار ومظفر، فانصرف بندار من ساعته إلى المظفر فقال له: إن الشاري يقصد كرخ جدان، ويريدنا، فامض بنا نلقاه، فقال له المظفر: قد أمسينا ونريد أن نصلي الجمعة، وغدا العيد، فإذا انقضى العيد قصدناه فأبى بندار، ومضى من ساعته طمعا بالمظفر الشاري وحده دون مظفر، فأقام مظفر ولم يبرح من الدسكرة- وبين الدسكرة وتل عكبراء ثمانية فراسخ، وبين تل عكبراء وموضع الوقعة أربعة فراسخ- فصار بندار إلى تل عكبراء، فوافاها عند العتمة ليلة الفطر فعلف دوابه شيئا، ثم ركب، فسار حتى أشرف على عسكر الشاري ليلا وهم يصلون ويقرءون القرآن، فأشار عليه بعض أصحابه وخاصته أن يبيتهم وهم غارون، فأبى وقال: لا، حتى أنظر إليهم وينظروا إلي فوجه فارسين أو ثلاثة ليأتوه بخبرهم، فلما قربوا من عسكرهم نذروا بهم، فصاحوا: السلاح! وركبوا فتواقفوا إلى أن أصبحوا، ثم اقتتلوا، فلم يمكن أصحاب بندار أن يرموا بسهم واحد، وكانوا زهاء ثلاثمائة فارس وراجل فعباهم ميمنة وميسرة وساقة، وأقام هو في القلب، فحمل عليهم مساور وأصحابه، فثبت لهم بندار وأصحابه، ثم انحدر لهم الشراة عن موضع عسكرهم ومبيتهم، ليطمع بندار وأصحابه في النهب، فلم يعرض بندار وأصحابه لعسكرهم ثم كر الشراة عليهم بالسيوف والرماح، وهم زهاء سبعمائة، فصبر الفريقان، فصار الشراة إلى السيوف دون الرماح، فقتل من الشراة نحو من خمسين رجلا، ومن أصحاب بندار مثلهم، ثم حمل الشراة حملة، فاقتطعوا من أصحاب بندار نحوا من

ذكر خبر موت محمد بن عبد الله بن طاهر

مائة رجل، فصبر لهم المائة ساعة، ثم قتلوا جميعا، وانهزم بندار وأصحابه، فجعلوا يقتطعونهم قطعة بعد قطعة فيقتلونهم وأمعن بندار في الهرب، فطلبوه فلحقوه بقرب تل عكبراء على قدر أربعة فراسخ من موضع الوقعة، فقتلوه ونصبوا رأسه، ونجا من أصحاب بندار نحو من خمسين رجلا- وقيل مائة رجل- انحازوا عن الوقعة عند اشتغال الخوارج بمن كانوا يقتطعون منهم، وانتهى خبره إلى مظفر وهو مقيم بالدسكرة، فتنحى من الدسكرة إلى ما قرب من بغداد، ووصل خبر مقتله إلى محمد بن عبد الله بغد الفطر، فذكر أنه لم يشرب ولم يله كما كان يفعل، غما بما ورد عليه من مقتله. ثم مضى مساور من فوره إلى حلوان، فخرج اليه أهلها فقاتلوه، فقتل منهم أربعمائة إنسان، وقتلوا جماعة من أصحاب الشاري، وقتل عدة من حجاج خراسان كانوا بحلوان، فأعانوا اهل حلوان، ثم انصرفوا عنهم . ذكر خبر موت محمد بن عبد الله بن طاهر وليلة أربع عشرة من ذي القعدة منها، انخسف القمر، فغرق كله أو غاب أكثره، ومات محمد بن عبد الله بن طاهر مع انتهاء خسوفه- فيما ذكر- وكانت علته التي مات فيها قروحا أصابته في حلقه ورأسه فذبحته وذكر أن القروح التي كانت في حلقه ورأسه كانت تدخل فيها الفتائل، فلما مات تنازع الصلاة عليه أخوه عبيد الله وابنه طاهر، فصلى عليه ابنه وكان أوصى بذلك- فيما قيل ثم وقع بين عبيد الله بن عبد الله أخي محمد بن عبد الله وبين حشم محمد بن عبد الله تنازع حتى سلوا السيوف عليه، ورمي بالحجارة، ومالت الغوغاء والعامة وموالي إسحاق بن إبراهيم مع طاهر بن محمد بن عبد الله بن طاهر، ثم صاحوا: طاهر يا منصور، فعبر عبيد الله إلى ناحية الشرقية إلى داره،

أخبار متفرقة

ومال معه القواد لاستخلاف محمد بن عبد الله كان إياه على أعماله ووصيته بذلك، وكتابه بذلك إلى عماله، ثم وجه المعتز الخلع وولاية بغداد إلى عبيد الله، وأمر عبيد الله للذي أتاه بالخلع من قبل المعتز فيما قيل بخمسين ألف درهم. نسخة الكتاب الذي كتبه محمد بن عبد الله إلى عماله باستخلافه أخاه عبيد الله بعده: أما بعد فإن الله عز وجل جعل الموت حتما مقضيا جاريا على الباقين من خلقه، حسبما جرى على الماضين، وحقيق على من أعطي حظا من توفيق الله، أن يكون على استعداد لحلول ما لا بد منه ولا محيص عنه في كل الأحوال. وكتابي هذا وأنا في علة قد اشتد الإشفاق منها، وكاد الإياس يغلب على الرجاء فيها، فإن يبل الله ويدفع فبقدرته وكريم عادته، وإن يحدث بي الحدث الذي هو سبيل الأولين والآخرين، فقد استخلفت عبيد الله بن عبد الله مولى أمير المؤمنين أخي الموثوق باقتفائه أثري، وأخذه بسد ما أنا بسبيله من سلطان أمير المؤمنين إلى أن يأتيه من أمره ما يعمل بحسبه، فاعلم ذلك وائتمر فيما تتولاه بما يرد به كتب عبيد الله وأمره إن شاء الله. وكتب يوم الخميس لثلاث عشرة خلت من ذي القعده سنه ثلاث وخمسين ومائتين. [أخبار متفرقة] وفيها نفى المعتز أبا أحمد بن المتوكل إلى واسط، ثم إلى البصرة، ثم رد إلى بغداد، وأنزل إلى الجانب الشرقي في قصر دينار بن عبد الله. وفيها نفي أيضا علي بن المعتصم إلى واسط ثم رد إلى بغداد فيها. وفيها مات مزاحم بن خاقان بمصر في ذي الحجة. وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن محمد بن سليمان الزينبي. وفيها غزا محمد بن معاذ بالمسلمين في ذي القعدة من ناحية ملطية، فهزموا وأسر محمد بن معاذ

وفيها التقى موسى بن بغا والكوكبي الطالبي على فرسخ من قزوين يوم الاثنين سلخ ذي القعد منها، فهزم موسى الكوكبي، فلحق بالديلم، ودخل موسى بن بغا قزوين. وذكر لي بعض من شهد الوقعة، أن أصحاب الكوكبي من الديلم لما التقوا بموسى وأصحابه صفوا صفوفا، وأقاموا ترستهم في وجوههم يتقون بذلك سهام أصحاب موسى، فلما رأى موسى أن سهام أصحابه لا تصل إليهم مع ما قد فعلوا، أمر بما معه من النفط أن يصب في الأرض التي التقى هو وهم فيها، ثم أمر أصحابه بالاستطراد لهم، وإظهار هزيمة منهم، ففعل ذلك أصحابه، فلما فعلوا ذلك ظن الكوكبي وأصحابه أنهم انهزموا، فتبعوهم فلما علم موسى أن أصحاب الكوكبي قد توسطوا النفط امر بالنار فاشعلت فيه، فأخذت فيه النار، وخرجت من تحت أصحاب الكوكبي، فجعلت تحرقهم، وهرب الآخرون وكان هزيمة القوم عند ذلك ودخول موسى قزوين وفيها لقي خطارمش مساور الشاري بناحية جلولاء في ذي الحجة، فهزمه مساور.

سنه اربع وخمسين ومائتين

ثم دخلت سنة أربع وخمسين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من مقتل بغا الشرابي. ذكر الخبر عن سبب مقتله: ذكر خبر مقتل بغا الشرابي ذكر أن السبب في ذلك كان أنه كان يحض المعتز على المصير إلى بغداد، والمعتز يأبى ذلك عليه ثم إن بغا اشتغل مع صالح بن وصيف في خاصته بعرس جمعة بنت بغا، كان صالح بن وصيف تزوجها للنصف من ذي القعدة، فركب المعتز ليلا، ومعه أحمد بن إسرائيل إلى كرخ سامرا يريد بايكباك ومن كان معه على مثل ما هو عليه من انحرافه عن بغا وكان سبب انحرافه عنه- فيما ذكر- أنهما كانا في شراب لهما يشربانه، فعربد أحدهما على صاحبه، فتهاجرا لذلك، وكان بايكباك بسبب ذلك هاربا من بغا مستخفيا منه، فلما وافى المعتز بمن معه الكرخ اجتمع مع بايكباك أهل الكرخ وأهل الدور، ثم أقبلوا مع المعتز إلى الجوسق بسامرا، وبلغ ذلك بغا، فخرج في غلمانه وهم زهاء خمسمائة ومثلهم من ولده وأصحابه وقواده، وصار إلى نهر نيزك، ثم انتقل إلى مواضع، ثم صار إلى السن، ومعه من العين تسع عشرة بدرة دنانير ومائة بدرة دراهم، أخذها من بيت ماله وبيوت أموال السلطان، فأنفق منها شيئا يسيرا حتى قتل. وذكر أنه لما بلغه أن المعتز قد صار إلى موضع الكرخ مع أحمد بن إسرائيل خرج في خاصة قواده حتى صار إلى تل عكبراء، ثم مضى فصار إلى السن، فشكا أصحابه بعضهم إلى بعض ما هم فيه من العسف، وأنهم

لم يخرجوا معهم بمضارب، ولا ما يتدفئون به من البرد، وأنهم في شتاء وكان بغا في مضرب له صغير على دجلة، كان يكون فيه، فأتاه ساتكين، فقال: أصلح الله الأمير! قد تكلم أهل العسكر، وخاضوا في كذا وأنا رسولهم إليك، فقال: كلهم يقول مثل قولك؟ قال: نعم، وإن شئت فابعث إليهم حتى يقولوا مثل قولي، قال: دعني الليلة حتى أنظر، ويخرج إليكم أمري بالغداة، فلما جن عليه الليل دعا بزورق، فركبه مع خادمين معه، وحمل معه شيئا من المال، ولم يحمل معه سلاحا ولا سكينا ولا عمودا، ولا يعلم أهل عسكره بذلك من أمره، والمعتز في غيبة بغا لا ينام إلا في ثيابه، وعليه السلاح، ولا يشرب نبيذا، وجميع جواريه على رجل فصار بغا إلى الجسر في الثلث الأول من الليل، فلما قارب الزورق الجسر بعث الموكلون به من في الزورق، فصاح بالغلام، فرجع إليهم وخرج بغا في البستان الخاقاني، فلحقه عدة منهم، فوقف لهم وقال: أنا بغا ولحقه وليد المغربي، فقال له: ما لك جعلت فداك! فقال: إما أن تذهب بي إلى منزل صالح بن وصيف، وإما أن تصيروا معي إلى منزلي، حتى أحسن إليكم فوكل به وليد المغربي، ومر يركض إلى الجوسق، فاستأذن على المعتز، فأذن له، فقال: يا سيدي هذا بغا قد أخذته ووكلت به، قال: ويلك! جئني برأسه، فرجع وليد، فقال للموكلين به: تنحوا عنه حتى أبلغه الرسالة، فتنحوا عنه، فضربه ضربة على جبهته ورأسه، ثم تناهى على يديه فقطعهما، ثم ضربه حتى صرعه وذبحه، وحمل رأسه في بركة قبائه، وأتى به المعتز، فوهب له عشرة آلاف دينار، وخلع عليه خلعة، ونصب رأسه بسامرا، ثم ببغداد، ووثبت المغاربة على جثته، فأحرقوه بالنار، وبعث المعتز من ساعته إلى أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد وأبي نوح، فأحضرهم وأخبرهم، وتتبع عبيد الله بن طاهر بنيه ببغداد، وكانوا صاروا إليها هرابا مع قوم يثقون بهم، فاستتر ما عندهم

أخبار متفرقة

فذكر أنه حبس في قصر الذهب من ولده وأصحابه، خمسة عشر إنسانا، وفي المطبق عشرة. وقيل: إن بغا لما انحدر إلى سامرا ليلة أخذ شاور أصحابه في الانحدار إليها مكتتما، فيصير إلى منزل صالح بن وصيف، وإذا قرب العيد دخل أهل العسكر، وخرج هو وصالح بن وصيف وأصحابه، فوثبوا بالمغاربه، فوثبوا بالمعتز. [أخبار متفرقة] وفيها عقد صالح بن وصيف لديوداد على ديار مضر وقنسرين والعواصم فوثبوا بالمعتز في ربيع الأول منها. وفيها عقد بايكباك لأحمد بن طولون على مصر. وفيها أوقع مفلح وباجور بأهل قم، فقتلا منهم مقتلة عظيمة، وذلك في شهر ربيع الأول منها. وفيها مات علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا يوم الاثنين لأربع بقين من جمادى الآخرة، وصلى عليه أبو أحمد بن المتوكل في الشارع المنسوب إلى أبي أحمد، ودفن في داره. وفيها في جمادى الآخرة وافى الأهواز دلف بن عبد العزيز بن أبي دلف بتوجيه والده عبد العزيز إياه إليها وجندي سابور وتستر، فجباها مائتي ألف دينار ثم انصرف. وفي شهر رمضان منها شخص نوشري إلى مساور الشاري فلقيه وهزمه، وقتل من أصحابه جماعة كثيرة. وحج بالناس في هذه السنة علي بن الحسين بن إسماعيل بن العباس بن محمد.

سنه خمس وخمسين ومائتين

ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائتين ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث فمن ذلك ما كان من دخول مفلح طبرستان ووقعة كانت بينه وبين الحسن بن زيد الطالبي، هزم فيها مفلح الحسن بن زيد، فلحق بالديلم، ثم دخل مفلح آمل، وأحرق منازل الحسن بن زيد، ثم توجه نحو الديلم في طلب الحسن بن زيد . ذكر خبر استيلاء يعقوب بن الليث على كرمان وفيها كانت وقعة بين يعقوب بن الليث وطوق بن المغلس خارج كرمان أسر فيها يعقوب طوقا، وكان السبب في ذلك- فيما ذكر- أن علي بن الحسين بن قريش بن شبل كتب إلى السلطان يخطب كرمان- وكان قبل من عمال آل طاهر- وكتب يذكر ضعف آل طاهر وقلة ضبطهم، بما إليهم من البلاد، وأن يعقوب بن الليث قد غلبهم على سجستان، وتباطأ على السلطان بتوجيه خراج فارس، فكتب السلطان إليه بولاية كرمان، وكتب إلى يعقوب بولايتها يلتمس بذلك إغراء كل واحد منهما بصاحبه ليسقط مؤنة الهالك منهما عنه ويتفرد بمؤونه الآخر، إذ كان كل واحد منهما عنده حربا له وفي غير طاعته، فلما فعل ذلك بهما زحف يعقوب بن الليث من سجستان يريد كرمان، ووجه علي بن الحسين طوق بن المغلس وقد بلغه خبر يعقوب وقصده كرمان في جيش عظيم من فارس، فصار طوق بكرمان، وسبق يعقوب إليها فدخلها، وأقبل يعقوب من سجستان، فصار من كرمان على مرحلة. فحدثني من ذكر أنه كان شاهدا أمرهما، أن يعقوب بقي مقيما في

الموضع الذي أقام به من كرمان على مرحلة لا يرتحل عنه شهرا أو شهرين، يتجسس أخبار طوق، ويسأل عن أمره كل من مر به خارجا من كرمان إلى ناحيته، ولا يدع أحدا يجوز عسكره من ناحيته إلى كرمان، ولا يزحف طوق إليه ولا هو إلى طوق فلما طال ذلك من أمرهما كذلك أظهر يعقوب الارتحال عن معسكره إلى ناحية سجستان، فارتحل عنه مرحلة. وبلغ طوقا ارتحاله، فظن أنه قد بدا له في حربه، وترك عليه كرمان وعلى علي بن الحسين، فوضع آلة الحرب، وقعد للشرب، ودعا بالملاهي، ويعقوب في كل ذلك لا يغفل عن البحث عن أخباره فاتصل به ووضع طوق آلة الحرب وإقباله على الشراب واللهو بارتحاله، فكر راجعا، فطوى المرحلتين إليه في يوم واحد، فلم يشعر طوق وهو في لهوه وشربه في آخر نهاره إلا بغبرة قد ارتفعت من خارج المدينة التي هو فيها من كرمان، فقال لأهل القرية: ما هذه الغبرة؟ فقيل له: غبرة مواشي أهل القرية منصرفة إلى أهلها، ثم لم يكن الا كلا ولا، حتى وفاه يعقوب في أصحابه، فأحاط به وبأصحابه، فذهب أصحاب طوق لما أحيط بهم يريدون المدافعة عن أنفسهم، فقال يعقوب لأصحابه: أفرجوا للقوم، فأفرجوا لهم، فمروا هاربين على وجوههم، وخلوا كل شيء لهم مما كان معهم في معسكرهم، وأسر يعقوب طوقا. فحدثني ابن حماد البربري أن علي بن الحسين لما وجه طوقا حمله صناديق في بعضها اطواقه وأسورة ليطوق ويسور من أبلى معه من أصحابه، وفي بعضها أموال ليجيز من استحق الجائزة منهم، وفي بعضها قيود وأغلال ليقيد بها من أخذ من أصحاب يعقوب، فلما أسر يعقوب طوقا ورؤساء الجيش الذين كانوا معه أمر بحيازة كل ما كان مع طوق وأصحابه من المال والأثاث والكراع والسلاح، فحيز ذلك كله، وجمع إليه، فلما أتي بالصناديق أتي بها مقفله،

ذكر خبر دخول يعقوب بن الليث فارس

فأمر ببعضها أن يفتح، ففتح فإذا فيه القيود والأغلال، فقال لطوق: يا طوق، ما هذه القيود والأغلال؟ قال: حملنيها علي بن الحسين لأقيد بها الأسرى وأغلهم بها، فقال: يا فلان، انظر أكبرها وأثقلها فاجعله في رجلي طوق وغله بغل ثم جعل يفعل مثل ذلك بمن أسر من أصحاب طوق قال: ثم أمر بصناديق أخر ففتحت، فإذا فيها أطوقة وأسورة، فقال: يا طوق. ما هذه؟ قال: حملنيها علي لأطوق بها وأسور أهل البلاء من أصحابي، قال: يا فلان، خذ من ذلك طوق كذا وسوار كذا، فطوق فلانا وسوره، ثم جعل يفعل ذلك بأصحاب نفسه حتى طوقهم وسورهم، ثم جعل يفعل كذلك بالصناديق قال: ولما أمر يعقوب بمديد طوق ليضعها في الغل، إذا على ذراعه عصابة، فقال له: ما هذا يا طوق؟ قال: أصلح الله الأمير! إني وجدت حرارة ففضدتها، فدعا بعض من معه فامر بمد خفه من رجله ففعل ذلك، فلما نزعه من رجله تناثر من خفه كسر خبز يابسة فقال: يا طوق هذا خفي لم أنزعه من رجلي منذ شهرين، وخبزي في خفي منه آكل لا أطأ فراشا، وأنت جالس في الشرب والملاهي! بهذا التدبير أردت حربي وقتالي! فلما فرغ يعقوب بن الليث من أمر طوق دخل كرمان وحازها وصارت مع سجستان من عمله. ذكر خبر دخول يعقوب بن الليث فارس وفيها دخل يعقوب بن الليث فارس وأسر علي بن الحسين بن قريش. ذكر الخبر عن سبب أسره إياه وكيف وصل إليه: حدثني ابن حماد البربري، قال: كنت يومئذ بفارس عند علي بن الحسين بن قريش، فورد عليه خبر وقعة يعقوب بن الليث بصاحبه طوق ابن المغلس ودخول يعقوب كرمان واستيلائه عليها، ورجع إليه الفل، فأيقن بإقبال يعقوب إلى فارس، وعلي يومئذ بشيراز من أرض فارس، فضم اليه

جيشه ورجالة الفل من عند طوق وغيرهم، وأعطاهم السلاح، ثم برز من شيراز، فصار إلى كر خارج شيراز بين آخر طرفه عرضا مما يلي أرض شيراز، وبين عرض جبل بها من الفضاء قدر ممر رجل أو دابة، لا يمكن من ضيقه أن يمر فيه أكثر من رجل واحد فأقام في ذلك الموضع، وضرب عسكره على شط ذلك الكز مما يلي شيراز، وأخرج معه المتسوقة والتجار من مدينة شيراز إلى معسكره، وقال: إن جاء يعقوب لم يجد موضعا يجوز الفلاة إلينا، لأنه لا طريق له إلا الفضاء الذي بين الجبل والكر، وإنما هو قدر ممر رجل، إذا أقام عليه رجل واحد منع من يريد أن يجوزه، وإن لم يقدر أن يجوز إلينا بقي في البر بحيث لا طعام له ولا لأصحابه ولا علف لدوابهم. قال ابن حماد: فأقبل يعقوب حتى قرب من الكر، فأمر أصحابه بالنزول أول يوم على نحو من ميل من الكر مما يلي كرمان، ثم أقبل هو وحده وبيده رمح عشاري، يقول ابن حماد: كأني أنظر إليه حين أقبل وحده على دابته، ما معه إلا رجل واحد، فنظر إلى الكر والجبل والطريق، وقرب من الكر، وتأمل عسكر علي بن الحسين، فجعل أصحاب علي يشتمونه، ويقولون: لنردنك إلى شعب المراجل والقماقم، يا صفار- وهو ساكت لا يرد عليهم شيئا- قال: فلما تأمل ما أراد من ذلك ورآه، انصرف راجعا إلى أصحابه قال: فلما كان من الغد عند الظهر أقبل بأصحابه ورجاله حتى صار على شط كر مما يلي بر كرمان، فأمر أصحابه فنزلوا عن دوابهم، وحطوا أثقالهم قال: ثم فتح صندوقا كان معه. قال ابن حماد: كأني أنظر إليهم وقد أخرجوا كلبا ذئبيا، ثم ركبوا دوابهم أعراء، وأخذوا رماحهم بأيديهم قال: وقبل ذلك كان قد عبأ علي ابن الحسين أصحابه، فأقامهم صفوفا على الممر الذي بين الجبل والكر، وهم يرون أنه لا سبيل ليعقوب، ولا طريق له يمكنه أن يجوزه غيره قال: ثم

جاءوا بالكلب، فرموا به في الكر، ونحن وأصحاب علي ينظرون إليهم يضحكون منهم ومنه قال: فلما رموا بالكلب فيه، جعل الكلب يسبح في الماء إلى جانب عسكر علي بن الحسين، وأقحم أصحاب يعقوب دوابهم خلف الكلب، وبأيديهم رماحهم، يسيرون في أثر الكلب فلما راى على ابن الحسين أن يعقوب قد قطع عامة الكر إليه وإلى أصحابه، انتقض عليه تدبيره، وتحير في أمره، ولم يلبث أصحاب يعقوب إلا أيسر ذلك حتى خرجوا من الكر من وراء أصحاب علي بن الحسين، فلم يكن بأسرع من أن خرج أوائلهم منه حتى هرب أصحاب علي يطلبون مدينة شيراز، لأنهم كانوا يصيرون إذا خرج أصحاب يعقوب من الكر بين جيش يعقوب وبين الكر، ولا يجدون ملجأ إن هزموا وانهزم علي بن الحسين بانهزام أصحابه، وقد خرج أصحاب يعقوب من الكر، فكبت به دابته، فسقط إلى الأرض ولحقه بعض السجزية فهم عليه بسيفه ليضربه، فبلغ إليه خادم له، فقال: الأمير. فنزل إليه السجزي، فوضع في عنقه عمامته، ثم جره إلى يعقوب، فلما أتي به أمر بتقييده، وأمر بما كان في عسكره من آلة الحرب من السلاح والكراع وغير ذلك، فجمع إليه، ثم أقام بموضعه حتى أمسى، وهجم عليه الليل، ثم رحل من موضعه ودخل مدينة شيراز ليلا وأصحابه يضربون بالطبول، فلم يتحرك في المدينة أحد، فلما أصبح أنهب أصحابه دار علي بن الحسين ودور أصحابه، ثم نظر إلى ما اجتمع في بيت المال من مال الخراج والضياع، فاحتمله ووضع الخراج، فجباه، ثم شخص منها متوجها إلى سجستان، وحمل معه ابن قريش ومن أسر معه. وفيها وجه يعقوب بن الليث إلى المعتز بدواب وبزاة ومسك هدية. وفيها ولي سليمان بن عبد الله بن طاهر شرطة بغداد والسواد، وذلك لست خلون من شهر ربيع الآخر، وكانت موافاته سامرا من خراسان- فيما ذكر-

ذكر فعل صالح بن وصيف مع احمد بن إسرائيل ورفيقيه

يوم الخميس لثمان خلون من شهر ربيع الأول، وصار إلى الإيتاخية، ثم دخل على المعتز يوم السبت، فخلع عليه وانصرف. وفيها كانت وقعة بين مساور الشاري ويارجوخ، فهزمه الشاري وانصرف إلى سامرا مفلولا. ومات المعلى بن أيوب في شهر ربيع الآخر منها. ذكر فعل صالح بن وصيف مع احمد بن إسرائيل ورفيقيه وفيها أخذ صالح بن وصيف أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد وأبا نوح عيسى بن إبراهيم فقيدهم، وطالبهم بأموال، وكان سبب ذلك- فيما ذكر- أن هؤلاء الكتاب الذين ذكرت كانوا اجتمعوا يوم الأربعاء لليلتين خلتا من جمادى الآخرة من هذه السنة على شراب لهم يشربونه، فلما كان يوم الخميس غد ذلك اليوم، ركب ابن إسرائيل في جمع عظيم إلى دار السلطان التي يقعد فيها، وركب ابن مخلد إلى دار قبيحة أم المعتز- وهو كاتبها- وحضر أبو نوح الدار، والمعتز نائم، فانتبه قريبا من انتصاف النهار، فأذن لهم، فحمل صالح بن وصيف على أحمد بن إسرائيل، وقال للمعتز: يا امير المؤمنين، ليس للأتراك عطاء ولا في بيت المال مال، وقد ذهب ابن إسرائيل وأصحابه بأموال الدنيا، فقال له احمد: يا عاصي يا بن العاصي! ثم لم يزالا يتراجعان الكلام حتى سقط صالح مغشيا عليه، فرش على وجهه الماء وبلغ ذلك أصحابه وهم على الباب، فصاحوا صيحة واحدة، واخترطوا سيوفهم، ودخلوا على المعتز مصلتين، فلما رأى ذلك المعتز دخل وتركهم، وأخذ صالح بن وصيف ابن إسرائيل وابن مخلد وعيسى بن إبراهيم فقيدهم، وأثقلهم بالحديد، وحملهم إلى داره، فقال المعتز لصالح قبل أن يحملهم: هب لي أحمد، فإنه كاتبي، وقد رباني، فلم يفعل ذلك صالح، ثم ضرب ابن إسرائيل، حتى كسرت أسنانه، وبطح ابن مخلد فضرب مائة سوط، وكان عيسى بن إبراهيم محتجما فلم يزل يصفع حتى جرت الدماء من محاجمه، ثم لم يتركوا حتى أخذت رقاعهم بمال جليل قسط عليهم

وتوجه قوم من الأتراك إلى إسكاف ليأتوا بجعفر بن محمود، فقال المعتز: أما جعفر فلا أرب لي فيه ولا يعمل لي فمضوا، فبعث المعتز إلى أبي صالح عبد الله بن محمد بن يزداد المروزي، فحمل ليصيره وزيرا، وبعث الى إسحاق ابن منصور، فأشخص وبعثت قبيحة إلى صالح بن وصيف في ابن إسرائيل: إما حملته إلى المعتز وإما ركبت إليك فيه. وقد ذكر أن السبب في ذلك كان أن الأتراك طلبوا أرزاقهم، وأنهم جعلوا ذلك سببا لما كان من أمرهم، وأن الرسل لم تزل تختلف بينهم وبين هؤلاء الكتاب، إلى أن قال أبو نوح لصالح بن وصيف: هذا تدبيرك على الخليفة، فغشي على صالح حينئذ مما داخله من الحرد والغيظ حتى رشوا على وجهه الماء، فلما أفاق جرى بين يدي المعتز كلام كثير، ثم خرجوا إلى الصلاة، وخلا صالح بالمعتز، ثم دعي بالقوم فلم يلبثوا إلا قليلا، حتى أخرجوا إلى قبة في الصحن، ثم دعي بأبي نوح وابن مخلد فأخذت سيوفهما وقلانسهما ومزقت ثيابهما، وحلقهما ابن إسرائيل فألقى نفسه عليهما، فثلث به، ثم أخرجوا إلى الدهليز وحملوا على الدواب والبغال، وارتدف خلف كل واحد منهم تركي، وبعث بهم إلى دار صالح على طريق الحير، وانصرف صالح بعد ساعة، وتفرق الأتراك، فانصرفوا فلما كان بعد ذلك بأيام جعل في رجل كل واحد منهم ثلاثون رطلا، وفي عنق كل واحد منهم عشرون رطلا من حديد، وطولبوا بالأموال، فلم يجب واحد منهم إلى شيء، ولم ينقطع أمرهم إلى أن دخل رجب، فوجهوا في قبض ضياعهم ودورهم وضياع أسبابهم وأموالهم، وسموا الكتاب الخونة، فقدم جعفر بن محمود يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة فولي الأمر والنهي. ولليلتين خلتا من رجب ظهر بالكوفة عيسى بن جعفر وعلي بن زيد الحسنيان، فقتلا بها عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى

ذكر الخبر عن خلع المعتز ثم موته

ذكر الخبر عن خلع المعتز ثم موته ولثلاث بقين من رجب منها خلع المعتز ولليلتين خلتا من شعبان أظهر موته، وكان سبب خلعه- فيما ذكر- ان الكتاب الذى ذكرنا أمرهم، لما فعل بهم الأتراك ما فعلوا، ولم يقروا لهم بشيء، صاروا إلى المعتز يطلبون أرزاقهم، وقالوا له: أعطنا أرزاقنا حتى نقتل لك صالح بن وصيف، فأرسل المعتز الى أمه يسألها ان تعطيه ما لا ليعطيهم، فأرسلت إليه: ما عندي شيء، فلما رأى الأتراك ومن بسامرا من الجند أن قد امتنع الكتاب من أن يعطوهم شيئا، ولم يجدوا في بيت المال شيئا، والمعتز وأمه قد امتنعا من أن يسمحا لهم بشيء، صارت كلمة الأتراك والفراغنة والمغاربة واحدة، فاجتمعوا على خلع المعتز، فصاروا إليه لثلاث بقين من رجب، فذكر بعض أسباب السلطان أنه كان في اليوم الذي صاروا إليه عند نحرير الخادم في دار المعتز، فلم يرعه إلا صياح القوم من أهل الكرخ والدور، وإذا صالح بن وصيف وبايكباك ومحمد بن بغا المعروف بأبي نصر، قد دخلوا في السلاح، فجلسوا على باب المنزل الذي ينزله المعتز، ثم بعثوا إليه: اخرج إلينا، فبعث إليهم: إني أخذت الدواء أمس، وقد أجفلني اثنتي عشرة مرة، ولا أقدر على الكلام من الضعف، فإن كان أمرا لا بد منه، فليدخل إلي بعضكم فليعلمني وهو يرى أن أمره واقف على حاله فدخل إليه جماعة من أهل الكرخ والدور من خلفاء القواد، فجروا برجله إلى باب الحجرة، قال: وأحسبهم كانوا قد تناولوه بالضرب بالدبابيس، فخرج وقميصه مخرق في مواضع، وآثار الدم على منكبه، فأقاموه في الشمس في الدار في وقت شديد الحر قال: فجعلت أنظر إليه يرفع قدمه ساعة بعد ساعة من حرارة الموضع الذي قد أقيم فيه قال: فرأيت بعضهم يلطمه وهو يتقي بيده، وجعلوا يقولون: اخلعها، فأدخلوه حجرة على باب حجرة المعتز كان موسى بن بغا يسكنها حين كان حاضرا، ثم بعثوا

إلى ابن أبي الشوارب، فأحضروه مع جماعة من أصحابه، فقال له صالح وأصحابه: أكتب عليه كتاب خلع، فقال: لا أحسنه، وكان معه رجل أصبهاني، فقال: أنا أكتب، فكتب وشهدوا عليه وخرجوا وقال ابن أبي الشوارب لصالح: قد شهدوا أن له ولأخته وابنه وأمه الأمان، فقال صالح بكفه: أي نعم، ووكلوا بذلك المجلس وبامه نساء يحفظنها. فذكر أن قبيحة كانت اتخذت في الدار التي كانت فيها سربا، وأنها احتالت هي وقرب وأخت المعتز، فخرجوا من السرب، وكانوا أخذوا عليها الطرق، ومنعوا الناس أن يجوزوا من يوم فعلوا بالمعتز ما فعلوا، وذلك يوم الاثنين الى يوم الأربعاء ليله بقيت من رجب. فذكر أنه لما خلع دفع إلى من يعذبه ومنع الطعام والشراب ثلاثة أيام، فطلب حسوة من ماء البئر، فمنعوه ثم جصصوا سردابا بالجص الثخين، ثم أدخلوه فيه، وأطبقوا عليه بابه، فأصبح ميتا. وكانت وفاته لليلتين خلتا من شعبان من هذه السنة فلما مات أشهد على موته بنو هاشم والقواد، وأنه صحيح لا أثر فيه، فدفن مع المنتصر في ناحية قصر الصوامع، فكانت خلافته من يوم بويع له بسامرا إلى أن خلع أربع سنين وستة أشهر وثلاثة وعشرين يوما وكان عمره كله أربعا وعشرين سنة. وكان أبيض أسود الشعر كثيفه، حسن العينين والوجه، ضيق الجبين، أحمر الوجنتين، حسن الجسم، طويلا. وكان مولده بسامرا

خلافه ابن الواثق المهتدى بالله

خلافة ابن الواثق المهتدي بالله وفي يوم الأربعاء لليلة بقيت من رجب من هذه السنة، بويع محمد بن الواثق، فسمي بالمهتدي بالله، وكان يكنى أبا عبد الله، وأمه رومية، وكانت تسمى قرب. وذكر عن بعض من كان شاهدا أمرهم، أن محمد بن الواثق لم يقبل بيعة أحد، حتى أتي بالمعتز فخلع نفسه، وأخبر عن عجزه عن القيام بما أسند إليه، ورغبته في تسليمها إلى محمد بن الواثق، وأن المعتز مد يده فبايع الواثق، فسموه بالمهتدي، ثم تنحى وبايع خاصة الموالي. وكانت نسخة الرقعة بخلع المعتز نفسه: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أشهد عليه الشهود المسمون في هذا الكتاب، شهدوا ان أبا عبد الله بن أمير المؤمنين المتوكل على الله أقر عندهم، وأشهدهم على نفسه في صحة من عقله، وجواز من أمره، طائعا غير مكره، أنه نظر فيما كان تقلده من أمر الخلافة والقيام بأمور المسلمين، فرأى أنه لا يصلح لذلك، ولا يكمل له، وأنه عاجز عن القيام بما يجب عليه منها، ضعيف عن ذلك، فأخرج نفسه، وتبرأ منها، وخلعها من رقبته، وخلع نفسه منها، وبرأ كل من كانت له في عنقه بيعة من جميع أوليائه وسائر الناس مما كان له في رقابهم من البيعة والعهود والمواثيق والإيمان بالطلاق والعتاق والصدقة والحج وسائر الأيمان، وحللهم من جميع ذلك وجعلهم في سعة منه في الدنيا والآخرة، بعد أن تبين له أن الصلاح له وللمسلمين في خروجه عن الخلافة والتبرؤ منها، وأشهد على نفسه بجميع ما سمي، ووصف في هذا الكتاب جميع الشهود المسمين فيه، وجميع من حضر، بعد أن قرئ عليه حرفا حرفا، فأقر بفهمه ومعرفته جميع ما فيه طائعا غير مكره، وذلك يوم الاثنين لثلاث بقين من رجب سنة

قيام الشغب ببغداد ووثوب العامه بسليمان بن عبد الله

خمس وخمسين ومائتين. فوقع المعتز في ذلك: أقر أبو عبد الله بجميع ما في هذا الكتاب، وكتب بخطه. وكتب الشهود شهاداتهم: شهد الحسن بن محمد ومحمد بن يحيى واحمد ابن جناب ويحيى بن زكرياء بن أبي يعقوب الأصبهاني وعبد الله بن محمد العامري وأحمد بن الفضل بن يحيى وحماد بن إسحاق وعبد الله بن محمد وابراهيم ابن محمد، وذلك يوم الاثنين لثلاث بقين من رجب سنه خمس وخمسين ومائتين. قيام الشغب ببغداد ووثوب العامه بسليمان بن عبد الله وفي سلخ رجب من هذه السنة، كان ببغداد شغب ووثوب العامة بسليمان بن عبد الله بن طاهر. ذكر الخبر عن سبب ذلك وإلى ما آل الأمر إليه: وكان السبب في ذلك، أن الكتاب من محمد بن الواثق ورد يوم الخميس سلخ رجب على سليمان ببغداد ببيعة الناس له، وبها أبو أحمد بن المتوكل، وكان أخوه المعتز سيره إلى البصرة حين سخط على أخيه من أمه المؤيد، فلما وقعت العصبية بالبصرة نقله إلى بغداد، فكان مقيما بها، فبعث سليمان بن عبد الله بن طاهر وإليه الشرطة يومئذ ببغداد، فأحضره داره، وسمع من ببغداد من الجند والغوغاء بأمر المعتز وابن الواثق، فاجتمعوا إلى باب سليمان، وضجوا هنالك، ثم انصرفوا على أنه قيل لهم: لم يرد علينا من الخبر ما نعلم به ما عمل به القوم، فغدوا يوم الجمعة على ذلك من الصياح والقول الذي كان قيل لهم يوم الخميس، وصلى الناس في المسجدين، ودعي فيهما للمعتز، فلما كان يوم السبت غدا القوم، فهجموا على دار سليمان، وهتفوا باسم أبي أحمد، ودعوا إلى بيعته، وخلصوا إلى سليمان في داره، وسألوه أن يريهم أبا احمد

ذكر خبر ظهور قبيحه أم المعتز

ابن المتوكل، فأظهره لهم، ووعدهم المصير إلى محبتهم إن تأخر عنهم ما يحبون، فانصرفوا عنه بعد أن أكدوا عليه في حفظه. وقدم يارجوخ فنزل البردان ومعه ثلاثون ألف دينار لإعطاء الجند ممن بمدينة السلام، ثم صار إلى الشماسية، ثم غدا ليدخل بغداد، فبلغ الناس الخبر، فضجوا وتبادروا بالخروج إليه، وبلغ يارجوخ الخبر، فرجع إلى البردان، فأقام بها، وكتب إلى السلطان، واختلفت الكتب حتى وجه إلى أهل بغداد بمال رضوا به، ووقعت بيعة الخاصة ببغداد للمهتدي يوم الخميس لسبع ليال خلون من شعبان، ودعي له يوم الجمعة لثمان خلون من شعبان بعد أن كانت ببغداد فتنة، قتل فيها وغرق في دجلة قوم، وجرح آخرون لأن سليمان كان يحفظ داره قوم من الطبرية بالسلاح، فحاربهم أهل بغداد في شارع دجلة وعلى الجسر، ثم استقام الأمر بعد ذلك وسكنوا. ذكر خبر ظهور قبيحه أم المعتز وفي شهر رمضان من هذه السنة ظهرت قبيحة للأتراك، ودلتهم على الأموال التي عندها والذخائر والجوهر، وذلك أنها- فيما ذكر- قد قدرت الفتك بصالح، وواطأت على ذلك النفر من الكتاب الذين أوقع بهم صالح، فلما أوقع بهم صالح، وعلمت أنهم لم يطووا عن صالح شيئا من الخبر بسبب ما نالهم من العذاب، أيقنت بالهلاك، فعملت في التخلص، فأخرجت ما في الخزائن داخل الجوسق من الأموال والجواهر وفاخر المتاع، فأودعت ذلك كله مع ما كانت أودعت قبل ذلك مما هو في هذا المعنى، ثم لم تأمن المعاجلة إلى ما نزل بها وبابنها، فاحتالت للهرب وجها، فحفرت سربا من داخل القصر من حجرة لها خاصة ينفذ إلى موضع يفوت التفتيش، فلما علمت

بالحادثة بادرت من غير تلبث ولا تلوم، حتى صارت في ذلك السرب، ثم خرجت من القصر، فلما فرغ الذين شغبوا في أمر ابنها مما أرادوا إحكامه، فصاروا إلى طلبها غير شاكين في القدرة عليها، وجدوا القصر منها خاليا، وأمرها عنهم مستترا، لا يقفون منه على شيء، ولا ما يؤديهم إلى معرفته، حتى وقفوا على السرب، فعلموا حينئذ أنهم منه أوتوا فسلكوه، وانتهوا إلى موضع لا يوقف منه على خبر ولا أثر، فأيقنوا بالفوت، ثم رجموا الظنون، فلم يجدوا لها معقلا أعز ولا أمنع إن هي لجأت إليه من حبيب حرة موسى بن بغا التي تزوجها من جواري المتوكل، فأحالوا على تلك الناحية، وكرهوا التعرض لشيء من أسبابها، ووضعوا العيون والأرصاد عليها، وأظهروا التوعد لمن وقفوا على معرفته بأمرها، ثم لم يظهرهم عليها، فلم يزل الأمر منطويا عنهم، حتى ظهرت في شهر رمضان، وصارت إلى صالح بن وصيف، ووسطت بينها وبين صالح العطارة، وكانت تثق بها، وكانت لها أموال ببغداد، فكتبت في حملها، فاستخرج وحمل منها إلى سامرا فذكر أنه وافى سامرا يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان من هذه السنه قدر خمسمائة ألف دينار، ووقعوا لها على خزائن ببغداد فوجه في حملها، فاستخرج وحمل منها، فحمل إلى السلطان من ذلك متاع كثير، وأحيل من ببغداد من الجند والشاكرية المرتزقة بمال عظيم عليه ولم تزل تباع تلك الخزائن متصلا ببغداد وسامرا عده شهور، حتى نفدت. ولم تزل قبيحة مقيمة إلى أن شخص الناس إلى مكة في هذه السنة، فسيرت إليها مع رجاء الربابى ووحش مولى المهتدي، فذكر عمن سمعها في طريقها وهي تدعو الله على صالح بن وصيف بصوت عال وتقول: اللهم اخز صالح ابن وصيف، كما هتك ستري، وقتل ولدي، وبدد شملي، وأخذ مالي، وغربني عن بلدي، وركب الفاحشة مني! فانصرف الناس عن الموسم واحتبست بمكة. وذكر أن الأتراك لما تحركوا، وثاروا بالمعتز أرسلوا إليه يطلبون منه خمسين

ألف دينار، على أن يقتلوا صالحا، ويستوي لهم الأمر فأرسل إلى أمه يعلمها اضطرابهم عليه، وأنه خائف على نفسه منهم، فقالت: ما عندي مال، وقد وردت لنا سفاتج، فلينتظروا حتى نقبض ونعطيهم، فلما قتل المعتز، أرسل صالح إلى رجل جوهري قال الرجل: فدخلت إليه وعنده احمد ابن خاقان، فقال: ويحك! هو ذا ترى ما أنا فيه! وكان صالح قد أخافوه وطالبوه بالمال، ولم يكن عنده شيء، فقال لي: قد بلغني أن لقبيحة خزانة في موضع يرشدك إليه هذا الرجل- وإذا رجل بين يديه- فامض ومعك احمد ابن خاقان، فإن أصبتم شيئا فاثبته عندك، وسلمه إلى أحمد بن خاقان، وصر إلي معه قال: فمضيت إلى الصفوف بحضرة المسجد الجامع، فجاء بنا ذلك الرجل إلى دار صغيرة معمورة نظيفة، فدخلنا ففتشنا كل موضع فيها فلم نجد شيئا، وجعل ذلك يغلظ على أحمد بن خاقان، وهو يتهدد الرجل ويتوعده، ويغلظ له، وأخذ الرجل فاسا ينقر به الحيطان يطلب موضعا قد ستر فيه المال، فلم يزل كذلك حتى وقع الفأس على مكان في الحائط استدل بصوته على أن فيه شيئا، فهدمه وإذا من ورائه باب، ففتحناه ودخلنا إليه، فأدانا إلى سرب، وصرنا إلى دار تحت الدار التي دخلناها على بنائها وقسمتها، فوجدنا من المال على رفوف في أسفاط زهاء ألف ألف دينار، فأخذ أحمد منها ومن كان معه قدر ثلاثمائة ألف دينار، ووجدنا ثلاثة أسفاط: سفطا فيه مقدار مكوك زمرد إلا أنه من الزمرد الذي لم أر للمتوكل مثله ولا لغيره، وسفطا دونه فيه نصف مكوك حب كبار، لم أر والله للمتوكل ولا لغيره مثله، وسفطا دونه فيه مقدار كيلجة ياقوت أحمر لم أر مثله، ولا ظننت أن مثله يكون في الدنيا، فقومت الجميع على البيع، فكانت قيمته ألفي ألف دينار، فحملناه كله إلى صالح، فلما رآه جعل لا يصدق ولا يوقن حتى أحضر بحضرته ووقف عليه، فقال عند ذلك: فعل الله بها وفعل، عرضت ابنها للقتل في مقدار خمسين ألف دينار، وعندها مثل هذا في خزانة واحدة من خزائنها!

ذكر الخبر عن قتل احمد بن إسرائيل وابى نوح

وكانت أم محمد بن الواثق توفيت قبل أن يبايع، وكانت تحت المستعين، فلما قتل المستعين صيرها المعتز في قصر الرصافة الذي فيه الحرم، فلما ولي الخلافة المهتدي قال يوما لجماعة من الموالي: أما أنا فليس لي أم أحتاج لها إلى غلة عشرة آلاف ألف في كل سنة لجواريها وخدمها والمتصلين بها، وما أريد لنفسي وولدي إلا القوت، وما أريد فضلا إلا لإخوتي فإن الضيقه قد مستهم . ذكر الخبر عن قتل احمد بن إسرائيل وابى نوح ولثلاث بقين من رمضان من هذه السنة قتل أحمد بن إسرائيل وأبو نوح. ذكر الخبر عن صفة القتلة التي قتلا بها: فأما السبب الذي أداهما إلى القتل، فقد ذكرناه قبل، وأما القتلة التي قتلا بها، فإنه ذكر أن صالح بن وصيف لما استصفى أموالهما ومال الحسن ابن مخلد، وعذبهم بالضرب والقيد وقرب كوانين الفحم في شدة الحر منهم، ومنعهم كل راحة، وهم في يده على حالهم، ونسبهم إلى أمور عظام من الخيانة والقصد لذل السلطان والحرص على دوام الفتن والسعي في شق عصا المسلمين، فلم يعارضه المهتدي في شيء من أمورهم، ولم يوافقه على شيء أنكره من فعله بهم ثم وجه إليهم الحسن بن سليمان الدوشابي في شهر رمضان، ليتولى استخراج شيء إن كان زوي عنه من أموالهم. قال: فأخرج إلي أحمد بن إسرائيل، فقلت له: يا فاجر، تظن أن الله يمهلك، وأن أمير المؤمنين لا يستحل قتلك، وأنت السبب في الفتن، والشريك في الدماء، مع عظيم الخيانة وفساد النية والطوية! إن في أقل من هذا ما تستوجب به المثلة كما استوجب من كان قبلك، والقتل في العاجلة والعذاب

والخزي في الآجلة، إن لم تسعد من الله بعفو وإمهال، ومن إمامك بصفح واحتمال، فاستر نفسك من نزول ما تستحق بالصدق عما عندك من المال، فإنك إن تفعل ويوقف على صدقك تسلم بنفسك قال: فذكر أنه لا شيء عنده، ولا ترك له إلى هذا الوقت مال ولا عقدة قال: فدعوت بالمقارع وأمرت أن يقام في الشمس، وأرعدت وأبرقت، وإن كان ليفوتني الظفر منه بشيء من صرامة ورجلة حتى أومى إلى قدر تسعة عشر ألف دينار، فأخذت رقعته بها قال: ثم أحضرت أبا نوح عيسى بن إبراهيم فقلت له مثل الذي قلت لأحمد أو نحوه، وزدت في ذلك بأن قلت: وأنت مع هذا مقيم على دينك النصرانية، مرتكب فروج المسلمات تشفيا من الإسلام وأهله! ولا دلالة أدل على ذلك ممن لم يزل في منزلك على حال النصرانية من أهل وولد، ومن كان ذا عقدة فقد أباح الله دمه. قال: فلم يجب إلى شيء، وأظهر ضعفا وفقرا. قال: وأما الحسن بن مخلد فأخرجته، فلما خاطبته خاطبت رجلا موضعا رخوا، قال: فبكته بما ظهر منه، وقلت: من كان له الراضة بين يديه إذا سار على الشهاري وقدر ما قدرت، وأراد ما أردت، لم يكن موضعا رطبا ولا مخنثا رخوا قال: ولم أزل به حتى كتب رقعة بجوهر قيمته نيف وثلاثون ألف دينار، قال: وردوا جميعا إلى موضعهم، وانصرفت. فكانت مناظرة الحسن بن سليمان الدوشابي لهم آخر مناظرة كانت معهم، ولم يناظروا أيام المهتدي فيما بلغني مناظرة غيرها. فلما كان يوم الخميس لثلاث بقين من شهر رمضان أخرج أحمد بن إسرائيل وأبو نوح عيسى بن إبراهيم إلى باب العامة، فقعد صالح بن وصيف

في الدار، ووكل بضربهما حماد بن محمد بن حماد بن دنقش، فأقام أحمد بن إسرائيل وابن دنقش يقول: أوجع، وكان كل جلاد يضربه سوطين، وينتحى حتى وفوه خمسمائة سوط ثم أقاموا أبا نوح أيضا فضرب خمسمائة سوط ضرب التلف، ثم حملا على بغلين من بغال السقائين على بطونهما، منكسة رءوسهما، ظاهرة ظهورهما للناس فأما أحمد فحين بلغ خشبة بابك مات، وحين وصلوا بأبي نوح مات، فدفن أحمد بين الحائطين ويقال إن أبا نوح مات من يومه في حبس السرخسي خليفة طلمجور على شرط الخاصة، وبقي الحسن بن مخلد في الحبس. وذكر عن بعض من حضر أنه قال: لقد رأيت حماد بن محمد بن حماد بن دنقش وهو يقول للجلادين: أنفسكم يا بني الفاعلة- لا يكني- ويقول: أوجعوا وغيروا السياط، وبدلوا الرجال، وأحمد بن إسرائيل وعيسى يستغيثان، فذكر أن المهتدي لما بلغه ذلك قال: أما عقوبة إلا السوط أو القتل! أما يقوم مقام هذا شيء! أما يكفي! إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، يقول ذلك ويسترجع مرارا. وذكر عن الحسن بن مخلد أنه قال: لم يكن الأمر فينا عند صالح إذا لم يحضره عبد الله بن محمد بن يزداد على ما كان يكون عليه من الغلظة إذا حضر قال: وكان يقول لصالح: اضرب وعذب فإن الأصلح من وراء ذلك القتل، فإنهم إن أفلتوا لم تؤمن بوائقهم في الأعقاب، فضلا عن الواترين، ويذكره قبيح ما بلغه عنهم وكان يسر بذلك. قال: وكان داود بن ابى العباس الطوسي يحضرنا عند صالح فيقول: وما هؤلاء، أعزك الله، فبلغ منك الغضب بسببهم هذا المبلغ! فظنه يرققه علينا حتى يقول: على أني والله أعلم انهم ان تخلصوا انتشر منهم شر كبير وفساد في الإسلام عظيم، فينصرف وقد أفتاه بقتلنا، وأشار عليه بإهلاكنا،

شغب الجند والعامه ببغداد وولايه سليمان بن عبد الله بن طاهر عليها

فيزداد برأيه وما قال له علينا غيظا، وإلى الإساءة بنا أنسا، فسئل بعض من كان يخبر أمرهم: كيف نجا الحسن بن مخلد مما صلي به صاحباه؟ فقال: بخصلتين، إحداهما أنه صدقه عن الخبر في أول وهله واوجد الدلائل على ما قاله له أنه حق، وقد كان وعده العفو إن صدقه، وحلف له على ذلك، والأخرى أن أمير المؤمنين كلمه فيه وأعلمه حرمة أهله به، وأوما إلى محبته لإصلاح شأنه، فرده عن عظيم المكروه فيه، وقد كنت أرى أنه لو طالت لصالح مدة وهو في يده، أطلقه واصطنعه، ولم يكن صالح بن وصيف اقتصر في أمر الكتاب على أخذ أموالهم وأموال أولادهم، حتى أخاف أسبابهم وقراباتهم بأخذ أموالهم، وتخطى الى المتصلين بهم . شغب الجند والعامه ببغداد وولايه سليمان بن عبد الله بن طاهر عليها ولثلاث عشرة خلت من شهر رمضان منها فتح السجن ببغداد، ووثبت الشاكرية والنائبة ببغداد من جندها بمحمد بن أوس البلخي: ذكر الخبر عن سبب ذلك وما آل الأمر إليه فيه: ذكر أن السبب في ذلك كان أن محمد بن أوس، قدم بغداد مع سليمان ابن عبد الله بن طاهر وهو على الجيش القادمين من خراسان مع سليمان والصعاليك الذين تألفهم سليمان بالري، ولم تكن أسماؤهم في ديوان السلطان بالعراق، ولا أمر سليمان فيهم بشيء، وكانت السنة فيهم أن يقام لمن قدم معه من خراسان بالعراق حسب ما يقام بخراسان لنظرائهم من مال ضياع ورثة ذي اليمينين، ويكتب بذلك إلى خراسان ليعارض الورثه هناك من مال العامة، بدل ما كان دفع من مالهم بالعراق فلما قدم سليمان بن عبد الله العراق، وجد بيت مال الورثة فارغا وعبيد الله بن عبد الله بن طاهر قد تقدم عند ما صح عنده من الخبر بتصيير الأمر فيما كان يتولاه إلى أخيه سليمان بن عبد الله،

فأخذ ما كان حاصلا لورثة أبيه وجده في بيت ما لهم، واستسلف على ما لم يرتفع، وتعجل من المتقبلين اموال نجوم لم تحل حتى استنظفت ذلك أجمع، وشخص فأقام بالجويث في شرقي دجلة، ثم عبر حتى صار في غربيها، فضاقت بسليمان الدنيا، وتحرك الشاكرية والجند في طلب الأرزاق، وكتب سليمان إلى أبي عبد الله المعتز بذلك وقدر أموالهم، وأدخل في المال تقدير القادمين معه، ووجه محمد بن عيسى بن عبد الرحمن الكاتب الخراساني كاتبه في ذلك فأجيب بعد مناظرات إلى أن سبب له على عمال السواد مال صودر عليه لطمع من بمدينة السلام وشحن السواد لا يقوم بما يجب للنائبة فضلا عن القادمين مع النائبة، فلم يتهيأ لسليمان الوصول إلى شيء من المال، وقدم ابن أوس والصعاليك وأصحابه، فقصر المال عنه وعمن كان يقدر وصوله إليه من النائبة، فوقفوا على ذلك وعلى السبب المضر بهم فيه وكان القادمون مع سليمان من الصعاليك وغيرهم لما قدموا بغداد أساءوا المجاورة لأهلها، وجاهروا بالفاحشة، وتعرضوا للحرم والعبيد والغلمان، وعادوهم لمكانهم من السلطان، حتى امتلئوا عليهم غيظا وحنقا وقد كان سليمان بن عبد الله وحر على الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن مصعب بن رزيق، لمكانه كان من عبيد الله بن عبد الله بن طاهر ونصرته له وكفايته، وانصرافه عن سليمان وأسبابه فلما انصرف الحسين ابن إسماعيل إلى بغداد بعقب ما كان يتولاه لعبيد الله من أمر الجند والشاكرية، فحبس كاتبه في المطبق وحاجبه في سجن باب الشام، ووكل بباب الحسين ابن إسماعيل جندا من قبل إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم، لأن سليمان ولى إبراهيم ما كان الحسين بن إسماعيل يتولاه لعبيد الله من أمر جسري بغداد وطساسيج قطربل ومسكن والأنبار، فلما حدث ما حدث من بيعة المهتدي وشغب الجند والشاكرية بمدينة السلام، ووقعت الحرب في تلك الأيام، شد محمد ابن أوس على رجل من المراوزة، كان من الشيعة، فضربه في دار سليمان ثلاثمائة

سوط ضربا مبرحا، وحبسه بباب الشام، وكان هذا الرجل من خاصة الحسين بن إسماعيل، فلما حدث هذا الحادث احتيج إلى الحسين بن إسماعيل، لفضل جلده وإقدامه فنحي من كان ببابه موكلا فظهر، فتراجع أصحابه من غير أمر، وقد كانوا فرقوا على القواد، وضم منهم جمع كبير إلى محمد بن أبي عون القائد، فذكر أن المضمومين إلى ابن أبي عون لما صاروا إلى بابه، فرق فيهم من ماله، للراجل عشرة دراهم، وللفارس دينارا، فلما رجعوا إلى الحسين رفع ابن أبي عون بذكر ذلك، فلم يخرج في ذلك تعيين ولا أمر، فلم يزل الحال على هذا والجند والشاكرية يصيحون في طلب مال البيعة وما بقي لهم من مال الطمع المتقدم، وقد رد أمرهم في تقسيط مالهم، وقبضهم إلى الحسين على ما كان الأمر عليه أيام عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وكان الحسين لا يزال يلقي إليهم ما عليه محمد بن أوس ومن قدم مع سليمان من القصد لاخذ أموالهم والفوز بها دونهم، حتى امتلأت قلوبهم فلما كان يوم الجمعة لثلاث عشرة خلت من شهر رمضان، اجتمع جماعة من الجند والشاكرية، ومعهم جماعة من العامة حتى صاروا إلى سجن باب الشام ليلا، فكسروا بابه، وأطلقوا في تلك الليلة أكثر من كان فيه، ولم يبق فيه من أصحاب الجرائم أحد إلا الضعيف والمريض والمثقل، فكان ممن خرج في تلك الليلة نفر من أهل بيت مساور بن عبد الحميد الشاري، وخرج معهم المروزي مضروب محمد بن أوس وجماعة ممن قد لزم السلطان إلى أن صاروا إلى قبضته زهاء خمسين ألفا، وأصبح الناس في يوم الجمعة وباب الحبس مفتوح، فمن قدر أن يمشي مشى، ومن لم يقدر اكترى له ما يركبه، وما يمنع من ذلك مانع، ولا يدفع دافع، فكان ذلك من أقوى الأمور التي بعثت الخاصة والعامة على دفع الهيبة بينهم وبين سليمان بن عبد الله وسد باب السجن بباب الشام بآجر وطين، ولم يعلم أنه كان لإبراهيم ابن إسحاق في هذه الليلة ولا لأحد من أصحابه حركة أصلا، فتحدث الناس أن الذي جني على سجن باب الشام بمكان المروزي الذي ضربه ابن أوس فيه

حتى يخلص ثم لم يمض بعد ذلك خمسة أيام، حتى نافر ابن أوس الحسين ابن إسماعيل في أمر مال النائبة أراده محمد بن أوس لأصحابه ومنعه الحسين، وتجاريا في ذلك كلاما غلظ بينهما، فخرج محمد متنكرا، فلما كان الغد من ذلك اليوم غدا محمد بن أوس إلى دار سليمان، وغدا الحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال مولى طاهر، وحضر الناس باب سليمان، وكان بين من حضر من أصحاب ابن أوس وبين النائبة محادثة، علت فيها الأصوات، فتبادر أصحاب ابن أوس والقادمون إلى الجزيرة، وعبر إليهم ابن أوس وولده، وتصايح الناس بالسلاح، وخرج الحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال والمظفر ابن سيسل في أصحابهم، وصاح الناس بالعامة: من أراد النهب فليلحق بنا، فقيل: أنه عبر الجسرين من العامة في ذلك الوقت مائة ألف إنسان في الزواريق، وتوافى الجند والشاكرية بالسلاح، فوافى أوائل الناس الجزيرة، فلم يكن إلا قدر اللحظة حتى حمل رجل من أهل سرخس على الكبير من ولد محمد بن أوس، وطعنه، فاراده عن شهري كان تحته، ثم أخذته السيوف فانهزم عنه أصحابه، فلم يعمل أحد منهم شيئا، وسلب الجريح وحمل في زورق، حتى عبر به إلى دار سليمان بن عبد الله بن طاهر، فألقي هناك فذكر بعض من حضر سليمان، أنه لما رآه اغرورقت عيناه من الدمع، ومهد له، وأحضر له الأطباء، ومضى ابن أوس من وجهه إلى منزله، وكان ينزل في دار لآل أحمد بن صالح بن شيرزاد بالدور، مما يلي قصر جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك وجد أهل بغداد في آثارهم والقواد معهم حتى تلقوهم، فكانت بينهم وقعة بالدور، أولها في آخر الساعة الثانية وآخرها في أول الساعة السابعة، فلم يزالوا يتراشقون بالنشاب، ويتطاعنون بالرماح، ويتخابطون بالسيوف وأعان ابن أوس جيرانه من أهل سويقة قطوطا وأصحاب الزواريق من ملاحي الدور واشتدت الحرب، ووجه أهل بغداد يطلبون نفاطين

من دار سليمان فذكروا أن حاجبه دخل، فأعلمه ذلك، فأمر بمنعهم منه، وقاتل ابن أوس قتالا شديدا، فناله جراح من سهام وطعن، فانهزم وأصحابه، وقد كان أخرج حرمه من داره، فلم يزل أهل بغداد يتبعونهم حتى أخرجوهم من باب الشماسية، ووصل الناس إلى منزل ابن أوس، فانتهبوا جميع ما كان فيه، فذكر أنه انتهب له بقيمة ألفي ألف درهم، والمقلل يقول: ألف ألف وخمسين ألفا، وأنه انتهب له زهاء مائة سراويل مبطن بسمور، سوى ما كان مبطنا بغيره من الوبر مما يشاكل ذلك، وانتهب له من الفرش الطبري الخام والمقصور والمدرج والمقطوع ما يكون قيمته ألف ألف درهم، وانصرف الناس، فجعل الجند يدخلون دار سليمان، وهم يكثرون، ومعهم النهب وهم يصيحون، وما لهم مانع ولا زاجر وأقام ابن أوس ليلته تلك بالشماسية مع من لحق به من أصحابه وقد كان أهل بغداد وثبوا بمنازل الصعاليك التي كانوا فيها سكانا، فنهبوها، وتعرضوا لمن كان تخلف منهم، فتلاحق القوم هرابا، ولم يبق منهم في اليوم الثاني ببغداد أحد ظاهرا. فذكر أن سليمان وجه تلك الليلة إلى ابن أوس ثيابا وفرشا وطعاما، فيقال: إن محمدا قبله، وقيل: أنه رده وأصبح الناس في اليوم الثاني وغدا الحسين بن إسماعيل والمظفر بن سيسل إلى دار الشاه بن ميكال، ولحق به وجوه الشاكرية والنائبة وغيرهم، فأقاموا هناك مراغمين سليمان بن عبد الله بن طاهر وخلت دار سليمان فلم يحضرها إلا جميعه فبعث إليهم سليمان مع محمد بن نصر بن حمزة بن مالك الخزاعي، وهو لا يعلم ما عليه عقد القوم، يعلمهم قبح ما ركبوا من محمد بن أوس، وما يجب لمحمد بحرمته وقديمه، وأنهم لو أنهوا إليه ما أنكروا منه لتقدم في ذلك بما يكفيهم معه الحال التي ركبوها، فضج الشاكرية الذين حضروا دار الشاه جميعا وقالوا: لا نرضى بمجاورة ابن أوس ولا بمجاورة أحد من أصحابه ولا من الصعاليك المنضمين إليه، وإنهم ان

أكرهوا على ذلك تعاقدوا مباينته، وخلع من يسومهم إياه، وأحال الشاه بن ميكال والحسين بن إسماعيل والمظفر بن سيسل على كراهة القوم، فرجع الرسول بذلك إلى سليمان، فرده إليهم بكلام دون ذلك، ووعدهم وقال: أنا أثق بقولكم وضمانكم دون أيمانكم وعهودكم ثم استوى جالسا. وذكر أنه لم يزل مستثقلا محمد بن أوس ومن لحق به من الصعاليك وغيرهم، عارفا بسوء رغبتهم ورداءة مذاهبهم، وبسوم محمد بن أوس في نفسه خاصة ومحبته وشروعه في كل ما دعا إلى خلاف وفرقة، وأسبغ هذا المعنى، وكثر فيه حتى خرج به إلى الإغراق فيه، إلى أن قال: لقد كنت أدخل في قنوتي في الصلاة طلب الراحة من ابن أوس ثم التفت إلى محمد بن علي بن طاهر، فأمره بالمصير إلى ابن أوس، والتقدم إليه في العزم على الانصراف إلى خراسان، وأن يعلمه أنه لا سبيل له إلى الرجوع إلى مدينة السلام، ولا إلى تولي شيء من الأمور التي يتولاها لسليمان. فلما تناهى الخبر إلى ابن أوس رحل من الشماسيه، فصار في رقه البردان على دجلة، فأقام بها أياما حتى اجتمع اليه من تفرق من اصحابه، رحل فنزل النهروان، فلم يزل بها مقيما وقد كان كتب الى بايكباك وصالح ابن وصيف يعرض عليهما نفسه، ويشكو إليهما ما نزل به، فلم يجد عنده شيئا مما قصد، وقد كان محمد بن عيسى بن عبد الرحمن مقيما بسامرا لينجز أمور سليمان، وكان كارها لابن أوس، منحرفا عنه وكان ابن أوس مضطرب الأمر لسوء محضر محمد بن عيسى الكاتب، فلما انقطعت عن ابن أوس وأصحابه المادة، تعبثوا بأهل القرى والسابلة، وأكثروا الغارات والنهب، ورحل حتى نزل النهروان. فذكر عن بعض من قصدوه لينتهبوه، فذكرهم المعاد، وخوفهم الله أنهم ردوا عليه أن قالوا له: إن كان النهب والقتل جائزا في مدينة السلام، وهي قبة الإسلام، ودار عز السلطان، فما استنكار ذلك في الصحاري والبراري!

ثم رحل ابن أوس عن النهروان بعد أن أثر في تلك الناحية آثارا قبيحة، وأخذ أهل البلاد بأداء الأموال، وحمل منها الطعام في السفن في بطن النهروان إلى إسكاف بني جنيد لبيعه هناك. وكان محمد بن المظفر بن سيسل بالمدائن، فلما بلغه مصير ابن أوس الى نهروان صير إقامته بالنعمانية من عمل الزوابي خوفا على نفسه منه لحضور أبيه كان في يوم الوقعة. فذكر عن محمد بن نصر بن منصور بن بسام- وعبرتا ضيعته- أن وكيله انصرف عنها هاربا بعد أن أدى إلى ابن أوس تحت العذاب وخوف الموت قريبا من الف وخمسمائة دينار، ولم يزل ابن أوس مقيما هناك، يقرب ويباعد، ويقبض ويبسط، ويشتد ويلين، ويرهب، حتى أتاه كتاب بايكباك بولاية طريق خراسان من قبله، فكان من وقت خروجه من مدينة السلام إلى وقت ورود الكتاب عليه بالولاية شهران وخمسة عشر يوما. وذكر عن بعض ولد عاصم بن يونس العجلي أن أباه كان يتولى ضياعا للنوشري بناحية طريق خراسان، وأنه كتب إلى النوشري يذكر ما عاين من قوة عسكر ابن أوس وظاهر عدتهم، ويشير بأن يذكر ذلك لبايكباك، ويصف خلاء طريق خراسان من سلطان يتولاه ويحوط أهله، وأن هذا عسكر مشحن بالرجال والعدة والعتاد، مقيم في العمل، وأن النوشري ذكر ذلك لبايكباك، وأشار عليه بتوليته طريق خراسان، وتخفيف المؤنة عن السلطان، فقبل ما أشار به عليه، وأمر بكتبه فكتبت، وولي طريق خراسان في ذي القعدة من هذه السنة- وهي سنة خمس وخمسين ومائتين- وكان موسى خليفه مساور ابن عبد الحميد الشاري مقيما بالدسكرة ونواحيها في زهاء ثلاثمائة رجل، قد ولاه مساور ما بين حلوان إلى السوس على طريق خراسان وبطن جوخى وما قرب ذلك من طساسيج السواد

ذكر خبر استيلاء مفلح على طبرستان ثم انصرافه عنها

وفيها أمر المهتدي بإخراج القيان والمغنين والمغنيات من سامرا ونفيهم منها إلى بغداد، بعد أمر كان قد تقدم من قبيحة في ذلك قبل أن ينزل بابنها ما نزل، وأمر بقتل السباع التي كانت في دار السلطان وطرد الكلاب وإبطال الملاهي ورد المظالم، وجلس لذلك للعامة، وكانت ولايته والدنيا كلها من ارض الاسلام مفتونه. ذكر خبر استيلاء مفلح على طبرستان ثم انصرافه عنها وفيها شخص موسى بن بغا ومن معه من الموالي وجند السلطان من الري وانصرف مفلح عن طبرستان بعد أن دخلها، وهزم الحسن بن زيد، وأخرجه عنها إلى أرض الديلم. ذكر الخبر عن شخوصه عنها: ذكر أن السبب في ذلك أن قبيحة أم المعتز، لما رأت من الأتراك اضطرابا، وأنكرت أمرهم، كتبت إلى موسى بن بغا تسأله القدوم إلى ما قبلها، وأملت وروده عليها قبل حدوث ما حدث عليها وعلى ابنها المعتز، فعزم موسى على الانصراف إليها، وكان ورود كتابها عليه ومفلح بطبرستان. فكتب موسى الى مفلح يأمره بالانصراف إليها وهو بالري، فحدثني بعض أصحابنا من أهل طبرستان، أن كتاب موسى ورد على مفلح بذلك، وقد توجه نحو أرض الديلم في طلب الحسن بن زيد الطالبي فلما ورد عليه الكتاب انصرف راجعا إلى حيث توجه منه، فعظم ذلك على قوم كانوا معه من رؤساء أهل طبرستان ممن كان هاربا قبل مقدم مفلح عليهم من الحسن ابن زيد، لما كانوا قد رجوا من مقدمه عليهم وكفايتهم أمر الحسن بن زيد والرجوع إلى منازلهم وأوطانهم، وذلك أن مفلحا كان يعدهم اتباع الحسن ابن زيد حيث توجه حتى يظفر به أو يخترم دونه، ويقول لهم- فيما ذكر لي-

لو رميت قلنسوتي في أرض الديلم ما اجترأ أحد منهم أن يدنو منها فلما رأى القوم انصرافه عن الوجه الذي توجه له من غير عسكر للحسن بن زيد ولا أحد من الديلم صده، سألوه- فيما ذكر لي- عن السبب الذي صرفه عما كان يعدهم به من اتباع ابن زيد، وجعلوا يكلمونه- فيما أخبرت- وهو كالمسبوت لا يجيبهم بشيء، فلما أكثروا عليه قال لهم: ورد على كتاب الأمير موسى بعزمة منه الا أضع كتابه من يدي بعد ما يصل إلي حتى أقبل إليه. وأنا مغموم بأمركم، ولكن لا سبيل إلى مخالفة الأمير فلم يتهيأ لموسى الشخوص من الري إلى سامرا حتى وافاه الكتاب بهلاك المعتز وقيام المهتدي بعده بالأمر، ففثأه ذلك عما كان عزم عليه من الشخوص، لفوته ما قدر إدراكه من أمر المعتز. ولما وردت عليه بيعة المهتدي، امتنع أصحابه عليه من بيعته، ثم بايعوا. فورد خبر بيعتهم سامرا لثلاث عشرة خلت من شهر رمضان من هذه السنة. ثم إن الموالي الذين في عسكر موسى بلغهم ما استخرج صالح بن وصيف من أموال الكتاب وأسباب المعتز والمتوكل، فشحوا بذلك على المقيمين بسامرا، فدعوا موسى إلى الانصراف بهم إلى سامرا. وقدم مفلح على موسى بالري تاركا طبرستان على الحسن بن زيد، فذكر عن القاشاني أنه قال: كتب إلي ابن أخي من الري يذكر أنه لقي مفلحا بالري، فسأله عن سبب انصرافه فذكر أن الموالي قد أبوا أن يقيموا، وأنهم إذا انصرفوا لم يغن مقامه شيئا. ثم أن موسى افتتح خراج سنة ست وخمسين ومائتين يوم الأحد مستهل شهر رمضان سنه ست وخمسين ومائتين، فاجتنى- فيما ذكر- في يوم الأحد قدر خمسمائة ألف درهم، فاجتمع أهل الري، فقالوا، أعز الله الأمير! إنك تزعم أن الموالي يرجعون إلى سامرا لما يقدرونه من كثرة العطاء هناك، وأنت وأصحابك في أكثر وأوسع مما القوم هناك فيه، فإن رأيت أن تسد هذا الثغر، وتحتسب في أهله الأجر والثواب، وتلزمنا من خراجنا في خاص أموالنا لمن معك ما ترى أن نحتمله فعلت فلم يجبهم إلى ما سألوا، فقالوا:

أصلح الله الأمير! فإذا كان الأمير عزم على تركنا، والانصراف عنا، فما معنى أخذنا بالخراج لسنة لم نبتدئ بعمارتها، وأكثر غلة سنة خمس وخمسين ومائتين، التي قد أخذ الأمير خراجها في الصحاري لا يمكننا الوصول إليها إن رحل الأمير عنا! فلم يلتفت إلى شيء مما وصفوه له، وسألوه إياه. واتصل خبر انصرافه بالمهتدي، فكتب إليه في ذلك كتبا كثيرة، لم تؤثر أثرا فلما انتهى إليه قفول موسى من الري، ولم تغن الكتب شيئا وجه رجلين من بني هاشم، يقال لأحدهما عبد الصمد بن موسى، ويعرف الآخر بأبي عيسى يحيى بن إسحاق بن موسى بن عيسى بن عَلِيّ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس، وحملا رسالة إلى موسى وإلى من ضم عسكرة من الموالى، يصدقهم فيها عن الحال بالحضرة وضيق الأموال بها، وما يحاذر من ذهاب ما يخلفونه وراء ظهورهم، وغلبه الطالبيين عليه واتساع آثارهم إلى ناحية الجبل فشخص بذلك الهاشميان في جماعه من الموالي واتباعهم من الديلم، وأقبل موسى ومن معه، وصالح بن وصيف في ذلك يعظم على المهتدي انصرافه، وينسبه إلى المعصية والخلاف، ويبتهل عليه في أكثر ذلك، ويبرأ إلى الله من فعله. فذكر أن كتاب صاحب البريد بهمذان لما ورد على المهتدي بفصول موسى عنها، رفع المهتدي يديه إلى السماء، ثم قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: اللهم إني أبرأ إليك من فعل موسى بن بغا وإخلاله بالثغر وإباحته العدو، فإني قد أعذرت إليه فيما بيني وبينه اللهم تول كيد من كايد المسلمين، اللهم انصر جيوش المسلمين حيث كانوا، اللهم إني شاخص بنيتي واختياري إلى حيث نكب المسلمون فيه، ناصرا لهم ودافعا عنهم اللهم فآجرني بنيتي إذ عدمت صالح الأعوان! ثم انحدرت دموعه يبكى. وذكر عن بعض من حضر المهتدي في بعض مجالسه التي يقول فيها هذا القول، وحضره سليمان بن وهب، فقال: أيأمرني أمير المؤمنين أن اكتب الى موسى بما اسمع منه، فقال له: نعم، اكتب بما تسمع مني، وان امكنك ان تنقشه في الصخر فافعل فلقيه الهاشميان في الطريق ولم يغنيا شيئا،

ذكر الخبر عن مفارقه كنجور على بن الحسين بن قريش

وضج الموالي، وكادوا يثبون بالرسل، ورد موسى في جواب الرسالة يعتذر بتخلف من معه عن الرجوع إلى قوله دون ورود باب أمير المؤمنين، وأنه إن رام التخلف عنهم لم يأمنهم على نفسه، ويحتج بما عاين الرسل الموجهون إليه. فورد الرسل بذلك، وأوفد مع الرسل موسى وفدا من عسكره، فوافوا سامرا لأربع خلون من المحرم سنه ست وخمسين ومائتين. ذكر الخبر عن مفارقه كنجور على بن الحسين بن قريش وفي هذه السنة فارق كنجور علي بن الحسين بن قريش، وكان قد نفي أيام المعتز إلى فارس، فوكل به علي بن الحسين، وحبسه، فلما اراد على ابن الحسين محاربة يعقوب بن الليث أخرجه من الحبس، وضم إليه خيلا ورجالا، فلما انهزم الناس عن علي بن الحسين لحق كنجور بناحية الأهواز، فأثر في ناحية رامهرمز أثرا، ثم لحق بابن أبي دلف، فوافاه بهمذان، وأساء السيرة في أسباب وصيف وضياعه ووكلائه في تلك الناحية، ثم لحق بعد ذلك بعسكر موسى فلما أقبل موسى فيمن ضمه العسكر، بلغ ذلك صالحا، فكتب عن المهتدي في حمل كنجور إلى الباب مقيدا، فأبى ذلك الموالي، ثم لم تزل الكتب تختلف فيه إلى أن نزل العسكر القاطول ثم ظهر أن صالحا قعد لمراغمته، وأن موسى ترحل إلى سامرا على المباينة لصالح ومن مال إليه، ولحق بايكباك بعسكر موسى، وأقام موسى هناك يومين ووجه المهتدي إليه أخاه إبراهيم لأمه في أمر كنجور يعلمه أن الموالي بسامرا قد أبوا أن يقاروا على دخول كنجور، ويأمره بتقييده وحمله إلى مدينة السلام، فلم يتهيأ في ذلك ما قدره صالح، وكان جوابهم أن قالوا: إذا دخلنا سامرا امتثلنا ما أمر به أمير المؤمنين في كنجور وغيره.

خروج أول علوي بالبصرة

خروج أول علوي بالبصرة وللنصف من شوال من هذه السنة، ظهر في فرات البصرة رجل زعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن علي بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب، وجمع إليه الزنج الذين كانوا يكسحون السباخ، ثم عبر دجلة، فنزل الديناري. ذكر الخبر عن أمره والسبب الذي بعثه على الخروج هنالك: وكان اسمه ونسبه- فيما ذكر- علي بن محمد بن عبد الرحيم، ونسبه في عبد القيس، وأمه قرة ابنة علي بن رحيب بن محمد بن حكيم، من بنى اسد ابن خزيمة، من ساكني قرية من قرى الري، يقال لها ورزنين، بها مولده ومنشؤه، فذكر عنه أنه كان يقول: جدي محمد بن حكيم من أهل الكوفة أحد الخارجين على هشام بن عبد الملك مع زيد بن على بن الحسين فلما قل زيد هرب فلحق بالري، فلجأ إلى ورزنين، فأقام بها وإن أبا أبيه عبد الرحيم رجل من عبد القيس، كان مولده بالطالقان، وأنه قدم العراق فأقام بها، واشترى جارية سندية، فأولدها محمدا أباه، فهو علي بن محمد هذا، وأنه كان متصلا قبل بجماعة من آل المنتصر، منهم غانم الشطرنجي وسعيد الصغير ويسر الخادم، وكان منهم معاشه ومن قوم من أصحاب السلطان وكتابه يمدحهم ويستميحهم بشعره. ثم أنه شخص- فيما ذكر- من سامرا سنة تسع وأربعين ومائتين إلى البحرين، فادعى بها أنه علي بن محمد بن الفضل بن حسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب، ودعا الناس بهجر إلى طاعته، واتبعه جماعة كثيرة من أهلها، وأبته جماعة أخر، فكانت بسببه بين الذين اتبعوه والذين أبوه عصبية قتلت بينهم جماعة، فانتقل عنهم لما حدث ذلك إلى الأحساء، وضوى إلى حي من بني تميم ثم من بني سعد، يقال لهم بنو الشماس، فكان بينهم مقامه وقد كان أهل البحرين أحلوه من أنفسهم محل النبي- فيما ذكر- حتى جبي له الخراج هنالك ونفذ حكمه بينهم، وقاتلوا أسباب السلطان بسببه ووتر منهم جماعة كثيرة، فتنكروا له، فتحول عنهم إلى البادية

ولما انتقل إلى البادية صحبه جماعة من أهل البحرين، منهم رجل كيال من أهل الأحساء، يقال له يحيى بن محمد الأزرق المعروف بالبحراني، مولى لبني دارم ويحيى بن أبي ثعلب، وكان تاجرا من أهل هجر، وبعض موالي بني حنظلة أسود يقال له سليمان بن جامع، وهو قائد جيشه، ثم كان ينتقل في البادية من حي. إلى حي فذكر عنه أنه كان يقول: أوتيت في تلك الأيام آيات من آيات إمامتي ظاهرة للناس، منها- فيما ذكر عنه- أنه قال: إني لقيت سورا من القرآن لا أحفظها، فجرى بها لساني في ساعة واحدة، منها سبحان والكهف وص. قال: ومن ذلك انى لقيت نفسي على فراشي، فجعلت أفكر في الموضع الذي أقصد له، وأجعل مقامي به، إذ نبت بي البادية، وضقت بسوء طاعة أهلها، فأظلتني سحابة، فبرقت ورعدت، واتصل صوت الرعد منها بسمعي، فخوطبت فيه، فقيل: اقصد البصرة، فقلت لأصحابي وهم يكنفونني: إني أمرت بصوت هذا الرعد بالمصير إلى البصرة. وذكر أنه عند مصيره إلى البادية أوهم أهلها أنه يحيى بن عمر أبو الحسين المقتول بناحية الكوفة، فاختدع بذلك قوما منهم، حتى اجتمع بها منهم جماعة كثيرة، فزحف بهم إلى موضع بالبحرين يقال له الردم، فكانت بينهم وقعة عظيمة، كانت الدائرة فيها عليه وعلى أصحابه، قتلوا فيها قتلا ذريعا، فنفرت عنه العرب وكرهته، وتجنبت صحبته فلما تفرقت عنه العرب، ونبت به البادية، شخص عنها إلى البصرة، فنزل بها في بني ضبيعة، فاتبعه بها جماعة، منهم علي بن أبان المعروف بالمهلبي وأخواه محمد والخليل وغيرهم. وكان قدومه البصرة في سنة أربع وخمسين ومائتين، ومحمد بن رجاء الحضاري عامل السلطان بها، ووافق ذلك فتنة أهل البصرة بالبلالية والسعدية، فطمع في أحد الفريقين أن يميل إليه، فأمر أربعة نفر من أصحابه، فخرجوا بمسجد عباد، أحدهم يسمى محمد بن سلم القصاب الهجري، والآخر بريش القريعي، والثالث علي الضراب، والرابع الحسين الصيدناني، وهم الذين كانوا صحبوه

بالبحرين، فدعوا إليه، فلم يجبه من أهل البلد أحد، وثاب إليهم الجند، فتفرقوا ولم يظفر بأحد منهم فخرج من البصرة هاربا، فطلبه ابن رجاء فلم يقدر عليه، وأخبر ابن رجاء بميل جماعة من أهل البصرة إليه، فأخذهم فحبسهم، فكان فيمن حبس يحيى بن أبي ثعلب ومحمد بن الحسن الإيادي وابن صاحب الزنج علي بن محمد الأكبر وزوجته أم ابنه ومعها ابنة له وجارية حامل، فحبسهم ومضى هو لوجهه يريد بغداد، ومعه من اصحابه محمد بن سلم ويحيى بن محمد وسليمان بن جامع وبريش القريعي فلما صاروا بالبطيحة نذر بهم بعض موالي الباهليين، كان يلي أمر البطيحة، يقال له عمير بن عمار، فأخذهم وحملهم إلى محمد بن أبي عون، وهو عامل السلطان بواسط، فاحتال لابن أبي عون حتى تخلص هو وأصحابه من يده، ثم صار إلى مدينة السلام، فأقام بها حولا، وانتسب فيها إلى أحمد بن عيسى بن زيد، وكان يزعم أنه ظهر له أيام مقامه بها آيات، وعرف ما في ضمائر أصحابه، وما يفعله كل واحد منهم، وأنه سأل ربه بها آيه أن يعلم حقيقة أمره، فرأى كتابا يكتب له، وهو ينظر إليه على حائط، ولا يرى شخص كاتبه. وذكر عن بعض تباعه أنه بمقامه بمدينة السلام استمال جماعة، منهم جعفر بن محمد الصوحاني- كان ينتسب إلى زيد بن صوحان- ومحمد بن القاسم وغلاما يحيى بن عبد الرحمن بن خاقان: مشرق ورفيق، فسمى مشرقا حمزة وكناه أبا أحمد، وسمى رفيقا جعفرا وكناه أبا الفضل ثم لم يزل عامه ذلك بمدينة السلام حتى عزل محمد بن رجاء عن البصرة، فخرج عنها، فوثب رؤساء الفتنة من البلالية والسعدية، ففتحوا المحابس، وأطلقوا من كان فيها، فتخلصوا فيمن تخلص فلما بلغه خلاص أهله، شخص إلى البصرة، فكان رجوعه إليها في شهر رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين، ومعه علي بن أبان- وقد كان لحق به وهو بمدينة السلام- ويحيى بن محمد، ومحمد بن سلم، وسليمان بن جامع، وغلاما يحيى بن عبد الرحمن: مشرق ورفيق، وكان يحضر

هؤلاء الستة رجل من الجند يكنى أبا يعقوب، ولقب نفسه بعد ذلك بجربان، فساروا جميعا حتى وافوا برنخل، فنزلوا قصرا هنالك يعرف بقصر القرشي، على نهر يعرف بعمود ابن المنجم، كان بنو موسى بن المنجم احتفروه، وأظهر أنه وكيل لولد الواثق في بيع السباخ، وأمر أصحابه أن ينحلوه ذلك، فأقام هنالك. فذكر عن ريحان بن صالح أحد غلمان الشورجيين- وهو أول من صحبه منهم- أنه قال: كنت موكلا بغِلْمان مولاي، أنقل الدقيق إليهم من البصرة، وأفرقه فيهم، فحملت ذلك إليهم كما كنت أفعل، فمررت به وهو مقيم ببرنخل في قصر القرشي، فأخذني أصحابه، فصاروا بي إليه، وأمروني بالتسليم عليه بالإمرة، ففعلت ذلك، فسألني عن الموضع الذي جئت منه، فأخبرته أني أقبلت من البصرة، فقال: هل سمعت لنا بالبصرة خبرا؟ قلت: لا، قال: فما خبر الزينبي؟ قلت: لا علم لي به، قال: فخبر البلالية والسعدية؟ قلت: ولا أعرف أخبارهم أيضا، فسألني عن أخبار غلمان الشورجيين وما يجري لكل غلام منهم من الدقيق والسويق والتمر وعمن يعمل في الشورج من الأحرار والعبيد، فأعلمته ذلك، فدعاني إلى ما هو عليه، فأجبته، فقال لي: احتل فيمن قدرت عليه من الغلمان، فأقبل بهم إلي ووعدني أن يقودني على من آتيه به منهم، وأن يحسن إلي، واستحلفني ألا أعلم أحدا بموضعه، وأن أرجع إليه فخلى سبيلي، فأتيت بالدقيق الذي معي الموضع الذي كنت قصدته به، وأقمت عنده يومي، ثم رجعت إليه من غد، فوافيته وقد قدم عليه رفيق غلام يحيى بن عبد الرحمن، وكان وجه إلى البصرة في حوائج من حوائجه، ووافاه بشبل بن سالم- وكان من غلمان الدباسين- وبحريرة كان أمره بابتياعها ليتخذها لواء، فكتب فيها بحمرة وخضرة: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، إلى آخر الآية، وكتب اسمه واسم أبيه، وعلقها في رأس مردي، وخرج في السحر من ليلة السبت لليلتين بقيتا من شهر رمضان

فلما صار إلى مؤخر القصر الذي كان فيه، لقيه غلمان رجل من الشورجيين يعرف بالعطار، متوجهين إلى أعمالهم، فأمر بأخذهم فأخذوا، وكتف وكيلهم، وأخذ معهم، وكانوا خمسين غلاما، ثم صار إلى الموضع الذي يعمل فيه السنائى، فاخذ منه خمسمائة غلام، فيهم المعروف بأبي حديد، وأمر بوكيلهم فأخذ معهم مكتوفا، وكانوا في نهر يعرف بنهر المكاثر، ثم مضى إلى موضع السيرافي، فأخذ منه خمسين ومائة غلام، فيهم زريق وأبو الخنجر. ثم صار إلى موضع ابن عطاء، فأخذ طريقا وصبيحا الأعسر وراشدا المغربي وراشدا القرماطي، وأخذ معهم ثمانين غلاما ثم أتى موضع إسماعيل المعروف بغلام سهل الطحان، ثم لم يزل يفعل ذلك كذلك في يومه، حتى اجتمع إليه بشر كثير من غلمان الشورجيين، ثم جمعهم وقام فيهم خطيبا، فمناهم ووعدهم أن يقودهم ويرأسهم، ويملكهم الأموال، وحلف لهم الأيمان الغلاظ ألا يغدر بهم، ولا يخذلهم، ولا يدع شيئا من الإحسان إلا أتى إليهم ثم دعا مواليهم، فقال: قد أردت ضرب أعناقكم لما كنتم تأتون إلى هؤلاء الغلمان الذين استضعفتموهم وقهرتموهم، وفعلتم بهم ما حرم الله عليكم أن تفعلوه بهم، وجعلتم عليهم ما لا يطيقون، فكلمني أصحابي فيكم، فرأيت إطلاقكم، فقالوا: إن هؤلاء الغلمان أباق، وهم يهربون منك فلا يبقون عليك ولا علينا، فخذ منا مالا وأطلقهم لنا فأمر غلمانهم فأحضروا شطبا ثم بطح كل قوم مولاهم ووكيلهم، فضرب كل رجل منهم خمسمائة شطبة، وأحلفهم بطلاق نسائهم ألا يعلموا أحدا بموضعه، ولا بعدد أصحابه، وأطلقهم فمضوا نحو البصرة. ومضى رجل منهم يقال له عبد الله، ويعرف بكريخا، حتى عبر دجيلا، فأنذر الشورجيين ليحرزوا غلمانهم، وكان هناك خمسة عشر الف غلام. ثم سار بعد ما صلى العصر حتى وافى دجيلا، فوجد سفن سماد تدخل في المد، فقدمها، فركب فيها، وركب أصحابه حتى عبروا دجيلا،

وصاروا إلى نهر ميمون، فنزل المسجد الذي في وسط السوق الشارع على نهر ميمون، وأقام هناك ولم يزل ذلك دأبه، يجتمع إليه السودان إلى يوم الفطر. فلما أصبح نادى في أصحابه بالاجتماع لصلاة الفطر فاجتمعوا، وركز المردي الذي عليه لواؤه، وصلى بهم وخطب خطبة ذكر فيها ما كانوا عليه من سوء الحال، وأن الله قد استنقذهم به من ذلك، وأنه يريد أن يرفع أقدارهم، ويملكهم العبيد والأموال والمنازل، ويبلغ بهم أعلى الأمور، ثم حلف لهم على ذلك فلما فرغ من صلاته وخطبته، أمر الذين فهموا عنه قوله أن يفهموه من لا فهم له من عجمهم، لتطيب بذلك أنفسهم ففعلوا ذلك، ودخل القصر فلما كان بعد يوم قصد نهر بور، فوافى جماعة من أصحابه هناك الحميري في جماعة، فدفعوهم حتى أخرجوهم إلى الصحراء، فلحقهم صاحب الزنج فيمن معه، فأوقع بالحميري وأصحابه، فانهزموا حتى صاروا إلى بطن دجلة واستأمن إليه رجل من رؤساء الزنج يكنى بأبي صالح، يعرف بالقصير، في ثلاثمائة من الزنج، فمناهم ووعدهم فلما كثر من اجتمع اليه من الزنج قود قواده، وقال لهم: كل من أتى منكم برجل فهو مضموم إليه وقيل أنه لم يقود قواده إلا بعد مواقعة الخول ببيان ومصيره إلى سبخة القندل. وكان ابن أبي عون نقل عن ولاية واسط إلى ولاية الأبلة وكور دجلة، فذكر أنه انتهى إليه في اليوم الذي قود فيه قواده أن الحميري وعقيلا مع خليفة ابن أبي عون المقيم كان بالأبلة، قد أقبلوا نحوه، ونزلوا نهر طين، فأمر أصحابه بالمصير إلى الرزيقية وهي في مؤخر الباذاورد، فصار إليها في وقت صلاة الظهر، فصلوا بها، واستعدوا للقتال، وليس في عسكره يومئذ إلا ثلاثة أسياف: سيفه، وسيف علي بن أبان، وسيف محمد بن سلم ونهض بأصحابه فيما بين الظهر والعصر راجعا نحو المحمدية، وجعل علي بن أبان في آخر أصحابه، وأمره أن يعرف خبر من يأتيه من ورائه، وتقدم في أوائل الناس حتى وافى المحمدية، فقعد على النهر، وأمر الناس فشربوا منه، وتوافى إليه أصحابه، فقال له علي بن أبان: قد كنا نرى من ورائنا بارقة ونسمع

حس قوم يتبعوننا، فلسنا ندري: أرجعوا عنا أم هم قاصدون إلينا؟ فلم يستتم كلامه حتى لحق القوم، وتنادى الزنج السلاح، فبدر مفرج النوبى المكنى بابى صالح، وريحان ابن صالح، وفتح الحجام- وكان فتح يأكل- فلما نهض تناول طبقا كان بين يديه، وتقدم أصحابه، فلقيه رجل من الشورجيين، يقال له بلبل، فلما رآه فتح حمل عليه وحذفه بالطبق الذي كان في يده، فرمى بلبل بسلاحه، وولى هاربا، وانهزم أصحابه، وكانوا أربعة آلاف رجل، فذهبوا على وجوههم، وقتل من قتل منهم، ومات بعضهم عطشا، وأسر منهم قوم، فأتي بهم صاحب الزنج، فأمر بضرب أعناقهم فضربت، وحملت الرءوس على بغال كان أخذها من الشورجيين، كانت تنقل الشورج، ومضى حتى وافى القادسية، وذلك وقت المغرب، فخرج من القرية رجل من موالي بعض الهاشميين على أصحابه، فقتل رجلا من السودان، فأتاه الخبر، فقال له أصحابه: ائذن لنا في انتهاب القرية وطلب قاتل صاحبنا، فقال: لا سبيل إلى ذلك دون أن نعرف ما عند القوم، وهل فعل القاتل ما فعل عن رأيهم، ونسألهم أن يدفعوه إلينا، فإن فعلوا وإلا ساغ لنا قتالهم وأعجلهم المسير، فصاروا إلى نهر ميمون راجعين، فأقام في المسجد الذي كان أقام فيه في بدأته وأمر بالرءوس المحمولة معه فنصبت، وأمر بالأذان أبا صالح النوبي فأذن، وسلم عليه بالإمرة، فقام فصلى بأصحابه العشاء الآخرة، وبات ليلته بها، ثم مضى من الغد حتى مر بالكرخ فطواها، وأتى قرية تعرف بجبى في وقت صلاة الظهر، فعبر دجيلا من مخاضة دل عليها، ولم يدخل القرية، وأقام خارجا منها، وأرسل إلى من فيها، فأتاه كبراؤهم وكبراء أهل الكرخ، فأمرهم بإقامة الأنزال له ولأصحابه فأقيم له ما أراد، وبات عندهم ليلته تلك، فلما أصبح أهدى له رجل من أهل جبى فرسا كميتا، فلم يجد سرجا

ولا لجاما، فركبه بحبل وسنفه بليف، وسار حتى انتهى إلى المعروف بالعباسي العتيق، فأخذ منه دليلا إلى السيب، وهو نهر القرية المعروفة بالجعفرية، ونذر به أهل القرية، فهربوا عنها، ودخلها فنزل دار جعفر بن سليمان وهي في السوق، وتفرق أصحابه في القرية، فأتوه برجل وجدوه، فسأله عن وكلاء الهاشميين، فأخبره أنهم في الأجمة، فوجه الملقب بجربان، فأتاه برئيسهم وهو يحيى بن يحيى المعروف بالزبيري أحد موالي الزياديين، فسأله عن المال، فقال: لا مال عندي، فأمر بضرب عنقه، فلما خاف القتل أقر بشيء قد كان أخفاه، فوجه معه، فأتاه بمائتي دينار وخمسين دينارا وألف درهم، فكان هذا أول ما صار إليه، ثم سأله عن دواب وكلاء الهاشميين فدله على ثلاثة براذين: كميت، وأشقر، وأشهب، فدفع أحدها إلى ابن سلم، والآخر الى يحيى ابن محمد، وأعطى مشرقا غلام يحيى بن عبد الرحمن الثالث. وكان رفيق يركب بغلا كان يحمل عليه الثقل، ووجد بعض السودان دارا لبعض بني هاشم فيها سلاح، فانتهبوه، فجاء النوبي الصغير بسيف، فأخذه صاحب الزنج، فدفعه إلى يحيى بن محمد، فصار في أيدي الزنج سيوف وبالات وزقايات وتراس، وبات ليلته تلك بالسيب، فلما أصبح أتاه الخبر أن رميسا والحميري وعقيلا الابلى قد وافوا السيب، فوجه يحيى ابن محمد في خمسمائة رجل، فيهم سليمان وريحان بن صالح وأبو صالح النوبي الصغير، فلقوا القوم فهزموهم، وأخذوا سميرية وسلاحا، وهرب من كان هنالك، ورجع يحيى بن محمد فأخبره الخبر، فأقام يومه، وسار من غد يريد المذار، بعد أن اتخذ على أهل الجعفرية ألا يقاتلوه، ولا يعينوا عليه أحدا، ولا يستروا عنه فلما عبر السيب صار إلى قرية تعرف بقرية اليهود شارعة على دجلة، فوافق هنالك رميسا في جمع، فلم يزل يقاتلهم

يومه ذلك، وأسر من أصحابه عدة، وعقر منهم جماعة بالنشاب وقتل غلام لمحمد بن أبي عون كان مع رميس، وغرقت سميرية كان فيها ملاحها، فأخذ وضربت عنقه، وسار من ذلك الموضع يريد المذار فلما صار الى النهر المعروف بباب مداد جاوزه حتى أصحر، فرأى بستانا، وتلا يعرف بجبل الشياطين، فقصد للتل فقعد عليه، وأثبت أصحابه في الصحراء، وجعل لنفسه طليعة. فذكر عن شبل أنه قال: أنا كنت طليعته على دجلة، فأرسلت إليه أخبره أن رميسا بشاطئ دجلة يطلب رجلا يؤدي عنه رسالة، فوجه إليه علي بن أبان ومحمد بن سلم وسليمان بن جامع، فلما أتوه قال لهم: اقرءوا على صاحبكم السلام، وقولوا له: أنت آمن على نفسك حيث سلكت من الأرض، لا يعرض لك احد، واردد هؤلاء العبيد على مواليهم، وآخذ لك عن كل رأس خمسة دنانير فأتوه فأعلموه ما قال لهم رميس، فغضب من ذلك وآلى ليرجعن فليبقرن بطن امرأة رميس، وليحرقن داره، وليخوضن الدماء هنالك فانصرفوا إليه، فأجابوه بما أمروا به، فانصرف إلى مقابل الموضع الذي هو به من دجلة، فأقام به، فوافاه في ذلك اليوم إبراهيم بن جعفر المعروف بالهمداني، ولم يكن لحق به إلا في ذلك الوقت، وأتاه بكتب فقرأها، فلما صلى العشاء الآخرة، أتاه إبراهيم، فقال له: ليس الرأي لك إتيان المذار، قال: فما الرأي؟ قال: ترجع، فقد بايع لك أهل عبادان وميان روذان وسليمانان، وخلفت جمعا من البلالية بفوهة القندل وأبرسان ينتظرونك فلما سمع السودان ذلك من قول إبراهيم مع ما كان رميس عرض عليه في ذلك اليوم خافوا إن يكون احتال عليهم ليردهم إلى مواليهم، فهرب بعضهم، واضطرب الباقون فجاءه محمد بن سلم فأعلمه اضطرابهم، وهرب من هرب منهم، فأمر بجمعهم في ليلته تلك، ودعا مصلحا، وميز الزنج من الفراتية ثم أمر مصلحا أن يعلمهم أنه لا يردهم ولا أحدا منهم إلى مواليهم، وحلف لهم على ذلك بالأيمان الغلاظ، وقال: ليحط بي منكم جماعة، فإن أحسوا مني غدرا فتكوا بي ثم جمع

الباقين، وهم الفراتية والقرماطيون والنوبة وغيرهم ممن يفصح بلسان العرب، فحلف لهم على مثل ذلك، وضمن ووثق من نفسه، وأعلمهم أنه لم يخرج لعرض من أعراض الدنيا، وما خرج إلا غضبا لله، ولما رأى ما عليه الناس من الفساد في الدين، وقال: ها أنا ذا معكم في كل حرب، أشرككم فيها بيدي، وأخاطر معكم فيها بنفسي فرضوا ودعوا له بخير فلما أسحر أمر غلاما من الشورجيين يكنى أبا منارة، فنفخ في بوق لهم كانوا يجتمعون بصوته، وسار حتى اتى السيب راجعا، فالفى هناك الحميري ورميسا وصاحب ابن أبي عون، فوجه إليهم مشرقا برسالة أخفاها، فرجع إليه بجوابها، فصار صاحب الزنج إلى النهر، فتقدم صاحب محمد بن أبي عون، فسلم عليه، وقال له: لم يكن جزاء صاحبنا منك أن تفسد عليه عمله، وقد كان منه إليك ما قد علمت بواسط، فقال: لم آت لقتالكم، فقل لأصحابك يوسعون لي في الطريق، حتى أجاوزكم. فخرج من النهر إلى دجلة، ولم يلبث أن جاء الجند ومعهم أهل الجعفرية في السلاح الشاك، فتقدم المكتنى بأبي يعقوب المعروف بجربان، فقال لهم: يا أهل الجعفرية، أما علمتم ما أعطيتمونا من الأيمان المغلظة ألا تقاتلونا، ولا تعينوا علينا أحدا، وأن تعينونا متى اجتاز بكم أحد منا! فارتفعت أصواتهم بالنعير والضجيج، ورموه بالحجارة والنشاب وكان هناك موضع فيه زهاء ثلاثمائة زرنوق، فأمر بأخذها فأخذت، وقرن بعضها ببعض حتى صارت كالشاشات، وطرحت إلى الماء، وركبها المقاتلة فلحقوا القوم، فقال بعضهم: عبر علي بن أبان يومئذ قبل أخذ الزرانيق سباحة، ثم جمعت الزرانيق، وعبر الزنج، وقد زالوا عن شاطئ النهر فوضعوا فيهم السيف، فقتل منهم خلق كثير، وأتى منهم بأسرى، فوبخهم وخلى سبيلهم، ووجه غلاما من غلمان الشورجيين يقال له سالم يعرف بالزغاوي، إلى من كان دخل الجعفرية من أصحابه، فردهم، ونادى: ألا برئت الذمة ممن انتهب شيئا

من هذه القرية، أو سبى منها أحدا، فمن فعل ذلك فقد حلت به العقوبة الموجعة. ثم عبر من غربي السيب إلى شرقيه، واجتمع أصحابه الرؤساء حتى إذا جاوز القرية بمقدار غلوة سمع النعير من ورائه في بطن النهر، فتراجع الزنج، فإذا رميس والحميري وصاحب ابن أبي عون قد وافوه لما بلغهم حال أهل الجعفرية فألقى السودان أنفسهم عليهم، فأخذوا منهم أربع سميريات بملاحيها ومقاتليها، فأخرجوا السميريات بمن فيها، ودعا بالمقاتلة فسألهم، فأخبروه أن رميسا وصاحب ابن أبي عون لم يدعاهم حتى حملاهم على المصير إليه، وأن أهل القرى حرضوا رميسا وضمنوا له ولصاحب ابن أبي عون مالا جليلا، وضمن له الشورجيون على رد غلمانهم، لكل غلام خمسة دنانير، فسألهم عن الغلام المعروف بالنميري المأسور والمعروف بالحجام، فقالوا: أما النميري فأسير في أيديهم، وأما الحجام فإن أهل الناحية ذكروا أنه كان يتلصص في ناحيتهم، ويسفك الدماء، فضربت عنقه، وصلب على نهر أبي الأسد. فلما عرف خبرهم أمر بضرب أعناقهم، فضربت إلا رجلا يقال له محمد بن الحسن البغدادي، فإنه حلف له أنه جاء في الأمان، لم يشهر عليه سيفا، ولا نصب له حربا، فأطلقه وحمل الرءوس والأعلام على البغال، وأمر بإحراق سفنهم فأحرقت. وسار حتى أتى نهر فريد، فانتهى إلى نهر يعرف بالحسن بن محمد القاضي وعليه مسناة تعترض بين الجعفرية ورستاق القفص، فجاءه قوم من أهل القرية من بني عجل، فعرضوا عليه أنفسهم، وبذلوا له ما لديهم، فجزاهم خيرا، وأمر بترك العرض لهم. وسار حتى أتى نهرا يعرف بباقثا، فنزل خارجا من القرية التي على النهر وهي قرية تشرع على دجيل، فأتاه أهل الكرخ، فسلموا عليه، ودعوا له بخير، وأمدوه من الأنزال بما أراد وجاءه رجل يهودي خيبري يقال له ماندويه فقبل يده، وسجد له- زعم- شكرا لرؤيته إياه، ثم سأله عن مسائل كثيرة، فأجابه عنها، فزعم أنه يجد صفته في التوراة، وأنه يرى القتال معه، وسأله

عن علامات في بدنه ذكر أنه عرفها فيه، فأقام معه ليلته تلك يحادثه. وكان إذا نزل اعتزل عسكره بأصحابه الستة، ولم يكن يومئذ ينكر النبيذ على أحد من أصحابه، وكان يتقدم إلى محمد بن سلم في حفظ عسكره، فلما كان في تلك الليلة أتاه في آخر الليل رجل من أهل الكرخ، فأعلمه أن رميسا وأهل المفتح والقرى التي تتصل بها وعقيلا واهل الأيلة قد أتوه ومعهم الدبيلا بالسلاح الشاك، وأن الحميري في جمع من أهل الفرات وقد صاروا في تلك الليلة إلى قنطرة نهر ميمون، فقطعوها ليمنعوه العبور فلما أصبح أمر، فصيح بالزنج، فعبروا دجيلا، وأخذ في مؤخر الكرخ حتى وافى نهر ميمون، فوجد القنطرة مقطوعة، والناس في شرقي النهر والسميريات في بطنه، والدبيلا في السميريات، وأهل القرى في الجريبيات والمجونحات، فأمر أصحابه بالإمساك عنهم، وأن يرحلوا عن النهر توقيا للنشاب، ورجع فقعد على مائة ذراع من القرية، فلما لم يروا أحدا يقاتلهم خرج منهم قوم ليعرفوا الخبر، وقد كان أمر جماعة من أصحابه، فأتوا القرية، فكمنوا فيها مخفين لأشخاصهم، فلما أحسوا خروج من خرج منهم، شدوا عليهم، فأسروا اثنين وعشرين رجلا، وسعوا نحو الباقين، فقتلوا منهم جماعة على شاطئ النهر، ورجعوا إليه بالرءوس والأسرى، فأمر بضرب أعناقهم بعد مناظرة جرت بينه وبينهم، وأمر بالاحتفاظ بالرءوس، وأقام إلى نصف النهار، وهو يسمع أصواتهم، فأتاه رجل من أهل البادية مستأمنا، فسأله عن غور النهر، فأعلمه أنه يعرف موضعا منه يخاض، وأعلمه أن القوم على معاودته بجمعهم يقاتلونه، فنهض مع الرجل حتى أتى به موضعا على مقدار ميل من المحمدية، فخاض النهر بين يديه، وخاض الناس خلفه، وحمله ناصح المعروف بالرملي، وعبر بالدواب، فلما صار في شرقي النهر كر راجعا نحو نهر ميمون، حتى أتى المسجد فنزل فيه، وأمر بالرءوس فنصبت، وأقام يومه، وانحدر جيش رميس بجمعه في بطن دجيل، فأقاموا بموضع يعرف بأقشى بإزاء النهر المعروف

ببرد الخيار، ووجه طليعة فرجع إليه، فأخبره بمقام القوم هناك، فوجه من ساعته ألف رجل، فأقاموا بسبخة هناك على فوهة هذا النهر، وقال لهم: إن أتوكم إلى المغرب، وإلا فأعلموني وكتب كتابا إلى عقيل، يذكره فيه انه قد بايعه في جماعة من أهل الأبلة، وكتب إلى رميس يذكره حلفه له بالسيب أنه لا يقاتله، وأنه ينهي أخبار السلطان إليه، ووجه بالكتابين إليهما مع بعض الأكرة بعد أن أحلفه أن يوصلهما. وسار من نهر ميمون يريد السبخة التي كان هيأ فيها طليعة، فلما صار إلى القادسية والشيفيا، سمع هناك نعيرا، ورأى رميا، وكان إذا سار يتنكب القرى، فلم يدخلها، وأمر محمد بن سلم أن يصير إلى الشيفيا في جماعة، فيسأل أهلها أن يسلموا إليه قاتل الرجل من أصحابه في ممره كان بهم، فرجع إليه، فأخبره أنهم زعموا أنه لا طاقة لهم بذلك الرجل لولائه من الهاشميين ومنعهم له، فصاح بالغلمان، وأمرهم بانتهاب القريتين، فانتهب منهما مالا عظيما، عينا وورقا وجوهرا وحليا وأواني ذهب وفضة، وسبى منهما يومئذ غلمانا ونسوة، وذلك أول سبي سبي، ووقفوا على دار فيها أربعة عشر غلاما من غلمان الشورج، قد سد عليهم باب، فأخذهم وأتي بمولى الهاشميين القاتل صاحبه فأمر محمد بن سلم بضرب عنقه، ففعل ذلك، وخرج من القريتين في وقت العصر، فنزل السبخة المعروفة ببرد الخيار. فلما كان في وقت المغرب أتاه أحد أصحابه الستة، فأعلمه أن أصحابه، قد شغلوا بخمور وأنبذة وجدوها في القادسية، فصار ومعه محمد بن سلم ويحيى ابن محمد إليهم، فأعلمهم أن ذلك مما لا يجوز لهم، وحرم النبيذ في ذلك اليوم عليهم، وقال لهم: إنكم تلاقون جيوشا تقاتلونهم، فدعوا شرب النبيذ والتشاغل به، فأجابوه إلى ذلك، فلما أصبح جاءه غلام من السودان، يقال له قاقويه، فأخبره أن أصحاب رميس قد صاروا إلى شرقي دجيل، وخرجوا إلى الشط، فدعا علي بن أبان، فتقدم إليه أن يمضي بالزنج، فيوقع بهم،

ودعا مشرقا، فأخذ منه اصطرلابا، فقاس به الشمس، ونظر في الوقت، ثم عبر وعبر الناس خلفه القنطرة التي على النهر المعروف ببرد الخيار، فلما صاروا في شرقيه، تلاحق الناس بعلي بن أبان، فوجدوا أصحاب رميس وأصحاب عقيل على الشط، والدبيلا في السفن يرمون بالنشاب، فحملوا عليهم، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وهبت ريح من غربي دجيل، فحملت السفن، فأدنتها من الشط، فنزل السودان إليها، فقتلوا من وجدوا فيها، وانحاز رميس ومن كان معه إلى نهر الدير على طريق أقشى، وترك سفنه لم يحركها ليظن أنه مقيم، وخرج عقيل وصاحب ابن أبي عون إلى دجلة مبادرين، لا يلويان على شيء وأمر صاحب الزنج بإخراج ما في السفن التي فيها الدبيلا، وكانت مقرونا بعضها ببعض، فنزل فيها قاقويه ليفتشها، فوجد رجلا من الدبيلا، فحاول اخراجه فامتنع عليه، واهوى اليه بسرتى كان معه، فضربه ضربة على ساعده، فقطع بها عرقا من عروقه، وضربه ضربة على رجله، فقطعت عصبة من عصبه، وأهوى له قاقويه، فضربه ضربة على هامته فسقط، فأخذ بشعره، واحتز رأسه، فأتى به صاحب الزنج، فأمر له بدينار خفيف، وأمر يحيى بن محمد أن يقوده على مائة من السودان ثم سار صاحب الزنج إلى قرية تعرف بالمهلبي تقابل قياران، ورجع السودان الذين كانوا اتبعوا عقيلا وخليفة ابن أبي عون، وقد أخذ سميرية فيها ملاحان، فسألهم عن الخبر، فقالوا: اتبعناهم فطرحوا أنفسهم إلى الشط، وتركوا هذه السميرية، فجئنا بها. فسأل الملاحين، فأخبراه أن عقيلا حملهما على إتباعه قهرا، وحبس نساءهما حتى اتبعاه، وفعل ذلك بجميع من تبعه من الملاحين، فسألهما عن سبب مجيء الدبيلا، فقالا: إن عقيلا وعدهم مالا، فتبعوه، فسألهما عن السفن الواقعة بأقشى، فقالا: هذه سفن رميس وقد تركها، وهرب في أول النهار، فرجع حتى إذا حاذاها أمر السودان فعبروا، فأتوه بها، فأنهبهم ما كان فيها، وأمر بها فأحرقت، ثم صار إلى القرية المعروفة بالمهلبية واسمها تنغت، فنزل

قريبا منها، وأمر بانتهابها وإحراقها، فانتهبت وأحرقت، وسار على نهر الماديان، فوجد فيها تمورا، فأمر بإحراقها. وكان لصاحب الزنج بعد ذلك أمور من عيثه هو وأصحابه في تلك الناحية تركنا ذكرها، إذ لم تكن عظيمة. وإن كان كل أموره كانت عظيمة ثم كان من عظيم ما كان له من الوقائع مع أصحاب السلطان وقعة كانت مع رجل من الأتراك يكنى أبا هلال في سوق الريان، ذكر عن قائد من قواده يقال له ريحان، أن هذا التركي وافاهم في هذا السوق، ومعه زهاء أربعة آلاف رجل أو يزيدون، وفي مقدمته قوم عليهم ثياب مشهرة وأعلام وطبول، وأن السودان حملوا عليه حملة صادقة، وأن بعض السودان ألقى صاحب علم القوم فضربه بخشبتين كانتا معه في يده فصرعه، وانهزم القوم، وتلاحق السودان، فقتلوا من أصحاب أبي هلال زهاء ألف وخمسمائة وإن بعضهم اتبع أبا هلال ففاته بنفسه على دابة عري، وحال بينهم وبين من أفلت ظلمة الليل، وأنه لما أصبح أمر بتتبعهم، ففعلوا ذلك فجاءوا بأسرى ورءوس، فقتل الأسرى كلهم. ثم كانت له وقعة أخرى بعد هذه الوقعة مع أصحاب السلطان، هزمهم فيها، وظفر بهم، وكان مبتدأ الأمر في ذلك- فيما ذكر عن قائد لصاحب الزنج من السودان يقال له ريحان- أنه قال: لما كان في بعض الليل من ليالي هذه السنة التي ذكرنا أنه ظهر فيها، سمع نباح كلب في أبواب تعرف بعمرو بن مسعدة، فأمر بتعرف الموضع الذي يأتي منه النباح، فوجه لذلك رجلا من أصحابه، ثم رجع فأخبره أنه لم ير شيئا، وعاد النباح قال ريحان: فدعاني، فقال لي: صر إلى موضع هذا الكلب النابح، فإنه إنما نبح شخصا يراه، فصرت فإذا أنا بالكلب على المسناة، ولم أر شيئا، فأشرفت فإذا أنا برجل قاعد في درجات هنا لك، فكلمته، فلما سمعني أفصح بالعربية كلمني، فقال: أنا سيران بن عفو الله، أتيت صاحبكم بكتب من شيعته بالبصرة، وكان سيران هذا أحد من صحب صاحب الزنج أيام مقامه بالبصرة، فأخذته فأتيته به، فقرأ الكتب التي كانت معه، وسأله عن الزينبي

وعن عدة من كان معه، فقال: إن الزينبي قد أعد لك الخول والمطوعة والبلالية والسعدية، وهم خلق كثير، وهو على لقائك بهم ببيان، فقال له: اخفض صوتك، لئلا يرتاع الغلمان بخبرك وسأله عن الذي يقود هذا الجيش، فقال: قد ندب لذلك المعروف بأبي منصور، وهو أحد موالي الهاشميين: قال له: أفرأيت جمعهم؟ قال: نعم، وقد أعدوا الشرط لكتف من ظفروا به من السودان، فأمره بالانصراف إلى الموضع الذي يكون فيه مقامه، فانصرف سيران إلى علي بن أبان ومحمد بن سلم ويحيى بن محمد، فجعل يحدثهم إلى أن أسفر الصبح، ثم سار صاحب الزنج إلى أن أشرف عليهم فلما انتهى إلى مؤخر ترسى وبرسونا وسندادان بيان، عرض له قوم يريدون قتاله، فأمر علي بن أبان فأتاهم فهزمهم، وكان معهم مائة أسود، فظفر بهم قال ريحان: فسمعته يقول لأصحابه: من أمارات تمام أمركم ما ترون من إتيان هؤلاء القوم بعبيدهم فيسلمونهم إليكم، فيزيد الله في عددكم. ثم سار حتى صار إلى بيان. قال ريحان: فوجهني وجماعة من أصحابه إلى الحجر لطلب الكاروان وعسكرهم في طرف النخل في الجانب الغربي من بيان، فوجهنا إلى الموضع الذي امرنا بالمصير اليه، فالفينا هناك ألفا وتسعمائة سفينة، ومعها قوم من المطوعة قد احتبسوها، فلما رأونا خلوا عن السفن، وعبروا سلبان عرايا ماضين نحو جوبك وسقنا السفن حتى وافيناه بها، فلما أتيناه بها أمر فبسط له على نشز من الأرض وقعد، وكان في السفن قوم حجاج أرادوا سلوك طريق البصرة، فناظرهم بقية يومه إلى وقت غروب الشمس، فجعلوا يصدقونه في جميع قوله، وقالوا: لو كان معنا فضل نفقة لأقمنا معك، فردهم إلى سفنهم، فلما أصبحوا أخرجهم، فأحلفهم ألا يخبروا أحدا بعدة أصحابه، وأن يقللوا أمره عند من سألهم عنه وعرضوا عليه بساطا كان معهم، فأبدله ببساط كان معه، واستحلفهم أنه لا مال

للسلطان معهم ولا تجارة، فقالوا: معنا رجل من أصحاب السلطان، فأمر بإحضاره، فأحضر، فحلف الرجل أنه ليس من أصحاب السلطان، وأنه رجل معه نقل أراد به البصرة، فأحضر صاحب السفينة التي وجد فيها، فحلف له أنه إنما اتجر فيه، فحمله فخلى سبيله، واطلق الحجاج فذهبوا، وشرع اهل سليمانان على بيان بإزائه في شرقي النهر، فكلمهم أصحابه وكان فيهم حسين الصيدناني الذي كان صحبه بالبصرة، وهو أحد الأربعة الذين ظهروا بمسجد عباد، فلحق به يومئذ، فقال له: لم أبطأت عني إلى هذه الغاية؟ قال: كنت مختفيا، فلما خرج هذا الجيش دخلت في سواده قال: فأخبرني عن هذا الجيش، ما هم؟ وما عدة أصحابه؟ قال: خرج من الخول بحضرتي ألف ومائتا مقاتل، ومن أصحاب الزينبي ألف، ومن البلالية والسعدية زهاء ألفين، والفرسان مائتا فارس ولما صاروا بالأبلة وقع بينهم وبين أهلها اختلاف، حتى تلاعنوا، وشتم الخول محمد بن أبي عون، وخلفتهم بشاطئ عثمان وأحسبهم مصبحيك في غد قال: فكيف يريدون أن يفعلوا إذا أتونا؟ قال: هم على إدخال الخيل من سندادان بيان، ويأتيك رجالهم من جنبي النهر. فلما أصبح وجه طليعة ليعرف الخبر، واختاره شيخا ضعيفا زمنا لئلا يعرض له، فلم يرجع إليه طليعته فلما أبطأ عنه وجه فتحا الحجام ومعه ثلاثمائة رجل، ووجه يحيى بن محمد إلى سندادان، وأمره أن يخرج في سوق بيان، فجاءه فتح فأخبره أن القوم مقبلون إليه في جمع كثير، وأنهم قد أخذوا جنبتي النهر، فسأل عن المد، فقيل: لم يأت بعد، فقال: لم تدخل خيلهم بعد، وأمر محمد بن سلم وعلي بن أبان أن يقعدا لهم في النخل، وقعد هو على جبل مشرف عليهم، فلم يلبث أن طلعت الأعلام والرجال حتى صاروا إلى الأرض المعروفة بأبي العلاء البلخي، وهي عطفة على دبيران، فأمر الزنج فكبروا ثم حملوا عليهم فوافوا بهم دبيران، ثم حمل الحول يقدمهم أبو العباس بن أيمن المعروف بأبي الكباش وبشير القيسي، فتراجع الزنج حتى بلغوا الجبل الذي هو عليه، ثم رجعوا عليهم، فثبتوا لهم، وحمل أبو الكباش على فتح الحجام فقتله، وأدرك غلاما يقال له دينار من السودان فضربه

ضربات، ثم حمل السودان عليهم، فوافوا بهم شاطئ بيان، وأخذتهم السيوف. قال ريحان: فعهدي بمحمد بن سلم وقد ضرب أبا الكباش، فألقى نفسه في الطين، فلحقه بعض الزنج، فاحتز رأسه وأما علي بن أبان، فإنه كان ينتحل قتل أبي الكباش وبشير القيسي، وكان يتحدث عن ذلك اليوم فيقول: كان أول من لقيني بشير القيسي، فضربني وضربته، فوقعت ضربته في ترسي، ووقعت ضربتي في صدره وبطنه، فانتظمت جوانح صدره، وفريت بطنه، وسقط فأتيته، فاحتززت راسه ولقبني أبو الكباش، فشغل بي، وأتاه بعض السودان من ورائه فضربه بعصا كانت في يده على ساقيه، فكسرهما فسقط، فأتيته ولا امتناع به، فقتلته واحتززت رأسه، فأتيت بالرأسين صاحب الزنج. قال محمد بن الحسن بن سهل: سمعت صاحب الزنج يخبر أن عليا أتاه برأس أبي الكباش ورأس بشير القيسي- قال: ولا اعرفهما- فقال: كان هذان يقدمان القوم، فقتلتهما فانهزم أصحابهما لما رأوا مصرعهما. قال ريحان- فيما ذكر عنه: وانهزم الناس فذهبوا كل مذهب، واتبعهم السودان إلى نهر بيان، وقد جزر النهر، فلما وافوه انغمسوا في الوحل، فقتل أكثرهم قال: وجعل السودان يمرون بصاحبهم دينار الأسود الذي كان أبو الكباش ضربه، وهو جريح ملقى، فيحسبونه من الخول فيضربونه بالمناجل حتى أثخن، ومر به من عرفه، فحمل إلى صاحب الزنج، فأمر بمداواة كلومه. قال ريحان: فلما صار القوم إلى فوهة نهر بيان، وغرق من غرق، وأخذت السفن التي كانت فيها الدواب، إذا ملوح يلوح من سفينة، فأتيناه فقال: ادخلوا النهر المعروف بشريكان، فإن لهم كمينا هناك، فدخل يحيى ابن محمد وعلي بن أبان، فأخذ يحيى في غربي النهر، وسلك علي بن أبان في شرقيه، فإذا كمين في زهاء ألف من المغاربة، ومعهم حسين الصيداني

أسيرا قال: فلما رأونا شدوا على الحسين، فقطعوه قطعا، ثم أقبلوا إلينا، ومدوا رماحهم، فقاتلوا إلى صلاة الظهر، ثم أكب السودان عليهم فقتلوهم أجمعين، وحووا سلاحهم، ورجع السودان إلى عسكرهم، فوجدوا صاحبهم قاعدا على شاطئ بيان، وقد أتي بنيف وثلاثين علما وزهاء ألف رأس، فيها رءوس أنجاد الخول وأبطالهم، ولم يلبث أن أتوه بزهير يومئذ. قال ريحان: فلم أعرفه، فأتى يحيى وهو بين يديه، فعرفه فقال لي: هذا زهير الخول، فما استبقاؤك إياه! فأمر به فضربت عنقه وأقام صاحب الزنج يومه وليلته فلما أصبح وجه طليعة إلى شاطئ دجلة، فأتاه طليعته، فأعلمه أن بدجلة شذاتين لاصقتين بالجزيرة، والجزيرة يومئذ على فوهة القندل، فرد الطليعة بعد العصر إلى دجلة ليعرف الخبر، فلما كان وقت المغرب أتاه المعروف بأبي العباس خال ابنه الأكبر، ومعه رجل من الجند يقال له عمران، وهو زوج أم أبي العباس هذا، فصف لهما أصحابه، ودعا بهما، فأدى إليه عمران رسالة ابن أبي عون، وسأله أن يعبر بيانا ليفارق عمله، وأعلمه أنه قد نحى الشذا عن طريقه، فأمر بأخذ السفن التي تخترق بيانا من جبى، فصار أصحابه إلى الحجر، فوجدوا في سلبان مائتي سفينة، فيها أعدال دقيق، فأخذت، ووجد فيها أكسية وبركانات، وفيها عشرة من الزنج، وأمر الناس بركوب السفن، فلما جاء المد- وذلك في وقت المغرب- عبر وعبر أصحابه حيال فوهة القندل، واشتدت الريح، فانقطع عنه من اصحابه المكنى بابى دلف، وكان معه السفن التي فيها الدقيق، فلما أصبح وافاه أبو دلف فأخبره أن الريح حملته إلى حسك عمران، وأن أهل القرية هموا به، وبما كان معه، فدفعهم عن ذلك وأتاه من السودان خمسون رجلا، فسار عند موافاة السفن والسودان إياه حتى دخل القندل، فصار إلى قرية للمعلى بن أيوب، فنزلها، وانبث اصحابه الى دبا، فوجدوا هناك ثلاثمائة رجل من الزنج، فأتوه بهم، ووجدوا وكيلا للمعلى بن أيوب، فطالبه بمال، فقال: أعبر الى برسان،

فآتيك بالمال، فأطلقه، فذهب ولم يعد إليه، فلما أبطأ عليه أمر بانتهاب القرية فانتهبت. قال ريحان- فيما ذكر عنه: فلقد رأيت صاحب الزنج يومئذ ينتهب معنا، ولقد وقعت يدي ويده على جبة صوف مضربة، فصار بعضها في يده وبعضها في يدي، وجعل يجاذبني عليها حتى تركتها له ثم سار حتى صار إلى مسلحة الزينبي على شاطئ القندل في غربي النهر، فثبت له القوم الذين كانوا في المسلحة، وهم يرون أنهم يطيقونه، فعجزوا عنه، فقتلوا أجمعين، وكانوا زهاء مائتين، وبات ليلته في القصر، ثم غدا في وقت المد قاصدا إلى سبخة القندل، واكتنف أصحابه حافتي النهر، حتى وافوا منذران، فدخل أصحابه القرية فانتهبوها، ووجدوا فيها جمعا من الزنج، فأتوه بهم، ففرقهم على قواده، ثم صار إلى مؤخر القندل، فأدخل السفن النهر المعروف بالحسني النافذ إلى النهر المعروف بالصالحى، وهو نهر يؤدى الى دبا، فأقام بسبخة هناك. فذكر عن بعض أصحابه انه قال: هاهنا قود القواد، وأنكر أن يكون قود قبل ذلك وتفرق أصحابه في الأنهار حتى صاروا إلى مربعة دبا، فوجدوا رجلا من التمارين من أهل كلاء البصرة، يقال له محمد بن جعفر المريدي، فأتوه به، فسلم عليه وعرفه، وسأله عن البلالية، فقال: إنما أتيتك برسالتهم، فلقيني السودان، فأتوك بي، وهم يسألونك شروطا إذا أعطيتهم إياها سمعوا لك وأطاعوا، فأعطاه ما سأل لهم، وضمن القيام له بأمرهم، حتى يصيروا في حيزه، ثم خلى سبيله، ووجه معه من صيره إلى الفياض، ورجع عنه، فأقام أربعة أيام ينتظره، فلم يأته، فسار في اليوم الخامس وقد سرح السفن التي كانت معه في النهر، وأخذ هو على الظهر فيما بين نهر يقال له الداورداني والنهر المعروف بالحسني والنهر المعروف بالصالحي، فلم يتعد حتى رأى خيلا مقبلة من نحو نهر الأمير زهاء ستمائه فارس، فأسرع أصحابه

إلى النهر الداورداني، وكان الخيل في غربيه، فكلموهم طويلا، وإذا هم قوم من الأعراب فيهم عنترة بن حجنا وثمال، فوجه إليهم محمد بن سلم، فكلم ثمالا وعنترة، وسألا عن صاحب الزنج، فقال: ها هو ذا، فقال: نريد كلامه، فأتاه فأخبره بقولهما، وقال له: لو كلمتهما! فزجره، وقال: إن هذا مكيدة، وأمر السودان بقتالهم، فعبروا النهر، فعدلت الخيل عن السودان، ورفعوا علما أسود، وظهر سليمان أخو الزينبي- وكان معهم- ورجع أصحاب صاحب الزنج، وانصرف القوم، فقال لمحمد بن سلم: ألم أعلمك أنهم إنما أرادوا كيدنا! وسار حتى صار إلى دبا، وانبث أصحابه في النخل، فجاءوا بالغنم والبقر، فجعلوا يذبحون ويأكلون، وأقام ليلته هناك، فلما أصبح سار حتى دخل الأرخنج المعروف بالمطهري، وهو أرخنج ينفذ إلى نهر الأمير المقابل للفياض من جانبيه، فوجدوا هناك شهاب بن العلاء العنبري، ومعه قوم من الخول، فأوقعوا به، وأفلت شهاب في نفير ممن كان معه، وقتل من أصحابه جماعة، ولحق شهاب بالمنصف من الفياض، ووجد اصحاب صاحب الزنج ستمائه غلام من غلمان الشورجيين هناك، فاخذوهم، وقتلوا وكلاءهم، وأتوه بهم، ومضى حتى انتهى إلى قصر يعرف بالجوهري على السبخة المعروفة بالبرامكة، فأقام فيه ليلته تلك، ثم سار حيث أصبح حتى وافى السبخة التي تشرع على النهر المعروف بالديناري، ومؤخرها يفضي إلى النهر المعروف بالمحدث، فأقام بها، وجمع أصحابه، وأمرهم ألا يعجلوا بالذهاب إلى البصرة حتى يأمرهم وتفرق أصحابه في انتهاب كل ما وجدوا، وبات هناك ليلته تلك.

ذكر الخبر عن مسير صاحب الزنج بزنوجه وجيوشه فيها إلى البصره

ذكر الخبر عن مسير صاحب الزنج بزنوجه وجيوشه فيها إلى البصرة ذكر أنه سار من السبخة التي تشرع على النهر المعروف بالدينارى، ومؤخرها يفضى الى النهر المعروف بالحدث، بعد ما جمع بها أصحابه يريد البصرة، حتى إذا قابل النهر المعروف بالرياحي أتاه قوم من السودان، فأعلموه أنهم رأوا في الرياحي بارقة، فلم يلبث إلا يسيرا حتى تنادى الزنج السلاح، فامر على بن ابان بالعبور إليهم، وكان القوم في شرقي النهر المعروف بالديناري، فعبر في زهاء ثلاثة آلاف، وحبش صاحب الزنج عنده أصحابه، وقال لعلي: إن احتجت إلى مزيد في الرجال فاستمدني فلما مضى، صاح الزنج: السلاح! لحركة رأوها من غير الجهة التي صار إليها علي، فسأل عن الخبر، فأخبر أنه قد أتاه قوم من ناحية القرية الشارعة على نهر حرب المعروفة بالجعفرية، فوجه محمد بن سلم إلى تلك الناحية. فذكر عن صاحبه المعروف بريحان، أنه قال: كنت فيمن توجه مع محمد، وذلك في وقت صلاة الظهر، فوافينا القوم بالجعفرية، فنشب القتال بيننا وبينهم إلى آخر وقت العصر، ثم حمل السودان عليهم حملة صادقة، فولوا منهزمين وقتل من الجند والأعراب واهل البصره البلاليه والسعديه خمسمائة رجل، وكان فتح المعروف بغلام أبي شيث معهم يومئذ، فولى هاربا، فاتبعه فيروز الكبير، فلما رآه جادا في طلبه رماه ببيضة كانت على رأسه، فلم يرجع عنه، فرماه بترسه فلم يرجع عنه، فرماه بتنور حديد كان عليه فلم يرجع عنه، ووافى به نهر حرب، فألقى فتح نفسه فيه، فأفلت ورجع فيروز، ومعه ما كان فتح القاه من سلاحه، حتى أتى به صاحب الزنج. قال محمد بن الحسن: قال شبل: حكي لنا ان فتحا ظفر يومئذ نهر حرب، قال: فحدثت هذا الحديث الفضل بن عدي الدارمي،

فقال: أنا يومئذ مع السعدية، ولم يكن على فتح تنور حديد، وما كان عليه إلا صدرة حرير صفراء، ولقد قاتل يومئذ حتى لم يبق أحد يقاتل، وأتى نهر حرب، فوثبه حتى صار إلى الجانب الغربي منه ولم يعرف ما حكى ريحان من خبر فيروز. قال: وقال ريحان: لقيت فيروز قبل انتهائه إلى صاحب الزنج، فاقتص علي قصته وقصه فتح، وأراني السلاح وأقبل الزنج على أخذ الأسلاب، وأخذت على النهر المعروف بالديناري، فإذا أنا برجل تحت نخلة عليه قلنسوة خز، وخف أحمر ودراعة، فأخذته فأراني كتبا معه، وقال لي: هذه كتب لقوم من أهل البصرة، وجهوني بها، فألقيت في عنقه عمامة، وقدته إليه، وأعلمته خبره، فسأله عن اسمه فقال: أنا محمد بن عبد الله، وأكنى بأبي الليث، من أهل أصبهان، وإنما أتيتك راغبا في صحبتك، فقبله، ولم يلبث أن سمع تكبيرا، فإذا علي بن أبان قد وافاه ومعه رأس البلالي المعروف بأبي الليث القواريري. قال: وقال شبل: الذي قتل أبا الليث القواريري وصيف المعروف بالزهري وهو من مذكوري البلالية، ورأس المعروف بعبدان الكسبي، وكان له في البلالية صوت في رءوس جماعة منهم، فسأله عن الخبر فأخبره أنه لم يكن فيمن قاتله أشد قتالا من هذين- يعني أبا الليث وعبدان- وأنه هزمهم حتى ألقاهم في نهر نافذ، وكانت معهم شذاة فغرقها، ثم جاءه محمد بن سلم ومعه رجل من البلالية أسيرا، أسره شبل يقال له محمد الأزرق القواريري، ومعه رءوس كثيرة، فدعا الأسير فسأله عن أصحاب هذين الجيشين، فقال له: أما الذين كانوا في الرياحي فإن قائدهم كان أبا منصور الزينبي، وأما الذين كانوا مما يلي نهر حرب، فإن قائدهم كان سليمان أخا الزينبي من ورائهم مصحرا، فسأله عن عددهم فقال له: لا أحصيهم، إلا أني أعلم أنهم كثير عددهم فأطلق محمد القواريري، وضمه إلى شبل، وسار حتى وافى سبخة

الجعفرية، فأقام ليلته بين القتلى، فلما أصبح جمع أصحابه فحذرهم أن يدخل أحد منهم البصرة، وسار فتسرع منهم أنكلويه وزريق وأبو الخنجر- ولم يكن قود يومئذ- وسليم ووصيف الكوفي فوافوا النهر المعروف بالشاذاني، وأتاهم أهل البصرة، وكثروا عليهم، وانتهى الخبر إليه، فوجه محمد بن سلم وعلي بن أبان ومشرقا غلام يحيى في خلق كثير، وجاء هو يسايرهم، ومعه السفن التي فيها الدواب المحمولة ونساء الغلمان حتى أقام بقنطرة نهر كثير قال ريحان: فأتيته وقد رميت بحجر، فأصاب ساقي، فسألني عن الخبر فأخبرته أن الحرب قائمة، فأمرني بالرجوع، وأقبل معي حتى أشرف على نهر السيابجه ثم قال لي: امض إلى أصحابنا، فقل لهم يستأخروا عنهم، فقلت له: ابعد عن هذا الموضع فإني لست آمن عليك الخول فتنحى، ومضيت فأخبرت القواد بما أمر به، فتراجعوا، وأكب أهل البصرة عليهم، وكانت هزيمة وذلك عند العصر، ووقع الناس في النهرين: نهر كثير ونهر شيطان، فجعل يهتف بهم ويردهم فلا يرجعون، وغرق جماعة من أصحابه في نهر كثير، وقتل منهم جماعة على شط النهر وفي الشاذاني، فكان ممن غرق يومئذ من قواده أبو الجون ومبارك البحراني وعطاء البربري وسلام الشامي، ولحقه غلام أبي شيث وحارث القيسي وسحيل، فعلوا القنطرة، فرجع إليهم وانهزموا عنه حتى صاروا إلى الأرض، وهو يومئذ في دراعة وعمامة ونعل وسيف، وترسه في يده، ونزل عن القنطرة وصعدها البصريون يطلبونه، فرجع فقتل منهم بيده رجلا على خمس مراق من القنطرة، وجعل يهتف بأصحابه ويعرفهم مكانه، ولم يكن بقي معه في ذلك الموضع من أصحابه إلا أبو الشوك ومصلح ورفيق غلام يحيى قال ريحان: فكنت معه فرجع، حتى صار إلى المعلى، فنزل في غربي نهر شيطان قال محمد بن الحسن: فسمعت صاحب الزنج يحدث، قال: لقد

رأيتني في بعض نهار هذا اليوم، وقد ضللت عن أصحابي، وضلوا عني، فلم يبق معي إلا مصلح ورفيق، وفي رجلي نعل سندي، وعلي عمامة قد انحل كور منها فأنا أسحبها من ورائي، ويعجلني المشي عن رفعها، ومعي سيفي وترسي وأسرع مصلح ورفيق في المشي وقصرت، فغابا عني، ورأيت في أثري رجلين من أهل البصرة، في يد أحدهما سيف، وفي يد الآخر حجارة، فلما رأياني عرفاني، فجدا في طلبي، فرجعت إليهما، فانصرفا عني، ومضيت حتى خرجت إلى الموضع الذي فيه مجمع أصحابي، وكانوا قد تحيروا لفقدي، فلما رأوني سكنوا إلى رؤيتي قال ريحان: فرجع بأصحابه إلى موضع يعرف بالمعلى في غربي نهر شيطان، فنزل به، وسأل عن الرجال، فإذا قد هرب كثير منهم، ونظر فإذا هو من جميع أصحابه في مقدار خمسمائة رجل، فأمر بالنفخ في البوق الذي كانوا يجتمعون لصوته، فلم يرجع إليه أحد، وبات ليلته، فلما كان في بعض الليل جاء الملقب بجربان، وقد كان هرب فيمن هرب، ومعه ثلاثون غلاما فسأله: أين كانت غيبته؟ فقال: ذهبت إلى الزوارقة طليعة قال ريحان: ووجهني لا تعرف له من في قنطرة نهر حرب، فلم أجد هناك أحدا، وقد كان أهل البصرة انتهبوا السفن التي كانت معه، وأخذوا الدواب التي كانت فيها في هذا اليوم، وظفروا بمتاع من متاعه، وكتب من كتبه، واصطرلابات كانت معه، فلما أصبح من غد هذا اليوم نظر في عدة أصحابه، فإذا هم ألف رجل قد كانوا ثابوا إليه في ليلتهم تلك قال ريحان: فكان فيمن هرب شبل، وكان ناصح الرملي ينكر هرب شبل قال ريحان: فرجع شبل من غد، ومعه عشرة غلمان، فلامه وعنفه، وسأل عن غلام كان يقال له نادر يكنى بأبي نعجة، وعن عنبر البربري، فأخبر أنهما هربا فيمن هرب، فأقام في موضعه، وأمر محمد بن سلم أن يصير إلى قنطرة نهر كثير، فيعظ الناس ويعلمهم ما الذي دعاه إلى الخروج، فصار محمد بن سلم وسليمان بن جامع ويحيى بن محمد، فوقف سليمان ويحيى، وعبر

محمد بن سلم حتى توسط أهل البصرة، وجعل يكلمهم، ورأوا منه غرة فانطووا عليه، فقتلوه قال الفضل بن عدي: عبر محمد بن سلم إلى أهل البصرة ليعظهم وهم مجتمعون في أرض تعرف بالفضل بن ميمون، فكان أول من بدر إليه وضربه بالسيف فتح غلام أبي شيث، وأتاه ابن التومني السعدي، فاحتز رأسه، فرجع سليمان ويحيى إليه، فأخبراه الخبر، فأمرهما بطي ذلك عن الناس حتى يكون هو الذي يقوله لهم، فلما صلى العصر نعى محمد بن سلم لأصحابه، وعرف خبره من لم يكن عرفه، فقال لهم: إنكم تقتلون به في غد عشرة آلاف من أهل البصرة ووجه زريقا وغلاما له يقال له سقلبتويا، وأمرهما بمنع الناس من العبور، وذلك في يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وخمسين ومائتين قال محمد بن الحسن: فحدثني محمد بن سمعان الكاتب، قال: لما كان في يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من ذي القعدة جمع له أهل البصرة، وحشدوا له لما رأوا من ظهورهم عليه في يوم الأحد، وانتدب لذلك رجل من أهل البصرة يعرف بحماد الساجي- وكان من غزاة البحر- في الشذا، وله علم بركوبها والحرب فيها، فجمع المطوعة ورماة الأهداف وأهل المسجد الجامع ومن خف معه من حزبي البلالية والسعدية، ومن أحب النظر من غير هذه الأصناف من الهاشميين والقرشيين وسائر أصناف الناس، فشحن ثلاثة مراكب من الشذا من الرماة، وجعلوا يزدحمون في الشذا حرصا على حضور ذلك المشهد، ومضى جمهور الناس رجالة، منهم من معه السلاح، ومنهم نظارة لا سلاح معهم، فدخلت الشذا والسفن النهر المعروف بأم حبيب بعد زوال الشمس من ذلك اليوم في المد ومرت الرجالة والنظارة على شاطئ النهر، قد سدوا ما ينفذ فيه البصر تكاثفا وكثرة، وكان صاحب الزنج مقيما بموضعه من النهر المعروف بشيطان قال محمد بن الحسن: فأخبرنا صاحب الزنج أنه لما أحس بمصير الجمع إليه، وأتته طلائعه بذلك وجه زريقا وأبا الليث الأصبهاني في جماعه

معهما في الجانب الشرقي من النهر كمينا وشبلا وحسينا الحمامي في جماعة من أصحابه في الجانب الغربي بمثل ذلك، وأمر علي بن أبان ومن بقي معه من جمعه بتلقى القوم، وان يجثوا لهم فيمن معه، ويستتروا بتراسهم فلا يثور إليهم منهم ثائر حتى يوافيهم القوم ويوموا إليهم بأسيافهم، فإذا فعلوا ذلك ثاروا إليهم وتقدم إلى الكمينين: إذا جاوزهما الجمع وأحسا بثورة أصحابهم إليهم أن يخرجا من جنبتي النهر، ويصيحا بالناس وأمر نساء الزنج بجمع الآجر وإمداد الرجال به قال: وكان يقول لأصحابه بعد ذلك: لما أقبل إلي الجمع يومئذ وعاينته رأيت أمرا هائلا راعني، وملأ صدري رهبة وجزعا، وفزعت إلى الدعاء، وليس معي من أصحابي إلا نفر يسير، منهم مصلح، وليس منا أحد إلا وقد خيل له مصرعه في ذلك فجعل مصلح يعجبني من كثرة ذلك الجمع، وجعلت أومي إليه أن يمسك فلما قرب القوم مني قلت: اللهم إن هذه ساعة العسرة، فأعني، فرأيت طيورا بيضا تلقت ذلك الجمع، فلم أستتم كلامي حتى بصرت بسميرية قد انقلبت بمن فيها، فغرقوا ثم تلتها الشذا، وثار أصحابي إلى القوم الذين قصدوا لهم فصاحوا بهم وخرج الكمينان عن جنبتي النهر من وراء السفن والرجالة، وخبطوا من ولى من الرجالة والنظارة الذين كانوا على شاطئ النهر المعروف، فغرقت طائفة، وقتلت طائفة، وهربت طائفة نحو الشط طمعا في النجاة، فأدركها السيف، فمن ثبت قتل، ومن رجع إلى الماء غرق، ولجأ من كان على شاطئ النهر من الرجاله الى النهر فغرقوا وقتلوا، حتى ابير أكثر ذلك الجمع، ولم ينج منهم إلا الشريد، وكثر المفقودون بالبصرة، وعلا العويل من نسائهم وهذا يوم الشذا الذي ذكره الناس، وأعظموا ما كان فيه من القتل وكان فيمن قتل من بني هاشم جماعة من ولد جعفر ابن سليمان وأربعون رجلا من الرماة المشهورين، في خلق كثير لا يحصى عددهم.

وانصرف الخبيث وجمعت له الرءوس، فذهب إليه جماعة من أولياء القتلى، فعرضها عليهم، فأخذوا ما عرفوا منها، وعبأ ما بقي عنده من الرءوس التي لم يأت لها طالب في جريبية ملأها منها، وأخرجها من النهر المعروف بأم حبيب في الجزر، وأطلقها فوافت البصرة، فوقفت في مشرعة تعرف بمشرعة القيار، فجعل الناس يأتون تلك الرءوس، فيأخذ رأس كل رجل أولياؤه، وقوي عدو الله بعد هذا اليوم، وتمكن الرعب في قلوب أهل البصرة منه، وأمسكوا عن حربه وكتب إلى السلطان بخبر ما كان منه، فوجه جعلان التركي مددا لأهل البصرة، وأمر أبا الأحوص الباهلي بالمصير إلى الأبلة واليا، وأمده برجل من الأتراك يقال له جريح. فزعم الخبيث أن أصحابه قالوا له بعقب هذه الوقعة: إنا قد قتلنا مقاتلة أهل البصرة، ولم يبق فيها إلا ضعفاؤهم ومن لا حراك به، فأذن لنا في تقحمها. فزبرهم وهجن آراءهم، وقال لهم: لا بل ابعدوا عنها، فقد أرعبناهم وأخفناهم وأمنتم جانبهم، فالرأي الآن أن تدعوا حربهم حتى يكونوا هم الذين يطلبونكم. ثم انصرف باصحابه الى سبخه بماخير أنهارهم، إردب يقارب النهر المعروف بالحاجر قال شبل: هي سبخة أبي قرة وقعها بين النهرين: نهر أبي قرة والنهر المعروف بالحاجر. فأقام هناك، وأمر أصحابه باتخاذ الأكواخ، وهذه السبخة متوسطة النخل والقرى والعمارات، وبث أصحابه يمينا وشمالا يغير بهم على القرى، ويقتل بهم الأكرة وينهب أموالهم، ويسوق مواشيهم. فهذا ما كان من خبره وخبر الناس الذين قربوا من موضع مخرجه في هذه السنة. ولليلتين بقيتا من ذي القعدة منها حبس الحسن بن محمد بن أبي الشوارب القاضي، وولي عبد الرحمن بن نائل البصري قضاء سامرا في ذي الحجة منها. وحج بالناس فيها علي بن الحسن بن إسماعيل بن العباس بن محمد بن علي.

سنه ست وخمسين ومائتين

ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث الجليلة) ذكر الخبر عن وصول موسى بن بغا الى سامرا واختفاء صالح فمن ذلك ما كان من موافاة موسى بن بغا سامرا واختفاء صالح بن وصيف لمقدمه، وحمل من كان مع موسى من قواد المهتدي من الجوسق إلى دار ياجور. ذكر أن دخول موسى بن بغا سامرا بمن معه كان يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرم من هذه السنة، فلما دخلها أخذ في الحير، وعبأ أصحابه ميمنة وميسرة وقلبا في السلاح، حتى صار إلى باب الحير مما يلي الجوسق والقصر الأحمر، وكان ذلك يوما جلس فيه المهتدي للناس للمظالم، فكان ممن أحضره في ذلك اليوم بسبب المظالم أحمد بن المتوكل بن فتيان، فكان في الدار إلى أن دخل الموالي، فحملوا المهتدي إلى دار ياجور، واتبعه أحمد بن المتوكل إلى ما هناك، فلم يزل موكلا به في مضرب مفلح إلى أن انقطع الأمر، ورد المهتدي إلى الجوسق، ثم أطلق وكان القيم بأمر دار الخلافة بايكباك، فصيرها إلى ساتكين قبل ذلك بأيام، فظن الناس أنه إنما فعل ذلك لثقته بساتكين، وأنه على أن يغلب على الدار والخليفة وقت قدوم موسى فلما كان في ذلك اليوم لزم منزله، وترك الدار خالية، وصار موسى في جيشه إلى الدار، والمهتدي جالس للمظالم، فأعلم بمكانه، فأمسك ساعة عن الإذن، ثم أذن لهم، فدخلوا فجرى من الكلام نحو ما جرى يوم قدم الوفد والرسل، فلما طال الكلام تواطنوا فيما بينهم بالتركية، وأقاموه من مجلسه، وحملوه على دابة من دواب الشاكرية، وانتهبوا ما كان في الجوسق من دواب الخاصة، ومضوا يريدون الكرخ، فلما صاروا عند باب الحير في القطائع عند دار ياجور أدخلوه دار ياجور. فذكر عن بعض الموالي ممن حضرهم ذلك اليوم، أن سبب أخذهم المهتدي

ذلك اليوم كان أن بعضهم قال لبعض: إن هذه المطاولة إنما هي حيلة عليكم حتى يكبسكم صالح بن وصيف بجيشه فخافوا ذلك، فحملوه وذهبوا به إلى الموضع الآخر، فذكر عمن سمع المهتدي يقول لموسى: ما تريد ويحك! اتق الله وخفه، فإنك تركب أمرا عظيما قال: فرد عليه موسى: إنا ما نريد إلا خيرا، ولا وتربة المتوكل لا نالك منا شر البتة. قال الذي ذكر ذلك: فقلت في نفسي: لو أراد خيرا لحلف بتربة المعتصم أو الواثق. ولما صاروا به إلى دار ياجور أخذوا عليه العهود والمواثيق ألا يمايل صالحا عليهم، ولا يضمر لهم إلا مثل ما يظهر، ففعل ذلك، فجددوا له البيعة ليلة الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من المحرم، وأصبحوا يوم الثلاثاء، فوجهوا إلى صالح أن يحضرهم للمناظرة، فوعدهم أن يصير إليهم. فذكر عن بعض رؤساء الفراغنة، أنه قيل له: ما الذي تطالبون به صالح ابن وصيف؟ فقال: دماء الكتاب وأموالهم ودم المعتز وأمواله وأسبابه ثم أقبل القوم على إبرام الأمور وعسكرهم خارج باب الحير عند باب ياجور، فلما كانت ليلة الأربعاء استتر صالح، فذكر عن طلمجور أنه قال: لما كانت ليلة الأربعاء اجتمعنا عند صالح، وقد أمر أن يفرق أرزاق أصحاب النوبة عليهم، فقال لبعض من حضره: اخرج فاعرض من حضر من الناس، فكانوا بالغداه زهاء خمسة آلاف قال: فعاد إليه، وقال: يكونون ثمانمائه رجل، أكثرهم غلمانك ومواليك فأطرق مليا، ثم قام وتركنا، ولم يأمر بشيء وكان آخر العهد. وذكر عمن سمع بختيشوع يقول وهو يعرض بصالح قبل قدوم موسى. حركنا هذا الجيش الخشن، وأرغمناه، حتى إذا أقبل إلينا تشاغلنا بالنرد والشرب، كانا بنا وقد اختفينا إذا ورد القاطول! فكان الأمر كذلك. وغدا طغتا إلى باب ياجور سحر يوم الأربعاء فلقيه مفلح، فضربه بطبرزين، فشجه في جانب جبينه الأيمن، فكان الذين أقاموا مع صالح الليلة

ذكر الخبر عن قتل صالح بن وصيف

التي استتر فيها من القواد الكبار طغتا بن الصيغون وطلمجور صاحب المؤيد ومحمد بن تركش وخموش والنوشري، ومن الكتاب الكبار أبو صالح عبد الله ابن محمد بن يزداد وعبد الله بن منصور وأبو الفرج وأصبح الناس يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من المحرم وقد استتر صالح، وغدا أبو صالح إلى دار ياجور، وجاء عبد الله بن منصور، فدخل الدار مع سليمان بن وهب، وتنصح إليهم أن عنده سفاتج بخمسة آلاف دينار. وذكر أن صالحا أراده على حملها، فأبى أن يقر الأمر قراره. وخلع في هذا اليوم على كنجور ليتولى أمر دار صالح وتفتيشها، ومضى ياجور صاحب موسى فأتى بالحسن بن مخلد من الموضع الذي كان فيه محبوسا من دار صالح. وفي هذا اليوم من هذا الشهر ولي سليمان بن عبد الله بن طاهر مدينة السلام والسواد، ووجه إليه بخلع، وزيد على ما كان يخلع على عبيد الله بن عبد الله بن طاهر. وفيه رد المهتدي إلى الجوسق، ودفع عبد الله بن محمد بن يزداد الى الحسن ابن مخلد. وفيه اظهر النداء على صالح . ذكر الخبر عن قتل صالح بن وصيف ولثمان بقين من صفر من هذه السنة قتل صالح بن وصيف. ذكر الخبر عن سبب قتله وسبب الوصول إليه بعد اختفائه: ذكر أن سبب ذلك كان أن المهتدي لما كان يوم الأربعاء لثلاث بقين من المحرم سنة ست وخمسين ومائتين أظهر كتابا، ذكر أن سيما الشرابي زعم أن امرأة جاءت به مما يلي القصر الأحمر، ودفعته الى كافور الخادم الموكل

بالحرم، وقالت له: إن فيه نصيحة، وإن منزلي في موضع كذا فإن أردتموني فاطلبوني هناك، فأوصل الكتاب إلى المهتدي، فلما طلبت في الموضع الذي وصفت حين احتيج إلى بحثها عن الكتاب لم توجد، ولم يعرف لها خبر. وقد ذكر أن المهتدي أصاب ذلك الكتاب، ولم يدر من رمى به، فذكر أن المهتدي دعا سليمان بن وهب بحضرة جماعه من الموالي فيهم موسى ابن بغا ومفلح وبايكباك وياجور وبكالبا وغيرهم، فدفع الكتاب إلى سليمان، وقال له: تعرف هذا الخط؟ قال: نعم، هذا خط صالح بن وصيف، فأمره أن يقرأه عليهم، فإذا صالح يذكر فيه أنه مستخف بسامرا، وأنه إنما استتر متخيرا للسلامة وإبقاء على الموالي، وخوفا من إيصال الفتن بحرب إن حدثت بينهم، وقصدا لأن يبيت القوم، ويكون ما يأتونه بعد بصيرة مما ذكر في هذا الباب. ثم ذكر ما صار إليه من أموال الكتاب، وقال: إن علم ذلك عند الحسن ابن مخلد، وهو أحدهم، وهو في أيديكم ثم ذكر من وصل إليه ذلك المال وتولى تفريقه، وذكر ما صار إليه من أمر قبيحة، وأشار إلى أن علم ذلك عند أبي صالح بن يزداد وصالح العطار، ثم ذكر أشياء في هذا المعنى، بعضها يعتذر به وبعضها يحتج به، ومخرج القول في ذلك يدل على قوة في نفسه. فلما فرغ سليمان من قراءة الكتاب وصله المهتدي بقول منه يحث على الصلح والهدنة والألفة والاتفاق، ويكره إليهم الفرقة والتفاني والتباغض، فدعا ذلك القوم إلى تهمته، وأنه يعلم بمكان صالح، وأنه يتقدمهم عنده، فكان بينهم في ذلك كلام كثير ومناظرات طويلة، ثم أصبحوا يوم الخميس لليلتين بقيتا من المحرم سنة ست وخمسين ومائتين، فصاروا جميعا إلى دار موسى بن بغا في داخل الجوسق يتراطنون ويتكلمون واتصل الخبر بالمهتدي. فذكر عن أحمد بن خاقان الواثقى أنه قال: من ناحيتي انتهى الخبر إلى

المهتدي، وذلك أني سمعت بعض من كان حاضر المجلس وهو يقول: أجمع القوم على خلع الرجل. قال: فصرت إلى أخيه إبراهيم، فأعلمته بذلك، فدخل عليه فأعلمه ذلك، وحكاه عني، فلم أزل خائفا أن يعجل أمير المؤمنين فيخبرهم عني بالخبر، فرزق الله السلامة وذكر أن أخا بايكباك قال لهم في هذا المجلس لما أطلعوه على ما كانوا عزموا عليه: إنكم قتلتم ابن المتوكل، وهو حسن الوجه، سخي الكف، فاضل النفس، وتريدون أن تقتلوا هذا وهو مسلم يصوم ولا يشرب النبيذ من غير ذنب! والله لئن قتلتم هذا لألحقن بخراسان، ولأشيعن أمركم هناك. فلما اتصل الخبر بالمهتدي خرج إلى مجلسه متقلدا سيفا، وقد لبس ثيابا نظافا، وتطيب، ثم أمر بإدخالهم إليه، فأبوا ذلك مليا، ثم دخلوا عليه، فقال لهم: أنه قد بلغني ما أنتم عليه من أمري، ولست كمن تقدمني مثل أحمد بن محمد المستعين، ولا مثل ابن قبيحة، والله ما خرجت إليكم إلا وأنا متحنط، وقد أوصيت إلى أخي بولدي، وهذا سيفي، والله لأضربن به ما استمسك قائمه بيدي، والله لئن سقط من شعري شعرة ليهلكن أو ليذهبن بها أكثركم إما دين! إما حياء! إما رعة! كم يكون هذا الخلاف على الخلفاء والإقدام والجرأة على الله! سواء عليكم من قصد الإبقاء عليكم ومن كان إذا بلغه مثل هذا عنكم دعا بارطال الشراب فشربها مسرورا بمكروهكم وحبا لبواركم! خبروني عنكم، هل تعلمون أنه وصل إلي من دنياكم هذه شيء! أما إنك تعلم يا بايكباك أن بعض المتصلين بك أيسر من جماعة إخوتي وولدي، وإن أحببت أن تعرف ذلك فانظر: هل ترى في منازلهم فرشا أو وصائف أو خدما أو جواري! أو لهم ضياع أو غلات! سوءة لكم! ثم تقولون: إني أعلم على صالح، وهل صالح إلا رجل من الموالي، وكواحد منكم! فكيف الإقامة معه إذا ساء رأيكم فيه! فإن آثرتم الصلح كان ذلك ما أهوى لجمعكم،

ذكر الخبر عن خروج العامه على المهتدى

وإن أبيتم إلا الإقامة على ما أنتم عليه فشأنكم، فاطلبوا صالحا، ثم ابلغوا شفاء أنفسكم، وأما أنا فما أعلم علمه قالوا: فاحلف لنا على ذلك قال: أما اليمين فإني أبذلها لكم، ولكني أؤخرها حتى تكون بحضرة الهاشميين والقضاة والمعدلين وأصحاب المراتب غدا إذا صليت الجمعة فكأنهم لانوا قليلا، ووجه في إحضار الهاشميين فحضروا في عشيتهم، فأذن لهم، فسلموا ولم يذكر لهم شيئا، وأمروا بالمصير إلى الدار لصلاة الجمعة، فانصرفوا، وغدا الناس يوم الجمعة ولم يحدثوا شيئا، وصلى المهتدي، وسكن الناس وانصرفوا هادنين. وذكر عن بعض من سمع الكلام في يوم الأربعاء يقول: إن المهتدي لما خون صالح قال: إن بايكباك قد كان حاضرا ما عمل به صالح في أمر الكتاب ومال ابن قبيحة، فإن كان صالح قد أخذ من ذلك شيئا فقد أخذ مثل ذلك بايكباك، فكان ذلك الذي أحفظ بايكباك. وقال آخر: أنه سمع هذا القول، وإنه ذكر محمد بن بغا، وقال: قد كان حاضرا وعالما بما أجروا عليه الأمر، والشريك في ذلك أجمع فأحفظ ذلك أبا نصر. وقد قيل: إن القوم من لدن قدم موسى كانوا مضمرين هذا المعنى، منطوين على الغل، وإنما كان يمنعهم منه خوف الاضطراب وقلة الأموال، فلما ورد عليهم مال فارس والأهواز تحركوا، وكان ورود ذلك عليهم يوم الأربعاء لثلاث بقين من المحرم، ومبلغه سبعة عشر ألف الف درهم وخمسمائة الف درهم ذكر الخبر عن خروج العامه على المهتدى فلما كان يوم السبت انتشر الخبر في العامة أن القوم على أن يخلعوا المهتدي، ويفتكوا به، وأنهم أرادوه على ذلك، وأرهقوه، وكتبوا الرقاع وألقوها في المسجد الجامع والطرقات، فذكر بعض من زعم أنه قرأ رقعة منها فيها:

بسم الله الرحمن الرحيم، يا معشر المسلمين، ادعوا الله لخليفتكم العدل الرضى المضاهي لعمر بن الخطاب أن ينصره على عدوه، ويكفيه مؤنة ظالمه، ويتم النعمة عليه وعلى هذه الأمة ببقائه، فإن الموالي قد أخذوه بأن يخلع نفسه وهو يعذب منذ أيام، والمدبر لذلك أحمد بن محمد بن ثوابة والحسن بن مخلد، رحم الله من أخلص النية ودعا وصلى على محمد صلى الله عليه وسلم! فلما كان يوم الأربعاء لأربع خلون من صفر من هذه السنة، تحرك الموالي بالكرخ والدور، ووجهوا إلى المهتدي على لسان رجل منهم يقال له عيسى: إنا نحتاج أن نلقي إلى أمير المؤمنين شيئا، وسألوا أن يوجه أمير المؤمنين إليهم أحد إخوته، فوجه إليهم أخاه عبد الله أبا القاسم، وهو أكبر إخوته، ووجه معه محمد بن مباشر المعروف بالكرخي، فمضيا إليهم، فسألاهم عن شأنهم، فذكروا أنهم سامعون مطيعون لأمير المؤمنين، وانه بلغهم ان موسى ابن بغا وبايكباك وجماعة من قوادهم يريدونه على الخلع، وأنهم يبذلون دماءهم دون ذلك، وأنهم قد قرءوا بذلك رقاعا ألقيت في المسجد والطرقات، وشكوا مع ذلك سوء حالهم، وتأخر أرزاقهم، وما صار من الإقطاعات إلى قوادهم التي قد أجحفت بالضياع والخراج، وما صار لكبرائهم من المعاون والزيادات من الرسوم القديمة مع أرزاق النساء والدخلاء الذين قد استغرقوا أكثر أموال الخراج وكثر كلامهم في ذلك، فقال لهم ابو القاسم عبد الله ابن الواثق: اكتبوا هذا في كتاب إلى أمير المؤمنين، أتولى إيصاله لكم، فكتبوا ذلك، وكاتبهم في الذي يكتبون محمد بن ثقيف الأسود، وكان يكتب لعيسى صاحب الكرخ أحيانا وانصرف أبو القاسم ومحمد بن مباشر، فأوصلا الكتاب إلى المهتدي، فكتب جوابه بخطه، وختمه بخاتمه، وغدا أبو القاسم إلى الكرخ، فوافاهم فصاروا به إلى دار أشناس وقد صيروها مسجدا جامعا لهم، فوقف ووقفوا له في الرحبة، واجتمع منهم زهاء مائة وخمسين فارسا ونحو من خمسمائة راجل، فأقرأهم من المهتدي السلام، وقال: يقول

لكم أمير المؤمنين: هذا كتابي إليكم بخطي وخاتمي، فاسمعوه وتدبروه، ثم دفع الكتاب إلى كاتبهم فقرأه، فإذا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، والحمد لله، وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وسلم تسليما كثيرا، أرشدنا الله وإياكم، وكان لنا ولكم وليا وحافظا فهمت كتابكم، وسرني ما ذكرتم من طاعتكم وما أنتم عليه، فأحسن الله جزاءكم، وتولى حياطتكم، فأما ما ذكرتم من خلتكم وحاجتكم، فعزيز علي ذلك فيكم، ولوددت والله أن صلاحكم يهيأ بألا آكل ولا أطعم ولدي وأهلي إلا القوت الذي لا شبع دونه، ولا ألبس أحدا من ولدي إلا ما ستر العورة، ولا والله- حاطكم الله- ما صار إلي منذ تقلدت أمركم لنفسي وأهلي وولدي ومتقدمي غلماني وحشمي إلا خمسة عشر ألف دينار، وأنتم تقفون على ما ورد ويرد، كل ذلك مصروف إليكم، غير مدخر عنكم وأما ما ذكرتم مما بلغكم، وقرأتم به الرقاع التي ألقيت في المساجد والطرق، وما بذلتم من أنفسكم، فأنتم أهل ذلك وأين تعتذرون مما ذكرتم ونحن وأنتم نفس واحدة! فجزاكم الله عن أنفسكم وعهودكم وأمانتكم خيرا وليس الأمر كما بلغكم، فعلى ذلك فليكن عملكم إن شاء الله وأما ما ذكرتم من الإقطاعات والمعاون وغيرها، فأنا أنظر في ذلك وأصير منه إلى محبتكم إن شاء الله والسلام عليكم أرشدنا الله وإياكم، وكان لنا ولكم حافظا، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما كثيرا. فلما بلغ القارئ من الكتاب إلى الموضع الذي قال: ولم يصل إلي إلا قدر خمسة عشر ألف دينار، أشار أبو القاسم إلى القارئ، فسكت ثم قال: وهذا ما قدر، هذا قد كان أمير المؤمنين في أيام إمارته يستحق في أقل من هذه المدة ما هو أكثر منه بأرزاقه وإنزاله ومعونته، وقد تعلمون ما كان من تقدمه يصرفه في صلات المخنثين والمغنين وأصحاب الملاهي وبناء القصور وغير ذلك، فادعوا الله لأمير المؤمنين ثم قرأ الكتاب حتى أتى على الكتاب

فلما فرغ كثر الكلام وقالوا قولا، فقال لهم أبو القاسم: اكتبوا بذلك كتابا صدروه على مجاري الكتب إلى الخلفاء، واكتبوه عن القواد وخلفائهم والعرفاء بالكرخ والدور وسامرا فكتبوا- بعد أن دعوا الله فيه لأمير المؤمنين: إن الذي يسألون، أن ترد الأمور إلى أمير المؤمنين في الخاص والعام، ولا يعترض عليه معترض، وأن ترد رسومهم إلى ما كانت عليه أيام المستعين بالله، وهو أن يكون على كل تسعة منهم عريف، وعلى كل خمسين خليفة، وعلى كل مائة قائد، وأن تسقط النساء والزيادات والمعاون، ولا يدخل مولى في قبالة ولا غيرها، وأن يوضع لهم العطاء في كل شهرين على ما لم يزل، وأن تبطل الإقطاعات، وأن يكون أمير المؤمنين يزيد من شاء ويرفع من شاء وذكروا أنهم صائرون في أثر كتابهم إلى باب أمير المؤمنين، ومقيمون هناك إلى أن تقضى حوائجهم وأنه إن بلغهم أن أحدا اعترض أمير المؤمنين في شيء من الأمور أخذوا رأسه، وإن سقط من رأس أمير المؤمنين شعرة قتلوا به موسى بن بغا وبايكباك ومفلحا وياجور وبكالبا وغيرهم. ودعوا الله لأمير المؤمنين ودفعوا الكتاب إلى أبي القاسم فانصرف به حتى أوصله، وتحرك الموالي بسامرا، واضطرب القواد جدا، وقد كان المهتدي قعد للمظالم وأدخل الفقهاء والقضاة، وأخذوا مجالسهم، وقام القواد في مراتبهم، وسبق دخول أبي القاسم دخول المتظلمين. فقرأ المهتدي الكتاب قراءة ظاهرة، وخلا بموسى بن بغا، ثم أمر سليمان بن وهب أن يوقع في رقعتهم بإجابتهم إلى ما سألوا، فلما فعل ذلك في فصل من الكتاب أو فصلين، قال أبو القاسم: يا أمير المؤمنين، لا يقنعهم إلا خط أمير المؤمنين وتوقيعه، فأخذ المهتدي كتابهم فضرب على ما كان سليمان وقع في ذلك، ووقع في كل باب بإجابتهم إلى ما سألوا، وبأن يفعل ذلك ثم كتب كتابا مفردا بخطه وختمه بخاتمه، ودفعه إلى أبي القاسم، فقال أبو القاسم لموسى وبايكباك ومحمد بن بغا: وجهوا إليهم معي رسلا يعتذرون إليهم مما بلغهم عنكم فوجه كل واحد منهم رجلا، وصار أبو القاسم إليهم وهم في مواضعهم،

وقد صاروا زهاء ألف فارس وثلاثة آلاف راجل، وذلك. في وقت الظهر من يوم الخميس لخمس ليال خلون من صفر من هذه السنة، فأقرأهم من أمير المؤمنين السلام، وقال لهم: إن أمير المؤمنين، قد أجابكم إلى كل ما سألتم، فادعوا الله لأمير المؤمنين ثم دفع كتابهم الى كاتبهم، فقراه عليهم بما فيه من التوقيعات، ثم قرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم، أرشدكم الله وحاطكم، وأمتع بكم، وأصلح أموركم وأمور المسلمين بكم، وعلى أيديكم فهمت كتابكم، وقرأته على رؤسائكم، فذكروا مثل الذي ذكرتم، وسألوا مثل الذي سألتم، وقد أجبتكم إلى جميع ما سألتم محبة لصلاحكم وألفتكم واجتماع كلمتكم، وقد أمرت بتقرير أرزاقكم، وأن تصير دارة عليكم، فليست لكم حاجة إلى حركة، فطيبوا نفسا، والسلام أرشدكم الله وحاطكم وأمتع بكم، وأصلح أموركم وأمور المسلمين بكم، وعلى أيديكم! فلما فرغ القارئ من الكتاب، قال لهم ابو القاسم: وهؤلاء رسل رؤسائكم يعتذرون إليكم من شيء إن كان بلغكم عنهم، وهم يقولون: إنما أنتم إخوة، وأنتم منا وإلينا. وتكلم الرسل بمثل ذلك، فتكلموا أيضا كلاما كثيرا، ثم كتبوا كتابا يعتذرون فيه بمثل العذر الأول إلى أمير المؤمنين، وذكروا فيه خصالا مما ذكروه في الكتاب الذي قبله، ووصفوا أنه لا يقنعهم إلا أن ينفذ إليهم خمس توقيعات، توقيعا بحط الزيادات، وتوقيعا برد الإقطاعات، وتوقيعا بإخراج الموالي البوابين من الخاصة إلى عداد البرانيين، وتوقيعا برد الرسوم إلى ما كانت عليه أيام المستعين، وتوقيعا برد التلاجئ حتى يدفعوها إلى رجل يضمون إليه خمسين رجلا من أهل الدور، وخمسين رجلا من أهل سامرا ينتجزون من الدواوين، ثم يصير أمير المؤمنين الجيش إلى أحد إخوته أو غيرهم ممن يرى ليسفر بينه وبينهم بأمورهم، ولا يكون رجلا من الموالي، وأن يؤمر صالح بن وصيف فيحاسب هو وموسى بن بغا على ما عندهم من الأموال، وأنه لا يرضيهم دون ما سألوا في كتبهم كلها مع تعجيل العطاء، وإدرار أرزاقهم عليهم في كل شهرين،

وأنهم قد كتبوا إلى أهل سامرا والمغاربة في موافاتهم، وأنهم صائرون إلى باب أمير المؤمنين لينجز ذلك لهم، ودفعوا الكتاب إلى أبي القاسم أخي أمير المؤمنين، وكتبوا كتابا آخر إلى موسى بن بغا وبايكباك ومحمد بن بغا ومفلح وياجور وبكالبا وغيرهم من القواد الذين ذكروا أنهم كتبوا كتابا، ذكروا فيه أنهم قد كتبوا إلى أمير المؤمنين بما كتبوا، وأن أمير المؤمنين لا يمنعهم ما سألوا إلا أن يعترضوا عليه، وأنهم إن فعلوا ذلك وخالفوهم لم يوافقوهم على شيء، وأن أمير المؤمنين إن شاكته شوكة أو أخذ من رأسه شعرة، أخذوا رءوسهم جميعا، وأنه ليس يقنعهم إلا أن يظهر صالح بن وصيف حتى يجمع بينه وبين موسى ابن بغا، حتى ينظر أين موضع الأموال، فإن صالحا قد كان وعدهم قبل استتاره أن يعطيهم أرزاق ستة أشهر. ثم دفعوا هذا الكتاب إلى رسول موسى، ووجهوا مع أبي القاسم عدة نفر منهم، ليوصلوا إلى أمير المؤمنين كتابهم، وليستمعوا كلامه. فلما رجع أبو القاسم وجه موسى زهاء خمسمائة فارس، فوقفوا على باب الحير بين الجوسق والكرخ، فمال إليهم أبو القاسم ورسل القوم ورسل أنفسهم، فدفع رسول موسى إلى موسى كتاب القوم إليه وإلى أصحابه- وفي الجماعة سليمان بن وهب وولده وأحمد بن محمد بن ثوابة وغيرهم من الكتاب- فلما قرأ الكتاب عليهم أعلمهم أبو القاسم أن معه كتابا من القوم إلى أمير المؤمنين، ولم يدفعه إليهم فركبوا جميعا وانصرفوا إلى المهتدي، فوجدوه في الشمس قاعدا على لبد، قد صلى المكتوبة، وكسر جميع ما كان في القصر من الملاهي وآلاتها وآلات اللعب والهزل، فدخلوا فأوصلوا إليه الكتب، وخلوا مليا ثم أمر المهتدي سليمان بن وهب بإنشاء الكتب على ما سألوا في خمس رقاع، فأنفذها المهتدي في درج كتاب منه بخطه، ودفعه إلى أخيه، وكتب القواد إليهم جواب كتابهم، ودفعوه إلى صاحب موسى، فصار إليهم أبو القاسم في وقت المغرب، فأقرأهم من المهتدي السلام، وقرأ عليهم كتابه، فإذا فِيهِ:

بسم الله الرحمن الرحيم وفقنا الله وإياكم لطاعته وما يرضيه فهمت كتابكم حاطكم الله، وقد أنفذت إليكم التوقيعات الخمس على ما سألتم، فوكلوا من يتنجزها من الدواوين إن شاء الله وأما ما سألتم من تصيير أمركم إلى أحد إخوتي ليوصل الى أخباركم، ويؤدى الى حوائجكم، فو الله إني لأحب أن أتفقد ذلك بنفسي، وأن أطلع على كل أمركم وما فيه مصلحتكم، وأنا مختار لكم الرجل الذي سألتم، من إخوتي أو غيرهم إن شاء الله، فاكتبوا إلي بحوائجكم وما تعلمون أن فيه صلاحكم، فإني صائر من ذلك إلى ما تحبون إن شاء الله، وفقنا الله وإياكم لطاعته وما يرضيه وأوصل إليهم رسول موسى كتاب موسى وأصحابه، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم أبقاكم الله وحفظكم، وأتم نعمته عليكم، فهمنا كتابكم، وإنما أنتم إخواننا وبنو عمنا، ونحن صائرون إلى ما تحبون، وقد أمر أمير المؤمنين أعزه الله في كل ما سألتم بما تحبون وأنفذ التوقيعات به إليكم. واما ذكرتم من أمر صالح مولى أمير المؤمنين وتغيرنا له فهو الأخ وابن العم، وما أردنا من ذلك ما تكرهون، فإن وعدكم أن يعطيكم أرزاق ستة أشهر فقد رفعنا إلى أمير المؤمنين رقاعا، نسأله مثل الذي سألتم وأما ما قلتم من ترك الاعتراض على أمير المؤمنين وتفويض الأمر إليه، فنحن سامعون مطيعون لأمير المؤمنون، والأمور مفوضة إلى الله وهو مولانا ونحن عبيده، وما نعترض عليه في شيء من الأمور أصلا وأما ما ذكرتم أنا نريد بامير المؤمنين سوءا، فمن أراد ذلك فجعل الله دائرة السوء عليه، وأخزاه في دنياه وآخرته أبقاكم الله وحفظكم، وأتم نعمته عليكم! فلما قرأ الكتابات عليهم، قالوا لأبي القاسم: هذا المساء قد أقبل، ننظر في أمرنا الليلة، ونعود بالغداة لنعرفك رأينا فافترقوا، وانصرف أبو القاسم إلى امير المؤمنين

ثم أصبح القوم من غداة يوم الجمعة، فلما كان في آخر الساعة الأولى، ركب موسى بن بغا من دار أمير المؤمنين، وركب الناس معه وهم قدر الف وخمسمائة رجل، حتى خرج من باب الحير الذي يلي القطائع من الجوسق والكرخ، فعسكر هناك، وخرج أبو القاسم أخو المهتدي، ومعه الكرخي، حتى صار الى القوم، وهم زهاء خمسمائة فارس وثلاثة آلاف راجل، وقد كان أبو القاسم انصرف في الليل ومعه التوقيعات، فلما صار بينهم أخرج كتابا من المهتدي نسخته شبيه بالكتاب الذي في درجه التوقيعات فلما قرأ الكتاب ضجوا، واختلفت أقاويلهم، وكثر من يلحق بهم من رجالة الموالي من ناحية سامرا في الحير، فلم يزل أبو القاسم ينتظر أن ينصرف من عندهم بجواب يحصله يؤديه إلى أمير المؤمنين، فلم يتهيأ ذلك إلى الساعة الرابعة، وانصرفوا، فطائفة يقولون: نريد أن يعز الله أمير المؤمنين، ويوفر علينا أرزاقنا، فإنا قد هلكنا بتأخيرها عنا وطائفة يقولون: لا نرضى حتى يولي علينا أمير المؤمنين إخوته، فيكون واحد بالكرخ، وآخر بالدور، وآخر بسامرا، ولا نريد أحدا من الموالي يكون علينا رأسا وطائفة تقول: نريد أن يظهر صالح بن وصيف- وهي الأقل. فلما طال الكلام بهذا منهم، انصرف أبو القاسم إلى المهتدي بجملة من الخبر، وبدأ بموسى في الموضع الذي هو معسكر فيه، فانصرف بانصرافه، فلما صلى المهتدي الجمعة صير الجيش إلى محمد بن بغا، وأمره بالمصير إلى القوم مع أخيه أبي القاسم، فركب معه محمد بن بغا في زهاء خمسمائة فارس، ورجع موسى إلى الموضع الذي كان فيه بالغداة، ومضى ابو القاسم ومحمد ابن بغا حتى خالطا القوم، وأحاط الجميع به، فقال أبو القاسم لهم: إن أمير المؤمنين يقول: قد أخرجت التوقيعات لكم بجميع ما سألتم، ولم يبق لكم مما تحبون شيء إلا وأمير المؤمنين يبلغ فيه الغاية، وهذا أمان لصالح بن وصيف بالظهور وقرأ عليهم أمانا لصالح، بأن موسى وبايكباك سألا أمير المؤمنين أعزه الله ذلك، فأجابهما إليه، وأكده بغاية التأكيد، ثم قال: فعلام

اجتماعكم! فأكثروا الكلام، فكان الذي حصله عند انصرافه أن قالوا: نريد أن يكون موسى في مرتبة بغا الكبير، وصالح في مرتبة وصيف أيام بغا، وبايكباك في مرتبته الأولى، ويكون الجيش في يد من هو في يده، الى ان يظهر صالح ابن وصيف، فيوضع لهم العطاء، وتتنجز لهم الأرزاق بما في التوقيعات. فقال: نعم فانصرف القوم، فلما صاروا على قدر خمسمائة ذراع اختلفوا، فقال قوم: قد رضينا، وقال قوم: لم نرض، وانصرف رسل المهتدي إليه: إن القوم قد تفرقوا، وهم على أن ينصرفوا، فانصرف موسى عند ذلك، وتفرق الناس إلى مواضعهم من الكرخ والدور وسامرا فلما كان غداة يوم السبت، ركب ولد وصيف وجماعة من مواليهم وغلمانهم، وتنادى الناس: السلاح! وانتهب دواب العامة الرجالة، رجالة أصحاب صالح بن وصيف، ومضوا فعسكروا بسامرا في طرف وادي إسحاق بن إبراهيم، عند مسجد لجين أم ولد المتوكل وركب أبو القاسم عند ذلك يريد دار المهتدي، فمر بهم في طريقه، فتعلقوا به وبمن كان معه من حشمه وغلمانه، فقالوا له: تؤدي إلى أمير المؤمنين عنا رسالة؟ فقال لهم: قولوا، فخلطوا ولم يتحصل من قولهم شيئا إلا: إنا نريد صالحا، فمضى حتى أدى إلى أمير المؤمنين ذلك وإلى موسى، وجماعة القواد حضور. فذكر عمن حضر المجلس أن موسى بن بغا، قال: يطلبون صالحا مني، كأني أنا أخفيته وهو عندي! فإن كان عندهم فينبغي لهم أن يظهروه. وتأكد عندهم الخبر باجتماع القوم، وتحلب الناس إليهم، وتهايجوا من دار أمير المؤمنين، فركبوا في السلاح، وأخذوا في الحير حتى اجتمعوا ما بين الدكة وظهر المسجد الجامع، فاتصل الخبر بالأتراك ومن كان ضوى إليهم، فانصرفوا ركضا وعدوا لا يلوي فارس على راجل، ولا كبير على صغير حتى دخلوا الدروب والأزقة، ولحقوا بمنازلهم، وزحف موسى وأصحابه جميعا، فلم يبق بسامرا قائد يركب إلى دار أمير المؤمنين إلا ركب معه، ولزموا الحير

حتى خرجوا مما يلي الحائطين ثم خرجوا، فأما مفلح وواجن ومن انضم إليهما فسلكوا شارع بغداد حتى بلغوا سوق الغنم، ثم عطفوا إلى شارع أبي أحمد، حتى لحقوا بجيش موسى وأما موسى وجماعة القواد الذين كانوا معه مثل ياجور وساتكين ويارجوخ وعيسى الكرخي، فإنهم سلكوا على سمت شارع أبي أحمد، حتى صاروا إلى الوادي، وانصرفوا إلى الجوسق، فكان تقدير الجيش الذين كانوا مع موسى في هذا اليوم- وهو يوم السبت- أربعة آلاف فارس في السلاح والقسي الموترة والدروع والجواشن والرماح والطبرزينات. وكان أكثر القواد الذين كانوا بالكرخ يطلبون صالحا مع موسى في هذا الجيش يريدون محاربة من يطلب صالحا. وقد ذكر عن بعض من تخير أمرهم، أن أكثر من كان راكبا مع موسى كان هواه مع صالح، ولم يكن للكرخيين والدوريين في هذا اليوم حركة، فلما وصل القوم إلى الجوسق كان أول ما ظهر منهم النداء بأن من لم يحضر دار أمير المؤمنين في غداة يوم الأحد من قواد صالح وأهله وغلمانه وأصحابه أسقط اسمه، وخرب منزله، وضرب وقيد وحذر إلى المطبق، ومن وجد بعد ثالثة من هذه الطبقة ظاهرا بعد استتار، فقد حل به مثل ذلك، ومن أخذ دابة لعامي أو تعرض له في طريق، فقد حلت به العقوبة الموجعة. وبات الناس ليلة الأحد لثمان خلون من صفر على ذلك، فلما كان غداة يوم الاثنين انتهى إلى المهتدي أن مساورا الشاري صار إلى بلد، فقتل بها وحرق، فنادى في مجلسه بالنفير، وأمر موسى ومفلحا وبايكباك بالخروج، وأخرج موسى مضاربه، فلما كان يوم الأربعاء لإحدى عشرة مضت من صفر بطل أمر موسى ومحمد بن بغا ومفلح في الخروج، وقالوا: لا يبرح

أحد منا حتى ينقطع أمرنا وأمر صالح، وهم مجمعون على ذلك، يخافون من صالح أن يخلفهم بمكروه. وذكر عن بعض الموالي أنه قال: رأيت بعض بني وصيف- وهو الذي كان جمع تلك الجموع- يلعب مع موسى وبايكباك بالصوالجة في ميدان بغا الصغير يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر ثم جد هؤلاء في طلب صالح بن وصيف، فهجم بسببه على جماعة ممن كان متصلا به قبل ذلك وممن اتهموه أنه آواه، منهم إبراهيم بن سعدان النحوي وإبراهيم الطالبي وهارون بن عبد الرحمن بن الأزهر الشيعي وأبو الأحوص بن أحمد بن سعيد ابن سلم بن قتيبة وأبو بكر ختن أبي حرملة الحجام وشارية المغنية والسرخسي صاحب شرطة الخاصة وجماعة غيرهم. فذكر عن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مصعب بن زريق، قال: حدثني صاحب ربع القبة- وهو ربع تلقاء دار صالح بن وصيف- قال: بينا نحن قعود يوم الأحد، إذا غلام قد خرج من زقاق، وأراه مذعورا، فأنكرناه، فأردنا مسألته عن شأنه، ففاتنا، فلم نلبث أن أقبل عيار من موالي صالح بن وصيف يعرف بروزبه، ومعه ثلاثة نفر أو أربعة، فدخلوا الزقاق، فأنكرناهم، فلم يلبثوا أن خرجوا، وأخرجوا صالح بن وصيف، فسألنا عن الخبر، فإذا الغلام قد دخل دارا في الزقاق يطلب ماء ليشربه قال: فسمع قائلا يقول بالفارسية: أيها الأمير تنح، فإن غلاما قد جاء يطلب ماء، فسمع الغلام ذلك، وكان بينه وبين هذا العيار معرفة، فجاء فأخبره، فجمع العيار ثلاثة أناسي، وهجم عليه فأخرجه. وذكر عن العيار الذي هجم عليه، أنه قال: قال لي الغلام ما قال، فأقبلت ومعي ثلاثة نفر، فإذا بصالح بن وصيف بيده مرآة ومشط، وهو يسرح لحيته، فلما رآني بادر فدخل بيتا، فخفت أن يكون قصد لأخذ سيف أو سلاح، فتلومت ثم نظرت إليه، فإذا هو قد لجأ إلى زاوية، فدخلت

إليه فاستخرجته فلم يزدني على التضرع شيئا قال: فلما تضرع إلي قلت: ليس إلى تركك سبيل، ولكني أمر بك على أبواب إخوتك وأصحابك وقوادك وصنائعك، فإن اعترض لي منهم اثنان أطلقتك في أيديهم قال: فأخرجته فما لقيت إلا من هو عوني على مكروهه. فذكر أنه لما أخذ مضى به نحو ميلين، ليس معه إلا أقل من خمسة نفر من أصحاب السلطان وذكر أنه أخذ حين أخذ، وعليه قميص ومبطنة ملحم وسراويل، وليس على رأسه شيء وهو حاف. وقيل أنه حمل على برذون صنابي والعامة تعدو خلفه وخمسة من الخاصة يمنعون منه، حتى انتهوا به إلى دار موسى بن بغا، فلما صاروا به إلى دار موسى بن بغا أتاه بايكباك ومفلح وياجور وساتكين وغيرهم من القواد، ثم أخرجوه من باب الحير الذي يلي قبلة المسجد الجامع، ليذهبوا به إلى الجوسق، وهو على بغل بإكاف، فلما صاروا به إلى حد المنارة، ضربه رجل من أصحاب مفلح ضربة من ورائه على عاتقه كاد يقذه منها، ثم احتزوا رأسه وتركوا جيفته هناك، وصاروا به إلى المهتدي، فوافوا به قبيل المغرب وهو في بركة قباء رجل من غلمان مفلح يقطر دما، فوصلوا به إليه، وقد قام لصلاة المغرب، فلم يره، فأخرجوه ليصلح، فلما قضى المهتدى صلاته، وخبروه انهم قتلوا صالحا، وجاءوا برأسه لم يزدهم على أن قال: واروه، وأخذ في تسبيحه. ووصل الخبر إلى منزله، فارتفعت الواعية وباتوا ليلتهم. فلما كان يوم الاثنين لسبع بقين من صفر حمل رأس صالح بن وصيف على قناة، وطيف به، ونودي عليه: هذا جزاء من قتل مولاه، ونصب بباب العامة ساعة ثم نحي، وفعل به ذلك ثلاثة أيام تتابعا، وأخرج رأس بغا الصغير في وقت صلب رأس صالح يوم الاثنين، فدفع إلى أهله ليدفنوه. فذكر عن بعض الموالي أنه قال: رأيت مفلحا وقد نظر إلى رأس بغا،

فبكى وقال: قتلني الله إن لم أقتل قاتلك، فلما كان يوم الخميس لأربع بقين من صفر، وجه موسى بالرأس إلى أم الفضل ابنة وصيف، وهي امرأة النوشري، وكانت قبله عند سلمة بن خاقان. فذكر عن بعض بني هاشم أنه قال: هنأت موسى بن بغا بقتل صالح فقال: كان عدو أمير المؤمنين استحق القتل قال: وهنأت بايكباك بذلك، فقال: ما لي أنا وهذا! إنما كان صالح أخي، فقال السلولي لموسى إذ قتل صالح بن وصيف: ونلت وترك من فرعون حين طغى ... وجئت إذ جئت يا موسى على قدر ثلاثة كلهم باغ أخو حسد ... يرميك بالظلم والعدوان عن وتر وصيف بالكرخ ممثول به وبغا ... بالجسر محترق بالجمر والشرر وصالح بن وصيف بعد منعفر ... في الحير جيفته، والروح في سقر وفي مستهل جمادى الأولى من هذه السنة رحل موسى بن بغا وبايكباك إلى مساور، وشيعهم محمد بن الواثق. وفي جمادى الأولى أيضا منها التقى مساور بن عبد الحميد وعبيدة العمروسي الشاري بالكحيل، وكانا مختلفي الآراء، فظفر مساور بعبيدة فقتله. وفي هذا الشهر من هذه السنة التقى مساور الشاري ومفلح، فحدثت عن مساور، أنه انصرف من الكحيل بعد قتله العمروسي، وقد كلم كثير من أصحابه فلم تندمل كلومهم، ولغبوا من الحرب التي كانت جرت بين الفريقين إلى عسكر موسى ومن ضمه ذلك العسكر وهم حامون، فأوقع بهم، فلما لم يصل إلى ما أراد منهم من الظفر بهم، وكان التقاؤهم بجبل زيني تعلق هو وأصحابه بالجبل فصاروا إلى ذروته، ثم أوقدوا النيران، وركزوا رماحهم،

ذكر الخبر عن خلع المهتدى ثم موته

وعسكر موسى بسفح الجبل ثم هبط مساور وأصحابه من الجبل، من غير الوجه الذي عسكر به موسى، فمضى وموسى وأصحابه يحسبون انهم فوق الجبل ففاتوهم. ذكر الخبر عن خلع المهتدى ثم موته وفي رجب من هذه السنة لأربع عشرة ليلة خلت منه خلع المهتدي، وتوفي يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب. ذكر الخبر عن سبب خلعه ووفاته: ذكر أن ساكني الكرخ بسامرا والدور تحركوا لليلتين خلتا من رجب من هذه السنة، يطلبون أرزاقهم، فوجه إليهم المهتدي طبايغو الرئيس عليهم وعبد الله أخا المهتدي، فكلمهم فلم يقبلوا منهما، وقالوا: نحن نريد أن نكلم أمير المؤمنين مشافهة وخرج أبو نصر بن بغا تحت ليلته إلى عسكر أخيه، وهو بالسن بالقرب من الشاري، ودخل دار الجوسق جماعة منهم، وذلك يوم الأربعاء، فكلمهم المهتدي بكلام كثير، وقطع العطاء عن الناس يوم الأربعاء والخميس والناس متوقفون حتى يعرفوا ما يصنع موسى بن بغا، وكان موسى وضع العطاء في عسكره لشهر، وكان على مناجزة الشاري إذ استوى أصحابه، فوقع الاختلاف، ومضى موسى يريد طريق خراسان. واختلف في سبب الاختلاف الذي جرى، فصار من أجله موسى إلى طريق خراسان، والسبب الذي من أجله خرج المهتدي لحرب من حاربه من الأتراك، فقال بعضهم: كان السبب الذي من أجله تنحى موسى عن وجه الشاري وترك حربه وصار إلى طريق خراسان، أن المهتدي استمال بايكباك، وهو مع موسى مقيم في وجه الشاري مساور، وكتب إليه يأمره أن يضم العسكر الذي مع موسى إلى نفسه، وأن يكون هو الأمير عليهم، وأن يقتل موسى بن بغا ومفلحا، أو يحملهما إليه مقيدين فلما وصل الكتاب إلى بايكباك، أخذه ومضى به إلى موسى بن بغا، فقال: إني لست أفرح بهذا، وإنما هذا

تدبير علينا جميعا، وإذا فعل بك اليوم شيء فعل بي غدا مثله، فما ترى؟ قال: أرى أن تصير إلى سامرا، فتخبره أنك في طاعته، وناصره على موسى ومفلح، فإنه يطمئن إليك، ثم ندبر في قتله. فقدم بايكباك فدخل على المهتدي، وقد مضوا إلى منازلهم كما قدموا من عند الشاري، فأظهر له المهتدي الغضب، وقال: تركت العسكر، وقد أمرتك أن تقتل موسى ومفلحا، وداهنت في أمرهما! قال: يا أمير المؤمنين، وكيف لي بهما؟ وكيف يتهيأ لي قتلهما؟ وهما أعظم جيشا مني، وأعز مني! ولقد جرى بيني وبين مفلح شيء في بعض الأمر، فما انتصفت منه، ولكني قد قدمت بجيشي وأصحابي ومن أطاعني لأنصرك عليهما، وأقوي أمرك، وقد بقي موسى في أقل العدد قال: ضع سلاحك، وأمر بإدخاله دارا، فقال: يا أمير المؤمنين، ليس هذا سبيل مثلي إذا قدم من مثل هذا الوجه، حتى أصير إلى منزلي، وآمر أصحابي وأهلي بأمري قال: ليس إلى ذلك سبيل، أحتاج إلى مناظرتك فأخذ سلاحه، فلما أبطأ خبره على أصحابه سعى فيهم أحمد بن خاقان حاجب بايكباك، فقال: اطلبوا صاحبكم قبل أن يحدث به حدث، فجاشت الترك، وأحاطوا بالجوسق فلما رأى ذلك المهتدي وعنده صالح بن علي بن يعقوب بن أبي جعفر المنصور شاوره، وقال: ما ترى؟ قال: يا أمير المؤمنين، أنه لم يبلغ أحد من آبائك ما بلغته من الشجاعة والإقدام، وقد كان أبو مسلم أعظم شأنا عند أهل خراسان من هذا التركي عند أصحابه، فما كان إلا أن طرح رأسه إليهم حتى سكنوا، وقد كان فيهم من يعبده ويتخذه ربا، فلو فعلت مثل ذلك سكنوا، فأنت أشد من المنصور إقداما، وأشجع قلبا فأمر المهتدي الكرخي- واسمه محمد ابن المباشر، وكان حدادا بالكرخ يطرق المسامير، فانقطع الى المهدى ببغداد فوثق به ولزمه- فأمره بضرب عنق بايكباك، فضرب عنقه، والأتراك مصطفون في الجوسق في السلاح، يطلبون بايكباك، فأمر المهتدي عتاب بن عتاب القائد

أن يرميهم برأسه فأخذ عتاب الرأس، فرمى به إليهم، فتأخروا وجاشوا، ثم شد رجل منهم على عتاب، فقتله، فوجه المهتدي إلى الفراغنه والمغاربه والاوكشبيه والأشروسنية والأتراك الذين بايعوه على الدرهمين والسويق، فجاءوا، فكانت بينهم قتلى كثيرة، كثر فيها الناس، فقيل: قتل من الأتراك الذين قاتلوا نحو من أربعة آلاف، وقيل ألفان وقيل ألف، وذلك يوم السبت لثلاث عشرة خلت من رجب من هذه السنة ثم تتام القوم يوم الأحد، فاجتمع جميع الأتراك، فصار أمرهم واحدا، فجاء منهم زهاء عشرة آلاف رجل، وجاء طوغيتا أخو بايكباك وأحمد بن خاقان حاجب بايكباك في نحو من خمسمائة، مع من جاء مع طوغيتا من الأتراك والعجم، وخرج المهتدي ومعه صالح بن علي، والمصحف في عنقه، يدعو الناس إلى أن ينصروا خليفتهم فلما التحم الشر مال الأتراك الذين مع المهتدي إلى أصحابهم الذين مع أخي بايكباك، وبقي المهتدي في الفراغنة والمغاربة ومن خف معه من العامة، فحمل عليهم طوغيتا أخو بايكباك حملة ثائر حران موتور، فنقض تعبيتهم، وهزمهم، وأكثر فيهم القتل وولوا منهزمين، ومضى المهتدي يركض منهزما، والسيف في يده مشهور، وهو ينادي: يا معشر الناس، انصروا خليفتكم، حتى صار إلى دار أبي صالح عبد الله بن محمد بن يزداد وهي بعد خشبة بابك، وفيها أحمد بن جميل صاحب المعونة، فدخلها ووضع سلاحه، ولبس البياض ليعلو دارا وينزل أخرى ويهرب فطلب فلم يوجد، وجاء أحمد بن خاقان في ثلاثين فارسا يسأل عنه حتى وقف على خبره في دار ابن جميل، فبادرهم ليصعد، فرمي بسهم وبعج بالسيف، ثم حمله أحمد بن خاقان على دابة أو بغل، وأردف خلفه سائسا حتى صار به إلى داره، فدخلوا عليه، فجعلوا يصفعونه ويبزقون في وجهه، وسألوه عن ثمن ما باع من المتاع والخرثى، فاقر لهم بستمائة ألف قد أودعها الكرخي الناس ببغداد، وأصابوا عنده خسف الواضحه مغنيه، فأخذوا رقعته بستمائة ألف دينار، ودفعوه إلى رجل، فوطئ على خصييه حتى قتله

وقال بعضهم: كان السبب وأول الخلاف، أن اللاحقين من أولاد الأتراك اجتمعوا، وقالوا: لا نرضى أن يكون علينا رئيس غير أمير المؤمنين، وكتبوا إلى موسى بن بغا وبايكباك، وهما في وجه الشاري، فوافى موسى في رجاله حتى صار إلى قنطرة في ناحية الوزيرية يوم الجمعة، وعسكر المهتدي في الحير، وقرب منهم، ثم خرج إلى الجوسق، وعليه السلاح، فلما كان يوم السبت لثلاث عشرة خلت من رجب، دخل بايكباك طائعا، ومضى موسى إلى ناحية طريق خراسان في نحو من ألفي رجل، وجاء المهتدي رجل من الموالي، فقال له: إن بايكباك قد وعد موسى أن يفتك بك في الجوسق، فأخذ المهتدى بايكباك، وأمر بنزع سلاحه وحبسه، فحبس يوم السبت إلى وقت العصر، ثم خرج أهل الكرخ وأهل الدور يطلبونه، وانصرفوا وبكروا يوم الأحد، فلم يتخلف منهم أحد إلا حضر راكبا وراجلا في السلاح، فلما صاروا إلى الجوسق، صلى المهتدي الظهر، وخرج إليهم في الفراغنة والمغاربة، فتطارد لهم الأتراك، فحملوا عليهم فلما تبعوهم خرج كمين لهم، فقتل من الفراغنة والمغاربة جماعة كبيرة، وهرب المهتدي، ومر على باب أبي الوزير وغلام له يصيح: يا معشر الناس، هذا خليفتكم، وتراكض الأتراك خلفه، فدخل دار أحمد بن جميل، وتسلق المهتدي من دار إلى دار، وأحدق الأتراك بتلك الناحية كلها، فأخرجوه من دار غلام لعبد الله بن عمر البازيار، وحملوه وبه طعنة في خاصرته على برذون أعجف، في قميص وسراويل، وانتهبوا دار الكرخي ودور بني ثوابة وجماعة من الناس، فلما كان يوم الاثنين حمل أحمد بن المتوكل المعروف بابن فتيان إلى دار يارجوخ، والأتراك يدورون في الشوارع، ويحمدون العامة إذ لم يتعرضوا لهم. وقال آخرون: بل كان السبب في ذلك، أن أهل دور سامرا والكرخ تحركوا في يوم الاثنين لليلة خلت من رجب من هذه السنة، واجتمعوا بالكرخ وفوقها، فوجه المهتدي إليهم كيغلغ وطبايغو بن صول أرتكين وعبد الله أخا نفسه، فلم يزالوا بهم حتى سكنوا ورجعوا إلى الدار، وبلغ أبا نصر محمد بن

بغا الكبير أن المهتدي قد تكلم فيه وفي أخيه موسى، وقال للموالي: إن الأموال عندهم، فتخوفه وإياهم، فهرب في ليلة الأربعاء لثلاث خلون من رجب، فكتب اليه المهتدي أربعة كتب يعطيه فيها الأمان على نفسه ومن معه، ووصل كتابان إليه وهو بالمحمدية مع أبرتكين بن برنمكاتكين، ووصل الآخران إليه مع فرج الصغير، فوثق بذلك، فرجع حتى دخل الدار هو وأخوه حبشون وبكالبا، فحبسوا وحبس معهم كيغلع، فأفرد أبو نصر عنهم، فطلب منه المال، فقبض من وكيله خمسة عشر ألف دينار، وقتل يوم الثلاثاء لثلاث خلون من رجب، ورمي به في بئر من آبار القناة، وأخرج من البئر يوم الاثنين للنصف من رجب، ومضي به إلى منزله وقد أراح، فاشترى له ثلاثمائة مثقال مسك وستمائه مثقال كافور، وصير عليه فلم تنقطع الرائحة، وصلى عليه الحسن بن المأمون، وكتب المهتدي إلى موسى بن بغا عند حبسه أبا نصر يأمره بتسليم العسكر إلى بايكباك والإقبال إلى سامرا في مواليه، وكتب إلى بايكباك في تسلم العسكر والقيام بقتال الشاري، فصار بايكباك بالكتاب إلى موسى فقرأه، فاجتمعوا على الانصراف إلى سامرا، وبلغ المهتدي ذلك، وأنهم على خلافه، فجمع الموالي، فحضهم على الطاعة، وأمرهم بلزومه في الدار وترك الإخلال به، وأجرى على كل رجل من الأتراك ومن يجري مجراهم في كل يوم درهمين، وعلى كل رجل من المغاربة درهما فاجتمع له من الفريقين وأخدانهم زهاء خمسة عشر ألف إنسان، منهم من الأتراك المعروف بالكاملي في الجوسق وغيره من المقاصير وكان القيم بأمر الدار بعد حبس كيغلغ مسرور البلخي والرئيس من القواد طبايغو، والقيم بحبس من حبس من هؤلاء عبد الله بن تكين. وبلغ موسى ومفلحا وبايكباك حبس أبي نصر وحبشون ومن حبس، فأخذوا حذرهم. وجرت الرسل والكتب بينهم وبين المهتدي يوم الخميس، وخرج المهتدي يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب بجمعة متوقعا ورود القوم عليه، فلم يأت أحد فلما كان يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب صح الخبر بأن موسى قد عرج عن طريق سامرا إلى ناحية الجبل مع مفلح،

ودخل يوم السبت بايكباك ويارجوخ وأساتكين وعلي بن بارس وسيما الطويل وخطارمش إلى الدار، فحبس بايكباك وأحمد بن خاقان خليفته، وصرف الباقون، فاجتمع أصحاب بايكباك وغيره من الأتراك، وقالوا: لم يحبس قائدنا؟ ولم قتل أبو نصر؟ فخرج إليهم المهتدي يوم السبت- ولم يكن بينهم حرب- فرجع، وخرج يوم الأحد وقد اجتمعوا له، وجمع هو المغاربه والاتراك البرانيين والفراغنة فصير على الميمنة مسرورا البلخي، وعلى الميسرة يارجوخ، والمهتدي في القلب مع أساتكين وطبايغوا وغيرهما من القواد. فلما حميت الشمس، قرب القوم بعضهم من بعض، وهاجت الحرب، وطلبوا بايكباك، فرمى إليهم المهتدي برأسه- وكان عتاب بن عتاب أخرجه من بركة قبائه- فلما رأوه شد أخوه طغوتيا في جماعة من خاصته على جمع المهتدي، وعطفت الميمنة والميسرة من عسكر المهتدي، فصاروا معهم، وانهزم الباقون عن المهتدي، وقتل جماعة من الفريقين. فذكر عن حبشون بن بغا، أنه قال: قتل سبعمائة وثمانون إنسانا، وتفرق الناس، ودخل المهتدي الدار، فأغلق الباب الذي دخل منه، وخرج من باب المصاف حتى خرج من الباب المعروف بإيتاخ، ثم إلى سويقة مسرور، ثم درب الواثق، حتى خرج الى الباب العامة، وهو ينادي: يا معشر الناس، أنا أمير المؤمنين، قاتلوا عن خليفتكم فلم تجبه العامة إلى ذلك، وهو يمر في الشارع وينادي، فلم يرهم ينصرونه، فصار إلى باب السجن، فاطلق من فيه، وهو يظن انهم يعينونه، فلم يكن منهم إلا الهرب، ولم يجبه احد فلما لم يجيبوه، صار إلى دار أبي صالح عبد الله بن محمد بن يزداد، وفيها أحمد بن جميل صاحب الشرطة نازل، فدخل عليه، فأخرج من ناحية ديوان الضياع، ثم صير به إلى الجوسق، فحبس فيه عند احمد بن خاقان، وانتهب دار احمد ابن جميل. وكان ممن قتل في المعركة من قواد المغاربة نصر بن أحمد الزبيري، ومن

قواد الشاكرية عتاب بن عتاب حين جاء برأس بايكباك إليهم، وقتل المهتدي- فيما قيل- في الوقعة عدة كثيرة بيده، ثم جرى بينهم وبينه بعد أن حبس كلام شديد، وأرادوه على الخلع فأبى، واستسلم للقتل، فقالوا: أنه كان كتب رقعة بيده لموسى بن بغا وبايكباك وجماعة من القواد، أنه لا يغدر بهم ولا يغتالهم، ولا يفتك بهم، ولا يهم بذلك، وأنه متى فعل ذلك بهم أو بأحد منهم ووقفوا عليه فهم في حل من بيعته، والأمر إليهم يقعدون من شاءوا. فاستحلوا بذلك نقض أمره. وقد كان يارجوخ بعد انهزام الناس صار إلى الدار، فأخرج من ولد المتوكل جماعة، فصار بهم إلى داره، فبايعوا أحمد بن المتوكل المعروف بابن فتيان يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من رجب، وسمي المعتمد على الله، وأشهد يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب على وفاة المهتدي محمد بن الواثق، وأنه سليم ليس به إلا الجراحتان اللتان نالتاه يوم الأحد في الوقعة، إحداهما من سهم والأخرى من ضربة، وصلى عليه جعفر بن عبد الواحد وعدة من إخوة أمير المؤمنين، ودفن في مقبرة المنتصر، ودخل موسى بن بغا ومفلح سامرا يوم السبت لعشر بقين من رجب، فسلم على المعتمد فخلع عليه، وصار إلى منزله وسكن الناس. وقال بعضهم- وذكر أنه كان شاهدا أمرهم: لما كان ليلة الاثنين لليلة خلت من رجب ثار أهل الكرخ والدور جميعا، فاجتمعوا، وكان المهتدي يوجه إليهم إذا تحركوا أخاه عبد الله، فوجه إليهم في هذا اليوم عبد الله أخاه كما كان يوجهه، فصار إليهم، فوجدهم قد أقبلوا يريدون الجوسق، فكلمهم، وضمن لهم القيام بحوائجهم، فأبوا وقالوا: لا نرجع حتى نصير إلى أمير المؤمنين ونشكو إليه قصتنا فانصرف منهم عبد الله، وفي الدار في هذا الوقت أبو نصر محمد بن بغا وحبشون وكيغلغ ومسرور البلخي وجماعة، فلما أدى عبد الله إلى المهتدي ما دار بينه وبينهم، أمره بالرجوع إليهم، وأن يأتي بجماعة منهم فيوصلهم إليه، فخرج فتلقاهم قريبا من الجوسق، فأدارهم على أن يقفوا بموضعهم، ويوجهوا معه جماعة منهم فأبوا فلما تناهى ظهر

إلى أبي نصر ومن كان معه في الدار بأن جمعهم قد أقبل، خرجوا جميعا من الدار مما يلي باب النزالة، فلم يبق في الدار إلا مسرور البلخي وألطون خليفه كيغلغ، ومن الكتاب عيسى بن فرخان شاه، ودخل الموالي مما يلى باب القصر الأحمر، فملئوا الدار زهاء أربعة آلاف، فصاروا إلى المهتدي، فشكوا إليه حالهم. وكان اعتمادهم في مسألتهم أن يعزل عنهم أمراءهم، ويضم أمورهم إلى إخوة أمير المؤمنين، وأن يؤخذ الأمراء والكتاب بالخروج مما اختانوه من أموال السلطان، وذكروا أن قدره خمسون ومائة ألف ألف فوعدهم النظر في أمرهم وإجابتهم إلى ما سألوا، فأقاموا يومهم ذلك في الدار، فوجه المهتدى محمد ابن مباشر الكرخي، فاشترى لهم الأسوقة، ومضى أبو نصر بن بغا من فوره ذلك، حتى عسكر في الحير بالقرب من موضع الحلبة، فلحق به زهاء خمسمائة رجل، ثم تفرقوا عنه في ليلتهم، فلم يبق إلا في أقل من مائة، ومضى فصار إلى المحمدية، وأصبح الموالي في غداة يوم الأربعاء يطالبون بما كانوا يطالبون به أولا، فقيل لهم: إن هذا الأمر الذي تريدونه أمر صعب، وإخراج الأمر عن أيدي هؤلاء الأمراء ليس بسهل عليكم، فكيف إذا جمع إلى ذلك أخذهم بالأموال! فانظروا في أموركم، فإن كنتم تظنون أنكم تصبرون على هذا الأمر حتى يبلغ منه غايته أجابكم إليه أمير المؤمنين، وإن تكن الأخرى فإن أمير المؤمنين يحسن لكم النظر فأبوا إلا ما سألوه أولا، فدعوا إلى إيمان البيعة على أن يقيموا على هذا القول، ولا يرجعوا عنه، وأن يقاتلوا من قاتلهم فيه، وينصحوا لأمير المؤمنين ويوالوه فأجابوه إلى ذلك، فأخذت عليهم أيمان البيعة، فبايع في ذلك اليوم زهاء الف رجل وعيسى بن فرخان شاه الذى تجرى على يده الأمور، ومقامه مقام الوزير ثم كتبوا إلى أبي نصر كتابا عن أنفسهم، كتبه لهم عيسى بن فرخان شاه، يذكرون فيه إنكارهم خروجه من الدار عن غير سبب، وأنهم إنما قصدوا أمير المؤمنين ليشكوا إليه حاجتهم، وأنهم لما وجدوا الدار فارغة أقاموا فيها، وأنهم إذا عاد ردوه إلى حاله، ولم يهيجوه وكتب عيسى عن الخليفة بمثل ذلك إليه، فأقبل من المحمدية بين العصر والعشاء، فدخل

الدار، ومعه أخوه حبشون وكيغلغ وبكالبا وجماعة منهم، فقام الموالي في وجوههم معهم السلاح، وقعد المهتدي، فوصل إليه أبو نصر ومن معه، فسلم عليه، ودنا فقبل يد المهتدي ورجله والبساط، وتأخر فخاطبه المهتدي بأن قال له: يا محمد، ما عندك فيما يقول الموالي؟ قال: وما يقولون؟ قال: يذكرون أنكم احتجنتم الأموال، واستبددتم بالأعمال، فما تنظرون في شيء من أمورهم، ولا فيما عاد لمصلحتهم فقال محمد: يا أمير المؤمنين، وما أنا والأموال! ما كنت كاتب ديوان، ولا جرت علي يدي أعمال فقال له: فأين هي الأموال؟ وهل هي إلا عندك وعند أخيك، وكتابكم وأصحابكم! ودنا الموالي، فتقدم عبد الله بن تكين وجماعة منهم، فأخذوا بيد أبي نصر وقالوا: هذا عدو أمير المؤمنين، يقوم بين يديه بسيف، فأخذوا سيفه، ودخل غلام لأبي نصر كان حاضرا يقال له ثيتل، فسل سيفه، وخطا ليمنعهم من أبي نصر، وكانت خطوته تلي الخليفة، فسبقه عبد الله بن تكين، فضرب رأسه بالسيف، فما بقي في الدار أحد إلا سل سيفه، وقام المهتدي، فدخل بيتا كان بقربه، وأخذ محمد بن بغا، فأدخل حجرة في الدار، وحبس أصحابه الباقون، وأراد القوم قتل الغلام، فمنعهم المهتدي، وقال: إن لي في هذا نظرا ثم أمر فأعطي قميصا من الخزانة، وأمر بغسل رأسه من الدم، وحبس. فأصبح الناس يوم الأربعاء وقد كثروا، والبيعة تؤخذ، ثم امر عبد الله ابن الواثق بالخروج إلى الرفيف في ألف رجل من الشاكرية والفراغنة وغيرهم، وكان ممن أمر بالخروج من قواد خراسان محمد بن يحيى الواثقي وعتاب بن عتاب وهارون بن عبد الرحمن بن الأزهر وإبراهيم أخو أبي عون ويحيى بن محمد بن داود وولد نصر بن شيث وعبد الرحمن بن دينار وأحمد بن فريدون وغيرهم. ثم إن عبد الله بن الواثق بلغه عن هؤلاء القواد أنهم يقولون: أنه ليس بصواب شخوصهم إلى تلك الناحية، فترك الخروج إليها

ثم إنهم أرادوا أن يكتبوا إلى موسى ومفلح بالانصراف وتسليم العسكر إلى من فيه من القواد، فأجمعوا على أن يكتبوا إليهما بذلك كتابا، وكتبا إلى بعض القواد في تسلم العسكر منهما، وكتبا إلى الصغار بما سأل أصحابهم بسامرا وما أجيبوا إليه، وأمر بنسخ الكتب التي كتبت إلى القواد، وأن ينظروا، فإن سارع موسى ومفلح إلى ما أمرا به من الإقبال إلى الباب في غلمانهم وتسليم العسكر إلى من أمرا بتسليمه إليه، وإلا شدوهما وثاقا، وحملوهما إلى الباب، ووجهوا هذه الكتب مع ثلاثين رجلا منهم، فشخصوا عن سامرا ليلة الجمعة لخمس خلون من رجب من هذه السنة، وأجرى على من أخذت عليه البيعة في الدار على كل رجل منهم في اليوم درهمان، فكان المتولي لتفرقة ذلك عليهم عبد الله بن تكين، وهو خال ولد كنجور. ولما تناهى الخبر إلى موسى وأصحابه اتهم كنجور، وأمر بحبسه بعد أن ناله بالضرب، وموسى حينئذ بالسن ولما انتهى الخبر إلى بايكباك وهو بالحديثة أقبل إلى السن، فاستخرج كنجور من الحبس، واجتمع العسكر بالسن، ووصل إليهم الرسل، وأوصلوا الكتب، وقرءوا بعضها على أهل العسكر، وأخذوا عليهم البيعة بالنصرة لهم، فارتحلوا حتى نزلوا قنطرة الرفيف يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب، وخرج المهتدي في هذا اليوم إلى الحير، وعرض الناس، وسار قليلا، ثم عاد وأمر أن تخرج الخيام والمضارب فتضرب في الحير، وأصبح الناس يوم الجمعة، وقد انصرف من عسكر موسى زهاء ألف رجل، منهم كوتكين وخشنج. ثم خرج المهتدي إلى الحير، ثم صير ميمنته عليها كوتكين، وميسرته عليها حشنج، وصار هو في القلب، ثم رجع الرسل تختلف بين العسكرين. والذي يريد موسى بن بغا أن يولى ناحية ينصرف إليها، والذي يريد القوم من موسى أن يقبل في غلمانه ليناظرهم، فلم يتهيأ بينهم في ذلك اليوم شيء فلما كان ليلة السبت، انصرف من أراد الانصراف عن موسى، ورجع موسى ومفلح يريدان طريق خراسان في زهاء ألف رجل، ومضى بايكباك

وجماعة من قواده في ليلتهم مع عيسى الكرخي، فباتوا معه، ثم أصبحوا يوم السبت، وأقبل بايكباك ومن معه حتى دخلوا الدار، فأخذت سيوفهم بايكباك ويارجوخ وأساتكين وأحمد بن خاقان وخطارمش وغيرهم فوصلوا جميعا إلى المهتدي، فسلموا، فأمروا بالانصراف إلا بايكباك، فإن المهتدي أمر أن يوقف بين يديه، ثم أقبل يعدد عليه ذنوبه، وما ركب من أمر المسلمين والإسلام. ثم إن الموالي اعترضوه، فأدخلوه حجرة في الدار، وأغلقوا عليه الباب، ثم لم يلبث إلا قدر خمس ساعات حتى قتل يوم السبت من الزوال واستوى الأمر، فلم تكن حركة، ولا تكلم أحد إلا نفر يسير أنكروا أمر بايكباك، ولم يظهروا كل الجزع فلما كان يوم الأحد، أنكر الأتراك مساواة الفراغنة لهم في الدار ودخولهم معهم، ووضح عندهم أن التدبير إنما جرى في قتل رؤسائهم حتى يقدم عليهم الفراغنة والمغاربة، فخرجوا من الدار بأجمعهم، وبقيت الدار على الفراغنة والمغاربة، وأنكر الأتراك بناحية الكرخ ذلك، وأضافوا إليه طلب بايكباك لاجتماع أصحاب بايكباك معهم، فأدخل المهتدي إليه جماعة من الفراغنة، وأخبرهم بما أنكره الأتراك، وقال لهم: إن كنتم تعلمون أنكم تقومون بهم، فما يكره أمير المؤمنين قربكم، وإن كنتم بأنفسكم تظنون عجزا عنهم أرضيناهم بالمصير إلى محبتهم من قبل تفاقم الأمر فذكر الفراغنة أنهم يقومون بهم ويقهرونهم، إذا اجتمعت كلمتهم وكلمة المغاربة، وعددوا أشياء كثيرة من تقديمهم عليهم وأرادوا المهتدي على الخروج إليهم، فلم يزل كذلك إلى الظهر، ثم ركب وأكثر الفرسان الفراغنة وأكثر الرجالة المغاربة، ووجه إليهم وهم بين الكرخ والقطائع والأتراك زهاء عشرة آلاف، وهم في ستة آلاف لم يكن معهم من الأتراك إلا اقل من الف، وهم اصحاب صالح ابن وصيف وجماعة مع يارجوخ فلما التقى الزحفان، انحاز يارجوخ بمن معه من الأتراك، وانهزم أصحاب صالح بن وصيف، فرجعوا إلى منازلهم وخرج طاشتمر من خلف الدكة، وكانوا جعلوا كمينا، وتصادم القوم، فكانت الحرب بينهم ساعة من النهار، ضربا وطعنا ورميا. ثم وقعت الهزيمة على أصحاب المهتدي، فثبت وأقبل يدعوهم الى نفسه،

ويقاتل حتى يئس من رجوعهم، ثم انهزم وبيده سيف مشطب، وعليه درع وقباء، ظاهر به حرير أبيض معين، فمضى حتى صار إلى موضع خشبة بابك، وهو يحث الناس على مجاهدة القوم ونصرته، فلم يتبعه أحد إلا جماعة من العيارين، فلما صاروا إلى باب السجن تعلقوا بلجامه، وسألوه إطلاق من في السجن، فانصرف بوجهه عنهم، فلم يتركوه حتى أمر بإطلاقهم، فانصرفوا عنه، واشتغلوا بباب السجن، وبقي وحده، فمر حتى صار إلى موضع دار أبي صالح بن يزداد، وفيها أحمد بن جميل، فدخل الدار وأغلقت الأبواب، فنزع ثيابه وسلاحه، وكانت به طعنة في وركه، فطلب قميصا وسراويل، فأعطاه أحمد بن جميل، وغسل الدم عن نفسه، وشرب ماء وصلى، فأقبل جماعة من الأتراك مع يارجوخ نحو من ثلاثين رجلا، حتى صاروا إلى دار أبي صالح، فضربوا الباب حتى دخلوها، فلما أحس بهم أخذ السيف وسعى، فصعد على درجة في الدار، ودخل القوم، وقد علا السطح، فأراد بعضهم الصعود لأخذه، فضربه بالسيف فأخطأه، وسقط الرجل عن الدرجة، فرموه بالنشاب، فوقعت نشابة في صدره، فجرحته جراحة خفيفة، وعلم أنه الموت، فأعطى بيده، ونزل فرمى بسيفه فأخذوه، فجعلوه على دابة بين يدي أحدهم، وسلكوا الطريق الذي جاء منه، حتى صيروه إلى دار يارجوخ في القطائع، وأنهبوا الجوسق، فلم يبق فيه شيء، وأخرجوا أحمد بن المتوكل المعروف بابن فتيان- وكان محبوسا في الجوسق- وكتبوا إلى موسى بن بغا وسألوه الانصراف إليهم، فأقام المهتدي عندهم لم يحدثوا في أمره شيئا، فلما كان يوم الثلاثاء بايعوا أحمد بن المتوكل في القطائع، وصاروا به يوم الأربعاء إلى الجوسق فبايعه الهاشميون والخاصة، وأرادوا المهتدي على الخلع في هذه الأيام، فأبى ولم يجبهم، ومات يوم الأربعاء، وأظهروه يوم الخميس لجماعة الهاشميين والخاصة، فكشفوا عن وجهه وغسلوه، وصلى عليه جعفر بن عبد الواحد يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين. وقدم موسى بن بغا يوم السبت لعشر بقين من رجب وركب أحمد بن

فتيان إلى دار العامة يوم الاثنين لثمان بقين من رجب، فبايعوه بيعة العامة. فذكر عن محمد بن عيسى القرشي أنه قال: لما صار المهتدي في أيديهم أبى أن يخلع نفسه، فخلعوا أصابع يديه ورجليه من كفيه وقدميه، حتى ورمت كفاه وقدماه، وفعلوا به غير شيء حتى مات. وقد ذكر في سبب قتل أبي نصر محمد بن بغا أنه كان خرج من سامرا يريد أخاه موسى، فوجه إليه المهتدي أخاه عبد الله في جماعة من المغاربة والفراغنة، فلحقوه بالرفيف، فجيء به فحبس، وكان قد دخل على المهتدي مسلما قبل خلافهم، فقال له: يا محمد، إنما قدم أخوك موسى في جيشه وعبيده حتى يقتل صالح بن وصيف وينصرف، قال: يا أمير المؤمنين، أعيذك بالله! موسى عبدك وفي طاعتك، وهو مع هذا في وجه عدو كلب، قال: قد كان صالح أنفع لنا منه، وأحسن سياسة للملك، وهذا العلوي قد رجع إلى الري، قال: وما حيلته يا أمير المؤمنين؟ قد هزمه وقتل أصحابه وشرد به كل مشرد، فلما انصرف عاد، وهذا فعله أبدا، اللهم إلا أن تأمره بالمقام بالري دهره قال: دع هذا عنك، فإن أخاك ما صنع شيئا أكثر من أخذ الأموال واحتجانها لنفسه فأغلظ له أبو نصر، وقال: ينظر فيما صار إليه وإلى أهل بيته منذ وليت الخلافة فيرد، وينظر ما صار إليك وإلى إخوتك فيرد فأمر به فأخذ وضرب وحبس، وانتهبت داره ودار ابن ثوابة، ثم أباح دم الحسن بن مخلد وابن ثوابة وسليمان بن وهب القطان كاتب مفلح، فهربوا فانتهبت دورهم ثم جاء المهتدي بالفراغنة والأشروسنية والطبرية والديالمة والإشتاخنية ومن بقي من أتراك الكرخ وولد وصيف، فسألهم النصرة على موسى ومفلح، وضرب بينهم، وقال: قد أخذوا الأموال واستأثروا بالفيء، وأنا أخاف أن يقتلوني، وإن نصرتموني أعطيتكم جميع ما فاتكم، وزدتكم في أرزاقكم فأجابوه إلى نصره والخلاف على موسى وأصحابه، ولزموا

الجوسق، وبايعوه بيعة جديدة وأمر بالسويق والسكر فاشتري لهم، وأجرى على كل رجل منهم في كل يوم درهمين، وأطعموا في بعض أيامهم الخبز واللحم وتولى أمر جيشه أحمد بن وصيف وعبد الله بن بغا الشرابي والتفت، معهم بنو هاشم، وجعل يركب في بني هاشم، ويدور في الأسواق، ويسأل الناس النصرة، ويقول: هؤلاء الفساق يقتلون الخلفاء، ويثبون على مواليهم، وقد استأثروا بالفيء، فأعينوا أمير المؤمنين وانصروه وتكلم صالح بن يعقوب ابن المنصور وغيره من بني هاشم، ثم كتب بعد إلى بايكباك يأمره أن يضم الجيش كله إليه، وأنه الأمير على الجيش أجمع، ويأمره بأخذ موسى ومفلح. ولما هلك المهتدي طلبوا أبا نصر بن بغا، وهم يظنون أنه حي، فدلوا على موضعه، فنبش فوجدوه مذبوحا، فحمل إلى أهله، وحملت جثة بايكباك فدفنت وكسرت الأتراك على قبر محمد بن بغا ألف سيف، وكذلك يفعلون بالسيد منهم إذا مات وقيل إن المهتدي لما أبى أن يخلعها، أمروا من عصر خصيته حتى مات، وقيل: إن المهتدي لما احتضر قال: أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان وقيل إن محمد بن بغا لم يحدثوا في أمره يوم حبس شيئا، وطالبوه بالأموال، فدفع إليهم نيفا وعشرين ألف دينار، ثم قتلوه بعد، بعجوا بطنه، وعصروا حلقه، وألقي في بئر من القناة، فلم يزل هنالك حتى أخرجه الموالي بعد أسرهم المهتدي بيوم، فدفن. وكانت خلافة المهتدي كلها إلى أن انقضى أمره أحد عشر شهرا وخمسة وعشرين يوما، وعمره كله ثمان وثلاثون سنة وكان رحب الجبهه، اجلح، جهم الوجه، اشهل، عظيم البطن، عريض المنكبين، قصيرا، طويل اللحية. وكان ولد بالقاطول.

ذكر اخبار صاحب الزنج مع جعلان

ذكر اخبار صاحب الزنج مع جعلان وفي هذه السنة وافى جعلان البصرة لحرب صاحب الزنج. ذكر الخبر عما كان من أمرهما هنالك: ذكر أن جعلان لما صار إلى البصرة زحف بعسكره منها، حتى صار بينه وبين عسكر صاحب الزنج فرسخ، فخندق على نفسه ومن معه، فأقام ستة أشهر في خندقه، فوجه الزينبي وبريه وبنو هاشم ومن خف لحرب الخبيث من أهل البصرة في اليوم الذي تواعدهم جعلان للقائه، فلما التقوا لم يكن بينهم إلا الرمي بالحجارة والنشاب، ولم يجد جعلان إلى لقائه سبيلا لضيق الموضع بما فيه من النخل والدغل عن مجال الخيل، وأصحابه أكثرهم فرسان. فذكر عن محمد بن الحسن أن صاحب الزنج قال: لما طال مقام جعلان في خندقه، رأيت أن أخفي له من أصحابي جماعة يأخذون عليه مسالك الخندق، ويبيتونه فيه، ففعل ذلك، وبيته في خندقه، فقتل جماعة من رجاله، وريع الباقون روعا شديدا فترك جعلان عسكره ذلك، وانصرف إلى البصرة، وقد كان الزينبي قبل بيات الخبيث جعلان جمع مقاتلة البلالية والسعدية، ثم وجه لهم من ناحية نهر نافذ وناحيه هزار در، فواقعوه من وجهين، ولقيهم الزنج، فلم يثبتوا لهم، وقهرهم الزنج، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وانصرفوا مفلولين، وانحاز جعلان إلى البصرة، فأقام بها وظهر عجزه للسلطان. وفيها صرف جعلان عن حرب الخبيث، وأمر سعيد الحاجب بالشخوص إليها لحربه. وفيها تحول صاحب الزنج من السبخة التي كان ينزلها إلى الجانب الغربي

ذكر الخبر عن دخول الزنج الأبله

من النهر المعروف بأبي الخصيب. وفيها أخذ صاحب الزنج- فيما ذكر- أربعة وعشرين مركبا من مراكب البحر، كانت اجتمعت تريد البصرة، فلما انتهى إلى أصحابها خبره وخبر من معه من الزنج وقطعهم السبيل، اجتمعت آراؤهم على أن يشدوا مراكبهم بعضها إلى بعض، حتى تصير كالجزيرة، يتصل أولها بآخرها، ثم يسيروا بها في دجلة فاتصل به خبرها، فندب إليها أصحابه، وحرضهم عليها، وقال لهم: هذه الغنيمة الباردة. قال أبو الحسن: فسمعت صاحب الزنج يقول: لما بلغني قرب المراكب مني نهضت للصلاة، وأخذت في الدعاء والتضرع، فخوطبت بان قيل لي: قد اطلك فتح عظيم، والتفت فلم ألبث أن طلعت المراكب، فنهض أصحابي إليها في الجريبيات، فلم يلبثوا أن حووها وقتلوا مقاتلتها، وسبوا ما فيها من الرقيق، وغنموا منها أموالا عظاما لا تحصى ولا يعرف قدرها، فأنهب ذلك أصحابه ثلاثة أيام، ثم أمر بما بقي فحيز له. ذكر الخبر عن دخول الزنج الأبله ولخمس بقين من رجب من هذه السنة، دخل الزنج الأبلة، فقتلوا بها خلقا كثيرا وأحرقوها. ذكر الخبر عنها وعن سبب الوصول إليها: ذكر أن صاحب الزنج لما تنحى جعلان عن خندقه بشاطئ عثمان الذي كان فيه، وانحاز إلى البصرة ألح بالسرايا على أهل الأبلة، فجعل يحاربهم من ناحية شاطئ عثمان بالرجالة، وبما خف له من السفن من ناحية دجلة، وجعلت سراياه تضرب إلى ناحية نهر معقل. فذكر عن صاحب الزنج، أنه قال: ميلت بين عبادان والأبلة، فملت

ذكر خبر استيلاء صاحب الزنج على عبادان

إلى التوجه إلى عبادان، وندبت الرجالة لذلك، فقيل لي: إن أقرب العدو دارا، وأولاه بألا تتشاغل بغيره عنه أهل الأبلة، فرددت الجيش الذي كنت سيرت نحو عبادان إلى الأبلة فلم يزالوا يحاربون أهل الأبلة إلى ليلة الأربعاء لخمس بقين من رجب سنة ست وخمسين ومائتين فلما كان في هذه الليلة اقتحمها الزنج مما يلي دجلة ونهر الأبلة، فقتل بها أبو الأحوص وابنه، وأضرمت نارا، وكانت مبنية بالساج محفوفة بناء متكاثفا فأسرعت فيها النار، ونشأت ريح عاصف، فأطارت شرر ذلك الحريق حتى وصلت بشاطئ عثمان، فاحترق وقتل بالأبلة خلق كثير، وغرق خلق كثير، وحويت الأسلاب، فكان ما احترق من الأمتعة أكثر مما انتهب. وقتل في هذه الليلة عبد الله بن حميد الطوسي وابن له، كانا في شذاة بنهر معقل مع نصير المعروف بابى حمزه. ذكر خبر استيلاء صاحب الزنج على عبادان وفيها استسلم أهل عبادان لصاحب الزنج فسلموا إليه حصنهم. ذكر الخبر عن السبب الذي دعاهم إلى ذلك: ذكر أن السبب في ذلك أن الخبيث لما فعل أصحابه من الزنج بأهل الأبلة ما فعلوا، ضعفت قلوبهم، وخافوهم على أنفسهم وحرمهم، فأعطوا بأيديهم، وسلموا إليه بلدهم، فدخلها أصحابه، فأخذوا من كان فيها من العبيد، وحملوا ما كان فيها من السلاح اليه، ففرقه عليهم . ذكر خبر دخول اصحاب صاحب الزنج الاهواز وفيها دخل أصحابه الأهواز وأسروا إبراهيم بن المدبر. ذكر الخبر عن سبب ذلك: وكان الخبيث لما أوقع أصحابه بالأبلة وفعلوا بها ما فعلوا، واستسلم له

أهل عبادان، فأخذ مماليكهم، فضمهم إلى أصحابه من الزنج، وفرق بينهم ما أخذ من السلاح الذي كان بها، طمع في الأهواز، فاستنهض أصحابه نحو جبي، فلم يثبت لهم أهلها، وهربوا منهم، فدخلوا، فقتلوا وأحرقوا، ونهبوا وأخربوا ما وراءها، حتى وافوا الأهواز، وبها يومئذ سعيد بن يكسين وال وإليه حربها، وإبراهيم بن محمد بن المدبر وإليه الخراج والضياع، فهرب الناس منهم أيضا فلم يقاتلهم كثير أحد، وانحاز سعيد ابن تكسين فيمن كان معه من الجند، وثبت إبراهيم بن المدبر فيمن كان معه من غلمانه وخدمه، فدخلوا المدينة، فاحتووها، وأسروا إبراهيم بن محمد بعد أن ضرب ضربة على وجهه، وحووا كل ما كان يملك من مال وأثاث ورقيق، وذلك يَوْمَ الاثْنَيْنِ لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شهر رمضان سنة ست وخمسين ومائتين. ولما كان من أمره ما كان بالأهواز بعد الذي كان منه بالأبلة، رعب أهل البصرة رعبا شديدا، فانتقل كثير من أهلها عنها، وتفرقوا في بلدان شتى، وكثرت الأراجيف من عوامها. وفي ذي الحجة من هذه السنة وجه صاحب الزنج إلى شاهين بن بسطام جيشا عليهم يحيى بن محمد البحراني لحربه، فلم ينل يحيى من شاهين ما أمل وانصرف عنه. وفي رجب من هذه السنة وافى البصرة سعيد بن صالح المعروف بالحاجب من قبل السلطان لحرب صاحب الزنج. وفيها كانت بين موسى بن بغا الذين كان توجهوا معه إلى ناحية الجبل مخالفين لمحمد بن الواثق وبين مساور بن عبد الحميد الشاري وقعة بناحية خانقين ومساور في جمع كثير وموسى وأصحابه في مائتين، فهزموا مساورا وقتلوا من أصحابه جماعة كثيره.

خلافه المعتمد على الله

خلافة المعتمد على الله وفيها بويع أحمد بن ابى جعفر المعروف بابن فتيان، وسمي المعتمد على الله، وذلك يوم الثلاثاء لأربع عشرة بقيت من رجب. وفيها بعث إلى موسى بن بغا وهو بخانقين بموت محمد بن الواثق وبيعة المعتمد، فوافى سامرا لعشر بقين من رجب. ولليلتين خلتا من شعبان، ولى الوزارة عبيد الله بن يحيى بن خاقان وفيها ظهر بالكوفة علي بن زيد الطالبي، فوجه إليه الشاه بن ميكال في عسكر كثيف، فلقيه علي بن زيد في أصحابه، فهزمه وقتل جماعة كثيرة من أصحابه، ونجا الشاه 4 وفيها وثب محمد بن واصل بن إبراهيم التميمي، وهو من أهل فارس، ورجل من أكرادها يقال له أحمد بن الليث بالحارث بن سيما الشرابي عامل فارس، فحارباه، فقتل الحارث، وغلب محمد بن واصل على فارس وفيها وجه مفلح لحرب مساور الشاري وكنجور لحرب علي بن زيد الطالبي بالكوفة وفيها غلب جيش الحسن بن زيد الطالبي على الري، في شهر رمضان منها. وفيها شخص موسى بن بغا- لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال منها- من سامرا إلى الري، وشيعه المعتمد. وفيها كانت بين أماجور وابن لعيسى بن الشيخ على باب دمشق وقعة، فسمعت من ذكر أنه حضر أماجور، وقد خرج في اليوم الذي كانت فيه هذه الوقعة من مدينة دمشق مرتادا لنفسه عسكرا وابن عيسى بن الشيخ وقائد لعيسى يقال له أبو الصهباء في عسكر لهما بالقرب من مدينة دمشق، فاتصل

بهما خبر خروج أماجور، وأنه خرج في نفر من أصحابه يسير، فطمعا فيه، فزحفا بمن معهما إليه، ولا يعلم أماجور بزحوفهما إليه حتى لقياه، والتحمت الحرب بين الفريقين، فقتل أبو الصهباء، وهزم الجمع الذي كان معه ومع ابن عيسى، ولقد سمعت من يذكر أن عيسى وأبا الصهباء كانا يومئذ في زهاء عشرين ألفا من رجالهما، وأن اماجور في مقدار مائتين الى أربعمائة. وفي يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من ذي الحجه منها قدم ابو احمد ابن المتوكل من مكة إلى سامرا. وفيها وجه إلى عيسى بن الشيخ إسماعيل بن عبد الله المروزي المعروف بأبي النصر ومحمد بن عبيد الله الكريزي القاضي والحسين الخادم المعروف بعرق الموت، بولاية أرمينية، على أن ينصرف عن الشام آمنا، فقبل ذلك وشخص عن الشام إليها. وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن أحمد بن عيسى بن أبي جعفر المنصور.

سنه سبع وخمسين ومائتين

ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائتين (ذكر الخبر عما كان فيها من الأمور الجليلة) ذكر خبر مسير يعقوب بن الليث الى فارس وانصرافه عنها فمن ذلك ما كان من مصير يعقوب بن الليث إلى فارس، وبعثة المعتمد إليه طغتا وإسماعيل بن إسحاق وأبا سعيد الأنصاري في شعبان منها، وكتاب أبي أحمد بن المتوكل إليه بولاية بلخ وطخارستان إلى ما يلي ذلك من كرمان وسجستان والسند وغيرها، وما جعل له من المال في كل سنة، وقبوله ذلك وانصرافه. وفي ربيع الآخر منها قدم رسول يعقوب بن الليث بأصنام ذكر أنه أخذها من كابل. ولاثنتي عشرة خلت من صفر عقد المعتمد لأخيه أبي أحمد على الكوفة وطريق مكة والحرمين واليمن، ثم عقد له أيضا بعد ذلك لسبع خلون من شهر رمضان على بغداد والسواد وواسط وكور دجلة والبصرة والأهواز وفارس، وأمر أن يولى صاحب بغداد أعماله، وأن يعقد ليارجوخ على البصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين مكان سعيد بن صالح، فولى يارجوخ منصور بن جعفر بن دينار البصرة وكور دجلة الى ما يلى الاهواز. ذكر خبر انهزام الزنج امام سعيد بن الحاجب وفيها أمر بغراج باستحثاث سعيد الحاجب في المصير إلى دجلة والإناخة بإزاء عسكر صاحب الزنج، ففعل ذلك بغراج- فيما قيل- ومضى سعيد الحاجب لما أمر به من ذلك في رجب من هذه السنة

خلاص ابن المدبر من صاحب الزنج

فذكر أن سعيدا لما صار إلى نهر معقل وجد هنالك جيشا لصاحب الزنج بالنهر المعروف بالمرغاب- وهو أحد الأنهار المعترضة في نهر معقل- فأوقع بهم فهزمهم، واستنقذ ما في أيديهم من النساء والنهب، وأصابت سعيدا في تلك الوقعة جراحات، منها جراحة في فيه ثم سار سعيد حتى صار إلى الموضع المعروف بعسكر أبي جعفر المنصور، فأقام به ليلة، ثم سار حتى أناخ بموضع يقال له هطمة من أرض الفرات، فأقام هنالك أياما يعبي أصحابه، ويستعد للقاء صاحب الزنج وبلغه في أيام مقامه هنالك، أن جيشا لصاحب الزنج بالفرات، فقصد لهم بجماعة من أصحابه، فهزمهم، وكان فيهم عمران زوج جدة ابن صاحب الزنج المعروف بأنكلاي، فاستأمن عمران هذا إلى بغراج، وتفرق ذلك الجمع قال محمد بن الحسن: فلقد رأيت المرأة من سكان الفرات تجد الزنجي مستترا بتلك الأدغال، فتقبض عليه حتى تأتي به عسكر سعيد ما به منها امتناع ثم قصد سعيد حرب الخبيث فعبر إلى غربي دجلة، فأوقع به وقعات في أيام متوالية، ثم انصرف سعيد إلى معسكره بهطمة، فأقام به يحاربه باقى رجب وعامه شعبان. خلاص ابن المدبر من صاحب الزنج وفيها تخلص إبراهيم بن محمد بن المدبر من حبس الخبيث، وكان سبب تخلصه منه- فيما ذكر- أنه كان محبوسا في غرفة في منزل يحيى بن محمد البحراني، فضاق مكانه على البحراني، فأنزله إلى بيت من أبيات داره، فحبسه فيه، وكان موكلا به رجلان، ملاصق مسكنهما المنزل الذي فيه إبراهيم، فبذل لهما، ورغبهما، فسربا له سربا إلى الموضع الذي فيه إبراهيم من ناحيتهما، فخرج هو وابن أخ له يعرف بأبي غالب ورجل من بني هاشم كان محبوسا معهما.

ذكر خبر إيقاع صاحب الزنج بسعيد واصحابه

ذكر خبر إيقاع صاحب الزنج بسعيد واصحابه وفيها أوقع أصحاب الخبيث بسعيد وأصحابه فقتلوه ومن معه. ذكر الخبر عن هذه الوقعة: ذكر أن الخبيث وجه إلى يحيى بن محمد البحراني وهو مقيم بنهر معقل في جيش كثيف يأمره بالتوجه بألف رجل من اصحابه، يرئس عليهم سليمان ابن جامع وأبا الليث، ويأمرهما بالقصد لعسكر سعيد ليلا حتى يوقعا به في وقت طلوع الفجر ففعل ذلك، فصارا إلى عسكر سعيد، فصادفا منهم غرة وغفلة، فأوقعا بهم وقعة، فقتلا منهم مقتلة عظيمة، وأحرق الزنج يومئذ عسكر سعيد، فضعف سعيد ومن معه، ودخل أمرهم خلل للبيات الذي تهيأ عليهم، ولاحتباس الأرزاق عنهم، وكانت سببت لهم من مال الأهواز، فأبطأ بها عليهم منصور بن جعفر الخياط، وكان إليه يومئذ حرب الأهواز، وله من ذلك يد في الخراج. ولما كان من أمر سعيد بن صالح ما كان، أمر بالانصراف إلى باب السلطان وتسليم الجيش الذى معه وما اليه من العمل هنا لك الى منصور بن جعفر، وذلك ان سعيدا ترك بعد ما كان من بيات الزنج أصحابه وإحراقهم عسكره، فلم يكن له حركة إلى أن صرف عما كان اليه من العمل هنالك. خبر الوقعه بين منصور بن جعفر وصاحب الزنج وفيها كانت وقعة بين منصور بن جعفر الخياط وبين صاحب الزنج، قتل فيها من أصحاب منصور جماعة كثيرة. ذكر الخبر عن صفه هذه الوقعه: ذكر ان سعيدا الحاجب لما صرف عن البصرة، أقام بغراج بها يحمي أهلها، وجعل منصور يجمع السفن التي تأتي بالميرة، ثم يبذرقها في الشذا إلى البصرة، فضاق بالزنج الميرة ثم عبأ منصور أصحابه، وجمع إلى الشذا

خبر مقتل شاهين بن بسطام وهزيمه ابراهيم بن سيما

التي كانت معه الشذا الجنابيات والسفن، وقصد صاحب الزنج في عسكره، فصعد قصرا على دجلة، فأحرقه وما حوله، ودخل عسكر الخبيث من ذلك الوجه، ووافاه الزنج، وكمنوا له كمينا، فقتلوا من أصحابه مقتلة عظيمة. وألجئ الباقون إلى الماء، فغرق منهم خلق كثير، وحمل من الرءوس يومئذ- فيما ذكر- زهاء خمسمائة رأس إلى عسكر يحيى بن محمد البحراني بنهر معقل، وأمر بنصبها هنالك. 4 وفيها ظهر من بغداد بموضع يقال له بركة زلزل، على خناق، وقد قتل خلقا كثيرا من النساء ودفنهن في دار كان فيها ساكنا، فحمل إلى المعتمد، فبلغني أنه أمر بضربه، فضرب الفى سوط وأربعمائة أرزن فلم يمت حتى ضرب الجلادون أنثييه بخشب العقابين، فمات، فرد إلى بغداد فصلب بها ثم احرقت جثته 4. خبر مقتل شاهين بن بسطام وهزيمه ابراهيم بن سيما وفيها قتل شاهين بن بسطام وهزم إبراهيم بن سيما. ذكر الخبر عن سبب مقتل شاهين وانهزام إبراهيم: ذكر أن البحراني كان كتب إلى الخبيث يشير عليه بتوجيه جيش إلى الأهواز للمقام بها، ويرغبه في ذلك، وأن يبدأ بقطع قنطرة أربك، لئلا يصل الخيل إلى الجيش وإن الخبيث وجه علي بن ابان لقطع القنطرة، فلقيه ابراهيم ابن سيما منصرفا من فارس، وكان بها مع الحارث بن سيما في الصحراء المعروفة بدست اربك، وهي صحراء بين الأهواز والقنطرة فلما انتهى علي بن أبان إلى القنطرة، أقام مخفيا نفسه ومن معه، فلما أصحرت الخيل، خرجت عليه من جهات، فقتلت من الزنج خلقا كثيرا، وانهزم علي، وتبعته الخيل إلى الفندم، وأصابته طعنة في أخمصه، فأمسك عن التوجه إلى الأهواز، وانصرف على وجهه إلى جبى، وصرف سعيد بن يكسين وولي إبراهيم بن

سيما، وكاتبه شاهين، فأقبلا جميعا، إبراهيم بن سيما على طريق الفرات قاصدا لذنابه نهر جبى، وعلي بن أبان بالخيزرانية، فأقبل شاهين بن بسطام على طريق نهر موسى، يقدر لقاء إبراهيم في الموضع الذي قصد إليه، وقد اتعدا لمواقعة علي بن أبان، فسبق شاهين، وأتى علي بن أبان رجل من نهر موسى فأخبره بإقبال شاهين إليه، فوجه علي نحوه، فالتقيا في وقت العصر على نهر يعرف بأبي العباس- وهو نهر بين نهر موسى ونهر جبى- ونشبت الحرب بينهما، وثبت أصحاب شاهين، وقاتلوا قتالا شديدا، ثم صدمهم الزنج صدمة صادقة، فولوا منهزمين، فكان أول من قتل يومئذ شاهين وابن عم له يقال له حيان، وذلك أنه كان في مقدمة القوم، وقتل معه من أصحابه بشر كثير وأتى علي بن أبان مخبر فأخبره بورود إبراهيم بن سيما، وذلك بعد فراغه من أمر شاهين، فسار من فوره إلى نهر جبى، وإبراهيم بن سيما معسكر هنالك لا يعلم خبر شاهين، فوافاه علي في وقت العشاء الآخرة، فأوقع بهم وقعة غليظة قتل فيها جمعا كثيرا، وكان قتل شاهين والإيقاع بإبراهيم فيما بين العصر والعشاء الآخرة. قال محمد بن الحسن: فسمعت علي بن أبان يحدث عن ذلك، قال: لقد رأيتني يومئذ، وقد ركبني حمى نافض كانت تعتادنى، وقد كان اصحابى حين نالوا ما نالوا من شاهين تفرقوا عني، فلم يصر إلى عسكر إبراهيم بن سيما معي إلا نحو من خمسين رجلا، فوصلت إلى العسكر، فألقيت نفسي قريبا منه، وجعلت أسمع ضجيج أهل العسكر وكلامهم، فلما سكنت حركتهم، نهضت فأوقعت بهم. ثم انصرف علي بن أبان عن جبى لما قتل شاهين، وهزم إبراهيم بن سيما، لورود كتاب الخبيث عليه بالمصير الى البصره لحرب أهلها.

ذكر خبر دخول الزنج البصره هذا العام

ذكر خبر دخول الزنج البصره هذا العام وفيها دخل أصحاب الخبيث البصرة. ذكر الخبر عن سبب وصولهم إلى ذلك وما عملوا بها حين دخلوها: ذكر أن سعيد بن صالح لما شخص من البصرة ضم السلطان عمله إلى منصور بن جعفر الخياط، وكان من أمر منصور وأمر أصحاب الخبيث ما قد ذكرناه قبل، وضعف أمر منصور، ولم يعد لقتال الخبيث في عسكره، واقتصر على بذرقه القيروانات، واتسع اهل البصره لوصول المير إليهم، وكان انقطاع ذلك عنهم قد أضر بهم، وانتهى إلى الخبيث الخبر بذلك، واتساع أهل البصرة، فعظم ذلك على الخبيث، فوجه علي بن أبان إلى نواحي جبى، فعسكر بالخيزرانية، وشغل منصور بن جعفر عن بذرقة القيروانات إلى البصرة، فعاد حال أهل البصرة إلى ما كانت عليه من الضيق وألح أصحاب الخبيث على أهل البصرة بالحرب صباحا ومساء. فلما كان في شوال من هذه السنة أزمع الخبيث على جمع أصحابه للهجوم على أهل البصرة، والجد في خرابها، وذلك لعلمه بضعف أهلها وتفرقهم، وإضرار الحصار بهم، وخراب ما حولها من القرى، وكان قد نظر في حساب النجوم، ووقف على انكساف القمر ليلة الثلاثاء لأربع عشرة ليلة تخلو من الشهر. فذكر عن محمد بن الحسن بن سهل أنه قال: سمعته يقول: اجتهدت في الدعاء على أهل البصرة، وابتهلت إلى الله في تعجيل خرابها، فخوطبت، فقيل لي: إنما البصرة خبزة لك تأكلها من جوانبها، فإذا انكسر نصف الرغيف خربت البصرة، فأولت انكسار نصف الرغيف انكساف القمر المتوقع في هذه الأيام، وما أخلق أمر البصرة أن يكون بعده. قال: فكان يحدث بهذا حتى أفاض فيه أصحابه، وكثر تردده في أسماعهم وإحالته إياه بينهم

ثم ندب محمد بن يزيد الدارمي، وهو أحد من كان صحبه بالبحرين للخروج إلى الأعراب، وأنفذه فأتاه منهم خلق كثير، فأناخوا بالقندل، ووجه إليهم الخبيث سليمان بن موسى الشعراني، وأمرهم بتطرق البصرة، والإيقاع بها، وتقدم إلى سليمان بن موسى في تمرين الأعراب على ذلك، فلما وقع الكسوف أنهض علي بن أبان، وضم إليه طائفة من الأعراب، وأمره بإتيان البصرة مما يلي بني سعد، وكتب إلى يحيى بن محمد البحراني- وهو يومئذ محاصر أهل البصرة- في إتيانها مما يلي نهر عدي، وضم سائر الأعراب إليه قال محمد بن الحسن: قال شبل: فكان أول من واقع أهل البصرة علي بن أبان، وبغراج يومئذ بالبصرة في جماعة من الجند، فأقام يقاتلهم يومين، ومال الناس نحوه. وأقبل يحيى بمن معه مما يلي قصر انس قاصدا نحو الجسر، فدخل على ابن أبان المهلبي وقت صلاة الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من شوال، فأقام يقتل ويحرق يوم الجمعة وليلة السبت ويوم السبت وغادى يحيى البصرة يوم الأحد، فتلقاه بغراج وبريه في جمع فرداه، فرجع فأقام يومه ذلك، ثم غاداهم يوم الاثنين، فدخل وقد تفرق الجند، وهرب بريه، وانحاز بغراج بمن معه، فلم يكن في وجهه أحد يدافعه، ولقيه إبراهيم بن يحيى المهلبي، فاستأمنه لأهل البصرة فآمنهم، ونادى منادي إبراهيم بن يحيى: من أراد الأمان فليحضر دار إبراهيم، فحضر أهل البصرة قاطبة حتى ملئوا الرحاب. فلما رأى اجتماعهم انتهز الفرصة في ذلك منهم، فأمر بأخذ السكك والطرق والدروب لئلا يتفرقوا، وغدر بهم، وأمر أصحابه بقتلهم، فقتل كل من شهد ذلك المشهد إلا الشاذ ثم انصرف يومه ذلك، فأقام بقصر عيسى بن جعفر بالخريبة قال محمد: وحدثني الفضل بن عدي الدارمي، قال: أنا حين وجه الخائن لحرب أهل البصرة في حيز أهل البصرة مقيم في بني سعد قال: فأتانا آت في الليل، فذكر أنه رأى خيلا مجتازة تؤم قصر عيسى بالخريبة،

فقال لي أصحابي: اخرج فتعرف لنا خبر هذه الخيل، فخرجت فإذا جماعة من بني تميم وبني أسد، فسألتهم عن حالهم، فزعموا انهم اصحاب العلوي المضمومون إلى علي بن أبان، وأن عليا يوافي البصرة في غد تلك الليلة، وأن قصده لناحية بني سعد، وأن يحيى بن محمد بجمعه قاصد لناحية آل المهلب، فقالوا: قل لأصحابك من بني سعد: إن كنتم تريدون تحصين حرمكم، فبادروا إخراجهم قبل إحاطة الجيش بكم. قال الفضل: فرجعت إلى أصحابي، فأعلمتهم خبر الأعراب فاستعدوا، فوجهوا إلى بريه يعلمونه الخبر، فوافاهم فيمن كان بقي من الخول وجماعة من الجند وقت طلوع الفجر، فساروا حتى انتهوا إلى خندق يعرف ببني حمان، ووافاهم بنو تميم ومقاتلة السعدية، فلم يلبثوا ان طلع عليهم على ابن أبان في جماعة الزنج والأعراب على متون الخيل، فذهل بريه قبل لقاء القوم، فرجع إلى منزله، فكانت هزيمة، وتفرق من كان اجتمع من بني تميم، ووافى علي فلم يدافعه أحد، ومر قاصدا إلى المربد، ووجه بريه إلى بني تميم يستصرخهم، فنهض إليه منهم جماعة، فكان القتال بالمربد بحضرة دار بريه، ثم انهزم بريه عن داره، وتفرق الناس لانهزامه، فأحرقت الزنج داره، وانتهبوا ما كان فيها، فأقام الناس يقتلون هنالك، وقد ضعف أهل البصرة، وقوي عليهم الزنج، واتصلت الحرب بينهم إلى آخر ذلك اليوم، ودخل علي المسجد الجامع فأحرقه، وأدركه فتح غلام أبي شيث في جماعة من البصريين، فأنكشف علي وأصحابه عنهم، وقتل من الزنج قوم، ورجع علي فعسكر في الموضع المعروف بمقبرة بني شيبان، فطلب الناس سلطانا يقاتلون معه فلم يجدوه، وطلبوا بريها، فوجدوه قد هرب، وأصبح أهل البصرة يوم السبت، فلم يأتهم علي بن أبان، وغاداهم يوم الأحد، فلم يقف له أحد، وظفر بالبصرة. قال محمد بن الحسن: وحدثني محمد بن سمعان، قال: كنت مقيما بالبصرة في الوقت الذي دخلها الزنج، وكنت أحضر مجلس إبراهيم بن محمد

ابن إسماعيل المعروف ببريه، فحضرته وحضر يوم الجمعة لعشر ليال خلون من شوال سنة سبع وخمسين ومائتين وعنده شهاب بن العلاء العنبري، فسمعت شهابا يحدثه أن الخائن قد وجه بالأموال إلى البادية ليعرض بها رجال العرب، وأنه قد جمع جمعا كثيرا من الخيل، وهو يريد تورد البصرة بهم وبرجالته من الزنج، وليس بالبصرة يومئذ من جند السلطان إلا نيف وخمسون فارسا مع بغراج، فقال بريه لشهاب: إن العرب لا تقدم علي بمساءة، وكان بريه مطاعا في العرب، محببا إليهم. قال ابن سمعان: فانصرفت من مجلس بريه، فلقيت أحمد بن أيوب الكاتب، فسمعته يحكي عن هارون بن عبد الرحيم الشيعي، وهو يومئذ يلي بريد البصرة، أنه صح عنده أن الخائن جمع لثلاث خلون من شوال في تسعة أنفس، فكان وجوه أهل البصرة وسلطانها المقيم بها من الغبا عن حقيقة خبر الخائن على ما وصفت وقد كان الحصار عض أهل البصرة، وكثر الوباء بها، واستعرت الحرب فيها بين الحزبين المعروفين بالبلالية والسعدية. فلما كان يوم الجمعة لثلاث عشرة بقيت من شوال من هذه السنة، أغارت خيل الخائن على البصرة صبحا في هذا اليوم، من ثلاثة أوجه من ناحية بني سعد والمربد والخريبة، فكان يقود الجيش الذي سار إلى المربد علي بن أبان، وقد جعل أصحابه فرقتين، فرقة ولي عليها رفيقا غلام يحيى بن عبد الرحمن بن خاقان، وأمرهم بالمصير إلى بني سعد، والفرقة الأخرى سار هو فيها إلى المربد، وكان يقود الخيل التي أتت من ناحية الخريبة يحيى بن محمد الأزرق البحراني، وقد جمع أصحابه من جهة واحدة، وهو فيهم، فخرج إلى كل فرقة من هؤلاء من خف من ضعفاء أهل البصرة، وقد جهدهم الجوع والخصار، وتفرقت الخيل التي كانت مع بغراج فرقتين: فرقة صارت إلى ناحية المربد وفرقة صارت إلى ناحية الخريبة، وقاتل من ورد ناحية بني سعد جماعة من مقاتلة السعدية فتح غلام أبي شيث وصحبه، فلم يغن قليل من أهل البصرة إلى جموع الخبيث شيئا، وهجم القوم بخيلهم ورجلهم

قال ابن سمعان: فإني يومئذ لفي المسجد الجامع، إذ ارتفعت نيران ثلاث من ثلاثة أوجه: زهران والمربد وبني حمان في وقت واحد، كأن موقديها كانوا على ميعاد، وذلك صدر يوم الجمعة، وجل الخطب، وأيقن أهل البصرة بالهلاك، وسعى من كان في المسجد الجامع إلى منازلهم، ومضيت مبادرا إلى منزلي، وهو يومئذ في سكة المربد، فلقيني منهزمو أهل البصرة في السكة راجعين نحو المسجد الجامع، وفي أخراهم القاسم بن جعفر بن سليمان الهاشمي، وهو على بغل متقلد سيفا يصيح بالناس: ويحكم! أتسلمون بلدكم وحرمكم! هذا عدوكم قد دخل البلد، فلم يلووا عليه، ولم يسمعوا منه، فمضى وانكشفت سكة المربد، فصار بين المنهزمين والزنج فيها فضاء يسافر فيه البصر. قال محمد: فلما رأيت ذلك دخلت منزلي، وأغلقت بابي، وأشرفت فإذا خيل من الأعراب ورجالة الزنج، تقدمهم رجل على حصان كميت، بيده رمح، عليه عذبة صفراء، فسألت بعد أن صير بي إلى مدينة الخائن عن ذلك الرجل، فادعى علي بن أبان أنه ذلك الرجل، وأن الراية الصفراء رايته، ودخل القوم، فغابوا في سكة المربد إلى أن بلغوا باب عثمان، وذلك بعد الزوال ثم انصرفوا، فظن الناس من رعاع أهل البصرة وجهالهم أن القوم قد مضوا لصلاة الجمعة، وكان الذي صرفهم أنهم خشوا أن يخرج عليهم جمع السعدية والبلالية من المربعة، وخافوا الكمناء هناك، فانصرفوا وانصرف من كان بناحية زهران وبني حصن، وذلك بعد أن أحرقوا وأنهبوا واقتدروا على البلد، وعلموا أنه لا مانع لهم منه، فأغبوا السبت والأحد، ثم غادوا البصرة يوم الاثنين، فلم يجدوا عنها مدافعا، وجمع الناس إلى باب إبراهيم بن يحيى المهلبي وأعطوا الأمان. قال محمد بن سمعان: فحدثني الحسن بن عثمان المهلبي الملقب بمندلقة- وكان من أصحاب يحيى بن محمد- قال: أمرني يحيى في تلك الغداة بالمصير

إلى مقبره بني يشكر، وحمل ما كان هناك من التنانير، فصرت إليها، فحملت نيفا وعشرين تنورا على رءوس الرجال، حتى أتيت بها دار ابراهيم ابن يحيى، والناس يظنون أنها تعد لاتخاذ طعام لهم، وهم من الجوع وشدة الحصار والجهد على أمر عظيم، وكثر الجمع بباب إبراهيم بن يحيى، وجعلوا ينوبون ويزدادون، حتى أصبحوا وارتفعت الشمس. قال ابن سمعان: وأنا يومئذ قد انتقلت من سكة المربد من منزلي إلى دار جد أمي هشام المعروف بالداف، وكانت في بني تميم، وذلك للذي استفاض في الناس من دخول بني تميم في سلم الخائن، فإني لهناك إذ أتى المخبرون بخبر الوقعة بحضرة دار إبراهيم بن يحيى، فذكروا أن يحيى بن محمد البحراني أمر الزنج، فأحاطوا بذلك الجمع، ثم قال: من كان من آل المهلب فليدخل دار إبراهيم بن يحيى، فدخلت جماعة قليلة، وأغلقوا الباب دونهم ثم قيل للزنج: دونكم الناس فاقتلوهم، ولا تبقوا منهم أحدا فخرج إليهم محمد بن عبد الله المعروف بأبي الليث الأصبهاني، فقال للزنج: كيلوا- وهي العلامة التي كانوا يعرفونها فيمن يؤمرون بقتله- فأخذ الناس السيف. قال الحسن بن عثمان: فإني لأسمع تشهدهم وضجيجهم، وهم يقتلون، ولقد ارتفعت أصواتهم بالتشهد، حتى لقد سمعت بالطفاوة، وهم على بعد من الموضع الذي كانوا به قال: ولما أتي على الجمع الذي ذكرنا أقبل الزنج على قتل من أصابوا، ودخل علي بن أبان يومئذ، فأحرق المسجد الجامع، وراح إلى الكلا، فأحرقه من الجبل إلى الجسر، والنار في كل ذلك تأخذ في كل شيء مرت به من إنسان وبهيمة وأثاث ومتاع، ثم ألحوا بالغدو والرواح على من وجدوا يسوقونهم إلى يحيى بن محمد، وهو يومئذ نازل بسيحان، فمن كان ذا مال قرره حتى يستخرج ماله، ويقتله. ومن كان مملقا قتله وذكر عن شبل أنه قال: باكر يحيى البصرة يوم الثلاثاء بعد قتل من قتل بباب إبراهيم بن يحيى، فجعل ينادي بالأمان في الناس ليظهروا، فلم يظهر له أحد، وانتهى الخبر إلى الخبيث، فصرف علي بن أبان عن البصرة، وأفرد

يحيى بها لموافقة ما كان أتى يحيى من القتل إياه ووقوعه لمحبته، وأنه استقصر ما كان من علي بن أبان المهلبي من الإمساك عن العيث بناحية بني سعد. وقد كان علي بن أبان أوفد إلى الخبيث من بني سعد وفدا، فصاروا إليه، فلم يجدوا عنده خيرا، فخرجوا إلى عبادان، وأقام يحيى بالبصرة، فكتب إليه الخبيث يأمره بإظهار استخلاف شبل على البصرة ليسكن الناس، ويظهر المستخفي ومن قد عرف بكثرة المال، فإذا ظهروا أخذوا بالدلالة على ما دفنوا وأخفوا من أموالهم ففعل ذلك يحيى، فكان لا يخلو في يوم من الأيام من جماعة يؤتى بهم، فمن عرف منهم باليسار استنظف ما عنده وقتله، ومن ظهرت له خلته عاجله بالقتل، حتى لم يدع أحدا ظهر له إلا أتى عليه، وهرب الناس على وجوههم، وصرف الخبيث جيشه عن البصرة. قال محمد بن الحسن: ولما أخرب الخائن البصرة، وانتهى إليه عظيم ما فعل أصحابه فيها، سمعته يقول: دعوت على أهل البصرة في غداة اليوم الذي دخلها أصحابي، واجتهدت في الدعاء، وسجدت، وجعلت ادعو في سجودي، فرفعت الى البصره، فرأيتها ورأيت أصحابي يقاتلون فيها، ورأيت بين السماء والأرض رجلا واقفا في الهواء في صورة جعفر المعلوف المتولي كان للاستخراج في ديوان الخراج بسامرا، وهو قائم قد خفض يده اليسرى، ورفع يده اليمنى، يريد قلب البصرة بأهلها، فعلمت أن الملائكة تولت إخرابها دون أصحابي، ولو كان أصحابي تولوا ذلك لما بلغوا هذا الأمر العظيم الذي يحكى عنها وإن الملائكة لتنصرني وتؤيدني في حربي، وتثبت من ضعف قلبه من أصحابي. قال محمد بن الحسن: وانتسب الخبيث إلى يحيى بن زيد بن على بعد اخرابه بالبصرة، وذلك لمصير جماعة من العلوية الذين كانوا بالبصرة إليه، وأنه كان فيمن أتاه منهم علي بن أحمد بن عيسى بن زيد، وعبد الله بن علي في

ذكر الخبر عن الحرب بين محمد المولد والزنج

جماعة من نسائهم وحرمهم، فلما جاءوه ترك الانتساب إلى أحمد بن عيسى، وانتسب إلى يحيى بن زيد. قال محمد بن الحسن: سمعت الخبيث وقد حضره جماعة من النوفليين، فقال القاسم بن الحسن النوفلي: أنه قد كان انتهى إلينا أنك من ولد أحمد بن عيسى بن زيد، فقال: لست من ولد عيسى، أنا من ولد يحيى بن زيد. وهو في ذلك كاذب، لأن الإجماع في يحيى أنه لم يعقب إلا بنتا ماتت وهي ترضع. ذكر الخبر عن الحرب بين محمد المولد والزنج وفيها أشخص السلطان محمدا المولد إلى البصرة لحرب صاحب الزنج، فشخص من سامرا يوم الجمعة لليلة خلت من ذي القعدة. ذكر الخبر عما كان من أمر المولد هناك: ذكر ان محمدا المعروف بالمولد لما صار إلى ما هنالك نزل الأبلة، وجاء بريه، فنزل البصرة، واجتمع إلى بريه من أهل البصرة خلق كثير ممن كان هرب، وكان يحيى حين انصرف عن البصرة أقام بالنهر المعروف بالغوثي قال محمد: قال شبل: فلما قدم محمد المولد كتب الخبيث إلى يحيى يأمره بالمصير إلى نهراوا، فصار إليه بالجيش، وأقام يحارب المولد عشرة أيام، ثم أوطن المولد المقام، واستقر وفتر عن الحرب، فكتب الخبيث إلى يحيى يأمره بتبييته، ووجه إليه الشذا مع المعروف بأبي الليث الأصبهاني، فبيته ونهض المولد بأصحابه، فقاتلهم بقية ليلته ومن غد إلى العصر، ثم ولى منصرفا، ودخل الزنج عسكره، فغنموا ما فيه فكتب يحيى إلى الخبيث بخبره، فكتب إليه يأمره باتباعه، فاتبعه إلى الحوانيت، وانصرف، فمر بالجامدة، فأوقع بأهلها، وانتهب كل ما كان في تلك القرى، وسفك ما قدر على سفكه من الدماء، ثم عسكر بالجالة، فأقام هناك مدة، ثم عاد إلى نهر معقل

وفيها أخذ محمد المولد سعيد بن أحمد بن سعيد بن سلم الباهلي، وكان قد تغلب على البطائح، هو وأصحابه من باهلة وأفسدوا الطريق. وفيها خالف محمد بن واصل السلطان بفارس، وغلب عليها. وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْن إسحاق بن الحسن بن إسماعيل بن العباس. بْن محمد بْن علي بْن عبد الله بن العباس وفيها وثب بسيل المعروف بالصقلى- وقيل له الصقلبي وهو من أهل بيت المملكة، لأن أمه صقلبية- على ميخائيل بن توفيل ملك الروم فقتله، وكان ميخائيل منفردا بالمملكة أربعا وعشرين سنة، وتملك الصقلبي بعده على الروم.

سنه ثمان وخمسين ومائتين

ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأمور الجليلة فمن ذلك ما كان من الموافاة بسعيد بن أحمد بن سعيد بن سلم الباهلي باب السلطان، وأمر السلطان بضربه بالسياط، فضرب سبعمائة سوط- فيما قيل- في شهر ربيع الآخر منها، فمات فصلب. وفيها ضرب عنق قاض لصاحب الزنج، كان يقضي له بعبادان، وأعناق أربعة عشر رجلا من الزنج بباب العامة بسامرا، كانوا أسروا من ناحية البصرة. وفيها أوقع مفلح بأعراب بتكريت، ذكر أنهم كانوا مايلوا الشاري مساورا وفيها أوقع مسرور البلخي بالأكراد اليعقوبية فهزمهم، وأصاب فيهم. وفيها دخل محمد بن واصل في طاعة السلطان، وسلم الخراج والضياع بفارس إلى محمد بن الحسين بن الفياض. وعقد المعتمد يوم الاثنين لعشر بقين من شهر ربيع الأول لأبي أحمد أخيه على ديار مضر وقنسرين والعواصم، وجلس يوم الخميس مستهل شهر ربيع الآخر، فخلع عليه وعلى مفلح، فشخصا نحو البصرة وركب ركوبا عاما، وشيع أبا أحمد إلى بركوار، وانصرف.

ذكر الخبر عن قتل منصور بن جعفر الخياط

ذكر الخبر عن قتل منصور بن جعفر الخياط وفيها قتل منصور بن جعفر بن دينار الخياط. ذكر الخبر عن سبب مقتله وكيف كان أمره: ذكر أن الخبيث لما فرغ أصحابه من أمر البصرة، أمر علي بن أبان المهلبي بالمصير إلى جبى لحرب منصور بن جعفر، وهو يومئذ بالأهواز، فخرج إليه، فأقام بإزائه شهرا، وجعل منصور يأتي عسكر علي وهو مقيم بالخيزرانية، ومنصور إذ ذاك في خف من الرجال، فوجه الخبيث إلى على ابن أبان باثنتي عشرة شذاة مشحونة بجلد أصحابه، وولى أمرها المعروف بأبي الليث الأصبهاني، وأمره بالسمع والطاعة لعلي بن أبان، فصار المعروف بأبي الليث إلى علي، فأقام مخالفا له، مستبدا بالرأي عليه، وجاء منصور كما كان يجيء للحرب، ومعه شذوات، فبدر إليه أبو الليث عن غير مؤامرة منه لعلي بن أبان، فظفر منصور بالشذوات التي كانت معه، وقتل فيها من البيضان والزنج خلقا كثيرا، وأفلت أبو الليث، فانصرف إلى الخبيث، فانصرف علي بن أبان وجميع من كان معه، فأقاموا شهرا، ثم رجع علي لمحاربة منصور في رجاله، فلما استقر علي وجه طلائع يأتونه بأخبار منصور وعساكره، وكان لمنصور وال مقيم بكرنبا، فبيت علي بن أبان ذلك القائد، فقتله وقتل عامة من كان معه، وغنم ما كان في عسكره، وأصاب أفراسا، وأحرق العسكر، وانصرف من ليلته حتى صار في ذنابة نهر جبى وبلغ الخبر منصورا، فسار حتى انتهى إلى الخيزرانية، فخرج إليه علي في نفير من أصحابه، وكانت الحرب بينهما منذ ضحى ذلك اليوم إلى وقت الظهر، ثم انهزم منصور، وتفرق عنه أصحابه، وانقطع عنهم، وأدركته طائفة من الزنج اتبعوا أثره إلى نهر يعرف بعمر بن مهران، فلم يزل يكر عليهم حتى تقصفت رماحه، ونفدت سهامه، ولم يبق معه سلاح، ثم حمل نفسه على

ذكر الخبر عن قتل مفلح

النهر ليعبر، فصاح بحصان كان تحته، فوثب وقصرت رجلاه، فانغمس في الماء. قال شبل: كان سبب تقصير الفرس عن عبور النهر بمنصور، أن رجلا من الزنج كان ألقى نفسه لما راى منصورا قاصدا نحو النهر يريد عبوره فسبقه سباحة، فلما وثب الفرس تلقاه الأسود، فنكص به، فغاضا معا، ثم أطلع منصور رأسه، فنزل إليه غلام من السودان من عرفاء مصلح يقال له أبرون، فاحتز رأسه، وأخذ سلبه، وقتل ممن كان معه جماعة كثيرة، وقتل مع منصور أخوه خلف بن جعفر، فولى يارجوخ ما كان إلى منصور من العمل اصغجون . ذكر الخبر عن قتل مفلح ولاثنتي عشرة بقيت من جمادى الأولى منها، قتل مفلح بسهم أصابه بغير نصل في صدغه يوم الثلاثاء، فأصبح ميتا يوم الأربعاء في غد ذلك اليوم، وحملت جثته إلى سامرا، فدفن بها. ذكر الخبر عن سبب مقتله وكيف كان الوصول إليه: قد مضى ذكري شخوص أبي أحمد بن المتوكل من سامرا إلى البصرة لحرب اللعين لما تناهى إليه وإلى المعتمد ما كان من فظيع ما ركب من المسلمين بالبصرة، وما قرب منها من سائر أرض الإسلام، فعاينت أنا الجيش الذي شخص فيه أبو أحمد ومفلح ببغداد، وقد اجتازوا بباب الطاق، وأنا يومئذ نازل هنالك، فسمعت جماعة من مشايخ أهل بغداد يقولون: قد رأينا جيوشا كثيرة من الخلفاء، فما رأينا مثل هذا الجيش أحسن عدة، وأكمل سلاحا وعتادا، وأكثر عددا وجمعا، وأتبع ذلك الجيش من متسوقة أهل بغداد خلق كثير

وذكر عن محمد بن الحسن أن يحيى بن محمد البحراني كان مقيما بنهر معقل قبل موافاة أبي أحمد موضع الخبيث، فاستأذنه في المصير إلى نهر العباس، فكره ذلك، وخاف أن يوافيه جيش السلطان، وأصحابه متفرقون، فألح عليه يحيى حتى أذن له، فخرج واتبعه أكثر أهل عسكر الخبيث. وكان علي بن أبان مقيما بجبى في جمع كثير من الزنج، والبصرة قد صارت مغنما لأهل عسكر الخبيث، فهم يغادونها ويراوحونها لنقل ما نالته أيديهم منها، فليس بعسكر الخبيث يومئذ من أصحابه إلا القليل، فهو على ذلك من حاله حتى وافى أبو أحمد في الجيش الذي كان معه فيه مفلح، فوافى جيش عظيم هائل لم يرد على الخبيث مثله، فلما انتهى إلى نهر معقل هرب من كان هناك من جيش الخبيث، فلحقوا به مرعوبين، فراع ذلك الخبيث، فدعا برئيسين من رؤساء جيشه الذي كان هناك، فسألهما عن السبب الذي له تركا موضعهما، فأخبراه بما عاينا من عظم أمر الجيش الوارد، وكثرة عدد أهله وإحكام عدتهم، وأن الذي عاينا من ذلك لم يكن في قوتهما الوقوف له في العدة التي كانا فيها، فسألهما: هل علما من يقود الجيش، فقالا: لا قد اجتهدنا في علم ذلك، فلم نجد من يصدقنا عنه فوجه الخبيث طلائعه في سميريات لتعرف الخبر، فرجعت رسله إليه بتعظيم أمر الجيش وتفخيمه، ولم يقف أحد منهم على من يقوده ويرأسه، فزاد ذلك في جزعه وارتياعه، فبادر بالإرسال إلى علي بن أبان، يعلمه خبر الجيش الوارد، ويأمره بالمصير إليه فيمن معه، ووافى الجيش، فأناخ بإزائه، فلما كان اليوم الذي كانت فيه الوقعة وهو يوم الأربعاء، خرج الخبيث ليطوف في عسكره ماشيا، ويتأمل الحال فيمن هو مقيم معه من حزبه ومن هو مقيم بإزائه من أهل حربه، وقد كانت السماء مطرت في ذلك اليوم مطرا خفيفا والأرض ثرية تزل عنها الأقدام، فطوف ساعة من أول النهار، ثم رجع فدعا بدواة وقرطاس لينفذ كتابا إلى علي بن أبان، يعلمه ما قد أطله من الجيش

ويأمره بتقديم من قدر على تقديمه من الرجال، فإنه لفي ذلك إذ أتاه المكتنى أبا دلف- وهو أحد قواد السودان- فقال له: إن القوم قد صعدوا وانهزم عنهم الزنج، وليس في وجوههم من يردهم حتى انتهوا إلى الحبل الرابع. فصاح به وانتهره، وقال: اغرب عني فإنك كاذب فيما حكيت، وإنما ذلك جزع دخلك لكثرة ما رأيت من الجمع، فانخلع قلبك، ولست تدري ما تقول. فخرج أبو دلف من بين يديه، وأقبل على كاتبه، وقد كان أمر جعفر بن إبراهيم السجان بالنداء في الزنج وتحريكهم للخروج إلى موضع الحرب، فأتاه السجان، فأخبره أنه قد ندب الزنج، فخرجوا وإن أصحابه قد ظفروا بسميريتين، فأمره بالرجوع لتحريك الرجالة، فرجع ولم يلبث بعد ذلك إلا يسيرا، حتى أصيب مفلح بسهم غرب لا يعرف الرامي به، ووقعت الهزيمة، وقوي الزنج على أهل حربهم، فنالوهم بما نالوهم به من القتل ووافى الخبيث زنجه بالرءوس قابضين عليها بأسنانهم حتى ألقوها بين يديه، فكثرت الرءوس يومئذ حتى ملأت كل شيء، وجعل الزنج يقتسمون لحوم القتلى ويتهادونها بينهم. وأتي الخائن بأسير من أبناء الفراغنة، فسأله عن رأس الجيش، فأعلمه بمكان أبي أحمد ومفلح، فارتاع لذكر أبي أحمد- وكان إذا راعه أمر كذب به- فقال: ليس في الجيش غير مفلح! لأني لست أسمع الذكر إلا له، ولو كان في الجيش من ذكر هذا الأسير لكان صوته أبعد، ولما كان مفلح إلا تابعا له، ومضافا إلى صحبته. وقد كان أهل عسكر الخبيث لما خرج عليهم أصحاب أبي أحمد، جزعوا جزعا شديدا، وهربوا من منازلهم، ولجئوا إلى النهر المعروف بنهر أبي الخصيب ولا جسر يومئذ عليه، فغرق فيه يومئذ خلق كثير من النساء والصبيان، ولم يلبث الخبيث بعد الوقعة إلا يسيرا، حتى وافاه علي بن أبان في جمع من أصحابه، فوافاه وقد استغنى عنه، ولم يلبث مفلح أن مات، وتحيز أبو أحمد

ذكر خبر اسر يحيى بن محمد البحرانى ثم قتله

إلى الأبلة، ليجمع ما فرقت الهزيمة منه، ويجدد الاستعداد، ثم صار إلى نهر أبي الأسد فأقام به. قال محمد بن الحسن: فكان الخبيث لا يدري كيف قتل مفلح، فلما بلغه أنه أصيب بسهم، ولم ير أحدا ينتحل رميه ادعى أنه كان الرامي له. قال: فسمعته يقول: سقط بين يدي سهم، فأتاني به واح خادمي، فدفعه إلي، فرميت به فأصبت مفلحا. قال محمد: وكذب في ذلك، لأني كنت حاضرا ذلك المشهد، وما زال عن فرسه حتى أتاه المخبر بخبر الهزيمة، وأتي بالرءوس وانقضت الحرب. وفي هذه السنة وقع الوباء في الناس في كور دجلة، فهلك فيها خلق كثير في مدينة السلام وسامرا وواسط وغيرها. وفيها قتل خرسخارس ببلاد الروم في جماعة من أصحابه. ذكر خبر اسر يحيى بن محمد البحرانى ثم قتله وفيها أسر يحيى بن محمد البحراني صاحب قائد الزنج، وفيها قتل. ذكر الخبر عن أسره وقتله وكيف كان ذلك: ذكر عن محمد بن سمعان الكاتب أنه قال: لما وافى يحيى بن محمد نهر العباس، لقيه بفوهه النهر ثلاثمائة وسبعون فارسا من أصحاب أصغجون العامل- كان عامل الأهواز في ذلك الوقت، كانوا مرتبين في تلك الناحية- فلما بصر بهم يحيى استقلهم، ورأى كثرة من معه من الجمع مما لا خوف عليه معهم، فلقيتهم أصحابه غير مستجنين بشيء يرد عنهم عاديتهم، ورشقتهم أصحاب أصغجون بالسهام، فأكثروا الجراح فيهم فلما راى ذلك

يحيى عبر إليهم عشرين ومائة فارس كانت معه، وضم إليهم من الرجال جمعا كثيرا، وانحاز أصحاب أصغجون عنهم، وولج البحراني ومن معه نهر العباس، وذلك وقت قلة الماء في النهر، وسفن القيروانات جانحة على الطين. فلما أبصر أصحاب تلك السفن بالزنج تركوا سفنهم، وحازها الزنج، وغنموا ما كان فيها غنائم عظيمة جليلة، ومضوا بها متوجهين نحو البطيحة المعروفة ببطيحة الصحناة، وتركوا الطريق النهج، وذلك للتحاسد الذي كان بين البحراني وعلي بن أبان المهلبي وإن أصحاب يحيى أشاروا عليه ألا يسلك الطريق الذي يمر فيها بعسكر علي، فأصغى إلى مشورتهم، فشرعوا له الطريق المؤدي إلى البطيحة التي ذكرنا، فسلكها حتى ولج البطيحة، وسرح الخيل التي كانت معه، وجعل معها أبا الليث الأصبهاني، وأمره بالمصير بها إلى عسكر قائد الزنج. وكان الخبيث وجه إلى يحيى البحراني يعلمه ورود الجيش الذي ورد عليه، ويأمره بالتحرز في منصرفه من أن يلقاه أحد منهم، فوجه البحراني الطلائع إلى دجلة، فانصرفت طلائعه وجيش أبي أحمد منصرف من الأبلة إلى نهر أبي الأسد، وكان السبب في رجوع الجيش إلى نهر أبي الأسد، أن رافع بن بسطام وغيره من مجاوري نهر العباس وبطيحة الصحناة كتبوا إلى أبي أحمد يعرفونه خبر البحراني وكثرة جمعه، وأنه يقدر أن يخرج من نهر العباس إلى دجلة، فيسبق إلى نهر أبي الأسد ويعسكر به، ويمنعه الميرة، ويحول بينه وبين من يأتيه أو يصدر عنه، فرجعت إليه طلائعه بخبره، وعظم أمر الجيش عنده، وهيبته منه، فرجع في الطريق الذي كان سلكه بمشقة شديدة نالته ونالت أصحابه، وأصابهم وباء من ترددهم في تلك البطيحة، فكثر المرض فيهم فلما قربوا من نهر العباس جعل يحيى بن محمد سليمان بن جامع على مقدمته، فمضى يقود أوائل الزنج، وهم يجرون سفنهم، يريدون الخروج من نهر العباس، وفي النهر للسلطان شذوات وسميريات تحمي فوهته من قبل أصغجون، ومعها جمع من الفرسان والرجالة، فراعه وأصحابه ذلك،

فخلوا سفنهم، وألقوا أنفسهم في غربي نهر العباس، وأخذوا على طريق الزيدان ماضين نحو عسكر الخبيث، ويحيى غار بما أصابهم، لم يأته علم شيء من خبرهم، وهو متوسط عسكره، قد وقف على قنطرة قورج العباس في موضع ضيق تشتد فيه جرية الماء، فهو مشرف على أصحابه الزنج، وهم في جر تلك السفن التي كانت معهم، فمنها ما يغرق، ومنها ما يسلم. قال محمد بن سمعان: وأنا في تلك الحال معه واقف، فأقبل علي متعجبا من شدة جرية الماء وشدة ما يلقى أصحابه من تلقيه بالسفن، فقال لي: أرأيت لو هجم علينا غدونا في هذه الحال، من كان أسوأ حالا منا! فما انقضى كلامه حتى وافاه طاشتمر التركي في الجيش الذي أنفذه إليهم أبو أحمد عند رجوعه من الأبلة إلى نهر أبي الأسد، ووقعت الضجة في عسكره. قال محمد: فنهضت متشوقا للنظر، فإذا الأعلام الحمر قد أقبلت في الجانب الغربي من نهر العباس ويحيى به، فلما رآها الزنج ألقوا أنفسهم في الماء جملة، فعبروا إلى الجانب الشرقي، وعري الموضع الذي كان فيه يحيى، فلم يبق معه إلا بضعة عشر رجلا، فنهض يحيى عند ذلك، فأخذ درقته وسيفه، واحتزم بمنديل، وتلقى القوم الذين أتوه في النفر الذين معه، فرشقهم أصحاب طاشتمر بالسهام، وأسرع فيهم الجراح، وجرح البحراني بأسهم ثلاثة في عضديه وساقه اليسرى فلما رآه أصحابه جريحا تفرقوا عنه، فلم يعرف فيقصد له فرجع حتى دخل بعض تلك السفن، وعبر به إلى الجانب الشرقي من النهر، وذلك وقت الضحى من ذلك اليوم، وأثقلت يحيى الجراحات التي أصابته فلما رأى الزنج ما نزل به اشتد جزعهم، وضعفت قلوبهم، فتركوا القتال وكانت همتهم النجاة بأنفسهم، وحاز أصحاب السلطان الغنائم التي كانت في السفن بالجانب الغربي من النهر، فلما حووها أقعدوا في بعض تلك السفن النفاطين، وعبروهم إلى شرقي النهر، فأحرقوا ما كان هناك من السفن

التي كانت في أيدي الزنج، وانفض الزنج عن يحيى، فجعلوا يتسللون بقية نهارهم بعد قتل فيهم ذريع، وأسر كثير، فلما أمسوا وأسدف الليل طاروا على وجوههم، فلما رأى يحيى تفرق أصحابه، ركب سميرية كانت لرجل من المقاتلة البيضان، وأقعد معه فيها متطببا يقال له عباد يعرف بأبي جيش، وذلك لما كان به من الجراح، وطمع في التخلص إلى عسكر الخبيث، فسار حتى قرب من فوهه النهر، فبصر ملاحو السميرية بالشذا والسميريات واعتراضها في النهر، فجزعوا من المرور بهم، وأيقنوا أنهم مدركون، فعبروا إلى الجانب الغربي، فألقوه ومن معه على الأرض في زرع كان هناك، فخرج يمشي وهو مثقل، حتى ألقى نفسه، فأقام بموضعه ليلته تلك، فلما أصبح بموضعه ذلك نهض عباد المتطبب الذي كان معه، فجعل يمشي متشوقا لأن يرى إنسانا، فرأى بعض أصحاب السلطان، فأشار إليهم فأخبرهم بمكان يحيى، وأتاه بهم حتى سلمه إليهم. وقد زعم قوم أن قوما مروا به، فرأوه فدلوا عليه، فأخذ فانتهى خبره إلى الخبيث صاحب الزنج، فاشتد لذلك جزعه، وعظم عليه توجعه. ثم حمل يحيى بن محمد الأزرق البحراني إلى أبي أحمد، فحمله أبو أحمد إلى المعتمد بسامرا، فأمر ببناء دكة بالحير، بحضرة مجرى الحلبة فبنيت، ثم رفع للناس حتى أبصروه، فضرب بالسياط. وذكر أنه دخل سامرا يوم الأربعاء لتسع خلون من رجب على جمل، وجلس المعتمد من غد ذلك اليوم- وذلك يوم الخميس- فضرب بين يديه مائتي سوط بثمارها، ثم قطعت يداه ورجلاه من خلاف، ثم خبط بالسيوف ثم ذبح ثم أحرق. قال محمد بن الحسن: لما قتل يحيى البحراني وانتهى خبره إلى صاحب الزنج، قال: عظم علي قتله، واشتد اهتمامي به، فخوطبت فقيل لي: قتله خير لك، أنه كان شرها ثم أقبل على جماعة كنت أنا فيهم، قال: ومن شرهه أنا غنمنا غنيمة من بعض ما كنا نصيبه، فكان فيه عقدان، فوقعا في

ذكر خبر انحياز ابى احمد بن المتوكل إلى واسط

يد يحيى، فأخفى عني أعظمهما خطرا، وعرض علي أخسهما، واستوهبنيه فوهبته له، فرفع لي العقد الذي أخفاه، فدعوته فقلت: أحضرني العقد الذي أخفيته، فأتاني بالعقد الذي وهبته له، وجحد ان يكون اخذه غيره، فرفع لي العقد، فجعلت أصفه وأنا أراه، فبهت، وذهب فأتاني به، واستوهبنيه فوهبته له، وأمرته بالاستغفار. وذكر عن محمد بن الحسن أن محمد بن سمعان حدثه أن قائد الزنج قال لي في بعض أيامه: لقد عرضت علي النبوة فأبيتها، فقلت: ولم ذاك؟ قال: لأن لها أعباء خفت ألا اطيق حملها! ذكر خبر انحياز ابى احمد بن المتوكل الى واسط وفي هذه السنة انحاز أبو أحمد بن المتوكل من الموضع الذي كان به من قرب موضع قائد الزنج إلى واسط. ذكر الخبر عن سبب الحيازة ذلك إليها: ذكر أن السبب في ذلك كان أن أبا أحمد لما صار إلى نهر أبي الأسد، فأقام به، كثر العلل فيمن معه من جنده وغيرهم، وفشا فيهم الموت، فلم يزل مقيما هنالك حتى أبل من نجا منهم من الموت من علته، ثم انصرف راجعا إلى باذاورد، فعسكر به، وأمر بتجديد الآلات وإعطاء من معه من الجند أرزاقهم وإصلاح الشذوات والسميريات والمعابر، وشحنها بالقواد من مواليه وغلمانه، ونهض نحو عسكر الخبيث، وأمر جماعة من قواده بقصد مواضع سماها لهم من نهر أبي الخصيب وغيره، وأمر جماعة منهم بلزومه والمحاربة معه في الموضع الذي يكون فيه، فمال أكثر القوم حين وقعت الحرب، والتقى الفريقان إلى نهر أبي الخصيب، وبقي أبو أحمد في قلة من أصحابه، فلم يزل عن موضعه إشفاقا من أن يطمع فيه الزنج، وفيمن بإزائهم من أصحابه وهم بسبخة

أخبار متفرقة

نهر منكى، وتأمل الزنج تفرق أصحاب أبي أحمد عنه، وعرفوا موضعه، فكثروا عليه، واستعرت الحرب، وكثر القتل والجراح بين الفريقين، وأحرق أصحاب أبي أحمد قصورا ومنازل من منازل الزنج، واستنقذوا من النساء جمعا كثيرا، وصرف الزنج جمعهم إلى الموضع الذي كان به أبو أحمد فظهر الموفق على الشذا، وتوسط الحرب محرضا أصحابه حتى أتاه من جمع الزنج ما علم أنه لا يقاوم بمثل العدة اليسيرة التي كان فيها، فرأى أن الحزم في محاجزتهم، فأمر أصحابه عند ذلك بالرجوع إلي سفنهم على تؤدة ومهل، فصار أبو أحمد إلى الشذا التي كان فيها بعد أن استقر أكثر الناس في سفنهم، وبقيت طائفة من الناس، ولجئوا إلى تلك الأدغال والمضايق، فانقطعوا عن أصحابهم، فخرج عليهم كمناء الزنج، فاقتطعوهم ووقعوا بهم، فحاموا عن أنفسهم، وقاتلوا قتالا شديدا، وقتلوا عددا كثيرا من الزنج، وأدركتهم المنايا فقتلوا، وحملوا إلى قائد الزنج مائة رأس وعشرة أرؤس، فزاد ذلك في عتوه ثم انصرف أبو أحمد إلى الباذاورد في الجيش، وأقام يعبي أصحابه للرجوع إلى الزنج، فوقعت نار في طرف من أطراف عسكره، وذلك في أيام عصوف الريح، فاحترق العسكر، ورحل أبو أحمد منصرفا، وذلك في شعبان من هذه السنة إلى واسط، فلما صار إلى واسط تفرق عنه عامه من كان معه من اصحابه. [أخبار متفرقة] ولعشر خلون من شعبان كانت هدة صعبة هائلة بالصيمرة ثم سمع من غد ذلك اليوم وذلك يوم الأحد، هدة هي أعظم من التي كانت في اليوم الأول، فتهدم من ذلك أكثر المدينة، وتساقطت الحيطان وهلك من أهلها- فيما قيل- زهاء عشرين ألفا وضرب بباب العامة بسامرا رجل يعرف بأبي فقعس، قامت عليه البينة- فيما قيل- بشتم السلف ألف سوط وعشرين سوطا، فمات وذلك يوم الخميس

لسبع خلون من شهر رمضان ومات يارجوخ يوم الجمعة لثمان خلون من شهر رمضان، فصلى عليه أبو عيسى بن المتوكل، وحضر جعفر بن المعتمد وفيها كانت وقعة بين موسى بن بغا وأصحاب الحسن بن زيد، فهزم موسى أصحاب الحسن وفيها انصرف مسرور البلخي عن مساور الشاري إلى سامرا، ومعه أسراء من الشراة، واستخلف على عسكره بالحديثة جعلان ثم شخص أيضا مسرور البلخي إلى ناحية البوازيج، فلقي مساورا بها، فكانت بينهما وقعة بها أسر مسرور من أصحابه جماعة، ثم انصرف لليال بقيت من ذي الحجة وفي هذه السنة حدث في الناس ببغداد داء كان أهلها يسمونه القفاع. وفيها رجع أكثر الحاج من القرعاء خوف العطش، وسلم من سار منهم إلى مكة. وحج بالناس فيها الفضل بن إسحاق بن الحسن.

سنه تسع وخمسين ومائتين

ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومائتين ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث فمن ذلك منصرف أبي أحمد بن المتوكل من واسط، وقدومه سامرا يوم الجمعة لأربع بقين من شهر ربيع الأول، واستخلافه على واسط وحرب الخبيث بتلك الناحية محمدا المولد . ذكر الخبر عن مقتل كنجور ومن ذلك مقتل كنجور. ذكر الخبر عن سبب مقتله: وكان سبب ذلك أنه كان والي الكوفة، فانصرف عنها يريد سامرا بغير إذن، فأمر بالرجوع فأبى، فحمل إليه- فيما ذكر- مال ليفرق في أصحابه أرزاقهم منه، فلم يقنع بذلك، ومضى حتى ورد عكبراء في ربيع الأول، فتوجه إليه من سامرا عدة من القواد، فيهم: ساتكين وتكين وعبد الرحمن ابن مفلح وموسى بن أتامش وغيرهم، فذبحوه ذبحا، وحمل رأسه إلى سامرا، لليلة بقيت من شهر ربيع الأول، وأصيب معه نيف وأربعون ألف دينار، وألزم كاتب له نصراني مالا، ثم ضرب هذا الكاتب في شهر ربيع الآخر بباب العامة ألف سوط، فمات. وفيها غلب شركب الجمال على مرو وناحيتها وأنهبها. وفيها انصرف يعقوب بن الليث عن بلخ، فأقام بقهستان، وولى عماله هراة وبوشنج وباذغيس، وانصرف إلى سجستان

ذكر خبر دخول المهلبى ويحيى بن خلف سوق الاهواز

وفيها فارق عبد الله السجزي يعقوب بن الليث مخالفا له، وحاصر نيسابور، فوجه محمد بن طاهر إليه الرسل والفقهاء، فاختلفوا بينهما، ثم ولاه الطبسين وقهستان . ذكر خبر دخول المهلبى ويحيى بن خلف سوق الاهواز ولست خلون من ارجب منها، دخل المهلبى ويحيى بن خلف النهر بطى سوق الأهواز، فقتلوا بها خلقا كثيرا، وقتلوا صاحب المعونة بها. ذكر الخبر عن سبب هذه الوقعة وكيف كان هلاك صاحب الحرب من قبل السلطان فيها: ذكر أن قائد الزنج خفي عليه أمر الحريق الذي كان في عسكر أبي أحمد بالباذاورد، فلم يعلم خبره إلا بعد ثلاثة أيام، ورد به عليه رجلان من أهل عبادان فأخبراه، فعاد للعيث، وانقطعت عنه الميرة، فانهض على ابن أبان المهلبي، وضم إليه أكثر الجيش، وسار معه سليمان بن جامع، وقد ضم إليه الجيش الذي كان مع يحيى بن محمد البحراني وسليمان بن موسى الشعراني، وقد ضمت إليه الخيل وسائر الناس مع علي بن أبان المهلبي والمتولي للأهواز يومئذ رجل يقال له أصغجون، ومعه نيزك في جماعة من القواد، فسار إليهم علي بن أبان في جمعه من الزنج، ونذر به أصغجون، فنهض نحوه في أصحابه، فالتقى العسكران بصحراء تعرف بدستماران، فكانت الدبرة يومئذ على أصغجون، فقتل نيزك في جمع كثير من أصحابه، وغرق أصغجون، وأسر الحسن بن هرثمة المعروف بالشار يومئذ، والحسن بن جعفر المعروف براوشار. قال محمد بن الحسن: فحدثني الحسن بن الشار، قال: خرجنا يومئذ مع أصغجون للقاء الزنج، فلم يثبت أصحابنا، وانهزموا، وقتل نيزك، وفقد أصغجون، فلما رأيت ذلك نزلت عن فرس محذوف كان تحتي، وقدرت

شخوص موسى بن بغا لحرب صاحب الزنج

أن أتناول بذنب جنيبة كانت معي، وأقحمها النهر، فأنجو بها فسبقني إلى ذلك غلامي، فنجا وتركني، فأتيت موسى بن جعفر لأتخلص معه، فركب سفينة، ومضى فيها، ولم يقم علي، وبصرت بزورق فأتيته فركبته، فكثر الناس علي وجعلوا يطلبون الركوب معي فيتعلقون بالزورق حتى غرقوه، فانقلب، وعلوت ظهره، وذهب الناس عني، وأدركني الزنج، فجعلوا يرمونني بالنشاب، فلما خفت التلف قلت: أمسكوا عن رميي، وألقوا إلي شيئا أتعلق به، وأصير إليكم، فمدوا إلي رمحا، فتناولته بيدي وصرت إليهم. وأما الحسن بن جعفر، فإن أخاه حمله على فرس، واعده ليسفر بينه بين أمير الجيش، فلما وقعت الهزيمة بادر في طلب النجاة، فعثر به فرسه فأخذ. فكتب علي بن أبان إلى الخبيث بأمر الوقعة، وحمل إليه رءوسا وأعلاما كثيرة، ووجه الحسن بن الشار والحسن بن جعفر وأحمد بن روح، فأمر بالأسرى إلى السجن، ودخل علي بن أبان الأهواز، فأقام يعيث بها إلى أن ندب السلطان موسى بن بغا لحرب الخبيث. شخوص موسى بن بغا لحرب صاحب الزنج وفيها شخص موسى بن بغا عن سامرا لحربه، وذلك لثلاث عشر بقيت من ذي القعدة، وشيعه المعتمد إلى خلف الحائطين، وخلع عليه هناك. وفيها وافى عبد الرحمن بن مفلح الأهواز وإسحاق بن كنداج البصرة وإبراهيم بن سيما باذاورد لحرب قائد الزنج من قبل موسى بن بغا. ذكر الخبر عما كان من أمر هؤلاء في النواحي التي ضمت إليهم مع أصحاب قائد الزنج في هذه السنة: ذكر أن ابن مفلح لما وافى الأهواز، أقام بقنطرة أربك عشرة أيام، ثم

مضى إلى المهلبي، فواقعه، فهزمه المهلبي وانصرف، واستعد ثم عاد لمحاربته، فأوقع به وقعة غليظة، وقتل من الزنج قتلا ذريعا، وأسر أسرى كثيرة، وانهزم علي بن أبان، وأفلت ومن معه من الزنج، حتى وافوا بيانا، فأراد الخبيث ردهم، فلم يرجعوا للذعر الذي خالط قلوبهم فلما رأى ذلك أذن لهم في دخول عسكره، فدخلوا جميعا، فأقاموا بمدينته ووافى عبد الرحمن حصن المهدي ليعسكر به، فوجه إليه الخبيث علي بن أبان، فواقعه فلم يقدر عليه، ومضى علي يريد الموضع المعروف بالدكر، وإبراهيم بن سيما يومئذ بالباذاورد، فواقعه إبراهيم، فهزم علي بن أبان، وعاوده فهزمه أيضا إبراهيم، فمضى في الليل، وأخذ معه أدلاء، فسلكوا به الآجام والأدغال، حتى وافى نهر يحيى، وانتهى خبره إلى عبد الرحمن، فوجه إليه طاشتمر في جمع من الموالي، فلم يصل إلى علي ومن معه لوعورة الموضع الذي كانوا فيه، وامتناعه بالقصب والحلافي، فأضرمه عليهم نارا، فخرجوا منه هاربين، فأسر منهم أسرى، وانصرف إلى عبد الرحمن بن مفلح بالأسرى والظفر، ومضى على ابن أبان حتى وافى نسوخا، فأقام هناك فيمن معه من أصحابه، وانتهى الخبر بذلك إلى عبد الرحمن بن مفلح، فصرف وجهه نحو العمود، فوافاه وأقام به. وصار علي بن أبان إلى نهر السدرة، وكتب إلى الخبيث يستمده ويسأله التوجيه اليه بالشذاءات، فوجه إليه ثلاث عشرة شذاة، فيها جمع كثير من أصحابه فسار علي ومعه الشذا حتى وافى عبد الرحمن، وخرج إليه عبد الرحمن بمن معه، فلم يكن بينهما قتال، وتواقف الجيشان يومهما ذلك، فلما كان الليل، انتخب علي بن أبان من أصحابه جماعة يثق بجلدهم وصبرهم، ومضى فيهم ومعه سليمان بن موسى المعروف بالشعراني، وترك سائر عسكره مكانه ليخفى أمره، فصار من وراء عبد الرحمن، ثم بيته في عسكره، فنال منه ومن أصحابه نيلا، وانحاز عبد الرحمن عنه، وخلى عن أربع شذوات من شذواته،

فأخذها علي وانصرف، ومضى عبد الرحمن لوجهة حتى وافى الدولاب فأقام به، وأعد رجالا من رجاله، وولى عليهم طاشتمر، وأنفذهم إلى على ابن ابان فوافوه بنواحي بياب آزر، فأوقعوا به وقعة، انهزم منها إلى نهر السدرة، وكتب طاشتمر إلى عبد الرحمن بانهزام علي عنه، فأقبل عبد الرحمن بجيشه حتى وافى العمود، فأقام به، واستعد أصحابه للحرب، وهيأ شذواته، وولى عليها طاشتمر، فسار إلى فوهة نهر السدرة، فواقع علي بن أبان وقعة عظيمة، انهزم منها علي، وأخذ منه عشر شذوات، ورجع علي إلى الخبيث مفلولا مهزوما، وسار عبد الرحمن من فوره، فعسكر ببيان، فكان عبد الرحمن ابن مفلح وإبراهيم بن سيما يتناوبان المصير إلى عسكر الخبيث، فيوقعان به، ويخفيان من فيه، وإسحاق بن كنداج يومئذ مقيم بالبصرة، قد قطع الميرة عن عسكر الخبيث، فكان الخبيث يجمع أصحابه في اليوم الذي يخاف فيه موافاة عبد الرحمن بن مفلح وإبراهيم بن سيما حتى ينقضي الحرب، ثم يصرف فريقا منهم إلى ناحية البصرة، فيواقع بهم إسحاق بن كنداج، فأقاموا في ذلك بضعة عشر شهرا إلى أن صرف موسى بن بغا عن حرب الخبيث، ووليها مسرور البلخي، وانتهى الخبر بذلك إلى الخبيث. وفيها غلب الحسن بن زيد على قومس، ودخلها أصحابه وفيها كانت وقعة بين محمد بن الفضل بن سنان القزويني ووهسوذان بن جستان الديلمي، فهزم محمد بن الفضل وهسوذان. وفيها ولي موسى بن بغا الصلابي الري حين وثب كيغلغ على تكين، فقتله فسار إليها. وفيها غلب صاحب الروم على سميساط، ثم نزل على ملطية، وحاصر أهلها، فحاربه أهل ملطية فهزموه، وقتل أحمد بن محمد القابوس نصرا الإقريطشي بطريق البطارقة. وفيها وجه من الأهواز جماعة من الزنج أسروا إلى سامرا، فوثبت العامة بهم بسامرا، فقتلوا أكثرهم وسلبوهم.

ذكر الخبر عن دخول يعقوب بن الليث نيسابور

ذكر الخبر عن دخول يعقوب بن الليث نيسابور وفيها دخل يعقوب بن الليث نيسابور. ذكر الخبر عن الكائن الذي كان منه هناك: ذكر أن يعقوب بن الليث صار إلى هراة، ثم قصد نيسابور، فلما قرب منها وأراد دخولها، وجه محمد بن طاهر يستأذنه في تلقيه، فلم يأذن له، فبعث بعمومته وأهل بيته، فتلقوه، ثم دخل نيسابور لأربع خلون من شوال بالعشي، فنزل طرفا من أطرافها يعرف بداوداباذ، فركب إليه محمد بن طاهر، فدخل عليه في مضربه، فساءله، ثم أقبل على تأنيبه وتوبيخه على تفريطه في عمله، ثم انصرف وأمر عزيز بن السري بالتوكيل به، وصرف محمد بن طاهر وولى عزيزا نيسابور، ثم حبس محمد بن طاهر وأهل بيته وورد الخبر بذلك على السلطان، فوجه إليه حاتم بن زيرك بن سلام، ووردت كتب يعقوب على السلطان لعشر بقين من ذي القعده، فقعد- فيما ذكر- جعفر ابن المعتمد وأبو أحمد بن المتوكل في إيوان الجوسق، وحضر القواد، وأذن لرسل يعقوب فذكر رسله ما تناهى إلى يعقوب من حال أهل خراسان، وأن الشراة والمخالفين قد غلبوا عليها، وضعف محمد بن طاهر، وذكروا مكاتبة أهل خراسان يعقوب ومسألتهم إياه قدومه عليهم واستعانتهم، وأنه صار إليها، فلما كان على عشرة فراسخ من نيسابور، سار إليه أهلها، فدفعوها إليه فدخلها فتكلم أبو أحمد وعبيد الله بن يحيى، وقالا للرسل: أن أمير المؤمنين لا يقار يعقوب على ما فعل، وأنه يأمره بالانصراف إلى العمل الذي ولاه إياه، وأنه لم يكن له أن يفعل ذلك بغير أمره فليرجع، فإنه إن فعل كان من الأولياء، وإلا لم يكن له إلا ما للمخالفين وصرف إليه رسله بذلك ووصلوا، وخلع على كل واحد منهم خلعة فيها ثلاثة أثواب، وكانوا أحضروا رأسا على قناة فيه رقعة فيها: هذا رأس عدو الله عبد الرحمن الخارجي بهراة، ينتحل الخلافة منذ ثلاثين سنة، قتله يعقوب بن الليث [أخبار متفرقة] وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن عَلِيّ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس المعروف ببريه

سنه ستين ومائتين

ثم دخلت سنة ستين ومائتين ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث فمما كان فيها من ذلك قتل رجل من أكراد مساور الشاري محمد بن هارون بن المعمر، وجده في زورق يريد سامرا، فقتله وحمل رأسه إلى مساور، فطلبت ربيعة بدمه في جمادى الآخرة، فندب مسرور البلخي وجماعة من القواد إلى أخذ الطريق على مساور. وفيها قتل قائد الزنج علي بن زيد العلوي صاحب الكوفه. خبر الوقعه بين يعقوب بن الليث والحسن بن زيد الطائي وفيها واقع يعقوب بن الليث الحسن بن زيد الطالبي، فهزمه ودخل طبرستان. ذكر الخبر عن هذه الوقعة وعن سبب مصير يعقوب إلى طبرستان: أخبرني جماعة من أهل الخبرة بيعقوب أن عبد الله السجزي كان يتنافس الرياسة بسجستان، فقهره يعقوب، فتخلص منه عبد الله، فلحق بمحمد بن طاهر بنيسابور، فلما صار يعقوب الى نيسابور وهرب عبد الله، فلحق بالحسن بن زيد، فشخص يعقوب في اثره بعد ما كان من أمره وأمر محمد بن طاهر ما قد ذكرت قبل، فمر في طريقه إلى طبرستان بأسفرائيم ونواحيها، وبها رجل كنت أعرفه يطلب الحديث، يقال له بديل الكشي، يظهر التطوع والأمر بالمعروف، وقد استجاب له عامة أهل تلك الناحية، فلما نزلها يعقوب راسله، وأخبره أنه مثله في التطوع وأنه معه، فلم يزل يرفق به حتى صار إليه بديل، فلما تمكن منه قيده، ومضى به معه إلى طبرستان، فلما صار إلى قرب سارية لقيه الحسن بن زيد. فقيل لي: إن يعقوب بعث إلى الحسن بن زيد يسأله أن يبعث إليه بعبد الله

السجزي حتى ينصرف عنه، فإنه إنما قصد طبرستان من أجله لا لحربه، فأبى الحسن بن زيد تسليمه إليه، فآذنه يعقوب بالحرب، فالتقى عسكراهما، فلم تكن إلا كلا ولا، حتى هزم الحسن بن زيد، ومضى نحو الشرز وأرض الديلم، ودخل يعقوب سارية، ثم تقدم منها إلى آمل، فجبى أهلها خراج سنة، ثم شخص من آمل نحو الشرز في طلب الحسن بن زيد حتى صار إلى بعض جبال طبرستان، فأدركته فيه الأمطار، وتتابعت عليه- فيما ذكر لي- نحوا من أربعين يوما، فلم يتخلص من موضعه ذلك إلا بمشقة شديدة. وكان- فيما قيل لي- قد صعد جبلا، لما رام النزول عنه لم يمكنه ذلك إلا محمولا على ظهور الرجال، وهلك عامة ما كان معه من الظهر. ثم رام الدخول خلف الحسن بن زيد إلى الشرز، فحدثني بعض أهل تلك الناحية أنه انتهى إلى الطريق الذي أراد سلوكه إليه، فوقف عليه، وأمر أصحابه بالوقوف، ثم تقدم أمامهم يتأمل الطريق، ثم رجع إلى أصحابه، فأمرهم بالانصراف، وقال لهم: إن لم يكن إليه طريق غير هذا فلا طريق إليه فأخبرني الذي ذكر لي ذلك، أن نساء أهل تلك الناحية قلن لرجالهن: دعوه يدخل هذا الطريق، فإنه إن دخل كفيناكم أمره، وعلينا أخذه وأسره لكم فلما انصرف راجعا، وشخص عن حدود طبرستان، عرض رجاله، ففقد منهم- فيما قيل لي- أربعين ألفا، وانصرف عنها، وقد ذهب عظم ما كان معه من الخيل والإبل والأثقال وذكر أنه كتب إلى السلطان كتابا يذكر فيه مسيره إلى الحسن بن زيد، وأنه سار من جرجان إلى طميس فافتتحها ثم سار إلى سارية، وقد أخرب الحسن بن زيد القناطر، ورفع المعابر، وعور الطريق، وعسكر الحسن بن زيد على باب سارية متحصنا بأودية عظام، وقد مالاه خرشاد بن جيلاو، صاحب الديلم، فزحف باقتدار فيمن جمع إليه من الطبرية والديالمة والخراسانيه والقمية والجبلية والشامية والجزرية، فهزمته وقتلت عدة لم يبلغها بعهدي عدة،

ذكر خبر مقتل العلاء بن احمد الأزدي

وأسرت سبعين من الطالبيين، وذلك في رجب، وسار الحسن بن زيد إلى الشرز ومعه الديلم وفي هذه السنة اشتد الغلاء في عامة بلاد الإسلام، فانجلى- فيما ذكر- عن مكة من شدة الغلاء من كان بها مجاورا إلى المدينة وغيرها من البلدان، ورحل عنها العامل الذي كان بها مقيما وهو بريه، وارتفع السعر ببغداد، فبلغ الكر الشعير عشرين ومائه دينار، والحنطة خمسين ومائه، ودام ذلك شهورا 4 وفيها قتلت الأعراب منجور والي حمص، فاستعمل عليها بكتمر وفيها صار يعقوب بن الليث حين انصرف عن طبرستان إلى ناحية الري، وكان السبب في مصيره إليها- فيما ذكر لي- مصير عبد الله السجزي إلى الصلابي مستجيرا به من يعقوب، لما هزم يعقوب الحسن بن زيد، فلما صار يعقوب الى خوار الري كتب إلى الصلابي يخيره بين تسليم عبد الله السجزي إليه. حتى ينصرف عنه، ويرتحل عن عمله، وبين أن يأذن بحربه فاختار الصلابي- فيما قيل لي- تسليم عبد الله، فسلمه إليه، فقتله يعقوب، وانصرف عن عمل الصلابى . ذكر خبر مقتل العلاء بن احمد الأزدي وفيها قتل العلاء بن أحمد الأزدي. ذكر الخبر عن سبب مقتله: ذكر أن العلاء بن أحمد فلج وتعطل، فكتب السلطان إلى أبي الرديني عمر بن علي بن مر بولاية أذربيجان، وكانت قبل إلى العلاء، فصار أبو الرديني إليها ليتسلمها من العلاء، فخرج العلاء في قبة في شهر رمضان

لحرب أبي الرديني، ومع أبي الرديني جماعة من الشراة وغيرهم، فقتل العلاء. فذكر أنه وجه عدة من الرجال في حمل ما خلف العلاء، فحمل من قلعته ما بلغت قيمته الفى وسبعمائة ألف درهم. وفيها أخذت الروم لؤلؤة من المسلمين. وحج بالناس فيها إبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي المعروف ببريه.

سنه احدى وستين ومائتين

ثم دخلت سنة إحدى وستين ومائتين ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث فمن ذلك ما كان من انصراف الحسن بن زيد من أرض الديلم إلى طبرستان وإحراقه شالوس لما كان من ممالأتهم يعقوب وإقطاعه ضياعهم الديالمة. ومن ذلك ما كان من أمر السلطان عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بجمع من كان ببغداد من حاج خراسان والري وطبرستان وجرجان، فجمعهم في صفر منها، ثم قرئ عليهم كتاب يعلمون فيه أن السلطان لم يول يعقوب بن الليث خراسان، ويأمرهم بالبراءة منه لإنكاره دخوله خراسان وأسره محمد بن طاهر وفي هذه السنة توفي عبد الله بن الواثق في عسكر الصفار يعقوب. وفيها قتل مساور الشاري يحيى بن حفص الذي كان يلي خراسان بكرخ جدان في جمادى الآخرة، فشخص مسرور البلخي في طلبه، ثم تبعه ابو احمد ابن المتوكل، وتنحى مساور فلم يلحق. وفي جمادى الأولى منها هلك أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري. ذكر خبر وقعه كانت برامهرمز في هذا العام وفيها كانت بين محمد بن واصل وعبد الله بن مفلح وطاشتمر وقعة برامهرمز، فقتل ابن واصل طاشتمر، وأسر ابن مفلح. ذكر الخبر عن هذه الوقعة والسبب فيها: كان السبب في ذلك- فيما ذكر لي- أن ابن واصل قتل الحارث بن سيما وهو عامل السلطان بفارس وتغلب عليها، فضمت إلى موسى بن بغا فارس

والأهواز والبصرة والبحرين واليمامة، مع ما كان اليه من عمل المشرق، فوجه موسى بن بغا عبد الرحمن بن مفلح إلى الأهواز، وولاه إياها وفارس، وضم إليه طاشتمر، فاتصل بابن واصل ذلك من فعل موسى، وإن ابن مفلح قد توجه إلي فارس يريده، وكان قبل مقيما بالأهواز على حرب الخارجي بناحية البصرة فزحف إليه ابن واصل، فالتقيا برامهرمز، وانضم أبو داود الصعلوك إلى ابن واصل معينا له على ابن مفلح، فظفر ابن واصل بابن مفلح، فأسره وقتل طاشتمر، واصطلم عسكر ابن مفلح، ثم لم يزل ابن مفلح في يده حتى قتله، وقد كان السلطان وجه إسماعيل بن إسحاق إلى ابن واصل في إطلاق ابن مفلح، فلم يجبه إلى ذلك ابن واصل ولما فرغ ابن واصل من ابن مفلح أقبل مظهرا أنه يريد واسطا لحرب موسى بن بغا حتى انتهى إلى الأهواز، وبها إبراهيم بن سيما في جمع كثير فلما رأى موسى بن بغا شدة الأمر وكثرة المتغلبين على نواحي المشرق، وأنه لا قوام له بهم، سأل أن يعفى من أعمال المشرق، فأعفي منها، وضم ذلك إلى أبي أحمد، ووليه أبو أحمد بن المتوكل، فانصرف موسى بن بغا من واسط إلى باب السلطان مع عماله عن أعمال المشرق. وفيها ولي أبو الساج الأهواز وحرب قائد الزنج، فصار إليها أبو الساج بعد شخوص عبد الرحمن بن مفلح إلى ناحية فارس. وفيها كانت بين عبد الرحمن صهر أبي الساج وعلي بن أبان المهلبي وقعة بناحية الدولاب، قتل فيها عبد الرحمن، وانحاز أبو الساج إلى عسكر مكرم، ودخل الزنج الأهواز، فقتلوا أهلها، وسبوا وانتهبوا، وأحرقوا دورها. ثم صرف أبو الساج عما كان اليه من عمل الاهواز وجرب الزنج، وولي ذلك إبراهيم بن سيما، فلم يزل مقيما في عمله ذلك حتى انصرف عنه بانصراف موسى ابن بغا، عما كان إليه من عمل المشرق

وفيها ولي محمد بن أوس البلخي طريق خراسان. ولما ضم عمل المشرق إلى أبي أحمد ولي مسرورا البلخي الأهواز والبصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين في شعبان من هذه السنة، وحرب قائد الزنج وفيها ولي نصر بن أحمد بن أسد الساماني ما وراء نهر بلخ، وذلك في شهر رمضان منها، وكتب إليه بولايته ذلك. وفي شوال منها زحف يعقوب بن الليث إلى فارس، وابن واصل مقيم بالأهواز، فانصرف منها إلى فارس، فالتقى هو ويعقوب بن الليث في ذي القعدة، فهزمه يعقوب وفل عسكره، وبعث إلى خرمة إلى قلعة ابن واصل، فأخذ ما كان فيها، فذكر أنه بلغت قيمة ما أخذ يعقوب منها أربعين ألف ألف درهم، وأسر مرداسا خال ابن واصل وفيها أوقع أصحاب يعقوب بن الليث بأهل زم موسى بن مهران الكردي، لما كان من ممالأتهم محمد بن واصل، فقتلوهم، وانهزم موسى بن مهران وفيها لاثنتي عشرة مضت من شوال منها، جلس المعتمد في دار العامة، فولى ابنه جعفرا العهد، وسماه المفوض إلى الله، وولاه المغرب، وضم إليه موسى بن بغا، وولاه إفريقية ومصر والشام والجزيرة والموصل وأرمينية وطريق خراسان ومهرجانقذق وحلوان، وولى أخاه أبا أحمد العهد بعد جعفر، وولاه المشرق، وضم إليه مسرورا البلخي، وولاه بغداد والسواد والكوفة وطريق مكة والمدينة واليمن وكسكر وكور دجلة والأهواز وفارس وأصبهان وقم والكرج والدينور والري وزنجان وقزوين وخراسان وطبرستان وجرجان وكرمان وسجستان والسند، وعقد لكل واحد منهما لواءين: أسود وأبيض، وشرط إن حدث به حدث الموت وجعفر لم يكمل للأمر، أن يكون الأمر لأبي أحمد ثم لجعفر وأخذت البيعة على الناس بذلك، وفرقت نسخ الكتاب، وبعث بنسخة مع الحسن بن محمد بن أبي الشوارب ليعلقها في الكعبة، فعقد جعفر المفوض لموسى بن بغا على المغرب في شوال وبعث إليه بالعقد مع محمد المولد

وفيها فارق محمد بن زيدويه يعقوب بن الليث، فاعتزل عسكره في آلاف من أصحابه، فصار إلى أبي الساج فقبله، وأقام معه بالأهواز، وبعث إليه من سامرا بخلعة، ثم سأل ابن زيدويه السلطان توجيه الحسين بن طاهر بن عبد الله معه إلى خراسان. وسار مسرور البلخي مقدمة لأبي أحمد من سامرا، لسبع خلون من ذي الحجة، وخلع عليه وعلى أربعة وثلاثين من قواده- فيما ذكر- وشيعه وليا العهد، واتبعه الموفق شاخصا من سامرا لتسع بقين من ذي الحجة. وحج بالناس فيها الفضل بن إسحاق بن الحسن بن إسماعيل بن العباس بْن محمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس. ومات الحسن بن محمد بن أبي الشوارب فيها بمكة بعد ما حج.

سنه اثنتين وستين ومائتين

ثم دخلت سنة اثنتين وستين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر خبر دخول يعقوب بن الليث رامهرمز فمما كان فيها من ذلك موافاة يعقوب بن الليث رامهرمز في المحرم وتوجيه السلطان إليه إسماعيل بن إسحاق وبغراج، وإخراج السلطان من كان محبوسا من أسباب يعقوب بن الليث من السجن، لأنه لما كان من أمره ما كان في أمر محمد بن طاهر، حبس السلطان غلامه وصيفا ومن كان قبله من أسبابه، فاطلق عنهم بعد ما وافى يعقوب رامهرمز، وذلك لخمس خلون من شهر ربيع الأول ثم قدم إسماعيل بن إسحاق من عند يعقوب، وخرج إلى سامرا برسالة من عنده، فجلس أبو أحمد ببغداد، ودعا بجماعة من التجار، وأعلمهم أن أمير المؤمنين أمر بتولية يعقوب بن الليث خراسان وطبرستان وجرجان والري وفارس والشرطة بمدينة السلام، وذلك بمحضر من درهم بن نصر صاحب يعقوب وكان المعتمد قد صرف درهما هذا من سامرا إلى يعقوب بجواب ما كان يعقوب أرسله، يسأله لنفسه، فأرسل معه إليه عمر بن سيما ومحمد بن تركشة، ووافى فيها رسل ابن زيدويه بغداد في شهر ربيع الأول منها برسالة من عنده، فخلع عليه أبو أحمد، ثم انصرف في هذه السنة الذين توجهوا إلى يعقوب بن الليث إلى السلطان، فأعلموه أنه يقول: أنه لا يرضيه ما كتب إليه دون أن يصير إلى باب السلطان، وارتحل يعقوب من عسكر مكرم، فصار أبو الساج إليه، فقبله وأكرمه ووصله. ولما رجعت الرسل بما كان من جواب يعقوب عسكر المعتمد يوم السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة بالقائم بسامرا، واستخلف على سامرا ابنه جعفرا، وضم إليه محمدا المولد، ثم سار منها يوم الثلاثاء لست خلون من جمادى

الآخرة، ووافى بغداد يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة، فاشتقها حتى جازها، وصار إلى الزعفرانية فنزلها، وقدم أخاه أبا أحمد من الزعفرانية فسار يعقوب بجيشه من عسكر مكرم، حتى صار من واسط على فرسخ، فصادف هنالك بثقا قد بثقه مسرور البلخي من دجلة لئلا يقدر على جوازه، فأقام عليه حتى سده وعبره، وذلك لست بقين من جمادى الآخرة، وصار إلى باذبين، ثم وافى محمد بن كثير من قبل يعقوب عسكر مسرور البلخي، فصار بإزائه، فصار مسرور بعسكره إلى النعمانية، ووافى يعقوب واسطا، فدخلها لست بقين من جمادى الآخرة. وارتحل المعتمد من الزعفرانية يوم الخميس لليلة بقيت من جمادى الآخرة، حتى صار إلى سيب بني كوما، فوافاه هنالك مسرور البلخي، وكان مسير مسرور البلخي إليه في الجانب الغربي من دجلة، فعبر إلى الجانب الذي فيه العسكر، فأقام المعتمد بسيب بني كوما أياما، حتى اجتمعت إليه عساكره، وزحف يعقوب من واسط إلى دير العاقول، ثم زحف من دير العاقول نحو عسكر السلطان، فأقام المعتمد بالسيب، ومعه عبيد الله بن يحيى، وأنهض أخاه أبا أحمد لحرب يعقوب، فجعل أبو أحمد موسى بن بغا على ميمنته، ومسرورا البلخي على ميسرته، وصار هو في خاصته، ونخبة رجاله في القلب. والتقى العسكران يوم الأحد لليال خلون من رجب بموضع يقال له اضطربد بين سيب بني كوما ودير العاقول فشدت ميسرة يعقوب على ميمنة أبي احمد فهزمتها، وقتلت منها جماعه كثيره منهم من قوادهم ابراهيم بن سيما التركى وطباغوا التركي ومحمد طغتا التركي والمعرف بالمبرقع المغربي وغيرهم ثم ثاب المنهزمون وسائر عسكر أبي أحمد ثابت، فحملوا على يعقوب وأصحابه، فثبتوا وحاربوا حربا شديدا، وقتل من أصحاب يعقوب جماعة من أهل البأس، منهم الحسن الدرهمي ومحمد بن كثير وكان على مقدمة يعقوب- والمعروف بلبادة- فأصابت يعقوب ثلاثة أسهم في حلقه ويديه، ولم تزل الحرب بين الفريقين- فيما قيل- إلى آخر وقت صلاة العصر

ثم وافى أبا أحمد الديراني ومحمد بن أوس، واجتمع جميع من في عسكر أبي أحمد، وقد ظهر من كثير ممن مع يعقوب كراهة القتال معه إذ رأوا السلطان قد حضر لقتاله، فحملوا على يعقوب ومن قد ثبت معه للقتال، فانهزم أصحاب يعقوب، وثبت يعقوب في خاصة أصحابه، حتى مضوا وفارقوا موضع الحرب. فذكر أنه أخذ من عسكره من الدواب والبغال أكثر من عشرة آلاف رأس، ومن الدنانير والدراهم ما يكل عن حمله، ومن جرب المسك أمر عظيم، وتخلص محمد بن طاهر بن عبد الله، وكان مثقلا بالحديد، خلصه الذي كان موكلا به. ثم أحضر محمد بن طاهر، فخلع عليه على مرتبته، وقرئ على الناس كتاب فيه: ولم يزل الملعون المارق المسمى يعقوب بن الليث الصفار ينتحل الطاعة، حتى أحدث الأحداث المنكرة، من مصيره إلى صاحب خراسان، وغلبته إياه عليها، وتقلده الصلاة والإحداث بها، ومصيره إلى فارس مرة بعد مرة، واستيلائه على أموالها، وإقباله إلى باب أمير المؤمنين مظهر المسألة في امور اجابه امير المؤمنين منها ما لم يكن يستحقه، استصلاحا له، ودفعا بالتي هي أحسن، فولاه خراسان والري وفارس وقزوين وزنجان والشرطة بمدينة السلام، وأمر بتكنيته في كتبه، وأقطعه الضياع النفيسة، فما زاده ذلك إلا طغيانا وبغيا، فأمره بالرجوع فأبى، فنهض أمير المؤمنين لدفع الملعون حين توسط الطريق بين مدينة السلام وواسط، وأظهر يعقوب أعلاما على بعضها الصلبان، فقدم أمير المؤمنين أخاه أبا أحمد الموفق بالله ولي عهد المسلمين في القلب، ومعه أبو عمران موسى بن بغا في الميمنة وفي جناح الميمنة ابراهيم ابن سيما، وفي الميسرة أبو هاشم مسرور البلخي، وفي جناح الميسرة الديراني، فتسرع وأشياعه في المحاربة، فحاربه حتى أثخن بالجراح، وحتى انتزع

أبو عبد الله محمد بن طاهر سالما من أيديهم، وولوا منهزمين مجروحين مسلوبين، وسلم الملعون كل ما حواه ملكه. كتابا مؤرخا بيوم الثلاثاء لإحدى عشرة خلت من رجب. ثم رجع المعتمد إلى معسكره وكتب إلى ابن واصل بتولية فارس، وقد كان صار إليها وجمع جماعة. ثم رجع المعتمد إلى المدائن، ومضى أبو أحمد ومعه مسرور وساتكين وجماعه من القواد، وقبض على ما لأبي الساج من الضياع والمنازل، وأقطعها مسرورا البلخي وقدم محمد بن طاهر بن عبد الله بغداد يوم الاثنين لأربع عشرة بقيت من رجب، وقد رد إليه العمل، فخلع عليه في الرصافة، فنزل دار عبد الله بن طاهر، فلم يعزل أحدا، ولم يول وامر له بخمسمائة ألف درهم. وكانت الوقعة التي كانت بين السلطان والصفار يوم الشعانين. وقال محمد بن علي بن فيد الطائي يمدح أبا أحمد ويذكر أمر الصفار: نعب الغراب عدمته من ناعب ... وصبا فؤادى لادكار حبائبى نادى ببينهم فجادت مقلتي ... لزيال أرحلهم بدمع ساكب بانوا بأتراب أوانس كالدمى ... مثل المهاقب البطون كواعب فأولئكن غرائر تيمننى ... بسوالف وقوائم وحواجب لولي عهد المسلمين مناسب ... شرفت وأشرق نورها بمناصب ومراتب في ذروة لا ترتقي ... أكرم بها من ذروة ومراتب ولقد أتى الصفار في عدد لها ... حسن فوافتهن نكبة ناكب جلب القضاء إليه حتفا عاجلا ... سقيا ورعيا للقضاء الجالب أغواه إبليس اللعين بكيده ... واغتره منه بوعد كاذب

ذكر خبر توجه رجال الزنج إلى البطيحة ودست ميسان

حتى إذا اختلفوا وظن بأنه ... قد عز بين عساكر وكتائب دلفت إليه عساكر ميمونة ... يلقون زحفا باللواء الغالب في جحفل لجب ترى أبطاله ... من دارع أو رامح أو ناشب وبدا الإمام براية منصورة ... لمحمد سيف الإله القاضب وولي عهد المسلمين موفق ... بالله أمضى من شهاب ثاقب وكأنه في الناس بدر طالع ... متهلل بالنور بين كواكب لما التقوا بالمشرفية والقنا ... ضربا وطعن محارب لمحارب ثار العجاج وفوق ذاك غمامة ... غراء تسكب وبل صوب صائب فل الجموع بحزم رأي ثاقب ... منه وأفرد صاحبا عن صاحب لله در موفق ذي بهجة ... ثبت المقام لدى الهياج مواثب يا فارس العرب الذي ما مثله ... في الناس يعرف آخر لنوائب من فادح الزمن العضوض ومن لقا ... جيش لذى غدر خئون غاصب. ذكر خبر توجه رجال الزنج الى البطيحة ودست ميسان وفيها وجه قائد الزنج جيوشه إلى ناحية البطيحة ودست ميسان. ذكر الخبر عن سبب توجيهه إياهم إليها: ذكر أن سبب ذلك كان أن المعتمد لما صرف موسى بن بغا عن أعمال المشرق وما كان متصلا بها، وضمها إلى أخيه أبي أحمد، وضم أبو أحمد عمل كور دجلة إلى مسرور البلخي، وأقبل يعقوب بن الليث مريدا أبا أحمد، وصار إلى واسط، خلت كور دجلة من أسباب السلطان، خلا المدائن وما فوق ذلك وكان مسرور قد وجه قبل ذلك إلى الباذاورد مكان موسى بن أتامش جعلان التركي، وكان بإزاء موسى بن أتامش، من قبل قائد الزنج سليمان ابن جامع، وقد كان سليمان قبل أن يصرف ابن أتامش عن الباذاورد، قد نال

من عسكره، فلما صرف ابن أتامش وجعل موضعه جعلان، وجه سليمان من قبله رجلا من البحرانيين يقال له ثعلب بن حفص، فأوقع به، وأخذ منه خيلا ورجلا، ووجه قائد الزنج من قبله رجلا من أهل جبى يقال له احمد ابن مهدي في سميريات، فيها رماة من أصحابه، فأنفذه إلى نهر المرأة، فجعل الجبائي يوقع بالقرى التي بنواحي المذار- فيما ذكر- فيعيث فيها، ويعود إلى نهر المرأة فيقيم به. فكتب هذا الجبائي إلى قائد الزنج يخبر بأن البطيحة خالية من رجال السلطان، لانصراف مسرور وعساكره عند ورود يعقوب بن الليث واسطا فأمر قائد الزنج سليمان بن جامع وجماعة من قواده بالمصير إلى الحوانيت، وأمر رجلا من الباهليين يقال له عمير بن عمار، كان عالما بطرق البطيحة ومسالكها، أن يسير مع الجبائي حتى يستقر بالحوانيت. فذكر محمد بن الحسن أن محمد بن عثمان العباداني قال: لما عزم صاحب الزنج على توجيه الجيوش إلى ناحية البطيحة ودستميسان أمر سليمان بن جامع أن يعسكر بالمطوعة وسليمان بن موسى أن يعسكر على فوهة النهر المعروف باليهودي، ففعلا ذلك، وأقاما إلى أن أتاهما إذنه، فنهضا، فكان مسير سليمان بن موسى إلى القرية المعروفة بالقادسية، ومسير سليمان بن جامع إلى الحوانيت والجبائي في السميريات أمام جيش سليمان بن جامع، ووافى أبا التركي دجلة في ثلاثين شذاة، فانحدر يريد عسكر قائد الزنج، فمر بالقرية التي كانت داخلة في سلم الخبيث فنال منها، وأحرق، فكتب الخبيث إلى سليمان بن موسى في منعه الرجوع، وأخذ عليه سليمان الطريق، فأقام شهرا يقاتل حتى تخلص فصار إلى البطيحة. وذكر محمد بن عثمان أن جباشا الخادم زعم أن أبا التركي لم يكن صار إلى دجلة في هذا الوقت، وأن المقيم كان هناك نصير المعروف بأبي حمزة. وذكر أن سليمان بن جامع لما فصل متوجها إلى الحوانيت، انتهى إلى موضع

يعرف بنهر العتيق وقد كان الجبائي سار في طريق الماديان، فتلقاه رميس، فواقعه الجبائي، فهزمه، وأخذ منه أربعا وعشرين سميرية ونيفا وثلاثين صلغة، وأفلت رميس، فاعتصم بأجمة لجأ إليها، فأتاه قوم من الجوخانيين، فأخرجوه منها فنجا ووافق المنهزمين من أصحاب رميس خروج سليمان من النهر العتيق، فتلقاهم فأوقع بهم، ونال منهم نيلا، ومضى رميس حتى لحق بالموضع المعروف ببر مساور، وانحاز إلى سليمان جماعة من مذكوري البلاليين وأنجادهم في خمسين ومائة سميرية، فاستخبرهم عما أمامه، فقالوا: ليس بينك وبين واسط أحد من عمال السلطان وولاته فاغتر سليمان بذلك، وركن إليه، فسار حتى انتهى إلى الموضع الذي يعرف بالجازرة، فتلقاه رجل يقال له أبو معاذ القرشي، فواقعه، فانهزم سليمان عنه، وقتل أبو معاذ جماعة من أصحابه، وأسر قائدا من قواد الزنج، يقال له رياح القندلي فانصرف سليمان إلى الموضع الذي كان معسكرا به، فأتاه رجلان من البلالية، فقالا له: ليس بواسط أحد يدفع عنها غير أبي معاذ في الشذوات الخمس التي لقيك بها فاستعد سليمان وجمع أصحابه وكتب إلى الخبيث كتابا مع البلالية الذين كانوا استأمنوا إليه وأنقذهم إلا جميعة يسيرة في عشر سميريات، انتخبهم للمقام معه، واحتبس الاثنين معه اللذين أخبراه عن واسط بما أخبراه به، وصار قاصدا لنهر أبان، فاعترض له أبو معاذ في طريقه، وشبت الحرب بينهما، وعصفت الريح، فاضطربت شذا أبي معاذ، وقوي عليه سليمان وأصحابه، فأدبر عنهم معردا، ومضى سليمان حتى انتهى إلى نهر أبان، فاقتحمه، وأحرق وأنهب، وسبى النساء والصبيان، فانتهى الخبر بذلك إلى وكلاء كانوا لأبي أحمد في ضياع من ضياعه مقيمين بنهر سنداد، فساروا إلى سليمان في جماعة، فأوقعوا به وقعة، قتلوا فيها جمعا كثيرا من الزنج، وانهزم سليمان وأحمد بن مهدي ومن معهما إلى معسكرهما قال محمد بن الحسن: قال محمد بن عثمان: لما استقر سليمان بن جامع بالحوانيت، ونزل بنهر يعرف بيعقوب بن النضر، وجه رجلا ليعرف خبر واسط

ومن فيها من أصحاب السلطان، وذلك بعد خروج مسرور البلخي وأصحابه عنها، لورود يعقوب إياها فرجع إليه، فأخبره بمسير يعقوب نحو السلطان، وقد كان مسرور قبل شخوصه عن واسط إلى السيب وجه إلى سليمان رجلا يقال له وصيف الرحال في شذوات، فواقعه سليمان فقتله، وأخذ منه سبع شذوات، وقتل من ظفر به، وألقى القتلى بالحوانيت ليدخل الرهبة في قلوب المجتازين بهم من أصحاب السلطان. فلما ورد على سليمان خبر مسير مسرور عن واسط، دعا سليمان عمير ابن عمار خليفته ورجلا من رؤساء الباهليين يقال له أحمد بن شريك، فشاورهما في التنحي عن الموضع الذي تصل إليه الخيل والشذوات، وأن يلتمس موضعا يتصل بطريق متى أراد الهرب منه إلى عسكر الخبيث سلكه، فأشارا عليه بالمصير إلى عقر ماور، والتحصن بطهيثا والأدغال التي فيها وكره الباهليون خروج سليمان بن جامع من بين أظهرهم لغمسهم أيديهم معه، وما خافوا من تعقب السلطان إياهم، فحمل سليمان بأصحابه ماضيا في نهر البرور الى طهيثا، وأنفذ الجبائي إلى النهر المعروف بالعتيق في السميريات، وأمره بالبدار إليه بما يعرف من خبر الشذا، ومن ياتى فيها ومن أصحاب السلطان، وخلف جماعة من السودان لإشخاص من تخلف من أصحابه، وسار حتى وافى عقر ماور، فنزل القرية المعروفة بقرية مروان بالجانب الشرقي من نهر طهيثا في جزيرة هناك. وجمع إليه رؤساء الباهليين وأهل الطفوف، وكتب إلى الخبيث يعلمه ما صنع، فكتب إليه يصوب رأيه، ويأمره بإنفاذ ما قبله من ميرة ونعم وغنم، فأنفذ ذلك إليه، وسار مسرور إلى موضع معسكر سليمان الأول، فلم يجد هناك كثير شيء، ووجد القوم قد سبقوه إلى نقل ما كان في معسكرهم، وانحدر أبا التركي إلى البطائح في طلب سليمان، وهو يظن أنه قد ترك الناحية، وتوجه نحو مدينة الخبيث فمضى فلم يقف لسليمان على أثر، وكر راجعا، فوجد سليمان قد أنفذ جيشا إلى الحوانيت ليطرق من شذ من عسكر مسرور، فخالف الطريق الذي خاف أن يؤديه اليهم، ومضى في طريق آخر

انتهى إلى مسرور، فأخبره أنه لم يعرف لسليمان خبرا. وانصرف جيش سليمان إليه بما امتاروا، واقام سليمان، فوجه الجبائي في الشميريات للوقوف على مواضع الطعام والمير والاحتيال في حملها. فكان الجبائي لا ينتهي إلى ناحية فيجد فيها شيئا من الميرة إلا أحرقه، فساء ذلك سليمان، فنهاه عنه فلم ينته، وكان يقول: إن هذه الميرة مادة لعدونا، فليس الرأي ترك شيء منها. فكتب سليمان إلى الخبيث يشكو ما كان من الجبائي في ذلك، فورد كتاب الخبيث على الجبائي يأمره بالسمع والطاعة لسليمان، والائتمار له فيما يأمره به. وورد على سليمان أن أغرتمش وخشيشا قد أقبلا قاصدين إليه في الخيل والرجال والشذا والسميريات، يريدان مواقعته فجزع جزعا شديدا، وأنفذ الجبائي ليعرف أخبارهما، وأخذ في الاستعداد للقائهما، فلم يلبث أن عاد إليه الجبائي مهزوما، فأخبره أنهما قد وافيا باب طنج، وذلك على نصف فرسخ من عسكر سليمان حينئذ، فأمره بالرجوع والوقوف في وجه الجيش، وشغله عن المصير إلى العسكر إلى أن يلحق به، فلما أنفذ الجبائي لما وجه له صعد سليمان سطحا، فأشرف منه، فرأى الجيش مقبلا، فنزل مسرعا، فعبر نهر طهيثا، ومضى راجلا، وتبعه جمع من قواد السودان حتى وافوا باب طنج، فاستدبر أغرتمش، وتركهم حتى وجدوا في المسير إلى عسكره وقد كان أمر الذى استخلفه على جيشه الا يدع أحدا من السودان يظهر لأحد من أهل جيش أغرتمش، وأن يخفوا أشخاصهم ما قدروا، ويدعوا القوم حتى يتوغلوا النهر إلى أن يسمعوا أصوات طبوله، فإذا سمعوها خرجوا عليهم، وقصدوا أغرتمش. فجاء أغرتمش بجيشه حتى لم يكن بينه وبين العسكر إلا نهر يأخذ من طهيثا يقال له جارورة بني مروان فانهزم الجبائي في السميريات حتى وافى

طهيثا، فخلف سميرياته بها، وعاد راجلا إلى جيش سليمان، واشتد جزع أهل عسكر سليمان منه، فتفرقوا أيادي سبا، ونهضت منهم شرذمة فيها قائد من قواد السودان يقال له أبو النداء، فتلقوهم فواقعوهم، وشغلوهم عن دخول العسكر، وشد سليمان من وراء القوم، وضرب الزنج بطبولهم، وألقوا أنفسهم في الماء للعبور إليهم، فانهزم أصحاب أغرتمش وشد عليهم من كان بطهيثا من السودان، ووضعوا السيوف فيهم، وأقبل خشيش على أشهب كان تحته يريد الرجوع إلى عسكره، فتلقاه السودان، فصرعوه وأخذته سيوفهم، فقتل وحمل رأسه إلى سليمان، وقد كان خشيش حين انتزعوا إليه، قال لهم: أنا خشيش، فلا تقتلوني، وأمضوا بي إلى صاحبكم فلم يسمعوا لقوله وانهزم أغرتمش، وكان في آخر أصحابه، ومضى حتى ألقى نفسه إلى الأرض، فركب دابة ومضى، وتبعهم الزنج حتى وصلوا إلى عسكرهم، فنالوا حاجتهم منه، وظفروا بشذوات كانت مع خشيش، وظفر الذين اتبعوا الجيش المولي بشذوات كانت مع أغرتمش فيها مال فلما انتهى الخبر إلى أغرتمش، كر راجعا حتى انتزعها من أيديهم، ورجع سليمان إلى عسكره، وقد ظفر بأسلاب ودواب، وكتب بخبر الوقعة إلى قائد الزنج، وما كان منه فيها وحمل إليه رأس خشيش وخاتمه، وأقر الشذوات التي أخذها في عسكره. فلما وافى كتاب سليمان وراس خشيش، امر فطيف به في عسكره، ونصب يوما، ثم حمله إلى علي بن أبان، وهو يومئذ مقيم بنواحي الأهواز، وأمر بنصبه هناك، وخرج سليمان والجبائي معه وجماعة من قواد السودان الى ناحيه الحوانيت متطرفين، فتوافقوا هناك ثلاث عشرة شذاة مع المعروف بأبي تميم أخي المعروف بأبي عون صاحب وصيف التركي، فأوقعوا به، فقتل وغرق، وظفروا من شذواته بإحدى عشرة شذاة. قال محمد بن الحسن: هذا خبر محمد بن عثمان العباداني، فأما جباش، فزعم أن الشذا التي كانت مع أبي تميم كانت ثمانية، فافلت منها شذاتان كانتا

متأخرتين، فمضتا بمن فيهما وأصاب سلاحا ونهبا، وأتى على أكثر من كان في تلك الشذوات من الجيش، ورجع سليمان إلى عسكره، وكتب إلى الخبيث بما كان منه من قتل المعروف بأبي تميم، ومن كان معه، واحتبس الشذوات في عسكره. وفيها كبس ابن زيدويه الطيب، فأنهبها. وفيها ولي القضاء علي بن محمد بن أبي الشوارب. وفيها خرج الحسين بن طاهر بن عبد الله بن طاهر من بغداد لليال بقين منه، فصار إلى الجبل. وفيها مات الصلابي، وولي الري كيغلغ. ومات صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور في ربيع الآخر منها. وولي إسماعيل بن إسحاق قضاء الجانب الشرقي من بغداد، فجمع له قضاء الجانبين. وفيها قتل محمد بن عتاب بن عتاب، وكان ولي السيبين فصار إليها، فقتلته الأعراب. وللنصف من شهر رمضان صار موسى بن بغا إلى الأنبار متوجها إلى الرقة. وفيها قتل أيضا القطان صاحب مفلح، وكان عاملا بالموصل على الخراج، فانصرف منها، فقتل في الطريق. وعقد فيها لكفتمر علي بن الحسين بن داود كاتب أحمد بن سهل اللطفي على طريق مكة في شهر رمضان. وفيها وقع بين الحناطين والجزارين بمكة قتال قبل يوم التروية بيوم، حتى خاف الناس أن يبطل الحج، ثم تحاجزوا إلى أن يحج الناس، وقد قتل

ذكر خبر الوقعه بين الزنج واحمد بن ليثويه

منهم سبعة عشر رجلا. وفيها غلب يعقوب بن الليث على فارس وهرب ابن واصل. ذكر خبر الوقعه بين الزنج واحمد بن ليثويه وفيها كانت وقعة بين الزنج وأحمد بن ليثويه، فقتل منهم خلقا كثيرا، وأسر أبا داود الصعلوك وقد كان صار معهم. ذكر الخبر عن هذه الوقعة وسبب أسر الصعلوك: ذكر ان مسروا البلخي وجه أحمد بن ليثويه إلى ناحية كور الأهواز، فلما وصل إليها نزل السوس، وكان الصفار قد قلد محمد بن عبيد الله بن ازاذ مرد الكردي كور الأهواز، فكتب محمد بن عبيد الله إلى قائد الزنج يطمعه في الميل إليه، وقد كانت العادة جرت بمكاتبة محمد إياه من أول مخرجه، وأوهمه أنه يتولى له كور الأهواز ويداري الصفار حتى يستوي له الأمر فيها، فأجابه الخبيث إلى ذلك على أن يكون علي بن أبان المتولي لها، ويكون محمد بن عبيد الله يخلفه عليها، فقبل محمد بن عبيد الله ذلك، فوجه علي بن أبان أخاه الخليل بن أبان، في جمع كثير من السودان وغيرهم، وأيدهم محمد بن عبيد الله بأبي داود الصعلوك، فمضوا نحو السوس، فلم يصلوا إليها، ودفعهم ابن ليثويه ومن كان معه من أصحاب السلطان عنها، فانصرفوا مفلولين، وقد قتل منهم مقتلة عظيمة، وأسر منهم جماعة، وسار أحمد بن ليثويه حتى نزل جندي سابور. وسار علي بن أبان من الأهواز منجدا محمد بن عبيد الله على أحمد بن ليثويه، فتلقاه محمد بن عبيد الله في جمع من الأكراد والصعاليك، فلما قرب منه محمد بن عبيد الله سارا جميعا، وجعلا بينهما المسرقان، فكانا يسيران

عن جانبيه، ووجه محمد بن عبيد الله رجلا من اصحابه في ثلاثمائة فارس، فانضم إلى علي بن أبان، فسار علي بن أبان ومحمد بن عبيد الله إلى أن وافيا عسكر مكرم، فصار محمد بن عبيد الله إلى علي بن أبان وحده، فالتقيا وتحادثا، وانصرف محمد إلى عسكره، ووجه إلى علي بن أبان القاسم بن علي ورجلا من رؤساء الأكراد، يقال له حازم، وشيخا من أصحاب الصفار يعرف بالطالقاني، وأتوا عليا، فسلموا عليه، ولم يزل محمد وعلي على ألفة، إلى أن وافى علي قنطرة فارس، ودخل محمد بن عبيد الله تستر، وانتهى إلى أحمد بن ليثويه تضافر علي بن أبان ومحمد بن عبيد الله على قتاله، فخرج عن جندي سابور، وصار إلى السوس وكانت موافاة علي قنطرة فارس في يوم الجمعة، وقد وعده محمد بن عبيد الله أن يخطب الخاطب يومئذ، فيدعو لقائد الزنج، وله على منبر تستر، فأقام علي منتظرا ذلك، ووجه بهبوذ بن عبد الوهاب لحضور الجمعة وإتيانه بالخبر، فلما حضرت الصلاة قام الخطيب، فدعا للمعتمد والصفار ومحمد بن عبيد الله، فرجع بهبوذ إلى علي بالخبر، فنهض علي من ساعته، فركب دوابه، وأمر أصحابه بالانصراف إلى الأهواز، وقدمهم أمامه، وقدم معهم ابن أخيه محمد بن صالح ومحمد بن يحيى الكرماني خليفته، وكاتبه وأقام حتى إذا جاوزوا كسر قنطرة كانت هناك لئلا يتبعه الخيل. قال محمد بن الحسن: وكنت فيمن انصرف مع المتقدمين من أصحاب علي، ومر الجيش في ليلتهم تلك مسرعين، فانتهوا إلى عسكر مكرم في وقت طلوع الفجر، وكانت داخلة في سلم الخبيث، فنكث أصحابه، وأوقعوا بعسكر مكرم، ونالوا نهبا ووافى علي بن أبان في أثر أصحابه، فوقف على ما أحدثوا فلم يقدر على تغييره، فمضى حتى صار إلى الأهواز ولما انتهى إلى أحمد بن ليثويه انصراف علي، كر راجعا حتى وافى تستر، فأوقع بمحمد بن عبيد الله ومن معه، فأفلت محمد، ووقع في يده المعروف بأبي داود الصعلوك، فحمله إلى باب السلطان المعتمد، وأقام أحمد بن ليثويه بتستر

قال محمد بن الحسن: فحدثني الفضل بن عدي الدارمي- وهو أحد من كان من أصحاب قائد الزنج انضم إلى محمد بن أبان أخي علي بن أبان قال: لما استقر أحمد بن ليثويه بتستر، خرج إليه علي بن أبان بجيشه، فنزل قرية يقال لها برنجان، ووجه طلائع يأتونه بأخباره، فرجعوا إليه، فأخبروه أن ابن ليثويه قد أقبل نحوه، وأن أوائل خيله قد وافت قرية تعرف بالباهليين، فزحف علي بن أبان إليه، وهو يبشر أصحابه، ويعدهم الظفر، ويحكى لهم ذلك عن الخبيث فلما وافى الباهليين تلقاه ابن ليثويه في خيله، وهي زهاء أربعمائة فارس، فلم يلبثوا أن أتاهم مدد خيل، فكثرت خيل أصحاب السلطان واستأمن جماعة من الأعراب الذين كانوا مع علي بن أبان إلى ابن ليثويه، وانهزم باقي خيل علي بن أبان، وثبت جميّعة من الرجالة، وتفرق عنه أكثرهم، واشتد القتال بين الفريقين، وترجل علي بن أبان، وباشر القتال بنفسه راجلا، وبين يديه غلام من أصحابه يقال له فتح، يعرف بغلام أبي الحديد، فجعل يقاتل معه وبصر بعلي أبو نصر سلهب وبدر الرومي المعروف بالشعراني فعرفاه، فانذر الناس به، فانصرف هاربا حتى لجأ إلى المسرقان، فألقى بنفسه فيه، وتلاه فتح، فألقى نفسه معه، فغرق فتح، ولحق علي بن أبان نصر المعروف بالرومي، فتخلصه من الماء، فألقاه في سميرية ورمي علي بسهم، وأصيب به في ساقه، وانصرف مفلولا، وقتل من أنجاد السودان وأبطالهم جماعة كثيرة. وحج بالناس فيها الفضل بن إسحاق بن الحسن بن العباس بن محمد.

سنه ثلاث وستين ومائتين

ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائتين ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث فمن ذلك ما كان من ظفر عزيز بن السرى صاحب يعقوب بن الليث بمحمد ابن واصل وأخذه أسيرا. وفيها كانت بين موسى دالجويه والأعراب بناحية الأنبار وقعة، فهزموه وفلوه، فوجه أبو أحمد ابنه أحمد في جماعة من قواده في طلب الأعراب الذين فلوا موسى دالجويه وفيها وثب الديراني بابن أوس فبيته ليلا، وفرق جمعه، ونهب عسكره، وأفلت ابن أوس، ومضى نحو واسط. وفيها خرج في طريق الموصل رجل من الفراغنة، فقطع الطريق، فظفر به فقتل . ذكر الوقعه بين ابن ليثويه مع أخي على بن ابان وفيها أقبل يعقوب بن الليث من فارس، فلما صار إلى النوبندجان انصرف أحمد بن ليثويه عن تستر، وصار فيها يعقوب إلى الأهواز، وقد كان لابن ليثويه قبل ارتحاله عن تستر وقعة مع أخي علي بن أبان، ظفر فيها بجماعة كثيرة من زنوجه. ذكر الخبر عن هذه الوقعة: ذكر عن علي بن أبان، أن ابن ليثويه لما هزمه في الوقعة التي كانت بينهما في الباهليين، فأصابه ما أصابه فيها، ووافى الأهواز، لم يقم بها، ومضى

ذكر الخبر عما كان من امر الصفار هنالك في هذه السنه:

إلى عسكر صاحبه قائد الزنج، فعالج ما قد أصابه من الجراح حتى برأ، ثم كر راجعا إلى الأهواز، ووجه أخاه الخليل بن أبان وابن أخيه محمد بن صالح المعروف بأبي سهل، في جيش كثيف إلى ابن ليثويه، وهو يومئذ مقيم بعسكر مكرم، فسارا فيمن معهما، فلقيهما ابن ليثويه على فرسخ من عسكر مكرم، قاصدا إليهما، فالتقى الجمعان، وقد كمن ابن ليثويه كمينا فلما استحر القتال تطارد ابن ليثويه، فطمع الزنج فيه، فتبعوه حتى جاوزوا الكمين، فخرج من ورائهم، فانهزموا وتفرقوا، وكر عليهم ابن ليثويه، فنال حاجته منهم، ورجعوا مفلولين فانصرف ابن ليثويه بما أصاب من الرءوس إلى تستر، ووجه علي بن أبان أنكلويه مسلحة إلى المسرقان إلى أحمد بن ليثويه، فوجه إليه ثلاثين فارسا من جلد أصحابه، وانتهى إلى الخليل بن أبان مسير أصحاب ابن ليثويه إلى المسلحة، فكمن لهم فيمن معه، فلما وافوه خرج إليهم، فلم يفلت منهم أحد، وقتلوا عن آخرهم، وحملت رءوسهم إلى علي بن أبان، وهو بالأهواز، فوجهها إلى الخبيث، وحينئذ أتى الصفار الأهواز، وهرب عنها ابن ليثويه. ذكر الخبر عما كان من أمر الصفار هنالك في هذه السنة: ذكر أن يعقوب بن الليث لما صار إلى جندي سابور، نزلها وارتحل عن تلك الناحية كل من كان بها من قبل السلطان، ووجه إلى الأهواز رجلا من قبله يقال له الحصن بن العنبر، فلما قاربها خرج عنها علي بن أبان صاحب قائد الزنج، فنزل نهر السدرة، ودخل حصن الأهواز، فأقام بها، وجعل أصحابه وأصحاب علي بن أبان يغير بعضهم على بعض، فيصيب كل فريق منهم من صاحبه، إلى أن استعد علي بن أبان، وسار إلى الأهواز، فأوقع بالحصن ومن معه وقعة غليظة، قتل فيها من أصحاب يعقوب خلقا كثيرا، وأصاب خيلا، وغنم غنائم كثيرة، وهرب الحصن ومن معه إلى عسكر مكرم، وأقام علي بالأهواز حتى استباح ما كان فيها، ثم رجع عنها إلى

أخبار متفرقة

نهر السدرة، وكتب إلى بهبوذ يأمره بالإيقاع برجل من الأكراد من أصحاب الصفار كان مقيما بدورق، فأوقع به بهبوذ، فقتل رجاله وأسره، فمن عليه وأطلقه، فكان علي بعد ذلك يتوقع مسير يعقوب إليه فلم يسر، وأمد الحصن ابن العنبر بأخيه الفضل بن العنبر، وأمرهما بالكف عن قتال أصحاب الخبيث، والاقتصار على المقام بالأهواز وكتب إلى علي بن أبان يسأله المهادنة، وأن يقر أصحابه بالأهواز، فأبى ذلك على دون نقل طعام كان هناك، فتجافى له الصفار عن نقل ذلك الطعام، وتجافى علي للصفار عن علف كان بالأهواز، فنقل علي الطعام، وترك العلف، وتكاف الفريقان، أصحاب علي وأصحاب الصفار. وفيها توفي مساور بن عبد الحميد الشاري وفيها مات عبيد الله بن يحيى بن خاقان، سقط عن دابته في الميدان من صدمة خادم له، يقال له رشيق، يوم الجمعة لعشر خلون من ذي القعدة، فسال من منخره وأذنه دم، فمات بعد أن سقط بثلاث ساعات، وصلى عليه أبو أحمد بن المتوكل، ومشى في جنازته، واستوزر من الغد الحسن بن مخلد ثم قدم موسى بن بغا سامرا لثلاث بقين من ذي القعدة، فهرب الحسن بن مخلد إلى بغداد، واستوزر مكانه سليمان بن وهب، لست ليال خلون من ذي الحجة، ثم ولي عبيد الله بن سليمان كتبة المفوض والموفق إلى ما كان يلي من كتبة موسى بن بغا، ودفعت دار عبيد الله بن يحيى إلى كيغلغ. وفيها أخرج أخو شركب الحسين بن طاهر عن نيسابور، وغلب عليها، وأخذ أهلها بإعطائه ثلث أموالهم، وصار الحسين إلى مرو، وبها أخو خوارزم شاه يدعو لمحمد بن طاهر [أخبار متفرقة] وفي هذه السنة سلمت الصقالبة لؤلؤة إلى الطاغية. وحج بالناس فيها الفضل بن إسحاق بن الحسن بن إسماعيل.

سنه اربع وستين ومائتين

ثم دخلت سنة أربع وستين ومائتين ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث فمن ذلك توجيه يعقوب الصفار جيشا إلى الصيمرة، فتقدمه إليها، وأخذوا صيغون ومضي به إليه أسيرا، فمات عنده. ولإحدى عشرة خلت من المحرم، عسكر أبو أحمد ومعه موسى بن بغا بالقائم، وشيعهما المعتمد، ثم شخصا من سامرا لليلتين خلتا من صفر، فلما صارا ببغداد، مات بها موسى بن بغا، وحمل إلى سامرا، فدفن بها. وفيها في شهر ربيع الأول ماتت قبيحة أم المعتز. وفيها صار ابن الديراني إلى الدينور، وتعاون ابن عياض ودلف بن عبد العزيز بن أبي دلف عليه، فهزماه وأخذا أمواله وضياعه، ورجع إلى حلوان مفلولا. خبر اسر الروم لعبد الله بن رشيد وفيها أسرت الروم عبد الله بن رشيد بن كاوس. ذكر الخبر عن سبب أسرهم إياه: ذكر أن سبب ذلك كان، أنه دخل أرض الروم في أربعة آلاف من أهل الثغور الشامية، فصار إلى حصنين والمسكنين، فغنم المسلمون، وقفل، فلما رحل عن البدندون، خرج عليه بطريق سلوقية وبطريق قذيذية وبطريق قرة وكوكب وخرشنة، فأحدقوا بهم، فنزل المسلمون فعرقبوا دوابهم، وقاتلوا، فقتلوا، الا خمسمائة او ستمائه، وضعوا السياط في خواصر دوابهم، وخرجوا،

ذكر خبر الوقعه بين محمد المولد وقائد الزنج

فقتل الروم من قتلوا، وأسر عبد الله بن رشيد بعد ضربات أصابته، وحمل إلى لؤلؤة، ثم حمل إلى الطاغية على البريد. ذكر خبر الوقعه بين محمد المولد وقائد الزنج وفيها ولي محمد المولد واسطا، فحاربه سليمان بن جامع، وهو عامل على ما يلي تلك الناحية من قبل قائد الزنج، فهزمه وأخرجه عن واسط فدخلها. ذكر الخبر عن هذه الوقعة وسببها: ذكر أن السبب في ذلك كان أن سليمان بن جامع الموجه كان من قبل قائد الزنج إلى ناحية الحوانيت والبطائح، لما هزم جعلان التركي عامل السلطان، وأوقع بأغرتمش، ففل عسكره، وقتل خشيشا، ونهب ما كان معهم، كتب إلى صاحبه قائد الزنج يستأذنه في المصير إليه، ليحدث به عهدا، ويصلح أمورا من أمور منزله، فلما أنفذ الكتاب بذلك، أشار عليه أحمد بن مهدي الجبائي بتطرق عسكر البخاري، وهو يومئذ مقيم ببردودا، فقبل ذلك، وسار إلى بردودا، فوافى موضعا يقال له أكرمهر، وذلك على خمسة فراسخ من عسكر تكين فلما وافى ذلك الموضع، قال الجبائي لسليمان: إن الرأي ان تقيم أنت هاهنا، وأمضي أنا في السميريات، فأجر القوم إليك، وأتعبهم فيأتوك وقد لغبوا، فتنال حاجتك منهم ففعل سليمان ذلك، فعبى خيله ورجالته في موضعه ذلك، ومضى أحمد بن مهدي في السميريات مسحرا، فوافى عسكر تكين، فقاتله ساعة، وأعد تكين خيله ورجاله، وتطارد الجبائي له، وأنفذ غلاما إلى سليمان يعلمه أن أصحاب تكين واردون عليه بخيلهم فلقي الرسول سليمان، وقد أقبل يقفو أثر الجبائي لما أبطأ عليه خبره. فرده إلى معسكره، ووافى رسول آخر للجبائي بمثل الخبر الأول، فلما رجع سليمان إلى عسكره، أنفذ ثعلب بن حفص البحراني وقائدا من قواد الزنج، يقال

له منينا في جماعة من الزنج، فجعلهما كمينا في الصحراء مما يلي ميسرة خيل تكين، وأمرهما إذا جاوزهم خيل تكين أن يخرجوا من ورائهم فلما علم الجبائي أن سليمان قد أحكم لهم خيله وأمر الكمين، رفع صوته ليسمع أصحاب تكين، يقول لأصحابه: غررتموني وأهلكتموني، وقد كنت أمرتكم ألا تدخلوا هذا المدخل، فابيتم الا القائى وأنفسكم هذا الملقى الذي لا أرانا ننجو منه فطمع أصحاب تكين لما سمعوا قوله، ووجدوا في طلبه، وجعلوا ينادون: بلبل في قفص وسار الجبائي سيرا حثيثا، وأتبعوه يرشقونه بالسهام، حتى جاوزوا موضع الكمين، وقاربوا عسكر سليمان، وهو كامن من وراء الجدر في خيله وأصحابه، فزحف سليمان، فتلقى الجيش، وخرج الكمين من وراء الخيل، وثنى الجبائي صدور سميرياته إلى من في النهر، فاستحكمت الهزيمة عليهم من الوجوه كلها، وركبهم الزنج يقتلونهم ويسلبونهم، حتى قطعوا نحوا من ثلاثة فراسخ. ثم وقف سليمان وقال للجبائي: نرجع فقد غنمنا وسلمنا، والسلامة أفضل من كل شيء فقال الجبائي: كلا، قد نخبنا قلوبهم، ونفذت حيلتنا فيهم، والرأي أن نكسبهم في ليلتنا هذه، فلعلنا أن نزيلهم عن عسكرهم، ونفض جمعهم فاتبع سليمان رأي الجبائي، وصار إلى عسكر تكين، فوافاه في وقت المغرب، فأوقع به، ونهض تكين فيمن معه، فقاتل قتالا شديدا، فانكشف عنه سليمان وأصحابه ثم وقف سليمان وعبأ أصحابه، فوجه شبلا في خيل من خيله، وضم إليه جمعا من الرجالة إلى الصحراء، وأمر الجبائي، فسار في السميريات في بطن النهر، وسار هو فيمن معه من أصحابه الخيالة والرجالة، فتقدم أصحابه حتى وافى تكين، فلم يقف له أحد، وانكشفوا جميعا وتركوا عسكرهم، فغنم ما وجد فيه، وأحرق العسكر، وانصرف إلى معسكره بما أصاب من الغنيمة ووافى عسكره، فألفى كتاب الخبيث قد ورد بالإذن له في المصير إلى منزله، فاستخلف الجبائي، وحمل الأعلام التي أصابها من عسكر تكين والشذوات التي أخذها من المعروف بأبي تميم ومن خشيش ومن

ذكر الخبر عن السبب الذى من اجله تهيأ للزنج دخول واسط، وذكر الخبر عن الاحداث الجليله في سنه اربع وستين ومائتين:

تكين، وأقبل حتى ورد عسكر الخبيث، وذلك في جمادى الأولى من سنة أربع وستين ومائتين. ذِكْرُ الْخَبَرِ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ تهيأ للزنج دخول واسط، وذكر الخبر عن الأحداث الجليلة في سنة أربع وستين ومائتين: ذكر أن الجبائي يحيى بن خلف لما شخص سليمان بن جامع من معسكره بعد الوقعة التي أوقعها بتكين إلى صاحب الزنج، خرج في السميريات بالعسكر الذي خلفه سليمان معه إلى مازروان لطلب الميرة، ومعه جماعة من السودان، فاعترضه أصحاب جعلان، فأخذوا سفنا كانت معه، وهزموه، فرجع مفلولا حتى وافى طهيثا، ووافته كتب أهل القرية، يخبرونه أن منجور مولى أمير المؤمنين ومحمد بن علي بن حبيب اليشكري لما اتصل بهما خبر غيبة سليمان بن جامع عن طهيثا، اجتمعا وجمعا أصحابهما، وقصدا القرية، فقتلا فيها وأحرقا وانصرفا، وجلا من أفلت ممن كان فيها، فصاروا إلى القرية المعروفة بالحجاجية، فأقاموا بها فكتب الجبائي إلى سليمان بخبر ما وردت به كتب أهل القرية، مع ما ناله من أصحاب جعلان، فأنهض قائد الزنج سليمان إلى طهيثا معجلا، فوافاها، فأظهر أنه يقصد لقتال جعلان، وعبأ جيشه، وقدم الجبائي أمامه في السميريات، وجعل معه خيلا ورجلا، وأمره بموافاة مازروان والوقوف بإزاء عسكر جعلان، وأن يظهر الخيل ويرعاها بحيث يراها أصحاب جعلان، ولا يوقع بهم، وركب هو في جيشه أجمع إلا نفرا يسيرا خلفهم في عسكره، ومضى في الأهواز حتى خرج على الهورين المعروفين بالربة والعمرقة ثم مضى نحو محمد بن علي بن حبيب، وهو يومئذ بموضع يقال له تلفخار، فوافاه فأوقع به وقعة غليظة، قتل فيها قتلى كثيرة، وأخذ خيلا كثيرة وحاز غنائم جزيلة، وقتل أخا لمحمد بن علي، وأفلت محمد، ورجع سليمان،

فلما صار في صحراء بين البزاق والقرية وافته خيل لبني شيبان، وقد كان فيمن أصاب سليمان بتلفخار سيد من سادات بني شيبان، فقتله وأسر ابنا له صغيرا، واخذ حجرا كانت تحته، فانتهى خبره إلى عشيرته، فعارضوا سليمان بهذه الصحراء في أربعمائة فارس وقد كان سليمان وجه إلى عمير بن عمار خليفته بالطف حين توجه إلى ابن حبيب، فصار إليه، فجعله دليلا لعلمه بتلك الطريق، فلما رأى سليمان خيل بني شيبان قدم أصحابه أجمعين إلا عمير بن عمار فإنه انفرد، فظفرت به بنو شيبان فقتلوه، وحملوا رأسه، وانصرفوا. وانتهى الخبر إلى الخبيث، فعظم عليه قتل عمير، وحمل سليمان إلى الخبيث ما كان أصاب من بلد محمد بن علي بن حبيب، وذلك في آخر رجب من هذه السنة فلما كان في شعبان نهض سليمان في جمع من أصحابه، حتى وافى قرية حسان، وبها يومئذ قائد من قواد السلطان يقال له جيش ابن حمرتكين، فأوقع به، فأجفل عنه، وظفر بالقرية فانتهبها، وأحرق فيها وأخذ خيلا، وعاد إلى عسكره ثم خرج لعشر خلون من شعبان إلى الحوانيت، وأصعد الجبائي في السميريات إلى برمساور، فوجد هنالك صلاغا فيها خيل من خيل جعلان، كان أراد أن يوافي بها نهر أبان وقد كان خرج إلى ما هناك متصيدا، فأوقع الجبائي بتلك الصلاغ، فقتل من فيها، وأخذ الخيل- وكانت اثني عشر فرسا- وعاد إلى طهيثا ثم نهض سليمان إلى تل رمانا، لثلاث بقين من شعبان فأوقع بها، وجلا عنها أهلها، وحاز ما مكان فيها ثم رجع إلى عسكره، ونهض لعشر ليال خلون من شهر رمضان إلى الموضع المعروف بالجازرة، وأبا يومئذ هناك، وجعلان بمازروان. وقد كان سليمان كتب إلى الخبيث في التوجيه إليه بالشذا، فوجه إليه عشر شذوات، مع رجل من أهل عبادان يقال له الصقر بن الحسين، فلما وافى سليمان الصقر بالشذا أظهر أنه يريد جعلان، وبادرت الأخبار الى جعلان

بأن سليمان يريد موافاته، فكانت همته ضبط عسكره فلما قرب سليمان من موضع أبّا مال إليه، فأوقع به، وألفاه غارا بمجيئه، فنال حاجته، وأصاب ست شذوات. قال محمد بن الحسن: قال جباش: كانت الشذوات ثمانية، وجدها في عسكره، وأحرق شذاتين كانتا على الشط، وأصاب خيلا وسلاحا وأسلابا، وانصرف إلى عسكره، ثم أظهر أنه يريد قصد تكين البخاري، وأعد مع الجبائي وجعفر بن أحمد خال ابن الخبيث الملعون المعروف بأنكلاي سفنا فلما وافت السفن عسكر جعلان، نهض إليها، فاوقع بها، وحازها واوقع سليمان من جهة البر، فهزمه إلى الرصافة، واسترجع سفنه، وحاز سبعة وعشرين فرسا ومهرين من خيل جعلان وثلاثة أبغل، وأصاب نهبا كثيرا وسلاحا، ورجع إلى طهيثا. قال محمد: أنكر جباش أن يكون لتكين في هذا الموضع ذكر، ولم يعرف خبر العباداني في تكين، وزعم أن القصد لم يكن إلا إلى جعلان، وقد كان خبره خفي على أهل عسكره حتى أرجفوا بأنه قد قتل وقتل الجبائي معه، فجزعوا أشد الجزع، ثم ظهر خبره وما كان منه من الإيقاع بجعلان، فسكنوا وقروا إلى أن وافى سليمان، وكتب بما كان منه إلى الخبيث، وحمل أعلاما وسلاحا، ثم صار سليمان إلى الرصافة في ذي القعدة، فأوقع بمطر بن جامع، وهو يومئذ مقيم بها، فغنم غنائم كثيرة، وأحرق الرصافة، واستباحها، وحمل أعلاما إلى الخبيث، وانحدر لخمس ليال خلون من ذي الحجة سنة أربع وستين ومائتين إلى مدينة الخبيث، فأقام ليعيد هناك ويقيم في منزله، ووافى مطر بن جامع القرية المعروفة بالحجاجية، فأوقع بها، وأسر جماعة من أهلها. وكان القاضي بها من قبل سليمان رجلا من أهلها يقال له سعيد بن السيد العدوي، فأسر وحمل إلى واسط هو وثعلب بن حفص وأربعة قواد كانوا معه، فصاروا إلى الحرجلية على فرسخين ونصف من طهيثا، ومضى الجبائي في الخيل والرجل

لمعارضة مطر، فوافى الناحية وقد نال مطر ما نال منها، فانصرف عنها، وكتب إلى سليمان بالخبر، فوافى سليمان يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة من هذه السنة، ثم صرف جعلان، ووافى أحمد بن ليثويه، فأقام بالشديدية، ومضى سليمان إلى موضع يقال له نهر أبان، فوجد هناك قائدا من قواد ابن ليثويه يقال له طرناج، فأوقع به وقتله. قال محمد: قال جباش: المقتول بهذا الموضع بينك، فأما طرناج فإنه قتل بمازروان ثم وافى الرصافة، وبها يومئذ عسكر مطر بن جامع، فأوقع به، فاستباح عسكره، وأخذ منه سبع شذوات، وأحرق شذاتين، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين ومائتين قال محمد: قال جباش: كانت هذه الوقعة بالشديدية، والذي أخذ يومئذ ست شذوات، ثم مضى سليمان في خمس شذوات، ورتب فيها صناديد قواده وأصحابه، فواقعه تكين البخاري بالشديدية، وقد كان ابن ليثويه حينئذ صار إلى ناحية الكوفة وجنبلاء، فظهر تكين على سليمان، وأخذ منه الشذوات التي كانت معه بآلتها وسلاحها ومقاتلتها، وقتل في هذه الوقعة جلة قواد سليمان. ثم زحف ابن ليثويه إلى الشديدية، وضبط تلك النواحي إلى أن ولى ابو احمد محمدا المولد واسطا. قال محمد: قال جباش: لما وافى ابن ليثويه الشديدية سار إليه سليمان، فأقام يومين يقاتله، ثم تطارد له سليمان في اليوم الثالث، وتبعه ابن ليثويه فيمن تسرع معه، فرجع إليه سليمان، فألقاه في فوهة بردودا، فتخلص بعد أن أشفى على الغرق وأصاب سليمان سبع عشرة دابة من دواب ابن ليثويه. قال: وكتب سليمان إلى الخبيث يستمده، فوجه إليه الخليل بن أبان في زهاء ألف وخمسمائة فارس، ومعه المذوب، فقصد عند موافاة هذا المدد إياه لمحاربة محمد المولد، فأوقع به فهرب المولد، ودخل الزنج واسطا، فقتل بها

ذكر خبر خروج سليمان بن وهب من بغداد إلى سامرا

خلق كثير، وانتهبت وأحرقت، وكان بها إذ ذاك كنجور البخاري، فحامى يومه ذلك إلى وقت العصر، ثم قتل وكان الذي يقود الخيل يومئذ في عسكر سليمان بن جامع الخليل بن أبان وعبد الله المعروف بالمذوب وكان الجبائي في السميريات، وكان الزنجي بن مهربان في الشذوات، وكان سليمان بن جامع في قواده من السودان ورجالته منهم، وكان سليمان بن موسى الشعراني وأخواه في خيله ورجله مع سليمان بن جامع، فكان القوم جميعا يدا واحدة ثم انصرف سليمان بن جامع عن واسط، ومضى بجميع الجيش إلى جنبلاء ليعيث ويخرب، ووقع بينه وبين الخليل بن أبان اختلاف، فكتب الخليل بذلك إلى أخيه علي بن أبان، فاستعفى له قائد الزنج من المقام مع سليمان، وأذن للخليل بالرجوع إلى مدينة الخبيث مع أصحاب علي بن أبان وغلمانه، وتخلف المذوب في الأعراب مع سليمان، وأقام بمعسكره أياما، ثم مضى إلى نهر الأمير، فعسكر به، ووجه الجبائي والمذوب إلى جنبلاء، فأقاما هنالك تسعين ليلة، وسليمان معسكر بنهر الأمير. قال محمد: قال جباش: كان سليمان معسكرا بالشديديه. ذكر خبر خروج سليمان بن وهب من بغداد إلى سامرا وفي هذه السنة خرج سليمان بن وهب من بغداد الى سامرا، ومعه الحسن ابن وهب، وشيعه أحمد بن الموفق ومسرور البلخي وعامة القواد، فلما صار بسامرا غضب عليه المعتمد وحبسه وقيده، وانتهب داره وداري ابنيه وهب وإبراهيم، واستوزر الحسن بن مخلد لثلاث بقين من ذي القعدة، فشخص الموفق من بغداد ومعه عبيد الله بن سليمان، فلما قرب أبو أحمد من سامرا تحول المعتمد إلى الجانب الغربي، فعسكر به، ونزل أبو أحمد ومن معه جزيرة المؤيد، واختلفت الرسل بينهما فلما كان بعد أيام خلون من ذي الحجة، صار المعتمد إلى حراقة في دجلة، وصار إليه أخوه أبو أحمد في زلال، فخلع على أبي أحمد وعلى مسرور البلخى وكيغلع واحمد بن موسى

أخبار متفرقة

ابن بغا فلما كان يوم الثلاثاء لثمان خلون من ذي الحجة يوم التروية عبر أهل عسكر أبي أحمد إلى عسكر المعتمد، وأطلق سليمان بن وهب، ورجع المعتمد إلى الجوسق، وهرب الحسن بن مخلد وأحمد بن صالح بن شيرزاد، وكتب في قبض أموالهما وأموال أسبابهما، وحبس أحمد بن أبي الأصبغ، وهرب القواد المقيمون كانوا بسامرا إلى تكريت، وتغيب أبو موسى بن المتوكل، ثم ظهر ثم شخص القواد الذين كانوا صاروا إلى تكريت الى الموصل، ووضعوا ايديهم في الجبايه. [أخبار متفرقة] وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمى الكوفى.

سنه خمس وستين ومائتين

ثم دخلت سنة خمس وستين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر الوقعه بين احمد بن ليثويه وسليمان قائد الزنج فمن ذلك ما كان من وقعة كانت بين أحمد بن ليثويه وسليمان بن جامع قائد صاحب الزنج بناحية جنبلاء. ذكر الخبر عن هذه الوقعة وسببها: ذكر أن سليمان بن جامع كتب إلى صاحب الزنج، يخبره بحال نهر يعرف بالزهيري، ويسأله الإذن له في النفقة على إنفاذ كريه إلى سواد الكوفه والبرار، ويعلمه أن المسافة في ذلك قريبة، وأنه متى أنفذه تهيأ له بذلك حمل كل ما بنواحي جنبلاء وسواد الكوفة من الميرة فوجه الخبيث بذلك رجلا يقال له محمد بن يزيد البصري، وكتب إلى سليمان بإزاحة علله في المال والإقامة معه في جيشه إلى وقت فراغه، مما وجه له، فمضى سليمان بجميع جيشه حتى أقام بالشريطية نحوا من شهر، وألقى الفعلة في النهر، وخلال ذلك ما كان سليمان يتطرق ما حوله من أهل خسرسابور، وكانت الميرة تتصل به من ناحية الصين وما والاها إلى أن واقعه ابن ليثويه عامل أبي أحمد على جنبلاء، فقتل له أربعة عشر قائدا. قال محمد بن الحسن: قتل سبعة وأربعين قائدا وخلقا من الخلق لا يحصى كثرة، واستبيح عسكره، وأحرقت سفنه، وكانت مقيمة في هذا النهر الذي كان مقيما على إنفاذه، فمضى مفلولا حتى وافى طهيثا، فأقام بها، ووافى الجبائي في عقب ذلك، ثم أصعد فأقام بالموضع المعروف ببرتمرتا واستخلف

أخبار متفرقة

على الشذوات الاشتيام الذي يقال له الزنجي بن مهربان، وقد كان السلطان وجه نصيرا لتقييد شامرج، وحمله إلى الباب، وتقلد ما كان يتقلده، فوافى نصير الزنجي بن مهربان بعد حمله شامرج مقيدا بنهر برتمرتا، وأخذ منه تسع شذوات، واسترد الزنجي منها ستا. قال محمد بن الحسن: أنكر جباش أن يكون الزنجي بن مهربان استرد من الشذوات شيئا، وزعم أن نصيرا ذهب بالشذوات أجمع، وانصرف إلى طهيثا، وبادر بالكتاب إلى سليمان، ووافاه فأقام سليمان بطهيثا إلى أن اتصل به خبر اقبال الموفق. [أخبار متفرقة] وفيها أوقع أحمد بن طولون بسيما الطويل بأنطاكية، فحصره بها، وذلك في المحرم منها، فلم يزل ابن طولون مقيما عليها حتى افتتحها، وقتل سيما وفيها وثب القاسم بن مماه بدلف بن عبد العزيز بن أبي دلف بأصبهان، فقتله ثم وثب جماعة من أصحاب دلف على القاسم، فقتلوه ورأسوا عليهم أحمد بن عبد العزيز. وفيها لحق محمد المولد بيعقوب بن الليث، فصار إليه، وذلك في المحرم منها، فأمر السلطان بقبض أمواله وعقاراته. وفيها قتلت الأعراب جعلان المعروف بالعيار بدمما، وكان خرج لبذرقة قافلة، فقتلوه، وذلك في جمادى الأولى، فوجه السلطان في طلب الذين قتلوه جماعة من الموالي، فهرب الأعراب، وبلغ الذين شخصوا في طلبهم عين التمر، ثم رجعوا إلى بغداد، وقد مات منهم من البرد جماعة، وذلك أن البرد اشتد في تلك الأيام ودام أياما، وسقط الثلج ببغداد. وفيها أمر أبو أحمد بحبس سليمان بن وهب وابنه عبيد الله، فحبسا وعدة من أسبابهم في دار أبي أحمد، وانتهبت دور عدة من أسبابه، ووكل بحفظ دارى سليمان وابنه عبيد الله، وأمر بقبض ضياعهما وأموالهما وأموال

أسبابهما وضياعهم خلا أحمد بن سليمان ثم صولح سليمان وابنه عبيد الله على تسعمائة ألف دينار، وصيرا في موضع يصل إليهما من أحبا. وفيها عسكر موسى بن أتامش وإسحاق بن كنداجيق وبنغجور بن أرخوز والفضل بن موسى بن بغا بباب الشماسية، ثم عبروا جسر بغداد، فصاروا إلى السفينتين، وتبعهم أحمد بن الموفق، فلم يرجعوا، ونزلوا صرصر. وفيها استكتب أبو أحمد صاعد بن مخلد، وذلك لاثنتي عشرة بقيت من جمادى الآخرة، وخلع عليه، فمضى صاعد إلى القواد بصرصر، ثم بعث أبو أحمد ابنه أحمد إليهم، فناظرهم فانصرفوا معه فخلع عليهم. وفيها خرج- فيما ذكر- خمسة من بطارقة الروم في ثلاثين ألفا من الروم إلى أذنة، فصاروا إلى المصلى. وأسروا أرخوز- وكان والي الثغور- ثم عزل، فرابط هناك فأسر، وأسر معه نحو من أربعمائة رجل، وقتلوا ممن نفر إليهم نحوا من الف وأربعمائة رجل، وانصرفوا اليوم الرابع، وذلك في جمادى الأولى منها. وفي رجب منها عسكر موسى بن اتامش وإسحاق بن كنداجيق وبنغجور ابن أرخوز بنهر ديالى. وفيها غلب أحمد بن عبد الله الخجستاني على نيسابور، وصار الحسين ابن طاهر عامل محمد بن طاهر إلى مرو، فأقام بها وأخو شركب الجمال بين الحسين والخجستاني أحمد بن عبد الله. وفيها أخربت طوس. وفيها استوزر إسماعيل بن بلبل. وفيها مات يعقوب بن الليث بالأهواز وخلفه أخوه عمرو بن الليث، وكتب عمرو إلى السلطان بأنه سامع له ومطيع، فوجه إليه أحمد بن أبي الأصبغ في ذي القعدة منها

وفيها قتلت جماعة من أعراب بني أسد علي بن مسرور البلخي بطريق مكة قبل مصيره إلى المغيثة، وكان أبو أحمد ولى محمد بن مسرور البلخي طريق مكة، فولاه أخاه علي بن مسرور. وفيها بعث ملك الروم بعبد الله بن رشيد بن كاوس الذي كان عامل الثغور فأسر، إلى أحمد بن طولون مع عدة من أسراء المسلمين وعدة مصاحف هدية منه له. وفيها صارت جماعة من الزنج في ثلاثين سميرية إلى جبل، فأخذوا أربع سفن فيها طعام، ثم انصرفوا. وفيها لحق العباس بن أحمد بن طولون مع من تبعه ببرقة، مخالفا لأبيه أحمد، وكان أبوه أحمد استخلفه- فيما ذكر- على عمله بمصر لما توجه إلى الشام، فلما انصرف أحمد عن الشام راجعا إلى مصر حمل العباس ما في بيت مال مصر من الأموال، وما كان لأبيه هناك من الأثاث وغير ذلك ثم مضى إلى برقة، فوجه إليه أحمد جيشا، فظفروا به وردوه إلى أبيه أحمد، فحبسه عنده، وقتل لسبب ما كان منه جماعة كانوا شايعوا ابنه على ذلك. وفيها دخل الزنج النعمانية، فأحرقوا سوقها، وأكثر منازل أهلها، وسبوا، وصاروا إلى جرجرايا، ودخل أهل السواد بغداد. وفيها ولي أبو أحمد عمرو بن الليث خراسان وفارس وأصبهان وسجستان وكرمان والسند، واشهد له بذلك، ووجه بكتابه إليه بتوليته ذلك مع احمد ابن أبي الأصبغ، ووجه إليه مع ذلك العهد والعقد والخلع. وفي ذي الحجة منها صار مسرور البلخي إلى النيل، فتنحى عنها عبد الله ابن ليثويه في أصحاب أخيه، وقد أظهر الخلاف على السلطان، فصار ومن معه إلى أحمد أباذ، فتبعهم مسرور البلخي يريد محاربتهم، فبدر عبد الله ابن ليثويه ومن كان معه، فترجلوا لمسرور، وانقادوا له بالسمع والطاعة،

ذكر خبر شخوص تكين البخارى إلى الاهواز

وعبد الله بن ليثويه نزع سيفه ومنطقته فعلقهما في عنقه، يعتذر إليه، ويحلف أنه حمل على ما فعل، فقبل منه، وأمر فخلع عليه وعلى عدة من القواد معه. ذكر خبر شخوص تكين البخارى الى الاهواز وفيها شخص تكين البخاري إلى الأهواز مقدمة لمسرور البلخي. ذكر الخبر عما كان من أمر تكين بالأهواز حين صار إليها: ذكر محمد بن الحسن أن تكين البخاري ولاه مسرور البلخي كور الأهواز حين ولاه أبو أحمد عليها، فتوجه تكين إليها، فوافاها، وقد صار إليها علي بن أبان المهلبي، فقصد تستر، فأحاط بها في جمع كثير من أصحابه الزنج وغيرهم، فراع ذلك أهلها، وكادوا أن يسلموها، فوافاها تكين في تلك الحال، فلم يضع عنه ثياب السفر، حتى واقع علي بن أبان وأصحابه، فكانت الدبرة على الزنج، فقتلوا وهزموا وتفرقوا، وانصرف علي فيمن بقي معه مفلولا مدحورا، وهذه وقعة باب كودك المشهورة. ورجع تكين البخاري، فنزل تستر، وانضم إليه جمع كثير من الصعاليك وغيرهم، ورحل إليه علي بن أبان في جمع كثير من أصحابه، فنزل شرقي المسرقان، وجعل أخاه في الجانب الغربي في جماعة من الخيل، وجعل رجالة الزنج معه، وقدم جماعة من قواد الزنج، منهم أنكلويه وحسين المعروف بالحمامي وجماعة غيرهما، فأمرهم بالمقام بقنطرة فارس. وانتهى الخبر بما دبره علي بن أبان إلى تكين، وكان الذي نقل إليه الخبر غلاما يقال له وصيف الرومي، وهرب إليه من عسكر علي بن أبان، فأخبره بمقام هؤلاء القوم بقنطرة فارس، وأعلمه تشاغلهم بشرب النبيذ وتفرق أصحابهم في جمع الطعام، فسار إليهم تكين في الليل في جمع من أصحابه، فأوقع بهم، فقتل من قواد الزنج أنكلويه والحسين المعروف بالحمامي ومفرج

المكنى أبا صالح وأندرون، وانهزم الباقون، فلحقوا بالخليل بن أبان، فأعلموه ما نزل بهم، وسار تكين على شرقي المسرقان حتى لقي علي بن أبان في جمعه، فلم يقف له علي وانهزم عنه، وأسر غلام لعلي من الخيالة يعرف بجعفرويه، ورجع علي والخليل في جمعهما إلى الأهواز، ورجع تكين إلى تستر، وكتب علي بن أبان إلى تكين يسأله الكف عن قتل جعفرويه فحبسه، وجرت بين تكين وعلي بن أبان مراسلات وملاطفات، وانتهى الخبر بها إلى مسرور، فأنكرها وانتهى إلى مسرور أن تكين قد ساءت طاعته، وركن إلى علي بن أبان ومايله. قال محمد بن الحسن: فحدثني محمد بن دينار، قال: حدثنى محمد ابن عبد الله بن الحسن بن علي المأموني الباذغيسي- وكان من أصحاب تكين البخاري- قال: لما انتهى إلى مسرور الخبر بالتياث تكين عليه توقف حتى عرف صحة أمره، ثم سار يريد كور الأهواز وهو مظهر الرضا عن تكين والإحماد لأمره، فجعل طريقه على شابرزان، ثم سار منها حتى وافى السوس، وتكين قد عرف ما انتهى إلى مسرور من خبره، فهو مستوحش من ذلك ومن جماعة كانت تبعته عند مسرور من قواده، فجرت بين مسرور وتكين رسائل حتى أمن تكين، فصار مسرور إلى وادي تستر، وبعث إلى تكين، فعبر إليه مسلما، فأمر به فأخذ سيفه، ووكل به، فلما رأى ذلك جيش تكين انفضوا من ساعتهم، ففرقة منهم صارت إلى ناحية صاحب الزنج، وفرقة صارت إلى محمد بن عبيد الله الكردي وانتهى الخبر إلى مسرور، فبسط الأمان لمن بقي من جيش تكين، فلحقوا به. قال محمد بن عبد الله بن الحسن المأموني: فكنت أحد الصائرين إلى عسكر مسرور، ودفع مسرور تكين إلى إبراهيم بن جعلان، فأقام في يده محبوسا، حتى وافاه أجله فتوفي. وكان بعض أمر مسرور وتكين الذي ذكرناه في سنة خمس وستين، وبعضه في سنة ست وستين.

أخبار متفرقة

[أخبار متفرقة] وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد بن اسحق بن موسى بن عيسى الهاشمي. وفيها كانت موافاة المعروف بأبي المغيرة بن عيسى بن محمد المخزومي متغلبا بزنج معه على مكة.

سنه ست وستين ومائتين

ثم دخلت سنة ست وستين ومائتين ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث فمن ذلك ما كان من تولية عمرو بن الليث عبيد الله بن عبد الله بن طاهر خلافته على الشرطة ببغداد وسامرا في صفر، وخلع أبي أحمد عليه، ثم مصير عبيد الله بن عبد الله إلى منزله، فخلع عليه فيه خلعة عمرو بن الليث، وبعث إليه عمرو بعمود من ذهب. وفي صفر منها غلب أساتكين على الري، وأخرج عنها طلمجور العامل كان عليها، ثم مضى هو وابنه اذكوتكين الى قزوين، وعليها أبرون أخو كيغلغ، فصالحاه ودخلا قزوين، وأخذا محمد بن الفضل بن سنان العجلي، فأخذا أمواله وضياعه، وقتله أساتكين ثم رجع إلى الري، فقاتله أهلها فغلبهم ودخلها. وفيها وردت سريه من سرايا الروم تل بسمى من ديار ربيعة، فقتلت من المسلمين، وأسرت نحوا من مائتين وخمسين إنسانا، فنفر أهل نصيبين وأهل الموصل، فرجعت الروم. وفيها مات ابو الساج بجنديسابور في شهر ربيع الآخر، منصرفا عن عسكر عمرو بن الليث إلى بغداد، ومات قبله في المحرم منها سليمان بن عبد الله ابن طاهر. وولى عمرو بن الليث فيها أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف أصبهان وولي فيها محمد بن أبي الساج الحرمين وطريق مكة. وفيها ولي أغرتمش ما كان تكين البخاري يليه من عمال الأهواز، فسار أغرتمش إليها، ودخلها في شهر رمضان، فذكر محمد بن الحسن أن مسرورا وجه أغرتمش وأبا ومطر بن جامع لقتال علي بن أبان، فساروا حتى انتهوا إلى تستر، فأقاموا بها، واستخرجوا من كان في حبس تكين، وكان فيه جعفرويه في جماعة من أصحاب قائد الزنج، فقتلوا جميعا وكان مطر بن

جامع المتولي قتلهم، ثم ساروا حتى وافوا عسكر مكرم، ورحل اليهم على ابن أبان، وقدم أمامه إليهم الخليل أخاه، فصار إليهم الخليل، فواقفهم وتلاه علي، فلما كثر عليهم جمع الزنج، قطعوا الجسر وتحاجزوا، وجنهم الليل، فانصرف علي بن أبان في جميع أصحابه، فصار إلى الأهواز، وأقام الخليل فيمن معه بالمسرقان وأتاه الخبر بأن أغرتمش وأبا ومطر بن جامع قد أقبلوا نحوه، ونزلوا الجانب الشرقي من قنطرة أربك ليعبروا إليه، فكتب الخليل بذلك إلى أخيه علي بن أبان، فرحل علي إليهم حتى وافاهم بالقنطرة، ووجه إلى الخليل يأمره بالمصير إليه، فوافاه وارتاع من كان بالأهواز من أصحاب علي، فقلعوا عسكره، ومضوا إلى نهر السدرة، ونشبت الحرب بين علي بن أبان وقواد السلطان هناك، وكان ذلك يومهم، ثم تحاجزوا. وانصرف علي بن أبان إلى الأهواز، فلم يجد بها أحدا، ووجد أصحابه أجمعين قد لحقوا بنهر السدرة، فوجه إليهم من يردهم، فعسر ذلك عليه فتبعهم، فأقام بنهر السدرة، ورجع قواد السلطان حتى نزلوا عسكر مكرم، وأخذ على ابن أبان في الاستعداد لقتالهم وأرسل إلى بهبوذ بن عبد الوهاب، فأتاه فيمن معه من أصحابه، وبلغ أغرتمش وأصحابه ما أجمع عليه من المسير إليهم علي، فساروا نحوه، وقد جعل علي بن أبان أخاه على مقدمته، وضم إليه بهبوذ وأحمد بن الزرنجي، فالتقى الفريقان بالدولاب فأمر علي الخليل بن أبان أن يجعل بهبوذ كمينا، فجعله وسار الخليل حتى لقي القوم، ونشب القتال بينهم، فكان أول نهار ذلك اليوم لأصحاب السلطان، ثم جالوا جولة وخرج عليهم الكمين، وأكب الزنج إكبابة، فهزموهم، وأسر مطر بن جامع، صرع عن فرس كان تحته، فأخذه بهبوذ، فأتى به عليا، وقتل سيما المعروف بصغراج في جماعة من القواد. ولما وافى بهبوذ عليا بمطر، سأله مطر استبقاءه، فأبى ذلك علي، وقال: لو كنت أبقيت على جعفرويه لأبقينا عليك وأمر به فأدني إليه، فضرب عنقه بيده

ودخل علي بن أبان الأهواز، وانصرف أغرتمش وأبا فيمن أفلت معهما، حتى وافيا تستر، ووجه علي بن أبان بالرءوس إلى الخبيث، فأمر بنصبها على سور مدينته. قال: وكان علي بن أبان بعد ذلك يأتي أغرتمش وأصحابه، فتكون الحرب بينهم سجالا عليه وله، وصرف الخبيث أكثر جنوده إلى ناحية علي بن أبان، فكثروا على أغرتمش، فركن إلى الموادعة، وأحب علي بن أبان مثل ذلك، فتهادنا وجعل علي بن أبان يغير على النواحي، فمن غاراته مصيره إلى القرية المعروفة ببيرود، فظهر عليها، ونال منها غنائم كثيرة، فكتب بما كان منه من ذلك إلى الخبيث، ووجه بالغنائم التي أصابها وأقام. وفيها فارق إسحاق بن كنداجيق عسكر أحمد بن موسى بن بغا، وذلك أن أحمد بن موسى بن بغا لما شخص إلى الجزيرة ولى موسى بن أتامش ديار ربيعة، فأنكر ذلك إسحاق، وفارق عسكره لسبب ذلك، وصار إلى بلد، فأوقع بالأكراد اليعقوبية فهزمهم، وأخذ أموالهم فقوي بذلك، ثم لقي ابن مساور الشاري فقتله. وفي شوال منها قتل أهل حمص عاملهم عيسى الكرخي وفيها أسر لؤلؤ غلام أحمد بن طولون موسى بن أتامش، وذلك أن لؤلؤا كان مقيما برابية بني تميم، وكان موسى بن أتامش مقيما برأس العين، فخرج ليلا سكران ليكبسهم، فكمنوا له، فأخذوه أسيرا، وبعثوا به إلى الرقة. ثم لقي لؤلؤ أحمد بن موسى وقواده ومن معهم من الأعراب في شوال، فهزم لؤلؤ، وقتل من أصحابه جماعة كثيرة، ورجع ابن صفوان العقيلي. والأعراب إلى ثقل عسكر أحمد بن موسى لينتهبوه، وأكب عليهم أصحاب لؤلؤ، فبلغت هزيمة المنفلت منهم قرقيسيا، ثم صاروا إلى بغداد وسامرا، فوافوها في ذي القعدة، وهرب ابن صفوان إلى البادية

ذكر الخبر عن الفتنة بين الجعفرية والعلوية

وفيها كانت بين أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف وبكتمر وقعة، وذلك في شوال منها، فهزم أحمد بن عبد العزيز بكتمر فصار إلى بغداد. وفيها أوقع الخجستاني بالحسن بن زيد بجرجان على غرة من الحسن، فهرب منه الحسن، فلحق بآمل، وغلب الخجستاني على جرجان وبعض أطراف طبرستان، وذلك في جمادى الآخرة منها ورجب. وفيها دعا الحسن بن محمد بن جعفر بن عبد الله بن حسن الأصغر العقيقي أهل طبرستان إلى البيعة له، وذلك أن الحسن بن زيد عند شخوصه إلى جرجان كان استخلفه بسارية، فلما كان من أمر الخجستاني وأمر الحسن ما كان بجرجان، وهرب الحسن منها، أظهر العقيقي بسارية أن الحسن قد أسر، ودعا من قبله إلى بيعته، فبايعه قوم، ووافاه الحسن بن زيد فحاربه، ثم احتال له الحسن حتى ظفر به فقتله. وفيها نهب الخجستاني أموال تجار أهل جرجان، وأضرم النار في البلد. وفيها كانت وقعة بين الخجستاني وعمرو بن الليث، علا فيها الخجستاني على عمرو وهزمه، ودخل نيسابور، فأخرج عامل عمرو بها عنها، وقتل جماعة مما كان يميل الى عمرو بها. ذكر الخبر عن الفتنة بين الجعفرية والعلوية وفيها كانت فتنة بالمدينة ونواحيها بين الجعفرية والعلوية. ذكر الخبر عن سبب ذلك: وكان سبب ذلك- فيما ذكر- أن القيم بأمر المدينة ووادي القرى ونواحيها كان في هذه السنة إسحاق بن محمد بن يوسف الجعفري، فولى وادي القرى عاملا من قبله، فوثب أهل وادي القرى على عامل إسحاق بن محمد، فقتلوه، وقتلوا أخوين لإسحاق، فخرج إسحاق إلى وادي القرى، فمرض به ومات فقام بأمر المدينة أخوه موسى بن محمد، فخرج عليه الحسن بن موسى بن

أخبار متفرقة

جعفر، فارضاه بثمانمائه دينار ثم خرج عليه أبو القاسم أحمد بن اسماعيل ابن الحسن بن زيد، ابن عم الحسن بن زيد صاحب طبرستان، فقتل موسى، وغلب على المدينة وقدمها أحمد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد، فضبط المدينة، وقد كان غلا بها السعر، فوجه إلى الجار، وضمن للتجار أموالهم، ورفع الجباية، فرخص السعر، وسكنت المدينة، فولى السلطان الحسني المدينة إلى ان قدمها ابن ابى الساج. [أخبار متفرقة] وفيها وثبت الأعراب على كسوة الكعبة، فانتهبوها، وصار بعضها إلى صاحب الزنج، وأصاب الحاج فيها شدة شديدة. وفيها خرجت الروم إلى ديار ربيعة، فاستنفر الناس، فنفروا في برد ووقت لا يمكن الناس فيه دخول الدرب. وفيها غزا سيما خليفة أحمد بن طولون على الثغور الشامية في ثلاثمائة رجل من أهل طرسوس، فخرج عليهم العدو في بلاد هرقلة، وهم نحو من أربعة آلاف، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل المسلمون من العدو خلقا كثيرا، وأصيب من المسلمين جماعة كثيرة وفيها كانت بين إسحاق بن كنداجيق وإسحاق بن أيوب وقعة، هزم فيها ابن كنداجيق إسحاق بن أيوب، فألحقه بنصيبين، وأخذ ما في عسكره، وقتل من أصحابه جماعة كثيرة، وتبعه ابن كنداجيق، وصار إلى نصيبين، فدخلها، وهرب إسحاق بن أيوب منه، واستنجد عليه عيسى ابن الشيخ وهو بآمد وأبا المغراء بن موسى بن زرارة، وهو بأزرن، فتظاهروا على ابن كنداجيق، وبعث السلطان إلى ابن كنداجيق بخلع ولواء على الموصل وديار ربيعة وأرمينية مع يوسف بن يعقوب، فخلع عليه، فبعثوا يطلبون الصلح، ويبذلون له مالا على أن يقرهم على أعمالهم مائتي ألف دينار. وفيها وافى محمد بن أبي الساج مكة، فحاربه ابن المخزومي، فهزمه ابن

ذكر خبر دخول اصحاب قائد الزنج رامهرمز

أبي الساج، واستباح ماله، وذلك يوم التروية من هذه السنة. وفيها شخص كيغلغ إلى الجبل، ورجع بكتمر الى الدينور. ذكر خبر دخول اصحاب قائد الزنج رامهرمز وفيها دخل أصحاب قائد الزنج رامهرمز. ذكر الخبر عن سبب مصيرهم إليها: قد ذكرنا قبل ما كان من أمر محمد بن عبيد الله الكردي وعلي بن أبان صاحب الخبيث، حين تلاقيا على صلح منهما، فذكر أن عليا كان قد احتجن على محمد ضغنا في نفسه، لما كان في سفره ذلك، وكان يرصده بشر، وقد عرف ذلك منه محمد بن عبيد الله، وكان يروم النجاة منه، فكاتب ابن الخبيث المعروف بأنكلاي، وسأله مسألة الخبيث ضم ناحيته إليه لتزول يد علي منه، وهاداه، فزاد ذلك علي بن أبان عليه غيظا وحنقا، فكتب إلى الخبيث يعرفه به، ويصحح عنده أنه مصر على غدره، ويستأذنه في الإيقاع به، وأن يجعل الذريعة إلى ذلك مسألته حمل خراج ناحيته إليه، فأذن له الخبيث في ذلك، فكتب علي إلى محمد بن عبيد الله في حمل المال، فلواه به، ودافعه عنه، فاستعد له علي، وسار إليه، فأوقع برامهرمز، ومحمد بن عبيد الله يومئذ مقيم بها، فلم يكن لمحمد منه امتناع، فهرب ودخل علي رامهرمز، فاستباحها، ولحق محمد بن عبيد الله بأقصى معاقله من أربق والبيلم، وانصرف على غانما، وراع ما كان من ذلك من على محمدا، فكتب يطلب المسألة، فأنهى ذلك علي إلى الخبيث، فكتب إليه يأمره بقبول ذلك، وإرهاق محمد بحمل المال، فحمل محمد بن عبيد الله مائتي ألف درهم، فأنفذها علي إلى الخبيث، وأمسك عن محمد بن عبيد الله وعن اعماله. ذكر الخبر عن وقعه اكراد داربان مع صاحب الزنج وفيها كانت وقعة لأكراد الداربان مع زنج الخبيث، هزموا فيها وفلوا.

ذكر الخبر عن سبب ذلك: ذكر عن محمد بن عبيد الله بن أزارمرد أنه كتب إلى علي بن أبان بعد حمله إليه المال الذي ذكرنا مبلغه قبل، وكف علي عنه وعن أعماله، يسأله المعونة على جماعة من الأكراد كانوا بموضع يقال له الداربان، على أن يجعل له ولأصحابه غنائمهم فكتب علي إلى الخبيث يسأله الإذن له في النهوض لذلك، فكتب إليه أن وجه الخليل بن أبان وبهبوذ بن عبد الوهاب، وأقم أنت، ولا تنفذ جيشك حتى تتوثق من محمد بن عبيد الله برهائن تكون في يدك منه، تأمن بها من غدره فقد وترته، وهو غير مأمون على الطلب بثأره. فكاتب علي محمد بن عبيد الله بما أمره به الخبيث، وسأله الرهائن، فأعطاه محمد ابن عبد الله الأيمان والعهود، ودافعه على الرهائن فدعا عليا الحرص على الغنائم التي أطمعه فيها محمد بن عبيد الله إلى أن أنفذ الجيش، فساروا ومعهم رجال محمد بن عبيد الله، حتى وافوا الموضع الذي قصدوا له، فخرج إليهم أهله، ونشبت الحرب، فظهر الزنج في ابتداء الأمر على الأكراد، ثم صدقهم الأكراد، وخذلهم أصحاب محمد بن عبيد الله، فتصدعوا وانهزموا مفلولين مقهورين، وقد كان محمد بن عبيد الله أعد لهم قوما أمرهم بمعارضتهم إذا انهزموا، فعارضوهم وأوقعوا بهم، ونالوا منهم أسلابا، وأرجلوا طائفة منهم عن دوابهم فأخذوها، فرجعوا بأسوأ حال، فكتب المهلبي إلى الخبيث بما نال أصحابه فكتب إليه يعنفه، ويقول: قد كنت تقدمت إليك إلا تركن الى محمد ابن عبيد الله، وأن تجعل الوثيقة بينك وبينه الرهائن، فتركت أمري، واتبعت هواك، فذاك الذي أرداك وأردى جيشك. وكتب الخبيث إلى محمد بن عبيد الله، أنه لم يخف علي تدبيرك على جيش علي بن أبان، ولن تعدم الجزاء على ما كان منك. فارتاع محمد بن عبيد الله مما ورد به عليه كتاب الخبيث، وكتب إليه بالتضرع والخضوع، ووجه بما كان أصحابه أصابوا من خيل اصحاب على

حيث عورضوا وهم منهزمون، فقال: إني صرت بجميع من معي إلى هؤلاء القوم الذين أوقعوا بالخليل وبهبوذ، فتوعدتهم وأخفتهم، حتى ارتجعت هذه الخيل منهم، ووجهت بها فأظهر الخبيث غضبا، وكتب إليه يتهدده بجيش كثيف يرميه به، فأعاد محمد الكتاب بالتضرع والاستكانة، فأرسل إلى بهبوذ، فضمن له مالا، وضمن لمحمد بن يحيى الكرماني مثل ذلك، ومحمد بن يحيى يومئذ الغالب على علي بن أبان، والمصرف له برأيه، فصار بهبوذ إلى علي بن أبان، وظاهره محمد بن يحيى الكرماني على أمره حتى أصلحا رأي علي في محمد بن عبيد الله وسلاما في قلبه من الغيظ والحنق عليه، ثم مضيا إلى الخبيث ووافق ذلك ورود كتاب محمد بن عبيد الله عليه، فصوبا وصعدا حتى اظهر لهما الخبيث قبول قولهما، والرجوع لمحمد بن عبيد الله إلى ما أحب، وقال: لست قابلا منه بعد هذا إلا أن يخطب لي على منابر أعماله. فانصرف بهبوذ والكرماني بما فارقهما عليه الخبيث، وكتبا به إلى محمد ابن عبيد الله، فأصدر جوابه إلى كل ما أراده الخبيث، وجعل يراوغ عن الدعاء له على المنابر وأقام علي بعد هذا مدة، ثم استعد لمتوث، وسار إليها، فرامها فلم يطقها لحصانتها وكثرة من يدافع عنها من أهلها، فرجع خائبا، فاتخذ سلاليم وآلات ليرقى بها السور، وجمع أصحابه واستعد. وقد كان مسرور البلخي عرف قصد علي متوث، وهو يومئذ مقيم بكور الأهواز. فلما عاود المسير إليها، سار إليه مسرور، فوافاه قبيل غروب الشمس، وهو مقيم عليها، فلما عاين أصحاب علي أوائل خيل مسرور، انهزموا أقبح هزيمة، وتركوا جميع آلاتهم التي كانوا حملوها، وقتل منهم جمع كثير، وانصرف علي بن أبان مدحورا، ولم يلبث بعد ذلك إلا يسيرا حتى تتابعت الأخبار بإقبال أبي أحمد، ثم لم يكن لعلي بعد رجوعه من متوث وقعة حتى فتحت سوق الخميس وطهيثا على أبي أحمد، فانصرف بكتاب ورد عليه من الخبيث يحفزه فيه حفزا شديدا بالمصير إلى عسكره. وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمى الكوفى.

سنه سبع وستين ومائتين

ثم دخلت سنة سبع وستين ومائتين ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث فمما كان فيها من ذلك حبس السلطان محمد بن طاهر بن عبد الله وعدة من أهل بيته بعقب هزيمة أحمد بن عبد الله الخجستاني عمرو بن الليث وتهمة عمرو بن الليث محمد بن طاهر بمكاتبة الخجستاني والحسين بن طاهر، ودعا الحسين والخجستاني لمحمد بن طاهر على منابر خراسان. ذكر خبر غلبه ابى العباس بن الموفق على سليمان بن جامع وفيها غلب أبو العباس بن الموفق على عامة ما كان سليمان بن جامع صاحب قائد الزنج غلب عليه من قرى كور دجلة كعبدسى ونحوها. ذكر الخبر عن سبب غلبة أبي العباس على ذلك، وما كان من أمره وأمر الزنج في تلك الناحية: ذكر محمد بن الحسن أن محمد بن حماد حدثه أن الزنج لما دخلوا واسطا وكان منهم بها ما قد ذكرناه قبل، واتصل الخبر بذلك إلى أبي أحمد بن المتوكل ندب ابنه أبا العباس للشخوص إلى ناحية واسط لحرب الزنج، فخف لذلك أبو العباس فلما حضر خروج أبي العباس ركب أبو أحمد إلى بستان موسى الهادي في شهر ربيع الآخر سنة ست وستين ومائتين، فعرض أصحاب أبي العباس، ووقف على عدتهم، فكان جميع الفرسان والرجالة عشرة آلاف رجل في أحسن زي وأجمل هيئة وأكمل عدة، ومعهم الشذا والسميريات والمعامر للرجالة، كل ذلك قد أحكمت صنعته فنهض أبو العباس من بستان الهادي وركب أبو أحمد مشيعا له حتى نزل الفرك، ثم انصرف. وأقام أبو العباس بالفرك أياما، حتى تكاملت عدده، وتلاحق أصحابه،

ثم رحل إلى المدائن، وأقام بها أيضا، ثم رحل إلى دير العاقول. قال محمد بن حماد: فحدثني أخي إسحاق بن حماد وابراهيم بن محمد ابن إسماعيل الهاشمي المعروف ببريه، ومحمد بن شعيب الاشتيام، في جماعة كثيرة ممن صحب أبا العباس في سفره- دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي حَدِيثِ بَعْضٍ- قَالُوا: لما نزل أبو العباس دير العاقول، ورد عليه كتاب نصير المعروف بأبي حمزة صاحب الشذا والسميريات، وقد كان أمضاه على مقدمته، يعلمه فيه أن سليمان بن جامع قد وافى في خيل ورجالة وشذوات وسميريات، والجبائي يقدمه، حتى نزل الجزيرة التي بحضرة بردودا، وأن سليمان بن موسى الشعراني قد وافى نهر أبان برجالة وفرسان وسميريات، فرحل أبو العباس حتى وافى جرجرايا، ثم فم الصلح، ثم ركب الظهر، فسار حتى وافى الصلح، ووجه طلائعه ليعرف الخبر، فأتاه منهم من أخبره بموافاة القوم وجمعهم وجيشهم، وأن أولهم بالصلح وآخرهم ببستان موسى بن بغا، أسفل واسط فلما عرف ذلك عدل عن سنن الطريق، واعترض في مسيره، ولقي أصحابه أوائل القوم، فتطاردوا لهم حتى طمعوا واغتروا، فأمعنوا في اتباعهم، وجعلوا يقولون لهم: اطلبوا أميرا للحرب، فإن أميركم قد شغل نفسه بالصيد فلما قربوا من أبي العباس بالصلح، خرج عليهم فيمن معه من الخيل والرجل، وأمر فصيح بنصير: إلى أين تتأخر عن هؤلاء الأكلب! ارجع إليهم، فرجع نصير إليهم. وركب أبو العباس سميرية، ومعه محمد بن شعيب الاشتيام، وحف بهم أصحابه من جميع جهاتهم، فانهزموا، ومنح الله أبا العباس وأصحابه أكتافهم، يقتلونهم ويطردونهم، حتى وافوا قرية عبد الله، وهي على ستة فراسخ من الموضع الذي لقوهم فيه، وأخذوا منهم خمس شذوات وعدة سميريات، واستأمن منهم قوم، وأسر منهم أسرى، وغرق ما أدرك من سفنهم، فكان ذلك أول الفتح على العباس بن ابى احمد

ولما انقضت الحرب في هذا اليوم، أشار على أبي العباس قواده وأولياؤه، أن يجعل معسكره بالموضع الذي كان انتهى إليه من الصلح، إشفاقا عليه من مقاربة القوم، فأبى إلا نزول واسط. ولما انهزم سليمان بن جامع ومن معه، وضرب الله وجوههم، انهزم سليمان بن موسى الشعراني عن نهر أبان، حتى وافى سوق الخميس، ولحق سليمان بن جامع بنهر الأمير، وقد كان القوم حين لقوا أبا العباس أجالوا الرأي بينهم، فقالوا: هذا فتى حدث، لم تطل ممارسته الحروب وتدربه بها، فالرأي لنا أن نرميه بحدنا كله، ونجتهد في أول لقية نلقاه في إزالته، فلعل ذلك أن يروعه، فيكون سببا لانصرافه عنا ففعلوا ذلك، وحشدوا واجتهدوا، فأوقع الله بهم بأسه ونقمته وركب أبو العباس من غد يوم الوقعه، حتى دخل واسطا في أحسن زي، وكان يوم جمعة، فأقام حتى صلى بها صلاة الجمعة، واستأمن إليه خلق كثير، ثم انحدر إلى العمر- وهو على فرسخ من واسط- فقدم فيه عسكره، وقال: اجعل معسكري أسفل واسط، ليأمن من فوقه الزنج وقد كان نصير المعروف بأبي حمزة والشاه بن ميكال أشارا عليه أن يجعل مقامه فوق واسط فامتنع من ذلك، وقال لهما: لست نازلا إلا العمر، فانزلا أنتما في فوهة بردودا وأعرض أبو العباس عن مشاورة أصحابه واستماع شيء من آرائهم، فنزل العمر، وأخذ في بناء الشذوات، جعل يراوح القوم القتال ويغاديهم، وقد رتب خاصة غلمانه في سميريات فجعل في كل سميرية اثنين منهم ثم أن سليمان استعد وحشد وجمع وفرق أصحابه فجعلهم في ثلاثة أوجه: فرقة أتت من نهر أبان، وفرقة من برتمرتا، وفرقة من بردودا، فلقيهم أبو العباس، فلم يلبثوا أن انهزموا، فخلفت طائفة منهم بسوق الخميس وطائفة بمازروان، وأخذ قوم منهم في برتمرتا وآخرون أخذوا الماديان، وقوم منهم اعتصموا للقوم الذين سلكوا الماديان، فلم يرجع عنهم حتى وافى نهر برمساور، ثم انصرف، فجعل يقف على القرى والمسالك، ومعه الأدلاء، حتى وافى عسكره، فأقام به مريحا نفسه وأصحابه ثم أتاه مخبر فأخبره ان

الزنج قد جمعوا واستعدوا لكبس عسكره، وأنهم على إتيان عسكره من ثلاثة أوجه، وأنهم قالوا: أنه حدث غر يغر بنفسه، وأجمع رأيهم على تكمين الكمناء والمصير إليه من الجهات الثلاث التي ذكرنا، فحذر لذلك، واستعد له، وأقبلوا إليه وقد كمنوا زهاء عشرة آلاف في برتمرتا ونحوا من هذه العدة في قس هثا وقدموا عشرين سميرية إلى العسكر ليغتر بها أهله، ويجيزوا المواضع التي فيها كمناؤهم، فمنع أبو العباس الناس من اتباعهم، فلما علموا أن كيدهم لم ينفذ، خرج الجبائي وسليمان في الشذوات والسميريات، وقد كان أبو العباس أحسن تعبئة أصحابه، فأمر نصيرا المعروف بأبي حمزة أن يبرز للقوم في شذواته، ونزل أبو العباس عن فرس كان ركبه، ودعا بشذاة من شذواته قد كان سماها الغزال، وأمر اشتيامه محمد بن شعيب باختيار الجذافين لهذه الشذاة، وركبها، واختار من خاصة أصحابه وغلمانه جماعة دفع إليهم الرماح، وأمر أصحاب الخيل بالمسير بإزائه على شاطئ النهر، وقال لهم: لا تدعوا المسير ما أمكنكم إلى أن تقطعكم الأنهار، وأمر بتعبير بعض الدواب التي كانت ببردودا، ونشبت الحرب بين الفريقين، فكانت معركة القتال من حد قرية الرمل إلى الرصافة، فكانت الهزيمة على الزنج، وحاز أصحاب أبي العباس أربع عشرة شذاة، وأفلت سليمان والجبائي في ذلك اليوم بعد أن أشفيا على الهلاك راجلين، وأخذت دوابهما بحلاها وآلتها، ومضى الجيش أجمع لا ينثني أحد منهم حتى وافوا طهيثا، وأسلموا ما كان معهم من أثاث وآلة، ورجع أبو العباس، وأقام بمعسكره في العمر، وأمر بإصلاح ما أخذ منهم من الشذا والسميريات وترتيب الرجال فيها، وأقام الزنج بعد ذلك عشرين يوما، لا يظهر منهم أحد وكان الجبائي يجيء في الطلائع في كل ثلاثة أيام وينصرف، وحفر آبارا فوق نهر سنداد، وصير فيها سفافيد حديد، وغشاها بالبواري، وأخفى مواضعها، وجعلها على سنن مسير الخيل ليتهور فيها المجتازون بها، وكان يوافي طرف العسكر متعرضا لأهله، فتخرج الخيل طالبة له، فجاء في بعض أيامه، وطلبته الخيل كما كانت تطلبه، فقطر فرس رجل من قواد الفراغنة في بعض تلك الآبار، فوقف أصحاب أبي العباس بما ناله من

ذلك على ما دبر الجبائي، فحذروا ذلك، وتنكبوا سلوك ذلك الطريق، وألح الزنج في مغاداة العسكر في كل يوم للحرب، وعسكروا بنهر الأمير في جمع كثير، فلما لم يجد ذلك عليهم أمسكوا عن الحرب قدر شهر. وكتب سليمان إلى صاحب الزنج يسأله امداده بسميريات، لكل واحده منهن اربعون مجدافا، فوافاه من ذلك في مقدار عشرين يوما أربعون سميرية، في كل سميرية مقاتلان، ومع ملاحيها السيوف والرماح والتراس، وجعل الجبائي موقفه حيال عسكر أبي العباس، وعاودوا التعرض للحرب في كل يوم، فإذا خرج إليهم أصحاب أبي العباس انهزموا عنهم، ولم يثبتوا لهم، وخلال ذلك ما تأتي طلائعهم، فتقطع القناطر، وترمي ما ظهر لها من الخيل بالنشاب، وتضرم ما وجدت في النوبة من المراكب التي مع نصير بالنار، فكانوا كذلك قدر شهرين. ثم رأى أبو العباس أن يكمن لهم كمينا في قرية الرمل، ففعل ذلك، وقدم لهم سميريات أمام الجيش ليطمعوا فيها، وأمر أبو العباس فأعدت له سميرية ولزيرك سميرية وحمل جماعة من غلمانه الذين اختارهم، وعرفهم بالنجدة في السميريات، فحمل بدرا ومؤنسا في سميرية ورشيقا الحجاجي ويمنا في سميرية وخفيفا ويسرا في سميرية، ونذيرا ووصيفا في سميرية، وأعد خمس عشرة سميرية، وجعل في كل سميرية مقاتلين، وجعلها أمام الجيش. قال محمد بن شعيب الاشتيام: وكنت فيمن تقدم يومئذ، فأخذ الزنج من السميريات المتقدمة عدة، وأسروا أسرى، فانطلقت مسرعا، فناديت بصوت عال: قد أخذ القوم سميرياتنا فسمع أبو العباس صوتي وهو يتغدى، فنهض إلى سميريته التي كانت أعدت له، وتقدم العسكر، ولم ينتظر لحاق أصحابه، فتبعه منهم من خف لذلك قال: فأدركنا الزنج، فلما رأونا قَذَفَ* الله الرعب فِي قُلُوبِهِمُ، * فألقوا

أنفسهم في الماء، وانهزموا فتخلصنا أصحابنا، وحوينا يومئذ إحدى وثلاثين سميرية من سميريات الزنج، وأفلت الجبائي في ثلاث سميريات، ورمى أبو العباس يومئذ عن قوس كانت في يده حتى دميت إبهامه، فانصرف، ولو أنا جددنا في طلب الجبائي في ذلك اليوم ظننت أنا أدركناه، فمنعنا من ذلك شدة اللغوب ورجع أبو العباس وأكثر أصحابه بمواضعهم من فوهة بردودا لم يرم أحد منهم، فلما وافى عسكره أمر لمن كان صحبه بالأطواق والخلع والأسورة، وأمر بإصلاح السميريات المأخوذة من الزنج، وأمر أبا حمزة أن يجعل مقامه بما معه من الشذا في دجلة بحذاء خسرسابور. ثم إن أبا العباس رأى أن يتوغل في مازروان حتى يصير إلى القرية المعروفة بالحجاجية، وينتهي إلى نهر الأمير، ويقف على تلك المواضع، ويتعرف الطرق التي تجتاز فيها سميريات الزنج، وأمر نصيرا فقدمه بما معه من الشذا والسميريات، فسار نصير لذلك، فترك طريق مازروان، وقصد ناحية نهر الأمير، فدعا أبو العباس سميريته، فركبها ومعه محمد بن شعيب، ودخل مازروان وهو يرى أن نصيرا أمامه، وقال لمحمد: قدمني في النهر لأعرف خبر نصير وأمر الشذا والسميريات بالمصير خلفه. قال محمد بن شعيب: فمضينا حتى قاربنا الحجاجية، فعرضت لنا في النهر صلغة فيها عشرة زنوج، فأسرعنا إليها، فألقى الزنوج أنفسهم في الماء، وصارت الصلغة في أيدينا، فإذا هي مملوءة شعيرا، وأدركنا فيها زنجيا فأخذناه، فسألناه عن خبر نصير وشذواته فقال: ما دخل هذا النهر شيء من الشذا والسميريات فأصابتنا حيرة، وذهب الزنج الذين أفلتوا من أيدينا فأعلموا أصحابهم بمكاننا، وعرض للملاحين الذين كانوا معنا غنم فخرجوا لانتهابها. قال محمد بن شعيب: وبقيت مع أبي العباس وحدي، فلم نلبث أن وافانا قائد من قواد الزنج، يقال له منتاب، في جماعة من الزنج من أحد جانبي

النهر، ووافانا من الجانب الآخر عشرة من الزنج، فلما رأينا ذلك خرج أبو العباس، ومعه قوسه وأسهمه، وخرجت برمح كان في يدي، وجعلت أحميه بالرمح وهو يرمي الزنج، فجرح منهم زنجيين، وجعلوا يثوبون ويكثرون، وأدركنا زيرك في الشذا ومعه الغلمان، وقد كان أحاط بنا زهاء ألفي زنجي من جانبي مازروان، وكفى الله امرهم، وردهم بذله وصغار، ورجع أبو العباس إلى عسكره، وقد غنم أصحابه من الغنم والبقر والجواميس شيئا كثيرا، وأمر أبو العباس بثلاثة من الملاحين الذين كانوا معه، فتركوه لانتهاب الغنم، فضربت أعناقهم، وأمر لمن بقي بالأرزاق لشهر، وأمر بالنداء في الملاحين الا يبرح احد من السمير يأت في وقت الحرب، فمن فعل ذلك فقد حل دمه. وانهزم الزنج أجمعون حتى لحقوا بطهيثا، وأقام أبو العباس بمعسكره في العمر، وقد بث طلائعه في جميع النواحي فمكث بذلك حينا، وجمع سليمان بن جامع عسكره وأصحابه، وتحصن بطهيثا، وفعل الشعراني مثل ذلك بسوق الخميس، وكان بالصينية لهم جيش كثيف أيضا، يقود أهله رجل منهم يقال له نصر السندي، وجعلوا يخربون كل ما وجدوا إلى إخرابه سبيلا، ويحملون ما قدروا على حمله من الغلات، ويعمرون مواضعهم التي هم مقيمون بها فوجه أبو العباس جماعة من قواده، منهم الشاه وكمشجور والفضل بن موسى بن بغا، وأخوه محمد على الخيل إلى ناحية الصينية، وركب أبو العباس ومعه نصير وزيرك في الشذا والسميريات، وأمر بخيل فعبر بها من برمساور إلى طريق الظهر. وسار الجيش حتى صار إلى الهرث، فأمر أبو العباس بتعبير الدواب إلى الهرث، فعبرت، فصارت إلى الجانب الغربي من دجلة، وأمر بأن يسلك بها طريق دير العمال فلما أبصر الزنج الخيل دخلتهم منها رهبة شديدة، فلجئوا إلى الماء والسفن، ولم يلبثوا أن وافتهم الشذا والسميريات، فلم يجدوا ملجأ واستسلموا، فقتل منهم فريق، وأسر فريق، وألقى بعضهم نفسه في الماء فأخذ أصحاب أبي العباس سفنهم، وهي مملوءة أرزا، فصارت في

أيديهم، وأخذوا سميرية رئيسهم المعروف بنصر السندي، وانهزم الباقون، فصارت طائفة منهم إلى طهيثا وطائفة إلى سوق الخميس، ورجع أبو العباس غانما إلى عسكره، وقد فتح الصينية وأجلى الزنج عنها قال محمد بن شعيب: وبينا نحن في حرب الزنج بالصينية إذ عرض لأبي العباس كركي طائر، فرماه بسهم، فشكه فسقط بين أيدي الزنج، فأخذوه، فلما رأوا موضع السهم منه، وعلموا أنه سهم أبي العباس زاد ذلك في رعبهم، فكان سببا لانهزامهم يومئذ. وقد ذكر عمن لا يتهم أن خبر السهم الذي رمى به أبو العباس الكركي في غير هذا اليوم، وانتهى إلى أبي العباس أن بعبدسى جيشا عظيما يرأسهم ثابت بن أبي دلف ولؤلؤ الزنجيان، فصار أبو العباس إلى عبدسي قاصدا للإيقاع بهما ومن معهما في خيل جريدة، قد انتخبت من جلد غلمانه وحماه اصحابه، فوافى الموضع الذي فيه جمعهم في السحر، فأوقع بهم وقعة غليظة، قتل فيها من أبطالهم، وجلد من رجالهم خلق كثير، وانهزموا وظفر أبو العباس برئيسهم ثابت بن أبي دلف، فمن عليه واستبقاه، وضمه إلى بعض قواده، وأصاب لؤلؤا سهم فهلك منه، واستنقذ يومئذ من النساء اللواتي كن في أيدي الزنج خلق كثير، فأمر أبو العباس بإطلاقهن وردهن إلى أهلهن، وأخذ كل ما كان الزنج جمعوه. ثم رجع أبو العباس إلى معسكره، فأمر أصحابه أن يريحوا أنفسهم ليسير بهم إلى سوق الخميس، ودعا نصيرا فأمره بتعبئة أصحابه للمسير إليها، فقال له نصير: إن نهر سوق الخميس ضيق، فأقم أنت وائذن لي في المسير إليه حتى أعاينه، فأبى أن يدعه حتى يعاينه، ويقف على علم ما يحتاج إليه منه قبل موافاة أبيه أبي أحمد، وذلك عند ورود كتاب أبي أحمد عليه بعزمه على الانحدار

قال محمد بن شعيب: فدعاني أبو العباس، فقال لي: أنه لا بد لي من دخول سوق الخميس، فقلت: إن كنت لا بد فاعلا ما تذكر فلا تكثر عدد من تحمل معك في الشذا، ولا تزد على ثلاثة عشر غلاما عشرة رماة وثلاثة في أيديهم الرماح، فإني أكره الكثرة في الشذا مع ضيق النهر، فاستعد أبو العباس لذلك، وسار إليه ونصير بين يديه حتى وافى فم برمساور، فقال له نصير: قدمني أمامك، ففعل ذلك، فدخل نصير في خمس عشرة شذاة. واستأذنه رجل من قواد الموالي يقال له موسى دالجويه في التقدم بين يديه، فأذن له، فسار وسار أبو العباس حتى انتهى به مسيره إلى بسامي، ثم إلى فوهة براطق ونهر الرق والنهر الذي ينفذ إلى رواطا وعبدسي، وهذه الأنهار الثلاثة تؤدي إلى ثلاث طرق مفترقة، فأخذ نصير في طريق نهر براطق وهو النهر المؤدي إلى مدينة سليمان بن موسى الشعراني التي سماها المنيعة بسوق الخميس. وأقام أبو العباس على فوهة هذا النهر، وغاب عنه نصير حتى خفي عنه خبره. وخرج علينا في ذلك الموضع من الزنج خلق كثير، فمنعونا من دخول النهر، وحالوا بيننا وبين الانتهاء إلى السور- وبين هذا الموضع الذي انتهينا إليه والسور المحيط بمدينة الشعراني مقدار فرسخين- فأقاموا هناك يحاربوننا، واشتدت الحرب بيننا وبينهم وهم على الأرض، ونحن في السفن من أول النهار إلى وقت الظهر، وخفي علينا خبر نصير، وجعل الزنج يهتفون بنا: قد أخذنا نصيرا ماذا تصنعون؟ ونحن تابعوكم حيثما ذهبتم فاغتم أبو العباس لما سمع منهم هذا القول، فأستاذنه محمد بن شعيب في المسير ليتعرف خبر نصير، فأذن له، فمضى في سميرية بعشرين جذافا حتى وافى نصيرا أبا حمزة، وقد قرب من سكر كان الفسقة سكروه، ووجده قد أضرم النار فيه وفي مدينتهم، وحارب حربا شديدا ورزق الظفر بهم، وكان الزنج ظفروا ببعض شذوات أبي حمزة، فقاتل حتى انتزع ما كانوا أخذوا من أيديهم، فرجع محمد بن شعيب إلى أبي العباس، فبشره بسلامة نصير ومن معه، وأخبره خبره فسر بذلك وأسر نصير يومئذ من الزنج جماعة كثيرة، ورجع حتى وافى أبا العباس بالموضع الذي كان واقفا به فلما رجع نصير قال أبو العباس: لست زائلا عن موضعي

هذا حتى أراوحهم القتال في عشي هذا اليوم، ففعل ذلك، وأمر بإظهار شذاة واحدة من الشذوات التي كانت معه لهم، وأخفى باقيها عنهم، فطمعوا في الشذاة التي رأوها، فتبعوها، وجعل من كان فيها يسيرون سيرا ضعيفا حتى أدركوها، فعلقوا بسكانها، وجعل الملاحون يسيرون حتى وافوا المكان الذي كانت فيه الشذوات المكمنة. وقد كان أبو العباس ركب سميرية، وجعل الشذا خلفه، فسار نحو الشذاة التي علق بها الزنج لما أبصرها، فأدركها، والزنج ممسكون بسكانها يحيطون بها من جوانبها، يرمون بالنشاب والآجر، وعلى أبي العباس كيز تحته درع. قال محمد: فنزعنا يومئذ من كيز أبي العباس خمسا وعشرين نشابة، ونزعت من لعباده كانت علي أربعين نشابة، ومن لبابيد سائر الملاحين الخمس والعشرين والثلاثين وأظفر الله أبا العباس بست سميريات من سميريات الزنج، وتخلص الشذا من أيديهم، وانهزموا، ومال أبو العباس واصحابه نحو الشط، وخرج من الزنج المقاتلة بالسيوف والتراس، فانهزموا لا يلوون على شيء للرهبة التي وصلت إلى قلوبهم، ورجع أبو العباس سالما غانما، فخلع على الملاحين ووصلهم، ثم صار إلى معسكره بالعمر، فأقام به إلى أن وافى الموفق. ولإحدى عشرة ليلة خلت من صفر منها، عسكر أبو أحمد بن المتوكل بالفرك، وخرج من مدينة السلام يريد الشخوص إلى صاحب الزنج لحربه، وذلك أنه- فيما ذكر- كان اتصل به أن صاحب الزنج كتب إلى صاحبه على ابن أبان المهلبي يأمره بالمصير بجميع من معه إلى ناحية سليمان بن جامع، ليجتمعا على حرب أبي العباس بن أبي أحمد، وأقام أبو أحمد بالفرك أياما، حتى تلاحق به أصحابه ومن أراد النهوض به إليه، وقد أعد قبل ذلك الشذا والسميريات والمعابر والسفن، ثم رحل من الفرك- فيما ذكر- يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول في مواليه وغلمانه وفرسانه ورجالته فصار إلى رومية المدائن، ثم صار منها، فنزل السيب ثم دير العاقول ثم جرجرايا، ثم قنى، ثم نزل جبل، ثم نزل الصلح، ثم نزل على فرسخ من واسط، فأقام

هنالك يومه وليلته، فتلقاه ابنه أبو العباس به في جريدة خيل فيها وجوه قواده وجنده، فسأله أبو أحمد عن خبر أصحابه، فوصف له بلاءهم ونصحهم، فأمر أبو أحمد له ولهم بخلع فخلعت عليهم، وانصرف أبو العباس إلى معسكره بالعمر، فأقام يومه فلما كانت صبيحة الغد رحل أبو أحمد منحدرا في الماء، وتلقاه ابنه أبو العباس بجميع من معه من الجند في هيئة الحرب والزي الذي كانوا يلقون به أصحاب الخائن، فجعل يسير أمامه حتى وافى عسكره بالنهر المعروف بشيرزاد، فنزل به أبو أحمد، ثم رحل منه يوم الخميس لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأول، فنزل على النهر المعروف بسنداد بإزاء القرية المعروفة بعبد الله، وأمر ابنه أبا العباس، فنزل شرقي دجلة بإزاء فوهة بردودا، وولاه مقدمته، ووضع العطاء فأعطى الجيش، ثم أمر ابنه بالمسير أمامه بما معه من آله الحرب الى فوهه برمساور فرحل أبو العباس في المختارين من قواده ورجاله، منهم زيرك التركي صاحب مقدمته، ونصير المعروف بأبي حمزة صاحب الشذا والسميريات. ورحل أبو أحمد بعد ذلك في الفرسان والرجالة المنتخبين، وخلف سواد عسكره وكثيرا من الفرسان والرجالة بمعسكره، فتلقاه ابنه أبو العباس بأسرى ورءوس وقتلى قتلهم من أصحاب الشعراني، وذلك أنه وافى عسكره الشعراني في ذلك اليوم قبل مجيء أبيه أبي أحمد، فأوقع به وأصحابه، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وأسر منهم جماعة، فأمر أبو أحمد بضرب أعناق الأسرى فضربت، ونزل ابو احمد فوهه برمساور، وأقام به يومين، ثم رحل يريد المدينة التي سماها صاحب الزنج المنيعة من سوق الخميس في يوم الثلاثاء لثماني ليال خلون من شهر ربيع الآخر من هذه السنة بمن معه من الجيش وما معه من آلة الحرب، وسلك في السفن في برمساور، وجعلت الخيل تسير بازائه شرقى برمساور، حتى حاذى النهر المعروف ببراطق الذي يوصل إلى مدينة الشعراني. وإنما بدأ أبو أحمد بحرب سليمان بن موسى الشعراني قبل حرب سليمان بن جامع من أجل أن الشعراني كان وراءه، فخاف إن بدأ بابن جامع ان يأتيه

الشعراني من ورائه، ويشغله عمن هو أمامه، فقصده من أجل ذلك، وأمر بتعبير الخيل وتصييرها على جانبي النهر المعروف ببراطق، وأمر ابنه أبا العباس بالتقدم في الشذا والسميريات، واتبعه أبو أحمد في الشذا بعامة الجيش. فلما بصر سليمان ومن معه من الزنج وغيرهم بقصد الخيل والرجالة سائرين على جنبتي النهر ومسير الشذا والسميريات في النهر، وقد لقيهم أبو العباس قبل ذلك، فحاربوه حربا ضعيفة، انهزموا وتفرقوا. وعلا أصحاب أبي العباس السور، ووضعوا السيوف فيمن لقيهم وتفرق الزنج وأتباعهم، ودخل أصحاب أبي العباس المدينة، فقتلوا فيها خلقا كثيرا، وأسروا بشرا كثيرا، وحووا ما كان في المدينة، وهرب الشعراني ومن أفلت منهم معه، وأتبعهم أصحاب أبي أحمد حتى وافوا بهم البطائح، فغرق منهم خلق كثير، ونجا الباقون إلى الآجام، وأمر أبو أحمد أصحابه بالرجوع إلى معسكرهم قبل غروب الشمس من يوم الثلاثاء، وانصرف وقد استنقذ من المسلمات زهاء خمسة آلاف امرأة، سوى من ظفر به من الزنجيات اللواتي كن في سوق الخميس فأمر أبو أحمد بحياطة النساء جميعا، وحملهن إلى واسط ليدفعن إلى أوليائهن وبات أبو أحمد بحيال النهر المعروف ببراطق، ثم باكر المدينة من غد، فأذن للناس في حياطة ما فيها من أمتعة الزنج، وأخذ ما كان فيها أجمع، وأمر بهدم سورها وطم خندقها وإحراق ما كان بقي فيها من السفن، ورحل إلى معسكره ببرمساور بالظفر بما بالرساتيق والقرى التي كانت في يد الشعراني وأصحابه من غلات الحنطة والشعير والأرز، فأمر ببيع ذلك، وصرف ثمنه في أعطيات مواليه وغلمانه وجنده وأهل عسكره. وانهزم سليمان الشعراني وأخواه ومن أفلت، وسلب الشعراني ولده وما كان بيده من مال، ولحق بالمذار، فكتب إلى الخائن بخبره وما نزل به واعتصامه بالمذار. فذكر محمد بن الحسن، أن محمد بن هشام المعروف بأبي واثلة الكرماني

قال: كنت بين يدي الخائن وهو يتحدث، إذ ورد عليه كتاب سليمان الشعراني بخبر الوقعة وما نزل به، وانهزامه إلى المذار، فما كان إلا أن فض الكتاب، فوقعت عينه على موضع الهزيمة حتى انحل وكاء بطنه، ثم نهض لحاجته، ثم عاد فلما استوى به مجلسه أخذ الكتاب وعاد يقرؤه، فلما انتهى إلى الموضع الذي أنهضه، نهض حتى فعل ذلك مرارا قال: فلم أشك في عظم المصيبة، وكرهت أن أسأله، فلما طال الأمر تجاسرت، فقلت: أليس هذا كتاب سليمان بن موسى؟ قال: نعم، ورد بقاصمة الظهر، أن الذين أناخوا عليه أوقعوا به وقعة لم تبق منه ولم تذر، فكتب كتابه هذا وهو بالمذار، ولم يسلم بشيء غير نفسه قال: فأكبرت ذلك، والله يعلم مكروه ما أخفي من السرور الذي وصل إلى قلبي، وأمسك مبشرا بدنو الفرج وصبر الخائن على ما وصل إليه، وجعل يظهر الجلد، وكتب إلى سليمان بن جامع يحذره مثل الذي نزل بالشعراني، ويأمره بالتيقظ في أمره وحفظ ما قبله. وذكر محمد بن الحسن أن محمد بن حماد قال: أقام الموفق بعسكره ببرمساور يومين، لتعرف أخبار الشعراني وسليمان بن جامع والوقوف على مستقره، فأتاه بعض من كان وجهه لذلك، فأخبره أنه معسكر بالقرية المعروفة بالحوانيت. فأمر عند ذلك بتعبير الخيل إلى أرض كسكر في غربي دجلة، وسار على الظهر، وأمر بالشذا وسفن الرجالة فحدرت إلى الكثيثة، وخلف سواد عسكره وجمعا كثيرا من الرجال والكراع بفوهه برمساور، وأمر بغراج بالمقام هناك، فوافى أبو أحمد الصينية، وأمر أبا العباس بالمصير في الشذا والسميريات إلى الحوانيت مخفا لتعرف حقيقة خبر سليمان بن جامع في مقامه بها، وإن وجد منه غرة أوقع به فسار أبو العباس في عشي ذلك اليوم إلى الحوانيت، فلم يلف سليمان هنالك، وألفى من قواد السودان المشهورين بالبأس والنجدة شبلا وأبا النداء وهما من قدماء أصحاب الفاسق الذين كان استتبعهم في بدء مخرجه. وكان سليمان بن جامع خلف هذين القائدين في موضعهما لحفظ غلات كثيرة كانت هناك، فحاربهما أبو العباس، وأدخل الشذا موضعا ضيقا من النهر، فقتل من رجالهما، وجرح بالسهام خلقا كثيرا- وكانوا أجلد رجال سليمان بن

جامع ونخبتهم الذين يعتمد عليهم- ودامت الحرب بينهم إلى أن حجز الليل بين الفريقين. قال: وقال محمد بن حماد: في هذا اليوم كان من أمر أبي العباس في الكركي الذي ذكره محمد بن شعيب في يوم الصينية، وقد مر به سانحا، قال: واستامن في هذا اليوم رجل إلى أبي العباس، فسأله عن الموضع الذي فيه سليمان بن جامع، فأخبره أنه مقيم بطهيثا، فانصرف أبو العباس حينئذ إلى أبيه بحقيقة مقام سليمان بمدينته التي سماها المنصورة، وهي في الموضع الذي يعرف بطهيثا، وأن معه هنالك جميع أصحابه غير شبل وأبي النداء، فإنهما بموضعهما من الحوانيت لما أمروا بحفظه فلما عرف ذلك أبو أحمد، أمر بالرحيل إلى بردودا، إذ كان المسلك إلى طهيثا منه، وتقدم أبو العباس في الشذا والسميريات، وامر من خلفه ببرمساور أن يصيروا جميعا إلى بردودا، ورحل أبو أحمد في غد ذلك اليوم الذي أمر أبا العباس فيه بما أمره به إلى بردودا، وسار إليها يومين، فوافاها يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر سنة سبع وستين ومائتين، فأقام بها يصلح ما يحتاج إلى إصلاحه من أمر عسكره، وأمر بوضع العطاء وإصلاح سفن الجسور ليحدرها معه، واستكثر من العمال والآلات التي تسد بها الأنهار، وتصلح بها الطرق للخيل، وخلف ببردودا بغراج التركي، وقد كان لما عزم على الرجوع إلى بردودا أرسل إلى غلام له يقال له جعلان وكان مخلفا مع بغراج في عسكره، فأمر بقلع المضارب وتقديمها مع الدواب المخلفة قبله والسلاح إلى بردودا، فأظهر جعلان ما أمر به في وقت العشاء الآخرة، ونادى في العسكر والناس غارون، فألقي في قلوبهم أن ذلك لهزيمة كانت فخرجوا على وجوههم، وترك الناس أسواقهم وأمتعتهم، ظنا منهم أن العدو قد أظلهم، ولم يلو منهم أحد على أحد، وقصدوا قصد الرجوع إلى عسكرهم ببردودا، وساروا في سواد ليلتهم تلك، ثم ظهر لهم بعد ذلك حقيقة الخبر، فسكنوا واطمأنوا

ذكر الخبر عن سبب دخول ابى احمد واصحابه طهيثا ومقتل الجبائي

وفي صفر من هذه السنة كان بين أصحاب كيغلغ التركي وأصحاب أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف وقعة بناحية قرماسين، فهزمهم كيغلغ، وصار إلى همذان، فوافاه أحمد بن عبد العزيز فيمن قد اجتمع من أصحابه في صفر، فحاربه فانهزم كيغلغ، وانحاز إلى الصيمرة. وفي هذه السنة لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر دخل أبو أحمد وأصحابه طهيثا، وأخرجوا منها سليمان بن جامع، وقتل بها أحمد بن مهدي الجبائي. ذكر الخبر عن سبب دخول أبي أحمد وأصحابه طهيثا ومقتل الجبائي ذكر محمد بن الحسن أن محمد بن حماد حدثه أن أبا أحمد لما أعطى أصحابه ببردودا، فأصلح ما أراد إصلاحه من عدة حرب من قصد لحربه في مخرجه، سار متوجها إلى طهيثا، وذلك يوم الأحد لعشر بقين من شهر ربيع الآخر سنة سبع وستين ومائتين، وكان مسيره على الظهر في خيله. وحدرت السفن بما فيها من الرجالة والسلاح والآلات، وحدرت المعابر والشذوات والسميريات، إلى أن وافى بها النهر المعروف بمهروذ بحضرة القرية المعروفة بقرية الجوزية، فنزل أبو أحمد هناك، وأمر بعقد الجسر على النهر المعروف بمهروذ، وأقام يومه وليلته ثم غدا فعبر الفرسان والأثقال بين يديه على الجسر، ثم عبر بعد ذلك، وأمر القواد والناس بالمسير إلى طهيثا، فصاروا إلى الموضع الذي ارتضاه أبو أحمد لنفسه منزلا على ميلين من مدينة سليمان بن جامع، فأقام هنالك بإزاء أصحاب الخائن يوم الاثنين والثلاثاء لثمان بقين من شهر ربيع الآخر، ومطر السماء مطرا جودا، واشتد البرد أيام مقامه هنالك، فشغل بالمطر والبرد عن الحرب، فلم يحارب هذه الأيام وبقية الجمعة فلما كان عشية يوم الجمعة ركب أبو أحمد في نفر من قواده ومواليه لارتياد موضع لمجال الخيل، فانتهى إلى قريب من سور

سليمان بن جامع، فتلقاه منهم جمع كثير وخرج عليه كمناء من مواضع شتى، ونشبت الحرب واشتدت، فترجل جماعة من الفرسان، ودافعوا حتى خرجوا عن المضايق التي كانوا وغلوها، وأسر من غلمان أبي أحمد وقواده غلام يقال له وصيف علمدار وعدة من قواد زيرك، ورمى أبو العباس أحمد بن مهدي الجبائي بسهم في إحدى منخريه، فخرق كل شيء وصل إليه حتى خالط دماغه، فخر صريعا، وحمل إلى عسكر الخائن وهو لمآبه، فعظمت المصيبة به عليه، إذ كان أعظم أصحابه غنى عنه، وأشدهم بصيرة في طاعته، فمكث الجبائي يعالج أياما، ثم هلك، فاشتد جزع الخائن عليه، فصار إليه، فولي غسله وتكفينه والصلاة عليه والوقوف على قبره إلى أن دفن، ثم أقبل على أصحابه فوعظهم، وذكر موت الجبائي وكانت وفاته في ليلة ذات رعود وبروق وقال فيما ذكر: علمت وقت قبض روحه قبل وصول الخبر إليه بما سمع من زجل الملائكة بالدعاء له والترحم عليه. قال محمد بن الحسن: فانصرف إلي أبو واثلة- وكان فيمن شهده- فجعل يعجبني مما سمع، وجاءني محمد بن سمعان فأخبرني بمثل خبر محمد ابن هشام، وانصرف الخائن من دفن الجبائي منكسرا عليه الكآبة. قال محمد بن الحسن: وحدثني محمد بن حماد أن أبا أحمد انصرف من الوقعة التي كانت عشية يوم الجمعة لأربع ليال بقين من شهر ربيع الآخر، وكان خبره قد انتهى إلى عسكره، فنهض إليه عامة الجيش، فتلقوه منصرفا، فردهم إلى عسكره، وذلك في وقت المغرب، فلما اجتمع أهل العسكر أمروا بالتحارس ليلتهم والتأهب للحرب، فأصبحوا يوم السبت لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر، فعبأ أبو أحمد أصحابه، وجعلهم كتائب يتلو بعضها بعضا، فرسانا ورجالة، وأمر بالشذا والسميريات أن يسار بها معه في النهر الذي يشق مدينة طهيثا المعروف بنهر المنذر، وسار نحو الزنج حتى انتهى إلى سور المدينة، فرتب قواد غلمانه في المواضع التي يخاف خروج الزنج عليه منها، وقدم الرجالة أمام الفرسان، ووكل بالمواضع التي يخاف خروج الكمناء منها، ونزل فصلى أربع ركعات، وابتهل إلى الله عز وجل في النصر

له وللمسلمين ثم دعا بسلاحه فلبسه، وأمر ابنه أبا العباس بالتقدم إلى السور وتحضيض الغلمان على الحرب، ففعل ذلك، وقد كان سليمان بن جامع أعد أمام سور مدينته التي سماها المنصورة خندقا، فلما انتهى إليه الغلمان تهيبوا عبوره، وأحجموا عنه، فحرضهم قوادهم وترجلوا معهم، فاقتحموه متجاسرين عليه، فعبروه، وانتهوا إلى الزنج وهم مشرفون من سور مدينتهم، فوضعوا السلاح فيهم، وعبرت شرذمة من الفرسان الخندق خوضا. فلما رأى الزنج خبر هؤلاء القوم الذين لقوهم وكرهم عليهم ولوا منهزمين، واتبعهم أصحاب أبي أحمد، ودخلوا المدينة من جوانبها وكان الزنج قد حصنوها بخمسة خنادق، وجعلوا أمام كل خندق منها سورا يمتنعون به، فجعلوا يقفون عند كل سور وخندق إذا انتهوا إليه، وجعل أصحاب أبي أحمد يكشفونهم في كل موقف وقفوه، ودخلت الشذا والسميريات مدينتهم من النهر المشقق لها بعد انهزامهم، فجعلت تغرق كل ما مرت لهم به من شذاه وسميرية، واتبعوا من بحافتي النهر، يقتلون ويؤسرون، حتى أجلوا عن المدينة وعما اتصل بها، وكان زهاء ذلك فرسخا، فخوى أبو أحمد ذلك كله، وأفلت سليمان بن جامع في نفر من أصحابه، فاستحر القتل فيهم والأسر، واستنقذ أبو أحمد من نساء أهل واسط وصبيانهم ومما اتصل بذلك من القرى ونواحي الكوفة زهاء عشرة آلاف فأمر أبو أحمد بحياطتهم والإنفاق عليهم، وحملوا إلى واسط، ودفعوا إلى أهليهم واحتوى أبو أحمد وأصحابه على كل ما كان في تلك المدينة من الذخائر والأموال والأطعمة والمواشي، وكان ذلك شيئا جليل القدر، فأمر أبو أحمد ببيع ما أصاب من الغلات وغير ذلك، وحمله إلى بيت ماله، وصرفه في أعطيات من في عسكره من مواليه وجنوده، فحملوا من ذلك ما تهيأ لهم حمله، وأسر من نساء سليمان وأولاده عدة، واستنقذ يومئذ وصيف علمدار ومن كان أسر معه عشية يوم الجمعة، فأخرجوا من الحبس، وكان الأمر أعجل الزنج عن قتلهم، ولجأ

جمع كثير ممن أفلت إلى الآجام المحيطة بالمدينة فأمر أبو أحمد فعقد جسر على هذا النهر المعروف بالمنذر، فعبر الناس إلى غربيه، وأقام أبو أحمد بطهيثا سبعة عشر يوما، وأمر بهدم سور المدينة وطم خنادقها، ففعل ذلك، وأمر بتتبع من لجأ إلى الآجام، وجعل لكل من أتاه برجل منهم جعلا، فتسارع الناس إلى طلبهم، فكان إذا أتي بالواحد منهم عفا عنه، وخلع عليه وضمه إلى قواد غلمانه لما دبر من استمالتهم وصرفهم عن طاعة صاحبهم، وندب أبو أحمد نصيرا في الشذا والسميريات لطلب سليمان بن جامع والهرب معه من الزنج وغيرهم، وأمره بالجد في اتباعهم حتى يجاوز البطائح، وحتى يلج دجلة المعروفة بالعوراء، وتقدم في فتح الكور التي كان الفاسق أحدثها، ليقطع بها الشذا عن دجلة فيما بينه وبين النهر المعروف بأبي الخصيب، وتقدم إلى زيرك في المقام بطهيثا ليتراجع إليها الذين كان الفاسق أجلاهم عنها من أهلها، وأمره بتتبع من بقي في الآجام من الزنج حتى يظفر بهم. وفي شهر ربيع الآخر منها ماتت أم حبيب بنت الرشيد ورحل أبو أحمد بعد إحكامه ما أراد إحكامه إلى معسكره ببردودا، مزمعا على التوجه نحو الأهواز ليصلحها، وقد كان اضطرب أمر المهلبي وإيقاعه بمن أوقع عليه من الجيوش التي كانت بها وغلبته على أكثر كورها، وقد كان أبو العباس تقدمه في مسيره ذلك فلما وافى بردودا أقام أياما، وأمر بإعداد ما يحتاج إليه للمسير على الظهر إلى كور الأهواز، وقدم من يصلح الطريق والمنازل ويعد فيها المير للجيوش التي معه، ووافاه قبل أن ترحل عن واسط زيرك منصرفا عن طهيثا، بعد أن تراجع إلى النواحي التي كان بها الزنج أهلها، وخلفهم آمنين فأمره أبو أحمد بالاستعداد والانحدار في الشذا والسميريات في نخبة أصحابه وأنجادهم، ليصير بهم إلى دجلة العوراء، فتجتمع يده

ويد أبي حمزة على نفض دجلة واتباع المنهزمين من الزنج والإيقاع بكل من لقوا من أصحاب الفاسق، إلى أن ينتهى بهم السير إلى مدينته بنهر أبي الخصيب، وإن رأوا موضع حرب حاربوه في مدينته، وكتبوا بما كان منهم إلى أبي أحمد ليرد عليهم من أمره ما يعملون بحبسه واستخلف أبو أحمد على من خلف في عسكره بواسط ابنه هارون، وأزمع على الشخوص فيمن خف من رجاله وأصحابه، ففعل ذلك بعد أن تقدم إلى ابنه هارون في أن يحدر الجيش الذي خلفه معه في السفن إلى مستقره بدجلة إذا وافى كتابه بذلك وفي يوم الجمعة لليلة خلت من جمادى الآخرة من هذه السنة- وهي سنة سبع وستين ومائتين ارتحل أبو أحمد من واسط شاخصا إلى الأهواز وكورها، فنزل باذبين ثم جوخي ثم الطيب ثم قرقوب ثم درستان ثم على وادي السوس، وقد كان عقد له عليه جسر، فأقام به من أول النهار إلى آخر وقت الظهر، حتى عبر أهل عسكره أجمع، ثم سار حتى وافى السوس، فنزلها- وقد كان أمر مسرورا- وهو عامله على الأهواز- بالقدوم عليه، فوافاه في جيشه وقواده من غد اليوم الذي نزل فيه السوس، فخلع عليه وعليهم، وأقام السوس ثلاثا. وكان ممن أسر بطهيثا من أصحاب الفاسق أحمد بن موسى بن سعيد المصرى المعروف بالقلوص، وكان أحد عدده وقدماء أصحابه، أسر بعد أن أثخن جراحا كانت منها منيته، فلما هلك امر ابو احمد باحتزاز رأسه ونصبه على جسر واسط. وكان ممن أسر يومئذ عبد الله بن محمد بن هشام الكرماني، وكان الخبيث اغتصبه أباه، فوجهه إلى طهيثا، وولاه القضاء والصلاة بها وأسر من السودان جماعة كان يعتمد عليهم، أهل نجدة وبأس وجلد، فلما اتصل به الخبر بما نال هؤلاء انتقض عليه تدبيره، وضلت حيله، فحمله فرط الهلع على أن كتب إلى المهلبي وهو يومئذ مقيم بالأهواز في زهاء ثلاثين ألفا مع رجل كان صحبه، يأمره بترك كل ما قبله من المير والأثاث، والإقبال إليه، فوصل

الكتاب إلى المهلبي وقد أتاه الخبر بإقبال أبي أحمد إلى الأهواز وكورها، فهو لذلك طائر العقل، فترك جميع ما كان قبله، واستخلف عليه محمد بن يحيى ابن سعيد الكرنبائي، فدخل قلب الكرنبائي من الوجل، فأخلى ما استخلف عليه، وتبع المهلبي، وبجبى والأهواز ونواحيها يومئذ من أصناف الحبوب والتمر والمواشي شيء عظيم، فخرجوا عن ذلك كله. وكتب أيضا الفاسق إلى بهبوذ بن عبد الوهاب، وإليه يومئذ عمل الفندم والباسيان وما اتصل بهما من القرى التي بين الأهواز وفارس، وهو مقيم بالفندم، يأمره بالقدوم عليه، فترك بهبوذ ما كان قبله من الطعام والتمر- وكان ذلك شيئا عظيما- فحوى جميع ذلك أبو أحمد، فكان ذلك قوة له على الفاسق، وضعفا للفاسق. ولما فصل المهلبي عن الأهواز تفرق أصحابه في القرى التي بينها وبين عسكر الخبيث فانتهبوها، وأجلوا عنها أهلها، وكانوا في سلمهم، وتخلف خلق كثير ممن كان مع المهلبي من الفرسان والرجالة عن اللحاق به، فأقاموا بنواحي الأهواز وكتبوا يسألون أبا احمد الامان لما انتهى اليهم من عفوه عمن ظفر به من أصحاب الخبيث بطهيثا، ولحق المهلبي ومن اتبعه من أصحابه بنهر أبي الخصيب. وكان الذي دعا الفاسق إلى أمر المهلبي وبهبوذ بسرعة المصير إليه خوفه موافاة أبي أحمد وأصحابه إياه على الحال التي كانوا عليها من الوجل وشدة الرعب مع انقطاع المهلبي وبهبوذ فيمن كان معهما عنه، ولم يكن الأمر كما قدر. وأقام أبو أحمد حتى أحرز ما كان المهلبي وبهبوذ خلفاه، وفتحت السكور التي كان الخبيث أحدثها في دجلة، وأصلحت له طرقه ومسالكه ورحل أبو أحمد عن السوس الى جنديسابور، فأقام بها ثلاثا، وقد كانت الأعلاف ضاقت على أهل العسكر، فوجه في طلبها، وحملها ورحل عن

جنديسابور إلى تستر، وأمر بجباية الأموال من كور الأهواز، وأنفذ إلى كل كورة قائدا ليروج بذلك حمل الأموال ووجه أحمد بن أبي الأصبغ الى محمد ابن عبيد الله الكردي، وقد كان خائفا أن يأتيه صاحب الفاسق قبل موافاة أبي أحمد كور الأهواز، وأمره بإيناسه وإعلامه ما عليه رأيه من العفو عنه، والتغمد لزلته، وأن يتقدم إليه في تعجيل حمل الأموال والمسير إلى سوق الأهواز، وأمر مسرورا البلخي عامله بالأهواز بإحضار من معه من الموالي والغلمان والجند ليعرضهم، ويأمر بإعطائهم الأرزاق، وينهضهم معه لحرب الخبيث. فأحضرهم، وعرضوا رجلا رجلا، وأعطوا ثم رحل إلى عسكر مكرم، فجعله منزلا اجتازه ورحل منه فوافى الأهواز، وهو يرى أنه قد تقدمه إليها من الميرة ما يحمل عساكره فغلظ الأمر في ذلك اليوم، واضطرب له الناس اضطرابا شديدا، وأقام ثلاثة أيام ينتظر ورود المير، فلم ترد، فساءت أحوال الناس، وكاد ذلك يفرق جماعتهم، فبحث أبو أحمد عن السبب المؤخر ورودها، فوجد الجند قد كانوا قطعوا قنطرة قديمة أعجمية كانت بين سوق الأهواز ورام هرمز يقال لها قنطرة أربك، فامتنع التجار ومن يحمل الميرة من تطرقه لقطع تلك القنطرة فركب أبو أحمد إليها وهي على فرسخين من سوق الأهواز، فجمع من كان بقي في العسكر من السودان، وأمرهم بنقل الحجارة والصخر لإصلاح هذه القنطرة وبذل لهم الأموال الرغيبة، فلم يرم حتى أصلحت في يومه ذلك، وردت إلى ما كانت عليه فسلكها الناس، ووافت القوافل بالمير، فحيي أهل العسكر، وحسنت أحوالهم. وأمر أبو أحمد بجمع السفن لعقد الجسر على دجيل، فجمعت من كور الأهواز وأخذ في عقد الجسر، وأقام بالأهواز أياما حتى أصلح أصحابه أمورهم، وما احتاجوا من آلاتهم، وحسنت أحوال دوابهم، وذهب عنها ما كان نالها من الضر بتخلف الأعلاف، ووافت كتب القوم الذين كانوا تخلفوا عن المهلبي، وأقاموا بسوق الأهواز يسألونه الأمان، فآمنهم، فأتاه نحو

من ألف رجل، فأحسن إليهم، وضمهم إلى قواد غلمانه، وأجرى لهم الأرزاق، وعقد الجسر على دجيل، فرحل بعد أن قدم جيوشه، فعبر الجسر، وعسكر بالجانب الغربي من دجيل في الموضع المعروف بقصر المأمون، فأقام هنالك ثلاثا، وأصابت الناس في هذا الموضع من الليل زلزلة هائلة، وقى الله شرها، وصرف مكروهها وقد كان أبو أحمد قبل عبور الجسر المعقود على دجيل قدم أبا العباس ابنه إلى الموضع الذي كان عزم على نزوله من دجلة العوراء، وهو الموضع المعروف بنهر المبارك من فرات البصره، وكتب الى ابنه هارون بالانحدار في جميع الجيش المتخلف معه إلى نهر المبارك أيضا لتجتمع العساكر هناك، فرحل ابو اجمد عن قصر المأمون، فنزل بقورج العباس، ووافاه أحمد بن أبي الأصبغ هنالك بما صالح عليه محمد بن عبيد الله وبهدايا أهداها إليه من دواب وضوار وغير ذلك ثم رحل عن القورج، فنزل بالجعفرية، ولم يكن بهذه القرية ماء إلا من آبار كان أبو أحمد تقدم بحفرها في عسكره، وأنفذ لذلك سعدا الأسود مولى عبيد الله بن محمد بن عمار من قورج العباس، فحفرت، فأقام بهذا الموضع يوما وليلة، وألفى هناك ميرا مجموعة، واتسع الناس بها، وتزودوا منها. ثم رحل إلى الموضع المعروف بالبشير، وألفى فيه غديرا من المطر، فأقام به يوما وليلة، ورحل في آخر الليل يريد نهر المبارك، فوافاه بعد صلاة الظهر، وكان منزلا بعيد المسافة، وتلقاه ابناه أبو العباس وهارون في طريقه، فسلما عليه، وسارا بسيره حتى ورد نهر المبارك، وذلك يوم السبت للنصف من رجب سنة سبع وستين ومائتين. وكان لزيرك ونصير في الذي كان أبو أحمد وجه فيه زيرك من تتبع فل الخبيث من طهيثا أثر فيما بين فصول أبي أحمد من واسط إلى حال مصيره إلى نهر المبارك، وذلك ما ذكره محمد بن الحسن عن محمد بن حماد، قال:

لما اجتمع زيرك ونصير بدجلة العوراء انحدرا حتى وافيا الأبلة، فاستأمن إليهما رجل من أصحاب الخبيث، فأعلمهما أن الخبيث قد أنفذ عددا كثيرا من السميريات والزواريق والصلاغ مشحونة بالزنج، يرأسهم رجل من أصحابه، يقال له محمد بن إبراهيم، يكنى أبا عيسى، ومحمد بن إبراهيم هذا رجل من أهل البصرة، كان جاء به رجل من الزنج عند خراب البصرة يقال له يسار، كان على شرطة الفاسق، فكان يكتب ليسار على ما كان يلي حتى مات، وارتفعت حال أحمد بن مهدي الجبائي عند الخبيث، فولاه أكثر أعماله، وضم محمد بن إبراهيم هذا إليه، فكان كاتبه إلى أن هلك الجبائي- فطمع محمد بن إبراهيم هذا في مرتبته، وأن يحله الخبيث محل الجبائي، فنبذ الدواة والقلم، ولبس آلة الحرب، وتجرد للقتال، فأنهضه الخبيث في هذا الجيش، وأمره بالاعتراض في دجلة لمدافعة من يردها من الجيوش، فكان في دجلة أحيانا، وأحيانا يأتي بالجمع الذي معه إلى النهر المعروف بنهر يزيد، ومعه في ذلك الجيش شبل بن سالم وعمرو المعروف بغلام بوذى وأجلاد من السودان وغيرهم، فاستأمن رجل كان في ذلك الجيش إلى زيرك ونصير، وأخبرهما خبره، وأعلمهما أن محمد بن إبراهيم على القصد لسواد عسكر نصير، ونصير يومئذ معسكر بنهر المرأة، وأنهم على أن يسلكوا الأنهار المعترضة على نهر معقل وبثق شيرين، حتى يوافوا الموضع المعروف بالشرطة، ليخرجوا من وراء العسكر فيكبوا على طرفيه، فرجع نصير عند وصول هذا الخبر إليه من الأبلة مبادرا إلى معسكره، وسار زيرك قاصدا لبثق شيرين، حتى صار من مؤخرة في موضع يعرف بالميشان، وذلك أنه قدر أن محمد بن إبراهيم ومن معه يأتون عسكر نصير من ذلك الطريق، فكان ذلك كما ظن، ولقيهم في طريقهم فوهب الله له العلو عليهم بعد صبر منهم له ومجاهدة شديدة، فانهزموا ولجئوا إلى النهر الذي كانوا وضعوا الكمين فيه، وهو نهر يزيد، فدل زيرك عليهم، فتوغلت عليهم سميرياته وشذواته، فقتل منهم طائفة، وأسر طائفة، وكان ممن ظفر به منهم محمد بن إبراهيم المكنى أبا عيسى وعمرو المعروف بغلام بوذى، وأخذ

ما كان معهم من السميريات، وذلك نحو من ثلاثين سميرية، وأفلت شبل في الذين نجوا، فلحق بعسكر الخبيث، وخرج زيرك من بثق شيرين ظافرا ومعه الأسارى ورءوس من قتل مع ما حوى من السميريات والزواريق وسائر السفن، فانصرف زيرك من دجلة العوراء إلى واسط، وكتب إلى أبي أحمد بما كان من حربه والنصر والفتح. وكان فيما كان من زيرك في ذلك وصول الجزع إلى كل من كان بدجلة وكورها من اتباع الفاسق، فاستأمن إلى أبي حمزة وهو مقيم بنهر المرأة منهم زهاء ألفي رجل- فيما قيل- فكتب بخبرهم إلى أبي أحمد، فأمره بقبولهم وإقرارهم على الأمان وإجراء الأرزاق عليهم، وخلطهم بأصحابه ومناهضته العدو بهم. وكان زيرك مقيما بواسط إلى حين ورود كتاب أبي أحمد على ابنه هارون بالمصير بالجيش المتخلف معه إلى نهر المبارك، فانحدر زيرك مع هارون، وكتب أبو أحمد إلى نصير وهو بنهر المرأة يأمره بالإقبال إليه إلى نهر المبارك، فوافاه هنالك، وكان أبو العباس عند مصيره إلى نهر المبارك انحدر إلى عسكر الفاسق في الشذا والسميريات، فأوقع به في مدينته بنهر أبي الخصيب. وكانت الحرب بينه وبينهم من أول النهار إلى آخر وقت الظهر، واستأمن إليه قائد من قواد الخبيث المضمومين كانوا إلى سليمان بن جامع، يقال له منتاب، ومعه جماعة من أصحابه، فكان ذلك مما كسر الخبيث وأصحابه، وانصرف أبو العباس بالظفر، وخلع على منتاب ووصله وحمله، ولما لقي أبو العباس أباه أعلمه خبر منتاب، وذكر له خروجه إليه بالأمان، فأمر أبو أحمد لمنتاب بخلعة وصلة وحملان، وكان منتاب أول من استأمن من قواد الزنج ولما نزل أبو أحمد نهر المبارك يوم السبت للنصف من رجب سنة سبع وستين ومائتين، كان أول ما عمل به في أمر الخبيث- فيما ذكر محمد بن الحسن بن سهل، عن محمد بن حماد بن إسحاق بن حماد بن زيد- أن

كتب إليه كتابا يدعوه فيه إلى التوبة والإنابة إلى الله تعالى مما ركب من سفك الدماء وانتهاك المحارم وإخراب البلدان والأمصار، واستحلال الفروج والأموال، وانتحال ما لم يجعله الله له أهلا من النبوة والرسالة، ويعلمه أن التوبة له مبسوطة، والأمان له موجود، فإن هو نزع عما هو عليه من الأمور التي يسخطها الله، ودخل في جماعة المسلمين، محا ذلك ما سلف من عظيم جرائمه، وكان له به الحظ الجزيل في دنياه وأنفذ ذلك مع رسوله إلى الخبيث، والتمس الرسول إيصاله، فامتنع أصحاب الخبيث من إيصال الكتاب، فالقاه الرسول اليهم، فاخذوه وأتوا به الى الخبيث، فقراه فلم يزده ما كان فيه من الوعظ إلا نفورا وإصرارا، ولم يجب عن الكتاب بشيء، وأقام على اغتراره، ورجع الرسول إلى أبي أحمد فأخبره بما فعل، وترك الخبيث الإجابة عن الكتاب وأقام أبو أحمد يوم السبت والأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء متشاغلا بعرض الشذا والسميريات وترتيب قواده ومواليه وغلمانه فيها، وتخير الرماة وترتيبهم في الشذا والسميريات، فلما كان يوم الخميس سار أبو أحمد في أصحابه، ومعه ابنه أبو العباس إلى مدينة الخبيث التي سماها المختارة من نهر أبي الخصيب، فأشرف عليها وتأملها، فرأى من منعتها وحصانتها بالسور والخنادق المحيطة بها وما عور من الطرق المؤدية إليها واعد من المجانيق والعرادات والقسي الناوكية وسائر الآلات على سورها ما لم ير مثله ممن تقدم من منازعي السلطان، ورأى من كثرة عدد مقاتلتهم واجتماعهم ما استغلظ أمره فلما عاين أصحابه أبا أحمد، ارتفعت أصواتهم بما ارتجت له الأرض، فأمر أبو أحمد عند ذلك ابنه أبا العباس بالتقدم إلى سور المدينة ورشق من عليه بالسهام، ففعل ذلك ودنا حتى ألصق شذواته بمسناة قصر الخائن، وانحازت الفسقة إلى الموضع الذي دنت منه الشذا، وتحاشدوا، وتتابعت سهامهم وحجارة مجانيقهم وعراداتهم ومقاليعهم، ورمى عوامهم بالحجارة عن أيديهم، حتى ما يقع طرف ناظر من الشذا على موضع إلا رأى فيه سهما أو حجرا، وثبت أبو العباس، فرأى الخائن وأشياعه من جدهم واجتهادهم وصبرهم ما لا عهد لهم بمثله من أحد حاربهم

فأمر أبو أحمد أبا العباس ومن معه بالرجوع إلى مواقفهم ليروحوا عن أنفسهم ويداووا جراحهم، ففعلوا ذلك. واستأمن إلى أبي أحمد في تلك الحال مقاتلان من مقاتلة السميريات، فأتوه بسميريتهما وما فيها من الآلات والملاحين، فأمر للمقاتلين بخلع ديباج ومناطق محلاة، ووصلهما، وأمر للملاحين بخلع من خلع الحرير الأحمر والثياب البيض بما حسن موقعه منهم وعمهم جميعا بصلاته، وأمر بإدنائهم من الموضع الذي يراهم فيه نظراؤهم، فكان ذلك من أبخع المكايد التي كيد بها الفاسق فلما رأى الباقون ما صار إليه أصحابهم من العفو عنهم والإحسان إليهم، رغبوا في الأمان وتنافسوا فيه، فابتدروه مسرعين نحوه، راغبين فيما شرع لهم منه فصار إلى أبي أحمد في ذلك اليوم عدد من أصحاب السميريات، فأمر فيهم بمثل ما أمر به في أصحابهم فلما رأى الخبيث ركون أصحاب السميريات إلى الأمان واغتنامهم له أمر برد من كان منهم في دجلة إلى نهر أبي الخصيب، ووكل بفوهة النهر من يمنعهم من الخروج، وأمر بإظهار شذواته، وندب لهم بهبوذ بن عبد الوهاب وهو من أشد حماته بأسا، وأكثرهم عددا وعدة، فانتدب بهبوذ لذلك في أصحابه، وكان ذلك في وقت إقبال المد وقوته، وقد تفرقت شذوات أبي أحمد، ولحق أبو حمزة فيما معه منها بشرقي دجلة، فأقام هنالك وهو يرى أن الحرب قد انقضت، واستغني عنه. فلما ظهر بهبوذ فيما معه من الشذوات أمر أبو أحمد بتقديم شذواته، وأمر أبا العباس بالحمل على بهبوذ بما معه من الشذا، وتقدم إلى قواده وغلمانه بالحمل معه، وكان الذي صلي بالحرب من الشذوات التي مع أبي العباس وزيرك من الشذوات التي رتب فيها قواد الغلمان اثنتي عشرة شذاة فنشبت الحرب، وطمع أصحاب الفاسق في أبي العباس وأصحابه لقلة عدد شذواتهم. فلما صدموا انهزموا ووجه أبو العباس ومن معه في طلب بهبوذ، فألجئوه إلى فناء قصر الخبيث، وأصابته طعنتان، وجرح بالسهام جراحات، واوهنت

أعضاؤه بالحجارة، وخلى ما كان عليه مع أصحابه، فأولجوه نهر أبي الخصيب وقد أشفى على الموت، وقتل يومئذ ممن كان مع بهبوذ قائد من قواده ذو بأس ونجدة وتقدم في الحرب، يقول له عميرة، وظفر أصحاب أبي العباس بشذاة من شذوات بهبوذ، فقتل أهلها، وغرقوا، وأخذت الشذاة، وصار أبو العباس ومن معه بشذواتهم بعد أن أتاهم أمر أبي أحمد بذلك، وبإلحاق الشذا بشرقي دجلة وصرف الجيش فلما رأى الفاسق جيش أبي أحمد منصرفا أمر من كان انهزم في شذواته إلى نهر أبي الخصيب بالظهور ليسكن بذلك روعة أصحابه، وليكون صرفه إياهم إذا صرفهم عن غير هزيمة فأمر أبو أحمد جماعة من غلمانه بأن يثبتوا صدور شذواتهم إليهم، ويقصدوهم فلما رأوا ذلك ولوا منهزمين مذعورين، وتأخرت عنهم شذاة من شذواتهم، فاستأمن أهلها إلى أبي أحمد، ونكسوا علما أبيض كان معهم، فصاروا إليه في شذاتهم، فأومنوا وحبوا ووصلوا وكسوا فأمر الفاسق عند ذلك برد شذواتهم إلى النهر ومنعها من الخروج، وكان ذلك في آخر النهار، وأمر أبو أحمد أصحابه بالرجوع إلى معسكرهم بنهر المبارك. واستأمن إلى أبي أحمد في هذا اليوم عند منصرفه خلق كثير من الزنج وغيرهم، فقبلهم، وحملهم في الشذا والسميريات، وأمر أن يخلع عليهم ويوصلوا ويحبوا، وتكتب أسماؤهم في المضمومين إلى أبي العباس. وسار أبو أحمد، فوافى عسكره بعد العشاء الأخيرة، فأقام به يوم الجمعة والسبت والأحد، ثم عزم على نقل عسكره إلى حيث يقرب منه عليه القصد لحرب الخبيث، فركب الشذا في يوم الاثنين لست ليال بقين من رجب سنة سبع وستين ومائتين، ومعه أبو العباس والقواد من مواليه وغلمانه، فيهم زيرك ولصير حتى وافى النهر المعروف بنهر جطى في شرقي دجلة، وهو حيال النهر المعروف باليهودي، فوقف عليه، وقدر فيه ما أراد وانصرف، وخلف به أبا العباس وزيرك ونصيرا، وعاد إلى معسكره فأمر فنودي في الناس

بالرحيل إلى الموضع الذي اختار من نهر جطى، وتقدم في قود الدواب بعد أن أصلحت لها الطرق، وعقدت القناطر على الأنهار، وغدا في يوم الثلاثاء لخمس بقين من رجب في جميع عساكره حتى نزل نهر جطى، فأقام به إلى يوم السبت لأربع عشرة ليلة خلت من شعبان سنة سبع وستين ومائتين، ولم يحارب في شيء من هذه الأيام، وركب في هذا اليوم في الخيل والرجالة، ومعه جميع الفرسان، وجعل الرجالة والمطوعة في السفن والسميريات، على كل رجل منهم لأمته وزيه، وسار حتى وافى الفرات، ووازى عسكر الفاسق وأبو أحمد من أصحابه وأتباعه في زهاء خمسين ألف رجل أو يزيدون، والفاسق يومئذ في زهاء ثلاثمائة ألف إنسان، كلهم يقاتل أو يدافع، فمن ضارب بسيف، وطاعن برمح، ورام بقوس، وقاذف بمقلاع، ورام بعراده او منجنيق، واضعفهم امر الرماة بالحجارة عن أيديهم وهم النظارة المكثرون السواد، والمعتنون بالنعير والصياح، والنساء يشركنهم في ذلك. فأقام أبو أحمد في هذا اليوم بإزاء عسكر الفاسق إلى أن أضحى، وأمر فنودي أن الأمان مبسوط للناس، أسودهم وأحمرهم إلا الخبيث، وأمر بسهام فعلقت فيها رقاع مكتوب فيها من الأمان مثل الذي نودي به، ووعد الناس فيها الإحسان، ورمى بها إلى عسكر الخبيث، فمالت إليه قلوب أصحاب المارق بالرهبة والطمع فيما وعدهم من إحسانه وعفوه، فأتاه في ذلك اليوم جمع كثير يحملهم الشذا إليه، فوصلهم وحباهم ثم انصرف إلى معسكره بنهر جطى، ولم يكن في هذا اليوم حرب. وقدم عليه قائدان من مواليه، أحدهما بكتمر والآخر جعفر بن بغلاغز، في جمع من أصحابهما فكان ورودهما زائدا في قوة من مع أبي أحمد. ورحل أبو أحمد عن نهر جطى إلى معسكر قد كان تقدم في إصلاحه، وعقد القناطر على أنهاره، وقطع النهر ليوسعه بفرات البصرة بإزاء مدينة الفاسق، فكان نزوله هذا المعسكر في يوم الأحد للنصف من شعبان سنة سبع وستين

ومائتين، وأوطن هذا المعسكر، وأقام به، ورتب قواده ورؤساء أصحابه مراتبهم فيه، فجعل نصيرا صاحب الشذا والسميريات في جيشه في أول العسكر وآخره بالموضع الموازي النهر المعروف بجوى كور، وجعل زيرك التركي صاحب مقدمة أبي العباس في أصحابه موازيا ما بين نهر أبي الخصيب وهو النهر الموسوم بنهر الأتراك والنهر المعروف بالمغيرة، ثم تلاه علي بن جهشيار حاجبه في جيشه وكانت مضارب أبي أحمد وابنيه حيال الموضع المعروف بدير جابيل، وأنزل راشدا مولاه في مواليه وغلمانه الأتراك والخزر والروم والديالمة والطبرية والمغاربة والزنج على النهر المعروف بهطمة، وجعل صاعد بن مخلد وزيره في جيشه من الموالي والغلمان فويق عسكر راشد، وأنزل مسرورا البلخي في جيشه على النهر المعروف بسندادان، وأنزل الفضل ومحمدا، ابني موسى ابن بغا في جيشهما على النهر المعروف بهالة، وتلاهما موسى دالجويه في جيشه وأصحابه، وجعل بغراج التركي على ساقته نازلا على نهر جطى، وأوطنوه، وأقاموا به ورأى أبو أحمد من حال الخبيث وحصانة موضعه وكثرة جمعه ما علم أنه لا بد له من الصبر عليه ومحاصرته وتفريق أصحابه عنه، ببذل الأمان لهم، والإحسان إلى من أناب منهم، والغلظة على من أقام على غيه منهم، واحتاج إلى الاستكثار من الشذا وما يحارب به في الماء. فأمر بإنفاذ الرسل في حمل المير في البر والبحر وإدرارها إلى معسكره بالمدينة التي سماها الموفقية، وكتب إلى عماله في النواحي في حمل الأموال إلى بيت ماله في هذه المدينة وأنفذ رسولا إلى سيراف وجنابا في بناء الشذا والاستكثار منها لما احتاج اليه من ترتيبها في المواضع التي يقطع بها المير عن الخائن وأشياعه. وأمر بالكتاب إلى عماله في النواحي بإنفاذ كل من يصلح للإثبات في الديوان، ويرغب في ذلك، وأقام ينتظر شهرا أو نحوه، فوردت المير متتابعة يتلو بعضها بعضا، وجهز التجار صنوف التجارات والأمتعة وحملوها إلى المدينة الموفقية، واتخذت بها الأسواق، وكثر بها التجار والمتجهزون من كل بلد، ووردتها

مراكب البحر، وقد كانت انقطعت لقطع الفاسق وأصحابه سبلها قبل ذلك بأكثر من عشر سنين، وبنى أبو أحمد مسجد الجامع، وأمر الناس بالصلاة فيه، واتخذ دور الضرب، فضرب فيها الدنانير والدراهم، فجمعت مدينة أبي أحمد جميع المرافق، وسيق إليها صنوف المنافع حتى كان ساكنوها لا يفقدون بها شيئا مما يوجد في الأمصار العظيمة القديمة، وحملت الأموال، وأدر للناس العطاء في أوقاته، فاتسعوا وحسنت أحوالهم، ورغب الناس جميعا في المصير إلى المدينة الموفقية والمقام فيها. وكان الخبيث بعد ليلتين من نزول أبي أحمد مدينته الموفقية أمر بهبوذ بن عبد الوهاب، فعبر والناس غارون في سميريات إلى طرف عسكر أبي حمزة، فأوقع به، وقتل جماعة من أصحابه، وأسر جماعة، وأحرق كوخات كانت لهم قبل أن يبني الناس هنالك فأمر أبو أحمد نصيرا عند ذلك بجمع أصحابه، وألا يطلق لأحد مفارقة عسكره، وأن يحرس أقطار عسكره بالشذا والسميريات والزواريق فيها الرجالة إلى آخر ميان روذان والقندل وأبرسان، للإيقاع بمن هنالك من أصحاب الفاسق. وكان بميان روذان من قواده أيضا إبراهيم بن جعفر الهمداني في أربعة آلاف من الزنج، ومحمد بن أبان المعروف بأبي الحسن أخو علي بن أبان بالقندل في ثلاثة آلاف، والمعروف بالدور في ابرسان في الف وخمسمائة من الزنج والجبائيين، فبدأ أبو العباس بالهمداني فأوقع به، وجرت بينهما حروب، قتل فيها خلق كثير من أصحاب الهمداني، وأسر منهم جماعة، وأفلت الهمداني في سميرية قد كان أعدها لنفسه، فلحق فيها بأخي المهلبي المكنى بأبي الحسن، واحتوى أصحاب أبي العباس على ما كان في أيدي الزنج وحملوه إلى عسكرهم. وقد كان أبو أحمد تقدم إلى ابنه أبي العباس في بذل الأمان لمن رغب فيه، وأن يضمن لمن صار إليه الإحسان، فصار إليه طائفة منهم في الأمان فآمنهم، فصار بهم إلى أبيه، فأمر لكل واحد منهم من الخلع والصلات على أقدارهم في أنفسهم، وأن يوقفوا بإزاء نهر أبي الخصيب ليعاينهم أصحابهم وأقام

أبو أحمد يكايد الخائن ببذل الأمان لمن صار إليه من الزنج وغيرهم، ومحاصرة الباقين والتضييق عليهم، وقطع المير والمنافع عنهم، وكانت ميرة الأهواز وما يرد من صنوف التجارات منها ومن كورها ونواحي أعمالها يسلك به النهر المعروف ببيان، فسرى بهبوذ في جلد رجاله ليلة من الليالي، وقد نمي إليه خبر قيروان ورد بصنوف من التجارات والمير وكمن في النخل، فلما ورد القيروان خرج إلى أهله، وهم غارون، فقتل منهم وأسر، وأخذ ما أحب أن يأخذ من الأموال. وقد كان أبو أحمد أنفذ لبذرقة ذلك القيروان رجلا من أصحابه في جمع، فلم يكن للموجه لذلك ببهبوذ طاقة، لكثرة عدد من معه وضيق الموقع على الفرسان، وأنه لم يكن بهم فيه غناء فلما انتهى ذلك إلى أبي أحمد، غلظ عليه ما نال الناس في أموالهم وأنفسهم وتجارتهم، وأمر بتعويضهم، وأخلف عليهم مثل الذي ذهب لهم، ورتب الشذا على فوهة بيان وغيره من الأنهار التي لا يتهيأ للفرسان سلوكها في بنائها والإقبال بها إليه، فورد عليه منها عدد صالح، فرتب فيها الرجال، وقلد أمرها أبا العباس ابنه، وأمره أن يوكل بكل موضع يرد إلى الفسقة منه ميرة، فانحدر أبو العباس لذلك إلى فوهه البحر في الشذوات، ورتب في جميع تلك المسالك القواد، وأحكم الأمر فيه غاية الإحكام. وفي شهر رمضان منها كانت وقعة بين اسحق بن كنداج وإسحاق بن أيوب وعيسى بن الشيخ وأبي المغراء وحمدان الشاري ومن تأشب إليهم من قبائل ربيعة وتغلب وبكر واليمن، فهزمهم ابن كنداج إلى نصيبين، وتبعهم إلى قريب من آمد، واحتوى على أموالهم، ونزلوا آمد، فكانت بينه وبينهم وقعات.

ذكر خبر مقتل صندل الزنجي

ذكر خبر مقتل صندل الزنجي وفي شهر رمضان منها قتل صندل الزنجي، وكان سبب قتله أن أصحاب الخبيث عبروا لليلتين خلتا من شهر رمضان من هذه السنة فيما ذكر- أعني سنة سبع وستين ومائتين- يريدون الإيقاع بعسكر نصير وعسكر زيرك، فنذر بهم الناس، فخرجوا إليهم، فردوهم خائبين، وظفروا بصندل هذا وكان- فيما ذكروا- يكشف وجوه الحرائر المسلمات ورءوسهن ويقلبهن تقليب الإماء، فإن امتنعت منهن امرأة ضرب وجهها ودفعها إلى بعض علوج الزنج يبيعها بأوكس الثمن فلما أتي به أبو أحمد، أمر به فشد بين يديه، ثم رمى بالسهام، ثم امر به فقتل. ذكر خبر استئمان الزنج الى ابى احمد وفي شهر رمضان من هذه السنة استأمن إلى أبي أحمد خلق كثير من عند الزنج. ذكر سبب ذلك: وكان السبب في ذلك أنه كان- فيما ذكر- استأمن إلى أبي أحمد رجل من مذكوري أصحاب الخبيث ورؤسائهم وشجعانهم، يقال له مهذب، فحمل في الشذا إلى أبي أحمد، فأتي به في وقت إفطارة، فأعلمه أنه جاء متنصحا راغبا في الأمان، وأن الزنج على العبور في ساعتهم تلك إلى عسكره للبيات، وأن الذين ندب الفاسق لذلك أنجادهم وأبطالهم، فأمر أبو أحمد بتوجيه من يحاربهم إليهم ومن يمنعهم من العبور وأن يعارضوا بالشذا فلما علم الزنج أن قد نذر بهم انصرفوا منهزمين، فكثر المستأمنة من الزنج وغيرهم وتتابعوا، فبلغ عدد من وافى عسكر أبي أحمد منهم إلى آخر شهر رمضان سنة سبع وستين ومائتين خمسة آلاف رجل من بين أبيض واسود

ذكر خبر الإيقاع بالزنج في هذا العام

وفي شوال من هذه السنة ورد الخبر بدخول الخجستاني نيسابور وانهزام عمرو بن الليث وأصحابه، فأساء السيرة في أهلها، وهدم دور آل معاذ بن مسلم، وضرب من قدر عليه منهم واقتطع ضياعهم، وترك ذكر محمد بن طاهر، ودعا له على منابر ما غلب عليه من مدن خراسان وللمعتمد، وترك الدعاء لغيرهما. ذكر خبر الإيقاع بالزنج في هذا العام وفي شوال من هذه السنة كانت لأبي العباس وقعة بالزنج، قتل فيها منهم جمع كثير. ذكر سبب ذلك: وكان السبب في ذلك- فيما بلغني- أن الفاسق انتخب من كل قيادة من أصحابه أهل الجلد والبأس منهم، وأمر المهلبي بالعبور بهم ليبيت عسكر أبي أحمد، ففعل ذلك، وكانت عدة من عبر من الزنج وغيرهم زهاء خمسة آلاف رجل أكثرهم من الزنج، وفيهم نحو من مائتي قائد، فعبروا إلى شرقي دجلة، وعزموا على أن يصير القواد منهم إلى آخر النخل مما يلي السبخة، فيكونوا في ظهر عسكر أبي أحمد، ويعبر جماعة كثيرة منهم في الشذا والسميريات والمعابر قبالة عسكر أبي أحمد، فإذا نشبت الحرب بينهم انكب من كان عبر من قواد الخبيث، فصار إلى السبخة على عسكر أبي أحمد الموفق، وهم غارون مشاغيل بحرب من بإزائهم، وقدر أن يتهيأ له في ذلك ما أحبه فأقام الجيش في الفرات ليلتهم، ليغادوا الإيقاع بالعسكر. فاستأمن إلى أبي أحمد غلام كان معهم من الملاحين، فأنهى إليه خبرهم وما اجتمعت عليه آراؤهم، فأمر أبو أحمد أبا العباس والقواد والغلمان بالنهوض إليهم، وقصد الناحية التي فيها أصحاب الخبيث، وأنفذ جماعة من قواد غلمانه في الخيل إلى السبخة التي في مؤخر النخل بالفرات، لتقطعهم عن

الخروج إليها، وأمر أصحاب الشذا والسميريات، فاعترضوا في دجلة، وأمر الرجالة بالزحف إليهم من النخل فلما رأى الفجار ما أتاهم من التدبير الذي لم يحتسبوه كروا راجعين في الطريق الذي أقبلوا منه طالبين التخلص، فكان قصدهم لجويث بارويه، وانتهى خبر رجوعهم إلى الموفق، فأمر أبا العباس وزيرك بالانحدار في الشذوات يسبقونهم إلى النهر، ليمنعوهم من عبوره. وأمر غلاما من غلمانه، يقال له ثابت، له قيادة على جمع كثير من غلمانه السودان أن يحمل أصحابه في المعابر والزواريق وينحدر معهم إلى الموضع الذي فيه أعداء الله للإيقاع بهم حيث كانوا، فأدركهم ثابت في أصحابه بجويث بارويه، فخرج إليهم فحاربهم محاربة طويلة، وثبتوا له، واستقبلوا جمعه وهو من اصحابه في زهاء خمسمائة رجل، لأنهم لم يكونوا تكاملوا وطمعوا فيه، ثم صدقهم وأكب عليهم، فمنحه الله أكتافهم، فمن مقتول وأسير وغريق وملجج في الماء بقدر اقتداره على السباحة التقطته الشذا والسميريات في دجلة والنهر، فلم يفلت من ذلك الجيش إلا أقله وانصرف أبو العباس بالفتح، ومعه ثابت وقد علقت الرءوس في الشذوات وصلب الأسارى فيها، فاعترضوا بهم مدينتهم ليرهبوا بهم أشياعهم، فلما رأوهم أبلسوا وأيقنوا بالبوار، وأدخل الأسارى والرءوس إلى الموفقية، وانتهى إلى أبي أحمد أن صاحب الزنج موه على أصحابه، وأوهمهم أن الرءوس المرفوعة مثل مثلت لهم ليراعوا، وأن الأسارى من المستأمنة فأمر الموفق عند ذلك أبا العباس بجمع الرءوس والمسير بها إلى إزاء قصر الفاسق والقذف بها في منجنيق منصوب في سفينة إلى عسكره، ففعل أبو العباس ذلك، فلما سقطت الرءوس في مدينتهم، عرف أولياء القتلى رءوس أصحابهم، فظهر بكاؤهم، وتبين لهم كذب الفاجر وتمويهه. وفي شوال من هذه السنة كانت لأصحاب ابن أبي الساج وقعة بالهيصم العجلي، قتلوا فيها مقدمته، وغلبوا على عسكره فاحتووه.

ذكر خبر الوقعه مع الزنج بنهر ابن عمر

ذكر خبر الوقعه مع الزنج بنهر ابن عمر وفي ذي القعدة منها كانت لزيرك وقعة مع جيش لصاحب الزنج بنهر ابن عمر، قتل زيرك منهم فيها خلقا كثيرا. ذكر الخبر عن سبب هذه الوقعة: ذكر أن صاحب الزنج كان أمر باتخاذ شذوات، فعملت له، فضمها إلى ما كان يحارب به، وقسم شذواته ثلاثة اقسام بين بهبوذ ونصر الرومي واحمد ابن الزرنجي، وألزم كل واحد منهم غرم ما يصنع على يديه منها، وكانت زهاء خمسين شذاة، ورتب فيها الرماة وأصحاب الرماح، واجتهدوا في إكمال عدتهم وسلاحهم، وأمرهم بالمسير في دجلة والعبور إلى الجانب الشرقي والتعرض لحرب أصحاب الموفق، وعدة شذوات الموفق يومئذ قليلة، لأنه لم يكن وافاه كل ما كان أمر باتخاذه، وما كان عنده منها فمتفرق في فوهه الانهار التي يأتي الزنج منها المير فغلظ أمر أعوان الفاجر، وتهيأ له أخذ شذاة بعد شذاة من شذا الموفق، وأحجم نصير المعروف بأبي حمزة عن قتالهم والإقدام عليهم، كما كان يفعل لقلة ما معه من الشذا، وأكثر شذوات الموفق يومئذ مع نصير، وهو المتولي لأمرها فارتاع لذلك أهل عسكر الموفق، وخافوا أن يقدم على عسكرهم الزنج بما معهم من فضل الشذا، فورد عليهم في هذه الحال شذوات كان الموفق تقدم في بنائها بجنابا، فأمر أبا العباس بتلقيها فيما معه من الشذا حتى يوردها العسكر، إشفاقا من اعتراض الزنج عليها في دجلة، فسلمت، وأتي بها حتى إذا وافت عسكر نصير، فبصر بها الزنج طمعوا فيها، فأمر الخبيث بإخراج شذواته، وأمر أصحابه بمعارضتها والاجتهاد في اقتطاعها، فنهضوا لذلك فتسرع غلام من غلمان أبي العباس شجاع يقال له وصيف يعرف بالحجراي، في شذوات كن معه، فشد على الزنج فانكشفوا، وتبعهم حتى وافى بهم نهر أبي الخصيب، وانقطع عن أصحابه، فكروا عليه شذواتهم، وانتهى إلى مضيق، فعلقت مجاديف بعض شذواته

بمجاديف بعض شذواتهم، فجنحت وتقصفت بالشط، وأحاط به الآخرون واكتنفوه من جوانبه، وانحدر عليه الزنج من السور، فحاربهم بمن كان معه حربا شديدا حتى قتلوا وأخذ الزنج شذواتهم، فأدخلوها نهر أبي الخصيب ووافى أبو العباس بالشذوات الجنابية سالمة بما فيها من السلاح والرجال، فأمر أبو أحمد أبا العباس بتقلد أمر الشذوات كلها والمحاربة بها، وقطع مواد المير عنهم من كل جهة. ففعل ذلك، فأصلحت الشذوات، ورتب فيها المختارون من الناشبة والرامحة، حتى إذا أحكم أمرها أجمع، ورتبها في المواضع التي كانت تقصد إليها شذوات الخبيث، وتعيث فيها، أقبلت شذواته على عادتها التي كانت قد جرت عليها. فخرج إليهم أبو العباس في شذواته، وأمر سائر أصحاب الشذا أن يحملوا بحملته، ففعلوا ذلك وخالطوهم، وطفقوا يرشقونهم بالسهام، ويطعنونهم بالرماح، ويقذفونهم بالحجارة، وضرب الله وجوههم، فولوا منهزمين، وتبعهم أبو العباس وأصحابه حتى أولجوهم نهر أبي الخصيب، وغرق لهم ثلاث شذوات، وظفر بشذاتين من شذواتهم بما فيها من المقاتلة والملاحين. فأمر أبو العباس بضرب أعناق من ظفر به منهم. فلما رأى الخبيث ما نزل بأصحابه، امتنع من إخراج الشذا عن فناء قصره، ومنع اصحابه ان يجاوزوا بها الشط الا في الأوقات التي يخلو دجلة فيها من شذوات الموفق. فلما أوقع بهم أبو العباس هذه الوقعة اشتد جزعهم، وطلب وجوه أصحاب الخبيث الأمان فأومنوا، فكان ممن استأمن من وجوههم- فيما ذكر- محمد بن الحارث العمي، وكان إليه حفظ عسكر منكى والسور الذي يلي عسكر الموفق، وكان خروجه ليلا مع عدة من أصحابه، فوصله الموفق بصلات كثيرة، وخلع عليه، وحمله على عده دواب بخليتها وآلتها، وأسنى له الرزق، وكان محمد بن الحارث حاول إخراج زوجته معه، وهي إحدى بنات عمه،

فعجزت المرأة عن اللحاق به، فأخذها الزنج فردوها إلى الخبيث، فحبسها مدة، ثم أمر بإخراجها والنداء عليها في السوق، فبيعت، ومنهم أحمد المعروف بالبرذعي. وكان- فيما قيل- من أشجع رجال الخبيث الذين كانوا في حيز المهلبى ومن قواده الزنج مدبد وابن أنكلويه ومنينة، فخلع عليهم جميعا، ووصلوا بصلات كثيرة، وحملوا على الخيل، وأحسن إلى جميع من جاءوا به معهم من أصحابهم، وانقطعت عن الخبيث مواد الميرة، وسدت عليه وعلى من أقام معه المذاهب وأمر شبلا وأبا النداء- وهما من رؤساء قواده وقدماء أصحابه الذين كان يعتمد عليهم ويثق بمناصحتهم- بالخروج في عشرة آلاف من الزنج وغيرهم، والقصد لنهر الدير ونهر المرأة ونهر ابى الأسد، والخروج من هذه الأنهار إلى البطيحة للغارة على المسلمين، وأخذ ما وجدا من طعام وميرة ليقطع عن عسكر الموفق ما يرده من الميرة وغيرها من مدينة السلام وواسط ونواحيها. فندب الموفق لقصدهم حين انتهى إليه خبر مسيرهم مولاه زيرك صاحب مقدمة أبي العباس، وأمره بالنهوض في أصحابه إليهم، وضم إليه من اختار من الرجال، فمضى في الشذوات والسميريات، وحمل الرجالة في الزواريق والسفن الخفاف حثيثا، حتى صار إلى نهر الدير، فلم يعرف لهم هنالك خبرا، فصار منه إلى بثق شيرين ثم سلك في نهر عدي حتى خرج إلى نهر ابن عمر، فالتقى به جيش الزنج في جمع راعته كثرته، فاستخار الله في مجاهدتهم، وحمل عليهم في ذوي البصائر والثبات من أصحابه، فقذف الله الرعب في قلوبهم، فانفضوا، ووضع فيهم السلاح، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وغرق منهم مثل ذلك، وأسر خلقا كثيرا، وأخذ من سفنهم ما أمكنه أخذه، وغرق منها ما امكن تغريقه، فكان ما أخذ من سفنهم نحوا من أربعمائة سفينة، وأقبل بمن معه من الأسارى وبالرءوس الى عسكر الموفق.

خبر عبور الموفق إلى مدينه صاحب الزنج لحربه

خبر عبور الموفق الى مدينه صاحب الزنج لحربه وفي ذي الحجة لست بقين منه عبر الموفق بنفسه إلى مدينة الفاسق وجيشه لحربه. ذكر السبب الذي من أجله كان عبوره إليها: وكان السبب في ذلك- فيما ذكر- أن الرؤساء من أصحاب الفاسق، لما رأوا ما قد حل بهم من البلاء من قتل من يظهر منهم وشدة الحصار على من لزم المدينة، فلم يظهر منهم أحد، وحال من خرج منهم بالأمان من الإحسان إليه، والصفح عن جرمه، مالوا إلى الأمان، وجعلوا يهربون في كل وجه، ويخرجون إلى أبي أحمد في الأمان كلما وجدوا إليه السبيل. فملئ الخبيث من ذلك رعبا، وأيقن الهلاك، فوكل بكل ناحية كان يرى أن فيها طريقا للهرب من عسكره أحراسا وحفظة، وأمرهم بضبط تلك النواحي، ووكل بفوهة الأنهار من يمنع السفن من الخروج منها، واجتهد في سد كل ملك وطريق وثلمة، لئلا يطمع في الخروج عن مدينته. وأرسل جماعة من قواد الفاجر صاحب الزنج إلى الموفق يسألونه الأمان، وأن يوجه لمحاربة الخبيث جيشا ليجدوا إلى المصير إليه سبيلا، فأمر الموفق أبا العباس بالمصير في جماعة من أصحابه إلى الموضع المعروف بنهر الغربي، وعلي بن أبان حينئذ يحوط ذلك النهر، فنهض أبو العباس في المختارين من اصحابه، ومعه الشذا والسميريات والمعابر، فقصد النهر الغربي، وانتدب المهلبي وأصحابه لحربه، فاستعرت الحرب بين الفريقين، وعلا أصحاب أبي العباس، وقهر الزنج، وأمد الفاسق المهلبي بسليمان بن جامع في جمع من الزنج كثير، واتصلت الحرب يومئذ من أول النهار إلى وقت العصر، وكان الظفر في ذلك اليوم لأبي العباس وأصحابه، وصار إليه القوم الذين كانوا طلبوا الأمان من قواد الخبيث، ومعهم جمع كثير من الفرسان وغيرهم من الزنج، فأمر أبو العباس عند ذلك أصحابه بالرجوع إلى الشذا والسفن،

وانصرف فاجتاز في منصرفه بمدينة الخبيث، حتى انتهى إلى الموضع المعروف بنهر الأتراك، فرأى أصحابه من قلة عدد الزنج في هذا الموضع من النهر ما طمعوا له فيمن كان هناك، فقصدوا نحوهم، وقد انصرف أكثر أصحابهم إلى المدينة الموفقية، فقربوا إلى الأرض، وصعدوا وأمعنوا في دخول تلك المسالك، وعلت جماعة منهم السور، وعليه فريق من الزنج وأشياعهم، فقتلوا من أصابوا منهم هنالك، ونذر الفاسق بهم، فاجتمعوا لحربهم، وأنجد بعضهم بعضا. فلما رأى أبو العباس اجتماع الخبثاء وتحاشدهم وكثرة من ثاب إلى ذلك الموضع منهم، مع قلة عدد من هنالك من أصحابه، كر راجعا إليهم فيمن كان معه في الشذا، وأرسل إلى الموفق يستمده، فوافاه لمعونته من خف لذلك من الغلمان في الشذا والسميريات، فظهروا على الزنج وهزموهم، وقد كان سليمان بن جامع لما رأى ظهور أصحاب أبي العباس على الزنج، وغل في النهر مصاعدا في جمع كثير، فانتهى إلى النهر المعروف بعبد الله، واستدبر أصحاب أبي العباس وهم في حربهم، مقبلين على من بإزائهم ممن يحاربهم، فيمعنون في طلب من انهزم عنهم من الزنج فخرج عليهم من ورائهم، وخفقت طبوله، فانكشف أصحاب أبي العباس، ورجع عليهم من كان انهزم عنهم من الزنج، فأصيبت جماعة من غلمان الموفق وغيرهم من جنده، وصار في أيدي الزنج عدة أعلام ومطارد، وحامى أبو العباس عن الباقين من أصحابه، فسلم أكثرهم، فانصرف بهم، فأطمعت هذه الوقعة الزنج وتباعهم، وشدت قلوبهم، فأجمع الموفق على العبور بجيشه أجمع لمحاربة الخبيث، وأمر أبا العباس وسائر القواد والغلمان بالتأهب للعبور، وأمر بجمع السفن والمعابر وتفريقها عليهم، ووقف على يوم بعينه أراد العبور فيه، فعصفت رياح منعت من ذلك، واتصل عصوفها أياما كثيرة، فأمهل الموفق حتى انقضى هبوب تلك الرياح، ثم أخذ في الاستعداد للعبور ومناجزة الفاجر

فلما تهيأ له ما أراد من ذلك عبر يوم الأربعاء لست ليال بقين من ذي الحجة من سنة سبع وستين ومائتين في أكثف جمع وأكمل عدة، وأمر بحمل خيل كثيرة في السفن، وتقدم إلى أبي العباس في المسير في الخيل ومعه جميع قواده الفرسان ورجالتهم، ليأتي الفجرة من ورائهم من مؤخر النهر المعروف بمنكى، وأمر مسرورا البلخى مولاه بالقصد الى نهر الغربي ليضطر الخبيث بذلك إلى تفريق أصحابه، وتقدم إلى نصير المعروف بأبي حمزة ورشيق غلام أبي العباس وهو من أصحابه- وشذواته في مثل العدة التي فيها نصير- بالقصد لفوهة نهر أبي الخصيب والمحاربة لما يظهر من شذوات الخبيث، وقد كان استكثر منها، وأعد فيها المقاتلة وانتخبهم وقصد أبو أحمد بجميع من معه لركن من أركان مدينة الخبيث قد كان حصنه بابنه المعروف بأنكلاي، وكنفه بعلي بن أبان وسليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر الهمداني وحفه بالمجانيق والعرادات والقسي الناكية، وأعد فيه الناشبة وجمع فيه أكثر جيشه. فلما التقى الجمعان أمر الموفق غلمانه: الناشبة والرامحة والسودان، بالدنو من الركن الذي فيه جمع الفسقة، وبينه وبينهم النهر المعروف بنهر الأتراك، وهو نهر عريض غزير الماء فلما انتهوا إليه أحجموا عنه، فصيح بهم، وحرضوا على العبور فعبروا سباحة، والفسقة يرمونهم بالمجانيق والعرادات والمقاليع والحجارة عن الأيدي، وبالسهام عن القسي الناوكية، وقسي الرجل وصنوف الآلات التي يرمى عنها، فصبروا على جميع ذلك حتى جاوزوا النهر، وانتهوا إلى السور، ولم يكن لحقهم من الفعلة من كان أعد لهدمه فتولى الغلمان تشعيث السور بما كان معهم من سلاحهم ويسر الله ذلك، وسهلوا لأنفسهم السبيل إلى علوه، وحضرهم بعض السلاليم التي كانت أعدت لذلك، فعلوا الركن، ونصبوا هنالك علما من أعلام الموفق، وأسلم الفسقة سورهم، وخلوا عنه بعد أن حوربوا عليه أشد حرب، وقتل من الفريقين خلق كثير، وأصيب غلام من غلمان الموفق يقال له ثابت بسهم في بطنه فمات، وكان من قواد الغلمان وجلتهم. ولما تمكن أصحاب الموفق من سور الفسقة، أحرقوا ما كان عليه من منجنيق

وعرادة وقوس ناوكية، وخلوا عن تلك الناحية وأسلموها وقد كان أبو العباس قصد بأصحابه في الخيل النهر المعروف بمنكى، فمضى علي بن أبان المهلبي في أصحابه، قاصدا لمعارضته ودفعه عما صمد له، والتقيا، فظهر أبو العباس عليه وهزمه، وقتل جمعا كثيرا من أصحابه، وأفلت المهلبي راجعا، وانتهى أبو العباس إلى الموضع الذي قدر أن يصل منه إلى مدينة الفاسق من مؤخر نهر منكى، وهو يرى أن المدخل من ذلك الموضع سهل، فدخل إلى الخندق فوجده عريضا ممتنعا، فحمل أصحابه على أن يعبروه بخيولهم، وعبره الرجالة سباحة حتى وافوا السور، فثلموا فيه ثلما اتسع لهم منه الدخول فدخلوا، فلقي أوائلهم سليمان بن جامع، وقد أقبل للمدافعة عن تلك الناحية لما انتهى إليه انهزام المهلبي عنها، فحاربوه، وكان أمام القوم عشرة من غلمان الموفق، فدافعوا سليمان وأصحابه، وهم خلق كثير، وكشفوهم مرارا كثيرة، وحاموا عن سائر أصحابهم حتى رجعوا إلى مواضعهم. وقال محمد بن حماد: لما غلب أصحاب الموفق على الموضع الذي كان الفاسق حرسه بابنه والمذكورين من أصحابه وقواده، وشعثوا من السور الذي أفضوا إليه ما أمكنهم تشعيثه، وافاهم الذين كانوا أعدوا للهدم بمعاولهم وآلاتهم، فثلموا في السور عدة ثلم، وقد كان الموفق اعد الخندق الفسقة جسرا يمد عليه، فمد عليه، وعبر جمهور الناس فلما عاين الخبثة ذلك، ارتاعوا فانهزموا عن سور لهم ثان قد كانوا اعتصموا به، ودخل أصحاب الموفق مدينة الخائن، فولى الفاجر وأشياعه منهزمين، وأصحاب الموفق يتبعونهم ويقتلون من انتهوا إليه منهم، حتى انتهوا إلى النهر المعروف بابن سمعان، وصارت دار ابن سمعان في أيدي أصحاب الموفق، وأحرقوا ما كان فيها وهدموها، ووقف الفجرة على نهر ابن سمعان وقوفا طويلا، ودافعوا مدافعة شديدة، وشد بعض غلمان الموفق على علي بن أبان المهلبي، فأدبر عنه هاربا، فقبض على مئزره، فخلى عن المئزر، ونبذه إلى الغلام، ونجا بعد أن أشفى على الهلكة، وحمل أصحاب الموفق على الزنج حملة صادقة، فكشفوهم عن النهر المعروف بابن سمعان،

حتى وافوا بهم طرف ميدان الفاسق، وانتهى إليه خبر هزيمة أصحابه ودخول أصحاب الموفق مدينته من أقطارها، فركب في جمع من أصحابه، فتلقاه أصحاب الموفق، وهم يعرفونه في طرف ميدانه، فحملوا عليه، فتفرق عنه أصحابه ومن كان معه وأفردوه، وقرب منه بعض الرجالة حتى ضرب وجه فرسه بترسه، وكان ذلك مع مغيب الشمس، فأمر الموفق أصحابه بالرجوع إلى سفنهم، فرجعوا سالمين، قد حملوا من رءوس الخبثاء شيئا كثيرا، ونالوا كل الذي أحبوا منهم من قتل وجراح وتحريق منازل وأسواق، وقد كان استأمن إلى أبي العباس في أول النهار عدد من قواد الفاجر وفرسانه، فاحتاج إلى التوقف على حملهم في السفن، وأظلم الليل، وهبت ريح شمال عاصف، وقوي الجزر، فلصق أكثر السفن بالطين. وحرض الخبيث أشياعه واستنجدهم، فبانت منهم جماعة، وشدوا على السفن المتخلفة، فنالوا منها نيلا، وقتلوا فيها نفرا، وقد كان بهبوذ بإزاء مسرور البلخي وأصحابه في هذا اليوم في نهر الغربي، فأوقع بهم، وقتل جماعة منهم، وأسر أسارى، وصارت في يده دواب من دوابهم، فكسر ذلك نشاط أصحاب الموفق وقد كان الخبيث أخرج في هذا اليوم جميع شذواته إلى دجلة محاربين فيها رشيقا، وضرب منها رشيق على عدة شذوات، وغرق منها وحرق، وانهزم الباقون إلى نهر أبي الخصيب. وذكر أنه نزل في هذا اليوم بالفاسق وأصحابه ما دعاهم إلى التفرق والهرب على وجوههم نحو نهر الأمير والقندل وإبرسان وعبادان وسائر القرى، وهرب يومئذ أخوا سليمان بن موسى الشعراني: محمد وعيسى، فمضيا يؤمان البادية، حتى انتهى إليهما رجوع أصحاب الموفق، فرجعا، وهرب جماعة من العرب الذين كانوا في عسكر الفاسق، وصاروا إلى البصرة، وبعثوا يطلبون الأمان من أبي أحمد، فآمنهم، ووجه إليهم السفن، فحملهم إلى الموفقية، وأمر أن يخلع عليهم، ويوصلوا، ويجري عليهم الأرزاق والأنزال، ففعل ذلك بهم

وكان فيمن رغب في الأمان من جلة قواد الفاجر ريحان بن صالح المغربي، وكانت له رياسة وقيادة، وكان يتولى حجبة ابن الخبيث المعروف بأنكلاي، فكتب ريحان يطلب الأمان لنفسه ولجماعة من أصحابه، فأجيب إلى ذلك، وأنفذ إليه عدد كثير من الشذا والسميريات والمعابر مع زيرك القائد صاحب مقدمة أبي العباس، فسلك النهر المعروف باليهودي، حتى وافى الموضع المعروف بالمطوعة، فألفى به ريحان ومن معه من أصحابه، وقد كان الموعد تقدم في موافاة ذلك الموضع زيرك ريحان ومن معه، فوافى بهم دار الموفق، فأمر لريحان بخلع، وحمل على عدة من أفراس بآلتها، وأجيز بجائزة سنية، وخلع على أصحابه، وأجيزوا على أقدارهم، وضم إلى أبي العباس، وأمر بحمله وحمل أصحابه والمصير بهم إلى إزاء دار الخبيث، فوقفوا هنالك في الشذا، فعرفوا خروج ريحان وأصحابه في الأمان، وما صاروا إليه من الإحسان، فاستأمن في ساعتهم تلك من اصحاب ريحان الذين كانوا تخلفوا وغيرهم جماعة، فألحقوا في البر والإحسان بأصحابهم، وكان خروج ريحان بعد الوقعة التي كانت يوم الأربعاء في يوم الأحد لليلة بقيت من ذي الحجة سنة سبع وستين ومائتين. وفي هذه السنة أقبل أحمد بن عبد الله الخجستاني يريد العراق بزعمه، حتى صار إلى سمنان، وتحصن منه أهل الري وحصنوا مدينتهم، ثم انصرف من سمنان راجعا إلى خراسان. وفيها انصرف خلق كثير من طريق مكة في البدأة لشدة الحر، ومضى خلق كثير، فمات ممن مضى خلق كثير من شدة الحر، وكثير منهم من العطش، وذلك كله في البدأة، وأوقعت فزارة فيها بالتجار، فأخذوا- فيما ذكر- منهم سبعمائة حمل بز. وفيها اجتمع بالموسم عامل لأحمد بن طولون في خيله وعامل لعمرو بن الليث في خيله، فنازع كل واحد منهما صاحبه في ركز علمه على يمين المنبر في مسجد إبراهيم خليل الرحمن، وادعى كل واحد منهما أن الولاية

لصاحبه، وسلا السيوف، فخرج معظم الناس من المسجد، واعان موالي هارون ابن محمد من الزنج صاحب عمرو بن الليث، فوقف حيث أراد، وقصر هارون- وكان عامل مكة- الخطبة وسلم الناس، وكان المعروف بأبي المغيرة المخزومي حينئذ يحرس في جميعة. وفيها نفي الطباع عن سامرا. وفيها ضرب الخجستاني لنفسه دنانير ودراهم ووزن الدينار منها عشرة دوانيق، ووزن الدرهم ثمانية دوانيق، عليه: الملك والقدرة لله، والحول والقوة بالله، لا إله الا الله محمد رسول الله، وعلى جانب منه: المعتمد على الله باليمن والسعادة، وعلى الجانب الآخر: الوافي أحمد بن عبد الله. وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمى.

سنه ثمان وستين ومائتين

ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ذكر خبر استئمان جعفر بن ابراهيم الى ابى احمد الموفق فمن ذلك ما كان من استئمان جعفر بن إبراهيم المعروف بالسجان إلى أبي أحمد الموفق في يوم الثلاثاء في غرة المحرم منها وذكر أن السبب كان في ذلك الوقعة التي كانت لأبي أحمد في آخر ذي الحجة من سنة سبع وستين ومائتين التي ذكرناها قبل، وهرب ريحان بن صالح المغربي من عسكر الفاجر وأصحابه ولحاقه بأبي أحمد، فنخب قلب الخبيث لذلك، وذلك أن السجان كان- فيما قيل- أحد ثقاته، فأمر أبو أحمد للسجان هذا بخلع وجوائز وصلات وحملان وأرزاق، وأقيمت له أنزال، وضم إلى أبي العباس، وأمره بحمله في الشذاة إلى إزاء قصر الفاسق، حتى رآه وأصحابه، وكلمهم السجان، وأخبرهم أنهم في غرور من الخبيث، وأعلمهم ما قد وقف عليه من كذبه وفجوره، فاستأمن في هذا اليوم الذي حمل فيه السجان من عسكر الخبيث خلق كثير من قواده الزنج وغيرهم، وأحسن إليهم، وتتابع الناس في طلب الأمان والخروج من عند الخبيث، ثم أقام أبو أحمد بعد الوقعة التي ذكرت أنها كانت لليلة بقيت من ذي الحجة من سنة سبع وستين ومائتين، لا يعبر إلى الخبيث لحرب، يجم بذلك أصحابه إلى شهر ربيع الآخر. وفي هذه السنة صار عمرو بن الليث إلى فارس لحرب عامله محمد بن الليث عليها، فهزمه عمرو، واستباح عسكره، وأفلت محمد بن الليث في نفر، ودخل عمرو إصطخر، فانتهبها أصحابه، ووجه عمرو في طلب محمد بن الليث فظفر به، وأتي به أسيرا، ثم صار عمرو إلى شيراز فأقام بها

ذكر خبر عبور الموفق إلى مدينه الزنج

وفي شهر ربيع الأول منها زلزلت بغداد لثمان خلون منه، وكان بعد ذلك ثلاثة أيام مطر شديد، ووقعت بها أربع صواعق وفيها زحف العباس بن أحمد بن طولون لحرب أبيه، فخرج إليه أبوه أحمد إلى الإسكندرية، فظفر به ورده إلى مصر فرجع معه إليها. ذكر خبر عبور الموفق الى مدينه الزنج ولأربع عشرة ليلة بقيت من ربيع الآخر منها عبر أبو أحمد الموفق إلى مدينة الفاجر، بعد أن أوهى قوته في مقامه بمدينه الموفقيه، بالتضييق عليه والحصار، ومنعه وصول المير إليه، حتى استأمن إليه خلق كثير من أصحابه، فلما أراد العبور إليها أمر- فيما ذكر- ابنه أبا العباس بالقصد للموضع الذي كان قصده من ركن مدينة الخبيث الذي يحوطه بابنه وجلة أصحابه وقواده، وقصد أبو أحمد موضعا من السور فيما بين النهر المعروف بمنكى والنهر المعروف بابن سمعان، وأمر صاعدا وزيره بالقصد لفوهة النهر المعروف بجري كور، وتقدم إلى زيرك في مكانفته، وأمر مسرورا البلخي بالقصد النهر الغربي، وضم إلى كل واحد منهم من الفعلة جماعة لهدم ما يليهم من السور، وتقدم إلى جميعهم ألا يزيدوا على هدم السور، وألا يدخلوا مدينة الخبيث. ووكل بكل ناحية من النواحي التي وجه إليها القواد شذوات فيها الرماة، وأمرهم أن يحموا بالسهام من يهدم السور من الفعلة والرجالة الذين يخرجون للمدافعة عنهم، فثلم في السور ثلم كثيرة، ودخل أصحاب أبي أحمد مدينة الفاجر من جميع تلك الثلم، وجاء أصحاب الخبيث يحاربونهم، فهزمهم أصحاب أبي أحمد، وأتبعوهم حتى وغلوا في طلبهم، واختلفت بهم طرق المدينة، وفرقت بينهم السكك والفجاج، فانتهوا إلى أبعد من الموضع الذي كانوا وصلوا إليه في المرة التي قبلها، وحرقوا وقتلوا. ثم تراجع أصحاب الخبيث، فشدوا على أصحاب أبي أحمد، وخرج كمناؤهم من نواح يهتدون لها ولا يعرفها الآخرون، فتحير من كان داخل

ذكر وقعه ابى العباس بمن كان يمد الزنج من الاعراب

المدينة من أصحاب أبي أحمد، ودافعوا عن أنفسهم، وتراجعوا نحو دجلة حتى وافاها أكثرهم، فمنهم من دخل السفينة، ومنهم من قذف نفسه في الماء، فأخذه أصحاب الشذا، ومنهم من قتل وأصاب أصحاب الخبيث أسلحة وأسلابا، وثبت جماعة من غلمان أبي أحمد بحضرة دار ابن سمعان، ومعهم راشد وموسى بن أخت مفلح، في جماعة من قواد الغلمان كانوا آخر من ثبت من الناس، ثم أحاط بهم الزنج وكثروهم، وحالوا بينهم وبين الشذا، فدافعوا عن أنفسهم وأصحابهم، حتى وصلوا إلى الشذا فركبوها. وأقام نحو من ثلاثين غلاما من الديالمة في وجوه الزنج وغيرهم، يحمون الناس، ويدفعون عنهم حتى سلموا، وقتل الثلاثون من الديالمة عن آخرهم، بعد ما نالوا من الفجار ما أحبوا، وعظم على الناس ما نالهم في هذه الوقعة، وانصرف ابو احمد بمن معه الى مدينته الموفقيه، وامر يجمعهم وعذلهم على ما كان منهم من مخالفة أمره، والافتيات عليه في رأيه وتدبيره، وتوعدهم بأغلظ العقوبة إن عادوا لخلاف أمره بعد ذلك، وامر بإحصاء المفقودين من اصحابه فاحصوا له، فأتي بأسمائهم، وأقر ما كان جاريا لهم على أولادهم وأهاليهم، فحسن موقع ذلك منهم، وزاد في صحة نياتهم لما رأوا من حياطته خلف من أصيب في طاعته. ذكر وقعه ابى العباس بمن كان يمد الزنج من الاعراب وفيها كانت لأبي العباس وقعة بقوم من الأعراب الذين كانوا يميرون الفاسق اجتاحهم فيها. ذكر الخبر عن السبب الذي كانت من أجله هذه الوقعة: ذكر أن الفاسق لما خرب البصرة ولاها رجلا من قدماء أصحابه يقال له أحمد بن موسى بن سعيد المعروف بالقلوص، فكان يتولى أمرها، وصارت

فرصة للفاسق يردها الأعراب والتجار، ويأتونها بالمير وأنواع التجارات، ويحمل ما يردها إلى عسكر الخبيث، حتى فتح أبو أحمد طهيثا، وأسر القلوص فولى الخبيث ابن أخت القلوص- يقال له مالك بن بشران- البصرة وما يليها: فلما نزل أبو أحمد فرات البصرة خاف الفاجر إيقاع أبي أحمد بمالك هذا، وهو يومئذ نازل بسيحان على نهر يعرف بنهر ابن عتبة فكتب إلى مالك يأمره بنقل عسكره إلى النهر المعروف بالديناري، وأن ينفذ جماعة ممن معه لصيد السمك وإدرار حمله إلى عسكره، وإن يوجه قوما إلى الطريق التي يأتي منها الأعراب من البادية، ليعرف ورود من يرد منهم بالمير، فإذا وردت رفقة من الأعراب خرج إليها بأصحابه، حتى يحمل ما تأتي به إلى الخبيث، ففعل ذلك مالك ابن أخت القلوص، ووجه إلى البطيحة رجلين من أهل قرية بسمى، يعرف أحدهما بالريان والآخر الخليل، وكانا مقيمين بعسكر الخبيث، فنهض الخليل والريان وجمعا جماعة من أهل الطف، وأتيا قرية بسمى، فأقاما بها يحملان السمك من البطيحة أولا أولا إلى عسكر الخبيث في الزواريق الصغار التي تسلك بها الأنهار الضيقة والأرخنجان التي لا تسلكها الشذا والسميريات، فكانت مواد سمك البطيحة متصلة إلى عسكر الخبيث بمقام هذين الرجلين بحيث ذكرنا، واتصلت أيضا مير الأعراب وما كانوا يأتون به من البادية فاتسع أهل عسكره، ودام ذلك إلى أن استأمن إلى الموفق رجل من أصحاب الفاجر الذين كانوا مضمومين إلى القلوص، يقال له علي بن عمر، ويعرف بالنقاب، فأخبر بخبر مالك بن بشران ومقامه بالنهر المعروف بالديناري، وما يصل إلى عسكر الخبيث بمقامه هناك من سمك البطيحة وجلب الأعراب فوجه الموفق زيرك مولاه في الشذا والسميريات إلى الموضع الذي به ابن أخت القلوص، فأوقع به وبأهل عسكره، فقتل منهم فريقا وأسر فريقا، وتفرق أهل ذلك العسكر، وانصرف مالك إلى الخبيث مفلولا، فرده الخبيث في جمع إلى مؤخر النهر المعروف باليهودي، فعسكر هنالك بموضع قريب من النهر المعروف بالفياض، فكانت المير تتصل بعسكر الخبيث مما يلي سبخة

الفياض فانتهى خبر مالك ومقامه بمؤخر نهر اليهودي ووقع المير من تلك الناحية إلى عسكر الفاجر إلى الموفق، فأمر ابنه أبا العباس بالمصير إلى نهر الأمير، والنهر المعروف بالفياض لتعرف حقيقة ما انتهى إليه من ذلك، فنفذ الجيش، فوافق جماعة من الأعراب يرأسهم رجل قد أورد من البادية إبلا وغنما وطعاما، فأوقع بهم أبو العباس، فقتل منهم جماعة وأسر الباقين، ولم يفلت من القوم إلا رئيسهم، فإنه سبق على حجر كانت تحته، فأمعن هربا، وأخذ كل ما كان أولئك الأعراب أتوا به من الإبل والغنم والطعام، وقطع أبو العباس يد أحد الأسرى وأطلقه، فصار إلى معسكر الخبيث، فأخبرهم بما نزل به، فريع مالك ابن أخت القلوص بما كان من إيقاع أبي العباس بهؤلاء الأعراب فاستأمن إلى أبي أحمد، فأومن وحبي وكسي وضم إلى أبي العباس وأجريت له الأرزاق، وأقيمت له الأنزال وأقام الخبيث مقام مالك رجلا كان من أصحاب القلوص، ويقال له أحمد بن الجنيد، وأمره أن يعسكر بالموضع المعروف بالدهرشير ومؤخر نهر أبي الخصيب، وأن يصير في أصحابه إلى ما يقبل من سمك البطيحة، فيحمله إلى عسكر الخبيث، وتأدى إلى أبي أحمد خبر أحمد بن الجنيد، فوجه قائدا من قواد الموالي يقال له الترمدان في جيش، فعسكر بالجزيرة المعروفة بالروحية، فانقطع ما كان يأتي إلى عسكر الخبيث من سمك البطيحة، ووجه الموفق شهاب بن العلاء ومحمد بن الحسن العنبريين في خيل لمنع الأعراب من حمل المير إلى عسكر الخبيث، وأمر بإطلاق السوق لهم بالبصرة، وحمل ما يريدون امتياره من التمر، إذ كان ذلك سبب مصيرهم إلى عسكر الخبيث، فتقدم شهاب ومحمد لما أمرا به، فأقاما بالموضع المعروف بقصر عيسى، فكان الأعراب يوردون إليهما ما يجلبونه من البادية، ويمتارون التمر مما قبلهما. ثم صرف أبو أحمد الترمدان عن البصرة، ووجه مكانه قائدا من قواد الفراغنة، يقال له قيصر بن أرخوز إخشاذ فرغانة، ووجه نصيرا المعروف بأبي حمزة في الشذا والسميريات، وأمره بالمقام بفيض البصرة ونهر دبيس

أخبار متفرقة

وأن يخترق نهر الأبلة ونهر معقل ونهر غربي، ففعل ذلك. قال محمد بن الحسن: وحدثني محمد بن حماد، قال: لما انقطعت المير عن الخبيث وأشياعه بمقام نصير وقيصر بالبصرة، ومنعهم الميرة من البطيحة والبحر بالشذا، صرفوا الحيلة إلى سلوك نهر الأمير إلى القندل، ثم سلوك المسيحي إلى الطرق المؤدية إلى البر والبحر، فكانت ميرهم من البر والبحر، وامتيارهم سمك البحر من هذه الجهة، فانتهى ذلك إلى الموفق، فأمر رشيقا غلام أبي العباس باتخاذ عسكر بجويث بارويه في الجانب الشرقي من دجلة بإزاء نهر الأمير، وأن يحفر له خندقا حصينا، وأمر أبا العباس أن يضم إلى رشيق من خيار أصحابه خمسة آلاف رجل وثلاثين شذاة، وتقدم إلى رشيق في ترتيب هذه الشذا على فوهة نهر الأمير، وأن يجعل على كل خمس عشرة شذاة منها نوبة يلج فيها نهر الأمير، حتى ينتهي إلى المعترض الذي كان الزنج يسلكونه إلى دبا والقندل والنهر المعروف بالمسيحي، فيكون هناك، فإن طلع عليهم من الخبثاء طالع أوقعوا به، فإذا انقضت نوبتهم انصرفوا وعاقبهم أصحابهم المقيمون على فوهة النهر ففعلوا مثل هذا الفعل فعسكر رشيق في الموضع الذي أمر بترتيبه به، فانقطعت طرق الفجرة التي كانوا يسلكونها إلى دبا والقندل والمسيحي، فلم يكن لهم سبيل إلى بر ولا بحر، فضاقت عليهم المذاهب، واشتد عليهم الحصار. [أخبار متفرقة] وفيها أوقع أخو شركب بالخجستاني وأخذ أمه. وفيها وثب ابن شبث بن الحسن، فأخذ عمر بن سيما والي حلوان وفيها انصرف أحمد بن أبي الأصبغ من عند عمرو بن الليث، وكان عمرو قد وجهه إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف، فقدم معه بمال، فوجه عمرو مما صودر عليه ثلاثمائة ألف دينار ونيفا وهدية فيها خمسون منا مسكا وخمسون منا عنبرا، ومائتا منّ عودا، وثلاثمائة ثوب وشي وغيره، وآنية ذهب وفضة ودواب وغلمان بقيمة مائتي ألف دينار، فكان ما حمل واهدى بقيمة خمسمائة الف دينار

ذكر خبر إيقاع رشيق بمن اعان الزنج من تميم

وفيها ولى كيغلغ الخليل بن ريمال حلوان، فنالهم بالمكاره بسبب عمر ابن سيما وأخذهم بجريرة ابن شبث، فضمنوا له خلاص ابن سيما وإصلاح أمر ابن شبث. سنه 268 ذكر خبر إيقاع رشيق بمن اعان الزنج من تميم وفيها أوقع رشيق غلام أبي العباس بن الموفق بقوم من بني تميم، كانوا أعانوا الزنج على دخول البصرة وإحراقها، وكان السبب في ذلك انه كان انتهى إليه أن قوما من هؤلاء الأعراب قد جلبوا ميرة من البر إلى مدينة الخبيث، طعاما وإبلا وغنما، وأنهم في مؤخر نهر الأمير ينتظرون سفنا تأتيهم من مؤخر عسكر الفاجر تحملهم وما معهم فسرى إليهم رشيق في الشذا، فوافى الموضع الذي كانوا حلوا به، وهو النهر المعروف بالإسحاقي، فأوقع بهم وهم غارون، فقتل أكثرهم وأسر جماعة منهم وهم تجار كانوا خرجوا من عسكر الخبيث لجلب الميرة، وحوى ما كان معهم من أصناف المير والشاء والإبل والحمير التي كانوا حملوا عليها الميرة فحمل الأسرى والرءوس في الشذا وفي سفن كانت معه إلى الموفقية، فأمر الموفق فعلقت الرءوس في الشذا، وصلب الأسارى هنالك، وأظهر ما صار إلى رشيق وأصحابه، وطيف بذلك في أقطار العسكر، ثم أمر بالرءوس والأسارى، فاجتيز بهم على عسكر الخبيث حتى عرفوا ما كان من رشيق من الإيقاع بجالبي المير إليهم، ففعل ذلك وكان فيمن ظفر به رشيق رجل من الأعراب، كان يسفر بين صاحب الزنج والأعراب في جلب الميرة، فأمر به الموفق فقطعت يده ورجله، وألقي في عسكر الخبيث ثم أمر بضرب أعناق الأساري فضربت، وسوغ أصحاب رشيق ما أصابوا من أموالهم، وأمر لرشيق بخلع وصلة، ورده إلى عسكره، فكثر المستأمنون إلى رشيق فأمر أبو أحمد بضم من خرج منهم إلى رشيق إليه، فكثروا حتى كان كأكثر العساكر جمعا، وانقطعت عن

الخبيث وأصحابه المير من الوجوه كلها، وانسد عليهم كل مسلك كان لهم، فأضر بهم الحصار، وأضعف أبدانهم، فكان الأسير منهم يؤسر، والمستأمن يستأمن، فيسأل عن عهده بالخبز، فيعجب من ذلك، ويذكر أن عهده بالخبز مذ سنة وسنتين فلما صار أصحاب الخائن إلى هذه الحال، رأى الموفق أن يتابع الإيقاع بهم، ليزيدهم بذلك ضرا وجهدا، فخرج إلى أبي أحمد في هذا الوقت في الأمان خلق كثير، واحتاج من كان مقيما في حيز الفاسق إلى الحيلة لقوته، فتفرقوا في القرى والأنهار النائية عن معسكرهم في طلب القوت، فتأدى الخبر بذلك إلى أبي أحمد، فأمر جماعة من قواد غلمانه السودان وعرفائهم بأن يقصدوا المواضع التي يعتادها الزنج، وأن يستميلوهم ويستدعوا طاعتهم، فمن أبى الدخول منهم في ذلك قتلوه وحملوا رأسه، وجعل لهم جعلا، فحرصوا وواظبوا على الغدو والرواح، فكانوا لا يخلون في يوم من الأيام من جماعة يجلبونهم، ورءوس يأتون بها، وأسارى يأسرونهم. قال محمد بن الحسن: قال محمد بن حماد: ولما كثر أسارى الزنج عند الموفق، أمر باعتراضهم، فمن كان منهم ذا قوة وجلد ونهوض بالسلاح من عليه، وأحسن إليه، وخلطه بغلمانه السودان، وعرفهم ما لهم عنده من البر والإحسان، ومن كان منهم ضعيفا لا حراك به، أو شيخا فانيا لا يطيق حمل السلاح، أو مجروحا جراحة قد أزمنته، أمر بأن يكسى ثوبين، ويوصل بدراهم، ويزود ويحمل إلى عسكر الخبيث، فيلقى هناك بعد ما يؤمر بوصف ما عاين من إحسان الموفق إلى كل من يصير إليه، وأن ذلك رأيه في جميع من يأتيه مستأمنا ويأسره منهم، فتهيأ له من ذلك ما أراد من استمالة أصحاب صاحب الزنج، حتى استشعروا الميل إلى ناحيته والدخول في سلمه وطاعته، وجعل الموفق وابنه أبو العباس يغاديان حرب الخبيثة ومن معه، ويراوحانها بأنفسهما ومن معهما، فيقتلان ويأسران ويجرحان، وأصاب أبا العباس في بعض تلك الوقعات سهم جرحه فبرأ منه.

ذكر الخبر عن قتل بهبوذ بن عبد الوهاب

ذكر الخبر عن قتل بهبوذ بن عبد الوهاب وفي رجب من هذه السنة قتل بهبوذ صاحب الخبيث. ذكر الخبر عن سبب مقتله: ذكر أن أكثر أصحاب الفاسق غارات، وأرشدهم تعرضا لقطع السبيل وأخذ الأموال، كان بهبوذ بن عبد الوهاب، وكان قد جمع من ذلك مالا جليلا، وكان كثير الخروج في السميريات الخفاف، فيخترق الأنهار المؤدية إلى دجلة، فإذا صادف سفينة لأصحاب الموفق أخذها فأدخلها النهر الذي خرج منه، فإن تبعه تابع حتى توغل في طلبه خرج عليه من النهر قوم من أصحابه قد أعدهم لذلك، فاقتطعوه وأوقعوا به، فلما كثر ذلك وتحرز منه ركب شذاة، وشبهها بشذوات الموفق، ونصب عليها مثل أعلامه، وسار بها في دجلة، فإذا ظفر بغرة من أهل العسكر أوقع بهم، فقتل وأسر، ويتجاوز إلى نهر الأبلة ونهر معقل وبثق شيرين ونهر الدير فيقطع السبل، ويعبث في أموال السابلة ودمائهم، فرأى الموفق عند ما انتهى إليه من أفعال بهبوذ أن يسكر جميع الانهار التي يخف سكرها، ويرتب الشذاه على فوهة الأنهار العظام، ليأمن عبث بهبوذ وأشياعه، ويأمن سبل الناس ومسالكهم فلما حرست هذه المسالك، وسكر ما أمكن سكره من الأنهار، وحيل بين بهبوذ وبين ما كان يفعل، أقام منتهزا فرصة في غفلة أصحاب الشذا الموكلين بفوهة نهر الأبلة، حتى إذا وجد ذلك اجتاز من مؤخر نهر أبي الخصيب في شذوات مثل أصحاب الموفق وسميرياتهم، ونصب عليها مثل أعلامهم، وشحنها بجلد أصحابه وأنجادهم وشجعانهم، واعترض بها في معترض يؤدي إلى النهر المعروف باليهودي، ثم سلك نهر نافذ حتى خرج منه إلى نهر الأبلة، وانتهى إلى الشذوات والسميريات المرتبة لحفظ النهر، وأهلها غارون غافلون، فأوقع بهم، وقتل جمعا، وأسر أسرى، وأخذ ست شذوات، وكر راجعا في نهر الأبله، وانتهى الخبر بما كان من بهبوذ

إلى الموفق، فأمر أبا العباس بمعارضته في الشذا من النهر المعروف باليهودي، ورجا أن يسبقه إلى المعترض فيقطعه عن الطريق المؤدي إلى مأمنه. فوافى أبو العباس الموضع المعروف بالمطوعة، وقد سبق بهبوذ، فولج النهر المعروف بالسعيدي، وهو نهر يؤدي إلى نهر أبي الخصيب وبصر أبو العباس بشذوات بهبوذ، وطمع في إدراكها، فجد في طلبها، فأدركها ونشبت الحرب، فقتل أبو العباس من أصحاب بهبوذ جمعا، وأسر جمعا، واستأمن إليه فريق منهم، وتلقى بهبوذ من أشياعه خلق كثير، فعاونوه ودافعوا عنه دفعا شديدا، وقد كان الماء جزر، فجرت شذواته في الطين في المواضع التي نضب الماء عنها من تلك الأنهار والمعترضات، فأفلت بهبوذ والباقون من أصحابه بجريعة الذقن. وأقام الموفق على حصار الخبيث ومن معه، وسد المسالك التي كانت المير تأتيهم منها، وكثر المستأمنون منهم، فأمر الموفق لهم بالخلع والجوائز، وحملوا على الخيل الجياد بسروجها ولجمها وآلتها، وأجريت لهم الأرزاق، وانتهى الخبر إلى الموفق بعد ذلك أن الضر والبؤس قد أحوج جماعة من أصحاب الخبيث إلى التفرق في القرى لطلب القوت من السمك والتمر، فأمر ابنه أبا العباس بالمصير إلى تلك القرى والنواحي والإسراع إليها في الشذا والسميريات، وما خف من الزواريق وأن يستصحب جلد أصحابه وشجعانهم وأبطالهم ليحول بين هؤلاء الرجال والرجوع إلى مدينة صاحب الزنج، فتوجه أبو العباس لذلك، وعلم الخبيث بمسير أبي العباس له، فأمر بهبوذ أن يسير في أصحابه في المعترضات والأنهار الغامضة ليخفي خبره، الى ان يوافى القندل وابراسان ونواحيها، فنهض بهبوذ لما أمره به الخبيث من ذلك فاعترضت له في طريقه سميرية من سميريات أبي العباس، فيها غلمان من غلمانه الناشبة في جماعة الزنج، فقصد بهبوذ لهذه السميرية طامعا فيها، فحاربه أهلها،

أخبار متفرقة

فأصابته طعنة في بطنه من يد غلام من مقاتلة السميرية أسود، فهوى إلى الماء، فابتدره أصحابه، فحملوه، وولوا منهزمين إلى عسكر الخبيث، فلم يصلوا به إليه، حتى أراح الله منه، فعظمت الفجيعة به على الفاسق وأوليائه، واشتد عليه جزعهم، وكان قتله الخبيث من أعظم الفتوح، وخفي هلاكه على أبي أحمد، حتى استأمن رجل من الملاحين، فأنهى إليه الخبر، فسر بذلك، وأمر بإحضار الغلام الذي ولي قتله، فأحضر، فوصله وكساه وطوقه، وزاد في أرزاقه، وأمر لجميع من كان في تلك السميريه بجوائز وخلع وصلات. [أخبار متفرقة] وفي هذه السنة كان أول شهر رمضان منها يوم الأحد، وكان الأحد الثانى من السعانين وفي الأحد الثالث الفصح، وفي الأحد الرابع النيروز، وفي الأحد الخامس انسلاخ الشهر. وفيها ظفر أبو أحمد بالذوائبي، وكان ممايلا لصاحب الزنج. وفيها كانت وقعة بين يدكوتكين بن أساتكين وأحمد بن عبد العزيز، فهزمه يدكوتكين وغلبه على قم وفيها وجه عمرو بن الليث قائدا بأمر أبي أحمد إلى محمد بن عبيد الله بن أزارمرد الكردي، فأسره القائد وحمله إليه. وفي ذي القعدة منها خرج رجل من ولد عبد الملك بن صالح الهاشمي بالشام يقال له بكار بين سلمية وحلب وحمص، فدعا لأبي أحمد، فحاربه ابن عباس الكلابي، فانهزم الكلابي، ووجه إليه لؤلؤ صاحب ابن طولون قائدا يقال له بودن في عسكر وجيش كثيف، فرجع وليس معه كثير أحد 4 وفيها أظهر لؤلؤ الخلاف على ابن طولون. وفيها قتل صاحب الزنج ابن ملك الزنج، وكان بلغه أنه يريد اللحاق بأبي أحمد

وفيها قتل أحمد بن عبد الله الخجستاني، قتله غلام له في ذي الحجة. وفيها قتل أصحاب ابن أبي الساج محمد بن علي بن حبيب اليشكري بالقرية ناحية واسط، ونصب رأسه ببغداد وفيها حارب محمد بن كمشجور علي بن الحسين كفتمر، فأسر ابن كمشجور كفتمر ثم أطلقه، وذلك في ذي الحجة. وفيها أسر العلوي الذي يعرف بالحرون، وذلك أنه اعترض الخريطة التي يوجه بها بخبر الموسم فأخذها، فوجه خليفة ابن أبي الساج على طريق مكة من أخذ الحرون، ووجهه إلى الموفق. وفيها كان مصير أبي المغيرة المخزومي إلى مكة، وعاملها هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي، فجمع هارون جمعا نحوا من ألفين، فامتنع بهم منه فصار المخزومي إلى عين مشاش فعورها، وإلى جدة، فنهب الطعام، وحرق بيوت أهلها، فصار الخبز بمكة أوقيتان بدرهم. وفيها خرج ابن الصقلبية طاغية الروم، فأناخ على ملطية، وأعانهم أهل مرعش والحدث، فانهزم الطاغية، وتبعوه إلى السريع وغزا الصائفة من ناحية الثغور الشامية خلف الفرغاني عامل ابن طولون، فقتل من الروم بضعة عشر ألفا، وغنم الناس، فبلغ السهم أربعين دينارا. وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي، وابن أبي الساج على الأحداث والطريق.

سنه تسع وستين ومائتين

ثم دخلت سنة تسع وستين ومائتين ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث فمن ذلك ما كان من إدخال العلوي المعروف بالحرون عسكر أبي أحمد في المحرم على جمل، وعليه قباء ديباج وقلنسوة طويلة، ثم حمل في شذاة، ومضي به حتى وقف به حيث يراه صاحب الزنج، ويسمع كلام الرسل. وفي المحرم منها قطع الأعراب على قافلة من الحاج بين توز وسميراء، فسلبوهم واستاقوا نحوا من خمسة آلاف بعير بأحمالها وأناسا كثيرين. وفي المحرم منها في ليلة أربع عشرة انخسف القمر وغاب منخسفا، وانكسفت الشمس يوم الجمعة لليلتين بقيتا من المحرم وقت المغيب، وغابت منكسفة، فاجتمع في المحرم كسوف الشمس والقمر. وفي صفر منها كان ببغداد وثوب العامة بإبراهيم الخليجي، فانتهبوا داره، وكان السبب في ذلك أن غلاما له رمى امرأة بسهم فقتلها، فاستعدى السلطان عليه، فبعث إليه في إخراج الغلام، فامتنع ورمى غلمانه الناس، فقتلوا جماعه وجرحوا جماعه، فمنعهم من أعوان السلطان رجلان، فهرب وأخذ غلمانه، ونهب منزله ودوابه، فجمع مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْن طاهر- وكان على الجسر من قبل أبيه- دواب إبراهيم، وما قدر عليه مما نهب له، وأمر عبيد الله بتسليم ذلك إليه، وأشهد عليه. برده عليه وفيها وجه ابن أبي الساج بعد ما صار إلى الطائف منصرفا من مكة إلى جدة جيشا، فأخذوا للمخزومي مركبين فيهما مال وسلاح. وفيها أخذ رومي بن حسنج ثلاثة نفر من قواد الفراغنة، يقال لأحدهم صديق، والآخر طخشى، وللثالث طغان، فقيدهم، وجرح صديق جراحات وأفلت. وفيها كان وثوب خلف صاحب أحمد بن طولون في شهر ربيع الاول

ذكر خبر اصابه الموفق

منها بالثغور الشامية، وهو عامله عليها، بيازمان الخادم مولى الفتح بن خاقان فحبسه، فوثبت جماعه من اهل الثغر بخلف، وتخلصوا يازمان، وهرب خلف، وتركوا الدعاء لابن طولون، ولعنوه على المنابر، فبلغ ذلك ابن طولون، فخرج من مصر، حتى صار إلى دمشق، ثم صار إلى الثغور الشامية، فنزل أذنة، وسد يازمان وأهل طرسوس أبوابها، خلا باب الجهاد وباب البحر، وبثقوا الماء، فجرى إلى قرب أذنة وما حولها، فتحصنوا بها، فأقام ابن طولون بأذنة، ثم انصرف فرجع إلى أنطاكية، ثم مضى إلى حمص، ثم إلى دمشق فأقام بها. وفيها خالف لؤلؤ غلام ابن طولون مولاه، وفي يده حين خالفه حمص وحلب وقنسرين وديار مضر، وسار لؤلؤ إلى بالس فنهبها، وأسر سعيدا وأخاه ابني العباس الكلابي ثم كاتب لؤلؤ أبا أحمد في المصير إليه ومفارقة ابن طولون، ويشترط لنفسه شروطا، فأجابه أبو أحمد إلى ما ساله، وكان مقيما بالرقة، فشخص عنها، وحمل جماعة من أهل الرافقة وغيرهم معه، وصار إلى قرقيسيا، وبها ابن صفوان العقيلي، فحاربه فأخذ لؤلؤ قرقيسيا، وسلمها إلى أحمد بن مالك بن طوق، وهرب ابن صفوان، واقبل لؤلؤ يريد بغداد. ذكر خبر اصابه الموفق وفيها رمي أبو أحمد الموفق بسهم- رماه غلام رومي، يقال له قرطاس- للخبيث بعد ما دخل أبو أحمد مدينته التي كان بناها لهدم سورها، وكان السبب في ذلك- فيما ذكر- أن الخبيث بهبوذ لما هلك، طمع الزنج فيما كان بهبوذ قد جمع من الكنوز والأموال، وكان قد صح عنده أن ملكه قد حوى مائتي ألف دينار وجوهرا وذهبا وفضة لها قدر، فطلب ذلك بكل حيلة، وحرص عليه،

وحبس أولياءه وقرابته وأصحابه، وضربهم بالسياط، وأثار دورا من دوره، وهدم أبنية من أبنيته، طمعا في أن يجد في شيء منها دفينا، فلم يجد من ذلك شيئا، وكان فعله الذي فعله بأولياء بهبوذ في طلب المال أحد ما أفسد قلوب أصحابه، ودعاهم إلى الهرب منه والزهد في صحبته، فأمر الموفق بالنداء في أصحاب بهبوذ بالأمان، فنودي بذلك، فسارعوا إليه راغبين فيه، فألحقوا في الصلات والجوائز والخلع والأرزاق بنظرائهم ورأى أبو أحمد لما كان يتعذر عليه من العبور إلى عسكر الفاجر في الأوقات التي تهب فيها الرياح وتحرك فيها الأمواج في دجلة أن يوسع لنفسه وأصحابه موضعا في الجانب الغربي من دجلة ليعسكر به فيما بين دير جابيل ونهر المغيرة، وأمر بقطع النخل وإصلاح موضع الخندق، وأن يحف بالخنادق، ويحصن بالسور ليأمن بيات الفجار واغتيالهم إياه، وجعل على قواده نوائب، فكان لكل واحد منهم نوبة يغدو إليها برجاله، ومعه العمال في كل يوم لإحكام أمر العسكر الذي عزم على اتخاذه هنالك، فقابل الفاسق ذلك بأن جعل على علي بن أبان المهلبي وسليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر الهمداني نوبا، فكان لكل واحد منهم يوم ينوب فيه. وكان ابن الخبيث المعروف بأنكلاي يحضر في كل يوم نوبة سليمان، وربما حضر في نوبة إبراهيم ثم أقامه الخبيث مقام إبراهيم بن جعفر، وكان سليمان بن جامع يحضر معه في نوبته، وضم إليه الخبيث سليمان بن موسى الشعراني وأخويه، وكانوا يحضرون بحضوره، ويغيبون بغيبته وعلم الخبيث أن الموفق إذا جاوره في محاربته، وقرب على من يريد اللحاق به المسافة فيما يحاول من الهرب إليه، مع ما يدخل قلوب أصحابه من الرهبة بتقارب العسكرين أن في ذلك انتقاض تدبيره، وفساد جميع أموره، فأمر أصحابه بمحاربة من يعبر من القواد في كل يوم، ومنعهم من إصلاح ما يحاولون اصلاحه من امر عسكرهم الذى يريدون الانتقال إليه، وعصفت الرياح في بعض تلك

الأيام وبعض قواد الموفق في الجانب الغربي لما كان يعبر له فانتهز الفاسق الفرصة في انفراد هذا القائد وانقطاعه عن أصحابه، وامتناع دجلة بعصوف الريح من أن يرام عبورها، فرمى القائد المقيم في غربي دجلة بجميع جيشه، وكاثره برجاله، ولم تجد الشذوات التي كانت تكون مع القائد الموجه سبيلا إلى الوقوف بحيث كانت تقف لحمل الرياح إياها على الحجارة، وما خاف أصحابها عليها من التكسر، فقوي الزنج على ذلك القائد وأصحابه، فأزالوهم من موضعهم، وأدركوا طائفة منهم، فثبتوا فقتلوا عن آخرهم، ولجأت طائفة إلى الماء، فتبعهم الزنج، فأسروا منهم أسارى، وقتلوا منهم نفرا، وأفلت أكثرهم، وأدركوا سفنهم، فألقوا أنفسهم فيها، وعبروا إلى المدينة الموفقية، فاشتد جزع الناس لما تهيأ للفسقة، وعظم بذلك اهتمامهم وتأمل أبو أحمد فيما كان دبر من النزول في الجانب الغربي من دجلة أنه أكدى، وما لا يؤمن من حيلة الفاسق وأصحابه في انتهاز فرصة، فيوقع بالعسكر بياتا، أو يجد مساغا إلى شيء مما يكون له فيه متنفس، لكثرة الأدغال في ذلك الموضع وصعوبة المسالك، وأن الزنج على التوغل إلى المواضع الوحشة أقدر، وهو عليهم أسهل من أصحابه. فانصرف عن رأيه في نزول غربي دجلة، وجعل قصده لهدم سور الفاسق وتوسعه الطرق والمسالك منها لأصحابه، فأمر عند ذلك أن يبدأ بهدم السور مما يلي النهر المعروف بمنكى، فكان تدبير الخبيث في ذلك توجيه ابنه المعروف بأنكلاي وعلي بن أبان وسليمان بن جامع للمنع من ذلك، كل واحد منهم في نوبته في ذلك اليوم، فإذا كثر عليهم أصحاب الموفق اجتمعوا جميعا لمدافعة من يأتيهم. فلما رأى الموفق تحاشد الخبثاء وتعاونهم على المنع من الهدم للسور، أزمع على مباشرة ذلك وحضوره ليستدعي به جد أصحابه واجتهادهم،

ويزيد في عنايتهم ومجاهدتهم، ففعل ذلك، واتصلت الحرب، وغلظت على الفريقين، وكثر القتلى والجراح في الحزبين كليهما، فأقام الموفق أياما يغادي الفسقة ويراوحهم، فكانوا لا يفترون من الحرب في يوم من الأيام، وكان أصحاب أبي أحمد لا يستطيعون الولوج على الخبثة لقنطرتين كانتا على نهر منكى كان الزنج يسلكونهما في وقت استعار الحرب، فينتهون منهما إلى طريق يخرجهم في ظهور أصحاب أبي أحمد، فينالون منهم، ويحجزونهم عن استتمام ما يحاولون من هدم السور، فرأى الموفق إعمال الحيلة في هدم هاتين القنطرتين ليمنع الفسقة عن الطريق الذي كانوا يصيرون منه إلى استدبار أصحابه في وقت احتدام الحرب، فأمر قوادا من قواد غلمانه بقصد هاتين القنطرتين، وأن يختلوا الزنج، وينتهزوا الفرصة في غفلتهم عن حراستهما، وتقدم إليهم في ان يعدوا لهما من الفؤوس والمناشير والآلات التي يحتاج إليها لقطعهما ما يكون عونا لهم على الإسراع فيما يقصدون له من ذلك. فانتهى الغلمان إلى ما أمروا به، وصاروا إلى نهر منكى وقت نصف النهار، فبرز لهم الزنج، فبادروا وتسرعوا، فكان ممن تسرع إليهم أبو النداء في جماعه من اصحابه يزيدون على الخمسمائة، ونشبت الحرب بين أصحاب الموفق والزنج، فاقتتلوا صدر النهار، ثم ظهر غلمان أبي أحمد على الفسقة فكشفوهم عن القنطرتين، فأصاب المعروف بأبي النداء سهم في صدره وصل إلى قلبه فصرعه، وحامى اصابه على جيفته فاحتملوها، وولوا منهزمين، وتمكن قواد غلمان الموفق من قطع القنطرتين، فقطعوهما وأخرجوهما إلى دجلة، وحملوا خشبهما إلى أبي أحمد، وانصرفوا على حال سلامة، وأخبروا الموفق بقتل أبي النداء وقطع القنطرتين، فعظم سروره وسرور أهل العسكر بذلك، وأمر لرامي أبي النداء بصلة وافرة. وألح أبو أحمد على الخبيث وأشياعه بالحرب، وهدم من السور ما أمكنهم به الولوج عليهم، فشغلوهم بالحرب في مدينتهم عن المدافعة عن سورهم، فأسرع

الهدم فيه، وانتهى منه إلى داري ابن سمعان وسليمان بن جامع، فصار ذلك أجمع في أيدي أصحاب الموفق، لا يستطيع الفسقة دفعهم عنه ولا منعهم من الوصول إليه، وهدمت هاتان الداران، وانتهب ما فيهما، وانتهى أصحاب الموفق إلى سوق لصاحب الزنج كان اتخذها مظلة على دجلة، سماها الميمونة، فأمر الموفق زيرك صاحب مقدمة أبي العباس بالقصد لهذه السوق، فقصد بأصحابه لذلك، وأكب عليها، فهدمت تلك السوق وأخربت، فقصد الموفق الدار التي كان صاحب الزنج اتخذها للجبائي فهدمها، وانتهب ما كان فيها وفي خزائن الفاسق كانت متصلة بها. وأمر أصحابه بالقصد إلى الموضع الذي كان الخبيث اتخذ فيه بناء سماه مسجد الجامع، فاشتدت محاماة الفسقة عن ذلك والذب عنه، بما كان الخبيث يحضهم عليه، ويوهمهم أنه يجب عليهم من نصرة المسجد وتعظيمه، فيصدقون قوله في ذلك، ويتبعون فيه رأيه وصعب على أصحاب الموفق ما كانوا يرومون من ذلك، وتطاولت الأيام بالحرب على ذلك الموضع والذي حصل مع الفاسق يومئذ نخبة أصحابه وأبطالهم والموطنون أنفسهم على الصبر معه، فحاموا جهدهم، حتى لقد كانوا يقفون الموقف فيصيب أحدهم السهم أو الطعنة أو الضربة فيسقط، فيجذبه الذي إلى جنبه ويقف موقفه إشفاقا من أن يخلو موقف رجل منهم، فيدخل الخلل على سائر أصحابه. فلما رأى أبو أحمد صبر هذه العصابة ومحاماتها، وتطاول الأيام بمدافعتها، أمر أبا العباس بالقصد لركن البناء الذي سماها الخبيث مسجدا، وأن يندب لذلك أنجاد أصحابه وغلمانه، وأضاف إليهم الفعلة الذين كانوا أعدوا للهدم، فإذا تهيأ لهم هدم شيء أسرعوا فيه، وأمر بوضع السلاليم على السور فوضعوها، وصعد الرماة فجعلوا يرشقون بالسهام من وراء السور من الفسقة، ونظم الرجال من حد الدار المعروفة بالجبائي إلى الموضع الذي رتب فيه أبا العباس، وبذل الموفق الأموال والأطوقة والأسورة لمن سارع إلى هدم سور الفاسق وأسواقه

ودور أصحابه، فتسهل ما كان يصعب بعد محاربة طويلة وشدة، فهدم البناء الذي كان الخبيث سماه مسجدا، ووصل إلى منبره فاحتمل، فأتي به الموفق، وانصرف به إلى مدينته الموفقية جذلا مسرورا ثم عاد الموفق لهدم السور فهدمه من حد الدار المعروفة بأنكلاي إلى الدار المعروفة بالجبائي. وأفضى أصحاب الموفق إلى دواوين من دواوين الخبيث وخزائن من خزائنه، فانتهبت وأحرقت، وكان ذلك في يوم ذي ضباب شديد، قد ستر بعض الناس عن بعض، فما يكاد الرجل يبصره صاحبه فظهر في هذا اليوم للموفق تباشير الفتح، فإنهم لعلى ذلك، حتى وصل سهم من سهام الفسقة إلى الموفق، رماه به غلام رومي كان مع الفاسق يقال له قرطاس، فأصابه في صدره، وذلك في يوم الاثنين لخمس بقين من جمادى الأولى سنة تسع وستين ومائتين، فستر الموفق ما ناله من ذلك السهم، وانصرف الى المدينة مع الموفقية، فعولج في ليلته تلك من جراحته، وبات ثم عاد إلى الحرب على ما به من الم الجراح، يشد بذلك قلوب أوليائه من أن يدخلها وهم أو ضعف، فزاد ما حمل نفسه عليه من الحركة في قوة علته، فغلظت وعظم امرها حتى خيف عليه، واحتاج إلى علاجه بأعظم ما يعالج به الجراح، واضطرب لذلك العسكر والجند والرعية، وخافوا قوة الفاسق عليهم، حتى خرج عن مدينته جماعة ممن كان مقيما بها، لما وصل إلى قلوبهم من الرهبة، وحدثت في حال صعوبة العلة عليه حادثة في سلطانه، فأشار عليه مشيرون من أصحابه وثقاته بالرحلة عن معسكره إلى مدينة السلام، ويخلف من يقوم مقامه، فأبى ذلك، وخاف أن يكون فيه ائتلاف ما قد تفرق من شمل الخبيث فأقام على صعوبة علته عليه، وغلظ الأمر الحادث في سلطانه، فمن الله بعافيته، وظهر لقواده وخاصته، وقد كان أطال الاحتجاب عنهم، فقويت بذلك منتهم، وأقام متماثلا مودعا نفسه إلى شعبان من هذه السنة، فلما أبل وقوي على النهوض لحرب الفاسق، تيقظ لذلك، وعاود ما كان مواظبا عليه من الحرب، وجعل الخبيث لما صح عنده

ذكر عزم المعتمد على اللحاق بمصر

الخبر عما أصاب أبا أحمد يعد أصحابة العدات، ويمنيهم الأماني الكاذبة، وجعل يحلف على منبره- بعد ما اتصل به الخبر بظهور أبي أحمد وركوبه الشذا- أن ذلك باطل لا أصل له، وأن الذي رأوه في الشذا مثال موه لهم وشبه لهم. ذكر عزم المعتمد على اللحاق بمصر وفيها في يوم السبت للنصف من جمادى الأولى، شخص المعتمد يريد اللحاق بمصر، وأقام يتصيد بالكحيل، وقدم صاعد بن مخلد من عند أبي أحمد، ثم شخص إلى سامرا في جماعة من القواد في جمادى الآخرة، وقدم قائدان لابن طولون- يقال لأحدهما أحمد بن جبغويه وللآخر محمد بن عباس الكلابي- الرقة، فلما صار المعتمد إلى عمل إسحاق بن كنداج- وكان العامل على الموصل وعامة الجزيرة- وثب ابن كنداج بمن شخص مع المعتمد من سامرا يريد مصر، وهم تينك وأحمد بن خاقان وخطارمش، فقيدهم وأخذ أموالهم ودوابهم ورقيقهم وكان قد كتب إليه بالقبض عليهم وعلى المعتمد، وأقطع إسحاق بن كنداج ضياعهم وضياع فارس بن بغا. وكان سبب وصوله إلى القبض على من ذكرت، ان ابن كنداج لما صار إلى عمله، وقد نفذت إليه الكتب من قبل صاعد بالقبض عليهم، أظهر أنه معهم، وعلى مثل رأيهم في طاعة المعتمد، إذ كان الخليفة، وأنه غير جائز له الخلاف عليه وقد كان من مع المعتمد من القواد حذروا المعتمد المرور به، وخوفوه وثوبه بهم، فأبى إلا المرور به- فيما ذكر- وقال لهم: إنما هو مولاي وغلامي، وأريد أن أتصيد، فإن في الطريق إليه صيدا كثيرا فلما صاروا في عمله، لقيهم وسار معهم كي يرد المعتمد- فيما ذكر- منزلا قبل وصوله إلى عمل ابن طولون، فلما أصبح ارتحل التباع والغلمان الذين كانوا مع المعتمد ومن شخص معه من سامرا، وخلا ابن كنداج بالقواد الذين مع المعتمد، فقال لهم: إنكم قد قربتم من عمل ابن طولون والمقيم بالرقة من قواده، وأنتم

أخبار متفرقة

إذا صرتم إلى ابن طولون، فالأمر أمره، وأنتم من تحت يده ومن جنده، أفترضون بذلك، وقد علمتم أنه إنما هو كواحد منكم! وجرت بينه وبينهم في ذلك مناظرة حتى تعالى النهار، ولم يرتحل المعتمد بعد لاشتغال القواد بالمناظرة بينهم بين يديه، ولم يجتمع رأيهم بعد على شيء فقال لهم ابن كنداج: قوموا بنا حتى نتناظر في هذا في غير هذا الموضع، وأكرموا مجلس أمير المؤمنين عن ارتفاع الصوت فيه فأخذ بأيديهم، وأخرجهم من مضرب المعتمد فأدخلهم مضرب نفسه، لأنه لم يكن بقي مضرب إلا قد مضي به غير مضربه، لما كان من تقدمه إلى فراشيه وغلمانه وحاشيته وأصحابه في ذلك اليوم ألا تبرحوا إلا ببراحه فلما صاروا إلى مضربه دخل عليه وعلى من معه من القواد جلة غلمانه وأصحابه، وأحضرت القيود، وشد غلمانه على كل من كان شخص مع المعتمد من سامرا من القواد، فقيدوهم، فلما قيدوا وفرغ من أمرهم مضى إلى المعتمد، فعذله في شخوصه عن دار ملكه وملك آبائه وفراقه أخاه على الحال التي هو بها من حرب من يحاول قتله وقتل أهل بيته وزوال ملكهم، ثم حمله والذين كانوا معه في قيودهم حتى وافى بهم سامرا. [أخبار متفرقة] وفيها قام رافع بن هرثمة بما كان الخجستاني غلب عليه من كور خراسان وقراها، وكان رافع بن هرثمة قد اجتبى عدة من كور خراسان خراجها سلفا لبضع عشرة سنة، فأفقر أهلها وخربها. وفيها كانت وقعة بين الحسينيين والحسنيين والجعفريين، فقتل من الجعفريين ثمانية نفر، وعلا الجعفريون فتخلصوا الفضل بن العباس العباسي العامل على المدينة. وفي جمادى الآخرة عقد هارون بن الموفق لابن أبي الساج على الأنبار وطريق الفرات ورحبة طوق، وولى أحمد بن محمد الطائي الكوفة وسوادها المعاون والخراج، فصير المعاون باسم علي بن الحسين المعروف بكفتمر، فلقي

ذكر الخبر عن احراق قصر صاحب الزنج

أحمد بن محمد الهيصم العجلي فيها، فانهزم الهيصم واستباح الطائي أمواله وضياعه. ولأربع خلون من شعبان منها رد إسحاق بن كنداج المعتمد إلى سامرا فنزل الجوسق المطل على الحير. ولثمان خلون من شعبان خلع على ابن كنداج، وقلد سيفين بحمائل: أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره، وسمي ذا السيفين وخلع عليه بعد ذلك بيومين قباء ديباج ووشاحان، وتوج بتاج، وقلد سيفا كل ذلك مفصص بالجوهر، وشيعه إلى منزله هارون بن الموفق وصاعد بن مخلد والقواد، وتغدوا عنده. ذكر الخبر عن احراق قصر صاحب الزنج وفي شعبان من هذه السنة أحرق أصحاب أبي أحمد قصر الفاسق، وانتهبوا ما فيه. ذكر الخبر عن سبب ذلك وسبب وصولهم إليه: ذكر محمد بن الحسن، أن أبا أحمد لما برأ الجرح الذي كان أصابه، عاد للذي كان عليه من مغاداة الفاسق الحرب ومراوحته، وكان الخبيث قد أعاد بناء بعض الثلم التي ثلمت في السور، فأمر الموفق بهدم ذلك، وهدم ما يتصل به، وركب في عشية من العشايا في أول وقت العصر، وقد كانت الحرب متصلة في ذلك اليوم مما يلي نهر منكى، والفسقة مجتمعون في تلك الناحية قد شغلوا أنفسهم بها، وظنوا أنهم لا يحاربون إلا فيها، فوافى الموفق وقد أعد الفعلة، وقرب على نهر منكى وناوش الفسقة فيه، حتى إذا استعرت الحرب أمر الجذافين والاشتيامين أن يحثوا السير حتى ينتهوا إلى النهر المعروف بجوى كور، وهو نهر يأخذ من دجلة أسفل من النهر المعروف بنهر أبي الخصيب، ففعلوا ذلك، فوافى جوى كور، وقد خلا من المقاتلة والرجال، فقرب وأخرج الفعلة،

فهدموا من السور ما كان يلي ذلك النهر، وصعد المقاتله وولجوا النهر، فقتلوا فيه مقتلة عظيمة، وانتهوا إلى قصور من قصور الفسقة، فانتهبوا ما كان فيها وأحرقوها، واستنقذوا عددا من النساء اللواتي كن فيها، وأخذوا خيلا من خيل الفجرة، فحملوها إلى غربي دجلة، فانصرف الموفق في وقت غروب الشمس بالظفر والسلامة، وغاداهم الحرب والقصد لهدم السور، فأسرع فيه حتى اتصل بدار المعروف بأنكلاي، وكانت متصلة بدار الخبيث، فلما أعيت الحيل الخبيث في المنع من هدم السور، ودفع أصحاب الموفق عن ولوج مدينته، أسقط في يديه، ولم يدر كيف يحتال لحسم ذلك، فأشار عليه علي بن أبان المهلبي بإجراء الماء على السباخ التي يسلكها أصحاب الموفق لئلا يجدوا إلى سلوكها سبيلا، وأن يحفر خنادق في مواضع عدة يعوقهم بها عن دخول المدينة، فإن حملوا أنفسهم على اقتحامها فوقعت عليهم هزيمة، لم يسهل عليهم الرجوع إلى سفنهم، ففعلوا ذلك في عدة مواضع من مدينتهم، وفي الميدان الذي كان الخبيث جعله طريقا حتى انتهت تلك الخنادق إلى قريب من داره فراى الموفق بعد ما هيأ الله له من هدم سور مدينة الفاسق ما هيأ أن جعل قصده لطم الخنادق والأنهار والمواضع المعورة كي تصلح فيها مسالك الخيل والرجالة فرام ذلك، فحامى عنه الفسقة ودامت الحرب وطالت ووصل إلى الفريقين من القتل والجراح أمر عظيم، حتى لقد عد الجرحى في بعض تلك الأيام زهاء ألفي جريح، وذلك لتقارب الفريقين في وقت القتال، ومنع الخنادق كل فريق منهم عن إزالة من بإزائه عن موضعهم. فلما رأى ذلك الموفق قصد لإحراق دار الخبيث والهجوم عليها من دجلة، وكان يعوق عن ذلك كثرة ما أعد الخبيث من المقاتلة والحماة عن داره، فكانت الشذا إذا قربت من قصره رموا من سوره ومن أعلى القصر بالحجارة والنشاب والمقاليع والمجانيق والعرادات، وأذيب الرصاص، وأفرغ عليهم، فكان إحراق داره يتعذر عليهم لما وصفنا، فأمر الموفق بإعداد ظلال من خشب

للشذا وإلباسها جلود الجواميس، وتغطية ذلك بالخيش المطلى بصنوف العقاقير والأدوية التي تمنع النار من الإحراق، فعمل ذلك، وطليت به عدة شذوات ورتب فيها جميعا شجعاء غلمانه: الرامحة والناشبة، وجمعا من حذاق النفاطين وأعدهم لإحراق دار الفاسق صاحب الزنج. فاستأمن إلى الموفق محمد بن سمعان كاتب الخبيث ووزيره في يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة تسع وستين ومائتين، وكان سبب استمانه- فيما ذكر محمد بن الحسن- أنه كان ممن امتحن بصحبته، وهو لها كاره على علم منه بضلالته قال: وكنت له على ذلك مواصلا، وكنا جميعا ندبر الحيلة في التخلص، فيتعذر علينا، فلما نزل بالخبيث من الحصار ما نزل، وتفرق عنه أصحابه، وضعف أمره، شمر في الحيلة للخلاص، وأطلعني على ذلك، وقال: قد طبت نفسا بالا استصحب ولدا ولا أهلا، وأن أنجو وحيدا، فهل لك في مثل ما عزمت عليه؟ فقلت له: الرأي لك ما رأيت، إذ كنت انما تخلف ولدا صغيرا لا سبيل للخائن عليه إلى أن يصول به، أو أن يحدث عليك فيه حدثا يلزمك عاره، فأما أنا فإن معي نساء يلزمني عارهن، ولا يسعني تعريضهن لسطوة الفاجر، فامض لشأنك، فأخبر عني بما علمت من نيتي في مخالفة الفاجر وكراهة صحبته، وإن هيأ الله لي الخلاص بولدي، فأنا سريع اللحاق بك، وإن جرت المقادير فينا بشيء كنا معا وصبرنا. فوجه محمد بن سمعان وكيلا له يعرف بالعراقي، فأتى عسكر الموفق، فأخذ له ما أراد من الأمان، وأعد له الشذا، فوافته في السبخة في اليوم الذي ذكرنا، فصار إلى عسكر الموفق وأعاد الموفق محاربة الخبيث والقصد للإحراق من غد اليوم الذي استأمن فيه محمد بن سمعان، وهو يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة تسع وستين ومائتين، في أحسن زي، وأكمل عدة، ومعه الشذوات المطليه بما وصفنا، وسائر شذواته وسميرياته فيها مواليه وغلمانه والمعابر التي فيها الرجالة فأمر الموفق ابنه أبا العباس بالقصد الى دار محمد ابن يحيى المعروف بالكرنبائي، وهي بإزاء دار الخائن في شرقي النهر المعروف بأبي الخصيب، يشرع على النهر وعلى دجلة، وتقدم إليها في إحراقها وما يليها

من منازل قواد الخائن، وشغلهم بذلك عن إنجاده ومعاونته، وأمر المرتبين في الشذا المظللة بالقصد، لما كان مطلا على دجلة من رواشين الخبيث وأبنيته، ففعلوا ذلك، وألصقوا شذواتهم بسور القصر، وحاربوا الفجرة أشد حرب، ونضحوهم بالنيران، وصبر الفسقة وقاتلوا، فرزق الله النصر عليهم، فتزحزحوا عن تلك الرواشين والأبنية التي كانوا يحامون عليها، وأحرقها غلمان الموفق، وسلم من كان في الشذا مما كان الخبثاء يكيدونهم به من النشاب والحجارة وصب الرصاص المذاب وغير ذلك بالظلال التي كان اتخذها على الشذا، فكان ذلك سببا لتمكنها من دار الخبيث. وأمر الموفق من كان في الشذا بالرجوع فرجعوا، فأخرج من كان فيها من الغلمان، ورتب فيها آخرين، وانتظر إقبال المد وعلوه، فلما تهيأ ذلك عادت الشذوات المظللة إلى قصر الخبيث، فأمر الموفق من كان فيها بإحراق بيوت كانت تشرع على دجلة من قصر الفاسق، ففعلوا ذلك، فاضطرمت النار في هذه البيوت، واتصلت بما يليها من الستارات التي كان الخبيث ظلل بها داره، وستور كانت على أبوابه، فقويت النار عند ذلك على الإحراق، وأعجلت الخبيث ومن كان معه عن التوقف على شيء مما كان في منزله من أمواله وذخائره وأثاثه وسائر أمتعته، فخرج هاربا، وترك ذلك كله. وعلا غلمان الموفق قصر الخبيث مع أصحابهم، فانتهبوا ما لم تأت النار عليه من الأمتعة الفاخرة والذهب والفضة والجوهر والحلي وغير ذلك، واستنقذوا جماعة من النساء اللواتي كان الخبيث استرقهن، ودخل غلمان الموفق سائر دور الخبيث ودور ابنه أنكلاي، فأضرموها نارا، وعظم سرور الناس بما هيأ الله لهم في هذا اليوم فأقام جماعة يحاربون الفسقة في مدينتهم وعلى باب قصر الخبيث، مما يلي الميدان، فأثخنوا فيهم القتل والجراح والأسر، وفعل أبو العباس في دار المعروف بالكرنبائي وما يتصل بها من الإحراق والهدم والنهب مثل ذلك. وقطع أبو العباس يومئذ سلسلة حديد عظيمة وثيقة كان الخبيث قطع بها نهر أبي الخصيب ليمنع الشذا من دخوله، وحازها، فحملت في بعض شذواته

ذكر الخبر عن غرق نصير المعروف بابى حمزه

وانصرف الموفق بالناس صلاة المغرب بأجمل ظفر، وقد نال الفاسق في ذلك اليوم في نفسه وماله وولده وما كان غلب عليه من نساء المسلمين مثل الذي أصاب المسلمين منه من الذعر والجلاء وتشتيت الشمل والمصيبة في الأهل والولد، وجرح ابنه المعروف بأنكلاي في هذا اليوم جراحة شديدة في بطنه اشفى منها على التلف. ذكر الخبر عن غرق نصير المعروف بابى حمزه وفي غد هذا اليوم وهو يوم الأحد لعشر بقين من شعبان من هذه السنة غرق نصير. ذكر سبب غرقه: ذكر محمد بن الحسن أنه لما كان غد هذا اليوم، باكر الموفق محاربة الخبيث، وأمر نصيرا المعروف بأبي حمزة بالقصد لقنطرة كان الخائن عملها بالسياج على النهر المعروف بأبي الخصيب، دون الجسرين اللذين اتخذهما عليه، وأمر زيرك بإخراج أصحابه مما يلي دار الجبائي لمحاربة من هناك من الفجرة، واخرج جمعا من قوادها مما يلي دار أنكلاي لمحاربتهم أيضا، فتسرع نصير، فدخل نهر أبي الخصيب في أول المد في عدة من شذواته، فحملها المد فألصقها بالقنطرة، ودخلت عدة من شذوات موالي الموفق وغلمانه ممن لم يكن أمر بالدخول، فحملهم المد فألقاهم على شذوات نصير، فصكت الشذوات بعضها بعضا، حتى لم يكن للاشتيامين والجذافين فيها حيلة ولا عمل ورأى الزنج ذلك، فاجتمعوا على الشذوات، وأحاطوا بها من جانبي نهر أبي الخصيب، فألقى الجذافون أنفسهم في الماء ذعرا ووجلا،

أخبار متفرقة

ودخل الزنج الشذوات، فقتلوا بعض المقاتلة، وغرق أكثرهم، وحاربهم نصير في شذواته حتى خاف الاسر، فقذف نفسه في الماء فغرق، وأقام الموفق في يومه يحارب الفسقة، وينهب ويحرق منازلهم، ولم يزل باقي يومه مستعليا عليهم، وكان ممن حامى على قصر الخائن يومئذ وثبت في أصحابه سليمان بن جامع، فلم تزل الحرب بين أصحاب الموفق وبينه، وهو مقيم بموضعه لم يزل عنه إلى أن خرج في ظهره كمين من غلمان الموفق السودان، فانهزم لذلك، واتبعه الغلمان يقتلون أصحابه، ويأسرون منهم، وأصابت سليمان في هذا الوقت جراحة في ساقه، فهوى لفيه في موضع، قد كان الحريق ناله ببعض جمر فيه، فاحترق بعض جسده، وحامى عليه جماعة من أصحابه، فنجا بعد أن كاد الأسر يحيط به، وانصرف الموفق ظافرا سالما، وضعفت الفسقة، واشتد خوفهم لما رأوا من إدبار أمرهم، وعرضت لأبي أحمد علة من وجع المفاصل، فأقام فيها بقية شعبان وشهر رمضان وأياما من شوال ممسكا عن حرب الفاسق فلما استبل من علته وتماثل، أمر بإعداد ما يحتاج إليه للقاء الفسقه، فتأهب لذلك جميع اصحابه. [أخبار متفرقة] وفي هذه السنة كانت وفاة عيسى بن الشيخ بن السليل. وفيها لعن ابن طولون المعتمد في دار العامة، وأمر بلعنه على المنابر، وصار جعفر المفوض إلى مسجد الجامع يوم الجمعة، ولعن ابن طولون وعقد لإسحاق ابن كنداج على أعمال ابن طولون، وولي من باب الشماسية إلى إفريقية وولي شرطة الخاصة. وفي شهر رمضان منها كتب أحمد بن طولون إلى أهل الشام يدعوهم إلى نصر الخليفة، ووجد فيج يريد ابن طولون معه كتب من خليفته، جواب بأخبار، فأخذ جواب فحبس وأخذ له مال ورقيق ودواب. وفي شوال منها كانت وقعة بين أبي الساج والأعراب، فهزموه فيها، ثم بيتهم فقتل منهم وأسر، ووجه بالرءوس والأسارى إلى بغداد، فوصلت في شوال منها

ذكر الخبر عن الوقعه التي كانت بين الموفق وبين الزنج

ولإحدى عشرة ليلة بقيت من شوال منها عقد جعفر المفوض لصاعد بن مخلد على شهرزور وداباذ والصامغان وحلوان وماسبذان ومهرجانقذق وأعمال الفرات، وضم إليه قواد موسى بن بغا خلا أحمد بن موسى وكيغلغ وإسحاق ابن كنداجيق وأساتكين، فعقد صاعد للؤلؤ على ما عهد له عليه من ذلك المفوض يوم السبت لثمان بقين من شوال، وبعث إلى ابن أبي الساج بعقد من قبله على العمل الذي كان يتولاه، وكان يتولى الأنبار وطريق الفرات ورحبة طوق بن مالك من قبل هارون بن الموفق، وكان شخص إليها في شهر رمضان، فلما ضم ذلك إلى صاعد أقره صاعد على ما كان إليه من ذلك. وفي آخر شوال منها دخل ابن أبي الساج رحبة طوق بن مالك بعد أن حاربه أهلها، فغلبهم وهرب أحمد بن مالك بن طوق إلى الشام، ثم صار ابن أبي الساج إلى قرقيسياء، فدخلها وتنحى عنها ابن صفوان العقيلي . ذكر الخبر عن الوقعه التي كانت بين الموفق وبين الزنج وفي يوم الثلاثاء لعشر خلون من شوال من هذه السنة، كانت بين أبي أحمد وبين الزنج وقعة في مدينة الفاسق أثر فيها آثارا، وصل بها إلى مراده منها. ذكر السبب في هذه الوقعة وما كان منها: ذكر محمد بن الحسن أن الخبيث عدو الله كان في مدة اشتغال الموفق بعلته أعاد القنطرة التي كانت شذوات نصير لججت فيها، وزاد فيها ما ظن أنه قد أحكمها، ونصب دونها ادقال ساج وصل بعضها ببعض، وألبسها الحديد، وسكر أمام ذلك سكرا بالحجارة ليضيق المدخل على الشذا، وتحتد جرية الماء في النهر المعروف بابى الخضيب، فيهاب الناس دخوله، فندب الموفق قائدين من قواد غلمانه في أربعة آلاف من الغلمان، وأمرهما أن يأتيا نهر أبي الخصيب، فيكون أحدهما في شرقيه والآخر في

غربيه، حتى يوافيا القنطرة التي أصلحها الفاجر وما عمل في وجهها من السكر فيحاربا أصحاب الخبيث حتى يجلياهم عن القنطرة، وأعد معهما النجارين والفعلة لقطع القنطرة والبدود التي كانت جعلت أمامها، وأمر بإعداد سفن محشوة بالقصب المصبوب عليه النفط، لتدخل ذلك النهر المعروف بأبي الخصيب، وتضرم نارا لتحترق بها القنطرة في وقت المد فركب الموفق في هذا اليوم في الجيش حتى وافى فوهة نهر أبي الخصيب، وأمر بإخراج المقاتلة في عدة مواضع من أعلى عسكر الخبيث وأسفله، ليشغلهم بذلك عن التعاون على المنع عن القنطرة، وتقدم القائدان في أصحابهما، وتلقاهما أصحاب الخائن من الزنج وغيرهم، يقودهم ابنه أنكلاي وعلي بن أبان المهلبي وسليمان بن جامع، فاشتبكت الحرب بين الفريقين، ودامت، وقاتل الفسقة أشد قتال، محاماة عن القنطرة، وعلموا ما عليهم في قطعها من الضرر، وأن الوصول إلى ما بعدها من الجسرين العظيمين اللذين كان الخبيث اتخذهما على نهر أبي الخصيب سهل مرامه، فكثر القتل والجراح بين الفريقين، واتصلت الحرب إلى وقت صلاة العصر ثم إن غلمان الموفق أزالوا الفسقه عن القنطرة وجاوزوها، فقطعها التجارون والفعلة، ونقضوها وما كان اتخذ من البدود التي ذكرناها. وكان الفاسق أحكم أمر هذه القنطرة والبدود إحكاما تعذر على الفعلة والنجارين الإسراع في قطعها، فأمر الموفق عند ذلك بإدخال السفن التي فيها القصب والنفط، وضربها بالنار وإرسالها مع الماء، ففعل ذلك، فوافت السفن القنطرة فأحرقتها، ووصل النجارون إلى ما أرادوا من قطع البدود فقطعوها، وأمكن أصحاب الشذا دخول النهر فدخلوه، وقوي نشاط الغلمان بدخول الشذا، فكشفوا أصحاب الفاجر عن مواقفهم حتى بلغوا بهم الجسر الأول الذي يتلو هذه القنطرة، وقتل من الفجرة خلق كثير، واستأمن فريق منهم، فأمر الموفق أن يخلع عليهم في ساعتهم تلك، وأن يوقفوا بحيث يراهم أصحابهم، ليرغبوا في مثل ما صاروا إليه، وانتهى الغلمان إلى الجسر الأول، وكان ذلك

خبر انتقال صاحب الزنج إلى شرقى نهر ابى الخصيب

قبيل المغرب، فكر الموفق أن يظلم الليل، والجيش موغل في نهر أبي الخصيب، فيتهيأ للفجرة بذلك انتهاز فرصة، فأمر الناس بالانصراف، فانصرفوا سالمين إلى المدينة الموفقية، وأمر الموفق بالكتاب إلى النواحي بما هيأ الله له من الفتح والظفر، ليقرأ بذلك على المنابر، وأمر بإثابة المحسنين من غلمانه على قدر غنائهم وبلائهم وحسن طاعتهم، ليزدادوا بذلك جدا واجتهادا في حرب عدوهم. ففعل ذلك، وعبر الموفق في نفر من مواليه وغلمانه في الشذوات والسميريات وما خف من الزواريق إلى فوهة نهر أبي الخصيب، وقد كان الخبيث ضيقها ببرجين عملهما بالحجارة ليضيق المدخل وتحتد الجرية، فإذا دخلت الشذا النهر لججت فيه، ولم يسهل السبيل إلى إخراجها منه، فأمر الموفق بقطع ذينك البرجين، فعمل فيهما نهار ذلك اليوم، ثم انصرف العمال وعادوا من غد لاستتمام قلع ما بقي من ذلك، فوجدوا الفجرة قد أعادوا ما قلع منهما في ليلتهم تلك، فأمر بنصب عرادتين قد كانتا أعدتا في سفينتين، نصبتا حيال نهر أبي الخصيب، وطرحت لهما الأناجر حتى استقرتا، ووكل بهما من أصحاب الشذا، وأمر بقطع هذين البرجين، وتقدم إلى أصحاب العرادتين في رمي كل من دنا من أصحاب الفاسق، لإعادة شيء من ذلك في ليل أو نهار، فتحامى الفجرة الدنو من الموضع، وأحجموا عنه، وألح الموكلون بقلع هذه الحجارة بعد ذلك، حتى استتموا ما أرادوا، واتسع المسلك للشذا في دخول النهر والخروج منه. خبر انتقال صاحب الزنج الى شرقى نهر ابى الخصيب وفي هذه السنة تحول الفاسق من غربي نهر أبي الخصيب إلى شرقيه وانقطعت عنه الميرة من كل وجهة.

ذكر الخبر عن حاله وحال اصحابه وما آل اليه امرهم عند انتقاله من الجانب الغربي

ذكر الخبر عن حاله وحال أصحابه وما آل إليه أمرهم عند انتقاله من الجانب الغربي ذكر أن الموفق لما أخرب منازل صاحب الزنج وحرقها، لجأ إلى التحصن في المنازل الواغلة في نهر أبي الخصيب، فنزل منزلا كان لأحمد بن موسى المعروف بالقلوص، وجمع عياله وولده حوله هناك، ونقل أسواقه إلى السوق القريبة من الموضع الذي اعتصم به، وهي سوق كانت تعرف بسوق الحسين، وضعف أمره ضعفا شديدا، وتبين للناس زوال أمره، فتهيبوا جلب الميرة إليه، فانقطعت عنه كل مادة، فبلغ عنده الرطل من خبز البر عشرة دراهم، فأكلوا الشعير، ثم أكلوا أصناف الحبوب، ثم لم يزل الأمر بهم إلى أن كانوا يتبعون الناس، فإذا خلا أحدهم بامرأة أو صبي أو رجل ذبحه وأكله، ثم صار قوي الزنج يعدو على ضعيفهم، فكان إذا خلا به ذبحه وأكل لحمه، ثم أكلوا لحوم أولادهم، ثم كانوا ينبشون الموتى، فيبيعون أكفانهم ويأكلون لحومهم، وكان لا يعاقب الخبيث أحدا ممن فعل شيئا من ذلك إلا بالحبس، فإذا تطاول حبسه أطلقه. وذكر أن الفاسق لما هدمت داره وأحرقت، وانتهب ما فيها، وأخرج طريدا سليبا من غربي نهر أبي الخصيب، تحول إلى شرقيه، فرأى أبو أحمد أن يخرب عليه الجانب الشرقي لتصير حال الخبيث فيه كحاله في الغربي في الجلاء عنه، فأمر ابنه أبا العباس بالوقوف في جمع من أصحابه في الشذا في نهر أبي الخصيب، وأن يختار من أصحابه وغلمانه جمعا يخرجهم في الموضع الذي كانت فيه دار الكرنبائي من شرقي نهر أبي الخصيب، ويخرج معهم الفعلة لهدم كل ما يلقاهم من دور أصحاب الفاجر ومنازلهم، ووقف الموفق على قصر المعروف بالهمداني- وكان الهمداني يتولى حياطة هذا الموضع، وهو أحد قادة جيوش الخبيث وقدماء أصحابه- وأمر الموفق جماعة من قواده ومواليه فقصدوا

لدار الهمداني، ومعهم الفعلة، وقد كان هذا الموضع محصنا بجمع كثير من أصحاب الخبيث من الزنج وغيرهم، وعليه عرادات ومجانيق منصوبة وقسي ناوكية، فاشتبكت الحرب وكثر القتلى والجراح إلى أن كشف أصحاب الموفق الخبثاء، ووضعوا فيهم السلاح، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وفعل أصحاب أبي العباس مثل ذلك بمن مر بهم من الفسقة. والتقى أصحاب الموفق وأصحاب أبي العباس، فكانوا يدا واحدة على الخبثاء، فولوا منهزمين، وانتهوا إلى دار الهمداني، وقد حصنها ونصب عليها العرادات، وحفها بأعلام بيض من أعلام الفاجر، مكتوب عليها اسمه، فتعذر على أصحاب الموفق تسور هذه الدار لعلو سورها وحصانتها، فوضعوا عليها السلاليم الطوال، فلم تبلغ آخره، فرمى بعض غلمان الموفق بكلاليب كانوا أعدوها، وجعلوا فيها الحبال لمثل هذا الموضع، فأثبتوها في أعلام الفاسق وجذبوها، فانقلبت الأعلام منكوسة من أعلى السور، حتى صارت في أيدي أصحاب الموفق، فلم يشك المحامون عن هذه الدار ان أصحاب أبي أحمد قد علوها، فوجلوا فانهزموا، وأسلموها وما حولها، وصعد النفاطون فأحرقوا ما كان عليها من المجانيق والعرادات، وما كان فيها للهمداني من متاع وأثاث، وأحرقوا ما كان حولها من دور الفجرة، واستنقذوا في هذا اليوم من نساء المسلمين المأسورات عددا كثيرا، فأمر الموفق بحملهن في الشذا والسميريات والمعابر إلى الموفقية والإحسان إليهن. ولم تزل الحرب في هذا اليوم قائمة من أول النهار إلى بعد صلاة العصر، واستأمن يومئذ جماعة من أصحاب الفاسق وجماعة من خاصة غلمانه الذين كانوا في داره يلون خدمته والوقوف على رأسه، فآمنهم الموفق وأمر بالإحسان إليهم، وأن يخلع عليهم، ويوصلوا وتجرى لهم الأرزاق، وانصرف الموفق، وأمر أن تنكس أعلام الفاسق في صدور الشذوات ليراها أصحابه، ودلت جماعة من المستأمنة الموفق على سوق عظيمة كانت للخبيث في ظهر دار

الهمداني متصلة بالجسر الأول المعقود على نهر أبي الخصيب، كان الخبيث سماها المباركة، وأعلموه أنه إن تهيأ له إحراقها لم يبق لهم سوق، وخرج عنهم تجارهم الذين بهم قوامهم، واستوحشوا لذلك واضطروا إلى الخروج في الأمان. فعزم الموفق عند ذلك على قصد هذه السوق وما يليها بالجيوش من ثلاثة أوجه، فأمر أبا العباس بقصد جانب من هذه السوق مما يلي الجسر الأول، وأمر راشدا مولاه بقصدها مما يلي دار الهمداني، وأمر قوادا من قواد غلمانه السودان بالقصد لها من نهر أبي شاكر، ففعل كل فريق ما أمر به، ونذر الزنج بمسير الجيوش إليهم، فنهضوا في وجوههم، واستعرت الحرب وغلظت، فأمد الفاجر أصحابه وكان المهلبي وأنكلاي وسليمان بن جامع في جميع أصحابهم بعد أن تكاملوا ووافتهم أمداد الخبيث بهذه السوق يحامون عنها، ويحاربون فيها أشد حرب. وقد كان أصحاب الموفق في أول خروجهم إلى هذا الموضع وصلوا إلى طرف من أطراف هذه السوق، فأضرموه نارا فاحترق، فاتصلت النار بأكثر السوق، فكان الفريقان يتحاربون والنار محيطة بهم، ولقد كان ما علا من ظلال يحترق فيقع على رءوس المقاتلة، فربما أحرق بعضهم، وكانت هذه حالهم إلى مغيب الشمس وإقبال الليل ثم تحاجزوا، وانصرف الموفق وأصحابه إلى سفنهم، ورجع الفسقة إلى طاغيتهم بعد أن احترق السوق، وجلا عنها أهلها ومن كان فيها من تجار عسكر الخائن وسوقتهم، فصاروا في أعلى مدينته بما تخلصوا به من أموالهم وأمتعتهم وقد كانوا تقدموا في نقل جل تجارتهم وبضائعهم من هذه السوق خوفا من مثل الذي نالهم في اليوم الذي أظفر الله فيه الموفق بدار الهمداني وهيأ له إحراق ما أحرق حولها. ثم أن الخبيث فعل في الجانب الشرقي من حفر الخنادق وتعوير الطرق ما كان فعل في الجانب الغربي بعد هذه الوقعة، واحتفر خندقا عريضا من حد جوى كور إلى نهر الغربي، وكان أكثر عنايته بتحصين ما بين دار

الكرنبائي إلى النهر المعروف بجوى كور، لأنه كان في هذا الموضع جل منازل أصحابه ومساكنهم، وكان من حد جوى كور إلى نهر الغربي بساتين ومواضع قد أخلوها، والسور والخندق محيطان بها، وكانت الحرب إذا وقعت في هذا الموضع قصدوا من موضعهم إليه للمحاماة عنه والمنع منه، فرأى الموفق عند ذلك أن يخرب باقي السور إلى نهر الغربي، ففعل ذلك بعد حرب طويلة في مدة بعيدة. وكان الفاسق في الجانب الشرقي من نهر الغربي في عسكر فيه جمع من الزنج وغيرهم متحصنين بسور منيع وخنادق، وهم أجلد أصحاب الخبيث وشجعانهم، فكانوا يحامون عما قرب من سور نهر الغربي، وكانوا يخرجون في ظهور أصحاب الموفق في وقت الحرب على جوى كور وما يليه، فأمر الموفق بقصد هذا الموضع ومحاربة من فيه وهدم سوره وإزالة المتحصنين به، فتقدم عند ذلك إلى أبي العباس وعدة من قواد غلمانه ومواليه في التأهب لذلك، ففعلوا ما أمروا به، وصار الموفق بمن أعده إلى نهر الغربي، وأمر بالشذا فنظمت من حد النهر المعروف بجوى كور إلى الموضع المعروف بالدباسين، وخرج المقاتلة على جنبتي نهر الغربي، ووضعت السلاليم على السور. وقد كانت لهم عليه عدة عرادات، ونشبت الحرب، ودامت مذ أول النهار إلى بعد الظهر، وهدم من السور مواضع، وأحرق ما كان عليه من العرادات، وتحاجز الفريقان، وليس لأحدهما فضل على صاحبه إلا ما وصل إليه أصحاب الموفق من هذه المواضع التي هدموها وإحراق العرادات، ونال الفريقين من ألم الجراح أمر غليظ موجع. فانصرف الموفق وجميع اصحابه إلى الموفقية، فأمر بمداواة الجرحى، ووصل كل امرئ على قدر الجراح التي أصابته، وعلى ذلك كان أجرى التدبير في جميع وقائعه منذ أول محاربته الفاسق إلى أن قتله الله. وأقام الموفق بعد هذه الوقعة مدة، ثم رأى معاودة هذا الموضع والتشاغل به دون المواضع، لما رأى من حصانته وشجاعة من فيه وصبرهم، وأنه لا يتهيأ

ما يقدر فيما بين نهر الغربي وجوى كور إلا بعد إزالة هؤلاء، فأعد ما يحتاج إليه من آلات الهدم، واستكثر من الفعلة، وانتخب المقاتلة الناشبة والرامحة والسودان أصحاب السيوف، وقصد هذا الموضع على مثل قصده له المرة الأولى، فأخرج الرجالة في المواضع التي رأى إخراجهم فيها، وأدخل عددا من الشذا النهر، ونشبت الحرب ودامت، وصبر الفسقة أشد صبر، وصبر لهم أصحاب الموفق. واستمد الفسقة طاغيتهم، فوافاهم المهلبي وسليمان بن جامع في جيشهما، فقويت قلوبهم عند ذلك، وحملوا على أصحاب الموفق، وخرج سليمان كمينا مما يلي جوى كور، فأزالوا أصحاب الموفق حتى انتهوا إلى سفنهم، وقتلوا منهم جماعة وانصرف الموفق ولم يبلغ كل الذي أراد، وتبين أنه قد كان يجب أن يحارب الفسقة من عدة مواضع، ليفرق جمعهم، فيخف وطؤهم على من يقصد لهذا الموضع الصعب، وينال منه ما يحب، فعزم على معاودتهم، وتقدم إلى أبي العباس وغيره من قواده في العبور واختيار أنجاد رجالهم، ووكل مسرورا مولاه بالنهر المعروف بمنكى، وأمره أن يخرج رجاله في ذلك الموضع وما يتصل به من الجبال والنخل، لتشتغل قلوب الفجرة، وليروا أن عليهم تدبيرا من تلك الجهة وأمر أبا العباس بإخراج أصحابه على جوى كور، ونظم الشذا على هذه المواضع حتى انتهى إلى الموضع المعروف بالدباسين، وهو أسفل نهر الغربي، وصار الموفق الى نهر الغربي، وامر قواده وغلمانه أن يخرجوا في أصحابهم فيحاربوا الفسقة في حصنهم ومعقلهم، وألا ينصرفوا عنهم حتى يفتح الله لهم، أو يبلغ إرادته منهم ووكل بالسور من يهدمه، وتسرع الفسقة كعادتهم، وأطمعهم ما تقدم من الوقعتين اللتين ذكرناهما، فثبت لهم غلمان الموفق، وصدقوهم اللقاء، فأنزل الله عليهم نصره، فأزالوا الفسقة عن مواقفهم، وقوي أصحاب الموفق، فحملوا عليهم حملة كشفوهم بها، فانهزموا وخلوا عن حصنهم، وصار في أيدي غلمان الموفق فهدموه، وأحرقوا

ذكر خبر دخول الموفق مدينه صاحب الزنج

منازلهم، وغنموا ما كان فيها، واتبعوا المنهزمين منهم، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا، واستنقذوا من هذا الحصن من النساء المأسورات خلقا كثيرا، فأمر الموفق بحملهن والإحسان إليهن، وأمر أصحابه بالرجوع إلى سفنهم ففعلوا، وانصرف إلى عسكره بالموفقية، وقد بلغ ما حاول من هذا الموضع. ذكر خبر دخول الموفق مدينه صاحب الزنج وفيها دخل الموفق مدينة الفاسق، وأحرق منازله من الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب. ذكر الخبر عن سبب وصوله إلى ذلك: ذكر أن أبا أحمد لما أراد ذلك بعد هدمه سور داره ذلك، أقام يصلح المسالك في جنبتي نهر أبي الخصيب وفي قصر الفاسق، ليتسع على المقاتلة الطريق في الدخول والخروج للحرب، وأمر بقلع باب قصر الخبيث الذي كان انتزعه من حصن أروخ بالبصرة، فقلع وحمل إلى مدينة السلام ثم رأى القصد لقطع الجسر الأول الذي كان على نهر أبي الخصيب، لما في ذلك من منع معاونة بعضهم بعضا عند وقوع الحرب في نواحي عسكرهم، فأمر بإعداد سفينة كبيرة تملأ قصبا قد سقي النفط، وأن ينصب في وسط السفينة دقل طويل يمنعها من مجاوزة الجسر إذا لصقت به، وانتهز الفرصة في غفلة الفسقة وتفرقهم. فلما وجد ذلك في آخر النهار قدمت السفينة، فجرها الشذا حتى وردت النهر، وأشعل فيها النيران، وأرسلت وقد قوي المد، فوافت القنطرة، ونذر الزنج بها، وتجمعوا وكثروا حتى ستروا الجسر وما يليه، وجعلوا يقذفون السفينة بالحجارة والآجر، ويهيلون عليها التراب، ويصبون الماء، وغاص بعضهم فنقبها، وقد كانت أحرقت من الجسر شيئا يسيرا، فأطفأه الفسقة، وغرقوا السفينة وحازوها، فصارت في أيديهم. فلما رأى أبو أحمد فعلهم ذلك، عزم على مجاهدتهم على هذا الجسر

حتى يقطعه، فسمى لذلك قائدين من قواد غلمانه، وأمرهما بالعبور في جميع أصحابهما في السلاح الشاك واللأمة الحصينة والآلات المحكمة، وإعداد النفاطين والآلات التي تقطع بها الجسور، فأمر أحد القائدين أن يقصد غربي النهر، وجعل الآخر في شرقيه، وركب الموفق في مواليه وخدامه وغلمانه الشذوات والسميريات، وقصد فوهة نهر أبي الخصيب، وذلك في غداة يوم السبت لأربع عشرة ليلة خلت من شوال سنة تسع وستين ومائتين، فسبق إلى الجسر القائد الذي كان أمر بالقصد له من غربي نهر أبي الخصيب، فأوقع بمن كان موكلا به من أصحاب الفاسق، وقتلت منهم جماعة، وضرب الجسر بالنار، وطرح عليه القصب وما كان أعد له من الأشياء المحرقة، فانكشف من كان هناك من أعوان الخبيث، ووافى بعد ذلك من كان أمر بالقصد للجسر من الجانب الشرقي، ففعلوا ما أمروا به من إحراقه وقد كان الخبيث أمر ابنه أنكلاي وسليمان بن جامع بالمقام في جيشهما للمحاماة عن الجسر، والمنع من قطعه، ففعلا ذلك، فقصد إليهما من كان بإزائهما، وحاربوهم حربا غليظا حتى انكشفا، وتمكنوا من إحراق الجسر فأحرقوه، وتجاوزوه إلى الحظيرة التي كان يعمل فيها شذوات الفاسق وسميرياته وجميع الآلات التي كان يحارب بها، فأحرق ذلك عن آخره إلا شيئا يسيرا من الشذوات والسميريات كان في النهر، وانهزم أنكلاي وسليمان بن جامع، وانتهى غلمان الموفق إلى سجن كان للخبيث في غربي نهر أبي الخصيب، فحامى عنه الزنج ساعة من النهار حتى أخرجوا منه جماعة، وغلبهم عليه غلمان الموفق، فتخلصوا من كان فيه من الرجال والنساء، وتجاوز من كان في الجانب الشرقي من غلمان الموفق، بعد أن أحرقوا ما ولوا من الجسر إلى الموضع المعروف بدار مصلح، وهو من قدماء قواد الفاسق، فدخلوا داره وأنهبوها، وسبوا ولده ونساءه، وأحرقوا ما تهيأ لهم إحراقه في طريقهم، وبقيت من الجسر في وسط منه أدقال قد كان الخبيث أحكمها، فامر

الموفق أبا العباس بتقديم عدة من الشذا إلى ذلك الموضع، ففعل ذلك، فكان فيمن تقدم زيرك في عدد من أصحابه، فوافى هذه الادقال، وأخرجوا إليها قوما قد كانوا أعدوهم لها معهم الفئوس والمناشير، فقطعوها، وجذبت وأخرجت عن النهر، وسقط ما بقي من القنطرة، ودخلت شذوات الموفق النهر، وسار القائدان في جميع أصحابهما على حافتيه فهزم أصحاب الفاجر في الجانبين، وانصرف الموفق وجميع أصحابه سالمين، واستنقذ خلق كثير وأتي الموفق بعدد كثير من رءوس الفسقة، فأثاب من أتاه بها، وأحسن إليه ووصله. وكان انصرافه في هذا اليوم على ثلاث ساعات من النهار، بعد أن انحاز الفاسق وجميع أصحابه من الزنج وغيرهم إلى الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، وأخلوا غربيه، واحتوى عليه أصحاب الموفق، فهدموا ما كان يعوق عن محاربة الفجرة من قصور الفاسق وقصور أصحابه، ووسعوا مخترقات ضيقة كانت على نهر أبي الخصيب، فكان ذلك مما زاد في رعب أصحاب الخائن ومال جمع كثير من قواده وأصحابه الذين كان لا يرى أنهم يفارقونه إلى طلب الأمان، فبذل ذلك لهم، فخرجوا أرسالا، فقبلوا، وأحسن إليهم وألحقوا بنظرائهم في الأرزاق والصلات والخلع. ثم إن الموفق واظب على إدخال الشذا النهر، وتقحمه في غلمانه، وأمر بإحراق ما على حافتيه من منازل الفجرة وما في بطنه من السفن، وأحب تمرين أصحابه على دخول النهر وتسهيل سلوكه لهم لما كان يقدر من إحراق الجسر الثاني، والتوصل إلى أقصى مواضع الفجرة فبينا الموفق في بعض أيامه- التي ألح فيها على حرب الخبيث وولوج نهر أبي الخصيب- واقف في موضع من النهر، وذلك في يوم جمعه، إذ استأمن إليه رجل من أصحاب الفاجر، وأتاه بمنبر كان للخبيث في الجانب الغربي، فأمره بنقله إليه، ومعه قاض كان للخبيث في مدينته، فكان ذلك مما فت في أعضادهم، وكان الخبيث جمع ما كان بقي له من السفن البحرية وغيرها،

فجعلها عند الجسر الثاني، وجمع قواده وأصحابه وأنجاد رجاله هنالك، فأمر الموفق بعض غلمانه بالدنو من الجسر وإحراق ما تهيأ إحراقه من المراكب البحرية التي تليه، وأخذ ما أمكن أخذه منها ففعل ذلك المأمورون به من الغلمان، فزاد فعلهم في تحرز الفاجر ومحاماته عن الجسر الثاني، فألزم نفسه وجميع أصحابه حفظه وحراسته خوفا من أن تتهيأ حيله، فيخرج الجانب الغربي عن يده، ويوطئه أصحاب الموفق، فيكون ذلك سببا لاستئصاله، فأقام الموفق بعد إحراق الجسر الأول أياما يعبر بجمع بعد جمع من غلمانه إلى الجانب الغربي من نهر أبي الخصيب، فيحرقون ما بقي من منازل الفجرة. ويقربون من الجسر الثاني فيحاربهم عليه الزنج. وقد كان تخلف منهم جمع في منازلهم في الجانب الغربي المقاربة للجسر الثاني، وكان غلمان الموفق يأتون هذا الموضع ويقفون على الطرق والمسالك التي كانت تخفى عليهم من عسكر الخبيث، فلما وقف الموفق على معرفة غلمانه وأصحابه بهذه الطريق واهتدائهم لسلوكها، عزم على القصد لإحراق الجسر الثاني ليحوز الجانب الغربي من عسكر الخبيث، وليتهيأ لأصحابه مساواتهم على أرض واحدة، لا يكون بينهما فيها حائل غير نهر أبي الخصيب، فأمر الموفق عند ذلك أبا العباس بقصد الجانب الغربي في أصحابه وغلمانه، وذلك في يوم السبت لثمان بقين من شوال سنة تسع وستين ومائتين، وتقدم إليه أن يجعل خروجه بأصحابه في موضع البناء الذي كان الفاجر سماه مسجد الجامع، وأن يأخذ الشارع المؤدي إلى الموضع الذي كان الخبيث اتخذه مصلى بحضره في أعياده، فإذا انتهى إلى موضع المصلى عطف منه إلى الجبل المعروف بجبل المكتني بأبي عمرو أخي المهلبي، وضم إليه من قواد غلمانه الفرسان والرجالة زهاء عشرة آلاف، وأمره أن يرتب زيرك صاحب مقدمته في اصحابه في صحراء المصلى، ليأمن خروج كمين إن كان للفسقة من ذلك الموضع، وامر

جماعة من قواد الغلمان أن يتفرقوا في الجبال التي فيها بين الجبل المعروف بالمكتنى بأبي عمرو وبين الجبل المعروف بالمكتنى أبا مقاتل الزنجي، حتى توافوا جميعا من هذه الجبال موضع الجسر الثاني في نهر أبي الخصيب، وتقدم إلى جماعة من قواد الغلمان المضمومين إلى أبي العباس أن يخرجوا في أصحابهم بين دار الفاسق ودار ابنه أنكلاي، فيكون مسيرهم على شاطئ نهر أبي الخصيب وما قاربه، ليتصلوا بأوائل الغلمان الذين يأتون على الجبال، ويكون قصد الجميع إلى الجسر وامرهم بحمل الآلات من المعاول والفؤوس والمناشير مع جمع من النفاطين لقطع ما يتهيأ قطعه، وإحراق ما يتهيأ إحراقه، وأمر راشدا مولاه بقصد الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب في مثل العدة التي كانت مع أبي العباس وقصد الجسر ومحاربة من يدافع عنه، ودخل أبو أحمد نهر أبي الخصيب في الشذا، وقد أعد منها شذوات رتب فيها من أنجاد غلمانه الناشبة والرامحة من ارتضاه، وأعد معهم من الآلات التي يقطع بها الجسر ما يحتاج إليه لذلك، وقدمهم أمامه في نهر أبي الخصيب، واشتبكت الحرب في الجانبين جميعا بين الفريقين، واشتد القتال وكان في الجانب الغربي بإزاء أبي العباس ومن معه أنكلاي ابن الفاسق في جيشه، وسليمان بن جامع في جيشه، وفي الجانب الشرقي بإزاء راشد ومن معه الفاجر صاحب الزنج والمهلبي في باقي جيشهم، فكانت الحرب في ذلك اليوم إلى مقدار ثلاث ساعات من النهار ثم انهزمت الفسقة لا يلوون على شيء، وأخذت السيوف منهم مأخذها، وأخذ من رءوس الفسقة ما لم يقع عليه إحصاء لكثرته، فكان الموفق إذا أتي برأس من الرءوس أمر بإلقائه في نهر أبي الخصيب، ليدع المقاتلة الشغل بالرءوس، ويجدوا في اتباع عدوهم، وأمر أصحاب الشذا الذين رتبهم في نهر أبي الخصيب بالدنو من الجسر وإحراقه، ودفع من تحامى عنه من الزنج بالسهام، ففعلوا ذلك وأضرموا الجسر نارا، ووافى أنكلاي وسليمان في ذلك الوقت جريحين مهزومين، يريدان العبور إلى

شرقي نهر أبي الخصيب، فحالت النار بينهما وبين الجسر، فألقوا أنفسهما ومن كان معهما من حماتهم في نهر أبي الخصيب، فغرق منهم خلق كثير، وأفلت أنكلاي وسليمان بعد أن أشفيا على الهلاك، وأجتمع على الجسر من الجانبين خلق كثير، فقطع بعد أن ألقيت عليه سفينة مملوءة قصبا مضروما بالنار، فأعانت على قطعه وإحراقه، وتفرق الجيش في نواحي مدينة الخبيث من الجانبين جميعا، فأحرقوا من دورهم وقصورهم وأسواقهم شيئا كثيرا، واستنقذوا من النساء المأسورات والأطفال ما لا يحصى عدده، وأمر الموفق المقاتلة بحملهم في سفنهم والعبور بهم إلى الموفقية. وقد كان الفاجر سكن بعد إحراق قصره ومنازله الدار المعروفة بأحمد بن موسى القلوص والدار المعروفة بمحمد بن إبراهيم أبي عيسى، وأسكن ابنه أنكلاي الدار المعروفة بمالك ابن أخت القلوص، فقصد جماعة من غلمان الموفق المواضع التي كان الخبيث يسكنها فدخلوها، وأحرقوا منها مواضع، وانتهبوا منها ما كان سلم للفاسق من الحريق الأول، وهرب الخبيث ولم يوقف في ذلك اليوم على مواضع أمواله واستنقذ في هذا اليوم نسوة علويات كن محتبسات في موضع قريب من داره التي كان يسكنها، فأمر الموفق بحملهن إلى عسكره، وأحسن إليهن، ووصلهن، وقصد جماعة من غلمان الموفق من المستأمنة المضمومين إلى أبي العباس سجنا كان الفاسق اتخذه في الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، ففتحوه وأخرجوا منه خلقا كثيرا ممن كان أسر من العساكر التي كانت تحارب الفاسق وأصحابه، ومن سائر الناس غيرهم فأخرج جميعهم في قيودهم وأغلالهم حتى أتى بهم الموفق، فأمر بفك الحديد عنهم وحملهم إلى الموفقية، وأخرج في ذلك اليوم كل ما كان بقي في نهر أبي الخصيب من شذا ومراكب بحرية وسفن صغار وكبار وحراقات وزلالات وغير ذلك من أصناف السفن من النهر إلى دجلة، وأباحها الموفق أصحابه وغلمانه مع ما فيها من السلب والنهب الذي حازوا في ذلك اليوم من

ذكر طلب رؤساء صاحب الزنج الامان

عسكر الخبيث، وكان ذلك قدر جليل وخطر عظيم. وفيها كان إحدار المعتمد إلى واسط، فسار إليها في ذي القعدة وأنزل دار زيرك. وفيها سأل أنكلاي ابن الفاسق أبا أحمد الموفق الأمان، وأرسل إليه في ذلك رسولا، وسأل أشياء فأجابه الموفق إلى كل ما سأله، ورد إليه رسوله، وعرض للموفق بعقب ذلك ما شغله عن الحرب وعلم الفاسق أبو أنكلاي بما كان من ابنه فعذله- فيما ذكر- على ذلك، حتى ثناه عن رأيه في طلب الأمان، فعاد للجد في قتال أصحاب الموفق، ومباشرة الحرب بنفسه. ذكر طلب رؤساء صاحب الزنج الامان وفيها وجه أيضا سليمان بن موسى الشعراني- وهو أحد رؤساء أصحاب الفاسق- من يطلب الأمان له من أبي أحمد، فمنعه أبو أحمد ذلك، لما كان سلف منه من العبث وسفك الدماء، ثم اتصل به أن جماعة من أصحاب الخبيث قد استوحشوا لمنعه ذلك الشعراني، فأجابه أبو أحمد إلى إعطائه الأمان، استصلاحا بذلك غيره من أصحاب الفاسق، وأمر بتوجيه الشذا إلى الموضع الذي واعدهم الشعراني، ففعل ذلك، فخرج الشعراني وأخوه وجماعة من قواده، فحملهم في الشذا، وقد كان الخبيث حرس به مؤخر نهر أبي الخصيب، فحمله أبو العباس إلى الموفق، فمن عليه، ووفى له بأمانه، وأمر به فوصل ووصل أصحابه، وخلع عليهم، وحمل على عدة أفراس بسروجها وآلتها، ونزله وأصحابه أنزالا سنية، وضمه وإياهم إلى أبي العباس، وجعله في جملة أصحابه، وأمره بإظهاره في الشذا لأصحاب الخائن ليزدادوا ثقة بأمانه، فلم يبرح الشذا من موضعها من نهر أبي الخصيب، حتى استأمن جمع كثير من قواد الزنج وغيرهم، فحملوا إلى أبي أحمد، فوصلهم

وألحقهم في الخلع والجوائز بمن تقدمهم. ولما استأمن الشعراني اختل ما كان الخبيث يضبط به من مؤخر عسكره، ووهى أمره وضعف، فقلد الخبيث ما كان إلى الشعراني من حفظ ذلك شبل بن سالم، وأنزله مؤخر نهر أبي الخصيب، فلم يمس الموفق من اليوم الذي أظهر فيه الشعراني لأصحاب الخبيث حتى وافاه رسول شبل بن سالم يطلب الأمان، ويسأل أن يوقف شذوات عند دار ابن سمعان، ليكون قصده فيمن يصحبه من قواده ورجاله في الليل إليها. فأعطي الأمان، ورد إليه رسوله، ووقفت له الشذا في الموضع الذي سأل أن توقف له، فوافاها في آخر الليل ومعه عياله وولده وجماعة من قواده ورجاله، وشهر أصحابه سلاحهم، وتلقاهم قوم من الزنج قد كان الخبيث وجههم لمنعه من المصير إلى الشذا وقد كان خبره انتهى إليه، فحاربهم شبل وأصحابه، وقتلوا منهم نفرا، فصاروا إلى الشذا سالمين، فصير بهم إلى قصر الموفق بالموفقية، فوافاه وقد ابتلج الصبح، فأمر الموفق أن يوصل شبل بصلة جزيلة، وخلع عليه خلعا كثيرة، وحمله على عدة أفراس بسروجها ولجمها. وكان شبل هذا من عدد الخبيث وقدماء أصحابه وذوي الغناء والبلاء في نصرته، ووصل أصحاب شبل، وخلع عليهم، وأسنيت له ولهم الأرزاق والأنزال، وضموا جميعا إلى قائد من قواد غلمان الموفق، ووجه به وبأصحابه في الشذا، فوقفوا بحيث يراهم الخبيث وأشياعه فعظم ذلك على الفاسق وأوليائه، لما رأوا من رغبة رؤسائهم في اغتنام الأمان، وتبين الموفق من مناصحة شبل وجودة فهمه ما دعاه إلى أن يستكفيه بعض الأمور التي يكيد بها الخبيث، فأمره بتبييت عسكر الخبيث في جمع أمر بضمهم إليه من أبطال الزنج المستأمنة، وأفرده وإياهم بما امرهم به من البيات، لعلمهم بالمسالك في عسكر الخبيث، فنفذ شبل لما أمر به، فقصد موضعا كان عرفه، فكبسه في السحر،

فوافى به جمعا كثيفا من الزنج في عدة من قوادهم وحماتهم، قد كان الخبيث رتبهم في الدفع عن الدار المعروفة بأبي عيسى، وهي منزل الخبيث حينئذ، فأوقع بهم وهم غارون، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وأسر جمعا من قواد الزنج، وأخذ لهم سلاحا كثيرا، وانصرف ومن كان معه سالمين، فأتي بهم الموفق، فأحسن جائزتهم، وخلع عليهم، وسور جماعة منهم. ولما أوقع أصحاب شبل بأصحاب الخائن هذه الوقعة ذعرهم ذلك ذعرا شديدا، وأخافهم ومنعهم النوم، فكانوا يتحارسون في كل ليلة، ولا تزال النفرة تقع في عسكرهم لما استشعروا من الخوف، ووصل إلى قلوبهم من الوحشة، حتى لقد كان ضجيجهم وتحارسهم يسمع بالموفقية. ثم أقام الموفق بعد ذلك ينفذ السرايا إلى الخبثة ليلا ونهارا من جانبي نهر أبي الخصيب، ويكدهم بالحرب، ويسهر ليلهم، ويحول بينهم وبين طلب أقواتهم، وأصحابه في ذلك يتعرفون المسالك، ويتدربون بالوغول في مدينة الخبيث وتقحمها، ويصرون من ذلك على ما كانت الهيبة تحول بينهم وبينه، حتى إذا ظن الموفق أن قد بلغ أصحابه ما كانوا يحتاجون إليه، صح عزمه على العبور إلى محاربة الفاسق في الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، فجلس مجلسا عاما، وأمر بإحضار قواد المستأمنة ووجوه فرسانهم ورجالتهم من الزنج والبيضان، فأدخلوا إليه، ووقفوا بحيث يسمعون كلامه ثم خاطبهم فعرفهم ما كانوا عليه من الضلالة والجهل وانتهاك المحارم، وما كان الفاسق دين لهم من معاصي الله، وأن ذلك قد كان أباح له دماءهم، وأنه قد غفر الزلة، وعفا عن الهفوة، وبذل الأمان، وعاد على من لجأ إليه بفضله، فأجزل الصلات، وأسنى الأرزاق، وألحقهم بالأولياء وأهل الطاعة، وأن ما كان منه من ذلك يوجب عليهم حقه وطاعته، وأنهم لن يأتوا شيئا يتعرضون به لطاعة ربهم والاستدعاء لرضا سلطانهم، أولى بهم من الجد والاجتهاد في مجاهدة عدو الله الخائن وأصحابه، وأنهم من الخبرة بمسالك

خبر دخول الموفق مدينه صاحب الزنج وتخريب داره

عسكر الخبيث ومضايق طرق مدينته والمعاقل التي أعدها للهرب إليها على ما ليس عليه غيرهم، فهم أحرياء أن يمحضوه نصيحتهم، ويجتهدوا في الولوج على الخبيث، والتوغل إليه في حصونه، حتى يمكنهم الله منه ومن أشياعه، فإذا فعلوا ذلك فلهم الإحسان والمزيد وإن من قصر منهم استدعى من سلطانه إسقاط حاله وتصغير منزلته، ووضع مرتبته فارتفعت أصواتهم جميعا بالدعاء للموفق والإقرار بإحسانه، وبما هم عليه من صحة الضمائر في السمع والطاعة والجد في مجاهدة عدوه، وبذل دمائهم ومهجهم في كل ما يقر بهم منه، وأن ما دعاهم إليه قد قوى نيتهم، ودلهم على ثقته بهم وإحلاله إياهم محل أوليائه، وسألوه أن يفردهم بناحية يحاربون فيها، فيظهر من حسن نياتهم ونكايتهم في العدو ما يعرف به إخلاصهم وتورعهم عما كانوا عليه من جهلهم فأجابهم الموفق إلى ما سألوا، وعرفهم حسن موقع ما ظهر له من طاعتهم، وخرجوا من عنده مبتهجين بما أجيبوا به من حسن القول وجميل الوعد. خبر دخول الموفق مدينه صاحب الزنج وتخريب داره وفي ذي القعدة من هذه السنة دخل الموفق مدينة الفاسق بالجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، فخرب داره، وانتهب ما كان فيها. ذكر الخبر عن هذه الوقعة: ذكر أن أبا أحمد لما عزم على الهجوم على الفاسق في مدينته بالجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، أمر بجمع السفن والمعابر من دجلة والبطيحة ونواحيها ليضيفها إلى ما في عسكره، إذ كان ما في عسكره مقصرا عن الجيش لكثرته، وأحصى ما في الشذا والسميريات والرقيات التي كانت تعبر فيها الخيل، فكانوا زهاء عشرة آلاف ملاح، ممن يجري عليه الرزق من بيت المال مشاهرة، سوى سفن أهل العسكر التي يحمل فيها الميرة، ويركبها الناس في حوائجهم، وسوى ما كان لكل قائد ومن يحضر من أصحابه من

السميريات والجريبيات والزواريق التي فيها الملاحون الراتبة فلما تكاملت له السفن والمعابر، ورضي عددها، تقدم إلى أبي العباس وإلى قواد مواليه وغلمانه في التأهب والاستعداد للقاء عدوهم، وأمر بتفرقة السفن والمعابر إلى حمل الخيل والرجالة، وتقدم إلى أبي العباس في أن يكون خروجه في جيشه في الجانب الغربي من نهر أبي الخصيب، وضم إليه قوادا من قواد غلمانه في زهاء ثمانية آلاف من أصحابهم، وأمره أن يعمد مؤخر عسكر الفاسق حتى يتجاوز دار المعروف بالمهلبي، وقد كان الخبيث حصنها وأسكن بقربها خلقا كثيرا من أصحابه، ليأمن على مؤخر عسكره، وليصعب على من يقصده المسلك إلى هذا الموضع. فأمر أبو أحمد أبا العباس بالعبور بأصحابه إلى الجانب الغربي من نهر أبي الخصيب، وأن يأتي هذه الناحية من ورائها، وأمر راشدا مولاه بالخروج في الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب في عدد كثير من الفرسان والرجالة زهاء عشرين ألفا، وأمر بعضهم بالخروج في ركن دار المعروف بالكرنبائي كاتب المهلبي، وهي على قرنة نهر أبي الخصيب في الجانب الشرقي منه، وأمرهم أن يجعلوا مسيرهم على شاطئ النهر حتى يوافوا الدار التي نزلها الخبيث، وهي الدار المعروفة بأبي عيسى وأمر فريقا من غلمانه بالخروج على فوهة النهر المعروف بأبي شاكر، وهو أسفل من نهر أبي الخصيب، وأمر آخرين منهم بالخروج في أصحابهم على فوهة النهر المعروف بجوى كور، وأوعز إلى الجميع في تقديم الرجالة أمام الفرسان، وأن يزحفوا بجميعهم نحو دار الخائن، فإن أظفرهم الله به وبمن فيها من أهله وولده وإلا قصدوا دار المهلبي ليلقاهم هناك من أمر بالعبور مع أبي العباس، فتكون أيديهم يدا واحدة على الفسقة. فعمل أبو العباس وراشد وسائر قواد الموالي والغلمان بما أمروا به، فظهروا جميعا، وأبرزوا سفنهم في عشيه يوم الاثنين لسبع ليال خلون من ذي القعدة سنة تسع وستين ومائتين، وسار الفرسان يتلو بعضهم بعضا، ومشت الرجالة

وسارت السفن في دجلة منذ صلاة الظهر من يوم الاثنين إلى آخر وقت عشاء الآخرة من ليلة الثلاثاء، فانتهوا إلى موضع من أسفل العسكر، وكان الموفق أمر بإصلاحه وتنظيفه وتنقية ما فيه من خراب ودغل، وطم سواقيه وأنهاره حتى استوى واتسع، وبعدت أقطاره واتخذ فيه قصرا وميدانا لعرض الرجال والخيل بإزاء قصر الفاسق، وكان غرضه في ذلك إبطال ما كان الخبيث يعد به أصحابه من سرعة انتقاله عن موضعه، فأراد أن يعلم الفريقين أنه غير راحل حتى يحكم الله بينه وبين عدوه، فبات الجيش ليلة الثلاثاء في هذا الموضع بإزاء عسكر الفاسق، وكان الجميع زهاء خمسين ألف رجل من الفرسان والرجالة في أحسن زي وأكمل هيئة، وجعلوا يكبرون ويهللون، ويقرءون القرآن، ويصلون، ويوقدون النار فرأى الخبيث من كثرة الجمع والعدة والعدد ما بهر عقله وعقول أصحابه، وركب الموفق في عشية يوم الاثنين الشذا، وهي يومئذ مائة وخمسون شذاة قد شحنها بأنجاد غلمانه ومواليه الناشبة والرامحة، ونظمها من أول عسكر الخائن إلى آخره، لتكون حصنا للجيش من ورائه، وطرحت أناجرها بحيث تقرب من الشط، وأفرد منها شذوات اختارها لنفسه، ورتب فيها من خاصة قواد غلمانه ليكونوا معه عند تقحمه نهر أبي الخصيب، وانتخب من الفرسان والرجالة عشرة آلاف، وأمرهم أن يسيروا على جانبي نهر أبي الخصيب بمسيره، ويقفوا بوقوفه، ويتصرفوا فيما رأى أن يصرفهم فيه في وقت الحرب. وغدا الموفق يوم الثلاثاء لقتال الفاسق صاحب الزنج، وتوجه كل رئيس من رؤساء قواده نحو الموضع الذي أمر بقصده، وزحف الجيش نحو الفاسق وأصحابه، فتلقاهم الخبيث في جيشه، واشتبكت الحرب، وكثر القتل والجراح بين الفريقين، وحامى الفسقة عما كانوا اقتصروا عليه من مدينتهم أشد محاماة، واستماتوا، وصبر أصحاب الموفق، وصدقوا القتال، فمن الله عليهم بالنصر،

وهزم الفسقة، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأسروا من مقاتلتهم وأنجادهم جمعا كثيرا. وأتي الموفق بالأسارى، فأمر بهم فضربت أعناقهم في المعركة، وقصد بجمعه لدار الفاجر فوافاها، وقد لجأ الخبيث إليها، وجمع أنجاد أصحابه للمدافعة عنها، فلما لم يغنوا عنها شيئا أسلمها، وتفرق أصحابه عنها، ودخلها غلمان الموفق، وفيها بقايا ما كان سلم للخبيث من ماله وأثاثه، فانتهبوا ذلك كله، وأخذوا حرمه وولده الذكور والإناث، وكانوا أكثر من مائة بين امرأة وصبي، وتخلص الفاسق ومضى هاربا نحو دار المهلبي، لا يلوي على أهل ولا مال، وأحرقت داره وما بقي فيها من متاع وأثاث، وأتي الموفق بنساء الخبيث وأولاده، فأمر بحملهم إلى الموفقية والتوكيل بهم، والإحسان إليهم. وكان جماعة من قواد أبي العباس عبروا نهر أبي الخصيب، وقصدوا الموضع الذي أمروا بقصده من دار المهلبي، ولم ينتظروا إلحاق أصحابهم بهم، فوافوا دار المهلبي، وقد لجأ إليها أكثر الزنج بعد انكشافهم عن دار الخبيث، فدخل أصحاب أبي العباس الدار، وتشاغلوا بالنهب وأخذ ما كان غلب عليه المهلبي من حرم المسلمين وأولاده منهن، وجعل كل من ظفر بشيء انصرف به إلى سفينته في نهر أبي الخصيب. وتبين الزنج قلة من بقي منهم وتشاغلهم بالنهب، فخرجوا عليهم من عدة مواضع قد كانوا كمنوا فيها، فأزالوهم عن مواضعهم، فانكشفوا، واتبعهم الزنج حتى وافوا نهر أبي الخصيب وقتلوا من فرسانهم ورجالتهم جماعة يسيرة، وارتجعوا بعض ما كانوا أخذوا من النساء والمتاع. وكان فريق من غلمان الموفق وأصحابه الذين قصدوا دار الخبيث في شرقي نهر أبي الخصيب تشاغلوا بالنهب وحمل الغنائم إلى سفنهم، فأطمع ذلك الزنج فيهم، فأكبوا عليهم، فكشفوهم واتبعوا آثارهم إلى الموضع المعروف بسوق الغنم من عسكر الزنج، فثبتت جماعة من قواد الغلمان في أنجاد

أصحابهم وشجعانهم، فردوا وجوه الزنج حتى ثاب الناس، وتراجعوا إلى مواقفهم، ودامت الحرب بينهم إلى وقت صلاة العصر فأمر أبو أحمد عند ذلك غلمانه أن يحملوا على الفسقة بأجمعهم حملة صادقة، ففعلوا ذلك، فانهزم الزنج وأخذتهم السيوف حتى انتهوا إلى دار الخبيث، فرأى الموفق عند ذلك أن يصرف غلمانه وأصحابه على إحسانهم، فأمرهم بالرجوع، فانصرفوا على هدو وسكون، فأقام الموفق في النهر ومن معه في الشذا يحميهم، حتى دخلوا سفنهم، وأدخلوها خيلهم، وأحجم الزنج عن اتباعهم لما نالهم في آخر الوقعة وانصرف الموفق ومعه أبو العباس وسائر قواده وجميع جيشه قد غنموا أموال الفاسق، واستنقذوا جمعا من النساء اللواتي كان غلب عليهن من حرم المسلمين كثيرا، جعلن يخرجن في ذلك اليوم أرسالا إلى فوهة نهر أبي الخصيب، فيحملن في السفن إلى الموفقية إلى انقضاء الحرب. وكان الموفق تقدم إلى أبي العباس في هذا اليوم أن ينفذ قائدا من قواده في خمس شذوات إلى مؤخر عسكر الخبيث بنهر أبي الخصيب، لإحراق بيادر ثم جليل قدرها، كان الخبيث يقوت أصحابه منها من الزنج وغيرهم، ففعل ذلك وأحرق أكثره وكان إحراق ذلك من أقوى الأشياء على إدخال الضعف على الفاسق وأصحابه، إذ لم يكن لهم معول في قوتهم غيره، فأمر أبو أحمد بالكتاب بما تهيأ له على الخبيث وأصحابه في هذا اليوم إلى الآفاق ليقرأ على الناس، ففعل ذلك. وفي يوم الأربعاء لليلتين خلتا من ذي الحجة من هذه السنة وافى عسكر أبي أحمد صاعد بن مخلد كاتبه منصرفا إليه من سامرا، ووافى معه بجيش كثيف قيل إن عدد الفرسان والرجالة الذين قدموا كان زهاء عشره آلاف، امر الموفق بإراحة أصحابه وتجديد أسلحتهم وإصلاح أمورهم، وأمرهم بالتأهب لمحاربة الخبيث فأقام أياما بعد قدومه لما أمر به

فهم في ذلك من أمرهم، إذ ورد كتاب لؤلؤ صاحب ابن طولون مع بعض قواده، يسأله فيه الإذن له في القدوم عليه، ليشهد عليه حرب الفاسق فأجابه إلى ذلك، فأذن له في القدوم عليه، وأخر ما كان عزم عليه من مناجزة الفاجر انتظارا منه قدوم لؤلؤ، وكان لؤلؤ مقيما بالرقة في جيش عظيم من الفراغنة والأتراك والروم والبربر والسودان وغيرهم، من نخبة أصحاب ابن طولون، فلما ورد على لؤلؤ كتاب أبي أحمد بالإذن له في القدوم عليه، شخص من ديار مضر حتى ورد مدينة السلام في جميع أصحابه، وأقام بها مدة، ثم شخص إلى أبي أحمد فوافاه بعسكره يوم الخميس لليلتين خلتا من المحرم سنة سبعين ومائتين، فجلس له أبو أحمد، وحضر ابنه أبو العباس وصاعد والقواد على مراتبهم، فأدخل عليه لؤلؤ في زي حسن، فأمر أبو العباس أن ينزل معسكرا كان أعد له بإزاء نهر أبي الخصيب، فنزله في اصحابه، وتقدم اليه في مباكره المصير الى دار الموفق، ومعه قواده وأصحابه للسلام عليه فغدا لؤلؤ يوم الجمعة لثلاث خلون من المحرم، وأصحابه معه في السواد، فوصل إلى الموفق وسلم عليه فقربه وأدناه، ووعده وأصحابه خيرا، وأمر أن يخلع عليه وعلى خمسين ومائة قائد من قواده، وحمله على خيل كثيرة بالسروج واللجم المحلاة بالذهب والفضة، وحمل بين يديه من أصناف الكسى والأموال في البدور ما يحمله مائة غلام، وأمر لقواده من الصلات والحملان والكسى على قدر محل كل إنسان منهم عنده، وأقطعه ضياعا جليلة القدر، وصرفه إلى عسكره بإزاء نهر أبي الخصيب بأجمل حال، وأعدت له ولأصحابه الأنزال والعلوفات، وأمره برفع جرائد لأصحابه بمبلغ أرزاقهم على مراتبهم، فرفع ذلك، فأمر لكل إنسان منهم بالضعف مما كان يجرى له وامر لهم بالعطاء عند رفع الجرائد، ووفوا ما رسم لهم. ثم تقدم إلى لؤلؤ في التأهب والاستعداد للعبور إلى غربي دجلة لمحاربة الفاسق وأصحابه، وكان الخبيث لما غلب على نهر أبي الخصيب، وقطعت

القناطر والجسور التي كانت عليه أحدث سكرا في النهر من جانبيه، وجعل في وسط السكر بابا ضيقا ليحتد فيه جرية الماء، فيمتنع الشذا من دخوله في الجزر، ويتعذر خروجها منه في المد، فرأى أبو أحمد أن حربه لا تتهيأ له إلا بقلع هذا السكر، فحاول ذلك، فاشتدت محاماة الفسقة عنه، وجعلوا يزيدون فيه في كل يوم وليلة، وهو متوسط دورهم، والمئونة لذلك تسهل عليهم وتغلظ على من حاول قلعه. فرأى أبو أحمد أن يحارب بفريق بعد فريق من أصحاب لؤلؤ، ليضروا لمحاربة الزنج، ويقفوا على المسالك والطرق في مدينتهم، فأمر لؤلؤا أن يحضر في جماعة من أصحابه للحرب على هذا السكر، وأمر بإحضار الفعلة لقلعه، ففعل فرأى الموفق من نجدة لؤلؤ وإقدامه وشجاعة أصحابه وصبرهم على ألم الجراح وثبات العدة اليسيرة منهم، في وجوه الجمع الكثير من الزنج ما سره فأمر لؤلؤا بصرف أصحابه إشفاقا عليهم، وضنا بهم، فوصلهم الموفق، وأحسن إليهم، وردهم إلى معسكرهم، وألح الموفق على هذا السكر، فكان يحارب المحامين عنه من أصحاب الخبيث بأصحاب لؤلؤ وغيرهم، والفعلة يعملون في قلعه، ويحارب الفاجر وأشياعه من عدة وجوه، فيحرق مساكنهم، ويقتل مقاتلتهم، ويستأمن إليه الجماعة من رؤسائهم. وكانت قد بقيت للخبيث وأصحابه أرضون من ناحية نهر الغربي، كان لهم فيها مزارع وخضر وقنطرتان على نهر الغربي، يعبرون عليها إلى هذه الأرضين، فوقف أبو العباس على ذلك فقصد لتلك الناحية، واستأذن الموفق في ذلك، فأذن له، وأمره باختيار الرجال، وأن يجعلهم شجعاء أصحابه وغلمانه، ففعل أبو العباس ذلك، وتوجه نحو نهر الغربي، وجعل زيرك كمينا في جمع من أصحابه في غربي النهر، وأمر رشيقا غلامه أن يقصد في جمع كثير من أنجاد رجاله ومختاريهم للنهر المعروف بنهر العميسيين، ليخرج في ظهور الزنج وهم غارون، فيوقع بهم في هذه الأرضين وأمر زيرك أن يخرج في

أخبار متفرقة

وجوههم إذا أحس بانهزامهم من رشيق. وأقام أبو العباس في عدة شذوات قد انتخب مقاتلتها واختارهم في فوهة نهر الغربي، ومعه من غلمانه البيضان والسودان عدد قد رضيه، فلما ظهر رشيق للفجرة في شرقي نهر الغربي، راعهم فأقبلوا يريدون العبور إلى غربيه ليهربوا إلى عسكرهم، فلما عاينهم أبو العباس اقتحم النهر بالشذوات، وبث الرجاله على جافتيه، فأدركوهم ووضعوا السيف فيهم، فقتل منهم في النهر وعلى ضفتيه خلق كثير، وأسر منهم أسرى، وأفلت آخرون، فتلقاهم زيرك في أصحابه فقتلوهم، ولم يفلت منهم إلا الشريد، وأخذ أصحاب أبي العباس من أسلحتهم ما ثقل عليهم حمله، حتى ألقوا أكثره وقطع أبو العباس القنطرتين، وأمر بإخراج ما كان فيهما من البدود والخشب إلى دجلة وانصرف إلى الموفق بالأسارى والرءوس، فطيف بها في العسكر، وانقطع عن الفسقة ما كانوا يرتفقون به من المزارع التي كانت بنهر الغربي. [أخبار متفرقة] وفي ذي الحجة من هذه السنة أعني سنة تسع وستين ومائتين- أدخل عيال صاحب الزنج وولده بغداد. وفيها سمي صاعد ذا الوزارتين وفي ذي الحجة منها كانت وقعة بين قائدين وجيش معهما لابن طولون كان أحدهما يسمى محمد بن السراج والآخر منهما يعرف بالغنوي، كان ابن طولون وجههما، فوافيا مكة يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي القعده في أربعمائة وسبعين فارسا وألفي راجل، فأعطوا الجزارين والحناطين دينارين دينارين، والرؤساء سبعة سبعة، وهارون بن محمد عامل مكة إذ ذاك ببستان ابن عامر، فوافى مكة جعفر بن الباغمردي لثلاث خلون من ذي الحجة في نحو من مائتي فارس، وتلقاه هارون في مائة وعشرين فارسا ومائتي

أسود وثلاثين فارسا من أصحاب عمرو بن الليث ومائتي راجل ممن قدم من العراق، فقوي بهم جعفر، فالتقوا هم وأصحاب ابن طولون، وأعان جعفرا حاج أهل خراسان، فقتل من أصحاب ابن طولون ببطن مكة نحو من مائتي رجل، وانهزم الباقون في الجبال وسلبوا دوابهم وأموالهم، ورفع جعفر السيف. وحوى جعفر مضرب الغنوي وقيل: أنه كان فيه مائتا ألف دينار، وآمن المصريين والحناطين والجزارين، وقرئ كتاب في المسجد الحرام ولعن ابن طولون، وسلم الناس وأموال التجار. وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي، ولم يبرح إسحاق بن كنداج- وقد ولي المغرب كله في هذه السنة- سامرا حتى انقضت السنة.

سنه سبعين ومائتين

ثم دخلت سنة سبعين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث الجليلة) ففي المحرم منها كانت وقعة بين أبي أحمد وصاحب الزنج اضعفت اركان صاحب الزنج. ذكر الخبر عن قتل صاحب الزنج واسر من معه وفي صفر منها قتل الفاجر، وأسر سليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر الهمداني واستريح من أسباب الفاسق. ذكر الخبر عن هاتين الوقعتين: قد ذكرنا قبل أمر السكر الذي كان الخبيث أحدثه، وما كان من أمر أبي أحمد وأصحابه في ذلك ذكر أن أبا أحمد لم يزل ملحا على الحرب على ذلك السكر حتى تهيأ له فيه ما أحب، وسهل المدخل للشذا في نهر أبي الخصيب في المد والجزر، وسهل لأبي أحمد في موضعه الذي كان مقيما فيه كل ما أراده من رخص الأسعار وتتابع المير وحمل الأموال إليه من البلدان ورغبة الناس في جهاد الخبيث ومن معه من أشياعه، فكان ممن صار إليه من المطوعة أحمد بن دينار عامل إيذج ونواحيها من كور الأهواز في جمع كثير من الفرسان والرجالة، فكان يباشر الحرب بنفسه وأصحابه إلى أن قتل الخبيث ثم قدم بعده من أهل البحرين- فيما ذكر- خلق كثير، زهاء ألفي رجل، يقودهم رجل من عبد القيس، فجلس لهم أبو أحمد، ودخل إليه رئيسهم ووجوههم، فأمر أن يخلع عليهم، واعترض رجالهم أجمعين وأمر بإقامة الأنزال لهم، وورد بعدهم زهاء ألف رجل من كور فارس، يرأسهم شيخ من المطوعة يكنى أبا سلمة، فجلس لهم الموفق، فوصل إليه هذا الشيخ ووجوه

أصحابه، فأمر لهم بالخلع، وأقر لهم الأنزال، ثم تتابعت المطوعة من البلدان، فلما تيسر له ما أراد من السكر الذي ذكرنا، عزم على لقاء الخبيث، فأمر بإعداد السفن والمعابر وإصلاح آلة الحرب في الماء وعلى الظهر، واختار من يثق ببأسه ونجدته في الحرب فارسا وراجلا، لضيق المواضع التي كان يحارب فيها وصعوبتها وكثرة الخنادق والأنهار بها، فكانت عدة من تخير من الفرسان زهاء ألفي فارس، ومن الرجالة خمسين ألفا أو يزيدون، سوى من عبر من المطوعة وأهل العسكر، ممن لا ديوان له، وخلف بالموفقية من لم يتسع السفن بحمله جما كثيرا أكثرهم من الفرسان. وتقدم الموفق إلى أبي العباس في القصد للموضع الذي كان صار إليه في يوم الثلاثاء لعشر خلون من ذي القعدة سنة تسع وستين ومائتين من الجانب الشرقي بإزاء دار المهلبي في أصحابه وغلمانه ومن ضمهم إليه من الخيل والرجالة والشذا وأمر صاعد بن مخلد بالخروج على النهر المعروف بأبي شاكر في الجانب الشرقي أيضا، ونظم القواد من مواليه وغلمانه من فوهة نهر أبي الخصيب إلى نهر الغربي وكان فيمن خرج من حد دار الكرنبائي إلى نهر أبي شاكر راشد ولؤلؤ، موليا الموفق، في جمع من الفرسان والرجالة زهاء عشرين ألفا، يتلو بعضهم بعضا، ومن نهر أبي شاكر إلى النهر المعروف بجوى كور جماعة من قواد الموالي والغلمان، ثم من نهر جوى كور إلى نهر الغربي مثل ذلك وأمر شبلا أن يقصد في أصحابه ومن ضم إليه إلى نهر الغربي، فيأتي منه مؤازيا لظهر دار المهلبي، فيخرج من ورائها عند اشتباك الحرب، وأمر الناس أن يزحفوا بجميعهم إلى الفاسق، لا يتقدم بعضهم بعضا، وجعل لهم أمارة الزحف، تحريك علم أسود أمر بنصبه على دار الكرنبائي بفوهة نهر أبي الخصيب في موضع منها مشيد عال، وأن ينفخ لهم ببوق بعيد الصوت، وكان عبوره يوم الاثنين لثلاث ليال بقين من المحرم سنة سبعين ومائتين، فجعل بعض من كان على النهر المعروف بجوى كور يزحف قبل ظهور العلامة، حتى قرب

من دار المهلبي، فلقيه وأصحابه الزنج فردوهم إلى مواضعهم، وقتلوا منهم جمعا، ولم يشعر سائر الناس بما حدث على هؤلاء المتسرعين للقتال لكثرتهم وبعد المسافة فيما بين بعضهم وبعض. فلما خرج القواد ورجالهم من المواضع التي أمروا بالخروج منها، واستوى الفرسان والرجالة في أماكنهم، أمر الموفق بتحريك العلم والنفخ في البوق، ودخل النهر في الشذا، وزحف الناس يتلو بعضهم بعضا، فلقيهم الزنج قد حشدوا وجموا واجترءوا بما تهيأ لهم على من كان تسرع إليهم، فلقيهم الجيش بنيات صادقة وبصائر نافذة، فأزالوهم عن مواضعهم بعد كرات كانت بين الفريقين، صرع فيها منهم جمع كثير وصبر أصحاب أبي أحمد، فمن الله عليهم بالنصر، ومنحهم أكتاف الفسقة، فولوا منهزمين، واتبعهم أصحاب الموفق، يقتلون ويأسرون وأحاط أصحاب أبي أحمد بالفجرة من كل موضع، فقتل الله منهم في ذلك اليوم ما لا يحيط به الإحصاء، وغرق منهم في النهر المعروف بجوى كور مثل ذلك، وحوى أصحاب الموفق مدينة الفاسق بأسرها، واستنقذوا من كان فيها من الأسرى من الرجال والنساء والصبيان، وظفروا بجميع عيال علي بن أبان المهلبي وأخويه الخليل ومحمد ابني أبان وسليمان بن جامع وأولادهم، وعبر بهم إلى المدينة الموفقية. ومضى الفاسق في أصحابه ومعه المهلبي وابنه أنكلاي وسليمان بن جامع وقواد من الزنج وغيرهم هرابا، عامدين لموضع قد كان الخبيث رآه لنفسه ومن معه ملجأ إذا غلبوا على مدينته، وذلك على النهر المعروف بالسفياني. وكان أصحاب أبي أحمد حين انهزم الخبيث، وظفروا بما ظفروا به، أقاموا عند دار المهلبي الواغلة في نهر أبي الخصيب، وتشاغلوا بانتهاب ما كان في الدار وإحراقها وما يليها، وتفرقوا في طلب النهب، وكل ما بقي للفاسق وأصحابه مجموعا في تلك الدار. وتقدم أبو أحمد في الشذا قاصدا للنهر المعروف بالسفياني، ومعه لؤلؤ في

أصحابه الفرسان والرجالة، فانقطع عن باقي الجيش، فظنوا أنه قد انصرف، فانصرفوا إلى سفنهم بما حووا، وانتهى الموفق فيمن معه إلى معسكر الفاسق وأصحابه وهم منهزمون، فاتبعهم لؤلؤ وأصحابه حتى عبروا النهر المعروف بالسفياني، فاقتحم لؤلؤ النهر بفرسه، وعبر أصحابه خلفه، ومضى الفاسق حتى انتهى إلى النهر المعروف بالقريري، فوصل إليه لؤلؤ وأصحابه، فأوقعوا به وبمن معه، فكشفوهم، فولوا هاربين وهم يتبعونهم، حتى عبروا النهر المعروف بالقريري، وعبر لؤلؤ وأصحابه خلفهم والجئوهم إلى النهر المعروف بالمساوان، فعبروه واعتصموا بجبل وراءه. وكان لؤلؤ وأصحابه الذين انفردوا بهذا الفعل دون سائر الجيش، فانتهى بهم الجد في طلب الفاسق وأشياعه إلى هذا الموضع الذي وصفنا في آخر النهار، فأمره الموفق بالانصراف محمود الفعل، فحمله الموفق معه في الشذا، وجدد له من البر والكرامة ورفع المرتبة، لما كان منه في أمر الفسقة حسب ما كان مستحقا ورجع الموفق في الشذا في نهر أبي الخصيب وأصحاب لؤلؤ يسايرونه فلما حاذى دار المهلبي، لم ير بها أحدا من أصحابه، فعلم أنهم قد انصرفوا، فاشتد غيظه عليهم، وسار قاصدا لقصره، وأمر لؤلؤ بالمضي بأصحابه إلى عسكره، وأيقن بالفتح لما رأى من أمارته، واستبشر الناس جميعا بما هيأ الله من هزيمة الفاسق وأصحابه وإخراجهم عن مدينتهم، واستباحة كل ما كان لهم من مال وذخيرة وسلاح، واستنفاذ جميع من كان في أيديهم من الأسرى وكان في نفس أبي أحمد على أصحابه من الغيظ لمخالفتهم أمره، وتركهم الوقوف حيث وقفهم، فأمر بجمع قواد مواليه وغلمانه ووجوههم، فجمعوا له، فوبخهم على ما كان منهم وعجزهم، وأغلظ لهم، فاعتذروا بما توهموا من انصرافه، وأنهم لم يعلموا بمسيره إلى الفاسق وانتهائه إلى حيث انتهى من عسكره، وأنهم لو علموا ذلك لأسرعوا نحوه، ولم يبرحوا موضعهم حتى تحالفوا وتعاقدوا على ألا ينصرف منهم أحد إذا توجهوا نحو

الخبيث حتى يظفرهم الله به، فإن أعياهم ذلك أقاموا بمواضعهم حتى يحكم الله بينهم وبينه وسألوا الموفق أن يأمر برد السفن التي يعبرون فيها الى الموفقيه عند خروجهم منها للحرب، لتنقطع أطماع الذين يريدون الرجوع عن حرب الفاسق من ذلك، فجزاهم أبو أحمد الخير على تنصلهم من خطئهم، ووعدهم الإحسان، وأمرهم بالتأهب للعبور، وأن يعظوا أصحابهم بمثل الذي وعظوا به وأقام الموفق بعد ذلك يوم الثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة لإصلاح ما يحتاج إليه، فلما كمل ذلك تقدم إلى من يثق إليه من خاصته وقواد غلمانه ومواليه، بما يكون عليه عملهم في وقت عبورهم. وفي عشي يوم الجمعة، تقدم إلى أبي العباس وقواد غلمانه ومواليه بالنهوض إلى مواضع سماها لهم، فأمر أبا العباس بالقصد في أصحابه إلى الموضع المعروف بعسكر ريحان، وهو بين النهر المعروف بالسفياني والموضع الذي لجأ إليه، وأن يكون سلوكه بجيشه في النهر المعروف بنهر المغيرة، حتى يخرج بهم في معترض نهر أبي الخصيب، فيوافي بهم عسكر ريحان من ذلك الوجه، وأنفذ قائدا من قواد غلمانه السودان، وأمره أن يصير إلى نهر الأمير فيعترض في المنصف منه، وأمر سائر قواده وغلمانه بالمبيت في الجانب الشرقي من دجلة بإزاء عسكر الفاسق متأهبين للغدو على محاربته وجعل الموفق يطوف في الشذا على القواد ورجالهم في عشي يوم الجمعة وليلة السبت، ويفرقهم في مراكزهم والمواضع التي رتبهم فيها من عسكر الفاسق، ليباكروا المصير إليها على ما رسم لهم. وغدا الموفق يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين، فوافى نهر أبي الخصيب في الشذا، فأقام بها حتى تكامل عبور الناس وخروجهم عن سفنهم، وأخذ الفرسان والرجالة مراكزهم، وأمر بالسفن والمعابر فردت إلى الجانب الشرقي، وأذن للناس في الزحف إلى الفاسق، وسار يقدمهم حتى وافى الموضع الذي قدر أن يثبت الفسقة فيه لمدافعة الجيش عنهم. وقد كان الخائن وأصحابه لخبثهم رجعوا إلى المدينة يوم الاثنين بعد انصراف

الجيش عنها، وأقاموا بها، وأملوا أن تتطاول بهم الأيام، وتندفع عنهم المناجزة، فوجد الموفق المتسرعين من فرسان غلمانه ورجالتهم قد سبقوا أعظم الجيش، فأوقعوا بالفاجر وأصحابه وقعة أزالوهم بها عن مواقفهم، فانهزموا وتفرقوا لا يلوي بعضهم على بعض، واتبعهم الجيش يقتلون ويأسرون من لحقوا منهم، وانقطع الفاسق في جماعة من حماته من قواد الجيش ورجالهم، وفيهم المهلبي. وفارقه ابنه أنكلاي وسليمان بن جامع، فقصد لكل فريق ممن سمينا جمع كثيف من موالي الموفق وغلمانه الفرسان والرجالة، ولقي من كان رتبه الموفق من أصحاب أبي العباس في الموضع المعروف بعسكر ريحان المنهزمين من أصحاب الفاجر، فوضعوا فيهم السلاح ووافى القائد المرتب في نهر الأمير، فاعترض الفجرة، فأوقع بهم وصادف سليمان بن جامع فحاربه، فقتل جماعة من حماته، فظفر بسليمان فأسره، فأتى به الموفق بغير عهد ولا عقد، فاستبشر الناس بأسر سليمان، وكثر التكبير والضجيج، وأيقنوا بالفتح إذ كان أكثر أصحابه غناء عنه وأسر بعده إبراهيم بن جعفر الهمداني- وكان أحد أمراء جيوشه- وأسر نادر الأسود المعروف بالحفار، وهو أحد قدماء أصحاب الفاجر- فأمر الموفق بالاستيثاق منهم وتصييرهم في شذاة لأبي العباس. ففعل ذلك. ثم أن الزنج الذين انفردوا مع الفاسق عطفوا على الناس عطفة أزالوهم بها عن مواقفهم، ففتروا لذلك، وأحس الموفق بفتورهم، فجد في طلب الخبيث، وأمعن في نهر أبي الخصيب، فشد ذلك من قلوب مواليه وغلمانه، ووجدوا في الطلب معه. وانتهى الموفق إلى نهر أبي الخصيب، فوافاه البشير بقتل الفاجر، ولم يلبث أن وافاه بشير آخر ومعه كف زعم أنها كفه، فقوي الخبر عنده بعض القوة ثم أتاه غلام من أصحاب لؤلؤ يركض على فرس، ومعه رأس الخبيث،

فأدناه منه، فعرضه على جماعة ممن كان بحضرته من قواد المستأمنة، فعرفوه. فخر لله ساجدا على ما أولاه وأبلاه، وسجد أبو العباس وقواد موالي الموفق وغلمانه شكرا لله، وأكثروا حمد الله والثناء عليه، وأمر الموفق برفع رأس الفاجر على قناة ونصبه بين يديه، فتأمله الناس وعرفوا صحة الخبر بقتله، فارتفعت أصواتهم بالحمد لله وذكر أن أصحاب الموفق لما أحاطوا بالخبيث، ولم يبق معه من رؤساء أصحابه إلا المهلبي، ولى عنه هاربا واسلمه وقصد النهر المعروف بنهر الأمير، فقذف نفسه فيه يريد النجاة، وقبل ذلك ما كان ابن الخبيث أنكلاي فارق أباه، ومضى يؤم النهر المعروف بالديناري، فأقام فيه متحصنا بالأدغال والآجام، وانصرف الموفق ورأس الخبيث منصوب بين يديه على قناة في شذاة، يخترق بها نهر أبي الخصيب، والناس في جنبتي النهر ينظرون إليه حتى وافى دجلة، فخرج إليها فأمر برد السفن التي كان عبر بها في أول النهار إلى الجانب الشرقي من دجلة، فردت ليعبر الناس فيها. ثم سار ورأس الخبيث بين يديه على القناة، وسليمان بن جامع والهمداني مصلوبان في الشذا، حتى وافى قصره بالموفقية وأمر أبا العباس بركوب الشذا وإقرار الرأس وسليمان والهمداني على حالهم والسير بهم إلى نهر جطى، وهو أول عسكر الموفق، ليقع عليهم عيون الناس جميعا في العسكر، ففعل ذلك وانصرف إلى أبيه أبي أحمد فأمر بحبس سليمان والهمداني وإصلاح الرأس وتنقيته. وذكر أنه تتابع مجيء الزنج الذين كانوا أقاموا مع الخبيث وآثروا صحبته، فوافى ذلك اليوم زهاء ألف منهم، ورأى الموفق بذل الأمان، لما رأى من كثرتهم وشجاعتهم، لئلا تبقى منهم بقية تخاف معرتها على الإسلام وأهله، فكان من وافى من قواد الزنج ورجالهم في بقية يوم السبت وفي يوم الأحد

ذكر خبر استئمان درمويه الزنجي إلى ابى احمد

والاثنين زهاء خمسة آلاف زنجي، وكان قد قتل في الوقعة وغرق وأسر منهم خلق كثير لا يوقف على عددهم، وانقطعت منهم قطعه زهاء الف رنجى مالوا نحو البر، فمات أكثرهم عطشا، فظفر الأعراب بمن سلم منهم واسترقوهم. وانتهى إلى الموفق خبر المهلبي وأنكلاي ومقامهما بحيث أقاما مع من تبعهما من جلة قواد الزنج ورجالهم، فبث أنجاد غلمانه في طلبهم، وأمرهم بالتضييق عليهم، فلما أيقنوا بأن لا ملجأ لهم أعطوا بأيديهم، فظفر بهم الموفق وبمن معهم، حتى لم يشذ أحد وقد كانوا على نحو العدة التي خرجت إلى الموفق بعد قتل الفاجر في الأمان، فأمر الموفق بالاستيثاق من المهلبي وأنكلاي وحبسهما، ففعل. وكان فيمن هرب من عسكر الخبيث يوم السبت ولم يركن إلى الأمان قرطاس الذي كان رمى الموفق بالسهم، فانتهى به الهرب إلى رامهرمز، فعرفه رجل قد كان رآه في عسكر الخبيث فدل عليه عامل البلد، فأخذه وحمله في وثاق، فسأل أبو العباس أباه أن يوليه قتله فدفعه اليه فقتله. ذكر خبر استئمان درمويه الزنجي الى ابى احمد وفيها استأمن درمويه الزنجي إلى أبي أحمد، وكان درمويه هذا- فيما ذكر- من أنجاد الزنج وأبطالهم، وكان الفاجر وجهه قبل هلاكه بمدة طويلة إلى أواخر نهر الفهرج، وهي من البصرة في غربي دجلة، فأقام هنالك بموضع وعر كثير النخل والدغل والآجام متصل بالبطيحة، وكان درمويه ومن معه هنالك يقطعون على السابلة في زواريق خفاف وسميريات اتخذوها لأنفسهم، فإذا طلبهم أصحاب الشذا ولجوا الأنهار الضيقة، واعتصموا بمواضع الأدغال منها، وإذا تعذر عليهم مسلك نهر منها لضيقها خرجوا من سفنهم وحملوها على ظهورهم، ولجئوا إلى هذه المواضع الممتنعة. وفي خلال ذلك يغيرون على قرى البطيحة وما يليها، فيقتلون ويسلبون

من ظفروا به، فمكث درمويه ومن معه يفعلون هذه الأفعال إلى أن قتل الفاجر وهم بموضعهم الذي وصفنا أمره، لا يعلمون بشيء مما حدث على صاحبهم فلما فتح بقتل الخبيث موضعه، وأمن الناس وانتشروا في طلب المكاسب وحمل التجارات، وسلكت السابلة دجلة، أوقع درمويه بهم، فقتل وسلب، فأوحش الناس ذلك، واشرأب لمثل ما فيه درمويه جماعة من شرار الناس وفساقهم، وحدثوا أنفسهم بالمصير إليه وبالمقام معه على مثل ما هو عليه، فعزم الموفق على تسريح جيش من غلمانه السودان ومن جرى مجراهم من أهل البصر بالحرب في الأدغال ومضايق الأنهار، وأعد لذلك صغار السفن وصنوف السلاح، فبينا هو في ذلك وافى رسول لدرمويه يسأل الأمان له على نفسه وأصحابه، فرأى الموفق أن يؤمنه ليقطع مادة الشر الذي كان فيه الناس من الفاجر وأشياعه. وذكر أن سبب طلب درمويه الأمان كان أنه كان فيمن أوقع به قوم ممن خرج من عسكر الموفق للقصد إلى منازلهم بمدينة السلام، فيهم نسوة، فقتلهم وسلبهم، وغلب على النسوة اللاتي كن معهم، فلما صرن في يده بحثهن عن الخبر، فأخبرنه بقتل الفاسق والظفر بالمهلبي وأنكلاي وسليمان بن جامع وغيرهم من رؤساء أصحاب الفاسق وقواده ومصير أكثرهم إلى الموفق في الأمان وقبوله إياهم وإحسانه إليهم، فأسقط في يده، ولم ير لنفسه ملجأ إلا التعوذ بالأمان ومسألة الموفق الصفح عن جرمه، فوجه في ذلك، فأجيب إليه. فلما ورد عليه الأمان خرج وجميع من معه حتى وافى عسكر الموفق، فوافت منهم قطعة حسنة كثيرة العدد لم يصبها بؤس الحصار وضره مثل ما أصاب سائر أصحاب الخبيث، لما كان يصل إليهم من أموال الناس وميرهم. فذكر أن درمويه لما أومن وأحسن إليه وإلى أصحابه، أظهر كل ما كان في يده وأيديهم من أموال الناس وأمتعتهم، ورد كل شيء منه إلى أهله ردا ظاهرا مكشوفا، فووفق بذلك على إنابته، فخلع عليه وعلى وجوه

أصحابه وقواده، ووصلوا فضمهم الموفق إلى قائد من قواد غلمانه، وأمر الموفق أن يكتب إلى أمصار الإسلام بالنداء في أهل البصرة والأبلة وكور دجلة وأهل الأهواز وكورها وأهل واسط وما حولها مما دخله الزنج بقتل الفاسق، وأن يؤمروا بالرجوع إلى أوطانهم ففعل ذلك، فسارع الناس إلى ما أمروا به، وقدموا المدينة الموفقية من جميع النواحي. وأقام الموفق بعد ذلك بالموفقية ليزداد الناس بمقامه أمنا وإيناسا، وولى البصرة والأبلة وكور دجلة رجلا من قواد مواليه قد كان حمد مذهبه، ووقف على حسن سيرته، يقال له العباس بن تركس، فأمره بالانتقال إلى البصرة والمقام بها. وولى قضاء البصرة والأبلة وكور دجلة وواسط محمد بن حماد وقدم ابنه أبا العباس إلى مدينة السلام، ومعه رأس الخبيث صاحب الزنج ليراه الناس، فاستبشروا، فنفذ ابو العباس في جيشه حتى وافى مدينة السلام يوم السبت لاثنتي عشرة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة، فدخلها في أحسن زي، وأمر برأس الخبيث فسير به بين يديه على قناة، واجتمع الناس لذلك. وكان خروج صاحب الزنج في يوم الأربعاء لأربع بقين من شهر رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين، وقتل يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين، فكانت أيامه من لدن خرج إلى اليوم الذي قتل فيه أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيام، وكان دخوله الأهواز لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة ست وخمسين ومائتين، وكان دخوله البصرة وقتله أهلها وإحراقه لثلاث عشرة ليلة بقيت من شوال سنة سبع وخمسين ومائتين، فقال- فيما كان من أمر الموفق، وأمر المخذول- الشعراء أشعارا كثيرة، فمما قيل في ذلك قول يحيى بن محمد الأسلمي: أقول وقد جاء البشير بوقعة ... أعزت من الإسلام ما كان واهيا جزى الله خير الناس للناس بعد ما ... أبيح حماهم خير ما كان جازيا

تفرد إذ لم ينصر الله ناصر ... بتجديد دين كان أصبح باليا وتشديد ملك قد وهى بعد عزه ... وإدراك ثارات تبير الأعاديا ورد عمارات أزيلت وأخربت ... ليرجع فيء قد تخرم وافيا ويرجع أمصار أبيحت وأحرقت ... مرارا فقد أمست قواء عوافيا ويشفى صدور المؤمنين بوقعه ... يقر بها منا العيون البواكيا ويتلى كتاب الله في كل مسجد ... ويلقى دعاء الطالبيين خاسيا فأعرض عن أحبابه ونعيمه ... وعن لذة الدنيا وأقبل غازيا في قصيدة طويلة ومن ذلك أيضا قوله: أين نجوم الكاذب المارق ... ما كان بالطب ولا الحاذق صبحه بالنحس سعد بدا ... لسيد في قوله صادق فخر في مأزقه مسلما ... إلى أسود الغاب في المأزق وذاق من كأس الردى شربة ... كريهة الطعم على الذائق وقال فيه يحيى بن خالد: يا بن الخلائف من أرومة هاشم ... والغامرين الناس بالأفضال والذائدين عن الحريم عدوهم ... والمعلمين لكل يوم نزال ملك أعاد الدين بعد دروسه ... واستنقذ الأسرى من الأغلال أنت المجير من الزمان إذا سطا ... وإليك يقصد راغب بسؤال أطفأت نيران النفاق وقد علت ... يا واهب الآمال والآجال لله درك من سليل خلائف ... ماضي العزيمة طاهر السربال أفنيت جمع المارقين فأصبحوا ... متلددين قد أيقنوا بزوال أمطرتهم عزمات رأي حازم ... ملأت قلوبهم من الأهوال لما طغى الرجس اللعين قصدته ... بالمشرفي وبالقنا الجوال

وتركته والطير يحجل حوله ... متقطع الأوداج والأوصال يهوي إلى حر الجحيم وقعرها ... بسلاسل قد أوهنته ثقال هذا بما كسبت يداه وما جنى ... وبما أتى من سيئ الأعمال أقررت عين الدين ممن قاده ... وادلته من قاتل الأطفال صال الموفق بالعراق فافزعت ... من بالمغارب صولة الأبطال وفيه يقول أيضا يحيى بن خالد بن مروان: أبن لي جوابا أيها المنزل القفر ... فلا زال منهلا بساحاتك القطر أبن لي عن الجيران أين تحملوا ... وهل عادت الدنيا، وهل رجع السفر! وكيف تجيب الدار بعد دروسها ... ولم يبق من أعلام ساكنها سطر منازل أبكاني مغاني أهلها ... وضاقت بي الدنيا وأسلمني الصبر كأنهم قوم رغا البكر فيهم ... وكان على الأيام في هلكهم نذر وعاثت صروف الدهر فيهم فأسرعت ... وشر ذوي الأصعاد ما فعل الدهر فقد طابت الدنيا وأينع نبتها ... بيمن ولي العهد وانقلب الأمر وعاد إلى الأوطان من كان هاربا ... ولم يبق للملعون في موضع إثر بسيف ولي العهد طالت يد الهدى ... وأشرق وجه الدين واصطلم الكفر وجاهدهم في الله حق جهاده ... بنفس لها طول السلامة والنصر وهي طويلة وقال يحيى بن محمد: عني اشتغالك إني عنك في شغل ... لا تعذلي من به وقر عن العذل لا تعذلي في ارتحالي إنني رجل ... وقف على الشد والإسفار والرحل فيم المقام إذا ما ضاق بي بلد ... كأنني لحجال العين والكلل ما استيقظت همة لم تلف صاحبها ... يقظان قد جانبته لذة المقل ولم يبت أمنا من لم يبت وجلا ... من أن يبيت له جار على وجل

وهي أيضا طويلة. وفي هذه السنة في شهر ربيع الأول منها، ورد مدينة السلام الخبر أن الروم نزلت بناحية باب قلمية على ستة أميال من طرسوس، وهم زهاء مائة ألف، يرأسهم بطريق البطارقة أندرياس، ومعه أربعة أخر من البطارقة، فخرج إليهم يازمان الخادم ليلا، فبيتهم، فقتل بطريق البطارقة وبطريق القباذيق وبطريق الناطلق، وأفلت بطريق قرة وبه جراحات، وأخذ لهم سبعة صلبان من ذهب وفضة، فيها صليبهم الأعظم من ذهب مكلل بالجوهر، وأخذ خمسة عشر ألف دابة وبغل، ومن السروج نحو من ذلك، وسيوف محلاة بذهب وفضة وآنية كثيرة، ونحو من عشرة آلاف علم ديباج، وديباج كثير وبزيون ولحف سمور، وكان النفير إلى أندرياس يوم الثلاثاء لسبع خلون من شهر ربيع الأول، فكبس ليلا وقتل من الروم خلق كثير، فزعم بعضهم أنه قتل منهم سبعون ألفا وفيها توفي هارون بن أبي أحمد الموفق بمدينة السلام يوم الخميس لليلتين خلتا من جمادى الأولى. ولست خلون من شعبان منها، ورد الخبر بموت أحمد بن طولون مدينة السلام- فيما ذكر وقال بعضهم: كانت وفاته يوم الاثنين لثمان عشرة مضت من ذي القعدة منها. وفيها مات الحسن بن يزيد العلوي بطبرستان، إما في رجب، وإما في شعبان. وللنصف من شعبان دخل المعتمد بغداد، وخرج من المدينة حتى نزل بحذاء قطربل في تعبئة، ومحمد بن طاهر يسير بين يديه بالحربة، ثم مضى إلى سامرا. وفيها كان فداء أهل ساتيدما على يدي يازمان في سلخ رجب منها. وفي يوم الأحد لتسع بقين من شعبان من هذه السنة شغب أصحاب

أبي العباس بن الموفق ببغداد على صاعد بن مخلد وهو وزير الموفق، فطلبوا الأرزاق، فخرج إليهم أصحاب صاعد ليدفعوهم، فصارت رجالة أبي العباس إلى رحبة الجسر، وأصحاب صاعد داخل الأبواب بسوق يحيى، واقتتلوا، فقتل بينهم قتلى، وجرحت جماعة، ثم حجز بينهم الليل، وبكروا من الغد، فوضع لهم العطاء واصطلحوا. وفي شوال منها كانت وقعة بين إسحاق بن كنداج وابن دعباش، وكان ابن دعباش على الرقة وأعمالها، وعلى الثغور والعواصم من قبل ابن طولون، وابن كنداج على الموصل من قبل السلطان. وفيها انبثق ببغداد في الجانب الغربي منها من نهر عيسى من الياسرية بثق، فغرق الدباغين وأصحاب الساج بالكرخ، ذكر أنه دق سبعة آلاف دار ونحوها وقتل في هذه السنة ملك الروم المعروف بابن الصقلبي وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي بن عيسى ابن موسى بْن محمد بْن علي بْن عبد الله بن العباس.

الجزء العاشر

الجزء العاشر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ثم دخلت سنة إحدى وسبعين ومائتين وأولها يوم الاثنين للتاسع والعشرين من حزيران، ولخمس وتسعين ومائة وألف من عهد ذي القرنين. ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث الجليلة: فمن ذلك ما كان فيها من ورود الخبر في غرة صفر بدخول محمد وعلي ابني الحسين بن جعفر بْن موسى بْن جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ المدينة وقتلهما جماعة من أهلها ومطالبتهما أهلها بمال، وأخذهما من قوم منهم مالا وأن أهل المدينة لم يصلوا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أربع جمع، لا جمعة ولا جماعة، فقال أبو العباس بن الفضل العلوي: أخربت دار هجرة المصطفى البر ... فأبكى إخرابها المسلمينا عين فابكي مقام جبريل والقبر ... فبكي والمنبر الميمونا وعلى المسجد الذي أسه التقوى ... خلاء أضحى من العابدينا وعلى طيبة التي بارك الله ... عليها بخاتم المرسلينا قبح الله معشرا اخربوها ... وأطاعوا متبرئا ملعونا وفيها ادخل على المعتمد من كان حصر بغداد من حاج خراسان، فأعلمهم أنه قد عزل عمرو بن الليث عما كان قلده، ولعنه بحضرتهم، وأخبرهم أنه قد قلد خراسان محمد بن طاهر، وكان ذلك لأربع بقين من شوال. وأمر أيضا بلعن عمرو بن الليث على المنابر، فلعن. ولثمان بقين من شعبان من هذه السنة شخص صاعد بن مخلد من معسكر أبي أحمد بواسط إلى فارس لحرب عمرو بن الليث. ولعشر خلون من شهر رمضان منها عقد لأحمد بن محمد الطائي على المدينة وطريق مكة

وفيها كانت بين أبي العباس بن الموفق وبين خمارويه بن أحمد بن طولون وقعة بالطواحين، فهزم أبو العباس خمارويه، فركب خمارويه حمارا هاربا منه إلى مصر، ووقع أصحاب أبي العباس في النهب ونزل أبو العباس مضرب خمارويه، ولا يرى أنه بقي له طالب، فخرج عليه كمين لخمارويه كان كمنه لهم خمارويه، وفيهم سعد الأعسر وجماعة من قواده وأصحابه، وأصحاب أبي العباس قد وضعوا السلاح ونزلوا فشد كمين خمارويه عليهم فانهزموا، وتفرق القوم، ومضى أبو العباس إلى طرسوس في نفر من أصحابه قليل، وذهب كل ما كان في العسكرين، عسكر أبي العباس وعسكر خمارويه من السلاح والكراع والأثاث والأموال، وانتهب ذلك كله، وكانت هذه الوقعة يوم السادس عشر من شوال من هذه السنة- فيما قيل. وفيها وثب يوسف بن أبي الساج- وكان والي مكة- على غلام للطائي يقال له بدر، وخرج واليا على الحاج فقيده، فحارب ابن أبي الساج جماعة من الجند، وأغاثهم الحاج، حتى استنقذوا غلام الطائي، وأسروا ابن أبي الساج، فقيد وحمل إلى مدينة السلام، وكانت الحرب بينهم على أبواب المسجد الحرام. وفيها خربت العامة الدير العتيق الذي وراء نهر عيسى، وانتهبوا كل ما كان فيه من متاع، وقلعوا الأبواب والخشب وغير ذلك، وهدموا بعض حيطانه وسقوفه، فصار إليهم الحسين بن إسماعيل صاحب شرطة بغداد من قبل محمد بن طاهر، فمنعهم من هدم ما بقي منه، وكان يتردد إليه أياما هو والعامة، حتى يكاد يكون بين أصحاب السلطان وبينهم قتال، ثم بنى ما كانت العامة هدمته بعد أيام، وكانت إعادة بنائه- فيما ذكر- بقوة عبدون بن مخلد، أخي صاعد بن مخلد. وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق بن عيسى بن موسى العباسي.

سنه اثنتين وسبعين ومائتين

ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين ومائتين أولها يوم الجمعة للثامن عشر من حزيران، سنة ست وتسعين ومائة وألف لذي القرنين. (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث:) فمما كان فيها من ذلك إخراج أهل طرسوس أبا العباس بن الموفق من طرسوس، لخلاف كان وقع بينه وبين يازمان، فخرج عنها يريد بغداد للنصف من المحرم من هذه السنة وفيها توفي سليمان بن وهب في حبس الموفق يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة بقيت من صفر. وفيها تجمعت العامة، فهدموا ما كان بني من البيعة يوم الخميس لثمان خلون من شهر ربيع الآخر. 4 وفيها حكم شار في طريق خراسان، وصار إلى دسكرة الملك، فقتل وانتهب. وفيها ورد الخبر مدينة السلام بدخول حمدان بن حمدون وهارون الشاري مدينة الموصل، وصلى الشاري بهم في مسجد الجامع. وفيها قدم أبو العباس بن الموفق بغداد منصرفا من وقعته مع ابن طولون بالطواحين لتسع بقين من جمادى الآخرة. وفيها نقب المطبق من داخله، وأخرج الذوائبي العلوي ونفسان معه، وكانوا قد أعدت لهم دواب توقف في كل ليلة ليخرجوا فيركبوها هاربين. فنذر بهم، وغلقت أبواب مدينة أبي جعفر المنصور، فأخذ الذوائبي ومن خرج معه، وركب محمد بن طاهر، وكتب بالخبر إلى الموفق وهو مقيم بواسط، فأمر أن تقطع يد الذوائبي ورجله من خلاف، فقطع في مجلس الجسر بالجانب الغربي، ومحمد بن طاهر واقف على دابته، وكوي يوم الاثنين لثلاث

خلون من جمادى الآخرة. وفيها قدم صاعد بن مخلد من فارس، ودخل واسط في رجب، فأمر الموفق جميع القواد أن يستقبلوه، فاستقبلوه، وترجلوا له، وقبلوا كفه. وفيها قبض الموفق على صاعد بن مخلد بواسط وعلى أسبابه، وانتهب منازلهم يوم الاثنين لتسع خلون من رجب، وقبض على ابنيه أبي عيسى وأبي صالح ببغداد، وعلى أخيه عبدون وأسبابه بسامرا، وذلك كله في يوم واحد، وهو اليوم الذي قبض فيه على صاعد، واستكتب الموفق إسماعيل بن بلبل، واقتصر به على الكتابة دون غيرها. ووردت الأخبار فيها أن مصر زلزلت في جمادى الآخرة زلازل أخربت الدور والمسجد الجامع، وإنه أحصى في يوم واحد بها ألف جنازة. وفيها غلا السعر ببغداد، وذلك أن أهل سامرا منعوا- فيما ذكر- سفن الدقيق من الانحدار إليها، ومنع الطائي أرباب الضياع من دياس الطعام وقسمه، يتربص بذلك غلاء الأسعار، فمنع أهل بغداد الزيت والصابون والتمر وغير ذلك من حمله إلى سامرا، وذلك في النصف من شهر رمضان. وفيها ضجت العامة بسبب غلاء السعر، واجتمعت للوثوب بالطائي، فانصرفوا من مسجد الجامع للنصف من شوال إلى داره بين باب البصرة وباب الكوفة، وجاءوه من ناحية الكرخ، فأصعد الطائي أصحابه على السطوح، فرموهم بالنشاب، وأقام رجاله على بابه وفي فناء داره بالسيوف والرماح، فقتل بعض العامة، وجرحت منهم جماعة، ولم يزالوا يقاتلونهم إلى الليل، فلما كان الليل انصرفوا، وباكروه من غد، فركب محمد بن طاهر، فسكن الناس وصرفهم عنه. وفيها توفي إسماعيل بن بريه الهاشمي، يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من شوال منها. ولثمان بقين منها توفي عبيد الله بن عبد الله الهاشمي

وفيها كانت للزنج بواسط حركة، فصاحوا: أنكلاي، يا منصور! وكان أنكلاي والمهلبي وسليمان بن جامع والشعراني والهمداني وآخر معهم من قواد الزنج محتبسين في دار محمد بن عبد الله بن طاهر بمدينة السلام في دار البطيخ، في يد غلام من غلمان الموفق، يقال له: فتح السعيدي، فكتب الموفق الى فتح ان يوجه برءوس هؤلاء السته، فدخل اليهم، فجعل يخرج الاول فالأول منهم، فذبحهم غلام له، وقلع راس بالوعة في الدار، وطرحت اجسادهم فيها، وسد راسها، ووجه رءوسهم الى الموفق وفيها ورد كتاب الموفق على محمد بن طاهر في جثث هؤلاء السته المقتولين، فأمره بصلبها بحضره الجسر، فاخرجوا من البالوعة، وقد انتفخوا، وتغيرت روائحهم، وتقشر بعض جلودهم، فحملوا في المحامل: المحمل بين رجلين، وصلب ثلاثة منهم في الجانب الشرقى، وثلاثة في الجانب الغربي، وذلك لسبع بقين من شوال من هذه السنه، وركب محمد بن طاهر حتى صلبوا بحضرته. وفيها صلح امر مدينه رسول الله ص، وعمرت، وتراجع الناس إليها. وفيها غزا الصائفه يازمان. وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق بن عيسى بن موسى الهاشمى.

سنه ثلاث وسبعين ومائتين

ثم دخلت سنه ثلاث وسبعين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففيها كانت وقعه بين أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف وعمرو بن الليث الصفار يوم السادس عشر من شهر ربيع الاول. وفيها كانت أيضا وقعه بين إسحاق بن كنداج ومحمد بن ابى الساج بالرقة، فانهزم إسحاق، وكان ذلك يوم الثلاثاء لتسع خلون من جمادى الاولى. وفيها قدمت رسل يازمان من طرسوس، فذكروا ان ثلاثة بنين لطاغيه الروم وثبوا عليه، فقتلوه وملكوا احدهم عليهم. وفيها قيد ابو احمد لؤلؤا القادم عليه بالأمان من عند ابن طولون، واستصفى ماله، لثمان بقين من ذي القعدة من هذه السنه وذكر ان الذى أخذ من ماله كان أربعمائة الف دينار. وذكروا عن لؤلؤ انه قال: ما عرفت لنفسي ذنبا استوجبت به ما فعل بي الا كثره مالي. وفيها كانت بين محمد بن ابى الساج وإسحاق بن كنداج وقعه اخرى لاربع عشره ليله خلت من ذي الحجه، وكانت الدبره فيها على بن كنداج. وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق بن عيسى بن موسى بن عَلِيّ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس.

سنه اربع وسبعين ومائتين

ثم دخلت سنه اربع وسبعين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك شخوص ابى احمد الى كرمان لحرب عمرو بن الليث لاثنتى عشره بقيت من شهر ربيع الاول. وفيها غزا يازمان، فبلغ المسكنين، فاسر وغنم، وسلم والمسلمون، وذلك في شهر رمضان منها. وفيها دخل صديق الفرغاني دور سامرا، فاغار على اموال التجار، واكثر العيث في الناس، وكان صديق هذا يخفر أولا الطريق، ثم تحول لصا خاربا يقطع الطريق. وحج بالناس فيها هارون بن محمد الهاشمى.

سنه خمس وسبعين ومائتين

ثم دخلت سنه خمس وسبعين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من توجيه الطائي جيشا الى سامرا بسبب ما احدث صديق بها واطلاقه أخاه من السجن، وكان أسيرا عنده، وذلك في المحرم من هذه السنه: ثم خرج الطائي الى سامرا، وارسل صديقا ووعده ومناه وامنه، فعزم على الدخول اليه في الامان، فحذره ذلك غلام له يقال له هاشم، وكان- فيما ذكر- شجاعا، فلم يقبل منه، ودخل سامرا مع اصحابه، وصار الى الطائي، فأخذه الطائي، ومن دخل معه منهم، فقطع يد صديق ورجله ويد هاشم ورجله وأيدي جماعه من اصحابه وارجلهم وحبسهم، ثم حملهم في محامل الى مدينه السلام، وقد ابرزت ايديهم وارجلهم المقطعه ليراها الناس، ثم حبسوا. وفيها غزا يازمان في البحر، فاخذ للروم اربعه مراكب. وفيها تصعلك فارس العبدى، فعاث بناحيه سامرا، وصار الى كوخها، فانتهب دور آل حسنج، فشخص الطائي اليه، فلحقه بالحديثه، فاقتتلا، فهزمه الطائي وأخذ سواده، وصار الطائي الى دجلة، فدخل طيارة ليعبرها، فادركه اصحاب العبدى فتعلقوا بكوثل الطيار، فرمى الطائي بنفسه في دجلة، فعبرها سباحه، فلما خرج منها نفض لحيته من الماء، وقال: ايش ظن العبدى؟ اليس انا اسبح من سمكه! ثم نزل الطائي الجانب الشرقى والعبدى بازائه في الجانب الغربي وفي انصراف الطائي قال على بن محمد بن منصور بن نصر بن بسام: قد اقبل الطائي، لا اقبلا ... قبح في الافعال ما اجملا كأنه من لين ألفاظه ... صبيه تمضغ جهد البلا

وفيها امر ابو احمد بتقييد الطائي وحبسه، ففعل ذلك لاربع عشره خلت من شهر رمضان، وختم على كل شيء له، وكان يلى الكوفه وسوادها وطريق خراسان وسامرا والشرطه ببغداد، وخراج بادوريا وقطربل ومسكن وشيئا من ضياع الخاصة. وفيها حبس ابو احمد ابنه أبا العباس، فشغب اصحابه، وحملوا السلاح، وركب غلمانه، واضطربت بغداد لذلك، فركب ابو احمد لذلك حتى بلغ باب الرصافه، وقال لأصحاب ابى العباس وغلمانه فيما ذكر: ما شأنكم؟ اترونكم اشفق على ابنى منى! هو ولدى، واحتجت الى تقويمه، فانصرف الناس، ووضعوا السلاح، وذلك يوم الثلاثاء لست خلون من شوال من هذه السنه. وحج بالناس فيها هارون بن محمد الهاشمى.

سنه ست وسبعين ومائتين

ثم دخلت سنه ست وسبعين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ضم الشرطه بمدينه السلام الى عمرو بن الليث، وكتب فيها على الاعلام والمطارد والترسه- التي تكون في مجلس الجسر- اسمه، وذلك في المحرم. ولاربع عشره خلت من شهر ربيع الاول من هذه السنه شخص ابو احمد من مدينه السلام الى الجبل، وكان سبب شخوصه إليها- فيما ذكر- ان الماذرائى كاتب اذكوتكين، اخبره ان له هنالك مالا عظيما، وانه ان شخص صار ذلك اليه، فشخص اليه فلم يجد من المال الذى اخبره به شيئا، فلما لم يجد ذلك شخص الى الكرج، ثم الى أصبهان يريد أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف، فتنحى له احمد بن عبد العزيز عن البلد بجيشه وعياله، وترك داره بفرشها لينزلها ابو احمد إذا قدم. وقدم محمد بن ابى الساج على ابى احمد قبل شخوصه من مضربه بباب خراسان هاربا من ابن طولون، بعد وقعات كانت بينهما، ضعف في آخر ذلك ابن ابى الساج عن مقاومته، لقله من معه وكثره من مع ابن طولون من الرجال، فلحق بابى احمد، فانضم اليه، فخلع ابو احمد عليه، واخرجه معه الى الجبل. وفيها ولى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر شرطه بغداد، من قبل عمرو بن الليث في شهر ربيع الآخر. وفيها ورد الخبر بانفراج تل بنهر الصلة- ويعرف بتل بنى شقيق- عن سبعه اقبر فيها سبعه ابدان صحيحه، عليها اكفان جدد لينه، لها اهداب، تفوح منها رائحه المسك، احدهم شاب له جمه، وجبهته وأذناه وخداه وانفه وشفتاه وذقنه واشفار عينيه صحيحه، وعلى شفتيه بلل، كأنه قد شرب ماء، وكأنه قد كحل، وبه ضربه في خاصرته، فردت عليه أكفانه

وحدثنى بعض أصحابنا انه جذب من شعر بعضهم، فوجده قوى الأصل نحو قوه شعر الحى، وذكر ان التل انفرج عن هذه القبور عن شبه الحوض من حجر في لون المسن، عليه كتاب لا يدرى ما هو! وفيها امر بطرح المطارد والاعلام والترسه التي كانت في مجالس الشرطه التي عليها اسم عمرو بن الليث، واسقاط ذكره، وذلك لإحدى عشره خلت من شوال. وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمى، وكان واليا على مكة والمدينة والطائف.

سنه سبع وسبعين ومائتين

ثم دخلت سنه سبع وسبعين ومائتين (ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) فمن ذلك دعاء يازمان بطرسوس لخمارويه بن احمد بن طولون، وكان سبب ذلك- فيما ذكر- ان خمارويه وجه اليه بثلاثين الف دينار وخمسمائة ثوب وخمسين ومائه دابه وخمسين ومائه ممطر وسلاح، فلما وصل ذلك اليه دعا له، ثم وجه اليه بخمسين الف دينار. وفي أول شهر ربيع الآخر كان بين وصيف خادم ابن ابى الساج والبرابره اصحاب ابى الصقر شر، فاقتتلوا، فقتل من غلمان الخادم اربعه غلمان ومن البرابره سبعه، فكانت الحرب بينهم بباب الشام الى شارع باب الكوفه، فركب اليهم ابو الصقر، فكلمهم فتفرقوا، ثم عادوا للشر بعد يومين، فركب اليهم ابو الصقر فسكنهم. وفيها ولى يوسف بن يعقوب المظالم، فامر ان ينادى: من كانت له مظلمه قبل الأمير الناصر لدين الله او احد من الناس فليحضر وتقدم الى صاحب الشرطه الا يطلق أحدا من المحبسين الا من راى اطلاقه يوسف، بعد ان يعرض عليه قصصهم. وفي أول يوم من شعبان قدم قائد من قواد ابن طولون في جيش عظيم من الفرسان والرجاله بغداد وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد الهاشمى.

سنه ثمان وسبعين ومائتين

ثم دخلت سنه ثمان وسبعين ومائتين ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث فمن ذلك الحرب التي كانت بين اصحاب وصيف الخادم والبربر واصحاب موسى، ابن اخت مفلح اربعه ايام تباعا، ثم اصطلحوا، وقد قتل بينهم بضعه عشر رجلا، وذلك في أول المحرم، ثم وقع في الجانب الشرقى حرب بين النصريين واصحاب يونس، قتل فيها رجل، ثم افترقوا. وفيها انحدر وصيف خادم ابن ابى الساج الى واسط بأمر ابى الصقر لتكون عده له- فيما ذكر- وذلك انه اصطنعه واصحابه، واجازه بجوائز كبيره، وادر على اصحابه أرزاقهم، وكان قد بلغه قدوم ابى احمد، فخافه على نفسه لما كان من اتلافه ما كان في بيوت اموال ابى احمد، حتى لم يبق فيها شيء بالهبه التي كان يهب، والجوائز التي كان يجيز، والخلع التي كان يخلع على القواد، وانفاقه على القواد، فلما نفد ما في بيت المال، طالب ارباب الضياع بخراج سنه مبهمه عن ارضيهم، وحبس منهم بذلك جماعه، وكان الذى يتولى له القيام بذلك الزغل، فعسف على الناس في ذلك وقدم ابو احمد قبل ان يستوظف أداء ذلك منهم، فشغل عن مطالبه الناس بما كان يطالبهم به وكان انحدار وصيف في يوم الجمعه لثلاث عشره بقيت من المحرم. ولليلتين بقيتا من المحرم منها، طلع كوكب ذو جمه، ثم صارت ألجمه ذؤابه.

ذكر الخبر عن مرض ابى احمد الموفق ثم موته

ذكر الخبر عن مرض ابى احمد الموفق ثم موته وفيها انصرف ابو احمد من الجبل الى العراق، وقد اشتد به وجع النقرس حتى لم يقدر على الركوب، فاتخذ له سرير عليه قبة، فكان يقعد عليه، ومعه خادم يبرد رجله بالأشياء البارده، حتى بلغ من امره انه كان يضع عليها الثلج، ثم صارت عله رجله داء الفيل، وكان يحمل سريره اربعون حمالا يتناوب عليه عشرون عشرون، وربما اشتد به أحيانا، فيأمرهم ان يضعوه. فذكر انه قال يوما للذين يحملونه: قد ضجرتم بحملي، بودى انى أكون كواحد منكم احمل على راسى واكل وانى في عافيه وانه قال في مرضه هذا: اطبق دفترى على مائه الف مرتزق، ما اصبح فيهم اسوا حالا منى. وفي يوم الاثنين لثلاث بقين من المحرم منها وافى ابو احمد النهروان، فتلقاه اكثر الناس، فركب الماء، فسار في النهروان، ثم في نهر ديالى، ثم في دجلة الى الزعفرانيه، وصار ليله الجمعه الى الفرك، ودخل داره يوم الجمعه لليلتين خلتا من صفر. ولما كان في يوم الخميس لثمان خلون من صفر، شاع موته بعد انصراف ابى الصقر من داره، وقد كان تقدم في حفظ ابى العباس، فغلقت عليه أبواب دون أبواب، وأخذ ابو الصقر ابن الفياض معه الى داره، وكان يبقى بناحيته واقام ابو الصقر في داره يومه ذلك، وازداد الارجاف بموت ابى احمد، وكانت اعترته غشيه، فوجه ابو الصقر يوم الجمعه الى المدائن، فحمل منها المعتمد وولده، فجيء بهم الى داره، واقام ابو الصقر في داره ولم يصر الى دار ابى احمد، فلما راى غلمان ابى احمد المائلون الى ابى العباس والرؤساء من غلمان ابى العباس الذين كانوا حضورا ما قد نزل بابى احمد، كسروا أقفال الأبواب المغلقة على ابى العباس. فذكر عن الغلام الذى كان مع ابى العباس في الحجرة انه قال لما سمع

ابو العباس صوت الأقفال تكسر قال: ليس يريد هؤلاء الا نفسي. وأخذ سيفا كان عنده، فاستله، وقعد مستوفزا والسيف في حجره، وقال لي: تنح أنت، والله لا وصلوا الى وفي شيء من الروح قال: فلما فتح الباب كان أول من دخل عليه وصيف موشكير- وهو غلام ابى العباس- فلما رآه رمى السيف من يده، وعلم انهم لم يقصدوا الا الخير، فاخرجوه حتى أقعدوه عند ابيه، وهو بعقب غشيته فلما فتح ابو احمد عينيه، وافاق رآه، فأدناه وقربه ووافى المعتمد- ذلك اليوم الذى وجه اليه في حمله، وهو يوم الجمعه نصف النهار قبل صلاه الجمعه- مدينه السلام، لتسع خلون من صفر، ومعه ابنه جعفر المفوض الى الله ولى العهد وعبد العزيز ومحمد وإسحاق بنوه، فنزل على ابى الصقر ثم بلغ أبا الصقر ان أبا احمد لم يمت، فوجه اسماعيل بن إسحاق يتعرف له الخبر، وذلك يوم السبت وجمع ابو الصقر القواد والجند، وشحن داره وما حولها بالرجال والسلاح، ومن داره الى الجسر كذلك، وقطع الجسرين، ووقف قوم على الجسر في الجانب الشرقى يحاربون اصحاب ابى الصقر، فقتل بينهم قتلى، وكانت بينهم جراحات. وكان ابو طلحه أخو شركب مع اصحابه مقيمين بباب البستان، فرجع اسماعيل، فاعلم أبا الصقر ان أبا احمد حي، فكان أول من مضى اليه من القواد محمد بن ابى الساج، عبر من نهر عيسى، ثم جعل الناس يتسللون، منهم من يعبر الى باب ابى احمد، ومنهم من يرجع الى منزله، ومنهم من يخرج من بغداد، فلما راى ابو الصقر ذلك، وصحت عنده حياه ابى احمد، انحدر هو وابناه الى دار ابى احمد، فما ذاكره ابو احمد شيئا مما جرى، ولا ساء له عنه واقام في دار ابى احمد. فلما راى المعتمد انه قد بقي في الدار وحده، نزل هو وبنوه وبكتمر، فركبوا زورقا، ثم لقيهم طيار ابى ليلى بن عبد العزيز بن ابى دلف، فحملهم في طيارة، ومضى بهم الى داره، وهي دار على بن جهشيار برأس

ذكر خبر البيعه للمعتضد بولاية العهد

الجسر، فقال له المعتمد: اريد ان امضى الى أخي فاحدره ومن معه من بيته الى دار ابى احمد وانتهبت دار ابى الصقر وكل ما حوته حتى خرج حرمه حفاه بغير إزار، وانتهبت دار محمد بن سليمان كاتبه، ودار ابن الواثقى انتهبت واحرقت، وانتهبت دور أسبابه، وكسرت أبواب السجون، ونقبت الحيطان، وخرج كل من كان فيها، وخرج كل من كان في المطبق، وانتهب مجلسا الجسر، وأخذ كل ما كان فيهما، وانتهبت المنازل التي تقرب من دار ابى الصقر وخلع ابو احمد على ابنه ابى العباس وعلى ابى الصقر، فركبا جميعا، والخلع عليهما من سوق الثلاثاء الى باب الطاق، ومضى ابو الصقر مع ابى العباس الى داره، دار صاعد ثم انحدر ابو الصقر في الماء الى منزله وهو منتهب، فاتوه من دار الشاه بحصير فقعد عليه، فولى ابو العباس غلامه بدار الشرطه، واستخلف محمد بن غانم بن الشاه على الجانب الشرقى، وعيسى النوشرى على الجانب الغربي، وذلك لاربع عشره خلت من صفر منها. وفيها في يوم الأربعاء لثمان بقين من صفر، كانت وفاه ابى احمد الموفق ودفن ليله الخميس في الرصافه عند قبر والدته، وجلس ابو العباس يوم الخميس للناس للتعزية . ذكر خبر البيعه للمعتضد بولاية العهد وفيها بايع القواد والغلمان لأبي العباس بولاية العهد بعد المفوض، ولقب بالمعتضد بالله، في يوم الخميس، واخرج للجند العطاء، وخطب يوم الجمعه للمعتمد، ثم للمفوض، ثم لأبي العباس المعتضد، وذلك لسبع ليال بقين من صفر. وفيها في يوم الاثنين لاربع بقين من صفر قبض على ابى الصقر وأسبابه وانتهبت منازلهم، وطلب بنو الفرات- وكان اليهم ديوان السواد- فاختفوا، وخلع على عبيد الله بن سليمان بن وهب يوم الثلاثاء لثلاث بقين من صفر منها، وولى الوزارة. وفيها بعث محمد بن ابى الساج الى واسط ليرد غلامه وصيفا الى مدينه

ذكر ابتداء امر القرامطة

السلام، فمضى وصيف الى الاهواز، وابى الانصراف الى بغداد، وانهب الطيب، وعاث بالسوس. وفيها ظفر بابى احمد بن محمد بن الفرات، فحبس وطولب باموال، وظفر معه بالزغل، فحبس، وظفر معه بمال. وفيها وردت الاخبار بقتل على بن الليث، أخي الصفار، قتله رافع بن هرثمة، كان لحق به، وترك أخاه. ووردت الاخبار فيها عن مصر ان النيل غار ماؤه وغلت الأسعار عندهم . ذكر ابتداء امر القرامطة وفيها وردت الاخبار بحركة قوم يعرفون بالقرامطة بسواد الكوفه، فكان ابتداء امرهم قدوم رجل من ناحيه خوزستان الى سواد الكوفه ومقامه بموضع منه يقال له النهرين، يظهر الزهد والتقشف، ويسف الخوص، ويأكل من كسبه، ويكثر الصلاة، فأقام على ذلك مده، فكان إذا قعد اليه انسان ذاكره امر الدين، وزهده في الدنيا، واعلمه ان الصلاة المفترضه على الناس خمسون صلاه في كل يوم وليله، حتى فشا ذلك عنه بموضعه، ثم اعلمهم انه يدعو الى امام من اهل بيت الرسول، فلم يزل على ذلك يقعد اليه الجماعه فيخبرهم من ذلك بما تعلق قلوبهم، وكان يقعد الى بقال في القرية، وكان بالقرب من البقال نخل اشتراه قوم من التجار، واتخذوا حظيرة جمعوا فيها ما صرموا من حمل النخل، وجاءوا الى البقال فسألوه ان يطلب لهم رجلا يحفظ عليهم ما صرموا من النخل، فاومى لهم الى هذا الرجل، وقال: ان أجابكم الى حفظ ثمرتكم فانه بحيث تحبون، فناظروه على ذلك، فأجابهم الى حفظه بدراهم معلومه، فكان يحفظ لهم، ويصلى اكثر نهاره ويصوم، ويأخذ عند إفطاره من البقال رطل تمر، فيفطر عليه، ويجمع نوى ذلك التمر. فلما حمل التجار ما لهم من التمر، صاروا الى البقال، فحاسبوا اجيرهم هذا على اجرته، فدفعوها اليه، فحاسب الأجير البقال على ما أخذ منه من التمر، وحط من ذلك ثمن النوى الذى كان دفعه الى البقال، فسمع التجار

ما جرى بينه وبين البقال في حق النوى، فوثبوا عليه فضربوه، وقالوا: الم ترض ان اكلت تمرنا حتى بعت النوى! فقال لهم البقال: لا تفعلوا، فانه لم يمس تمركم، وقص عليهم قصته، فندموا على ضربهم اياه، وسألوه ان يجعلهم في حل، ففعل وازداد بذلك نبلا عند اهل القرية لما وقفوا عليه من زهده. ثم مرض، فمكث مطروحا على الطريق، وكان في القرية رجل يحمل على اثوار له، احمر العينين شديده حمرتهما، وكان اهل القرية يسمونه كرميته لحمره عينيه، وهو بالنبطية احمر العينين، فكلم البقال كرميته هذا، في ان يحمل هذا العليل الى منزله، ويوصى اهله بالإشراف عليه والعنايه به، ففعل واقام عنده حتى برا، ثم كان يأوي الى منزله، ودعا اهل القرية الى امره، ووصف لهم مذهبه، فأجابه اهل تلك الناحية، وكان يأخذ من الرجل إذا دخل في دينه دينارا، ويزعم انه يأخذ ذلك للإمام، فمكث بذلك يدعو اهل تلك القرى فيجيبونه واتخذ منهم اثنى عشر نقيبا، امرهم ان يدعو الناس الى دينهم، وقال لهم: أنتم كحواريى عيسى بن مريم، فاشتغل اكره تلك الناحية عن اعمالهم بما رسم لهم من الخمسين الصلاة التي ذكر انها مفترضه عليهم. وكان للهيصم في تلك الناحية ضياع، فوقف على تقصير اكرته في العمارة، فسال عن ذلك، فاخبر ان إنسانا طرا عليهم، فأظهر لهم مذهبا من الدين، واعلمهم ان الذى افترضه الله عليهم خمسون صلاه في اليوم والليلة، فقد شغلوا بها عن اعمالهم، فوجه في طلبه، فاخذ وجيء به اليه، فسأله عن امره، فاخبره بقصته، فحلف انه يقتله. فامر به فحبس في بيت، واقفل عليه الباب، ووضع المفتاح تحت وسادته، وتشاغل بالشرب، وسمع بعض من في داره من الجوارى بقصته، فرقت له. فلما نام الهيصم أخذت المفتاح من تحت وسادته، وفتحت الباب واخرجته، واقفلت الباب، وردت المفتاح الى موضعه فلما اصبح الهيصم دعا بالمفتاح ففتح الباب فلم يجده، وشاع بذلك الخبر، ففتن به اهل تلك الناحية، وقالوا: رفع ثم ظهر في موضع آخر ولقى جماعه من اصحابه وغيرهم فسألوه عن قصته، فقال: ليس يمكن أحدا ان يبدأني بسوء، ولا يقدر على ذلك منى،

فعظم في اعينهم، ثم خاف على نفسه، فخرج الى ناحيه الشام، فلم يعرف له خبر، وسمى باسم الرجل الذى كان في منزله صاحب الاثوار كرميته، ثم خفف فقالوا: قرمط ذكر هذه القصة بعض أصحابنا عمن حدثه، انه حضر محمد بن داود بن الجراح، وقد دعا بقوم من القرامطة من الحبس، فسألهم عن زكرويه، وذلك بعد ما قتله، وعن قرمط وقصته، وانهم اوموا له الى شيخ منهم، وقالوا له: هذا سلف زكرويه، وهو اخبر الناس بقصته، فسله عما تريد، فسأله فاخبره بهذه القصة. وذكر عن محمد بن داود انه قال: قرمط رجل من سواد الكوفه، كان يحمل غلات السواد على اثوار له، يسمى حمدان ويلقب بقرمط ثم فشا امر القرامطة ومذهبهم، وكثروا بسواد الكوفه، ووقف الطائي احمد بن محمد على امرهم، فوظف على كل رجل منهم في كل سنه دينارا، وكان يجبى من ذلك مالا جليلا، فقدم قوم من الكوفه فرفعوا الى السلطان امر القرامطة، وانهم قد أحدثوا دينا غير الاسلام، وانهم يرون السيف على أمه محمد الا من بايعهم على دينهم، وان الطائي يخفى امرهم على السلطان فلم يلتفت اليهم، ولم يسمع منهم، فانصرفوا، واقام رجل منهم مده طويله بمدينه السلام، يرفع ويزعم انه لا يمكنه الرجوع الى بلده خوفا من الطائي وكان فيما حكوا عن هؤلاء القرامطة من مذهبهم ان جاءوا بكتاب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم يقول الفرج بن عثمان، وهو من قريه يقال لها نصرانه، داعيه الى المسيح، وهو عيسى، وهو الكلمه، وهو المهدى، وهو احمد بن محمد بن الحنفيه، وهو جبريل وذكر ان المسيح تصور له في جسم انسان، وقال له: انك الداعيه، وانك الحجه، وانك الناقه، وانك الدابة، وانك روح القدس، وانك يحيى بن زكرياء وعرفه ان الصلاة اربع ركعات:

ركعتان قبل طلوع الشمس، وركعتان قبل غروبها، وان الاذان في كل صلاه ان يقول: الله اكبر، الله اكبر، الله اكبر، الله اكبر، اشهد ان لا اله الا الله، مرتين اشهد ان آدم رسول الله، اشهد ان نوحا رسول الله، اشهد ان ابراهيم رسول الله، اشهد ان موسى رسول الله، واشهد ان عيسى رسول الله، واشهد ان محمدا رسول الله، واشهد ان احمد بن محمد بن الحنفيه رسول الله، وان يقرا في كل ركعة الاستفتاح، وهي من المنزل على احمد بن محمد بن الحنفيه. والقبله الى بيت المقدس، والحج الى بيت المقدس، ويوم الجمعه يوم الاثنين لا يعمل فيه شيء، والسورة الحمد لله بكلمته، وتعالى باسمه، المتخذ لأوليائه باوليائه قل ان الأهلة مواقيت للناس، ظاهرها ليعلم عدد السنين والحساب والشهور والأيام، وباطنها أوليائي الذين عرفوا عبادى سبيلى اتقون يا اولى الألباب، وانا الذى لا اسال عما افعل، وانا العليم الحكيم، وانا الذى ابلوا عبادى، وامتحن خلقى، فمن صبر على بلائي ومحنتي واختبارى القيته في جنتي، واخلدته في نعمتي، ومن زال عن امرى، وكذب رسلي، اخلدته مهانا في عذابى، واتممت اجلى، واظهرت امرى، على السنه رسلي، وانا الذى لم يعل على جبار الا وضعته، ولا عزيز الا اذللته، وليس الذى أصر على امره ودوام على جهالته، وقالوا: لن نبرح عليه عاكفين، وبه مؤمنين: أولئك هم الكافرون. ثم يركع ويقول في ركوعه: سبحان ربى رب العزه وتعالى عما يصف الظالمون! يقولها مرتين، فإذا سجد قال: الله اعلى، الله اعلى، الله اعظم. الله اعظم ومن شرائعه ان الصوم يومان في السنه، وهما المهرجان والنوروز، وان النبيذ حرام والخمر حلال، ولا غسل من جنابه الا الوضوء كوضوء الصلاة، وان من حاربه وجب قتله، ومن لم يحاربه ممن خالفه أخذت منه الجزية ولا يؤكل كل ذي ناب، ولا كل ذي مخلب

ذكر خبر غزو الروم ووفاه يازمان في هذه الغزوة

وكان مصير قرمط الى سواد الكوفه قبل قتل صاحب الزنج، وذلك ان بعض أصحابنا ذكر عن سلف زكرويه انه قال: قال لي قرمط: صرت الى صاحب الزنج، ووصلت اليه، وقلت له: انى على مذهب، وورائي مائه الف سيف، فناظرنى، فان اتفقنا على المذهب ملت بمن معى إليك، وان تكن الاخرى انصرفت عنك وقلت له: تعطيني الامان؟ ففعل. قال: فناظرته الى الظهر، فتبين لي في آخر مناظرتي اياه انه على خلاف امرى، وقام الى الصلاة، فانسللت، فمضيت خارجا من مدينته، وصرت الى سواد الكوفه . ذكر خبر غزو الروم ووفاه يازمان في هذه الغزوة ولخمس بقين من جمادى الآخرة من هذه السنه، دخل احمد العجيفى مدينه طرسوس، وغزا مع يازمان غزاه الصائفه، فبلغ سلندو وفي هذه الغزاة مات يازمان، وكان سبب موته ان شظية من حجر منجنيق أصاب أضلاعه وهو مقيم على حصن سلندو، فارتحل العسكر، وقد كانوا أشرفوا على فتحه، فتوفى في الطريق من غده يوم الجمعه، لاربع عشره ليله خلت من رجب، وحمل الى طرسوس على اكتاف الرجال فدفن هناك. وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد الهاشمى.

سنه تسع وسبعين ومائتين

ثم دخلت سنه تسع وسبعين ومائتين ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث فمن ذلك ما كان من أمر السلطان بالنداء بمدينه السلام، الا يقعد على الطريق ولا في مسجد الجامع قاص ولا صاحب نجوم ولا زاجر، وحلف الوراقون الا يبيعوا كتب الكلام والجدل والفلسفه. وفيها خلع جعفر المفوض من العهد لثمان بقين من المحرم. وفي ذلك اليوم بويع للمعتضد بانه ولى العهد من بعد المعتمد، وانشئت الكتب بخلع جعفر وتوليه المعتضد، ونفذت الى البلدان، وخطب يوم الجمعه للمعتضد بولاية العهد، وانشئت عن المعتضد كتب الى العمال والولاه، بان امير المؤمنين قد ولاه العهد، وجعل اليه ما كان الموفق يليه من الأمر والنهى والولاية والعزل وفيها قبض على جراده، كاتب ابى الصقر لخمس خلون من شهر ربيع الاول، وكان الموفق وجهه الى رافع بن هرثمة، فقدم مدينه السلام قبل ان يقبض عليه بايام. وفيها انصرف ابو طلحه منصور بن مسلم من شهرزور لست بقين من جمادى الاولى- وكانت ضمت اليه- فقبض عليه وعلى كاتبه عقامه، وأودعا السجن، وذلك لاربع بقين من جمادى الاولى. ذكر خبر الفتنة بطرسوس وفيها كانت الملحمه بطرسوس بين محمد بن موسى ومكنون غلام راغب مولى الموفق، في يوم السبت لتسع بقين من جمادى الاولى، وكان سبب ذلك- فيما ذكر- ان طغج بن جف، لقى راغبا بحلب، فاعلمه ان

خبر وفاه المعتمد

خمارويه بن احمد يحب لقاءه، ووعده عنه بما يحب، فخرج راغب من حلب ماضيا الى مصر في خمسه غلمان له، وانفذ خادمه مكنونا مع الجيش الذى كان معه وأمواله وسلاحه الى طرسوس فكتب طغج الى محمد بن موسى الاعرج يعلمه انه قد انفذ راغبا، وان كل ما معه من مال وسلاح وغلمان مع غلامه مكنون، وقد صار الى طرسوس، وانه ينبغى له ان يقبض عليه ساعه يدخل وعلى ما معه فلما دخل مكنون طرسوس وثب به الاعرج، فقبض عليه ووكل بما معه، فوثب اهل طرسوس على الاعرج، فحالوا بينه وبين مكنون، وقبضوا على الاعرج فحبسوه في يد مكنون، وعلموا ان الحيله قد وقعت براغب، فكتبوا الى خمارويه بن احمد يعلمونه بما فعل الاعرج، وانهم قد وكلوا به، وقالوا: اطلق راغبا لينفذ إلينا حتى نطلق الاعرج، فاطلق خمارويه راغبا، وانفذه الى طرسوس، وانفذ معه احمد بن طغان واليا على الثغور، وعزل عنهم الاعرج، فلما وصل راغب الى طرسوس اطلق محمد بن موسى الاعرج، ودخل طرسوس احمد بن طغان واليا عليها وعلى الثغور ومعه راغب، يوم الثلاثاء لثلاث عشره خلت من شعبان. خبر وفاه المعتمد وفيها توفى المعتمد ليله الاثنين لإحدى عشره ليله بقيت من رجب، وكان شرب على الشط في الحسنى يوم الأحد شرابا كثيرا، وتعشى فاكثر، فمات ليلا، فكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنه وسته ايام- فيما ذكر.

خلافه المعتضد

خلافه المعتضد وفي صبيحة هذه الليلة بويع لأبي العباس المعتضد بالله بالخلافة، فولى غلامه بدرا الشرطه وعبيد الله بن سليمان بن وهب الوزارة ومحمد بن الشاد بن ميكال الحرس، وحجبه الخاصة والعامه صالحا المعروف بالأمين، فاستخلف صالح خفيفا السمرقندي. ولليلتين خلتا من شعبان فيها قدم على المعتضد رسول عمرو بن الليث الصفار بهدايا، وسال ولايه خراسان، فوجه المعتضد عيسى النوشرى مع الرسول، ومعه خلع ولواء عقده له على خراسان، فوصلوا اليه في شهر رمضان من هذه السنه، وخلع عليه، ونصب اللواء في صحن داره ثلاثة ايام. [أخبار متفرقة] وفيها ورد الخبر بموت نصر بن احمد، وقام بما كان اليه من العمل وراء نهر بلخ اخوه اسماعيل بن احمد. وفيها قدم الحسين بن عبد الله المعروف بابن الجصاص من مصر رسولا لخمارويه بن احمد بن طولون، ومعه هدايا من العين، عشرون حملا على بغال وعشره من الخدم وصندوقان فيهما طراز وعشرون رجلا على عشرين نجيبا، بسروج محلاه بحليه فضه كثيره، ومعهم حراب فضه، وعليهم أقبية الديباج والمناطق المحلاه وسبع عشره دابه، بسروج ولجم، منها خمسه بذهب والباقى بفضة، وسبع وثلاثون دابه بجلال مشهره، وخمسه ابغل بسروج ولجم وزرافه، يوم الاثنين لثلاث خلون من شوال، فوصل الى المعتضد، فخلع عليه وعلى سبعه نفر معه وسفر ابن الجصاص في تزويج ابنه خمارويه من على بن المعتضد، فقال المعتضد: انا أتزوجها، فتزوجها

وفيها ورد الخبر بأخذ احمد بن عيسى بن الشيخ قلعه ماردين من محمد بن إسحاق بن كنداج. وفيها مات ابراهيم بن محمد بن المدبر، وكان يلى ديوان الضياع، فولى مكانه محمد بن عبد الحميد، وكان موته يوم الأربعاء لثلاث او اربع عشره بقيت من شوال. وفيها عقد لراشد مولى الموفق على الدينور، وخلع عليه يوم السبت لسبع بقين من شوال، ثم خرج راشد الى عمله يوم الخميس لعشر خلون من ذي القعده. وفي يوم النحر منها ركب المعتضد الى المصلى الذى اتخذه بالقرب من الحسنى، وركب معه القواد والجيش فصلى بالناس، فذكر عنه انه كبر في الركعة الاولى ست تكبيرات، وفي الركعة الثانيه تكبيره واحده، ثم صعد المنبر، فلم تسمع خطبته، وعطل المصلى العتيق فلم يصل فيه. وفيها كتب إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف بمحاربه رافع بن هرثمة ورافع بالري، فزحف اليه احمد، فالتقوا يوم الخميس لسبع بقين من ذي القعده، فانهزم رافع بن هرثمة، وخرج عن الري، ودخلها ابن عبد العزيز. وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد الهاشمى، وهي آخر حجه حجها، وحج بالناس ست عشره سنه، من سنه اربع وستين الى هذه السنه.

سنه ثمانين ومائتين

ثم دخلت سنه ثمانين ومائتين ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا فمن ذلك ما كان من أخذ المعتضد عبد الله بن المهتدى ومحمد بن الحسن بن سهل المعروف بشيلمه- وكان شيلمه هذا مع صاحب الزنج الى آخر ايامه، ثم لحق بالموفق في الامان فآمنه- وكان سبب اخذه إياهما ان بعض المستأمنة سعى به الى المعتضد، واعلمه انه يدعو الى رجل لم يوقف على اسمه، وانه قد استفسد جماعه من الجند وغيرهم، وأخذ معه رجل صيدنانى وابن أخ له من المدينة، فقرره المعتضد فلم يقر بشيء، وساله عن الرجل الذى يدعو اليه، فلم يقر بشيء، وقال: لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه، ولو عملتنى كردناك لما اخبرتك به، فامر بنار فاوقدت، ثم شد على خشبة من خشب الخيم، وادير على النار حتى تقطع جلده، ثم ضربت عنقه، وصلب عند الجسر الأسفل في الجانب الغربي. وحبس ابن المهتدى الى ان وقف على براءته، فاطلق، وكان صلبه لسبع خلون من المحرم. فذكر ان المعتضد قال لشيلمه: قد بلغنى انك تدعو الى ابن المهتدى، فقال: الماثور عنى غير هذا، وانى اتولى آل ابن ابى طالب- وقد كان قرر ابن أخيه فاقر- فقال له: قد اقر ابن أخيك، فقال له: هذا غلام حدث تكلم بهذا خوفا من القتل، ولا يقبل قوله ثم اطلق ابن أخيه والصيدناني بعد مده طويله . ذكر خبر قصد المعتضد بنى شيبان وصلحه معهم ولليلة خلت من صفر يوم الأحد شخص المعتضد من بغداد يريد بنى شيبان، فنزل بستان بشر بن هارون، ثم سار يوم الأربعاء منه، واستخلف على داره

أخبار متفرقة

وبغداد صالحا الامين حاجبه، فقصد الموضع الذى كانت شيبان تتخذه معقلا من ارض الجزيرة، فلما بلغهم قصده إياهم، ضموا اليهم أموالهم وعيالاتهم. ثم ورد كتاب المعتضد انه اسرى الى الاعراب من السن، فاوقع بهم، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وغرق منهم خلق كثير في الزابين، وأخذ النساء والذراري، وغنم اهل العسكر من أموالهم ما اعجزهم حمله، وأخذ من غنمهم وابلهم ما كثر في أيدي الناس حتى بيعت الشاه بدرهم والجمل بخمسه دراهم، وامر بالنساء والذراري ان يحفظوا حتى يحدروا الى بغداد ثم مضى المعتضد الى الموصل، ثم الى بلد، ثم رجع الى بغداد، فلقيه بنو شيبان يسالونه الصفح عنهم، وبذلوا له الرهائن، فاخذ منهم خمسمائة رجل- فيما قيل ورجع المعتضد يريد مدينه السلام، فوافاه احمد بن ابى الأصبغ بما فارق عليه احمد ابن عيسى بن الشيخ من المال الذى اخذه من مال إسحاق بن كنداج، وبهدايا ودواب وبغال في يوم الأربعاء لسبع خلون من شهر ربيع الاول. [أخبار متفرقة] وفي شهر ربيع الاول ورد الخبر بان محمد بن ابى الساج افتتح المراغه بعد حصار شديد وحرب غليظه كانت بينهم، وانه أخذ عبد الله بن الحسين بعد ان آمنه واصحابه، فقيده وحبسه، وقرره بجميع أمواله، ثم قتله بعد وفي شهر ربيع الآخر ورد الخبر بوفاه أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف. وكانت وفاته في آخر شهر ربيع الاول، فطلب الجند أرزاقهم، وانتهبوا منزل اسماعيل بن محمد المنشئ، وتنازع الرئاسة عمر وبكر ابنا عبد العزيز، ثم قام بالأمر عمر، ولم يكتب اليه المعتضد بالولاية. وفيها افتتح محمد بن ثور عمان، وبعث برءوس جماعه من أهلها. وذكر ان جعفر بن المعتمد توفى في يوم الأحد لاثنتى عشره خلت من شهر ربيع الآخر منها، وانه كان مقامه في دار المعتضد لا يخرج ولا يظهر، وقد كان المعتضد نادمه مرارا

وفيها انصرف المعتضد الى بغداد من خرجته الى الاعراب. وفيها، في جمادى الآخرة ورد الخبر بدخول عمرو بن الليث نيسابور، في جمادى الاولى منها. وفيها وجه يوسف بن ابى الساج اثنين وثلاثين نفسا من الخوارج، من طريق الموصل، فضربت اعناق خمسه وعشرين رجلا منهم، وصلبوا، وحبس سبعه منهم في الحبس الجديد. وفيها دخل احمد بن أبا طرسوس لغزاه الصائفه، لخمس خلون من رجب من قبل خمارويه، ودخل بعده بدر الحمامي، فغزوا جميعا مع العجيفى امير طرسوس حتى بلغوا البلقسور وفيها ورد الخبر بغزو اسماعيل بن احمد بلاد الترك وافتتاحه- فيما ذكر- مدينه ملكهم، واسره اياه وامراته خاتون ونحوا من عشره آلاف، وقتل منهم خلقا كثيرا، وغنم من الدواب دواب كثيره لا يوقف على عددها، وانه أصاب الفارس من المسلمين من الغنيمه في المقسم الف درهم ولليلتين بقيتا من شهر رمضان منها، توفى راشد مولى الموفق بالدينور، وحمل في تابوت الى بغداد. ولثلاث عشره خلت من شوال منها مات مسرور البلخى وفيها- فيما ذكر- في ذي الحجه ورد كتاب من دبيل بانكساف القمر في شوال لاربع عشره خلت منها، ثم تجلى في آخر الليل، فأصبحوا صبيحة تلك الليلة والدنيا مظلمه، ودامت الظلمه عليهم، فلما كان عند العصر هبت ريح سوداء شديده، فدامت الى ثلث الليل، فلما كان ثلث الليل زلزلوا، فأصبحوا وقد ذهبت المدينة فلم ينج من منازلها الا اليسير، قدر مائه دار، وانهم دفنوا الى حين كتب الكتاب ثلاثين الف نفس يخرجون من تحت الهدم،

ويدفنون، وانهم زلزلوا بعد الهدم خمس مرات. وذكر عن بعضهم ان جمله من اخرج من تحت الهدم خمسون ومائه الف ميت. وحج بالناس في هذه السنة أبو بكر محمد بن هارون المعروف بابن ترنجه.

سنه احدى وثمانين ومائتين

ثم دخلت سنه احدى وثمانين ومائتين ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث فمن ذلك ما كان من موافاه ترك بن العباس عامل السلطان على ديار مضر مدينه السلام لتسع خلون من المحرم بنيف واربعين نفسا من اصحاب ابى الأغر صاحب سميساط، على جمال، عليهم برانس ودراريع حرير. فمضى بهم الى دار المعتضد، ثم ردوا الى الحبس الجديد فحبسوا به، وخلع على ترك، وانصرف الى منزله. وفيها ورد الخبر بوقعه كانت لوصيف خادم ابن ابى الساج بعمر بن عبد العزيز بن ابى دلف وهزيمته اياه، ثم صار وصيف الى مولاه محمد ابن ابى الساج، في شهر ربيع الآخر منها. وفيها دخل طغج بن جف طرسوس لغزاه الصائفه من قبل خمارويه يوم الخميس للنصف من جمادى الآخرة- فيما قيل- وغزا، فبلغ طرايون، وفتح ملوريه. ولخمس ليال بقين من جمادى الآخرة مات احمد بن محمد الطائي بالكوفه، ودفن بها في موضع يقال له مسجد السهله. وفيها غارت المياه بالري وطبرستان. ولليلتين خلتا من رجب منها شخص المعتضد الى الجبل، فقصد ناحيه الدينور، وقلد أبا محمد على بن المعتضد الري وقزوين وزنجان وابهر وقم وهمذان والدينور، وقلد كتبته احمد بن ابى الأصبغ، ونفقات عسكره والضياع بالري الحسين بن عمرو النصراني، وقلد عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف أصبهان ونهاوند والكرج، وتعجل للانصراف من اجل غلاء السعر

ذكر خبر الوقعه بين الأكراد والاعراب

وقله الميرة، فوافى بغداد يوم الأربعاء لثلاث خلون من شهر رمضان. وفيها استامن الحسن بن على كوره عامل رافع على الري الى على بن المعتضد في زهاء الف رجل، فوجهه الى ابيه المعتضد. وفيها دخل الاعراب سامرا فأسروا ابن سيما انف في ذي القعده منها وانتهبوا. ذكر خبر الوقعه بين الأكراد والاعراب ولست ليال بقين من ذي القعده خرج المعتضد الخرجه الثانيه الى الموصل عامدا لحمدان بن حمدون، وذلك انه بلغه انه مايل هارون الشاري الوازقى، ودعا له فورد كتاب المعتضد من كرخ جدان على نجاح الحرمي الخادم بالوقعه بينه وبين الاعراب والأكراد، وكانت يوم الجمعه سلخ ذي القعده: بسم الله الرحمن الرحيم كتابي هذا وقت العتمه ليله الجمعه، وقد نصر الله- وله الحمد- على الأكراد والاعراب، واظفرنا بعالم منهم وبعيالاتهم، ولقد رايتنا ونحن نسوق البقر والغنم كما كنا نسوقها عاما أولا، ولم تزل الأسنة والسيوف تأخذهم، وحال بيننا وبينهم الليل، واوقدت النيران على رءوس الجبال، ومن غد يومنا، فيقع الاستقصاء، وعسكرى يتبعني الى الكرخ وكان وقاعنا بهم وقتلنا إياهم خمسين ميلا، فلم يبق منهم مخبر والحمد لله كثيرا، فقد وجب الشكر لله علينا والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد نبيه وآله وسلم كثيرا. وكانت الاعراب والأكراد لما بلغهم خروج المعتضد، تحالفوا انهم يقتلون على دم واحد، واجتمعوا، وعبوا عسكرهم ثلاثة كراديس، كردوسا دون كردوس، وجعلوا عيالاتهم وأولادهم في آخر كردوس، وتقدم المعتضد عسكره في خيل جريدة، فاوقع بهم، وقتل منهم، وغرق في الزاب منهم

خلق كثير، ثم خرج الى الموصل عامدا لقلعه ماردين، وكانت في يد حمدان ابن حمدون، فلما بلغه مجيء المعتضد هرب وخلف ابنه بها، فنزل عسكر المعتضد على القلعة، فحاربهم من كان فيها يومهم ذلك، فلما كان من الغد ركب المعتضد، فصعد القلعة حتى وصل الى الباب، ثم صاح: يا بن حمدون، فأجابه: لبيك! فقال له: افتح الباب، ويلك! ففتحه، فقعد المعتضد في الباب، وامر من دخل فنقل ما في القلعة من المال والأثاث، ثم امر بهدمها فهدمت، ثم وجه خلف حمدان بن حمدون، فطلب أشد الطلب، وأخذت اموال كانت له مودعه، وجيء بالمال الى المعتضد، ثم ظفر به ثم مضى المعتضد الى مدينه يقال لها الحسنيه، وفيها رجل يقال له شداد، في جيش كثيف، ذكر انهم عشره آلاف رجل، وكان له قلعه في المدينة فظفر به المعتضد، فأخذه فهدم قلعته. وفيها ورد الخبر من طريق مكة انه أصاب الناس في المصعد برد شديد ومطر جود وبرد اصيب فيه اكثر من خمسمائة انسان وفي شوال منها غزا المسلمون الروم، فكانت بينهم الحرب اثنى عشر يوما، فظفر المسلمون وغنموا غنيمه كثيره وانصرفوا.

سنه اثنتين وثمانين ومائتين

ثم دخلت سنه اثنتين وثمانين ومائتين (ذكر الاحداث التي كانت فيها) ذكر امر النيروز المعتضدي فمن ذلك ما كان من امر المعتضد في المحرم منها بإنشاء الكتب الى جميع العمال في النواحي والأمصار بترك افتتاح الخراج في النيروز الذى هو نيروز العجم، وتاخير ذلك الى اليوم الحادي عشر من حزيران، وسمى ذلك النيروز المعتضدي، فانشئت الكتب بذلك من الموصل والمعتضد بها، وورد كتابه بذلك على يوسف بن يعقوب يعلمه انه اراد بذلك الترفيه على الناس، والرفق بهم، وامر ان يقرا كتابه على الناس، ففعل. وفيها قدم ابن الجصاص من مصر بابنه ابى الجيش خمارويه بن احمد بن طولون التي تزوجها المعتضد، ومعها احد عمومتها، فكان دخولهم بغداد يوم الأحد لليلتين خلتا من المحرم، وادخلت للحرم ليله الأحد، ونزلت في دار صاعد ابن مخلد، وكان المعتضد غائبا بالموصل. وفيها منع الناس من عمل ما كانوا يعملون في نيروز العجم من صب الماء ورفع النيران وغير ذلك. ذكر امر المعتضد مع حمدان بن حمدون وفيها كتب المعتضد من الموصل الى إسحاق بن أيوب وحمدان بن حمدون بالمصير اليه، فاما إسحاق بن أيوب فسارع الى ذلك، واما حمدان بن حمدون فتحصن في قلاعه، وغيب أمواله وحرمه فوجه اليه المعتضد الجيوش مع وصيف موشكير ونصر القشورى وغيرهما، فصادفوا الحسن بن على كوره واصحابه منيخين على قلعه لحمدان، بموضع يعرف بدير الزعفران من ارض الموصل، وفيها الحسين بن حمدان، فلما راى الحسين اوائل العسكر مقبلين طلب الامان فأومن وصار الحسين الى المعتضد، وسلم القلعة، فامر بهدمها،

أخبار متفرقة

واغذ وصيف موشكير السير في طلب حمدان، وكان قد صار بموضع يعرف بباسورين بين دجلة ونهر عظيم، وكان الماء زائدا، فعبر اصحاب وصيف اليه ونذر بهم، فركب واصحابه ودافعوا عن انفسهم، حتى قتل اكثرهم، فالقى حمدان نفسه في زورق كان معدا له في دجلة، ومعه كاتب له نصرانى يسمى زكرياء بن يحيى، وحمل معه مالا، وعبر الى الجانب الغربي من دجلة من ارض ديار ربيعه، وقدر اللحاق بالاعراب لما حيل بينه وبين اكراده الذين في الجانب الشرقى، وعبر في اثره نفر يسير من الجند فاقتصوا اثره، حتى أشرفوا على دير كان قد نزله، فلما بصر بهم خرج من الدير هاربا ومعه كاتبه، فألقيا أنفسهما في زورق، وخلفا المال في الدير، فحمل الى المعتضد، وانحدر اصحاب السلطان في طلبه على الظهر وفي الماء، فلحقوه، فخرج عن الزورق خاسرا الى ضيعه له بشرقى دجلة، فركب دابه لوكيله، وسار ليله اجمع الى ان وافى مضرب إسحاق بن أيوب في عسكر المعتضد، مستجيرا به، فاحضره إسحاق مضرب المعتضد، وامر بالاحتفاظ به، وبث الخيل في طلب أسبابه، فظفر بكاتبه وعده من قراباته وغلمانه، وتتابع رؤساء الأكراد وغيرهم في الدخول في الامان، وذلك في آخر المحرم من هذه السنه. [أخبار متفرقة] وفي شهر ربيع الاول منها قبض على بكتمر بن طاشتمر، وقيد وحبس، وقبض ماله وضياعه ودوره. وفيها نقلت ابنه خمارويه بن احمد الى المعتضد لاربع خلون من شهر ربيع الآخر، ونودى في جانبي بغداد الا يعبر احد في دجلة يوم الأحد، وغلقت أبواب الدروب التي تلى الشط، ومد على الشوارع النافذة الى دجلة شراع، ووكل بحافتى دجلة من يمنع ان يظهروا في دورهم على الشط. فلما صليت العتمه وافت الشذا من دار المعتضد، وفيها خدم معهم الشمع، فوقفوا بإزاء دار صاعد، وكانت اعدت اربع حراقات شدت مع دار صاعد، فلما جاءت الشذا احدرت الحراقات، وصارت الشذا بين ايديهم، واقامت الحره يوم الاثنين في دار المعتضد، وجليت عليه يوم الثلاثاء لخمس خلون

من شهر ربيع الاول. وفيها شخص المعتضد الى الجبل، فبلغ الكرج، وأخذ اموالا لابن ابى دلف وكتب الى عمر بن عبد العزيز بن ابى دلف يطلب منه جوهرا كان عنده، فوجه به اليه، وتنحى من بين يديه. وفيها اطلق لؤلؤ غلام ابن طولون بعد خروج المعتضد، وحمل على دواب وبغال. وفيها وجه يوسف بن ابى الساج الى الصيمرة مددا لفتح القلانسي، فهرب يوسف بن ابى الساج بمن أطاعه الى أخيه محمد بالمراغة، ولقى مالا للسلطان طريقه فأخذه، فقال في ذلك عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: امام الهدى انصاركم آل طاهر ... بلا سبب يجفون والدهر يذهب وقد خلطوا صبرا بشكر ورابطوا ... وغيرهم يعطى ويحبى ويهرب وفيها وجه المعتضد الوزير عبيد الله بن سليمان الى الري الى ابى محمد ابنه. وفيها وجه محمد بن زيد العلوي من طبرستان الى محمد بن ورد العطار باثنين وثلاثين الف دينار، ليفرقها على اهله ببغداد والكوفه، ومكة والمدينة، فسعى به، فاحضر دار بدر، وسئل عن ذلك، فذكر ان يوجه اليه في كل بمثل هذا المال، فيفرقه على من يأمره بالتفرقه عليه من اهله فاعلم بدر المعتضد ذلك، واعلمه ان الرجل في يديه والمال، واستطلع رايه وما يأمر به. فذكر عن ابى عبد الله الحسنى ان المعتضد قال لبدر: يا بدر، اما تذكر الرؤيا التي خبرتك بها؟ فقال: لا يا امير المؤمنين، فقال: الا تذكر انى حدثتك ان الناصر دعانى، فقال لي: اعلم ان هذا الأمر سيصير إليك، فانظر كيف تكون مع آل على بن ابى طالب! ثم قال: رايت في النوم كأني خارج من بغداد اريد ناحيه النهروان في جيشي، وقد تشوف الناس الى، إذ مررت برجل واقف على تل يصلى، لا يلتفت الى، فعجبت منه ومن قله اكتراثه بعسكرى، مع تشوف الناس الى العسكر، فاقبلت اليه حتى

وقفت بين يديه، فلما فرغ من صلاته قال لي: اقبل، فاقبلت اليه، فقال: اتعرفنى؟ قلت: لا، قال: انا على بن ابى طالب، خذ هذه المسحاة، فاضرب بها الارض- لمسحاه بين يديه- فأخذتها فضربت بها ضربات، فقال لي: انه سيلي من ولدك هذا الأمر بقدر ما ضربت بها، فاوصهم بولدي خيرا قال بدر: فقلت: بلى يا امير المؤمنين، قد ذكرت قال: فاطلق المال، واطلق الرجل وتقدم اليه ان يكتب الى صاحبه بطبرستان ان يوجه ما يوجه به اليه ظاهرا، وان يفرق محمد بن ورد ما يفرقه ظاهرا، وتقدم بمعونة محمد على ما يريد من ذلك. وفي شعبان لإحدى عشره بقيت منها، توفى ابو طلحه منصور بن مسلم في حبس المعتضد وفيها لثمان خلون من شهر رمضان منها، وافى عبيد الله بن سليمان الوزير بغداد قادما من الري، فخلع عليه المعتضد. ولثمان بقين من شهر رمضان منها، ولدت ناعم جاريه أم القاسم بنت محمد ابن عبد الله للمعتضد ابنا سماه جعفرا، فسمى المعتضد هذه الجاريه شغب. وفيها قدم ابراهيم ابن احمد الماذرائى لاثنتى عشره بقيت من ذي الحجه من دمشق على طريق البر، فوافى بغداد في احد عشر يوما، فاخبر المعتضد ان خمارويه بن احمد ذبح على فراشه، ذبحه بعض خدمه من لخاصة، وقيل: ان قتله كان لثلاث خلون من ذي الحجه وقيل ان ابراهيم وافى بغداد من دمشق في سبعه ايام، وقتل من خدمه الذين اتهموا بقتله نيف وعشرون خادما. وكان المعتضد بعث مع ابن الجصاص الى خمارويه بهدايا، واودعه اليه رساله، فشخص ابن الجصاص لما وجه له، فلما بلغ سامرا بلغ المعتضد مهلك خمارويه، فكتب اليه يأمره بالرجوع اليه فرجع، ودخل بغداد لسبع بقين من ذي الحجه.

سنه ثلاث وثمانين ومائتين

ثم دخلت سنه ثلاث وثمانين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) خبر هارون الشاري والظفر به فمن ذلك ما كان من شخوص المعتضد لثلاث عشره بقيت من المحرم منها- بسبب الشاري هارون- الى ناحيه الموصل، فظفر به، وورد كتاب المعتضد بظفره به الى مدينه السلام يوم الثلاثاء لتسع خلون من شهر ربيع الاول وكان سبب ظفره به انه وجه الحسين بن حمدان بن حمدون في جماعه من الفرسان والرجاله من اهل بيته وغيرهم من اصحابه اليه، وذكر ان الحسين بن حمدان قال للمعتضد: ان انا جئت به الى امير المؤمنين فلي ثلاث حوائج الى امير المؤمنين، فقال: اذكرها، قال: أولها اطلاق ابى، وحاجتان اساله إياهما بعد مجيئي به اليه فقال له المعتضد: لك ذلك فامض، فقال الحسين: احتاج الى ثلاثمائه فارس انتخبهم، فوجه المعتضد معه ثلاثمائه فارس مع موشكير، فقال: اريد ان يأمره امير المؤمنين الا يخالفني فيما آمره به، فامر المعتضد موشكير بذلك. فمضى الحسين حتى انتهى الى مخاضه دجلة، فتقدم الى وصيف ومن معه بالوقوف على المخاضة، وقال له: ليس لهارون طريق ان هرب غير هذا، فلا تبرحن من هذا الموضع حتى يمر بك هارون، فتمنعه العبور، وأجيئك انا، او يبلغك انى قد قتلت ومضى حسين في طلب هارون فلقيه وواقعه، وكانت بينهما قتلى، وانهزم الشاري هارون، واقام وصيف على المخاضة ثلاثة ايام، فقال له اصحابه: قد طال مقامنا بهذا المكان القفر، وقد أضر ذلك بنا، ولسنا نامن ان يأخذ حسين الشاري فيكون الفتح له دوننا، والصواب ان نمضي في آثارهم، فاطاعهم ومضى وجاء هارون الشاري منهزما الى موضع المخاضة، فعبر، وجاء حسين في اثره، فلم ير وصيفا واصحابه بالموضع الذى تركهم فيه، ولا عرف لهارون خبرا، ولا راى له أثرا، وجعل يسال عن

خبر هارون حتى وقف على عبوره، فعبر في اثره، وجاء الى حي من احياء العرب، فسألهم عنه فكتموه امره، فاراد ان يوقع بهم، واعلمهم ان المعتضد في اثره، فاعلموه انه اجتاز بهم، فاخذ بعض دوابهم، وترك دوابه عندهم- وكانت قد كلت واعيت- واتبع اثره، فلحقه بعد ايام والشاري في نحو من مائه، فناشده الشاري، وتوعده، فأبى الا محاربته، فحاربه، فذكر ان حسين ابن حمدان رمى بنفسه عليه، فابتدره اصحاب حسين فاخذوه، وجاء به الى المعتضد سلما بغير عقد ولا عهد، فامر المعتضد بحل قيود حمدان بن حمدون، والتوسعه عليه والاحسان اليه ان يقدم فيطلقه ويخلع عليه، فلما اسر الشاري، وصار في يد المعتضد، انصرف راجعا الى مدينه السلام، فوافاها لثمان بقين من شهر ربيع الاول، فنزل باب الشماسيه، وعبا الجيش هنالك، وخلع المعتضد على الحسين بن حمدان، وطوقه بطوق من ذهب، وخلع على جماعه من رؤساء اهله، وزين الفيل بثياب الديباج، واتخذ للشارى على الفيل كالمحفة، واقعد فيها، والبس دراعه ديباج، وجعل على راسه برنس حرير طويل. ولعشر بقين من جمادى الاولى منها، امر المعتضد بالكتاب الى جميع النواحي برد الفاضل من سهام المواريث على ذوى الارحام، وابطال ديوان المواريث، وصرف عمالها، فنفذت الكتب بذلك، وقرئت على المنابر وفيها خرج عمرو بن الليث الصفار من نيسابور، فخالفه رافع بن هرثمة إليها، فدخلها وخطب بها لمحمد بن زيد الطالبي وابيه، فقال: اللهم اصلح الداعي الى الحق، فرجع عمرو الى نيسابور، فعسكر خارج المدينة، وخندق على عسكره لعشر خلون من شهر ربيع الآخر، فأقام محاصرا اهل نيسابور. وفي يوم الاثنين لاربع خلون من جمادى الآخرة منها، وافى بغداد محمد ابن إسحاق بن كنداجيق وخاقان المفلحى ومحمد بن كمشجور المعروف ببندقه وبدر بن جف أخو طغج وابن حسنج في جماعه من القواد من مصر في الامان. وذكر ان سبب مجيئهم الى المعتضد في الامان كان انهم أرادوا ان يفتكوا

خبر حصر الصقالبه القسطنطينية

بجيش بن خمارويه بن احمد بن طولون، فسعى بهم اليه، وكان راكبا، وكانوا في موكبه، وعلموا انه قد وقف على امرهم، فخرجوا من يومهم وسلكوا البريه، وتركوا أموالهم وأهاليهم، فتاهوا أياما، ومات منهم جماعه من العطش، وخرجوا على طريق مكة فوق الكوفه بمرحلتين او ثلاثة ووجه السلطان محمد بن سليمان صاحب الجيش الى الكوفه حتى كتب اسماءهم، وأقيمت لهم الوظائف من الكوفه، فلما قربوا من بغداد، خرجت اليهم الوظائف والخيم والطعام، ووصلوا الى المعتضد يوم دخلوا، فخلع عليهم، وحمل كل قائد منهم على دابه بسرجه ولجامه، وخلع على الباقين، وكان عددهم ستين رجلا. وفي يوم السبت لاربع عشره بقيت منها شخص الوزير عبيد الله بن سليمان الى الجبل لحرب ابن ابى دلف بأصبهان. خبر حصر الصقالبه القسطنطينية وفيها- فيما ذكر- ورد كتاب من طرسوس ان الصقالبه غزت الروم في خلق كثير، فقتلوا منهم وخربوا لهم قرى كثيره حتى وصلوا الى قسطنطينيه والجئوا الروم إليها، واغلقت أبواب مدينتهم، ثم وجه طاغيه الروم الى ملك الصقالبه ان ديننا ودينكم واحد، فعلام نقتل الرجال بيننا! فأجابه ملك الصقالبه ان هذا ملك آبائى، ولست منصرفا عنك الا بغلبه أحدنا صاحبه، فلما لم بحد ملك الروم خلاصا من صاحب الصقالبه، جمع من عنده من المسلمين، فأعطاهم السلاح، وسألهم معونته على الصقالبه، ففعلوا، وكشفوا الصقالبه، فلما راى ذلك ملك الروم خافهم على نفسه، فبعث اليهم فردهم، وأخذ منهم السلاح، وفرقهم في البلدان، حذرا من ان يجنوا عليه. خلاف جند جيش بن خمارويه عليه وللنصف من رجب من هذه السنه ورد الخبر من مصر ان الجند من المغاربه والبربر وثبوا على جيش بن خمارويه، وقالوا: لا نرضى بك أميرا علنيا فتنح عنا حتى نولي عمك، فكلمهم كاتبه على بن احمد الماذرائى، وسألهم ان ينصرفوا عنه يومهم ذلك، فانصرفوا وعادوا من غد، فعدا جيش على عمه الذى ذكروا انهم يؤمرونه، فضرب عنقه وعنق عم له آخر، ورمى بارؤسهما

ذكر الفداء بين المسلمين والروم

اليهم، فهجم الجند على جيش بن خمارويه، فقتلوه وقتلوا أمه وانتهبوا داره، وانتهبوا مصر وأحرقوها، واقعدوا هارون بن خمارويه مكان أخيه. وفي رجب منها امر المعتضد بكرى دجيل والاستقصاء عليه، وقلع صخر في فوهته كان يمنع الماء، فجبى لذلك من ارباب الضياع والاقطاعات اربعه آلاف دينار، وكسر- فيما ذكر- وانفق عليه، وولى ذلك كاتب زيرك وخادم من خدم المعتضد. ذكر الفداء بين المسلمين والروم وفي شعبان منها، كان الفداء بين المسلمين والروم على يدي احمد بن طغان، وذكر ان الكتاب الوارد بذلك من طرسوس كان فيه: بسم الله الرحمن الرحيم: اعلمك ان احمد بن طغان نادى في الناس يحضرون الفداء يوم الخميس لاربع خلون من شعبان سنه ثلاث وثمانين ومائتين، وانه قد خرج الى لامس- وهو معسكر المسلمين- يوم الجمعه لخمس خلون من شعبان، وامر الناس بالخروج معه في هذا اليوم، فصلى الجمعه، وركب من مسجد الجامع ومعه راغب ومواليه، وخرج معه وجوه البلد والموالي والقواد والمطوعة باحسن زي، فلم يزل الناس خارجين الى لامس الى يوم الاثنين لثمان خلون من شعبان، فجرى الفداء بين الفريقين اثنى عشر يوما، وكانت جمله من فودى به من المسلمين من الرجال والنساء والصبيان الفين وخمسمائة واربعه انفس، واطلق المسلمون يوم الثلاثاء لسبع بقين من شعبان سميون رسول ملك الروم، واطلق الروم فيه يحيى بن عبد الباقى رسول المسلمين المتوجه في الفداء، وانصرف الأمير ومن معه. وخرج- فيما ذكر- احمد بن طغان بعد انصرافه من هذا الفداء في هذا الشهر في البحر، او خلف دميانه على عمله على طرسوس، ثم وجه بعده يوسف ابن الباغمردى على طرسوس ولم يرجع هو إليها . ذكر امر المعتضد مع عمر بن عبد العزيز بن ابى دلف وأخيه بكر وفي يوم الجمعه لعشر خلون من شهر رمضان من هذه السنه قرئ كتاب

على المنبر بمدينه السلام في مسجد جامعها، بان عمر بن عبد العزيز بن ابى دلف صار الى بدر وعبيد الله بن سليمان في الامان يوم السبت لثلاث بقين من شعبان سامعا مطيعا منقادا لأمير المؤمنين، مذعنا بالطاعة والمصير معهما الى بابه، وان عبيد الله بن سليمان خرج اليه فتلقاه، وصار به الى مضرب بدر، فاخذ عليه وعلى اهل بيته واصحابه البيعه لأمير المؤمنين، وخلع عليه بدر وعلى الرؤساء من اهل بيته، وانصرفوا الى مضرب قد اعد لهم، وكان قبل ذلك قد دخل بكر بن عبد العزيز في الامان على بدر وعبيد الله بن سليمان، فولياه عمل أخيه عمر، على ان يخرج اليه ويحاربه، فلما دخل عمر في الامان قالا لبكر: ان اخاك قد دخل في طاعه السلطان، وانما كنا وليناك عمله على انه عاص، والان فأمير المؤمنين اعلى عينا فيما يرى من أمركما، فامضيا الى بابه. وولى عيسى النوشرى أصبهان، واظهر انه من قبل عمر بن عبد العزيز، فهرب بكر بن عبد العزيز في اصحابه، فكتب بذلك الى المعتضد، فكتب الى بدر يأمره بالمقام بموضعه الى ان يعرف خبر بكر وما اليه يصير امره، فأقام وخرج الوزير عبيد الله بن سليمان الى ابى محمد على بن المعتضد بالري، ولحق بكر بن عبد العزيز بن ابى دلف بالاهواز، فوجه المعتضد في طلبه وصيفا موشكير، فخرج من بغداد في طلبه حتى بلغ حدود فارس، وقد كان لحقه- فيما ذكر- ولم يواقعه، وباتا، كل واحد منهما قريب من صاحبه، فارتحل بكر بالليل فلم يتبعه وصيف، ومضى بكر الى أصبهان، ورجع وصيف الى بغداد، فكتب المعتضد الى بدر يأمره بطلب بكر وعربه، فتقدم بدر الى عيسى النوشرى بذلك، فقال بكر بن عبد العزيز: عنى ملامك ليس حين ملام ... هيهات احدث زائدا للوام طارت غيايات الصبا عن مفرفى ... ومضى أوان شراستى وعرامى

القى الأحبة بالعراق عصيهم ... وبقيت نصب حوادث الأيام وتقاذفت بأخي النوى ورمت به ... مرمى البعيد قطيعه الارحام وتشعب العرب الذين تصدعوا ... فذببت عن احسابهم بحسامى فيه تماسك ما وهى من امرهم ... والسمر عند تصادم الأقوام فلاقرعن صفاه دهر نابهم ... قرعا يهد رواسى الاعلام ولاضربن الهام دون حريمهم ... ضرب القدار نقيعه القدام ولاتركن الواردين حياضهم ... بقراره لمواطئ الاقدام يا بدر انك لو شهدت مواقفى ... والموت يلحظ والصفاح دوامي لذممت رأيك في اضاعه حرمتي ... ولضاق ذرعك في اطراح ذمامي حركتنى بعد السكون وانما ... حركت من حصني جبال تهام وعجمتنى فعجمت منى مرجما ... خشن المناكب كل يوم زحام قل للأمير ابى محمد الذى ... يجلو بغرته دجى الاظلام اسكنتنى ظل العلا فسكنته ... في عيشه رغد وعز نامى حتى إذا حلئت عنه نابني ... ما نابني وتنكرت ايامى فلأشكرن جميل ما أوليتني ... ما غردت في الأيك ورق حمام هذا ابو حفص يدي وذخيرتي ... للنائبات وعدتى وسنامى ناديته فأجابني، وهززته ... فهززت حد الصارم الصمصام من رام ان يغضى الجفون على القذى ... او يستكين يروم غير مرام ويخيم حين يرى الأسنة شرعا ... والبيض مصلته لضرب الهام وقال بكر بن عبد العزيز يذكر هرب النوشرى من بين يديه ويعير وصيفا

أخبار متفرقة

بالاحجام عنه ويتهدد بدرا: قالت البيض قد تغير بكر ... وبدا بعد وصله منه هجر ليس كالسيف مونس حين يعرو ... حادث معضل ويفدح امر أوقدوا الحرب بيننا فاصطلوها ... ثم حاصوا، فأين منها المفر! وبغوا شرنا فهذا أوان ... قد بدا شره ويتلوه شر قد راى النوشرى لما التقينا ... من إذا اشرع الرماح يفر جاء في قسطل لهام فصلنا ... صوله دونها الكماة تهر ولواء الموشجير افضى إلينا ... رويت عند ذاك بيض وسمر غر بدرا حلمي وفضل اناتى ... واحتمالي، وذاك مما يغر سوف يأتينه شواذب قب ... لاحقات البطون جون وشقر يتبارين كالسعالى عليها ... من بنى وائل اسود تكر لست بكرا ان لم ادعهم حديثا ... ما سرى كوكب وماكر دهر. [أخبار متفرقة] وفي يوم الجمعه لسبع خلون من شوال من هذه السنه مات على بن محمد ابن ابى الشوارب، فحمل الى سامرا من يومه في تابوت، وكانت ولايته للقضاء على مدينه ابى جعفر سته اشهر. وفي يوم الاثنين لاربع بقين من شوال منها دخل بغداد عمر بن عبد العزيز بن ابى دلف قادما من أصبهان، فامر المعتضد- فيما ذكر- القواد باستقباله، فاستقبله القاسم بن عبيد الله والقواد، وقعد له المعتضد، فوصل اليه، وخلع عليه، وحمله على دابه بسرج ولجام محلى بذهب، وخلع معه على ابنين له وعلى ابن أخيه احمد بن عبد العزيز وعلى نفسين من قواده، وانزل في الدار التي كانت لعبيد الله بن عبد الله عند راس الجسر، وكانت قد فرشت له. وفي هذه السنه قرئ على القواد في دار المعتضد كتاب ورد من عمرو بن

الليث الصفار، بانه واقع رافع بن هرثمة وهزمه، وانه مر هاربا، وانه على ان يتبعه. وكانت الوقعه لخمس بقين من شهر رمضان، وقرئ الكتاب يوم الثلاثاء لاثنتى عشره خلت من ذي القعده. وفي يوم الأحد لثلاث عشره بقيت من ذي القعده، وردت خريطة- فيما ذكر- من عمرو بن الليث على المعتضد، وهو في الحلبه، فانصرف الى دار العامه، وقرئ الكتاب على القواد من عمرو بن الليث يخبر فيه انه وجه في اثر رافع بعد الهزيمة محمد بن عمرو البلخى مع قائد آخر من قواده، وقد كان رافع صار الى طوس فواقعوه، فانهزم واتبعوا اثره، فلحق بخوارزم، فقتل بخوارزم فأرسل بخاتمه مع الكتاب، وذكر انه قد حمل الرسول في امر الراس ما يخبر به السلطان. وفي يوم الجمعه لثمان بقين من ذي القعده منها قرئت الكتب على المنابر بقتل رافع بن هرثمة.

سنه اربع وثمانين ومائتين

ثم دخلت سنه اربع وثمانين ومائتين ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث الجليلة فمن ذلك ما كان من قدوم رسول عمرو بن الليث الصفار برأس رافع بن هرثمة في يوم الخميس لاربع خلون من المحرم على المعتضد، فامر بنصبه في المجلس بالجانب الشرقى الى الظهر، ثم تحويله الى الجانب الغربي، ونصبه هنالك الى الليل، ثم رده الى دار السلطان وخلع على الرسول وقت وصوله الى المعتضد بالراس. وفي يوم الخميس لسبع خلون من صفر كانت ملحمه بين راغب ودميانه بطرسوس، وكان سبب ذلك- فيما ذكر- ان راغبا مولى الموفق ترك الدعاء لخمارويه بن احمد، ودعا لبدر مولى المعتضد، فوقع بينه وبين احمد بن طغان الخلاف، فلما انصرف ابن طغان من الفداء الذى كان في سنه ثلاث وثمانين ومائتين ركب البحر ولم يدخل طرسوس، ومضى وخلف دميانه للقيام بأمر طرسوس، فلما كان في صفر من هذه السنه، وجه يوسف بن الباغمردى ليخلفه على طرسوس، فلما دخلها وقوى به دميانه، كرهوا ما يفعله راغب من الدعاء لبدر، فوقعت بينهم الفتنة، وظفر بهم راغب، فحمل دميانه وابن الباغمردى وابن اليتيم مقيدين الى المعتضد. ولعشر بقين من صفر في يوم الاثنين من هذه السنه وردت خريطة من الجبل، بان عيسى النوشرى اوقع ببكر بن عبد العزيز بن ابى دلف في حدود أصبهان، فقتل رجاله، واستباح عسكره، وافلت في نفر يسير. وفي يوم الخميس لاربع عشره خلت من شهر ربيع الاول منها، خلع على ابى عمر يوسف بن يعقوب، وقلد قضاء مدينه ابى جعفر المنصور مكان على ابن محمد بن ابى الشوارب، وقضاء قطر بل ومسكن وبزرجسابور

أخبار متفرقة

والرذانين وقعد للخصوم في هذا اليوم في المسجد الجامع، ومكثت مدينه ابى جعفر من لدن مات ابن ابى الشوارب الى ان وليها ابو عمر بغير قاض، وذلك خمسه اشهر واربعه ايام. وفي يوم الأربعاء لثلاث عشره خلت منه في هذه السنه، أخذ خادم نصرانى لغالب النصراني متطبب السلطان يقال له وصيف، فرفع الى الحبس، وشهد عليه انه شتم النبي ص فحبس، ثم اجتمع من غد هذا اليوم ناس من العامه بسبب هذا الخادم، فصاحوا بالقاسم بن عبيد الله، وطالبوه باقامه الحد عليه بسبب ما شهد عليه، فلما كان يوم الأحد لثلاث عشره بقيت منه اجتمع اهل باب الطاق الى قنطره البردان وما يليها من الاسواق، وتداعوا، ومضوا الى باب السلطان، فلقيهم ابو الحسين ابن الوزير، فصاحوا به، فاعلمهم انه قد انهى خبره الى المعتضد، فكذبوه واسمعوه ما كره، ووثبوا باعوانه ورجاله حتى هربوا منهم، ومضوا الى دار المعتضد بالثريا، فدخلوا من الباب الاول والثانى فمنعوا من الدخول، فوثبوا على من منعهم، فخرج اليهم من سألهم عن خبرهم، فاخبروه فكتب به الى المعتضد، فادخل اليه منهم جماعه، وسألهم عن الخبر فذكروه له، فأرسل معهم خفيفا السمرقندي الى يوسف القاضى، وتقدم الى خفيف ان يأمر يوسف بالنظر في امر الخادم، وان ينهى اليه ما يقف عليه من امره، فمضى معهم خفيف الى يوسف، فكادوا يقتلونه ويقتلون يوسف لما دخلوا عليه مما ازدحموا، حتى افلت يوسف منهم، ودخل بابا واغلقه دونهم، ولم يكن بعد ذلك للخادم ذكر، ولا كان للعامه في امره اجتماع. [أخبار متفرقة] وفي هذا الشهر من هذه السنه قدم- فيما ذكر- قوم من اهل طرسوس على السلطان يسالونه ان يولى عليهم وال، ويذكرون ان بلدهم بغير وال، وكانت طرسوس قبل في يدي ابن طولون، فأساء اليهم، فاخرجوا عامله عن البلد، وراسلهم في ذلك، ووعدهم الاحسان، فأبوا ان يتركوا له

غلاما يدخل بلدهم، وقالوا: من جاءنا من قبلك حاربناه، فكف عنهم. وفي يوم الخميس لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر من هذه السنة- فيما ذكر- ظهرت ظلمه بمصر، وحمره في السماء شديده، حتى كان الرجل ينظر الى وجه الآخر، فيراه احمر، وكذلك الحيطان وغير ذلك، ومكثوا كذلك من العصر الى العشاء الآخرة، وخرج الناس من منازلهم يدعون الله ويتضرعون اليه. وفي يوم الأربعاء لثلاث خلون من جمادى الاولى، ولإحدى عشره ليله خلت من حزيران، نودى في الارباع والاسواق ببغداد بالنهى عن وقود النيران ليله النيروز، وعن صب الماء في يومه، ونودى بمثل ذلك في يوم الخميس، فلما كان عشيه يوم الجمعه نودى على باب سعيد بن يكسين صاحب الشرطه بالجانب الشرقى من مدينه السلام، بان امير المؤمنين قد اطلق للناس في وقود النيران وصب الماء، ففعلت العامه من ذلك ما جاوز الحد، حتى صبوا الماء على اصحاب الشرطه في مجلس الجسر- فيما ذكر. وفيها اغريت العامه بالصياح بمن رأوا من الخدم السود: يا عقيق، فكانوا يغضبون من ذلك، فوجه المعتضد خادما اسود عشيه الجمعه برقعة الى ابن حمدون النديم، فلما بلغ الخادم راس الجسر من الجانب الشرقى صاح به صائح من العامه: يا عقيق! فشتم الخادم الصائح، وقنعه، فاجتمعت جماعه من العامه على الخادم فنكسوه وضربوه، وضاعت الرقعة التي كانت معه فرجع الى السلطان فاخبره بما صنع به، فامر المعتضد طريفا المخلدي الخادم بالركوب والقبض على كل من تولع بالخدم وضربه بالسياط فركب طريف يوم السبت لثلاث عشره خلت من جمادى الاولى في جماعه من الفرسان والرجاله، وقدم بين يديه خادما اسود، فصار الى باب الطاق لما امر به من القبض على من صاح بالخادم: يا عقيق، فقبض فيما ذكر بباب الطابق على سبعه انفس، ذكر ان بعضهم كان بزيا، فضربوا بالسياط في مجلس الشرطه

ذكر كتاب المعتضد في شان بنى اميه

بالجانب الشرقى وعبر طريف فمضى الى الكرخ، ففعل مثل ذلك، وأخذ خمسه انفس فضربهم في مجلس الشرطه بالشرقيه، وحمل الجميع على جمال، ونودى عليهم: هذا جزاء من اولع بخدم السلطان، وصاح بهم: يا عقيق، وحبسوا يومهم، وأطلقوا بالليل. وفي هذه السنه عزم المعتضد بالله على لعن معاويه بن ابى سفيان على المنابر، وامر بإنشاء كتاب بذلك يقرا على الناس، فخوفه عبيد الله بن سليمان بن وهب اضطراب العامه، وانه لا يامن ان تكون فتنه، فلم يلتفت الى ذلك من قوله. وذكر ان أول شيء بدا به المعتضد حين اراد ذلك الأمر بالتقدم الى العامه بلزوم اعمالهم، وترك الاجتماع والقضية والشهادات عند السلطان، الا ان يسألوا عن شهاده ان كانت عندهم، وبمنع القصاص من القعود على الطرقات، وعملت بذلك نسخ قرئت بالجانبين بمدينه السلام في الارباع والمحال والاسواق، فقرئت يوم الأربعاء لست بقين من جمادى الاولى من هذه السنه، ثم منع يوم الجمعه لاربع بقين منها القصاص من القعود في الجامعين، ومنع اهل الحلق في الفتيا او غيرهم من القعود في المسجدين، ومنع الباعه من القعود في رحابهما. وفي جمادى الآخرة نودى في المسجد الجامع بنهي الناس عن الاجتماع على قاص او غيره، ومنع القصاص واهل الحلق من القعود. وفي يوم الحادي عشر- وذلك يوم الجمعه- نودى في الجامعين بان الذمة بريه ممن اجتمع من الناس على مناظره او جدل، وان من فعل ذلك أحل بنفسه الضرب، وتقدم الى الشراب والذين يسقون الماء في الجامعين الا يترحموا على معاويه، ولا يذكروه بخير. ذكر كتاب المعتضد في شان بنى اميه وتحدث الناس ان الكتاب الذى امر المعتضد بانشائه بلعن معاويه يقرا بعد صلاه الجمعه على المنبر، فلما صلى الناس الجمعه بادروا الى المقصورة ليسمعوا قراءة الكتاب فلم يقرا. فذكر ان المعتضد امر باخراج الكتاب الذى كان المأمون امر بانشائه بلعن

معاويه، فاخرج له من الديوان، فاخذ من جوامعه نسخه هذا الكتاب، وذكر انها نسخه الكتاب الذى أنشئ للمعتضد بالله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله العلى العظيم، الحليم الحكيم، العزيز الرحيم، المنفرد بالوحدانية، الباهر بقدرته، الخالق بمشيئته وحكمته، الذى يعلم سوابق الصدور، وضمائر القلوب، لا يخفى عليه خافية، ولا يغرب عنه مثقال ذره في السموات العلا، ولا في الارضين السفلى، قد احاط بكل شيء علما، واحصى كل شيء عددا، وضرب لكل شيء أمدا، وهو العليم الخبير والحمد لله الذى برا خلقه لعبادته، وخلق عباده لمعرفته، على سابق علمه في طاعه مطيعهم، وماضى امره في عصيان عاصيهم، فبين لهم ما يأتون وما يتقون، ونهج لهم سبل النجاة، وحذرهم مسالك الهلكة، وظاهر عليهم الحجه، وقدم اليهم المعذرة، واختار لهم دينه الذى ارتضى لهم، واكرمهم به، وجعل المعتصمين بحبله والمتمسكين بعروته أولياءه واهل طاعته، والعاندين عنه والمخالفين له اعداءه واهل معصيته، ليهلك من هلك عن بينه، ويحيا من حي عن بينه، وان الله لسميع عليم والحمد لله الذى اصطفى محمدا رسوله من جميع بريته، واختاره لرسالته، وابتعثه بالهدى والدين المرتضى الى عباده اجمعين، وانزل عليه الكتاب المبين المستبين، وتاذن له بالنصر والتمكين، وايده بالعز والبرهان المتين، فاهتدى به من اهتدى، واستنقذ به من استجاب له من العمى، وأضل من ادبر وتولى، حتى اظهر الله امره، وأعز نصره، وقهر من خالفه، وانجز له وعده، وختم به رسله، وقبضه مؤديا لأمره، مبلغا لرسالته، ناصحا لامته، مرضيا مهتديا الى اكرم مآب المنقلبين، واعلى منازل انبيائه المرسلين، وعباده الفائزين، فصلى الله عليه افضل صلاه وأتمها، وأجلها وأعظمها، وأزكاها وأطهرها، وعلى آله الطيبين. والحمد لله الذى جعل امير المؤمنين وسلفه الراشدين المهتدين ورثه

خاتم النبيين وسيد المرسلين والقائمين بالدين، والمقومين لعباده المؤمنين، والمستحفظين ودائع الحكمه، ومواريث النبوه، والمستخلفين في الامه، والمنصورين بالعز والمنعه، والتأييد والغلبه، حتى «يظهر الله دينه عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.» * وقد انتهى الى امير المؤمنين ما عليه جماعه من العامه من شبهه قد دخلتهم في اديانهم، وفساد قد لحقهم في معتقدهم، وعصبية قد غلبت عليها اهواؤهم، ونطقت بها السنتهم، على غير معرفه ولا رويه، وقلدوا فيها قاده الضلالة بلا بينه ولا بصيره، وخالفوا السنن المتبعه، الى الأهواء المبتدعه، قال قَالَ الله عز وجل: «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ، خروجا عن الجماعه، ومسارعه الى الفتنة وإيثارا للفرقة، وتشتيتا للكلمة وإظهارا لموالاة من قطع الله عنه الموالاة، وبتر منه العصمة، واخرجه من الملة، واوجب عليه اللعنه، وتعظيما لمن صغر الله حقه، واوهن امره، واضعف ركنه، من بنى اميه الشجرة الملعونه، ومخالفه لمن استنقذهم الله به من الهلكة، واسبغ عليهم به النعمه، من اهل بيت البركه والرحمه، قال الله عز وجل: «يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ*» فأعظم امير المؤمنين ما انتهى اليه من ذلك، وراى في ترك إنكاره حرجا عليه في الدين، وفسادا لمن قلده الله امره من المسلمين، وإهمالا لما أوجبه الله عليه من تقويم المخالفين وتبصير الجاهلين، واقامه الحجه على الشاكين، وبسط اليد على العاندين. وامير المؤمنين يرجع إليكم معشر الناس بان الله عز وجل لما ابتعث محمدا بدينه، وامره ان يصدع بامره، بدا باهله وعشيرته، فدعاهم الى ربه، وانذرهم وبشرهم، ونصح لهم وارشدهم، فكان من استجاب له وصدق قوله واتبع امره نفر يسير من بنى ابيه، من بين مؤمن بما اتى به من ربه، وبين ناصر له وان لم يتبع دينه، إعزازا له، وإشفاقا عليه، لماضى علم الله

فيمن اختار منهم، ونفذت مشيئته فيما يستودعه اياه من خلافته وارث نبيه، فمؤمنهم مجاهد بنصرته وحميته، يدفعون من نابذه، وينهرون من عاره وعانده، ويتوثقون له ممن كانفه وعاضده، ويبايعون له من سمح بنصرته، ويتجسسون له اخبار اعدائه، ويكيدون له بظهر الغيب كما يكيدون له براى العين، حتى بلغ المدى، وحان وقت الاهتداء، فدخلوا في دين الله وطاعته وتصديق رسوله، والايمان به، باثبت بصيره، واحسن هدى ورغبه، فجعلهم الله اهل بيت الرحمه، واهل بيت الدين- «اذهب عنهم الرجس وطهرهم تَطْهِيراً» - ومعدن الحكمه، وورثه النبوه وموضع الخلافه، واوجب لهم الفضيلة، والزم العباد لهم الطاعة. وكان ممن عانده ونابذه، وكذبه وحاربه من عشيرته، العدد الأكثر، والسواد الأعظم، يتلقونه بالتكذيب والتثريب، ويقصدونه بالأذية والتخويف، ويبادونه بالعداوة، وينصبون له المحاربة، ويصدون عنه من قصده، وينالون بالتعذيب من اتبعه واشدهم في ذلك عداوة واعظمهم له مخالفه، واولهم في كل حرب ومناصبه، لا يرفع على الاسلام رايه الا كان صاحبها وقائدها ورئيسها، في كل مواطن الحرب، من بدر واحد والخندق والفتح ابو سفيان بن حرب واشياعه من بنى اميه، الملعونين في كتاب الله، ثم الملعونين على لسان رسول الله في عده مواطن، وعده مواضع، لماضى علم الله فيهم وفي امرهم، ونفاقهم وكفر أحلامهم، فحارب مجاهدا، ودافع مكابدا، واقام منابذا حتى قهره السيف، وعلا امر الله وهم كارهون، فتقول بالإسلام غير منطو عليه، واسر الكفر غير مقلع عنه، فعرفه بذلك رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون، وميز له المؤلفه قلوبهم، فقبله وولده على علم منه، فمما لعنهم الله به على لسان نبيه ص، وانزل به كتابا قوله:

«وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً» ولا اختلاف بين احد انه اراد بها بنى اميه. [ومنه قول الرسول ع وقد رآه مقبلا على حمار ومعاويه يقود به ويزيد ابنه يسوق به: لعن الله القائد والراكب والسائق] ومنه ما يرويه الرواه من قوله: يا بنى عبد مناف تلقفوها تلقف الكره، فما هناك جنه ولا نار وهذا كفر صراح يلحقه به اللعنه من الله كما لحقت «الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ» ومنه ما يروون من وقوفه على ثنية احد بعد ذهاب بصره، وقوله لقائده: هاهنا ذببنا محمدا واصحابه ومنه الرؤيا التي رآها النبي ص فوجم لها، فما رئى ضاحكا بعدها، فانزل الله: «وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ» ، فذكروا انه راى نفرا من بنى اميه ينزون على منبره ومنه طرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم بن ابى العاص لحكايته اياه، والحقه الله بدعوه رسوله آيه باقيه حين رآه يتخلج، فقال له: كن كما أنت، فبقى على ذلك سائر عمره، الى ما كان من مروان في افتتاحه أول فتنه كانت في الاسلام، واحتقابه لكل دم حرام سفك فيها او أريق بعدها. ومنه ما انزل الله على نبيه في سوره القدر: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» ، من ملك بنى اميه [ومنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا بمعاويه ليكتب بامره بين يديه، فدافع بامره، واعتل بطعامه، فقال النبي: لا اشبع الله بطنه، فبقى لا يشبع،] ويقول: والله ما اترك الطعام شبعا، ولكن اعياء [ومنه ان رسول الله ص قال: يطلع من هذا الفج رجل من امتى يحشر على غير ملتي، فطلع معاويه] [ومنه ان رسول الله ص، قال: إذا رايتم معاويه على منبري فاقتلوه] [ومنه الحديث المرفوع المشهور انه قال: ان معاويه في تابوت من نار في اسفل

درك منها ينادى: يا حنان يا منان، الان وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين. ] ومنه انبراؤه بالمحاربة لافضل المسلمين في الاسلام مكانا، واقدمهم اليه سبقا، واحسنهم فيه أثرا وذكرا، على بن ابى طالب، ينازعه حقه بباطله، ويجاهد انصاره بضلاله وغواته، ويحاول ما لم يزل هو وأبوه يحاولانه، من إطفاء نور الله وجحود دينه، و «يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ المشركون» . يستهوى اهل الغباوة، ويموه على اهل الجهاله بمكره وبغيه، [الذين قدم رسول الله ص الخبر عنهما، فقال لعمار: تقتلك الفئة الباغيه تدعوهم الى الجنه ويدعونك الى النار،] مؤثرا للعاجلة، كافرا بالآجلة، خارجا من ربقه الاسلام، مستحلا للدم الحرام، حتى سفك في فتنته، وعلى سبيل ضلالته ما لا يحصى عدده من خيار المسلمين الذابين عن دين الله والناصرين لحقه، مجاهدا لله، مجتهدا في ان يعصى الله فلا يطاع، وتبطل احكامه فلا تقام، ويخالف دينه فلا يدان وان تعلو كلمه الضلالة، وترتفع دعوه الباطل، وكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا، ودينه المنصور، وحكمه المتبع النافذ، وامره الغالب، وكيد من حاده المغلوب الداحض، حتى احتمل أوزار تلك الحروب وما اتبعها، وتطوق تلك الدماء وما سفك بعدها، وسن سنن الفساد التي عليه إثمها واثم من عمل بها الى يوم القيامه، وأباح المحارم لمن ارتكبها، ومنع الحقوق أهلها، واغتره الاملاء، واستدرجه الامهال، «والله له بالمرصاد» . ثم مما اوجب الله له به اللعنه، قتله من قتل صبرا من خيار الصحابه والتابعين واهل الفضل والديانه، مثل عمرو بن الحمق وحجر بن عدى، فيمن قتل من أمثالهم، في ان تكون له العزه والملك والغلبه، ولله العزه والملك والقدره، والله عز وجل يقول: «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً.» ومما استحق به اللعنه من الله ورسوله ادعاؤه زياد بن سميه، جراه على الله، والله يقول: «ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ» [وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

عليه وسلم، يقول: ملعون من ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى الى غير مواليه،] [ويقول: الولد للفراش وللعاهر الحجر،] فخالف حكم الله عز وجل وسنه نبيه ص جهارا، وجعل الولد لغير الفراش، والعاهر لا يضره عهره، فادخل بهذه الدعوة من محارم الله ومحارم رسوله في أم حبيبه زوجه النبي ص وفي غيرها من سفور وجوه ما قد حرمه الله، واثبت بها قربى قد باعدها الله، وأباح بها ما قد حظره الله، مما لم يدخل على الاسلام خلل مثله، ولم ينل الدين تبديل شبهه. ومنه إيثاره بدين الله، ودعاؤه عباد الله الى ابنه يزيد المتكبر الخمير، صاحب الديوك والفهود والقرود، واخذه البيعه له على خيار المسلمين بالقهر والسطوة والتوعيد والإخافة والتهدد والرهبه، وهو يعلم سفهه ويطلع على خبثه ورهقه، ويعاين سكرانه وفجوره وكفره فلما تمكن منه ما مكنه منه، ووطأة له، وعصى الله ورسوله فيه، طلب بثارات المشركين وطوائلهم عند المسلمين، فاوقع باهل الحره الوقيعه التي لم يكن في الاسلام اشنع منها ولا افحش، مما ارتكب من الصالحين فيها، وشفى بذلك عبد نفسه وغليله، وظن ان قد انتقم من أولياء الله، وبلغ النوى لأعداء الله، فقال مجاهرا بكفره ومظهرا لشركه: ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل قد قتلنا القوم من ساداتكم ... وعدلنا ميل بدر فاعتدل فأهلوا واستهلوا فرحا ... ثم قالوا: يا يزيد لا تسل لست من خندف ان لم انتقم ... من بنى احمد ما كان فعل ولعت هاشم بالملك فلا ... خبر جاء، ولا وحى نزل هذا هو المروق من الدين، وقول من لا يرجع الى الله ولا الى دينه ولا الى كتابه ولا الى رسوله، ولا يؤمن بالله ولا بما جاء من عند الله ثم من اغلظ ما انتهك، واعظم ما اخترم سفكه دم الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ

وابن فاطمه بنت رسول الله. ص مع موقعه من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومكانه منه ومنزلته من الدين والفضل، وشهاده رسول الله ص له ولأخيه بسيادة شباب اهل الجنه، اجتراء على الله، وكفرا بدينه، وعداوة لرسوله، ومجاهده لعترته، واستهانة بحرمته، فكأنما يقتل به وباهل بيته قوما من كفار اهل الترك والديلم، لا يخاف من الله نقمه، ولا يرقب منه سطوه، فبتر الله عمره، واجتث اصله وفرعه، وسلبه ما تحت يده، واعد له من عذابه وعقوبته ما استحقه من الله بمعصيته. هذا الى ما كان من بنى مروان من تبديل كتاب الله وتعطيل احكامه، واتخاذ مال الله دولا بينهم، وهدم بيته، واستحلال حرامه، ونصبهم المجانيق عليه، ورميهم اياه بالنيران، لا يألون له إحراقا وإخرابا، ولما حرم الله منه استباحه وانتهاكا، ولمن لجأ اليه قتلا وتنكيلا، ولمن امنه الله به اخافه وتشريدا، حتى إذا حقت عليهم كلمه العذاب، واستحقوا من الله الانتقام، وملئوا الارض بالجور والعدوان، وعموا عباد الله بالظلم والاقتسار، وحلت عليهم السخطه، ونزلت بهم من الله السطوة، اتاح الله لهم من عتره نبيه، واهل وراثته من استخلصهم منهم بخلافته، مثل ما اتاح الله من أسلافهم المؤمنين وآبائهم المجاهدين لاوائلهم الكافرين، فسفك الله بهم دماءهم مرتدين، كما سفك بابائهم دماء آباء الكفره المشركين، وقطع الله دابر القوم الظالمين، والحمد لله رب العالمين ومكن الله المستضعفين، ورد الله الحق الى اهله المستحقين، كما قال جل شانه: «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. » واعلموا ايها الناس، ان الله عز وجل انما امر ليطاع، ومثل ليتمثل، وحكم ليقبل، والزم الأخذ بسنه نبيه ص ليتبع، وان كثيرا ممن ضل فالتوى، وانتقل من اهل الجهاله والسفاه ممن اتخذوا احبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وقد قال الله عز وجل: «فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ»

فانتهوا معاشر الناس عما يسخط الله عليكم، وراجعوا ما يرضيه عنكم، وارضوا من الله بما اختار لكم، والزموا ما امركم به، وجانبوا ما نهاكم عنه، واتبعوا الصراط المستقيم، والحجه البينه، والسبل الواضحه، واهل بيت الرحمه، الذين هداكم الله بهم بديئا، واستنقذكم بهم من الجور والعدوان أخيرا، واصاركم الى الخفض والأمن والعز بدولتهم، وشملكم الصلاح في اديانكم ومعايشكم في ايامهم، والعنوا من لعنه الله ورسوله، وفارقوا من لا تنالون القربه من الله الا بمفارقته. اللهم العن أبا سفيان بن حرب، ومعاويه ابنه، ويزيد بن معاويه، ومروان بن الحكم وولده، اللهم العن ائمه الكفر، وقاده الضلالة، وأعداء الدين، ومجاهدى الرسول، ومغيرى الأحكام، ومبدلي الكتاب، وسفاكى الدم الحرام. اللهم انا نتبرأ إليك من موالاه اعدائك، ومن الاغماض لأهل معصيتك، كما قلت: «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. » يايها الناس، اعرفوا الحق تعرفوا اهله، وتأملوا سبل الضلالة تعرفوا سابلها، فانه انما يبين عن الناس اعمالهم، ويلحقهم بالضلال والصلاح آباؤهم، فلا يأخذكم في الله لومه لائم، ولا يميلن بكم عن دين الله استهواء من يستهويكم وكيد من يكيدكم، وطاعه من تخرجكم طاعته الى معصية ربكم. ايها الناس، بنا هداكم الله، ونحن المستحفظون فيكم، امر الله ونحن ورثه رسول الله والقائمون بدين الله، فقفوا عند ما نقفكم عليه، وانفذوا لما نأمركم به، فإنكم ما أطعتم خلفاء الله وائمه الهدى على سبيل الايمان والتقوى، وامير المؤمنين يستعصم الله لكم، ويسأله توفيقكم، ويرغب الى الله في هدايتكم لرشدكم، وفي حفظ دينه عليكم، حتى تلقوه به مستحقين طاعته، مستحقبين لرحمته، والله حسب امير المؤمنين فيكم، وعليه توكله، وبالله على ما قلده من أموركم استعانته، ولا حول لأمير المؤمنين ولا قوه الا بالله والسلام عليكم. وكتب ابو القاسم عبيد الله بن سليمان في سنه اربع وثمانين ومائتين

أخبار متفرقة

وذكر ان عبيد الله بن سليمان احضر يوسف بن يعقوب القاضى، وامره ان يعمل الحيله في ابطال ما عزم عليه المعتضد، فمضى يوسف بن يعقوب، فكلم المعتضد في ذلك، وقال له: يا امير المؤمنين، انى اخاف ان تضطرب العامه، ويكون منها عند سماعها هذا الكتاب حركه فقال: ان تحركت العامه او نطقت وضعت سيفي فيها، فقال: يا امير المؤمنين، فما تصنع بالطالبين الذين هم في كل ناحيه يخرجون، ويميل اليهم كثير من الناس لقرابتهم من الرسول وماثرهم، وفي هذا الكتاب اطراؤهم، او كما قال، وإذا سمع الناس هذا كانوا اليهم اميل، وكانوا هم ابسط السنه، واثبت حجه منهم اليوم فامسك المعتضد فلم يرد عليه جوابا، ولم يأمر في الكتاب بعده بشيء. [أخبار متفرقة] وفي يوم الجمعه لاربع عشره بقيت من رجب منها شخص جعفر بن بغلاغز الى عمرو بن الليث الصفار وهو بنيسابور بخلع ولواء لولايته على الري وهدايا من قبل المعتضد. وفي هذه السنه لحق بكر بن عبد العزيز بن ابى دلف بمحمد بن زيد العلوي بطبرستان، فأقام بدر وعبيد الله بن سليمان ينتظران امر بكر الام يؤول وعلى اصلاح الجبل. وفيها- فيما ذكر- فتحت من بلاد الروم قره، على يد راغب مولى الموفق وابن كلوب، وذلك في يوم الجمعه من رجب. وفي ليله الأربعاء لاثنتى عشره خلت من شعبان- او ليله الخميس فيما ذكر- ظهر شخص انسان في يده سيف في دار المعتضد بالثريا، فمضى اليه بعض الخدم لينظر ما هو، فضربه الشخص بالسيف ضربه قطع بها منطقته، ووصل السيف الى بدن الخادم، ورجع الخادم منصرفا عنه هاربا، ودخل الشخص في زرع في البستان، فتوارى فيه، فطلب باقى ليلته ومن غد، فلم يوقف له على اثر، فاستوحش المعتضد لذلك، وكثر الناس في امره رجما

بالظنون، حتى قالوا: انه من الجن، ثم عاد هذا الشخص للظهور بعد ذلك مرارا كثيره، حتى وكل المعتضد بسور داره، واحكم السور وراسه، وجعل عليه كالبرابخ، لئلا يقع عليه الكلاب ان رمى به، وجيء باللصوص من الحبس ونوظروا في ذلك، وهل يمكن احد الدخول اليه بنقب او تسلق. وفي يوم السبت لثمان بقين من شعبان من هذه السنه، وجه كرامة بن مر من الكوفه بقوم مقيدين، ذكر انهم من القرامطة، فأقروا على ابى هاشم بن صدقه الكاتب انه كان يكاتبهم، وانه احد رؤسائهم، فقبض على ابى هاشم، وقيد وحبس في المطامير. وفي يوم السبت لسبع خلون من شهر رمضان من هذه السنه جمع المجانين والمعزمون، ومضى بهم الى دار المعتضد في الثريا بسبب الشخص الذى كان يظهر له، فادخلوا الدار، وصعد المعتضد عليه له، فأشرف عليهم، فلما رآهم صرعت امراه كانت معهم من المجانين واضطربت، وتكشفت، فضجر وانصرف عنهم، ووهب لكل واحد منهم خمسه دراهم- فيما ذكر- وصرفوا. وقد كان وجه الى المعزمين قبل ان يشرف عليهم من يسألهم عن خبر الشخص الذى ظهر له: هل يمكنهم ان يعلموا علمه؟ فذكر قوم منهم انهم يعزمون على بعض المجانين، فإذا سقط سال الجنى عن خبر ذلك الشخص وما هو، فلما راى المرأة التي صرعت امر بصرفهم وفي ذي القعده منها ورد الخبر من أصبهان، بوثوب الحارث بن عبد العزيز ابن ابى دلف المعروف بابى ليلى بشفيع الخادم الموكل كان به فقتله، وكان اخوه عمر بن عبد العزيز بن ابى دلف اخذه فقيده، وحمله الى قلعه لال ابى دلف بالزز، فحبسه فيها، وكان كل ما لال ابى دلف من مال ومتاع نفيس وجوهر في القلعة، وشفيع مولاهم موكل بحفظ ذلك وحفظ القلعة، ومعه جماعه من غلمان عمر وخاصته، فلما استامن عمر الى السلطان، وهرب بكر عاصيا للسلطان بقيت القلعة بما فيها في يد شفيع، فكلمه ابو ليلى في اطلاقه فأبى، وقال: لا افعل فيك وفيما في يدي الا بما يأمرني به عمر. فذكر عن جاريه لأبي ليلى انها قالت: كان مع ابى ليلى في الحبس غلام

صغير يخدمه، وآخر يخرج ويدخل في حوائجه ولا يبيت عنده، ويبيت عنده الغلام الصغير، فقال ابو ليلى لغلامه الذى يخرج في حوائجه: احتل لي في مبرد تدخله الى، ففعل وادخله في شيء من طعامه وكان شفيع الخادم يجيء في كل ليله إذا اراد ان ينام الى البيت الذى فيه ابو ليلى حتى يراه، ثم يقفل عليه باب البيت هو بيده ويمضى فينام، وتحت فراشه سيف مسلول وكان ابو ليلى قد سال ان تدخل اليه جاريه، فادخلت اليه جاريه حدثه السن، فذكر عن ذلفاء جاريه ابى ليلى عن هذه الجاريه انها قالت: برد ابو ليلى المسمار الذى في القيد، حتى كان يخرجه من رجله إذا شاء قالت: وجاء شفيع الخادم عشيه من العشايا الى ابى ليلى، فقعد معه يحدثه، فسأله ابو ليلى ان يشرب معه اقداحا، ففعل، ثم قام الخادم لحاجته قالت: فأمرني ابو ليلى، ففرشت فراشه، فجعل عليه ثيابا في موضع الإنسان من الفراش، وغطى على الثياب باللحاف، وأمرني ان اقعد عند رجل الفراش، وقال لي: إذا جاء شفيع لينظر الى ويقفل الباب، فسألك عنى فقولي: هو نائم وخرج ابو ليلى من البيت، فاختفى في جوف فرش ومتاع في صفه فيها باب هذا البيت، وجاء شفيع فنظر الى الفراش، وسال الجاريه فاخبرته انه قد نام، فاقفل الباب، فلما نام الخادم ومن معه في الدار التي في القلعة خرج ابو ليلى، فاخذ السيف من تحت فراش شفيع، وشد عليه فقتله، فوثب الغلمان الذين كانوا ينامون حوله فزعين، فاعتزلهم ابو ليلى والسيف في يده، وقال لهم: انا ابو ليلى قد قتلت شفيعا، ولئن تقدم الى منكم احد لاقتلنه وأنتم آمنون، فاخرجوا من الدار حتى أكلمكم بما اريد، ففتحوا باب القلعة، وخرجوا، وجاء حتى قعد على باب القلعة، واجتمع الناس ممن كان في القلعة، فكلمهم ووعدهم الاحسان، وأخذ عليهم الايمان فلما اصبح نزل من القلعة، ووجه الى الأكراد واهل الزموم، فجمعهم واعطاهم، وخرج مخالفا على السلطان وقيل ان قتله الخادم كان في ليله السبت لاثنتى عشره بقيت من ذي القعده من هذه السنه، وقيل: انه ذبح الخادم ذبحا

بسكين كان أدخلها اليه غلامه، ثم أخذ السيف من تحت فراش الخادم وقام به الى الغلمان. وفي هذه السنه- وهي سنه اربع وثمانين ومائتين- كان المنجمون يوعدون الناس بغرق اكثر الأقاليم، وان إقليم بابل لا يسلم منه الا اليسير، وان ذلك يكون بكثرة الامطار وزياده المياه في الانهار والعيون والابار، فقحط الناس فيها فلم يروا فيها من المطر الا اليسير، وغارت المياه في الانهار، والعيون والابار، حتى احتاج الناس الى الاستسقاء فاستسقوا ببغداد مرات ولليلة بقيت من ذي الحجة من هذه السنة كانت- فيما ذكر- وقعه بين عيسى النوشرى وبين ابى ليلى بن عبد العزيز بن ابى دلف، وذلك يوم الخميس دون أصبهان بفرسخين، فأصاب أبا ليلى سهم في حلقه- فيما ذكر- فنحره، فسقط عن دابته، وانهزم اصحابه، وأخذ راسه فحمل الى أصبهان. وحج بالناس فِي هَذِهِ السنة مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بن داود الهاشمى المعروف باترجه.

سنه خمس وثمانين ومائتين

ثم دخلت سنه خمس وثمانين ومائتين ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث فمن ذلك ما كان من قطع صالح بن مدرك الطائي في جماعه من طيّئ على الحاج بالأجفر يوم الأربعاء لاثنتى عشره بقيت من المحرم، فحاربه الجنى الكبير، وهو امير القافلة، فظفر الاعراب بالقافلة، فأخذوا ما كان فيها من الأموال والتجارات، وأخذوا جماعه من النساء الحرائر والممالك وقيل ان الذى أخذوا من الناس بقيمة الفى الف دينار. ولسبع بقين من المحرم منها قرئ على جماعه من حاج خراسان في دار المعتضد بتوليه عمرو بن الليث الصفار ما وراء نهر بلخ، وعزل اسماعيل بن احمد عنه. ولخمس خلون من صفر منها ورد مدينه السلام وصيف كامه مع جماعه من القواد من قبل بدر مولى المعتضد وعبيد الله بن سليمان من الجبل، معهم راس الحارث بن عبد العزيز بن ابى دلف المعروف بابى ليلى، فمضوا به الى دار المعتضد بالثريا، فاستوهبه اخوه فوهبه، واستاذنه في دفنه فاذن له، وخلع على عمر بن عبد العزيز في هذا اليوم وعلى جماعه من القواد القادمين. وفيها- فيما ذكر- كتب صاحب البريد من الكوفه، يذكر ان ريحا صفراء ارتفعت بنواحي الكوفه في ليله الأحد لعشر بقين من شهر ربيع الاول، فلم تزل الى وقت صلاه المغرب، ثم استحالت سوداء، فلم يزل الناس في تضرع الى الله. وان السماء مطرت بعقب ذلك مطرا شديدا برعود هائله وبروق متصله، ثم سقط بعد ساعه بقرية تعرف بأحمداباذ ونواحيها حجارة بيض وسود مختلفه الألوان، في أوساطها ضغطه شبه افهار العطارين، فانفذ منها حجرا، فاخرج الى الدواوين والناس حتى راوه

أخبار متفرقة

ولتسع بقين منه شخص ابن الاخشاد أميرا على طرسوس من بغداد مع النفر الذين كانوا قدموا منها يسألون ان يولى عليهم وال. وخرج أيضا في هذا اليوم من بغداد فاتك مولى المعتضد للنظر في امور العمال بالموصل وديار ربيعه وديار مضر والثغور الشامية والجزرية واصلاح الأمور بها الى ما كان يتقلده من اعمال البريد بهذه النواحي. وفي هذه السنه ورد الخبر- فيما ذكر- من البصره ان ريحا ارتفعت بها بعد صلاه الجمعه لخمس بقين من شهر ربيع الاول صفراء، ثم استحالت خضراء ثم سوداء، ثم تتابعت الامطار بما لم يروا مثلها، ثم وقع برد كبار كان وزن البرده الواحدة مائه وخمسين درهما- فيما قيل- وان الريح اقلعت من نهر الحسين خمسمائة نخله واكثر، ومن نهر معقل مائه نخله عددا. [أخبار متفرقة] وفيها كانت وفاه الخليل بن ريمال بحلوان. ولخمس خلون من جمادى الآخرة ورد الخبر على السلطان ان بكر بن عبد العزيز بن ابى دلف توفى بطبرستان من عله اصابته، ودفن هنالك. فاعطى الذى جاء بالخبر- فيما ذكر- الف دينار وفيها ولى المعتضد محمد بن ابى الساج اعمال اذربيجان وأرمينية، وكان قد تغلب عليها وخالف، وبعث اليه بخلع وحملان. وفيها ورد الخبر لثلاث خلون من شعبان ان راغبا الخادم مولى الموفق غزا في البحر، فاظفره الله بمراكب كثيره، وبجميع من فيها من الروم، فضرب اعناق ثلاثة آلاف من الروم الذين كانوا في المراكب، واحرق المراكب، وفتح حصونا كثيره من حصون الروم، وانصرفوا سالمين. وفي ذي الحجه منها ورد الخبر بوفاه احمد بن عيسى بن شيخ وقيام ابنه محمد بن احمد بن عيسى بما كان في يد ابيه بأمد، وما يليها على سبيل التغلب. ولإحدى عشره بقيت من ذي الحجه منها خرج المعتضد من بغداد قاصدا الى آمد، وخرج معه ابنه ابو محمد والقواد والغلمان، واستخلف ببغداد صالحا

الامين الحاجب، وقلده النظر في المظالم وامر الجسرين وغير ذلك. وفيها وجه هارون بن خمارويه بن احمد بن طولون ومن معه من قواد المصريين الى المعتضد وصيف قاطرميز، يسالونه مقاطعتهم عما في ايديهم من مصر والشام، واجرى هارون على ما كان يجرى عليه أبوه، فقدم وصيف بغداد، فرده المعتضد، ووجه معه عبد الله بن الفتح ليشافههم برسائل، ويشترط عليهم شروطا، فخرجا لذلك في آخر هذه السنه. وفيها غزا ابن الاخشاد باهل طرسوس وغيرهم في ذي الحجه، وبلغ سلندو. وفتح عليه، وكان انصرافه الى طرسوس في سنه ست وثمانين ومائتين. وحج بالناس فِي هَذِهِ السنة مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بن داود الهاشمى.

سنه ست وثمانين ومائتين

ثم دخلت سنه ست وثمانين ومائتين ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث الجليلة فمن ذلك ما كان من توجيه محمد بن ابى الساج ابنه المعروف بابى المسافر الى بغداد رهينه بما ضمن للسلطان من الطاعة والمناصحة، فقدم- فيما ذكر- يوم الثلاثاء، لسبع خلون من المحرم منها، معه هدايا من الدواب والمتاع وغير ذلك، والمعتضد يومئذ غائب عن بغداد. وفي شهر ربيع الآخر منها ورد الخبر ان المعتضد بالله وصل الى آمد، فأناخ بجنده عليها، واغلق محمد بن احمد بن عيسى بن شيخ عليه أبواب مدينه آمد، وعلى من فيها من اشياعه ففرق المعتضد جيوشه حولها وحاصرهم، وذلك لايام بقيت من شهر ربيع الاول، ثم جرت بينهم حروب، ونصب عليهم المجانيق، ونصب اهل آمد على سورهم المجانيق، وتراموا بها. وفي يوم السبت لإحدى عشره بقيت من جمادى الاولى وجه محمد بن احمد ابن عيسى الى المعتضد يطلب لنفسه ولأهله ولأهل آمد الامان، فأجابه الى ذلك، فخرج محمد بن احمد بن عيسى في هذا اليوم ومن معه من اصحابه واوليائه فوصلوا الى المعتضد، فخلع عليه وعلى رؤساء اصحابه، وانصرفوا الى مضرب قد اعد لهم، وتحول المعتضد من عسكره الى منازل ابن عيسى ابن شيخ ودوره، وكتب بذلك كتابا الى مدينه السلام مؤرخا بيوم الأحد لعشر بقين من جمادى الاولى ولخمس بقين من جمادى الاولى منها ورد الكتاب من المعتضد بفتحه آمد الى مدينه السلام، وقرئ على المنبر بالجامع وفيها انصرف عبد الله بن الفتح الى المعتضد وهو مقيم بأمد من مصر باجوبه كتبه الى هارون بن خمارويه، واعلمه ان هارون قد بذل ان يسلم اعمال قنسرين والعواصم، ويحمل الى بيت المال ببغداد في كل سنه أربعمائة الف

وخمسين الف دينار، وانه يسال ان يجدد له ولايه على مصر والشام، وان يوجه المعتضد بخادم من خدمه اليه بذلك، فأجابه الى ما سال، وانفذ اليه بدرا القدامى وعبد الله بن الفتح بالولاية والخلع، فخرجا من آمد الى مصر بذلك، وتسلم عمال المعتضد اعمال قنسرين والعواصم من اصحاب هارون في جمادى الاولى، واقام المعتضد بأمد بقية جمادى الاولى وثلاثة وعشرين يوما من جمادى الآخرة ثم ارتحل منها يوم السبت لسبع بقين منها نحو الرقة، وخلف ابنه عليا بأمد مع جيوش ضمهم اليه لضبط الناحية واعمال قنسرين والعواصم وديار ربيعه ديار مضر وكان كاتب على بن المعتضد يومئذ الحسين بن عمرو النصراني، وقلد الحسين بن عمرو النظر في امور هذه النواحي ومكاتبه العمال بها، وامر المعتضد بهدم سور آمد فهدم. وفيها وافت هديه عمرو بن الليث الصفار من نيسابور الى بغداد، فكان مبلغ المال الذى وجهه اربعه آلاف الف درهم، وعشرين من الدواب، بسروج ولجم محلاه مغرقه ومائه وخمسين دابه بجلال مشهره وكسوه وطيب وبزاه، وذلك في يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الآخرة. وفي هذه السنه ظهر رجل من القرامطة يعرف بابى سعيد الجنابى بالبحرين، فاجتمع اليه جماعه من الاعراب والقرامطة، وكان خروجه- فيما ذكر- في أول هذه السنه، وكثر اصحابه في جمادى الآخرة، وقوى امره، فقتل من حوله من اهل القرى، ثم صار الى موضع يقال له القطيف، بينه وبين البصره مراحل، فقتل من بها وذكر انه يريد البصره، فكتب احمد بن محمد بن يحيى الواثقى- وكان يتقلد معاون البصره وكور دجلة في ذلك الوقت- الى السلطان بما اتصل به من عزم هؤلاء القرامطة، فكتب اليه والى محمد بن هشام المتولى اعمال الصدقات والخراج والضياع بها، في عمل سور على البصره، فقدرت النفقة على ذلك اربعه عشر الف دينار، فامر بالإنفاق عليه فبنى 4 وفي رجب من هذه السنه صار الى الأنبار جماعه من اعراب بنى شيبان،

فأغاروا على القرى، وقتلوا من لحقوا من الناس، واستاقوا المواشى فخرج اليهم احمد بن محمد بن كمشجور المتولى المعاون بها، فلم يطقهم فكتب الى السلطان يخبره بأمورهم فوجه من مدينه السلام نفيسا المولدى واحمد بن محمد الزرنجى والمظفر بن حاج مددا له في زهاء الف رجل، فصاروا الى موضع الاعراب، فواقعوهم بموضع يعرف بالمنقبه من الأنبار، فهزمهم الاعراب، وقتلوا اصحابهم وغرق اكثرهم في الفرات، وتفرقوا فورد كتاب ابن حاج يوم الاثنين لست بقين من رجب بخبر هذه الوقعه وهزيمه الاعراب إياهم، فأقام الاعراب يعيثون في الناحية، ويتخفرون القرى، فكتب الى المعتضد بخبرهم، فوجه اليهم لقتالهم من الرقة العباس بن عمرو الغنوي وخفيفا الاذكوتكينى وجماعه من القواد فصار هؤلاء القواد الى هيت في آخر شعبان من هذه السنه. وبلغ الاعراب خبرهم، فارتحلوا عن موضعهم من سواد الأنبار، وتوجهوا نحو عين التمر، فنزلوها، ودخل القواد الأنبار، فأقاموا بها، وعاث الاعراب بعين التمر ونواحي الكوفه، مثل عيثهم بنواحي الأنبار، وذلك بقية شعبان وشهر رمضان. وفيها وجه المعتضد الى راغب مولى ابى احمد وهو بطرسوس، يأمره بالمصير اليه بالرقة، فصار اليه وهو بها، فلما وصل اليه تركه في عسكره يوما ثم اخذه من الغد فحبسه، وأخذ جميع ما كان معه، وورد الخبر بذلك مدينه السلام يوم الاثنين لتسع خلون من شعبان، ثم مات راغب بعد ايام، وقبض على مكنون غلام راغب وعلى اصحابه، وأخذ ماله بطرسوس يوم الثلاثاء لست بقين من رجب، وكان المتولى اخذهم ابن الاخشاد. ولعشر بقين من شهر رمضان منها وجه المعتضد مؤنسا الخازن الى الاعراب بنواحي الكوفه وعين التمر، وضم اليه العباس بن عمرو وخفيفا الاذكوتكينى وغيرهما من القواد، فسار مؤنس ومن معه حتى بلغ الموضع المعروف بنينوى، فوجد الاعراب قد ارتحلوا عن موضعهم، ودخل بعضهم الى بريه طريق مكة

وبعضهم الى بريه الشام، فأقام بموضعه أياما، ثم شخص الى مدينه السلام. وفي شوال منها قلد المعتضد وعبيد الله بن سليمان ديوان المشرق محمد بن داود ابن الجراح، وعزل عنه احمد بن محمد بن الفرات، وقلد ديوان المغرب على بن عيسى بن داود بن الجراح، وعزل عنه ابن الفرات.

سنه سبع وثمانين ومائتين

ثم دخلت سنه سبع وثمانين ومائتين ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث فمن ذلك ما كان من قبض المعتضد على محمد بن احمد بن عيسى بن شيخ وعلى جماعه من اهله وتقييده إياهم، وحبسه لهم في دار ابن طاهر، وذلك انه صار بعض اقربائه- فيما ذكر- الى عبيد الله بن سليمان، فاعلمه ان محمدا على الهرب في جماعه من اصحابه واهله، فكتب بذلك عبيد الله الى المعتضد، فكتب اليه المعتضد يأمره بالقبض عليه، ففعل ذلك يوم الأربعاء لاربع خلون من المحرم منها. وفي هذا الشهر من هذه السنه ورد كتاب ابى الأغر على السلطان ان طيئا تجمعت له، وحشدوا واستعانوا بمن قدروا عليه من الاعراب، واعترضوا قافلة الحاج، فواقعوهم لما جاوزوا المعدن منصرفين الى مدينه السلام من مكة ببضعه عشر ميلا، واقبل اليهم فرسان الاعراب ورجالتهم ومعهم بيوتهم وحرمهم وابلهم، وكانت رجالتهم اكثر من ثلاثة آلاف، فالتحمت الحرب بينهم، ولم تزل الحرب بينهم يومهم اجمع، وهو يوم الخميس لثلاث بقين من ذي الحجه، فلما جنهم الليل باينوهم، فلما أصبحوا غادوهم الحرب غداه يوم الجمعه الى حين انتصاف النهار ثم انزل الله النصر على اوليائه وولى الاعراب منهزمين، فما اجتمعوا بعد تفرقهم، وانه سار هو وجميع الحاج سالمين، وانفذ كتابه مع سعيد بن الأصفر بن عبد الأعلى، وهو احد وجوه بنى عمه والمتولى كان للقبض على صالح بن مدرك. وفي يوم السبت لثلاث بقين من المحرم وافى ابو الأغر مدينه السلام، وبين يديه راس صالح بن مدرك، وراس جحنش، وراس غلام لصالح اسود، واربعه أسارى من بنى عم صالح، فمضى الى دار المعتضد، فخلع

عليه، وطوق بطوق من ذهب، ونصبت الرءوس على راس الجسر الأعلى 15.. 67 بالجانب الشرقى، وادخل الأسرى المطامير. ولاربع ليال بقين من صفر منها، دخل المعتضد من متنزهه ببراز الروز الى بغداد، وامر ببناء قصر في موضع اختاره من براز الروز، فحمل اليه الآلات، وابتدأ في عمله وفي شهر ربيع الاول منها غلظ امر القرامطة بالبحرين، فأغاروا على نواحي هجر، وقرب بعضهم من نواحي البصره، فكتب احمد بن محمد بن يحيى الواثقى يسال المدد، فوجه اليه في آخر هذا الشهر بثماني شذوات، فيها ثلاثمائة رجل، وامر المعتضد باختيار جيش لينفذه الى البصره. وفي يوم الأحد لعشر خلون من شهر ربيع الآخر، قعد بدر مولى المعتضد في داره، ونظر في امور الخاصة والعامه من الناس والخراج والضياع والمعاون. وفي يوم الاثنين لإحدى عشره خلت من شهر ربيع الآخر، مات محمد بن عبد الحميد الكاتب المتولى ديوان زمام المشرق والمغرب. وفي يوم الأربعاء لثلاث عشره خلت منه ولى جعفر بن محمد بن حفص هذا الديوان، فصار من يومه الى الديوان وقعد فيه. وفي شهر ربيع الآخر منها ولى المعتضد عباس بن عمرو الغنوي اليمامه والبحرين ومحاربه ابى سعيد الجنابى ومن معه من القرامطة، وضم اليه زهاء الفى رجل، فعسكر العباس بالفرك أياما حتى اجتمع اليه اصحابه، ثم مضى الى البصره، ثم شخص منها الى البحرين واليمامه. وفيها- فيما ذكر- وافى العدو باب قلميه من طرسوس، فنفر ابو ثابت وهو امير طرسوس بعد موت ابن الاخشاد- وكان استخلفه على البلد حين غزا- فمات وهو على ذلك، فبلغ في نفيره الى نهر الريحان في طلب العدو، فاسر ابو ثابت واصيب الناس، فكان ابن كلوب غازيا في درب السلامة، فلما

قفل من غزاته جمع المشايخ من اهل الثغر ليتراضوا بامير يلى أمورهم، فاتفق رأيهم على على بن الأعرابي، فولوه امرهم بعد اختلاف من ابن ابى ثابت. وذكر ان أباه استخلفه، وجمع جمعا لمحاربه اهل البلد حتى توسط الأمر ابن كلوب، فرضى ابن ثابت، وذلك في شهر ربيع الآخر، وكان النغيل حينئذ غازيا ببلاد الروم، فانصرف الى طرسوس، وجاء الخبر ان أبا ثابت حمل الى القسطنطينية من حصن قونيه، ومعه جماعه من المسلمين. وفي شهر ربيع الآخر مات إسحاق بن أيوب الذى كان اليه المعاون بديار ربيعه، فقلد ما كان اليه عبد الله بن الهيثم بن عبد الله بن المعتمر. وفي يوم الأربعاء لخمس بقين من جمادى الاولى، ورد كتاب- فيما ذكر- على السلطان بان اسماعيل بن احمد اسر عمرا الصفار، واستباح عسكره، وكان من خبر عمرو واسماعيل، ان عمرا سال السلطان ان يوليه ما وراء النهر، فولاه ذلك، ووجه اليه وهو مقيم بنيسابور بالخلع، واللواء على ما وراء النهر، فخرج لمحاربه اسماعيل بن احمد، فكتب اليه اسماعيل بن احمد: انك قد وليت دنيا عريضه، وانما في يدي ما وراء النهر، وانا في ثغر، فاقنع بما في يدك، واتركني مقيما بهذا الثغر فأبى اجابته الى ذلك، فذكر له امر نهر بلخ وشده عبوره، فقال: لو أشاء ان اسكره ببدر الأموال واعبره لفعلت، فلما ايس اسماعيل من انصرافه عنه جمع من معه والتناء والدهاقين، وعبر النهر الى الجانب الغربي، وجاء عمرو فنزل بلخ، وأخذ اسماعيل عليه النواحي، فصار كالمحاصر، وندم على ما فعل، وطلب المحاجزة- فيما ذكر- فأبى اسماعيل عليه ذلك، فلم يكن بينهما كثير قتال حتى هزم عمرو فولى هاربا، ومر باجمه في طريقه، قيل له انها اقرب، فقال لعامه من معه: امضوا في الطريق الواضح ومضى في نفر يسير، فدخل الأجمة، فوحلت دابته، فوقعت، ولم يكن له في نفسه حيله، ومضى من معه، ولم يلووا عليه، وجاء اصحاب اسماعيل، فاخذوه أسيرا ولما وصل الخبر الى

خروج العباس بن عمرو الغنوي من البصره

المعتضد بما كان من امر عمرو واسماعيل، مدح اسماعيل- فيما ذكر- وذم عمرا. ولليلة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة، ورد الخبر على السلطان ان وصيفا خادم ابن ابى الساج، هرب من برذعه، ومضى الى ملطيه مراغما لمحمد بن ابى الساج في اصحابه، وكتب الى المعتضد يسأله ان يوليه الثغور، ليقوم بها، فكتب اليه المعتضد يأمره بالمصير اليه، ووجه اليه رشيقا الحرمي ولسبع خلون من رجب من هذه السنه توفيت ابنه خمارويه بن احمد بن طولون، زوجه المعتضد، ودفنت داخل قصر الرصافه. ولعشر خلون من رجب وفد على السلطان ثلاثة انفس وجههم وصيف خادم ابن ابى الساج الى المعتضد، يسأله ان يوليه الثغور، ويوجه اليه الخلع، فذكر ان المعتضد امر بتقرير الرسل بالسبب الذى من اجله فارق وصيف صاحبه ابن ابى الساج، وقصد الثغور، فقرروا بالضرب، فذكروا انه فارقه على مواطاه بينه وبين صاحبه، على انه متى صار الى الموضع الذى هو به متى لحق به صاحبه، فصارا جميعا الى مضر وتغلبا عليها، وشاع ذلك في الناس وتحدثوا به. ولإحدى عشرة خلت من رجب من هذه السنة ولى حامد بن العباس الخراج والضياع بفارس، وكانت في يد عمرو بن الليث الصفار، ودفعت كتبه بالولاية الى أخيه احمد بن العباس، وكان حامد مقيما بواسط، لأنه كان يليها وكور دجلة، وكتب الى عيسى النوشرى وهو بأصبهان بالمصير الى فارس واليا على معونتها. خروج العباس بن عمرو الغنوي من البصره وفي هذه السنه كان خروج العباس بن عمرو الغنوي- فيما ذكر- من البصره بمن ضم اليه من الجند، مع من خف معه من مطوعه البصره نحو ابى سعيد الجنابى ومن انضوى اليه من القرامطة، فلقيهم طلائع لأبي سعيد، فخلف العباس سواده، وسار نحوهم، فلقى أبا سعيد ومن

معه مساء، فتناوشوا القتال، ثم حجز بينهم الليل، فانصرف كل فريق منهما الى موضعهم فلما كان الليل انصرف من كان مع العباس من اعراب بنى ضبة- وكانوا زهاء ثلاثمائة- الى البصره، ثم تبعهم مطوعه البصره، فلما اصبح العباس غادى القرامطة الحرب، فاقتتلوا قتالا شديدا. ثم ان صاحب ميسره العباس- وهو نجاح غلام احمد بن عيسى بن شيخ- حمل في جماعه من اصحابه زهاء مائه رجل على ميمنه ابى سعيد، فوغلوا فيهم، فقتل وجميع من معه، وحمل الجنابى واصحابه على اصحاب العباس، فانهزموا، فاستاسر العباس، واسر من اصحابه زهاء سبعمائة رجل، واحتوى الجنابى على ما كان في عسكر العباس، فلما كان من غد يوم الوقعه احضر الجنابى من كان اسر من اصحاب العباس، فقتلهم جميعا، ثم امر بحطب فطرح عليهم، واحرقهم. وكانت هذه الوقعه- فيما ذكر- في آخر رجب، وورد خبرها بغداد لاربع خلون من شعبان. وفيها- فيما ذكر- صار الجنابى الى هجر، فدخلها وآمن أهلها، وذلك بعد منصرفه من وقعه العباس، وانصرف فل اصحاب العباس بن عمرو يريدون البصره، ولم يكن افلت منهم الا القليل بغير ازواد ولا كسا، فخرج اليهم من البصره جماعه بنحو من أربعمائة راحله، عليها الاطعمه والكسا والماء، فخرج عليهم- فيما ذكر- بنو اسد، فأخذوا تلك الرواحل بما عليها، وقتلوا جماعه ممن كان مع تلك الرواحل ومن افلت من اصحاب العباس، وذلك في شهر رمضان، فاضطربت البصره لذلك اضطرابا شديدا وهموا بالانتقال عنها، فمنعهم احمد بن محمد الواثقى المتولى لمعاونها من ذلك، وتخوفوا هجوم القرامطة عليهم. ولثمان خلون من شهر رمضان منها- فيما ذكر- وردت خريطة على السلطان من الأبله بموافاه العباس بن عمرو في مركب من مراكب البحر، وان أبا سعيد الجنابى اطلقه وخادما له. ولإحدى عشره خلت من شهر رمضان، وافى العباس بن عمرو مدينه

السلام، وصار الى دار المعتضد بالثريا، فذكر انه بقي عند الجنابى أياما بعد الوقعه، ثم دعا به، فقال له: اتحب ان اطلقك؟، قال: نعم، قال: امض وعرف الذى وجه بك الى ما رايت وحمله على رواحل، وضم اليه رجالا من اصحابه، وحملهم ما يحتاجون اليه من الزاد والماء، وامر الرجال الذين وجههم معه ان يؤدوه الى مأمنه، فساروا به حتى وصل الى بعض السواحل، فصادف به مركبا، فحمله، فصار الى الأبله، فخلع عليه المعتضد وصرفه الى منزله. وفي يوم الخميس لإحدى عشره خلت من شوال ارتحل المعتضد من مضربه بباب الشماسيه في طلب وصيف خادم ابن ابى الساج، وكتم ذلك، واظهر انه يريد ناحيه ديار مضر وفي يوم الجمعه لاثنتى عشره خلت منه، ورد الخبر- فيما ذكر- على السلطان ان القرامطة بالسواد من اهل جنبلاء وثبوا بواليهم بدر غلام الطائي، فقتلوا من المسلمين جمعا فيهم النساء والصبيان، واحرقوا المنازل. ولاربع عشره خلت من ذي القعده نزل المعتضد كنيسه السوداء في طلب وصيف الخادم، فأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء، حتى تلاحق به الناس، واراد الرحيل في طريق المصيصة، فاتته العيون ان الخادم يريد عين زربه، فاحضر الركاضه الثغريين واهل الخبره، فسألهم عن اقصد الطريق الى عين زربه، فقطعوا به جيحان غداه الخميس لسبع عشره خلت من ذي القعده، فقدم ابنه عليا ومعه الحسن بن على كوره، واتبعه بجعفر بن سعر، ثم اتبع جعفرا محمد بن كمشجور، ثم اتبعه خاقان المفلحى، ثم مؤنس الخادم، ثم مؤنس الخازن، ثم مضى في آثارهم مع غلمان الحجر، ومر بعين زربه، وضرب له بها مضرب، وخلف بها خفيفا السمرقندي مع سواده، وسار هو قاصدا للخادم في اثر القواد، فلما كان بعد صلاه العصر جاءته البشارات بأخذ الخادم، ووافوا به المعتضد، فسلمه الى مؤنس الخادم

وهو يومئذ صاحب شرطه العسكر، وامر ببذل الامان لأصحاب الخادم والنداء في العسكر ببراءه الذمة ممن وجد في رحله شيء من نهب عسكر الخادم، ولم يرده على اصحابه، فرد الناس على كثير منهم ما انتهبوا من عسكرهم وكانت الوقعه واسر وصيف الخادم- فيما قيل- يوم الخميس لثلاث عشره بقيت من ذي القعده، وكان من اليوم الذى ارتحل المعتضد فيه من مضربه بباب الشماسيه الى ان قبض على الخادم سته وثلاثون يوما. ولما قبض المعتضد على الخادم انصرف- فيما ذكر- الى عين زربه، فأقام بها يومين، فلما كان في صبيحة الثالث، اجتمع اليه اهل عين زربه، وسألوه ان يرحل عنهم لضيق الميرة ببلدهم، فرحل عنها في اليوم الثالث، فنزل المصيصة بجميع عساكره الا أبا الأغر خليفه بن المبارك، فانه كان وجهه ليأخذ على الخادم الطريق لئلا يصير الى مرعش وناحيه ملطيه، وكان الخادم قد انفذ عياله وعيال اصحابه الى مرعش، وبلغ اصحاب الخادم الذين كانوا قد هربوا ما بذل لهم المعتضد من الامان، وما امر برده عليهم من امتعتهم، فلحقوا بعسكر المعتضد داخلين في امانه وكان نزول المعتضد بالمصيصة- فيما قيل- يوم الأحد لعشر بقين من ذي القعده، فأقام بها الى الأحد الآخر، وكتب الى وجوه اهل طرسوس في المصير اليه، فاقبلوا اليهم منهم النغيل- وكان من رؤساء الثغر- وابن له، ورجل يقال له ابن المهندس، وجماعه معهم، فحبس هؤلاء مع آخرين، واطلق اكثرهم فحمل الذين حبسهم معه الى بغداد، وكان قد وجد عليهم لانهم- فيما ذكر- كانوا كاتبوا وصيفا الخادم وامر المعتضد باحراق جميع المراكب البحرية التي كان المسلمون يغزون فيها وجميع آلاتها. وذكر ان دميانه غلام يازمان هو الذى اشار عليه لشيء كان في نفسه على اهل طرسوس، فاحرق ذلك كله، وكان في المراكب نحو من خمسين مركبا قديما قد انفق عليها اموال جليله لا يعمل مثلها في هذا الوقت فاحرقت، فأضر ذلك بالمسلمين، وكسر ذلك في اعضادهم، وقوى به الروم، وأمنوا ان يغزوا في البحر وقلد المعتضد الحسن بن على كوره الثغور الشامية بمسلم

ذكر الخبر عن مقتل محمد بن زيد العلوي

من اهل الثغور واجتماع كلمتهم عليه، ورحل المعتضد- فيما قيل- من المصيصة فنزل فندق الحسين، ثم الإسكندرية، ثم بغراس ثم أنطاكية، لليلتين خلتا من ذي الحجه فأقام بها الى ان نحر، وبكر في ثانى النحر بالرحيل، فنزل ارتاح ثم الاثارب ثم حلب، فأقام بها يومين، ثم رحل الى الناعوره، ثم الى خساف وصفين هناك في الجانب الجزرى، وبيت مال أمير المؤمنين عَلِيّ بْن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في الجانب الآخر، ثم الى يالس، ثم الى دوسر، ثم الى بطن دامان، ثم الى الرقة، فدخلها لثمان بقين من ذي الحجه، فأقام بها الى ان بقي ليلتان منه. ذكر الخبر عن مقتل محمد بن زيد العلوي ولخمس بقين من شوال ورد الخبر على السلطان بان محمد بن زيد العلوي قتل. ذكر الخبر عن سبب مقتله: ذكر أن محمد بن زيد خرج لما اتصل به الخبر عن اسر اسماعيل بن احمد عمرو بن الليث في جيش كثيف نحو خراسان، طامعا فيها، ظنا منه ان اسماعيل بن احمد لا يتجاوز عمله الذى كان يتولاه ايام ولايه عمرو بن الليث الصفار خراسان، وانه لا دافع له عن خراسان، إذ كان عمرو قد اسر، ولا عامل للسلطان به، فلما صار الى جرجان واستقر به، كتب اليه يسأله الرجوع الى طبرستان، وترك جرجان له، فأبى ذلك عليه ابن زيد، فندب اسماعيل- فيما ذكر لي- خليفه كان لرافع بن هرثمة ايام ولايه رافع خراسان يدعى محمد بن هارون، لحرب محمد بن زيد، فانتدب له، فضم اليه جمعا كثيرا من رجاله وجنده، ووجهه الى ابن زيد لحربه، فشخص محمد بن هارون نحو ابن زيد، فالتقيا على باب جرجان، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم عسكر محمد بن هارون. ثم ان محمد بن هارون رجع، وقد انتقضت صفوف العلوي، فانهزم عسكر محمد بن زيد، وولوا هاربين، وقتل منهم- فيما ذكر- بشر كثير،

واصابت ابن زيد ضربات، واسر ابنه زيد، وحوى محمد بن هارون عسكره وما كان فيه ثم مات محمد بن زيد بعد هذه الوقعه بايام من الضربات التي كانت فيه، فدفن على باب جرجان، وحمل ابنه زيد الى اسماعيل بن احمد، وشخص محمد بن هارون الى طبرستان. وفي يوم السبت لاثنتى عشره خلت من ذي القعده اوقع بدر غلام الطائي بالقرامطة على غره منهم بنواحي روذميستان وغيرها، فقتل منهم- فيما ذكر- مقتله عظيمه، ثم تركهم خوفا على السواد ان يخرب، إذ كانوا فلاحيه وعماله، وطلب رؤساءهم في أماكنهم، فقتل من ظفر به منهم، وكان السلطان قد قوى بدرا بجماعه من جنده وغلمانه بسببهم للحدث الذى كان منهم. وحج بالناس فِي هَذِهِ السنة مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بن داود.

سنه ثمان وثمانين ومائتين

ثم دخلت سنه ثمان وثمانين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من ورود الخبر على السلطان- فيما ذكر- بوقوع الوباء باذربيجان، فمات منه خلق كثير الى ان فقد الناس ما يكفنون به الموتى، فكفنوا في الأكسية واللبود، ثم صاروا الى ان لم يجدوا من يدفن الموتى، فكانوا يتركونهم مطروحين في الطرق. وفيها دخل اصحاب طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث فارس، واخرجوا منها عمال السلطان، وذلك لاثنتى عشره بقيت من صفر منها. وفيها توفى محمد بن ابى الساج الملقب بافشين باذربيجان، فاجتمع غلمانه وجماعه من اصحابه، فأمروا عليهم ديوداد بن محمد، واعتزلهم يوسف بن ابى الساج على الخلاف لهم. ولليلتين بقيتا من شهر ربيع الآخر ورد كتاب صاحب البريد بالاهواز، يذكر فيه ان اصحاب طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث صاروا الى سنبيل يريدون الاهواز. وفي أول جمادى الاولى ادخل عمرو بن الليث عبد الله بن الفتح- الموجه كان الى اسماعيل بن احمد- بغداد واشناس غلام اسماعيل بن احمد وذكر لي ان اسماعيل بن احمد خبيره بين المقام عنده أسيرا وبين توجيهه الى باب امير المؤمنين، فاختار توجيهه فوجهه. ولليلتين خلتا من جمادى الآخرة، ورد- فيما ذكر- كتاب صاحب بريد الاهواز منها، يذكر ان كتاب اسماعيل بن احمد ورد على طاهر بن محمد بن عمرو يعلمه ان السلطان ولاه سجستان، وامره بالخروج إليها، وانه خارج اليه الى فارس ليوقع به، ثم ينصرف الى سجستان، وان طاهرا خرج لذلك،

وكتب الى ابن عمه وكان مقيما بارجان في عسكره يأمره بالانصراف اليه الى فارس بمن معه. وفيها ولى المعتضد مولاه بدرا فارس، وامره بالشخوص إليها لما بلغه من تغلب طاهر بن محمد عليها، وخلع عليه لتسع خلون من جمادى الآخرة، وضم اليه جماعه من القواد، فشخص في جيش عظيم من الجند والغلمان. ولعشر خلون من جمادى الآخرة منها خرج عبد الله بن الفتح واشناس غلام اسماعيل الى اسماعيل بن احمد بن سامان بخلع من المعتضد حملها اليه وببدنه وتاج وسيف من ذهب، مركب على جميع ذلك جوهر وبهدايا وثلاثة آلاف الف درهم، يفرقها في جيش من جيوش خراسان، يوجه الى سجستان لحرب من بها من اصحاب طاهر بن محمد بن عمرو. وقد قيل: ان المال الذى وجهه اليه المعتضد كان عشره آلاف الف درهم، وجه ببعض ذلك من بغداد، وكتب بباقيه على عمال الجبل، وأمروا ان يدفعوه الى الرسل. وفي رجب منها وصل بدر مولى المعتضد الى ما قرب من ارض فارس، فتنحى عنها من كان بها من اسباب طاهر بن محمد بن عمرو، فدخلها اصحاب بدر، وجبى عماله الخراج بها ولليلتين خلتا من شهر رمضان منها، ذكر ان كتاب عج بن حاج عامل مكة ورد يذكر فيه ان بنى يعفر أوقعوا برجل كان تغلب على صنعاء، وذكر انه علوي وانهم هزموه، فلجا الى مدينه تحصن بها، فصاروا اليه فاوقعوا به، فهزموه أيضا، وأسروا ابنا له، وافلت هو في نحو من خمسين نفسا، ودخل بنو يعفر صنعاء وخطبوا بها للمعتضد وفيها اوقع يوسف بن ابى الساج وهو في نفر يسير بابن أخيه ديوداد بن محمد، ومعه جيش ابيه محمد بن ابى الساج، فهرب عسكره، فبقى ديوداد في جماعه قليله، فعرض عليه يوسف المقام معه، فأبى وأخذ طريق الموصل فوافى

بغداد يوم الخميس لسبع بقين من شهر رمضان من هذه السنه، فكانت الوقعه بينهما بناحيه اذربيجان وفيها غزا نزار بن محمد عامل الحسن بن على كوره الصائفه، ففتح حصونا كثيره للروم، وادخل طرسوس مائه علج ونيفا وستين علجا من القوامسه والشمامسه وصلبانا كثيرا واعلاما لهم، فوجهها كوره الى بغداد ولاثنتى عشره خلت من ذي الحجه وردت كتب التجار من الرقة ان الروم وافت في مراكب كثيره، وجاء قوم منهم على الظهر الى ناحيه كيسون، فاستاقوا من المسلمين اكثر من خمسه عشر الف انسان، ما بين رجل وامراه وصبى، فمضوا بهم، وأخذوا فيهم قوما من اهل الذمة. وفيها قرب اصحاب ابى سعيد الجنابى من البصره، واشتد جزع اهل البصره منهم حتى هموا بالهرب منها والنقله عنها، فمنعهم من ذلك واليهم. وفي آخر ذي الحجه منها قتل وصيف خادم ابن ابى الساج، فحملت جثته فصلبت بالجانب الشرقى وقيل انه مات ولم يقتل، فلما مات احتز راسه. وحج بالناس فيها هارون بن محمد المكنى أبا بكر.

سنه تسع وثمانين ومائتين

ثم دخلت سنه تسع وثمانين ومائتين (ذكر الخبر عن الكائن فيها من الأمور) فمن ذلك ما كان من انتشار القرامطة بسواد الكوفه، فوجه اليهم شبل غلام احمد بن محمد الطائي، وتقدم اليه في طلبهم، وأخذ من ظفر به منهم وحملهم الى باب السلطان وظفر برئيس لهم يعرف بابن ابى فوارس، فوجه به معهم، فدعا به المعتضد لثمان بقين من المحرم، فساءله، ثم امر به فقلعت أضراسه، ثم خلع بمد احدى يديه- فيما ذكر- ببكره، وعلق في الاخرى صخره، وترك على حاله تلك من نصف النهار الى المغرب، ثم قطعت يداه ورجلاه من غد ذلك اليوم، وضربت عنقه، وصلب بالجانب الشرقى، ثم حملت جثته بعد ايام الى الياسرية، فصلب مع من صلب هنالك من القرامطة. ولليلتين خلتا من شهر ربيع الاول، اخرج من كانت له دار وحانوت بباب الشماسيه عن داره وحانوته، وقيل لهم: خذوا اقفاصكم واخرجوا، وذلك ان المعتضد كان قد قدر ان يبنى لنفسه دارا يسكنها، فخط موضع السور، وحفر بعضه، وابتدأ في بناء دكه على دجلة، كان المعتضد امر ببنائها لينتقل فيقيم فيها الى ان يفرغ من بناء الدار والقصر. وفي ربيع الآخر منها في ليله الأمير توفى المعتضد، فلما كان في صبيحتها احضر دار السلطان يوسف بن يعقوب وابو خازم عبد الحميد بن عبد العزيز وابو عمر محمد بن يوسف بن يعقوب، وحضر الصلاة عليه الوزير القاسم بن عبيد الله بن سليمان، وابو خازم وابو عمر والحرم والخاصة، وكان اوصى ان يدفن في دار محمد بن عبد الله بن طاهر، فحفر له فيها، فحمل من قصره المعروف بالحسنى ليلا، فدفن في قبره هناك

ولسبع بقين من شهر ربيع الآخر من هذه السنة- وهي سنه تسع وثمانين ومائتين- جلس القاسم بن عبيد الله بن سليمان في دار السلطان في الحسنى، واذن للناس، فعزوه بالمعتضد، وهنئوه بما جدد له من امر المكتفي، وتقدم الى الكتاب والقواد في تجديد البيعه للمكتفى بالله، فقبلوا.

خلافه المكتفي بالله

خلافه المكتفي بالله ولما توفى المعتضد كتب القاسم بن عبيد الله بالخبر الى المكتفي كتبا، وأنفذها من ساعته، وكان المكتفي مقيما بالرقة، فلما وصل الخبر اليه امر الحسين بن عمرو النصراني كاتبه يومئذ بأخذ البيعه على من في عسكره، ووضع العطاء لهم، ففعل ذلك الحسين، ثم خرج شاخصا من الرقة الى بغداد، ووجه الى النواحي بديار ربيعه وديار مضر ونواحي المغرب من يضبطها. وفي يوم الثلاثاء لثمان خلون من جمادى الاولى دخل المكتفي الى داره بالحسنى، فلما صار الى منزله، امر بهدم المطامير التي كان أبوه اتخذها لأهل الجرائم. وفي هذا اليوم كنى المكتفي بلسانه القاسم بن عبيد الله وخلع عليه. وفي هذا اليوم مات عمرو بن الليث الصفار، ودفن في غد هذا اليوم بالقرب من القصر الحسنى، وقد كان المعتضد- فيما ذكر- عند موته بعد ما امتنع من الكلام امر صافيا الحرمي بقتل عمرو بالإيماء والإشارة، ووضع يده على رقبته وعلى عينه، اراد ذبح الأعور فلم يفعل ذلك صافى لعلمه بحال المعتضد وقرب وفاته، وكره قتل عمرو، فلما دخل المكتفي بغداد سال- فيما قيل- القاسم بن عبيد الله عن عمرو: احي هو؟ قال: نعم، فسر بحياته وذكر انه يريد ان يحسن اليه، وكان عمرو يهدى الى المكتفي ويبره برا كثيرا ايام مقامه بالري فاراد مكافاته، فذكروا ان القاسم بن عبيد الله كره ذلك، ودس الى عمرو من قتله. وفي رجب منها ورد الخبر لاربع بقين منه ان جماعه من اهل الري كاتبوا محمد بن هارون الذى كان اسماعيل بن احمد صاحب خراسان استعمله على طبرستان بعد قتله محمد بن زيد العلوي، فخلع محمد بن هارون وبيض، فسألوه المصير الى الري ليدخلوه إليها، وذلك ان اوكرتمش التركى المولى

ذكر الخبر عن مقتل بدر غلام المعتضد

عليهم كان- فيما ذكر- قد أساء السيرة فيهم، فحاربه، فهزمه محمد بن هارون وقتله، وقتل ابنين له وقائدا من قواد السلطان يقال له ابرون أخو كيغلغ، ودخل محمد بن هارون الري واستولى عليها. وفي رجب من هذه السنه زلزلت بغداد، ودامت الزلزلة فيها أياما وليالي كثيره. ذكر الخبر عن مقتل بدر غلام المعتضد وفي هذه السنه كان مقتل بدر غلام المعتضد. ذكر سبب قتله: ذكر ان سبب ذلك كان ان القاسم بن عبيد الله كان هم بتصيير الخلافه من بعد المعتضد في غير ولد المعتضد، وانه كان ناظر بدرا في ذلك، فامتنع بدر عليه وقال: ما كنت لاصرفها عن ولد مولاى الذى هو ولى نعمتي. فلما راى القاسم ذلك وعلم انه لا سبيل الى مخالفه بدر، إذ كان بدر صاحب جيش المعتضد، والمستولى على امره، والمطاع في خدمه وغلمانه، اضطغنها على بدر وحدث بالمعتضد حدث الموت وبدر بفارس، فعقد القاسم للمكتفى عقد الخلافه، وبايع له وهو بالرقة، لما كان بين المكتفي وبين بدر من التباعد في حياه والده وكتب القاسم الى المكتفي لما بايع غلمان ابيه له بالخلافة، وأخذ عليهم البيعه بما فعل من ذلك، فقدم بغداد المكتفي وبدر بعد بفارس، فلما قدمها عمل القاسم في هلاك بدر، حذرا على نفسه- فيما ذكر- من بدر ان يقدم على المكتفي، فيطلعه على ما كان القاسم هم به، وعزم عليه في حياه المعتضد من صرف الخلافه عن ولد المعتضد إذا مات فوجه المكتفي- فيما ذكر- محمد بن كمشجور وجماعه من القواد برسائل، وكتب الى القواد الذين مع بدر يأمرهم بالمصير الى ما قبله ومفارقه بدر وتركه، فاوصلت الكتب الى القواد في سر، ووجه اليه يانس خادم الموفق، ومعه عشره آلاف

الف درهم ليصرفها في عطاء اصحابه لبيعه المكتفي، فخرج بها يانس. فذكر انه لما صار بالاهواز، وجه اليه بدر من قبض المال منه فرجع يانس الى مدينه السلام، فلما وصلت كتب المكتفي الى القواد المضمومين الى بدر، فارق بدرا جماعه منهم، وانصرفوا عنه الى مدينه السلام، منهم العباس بن عمرو الغنوي وخاقان المفلحى ومحمد بن إسحاق بن كنداج وخفيف الاذكوتكينى وجماعه غيرهم فلما صاروا الى مدينه السلام دخلوا على المكتفي، فخلع- فيما ذكر- على نيف وثلاثين رجلا منهم، واجاز جماعه من رؤسائهم، كل رجل منهم بمائه الف درهم، واجاز آخرين بدون ذلك، وخلع على بعضهم، ولم يجزه بشيء وانصرف بدر في رجب، عامدا المصير الى واسط واتصل بالمكتفى اقبال بدر الى واسط، فوكل بدار بدر، وقبض على جماعه من غلمانه وقواده، فحبسوا، منهم نحرير الكبير، وعريب الجبلي، ومنصور، ابن اخت عيسى النوشرى وادخل المكتفي على نفسه القواد، وقال لهم: لست اؤمر عليكم أحدا، ومن كانت له منكم حاجه فليلق الوزير، فقد تقدمت اليه بقضاء حوائجكم وامر بمحو اسم بدر من التراس والاعلام، وكان عليها ابو النجم مولى المعتضد بالله، وكتب بدر الى المكتفي كتابا دفعه الى زيدان السعيدي، وحمله على الجمازات فلما وصل الكتاب الى المكتفي اخذه، ووكل بزيدان هذا، واشخص الحسن بن على كوره في جيش الى ناحيه واسط وذكر انه قدمه المكتفي على مقدمته. ثم احدر محمد بن يوسف مع المغرب لليلة بقيت من شعبان من هذه السنه برسالة الى بدر، وكان المكتفي ارسل الى بدر حين فصل من عمل فارس يعرض عليه ولايه اى النواحي شاء، ان شاء أصبهان وان شاء الري، وان شاء الجبال، ويأمره بالمصير الى حيث أحب من هذه النواحي مع من أحب من الفرسان والرجاله، يقيم بها معهم واليا عليها فأبى ذلك بدر، وقال: لا بد لي من المصير الى باب مولاى

فوجد القاسم بن عبيد الله مساغا للقول فيه، وقال للمكتفى: يا امير المؤمنين، قد عرضنا عليه ان نقلده اى النواحي شاء ان يمضى إليها، فأبى الا المجيء الى بابك، وخوفه غائلته، وحرض المكتفي على لقائه ومحاربته، واتصل الخبر ببدر انه قد وكل بداره، وحبس غلمانه وأسبابه، فأيقن بالشر، ووجه من يحتال في تخليص ابنه هلال واحداره اليه، فوقف القاسم بن عبيد الله على ذلك، فامر بالحفظ به، ودعا أبا خازم القاضى على الشرقيه وامره بالمضي الى بدر ولقائه وتطييب نفسه واعطائه الامان من امير المؤمنين، على نفسه وماله وولده، فذكر ان أبا خازم قال له: احتاج الى سماع ذلك من امير المؤمنين حتى اؤديه اليه عنه، فقال له: انصرف حتى استاذن لك في ذلك امير المؤمنين. ثم دعا بابى عمر محمد بن يوسف، فأمره بمثل الذى امر به أبا خازم، فسارع الى اجابته الى ما امره به، ودفع القاسم بن عبيد الله الى ابى عمر كتاب أمان عن المكتفي، فمضى به نحو بدر، فلما فصل بدر عن واسط ارفض عنه اصحابه واكثر غلمانه، مثل عيسى النوشرى وختنه يانس المستأمن واحمد بن سمعان ونحرير الصغير، وصاروا الى مضرب المكتفي في الامان فلما كان بعد مضى ليلتين من شهر رمضان من هذه السنه، خرج المكتفي من بغداد الى مضربه بنهر ديالى، وخرج معه جميع جيشه، فعسكر هنالك، وخلع على من صار الى مضربه من الجماعه الذين سميت، وعلى جماعه من القواد والجند ووكل بجماعه منهم، ثم قيد تسعه منهم، وامر بحملهم مقيدين الى السجن الجديد، ولقى- فيما ذكر- ابو عمر محمد بن يوسف بدرا بالقرب من واسط، ودفع اليه الامان وخبره عن المكتفي بما قال له القاسم بن عبيد الله، فصاعد معه في حراقه بدر، وكان قد سيره في الجانب الشرقى وغلمانه الذين بقوا معه في جماعه من الجند وخلق كثير من الأكراد واهل الجبل يسيرون معه بمسيره على شط دجلة، فاستقر الأمر بين بدر وابى عمر على ان يدخل بدر بغداد سامعا مطيعا،

وعبر بدر دجلة، فصار الى النعمانية، وامر غلمانه واصحابه الذين يقوا معه ان ينزعوا سلاحهم، والا يحاربوا أحدا، واعلمهم ما ورد به عليه ابو عمر من الامان، فبينا هو يسير إذ وافاه محمد بن إسحاق بن كنداج في شذا، ومعه جماعه من الغلمان، فتحول الى الحراقة، وساله بدر عن الخبر، فطيب نفسه، وقال له قولا جميلا، وهم في كل ذلك يؤمرونه، وكان القاسم بن عبيد الله وجهه، وقال له: إذا اجتمعت مع بدر، وصرت معه في موضع واحد، فأعلمني فوجه الى القاسم، واعلمه، فدعا القاسم بن عبيد الله لؤلؤا احد غلمان السلطان، فقال له: قد ندبتك لامر، فقال: سمعا وطاعه، فقال له: امض وتسلم بدرا من ابن كنداجيق، وجئني برأسه فمضى في طيار حتى استقبل بدرا ومن معه بين سيب بنى كوما وبين اضطربد، فتحول من الطيار الى الحراقة، وقال لبدر: قم، فقال: وما الخبر؟ قال: لا باس عليك، فحوله الى طيارة، ومضى به حتى صار به الى جزيرة بالصافية، فاخرجه الى الجزيرة، وخرج معه، ودعا بسيف كان معه فاستله، فلما ايقن بدر بالقتل ساله ان يمهله حتى يصلى ركعتين، فأمهله، فصلاهما، ثم قدمه فضرب عنقه، وذلك في يوم الجمعه قبل الزوال لست خلون من شهر رمضان، ثم أخذ راسه ورجع الى طيارة، واقبل راجعا الى معسكر المكتفي بنهر ديالى وراس بدر معه، وتركت جثته مكانها، فبقيت هنالك ثم وجه عياله من أخذ جثته سرا، فجعلها في تابوت، واخفوها عندهم، فلما كان ايام الموسم حملوها الى مكة، فدفنوها بها- فيما قيل- وكان اوصى بذلك، واعتق قبل ان يقتل مماليكه كلهم، وتسلم السلطان ضياع بدر ومستغلاته ودوره وجميع ماله بعد قتله وورد الخبر على المكتفي بما كان من قتل بدر، لسبع خلون من شهر رمضان من هذه السنه، فرحل منصرفا الى مدينه السلام، ورحل معه من كان معه من الجند، وجيء برأس بدر اليه، فوصل اليه قبل ارتحاله من موضع معسكره، فامر به فنظف، ورفع في الخزانه، ورجع ابو عمر القاضى

الى داره يوم الاثنين كئيبا حزينا، لما كان منه في ذلك، وتكلم الناس فيه، وقالوا: هو كان السبب في قتل بدر، وقالوا فيه اشعارا، فمما قيل فيه منها: قل لقاضى مدينه المنصور ... بم احللت أخذ راس الأمير! بعد اعطائه المواثيق والعهد ... وعقد الايمان في منشور اين ايمانك التي شهد الله ... على انها يمين فجور ان كفيك لا تفارق كفيه ... الى ان ترى مليك السرير يا قليل الحياء يا اكذب ... الا مه يا شاهدا شهاده زور ليس هذا فعل القضاه ولا يحسن ... امثاله ولاه الجسور اى امر ركبت في الجمعه الزهراء ... من شهر خير خير الشهور قد مضى من قتلت في رمضان ... صائما بعد سجده التعفير يا بنى يوسف بن يعقوب اضحى ... اهل بغداد منكم في غرور بدد الله شملكم وأراني ... ذلكم في حياه هذا الوزير فأعد الجواب للحكم العادل ... من بعد منكر ونكير أنتم كلكم فدا لأبي خازم ... المستقيم كل الأمور ولسبع خلون من شهر رمضان، حمل زيدان السعيدي الذى كان قدم رسولا من قبل بدر الى المكتفي مع التسعه الأنفس الذين قيدوا من قواد بدر، وسبعه انفس اخر من اصحاب بدر قبض عليهم بعدهم في سفينه مطبقة عليهم، واحدروا مقيدين الى البصره، فحبسوا في سجنها. وذكر ان لؤلؤا الذى ولى قتل بدر كان غلاما من غلمان محمد بن هارون الذى قتل محمد بن زيد بطبرستان واكرتمش بالري، قدم مع جماعه من غلمان محمد بن هارون على السلطان في الامان. وفي ليله الاثنين لاربع عشره بقيت من شهر رمضان منها قتل عبد الواحد بن ابى احمد الموفق- فيما ذكر- وكانت والدته- فيما قيل- وجهت معه الى دار مؤنس لما قبض عليه دايه له، ففرق بينه وبين الداية

ذكر باقى الكائن من الأمور الجليله في سنه تسع وثمانين ومائتين

فمكثت يومين او ثلاثة، ثم صرفت الى منزل مولاتها، فكانت والده عبد الواحد إذا سالت عن خبره قيل لها: انه في دار المكتفي، وهو في عافيه. وكانت طامعه في حياته، فلما مات المكتفي ايست منه واقامت عليه مأتما . ذكر باقى الكائن من الأمور الجليله في سنه تسع وثمانين ومائتين فمما كان من ذلك فيها لتسع بقين من شعبان منها، ورد كتاب من اسماعيل بن احمد صاحب خراسان على السلطان بخبر وقعه كانت بين اصحابه وبين ابن جستان الديلمى بطبرستان، وان اصحابه هزموه، وقرئ بذلك كتابه بمسجدى الجامع ببغداد وفيها لحق رجل يقال له إسحاق الفرغاني من اصحاب بدر لما قتل بدر الى ناحيه البادية في جماعه من اصحابه على الخلاف على السلطان، فكانت بينه هنالك وبين ابى الأغر وقعه، هزم فيها ابو الأغر، وقتل من اصحابه ومن قواده عده، ثم اشخص مؤنس الخازن في جمع كثيف الى الكوفه لحرب إسحاق الفرغاني ولسلخ ذي القعده خلع على خاقان المفلحى، وولى معونه الري، وضم اليه خمسه آلاف رجل وفيها ظهر بالشام رجل جمع جموعا كثيره من الاعراب وغيرهم فاتى بهم دمشق، وبها طغج بن جف من قبل هارون بن خمارويه بن احمد بن طولون على المعونة، وذلك في آخر هذه السنه، فكانت بين طغج، وبينه وقعات كثيره قتل فيها- فيما ذكر- خلق كثير . ذكر خبر هذا الرجل الذى ظهر بالشام وما كان من سبب ظهوره بها ذكر ان زكرويه بن مهرويه الذى ذكرنا انه كان داعيه قرمط لما تتابع من المعتضد توجيه الجيوش الى من بسواد الكوفه من القرامطة، والح في طلبهم، واثخن فيهم القتلى، وراى انه لا مدفع عن انفسهم عند اهل السواد

ولا غناء، سعى في استغواء من قرب من الكوفه من اعراب اسد وطيّئ وتميم وغيرهم من قبائل الاعراب، ودعاهم الى رايه، وزعم لهم ان من بالسواد من القرامطة يطابقونهم على امره ان استجابوا له فلم يستجيبوا له، وكانت جماعه من كلب تخفر الطريق على البر بالسماوة فيما بين الكوفه ودمشق على طريق تدمر وغيرها، وتحمل الرسل وامتعه التجار على ابلها، فأرسل زكرويه اولاده اليهم، فبايعوهم وخالطوهم، وانتموا الى على بن ابى طالب والى محمد بن اسماعيل بن جعفر، وذكروا انهم خائفون من السلطان، وانهم ملجئون اليهم، فقبلوهم على ذلك، ثم دبوا فيهم بالدعاء الى راى القرمطة، فلم يقبل ذلك احد منهم- اعنى من الكلبيين- الا الفخذ المعروفه ببني العليص ابن ضمضم بن عدى بن جناب ومواليهم خاصه، فبايعوا في آخر سنه تسع وثمانين ومائتين بناحيه السماوه ابن زكرويه المسمى بيحيى والمكنى أبا القاسم، ولقبوه الشيخ، على امر احتال فيهم، ولقب به نفسه، وزعم لهم انه ابو عبد الله ابن محمد بن اسماعيل بن جعفر بن محمد وقد قيل: انه زعم انه محمد بن عبد الله بن يحيى وقيل انه زعم انه محمد ابن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ ابن ابى طالب وقيل انه لم يكن لمحمد بن اسماعيل ابن يسمى عبد الله، وزعم لهم ان أباه المعروف بابى محمود داعيه له، وان له بالسواد والمشرق والمغرب مائه الف تابع، وان ناقته التي يركبها مأمورة، وانهم إذا اتبعوها في مسيرها ظفروا وتكهن لهم، واظهر عضدا له ناقصه، وذكر انها آيه، وانحازت اليه جماعه من بنى الأصبغ، وأخلصوا له وتسموا بالفاطميين، ودانوا بدينه، فقصدهم سبك الديلمى مولى المعتضد بالله بناحيه الرصافه في غربي الفرات من ديار مضر، فاغتروه وقتلوه، وحرقوا مسجد الرصافه، واعترضوا كل قريه اجتازوا بها حتى اصعدوا الى اعمال الشام التي كان هارون بن خمارويه قوطع عليها، واسند امرها هارون الى طغج بن جف، فأناخ عليها، وهزم كل عسكر لقيه لطغج حتى حصره في مدينه دمشق، فانفذ المصريون اليه بدرا الكبير غلام ابن طولون، فاجتمع مع طغج على محاربته، فواقعهم قريبا من دمشق، فقتل الله عدو الله يحيى بن زكرويه

وكان سبب قتله- فيما ذكر- ان بعض البرابره زرقه بمزراق واتبعه نفاط، فزرقه بالنار فأحرقه، وذلك في كبد الحرب وشدتها، ثم دارت على المصريين الحرب، فانحازوا، فاجتمعت موالي بنى العليص ومن معهم من الاصبغيين وغيرهم على نصب الحسين بن زكرويه أخي الملقب بالشيخ فنصبوا أخاه، وزعم لهم انه أحمد بْن عبد الله بْن محمد بْن اسماعيل بن جعفر ابن محمد، وهو ابن نيف وعشرين سنه، وقد كان الملقب بالشيخ حمل موالي بنى العليص على صريحهم، فقتلوا جماعه منهم، واستذلوهم، فبايعوا الحسين ابن زكرويه المسمى باحمد بن عبد الله بن محمد بن اسماعيل بن جعفر بعد أخيه، فأظهر شامه في وجهه ذكر انها آيته، وطرا اليه ابن عمه عيسى بن مهرويه المسمى عبد الله، وزعم انه عبد الله بن احمد بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد، فلقبه المدثر، وعهد اليه، وذكر انه المعنى في السورة التي يذكر فيها المدثر، ولقب غلاما من اهله المطوق، وقلده قتل اسرى المسلمين، وظهر على المصريين، وعلى جند حمص وغيرها من اهل الشام، وتسمى بامره المؤمنين على منابرها، وكان ذلك كله في سنه تسع وثمانين، وفي سنه تسعين. وفي اليوم التاسع من ذي الحجه من هذه السنه صلى الناس العصر في قمص الصيف ببغداد، فهبت ريح الشمال عند العصر، فبرد الهواء حتى احتاج الناس بها من شده البرد الى الوقود والاصطلاء بالنار، ولبس المحشو والجباب، وجعل البرد يزداد حتى جمد الماء وفيها كانت وقعه بين اسماعيل بن احمد بالري ومحمد بن هارون وابن هارون- فيما قيل- حينئذ في نحو من ثمانية آلاف، فانهزم محمد بن هارون وتقدم اصحابه، وتبعه من اصحابه نحو من الف، ومضوا نحو الديلم، فدخلها مستجيرا بها، ودخل اسماعيل بن احمد الري، وصار زهاء الف رجل- فيما ذكر- ممن انهزم من اصحابه الى باب السلطان وفي جمادى الآخرة منها لاربع خلون منها ولى القاسم بن سيما غزو الصائفه بالثغور الجزرية، واطلق له من المال اثنا وثلاثون الف دينار. وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْن عبد الملك الهاشمى.

سنه تسعين ومائتين

ثم دخلت سنه تسعين ومائتين (ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) فمما كان فيها من ذلك توجيه المكتفي رسولا الى اسماعيل بن احمد لليلتين خلتا من المحرم منها بخلع، وعقد ولايه له على الري، وبهدايا مع عبد الله ابن الفتح ولخمس بقين من المحرم منها ورد- فيما ذكر- كتاب على بن عيسى من الرقة، يذكر فيه ان القرمطى بن زكرويه المعروف بالشيخ، وافى الرقة في جمع كثير، فخرج اليه جماعه من اصحاب السلطان ورئيسهم سبك غلام المكتفي، فواقعوه، فقتل سبك، وانهزم اصحاب السلطان ولست خلون من شهر ربيع الآخر ورد الخبر بان طغج بن جف اخرج من دمشق جيشا الى القرمطى، عليهم غلام له يقال له بشير، فواقعهم القرمطى، فهزم الجيش وقتل بشيرا ولثلاث عشرة بقيت من شهر ربيع الآخر خلع على ابى الأغر ووجه به لحرب القرمطى بناحيه الشام، فمضى الى حلب في عشره آلاف رجل. ولإحدى عشرة بقيت من شهر ربيع الآخر خلع على ابى العشائر احمد بن نصر وولى طرسوس، وعزل عنها مظفر بن حاج لشكايه اهل الثغور اياه. وللنصف من جمادى الاولى من هذه السنه، وردت كتب التجار الى بغداد من دمشق مؤرخه لسبع بقين من ربيع الآخر يخبرون فيها ان القرمطى الملقب بالشيخ قد هزم طغج غير مره، وقتل اصحابه الا القليل، وانه قد بقي في قله، وامتنع من الخروج، وانما تجتمع العامه، ثم تخرج للقتال، وانهم قد

أشرفوا على الهلكة، فاجتمعت جماعه من تجار بغداد في هذا اليوم، فمضوا الى يوسف بن يعقوب، فاقرءوه كتبهم، وسألوه المضى الى الوزير ليخبره خبر اهل دمشق، فوعدهم ذلك. ولسبع بقين من جمادى الاولى احضر دار السلطان ابو خازم ويوسف وابنه محمد، واحضر صاحب طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث، فقوطع على مال فارس، ثم عقد المكتفي لطاهر على اعمال فارس، وخلع على صاحبه، وحملت اليه خلع مع العقد. وفي جمادى الاولى هرب من مدينه السلام القائد المستأمن المعروف بابى سعيد الخوارزمي، وأخذ نحو طريق الموصل، فكتب الى عبد الله المعروف بغلام نون، وكان يتقلد المعاون بتكريت والاعمال المتصلة بها الى حد سامرا والى الموصل في معارضته واخذه، فزعموا ان عبد الله عارضه، فاختدعه ابو سعيد حتى اجتمعا جميعا على غير حرب، ففتك به ابو سعيد فقتله، ومضى ابو سعيد نحو شهرزور، فاجتمع هو وابن ابى الربيع الكردى، وصاهره، واجتمعا على عصيان السلطان ثم ان أبا سعيد قتل بعد ذلك، وتفرق من كان اجتمع اليه. ولعشر خلون من جمادى الآخرة، شخص ابو العشائر الى عمله بطرسوس، وخرج معه جماعه من المطوعة للغزو، ومعه هدايا من المكتفي الى ملك الروم. ولعشر بقين من جمادى الآخرة خرج المكتفي بعد العصر عامدا سامرا، مريدا البناء بها للانتقال إليها، فدخلها يوم الخميس لخمس بقين من جمادى الآخرة، ثم انصرف الى مضارب قد ضربت له بالجوسق، فدعا القاسم بن عبيد الله والقوام بالبناء، فقدروا له البناء وما يحتاج اليه من المال للنفقة عليه، فكثروا عليه في ذلك، وطولوا مده الفراغ مما اراد بناءه، وجعل القاسم يصرفه عن رايه في ذلك، ويعظم امر النفقة في ذلك وقدر مبلغ المال،

فثناه عن عزمه، ودعا بالغداء، فتغدى ثم نام، فلما هب من نومه ركب الى الشط، وقعد في الطيار، وامر القاسم بن عبيد الله بالانحدار. ورجع اكثر الناس من الطريق قبل ان يصلوا الى سامرا حين تلقاهم الناس راجعين. ولسبع خلون من رجب خلع على ابنى القاسم بن عبيد الله، فولى الاكبر منهما ضياع الولد والحرم والنفقات، والاصغر منهما كتبه ابى احمد بن المكتفي، وكانت هذه الاعمال الى الحسين بن عمرو النصراني، فعزل بهما، وكان القاسم بن عبيد الله اتهم الحسين بن عمرو انه قد سعى به الى المكتفي. ثم ان الحسين بن عمرو كاشف القاسم بن عبيد الله بحضره المكتفي، فلم يزل القاسم يدبر عليه، ويغلظ قلب المكتفي عليه، حتى وصل الى ما اراد من امره. وفي يوم الجمعه لاربع عشره بقيت من شعبان قرئ كتابان في الجامعين بمدينه السلام بقتل يحيى بن زكرويه الملقب بالشيخ، قتله المصريون على باب دمشق، وقد كانت الحرب اتصلت بينه وبين من حاربه من اهل دمشق وجندها ومددهم من اهل مصر، وكسر لهم جيوشا، وقتل منهم خلقا كثيرا، وكان يحيى بن زكرويه هذا يركب جملا برحاله، ويلبس ثيابا واسعه ويعتم عمه اعرابيه، ويتلثم، ولم يركب دابه من لدن ظهر الى ان قتل، وامر اصحابه الا يحاربوا أحدا، وان اتى عليهم حتى يبتعث الجمل من قبل نفسه، وقال لهم: إذا فعلتم ذلك لم تهزموا. وذكر انه كان إذا اشار بيده الى ناحيه من النواحي التي فيها محاربوه، انهزم اهل تلك الناحية، فاستغوى بذلك الاعراب ولما كان في اليوم الذى قتل فيه يحيى بن زكرويه الملقب بالشيخ، وانحازوا الى أخيه الحسين بن زكرويه، فطلب أخاه الشيخ في القتلى، فوجده، فواراه وعقد الحسين بن زكرويه لنفسه، وتسمى باحمد بن عبد الله، وتكنى بابى العباس

وعلم اصحاب بدر بعد ذلك بقتل الشيخ، فطلبوه في القتلى فلم يجدوه، ودعا الحسين بن زكرويه الى مثل ما دعا اليه اخوه، فأجابه اكثر اهل البوادى وغيرهم من سائر الناس، واشتدت شوكته وظهر وصار الى دمشق، فذكر ان أهلها صالحوه على خراج دفعوه اليه، ثم انصرف عنهم، ثم سار الى اطراف حمص، فتغلب، عليها، وخطب له على منابرها، وتسمى بالمهدى، ثم سار الى مدينه حمص، فاطاعه أهلها، وفتحوا له بابها خوفا منه على انفسهم فدخلها، ثم سار منها الى حماه ومعره النعمان وغيرهما، فقتل أهلها، وقتل النساء والأطفال ثم سار الى بعلبك فقتل عامه أهلها حتى لم يبق منهم- فيما قيل- الا اليسير، ثم سار الى سلميه فحاربه أهلها ومنعوه الدخول، ثم وادعهم واعطاهم الامان، ففتحوا له بابها، فدخلها، فبدا بمن فيها من بنى هاشم، وكان بها منهم جماعه فقتلهم، ثم ثنى باهل سلميه فقتلهم اجمعين. ثم قتل البهائم، ثم قتل صبيان الكتاتيب، ثم خرج منها، وليس بها عين تطرف- فيما قيل- وسار فيما حوالى ذلك من القرى يقتل ويسبى ويحرق ويخيف السبيل. فذكر عن متطبب بباب المحول يدعى أبا الحسن انه قال: جاءتني امراه بعد ما ادخل القرمطى صاحب الشامة واصحابه بغداد، فقالت لي: انى اريد ان تعالج شيئا في كتفي، قلت: وما هو؟ قالت: جرح، قلت: انا كحال، وهاهنا امراه تعالج النساء، وتعالج الجراحات، فانتظرى مجيئها. فقعدت، ورايتها مكروبه كئيبه باكيه، فسألتها عن حالها، وقلت: ما سبب جراحتك؟ فقالت: قصتي تطول، فقلت: حدثيني بها وصادقينى، وقد خلا من كان عندي، فقالت: كان لي ابن غاب عنى، وطالت غيبته، وخلف على اخوات له، فضقت واحتجت واشتقت اليه، وكان شخص الى ناحيه الرقة، فخرجت الى الموصل والى بلد والى الرقة، كل ذلك اطلبه، واسال عنه، فلم ادل عليه، فخرجت عن الرقة في طلبه، فوقعت في عسكر القرمطى، فجعلت اطوف واطلبه، فبينا انا كذلك إذ رايته فتعلقت به، فقلت: ابنى! فقال: أمي! فقلت: نعم، قال:

ما فعل أخواتي؟ قلت: بخير، وشكوت ما نالنا بعده من الضيق، فمضى بي الى منزله، وجلس بين يدي، وجعل يسائلني عن أخبارنا، فخبرته، ثم قال: دعينى من هذا وأخبريني ما دينك؟ فقلت: يا بنى اما تعرفنى! فقال: وكيف لا اعرفك! فقلت: ولم تسألني من ديني وأنت تعرفنى وتعرف ديني! فقال: كل ما كنا فيه باطل، والدين ما نحن فيه الان، فاعظمت ذلك وعجبت منه، فلما رآنى كذلك خرج وتركني ثم وجه الى بخبز ولحم وما يصلحني، وقال: اطبخيه، فتركته ولم امسه، ثم عاد فطبخه، واصلح امر منزله، فدق الباب داق، فخرج اليه فإذا رجل يسأله، ويقول له: هذه القادمة عليك تحسن ان تصلح من امر النساء شيئا؟ فسألني فقلت: نعم، فقال: امضى معى، فمضيت فأدخلني دارا، وإذا امراه تطلق، فقعدت بين يديها، وجعلت اكلمها، فلا تكلمني، فقال لي الرجل الذى جاء بي إليها: ما عليك من كلامها، اصلحى امر هذه، ودعى كلامها، فاقمت حتى ولدت غلاما، واصلحت من شانه، وجعلت اكلمها واتلطف بها واقول لها: يا هذه، لا تحتشمينى، فقد وجب حقي عليك، أخبريني خبرك وقصتك ومن والد هذا الصبى، فقالت: تساليننى عن ابيه لتطالبيه بشيء يهبه لك! فقلت: لا، ولكن أحب ان اعلم خبرك، فقالت لي: انى امراه هاشمية- ورفعت راسها، فرايت احسن الناس وجها- وان هؤلاء القوم أتونا، فذبحوا ابى وأمي واخوتى واهلى جميعا، ثم أخذني رئيسهم، فاقمت عنده خمسه ايام، ثم أخرجني، فدفعنى الى اصحابه، فقال: طهروها فأرادوا قتلى، فبكيت وكان بين يديه رجل من قواده، فقال: هبها لي، فقال: خذها، فأخذني، وكان بحضرته ثلاثة انفس قيام من اصحابه، فسلوا سيوفهم، وقالوا: لا نسلمها إليك، اما ان تدفعها إلينا، والا قتلناها، وأرادوا قتلى، وضجوا، فدعاهم رئيسهم القرمطى، وسألهم عن خبرهم فخبروه، فقال: تكون لكم اربعتكم، فأخذوني، فانا مقيمه معهم اربعتهم، والله ما ادرى ممن هو هذا الولد منهم!

قالت: فجاء بعد المساء رجل فقالت لي: هنيه فهناته بالمولود، فأعطاني سبيكة فضه، وجاء آخر وآخر، أهنئ كل واحد منهم فيعطيني سبيكة فضه، فلما كان في السحر جاء جماعه مع رجل وبين يديه شمع، وعليه ثياب خز تفوح منه رائحه المسك، فقالت لي: هنيه، فقمت اليه، فقلت: بيض الله وجهك، والحمد لله الذى رزقك هذا الابن، ودعوت له، فأعطاني سبيكة فيها الف درهم، وبات الرجل في بيت، وبت مع المرأة في بيت، فلما اصبحت قلت للمرأة: يا هذه، قد وجب عليك حقي، فالله الله في، خلصينى! قالت: مم أخلصك؟ فخبرتها خبر ابنى، وقلت لها: انى جئت راغبه اليه، وانه قال لي كيت وكيت، وليس في يدي منه شيء، ولي بنات ضعاف خلفتهن باسوا حال، فخلصينى من هاهنا لاصل الى بناتي، فقالت: عليك بالرجل الذى جاء آخر القوم، فسليه ذلك، فانه يخلصك فاقمت يومى الى ان أمسيت، فلما جاء تقدمت اليه، وقبلت يده ورجله، وقلت: يا سيدي قد وجب حقي عليك، وقد أغناني الله على يديك بما أعطيتني، ولي بنات ضعاف فقراء، فان أذنت لي ان امضى فاجيئك ببناتى حتى يخدمنك ويكن بين يديك! فقال: وتفعلين؟ قلت: نعم، فدعا قوما من غلمانه، فقال: امضوا معها حتى تبلغوا بها موضع كذا وكذا، ثم اتركوها وارجعوا. فحملوني على دابه، ومضوا بي قالت: فبينما نحن نسير، وإذا انا بابني يركض، وقد كنا سرنا عشره فراسخ- فيما خبرني به القوم الذين معى- فلحقني وقال: يا فاعله، زعمت انك تمضين وتجيئين ببناتك! وسل سيفه ليضربني، فمنعه القوم، فلحقني طرف السيف، فوقع في كتفي، وسل القوم سيوفهم، فارادوه، فتنحى عنى وساروا بي حتى بلغوا بي الموضع الذى سماه لهم صاحبهم، فتركوني ومضوا، فتقدمت الى هاهنا وقد طفت لعلاج جرحى، فوصف لي هذا الموضع، فجئت الى هاهنا قالت: ولما قدم امير المؤمنين بالقرمطى وبالأسارى من اصحابه خرجت لانظر اليهم، فرايت ابنى فيهم على جمل،

عليه برنس وهو يبكى وهو فتى شاب، فقلت له: لا خفف الله عنك ولا خلصك! قال المتطبب: فقمت معها الى المتطببة لما جاءت، واوصيتها بها، فعالجت جرحها وأعطتها مرهما، فسالت المتطببة عنها بعد منصرفها، فقالت: قد وضعت يدي على الجرح، وقلت: انفحى، فنفحت فخرجت الريح من الجرح من تحت يدي، وما أراها تبرا منه، ومضت فلم تعد إلينا. ولإحدى عشرة بقيت من شوال من هذه السنة، قبض القاسم بن عبيد الله على الحسين بن عمرو النصراني، وحبسه، وذلك انه لم يزل يسعى في امره الى المكتفي، ويقدح فيه عنده، حتى امره بالقبض عليه، وهرب كاتب الحسين ابن عمرو حين قبض على الحسين المعروف بالشيرازى، فطلب وكبست منازل جيرانه، ونودى: من وجده فله كذا وكذا، فلم يوجد ولسبع بقين منه صرف الحسين بن عمرو الى منزله، على ان يخرج من بغداد. وفي الجمعه التي بعدها خرج الحسين بن عمرو وحدر الى ناحيه واسط على وجه النفى، ووجد الشيرازى كاتبه لثلاث خلون من ذي القعده. ولليلتين خلتا من شهر رمضان من هذه السنة امر المكتفي بإعطاء الجند أرزاقهم والتأهب للشخوص لحرب القرمطى بناحيه الشام، فاطلق للجند في دفعه واحده مائه الف دينار، وذلك ان اهل مصر كتبوا الى المكتفي يشكون ما لقوا من ابن زكرويه المعروف بصاحب الشامة، وانه قد اخرب البلاد، وقتل الناس، وما لقوا من أخيه قبله وقتلهما رجالهم، وانه لم يبق منهم الا العدد اليسير. ولخمس خلون من شهر رمضان اخرجت مضارب المكتفي، فضربت بباب الشماسيه. ولسبع خلون منه خرج المكتفي في السحر الى مضربه بباب الشماسيه، ومعه قواده وغلمانه وجيوشه. ولاثنتى عشره ليله من شهر رمضان، رحل المكتفي من مضربه بباب الشماسيه في السحر، وسلك طريق الموصل

وللنصف من شهر رمضان منها مضى ابو الأغر الى حلب، فنزل وادي بطنان قريبا من حلب، ونزل معه جميع اصحابه، فنزع- فيما ذكر- جماعه من اصحابه ثيابهم، ودخلوا الوادى يتبردون بمائه، وكان يوما شديد الحر، فبينا هم كذلك إذ وافى جيش القرمطى المعروف بصاحب الشامة، وقد بدرهم المعروف بالمطوق، فكبسهم على تلك الحال، فقتل منهم خلقا كثيرا وانتهب العسكر، وافلت ابو الأغر في جماعه من اصحابه، فدخل حلب، وافلت معه مقدار الف رجل، وكان في عشره آلاف بين فارس وراجل، وكان قد ضم اليه جماعه ممن كان على باب السلطان من قواد الفراغنه ورجالهم، فلم يفلت منهم الا اليسير ثم صار اصحاب القرمطى الى باب حلب، فحاربهم ابو الأغر ومن بقي معه من اصحابه واهل البلد، فانصرفوا عنه بما أخذوا من عسكره من الكراع والسلاح والأموال والأمتعة بعد حرب كانت بينهم، ومضى المكتفي بمن معه من الجيش حتى انتهى الى الرقة، فنزلها، وسرح الجيوش الى القرمطى جيشا بعد جيش. ولليلتين خلتا من شوال ورد مدينه السلام كتاب من القاسم بن عبيد الله، يخبر فيه ان كتابا ورد عليه من دمشق من بدر الحمامي صاحب ابن طولون، يخبر فيه انه واقع القرمطى صاحب الشامة، فهزمه ووضع في اصحابه السيف، ومضى من افلت منهم نحو البادية، وان امير المؤمنين وجه في اثره الحسين بن حمدان بن حمدون وغيره من القواد. وورد أيضا في هذه الأيام- فيما ذكر- كتاب من البحرين من أميرها ابن بانوا، يذكر فيه انه كبس حصنا للقرامطه، فظفر بمن فيه. ولثلاث عشره خلت من ذي القعده منها- فيما ذكر- ورد كتاب آخر من ابن بانوا من البحرين، يذكر فيه انه واقع قرابه لأبي سعيد الجنابى، وولى عهده من بعده على اهل طاعته، فهزمه وكان مقام هذا المهزوم بالقطيف فوجد بعد ما انهزم اصحابه قتيلا بين القتلى، فاحتز راسه، وانه دخل القطيف فافتتحها

ومن كتب صاحب الشامة الى بعض عماله: بسم اللَّه الرحمن الرحيم من عبد اللَّه احمد بن عبد الله المهدى المنصور بالله الناصر لدين الله القائم بأمر الله الحاكم بحكم الله، الداعي الى كتاب الله، الذاب عن حرم الله، المختار من ولد رسول الله امير المؤمنين وامام المسلمين، ومذل المنافقين خليفه الله على العالمين، وحاصد الظالمين، وقاصم المعتدين، ومبيد الملحدين، وقاتل القاسطين، ومهلك المفسدين، وسراج المبصرين، وضياء المستضيئين، ومشتت المخالفين، والقيم بسنه سيد المرسلين، وولد خير الوصيين، صلى الله عليه وعلى اهل بيته الطيبين، وسلم كثيرا، الى جعفر بن حميد الكردى: سلام عَلَيْك، فإني أحمد إليك اللَّه الَّذِي لا اله الا هو، واساله ان يصلى على جدي محمد رسول الله ص اما بعد، فقد انهى إلينا ما حدث قبلك من اخبار أعداء الله الكفره، وما فعلوه بناحيتك، واظهروه من الظلم والعيث والفساد في الارض، فاعظمنا ذلك، ورأينا ان ننفذ الى ما هناك من جيوشنا من ينقم الله به من اعدائه الظالمين، الذين يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً* وأنفذنا عطيرا داعيتنا وجماعه من المؤمنين الى مدينه حمص، وامددناهم بالعساكر، ونحن في أثرهم، وقد اوعزنا اليهم في المصير الى ناحيتك لطلب أعداء الله حيث كانوا، ونحن نرجو ان يجرينا الله فيهم على احسن عوائده عندنا في أمثالهم، فينبغي ان تشد قلبك وقلوب من معك من أوليائنا، وتثق بالله وبنصره الذى لم يزل يعودناه في كل من مرق عن الطاعة وانحرف عن الايمان، وتبادر إلينا باخبار الناحية، وما يتجدد فيها، ولا تخف عنى شيئا من امرها ان شاء الله سبحانك اللهم، وتحيتهم فيها سلام، وآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، وصلى الله على جدي محمد رسول الله. وعلى اهل بيته وسلم كثيرا. نسخه كتاب عامل له إِلَيْهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لعبد اللَّه احمد الامام المهدى المنصور بالله، ثم الصدر كله على مثال نسخه صدر كتابه الى عامله الذى حكينا في الكتاب الذى قبل هذا

الكتاب، الى ولد خير الوصيين صلى الله عليه وعلى اهل بيته الطيبين وسلم كثيرا. ثم بعد ذلك من عامر بن عيسى العنقائى. سلام على أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ورحمة اللَّه وبركاته، أَمَّا بَعْدُ اطال الله بقاء امير المؤمنين، وادام الله عزه وتاييده، ونصره وسلامته، وكرامته ونعمته وسعادته، واسبغ نعمه عليه، وزاد في إحسانه اليه، وفضله لديه فقد كان وصل كتاب سيدي امير المؤمنين اطال الله بقاءه، يعلمه فيه ما كان من نفوذ بعض الجيوش المنصوره مع قائد من قواده الى ناحيتنا لمجاهده أعداء الله بنى الفصيص والخائن ابن دحيم، وطلبهم حيث كانوا، والإيقاع بهم وباسبابهم وضياعهم، ويأمرني ادام الله عزه عند نظري في كتابه بالنهوض في كل من قدرت عليه من اصحابى وعشائرى للقائهم ومكانفه الجيش ومعاضدتهم والمسير بسيرهم، والعمد كل ما يومون اليه ويأمرون به، وفهمته، ولم يصل الى هذا الكتاب أعز الله امير المؤمنين حتى وافت الجيوش المنصوره، فنالت طرفا من ناحيه ابن دحيم، وانصرفوا بالكتاب الوارد عليهم من مسرور بن احمد الداعيه ليلقوه بمدينه افاميه ثم ورد على كتاب مسرور بن احمد في درجه الكتاب الذى اقتصصت ما فيه في صدر كتابي هذا، يأمرني فيه بجمع من تهيأ من اصحابى وعشيرتي والنهوض الى ما قبله، ويحذرني التخلف عنه وكان ورود كتابه على وقت صح عندنا نزول المارق سبك عبد مفلح مدينه عرقه في زهاء الف رجل، ما بين فارس وراجل وقد شارف بلدنا، واطل على ناحيتنا، وقد وجه احمد بن الوليد عبد امير المؤمنين اطال الله بقاءه الى جميع اصحابه، ووجهت الى جميع اصحابى، فجمعناهم إلينا، ووجهنا العيون الى ناحيه عرقه لنعرف اخبار هذا الخائن، واين يريد، فيكون قصدنا ذلك الوجه، ونرجو ان يظفر الله به، ويمكن منه بمنه وقدرته. ولولا هذا الحادث، ونزول هذا المارق في هذه الناحية، واشرافه على بلدنا لما تاخرت في جماعه اصحابى عن النهوض الى مدينه افاميه، لتكون يدي مع أيدي القواد المقيمين بها لمجاهده من بتلك الناحية حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين واعلمت سيدي امير المؤمنين اطال الله بقاءه السبب في تخلفى عن

مسرور بن احمد، ليكون على علم منه ثم ان أمرني ادام الله عزه بالنفوذ الى افاميه كان نفوذى برايه، وامتثلت ما يأمرني به ان شاء الله اتم الله على امير المؤمنين نعمه وادام عزه وسلامته، وهناه كرامته، والبسه عفوه وعافيته. والسلام على امير المؤمنين ورحمه الله وبركاته، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد النبي وعلى اهل بيته الطاهرين الاختيار. وفيها وجه القاسم بن عبيد الله الجيوش الى صاحب الشامة، وولى حربه محمد بن سليمان الكاتب الذى كان اليه ديوان الجيش، وضم جميع القواد اليه، وامرهم بالسمع له والطاعة، فنفذ من الرقة في جيش كثيف، وكتب الى من تقدمه من القواد بالسمع له والطاعة وفيها ورد رسولا صاحب الروم، أحدهما خادم، والآخر فحل، يسأله الفداء بمن في يده من المسلمين اسير، ومعهما هدايا من صاحب الروم وأسارى من المسلمين بعث بهم اليه، فأجبنا الى ما سالا، وخلع عليهما. وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ العباس ابن محمد.

سنه احدى وتسعين ومائتين

ثم دخلت سنه احدى وتسعين ومائتين (ذكر الخبر عما كان فيها من الأمور الجليله) ذكر خبر الوقعه بين اصحاب السلطان وصاحب الشامة فمن ذلك ما كان من امر الوقعه بين اصحاب السلطان وصاحب الشامة. ذكر الخبر عن هذه الوقعه: قال ابو جعفر: قد مضى ذكرى شخوص المكتفي من مدينه السلام نحو صاحب الشامة لحربه ومصيره الى الرقة، وبثه جيوشه فيما بين حلب وحمص، وتوليته حرب صاحب الشامة محمد بن سليمان الكاتب وتصييره امر جيشه وقواده اليه، فلما دخلت هذه السنه كتب وزيره القاسم بن عبيد الله الى محمد ابن سليمان وقواد السلطان يأمره وإياهم بمناهضه ذي الشامة واصحابه، فساروا اليه حتى صاروا الى موضع بينهم وبين حماه- فيما قيل- اثنا عشر ميلا، فلقوا به اصحاب القرمطى في يوم الثلاثاء لست خلون من المحرم، وكان القرمطى قدم اصحابه وتخلف هو في جماعه من اصحابه، ومعه مال قد كان جمعه، وجعل السواد وراءه، فالتحمت الحرب بين اصحاب السلطان واصحاب القرمطى، واشتدت، فهزم اصحاب القرمطى، وقتلوا، واسر من رجالهم بشر كثير، وتفرق الباقون في البوادى، وتبعهم اصحاب السلطان ليله الأربعاء لسبع خلون من المحرم فلما راى القرمطى ما نزل باصحابه من الفلول والهزيمة حمل- فيما قيل- أخا له يكنى أبا الفضل مالا، وتقدم اليه ان يلحق بالبوادي الى ان يظهر في موضع، فيصير اليه، وركب هو وابن عمه المسمى المدثر والمطوق صاحبه وغلام له رومي، وأخذ دليلا، وسار يريد الكوفه عرضا في البريه، حتى انتهى الى موضع يعرف بالدالية من اعمال طريق الفرات،

فنفد ما كان معهم من الزاد والعلف، فوجه بعض من كان معه ليأخذ له ما يحتاجون اليه، فدخل الدالية المعروفه بداليه ابن طوق لشراء حاجه، فأنكروا زيه، وسئل عن امره فمجمج، فاعلم المتولى مسلحه هذه الناحية بخبره، وهو رجل يعرف بابى خبزه خليفه احمد بن محمد بن كشمرد عامل امير المؤمنين المكتفي على المعاون بالرحبة وطريق الفرات فركب في جماعه، وسال هذا الرجل عن خبره، فاخبره ان الشامة خلف رابيه هنالك في ثلاثة نفر. فمضى اليهم، فاخذهم وصار بهم الى صاحبه، فتوجه بهم ابن كشمرد وابو خبزه الى المكتفي بالرقة، ورجعت الجيوش من الطلب بعد ان قتلوا وأسروا جميع من قدروا عليه من أولياء القرمطى واشياعه، وكتب محمد بن سليمان الى الوزير بالفتح: بسم الله الرحمن الرحيم قد تقدمت كتبي الى الوزير اعزه الله في خبر القرمطى اللعين واشياعه، بما أرجو ان يكون قد وصل ان شاء الله ولما كان في يوم الثلاثاء لست ليال خلون من المحرم رحلت من الموضع المعروف بالقروانه، نحو موضع يعرف بالعليانه، في جميع العسكر من الأولياء، وزحفنا بهم على مراتبهم في القلب والميمنه والميسره وغير ذلك، فلم ابعد ان وافانى الخبر بان الكافر القرمطى انفذ النعمان ابن أخي اسماعيل بن النعمان احد دعاته في ثلاثة آلاف فارس، وخلق من الرجاله، وانه نزل بموضع يعرف بتمنع، بينه وبين حماه اثنا عشر ميلا، فاجتمع اليه جميع من كان بمعره النعمان وبناحيه الفصيصى وسائر النواحي من الفرسان والرجاله، فاسررت ذلك عن القواد والناس جميعا ولم اظهره، وسالت الدليل الذى كان معى عن هذا الموضع، وكم بيننا وبينه، فذكر انه سته اميال، فتوكلت على الله عز وجل، وتقدمت اليه في المسير نحوه، فمال بالناس جميعا، وسرنا حتى وافيت الكفره، فوجدتهم على تعبئه، ورأينا طلائعهم فلما نظروا إلينا مقبلين زحفوا نحونا، وسرنا اليهم، فافترقوا سته كراديس، وجعلوا على ميسرتهم- على ما أخبرني من ظفرت به من رؤسائهم- مسرورا العليصى وأبا الحمل وغلام هارون العليصى، وأبا

العذاب ورجاء وصافى وأبا يعلى العلوي، في الف وخمسمائة فارس، وكمنوا كمينا في أربعمائة فارس خلف ميسرتهم بإزاء ميمنتنا، وجعلوا في القلب النعمان العليصى والمعروف بابى الحطى، والحمارى وجماعه من بطلانهم في الف وأربعمائة فارس وثلاثة آلاف راجل، وفي ميمنتهم كليبا العليصى والمعروف بالسديد العليصى والحسين بن العليصى وأبا الجراح العليصى وحميد العليصى، وجماعه من نظرائهم في الف وأربعمائة فارس، وكمنوا مائتي فارس، فلم يزالوا زفا إلينا ونحن نسير نحوهم غير متفرقين، متوكلين على الله عز وجل وقد استحثثت الأولياء والغلمان وسائر الناس غيرهم، ووعدتهم فلما راى بعضنا بعضا حمل الكردوس الذى كان في ميسرتهم، ضربا بالسياط، فقصد الحسين بن حمدان، وهو في جناح الميمنه، فاستقبلهم الحسين- بارك الله عليه واحسن جزاءه- بوجهه وبموضعه من سائر اصحابه برماحهم، فكسروها في صدورهم، فانفلوا عنهم، وعاود القرامطة الحمل عليهم، فأخذوا السيوف، واعترضوا ضربا للوجوه، فصرع من الكفار الفجره ستمائه فرس في أول وقعه، وأخذ اصحاب الحسين خمسمائة فرس وأربعمائة طوق فضه، وولوا مدبرين مفلولين، واتبعهم الحسين، فرجعوا عليه، فلم يزالوا حمله وحمله، وفي خلال ذلك يصرع منهم الجماعه بعد الجماعه، حتى افناهم الله عز وجل، فلم يفلت منهم الا اقل من مائتي رجل. وحمل الكردوس الذى كان في ميمنتهم على القاسم بن سيما ويمن الخادم ومن كان معهما من بنى شيبان وبنى تميم، فاستقبلوهم بالرماح حتى كسروها فيهم، واعتنق بعضهم بعضا، فقتل من الفجره جماعه كثيره وحمل عليهم في وقت حملتهم خليفه بن المبارك ولؤلؤ، وكنت قد جعلته جناحا لخليفه في ثلاثمائة فارس، وجميع اصحاب خليفه، وهم يعاركون بنى شيبان وتميم، فقتل من الكفره مقتله عظيمه، واتبعوهم، فاخذ بنو شيبان منهم ثلاثمائة فرس ومائه طوق، وأخذ اصحاب خليفه مثل ذلك، وزحف النعمان ومن معه في القلب إلينا، فحملت ومن معى، وكنت بين القلب والميمنه، وحمل خاقان

ونصر القشورى ومحمد بن كمشجور ومن كان معهم في الميمنه، ووصيف موشكير ومحمد بن إسحاق بن كنداجيق وابنا كيغلغ والمبارك القمي وربيعه بن محمد ومهاجر بن طليق والمظفر بن حاج وعبد الله بن حمدان وحي الكبير ووصيف البكتمرى وبشر البكتمرى ومحمد بن قراطغان. وكان في جناح الميمنه جميع من حمل على من في القلب ومن انقطع ممن كان حمل على الحسين بن حمدان، فلم يزالوا يقتلون الكفار فرسانهم ورجالتهم حتى قتلوا اكثر من خمسه اميال ولما ان تجاوزت المصاف بنصف ميل خفت ان يكون من الكفار مكيده في الاحتيال على الرجاله والسواد، فوقفت الى ان لحقوني وجمعتهم وجمعت الناس، الى وبين يدي المطرد المبارك، مطرد امير المؤمنين، وقد حملت في الوقت الاول، وحمل الناس ولم يزل عيسى النوشرى ضابطا للسواد من مصاف خلفهم مع فرسانه ورجالته على ما رسمته له، لم يزل من موضعه الى ان رجع الناس جميعا الى من كل موضع، وضربت مضربى في الموضع الذى وقفت فيه، حتى نزل الناس جميعا، ولم أزل واقفا الى ان صليت المغرب، حتى استقر العسكر باهله، ووجهت في الطلائع ثم نزلت، واكثرت حمد الله على ما هنانا به من النصر، ولم يبق احد من قواد امير المؤمنين وغلمانه ولا العجم وغيرهم غاية في نصر هذه الدولة المباركه في المناصحة لها الا بلغوها، بارك الله عليهم جميعا! ولما استراح الناس خرجت والقواد جميعا لنقيم خارج العسكر الى ان يصبح الناس خوفا من حيله تقع، واسال الله تمام النعمه وايزاع الشكر، وانا- أعز الله سيدنا الوزير- راحل الى حماه، ثم اشخص الى سلميه بمن الله تعالى وعونه، فمن بقي من هؤلاء الكفار مع الكافر فهم بسلميه، فانه قد صار إليها منذ ثلاثة ايام، واحتاج الى ان يتقدم الوزير بالكتاب الى جميع القواد وسائر بطون العرب من بنى شيبان وتغلب وبنى تميم، يجزيهم جميعا الخير على ما كان في هذه الوقعه، فما بقي احد منهم- صغير ولا كبير- غاية، والحمد لله على ما تفضل به، واياه اسال تمام النعمه

ولما تقدمت في جمع الرءوس، وجد راس ابى الحمل وراس ابى العذاب وابى البغل وقيل ان النعمان قد قتل، وقد تقدمت في طلبه، وأخذ راسه وحمله مع الرءوس الى حضره امير المؤمنين ان شاء الله. وفي يوم لاثنين الأربع بقين من المحرم، ادخل صاحب الشامة الى الرقة ظاهرا للناس على فالج، عليه برنس حرير ودراعه ديباج، وبين يديه المدثر والمطوق على جملين. ثم ان المكتفي خلف عساكره مع محمد بن سليمان، وشخص في خاصته وغلمانه وخدمه، وشخص معه القاسم بن عبيد الله من الرقة الى بغداد، وحمل معه القرمطى والمدثر والمطوق وجماعه من أسارى الوقعه، وذلك في أول صفر من هذه السنه. فلما صار الى بغداد عزم- فيما ذكر- على ان يدخل القرمطى مدينه السلام مصلوبا على دقل، والدقل على ظهر فيل، فامر بهدم طاقات الأبواب التي يجتاز بها الفيل، ان كانت اقصر من الدقل، وذلك مثل باب الطاق وباب الرصافه وغيرهما. ثم استسمج المكتفي- فيما ذكر- فعل ما كان عزم عليه من ذاك، فعمل له دميانه- غلام يا زمان- كرسيا، وركب الكرسي على ظهر الفيل، وكان ارتفاعه عن ظهر الفيل ذراعين ونصف ذراع- فيما قيل- ودخل المكتفي مدينه السلام بغداد صبيحة يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الاول، وقدم الأسرى بين يديه على جمال مقيدين، عليهم دراريع حرير وبرانس حرير، والمطوق في وسطهم، غلام ما خرجت لحيته، قد جعل في فيه خشبة مخروطه، وشدت الى قفاه كهيئة اللجام، وذلك انه لما ادخل الرقة كان يشتم الناس إذا دعوا عليه، ويبزق عليهم، ففعل ذلك به لئلا يشتم إنسانا. ثم امر المكتفي ببناء دكه في المصلى العتيق من الجانب الشرقى، تكسيرها عشرون ذراعا في عشرين ذراعا، وارتفاعها نحو من عشره اذرع، وبنى

لها درج يصعد منها إليها وكان المكتفي خلف مع محمد بن سليمان عساكره بالرقة عند منصرفه الى مدينه السلام، فتلقط محمد بن سليمان من كان في تلك الناحية من قواد القرمطى وقضاته واصحاب شرطه، فاخذهم وقيدهم، وانحدر والقواد الذين تخلفوا معه الى مدينه السلام على طريق الفرات، فوافى باب الأنبار ليله الخميس لاثنتى عشره خلت من شهر ربيع الاول، ومعه جماعه من القواد، منهم خاقان المفلحى ومحمد بن إسحاق بن كنداجيق وغيرهما. فامر القواد الذين ببغداد بتلقى محمد بن سليمان والدخول معه، فدخل بغداد وبين يديه نيف وسبعون أسيرا، حتى صار الى الثريا، فخلع عليه، وطوق بطوق من ذهب وسور بسوارين من ذهب، وخلع على جميع القواد القادمين معه، وطوقوا وسوروا وصرفوا الى منازلهم، وامر بالأسرى الى السجن. وذكر عن صاحب الشامة انه أخذ وهو في حبس المكتفي سكرجة من المائدة التي تدخل اليه فكسرها، وأخذ شظية منها فقطع بها بعض عروق نفسه، فخرج منه دم كثير، ثم شد يده فلما وقف المولى خدمته على ذلك ساله: لم فعل ذلك؟ فقال: هاج بي الدم فاخرجته فترك حتى صلح، ورجعت اليه قوته. ولما كان يوم الاثنين لسبع بقين من شهر ربيع الاول امر المكتفي القواد والغلمان بحضور الدكة التي امر ببنائها، وخرج من الناس خلق كثير لحضورها، فحضروها، وحضر احمد بن محمد الواثقى وهو يومئذ يلى الشرطه بمدينه السلام ومحمد بن سليمان كاتب الجيش الدكة، فقعدا عليها، وحمل الأسرى الذين جاء بهم المكتفي معه من الرقة والذين جاء بهم محمد بن سليمان ومن كان في السجن من القرامطة الذين جمعوا من الكوفه، وقوم من اهل بغداد كانوا على راى القرامطة، وقوم من الرفوغ من سائر البلدان من غير القرامطة- وكانوا قليلا- فجيء بهم على جمال، واحضروا الدكة، ووقفوا على جمالهم، ووكل بكل رجل منهم عونان، فقيل: انهم كانوا ثلاثمائة ونيفا وعشرين، وقيل ثلاثمائة وستين، وجيء بالقرمطى الحسين بن زكرويه المعروف

بصاحب الشامة، ومعه ابن عمه المعروف بالمدثر على بغل في عمارية، وقد اسبل عليهما الغشاء، ومعهما جماعه من الفرسان والرجاله، فصعد بهما الى الدكة واقعدا، وقدم اربعه وثلاثون إنسانا من هؤلاء الأسارى، فقطعت ايديهم وارجلهم، وضربت أعناقهم واحدا بعد واحد، كان يؤخذ الرجل فيبطح على وجهه فيقطع يمنى يديه، ويحلق بها الى اسفل ليراها الناس، ثم تقطع رجله اليسرى، ثم يسرى يديه، ثم يمنى رجليه، ويرمى بما قطع منه الى اسفل، ثم يقعد فيمد راسه، فيضرب عنقه، ويرمى برأسه وجثته الى اسفل وكانت جماعه من هؤلاء الأسرى قليله يضجون ويستغيثون، ويحلفون انهم ليسوا من القرامطة. فلما فرغ من قتل هؤلاء الأربعة والثلاثين النفس- وكانوا من وجوه اصحاب القرمطى- فيما ذكر- وكبرائهم قدم المدثر، فقطعت يداه ورجلاه وضربت عنقه، ثم قدم القرمطى فضرب مائتي سوط، ثم قطعت يداه ورجلاه، وكوى فغشى عليه، ثم أخذ خشب فأضرمت فيه النار، ووضع في خواصره وبطنه فجعل يفتح عينيه ثم يغمضهما، فلما خافوا ان يموت ضربت عنقه، ورفع راسه على خشبة، وكبر من على الدكة وكبر سائر الناس فلما قتل انصرف القواد ومن كان حضر ذلك الموضع للنظر الى ما يفعل بالقرمطى. واقام الواثقى في جماعه من اصحابه في ذلك الموضع الى وقت العشاء الآخرة، حتى ضرب اعناق باقى الأسرى الذين احضروا الدكة، ثم انصرف. فلما كان من غد هذا اليوم حملت رءوس القتلى من المصلى الى الجسر، وصلب بدن القرمطى في طرف الجسر الأعلى ببغداد، وحفرت لأجساد القتلى في يوم الأربعاء آبار الى جانب الدكة، وطرحت فيها وطمت، ثم امر بعد ايام بهدم الدكة ففعل. ولاربع عشره خلت من شهر ربيع الآخر وافى بغداد القاسم بن سيما منصرفا عن عمله بطريق الفرات، ومعه رجل من بنى العليص من اصحاب القرمطى صاحب الشامة، دخل اليه بأمان، وكان احد دعاه القرمطى،

أخبار متفرقة

يكنى أبا محمد وكان سبب دخوله في الامان ان السلطان راسله، ووعده الاحسان ان هو دخل في الامان، وذلك انه لم يكن بقي من رؤساء القرامطة بنواحي الشام غيره، وكان من موالي بنى العليص، فر وقت الوقعه الى بعض النواحي الغامضه، فافلت ثم رغب في الدخول في الامان والطاعة خوفا على نفسه، فوافى هو ومن معه مدينه السلام، وهم نيف وستون رجلا، فاومنوا واحسن اليهم، ووصلوا بمال حمل اليهم، واخرج هو ومن معه الى رحبه مالك بن طوق مع القاسم بن سيما، واجريت لهم الأرزاق، فلما وصل القاسم بن سيما الى عمله وهم معه، أقاموا معه مده، ثم اجمعوا على الغدر بالقاسم بن سيما، وائتمروا به، ووقف على ذلك من عزمهم، فبادرهم ووضع السيف فيهم فابارهم، واسر جماعه منهم، فارتدع من بقي من بنى العليص ومواليهم، وذلوا، ولزموا ارض السماوه وناحيتها مده حتى راسلهم الخبيث زكرويه، واعلمهم ان مما اوحى اليه، ان المعروف بالشيخ وأخاه يقتلان، وان امامه الذى يوحى اليه يظهر بعدهما ويظفر. [أخبار متفرقة] وفي يوم الخميس لتسع خلون من جمادى الأولى زوج المكتفي ابنه محمدا ويكنى أبا احمد بابنه ابى الحسين القاسم بن عبيد الله على صداق مائه الف دينار وفي آخر جمادى الاولى من هذه السنه ورد- فيما ذكر- كتاب من ناحيه جبى، يذكر فيه ان جبى وما يليها جاءها سيل في واد من الجبل، فغرق نحوا من ثلاثين فرسخا، غرق في ذلك خلق كثير، وغرقت المواشى والغلات، وخرجت المنازل والقرى، واخرج من الغرقى الف ومائتا نفس، سوى من لم يلحق منهم وفي يوم الأحد غره رجب خلع المكتفي على محمد بن سليمان كاتب الجيش وعلى جماعه من وجوه القواد، منهم محمد بن إسحاق بن كنداجيق، وخليفه بن المبارك المعروف بابى الأغر وابنا كيغلغ، وبندقة بن كمشجور وغيرهم من القواد، وامرهم بالسمع والطاعة لمحمد بن سلمان، وخرج محمد بن

سليمان والخلع عليه حتى نزل مضربه بباب الشماسيه، وعسكر هنالك، وعسكر معه جماعه القواد الذين اخرجوا وبرزوا، وكان خروجهم ذلك قاصدين لدمشق ومصر لقبض الاعمال من هارون بن خمارويه، لما تبين للسلطان من ضعفه وضعف من معه وذهاب رجاله بقتل من قتل منهم القرمطى. ثم رحل لست خلون من رجب محمد بن سليمان من باب الشماسيه ومن ضم اليه من الرجال، وهم زهاء عشره آلاف رجل، وامر بالجد في المسير. ولثلاث بقين من رجب قرئ في الجامعين بمدينه السلام كتاب ورد من اسماعيل بن احمد من خراسان، يذكر فيه ان الترك قصدوا المسلمين في جيش عظيم وخلق كثير، وانه كان في عسكرهم سبعمائة قبة تركية، ولا يكون ذلك الا للرؤساء منهم، فوجه اليه برجل من قواده في جيش ضمه اليه، ونودى في الناس بالنفير، فخرج من المطوعة ناس كثير، ومضى صاحب العسكر نحو الترك بمن معه، فوافاهم المسلمون وهم غارون، فكبسوهم مع الصبح، فقتل منهم خلق كثير، وانهزم الباقون، واستبيح عسكرهم، وانصرف المسلمون الى موضعهم سالمين غانمين. وفي شعبان منها ورد الخبر ان صاحب الروم وجه عشره صلبان معها مائه الف رجل الى الثغور، وان جماعه منهم قصدت نحو الحدث، فأغاروا وسبوا من قدروا عليه من المسلمين، واحرقوا. وفي شهر رمضان منها ورد كتاب من القاسم بن سيما من الرحبه على السلطان. يذكر فيه ان الاعراب الذين استأمنوا الى السلطان واليه من بنى العليص ومواليهم ممن كان مع القرمطى نكثوا وغدروا، وانهم عزموا على ان يكبسوا الرحبه في يوم الفطر، عند اشتغال الناس بصلاة العيد، فيقتلوا من يلحقون، وان يحرقوا وينهبوا، وانى اوقعت عليهم الحيله حتى قتلت منهم واسرت خمسين ومائه نفس، سوى من غرق منهم في الفرات، وانى قادم بالأسرى وفيهم جماعه من رؤسائهم وبرءوس من قتل منهم. وفي آخر شهر رمضان من هذه السنه ورد كتاب من ابى معدان من الرقة- فيما

قيل- باتصال الاخبار به من طرسوس ان الله اظهر المعروف بغلام زرافه في غزاه غزاها الروم في هذا الوقت بمدينه تدعى انطاليه، وزعموا انها تعادل قسطنطينيه، وهذه المدينة على ساحل البحر، وان غلام زرافه فتحها بالسيف عنوه، وقتل- فيما قيل- خمسه آلاف رجل، واسر شبيها بعدتهم، واستنقذ من الأسارى اربعه آلاف انسان وانه أخذ للروم ستين مركبا، فحملها ما غنم من الفضه والذهب والمتاع والرقيق، وانه قدر نصيب كل رجل حضر هذه الغزاة، فكان الف دينار فاستبشر المسلمون بذلك وبادرت بكتابي هذا ليقف الوزير على ذلك. وكتب يوم الخميس لعشر خلون من شهر رمضان واقام الحج للناس في هذه السنه الفضل بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ العباس ابن محمد.

سنه اثنتين وتسعين ومائتين

ثم دخلت سنه اثنتين وتسعين ومائتين (ذكر ما كَانَ فِيهَا من الأحداث الجليلة) فمن ذَلِكَ ما كان من توجيه نزار بن محمد من البصره الى السلطان ببغداد رجلا ذكر انه اراد الخروج على السلطان، وصار الى واسط، وان نزارا وجه في طلبه من قبض عليه بواسط، واحدره الى البصره، وانه أخذ بالبصرة قوما، ذكر انهم بايعوه فوجه نزار جميعهم في سفينه الى بغداد، فوقفوا في فرضه البصريين، ووجه جماعه من القواد الى فرضه البصريين، فحمل هذا الرجل على الفالج، وبين يديه ابن له صبى على جمل، ومعه تسعه وثلاثون إنسانا على جمال، وعلى جماعتهم برانس الحرير ودراريع الحرير، واكثرهم يستغيث ويبكى، ويحلف انه بريء، وانه لا يعرف مما ادعى عليه شيئا، وجازوا بهم في التمارين وباب الكرخ والخلد حتى وصلوا الى دار المكتفي، فامر بردهم، وحبسهم في السجن المعروف بالجديد. وفي المحرم منها اغار اندرونقس الرومي على مرعش ونواحيها، فنفر اهل المصيصة واهل طرسوس، فاصيب ابو الرجال بن ابى بكار في جماعه من المسلمين. وفي المحرم منها صار محمد بن سليمان الى حدود مصر لحرب هارون بن خمارويه، ووجه المكتفي دميانه غلام يا زمان من بغداد، وامره بركوب البحر والمضى الى مصر ودخول النيل، وقطع المواد عمن بمصر من الجند، فمضى ودخل النيل حتى وصل الى الجسر، فأقام به، وضيق عليهم وزحف اليهم محمد بن سليمان في الجيوش على الظهر حتى دنا من الفسطاط، وكاتب القواد الذين بها، فكان أول من خرج اليه بدر الحمامي- وكان رئيس القوم- فكسرهم ذلك، ثم تتابع من يستامن اليه من قواد المصريين وغيرهم، فلما راى ذلك هارون وبقية من معه، زحفوا الى محمد بن سليمان، فكانت بينهم

وقعات- فيما ذكر- ثم وقع بين اصحاب هارون في بعض الأيام عصبية فاقتتلوا، فخرج هارون ليسكتهم، فرماه بعض المغاربه بزانه فقتله. وبلغ محمد بن سليمان الخبر، فدخل هو ومن معه الفسطاط، واحتوى على دور آل طولون وأسبابهم، واخذهم جميعا وهم بضعه عشر رجلا، فقيدهم وحبسهم، واستصفى أموالهم، وكتب بالفتح، وكانت الوقعه في صفر من هذه السنه. وكتب الى محمد بن سليمان في اشخاص جميع آل طولون وأسبابهم من القواد، والا يترك أحدا منهم بمصر ولا بالشام، وان يبعث بهم الى بغداد. ففعل ذلك. ولثلاث خلون من شهر ربيع الاول منها سقط الحائط الذى على راس الجسر الاول من الجانب الشرقى من الدار التي كانت لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر على الحسين بن زكرويه القرمطى، وهو مصلوب بقرب ذلك الحائط، فطحنه، فلم يوجد بعد منه شيء. 4 وفي شهر رمضان منها ورد الخبر على السلطان بان قائدا من قواد المصريين يعرف بالخليجى، يسمى ابراهيم، تخلف عن محمد بن سليمان في آخر حدود مصر مع جماعه استمالهم من الجند وغيرهم، ومضى الى مصر مخالفا للسلطان، وصار معه في طريقه جماعه تحب الفتنة، حتى كثر جمعه فلما صار الى مصر اراد عيسى النوشرى محاربته وكان عيسى النوشرى العامل على المعونة بها يومئذ، فعجز عن ذلك لكثرة من مع الخليجي، فانحاز عنه الى الإسكندرية واخلى مصر فدخلها الخليجي وفيها ندب السلطان لمحاربه الخليجي واصلاح امر المغرب فاتكا مولى المعتضد، وضم اليه بدرا الحمامي، وجعله مشيرا عليه فيما يعمل به، وضم اليه جماعه من القواد وجندا كثيرا. ولسبع خلون من شوال منها خلع على فاتك وبدر الحمامي لما ندبا اليه من

الخروج الى مصر، وامرا بسرعة الخروج ثم شخص فاتك وبدر الحمامي لاثنتى عشره خلت من شوال. وللنصف من شوال منها دخل مدينه طرسوس رستم بن بردوا واليا عليها وعلى الثغور الشامية. وفيها كان الفداء بين المسلمين والروم، وأول يوم من ذلك كان لست بقين من ذي القعده منها، فكان جمله من فودى به من المسلمين- فيما قيل- ألفا ونحوا من مائتي نفس ثم غدر الروم، فانصرفوا، ورجع المسلمون بمن بقي معهم من أسارى الروم، فكان عهد الفداء والهدنة من ابى العشائر والقاضى ابن مكرم، فلما كان من امر اندرونقس ما كان من غارته على اهل مرعش وقتله أبا الرجال وغيره، عزل ابو العشائر وولى رستم، فكان الفداء على يديه، وكان المتولى امر الفداء من قبل الروم رجل يدعى اسطانه. وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ العباس ابن محمد.

سنه ثلاث وتسعين ومائتين

ثم دخلت سنه ثلاث وتسعين ومائتين ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث فمن ذلك ما كان من ورود الخبر لخمس بقين من صفر، بان الخليجي المتغلب على مصر، واقع احمد بن كيغلغ وجماعه من القواد بالقرب من العريش، فهزمهم اقبح هزيمه، فندب للخروج اليه جماعه من القواد المقيمين بمدينه السلام، فيهم ابراهيم بن كيغلغ، فخرجوا. ولسبع خلون من شهر ربيع الاول منها، وافى مدينه السلام قائد من قواد طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث الصفار مستأمنا، يعرف بابى قابوس، مفارقا عسكر السجزيه، وذلك ان طاهر بن محمد- فيما ذكر- تشاغل باللهو والصيد، ومضى الى سجستان للصيد والنزهه، فغلب على الأمر بفارس الليث ابن على بن الليث وسبكرى مولى عمرو بن الليث، ودبر الأمر في عمل طاهر والاسم له، فوقع بينهم وبين ابى قابوس تباعد، ففارقهم وصار الى باب السلطان، فقبله السلطان، وخلع عليه وعلى جماعه معه وحباه واكرمه، فكتب طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث الى السلطان، يسأله رد ابى قابوس اليه، ويذكر انه استكفاه بعض اعمال فارس، وانه جبى المال، وخرج به معه، ويسال ان لم يرد اليه ان يحسب له ما ذهب به من مال فارس مما صودر عليه، فلم يجبه السلطان الى شيء من ذلك . ذكرا الخبر عن ظهور أخي الحسين بن زكرويه وفي هذا الشهر من هذه السنه ورد الخبر ان أخا للحسين بن زكرويه المعروف بصاحب الشامة ظهر بالدالية من طريق الفرات في نفر، وانه اجتمع اليه نفر من الاعراب والمتلصصة، فسار بهم نحو دمشق على طريق البر، وعاث بتلك الناحية، وحارب أهلها، فندب للخروج اليه الحسين بن حمدان بن

عاد الخبر إلى ما كان من امر أخي ابن زكرويه

حمدون، فخرج في جماعه كثيره من الجند، وكان مصير هذا القرمطى الى دمشق في جمادى الاولى من هذه السنه ثم ورد الخبر ان هذا القرمطى صار الى طبرية فامتنعوا من ادخاله، فحاربهم حتى دخلها، فقتل عامه من بها من الرجال والنساء، ونهبها، وانصرف الى ناحيه البادية. وفي شهر ربيع الآخر ورد الخبر بان الداعيه الذى بنواحي اليمن صار الى مدينه صنعاء، فحاربه أهلها، فظفر بهم، فقتل أهلها، فلم ينفلت منهم الا القليل، وتغلب على سائر مدن اليمن. عاد الخبر الى ما كان من امر أخي ابن زكرويه فذكر عن محمد بن داود بن الجراح انه قال: انفذ زكرويه بن مهرويه بعد ما قتل ابنه صاحب الشامة رجلا كان يعلم الصبيان بقرية تدعى الزابوقه من عمل الفلوجة، يسمى عبد الله بن سعيد، ويكنى أبا غانم، فتسمى نصرا ليعمى امره، فدار على احياء كلب يدعوهم الى رايه، فلم يقبله منهم احد سوى رجل من بنى زياد، يسمى مقدام بن الكيال، فانه استغوى له طوائف من الاصبغيين المنتمين الى الفواطم وسواقط من العليصيين وصعاليك من سائر بطون كلب، وقصد ناحيه الشام، وعامل السلطان على دمشق والأردن احمد بن كيغلغ، وهو مقيم بمصر على حرب ابن خليج، الذى كان خالف محمد بن سليمان، ورجع الى مصر، فغلب عليها، فاغتنم ذلك عبد الله بن سعيد هذا، وسار الى مدينتي بصرى واذرعات من كورتى حوران والبثنية، فحارب أهلها ثم آمنهم، فلما استسلموا قتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم، واستصفى أموالهم، ثم سار يؤم دمشق، فخرج اليه جماعه ممن كان مرسوما بتشحينها من المصريين كان خلفهم احمد بن كيغلغ مع صالح بن الفضل، فظهروا عليهم، واثخنوا فيهم ثم اغتروهم ببذل الامان لهم، فقتلوا صالحا، وفضوا عسكره، ولم يطمعوا في مدينه دمشق، وكانوا قد صاروا إليها، فدافعهم أهلها عنها، فقصدوا نحو طبرية مدينه جند الأردن، ولحق بهم جماعه افتتنت من

الجند بدمشق، فواقعهم يوسف بن ابراهيم بن بغامردى عامل احمد بن كيغلغ على الأردن، فكسروه وبذلوا الامان له، ثم غدروا به، فقتلوه ونهبوا مدينه الأردن، وسبوا النساء، وقتلوا طائفه من أهلها، فانفذ السلطان الحسين بن حمدان لطلبهم ووجوها من القواد، فورد دمشق وقد دخل أعداء الله طبرية، فلما اتصل خبره بهم عطفوا نحو السماوه، وتبعهم الحسين يطلبهم في بريه السماوه، وهم ينتقلون من ماء الى ماء، ويعورونه حتى لجئوا الى الماءين المعروفين بالدمعانه والحاله، وانقطع الحسين من اتباعهم لعدمه الماء، فعاد الى الرحبه واسرى القرامطة مع غاويهم المسمى نصرا الى قريه هيت، فصبحوها وأهلها غارون لتسع بقين من شعبان مع طلوع الشمس، فنهب ربضها، وقتل من قدر عليه من أهلها، واحرق المنازل، وانتهب السفن التي في الفرات في غرضتها، وقتل من اهل البلد- فيما قيل- زهاء مائتي نفس ما بين رجل وامراه وصبى، وأخذ ما قدر عليه من الأموال والمتاع، واوقر- فيما قيل- ثلاثة آلاف راحله، كانت معه زهاء مائتي كر حنطه بالمعدل ومن البر والعطر والسقط جميع ما احتاج اليه، واقام بها بقية اليوم الذى دخلها والذى بعده، ثم رحل عنها بعد المغرب الى البريه وانما أصاب ذلك من ربضها، وتحصن منه اهل المدينة بسورها، فشخص محمد بن إسحاق بن كنداجيق الى هيت في جماعه من القواد في جيش كثيف بسبب هذا القرمطى، ثم تبعه بعد ايام مؤنس الخازن. وذكر عن محمد بن داود، انه قال: ان القرامطة صبحوا هيت وأهلها غارون، فحماهم الله منه بسورها، ثم عجل السلطان محمد بن إسحاق بن كنداجيق نحوهم، فلم يقيموا بها الا ثلاثا، حتى قرب محمد بن إسحاق منهم، فهربوا منه نحو الماءين، فنهض محمد نحوهم، فوجدهم قد عوروا المياه بينه وبينهم، فانفذت اليه من الحضره الإبل والروايا والزاد وكتب الى الحسين ابن حمدان بالنفوذ من جهة الرحبه اليهم ليجتمع هو ومحمد بن إسحاق على الإيقاع بهم، فلما احس الكلبيون باشراف الجند عليهم، ائتمروا بعدو الله

المسمى نصرا، فوثبوا عليه، وفتكوا به، وتفرد بقتله رجل منهم يقال له الذئب ابن القائم، وشخص الى الباب متقربا بما كان منه، ومستأمنا لبقيتهم، فأسنيت له الجائزة، وعرف له ما أتاه، وكف عن طلب قومه، فمكث أياما ثم هرب، وظفرت بطلائع محمد بن إسحاق برأس المسمى بنصر، فاحتزوه وادخلوه مدينه السلام، واقتتلت القرامطة بعده، حتى وقعت بينهما الدماء، فصار مقدام بن الكيال الى ناحيه طيّئ مفلتا بما احتوى عليه من الحطام، وصارت فرقه منهم كرهت أمورهم الى بنى اسد المقيمين بنواحي عين التمر، فجاوروهم وأرسلوا الى السلطان وفدا يعتذرون مما كان منهم، ويسألون اقرارهم في جوار بنى اسد، فأجيبوا الى ذلك، وحصلت على الماءين بقية الفسقه المستبصره في دين القرامطة. وكتب السلطان الى حسين بن حمدان في معاودتهم باجتثاث اصولهم، فانفذ زكرويه اليهم داعيه له من اكره اهل السواد يسمى القاسم بن احمد بن على، ويعرف بابى محمد، من رستاق نهر تلحانا، فاعلمهم ان فعل الذئب بن القائم قد اتقره عنهم، وثقل قلبه عليهم، وانهم قد ارتدوا عن الدين، وان وقت ظهورهم قد حضر وقد بايع له بالكوفه اربعون الف رجل، وفي سوادها أربعمائة الف رجل، وان يوم موعدهم الذى ذكره الله في كتابه في شان موسى كليمه ص، وعدوه فرعون إذ يقول: «مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى» وان زكرويه يأمرهم ان يخفوا امرهم، ويظهروا الانقلاع نحو الشام، ويسيروا نحو الكوفه حتى يصبحوها في غداه يوم النحر، وهو يوم الخميس لعشر تخلو من ذي الحجه سنه ثلاث وتسعين ومائتين، فإنهم لا يمنعون منها. وانه يظهر لهم، وينجز لهم وعده الذى كانت رسله تأتيهم به، وان يحملوا القاسم بن احمد معهم فامتثلوا امره، ووافوا باب الكوفه، وقد انصرف الناس عن مصلاهم مع إسحاق بن عمران عامل السلطان بها، وكان الذين وافوا باب الكوفه في هذا اليوم- فيما ذكر- ثمانمائه فارس او نحوها، راسهم الذبلانى ابن مهروبه من اهل الصوعر وقيل انه من اهل جنبلاء، عليهم الدروع والجواشن والإله الحسنه، ومعهم جماعه من الرجاله على الرواحل، فاوقعوا

بمن لحقوه من العوام، وسلبوا جماعه، وقتلوا نحوا من عشرين نفسا، وبادر الناس الى الكوفه فدخلوها، وتنادوا السلاح فنهض إسحاق بن عمران في اصحابه، ودخل مدينه الكوفه من القرامطة زهاء مائه فارس من الباب المعروف بباب كنده، فاجتمعت العوام وجماعه من اصحاب السلطان، فرموهم بالحجارة وحاربوهم، والقوا عليهم الستر، فقتل منهم زهاء عشرين نفسا، وأخرجوهم من المدينة، وخرج إسحاق بن عمران ومن معه من الجند، فصافوا القرامطة الحرب وامر إسحاق بن عمران اهل الكوفه بالتحارس لئلا يجد القرامطة غره منهم، فيدخلوا المدينة، فلم يزل الحرب بينهم الى وقت العصر يوم النحر، ثم انهزمت القرامطة نحو القادسية، واصلح اهل الكوفه سورهم وخندقهم، وقاموا مع اصحاب السلطان يحرسون مدينتهم ليلا ونهارا. وكتب إسحاق بن عمران الى السلطان يستمده، فندب للخروج اليه جماعه من قواده، منهم طاهر بن على بن وزير ووصيف بن صوارتكين التركى والفضل بن موسى بن بغا، وبشر الخادم الافشينى وجنى الصفواني ورائق الخزري. وضم اليه جماعه من غلمان الحجر وغيرهم فشخص اولهم يوم الثلاثاء للنصف من ذي الحجه، ولم يراس واحد منهم، كل واحد منهم رئيس على اصحابه. وامر القاسم بن سيما وغيره من رؤساء الاعراب بجمع الاعراب من البوادى بديار مضر وطريق الفرات ودقوقاء وخانيجار وغيرها من النواحي، لينهضوا الى هؤلاء القرامطة إذ كان اصحاب السلطان متفرقين في نواحي الشام ومصر، فمضت الرسائل بذلك اليهم، فحضروا ثم ورد الخبر فيها بان الذين شخصوا مددا لإسحاق بن عمران خرجوا الى زكرويه في رجالهم، وخلفوا إسحاق بن عمران بالكوفه مع من معه من رجاله ليضبطها، وصاروا الى موضع بينه وبين القادسية اربعه اميال، يعرف بالصور وهي في البريه في العرض، فلقيهم زكرويه هنالك فصافوه يوم الاثنين لتسع بقين من ذي الحجه. وقد قيل كانت الوقعه يوم الأحد لعشر بقين منه، وجعل اصحاب السلطان بينهم وبين سوادهم نحوا من ميل، ولم يخلفوا أحدا من المقاتله عنده، واشتدت

الحرب بينهم وكانت الدبره أول هذا اليوم على القرمطى واصحابه حتى كادوا ان يظفروا بهم، وكان زكرويه قد كمن عليهم كمينا من خلفهم، ولم يشعروا به فلما انتصف النهار خرج الكمين على السواد فانتهبه، وراى اصحاب السلطان السيف من ورائهم، فانهزموا اقبح هزيمه، ووضع القرمطى واصحابه السيف في اصحاب السلطان، فقتلوهم كيف شاءوا، وصبر جماعه من غلمان الحجر من الخزر وغيرهم، وهم زهاء مائه غلام، وقاتلوا حتى قتلوا جميعا بعد نكاية شديده نكوها في القرامطة، واحتوت القرامطة على سواد اصحاب السلطان فحازوه، ولم يفلت من اصحاب السلطان الا من كان في دابته فضل فنجا به، او من اثخن بالجراح، فطرح نفسه في القتلى، فتحامل بعد انقضاء الوقعه حتى دخل الكوفه وأخذ للسلطان في هذا السواد، مما كان وجه به مع رجاله من الجمازات، عليها السلاح والإله زهاء ثلاثمائة جمازه، ومن البغال خمسمائة بغل. وذكر ان مبلغ من قتل من اصحاب السلطان في هذه الوقعه سوى غلمانهم والحمالين ومن كان في السواد الف وخمسمائة رجل، فقوى القرمطى واصحابه بما أخذوا في هذه الوقعه، وتطرف بيادر كانت الى جانبه، فاخذ منها طعاما وشعيرا، وحمله على بغال السلطان الى عسكره، وارتحل من موضع الوقعه نحوا من خمسه اميال في العرض الى موضع يقرب من الموضع المعروف بنهر المثنية، وذلك ان روائح القتلى آذتهم. وذكر عن محمد بن داود بن الجراح انه قال: وافى باب الكوفه الاعراب الذين كان زكرويه راسلهم، وقد انصرف المسلمون عن مصلاهم مع إسحاق بن عمران، فتفرقوا من جهتين، ودخلوا ابيات الكوفه، وقد ضربوا على القاسم بن احمد داعيه زكرويه قبة، وقالوا: هذا ابن رسول الله ص، ودعوا: يا لثارات الحسين! يعنون الحسين بن زكرويه المصلوب بباب جسر مدينه السلام، وشعارهم: يا احمد يا محمد- يعنون ابنى زكرويه المقتولين. وأظهروا الاعلام البيض، وقدروا ان يستغووا رعاع الكوفيين بذلك القول، فاسرع إسحاق بن عمران ومن معه المبادره نحوهم، ودفعهم وقتل من ثبت له منهم،

وحضر جماعه من آل ابى طالب، فحاربوا مع إسحاق بن عمران، وحضر جماعه من العامه، فحاربوا فانصرف القرامطة خاسئين، وصاروا الى قريه تدعى العشيره من آخر عمل طسوج السالحين ونهر يوسف مما يلى البر من يومهم، وانفذوا الى عدو الله زكرويه بن مهرويه من استخرجه من نقير في الارض، كان متطمرا فيه سنين كثيره بقرية الدرية واهل قريه الصوعر يتلفونه على ايديهم، ويسمونه ولى الله فسجدوا له لما راوه، وحضر معه جماعه من دعاته وخاصته، واعلمهم ان القاسم بن احمد اعظم الناس عليهم منه، وانه ردهم الى الدين بعد خروجهم منه، وانهم إذا امتثلوا امره انجز مواعيدهم، وبلغهم آمالهم. ورمز لهم رموزا، وذكر فيها آيات من القرآن، نقلها عن الوجه الذى انزلت فيه، واعترف لزكرويه جميع من رسخ حب الكفر في قلبه، من عربي ومولى ونبطي وغيرهم انه رئيسهم المقدم، وكهفهم وملاذهم، وأيقنوا بالنصر وبلوغ الأمل وسار بهم وهو محجوب عنهم يدعونه السيد، ولا يبرزونه لمن في عسكرهم، والقاسم يتولى الأمور دونه، ويمضيها على رايه الى مؤاخر سقى الفرات من عمل الكوفه واعلمهم ان اهل السواد قاطبه خارجون اليه، فأقام هنالك نيفا وعشرين يوما، يبث رسله في السواديين مستلحقين، فلم يلحق بهم من السواديين الا من لحقته الشقوة، وهم زهاء خمسمائة رجل بنسائهم وأولادهم، وسرب اليه السلطان الجنود، وكتب الى كل من كان نفذ نحو الأنبار وهيت لضبطها خوفا من معاوده المقيمين، كانوا بالمائين إليها بالانصراف نحو الكوفه، فعجل اليهم جماعه من القواد منهم، بشر الافشينى وجنى الصفواني ونحرير العمرى، ورائق فتى امير المؤمنين والغلمان الصغار المعروفين بالحجريه، فاوقعوا بأعداء الله بقرب قريه الصوعر، فقتلوا رجالتهم وجماعه من فرسانهم، وأسلموا بيوتهم في ايديهم، فدخلوها، وتشاغلوا بها، فعطفت القرامطة عليهم فهزموهم وذكر عن بعض من ذكر انه حضر مجلس محمد بن داود بن الجراح، وقد ادخل اليه قوم من القرامطة، منهم سلف زكرويه، فكان مما حدثه ان قال: كان زكرويه مختفيا في منزلي في سرداب في دارى عليه باب حديد،

أخبار متفرقة

وكان لنا تنور ننقله، فإذا جاءنا الطلب وضعنا التنور على باب السرداب، وقامت امراه تسجره، فمكث كذلك اربع سنين، وذلك في ايام المعتضد وكان يقول: لا اخرج والمعتضد في الأحياء ثم انتقل من منزلي الى دار قد جعل فيها بيت وراء باب الدار، إذا فتح باب الدار انطبق على باب البيت، فيدخل الداخل فلا يرى باب البيت الذى هو فيه، فلم يزل هذه حاله حتى مات المعتضد، فحينئذ انفذ الدعاه، وعمل في الخروج. ولما ورد خبر الوقعه التي كانت بين القرمطى واصحاب السلطان بالصوعر على السلطان والناس، اعظموه، وندب للخروج الى الكوفه من ذكرت من القواد، وجعلت الرئاسة لمحمد بن إسحاق بن كنداج، وضم اليه جماعه من اعراب بنى شيبان والنمر زهاء الفى رجل، وأعطوا الأرزاق. [أخبار متفرقة] ولاثنتى عشره بقيت من جمادى الاولى قدم بغداد من مكة جماعه نحو العشرة، فصاروا الى باب السلطان، وسألوه توجيه جيش الى بلدهم، لانهم على خوف من الخارج بناحيه اليمن ان يطأ بلدهم، إذ كان قد قرب منها بزعمهم. وفي يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب، قرئ على المنبر ببغداد كتاب ورد على السلطان، ان اهل صنعاء وغيرهم من مدن اليمن اجتمعوا على الخارجي الذى كان تغلب عليها، فحاربوه وهزموه، وفلوا جموعه، فانحاز الى موضع من نواحي اليمن، ثم خلع السلطان لثلاث خلون من شوال على مظفر ابن حاج، وعقد له على اليمن، فخرج ابن حاج لخمس خلون من ذي القعده، ومضى الى عمله باليمن، فأقام بها حتى مات. ولسبع بقين من رجب من هذه السنه، اخرج مضرب المكتفي، فضرب بباب الشماسيه على ان يخرج الى الشام بسبب ابن الخليج، فوردت خريطة لست بقين منه من مصر من قبل فاتك، يذكر انه والقواد زحفوا الى الخليجي، وكانت بينهم حروب كثيره، وان آخر حرب جرت بينهم وبينه قتل فيها اكثر اصحابه،

ثم انهزم الباقون، فظفروا بهم، واحتووا على معسكرهم، فهرب الخليجي حتى دخل الفسطاط، فاستتر بها عند رجل من اهل البلد، ودخل الأولياء الفسطاط. فلما استقروا بها دل على الخليجي، وعلى من كان استتر معه ممن شايعه، فقبض عليهم وحبسهم قبله، فكتب الى فاتك في حمل الخليجي ومن أخذ معه الى مدينه السلام، فردت مضارب المكتفي التي اخرجت الى باب الشماسه، ووجه في رد خزائنه، فردت وقد كانت جاوزت تكريت. ثم وجه فاتك بالخليجى من مصر وجماعه ممن اسر معه مع بشر مولى محمد بن ابى الساج الى مدينه السلام. فلما كان في يوم الخميس للنصف من شهر رمضان من هذه السنه ادخل مدينه السلام من باب الشماسيه، وقدم بين يديه احدى وعشرون رجلا على جمال، وعليهم برانس ودراريع حرير، منهم ابنا بينك- فيما قيل- وابن اشكال الذى كان صار الى السلطان من عسكر عمرو الصفار في الامان، وصندل المزاحمى الخادم الأسود. فلما وصل الخليجي الى المكتفي، فنظر اليه امر بحبسه في الدار، وامر بحبس الآخرين في الحديد، فوجه بهم الى ابن عمرويه، وكانت اليه الشرطه ببغداد، ثم خلع المكتفي على وزيره العباس بن الحسن خلعا، لحسن تدبيره في هذا الفتح، وخلع على بشر الافشينى. ولخمس خلون من شوال ادخل بغداد راس القرمطى المسمى نصرا الذى كان انتهب هيت منصوبا على قناه ولسبع خلون من شوال ورد الخبر مدينه السلام ان الروم أغاروا على قورس، فقاتلهم أهلها، فهزموهم، وقتلوا اكثرهم، وقتلوا رؤساء بنى تميم، ودخلوا المدينة، واحرقوا مسجدها، واستاقوا من بقي من أهلها. وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْن عبد الملك الهاشمى.

سنه اربع وتسعين ومائتين

ثم دخلت سنه اربع وتسعين ومائتين ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث الجليله فمما كان فيها من ذلك دخول ابن كيغلغ طرسوس غازيا في أول المحرم، وخرج معه رستم، وهي غزاه رستم الثانيه، فبلغوا سلندو، ففتح الله عليهم، وصاروا الى آلس، فحصل في ايديهم نحو من خمسه آلاف راس، وقتلوا من الروم مقتله عظيمه، وانصرفوا سالمين . خبر زكرويه بن مهرويه القرمطى ولاثنتى عشره خلت من المحرم ورد الخبر مدينه السلام ان زكرويه بن مهرويه القرمطى ارتحل من الموضع المعروف بنهر المثنية، يريد الحاج، وانه وافى موضعا بينه وبين واقصه اربعه اميال. وذكر عن محمد بن داود انهم مضوا في البر من جهة المشرق، حتى صاروا بالماء المسمى سلمان وصار ما بينهم وبين السواد مفازة، فأقام بموضعه يريد الحاج ينتظر القافلة الاولى، ووافت القافلة واقصه لست- او سبع- خلون من المحرم، فانذرهم اهل المنزل، واخبروهم ان بينهم وبينهم اربعه اميال. فارتحلوا ولم يقيموا، فنجوا وكان في هذه القافلة الحسن بن موسى الربعي وسيما الابراهيمى، فلما امعنت القافلة في السير صار القرمطى الى واقصه، فسألهم عن القافلة فاخبروه انها لم تقم بواقصه، فاتهمهم بإنذارهم إياهم، فقتل من العلافين بها جماعه، واحرق العلف، وتحصن أهلها في حصنهم، فأقام بها أياما، ثم ارتحل عنها نحو زبالة. وذكر عن محمد بن داود انه قال: ان العساكر سارت في طلب زكرويه نحو عيون الطف، ثم انصرفت عنه لما علمت بمكانه بسلمان، ونفذ علان بن كشمرد مع قطعه من فرسان الجيش متجرده على طريق جاده مكة نحو زكرويه، حتى نزلوا السبال، فمضى نحو واقصه حتى نزلها بعد ان جازت القافلة

الاولى، ومر زكرويه في طريقه بطوائف من بنى اسد، فأخذها من بيوتها معه، وقصد الحاج المنصرفين عن مكة، وقصد الجادة نحوهم. ووافى خبر الطير من الحوفه لاربع عشر بقيت من المحرم من هذه السنه بان زكرويه اعترض قافلة الخراسانيه يوم الأحد لإحدى عشره خلت من المحرم بالعقبه من طريق مكة، فحاربوه حربا شديدا، فساءلهم: وقال: افيكم السلطان؟ قالوا: ليس معنا سلطان، ونحن الحاج، فقال لهم: فامضوا فلست أريدكم فلما سارت القافلة تبعها فاوقع بها، وجعل اصحابه ينخسون الجمال بالرماح، ويبعجونها بالسيوف، فنفرت، واختلطت القافلة، وأكب اصحاب الخبيث على الحاج يقتلونهم كيف شاءوا، فقتلوا الرجال والنساء، وسبوا من النساء من أرادوا، واحتووا على ما كان في القافلة، وقد كان لقى بعض من افلت من هذه القافلة علان بن كشمرد، فسأله عن الخبر، فاعلمه ما نزل بالقافلة الخراسانيه، وقال له: ما بينك وبين القوم الا قليل، والليلة او في غد توافى القافلة الثانيه، فان رأوا علما للسلطان قويت انفسهم والله الله فيهم! فرجع علان من ساعته، وامر من معه بالرجوع، وقال: لا اعرض اصحاب السلطان للقتل، ثم اصعد زكرويه، ووافته القافلة الثانيه. وقد كان السلطان كتب الى رؤساء القافلتين الثانيه والثالثه ومن كان فيهما من القواد والكتاب مع جماعه من الرسل الذين تنكبوا طريق الجادة بخبر الفاسق وفعله بالحاج، ويأمرهم بالتحرز منه، والعدول عن الجادة نحو واسط والبصره، او الرجوع الى فيد او الى المدينة، الى ان يلحق بهم الجيوش. ووصلت الكتب اليهم فلم يسمعوا ولم يقيموا، ولم يلبثوا وتقدم اهل القافلة الثانيه وفيها المبارك القمي واحمد بن نصر العقيلي واحمد بن على بن الحسين الهمذاني، فوافوا الفجره، وقد رحلوا عن واقصه، وعوروا مياهها، وملئوا بركها وبئارها بجيف الإبل والدواب التي كانت معهم، مشققه بطونها، ووردوا منزل العقبه في يوم الاثنين لاثنتى عشره خلت من المحرم، فحاربهم اصحاب القافلة الثانيه وكان ابو العشائر مع اصحابه في أول القافلة ومبارك القمي فيمن معه في ساقتها، فجرت بينهم حرب شديده حتى كشفوهم، وأشرفوا على الظفر بهم، فوجد الفجره من ساقتهم غره، فركبوهم من جهتها، ووضعوا رماحهم في جنوب ابلهم

وبطونها، فطحنتهم الإبل وتمكنوا منهم، فوضعوا السيف فيهم فقتلوهم عن آخرهم، الا من استعبدوه ثم انفذوا الى ما دون العقبه باميال فوارس لحقوا المفلته من السيف، فأعطوهم الامان، فرجعوا فقتلوهم اجمعين، وسبوا من النساء ما أحبوا، واكتسحوا الأموال والأمتعة وقتل المبارك القمي والمظفر ابنه، واسر ابو العشائر، وجمع القتلى، فوضع بعضهم على بعض، حتى صاروا كالتل العظيم ثم قطعت يدا ابى العشائر ورجلاه، وضربت عنقه، واطلق من النساء من لم يرغبوا فيه، وافلت من الجرحى قوم وقعوا بين القتلى، فتحاملوا في الليل ومضوا، فمنهم من مات، ومنهم من نجا وهم قليل وكان نساء القرامطة يطفن مع صبيانهم في القتلى يعرضون عليهم الماء، فمن كلمهم أجازوا عليه. وقيل انه كان في القافلة من الحاج زهاء عشرين الف رجل، قتل جميعهم غير نفر يسير ممن قوى على العدو، فنجا بغير زاد ومن وقع في القتل وهو مجروح، وافلت بعد، او من استعبدوه لخدمتهم. وذكر ان الذى أخذوا من المال والأمتعة الفاخره في هذه القافلة قيمه الفى الف دينار. وذكر عن بعض الضرابين انه قال: وردت علينا كتب الضرابين بمصر انكم في هذه السنه تستغنون، قد وجه آل ابن طولون والقواد المصريون الذين أشخصوا الى مدينه السلام، ومن كان في مثل حالهم في حمل ما لهم بمصر الى مدينه السلام، وقد سبكوا آنيه الذهب والفضه والحلى نقارا، وحمل الى مكة ليوافوا به مدينه السلام مع الحاج، فحمل في القوافل الشاخصه الى مدينه السلام، فذهب ذلك كله. وذكر ان القرامطة بينا هم يقتلون وينهبون هذه القافلة يوم الاثنين، إذ اقبلت قافلة الخراسانيه، فخرج اليهم جماعه من القرامطة، فواقعوهم، فكان سبيلهم سبيل هذه فلما فرغ زكرويه من اهل القافلة الثانيه من الحاج. وأخذ أموالهم، واستباح حريمهم، رحل من وقته من العقبه بعد ان ملا البرك والابار بها بالجيف من الناس والدواب وكان ورد خبر قطعه على القافلة

الثانيه من قوافل السلطان مدينه السلام في عشيه يوم الجمعه لاربع عشره بقيت من المحرم، فعظم ذلك على الناس جميعا وعلى السلطان، وندب الوزير العباس بن الحسن بن أيوب محمد بن داود بن الجراح الكاتب المتولى دواوين الخراج والضياع بالمشرق وديوان الجيش للخروج الى الكوفه، والمقام بها لانفاذ الجيوش الى القرمطى فخرج من بغداد لإحدى عشره بقيت من المحرم، وحمل معه اموالا كثيره لاعطاء الجند. ثم سار زكرويه الى زبالة فنزلها، وبث الطلائع امامه ووراءه خوفا من اصحاب السلطان المقيمين بالقادسية ان يلحقوه، ومتوقعا ورود القافلة الثالثه التي فيها الأموال والتجار ثم سار الى الثعلبية، ثم الى الشقوق، واقام بها بين الشقوق والبطان في طرف الرمل في موضع يعرف بالطليح، ينتظر القافلة الثالثه، وفيها من القواد نفيس المولدى وصالح الأسود، ومعه الشمسه والخزانه وكانت الشمسه جعل فيها المعتضد جوهرا نفيسا. وفي هذه القافلة، كان ابراهيم ابن ابى الاشعث- واليه كان قضاء مكة والمدينة وامر طريق مكة والنفقة فيه لمصالحه- وميمون بن ابراهيم الكاتب- وكان اليه امر ديوان زمام الخراج والضياع- واحمد بن محمد بن احمد المعروف بابن الهزلج، والفرات بن احمد بن محمد بن الفرات، والحسن بن اسماعيل قرابه العباس بن الحسن- وكان يتولى بريد الحرمين- وعلى بن العباس النهيكى. فلما صار اهل هذه القافلة الى فيد بلغهم خبر الخبيث زكرويه واصحابه، وأقاموا بفيد أياما ينتظرون تقويه لهم من قبل السلطان، وقد كان ابن كشمرد رجع من الطريق الى القادسية في الجيوش التي أنفذها السلطان معه وقبله وبعد. ثم سار زكرويه الى فيد، وبها عامل السلطان، يقال له حامد بن فيروز، فالتجا منه حامد الى احد حصنيها في نحو من مائه رجل كانوا معه في المسجد، وشحن الحصن الآخر بالرجال، فجعل زكرويه يراسل اهل فيد، ويسألهم ان يسلموا اليه عاملهم ومن فيها من الجند، وانهم ان فعلوا ذلك آمنهم فلم

أخبار متفرقة

يجيبوه الى ما سال ولما لم يجيبوه حاربهم، فلم يظفر منهم بشيء. قال: فلما راى انه لا طاقه له بأهلها، تنحى فصار الى النباج، ثم الى حفير ابى موسى الأشعري. وفي أول شهر ربيع الاول انهض المكتفي وصيف بن صوارتكين- ومعه من القواد جماعه- فنفذوا من القادسية على طريق خفان، فلقيه وصيف يوم السبت لثمان بقين من شهر ربيع الاول، فاقتتلوا يومهم، ثم حجز بينهم الليل، فباتوا يتحارسون، ثم عاودهم الحرب، فقتل جيش السلطان منهم مقتله عظيمه، وخلصوا الى عدو الله زكرويه، فضربه بعض الجند بالسيف على قفاه وهو مول ضربه اتصلت بدماغه فاخذ أسيرا وخليفته وجماعه من خاصته واقربائه، فيهم ابنه وكاتبه وزوجته، واحتوى الجند على ما في عسكره. وعاش زكرويه خمسه ايام ثم مات، فشق بطنه، ثم حمل بهيئته، وانصرف بمن كان بقي حيا في يديه من اسرى الحاج. [أخبار متفرقة] وفيها غزا ابن كيغلغ من طرسوس، فأصاب من العدو اربعه آلاف راس سبى ودواب ومواشى كثيره ومتاعا ودخل بطريق من البطارقه اليه في الامان، واسلم وكان شخوصه من طرسوس لهذه الغزاة في أول المحرم من هذه السنه. وفيها كاتب اندرونقس البطريق السلطان يطلب الامان، وكان على حرب اهل الثغور من قبل صاحب الروم، فاعطى ذلك، فخرج، واخرج نحوا من مائتي نفس من المسلمين كانوا اسرى في حصنه، وكان صاحب الروم قد وجه اليه من يقبض عليه، فاعطى المسلمين الذين كانوا في حصنه اسرى السلاح، واخرج معهم بعض بنيه، فكبسوا البطريق الموجه اليه للقبض عليه ليلا، فقتلوا ممن معه خلقا كثيرا، وغنموا ما في عسكره وكان رستم قد خرج في اهل الثغور في جمادى الاولى قاصدا اندرونقس ليتخلصه، فوافى رستم قونيه بعقب الوقعه وعلم البطارقه بمسير المسلمين اليهم فانصرفوا، ووجه اندرونقس ابنه الى رستم، ووجه رستم كاتبه وجماعه من البحريين،

فباتوا في الحصن، فلما أصبحوا خرج اندرونقس وجميع من معه من أسارى المسلمين، ومن صار اليهم منهم، ومن وافقه على رايه من النصارى، واخرج ماله ومتاعه الى معسكر المسلمين، وخرب المسلمون قونيه، ثم قفلوا الى طرسوس واندرونقس وأسارى المسلمين ومن كان مع اندرونقس من النصارى. وفي جمادى الآخرة منها كانت بين اصحاب حسين بن حمدان بن حمدون وجماعه من اصحاب زكرويه كانوا هربوا من الوقعه التي اصابه فيها ما اصابه، وأخذوا طريق الفرات يريدون الشام، فاوقع بهم وقعه، فقتل جماعه منهم، اسر جماعه من نسائهم وصبيانهم. وفيها وافى رسل ملك الروم احدهم خال ولده اليون وبسيل الخادم، ومعهم جماعه باب الشماسيه بكتاب منه الى المكتفي يسأله الفداء بمن في بلاده من المسلمين، من في بلاد الاسلام من الروم، وان يوجه المكتفي رسولا الى بلاد الروم ليجمع الأسرى من المسلمين الذين في بلاده، وليجتمع هو معه على امر يتفقان عليه، ويتخلف بسيل الخادم بطرسوس ليجتمع اليه الأسرى من الروم في الثغور ليصيرهم مع صاحب السلطان الى موضع الفداء فأقاموا بباب الشماسيه أياما، ثم ادخلوا بغداد ومعهم هديه من صاحب الروم عشره من أسارى المسلمين، فقبلت منهم واجيب صاحب الروم الى ما سال. وفيها أخذ رجل بالشام- زعم انه السفياني- فحمل هو وجماعه معه من الشام الى باب السلطان، فقيل انه موسوس. وفيها أخذ الاعراب بطريق مكة رجلين يعرف أحدهما بالحداد والآخر بالمنتقم، وذكر ان المعروف بالمنتقم منهما أخو امراه زكرويه، فدفعوهما الى نزار بالكوفه، فوجههما نزار الى السلطان، فذكر عن الاعراب انهما كانا صارا إليهما يدعوانهم الى الخروج على السلطان. وفيها وجه الحسين بن حمدان من طريق الشام رجلا يعرف بالكيال مع

ستين رجلا من اصحابه الى السلطان كانوا استأمنوا اليه من اصحاب زكرويه. وفيها وصل الى بغداد اندرونقس البطريق وفيها كانت وقعه بين الحسين بن حمدان واعراب كليب والنمر واسد وغيرهم، اجتمعوا عليه في شهر رمضان منها، فهزموه حتى بلغوا به باب حلب وفيها حاصر اعراب طيّئ وصيف بن صوارتكين بفيد، وكان وجه أميرا على الموسم، فحوصر ثلاثة ايام، ثم خرج اليهم، فواقعهم فقتل منهم قتلى، ثم انهزمت الاعراب ورحل وصيف من فيد بمن معه من الحاج. وحج بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمى.

سنه خمس وتسعين ومائتين

ثم دخلت سنه خمس وتسعين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من خروج عبد الله بن ابراهيم المسمعي عن مدينه أصبهان الى قريه من قراها على فراسخ منها وانضمام نحو من عشره آلاف من الأكراد وغيرهم- فيما ذكر- اليه مظهرا الخلاف على السلطان فامر بدر الحمامي بالشخوص اليه، وضم اليه جماعه من القواد ونحو من خمسه آلاف من الجند وفيها كانت وقعه للحسين بن موسى على اعراب طيّئ الذين كانوا حاربوا وصيف بن صوارتكين على غره منهم، فقتل من رجالهم- فيما قيل- سبعين، واسر من فرسانهم جماعه. وفيها توفى ابو ابراهيم اسماعيل بن احمد عامل خراسان وما وراء النهر في صفر منها، لاربع عشره خلت منه، وقام ابنه احمد بن اسماعيل بن احمد في عمل ابيه مقامه، وولى اعمال ابيه وذكر ان المكتفي لاربع ليال خلون من شهر ربيع الآخر قعد، فعقد بيده لواء ودفعه الى طاهر بن على بن وزير، وخلع عليه وامره بالخروج باللواء الى احمد بن اسماعيل. وفيها وجه منصور بن عبد الله بن منصور الكاتب الى عبد الله بن ابراهيم المسمعي، وكتب اليه يخوفه عاقبه الخلاف اليه، فتوجه اليه، فلما صار اليه ناظره، فرجع الى طاعه السلطان، وشخص في نفر من غلمانه، واستخلف على عمله بأصبهان خليفه، ومعه منصور بن عبد الله، حتى صار الى باب السلطان، فرضى عنه المكتفي، ووصله وخلع عليه وعلى ابنه. وفيها اوقع الحسين بن موسى بالكردى المتغلب كان على نواحي الموصل، فظفر باصحابه، واستباح عسكره وأمواله، وافلت الكردى فتعلق بالجبال فلم يدرك

وفيها فتح المظفر بن حاج بعض ما كان غلب عليه بعض الخوارج باليمن، وأخذ رئيسا من رؤسائهم يعرف بالحكيمى وفيها لثلاث عشره ليله بقيت من جمادى الآخرة امر خاقان المفلحى بالشخوص الى اذربيجان لحرب يوسف بن ابى الساج، وضم اليه نحو اربعه آلاف رجل من الجند ولثلاث عشره بقيت من شهر رمضان دخل بغداد رسول ابى مضر زياده الله بن الاغلف، ومعه فتح الأعجمي، ومعه هدايا وجه بها الى المكتفي. وفيها تم الفداء بين المسلمين والروم في ذي القعده، وكانت عده من فودى به من الرجال والنساء ثلاثمائه آلاف نفس. وفي ذي القعده لاثنتى عشره ليله خلت منها توفى المكتفي بالله، وكانت خلافته ست سنين وسته اشهر وتسعه عشر يوما، وكان يوم توفى ابن اثنتين وثلاثين سنه يومئذ، وكان ولد سنه اربع وستين ومائتين، ويكنى أبا محمد، وأمه أم ولد تركية تسمى جيجك وكان ربعه جميلا، رقيق اللون، حسن الشعر، وافر الحمه، وافر اللحية.

خلافه المقتدر بالله

خلافه المقتدر بالله ثم بويع جعفر بن المعتضد بالله، ولما بويع جعفر بن المعتضد لقب المقتدر بالله وهو يومئذ ابن ثلاث عشره سنه وشهر واحد واحد وعشرين يوما وكان مولده ليله الجمعه لثمان بقين من شهر رمضان من سنه اثنتين وثمانين ومائتين، وكنيته ابو الفضل، وأمه أم ولد يقال لها شغب، فذكر كان في بيت المال يوم بويع خمسه عشر الف الف دينار ولما بويع المقتدر غسل المكتفي وصلى عليه، ودفن في موضع من دار محمد بن عبد الله بن طاهر. وفيها كانت بين عج بن حاج والجند وقعه في اليوم الثانى من ايام منى، قتل فيها جماعه، وجرح منهم، بسبب طلبهم جائزه بيعه المقتدر، وهرب الناس الذين كانوا بمنى الى بستان ابن عامر، وانتهب الجند مضرب ابى عدنان ربيعه بن محمد بمنى. وكان احد أمراء القوافل، وأصاب المنصرفين من مكة في منصرفهم في الطريق من القطع والعطش امر غليظ، مات من العطش- فيما قيل- منهم جماعه وسمعت بعض من يحكى ان الرجل كان يبول في كفه، ثم يشربه. وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك الهاشمى.

سنه ست وتسعين ومائتين

ثم دخلت سنه ست وتسعين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من اجتماع جماعه من القواد والكتاب والقضاه على خلع المقتدر، وتناظرهم فيمن يجعل في موضعه، فاجتمع رأيهم على عبد الله بن المعتز وناظروه في ذلك، فأجابهم الى ذلك على الا يكون في سفك ذلك دم ولا حرب، فاخبروه ان الأمر يسلم اليه عفوا، وان جميع من وراءهم من الجند والقواد والكتاب قد رضوا به فبايعهم على ذلك، وكان الراس في ذلك محمد بن داود ابن الجراح وابو المثنى احمد بن يعقوب القاضى، وواطا محمد بن داود بن الجراح جماعه من القواد على الفتك بالمقتدر والبيعه لعبد الله بن المعتز، وكان العباس بن الحسن على مثل رأيهم فلما راى العباس امره مستوثقا له مع المقتدر، بدا له فيما كان عزم عليه من ذلك، فحينئذ وثب به الآخرون فقتلوه، وكان الذى تولى قتله بدر الأعجمي والحسين بن حمدان ووصيف بن صوارتكين، وذلك يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الاول. ولما كان من غد هذا اليوم- وذلك يوم الأحد- خلع المقتدر القواد والكتاب وقضاه بغداد، وبايعوا عبد الله بن المعتز، ولقبوه الراضي بالله. وكان الذى أخذ له البيعه على القواد وتولى استحلافهم والدعاء باسمائهم محمد بن سعيد الأزرق كاتب الجيش. وفي هذا اليوم كانت بين الحسين بن حمدان وبين غلمان الدار حرب شديده من غدوه الى انتصاف النهار. وفيه انفضت الجموع التي كان محمد بن داود جمعها لبيعه ابن المعتز عنه، وذلك ان الخادم الذى يدعى مؤنسا حمل غلمانا من غلمان الدار في شذوات،

فصاعد بها وهم فيها في دجلة، فلما حاذوا الدار التي فيها ابن المعتز ومحمد بن داود صاحوا بهم، ورشقوهم بالنشاب، فتفرقوا، وهرب من في الدار من الجند والقواد والكتاب، وهرب ابن المعتز، ولحق بعض الذين بايعوا ابن المعتز بالمقتدر، فاعتذروا بانه منع من المصير اليه، واختفى بعضهم فأخذوا وقتلوا وانتهب العامه دور ابن داود والعباس بن الحسن، وأخذ ابن المعتز فيمن أخذ. وفي يوم السبت لاربع بقين من شهر ربيع الاول منها سقط الثلج ببغداد من غدوه الى قدر صلاه العصر، حتى صار في الدور والسطوح منه نحو من اربعه أصابع، وذكر انه لم ير ببغداد مثل ذلك قط. وفي يوم الاثنين لليلتين بقيتا من شهر ربيع الاول منها، سلم محمد بن يوسف القاضى ومحمد بن عمرويه وابو المثنى وابن الجصاص والأزرق كاتب الجيش في جماعه غيرهم الى مؤنس الخازن، فترك أبا المثنى في دار السلطان، ونقل الآخرين الى منزله، فافتدى بعضهم نفسه، وقتل بعضهم، وشفع في بعض فاطلق. وفيها كانت وقعه بين طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث وسبكرى غلام عمرو بن الليث، فاسر سبكرى طاهرا، ووجهه مع أخيه يعقوب بن محمد الى السلطان وفيها وجه القاسم بن سيما مع جماعه من القواد والجند في طلب حسين بن حمدان بن حمدون، فشخص لذلك حتى صار الى قرقيسيا والرحبه والدالية، وكتب الى أخي الحسين عبد الله بن حمدان بن حمدون بطلب أخيه، فالتقى هو واخوه بموضع يعرف بالأعمى بين تكريت والسودقانيه بالجانب الغربي من دجلة، فانهزم عبد الله، وبعث الحسين يطلب الامان، فاعطى ذلك ولسبع بقين من جمادى الآخرة منها وافى الحسين بن حمدان بغداد، فنزل باب حرب، ثم صار الى دار السلطان من غد ذلك اليوم، فخلع عليه وعقد له على قم وقاشان. ولست بقين من جمادى الآخرة، خلع على ابن دليل النصراني كاتب يوسف

ابن ابى الساج ورسوله، وعقد ليوسف بن ابى الساج على المراغه واذربيجان، وحملت اليه الخلع، وامر بالشخوص الى عمله. وللنصف من شعبان منها خلع على مؤنس الخادم، وامر بالشخوص الى طرسوس لغزو الصائفه، فنفذ لذلك وخرج في عسكر كثيف وجماعه من القواد وغلمان الحجر. وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك الهاشمى.

سنه سبع وتسعين ومائتين

ثم دخلت سنه سبع وتسعين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من غزو مؤنس الخادم الصائفه بلاد الروم من ثغر ملطيه في جيش كثيف، ومعه ابو الأغر السلمى وظفر بالروم، واسر اعلاجا في آخر سنه ست وتسعين ومائتين، وورد الخبر بذلك على السلطان لست خلون من المحرم. وفيها صار الليث بن على بن الليث الصفار الى فارس في جيش، فتغلب عليها، وطرد عنها سبكرى، وذلك بعد ما ولى السلطان سبكرى بعد ما بعث سبكرى طاهر بن محمد الى السلطان أسيرا، فامر المقتدر مؤنسا الخادم بالشخوص الى فارس لحرب الليث بن على، فشخص إليها في شهر رمضان منها. وفيها وجه أيضا المقتدر القاسم بن سيما لغزوه الصائفه ببلاد الروم في جمع كثير من الجند في شوال منها. وفيها كانت بين مؤنس الخادم والليث بن على بن الليث وقعه هزم فيها الليث، ثم اسر وقتل من اصحابه جماعه كثيره، واستامن منهم الى مؤنس جماعه كثيره، ودخل اصحاب السلطان النوبندجان، وكان الليث قد تغلب عليها. واقام الحج فيها للناس الفضل بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عبيد الله ابن العباس بن محمد.

سنه ثمان وتسعين ومائتين

ثم دخلت سنه ثمان وتسعين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان فيها من غزو القاسم بن سيما ارض الروم الصائفه. وفيها وجه المقتدر وصيف كامه الديلمى في جيش وجماعه من القواد لحرب سبكرى غلام عمرو بن الليث وفيها كانت بين سبكرى ووصيف كامه وقعه هزمه فيها وصيف، واخرجه من عمل فارس، ودخل وصيف كامه ومن معه فارس، واستامن اليه من اصحاب سبكرى جماعه كثيره، فاسر رئيس عسكره المعروف بالقتال، ومضى سبكرى هاربا الى احمد بن اسماعيل بن احمد بما معه من الأموال والذخائر فاخذ ما معه اسماعيل بن احمد، وقبض عليه فحبسه. وفيها كانت بين احمد بن اسماعيل بن احمد ومحمد بن على بن الليث وقعه بناحيه بست والرخج، اسره فيها احمد بن اسماعيل. وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك.

سنه تسع وتسعين ومائتين

ثم دخلت سنه تسع وتسعين ومائتين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من غزو رستم بن برود الصائفه من ناحيه طرسوس. وهو والى الثغور من قبل بنى نفيس، ومعه دميانه فحاصر حصن مليح الأرمني، ثم رحل عنه، واحرق ارباض ذي الكلاع وفيها ورد رسول احمد بن اسماعيل بن احمد بكتاب منه الى السلطان يخبر فيه انه فتح سجستان، وان اصحابه دخلوها، واخرجوا من كان بها من اصحاب الصفار، وان المعدل بن على بن الليث صار اليه بمن معه من اصحابه في الامان، وكان المعدل يومئذ مقيما بزرنج، فصار الى احمد بن اسماعيل وهو مقيم ببست والرخج، فوجه به ابن اسماعيل وبعياله ومن معه الى هراة، وبين سجستان وبست الرخج ستون فرسخا، فوردت الخريطة بذلك على السلطان يوم الاثنين لعشر خلون من صفر. وفيها وافى بغداد العطير صاحب زكرويه ومعه الأغر- وهو أيضا احد قواد زكرويه- مستأمنا. وفي ذي الحجه منها غضب على على بن محمد بن الفرات لاربع خلون منه، وحبس ووكل بدوره ودور اهله وأخذ كل ما وجد له ولهم، وانتهت دوره ودور بنى اخوته وأهلهم، واستوزر محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان. وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك.

سنه ثلاثمائة

ثم دخلت سنه ثلاثمائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من ورود بغداد رسول من العامل على برقه، وهي من عمل مصر، الى ما خلفها باربع فراسخ، ثم ما بعد ذلك من عمل المغرب بخبر خارجى خرج عليه، وانه ظفر بعسكره، وقتل خلقا من اصحابه، ومعه آذان وانوف من قتله في خيوط واعلام من اعلام الخارجي وفي هذه السنه كثرت الامراض والعلل ببغداد في الناس، وذكر ان الكلاب والذئاب كلبت فيها بالبادية، فكانت تطلب الناس والدواب والبهائم، فإذا عضت إنسانا اهلكته. وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك الهاشمى.

سنه احدى وثلاثمائة

ثم دخلت سنه احدى وثلاثمائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك عزل المقتدر محمد بن عبيد الله عن الوزارة وحبسه اياه مع ابنيه عبد الله وعبد الواحد وتصييره على بن عيسى بن داود بن الجراح له وزيرا وفيها كثر أيضا الوباء ببغداد، فكان بها منه نوع سموه حنينا، ومنه نوع سموه الماسرا، فاما الحنين فكانت سليمه، واما الماسرا فكانت طاعونا قتاله وفيها احضر دار الوزير على بن عيسى رجل- ذكر انه يعرف بالحلاج ويكنى أبا محمد- مشعوذ، ومعه صاحب له، سمعت جماعه من الناس يزعمون انه يدعى الربوبيه فصلب هو وصاحبه ثلاثة ايام، كل يوم من ذلك من اوله الى انتصافه، ثم ينزل بهما، فيؤمر بهما الى الحبس، فحبس مده طويله، فافتتن به جماعه منهم نصر القشورى وغيره، الى ان ضج الناس، ودعوا على من يعيبه، وفحش امره، واخرج من الحبس، فقطعت يداه ورجلاه، ثم ضربت عنقه، ثم احرق بالنار. وفيها غزا الصائفه الحسين بن حمدان بن حمدون، فورد كتاب من طرسوس يذكر فيه انه فتح حصونا كثيره، وقتل من الروم خلقا كثيرا. وفيها قتل احمد بن اسماعيل بن احمد صاحب خراسان وما وراء النهر، قتله غلام له تركي- اخص غلمانه به- ذبحا، هو وغلامان معه، دخلوا عليه في قبته، ثم هربوا فلم يدركوا. وفيها وقع الاختلاف بين نصر بن احمد بن اسماعيل بن احمد وعم ابيه إسحاق بن احمد، فكان مع نصر بن احمد غلمان ابيه وكتابه وجماعه من قواده والأموال والكراع والسلاح، وانحاز بعد قتل ابيه الى بخارى وإسحاق بن احمد بسمرقند وهو عليل من نقرس به، فدعا الناس

بسمرقند الى مبايعته على الرئاسة عليهم، وبعث كل واحد منهما الى السلطان كتبه خاطبا على نفسه، عمل اسماعيل بن احمد، وانفذ إسحاق كتبه- فيما ذكر- الى عمران المرزبانى لإيصالها الى السلطان، ففعل ذلك، وانفذ نصر بن احمد ابن اسماعيل كتبه الى حماد ابن احمد، ليتولى إيصالها الى السلطان، ففعل. وفيها كانت وقعه بين نصر بن احمد بن اسماعيل واصحابه من اهل بخارى وإسحاق بن احمد عم ابيه واصحابه من اهل سمرقند، لاربع عشره بقيت من شعبان منها، هزم فيها نصر واصحابه إسحاق واهل سمرقند ومن كان قد انضم اليه من اهل تلك النواحي، وتفرقوا عنه هاربين، وكانت هذه الوقعه بينهم على باب بخارى وفيها زحف اهل بخارى الى اهل سمرقند بعد ما هزموا إسحاق بن احمد ومن معه، فكانت بينهم وقعه اخرى ظفر فيها أيضا اهل بخارى باهل سمرقند، فهزموهم، وقتلوا منهم مقتله عظيمه، ودخلوا سمرقند قسرا، وأخذوا إسحاق بن احمد أسيرا، وولوا ما كان اليه من عمل ابنا لعمرو بن نصر بن احمد. وفيها دخل اصحاب ابن البصرى من اهل المغرب برقه، وطرد عنها عامل السلطان. وولى ابو بكر محمد بن على بن احمد بن ابى زنبور الماذرائى اعمال مصر وخراجها. وفيها قتل ابو سعيد الجنابى الخارج كان بناحيه لبحرين وهجر، قتله- فيما قيل- خادم له وفيها كثرت الامراض والعلل ببغداد، وفشا الموت في أهلها، وكان اكثر ذلك- فيما قيل- في الحربية واهل الارباض وفيها وافى قائد من قواد ابن البصرى في البرابره والمغاربه الإسكندرية وفيها ورد كتاب تكين عامل السلطان من مصر يسأله. المدد. وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك.

سنه اثنتين وثلاثمائة

ثم دخلت سنه اثنتين وثلاثمائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من اشخاص الوزير على بن عيسى بن عبد الباقى في الفى فارس فيها لغزو الصائفه، معونه لبشر خادم ابن ابى الساج وهو والى طرسوس من قبل السلطان الى طرسوس، فلم يتيسر لهم غزو الصائفه، فغزوها شاتيه في برد شديد وثلج. وفيها تنحى الحسن بن على العلوي الاطروش بعد غلبته على طبرستان عن آمل، وصار الى سالوس فأقام بها ووجه صعلوك صاحب الري اليه جيشا، فلم يكن لجيشه بها ثبات، وعاد الحسن بن على إليها، ولم ير الناس مثل عدل الاطروش وحسن سيرته واقامته الحق. وفيها دخل حباسه صاحب ابن البصرى الإسكندرية، وغلب عليها، وذكر انه وردها في مائتي مركب في البحر. وفيها وافى حباسه صاحب ابن البصرى موضعا من فسطاط مصر على مرحلة، يقال لها سفط، ثم رجع منه الى وراء ذلك، فنزل منزلا بين الفسطاط والإسكندرية. وفيها شخص مؤنس الخادم الى مصر لحرب حباسه، وقوى بالرجال والسلاح والمال. وفيها لسبع بقين من جمادى الاولى قبض على الحسين بن عبد الله المعروف بابن الجصاص وعلى ابنيه، واستصفى كل شيء له، ثم حبس وقيد. وفيها كانت وقعه بمصر بين اصحاب السلطان وحباسه واصحابه لست بقين من جمادى الاولى منها، فقتل من الفريقين جماعه، وجرحت منهم

جماعه ثم اخرى بعد ذلك بيوم نحو التي كانت في هذه، ثم ثالثه بعد ذلك في جمادى الآخرة منها ولاربع عشره بقيت من جمادى الآخرة منها. ورد كتاب بوقعه كانت بينهم، هزم اصحاب السلطان فيها المغاربه وفيها ورد كتاب من بشر عامل السلطان على طرسوس على السلطان، يذكر فيه غزوه ارض الروم، وما فتح فيها من الحصون، وما غنم وسبى، وانه اسر من البطارقه مائه وخمسين، وان مبلغ السبى نحو من الفى راس ولإحدى عشره بقيت من رجب ورد الخبر من مصر ان اصحاب السلطان لقوا حباسه واهل المغرب يقاتلونهم، فكانت الهزيمة على المغاربه، فقتلوا منهم وأسروا سبعه آلاف رجل، وهرب الباقون مفلولين، وكانت الوقعه يوم الخميس بسلخ جمادى الآخرة. وفيها انصرف حباسه ومن معه من المغاربه عن الإسكندرية راجعين الى المغرب بعد ما ناظر- فيما ذكر- حباسه عامل السلطان بمصر على الدخول اليه بالأمان، وجرت بينهما في ذلك كتب وكان انصرافه- فيما ذكر- لاختلاف حدث بين اصحابه في الموضع الذى شخص منه. وفيها اوقع يانس الخادم بناحيه وادي الذئاب، وما قرب من ذلك الموضع بمن هنالك من الاعراب، فقتل منهم مقتله عظيمه، ذكر انه قتل منهم سبعه آلاف رجل، ونهب بيوتهم، وأصاب في بيوتهم من اموال التجار وامتعتهم التي كانوا أخذوها بقطع الطريق عليهم ما لا يحصى كثرته. ولست خلون من ذي الحجه هلكت بدعه مولاه المأمون وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك. وفي اليوم الثانى والعشرين من ذي الحجه منها خرج اعراب من الحاجر على ثلاثة فراسخ مما يلى البر على المنصرفين من مكة، فقطعوا عليهم الطريق،

وأخذوا ما معهم من العين واستاقوا من جمالهم ما أرادوا، وأخذوا- فيما قيل- مائتين وثمانين امراه حرائر سوى من أخذوا من المماليك والإماء. تم الكتاب، وهو آخر تاريخ ابن جرير الطبرى رحمه الله، وقد ضمنا هذا الكتاب أبوابا من اوله الى آخره، حيث انتهينا اليه من يومنا هذا، فما كان متأخرا ذكرناه بروايه سماع ان اخر الله في الأجل

صلة تاريخ الطبري لعريب بن سعد القرطبي

الجزء الحادي عشر [صلة تاريخ الطبري لعريب بن سعد القرطبي] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ثم دخلت سنة احدى وتسعين ومائتين (ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) (ذكر اخبار القرامطة وقتل صاحب الشامة) فيها كتب الوزير القاسم بن عبيد الله الى محمد بن سليمان الكاتب- وكان المكتفي قد ولاه حرب القرمطى صاحب الشامة، وصير اليه امر القواد والجيوش- فأمره بمناهضه صاحب الشامة والجد في امره وجمع القواد والرجال على محاربته. فسار اليه محمد بن سليمان بجميع من كان معه واهل النواحي التي تليه من الاعراب وغيرهم حتى قربوا من حماه، وصار بينهم وبينها نحو اثنى عشر ميلا، فلقوا اصحاب القرمطى هنالك يوم الثلاثاء لست خلون من المحرم. وكان القرمطى قد قدم بعض اصحابه في ثلاثة آلاف فارس وكثير من الرجاله في مقدمته، وتخلف هو في جماعه منهم، ردءا لهم، وجعل السواد وراءه، وكان معه مال جمعه، فالتقى رجال السلطان بمن تقدم من القرامطة لحربهم، والتحم القتال بينهم، وصبر الفريقان. ثم انهزم اصحاب القرمطى، واسر من رجالهم بشر كثير، وقتل منهم عدد عظيم، وتفرق الباقون في البوادى، وتبعهم اصحاب السلطان ليله الأربعاء يقتلونهم ويأسرونهم. فلما راى القرمطى ما نزل باصحابه من الانهزام والتفرق والقتل والاسر حمل أخا له يقال له ابو الفضل مالا، وتقدم اليه ان يلحق بالبوادي ويستتر بها، الى ان يظهر القرمطى بموضع، فيصير اليه اخوه بالمال، وركب هو وابن عمه المسمى بالمدثر، وصاحبه المعروف بالمطوق، وغلام له رومي وأخذ دليلا وسار يريد الكوفه عرضا في

البريه حتى انتهى الى موضع يعرف بالدالية من اعمال طريق الفرات، فنفد ما كان معهم من الزاد والعلف، فوجه بعض من كان معه ليأخذ لهم ما احتاجوا اليه فدخل الدالية لشراء حاجته، فأنكر زيه، وسئل عن امره فاستراب وارتاب، واعلم المتولى لمسلحه تلك الناحية بخبره، وكان على المعاون رجل يعرف بابى خليفه بن كشمرد فركب في جماعه، وسال هذا الرجل عن خبره، فاعلمه ان صاحب الشامة بالقرب منه، في ثلاثة نفر، وعرفه بمكانه. فمضى صاحب المعاون اليهم واخذهم ووجه بهم الى المكتفي وهو بالرقة، ورجعت الجيوش من طلب القرامطة، بعد ان أفنوا اكثرهم قتلا واسرا وكتب محمد بن سليمان الكاتب الى الوزير القاسم بن عبيد الله بمحاربته للقرامطه، وما فتح الله له عليهم، وقتله واسره لاكثرهم، وانه تقدم في جمع الرءوس وهو باعث منها بعدد عظيم. وفي يوم الاثنين لاربع بقين من المحرم ادخل صاحب الشامة الى الرقة ظاهرا للناس على فالج، وعليه برنس جرير، ودراعه ديباج، وبين يديه المدثر والمطوق على جملين ثم ان المكتفي خلف عساكره مع محمد بن سليمان، وشخص هو في خاصته وغلمانه وخدمه، وشخص معه القاسم بن عبيد الله الوزير من الرقة الى بغداد، وحمل معه القرمطى والمدثر والمطوق وجماعه ممن اسر في الوقعه وذلك في أول صفر، فلما صار الى بغداد عزم على ان يدخل القرمطى مدينه السلام مصلوبا على دقل والدقل على ظهر فيل، فامر بهدم طاقات الأبواب التي يجتاز بها الفيل بالدقل ثم استسمج ذلك، فعمل له دميانه، غلام يا زمان كرسيا، وركبه على ظهر الفيل، في ارتفاع ذراعين ونصف، واقعد فيه القرمطى صاحب الشامة، ودخل المكتفي مدينه السلام، صبيحة يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الاول وقد قدم بين يديه الأسرى مقيدين على جمال عليهم دراريع الحرير وبرانس الحرير، والمطوق وسطهم، وهو غلام ما نبتت لحيته بعد، قد جعل في فيه خشبة مخروطه والجم بها في فمه كهيئة اللجام ثم شدت

الى قفاه، وذلك انه لما دخل الرقة كان يشتم الناس إذا دعوا عليه، ويبزق في وجوههم، فجعل له هذا لئلا يتكلم ولا يشتم. ثم امر المكتفي ببناء دكه في المصلى العتيق بالجانب الشرقى في ارتفاعها عشره اذرع لقتل القرامطة، وكان خلف المكتفي وراءه محمد بن سليمان الكاتب بجمله من قواد القرامطة وقضاتهم ووجوههم فقيد جميعهم، ودخلوا بغداد بين يديه يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الاول، وقد امر القواد بتلقيه والدخول معه فدخل في اتم ترتيب حتى إذا صار بالثريا نزل بها وخلع عليه، وطوق بطوق من ذهب، وسور بسوارين من ذهب، وخلع على جميع القواد القادمين معه وطوقوا وسوروا. ثم صرفوا الى منازلهم وامر بالأسرى الى السجن. وذكر عن صاحب الشامة انه أخذ وهو في حبس المكتفي سكرجة من المائدة التي كانت تدخل عليه وكسرها وأخذ شظية منها، فقطع بها بعض عروقه وخرج منه دم كثير، حتى شدت يده، وقطع دمه، وترك أياما حتى رجعت اليه قوته. ولما كان يوم الاثنين لسبع بقين من ربيع الاول، امر المكتفي القواد والغلمان بحضور الدكة في المصلى العتيق، وخرج من الناس خلق كثير، وحضر الواثقى وهو يلى الشرطه بمدينه السلام ومحمد بن سليمان كاتب الجيش، فقعدوا على الدكة في موضع هيئ لهم، وحمل الأسرى الذين جاء بهم المكتفي، والذين جاء بهم محمد بن سليمان ومن كان في السجن من القرامطة، وقوم من اهل بغداد ذكر انهم على مذاهبهم، وقوم من سائر البلدان من غير القرامطة حبسوا لجنايات مختلفه فاحضر جميعهم الدكة ووكل بكل رجل منهم عونان، وقيل انهم كانوا في نحو ثلاثمائة وستين. ثم احضر صاحب الشامة والمدثر والمطوق، واقعدوا في الدكة وقدم اربعه وثلاثون رجلا من القرامطة فقطعت ايديهم وارجلهم، وضربت أعناقهم واحدا بعد واحد. وكانت ترمى رءوسهم وجثثهم وايديهم وارجلهم كل ما قطع منها الى اسفل الدكة. فلما فرغ من قتل هؤلاء قدم المدثر فقطعت يداه ورجلاه، وضربت عنقه، ثم المطوق. ثم قدم صاحب الشامة فقطعت يداه ورجلاه وأضرمت نار عظيمه، وادخل فيها خشب صليب، وكانت توضع الخشبة الموقده في خواصره وبطنه، وهو يفتح

عينيه ويغمضهما، حتى خشي عليه ان يموت، فضربت عنقه ورفع راسه في خشبة وكبر من كان على الدكة وكبر سائر الناس في أسفلها، ثم ضربت اعناق باقى الأسرى وانصرف القواد ومن حضر ذلك الموضع وقت العشاء فلما كان بالغد حملت الرءوس الى الجسر، وصلب بدن القرمطى في الجسر الأعلى ببغداد، وحفرت لأبدان القتلى آبار الى جانب الدكة، فطرحوا فيها ثم امر بعد ذلك بايام بهدم الدكة ففعل ذلك. واستامن على يدي القاسم بن سيما رجل من القرامطة، يسمى اسماعيل ابن النعمان، ويكنى أبا محمد، لم يكن بقي منهم بنواحي الشام غيره وغير من انضوى اليه، وكان هذا الرجل من موالي بنى العليص، فرغب في الدخول في الطاعة، خوفا على نفسه، فأومن هو ومن معه، وهم نيف وستون رجلا، ووصلوا الى بغداد. واجريت لهم الأرزاق، واحسن اليهم ثم صرفوا مع القاسم بن سيما الى عمله، وأقاموا معه مده فهموا بالغدر به فوضع السيف فيهم، واباد جميعهم. وفي آخر جمادى الاولى من هذه السنه ورد كتاب من ناحيه جبى بان سيلا أتاها من الجبل، غرق فيه نحو من ثلاثين فرسخا وذهب فيه خلق كثير، وخربت به المنازل والقرى، وهلكت المواشى والغلات، واخرج من الغرقى الف ومائتان سوى من لم يوجد منهم. وفي يوم الأحد غره رجب، خلع المكتفي على محمد بن سليمان كاتب الجيش وعلى وجوه القواد، وامرهم بالسمع والطاعة لمحمد بن سليمان، وبرز محمد الى مضربه بباب الشماسيه وعسكر هنالك، ثم خرج بالجيوش الى جانب دمشق، لقبض الاعمال من هارون بن خمارويه إذ تبين ضعفه، وذهب رجاله في حرب القرامطة، ورحل محمد بن سليمان في زهاء عشره آلاف، وذلك لست خلون من رجب، وامر بالجد في المسير. ولثلاث بقين من رجب قرئ على الناس كتاب لإسماعيل بن احمد بان الترك قصدوا المسلمين في جيش عظيم، وان في عسكرهم سبعمائة قبة تركية لرؤساء منهم خاصه فنودي في الناس بالنفير وخرج مع صاحب العسكر خلق كثير فوافى

الترك غارين، فكبسوهم ليلا، وقتل منهم خلق كثير، وانهزم الباقون، واستبيح عسكرهم وانصرف المسلمون سالمين غانمين. وورد أيضا الخبر من الثغور، بان صاحب الروم وجه إليها عسكرا فيه عشره صلبان ومائه الف رجل، فأغاروا وكبسوا واحرقوا ثم ورد كتاب ابى معد بان الاخبار اتصلت من طرسوس بان غلام زرافه خرج الى مدينه انطاليه على ساحل البحر. فافتتحها عنوه، وقتل بها خمسه آلاف رجل من الروم، واسر نحو هذه العده منهم، واستنقذ من أسارى المسلمين اربعه آلاف انسان، ووجد للروم ستين مركبا فغرقها وأخذ ما كان فيها من الذهب والفضه والمتاع والانيه وان كل رجل حضر هذه الغزاة أصاب في فيئه الف دينار، فاستبشر المسلمون بذلك. وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ العباس بْن محمد

سنه اثنتين وتسعين ومائتين

ثم دخلت سنه اثنتين وتسعين ومائتين (ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) ففيها وجه صاحب البصره الى السلطان رجلا ذكر انه اراد الخروج عليه، وصار الى واسط مخالفا بها، فاقصد اليه من يقبض عليه وعلى قوم ذكروا انهم بايعوه، ووجه بهم الى بغداد، فحمل هذا الرجل على فالج، وبين يديه ابن له صبى على جمل، ومعه سبعه وثلاثون رجلا، على جمال عليهم برانس الحرير، واكثرهم يستغيث ويبكى، ويحلف انه بريء فامر المكتفي بحبسهم وفي هذه السنه اغارت الروم على مرعش ونواحيها، فنفر اهل المصيصة وطرسوس، وأصيبت جماعه من المسلمين فيهم ابو الرجال بن ابى بكار. وفيها انتهى محمد بن سليمان الكاتب الى احواز مصر لحرب هارون، ووجه اليه المكتفي في البحر دميانه، وامره بدخول النيل، وقطع المواد عمن بمصر من الجند، فمضى وقطع عن اهل مصر الميرة، وزحف اليهم محمد بن سليمان على الظهر، حتى دنا من الفسطاط، وكاتب القواد الذين بها، فخرج اليه بدر الحمامي، وكان رئيس القوم، ثم تتابع قواد مصر بالخروج اليه، والاستئمان له، فلما راى ذلك هارون ومن بقي معه خرجوا محاربين لمحمد بن سليمان، وكانت بينهم وقعات. ثم انها وقعت بين اصحاب هارون في بعض الأيام عصبية اقتتلوا فيها، فخرج اليهم هارون ليسكنهم، فرماه بعض المغاربه بسهم فقتله وبلغ محمد بن سليمان الخبر، فدخل هو ومن معه الفسطاط، واحتووا على دور آل طولون وأموالهم، وتقبض على جميعهم، وهم بضعه عشر رجلا، فقيدهم وحبسهم، واستصفى أموالهم، وكتب بالفتح الى المكتفي، وكانت هذه الوقيعه في صفر، وكتب الى محمد بن سليمان في

اشخاص آل طولون الى بغداد، والا يبقى منهم أحدا بمصر ولا الشام، ففعل ذلك. ولثلاث خلون من ربيع الاول، سقط الحائط من الجسر الاول على جثه القرمطى وهو مصلوب، فطحنه ولم يبق منه شيء. 4 وفي شهر رمضان ورد الخبر على السلطان بان قائدا من القواد المصريين يعرف بالخليجى، ويسمى بابراهيم تخلف عن محمد بن سليمان في آخر حدود مصر، مع جماعه استمالهم من الجند وغيرهم، ومضى الى مصر مخالفا للسلطان، وكان معه في طريقه جماعه أحبوا الفتنة حتى كثر جمعه، فلما صار الى مصر اراد عيسى النوشرى محاربته، فعجز عن ذلك لكثرة من كان مع ابن الخليجي، فانحاز عنه الى الإسكندرية، واخلى مصر، فدخلها الخليجي. وفيها ندب السلطان لمحاربه الخليجي واصلاح امر المغرب فاتكا مولى المعتضد، وضم اليه بدرا الحمامي، وجعله مشيرا عليه فيما يعمل به، وندب معه جماعه من القواد وجندا كثيرا، وخلع على فاتك وعلى بدر الحمامي لسبع خلون من شوال،. وامرا بسرعة الخروج وتعجيل السير فخرجا لاثنتى عشره ليله خلت من شوال. وللنصف من شوال دخل رستم مدينه طرسوس واليا عليها وعلى الثغور الشامية. وفيها كان الفداء بين المسلمين والروم لست بقين من ذي القعده، ففودى من المسلمين الف ومائتا نفس، ثم غدر الروم، وانصرفوا، ورجع المسلمون بمن في ايديهم من أسارى الروم. وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ العباس بْن محمد

سنه ثلاث وتسعين ومائتين

ثم دخلت سنه ثلاث وتسعين ومائتين (ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) ففيها ورد الخبر بان الخليجي المتغلب على مصر واقع احمد بن كيغلغ وجماعه من القواد بالقرب من العريش، فهزمهم الخليجي، اقبح هزيمه، فندب السلطان للخروج اليه جماعه من القواد المقيمين بمدينه السلام فيهم ابراهيم بن كيغلغ وغيره وفي شهر ربيع الأول من هذه السنة ورد الخبر بان أخا للحسين بن زكرويه، ظهر بالدالية من طريق الفرات في نفر من اصحابه، ثم اجتمع اليه جماعه من الاعراب والمتلصصة فسار بهم نحو دمشق، في جمادى الاولى وحارب أهلها، فندب السلطان للخروج اليه الحسين بن حمدان بن حمدون، في جمع كثير من الجند ثم ورد الخبر بان هذا القرمطى سار الى طبرية، فامتنع أهلها من ادخاله، فحاربهم حتى دخلها فقتل عامه من بها من الرجال والنساء، ونهبها وانصرف الى ناحيه البادية. وذكر من حضر مجلس محمد بن داود بن الجراح، وقد ادخل اليه قوم من القرامطة بعد قتل الحسين بن زكرويه المصلوب بجسر بغداد فقال الرجل: كان زكرويه ابو حسين المقتول مختفيا عندي في منزلي، وقد اعد له سرداب تحت الارض، عليه باب حديد، وكان لنا تنور، فإذا جاءنا الطلب، وضعنا التنور على باب السرداب، وقامت امراه تسخنه فمكث زكرويه كذلك اربع سنين، في ايام المعتضد، ثم انتقل من منزلي الى دار قد جعل فيها بيت وراء باب الدار، فإذا فتح الباب انطبق على باب البيت، فيدخل الداخل، فلا يرى باب البيت الذى هو فيه، فلم تزل هذه حاله حتى مات المعتضد، فحينئذ انفذ الدعاه، واستهوى طوائف من اهل البادية، وصار اهل قريه صوعر يتفلونه على ايديهم، ويسجدون له واعترف لزكرويه جميع من رسخ حب الكفر في قلبه من عربي ومولى ونبطي وغيرهم، بانه رئيسهم وكهفهم وملاذهم، وسموه السيد والمولى، وساروا به وهو محجوب عن اهل عسكره، والقاسم يتولى الأمور دونه، يمضيها على رايه

وذكر محمد بن داود ان زكرويه بن مهرويه هذا اقام رجلا كان يعلم الصبيان بقرية تدعى زابوقه، من عمل الفلوجة يسمى عبد الله بن سعيد، ويكنى أبا غانم، فتسمى بنصر ليعمى امره، ويخفى خبره، فاستهوى طوائف من الاصبغيين والعليصيين وصعاليك من بطون كلب، وقصد بهم ناحيه الشام، وكان عامل السلطان على دمشق والأردن احمد بن كيغلغ، وكان مقيما بمصر على حرب الخليجي، فاغتنم ذلك عبد الله ابن سعيد المتسمى بنصر وسار الى مدينه بصرى، فحارب أهلها، ثم آمنهم فلما استسلموا له قتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم، واستاق أموالهم، ثم نهض الى دمشق، فخرج اليه من كان بقي بها مع صالح بن الفضل خليفه احمد بن كيغلغ فقتل صالحا، وفض عسكره ولم يطمع في مدينه دمشق إذ دافعهم أهلها عنها ثم قصد القرمطى ومن معه مدينه طبرية، فقتلوا طائفه من أهلها، وسبوا النساء والذرية بها، فحينئذ انفذ السلطان لمحاربتهم الحسين بن حمدان في جماعه من القواد والرجال، فوردوا دمشق، وقد دخل القرامطة طبرية فلما اتصل بهم خروج القواد اليهم، عطفوا نحو السماوه، وتبعهم الحسين بن حمدان وهم ينتقلون من ماء الى ماء ويعورون ما وراءهم من المياه. فانقطع الحسين عن اتباعهم لما عدم الماء، وعاد الى الرحبه، وقصدت القرامطة الى هيت، فصبحوها ولم يصلوا الى المدينة لحصانه سورها لسبع بقين من شعبان، مع طلوع الشمس، فنهبوا ربضها، وقتلوا من قدروا عليه من أهلها، واحرقت المنازل وانهبت السفن التي في الفرات، وقتل من اهل البلد نحو مائتي نفس، وأوقروا ثلاثة آلاف بعير بالأمتعة والحنطة ثم رحلوا الى البادية. ثم شخص باثرهم محمد بن كنداج اليهم، فلما كان بقربه منهم، هربوا منه وعوروا المياه بينهم وبينه، فانفذت اليه الإبل والروايا والزاد، وكتب الى الحسين بن حمدان بالنفوذ اليهم من جهة الرحبه، والاجتماع مع محمد بن كنداج على الإيقاع بهم. فلما احسن الكلبيون الذين كانوا مع عبد الله بن سعيد القرمطى المتسمى بنصر، وثبوا عليه، وقتلوه، وتقربوا برأسه الى محمد بن كنداج، واقتتلت القرامطة حتى وقعت بينهما الدماء. ثم انفذ زكرويه داعيه له يسمى القاسم بن احمد، الى اكره السواد، فاستهواهم

ووعدهم بان ظهوره قد حضر، وانه قد بايع له بالكوفه نحو اربعين الف رجل وفي سوادها أربعمائة الف رجل، وان يوم موعدهم الذى ذكره الله يوم الزينة وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى وامرهم بالمسير الى الكوفه ليفتتحوها في غداه يوم النحر، وهو يوم الخميس فإنهم لا يمنعون منها فتوجه القاسم بن احمد باهل السواد ومن يجتمع اليه من الصعاليك، حتى وافوا باب الكوفه في ثمانمائه فارس، عليهم الدروع والجواشن والإله الحسنه، ومعهم جماعه من الرجاله على الرواحل، وقد انصرف الناس عن مصلاهم، فاوقعوا بمن لحقوه من العوام، وقتلوا منهم زهاء عشرين نفسا. وخرج اليهم إسحاق بن عمران عامل الكوفه ومن كان معه من الجند فصافوا القرامطة الحرب الى وقت العصر، وكان شعار القرامطة: يا احمد يا محمد، وهم يدعون: يا لثارات الحسين! يعنون المصلوب بجسر بغداد، وأظهروا الاعلام البيض، وضربوا على القاسم بن احمد قبة، وقالوا: هذا ابن رسول الله، فاقتتلوا قتالا شديدا ثم انهزمت القرامطة نحو القادسية، واصلح اهل الكوفه سورهم وخندقهم، وحرسوا مدينتهم وكتب إسحاق بن عمران الى السلطان يستمده، فندب اليه جماعه فيهم طاهر بن على بن وزير ووصيف بن صوارتكين والفضل بن موسى بن بغا وبشر الخادم وجنى الصفواني ورائق الخزري، وضم اليهم جماعه من غلمان الحجر، وامر القاسم بن سيما ومن ضم اليه من رؤساء البوادى بديار ربيعه وطريق الفرات وغيرهم بالنهوض الى القرامطة، إذ كان اصحاب السلطان متفرقين في نواحي الشام ومصر، فنفذت الكتب بذلك اليهم. وفي يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب، قرئ على المنبر ببغداد كتاب بان اهل صنعاء وسائر اهل اليمن اجتمعوا على الخارجي وحاربوه وفلوا جموعه، فانحاز الى بعض النواحي باليمن، فخلع السلطان على مظفر بن حاج، وعقد له على اليمن وخرج إليها لخمس خلون من ذي القعده، فأقام بها حتى مات ولتسع بقين من رجب اخرجت مضارب المكتفي الى باب الشماسيه، فضربت هنالك ليخرج الى الشام، ويحاصر ابن الخليجي، فورد كتاب من قبل فاتك القائد واصحابه، يذكرون

محاربتهم له وظفرهم به، وانهم موجهون له الى مدينه السلام، فردت مضارب المكتفي، وصرفت خزائنه، وقد كانت جاوزت تكريت، ثم ادخل مدينه السلام للنصف من شهر رمضان ابن الخليجي واحد وعشرون رجلا معه على جمال، وعليهم برانس ودراريع حرير، فحبسوا ثم خلع المكتفي على وزيره العباس بن الحسن خلعا لحسن تدبيره في امر هذا الفتح ثم لخمس خلون من شوال، ادخل بغداد راس القرمطى المتسمى بنصر الذى انتهب مدينه هيت منصوبا في قناه ولسبع خلون من شوال ورد الخبر مدينه السلام، بان الروم أغاروا على قورس وقتلوا مقاتلتهم، ودخلوا المدينة، واخربوا مسجدها، وسبوا من بقي فيها، وقتلوا رؤساء بنى تميم المنضوين إليها وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْن عبد الملك الهاشمى.

سنه اربع وتسعين ومائتين

ثم دخلت سنه اربع وتسعين ومائتين (ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) ففيها دخل ابن كيغلغ طرسوس غازيا في أول المحرم، وخرج معه رستم، وهي غزاه رستم الثانيه، فبلغوا حصن سلندو، وافتتحوه وقتلوا من الروم مقتله عظيمه، وأسروا وسبوا نحوا من خمسه آلاف راس، وانصرفوا سالمين. ولإحدى عشره ليله خلت من المحرم، ورد الخبر بان زكرويه القرمطى، ارتحل من نهر المثنية يريد الحاج وانه وافى موضعا بينه وبين بعض مراحلهم اربعه اميال. وذكر محمد بن داود انهم مضوا في جهة المشرق، حتى صاروا بماء سليم، وصار ما بينهم وبين السواد مفازة، فأقام بموضعه ينتظر قافلة الحاج حتى وافته لسبع خلون من المحرم، فانذرهم اهل المنزل بارتصاد القرامطة لهم، وان بينهم وبين موضعهم اربعه اميال فارتحلوا ولم يقيموا، وكان في هذه القافلة ابن موسى وسيما الابراهيمى فلما امعنت القافلة في السير، صار القرمطى الى الموضع الذى انتقلت عنه القافلة. وسال اهل القيروان عنها فاخبروه انها تنقلت ولم تقم، فاتهمهم بانذار القافلة وقتل من العلافين بها جماعه، واحرق العلف ثم ارتصد أيضا زكرويه قافلة خراسان، فاوقع بأهلها وجعل اصحابه ينخسون الجمال بالرماح، ويبعجونها بالسيوف، فنفرت واختلطت القافلة، وأكب اصحاب زكرويه على الحاج، فقتلوهم كيف شاءوا، وسبوا النساء، واحتووا على ما في القافلة. ثم وافى عليهم اهل القافلة الثانيه، وفيها المبارك القمي واحمد بن نصر العقيلي واحمد ابن على بن الحسين الهمذاني، وقد كان رحل القرامطة عن محلتهم، وعوروا مياهها وملأوا بركها بجيف الإبل والدواب التي كانت معهم، وانتقلوا الى منزل العقبه فوافاهم بها اهل القافلة الثانيه، ودارت بينهم حرب شديده، حتى اشرف اهل القافلة على الظفر بالقرامطة، وكشفوهم ثم ان الفجره تمكنوا في ساقتهم من غره، فركبوها ووضعوا

رماحهم في جنوب ابلهم وبطونها، فطرحتهم الإبل وتمكنوا منهم، فقتلوهم عن آخرهم الا من استفدوه، وسبوا النساء واكتسحوا الأموال والأمتعة، وقتل المبارك القمي والمظفر ابنه، وقتل ابو العشائر، ثم قطعت يداه ورجلاه ثم ضربت عنقه، وافلت من الجرحى قوم وقعوا بين القتلى، فتحاملوا في الليل ومضوا فمنهم من مات في الطريق، ومنهم من نجا، وهم قليل وكان نساء القرامطة وصبيانهم يطرفون بين القتلى ويعرضون عليهم الماء، فمن كان فيه رمق، او طلب الماء اجهزوا عليه وقيل انه كان في القافلة من الحاج نحو عشرين الف رجل فقتل جميعهم غير نفر يسير وذكر ان الذى أخذوا من المال والأمتعة في هذه القافلة قيمه الفى الف دينار، وورد الخبر على السلطان بمدينه السلام، عشيه يوم الجمعه لاربع عشر ليله بقيت من المحرم بما كان من فعل القرامطة بالحاج، فعظم ذلك عليه، وعلى الناس، وندب السلطان محمد ابن داود بن الجراح الوزير للخروج الى الكوفه، والمقام بها، وانفاذ الجيوش الى القرمطى، فخرج من بغداد لإحدى عشره ليله بقيت من المحرم، وحمل معه اموالا كثيره لاعطاء الجند ثم صار زكرويه الى زبالة فهولها وبث الطلائع امامه ووراءه خوفا من اصحاب السلطان وارتصادا لورود القافلة الاخرى التي كانت فيها الاثقال واموال التجار وجوهر نفيس للسلطان، وبها من القواد نفيس المولدى وصالح الأسود، ومعه الشمسه والخزانه، وكان المعتضد قد جعل في الشمسه جوهرا نفيسا، ومعهم أيضا ابراهيم بن ابى الاشعث، قاضى مكة والمدينة، وميمون بن ابراهيم الكاتب والفرات بن احمد بن الفرات والحسن بن اسماعيل وعلى بن العباس النهيكى. فلما صارت هذه القافلة بفيد، بلغهم خبر القرامطة فأقاموا أياما ينتظرون القوه من قبل السلطان، واقبل القرامطة الى موضع يعرف بالخليج، فلقوا القافلة، وحاربوا أهلها ثلاثة ايام ثم عطش اهل القافلة وكانوا على غير ماء، فلم يتمكنوا منها، فاستسلموا، فوضع القرامطة فيهم السيف، ولم يفلت منهم الا اليسير، وأخذ القرامطة جميع ما في القافلة، وسبوا النساء، واكتسحوا الأموال ثم توجه زكرويه بمن معه الى فيد، وبها عامل السلطان فتحصن منه، وجعل زكرويه يراسل اهل فيد بان يسلموا اليه عاملهم فلم يجيبوه الى ذلك ثم تنقل الى النباج ثم الى حفير ابى موسى الأشعري

وفي أول شهر ربيع الاول انهض المكتفي وصيف بن سوارتكين ومعه جماعه من القواد الى القرامطة فنفذوا من القادسية على طريق خفان، والتقى وصيف بالقرامطة، يوم السبت لثمان بقين من ربيع الاول، فاقتتلوا يومهم ذلك، حتى حجز بينهم المساء، ثم عاودهم الحرب في اليوم الثانى، فظفر جيش السلطان بالقرامطة، وقتلوا منهم مقتله عظيمه، وخلصوا الى زكرويه، فضربه بعض الجند ضربه بالسيف، اتصلت بدماغه، وأخذ أسيرا، وأخذ معه ابنه وزوجته وكاتبه وجماعه من خاصته وقرابته واحتوى الجند على جميع ما في عسكره، وعاش زكرويه خمسه ايام ثم مات فشق بطنه، وحمل كذلك وانطلق من كان بقي في يديه من اسرى الحاج وفيها غزا ابن كيغلغ من طرسوس، فأصاب من العدو اربعه آلاف راس سبى، ودواب ومواشى كثيره ومتاعا، واسلم على يده بطريق من البطارقه. وفيها كتب أندرونقس البطريق، وكان على حرب اهل الثغور من قبل صاحب الروم الى السلطان يطلب الامان، فأجيب الى ذلك، وخرج بنحو مائتي نفس من المسلمين كانوا عنده اسرى، واخرج ماله ومتاعه الى طرسوس وفي جمادى الآخرة ظفر الحسين بن حمدان بجماعه من اصحاب زكرويه كانوا هربوا من الوقعه، فقتل اكثرهم واسر نساءهم وصبيانهم. وفيها وافى رسل ملك الروم باب الشماسيه بكتاب الى المكتفي يسأله الفداء بمن معهم من المسلمين لمن في أيدي الاسلام من الروم، فدخلوا بغداد ومعهم هديه كبيره وعشره من أسارى المسلمين. وفيها أخذ قوم من اصحاب زكرويه أيضا ووجهوا الى باب السلطان. وفيها كانت وقعه بين الحسين بن حمدان واعراب كلب والنمر واسد وغيرهم كانوا خرجوا عليه فهزموه حتى بلغوا به باب حلب. وفيها هزم وصيف بن سوارتكين الاعراب بفيد ثم رحل سالما بمن معه من الحاج. وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْن عبد الملك.

سنه خمس وتسعين ومائتين

ثم دخلت سنه خمس وتسعين ومائتين (ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) [أخبار متفرقة] فمن ذلك ما كان من خروج عبد الله بن ابراهيم المسعى عن مدينه أصبهان الى قريه من قراها على فراسخ منها، وانضمام نحو من عشره آلاف كردى اليه، مظهرا الخلاف على السلطان، فامر المكتفي بدرا الحمامي بالشخوص اليه، وضم اليه جماعه من القواد في نحو من خمسه آلاف من الجند. وفيها كانت وقعه للحر بن موسى على اعراب طيّئ، فواقعهم على غره منهم، فقتل من رجالهم سبعين، واسر من فرسانهم جماعه وفيها توفى اسماعيل بن احمد في صفر، لاربع عشره ليله خلت منه، وقام ابنه احمد ابن اسماعيل في عمل ابيه مقامه وذكر ان المكتفي قعد له وعقد بيده لواءه، ودفعه الى طاهر بن على، وخلع عليه، وامره بالخروج اليه باللواء. وفيها وجه منصور بن عبد الله بن منصور الكاتب الى عبد الله بن ابراهيم المسمعي وكتب اليه يخوفه عاقبه الخلاف، فتوجه اليه فلما صار اليه ناظره، فرجع الى طاعه السلطان، وشخص في نفر من غلمانه، واستخلف بأصبهان خليفه له ومعه منصور بن عبد الله حتى صار الى باب السلطان، فرضى عنه المكتفي ووصله وخلع عليه وعلى ابنه. وفيها اوقع الحر بن موسى بالكردى المتغلب على تلك الناحية، فتعلق بالجبال فلم يدرك. وفيها فتح المظفر بن حاج ما كان تغلب عليه بعض الخوارج باليمن، وأخذ رئيسا من رؤسائهم يعرف بالحكيمى. وفيها لثلاث عشره ليله بقيت من جمادى الآخرة امر خاقان المفلحى بالخروج الى اذربيجان لحرب يوسف بن ابى الساج، وضم اليه نحو اربعه آلاف رجل من الجند. ولثلاث عشره ليله بقيت من شهر رمضان دخل بغداد رسول ابى مضر بن الاغلب، ومعه فتح الانجحى وهدايا وجه بها معه الى المكتفي

ذكر عله المكتفي بالله وما كان من امره إلى وقت وفاته

وفيها كان الفداء بين المسلمين والروم في ذي القعده ففدى ممن كان عندهم من الرجال ثلاثة آلاف نفس. ذكر عله المكتفي بالله وما كان من امره الى وقت وفاته وكان المكتفي على بن احمد يشكو عله في جوفه، وفسادا في احشائه، فاشتدت العله به في شعبان من هذا العام، واخذه ذرب شديد افرط عليه، وأزال عقله، حتى أخذ صافى الحرمي خاتمه من يده، وانفذه الى وزيره العباس بن الحسن وهو لا يعقل شيئا من ذلك، وكان العباس يكره ان يلى الأمر عبد الله بن المعتز، ويخافه خوفا شديدا، فعمل في تصيير الخلافه الى ابى عبد الله محمد بن المعتمد على الله، فاحضره داره ليلا، واحضر القاضى محمد بن يوسف وحده، وكلمه بحضرته، وقال له: ما لي عندك ان سقت هذا الأمر إليك؟ فقال له محمد بن المعتمد: لك عندي ما تستحقه من الجزاء والايثار وقرب المنزله، فقال له العباس: اريد ان تحلف لي الا تخليني من احدى حالتين، اما ان تريد خدمتي فانصح لك وابلغ جهدي في طاعتك وجمع المال لك، كما فعلته بغيرك، واما ان تؤثر غيرى فتوقرنى وتحفظني، ولا تبسط على يدا في نفسي ومالي، ولا على احد بسببي، فقال له محمد بن المعتمد- وكان حسن العقل، جميل المذهب: لو لم تسق هذا الى ما كان لي معدل عنك في كفايتك وحسن اثرك فكيف إذا كنت السبب له، والسبيل اليه! فقال له العباس: اريد ان تحلف لي على ذلك فقال: ان لم اوف لك بغير يمين لم اوف لك بيمين، فقال القاضى محمد بن يوسف للعباس: ارض منه بهذا، فانه اصلح من اليمين. قال العباس: قد قنعت ورضيت ثم قال له العباس: مد يدك حتى ابايعك. فقال له محمد: وما فعل المكتفي؟ قال: هو في آخر امره، واظنه، قد تلف فقال محمد: ما كان الله ليراني أمد يدي لبيعه وروح المكتفي في جسده، ولكن ان مات فعلت ذلك فقال محمد بن يوسف: الصواب ما قال، وانصرفوا على هذه الحال

ذكر وفاه المكتفي

ثم ان المكتفي افاق وعقل امره، فقال له صافى الحرمي: لو راى امير المؤمنين ان يوجه الى عبد الله بن المعتز ومحمد بن المعتمد، فيوكل بهما في داره ويحبسهما فيها، فان الناس ذكروهما لهذا الأمر، وارجفوا بهما، فقال له المكتفي: هل بلغك ان أحدهما احدث بيعه علينا؟ فقال له صافى: لا، قال له: فما ارى لهما في ارجاف الناس ذنبا فلا تعرض لهما، ووقع الكلام بنفسه، وخاف ان يزول الأمر عن ولد ابيه، فكان إذا عرض له بشيء من هذا الأمر استجر فيه الحديث وتابع المعنى واهتبل به جدا. وعرض لمحمد بن المعتمد في شهر رمضان فالج في مجلس العباس بن الحسن الوزير من غيظ اصابه في مناظره كانت بينه وبين ابن عمرويه صاحب الشرطه، فامر العباس ان يحمل في قبة من قبابه على افره بغاله، فحمل الى منزله في تلك الصورة، وانصرفت نفسه الى تأميل غيره. ثم اشتدت العله بالمكتفى في أول ذي القعده، فسال عن أخيه ابى الفضل جعفر فصح عنده انه بالغ، فاحضر القضاه واشهدهم بانه قد جعل العهد اليه من بعده. ذكر وفاه المكتفي ومات المكتفي بالله على بن احمد ليله الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعده سنه خمس وتسعين ومائتين، ودفن يوم الاثنين في دار محمد بن عبد الله بن طاهر. وكانت خلافته ست سنين وتسعه عشر يوما، وكان يوم توفى ابن اثنتين وثلاثين سنه. وكان ولد سنه اربع وستين ومائتين وكنيته ابو محمد، وأمه أم ولد تركية، وكان جميلا رقيق اللون حسن الشعر، وافر اللحية. وولد أبا القاسم عبد الله المستكفى، ومحمدا أبا احمد، والعباس، وعبد الملك، وعيسى، وعبد الصمد، والفضل، وجعفرا، وموسى، وأم محمد، وأم الفضل، وأم سلمه، وأم العباس، وأم العزيز، وأسماء، وساره وأمه الواحد. قال: وكان جعفر بن المعتضد بدار ابن طاهر التي هي مستقر اولاد الخلفاء فتوجه فيه صافى الحرمي لساعتين بقيتا من ليله الأحد واحضره القصر وقد كان العباس

ذكر خلافه المقتدر

ابن الحسن فارق صافيا على ان يجيء بالمقتدر الى داره التي كان يسكنها على دجلة، لينحدر به معه الى القصر، فعرج به صافى عن دار العباس إذ خاف حيله تستعمل عليه، وعد ذلك من حزم صافى وعقله. ذكر خلافه المقتدر وفيها بويع جعفر بن احمد المقتدر يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعده سنه خمس وتسعين ومائتين وهو يومئذ ابن ثلاث عشره سنه واحد وعشرين يوما، وكان مولده يوم الجمعة لثمان بقين من شهر رمضان من سنه اثنتين وثمانين ومائتين، وكنيته ابو الفضل وأمه أم ولد يقال لها شغب وكانت البيعه للمقتدر في القصر المعروف بالحسنى، فلما دخله وراى السرير منصوبا امر بحصير صلاه فبسط له، وصلى اربع ركعات وما زال يرفع صوته بالاستخارة ثم جلس على السرير، وبايعه الناس ودارت البيعه على يدي صافى الحرمي وفاتك المعتضدي، وحضر العباس بن الحسن الوزير وابنه احمد حتى تمت البيعه ثم غسل المكتفي، ودفن في موضع من دار محمد بن عبد الله بن طاهر. وذكر الطبرى انه كان في بيت المال يوم بويع المقتدر خمسه عشر الف الف دينار، وذكر ذلك الصولي، وحكى انه كان في بيت مال العامه ستمائه الف دينار، وخلع المقتدر يوم الاثنين الثانى من بيعته على الوزير ابى احمد العباس بن الحسن خلعا مشهوره الحسن، وقلده كتابته وامر بتكنيته، وان تجرى الأمور مجراها على يده. وقلد ابنه احمد بن العباس العرض عليه، وكتابه السيده أمه وكتابه هارون ومحمد اخويه، وكتب العباس الى الكور والاطراف بالبيعه كتابا على نسخه واحده واعطى الجند مال البيعه، للفرسان ثلاثة اشهر، وللرجاله سته اشهر، وامر اصحاب الدواوين على ما كانوا عليه، وخلع المقتدر على سوسن مولى المكتفي الذى كان حاجبه، واقره على حجابته، وخلع على فاتك المعتضدي، ومؤنس الخازن ويمن غلام المكتفي، وابن عمرويه، صاحب الشرطه ببغداد، وعلى احمد بن كيغلغ، وكان قد قدم

مبايعه المقتدر بقوم حاولوا فتق سجن دمشق، واقامه فتنه بها، فحملوا على جمال، وطوفوا، وخلع على كثير من الخدم، فمن كان اليه منهم عمل جعلت الخلعه عليه لإقراره على عمله، ومن لم يكن اليه عمل كانت الخلعه تشريفا له، ورد المقتدر رسوم الخلافه الى ما كانت عليه من التوسع في الطعام والشراب، واجراء الوظائف، وفرق في بنى هاشم خمسه عشر الف دينار وزادهم في الأرزاق، واعاد الرسوم، في تفريق الاضاحى على القواد والعمال واصحاب الدواوين والقضاه والجلساء، ففرق عليهم يوم الترويه ويوم عرفه من البقر والغنم ثلاثون الف راس، ومن الإبل الف راس، وامر باطلاق من كان في السجون ممن لا خصم له ولا حق لله عز وجل عليه، وبعد ان امتحن محمد بن يوسف القاضى أمورهم. ورفع اليه ان الحوانيت والمستغلات التي بناها المكتفي في رحبه باب الطاق اضرت بالضعفاء، إذ كانوا يقعدون فيها لتجاراتهم بلا اجره لأنها افنيه واسعه، فسال عن غلتها فقيل: له تغل الف دينار في كل شهر، فقال: وما مقدار هذا في صلاح المسلمين واستجلاب حسن دعائهم! فامر بهدمها وإعادتها الى ما كانت عليه. ولم يل الخلافه من بنى العباس اصغر سنا من المقتدر، فاستقل بالأمور، ونهض بها، واستصلح الى الخاصة والعامه وتحبب إليها، ولولا التحكم عليه في كثير من الأمور لكان الناس معه في عيش رغد، ولكن أمه وغيرها من حاشيته كانوا يفسدون كثيرا من امره. وفي هذه السنه، كانت وقعه عج بن حاج مع الجند بمنى في اليوم الثانى من ايام منى، وقتل بينهم جماعه، وهرب الناس الذين كانوا بمنى الى بستان ابن عامر، وانتهب الجند مضرب ابى عدنان، وأصاب المنصرفين من الحاج في منصرفهم ببعض الطريق عطش، حتى مات منهم جماعه قال الطبرى: سمعت بعض من يحكى ان الرجل كان يبول في كفه ثم يشربه. وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْن عبد الملك.

سنه ست وتسعين ومائتين

ثم دخلت سنه ست وتسعين ومائتين (ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) [أخبار متفرقة] فمن ذلك ما كان من اجتماع جماعه من القواد والكتاب والقضاه على خلع جعفر المقتدر، وكانوا قد تناظروا وتأمروا عند موت المكتفي على من يقدمونه للخلافة، واجمع رأيهم على عبد الله بن المعتز، فاحضروه وناظروه في تقلدها، فأجابهم الى تولى الأمر، على الا يكون في ذلك سفك دماء ولا حرب، فاخبروه ان الأمر يسلم اليه عفوا، وان من وراءهم من الجند والقواد والكتاب قد رضوا به، فبايعهم على ذلك سرا، وكان الراس في هذا الأمر العباس بن الحسن الوزير، ومحمد بن داود ابن الجراح، وابو المثنى احمد بن يعقوب القاضى وغيرهم، فخالفهم على ذلك العباس، ونقض ما كان عقده معهم في امر ابن المعتز، وأحب ان يختبر امر المقتدر، وان كان فيه محمل للقيام بالخلافة مع حداثة سنه، وكيف يكون حاله معه، وعلم ان تحكمه عليه سيكون فوق تحكمه على غيره، فصدهم عن ابن المعتز، وانفذ عقد البيعه للمقتدر على ما تقدم ذكره. ثم ان المقتدر اجرى الأمور مجراها في حياه المكتفي، وقلد العباس جميعها، وزاده في المنزله والحظوة وصير اليه الأمر والنهى، فتغير العباس على القواد، واستخف بهم واشتد كبره على الناس واحتجابه عنهم واستخفافه بكل صنف منهم، وكان قبل ذلك صافى النيه لعامه القواد والخدم منصفا لهم في اذنه لهم ولقائه ثم تجبر عليهم، وكانوا يمشون بين يديه فلا يأمرهم بالركوب، وترك الوقوف على المتظلمين، والسماع منهم، فاستثقله الخاصة والعامه، وكثر الطعن عليه، والانكار لفعله والهجاء له، فقال بعض شعراء بغداد فيه: يا أبا احمد لا تحسن بأيامك ظنا ... واحذر الدهر فكم اهلك املاكا وافنى كم رأينا من وزير صار في الأجداث رهنا

ذكر البيعه لابن المعتز

اين من كنت تراهم درجوا قرنا فقرنا ... فتجنب مركب الكبر وقل للناس حسنا ربما امسى بعزل من باصباح يهنأ ... وقبيح بمطاع الأمر الا يتأنى اترك الناس وأيامك فيهم تتمنى وكان مما يشنع به الحسين بن حمدان على العباس، انه شرب يوما عنده، فلما سكر الحسين، استخرج العباس خاتمه من اصبعه، وانفذه الى جاريته مع فتى له، وقال لها: يقول لك مولاك: اشتهى الوزير سماع غنائك، فاحضرى الساعة ولا تتاخرى، فهذا خاتمي علامه إليك قال الحسين: وقد كنت خفت منه شيئا من هذا لبلاغات بلغتني عنه، وكتب رايت له إليها بخطه، فحفظت الجاريه وحذرتها، فلم تصغ الى قول الفتى ولا اجابته. وكان الحسين يحلف مجتهدا انه سمعه يكفر ويستخف بحق الرسول صلى الله عليه وسلم، وانه قال في بعض ما جرى من القول: قد كان أجيرا لخديجة، ثم جاء منه ما رايت قال: فاعتقدت قتله من ذلك الوقت، واعتقد غيره من القواد فيه مثل ذلك، واجتمعت القلوب على بغضته، فحينئذ وثب به القوم فقتلوه، وكان الذى تولى قتله بدر الأعجمي والحسين بن حمدان ووصيف بن سوارتكين وذلك يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من ربيع الاول من العام المؤرخ. ذكر البيعه لابن المعتز وفي غد هذا اليوم خلع المقتدر، خلعه القواد والكتاب وقضاه بغداد، ثم وجهوا في عبد الله بن المعتز، وادخل دار ابراهيم بن احمد الماذرائى التي على دجلة والصراة ثم حمل منها الى دار المكتفي بظهر المخرم، واحضر القضاه، وبايعوا عبد الله بن المعتز فحضرهم ولقبوه المنتصف بالله، وهو لقب اختاره لنفسه. واستوزر محمد بن داود بن الجراح، واستحلفه على الجيش، وكان الناس

يحلفون بحضره القضاه، وكان الذى يأخذ البيعه على الناس وعلى القواد ويتولى استحلافهم والدعاء باسمائهم محمد بن سعيد الأزرق كاتب الجيش، واحضر عبد الله بن على بن ابى الشوارب القاضى وطولب بالبيعه لابن المعتز فلجلج، وقال: ما فعل جعفر المقتدر! فدفع في صدره وقتل ابو المثنى لما توقف عن البيعه، ولم يشك الناس ان الأمر تام له إذ اجتمع اهل الدولة عليه، وكان اجل من تخلف عن سوسن الحاجب، فانه بقي بدار المقتدر مثبتا لأمره وحاميا له. وفي هذا اليوم كانت بين الحسين بن حمدان وبين غلمان الدار التي كان بها المقتدر حرب شديده من غدوه الى انتصاف النهار، وثبت سوسن الحاجب به وحامى عنه، واحضر الغلمان ووعدهم الزيادة، وقوى نفس صافى ونفس مؤنس الخادم ومؤنس الخازن، فكلهم حماه ودافع عنه، حتى انفضت الجموع التي كان محمد بن داود جمعها لبيعه ابن المعتز، وذلك ان مؤنسا الخادم حمل غلمانا من غلمان الدار الى الشذوات، فصاعد بها في دجلة فلما جازوا الدار التي كان فيها ابن المعتز ومحمد ابن داود صاحوا بهم، ورشقوهم بالنشاب، فتفرقوا وهرب من كان في الدار من الجند والقواد والكتاب، وهرب ابن المعتز ومن كان معه، ولحق بعض الذين كانوا بايعوا ابن المعتز بالمقتدر، فاعتذروا اليه بأنهم منعوا من المصير نحوه، واختفى بعضهم، فأخذوا وقتلوا وانتهبت العامه دور محمد بن داود والعباس بن الحسن، وأخذ ابن المعتز فقتل وقتل معه جماعه، منهم احمد بن يعقوب القاضى، ذبح ذبحا، وقالوا له: تبايع للمقتدر! فقال: هو صبى ولا يجوز المبايعة له. وقال الطبرى، ولم ير الناس اعجب من امر ابن المعتز والمقتدر، فان الخاصة والعامه اجتمعت على الرضا بابن المعتز وتقديمه، وخلع المقتدر لصغر سنه، فكان امر الله قدرا مقدورا، ولقد تحير الناس في امر دوله المقتدر وطول أيامها على وهي أصلها وضعف ابتنائها ثم لم ير الناس ولم يسمعوا بمثل سيرته وايامه وطول خلافته. وقال محمد بن يحيى الصولي: وفي يوم الاثنين لتسع ليال بقين من ربيع الاول خلع المقتدر على على بن محمد بن الفرات للوزارة، وركب الناس معه الى داره بسوق العطش، وتكلم في اطلاق جماعه ممن كان بايع ابن المعتز، فاذن له المقتدر في ذلك،

فخلى سبيل طاهر بن على ونزار بن محمد وابراهيم بن احمد الماذرائى والحسين بن عبد الله الجوهري المعروف بابن الجصاص، ووضع العطاء للغلمان والأولياء الذين بقوا مع المقتدر صله ثانيه للفرسان ثلاثة اشهر وللرجاله ست نوائب، وولى مؤنسا الخادم شرطه جانبي بغداد وما يليها، وتقدم اليه بالنداء على محمد بن داود ويمن ومحمد الرقاص، وان يبذل لمن جاء بمحمد بن داود عشره آلاف دينار، وخلع على عبد الله بن على بن محمد بن ابى الشوارب لقضاء جانبي بغداد، وقلد الوزير على بن محمد أخاه جعفر بن محمد ديوان المشرق والمغرب، واشاع انه يخلفه عليهم وقلد نزارا الكوفه وطساسيجها، وعزل عنها المسمعي، ثم عزل نزارا وولى الكوفه نجحا الطولونى، وخلع على ابى الأغر خليفه بن المبارك السلمى لغزاه الصائفه وعظم امر سوسن الحاجب وتجبر وطغى، فاتهمه المقتدر ولم يأمنه، وادار الرأي في امره مع ابن الفرات، فاوصى اليه المقتدر: خذ من الرجال من شئت ومن المال والسلاح ما شئت، وتول من الاعمال ما احببت، وخل عن الدار أولها من اريد فأبى عليه، وقال: امر أخذته بالسيف لا اتركه الا بالسيف فاحكم المقتدر الرأي مع ابن الفرات في قتله فلما دخل معه الميدان في بعض الأيام اظهر صافى الحرمي العله، وجلس في بعض طرق الميدان متعاللا فنزل سوسن ليعوده، فوثب اليه جماعه فيهم تكين الخاصة وغيره من القواد، فأخذوا سيفه، وادخلوه بيتا، فلما سمع من كان معه بذلك من غلمانه واصحابه تفرقوا، ومات سوسن بعد ايام في الحبس. وقلد الحجابه نصرا الحاجب المعروف بالقشورى، وكان موصوفا بعقل وفضل. وكان النصارى في آخر ايام العباس بن الحسن قد علا امرهم، وغلب عليهم الكتاب منهم، فرفع في امرهم الى المقتدر، فعهد فيهم بنحو ما كان عهد به المتوكل من رفضهم واطراحهم واسقاطهم عن الخدمه، ثم لم يدم ذلك فيهم. وفي يوم السبت لاربع بقين من ربيع الاول سقط ببغداد الثلج من غدوه الى العصر، حتى صار في السطوح والدور منه نحو من اربعه أصابع، وذلك امر لم ير مثله ببغداد. وفي يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ربيع الاول سلم محمد بن يوسف القاضى ومحمد

ابن عمرويه وابن الجصاص والأزرق كاتب الجيش في جماعه غيرهم الى مؤنس الخازن، فقتل بعضهم، وشفع في بعض فاطلق. وفيها وجه القاسم بن سما في جماعه من القواد والجند في طلب الحسين بن حمدان، فشخص لذلك حتى صار الى قرقيسيا والرحبه، وكتب الى ابى الهيجاء عبد الله بن حمدان بان يطلب أخاه ويتبعه، فخرج في اثره، والتقى بأخيه بين تكريت والسودقانيه، بموضع يعرف بالأعمى، فانهزم عبد الله عن أخيه الحسين ثم بعث الحسين الى السلطان يطلب الامان لنفسه فاعطى ذلك. ولسبع بقين من جمادى الآخرة خلع على ابن دليل النصراني كاتب ابن ابى الساج ورسوله، وعقد ليوسف على اذربيجان والمراغه وحملت اليه الخلع، وامر بالشخوص الى عمله وللنصف من شعبان خلع على مؤنس الخادم، وامر بالشخوص الى طرسوس لغزو الروم، فخرج في عسكر كثيف وجماعه من القواد وكان مؤنس قد ثقل على صافى الحرمي، وأحب الا يجاوره ببغداد، فيسعى مع الوزير ابن الفرات في ابعاده، فاغزى في الصائفه، وضم اليه ابو الأغر خليفه بن المبارك فلم يرضه مؤنس، وكتب الى المقتدر يذمه، فكتب اليه في الانصراف فانصرف، وحبس واجتمع قول الناس بلا اختلاف بينهم، انه لم يكن في زمن ابى الأغر فارس للعرب ولا للعجم اشجع منه ولا اعظم ايدا وجلدا. وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْن عبد الملك.

سنه سبع وتسعين ومائتين

ثم دخلت سنه سبع وتسعين ومائتين (ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) في المحرم من هذا العام، ولد للمقتدر ابن فامر ان يكتب اسمه على الاعلام والتراس والدنانير والدراهم والسمات ولم يعش ذلك المولود. وفيها ورد كتاب مؤنس الخادم على السلطان لست خلون من المحرم بانه ظهر على الروم في غزاته اليهم التي تقدم ذكرها في سنه ست وتسعين، وهزمهم وقتل منهم مقتله عظيمه واسر لهم اعلاجا كثيره، وقرئ كتابه بذلك على العامه ببغداد، ثم قفل مؤنس منصرفا. وفي صفر من هذه السنه اخر طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث الصفار ايراد ما كان يلزمه من المال الموظف عليه من اموال فارس، ودافع به، فكتب سبكرى، غلام عمرو بن الليث، يتضمن حمل المال وايراده، واستاذن في توجيه طاهر واخويه اسرى الى باب السلطان، فأجيب الى ذلك، فاجتمع سبكرى ومن والاه عليهم، ودارت بينهم حرب شديده، حتى استولى سبكرى على فارس وكرمان، وبعث بطاهر واخويه الى السلطان فادخلوا في عماريات مكشوفة، وخلع على رسول سبكرى. ثم ان الليث بن على بن الليث لما بلغه فعل سبكرى بطاهر ويعقوب ابنى محمد، غضب لذلك، وسار يريد فارس، فتلقاه سبكرى، واقتتلا قتالا شديدا، فانهزم سبكرى، وقدم على السلطان يستمده، فندب مؤنس الخادم الى فارس، وضم اليه زهاء خمسه آلاف من الأولياء والغلمان، وكتب الى اصحاب المعاون بأصبهان والاهواز والجبل في معاونه مؤنس على محاربه الليث بن على، واشخص معه الوزير ابن الفرات محمد بن جعفر العبرتاى، وولاه الخراج والضياع بفارس، فاحتاج الجند الى أرزاقهم، فوعدهم بها محمد بن جعفر فلم يرضوا وعده، ووثبوا عليه ونهبوا عسكره، واصابته ضربه، وزعم بعض اصحاب مؤنس انه أخذ له مائه الف دينار

وفي ليله الأربعاء لخمس خلون من شهر ربيع الآخر سنه سبع وتسعين ولد للمقتدر ابو العباس محمد الراضي بالله بدير حنيناء قبل طلوع الفجر. وفي ذي الحجه من هذا العام كانت بين مؤنس الخادم وبين الليث بن على حرب بناحيه النوبندجان، فهزم الليث واصحابه، واسر مؤنس الليث وأخاه اسماعيل وعلى بن حسين بن درهم والفضل بن عنبر، وصاروا في قبضته، فحملهم بين يديه الى بغداد، وادخل الليث على فيل، ومن كان معه على جمال مشهورين، قد البسوا البرانس ثم حبسوا. وفيها وجه المقتدر القاسم بن سيما غازيا في الصائفه الى الروم في جمع كثيف من الجند في شوال فغنم وسبى. وفيها ولى ورقاء بن محمد الشيبانى امر السواد بطريق مكة فرفع المؤن عن الناس، وحسم عنها ضر الاعراب وما كانوا يفعلونه في الطريق من السلب والقتل، وحسن اثر ورقاء هنالك، ولم يزل مقيما بتلك الناحية الى ان رجع الحاج مسلمين شاكرين لفعله فيهم. ولجمادى الاولى من هذا العام ورد الخبر بان اركان البيت الأربعة غرقت في سيول كانت بمكة وغرق الطواف وفاضت بئر زمزم، وانه كان سيلا لم ير مثله في قديم الأيام وحديثها. وفي شوال منها توفى محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر المعروف بالصناديقى، ودفن في مقابر قريش، وصلى عليه القاضى احمد بن إسحاق بن البهلول. وفي شهر رمضان منها توفى يوسف بن يعقوب القاضى ومحمد بن داود الاصبهانى الفقيه. وورد الخبر بوفاه عيسى النوشرى عامل مصر، فولى السلطان مكانه تكين الخاصة، وتوجه من بغداد الى مصر. وفي شوال من هذه السنه توفى جعفر بن محمد بن الفرات أخو الوزير، وكان يلى ديوان المشرق والمغرب، فولى الوزير ابنه المحسن ديوان المغرب وولى ابنه الفضل ديوان المشرق. وفي هذا العام توفى القاسم بن زرزور المغنى، وكان من الحذاق المجيدين، واسن حتى قارب تسعين سنه. وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْن عبد الملك الهاشمى.

سنه ثمان وتسعين ومائتين

ثم دخلت سنه ثمان وتسعين ومائتين (ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) فيها قدم القاسم بن سيما من غزاه الصائفه الى الروم، ومعه خلق كثير من الأسرى، وخمسون علجا قد حملوا على الجمال مشهورين، بأيدي جماعه منهم اعلام الروم، عليها صلبان الذهب والفضه، وذلك يوم الخميس لاربع عشر ليله بقيت من شهر ربيع الاول. وفيها خالف سبكرى والتوى بما عليه، فندب لمحاربته وصيف كامه غلام الموفق، وشخص معه وجوه القواد، وفيهم الحسين بن حمدان وبدر غلام النوشرى وبدر الكبير المعروف بالحمامى، فواقعوا سبكرى في باب شيراز وهزموه، وأسروا القتال صاحبه وهرب بعض قواده عنه وفتق عسكره بماله واثقاله الى ناحيه كرمان، وورد الخبر بان سبكرى اسر، وكان الذى اسره سيمجور غلام احمد بن اسماعيل، ثم قدم وصيف كامه بالقتال صاحب سبكرى، فادخل على فيل وعليه برنس طويل، وبين يديه ثلاثة عشر أسيرا على الجمال، وعليهم دراريع وبرانس من ديباج، فخلع على وصيف وسور وطوق بطوق ذهب منظوم بجوهر، ثم دخل سبكرى وحضر دخوله الوزير ابن الفرات وسائر القواد يوم الاثنين لإحدى عشر ليله بقيت من شوال، وكان قد حمل على فيل وشهر ببرنس طويل، وبين يديه الكرك ومن يضرب بالصنوج، وخلفه الليث بن على على فيل آخر، فخلع على ابن الفرات وحمل وكان يوما مشهودا. وحدث محمد بن يحيى الصولي انه شهد هذا اليوم قال: فتذكرت فيه حديثا كان حدثناه صافى الحرمي يوم بويع فيه المقتدر بالله، قال صافى: رايت الخليفة المقتدر بالله وهو صبى في حجر المعتضد، والمعتضد ينظر في دفتر كان كثيرا ما ينظر فيه، وهو يضرب على كتف المقتدر، ويقول له: كأني بملوك فارس قد ادخلوا إليك على الفيله والجمال، عليهم البرانس، وكان صافى يوم بيعه المقتدر يحدث بهذا، ويدعو الى الله ان يحقق هذا القول

وفيها وردت على المقتدر هدايا من خراسان أنفذها اليه احمد بن اسماعيل بن احمد، فيها غلمان على دوابهم وخيولهم وثياب ومسك كثير وبزاه وسمور وطرائف، لم يعهد بمثلها فيما اهدى من قبل. وفيها جلس ابن الفرات الوزير لكتاب العطاء، فحاسبهم واشرف لهم على خيانة نحو مائه الف دينار، فورى عن الأمر قليلا إذ كان كتابه منهم، واستخرج ما وجد من المال في رفق وستر. وفي جمادى الآخرة من هذا العام فلج عبد الله بن على بن ابى الشوارب القاضى، فامر المقتدر ابنه محمد بن عبد الله بتولى امور الناس خليفه لأبيه، حتى يظهر حاله وما يكون من علته فنظر كما كان ينظر أبوه، وانفذ الأمور مثل تنفيذه

سنه تسع وتسعين ومائتين

ثم دخلت سنه تسع وتسعين ومائتين (ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) [أخبار متفرقة] فمن ذلك غزوه رستم الصائفه من ناحيه طرسوس، وهو والى الثغور، فحاصر حصن مليح الأرميني، ثم دخل عليه واحرق ارباض ذي الكلاع. وفيها ورد رسول احمد بن اسماعيل بكتاب منه الى السلطان بانه فتح سجستان، وان اصحابه دخلوها واخرجوا من كان فيها من اصحاب الصفار، وان المعدل بن على ابن الليث صار اليه بمن معه من اصحابه في الامان، وكان المعدل يومئذ مقيما معهم بزرنج، وصار الى احمد بن اسماعيل وهو مقيم ببست والرخج، فوجه به احمد وبعياله ومن معه الى هراة، ووردت الخريطة بذلك على السلطان يوم الاثنين لعشر خلون من صفر. وفيها وافى بغداد العطير صاحب زكرويه ومعه الأغر، وهو احد قواد زكرويه مستأمنا . ذكر القبض على ابن الفرات وفي ذي الحجه غضب المقتدر على وزيره على بن محمد بن الفرات لاربع خلون منه، وحبس ووكل بدوره، وأخذ كل ما وجد له ولأهله، وانتهبت دوره اقبح نهب، وفجر الشرط بنسائه ونساء اهله، وكان ادعى عليه انه كتب الى الاعراب بان يكبسوا بغداد في خبر طويل. واستوزر محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان فكانت وزارة ابن الفرات ثلاث سنين وثمانية اشهر واثنى عشر يوما، وطولب ابن الفرات بأمواله وذخائره، فاجتمع منها مع ودائع كانت له سبعه آلاف الف دينار- فيما حكى عن الصولي- وكان مشاهدا ومشرفا على اخبارهم

قال: وما سمعنا بوزير جلس في الوزارة وهو يملك من العين والورق والضياع والأثاث ما يحيط بعشره آلاف الف غير ابن الفرات. قال: وكانت له اياد جليله وفضائل كثيره قد ذكرتها في كتاب الوزراء قال ولم ير وزير اودع وجوه الناس من الأموال ما اودع ابن الفرات من قبل ولايته الوزارة، وكانت غلته تبلغ الف الف دينار ولم يمسك الناس ببغداد عن انتقاص ابن الفرات وهجوه مع حسن آثاره، واحضر محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان دار المقتدر في الوقت الذى ضم فيه على ابن الفرات، فقلد الوزارة، وانصرف الى منزله بباب الشماسيه في طيار، وركب يوم الخميس بعده، فخلع عليه وحمل وقلد سيفا. وقيل ان السبب في ولايته كان بعناية أم ولد المعتضد بامره على ان ضمن لها مائه الف دينار، وقوى امره عندها رياء كان يظهره وكان الخدم من الدار يأتونه بالكتب، فلا يكلم الواحد منهم الا بعد مائه ركعة يصليها، فكانوا ينصرفون بوصفه وما رأوا منه، وخلع على ابنه عبد الله بن محمد لخلافه ابيه، واستبدل بالعمال، وعزل كل من كان خطوطه الى على بن الفرات وآله. وفي هذه السنه مات وصيف موشجير يوم الخميس لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان. وفيها مات الخرقى المحدث. وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْن عبد الملك.

سنه ثلاثمائة

ثم دخلت سنه ثلاثمائة (ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) فيها امر جعفر المقتدر برفع مطالبه المواريث عن الناس، وان يورث ذوو الارحام، ولا يعرض لأحد في ميراث الا لمن صح انه غير وارث وكان الناس من قبل ذلك في بلاء وتعلل متصل من المستخرجين والعاملين. وفيها اخرج محمد بن إسحاق بن كنداجيق بعض اصحابه لمحاربه قوم من القرامطة جاءوا الى سوق البصره، فعاثوا بها، وبسطوا ايديهم وأسيافهم على الناس فيها، فلما واقفهم اصحاب ابن كنداجيق، صدمهم القرامطة صدمه شديده حتى هزموهم، وقتل من اصحاب ابن كنداجيق جماعه، وكان محمد بن إسحاق قد خرج كالممد لهم، فلما بلغه امرهم وشده شوكتهم انصرف مبادرا الى المدينة، فانهض السلطان محمد بن عبد الله الفارقى في رجل كثير معونه لابن كنداجيق ومددا له فأقاما بالبصرة ولم يتعرضا لمحاربه. وفي شعبان من هذه السنه قبض على ابراهيم بن احمد الماذرائى، وعلى ابن أخيه محمد بن على بن احمد، فطالبهم ابو الهيثم بن ثوابه بخمسمائة الف، فجملوا منها خمسين ألفا الى بيت المال، وصانعوا الوزير ابن خاقان وابنه وابن ثوابه بمال كثير، وصادر ابن ثوابه جماعه على مائه الف دينار، فحمل منها ابن الجصاص عشرين ألفا، وفرضت البقية على جماعه، منهم ابن ابى الشوارب القاضى وغيره. وظهر في هذا العام ضعف امر محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان الوزير، وتغلب ابنه عبد الله عليه وتحكمه في الأمور دونه، وكثر التخليط من محمد في رايه وجميع امره، فكان يولى العمل الواحد جماعه في اسبوع من الأيام، وتقدم بالمصانعات حتى قلد عماله بادوريا في احد عشر شهرا احد عشر عاملا، وكان يدخل الرجل الذى قد عرفه دهرا طويلا فيسلم عليه فلا يعرفه، حتى يقول له: انا فلان ابن فلان، ثم يلقاه بعد ساعه فلا يعرفه

وفيها ورد الخبر بانخساف جبل بالدينور، يعرف بالتل وخروج ماء كثير من تحته غرقت فيه عده من القرى، وورد الخبر أيضا بانخساف قطعه عظيمه من جبل لبنان وسقوطها الى البحر، وكان ذلك حدثا لم ير مثله. وفيها ورد كتاب صاحب البريد بالدينور، يذكر ان بغله هناك وضعت فلوه ونسخه كتابه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الموقظ بعبره قلوب الغافلين، والمرشد بآياته الباب العارفين، الخالق ما يشاء بلا مثال، ذلك الله البارئ المصور في الارحام ما يشاء وان الموكل بخبر التطواف بقرماسين رفع يذكر ان بغله لرجل يعرف بابى برده من اصحاب احمد بن على المري وضعت فلوه، ويصف اجتماع الناس لذلك، وتعجبهم لما عاينوا منه، فوجهت من أحضرني البغله والفلوه فوجدت البغله كمتاء خلوقيه والفلوه سويه الخلق تامه الأعضاء منسدله الذنب سبحان الملك القدوس لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب. وكان المقتدر لما راى عجز محمد بن عبيد الله الوزير وتبلده قد انفذ احمد بن العباس أخا أم موسى الهاشمية الى الاهواز، ليقدم باحمد بن يحيى المعروف بابن ابى البغل ليوليه الوزارة، فخرج اليه، واقبل به حتى صار بواسط، فلما قرب من دار السلطان سلم احمد بن العباس على احمد بن محمد بالوزارة، وحمل اليه ثلاثة آلاف دينار، فاتصل الخبر بمحمد بن عبيد الله الوزير من قبل حاشيته وعيونه، فركب الى الدار، وصانع جماعه من الخدم والحرم، وضمن لام ولد المعتضد التي كانت عنيت بولايته في أول امره خمسين الف دينار، فنقضت امر ابن ابى البغل، ورد واليا على فارس. وفي شوال من هذا العام توفى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وكان اكثر الناس أدبا وجلاله وفهما ومروءة، وهو ابن احدى وثمانين سنه، وصلى عليه احمد بن عبد الصمد الهاشمى، ودفن في مقابر قريش وفيها مات ابو الفضل عبد الواحد بن الفضل بن عبد الوارث يوم السبت لسبع بقين من ذي الحجه. واقام الحج للناس في هذه السنه الفضل بن عبد الملك بن عبد الله الهاشمى.

سنه احدى وثلاثمائة

ثم دخلت سنه احدى وثلاثمائة (ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) ففيها وافى بغداد على بن عيسى بن داود بن الجراح مقدمه من مكة، وذلك يوم الاثنين لعشر خلون من المحرم، فمضى به من فوره الى دار المقتدر، فقلد الوزارة وخلع عليه لولايتها، وقلد سيفا، وقبض على محمد بن عبيد الله وابنيه عبد الله وعبد الواحد فحبسوا وكانوا قد ركبوا في ذلك النهار الى الدار، ووعدوا بان يخلع عليهم ويسلم على بن عيسى اليهم، فسلموا اليه، ووقع الأمر بضد ما ظنوه، وقعد على ابن عيسى لمحمد بن عبيد الله وناظره فقال له: اخربت الملك، وضيعت الأموال، ووليت بالعناية، وصانعت على الولايات بالرشوة، وزدت على السلطان اكثر من الف الف دينار في السنه، فقال: ما كنت افعل الا ما أراه صوابا وكان محمد بن عبيد الله فيما ذكر من تسناه يأخذ المصانعات على يدي ابى الهيثم بن ثوابه، ولا يفى بعهد لكل من صانعه برشوه، حتى قيلت فيه اشعار كثيره منها: وزير ما يفيق من الرقاعه ... يولى ثم يعزل بعد ساعه إذا اهل الرشا صاروا اليه ... فاحظى القوم أوفرهم بضاعة وليس بمنكر ذا الفعل منه ... لان الشيخ افلت من مجاعه وكان محمد بن عبيد الله قبل ان يستحيل به الحال فيما ذكر اهل الخبر. وحسن الرأي فيه ذا دهاء وعقل، وكان ابنه عبد الله كاتبا بليغا حسن الكلام مليح اللفظ حسن الخط، جوادا يعطى العطايا الجزيله، ويقدم الأيادي الجليله، وصل عبد الله بن حمدون من ماله في مده ولايته بتسعين الف دينار الى ما وصل به غيره، واعطاه كثيرا ممن كان امله. وفي هذه السنه رضى عن القاضى محمد بن يوسف، وقلد الشرقيه، وعسكر المهدى وخلع عليه دراعه وطيلسان وعمامة سوداء، وركب من دار الخليفة الى مسجد الرصافه، فصلى ركعتين، ثم قرئ عليه عهده بالولاية

وفيها ورد الخبر بوثوب ابى الهيجاء عبد الله بن حمدان بالموصل ومعه جماعه من الأكراد، وكانوا أخواله لان أمه كرديه، واغاث الجند اهل الموصل، فقتلت بينهم مقتله عظيمه، وصار ابو الهيجاء الى الأكراد، وتامر عليهم كالخالع للطاعة. وتظلم اهل البصره من عاملهم محمد بن إسحاق بن كنداج، وشكوا به الى على ابن عيسى الوزير، فعزله عنهم بعد ان استامر فيه المقتدر لئلا يستبد بالرأي دونه، وولى البصره نجحا الطولونى، ثم ولى محمد بن إسحاق بن كنداج الدينور، وولى سليمان بن مخلد ديوان الدار، وكتابه غريب خال المقتدر، وولى على بن عيسى ابراهيم أخاه ديوان الجيش، واستخلف عليه سعيد بن عثمان والحسين بن على. وفي شهر ربيع الآخر من هذه السنه دخل مؤنس الخادم مدينه السلام، ومعه ابو الهيجاء قد اعطاه أمانا فخلع على مؤنس وعليه. وقلد نصر القشورى مع الحجابه التي كان يتولاها ولايه السوس وجندى سابور ومناذر الكبرى ومناذر الصغرى، فاستخلف على جميع ذلك يمنا الهلالي الخادم. وفي هذه السنه اغارت الاتراك على المسلمين بخراسان، فسبت منهم نحو عشرين ألفا، الى ما ذهبت به من الأموال وقتلت من الرجال، فخرج اليهم احمد بن اسماعيل، وكان واليها في جيوش كثيره، واتبعهم فقتل منهم خلقا كثيرا واستنقذ بعض الأسرى، واوفد الى السلطان رجلا شيخا يعرف بالحمادى يستحمد اليه بفعله بالاتراك، ويخطب اليه شرطه مدينه السلام واعمال فارس وكرمان فأجيب الى كرمان وحدها وكتب له بها كتاب عهد. وفي جمادى الآخرة من هذه السنه اطلق محمد بن عبيد الله الذى كان وزيرا وابنه عبد الله وامرا بلزوم منازلهما. وفيها خلع على القاسم بن الحر وولى سيراف، وخلع على على بن خالد الكردى، وولى حلوان. وفي هذه السنه ركب ابو العباس محمد بن المقتدر من القصر المعروف بالحسنى، وبين يديه لواء عقده له أبوه المقتدر على المغرب، ومعه القواد كلهم، والغلمان الحجريه وجماعه الخدم حول ركابه، وعلى بن عيسى عن يمينه ومؤنس الخادم عن يساره ونصر الحاجب بين يديه، فسار في الشارع الأعظم، ورجع في الماء والناس معه،

فاعترضه رجل بمربعه الحرشي، فنثر عليه دراهم مسيفه، وقال له: بحق امير المؤمنين الا أذنت لي في طلى الفرس بالغالية، فوقف له وجعل الرجل يطلى وجه الفرس، فنفر منه، وقيل له: دع وجهه، واطل سائر بدنه، فاقبل يطلى عرف الفرس وقوائمه بالغالية، فقال محمد بن المقتدر لمن حوله: اعرفوا لنا هذا الرجل. وفي هذه السنه قلد ابو بكر محمد بن على الماذرائى اعمال مصر والاشراف على اعمال الشام وتدبير الجيوش، وخلع عليه، وذلك يوم الخميس للنصف من شهر رمضان وخلع في هذا النهار أيضا على القاسم بن سيما، وعقد له على الإسكندرية واعمال برقه. وفي هذه السنه في جمادى الآخرة، ورد الخبر بوفاه على بن احمد الراسبى، وكان يتقلد جندى سابور والسوس وماذرايا الى آخر حدودها، وكان يورد من ذلك الف الف دينار وأربعمائة الف دينار في كل سنه، ولم يكن معه احد يشركه في هذه الاعمال من اصحاب السلطان لأنه تضمن الحرب والخراج والضياع والشحنه وسائر ما في عمله، فتخلف- فيما وردت به الاخبار- من العين الف الف دينار ومن آنيه الذهب والفضه قيمه مائه الف دينار ومن الخيل والبغال والجمال الف راس، ومن الخز الرفيع الطاقي ازيد من الف ثوب، وكان مع ذلك واسع الضيعه كثير الغلة وكان له ثمانون طرازا ينسج له فيها الثياب من الخز وغيره فلما ورد الخبر بوفاه الراسبى، انفذ المقتدر عبد الواحد بن الفضل بن وارث في جماعه من الفرسان والرجاله لحفظ ماله الى ان يوجه من ينظر فيه، ثم وجه مؤنس الخادم للنظر في ذلك، فيقال: انه صار اليه منه مال جليل، وخلع على ابراهيم بن عبد الله المسمعي، وولى النظر في دور الراسبى. وتوفى مؤنس الخازن يوم الأحد لثمان بقين من شهر رمضان، ولم يتخلف احد عن جنازته من الرؤساء، وصلى عليه القاضى محمد بن يوسف، ودفن بطرف الرصافه، وكان جليل القدر عند السلطان، فلما مات قلد ابنه الحسن ما كان يتولاه من عرض الجيوش، فجلس ونظر، وعاقب واطلق، وفرق سائر الاعمال التي كانت الى مؤنس

على جماعه من القواد الذين كانوا في رسمه، وضم اصحابه الى ملازمه ابى العباس بن المقتدر، ولم يخلع على الحسن بن مؤنس للولاية مكان ابيه، فعلم ان ولايته لا تتم وعزل بعد شهرين، وعزل محمد بن عبيد الله بن طاهر وكان خليفته على الجانب الشرقى، وقدم مكانه بدر الشرابي، وعزل خزرى بن موسى خليفه مؤنس على الجانب الغربي وولى مكانه إسحاق الاشروسنى، وولى شفيع اللؤلؤى البريد وسمى شفيعا الاكبر. وورد الخبر في شعبان بان احمد بن اسماعيل بن احمد صاحب خراسان قتله غلمانه غيله على فراشه، وكان قد اخاف بعضهم فتواطئوا على قتله ثم اجتمع سائر غلمانه فضبطوا الأمر وبايعوا لابنه نصر بن احمد وورد كتابه على المقتدر يسأله تجديد العهد له، ووردت كتب عمومته وبنى عمه يسال كل واحد منهم ناحيه من نواحي خراسان، فافرد الخليفة بالولاية ابنه وتم له الأمر. قال الصولي: شهدت في هذا العام بين يدي محمد بن عبيد الله الوزير مناظره كانت بين ابن الجصاص وابراهيم بن احمد الماذرائى، فقال ابراهيم بن احمد الماذرائى في بعض كلامه: لابن الجصاص مائه الف دينار من مالي صدقه، لقد ابطلت في الذى حكيته وكذبت! فقال له ابن الجصاص: قفيز دنانير من مالي صدقه، لقد صدقت انا وابطلت أنت، فقال له ابن الماذرائى: من جهلك انك لا تعلم ان مائه الف دينار اكثر من قفيز دنانير، فعجب الناس من كلامهما قال الصولي: وانصرفت الى ابى بكر بن حامد فخبرته الخبر، فقال: نعتبر هذا بمحنه، فاحضر كيلجه وملاها دنانير ثم وزنها فوجد فيها اربعه آلاف دينار، فنظرنا فإذا القفيز سته وتسعون الف دينار كما قال الماذرائى. وفي هذه السنه مات ابو بكر جعفر بن محمد المعروف بالفاريابى المحدث، لاربع بقين من المحرم وصلى عليه ابنه ودفن في مقابر الشونيزيه وفيها توفى عبد الله بن محمد بن ناجيه المحدث وكان مولده سنه عشر ومائتين. وفيها مات الحسن بن الحسن بن رجاء، وكان يتقلد اعمال الخراج والضياع بحلب، مات فجاءه، وحمل تابوته الى مدينه السلام، ووصل يوم السبت لخمس

بقين من شهر ربيع الاول. وفيها مات محمد بن عبد الله بن على بن ابى الشوارب القاضى المعروف بالأحنف، وكان خليفه ابيه على قضاء عسكر المهدى والشرقيه والنهروانات والزوابي والتل وقصر ابن هبيرة والبصره وكور دجلة وواسط والاهواز، ودفن يوم الأحد لتسع ليال خلون من جمادى الاولى في حجره بمقام باب الشام وله ثمان وثلاثون سنه وفي هذه السنه بعد قتل احمد بن اسماعيل ورد الخبر بان رجلا طالبيا حسينيا خرج بطبرستان يدعو الى نفسه يعرف بالأطروش. وفي آخر هذه السنه توفى احمد بن عبد الصمد بن طومار الهاشمى، وكان من قبل نقيب بنى هاشم العباسيين والطالبيين، فقلد ما كان يتقلده أخو أم موسى، فضج الهاشميون من ذلك، وسألوا رد ما كان يتولاه ابن طومار الى ابنه محمد بن احمد، فأجيبوا الى ذلك، وكان لأحمد بن عبد الصمد يوم توفى اثنتان وثمانون سنه. واقام الحج للناس في هذه السنه الفضل بن عبد الملك الهاشمى.

سنه اثنتين وثلاثمائة

ثم دخلت سنه اثنتين وثلاثمائة (ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) فيها ركب شفيع الخادم المعروف بالمقتدرى في جماعه من الجند والفرسان والرجال الى دار الحسين بن احمد المعروف بابن الجصاص، التي في سوق يحيى، ولحقه صاحب الشرطه بدر الشرابي، فوكل شفيع بالأبواب وقبض على جميع ما تحويه داره من مال وجوهر وفرش واثاث ورقيق ودواب، وحمل في وقته ذلك صناديق مختومه، ذكر ان فيها جوهر وآنيه ذهب، ووجد في داره فرشا سلطانيا من فرش أرمينية وطبرستان جليلا لا يعرف قدره، ووجد فيها من مرتفع ثياب مصر خمسمائة سفط وحفرت داره فوجدت له في بستانه اموال جليله مدفونة في جرار خضر وقماقم مرصصه الرءوس، فحملت كهيئتها الى دار المقتدر، وأخذ هو فقيد بخمسين رطلا من حديد وغل، وتسمع الناس ما جرى عليه، فصودر على مائه الف دينار بعد هذا كله، واطلق الى منزله. وقال ابو الحسن بن عبد الحميد كاتب السيده: ان الذى صح مما قبض من مال الحسين بن احمد بن الجصاص الجوهري من العين والورق والانيه والثياب والفرش والكراع والخدم- لا ثمن ضيعه في ذلك ولا ثمن بستان- ما قيمته سته آلاف الف دينار. وفي هذه السنه في رجب ورد كتاب محمد بن على الماذرائى الى السلطان من مصر يزعم ان وقعه كانت بين اصحاب السلطان وبين جيش القيروان فقتل من اصحاب الشيعى سبعه آلاف واسر نحوهم، وانهزم من بقي منهم، ومضوا على وجوههم، فمات اكثرهم قبل وصولهم الى برقه، ووردت كتب التجار بدخول الشيعة برقه، وعظم ما أحدثوا في تلك الناحية، وان الغلبه انما كانت لهم

قال الصولي: وفيها جلس على بن عيسى للمظالم في كل يوم ثلاثاء، فحضرته يوما، وقد جيء برجل يزعم انه نبى، فناظره فقال: انا احمد النبي، وعلامتي ان خاتم النبوه في ظهري، ثم كشف عن ظهره فإذا سلعه صغيره، فقال له: هذه سلعه الحماقة، وليست بخاتم النبوه، ثم امر بصفعه وتقييده وحبسه في المطبق. وفي شهر رمضان من هذه السنه وافى باب الشماسيه قائد من قواد صاحب القيروان يقال له ابو جده، ومعه من اصحابه مائتا فارس، نازعين الى الخليفة فاحضر القائد دار السلطان، وخلع عليه، واخرج هو واصحابه الى البصره ليكونوا مع محمد بن إسحاق بن كنداج. وفيها اطلق المقتدر من سجنه الصفاري المعروف بالقتال، خلع عليه، واقطعه دارا ينزلها واجرى عليه الرزق، وامره بحضور الدار في يومى الموكب مع الأولياء، واطلق أيضا محمد بن الليث الكردى وخلع عليه، وهو ممن ادخل مع الليث، وطوف على جمل. وفيها جاء رجل حسن البزة طيب الرائحة الى باب غريب خال المقتدر، وعليه دراعه وخف احمر وسيف جديد بحمائل، وهو راكب فرسا ومعه غلام، فاستأذن للدخول، فمنعه البواب، فانتهره واغلظ عليه، ونزل فدخل، ثم قعد الى جانب الخال، وسلم عليه بغير الإمرة، فقال له غريب وقد استبشع امره: ما تقول اعزك الله؟ قال: انا رجل من ولد على بن ابى طالب، وعندي نصيحه للخليفة لا يسعني ان يسمعها غيره، وهي من المهم الذى ان تأخر وصولي اليه حدث امر عظيم. فدخل الخال الى المقتدر والى السيده، واعلمهما بامره، فبعث في الوزير على بن عيسى واحضر الخال الرجل، فاجتهد الوزير والحاجب نصر والخال ان يعلمهم النصيحه ما هي، فأبى حتى ادخل الى الخليفة، وأخذ سيفه، وادنى منه، وتنحى الغلمان والخدم، فاخبر المقتدر بشيء لم يقف عليه احد، ثم امره بالانصراف الى منزل اقيم له وخلع عليه ما يلبسه، ووكل به خدم يخدمونه، وامر المقتدر ان يحضر ابن طومار نقيب الطالبيين ومشايخ آل ابى طالب، فيسمعون منه ويفهمون امره، فدخلوا عليه وهو

على برذعه طبرية مرتفعه، فما قام الى واحد منهم، فسأله ابن طومار عن نسبته فزعم انه محمد بن الحسن بن على بن موسى بن جعفر الرضا وانه قدم من البادية، فقال له ابن طومار: لم يعقب الحسن- وكان قوم يقولون انه اعقب، وقوم قالوا لم يعقب- فبقى الناس في حيره من امره، حتى قال ابن طومار: هذا يزعم انه قدم من البادية وسيفه جديد الحلية والصنعه، فابعثوا بالسيف الى دار الطاق، وسلوا عن صانعه وعن نصله، فبعث به الى اصحاب السيوف بباب الطاق، فعرفوه واحضروا رجلا ابتاعه من صيقل هناك، فقيل له: لمن ابتعت هذا السيف؟ فقال: لرجل يعرف بابن الضبعى، كان أبوه من اصحاب ابن الفرات، وتقلد له المظالم بحلب، فاحضر الضبعى الشيخ، وجمع بينه وبين هذا المدعى الى بنى ابى طالب فاقر بانه ابنه، فاضطرب الدعي وتلجج في قوله، فبكى الشيخ بين يدي الوزير حتى رحمه ووعده بان يستوهب عقوبته ويحبسه او ينفيه، فضج بنو هاشم، وقالوا: يجب ان يشهر هذا بين الناس، ويعاقب أشد عقوبة، ثم حبس الدعي، وحمل بعد ذلك على جمل، وشهر في الجانبين يوم الترويه ويوم عرفه، ثم حبس في حبس المصريين بالجانب الغربي. وفي هذه السنه اضطرب امر خراسان لما قتل احمد بن اسماعيل، واشتغل نصر بن احمد والده بمحاربه عمه، ودارت بينهما فتوق، فكتب احمد بن على المعروف بصعلوك، وكان يلى الري من قبل احمد بن اسماعيل ايام حياته الى المقتدر، ووجه اليه رسولا يخطب اليه اعمال الري وقزوين وجرجان وطبرستان، وما يستضيف الى هذه الاعمال، ويضمن في ذلك مالا كثيرا، وعنى به نصر الحاجب، حتى انفذ اليه الكتب بالولاية، ووصله المقتدر من المال الذى ضمن بمائه الف درهم، وامر بمائده تقام له في كل شهر من شهور الأهلة بخمسه آلاف درهم، واقطعه من ضياع السلطان بالري ما يقوم في كل سنه بمائه الف درهم. وفي هذه السنه ركب المقتدر الى الميدان، وركب باثره على بن عيسى الوزير ليلحقه، فنفرت دابته وسقط سقطه مؤلمه، وامر الخليفة اصحاب الركاب باقامته،

وحمله على دابته، فانهضوه وحملوه، وقيلت فيه اشعار منها: سقوطك يا على لكسف بال ... وخزى عاجل وسقوط حال فما قلنا لعا لك بل سررنا ... وكان لما رجونا خير فال أضعت المال في شرق وغرب ... فلم يحظ الامام بجمع مال قال: وكان على بن عيسى بخيلا، فابغضه الناس لذلك. ووردت الاخبار بدخول صاحب إفريقية الإسكندرية وتغلبه على برقه وغيرها، وكتب تكين الخاصة والى مصر يطلب المدد، ويستصرخ السلطان، فعظم ذلك على المقتدر ورجاله وكانوا من قبل مستخفين بأمر عبيد الله الشيعى وبابى عبد الله القائم بدعوته، وكانوا قد فحصوا عن نسبه ومكانه، وباطن امره. قال محمد بن يحيى الصولي: حدثنا ابو الحسن على بن سراج المصرى، وكان حافظا لاخبار الشيعة ان عبيد الله هذا القائم بإفريقية هو عبيد الله بن عبد الله بن سالم من اهل عسكر مكرم بن سندان الباهلى صاحب شرطه زياد، ومن مواليه وسالم جده، قتله المهدى على الزندقة. قال: وأخبرني غير ابن سراج ان جده كان ينزل بنى سهم من باهله بالبصرة، وكان يدعى انه يعرف مكان الامام القائم وله دعاه في النواحي، يجمعون له المال بسببه، فوجه الى ناحيه المغرب رجلا يعرف بابى عبد الله الصوفى المحتسب، فأرى الناس نسكا، ودعاهم سرا الى طاعه الامام، فافسد على زياده الله بن الاغلب القيروان، وكان عبيد الله هذا مقيما بسلميه مده، ثم خرج الى مصر فطلب بها، وظفر به محمد ابن سليمان، فاخذ منه مالا، واطلقه، ثم ثار المحتسب على ابن الاغلب وطرده عن القيروان، وقدم عليه عبيد الله، فقال المحتسب للناس: الى هذا كنت ادعو، وكان عبيد الله يعرف أول دخوله القيروان بابن البصرى، فأظهر شرب الخمر والغناء، فقال المحتسب: ما على هذا خرجنا، وانكر فعله، فدس عليه عبيد الله رجلا من المغاربه يعرف بابن خنزير، فقتله، وملك عبيد الله البلاد، وحاصر اهل طرابلس حتى فتحها، وأخذ اموالا عظيمه ثم ملك برقه واقبل جيشه يريد مصر، وقدم ولد

عبيد الله الإسكندرية، وخطب فيها خطبا كثيره محفوظه، لولا كفر فيها لاجتلبت بعضها. ولما وردت الاخبار باستطاله صاحب القيروان بجهة مصر، انهض المقتدر مؤنسا الخادم وندب معه العساكر، وكتب الى عمال اجناد الشام بالمصير الى مصر. وكتب الى ابنى كيغلغ وذكا الأعور، وابى قابوس الخراسانى باللحاق بتكين لمحاربته. وخلع على مؤنس في شهر ربيع الاول سنه ثنتين وثلاثمائة وخرج متوجها الى مصر، وتقدم على بن عيسى الوزير بترتيب الجمازات من مصر الى بغداد ليروح عليه الاخبار في كل يوم، فورد الخبر بان جيش عبيد الله الخارج مع ابنه، ومع قائده حباسه انهزموا وبشر على بن عيسى بذلك المقتدر، فتصدق في يومه بمائه الف درهم، ووصل على ابن عيسى بمال عظيم، فلم يقبله ثم رجع على وقد باع له ابن ما شاء الله ضيعه باربعه آلاف دينار، وفرقها كلها شكرا لله عز وجل، ودخل مؤنس الخادم بالجيوش مصر في جمادى الآخرة، وقد انصرف كثير من اهل المغرب عن الإسكندرية ونواحيها، وانصرف ولد عبيد الله قافلا الى القيروان وكتب محمد بن على الماذرائى يذكر ضيق الحال بمصر وكثره الجيوش بها وما يحتاج اليه من الأموال لها، فانفذ اليه المقتدر مائتي بدره دراهم على مائتي جمازه مع جابر بن اسلم صاحب شرطه الجانب الشرقى ببغداد. وورد الخبر من مصر في ذي القعده بان الاخبار تواترت عليهم بموت عبيد الله الشيعى فانصرف مؤنس يريد بغداد، وعزل المقتدر تكين عن مصر، وولاه دمشق ونقل ذكا الأعور من حلب الى مصر. وفي هذه السنه صرف ابو ابراهيم بن بشر بن زيد أبا بكر الكريزى العامل عن اعمال قصر ابن هبيرة ونواحيه، فطالبه وضربه بالمقارع حتى مات، وحمل الى مدينه السلام في تابوت. وفيها مات القاسم بن الحسن بن الاشيب، ويكنى أبا محمد، وكان قد حدث وحمل عنه الناس توفى لليلتين بقيتا من جمادى الاولى، ولم يتخلف عن جنازته قاض ولا فقيه ولا عدل. وفيها ماتت بدعه جاريه عريب مولاه المأمون لست خلون من ذي الحجه

وصلى عليها ابو بكر بن المهتدى، وخلفت مالا كثيرا وجوهرا وضياعا وعقارات، فامر المقتدر بالله بقبض ذلك كله، وتوفيت ولها ستون سنه ما ملكها رجل قط. وقطع في هذه السنه بطريق مكة على حاتم الخراسانى وعلى خلق عظيم معه، خرج عليهم رجل من الحسينية مع بنى صالح بن مدرك الطائي، فأخذوا الأموال واستباحوا الحرم ومات من سلم عطشا، وسلمت القوافل غير قافلة حاتم. واقام الحج للناس في هذه السنه الفضل بن عبد الملك الهاشمى.

سنه ثلاث وثلاثمائة

ثم دخلت سنه ثلاث وثلاثمائة (ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) فيها ورد الخبر بان رجلا من الطالبيين ثار بجهة واسط وانضم اليه جماعه من الاعراب والسواد، وكان للأعراب رئيس يقال له محرز بن رباح، وذلك انه بلغهم بان صاحب فارس والاهواز والبصره بعث الى حضره السلطان من المال المجتمع قبله ثلاثمائة الف دينار، حملت في ثلاث شذوات، فطمعوا في انتهابها وأخذها، وكمنوا للرسل في بعض الطريق، ففطن بهم اهل الشذوات، فافلتت منها واحده، وصاعدت، ورجعت الاثنتان الى البصره، ولم يظفر الخارجون بشيء فصاروا الى عقر واسط، وأوقعوا بأهلها، واحرقوا مسجدها، واستباحوا الحرم وبلغ حامد بن العباس خبرهم، وكان يتقلد اعمال الخراج والضياع بكسكر وكور دجلة وما اتصل بذلك، فوجه من قبله محمد بن يوسف المعروف بخزرى، وكان يتقلد له معونه واسط، وضم اليه غلمانه وقوما فرض لهم فرضا، وكتب الى السلطان بالخبر، فامده بلؤلؤ الطولونى، فلم يبلغ اليه لؤلؤ حتى قتل الطالبي ومحرز بن رباح واكثر الاعراب الخارجين معهما، واسر منهم نحو مائه اعرابى، وكتب حامد بالفتح الى المقتدر، وبعث بالأسرى، فادخلوا مدينه السلام في جمادى الاولى وقد البسوا البرانس، وحملوا على الجمال، فضجوا وعجوا وزعم قوم منهم انهم براء، فامر المقتدر بردهم الى حامد ليطلق البريء، ويقتل النطف، فقتلهم اجمعين على جسر واسط، وصلبهم. وفي هذه السنه في جمادى الاولى ورد الخبر بان الروم حشدوا وخرجوا على المسلمين، فظفروا بقوم غزاه من اهل طرسوس، وظفرت طائفه منهم اخرى بخلق كثير من اهل مرعش وشمشاط، فسبوا من المسلمين نحوا من خمسين ألفا، وعظم الأمر في ذلك، وعم حتى وجه السلطان بمال ورجال الى ذلك الثغر، فدارت على الروم بعد ذلك وقعات كثيره

وفيها كانت لهارون بن غريب الخال جناية وهو سكران بمدينه السلام، على رجل من الخزر يعرف بجوامرد، ولقيه ليلا فضرب راسه بطبرزين كان في يده، فقتله بلا سبب، فشغب رفقاؤه الذين كان في جملتهم، وطلبوا هارون ليقتلوه، فمنع منهم وكانوا نحو المائه، فشكوا امره، وترددوا طالبين لاخذ الحق منه، فلم ينظر لهم فلما أعوزهم ذلك، خرجوا باجمعهم الى عسكر ابن ابى الساج، وكان قد تحرك على السلطان، وانفذ اليه المقتدر رشيقا الحرمي ختن نصر الحاجب رسولا ليصرفه عن مذهبه، فحبسه ابن ابى الساج عند نفسه، ومنعه ان يكتب كتابا الى المقتدر ثم انه اطلقه بعد ذلك، وبعث بهدايا ومال فرضى عنه. وفيها عظم امر الحسين بن حمدان بنواحي الموصل، فانفذ اليه السلطان أبا مسلم رائقا الكبير، وكان اسن الغلمان المعتضديه واعلاهم رتبه، وكان فيه تصاون وتدين وحسن عقل، فشخص ومعه وجوه القواد والغلمان، فحارب الحسين بن حمدان، وهو في نحو خمسه عشر ألفا، فقتل رائق من قواد ابن حمدان جماعه منهم الحسن بن محمد ابن أبا التركى، وكان فارسا شجاعا مقداما وابو شيخ ختن ابن ابى مسعر الأرميني ووجه الحسين بن حمدان الى رائق جماعه يسأله ان يأخذ له الامان، وانما اراد ان يشغله بهذا عن محاربته، ومضى الحسين مصعدا ومعه الأكراد والاعراب وعشر عماريات، فيها حرمه وكان مؤنس الخادم قد انصرف من الغزاة وصار الى آمد، فوجه القواد والغلمان في اثر الحسين، فلحقوه وقد عبر باصحابه واثقاله واديا، وهو واقف يريد العبور في خمسين فارسا، ومعه العماريات، فكابرهم حتى اخذوه أسيرا، وسلم عياله وأخذ ابنه ابو الصقر أسيرا فلما راى الأكراد هذا عطفوا على العسكر فنهبوه وهرب ابنه حمزه وابن أخيه ابو الغطريف، ومعهما مال، ففطن بهما عامل آمد، وكان العامل سيما غلام نصر الحاجب، فاخذ ما معهما من المال وحبسهما. ثم ذكر ان أبا الغطريف مات في الحبس، فاخذ راسه، وكان الظفر بحسين بن حمدان يوم الخميس للنصف من شعبان، ورحل مؤنس يريد بغداد، ومعه الحسين ابن حمدان واخوته على مثل سبيله، واكثر اهله، فصير الحسين على جمل مصلوبا على

نقنق، وتحته كرسي، ويدير النقنق رجل، فيدور الحسين من موقفه يمينا وشمالا، وعليه دراعه ديباج سابغه قد غطت الرجل الذى يدير النقنق، ما يراه احد، وابنه الذى كان هرب من مدينه السلام ابو الصقر قد حمل بين يديه على جمل، وعليه قباء ديباج وبرنس، وكان قد امتنع من وضع البرنس على راسه، فقال له الحسين: البسه يا بنى فان اباك البس البرانس اكثر هؤلاء الذين تراهم- وأومأ الى القتال وجماعه من الصفاريه- ونصبت القباب بباب الطاق، وركب ابو العباس محمد بن المقتدر بالله وبين يديه نصر الحاجب، ومعه الحربه وخلفه مؤنس وعلى بن عيسى واخوه الحسين خلف جمله عظيمه، عليهم السواد في جمله الجيش. ولما صار الحسين بسوق يحيى قال له رجل من الهاشميين: الحمد لله الذى امكن منك، فقال له الحسين: والله لقد امتلأت صناديقى من الخلع والالويه، وافنيت أعداء الدولة، وانما اصارنى الى هذا الخوف على نفسي، وما الذى نزل بي الا دون ما سينزل بالسلطان إذا فقد من اوليائه مثلي وبلغ الدار ووقف بين يدي المقتدر بالله، ثم سلم الى نذير الحرمي فحبسه في حجره من الدار، وشغب الغلمان والرجاله يطلبون الزيادة، ومنعوا من الدخول على مؤنس او على احد من القواد، ومضوا الى دار على بن عيسى الوزير، فاحرقوا بابه، وذبحوا في اصطبله دوابه وعسكروا بالمصلى ثم سفر بالأمر بينهم، فدخلوا واعترفوا بخطئهم وكان الغلمان سبعمائة، وكان الرجاله خلقا كثيرا، فوعدهم مؤنس الزيادة، فزيدوا شيئا يسيرا، فرضوا. وفي آخر شهر رمضان ادخل خمسه نفر أسارى من اصحاب الحسين، فيهم حمزه ابنه ورجل يقال له على بن الناجى لثلاث بقين من هذا الشهر، ثم قبض على عبيد الله وابراهيم ابنى حمدان، وحبسا في دار غريب الخال ثم أطلقا. وفي هذه السنه في صفر قلد ورقاء بن محمد الشيبانى معونه الكوفه وطريق مكة، وعزل عن الكوفه إسحاق بن عمران، وكان عقده على طريق مكة وقصبه الكوفه واربعه من طساسيجها: طسوج السيلحين، وطسوج فرات بادقلا، وطسوج بابل وخطرنيه والخرب، وطسوج سورا، وخلع عليه وعقد له لواء

وفي هذه السنه اغلظ على بن عيسى لأحمد بن العباس أخي أم موسى، وقال له: قد افنيت مال السلطان ترتزق في كل شهر من شهور الأهلة سبعه آلاف دينار، وكتب رقعه بتفصيلها، فلم تزل أم موسى ترفق لعلى بن عيسى الى ان امسك عنه. وفي هذه السنه نظر على بن عيسى بعين رايه الى امر القرامطة فخافهم على الحاج وغيرهم، فشغلهم بالمكاتبة والمراسله والدخول في الطاعة، وهاداهم واطلق لهم التسوق بسيراف، فردهم بذلك وكفهم، فخطاه الناس فلما عاينوا بعد ذلك ما فعله القرامطة حين احرجوا، علموا ان الذى فعله على صواب كله وشنع على على بن عيسى بهذا السبب انه قرمطى، ووجد حساده السبيل الى مطالبته بذلك، وكان الرجل ارجح عقلا، واحسن مذهبا من الدخول فيما نسب اليه. وفي هذه السنه مات ابو الهيثم بن ثوابه الاكبر بالكوفه في الحبس بعد ان أخذ منه إسحاق بن عمران مالا جليلا للسلطان ولنفسه وقيل انه احتال في قتله خوف ان يقر عليه يوما بما أخذ منه لنفسه. وفيها مات الفضل بن يحيى بن فرخان شاه الديراني النصراني من ديرقنا فقبض السلطان على جميع املاكه، وكانت له عند رجل مائه وخمسون الف دينار، فأخذت من الرجل، ووجه شفيع المقتدرى ومعه غلمان وخدم الى قنا فاحصوا تركته وضياعه. وفيها مات ادريس بن ادريس العدل في القادسية وهو حاج الى مكة، وكان امره قد علا في التجارة والمكانه عند السلطان، وكان يحج في كل سنه، ويحمل معه مالا ينفقه على من احتاج الى النفقة قال محمد بن يحيى الصولي: انا سمعته يوما يقول: يلزمني كل سنه في الحج نفقه غير ما اصرفه في أبواب البر خمسه آلاف دينار. وفيها مات ابو الأغر السلمى فجاءه لسبع خلون من ذي الحجه قال نصف النهار بعد ان تغدى ثم حرك للصلاة فوجد ميتا. واقام الحج للناس في هذه السنه الفضل بن عبد الملك الهاشمى.

سنه اربع وثلاثمائة

ثم دخلت سنه اربع وثلاثمائة (ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) [مخالفة خالد ابن محمد الشعراني المعروف بابى يزيد على السلطان] وفي المحرم من هذه السنه ورد كتاب صاحب البريد بكرمان يذكر ان خالد ابن محمد الشعراني المعروف بابى يزيد- وكان على بن عيسى الوزير ولاه الخراج بكرمان وسجستان- خالف على السلطان، ودعى أميرا، وجمع الناس الى نفسه، وضمن لهم الأموال على ان ينهضوا معه لمحاربه بدر الحمامي صاحب فارس، وضمن القواد كانوا معه مالا عظيما، وعجل لهم منه بعضه حتى اجتمع له نحو عشره آلاف فارس وراجل، وكان ضعيف الرأي ناقص القريحه، فكتب المقتدر الى بدر الحمامي في انفاذ جيش اليه ومعاجلته، فوجه اليه بدر قائدا من قواده يعرف بدرك وضم اليه من جنده ورجال فارس عسكرا كثيرا، وكتب بدر قبل انفاذ الجيش الى ابى يزيد الشعراني يرغبه في الطاعة، ويتضمن له العافيه، مع الانهاض في المنزله، وخوفه وبال المعصية، فجاوبه ابو يزيد: والله ما اخافك لانى فتحت المصحف فبدر الى منه قول الله عز وجل: لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى ومع ذلك ففي طالعى كوكب بيبانى لا بد ان يبلغني غاية ما اريد، فانفذ بدر الجيش اليه، وحوصر حتى أخذ أسيرا فقيلت فيه اشعار منها: يا با يزيد قائل البهتان ... لا تغترر بالكوكب البيبانى واعلم بان القتل غاية جاهل ... باع الهدى بالغى والعصيان قد كنت بالسلطان عالى رتبه ... من ذا الذى أغراك بالسلطان ثم اتى الخبر بان أبا يزيد هذا مات في طريقه، فحمل راسه الى مدينه السلام ونصب على سور السجن الجديد، وعزل يمن الطولونى عن اماره البصره، ووليها الحسن بن خليل بن ريمال، على يدي شفيع المقتدرى، إذ كانت امارتها اليه.

ذكر التقبض على على بن عيسى الوزير وولايه على بن الفرات ثانيه

ذكر التقبض على على بن عيسى الوزير وولايه على بن الفرات ثانيه وقبض في هذه السنه على الوزير على بن عيسى يوم الاثنين، لثمان ليال خلون من ذي الحجه، ونهبت منازل اخوته ومنازل حاشيته وذويه، وحبس في دار المقتدر، وقلد الوزارة في هذا اليوم على بن محمد بن موسى بن الفرات، وخلع عليه سبع خلع، وحمل على دابه بسرجه ولجامه، فجلس في داره بالمخرم المعروفه بدار سليمان بن وهب، وردت عليه اكثر ضياعه التي كانت قبضت منه عند التسخط عليه، وظهر من كان استتر بسببه من صنائعه ومواليه. وذكر عنه انه لما ولى ابن الفرات الوزارة وخلع عليه بالغداة، زاد ثمن الشمع في كل من منه قيراط ذهب، لكثرة ما كان ينفقه منه في وقيده، وينفق بسببه وزاد في ثمن القراطيس لكثرة استعماله إياها فعد الناس ذلك من فضائله، وكان اليوم الذى خلع عليه فيه يوما شديد الحر. فحدثني ابن الفضل بن وارث انه سقى في داره في ذلك اليوم، وتلك الليلة اربعون الف رطل من الثلج، وركب على بن محمد الى المسجد الجامع ومعه موسى بن خلف صاحبه فصيح به الهاشميون: قد أسلمنا، وضجوا في امر أرزاقهم، فامر ابن الفرات من كان معه الا يكلمهم في شيء، فافرطوا في القول، فأنكر ذلك المقتدر وامر بان يحجب اصحاب المراتب عن الدار، فصار مشايخهم الى ابن الفرات واعتذروا اليه، وقالوا له: هذا فعل جهالنا، فكلم الخليفة فيهم حتى رضى عنهم، وضم الى ابن الفرات جماعه من الغلمان الحجريه، ليركبوا بركوبه ويكونوا معه في كل موضع يكون فيه. وفيها ورد الكتاب من خراسان يذكر فيه انه وجد بالقندهار في ابراج سورها برج متصل بها فيه خمسه آلاف راس، في سلال من حشيش، ومن هذه الرءوس تسعه وعشرون راسا، في اذن كل راس منها رقعه مشدودة بخيط ابريسم، باسم كل رجل منهم

أخبار متفرقة

والأسماء: شريح بن حيان، خباب بن الزبير، الخليل بن موسى التميمى، الحارث ابن عبد الله، طلق بن معاذ السلمى، حاتم بن حسنه، هانئ بن عروه، عمر بن علان، جرير بن عباد المدني، جابر بن خبيب بن الزبير، فرقد بن الزبير السعدي، عبد الله ابن سليمان بن عماره، سليمان بن عماره، مالك بن طرخان صاحب لواء عقيل ابن السهيل بن عمرو، عمرو بن حيان، سعيد بن عتاب الكندى، حبيب بن انس، هارون بن عروه، غيلان بن العلاء، جبريل بن عباده، عبد الله البجلي، مطرف ابن صبح ختن عثمان بن عفان رضى الله عنه، وجدوا على حالهم الا انهم قد جفت جلودهم والشعر عليها بحالته لم يتغير، وفي الرقاع من سنه سبعين من الهجره . [أخبار متفرقة] وفي هذه السنه عزل يمن الطولونى عن شرطه بغداد، ووليها نزار بن محمد الضبي. وفي المحرم من هذه السنه توفى عبد العزيز بن طاهر بن عبد الله بن طاهر أخو محمد بن طاهر، وكان عبدا صالحا حسن المذهب، كثير الخير، ودفن في مقابر قريش، وصلى عليه مطهر بن طاهر. وفيها مات محدث عدل يعرف بابى نصر الخراسانى في جمادى الاولى. وفيها مات ابو الحسن احمد بن العباس بن الحسن الوزير في شعبان، وكان قد عنى بالأدب ورشح نفسه للوزارة، واهله قوم لها. وفيها مات لؤلؤ غلام ابن طولون. وفيها مات ابو سليمان داود بن عيسى بن داود بن الجراح قبل القبض على أخيه على بن عيسى بشهرين، فلم يتخلف احد عن جنازته من الاجلاء. وفي هذه السنه قدم طرخان بن محمد بن إسحاق بن كنداجيق من الدينور حاجا في شهر رمضان، فركب الى الوزير على بن عيسى يوم الاثنين لإحدى عشره ليله بقيت من شوال، وليس عنده خبر، فعزاه الوزير عن ابيه، فجزع عليه جزعا شديدا وخلع عليه في يوم الخميس بعد ثلاثة ايام وعقد له لواء على اعمال ابيه، فكتب

الى أخيه يستخلفه على العمل، ونوظر عن الاعمال التي كانت الى ابيه، فقطع الأمر معه على ستين الف دينار، حملها عنه حمد كاتبه، وجيء بتابوت محمد بن إسحاق لاربع بقين من شوال، ودفن في داره بالجانب الغربي. واقام الحج للناس في هذه السنه الفضل بن عبد الملك الهاشمى.

سنه خمس وثلاثمائة

ثم دخلت سنه خمس وثلاثمائة (ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) فيها دخل مدينه السلام رسل ملك الروم ورئيساهم: شيخ وحدث، ومعهما عشرون علجا، فانزلوا الدار التي كانت لصاعد، ووسع عليهم في الأنزال والوظائف، ثم ادخلوا بعد ايام الى دار الخليفة من باب العامه، وجيء بهم في الشارع الأعظم، وقد عبى لهم المصاف من باب المخرم الى الدار، فانزل الرئيسان عن دابتهما عند باب العامه، وادخلا الدار وقد زينت المقاصير بأنواع الفرش، ثم أقيما من الخليفة على نحو مائه ذراع، والوزير على بن محمد بين يديه قائم، والترجمان واقف يخاطب الوزير، والوزير يخاطب الخليفة، وقد اعد من آلات الذهب والفضه والجوهر والفرش ما لم ير مثله، وطيف بهما عليه ثم صير بهما الى دجلة، وقد اعدت على الشطوط الفيله والزرافات والسباع والفهود، وخلع عليهما، وكان في الخلع طيالسه ديباج مثقلة، وامر لكل واحد من الاثنين بعشرين الف درهم، وحمل في الشذا مع الذين جاءوا معهما، وعبر بهما الى الجانب الغربي وقد مد المصاف على سائر شراع دجلة الى ان مر بهما تحت الجسر الى دار صاعد، وذلك يوم الخميس لست بقين من المحرم. وقدم ابراهيم بن احمد الماذرائى من مكة، فقبض عليه ابن الفرات واغلظ له وصادره على مال عجل بعضه، ونجم الباقى عليه، وكتب ابن الفرات الى على بن احمد ابن بسطام المتقلد لاعمال الشام في المصير الى مصر، والقبض على الحسين بن احمد المعروف بابى زنبور، وعلى ابن أخيه ابى بكر محمد بن على، وحملهما الى مدينه السلام على جمازات، ونفذ اليه بهما من بغداد بعد مصادرتهما والاستقصاء عليهما، وحمل مال المصادره الى مدينه السلام، وقد كانا قبل ذلك ظفرا بابن بسطام، فأحسنا اليه فجازاهما ابن بسطام أيضا، بان رفق بهما وحسن أمورهما، وعنى بهما بعض حاشيه السلطان ببغداد وقيل للخليفة: ان الوزير انما وجه في قتلهما، فانفذ

خادما من ثقات خدمه على الجمازات في طريق البريه الى دمشق، ومنها الى مصر وامر ابن بسطام الا يناظرهما الا بحضره الخادم الموجه اليه، والا يعنف عليهما وكان ذلك مما يحبه ابن بسطام، لأنه كان أساء بهما غاية الإساءة، وأخذ منهما مالا جليلا يقال انه احتجنه، وتقلد ابو الطيب اخوه مناظره ابن بسطام، رفقا به أيضا ولم يشتدا عليه في شيء مما كان اليه واحسنا اليه، وسلماه الى تكين صاحب مصر ليناظر بحضرته، فنسب ابو الطيب بفعله ذلك الى العجز وقال فيه بعض الشعراء بمصر شعرا ذكرته لما فيه من مذهبهم في شنعه التعذيب والاستقصاء: يا أبا الطيب الذى اظهر الله ... به العدل ليس فيك انتصار قد تانيت وانتظرت فهل بعد ... تانيك وقفه وانتظار جد بالخائن البخيل فكشفه ... ففي كشفه عليه دمار اين ضرب المقارع الارزنيات ... واين الترهيب والانتهار اين صفع القفا واين التهاويل ... إذا علقت عليه الثفار اين ضيق القيود والالسن الفظه ... اين القيام والاخطار اين عرك الاذان واللطم للهام ... وعصر الخصا واين الزيار اين نتف اللحا وشد الحيازيم ... واين الحبوس والمضمار ليس يرضى بغير ذا منك سلطانك ... فاشدد فان رفقك عار فبهذا يجيك مالك فاسمع ... وإليك الخيار والاختيار وقبض ببغداد على ابن اخت ابراهيم بن احمد الماذرائى، وهو ابو الحسين محمد بن احمد، وكان يكتب لبدر الحمامي، ويخلف أبا زنبور وأبا بكر محمد بن على وطالبه ابن الفرات باموال، فاغرمه وأخذ جميع ما وجد له في داره. وفي هذه السنه ورد الخبر بان الحسن بن خليل بن ريمال امير البصره من قبل شفيع المقتدرى أساء السيرة في البصره، ومديده الى امور قبيحه، ووظف على الاسواق وظائف، فوثبوا به، فركب واحرق السوق التي حول الجامع، وركضت خيله في المسجد، وقتلوا جماعه من العامه ممن كان في المسجد، ولم تصل الجمعه في ذلك اليوم ثم كثر اهل البصره فحاصروه في داره بموضع يعرف ببني نمير، واجتمع اصحابه اليه الى ان تقدم المقتدر الى شفيع المقتدرى بعزله، فعزله وولى رجلا من اصحابه يعرف بابن ابى دلف

الخزاعي، فانحدر وافرج اهل البصره للحسن بن خليل حين خرج، وقد كان اهل البصره أطلقوا المحبوسين ومنعوا من صلاه الجمعه شهرا متواليا. وفي هذه السنه ورد رجل من عسكر ابن ابى الساج يعرف بكلب الصحراء في الامان فذكر انه علوي، وان ابن ابى الساج كان يعتقله وانه هرب منه، فأجرى له ثلاثمائة دينار في المجتازين، وكتب الى ابن ابى الساج بذلك، فدس اليه من يناظره عن نسبه، وكان قد تزوج بامرأة ابن ابى ناظره، وهي ابنه الحسن بن محمد بن ابى عون، فاحضر ابن طومار النقيب، فناظره، وكان دعيا فسلم الى نزار بن محمد صاحب الشرطه ببغداد فوضعه في الحبس. وفي شوال من هذه السنه دخل مؤنس الخادم الى الري لمحاربه ابن ابى الساج، بعد ان هزم ابن ابى الساج خاقان المفلحى، فما ترك أحدا من اصحابه يتبعه، ولا يأخذ من اصحابه شيئا ودخل ابن الفرات الى المقتدر بالله، فاعلمه ان على ابن عيسى كتب الى ابن ابى الساج يأمره ان يصير الى الري، حيله على الخليفة وتدبيرا عليه، فسمع المقتدر بالله هذا الكلام من ابن الفرات، فلما خرج سال على ابن عيسى عنه، وكان محبوسا عنده في داره، فقال له على: الناحية التي انهضت إليها ابن ابى الساج منغلقه بأخي صعلوك، فكتبت اليه بمحاربته، ولا أبالي من قتل منهما، وقد استأذنت امير المؤمنين في فعلى هذا، فاذن فيه، وسألته التوقيع به فوقع، وتوقيعه عندي، فاحضر التوقيع، فحسن موقع ذلك له من المقتدر ووسع على على بن عيسى في محبسه ولم يضيق عليه. وفيها ورد الخبر بقتل عثمان العنزي القائد والى طريق خراسان، وادخل بغداد في تابوت، ثم ظفر بقاتله، وكان رجلا كرديا من غلمان علان الكردى، فضرب وثقل بالحديد حتى مات. وفيها وردت هدايا احمد بن هلال صاحب عمان على المقتدر بالله، وفيها الوان الطيب ورماح وطرائف من طرائف البحر، فيها طير صينى اسود يتكلم افصح من الببغاء بالهندية والفارسيه، وفيها ظباء سود. وفيها قدم القاسم بن سيما الفرغاني من مصر بعد ان عظم بلاؤه، وحسن اثره في حرب حباسه قائد الشيعة بمصر، وكان اهل مصر قد هزموا ودار سيف اهل المغرب بهم

حتى لحقهم القاسم، فنجاهم كلهم وهزم حباسه واصحابه، فركبوا الليل، ووردت كتب اهل مصر وصاحب البريد بها يذكرون جليل فعله، وحسن مقامه وهو لا يشك في ان السلطان يجزل له العطاء ويقطعه الاقطاع الخطيره، ويوليه الاعمال العاليه فلما وصل الى باب الشماسيه أقاموه بها، ومنعوه الدخول الى ان مل وضجر ثم أذنوا له في الوصول، فاعتدوا بذلك نعمه عليه وكان القاسم رجل صدق، كثير الفتوح، حسن النيه، فلم يزل منذ دخل بغداد كمدا عليلا الى ان توفى في آخر هذه السنه يوم الجمعه لسبع ليال بقين من ذي الحجه. وفيها ماتت بنت للمقتدر، فدفنت بالرصافة، وحضرها آل السلطان، وطبقات الناس. وفيها مات القاسم بن زكرياء المطرز المحدث في صفر. وفي شهر ربيع الآخر مات القاسم بن غريب الخال، ولم يتخلف عن جنازته احد من القواد والاجلاء، وركب ابن الفرات الوزير الى غريب معزيا في عشى ذلك اليوم الذى دفن ابنه في غداته. وفي هذا الشهر ورد الخبر بموت العباس بن عمرو الغنوي، وكان عامل ديار مضر، ومقيما بالرقة، فحمل ما تخلف من المال والأثاث والسلاح والكراع الى المقتدر، واضطرب بعد موته امر ديار مضر، فقلدها وصيف البكتمرى، فلم يظهر منه فيها اثر يرضى، فعزل، وقلدها جنى الصفواني فضبطها. وفيها مات عبد الله بن ابراهيم المسمعي يوم السبت لتسع ليال بقين من شهر ربيع الآخر، ودفن في داره التي أقطعها بباب خراسان، وكان عبد الله بن ابراهيم المسمعي عاقلا عالما، قد كتب الحديث، وسمع عن الرياشي سماعا كثيرا، وكان حسن الحفظ، وكان ابنه عالما الا انه كان دونه. وفيها مات سبكرى غلام عمرو بن الليث الصفار ببغداد. وفيها مات غريب خال المقتدر يوم الأربعاء لثمان بقين من جمادى الآخرة، وصلى عليه احمد بن العباس الهاشمى أخو أم موسى، ودفن بقصر عيسى وحضر جنازته الوزير على بن محمد وجميع حاشيته والقواد والقضاه، وكان نصر الحاجب قد احس من المقتدر سوء راى في الوزير ابن الفرات واستثقالا لمكانه، وعملا في الإيقاع به،

فوجه نصر الى المقتدر يشعره بان ابن الفرات قد حضر الجنازة في جميع اهله وحاشيته، وقال له: ان كنت عازما على انفاذ امرك فيهم، فاليوم امكنك إذ لا تقدر على جمعهم هكذا، فوجه المقتدر: اخر هذا فليس وقته، وخلع بعد جمعه من ذلك اليوم على هارون ابن غريب، وقلد ما كان يتقلد أبوه من الاعمال، وعقد له لواؤه بعد ذلك. وفي هذه السنه مات مصعب بن إسحاق بن ابراهيم يوم الأحد سلخ شعبان، وقد بلغ سنا عاليه، وصلى عليه الفضل بن عبد الملك امام مكة، وكان آخر من بقي من ولد إسحاق بن ابراهيم، وانتهت اليه وصيته، وكان أعيا الناس لسانا واكثرهم في القول خطلا، وكان طويل اللحية مغفلا الا انه كان صالحا وكتب الحديث ورواه، وله اخبار وكتب مصحفه منها ما كتب به الى اهله من القادسية لما حج والفى هذا الكتاب بخطه، فحكيته على ألفاظه. بسم الله الرحمن الرحيم كتابي إليكم من القادسية وكنت قد اغفلت امر الاضاحى فقولوا لابن ابى الورد- يعنى وكيلا له- يشترى لكم ثلاث بقرات يحضيها على احد وعشرين أمهات الأولاد اثنى عشر وابى وأمي تمام العشرين، وانا آخرهم الحادي والعشرين، فرأيكم في ذلك تعجيله ان شاء الله. وقال فيه بعض جيرانه من الشعراء: وصى إسحاق يا بنى صدقه ... عما قليل سياخذ الصدقه ضد لإسحاق في براعته ... يظهر من غير منطق حمقه وان اتى بالكلام بدله ... فقال في حلقه لنا لحقه وورد الخبر من فارس بموت إسحاق الاشروسنى، وكان قد تقلد شرطه الجانب الشرقى من بغداد. واقام الحج في هذه السنه ابن الفضل بن عبد الملك وأبوه حاضر معه.

سنه ست وثلاثمائة

ثم دخلت سنه ست وثلاثمائة (ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) فيها ورد الخبر بوقعه كانت بين مؤنس الخادم وبين يوسف بن ابى الساج، وذلك يوم الأربعاء لثمان ليال خلون من صفر، فكانت الهزيمة على مؤنس واصحابه. ولحق نصر السبكى مؤنسا وهو منهزم، وبين يديه مال، فاراد اسره وأخذ المال الذى كان بيده فوجه اليه يوسف: لا تعرض له ولا لشيء مما معه، واسر في هذه الوقيعه جماعه من القواد، فاكرمهم يوسف، وخلع عليهم وحملهم، ثم اطلقهم فود من كان في عسكر مؤنس انهم أسروا. وفي هذه السنه امرت السيده أم المقتدر قهرمانه لها، تعرف بثمل ان تجلس بالرصافة للمظالم، وتنظر في كتب الناس يوما في كل جمعه، فأنكر الناس ذلك، واستبشعوه، وكثر عيبهم له والطعن فيه وجلست أول يوم، فلم يكن لها فيه طائل، ثم جلست في اليوم الثانى، واحضرت القاضى أبا الحسن، فحسن امرها واصلح عليها، وخرجت التوقيعات على سداد، فانتفع بذلك المظلومون، وسكن الناس الى ما كانوا نافروه من قعودها ونظرها. وفيها امر المقتدر يمنا الطولونى- وكانت اليه الشرطه ببغداد- بان يجلس في كل ربع من الارباع فقيها يسمع من الناس ظلاماتهم، ويفتى في مسائلهم حتى لا يجرى على احد ظلم، وامره الا يكلف الناس ثمن الكاغذ الذى تكتب فيه القصص، وان يقوم به، والا يأخذ الأعوان الذين يشخصون مع الناس اكثر من دانقين في اجعالهم. وفي هذه السنه استطاب المقتدر الزبيديه فسكنها، واقام بها مده، ونقل إليها بعض الحرم، ورتب القواد في مضاربهم حوالى الزبيديه، وجلس في يوم سبت لاطعامهم ووصل جماعه منهم وشرب مع الحرم، وفرق عليهن مالا كثيرا. قال محمد بن يحيى الصولي: ووافق هذا اليوم قصدى الى نصر الحاجب مسلما عليه، فأمرني بعمل شعر اصف فيه حسن النهار، وان اوصله الى المقتدر، ففعلت

وما برحت من عنده حتى جاء خادم لام موسى، ومعه خمسه آلاف درهم فقال: هذه للصولي، وقد استحسن امير المؤمنين الشعر، وكان أولها: لها كل يوم من تعتبه عتب ... تحملني ذنبا وما كان لي ذنب وفيها: كواكب سعد قابلتها منيره ... فلا شخصها يخفى ولا نورها يخبو واطلع أفق الغرب شمس خلافه ... وما خلت ان الشمس يطلعها الغرب تلبس حسنا بالخليفه جعفر ... واشرق من اشراقه البعد والقرب بمقتدر بالله عال على الهوى ... له من رسول الله منتسب رحب ولما هزم ابن ابى الساج مؤنسا الخادم ارجف الناس بالوزير ابن الفرات، وأكثروا الطعن عليه، ونسبوا كل ما حدث الى تضييعه، وانكفى عليه اعداؤه ومن كان يحسده، واغرى الخليفة به، فكتبت رقعه واخرجت من دار السلطان الى على ابن عيسى وهو محبوس، وسمى له فيها جماعه ليقول فيهم بمعرفته، وليستوزر من يشير به منهم، وكان في جمله التسميه ابراهيم بن عيسى، فوقع تحته شره لا يصلح، ووقع تحت اسم ابن بسطام كاتب سفاك للدماء، ووقع تحت اسم ابن ابى البغل ظالم لا دين له، ووقع تحت اسم حامد بن العباس عامل موسر عفيف قد كبر، ووقع تحت اسم الحسين بن احمد الماذرائى لا علم لي به، وقد كفى ما في ناحيته، ووقع تحت اسم احمد بن عبيد الله بن خاقان احمق متهور ووقع تحت اسم سليمان بن الحسن بن مخلد كاتب حدث ووقع تحت اسم ابن ابى الحوارى لا اله الا الله فاجمع راى المقتدر ومن كان يشاوره على تقليد حامد بن العباس الوزارة واعان على ذلك نصر الحاجب ورآه صوابا، فانفذ المقتدر حاجبه المعروف بابن بويح للإقبال بحامد، وقبض على على بن محمد بن الفرات يوم الخميس بعد العصر لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر، وعلى من ظفر به من آله وحاشيته، فكانت وزارته في هذه المده سنه وخمسه اشهر وتسعه عشر يوما. وفر ابنه المحسن من ديوان المغرب وكان يليه، فدخل الى منزل الحسين بن ابى العلاء فلم يستتر امره، وأخذ فجيء به الى دار السلطان ودخل حامد بن العباس بغداد يوم الاثنين لليلتين خلتا من جمادى الأولى عشيا، فبات في دار نصر الحاجب التي

في دار السلطان، ووصل يوم الثلاثاء من غدوه الى المقتدر، وخلع عليه بعد ان تلقاه الناس من نهر سابس الى بغداد، ولم يتخلف عنه احد، وراى السلطان ومن حوله ضعف حامد وكبره، فعلموا انه لا بد له من معين، فاخرج على بن عيسى من محبسه، وانفذ الى الوزير حامد ومعه كتاب من الخليفة يعلمه فيه انه لم يصرف عليا عن الوزارة لخيانه ولا لشيء انكره، ولكنه واصل الاستعفاء، فعوفي، قال: وقد انفذته إليك لتوليه الدواوين وتستخلفه وتستعين به فان ذلك اجمع لامورك، وأعون على جميل نيتك فسلم الكتاب الى الوزير شفيع المقتدرى، فتطاول لعلى بن عيسى حين دخل اليه واجلسه الى جانبه فأبى عليه وجلس منزويا قليلا، وقرأ الرقعة، وأجاب فيها بالشكر والقبول وركب الوزير حامد وعلى بن عيسى الى الجمعه، وكثر دعاء الناس لهما وولى ابن حماد الموصلى مناظره ابن الفرات بحضره شفيع اللؤلؤى، واحضر حامد بن العباس المحسن بن على بن محمد بن الفرات وموسى بن خلف فطالبهما بالمال، واسرف في صفعهما وضربهما وشتمهما، فقال له موسى بن خلف: أعز الله الوزير! لا تسن هذا على اولاد الوزراء فان لك أولادا، فغاظه ذلك، فزاد في عقوبته، فحمل من بين يديه، وتلف واوقع بالمحسن، فامر المقتدر بالله باطلاق المحسن، فاطلق. ولما بلغ ابن الفرات الخبر، اظهر انه راى أخاه في النوم، كأنه يقول له: أعطهم مالك، فإنك تسلم، فاستدعى ابن الفرات ان يسمع الخليفة منه، فاحضره فاقر له فان قبل يوسف بن بنخاس وهارون بن عمران الجهبذين اليهوديين سبعمائة الف دينار، فاحضرهما حامد، فاقرا بالمال، فأخذه منهما، واقر بمائه الف دينار له عند بعض أسبابه، فأخذت، وأخذوا قبل ذلك منه نحو مائتي الف دينار، فكانت الجمله التي أخذت منه ومن أسبابه الف الف دينار وكان السلطان انفذ جمازات الى الحسين بن احمد الماذرائى، يأمره بالقدوم، فارجف الناس ان ذلك للوزارة وقيل أيضا: ليحاسب عن اعماله، فقدم الى بغداد للنصف من شهر رمضان سنه ست واهدى الى الخليفة هدايا جليله، والى السيده، وحمل مالا، واهدى الى على بن عيسى مالا وهدايا، فردها وامره ان يحملها الى السلطان، واخرج ابن الفرات، واجتمعت الجماعه لمناظرته، فاقر للحسين بن احمد انه حمل اليه عند تقلده الوزارة في الدفعه

الثانيه ستمائه الف دينار، فاقر بوصول المال اليه، وذكر وجوها يترفه فيها، فقبل بعض ذلك، والزم الباقى، ورد الحسين بن احمد على مصر وأعمالها، واخوه على الشام، وشخص إليها لست بقين من ذي القعده، وخرج توقيع الخليفة باسقاط جميع ما صودر عليه الحسين بن احمد وابن أخيه محمد بن على بن احمد والاقتصار بهما من جميع ذلك على مائتي الف دينار. وورد الخبر يوم الترويه سنه ست وثلاثمائة بان احمد بن قدام، ابن اخت سبكرى- وكان احد قواد كثير بن احمد امير سجستان- وثب على كثير، فقتله وملك البلد، وكاتب السلطان بمقاطعته على البلد، وكان كثير هذا يحجب أبا يزيد خالد بن محمد المقتول الذى ذكرنا امره قبل هذا 4. وفيها وثب جماعه من الهاشميين على على بن عيسى حين تاخرت أرزاقهم، وقد خرج من عند حامد بن العباس وشتموه وزنوه، وخرقوا دراعته وارجلوه، فخلصه القواد منهم، فحاربوهم وضربوا ضربا شديدا، واتصل ذلك بالمقتدر بالله، فامر فيهم بامور عظام، وان ينفوا الى البصره مقيدين، فحملوا في سفينه مطبقة بعد ان ضرب بعضهم بالدرة، وامر بان يحبسوا في المحبس، فلما وصلوا اجلسهم سبك الطولونى امير البصره على حمير مقيدين، وادخلهم الى دار في جانب المحبس، وكلمهم بجميل، ووعدهم، وفرق فيهم اموالا الا انه اسر ذلك، ثم نفذ الكتاب باطلاقهم، فاحسن اليهم سبك الطولونى، واحضرهم وزادهم، وصنع لهم طعاما ثم وصلهم، واكريت لهم سميريات، فكان مقامهم بالبصرة عشره ايام، ووصلهم حامد وأم موسى وأخوها وعلى بن عيسى. وفي هذه السنه أخذ من القاضى محمد بن يوسف مائه الف دينار وديعة، كانت لابن الفرات، وزفت ابنه القاسم بن عبيد الله الى ابى احمد بن المكتفي بالله، فعملت لهما وليمة انفق فيها مال جليل يزيد على عشرين الف دينار. وفيها عزل نزار بن محمد عن شرطه بغداد ووليها محمد بن عبد الصمد ختن تكين من قواد نصر الحاجب. وفيها مات إسحاق بن عمران يوم الأربعاء لسبع خلون من صفر. وفيها مات محمد بن خلف، وكان اليه قضاء الاهواز وولى ابن البهلول قاضى الشرقيه مكانه

وفيها ورد الخبر في أول جمادى الاولى بوفاه عج بن حاج، امير الحجاز، فكتب السلطان الى أخيه ان يلى مكانه. وفيها مات القاضى احمد بن عمر بن سريج وكان اعلم من بقي بمذهب الشافعى واقومهم به، ودفن يوم الثلاثاء لخمس بقين من ربيع الآخر. وفي هذه السنه مات الحسين بن حمدان في الحبس، وقد قيل قتل، وقد كان على بن محمد بن الفرات تضمن عنه قبل القبض عليه ان يغرم السلطان مالا عظيما يقيم به الكفلاء، فعورض في ذلك وقيل له: انما يريد الحيله على الخليفة، فامسك. وحج بالناس في هذه السنة أبو بكر احمد بن العباس أخو أم موسى.

سنه سبع وثلاثمائة

ثم دخلت سنه سبع وثلاثمائة (ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) فيها اشخص عبد الله بن حمدان الى مؤنس الخادم لمعاونته على حرب يوسف ابن ابى الساج، فواقعه باردبيل، وانهزم ابن ابى الساج، فاسر وادخل مدينه السلام مشهرا، عليه الدراعه الديباج التي ألبسها عمرو بن الليث الصفار، والبس برنسا طويلا بشفاشج وجلاجل، وحمل على الفالج، وادخل من باب خراسان، فساء الناس ما فعل به إذ لم تكن له فعله ذميمه في كل من اسره او ظفر به، وحمل مؤنس وكسى وخلع على وجوه اصحابه، ووكل المقتدر بابن ابى الساج، وحبس في الدار، وامر بالتوسع عليه في مطعمه ومشربه، وهرب سبك غلام ابن ابى الساج عند الوقيعه، وكان صاحب امره كله ومدبر جيشه، وهرب معه اكثر رجال ابن ابى الساج، فقال مؤنس ليوسف: اكتب الى سبك في الاقبال إليك، فان ذلك مما يرفق الخليفة عليك. ففعل ابن ابى الساج، وكتب الى سبك، فجاوبه: انى لا افعل حتى اعلم صنعهم فيك، وإحسانهم إليك، فحينئذ آتى طائعا. وكانت لابن ابى الساج اشعار وهو محبوس منها: اقول كما قال ابن حجر أخو الحجى ... وكان امرا راض الأمور ودوسا: فلو انها نفس تموت سويه ... ولكنها نفس تساقط أنفسا ولست بهياب المنيه لو أتت ... ولم ابق رهنا للتأسف والاسى اجازى على الاحسان فيما فعلته ... وقدمته ذخرا جزاء الذى اسا وانى لأرجو ان أءوب مسلما ... كما سلم الرحمن في اليم يونسا فاجزى امام الناس حق صنيعه ... وامنح شكرى ذا العنايه مؤنسا وفيها ركبت أم موسى القهرمانه بهديه امرت أم المقتدر بتهيئتها واهدائها عن بنات غريب الخال لأزواجهن بنى بدر الحمامي، فسارت أم موسى في موكب عظيم

فيه الفرسان والرجاله، وقيد بين يديها اثنا عشر فرسا بسروجها ولجمها، منها سته بحليه ذهب، وسته بحليه فضه، مع كل فرس خادم بجنبه عليه منطقه ذهب وسيوف بمناطق ذهب، واربعون طختا من فاخر الثياب ومائه الف دينار مسيفه، كل ذلك هديه من قبل النساء الى ازواجهن. وفيها قدم ابو القاسم بن بسطام من مصر الى بغداد، بعد ان كتب اليه في القدوم لإدارة أدارها على بن عيسى عليه، ومطالبه ذهب الى اخذه بها فلما قدم وجه الى الخليفة والى السيده بهديه فخمه، واموال جزيله، فقطعا عنه مطالبه على بن عيسى، وانقطع بنفسه الى الوزير حامد، فاعتنى به وكان ذلك سببا لفساد ما بين الوزير حامد وبين على بن عيسى، ووقعت بينهما ملاحاة، خرجا معها الى التهاتر والتساب، وبعث ذلك حامد الوزير الى ان يضمن للخليفة فيما كان يتقلده على واحمد ابنا عيسى اموالا عظيمه، فأجيب الى ذلك واستعمل حامد عليها عبيد الله بن الحسن بن يوسف، فبلغته عنه بعد ذلك خيانة أقلقته، فاستأذن الخليفة وشخص من بغداد الى واسط، واقام بها أياما وانحدر منها الى الاهواز واحكم ما اراد، واوفى ما عليه من الأموال مقسطا في كل شهر سوى ما وهب وانفق فزعم انه وهب مائه الف دينار، وانفق مائه الف دينار. وقدم الى بغداد في غره ذي القعده وخلع عليه وحمل قال الصولي: رايته يوما وقد شكا اليه شفيع المقتدرى فناء شعيره، فجذب الدواة الى نفسه وكتب له بمائه كر، وكتب لام موسى بمائه كر، وكتب لمؤنس الخادم بمائه كر. وفي هذه السنه تتابعت الاخبار من مصر باقبال صاحب المغرب إليها وموافاته الإسكندرية. ثم ورد الخبر في جمادى الآخرة بوقعه كانت بين اصحاب السلطان وبينهم في جمادى الاولى، وانه قتل من البرابر نحو من اربعه آلاف، ومن اصحاب السلطان مثلهم، فندب المقتدر مؤنسا الخادم للخروج الى مصر مره ثانيه، فخرج في شهر رمضان سنه سبع، وشيعه الى مضربه ابو العباس محمد بن امير المؤمنين المقتدر واجلاء الناس، وسار في آخر شهر رمضان فكان في الطريق باقى سنه سبع

وفيها مات ابو احمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان لايام مضت من صفر. وفي آخر صفر لست بقين منه توفى محمد بن عبد الحميد، كاتب السيده، وكان ممن عرضت عليه الوزارة فاباها، وكان موسرا بخيلا، وكان من مشايخ الكتاب الذين يعول عليهم في الأمور وفي احكام الدواوين، وأخذت السيده أم المقتدر بالله من مخلفيه من العين مائه الف دينار، واستكتبت السيده احمد بن عبيد الله بن احمد ابن الخصيب بعده وكان يكتب لثمل قهرمانتها، فضبط الأمر ضبطا شديدا وحمد اثره فيه. واقام الحج للناس في هذه السنه احمد بن العباس الهاشمى.

سنه ثمان وثلاثمائة

ثم دخلت سنه ثمان وثلاثمائة (ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) وفيها ورد مؤنس الخادم مصر يوم الخميس لاربع خلون من المحرم، وكان المقتدر قد وجهه إليها لمحاربه الشيعة بها على ما تقدم ذكره في العام قبله، فالفى مؤنس أبا القاسم الشيعى مضطربا بالفيوم، فخرج القضاه والقواد ووجوه اهل مصر الى مؤنس، ونزل خارج المدينة، واجتبى ابو القاسم خراج الفيوم، وضياع مصر، ودفع مؤنس ارزاق الجند من اموال اهل مصر، وباع بعض ضياعها فيما اعطاهم، وضم مؤنس الجيوش اليه، وقويت بذلك نفوس اهل مصر، وجرت بين ابى القاسم الشيعى وبين اهل مصر مكاتبات واشعار بعث بها مؤنس الى الخليفة، وفيها توبيخ لهم وتحامل عليهم، وسب كثير تركنا ذكره لما فيه وقد اجتلبنا بعضها ما لم يكن فيه كبير رفث، وكذلك ما فعلنا في الجواب، وأول شعر الشيعى: أيا اهل شرق الله زالت حلومكم ... أم اختدعت من قله الفهم والأدب صلاتكم مع من؟ وحجكم بمن؟ ... وغزوكم فيمن؟ أجيبوا بلا كذب صلاتكم والحج والغزو ويلكم ... بشراب خمر عاكفين على الريب الا ان حد السيف اشفى لذى الوصب ... واحرى بنيل الحق يوما إذا طلب الم ترني بعت الرفاهة بالسرى ... وقمت بأمر الله حقا كما وجب صبرت وفي الصبر النجاح وربما ... تعجل ذو راى فأخطأ ولم يصب الى ان اراد الله اعزاز دينه ... فقمت بأمر الله قومه محتسب وناديت اهل الغرب دعوه واثق ... برب كريم من تولاه لم يخب فجاءوا سراعا نحو اصيد ماجد ... يبادونه بالطوع من جمله العرب وسرت بخيل الله تلقاء أرضكم ... وقد لاح وجه الموت من خلل الحجب واردفتها خيلا عتاقا يقودها ... رجال كأمثال الليوث لها جنب

شعارهم جدي ودعوتهم ابى ... وقولهم قولي على الناى والقرب فكان بحمد الله ما قد عرفتم ... وفزت بسهم الفلج والنصر والغلب وذلك دابى ما بقيت ودابكم ... فدونكم حربا تضرم كاللهب فذكر الصولي انه امر بالجواب، فقال قصيده له طويله، كتبنا منها أبياتا وحذفنا منها مثل الذى حذفناه مما قبله: عجبت وما يخلو الزمان من العجب ... لذى خطل في القول اهدى لنا الكذب وجاء بملحون من الشعر ساقط ... فأخطأ فيما قال فيه ولم يصب تباعد عن قصد الصواب طريقه ... فما عرفت تاويل اعرابه العرب ولو كان ذا لب وراى موفق ... لقصر عن ذكر القصائد والخطب فمن أنت يا مهدى السفاهه والخنا ... ابن لي فقد حقت على وجهك الريب فلو كنت من اولاد احمد لم يغب ... عن الناس ما تسمو اليه من النسب ولو كنت منهم ما انتهكت محارما ... يذبون عنها بالاسنه كالشهب ولم تقتل الأطفال في كل بلده ... فتركب من أماتهم شر مرتكب ابحت فروج المحصنات وبعت من ... اصبت من الاسلام بيعك للجلب وكم مصحف خرقته فرماده ... مثاره مسفى الريح من حيث ما تهب كفرت بما فيه وبدلت آيه ... وقضبت حبل الدين كفرا فما انقضب وقد رويت أسيافنا من دمائكم ... فلم ينجكم منا سوى الجد في الهرب تضيء بأيدينا وتظلم فيكم ... فكانت لنا نارا وكنتم لها حطب فقل لي اى الناس أنتم وما الذى ... دعاكم الى ذكر الجحاجحة النجب أولئك قوم خيم الملك فيهم ... فشدت أواخيه ومدت له الطنب بهم غزونا اما سالت وحجنا ... فشق لما اسمعت جيبك وانتحب أيا اهل غرب الله اظلم امركم ... عليكم فأنتم في نكوب وفي حرب ولو كانت الدنيا مطيه راكب ... لكان لكم منها بما حزتم الذنب قال محمد بن يحيى الصولي: فلما صنعت هذا الشعر عن عهد الخليفة الى أوصلني الى نفسه، فانشدته جميعه، فلما فرغت من الإنشاد قال على بن عيسى للخليفة: يا سيدي، هذا عبدك الصولي- وكان جده محمد الصولي حادي عشر

النقباء، وهو الذى أخذ البيعه للسفاح مع ابى حميد- قال: فنظر الى كالإذن لي في الكلام فتكلمت ودعوت قال: فامر لي بعشره آلاف درهم. وكتب ابو القاسم الى اهل مكة يدعوهم الى الدخول في طاعته، ويعدهم بحسن السيرة فيهم، فأجابوه: ان لهذا البيت ربا يدفع عنه، ولن نؤثر على سلطاننا غيره. وبقي ابو القاسم الشيعى بالفيوم ومؤنس بمصر، وكل واحد منهما محجم عن لقاء صاحبه، وساءت احوال من بينهما ومعهما. وفي هذه السنه غلت الأسعار ببغداد، فظنت العامه ان ذلك من فعل حامد بن العباس، بسبب ضمانه للمقتدر، ما كان ضمنه، وانه هو منع من حمل الاطعمه الى بغداد، فشغبوا عليه وسبوه، وفتحوا السجون وكبسوا دار صاحب الشرطه محمد بن عبد الصمد، وكان ينزل في الجانب الشرقى في الدار المعروفه لعلى بن الجهشيار، وانتهبوا بعض دوابه وآلته حتى تحول الى باب خراسان الى الجانب الغربي، ووثب الناس به في الجانب الغربي أيضا، حتى ركب اليهم محمد بن عبد الصمد في جيش كثيف في السلاح، فارتدعوا، وقتل قوم من العامه بباب الطاق وسعر السلطان على الدقاقين، فكان ذلك أشد على الناس واعظم، واشار نصر الحاجب ان يترك الناس، ولا يسعر عليهم، فكان ذلك صوابا، وصلح امر السعر. واقام الحج للناس في هذه السنه احمد بن العباس أخو أم موسى.

سنه تسع وثلاثمائة

ثم دخلت سنه تسع وثلاثمائة (ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) فيها زاد شغب الناس ببغداد على حامد بن العباس الوزير، بسبب غلاء الأسعار حتى صاروا الى حد الخلعان، وحاربهم السلطان عند باب الطاق، وركب هارون ابن غريب الخال ونازوك وياقوت وغيرهم، بعد ان فتحت العامه السجون، ووثبوا على ابن درهم خليفه صاحب المعونة، وأرادوا قتله حتى حماه بعضهم، فلما راى ذلك حامد بن العباس دخل الى المقتدر فقال له: لعبدك حوائج، ان رايت قضاءها له، اكدت بذلك إنعامك عليه، قال: افعل، فما هي؟ قال: أولها فسخ ضماني فقد جاء من العامه ما ترى، وظنوا ان هذا الغلاء من جهتي فأجاب المقتدر الى ذلك، وساله ان يأذن له في الشخوص الى واسط، لينفذ عماله بما فيها من الاطعمه الى بغداد، فأجابه الى ذلك، وساله ان يعفيه من الوزارة فلم يجبه الى ذلك، فشخص حامد الى واسط ولم يبق غاية في حمل الاطعمه، حتى صلح امر الأسعار ببغداد ثم قدم في غره شهر ربيع الآخر، فتلقاه الناس، وشكروا فعله، وقد كان المقتدر عرض على على بن عيسى الوزارة فاباها، فكساه ووصله، واعطاه سوادا يدخل به عليه، كما يفعل الوزير، فاستعفى من ذلك ولم يفارق الدراعه. وفي هذه السنه زحف ثمل الفتى الى الإسكندرية، فاخرج عنها قائد الشيعة ورجال كتامه، والفى لهم بها سلاحا كثيرا وأثاثا ومتاعا واطعمه، فاحتوى على الجميع واطلق كل من كان في سجنهم ثم اقبل ممدا لمؤنس واجتمعا بفسطاط مصر، وزحفا الى الفيوم لملاقاه ابى القاسم الشيعى ومناجزته، ومعهما جنى الصفواني وغيره من القواد، فجعل مؤنس يقصر المحلات، فعوتب على ذلك، فقال لهم: انكم انما تمشون في طرق المنايا، فلعل الله يصرفهم عنا، ويكفينا امرهم كما فعل قبل هذا فلقى جنى الصفواني بعض قواد ابى القاسم، فهزمه وقتل كثيرا ممن كان معه، وانهزم الباقون الى ابى القاسم، فراعه امرهم، وقفل عن الفيوم منصرفا الى إفريقية لليلة بقيت من صفر، وحمل ما

خف من امتعته، واحرق الباقى بالنار، وأخذ على طريق قليله الماء، فهلك كثير من رجاله عطشا بعد ضربه الف سوط، وقطع يديه ورجليه وكان الحلاج هذا رجلا

غويا خبيثا، يتنقل في البلدان، ويموه على الجهال، ويرى قوما انه يدعو الى الرضا

من آل محمد، ويظهر انه سنى لمن كان من اهل السنه، وشيعى لمن كان مذهبه التشيع،

ومعتزلي لمن كان مذهبه الاعتزال وكان مع ذلك خفيف الحركات شعوذيا قد حاول

الطب، وجرب الكيميا، فلم يزل يستعمل المخاريق حتى استهوى بها من لا تحصيل

عنده، ثم ادعى الربوبيه، وقال بالحلول، وعظم افتراؤه على الله عز وجل ورسله،

ووجدت له كتب فيها حماقات، وكلام مقلوب وكفر عظيم وكان في بعض كتبه: انى المغرق لقوم نوح والمهلك لعاد وثمود، وكان يقول لأصحابه: أنت نوح وأنت موسى،

وأنت محمد، قد اعدت ارواحهم الى أجسادكم ويزعم بعض الجهله المتبعين له بانه كان يغيب عنهم ثم ينزل عليهم من الهواء، اغفل ما كانوا، وحرك لقوم يده فنثر منها دراهم،

وكان في القوم ابو سهل بن نوبخت النوبختى فقال له: دع هذا وأعطني درهما واحدا عليه اسمك واسم ابيك، وانا أومن بك، وخلق كثير معى فقال له: كيف وهذا لم يصنع؟،

فقال له: من احضر ما ليس يحاضر صنع غير مصنوع، قال محمد بن يحيى الصولي: انا رايت هذا الرجل مرات، وخاطبته، فرايته جاهلا يتعاقل، وعييا

يتفصح، وفاجرا يظهر التنسك، ويلبس الصوف، فأول من ظفر به على بن احمد الراسبى، لما اطلع منه على هذه الحال، فقيده وادخله بغداد على جمل قد شهره،

وكتب بقصته وما ثبت عنده في امره، فاحضره على بن عيسى ايام وزارته في سنه احدى وثلاثمائة، واحضر الفقهاء، ونوظر فاسقط في لفظه، ولم يحسن من القرآن شيئا

ولا من الفقه ولا من الحديث ولا من الشعر، ولا من اللغة، ولا من اخبار الناس فسحفه وصفعه، وامر به فصلب حيا في الجانب الشرقى ثم في الجانب

الغربي، ليراه الناس، ثم حبس في دار الخليفة، فجعل يتقرب اليهم بالسنه، فظنوا ما يقول حقا ثم انطلق، وقد كان ابن الفرات كبسه في وزارته الاولى وعنى بطلبه موسى ابن خلف فافلت هو وغلام له، ثم ظفر به في هذه السنه، فسلم الى الوزير حامد،

وكان عنده يخرجه الى من حضره فيصفع وينتف لحيته. واحضر يوما صاحب له يعرف بالسمرى فقال له حامد الوزير: أما زعمت بان صاحبكم هذا كان ينزل عليكم من الهواء، اغفل ما كنتم؟ قال: بلى، فقال له: فلم لا يذهب حيث شاء، وقد تركته في دارى وحده، غير مقيد، ثم احضر حامد الوزير

القاضى والفقهاء واستفتاهم فيه، فحصلت عليه شهادات بما سمع منه اوجبت قتله، فعرف المقتدر بما ثبت عليه، وما افتى به الفقهاء فيه، فوقع الى صاحب شرطته محمد ابن عبد الصمد بان يخرجه الى رحبه الجسر، ويضربه الف سوط، ويقطع يديه ورجليه، ففعل ذلك به، ثم احرقه بالنار وذلك في آخر سنه ثلاثمائة وتسع. واقام الحج للناس في هذه السنه احمد بن العباس.

سنه عشر وثلاثمائة

ثم دخلت سنه عشر وثلاثمائة (ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) وفي هذه السنه اعتل المقتدر بالله عله شديده، فزعموا ان أم موسى القهرمانه أرسلت الى بعض اهله برسالة تقرب عليه ولايه الأمر، وانكشف ذلك له ولامه وجميع خاصته، وقبضوا عليها وعلى أختها أم محمد وأخيها احمد بن العباس، وأخذت منهم اموال، وأخذت لهم ودائع عند قوم وكثر الارجاف بحامد بن العباس، والطعن عليه، وسميت الوزارة لأقوام، فقيل يخرج على بن محمد بن الفرات فيولاها، وقيل يجبر على بن عيسى على ولايتها، وقيل ابن ابى الحوارى، وقيل ابن ابى البغل، فكتبت رقعه وطرحت في الدار التي فيها السلطان، وفيها: قل للخليفة قل لي ... ان كنت في الحكم تنصف من الوزير علينا ... حتى نقر ونعرف احامد فهو شيخ ... واهي القوى متخلف أم البخيل ابن عيسى ... فهو المنوع المطفف أم الذى عند زيدان ... للمشورة يعلف أم الفتى المتانى ... أم الظريف المغلف أم ابن بسطام اعجل ... أم الشيخ المعفف أم طارئ ليس ندري ... من اى وجه يلقف الفتى المتانى ابن الخصيبى، والشيخ المعفف ابن ابى البغل. وفي هذه السنه استضعف السلطان صاحب شرطه بغداد فيما كان من العامه، فعزله وولى شرطته نازوك المعتضدي، فبانت صرامته في أول يوم، وقام بالأمر قياما لم يقم مثله احد وفل من حد الرجاله، وكانت نارهم موقده، وحاربهم حتى أذعنوا وتناولوا حوائجهم منه بخضوع له بعد ان قصدوا داره ليحرقوها، وهو في وقته الذى ولى فيه نازل

على دجلة وعلى الزاهرية، فاستعان بالغلمان فشردهم واعانه نصر الحاجب عليهم، وهو كان سبب توليته، لأنه بلغه ان عروسا زفت الى زوجها بناحيه سوق الشتاء، فخرج بعض اولاد الرجاله، ومعه جماعه منهم، فأخذها وأدخلها الى داره، وفجر بها. ثم صرفها الى أهلها، فأظهر الناس شده الانكار لهذا، وعظموه بحسب عظمه، وكل ما قدر عليه نصر الحاجب ان اسقط رزق هذا الرجل، ونفاه، ثم اشار بولاية نازوك فاشتد عليهم، وصلب في امرهم وشكر له فعله فيهم. وحج بالناس في هذه السنة إسحاق بْن عبد الملك.

سنه احدى عشره وثلاثمائة

ثم دخلت سنه احدى عشره وثلاثمائة (ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) كانت هذه السنه ببغداد وما والاها شديده الوطأة على الناس، حتى سميت سنه الدمار وذلك ان على بن محمد بن الفرات ولى فيها الوزارة المره الثالثه، وتقبض على الوزير حامد بن العباس وعلى على بن عيسى وذلك يوم الخميس لتسع ليال بقين من شهر ربيع الآخر، فدخل الجنابى والقرامطة البصره ليله الاثنين بعد ولايته باربعه ايام وكان خبر ولايه ابن الفرات والقبض على حامد وعلى بن عيسى قد وصل الى الجنابى واصحابه من وقته من قبل من كان يكاتبهم، لان بعض البصريين الثقات حكوا ان القرامطة كانوا يقولون لهم يوم دخولهم: ويلكم ما ارك سليطينكم في ابعاد ذلك الشيخ عن نفسه، وليعلمن ما يلقى بعده قالوا: ونحن لا ندري ما يقولون حتى وردنا الخبر بعد ذلك بالقبض على حامد وعلى وولايه ابن الفرات، فعلمنا ما ارادت القرامطة، وان الخبر أتاهم من وقته في جناح طائر على ما ازكن الناس آلته، واعتقدوا صحته فعاثت القرامطة في البصره، ودخلت الخيل المربد، وكان سبك المفلحى القائد بها، فلما سمع الصيحة وقت الفجر فخرج وهو يظن انها لفزعه دارت فلما توسط المربد يريد الدرب رأته القرامطة وهم وقوف بجانبي الشارع، فشدوا عليه فقتلوه، وقتلوا بعض من كان معه، وركض الباقون فافلتوا، وقاتلهم اهل البصره في شارع المربد الى عشى ذلك اليوم، ولا سلطان معهم فلم يظفروا بهم الا بالنار فإنهم كانوا كلما حووا موضعا احرقوه، وانهزم اهل البصره وجال القرامطة في شارع

المربد، ومروا بالمسجد الجامع وسكه بنى سمره حتى انتهوا الى شط نهر البصره المعروف بنهر ابن عمر الذى كان انفذ حفره عبد الله بْن عمر بْن عبد العزيز، وكانوا يخرجون من البصره ليلا الى معسكرهم بظهر البصره، ولا يبيت بها منهم احد فرقا، فأقاموا أياما على ذلك، ثم انصرفوا، وقد كان السلطان انفذ الى البصره حين بلغه ذلك بنى بن نفيس وجعفر بن محمد الزرنجى في جيش. ثم ولى شرطه البصره محمد بن عبد الله الفارقى وانفذه في جيش ثان. وخرج ابن الفرات في هذه الوقعه مغيظا على الناس، واطلق يد ابنه المحسن، فقتل الناس، وأخذ أموالهم، وغلبا على أم المقتدر بالله وملكا امرها وكان الذى سفر لهما في ذلك مفلح الخادم الأسود، وكان الأمر كله اليه والى كاتبه النصراني المعروف ببشر بن عبد الله بن بشر، وكان مجبوبا، فاحتالوا على مؤنس المظفر، حتى اخرجوه الى الرقة وازعجوه من باب الشماسيه فكان كالنفى له وكان حامد بن العباس قد استتر وعليه من المال الذى عقده على نفسه الف الف دينار، فاحتال حامد الى ان وصل الى باب السلطان، فدخل الى نصر الحاجب، فقال له: قد تضمننى بألف الف دينار، فخذوا منى الف الف دينار وخمسمائة الف دينار واحبسونى عندكم، واحتسبوا لابن الفرات بألف الف دينار التي تضمننى بها ولا تطلقوا ايديهم على فاخبر بذلك الخليفة، واشار به عليه، وقال: هاهنا فضل مال، ويكون في حبسنا رجل هو بيت مال للسلطان، فتلوموا في ذلك وقال المحسن لمفلح الخادم يفسد على امرى كله، ولا بد من تسليمه الى، فلم يزل مفلح بالمقتدر والسيده حتى زالا عن الصواب، وسلما حامدا الى ابن الفرات فكان يصفع ويضرب، ويخرجه المحسن إذا شرب فيلبسه جلد قرد، له ذنب، ويقيم من يرقصه ويصفعه، ويشرب على ذلك، واجرى على حامد افاعيل قبيحه ليست من افاعيل الناس، ولا يستجيزها ذو دين ولا عقل، ولم يصل من ماله كثير شيء الى السلطان، وضاع ما كان بذله، وحدر الى واسط وسلم الى البزوفري العامل، فقتله، واخرجه الى اهل واسط، وسلمه الى من يجنه فاجتمع الناس، وصلوا عليه وعلى قبره أياما متواليه. وزعم ابن الفرات للسلطان ان على بن عيسى خائن ممالئ للقرمطى، فصادره على مال استخرج بعضه من قبله، ثم نفاه الى اليمن ووكل به رجلا من اصحابه، وامره

بالاحتيال لقتله، فقبض الله يده عن ذلك بصاحب لشفيع اللؤلؤى صاحب البريد، كان قد وكله به فلما خرج عن مكة لقيه اصحاب ابن يعفر، فحالوا بينه وبين الموكلين به، وأرادوا قتل الموكل به لأنه كان أضجعه بمكة ليذبحه، فخالفه عون كان معه، ودفع عنه، فمنع على بن عيسى من قتل الموكل به ولما بلغ ابن يعفر تلقاه اخوه ومعه هدايا عظيمه القدر، فاكرمه وانزله في دار عظيمه، وانزل الموكل به في دار غيرها، ولم يزل على بن عيسى يجرى بعد ذلك على العون المخالف في قتله، وعلى عياله الجرايات دهرا طويلا. ووجه المحسن ابن ابى الحوارى الى الاهواز، فقتل بموضع يعرف بحصن مهدى، وكان نصر الحاجب يدارى المحسن وأباه، ويطيل عنده الى نصف الليل القعود، وينصرف عنه حتى اتصل به ان المحسن ضمن لعشرين غلاما عشرين الف دينار، على ان يقتلوا نصرا إذا خرج من عند ابيه في بعض الممرات فتحفظ منه، وكان لا يركب الا في غلمان كثيره وسلاح عتيد، واحتال في ازاله نصر بكل حيله، فما قدر على ذلك، واحتال على شفيع المقتدرى، فدس من يقع فيه ويقول: انه ان خرج الى الثغر يحصل عنده مال عظيم، فلم يجب الى ذلك، ونفى أبا القاسم سليمان ابن الحسن وأبا على محمد بن على بن مقله الى شيراز، وكتب الى ابراهيم بن عبد الله المسمعي في اتلافهما فسلمهما الله، ونفى النعمان بن عبد الله الكاتب، وكان رجل صدق، وقد اعتزل الاعمال، ولزم بيته وغله ضيعه له، فغربه الى واسط، ووجه المحسن رجلا كان يصحب ابن ابى العذافر خلفه، فذبحه بواسط، ونفى ابراهيم بن عيسى وعبد الله ابن ما شاء الله الى واسط، ودس إليهما من قتلهما، وطالب ابن حماد الموصلى الكاتب فقال له نصر الحاجب: سلمه الى وعلى مائه الف دينار من قبله، واسلمه بعد هذا إليكم على ان تلزموه بيته، فلم يفعل المحسن ذلك وعنف به وشتمه، فرد عليه ابن حماد القول فقتله. وكان ابو بكر احمد بن محمد بن قرابه يتكلف للمحسن نفقاته كلها من ماله ايام نكبه ابيه وخموله، فلما ولى الوزارة اكرمه أبوه، واقبل عليه فحسده المحسن، وجعل يحتال في تلفه، وعزم على ان يركبه معه ليلا في طيارة من داره التي يسكنها المحسن الى دار ابيه بالمخرم، فإذا توسط دجلة امر من يرمى بابن قرابه فيها، وكانت ايام مدود

قال الصولي: فعرفني بذلك سرا خادم للمحسن يقال له مريث لموده كانت بيني وبينه فاشعرت ابن قرابه بما ذهب اليه فيه، فلم يدخل له دارا ولا جلس معه في طيار الى ان فرج الله امرهم، ولم تطل المده قال الصولي: وكان المحسن مقيما عندي ايام نكوبهم، وكنت كثير الانحراف اليهم، فلما عادوا الى المنزله التي كانوا بعدوا عنها اختصني على بن الفرات وأمرني بملازمه مجلسه وزاد في رزقي سبعين دينارا وقال لي: انظر ما تريد من الاعمال اقلدك اياه، فسعى بي المحسن الى ابيه بفعل واش وشى بي اليه، فثقل جانبي على الوزير، حتى قلت في ذلك قصيده فاصغى إليها وقبل اعتذارى فيها، وزال ما كان في نفسه، وبقي المحسن على غله، ومن الشعر إذا اختصرناه. قل لرحا ملكنا وللقطب ... وسيد وابن ساده نجب وللوزير البعيد همته ... البالغ المجد غاية الرتب لا والذى أنت من فواضله ... يا منقذ الملك من يد النوب ما كان شيء مما وشى لكم ... ذو حسد مفتر وذو كذب هل عله اوجبت على سوى ... مدحى وشكرى في الجد واللعب اكفر نعماكم ويشكرها ... عدوكم ان ذا من العجب فسائلوا علم ذاك انفسكم ... فليس رأيي عنكم بمحتجب متى سمعتم من السعاة أراني ... الله أشلاءهم على الخشب واوطن الحتف في ديارهم ... حتى يبادوا بالويل والحرب وليكم راس مالكم ابدا ... والراس ان ضاع ليس كالذنب وفي هذه السنه توفى يانس الموفقى، وكان رفيع المكانه عند السلطان، عظيم الغناء عنه، ولقد عزى به نصر الحاجب يوم وفاته، فجعل يبكى ولا يتعزى، وقال: لقد اصيب الملك مصيبه لا تنجبر، وقال: من اين للخليفة رجل مثله! شيخ ناصح مطاع ينزل عند سور داره من خيار الفرسان والغلمان والخدم الف مقاتل، فلو حزب السلطان امر وصاح به صائح من القصر لوافاه من ساعته في هذا العدد قبل ان يعلم بذلك غيرهم من جنسه فلما توفى يانس انتصح نصر الحاجب الخليفة في أمواله

وكانت عظيمه، وكانت له ضياع ومستغلات وامتعه ووطاء وكسوه لا يعرف لشيء منها قدر، فقال نصر الحاجب للمقتدر ان يأنسا خلف ضياعا تغل ثلاثين الف دينار الى ما خلف من سائر المال، واشار عليه بان يوجه ابنه أبا العباس الى دار يانس، فيصلى عليه ويأمر بدفنه، ويحضر جميع فرسانه وخدمه وحاشيته فيقول لهم: انا مكان يانس لكم وفوقه، وزائد في الاحسان إليكم، والتفقد لأحوالكم ثم يحصى ما تخلفه ولا يفوت منه شيء، فيجمع بذلك الاستحماد الى الرجال والاحراز للمال فاصغى المقتدر الى نصيحه نصر الحاجب، وظهر له صواب قوله: فلما خرج عنه حوله ابن الفرات وولديه عن رايه، وامر المحسن بتحصيل التركه فاذهب أكثرها، وخان الخليفة فيها وأخذ اكثر ذلك لنفسه، حتى لقد كانت الشقاق الدبيقيه الشقيريات التي اقل ثمن كل واحده منها سبعون دينارا، تحشى بها المخاد الأرمينيه والمساور، وتباع فتشترى للمحسن على ان الذى داخلها حشو صوف، وكذلك فعل بالقصب المرتفع الرشيدي والملحم الشعبى والنيسابورى، ولقد أخذ من الوسائد الرفيعه والمساور المحكمه فحشاها بالندو العود، عتيا وطغيانا، وكذلك كان يتكئ عليها. ومما يعتد به على ابن الفرات وولده ان احمد بن محمد بن خالد الكاتب المعروف بأخي ابى صخره كان قد ولى الدواوين وكان من مشايخ الكتاب ورؤسائهم فتوفى في هذا العام وخلف ورثه احداثا، فانهى كثره ما خلف من المال الى المقتدر، فامر بالتوكيل بخزانته وداره، فسار بعض الورثه الى المحسن وضمنوا له مالا على ازاله التوكيل وحل الاعتقال، فكلم المحسن أباه في ذلك، وركب الى المقتدر، فقال له: ان المعتضد والمكتفي قد كانا قطعا الدخول على الناس في المواريث، وانا ارى لمولاي ان يحيى رسومهما، وان يأمر باثبات عهد الا يتعرض احد في ميراث، فأجابه المقتدر الى ذلك إذ ظن انها نصيحه منه، فسلمت الدار الى ورثه الكاتب، وأنشأ ابن الفرات كتابا عن المقتدر في اسقاط المواريث نسخته. بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإن امير المؤمنين المقتدر بالله يؤثر في الأمور كلها

ما قربه من الله عز وجل، واجتلب له جزيل مثوبته، وواسع رحمته، وحسنته العائده على كافه رعيته كما جعل الله في طبعه، واولج في بيته، من التعطف عليها وايصال المنافع إليها، وابطال رسوم الجور التي كانت تعامل بها، جاريا مع احكام الكتاب والسنه، عاملا بالآثار عن الافاضل من الأئمة، وعلى الله يتوكل امير المؤمنين، واليه يفوض وبه يستعين. وانهى الى امير المؤمنين المقتدر بالله ابو الحسن على بن محمد الوزير ما يلحق كثيرا من الناس من التحامل في مواريثهم، وما يتناول على سبيل الظلم من أموالهم، وانه قد كان شكى الى المعتضد بالله مثل ذلك، فكتب الى القاضيين يوسف بن يعقوب وعبد الحميد يسالهما عن العمل في المواريث، فكتبا اليه: ان عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وعبد الله بن العباس وعبد الله بن مسعود ومن اتبعهم من الأئمة وعلماء هذه الامه رحمهم الله رأوا ان يرد على اصحاب السهام من القرابة ما يفضل عن السهام المفروضه لهم في كتاب الله عز وجل من المواريث ان لم يكن للمتوفى عصبه يرثون ما بقي، ممتثلين في ذلك كتاب الله عز وجل في قوله وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ، * ومحتملين على سنه رسول الله في توريث من لا فرض له في كتاب الله من الخال وابن الاخت والجده، وان تقليد العمال امر المواريث دون القضاه شيء لم يكن الا في خلافه المعتمد على الله، فانه خلط في ذلك، فامر المعتضد بابطال ما كان الأمر جرى عليه ايام المعتمد في المواريث، وترك العمل فيها بما روى عن زيد بن ثابت بان يرد على ذوى الارحام ما اوجب الله رده وأولو العلم من الأئمة. فامر امير المؤمنين المقتدر بالله ان يجرى الأمر على ذلك ويعمل به، وكتب يوم الخميس. لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة احدى عشره وثلاثمائة، فلما نفذ كتاب المقتدر بهذا، واشهد على ورثه ابن خالد الكاتب بتسليم ما خلفه وقبضهم له وجه المحسن، اليهم من أخذ جميع مالهم وحبسهم واخافهم. وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْن عبد الملك.

سنه اثنتى عشره وثلاثمائة

ثم دخلت سنه اثنتى عشره وثلاثمائة (ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) [أخبار متفرقة] فيها ورد الخبر في أول المحرم على الخليفة ببغداد بقطع الجنابى والقرامطة على الحاج، وما حدث فيهم من القتل والاسر، وذهاب عامه الناس، آل السلطان وغيرهم، وان عبد الله بن حمدان قد قلد امر الطريق. فمضى الناس في القافلة الاولى فسلموا في أول مسيرهم، حتى إذا صاروا بفيد اتصل بهم خبر القرامطة، فتوقفوا، وورد كتاب ابى الهيجاء على نزار بن محمد الخراسانى، وكان في القافلة الاولى بان يتوقف عليه حتى يجتمعوا، فتوقف نزار وتلاحقت قوافل الشارية والزيريه والخوارزمية، فلما صاروا باجمعهم بالهبير غشيهم الجنابى واصحابه القرامطة، فقتلوا عامتهم واتصل الخبر بسائر القوافل، وقد اجتمعت بفيد، فتشاوروا في العدول الى وادي القرى، ولم يتفقوا على ذلك ثم عزموا على المسير، فقطع بهم الجنابى واسر ابو الهيجاء القائد، وافلت نزار وبه ضربات أثخنته، واسر ابن للحسين ابن حمدان واحمد بن بدر العم واحمد بن محمد بن قشمرد وابنه، واسر مازج الخادم صاحب الشمسه، وفلفل الفتى ونحرير فتى السيده، وكان على القافلة الثالثه، وقتل بدر ومقبل غلاما الطائي، وكانا فارسين مشهورين ممن يسير بالقوافل ويدافع عنها، ولهما قدر وذكر، واسر خزرى وابنه، وكانا من القواد، وقتل سائر الجند، وأخذت القرامطة الشمسه وجميع ما كان للسلطان من الجواهر والطرائف، وأخذوا من اموال الناس ما لا يحصى وتحدث من افلت بانه صار اليهم من الدنانير والورق خاصه نحو الف الف دينار، ومن الأمتعة والطيب وسائر الأشياء ما قيمته اكثر من هذا، وان جميع عسكره انما كان ثمانمائه فارس، وسائرهم رجاله وكل من افلت من أيدي القرامطة،

ذكر التقبض على ابن الفرات وابنه وقتلهما

اكلهم الاعراب، وسلبوا ما بقي معهم مما كان تخباه الناس من أموالهم، ومات اكثر الناس عطشا وجوعا. ولما صح عند المقتدر ما نال الناس وناله في رجاله وماله عظم ذلك عنده وعند الخاصة والعامه، وجل الاغتمام به على كل طبقه، وتقدم الخليفة الى ابن الفرات في الكتاب الى مؤنس الخادم بان يقدم من الرقة ليخرج الى القرمطى وكتب اليه نصر الحاجب بالاستعجال والبدار، فسلك الفرات في خاصته واسرع في مسيره، ووصل الى بغداد في غره شهر ربيع الاول. ذكر التقبض على ابن الفرات وابنه وقتلهما وفي يوم الثلاثاء لتسع خلون من شهر ربيع الآخر، قبض على على بن محمد ابن الفرات الوزير، واختفى المحسن ابنه، فاشتد السلطان في طلبته، وعزم على تفتيش منازل بغداد كلها بسببه، وامر بالنداء بهدر دم من وجد عنده وأخذ ماله، وهدم داره، وتشدد على الناس في ذلك التشدد الذى لم يسمع بمثله، فجاء من اعطى نصرا الحاجب خبره، ودله على موضعه، فوجه بالليل من كبسه واخذه، وقد تشبه بالنساء وحلق لحيته، وتقنع، فاتى به على هيئته وفي زيه لم تغير له حال، وضرب في الليل بالدبادب ليعلم الناس انه قد أخذ، وغدت العامه الى دار الخليفة ليروه، وتكاثر الناس، وازدحموا للنظر اليه، وهو في ذلك الزي الذى وجد عليه ثم احضر ابو القاسم عبد الله بن محمد بن عبيد الله الخاقانى فاستوزر، واقعد، وخلع عليه للوزارة، فاستوزر منه رجل قد تكهل وفهم وجرب، وفارق ما كان عليه في ايام ابيه من الحداثة، وغلب عليه الوقار والسكينة. وكان مؤنس الخادم هو الذى اشار به، وزين امره وحض المقتدر على استيزاره، فأول ما قعد نصب لمناظرة ابن الفرات وولده، ومحاسبتهما رجلا يعرف بابن نقد الشر، فتشدد عليهما في الأموال فلم يذعنا الى شيء، إذ علما انهما تالفان، وكان في

أول ضمهما قد دسسا الى من تضمن عنهما مالا عظيما على ان يحبسا في دار السلطان، ولا ينطلق عليهما أيدي اعدائهما، فهم المقتدر بذلك، واصغى اليه، فاجتمع الرؤساء: مؤنس وشفيع اللؤلؤى ونصر وشفيع المقتدرى ونازوك وكلهم عدو لابن الفرات ومطالب له، فسعوا في احاله راى الخليفة عن ضمه الى الدار، وتقدموا الى الغلمان بان يشغبوا ويحملوا السلاح ويقولوا: قد عزم السلطان ان يستوزر ابن الفرات مره رابعه لا نرضى الا بقتله على عظيم ما احدث في الملك، وافسد من الأمور، واتلف من الرجال. ففعلوا، وكتب شفيع اللؤلؤى الى المقتدر، وكان صاحب البريد والثقه في ايراد الاخبار يشنع عليه قيام الغلمان، وتشوف الناس الى الخلعان، فامر المقتدر بقتل ابن الفرات وابنه، وتقدم الى نازوك بان يضرب أعناقهما في الدار التي كانت لابن الفرات، ويوجه اليه برأسيهما، فنفذ ذلك من وقته وبعث بالرأسين في سفط ثم رد السفط الى شفيع اللؤلؤى، فوضع الرأسين في مخلاه وثقلهما بالرمل وغرقهما في دجلة وفي هذا العام قبل القبض على ابن الفرات بايام توفى محمد بن نصر الحاجب، وكان خلفا من ابيه، قال الصولي: عرفته والله فتى كريما عالى الهمه، جميل الأمر، سرى الإله، كثير المحاسن، قد اشتهى جمع العلم وكتب الحديث، وتخلف كتبا باكثر من الفى دينار. قال: وكان قد خرج على اماره الموصل ونواحيها، فدعاني الى الخروج معه على ان اقيم شهرا او شهرين بألف دينار معجلا عند الخروج والف مؤجلا عند الانصراف. قال: فلم ينتظم لي امرى على الخروج معه، ففعل قريبا مما قال، وانا مقيم بمنزلي. ثم ان أباه لم يصبر عنه فاقدمه بغداد، فقلت شعرا اذكر فيه مفارقته وقدومه على عروض كان يعجبه، وهو هذا اختصرناه: حرق ذابت لها الأحشاء ... من حر الفراق بقيت وقفا على هم ... واحزان بواقى آه من فجعه بين ... جلبت ماء المآقي وتباريح اشتياق ... ساق قلبي للشياق ان صبري عن ابى نصر ... لضرب من نفاق

عن امير جل عن اتيان ... افعال دقاق واسع الهمه في الافضال ... ممدود الرواق نشرب الصافى من جدواه ... في كاس دهاق هو بحر واعالى الناس ... في الجود سواقي ان أكن عنك تاخرت ... بجد ذي محاق وزمان آخذ من ... كل حر بالخناق فلقد شد سروري ... ونشاطي في وثاق ووجدت الماء في بعدك ... كالملح الزعاق فحمدت الله إذ من ... بقرب وتلاقى وعلى الحج مقرونا ... بغزو وعتاق ان تسمحت لنفسي ... بعد هذا بفراق وفي هذه السنه توفى محمد بن عبيد الله بن خاقان والد الوزير وعزى منه، فكان جميل العزاء، وملتزما للصبر واعتل الوزير عبد الله بن محمد في جمادى الآخرة من هذا العام بعد وفاه ابيه، فكان يتحامل على الجلوس للناس، فيدخلون عليه، وهو لقى شديد العله، فلم يزل على هذه الحال حتى استهل شهر رمضان، ثم صلحت حاله ونقه من علته، وكان الوزير قد نافر نصرا الحاجب وعمل عليه عند المقتدر، حتى هم بالقبض على نصر، وظن الوزير ان ذلك مما يسر به مؤنسا في نصر إذ كان توهم ان الذى بينهما فاسد، وكانا عند الناس متخالفين، وهما في الحقيقة كنفس واحده، فقدم مؤنس وبعث اليه نصر كاتبه، فتلقاه باسفل المدائن، وعرفه خبر نصر كله، فوجده لنصر كمنزله نفسه، وقال للكاتب: قل له عنى: بحقي عليك، ان تلقيتني واخليت الدار، فلا مؤنه عليك منى، فان كنت لا بد فاعلا فبالقرب، فتلقاه نصر بسوق الأحد، وكان دخول مؤنس في أول سنه ثلاث عشره وسيقع خبره في موضعه ان شاء الله. وفي ذي القعده من هذه السنه قدم خلق كثير من الخراسانيه الى مدينه السلام

للحج، واستعدوا بالخيل والسلاح، فاخرج السلطان القافلة الاولى مع جعفر بن ورقاء، وكان امير الكوفه يومئذ، فوقع اليه خبر القرمطى وتحركه مرتصدا للقوافل، فامر جعفر الناس بالتوقف والمقام حتى يتعرف حقائق الاخبار. وتقدم جعفر في اصحابه، ومن خف وتسرع من الحاج، فلما قرب من زبالة اتبعه الناس، وخالفوا امره، فوجدوا اصحاب الجنابى مقيمين ينتظرون موافاه القوافل، وقد منعوا ان يجوزهم احد يخبر بخبرهم، فلما راوه ناوشوه القتال، ثم حال بينهم الليل، وخلص ابن ورقاء بنفسه، وقتل خلق كثير ممن كان معه وترك الحاج المتسرعه جمالهم ومحاملهم وفروا راجعين الى الكوفه واتبعهم القرمطى. وكان بالكوفه جنى الصفواني، وثمل الطرسوسى وطريف السبكرى فاجتمعوا واجتمع اليهم بنو شيبان، فحاربوا القرمطى عشيه، فقاموا به وانتصفوا منه ثم باكرهم بالغدو، فهزمهم واسر جنيا الصفواني، وقتل خلقا من الجند، وانهزم الباقون الى بغداد، واقام القرامطة بالكوفه، وأخذوا اكثر ما كان في الاسواق، وقلعوا أبواب حديد كانت بالكوفه، ثم رحل الى البحرين، وبطل الحج من العراق في هذه السنه وصح حج اهل مصر والشام، وكان معهم بمكة على بن عيسى، فكتب الوزير عبد الله بن محمد الى على ابن عيسى بان يتقلد اعمال مصر والشام، وجعل امر المغرب كله اليه، فمضى على لما تم الحج من مكة الى الشام ومصر، وندب المقتدر مؤنسا الخادم الى الكوفه، فوصل إليها وقد رحل الجنابى عنها، فأقام بها أياما ثم كتب اليه السلطان ان يعدل الى واسط، فيقيم بها، فرحل إليها، واستقر بها، ولم يغن شيئا في حركته هذه، على انه انفق في خروجه فيما حكاه نصر الحاجب ومن حصل ذلك معه نحو الف الف دينار. وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْن عبد الملك.

سنه ثلاث عشره وثلاثمائة

ثم دخلت سنه ثلاث عشره وثلاثمائة (ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) [أخبار متفرقة] فيها سعى الوزير عبد الله بن محمد الخاقانى على نصر الحاجب عند المقتدر، وحمله على الفتك به، والتقبض عليه، فكتب المقتدر الى مؤنس الخادم، وكان بواسط ان يقدم عليه، ليكون القبض على نصر الحاجب بمشاهدته وعن راى منه ورضا، إذ كان المقتدر مصغيا اليه، ومحتاجا الى رايه وغنائه فلما قدم مؤنس بغداد وشاوره المقتدر في امر نصر، قال له: والله يا سيدي لا اعتضت منه ابدا، ولولا مكانه من نصيحتك وخدمتك ما تهيأ لي ان افارق قصرك، ولا اغيب من مشاهده امرك، وباينه في امره مباينه وقفته عنه ثم اوصل المقتدر نصرا الى نفسه، وقرب مكانه ومكان مؤنس، واصغى إليهما، ولقب مؤنس بالمظفر من حين قدومه من الغزاة، فكان مما قاله نصر للمقتدر وقد علم ما كان ذهب اليه فيه: كم من امر قد عقد على امير المؤمنين، وابتغى به ادخال الكدح في سلطانه: ولم يعلم به، فكفاه الله اياه بسعايتنا في صرفه عنه، فحلف لهما المقتدر انه ما هم بسوء فيهما قط، ولا يفعل مكروها بأحدهما ما بقيا. فقوى امر نصر وتأيد بمؤنس، وضعف امر الوزير عبد الله بن محمد، واعتل ولزم بيته، فكان الناس يدخلون عليه وهو لقى، وتولى اعماله ونظره عبيد الله بن محمد الكلواذى صاحب ديوان السواد، وبنان النصراني كاتبه، ومالك بن الوليد النصراني، وكان اليه ديوان الدار وابن القناني النصراني واخوه وكان اليه ديوان الخاصة وبيت المال وابنا سعد حاجباه ومما اوهن امر الوزير وكرهه الى الناس غلاء الأسعار في زمانه، ولم يكن عنده ماده من حيله يكثر بها ورود المير الى بغداد. وكان مما اشار اليه نصر عند مكالمته للمقتدر بما كان يدار عليه، ويسعى فيه من الوثوب عليه، ولم يشرح ذلك له ان بعض القواد واطئوا قوما من الاعراب على ان يقعدوا

ذكر التقبض على الوزير الخاقانى وولايه احمد الخصيبى

عند ركوب الخليفة الى الثريا بالقرب من طريقه، فإذا وازاهم وثبوا من ثلم كانت تهدمت في سور الحلبه، وأوقعوا به، ثم يخرجون ويحكمون على انهم شراه، فكان نصر حينئذ قد اراد كشف ذلك للمقتدر، وشاور من وثق به فيه، فقال له: لا تفعل، فلست بآمن الا يتضح الأمر للخليفة فتوحشه وترعبه، ثم يصير من اتهم بهذا عدوا لك وساعيا عليك، ولكن امنعه الركوب الى الثريا حتى تبنى ثلم السور، وان عزم على الركوب استعددت بالغلمان والعده، والزمتهم تلك المواضع المخوفه، وعملت مع هذا في استئلاف كل من سمى لك من هؤلاء القواد ومن تابعهم على مذهبهم، فمن كان منهم متعطلا من ولايه وليته ومن كان مستزيدا زدته، ومن كان خائفا آمنته، وان امكنك تفريقهم في الاعمال فرقتهم فيها. وكان نصر رجلا عاقلا، فعمل براى من اشار عليه بهذا وسعى في ولايه بعض القوم، فاخرج واحدا الى سواد الكوفه، واخرج آخر الى ديار ربيعه ولما صفت الحال بين نصر ومؤنس واستالف نصر ثمل القهرمانه، وكانت متمكنه من المقتدر. وظهر من امر الوزير عبد الله بن محمد ما ظهر، تكلموا في عزله، وشاوروا في رجل يصلح للوزارة مكانه، فمالت ثمل برأيها وعنايتها الى احمد الخصيبى، وكان يكتب لام المقتدر، وساعدها نصر على ذلك حتى تم له، وصح عزم المقتدر عليه. ذكر التقبض على الوزير الخاقانى وولايه احمد الخصيبى وقبض على الوزير عبد الله بن محمد الخاقانى لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، ووكل به في منزله، فكانت ولايته ثمانية عشر شهرا، وخلع في هذا النهار على ابى العباس احمد بن عبيد الله بن احمد بن الخصيب للوزارة، وانصرف الى منزله بقنطرة الانصار، ثم جلس من الغد في دار سليمان بن وهب بمشرعه الصخر، فهابه الناس لموضعه من الخليفة بالوزارة التي صار إليها، لمحله من خدمه السيده وكتابتها،

ولعناية ثمل القهرمانه به، وهابه كل منكوب من اصحاب الخاقانى وابن الفرات، فحصل له من ما لهم الف الف دينار، اصلح منها أسبابه، ثم ركب الوزير الخصيبى الى القصر، فرماه الجند بالنشاب من جزيرة بقرب قصر عيسى، فلجا الى الشط، وتخلص منهم بجهد، فلما جلس في مجلسه قال: لعن الله من اشار بي لهذا الأمر وحسن دخولي فيه، فقد كان كرهه لي من أثق به وبرايه، وكرهته لنفسي، ولكن القدر غالب، وامر الله نافذ. واقر الخصيبى عبيد الله بن محمد الكلواذى على ديوان السواد وفارس والاهواز، واقر على الازمه وديوان الجند أبا الفرج محمد بن جعفر بن حفص، وقلد ابن عم له شيخا يعرف بإسحاق بن ابى الضحاك ديوان المغرب. ولم يكن للناس في هذا العام موسم لتغلب القرامطة على البلاد، وقله المال، وضيق الحال، فطولب بالأموال قوم لا حجه عليهم الا لفضل نعمه كانت عندهم، والح الوزير على الناس في ذلك حتى طلب امراه المحسن ودوله أم على بن محمد بن الفرات وابنه موسى بن خلف، وامراه احمد بن الحجاج بن مخلد باموال جليله، وكثر الناس في ذلك وانكروه غاية الانكار.

سنه اربع عشره وثلاثمائة

ثم دخلت سنه اربع عشره وثلاثمائة (ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) [أخبار متفرقة] فيها اشتدت مطالبه الخصيبى الوزير الأموال عند الناس، واكثر التعلل عليهم فيها، ولم يدع عند احد مالا احس به الا اخذه باتعس ما يكون من الأخذ والشده، وكان نصر بن الفتح صاحب بيت مال العامه قد توفى في شهر ربيع الاول من هذا العام، فطالب الخصيبى جاريته وابنته بالأموال، واحضرهما عند نفسه واشتد عليهما، فلم يجد عندهما كثير مال، إذ كان نصر رجلا صحيح الأمانة، وكان له معروف عند الناس واياد حسنه. وفيها امر المقتدر ابن الخصيب وزيره باستقدام ابن ابى الساج من الجبل لمحاربه القرمطى، فاستقدمه، واقبل يريد مدينه السلام، فاشتد على نصر الحاجب ونازوك وشفيع المقتدرى وهارون بن غريب الخال وغيرهم من الغلمان دخوله بغداد، فكتب اليه مؤنس بان يعدل الى واسط ليكون مقامه بها وغزوه القرامطة منها، فسار إليها ثم تأخر نفوذه الى القرمطى ولم يتم خروجه اليه لشروط شرطها واموال طلبها، وكانت الأموال في غاية التعذر فلم يجب الى ما اشترطه، وكان ذلك سببا لتوقفه. وفيها اتخذت أم المقتدر كاتبا يقوم بأمر ضياعها وحشمها وأسبابها لما رات الخصيبى قد اشتغل بالوزارة والنظر في اسباب المملكة، فقالت لثمل القهرمانه: ارتادى لي كاتبا يقوم مكانه ويحل محله، فاتخذت لها عبد الرحمن بن محمد بن سهل، وكان قد لزم بيته، واقتصر على ضيعه له، فاستخرج من منزله، وكتب لام المقتدر وتولى أمورها، وكانت فيه كفاية وأبوه شيخ من مشايخ الكتاب، وممن عنى بالعلم، فصعب امره على الخصيبى الوزير، وتمنى انه لم يكن تولى الوزارة حين فارق خدمه أم المقتدر، وكانت انفع له من الخليفة، فجعل امره يضعف كلما قلت الأموال التي كان يتقرب بها ويشتد على الناس فيها.

ذكر التقبض على الوزير الخصيبى وولايه على بن عيسى الوزارة

ذكر التقبض على الوزير الخصيبى وولايه على بن عيسى الوزارة ثم ان المقتدر امر بالتقبض على الخصيبى احمد بن عبيد الله الوزير يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي القعده سنه اربع عشره وثلاثمائة وعلى ابنه معه ومن لف لفه، وتولى ذلك فيه نازوك صاحب الشرطه، واستتر اصحاب دواوينه ومن افلت من اهله، وكان على بن عيسى بالمغرب متوليا للاشراف، فاستوزر واستخلف له عبيد الله بن محمد الكلواذى الى وقت قدومه، وانفذ المقتدر سلامه أخا نجح الطولونى رسولا اليه ليأخذ به على طريق الرقة، ويتعجل استقدامه، فكانت مده وزارة الخصيبى اربعه عشر شهرا، وضبط عبيد الله بن محمد الأمر وقام به بقية سنه اربع عشره. وفيها مات احمد بن العباس أخو أم موسى وماتت أختها أم محمد، فأظهر المقتدر الرضا عن أم موسى، وردت عليها دورها وضياعها التي كانت اعتقلت عليها عند ما اتهمت به على ما تقدم ذكره. وحج بالناس في هذه السنه ابو طالب عبد السميع بن أيوب بن عبد العزيز.

سنه خمس عشره وثلاثمائة

ثم دخلت سنه خمس عشره وثلاثمائة (ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) فيها قدم على بن عيسى بغداد يوم الأربعاء لخمس خلون من صفر، بعد ان تلقاه الناس جميعا بالأنبار وفوق الأنبار، ودخل الى المقتدر بالله، فاستوزره وامر بالخلع عليه فاستعفى فلم يعفه، وسلم اليه الخبيصى ليناظره عن الأموال، فلم يستبن عليه خيانة، ولا علم انه أخذ من مال السلطان شيئا فقال له: ضيعت، والمضيع لا رزق له فرد ما ارتزقت وما اقطعت من الضياع، فرد ذلك وقال على بن عيسى الوزير للخليفة: ما فعلت سبحه جوهر أخذت من ابن الجصاص قيمتها ثلاثون الف دينار؟ قال له: هي في الخزانه، فسأله ان يأمر بتطلبها، فطلبت فلم توجد فأخرجها على من كمه وقال له: عرضت على هذه السبحه بمصر فعرفتها واشتريتها، فإذا كانت خزانه الجوهر لا تحفظ، فما الذى حفظ بعدها! وامير المؤمنين يقطع خزانه وخدمته الأموال الجليله والضياع الواسعه فاشتد هذا الأمر على السيده أم المقتدر وعلى غيرها من بطانته واتهمت بالسبحه زيدان القهرمانه، وكان لا يصل الى خزانه الجوهر غيرها، وضبط على بن عيسى الأمر جهده، ونظر ليله ونهاره، وجلس للمظالم في كل يوم ثلاثاء وكان لا يأخذ مال احد، ولا يتعلل على الناس كما كان يفعل غيره، فآمن البراء في ايامه، وقطع الزيادات والتعلل، وتحفظ من ان تجرى عليه حيله، ودعته الضرورة بقله المال الى الاخلال ببعض الاقامات في طريق مكة وغيرها، وخرج اليه توقيع المقتدر بالا يزيل الكلواذى عن ديوان السواد ولا محمد ابن يوسف عن القضاء، فقال: ما هممت بشيء من هذا، وان العهد فيه الى لتخليط على، وكدح في نظري واشار على بن عيسى على المقتدر بان يلزم خمسه آلاف فارس من بنى اسد طريق مكة بعيالاتهم ويثبت لهم مال الموسم، فانه يكفيهم ويترك ابن ابى الساج مكانه، ويبعث لحرب القرمطى خمسه آلاف رجل من بنى شيبان باقل من ربع المال الذى كان ينفق على ابن ابى الساج وكان على قد نظر الى ما طلبه ابن ابى الساج،

فوجده ثلاثة آلاف الف دينار، ووجد مال بنى اسد وبنى شيبان الف الف دينار. والفى كاتب نازوك يرتزق تسعمائة دينار في النوبه، فأسقطها عنه، وقال: رزقه على صاحبه، واسقط من رزق مفلح الأسود الف دينار في جمله الغلمان، واقره على الف دينار كان يرتزق في النوبه. واراد مؤنس المظفر الخروج الى الثغر فتبعه على بن عيسى وساله المقام، وقال له: انما قويت على نظري بهيبتك ومقامك، فان رحلت انتقض على تدبيرى، فأقام وقلد شيرزاد ما كان يتقلد قلنسوة من امر الحبس، وضم اليه كاتب نازوك، واجرى له مائه وعشرين دينارا، ولمن يخلفه ثلاثين دينارا، وكان قلنسوة يرتزق لهذه الاعمال ثمانمائه دينار، وصرف ياقوتا عن الكوفه، وولاها احمد بن عبد الرحمن بن جعفر الى ان يصير إليها ابن ابى الساج. ولما راى المقتدر اجتهاد على بن عيسى قال: لقد استحييت من ظلمي قبل هذا له، وأخذي المال منه، وامر بان يرد عليه ذلك، وأحال به على الحسين بن احمد الماذرائى فاشترى على بن عيسى بالمال ضياعا، وضمها الى الضياع التي وقفها على اهل مكة والمدينة. وكان في ناحيه بنى الفرات رجل يعرف بابى ميمون الأنباري، قد اصطنعوه وأحسنوا اليه، فوجد له على بن عيسى ارزاقا كثيره، فاقتصر على بعضها، فهجاه الأنباري ومن شعره المشهور فيه عند وزارته هذه: قد اقبل الشؤم من الشام ... يركض في عسكر ابرام مستعجلا يسعى الى حتفه ... مدته تقصر عن عام يا وزراء الملك لا تفرحوا ... أيامكم اقصر ايام وكان على بن عيسى قد كتب الى ابن ابى الساج ان يقيم بالجبل، فلم يلتفت الى كتابه، وبادر بالاقبال الى حلوان يريد دخول بغداد، فكره اصحاب السلطان دخوله لها، وكتب اليه مؤنس في العدول الى واسط، وعرفه ان الأموال من ثم ترد عليه فصار الى واسط، وعاث اصحابه بها على الناس، وكثر الضجيج منهم والدعاء عليهم، فلم يغير ذلك، فقال الناس: من اراد محاربه عدوه عمل بالانصاف والعدل، ولم يفتتح امره بالجور والظلم، وانتصحه من عرفه فلم يقبل النصيحه وخرج ابن ابى الساج

الى القرمطى من واسط، فأبطأ في سيره وسبقه القرمطى الى الكوفه، ثم التقيا فهزمه القرمطى، واخذه أسيرا، وسار القرمطى يريد بغداد، فعبر جسر الأنبار، وخرج مؤنس المظفر ونصر الحاجب وهارون بن غريب الخال وابو الهيجاء ومعهم جيش السلطان يريدون القرمطى، وقد بلغهم رحيله اليهم، وبادر نصر اصحابه، واختلف رأيهم، وجزع اصحاب السلطان، وامتلأت قلوبهم رهبه للقرمطى، ووقفوا على قنطره تعرف بالقنطره الجديده، وأرادوا قطعها لئلا يجوز القرمطى اليهم، وتابعه اكثر اهل العسكر، فقطعت القنطرة فلما صار القرمطى واصحابه إليها رماهم اصحاب السلطان بالنشاب، ورأوا كثره الخلق، فرجعوا وتبددوا في الموضع، فعزم نصر على العبور اليهم ومناجزتهم فلم يدعه مؤنس ووجه السلطان الى الفرات بطيارات، وشميليات فيها جماعه من الناشبة، وعليهم سبك غلام المكتفي، فحالوا بين القرامطة وبين العبور وكان ثقل القرمطى وسواد عسكره بحيال الأنبار، وابن ابى الساج محبوس عندهم، فاراد نصر ان يحتال للعبور في السفن ليلا، وان يكبسوا السواد طمعا في تخليص ابن ابى الساج فحم نصر الحاجب حمى ثقيله اذهبت عقله يومين وليلتين، وشاع ما اراد ان يفعله وقدم مؤنس غلامه يلبق في نحو الفين، فعبروا الفرات ليلا ووافوا سواد القرمطى بالأنبار وكان يلبق في جيش عظيم، وسواد القرمطى في خيل يسيره، فانهزم اصحاب السلطان، واسر جماعه منهم، واسر ابن ابى الأغر في جملتهم فلما أتاهم القرمطى جلس لهم، وضرب اعناق جميعهم، ودعا بابن ابى الساج من الموضع الذى كان محبوسا فيه، فقال له: انا اكرمك وانوى الصفح عنك، وأنت تحرض على أصحابك! فقال له: قد علمت انى ما اقدر على مكاتبتهم ولا مراسلتهم، فأي ذنب لي في فعلهم! فقال له: ما دمت حيا فلأصحابك طمع فيك، فامر به فضربت عنقه. وفيها اتصل بمؤنس المظفر ان أم المقتدر عامله على قتله، وانها قد نصبت له من يقتله إذا دخل الدار، فاستوحش واحترس، وطلب الخروج الى الثغر، فأجيب الى ذلك، ثم اضطرب امره لما حدث من امر القرمطى

وفيها ورد الخبر بموت ابراهيم بن عبد الله المسمعي امير فارس، فخلع على ياقوت، وقلد مكانه، وولى محمد بن عبد الصمد كرمان. وحج بالناس في هذه السنه ابو احمد عبيد الله بن عبد الله بن سليمان من بنى العباس.

سنه ست عشره وثلاثمائة

ثم دخلت سنه ست عشره وثلاثمائة [أخبار متفرقة] (ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) فيها اوقع سليمان الجنابى القرمطى باهل الرحبه، وقتل منهم مقتله عظيمه، ووجه سريه الى ديار ربيعه، فاوقعت ببوادى الاعراب واستباحتها، ثم عادوا الى الرحبه، واستاقوا خمسه آلاف جمل ومواشى كثيره، وزحف القرامطة الى الرقة للإيقاع بأهلها، فحاربوهم أشد محاربه، ورموهم من اعالى دورهم بالماء والتراب والاجر ورموهم بسهام مسمومه، فمات منهم نحو مائه رجل وانصرفوا عنها مفلولين. ذكر القبض على على بن عيسى الوزير وولايه محمد بن على بن مقله الوزارة وفي هذه السنه قبض على على بن عيسى، ووكل به في دار الخليفة يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الاول، وتوجه هارون بن غريب الخال الى ابى على محمد بن على بن الحسن بن عبد الله المعروف بابن مقله، فحمله الى دار المقتدر بعد مراسلات كانت بينهما وضمانات فقلده المقتدر وزارته، وفوض اليه أموره، وخلع عليه الوزارة يوم الخميس لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، فاقر عبيد الله ابن محمد بن عبد الله الكلواذى على ديوان السواد، واقر الفضل بن جعفر بن محمد ابن موسى بن الفرات على ديوان المشرق، وانفذه ناظرا على اعمال فارس، وولى محمد ابن القاسم الكرخي ديوان المغرب- وكان قد قدم من ديار مضر- وقلد الوزير أخاه الحسن بن على ديوان الخاصة وديوان الدار الاصغر، الذى تنشأ منه الكتب بالزيادات والنقل، وقلد أخاه العباس بن على ديوان الفراتيه وديوان الجيش، واقر عثمان بن سعيد الصيرفى على ديوان الجيش الأصل، وابراهيم بن خفيف على ديوان النفقات،

واجرى الأمور احسن مجاريها، وامر الا يطالب احد بمصادره ولا غرم، ولا يعرض لصنائع احد، حتى اقر احمد بن جانى على ما كان يتقلده من ديوان اقطاع الوزراء، واجلس ابراهيم بن أيوب النصراني كاتب على بن عيسى بين يديه على رسمه، واقره على ديوان الجهبذه، وضمن امر الرجاله المصافيه الملازمين لدار الخليفة، وقد بلغت نوبتهم عشرين ومائه الف دينار في كل هلال فاستبشر الناس به، وسكنوا اليه، وأمنوا وانفسحت آمالهم، واتسعت هممهم، وتباشروا بأيامه ثم خلع في غره جمادى الاولى على ابى القاسم وابى الحسين وابى الحسن بنى ابى على محمد بن على الوزير لتقلد الدواوين، ثم خلع على محمد بن على بعد ذلك لتكنيه امير المؤمنين اياه. قال الصولي: ولا اعلم انه ولى الوزارة احد بعد عبيد الله بن يحيى بن خاقان مدح من الاشعار باكثر مما مدح به محمد بن على قبل الوزارة، وفي الوزارة، وبعد ذلك لشهرته في الشعر، وعلمه به واثابته عليه وظهر من ذكاء ابنه ابى الحسين واستقلاله بالأعمال، وتصرفه في الآداب وحسن بلاغته وخطه ما تواصفه الناس، وكان اكثر ذلك في وزارته الثانيه، حين انفجر عليه الشباب، وزالت الطفوله عنه قال: وما رأينا وزيرا مذ توفى القاسم بن عبيد الله احسن حركه ولا اظرف اشاره ولا اصلح خطا، ولا اكثر حفظا، ولا اسلط قلما، ولا اقصد بلاغه، ولا آخذ بقلوب الخلفاء من محمد بن على وله بعد هذا كله علم بالاعراب وحفظ باللغة وشعر مليح وتوقيعات حسان وولى الوزير ابنه أبا القاسم ديوان زمام القواد مكان عبيد الله بن محمد، وقلد ابنه أبا عيسى ديوان الضياع المقبوضة عن أم موسى والموروثه عن الخدم، واقر إسحاق بن اسماعيل على ما كان ضامنا له من اعمال واسط، وغير ذلك. وفي هذه السنه رجع القرمطى الى الكوفه، فخرج اليه نصر الحاجب محتسبا وانفق من ماله مائه الف دينار الى ما اعطاه السلطان، واعانه به واجتهد في لقاء القرمطى ونصحه الجيش الذين كانوا معه، وحسنت نياتهم في محاربه القرمطى. فاعتل نصر في الطريق، ومات في شهر رمضان، فحمل الى بغداد في تابوت وولى الحجابه مكانه ابو الفوارس ياقوت مولى المعتضد، وهو إذ ذاك امير فارس، فاستخلف له ابنه ابو الفتوح الى ان يوافى ياقوت.

ذكر الحوادث التي أحدثها القرامطة بمكة وغيرها

ذكر الحوادث التي أحدثها القرامطة بمكة وغيرها وفي هذه السنه سار الجنابى القرمطى لعنه الله الى مكة، فدخلها واوقع بأهلها عند اجتماع الموسم واهلال الناس بالحج، فقتل المسلمين بالمسجد الحرام، وهم متعلقون باستار الكعبه، واقتلع الحجر، وذهب به، واقتلع أبواب الكعبه وجردها من كسوتها، وأخذ جميع ما كان فيها من آثار الخلفاء التي زينوا بها الكعبه وذهبوا بدره اليتيم، وكانت تزن- فيما ذكر اهل مكة- اربعه عشر مثقالا، وبقرطى مارية، وقرن كبش ابراهيم، وعصا موسى، ملبسين بالذهب مرصعين بالجوهر، وطبق ومكبه من ذهب وسبعه عشر قنديلا، كانت بها من فضه وثلاث محاريب فضه كانت دون القامة منصوبه في صدر البيت، ثم رد الحجر بعد اعوام ولم يرد من سائر ذلك شيء. وقيل ان الجنابى لعنه الله صعد الى سطح الكعبه ليقلع الميزاب، وهو من خشب ملبس بذهب، فرماه بنو هذيل الاعراب من جبل ابى قبيس بالسهام حتى ازالوهم عنه، ولم يصلوا الى قلعه وظهر قرامطه يعرفون بالنفليه بسواد الفرات، ومعهم قوم من الاعراب من بنى رفاعة وذهل وعبس فعاثوا وأفسدوا، وكان عليهم رؤساء منهم يقال لهم عيسى بن موسى ابن اخت عبدان القرمطى ومسعود بن حريث من بنى رفاعة ورجل يعرف بابن الأعمى فاوقعوا وقائع عظيمه، وأخذوا الجزية ممن خالفهم على رسوم أحدثوها وجبوا الغلات، فانفذ المقتدر هارون بن غريب الى واسط فاوقع بهم، وقتل كثيرا منهم، وحمل منهم الى مدينه السلام مائتي اسير، فقتلوا وصلبوا. 4 وورد الخبر في شعبان بان الحسن بن القاسم الحسنى قام بالري ومعه ديلمى يقال له ما كان بن كاكى، وان العامل عليها هرب الى خراسان منه، ثم ورد الخبر في شوال باقبال ديلمى يقال له اسفار بن شيرويه من اصحاب الحسن بن القاسم الى الري أيضا، وان هارون بن غريب لقى اسفار هذا بناحيه قزوين، فهزمه اسفار وقتل اكثر رجاله وافلت هارون وحده، ثم تلاحق به من بقي من اصحابه وفيها ولى ابراهيم بن ورقاء اماره البصره وشخص إليها من بغداد، فما راى الناس في هذا العصر أميرا اعف منه

ولما صار هارون بن غريب الى الكوفه، قلد كور الجبل كلها وضم اليه وجوه القواد فقلد أبا العباس بن كيغلغ معاون همذان ونهاوند مكان محمد بن عبد الصمد، وقلد نحريرا الخادم الدينور مكان عبد الله بن حمدان، وخلع عليهما في دار السلطان، فاستوحش لذلك عبد الله بن حمدان، وكان هذا سبب معاونه عبد الله بن حمدان لنازوك عند ما احدثاه على المقتدر مما سيأتي ذكره. وفي هذه السنه ولى ابو عبد الله احمد بن محمد بن يعقوب بن إسحاق البريدى خراج الاهواز بعد اعمال كثيره تصرف فيها هو واخواه ابو يوسف وابو الحسين، فحمدت آثارهم، وشاعت كفايتهم، وحرص السلطان على اصطناعهم وزيادتهم فعلت أحوالهم، وزادت مراتبهم، وظهر من استقلال ابى عبد الله احمد بن محمد بالأعمال وقرب ماخذها عليه والمعرفة بوجوه النظر والاجتهاد في إرضاء السلطان ما تعارفه الناس وعلموه، مع تخرق في الكرم والسودد، وحسن الرعاية لمن خدمه، واتصل به ولمن امله وقصده، حتى انه لا يرضى لكل واحد منهم الا بغناه، فأحب السلطان ان يلى هو واخواه اكثر الاعمال الدنيا، فلم يحبوا ذلك، واقتصر كل واحد منهم على دون ما يستحق من الاعمال. وفيها ولى ابو الحسين عمر بن الحسن الأشناني قضاء المدينة مكان ابن البهلول إذ كبر واختلط عليه امره، ثم استعفى ابن الأشناني فاعفى، وولى الحسين بن عبد الله ابن على بن ابى الشوارب قضاء المدينة، وقلد ابو طالب محمد بن احمد بن إسحاق ابن البهلول قضاء الاهواز والأنبار، عوضا مما كان يليه أبوه من قضاء المدينة وفيها توفى ابو إسحاق بن الضحاك الخصيبى والليث بن على بالرقة. وحج بالناس في هذه السنه من تقدم ذكره.

سنه سبع عشره وثلاثمائة

ثم دخلت سنه سبع عشره وثلاثمائة (ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) فيها ثار بالمقتدر بعض قواده، وخلعوه وهتك الجند داره، ونهبوا ماله ثم اعيد الى الخلافه، وجددت له البيعه، وذلك ان مؤنسا المظفر لما قدم من الرقة عند اخراجه الى القرامطة، وقرب من بغداد، لقيه عبد الله بن حمدان ونازوك الحاجب، فاغرياه بالمقتدر، واعلماه بانه يريد عزله عن الإمارة وتقديم هارون بن غريب مكانه، لما تقدم ذكره من عزل المقتدر لابن حمدان عن الدينور مع استفساده الى نازوك فعمل ذلك في نفس مؤنس، ودخل بغداد أول يوم من المحرم وعدل الى داره، ولم يمض الى دار الخليفة، فوجه اليه المقتدر أبا العباس ولده ومحمد بن مقله وزيره، فاعلماه تشوقه اليه ورغبته في رؤيته، فاعتذر بعلة شكاها، وان تخلفه لم يكن الا بسببها، فارجف الناس بتكرهه الاقبال اليه، وتجمعت الرجاله المصافيه الملازمة بالحضرة الى باب داره، فواثبهم اصحابه، ودافعوهم، ووقع بنفس مؤنس ان الذى فعله الرجاله انما كان عن امر المقتدر، فخرج من الدار، وجلس في طيار وصار الى باب الشماسيه، وعسكر وتلاحق به اصحابه وخرج اليه نازوك في جميع جيشه، فعسكر معه، وذلك يوم الأحد لتسع خلون من المحرم ولما بلغ المقتدر ذلك ارتاع له، ووعده باخراج هارون بن غريب الى الثغر، وبذل له كل ما رجا به استمالته واذهاب وحشته وكتب المقتدر الى مؤنس واهل الجيش كتابا كان فيه: واما نازوك فلست ادرى سبب عتبة واستيحاشه، فو الله ما اعنت عليه هارون حين حاربه، ولا قبضت يده حين طالبه، والله يغفر له سوء ظنه واما عبد الله بن حمدان فلا اعرف شيئا احفظه الا عزله عن الدينور، وما كنا عرفنا رغبته فيها، وانما أردنا نقله الى ما هو اجل منها، وما لأحد عندي الا ما أحب لنفسه، فان اريد بي نقض البيعه، فانى مستسلم لامر الله، وغير مسلم حقا خصنى الله به، وافعل ما فعل

عثمان بن عفان رضى الله عنه ولا الزم نفسي حجه، لا آتى في سفك الدماء ما نهى الله عنه الا في المواطن التي حدها الله في الكافرين والبغاة من المسلمين ولست استنصر الا بالله، لما اؤمله من الفوز في الآخرة، وإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ. فلما قرئ كتاب المقتدر في العسكر وثب وجوه الجيش، وقالوا: نمضي الى دار الخليفة لنسمع منه ما يقول وبلغ ذلك المقتدر، فاخرج عن الدار كل من كان يحمل سلاحا، وجلس على سريره، وفي حجره مصحف يقرا فيه، واقام بنيه حوالى نفسه، وامر بفتح الأبواب، والا يمنع احد الدخول فلما علم ذلك مؤنس المظفر اقبل الى باب الخاصة ليعرف الحقيقة، ويستقرب مراسله الخليفة ثم كره ان يدخل عليه فيحدث من الأمر مالا يتلافاه فامر الحجاب بان يرجعوا الى الدار، والزم معهم قوما من اصحابه، وصرف الناس الى منازلهم على حال جميله، وكلهم مسرور بالسلامة، ورجع هو الى داره ليزيد بذلك في تسكين الناس وتطييب نفس الخليفة، وذلك يوم الاثنين لعشر خلون من المحرم. فلما كان يوم الخميس لثلاث عشره خلت منه عاد اصحاب نازوك وسائر الفرسان الى الركوب في السلاح، وساروا الى دار مؤنس المظفر فاخرجوه عن كره منه الى المصلى العتيق، وغلبه نازوك على التدبير، واستأثر بالأمر، وباتوا في تلك الليلة على هذه الحال فلما اصبح نازوك ركب والناس معه في السلاح الى دار السلطان، فوجدوا الأبواب مغلقة، فاحرقوا بعضها ودخلوا الدار، وقد تكامل على بابها من الفرسان نحو اثنى عشر ألفا فلما سمع المقتدر نفيرهم دخل هو وولده داخل القصر، ونزل محمد بن مقله الى دجلة، فركب طيارة، وصار الى منزله، وتقحم نازوك واصحابه دخول الدار على دوابهم الى ان صاروا الى مجالس الخليفة، وهم يطلبونه ويكشفون عنه فلما راى مؤنس ذلك دخل الدار، وسال بعض الخدم عن المقتدر، فاعلمه بمكانه، فاحتال في اخراجه واخراج أمه وولده ووجه معهم ثقاته الى داره ليستتروا فيها، واخرج على بن عيسى من المكان الذى كان محبوسا فيه، فصرفه الى منزله، واخرج الحسين بن روح- وكان محبوسا أيضا بسبب مال طولب به-

فصرفه الى منزله، ونهب الجند الدار ومحوا رسوم الخلافه وهتكوا الحرمه، وصاروا من أخذ الجوهر والثياب والفرش والطيب الى مالا قدر له ثم وكل مؤنس اصحابه بالقصر وابوابه، واجمع راى نازوك وعبد الله بن حمدان على اقعاد محمد بن المعتضد للخلافة، واحضروه الدار ليله السبت، وحضر معهما مؤنس المظفر، ودعا لمحمد بن المعتضد بكرسي، وخاطبه ثم انصرف مؤنس الى داره، واقام نازوك في الدار إذ كان يتولى الحجابه مع الشرطه، وانصرف عبد الله بن حمدان الى منزله، ووجه نازوك بالليل من نهب دار هارون بن غريب الخال بنهر المعلى وداره بالجانب الغربي، واحرقنا جميعا، ونهبت دور الناس طول ليله السبت، فكانت من اشام الليالى على اهل بغداد، وافلت كل لص وجانى جناية ومقتطع مال، وفتقوا السجون التي كانوا فيها، وافلت من دار السلطان عبد الله صاحب الجنابى، وعيسى بن موسى الديلمى وغيرهما من اهل الجزائر. ثم اصبح الناس على مثل ذلك الى ان ركب نازوك واظهر الانكار لما حدث من النهب، وضرب اعناق قوم وجد معهم امتعه الناس، فكف الأمر قليلا، وسمى محمد بن المعتضد القاهر بأمر الله، وسلم عليه بالخلافة، ووجه القاضى محمد بن يوسف وجماعه معه الى دار مؤنس المظفر ليجبروا المقتدر على الخلع، فامتنع من ذلك. ثم ان الرجاله المصافيه طالبوا بست نوب وزياده دينار، وكان يجب لهم في كل نوبه مائه وعشرون الف دينار عين، إذ كانوا في عشرين الف راجل، وكان عدد الفرسان اثنى عشر ألفا، ومبلغ مالهم في كل شهر خمسمائة الف دينار فضمن نازوك ثلاث نوب للرجاله، ودافعهم عن الزيادة، فقالوا: لا نأخذ الا الست نوب والدينار الزائد، واخر نازوك إعطاء الجند، إذ لم يجتمع له المال، وألحوا في قبضه فلم يعطوا شيئا يوم السبت ولا يوم الأحد، وبكر الرجاله يوم الاثنين الى الدار للمطالبة بالمال، فدخل نازوك وخادمه عجيب الصقلبى الى الصحن المعروف بالشعيبى ودخل الرجاله الى الدهليز يشتمون نازوك، ويغلظون له، ويتواعدونه، لتاخيره العطاء والزيادة عنهم. ثم انهم هجموا في الدار، وثاروا على نازوك لعداوتهم له وحربهم له في أول امارته فقتلوا عجيبا خادمه، وكان نازوك قد سد الطرق والممرات التي كانت في دار السلطان تحصينا على نفسه واستظهارا على امره فلما راى فعل الرجاله وايقن بالشر دخل

ذكر صرف المقتدر إلى الخلافه

ليهرب من بعض الممرات، فوجدها مسدودة، ولحقه رجل من الرجاله اصفر يقال له مظفر وآخر يقال له سعيد بن يربوع، ويلقب بضفدع، فقتلاه ثم صلب جسده من وقته على بعض ادقال الستائر التي تلى دجلة، وصاحوا: لا نريد الا خليفتنا المقتدر بالله، ووثب القاهر مع جماعه من خدمه فخرج من بعض أبواب القصر، وجلس في طيار، ومضى الى موضعه في دار ابن طاهر. قال الصولي: ونحن نرى ذلك كله من دجلة، ونهبت دار نازوك في ذلك الوقت، ودار بنى بن نفيس وقد قيل ان مؤنسا المظفر لما راى غلبه نازوك على الأمر وجه ليله الاثنين الى نقباء الرجاله فواطاهم على ما فعلوه، وكان لا يريد تمام خلع المقتدر، ولذلك ما ستره ولم يبت عنه منذ ادخله داره وكان عبد الله بن حمدان في الوقت الذى قتل فيه نازوك بين يدي القاهر وهو يراه خليفه، فلما هرب القاهر طلب ابن حمدان من بعض الغلمان جبه صوف كانت عليه، وضمن له مالا، فلبسها وبادر يريد بعض الأبواب، فندر به قوم من الغلمان والخدم، فما زالوا يرمونه بالنشاب حتى قتلوه واحتزوا راسه. سنه 317 ذكر صرف المقتدر الى الخلافه واخرج مؤنس المظفر المقتدر بالله وساله الرجوع الى الدار، والظهور للناس فاستعفاه من ذلك فلم يدعه حتى رده في طيارة، مع خادمه بشرى، فلما صعد القصر سال عن عبد الله بن حمدان، فاخبر بقتله، فساءه ذلك، وكان قد صح عنده انه لم يرد من أول امره ما اراده نازوك، ولا ظن الحال تبلغ حيث بلغت ثم ان المقتدر قعد للناس، وخاطبهم بنفسه، وقال للرجاله: لكم على ست نوب وزياده دينار، وقال للغلمان: لكم على ارزاق اربعه اشهر، وقال لسائر الجند: لكم على ارزاق اربعه اشهر وزياده خمسه دنانير لكل واحد منكم، وما عندي ما يفى بهذا ولكنى أبيع ما بقي من ثيابي وفرشي وأبيع ضياعي وضياع من يجوز عليه امرى، فبايعه الناس بيعه مجدده

أخبار متفرقة

واجتهد في توفيتهم ما ضمنه لهم، وصرف أواني الذهب والفضه، ثم اعجلوه عن صرفها فكان يزنها لهم مكان الدنانير والدراهم ووفى بكل الذى ضمنه، وكان القاهر لما اقعد للخلافة قد احضر محمد بن على الوزير يوم السبت ويوم الأحد، وامره ان يجرى الأمور مجاريها، فلم يحدث شيئا ولا حاول امرا فلما عاد المقتدر الى حالته احضره وشكر ما كان منه، فكتب محمد بن على الى جميع الأمراء والعمال والاطراف بما جدده الله للمقتدر بالله، وكفاه اياه، وارتجل الكتاب إملاء بلا نسخه، فاحسن فيها وأجاد. واضطربت الأمور ببغداد الى ان ولى المقتدر شرطته ابراهيم ومحمد ابنى رائق مولى المعتضد، وخلع عليهما، وذلك بمشوره مؤنس المظفر وعن امره، فقاما بالأمر احسن قيام وضبطا البلد أشد ضبط، وطاف كل واحد منهما بالليل في جانبه من بغداد، وكان اكثر الضبط لمحمد فهو الذى كان يقيم الحدود، ويستوفى الحقوق وكانت في ابراهيم رحمه ورقه قلب. وقدم ياقوت من فارس في غره شهر ربيع الاول، فخلع عليه للحجابه وعلى محمد ولده لسبب هزيمتهم للسجستانيه بكرمان، وولى الاعمال جماعه ممن اشار بهم مؤنس ومحمد بن على ولم يف مال المقتدر والانيه التي احضرها بارزاق الجند، فامر بارتجاع ما كان اقطعه الناس من الأموال والضياع والمستغلات، وافرد لها ديوانا، وقلد الوزير ابن مقله ذلك الديوان عبد الله بن محمد بن روح، وسمى ديوان المرتجعة، فتقلده في آخر المحرم، فعسف عليه الجند بالمطالبة بالمال، فاستعفى الوزير فأعفاه وقلد مكانه الحسين بن احمد بن كردى الماذرائى ووردت الاخبار باستيلاء العدو على الثغور الجزرية، ونصبهم في كل مدينه رجلا منهم لقبض الجبايه، فاخرج السلطان طريفا السبكرى لدفعهم، وكتب الى من قارب تلك الناحية ان يسيروا معه. وورد الخبر بان اصحاب ابى مسافر اضطربوا عليه باذربيجان، فزال عنهم الى المراغه، فحصروه بها حتى قتلوه، وتراضوا على قائد منهم اسمه مفلح، فراسوه عليهم، وترددت الأنباء الشاغله الغامه. [أخبار متفرقة] وتوفى في هذا العام ابو الحسين بن ابى العباس الخصيبى والحسين بن احمد الماذرائى بمصر، وتوفيت ثمل القهرمانه التي كانت مع والده المقتدر

وفيها توفى ابو القاسم ابن بنت منيع المحدث، وهو ابن مائه سنه وثلاث سنين، مولده سنه اربع عشره ومائتين. وتوفى نحرير الصغير بالموصل وكان يتولى معونتها. وتوفى ابو معد نزار بن محمد الضبي. وكان نصب الحج للناس في هذه السنه عمر بن الحسن بْن عبد العزيز بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ العباس، خليفه لأبيه الحسن بن عبد العزيز فصده الجنابى عن الحج.

سنه ثمان عشره وثلاثمائة

ثم دخلت سنه ثمان عشره وثلاثمائة (ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) [أخبار متفرقة] فيها اقبل مليح الأرميني الى ناحيه شمشاط للغارة على أهلها، فخرج اليه نجم غلام جنى الصفواني، وكان يلى المعاون بديار مضر، ويتولى اعمال الرقة، فاوقع بمليح وباصحابه وقيعه عظيمه، فانفذ ابنا له يقال له منصور، ويكنى أبا الغنائم الى الخليفة ببغداد بأربعمائة اسير منهم عشره رؤساء مشاهير، فادخلهم بغداد في شهر ربيع الأول من هذه السنة مشاهير على الجمال 4. وفي هذه السنه خرج اعراب بنى نمير بن عامر وبنى كلاب بن ربيعه فعاثوا بظهر الكوفه، واستطالوا على المسلمين، وأخافوا السبيل، فخرج اليهم ابو الفوارس محمد بن ورقاء امير الكوفه في جمع من اشراف الكوفه وبنى هاشم العباسيين والطالبيين ولم يكن معه جند سواهم فقاتل الاعراب بنفسه، وصبر لمحاربتهم فأسروه وأسروا معه ابن عمر العلوي وابن عم شيبان العباسي من ولد عيسى بن موسى، وسار بهم الاعراب في اخبائهم، ولم يجسروا على إيقاع سوء بهم فطلبوا منهم الفداء فاجابوهم اليه، وفدوا انفسهم وتخلصوا منهم. وفيها خلع على عبد الله بن عمرويه، وقلد شرطه البصره مكان محمد بن القاسم بن سيما، وخلع على على بن يلبق لمعاون النهروان وواسط مكان سعيد بن حمدان، فخرج الى واسط، وبلغه ان إسحاق الكردى المعروف بابى الحسين، خرج لقطع الطريق على عادته، ومعه جمله من الأكراد، فراسله على ولاطفه، ووعده تقديم السلطان له على جميع الأكراد فاقبل اليه وبات عنده وخلع عليه وحمله ثم صرفه الى عسكره ليغدو عليه في اليوم الثانى، واجتمع رؤساء اهل واسط الى على، فعرفوه بما قد هياه الله له في

ذكر الإيقاع بجند الرجاله ببغداد

الكردى وانه لو انفق مائه الف دينار لما تمكن ما تمكن منه فيه، وانه ان افلت من يديه انكر السلطان ذلك عليه فلما بكر الكردى الى على بن يلبق تقبض عليه وعلى من كان معه، وركب من وقته الى موضع عسكره، فقتل منهم خلقا واسر جماعه وادخل ابو الحسين الى بغداد مشهورا، ومعه اربعه عشر رجلا بين يدي يلبق المؤنسى وابنه على، وذلك لثمان خلون من جمادى الاولى، فحبسوا ولم يقتلوا وفيها خلع على محمد بن ياقوت وولى شرطه بغداد على الجانبين مكان ابراهيم ومحمد ابنى رائق المعتضدي، وقلد الحسبه. ذكر الإيقاع بجند الرجاله ببغداد ومن الحوادث في هذه السنه التي عظمت بركتها على السلطان والمسلمين، ان الرجاله المصافيه لما قتلوا نازوك، وتهيأ لهم ما فعلوه في امر المقتدر، وقبضوا الست النوائب والزيادة التي طلبوها، ملكوا امر الخلافه، وضربوا خياما حوالى الدار. وقالوا: نحن اولى من الغلمان بحفظ الخليفة وقصره، وانضوى اليهم من لم يكن منهم، وزادت عدتهم على عشرين ألفا، وبلغ المال المدفوع اليهم لكل شهر مائه الف وثلاثين الف دينار، وتحكموا على القضاه، وطالبوهم بحل الحباسات واخراج الوقوف من ايديهم، واكتنفوا الجناة، وعطلوا الأحكام، واستطالوا على المسلمين، وتدلل قوادهم على الخليفة وعلى الوزير، حتى كان لا يقدر ان يحتجب عن واحد منهم في اى وقت جاء من ليل او نهار، ولا يرد عن احد حاجه كائنا ما كانت، فلم يزالوا على هذه الحال الى ان شغب الفرسان، وطلبوا أرزاقهم، وعسكروا بالمصلى، ودخل بعضهم بغداد يريد دار ابى القاسم بن الوزير محمد بن على فلما قربوا منها دافعهم الرجاله الذين كانوا ملازمين بها، ومنعوهم الجواز في الشارع، فتجمع الفرسان، ورشقوهم بالنشاب، وقتلوا منهم رجلا، فانهزم الرجاله اقبح هزيمه، فطمع الفرسان حينئذ فيهم، وافترصوا ذلك منهم، وراسلوا الغلمان الحجريه في امرهم وتأمروا معهم على الإيقاع بهم

كتاب على بن مقله إلى القواد والعمال

وبلغ محمد بن ياقوت صاحب الشرطه الخبر، فحرص على نفاذه، واغرى الفرسان بالعزم فيه، وسفر في الأمر واحكمه، وأومى اليهم الوزير بوجه الرأي فيه، ودبره من حيث لا يظن به، إذ علم ما في نفس الخليفة عليهم من الغيظ لقبيح ما كانوا يحدثونه عليه فوثب الغلمان الحجريه يوم الأربعاء لثمان ليال بقين من المحرم بالرجاله المصافيه وطردوهم عن المصاف، ورشقوهم بالنشاب، فانصرفوا منهزمين، واخرج ابن ياقوت صاحب شرطه بغداد غلمانا كثيرا في طيارات وتقدم اليهم الا يتركوا رجلا يعبر من جانب الى جانب الا قتلوه، ولا ملاحا يجيز احدهم الا رموه بالنشاب، واخافوه ومنعوا من عبور الجسر، والح عليهم بالطلب، ونودى فيهم الا يبقى ببغداد منهم احد، واعانت عليهم العامه، وانطلقت فيهم الأيدي، فلم يجتمع منهم اثنان، وحظر عليهم الا يخرجوا الى الكوفه والبصره والاهواز، فتخطفوا في كل وجه واميحوا بكل مكان، فهل ترى لهم من باقيه، وقصد الفرسان مع العامه الى الموضع الذى كان فيه مستقر السودان بباب عمار، فنهبوهم واحرقوا منازلهم، فطلبوا الامان، وسألوا الصفح، فرفع عنهم القتل وحبس منهم الوجوه واسقطت عنهم الجرايات. كتاب على بن مقله الى القواد والعمال وكتب الوزير محمد بن على بن مقله فيهم نسخه انفذت الى القواد والعمال وهي: بسم الله الرحمن الرحيم: قد جرى اعزك الله من امر الرجاله المصافيه بالحضرة ما قد اتصل بك، وعرفت جملته وتفصيله وجهته وسبيله، وقد خار الله عز وجل لسيدنا امير المؤمنين وللناس بعده بما تهيأ من قمعهم وردعهم، خيره ظاهره متصله بالكفاية الشامله التامة بمن الله وفضله، ولم ير سيدنا ايده الله استصلاح احد من هذه العصبة الا السودان فإنهم كانوا اخف جناية، وايسر جريره، فراى اعلى الله رايه اقرارهم على أرزاقهم القديمه، وتصفيتهم بالعرض على المحنة لعلمه ان العساكر لا بد لها من رجاله وامر اعلى الله امره، ان يستخدم بحضرته من تؤمن بائقته وتخف مؤنته، وترجى استقامته

ذكر صرف ابن مقله عن الوزارة وولايه ابن مخلد

وبالله ثقه امير المؤمنين وتوفيقه، وقبلك وقبل مثلك رجاله أنت اعلم بمن مرضت طاعته منهم، ومن يعود الى صحه وصلاح، فان قنع من ترضاه منهم بأصل الجاري عليه فتمسك به واقره على جاريه، ومن رايت الاستبدال به فأمره إليك والله المستعان. ذكر صرف ابن مقله عن الوزارة وولايه ابن مخلد وفي جمادى الاولى يوم الأربعاء لاربع عشره ليله بقيت منه صرف محمد بن على ابن مقله عن الوزارة، ووكل به في الدار، وحبس فيها، واحضر محمد بن ياقوت صاحب الشرطه أبا القاسم سليمان بن الحسن بن مخلد، فوصل الى الخليفة وقلده وزارته، وخلع عليه، ومضى في الخلع التي كانت عليه الى الدار التي كان يسكنها ابن الفرات والوزراء بعده ثم نزل منها الى طيارة، ومضى الى منزله، فاقر عبيد الله الكلواذى على دواوين السواد والاهواز وفارس وكرمان، واقر كثيرا ممن كان على سائر الدواوين وقلد ابنه احمد بن سليمان ديوان المشرق، واستخلف له عليه من يتولاه له، وقلد ابنه أبا محمد ديوان الفراتيه، وقلد أبا العباس احمد بن عبيد الله الخصيبى الاشراف على اعمال فارس وكرمان، ورد التدبير اليه فكان يعزل ويولى، وقلد أبا بكر محمد بن على الماذرائى اعمال مصر، فسار سيره جميله، وعضده على بن عيسى برايه، وكان على يجلس للمظالم منذ خرج من الحبس الى وقته ذلك، ثم اتصل قعوده مده. وفي جمادى الآخرة من هذا العام شغب الفرسان وصاروا الى دار على بن عيسى، فنهبوا اصطبله وقتلوا عبد الله بن سلامه حاجبه 4. ثم ان الرجاله السودان طلبوا الزيادة على ما كان رسم لهم، وشغبوا وحملوا السلاح، فسار اليهم محمد بن ياقوت ورفق بهم، ودارى امرهم فلم يقنعهم ذلك، وبقوا على حالهم، وامتدوا الى الفرسان وقاتلوهم فتقدم اليهم سعيد بن حمدان وجماعه من اصحاب ابن ياقوت، ورشقوهم بالنشاب وادخلوا الى منازلهم النار فهربوا الى النهروان وقطعوا الجسر بعد ان قتل منهم خلق كثير، ثم ساروا الى واسط، وتجمع اليهم خلق كثير من البيضان، ولحق بهم جماعه من قوادهم، وراسهم نصر الساجي، وطالبوا عمال ذلك

أخبار متفرقة

الجانب بالأموال، فندب السلطان للشخوص اليهم مؤنسا المظفر، فخرج اليهم ورفق بهم ودعاهم الى القناعه بما رسمه السلطان لهم، فأبوا ولجوا في غيهم، واجتمعوا في مصلى واسط من الجانب الغربي، وحفروا الابار حوالى عسكرهم، وفجروا المياه، وأقاموا النخل المقطوع منصوبه في الطريق المسلوكه اليهم ليمنع الخيل من التقحم عليهم، فعبر مؤنس حتى نزل بقربهم، ثم سار اليهم بمن كان معه على الظهر وفي الماء على مخاضه وجدوها، ووضعوا فيهم السيف، فقتل اكثرهم، وغرق بعضهم واسر رئيسهم نصر الساجي، وأخذ ابن ابى الحسين الديراني واستامن بعض السودان، فنقلهم مؤنس وفرقهم في النواحي، واقر على بن يلبق على شرطه واسط وكانت هذه الوقيعه لخمس بقين من رجب، ورجع مؤنس الى بغداد لعشر بقين من شعبان. [أخبار متفرقة] وفي هذه السنه اسر الحسن بن حمدان شاريا خرج بكفر غرثا، يقال له: غزون، وانفذه الى السلطان، فحمل على فيل، وادخل بغداد مشهورا ثم حبس، وذلك في ذي الحجه. وقبل ذلك بشهر ما وجه ابو السرايا نصر بن حمدان بن سعيد بن حمدان شاريا خرج بالرادفيه من موالي بجيله، فادخل بغداد على فيل وبين يديه ولدان له على جملين ومائه راس من رءوس اصحابه، وسار رجل من وجوه البرابر يعرف بابى شيخ الى دار السلطان في ذي القعده، فذكر ان جماعه من وجوه القواد والكتاب قد بايعوا أبا احمد محمد بن المكتفي بالله، واستجاب له نحو ثلاثة آلاف رجل من الجند، فامر السلطان بحفظ ابن المكتفي بالله في داره، وانتشر خبر ابى شيخ فخيف عليه ان يقتله الجند، فبعث الى الجبل الى ابن الخال ليكون في جيشه. وورد الخبر في ذي القعده بوقوع الحرب بالبصرة بين البلاليه والسعديه، وان عبد الله بن محمد بن عمرويه والى المعونة بها اعان البلاليه فهزموا السعديه واحرقوا محالهم، فاخرجوا من البصره ثم ردوا إليها بعد مده عن سؤال منهم وتضرع. قال الصولي: ولما ورد الخبر بذلك، كتب على بن عيسى الى اهل البصره في ذلك كتابا بليغا ينهاهم فيه عن العصبية ويعرفهم سوء عاقبتها، فدخلت اليه وهو يملى الكتاب،

فلما اوعب املاءه امر كاتبه بدفعه الى لأقرأه قال: فحسن عندي الكتاب، وقلت له: قد كان لإبراهيم بن العباس كتاب في العصبية فقال لي: ما اعرفه، فما هو؟ قلت: حدثنى عون بن محمد الكندى قال: قدم علينا بسر من راى كاتب من اهل الشام، يقال له عبد الله بن عمرو من بنى عبد كان المصريين، فجعل يستصغر كتاب سر من راى، ولا يرضى احدهم قال عون: فحدثت ابى بحديثه فانف من ذلك، وقال: والله يا بنى لاضعفنه ولاهونن نفسه اليه فمضى به الى ابراهيم بن العباس، وادخله عليه، وهو يملى رساله في قتل إسحاق بن اسماعيل، وفيها ذكر العصبية، فسمع الشامي ما اعجبه، وقال لأبي: هذا من لم تلد النساء مثله فانى سمعته يملى شيئا كأنه فيه تدبر مبين قال عون فنسخ ابى ما املاه من الرسالة وهو: وقسم الله عدوه اقساما ثلاثة: روحا معجلة الى عذاب الله، وجثه منصوبه لأولياء الله، وراسا منقولا الى دار خلافه الله، استنزلوه من معقل الى عقال، وبدلوه آجالا من آمال، وقديما غذت العصبية أبناءها، فحلبت عليهم درها مرضعه، وركبت بهم مخاطرها موضعه، حتى إذا وثقوا فآمنوا وركبوا فاطمأنوا وامتد رضاع، وآن فطام، فجرت مكان لبنها دما وأعقبتهم من حلو غذائها مرا، ونقلتهم من عز الى ذل، ومن فرحه الى ترحه، ومن مسره الى خسره، قتلا واسرا، وغلبه وقسرا، وقل من وأضع في الفتنة مرهجا، واقتحم لهبها مؤجحا الا استلحمته آخذه بمخنقه، وموهنه بالحق كيده، حتى جعلته لعاجله جزرا ولأجله حطبا، وللحق موعظه وعن الباطل مزجره، أولئك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وما الله بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ*. وورد الخبر في ذي الحجه بوثوب اصحاب اسفار بن شيرويه الديلمى المتغلب على الري عليه، واعتزامهم على قتله، وانه هرب في نفر من خاصته وغلمانه، فصار مكانه الى الري ديلمى يقال له مرداويج بن زيار

ومن الحوادث في هذه السنه ان الحريق وقع ليله الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الاولى في دار محمد بن على بن مقله التي كان بناها بالزاهر على شاطئ دجلة، ويقال انه انفق فيها مائتي الف دينار، فاحترقت بجميع ما كان فيها، واحترقت معها دور له قديمه، كان يسكنها قبل الوزارة، وانتهب الناس ما بقي من الخشب والحديد والرصاص، حتى صارت مستطرقا للسابلة من دجلة، وبطل على السلطان ما كان يصير اليه من اجارات الزاهر، وذلك جمله وافرة في السنه، ثم امر السلطان بسد أبوابها ومنع السابلة من تطرقها، وتحدث الناس بان محمد بن ياقوت فعل ذلك لضغن كان لمحمد بن على بن مقله عنده في قلبه. وفيها خلع المقتدر على ابنه ابى عبد الله هارون لتقلد فارس وكرمان يوم الاثنين لست بقين من شوال، وركب في الخلع الى داره المعروفه بجراده، بقرب الجسر، وكان المقتدر قد ثقف ولده هذا بنصر الحاجب، وجعله في حجره، فلما مات نصر تكفل امره ياقوت كما كان يتكفله نصر قبله، الا ان نصرا كان يهدى له، ويتقرب اليه. قال الصولي: انا شهدت نصرا الحاجب قد اشترى ضيعه على نهر ديالى والنهروان يقال لها قرهاطيه، كانت للنوشجانى، فاشتراها حصصا واقساما وقامت عليه بثمانية عشر الف دينار، ثم أهداها الى ابى عبد الله بن المقتدر، وهي تساوى ثلاثين الف دينار، وصنع له فيها ولأخيه ابى العباس يوم أهداها اليه وخرجا معه إليها في وجوه القواد والغلمان، فأقاموا بها يومين، وانفق عليهم نصر مالا جسيما، ووصل الغلمان والخدم بصلات سنيه، وحمل بعضهم على خيل بسروجها ولجمها، قال: وحكى لي بعض وكلائه انه احصى ما ذبح في هذين اليومين من حمل وجدي وطير وغير ذلك من صنوف الدراج والطائر فبلغ ذلك اربعه آلاف راس. قال الصولي: ولما خلع على ابى عبد الله هارون للولاية، وصح عزمه على الخروج، دعانى الى المسير معه والكون في عديد صحبه، فكره ذلك الأمير ابو العباس بن المقتدر، فاعتلك على ابى عبد الله، فغضب على وقطع اجراءه عنى قال: ثم بلغنى ان خروجه غير تام، فكتبت اليه بقصيده فيها تشبيب حسن ومديح مثله. واجتلب الصولي جميع القصيده في كتاب الورقه الذى الفه باخبار الدولة، فرايت

اثبات ابيات منها في هذا الكتاب ليستدل بمباطنه الصولي لهم، على علمه باخبارهم، وحفظه لما جرى في ايامهم، فليس المخبر الشاهد كالسامع الغائب، ومن قصيده الصولي: ظلم الدهر والحبيب ظلوم ... اين من ذين يهرب المظلوم عطفت باللقاء ريح بعاد ... فاستهلت على فؤادى الهموم يا سقيم الجفون اى صحيح ... لم يدعه هواك وهو سقيم احرام عليك وصلى أم السائل ... وصلا مباعد محروم قد كتمت الهوى واصعب شيء ... ان تاملته هوى مكتوم فمتى اخصم الحبيب وايامى ... بما يشتهى على خصوم لأبي عبد الله هارون عندي ... حادث من فعاله وقديم هو بدر السماء يطلع في سعد ... المعالى والناس فيها نجوم ورث المجد عن خلائف غر ... سبعه ما يعد فيهم بهيم يا نسيم الحياه أنت لايامى ... إذا ما ركدن عنى نسيم قد تذوقت منك طعم نوال ... مثله لا عدمته معدوم لا تكلني الى شواهد ظن ... ليس يقضى بها على عليم ليس تمضى الا ومن اتهمت ... ناج مما ظننت سليم فانا الان راحل ان ترحلت ... وثاو إذا اقمت مقيم ارنى للرضا علامه انصاف ... فدهرى وقد كفاك غسوم نظم هذا المديح ان انصفوه ... لا يدانيه لؤلؤ منظوم قد اتى ساحبا ذيول المعالى ... فيك والمدح بالنوال زعيم وفيها مات ابو بكر محمد بن ابراهيم بن المنذر بن الجارود النيسابورى بمكة يوم الأحد انسلاخ شعبان. وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الحسن العباسي.

سنه تسع عشره وثلاثمائة

ثم دخلت سنه تسع عشره وثلاثمائة (ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) [أخبار متفرقة] قال ابو محمد عبد الله بن احمد الفرغاني في كتابه الذى وصل به كتاب محمد بن جرير الطبرى، وسماه المذيل: في هذه السنه في المحرم منها طالب قوم من الفرسان ببغداد الوزير سليمان بن الحسن بأرزاقهم، وشتموه واغلظوا له، فرماهم غلمانه بالأجر من اعالى الدار، وقتلوا رجلا من الأولياء فهجموا في الدار بعد ان احرقوا الباب. فخرج الوزير على باب ثان، وجلس في طيار، وسار الى دار على بن عيسى. فانصرفوا عن بابه. وفيه قلد ابراهيم بن بطحا الحسبه بمدينه السلام. وفي صفر ورد بغداد مؤنس الخادم الورقانى، منصرفا من الحج بالناس سالمين، فأظهر اهل مدينه السلام لذلك السرور والفرح، ونشروا الزينة في الاسواق، واخرجوا الثياب والحلى والجواهر، ونصبت القباب في الشوارع، وخلع السلطان على مؤنس واوصله نفسه وخلع على جماعه معه، وذلك يوم الخميس لعشر خلون من صفر، فذكر الحاج انها لحقتهم مجاعه عظيمه في الطريق، إذ كانت خاليه من العمارة، وكاد يأكل بعضهم بعضا من الجوع. وللنصف من صفر قصد الشطار واهل الزعارة من العامه دار الخليفة فاحرقوا باب الميدان، ونقبوا في السور، وصعد الخليفة الى المجلس المثمن ومعه يلبق وسائر الغلمان، فضمن لهم يلبق ازاحه عللهم والانفاق عليهم، فانصرفوا ثم شغبوا بعد ذلك وقصدوا دار ابى العلاء سعيد بن حمدان فحوربوا منها، وقتل منهم رجل فانصرفوا وبكروا إليها من الغد، وقد كان ابو العلاء وضع حرمه وجميع ما يملكه في الزوارق داخل الماء، فلم يصلوا الى ما املوه منه، فاحرقوا بابه وصاروا الى السجون والمطبق ففتحت بعد محاربتهم لمن

كان يمنع منها وقتل من طلاب الفتن من العامه خلق كثير وقعدوا بعد ذلك في مجلس الشرطه، وقتلوا رجلا يعرف بالذباح قيل انه ذبح ابن النامي، فلما اصبح الناس ركب ابن ياقوت اليهم زورقا، وبعث باصحابه وغلمانه على الظهر، ثم وضع السيف والنشاب في اهل الزعارة من العامه، فلم يزل القتل يأخذهم من رحبه الحسين الى سوق الصاغه بباب الطاق، فارتدع الناس وكفوا. وفي آخر صفر خرج طريف السبكرى الى الثغر غازيا، وخرج في ربيع الاول نسيم الخادم الشرابي الى الثغر أيضا، وشيعه مؤنس المظفر. وخرج من الفسطاط بمصر احد عشر مركبا للغزو في البحر الى بلاد الروم، وعليها ابو على يوسف الحجري. وفي هذه السنه اجتمع نوروز الفرس والشعانين في يوم واحد، وذلك يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الاول، وقل ما يجتمعان. ولثمان بقين منه خلع على ابى العلاء بن حمدان، وقلد ديار ربيعه وما والاها، وتقدم اليه بالغزو، وفيه تقلد اعمال البصره ابو إسحاق وابو بكر ابنا رائق. 4 وفي شهر ربيع الآخر من هذه السنه ورد الخبر بان الاعراب صاروا في جمع كثير الى الأنبار فأفسدوا وقتلوا، فجرد اليهم على بن يلبق في جيش كثيف، وخرج يلبق أبوه في اثره، فلحقوهم وواقعوهم يوم الأحد لثلاث عشره ليله بقيت منه بعد حرب شديده، وانهزم الاعراب، فقتلوا منهم وأسروا وغنم الأولياء غنيمه عظيمه. وفي ربيع الآخر وقع حريق في مدينه الفسطاط بموضع يقال له خولان نهارا فذهبت فيه دور بنى عبد الوارث وغيرها. ولاربع عشره ليله بقيت من جمادى الاولى ادخل الى مدينه السلام خمسه وسبعون رجلا من الأرمن، وجه بهم بدر الخرشنى ممن حارب، فشهروا وطيف بهم، وادخل أسارى القرامطة الخارجين بسواد الكوفه بعث بهم بشر النصرى وهم نحو مائه فشهروا وطوفوا بمدينه السلام. وفي جمادى الآخرة من هذه السنه ازدادت وحشه مؤنس المظفر من ياقوت وولده،

ودارت بينهم مدافعات، فصرف ابن ياقوت عن الشرطه، ورد امرها بالجانب الشرقى الى احمد بن خاقان، وبالجانب الغربي الى سرور مولى المقتدر. وفي هذا الشهر قلد ابو بكر محمد بن طغج مدينه دمشق وأعمالها، وصرف الراشدى عنها، ورد اليه عمل الرملة ونفذ كتاب الخليفة الى ابن طغج بالولاية، فلما وصل اليه الكتاب سار من وقته الى دمشق، وخرج الراشدى الى الرملة، فسر اهل دمشق بقدوم ابن طغج، ودخلها احسن دخول. وفي مستهل رجب من هذه السنه راسل مؤنس الخليفة، وساله اخراج ياقوت وابنه عن مدينه السلام، فلم يجبه الى ذلك، فاوحشه فعله، واستاذن هو في الخروج فلم يمنع، فخرج الى مضاربه برقه الشماسيه مغاضبا واتصل به ان ياقوتا وابنه امرا بقصده والفتك به، فاستجلب مؤنس الرجاله المصافيه الى نفسه، فلحقوا به بالشماسيه وصاروا معه، ثم طالب الأولياء ابن ياقوت ببقايا أرزاقهم فنهددهم فلحق جميعهم بمؤنس بعد ان قطعوا خيامهم التي كانت حوالى دار الخليفة بالسيوف، فقوى امر مؤنس، وانضم عسكره على قريب من سته آلاف فارس وسبعه آلاف راجل، فتقدم ابن ياقوت الى اصحاب السلاح الا يبيعوا منهم سلاحا ووجه اليهم مؤنس قواده يحذرهم ان يمنعوا أحدا من اصحابه بيع ما يلتمس من السلاح، وحمل يلبق وبشر واصطفن وابن الطبرى الى مؤنس مالا كثيرا وقالوا له: هذا المال افدناه معك، وهذا وقت حاجتك اليه، وحاجتنا، فشكرهم على ذلك وفرقه في اصحابه وعلى من قصده. ولما قوى امر مؤنس وانحاز الجيش اليه ركب اليه الوزير سليمان بن الحسن وعلى بن عيسى وشفيع ومفلح، فلما حصلوا في مضربه بباب الشماسيه، شغبت عليهم حاشيه مؤنس، وضربوا وجوه دوابهم، وقبضوا عليهم، واظهرت حاشيه مؤنس انهم يريدون الفتك بهم، فاهمتهم نفوسهم، واعتقلوا يومهم، وبلغ المقتدر الخبر فاقلقه، وجرى الأمر بينهما على اخراج ياقوت وابنيه عن بغداد ووجه الخليفة الى ياقوت وولده اخرجوا حيث شئتم، فخرجوا في الغلس يوم الأربعاء لثمان خلون من الشهر، وجميع حاشيتهم في الماء مع نيف واربعين سفينه محمله مالا وسلاحا وسروجا وسيوفا ومناطق وغير ذلك، وثمانية طيارات وشذاه فخلى مؤنس سبيل على بن عيسى، ومن اعتقله

ذكر القبض على سليمان بن الحسن الوزير وتقليد الكلواذى الوزارة

معه، ورجع مؤنس الى داره، واحرقت دار ياقوت وابنه، ونودى بمدينه السلام الا يظهر احد ممن اثبت ابن ياقوت، واظهر من سائر الناس ونظر مؤنس فيمن يرد اليه الحجابه، فوقع اختياره على ابنى رائق للمهانه التي كانت فيهما، وانهما كانا يلقبان بخديجة وأم الحسين، فبعث فيهما، وقلدهما الحجابه، فقبلا يده ورجله، وقالا له: نحن عبدا الأستاذ وأبونا من قبلنا، وانصرفا وغلمان مؤنس بين أيديهما حتى بلغا منازلهما. وفي يوم الاثنين لعشر بقين من رجب ادخل مفرج بن مضر الشاري مع رجلين وجه بهم ابن ورقاء من طريق خراسان، فشهروا على فيل وجملين. ذكر القبض على سليمان بن الحسن الوزير وتقليد الكلواذى الوزارة وفي يوم السبت لست بقين من رجب قبض على الوزير سليمان بن الحسن، وذلك ان المال ضاق في ايامه، واتصل شغب الجند، وظهر من سليمان في وزارته ما كان مستورا من سخف الكلام وضرب الأمثال المضحكه، واظهار اللفظ القبيح بين يدي الخليفة مما يجل الوزراء عنه، فاستنقصه الخلق، وهجاه الشعراء، واستعظموا الوزارة لمثله، وكانت لابن ياقوت فيه ابيات ضمن في آخرها هذا البيت: يا سليمان غننى ... ومن الراح فاسقني ولابن دريد فيه: سليمان الوزير يزيد نقصا ... فاحر بان يعود بغير شخص أعم مضره من ابى خلاط ... وأعيا من ابى الفرج بن حفص وولى الوزارة ابو القاسم عبيد الله بن محمد الكلواذى واحضر الدار وخلع عليه، وذلك يوم الأحد لاربع بقين من رجب من هذه السنه. وفي شعبان من هذه السنه ورد الخبر بان أبا العباس احمد بن كيغلغ لقى الاشكرى صاحب الديلم فهزمه الديلم وتفرق عنه اصحابه، حتى بقي في نحو من

عشرين، ومضى الديلم في آثار من انهزم من اصحابه، ودخلوا أصبهان، وملكوا دورها، وصاروا فيها ووافى الاشكرى على أثرهم في نفر من الديلم، فلما نظر اليهم ابن كيغلغ قال لمن حوله: أوقعوا عيني على الاشكرى، فاروه اياه فقصده وحده، وكان الديلمى شديد الخلق فلما نظر اليه مقبلا سال عنه فقيل له: هذا ابن كيغلغ، فبرز كل واحد منهما لصاحبه ورمى الديلمى أبا العباس بن كيغلغ بمزراق كان في يده، فانفذ ما كان يلبسه، ووصل الى خفه، فانفذ عضله ساقه وأثبتها في نداد سرجه، فحمل عليه ابن كيغلغ، وضربه بسيفه على أم راسه، فانصرع عن دابته وأخذ راسه وتوجه به بين يديه فتفرق اصحاب الديلمى وتراجع اصحاب ابن كيغلغ، ودخل أصبهان والراس قدامه، فوضع اهل المدينة سيوفهم ورماحهم في الديالمة الذين حصلوا بها، فقتلوا عن آخرهم ونزل ابن كيغلغ في داره، واستقام امره وحسن اثره عند المقتدر، واعجب الناس ما ظهر من شجاعته وبأسه، مع كبر سنه. ولعشر بقين من شعبان ورد الخبر بان القرامطة صاروا الى الكوفه ونزلوا المصلى العتيق، وعسكروا به، وأقاموا، وسارت قطعه منهم في مائتي فارس فدخلوا الكوفه، وأقاموا بها خمسه وعشرين يوما مطمئنين، يقضون حوائجهم، وقتلوا بها خلقا كثيرا من بنى نمير خاصه، واستبقوا بنى اسد، ونهبوا اهراء فيها غلات كثيره للسلطان وغيره. وفي هذه السنه وصل زكرى الخراسانى الى عسكر سليمان بن ابى سعيد الجنابى فجاز له عليهم من الحيله والمخرقه ما افتضحوا به وعبدوه، ودانوا له بكل ما امرهم، به من تحليل المحارم وسفك الرجل دم أخيه وولده وذوى قرابته وغيرهم، وكان السبب في وصوله اليهم ان القرامطة لما انتشروا في سواد الكوفه، وانتهوا الى قصر ابن هبيرة فأسروا جماعه من الناس كانوا يستعبدون من يأسرونه ويستخدمونهم، وكان له عرفاء، على كل طائفه منهم، فاسر زكرى هذا فيمن اسر، وملكه بعض المتراسين عليهم، فلما اراد الاستخدام به تمنع عليه واسمعه ما كره فلما نظر الى قوه

ذكر صرف الكلواذى عن الوزارة وتقليدها الحسين بن القاسم

كلامه وجراته هابه وامسك عنه، وانهى خبره الى الجنابى سليمان فاحضره من وقته وخلا به، وسمع كلامه ففتنه، ودان له وامر اصحابه بان يدينوا له ويتبعوا امره وحمله في قبة وستره عن الناس، وشغل خبره القرامطة وانصرفوا به راجعين الى بلادهم، وهم يعتقدون انه يعلم الغيب ويطلع على ما في صدورهم وضمائرهم، وهو كان بعد ذلك السبب لهلاكهم وفنائهم، على ما ياتى ذكره في الوقت الذى دار فيه ذلك. وفي هذه السنه انحدر ياقوت وابنه من مدينه السلام في الماء، ومن تبعه من جيشه من الجانب الشرقى يريدان أعمالهما من بلد فارس، وكان على بن يلبق بواسط متقلدا لها ومعه من الغلمان الذين اشخصهم مؤنس اليه جمله مثل سيما المنخلى وكانجور وشفيع وتكين الخاقانى وغيرهم، فحملت هذه الطبقة ابن يلبق على تلقى ياقوت ومحاربته واتصل الخبر بيلبق ابيه، فأنكر الأمر أشد الانكار، وكاتب ابنه يخوفه ركوب هذه الحال، ويأمره بان يتقدم الى خلفائه بواسط ان يتلقوا ياقوتا، ويخدموه ويكونوا بين يديه الى ان يخرج عن واسط وكاتب القواد الا يطاوعوا ابنه على مكروه ان هم به، وكاتب ياقوتا يسأله العبور الى الجانب الغربي خوفا من اجتماع العسكرين، ثم تحمل يلبق المصير الى ابنه وملازمته أياما الى ان جاز ياقوت وخرج عن واسط وفي شعبان من هذا العام شغب الرجاله ببغداد، فحاربهم يلبق وسائر الجيش ولم تزل الحرب بينهم من غدوه الى صلاه العصر، وخرج من الفرسان جماعه، وقتل من الرجاله عدد كثير، ثم تمزق الفريقان في الأزقة والدروب وانصرفوا . ذكر صرف الكلواذى عن الوزارة وتقليدها الحسين بن القاسم وكان عبيد الله بن محمد الكلواذى احد الكتاب الكبار، وجليلا في نفوس الناس، فقدروا ان فيه كفاية وقياما بالأمر، فأقام على الوزارة شهرين وهو متبرم بها لضيق الأموال وكثره الاعتراضات واتصال الشغب وقعود العمال عن حمل المال فاستعفى وقال: ما اصلح ان أكون وزيرا، فصرف عنها ولم يعنف ولا نكب ولا تعرض احد من حاشيته،

أخبار متفرقة

وانصرف الى داره، واستقر فيها فامر الخليفة بحفظها وصيانتها. وكان ابو الجمال الحسين بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب يسعى دهره في طلب الوزارة، ويتقرب الى مؤنس وحاشيته ويصانعهم حتى جاز عندهم، وملا عيونهم، وكان يتقرب الى النصارى الكتاب بان يقول لهم: ان اهلى منكم وأجدادي من كباركم، وان صليبا سقط من يد عبيد الله بن سليمان جده في ايام المعتضد فلما رآه الناس، قال: هذا شيء تتبرك به عجائزنا، فتجعله في ثيابنا من حيث لا نعلم، تقربا اليهم بهذا وشبهه، يعنى الى مؤنس واصحابه. وقلد الوزارة يوم السبت سلخ شهر رمضان وخلع عليه في هذا اليوم، وركب في خلعه وسائر القواد والناس على طبقاتهم معه واخذه بوله في الطريق، فنزل وهو في خلع الخليفة الى دار محمد بن فتح السعدي فبال عنده، وامر له بزيادة في رزقه ونزله، وركب منها الى داره . [أخبار متفرقة] ولسبع بقين من شوال اخرج على بن عيسى الى ديرقنا. وفيه قرئت كتب في جامع الرصافه بما فتحه الله لثمل بطرسوس في البر والبحر. وفيه خلع على ابى العباس احمد بن كيغلغ وطوق وسور، وعقد لابن الخال على اعمال فارس، ولياقوت على أصبهان، ولابنه محمد على الجبل، واخرجت إليهما الخلع للولاية. وفي شوال من هذه السنه خلع على الوزير عميد الدولة وابن ولى الدولة الحسين بن القاسم لمنادمه المقتدر. وفي يوم الجمعه لخمس بقين منه ظهرت في السماء فيما يلى القبله من مدينه السلام حمره ناريه شديده لم ير مثلها، وصلى في هذا النهار الوزير عميد الدولة وابن ولى الدولة الحسين بن القاسم، في مسجد الرصافه، وعليه شاشيه وسيف بحمائل، فعجب الناس منه. وحج بالناس في هذه السنة جعفر بن على الهاشمى من اهل مكة المعروف برقطه خليفه لأبي حفص عمر بن الحسن بن عبد العزيز.

سنه عشرين وثلاثمائة

ثم دخلت سنه عشرين وثلاثمائة (ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) [مخالفة مؤنس المظفر على المقتدر] فيها خالف مؤنس المظفر على المقتدر، وخرج من بغداد الى الموصل، ثم خلعه بعد ذلك وقتله، وكان السبب في ذلك ان مؤنسا لما ابعد ياقوتا وولده عن الحجابه، وأخرجهما عن مدينه السلام، واختار ابنى رائق لملازمه المقتدر وحجابته، ورجا طوعهما له وقله مخالفتهما اياه، وكان مؤنس عليلا من النقرس قاعدا في منزله كالمقعد، وكان يلبق غلامه الذى صيره مقام نفسه وعقد له الجيش، وضمه اليه ينوب عنه في لقاء الخليفة واقامه اسباب الجند والأمر والنهى، فقوى امر ابنى رائق وتمكنا من الخليفة لقربهما منه، وقيل لهما: ان مؤنسا يريد ان يصير الحجابه الى يلبق، فالتاثا على مؤنس واستوحشا منه، وباطنا عليه من كان بحضره الخليفة مثل مفلح والوزير ابن القاسم وغيرهما، وراسلا ياقوتا وولده وابن الخال وغيرهم واتصل ذلك بمؤنس وصح عنده، فاوحشه ذلك من المقتدر وممن كان معه، ثم سالت الحجريه والساجيه المقتدر بما احكمه لها ابنا رائق، بان يصلوا اليه كلما جلس للسلام، واستعفوه من يلبق، وطعنوا على مؤنس في ضمهم اليه. فلما كان يوم الاثنين لخمس خلون من المحرم جلس المقتدر أيضا للسلام، ووصل اليه الناس، ووصلت اليه الحجريه والساجيه وصرف عنهم يلبق ولم يخلع عليه، واظهر المقتدر الانفراد بامره والاستبداد برايه، فانكشف لمؤنس الأمر، وصح عنده ما دبر عليه، وعلم انه مطلوب. ولما كان يوم الخميس لثمان خلون من الشهر جلس المقتدر أيضا للسلام، فخرج مؤنس الى باب الشماسيه وعسكر بها ونهب اصحابه دار الوزير الحسين بن القاسم. وبلغ ذلك المقتدر، فامر بشحن القصر بالرجال ونودى فيمن سخط عليه من

الرجاله بالرضا عنهم، فظفروا ووعدوا بزيادة دينار على النوبه، ووعد الفرسان بزيادة خمسه دنانير على الرزق، فظهر الرجاله، وقوى امر الخليفة واستتر اصحاب مؤنس ولحق به خاصته وخرج اليه يلبق. فلما كان يوم الجمعه لتسع خلون من الشهر، وتمت صلاه الناس في الجامع، ركب المقتدر بين الظهر والعصر في قباء تاختج وعمامة سوداء وعلى راسه شمسه تظله وبين يديه اولاده الكبار ركبانا، وهم سبعه وجميع الأمراء والقواد معه وبين يديه، فسار من باب الخاصة الى المجلس الذى في طرف الميدان، وقد ضرب له قبة شراع ديباج فدخلها، ثم انصرف وظهر للعامه ودعا الناس له، وبعث مؤنس بشرى خليفته الى المقتدر يوم السبت مترضيا له، ومعتذرا اليه بانه لم يخرج خالعا ولا عاصيا، وانما خرج فارا من المطالبه له فقبض على بشرى وصفع وقيد، فلما اتصل الخبر بمؤنس زاد في ايحاشه ونفاره، وامر بوضع العطاء في اصحابه، ودخلوا السوق ليبتاعوا السلاح وما يحتاجون اليه، فمنعوا من ذلك حتى وجه مؤنس من قواده الى المدينة من حضر ابتياعهم لما أرادوا، ثم انتقل مؤنس الى البردان، وزال عنه كثير من جيشه الى دار السلطان وكان ممن رجع عنه ابو دلف القاسم بن دلف ومحمد بن القاسم بن سيما وغيرهم من قواده، ودخل هارون بن غريب الخال الى بغداد للنصف من المحرم، ونزل في النجمى، ودخل ابن عمرويه قافلا من البصره، ودخل نسيم الشرابي من الثغر، وخلع على سرور، وجمعت له الشرطتان ثم دخل محمد بن ياقوت لثمان بقين من المحرم، فتجمع للمقتدر قواده وقوى امره وخلع على الوزير ابى الجمال، ولقب عميد الدولة، وكنى ونفذت الكتب بذلك الى العمال من الوزير ابى على عميد الدولة بن ولى الدولة القاسم بن عبيد الله، وكتب اسمه على السكك، وخلع على ابته لكتابه الأمير ابى العباس بن المقتدر، وهو الراضي ولما اجتمع الجيش ببغداد، واتفقت كلمه اصحاب المقتدر وانتقل عن مؤنس كثير من اصحابه الى دار السلطان، قلع مؤنس عن البردان في الماء مضطرا ومعه نحو مائه غلام اكابر واصاغر من غلمانه وأربعمائة غلام سودان، كانوا له وسار يلبق وابنه وباقى غلمان مؤنس على الظهر في نحو الف وخمسمائة رجل، وكان معه من وجوه القرامطة نحو سبعين رجلا، منهم خطا أخو هند وزيد بن صدام واسد بن جهور، وكلهم انجاد مبرزون في الباس

لا يرد احدهم وجها عن عدو، فسار مؤنس الى سر من راى، وعسكر بالجانب الشرقى. واجتمع الناس بقصر الجص الى مؤنس فكلمهم ووعدهم، وقال لهم: ما انا بعاص لمولاي، ولا هارب عنه، وانما هذه طبقه عادتنى، وغلبت على مولاى، فأثرت التباعد الى ان يفيقوا من سكرتهم، واتامل امرى معهم، ولست مع هذا اتجاوز الموصل اللهم الا ان يختار مولاى مسيرى الى الشام، فاسير إليها وقال لهم في خلال ذلك: من اراد الرجوع الى باب الخليفة فليرجع، ومن اراد المسير معى فليسر، فردوا عليه احسن مرد وقالوا له: نحن في طاعتك، ان سرت سرنا، وان عدت عدنا. وبعث مؤنس أبا على المعروف بزعفران مع عشره من القرامطة في مال كان له مودعا عند بعض وكلائه بعكبراء، فأتاه منها بخمسين الف دينار، فدفع منها مؤنس ارزاق من كان معه، وزادهم خمسه دنانير واقام مؤنس يومه ذلك بقصر الحص، فاحترق سقف من سقوف القصر، فشق ذلك على مؤنس، واجتهد في إطفاء النار فتعذر ذلك عليه، ثم سار وهو مغموم لما دار من الحريق في القصر، يريد الموصل. ونفذت كتب الوزير ابن القاسم من المقتدر الى جميع من في الغرب من القواد كبني حمدان وابن طغج صاحب دمشق، والى تكين صاحب مصر، والى ولاه ديار ربيعه والجزيرة وآذربيجان وملوك أرمينية والثغور الجزرية والشامية يأمرهم، بأخذ الطرق على مؤنس ويلبق وولده وزعفران، ومن كان معهم ومحاربتهم والقبض عليهم. وبلغ ذلك مؤنسا، فغمه الأمر، وكتمه عن جميع من كان معه وسار الى تكريت، وقد انصرف عنه اكثر من كان معه ثم ان مؤنسا فكر في امره والى اين يكون توجهه، فلم يجد في نفسه اوثق عنده ولا اشكر ليده من بنى حمدان فانه كان عند ذكره إياهم يقول: هم أولادي، وانا أظهرتهم وكانت له عند حسين بن حمدان وديعة، فاراد ان يجتاز به ويأخذها ويسير بها الى الرقة، وقد كان بلغه تجمع بنى حمدان وحشدهم لمحاربته، فلم يصدق ذلك، ثقه منه بهم، فرحل عن تكريت الى بنى حمدان، بعد ان شاور من حضره في الطرق التي يأخذ عليها، فأشارت عليه طائفه بقطع البريه والخروج الى هيت ثم المسير الى شط الفرات وقال يلبق وزعفران لمؤنس:

الصواب مسيرك الى الموصل كيف تصرفت الحال لوجوه من المصالح، اما واحده فلعجزك عن ركوب البريه فتتعجل الرفاهية في الماء، واخرى لئلا يقال: جزع لما بلغه خبر بنى حمدان وتجمعهم، وثالثه انك ان بليت بقتالهم كانوا اسهل عليك من غيرهم، فوقع هذا الرأي من مؤنس بالموافقة، وسار يريد بنى حمدان فلم يلق لهم في طريقه رسولا، ولا سمع لهم خبرا الى ان وافى عليه بشرى النصراني كاتب ابى سليمان داود بن حمدان، فاستأذن عليه يوم السبت لليلة بقيت من المحرم، وخلا بمؤنس وادى اليه رساله صاحبه ورساله الحسين بن حمدان وابى العلاء وابى السرايا بأنهم على شكره ومعرفه حق يده، ولكنهم لا يدرون كيف الخلاص مما وقعوا فيه، فان أطاعوا سلطانهم كانوا قد كفروا نعمه مؤنس اليهم، وان أطاعوا مؤنسا وعصوا سلطانهم، نسبوا الى الخلعان، وسألوه ان يعدل عن بلدهم لئلا يلتقوا به ولا يمتحنوا بحربه فقال له مؤنس: قل لهم عنى: قد كنت ظننت بكم غير هذا، وما أخذت نحوكم الا لثقتي بكم، وطمعي في شكركم، فإذا خالفتم الظن فليس الى العدول عنكم سبيل، ونحن سائرون نحوكم بالغد، كائنا ما كان منكم وأرجو ان إحساني إليكم سيكون من انصارى عليكم، وخذلانكم لي غير صارف لفضل الله عنى وبات مؤنس بقصور مرج جهينة، وكان عسكر بنى حمدان بحصباء الموصل، وبات المحسن زعفران في الطلائع على المضيق الذى منه المدخل الى الموصل، وباكر مؤنس المسير في الماء على رسمه قبل ذلك. وسار اهل العسكر على الظهر، ووقع ابو على المحسن زعفران في آخر الليل على مقدمه بنى حمدان التي كانوا أنفذوها نحو المضيق، فقتل منهم جماعه واسر نحو ثلاثين رجلا، وملك المضيق وامده يلبق برجال زياده على من كان معه وصبح الناس القتال يوم الأحد لثلاث خلون من صفر، وما كان جميع من يضمه عسكر مؤنس الا ثمانمائه وثلاثة واربعين فارسا، وستمائه وثلاثين راجلا بين اسود وابيض. هكذا حكى الفرغاني عن احمد بن المحسن زعفران وكان شاهدا مع ابيه في عسكر مؤنس، وعنه ينقل اكثر الحكايات وكان بنو حمدان في عساكر عظيمه قد حشدوها من العرب والعجم وقبائل الاعراب وغيرهم، فتلاقى الفريقان على تعبئه، وأخذ مؤنس ويلبق وابنه ومن كان معهم من القواد في حربهم احزم ماخذ، وتوزعوا على مقدمه وميمنه وميسره وقلب، وجعلوا في كل مصاف منها ثقاتهم واكابر قوادهم ثم

حملت مقدمتهم على مقدمه بنى حمدان، فضرب داود بن حمدان بنبله دخلت من كم درعه، فصرعته وحملت ميمنه يلبق على ميسره بنى حمدان فقلعتها وطحنتها وغرق اكثرهم في دجلة. ثم حمل يلبق بنفسه ورجاله الذين كانوا في القلب على قلب عسكر بنى حمدان، فهزموا من كان فيه، واتصل القتل فيهم، واسر ابن لأبي السرايا ابن حمدان وغنم عسكرهم وتفرق جميعهم، ودخل مؤنس الموصل لاربع خلون من صفر واعطى اصحابه الصلات التي كان وعدهم بها مع الزيادة، وصار في عسكره خلق كثير من غلمان ابن حمدان ورجاله، وتوجه ابو العلاء بن حمدان وابو السرايا الى بغداد مستنجدين للسلطان، وانحاز الحسين بن عبد الله بن حمدان الى جبال معلثايا واجتمع اليه بها بعض غلمانه وغلمان اهله، فسار اليه يلبق فهزمه وفرق جمعه، وعبر الحسين الى الجانب الغربي هاربا مفلولا، وقلد يلبق ابنه نصيبين وما والاها، وانصرف هو الى موضع يلبق وقلدها يمنا الأعور، وقلد يأنسا جزيرة بنى عمر، وأبا عبيد الله بن خفيف الحديثه. وبلغ اهل بغداد اخبار مؤنس وغلبته وفتوحاته، فاخذ كل من زال عنه في الرجوع اليه واتصل بمؤنس ان جيوشا اجتمعت للروم، وفيها بنو ابن نفيس وكانوا قد هربوا الى بلاد الروم عند خلع المقتدر أولا، وانهم قاصدون ملطيه للغارة على المسلمين، فكتب مؤنس الى بلد الروم يستدعى بنى ابن نفيس ويعده ويمنيه، ويسأله صرف الروم عن ملطيه، فاقبل بنى الى الموصل وصرف الجيش عن ملطيه، فسر به مؤنس سرورا شديدا، وخلع عليه، واكرمه وانس به، فكان يعاشره ويشاربه. ووافاه أيضا بدر الخرشنى من ارزن في نحو ثلاثمائة رجل، فسر به مؤنس ويلبق ومن كان معهما، وقدم عليهم طريف السبكرى من حلب في نحو أربعمائة فارس، فسروا به أيضا، وتوالت الفتوحات على مؤنس ويلبق، فلما طال مقام مؤنس بالموصل، ودامت فتوحه وعظمت هيبته، ابتدأ رجال السلطان الذين كانوا بالحضرة بالهرب اليه، وتاكدت محبتهم له، فكان احد من جاءه بالدوا غلام ابن ابى الساج-

ذكر عزل الوزير الحسن بن القاسم وتقديم الفضل بن جعفر مكانه والتياث الاحوال ببغداد

وكان بطلا شجاعا- في نحو مائتي فارس، ولقى بالدوا في طريقه عسكرا للسلطان فكسره، وأخذ احمال مال كانت معهم يريدون بها بغداد فجاء بها بالدوا الى مؤنس ووهبها له ولرجاله، ثم استامنه الحسين بن عبد الله بن حمدان لما ضاقت به الارض، وانقطع رجاؤه من امداد السلطان، وامنه مؤنس، وقدم عليه، ففرح مؤنس بقدومه، وقال له: نحن في ضيافتك منذ سبعه اشهر على كره لك، فشكره الحسين ولم يزل يخدم واقفا بين يدي مؤنس في دراعه وعمامة بغير سيف مده مقام مؤنس بالموصل. ذكر عزل الوزير الحسن بن القاسم وتقديم الفضل بن جعفر مكانه والتياث الاحوال ببغداد ولما ظن الوزير ابو الجمال الحسين بن القاسم ان الأمر قد صفا له بخروج مؤنس من بغداد، وان قد تم له ما اراد، وقع فيما تكره، فكثر عليه الشغب، واشتدت مطالبه الجند له بالأموال، وخيب الله ظنه فيما اراد، ولازمه الحشم في دار الخليفة ملازمه قبيحه، وأهانوه وأهانوا الخليفة بسببه، فثقل على قلب المقتدر، ولم يزل يقاسى منه كل صعب وذلول، فامر بالقبض عليه في عقب ربيع الآخر، وولى الفضل بن جعفر ابن الفرات مكانه، وقد كان مشهورا عند الخاص والعام بالفضل والعلم والكتابه وترك الهزل واللهو، وكان هو وابو الخطاب من خيار آل الفرات فلما صارت اليه الوزارة اظهر الحب له والرغبة فيها، فعجب الناس من ذلك، وقال فيه بعض الشعراء: اتطمع في الذى أعيا ابن مقله ... وقد أعيا على الوزراء قبله وادبر امر من ولاك حتى ... لما نرجو مع الادبار مهله كأنك بالحوادث قد توالت ... عليك وجاءك المكروه جمله ولما خلع على الفضل بن جعفر سار في خلعه الى الدار التي بسوق العطش، فعطش في الطريق، واستسقى ماء، فشربه فأنكر ذلك عليه، إذ لم يكن في رسم من تقدمه

ذكر مسير مؤنس إلى بغداد وقتل المقتدر

وفي مستهل جمادى الاولى اجتمع اهل الثغور والجبال الى دار السلطان، واستنفروا الناس ببغداد، وذكروا ما ينالهم من الديلم والروم وان الخراج انما يؤخذ منهم ومن غيرهم ليصان به عامه الناس، ويدفع عدوهم عنهم، وانهم قد ضاعوا وضاعت ثغورهم، واستطال عليهم عدوهم ورققوا القلوب بهذا وأشباهه، فثار الناس معهم وساروا الى الجامع بمدينه المنصور وكسروا درابزين المقصورة واعواد المنبر، ومنعوا من الخطبه، ووثبوا بحمزه الخطيب، ورجموه حتى ادموه، وسلخوا وجهه، وجروا برجله، وقالوا له: يا فاجر، تدعو لرجل لا ينظر في امور المسلمين، قد اشتعل بالغناء والزنا عن النظر في امور الحرمين والثغور يفرق مال الله في أعداء الله، ولا يخاف عقابا، ولا ينتظر معادا فلم يزالوا في هذه الحال الى وقت صلاه العصر، وفعلوا بعد ذلك مثل فعلهم الاول في أول جمادى الآخرة ونهضوا الى باب الوزير الفضل بن جعفر وراموا كسره، فرموا بالسهام اعلى الدار، وقتل منهم نفر، فركب احمد بن خاقان وتوسط امرهم، وضمن لهم ما يصلحهم. وفي ثمان خلون من رجب نقب الحسين بن القاسم في دار الحاجبين نقبا اخرج منه غلمانه، واراد الخروج بنفسه ففطن به وقبض عليه، وحدر الى البصره . ذكر مسير مؤنس الى بغداد وقتل المقتدر ولما كثر عند مؤنس من استامن اليه من قواد العراق ورجال الخليفة وبلغه الاضطراب بها، وانس الى الوزير الفضل بن جعفر، لما كان عليه من ترك المطالبه للناس، ودارت بين مؤنس وبين الوزير مكاتبات، ورجا الوزير ان تصلح الاحوال بمجيء مؤنس ويتأيد به على قمع المفسدين، ويتمكن بحضوره من صلاح امور الخليفة التي قد اضطربت، فراسل مؤنسا في القدوم ورغبه في الصلاح، وجنح مؤنس الى ذلك ورغب فيه، ورجا ما لم يعنه المقدار عليه فخرج مؤنس من الموصل يوم الأحد لثلاث عشره ليله بقيت من شوال بعد ان ضم الى نفسه قواده ورجاله، وقلد من وثق به الموصل ونصيبين وبعربايا وسائر الاعمال في تلك الناحية، فلما

انتهى مؤنس الى البردان، خرج اليه القواد وغيرهم مستأمنين اليه، مثل مفلح وبدر الحمال وابو على كاتب بشر الافشينى وابن هود وجماعه وبقي الغلمان الحجريه على الوزير وابن الخال في الشعيبي يطالبونهما بالمال والزيادة لما علموا به من اقبال مؤنس. وكتب مؤنس الى المقتدر كتبا يقول فيها: لست بعاص لأمير المؤمنين ولا شققت عصاه، وانما تنحيت عنه لمطالبه أعدائي لي عنده، وقد جئت الى بابه برجاله، وليسن مذهبي الفتن ولا اراقه الدماء، وقد بلغنى ان مولاى يحمل على محاربتى، ولا حظ في ذلك للفريقين، بل فيه الشتات والفرقة وذهاب العدد وحدوث البلاء، وفناء الرجال، فيأمر مولاى للجند الذين معى بأرزاقهم فندفع اليهم، ثم يصيرون اليه وتطيب نفوسهم عليه. فاصغى المقتدر الى قوله وسربه، وقيل انه اصطبح مفلح وابن الخال في دورهما سرورا بذلك ثم قال للمقتدر ابنا رائق وياقوت ومفلح وغيرهم، ممن كان يكره مؤنسا، ولا يريد رجوعه: هذا عجز منك، ونقص بك، ولعلها حيله عليك وخدعه لك، وحمل على اخراج مضاربه الى باب الشماسيه والعزم على قتاله، وقالوا له: لو قد رآك كل من مع مؤنس لانصرفوا عنه، وتركوه وحده، واخذوه في ذلك بالوعيد والترهيب، فاخرج المقتدر مضاربه الى الشماسيه يوم الثلاثاء لاربع بقين من شوال وخرج بنفسه يوم الأربعاء لثلاث بقين منه بعد ان توضأ للصلاة، وبرز الى دار العامه، فصلى بها، وكان كارها للخروج ومتثبطا فيه، وانما خرج مكرها حتى لقد حدثت بأنهم قالوا له: ان خرجت معنا الى حرب مؤنس والا تقربنا بك اليه. وحدث ذكى عن المقتدر انه راى في الليلة التي خرج في صبيحتها الى مؤنس كان النبي ص كان يقول له: يا جعفر، اجعل إفطارك الليلة عندي، ففزع له وحدث به والدته، فجهدت به الا يخرج، وكشفت عن ثدييها، وبكت، فغلب القضاء ونزل البلاء. قال: فحدثني احد خلفاء الحجاب ممن أثق به، قال: رايت المقتدر قبل خروجه الى مؤنس في دار العامه وابن رائق يستحثه ويقول له: عجل يا سيدي ليراك الناس، فقال له: الى اين اعجل يا وجه الشؤم! قال: وحدثنى ابن زعفران عن تكين الخادم ان المقتدر لما عمل على الخروج

الى مؤنس لبس ثيابه، وجلس على مسوره وقال لامه: يا أمه استودعك الله هذا يوم الحسين بن على، ثم تمثل بقول على بن الرومي: طامن حشاك فان دهرك موقع ... بك ما تحب من الأمور وتكره وإذا حذرت من الأمور مقدرا ... فهربت منه فنحوه تتوجه قال: وأخبرني جماعه من اهل بغداد ممن عاين المقتدر خارجا من داره وقد شق المدينة يريد رقه الشماسيه، فقالوا: كان عليه خفتان ديباج فضى تسترى، وعليه عمامة سوداء مصمت والبرده التي كانت للنبي ص على كتفيه وصدره وظهره، وهو متقلد بذى الفقار سيف رسول الله ص، وحمائله ادم احمر، وفي يده اليمنى الخاتم والقضيب، وتحته الفرس المعروف بالاقبال ويعرف بالقابوس، لان أبا قابوس اهداه اليه، وعلى الفرس سرج مغربى احمر، بحليه جديده، وتحت فخذه الأيسر سيف للركاب وبين يديه ابنه ابو احمد عبد الواحد عليه خفتان ديباج رومي منقوش، وعمامة بيضاء، وخلفه وزيره الفضل بن جعفر بن الفرات، وقدامه لواء ابيض ورايه سوداء يحملها ابن نصر اللابى، واللواء يحمله احمد بن خفيف السمرقندي، وعلمان أبيضان وعلمان اصفران، يحملها الانصار ومعهم رماح في رءوسها مصاحف، وسار المقتدر على حاله هذه حتى وافى الرقة بالشماسيه، وقد وقعت الحرب بين العسكرين، وكان الظهور أول النهار لعسكر المقتدر ثم عادت بعد ساعه لأصحاب مؤنس عليهم، فاسر ابو الوليد بن حمدان واحمد بن كيغلغ وكانا في ميمنه المقتدر في جماعه من قواد بغداد، فثبتا بأنفسهما لما خان المقتدر من كان حوله، حتى أخذا اسيرين، وكانا في القلب من عسكر مؤنس بدر الخرشنى وعلى بن يلبق ويمن الأعور وبازائهم المقتدر وعبد الواحد ابنه ومفلح الأسود، وشفيع المقتدرى، وابنا رائق، وهارون بن غريب الخال ومحمد بن ياقوت والحجريه، وكان في ميمنه مؤنس يلبق ويانس المونسي وغلمان يلبق ومن استامن اليهم من عسكر بغداد. فلما اشتدت الحرب انكشف ابن يلبق قليلا، فراسله أبوه بالتوقف والانحياز اليه، وارسل الى ميمنته بان يحملوا، فحملوا وأخذوا على شط دجلة ليخرجوا في ظهر عسكر المقتدر، فتشوش العسكر، وحمل يلبق وابنه ومن كان معهما حمله

واحده، فانهزم جميع من كان مع المقتدر حتى لم يبق الا هو وحده، ولم يقتل بين يديه من غلمانه واوليائه احد الا رجل من خلفاء الحجاب، يقال له رشيق الهروي وقد كان المقتدر لما راى الحرب قد وقعت بين على بن يلبق وبين ابن الخال وابن ياقوت اراد العدول الى المضرب، او الى الحراقة فلقيه سعيد بن حمدان، فقال له: يا امير المؤمنين، قد وقعت العين على العين، فان رآك من حولك قد زلت انهزموا وانفلوا فرجع الى المصاف وذلك وقت صلاه الظهر ولم يكن في موكبه احد من اهله الا هارون بن عبد العزيز بن المعتمد على الله وعبد العزيز بن على بن المنتصر بالله وابراهيم بن قصى بن المؤيد بالله وابراهيم بن عيسى بن موسى بن المتوكل على الله. وكان أول من انهزم من اصحابه الحجريه ثم سائر الناس، وحمل عبد الواحد بن المقتدر في جماعه من الرجاله عده حملات، فاسر من رجال مؤنس يلبق النعماني الصفعان، وكان فارسا جيدا، فأرادوا قتله فنهاهم المقتدر عنه، ولم يزل ابن ياقوت في ذلك اليوم ثابتا بعد ان انهزم ابن الخال، وابلى بلاء حسنا فلما لم يجد ابن ياقوت مساعدا انهزم وانهزم عبد الواحد بن المقتدر، وبقي المقتدر وحده وحوله جماعه من العامه وهو يحض الناس على القتال، ويسألهم الثبات معه، ويتوسل اليهم بالله وبنبيه وببردته، ويمسح المصحف على وجهه الى ان اقبل موكب على بن يلبق- وكان قد اصابته جراح في الحرب فلم يهن لها- واقبل معه فارس تحته فرس ادهم، وعليه درع على راسه زرديه، فضرب المقتدر ضربه بالسيف في عاتقه الأيمن، فقطعت الضربه طاقا من حمائل السيف، وأثخنته الضربه، وكان السيف بيد المقتدر مجردا وقد كان نافع صاحب ركاب مؤنس ضرب بيده الى عنان دابه المقتدر ليسير به الى مؤنس، فلما ضربه الفارس خلى نافع عنانه، ومضى الفارس بعد ان ضربه ولم يقف عليه، ووافى بعد هذا الفارس ثلاثة فوارس، يقال لأحدهم: بهلول، وللثاني: سيمجور ورفيق لهما لم احفظ اسمه، فوقفوا بالمقتدر يخاطبونه ويسمعون منه، فاخذ احدهم السيف من يده وانتزع الآخر البرده والخفتان منه، وطالب الثالث بخاتمه فدفعه اليه، وكان الخاتم ياقوتا احمر مربعا، فضربه احد الثلاثة بالسيف على جبينه فألمه

فاخرج المقتدر كم قميصه ليمسح الدم عن وجهه، فضربه الآخر ضربه ثالثه، فتلقاها المقتدر بيده اليسرى، فقطعت ابهامه وانقلبت ابهامه وانقلبت الابهام الى ذراعه، وسقط الى الارض، واجتمعت عليه جماعه رجاله فاحتزوا راسه، وحمل الى مؤنس وذلك يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من شوال سنه عشرين وثلاثمائة، وكان الذى حمله سراج البكتمرى. فلما نظر اليه مؤنس اشتد جزعه، وغمه وناله عليه امر عظيم. وقيل: ان الذى قتل المقتدر نقيط غلام مؤنس، وان جثته بقيت مجرده، فطرح بعض المطوعة على سوءته خرقه ثم أخذها رجل من العجم، والقى عليها حشيشا، الى ان حملت الجثة الى مؤنس، فاضاف إليها الراس وسلمه الى ابن ابى الشوارب القاضى ليتولى امره، فقيل انه دفن مع ابيه، وقيل انه دفن في رقه الشماسيه، وقيل أيضا انه طرح في دجلة، ولم تزل الرعية يصلون في مصرعه ويدعون على قاتله وبنى في الموضع مسجد وحظيرة كبيره، وكان عمر المقتدر يوم قتل ثمانية وثلاثين سنه وشهر وسته ايام وكانت ولايته الخلافه أربعا وعشرين سنه واحد عشر شهرا. وولد أبا العباس الراضي محمدا والعباس أبا احمد، وهارون أبا عبد الله، وعبد الواحد أبا على وابراهيم أبا إسحاق المتقى، والفضل أبا القاسم المطيع، وعليا أبا الحسن، وإسحاق أبا يعقوب وعبد الملك أبا محمد وعبد الصمد ولم يذكر الفرغاني جميعهم وانما ذكر سته منهم. وبقي مؤنس في مضاربه بباب الشماسيه، ولم يدخل بغداد حتى اقام القاهر للخلافة. واستامن اليه القواد المنهزمون عن المقتدر، فامنهم وانقطع الطلب عن جميعهم وسكن الناس، وهدنهم واظهر الأسف، لما دار في امر المقتدر وجمع القواد للمشورة في الخليفة بعده، ودار الرأي بينهم في ذلك. وامر مؤنس باحضار بلال بواب دار ابن طاهر التي كان فيها اولاد الخلفاء، وساله عمن فيها من اولاد الخلفاء، فذكر جماعه فيهم محمد القاهر، فمال هواهم اليه- وكان مؤنس قد كرهه ونهاهم عنه- فقالوا: هو كهل، ولا أم له، ونرجو ان تستقيم أمورنا معه، فاطاعهم فيه، وأجابهم اليه واحضروه على ما سيقع بعد هذا ذكره. قال: وحدثنى ابو الفهم ذكى ان رشيقا الأيسر وكان الذى اقبل بالقاهر

من دار ابن طاهر لولاية الخلافه، وكان مقدما على الحرم، حكى له بان رأيهم اجتمع بعد مفاوضه طويله على القاهر وعلى ابى احمد بن المكتفي. قال ذكى: ووجهونى فيهما ليتكلم مؤنس مع كل واحد منهما خاليا، فمن ظهر لهم تقديمه منهما قدم، فتوجه ذكى فيهما، فلما صار بهما في بعض الطريق قال القاهر لأبي احمد بن المكتفي: لست اشك في انا انما دعينا لتعرض على كل واحد منا الخلافه، فعرفني بما عندك، فان كنت راغبا فيها أبيت انا منها، إذا دعيت إليها ثم كنت أول من يبايعك، فقال له ابو احمد: ما كنت بالذي اتقدمك، وأنت عمى وكبيرى وشيخي، بل انا أول من يبايعك. فلما تحقق عند القاهر مذهبه بنى امره عليه، ثم لما صار الى مؤنس وحاشيته بدءوا بمخاطبه ابى احمد لفضل كان فيه، وعرضوا الأمر عليه فأبى من تقلده، ولم تكن رغبتهم فيه ثابته إذ كانت له والده، وقد علموا ما كانت تحدثه والده المقتدر في الخلافه. فعقدوا الأمر للقاهر بالله. قال: وذكر لي ابن زعفران انه حضر ذلك، وان القاهر اجلس في خيمه بإزاء خيمه مؤنس، ولم تزل المراسلات بينهما الشروط متخذه على القاهر الى ان أجاب الى جميعها الا النفقة التي كلفوه للجند على البيعه فانه ذكر الا مال له فعذروه. قال: ولم يكن عليه يوم احضر للبيعه الا قميصان ورداء، فطلب ما يلبس من الثياب التي تشاركه للجلوس للعامه، وسيف ومنطقه، فلم يوجد ما يصلح لذلك، فنزع جعفر بن ورقاء ثيابه التي كان يلبسها، ولبسها القاهر، وهي عطاف وعمامة ومنطقه وسيف بحمائل، ثم قعد في الخيمة وسلموا عليه بالخلافة، وبويع له على ما سيأتي ذكره.

ذكر البيعه لمحمد القاهر بالله

ذكر البيعه لمحمد القاهر بالله وهو محمد بن احمد المعتضد بن طلحه الموفق بن جعفر المتوكل، وكنيه محمد القاهر ابو منصور، وكانت أمه تسمى بقبول، وبويع بالخلافة يوم الخميس لليلتين بقيتا من شوال سنه عشرين وثلاثمائة، وهو ابن خمس وثلاثين سنه، وذلك انه لما احضر من دار عبد الله بن طاهر التي كان فيها مع اولاد الخلفاء، ودار بينه وبين مؤنس المظفر ما تقدم ذكره من الشروط، وتم الأمر بينهم، انحدروا به الى دار الخلافه، في اليوم المؤرخ، فلما دخلها دعا بحصير فصلى اربع ركعات، وجلس على سرير الملك. ولقب القاهر بالله. وحضر عبيد الله بن محمد الكلواذى فاستخلفه على الوزارة لمحمد بن على بن مقله إذ كان غائبا بفارس وامر بان تكتب الكتب الى العمال باسم ابن مقله، وولى الحجابه على بن يلبق، ولم يمكنه الحضور لجراح كانت به، فخلف على الحجابه بدر الخرشنى، وقلد احمد بن خاقان شرطه الجانبين. ولما كان يوم الاثنين لليلتين خلتا من ذي القعده، بعث القاهر في اولاد المتوكل على الله وغيرهم من أبناء الخلفاء وأبناء ابنائهم، فاوصلهم اليه واستدناهم، وامرهم بالجلوس، وأخذ عليهم الكلواذى البيعه، وخاطبه هارون بن عبد العزيز بن المعتمد بعد ان صافحه وهناه ودعا له، فقال: قد نالت يا امير المؤمنين اهلك جفوه اضرت بهم واثرت في أحوالهم، وليس يسألون اقطاعا ورد ضيعه، وأحوالهم تصلح بادرار أرزاقهم، فقال: انا آمر بادرارها، ولا اقنع لكم بها، وقد كان يتصل بي من امركم ما يغمنى، فشكرته العامه على هذا القول، وتكلم منهم ابو عبد الله محمد بن المنتصر ودعوا له جميعا. ثم ان القاهر اظهر في أول قعوده في الخلافه من الجد وبعد الهمه والاختصار والقناعه ما هابه به الناس، واراد قطع ثوب يلبسه، فحمل اليه من داره، فقيل له: لو اخذلك ثوب من خزانه الكسوة، فقال: لا تمسوا لهم شيئا، وعرضت عليه صنوف

الألوان والحلواء والفواكه التي كانت توضع بين أيدي الخلفاء في كل يوم فاستكثرها، وقال في الفاكهة: بكم تبتاع هذه كل يوم؟ فقيل له: بثلاثين دينارا، فقال: نقتصر من ذلك على دينار واحد ومن الطعام على اثنى عشر لونا، وكان يصلح لغيره كل يوم ثلاثون لونا من حلواء، فاقتصر على الكافى له. وفي يوم الخميس لخمس خلون من ذي القعده حمل ابو العباس وابو عبد الله ابنا المقتدر مع أمهما الى دار عبد الله بن طاهر بعد عتمه. وفيه طولبت أم المقتدر بالأموال وضربت وعلقت، قال الفرغاني: حدثنى ابو الحسين ابن العجمي قال حدثتنا ذلفاء المنجمه التي كانت مع المقتدر، قالت: لما اراد المقتدر الخروج لمحاربه مؤنس قال لامه: قد ترين ما وقعت فيه وليس معى دينار ولا درهم، ولا بد من مال يكون معى، فاعينينى بما معك، فقالت له: قد أخذت منى يوم سار القرمطى الى بغداد ثلاثة آلاف الف دينار، وما بقيت لي بعدها ذخيره الا ما ترى، واحضرته خمسين الف دينار، فقال المقتدر: واى شيء تغنى عنى هذه الدنانير؟ واى مقام تقوم لي في عظيم ما استقبله؟ ثم قال لها: اما انا فخارج كيف كنت وعلى ما استطعت، ولعلى اقتل فاستريح، ولكن الشان فيمن يبقى بعدي، ويقبض عليها ويعذب ويعلق في هذه الشجرة دراجيه فقالت ذلفاء: وكانت في بعض دور الخلافه شجره فو الله لقد قبض على أم المقتدر وعلقت في تلك الشجرة بعينها وفيه ضرب شفيع وطولب بمال، وصير بيع املاكه الى بشرى الخادم، فضاع اكثر ذلك، وقبض أيضا على اسباب خاله المقتدر، وقبض على شفيع المقتدرى، وسلم المطبخ والبساتين الى رشيق الأيسر الحرمي، وسلم البريد والاصطبل الى على بن يلبق، وصرف احمد بن خاقان عن الشرطه في الجانبين وقلدها يمن الأعور وقبض الأعور، وقبض على يانس الخادم، ولم تزل الأمور مضطربه بقله المال ومطالبه الجند بالارزاق ومطالبتهم بمال البيعه حتى انهم شغبوا واجتمعوا الى باب الخليفة، ودخلوا الى الدهليز الشعيبي من باب العامه وفتح السجن وحورب الموكلون عليه، وأيدتهم العامه على ذلك، فخرج يمن الأعور وأخذ رجلا من العامه وضربه بالسياط وصلبه، فتفرق العوام، وزاد امر الجند شغبا وجدا فأرسل القاهر اليهم: ليس

عندي مال، والمال عند يلبق، واوصى القاهر الى مؤنس اما ان يرضى يلبق الرجال ويكفهم عنى والا اعتزلت، فليس على هذا الشرط تقلدت. وقدم ابن مقله بغداد لتسع خلون من ذي الحجه وخلع عليه وقعد ودفع الى الجيش الذى بالحضرة عن البيعه لكل واحد منهم رزقا واحدا، وللجند اصحاب مؤنس ثلاثة ارزاق لكل واحد ثم ان ابن مقله بسط يده على الناس فاخذ أموالهم، وقبض على عيسى الطبيب، فاخذ املاكه، ثم بدا في بيع املاك السلطان وأخذ المال من حيث لاح له، وابتدأ بإنشاء داره، وادخل فيها من بستان الزاهر نحو عشرين جريبا، ونقض دور بنى المقتدر، واستولى ابن يلبق وحاشيه مؤنس على القاهر، حتى صار لا يجوز له امر ولا نهى الا على اهل بيته، واولاد المقتدر المحبوسين عنده. قال: وكان القاهر مستهترا بالشراب لا يكاد يفيق منه، فإذا شرب اقبل الى اولاد المقتدر والى الراضي واخوته، وكان قد اخذهم وضمهم الى دار تعرف بالفاخر، واحضر أبا احمد بن المكتفي واعتقله معهم، فكان القاهر يدخل عليهم بالليل ويتخلق لأولاد المقتدر ولأبي احمد بن المكتفي، ويسقيهم بيده، وكان يقول للراضى: أنت المرشح للامر، والمسمى له، ثم يومى اليه بحربه كانت في يده، وبما قفع أصابعه بقضيب كان معه، والراضي في كل ذلك لا يخضع له ولا يقبل يده، والمقادير تدفعه عنه، واقام على بن يلبق وهو الحاجب يفتش جميع ما يدخل الدار على القاهر ويضيق عليه، والقاهر في ذلك يزداد غضبا وكمدا ثم ان الراضي دس الى يلبق وابنه واهدى إليهما جوهرا وعرفهما انه واخوته خائفون على انفسهم من القاهر، وسألهما تخليص هؤلاء المحبوسين من يده فاجمع راى يلبق وابنه على تخليصهم، وقعد يلبق في بعض العشايا في بعض مجالس الدار واخرجهم على غيبه، واخرج الجده معهم، وكان القاهر قد سامها سوء العذاب، وطالبها بالأموال، فوجه بهم الى داره، وافرد لهم موضعا في دار حرمه، وماتت الجده بها، فكفنها في احسن كفن، ودفنها بشارع الرصافه. وفيها صرف ابو عثمان احمد بن ابراهيم بن حماد عن القضاء بمصر. وقلد القضاء بها عبد الله بن احمد بن زيد. وفي ذي القعده من هذه السنه ورد الخبر بمصر بقتل المقتدر، فاضطربت الاحوال

بها، وشغب الجند، ووكل التجار وطولبوا بالأموال، وشغب الجند على تكين وطالبوه بمال البيعه، فجمع التجار بمصر واستسلف منهم الأموال بسبب البيعه على ان يطالب بدم المقتدر. وحج بالناس في هذه السنه ابو حفص عمر بن حسن الهاشمى. وهذا ما انتهى إلينا من هذا التاريخ والحمد لله رب العالمين وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلى الله على سيدنا محمد المصطفى وآله الطاهرين الطيبين وسلم تسليما. فرغ من نسخه الفقير المشكر المعترف بذنبه يحيى بن يوسف بن يحيى بن منصور ابن المعمر بن عبد السلام الزريرانى في شهر ربيع الآخر من سنه سبع وعشرين وستمائه.

تكملة تاريخ الطبري لمحمد بن عبد الملك الهمذاني

[تكملة تاريخ الطبري لمحمد بن عبد الملك الهمذاني] [مقدمة] (بسم الله الرحمن الرحيم) وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم اما بعد الحمد الله الذى وفقنا لهدايته، ووهب لنا التمسك بشريعته، والصلاة على نبيه محمد، الذى اختاره لرسالته، وفضله بنبوءته، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته. والدعاء لمن الدنيا مهناه بمصادفه سلطانه، والفضائل مستفيده من تيامن إحسانه، والدهر مفتخر بحصول عنانه في يديه، ومثوله في جمله العبيد لديه، سيدنا ومولانا الامام المستظهر بالله امير المؤمنين، لا زال سلطانه باذخ المكان، راسخ الأركان وايامه رفيعه العماد، منيعه البلاد ليؤرخ من مناقبها ما لا تتعلق النجوم باذياله، وتقصر عين الزمان عن شماله. فان علم التاريخ، رغب في الاطلاع عليه ساده الأمم والقبائل، واهل المحامد والفضائل، الأئمة من ولد العباس رضوان الله عليهم، وهم الأسرة الطاهره، والدوحه الزاهره، هداه الاعلام، وشموس الاسلام، وكانوا اكثر الخلق روايه لمن تقدمهم، وآثار من كان قبلهم، فما كان في ذلك من استقامة في الاحوال كان بالنعم مذكرا، وما شاهدوا فيه من الاختلال كان منبها ومنذرا. وقد روى ان رجلا سال سعيد بن المسيب رحمه الله عليه، فقال: رايت النبي صلى الله عليه وسلم في منامي، فقال له: يا هذا ان الله بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بشيرا ونذيرا، فمن كان على خير بشره وامره بالزيادة، ومن كان على شر حذره وامره بالتوبة. والاطلاع في اخبار الناس، مرآه الناظر، تصدق عن المحاسن والمقابح، ويهذب ذوى البصائر والقرائح وبها يذكر الله تعالى من عباده ما يراه أهلا لذكره، ومستوجبا لكريم ثوابه واجره

هذا المنصور رضى الله عنه، وهو بازل الأئمة، وكافل الامه، قال لأصحابه: الملوك اربعه: معاويه وكفاه زياده، وعبد الملك وكفاه حجاجه، وهشام وكفاه مواليه، وانا ولا كافى لي، واجماله لذلك استنهاض منه لهم على معرفه اخبارهم، حين انكر عليه الاسراف في ثمن عمامته، فقال له: أنت ابتعت جاريه باضعاف ذلك، لأخس اطرافك، فما تنكر من ابتياعى هذه لأكرم أطرافي! واخبر عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله، قال: لو كنت في قتله الحسين بن على عليهما السلام، ثم امرت بدخول الجنه لم افعل حياء ان تقع عيني في عين محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا الهادي رضوان الله، اخبر عن السندي بن شاهك، قال: كنت معه بجرجان فسمع بين بساتينها صوت رجل يتغنى، فامر باحضاره، فقلت له: ما اشبه قصه هذا الجائى بقصة صاحب سليمان بن عبد الملك، فقال: وما ذاك؟ فقلت: خرج سليمان في منزه له مع حرمه، فسمع صوت رجل يتغنى، فدعا صاحب شرطته، وقال: على بصاحب الصوت، فاتى به، فقال له: ما حملك على الغناء وأنت على القرب منى، وبجانب حرمي؟ اما علمت ان الفرس يصهل فتستأتى له الرماك. وان الحمار ليعشر فتودق له الأتن، وان التيس ليهب فتزعج له الغنم، وان

الرجل ليغنى فتغتلم المرأة يا غلام جبه، فجبه فلما كان في العام المقبل رجع سليمان الى ذلك المنزل، فذكر الرجل وما صنع به، فقال لصاحب شرطته: على بالرجل الذى جببته ان كان حيا فأتاه به، فقال له: إما بعت فوفيناك، وإما وهبت فكافأناك! فما دعاه الرجل الا باسمه، وقال: يا سليمان، قطعت نسلى، وذهبت بماء وجهي، وحرمتني لذتي، ثم تقول: إما بعت واما وهبت! لا والله حتى أقف بين يدي الله عز وجل! فقال الهادي لصاحب الشرطه: لا تعرض للرجل. وكان الرشيد رضوان الله عليه في بعض أسفاره، وقد نزل الثلج فاذاه، فقال له بعض اصحابه: الى متى سهرك يا امير المؤمنين؟ فقال: اسكت، للرعية المنام، وعلينا القيام، ولا بد للراعي من حراسه الاغنام. وقد روى قطن بن وهب، عن ابيه، ان عمر بن الخطاب امير المؤمنين رضى الله عنه اجتاز في بعض أسفاره على صاحب غنم، فقال: يا ذا الرجل، ان كل راع مسئول عن رعيته، وانى رايت في المكان الفلاني عشبا امثل من موضعك ثم اثنى على عمر رضى الله عنه، وذكر سيرته، يقول الشاعر فيه: غضبت لغضبتك القواطع والقنا ... لما نهضت لنصره الاسلام ناموا الى كنف لعدلك واسع ... وسهرت تحرس غفله النوام ولو تتبعت امثال هذا لأطلت، ولم أر اجمع لهذا العلم من كتاب محمد بن جرير الطبرى، فرايت ان اضيف اليه مجموعا عولت فيه على ما نقلته من تصانيف المؤرخين وتاليف المحققين كالصولى والتنوخي والخطيب ابى بكر احمد بن ثابت

المحدث وابى إسحاق الصابى، واولاده وابن سنان وغير هؤلاء، واضفت الى ذلك ما حفظته من شعر الشعراء وحكايات العلماء تشهد بالحال، واختصرته بجهدى، ولخصته بحسب طاقتي، واقتصرت فيه على الأمور المشهوره، والاحوال السائره المأثورة. وختمته ببيعه سيدنا ومولانا الامام المستظهر بالله امير المؤمنين، الذى قضى حق الله في بريته، وارتسم امره في رعيته فمن نظر في فضائله، داوى فكره العليل، وشحذ طبعه الكليل، وما من احد اوتى ذخيره تحصيل، وبصيره راى اصيل، يبدع في تدوين مناقبه، ولا يغرب في اثبات فضائله، ومن قصر في جمعها، فله في انعام المتأمل لذلك مجال يحرسه عن الم التقريع وثقته تفصح الناظر، وتغنى عن التبذل والمعاذير. فالرغبه الى الله تعالى في ان يمد ظلال ايامه التي بها اعتدل المائل، وارتدع الجاهل، وامن السابل، وقصر المتطاول، وان يجعل له من سيدنا ومولانا عمده الدين عضدا ينوء بقوتها، ويدا تسطو ببسطتها، وان يبلغه منه قاصيه الايثار وينيله منه غاية الاختيار وتبديد اعدائه تحت الذلة والصغار، والخيبة والخسار، لا يعتصمون بعصمه الا أباح الله حوزتها، ولا يعتضدون بفرقه الا شتت الله كلمتها. ومن نظر في عزمات سيدنا ومولانا الامام المستظهر بالله امير المؤمنين رضوان الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وابنائه الاكرمين، علم انها تأتي بما لم تقرع الاسماع من قبلها، ولا عثر في السير بمثلها، وتحقق انها ابعد مجدا، وان كانت اقرب عهدا، وارفع عمادا، وان كانت احدث ميلادا، فحفظ الله على الدنيا سياسته، وعلى أهلها حسن رأفته، حتى تضع له الدنيا خدودها ضارعه وتستجيب لأمره سامعه طائعة، انه ولى ذلك والقادر عليه، بمنه ولطفه. ولما ختم ابن جرير تاريخه سنه اثنتين وثلاثمائة، وهي السنه السابعه من خلافه المقتدر بالله رضى الله عنه، واشار الى الأمور اشاره خفيه، رايت ان ابتدى بخلافته ووقت بيعته، وبالله التوفيق.

خلافه المقتدر بالله

خلافه المقتدر بالله مده خلافه المقتدر بالله ابى الفضل جعفر بن المعتضد بالله اربع وعشرون سنه وشهران وعشره ايام، ومولده لثمان بقين من شهر رمضان سنه اثنتين وثمانين ومائتين، ولم يل الخلافه اصغر سنا منه. وليها وسنه ثلاث عشره سنه وشهر واحد وعشرون يوما بايع له لما مات المكتفي بالله ابو احمد العباس بن الحسن، وكان قد مال الى تقرير الأمر لعبد الله بن المعتز بمشوره ابى عبد الله محمد بن داود بن الجراح فثنى رايه عن ذلك ابن الفرات وقال: ان ابن المعتز يخبر نعم اصحاب السلطان، ويعرف اسرارهم وذخائرهم، وقد خالط الناس وفهم أمورهم، فعينه ممتدة الى ما في ايديهم، وان كان جعفر بن محمد المعتضد بالله صغيرا، فأنت تدبره، فقرر ذلك في نفسه. ولما مات المكتفي بالله، انفذ الوزير العباس بن الحسن، بصافى الحرمي الى دار ابن طاهر، والمقتدر بالله بها، فاحدره الى دار الخلافه واجتازت الحراقة على دار الوزير فامر الوزير غلمانه فنادوا الملاحين بالدخول ليغير زيه، فظن صافى ان ذلك لتغير راى فيه، فجرد سيفه على الملاح، وامره الا يعرج على مكان غير دار الخلافه. وبويع حينئذ على صلاه الاستخارة، واطال الدعاء، وكان العباس بن الحسن قد عول على ان ينصب في الخلافه أبا عبد الله بن المعتمد على الله، او أبا الخير ابن المتوكل على الله، فماتا مختلسين.

سنه ست وتسعين ومائتين

سنه ست وتسعين ومائتين قد ذكرت ميل ابى عبد الله محمد بن داود بن الجراح صاحب الديوان الى ابن المعتز فلما لم يجد عند الوزير ما يريده، عدل الى الحسين بن حمدان، فاشار عليه بالمعاضده على فسخ امر المقتدر بالله وتمهيد حال ابن المعتز، وبادر الحسين بن حمدان الى الوزير العباس بن الحسن وقد ركب من داره بدرب عمار عند الثريا، الى بستانه المعروف ببستان الورد، عند مقسم الماء، فاعترضه بالسيف فقتله، وقتل معه فاتكا المعتضدي وكان المقتدر بالله قد ركب لمشاهده اجراء الخيل، فسمع الضجة، فبادر الى الدار وكان الحسين قد قصد للفتك به، واغلقت الأبواب دونه، فانصرف الى المخرم، وجلس في دار سليمان بن وهب، وعبر اليه ابن المعتز، وكان نزل بدار على الصراة، وحضر ارباب الدولة من الكتاب والقواد والقضاه فبايعوه ولقبوه المرتضى بالله. واستخفى ابن الفرات واستوزر ابن المعتز ابن الجراح ومضى ابن حمدان الى دار الخلافه، فقابله الخدم والغلمان على سورها ودفعوه. وكان مع المقتدر بالله غريب الخال، ومؤنس الخادم، الذى لقبه بالمظفر ومؤنس الخازن. ولما جن الليل مضى ابن حمدان باهله وماله واصعد الى الموصل واصعد

غريب الخال ومؤنس المظفر في الزبازب الى المخرم فهرب الناس من عند ابن المعتز، وخرج وحده، واستجار بابن الجصاص. واستتر على بن عيسى وابن الجراح عند بقلى، فأخرجهما العامه وسبوهما وسلموهما الى خادم اجتاز بهم فحملهما على بغل وقتل مؤنس المظفر جميع من بايع ابن المعتز غير على بن عيسى وابن عبدون والقاضى محمد بن خلف بن وكيع. وانفذ المقتدر بالله مؤنسا الخازن لطلب ابن الفرات، وكان قد استتر عند جيرانه، فكتموه امره، فحلف لهم ان السلطان يريد ان يستوزره، فاظهروه وحمله الى الخليفة، فولاه وزارته. ونم خادم لابن الجصاص بخبر ابن المعتز الى صافى الحرمي، فكبس عليه واخذه وأخذ ابن الجصاص معه، فصودر على اموال جمه وسال ابن الفرات فيه. واستنقذ ابن الفرات على بن عيسى ومحمد بن وكيع القاضى، وابن عبدون، ونفى ابن عبدون الى الاهواز، ونفى على بن عيسى الى واسط، فلما حصلا بالموضعين قرر سوسن مع المقتدر بالله احضار ابن عبدون وتوليته الوزارة. فلما حصل بواسط، بلغ ذلك ابن الفرات، فاغرى المقتدر سوسن حتى قتله وانفذ الى ابن عبدون من صادره واعتقله وكتب على بن عيسى الى ابن الفرات يسأله ابعاده الى مكة لتزول عنه التهم ففعل، وسار إليها على طريق البصره. وظهر موت ابن المعتز فسلم الى اهله ميتا. وكان ابن الجراح مستترا، وعزم ابن الفرات على التوصل الى الصفح عنه، وأتاه رجل برقعته، فأمره بالاستتار حتى يدبر طريق العفو عن جرمه العظيم، واعلمه ان صافيا الحرمي يعاديه فلم يصبر ابن الجراح، فتتبعت امراه نصرانية كانت تحمل رقاعه، فاخذ وحمل الى مؤنس فقتله. واتى ابن الفرات رجل، فاخبره انه يعرف مكانه، فقال ان كان هذا صحيحا، فلك الف دينار، والا عوقبت لكذبك الف سوط، فرضى وامر ابن الفرات حاجبا

له بمراسلته ليبعد عن المكان الذى هو فيه مستتر فلما علم انه قد تركه، ومضى الى غيره انفذ بالساعى به مع صاحب الشرطه، فلم يجدوه فامر ابن الفرات بضرب الساعى مائتي سوط واشهاره والنداء على نفسه: هذا جزاء من يسعى بالباطل، ثم امر له بمائتي دينار ونفاه الى البصره سرا وقال: لو لم افعل هذا به، سعى بي الى الخليفة بأنني توانيت في امره. واما ابو عمر القاضى فسال فيه أبوه يوسف بن يعقوب القاضى، فاحترم لكبر سنه، وادى عنه مائه الف دينار على ان يلازم منزله. وانفذ الخليفة بالقاسم بن سيماء وابى الهيجاء بن حمدان، لمحاربه أخيه الحسين ابن حمدان، فهزمهما، ودبر ابن الفرات حتى كتب له أمانا وولاه قم. وفي هذه السنه، قلد يوسف بن ابى الساج اعمال آذربيجان وأرمينية، على ان يحمل بعد إعطاء الجند والنفقات مائه وعشرين الف دينار في السنه. وقدم بارس غلام اسماعيل بن احمد صاحب خراسان في اربعه آلاف تركي مفارقا لصاحبه، فقلد ديار ربيعه. وكان للوزير العباس بن الحسن ابن كنيته ابو جعفر، واسمه محمد، فمضى بعد قتل ابيه الى بخارى واقام عند الملوك السامانيه، ومن شعره: لئن اصبحت منبوذا ... باطراف خراسان ومجفوا نبت عن لذة ... التغميض اجفانى ومحمولا على الصعبه ... من اعراض سلطان ومخصوصا بحرمان ... من الأعيان اعيانى ومكلوما باظفار ... ومكدوما باسنان وملقى بين اخفاف ... وأظلاف توطآنى وما ذنبي الى من هو ... عنى عطفه ثانى

سوى انى ارى في الفضل ... فردا ليس لي ثانى كان المجد إذ كشف ... عنى كان غطانى ساسترفد صبري انه ... من خير أعواني واستنجد عزمي انه ... والحزم سيان وأنضو الهم من قلبي ... وان أنضيت جثماني وانجو بنجاتى ان ... قضاء الله نجاني الى ارضى التي ارضى ... وترضيني وترضانى فان سلمني الله ... وبالصنع تولاني واوطانى اوطانى ... وأعطاني أعطاني واخلى ذرعي الدهر ... وخلاني وخلاني فانى لا أجد العود ... ما عاد الجديدان الى الغربه حتى تغرب ... الشمس بشروان فان عدت لها يوما ... فسجانى سجاني وللموت الوحى الأحمر ... القانى القانى وقال بعض الشعراء في العباس بن الحسين، وقد ساء خلقه بعلو سنه: يا أبا احمد لا تحسن ... بأيامك ظنا فاحذر الدهر فكم اهلك ... املاكا فافنى كم رأينا من وزير ... صار في الأجداث رهنا اين من كنت تراهم ... درجوا قرنا فقرنا فتجنب مركب الكبر ... وقل للناس حسنا ربما امسى بعزل ... من باصباح يهنى وقبيح بمطاع الأمر ... الا يتأنى اترك الناس وأيامك ... فيهم تتمنى قال جحظه: اضقت مره اضاقه شديده، فجلست مع ملاح، ومعى طنبورى، وانحدرت حتى دار الوزارة بالمخرم، والوزير إذ ذاك العباس بن الحسن، والسماء

متغيمه، والستائر منصوبه، والماء زائد على نيف وعشرين ذراعا، فأمرت الملاح، فشد السميريه في الروشن، وغنيته: عللانى بجامه وبطاس ... قهوة من ذخائر الشماس سقيانى فقد صرفت صروف الدهر ... عنى بدولة العباس ملك ينثر الثمين من الدر ... بألفاظه على القرطاس فامر بي، فاصعدت، وامر لي بألفي دينار.

سنه سبع وتسعين ومائتين

سنه سبع وتسعين ومائتين فيها انفذ السبكرى مقلد فارس، مع كاتبه الفضل عبد الرحمن بن جعفر الشيرازى طاهرا ويعقوب بن محمد بن عمرو بن الليث الصفار وكان قد أسرهما، ثم عزم السبكرى على الخلاف، فانفذ اليه ابن الفرات مؤنسا فصالحه على عشره آلاف الف درهم، فلم يرض بذلك ابن الفرات، وانفذ اليه جيشا، ومعه محمد بن جعفر العبرتائي، فواقعوا السبكرى على باب شيراز، فهزموه الى سجستان، فاسره احمد بن اسماعيل، واسر معه بعض بنى عمرو بن الليث، وأنفذهما الى بغداد. وتوفى العبرتائي بفارس، فقلد مكانه عبد الله بن ابراهيم المسمعي. وفيها غرقت فاطمه القهرمانه في طيارها تحت الجسر في يوم ريح عاصف، فحضر صهرها بنى بن نفيس جنازتها، وجعلت السيده مكانها أم موسى.

سنه ثمان وتسعين ومائتين

سنه ثمان وتسعين ومائتين فيها اعتل صافى الحرمي، ووهب داره بقصر عيسى لغلامه قاسم، وابراه من كل امر، ومات فحمل الى ابن الفرات من ماله مائه وعشرون الف دينار وسبعمائة منطقه ذهبا وفضه، فحملها ابن الفرات الى المقتدر بالله، فاقر مرتبه استاذه. وولى غريب الخال ما كان يتقلده صافى من الثغور الشامية. وفي هذه السنه مات المظفر بن حامد امير اليمن، وحمل الى مكة فدفن بها. وكان ملاحظ قد انفذه الخليفة مددا فتولى مكانه. وفي هذه السنه توفى احمد بن ابى عوف، وشارعه في الجانب الغربي معروف وكان احد العدول، وتوفى وسنه نيف وثمانون سنه وقال: أصابني هم لم اعرف سببه في بعض الأيام، فخرجت الى بستان لي على نهر عيسى، فاجتاز بي ركابى، ثم وقف في ظل شجره، فتقدمت له بما يأكله، لأنني رايته والجوع غالب عليه، فأكل ثم نام فأخذت الكيس الذى فيه كتبه، فإذا فيه كتاب التجار من الرقة، الى اصدقائهم ببغداد ومعارفهم، يأمرونهم بشراء كل زيت ببغداد، ويخبرونهم انه معدوم عندهم، فبادرت وامرت وكلائى بابتياع ما يقدرون عليه من الزيت، فابتيع الى آخر النهار بعشره آلاف دينار، وكنت قد وعدت الركابى بدينارين ان اقام ليلته عندي، ولم اعرفه السبب ولم يبت ببغداد زيت لغيري، فلما اصبحت سرحت الركابى، وانتشر الذين وصلت الكتب اليهم في طلب الزيت، فلم يجدوه، فاربحونى في كل درهم درهما، فعلمت انه انما كان خروجى الى بستاني لاحوز عشره آلاف دينار من غير مشقة. وفي هذه السنه توفى محمد بن داود الاصبهانى الفقيه، صاحب الكتاب المعروف بالزهرة. حكى الشيخ ابو إسحاق الشيرازى في كتاب الفقهاء، عن القاضى ابى الطيب

الطبرى عن ابى العباس الخضرى قال: كنت جالسا عند ابن داود، فاتته امراه فقالت: ما تقول في رجل له زوجه، لا هو ممسكها، ولا هو مطلقها؟ فقال ابو بكر: قد اختلف اهل العلم في ذلك، فقال قائلون: يؤمر بالصبر والاحتساب، ويبعث على الطلب والاكتساب وقائلون: يؤمر بالإنفاق، والا يحمل على الطلاق فلم تفهم المرأة، فاعادت مسألتها، فقال: يا هذه، قد اجبتك الى مسألتك، وارشدتك الى طلبتك، ولست بسلطان فامضى، ولا زوج فارضى، ولا قاض فأقضي فذهبت المرأة ولم تعرف قوله. ولما مات أبوه، قال الشيخ ابو إسحاق في كتاب الفقهاء: كان يحضر مجلس داود أربعمائة صاحب طيلسان واحتضر فجلس محمدا مكانه، فاستصغره الناس، فسألوه عن حد السكر، فقال مبادرا: حد الكسر ان تغرب عنه الهموم، وان يبوح من سره المكتوم، فعلموا نجابته حينئذ. وكان يهوى محمد بن جامع، ولأجله صنف كتاب الزهرة وكان محمد بن جامع من احسن الناس، واكثرهم مالا، ولا يعرف معشوق كان ينفق الأموال على عاشق الا ابن جامع مع ابن داود. قال الخطيب في تاريخه وخرج ابن جامع من الحمام، فاخذ المرآه، فنظر الى وجهه، فغطاه وركب الى ابن داود، فلما رآه مغطى الوجه، قال له ما الخبر؟ وخاف ان يكون قد لحقته آفه، فقال: رايت وجهى في المرآة، فغطيته واحببت الا يراه احد قبلك، فغشى على محمد بن داود. وحضر ابن داود وابن سريج مجلس ابى عمر القاضى، فتكلما في مساله العود، فقال ابن سريج: عليك بكتاب الزهرة فقال ابو داود: ابكتاب الزهرة تعيرني وانا اقول فيه:

اكرر في روض المحاسن وجهه ... وامنع نفسي ان تنال المحرما وينطق سرى عن مترجم خاطري ... فلولا اختلاسى رده لتكلما رايت الهوى دعوى من الناس كلهم ... فما ان ارى حبا صحيحا مسلما فقال ابن سريج: او على تفخر بهذا القول؟ وانا الذى اقول: ومساهر بالغنج من لحظاته ... قد بت امنعه لذيذ سباته ضنا بحسن حديثه وعتابه ... واكرر اللحظات في وجناته حتى إذا ما الصبح لاح عموده ... ولى بخاتم ربه وبراته فقال ابن داود لأبي عمر: أيد الله القاضى، قد اقر بالمبيت وادعى البراءة، فما توجبه؟ قال ابن سريج: من مذهبي ان المقر إذا اقر إقرارا وناطه بصفه، كان اقراره موكلا الى الصفة فقال ابن داود: للشافعى في هذه المسألة قولان، فقال ابن سريج: فهذا القول الذى قلته اختياري الساعة.

سنه تسع وتسعين ومائتين

سنه تسع وتسعين ومائتين فيها قبض على ابن الفرات، وهتكت حرمه، ونهبت دوره ودور أسبابه، فكان صاحب الشرطه مؤنس الخازن المعروف بالفحل تحت يده تسعه آلاف فارس وراجل، وإذا كثر النهب وعظم الخطب يركب، فيسكن المنتهبون عند ركوبه، ويعودون الى النهب عند نزوله ودام ذلك ثلاثة ايام بلياليها. وتقلد بعده ابو على محمد بن عبيد بن يحيى بن خاقان الوزارة وكان ابو على يتقلد ديوان الضياع بعد وفاه ابيه في وزارة الحسن بن مخلد. وكانت أم موسى القهرمانية تعنى بابني ابى البغل فولى أبا الحسن منهما أصبهان، وولى الآخر الصلح والمبارك. وكان ابن الفرات قد نفى أبا الهيثم العباس بن ثوابه الى الموصل لقرابته من ابن عبدون، فاستدعاه ابن الخاقانى، وقلده مصادره بنى الفرات، فاسرف في المكروه بهم وغلب على الاحوال. وكان في احوال الخاقانى تناقض، وكان يتقرب الى العامه، فانحدر يوما في زبزبه الى دار السلطان، فراى جماعه من الملاحين يصلون على دجلة، فصعد وصلى معهم. وولى ابنه عرض الكتب على الخليفة، وكان مدمنا للشرب، ففسدت الأمور بذلك وكان اولاده وكتابه يرتفقون من العمال بما يولونهم به الولايات، ثم يعزلونهم إذا رأوا مطمعا فاجتمع بحلوان في خان بها سبعه عمال ولاهم في عشرين يوما ماء الكوفه وكان إذا ساله انسان حاجه قال: نعم وكرامة! ودق صدره. وكتب الى بعض العمال: الزم وفقك الله المنهاج، واحذر عواقب الاعوجاج، واحمل ما امكن من الدجاج فحمل العامل دجاجا كثيرا، وقال: هذا دجاج وفره بركه السجع

سنه ثلاثمائة

سنه ثلاثمائة طالب القواد الخاقانى باستحقاقهم، فقصر واعتذر، فعزم المقتدر بالله على رد ابن الفرات، فاشار مؤنس ان يولى على بن عيسى، وذكر ديانته وثقته، وقال: يقبح ان يعلم الناس ان الضرورة قادت الى ابن الفرات للطمع في ماله، فامر المقتدر الخاقانى ان يكاتب على بن عيسى بالحضور، واظهر له الايثار لاستنابته له، فكان الخاقانى يقول: قد استدعيت على بن عيسى لينوب عن عبد الله ابنى في الدواوين ثم ركب الى دار السلطان فقبض عليه وعلى أسبابه

سنه احدى وثلاثمائة

سنه احدى وثلاثمائة قدم فيها على بن عيسى من مكة، فقلده المقتدر وزارته وخلع عليه، وسلم الخاقانى اليه، فصادره وأسبابه مصادره قريبه، وصان حرم الخاقانى. واعتمد على على بن عيسى لما اشتهر عنه من افاضه المعروف وعماره الثغور والجوامع والمارستانات في سائر الأوقات، ورد المظالم بها، وكتب في ذلك كتابا اوله: بسم الله الرحمن الرحيم، سبيل ما يرفعه إليك كل واحد من المتظلمين قبل النوروز من مظلمته، ويدعى انه تلف بالآفة من غلته، ان تعتمد في كشف حاله على اوثق ثقاتك، واصدق كفاتك حتى يصح لك امره، فتزيل الظلم عنه، وترفعه، وتضع الإنصاف موضعه، وتحتسب من المظالم بما يوجب الوقوف عليه حسبه، وتستوفى الخراج بعده، من غير محاباه للاقوياء، ولا حيف على الضعفاء واعمل بما رسم لك ما يظهر ويذيع ويشتهر ويشيع، ويكون العدل به على الرعية كاملا، وللانصاف شاملا ان شاء الله. وساس على بن عيسى الدنيا السياسة المشهوره، التي عمرت البلاد، حتى قال له ابن الفرات لما ناظره: قد اسقطت من مال امير المؤمنين خمسمائة الف دينار في السنه، فقال: لم استكثر هذا المقدار في جنب ما حططته عن امير المؤمنين من الأوزار، لأنني حططت المكس بمكة، والتكمله بفارس، وجبايه الخمور بديار ربيعه، ولكن انظر الى نفقاتى ونفقاتك، وضياعي وضياعك فاسكته. وزادت في ايامه العمارة وتضاعف الزراعة، حين كتب اليه عامله: ان قوما يبادوريا لا يؤدون الخراج، فان امرت عاقبناهم، فكتب اليه: ان الخراج دين، ولا يجب فيمن امتنع عن أداء الدين غير الملازمة، فلا تتعد ذاك الى غيره والسلام. ومما استحسن من افعال الخاقانى بعد عزله، ان قوما زوروا عليه باطلاقات ومسامحات، فانفذ بها على بن عيسى يسأله عنها ليمضى منها ما اعترف به، فصادفه

الرسول يصلى فلما راى ابنه يتأمل التوقيعات، قطع صلاته وقال: هذه توقيعاتى صحيحه، الوزير يرى رايه فيمضى ما آثر منها، ويعرض على ما أحب منها والتفت الى ابنه حين خرج الرسول فقال: اردت ان نتبغض الى الناس فتكون السبب في رد ما تضمنته، ويتنزه على بن عيسى من ذلك، فلم لا نتحبب بالاعتراف بها، فان أمضاها حمدنا وان ردها عذرنا. وقصد القواد على بن عيسى، بإسقاطه الزيادات التي زادها ابن الفرات، ووقعوا فيه وثلبوه. وفي هذه السنه، خلع على الأمير ابى العباس بن المقتدر- وهو الذى ولى الخلافه ولقب بالراضى- واستخلف له مؤنس. وفيها انفذ على بن احمد الراسبى الحسين بن منصور الحلاج وقد قبض عليه بالسوس، فشهر على جمل ببغداد، وصلب وهو حي وظهر عنه بانه ادعى انه الله. ومات الراسبى بعد قليل، فاخذ السلطان من ماله الف الف دينار. وفيها ورد الخبر بان اسماعيل بن احمد صاحب خراسان قتله غلمانه على شاطئ نهر بلخ، وقام ابنه ابو الحسن نصر مقامه وانفذ اليه الخليفة عهده. وفيها ورد الخبر بان خادما صقلابيا لأبي سعيد الجنابى قتله وخرج، فلم يزل يستدعى قائدا قائدا ويقتله، حتى قتل جماعه، ففطن به النساء فصحن بالأمر، فقام ابو طاهر سليمان بن الحسن مقام ابيه. واتى القرامطة في هذه السنه البصره في ثلاثين فارسا، والناس في صلاه الجمعه، فقتلوا الموكلين بالباب ومن خرج اليهم من المطوعة وبلغ الخبر امير البصره محمد بن إسحاق بن بنداحيق فغلق الأبواب

سنه اثنتين وثلاثمائة

سنه اثنتين وثلاثمائة ورد فيها كتاب ابى الحسن نصر بن احمد صاحب خراسان بانه واقع عمه إسحاق واسره. وفي هذه السنه خرج مؤنس الى مصر، وضم اليه على بن عيسى أخاه عبد الرحمن، وقلده كتابته، وذلك عند سماعهم قرب الخارج بالقيروان، وواقعه مؤنس، فانهزم من بين يديه: وهذا الخارج، ذكر الصولي عن اصحاب النسب انه عبيد الله بن عبد الله ابن سالم، من اهل عسكر مكرم، وجده سالم قتله المهدى رضوان الله عليه على الزندقة 4 وانفذ أبا عبد الله الصوفى الى المغرب، فأرى الناس زهدا وعباده، وطرد زياده الله بن عبد الله بن الاغلب، وأتاه عبيد الله، فقال: الى هذا ادعوكم. فلما اظهر عبيد الله شرب الخمر تبرا الصوفى منه، فدس عليه عبيد الله من قتله، وملك بلاد المغرب، فهزمه مؤنس، وتصدق المقتدر بالله عند هزيمته باموال كثيره. وفي هذه السنه صودر ابن الجصاص، قال الصولي: وجد له بداره بسوق يحيى خمسمائة سفط من متاع مصر، ووجد فيها جرار خضر وقماقم مدفونة فيها دنانير، وأخذ منه الف الف دينار. قال الصولي: وحضرت مجلسا جرى فيه بين ابن الجصاص وابراهيم بن احمد الماذرائى خلف، فقال ابراهيم: مائه الف دينار من مالي صدقه، لقد ابطلت في الذى حكيته عنى، فقال ابن الجصاص: قفيز دنانير من مالي صدقه، اننى صادق وانك مبطل، فقال ابن الماذرائى: من جهلك انك لا تعلم ان مائه الف اكثر من قفيز، فانصرفت الى ابى بكر بن ابى حامد فاخبرته، فقال: نعتبر هذا، فاحضر

كيلجه، فملأها دنانير، ثم وزنها، فكانت اربعه آلاف، فنظرنا فإذا القفيز سنه وتسعون الف دينار كما قال الماذرائى. وكان ابن الجصاص قد انفذ له من مصر مائه عدل خيشا، في كل عدل الف دينار، فأخذت ايام نكبته وتركت بحالها، ولما اطلق سال فيها، فردت عليه، فاخذ المال منها، وكان إذا ضاق صدره اخرج جوهرا يساوى خمسين الف دينار، وتركه في صينية ذهب ويلعب به، فلما قبض عليه وكبست داره، كان الجوهر في حجره، فرمى به الى البستان، فوقع بين شجره، فلما اطلق فتش عليه في البستان وقد جف نبته وشجره، وهو بحاله. وفي هذه السنه، ختن اولاد الخليفة، ونثر عليهم خمسه آلاف دينار، ومائه الف درهم وبلغت نفقه الطهر ستمائه الف دينار وادخلوا الى المكتب، وكان مؤدبهم ابو إسحاق ابراهيم بن السرى الزجاج. وفي هذه السنه، غزا افسن الافشينى فاسر مائه وخمسين بطريقا، والفى فارس. وفي ذي القعده، خلع على ابى الهيجاء بن حمدان، وقلد الموصل وأعمالها. وفيها ماتت بدعه جاريه عريب، وكان إسحاق بن أيوب قد ضمن لأبي الحسن على بن يحيى المنجم عشرين الف دينار، ان باعتها عريب منه بمائه الف دينار. فجاء وخاطبها، فاستدعت بدعه وخيرتها بين المقام والبيع، فاختارت المقام، فأعتقتها ولم يملكها قط رجل. وفي هذه السنه توفى ابو بكر جعفر بن محمد الغريانى، وهو ممن طوف شرقا وغربا لسماع الحديث، واستقبل لما قدم بغداد بالطيارات والزبازب واملى بشارع

المنار بباب الكوفه، فحزر في مجلسه ثلاثون ألفا يكتب منهم عشره آلاف، وكان في مجلسه ثلاثمائة وسته عشر يستملون، ومولده سنه سبع ومائتين ودفن بالشونيزي. وفي هذه السنه، توفى احمد بن عبد العزيز بن طوما الهاشمى، نقيب العباسيين، وولى مكانه ابنه محمد، وتوفى وهو ابن اثنتين وتسعين سنه، وسمعت ان له عقبا بالحاذانيه ذباله البطيحة

سنه ثلاث وثلاثمائة

سنه ثلاث وثلاثمائة فيها اطلق السبكرى من الحبس، وخلع عليه خلع الرضا. ووقع حريق في سوق النجارين بباب الشام واحترق، وطار الشرار فاحرق ستاره جامع المدينة. وعصى الحسين بن حمدان، واجتمع معه ثلاثون الف رجل من العرب وهزم رائقا الكبير، واقام بإزاء جزيرة ابن عمر وورد مؤنس من مصر، وقد استدعاه على بن عيسى لحرمه فانهزم اصحاب الحسين، واسره مؤنس، وادخله الى بغداد، ومعه ابنه عبد الوهاب، فصلبه حيا على نقنق على ظهر فيل، ونقله ابنه على جمل، والأمير ابو العباس والوزير على بن عيسى ومؤنس وابو الهيجاء بن حمدان وابراهيم ابن حمدان يسيرون بين يديه، وحبس عند زيدان القهرمانه وقبض بعد ذلك على ابى الهيجاء واخوته. وطلب الجند الزيادة، فزيد الفارس ثلاثة دنانير، والراجل خمسه عشر قيراطا. وفي هذه السنه، توفى ابو على الجبائي، ومولده سنه خمس وثلاثين ومائتين، وكان ابو على شيخ المعتزله في زمانه ومات بعسكر مكرم، وحمل الى منزله بجبى، ولما احتضر قال اصحابه: من يلقنه التوبة؟ فلم يتجاسر احد على ذلك إعظاما له، فقال اصغرهم سنا: انا القنه، وتقدم وقرأ: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جميعا ايها المؤمنون لعلكم تفلحون، ففتح ابو على عينيه وقال: اللهم انى تائب إليك من كل قول نصرته كان الصواب عندك غيره، واشتبه على امره، فقال من حضره: لو كان على ذنب غير هذا لذكره وكان يذهب الى ان حكم النجوم صحيح على وجه، وهو انه يجوز ان يكون الله تعالى، اجرى العادة إذا صار الكوكب الفلاني الذى جعله

الله تعالى وخلقه سعدا الى الموضع الفلاني كان كذا. وكان ينكر على المنجمين ان الكواكب تفعل بأنفسها ذلك، فاجتاز بعسكر مكرم على دار سمع فيها صيحه لأجل امراه تلد، فقال: ان صح ما يقوله المنجمون، فهذا المولود ذو عاهة، فخرجت امراه، فسالت أبا على الدخول وان يحنك المولود ويؤذن في اذنه، ففعل فإذا به احنف

سنه اربع وثلاثمائة

سنه اربع وثلاثمائة في فصل الصيف فزع الناس من شيء من الحيوان يسمى الزبزب ذكروا انهم كانوا يرونه على السطوح ليلا، وربما قطع يد النائم وثدي النائمة فكانوا يضربون بالهواوين ليفزعوه، وارتجت بغداد في الجانبين لذلك، وعمل الناس لأولادهم مكاب من سعف يكبونها عليهم. وفي هذه السنه، قبض على على بن عيسى وعلى اهله، وصودر اخوه عبيد الله ابن على على ستين الف دينار، وصودر اخوه ابراهيم بن عيسى على خمسين الف دينار. وسال ان يؤذن له في المقام بدير العاقول، فأجيب الى ذلك. والزم ابو بكر محمد بن عبد الله الشافعى اربعه آلاف دينار، وشفع القاضى ابو عمر فيه فاطلق بعد أدائها وتم ذلك عليهم في وزارة ابى الحسين بن الفرات الثانيه. وظهر ابو على بن مقله من استتاره، وكان استتاره في ايام الخاقانى وعلى ابن عيسى، واختص بابن الفرات، وتولى كتابه السيده والأمراء اولاد المقتدر بالله. وكان يوسف بن ابى الساج، قد قاطع على اعمال ابهر وزنجان والري وقزوين، واستبد بالمال، واظهر ان على بن عيسى كاتبه بذلك، وانفذ اليه لوائين وخلعا، فأنكر على بن عيسى، وقد عنفه ابن الفرات على ذلك، وقال: اللواء والخلع والكتاب على حامله وكاتبه لا من كتم ذلك فانفذ المقتدر خاقان المفلحى لمحاربته، فهزمه يوسف، وشهر اصحابه بالري وقدم مؤنس من الثغر، فانفذه المقتدر بالله

لحربه، فواصل ابن ابى الساج المكاتبة بالرضا والسؤال في المقاطعه عما بيده من الاعمال، وان يؤدى في كل سنه سبعمائة الف دينار، فلم تقع له اجابه فسار من الري الى اذربيجان، وركب الأشد، وحارب مؤنسا، فهزمه، ومضى مؤنس الى زنجان، وقتل من اصحابه وقواده عده. وانفذ ابن ابى الساج يطلب الصلح، ومؤنس لا يجيبه، ولو اراد يوسف اسره لتم، ولكنه ابقى عليه فلما كان في المحرم سنه سبع وثلاثمائة في ايام حامد بن العباس واقعه مؤنس باردبيل، واستؤسر يوسف مجروحا، وحمل الى بغداد في شهر ربيع الآخر، وشهر على الفالج، وهو جمل له سنامان، يشهر عليه الخوارج على السلطان، وترك على راسه برنس، والقراء يقرءون بين يديه والجيش وراءه. وحبس عند زيدان القهرمانه وخلع على مؤنس وطوق وسور، وزيد في ارزاق اصحابه. ولما انكفأ مؤنس الى بغداد استولى سبك، غلام يوسف على الاعمال، فانفذ اليه مؤنس قائده الفارقى لحربه فهزمه وسال سبك ان يقاطع على الاعمال فأجيب. واتصلت العداوة بين ابن الفرات وبين الحاجب نصر القشورى وشفيع المقتدرى. وكان ابن الفرات قد قلد ابن مقله كتابه نصر، فاستوحش ابن مقله من ابن الفرات، فاطمعه صاحبه وابن الحوارى في تقلد الوزارة، وكان يهدى إليهما اخبار ابن الفرات

سنه خمس وثلاثمائة

سنه خمس وثلاثمائة فيها مات السبكرى بعد اطلاقه من الحبس. وفيها اطلق ابو الهيجاء واخوته، وخلع عليهم. وفيها مات غريب الخال خال المقتدر بالله، وعقد لابنه مكانه، وحضر ابن الفرات جنازته بداره، بالنجمى. وفيها قلد ابو عمر قضاء الحرمين

سنه ست وثلاثمائة

سنه ست وثلاثمائة [أخبار متفرقة] في هذه السنه، تاخرت ارزاق الجند، واحتج ابن الفرات بان المال صرف في نفقه الجيش الذى جهزه لمحاربه ابن ابى الساج، فقبض عليه فكانت وزارته هذه سنه وخمسه اشهر وتسعه عشر يوما. ودخل على جحظه بعض اصدقائه، فقال له: ما تتمنى؟ فقال: لم يبق لي منى غير نكبات الوزراء! فقال له: قد نكب ابن الفرات، فقال جحظه: احسن من قهوة معتقه ... تخالها في انائها ذهبا من كف مقدودة منعمه ... تقسم فينا الحاظها الوصبا ومسمع نهض السرور إذا ... رجع فيما تقول او ضربا نعمه قوم أزالها قدر ... لم يحظ حر فيها بما طلبا وزارة حامد بن العباس كان حامد يستدعى قسيما الجوهري خادم السيده، إذا خرج الى واسط لمشارفه أعمالها بها، ويلاطفه، فعاد من عنده وقد نكب ابن الفرات، فاشار به، فوافق ذلك مشوره ابن الحوارى أيضا فوصل وقد كوتب الى بغداد في اليوم الرابع من القبض على ابن الفرات وكان له أربعمائة غلام يحملون السلاح وعده حجاب تجرى مجرى القواد. واشار ابن الحوارى عليه بطلب على بن عيسى، ومساءله المقتدر بالله فيه ليخلفه على الدواوين، ففعل، فقال المقتدر بالله: ما احسب على بن عيسى يرضى ان يكون تابعا، بعد ان كان متبوعا فقال حامد: انا اعامل الوزراء منذ ايام الناصر لدين الله، فما رايت اعف من على بن عيسى، ولا اكبر نفسا منه، ولم لا يستجيب لخلافه الوزارة؟ وانما الكاتب كالخياط يخيط يوما ثوبا قيمته الف دينار، ويخيط يوما

ثوبا قيمته عشره دراهم فضحك منه من سمع قوله، وعيب بهذا. وازرى عليه، ان أم موسى القهرمانه، خرجت اليه برقعة من الخليفة فقرأها، ووضعها بين يديه، وأخذ يتحدث حديث شق الفرن المنفجر ايام الناصر لدين الله بواسط، وأم موسى مستعجله بالجواب، ولم يجب الى ان استوفى حديث الشق. وحكايته معها في قوله لها: والتقطي واحذرى ان تغلطى مشهوره. وكتب ابو الحسن محمد بن جعفر بن ثوابه، عن المقتدر بالله كتابا الى اصحاب الاطراف يذكر فيه وزارة حامد اوله: اما بعد، فان احمد الأمور ما عم صلاحه ومنفعته، وخير التدبير ما رجى سداده واصابته، وازكى الاعمال ما وصل الى الكافه يمنه وبركته، وافضل الاكوان ما كان اتباع الحق سبيله وعادته. وخلع المقتدر بالله على على بن عيسى، وانفذ به مع صاحب نصر الحاجب وشفيع المقتدرى الى دار حامد على اعمال المملكة. وكتب اليه على بن عيسى في بعض الأيام رقعه خاطبه فيها بعبده، فأنكر ذلك حامد وقال: لست اقرا له رقعه إذا خاطبني بهذا، بل يخاطبني بمثل ما اخاطبه به. وكان يكتب كل واحد منهما الى صاحبه اسمه واسم ابيه، وشكر له على بن عيسى هذا الفعل. وسقطت منزله حامد، وتفرد على بالأمور، وقيل فيهما، قال ابن بسام: يا بن الفرات تعزى ... قد صار امرك آيه لما عزلت حصلنا ... على وزير بدايه وضمن على بن عيسى الحسين بن احمد الماذرائى، اعمال مصر والشام بثلاثة آلاف الف دينار، فاوصله الى المقتدر بالله، فخلع عليه وشخص الى عمله وقدم على بن احمد بن بسطام من مصر فولاه اعمال فارس. قال ابو الفضل العباس بن الحسين وزير معز الدولة: رايت أبا القاسم بن بسطام وقد دخل إلينا فارس عاملا، ومعه اثقال لم ير مثلها، ورايت في جمله اثقاله اربعين نجيبا موقره اسره مشبكه، ذكروا انه يستعملها في الطرقات للمجلس والتمس يوما سجاده للصلاة بعينها، وكان يألفها، ففتشت رزم الفرش، فكان فيها نحو أربعمائة سجاده

ولما تبين حامد ان منزلته قد وهت، استاذن في الانحدار الى واسط، فاذن الخليفة له، وليس له من الوزارة غير الاسم. واقطع المقتدر بالله ابنه أبا العباس دار حامد بالمخرم، فانتقل حامد الى داره في باب البصره. ولما انحدر حامد استخلف مكانه صهره أبا الحسين محمد بن بسطام وأبا القاسم الكلوذانى، فظهرت كفاية الكلوذانى. وتقلد ابو الهيجاء بن حمدان طريق خراسان

سنه سبع وثلاثمائة

سنه سبع وثلاثمائة ضجت العامه من الغلاء، وكسروا المنابر، وقطعوا الصلاة، واحرقوا الجسور، وقصدوا دار الروم ونهبوها، فانفذ المقتدر بمن قبض على عده منهم، واستدعى حامدا ليبيع الغلات التي له ببغداد، فاصعد، وباعها، ونقص في كل كر خمسه دنانير. وركب هارون بن غريب وابراهيم بن بطحاء المحتسب الى قطيعه أم جعفر، فسعروا الكر الدقيق بخمسين دينارا، فرضى الناس وسكتوا وانحل السعر

سنه ثمان وثلاثمائة

سنه ثمان وثلاثمائة ورد الخبر بحركة الخارج بالقيروان الى مصر، فاخرج مؤنس الى هناك. ودخل صاحب السند بغداد، فاسلم على يدي المقتدر بالله. وفي هذه السنه، خلع على ابى الهيجاء، وقلد الدينور. وتحركت الأسعار فيها فافتتن الناس ببغداد لذلك. وبرد الهواء في تموز، فنزل الناس من السطوح وتدثروا بالاكسيه واللحف.

سنه تسع وثلاثمائة

سنه تسع وثلاثمائة قرئت الكتب على المنابر بهزيمه المغربي، واستباحه عسكره ولقب مؤنس بالمظفر. وخلع على محمد بن نصر الحاجب، وقلد اعمال المعاون بالموصل، وعقد له لواء وخرج الى هناك. وهدمت دار على بن الجهشيار ببغداد في عرصة باب الطاق، وكان هذا الباب علما ببغداد في الحسن والعلو وبنى موضعه مستغل. وعقد لمؤنس المظفر على مصر والشام وخلع على ابى الهيجاء بن حمدان، وقلد اعمال المعاون بالكوفه وطريق مكة. وكبس سبعه من اللصوص دار ابن ابى عيسى الصيرفى، وأخذوا منه ثلاثين الف دينار، ثم عرفوا بعد ايام، فقتلوا، واسترد منهم نيفا وعشرين ألفا. وفي شوال دخل مؤنس المظفر بغداد قادما من مصر، فتلقاه الأمير ابو العباس ابن المقتدر، وخلع عليه، وطوق وسور على مائه واثنى عشر قائدا من قواده. وانفذ الى ابن ملاحظ عقد على اليمن وخلع ودعا المقتدر في يوم الاثنين لثمان بقين من ذي القعدة مؤنسا المظفر ونصرا الحاجب، وخلع على مؤنس خلع منادمه وسال في امر الليث بن على وطاهر بن محمد ابن عمرو بن الليث، ويوسف بن ابى الساج فوهبوا له. وفي هذه السنه اهدى الوزير حامد بن العباس الى المقتدر البستان المعروف بالناعوره، انفق على بنائه مائه الف دينار، وفرشه باللبود الخراسانيه.

وبلغت زياده دجلة في نيسان ثمانية عشر ذراعا. وانتهى الى حامد بن العباس امر الحسين بن منصور الحلاج، وانه قدموه على جماعه من الخدم والحشم والحجاب، وعلى خدم نصر، وانهم يذكرون عنه انه يحيى الموتى، وان الجن تخدمه واحضر السمري الكاتب ورجل هاشمي، مع جماعه من اصحاب الحلاج، واعترفوا بان الحلاج يدعى النبوه، وانهم صدقوه، وكذبهم الحلاج وقال: انما انا رجل اكثر الصلاة والصوم وفعل الخير واستحضر حامد ابن العباس القاضى أبا جعفر بن البهلول، فاستفتاهما في امره، فذكرا انهما لا يفتيان في امره بشيء، ولا يجوز ان يقبل قول من واجهه بما واجهه الا ببينه او باقرار منه، وتقرب الى الله تعالى بكشف امره رجل يعرف بدباس تبع الحلاج ثم فارقه، والحلاج مقيم عند نصر القشورى مكرم هناك ودافع عنه نصر أشد مدافعه، وكان يعتقد فيه اجمل اعتقاد فتكلم على بن عيسى، فقال له الحلاج فيما بينه وبينه: قف حيث انتهيت، والا قلبت الارض عليك، فعزم حينئذ على بن عيسى على مناظرته. وحضرت بنت السمري، فذكرت ان أباها أهداها الى سليمان بن الحلاج وهو بنيسابور، وكانت امراه حسنه الوجه، عذبه الكلام جيده الألفاظ، وقال لها الحلاج: متى انكرت من ابنى شيئا فصومي يوما، واقعدى في آخره على سطحك، وافطرى على ملح ورماد، واستقبلي واذكرى ما كرهت منه، فانى اسمع وارى وحكت ان ابنه الحلاج أمرتها بالسجود له، وقالت: هذا اله الارض، واكثرت في الاخبار عنه بما شاكل ذلك. وحكى حامد انه قبض على الحلاج بدور الراسبى فادعى تاره الصلاح، وادعى اخرى انه المهدى، ثم قال له: كيف صرت الاها بعد هذا! وكان السمري في جمله من قبض عليه من اصحابه، فقال له حامد: ما الذى

حداك على تصديقه؟ قال: خرجت معه الى اصطخر في الشتاء، فعرفته محبتي للخيار، فضرب يده الى سفح جبل، فاخرج من الثلج خياره خضراء، فدفعها الى، فقال حامد: افأكلتها؟ قال: نعم، قال: كذبت يا بن الف زانية في مائه الف زانية، أوجعوا فكه، فضربه الغلمان وهو يصيح: من هذا خفنا. وحدث حامد، انه شاهد ممن يدعى النيرنجيات انه كان يخرج الفاكهة. وإذا حصلت في يد الإنسان صارت بعرا. ومن جمله من قبض عليه انسان هاشمي كان يكنى بابى بكر، فكناه الحلاج، بابى مغيث حيث كان يمرض اصحابه ويراعيهم وقبض على محمد بن على بن القنائى، وأخذ من داره سفط مختوم فيه قوارير، فيها بول الحلاج ورجيعه، اخذه ليستشفى به. وكان الحلاج إذا حضر، لا يزيد على قوله: لا اله الا أنت، عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي، فانه لا يغفر الذنوب الا أنت. وظفر من كتب الحلاج بكتاب فيه: إذا اراد الإنسان الحج، فليفرد بيتا في داره طاهرا ويطوف به سبعا، ويجمع ثلاثين يتيما، ويعمل لهم ما يمكنه من الطعام، ويخدمهم بنفسه ويكسوهم، ويدفع الى كل واحد سبعه دراهم، فان ذلك يقوم مقام الحج. فالتفت القاضى ابو عمر الى الحلاج وقال: من اين لك هذا؟ قال: من كتاب الإخلاص للحسن البصرى، فقال ابو عمر: كذبت يا حلال الدم، قد سمعنا بكتاب الإخلاص بمكة، ما فيه ما ذكرت فقال حامد لأبي عمر: اكتب هذا. فتشاغل عنه بكلام الحلاج، واقبل حامد يطالب أبا عمر بالكتاب وهو متشاغل بالخطاب، حتى قدم الدواة من بين يديه الى ابى عمر، والح عليه إلحاحا لم يمكنه الدفع، فكتب بإحلال دمه وكتب من حضر المجلس، ولما تبين الحلاج الصورة قال: ظهري حمى ودمى حرام، وما يحل لكم ان تهتكوا منى ما لم يبحه الاسلام، وكتبي موجوده في الوراقين، على مذهب اهل السنه

وانفذ حامد بالفتيا والمحضر الى المقتدر، فلم يخرج جوابهما، فلم يجد بدا من نصره نفسه، فكتب الى المقتدر: إذا اهمل امر الحلاج بعد إفتاء الفقهاء بإباحة دمه، افتتن الناس به فوقع المقتدر: إذا افتى الفقهاء بقتله، فادفعه الى محمد ابن عبد الصمد، صاحب الشرطه، ومره ان يضربه الف سوط، فان تلف وإلا ضرب عنقه والحلاج يستطلع الى الاخبار، فلما اخبر ان ابن عبد الصمد عند الوزير قال: هلكنا والله. واخرج يوم الثلاثاء لست بقين من ذي القعده الى رحبه الجسر، وقد اجتمع من العامه امم كثيره، فضرب الف سوط، فما تاوه ولا استعفى، وقطعت يداه ورجلاه، وحز راسه، واحرقت جثته، ونصب راسه يومين على الجسر، وحمل الى خراسان، فطيف به. وزادت دجلة زياده عظيمه، فادعى اصحابه ان ذلك لأجل ما القى فيها من رماد جثته. وادعى قوم من اصحابه، انهم راوه راكبا حمارا في طريق النهروان وقال لهم: انما حولت دابه في صورتي، ولست المقتول كما ظن هؤلاء البقر. وكان نصر الحاجب يقول: انما قتل ظلما. ومن شعر الحلاج: وما وجدت لقلبي راحه ابدا ... وكيف ذاك وقد هيئت للكدر لقد ركبت على التغرير وا عجبا ... ممن يريد النجا في المسلك الخطر كأنني بين امواج تقلبني ... مقلب بين اصعاد ومنحدر الحزن في مهجتي والنار في كبدي ... والدمع يشهد لي فاستشهدوا بصرى ومن شعره: الكاس سهل لي الشكوى فبحت بكم ... وما على الكاس من شرابها درك هبنى ادعيت بانى مدنف سقم ... فما لمضجع جنبي كله حسك هجر يسوء ووصل لا اسر به ... مالي يدور بما لا اشتهى الفلك فكلما زاد دمعي زادني قلقا ... كأنني شمعه تبكى فتنسبك

ومن شعره: النفس بالشيء الممنع مولعه ... والحادثات أصولها متفرعه والنفس للشيء البعيد مريده ... والنفس للشيء القريب مضيعه كل يحاول حيله يرجو بها ... دفع المضرة واجتلاب المنفعه وله: كل بلاء على منى ... فليتني قد أخذت عنى اردت منى اختبار سرى ... وقد علمت المراد منى وليس لي في سواك حظ ... فكيفما شئت فاختبرنى وفي الصوفية من يدعى ان الحلاج كوشف حتى عرف السر، وعرف سر السر، وقد ادعى ذلك لنفسه في قوله: مواجيد اهل الحق تصدق عن وجدي ... واسرار اهل السر مكشوفة عندي وله: الله يعلم ما في النفس جارحه ... الا وذكرك فيها نيل ما فيها ولا تنفست الا كنت في نفسي ... تجرى بك الروح منى في مجاريها ان كانت العين مذ فارقتها نظرت ... الى سواك فخانتها مآقيها او كانت النفس بعد البعد آلفه ... خلقا عداك فلا نالت أمانيها وحكى انه قال: الهى، انك تتودد الى من يؤذيك، فكيف لا تتودد الى من يؤذى فيك! وانشد: نظري بدء علتي ... ويح قلبي وما جنى يا معين الضنى على ... اعنى على الضنى وكان ابن نصر القشورى قد مرض، فوصف له الطبيب تفاحه فلم توجد، فأومأ الحلاج بيده الى الهواء، واعطاهم تفاحه، فعجبوا من ذلك، وقالوا: من اين لك هذه؟ قال: من الجنه، فقال له بعض من حضر: ان فاكهة الجنه غير متغيره، وهذه فيها دوده، قال: لأنها خرجت من دار البقاء الى دار الفناء، فحل بها جزء من البلاء فاستحسنوا جوابه اكثر من فعله. ويحكون ان الشبلى دخل اليه الى السجن، فوجده جالسا يخط في التراب،

فجلس بين يديه حتى ضجر، فرفع طرفه الى السماء وقال: الهى لكل حق حقيقة، ولكل خلق طريقه، ولكل عهد وثيقة، ثم قال: يا شبلي، من اخذه مولاه عن نفسه، ثم اوصله الى بساط انسه، كيف تراه! فقال الشبلى: وكيف ذاك؟ قال: يأخذه عن نفسه ثم يرده على قلبه، فهو عن نفسه مأخوذ، وعن قلبه مردود، فأخذه عن نفسه تعذيب، ورده الى قلبه تقريب، وطوبى لنفس كانت له طائعة، وشموس الحقيقة في قلوبها طالعه، ثم انشد: طلعت شمس من احبك ليلا ... فاستضاءت فما لها من غروب ان شمس النهار تطلع بالليل ... وشمس القلوب ليس تغيب ويذكرون انه سمى الحلاج، لأنه اطلع على سر القلوب، وكان يخرج لب الكلام، كما يخرج الحلاج لب القطن، بالحلج. وقيل: كان يفعل بواسط بدكان حلاج، فمضى الحلاج في حاجه ورجع فوجد القطن محلوجا مع كثرته، فسماه الحلاج. وفي الصوفية من يقبله، ويقول: انه كان يعرف اسم الله الأعظم ومنهم من يرده، ويقول: كان مموها. ويذكرون ان الشبلى انفذ اليه بفاطمه النيسابوريه، وقد قطعت يده، فقال لها: قولي له: ان الله ائتمنك على سر من اسراره، فاذعته، فاذاقك حر الحديد، فان أجابك فاحفظى جوابه، ثم سليه عن التصوف، ما هو؟ فلما جاءت أنشأ يقول: تجاسرت فكاشفتك لما غلب الصبر ... وما احسن في مثلك ان ينهتك الستر وان عنفنى الناس ... ففي وجهك لي عذر كان البدر محتاج ... الى وجهك يا بدر وهذا الشعر للحسين بن الضحاك الخليع الباهلى. ثم قال لها: امضى الى ابى بكر وقولي له: يا شبلي، والله ما اذعت له سرا. فقالت له: ما التصوف؟ فقال: ما انا فيه، والله ما فرقت بين نعمه وبلواه ساعه

قط فجاءت الى الشبلى، واعادت اليه، فقال: يا معشر الناس، الجواب الاول لكم، والثانى لي. وذكروا انه لما قطعت يده ورجله صاح، وقال: وحرمه الود الذى لم يكن ... يطمع في افساده الدهر ما نالني عند هجوم البلا ... باس ولا مسنى الضر ما قد لي عضو ولا مفصل ... الا وفيه لكم ذكر وكتب بعض الصوفية على جذع الحلاج: ليكن صدرك للاسرار ... حصنا لا يرام انما ينطق بالسر ... ريفشيه اللئام.

سنه عشر وثلاثمائة

سنه عشر وثلاثمائة في المحرم، اطلق يوسف بن ابى الساج، وحمل اليه مال وخلع وحكى انه انزل في دار دينار، وانه انفذ الى مؤنس المظفر، يستدعى منه انفاذ ابى بكر ابن الادمى القاري، فتمنع ابو بكر وقال: اننى قرات بين يديه يوم شهر: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ، ورايته يبكى، فاظنه حقد على ذلك، فقال له مؤنس لا تخف، فاننى شريكك في جائزته، فمضى اليه وجلا، فلما دخل عليه، وقد أفيضت عليه الخلع، والناس بحضرته والغلمان وقوف على راسه، قال لهم: هاتوا كرسيا لأبي بكر، فاتوه به، وقال: اقرا، فاستفتح وقرأ قوله تعالى: وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فقال: لا اريد هذا، بل اريد ان تقرا بين يدي ما كنت تقرؤه يوم شهرت فامتنع، ثم قرأ حين الزمه: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ فبكى ثم قال: هذه الآية كانت سببا لتوبتي من كل محظور، ولو أمكنني ترك خدمه السلطان لتركتها وامر له بمال جزيل وطيب كثير. وحضر يوسف دار الخليفة بسواد، ووصل اليه، فقبل البساط وخلع عليه، وحمل على فرس بمركب ذهب، وذلك يوم الخميس ثامن المحرم، وجلس المقتدر يوم السبت، وعقد له على اعمال الصلاة والمعاون والخراج بالري والجبال واذربيجان، وزينت له دار السلطان يومئذ، فركب معه مؤنس ومفلح ونصر والقواد، واستكتب أبا عبد الله محمد بن خلف النيرمانى، وقرر ان يحمل الى السلطان في كل سنه خمسمائة الف دينار. وخلع على طاهر ويعقوب ابنى محمد بن عمرو بن الليث الصفار، وعلى الليث

ابن على وابنه خلع الرضا. وقدم أخ لنصر الحاجب من بلاد الروم واسلم، فخلع عليه. وتوالت الفتوح على المسلمين برا وبحرا، فقرئت الكتب على المنابر لذلك. وفي جمادى الاولى تقلد نازوك الشرطه ببغداد وعزل ابن عبد الصمد عنها. واملك ابو عمر القاضى مسرورا المحفلى ببنت المظفر بن نصر الداعي، ومحمد بن ياقوت بابنه رائق الكبير، بحضره المقتدر وحكى انه خطب خطبه طويله تعجب الناس من حسنها، ولما فرغ منها، وقد حمى الحر وتعالى النهار، قيل له ضجر الخليفة بالجلوس، فخطب خطبه اوجزها بكلمتين، وعقد النكاح، فنهض المقتدر مبادرا لشدة الحر، ووقع فعل ابى عمر عنده الطف موقع، والتفت الى صاحب الديوان فقال: ينبغى ان يزاد ابو عمر في رزقه، واثنى عليه. فعاد صاحب الديوان الى داره، فقال لمن حضره من خاصته: قد جرى لأبي عمر كل جميل من الخليفة، وقد تقدم بالزيادة في رزقه. قال صاحب الحكاية، وكان ابو عمر رجلا صديقي، فدعتني نفسي الى التقرب بذلك اليه فجئته، فأنكر مجيئي في وقت خلوته، فحدثته بالحديث على شرحه، فدعا للخليفة وقال: لا عدمتك، فاستقللت شكره وانصرفت. فولد لي فكرا معمى، بان في وجهه من التعجب منى، وندمت ندما شديدا، وقلت: سر السلطان أفشاه الى من هو احظى عندي من وزيره، ذكره الرجل لانسه بي، بادرت باخراجه ان راح ابو عمر وشكره فعلم انه من فعلى ما صورتي، فرجعت ودخلت بغير اذن، فلما وقع ناظره على قال: يا فلان، ولا حرف، فكانه فشكرته وانصرفت. وفي جمادى الأخيرة، خلع على ابى الهيجاء بن حمدان، وطوق وسور

وانفذ الحسين بن احمد الماذرائى من مصر هديه وفيها بغله معها فلو، وغلام طويل اللسان يلحق طرفه انفه. ودخل محمد بن نصر الحاجب، قادما من قاليقلا، في شهر رمضان وقد فتح عليه. وفيه قبض على أم موسى القهرمانه، وأختها أم محمد، وأخيها ابى بكر احمد ابن العباس، لأنها زوجت بنت أخيها ابى بكر من ابى العباس بن محمد بن إسحاق ابن المتوكل على الله، وكانت له نعم عظيمه، وكان لعلى بن عيسى صديقا، واسرفت في الأموال التي نثرتها، والدعوات التي عملتها، حتى دعت اهل المملكة ثمانية عشر يوما، وقالت لها السيده: انك قد دبرت ان يصير صهرك خليفه، وسلمتها الى ثمل القهرمانه، وهي موصوفه بالشر، وكانت قهرمانه أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف، فاستخرجت منها الف الف دينار. وبلغت زياده دجلة ثمانية عشر ذراعا ونصفا. وورد الخبر انه انبثق بواسط سبعه عشر بثقا أكثرها الف ذراع، وأصغرها مائتا ذراع، وغرق من أمهات القرى الفان وثلاثمائة قريه. وحج نصر الحاجب، فقلد ابن ملاحظ الحرمين، وصرف عنهما نزار بن محمد.

سنه احدى عشره وثلاثمائة

سنه احدى عشره وثلاثمائة في صفر مات ابو النجم بدر الحمامي بشيراز، وكان يتولى اعمال الحرب والمعاون بفارس وكرمان، ودفن بشيراز، ثم نبش وحمل الى بغداد، واضطرب الجند لموته بفارس، فكتب على بن عيسى الى ابى عبد الله جعفر بن القاسم الكرخي بضبط تلك البلدان، فضبطها واستمال الجند. وخلع على مؤنس المظفر، وعقد له على غزاه الصائفه وكان ابو الهيجاء ابن حمدان قد خلع عليه لولاية فارس وكرمان، ثم عدل عنه الى ابراهيم بن عبد الله المسمعي، فقلد ذاك. وعقدت الكوفه وطريق مكة على ورقاء بن محمد. وفي شهر ربيع الآخر، صرف حامد بن العباس عن الوزارة، وعلى بن عيسى عن الدواوين، وكانت وزارة حامد اربع سنين وعشره اشهر واربعه وعشرين يوما. وكثرت عداوة الناس لحامد لاسقاطه لارزاقهم ونقصانهم، فكان ذلك سبب عزله. وكان على بن عيسى يكتب ليطالب جهبذ الوزير: اسعده بكذا، فسقط بذلك. وجرى بين مفلح وبين حامد مناكره، فقال حامد: صح عزمي على ابتياع مائه اسود اقودهم، واسمى كل واحد منهم مفلحا. وكان المقتدر يستدعى ابن الفرات ويشاوره وهو محبوس. واتفق انه انفذ الى المقتدر وساله ان يقرضه الف دينار باثنى عشر الف دينار، فأجابه الى ذلك حياء من رده، مع ما أخذ من أمواله فلما أخذ ابن الفرات المال،

جاء به الى المقتدر، فأفرغه بين يديه وقال: يا امير المؤمنين، ما تقول في رجل يسترزق في كل شهر هذا! فاستعظم المقتدر ذلك وقال: ومن الرجل؟ فقال: ابن الحوارى، هذا سوى ما يصله من المنافع، ويناله من الفوائد ورد ابن الفرات الدنانير، وسعى مفلح لتقليد ابن الفرات الوزارة، واعتقل على بن عيسى وسلم الى زيدان القهرمانه. وخلع على ابن الفرات لتقليد الوزارة الثالثه، وعلى ابنه وأخيه، وجلسوا في دورهم، بسوق العطش للتهنئه، وسال ان يعاد الى داره بالمخرم، وكانت قد اقطعت للأمير ابى العباس، فاذن له المقتدر في ذلك وقبض ابن الفرات على جماعه من اسباب على بن عيسى، فيهم ابن مقله. وأشير على ابن الحوارى بالاستتار، وقيل له: ان المقتدر لم يطو عنك وزارة ابن الفرات الا لتغير راى فيك، فقال: لا انكب نفسي، وستر حرمه. ثم قبض ابن الفرات على ابن الحوارى، وقبض على صهره محمد بن خلف النيرمانى، وتوسط ابن قرابه حاله، فصادره على سبعمائة الف دينار، وصادر أبا الحسين ابن بسطام صهر حامد على مائتي الف دينار. وشرط المقتدر على ابن الفرات، الا ينكب حامدا، وان يناظره على ما عليه، فناظره بمحضر الكتاب والقضاه، وقال المقتدر: انه خدمني ولم يأخذ رزقا، وشرط على الا اسلمه لمكروه، فاضطر ابن الفرات الى اقرار حامد على واسط، وكان يتأول عليه تاولا ديوانيا. وكان حامد يطالب بما حبسه من النفقة على البثوق في ايام الخاقانى، وهي مائتان وخمسون الف دينار، فكانت تتأخر المطالبه جديده الضمان، ولأنه شرط انه يحسب ذلك من ماله، لا من مال السلطان. فقلد ابن الفرات اعمال الصلح أبا العلاء محمد بن على البزوفري. وقلد أبا سهل اسماعيل بن على النوبختى اعمال المبارك، وجعل الى كل واحد مطالبه حامد فاما ابو سهل فكان يخلط المطالبه برفق، وكان البزوفري يستعمل ضد ذلك، فكان حامد يقصده الى داره في رداء ونعل حذو، مع هيبة حامد

العظيمه ومنزلته الجسمية منذ ستين سنه فلم ينفع ذلك في البزوفري، بل زاد عليه انه ابتاع ضياعات سلطانيه بنواحي الجامدة في ايام الخاقانى بخمسمائة الف دينار، وابن الفرات يحمل البزوفري على ما يعتمده. وكاتب ابن الفرات ان حامدا ممتنع من أداء ما عليه، مع ميل اهل البلد اليه، واحتواء يده على أربعمائة غلام لكل واحد منهم غلمان وسبعمائة رجل، فأجابه ابن الفرات ان المقتدر قد تقدم الى مفلح بالانحدار في جيش للقبض على حامد. فأظهر البزوفري الكتاب قبل وصول القوم. فحينئذ اصعد حامد في سائر جيشه وكتابه وغلمانه، وضربت البوقات يوم خروجه، وخروج اصحابه، بعضهم في الماء، وبعضهم على الطريق، ولم يقدر البزوفري على منعه، فكاتب على اجنحه الطيور بالحال، فانفذ المقتدر نازوك الى المدائن للقبض عليه فاخذ نازوك ما وجده له فاستتر حامد. وجاء احد الجهابذه فتقرب الى المقتدر بمائه الف دينار لحامد عنده. وارجف الناس ببغداد ان المقتدر امر حامدا بالاستتار ليقبض على ابن الفرات، ويعيده الى مرتبته. فاستتر آل ابن الفرات وأسبابه، غير الوزير. وكانت سعاده حامد قد تناهت، فصار الى دار المقتدر، وعليه ثياب الرهبان، ومعه مؤنس خادمه، فصعد الى دار الحجبة، فقال له نصر: لم جئت الى هاهنا؟ ولم يقم له، واعتذر بانه تحت سخط الخليفة. وقال لمفلح الأسود- وهو الذى يتولى الاستئذان على الخليفة- انه تحت رحمه، ومثلك من أزال ما يعانيه، وقال حامد لمفلح: تقول لمولانا امير المؤمنين عنى: إيثاري الاعتقال في الدار، كما اعتقل على بن عيسى، واناظر بحضره الفقهاء والقضاه والقواد، وامكن من استيفاء حججي وما يجب على من مال

فقالت السيده: لا يضر ان يعتقل في الدار ويحفظ نفسه، فقال مفلح: ان فعل هذا، لم يتم لابن الفرات عمل وبطلت الاعمال، فقال المقتدر: صدقت، وامره بانفاذ حامد الى ابن الفرات، فبعد جهد، مكنه مفلح من تغيير زيه، وقال: لا احمله الا في زي الرهبان وهذا الصوف الذى عليه، حتى تشفع فيه نصر، وانفذه مع ابن الزنداق الحاجب. فلما دخل على ابن الفرات، اسمع حامدا المكروه، وقال له: جئت بها طائيه، وكان الطائي قد ضمن اسماعيل بن بلبل من الناصر لدين الله، وأتاه في زي الرهبان، فسلمه الى اسماعيل بن بلبل فعامله باصناف المكاره، وأخذ منه مالا عظيما. وامر ابن الفرات قهرمان داره، بان يفرد له دار أخيه، يفرشها فرشا جميلا وان يحضر بين يديه ما يختاره من الطعام، ويقطع له ما يؤثره من الكسوة، واستخدم له خادمين اعجميين ودخل اليه كل من عامله بالمكاره فوبخوه، فقال: قد اكثرتم، وانا اجمل الجواب، ان كان ما استعملته من الاحوال التي وصفتموها جميله العاقبه، قد اثمرت لي خيرا فاستعملوا مثله وزيدوا عليه، وان كان قبيحا- وهو الذى بلغ هذه الغاية- فتجنبوه، فان السعيد من وعظ بغيره. فقال ابن الفرات لما بلغه ذلك: ما ادفع شهامته، ولكنه رجل من اهل النار، يقدم على الدماء ومكاره الناس. ومثل هذه الحكاية، حكاية زينب بنت سليمان بْن علي بْن عبد الله بْن العباس، قالت: كنت عند الخيزران، فدخلت جاريه وقالت: بالباب امراه لها جمال وخلقه حسنه، وليس وراء ما هي عليه من سوء الحال غاية، تستأذن عليك، وقد

سالتها عن اسمها، فامتنعت ان تخبرني، فقالت الخيزران: ما تريد؟ فقلت: ائذنى لها، فلن تعدمى ثوابا. فدخلت امراه من اجمل النساء وأكملهن، لا تتوارى بشيء، وقالت: انا مزنه امراه مروان بن محمد الاموى، فقلت لها: لا حيا الله ولا قرب، الحمد لله الذى أزال نعمتك وهتك سترك، تذكرين يا عدوه الله، حين أتاك عجائز اهلى يسالنك ان تكلمى صاحبك في الاذن في دفن ابراهيم الامام، فوثبت عليهن، فاسمعتهن وامرت بإخراجهن على الجهة التي اخرجن عليها! قالت: فضحكت، فما الدر احسن من ثغرها، وعلا صوتها بالقهقهة، ثم قالت: اى بنت عمى، اى شيء اعجبك من حسن صنع الله بي على العقوق حتى اردت ان تتأسى به! انى فعلت ما فعلت باهل بيتك، وأسلمني الله إليك ذليله فقيره، فكان هذا مقدار شكرك لله على ما اولاك في، ثم قالت: السلام عليكم، وولت فصاحت الخيزران بها: انها على استأذنت، والى قصدت، فما ذنبي! فرجعت وقالت: لعمري، لقد صدقت يا أخيه، وان مما ردني إليك ما انا عليه من الضر والجهد، فقامت الخيزران تعانقها، وامرت بها الى الحمام وخلعت عليها وجاء المهدى فاخبر بالحال، فسر بذلك، وكثر انعامه عليها، وافرد لها مقصوره من مقاصير حرمه. واقر حامد بمائتي الف دينار، ولم يقر بغيرها، وسلمت منه. وضرب المحسن مؤنسا خادم حامد، فاقر بأربعين الف دينار دفنها في داره بالمدينة، فحملت. وصودر مؤنس الفحل حاجب حامد على عشرين الف دينار وصودر محمد ابن عبد الله النصراني صاحبه، والحسن بن على الخصيب كاتبه على ثمانين الف دينار. واستعمل الخصيب مع حامد من المكاشفه، ما لم يستعمله كاتب مع حاجب، فرد ابن الفرات عليه ما صادره به لذلك

واشخص ابن الفرات الفقهاء والقضاه والكتاب، فيهم النعمان بن عبد الله، وكان قد تاب من عمل السلطان، فحضر بطيلسان، وناظره ابن الفرات مناظره طالت، وكان عمد ابن الفرات ان قال له: الضمان الذى ضمنته من الخاقانى سنه تسع وتسعين ومائتين لا يمضيه الفقهاء والكتاب لأنه ضمان مجهول، وضمنت اثمان غلات لم تزرع، فقال له حامد: فقد عملت بي كذلك حين ضمنتنى باعمال بالصدقات والضياع بالبصرة وكور دجلة، فقال ابن الفرات: الغلة بالبصرة يسيره، وانما ضمنت الثمره، فقال حامد فمن أحل بيع الثمره قبل إدراكها، وهي خضره في الزرع؟ فقال المحسن لحامد: هذا الكلوذانى، كاتبك وكتابه يشهدون عليك بما اقتطعته، فقال: هؤلاء كتاب الوزير الان هواه. ولزمت ابن الفرات حججه، حتى قال له حامد: لم امضيت ضماني في وزارتك الثانيه؟ فقال ابن الفرات: لهذا نقلني امير المؤمنين الى حبسه. وذكر حامد حججا كانت في يده، فقال ابن الفرات: انا فتشت صناديقك، فلم أجد فيها ما ذكرت، وانا المقدم بإحضارها وتفتيشها فقال حامد: افتشتها بعد ان فتشها الوزير، وقبضها نازوك وفتح أقفالها! فخجل ابن الفرات وتعجب الناس من استيفاء حامد الحجه. فاخرج ابن الفرات عملا وجده في صناديق غريب غلام حامد، وهذا الغلام كان يتولى بيع غلات حامد، وحمل ذلك سهوا لان حامدا كان يجمع حسباناته، ويغرقها في دجلة، فراى انه قد بيع غلات تلك السنه سوى القضيم بخمسمائة الف دينار ونيف واربعين الف دينار، فبان الفضل، وظهر التضاعف، مع كون الأسعار رخيصه في تلك السنه، وعاليه فيما بعدها. وقال حامد لابن الفرات: اننى اكرم الوزير عن اسماع ابنه جواب ما يشتمني، فحلف ابن الفرات برأس الخليفة، ان لم يمسك ابنه استعفى الخليفة في هذه القضية

فامسك المحسن حينئذ، واعيد حامد الى محبسه وطولب بالمال، فأقام على انه لا مال عنده، وانه قد باع ضياعه، وباع داره من نازوك بمدينه السلام باثنى عشر الف دينار، وباع خدمه، وباع اخصهم به من نازوك بثلاثين الف دينار. فالتفت الخادم الى نازوك وقال له: لا تستضع بي، فلا تبتعنى، فلم يقبل منه، وابتاعه، فلما كان في تلك الليلة شرب الخادم زرنيخا فمات من ليلته. وخلا ابن الفرات بحامد، وقال: ان اخبرت باموالك، صنتك عن مكاره ابنى، ووليتك فارس، وحلف له على ذلك، فاقر بدفائنه في بلاليع بواسط، وقدرها خمسمائة الف دينار، وثلاثمائة الف عند قوم من العدول، واقر بقماش له عند ابن شابده وابن المنتاب وإسحاق بن أيوب وعلى بن فرج بثلاثمائة الف دينار. فعرف المقتدر ذلك، وقال له ابن الفرات: قد اقر بذلك، عفوا من غير مكروه. وما زال ابن الفرات مكرما لحامد، يلبسه لين الثياب، ويطعمه هنى الطعام، الى ان توصل المحسن على يدي مفلح الى المقتدر، ان يتقدم الى ابيه باستخلافه، فاستخلفه على كره من الأب لذلك، وخلع المقتدر عليه، وصار الى داره، فمضى اليه الكتاب والعمال للتهنئه، فسقطوا من درجه ساج صعدوا عليها من زبازبهم، فلحقتهم العلل لذلك. وضمن حامدا الخمسمائة الف دينار، واحضره، فطالبه فقال: لم يبق غير ضياعي، وانا اوكل في بيعها، فامر بصفعه، فصفع خمسين صفعه، واحدره الى واسط مع خادم وعشره فرسان، وذلك في عاشر شهر رمضان سنه احدى عشره وثلاثمائة. وشاع ببغداد ان حامدا اشتهى بيضا، فطرح له الخادم فيه سما، فأكله، فلحقه ذرب، ودخل واسطا، وهو مثخن، فقام اكثر من مائه مجلس. فاراد البزوفري الاستظهار لنفسه، فاحضر القاضى وشهوده وكتب: ان حامدا، وصل الى واسط، فتسلمه البزوفري وهو عليل من ذرب وان تلف من ذلك، فإنما مات حتف انفه. فلما دخل الشهود وقد قرر مع حامد الاشهاد على نفسه قال لهم: ان ابن الفرات

الكافر الفاجر المجاهر بالرفض وبغض بنى العباس رحمه الله عليهم، عاهدني وحلف بالطلاق وايمان البيعه، على اننى ان اقررت بأموالي لم يسلمني الى ابنه، وصانني على المكروه وولانى، فلما اقررت سلمني الى ابنه فعذبني ودفعنى الى خادمه فسقاني بيضا مسموما، ولا صنع للبزوفرى في دمى الى وقتنا هذا، ولكنه، لعنه الله كفر إحساني ونسى اصطناعى، فاغرى ابن الفرات بي وسعى على دمى، ثم أخذ قطعه من أموالي، وجعل يحشوها في المساور البرتون، ويبتاع الواحدة منها بخمسه دراهم، وفيها امتعه تساوى ثلاثة آلاف دينار فاشهدوا على ما شرحته. وتبين البزوفري انه قد أخطأ. وكتب ابن بطحاء صاحب الخبر بواسط الى ابن الفرات بالحال، فشق عليه. وتوفى ليله الخميس لثلاث عشره خلت من شهر رمضان سنه احدى عشره وثلاثمائة، وغسل وكفن، وصلى عليه القاضى والشهود بواسط. وأخذ منه ابن الفرات الف الف وثلاثمائة الف دينار. وقبض المحسن على ابى احمد محمد بن منتاب الواسطي، صاحب حامد، فصادره على مائه الف دينار. وحكى التنوخي، عن بعض الكتاب قال: حضرت مائدة حامد بن العباس، وعليها عشرون نفسا، وكنت اسمع انه ينفق على مائدته مائتي دينار، فاستقللت ما رايت ثم خرجت فرايت في الدار نيفا وثلاثين مائدة منصوبه، على كل واحده ثلاثون نفسا، وكل مائدة مثل المائدة التي كنت عليها، حتى البوارد والحلوى، وكان لا يستدعى أحدا الى طعامه، بل يقدم الى كل قوم في أماكنهم، وكانت الموائد في الدهاليز، وكان يقدم لكل من يحضر جديا، فتكون الجداء بعدد الناس، ويرفع ما بقي، فتقتسمه الغلمان. وقال حامد: انما فعلت هذا لأنني حضرت قبل علو امرى على مائدة بعض اصدقائى، وقدم عليها جدي، فعولت على اكل كليته، فسبقني رجل فأكلها، فاعتقدت في الحال: ان وسع الله على، وان اجعل جداء بعدد الحاضرين

وركب حامد، وهو عامل واسط الى بستان له، فراى في طريقه دارا محترقه وشيخا يبكى وحوله نساء وصبيان على مثل حاله، فسال عنه، فقيل هذا رجل تاجر احترقت داره، فافتقر، وافلت بنفسه وعياله على هذه الصورة، فوجم ساعه، ثم قال: فلان الوكيل! فجاء، فقال: اريد ان اندبك لامر ان عملته كما اريد، فعلت بك وصنعت وذكر جميلا، وان تجاوزت فيه رسمي فعلت بك وصنعت- وذكر قبيحا، فقال: مر بأمرك، فقال: ترى هذا الشيخ، قد آلمني قلبي له، وقد تنغصت على نزهتى بسببه، وما تسمح نفسي بالتوجه الى بستاني الا بعد ان تضمن لي انى إذا عدت العشية مع النزهه وجدت الشيخ في داره، وهي كما كانت مبنية مجصصه، نظيفة، وفيها الفرش والصفر والمتاع من صنوفه وصنوف الآلات، مثل ما كان فيها، وعلى جميع عياله من كسوه الشتاء والصيف، مثل ما كان لهم. قال الشيخ: فتقدم الى الخادم ان يطلق ما أريده، والى صاحب المعونة ان يقف معى، ويحضر كل ما أريده من الصناع، فتقدم حامد بذلك، وكان الزمان صيفا، فاحضر اصناف الروزجايه والبنائين، فكانوا ينقضون بيتا ويطرحون فيه من يبنيه وقيل لصاحب الدار: اكتب جميع ما ذهب منك، فكتب حتى المكنسه والمقدحة، واحضر جميع ذلك. وصليت العصر، وقد سقفت الدار كلها، وجصصت وغلقت الأبواب ولم يبق الا البياض والطوابيق، فانفذ الى حامد وساله التوقف في البستان، والا يركب منه الى ان يصلى العشاء الأخيرة، وقد بيضت الدار وكنست وفرشت، ولبس الشيخ وعياله الثياب، ودفعت اليهم الصناديق والخزانه مملوءة بالأمتعة. واجتاز حامد، والناس مجتمعون له كأنه نهار في يوم عيد، فضجوا بالدعاء له، فتقدم الى الجهبذ بخمسه آلاف درهم، يدفعها اليه، يزيدها في بضاعته، وسار حامد الى داره. وفي هذه السنه، توفى ابو إسحاق ابراهيم بن السرى الزجاج، صاحب المعانى، وكان يخرط الزجاج، فاتى المبرد، وكان يعلم لكل واحد بأجره على قدر معيشته،

وقال له: انى اكسب في كل يوم درهما ودانقين، وانى أعطيك درهما، ان تعلمت اولم اتعلم، حتى يفرق الموت بيننا، وآخذ منك، قال: قد رضيت قال: وانفذ اليه بنو مارمه من الصراة يطلبون مؤدبا لأولادهم، فانفذنى اليهم، وكنت اوجه اليه في كل شهر ثلاثين درهما وطلب عبيد الله بن سليمان منه مؤدبا لابنه القاسم، فقال: لا اعرف الا مؤدب بنى مارمه، فكتب اليه عبيد الله فاستنزلهم عنى وادبت القاسم، فكنت اقول له: ان ابلغك الله مبلغ ابيك تعطيني عشرين الف دينار؟ فيقول لي: نعم فما مضت الا سنون حتى ولى الوزارة، وانا على ملازمته، فقال لي باليوم الثالث: ما أراك ذكرتني بالنذر، فقلت: لا احتاج مع رعاية الوزير الى، اذكار خادم واجب الحق، فقال: انه المعتضد، ولولاه ما تعاظمنى ان ادفع ذلك في مكان واحد، ولكنى اخاف ان يصير لي حديثا، فخذه مفترقا، فقلت: افعل، فقال: اجلس وخذ رقاع اصحاب الحوائج الكبار، ولا تمتنع من مساءلتي في شيء، فكنت اقول ضمن لي في هذه القصة كذا، فكان يقول غبنت فاستزد القوم، فحصل عندي عشرون الف دينار، فقال: حصل عندك مال النذر؟ قلت: لا، فلما حصل ضعفه، اخبرته، فوقع لي الى خازنه بثلاثة الاف دينار، فأخذتها وامتنعت ان اعرض عليه شيئا فلما كان من غد جئته، فأومأ الى، هات ما معك، فقلت: ما أخذت رقعه لان النذر قد وقع الوفاء به، ولم ادر كيف أقع مع الوزير! فقال: سبحان الله! اترانى كنت اقطع عنك شيئا قد صار لك به عاده، وصار لك به عند الناس منزله وغدو ورواح الى بابى، فيظن الناس ان انقطاعه لتغير رتبتك! اعرض على رسمك وخذ بلا حساب، فكنت اعرض عليه الى ان مات. وحدث والدى رحمه الله، قال أخبرنا القاضى ابو الطيب، قال: حدثنى محمد بن طلحه الردادى، قال: حدثنى القاضى محمد بن احمد بن المخرمى انه جرى بين الزجاج وبين المعروف بمسينه- وكان من اهل العلم- شر، فاتصل، ونسجه ابليس واحكمه، حتى خرج ابراهيم الى حد السفه، فقال مسينه:

ابى الزجاج الا شتم عرضي ... لينفعه فإثمه وضره واقسم صادقا ما كان حر ... ليطلق لفظه في شتم حره ولو انى كررت لفر منى ... ولكن للمنون عليه كره فاصبح قد وقاه الله شرى ... ليوم لا وقاه الله شره فلما اتصل هذا بالزجاج قصده راجلا، حتى اعتذر وساله الصفح. وورد الخبر بدخول ابى طاهر سليمان بن الحسن الجنابى البصره سحر يوم الاثنين لخمس بقين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشر وثلاثمائة، في الف وسبعمائة رجل، وانه وصل إليها بسلاليم نصبها على سورها وقتل الحراس وطرح بين كل مصراعين حمل رمل وحصى. وقتل سبك المفلحى امير البصره، واحرق المربد، وبعض الجامع، ومسجد قبر طلحه رضى الله عنه، ولم يعرض للقرى وحاربه اهل البصره عشره ايام بالكلا، وهربوا منه، فطرح فيهم السيف، وغرق منهم الكثير، واقام بها سبعه عشر يوما، يحمل على جماله أموالهم، وسار الى بلده. وادعى ابن الفرات على على بن عيسى، انه كاتب القرامطة، على المصير الى البصره، واحضر ونوظر، فلم يصح عليه امره. وقال الهمانى: سمعت على بن عيسى، يعنف أبا عبد الله، حين حلفت ان استغلال ضيعتك بواسط عشره آلاف دينار، وقد وجد بها في حساب الهمانى انه يرتفع فيها ثلاثين الف دينار، فقال البريدى: تاسيت بسيدنا حين حلف لابن الفرات، ان استغلال ضيعته الصافية عشرون الف دينار، واستغلالها خمسون ألفا. وعلم انه مع ديانته، لو لم يعلم ان البقية مباحة عند من يخافه لما حلف، فكانه القم عليا حجرا

وامتنع المقتدر من تسليم على بن عيسى الى ابن الفرات، واراد حفظ نفسه، فادى ثمن دار كانت له بالجانب الغربي في سويقه ابى الورد، سبعه آلاف دينار، وقال للمحسن: ما يمكنني أداء مصادرتى في اعتقالى، فالبسه جبه صوف، وصفعه، فقام عند ذلك نازوك وقال: لا احضر مكروه من قبلت يده السنين الكثيره. فلما علم ابن الفرات بفعل ابنه، لم يشك ان الخليفة ينكر ذلك، فبادر وكتب الى الخليفة، فسأله في على بن عيسى، وقال: هو من مشايخ الكتاب، وعرفه خدمته، فخرج خط المقتدر، بان الصواب ما فعله المحسن، وانه قد شفعه فيه، وحل قيوده. واشارت زيدان القهرمانه على ابن الفرات، بتسليمه الى شفيع، والا تسلمه الخليفة، فاستدعى وسلمه اليه. فخرج وقد أقيمت صلاه المغرب، فقدم على فصلى بالناس في المسجد الذى على دجلة. ومضى مع شفيع فجلس في صدر طيارة، وجلس شفيع بين يديه، واسعف ابن الفرات وابنه على في مصادرته وحمل اليه ابو الهيجاء بن حمدان عشره آلاف دينار، فردها، فحلف ابو الهيجاء انها لا رجعت الى ملكه، ففرقت في الطالبين والفقراء، وبذل له شفيع اموالا فأبى من قبولها، وقال: لا اجمع عليك مئونتي ومعونتى. ولما صعد درجه شفيع، مد شفيع يده فاتكا عليها، ولما قبض على ابن الفرات، جعل يرجف، فقال له: لم لم تعطني يدك كما أعطيتها عليا؟ فقال: لان عليا اتقى لله منك. ولما ادى على مصادرته، اذن المقتدر لابن الفرات في ابعاده الى مكة، فاستاجر له جمالا واعطاه نفقه، وانفذ معه ابن الكوثانى صاحبه، فاراد قتل على، فبلغ

ذلك اهل مكة فهموا بقتل ابن الكوثانى، فمنع على منه، وحفظه. وصادر ابن الفرات جميع اسباب على، منهم ابن مقله والشافعى، ولما لم يجد على النعمان بن عبد الله، الذى تاب من التصرف، سبيلا في المصادره، وامتنع من الولاية، احدره الى واسط، وقبض البزوفري عليه من جامعها، لما راى من اكرام اهل البلد له، وأخذ منه سبعه آلاف دينار، ونفى ابن الحوارى الى الأبله، وخنق بالمناره بعد ان عذب، ثم نبشه اهله، وحمل الى بغداد. وصادر المحسن أبا الحسن على بن مأمون الاسكافى على مائه الف دينار. وصادر الماذرائيين حين قدموا من مصر على الف وسبعمائة الف دينار. ونفى ابن مقله الى البصره. وقدم مؤنس المظفر من الغزو وقد فتح عليه، فاخبر ابن الفرات ما تم على العمال منهم، فسعى به الى المقتدر، فقال له: ما شيء أحب الى من مقامك ببغداد، لانى اجمع بين الانس بقربك والتبرك برأيك، والصواب ان تقيم بالرقة، فتتوسط الاعمال، وتستحث على المال. فعلم ان ذلك من عمل ابن الفرات، فأجاب اليه، وسئل في الماذرائيين فأطلقوا ونفذ في ذي القعده. وشرع ابن الفرات في السعاية بنصر القشورى وشفيع المقتدرى، فالتجا نصر الى السيده، فقالت للمقتدر: ان ابن الفرات، ابعد عنك مؤنسا، وهو سيفك، وقد حل له ابعاد حاجبك. واتفق انه وجد على سطح دار السر في يوم الثلاثاء لخمس خلون من محرم سنه اثنتى عشره وثلاثمائة رجلا أعجميا واقفا، عليه ثياب دبيقيه وتحتها قميص صوف، ومعه محبره وأقلام وورق وحبل، قيل انه دخل مع الصناع وبقي أياما، وعطش فخرج لطلب الماء، فظفر به، وسئل عن حاله، فقال: لا اخاطب غير صاحب

الدار، فقال له ابن الفرات: أخبرني عن حالك، فقال: لا اخاطب غير الخليفة، فضرب وهو يقول ندانم حتى قتل بالعقوبة. وخاطب ابن الفرات نصرا الحاجب بحضره المقتدر، وقال: كيف ترضى بهذا لأمير المؤمنين، وما يجوز ان ترضى به لنفسك، وما سمعنا ان هذا تم على خليفه قط، وهذا الرجل صاحب احمد بن على أخي صعلوك الذى قتله ابن ابى الساج، واما ان يكون قد دسسته ليفتك بامير المؤمنين، لتخوفك على نفسك منه. وعداوتك لابن ابى الساج، وصداقتك لأحمد بن على، فقال له نصر: ليت شعرى، ادبر على امير المؤمنين لأنه أخذ أموالي، ونكبنى وهتك حرمي، وحبسنى عشر سنين! ولم يزل امر نصر يضعف والسيده مدافعه عنه. وكان يوسف بن ابى الساج، حين قلد اعمال الري، قتل بها احمد بن على، أخا صعلوك، وانفذ برأسه الى مدينه السلام. ولليلتين خلتا من شعبان، قرئت الكتب على المنابر بمدينه السلام بفتح مؤنس المظفر في بلد الروم، وامر فيه المقتدر برفع المواريث الحشريه، كما فعل ذلك المعتضد بالله رحمه الله.

سنه اثنتى عشره وثلاثمائة

سنه اثنتى عشره وثلاثمائة ورد الخبر بان أبا طاهر بن ابى سعيد الجنابى، ورد الهبير لتلقى حاج سنه احدى عشره وثلاثمائة في رجوعهم، فاوقع بقافله بغداديه، واقام بقية القوافل بعيدا، فلما فنيت ازوادهم، ارتحلوا، فاشار ابو الهيجاء بن حمدان، واليه طريق الكوفه وطريق مكة، ان يعدل بهم الى وادي القرى، فامتنعوا وساروا، فسار معهم مخاطرا حتى بلغ الهبير، فلقيهم ابو طاهر، فقتل منهم خلقا، واسر أبا الهيجاء واحمد بن بدر عم السيده أم المقتدر، وجماعه من خدم السلطان وحرمه. وسار ابو طاهر الى هجر، وسنه إذ ذاك سبع عشره سنه، ومات من استاسره بالحفاء والعطش فنال اهل بغداد منالا عظيما، وخرج النساء منشرات الشعور مسودات الوجوه في الجانبين، فانضاف اليهن من حرم الذين نكبهم ابن الفرات، فانبسط لسان نصر عليه، واشار على المقتدر بمكاتبه مؤنس. ورجمت العامه طيار ابن الفرات، وامتنعوا من الصلوات في الجماعات. وانفذ المقتدر بياقوت وابنيه محمد والمظفر الى الكوفه، ورجعوا حين علموا انصراف القرمطى الى بلده. وجمع المقتدر بالله ابن الفرات ونصر وامرهما بالتظافر. وقدم مؤنس الى بغداد، فركب اليه ابن الفرات، ولم تجر له عاده بذلك، فخرج مؤنس الى باب داره، وساله ان ينصرف، فلم يفعل، وصعد اليه من طيارة حتى هناه بمقدمه، وخرج معه مؤنس حتى نزل الطيار

وانفذ المقتدر بنازوك وبليق فهجما على ابن الفرات، وهو في دار حرمه، فاخرجاه حاسرا، فاعطاه نازوك رداء قصب، فقال له مؤنس: الان تخاطبني بالاستاذ وبالأمس نفيتنى الى الرقة والمطر يصب على راسى، ثم تذكر لأمير المؤمنين سعيي في فساد مملكته! ورجمت العامه طيار مؤنس، لكون ابن الفرات فيه، وسلم الى نصر، وقبض على ولده وأسبابه. فكانت مده ابن الفرات في هذه الوزارة الثالثه عشره اشهر وثمانية عشر يوما. واجمع وجوه القواد فقالوا: ان حبس ابن الفرات في دار الخلافه خرجنا بأسرنا، فسلم الى شفيع واعتقل عنده. واشار مؤنس بتوليه ابى القاسم عبد الله بن محمد بن عبيد الله الخاقانى، فانفذ ابن الفرات الى المقتدر بمائه ونيف وستين الف دينار، وقال لشفيع: فعلت ذلك حتى لا يوهم الخاقانى للمقتدر انه استخرجها. قال الجمل كاتب شفيع: ولم أر قلبا اقوى من قلب ابن الفرات، سألني: من قلد الخليفة وزارته؟ فقلت: الخاقانى، فقال: الخليفة نكب ولم انكب انا. وسألني عمن استخلف في الدواوين؟ فقلت: في ديوان السواد ابن حفص، فقال: القدر رمى بحجره، وسميت له جماعه، فقال: لقد أيد الله هذا الوزير بالكفاءه. واقر ابن الفرات بمائه وخمسين الف دينار اخرى، وطولب بالمكاره، فلم يستجب بمال، وكان لا يستجيب بمكروه، وانفذ الى الخاقانى: ايها الوزير، لست غرا جاهلا فتحتال على، وانا قادر على مال، إذا كتب الخليفة الى أمانا على نفسي لافديها بالمال، ويشهد عليه القضاه فيه، فقال الخاقانى: لو قدرت على ذلك فعلت، ولكن ان تكلمت عاداني خواص الدولة. ورد الخليفة امره الى هارون بن غريب، فاخذ يداريه، وقال له: أنت اعرف بالأمور وان الوزراء لا يلاجون الخلفاء، فلم يزل به حتى أخذ خطه بألفي الف دينار، يعجل منها الربع، وان يطلق له بيع ضياعه، واذن له في احضار دواه، ليكتب

الى من يرى، او ان ينفذ الى دار شفيع اللؤلؤى، ويطلق الكلوذانى ليتصرف في أمواله. وكانت حماه المحسن تخرجه في زي النساء الى مقابر قريش، فامست ليله عن المصير الى الكرخ، فصارت الى منزل امراه أخبرتها ان معها بنتا لم تتزوج، وسالت ان تفرد لها بيتا، ففعلت، وخلع المحسن ثيابه، فجاءت جاريه سوداء بسراج، فوضعته في الضفة، فرات المحسن، فاخبرت مولاتها فابصرت، وكانت مولاتها زوجه محمد بن نصر وكيل على بن عيسى، مات حين طالبه المحسن من الفزع، فمضت المرأة الى دار السلطان وشرحت الصورة لنصر، فاركب نازوك وقبض عليه، وضربت الدبادب لأجل الظفر به عند انتصاف الليل، فظن الناس ان القرمطى قد كسر بغداد وحمل الى دار مستخرج، يعرف بابن بعد شر، في المخرم بدار الوزارة، فأجرى عليه المكاره، وأخذ خطه بثلاثة آلاف الف دينار، ثم ابتلع رقعته، واقام على الامتناع من كتب شيء، فضرب بالدبابيس على راسه وعذب. واحضر ابن الفرات مجلس الخاقانى، فناظره أشد مناظره، فلج ابن الفرات فيها، فقال له الخاقانى: انك استغللت ضياعك التي استغلها على بن عيسى، أربعمائة الف دينار وقال: كان ذلك بعمارتى البلاد واعتمادى ما جلب الريع. ونوظر فيمن قتله ابنه، وقيل له: أنت قتلتهم، فقال هذا غير حكم الله، قال الله تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى * [والنبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل معه ابنه: لا يجنى عليك ولا تجنى عليه،] ومع هذا فان ابنى لم يباشر قتلا ولا سفك دما، وأجاب مؤنسا حين قال: اخرجتنى من بغداد فقال: انما اخرجك مولاك حين كتب الى يشكو ما يلاقيه من تبسط، وفتحك البلدان بالمؤن الغليظة، واغلاقك إياها بسوء التدبير: وسئل احضار سفط فيه المهمات فاحضر وطلب الرقعة، فوجدت فأخذها مؤنس، وحملها الى

المقتدر بالله واقراه الرقعة، فزاد غيظه وامر بضربه، فضرب خمس درر فقط وسلم وابنه الى نازوك، فضربا حتى تدودت لحومهما وحمل الخاقانى القواد على خلع الطاعة ان حملا الى دار الخليفة ولما توقف الخاقانى في قتلهما، وقال: لست ادخل في سفك الدماء، ولا اسهل على الخلفاء قتل خواصهم. وحمل الى ابن الفرات ما يفطر عليه، فقال: رايت أخي أبا العباس في المنام يقول: إفطارك عندنا، وما أخبرني بشيء الا وصح، وانا مقتول. فاخرج القواد توقيع المقتدر الى نازوك، بضرب أعناقهما، فقال: هذا امر عظيم لا اعمل فيه بتوقيع، فشافهه المقتدر بذلك. وجاء نازوك، فامر السودان فضربوا عنق المحسن، واتى برأسه الى ابيه، فجزع وقال: يا أبا منصور، راجع امير المؤمنين، فان عندي اموالا جمه، فقال له: جل الأمر عن هذا، وامر به فضرب عنقه، وحمل راسه وراس ابنه الى المقتدر بالله، فامر بتغريقهما. وكان سن الحسن بن الفرات، يوم قتل، احدى وسبعين سنه وشهورا، وسن ابنه ثلاثا وثلاثين سنه. وقال التنوخي: كان من عاده ابن الفرات ان يقول لكل من يخاطبه: بارك الله فيك، ولم يكن يفارق هذه اللفظه وكان على بن عيسى يقول في كلامه: وال وإليك فكان الناس يقولون: لو لم يكن بين الرجلين الا ما بين الكلامين من الخشونة واللطف، لكان من اعظم فرق. ويقال ان على بن عيسى خاطب الراضي يوما بوال. وكان ابن الفرات إذا ولى، غلا معذاذ الشمع والكاغذ، لكثرة استعماله لهما فيعرف الناس ولايته لغلائهما

قال الصولي: ابو الحسن على بن محمد بن موسى بن الحسن بن الفرات من قريه يقال لها بايك قريبه من صريفين، وكان أبوه محمد بن موسى، تولى اعمالا جليله، واكبر اولاده ابو العباس احمد وابو عبد الله وابو عيسى، من خيار المسلمين والزهاد، جاور بمكة وواصل بها الصوم والصلاة، ومات في وزارة أخيه. وقد ذكرنا اسر القرمطى لالفى رجل ومائتين وعشرين وخمسمائة امراه، فاطلق منهم أبا الهيجاء واحمد بن بدر عم السيده، وانفذ رسلا يسال ان يفرج له عن البصره والاهواز فلم تقع اجابه. وكان سليمان بن الحسن بن مخلد، وابو على بن مقله، وابو الحسن محمد بن محمد بن ابى البغل، معتقلين بشيراز، فاطلقهم ابو عبد الله الكرخي، حين وقف على مثل ابن الفرات فكتب ابن ابى البغل على جانب تقويمه. وفي هذا اليوم، ولد احمد بن يحيى، وله احدى وثمانون سنه، واتفق ان سليمان هرب في زي الفيوجى، فاشتد الأمر على الخاقانى، وارجف له بالوزارة، ودخل بغداد مستترا، وصار ابن مقله الى الاهواز، واجرى له في كل شهر مائتي دينار، واذن له في المصير الى بغداد وسال موسى في على بن عيسى، فكوتب صاحب اليمن بانفاذه الى مكة، وحمل اليه كسوه ومالا نحو خمسين الف دينار، ولما وصلها قلده الخاقانى الاشراف على الشام ومصر. وتولى ابو العباس بن الخصيبى استخراج سبعمائة الف دينار من زوجه المحسن. وشغب الجند على الخاقانى، فلم يكن عنده ما يدفعه اليهم، وبقي شهورا لا يركب الى الموكب. وكان مؤنس بواسط، واشار عند قدومه بعلى بن عيسى، واشارت السيده والخاله بابى العباس بن الخصيبى، وهو احمد بن عبد الله، فولاه المقتدر، وقبض على الخاقانى، وكانت وزارته سنه وسته اشهر.

وزارة ابى العباس الخصيبى

وزارة ابى العباس الخصيبى استحضره المقتدر يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، فقلده وخلع عليه، وكان قبل كاتب القهرمانه، واستكتب مكانه أبا يوسف عبد الرحمن ابن محمد، وكان تائبا من العمل، فسماه الناس المرتد. واستدرك اموالا، كان الخصيبى اضاعها، فتنكرت القهرمانه للخصيبى، وضاعت الأمور بوزارته حين كان مواصلا للشرب ليلا ونهارا ويبيت مخمورا. فصادر الخاقانى على مائتي الف وخمسين الف دينار. وصادر جعفر بن القاسم [الكرخي] على مائه وخمسين الف دينار. وتوجه جعفر بن ورقاء الشيبانى بالحاج في الف من بنى عمه، وكان في القوافل الذين يبذرقون الحاج سته آلاف رجل، فلقيهم الجنابى فهزمهم بالعقبه وولوا الى الكوفه، فخرج قواد السلطان فهزمهم، واقام بالكوفه سته ايام، وحمل منها اربعه آلاف ثوب وشى وثلاثمائة راويه زيت، وانصرف الى بلده. واضطرب الناس ببغداد، وعبر اهل الغربي منها الى الجانب الشرقى. واتى موسى الكوفه، فاستخلف عليها ياقوت. وسار مؤنس الى واسط. وقرئت الكتب بفتح ابن ابى الساج طبرستان. ووردت خريطة الموسم لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة، بان النحر كان بمكة يوم الثلاثاء، ونحر الناس ببغداد يوم الاثنين. وحج على بن عيسى ثم ورد مكة من مصر.

سنه ثلاث عشره وثلاثمائة

سنه ثلاث عشره وثلاثمائة فيها فتح ابراهيم المسمعي ناحيه القفص، واسر منهم خمسه آلاف رجل، وحملهم الى فارس وكثرت الارطاب ببغداد، حتى عملوا منها التمور، وجهزوا بذلك الى البصره، فنسبوا الى البغى. واتى القرمطى النجف، فخرج مؤنس، فانصرف من بين يديه. وفيها مات الخاقانى. وفيها دخل الروم ملطيه. وفي هذه السنه، توفى ابو الحسن على بن محمد بن بشار الزاهد، وقبره ظاهر بالعقبه عند النجمى يتبرك به، وكان القادر بالله رضى الله عنه يزوره دائما، وقال في بعض الأيام: انى لاعرف رجلا ما تكلم منذ ثلاثين سنه بكلمة يعتذر منها، فعلم الحاضرون انه اراد نفسه. وجاءته امراه، فقالت: ان ابنى قد غاب، وقد طالت غيبته، فقال لها: عليك بالصبر، فظنت انه يأمرها باكل الصبر، وكانت عندها برنيه مملوءة صبرا، فمضت واكلت نصفها في مده، على مرارة من العيش، وشده من الحال، ثم رجعت اليه فشكت اليه غيبته، فقال لها: عليك بالصبر، فقالت: قد وفى من البرنية، قال لها: وأكلته! قالت: نعم قال: اذهبى فابنك قد ورد، فرجعت الى الى منزلها فوجدت ابنها هناك. وسمع ابن بشار من تاج المقتدر بالله غناء، فلما اصبح قال: هذا الامام ولا يمكننا الانكار على الامام، ولكن ننتقل، فبلغ ذلك المقتدر بالله فانفذ اليه: ايها الشيخ لا تنزعج فتزعجنا، ونحن اولى بالانتقال منك فكان هذا من عمل خادم وقد ادبناه وصرفناه عن دارنا، ولن ترى بعدها ولا تسمع ما تكره.

سنه اربع عشره وثلاثمائة

سنه اربع عشره وثلاثمائة فيها مات الخاقانى. ودخل الروم ملطيه، فاخربوا سورها، وأقاموا سته عشر يوما، فدخل أهلها مستغيثين. وبلغ اهل مكة مسير القرمطى نحوهم، فنقلوا حرمهم وأموالهم. واستدعى ابن ابى الساج الى واسط، وقلد اعمال المشرق، وكناه الخليفة بابى القاسم يتكنى بذلك على جميع القواد، الا على الوزير، ومؤنس المظفر، وحمل اليه المقتدر خلعا سلطانيه، وخيلا بمراكب ذهب وطيبا وسلاحا. ودعى الى الري، واضطرب امر الخصيبى لإحدى عشره ليله خلت من ذي القعده. واشار مؤنس بعلى بن عيسى، فاستدعى المقتدر أبا القاسم عبد الله بن محمد الكلواذى واستخلفه لعلى، واستحضر سلامه الطولونى، فتقدم اليه بالنفوذ في البريه الى دمشق ليحضر عليا وظهر في ذلك اليوم ابن مقله وجماعه من الكتاب، وسلموا على الكلواذى وتمكنت هيبة على بن عيسى في الصدور. ووصلت حمول من البلدان مشى بها الكلواذى الأمور. واطلقت في شهر رمضان أم موسى الهاشمية من حبسها والزمت منزلها. ولم يحج احد من العراق.

سنه خمس عشره وثلاثمائة وزارة على بن عيسى الثانيه

سنه خمس عشره وثلاثمائة وزارة على بن عيسى الثانيه في صفر، وصل على بن عيسى الى بغداد، وانفذ اليه المقتدر في ليلته فرشا وثيابا بعشرين الف دينار، وخلع عليه، وسار من الغد بين يديه كافه القواد الى دار بباب البستان، فاعتقد العفو عمن أساء اليه. واشتغل بالعمل ليلا ونهارا، فاستقامت الأمور. وكان الى عبد الله البريدى الضياع الخاصة ضمانا واقطاع الوزارة الى ابى يوسف أخيه الخراج برامهرمز. واحضر على بن عيسى الخصيبى، وناظره مناظره جميله، وأخذ خطه بأربعين الف دينار. ومات ابراهيم المسمعي بالنوبندجان، فقلد على بن عيسى مكانه ياقوتا، وقلد أبا طاهر محمد بن عبد الصمد كرمان. وقلد اعمال الاهواز أبا الحسن احمد بن محمد بن مانبداذ فقال ابو عبد الله البريدى: تقلد هؤلاء هذه الاعمال، وتقصر بأخي ابى يوسف على بن مهرمز وبي على ضياع الوزراء! وكان قد كتب له بذلك منشورا: خذ يا بنى هذا الكتاب فمثل عليه في الكتب فان لطبلى صوتا تسمعه بعد ايام. وانفذ ابو عبد الله البريدى أخاه أبا الحسين الى الحضره، لما بلغه اضطراب امر على بن عيسى، وقال له: اضمن اعمال الاهواز، إذا ولى الوزارة من يرتفق. فان عليا عفيف. فلما ولى ابن مقله الوزارة اعطاه عشرين الف دينار، حتى ولاه الاهواز، ثم صرفه بابى محمد الحسين بن احمد الماذرائى، فبان من تخلفه ما صار به حديثا

وأخذ عليه البريدى الطرقات، فكان كل كتاب يكتبه يؤخذ من رسله فما قرئ له كتاب منذ دخل الاهواز الى ان خرج عنها، فصرفه ابو على بابى عبد الله البريدى، واعترف باحترازه بطلل الماذرائى. وكان اقطاع الوزارة مائه وسبعين الف دينار، بعد نفقاتهم، فلم يأخذ ذلك على بن عيسى وقال: ضيعتى تكفيني. ودخل الروم شميشاط، وضرب ملكهم في الجامع النواقيس وصلى فيه الروم صلواتهم. ووقعت وحشه بين المقتدر بالله ومؤنس، سببها: انه حكى له، ان المقتدر تقدم الى خواص خدمه بحفر زبيه تغطى بالقصب، فإذا اجتاز مؤنس وقع فيها، فهلك، فامتنع من المضى الى دار السلطان، وركب اليه القواد، فيهم عبد الله بن حمدان واخوته وقال له عبد الله بن حمدان: نقاتل بين يديك ايها الأستاذ حتى تنبت لحيتك، فكاتبه المقتدر بالله على يدي نسيم الشرابي، على بطلان ذلك، فجاء وقبل الارض، وحلف له المقتدر، على صفاء نيته، وامره بالخروج الى الروم، فخرج وشيعه الأمير ابو العباس، وعلى بن عيسى ونصر الحاجب وهارون بن غريب. وفي هذه السنه كان ظهور الديلم، لما خرج ابن ابى الساج عن الري، غلب عليها ليلى بن النعمان، ثم ما كان بن كاكى، ودخل هذا الرجل في طاعه صاحب خراسان. وغلب بعده اسفار بن شيرويه، وكان مزداويج احد قواده، فلما ظلم اسفار اهل قزوين، خرج رجالهم ونساؤهم مستغيثين الى المصلى داعين الله عليه، فخرج عليه مزداويج، فهزمه والجاه مزداويج، حين راى آثار حوافر الفرس فدخل عليه فاحتز راسه، وعاد الى قزوين، ووعدهم الجميل واظهر الخوف من دعائهم

ثم تغلب على الري وأصبهان، وأساء السيرة بأصبهان حاجبه وعظمت هيبته، وجلس على سرير ذهب، وكان يتنقص الاتراك، وكان يقول: انا سليمان وهؤلاء الشياطين وكان إذا سار انفرد عنه عسكره خوفا منه، فاشتق العسكر شيخ على دابه وقال: زاد امر هذا الكافر، واليوم تكفونه، ويأخذه الله اليه قبل تصرم النهار، فدهشوا واتبعوه فلم يجدوه. وعاد مزداويج الى داره، فنزع ثيابه، ودخل الحمام واطال، فهجم عليه الاتراك، فقاتلهم بكرنيب فضه، فحزوا راسه بعد ان شقوا بطنه، وظنوا انهم قتلوه، فلما دخلوا عليه ثانيا راوه رد حشو بطنه، وأمسكها بيده، وكسر جامه الحمام وهم بالخروج. وقبض ابن ابى الساج على كاتبه ابى عبد الله بن خلف البرقاني لما عرف سعايته به، وسلمه الى كاتبه حسن بن هارون وقيده وأخذ خطه بستمائة الف دينار. وكاتب المقتدر ابن ابى الساج لحرب القرمطى، لما عرف خروجه من هجر لثلاث بقين من شهر رمضان، واطلق له من بيت مال الخاصة فيما ينصرف الى علوفه بين واسط والكوفه، فحمل ذلك اليه سلامه الطولونى، وامر على بن عيسى عمال الكوفه باعداد الميرة لابن ابى الساج. وسار ابن ابى الساج من واسط طالبا الكوفه لليلة بقيت من شهر رمضان. واطلق ابو طاهر القرمطى أسارى الحاج، ووصل الكوفه، فاخذ ما اعد ليوسف وهو مائه كر دقيقا، والف كر شعيرا. ووافى يوسف الكوفه بعد وصول ابى طاهر إليها بيوم، وكان قد تقارب عسكر ابن ابى الساج، وعسكر ابى طاهر في يوم ضباب واحس به ابو طاهر وكف عنه، فالتقوا يوم السبت لتسع خلون من شوال على باب الكوفه، فاحتقر ابن ابى الساج عسكر ابى طاهر، وازرى عليهم، وتقدم يكتب كتاب الفتح قبل اللقاء، تهاونا بامره. والتفت ابو طاهر الى رفيق له، وقد سمع صوت البوقات والدبادب، وكانت

عظيمه جدا فقال: ما هذا الزجل؟ فقال له صاحبه: فشل، فقال: اجل. وعبا ابن ابى الساج رجاله، وكان القتال من ضحى النهار الى غروب الشمس، فثبت يوسف ثباتا حسنا، وجرح من اصحاب ابى طاهر بالنشاب خلق، وكان ابو طاهر في عمارية مع مائتي فارس من اصحابه، فنزل حينئذ وركب، فسار وحمل بنفسه، وحمل يوسف بنفسه، واشتبكت الحرب، فاسر يوسف بن ابى الساج بعد ان ضرب على جنبه ضربه، وقد اجتهد به اصحابه في الانصراف فأبى، وقتل من اصحابه خلق وانهزم الباقون. وحمل يوسف الى عسكر ابى طاهر فضرب له خيمه وفرشت، ووكل به، واستدعى بطبيب يعرف بابن السبعى ليعالجه، فقال: قد جمد الدم على وجهه، واريد ماء حارا قال: فلم أجد عندهم ما اسخن فيه الماء، فغسله بالماء البارد وعالجه قال الطبيب: وسألني يوسف عن اسمى واهلى، فاخبرته فوجدته بهم عارفا ايام تقلده الكوفه، فعجبت من فهمه وقله اكتراثه بما هو فيه. ولما وصل الخبر بغداد دخل الناس كابه عظيمه وعولوا على الانحدار الى واسط، ثم ورد الخبر بان أبا طاهر رحل يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال، قاصدا عين التمر، فاستاجر على بن عيسى خمسمائة سميريه، وجعل فيها الف رجل، وانفذ الطيارات والشذات وحولها الى الفرات واقعد فيها الحجريه، لمنع القرمطى من عبور الفرات، وتقدم الى القواد بالمسير الى الأنبار لحفظها. فلما كان يوم الجمعه، راى اهل الأنبار خيل ابى طاهر مقبلة في الجانب الغربي، فقطعوا الجسر، وعبر ابو طاهر في مائه رجل، ونشبت الحرب بينه وبين اصحاب

السلطان، وعقد الجسر وخالف سواد الذين في السفن الى الجسر، فاحرقوه، فبقى ابو طاهر في الجانب الشرقى وعسكره وسواده في الغربي، وحالت السفن بينهما. وورد الخبر الى بغداد بقتل ابى طاهر القواد، فخرج نصر الحاجب، ومعه الحجريه والرجاله ومن ببغداد من القواد، وبين يديه علم الخلافه ومعه ابو الهيجاء عبد الله بن حمدان واخوته. فاجتمع مع نصر ما يزيد على الأربعين الف رجل، فنزل على قنطره النهر المعروف بزبارا، بناحيه عقرقوف، على فرسخين، ولحق به موسى، واشار ابو الهيجاء على نصر الحاجب وعلى مؤنس بقطع نهر زبارا، والح عليه في ذلك، فلما رآه متثاقلا عن قبول رايه، قال له: ايها الأستاذ أقطعها واقطع لحيتي معها، فقطعها حينئذ. وسار ابو طاهر، ومن معه من اصحابه في الجانب الشرقى من الفرات قاصدين نهر زبارا، فلما صار على فرسخ واحد من عسكر السلطان آخر يوم الاثنين لعشر خلون من ذي القعده بات موضعه. وباكر المسير الى القنطرة، فوجدها مقطوعه، وتقدم احد رجاله اسود يقال له صبح، فما زال النشاب يأخذه حتى صار كالقنفذ وهو مقدم، فراى القنطرة مقطوعه فرجع. ولما علم اصحاب ابى طاهر ان النهر لا يخيض، عادوا القهقرى من غير ان يولوا ظهرهم، وعادوا الى الأنبار ولم يجسر احد على اتباعهم. وكان الرأي فيما اشار به ابو الهيجاء من قطع القنطرة، ولولاها لعبر القرمطى غير مستهول لجمع اصحاب السلطان. وطمع مؤنس المظفر في سواده وتخليص ابن ابى الساج من اقياده، فانفذ بليق حاجبه وجماعه من القواد، وسته آلاف من غلمان يوسف، فبلغ ذلك أبا طاهر، فانفرد من اصحابه ماشيا، وعبر في زورق صياد، دفع اليه الف دينار، فاجتمع مع قومه فلم يثبت له بليق، وبصر ابو طاهر بابن ابى الساج وقد خرج من الخيمة لما ناداه

غلمانه، فقال له القرمطى: طمعت في تخليصهم لك! وامر به فضربت عنقه واعناق من كان معه من الأسرى. واحتال ابو طاهر في عبور اصحابه من الجانب الشرقى الى الجانب الغربي، وكان مع ابى طاهر سبعمائة فارس وثمانمائه راجل. وتقدم على بن عيسى الى نازوك بالطواف ببغداد ليلا ونهارا، لكثرة العيارين، وأباح دم من ظهر منهم، ونقل الناس امتعتهم الى منازلهم خوفا منهم، واكترى وجوه الناس السفن. وقصد القرمطى هيت، وبها هارون بن غريب وسعيد بن حمدان، فقاتلا من علا سورها بالمنجنيقات، بعد ان قتلوا من اصحابه عده فسكنت نفوس من ببغداد. وتصدق المقتدر بمائه الف درهم. وبادر على بن عيسى الى المقتدر بالله وقال له: انما جمع الخلفاء الأموال ليقمعوا بها الأعداء، ولم تلحق المسلمين مضره كهذه من هذا الكافر الذى اوقع بالحاج سنه اثنتى عشره وثلاثمائة، ولم يبق في بيت مال الخاصة شيء، فاتق الله يا امير المؤمنين، وخاطب السيده حتى تطلق ما عندها من مال ادخرته لشديده، فهذه أمها، وان لم يكن هناك شيء فالحق خراسان. فدخل الى السيده، فأعطته خمسمائة الف دينار، وكان في بيت مال الخاصة مثلها. واخبر على بن عيسى، بحال رجل شيرازى يكاتب القرمطى واتباعه، فاحضره فاقر انه من اصحابه، لم يتبعه الا لحق رآه معه وقال له: لسنا كالرافضة الحمقى، الذين يدعون اماما منتظرا، وامامنا فلان ابن فلان ابن اسماعيل بن جعفر، فامر به فحبس بعد الضرب، فامتنع في حبسه من الطعام والشراب فمات بعد ثلاثة ايام. وكتب القرمطى الى مؤنس كتابا، في آخره: قولوا لمؤنسكم بالراح كن أنسا ... واستتبع الراح سرنايا ومزمارا وقد تمثلت عن شوق تقاذف بي ... بيتا من الشعر للماضين قد سارا نزوركم لا نؤاخذكم بجفوتكم ... ان الكريم إذا لم يستزر زارا ولا نكون كأنتم في تخلفكم ... من عالج الشوق لم يستبعد الدار وله اشعار كثيره تركناها لشياعتها.

سنه ست عشره وثلاثمائة

سنه ست عشره وثلاثمائة . دخل مؤنس المظفر بغداد، وبعده نصر. وندب مؤنس للخروج الى الرقة، لما وصل الخبر باستيلاء القرمطى على الرحبه حربا وقتله أهلها ورهبت الاعراب أبا طاهر، حتى كانوا يتطايرون عند سماع ذكره، وجعل على كل بيت منهم دينارا بعد ان نهبهم. وعاود القرمطى هيب، فلم يقدر عليها، فاتى الكوفه، وجاء الى قصر ابن هبيرة فخرج اليه نصر، فحم نصر حمى شديده حاده، فسار مع ذلك الى شورا وبينه وبين القرمطى نهرها، واستخلف على الجيش احمد بن كيغلغ، وانفذ معه الجيش. وانصرف القرمطى من غير لقاء. واشتدت عله نصر، وجف لسانه من شده الحمى، فاعيد الى بغداد، فمات في الطريق في عمارية، فانفذ المقتدر على الجيش هارون بن غريب، فدخل بهم بغداد. واقام على بن عيسى حين راى تنكر الأمور على الاستعفاء من الوزارة، والمقتدر يجلبه، ويستوقفه حتى اعفاه. واستوزر المقتدر أبا على بن مقله ضرورة، وذلك بمشوره نصر، فلما كان في النصف من شهر ربيع الاول، انفذ المقتدر هارون بن غريب، ومعه ابو جعفر بن شيرزاد للقبض على على بن عيسى، فاستحيا هارون من لقائه بذلك، فانفذ أبا جعفر، فوجده مستعدا قد لبس خفا وعمامة وطيلسانا، واستصحب مصحفا ومقراضا، وسال هارون صيانة حرمه، ففعل وحمل مع أخيه ابى على الى دار السلطان، فاعتقله في دار زيدان القهرمانه، وكانت وزارته هذه سنه واربعه اشهر ويومين.

وزارة ابى على بن مقله

وزارة ابى على بن مقله وقد كان محمد بن خلف النيرمانى بذل في الوزارة ثلاثمائة الف دينار، فلم تقبل منه، لما عرف منه الجهل بالكتابه والتهور في الافعال. واحضر ابن مقله يوم الخميس سادس عشر ربيع الاول، وقلد الوزارة، ووصل الى الخليفة وخلع عليه، وحمل اليه طعام على العادة التي جرت للوزارة إذا خلع عليهم. ودس نصر الحاجب على على بن عيسى من ادعى مكاتبته القرمطى على يده، وذلك لعداوة بينه وبينه، ولممايله على لمؤنس. وعزم الخليفة على ضرب على بن عيسى بالسياط على باب العامه، فوقفت السيده على بطلان الأمر فازالت من نفس المقتدر تصديق ذلك، وثنته عن رايه في معاقبته. واتفق لابن مقله ما مشى به الأمور، انفاذه البريدى له- وكان بينهما موده- سفاتجا بثلاثمائة الف دينار، وغير ذلك من وجوه اخر. وتغاير سواس هارون بن غريب على غلام امرد، فوقع الحرب بينهم، فاخذ نازوك سواس هارون وحبسهم، فسار اصحاب هارون الى مجلس الشرطه وضربوا خليفه نازوك، وأخذوا اصحابه فلم ينكر ذلك المقتدر فجمع نازوك رجاله وزحف الى دار هارون، فقتل من اصحابه قوما، ووقعت الحرب، فجاء ابن مقله ومفلح الأسود فاديا رساله إليهما عن المقتدر حتى كفا. واقام مؤنس في داره مستوحشا، فأظهر ان ذلك لمرض في ساقه، وصار اليه هارون لابسا دراعه فاصطلحا. واقام هارون ببستان النجمى، قاصدا للبعد من الفتن، فكتب اصحاب مؤنس

اليه وهو بالرقة، بان الأمر قد تم لهارون في امره الأمراء، فاسرع الى بغداد ولم ينحدر الى المقتدر وصعد اليه الأمير ابو العباس والوزير ابو على فسلما عليه. وقدم عليه ابو الهيجاء من الجبل، وقلد احمد بن نصر الحجبة، وأخذ منه ستين الف دينار، وذلك في شهر رمضان، وصرف في ذي الحجه. وقبض ابن مقله على ابى محمد بن عبد الله كاتب نصر، والزمه خمسين الف دينار.

سنه سبع عشره وثلاثمائة

سنه سبع عشره وثلاثمائة في يوم السبت ثالث المحرم، خرج مؤنس الى باب الشماسيه، وخرج الجيش معه، وعبر اليه نازوك في اصحابه، وخرج اليه ابو الهيجاء وسائر القواد، ثم انتقلوا الى المصلى. وشحن المقتدر داره بهارون بن غريب واحمد بن كيغلغ والحجريه والرجاله المصافيه فما كان آخر النهار حتى مضوا الى مؤنس. وراسل مؤنس المقتدر ان الجيش عاتب بما يصير الى الخدم والحرم ودخولهم في الرأي، وهم يطالبون باخراجهم عن الدار، فأجابه المقتدر برقعة طويله فيها: امتعنى الله بك ولا أخلاني منك، ولا أراني سوءا فيك، تاملت الحال التي خرج اولياؤنا وصنائعنا وشيعتنا إليها وتمسكوا بها، وأقاموا عليها، فوجدتم لم يريدوا الا صيانة نفسي وولدى، واعزاز امرى وملكي، بارك الله عليهم، واحسن اليهم وأعانني على صالح ما انويه لهم واما أنت يا أبا الحسن المظفر- لا خلونا منك- فشيخى وكبيرى، ومن لا ازول ولا احول عن الميل اليه والتوفر عليه والتحقق به، اعترض ما بيننا هذا الحادث الم يعترض، وانتقض هذا الأمر الذى لحقنا او لم ينتقض، وأرجو الا تشك في ذلك ان صدفت نفسك وحاسبتها، وازلت الظنون السيئه عنها، ادام الله حراستها. والذى ذكره أصحابنا من امر الحرم والخدم قول إذا تبينوه حق تبينه، وتصفحوه حق تصفحه، علموا انه قول جاف، والبغى فيه على غير مستتر ولا خاف ولا يثارى موافقتهم واتباعى مصلحتهم اجبتهم الى المتيسر في امر هذه الطبقة، واتقدم بقبض اقطاعاتهم وحظر تسويغاتهم، واخراج من يجوز اخراجه من دارى، ولا اطلق للباقين الدخول في تدبيرى ورأيي، واوعز بمكاتبه العمال في استيفاء حق بيت المال من

ضياعهم الصحيحه الملك، دون ما يقال انه قد لابسه الريب والشك، وانظر بنفسي في امر الخاصة والعامه وابلغ في انصافها والاحسان إليها الغاية. واما أنتم، فمعظم نعمكم منى، وما كنت لأعود عليكم في شيء سمحت به ورايته في وقته، وأراه الان زهيدا، في جنب استحقاقكم، وانا بتثميره اولى وبتوفيره احرى. اما نازوك، فلست ادرى لأي شيء عتب، ولا لأي حال استوحش واضطرب؟ فما غيرت له حالا، ولا حزت له مالا. واما عبد الله بن حمدان، فالذي احفظه صرفه عن الدينور وتهيؤ اعادته إليها ان كان راغبا فيها، وما عندي له ولنازوك والعصاة كلها الا التجاوز والإبقاء وبعد هذا وقبله، فلي في أعناقكم بيعه قد وكدتموها على انفسكم دفعه بعد اخرى. ومن بايعنى فإنما بايع الله سبحانه، ومن نكث فإنما نكث عهد الله، ولي عندكم أيضا نعم واياد وعندكم صنائع وعوارف، آمل ان تعترفوا بها وتلتزموها وتشكروها، فان راجعتم هذا الجميل، وتلقيتم هذا الخطب الجليل، وفرقتم جموعكم ومزقتموها وعدتم الى منازلكم واستوطنتموها، واقبلتم على شئونكم فلم تقصروا فيها كنتم بمنزله من لم يبرح من موضعه، ولم يأت بما يعود بتشعث محله وموقعه، وان ابيتم الا مكاشفه ومخالفه، فقد وليتكم ما توليتم، واغمدت سيفي عنكم، ولجات في نصرتي ومعونتى الى الله سبحانه، ولم اسلم الحق الذى جعله الله تعالى لي، واقتديت بعثمان بن عفان رضى الله عنه، حين لم يخرج من داره، ولم يسلم حقه لما خذله عامه ثقاته وانصاره، والله تعالى بصير بالعباد وللظالمين بالمرصاد. ولما وقف مؤنس ونازوك وابو الهيجاء على الرقعة، طالبوه باخراج هارون، فاخرجه من يومه الى الثغور الشامية والجزرية. وعاد مؤنس والجيش الى بغداد في يوم عاشوراء وزحفوا الى دار السلطان، فهرب المظفر بن ياقوت والخدم والحجاب وابن مقله

واخرج المقتدر والدته وخالته وحرمه ليلا الى دار مؤنس، ودخل حينئذ من قطربل الى بغداد مستترا. واصعد نازوك بغلامه مؤنس الى دار ابن طاهر، ففتح له كافور الموكل بها، وسلم اليه محمد بن المعتضد بالله، واحرق في طريقه دار هارون وبويع محمد بالخلافة، بايعه مؤنس والقواد ولقب القاهر بالله. واخرج مؤنس على بن عيسى من دار السلطان، فاطلقه الى منزله وقلد أبا على بن مقله وزارة القاهر. وقلد نازوك الحجبة والشرطه. واضاف الى اعمال ابى الهيجاء اعمالا كثيره. ومضى بنى ابن نفيس، بعد ان وقع النهب في دار السلطان الى تربه السيده بالرصافة، فوجد لها هناك ستمائه الف دينار. واشهد المقتدر على نفسه بالخلع القضاه وأخذ القاضى ابو عمر الكتاب، فلم يطلع عليه أحدا، فكان هذا من اقوى ذرائعه عند المقتدر، لما عاد الى الخلافه. وسكن النهب عند ولايه القاهر، وجلس ابن مقله بين يديه، وكتب بخلافته الى الافاق. وتقدم الى نازوك بقلع خيم الرجاله، والمنع للحجريه من دخول الدار فاضطربوا. فلما كان يوم الاثنين سابع عشر المحرم، بكر الناس الى دار الخلافه، لأنه يوم الموكب وحضر الخلق والعسكر باسره، وطالبوا بالرزق والبيعه ولم ينحدر مؤنس يومئذ. وهجمت الرجاله تريد الصحن التسعينى، وكان نازوك نهى اصحابه عن معارضتهم، إشفاقا من الفتنة، فقاربوا القاهر بالسلاح، وكان جالسا في الرواق، بين يديه ابن مقله ونازوك وابو الهيجاء، فانفذ بنازوك ليردهم وهو مخمور قد شرب ليلته، فقصدوه بالسلاح، فهرب منهم، فطمعوا فيه، وانتهى به الهرب الى باب كان

قد سده خوفا من الدخول منه فكانت منيته عنده، فقتلوه وصاحوا مقتدر يا منصور. فهرب كل من في الدار، وصلبوا نازوك وعجيبا الخادم على خشب الستارة، وبادر الخدم الى أبواب الدار فغلقوها، لانهم خدم المقتدر وصنائعه. وبادر ابو الهيجاء الخروج، فصاح القاهر به: تسلمني يا أبا الهيجاء! فأخذته الحمية فقال: لا والله لا اسلمك وعاد ابو الهيجاء ويده في يد القاهر الى دار السلام، وقصد الروشن فوجد الرجاله منتظمين، فنزل ابو الهيجاء معه وقال له: وتربه حمدان لا فارقتك يا مولاى او اقتل دونك! ومضى ابو الهيجاء الى الفردوس ونزع سواده ومنطقته واعطى ذلك غلامه، وأخذ جبه صوف مصريه عليه، وركب دابه غلامه، ومضى الى باب النوبى، فوجد الجيش وراءه وهو مغلق، فعاد الى القاهر، وقال: هذا امر من السماء، قد حمل راس نازوك الى هناك. ودخلا من حيث خرجا، وأتيا دار الأترجة، وتأخر عنهما فائق وجه القصعة، واشار على الخدم بقتل ابى الهيجاء، وذكرهم عداوته للمقتدر، فاتوه بقسي ودبابيس فجرد سيفه ونزع جبته، وحمل عليهم فاجفلوا منه ورموه ضرورة، ورماه احد الحجريه بنشابه وهو ينادى: يال تغلب! القتل بين الحيطان اين الكميت بن الدهماء! فرماه خمار جونه بسهمين: أحدهما نظم فخذيه والآخر مال بترقوته، فانتزع السهام ومضى الى بيت فسقط فيه قبل ان يصل اليه. فبادره اسود، فضرب يده فقطعها، وأخذ سيفه، وغشيه اسود آخر فحز راسه. وامتنع المقتدر، وهو بدار ابن طاهر، من المضى الى دار السلطان، وخاف ان تكون حيله عليه، فحملوه على رقابهم الى الطيار. فلما حصل في دار الخلافه سال عن ابى الهيجاء، فقيل له: هو في الأترجة، فكتب له أمانا بخطه، وقال لبعض الخدم: ويلك بادر به لا تنم عليه امره. فلما حصل الخادم في الطريق، تلقاه خادم آخر برأسه، فعاد الى المقتدر فعزاه

عنه، فظهرت كابته وقال: ويلك من قتله؟ فغمزه مفلح الأسود، فقال: لا ادرى فكرر: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! وظهر من حزنه عليه امر عظيم. وكان ابو الهيجاء في الشجاعة بمنزله كبيره، حكت عنه احدى حظاياه، انه كان يواقعها في سفر، فجاء السبع الى باب مضربه، فجرد سيفه وحمل عليه، وأتاها برأسه، وعاد الى الحال التي كان عليها، لم تفتر شهوته ولم تكل آلته. واتى المقتدر بالقاهر، واستدناه، وقبل جبينه، والقاهر يقول: نفسي نفسي يا امير المؤمنين، فقال له: لا ذنب لك لأنك اكرهت، وحق رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا جرى عليك سوء منى ابدا، فاطمان. وشهر ببغداد راس نازوك وابى الهيجاء، ونودى عليهما: هذا جزاء من كفر نعمه مولاه. وعاد ابن مقله الى الوزارة، وكتب باعاده الخلافه الى المقتدر وحكى ان بدر بن الهيثم القاضى، ركب للتهنئه ورجوع الخلافه الى المقتدر بالله، وقال لابن مقله: بين ركبتي هذه وركبه ركبتها مائه سنه، لأنني ركبت للتعزية بوفاه المأمون سنه سبع عشره ومائتين مع ابى، وقد ركبت اليوم للتهنئه بعود المقتدر سنه سبع عشره وثلاثمائة، وتوفى بدر بعد ايام سنه مائه واثنتى عشره سنه. وجددت البيعه على الناس، فاطلق للفرسان زياده ثلاثة دنانير في الشهر، وللرجال زياده دينار ونفدت الأموال في عطياتهم حتى بيعت الآلات والكسوة. واشهد المقتدر بالله على نفسه، بتوكيل على بن العباس النوبختى في بيع الضياع. وحضر على بن عيسى فقام اليه ابن مقله، وشاهد البيع، فانتهى الى بيع ضياع جبريل والد بختيشوع، وقد بيعت بثمن نزر، فقال: لا اله الا الله! حدثنى شيخنا القاسم عيسى بن داود- يعنى أباه- ان المتوكل رحمه الله، لما غضب على بختيشوع انفذ لإحصاء ما في داره، فوجد في خزانه كسوته رقعه فيها ثمن ضياعه، مبلغ ذلك بضعه عشر آلاف الف درهم. وخلع المقتدر على ابن مقله وكناه وقلد أبا عمر قضاء القضاه، وكتب عهده. واوقع في هذه السنه القرمطى بالحجيج في المسجد الحرام، وقتل امير مكة، وقلع الحجر الأسود، وسلب البيت، واصعد رجلا من اصحابه ليقلع الميزاب، فتردى فهلك،

وطرح القتلى بزمزم، والقى من بقي في المسجد، وأخذ الأموال وحمل الحجر الى بلده. قال المقتدر: قال لي عقيل بن عصام العقيلي بقرية ابروذه من الدجيل: حدثنى ابى: انه راى أبا طاهر وبين يديه خمسون يضربون الرقاب، فقتل من الحجيج نحو عشره آلاف وهو يقول: ولو كان هذا البيت بيتا لربنا ... لصب علينا النار من فوقنا صبا وانا تركنا بين زمزم والصفا ... جنائز لا نبغى سوى كسبها ربا لعنه الله واتباعه لعنا وبيلا! واتى اهل مكة على من عندهم من الحاج، فقتلوهم وسلبوهم. وقلد ابنا رائق شرطه بغداد، مكان نازوك. وورد ياقوت من فارس، فخلع المقتدر عليه، وعلى ابنه المظفر، وولى مكانه نجحا الطولونى بفارس وكرمان وعزل ياقوت، وجعل الاشراف بها لابن ابى مسلم. وانحدر بعد ذلك مؤنس الى المقتدر، فخلع عليه ونادمه، وساله في أم موسى الهاشمية، وفي أم دستنبويه، فأجيب ووصلت بسبعه آلاف دينار. ورتب على بن عيسى في المظالم، وجعلت الدواوين اليه. وفيها فتح هارون بن غريب شهرزور، وطالبهم بخراج عشرين سنه عصوا فيها، وصالحوه على سبعه وثلاثين الف دينار ومائتي الف درهم. وفيها رتب الحجريه على بن مقله، وضربوه بالدبابيس فافلت منهم. وفيها ملك اصحاب ما كان الديلمى قاسان.

سنه ثماني عشره وثلاثمائة

سنه ثماني عشره وثلاثمائة [أخبار متفرقة] زاد امر الرجاله وكثر تسحبهم وادلالهم، بأنهم كانوا السبب في عود المقتدر الى داره. وطالب الفرسان بالمال، فاحتج عليهم السلطان، بانه يصرف الى الرجاله في كل شهر مائه وثلاثين الف دينار. وركبت الفرسان مع محمد بن ياقوت، فطردوهم واوقع بالسودان بباب عمار، وحرق دورهم، فهربت الرجاله الى واسط، ورئيسهم. نصر الساجي، فغلبوا عليها فانحدر مؤنس فاوقع بهم، فلم ترتفع لهم رايه بعد ذلك. وكان بين محمد بن ياقوت ومؤنس تباعد، فلممايله مؤنس ابن مقله، عاداه بالانضمام اليه، وقبض على الوزير سليمان بن الحسن، حين عرفت اضاقته، وكثرت المطالبات له، فكانت مده وزارته سنه وشهرين . وزارة ابى القاسم عبد الله بن محمد الكلواذى كانت في يوم الاثنين سابع رجب، واقرضه ابن قرابه مائتي الف دينار بربح درهم في كل دينار. وملك مزداويج الجبل باسره الى حلوان. وانهزم هارون بن غريب الى دير العاقول. واستامن يشكرى الديلمى الى هارون، وهو من اصحاب اسفار، وانهزم بانهزامه وصادر يشكرى اهل نهاوند في اسبوع، على ثلاثة آلاف الف درهم، وانبثت

وزارة الكرخي

الاخبار، وصادر اهل الكرج وملك أصبهان، وكان بها احمد بن كيغلغ، فخرج هاربا في ثلاثين نفسا. فكان لأحمد من الاتفاق العجيب ان يشكرى تبعه الى قريه، فعاون أهلها احمد وتقارب احمد ويشكرى، فضربه احمد ضربه قدت مغفره وخوذته، ونزلت في راسه فقتلته، وانهزم اصحابه، وسن احمد يومئذ سبعون سنه. وركب الكلوذانى في طيارة، فرجمه قوم من الجند، طلبوا أرزاقهم، فجعل ذلك سببا لاغلاق بابه، وولى بعده الحسين بن القاسم الكرخي . وزارة الكرخي كان ببغداد رجل يعرف بالدانيالى، يظهر كتبا عتيقه، وينسبها الى دانيال النبي عليه السلام، ويودع تلك الكتب أسماء قوم وحلاهم، فاستوى جاهه، وقامت سوقه بين اهل الدولة وعند القاضى ابى عمر وابنه. وذكر لمفلح الأسود، انه من ولد جعفر بن ابى طالب، فنفق بذلك عليه، وأخذ منه مالا كثيرا، واشار عليه ابن زنجى باثبات صفه الحسين بن القاسم، وذكر الجدري الذى في وجهه والعلامات التي في شفته العليا، فكتب ذلك، وانه ان وزر للثامن عشر من ولد العباس استقامت أموره، فعمل دفترا، وذكر ذلك في تضاعيفه وعتقه في التبن، وجعله تحت خفه ومشى عليه حتى اصفر وعتق. قال ابن زنجى: فلولا معرفتي من عمله له لم اشك في انه قديم وحمله الى مفلح فعرضه على المقتدر، فقال له: اتعرف هذه الصفة لمن؟ قال: لا اعرفها الا للحسين بن القاسم، قال: فاستدعاه وشاوره. قال ابن زنجى: ثم ان الدانيالى طالبنى بالمكافاه، فقلت: حتى يتم الأمر. فلما ولى الحسين الوزارة، ولاه الحسبه، واجرى له مائتي دينار في الشهر

وسعى له بليق في الوزارة، وتقلدها يوم الجمعه لليلتين بقيتا من شهر رمضان، فتشاغل عن الجلوس بالتهنئة بجمع الأموال التي يحتاج إليها في نفقه العيد، وصار اليه على بن عيسى وهناه. وكانت دمنه تعنى بأمر الحسين، فكانت توصل رقاعه، وكانت حظيه عند المقتدر فكان يخدمها ويخدم ابنها الأمير أبا احمد إسحاق في كل يوم بمائه دينار. واختص به بنو البريدى وابو بكر بن قرابه، واقرضه اموالا بربح درهم في الدينار. واختص به جعفر بن ورقاء، فقلد أبا عبد الله محمد بن خلف النيرمانى اعمال الحرب والخراج والضياع بحلوان، وغيرها من ماء الكوفه، ولبس القباء والسيف والمنطقه وتسمى بالاماره وسئل في اخراج على بن عيسى الى مصر، فدافع عنه مؤنس وقال: انه شيخ نرجع الى رايه حتى احدره الى الصافية. وابتدأ مؤنس في الاستيحاش وبلغ الحسين ان مؤنسا على كبسه ليلا، فكان ينتقل في كل ليله الى مكان، خوفا منه وراسل مؤنس المقتدر في صرف الحسين عن الوزارة فأجابه. وسعى الحسين بمؤنس وقال للمقتدر: انه قد عزم على ان يخرج الأمير أبا العباس الى الشام ويقرر له الخلافه. وكتب الحسين الى هارون بن غريب، وهو بدير العاقول، يأمره بالمبادره الى الحضره فاستوحش مؤنس، واظهر الغضب وسار في اصحابه الى الموصل. وجاء بشرى خادم شفيع برسالة الى المقتدر، فشتمه الحسين وشتم صاحبه، وضربه بالمقارع، وأخذ خطه بثلاثمائة الف دينار. ووقع الحسين بقبض املاك مؤنس وضياع أسبابه، وافرد له ديوانا سماه ديوان المخالفين. وزاد مخل الحسين من المقتدر، فكان ينفذ له الطعام من بين يديه، ولقبه عميد الدولة، وامر بذكر لقبه على الدنانير. وقلد أبا يوسف محمد بن يعقوب البريدى البصره، والقيام بنفقتها فتقدم الى

الكتاب، باخراج خراج البصره، فاخرجوه من صلاه الفجر الى عتمه يومه، واحضر البريدى ووافقه على ذلك، وأخذ خطه بالقيام بمال الأولياء بالبصرة، وان يرتب لحفظ السور زياده على من عليه الف رجل، وان يحمل بعد النفقات سبعين الف دينار، وحمل الخط الى الوزير متبجحا به، فلم يقع من الوزير بموقع، وظن انه وبخه بذلك. وعرف المقتدر فوقع موقعه عنده، وغلظ على الحسين، فخافه الفضل بن جعفر، فاستتر منه عند ابن قرابه، فقلد الحسين الديوان أبا القاسم الكلواذى. وجد ابو الفتح في طلب الوزارة، وصودر ابن مقله عند بعد مؤنس عن مائتي الف دينار. واراد الحسين مصادره على بن عيسى، وهو بالصافية مقيم، فمنع منه هارون بن غريب وكان بدير العاقول. ووصل هارون الى دار السلطان، فلقى المقتدر وساله في ابن مقله، فحط عنه خمسين الف دينار، فانصرف الى داره، فقصده الوزير وابنا رائق ومحمد بن ياقوت ومفلح وشفيع. وأخذ ابن مقله في استماحه الناس، ففضل له عن الذى صودر عليه عشرون الف دينار فابتاع بها ضياعا وقفها على الطالبيين وكان اتباعها باسم عبد الله بن على المقرئ. وقبض المقتدر على ابى احمد بن المكتفي، ومحمد بن المعتضد، فاعتمدت السيده مراعاه محمد، واهدت اليه الجوارى وراعته في نفقته، واعتقلا بدار السلطان واشتدت الإضافة بالحسين فباع ضياعا بخمسمائة الف دينار، واستسلف من مال سنه عشرين وثلاثمائة قبل افتتاحها، فاخبر هارون حاله للمقتدر، فكتب للخصيبى أمانا فظهر فخوطب بالوزارة، فذكر ان الحسين استسلف من مال سنه عشرين قطعه وافرة، وانه لا يغر السلطان من نفسه، فولاه ديوان الازمه، واجرى له ولكتابه الف دينار وسبعمائة دينار في كل شهر، واقر الحسين على الوزارة وخلع عليه، ليزول الارجاف عنه

وزارة ابى الفتح الفضل بن جعفر

واجتمع الحسين والخصيبى، فاخذ الحسين يعانده والخصيبى ممسك، فلما بلغ ذلك المقتدر انحل امر الحسين عنده فقبض عليه، فكانت وزارته سبعه اشهر . وزارة ابى الفتح الفضل بن جعفر وخلع عليه لليلتين بقيتا من شهر ربيع الآخر. وصادر الحسين في نوب، أخذ منه في إحداها اربعين الف دينار، ثم ابعده الى البصره واقام له في كل شهر خمسه آلاف درهم. وانفذ مزداويج رسولا يسال ان يقاطع عن الاعمال التي غلب عليها من اعمال المشرق، فأجيب، وتكفل هارون بن غريب بامره، وكتب له العهد وانفذ اليه اللواء والخلع، ومشى الوزير ابو الفتح الأمور بمائه الف دينار الزمت للبريدى ونفى ابن مقله الى شيراز. ومات ابو عمر القاضى، فاغرى ابو بكر بن قرابه بورثته، وقال للمقتدر: هاهنا من يعطى مائه الف دينار لقضاء القضاه! ويوفر هذا المال من جهته. وانفذ المقتدر بكتاب الى ابى الحسين القاضى معه، وعرفه الحال، فاتوه وهو في العزاء، وأمسكوا، فقال ابن قرابه: ما لهذا حضرنا، قم معنا حتى نخلو، فنهض واستوفى عليه ابن قرابه الخطاب، فقال ابو الحسين: ان نعمنا من امير المؤمنين، واساله ان يمهلنا يومه، حتى يحصل امره. فلما كان بالعشي، وكان شهر رمضان، مضى الى دار ابن قرابه، فدخل والمائدة بين يديه، وعنده البريديون، فأكل قاصدا لاستكفاء شره، وقال: قد جئتك مستسلما إليك فدبرنى بما ترى. وقرب منه البريديون، وقالوا متوجعين: له عندنا ثلاثة آلاف دينار نعينك بها، واستصوبوا قصده لابن قرابه، فقال له ابن قرابه: امض مصاحبا، وتعطف عليه المقتدر بالله، وعاونه البريديون واخوانه فقلده قضاء القضاه. ووصف المقتدر لابن قرابه ما هو فيه من الإضافة، فقال له: لم لا يعاونك ابن خالك هارون بن غريب وعنده آزاج مملوءة دنانير؟ فقال هارون: لو كنت املك

شيئا لما بخلت به عن امير المؤمنين، لان سلامتي معقودة بسلامته، ولكن مع ابن قرابه من المال ما لا يحتاج اليه، وانا استخرج لك منه خمسمائة الف دينار، فقال: اذهب فتسلمه، فقبض عليه وجرى عليه من المكروه ما اشفى به على التلف، حتى قتل المقتدر بالله فخلص. وحكى ابن سنان: ان ابن قرابه كان صديقا لأبيه، فدخل عليه بعد ما صودر فقال له: خلطت حتى صودرت، وقد حصل لي الان ما يرتفع منه عشرون الف دينار في السنه خالصه لي، ولي من الاملاك ما ليس لأحد مثله ومن الآلات والفرش والمخروط والصيني والجوهر ما ليس لأحد، وكذلك من الرقيق والخدم والغلمان والكراع، ومعى ثلاثمائة الف دينار صامت، لا احتاج إليها، وبيني وبين ابن مقله موده، وهو مقدم من فارس وزيرا، فهل ترى لي ترك التخليط ولزوم رب النعمه وإصلاحها! فقال له ابن سنان: ما رايت اعجب من امرك، انما يسال عن الأمر الخفى، واما عن الواضح الجلى فكلا، وبعد فان اعقبك فائده واثمرك صلاحا، فلازمه، والا فكف عنه وأيضا فان الإنسان يكد ليحصل له بعض ما حصل لك وقد أتاك هذا وادعا فاشكر الله وتمتع بنعمتك التي انعم الله سبحانه بها عليك، فقال: صدقت ونصحت، ولكن لي نفس مشئومه لا تصبر، وساعود الى ما كنت فيه. فلما خرج سنان من عنده، قال: لا يموت ابن قرابه الا فقيرا او مقتولا. ولما ورد مؤنس، وكان هارون بن غريب قد وكل به غلمانه وقيده، وامرهم باخراجه الى واسط، فقتل المقتدر بالله رحمه الله في ذلك اليوم، فهرب الموكلون به وبقي معه خادمان وكان ابن قرابه اشتراهما لهارون، فتعطفا عليه وصارا به الى الفرضه، وادخلاه مسجدا بها واحضرا حدادا، فكسر قيوده ومشى الى منزله بسويقه

غالب، ووهبا له خمسمائة دينار. ثم اداه التخليط الى ان قبض عليه القاهر، فأزال نعمته وقبض املاكه وهدمت داره، واراد قتله فزال امر القاهر فعاد الى تخليطه. ومضى الى البريديين لما خالفوا السلطان. ومضى الى معز الدولة من نهر ديالى، وصودر حتى لم يبق له بقية، واضطر الى ان خدم ناصر الدولة، في كل شهر بمائه دينار، وكان ينفق أمثالها ومات بالموصل. وفي ذي الحجه من هذه السنه، عقد المقتدر لأبي العلاء سعيد بن حمدان على الموصل وديار ربيعه. وفي هذه السنه توفى ابو القاسم البلخى المتكلم صاحب المقالات والتفسير ببلخ. وفي سنه عشرين وثلاثمائة كاتب الحسين بن القاسم داود وسعيدا ابنى حمدان والحسن بن عبد الله بن حمدان بمحاربه مؤنس، فامتنع داود من لقاء مؤنس، لأنه لم يزل محسنا اليه، فما زال به اهله حتى لقيه وقال: هذه تغسل ما فعله الحسين بن حمدان وابو الهيجاء، فكان يقول: والله انى اخاف ان يجيء سهم نجار فيقع في حلقى فيقتلني، فكان حاله كذلك، قتل وحده بسهم. وكان بنو حمدان في ثلاثين ألفا، ومؤنس في ثمانمائه رجل فانهزموا، وتعجب مؤنس من محاربه داود له، وكان يقول: يا قوم في حجري ختن، ولي عليه من الحقوق ما ليس لأبيه. وملك مؤنس اموال بنى حمدان، واستولى على الموصل، وكثر خروج الناس اليه ولما اقام بها تسعه اشهر، حمله من خرج اليه على الانحدار الى الحضره، وبلغ الجند بها انحداره، فشغبوا وطالبوا بأرزاقهم، فاطلق لهم المقتدر ذلك، واخرج مضرب الدم الى باب الشماسيه. وتراجعت طلائع المقتدر، وبها سعيد بن حمدان ومحمد بن ياقوت ومؤنس الورقانى واجتهد المقتدر بهارون ان يخرج للحرب

وجاء محمد بن ياقوت، والوزير الفضل بن جعفر الى المقتدر ومعهما ابن رائق ومفلح، وقالوا: ان الرجال لا تقاتل الا بالمال، وسألوه في مائتي الف دينار من جهته وجهة والدته، فقال: ليس الى ذلك وجه، وتقدم بإصلاح الشذاءات والطيارات لينحدر هو وحرمه الى واسط، فقال له محمد بن ياقوت: اتق الله يا امير المؤمنين ولا تسلم بغداد بغير حرب، وان رجال مؤنس ان رأوك أحجموا عن القتال، فقال له: أنت والله رسول ابليس. وركب المقتدر، ومعه هارون بن غريب، ومحمد بن ياقوت، وسائر القواد، وعليه البرده وبيده القضيب، وبين يديه ابنه الأمير ابو على، والانصار حافون به، معهم المصاحف منشوره، والقراء يقرءون القرآن، وكثر الدعاء له، واصعد الى الشماسيه، ووقف على موضع عال. واشتبكت الحرب، ومؤنس بالراشديه لم يحضرها، وثبت هارون ومحمد، وصار ابو العلاء سعيد بن حمدان برسالتهما الى المقتدر يسألانه الحضور، ليشاهده اصحاب مؤنس فيستامنوا فلم يجبه. وتتابعت رسلهما، حتى كان آخرهم محمد بن احمد القراريطى، كاتب هارون، وهو لا يجيبهم، ووقف على ظهر دابته، ووراءه الوزير ابو الفتح ومفلح وخواص غلمانه، فلما ألحوا عليه وقالوا: ان الغلمان يؤثرون رؤية امير المؤمنين. فمضى حينئذ كارها المضى، ومعه مفلح، وتخلف عنه الوزير، فلما قارب دجلة، انهزم اصحابه قبل وصولهم، واستأسر احمد بن كيغلغ وجماعه القواد، وآخر من ثبت محمد بن ياقوت. ولقى المقتدر على بن بليق، فترجل له وقبل الارض بين يديه، ووافى البربر من اصحاب مؤنس، فأحاطوا بالمقتدر، وضربه رجل منهم ضربه فسقط منها، فقال: ويحكم! انى الخليفة! فقالوا: فلك نطلب، واضجعوه وذبحه احدهم بالسيف، وطرح احد اصحابه نفسه عليه فذبح أيضا، ورفع راسه على خشبة، وسلب ثيابه،

خلافه القاهر بالله ابو منصور بن المعتضد

حتى مر به اكار، فستره بحشيش، وحفر له ودفنه وعفى اثره. ونزل على بن بليق وأبوه في المضارب، وانفذ الى دار السلطان من يحفظها. وانحدر مؤنس الى الشماسيه فبات بها. ومضى عبد الواحد بن المقتدر ومفلح وهارون ومحمد وابناه رائق على ظهر خيولهم الى الميدان. وكان ما فعله مؤنس من ضرب وجه المقتدر بالسيف سببا لجراه الأعداء على الخلفاء. وكانت مده وزارة ابى الفتح لأمير المؤمنين المقتدر بالله رحمه الله خمسه اشهر وعشرين يوما. ولما حمل راس المقتدر الى مؤنس بكى، وقال: والله لنقتلن كلنا، والصواب ان نرتب مكانه ابنه أبا العباس، فتسخو نفس جدته السيده باخراج المال. فثنى رأيهم ابو يعقوب إسحاق بن يعقوب النوبختى وقال: الصواب ان تولوا القاهر محمد بن المعتضد بالله، مقدرا استقامه امره معه، فكان الأمر على خلاف ما حسب خلافه القاهر بالله ابو منصور بن المعتضد كانت سنه وسته اشهر وخمسه ايام. أمه تسمى قبول، وسبب خلافته، انه حمل الى مؤنس محمد بن المكتفي بالله، فخاطبه في تولى الخلافه فامتنع وقال: عمى أحق بالأمر، فخاطب عمه القاهر، فأجاب وحلف لمؤنس والقواد وبايعوه، وبايعه القضاه، وذلك سحر يوم الخميس لليلتين بقيتا من شوال. واشار مؤنس ان يستوزر له على بن عيسى، فقال بليق: وابنه على الحال الحاضره لا يقتضى ذلك، لأنها تحتاج الى سمح الكف واسع الأخلاق فاشار بابى على بن مقله وبان يستخلف له الى ان يقدم من فارس ابو القاسم الكلواذى فرضى

وزارة ابن مقله

مؤنس بذلك، واستخلفوا له الكلواذى، وكتبوا الى ياقوت بحمله عاجلا. وانحدر القاهر الى دار الخلافه، واستدعى مؤنس على بن عيسى من الصافية، فاوصله الى القاهر، فخاطبه بكل جميل. وكانت والده المقتدر في عله عظيمه من فساد مزاج واستسقاء ولما وقفت على حال ابنها امتنعت من الاكل حتى كادت تتلف، فرفق بها حتى اغتذت بيسير من خبز وملح فاحضرها القاهر وقررها بالمال، باللين تاره وبالخشونه اخرى، فقالت: لو كان عندي مال ما اسلمت ولدى للقتل وتجرعت بفراقه الثكل، وما لي غير صناديق فيها صياغات وثياب وطيب. فعلقها في حبل البراده بفرد رجلها، وتناولها بالضرب بيده في المواضع الغامضه من بدنها، ولم يذكر إحسانها اليه وقت اعتقال المقتدر اياه، وضربها اكثر من مائه مقرعه. ولما اوقع المكروه بها، لم يجد زياده على ما اعترفت به طوعا، وأخذ ما وجد لها فإذا هي صناديق فيها ما قيمته مائه الف وثلاثون الف دينار وتماثيل كافور قيمتها ثلاثمائة الف درهم. فرفع ذلك الى الكلواذى وبليق وامرهما بحمله الى مؤنس، ليصرف في مال البيعه. وصودر جميع اسباب المقتدر. وصادر الفضل بن جعفر على عشرين الف دينار، فقال مؤنس: انا أؤديها عنه. وحل القاهر ما وقفته السيده على الحرمين والثغور، واشترى ذلك اصحاب مؤنس. بخمسمائة الف دينار . وزارة ابن مقله وقدم ابن مقله من شيراز يوم النحر، واختار لنفسه لقاء القاهر ليلا بطالع الجدى، وقال: فيه احد السعدين، وخلع عليه من الغد خلع الوزارة

وصار الى دار مؤنس المظفر، فسلم عليه وانصرف الى داره. وحضر الناس للتهنئه، وأتاه على بن عيسى، فلم يقم له، فاستقبح الناس فعله، وصار اليه ابن قرابه وعاود تخليطه. وظهرت دمنه والده الأمير إسحاق بأمان كتبه القاهر لها، وبذلت عن ولدها عشرين الف دينار، ووجد اولاد المقتدر في دار على بن بليق. وظهر شفيع المقتدرى بأمان، وقرر عليه خمسون الف دينار، وكان مملوكا لمؤنس، فحلف ان لا بد من بيعه، فنودي عليه، فبلغ ثمنه سبعين دينارا، فابتاعه الكلواذى باسم القاهر وشهد الشهود في العهد.

سنه احدى وعشرين وثلاثمائة

سنه احدى وعشرين وثلاثمائة [أخبار متفرقة] قبض ابن مقله على جماعه من العمال، منهم النوبختى إسحاق بن اسماعيل، وعلى الكلواذى، وعتب عليه انه لم يراع اهله وقت غيبته، وأخذ خطه بمائتي الف دينار، وسلمه الى ابى بكر بن قرابه. وقبض على بنى البريدى، وضمن اعمالهم محمد بن خلف النيرمانى بزيادة ثلاثمائة الف دينار، وضمن له ابن قرابه ان يصادرهم على ستمائه الف دينار. ولم يزل ابو عبد الله البريدى يدارى محمد بن خلف، ويعرفه انه يعمل بين يديه فرفهه من بين اخوته وتوصل ابو عبد الله حتى ضمنه ابن قرابه واطلق. ومضى البريدى الى ابن مقله وقال: عرفت من ابن خلف انه يطلب الوزارة، فانفذ خدمه وحجابه للقبض عليه، فهزمهم محمد بن خلف، وحصلهم في بيت، واقفل عليهم بابه، وتسور السطوح وهرب، فلم يظهر الا بعد عزل ابن مقله. ومضى البريدى الى الاهواز بتوسط ابن قرابه حاله. وكان ابن مقله يعادى أبا الخطاب بن ابى العباس بن الفرات، فلم يجد للقبض عليه طريقا، لأنه ترك التصرف منذ عشرين سنه، ولزم منزله وقنع بدخول ضيعته. وكان ابن مقله استسعفه ايام نكبته، فاعتذر بالإضافة ولم يسعفه، فأظهر ابو الخطاب اولاده ودعا اولاد ابن مقله، فعادوا الى ابيهم واخبروه بزينته فتركه. حتى قصده للسلام، فقبض عليه وطالبه بثلاثمائة الف دينار، فقال: بم يحتج على الوزير وقد تركت التصرف من عشرين سنه؟ وفي حال تصرفى كنت الزم الصحة، ولي على الوزير حقوق، مثله لا ينساها، ولولا تهجينه لي لقد كنت اظهر خطوطا له عندي قبل هذه الحال، وما اريد من رعايتها الا السلامة، وان كان يعتقد اننى ورثت من ابى مالا فاننا كنا جماعه اولاد، ولو كان شيء لتقاسمناه

فقال ابن مقله للخصيبى: عاقبه، فعوقب، فلم يذعن، فقال: اضربوا عنقه، فقال للسياف: وجهني الى القبله، وأخذ يتشهد. فقال مؤنس وقد بلغه الخبر: اى طريق لك على رجل لم يعمل منذ سنه تسع وتسعين ومائتين، وتوسط امره على عشره آلاف دينار، وصرفه الى منزله. وتوسط ابن شيرزاد حال هارون بن غريب، على مصادره بثلاثمائة الف دينار، وعنى به مؤنس المظفر، فقبلت مصادرته وقلد اعمال ماه الكوفه وماسبذان. وكان هارون بواسط، ففارقه عبد الواحد بن المقتدر ومحمد بن ياقوت وأبناء رائق وسرور ومفلح، وقصدوا السوس، واخرجوا البلاد في طريقهم، وأقاموا بسوق الاهواز، فنفذ لحربهم بليق. وانحدر بدر الخرشنى في الماء وكوتب احمد بن نصر القشورى، وهو يتقلد البصره فلما تحصلت الجيوش بواسط، تغير اصحاب ابن ياقوت عليه، وصاحب البريدى بليق، وضمن تستر عسكره، وعمل بالاهواز كل عظيم من المصادرات، وأخذ الأمتعة واتى بعده البريدى فعمل كعمله. وقال ابو عبد الله البريدى: لما رايت انحلال امر بليق هممت بالتغلب، وصار بين محمد بن ياقوت وبليق نهر، فحلف بليق لمحمد بالا يناله من جهته سوء إذا عبر اليه، فعبر اليه محمد، في غلام واحد، وانفرد وحلف كل واحد منهما لصاحبه، فاصطلحا على ان يسيرا الى الحضره ويكون بينهما منزل. واشار البريدى على ابن الطبرى كاتب بليق، بان يخاطب استاذه في القبض على محمد فلما خاطبه، قال: ما كنت لاخفر أمانتي. وخلف بليق بتستر البريدى، فعمل بها كل قبيح. ورحل ابن ياقوت، وتبعه بليق الى مدينه السلام، فلما دخل بليق خلع القاهر عليه وطوقه وسوره، واطلق املاك ابن رائق ومحمد بن ياقوت ومفلح وسرور. دون اقطاعاتهم

وبيعت دار الوزارة بالمخرم، وكانت قديما لسليمان بن وهب، وذرعها اكثر من ثلاثمائة الف ذراع، وقطعت وصرف ثمنها في مال البيعه للقاهر بالله. وورد الخبر من مصر بموت تكين الخاصة. واشار ابن مقله بانفاذ على بن عيسى، فجاءه ليلا واستشفع الى كرمه به، وعرفه كبر سنه، فأعفاه عن الشخوص لما تذلل له، وهم بتقبيل يده، فمنعه من ذلك. وورد كتاب محمد بن تكين، يخطب مكان ابيه، فأجيب اليه، فشغب الجند عليه بمصر وهزموه. وانحرف ابن مقله عن محمد بن ياقوت، ومكن في قلب مؤنس المظفر وبليق وعلى ابنه انه في تدبير عليهم مع القاهر عليهم وان رسوله في ذلك عيسى الطبيب. فوجه مؤنس بعلى بن بليق الى دار الخلافه، وهجم غلمانه على عيسى الطبيب، فاخذوه من بين يدي القاهر، ونفاه مؤنس من وقته الى الموصل. واستتر محمد بن ياقوت، ووكل مؤنس بدار القاهر، وامر بتفتيش كل من يدخل إليها، حتى فتش لبنا مع احدى الجوارى وخاف ان تكون فيه رقعه. وأخذ المحبوسين فيها، وسلم والده المقتدر الى والده على بن بليق، فاقامت عندها مرهفه عشره ايام، وماتت بعد ذلك وحملت الى التربة بالرصافة فدفنت بها. وباع ابن مقله الضياع والاملاك السلطانيه، لتمام مال البيعه بألفي الف وأربعمائة الف دينار. وتقدم بالقبض على البر بهارى ورئيس الحنابله، فهرب، وقبض على جماعه من كبار اصحابه، ونفاهم الى البصره. قال بعض اهل العلم: خرجنا في يوم مطير، مع جنازة ابى هاشم عبد السلام ابن محمد بن عبد الوهاب الجبائي، الى باب البستان، فإذا نحن بجنازة معها جماعه فقلت: جنازة من هذه؟ فقالوا: جنازة ابى بكر بن دريد، فبكينا على الكلام والأدب وذلك في سنه احدى وعشرين وثلاثمائة

فاما ابو هاشم فبينه وبين ابى بكر بن دريد اثنا عشر سنه، وله الكتب المشهوره في الكلام وفي الرد على ابن الراوندي والملحده. قال الخطيب: ساله بعض اصحابه عن مساله فأجابه، فقال: يا أبا هاشم الصاحى بموضع رجلي السكران اعرف من السكران بموضع رجلي نفسه، يعنى ان العالم اعلم بمقدار ما يحسنه الجاهل من الجاهل بقدر ما يحسن. واما ابو بكر بن دريد، فهو صاحب كتاب الجمهرة، وهو اشعر العلماء. ومن شعره المقصورة، نقلت من خط التميمى له: اعاد من اجلك من ضنى ... وسائر العواد اشراكى ولست اشكوك الى عائد ... اخاف ان اشكو الى شاكى وله: وحمراء قبل المزج صفراء بعده ... أتت بين ثوبي نرجس وشقائق حكت وجنه المعشوق صرفا فسلطوا ... عليها مزاجا فاكتست لون عاشق ومن شعره: كل يوم يروعني بالتجنى ... من أراه مكان روحي منى مشبه للهلال والظبى والغصن ... بوجه ومقله وتثنى جمع الله شهوة الخلق فيه ... فهو في الحسن غاية المتمنى امن العدل ان ارق ويجفونى ... واشتاقه ويصير عنى وفي هذه السنه، تم تدبير القاهر على مؤنس، وانعكس ما دبره مع ابن مقله من القبض على القاهر، وذلك انه لما عومل بما ذكرناه، وضيق عليه التضييق الذى شرحناه راسل الساجيه وضربهم على مؤنس وبليق، وضمن لهم الضمانات الكثيره. وكانت اختيار قهرمانه القاهر، تخرج من الدار، وتتوصل الى ان تمضى ليلا الى ابى جعفر محمد بن القيم بن عبيد الله وتشاوره في امور القاهر

وزارة ابى جعفر محمد بن القاسم

وعزم ابن مقله وبليق وابو الحسن بن هارون على خلع القاهر، وتوليه ابى احمد بن المكتفي بالله، فاشار عليهم مؤنس بالتمهل، وامرهم بالتلبث الى ان ينبسط القاهر، ثم يقبضون عليه، فاتفق لبليق ان خادمه صدمه في الميدان صدمه اعتل فيها. وبادر ابن مقله بمكاتبه القاهر، يعلمه ان القرمطى قد وافى الكوفه، وقد قررت انا ومؤنس مع على بن بليق الخروج اليه، وأمرناه بلقاء امير المؤمنين في ليلتنا هذه وكان قصدهم انه إذا وصل اليه، قبض عليه، واتبع الرقعة بأخرى تتضمن الحال، فاستراب القاهر، وخاف ان تكون حيله ونم الخبر اليه من جهة طريف السبكرى. فلما كان بعد العصر، حضر ابن بليق منتبذا، ومعه عدد يسير من غلمانه: وكان الظاهر قد ارسل الساجيه يحضرون بالسلاح، وشتموا عليا، وعملوا على القبض عليه، فحامى غلمانه عنه وطرح نفسه من الروشن الى الطيار، وعبر واستتر من ليلته. واستتر ابن مقله وابن قرابه. وانحدر بليق ليعتذر لابنه، فقبض عليه القاهر، وراسل مؤنسا واعلمه الحال وساله في الحضور، فاعتذر بثقل الحركة، فعاوده في السؤال في الحضور، فاستقبح له طريف السبكرى التأخر، فلما حصل في دار السلطان قبض عليه، فكانت وزارة ابن مقله للقاهر تسعه اشهر وثلاثة ايام. وزارة ابى جعفر محمد بن القاسم ووجه القاهر الى ابى جعفر محمد بن القاسم بن عبيد الله، فاستحضره في مستهل شعبان وقلده وزارته، وخلع عليه يوم الاثنين ثالث شعبان خلع الوزارة. ووجه القاهر من يومه من استقدم عيسى المتطبب من الموصل. وانفذ الى دار ابن مقله بباب البستان فطرح فيها النار. وظهر محمد بن ياقوت وصار الى دار السلطان، وخدم في الحجبة، ثم علم كراهية طريف والساجيه والحجريه له، فاحتال في الهرب واستتر، وانحدر الى ابيه بفارس وجلس بزي الصوفية في الماء وركب البحر، ووافى مهروبان، وجاء ليلا الى ارجان،

فنزل على ابى العباس بن دينار، وانفذ اليه أبوه مالا وكسوه، وتلاحق به اصحابه، وقلده القاهر كور الاهواز ثم أصبهان واستحجب القاهر سلامه الطولونى، وقلد أبا العباس احمد بن خاقان الشرطه بجانبي بغداد، وأخذ القاهر أبا احمد بن المكتفي من دار عبد الله بن الفتح، فسد عليه باب البيت، وعرف باستتار على بن بليق في دار، فانفذ من كبسها فاستتر في تنور، فاطبق عليه غطاءه، فتأخر بعض الرجال عن اصحابه حين لم يجدوه، واتى الى التنور، ففتحه وظن ان فيه خبزا يابسا، فلما رآه صاح، فعاد اصحابه فاخذوه، وضرب بين يدي القاهر، وادى عشره آلاف دينار، وحبسه. وقبض الوزير ابو جعفر على أخيه الحسين، بعد ان امنه ونفاه الى الرقة، وقال: انه يعتقد مذهب ابن ابى العزاقر. ثم ان رجال مؤنس وبليق شغبوا وقصدوا دار الوزير ابى جعفر فاحرقوا روشنه. وتقدم القاهر يذبح على بن بليق، وانفذه الى ابيه، فلما رآه بكى ثم ذبح بليق، وانفذ راسيهما الى مؤنس، فلما رآهما لعن قاتلهما، فذبح كما تذبح الشاه، واخرج الرؤوس في ثلاث طسوت حتى شاهدها الناس وأعيدت الى خزانه الرءوس. وكان وزن راس مؤنس بعد تفريغ دماغه سته أرطال. وسهل القاهر امر ابن مقله، حين أخذ من الاستتار فاطلقه. وقبض الوزير على ابى جعفر بن شيرزاد، وأخذ خطه بعشرين الف دينار وكبس على بنى البريدى فلم يوجدوا. واحضر القاهر على بن عيسى وقلده واسطا وسقى الفرات. وقبض القاهر على الوزير محمد بن القاسم، فكانت وزارته ثلاثة اشهر واثنى عشر يوما. وأخذ من داره ابو يوسف البريدى. واستدعى القاهر عبد الوهاب بن عبيد الله الخاقانى وإسحاق بن على القناني، على ان يولى أحدهما الوزارة، وجلس القواد بين أيديهما، فخرجت رساله بالقبض

وزارة الخصيبى

عليهما وإدخالهما المطبق ثم وجه الى سليمان بن الحسن، واستحضره للوزارة، فحضر، وتلقاه القواد وقبلوا يده، ووجه بمن قبض عليه وحبسه. ثم وجه الى الفضل بن جعفر واستدعاه ليستوزره، فاستتر. ثم استدعى الخصيبى، وخلع عليه، وكتب للبريديين أمانا، بعد ان صادر أبا يوسف على اثنى عشر الف الف درهم ولما أتاه عبد الله، عاتبه وقال له: شمت أم أخي وهي أمي، وحقوقي عليك توجب صيانتها عن الذكر القبيح، فقال له: دع ما مضى، فاننى لم املك نفسي، وقد وصفتك لأمير المؤمنين ولا بد من الفى الف درهم فقال ابو عبيد الله: لقد اعتبتنى ايها الوزير، واحسنت التلاقى فقال: بحياتى عليك، اكتب خطك بهذا المبلغ، فكتب به خطه وانصرف. وانحدر البريدى الى واسط، وعقدها القاهر عليه بثلاثة عشر الف درهم، وأتاها وبها على بن عيسى، وقد عمرها، وقال عيسى المتطبب للبريدى: ان القاهر يريد القبض عليك فاستتر، ولم يظهر حتى خلع القاهر . وزارة الخصيبى وكان ابن مقله، يراسل الساجيه والحجريه في استتاره، ويضريهم على القاهر. وكان الحسن بن هارون يلقاهم ليلا بزي السؤال، وفي يده زبيل حتى تمت له الحيله. وبذل لمنجم كان يخدم سيما مائتي دينار، حتى قال له من طريق النجوم: انه يخاف عليه من القاهر. وبلغ الخبر باستيلاء اصحاب ابن رائق على الاهواز. وبلغ الخصيبى ما عول عليه الحجريه والساجيه، من قصد دار السلطان،

فانفذ عيسى المتطبب الى القاهر ليخبره بالحال، فوجده نائما مخمورا، واجتهد في انباهه فلم ينتبه لشدة سكره. فقام سيما بهم، وركبوا معه الى دار السلطان، ورتب على كل باب من أبوابها جماعه من الحجريه والساجيه، وامرهم بالهجوم في وقت عينه، وهجم من باب العامه، فوقف به ودخل اصحابه. فخرج الخصيبى في زي امراه واستتر. وانحدر سلامه الى مشرعه الساج واستتر. ولما علم القاهر بالحال، انتبه من سكره، وافاق، وهرب الى سطح حمام في دور الحرم، ووقع في ايديهم خادم صغير، فضربوه بالدبابيس، حتى دلهم على موضعه، فاخذوه وعلى راسه منديل ديبقى وبيده سيف مجرد، واجتهدوا به في النزول اليهم. وقالوا: نحن عبيدك وما نريد غير التوثق لأنفسنا وهو ممتنع حتى فوق اليه احدهم سهما، فنزل. وقبضوا عليه ضحوه يوم الأربعاء لست خلون من جمادى الآخرة سنه اثنتين وعشرين وثلاثمائة. وأتوا الى محبس طريف السبكرى فكسروا قيده، وحبسوا القاهر مكانه، ووكلوا به. وظفروا بزيزك خادمه، وعيسى المتطبب واختيار القهرمانه. واستدلوا على الموضع الذى فيه ابو العباس محمد بن المقتدر، فدلهم على مكانه خادم، فوجدوه ووالدته معتقلين، ففتحوا عنهما. ووقع النهب ببغداد

خلافه الراضي بالله ابى العباس محمد بن المقتدر رحمه الله

خلافه الراضي بالله ابى العباس محمد بن المقتدر رحمه الله وأمه ظلوم وكانت مده خلافته ست سنين وعشره اشهر وعشره ايام. اجلسه الساجيه والحجريه على السرير، وبايع له القواد وبدر الخرشنى، ولقب بالراضى بالله. واستحضر على بن عيسى وأخاه عبد الرحمن، وشاورهما، فعرفه ابو الحسن ان سبيله ان يعقد لواء لنفسه، على رسم الخلفاء، ففعل ذلك، واستحفظ باللواء في الخزانه وتسلم خاتم الخلافه، وهو خاتم فضه وفصه حديد صينى، عليه مكتوب ثلاثة اسطر محمد رسول الله. وانفذ الى القاهر بمن طالبه بتسليم خاتمه اليه، وكان فصه ياقوتا احمر وعليه منقوش: بالله محمد الامام القاهر بالله امير المؤمنين يثق فامر ان يسلم الى نقاش حاذق فمحاه. ومضى القاضى ابو الحسين والقاضى ابو محمد الحسن بن عبد الله بن ابى الشوارب، فامتنع ان يخلع نفسه، فقال على بن عيسى: اخلعوه فان افعاله مشهوره واعماله معروفه وسمل في تلك الليلة. وأخذ البيعه للراضى على بن عيسى واخوه، وسال الراضي على بن عيسى ان يتقلد الوزارة فاستعفاه وقال: انى لا أفي بالأمر، واشار بابن مقله، وكان مستترا وكتب له أمانا فظهر

وزارة ابن مقله

وزارة ابن مقله ومضى الناس اليه، وهو في دار ابن عبدوس الجهشيارى، فهنئوه وخلع عليه خلع الوزارة. وظهر من الاستتار مفلح الأسود، خادم المقتدر، وسرور وفلفل والحسين ابن هارون، وابو بكر بن قرابه. وصاروا الى ابى على وهنئوه، وقال ابن مقله لما أتاه الناس: كنت مستترا في دار ابى الفضل بن مارى النصراني، فسعى بي القاهر، قبل زوال امره بشهرين، وعرف موضعي، وانى لجالس وقد مضى نصف الليل اتحدث مع ابن مارى، أخبرتنا زوجته ان الشارع قد امتلا بالمشاعل والشمع والفرسان، فطار عقلي، وادخلنى ابن مارى بيت تبن، وكبست الدار وفتشوها، ودخلوا بيت التبن وفتشوه بايديهم، فلم اشك اننى مأخوذ، وعهدت وعاهدت الله تعالى على انه ان نجاني من يد القاهر بالله، ان انزع عن ذنوب كثيره، واننى ان تقلدت الوزارة امنت المستترين، واطلقت ضياع المنكوبين، ووقفت وقوفا على الطالبيين، فما استتم نذرى، حتى خرج القوم وانتقلت الى مكان آخر. وما نزع من الخلع، حتى وفي بالنذر. وكتب ابن ثوابه في خلع القاهر كتابا قرئ على المنابر واطلق ابن مقله المحبوسين. وقلد الراضي بالله الشرطه ببغداد بدرا الخرشنى. وكان زيرك القاهرى قد اجمل عشره الراضي وقت اعتقاله، فكافاه بان قلده امر حرمه واكرمه. وسلم ابن مقله عيسى المتطبب الى بنى البريدى فأخذوا منه ثلاثين الف دينار، ارتفق بها منهم، وردوه على ابن مقله وقالوا: انه قد امتنع من أداء شيء. ولم يعترف القاهر بشيء سوى خمسين الف دينار، ففرقها الراضي في الجند. وقلد ابن مقله أبا الفتح الفضل بن جعفر خلافته على سائر الاعمال. وقلد أبا عبد الله البريدى خوزستان، وقلد اخوته البصره والسوس وجنديسابور وكور دجلة وبادوريا والأنبار وبيرسير وقطربل ومسكن

وكتب الى على بن خلف بن طياب باقراره على فارس وكرمان. وقلد الحسن بن هارون ما قلده على بن عيسى من اعمال واسط بمائه الف كر شعير وعشره آلاف كر أرز وأربعمائة كر سمسم والف الف وأربعمائة الف درهم. وقلد القراريطى كتابه ابن ياقوت الزمام وديوان الفرات، فسفر حينئذ لصاحبه محمد بن ياقوت في الحجبة. وحمل الى سماء خمسه عشر الف دينار، حتى عرف الراضي بالله انهم لا يريدون غير محمد بن ياقوت، وانفق هذا الوجه بحجه على القواد مائه الف وعشرين الف دينار. فغاظ ابن مقله، لأنه استدعى ابن رائق وهو بالباسيان لذلك ولم يمكنه تغييره، فلما صار ابن رائق بالمدائن، امره الراضي بالانحدار الى واسط، وأضافها الى اعماله بالبصرة وغيرها. وكان ابن ياقوت برامهرمز عازما على التوجه الى أصبهان، فكوتب بالاصعاد، فالتقى ابن ياقوت في طيارة وابن رائق في حديديه، فسلم كل واحد منهما على صاحبه إيماء من غير قيام. وتلقى ابن ياقوت الحجريه والساجيه، ودخل على الراضي، فخلع عليه وقلده الحجبة، وصار اليه الناس الى داره بالزاهر، ولم يقم لأحد الا لابن مقله ولعلى ابن عيسى. واستولى ابن ياقوت على الأمر. وحصل ابن مقله مع كاتبه القراريطى، وبقي متعطلا. وأخذ خطوط البريديين بمائه الف دينار. وكان هارون بن غريب بالدينور، فعرف الحال بينهما، وهي على عشره فراسخ من بغداد، عازما على ان يتقلد الجيش، فكره الناس ذلك واستحضر ابن ياقوت ابن شيرزاد، واوصله الى الراضي بالله، حتى حمله رساله اليه، يأمره بالرجوع الى الدينور

فمضى ومعه القراريطى، فالتقى به بجسر النهروان، فلم يقبل، قال: ومن جعل ابن ياقوت أحق بالرئاسه منى! وقد كان يجلس بين يدي، وانا نسيب امير المؤمنين، وقال القراريطى: لولا انك رسول لقتلتك، فانصرفا الى بغداد واستخرج هارون اموال طريق خراسان فعسف الرعية وظلمهم وسار ابن ياقوت في الحين الى القنطرة فنزلها، وانفذ ابن شيرزاد برسالة جميله، وعرض عليه تسييب الأموال على النهروانات فلم يقبل. ومضى كثير من الجند الى هارون مستأمنين، واشتد القتال وابن ياقوت يقرا في مصحف ويسبح، وهو في عدد قليل، حتى انهزم اصحابه، ونهب سواده. وبلغ هارون ان محمدا قد عبر قنطره نهر بين، فبادر وحده لياسره، فتمطر به فرسه فسقط عنه في ساقيه، فلحقه غلام ابيه يمن الغربي، فضربه ضربه عظيمه وبادر غلام اسود فذبحه ورفع راسه، فتفرق اصحابه، ونهب الحجريه والساجيه سوادهم. وامر ابن ياقوت بتكفينه، ودفن بهرس من غير ان يصلى عليه، ودخل بغداد، وبين يديه راسه ورءوس اصحابه، فامر الراضي بنصبهما على باب العامه. ثم ان والده الراضي، سالت ان تحمل جثته ويدفن راسه في تربته بقصر عيسى، فأجابها الى ذلك: وأخذ ابن مقله لابنه ابى الفتح أمانا من الراضي، وقطع امره على ثلاثين الف دينار. وفي رجب هذه السنه مات ابو جعفر السجزى، وبلغ من السن مائه واربعين سنه قال ابن سنان: وراسه صحيح الحواس والبصر، منتصب الظهر، ملزز الأعضاء بغير معاون، وقال له على بن عيسى يوما: انما قطعت مالك لكذبك في سنك، فقال: ايها الوزير استدع الجرائد من سر من راى، فإنك تجد اسمى فيها

واسم من كان قبلي وبعدي، فوجد الأمر كما قال وقال ابن ابى داود السجستانى: اعرفه واهله وهم معمرون وحكى انه يذكر دخول هرثمة وهو في المكتب. واراد الراضي توليه محمد بن الحسن بن ابى الشوارب، القضاء بمدينه المنصور، كما كان يتولى ذلك أبوه، فشفع محمد بن ياقوت في امر ابى الحسن، حتى لم يغير عليه، وكتب عهده حتى زال الارجاف عنه. وضمن ابو يوسف البريدى اعمال واسط والصلح والمبارك، واستخلف عليها الحسين بن على النوبختى، وكان يتقلدها لهارون بن غريب، وكان عفيفا خبيرا بالأعمال. وكان ابن مقله قد احدر الخصيبى وسليمان بن الحسن الى البصره، وامر البريدى بنفيهما في البحر، فخف بهما ليله، فكادا يغرقان وايسا من الحياه، فقال الخصيبى: اللهم اننى استغفرك من كل ذنب وخطيئة واتوب إليك من معاوده معاصيك الا من مكروه ابى على بن مقله ان قدرت عليك جازيته عن ليلتي هذه وما حل بي منه فيها، وتناهيت في الإساءة اليه، فقال سليمان: وفي هذا الموضع وأنت معاين للهلاك نقول هذا؟ فقال: ما كنت لاخادع ربى. ولما وصلا الى عمان، عدل بالخصيبى الى سرنديب، فعرف سليمان بن الحسن ابن وجيه خبره فامر برده الى عمان. ولما عزل الراضي ابن مقله وولى عبد الرحمن بن عيسى، ضمن الخصيبى ابن مقله، فلما رآه تلفت نفسه، فاسمعه الخصيبى نهاية ما كره، وسلمه الى الدستوائى، وكان لابن مقله اليه اساءه، لأنه سلمه الى ابن البريدى حين الوى نعمته، فعمل الدستوائى بابن مقله صنوف المكاره. وجاء ابو بكر بن قرابه، فضمن عنه مائه الف دينار والفى دينار، ودفعت الضرورة الى ان وزن ابن قرابه المال من عنده

وفي هذه السنه، ظهرت حال ابن ابى العزاقر، وكان يدعى ان اللاهوت قد حل فيه، وكان قد استتر عند بختيشوع بن يحيى المتطبب، وتتبع حتى قتل وقتل جماعه صدقوه.

سنه ثلاث وعشرين وثلاثمائة

سنه ثلاث وعشرين وثلاثمائة في صفر، مات ابو عبيد الله ابراهيم بن عرفه بن سليمان بن المغيره بن حبيب ابن المهلب بن ابى صفره الأزدي النحوي، المعروف بنفطويه، ومولده سنه خمسين ومائتين وصلى عليه ابو محمد البربهارى، ومن شعره: استغفر الله مما يعلم الله ... ان الشقي لمن لم يرحم الله هبه تجاوز لي عن كل مظلمه ... وا حسرتا من حيائى حين القاه وله: اهوى الملاح واهوى ان اجالسهم ... وليس لي في حرام منهم وطر وهكذا الحب لا اتيان معصية ... لا خير في لذة من بعدها سقر واجتاز على بن بقلى فقال: كيف الطريق الى درب الرواسين؟ فالتفت الى جار له فقال: الا ترى الى الغلام فعل الله بغلامى وصنع احتبس على قال: وكيف، قال: جعل السلق تحت البقل في اسفل البنيقه حتى اصفع هذا العاض بظرامه، فتركه ابن عرفه وانصرف ولم يجبه بشيء

وفي هذا الشهر، صرف عبد الرحمن بن عيسى عن الدواوين، واحضر ابن مقله ابن شنبوذ، وقال له: بلغنى انك تقرا حروفا في القرآن بخلاف ما في المصحف، وكان ذلك بحضره ابن مجاهد واهل القرآن، فاعترف بقراءة ما عزى اليه من الحروف، ومنها إذا نودى للصلاة من يوم الجمعه فامضوا الى ذكر الله. واغلظ للوزير وللجماعة في الكلام، ونصر ما عزى اليه، فامر به ابن مقله فضرب، فدعا عليه بتشتيت الشمل وقطع اليد، ودعا على ابن مجاهد بثكل الولد وعلى الضارب له بالنار، فشوهد قطع يد ابن مقله وثكل ابن مجاهد ولده. ثم استتيب عن قراءة الحروف، فتاب منها. ودعا الأئمة في الجوامع لابن ياقوت، فأنكر ذلك الراضي وصرفهم. وقرر ابن مقله مع الراضي القبض على محمد بن ياقوت، لما غلب على الأمور، وانفرد بجباية الأموال وتضمين الاعمال. فلما دخل ابن ياقوت دار الخلافه عدل به الى حجره، فقبض عليه وعلى كاتبه القراريطى، ونهبت دار القراريطى وحده. وتقلد الحجبة ذكى مولى الراضي. وأخذ خط القراريطى بخمسمائة الف دينار. وكان ياقوت بواسط، فلما علم القبض على ابنيه، انحدر الى السوس، فكاتبه ابن مقله بالمصير الى فارس لفتحها وكان على بن بويه قد تغلب عليها. وهذه حال الأمير ابى الحسين على بن بويه الملقب بعد عماد الدولة، لقبه بهذا اللقب المستكفى بالله، عند وصول أخيه الأمير ابو الحسين اليه. هو احد قواد مزداويج بن زيار الديلمى، فانفذه ليستحث له مالا في الكرج، فأتاها فاخذ منها خمسمائة الف درهم، وصار الى همذان ففتحها عنوه، وقتل كثيرا من أهلها، ثم صار الى أصبهان فتركها عليه المظفر بن ياقوت مسالما، ولم يلبث بها على بن بويه حتى اخرجه منها اصحاب مزداويج، فصار الى ارجان وكاتب ياقوت،

وخاطبه بالاماره، وساله ان يقبله، وكان قد استخرج من ارجان مائتي الف دينار، ووجد كنوزا كثيره، واشتدت شوكته، وصار في الف، وخرج اليه ياقوت في بضع عشره آلاف من الغلمان الحجريه وغيرهم، فسأله على بن بويه ان يفرج له عن الطريق لينصرف الى باب السلطان، فمنعه، وطمع فيه لقله عدده وما معه من المال، ولقيه على باب اصطخر، ونصر ياقوت في يومين عليه، وواقعه في اليوم الثالث، وهو يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنه اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وحمل ابو الحسين احمد بن بويه معز الدولة، في ثلاثين رجلا، على ياقوت حمله صادقه، فهزم ياقوت الى شيراز، ولم يصدق بهزيمته، بل ظنها مكيده حتى عرف ذلك في آخر النهار. فمضى وراءه، واقام على فرسخ من شيراز، ودخل معز الدولة في ثمانين من الديلم فقتل من السودان ألفا، ونادى في اصحاب ياقوت فخرجوا. واتى ياقوت الاهواز. ولما ملك عماد الدولة شيراز، طالبه اصحابه بالمال، وكان مملقا، فخاف من فساد امره، فاستلقى على ظهره في مجلس من دار ياقوت وخلا فيه مفكرا، فراى حيه قد خرجت من سقف منه الى سقف، فخاف ان تسقط عليه إذا نام، فامر الفراشين بالصعود، فوجدوا غرفه بين سقفين، فأمرهم بفتحها، فوجدوا بها صناديق فيها خمسمائة الف دينار، فقويت نفسه، واستدعى خياطا اطروشا ليخيط له ثيابا، وكان الخياط موصوفا بالحذق، وكان يخدم ياقوتا فلما خاطبه في تقطيع الثياب، حلف في الجواب انه لا وديعة عنده سوى اثنى عشر صندوقا لا يدرى ما فيها، فعجب، فوجه بمن حملها وعجب من الحال. وكاتب الراضي بالله يسأله ان يقاطعه على فارس بثمانية آلاف درهم فأجيب. وانفذ اليه ابن مقله أبا الحسين بن ابراهيم المالكى الكاتب، ومعه خلع ولواء، وامره ابن مقله الا يسلم ذلك اليه الا عند تعجيل المال، فلما قاربه تلقاه على فرسخ، وأخذ منه الخلع فلبسها ودخل شيراز، واللواء بين يديه، ولم يدفع الى المالكى شيئا

ومات بشيراز، فحمل تابوته الى بغداد في رجب سنه ثلاث وعشرين وثلاثمائة. ووافى على بن خلف بن طيار بغداد، فقبض عليه ابن مقله، وصادره على ثلاثمائة الف دينار، وانفذ اليه بابى الحسن احمد بن محمد بن ميمون صاحب بيت المال، وقال له: يقول الوزير: لك عندي مائه الف دينار، فحطها من الجمله، واكتب الخط بالباقي، فقال على بن خلف: من اى جهة هذا الدين؟ فعاد ابن ميمون فقال له: يقول لك الوزير، تذكر وانا بشيراز وقد سألتك على ابى طالب بدر بن على النوبندجانى من خراجه خمسمائة الف درهم فامتنعت، وعاودتك وقلت: ان حططتها عوضتك عنها مائه الف دينار، ففعلت ولزمنى ضماني لك، وصار دينا لك على، وهذا وقت القضاء. وقلد السلطان ياقوت الاهواز، وصار كاتبه ابو عبد الله البريدى. وانفذ أخاه أبا الحسين للنيابة عن ياقوت وأخيه بالحضرة. وكان مع عماد الدولة ابو سعيد النصراني الرازى يكتب له. وضمن شيراز منه ابو الفضل العباس بن فسانحس. وانتهى الى مزداويج خبر على، فقامت قيامته، وانفذ اصبهلار عسكره شيرز ابن ليلى، في الفين وأربعمائة من الديلم والخيل الى الاهواز، فقطع ياقوت قنطره نهر اربق، وأقاموا بإزاء ياقوت اربعين يوما، لا يمكنهم العبور، ثم عبروا على اطواف بنهر المسرقان، فهرب البريدى واهل الاهواز الى البصره. واتى ياقوت واسطا، فاخرج له محمد بن رائق عن غربيها، فنزل فيه. واقام على بن بويه عماد الدولة الخطبه لمرداويج، وانفذ اليه الرهون على طاعته، فسكنه بذلك. فبينما هم كذلك، أتاهم الخبر، بان مزداويج في شهر ربيع الاول سنه ثلاث وعشرين وثلاثمائة قتلوه في الحمام بأصبهان، وحمل تابوته الى الري، ومشى الديلم والختل حوله حفاه اربعه فراسخ، ووفى رجاله لأخيه وشمكير، فولاهم من غير عطاء

فلما عرف شيرز بن ليلى خلو أصبهان سار إليها، واتى الري فبايع وشمكير، واستوزر ابن وهبان القصبانى، وكان يبيع القصب بالبصرة، وصار في جمله ابن الخال، فتنقلت به الحال، الى ان قلده همذان، واستامن الى مزداويج عن هزيمه هارون، فعفا عنه ونفق عليه، وجعل اليه كور الاهواز، وقال له: قد جعلت إليك الفى دينار في كل شهر فان أديت الأمانة استوزرتك، ونصبت الرايات بين يديك، وان خنتني وشرهت معدتك العظيمه، وكركرتك الكبيره، والحلاوات بخوزستان كثيره، فلأشقن بطنك بهذه الدشنى العريضة، فقال له: ستعلم ايها الأمير نصحى وأمانتي وانى مستحق لاصطناعك. وكانت هذه الفتن نعمه على البريدى، لأنه حصل من الأموال ما لم يحاسب عليه. وحصل ابو عبد الله وابو يوسف اربعه آلاف دينار خرجا بها على السلطان. وابعد ابن مقله خلقا من الجند عند ضيق الأموال، واحالهم على البريدى، فصاروا اليه، فقبلهم وأضافهم الى غلامه اقبال، فاجتمع معه ثلاثة آلاف رجل. وخرج توقيع الراضي بالله في جمادى الاولى بتلقيب ابى الحسن على بن الوزير ابى على بن مقله بالوزير، وسنه إذ ذاك ثماني عشره سنه، وان يكون الناظر في الأمور صغيرها وكبيرها، وخلع عليه الوزارة وطرح له مصلى في مجلس ابيه. وركب بدر الخرشنى صاحب الشرطه، فنادى ببغداد الا يجتمع من اصحاب ابى محمد البربهارى نفسان واستتر البربهارى. وخرج من الراضي توقيع طويل في معناهم، وكانت حال البربهارى قد زادت ببغداد، حتى انه اجتاز بالجانب الغربي، فعطس فشمته اصحابه، فارتفعت ضجتهم حتى سمعها الخليفة في الوقت وهو في روشنه، فسال عن الحال فاخبر بها فاستهو لها. واصحابه يذكرون عنه صلاحا كثيرا، واضداده يذكرون خلاف ذلك، حتى

حكوا عنه، انه حمل في درج مقفول له منظر بعره وجاء الى بزاز في الكرخ فقال: هذه بعره جمل أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها، واريد ان ارهنها عندك على الف دينار فاعتذر الرجل، فتركه فلما كان من الغد، اجتاز عليه فصعد وقبل لحيته وقال: رايت النبي ص في المنام، يقبلها، فتركه اصحابه امرد، وحكاياتهم في امثال هذا عنه كثيره. وكان سعيد بن حمدان شرع في ضمان الموصل وديار ربيعه سرا، ومضى إليها في خمسين غلاما، فقبض عليه حين وصل إليها ابن أخيه ابو محمد الحسن ابن عبد الله وقتله، فأنكر ذلك الراضي، فامر ابن مقله بالخروج اليه، فأظهر ابن مقله ان على بن عيسى هو الذى كاتبه حتى عصى، وصادر عليا على خمسين الف دينار واخرجه الى الصافية. واستخلف ابن مقله ابنه بالحضرة، وصار الى الموصل، فتركها ابو محمد، ورحل الى بلد الزوراء، فاستخرج ابن مقله مال البلد واستسلف من التجار على غلاته، فحصل معه أربعمائة الف دينار. فبذل سهل بن هاشم كاتب ابى محمد بن حمدان للوزير ابى الحسين ابن الوزير ابى على عشره آلاف دينار حتى كاتب أباه: ان الأمور بالحضرة مضطربه، فانزعج واستخلف على الموصل على بن خلف بن طياب، وانصرف الى بغداد. وخرج اليه الأمير ابو الفضل، متلقيا، ولقى الراضي بالله وخدمه، فخلع عليه وعلى ابنه. وقبض على جعفر بن المكتفي، حين بلغهم انه دعا الى نفسه، ونهب منزله، وأخذ له مال جزيل، وكانت داره قريبا من الزاهر. وممن استجاب له يانس المرفقى، وكان نزل بقصر عيسى، فابعد الى قنسرين والعواصم وجعل اليه أعمالها. وفي شهر رمضان توالى وقوع الحريق بالكرخ، منها في صف التوزيين اصيب به

خلق من التجار، فعوضهم الراضي مالا، وكان العقار لقوم من الهاشميين فأعطاهم عشره آلاف دينار. واحترق ثمانية واربعون صفا من أسواقها، طرح النار قوم من الحنبلية، حين قبض بدر الخرشنى على رجل من اصحاب البربهارى يعرف بالدلاء. واحترق خلق من الرجال والنساء. ووقع حريق ثالث احترق فيه الحدادون والصيارف والعطارون. وقبض الوزير ابو الحسين بن مقله على ابى الحسين البريدى، فتوسط بينهما ابو عبد الله محمد بن عبدوس، فصادره على خمسين الف دينار يسلمها بالاهواز، ومضى معه الكوفى ليأخذها فلم يسلم اليه شيئا وكان الكوفى يجمل عشرته ويقول: اقمت معه غير متصرف ولا داخل تحت تبعه سنه، وحصل لي منه خمسه وثلاثون الف دينار، وتقلدت هناك امر ابن رائق وكفيت امر ابن مقله. وكاتب ابن مقله البريدى كتابا يقول فيه: ويل للكوفه! انفذته ليصلحك لي فافسدك على، والله لاقطعن يديه ورجليه. واتى ابو محمد بن حمدان الى الموصل، وبها اصحاب السلطان، وعلى حربها ما كرد الكردى فهزموه، ثم هزمهم، وكتب يسال الصفح ويقوم بمال الضمان، فأجيب الى ذلك، ولم يستوف التجار الغلات التي طالبهم إياها ابن مقله، فتظلموا، فاحالهم على عمال السواد ببعض أموالهم، وباعهم بالباقي ضياعا سلطانيه، فلم تحصل من سفرته حينئذ فائده، وهرب من دار الوزير ابى على القراريطى. وقبض على ابى يوسف عبد الرحمن بن محمد بن داره بسوق العطش، وصودر على خمسين الف دينار. ومات محمد بن ياقوت في الحبس، واخرج الى القضاه، فشاهدوه وسلم الى اهله، وباع الوزير ضياعه واملاكه. وغلا السعر ببغداد، حتى بلغ الكر من الحنطة مائه وعشرين دينارا والشعير تسعين دينارا. ومات ابو عبد الله محمد بن خلف النيرمانى بالأعمال التي استولى عليها مزداويج، وكان قد انفذ إليها

واقبل غلمان مزداويج يتقدمهم بجكم الى جسر النهروان، فأمروا بدخول الحضره، وعسكروا بالمصلى، واضطرب الحجريه لذلك، فكاتبهم ابن رائق وهو يتقلد اعمال المعاون بواسط والبصره، فانحدروا اليه، فاسنى لهم الرزق، وجعل متقدمهم بجكم الرائقى، واتته الاعراب والقرامطة، فقبلهم واستفحل امره.

سنه اربع وعشرين وثلاثمائة

سنه اربع وعشرين وثلاثمائة [أخبار متفرقة] في شهر ربيع الاول، مات الأمير هارون بن المقتدر بالله، واغتم عليه الراضي غما شديدا، واتهم بختيشوع بانه افسد تدبيره، فنفاه الى الأنبار، ثم سالت فيه السيده فاعاده. واطلق المظفر بن ياقوت من الحبس. وقلد ابن مقله محمد بن طغج الإخشيد اعمال مصر مع ما اليه من الشام وعزل عن مصر احمد بن كيغلغ. وقطع ابن رائق مال واسط والبصره، واحتج باجتماع الجيش عنده. ولما خرج المظفر بن ياقوت من الحبس عول على التشفى من ابن مقله، وكان قد حلف له على صفاء النيه واعتضد ابن مقله ببدر الخرشنى. واوحش المظفر للساجيه والحجريه، فصارت كلمتهم واحده، وأحدثوا بدار السلطان وضربوا الخيم. وكان المظفر يظهر للوزير انه مجتهد في الصلح، فحلف لهم، وحلفوا له ولبدر الخرشنى. ودبر ابن مقله انحدار الراضي الى واسط مظهرا انه يقصد الاهواز، حتى يقبض على ابن رائق، فاخذ معه القاضى أبا الحسين ليسمع من الخليفة وساله ان. يتقدم بها الى ابن رائق. فلما حصل في دهليز الصحن التسعينى، شغب عليه المظفر بن ياقوت مع الحجريه وقبضوا عليه، وعرفوا الراضي انه المفسد للاحوال، وسألوه ان يستوزر غيره، وذكروا على بن عيسى، فامتنع واستشاره الراضي، فاشار بأخيه عبد الرحمن، فانفذ الراضي بالمظفر بن ياقوت الى عبد الرحمن فاحضره.

وزارة عبد الرحمن بن عيسى للراضى بالله

وزارة عبد الرحمن بن عيسى للراضى بالله خلع عليه لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى، وسار الجيش معه الى داره، واحرقوا دار ابن مقله واستتر اولاده. وحكى ان ابن مقله لما شرع في بناء داره بالزاهر، جمع له المنجمون حتى اختاروا وقتا لبنائه، ووضع أساسه بين المغرب وعشاء الآخرة، فكتب اليه بعضهم: قل لابن مقله مهلا لا تكن عجلا ... واصبر فإنك في أضغاث أحلام تبنى بانقاض دور الناس مجتهدا ... دارا ستنقض أيضا بعد ايام ما زلت تختار سعد المشترى لها ... فلم توق به من نحس بهرام ان القران وبطليموس ما اجتمعا ... في حال نقض ولا في حال ابرام وجرى على ابن مقله من المكاره ما يطول شرحه، وضرب بالمقارع، وأخذ خطه بألف الف دينار، وكان به ضيق النفس لان الدستوائى دهقه على صدره. قال ثابت بن سنان: دخلت اليه لأجل مرض اصحابه، فرايته مطروحا على حصير خلق، على باريه، وهو عريان بسراويل، ومن راسه الى اطراف أصابعه كلون الباذنجان، فقلت: انه محتاج الى الفصد، فقال الخصيبى: يحتاج ان يلحقه كد في المطالبه، فقلت: ان لم يفصد تلف، وان فصد ولحقه مكروه تلف، فكاتبه الخصيبى: ان كنت تظن ان الفصد يرفهك فبئس ما تظن، ثم قال: افصدوه ورفهوه اليوم، ففصد وهو يتوقع المكروه. فاتفق للخصيبى ما أحوجه للاستتار، فكفى ابن مقله امره. وحضر ابن قرابه، وتوسط امره، وضمن حمله الى داره، واطلقه بعد ايام وانفذه الى ابيه. وكرهت الحجريه مقام بدر الخرشنى بالحضرة، فصرفه الراضي عن الشرطه

وقلده اعمال المعاون بأصبهان وفارس، فاستعفى عبد الرحمن بن عيسى من الوزارة حين عجز عن تمشيه الأمور، فقبض عليه الراضي في رجب، وقبض على أخيه على بن عيسى، وصادر عليا على مائه الف دينار ادى منها تسعين ألفا، وصادر عبد الرحمن على سبعين ألفا ادى منها ثلاثين. ولليلة بقيت من شعبان، توفى ابو بكر محمد بن موسى بن مجاهد، ودفن عند داره بسوق العطش، وكان مولده سنه خمس واربعين ومائتين. قال ابو الفضل الزهري: انتبه ابى في الليلة التي مات فيها ابو بكر بن مجاهد المقرئ، فقال: يا بنى، ترى من مات الليلة؟ فانى رايت في منامي كان قائلا يقول: قد مات الليلة مقوم وحى الله منذ خمسين سنه، فلما أصبحنا وإذا بابن مجاهد قد مات. ونقلت من خط رئيس الرؤساء ابى الحسن بن حاجب النعمان: كان ابن مجاهد إذا ختم احد عنده القرآن عمل دعوه، فختم احد اولاد النجارين، فعمل دعوه فحضر ابو بكر واصحابه، وحضر الصوفية والقوالون، فلما قارب ثلث الليل، استدعى ابو بكر بن مجاهد ازاره فطرحه على كتفه، وقال: امضى في حاجه واعود، فلا يتبعني احد، قال: فعجبنا من خروجه في ذلك الوقت، وظننا انه انكر سوء ادب، ومكثنا منكرين، فلما كان بعد ساعتين، وافى وعاد الانبساط، فسألناه عن نهضته فقال: اصدقكم، نظرت فإذا انا في طيبه ولذة، وذكرت ان بيني وبين فلان الضرير مقه وشر، ففكرت اننى في هذه اللذه، وان ذاك واقف بين يدي الله عز وجل يتهجد، ولم أحب ان أكون بهذه الصفة وهو على تلك الحال من ثقل القلب، فخفت من الله تعالى فقصدته ودخلت داره، فقبلت راسه، واصلحت ما بيني وبينه، وامنت استحكامه، وعدت الى ما نحن عليه وانا طيب القلب. وفي شهر رمضان ورد الخبر بقتل ياقوت بعسكر مكرم، ودفن بها، وذلك ان جنده شغبوا عليه، ومن جملتهم ثلاثة آلاف اسود، وانصرف عنه طاهر الجيلى في ثمانمائه رجل الى الكرج، وكبسه على بن بلقويه فقلل رجاله، ونجا طاهر بنفسه،

واستأسر كاتبه أبا جعفر الصيمرى، وكان سبب اقباله واتصاله بمعز الدولة. فكاتب ياقوت البريدى، وهو بالاهواز يعرفه الصورة، فقال البريدى: انا كاتبك ومدبر امرك، والصواب ان تنفذ بالرجال حتى اقرر معهم الحال، فتقدم اليهم بالمصير، فاستعولهم البريدى، فانقطعوا اليه، فسار ياقوت اليه في ثلاثمائة رجل لئلا يستوحش ويلقاه البريدى في السواد الأعظم، وترجل له وقبل الارض، ووقف على راسه على سماطه، وقال الجند: انما وافى ياقوت ليقبض علينا. وقد وافق البريدى على ذلك، فقال له البريدى: اخرج ايها الأمير، والا قتلنا جميعا، فخرج الى تستر وسبب له البريدى على عاملها خمسين الف دينار. فقال لياقوت مؤنس مولاه: ايها الأمير ان البريدى يحز مفاصلنا ويسخر منا، وأنت مغتر به، وقد افسد رجالك وقوادك، وقد اتصلت كتب الحجريه إليك، وليس لهم شيخ سواك، فلو دخلت بغداد، فأول من يطيعك محمد بن رائق بالضرورة، ولأنك نظير ابيه والا فاخرج الى الاهواز، فاطرد البريدى عنها، فأنت في خمسمائة وهو في عشره آلاف، ومعك خمسه آلاف وأنت أنت، وقد قال عدوك على بن بويه: لو كان في عسكرك مائه مثلك ما قاومناك، فقال: افكر في هذا. فخرج مؤنس مغضبا في ثلاثة آلاف، ووافى عسكر مكرم، وقال: انا لا اعصى مولاى فانه اشترانى ورباني واصطنعنى ولكنى افتح الاهواز وأسلمها اليه. فما استقر مؤنس بعسكر مكرم ثلاث ساعات، حتى وافى كتاب ياقوت اليه يحذره كفر نعمه. وكان الكتاب مع شيخه مقدم يقال له درك، وكانت السن قد أخذت منه، وحضر معه خادم مغفل يقال له ابو النمر، فقال لمؤنس: مولاك قبض على ابنيه وهما درتان، فلم يستحل ان يعصى مولاه ولم يحارب لأجلهما ولا طالب بهما، واستفتى الفقهاء فافتوه انه لا يحل له ان يحارب الامام، وقالوا افأنت تعصى مولاك! اما تخاف ان تخذل في هذه الحرب فتخسر الدنيا والآخرة! فأقام مؤنس لما اخذه العذل والتانيب، حتى وافى ياقوت واجتمع معه، ووافى

عسكر البريدى، فخيموا في صحراء خان طوق، ومتقدمهم ابو جعفر الجمال غلام البريدى. فقال ياقوت لمؤنس: ان السلطان لنا بالنية التي عرفتها، ولا موضع لنا ناويه غير هذا البلد، والحرب سجال، وان حاربنا هذا الرجل وانهزمنا كنا بين القتلى، فيقال: قد كفر نعمه مولاه فالعن او بين الأسارى، او ان ينفذنا الى الحضره فنشهر بها، والوجه المداراة وان نعود الى تستر والجبل، فان صح لنا بها امر، والا لحقنا خراسان وشاع كلامه فضعفت نفوس اصحابه وطالت الأيام، واستامن من عسكره الى البريدى خلق، حتى بقي ياقوت في الف رجل وكان مؤنس يبكر اليه ويقول: يا مولاى مضى أصحابنا فيقول: واى خير فيمن لا يصلح لنا؟ فلما علم البريدى من نفسه القوه، راسل ياقوتا بالقاضى ابى القاسم التنوخي، واعلمه انه على العهد، وانه كاتبه وان الإمارة لا تصلح له، وساله ان يعود الى تستر، وان يزوج ابنته من ابى العباس احمد بن ياقوت. فقبل ياقوت الرسالة، وانعقد الصهر، ورحل الى تستر، ووافاه ابنه المظفر بها، واخبره ان الراضي قد من عليه بنفسه، واشار عليه بالاصعاد اليه والمقام بدير العاقول وان راى الحجريه مبادرين اليه وان كرهه السلطان، تولى الموصل وديار ربيعه، وان منع من ذلك قصد الشام. فحالف ابنه ابنه فاستأذن ابنه ان يكون بعسكر مكرم فاذن له، واستامن البريدى، وجاء ياقوت الى المعسكر فنزل عند نهر جارود، فظهرت الطلائع من عسكر ابى جعفر الجمال، وثبت ياقوت في الف رجل، فأعيا من بازائه وهم اضعاف عدته، وكادوا ينهزمون، فظهر كمين البريدى في ثلاثة آلاف رجل فأبلس ياقوت، وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! فرمى بنفسه من دابته، وبقي بسراويل وقميص شيرى، وأوى الى رباط يعرف

برباط الحسين بن زياد، ولو دخله لجاز ان يسلم، وجلس وغطى وجهه وجعل يسال ويوهم انه رجل من ارباب النعم متصدق. فركض اليه قوم من البربر من اصحاب البريدى، فكشفوا وجهه وجزوا راسه حين عرفوه، وحملوه الى الجمال، فاطلق طائرا الى البريدى بالخبر، فامر ان يجمع بين راسه وجثته ويدفن بالموضع الذى قتل فيه، ويعرف بين الساقيتين، ولم يجد له غير اثنى عشر الف دينار، ووجد في صناديقه كتب الحجريه اليه من بغداد ليرشوه. وانفذ البريدى ابنه المظفر الى الحضره، وكانت نفس ابى عبد الله البريدى ضعيفه، فقواها اخوه ابو يوسف حتى شهر نفسه بالعصيان. وكانت نفقه مائدته في كل يوم الف درهم، وكان غلمانه خمسه، وكسوته متوسطه، ولم يتسر الا بثلاث جوار، ولم تكن له زوجه غير والده ابنه ابى القاسم، وكانت صلاته للجند خاصه، ولم يعط شاعرا ولا طارقا شيئا. وصادر ابو جعفر الكرخي ابن مقله بعد مصادره عبد الرحمن بن عيسى على مائه الف دينار، ادى منها ابن قرابه عنه خمسه واربعين الف دينار، ولم يعد اليه العوض. ورد الوزير ابو جعفر الكرخي الى ابى على بن مقله الاشراف على اعمال الضياع والخراج لسقى الفرات، واجرى عليه في كل شهر الف دينار. وقبض على ابى عبد الله محمد بن عبدوس الجهشيارى، وصادره على مائتي الف. دينار، ادى منها مائه الف. وكان الكرخي غير ناهض بالوزارة، وكان فيه إبطاء في الكتابه والقراءة، فلما نقصت هيئته، واحتف المطالبه له بالأموال، وقد تغلب الخوارج على الاعمال، فاستتر بعد ثلاثة ايام من تقلده الوزارة، وكان استتاره يوم الاثنين لثمان خلون من شوال فاستحضر الراضي أبا القاسم سليمان بن الحسن عاشر شوال، وخاطبه في الوزارة، وخلع عليه، فكان في التجبر مثل ابى جعفر، فدفعت الراضي الضرورة الى ان راسل أبا بكر بن رائق في القدوم، وتقلد الإمارة ورئاسه الجيش، وان يخطب له على المنابر

وان يكنى، وانفذ اليه بالخلع واللواء مع الخدم. وانحدر اليه اصحاب الدواوين وجميع قواد الساجيه، فلما حصلوا بواسط، قبض على الحسن بن هارون وعلى الساجيه، وحبسهم في المطامير، ونهب رحالهم. وخرج من بغداد منهم حين بلغهم الخبر الى الشام. واصعد ابن رائق الى بغداد في العشرين من ذي الحجه معه بجكم والاتراك والديلم والقرامطة، وضرب له الراضي مضربا في الحلبه، ووصل الى بغداد لخمس بقين من ذي الحجه، ووصل الى الراضي ومعه بجكم ورؤساء اصحابه، وصارت مرتبته فوق الوزير، وخلع عليه، وصار في الخلع الى مضربه بالحلبة، وحمل اليه من دار السلطان الطعام والشراب والفواكه. وكانت الحجريه قد ضربوا الخيم متوكلين بالدار، وامرهم بالانصراف، فعطل امر الوزارة. ولم يكن الى الوزير غير حضور المركب بالسواد والسيف والمنطقه. وفي هذه السنه ملك ابو على بن الياس- وهو من الصغد- كرمان وصفت له، وزالت المنازعات.

سنه خمس وعشرين وثلاثمائة

سنه خمس وعشرين وثلاثمائة [أخبار] انحدر ابن رائق مع الراضي لمراسله البريدى في عشر من المحرم. وكانت عده الحجاب في دار السلطان أربعمائة وثمانين حاجبا، فاقتصر ابن رائق على ستين واسقط الباقين، واسقط من الحجريه خلقا، فحاربوه فهزمهم واسر بعضهم، وامر صاحب شرطته لؤلؤ بقبض أموالهم واحراق دورهم، وتقدم بقتل من حبسهم من الساجيه عنده. وكان مدبر امر رائق أبا عبد الله النوبختى، فاعتل بعد مصاحبته بثلاثة اشهر، فاستكتب مكانه أبا عبد الله الكوفى. وقلق البريدى لما نزل الراضي وابن رائق باذبين، وراسل بان يحمل في كل سنه ثلاثمائة الف وستين الف دينار، وان يسلم الجيش الى جعفر بن ورقاء حتى يحملهم الى فارس. وكان اخوه ابو الحسين وأمه ببغداد فانحدرا الى واسط، فخلع عليهما واحدرا اليه. ومضى مع جعفر بن ورقاء، فلما لبس البريدى الخلع التي صحبت جعفرا، وسار بين يديه العسكر، وكان لبسه للخلع بجامع الاهواز، فلما راى طاعه الجند له، ادهش ذلك جعفرا، وولاهم البريدى عليه حتى طالبوه بالمال، فاستجار جعفر بالبريدى حتى اعاده الى الحضره. واصعد الراضي وابن رائق الى بغداد وكان المتولى للبصرة محمد بن يزداد. واستوحش ابو الحسن بن عبد السلام، واشار عليه بالتغلب على البصره، فبنى ابو عبد الله مائه قطعه من آله الماء، وأتاه اهل البصره في جمع عظيم للتهنئه بالولاية، فقربهم واكرمهم، وقال: قد اطلع ابن عبد السلام على نيتى الجميلة فيكم، وانى قد اعددت آله الماء، انفذ منها الجيوش لاحصن بلدكم من القرامطة، وانما ضمنت البصره من السلطان لظلم ابن رائق لكم

وكان ابن رائق قد امتنع من اجابه ابى يوسف البريدى الى ضمان البصره، وبذل فيها اربعه آلاف الف درهم، وما زال به الكوفى وابن مقاتل حتى ضمنه إياها، وقد ازلت عنكم يا اهل البصره، الشرطه والمآصير والشرك، وتحملت ذلك من مالي. وكتب توقيعا بخطه برفعها عنهم- وسيبلغ ابن رائق فعلى بكم فيعادينى، وما أبالي ولو عاداني إخواني في صلاحكم، وانى لأرجو المغفره بازاله الرسوم الجائره عنكم، وان عزم ابن رائق على رد ذلك فأين السواعد القوية والأكف التي حاربت على ابن ابى طالب ع وما فكرت في مكاشفته، فمتى رام ابن رائق ذلك، فاضربوا وجهه بالسيف وانا من ورائكم. يا اهل البصره، لقد فشلتم! اين يومكم مع ابن الاشعث؟ اين يومكم مع ابراهيم ومحمد ابني عبد الله بْن حسن بْن حسن، متى اخذكم ضميم فصبرتم! ثم هذا عسكرى سائر معكم فلتكن آمالكم ممتدة وقلوبكم قوية. ووقع للنفقة على الجامع بألفي دينار، ووقع لهم بتخفيف معاملاتهم بألف الف درهم، وانصرفوا وقد صاروا سيوفه. وسير البريدى إقبالا غلامه، في الفى رجل، وتقدم اليهم ان يقيموا بحصن مهدى، الى ان يأتيهم اقبال، واتصل الخبر بابن يزداد فقامت قيامته. ولما وصل الراضي وابن رائق الى بغداد، قلد ابن رائق بجكم الشرطه، وانزله في دار محمد بن خلف النيرمانى على دجلة، وقلد القاضى أبا الحسين عمر بن محمد قضاء القضاه. واثبت ابن رائق من الحجريه الفى رجل، وامرهم بالمسير الى الجبل، فلما صاروا بالنهروان، اجمع رأيهم على المضى الى الاهواز، فقبلهم البريدى واضعف أرزاقهم،

واظهر للسلطان وابن رائق، انه لم تكن له قدره بدفعهم واضطر لقبولهم. وغلبت على الدنيا الطوائف، فصارت واسط والبصره والاهواز في يدي البريدى، وفارس في يد على بن بويه، وكرمان في يد ابى على بن الياس، والري وأصبهان والجبل في يد ركن الدولة ابى على بن بويه ووشمكير، والموصل وديار ربيعه وديار بكر في يد بنى حمدان، ومصر والشام في يد محمد بن طغج، والمغرب وإفريقية في يد ابى تميم، والاندلس في يدي الاموى، وخراسان وما وراء النهر في يد نصر بن احمد، وطبرستان وجرجان في يد الديلم، واليمامه والبحرين في يد ابى طاهر الجنابى. ولم يبق في يد الراضي وابن رائق غير السواد. وكان بدر الخرشنى بديار مصر، فضاق مالها عن رجاله، فانحدر عنها، وحصل بهيت، فقصد تلك الديار سيف الدولة فغلب عليها. وقبض ابو عبد الله احمد بن على الكوفى على ابى محمد بن شيرزاد، وصادره على مائه وعشرين الف دينار. ووافى ابو طاهر القرمطى الى الكوفه فخرج ابن رائق من بغداد، لثلاث خلون من جمادى الاولى ونزل بستان ابن ابى الشوارب بالياسريه، وراسل أبا طاهر وقرر معه ان يحمل اليه في كل سنه- إذا دخل في الطاعة- طعاما ومالا قدره مائه وعشرون الف دينار، وسار ابو طاهر الى بلده، وسار ابن رائق الى واسط، وقد جاهر البريدى بالخلاف. وعزل الراضي سليمان بن الحسين عن وزارته، وكانت مدتها عشره اشهر وثلاثة ايام. واشار ابن رائق على الراضي باستيزار ابى الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات، وكان بالشام فاستقدمه واستعتبه.

وزارة ابى الفتح بن الفرات للراضى بالله

وزارة ابى الفتح بن الفرات للراضى بالله كانت عند قدومه من الشام، لست خلون من شوال، فقيل لابن مقله: القه فقال: فقلت لها لا عداك الصواب ... وان كان قولك الا سديدا أمثلي تطاوعه نفسه ... على ان يرى خاضعا مستزيدا وبلغ ابن رائق ما خاطب به البريدى اهل البصره، فأتاهم الكوفى وقال له اكتب اليه: اننى انكرت قبولك للحجريه، فاما رددتهم واما طردتهم، واما من انفذت به من أصحابك الى البصره، فإنما فعلت ذلك لحفظها من القرامطة، وقد كفينا امرهم ونفذوا الى بلادهم. وكان قصد ابن رائق المغالطه، والا يكاشفه بالعداوة. فكان جواب البريدى، ان اصحابه يتمسكون بالحجريه لقربى بينهم، وانه وان ابعدهم اوحش للجميع، لكنه يقطع أرزاقهم حتى يتصرفوا. وكان اصحاب البريدى الذين انفذهم مع اقبال غلامه، قد وقعت بينهم وبين اصحاب محمد بن يزداد وتكين الصغدي شحنه البصره لحربهم، فوقعت بينهم، حرب بنهر الأمير، انهزم فيها اصحاب ابن رائق، وانهزموا ثانيه بسكرابان، على فراسخ من الأبله. ودخل اقبال البصره، وخرج عنها محمد بن يزداد، سالكا طريق البر الى الكوفه، واصعد منها تكين ونيال الصغدي في الماء الى واسط. وانفذ ابن رائق- وقد عظم عنده الأمر- أبا عمرو والعاقولي برسالة البريدى، تتضمن وعدا ووعيدا، فكان جوابه انه لا يمكنه رد اصحابه عن البصره لان أهلها قد تمسكوا بهم. ولكن البصريون قد استوحشوا من محمد بن يزداد، لما عاملهم به من سوء السيرة،

فكانوا يظنون عند البريدى خيرا، فرأوا منه ما تمنوا يوما من ايام ابن رائق، فاستدعى ابن رائق بدرا الخرشنى من هيت، فخلع عليه خلعا سلطانيه. وعول ابن رائق على طرد الكوفى وقال: ظننت انى اتالف به البريدى فحسى من ذنوبه شؤمه على. وعول على اعاده الحسين بن على النوبختى، وقال: اوجه شفعائه عندي بركته على دولتي، فقال ابن مقاتل: لا ذنب للكوفى في هذا، ولا فائده في استعاده الحسين ابن على، وهو سقيم طريح، وأنت ذاكر قولي لك: احفظ البصره، فقلت ان تكين ونيال ليحفظانها. فاحضر الكوفى، واستخلفه على موالاته ومعاداه البريدى. وخلع ابن رائق على بجكم، وسيره وانفذ بعده بدرا الخرشنى الى الاهواز، وانفذ معهما ابن ابى عدنان الراسبى مشيرا ودليلا، وامر احمد بن نصر القشورى بالمقام بالجامده، وامر بجكم ان يسير الى البصره، فيصير البريدى بينه وبين بدر. وبادر بجكم ولم ينتظر بدرا، وسار في ثلاثمائة غلام اتراكا، فلقيه ابو جعفر الجمال في عشره آلاف رجل بأتم آلة واكمل سلاح، فانهزموا من بين يدي بجكم. واراد ان ينفرد بالفتح دون بدر، فلما اتى ابو جعفر البريدى قام فلكمه وقال: ظننت انك تحارب ياقوتا، وقد ادبر بلقاء الاتراك بسودان باب عمار والمولدين، وضم اليه ثلاثة آلاف، فقال ابو جعفر: قد تمكنت هيبة الاتراك في قلوب أصحابنا، وستعلم حالهم. فطرح بجكم نفسه في الماء بتستر، فانهزم اصحاب البريدى بغير قتال، فخرج ابو عبد الله ومعه اخوه في طيار، وحملوا معهم ثلاثمائة الف دينار، كانت في خزانتهم، فغرقوا بالنهروان فاخرجهم الغواصون، واخرج لبجكم بعض المال، فقال ابو عبد الله: والله ما نجونا بصالح أعمالنا من الغرق، ولكن لصاعقه يريدها الله تعالى بهذه الدنيا، وقال له اخوه ابو يوسف: ويحك! ما تدع التطايب في كل حال ودخل بجكم الاهواز وكتب ابن رائق بالفتح

ولما وصل ابو عبد الله الى الأبله ومعه اخواه، انفذ إقبالا غلامه الى مطاره، واقام هو واخواه في طياراتهم، وأعدوا ثلاثة مراكب للهرب خوفا من ان تتم على اقبال من عسكر الجامدة بمطايا ما تم على ابى جعفر بالسوس. فاخرج البريدى أبا الحسين بن عبد السلام لمعاضده اقبال، فانهزم اصحاب ابن رائق ومتقدمهم احمد بن نصر القشورى، واسر برغوت غلام ابن رائق، فاطلقه البريدى وكتب معه كتابا يستعطف فيه ابن رائق. ودخل البريديون البصره، فاطمأنوا، ولم يمكن بجكم ان يسير الى البصره لخلوها من آله الماء. وعاد بدر الخرشنى الى واسط، فانفذه ابن رائق في الطيارات الى البصره للحرب. وانفذ أبا العباس احمد بن خاقان الى المذار، فلقيه اصحاب البريدى فأسروه وحملوه اليه، فاطلقه واستحلفه الا يعود الى حربه. فلما اتصلت الهزيمة بابن رائق، سار من واسط الى البصره على الظهر للنصف من شوال، وكتب الى بجكم ان يلحق به بعسكر ابى جعفر، وانفذ بدرا الى ابن عمر وانفذ البريدى غلامه إقبالا بواسط، فحصل بدر في الكلا وحصل اقبال بالرصافة. ولما ملك بدر الكلا هرب البريدى الى جزيرة أوال، وخرج الجند والعامه لدفع بدر. ووافى ابن رائق وبجكم الى عسكر ابى جعفر ضحوه النهار من يوم ورود بدر الكلا، وعبر ابن رائق وبجكم دجلة البصره، وتبعهما احمد بن نصر، فرأوا من العامه ما بهرهم، حتى رجموا طيار احمد فغرقوه. وهرب ابو عبد الله من جزيرة أوال الى فارس، واستجار بعماد الدولة فانفذ معه أخاه معز الدولة. ووردت الاخبار بذلك، فتقدم ابن رائق الى بجكم بالانصراف الى الاهواز ليحميها، فقال: لست احارب الديلم الا بعد ان تحصل لي اماره الاهواز، فضمنه إياها بمائه وثلاثين الف دينار محمولة، واقطعه اقطاعا بخمسين الف دينار ونفذ

ومن عجيب الاتفاق ان طاهرا الجبلي قصد ابن رائق الى واسط مستأمنا، فلم يجده، فانحدر اليه الى عسكر ابى جعفر، فتلقاه كتاب جاريته وابنه انهما حصلا في يد ابى عبد الله البريدى بفارس فاكرمهما. فعند ذلك، سار طاهر في مائتي رجل، وتبعه عسكر البريدى في الماء، فانهزم بدر الى واسط، وانهزم ابن رائق الى الاهواز، فأشير على بجكم بالقبض عليه فلم يفعل، واقام عنده مكرما، حتى وافاه فاتك غلامه من واسط، فرجع معه إليها، وخلف بجكم بالاهواز، وخلف ابو عبد الله البريدى عند عماد الدولة ابنه أبا الحسين محمدا، وأبا جعفر الفياض رهينه، وسار مع ابى الحسين معز الدولة الى الاهواز فلما نزلوا ارجان، خرج بجكم لحربهم فعاد بعد ثلاثة ايام منهزما، وسبب انهزامه ان المطر اتصل أياما كثيره، فمنع الاتراك ان يرموا بالنشاب، فعاد بجكم وقطع قنطره نهر اربق ورتب عليها جماعه، فكانت المنازله بين معز الدولة وبينهم ثلاثة عشر يوما وعبر معز الدولة في خمسه نفر في سميريه، فهزم من كان هناك من اصحاب بجكم، فعند ذلك قبض بجكم على وجوه اهل الاهواز، فيهم ابن ابى علان ويحيى بن سعيد السوسي، وسار بعسكره الى واسط، وكاتب ابن رائق وهو بها، ان كان عنده مائه الف دينار يفرقها في عسكره، فالوجه ان يقيم، والا فالصواب ان يصعد الى بغداد. فعند ذلك اصعد، وطالب بجكم حين دخل واسطا من اعتقله من اهل الاهواز بخمسين الف دينار، فقال ابو زكريا يحيى بن سعيد السوسي: اردت ان اخبر ما في نفسه من طلب العراق، فراسلته على لسان الموكل بي: ايها الأمير أنت طالب للملك، معول على خدمه الخلافه، تطالب قوما منكرين في بلاد غربه، ولقد حمى في أمسنا طست، وجعل على بطن سهل بن قطين اليهودي، افما تعلم انه إذا سمع هذا عنك اوحش الاباعد منك! وما تذكر إنكارك على ابن رائق ايحاشه اهل البصره واهل بغداد، وقد حملت نفسك على مثل ما كان يعمل مزداويج باهل الجبل وبغداد، هي دار الخلافه لا تحتمل هذه الأخلاق. فلما سمع بهذا الكلام رق وامر بحل قيودنا، واستعقل يحيى بن سعيد السوسي واطلقه، فشفع في الباقين، وكان طاهر الجبلي قد فارق الأمير عماد الدولة بارجان،

فكتب الى أخيه معز الدولة ان يطالب أبا عبد الله البريدى فكتب البريدى الى أخيه ابى يوسف، بالقبض عليه وانفاذه الى فارس ففعل ذلك. ووصل معز الدولة الاهواز، ونزل البريدى دار ابى على المسروقان، ووافاه اهل الاهواز داعين مهنئين، وكان البريدى يحمى الربع، فدخل عليه يوحنا الطبيب وكان حاذقا، فقال له: ما تشير على؟ قال ان تخلط- وعنى بذلك في المأكولات- لترمى بالاخلاط، فقال: اعظم مما خلطت يا أبا زكريا لا يكون، قد ارهجت ما بين فارس والحضره، فان اقنعك هذا، والا ملت الى الجانب الآخر، وارهجتها الى خراسان. وسبب معز الدولة على البريدى بعد ان اقام معه خمسه وثلاثين يوما بخمسه آلاف الف درهم، باحضار عسكره لينفذهم الى الأمير ركن الدولة بأصبهان، فاحضر اربعه آلاف رجل، وقال لمعز الدولة: ان أقاموا بالاهواز جرى بينهم وبين الديلم فتنه، والوجه ان انفذهم مع صاحبي ابى جعفر الجمال للسوس، فأمره بذلك ثم طالبه ان يحضر رجال الماه الى حصن مهدى، ليشاهدهم، فينفذهم الى واسط فاستوحش البريدى وقال: هكذا عملت بياقوت، فلو لم اتعلم الا من قصتي لكفانى. وكان الديلم يهينونه ويزعجونه من منامه وهو محموم، وكان الأمير ابو الحسين ابن بويه يكرمه وابو على العارض الكاتب يجلس بين يديه ويخاطبه بسيدنا. فاما بقية القواد من الديلم فكان عندهم بمنزله دنية. وهرب البريدى من ابن بويه في الماء الى الباسيان، وتبعه جيشه، وكاتبه البريدى انه يضمن منه الاهواز في كل سنه بثمانية عشر الف الف درهم، فأجابه الأمير ابو الحسين الى هذا، وراسله البريدى بالقاضى ابى القاسم التنوخي وابى على العارض: ان نفسه لا تطيب بقرب داره منه. واستقر الأمر ان يحمل الى معز الدولة ثلاثين الف دينار لنفقه الطريق، فأجاب. الى ذلك معز الدولة، فانفذ البريدى منها سته عشر ألفا مع التنوخي، فاحتبسه معز الدولة على الباقى ثم اطلقه، وقال دلان للأمير ابى الحسين وهو كاتب جيش معز

الدولة، وكان الصيمرى من اتباعه، فقال: ان البريدى قد سلك معك طريقته مع ياقوت، وغرضه ابعادك الى السوس. واستحكمت الوحشة بين معز الدولة والبريدى، وانفذ بجكم قائدا من قواده في الفى رجل من الأكراد والاعراب، فغلبوا على السوس وجنديسابور واقام البريدى ببنات ادر، غالبا على اسافل الاهواز، وبقي معز الدولة لا يملك غير عسكر مكرم، وقد احتاط به الأعداء من كل جانب، واضطرب عسكره وفارقوه حتى اتبعهم وترضاهم، وكاتب عماد الدولة بالصورة، فانفذ اليه قائدا من قواده وكان شجاعا، في ثلاثمائة ديلمى، وخمسمائة الف درهم. وكان ابو على العارض معتقلا بين يدي البريدى، واتهم معز الدولة انه واطاه على ما فعله، وكان يبغض العارض لأنه شاهده وزير ما كان الديلمى، وكان بجكم مملوكه، فطلبه منه ما كان صاحبه، فاهداه اليه. فعند وصول الرجال والمال، انفذ معز الدولة الصيمرى الى السوس عاملا عليها، وانفذ ثلاثمائة رجل الى بنات ادر، فهرب البريدى الى البصره، فحصلت الاهواز بيد الأمير ابى الحسين، وحصل البريدى بالبصرة، واستقر بجكم بواسط واقام، ابن رائق ببغداد، وهو الذى وضع المآصير ببغداد، وما كانت سمعت بالضرائب من قبله. وحكى بجكم، ان ابن مقاتل قال لابن رائق: أخطأت حين قلدت بجكم الاهواز. لأنه إذا حصل بها نازعك في امرك، وقد عرفت منازعه البريدى لك، وهم اصحاب دراريع، قال: بلغنى ذلك، فأخذت معى عشره آلاف دينار، وجئته ليلا وقد نام الناس، فقلت في مهم لم يعلم به احد، ولولا ان الترجمان محمد بن نيال يخبر عنى ما استصحبته، وقد توقف الأمير عن تقليدي للاهواز، واسالك ان تأخذ هذه العشرة آلاف دينار، وتمضى عزمه فيما نواه. فلما راى الدنانير مال إليها، وكان ذلك سبب ولايتى.

سنه ست وعشرين وثلاثمائة

سنه ست وعشرين وثلاثمائة [أخبار] لما ورد ابن رائق بغداد، اطمعه الوزير ابو الفضل في اموال مصر والشام، وزوج ابنه أبا القاسم بابنه ابن رائق، وزوج ابن رائق ابنه بابنه طغج. وخرج الوزير ابو الفضل الى الشام، واستخلف بالحضرة أبا بكر البقرى، فلما بلغ هيت ضعف امره، وقوى امر ابى عبد الله الكوفى، وقلد ابن رائق اعمال الاهواز، فدعاه بجكم الى كتابته فأجابه. وسفر ابو جعفر بن شيرزاد في الصلح بين ابن رائق والبريدى وأخذ خط الراضي بالرضا عنهم، وقطعت لهم الخلع، على ان يقيموا الخطبه بالبصرة لابن رائق، وان يفتحوا الاهواز وان يحملوا ثلاثين الف دينار، واطلقت ضياعهم بالحضرة وبلغ ذلك بجكم فجزع لهذا الصلح. واشار عليه يحيى بن سعيد السوسي، بحرب البريدى، فانفذ اليه البريدى أبا جعفر الجمال، فالتقيا بشابرزان، فانهزم الجمال، وانفذ يعاتب البريدى ويقول له: جنيت على نفسك باستجلاب الديلم أولا، وبمظافره ابن رائق ثانيا، وانا أعاهدك ان اوليك وسطا إذا ملكت الحضره، فسجد البريدى لما بلغته رسالته شكرا لله تعالى، ووصل رسوله بثلاثة آلاف دينار، وحلف بمحضر من القاضى ابى القاسم التنوخي والقاضى ابى القاسم بن عبد الواحد بالوفاء لبجكم. وكان ابن مقله يسال ابن مقاتل والكوفى في رد ضياعه، فيمطلونه، فكتب الى بجكم والى أخي مزداويج يطمعهما في الحضره، وكاتب الراضي بالله يشير بالقبض على ابن رائق، وتوليه بجكم، وكتب الى بجكم ان الراضي قد استجاب لذلك. وظن ابن مقله انه قد توثق من الراضي، وبذل له استخراج ثلاثة آلاف الف دينار، ان قلده الوزارة، فوافقه على ان ينحدر اليه سرا، الى ان يتم التدبير على ابن رائق، فركب من داره في سوق العطش في طيلسان، وسار الى الأزج بباب البستان،

فانحدر في سميريه ليله الاثنين لليلة بقيت من شهر رمضان، وتعمد تلك الليلة ان يكون القمر تحت الشعاع، وذلك يختار للأمور المستوره. فلما وصل الى دار السلطان، لم يصله الراضي واعتقله في حجره، وبعث بابى الحسن سعيد بن سنجلا الى ابن رائق واخبره بما جرى، واظهر للناس حاله رابع عشر شوال، واستفتى الفقهاء في حاله، وعرفهم ما كاتب به بجكم، فيقال ان القاضى أبا الحسين عمر بن محمد افتى بقطع يده، لأنه سعى في الارض فسادا، فامر الراضي باخراجه الى دهليز التسعينى، وحضر فاتك حاجب ابن رائق والقواد، فقطعت يده اليمنى، ورد الى محبسه من دار السلطان، وامر الراضي بمداواته، فكان ينوح على يده ويقول: يد قد خدمت بها الخلفاء ثلاث دفعات، وكتب بها القرآن دفعتين، تقطع كما تقطع أيدي اللصوص! ثم قال: ان المحنة قد تشبثت بي وهي تؤدينى الى التلف وتمثل: إذا ما مات بعضك فابك بعضا ... فان الشيء من بعض قريب وقطع لسانه لما قرب بجكم الحضره، ومات فدفن في دار السلطان، ثم طلبه اهله فنبش وسلم اليهم، نبشته زوجته الدينارية فدفنته بدارها بغله صافى، فنبش بعد موته ثلاث دفعات فهذا عجب. ومن العجائب انه وزر لثلاث خلفاء، وابن الفرات وزر لخليفه واحد ثلاث دفعات، وابن مقله وزر ثلاث دفعات لثلاث خلفاء، ودفن بعد موته ثلاث دفنات

وصول بجكم إلى الحضره وتفرده بالإمرة

وصول بجكم الى الحضره وتفرده بالإمرة ولما وافى بجكم ديالى انهزم ابن رائق بعد ان فتح من النهروان بثقا الى ديالى ليكثر ماؤه، فعبر اصحابه سباحه، وصار ابن رائق الى عكبرا، واستتر الكوفى وابن مقاتل. ووصل بجكم الى الراضي ثانى عشر ذي القعده، فخلع عليه والطالع العقرب، وسار بالخلع الى مضربه بديالى، وانفض جيش ابن رائق عنه، فدخل بغداد واستتر. وخلع على بجكم دفعتين بعد ذلك، ومضى الى دار مؤنس بسوق الثلاثاء، وهي التي كان ينزلها ابن رائق فنزلها. فكانت اماره ابن رائق سنه وعشره اشهر وسته عشر يوما، ومده كتابه الكوفى له وتدبيره المملكة تسعه عشر شهرا وثمانية ايام. قال ابو سعيد السوسي: قال لي بجكم بحضره اصحابه: معى خمسون الف دينار لا احتاج إليها، فلما كان بعد ذلك قال لي: تدرى كم كان معى ذلك اليوم؟ قلت: لا، قال: كان معى خمسون الف درهم، فقلت: اتراك لم تثق بي فكنت تطلعني على الحال! فقال: لو اطلعتك ضعفت نفسك وضعف كلامك، وعولت عليك في رساله، فعجبت من دهائه. ومات ابو عبد الله النوبختى بعلة السل. وظفر الراضي بابى عبد الله الكوفى، فسأله فيه ابو الحسن سعيد بن سنجلا حتى صادره على اربعين الف دينار. واقر الراضي الوزير أبا الفتح على الوزارة وهو بمصر. وفي شهر رمضان انفذ ملك الروم كتابا بالرومية يتضمن سؤال الراضي الفداء، وكانت الترجمه بالعربية مكتوبه بالفضة، وانفذ مع الكتاب هديه جليله، فأجاب ابن ثوابه عن الكتاب، وفي آخره: وقد اسعفكم امير المؤمنين بما احببتم من هديتكم ورد الرسائل بما سنح من مروءتكم، صيانة لكم عن الاحتشام، ورفعا عندكم من الاغتنام. وخاطبه ملك الروم بالشريف البهي ضابط سلطان المسلمين، وخاطبهم الراضي برءوساء الروم.

سنه سبع وعشرين وثلاثمائة

سنه سبع وعشرين وثلاثمائة [أخبار] واخر الحسن بن عبد الله بن حمدان مال ضمان الموصل، فصار الراضي الى تكريت، وانفذ بجكم الى الموصل، فلقيه زواريق فيها هديه ابن حمدان، فأخذها بجكم، وعبر فيها جيشه الى الجانب الغربي، وسار فالتقى هو وابن حمدان بالكحيل، فانهزم اصحاب بجكم واستؤسر ابو حامد الطالقانى، ثم حمل بجكم بنفسه على ابن حمدان حمله صادقه، فانهزم ابن حمدان رابع المحرم ومضى الى آمد، واتبعه بجكم الى نصيبين، فسار حينئذ الراضي في المساء الى الموصل، وانصرف عنه من تكريت القرامطة، الذين تبعوه الى بغداد مغضبين لتاخر أرزاقهم، فظهر ابن رائق وانضموا اليه. وكتب الراضي حين بلغته الصورة الى بجكم، فاستخلف على اصحابه، وجاء الى الموصل، فجرى بين اصحابه وبين أهلها فتنه، فركب ووضع فيها السيف، واحرق مواضع في البلد. ورجع الحسن بن عبد الله بن حمدان الى نصيبين، وانصرف عنها من خلفه بجكم بها، فاخذ اصحاب بجكم يتسللون من الموصل الى بغداد، وينضمون الى ابن رائق، فزاد في قلق بجكم، ولم يعرف ذلك ابن حمدان، فاطلق أبا حامد الطالقانى، وساله ان يسعى في الصلح، وبذل له الف الف درهم فاستأذن بجكم الراضي في ذلك، فاذن له في امضائه، فرد الطالقانى وأبا الحسين بن ابى الشوارب، وانفذ معهما باللواء والخلع. وصاهر بجكم أبا محمد بن حمدان. وانفذ ابن رائق أبا جعفر بن شيرزاد الى بجكم يلتمس الصلح. وانحدر الراضي وبجكم الى بغداد، بعد ان راسلا ابن رائق بقاضى القضاه ابى الحسين، في تمام الصلح، وولوه طريق الفرات وجنديسابور وديار مضر

وزارة البريدى ابى عبد الله للراضى بالله

والعواصم، فسار إليها قبل وصولهم. وبلغ الراضي ان عبد الصمد بن المكتفي راسل ابن رائق ان يتقلد الخلافه، فقبض عليه، ويقال قتله. وفي جمادى مات الوزير ابو الفتح بن جعفر بن الفرات بالرملة، ودفن هناك. وشرع ابن شيرزاد في الصلح، بين بجكم والبريدى ثم ضمن البريدى اعمال واسط بستمائة الف دينار . وزارة البريدى ابى عبد الله للراضى بالله فلما مات ابو الفتح، شرع ابن شيرزاد للبريدى في الوزارة، فانفذ اليه الراضي بقاضى القضاه ابى الحسين فامتنع من تقلدها، ثم استجاب لذلك، ووليها في رجب، وخلفه ابو بكر محمد بن على البقرى بالحضرة، كما كان ابن الفرات. ولما تقلد البريدى الوزارة، قال فيه ابو الفرج الاصفهانى قصيده أولها: يا سماء اسقطى ويا ارض ميدى ... قد تولى الوزارة ابن البريدى جل خطب وجل امر عضال ... وبداء أشاب راس الوليد هد ركن الاسلام وانهتك الملك ... ومحت آثاره فهو مودى اخلقت بهجه الزمان كما اخلق ... طول الزمان وشى البرود يا لقومى لحر صدري وعولي ... وغليلى وقلبي المعمود حين سار الخميس يوم خميس ... في البريدى في ثياب سود سودت اوجه الورى وعلتهم ... إذ علته بذله وهمود قد حباه بها الامام اصطفاء ... واعتمادا منه بغير عميد خلع تخلع العلا ولواء ... عقده حل عروه المعقود كان اولى من لبسه خلع الملك ... بغل يسوده وقيود

وهي قصيده طويله آخرها: في سبيل الاسلام خير سبيل ... محو رسم الاسلام والتوحيد لا يسرن غافل بعد هذا ... بوليد لا يرع لفقيد فاستهلى يا عين بالدمع سحا ... وقليل ان تذرفى وتجودى وحكى ان البريدى ابو عبد الله قال لندمائه: من فيكم يحفظ قصيده الاصفهانى التي هجانى بها؟ فأنكروا مع معرفتها، فقال: بحقي عليكم انشدونى إياها فقال احدهم: اما مع قسمك فنعم فلما بلغ الى قوله. وكان احد قواد بجكم ابراهيم بن احمد أخو نصر بن احمد، صاحب خراسان فقلده بجكم الشرطه ببغداد. وعمل ابراهيم لبجكم دعوه، جمع طباخى دار الخلافه لها، وانفق فيها زياده على عشرين الف دينار

سنه ثمان وعشرين وثلاثمائة

سنه ثمان وعشرين وثلاثمائة [أخبار] في مستهل المحرم ورد خبر، بان أبا الحسن على بن عبد الله بن حمدان، اوقع بالدمستق وهزمه. وفي آخره تزوج بجكم ساره، بنت الوزير ابى عبد الله البريدى، بحضره الراضي، والصداق مائه الف درهم. وكان جيش البريدى قد قتل قائدين من الديلم، فاستنجد معز الدولة، أخاه ركن الدولة، وكان مقيما بإصطخر، فأتاه طاويا للمنازل، فوصل الى واسط في عشره ايام، والبريدى مقيم بغربيها، فانحدر لحربه بجكم مع الراضي، فانصرف عنها، ومضى من فوره الى أصبهان ففتحها فعاد عند مضيه الراضي وبجكم الى بغداد. وفي رجب، قتل طريف السبكرى بطرسوس. وفي شعبان توفى قاضى القضاه ابو الحسين، فتوسط ابو عبد الله بن ابى موسى الهاشمى امر ابنه ابى نصر، على عشرين الف دينار، حتى ولى مكانه. روى الخطيب عن القاضى ابى الطيب قال: سمعت أبا الفرج المعافى بن زكريا الجريرى يقول: كنت احضر مجلس ابى الحسين بن ابى عمر يوم النظر، فحضرت انا واهل العلم، فدخل اعرابى له حاجه، فجلس فجاء غراب فقعد على نحله في الدار، وصاح وطار، فقال الأعرابي: هذا الغراب يقول: ان صاحب هذه الدار، يموت بعد سبعه ايام، وقال: فصحنا عليه، وزبرناه، فقام وانصرف. واحتبس خروج ابى الحسين، فإذا به قد خرج إلينا الغلام وقال: القاضى يستدعيكم، فقمنا فدخلنا، فإذا به متغير اللون منكسف البال مغتم، فقال: اعلموا انى احدثكم بشيء قد شغل قلبي، وهو انى رايت البارحه في المنام شخصا وهو يقول: منازل آل حماد بن زيد ... على اهليك والنعم السلام وقد ضاق صدري، فدعونا له وانصرفنا، فلما كان في اليوم السابع من ذلك اليوم دفن رحمه الله

وانفذ الى على بن عيسى الوزير بمال في بعض نكباته وكتب اليه: وتركي مواساتي اخلاى في الذى ... تنال يدي ظلم له وعقوق وانى لأستحي من الله ان ارى ... بعين اتساع والصديق مضيق وتوفى في هذا الشهر، ابو بكر بن الأنباري، معلم اولاد الراضي بالله، ومن جمله تصانيفه كتاب الزاهر، وكان يحفظ مائه وعشرين تفسير للقرآن، ولم يمل بساقط من دفتر، وقال: انى احفظ ثلاثة عشر صندوقا كتبا. وفي شهر رمضان مات ابو بشر بن يونس القناني النصراني، وهو الذى فسر كتاب المنطق. وفيه خرج بجكم الى الجبل، فلما بلغ قرميسين، بلغه ان البريدى قد طمع في بغداد، وكان طمعه لأجل دفائن في داره، فعاد بجكم حينئذ، وقد استامن اليه خلق من الديلم، وكان قد أمد البريدى قبل ذلك بخمسمائة رجل، وانفذ معهم أبا زكريا السوسي. فلما عرف البريدى رجوعه الى بغداد ابلس، وانفذ الى السوسي، فاستحضره، فظن انه يريد القبض عليه، فقال له: أحب ان تصعد الى بجكم فتزيل الوحشة من صدره، وهذه اذنى فخذها، وبعنى، فانى لا اعدل عن رأيك، وقد رتبت لك طيارا وخمسين غلاما لخدمتك. قال: فقبلت الارض بين يديه، وسرت فما عادت ذهني الا بفم الصلح. وندم البريدى على انفاذه لي، وسقط عليه طائر يعرفه تعويل بجكم على قصده، وتضمن اغراؤه بي، فكان ذلك من كفاية الله تعالى لي. ووصلت دير العاقول، وبها احمد بن نصر القشورى. ولقيت بجكم بالزعفرانيه، واجتهدت به في صلح البريدى، فأبى، وانحدرت معه. وقبض على ابن شيرزاد، لأنه اشار عليه بمصاهره البريدى، وأزال اسم البريدى عن الوزارة، فكانت وزارته سنه واربعه اشهر واربعه عشر يوما، واوقع اسمها على ابى القاسم سليمان بن الحسن.

وزارة ابى القاسم سليمان بن الحسن

وزارة ابى القاسم سليمان بن الحسن وخلع عليه وانحدر بجكم بعد ان ضبط الطريق ممن ينشر خبره، فوقع على حديديه طائر، فأخذه وإذا به كتاب كاتبه يعرف أخاه انحداره وسائر اسراره، فاحضر الكاتب واوقفه، فلم يجحد فرمى به في الزبانيات حتى قتل، ورمى به في الماء. وانحدر فوجد البريدى قد انحدر عنها. وفي ذي الحجه، ورد بان رائقا اوقع بابى نصر بن طغج، أخي الإخشيد، فانهزم اصحاب ابى نصر بعد ان قتل وكفنه ابن رائق وانفذه في تابوت الى أخيه، واستأسر قواده، وانفذ مع التابوت ابنه أبا مزاحم بن رائق، وكتب معه يعزيه ويعتذر ويقول: ما اردت قتله، وقد انفذت ابنى لتقيده به، فتلقى الإخشيد فعله بالجميل، وخلع على ابنه ورده الى ابيه، واصطلحا على ان يفرج ابن رائق للإخشيد عن الرملة، ويكون باقى الشام لابن رائق، ويحمل اليه الإخشيد في كل سنه مائه واربعين الف دينار. وكان بدر بن عمار الأسدي الطبرستاني، يتقلد حرب طبرية لابن رائق، وهو الذى مدحه المتنبى بقصائد عده. وعاد ابو نصر محمد بن ينال الترجمان من الجبل منهزما من الديلم، فانفذ بجكم من واسط بمن ضربه في منزله بالمقارع وقيده، ثم رضى عنه. وانحدر ابو عبد الله الكوفى الى واسط، واستقرت له كتابه بجكم، فكانت كتابه ابن شيرزاد تسعه عشر شهرا وثلاثة عشر يوما. والتقى ركن الدولة بوشمكير، وانهزم الفريقان، ركن الدولة الى اصفهان، ووشمكير الى الري. وفيها مات جستان وفيها توفى ابو عبيد الله القمي، الوزير لركن الدولة، وتقلد مكانه ابو الفضل بن العميد.

سنه تسع وعشرين وثلاثمائة

سنه تسع وعشرين وثلاثمائة [أخبار] فيها صادر بجكم ابن شيرزاد، وقال: اردت ان اعلم ايساره، فقلت: ان عندي مائه الف دينار، اريد ايداعك إياها، فما ارتاع، وحملتها اليه، وطلبتها بعد مده، فكان يحملها تفاريق، فقلت: ما السبب في هذا؟ فقال: اننى لا آمن غير أختي، ولا تقوى على حمل المال دفعه واحده، فقبض على اخته، وبلغ بالقبض عليها ما اراده من ماله. وفي ليله النصف من شهر ربيع الاول مات الراضي بالله، وقد انكسف القمر جميعه، وكان موته بعلة الاستسقاء. وكان الراضي رحمه الله سمحا شاعرا سخيا أديبا، ومن شعره يرثى المقتدر رحمه الله: بنفسي ثرى ضاجعت في تربه البلى لقد ضم منك الغيث والليث والبدرا فلو ان حيا كان قبرا لميت لصيرت احشائى لأعظمه قبرا ولو ان عمرى كان طوع مشيئتى وساعدني المقدار قاسمته العمرا وحكى الخطيب في تاريخه قال: كتب الراضي الى أخيه المتقى، وقد جرى بينهما شيء في الكتب: انا معترف لك بالعبودية، والمولى يعفو، وقد قال الشاعر: يا ذا الذى يغضب من غير شى ... اعتب فعتباك حبيب الى أنت- على انك لي ظالم ... أعز خلق الله طرا على

خلافه المتقى لله

خلافه المتقى لله وهو ابو إسحاق ابراهيم بن المقتدر بالله، أمه رومية، وكانت خلافته ثلاث سنين واحد عشر شهرا. ورد كتاب بجكم، لما بلغه موت الراضي بالله رحمه الله عليه، على ابى عبد الله الكوفى يأمره ان يجمع كل من كان يتقلد الوزارة بالحضرة، واصحاب الدواوين والقضاه والفقهاء والعلويين والعباسيين ووجوه البلد، ويحضرهم الى ابى القاسم سليمان بن الحسن، وينصبون الخلافه من يحمدونه. فلما اجتمعوا قال محمد بن الحسن بن عبد العزيز الهاشمى: يكون الخطاب سرا، فخلا الكوفى في بيت وجعل الرجل والرجلان يدخلان اليه، فيقول لهما: قد وصف لنا ابراهيم بن المقتدر بالله، فيظنان ان ذلك عن امر ورد من بجكم في معناه، فيقولان: هو لذلك اهل، فاحضر الى دار بجكم وعقد له الأمر ولقب المتقى لله. وحمل الى بجكم من دار الخلافه قبل تقلد المتقى فرش وآلات اختارها. وانفذ المتقى لله عند بيعته مع ابى العباس الاصفهانى، خلعا ولواء الى بجكم، وخلع على سلامه الطولونى، وقلده حجبته، واقر أبا القاسم سليمان بن الحسن على الوزارة. وورد الخبر بدخول ابى على بن محتاج في جيش خراسان الى الري، وقتله ما كان الديلمى صاحب جرجان، وحاصر من بها حتى تركها، ومضى الى ساريه، فاستولى ابو على على جرجان. وتعاضد ابو على وركن الدولة، على محاربه وشمكير، حين اعتضد بما كان، والتقى الفريقان واظهر ما كان شجاعة شديده، فأتاه، سهم عائر، فنفذ في خوذته وطلع من قفاه فسقط ميتا

وافلت وشمكير، بعد ان اسر اكثر اصحابه. وحمل ابن محتاج من رءوس القتلى سته آلاف راس الى خراسان، فيهم راس ما كان وجلس ابو على بن محتاج للعزاء، واظهر الحزن عليه. وقال الحسن بن الفيروزان ابن عم ما كان: ان وشمكير، اسلمه، وكان الحسن شجاعا، وقصد ابن محتاج فقبله، وقصد وشمكير، فكان بينهما حرب على باب ساريه أياما. ثم ورد على ابى على وفاه صاحبه نصر بن احمد، فصالح وشمكير وأخذ ابنه رهينه، وانحدر معه الحسن بن الفيروزان، وحقد عليه كيف لم يستخلفه على حرب وشمكير، وانتهز غرته حين قاربا خراسان، فوثب عليه فافلت منه، وقتل حاجبه وانتهب سواده، واستعاد رهينه ابن وشمكير، وعاد الى جرجان فملكها، فصالحه الحسن، ورد عليه ابنه. ثم ان ركن الدولة قصد الري، وحارب وشمكير، فهزمه واستامن اليه اكثر رجاله، وصار بعد انهزامه الى خراسان، وتزوج ركن الدولة بنت الحسن، وهي والده فخر الدولة. وفي هذه السنه، فرغ من بناء مسجد براثا، وجمع فيه. وفيها ابتدأ الغلاء ببغداد، وبلغ الكر من الدقيق مائه وستين دينارا، وكثر الموت حتى كان يدفن الجماعه من غير غسل ولا صلاه، وظهر من قوم فيهم دين وصدقه عطف على الأحياء وتكفين الموتى، وظهر من آخرين فجور ومنكرات، وكان على بن عيسى والبقرى يكفنان الناس على أبواب دورهما. وسقطت القبه الخضراء، التي هي قبة المنصور المعروفه بقبه الشعراء. ونكب الكوفى هارون اليهودي جهبذ ابن شيرزاد، وبقي عليه من مصادرته ستون الف

دينار، فأخذت داره، وكانت قديما لإبراهيم بن احمد الماذرائى، راكبه دجلة والصراة، وفيها بستان ابى الفضل الشيرازى ودار المرتضى، وحمل هذا اليهودي الى بجكم بواسط، فضرب بين يديه بالدبابيس حتى مات. واظهر بجكم العدل بواسط، وبنى دار ضيافه، وعمل البيمارستان ببغداد. وخرجت الشتوة جميعها بغير مطر. وانبثق نهر رفيل ونهر بوق فلم يتلاقيا، حتى خربت بادوريا بضع عشره سنه. وانفذ البريدى جيشا الى المذار فانفذ بجكم بتوزون، فهزمهم بعد ان كسروه. وجلس في رجب المعروف بغلام القاضى بجامع الرصافه، وقص على مذاهب اهل العدل، واجتمع اليه الناس. ونصبت القباب بباب الطاق والرصافه لزوار الحائر على ساكنه السلام. وتوفى البربهارى مستترا، ودفن في تربه نصر القشورى. وانحدر بجكم حين بلغه كسر توزون أولا، ولم يبلغه كسره لأصحاب البريدى وتمم، وقد عرف الغناء عن حضوره، فلما بلغ نهر جور، شره الى اموال اكراد هناك، وقصدهم متهاونا بهم في عدد يسير من غلمانه في قميص، فهرب الأكراد من بين يديه، واستدار احدهم من ورائه من غير ان يعرفه، فطعنه بالرمح في خاصرته فقتله، وذلك بين الطيب والمذار، يوم الأربعاء لتسع بقين من رجب. وكان البريديون قد عملوا على الهرب، فوافاهم من عسكره الف وخمسمائة ديلمى، فقبلوهم. وعاد تكينك بالاتراك الى بغداد، فنزلوا النجمى وأظهروا طاعه المتقى. وصار احمد بن ميمون كاتب المتقى لله قديما، يدبر الأمور والكوفى من قبله

فكانت اماره بجكم سنتين وثمانية اشهر وتسعه ايام، وكتابه الكوفى له خمسه اشهر وثمانية عشر يوما. وكان بجكم يدفن أمواله وحده، فتتبع احد غلمانه اثره، واستدل على موضع المال، ودل المتقى على ذلك، فاستخرج مالا عظيما، ودفع التراب الى الحفارين فلم يقنعوا، فامر بغسله، فاخرجوا من التراب سته وثلاثين الف درهم. قال ثابت بن سنان: قال بجكم: قلت: الصواب ان ادفن في الصحراء، فربما حيل بيني وبين دارى، وكان الناس يشنعون اننى اقتل من يدفن معى، وما كنت افعل ذلك، بل كنت آخذ المال في الصناديق، واترك معها الرجال الذين أثق بهم واحملهم فيها مقفلا عليهم على البغال، واقود بنفسي القطار، وافتح عن الرجال، ولا يدرون اين هم من الارض، وإذا دفنوا اعدتهم على هذه الصفة. وقدم الترجمان من واسط، فاقره المتقى لله على الشرطه ببغداد. واصعد البريديون الى واسط في سبعه آلاف رجل، فانفذ اليهم المتقى الى واسط ثمانية وخمسين الف دينار، وامرهم بالمقام بواسط فلم تقنعهم. وفرق المتقى في الاتراك أربعمائة الف دينار. واصعد البريدى من واسط الى بغداد، فلما قرب اضطربت الاتراك البجكميه وسار بعضهم الى الموصل واستامن بعضهم اليه. واستتر الكوفى، وانتقل كثير من ارباب النعم، واشار بعض اصحاب على بن عيسى عليه بالاصعاد الى الموصل، فاستاجر سفنا ليصعد فيها رحله بمائتي دينار، ثم استدعى صاحبه فقال: ايهرب مخلوق الى مخلوق! اصرف الدنانير في الصدقه. وانحدر البريدى حين قرب، فتلقاه واكرمه، ومنعه ان يخرج من طيارة، وانتقل اليهم وشكر بره. ودخل البريدى بغداد، ومعه ابو الحسين، فابنه ابو القاسم، وابو جعفر بن شيرزاد، لليلتين خلتا من شهر رمضان، ونزلوا الشفيعى وكان معه من الزبازب والطيارات والحديديات والشذآت ما لا يحصى

وتلقاه الوزير ابو الحسين بن ميمون، والكتاب والعمال والقضاه، وانفذ المتقى يعرفه انسه بقربه، وحمل اليه الطعام والهدايا عده ليال. وكان ابن ميمون والبريدى يخاطب كل واحد منهما صاحبه بالوزارة، ثم انفرد بها البريدى خاصه. فكانت وزارة ابن ميمون شهرا وثلاثة ايام، ثم قبض عليه واحدره الى البصره فمات بها. فاستكتب المتقى لله على خاص امره أبا العباس احمد بن عبد الله الاصبهانى. ولم يلتق البريدى بالمتقى، ومضى اليه الأمير ابو منصور بن المتقى لله بالنجمى ليسلم عليه، فلبس البريدى ثياب سواده، وتلقاه في احسن زي، ونثر عليه الدنانير. وراسل ابو عبد الله البريدى المتقى لله على يد القاضى احمد بن عبد الله ابن إسحاق الخرقى وابى العباس الاصبهانى يطالبه بحمل المال، فقال للقاضي: انصحه وعرفه خبر المعتز والمهتدى بالله، والله ان خليته مع الأولياء ليطلبن نفسه فلا يجدها. فكان الجواب، ان حمل اليه خمسمائة الف دينار، فوهب للخرقى منها خمسه آلاف دينار بعد مائه وخمسين الف دينار. وكان البريدى يأمر عسكره بالتشغيب على الخليفة، فرجعت المكيدة عليه، حتى شغبوا. واجتمع الديلم، فراسوا على انفسهم كورنكج بن الفارضى الديلمى، بالقبض عليه، وقصدوا البريدى وهو بالنجمى، وعاونهم العامه، فقطع البريدى الجسر، ووقعت الحرب في الماء ووثبت العامه بأسباب البريدى في الجانب الغربي فهرب ابنه واخوه في الماه الى واسط ونهبت داره ودور قواده، وحمل بعض ما حمل اليه المتقى من المال. واستتر ابن شيرزاد، فنهبت داره ودور قواده. وظهر سلامه الطولونى وبدر الخرشنى. وهرب البريدى من بغداد.

اماره كورنكج

اماره كورنكج وحصلت الإمارة لكورنكج ثانى شوال، ولقى المتقى في ثالثه، فقلده امير الأمراء وعقد له اللواء وخلع عليه. ودبر الأمر على بن عيسى واخوه من غير تسميه بوزاره. وغرق الأمير ابو شجاع كورنكج تكينك خامس شوال. واجتمعت العامه يوم الجمعه، وتظلموا من نزول الديلم في دورهم، وكسروا المنبر، ومنعوا من اقامه الصلاة، وقتل بينهم وبين الديلم جماعه. فلما كان بعد تسعه ايام من نظر على بن عيسى، استوزر المتقى أبا إسحاق محمد ابن احمد الاسكافى المعروف بالقراريطى. واخرج الأمير كورنكج أصبهان الديلمى الى واسط، ليحارب البريدى. وظهر ابن سنجلا وقريبه على بن يعقوب من استتارهما، فقبض القراريطى عليهما حين صارا اليه، وصادرهما بعد مكروه شديد على مائه وخمسين الف دينار. وبلغ ابن رائق قتل بجكم فسار من الشام. ولم يقبل ابو محمد بن حمدان من صار اليه من اصحاب بجكم، مثل توزون وصيغون، ونفذوا الى ابن رائق، فكتب اليه المتقى يستدعيه الى الحضره، فسار من دمشق، وعاد أصبهان الى بغداد، وحمل ابو محمد بن حمدان الى ابن رائق مائه الف دينار. وقبض كورنكج على القراريطى، فكانت مده وزارته ثلاثة واربعين يوما. وقلد الوزارة أبا جعفر محمد بن القاسم الكرخي، وخلع المتقى عليه. وخطب بنو البريدى بواسط والبصره لابن رائق. فلما قرب ابن رائق من بغداد، خرج اليه كورنكج وانتهى الى عكبرا، واتصلت الحرب بينهما، ثم دخل ابن مقاتل، ومعه قطعه من الجيش، وبعده ابن رائق

وعبر من النجمى الى دار السلطان، وسال المتقى الركوب معه، فركب معه الى الشماسيه، وانحدرا في الماء، ودخل المتقى دار الخلافه، وعبر ابن رائق الى النجمى. ووصل كورنكج واصحابه الى بغداد وهم في غاية التهاون بابن رائق، وجعلوا يقولون: اين نزلت القافلة الشامية؟ واتى كورنكج دار السلطان، فدافع عنها لؤلؤ وبدر الخرشنى. وعمل ابن رائق على الرجوع الى الشام، وانفذ سواده. واتفق حصول ابن رائق في سميريات بدجله ليعبر، فصادفهم كورنكج فراشقوا بالزوينات والنشاب، وصاحت العامه، فهرب كورنكج، ورماهم العامه بالستر والاجر، فانهزم اصحابه واستتر هو. وظهر الكوفى الى خدمه ابن رائق، وقتل ابن رائق أربعمائة ديلمى صبرا، اعطاهم الامان ولم يسلم منهم غير رجل واحد وقع بين القتلى، ورمى به معهم الى دجلة، وعاش مده طويله، وقتل جماعه من قوادهم، وانهزم بعضهم، فباتوا بخان بجسر النهروان، فسقط عليهم فهلكوا. وخلع المتقى على ابن رائق لاربع بقين من ذي الحجه، وطوقه وسوره وعقد له اللواء. وقلده امره الأمراء، والزم الكرخي بيته، فكانت وزارته ثلاثة وخمسين يوما. واطلق القراريطى الى منزله. وزادت الفرات في السادس والعشرين من ايار زياده غرقت هيت وسقط سورها، وغرقت محال بغداد، وهدمت القنطرتين بالصراه، وسقطت الدور التي عليها. وفي هذه السنه، قلد القاضى ابو الحسين احمد بن عبيد الله الخرقى القضاء بمصر والحرمين، وخلع عليه

سنه ثلاثين وثلاثمائة

سنه ثلاثين وثلاثمائة انحدر ابن رائق في عاشر المحرم الى واسط، حين اخر عنه البريدى ما ضمنه، فهرب عند قربه منها البريدى الى البصره، وانفذ اليه مائه وسبعين الف دينار، وضمن حمل ستمائه الف دينار في السنه. فاصعد ابن رائق الى بغداد، وانفذ صاحب خراسان الى المتقى لله هدايا من غلمان اتراك وطيب وخيل، على يدي ابى العباس بن شقيق، وانفذ معه برأس ما كان، فشهر ببغداد في دجلة. وشغب توزون والاتراك على ابن رائق، وساروا الى البريدى فقوى بهم ولقوه بواسط. وكوتب البريدى من الحضره بالوزارة، واستخلف له ابن شيرزاد، ثم عول على الإصعاد الى الحضره، فركب المتقى وابنه وابن رائق، بين ايديهم المصاحف المنشورة، واستنفروا العامه، ولعن بنو البريدى على المنابر. واصعد ابو الحسين البريدى الى بغداد في جيش أخيه، فاستامن اليه قرامطه ابن رائق. وعمل ابن رائق على التحصن بدار السلطان، ونصبت العرادات على سورها، واستنهض العامه، فكان ذلك سببا للفتن واحرقوا نهر طابق، وكبسوا المنازل ليلا ونهارا. واشتبكت الحرب بين ابى الحسين البريدى وابن رائق في الماء، واشتدت الحرب في حادي عشر من جمادى الآخرة، وملك الديلم من اصحاب البريدى دار السلطان، فخرج وابنه هاربين ومضوا الى باب الشماسيه، فلحق بهم ابن رائق، واصعدوا الى الموصل فيها. وقيد كورنكج وحده واحدره الى أخيه، فكان آخر العهد به

وكان القاهر محبوسا، فتركه الموكلون به فخرج فرئي وهو يتصدق بسوق الثلاثاء، فبلغ ذلك البريدى، فانفذ بمن اقامه واجرى له في كل يوم خمسه دراهم. ونزل البريدى دار مؤنس، وقلد توزون الشرطه، فلما وليها سكنت الفتنة، وأخذ ابو الحسين حرم توزون وعيالات القواد رهينه وانفذهم الى أخيه، وغلت الأسعار. وظلم البريدى الناس، وافتتح الخراج في آذار، وافتتح الجزية، وأخذ الأقوياء بالضعفاء، وقرر على الحنطة وسائر المكيلات من كل كر سبعين درهما، وقبض على خمسمائة كر، وردت للتجار من الكوفه، وادعى انها للحسن بن هارون فقلد الناحية. وهرب خجخج الى المتقى لله. وتخالف توزون ونوشتكين والاتراك على كبس ابى الحسين البريدى، فغدر نوشتكين بتوزون. ونمى الخبر الى الحسين، فتحرز واحضر الديلم فاستظهر بهم. وقصد توزون دار ابى الحسين، وغلقت الأبواب دونه. وانكشف لتوزون غدر نوشتكين به، فلعنه، وانصرف ضحوه نهار يوم الثلاثاء، ومضى معه قطعه وافرة من الاتراك الى الموصل، وقاتلت العامه البريدى، فقوى ابن حمدان بتوزون وبالاتراك، وعمل على الانحدار مع المتقى لله الى بغداد، وبلغ ذلك البريدى فكتب الى أخيه يستمده فامده بجماعه من الديلم والقواد. واخرج ابو الحسين مضربه الى باب الشماسيه، واظهر انه يحارب ابن حمدان، وذلك بعد ان قتل ابن حمدان ابن رائق، وكان سبب قتله، ان ابن حمدان كان بشرقى الموصل وابن رائق والمتقى بغربيها، فما زالت المراسلات بينهم، حتى توثق بعضهم من بعض وانس بهم. فعبر الأمير ابو منصور بن المتقى لله ومعه ابن رائق، يوم الاثنين لتسع بقين من رجب، الى ابن حمدان، فلقيهم اجمل لقاء ونثر على الأمير الدنانير. فلما اراد الانصراف ركب الأمير ابو منصور، وقدم فرس ابن رائق ليركب من داخل المضرب، فامسكه ابو محمد بن حمدان، وقال: تقيم عندي اليوم لنتحدث فان بيننا ما نتجاراه، فقال له ابن رائق: امضى في خدمه الأمير واعود، فالح عليه ابن حمدان

إلحاحا استراب به ابن رائق، فجذب كمه من يده حتى تخرق، وكانت رجله في الركاب فشب به الفرس فوقع وقام ليركب، فصاح ابو محمد لغلمانه: ويلكم لا يفوتكم! فقتلوه. وانفذ للمتقى لله ان ابن رائق اراد ان يغتاله، فرد عليه المتقى انه الموثوق به. وعبر الى المتقى، فخلع عليه وعقد له لواء، ولقبه ناصر الدولة، وجعله امير الأمراء وكناه، وذلك مستهل شعبان، وخلع على أخيه على، وعلى ابى عبد الله الحسين بن سعيد ابن حمدان وكتب الى القراريطى بتقليد الوزارة. ولما قارب المتقى بغداد، هرب ابو الحسين البريدى عنها الى واسط. ودخل المتقى وناصر الدولة واخوه الشفيعى ولقى القراريطى المتقى وناصر الدولة. وتقلد ابو الوفاء توزون الشرطه. وخلع المتقى على القراريطى خلع الوزارة لليلتين خلتا من ذي القعده. وخلع بعد ذلك، على ناصر الدولة وأخيه وطوقهما وسورهما. وأتاهم الخبر ان البريدى على قصد بغداد، فعبر حينئذ المتقى وناصر الدولة الى الجانب الغربي، وسار ابو الحسن على بن عبد الله بن حمدان في الجيش الى الكيل، ولقيهم البريدى بها، ومعه ابن شيرزاد وابن قرابه في الديلم وجيش عظيم فكانت الوقعه مستهل ذي الحجه يوم الأربعاء ويوم الخميس ويوم الجمعه، ومع ابن حمدان توزون وخجخج والاتراك، فانهزم على واصحابه الى المدائن، فردهم ناصر الدولة الى الكيل، فانهزم حينئذ البريدى، واستؤسر من اصحابه يانس وجماعه من قواد البريدى. وعاد الى واسط، واستامن الى ابن حمدان محمد بن ينال الترجمان، وجماعه من قواد البريدى، وعاد منهزما مفلولا. وانحدر سيف الدولة الى واسط، فوجد البريديين قد انحدروا منها فأقام بها. ودخل ناصر الدولة يوم الجمعه لثانى عشر ليله بقيت من ذي الحجه، بغداد وبين يديه يانس غلام البريدى واصحابه مشهرين على رءوسهم البرانس، وسار في الجانب الغربي الى دار عمه ابى الوليد سليمان بن حمدان، وهي بالقرب من الجسر، ولأجل هذا لقب المتقى لله أبا الحسن على بن حمدان، بسيف الدولة، وكتب في ذلك ابن ثوابه كتابا. ولأجل هذا يقول المتنبى في قصيدته في سيف الدولة:

انا منك بين مكارم وفضائل ... ومن ارتياحك في غمام دائم يقول فيها: ان الخليفة لم يسمك سيفه ... حتى ابتلاك فكنت عين الصارم فإذا تتوج كنت دره تاجه ... وإذا تختم كنت فص الخاتم قال ابو الفتح: يقال فص وفص والفتح اكثر. وإذا انتضاك على العدى في معرك ... هلكوا وضاقت كفه بالقائم وظهر الكوفى لناصر الدولة وخدمه. وأخذ ابو زكريا السوسي لابن مقاتل أمانا، وشرط ان استقر ما بينه وبين ناصر الدولة، تمم الظهور، والا عاد الى استتاره. فلما عاد لم يتمش بينهما امر، فقال له: عد الى استتارك، فقال ابن مقاتل: لم أجد عهدا، وان شئت فعلت. فضج ناصر الدولة من ذلك، وعلم انها حيله وقعت عليه، فصحح امره على مائه وثلاثين الف دينار، وعلى ان ينفذ جيشا الى حلب ليفتحها، وصح له خمسون الف دينار. ونظر ناصر الدولة في امر النقد، وطالب بتصفيه العين والورق، وضرب دنانير سماها الابريزيه، وبيع الدينار منها بثلاثة عشر درهما، بعد ان كان عشره، وكتب ابن ثوابه عن المكتفي في ذلك كتابا. وفي هذه السنه توفى ابو الحسن على بن اسماعيل بن بشر الأشعري المتكلم. وولد سنه ستين ومائتين، ودفن في مشرعه الروايا في تربه الى جانبها مسجد، وبالقرب منها حمام على يسار المار من السوق الى دجلة واخبر بذلك الخطيب عن ابن برهان، وعمرها ابو سعيد الصوفى في زماننا.

سنه احدى وثلاثين وثلاثمائة

سنه احدى وثلاثين وثلاثمائة [أخبار] ورد الخبر، بان الأمير معز الدولة وافى من الاهواز الى عسكر ابى جعفر، بإزاء نهر معقل، واظهر ان السلطان كاتبه حتى يحارب البريديين، فأقام مده يحاربهم ثم عاد الى الاهواز. وورد الخبر بورود الروم قريبا من نصيبين فسبوا واحرقوا. وضرب ناصر الدولة أبا على هارون بن عبد العزيز الأوار، حتى على ضعف جسمه سبعمائة مقرعه، وصادره على عشرين الف دينار، وكان يكتب لابن مقاتل، وصادر جماعه من أسبابه، وعمل لدار عمه ابى الوليد في دجلة انفق عليها مالا، وزوج ابنته عدويه من الأمير ابى منصور بن المتقى، ووكل في العقد أبا عبد الله بن ابى موسى الهاشمى، وكان الخطيب ابو الحسن الخرقى، فلحن في خطبته، وتمم العقد ابن ابى موسى على صداق خمسمائة الف درهم، وتعجيل مائه الف دينار. وقبض القراريطى على جماعه من الكتاب وصادرهم. وقبض على ابى القاسم بن زنجى، فامتنع من الغذاء أياما، وبقي لا يتكلم، فحمله الى منزله خوفا عليه من حادثه في اعتقاله، وظنه انه يموت من يومه، ووكل به في منزله فدبر امره واستتر. وقبض على ابى الفتح بن داهر العامل، وكان يوسع على المكلفين الموكلين ويسقيهم الشراب، فأطعمهم يوما قطائف منبج، فقام وهرب. واحدث القراريطى سوما في الظلم، فلم يمهله الله تعالى، فعبر الى دار ناصر الدولة فقبض عليه وعلى اصحابه، فكانت وزارته ثمانية اشهر وسته وعشرين يوما. وفي جمادى الاولى هرب قطعه من الجيش الى البريدى. واغاث الله تعالى الضعفاء عند تعذر الخبز بجراد اسود، فبيع كل خمسين رطلا بدرهم.

وزارة ابى العباس الاصفهانى

وزارة ابى العباس الاصفهانى ولما قبض ناصر الدولة على القراريطى جعل الوزارة الى ابى العباس احمد بن عبد الله الاصفهانى، وخلع عليه المتقى خلع الوزارة، ولبس القباء والسيف والمنطقه، وابو عبد الله الكوفى المدبر للأمور. وصادر القراريطى على خمسمائة الف درهم، وحمل الى دار ابن ابى موسى الهاشمى. وكان ناصر الدولة ينظر في احوال الناس كما ينظر اصحاب الشرط، وتقام الحدود بين يديه. وصار عدل، حاجب بجكم بعده الى ابن رائق، وبعده الى ناصر الدولة، فقلده الرحبه، واستولى عليها وكثر اتباعه، فانفذ ناصر الدولة ببدر الخرشنى لحربه. فلما صار بدر بالدالية، توقف عن المسير الى عدل، وكاتب لاخشيد محمد بن طغج وهو بدمشق يستاذنه في المسير اليه، فاذن له وانفذ اليه القرب والجمال والروايا، فسلك بدر البريه، ووصل دمشق، فقلده الإخشيد المعاون بها، وجعلت الرحبه واعمال الفرات لعدل، وعامله ابو على النوبختى. وحصل لعدل من المصادرات الفى الف درهم، فاتسعت يده، وكثر رجاله، واقبل الديلم والاتراك يقصدونه من بغداد في المرقعات فخلع عليهم. وتمت على عدل الحيله من سهلون كاتب ناصر الدولة، لأنه اراد المضى الى يانس المؤنسى بالرقة، فمنعه عدل من ذلك، فقال له سهلون: قد كثر اتباعك ولا يفيء بمؤونتكم ما في يديك، وانا اكتب عن ناصر الدولة الى يانس، بتسليم الرقة إليك، فتبعه على ذلك. وبلغا الخانوقه، فقال له سهلون: الرأي ان اتقدمك اليه، فطلب منه رهينه فقال:

ان رآك وقد أخذت رحلي فطن، فتركه، فلما حصل بالرقة مع يانس كاتبا بنى نمير. فلما عرف عدل الصورة، سار الى نصيبين، فلقيه الحسين بن سعيد بن حمدان، فاستامن اصحاب عدل الى الحسين، فاسره وابنه وسلمهما وأنفذهما الى ناصر الدولة وشهرهما على جملين. وحصل سيف الدولة بواسط، ودافعه اخوه ناصر الدولة بحمل المال. وكان توزون وجوجوج يسيئان الأدب عليه، فضاق ذرعا بتحكمهما، فانفذ اليه ناصر الدولة أبا عبد الله الكوفى في الفى الف درهم وخمسين الف دينار. فلما وصل الى واسط، قام توزون وجوجوج الى الكوفى، فشتماه واسمعاه مكروها، فخباه سيف الدولة في بيت وقال: اما تستحيان منى! فلما كان يوم الأحد آخر شعبان كبس الاتراك سيف الدولة، واحرقوا سواده، فهرب ولزم نهرا يقال له الجازور، فاداه الى قريه تعرف ببرقه، ولزم البريه حتى وصل الى بغداد واتبعوه فرسخا. وعاد توزون وجوجوج الى معسكرهما. ووصل الكوفى الى بغداد لليلتين خلتا من شهر رمضان، ولقى ناصر الدولة، وعرفه الصورة، فاصعد الى الشماسيه، وركب المتقى لله اليه، فسأله التوقف عن الخروج من بغداد، ونهبت داره رابع شهر رمضان. وافلت يانس غلام البريدى وعاد الى صاحبه فاستتر الكوفى وابن مقاتل. وخرج الديلم الى المصلى، وضبط الاتراك الذين بالبلد بغداد، ثم عاد الديلم. ودبر الأمور القراريطى. وانعقدت الرئاسة بواسط لتوزون، بعد منازعه من جوجوج له، ثم تظاهرا، وكانت مده وقوع اسم الوزارة على ابى العباس الاصفهانى أحدا وخمسين يوما، ومده اماره ناصر الدولة ابى محمد الحسن عبد الله بن حمدان ثلاثة عشر شهرا وثلاثة ايام. وتقدم توزون الى جوجوج بالانحدار الى نهر ابان، ورد البريدى عن واسط انه قصدها

وزارة ابى الحسين بن مقله

ووافى رسول البريدى عيسى بن نصر الى توزون، يهنئه بالاماره ويسأله ان يضمنه اعمال واسط، ويعرفه ان الرأي ان يعجل الى الحضره، ويخرج ابن حمدان عنها، فأجابه: ان عسكرى عسكر بجكم الذين جربت، وإذا استقرت الأمور تكلمنا في الضمان، واتبعه جاسوسا يعرفه ما يجرى بينه وبين جوجوج، فعاد الجاسوس وعرفه ان جوجوج على الاستئمان الى البريدى، فسار اليه توزون في ثانى عشر شهر رمضان في مائه من الاتراك فكبسه في فراشه. فلما احس به ركب دابه النوبه، واخذلتا ودفع عن نفسه، ثم أخذ بعد ساعه وحمله توزون الى واسط، فسلمه في دار عبد الله بن يونس . وزارة ابى الحسين بن مقله ولما انصرف ناصر الدولة من بغداد، قلد المتقى وزارته أبا الحسين على بن محمد ابن مقله، وخلع عليه في حادي عشر شهر رمضان. وعاد سيف الدولة الى بغداد، فلما بلغ جرجرايا عرف سيف الدولة ذلك، فاصعد عن باب حرب، لسبع بقين من شهر رمضان، ونزل دار مؤنس. ولثلاث بقين من شهر رمضان، دخل البريدى واسطا، فاحرق ونهبت واحتوى على الغلات . اماره توزون واقام توزون، فخلع عليه المتقى وقلده امره الأمراء، وعقد له لواء، فاسرف بالخلع الى دار مؤنس، واستكتب أبا جعفر الكرخي، وقبض على جماعه من التجار وطالبهم بمال. وقبض على ابى بكر محمد بن الحسن بن عبد العزيز الهاشمى

واستتر منه ابن ابى موسى الهاشمى لتحققه بناصر الدولة، وكان قد اسر عند هزيمه سيف الدولة غلاما حظيا عند سيف الدولة، فاطلقه ووهبه لسيف الدولة، وبعثه اليه حين حصل ببغداد، فحسن هذا الفعل من ناصر الدولة وسيفها، حتى قال ناصر الدولة: قد قلدت توزون الحضره، واستخلفته هناك، فسكنت نفسه حينئذ. وغلا السعر ببغداد، حتى بيع اربعه أرطال بدرهم. ووجه بالديلم الى قطيعه أم جعفر، فكبسوا الدكاكين، وأخذوا من الدقيق وقر زورقين عظيمين، وواثبهم العامه. وانحدر ثالث عشر ذي القعده وخلف ببغداد الترجمان. وخطب ابن مقله كتابه توزون لعمه ابى عبد الله، وانفذ اليه هديه، منها عشرون ثوبا دبيقيا وعشرون رداء قصبا وطيبا، وذلك بعد ان استكتب توزون القراريطى وصرف النوبختى، فلم يجب توزون الى ذلك، وقال: لا يحسن بي صرفه بعد ثلاثة ايام من استخدامى له. ووافاه بواسط ابن شيرزاد من البصره فتلقاه توزون في دجلة وسر به، وقال: يا أبا جعفر كملت امارتى وهذا خاتمي فخذه ودبرني بأمرك، فأنت ابى، فقبل ابو جعفر يده. فانصرف ابن شيرزاد الى دار الصوفى فنزلها، وانفذ أبا الحسن طازاذ الى الحضره لخلعه، وانفذ معه صافيا غلام توزون في خمسين غلاما، ليقوى يده وامر بالقبض على القراريطى، وان يسلمه الى ابن مقله، ومطالبته بالعشرين الف دينار. وكان سبب تخلص ابن شيرزاد من البريدى ان يوسف بن وجيه صاحب عمان. وافى البصره في ذي الحجه، في المراكب والشذاآت، وغلب على الأبله، فهرب ابن شيرزاد وطازاذ وابو عثمان سعيد بن ابراهيم كاتب بدر الخرشنى. وانصرف يوسف، وقد قارب ان يملك البصره، حتى اتى البريدى بفلاح يعرف بالزبارى، فقال: انا احرق مراكبه، وكانت بالليل يشد بعضها الى بعض، كالجسر في عرض دجلة، فاعتمد الزبارى الى زورقين فملأهما زعفا، واضرمهما نارا

وأرسلهما، فوقعت على المراكب، فاشتعلت وتقطعت واحرق من فيها، وانتهب الناس منها مالا عظيما. وهرب يوسف على وجهه، واستشعر ابن مقله الخوف من ابن شيرزاد، واوقع بين المتقى وتوزون وقال: قد عزم على ان يأخذ منك خمسمائة الف دينار كما أخذ من البريدى، وقال: هذه بقية تركه بجكم. ووافى ابن شيرزاد الحضره في ثلاثمائة غلام، ووصل الى المتقى، واشار عليه ابن مقله والترجمان بالقبض عليه فلم يفعل. وفي شهر رمضان ورد الخبر بموت نصر بن احمد صاحب خراسان، وترتب ابنه نوح في موضعه. واتصلت الفتن ببغداد، فانتقل كثير من تجارها مع الحاج الى مصر والشام. وورد من ملك الروم كتاب يلتمس فيه منديلا ببيعه الرها، وذكر ان عيسى ابن مريم ع، مسح به وجهه، وانه حصلت صوره وجهه فيه، وانه ان انفذ اليه اطلق الأسارى، فاستامر ابن مقله المتقى، فأمره باحضار الناس، فاستحضر على ابن عيسى والفقهاء والقضاه، فقال بعض من حضر: هذا المنديل منذ الدهر الطويل في البيعه، ولم يلتمسه ملك من الملوك، وفي دفعه غضاضه على المسلمين، وهم أحق بمنديل عيسى ع، فقال على بن عيسى: خلاص المسلمين من الاسر اوجب، فامر المتقى بتسليم المنديل وان يخلص به الأسارى، وكتب بذلك عنه.

سنه اثنتين وثلاثين وثلاثمائة

سنه اثنتين وثلاثين وثلاثمائة وافى ابو عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان الى باب حرب في جيش كثير، فخرج اليه المتقى لله وحرمه وولده، وابن مقله وابو نصر محمد بن ينال الترجمان، وخرج معه العمال والوجوه، وسلامه الطولونى وابو زكريا السوسي وابو محمد الماذرائى والقراريطى وابو عبد الله الموسوى وغيرهم. واستتر ابن شيرزاد ونهب اقبال غلامه بعض خزائن المتقى. وظهر ابن شيرزاد من استتاره. ووصل سيف الدولة الى تكريت لاربع خلون من شهر ربيع الاول، فتلقاه الأمير ابو منصور، وصار معه الى المتقى لله، واشار بالاصعاد الى الموصل، فامتنع وقال: لم توافقونى على هذا؟ وانفذ توزون حين بلغه الخبر موسى بن سليمان في الف رجل فنزل بالشماسيه. وعقد توزون واسطا على البريدى، واصعد فوصل بغداد عاشر ربيع الاول. فعند ذلك، انفذ المتقى حرمه الى الموصل، وانحدر اليه ناصر الدولة في بنى نمير وبنى كلاب وبنى اسد، فتلقاه المتقى وسار توزون اليهم، الى قصر الجص، ودامت الحرب فيه، بين سيف الدولة وبين توزون ثلاثة ايام، فانهزم سيف الدولة حينئذ، واصعد معه اخوه ناصر الدولة، ونهب اعرابهما سوادهما. وملك توزون تكريت، فشغب عليها اتراكه، ولحق بعضهم بناصر الدولة، فانحدر حينئذ توزون الى بغداد، وأنقذ بابن ابى موسى في الصلح بينه وبين ناصر الدولة. وانحدر سيف الدولة من الموصل، ومعه الجيش للقاء توزون، وكان توزون قد زوج ابنته من ابى عبد الله البريدى. وسار توزون الى حربى فالتقيا أول شعبان، فانهزم سيف الدولة، وسار

الى الموصل فعند ذلك خرج اخوه ناصر الدولة والمتقى لله وسائر من معهم الى نصيبين، وخرج توزون وراءهم الى الموصل، ومعه ابن شيرزاد، فاستخرج منها مائه الف دينار. وللنامى يذكر وقعه سيف الدولة بتوزون: على رماحك نصر الله قد نزلا ... فاسال به يوم تلقاك العدى الاسلا ان ضل سعدا على مسراك مطلعه ... فقد دعته العدى المريخ او زحلا يا ناصر الدين ان الدين في وزر ... وموئل الملك ان الملك قد والا هاتى صنائعك الحسنى أبا حسن ... والت لمن قد بغاك العتر والزللا وسار المتقى لله الى الرقة في حرمه وولده، ووصلها أول يوم من شهر رمضان، وانفذ من هناك بابى زكريا السوسي الى توزون، وقال: قل له: قد اوحشتنى الظنون السيئه من البريديين، وعرفت انك وهم يد واحده، وقد عفا الله عما سلف، فان آثرت رضائى فصالح نصر الدولة وارجع الى الحضره، فان الأمور تستقيم لك برضائي عنك، فقال ابو زكريا: يا امير المؤمنين انى اخافه على نفسي، فقال: إذا قصدت الصلاح كفيت، فقلت له: فان لم يتم الصلح اعود الى وطنى؟ قال: قد أذنت لك، فقبلت يده. فلما جئت الموصل، هم الاتراك بي، وارتاب توزون بوصولى، فقلت: ايها الأمير، قد كنت اسفر بينك وبين ابن رائق، فهل عرفتني الا مستقيما؟ قال: صدقت: فقلت: انا رجل سنى كبير وارى طاعه الخليفة، وخرجت معه احتسابا، لا اطلب الدنيا وقد انفذنى رسولا، وأنتم أولادي، ربيتكم وارى الصلح فاشار عليه ابن شيرزاد بذلك. ووردت الاخبار بمجيء معز الدولة الى واسط، فأحب توزون اتمام الصلح. وحصل لابن شيرزاد مائتا الف دينار. وعقد البلد على ناصر الدولة ثلاث سنين، كل سنه بثلاثة آلاف الف وستمائه الف درهم، ودخل توزون بغداد

وظهر ببغداد لص يعرف بابن حمدي، فكان يعمل للعملات، ورافقه ابن شيرزاد بعد ان خلع عليه، على خمسه عشر الف دينار، فكان يؤدى الروزات بها أولا أولا. وكان ابو يوسف البريدى قد استوحش من أخيه، فقال: قد حصل لأخي ابى عبد الله من واسط ثمانية آلاف الف دينار بذر فيها. فصار في بعض الأيام الى دار ابى عبد الله من واسط، فتلقاه الغلمان وقتلوه. وورد الخبر بان نافعا غلام يوسف بن وجيه صاحب غان، قتل مولاه وملك مكانه. ودخل الروم راس عين، وسبوا من أهلها ثلاثة آلاف انسان. ووضع ابن شيرزاد على سائر مدائن بغداد ضربته، وعم الغلاء، وصار ما كان يساوى في ايام المقتدر رحمه الله دينارا يساوى درهما. وفي جمادى الآخرة، قبض ابو العباس الديلمى، خليفه توزون، على الشرطه ببغداد، على ابن حمدان اللص ووسطه، فخف عن الناس بعض المكاره بقتله. وفي رجب مات ابو القاسم سليمان بن الحسن بن مخلد. وقد قالوا: مريم بنت الحسن بن مخلد أبوها وزير، تقلد الوزارة ثلاث دفعات، وزوجها القاسم بن عبيد الله، وزير المعتضد والمكتفي، وأخوها سليمان بن الحسن ابن مخلد، تقلد الوزارة للمقتدر والراضي والمتقى، وحموها عبيد الله بن سليمان وزير المعتضد، وابنها ابو على الحسن بن القاسم بن عبيد الله وزر للمقتدر بالله. وقد تقدم قول الناس: امراه يحل لها ان نضع قناعها بين يدي اثنى عشر خليفه، كل لها محرم، وهي عاتكه بنت يزيد بن معاويه، أبوها يزيد وجدها معاويه، وأخوها معاويه بن يزيد، وزوجها عبد الملك بن مروان وابو زوجها مروان بن الحكم، وابنها يزيد بن عبد الملك، وبنو زوجها الوليد وسليمان وهشام، وابن ابنها الوليد بن يزيد، وابن زوجها يزيد بن الوليد بن عبد الملك، واخوه ابراهيم بن الوليد الذى خلع. واصعد معز الدولة من واسط، على وعد من البريدى في نصرته فلم يف

وانحدر اليه توزون محاربا فالتقيا في الموضع المعروف بقباب حميد، ودامت الحرب بينهم بضعه عشر يوما وكان توزون يتأخر كل يوم، وكثر القتلى في الجانبين. وعبر توزون نهر ديالى، واستولى على زواريق معز الدولة، فضاقت عليه الميرة، فصار الى جسر النهروان، وعبر اليه توزون في الف عربي وخمسمائة تركي على غفله، وأخذ سواده، وقتل من اصحابه خلقا واسر آخرين، في جملتهم ابن الاطروش المعروف بالداعي العلوي وابو بكر بن قرابه، وكان قد وافى مع الديلم، فصودر على عشرين الف دينار، وشغل توزون عن اتباعهم ما عاود من الصرع. ونجا معز الدولة والصميرى ونفر يسير باسوا حال. ولليلة بقيت من شوال، ورد الخبر بموت ابى طاهر سليمان بن الحسين الهجرى، بالجدري في منزل بهجر، في شهر رمضان وصار الأمر لإخوته. وكان ابن سنبر يعادى المعروف بابى حفص الشريك، واحضر رجلا أصبهانيا، فكشف له دفائن وأسرارا، كان ابو سعيد كشفها لابن سنبر وحده، من غير ان يعلم ابنه أبا طاهر بذلك، وقال الاصبهانى: امض الى ابى طاهر، وعرفه ان أباه كان يدعو إليك وعرفه الاسرار. فلما أتاه وخبره اعتقد صدقه، وقام بين يديه وسلم الأمر اليه، فتمكن وقتل أبا حفص، وكان إذا قال لأبي طاهر: ان فلانا قد مرض، معناه شك في دينهم، فطهره، قتله ابو طاهر ولو كان اخوه فخاف ابو طاهر على نفسه منه، وقال: قد وقع لي في امره شبهه، وليس بالرجل الذى يعرف الضمائر ويحيى الأموات، وقال: ان أمي عليله، وغطاها بازار، فلما جاء إليها الاصبهانى قال: هذه عليله لا تبرا فطهروها،

اى اقتلوها، فجلست الام، فقال له ابو طاهر واخوته: أنت كذاب وقتلوه. وكان له سبعه من الوزراء اكبرهم ابن سنبر. وكان لأبي طاهر اخوان، ابو القاسم سعيد بن الحسن، وابو العباس الفضل ابن الحسن، وكان امرهم واحدا، فكانوا إذا أرادوا حالا خرجوا الى الصحراء، واتفقوا على ما يعملون، فإذا انصرفوا تمموا ما عولوا عليه، وكان لهم أخ متشاغل باللذات، لا يدخل معهم في أمورهم. وفي هذه السنه توفى ابو عبد الله البريدى، بحمى حاده، مكثت به سبعه ايام، وكان بين قتله لأخيه وبين موته ثمانية اشهر. وانتصب ابو الحسين مكان أخيه، فاستطال على اصحابه، فمضى يانس الى ابى القاسم ابن مولات، وأخذ منه ثلاثمائة الف دينار، ففرقها في الديلم حتى عقدوا له الرئاسة، وكبسوا أبا الحسين بمسماران، فخرج من تحت ليلته، وتنكر ومضى الى الجعفرية، ومضى الى الهجرى فقبله، واقام عنده شهرا، وسار معه أخو ابى طاهر ولم يتمكنوا من دخول البلد، فسفروا بين ابى الحسين وبين عمه في الصلح، وسألوه ان يؤمنه، فاختار الإصعاد الى بغداد، وكان من حاله ما ياتى ذكره. واجتمع لشكرستان الديلمى، ويانس، على الإيقاع بابى القاسم، فلما خرج يانس من عند القائد اتبعه بزوبين في الليل، فسلم منه وصار الى خراب فآواه. وكان ابو القاسم معولا على الهرب، حين بلغه ما هما به، واستتر لشكرستان حين علم سلامه يانس. وعولج يانس حتى برئ، وصادره ابو القاسم على مائه الف دينار، وتلقاه الى عمان، فلما صار في الحديدى قتله غلمان ابى القاسم، وتمكن ابو القاسم من الرئاسة. وخرج في هذه السنه، عسكر الروسيه الى اذربيجان، وفتحوا برذعه، وملكوها وسبوا أهلها. فجمع المرزبان بن محمد عسكره، واتته المطوعة، حتى صار في مائتي الف رجل، فلم يقاومهم، وكان أميرهم يركب حمارا

وكمن لهم المرزبان كمينا، وهرب من بين ايديهم، وسال الناس العود، فلم يعد احد معه، لما تمكن لهم في النفوس من الهيبه، فعاد وحده طالبا الشهاده، فاستحى خلق من الديلم وعادوا معه، فقتل أميرهم وسبعمائة منهم، وألجأهم الى حصن. ووقع في الروسيه الوباء حين أكلوا الفاكهة، وكان الواحد منهم إذا مات، كفن بماله وسلاحه، ودفنت زوجته ومعه وغلامه إذا كان يحبه. واخرج المسلمون، لما مضوا من قبورهم اموالا، وحملوا على ظهورهم الأموال والجواهر، واحرقوا ما عدا ذلك، وساقوا النساء والصبيان ومضوا الى سفن لهم. واجتمع خمسه منهم في بستان ببرذعه فيهم امرد، ومعهم نسوه من سبى المسلمين، فاحاط بهم المسلمون، واجتمع قوم من الديلم عليهم، ولم يصل الى واحد منهم حتى قتلوا من المسلمين اعدادا، ولم يتمكن من واحد منهم اسرا، وكان الأمرد آخر من بقي منهم، فقتل نفسه. وظهر للمتقى من بنى حمدان ضجر بمقامه عندهم، فانفذ بالحسن بن هارون وابى عبد الله بن ابى موسى الى توزون في الصلح، فتلقى ذلك باحسن لقاء، وحلف له ولابن مقله بمحضر من الناس.

سنه ثلاث وثلاثين وثلاثمائة

سنه ثلاث وثلاثين وثلاثمائة [أخبار] اتى الإخشيد حلب، فاستولى عليها، وانصرف عنها ابو عبد الله الحسين بن سعيد ابن حمدان الى الرقة، فلم يوصله المتقى، وغلق أبواب البلد دونه، فمضى الى سيف الدولة وهو بحران. واتى الإخشيد الى الرقة فخدم المتقى، ووقف بين يديه، ومشى قدامه حين ركب، فأمره بالركوب فلم يفعل، وحمل اليه اموالا، وحمل الى ابن مقله عشرين الف دينار، ولم يدع كاتبا ولا حاجبا الا بره. واجتهد بالمتقى، ان يسير معه الى مصر والشام فلم يفعل، واشار عليه بالمقام مكانه فلم يقبل. وانحدر المتقى الى هيت، فأقام بها، وانفذ بالقاضى الخرقى، حتى جدد على توزون الايمان والعهود والمواثيق، بعد ان لقب توزون بالمظفر. وخرج توزون الى السندية، فلما وصلها المتقى، ترجل له وقبل الارض بين يديه، ووكل به وبالوزير، وارتجت الدنيا بفعله، ثم سمله. وكان المتقى يتأله ويصلى ويصوم كثيرا، ولم يشرب النبيذ قط، وكان فيه وفاء وقناعه، ولم يتحظ غير جاريته التي كان يتحظاها قبل الخلافه. ولما تمكن، استوزر كاتبه ابن ميمون قديما، ولم يغدر بأحد، وكان بر النفس، حسن الوجه، وهرب وعنده الف الف دينار أخذها من بجكم، ولم يحسن التدبير ولم تنهب دار خليفه قبله. قال ثابت بن سنان: وحدثنى ابو العباس التميمى الرازى- وكان خصيصا بتوزون-

ان ابراهيم الديلمى سألني المصير الى دعوته، وكان ينزل بدار القراريطى، فجئتها وهي مفروشة، فلما جلست قال: اعلم انى خطبت الى قوم وتجملت عندهم، بان ادعيت ان لي منزله من الأمير، فقالت لي المرأة: إذا كنت بهذه المنزله، فانى ادلك على شيء يعمم صلاحه الامه، وينفعك عند الأمير، فقلت ما هو؟ قالت: فان هذا الخليفة المتقى، قد عاداكم وعاديتموه، واجتهد في هلاككم ببني حمدان وبنى بويه، فلم يتم له ما اراد، ولا يجوز ان يصفو لكم، وهاهنا رجل من ولد الخلفاء يرجع الى دين ورجله، فهل لكم ان تنصبوه للخلافة وهو يثير اموالا عظيمه. واطالت الكلام، فهوستنى، فعلمت ان محلى لا يبلغ الى مثل ذلك، وكرهت انى اكذب نفسي في ادعاء المنزله التي ذكرتها، فاطمعتها في ذلك بك، وقد اطلعتك عليه، فقلت: اريد ان اسمع كلام المرأة، فجاءني بامرأة تتكلم بالعربية والفارسيه، من اهل شيراز، جزله شهمه قهمه، فخاطبتني بنحو ما خاطبني به الرجل فقلت لها: اريد ان القى الرجل، فاتتنى به في خف وإزار، من دار ابن طاهر، وعرفني انه عبد الله بن المكتفي بالله. فرايت رجلا حصيفا، ورايته يميل الى التشيع، ورايته عارفا بأمر الدنيا، وضمن ستمائه الف دينار يستخرجها ويمشى بها الأمر، ومائتي الف دينار للأمير توزون، وقال: انا رجل فقير، واعرف هذه الأموال عند اقوام عندهم ذخائر الخلافه. فصرت الى توزون، ولقيت أبا عمران موسى بن سليمان، فاطلعته على الحال، فقال: انى لا ادخل في هذه الأمور، فلما آيسنى حلفته على الكتمان، واستحلفت توزون على الكتمان بالمصحف، واخبرته، فطلب الرجل ان يبصره، فقلت: بشرط ان تكتم الحال من ابن شيرزاد. واتى توزون معى الى دار موسى بن سليمان، فلقيه هناك وخاطبه وبايعه. فلما وصل المتقى لله الى السندية ولقيه توزون، قلت له: ان كنت عزمت على

خلافه المستكفى بالله

اتمام ذلك الأمر فافعله الان، فانه ان دخل بغداد، تعذر عليك الأمر، فوكل به. وكانت المرأة التي سفرت للمستكفى المعروفه بعلم الشيرازيه، حماه ابى احمد الفضل الشيرازى، وصارت قهرمانه المستكفى، واستولت على الأمور. وكان سمل المتقى وخلعه في صفر. خلافه المستكفى بالله ابى القاسم عبيد الله بن المكتفي بالله بن المعتضد بالله، أمه رومية اسمها غصن، ولى الخلافه، وسنه يومئذ احدى واربعون سنه وسبعه ايام، وكان في سن المنصور يوم ولى، وكانت خلافته سنه واربعه اشهر. فقلد أبا الفرج محمد بن على السرمزراى الوزارة، ولم يكن اليه غير اسم الوزارة، وابو جعفر بن شيرزاد الناظر في الأمور. وخلع على توزون، وطوقه وسوره، ووضع على راسه التاج المرصع بجواهر، وجلس بين يدي المستكفى بالله على كرسي. وفي شهر ربيع الاول، تقلد القاضى ابو عبد الله محمد بن عيسى المعروف بابن ابى موسى الضرير القضاء بالجانب الشرقى من بغداد، وتقلد ابو الحسن محمد ابن الحسن بن ابى الشوارب القضاء في الجانب الغربي منها. وطلب المستكفى بالله الفضل بن المقتدر طلبا شديدا، فاستتر منه، فامر بهدم داره التي على دجلة، بدار ابن طاهر، فهدمت، فلم يبق منها غير المسناه وما زال في ايام المستكفى مستترا، فلما هدم داره، قال على بن عيسى: اليوم بايع له بولاية العهد. وقد ذكرنا حال ابى عيسى البريدى وهربه من ابى القاسم ابن أخيه، فورد الحضره بعد ما امنه ابو القاسم، واختار الإصعاد إليها، فوصلها في شهر ربيع الاول، ولقى توزون، ونزل دار طازاد، التي كانت بقصر فرج على دجلة، وسعى في ضمان

البصره إذا سير معه توزون جيشا، واوصله توزون الى المستكفى، فخلع عليه خلعا سلطانيه، وسار الجيش معه الى داره. فبلغ ذلك ابن أخيه، فانفذ اليه توزون مالا اقره به على عمله. وبلغ ابن شيرزاد ان أبا الحسين يخطب كتابه توزون، فتوصل الى القبض عليه، وضرب بدار صافى مولى توزون ضربا مبرحا، وقرض لحم فخذيه بالمقاريض، وانتزعت اظافره. وكان ابو عبد الله بن ابى موسى، أخذ ايام ناصر الدولة فتوى الفقهاء بإحلال دم ابى الحسين، فاظهرها في هذا الوقت. فلما كان في آخر ذي الحجه جلس المستكفى، واحضر القضاه والفقهاء، واحضر البريدى، وبسط النطع وجرد السيف، وحضر ابو عبد الله بن ابى موسى يقرا ما افتى به واحد واحد، من اباحه دمه على رءوس الاشهاد، وابو الحسين يسمع ذلك وراسه مشدود الى جثته، فامر المستكفى بضرب عنقه من غير ان يحتج لنفسه بحجه. وأخذ راسه وطيف به في بغداد، ورد الى دار السلطان، وصلبت جثته على باب الخاصة على دجلة، في الموضع الذى كان حديديه مشدودا فيه، فكان هذا خاتمه امور الثلاثة، وعقبى ما ارتكبوه من الظلم واهله، ومن البلاء كله. ومضى سيف الدولة الى حلب، بعد انصراف ابى بكر محمد بن طغج الإخشيد، وبها يانس، فتركها ومضى الى الإخشيد، وتسلم سيف الدولة حلب. وفي شهر ربيع الاول، كان لسيف الدولة وقعه مع الروم، رزق الظفر فيها. واطلق توزون أبا الحسين بن مقله، بعد ان صادره على ثلاثين الف دينار. ثم قبض على ابى الفرج السرمزراى، وصادره على ثلاثمائه الف درهم، فكان وقوع اسم الوزارة عليه اثنين واربعين يوما

وخرج القاهر الى جامع المنصور، ملتفا في قطن يتصدق، ورآه ابن ابى موسى، فمنعه بالرفق واعطاه خمسمائة درهم، وقصد القاهر بذلك التشنيع. وانفذت الى ابى القاسم البريدى الخلع، وذلك في جمادى الآخرة. وعزم المستكفى على الخروج مع توزون، حين اخر ناصر الدولة المال، فسفر ابو القاسم بن مكرم، كاتب ناصر الدولة في الصلح، وحمل مالا تقرر. وأخذ ابن شيرزاد خطوط الناس بمال الضمان، فدخل اليه ابو القاسم عيسى ابن على بن عيسى فقال: اكتب عن والدك بألف دينار، فكتب ومضى الى ابيه، فادى خمسمائة، وركب الى ابن شيرزاد، فخرج اليه ابو زكريا السوسي وطازاد معتذرين، فقال على بن عيسى: انى اريد ان القاه ولا اخاطبه في البقية، فمضى وعاد اليه، وقالا انه يستحيى من لقائك، فانصرف على بن عيسى كئيبا من المذلة اكثر من كابته بالعزم. وكان هو الذى اصطنع ابن شيرزاد. وخرج تكين الشيرزادى صاحب توزون الى جزيرة بنى غبر، وعاد الى جسر سابور، وامر اصحابه بالتقدم الى واسط، واجلس في بستان يشرب، فاحاط به عسكر البريدى فأسروه وحملوه الى البصره. وفي رجب دخل ابو جعفر الصيمرى واسطا. ودخلها معز الدولة ولما علم انحدار توزون اليه مع المستكفى بالله، انصرف عنها. وراسل توزون البريدى، فاطلق تكينا وضمنه واسطا. واصعد المستكفى وتوزون الى بغداد. وورد كتاب نوح صاحب خراسان بفتحه جرجان وطبرستان، وكان بها الحسن ابن الفيروزان الديلمى، وملك الري. وانصرف ركن الدولة الى أصبهان ونزل نوح بنيسابور. وورد الخبر بانهزام سيف الدولة من الإخشيد، واتباعهم له الى الرقة، وذلك بعد ان أخذ منهم حلب وملك دمشق، واسر منهم الفى رجل، ثم انصرف عنه اصحابه فكانت هزيمته.

سنه اربع وثلاثين وثلاثمائة

سنه اربع وثلاثين وثلاثمائة [أخبار] في المحرم خرج ابن شيرزاد الى هيت، فصالحه ابو المرجى عمرو بن كلثوم مقدمها على ثمانمائه الف وخمسين الف درهم، يسقطها على اهل البلد، واقام لأخذها. فورد عليه الخبر بوفاه توزون في ثانى عشر المحرم، وانه دفن بتربه يانس الموفقى. وكانت اماره ابى الوفاء توزون سنتين واربعه اشهر وسبعه وعشرين يوما، كتب له ابن شيرزاد سنتين وشهرا، فعقد العسكر الإمارة لابن شيرزاد. وانحدر عن هيت، وخلف بها غلامه إقبالا، فقبلوه، وحلف له المستكفى بحضره القضاه والعدول والعسكر، وانفذ ابن ابى موسى الى ناصر الدولة، فعاد من عنده بخمسمائة الف درهم ودقيق، فلم يكن لها موقع، لغلاء السعر وانتشار الأمر. وقسط ابن شيرزاد على الكتاب والعمال والتجار ارزاق الجند، وكان في البلد ساعيان، يعرفان بهاروت وماروت، يسعيان اليه بمن عنده قوت لعياله فيأخذه، فصار البلد محاصرا بهذا الفعل وبالضرائب التي قررها، وانقطع الجلب. وكان من جمله من صادر ابو بكر محمد بن الحسن بن عبد العزيز الهاشمى، أخذ منه عشره آلاف دينار. وقبض المستكفى على القاضى ابن ابى الشوارب، ونفاه الى سر من راى، وقسم اعماله، فولى الشرقيه أبا طاهر محمد بن احمد بن نصر، وولى المدينة أبا السائب عتبة بن عبيد. وكان الى ابى عبد الله بن ابى موسى الهاشمى القضاء بالجانب الشرقى، فدخل عليه اللصوص في شهر ربيع الآخر فأخذوا أمواله وقتلوه، فولى ابو السائب مكانه. وورد الخبر بوقوع الصلح بين سيف الدولة والإخشيد، وسلم اليه سيف الدولة حلب وأنطاكية، فتزوج ابنه أخيه عبيد الله بن طغج، وتوسط ذلك الحسن بن طاهر العلوي، فقال النامي يمدح سيف الدولة:

فتى قسم الأيام بين سيوفه ... وبين طريفات المكارم والتلد فسود يوما بالعجاج وبالقنا ... وبيض يوما بالفضائل والمجد سرى ابن طغج في ثلاثين جحفلا ... واحجامه في الزحف عن فارس فرد وكانت لسيف الدولة العزم عاده ... إذا كر القى البيض حدا على حد أيا سائلي عن يومه اسمع فانه ... حديث المعالى قصه قصص الجهد وقالت لها الهيجاء في صدر سيفه ... وقد نهدت من صدر غير الشرى نهد كأنك من ضغن ودرعك من تقى ... وطرفك من راى وسيفك من حقد فاظماتهم والماء معترض لهم ... واسقيتهم ماء على قصب الهند الم تر فرعونا وموسى تنازعا ... فغودرت العقبى لذى الحق لا الحشد فغرقه في البحر فاجعل فويقها ... لتغريقه كالبحر وامدده بالمد فلو جئت ثمدا ناصبا ورفدته ... بجودك فاض البحر من ذلك الثمد وورد الخبر بموت ابى عبد الله الكوفى بحلب، وقد تقدمت اخباره. وورد الخبر بوصول الأمير ابى الحسن معز الدولة الى باجسرى وكان ابن شيرزاد قد استخلف بواسط ينال كوشا، فدخل في طاعته، فاستتر ابن شيرزاد حينئذ، فكانت امارته ثلاثة اشهر وخمسه ايام. واستتر المستكفى، حتى خرج الاتراك مصعدين الى الموصل، فظهر حينئذ وأتاه ابو محمد المهلبى فخدمه عن معز الدولة، في حادي عشر جمادى الاولى ونزل بالشماسيه، وانفذ اليه المستكفى هدايا، ووصل اليه بعد ثلاثة ايام، فخلع عليه وطوقه، وعقد له اللواء، وقلده الإمارة ووقف بين يدي الخليفة، وأخذت عليه البيعه، وحلف له بايمان البيعه، على ان يصون أبا احمد الشيرازردى وحماته علم القهرمانه، والقاضى أبا السائب، وولد ابن موسى، وأبا العباس بن خاقان الحاجب. ثم استخلف المستكفى، الأمير أبا الحسين واخوته، ثم ساله في امر ابن شيرزاد،

فآمنه وحلف له، ولبس الخلع ولقب معز الدولة، وكنى ولقب اخوه ابو الحسن على عماد الدولة، ولقب اخوه ابو على ركن الدولة، وضربت القابهم على الدنانير، وانصرف الى دار مؤنس فنزلها. ومن جمله دار مؤنس المدرسه النظامية اليوم وظهر ابن شيرزاد ولقى معز الدولة. وقرر المستكفى في كل يوم خمسين الف درهم لنفقته. وكتب ابو عبد الله الحسين بن على بن مقله، الى معز الدولة رقعه يخطب فيها كتابته، وكان قد ولاها ابن شيرزاد، فلم يؤثره عليه، وقبض على ابى عبد الله. وعملت علم القهرمانه دعوه عظيمه احضرتها الديلم، فقيل لمعز الدولة: انها فعلت ذلك لتاخذ البيعه عليهم للمستكفى، وعرفوه انها هي السبب في ولايته، فساء ظنه وانحدر الى دار الخلافه، كما جرت عادته، وانحدر معه الصيمرى وابن شيرزاد، ووقفا في مراتبهم، وكان ابو احمد الشيرازى وولد ابن ابى موسى واقفين، ودخل معز الدولة فقبل الارض، وجلس على كرسي، فاوصل رسول البريدى. وتقدم نفسان الى المستكفى، فظن انهما يريدان تقبيل يده، فمدها، فجذباه وطرحاه الى الارض، وحملاه الى دار معز الدولة ماشيا، وقبضوا على ابن ابى موسى وعلى علم، ونهبت الدار. قال ابن البهلول: كنا إذا كلمنا المستكفى، وجدنا كلامه كلام العيارين، وكان جلدا بعيد الغور والحيله، وكان يلعب قبل الخلافه بالطيور ويرمى بالبندق، ويخرج الى البساتين للفرجه واللعب، وكان لا ينفق عليه من الجوارى غير السودان، ولا يعاشر غير الرجال. وعزم معز الدولة على ان يبايع أبا الحسن محمد بن يحيى الزيدي العلوي، فمنعه الصيمرى من ذاك، وقال: إذا بايعته استنفر عليك اهل خراسان وعوام البلدان، وأطاعه الديلم، ورفضوك وقبلوا امره فيك، وبنو العباس قوم منصورون،

خلافه المطيع لله ابى القاسم الفضل بن المقتدر

تعتل دولتهم مره وتصح مرارا، وتمرض تاره وتستقل أطوارا، لان أصلها ثابت وبنيانها راسخ. فعدل معز الدولة عن تعويله، واحدر أبا القاسم الفضل بن المقتدر بالله من دار ابن طاهر الى دار الخلافه. خلافه المطيع لله ابى القاسم الفضل بن المقتدر كانت تسعه وعشرين سنه واربعه اشهر. بويع له يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الآخرة، أمه تدعى مشغله، وتوفيت في مستهل ذي الحجه سنه خمس واربعين وثلاثمائة، بايعه معز الدولة، واحدر المستكفى اليه، فسلم عليه بالخلافة، واشهد على نفسه بالخلع، وسمل واعتقل عنده. وقام ابن شيرزاد بتدبير الأمر، واستكتب على خاص امره أبا الحسن طازاذ بن عيسى النصراني، واستحجب أبا العباس بن خاقان. وأنشأ ابو العباس بن ثوابه يذكر بيعته كتابا الى الافاق. واقام معز الدولة لنفقته في كل يوم الفى درهم. وركب ومعز الدولة بين يديه والجيش وراءه، الى باب الشماسيه، وعاد في المساء الى دار الخلافه، وصرف ابن نصر عن القضاء بالجانب الغربي، واعاد ابن ابى الشوارب. وصادر ابن شيرزاد ابن ابى موسى وعلم القهرمانه، على اربعين الف دينار، وقطع لسانها وسلمها الى المطيع لله، ولم يعارض أبا احمد الشيرزاى لقديم مودته. ولما استولى ابن شيرزاد على الأمور، قال ابو الفرج بن ابى هشام: باى شيء نفق عليك؟ وما يصلح لكتابه الإنشاء ولا لجباية الخراج، وانما تتولى ديوان النفقات،

وكتب لابن الخال تاره وقد سالك المستكفى عزله بعد ان سالك فيه فلم تجب، فقال: لما رايت عظيم لحيته، قلت: لان يكون هذا قطانا اولى من ان يكون كاتبا، ولكن رايته قد ملك بغداد، واستولى على الخلافه، وصار لي نظيرا، فاردت ان احطه من منزله بعد اخرى، حتى اجعله كاتبا لأحد قوادي. وورد ناصر الدولة والاتراك معه الى سر من راى. ووافى ابو العطاف بن عبد الله بن حمدان، أخو ناصر الدولة، ونزل باب قطربل وظهر له ابن شيرزاد وجماعه من العجم. وكان معز الدولة قد اصعد ومعه المطيع الى ناصر الدولة، فتركهم ناصر الدولة وانحدر في الجانب الشرقى، ونزل مقابل قطربل، فنهب الديلم تكريت وسر من راى. وانحدروا ومعهم المطيع لله الى بغداد، ومع ناصر الدولة الاتراك، وقد جعلهم على مقدمته مع ابى عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان، وكان يخطب في اعماله للمستكفى وهو مخلوع. ونزل معز الدولة في قطيعه أم جعفر، وانزل المطيع لله في دير النصارى. وقد استولى ناصر الدولة على السفن، وجعلها بالجانب الشرقى، فلحق الناس بالجانب الغربي مجاعه شديده، وكانت الأسعار بالشرقي رخيصه، والقرامطة من اصحاب ناصر الدولة يعبرون ويجولون بين الديلم وبين الغلات. فابتاع وكيل معز الدولة له كر دقيق بعد الجهد بعشرين الف درهم. وكان ابن شيرزاد، قد اثبت خلقا من العيارين ليحاربوا مع ناصر الدولة، وظفر بكافور خادم معز الدولة فشهره، فظفر معز الدولة بابى الحسين بن شيرزاد فصلبه حيا، فاطلق ابو جعفر الخادم فحط معز الدولة أخاه. وكان جعفر بن ورقاء يقول لمعز الدولة: لقد سمعت ان رجلا يعد بألف رجل فلم اصدق، حتى رايت ناصر الدولة، وقد عبر بصافى التوزونى لكبس معز الدولة، فانفذ اليه بي وبابى جعفر الصيمرى وباسفهدرست، فرايت اسفهدرست وقد هزمهم

وبنى معز الدولة في الحدق نيفا وخمسين زبزبا، وعبر فيها، فانهزم ناصر الدولة، وملك الديلم الجانب الشرقى سلخ ذي الحجه سحر يوم السبت، وطرحوا النار في المخرم، ونهبوا باب الطاق وسوق يحيى، وهرب الناس لما اودعوه قلوب الديلم من السب، فخرجوا حفاه في الحر، وطلبوا عكبرا فماتوا في الطريق. قال بعضهم: رايت امراه تقول: انا بنت ابن قرابه، ومعى حلى وجواهر تزيد على الف دينار، فمن يأخذها ويسقيني شربه ماء؟ فما أجابها احد، وماتت وما فتشها احد، لشغل كل انسان بنفسه. وامر معز الدولة برفع السيف والكف من النهب، ولما وصل ناصر الدولة الى عكبرا، ومعه الاتراك وابن شيرزاد، انفذ بابى بكر ابن قرابه، وطلب الصلح فتم ذلك. وعرف الاتراك الحال، فهموا بالوثوب بناصر الدولة، فهرب الى الموصل. وقصد عيار خيمه ناصر الدولة بباب الشماسيه ليلا، فطفا الشمعه، واراد ان يضع السكين في حلقه وهو نائم، فوضعها في المخدة وظن انه قتله ومضى الى معز الدولة، فاخبره فقال: هذا لا يؤمن، ودفعه الى الصيمرى وقتله. واكل الناس في يوم الغلاء النوى والميته، وكان يؤخذ البزر قطونا ويضرب بالماء ويبسط على طابق حديد، ويوقد تحته النار ويوكل، فمات الناس باكله، وكان الواحد يصيح: الجوع! ويموت، ووجدت امراه قد شوت صبيا حيا فقتلت. وانحل السعر عند دخول الغلات. ونظر الصيمرى فيما كان ينظر فيه ابن شيرزاد، فاستخلف له أبا عبد الله بن مقله، فقبض على ابى زكريا السوسي، والحسن بن هارون فشتمهما، فقال الصيمرى: لم يكن غرضك غير التشفى منهما. واطلق معز الدولة أبا زكريا السوسي، ولم يلزمه بشيء، والزم الحسن بن هارون خمسين الف دينار، وعزل ابن مقله، وانفرد الصيمرى بالأمر، واقطع اصحابه ضياع السلطان وضياع ابن شيرزاد وضياع المستترين. وفي شعبان انبثق في البحر بثق الخالص والنهروان

وفي ذي الحجه مات الإخشيد ابو بكر بن طغج بدمشق، وتقلد مكانه ابنه ابو القاسم. وغلب كافور على الأمر وكان ابن طغج جبانا شديد التيقظ في حروبه، وكان جيشه يحتوى على أربعمائة رجل، وكان له خمسه آلاف مملوك يحرسونه بالليل بالنوبه، كل نوبه ألفا مملوك، ويوكل بجانب خيمته الخدم، ثم لا يثق بعد ذلك فيمضى الى خيم الفراشين فينام. قال التنوخي: لقب الراضي أبا بكر محمد بن طغج امير مصر بالاخشيد، وسبب ذلك انه فرغانى، وكل ملك بفرغانه يدعى اخشيد، كما تدعو الروم ملكها بقيصر، والفرس بكسرى، وشاها بشاه، والمسلمون بامير المؤمنين، وملك اشروسنه صول، وملك اذربيجان اصبهبذ، وملك طبرستان يدعى سالان. وابو بكر بن الإخشيد على مذهب الجبائي، كان جده يدعى بحضره المعتضد الإخشيد، ولقب على ابنه بذلك، وهو من اولاد الملوك بفرغانه.

سنه خمس وثلاثين وثلاثمائة

سنه خمس وثلاثين وثلاثمائة توفى هذه السنه على بن عيسى بن داود بن الجراح، وزير المقتدر بالله رحمهما الله، وهو من دورقنى. قال ابو سهل بن زياد القطان: كنت معه لما نفى الى مكة، فدخلناها في حر شديد، وقد كاد يتلف، فطاف وسعى، وجاء فالقى نفسه، وهو كالميت من الحر والتعب، تلق قلقا شديدا، وقال: اشتهى على الله شربه ماء مثلوج، فقلت: سيدنا ايده الله، يعلم ان هذا مما لا يوجد بهذا المكان، فقال: هو كما قلت، ولكن نفسي ضاقت عن ستر هذا القول فاسترحت الى المنى. قال: وخرجت من عنده، فرجعت الى المسجد الحرام، فما استقررت فيه حتى نشأت سحابه وكثفت ورعدت رعدا شديدا متصلا، ثم جاء مطر شديد وبرد كثير، فبادرت الى الغلمان، وقلت: اجمعوا، فجمعنا شيئا كثيرا وملانا منه جرارا. فلما كان وقت المغرب وقد حان إفطاره، جئته بذلك، وقلت: أنت مقبل والنكبه ستزول، ومن علامات الاقبال انك طلبت ماء ثلج وهذا ما طلبته. فاخذ يسقى كل من في المسجد من المجاورين والصوفية السويق بالسكر والبلح، ولم يشرب حتى مضى قطعه من الليل وقد شربوا اجمع، فقال: الحمد لله، ليتنى كنت تمنيت المغفره، بدلا من الثلج، فلعلى كنت أجاب. ولم أزل به حتى شرب، ومدحه بعض الشعراء فقال فيه: بحسبك انى لا ارى لك عائبا ... سوى حاسد والحاسدون كثير وانك مثل الغيث اما سحابه ... فمزن واما ماؤه فطهور قال ابن كامل القاضى: سمعت على بن عيسى يقول: كسبت سبعمائة الف دينار، اخرجت منها في وجوه البر ستمائه وثمانين ألفا. وحكى هلال بن المحسن، قال: قال ابو على بن محفوظ: لما ورد معز الدولة وابو جعفر الصيمرى معه الى بغداد، اراد ابو الحسن على بن عيسى الركوب اليه،

وقضاء حقه، فاتفق انه نزل الى داره ليجلس في سميريه، وابو جعفر مجتاز في طيارة، وانا وأخي وابو الحسن طازاذ بن عيسى معه، فقال لنا: من هذا؟ فقلنا: الوزير ابو الحسن على بن عيسى، فقال لأبي الحسن طازاذ: قدم بنا اليه فاساله ان ينزل معنا في الطيار، فقربنا منه وسلمنا عليه، فقال له ابو الحسن طازاد: الى اين توجه سيدنا؟ فقال: اشار فتياننا بلقاء الأمير الوارد، وقضاء حقه، فعملت على ذلك، فقال له: فينتقل سيدنا الى الطيار فانه اولى، فامتنع ولم يزل يراجعه، وكان معه ابنه ابو نصر، فخاطبه حتى فعل وسهل عليه ذلك، ونزل، فقام له ابو جعفر الصيمرى عن موضعه، وقد وصانا الا نعرفه اياه وكان ابو نصر عرفه، واراد ان يشعر أباه، فلم يدعه طاعه لأبي جعفر وسرنا مصعدين، ووصلنا الى معسكر معز الدولة بباب الشماسيه، وقدم الطيار الى المشرعه، فقال ابو جعفر لأبي الحسن: تجلس يا سيدنا بمكانك، حتى اصعد الى الأمير واعرفه خبرك، واوذنه بحضورك، فقال له: لك- اطال الله بقاءك- عند الأمير اثره وبه انسه؟ قال: نعم، وصعد، فلما صعد قال ابو نصر لأبيه: هذا الأستاذ ابو جعفر الصيمرى، فارتاع وقال له: الا أعلمتني ذلك لاوفى للرجل حقه! قال: منعني أصحابنا، واقبل على طازاذ فقال له: لا احسن الله جزاءك، كذا يفعل الناس، فقال: والله يا سيدنا ما فعلت ما فعلته، الا لان الأستاذ أمرني به، ولم تمكنى المخالفه لَهُ، فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! ووجم وجوما شديدا، ثم قال: من هذان أعزهما الله! واشار الى والى أخي، فقال طازاذ أبناء محفوظ، فاستثبته، وقال: الذى كان يصحب جعفر بن الفرات؟ قال نعم، فقال: قد كان جعفر من العمال الظلمه. ولما صعد الصيمرى الى معز الدولة، وجده على شراب، فلم يقل له شيئا، وعاد الى على بن عيسى، فنهض له واعظمه، وقال له: قد جنى على أصحابنا في كتمانى موضع الأستاذ، حتى كان من تقصيري في قضاء حقه ما لم اعتمده، وانا اعتذر اليه ادام الله عزه من ذلك، فقال: فعل الله بك يا سيدنا وصنع، واى تقصير جرى؟ فالتفت الى طازاذ فقال: الم اوصك بترك اعلامه امرى! فقال ابو نصر ولده: اعلمه، وقد حصلت بين العتب ايها الأستاذ منك ومنه، وقال له ابو جعفر: الأمير

على حال لا يجوز لقاء مثلك عليها، وهو يعتذر من تأخر الاجتماع باعتراض ما اعترض منها، وإذا تكلف سيدنا العود في غداه غد، لقيه ووفاه من الحق ما يجب ان يوفيه اياه، والطيار يباكر بابه وانصرف ابو الحسن. وعاد ابو جعفر الى معز الدولة، فقال له: وافى على بن عيسى للقائك وخدمتك، فاعتذرت اليه عنك بانك على نبيذ، ولم يجز ان يراك عليه، فقال: من؟ على بن عيسى فقال: وزير المقتدر بالله، قال: ذلك العظيم! قال: نعم، قال: ما وجب ان ترده، فانى كنت اقوم الى مجلس آخر والقاه فيه، فقال: ما كان يحسن ان يشم منك رائحه شراب، وفي غد يباكرك، فقال معز الدولة: فكيف اعامله؟ وما الذى اقول له؟ فقال له الصيمرى: تنزعج له بعض الانزعاج، وترفع مجلسه، وتعطيه مخده من مخادك وتقول له: ما زلت مشتاقا الى لقائك، ومتشوقا للاجتماع معك، واريد ان تشير على في تدبير الأمور، وعماره البلاد بما يكون الصواب فيه عندك. وجاء ابو الحسن على بن عيسى من غد، ودخل معز الدولة، فوفاه من الإجلال والاكرام اكثر مما وافقه عليه ابو جعفر، واعطاه مخده من دسته، فقبلها ابو الحسن وقال له ما يقال لمثله، فقال له معز الدولة: كنا نسمع بك، فيعظم عندنا امرك، ويكثر في نفوسنا ذكرك، وقد شاهدت منك الان ما كنت مؤثرا واليه متطلعا، والدنيا خراب، والأمور على ما تراه من الانتشار، فأشر على بما عندك في اصلاح ذلك. فقال له ابو الحسن: هذه النيه منك ايها الأمير داعيه الى الخير، ومسهله للنجح، وطريق العمارة ودرور المادة، واستقامه امر الجند والرعية والعدل، والذى اهلك الدنيا، واذهب الأموال، واخرج الممالك عن يد السلطان خلافه، وانما يتأتى الصلاح وتطرد الأغراض بالولاة الموفقين، والأعوان الناصحين. وحدثنا عمر بن شبه قال: حدثنا فلان-[وذكر الاسناد عن النبي ص- انه قال: إذا اراد الله بوال خيرا قيض له وزير صدق، ان غفل اذكره، وان رقد أيقظه،] وقد وفق الله للأمير من هذا الأستاذ، - واشار لأبي جعفر- من تمت فيه اسباب الكفاية، وبانت فيه شواهد المخالصة، ويوشك ان يجرى الخير على يده ويتأتى المراد بحسن تدبيره

فتراجع ابو جعفر عن موضعه، وتوقف عن تفسير هذا القول لمعز الدولة، وفطن معز الدولة ان توقفه لامر كره ذكره، فقال لأبي سهل العارض: انظر ما يقول، ففسر له تفسيرا لم يفهم عنه، ولا استوفى القول فيه، وتلجلج في ذكر رجال الحديث حتى استفهم معز الدولة اسماءهم، وقال: هؤلاء أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال ابو الحسن: لا، هؤلاء رجال نقلوا لنا الحديث عنه. ثم عاد ابو جعفر الى الترجمه بينهما، وقال ابو الحسن: ومن اولى ما نظر فيه الأمير وقدمه، سد هذه البثوق التي هي اصل الفساد وخراب السواد، فقال: وقد نذرت لله عند حضورى في هذه الحضره، الا اقدم شيئا على ذلك، ولو انفقت فيه جميع ما املك، قال: اذن يحسن الله عونك، ويذلل لك كل صعب، ويسهل كل مراد بين يديك. فلما انقضى القول بينهما في ذاك، قال معز الدولة، اذكر حوائجك، لأتقدم فيها بما اقضى به حقك، قال: الحاجة الحاضره هي الى الله تعالى في ان يطيل بقاءك ويديم علاك، ومتى عرضت من بعد حاجه إليك، كان المعول فيها عليك، قال: لا بد من ان تذكر شيئا، قال: حراسه منازلي، فإنها تشتمل على عدد كثير من بنين وبنات وعجائز واهل واقارب واتباع واصحاب، قال: هذا اقل ما افعله. ونهض ابو الحسن، وشيعه ابو جعفر ومشى الغلمان بين يديه. وتوفى ابو الحسن بعد عبور معز الدولة، وهزيمته ناصر الدولة بيوم، فمضى ابو عمران موسى بن قتادة، وكان معه مائتا رجل من الديلم، فنزل داره، وركب الصيمرى إليها، وقد فرغ من تجهيزه، ووضع في تابوته فصلى عليه، وقال لموسى: اخرج من هذه الدار، فما يجوز نزولك فيها، فقال: لا اخرج، فقال: لا لا امكنك منها، فقال: لا اقبل منك، قال: إذا لم تقبل اكرهتك، وتنابذا بالقول تنابذا تولدت منه فتنه، واجتمع الى موسى اصحابه، والى ابى جعفر آخرون. وعرف معز الدولة ذاك، فبادر لإطفاء النائرة، وقال للصيمرى: ليس هذا وقت ذاك، قال: بلى ايها الأمير، هذا وقته، ومتى افتتحنا امرنا بسقوط هيبتنا استمر ذلك وبعد تلافيه، وازداد الأمر من بعد وهنا، والطمع استحكاما

فاخذ معز الدولة بيد موسى بن قتادة فاخرجه معه، وقال له: يكون نزولك في الدار التي أنزلها، ولا تفتتح امرا بما يقبح من انزعاج اولاد هذا الشيخ المشهور ذكره في الدنيا وعياله عن منازلهم وأوطانهم. وبقيت دور ابى الحسن على ولده ودور ابن أخيه ابى على بن عبد الرحمن عليه في حياته بفعل ابى جعفر ما فعله. وكان على بن عيسى لا يخل بالجمع، ولما حبس كان يلبس ثيابه ويتوضأ ويقوم ليخرج، فيرده الموكلون فيرفع يديه الى السماء ويقول: اللهم اشهد وكان لا يفارق الدراعه ولا يترك الوقار في خلواته. وحكى ابنه ابو القاسم: انه كان يرتفع لأبيه من ضياعه في كل سنه عند الاعتزال والعطله بعد ما ينصرف في نفقاته، وما كان يصرفه الى بنى هاشم، واولاد المهاجرين والانصار، فان رسومهم عليه، كانت نيفا واربعين الف دينار، فكان الحاصل بعد هذا كله، وهو يلزم منزله، ثلاثين الف دينار. وكان حاصل ابن الفرات من ضياعه إذا تعطل الف الف دينار، وإذا وزر اضعفت. وفي هذه السنه تمت اماره معز الدولة ابى الحسين، فكانت امارته ببغداد احدى وعشرين سنه واحد عشر شهرا ويومين، وذلك لما بعد ناصر الدولة والاتراك وابن شيرزاد الى الموصل، واستخلف المطيع لله، ومضى الى دار الخلافه، وتقلد ابو احمد الشيرازى كتابته. وتسلم الخليفة من معز الدولة اقطاعا بمائتي الف دينار. وكان ابو الحسين على بن محمد بن مقله يواصل معز الدولة في ايام الحصار بالهدايا والاخبار، فلما عبر الى الجانب الشرقى حمى داره بها، واستخدمه، فاخذ في المصادرات للتجار والشهود فصادف احد العامه معز الدولة منصرفا منفردا نصف النهار، فعرفه ما الناس فيه من الجزف، فتقدم بصرف ابن مقله. واحترقت دور ابن شيرزاد، ودور أسبابه وأخيه، وصودر على مائه وثمانين الف الف درهم. وقلد معز الدولة الشرطه أبا العباس بن خاقان

وورد الخبر باستيلاء ركن الدولة ابى على على الري والجبل. واجتمع راى الاتراك على الإيقاع بناصر الدولة، فاستجار بام ملهم حتى امرت ولدها بتسييره، فسار ومعه ابن شيرزاد الى مرج جهينة، فلما امن سمل ابن شيرزاد. وامرت الاتراك على نفوسها تكين الشيرزاذى، وانفرد عنهم ينال كوساه ولؤلؤ، واستامنا الى معز الدولة. وغلب تكين والاتراك على الموصل، ومضى الى سنجار، وراى ناصر الدولة، فانجد معز الدولة باسفهدوست والصيمرى، والتقيا بتكين بالحديثه في جمادى الآخرة واستؤسر تكين، وانهزم اصحابه، وسار الصيمرى مع ناصر الدولة الى الموصل، ودخل على الصيمرى خيمته ولم يعد اليه، قال: لما دخلتها عليه علمت انى قد أخطأت فبادرت بالانصراف وندم الصيمرى عند خروج ناصر الدولة على ترك القبض عليه. وسلم الى الصيمرى ابن شيرزاد. وضمن له طازاذ وابو سعيد بن وهب النصراني الكاتب- وهو الكاتب الذى مدحه ابن نباته- خمسين الف دينار على ان يطلقهما فلم يفعل، وسلمهما الى الصيمرى، وكان الصيمرى مراعيا لطازاذ، وانفذ معهم تكين الشيرزادى مسمولا، وانفذ ابنه هبه الله بن ناصر الدولة رهينه. فلما وصلوا اطلق معز الدولة تكينا، واقطعه اقطاعا بأربعين الف درهم. وكتب ابو عبد الله بن ثوابه عن المطيع لله كتابا بالفتح الى عماد الدولة منه. فلم يسفر العجاج الا عن قتيل مرسل، او غريق معجل، او جريح معطل، او اسير مكبل، او مستأمن محصل، او حقيبه ملاها الله بلا تعب، او غنيمه أفاءها الله بلا نصب. وكان مع ناصر الدولة قائد يقال له ابراهيم بن احمد، واخوه صاحب خراسان، فقتل ابن أخيه نوح بن نصر بن احمد بعض اقارب ابى على بن محتاج، فكاتبه ابو على بن محتاج، واستعانه على محاربه ابن أخيه. ففارق ناصر الدولة بتكريت في سبعين غلاما، فانفذ اليه ناصر الدولة خلع الخليفة ولواءها مع جوجوخ التركى المسمول ولقبه

ومضى ابراهيم مع ابن محتاج، فهزما نوحا، وملك ابراهيم، ثم وقعت الوحشة بين ابى على، فمضى ابراهيم مستأمنا الى ابن أخيه، ومضى ابو على الى بلاد الصغد. وانتبهت رجال ابن شيرزاد، لان الصيمرى صرفه وطالبه بالأموال. فاستخلف الصيمرى بالحضرة طازاذ، وانحدر فواقع اصحاب ابى القاسم البريدى، فاسر خلقا منهم. وفي هذه السنه، صرف ابو الحسن بن ابى الشوارب عن القضاء بالجانب الغربي. واضيف الى عمل القاضى ابى الحسن محمد بن صالح الهاشمى. وفي النصف من شعبان من هذه السنه، خرجت العامه لزيارة قبر الحسين عليه السلام وعقدت القباب بباب الطاق. وورد الخبر ان سيف الدولة، قبض على القراريطى، واستكتب بعبده أبا عبد الله ابن فهد الموصلى. وفي هذه السنه انقطعت قنطره دهما بأسرها.

سنه ست وثلاثين وثلاثمائة

سنه ست وثلاثين وثلاثمائة في صفر انحدر المطيع لله ومعز الدولة لمحاربه ابن البريدى، وسارا من واسط في البريه الى البصره. وانفذ الصيمرى وموسى قتادة فدخلا دار البريدى بمسماران ورحل الخليفة ومعز الدولة، فاستامن اليه عسكر البريدى بالدرهميه. وهرب ابو القاسم الى هجر، وقبض معز الدولة على أمواله وقواده واحرق سفنه. ولما استولى على البصره، قصد أخاه عماد الدولة بارجان، وكان يقف بين يديه، واتفق وصوله من عنده ووصول الصيمرى والخليفة الى بغداد، في خامس عشر من شوال. وورد الخبر، بان نوحا صاحب خراسان، عاد الى بخارى، وسمل عمه ابراهيم، وصار اليه ابن محتاج في الامان. ولما ورد المطيع لله من البصره، وكان في صحبته ابو السائب، ولاه قضاء القضاه، وصرف ابن أم شيبان، ولم يرتزق ابو السائب، واستخلف أبا بشر عمر بن أكثم. وورد الخبر بان ركن الدولة فتح طبرستان وجرجان، وهزم وشمكير بن زيار واستأسر من اصحابه مائه وثلاثة عشر قائدا. وفي ذي القعده ضمن روزنهان الديلمى السواد والضرائب بعشره آلاف الف درهم، واستكتب على ذلك ابن سنجلا. وضمن الصيمرى اعمال واسط، واستكتب عليها أبا الحسن طازاذ. وفي ذي الحجه، خلع معز الدولة على هبه الله بن ناصر الدولة الذى كان رهينه عنده، وانفذه مع ابن قرابه الى ابيه.

سنه سبع وثلاثين وثلاثمائة

سنه سبع وثلاثين وثلاثمائة ورد الخبر بانهزام سيف الدولة من الروم، واستيلائهم على مرعش. ودخل ابو القاسم البريدى بغداد في الامان، فاقطعه معز الدولة اقطاعا بنهر الملك بمائه وعشرين الف درهم، واعاد عليه ضيعته المعروفه بفروخاباذ من بادوريا، وانزله في الدار المعروفه بالموزه، بمشرعه الساج محتاطا عليه. وقبض على ابن اسفهدوست، لأنه اشار على معز الدولة بمبايعه ابى عبد الله ابن الداعي، فقال الصيمرى: انه قصد ان يوليه الإمارة إذا صار الأمر اليه، فكان ذلك سببا لاعتقاله برامهرمز، ومات بقلعتها معتقلا. وانفذ الصيمرى وروزهان الى هيت، فقبضا على ابى المرجى عمرو بن كلثوم، واعتقل ببغداد. واخر ناصر الدولة المال الذى صولح عليه من معز الدولة، فخرج معز الدولة طالبا له الى نصيبين، واتى سيف الدولة أخاه ناصر الدولة معاونا له. وسفر ابن قرابه في الصلح، على ان يخطب ناصر الدولة لعماد الدولة ولمعز الدولة ولابنه بختيار، وان يحمل ابنه رهينه، ويؤدى ثمانية آلاف الف درهم في السنه فتم ذلك. وقال ابو الطيب المتنبى يذكر انجاد سيف الدولة لأخيه في قصيده مدحه بها: ان السعادة فيما أنت فاعله ... وفقت مرتحلا او غير مرتحل اجر الجياد على ما كنت مجريها ... وخذ بنفسك في اخلاقك الاول ينظرن من مقل ادمى احجتها ... قرع الفوارس بالعساله الذبل فلا هجمت بها الا على ظفر ... ولا وصلت بها الا الى امل

واستولى اصحاب ركن الدولة على اذربيجان، وخلت الري منهم، فقصدها ابن قراتكين، فانفذ معز الدولة بسبكتكين ومعه القرامطة، واكثر الجيش وامده بروزهان معاونه لأخيه ركن الدولة. وفي ثانى شهر رمضان، وهو الخامس من آذار، بلغت زياده دجلة احدى وعشرين ذراعا وثلثا، فغرقت الضياع والدور.

سنه ثمان وثلاثين وثلاثمائة

سنه ثمان وثلاثين وثلاثمائة في شهر ربيع الاول مات ابو محمد الحسن بن احمد الماذرائى الكاتب. وفيه انحدر الصيمرى لمحاربه عمران بن شاهين، وهذا عمران من اهل الجامدة جنى بها جناية، فهرب من العامل، واقام بين القصب يصيد السمك، ثم تلصص، واجتمع معه جماعه من الصيادين، واستامن الى البريدى، فقلده الجامدة والاهواز، فما زال امره يقوى. ولما انحدر الصيمرى لقتاله، هرب من بين يديه، فاستاسر الصيمرى اهله واولاده، ولم يبق غير استيلائه على البطيحة، فورد الخبر بموت عماد الدولة بشيراز، فكاتب معز الدولة الصيمرى بالمبادره الى هناك، فترك حرب عمران وتوجه. وكان ركن الدولة قد وافى أخاه عماد الدولة، وسلما فارس الى ابى شجاع فناخسرو ابن ركن الدولة، الملقب بعد ذلك عضد الدولة. وانفذ الصيمرى بابى الفضل العباس فسانحس، فقلده معز الدولة الدواوين. ووافى سبكتكين والجيش من الري. وعاد الصيمرى من شيراز، وعاود محاربه عمران، فمات بالمرمونى من اعمال الجامدة. وكان الصيمرى يحسد المهلبى، على تخصيصه وأدبه، فكان إذا جلس معه على الطعام، راى كلامه وفصاحته، فيأمر الفراشين بعينه، فيطرحون المرقه على ثيابه، فكان المهلبى منغصا به، وكان يستصحب مع غلامه دائما ثيابا يغير بها ما عليه. وكان في الصيمرى شجاعة وقوه نفس، وهو الذى فتح الجانب الشرقى لمعز الدولة، لان الديلم لم يقدم على العبور، فلما رأوا كاتبا قد تقدمهم انفوا. وقال القاضى ابو حامد المروروذي: كنت واقفا بين يدي معز الدولة، فقال

للصيمرى: اريد خمسمائة الف درهم لمهم، فقال: من اين؟ ودخلك لا يفى بخرجك، فقال: الساعة احبسك في الكنيف، حتى تحضر ما طلبته، فقال: إذا حبستني في الكنيف، خريت لك بقره وضربتها دراهم، فضحك منه وامسك. ولما خرج الصيمرى في هذا الوجه، استخلف أبا محمد المهلبى، فلما علم نفاقه على معز الدولة، اطلق لسانه فيه، فكان ابو محمد قد تيقن انه يهلكه على يد الصيمرى، فانفذ الى معسكره طيورا، واوقف من يكتب عليها اخباره، فأتاه البراج بطير قد ابتل بالماء بكتاب لم يقف عليه، فقال للصابئ: تلطف في قراءته، فقراه بعد جهد، فإذا فيه هلاك للصيمرى، فدخل الى معز الدولة، وعزاه وجلس للعزاء به. وترشح للوزارة ابو على الطبرى وهو عامل للاهواز. قال التنوخي: من اعظم المصادرات مصادره معز الدولة لأبي على الحسن ابن محمد الطبرى، صادره على خمسمائة الف دينار، فلما مات الصيمرى، طمع في الوزارة، وبذل فيها مالا عظيما، قدم منه أول نوبه ثلاثمائة الف دينار، فلم يبن عليه خروجها، فأخذها منه وقلد المهلبى.

سنه تسع وثلاثين وثلاثمائة

سنه تسع وثلاثين وثلاثمائة في هذه السنه، رد القرامطة الحجر الأسود الى مكة، وكان بجكم قد بذل لهم ان ردوه خمسين الف دينار، فلم يجيبوه، وكان بين قلعه ورده اثنتان وعشرون سنه. وفي هذه السنه، كانت وزارة ابى محمد الحسن بن محمد بن هارون المهلبى لمعز الدولة، خلع عليه معز الدولة القباء والسيف والمنطقه، وسار سبكتكين بين يديه الى دار الخلافه، فخلع عليه السواد والسيف والمنطقه. وكان المهلبى ثقيل البدن، ومشى في صحون الخلافه، وقد اثقله ما عليه من اللباس، فسقط بين يدي المطيع لله عند دخوله من ذلك، ومن شده الحر، ووقع على ظهره، فأقيم وظن من معه انه يحصر بما جرى، فتكلم واحسن واطال في الشكر والقول، وتمثل بابيات، فتعجب الناس من بديهته، وركب الى داره، ومعه جميع الجيش وحجاب الخلافه، وداره هي الدار المعروفه بالمرشد، ونزلها السلطان ركن الدولة في سنه سبع واربعين وأربعمائة عند دخوله بغداد، ونقضها موفق، خادم القائم بأمر الله رضوان الله عليه في سنه خمس وخمسين وأربعمائة وبنى بآلتها حجره للطيور، بباب النوبى، وعمرها سعد الدولة الكهورانى، في سنه تسعين وأربعمائة، ولما قتل وقفتها زوجته نقد ما كان نقض ما بقي في الدور الشاطبية بباب الطاق، وما امتدت يده من قصر بنى المأمون رضى الله عنه ثم نزلها قوام الدولة كريغا، في سنه ثلاث وتسعين وأربعمائة، ثم خلت بعد خروجه. وقال ابو نصر عبد العزيز بن عمر بن نباته السعدي يمدح المهلبى بقصائد منها: دع بين أثوابي وبين وسادي ... شخصا يصد فوارسى وجيادي وقال فيه من اخرى: اذم زيادا في ركاكه رايه ... وفي قوله اى الرجال المهذب تكلم والنعمان شمس سمائه ... وكل مليك عند نعمان كوكب

ولو ابصرت عيناه شخصك مره ... لابصر منه شمسه وهو غيهب وفيها: كفى وزراء الملك في الناس مفخرا ... بانك منهم حين تعزى وتنسب كان قد كفى الابطال بأسا ونجده ... بان قيل منهم في الهياج المهلب وانحدر المهلبى وروزهان لمحاربه عمران، فهزمهما واستأسر قوادهما. ومضى المهلبى الى البصره. وكاتب سيف الدولة الخليفة، يستاذنه في الغزو، فاذن له، فاوغل في بلاد الروم، وسبى وافتتح حصونا، وعاد في ثلاثين ألفا، فاخذ عليه الروم الدرب، فلم يفلت الا في عدد يسير، وقال المتنبى قصيده منها: قل للدمستق ان المسلمين لكم ... خانوا الأمير فجازاهم بما صنعوا.

سنه اربعين وثلاثمائة

سنه اربعين وثلاثمائة فيها تم الصلح بين عمران ومعز الدولة، وقلده البطائح، واطلق عياله الماسورين واطلق القواد. وورد الخبر بمعاودة ابن قراتكين حرب ركن الدولة بعد انهزامه، ودخول ركن الدولة الري بعد ان تقابلا سبعه ايام. وواصل ابن قراتكين الشرب أياما، فمات فجاه، وكفى ركن الدولة خطبه بعد ما حل به وبعسكره من البلاء بحصاره. وورد ابن وجيه صاحب عمان البصره فقاتله المهلبى، وأخذ منه خمسه مراكب وهزمه، ووصل المهلبى الى بغداد ومعه الأسارى والمراكب. وفيها مات ابو القاسم الكلواذى بعد الفقر، وقد مضت اخباره. وفيها مات ابو الحسن عبيد الله بن الحسين الكرخي، امام اصحاب ابى حنيفه. قال الخطيب: كان مع غزاره علمه، وكثره روايته، عظيم العباده، كثير الصلاة، صبورا على الفقر والحاجة، عزوفا عما في أيدي الناس ولما اصابه الفالج في آخر عمره، حضره اصحابه فقالوا: هذا مرض يحتاج الى نفقه وعلاج، وهو مقل، ويجب الا نبذله الى الناس، ونكتب الى سيف الدولة فنطلب منه ما ننفق عليه، ففعلوا، واحس ابو الحسن بما هم عليه، فسال عن ذلك، فاخبر به فبكى وقال: اللهم لا تجعل رزقي الا من حيث عودتني، فمات قبل ان يحمل اليه سيف الدولة شيئا ثم ورد كتاب سيف الدولة ومعه عشره آلاف درهم، ووعد ان يمده بأمثالها، فتصدق اصحابه بها. ومات ليله النصف من شعبان من هذه السنه، ومولده سنه ستين ومائتين، وصلى عليه القاضى ابو تمام الحسن بن محمد الهاشمى الزينبى- وكان من اصحابه- بحذاء مسجده في درب ابى زيد، على نهر الواسطيين، وقد بقي من مسجده اليوم

قطعه من حائط القبله، يعرف اليوم بمقلع ابن صابر. قال التنوخي: كان ابو زهير الجنابى الفقيه ورعا عارفا بمذهب ابى حنيفه، فدخل بغداد، فبلغه اخبار ابى الحسن الكرخي في ورعه، فلقيه، فقال: يا أبا الحسن، بلغنى انك تأخذ من السلطان رزقا في الفقهاء، قال: نعم، قال: ومثلك في علمك ودينك يفعل هذا؟ قال له ابو الحسن: اوليس قد أخذ الحسن البصرى في زمنه، وفلان وفلان، فعدد خلقا من الصالحين الفقهاء ممن أخذ من بنى اميه، فقال ابو زهير: ذهاب هذا عليك اطرف، بنو اميه كانت مصائبهم في اديانهم، وجباياتهم الأموال سليمه، لم يظلموا في العشر ولا الخراج، فكان الفقهاء يأخذون منهم الأموال مع سلامتها، وهؤلاء الأمراء الذين تأخذ منهم أموالهم فاسده، مع اديانهم وجبايتهم لها بالظلم والغشم، فسكت ابو الحسن، ولم يأخذ شيئا الى ان مات.

سنه احدى واربعين وثلاثمائة

سنه احدى واربعين وثلاثمائة ورد الخبر بدخول الروم سروج، واحراقهم مساجدها وسبى أهلها. وفيها بنى سيف الدولة مرعشا، فقال ابو الطيب المتنبى يمدحه بقصيده: فديناك من ربع وان زدتنا كربا يقول فيها: هنيئا لهذا الثغر رأيك فيهم ... وانك حزب الله صرت له حزبا فيوما لخيل تطرد الروم عنهم ... ويوما بجود تطرد الفقر والجدبا سراياك تترى والدمستق هارب ... واصحابه قتلى وأمواله نهبي اتى مرعشا يستقرب البعد مقبلا ... وادبر إذ اقبلت يستبعد القربا وهل رد عنه باللقان وقوفه ... صدور العوالي والمطهمة القبا ارى كلنا يبغى الحياه لسعيه ... حريصا عليها مستهاما بها صبا فحب الجبان النفس اورده البقا ... وحب الشجاع الحرب اورده الحربا ويختلف الرزقان والفعل واحد ... الى ان يرى احسان هذا لذا ذنبا كفى عجبا ان يعجب الناس انه ... اتى مرعشا تبا لأربابها تبا وما الفرق ما بين الأنام وبينه ... إذا حذر المحذور واستصعب الصعبا لامر اعدته الخلافه للعدى ... وسمته دون العالم الصارم العضبا.

سنه اثنتين واربعين وثلاثمائة

سنه اثنتين واربعين وثلاثمائة ورد الخبر في شهر ربيع الآخر، بغزاة سيف الدولة وغنيمته واسره لقسطنطين ابن الدمستق، فقال النامي يمدحه بقصيده منها: ومن جمع الفخرين فخر ربيعه ... وفخر ابى الهيجاء كان بلا ند يمر عليك الحول سيفك في الطلا ... وطرفك ما بين الشكيمه واللبد ويمضى عليك الدهر فعلك للعلا ... وقولك للتقوى وكفك للرفد بنى الأصفر اصفرت وجوه حماتكم ... وقد ردها في البيض تحمر في الرد فلم تر يوما مثلك الخيل فارسا ... اجر لخيل في الجهاد على الجهد وقد سار في الروم الدمستق باغيا ... له ساعه نكراء في نوب نكد فتسقى دم الأكباد وهي على ظما ... وتخترم الاعمار وهي على حقد إذا حبست في حد سيفك سخطها ... توثب او تلقى الظبى مطلق الحد وكمن قسطنطين تحت صليبه ... ومد القنا من فوق ارعن معتد كأنك قد قدمت جندا لهزمها ... وقد سرت في جند وحزمك في جند واسلم قسطنطين للاسر بردس ... وولى وقد خدته فوهاء في الخد وقال ابو الطيب قصيده: ليالي بعد الظاعنين شكول. فيها: وما قيل سيف الدولة اثار عاشق ... ولا طلبت عند الظلام ذحول - قال ابن جنى: اثار افتعل من الثار، واصله اتثار فابدلت التاء ثاء لتوافقهما في الشده وقرب مخرجهما، وقال قيس:

ثارت عديا والخطيم فلم أضع ... وصيه اشياخ جعلت ازاءها والذحول: جمع ذحل وهو الثار. فيها: على قلب قسطنطين منه تعجب ... وان كان في ساقيه منه كبول لعلك يوما يا دمستق عائد ... فهل هارب مما اليه يؤول نجوت باحدى مهجتيك جريحه ... وخلفت احدى مهجتيك تسيل اغركم طول الجيوش وعرضها ... على شروب للجيوش اكول وورد الخبر بموت ابى الفضل العباس بن فسانحس، بالبصرة، وسنه سبع وسبعون سنه، وحمل تابوته الى الكوفه. وتقلد الديوان بعده ابنه ابو الفرج محمد. وورد الخبر بتمام الصلح بين ركن الدولة وبين ابى على بن محتاج، بعد حروب جرت بينهما على باب الري، ومنازله ثلاثة اشهر، وانصرف ابن محتاج الى خراسان وركن الدولة الى الري. وفي شوال مات ابو عبد الله بن فهد الموصلى. وفي هذه السنه ماتت بدعه الصغيره والمعروفه بالحمدونيه عن اثنتين وتسعين سنه.

سنه ثلاث واربعين وثلاثمائة

سنه ثلاث واربعين وثلاثمائة في هذه السنه، ورد رسول ابى على بن محتاج الى معز الدولة، فاوصله الى الخليفة، وذلك بعد موت نوح بن نصر، فعقد لأبي على على خراسان، وسلم اليه العهد والخلع، وضم اليه أبا بكر بن ابى عمرو الشرابي، واقام الخطبه للمطيع في هذه السنه، ولم تكن قد أقيمت له ببلاد خراسان الى هذه الغاية. وبلغ الخبر بموت موسى قتادة، فانحدر المهلبى لحيازه تركته وكانت عظيمه. وفي مستهل شعبان، ورد الخبر بوقعه كانت بين الدمستق وبين سيف الدولة بالحدث، وقتل سيف الدولة خلقا من اصحاب الدمستق، واسر ابن ابنه وصهره وبطارقته، وبنى الحدث بعد ان اخربوها، وقال السرى مذكرا اخرابهم لها: ان تشتك الحدث الحسناء حادثه ... سعى بها خائن منهم ومغرور فإنها نشوه ولت عذوبتها ... وخر ذو التاج عنها وهو مخمور سينقض الوتر من اعدائه ملك ... عدوه حيث كان الدهر مقهور فحاذروا وزرا منه وهل وزر ... والسيف في يد سيف الله مشهور! وقال ابو الطيب قصيدته: ذي المعالى فليعلون من تعالى ... هكذا هكذا والا فلا لا - قال ابن جنى: يريد انهم بعثوا سيف الدولة على اتمام بنائه واعلائه، فكانوا سبب ذلك، يقول فيها: قصدوا هدم سورها فبنوه ... وأتوا كي يقصروه فطالا واستجروا مكايد الحرب حتى ... تركوها لهم عليه وبالا رب امر أتاك لا تحمد الفعال ... فيه وتحمد الافعالا

- قال ابن جنى: الفعال: الهراب، والافعال انهزامهم- وقسى رميت عنها فردت ... في قلوب الرماه عنك النصالا أخذوا الطرق يقطعون بها الرسل ... فكان انقطاعهم إرسالا وهم البحر ذو الغوارب الا ... انه صار عند بحرك آلا الغوارب: الأمواج. وفي شوال مات ابو جعفر محمد بن القاسم الكرخي. وعرض لمعز الدولة مرض في إحليله، وهو الإنعاظ الدائم. وورد الخبر بدخول ركن الدولة وابن محتاج جرجان ومضى وشمكير هاربا الى خراسان.

سنه اربع واربعين وثلاثمائة

سنه اربع واربعين وثلاثمائة عقد معز الدولة لابنه بختيار الرئاسة. وارجف على معز الدولة عند عمران، فاجتاز به مائه الف دينار، قد حملت من الاهواز وأمثالها للتجار فأخذها معز الدولة الكوكبى نقيب الطالبيين برسالته في اطلاق ماله واموال التجار، فرد ما يتعلق بمعز الدولة، ومضت امتعه التجار. وفي هذه السنه سد معز الدولة فوهه نهر الرفيل، وسد ى يثق النهروانات، وحفر للخالص فحوله، وشرع في سد يثق الروبانيه ببادوريا. وفي رجب ورد الخبر بموت ابى على بن محتاج بالري، في وباء حدث بالبلد. وورد رسول ابى الفوارس عبد الملك بن نوح، فعقد الخليفة له على خراسان. وانحدر روزهان في شهر رمضان لقتال عمران، وجاء المهلبى الى زاوطا لمعاونته.

سنه خمس واربعين وثلاثمائة

سنه خمس واربعين وثلاثمائة ترك روزبهان محاربه عمران، ومضى الى الاهواز عاصيا، واستكتب أبا عبد الله الجويني واستامن اليه رجال المهلبى. وكان روزبهان من صنائع معز الدولة لأنه رقاه الى هذه المنزله، وكان يتبع موسى قتادة، فاضطرب الديلم على معز الدولة، وأظهروا ما في نفوسهم. وانصرف المهلبى الى الأبله وانحدر معز الدولة والمطيع لله. وهم ناصر الدولة بالانحدار الى بغداد، وأخذها، فوصلها سبكتكين فلم يقدم. وواقع معز الدولة روزبهان بقنطرة اربق، سلخ شهر رمضان، وقاتله بالاتراك ولم يثق بالديلم، فاسره واصعد به الى بغداد في زبزب. وكثر دعاء العامه على روزهان، ورجموه بالأجر، واشار عليه مسافر باتلافه. وعلم معز الدولة ان الديلم على اخذه، وكره قتله، لان معز الدولة كان يكره الدماء، ولم يكن متسرعا الى اراقتها، ثم اخرجه ليلا الى الانايتين تحت البلد فغرقه. وكان أخو روزهان قد عصى بفارس، فظفر به هناك. ودخل الخليفة داره، في مستهل ذي القعده، بعد وصول معز الدولة. ومات في هذا اليوم ابو عبد الله الحسين بن احمد الموسوى. وفيها مات ابو عمر الزاهد، غلام ثعلب، وجوز العالم جنازته في الكرخ، فوقعت الفتنة لأجلها. وحكى ابو عمر قال: كان سبب انفرادى في هذه الخربه اننى أخذت كتاب سيبويه، وتوجهت لأقرأه على المبرد، فسمعت الشبلى يقص في الجامع وانشد في قصصه: قد نادت الدنيا على أهلها ... لو ان في العالم من يسمع كم واثق بالعمر واريته ... وجامع فرقت ما يجمع

ووجدت بخط التميمى قال: عاد ابو عمر مريضا فلم يجده، فكتب على بابه: واعجب شيء سمعنا به ... مريض يعاد فلا يوجد وحكى رئيس الرؤساء ابو الحسن بن صاحب النعمان قال: مضيت مع ابى الى ابى عمر، فلما دخلنا عليه قال: تاجروا، فاخذ كل واحد منا آجره وجلس عليها، ثم أخذ ابى يعتذر من تاخره عنه، فقال: يا أبا الحسين، كم تعتذر؟ اما علمت ان الصديق لا يحاسب، وان العدو لا يحسب، ثم قال: يا أبا الحسن ان ابن عبيد الله كان يبرني، واراد منى الخروج الى الكوفه لتعليم ولده برزق سماه لي فلم افعل، فغضب وقطع ما كان يعطيني، اما علمت يا أبا الحسن ان رزقي على من إذا غضب لم يقطع، قال: وطال الحديث وودعه ابى وانصرفنا.

سنه ست واربعين وثلاثمائة

سنه ست واربعين وثلاثمائة خرج ابو الحسين بن مقله الى كربلاء، للزيارة وبه فالج، فمات في طريقه، واعيد الى داره، ودفن بمربعه ابى عبد الله. وفيها تزوج بختيار بابنه سبكتكين بحضره الخليفة.

سنه سبع واربعين وثلاثمائة

سنه سبع واربعين وثلاثمائة ورد الخبر ان الروم نهبوا سواد ميافارقين، وقتلوا نادرا، غلام سيف الدولة، وانهم غلبوا على سميساط وأحرقوها، وان سيف الدولة افلت منهم في عدد يسير، وأسروا اهله وقرابته. واخر ناصر الدولة حمل المال عن معز الدولة، فسار الى نصيبين وراءه وبعد ناصر الدولة الى ميافارقين. وانفذ معز الدولة بسبر مردى، وهو حدث، في خمسمائة من الديلم الى سنجاب، فهرب منه ابو المرجى جابر وهبه الله، ابنا ناصر الدولة، الا ينفذه، فلم يقبل منه، فقال: طفل يرق الماء في ... وجناته وينض عوده ويكاد من شبه العذارى ... منه ان تبدو نهوده جعلوه قائد عسكر ... ضاع الرعيل ومن يقوده وقال السرى المعروف بالرفاء يمدح أبا المرجى: الله اكبر فرق السيف العدا ... فتفرقت أيدي سبا اخبارها لا تجبر الأيام كسر عصابه ... كسرت وذل بجابر جبارها رحلت فكان الى السيوف رحيلها ... وثوت فكان الى السيوف مزارها علم الأعاجم ان وقع سيوفكم ... نار تشب وأنتم اعصارها من ذا ينازعكم كريمات العلا ... وهي البروج وأنتم اقمارها الحرب تعلم انكم آسادها ... والارض تشهد انكم أمطارها

في وقعه لك عزها وسناؤها ... وعلى عدوك عارها وشنارها عمرت ديارك من قبور ملوكها ... وخلت من الانس المقيم ديارها ولابن الحجاج في ذلك: لله يا سير مردى يوم حجار ... حين دعاك الى ذي لبده ضار سرى إليك وجنح الليل منسدل ... بجحفل مثل جنح الليل جرار وصبحتك جيوش الله معلمه ... من كل اغلب ماضى العزم مغوار يأبى له الضيم- ان الضيم منقصه ... انف حمى وجاش غير خوار لما سما لك في الهيجاء منفردا ... بمرهف القد ماضى الحد بتار عضب المهزة لا يبتز رونقه ... يوم الكريهة الا نفس جبار لقيتم غير انكاس ولا عزل ... ولا نكول على الهيجاء اغمار لما راى العز في ايراد مهجته ... مضى فاوردها من غير احدار ليث يكر إذا كروا وان لجئوا ... الى الفرار راوه غير فرار ابى النزول على حكم نزلت به ... فما انثنى بعد اقبال لادبار حتى هوى تحت أيدي الخيل يخبطه ... في سائل من دم الأوداج موار ثاو بسنجار لا يغدو إذا ظعن ... الغادون عنها ولا يسرى مع السارى يا آل احمد ايها هكذا ابدا ... صونوا الحريم وحوطوا حوزه الدار واصلوا بنار الردى من دون شحنكم ... والحر بالنار اولى منه بالعار لا ترهبوهم فان القوم اكثرهم ... من حزتموهم لثاما يوم سنجار لله ذلك من يوم اعاد لكم ... يا شيعه الله فيهم يوم ذي قار كروا فان صدور الخيل عابسه ... يحملن كل رحيب الصدر كرار يحملن أسدا بخفان مواطنها ... منها الهصور ومنها المشبل الضاري فاما حال ناصر الدولة، فانه توجه من ميافارقين الى حلب، قاصدا لأخيه سيف الدولة، واستامن اكثر جيشه اخوه ابو زهير الى معز الدولة. واكرم سيف الدولة أخاه، ونزع خفه بيده، وتوسط الحال بين معز الدولة وبين أخيه على ما تقرر ضمنه

وقال السرى يذكر ذلك لسيف الدولة: راى من أخيك الشام اكرم شيعه ... واصدق برق في المحول يشام ارى الخائن المغرور قام بأرضكم ... كان المنايا الحمر عنه تنام فطورا لكم في العيش رحب منازل ... وطورا لكم بين السيوف رجام وأنتم على اكباد قوم حراره ... وبرد على أكبادنا وسلام ورجع معز الدولة بضمان سيف الدولة الى الموصل، وتقرر معه دفع الفى الف وستمائه الف درهم، واطلاق الماسورين من اصحابه. فلما سار بين المؤنسيه وادرمه، وذلك في ثالث ذي الحجه، وهو الخامس عشر من شباط، هبت ريح مغرب بارده، فتلف من عسكره ثمانمائه رجل، ولحق معز الدولة الغشي من البرد مع كثره ما عليه من الخز والوبر، وقلع العسكر سقوف ادرمه وأبوابها، فاوقدوها، واطلق لهم معز الدولة ثلاثة آلاف درهم عوضا عما أخذ من الخشب.

سنه ثمان واربعين وثلاثمائة

سنه ثمان واربعين وثلاثمائة في هذه السنه، وافى ابو إسحاق القراريطى مصر مع الحاج. في شهر ربيع الاول، توفى ابو بكر محمد بن جعفر الادمى القارئ. قال دره الصوفى: كنت بائتا بكلواذى على سطح عال، فلما هدئ الليل قمت لأصلي، فسمعت صوتا ضعيفا يجيء من بعد، فأصغيت اليه وتاملته شديدا، فإذا صوت ابى بكر الادمى، فقدرته منحدرا في دجلة، فلم أجد الصوت يقرب، ولا يزيد على ذلك القدر ساعه ثم انقطع، فشككت في الأمر وصليت ونمت. فبكرت فدخلت بغداد بعد ساعتين من النهار، وكنت مجتازا في السميريه، فإذا بابى بكر الادمى ينزل الى الشط، من دار ابى عبد الله الموسوى العلوي، التي بقرب فرضه جعفر على دجلة، فصعدت اليه وسألته عن خبره، فأخبرني بسلامته، فقلت: اين بت البارحه؟ فقال: في هذه الدار، فقلت: قرات النوبه الفلانية؟ قال: نعم قبل نصف الليل، فعلمت انه الوقت الذى سمعت فيه صوته بكلواذى، فعجبت من ذلك عجبا شديدا بان ما في له، فقال: مالك؟ فاخبرته، قال: فاحكها للناس عنى، فانا احكيها دائما. وقال ابو جعفر عبد الله بن اسماعيل الامام: رايت أبا بكر الادمى في النوم بعد مديده من وفاته، فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: أوقفني بين يديه وقاسيت شديدا وأمورا صعبه، قلت له: فتلك الليالى والمواقف والقرآن؟ فقال: ما كان شيء أضر على منها، لأنها كانت للدنيا، قلت له: فالى اى شيء انتهى امرك؟ قال: قال لي الله تعالى: آليت على نفسي الا اعذب أبناء اليثانين

وكان ابو بكر محبوبا الى الناس، قال: كسبت بالقرآن ثلاثمائة الف دينار. وحكى قال: لما ولد ابنى ابو عبد الله، قال: جئت الى مؤنس المظفر وحدثته الحديث، فوهب لي دنانير كثيره، فلما كان بعد مده سألني، فقال: يا أبا بكر ايش خبر الصبى المولود؟ فقلت: قد احتاج الى القميص ايها الأستاذ وهو عريان، فاستدعى الخازن وقال: احضر ما عندك من الخرق، فجاء باكثر من عشرين كاره من القصب والدبيقى والديباج والعتابى، فقال للخازن: أعطه من كل شيء الربع، فأعطاني ما حمله جماعه من الحمالين، وبعت الباقى عن كسوه ابنى واهلى بتسعه آلاف درهم. وقبر ابى بكر عند قبر ابى عمر الزاهد في الضفة التي تقابل قبر معروف الكرخي رحمه الله: وفي هذه السنه كثر موت الفجأة بالطاعون، فجلس احد القضاه بسواده في الجامع ليحكم فمات. وافتض رجل بكرا فمات على صدرها. وكان كافور الإخشيدي، قد ولى شبيب بن جرير العقيلي عمان والبلقاء، فعلت منزلته، واشتدت شوكته، وغزا العرب وتجمعت عليه، فعصى على كافور وأخذ دمشق وسار إليها في عشره آلاف، فخر عن فرسه ميتا، ففي ذلك يقول المتنبى يمدح كافورا: عدوك مذموم بكل لسان ... ولو كان من اعدائك القمران قال ابن جنى: هذا مدح ويحتمل ان يكون هجاء، بان يجعله مستخلفا ساقطا والساقط لا يعاديه الا مثله، وخرج عن ذلك يقول: ولله سر في علاك وانما ... كلام العدا ضرب من الهذيان

يقول فيها: برغم شبيب فارق السيف كفه ... وكانا على العلات يصطحبان اتته المنايا في طريق خفيه ... على كل سمع حوله وعيان ولو سلكت طرق السلاح لردها ... بطول يمين واتساع جنان تقصده المقدار بين صحابه ... على ثقه من دره وأمان وهل ينفع الجيش الكثير التفافه ... على غير منصور وغير معان وفي هذه السنه خلع المطيع لله على بختيار، وقلده امره الأمراء ولقبه عز الدولة. وعقد لأبي على بن الياس على كرمان وتزوج عز الدولة بنته في رجب. وفي رجب ماتت سريره الرائقيه، اشتراها ابن رائق من ابنه ابن حمدون، بثلاثة عشر الف دينار، وكانت مولده سمراء حسنه الغناء ولما قتل ابن رائق تزوجها ابو عبد الله الحسين بن حمدان. وحكى التنوخي: ان المهلبى دعاها، واظهر من التحمل ما اعياه في مجالسه وسماطه، وتبخر بما زاد على الحد، فقالت له جاريته تجنى: اننى أراك هود اتزانك حتى ونيت بك، فقال لها: ويحك! ان هذه قد نشأت في نعمه تستصغر فيها نعم ملكنا، فما اريد ان تزري علينا إذا خرجت. وفي شعبان مات ابو على عبد الرحمن بن عيسى بن داود بن الجراح، وزير الراضي بالله. حكى ابو محمد جعفر بن ورقاء قال: دخلت على ابى جعفر الكرخي بعد تقليده للوزارة، صارفا عنها لأبي على عبد الرحمن بن عيسى، وقد كان الراضي بالله حلف على الا يقنع من عبد الرحمن باقل من مائه الف دينار، وراعاه الكرخي لحقوق أخيه، وانكشف له ان جميع ما يملكه عشره آلاف دينار، فعدل الى ان قسط تقسيطا على الناس، بدا فيه بنفسه، والتزم ثلاثمائة الف درهم. قال ابو محمد: فدخلت على الوزير فسلم الى الدرج، وخاطبني في التزام شيء، فقلت: يدعني الوزير ادبر الأمر، فقطعت الخطوط، وكتبت: ضمن

لمولانا امير المؤمنين اطال الله بقاءه جعفر بن ورقاء، ان يصحح له لمن يأمره بتصحيح ذلك عنده، عن عبد الرحمن بن عيسى مائه الف دينار، واخذه اى وقت امره بتصحيحها، وقلت للوزير: أنفذها مع رسول عاقل ينظر ما يجرى، فعاد الخادم الذى انفذه وقال: استدعاني الخليفة حين عرض عليه الحاجب الخط، فدخلت وهو جالس على كرسي كالمغتاظ، وفي يده الرقعة مخرقه، فقال: من عند مولاك؟ فقلت ولم اجسر على كذبه: جعفر بن ورقاء، فقال: قل له يا اعرابى، اردت ان ترى الناس ان نفسك تتسع، لا تغرم غمرا لا حرمه له، وهو خادمى ما ضاقت نفسي عن تركه عليه، فتظهر بذلك انك اكرم منى، والله لا كان هذا، قل لمولاك: اطلق عبد الرحمن، وترد خط هذا الأعرابي الجلف، وانى اكفر عن يميني، ورمى بالرقعة مخرقه. قال: فقلت للكرخى: كيف راى الوزير رأيي؟ والله ما اعتمدت الا ان يقع في نفسه مثل هذا، فيفعل ما فعله لعلمي بجوده عقله وكرم نفسه، ولو جرى الأمر بخلاف ذلك لوزنت جميع ما املكه، واستسمحت الوزير والناس بعده حتى اقوم بتصحيح المال، فاطلق ابو على الى منزله. وفي هذه السنه ورد الخبر بان الروم، خذلهم الله، أسروا محمد بن ناصر الدولة من نواحي حلب، وأسروا أبا الهيثم بن القاضى ابى حصين بن عبد الملك بن بدر ابن الهيثم وغلمانه من سواد حران، فكتب ابو فراس الى ابيه: أيا راكبا نحو الجزيرة جسره ... عذافره ان الحديث شجون تحمل الى القاضى سلامي وقل له ... الا ان قلبي مذ حزنت حزين وان فؤادى لافتقادى اسيره ... لعان بأيدي الحادثات رهين لعل زمانا بالمسره ينثني ... وعطفه دهر باللقاء تكون فأشكو ويشكو ما بقلبي وقلبه ... كلانا على نجوى أخيه أمين إذا غير البعد الهوى فهوى ابى ... حصين منيع الفؤاد حصين

سنه تسع واربعين وثلاثمائة

سنه تسع واربعين وثلاثمائة ورد الخبر بغلاء السعر بالموصل، وبلوغ الكر من الحنطة بها ألفا ومائتي درهم، فهرب الناس عنها الى بغداد والشام. وفي هذه السنه انحدر ابو احمد الشيرازى، كاتب المستكفى بالله الى شيراز، فقبله عضد الدولة، واقطع ابنه أبا الفضل مائه الف درهم وحصن به. وورد الخبر بان نجا غلام سيف الدولة واقع الروم، وقتل منهم عده وافرة. وان سيف الدولة غزا في جمع كثير، فاثر في بلد الروم، وفتح حصونا كثيره، وانتهى الى خرشنه، فاخذ عليه الروم المضائق والدروب، في ثلاثمائة من اصحابه بعد جهد، ومضى باقى اصحابه قتلى واسرى، واشار عليه اهل طرسوس بترك الخروج، فلم يقبل، فاصيب. وورد الخبر، بان أبا نصر بن المكتفي بالله، ظهر بناحيه أرمينية، وتلقب بالمستجير بالله، ولبس الصوف، وامر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وغلب على اذربيجان، فسار اليه ابن سالار فاسره. وفي مستهل شهر رمضان، ورد تابوت ابى عبد الله بن ثوابه من القصر، وكان قد احيل بحاريه عليها، فمات هناك. وتقلد ديوان الرسائل ابو إسحاق الصابى. وفي ذي الحجه، مات ابو القاسم البريدى ببغداد. وصودر ابو السائب قاضى القضاه، على مائه الف درهم.

سنه خمسين وثلاثمائة

سنه خمسين وثلاثمائة في هذه السنه بنى معز الدولة داره بقصر فرج عن بستان الصيمرى، وهدم ما جاورها من العقارات وابتاعها من أهلها، وكان ابو العباس بن مكرم، وابو القاسم ابن حسان العدلان وكيليه في ذلك، وقلع الأبواب الحديد، التي على مدينه المنصور، والتي بالرصافة، ونقلها إليها، ونقض قصور الخلافه بسر من راى، ونزل في المسنات ستا وثلاثين ذراعا، ولزمه على بنائها ثلاثة عشر الف الف درهم، وكان المتولى للبناء ابو الفرج بن فسانحس. وفيها مات ابو الحسن احمد بن الفضل بن عبد الملك الهاشمى، وتقلد ابنه ما كان اليه من الصلات ونقابه العباسيين. وفي المحرم مات القاضى ابو بكر بن كامل، عن سبعين سنه. وفي شعبان ابتدئ ببناء المغيض بنهر الرفيل، تولى بناءه ابو بكر بن الحلبى. وفي هذه السنه توفى ابو السائب عتبة بن عبيد الله قاضى القضاه، ولابن سكره فيه قصائد تجنبت إثباتها. وسفر ارسلان الجامدار لأبي العباس بن ابى الشوارب في قضاء القضاه، وقرر عليه مائتا الف درهم في كل سنه، وامتنع الخليفة من تقليده، فقلده معز الدولة. وورد الخبر بان أبا بكر بن مقاتل توفى بمصر وهو يتقلد اعمال الخراج بها، ووجد له مدفونا في داره ثلاثمائة الف دينار. وورد الخبر بان نجا غلام سيف الدولة، دخل بلد الروم، واسر وغنم وسبى خمسمائة الف، اتى بهم في السلاسل. وتمطر فرس عبد الملك بن نوح به فمات، وولى مكانه اخوه منصور بن نوح. وفي آخر ذي الحجه، انحدر عز الدولة الى المطيع لله، ووصل اليه ابن سالار صاحب اذربيجان، حتى عقد له، وسلم اليه العقد مع خلع سلطانيه

سنه احدى وخمسين وثلاثمائة

سنه احدى وخمسين وثلاثمائة ورد الخبر بان اهل زربه دخلوا في أمان الروم، وانهم غدروا بهم فقتلوهم، وقطعوا منها اربعين الف نخله، واعاد سيف الدولة بناءها بعد ذلك. واتى الروم منبجا، وكان فيها ابو فراس بن ابى العلاء بن حمدان، متوليا لها، فأسروه فقال في اسره اشعارا كثيره منها: ارث لصب بك قد زدته ... على بقايا اسره اسرا قد عدم الدنيا ولذاتها ... لكنه لم يعدم الصبرا فهو اسير الجسم في بلده ... وهو اسير القلب في اخرى وكتبه الى أمه: فيا امتا لا تعدمى الصبر انه ... الى الخير والنجح القريب رسول ويا امتا لا تحبطى الاجر انه ... على قدر الصبر الجميل جزيل اما لك في ذات النطاقين أسوة ... بمكة والحرب العوان تجول اراد ابنها أخذ الامان فلم تجب ... وتعلم علما انه لقتيل تاسى كفاك الله ما تحذرينه ... فقد غال هذا الناس قبلك غول وكوني كما كانت بأحد صفيه ... إذا لعلتها رنه وعويل لقيت نجوم الليل وهي صوارم ... وخضت سواد الليل وهو وحول ولم ارع للنفس الكريمه حرمه ... عشيه لم يعطف على حليل وما لم يرده الله فهو ممزق ... ومن لم يعز الله فهو ذليل وما لم يرده الله في الأمر كله ... فليس لمخلوق اليه سبيل ووافى الدمستق الى حلب ومعه ابن اخت الملك ولم يعلم سيف الدولة بخبره،

وخرج عند علمه، وحاربه قليلا، فقتل جميع اولاد داود بن حمدان، وابن الحسين ابن حمدان، وانهزم سيف الدولة في نفر يسير، وظفر الدمستق بداره- وهي خارج مدينه حلب- فوجد لسيف الدولة فيها ثلاثمائة وتسعين بدره دراهم، والف وأربعمائة بغل، فاخذ الجميع، وأخذ له من السلاح ما يجاوز الحد، واحرق الدار، وملك الربض، وقاتله اهل حلب من وراء سورهم، فسقطت ثلمه على قوم فقتلتهم، وقاتل عليها اهل البلد، واجتمعوا بالليل وبنوها، وانصرف الروم عنهم، فانتهب رجال الشرطه منازل الناس، وامتعه التجار فمضوا لحربهم. فلما خلا السور صعد الروم، وفتحوا الأبواب، ووضعوا السيف، وكان في حلب عند المسلمين الف ومائتا اسير من الروم، فاطلقوهم وسبوا بضعه عشر الف صبى وصبيه، وأخذوا من الأموال ما لا يحد، وضربوا الباقى بالنار، واقام الروم بها تسعه ايام، وكان عسكرهم مائتي الف وثلاثين الف رجل بالجواشن، وكان معهم ثلاثون الف صانع للهدم وتطريق الطرق، واربعه آلاف بغل، عليها الحسك الحديد يخندقون به على عسكرهم. وقال ابن اخت ملكهم: لا ابرح او افتح القلعة، وصعد الى مدرجها، فرماه ديلمى بخشب في صدره فانفذه. وسار متقدم الروم الى بلده عند ذلك، ولم يتعرض للسواد، وامر اهله بعمارته، ووعدهم بالعود اليهم. وفي جمادى الآخرة مات دعلج بن احمد بن دعلج المحدث العدل، وله خان بسويقه غالب، عند قبر ابن سريج، وقف على اصحاب الشافعى رحمه الله الى اليوم، وعمره نظام الملك رحمه الله، وقد اطلق له مائه دينار، في أول نوبه دخلها حين مضى اليه اصحاب ابى رحمه الله، واعلموه مقاسهم واستشفعوا بصحبته. وحكى ابن نصر في كتاب المفاوضه قال: أنزلني الشيخ ابو الحسن العلوي

الحنفي الدار المعروفه بدعلج، في درب ابى خلف، بإزاء داره، فقلت داره، فقلت له: لم أزل اسمع الناس يعظمون شان هذه الدار، وما أجدها كما وصفت، فقال لي: كان دعلج في هذه الدار، وكان شاهدا ومحدثا وعظيم الحال موسرا وكان المطيع لله قد اودع أبا عبد الله بن ابى موسى الهاشمى عشره آلاف دينار قبل إفضاء الخلافه اليه، فتصرف فيها وأنفقها وادل بالقدره عليها في طلبها، فلما ولى الخلافه، طالبه بها، فوعده بحملها، ورجع الى منزله، وشرع في بيع شيء من املاكه وثماره فتعذر، فالح المطيع بالمطالبة بالوديعة، فاعتذر بأنها مخبوءه لا يقدر عليها الا بعد ثلاثة ايام، فانظره، فلما حضر وقت الوعد قلق ولم ينم، ولم يتجه له وجه، وخاف ان يحرق به، ولم يعود ثلم جاهه، فركب في بقية الليل بغير غلام، وترك راس البغله تمشى حيث شاءت، فافضت به الى قطيعه الربيع، فدخلها وعطف الى درب ابى خلف، فإذا دعلج قد خرج وفي يده سمكه، فتأمله فقال له: خير، فقال: لا، ابالله انزل، فنزل ودخل داره وقص قصته، فقال: لا باس، اى نقد كانت الدنانير؟ فقال: النقد الفلاني فقال: يا غلام، اغلق الباب، وحط ما عندك من العين، واجلس مع الشريف، وانتقد النوع الفلاني الى ان ارجع من الحمام فلما عاد كان الغلام قد انتقد القدر، فجعلها في اكياس، وأنفذها مع غلمانه، ثم قال: اكتب خطك في دفترى، فكتبت خطى بذلك، الى مده اربعه اشهر وانصرفت. واستدعيت الظرف التي كانت دنانير المطيع فيه، فنقلتها اليه، وختمتها بالاسريحات التي كانت عليه، فأتاني رسول المطيع، فحملت المال ووضعته بين يديه، وقلت: ان راى امير المؤمنين ان يتقدم بوزنه! فقال: ما افعل ذلك وهي تحت ختمى، فخفت ان يتأمل الختم، فعجلت الى كسره، وحلفت بنعمته لا بد مما تزنه، فوزن. واتفق انه دخل من ضيعتى ثلاثة آلاف دينار قبل الأجل، فحضرت عند دعلج ودفعتها اليه، فقال: لا اله الا الله، ايها الشريف، بم استحققت منك هذا! ارتجعه قبل المده فأكون كذابا! فامسكت الدنانير حتى تكاملت في وقتها

وفيها خلع معز الدولة على ابى الفرج محمد بن العباس، وقلده كتابه عز الدولة مضافا الى ما اليه من الديوان وفي ذي القعده مات ابو عبد الله بن ابى موسى الهاشمى. ومات بعده ابو بكر النقاش، صاحب شفاء الصدور في تفسير القرآن. وفيه لقب عضد الدولة بهذا اللقب.

سنه اثنتين وخمسين وثلاثمائة

سنه اثنتين وخمسين وثلاثمائة في هذه السنه، خرج النساء منتشرات الشعور، مسودات الوجوه، يلطمن في الشوارع يوم عاشوراء على الحسين رضى الله عنه، وغلقت الاسواق. وفي جمادى الآخرة، خرج المهلبى لفتح عمان. وورد الخبر بغزاة سيف الدولة لنواحى ملطيه وغنيمته، فقال الببغاء يمدحه بقصيده منها: ورد الدمستق دون منظره ... خبر تضيق بشرحه الكتب ناجته عنك البيض من بعد ... نصحا وانفذ جيشه الرعب ولى ولو احببت حين نجا ... إدراكه لم ينجه الهرب يا كالئ الاسلام يحرسه ... من ان يخالج حقه الريب ان كنت ترضى ان يطيعك ما ... سجدوا له سجدت لك الصلب وفي رجب عزل ابن ابى الشوارب عن القضاء، وقد ذكر انه ضمنه، فكان النظار يحيلون عليه بمشاهره الساسة والنفاطين، فكانوا يجيئونه ويشدون نعالهم على بابه، ويدخلون يطالبونه، كما يفعلون بضامن الماخور، فاتى ابو عبد الله بن الداعي العلوي، معز الدولة وقال له: رايت في المنام جدي عليا، رضى الله عنه، وهو يقول لك: أحب ان تقطعني ما على الفضاء، وتامر بإزالته، قال: قد فعلت. ولابن سكره في ابن ابى الشوارب: نوب تنوبك بالنوائب ... وعجائب فوق العجائب وغرائب موصوله ... في كل يوم بالغرائب مما جنى قاضى القضاه ... حدندل بن ابى الشوارب قاض تولى بالصبوح ... وبالطبول وبالدبادب ومناديان يناديان ... عليه في وسط الكواكب

هذا الذى ضمن القضاء ... مع الفروج بغير واجب هذا قدار زماننا ... وأخو المثالب والمعائب ولما عزل ابن ابى الشوارب تقلد ابو بشر عمر بن أكثم القضاء بغير رزق. وقد ذكرنا خروج المهلبى قاصدا عمان، ولما بلغ الأبله، تضجر خدمه بسلوك البحر، ومفارقه نعمهم ببغداد، فسموه، ظنا منهم ان حالهم تبقى عليهم، فنشبت به المنيه وعاد الى زاوطا في محفه، يتناوبها الرجال، ومات بها في آخر شعبان. قال التنوخي: مضيت في أول يوم من شهر رمضان لتهنئه ابى الغنائم الفضل بن المهلبى، وأبوه في الطريق لم يأت الخبر بموته، وهو جالس بداره على الصراة، في دست، ودخل عليه صهره ابو العباس بن الحسين، وابو الفرج محمد بن العباس فما تحرك لهما، فجاء خادم للفضل، فساره بشيء فقال: قم يا أبا الغنائم فقد طلبك مولانا معز الدولة، وقد مات ابوك، فقام ابو الغنائم باكيا، فقلنا: الان كنا بين يديه، وهو الساعة ذليل بين أيدينا! وختم ابو الفضل على دار المهلبى، وعلى أمواله، وعلى تجنى جاريته. وكان المهلبى، قد اصطنع أبا العلاء عيسى بن الحسن بن ايزونا النصراني الكاتب، واستكتبه على خاصه، واطلعه على اموال وذخائر دفنها، فاخذ ابو العلاء في جمله المأخوذين، وعوقب أشد عقوبة، وضرب ابرح ضرب، وهو لا يقر بشيء ولا يعترف بذخيرة. فعدل ابو الفضل وابو الفرج الى تجنى، فامرا بضرب ابنها ابى الغنائم بين يديها، فبكى من عرفها من الذى نم عليها، وقالت لهم: ان مولاى المهلبى فعل هذا بي حين استدعى آلات العقوبة لزوجه ابى على الطبرى، لما قبض عليها بعد وفاته، ثم قالت: احضرونى أبا العلاء بن ايزونا، فاحضروه وحمل في سبنيه بين اربعه فراشين، فطرح بين يديها، فجعلت تسأله عن شيء، وهو يخبرها بمكانه، حتى كان في جمله ذلك

ثلاثون الف دينار، فقال له من حضر: ويلك! الست من الآدميين تقتل هذا القتل، ويفضى حالك الى التلف، وأنت لا تعترف! فقال: يا سبحان الله! أكون ابن ايزونا والطبيب الفصاد على الطريق بدانق ونصف دانق، يأخذني الوزير ابو محمد، ويصطنعنى ويجعلني كاتب سره، واعرف بخدمته! واطلع الناس على ذخيره ذخرها لولده، والله ما كنت لأفعل هذا ولو هلكت، فاستحسن فعله، وكان ذلك سببا لإطلاقه، وتقدم بذلك عند ابى الفضل وابى الفرج وابن بقية، وتوفى سنه تسع وستين وثلاثمائة في ايام عضد الدولة. ومولد المهلبى بالبصرة سنه احدى وتسعين ومائتين، وكان ظريفا أديبا، ومن شعره: وصل الكتاب طليعه الوصل ... وذخيره الافضال والفضل فشكرته شكر الفقير إذا ... اغناه رب المجد بالبذل وحفظته حفظ الأسير وقد ... ورد الامان له من القتل وله: وحياه الهوى ومر التجنى ... وبخط العذار في صحن خده لاذيبن وجنتيه بلحظي ... مثل ما قد أذاب قلبي بصده قال التنوخي: وشاهدت المهلبى، وقد اشترى له ورد بألف دينار في ثلاثة ايام، فشرب عليه، وانهبه. قال ابو حيان: كان المهلبى يطرب على اصطناع الرجال، كما يطرب سامع الغناء على الستائر ويرتاح لذلك كما يرتاح مدير الكاس على العشائر، وقال: لأكونن في دوله الديلم أول مذكور، إذ فاتنى ان أكون في دوله بنى العباس رحمه الله عليهم آخر مذكور. فممن نوه به ابو الفضل الشيرازى وابو عبد الله البقرى وابو معروف القاضى وابو إسحاق الصابى وابو العلاء صاعد وابن جعفر صاحب الديوان، وغيرهم كابى تمام الزينبى، وابن مريعه، وابى حامد المروروذي، وابى عبد الله البصرى، وابى سعيد السيرافي وابن درستويه، والسرى، والخالدي، الى من لا يحصى كثره. وكان ابو الفرج الاصبهانى، يؤاكله، وكان اقذر الناس، فافرد له المهلبى مائدة يجلس عليها وحده، فقال يهجوه:

ابعين مفتقر إليك رأيتني ... بعد الغنى فرميتنى من حالق لست الملوم انا الملوم لأنني ... املت للإحسان غير الخالق وقال ابن الحجاج يرثى المهلبى: يا معشر الشعراء دعوه موجع ... لا يرتجى فرج السلو لديه عزوا القوافى بالوزير فإنها ... تبكى دما بعد الدموع عليه مات الذى امسى الثناء وراءه ... وجميل عفو الله بين يديه هدم الزمان بموته الحصن الذى ... كنا نفر من الزمان اليه وتضاءلت همم المكارم والعلا ... وانبت حبل المجد من طرفيه ولتعلمن بنو بويه انما ... فجعت به ايام آل بويه قال التنوخي: قال المهلبى: لما عزم معز الدولة على إنفاذي الى عمان، طرقني امر عظيم، فبت بليله ما بت في عمرى مثلها، لا في فقري، ولا في صفر حالي، وما زلت اطلب شيئا اتسلى به عما دهمني فلم أجد الا انى ذكرت انى كنت حصلت في ايام صباي بسيراف، لما خرجت إليها هاربا، فعرفت هناك قوما اولونى جميلا، وحصلت لهم على ايادى، ففكرت وقلت: لعلى إذا قصدت تلك البلاد ان اجدهم او بعضهم او اعقابهم، فاكافئهم على تلك الأيادي فلما ذكرت هذا، تسليت عن المصيبة بالخروج، وسهل على، ووطنت نفسي عليه ودفن المهلبى بالنوبختيه بمقابر قريش. وجعل معز الدولة أبا الفضل الشيرازى وأبا الفرج بن فسانحس، المدبرين للأمور من غير تسميه لواحد منهما بوزاره. وفي ليله الخميس، ثامن عشر ذي الحجه، وهو اليوم الذى تسميه الشيعة غدير خم، اشعلت النيران في الاسواق ولم تغلق الدكاكين، كما يعمل في الاعياد، وضربت الدبادب والبوقات، وبكر المتشيعون الى مقابر قريش، وصلوا هناك.

سنه ثلاث وخمسين وثلاثمائة

سنه ثلاث وخمسين وثلاثمائة استهدى القرامطة في هذه السنه من سيف الدولة حديدا، فقلع أبواب الرقة، وسد مكانها، وأخذ كل حديد بديار مضر حتى صنجات البقالين والباعه، واحدوه في الفرات الى هيت وحملوه منها الى البريه. وأخذ ناصر الدولة المال عن معز الدولة، فاصعد الى الموصل، ومضى ناصر الدولة الى ميافارقين، فسار وراءه الى نصيبين، واستخلف على الموصل سبكتكين، فسار ابو تغلب واخوته لحربه، فهزمهم سبكتكين، فاحرقوا زبازب معز الدولة بالموصل، وأسروا الاتراك، وصعد ابو احمد الطويل غلام موسى قتادة، وكان قد ضمن الاهواز، واصعد منها، ليفسخ ضمانه. وأخذ بنو حمدان كراع معز الدولة وسلاحه، وما وجدوه من ماله. فاقبل معز الدولة الى برقعيد، فأتاه حمدان بن ناصر الدولة مستأمنا، وأتاه ابو الهيجاء حرب بن ابى العلاء بن حمدان مستأمنا أيضا. واتى معز الدولة الموصل، واستامن اليه المهيا والمسيب غلاما ابى تغلب، فخلع عليهما وطوقهما وسورهما، وأتاه ابو الحسن على بن ميمون، ورهن نفسه عنده، على سته آلاف الف ومائتي الف درهم، واطلاق الأسارى، فرحل حينئذ ومعه ابن عمرو الى الحديثه، وأتاه الأسارى والمال بها، فانحدر الى بغداد. وفي هذه السنه خرج ابو عبد الله محمد بن القاسم المعروف بابن الداعي الحسنى، الى بلد الديلم. وورد الخبر الى بغداد سنه سبع وثلاثين وثلاثمائة، فلزم الكرخي الحنبلى، وقرأ عليه الفقه، وقرأ الكلام على ابى عبد الله البصرى، ومنشؤه بطبرستان، وكان يجيب في الفتاوى احسن جواب

والزمه معز الدولة النظر في نقابه الطالبيين ببغداد، سنه تسع واربعين وثلاثمائة ففعل مجبرا وعمر وقوفهم. وساله معز الدولة عن طلحه والزبير، فقال: هما من اهل الجنه، لان النبي ص، بشرهما بالجنة، وكان المهلبى يخافه، فوضع عليه موضوعات، منها انه كان يأخذ البيعه على الديلم. وبلغ من اجلال معز الدولة له، انه دخل عليه وهو مريض، فقبل يده استشفاء بها. ولما غاب معز الدولة في هذه السفره الى نصيبين، استخلف ابنه عز الدولة ببغداد، فدخل ابن الداعي، فخاطبه بعض اصحاب عز الدولة في معنى علوي خطا أومى عليه، فامتعض ابو عبد الله من ذلك وخرج مغضبا. وكان ينزل بدار على دجلة بباب الشعير، فرتب قوما معهم بالجانب الشرقى، واظهر انه مريض، وخرج مختفيا ومعه ابنه الاكبر، وخلف اولاده وعياله وزوجته ببغداد، ونعمته وكل ما تحويه داره، ولم يستصحب غير جبه صوف بيضاء وسيف ومصحف، وسلك طريق شهرزور ومضى الى هوسم وسمه علوي هناك قام بعده، وكانت وفاته سنه تسع وخمسين وثلاثمائة. واقام الدمستق على المصيصة ثلاثة اشهر، ووقع الوباء في اصحابه، فاتى المستنفرون سيف الدولة، فسار معهم وهو مريض، فولى الدمستق، وكان المتنبى بالعراق، فكتب اليه جواب كتابه ورد عليه: فهمت الكتاب ابر الكتب ... فسمعا لامر امير العرب وغر الدمستق قول العداه ... بان عليا ثقيل وصب وقد علمت خيله انه ... إذا هم وهو عليل ركب أتاهم باوسع من ارضهم ... طوال السبيب قصار العسب تغيب الشواهق في جيشه ... وتبدو صغارا إذا لم تغب فغرق مدنهم بالجيوش ... واخفت أصواتهم باللجب

سنه اربع وخمسين وثلاثمائة

سنه اربع وخمسين وثلاثمائة فيها قتل غلمان سيف الدولة بحضرته، ونجا غلامه، فغشى على سيف الدولة لذلك، فأمرت زوجته بنت ابى العلاء سعيد بن حمدان، برمي من نجا من قصرها، ولما افاق قتل قتله، وبلغ الخبر أبا فراس، فكتب اليه وهو ماسور شعرا: ما زلت تسعى بجد ... برغم شانيك مقبل ترى لنفسك امرا ... وما يرى الله افضل واوصل معز الدولة أبا احمد خلف بن ابى جعفر بن يانو الى الخليفة، فقلده سجستان، وخلع عليه، وعقد له لواء. وفيها دخل ملك الروم المصيصة، وساق من أهلها مائتي الف انسان، واعطى اهل طرسوس الامان، وامرهم بالانتقال عنها الى اى بلد اختاروا، ومعهم من أموالهم ما شاءوا، ففعلوا وحماهم الى أنطاكية، وجعل جامع طرسوس اصطبلا، واحرق المنبر، وتقدم لعماره البلد، واستخلف عليه بطريقا في خمسين ألفا. وفي جمادى الآخرة قلد معز الدولة أبا احمد الموسوى نقابه الطالبيين باسرهم، سوى ابى الحسين بن ابى الطيب وولده، فإنهم استعفوه فاعفاهم، ورد اليه اماره الحاج.

سنه خمس وخمسين وثلاثمائة

سنه خمس وخمسين وثلاثمائة فيها لقب الخليفة الحبشي بن معز الدولة سند الدولة. وانحدر معز الدولة لمحاربه عمران. وانحدر الى الأبله، ونزل في دار البريدى بشاطئ عمان، وبنى الشذاءات والمراكب. ووافاه نافع الأسود، مولى يوسف بن وجيه مستأمنا، فقبله. وانفذ أبا الفرج محمد بن العباس مع نافع في مائه مركب، فلما صار بسيراف وافاه جيش عضد الدولة، في مركب وشذاءات، نجده لعمه معز الدولة. وملك ابو الفرج عمان، واحرق لأهلها تسعه وتسعين مركبا. واصعد معز الدولة الى بغداد واستخلف على قتال عمران أبا الفضل العباس بن الحسين الشيرازى، فاخذ في سد الانهار، واستخلف على واسط سبكتكين. وفي رجب فادى سيف الدولة الروم، وارتجع أبا فراس منهم، فقال الببغاء يمدحه: ما المال الا ما أفاد ثناء ... ما العز الا ما ثنى الأعداء شحت على الدنيا الملوك وعافها ... من لم يطع في حفظها الأهواء باع الذى يفنى بما ابقى له ... ذكرا إذا دجت الخطوب أضاء فليهن سيف الدولة الشرف الذى ... لو كان مرئيا لكان سماء وطهاره الخلق الذى لو لم يكن ... عرضا من الاعراض كان الماء ورجاحه الحلم الذى لو حل بالهضبات ... من رضوى ثناه هباء بدر تحققت البدور بأنها ... ليست وان كملت له أكفاء القى اليه الدهر صعب قياده ... فاستخدم الأيام فيما استاء امحقق الامال بالكرم الذى ... أحيا العفاة وبخل الكرماء شكر الإله من اهتمامك بالهدى ... ما زاد باهر نوره استعلاء راعيته وسواك في سنه الهوى ... ما ذاد عنه لسيفك الأعداء

وفديت من اسر العدو معاشرا ... لولاك ما عرف الزمان فداء كانوا عبيد نداك ثم شريتهم ... فغدوا عبيدك نعمه وشراء والاسر احدى الميتتين وطالما ... خلدوا به فاعدتهم احياء وضمنت نفس ابى فراس للعلا ... إذ منه اصبحت النفوس براء ما كان الا البدر طال سراره ... ثم انجلى وقد استتم بهاء يوم غدا فيه سماحك يعتق الأسرى ... ومنك ياسر الأمراء خصت بنو حمدان منه بنعمه ... عمت بفضلك تغلب الغلباء وقال ابن نباته يمدحه بقصيده منها تطيع الله في خوض المنايا ... وسيف الدولة الملك الجليلا إذا طلبت ملوكهم إلينا ... دخول الحرب زدناهم ذحولا فداؤك من فديت من البرايا ... وان كانوا لان تفدى قليلا فأنت خلقتهم خلقا جديدا ... وصيرت السماح بهم كفيلا تزيد بحسنه الدنيا ضياء ... وابصار الملوك به كلولا إذا ما جئت والاملاك جمعا ... غدوت نباهه وغدوا خمولا احقهم ببذل المال فينا ... فتى يمسى لمهجته بذولا واولاهم بان يسمى جوادا ... فتى يهب الرغائب والعقولا تريك بنانه في كل يوم ... طعانا محييا وندى قتولا وفضلا يستفيد الدهر منه ... كريم الطبع والخلق الجميلا وورد الخبر بان ركن الدولة ملك الطرم، ومضى وهسودان منصرفا عنها، فقال المتنبى يمدح عضد الدولة: ازائر يا خيال أم عائد ... أم عند مولاك اننى راقد

يقول فيها: نلت وما نلت من مضره وهسوذان ... ما زال رايه الفاسد معناه: انه جنى على نفسه الشر، بتعرضه لقتالكم. يبدأ من كيده بغايته ... وانما الحرب غاية الكائد معناه: انه من سبيله الا يحارب الا مضطرا، والكائد: الذى يبغى الغوائل والشر- ماذا على من اتى يحاربكم ... فذم ما اختار لو اتى وافسد بلا سلاح سوى رجائكم ... ففاز بالنصر وانثنى راشد وليت يومى فناء عسكره ... ولم تكن دانيا ولا شاهد ولم يغب غائب خليفته ... جيش ابيه وجده الصاعد وقدم ابو الفرج بن فسانحس من عمان، فقال ابن نباته يمدحه بقصيده طويله منها: لعمري لقد اهدى النصيحه مره ... لال عمان خير حاف وناعل وناشدهم بالله حتى تقطعت ... عرى القول وانحلت عقود الوسائل فلما رآهم لا تثوب حلومهم ... رماهم بامثال القسي العواطل فركب اغصان المنيه فيهم ... وراء الاعالى ظامئات الأسافل سريت لهم ليلا تحول نجومه ... وهمك في اعجازه غير حائل كأنك إذ جردت رأيك فيهم ... طلعت عليهم بالقنا والقنابل دنا الحق حتى ناله كل طالب ... وكان بعيدا من يد المتناول واصبح شمل الناس بعد تبدد ... ينظم في سلك من الحق عادل

سنه ست وخمسين وثلاثمائة

سنه ست وخمسين وثلاثمائة [أخبار] فيها قصد معز الدولة عمران بن شاهين، وابى ان يقبل منه مالا، والا يقنع الا بحضور بساطه فاعتل من ضرب ذرب لحقه، واستخلف على عسكره سبكتكين، ورجع الى بغداد، وعهد الى ابنه عز الدولة، واظهر التوبة، واحضر أبا عبد الله البصرى، وتاب على يده. وكان مع ابى عبد الله صاحبه ابو القاسم الواسطي، فكانا إذا حضر وقت الصلاة خرجا من الدار، وصليا في مسجد على بابها، فسألهما عن السبب في خروجها، فقال ابو عبد الله: ان الصلاة في الدار المغصوبه عندي لا تصح، وساله عن عمر ابن الخطاب، رضى الله عنه وعن الصحابه رضوان الله عنهم، فذكر ابو عبد الله سابقتهم، وان عليا زوج عمر ابنته أم كلثوم رضى الله عنهم، فاستعظم ذلك وقال: ما سمعت هذا قط! وتصدق معز الدولة باكثر ماله، واعتق مماليكه، ورد شيئا كثيرا من المظالم، وتوفى في شهر ربيع الآخر. قال ابو الحسين بن الشيبه العلوي: بينما انا في دارى على دجلة بمشرعه القصب، وكانت ليله مظلمه، والسماء متغيمه، وقد اشتد الرعد القاصف، ولمعان البرق الخاطف، ولم تمض ساعه الليل، حتى هطلت السماء بعظيم السيل، فخرجت الى الروشن لانظر الى السماء، واسمع وقع المطر على الماء، فانى لواقف إذ سمعت صوت الهاتف يقول: لما بلغت أبا الحسين ... مراد نفسك في الطلب وامنت من حدث الليالى ... واحتجبت عن النوب مدت إليك يد الردى ... فأخذت من بين الذهب

فأرخت الوقت، وكان لاربع ساعات مضت من ليله الثلاثاء سابع عشر شهر ربيع الاول. ثم اتصل الوابل فحبس الناس أياما في المنازل، فلما انقشع الغمام وانتشر الناس، شاع الخبر بان معز الدولة توفى تلك الساعة، في تلك الليلة ومولد معز الدولة سنه ثلاث وثلاثمائة. ومن آثاره سد بثق الرومانيه، وعمل المعيض بالسندية، وسد البثق بالنهروان. واسقط المواريث الحشريه، وامر بردها الى ذوى الارحام، وتسليم مالا مستحق له الى القضاه ليصرفوه في مصالح المسلمين. وكان قد سال المطيع لله ان يطوف في دار الخلافه، فشرط عليه الا يخترق الدار الا في نفسين، وتقدم الى شاهد خادمه، وابن ابى عمرو حاجبه، ان يمشيا بين يديه. فدخل معز الدولة ومعه الصيمرى وحاجبه ابو الحسن الخراسانى، فقال له الصيمرى بالفارسيه- واصحاب الخليفة لا يعرفونها: في اى موضع أنت حتى تسترسل؟ اما تعلم انه قد فتك في هذه الدار بألف امير ووزير! اليس لو وقف لنا عشره من الخدم في هذه الممرات الضيقه لأخذونا! فقال: صدقت، وان رجعنا الساعة، علم اننا قد فزعنا وخفنا، وضعفت هيبتنا، فقال الصيمرى: ادن منى، فان مائه من الخدم لا يقاوموننى. فانتهوا الى دار فيها صنم من صخر، على صوره امراه، وبين يديها أصنام صغار، فسال عنها، فقيل: هذا حمل من بلدان الهند، وقد فتح في ايام المقتدر رحمه الله، وكان يعبد هناك، فقال: لو كان مكانه جاريه لاشتريتها بمائه الف دينار على قله رغبتي في الجوارى، واريد ان اطلبه من الخليفة فمنعه الصيمرى. وما رجع الى معز الدولة عقله، حتى رجع الى طيارة، وقال: قد رايت محبتي للخليفة وثقتي به، ولو اراد بنا سوءا لكنا اليوم في قبضته، وتصدق بعشره آلاف درهم، شكرا لله على سلامته. وفي هذه السنه قتل ابو الطيب المتنبى، وكان عند عضد الدولة بشيراز، فودعه بقصيدته التي نعى فيها نفسه، وقال فيها أشياء لم يقل في عقبها ان شاء الله، منها:

إذا التوديع اعرض قال قلبي ... عليك الصمت لا صاحبت فاكا وكم دون الثوية من حزين ... يقول له قدومى ذا بذاكا فلو سرنا وفي تشرين خمس ... راونى قبل ان يرووا السماكا - قال ابن جنى: بالغ وبغى في ذكر السرعة، لان السماك يطلع لخمس خلون من تشرين الاول، اى كنت اسبقه الى الكوفه بالطلوع عليهم- وما انا غير سهم في هواء ... يعود ولم يجد فيه امتساكا يعنى في سرعه الأوبة. ولما قال: وأيا شئت يا طرقي فكونى ... أذاه او نجاه او هلاكا قال عضد الدولة: يوشك ان تكون منيته في طريقه، وعاد وقد اوقره مالا، ولما بلغ همانيا مقابل دير العاقول، خرج عليه فاتك بن ابى الجهل الأسدي، فقاتل المتنى قتالا شديدا وقتل واصحابه وأخذ ماله: وقال ابو احمد العسكرى يجيب ابن هارون، وقد رثى المتنبى: يا شقوه المتنبى ما اتيح له ... بعد الكرامه من ذل ومن هون تقضى منيته في ارض مضيعه ... ويستباح ويرثيه ابن هارون انى لارثى له مما رثاه به ... قول ركيك وشعر غير موزون لو كان يسمع شعرا قد رثاه به ... لقام من قبره في زي مجنون وقال ابو الحسن محمد بن يحيى الزيدي العلوي- واقام بعسكر مكرم: كان المتنبى ينزل في جواري بالكوفه، وهو صبى وأبوه يسمى عبدون السقاء، يستقى لأهل المحله، ونشا هو محبا للعلم والأدب، وصحبه الاعراب بالبادية، فجاءنا بعد سنين بدويا، وكان لا يعترف بنسبه ويقول: متى انتسبت لم آمن ان يأخذني بعض العرب بطائله بينه وبين قبيلته، وكان اخوه ضريرا يتصدق ببغداد، وادعى انه حسينى، ثم ادعى بكلب انه نبى، فأشرف على القتل ثم استتابوه

اماره عز الدولة ابى منصور بختيار بن معز الدولة

قال التنوخي: كنت أحب ان اسال المتنبى عن سبب لقبه، فكنت استحى لكثرة من يحضر مجلسه ببغداد، فلما جاء الاهواز ماضيا الى فارس، قلت: في نفسي شيء: أحب ان اسالك عنه، فقال: عن لقبى؟ قلت: نعم، فقال: هذا شيء كان في الحداثة اوجبته ضرورة قال التنوخي: فما رايت في دهشه الف منها، لأنه يحمل المعنى انه كان نبيا إذا عمد الكذب، او ان عنده انه كان صادقا، الا انه اعرف بذلك. اماره عز الدولة ابى منصور بختيار بن معز الدولة كانت امارته احدى عشره سنه وشهورا. وكان عز الدولة من احسن الناس واشدهم قوه، كان يصرع الثور الجلد بيديه من غير حبال ولا اعوان، يقبض على قوائمه ويطرحه الى الارض حتى يذبح، وكان يقبض على رقبتي غلامين بيده، وهو قائم وهما قائمان، ويرفعهما من الارض وهما يصيحان ويضطربان ولا يمكنهما الخلاص. وكان من قوه القلب على امر عظيم، وبارز في متصيداته غير اسد، وطرقه اسد على غفله وثب على كفل فرسه، فضربه بخشبه وقتله. وخلع عليه الخليفة، وطوقه وسوره وكتب عهده. وفي هذه السنه، لحق أبا على بن الياس عله الفالج، وخلفه اولاده. فملك عضد الدولة كرمان. ومضى ابو على الى خراسان، فنادم صاحبها، واطمعه في ملك الديلم، فانفذ صاحبه محمد بن سمحور ومعه هدايا الى الحسين بن الفيروزان، والى وشمكير، وجعل الى وشمكير تدبير الحبس. وكاتب ركن الدولة عضد الدولة يستمده، وكفى وشمكير بالموت، فانه ركب

فرسا ادهم حسن الصورة، ونهاه منجمه على الركوب، فعارضه خنزير قد افلت من حربه رمى بها، فشب الفرس ووشمكير غافل، فسقط على دماغه، فخرج من انفه دم وحمل ميتا، وكتب ابن العميد في ذلك كتابا اوله: الحمد لله الذى اغنى بالوحوش عن الجيوش، وقال: أخذت هذا من كتاب كتبه صبى بين يدي عمرو بن مسعده، وقد ولدت بقره آدميا، فقال له عمرو: اكتب في ذلك، فكتب كتابا اوله: الحمد لله خالق الأنام في بطون الانعام، فحسد عمرو الصبى، وخاف ان يتمم فسير بلاغته، فاخذ الدرج من يده. واجتهد عز الدولة بسبكتكين، ان يخرج الى الجيش لمساعده عمه ركن الدولة، فلم يفعل، فانفذ الفتكين، ووصل الى الري وقد وقع الغناء عنه. وفي شعبان خلع على القاضى ابى محمد بن معروف، وولى القضاء بالجانب الغربي. وخلع على ابن سيار، وقلد القضاء بالجانب الشرقى. وفيه توفى ابو جعفر هارون بن المعتضد بالله. وفي ذي الحجه توفى مفلح الأسود، خادم المقتدر بمصر. وفيه قبض ابو تغلب بن حمدان على ابيه ناصر الدولة، حين كبر وساء خلقه. فانفذ اليه الخلع واللواء من الحضره. وفي هذه السنه توفى كافور الإخشيدي صاحب مصر. قال ابو جعفر مسلم بن طاهر العلوي: ما رايت اكرم من كافور، كنت اسايره يوما، وهو في موكب خفيف مؤيد متنزها، وبين يديه غلمانه، وعده جنائب بمركب ذهب ومراكب فضه، وخلفه بغال الموكب والفرش كما تكون الملوك، فسقطت مقرعته من يده، ولم يرها ركابيه فنزلت من دابتى، وأخذتها من الارض ودفعتها اليه، فقال: يا أبا جعفر، اعوذ بالله من بلوغ الغاية، ما ظننت ان الزمان يبلغني الى ان تفعل هذا، ثم ودعني، فلما سرت التفت، فإذا خلفي البغال كلها والجنائب، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: امر الأستاذ ان يحمل هذا إليك، فادخلته دارى، وكانت قيمته زياده على خمسه عشر الف دينار، وحكاياته عن المتنبى مشهوره. وفي هذه السنه هلك سيف الدولة، ونصب غلمانه ابنه أبا المعالى بحلب

وغزا سيف الدولة الروم اربعين غزوه، له وعليه. ومن شعره: تجنى على الذنب والذنب ذنبه ... وعاتبنى ظلما وفي جنبه العنب واعرض لما صار قلبي بكفه ... فهلا جفاني حين كان لي القلب إذا برم المولى بخدمه عبده ... تجنى له ذنبا وان لم يكن ذنب وكان قد ترك الشرب لمواصله الحرب، فوردت مغنيه من بغداد، ولم يمكن أبا فراس ان يدعوها قبله فكتب اليه: محلك الجوزاء او ارفع ... وصدرك الدهناء او اوسع وقلبك الرحب الذى لم يزل ... للجد والهزل به موضع رفه بصرع العود سمعا غدا ... قرع العوالي جل ما يسمع فامر بعمل المجلس، واستدعى بها والجماعه، وبلغت الأبيات المهلبى، فامر ان يصاغ لها لحن. وحكى ان سيف الدولة، لما ورد الى بغداد وقت تووزن، اجتاز وهو راكب فرسه، وبيده رمحه، وبين يديه عبد له صغير، وقصد الفرجه، والا يعرف، فاجتاز بشارع دار الرقيق، على دور بنى خاقان وفيها فتيان، فدخل وسمع وشرب معهم وهم لا يعرفونه وخدموه، ثم استدعى عند خروجه الدواءه، فكتب رقعه وتركها فيها، ثم انصرف ففتحوا الدواءه، فإذا في الرقعة الف دينار على بعض الصيارف، فتعجبوا وحملوا الرقعة، وهم يظنونها ساذجه، فأعطاهم الصيرفى الدنانير في الحال والوقت، فسألوه عن الرجل فقال: ذاك سيف الدولة بن حمدان. وقال الببغاء يرثيه بقصيده، منها: خلف المدائح بعدك التابين ... عن اى حادثه يعزى الدين ما كان في الدنيا كيومك مشهد ... بهر العقول ولا نراه يكون

لم يبق محذورا فكل مصيبه ... جلل لديه وكل خطب دون هب للهدى من بعد فقدك سلوه ... فحراكه مذ غبت عنه سكون ابقى نعيك في القبائل لوعة ... فيها لمنسرب الدموع معين اربيعه الفرس استجدى نجده ... فسهول عزك بالمصاب حزون كن كانت اسى ولكن بالحجى ... يتفاضل المحزون والمحزون ولى بسيف الدولة العز الذى ... كانت عليه به الخطوب تهون

سنه سبع وخمسين وثلاثمائة

سنه سبع وخمسين وثلاثمائة وزارة ابى الفضل الشيرازى فيها قلد عز الدولة أبا الفضل العباس بن الحسين الوزارة، وخلع عليه، واقطعه اقطاعا بخمسين الف دينار. واظهر ابو الفرج الامتناع عن العمل، فالزمه، وخلع عليه الدراعه. وقال ابن الحجاج، يهنىء أبا الفضل: هذا لواء العلا والمجد قد رفعا ... والبدر بدر الدجى للتم قد طلعا وكان بالأمس لطخ دون رؤيته ... فانجاب بالأمس هذا اللطخ وانقطعا فاليوم اصبح شمل الخوف مجتمعا ... يشكو الشباب وشمل الأمن مجتمعا قد أذعن الناس وانقادوا لسيدهم ... فمن تحرك منهم بعدها صفعا فديت من لم أكن بالغمض مكتحلا ... خوفا عليه ولا بالعيش منتفعا حتى كفى الله مولانا وخيب من ... سعى عليه وفي ايامه طمعا ومر بي سائرا في موكب لجب ... لو جلجل الرعد في قطريه ما سمعا مضى على وقلبي طائر جزعا ... أخشى العثار على مولاى ان يقعا فليت لي بدره منها مكسره ... الف وسائرها ضرب كما طبعا حتى إذا مر مجتاز بعسكره ... نثرت منها الصحاح الدق والقطعا والضرب في البيت عندي كنت ارفعه ... فانه جوف بيتى ربما نفعا ولو تلوح من مولاى لي فرج ... نثرت غلتها ثم الصحاح معا لكن ابقى لنفسي ما اعيش به ... فان رزقي مرفوع قد انقطعا وكان الحبشي بن معز الدولة، قد تغلب على البصره فانحدر الوزير ابو الفضل الى الاهواز، واستخلف أبا العلاء صاعدا، وكاتب الحبشي يسكنه ويأمره بانفاذ مال، فانفذ اليه مائتي الف درهم، فأنفذها الوزير الى عز الدولة

ثم ظفر الوزير بالحبشى، وامنه وانفذه الى عمه ركن الدولة، واستخلف على البصره المرزبان بن عز الدولة. وفي ليله النصف من شعبان، مات المتقى لله ابراهيم بن المقتدر بالله في داره التي على دجلة، المعروفه بابن كنداحميق، ودفن في دار تحاذيها. وفي شوال قدم ابو احمد الشيرازى من شيراز، فاخبر ان عضد الدولة توجه الى كرمان لينزعها من يد اليسع، وخطب بنت عز الدولة للأمير ابى الفوارس بن عضد الدولة، وكان الخطيب في العقد أبا بكر بن قريعة، وثبتت وكاله ابى احمد عند ابن معروف، من عضد الدولة، بعقد النكاح لابنه لصغره، وكتب كتابين من نسخه واحده، على صداق مائه الف دينار. وورد الخبر بوفاه الحسن بن الفيرزان بالبلاد التي تغلب عليها من جرجان. وفي هذه السنه توفى ابو الفرج على بن الحسين الاصفهانى، صاحب الأغاني، وهو من ولد مروان بن محمد الاموى، ومولده سنه اربع وثمانين ومائتين، ولم يعرف اموى يتشيع سواه، وله في المهلبى تهنئه بابن ولد له من سريه رومية: اسعد بمولود أتاك مباركا ... كالبدر اشرق جنح ليل مقمر سعد لوقت سعاده جاءت به ... أم حصان من بنات الأصفر متبجح في ذروتى شرف الورى ... بين المهلب منتماه وقيصر شمس الضحى قرنت الى بدر الدجى ... حتى إذا اجتمعت أتت بالمشترى ويروى ان المهلبى، دخل الى تجنى، فلما رآها تمثل: فما انس لا انس إقبالها ... وتميس كغصن سقته الرهم وقد برزت مثل بدر السما ... سما في العلو علوا وتم على راسها معجر ازرق ... وفي جيدها سبحه من برم

ولم ترتقب لطلوع الرقيب ... ولم تحتشم من حضور الحشم لقد سؤتنى يا نظام السرور ... واسقمتنى يا شفاء السقم بجودك عن عفر في الكرى ... وبخلك مسئوله عن امم اهذا المزار أم الازورار ... والمامكم الم او لمم فقالت له تجنى: تتمثل بشعر قائله ولا تزيل شعثه، قال: ومن هو قائله؟ قالت: الاصبهانى، يمدحك به ويقول فيه: فداؤك نفسي هذا الشتاء ... علينا بسلطانه قد هجم ولم يبق من سنتي درهم ... ولا من ثيابي الا رمم يؤثر فيها نسيم الهوا ... وتحرقها خافيات الوهم فأنت العماد ونحن العفاة ... وأنت الرئيس ونحن الخدم فامر له بمال.

سنه ثمان وخمسين وثلاثمائة

سنه ثمان وخمسين وثلاثمائة في المحرم مات ابو احمد الفضل بن عبد الرحمن بن جعفر الشيرازى، ومن شعره أهلا وسهلا بالحبيب الذى ... يصفينى الود واصفيه محاسن الناس التي فرقت ... فيهم غدت مجموعه فيه قد وضح البدر باشراقه ... والغصن غضا بثنيه أفديه احميه وقلت له ... من عبده أفديه احميه وفي هذه السنه اتى الهجريون عين التمر، فتحصن منهم صنبه العيني بشفاثا، فاستاقوا المواشى وانصرفوا. واتى ملك الروم طرابلس، فاحرق ربضها، وأخذ من بلدان الساحل مائه الف شاب وشابه، وعزم على قصد بيت المقدس، فهاب القرامطة، وقد كانوا نزلوا الشام، وأوقعوا بابن عبد الله بن طغج. وفي جمادى الآخرة مات الأمير ابو جعفر بن الراضي بالله، وكان نازلا بالرصافة. وفيه كثر ببغداد موت الفجأة. وبلغ الكر زياده على تسعين دينارا. ولم تزد دجلة والفرات والنهروان في هذه السنه. وفي هذه السنه خطب لعضد الدولة بسجستان، واستخلف على كرمان ابنه شيرزيل ووجد الأكراد في جبل جلود الوقيعه، بسيل كثيف عزارج، معقود فيه مال وصياغات ودراهم، في كل درهم منها خمسه دراهم، وفي احد وجهيه صوره بقره، وعلى الوجه الآخر صوره انسان وعليه كتابه رومية. وكان ابو تغلب قد سلم الى أخيه حمدان الرحبه، ثم أساء الى وكلائه، فكتب اليه حمدان يحلف بطلاق ابنه سعيد بن حمدان، وبكل يمين انه ان أحوجه استعان عليه بالديلم، فان انتصف والا استعان بالقرامطة، فان بلغ غرضا والا استعان بملك الروم،

فكان جواب ذلك من ابى تغلب، ان قبض ضياعه، وطرد وكلاءه، وانفذ أخاه أبا البركات، فانتزع الرحبه من يد حمدان. فدخل حمدان بغداد في شهر رمضان، وتلقاه عز الدولة وسبكتكين في ميدان الاشنان، وانزله في دار ابن رزق الكاتب النصراني، وحمل اليه مائه وخمسين الف درهم، وثلاثمائة ثوب، أصنافا من ديباج وعتابى ودبيقى، وثلاثين راسا بغالا وخيالا وجمالا وسبع مراكب ذهبا، وكاتب أخاه يسفر في الصلح بينهم، فتم ذلك، ولما خرج شيعه عز الدولة، وحمل اليه اكثر مما حمله أولا عند قدومه. وحكى انه يوم دخوله صدم سبكتكين العجم احد القواد، فقتله، ورضخ فرسه صاعدا فاعتل، فلما وصل وافاه القاضى ابو بكر بن قريعة مسلما، فقال حاجبه: ان الأمير نائم، فعاد فلقيه انسان، فقال: من اين جاء القاضى؟ فقال: أتانا حمدان وافدا، لأخيه مباعدا، فقتل قائدا، ورضخ صاعدا، وظل راقدا. وقال ابن نباته في حمدان قصيده، منها: إليك صحبنا اليوم ترعد شمسه ... وحيره ليل اسود النجم فاحم ودهرا سمت حيتانه في سمائه ... وانجمه في بحره المتلاطم الى صده ان يستخف عتابنا ... وما الظلم فيه غير شكوى المظالم تكون بها أنفاسنا وحديثنا ... مدائح حمدان المليك القماقم فتى لم ترق مساء الشبيبة شعره ... على الخد حتى رام شم المراوم أخو الحرب يثنى جيدها وهو صارم ... ويسلم منها والقنا غير سالم فتى لا يرى ان الهموم مصائب ... وان سرور العيش ضربه لازم يؤمل في أمواله كل آمل ... ويرحم من اسيافه كل راحم إذا السيف لم يستنزل الهام لمعه ... فما هو من آرائه والعزائم ليهنيك جد يفلق الصخر جده ... ويهتك صدر الجحفل المتلاطم انك لا تلقى الندى غير باسم ... اليه ولا صرف الردى غيرى حازم وسار حمدان عن بغداد، وخلف حرمه واولاده، وشيعه عز الدولة، فلما وصل الى الرحبه، عاد الخلف بينه وبين أخيه، وانفذ ابو تغلب أخاه أبا البركات، فانتزع الرحبه من يد حمدان، وسار حمدان عنها في البر الى تدمر، فنفذ زاده، ولحقه

سنه تسع وخمسين وثلاثمائة

عطش شديد، فعاود الرحبه، ودخلها من ثلم عرفها، وقد ترك ابو البركات اصحابه فيها، واصعد الى الرقة، فاستولى حمدان على ذخائره وأمواله واصحابه. فبلغ ذلك أبا البركات، فانحدر، فتلقاه حمدان وعدته قليله، وقال لأصحابه: لا بد من الصبر، فقاتل فنصر، وقتل أبا البركات، وانفذه الى أخيه ابى تغلب في تابوت فكفن بسل توبه، واعتذر بانه دفع عن نفسه بقتله، فقال ابو تغلب: والله لألحقنه به ولو ذهب ملكي. وقبض ابو تغلب على أخيه ابى الفوارس محمد، صاحب نصيبين، وعرف انه وافق حمدان على الفتك به. ولما عرف هبه الله بن ناصر الدولة ما جرى على ابى الفوارس، ثار به المرار، وانكر فعل ابى تغلب. وكتب الحسين بن ناصر الدولة الى أخيه ابى تغلب، وهو صاحب الحديثه يقول: ان الله قد وفق الأمير في افعاله، ونحن وان كنا اخوه، فنحن عبيد، ولو أمرني بالقبض عليه لفعلت، فقال ابو تغلب: هذا كتاب من يريد ان يسلم. وانحدر حمدان واخوه ابو طاهر ابراهيم الى بغداد. وكان عز الدولة بواسط فانحدرا اليه فتلقاهما، ونزل حمدان دار ابى قره، وانزل أبا طاهر ابراهيم في دار ابى العباس بن عروه، وحمل إليهما هدايا كثيره، واصعدا معه الى بغداد. وفي شهر رمضان قدم الوزير ابو الفضل العباس بن الحسن من الاهواز وتلقاه عز الدولة واصعد الى بغداد. وفيه مات ابو الحسين الكوكبى العلوي الذى كان يتقلد نقابه الطالبيين. وفي ذي القعده انحدر ابو إسحاق بن معز الدولة الى دار السلطان، ووصل الى المطيع لله وعقد لعضد الدولة على كرمان، وانفذ اليه الخلع واللواء والطوق والسوارين. وفيه نقل عز الدولة أباه معز الدولة الى تربه بنيت له بمقابر قريش، بعد ان كفنه وطيبه، ومشى بين يدي تابوته الوزير ابو الفضل، والرئيس ابو الفرج والأمراء من الديلم والاتراك. وملك الروم أنطاكية يوم النحر. سنه تسع وخمسين وثلاثمائة فيها فتح الروم منازكردم، من اعمال أرمينية بالسيف. وفي شهر ربيع الاول صرف القاضى ابو بكر بن سيار عن القضاء في حريم دار الخلافه، وتولاه ابو محمد بن معروف. وفي هذه السنه اقام ابو المعالى بن سيف الدولة الخطبه في اعماله واعمال فرعونه للخارج بالمغرب. وفي آخرها قبض على الوزير ابن ابى الفضل الشيرازى، وتولى الوزارة مكانه ابو الفرج محمد بن العباس بن فسانحس، وقال ابن الحجاج يمدحه: يا وزيرا بنوه طلعت ... انجم العدى صحن خدي لارض نعلك ... يا سيدي الفدا بك قامت سوق النوال ... وقد اصبحت سيدي وسمعنا فيها النداء ... على الجود والندى فاما ابو الفضل العباس بن الحسين الشيرازى، فمولده بشيراز سنه ثلاث وثلاثمائة. وورد مع معز الدولة بغداد، وناب عن المهلبى، وصاهره على بنته زينه من تجنى، وكان ذلك سبب تقدمه، ثم فسد ما بينهما وكان واسع المروءة والصدر، وداره على الصراة ودجلة، وهي التي كانت بستانا لنقيب النقباء الكامل، وانتقلت الى الفضلونى، وانفق عليها ابو الفضل زائدا على مائه الف دينار، ثم احترقت، فامر عضد الدولة ببسطها بستانا. وعمل دعوه لمعز الدولة، وجعل في وسط السماط قصورا من السكر، فيها مخانيث اغان يغنون ويرقصون ولا يشاهدون، وقطع دجلة من فوق الجسر الى دار الخلافه بالقلوس الغلاظ وطرح الورد فيها حتى ملاها، وغطى دجلة ولم ينزل بغداد قيان الا احضره، وذلك في سنه اربع وخمسين وثلاثمائة

فلما كان في سنه خمس وخمسين، قال له معز الدولة: يا أبا الفضل، تلك الدعوة فريده بلا اخت؟ فقال: بل هي في كل سنه. وعمل دعوه انفق فيها الفى الف درهم، ووهب فيها جواري وغلمانا واتراكا وضياعات واستعد بعد عملها عند الشوائين الف جمل مشوى. وحمل الى ابى الفضل اصحابه ما امكنهم من الهدايا. وكان لابن الحجاج كميت فاراد ان يقوده، ثم خاف ان يقبله، فكتب اليه: وصاحب لي أمس شاروته ... كيف ترى لي اليوم ان افعلا فقال قد هذا الكميت الذى ... قد جمع الحسن وقد اكملا فقلت لا والله لا قدته ... اخاف يا احمق ان يقبلا واما ابو الفرج محمد بن العباس بن فسانحس، فمولده بشيراز سنه ثلاث وثلاثمائة، وورد مع معز الدولة في ذي الحجه سنه ثمان وثلاثمائة. وأبوه من اصحاب النعم الوافره بفارس، صادره عماد الدولة على ستمائه الف دينار وقال: انى كسبت معه خمسين الف الف درهم، وجاء مع معز الدولة الى بغداد، وولاه الزمام على المهلبى، وتوفى سنه اثنتين واربعين ثلاثمائة، وتكفل المهلبى بأمر ابنه، حتى رد اليه الديوان.

سنه ستين وثلاثمائة

سنه ستين وثلاثمائة [أخبار] في صفر لحقت المطيع لله سكنه، استرخى فيها جانبه الأيمن، وثقل لسانه. وفيه توفى ابو الفضل محمد بن الحسين بن العميد، كاتب ركن الدولة، فاستكتب مكانه أبا الفتح، ووالده ابو عبد الله العميد، كان يكتب لمرداويج بن زيار، ولأخيه وشمكير. ورتب ركن الدولة أبا الفضل بن العميد، مع عضد الدولة، فهذبه وأدبه، ثم تغير عليه، فحلف الا يقيم بفارس، ومضى الى ركن الدولة، ومات بالري، وقدم عليه المتنبى وهو بارجان فمدحه بقصيدته التي أولها: باد هواك صبرت أم لم تصبرا ... وبكاك ان لم تجر دمعك او جرى ومنها: فدعاك حسدك الرئيس وأمسكوا ... ودعاك خالقك الرئيس الاكبرا خلفت صفاتك في العيون كلامه ... كالخط يملا مسمعى من أبصرا - قال ابن جنى: اى، فكما ان الخط يقوم لقارئه مقام ما تسمعه اذنه، فكذلك ما يشاهد من فضلك، يقوم مقام خالقك من مبلغ الاعراب انى بعدها ... شاهدت رسطاليس والاسكندرا ومللت نحر عشارها فاضافنى ... من ينحر البدر النضار إذا قرى وسمعت بطليموس دارس كتبه ... متملكا متبديا متحضرا اى جمع الملوكيه والبدوية والحضريه، ونصب دارس على الحال. ولقيت كل الفاضلين كأنما ... رد الإله نفوسهم والاعصرا اى اجتمع في زمانه الفضلاء المتقدمون

نسقوا لنا نسق الحساب مقدما ... واتى فذلك إذ اتيت مؤخرا - اى مضوا مثل الحساب الذى يذكر تفاصيله، ثم يقال في الأخير: والجميع كذا، فلما جئت أنت آخرهم، كنت كأنك جمله التفصيل يا ليت باكيه شجاني دمعها ... نظرت إليك كما نظرت فتعذرا شجاني أحزنني، يقول: ليت من بكى لفراقك، نظر إليك فيعذرنى، ونصب فتعذر على التمنى. وترى الفضيلة لا ترد فضيله ... الشمس تشرق والسحاب كنهورا الكنهور: القطع من السحاب، اى وترى الفضيلة فيك مشرقه، غير مشكوك فيها، كما ترى الشمس إذا اشرقت، والسحاب إذا كثر، ونصب الشمس والسحاب بفعل مضمر تقديره: ترى برؤية فضائلك الشمس والسحاب، ونصب فضيله على الحال انا من جميع الناس اطيب منزلا ... واسر راحله واربح متجرا ووصله ابن العميد لهذه القصيده، بثلاثة آلاف دينار. وقال يودعه من قصيده: تفضلت الأيام بالجمع بيننا ... فلما حمدنا لم تدمنا على الحمد - اى لم تدم على حمدنا، وجعل الحمد منها جميعا، لان كل واحد منا أحب لقاء صاحبه وكره فراقه- جعلن وداعي واحدا لثلاثة ... جمالك والعلم المبرح والمجد المبرح: الذى يكشف حقائق الأمور من قولهم: برح الخفاء، اى انكشف الأمر- وقد كنت أدركت المنى غير اننى ... يعيرني اهل بإدراكها وحدي

اى أدركت بلقائك المنى، الا ان اهلى يعيروننى كيف لم اشاركهم في ذلك- وكل شريك في السرور بمصبحى ... ارى بعده من لا يرى مثله بعدي اى كل من يشاركني في السرور بقدومى يرى ما افدتنيه. فجد لي بقلب ان رحلت فاننى ... مخلف قلبي عند من فضله عندي قال ابن الصابى: قيل ان مما نفق به ابن العميد على ركن الدولة، ان ركن الدولة اراد ان يحدث بناء بالري، واختار له موضعا، وكانت فيه شجره، ذات استداره عظيمه، وعروق نازله متشعبه، فقدر لقلعها واخراج عروقها جمله كثيره، ولم تقع ثقته بأنها تستأصل استئصالا قاطعا، فقال ابن العميد: انا اكفى الأمير هذه الكلفه، واقطع هذه الشجرة بعروقها بأهون شيء، في اقرب أمد، واقل عدد. فاستبعد ذلك ركن الدولة، وقال من طريق الإزراء: افعل، فاستدعى حبالا وأوتادا وسلك هذا السلك المعروق في جر الثقيل، فلما رتب ما رتبه، ونصب ما نصبه، اقام نفرا قليلا حتى مدوا، ومنع ان يقف احد على جربان كثيره من الشجرة، بحسب ما قدره من وشوج أصولها ورسوخ عروقها. ووقف ركن الدولة في موكبه ينظر، فما راعهم الا تزعزع الارض وانفتاحها وانقلاب قطعه كبيره منها، وسقوط الشجرة منسله بجميع عروقها، فتعجب ركن الدولة من ذلك، واستظرفه واستعظمه، ونظر الى ابى الفضل بعين الجلاله. وهذا امر لا يعظم عند من يعرف الحيله فيه، والطريق المقصود اليه. ومن شعر ابن العميد يذكر حال حبيب له بعد: هبيه كما قال العذول هبيه ... اما آن ان تغضى العواذل فيه دعيه ولا ترضى لإتلاف جسمه ... أفانين ان لم تفنه ستريه إذ اعتلقت كفى خليلا تعرضت ... له نوب الأيام تسلبنيه وفي شهر ربيع الاول وصل ابو الحسن على بن عمرو بن ميمون، وقد ثبتت وكالته عند القاضى ابى محمد بن معروف بن ابى تغلب، وتزوج له بنت عز الدولة

وزارة ابى الفضل العباس ابن الحسن الشيرازى الثانيه

بختيار، ومنها ثلاث سنين على صداق مائه الف دينار، وكناه الخليفة أبا تغلب، وجدد له ضمان الموصل، وسائر اعماله بديار ربيعه ومضر في كل سنه بألف الف ومائتي الف درهم. ووصل ابن عمرو الى المطيع لله مع ابى عمر محمد بن فسانحس الخازن، حتى سلم اليه الخلع لصاحبه والسيف. وانحدر الوزير ابو الفرج الى الاهواز، فشرع ابو الفضل الشيرازى في الوزارة، فتم ذلك له. وانفذ عز الدولة بمن قبض على ابى الفرج بالاهواز، وقبض على أخيه ابى محمد الخازن ببغداد، واطلق أبا الفضل من اعتقاله بدار ابى الفرج، فكانت وزارة ابى الفرج ثلاثة عشر شهرا وثلاثة ايام. وزارة ابى الفضل العباس ابن الحسن الشيرازى الثانيه قال التنوخي: كنا جلوسا في دار ابى الفضل الثانيه، ننتظر خروجه حتى يخلع عليه، وكان معنا ابن الحجاج، صاحب السفه في شعره، فانشدنا مديحا لأبي الفضل منه: يا سيدا طلعته لم تزل ... أشهى الى عيني من النوم لم تظلم القوم وحاشاك ان ... تنسب في الظلم الى القوم جازيتهم مثل الذى اسلفوا ... في الدار والمجلس واليوم وكان معنا ابن زنجى حاضرا، فانشدنا ابيات ابن رزيق: انا لقينا حجابا منك أعرضنا ... فلا يكن ذلنا فيه لك الغرضا فاسمع مقالي ولا تغضب على فما ... ابغى بنصحك لا مالا ولا عرضا الشكر يبقى ويفنى ما سواه فكم ... سواك قد نال ملكا فانقضى ومضى في هذه الدار في هذا الرواق على ... هذى الوساده كان العز فانقرضا

سنه احدى وستين وثلاثمائة

وهذه الأبيات قالها ابو محمد بن زريق، وقد اتى الى باب الكوفى، وقد استكتبه بجكم، وعزل ابن شيرزاد، وانزل الكوفى دار ابن طومار بخان ابى زياده، وكانت من قبل ديوانا لابن شيرزاد، فجاء ابن زريق فحجب عن الكوفى، فقال لحاجبه حين انشده الأبيات: ويلك! اما كان له أسوة بمن دخل، ولكنك اردت ان يمزق عرضي، ويواجهنى به، ورفق بابن زريق، ولم يزل به حتى جلس ورضى. وفي رجب، تقلد ابن معروف قضاء القضاه. وانحدر عز الدولة والوزير ابو الفضل لمحاربه عمران، واقام ابو الفضل لحربه. ولابن الحجاج في ذلك، وقد كسر عمران عسكر الوزير غير مره، انشدنى ذلك شرف المعالى ابن أيوب، وكان احسن الرؤساء محاضره، واجملهم معاشره، وكم له من مكارم أجزلها وكم لبيته من مناقب اثلها: ان عمران مذ نشا النصر فينا ... قد صفعنا قفاه حتى عمينا قال قوم حرم من صفعوه ... قلت لا بل حرم من يعنينا في ابيات. وقام ابو الفضل يحارب عمران سنه، حتى ملك تله، فانتقل عمران الى هوكولان. وفي هذه السنه قبض على ابى قره بالجامده، وحمل الى جنديسابور، فمات تحت المطالبه، وكان قد نقل القبه التي على قبر الوزير القاسم بن عبيد الله، وهي قبة مشهوره بالشؤم، ونصبها على مجلس في داره، وكان القاسم قد تنوق في عملها، ودفن تحتها حين تمت. سنه احدى وستين وثلاثمائة في شهر ربيع الاول، خلع على ابى احمد محمد بن حفص بواسط، وقلد الديوان مكان ابى قره وانحدر عز الدولة الى البصره. وفيها مات ابو القاسم سعيد بن ابى سعيد الجناني بهجر، وعقد القرامطة لأخيه ابى يعقوب، لم يبق من اولاد ابى سعيد غيره. وفي هذه السنه صالح ركن الدولة وابنه عضد الدولة صاحب خراسان، على ان يحملا اليه مائه وخمسين الف دينار. وتزوج صاحب خراسان بنت عضد الدولة، وتوسط الأمر عابد. وفي شعبان قبل ابن معروف شهاده ابى طالب بن الميلوس العلوي. وفي شهر رمضان، توفى عيسى بن المكتفي بالله. وفيه توفى ابو الغنائم الفضل بن ابى محمد المهلبى بالبصرة، وحمل تابوته الى بغداد.

سنه اثنتين وستين وثلاثمائة

سنه اثنتين وستين وثلاثمائة [أخبار] خرج الدمستق في جموع كثيره الى بلاد الاسلام، فوطئها واثر الآثار القبيحه فيها، واستباح نصيبين، واقام بها خمسه وعشرين يوما، وانفذ اليه ابو تغلب ما لا هادنه به. واتى المستغيبون من اهل تلك البلاد الى بغداد، وضجوا في الجامع، وكسروا المنابر، ومنعوا من الخطبه، وصاروا الى دار المطيع لله، وقلعوا بعض شبابيكها. وكان عز الدولة بالكوفه، فخرج اليه ابو بكر الرازى، وابو الحسين على بن عيسى الرماني، وابو محمد الداركى وابن الدقاق، في خلق من اهل العلم والدين، مستنفرين ووبخوه على حرب عمران بن شاهين، وصرف زمانه الى القبض على ارباب الدواوين وعدوله عن مصالح المسلمين. فادى اجتهاد ابى الفضل الشيرازى، ان قال للمطيع لله: يجب ان تعطى ما تصرفه في نفقه المجاهدين، فقال المطيع لله: انما يجب على ذلك، إذا كنت مالكا لأمري، وكانت الدنيا في يدي، فاما ان أكون محصورا ليس في يدي غير القوت، الذى يقصر عن كفايتي، فما يلزمني غزو ولا حج، وانما لي منكم الاسم على المنبر، فان آثرتم ان اعتزل اعتزلت. والتزم له بعد ذلك أربعمائة الف درهم باع بها انقاض داره وثيابه. ثم وصل الخبر بان الدمستق قصد أمد، فخرج اليه واليها هزار مرد، مولى ابى الهيجاء بن حمدان وانضم اليه هبه الله بن ناصر الدولة، وساعدهم اهل الثغور، فنصرهم الله تعالى، وكثر القتل والاسر لأصحاب الدمستق، وأخذ مأسورا، وذلك في ثانى شوال. وكان اكثر السبب في خذلان الله تعالى للروم ان هبه الله تعالى متقدمهم في مضيق، وقد تقدم عسكره ولم يتأهب، فكانت الحال في اسره كما وصفنا. وكتب ابو تغلب كتابا الى المطيع لله، يخبره بالحال، وكتب الصابى الجواب عنه،

نزول الخارج بالمغرب بمصر

وهو مذكور في رسائله ومات الدمستق من جراح به. وفي شعبان قتلت العامه والاتراك خمارا صاحب المعونة برأس الجسر من الجانب الشرقى، واحرقوا جسده، لأنه كان قد قتل رجلا من العوام وولى مكانه الحبشي، فقتل احد العيارين في سوق النخاسين، فثارت العامه وقاتلته، وانفذ ابو الفضل الشيرازى حاجبه صافيا لمعاونه صاحب الشرطه، وكان صافى يبغض اهل الكرخ، فاخترق النخاسين الى السماكين، فذهب من الأموال ما عظم قدره. واحرق الرجال والنساء في الدور والحمامات واحصى ما احترق فكان سبعه عشر ألفا وثلاثمائة دكان وثلاثمائة وعشرين دارا، اجره ذلك في الشهر ثلاثة واربعون الف دينار واحترق ثلاثة وثلاثون مسجدا. وكلم ابو احمد الموسوى أبا الفضل الشيرازى، بكلام كرهه، فصرفه عن النقابة، وولى أبا محمد الحسن بن احمد بن الناصر العلوي. وركب ابو الفضل الى دار ابن حفص التي على باب البركه، واحضر التجار وطيب قلوبهم، فقال: له شيخ منهم: ايها الوزير أريتنا قدرتك، ونحن نؤمل من الله تعالى ان يرينا قدرته فيك، فامسك ابو الفضل ولم يجبه، وركب الى داره. نزول الخارج بالمغرب بمصر وكان جوهر صاحب الخارج بمصر، قد اتى مصر، واقام الدعوة لصاحبها وبنى له قصره، وأتاها ابو تميم معد بن اسماعيل، الملقب بالمعز فنزلها. وفي سادس عشر ذي القعده خلع على إسحاق بن معز الدولة من دار الخلافه بالسيف والمنطقه، ورسم بحجبه المطيع لله على رسم أخيه عز الدولة في ايام ابيه، ولقب عمده الدولة. وفي سادس ذي الحجه قبض على ابى الفضل الشيرازى، وقد كثر الدعاء عليه في المساجد والبيع والكنائس، وقد ذكرنا مصادراته للمطيع لله، واحراق غلامه الكرخ، وما بت من المصادرات، وسلم الى الشريف ابى الحسن محمد بن

وزارة ابى طاهر بن بقية لمعز الدولة

عمر، فانفذه الى الكوفه، فسقى ذراريح في سكنجبين، فتقرحت مثانته، ومات من ذلك. قال ابو حيان: قيل له في وزارته الثانيه: كنت قد وعدت من نفسك، ان اعاد الله يدك الى البسطه، ورد حالك الى السرور والغبطة، انك تجمل في المعاملات، وتنسى المقابله، وتلقى وليك وعدوك بالإحسان الى هذا والكف عن هذا! فكان جوابه ما دل على عتوه لأنه قال: اما سمعتم قول الله تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ فما لبث بعد هذا الكلام الا قليلا حتى اورد ولم يصدر، ولم ينعش بعد ان عثر، وتولى ابن بقية مصادرته، فصادره على مائه الف دينار. وزارة ابى طاهر بن بقية لمعز الدولة كناه الخليفة، وخلع عليه، ولقبه الناصح، وكان يخدم في مطبخ معز الدولة، حتى خدم أبا الفضل الشيرازى، وكان واسع النفس، وكانت وظيفته في كل يوم الف رطل ثلجا، وفي كل شهر اربعه آلاف منا شمعا، وكان يفعل كما يفعل وزراء الخلفاء، من الجلوس في الدسوت الكامله، ويضع وراء مجلسه أساطين الشمع، وبين يديه عده اتوار فيها الموكبيات والثلاثيات، وفي كل مجلس من الدار تور فيه ثلاثية، وان كان المكان خاليا، وفي أيدي الفراشين الموكبيات، بين يدي من يدخل ويخرج، وفي الشتاء يترك بين يديه كوانين الفحم، فيها جمر الغضا، ويترك عليه اقطاع الشمع، فكان يشتعل احسن اشتعال. وفي هذه السنه توفى القاضى ابو حامد احمد بن عامر بن بشر المروروذى بالبصرة.

سنه ثلاث وستين وثلاثمائة

سنه ثلاث وستين وثلاثمائة [أخبار] طولب ابو محمد بن معروف ان يستحل بيع دار ولد ابى الحسن محمد بن ابى عمرو الشرابي حاجب الخليفة، وكان أبوه قد مات، والبائع لها وكيل نصبه المطيع لله. فامتنع واغلق بابه، واستعفى من القضاء، فقلد مكانه القاضى ابو الحسن محمد بن صالح بن أم شيبان الهاشمى، بعد ان امتنع، وأجاب على الا يقبل رزقا، ولا خلعه، ولا شفاعه، وان يدفع الى كاتبه من بيت مال السلطان ثلاثمائة درهم، ولحاجبه مائه وخمسون درهما، وللقاضي في الفروض على بابه مائه درهم، ولخازن ديوانه وأعوانه ستمائه درهم، وان يصل اليهم ذلك من الخزانه، فأجيب. وركب معه ابن بقية والوجوه، وتسلم عهده بحضره المطيع لله، فتولى انشاءه ابو منصور احمد بن عبيد الله الشيرازى، صاحب ديوان الرسائل يومئذ، وقرئ عهده في جامع المدينة. وصرف ابو تمام الزينبى عن نقابه العباسيين، وتقلدها ابو محمد عبد الواحد بن الفضل بن عبد الملك الهاشمى. وفي رجب لقب ابو تغلب عده الدولة، وخرج باللقب اليه ابو الحسن بن عمرو كاتبه. واضاق عز الدولة، فانحدر الى الاهواز، فتنازع تركي وديلمى في معلف بالاهواز، فوقعت بينهم وقعه، فقيل ارسلان التركى وهو لعرجنه، وكان قد ظهر بين سبكتكين وعز الدولة، فقبض عز الدولة على الاتراك الذين عنده. وحل اقطاع سبكتكين بالاهواز، وقبض على عماله ووكلائه، وفعل باصحابه بالبصرة كذلك وكتب على الاطيار الى أخيه ابى إسحاق، وامره ليقبض على سبكتكين. فاشاع ابو الحسن عمده الدولة ان عز الدولة أخاه قد مات، وقصد ان يأتيه سبكتكين

خلافه الطائع لله ابى بكر عبد الكريم بن المطيع لله

معزيا، فيقبض عليه، وحسب ذلك، ووردت عليه كتب اصحابه بالشرح. وجمعت أم عز الدولة الديلم بالسلاح. وركب سبكتكين الى دار عمده الدولة، وهي دار مؤنس، فحاربهم يومين، فاستسلموا وسألوه ان يفرج لهم لينحدروا، ففعل وانحدروا. وتفرق الديلم بمرقعات الى عز الدولة، واستولى سبكتكين على اموال عز الدولة وسلاحه. وانحدر المطيع لله فانفذ سبكتكين ورده. ونهبت الاتراك دور الديلم، ثم نهبوا دور التجار، فافتقر الناس، واعتزل المطيع لله الخلافه، ونذكر سبب عزله. وكان المطيع لله كريما أديبا، حكى ابو الفضل التميمى، عن المطيع لله قال: سمعت شيخي ابن منيع يقول: سمعت أبا عبد الله احمد بن حنبل يقول: إذا مات صدقا الرجل ذلك ذل. خلافه الطائع لله ابى بكر عبد الكريم بن المطيع لله كانت سبع عشره سنه، وثمانية اشهر، وسته ايام. لما وقف سبكتكين على حال المطيع لله، رحمه الله عليه، في حال العله التي لحقته، وللفالج الذى تمادى به، حتى ثقل لسانه، دعاه الى خلع نفسه، وجعل الأمر الى ولده الطائع لله. وبويع له يوم الأربعاء، لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة، سنه ثلاث وستين وثلاثمائة، ولم يتقلد الخلافه من له أب حي غيره، وغير ابى بكر الصديق رضى الله عنه: وركب الطائع لله يوم بويع له، وعليه البرده، وقد خلع على سبكتكين، وكناه ولقبه نصير الدولة، وطوقه وسوره، وسار سبكتكين بين يديه، وركب في يوم

الاضحى الى المصلى، وصلى بالناس وخطب وخلع على ابى الحسن على بن جعفر كتابته. واصعد عز الدولة من الاهواز الى واسط. وصارت بغداد حزبين، فالسنيه تنادى بشعار سبكتكين، والشيعة تنادى بشعار عز الدولة. وواصل عز الدولة استنجاد ركن الدولة وابى تغلب وعمران بن شاهين.

سنه اربع وستين وثلاثمائة

سنه اربع وستين وثلاثمائة توفى في المحرم ابو منصور إسحاق بن المتقى لله على احدى وخمسين سنه. وقدم حمدان بن ناصر الدولة على سبكتكين، واحدره على مقدمته، واصعد دبيس بن عفيف على مقدمه عز الدولة، فالتقى دبيس بحمدان تحت جبل، فاسر حمدان من اصحاب دبيس خلقا، وقتل آخرين، واستامن بعد ذلك الى عز الدولة. وانحدر سبكتكين والاتراك، لقتال عز الدولة. وانحدر الطائع لله ومعه أبوه المطيع، فلما بلغوا دير العاقول، توفى المطيع ليله الاثنين لثمان بقين من المحرم، وتوفى سبكتكين بعده، ليله الثلاثاء لسبع بقين منه، لذرب ناله، فكانت مده امارته شهرين وثلاثة عشر يوما، ففي ذلك يقول ابن الحجاج: اغضوا وفي الأحشاء جمر الغضا ... واستقبلوا الحزن على ما مضى عجبت من امركم ما بدا ... حتى تولى معرضا وانقضى تفسحت دودتكم هيبة ... للصل في واسط إذ فضضا لما سما مولاه في جحفل ... اسود كالليل يسد الفضا ولاح برق الموت من سيفه ... والموت من حديه قد اومضا امرضه الخوف ومن حق من ... ساوره الرئبال ان يمرضا وانفتحت ثلمه باب استه ... فلم يزل يسلح حتى قضى يا معشر الاتراك لا تعرضوا ... عن قول من صرح او عرضا نوحوا وصيحوا يا قتيل الخرا ... قد كنت فينا ثقه مرتضى قال الرئيس ابو الحسن: وجدت بخط سابور نسخه، ما خلفه سبكتكين الف الف دينار مطيعيه، وعشره آلاف الف درهم ورقا، وصندوقان طويلان فيهما جوهر،

وستون صندوقا طوالا، منها خمسه واربعون فيها آنيه الذهب والفضه، وخمسه عشر منها بلور محكم، وثلاثون مركب ذهب، ومنها خمسون، كل واحد وزنه الف مثقال، وستمائه مركب فضه، واربعه آلاف ثوب ديباجا، منها الفان وخمسمائة تستريه، وخمسمائة رومية ملكيه، والباقى بغداديه وعشره آلاف راس جمالا، وثلاثمائة داريه، واربعون خادما. وحمل المطيع لله الى بغداد، ودفن في تربه والده المقتدر بالله رحمه الله عليهما بالرصافة، وصلى عليه ابن معروف، وكبر عليه خمسا. ودفن سبكتكين بالمخرم. وعقدت الاتراك الأمر لفتكين بن منصور، مولى معز الدولة، وعرض عليه الطائع اللقب فامتنع وكان يكتب من ابى منصور، مولى امير المؤمنين. وانحدروا الى واسط وعز الدولة نازل بغربيها، واقامت الاتراك بشرقيها، وعبروا اليه وقاتلوه، واستظهروا عليه أياما كثيره. وبينما حمدان يقاتلهم مع الديلم رماه تركي بنشابه فوقعت في صماخ دابته، فتمطرت به فوقع، فضربه الاتراك بالدبابيس حتى انحل وركه، واخذوه أسيرا. وكان عز الدولة قد كاتب أبا تغلب، يستدعيه الى بغداد، فاستولى عليها العيارون، فدخلها ابو تغلب، وقتل منهم جماعه، وأخذ ما وجده الاتراك. وذكر ابو حيان في كتاب الامتاع والمؤانسه، قال: حصل ببغداد من العيارين قواد منعوا الماء ان يصل الى الكرخ، وكان فيهم قائد يعرف باسود الزبد، لأنه كان يأوي الى قنطره الزبد، ويستطعم من حضر، وهو عريان لا يتوارى. فلما فشا الهرج، راى هذا الأسود من هو اضعف منه، قد أخذ السيف، فطلب سيفا ونهب واغار، وظهر منه شيطان في مسك انسان، وضح وجهه، وعذب لفظه، وحسن جسمه، وأطاعه رجال، فصار جانبه لا يرام، وحريمه لا يضام، وظهر من حسن خلقه مع شره، ولعنه وسفكه الدم، وهتكه الحريم، وركوبه الفواحش، وتمرده على

ربه القاهر، ومالكه القادر، انه اشترى جاريه بألف دينار، فلما حصلت عنده، حاول منها حاجته فمنعته، فقال: ما تكرهين منى؟ فقالت: اكرهك كما أنت. فقال: ما تحبين؟ قالت: ان تبيعني، قال: او افعل معك خيرا من ذلك؟ وحملها الى مسجد ابن رغبان، فأعتقها بين يدي القاضى ابن الرقاق، ووهب لها الف دينار، فعجب الناس من نفسه وهمته وسماحته وصبره على خلافها، وترك مكافاتها على كراهتها، ثم صار في جانب ابى احمد الموسوى، فحماه وسيره الى الشام، فهلك بها وقال ابن الحجاج، يذكر دخول ابى تغلب الى بغداد: وأنت يا بغداد قولي فقد ... سألتك الحق ولا تكذبى ارايت بدرا قط في تمه ... احسن من وجه ابى تغلب دلى عليه او فهاتيه من ... اى مكان شئت او فاطلبى هيهات هذا طلب فائت ... مختلف المعنى فلا تتعبى وكنت قد اخبرت حاشاك يا ... نظيره الجنه ان تخربى جاءتك من تغلب ساداتها ... وطال ما استعجمت فاستعر بي فو الذى يعفو بإحسانه ... مقتدرا عن ذله المذنب لو نطقت بغداد قالت نعم ... سبحان من فرج ما حل بي اعاش حتى بعد ما مات أم ... في ليله القدر دعا لي النبي يا عده الدولة كم دعوه ... مجابه فيك ولم تحجب ولما بلغ الاتراك استيلاء ابى تغلب على دورهم، واخذه ما وجد فيها من انقاض وغيرها، اصعدوا معهم الطائع، فلما قاربوها اصعد ابو تغلب عنها فاصعدوا وراءه الأنبار، وانحدروا وقد بعد ودخلوا بغداد وانحدر الطائع الى داره. وجدد الفتكين التوثقه على حمدان بن ناصر الدولة، ثم اطلقه وخلع عليه. وانفذ ركن الدولة جيش الري مع ابى الفتح بن العميد، وساروا الى عضد الدولة، وامر بالنفوذ لمعارضه عز الدولة، فالتقوا بارجان، وساروا، وكان اكثر خوفهم ان

يتلقاهم الاتراك بباذبين وهم تعبون فكفوا ذلك باصعاد الاتراك. ولما وصل عضد الدولة اجتمع به بختيار، واصعدوا عن واسط، وسار عضد الدولة في شرق دجلة، وعز الدولة في غربيها. فاحضر الطائع الاشراف والقضاه، وأخذ على الاتراك الايمان بالطاعة، والمناصحة في الثبات والمكافحة، وركب الى باب الشماسيه، واستقر الناس لقتال عضد الدولة، واجتمع من العامه اليه الجم الغفير. وكان عز الدولة، مع إيثاره لنصره ابن عمه، يخاف من مجيئه ومشاهده نعمته. ولما قاربوا بغداد، انحدر المطيع والفتكين، وعبروا ديالى، وعسكروا ما بينه وبين المدائن، والتقوا بعضد الدولة، فكانت للاتراك أولا، ثم انهزموا، فغرق منهم خلق كثير، واستامن آخرون، ودخل بغداد في النصف من جمادى الاولى، ونزلوا عند باب الشماسيه، ثم رحلوا عند اسفار الصبح، وقد أخذوا عيالاتهم وأسبابهم، وتبعهم الخلق الكثير من اهل بغداد. وانفذ عضد الدولة، ونادى ببغداد بالتسكين لأهلها، والعفو عن جناتها، ونزل بباب الشماسيه عند دخوله. فلما وصل خبرهم من تكريت بتشتتهم، نزل عضد الدولة، في دار سبكتكين، ونزل عز الدولة داره، وهي دار المتقى لله. وقال ابن الحجاج يستعطف عضد الدولة لأهل بغداد: يا ايها الملك الرءوف المنعم ... ارحم فمثلك من يرق ويرحم مولاى وصفك كان يعظم عندنا ... فالان أنت اجل منه واعظم بغداد كانت جنه مسكونه ... فيما مضى فالان فهى جهنم وراسل عضد الدولة الطائع لله، بابى محمد بن معروف حتى استعاده، ودخل الى بغداد في حديدى، جلس على سطحه، وخرج عضد الدولة في طيارة، فتلقاه قريبا من قطيعه أم جعفر، وصعد الحديدى، وقبل البساط، ويد الطائع

لله، وطرح له كرسي بين يديه، فجلس عليه، وكان عضد الدولة عليه قباء اسود وسيف ومنطقه، واحدقت الطيارات والزبازب بالحديدى. وانحدروا كذلك الى دار الخلافه، وكان عضد الدولة تقدم بعمارتها وتطريتها، وانفاذ الفرش والآلات إليها. وحمل الى الطائع مالا وثيابا وطيبا، وخطب له يوم الجمعه عاشر رجب، بعد ان قطعت الخطبه له، من عاشر جمادى الاولى، ولم يحطب الى هذه الغاية لأحد. وكتب الصابى عن عضد الدولة: لما ورد امير المؤمنين البردان انعم بالاذن لنا في تلقيه على الماء، فامتثلناه وتقبلناه، وتلقانا من عوائد كرمه، ونفحات شيمه، والمخايل الواعده بجميل رايه، وعواطف انجابه وارعائه ما كنفنا يمينه، وشايعنا عزه، الى ان وصلنا الى حضرته البهيه، شرفها الله في الحديدية التي استقلت منه بسليل النبوه، وعقيد الخلافه، وسيد الأنام، والمستنزل بوجهه دار الغمام، فتكفأت علينا في ظلال نوره ونشره، وغمرتنا حميات بفضله وفضيلته، وأوسعنا من جميل لقياه وكريم نجواه، ما وسم بالعز اعقال النعم، وتضمن الشرف في النفس والعقب، وتكفل من الفوز في الدين والدنيا بغايات الأمل. وكانت لنا في الوصول اليه، والمثول بين يديه، في مواقع الحاظه، وتوارد ألفاظه، مراتب لم يبلغها احد فيما سلف، ولم تجد الأيام بمثلها لمن تقدم. وسرنا في خدمته على الهيئة التي القى شرفها علينا، وحض جمالها مدى الدهر لنا، الى ان سار الى سده دار الخليفة، والسعود تشايعه، والميامن تواطئه، وطالع الامال يستشرف له، وثغر الاسلام يتبسم اليه، فعزم علينا بالانقلاب عنه على ضروب من التشريف، لا مورد بعدها في جلال، ولا موقف وراءها لمذهب في جمال، واجتلت الاعين عين محاسن ذلك المنظر، وتهادت الالسن من مناقب ذلك المشهد، ما بهت الناظر، وعاد شمل الاسلام مجموعا، ورواق العز ممدودا، وصلاح الدهماء ماهولا. ومدح عضد الدولة ابو نصر بن نباته، بقصيده يذكر فيها الفتح، منها:

فما ذاب شطر اليوم حتى تصافحت ... اسنه ارماح العدى وخدودها واقدم وثابا على الهول خيله ... إذا كملت لا تقشعر جلودها يعيد الى جر الطعان صدورها ... ولا يدرك الغايات الا معيدها رميت جباه الترك يوم لقيتهم ... بشهباء من سر النزال قيودها وكل فتى تحت العجاجة وكده ... إذا الخيل جالت ميته يستجيدها تداركت اطناب الخلافه بعد ما ... وهي سمكها العالي ومال عمودها فاعفيت من تدبيرها متكلفا ... يحل به يوم الحفاظ عقودها وسربلت ايوان المدائن بهجه ... اناف به والحاسدون شهودها هو الملك المخلوق من خطراته ... طريف المعالى كلها وتليدها ملوك بنى ساسان تزعم انه ... له حفظت اسرارها وعهودها فتاها ومولاها ووارث مجدها ... وسيدها ان كان رب يسودها قبيله بهرام واسره بهمن ... يميت ويحيى وعدها ووعيدها على زمن الضحاك كانت عصابه ... ولوعا بهامات الملوك حديدها إذا سترت غب الحروب جراحها ... أتتها العوالي والسيوف تعودها ولم أك ادرى ان إخوتها القنا ... وان الظبى آباؤها وجدودها تفارق في رحب الثناء نفوسها ... وقد علمت ان الثناء خلودها فلا تجعلوا الأقدار مثل سيوفها ... فقد تسبق الأقدار فيمن يكيدها اقول وقد سلت عشيه جازر ... ولاذت بها أغمادها تستعيدها اتلك رقاب زايلتها رءوسها ... لقى او سيوف زايلتها غمودها وفي شهر رمضان، اعيد ابو تمام الزينبى الى النقابة على العباسيين وصرف ابو محمد عبد الملك عنها، وامر على الصلاة في الجوامع، واعيد ابن معروف الى قضاء القضاه، وصرف ابن أم شيبان. واعيد ابو احمد الموسوى الى نقابه الطالبيين. ومات ابو العباس احمد بن خاقان المفلحى، عن تسعين سنه، وحجب اربعه خلفاء، وتقلد المعونة بالحضرة دفعات. وزادت الأسعار، وعدمت الأقوات، وبيع الكر من الدقيق بمائه وخمسه وسبعين

دينارا، وكانت الدراهم اربعه عشر بدينار، وبيع كل ثلاثة أرطال بدرهم. ووافق عضد الدولة الديلم حتى شغبوا على عز الدولة، فاراد استصلاحهم، فقال لعضد الدولة: تقلد الأمر، وانفذ حينئذ الى داره فختم على خزائنها، وتولى له ابن بقية ذلك. وقبض على ابى إسحاق وابى طاهر، اخوى عز الدولة. وقرئ على القضاه والشهود والاشراف والأماثل بالجامع، كتاب يتضمن استعفاء عز الدولة من النظر، ورد الأمر الى عضد الدولة، ووعدوا بإفاضة العدل واحسان الرعية. واختار ابن بقية ان يضمن واسط وتكريت وعكبرا واوانا، فأجيب الى ذلك، وخلع عليه، واقطع خمسمائة الف درهم في كل سنه، وانحدر الى واسط. وقد كان عضد الدولة، قد عاهد عمران بن شاهين، واعفى أبا تغلب من حمل مال، وكان بينهما موده قديمه ومكاتبه. ولما حصل ابن بقية بواسط، خلع الطاعة، وعول على انه متى قصد النجا الى نهر الفضل واعمال عمران، فكاتبه عضد الدولة بتسكينه، وبذل الامان في كتابه، فأجابه: اننى افلت إفلات المجروح المكلوم، وتخلصت تخلص المصلوب المظلوم، وقد حصلت على اهلى بين قوم سيوفهم حداد، وجعلت دون كل واحد منهم أناسا على البغاة غلاظ شداد، وقد وجدته اعطى قبلي أمانا لقوم قولا، واسقطه فعلا، فلم يف بشيء منه، بل صدق في الجميع عنه، فليت شعرى اى الأمانات يعطيني؟ أمان بنى شيرزيل، وقد عاهدهم الصيمرى له، واستعان بهم على سائر عساكره، بعد وفاه عماد الدولة، وحلف لهم ايمانا نقض جميعها، وابطل سائرها، واباد خضراءهم، وقلع من فارس اصولهم! أم بنى شكرسنان، وقد كانوا الممهدين له الدولة، والمصلحين له الجمله، أم الموصلين وقد اوردهم بساطه، واظهر بتقريبهم سروره واغتباطه، فلما حصلهم ببلاده واراضيه، قضى فيهم بالغدر اقبح قواضيه

وحكى لي ابو الزيان صاحبه متبجحا، انه ما بقي منهم صاحبه بأرض الا سته نفر، وما بقي من أماناته فهو أكبرها وأجلها، وهو وروده تحت الركاب لنصره ابن عمه، على زعمه. فلما ورد على تلك الصورة، وقع التشكك فيه قبل ان يحكم أموره، واعطاه من الايمان والعهود ما استدعى التائبين بفعله، واستجلب السكون الى ما اضمره من اغتياله وختله، وعز الدولة ينسب الى ما يأتيه الى الجميل، ولا يستريب به في كثير ولا قليل. فلما سكن اليه، واعتمد في التوسط بينه وبين اوليائه عليه، وانتهز فرصته، واستلب غرته، واستولى على الأمور كأنه مالكها، وانشب مخالبه فيها، فكانه لم يزل مدبرها، وجعل أرش مسيره لمعاونته انتهاك محارمه، وتشتيت اصحابه وحرمه، وتناسى افعال معز الدولة له ولوالده منذ ثلاثين سنه، وبذله عنهما عظيم الأموال، ونفيس الاحوال، في دفع اصحاب خراسان كل دفعه، وكسر عساكر وشمكير، والله تعالى يهلك الظالمين، ويأخذ الباغين. وراى انه متى عاجلني ظهر تمويهه، وثار به سائر الأولياء، وانكشف تدبيره، فاسر امرى في نفسه، ولم يتمكن من اظهاره في وقته، فأطمعته كل الأطماع في ارتفاع ما ضمنته من الأموال، واعتمدت في أموره على من أعطاني المقدره عليها، ولجات الى كرمه فيما عود منها، حتى قفزت من بين يديه قفزه يا لهفه عليها لو أدركها، واسفه على ما تم لي فيها، وكنت بحول الله في تدبيرى، كما قال ثابت الخزاعي: إذا المرء لم يحتل وقد جد جده ... اضاع وقاسى امره وهو مدبر ولكن أخو الحزم الذى ليس نازلا ... به الخطب الا وهو للقصد مبصر وكانت نفسي تنازعنى تقديم ما تأخر، وتجاذبني تعجيل ما تاجل، فأجبتها بما قاله على بن محمد البصرى العلوي: وإذا تنازعنى اقول لها اصبري ... موتا يريحك او صعود المنبر ما قد قضى سيكون فاصطبرى له ... ولك الامان من الذى لم يقدر وقد لقيت كافه جيوشه، وعامه اصحابه، وهي كعدد اهل احد كثره، بفتيان كعدد اهل بدر قله، فما زلت معهم في كل الأيام، كما قال على بن محمد أيضا: وانا لتصبح أسيافنا ... إذا ما انتضين ليوم سفوك

منابرهن بطون الأكف ... واغمادهن رءوس الملوك وانا اعرض عليه، ضد ما عرض على، لأنه صحيح وانا به مليء وفى، وقد آمنت عضد الدولة فناخسره بن ركن الدولة ابى على، مولى امير المؤمنين، على نفسه ومماليكه، ومن يختار المسير معه من اصحابه، بأمان الله، وأمان رسوله ص، وأمان مولانا عز الدولة، وامانى الا ان يكون سفك دما في بلادنا، فالحكم يجمعه واصحاب القواد، او أخذ مالا من غير واجب، فلا سبيل الى غير رده، او ظلم أحدا في ممالكنا، او أخذ مالا من غير واجب، فلا سبيل الى غير رده، او ظلم أحدا في ممالكنا، فلا طريق الى الصفح عنه، الا بعد الانتصاف للمظلوم منه واعتد عضد الدولة باطلاق ابن بقية في كتابه، فأجابه ابن بقية: فما بقيا على تركتمانى ... ولكن خفتما صرد النبال وحصل عضد الدولة من المصادرات، الف الف وتسعمائة وخمسين الف درهم، منها من ابى عمرو بن عمر، ادى كاتب سبكتكين الف الف وخمسمائة الف درهم، ومن ابى بكر الاصفهانى ألفا الف درهم، ومن ابن قريعة مائه الف درهم. وقبض ابن بقية على من اصحبه عضد الدولة من القواد، واجتمع والمرزبان ابن عز الدولة، وكان بالبصرة، على مكاتبه ركن الدولة، بالاستغاثة من عضد الدولة وابى الفتح بن العميد، فوردت كتب ركن الدولة إليهما، يأمرهما بالتمسك بمكانهما، ويعدهما المسير بنفسه. وكتب بمثل ذلك الى ابى تغلب، فلما عرفوا نيته فيه تجاسروا عليه، واقدمت عليه العامه، فانفذ بابن العميد وابن بندار، وقال لهما قولا لأبي ان انا خرجت من بغداد انفسدت على الممالك، وانا اقاطعه على ثلاثين الف الف درهم في كل سنه، واقدم منها عشره آلاف الف. فلما وصلا الى ركن الدولة، اراد قتلهما وسئل فيهما، فاوصلهما وقال: عودا

اليه، وقولا: تريد ان تمن على بنى أخي بدرهمين أنفقتهما، وامراه بالخروج عن بغداد وتسليمها الى عز الدولة. فعاد ابن العميد الى عضد الدولة وحده، وعرفه الحال، فاضطر الى الخروج عن بغداد الى فارس، وافرج عن عز الدولة واخوته، وخلع عليهم. وثار عليه العيارون والعامه، فقابلهم بالاستخفاف والسب، ووافق ابن العميد على الا يتخلف بعده اكثر من ثلاثة ايام. فلما خرج، طابت بغداد لابن العميد، ونزل في الدور على دجلة، وحصلت له الزبازب والأغاني، وكانت قد حصلت بينه وبين ابن بقية موده. وامتنع ابن العميد عن الشرب، لما قبض عضد الدولة على بختيار، فكتب اليه ابن الحجاج، وقد شرب ابن بقية: حقي على الأستاذ قد وجبا ... فإليه قد اصبحت منتسبا يا بن العميد وأنت سيدنا ... ما قلتها زورا ولا كذبا يا خير اهل الارض كلهم ... اما ويا اسرى العباد أبا مولاى ترك الشرب ينكره ... من كان في بغداد محتسبا ان كان من غم الأمير فلم ... ووزيره بالرطل قد شربا ان الملوك إذا هم اقتتلوا ... اصبحت فيهم كلب من غلبا فلذاك اسكر غير مكترث ... والف من خيشومى الذنبا يا سادتى قد جاءنا رجب ... فتفضلوا واستقبلوا رجبا بمدامه لولا ابوتها ... ما كنت قط اشرف العنبا خمر كمثل النار موقده ... لم تلق لا نارا ولا حطبا من قال ان المسك يشبهها ... ريحا فلا والله ما كذبا وكان ابن العميد، قد سال ابن الحجاج الحضور عنده، فامتنع واعتذر بانقطاعه الى خدمه عز الدولة، فسال عز الدولة حتى انفذه اليه، وشغف به وقال له: لم تاخرت عنى؟ فقال له ابن الحجاج: اننى تركت ما كان عليه أسلافي من الكتابه، وعدلت

الى الشعر السخيف، الذى هتك ستر تجملى، وفكرت في انك ممن لا يسامى قدره، ولا يرد امره ونهيه، واتهمتك بانك جبلي الأخلاق، فظ العشرة، ولم آمن من الا انفق عليك، او لا تنفق أنت على، فتذهب قطعه من عمرى، وقد تنغص عيشي، فقال له ابن العميد: فكيف رأيتني؟ قال: بالضد مما اتهمتك فيه، فاجعلني في حل، فقال له: قد تساوينا، لك على مثل مالي عليك، فاننى كنت اقرا اشعارك فاظنك سخيفا، قليل المروءة، كثير العيوب، حتى شاهدتك فكنت بخلاف ذلك، فان أحللتني احللتك. واعتد ابن العميد على بختيار بما صنعه معه من ابعاده عضد الدولة، فعرض عليه وزارته، فقال: لا يمكنني، فاننى واهلى في خدمه ركن الدولة، منذ خمسين سنه وهو هالك، فإذا مضى جئتك بقطعه من عسكره وكان ذلك يبلغ عضد الدولة، فحنق عليه. وورد ابن بقية بغداد في ذي القعده، وملا عين ابن العميد بالهدايا، وقال في بعض الأيام: لا بد ان اخلع عليه، فلما اكل وقعدا على الشرب، أخذ ابن بقية بيده فرجيه ورداء في غاية الحسن والجلاله، ووافى بهما الى ابن العميد، وقال: صرت يا استاذ جامدارك، فانظر هل ترضيني لخدمتك، فطرح الفرجيه عليه، فاخذ الرداء منه ولبسه. وقصد الفتكين في ثلاثمائة غلام دمشق، وكان العيارون قد استولوا عليها، فخرج اليه اشرافها وشيوخها، وسلموها اليه، فاحسن السيرة، وقمع اهل الفساد، وقامت هيبته، وعظمت منزلته، وقصد العرب وابعدهم، وظهرت شجاعته، وكان اعور. وكان ابن الشمشقيق، قد جاء في الروم، فاخذ بلاد الثغور، وصالح اهل دمشق على مال كثير، فخرج اليه الفتكين، ولعب بين يديه بالرمح، فأعجبته فروسيته، ووهب ما قرره على اهل دمشق له، فسأله ان يهدى له سلاحه، فقاد مع فرسه وسلاحه عشرين فرسا بتجافيفها، فردها ابن الشمشقيق، ولم يقبل غير فرس الفتكين وسلاحه وحده

وانصرف عنه الى جبله وبيروت، ففتحهما عنوه، وتحصن منه اهل أنطاكية، فاستخلف عليها صاحبا له، فقطع شجرها التين، وهو يجرى مجرى النخل بالبصرة، وفتحت له بعد ذلك. وسار ابن الشمشقيق الى قسطنطينيه، فما بعدت وفاته. ومضى الى الفتكين، والده عز الدولة، واخواه ابو إسحاق وابو طاهر، وابنه المرزبان بعد قتله، على ما نشرحه، فأولاهم الجميل، واحسن اليهم، وقصدته العساكر من مصر متكاثره، وكان ما ياتى ذكره في السنه الآتية، وما بعدها.

سنه خمس وستين وثلاثمائة

سنه خمس وستين وثلاثمائة توفى المعز بمصر، في شهر ربيع الآخر، سنه خمس وستين، ومده عمره خمس واربعون سنه وسبعه اشهر ويومان، ومده نظره ثلاث وعشرون سنه وخمسه اشهر وسبعه عشر يوما، منها بمصر ثلاث سنين. وقام ابنه نزار مقامه، ولقب بالعزيز، فكاتب الفتكين بالاستماله، فاغلظ في جوابه، وقال: هذا بلد أخذته بالسيف، ولا أدين لأحد فيه بطاعة فانفذ اليه جوهرا في عساكر كثيره، فدعا اهل البلد واعلمها، ما قد أضلهم، وانه على مفارقتهم، فقالوا: ان أرواحنا دونك، وانا باذلون نفوسنا دون نفسك. ولما حصل جوهر بالرملة، كاتب الفتكين، وعرفه انه قد استصحب له أمانا، وكتابا بالعفو عما فرط فيه، وخلعا يفيضها عليه، واموالا، فأجابه الفتكين اجابه مغالط، وأحال على اهل دمشق فعل جوهر على الحرب، وسار اليه، فالتقيا بالشماسيه، ودامت الحرب واتصلت مده شهرين، وظهر من شجاعة الفتكين وغلمانه، ما عظموا به في النفوس. وعاضد الفتكين الحسن بن احمد القرمطى، واجتمعا في خمسين ألفا، فانصرف جوهر الى طبرية، ومنها الى عسقلان، فحاصراه بها، وقطعا عنه الماء. وكان جوهر في الشجاعة معروفا، فكان يبارز الفتكين، ويعرض عليه الطاعة لصاحبه، فيكاد ان يجيبه فيعترضهما القرمطى، فلا يمكن الفتكين من ذلك. فاجتمعا يوما، فقال جوهر: قد علمت ما يجمعنى وإياك من تعظيم الدين، وقد طالت الفتنة، ودماء من هلك في رقابنا، وان لم تجب الى الطاعة، فاسالك ان تمن على بنفسي وباصحابى وتذم لنا، وتكون قد جمعت بين حقن الدماء واصطناع المعروف، فقال الفتكين: انا افعل، على ان اعلق سيفي ورمح القرمطى، على باب

عسقلان، وتخرج من تحتهما، قال: رضيت، وأخذ خاتم الفتكين على الوفاء. وانفذ اليه جوهر مالا والطافا، فاجتهد القرمطى بالفتكين ان يغدر، فلم يفعل، فخرج وخرج جوهر وشرح لصاحبه الحال، فامر باخراج المال، واثبات الرجال، وسار جوهر على مقدمته، واستصحب توابيت آبائه. ولما عرف الفتكين، والقرمطى الحال، عاد الى الرملة واحتشد، وتقارب العسكران، واصطفا للقتال، وجال الفتكين بين الصفين، فكبر وحمل وطعن وضرب. فعلا العزيز على رابيه، وعلى راسه المظلة، وقال لجوهر: ارنى الفتكين، فأراه اياه، وكان على فرس ادهم بتجفاف من مرايا، وعليه فزاعند، اصفر وهو يطعن تاره، ويضرب باللت اخرى، والناس يتحامونه. فالتفت العزيز الى ركابى يختص به، وقال له: امض الى الفتكين وقل له: انا العزيز، وقد أزعجتني من سرير ملكي، واخرجتنى لمباشره الحرب، وانا اسامحك بجميع ذلك، ولك على عهد الله، بانى أهب لك الشام باسره، واجعلك اسلسهار عسكرى. فمضى الركابى واعاد الرسالة، فخرج الفتكين، بحيث يراه الناس، وترجل وقبل الارض مرارا، ومرغ خديه، وقال: قل لمولانا، لو تقدم القول لسارعت، فاما الان فليس الا ما ترى. فعاد الى العزيز بالجواب، فقال: ارجع اليه وقل له: تقرب منى بحيث أراك وترانى، فان استحققت ان تضرب وجهى بالسيف فافعل. فمضى، فقال الفتكين: ما كنت بالذي اشاهد طلعته وانابذه الحرب، وقد خرج الأمر عن يدي. وحمل عند ذلك على الميسره فهزمها، وقتل كثيرا من أهلها، فحمل العزيز، والمظلة على راسه، فانهزم الفتكين والقرمطى، ووضع السيف في عسكرهما، فقتل منه عشرين الف رجل

ومضى القرمطى هاربا، وبذل لمن يأتيه بالفتكين مائه الف دينار. وكان الفتكين يميل الى المفرج بن دغقل بن الجراح الطائي، وبتمرده لملاحته، وشاع ذلك عنه، فانهزم يطلب ساحل البحر، ومعه ثلاثة من غلمانه، وبه جراح، وقد جهده العطش، فلقيته سريه فيها المفرج، فلما رآه، التمس منه ماء، فسقاه، وقال له: سيرني الى اهلك، فحمله الى قريه تعرف بلبني، واحضر له ماء وفاكهة، ووكل به جماعه، وبادر الى العزيز فاخبره، فاعطاه المال الذى ضمنه، ومضى معه جوهر فتسلمه. وتقدم بضرب مضارب، واحضر كل من حصل في الاسر من اصحاب الفتكين، فامنهم وكساهم، وجعل كل واحد منهم فيما كان فيه معه، ووصل الفتكين فاخرج العسكر لاستقباله، وهو لا يشك انه مقتول. فلما وصل الى النوبه، وراى اصحابه مكرمين، وترجل الناس له، وحمل الى دست قد نصب ليجلس فيه، رمى بنفسه الى الارض، والقى عمامته، وعفر وبكى بكاء شديدا، وقال: لم استحققت هذا الإبقاء! وامتنع من الجلوس في الدست. ووافاه أمين الدولة ابو الحسن بن عمار، وجوهر والخدم على ايديهم الثياب، واعلموه رضا العزيز عنه، والبسوه الخلع، وتقدم الى البازيار به واصحاب الجوارح بالمصير الى مضربه، وراسله بالركوب الى الصيد تانيسا له، وقاد اليه عده دواب، وعاد عشاء، واستقبله الفراشون والنفاطون بالمشاغل، ونزل وركب العزيز اليه ليلا، فقبل الارض وخاطبه بما سكن منه، وجعله حاجب حجابه. وعفا عن الحسن بن احمد القرمطى، واقام بطبريه، وجعل له سبعين الف دينار في كل سنه، وتوجه اليه جوهر، وقاضى الرملة فاستخلفاه. ومضى الفتكين مع العزيز الى مصر، وقد استامن اليه أخو عز الدولة وابنه، فزاد في اكرام الفتكين. وكان يتكبر على ابى الفرج يعقوب بن يوسف بن كلس، وتدرجت الوحشة، وامرهما العزيز بالإصلاح، فلم يفعل الفتكين، فدس عليه ابو الفرج سما فقتله، وحزن عليه العزيز، وقبض على ابى الفرج، وقد اتهمه بقتله نيفا واربعين يوما، وأخذ منه خمسمائة الف دينار، ووقفت الأمور باعتزاله الظر، فاعاده حين لم يجد منه بدا

وتزوج الطائع بنت عز الدولة على صداق مائه الف دينار، وخطب ابو بكر ابن قريعة خطبه النكاح. وفي ذي القعده توفى ابو الحسن ثابت بن سنان بن قصره الصابى صاحب التاريخ. وقسم ركن الدولة الممالك بين اولاده، فجعل لعضد الدولة فارس وكرمان وارجان، ولمؤيد الدولة الري وأصبهان، ولفخر الدولة همذان والدينور. ومرض ركن الدولة، فسار اليه عضد الدولة، وقبل الارض بين يديه، والتقيا بأصبهان، وعمل ابن العميد دعوه، جمع فيها ركن الدولة واولاده الأمراء، وخاطبهم ركن الدولة، بان عضد الدولة ولى عهده، وخلع ابن العميد على القواد الف قباء والف كساء. وأخذ عز الدولة لسهلان بن مسافر خلعا من الطائع، ولقبه عنه عصمه الدولة وأنفذها له. وانفذ الى فخر الدولة مثلها، فلم يلبساها، ولم يتلقب سهلان مراقبه لعضد الدولة.

سنه ست وستين وثلاثمائة

سنه ست وستين وثلاثمائة توفى ركن الدولة ابو على بالري في ثامن عشر المحرم، وقال ابو بكر الخوارزمي يرثيه: احين جرى ملكه في الملوك ورد به الله ملك العجم وخط الفناء على قبره بخط البلى وبنان السقم إذا تم امر بدا نقصه توقع زوالا إذا قيل تم وأتاها مؤيد الدولة، وانفصل عن أصبهان، واقر أبا الفتح بن العميد على ما كان اليه، وكان يكتب له في حياه ابيه الصاحب ابو القاسم محمد بن العميد، حسده الصاحب وغيظه من قربه ان حمل الجند على الشغب، فحسم مؤيد الدولة المادة باعاده الصاحب الى أصبهان. وكان في نفس عضد الدولة على ابن العميد ما ذكرناه، حتى انه كان يقول: خرجت من بغداد، وانا زريق الشارب، وابن العميد خرج ملقبا بذى الكفايتين، لان اهل بغداد كانوا يلقبون عضد الدولة بزريق الشارب. ونشط ابن العميد للشرب، وتداخله ارتياح، فعمل مجلسا عظيما، وشرب ببقية نهاره وعامه ليله، وعمل شعرا وهو يشرب، وامر بتلحينه والغناء له به، ففعل المغنون ذلك، والشعر: دعوت المنى ودعوت العلا ... فلما أجابا دعوت القدح وقلت لايام شرخ الشباب ... الى فهذا أوان الفرح إذا بلغ المرء آماله ... فليس له بعدها مقترح ولما غنى له بشعره، واستفزه الطرب، وشرب حتى سكر، وقال لغلمانه: غطوا المجلس واتركوه على حاله، حتى نشرب عليه ونصطبح، وقام الى بيت منامه

وباكره رسول مؤيد الدولة يستدعيه، فركب وعنده انه يخاطبه على مهم، ويعود سريعا، فلما دخل اليه قبض عليه وأخذ أمواله. ومن شعر ابى الفتح: يقول لي الواشون كيف تحبها ... فقلت لهم بين المقصر والغالي ولولا حذاري منهم لصدقتهم ... وقلت هوى لم يهوه قط أمثالي وكم من شفيق قال: ما لك واجما ... فقلت: ابى ما بي وتسألني مالي وترامت به الحال الى قتله. وحكى ان أباه رآه وهو يخطر خطره أنكرها من مشيه امثاله، فقال لمن حضره: انى لأخذه بالأدب حتى لانغص عليه عيشه، فانه قصير العمر، وعمره على ما يدل عليه نجمه ثمان وعشرون سنه، هذا ما حكاه الثعالبي في اليتيمه. وقال ابن الحجاج يرثيه من قصيده: رويدك ان الحزن ضربه لازم ... الا فليقم ناعي البحور الخضارم الا ان هذا المجد قد ساخ طوده ... فاصبح منهد الذرا والدعائم الا ان بحر الجود قد غاض لجه ... فمن للقلوب الصاديات الحوائم فيا صارما فل البلى غرب خده ... وكتابه تقرى متون الصوارم مضى جسمك الفاني وخلفت بعده ... معالى تلك المأثرات الجسائم اخلاى بالري الذين عهدتهم ... يوفوننى حق الصديق المساهم الموا جميعا او فرادى بقبره ... وقولوا له عن اجدع الأنف راغم كظيم وما زال الاسى متحاملا ... على كل موتور السرائر كاظم أيا راحلا عن قومه غير آئب ... ويا غائبا عن اهله غير قادم لمثلك فلتبك العيون باربع ... وما فائضا بعد الدموع السواجم وما كنت الا صارما فل حده ... باخر مشحوذ الغرارين صارم فلا هز هندي سقى دمك الثرى ... غداه الوغى الا باوهن قائم ومما يسلى الحزن انك وارد ... على فرح في جنه الخلد دائم

ولم لا وقد قدمت زادا من التقى ... نهضت به مستبشرا غير نادم تجيء إذ صحف المظالم نشرت ... ببيضاء غفل من سمات المظالم وكنت إذا الفحشاء نادتك معرضا ... أصم غضيض الطرف دون المحارم عجبت لمن انحى عليك بسيفه ... فانحى على غصن من البان ناعم اما راعه ذاك الشباب وحسنه ... فتدركه في الحال رقه راحم أبا الفتح يأبى سلوتى عنك اننى ... جعلت عليك الحزن ضربه لازم فما قصرت بي عن حقوقك ونيه ... ولا أخذتني فيك لومه لائم ولما بلغ عز الدولة وفاه ركن الدولة، قال: انا ولى عهد عمى ركن الدولة، وحلف لعمران بن شاهين، وتزوج ابو محمد عمران ابنه عز الدولة، وحضر بين يدي الطائع، وحلف لعده الدولة ابى تغلب، فقال ابن الحجاج من قصيده: أنت علمتني المدائح حتى ... صرت فيها مجودا مطبوعا أنت واصلتنى وكنت على الباب ... طريدا مبعدا ممنوعا أنت جددت ثوب عزى ... وقد كان لبيسا مفتتا مرقوعا ملك عين من يعاديه ... لا تطعم غمضا ولا تذوق هجوعا ايها السيد الذى طاب في المجد ... اصولا كريمه وفروعا ان يوم الخميس اصبح فيه ... علم المجد والعلا مرفوعا رفعت رايه الهدى بيد ... النصر وخر النفاق فيه صريعا دوله عزها وعمدتها ... اليوم اضافا الى الجموع الجموعا وصلا الحبل بالتصافى فاضحى ... ظهر من يظهر الخلاف قطيعا وله رايه إذا ضحك النصر إليها ... تبكى السيوف نجيعا في جيوش تطبق الارض خيلا ... وسيوفا قواطعا ودروعا ينصرون الامام خير امام ... لم يكن خالعا ولا مخلوعا ورث الأمر عن ابيه بحق ... لم يكن محدثا ولا مصنوعا فهو مثل الهلال في الأفق نورا ... وعلوا ورفعه وطلوعا وترانى بدرتي اصفع الحاسد ... في اخدعيه صفعا وجيعا لا احابى وحق من خلق الجنه ... لا تابعا ولا متبوعا

ولو انى حابيتهم كنت نذلا ... ساقطا سفله خسيسا وضيعا وفي رجب، قبض على ابى الفرج بن فسانحس، وحمل الى سر من راى، وتحرك ما كان في نفس عضد الدولة من قصد العراق، فاستخلف عز الدولة على بغداد الشريف أبا الحسن محمد بن عسر، وخرج معه ابن بقية، فزارا مشهد الحسين ع. وقصد ابن بقية الكوفه وحده، فزار واجتمع، وانحدر الى واسط، وقال ابن الحجاج يودعه: يا من اليه الامال تختلف ... ومن عليه القلوب تنعطف ومن بنو عمه واخوته ... ملوك اهل الدنيا به شرفوا من استقلت بنو بويه به ... كما استقلت بالعاتق الكتف مولاى صبرا فان سائر ما ... تراه عما تحب ينكشف وكل ما تشتهى وتؤثره ... ياتى كما تشتهى ولا يقف ومن أتانا يسوقه طمع ... عنك بخفي حنين ينصرف تثنيه عن هفوة الشباب غدا ... راى بعيد من النوى نصف أولا فعزيه ململمه ... تستر منها السيوف والحجف وذيل يحكم الطعان لها ... بأنها في الصدور تنقصف وشرب ضمر فوارسها ... لا عزل فوقها ولا عنف هذا ونفسي الأمير دونك للرماة ... في حومه الوغى هدف فانهض به نحوهم إذا نهضوا ... وازحف اليهم به إذا زحفوا وأنت اعلى بنى بويه يدا ... وان تساوى القديم والخلف كنتم بنى اهل بيت مكرمه ... توصف منهم بمثل ما وصفوا حتى تلوناكم فكان لكم الفضل ... عليهم والمجد والشرف والدر جنس لكن له قيم ... في الفضل عند التجار يختلف وليس يدرى ما فضل فاخره المكنون ... حتى يفتح الصدف يا من إذا احلف البحار ففي ... نداه من كل فائت خلف ينتظم المدح فيك متزنا ... وفي سواك المديح ينزحف مولاى لما بعدت فاشتعلت ... نيران قلبي وطار بي الأسف

جئتك اعدو والشوق يعجلني ... إليك يا دافنى وانصرف وسال عز الدولة الطائع الانحدار، فأجاب وانحدر الى واسط في عاشر شعبان، ومعه ابن معروف، ونزل في دار الوزارة بها. وساروا الى الاهواز، فوصلوها عاشر رمضان. وكتب عز الدولة عن الطائع كتابا يدعو الى الصلح، ونفذ به خادم، فقال عضد الدولة للخادم: قل لمولانا امير المؤمنين، لا يمكنني الجواب، إذا مثلت بحضرتك ولم يجب على الكتاب. ولما اشرفت الحال على الحرب، اصعد الطائع الى بغداد، وكانت الحرب بناحيه يقال لها مشان من اعمال الباسيان، في نصف تموز، وهو يوم الأحد مستهل ذي القعده، وكان دبيس بن عفيف الأسدي على ميسره عز الدولة، فاستامن وعطف على النهب، فنهب، فانهزم عز الدولة، وقتل من اصحابه خلق، وغرق آخرون على جسر عقده بدجيل. وكان حمدان في جمله المنهزمين، وتفرقت المذاهب بالمنهزمين، فالتقوا بمطارى. واجتمع عز الدولة وبه جراح بأخيه عمده الدولة، وابن بقية بها على اسوا حال. وانفذ عمران بابنه الحسن وكاتبه وقواده، في عده سفن الى عز الدولة، وانفذ اليه والى ابن بقية بمال وثياب، وانفذ المرزبان بن بختيار الى ابيه بمثل ذلك من البصره. وانحدروا الى البصره، وهي مفتتنه، فاراد ابن بقية ان يصلحها، فازدادت فسادا واحترقت الاسواق، ونهبت الأموال. وورد ابو بكر محمد بن على بن شاهويه صاحب القرامطة الكوفه في الف رجل منهم، واقام الدعوة بها وبسورا، وبالجامعين والنيل، لعضد الدولة

واشفق بختيار ان يسير عضد الدولة الى واسط، فيملكها، فتفوته النجاة، فاحترق البطائح، فتلقاه عمران في عسكره، واقام ابن بقية عنده ثلاثة ايام. وكان عمران قد قال لعز الدولة، لما قصد حربه: سترى انك تحتاج الى، واعاملك من الجميل بخلاف ما عاملني به ابوك من القبح، فعجب الناس من هذا الاتفاق. واستدعى البصريون من عضد الدولة، من يتسلم بدلهم، فانفذ أبا الوفاء طاهر بن محمد فدخلها. واقام بختيار بواسط، وتراجع اليه اصحابه وجنده. ورجع ابن بقية الى ذخيره له بها، واستمال الجند، فرغبوا فيه وآثروه على صاحبه. وقال بعض البصريين في بختيار: اقام على الاهواز خمسين ليله ... يدبر امر الملك حتى تذمرا يدبر امرا كان اوله عمى ... واوسطه بلوى وآخره خسرا ومن اعجب ما اتفق عليه، انه اسر له غلام اسمه باتكين، ولم يكن يميل اليه، فجن عليه، وتسلى عن ملكه الا عنه، وانقطع الى البكاء، وامتنع من الغذاء، واحتجب عن الناس فخف ميزانه، واستهان به ابن بقية، وانفذ بالشريف ابى احمد الموسوى، والحرب قائمه، يسال عضد الدولة في رد الغلام، وبذل في فدائه جاريتين، كان بذل ابو تغلب بن حمدان في إحداهما مائه الف درهم، وقال لأبي احمد: ان لم يرض عضد الدولة بهما، فأعطه هذا العقد- وكان فاخرا نادرا واضمن له ما اراد. ولما مضى ابو احمد الى عضد الدولة، وادى الرسالة، امر برد الغلام، وكان قد حمل في عده غلمان الى ابى الفوارس بن عضد الدولة، فاعيد الى عضد الدولة، ولم يكن بين الغلام وبين غيره من الأسرى فرق، فامسكه عنده، وقال لأبي احمد: لا انفذه حتى تمضى اليه برسائل، وتقرر معه القبض على ابن بقية، واضاف اليه أبا سعد بهرام بن أردشير الكاتب. فلما وصلا الى بختيار، وخلوا به، اوحش ذلك ابن بقية

وكان بختيار ينزل في الجانب الغربي، وعول ابن بقية على طرد بختيار، وان ينفرد هو بالحرب، فعدل بختيار الى تسكينه وتلافيه. فلما كان في ذي الحجه، اشار ابراهيم بن اسماعيل- وكان بختيار قد استحجبه، بعد ان كان نقيبا- بالقبض عليه إذا عبر اليه، ففعل ذلك، وانفذ أمواله وخزائنه، ووجد له سته آلاف رطل ثلجا، كان أعدها لسماط عزم على اتخاذه للجند، وطلب عز الدولة منه شيئا قبل القبض عليه، فانفذ اليه ثلاثين رطلا. فكانت وزارة ابن بقية اربع سنين واحد عشر يوما. واستخلص عز الدولة أبا العلاء صاعد بن ثابت النصراني، من مجلس ابن بقية، وكتب الى بغداد على الاطيار بالقبض على اهله، فوقعت الكتب في ايديهم، فهربوا الى بنى عقيل بالبادية. وقبض على ابن بقية بمشهد ابن بهرام بن أردشير، واعاد معه الشريف أبا احمد. وجرت اقاصيص حتى عاد اليه باتكين. وقال ابن الحجاج يمدح أبا سعد بن بهرام: أبا سعد قد انكشف الغطاء ... وأمكننا الحضور كما نشاء وزالت رقبه الواشين حتى ... شفى من لوعة الشوق اللقاء بنفسي أنت من قمر منير ... له في كل ناحيه ضياء هزمت القوم أمس بغير حرب ... فامست في خفارتك الدماء وكان القوم في داء ولكن ... لطفت فصادف الداء الدواء بقول ما خلطت به نفاقا ... وراى لم يكن فيه رياء فاضحوا والرجال لكم عبيد ... وامسوا والنساء لكم إماء ولما حصل باتكين بالبصرة، تواترت البشائر الى بختيار، واظهر من السرور ما لم يعهد، وضمن انه إذا رد الغلام، عاد الى بغداد، واظهر الطاعة. وامر عضد الدولة أبا احمد، الا يسلم الغلام، حتى يصعد بختيار الى بغداد. وكان قد ورد عليه عبد الرزاق وبدر ابنا حسنويه، في الف فارس لنصرته،

فلما رايا افعاله، كاتبا أباهما بالصورة، وعرفاه ضعف رايه، واختلال تدبيره، واصعدا، وفارقه عبد الرازق بجرجرايا، واستحيا بدر من مفارقته. وعادت الرسالة اليه بسمل ابن بقية، ففعل وسمل بعده صاحبه ابن الراعى، وأخذت عليه الايمان بطاعة عضد الدولة، واثبات اسمه على راياته، واقامه الخطبه له في كل بلد دخله. فانصرف عنه بدر بن حسنويه حينئذ. وكان في جمله ما شرط عليه عضد الدولة، ان يرحل عن بغداد الى الشام، والا يؤذى أبا تغلب. واتى عضد الدولة الاهواز، فرتب أمورها، وسار منها الى البصره، وقد انصرف عنها المرزبان بن بختيار، فوجدها مفتتنه، فأصلحها وضمن اكابر أهلها اصاغرهم.

سنه سبع وستين وثلاثمائة

سنه سبع وستين وثلاثمائة في صفر ورد الخبر الى الكوفه بوفاه ابى يعقوب يوسف بن الحسن الجنابى صاحب هجر، فاغلقوا أسواقهم ثلاثة ايام، اجلالا لمصيبته، ومولده سنه ثمانين ومائتين، وعقدوا الأمر لستة نفر من اهل بيته، اشركوا في الأمر، وسموا السادة. وصار ابو الحسن محمد بن يحيى العلوي الى عضد الدولة، وسار في مقدمته الى بغداد. وسار عز الدولة عنها لليلتين بقيتا من شهر ربيع الآخر، وتفرق ديلمه عنه، ففرقه انحازوا الى الحسن بن فيلسار، وسار بها الى جسر النهروان، وانفذ عضد الدولة بمن أتاه به أسيرا، وبه عده ضربات. وفرقه صاروا الى عضد الدولة، وفرقه ثبتوا معه. فقال ابن الحجاج في خروجه: فديت قوما ساروا ولكن ... ساروا على صوره خسيسة نودى عليهم كما ينادى ... بسوق يحيى على الهريسة كأنهم من يهود هطرى ... قد طردوهم من الكنيسه آخر الجزء الاول، ويتلوه في الثانى مملكه عضد الدولة ابى شجاع والحمد لله حق حمده وصلواته على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين وسلم تسليما.

المنتخب من كتاب ذيل المذيل من تاريخ الصحابة والتابعين تصنيف محمد بن جرير الطبري

[ (المنتخب من كتاب ذيل المذيل) من تاريخ الصحابة والتابعين تصنيف محمد بن جرير الطبري] (بسم الله الرحمن الرحيم) قال ابو جعفر محمد بن يزيد الطبرى في كتاب ذيل المذيل من تاريخ الصحابه والتابعين [القول في تاريخ وفات الصحابة والتابعين] من النساء اللواتي متن قبل الهجره واما من النساء اللواتي متن قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فزوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم خَدِيجَةَ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بن قصى، وكانت تكنى أم هند رضى الله عنها، وهند ابن لها من ابى هاله بن النباش بن زراره زوج، كَانَ لَهَا قَبْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كنيت به، وتوفيت قبل الهجره بثلاث سنين، وهي يومئذ ابنه خمس وستين سنه، كذاك حَدَّثَنِي الْحَارِثُ عَنِ ابْنِ سَعْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بن عمر عن محمد بن صالح وعبد الرحمن بن عبد العزيز. وكانت وفاتها في شهر رمضان من هذه السنه، ودفنت بالحجون رحمها الله

وممن مات في سنه ثمان من الهجره

وممن مات في سنه ثمان من الهجره قال: وممن مات في سنه ثمان من الهجره في أولها زينب بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت اسن بنات رسول الله ص، وكان سبب وفاتها انها لما اخرجت من مكة الى رسول الله ص، أدركها هبار بن الأسود، ورجل آخر، فدفعها أحدهما فيما قيل فسقطت على صخره فاسقطت، فاهراقت الدم فلم يزل بها وجعها حتى ماتت منه. قال: وممن قتل منهم جعفر بن ابى طالب بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مناف، قتل بمؤته شَهِيدًا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ وابو تميله، عن ابن إسحاق عن يحيى ابن عَبَّادٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي الَّذِي أَرْضَعَنِي، وَكَانَ أَحَدَ بَنِي مُرَّةَ بْنِ عَوْفٍ، وَكَانَ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ غَزْوَةَ مُؤْتَةَ قَالَ: والله لكأني انظر الى جعفر ع حِينَ اقْتَحَمَ عَنْ فَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ فَعَقَرَهَا، فقاتل القوم حتى قتل، وكان جعفر ع أول رجل من المسلمين- فيما قيل- عقر في الاسلام. قال محمد بن عمر: حدثنى عبد الله بْن محمد بْن عمر بْن على عن ابيه، قال: ضربه- يعنى جعفرا- رجل من الروم فقطعه بنصفين، فوقع احد نصفيه في كرم فوجد في نصفه ثلاثون او بضعه وثلاثون جرحا. وكان اسلام جعفر ع قبل ان يدخل رسول الله ص دار الارقم، ويدعو فيها، وهاجر الى ارض الحبشه الهجره الثانيه ومعه امراته أسماء بنت عميس، فلم يزل بأرض الحبشه حتى هاجر رسول الله ص الى المدينة، ثم قدم عليه من ارض الحبشه وهو بخيبر سنه سبع وقتل سنه ثمان من

الهجره في جمادى الاولى منها، وهو احد أمراء رسول الله ص على السريه التي وجهها الى الروم، وكان جعفر يكنى أبا عبد الله. وزيد الحب بن حارثة بن شراحيل بن عبد العزى بن إمرئ القيس بن عامر ابن النعمان بن عامر بن عبدود بن عوف بن كنانه بن عوف بن عذره بن زيد اللات ابن رفيده بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف ابن قضاعه- واسمه عمرو- بن مالك بن عمرو بن مره بن مالك بن حمير بن سبا ابن يشجب بن يعرب بن قحطان. ذكر ان أم زيد- وهي سعدى بنت ثعلبه بن عبد عامر بن افلت بن سلسله من بنى معن- من طيّئ- زارت قومها وزيد معها، فاغارت خيل لبنى القين بن جسر في الجاهلية، فمروا على ابيات بنى معن رهط أم زيد فاحتملوا زيدا، وهو يومئذ غلام يفعه قد اوصف، فوافوا به سوق عكاظ، فعرضوه للبيع، فاشتراه منهم حكيم بن حزام بن خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قضى لعمته خديجه بنت خويلد بأربعمائة درهم، فلما تزوجها رسول الله ص وهبته له، فقبضه رسول الله ص اليه، وقد كان أبوه حارثة بن شراحيل حين فقده، قال: بكيت على زيد ولم ادر ما فعل أحي يرجى أم اتى دونه الأجل فو الله ما ادرى وان كنت سائلا اغالك سهل الارض أم غالك الجبل فيا ليت شعرى هل لك الدهر رجعه فحسبي من الدنيا رجوعك لي بجل تذكرنيه الشمس عند طلوعها وتعرض ذكراه إذا قارب الطفل وان هبت الارواح هيجن ذكره فيا طول ما حزنى عليه وما وجل ساعمل نص العيس في الارض جاهدا ولا اسام التطواف او تسام الإبل حياتي او تأتي على منيتي وكل امرئ فان وان غره الأمل واوصى به عمرا وقيسا كليهما واوصى يزيدا ثم من بعدهم جبل قال: يريد جبله بن حارثة أخا زيد بن حارثة، وكان اكبر من زيد، ويعنى بيزيد أخا زيد لامه، وهو يزيد بن كعب بن شراحيل

وحج ناس من كلب فرأوا زيدا فعرفهم وعرفوه فقال: ابلغوا اهلى هذه الأبيات، فانى اعلم انهم قد جزعوا على، وقال: الكنى الى قومى وان كنت نائيا ... بانى قطين البيت عند المشاعر فكفوا من الوجد الذى قد شجاكم ... ولا تعملوا في الارض نص الأباعر فانى بحمد الله في خير اسره ... كرام معد كابرا بعد كابر فانطلق الكلبيون، فاعلموا أباه، فقال: ابنى ورب الكعبه، ووصفوا له موضعه وعند من هو، فخرج حارثة وكعب ابنا شراحيل بفدائه، وقدما مكة فسألا عن النبي ص فقيل: هو في المسجد، فدخلا عليه، فقالا: يا بن عبد الله يا بن عبد المطلب يا بن هاشم، يا بن سيد قومه: أنتم اهل حرم الله وجيرانه وعند بيته تفكون العاني، وتطعمون الأسير، جئناك في ابننا عندك، فامنن علينا، واحسن إلينا في فدائه فانا سنرفع لك في الفداء. قال: من هو؟ قالوا زيد بن حارثة فقال رسول الله ص: فهلا غير ذلك؟ قالوا: ما هو؟ قال: ادعوه فاخيره، فان اختاكم فهو لكما بغير فداء وان اختارني فو الله ما انا بالذي اختار على من اختارني أحدا، فقالا: قد زدتنا على النصف واحسنت، فدعاه فقال: تعرف هؤلاء؟ قال: نعم قال: من هما؟ قال: هذا ابى، وهذا عمى، قال: فانا من قد علمت وعرفت، ورايت صحبته لك فاخترنى او اخترهما، فقال زيد: ما انا بالذي اختار عليك أحدا أنت منى مكان الأب والعم، فقالا له: ويحك يا زيد! اتختار العبودية على الحرية، وعلى ابيك وعمك واهل بيتك! قال: نعم، انى قد رايت من هذا الرجل شيئا ما انا بالذي اختار عليه أحدا ابدا، فلما راى ذلك رسول الله ص اخرجه الى الحجر فقال: يا من حضر، اشهدوا ان زيدا ابنى، ارثه ويرثني، فلما راى ذلك أبوه وعمه طابت أنفسهما وانصرفا، فدعى زيد بن محمد حتى جاء الله عز وجل بالإسلام، حدثنى بذلك كله الحارث عن ابن سعد عن هشام بن محمد عن ابيه وعن جميل ابن مرثد الطائي وغيرهما. وقد ذكر بعض الحديث عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عباس وقال في اسناده،

فزوجه رسول الله ص زينب بنت جحش بن رئاب الأسدية وأمها اميمه بنت عبد المطلب بن هاشم، فطلقها زيد بعد ذلك فتزوجها رسول الله ص، فتكلم المنافقون في ذلك، وطعنوا فيه، وقالوا: محمد يحرم نساء الولد، وقد تزوج امراه ابنه زيد! فانزل الله عز وجل: مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ الى آخر الآية وقال: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ فدعى يومئذ زيد بن حارثة، ودعى الأدعياء الى آبائهم، فدعى المقداد الى عمرو- وكان يقال له المقداد بن الأسود. وكان الأسود بن عبد يغوث قد تبناه وقتل زيد في جمادى الاولى من هذه السنه وهو ابن خمس وخمسين سنه، وكان يكنى أبا سلمه فيما قيل، فقال محمد بن عمر: حدثنا محمد بن الحسن ابن اسامه بن زيد، عن ابيه قال: كان بين رسول الله ص وبين زيد عشر سنين، رسول الله ص اكبر منه، وكان زيد رجلا قصيرا آدم شديد الأدمة في انفه فطس، وكان يكنى أبا اسامه، وشهد زيد بدرا وأحدا واستخلفه رسول الله ص على المدينة حين خرج الى المريسيع، وشهد الخندق والحديبية وخيبر، وكان من الرماه المذكورين من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: وثابت بن الجذع من بنى سلمه من الانصار، وهو ثابت بن ثعلبه بن زيد ابن الحارث بن حرام بن كعب، والجذع ثعلبه بن زيد وسمى بذلك فيما قيل لشدة قلبه وصرامته ويقال أيضا ثابت بن ثعلبه الجذع وشهد ثابت العقبه مع السبعين الذين بايعوا رسول الله ص ليله العقبه من الانصار وشهد بدرا وأحدا والخندق والحديبية وخيبر وفتح مكة ويوم حنين والطائف وقتل يومئذ شهيدا.

قال: وفي سنه تسع من الهجره

قال: وفي سنه تسع من الهجره ماتت أم كلثوم ابنه رسول الله ص في شعبان، فصلى عليها رسول الله ص، ونزل في حفرتها- فيما قيل- على بن ابى طالب ع والفضل بن العباس واسامه بن زيد، وهي التي روى عن أم عطية انها قالت: غسلت احدى بنات النبي ص. وروى عن انس بن مالك ان النبي ص قال لما وضعت في قبرها: لا ينزل في قبرها احد قارف اهله الليلة، وقال: افيكم احد لم يقارف اهله الليلة؟ فقال ابو طلحه: انا يا رسول الله، فقال: انزل، فنزل. قال: وفي سنه احدى عشر من الهجره توفيت فاطمه ابنه محمد ص، لثلاث ليال خلون من شهر رمضان، وهي ابنه تسع وعشرين سنه او نحوها وقد اختلف في وقت وفاتها فروى عن ابى جعفر محمد بن على ع، انه قَالَ: توفيت فاطمة عليها السلام بعد النَّبِيّ ص بثلاثة اشهر. واما عبد الله بن الحارث فانه فيما روى يزيد بن ابى زياد عنه، قال: توفيت فاطمه ابنه رسول الله ص بعد رسول الله بثمانية اشهر. وقال محمد بن عمر: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنِ عائشة، قَالَ: وحدثنا ابن جريج عن الزهري عن عروه، ان فاطمه عليها السلام توفيت بعد النبي ص بسته اشهر. قال ابن عمر: وهو الثبت عندنا

قال: توفيت ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من شهر رمضان سنه احدى عشر. وذكر عن جعفر بن محمد ع انه قال: كانت كنيه فاطمه عليها السلام أم أبيها. قال: وابو العاص بن الربيع ابن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف ابن قضى واسمه مقسم وأمه هاله ابنه خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قصى، وخالته خديجه ابنه خويلد زوج رسول الله ص، وكان رسول الله ص زوجه ابنته زينب ابنه رسول الله قبل الاسلام، فولدت له عليا وامامه، فتوفى على وهو صغير وبقيت امامه فتزوجها على بن ابى طالب ع بعد وفاه فاطمه ابنه محمد رسول الله ص. وكان ابو العاص بن الربيع فيمن شهد بدرا مع المشركين فاسره عبد الله بن جبير ابن النعمان الأنصاري، فلما بعث اهل مكة في فداء أساراهم قدم في فداء ابى العاص اخوه عمرو بن ربيع. فحدثنا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنْ مُحَمَّدِ، قال: حدثنى يحيى ابن عباد بن عبد الله بن الزبير عن ابيه عباد، عن عائشة، قَالَتْ: لَمَّا بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي فِدَاءِ أساراهم، بعثت زينب بنت رسول الله ص في فداء ابى العاص بمال، وبعثت فيه بقلاده كَانَتْ خَدِيجَةُ أَدْخَلَتْهَا بِهَا عَلَى أَبِي الْعَاصِ حِينَ بَنَى عَلَيْهَا. قَالَتْ: فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ الله ص رَقَّ لَهَا رِقَّةً شَدِيدَةً وَقَالَ إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا فَافْعَلُوا، فَقَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فاطلقوه وردوا عليها الذى لها. ولم يزل ابو العاص معها على شركه حتى إذا كان قبيل الفتح، فتح مكة خرج بتجاره الى الشام وباموال من اموال قريش ابضعوها معه، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ تِجَارَتِهِ وَأَقْبَلَ قَافِلا لَقِيَتْهُ سريه لرسول الله ص وقيل: ان رسول الله ص كان هو الذى وجه السريه للعير التي كان فيها ابو العاص قافلة من الشام، وكانوا سبعين ومائه راكب، أميرهم زيد بن حارثة، وذلك في جمادى الاولى من سنه ست من الهجره، فأخذوا في تلك العير من الاثقال، وأسروا أناسا ممن كان في العير، فاعجزهم ابو العاص هربا، فلما قدمت السريه بما

أصابوا اقبل ابو العاص من الليل، حتى دخل على زينب ابنه رسول الله ص عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَجَارَ بِهَا فَأَجَارَتْهُ فِي طَلَبِ ماله، فلما خرج رسول الله ص الى صلاه الصبح، وكبر وكبر الناس معه، فحدثنا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رومان، قال: صرخت زينب: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ أَبَا الْعَاصِ بن الربيع، فلما سلم رسول الله ص من الصلاة، اقبل على الناس، فقال: يايها النَّاسُ، هَلْ سَمِعْتُمْ مَا سَمِعْتُ؟ قَالُوا، نَعَمْ، [قَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا عَلِمْتُ بِشَيْءٍ كَانَ حَتَّى سَمِعْتُ مِنْهُ مَا سَمِعْتُمْ، إِنَّهُ يُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ:] ثُمَّ انصرف رسول الله ص، فدخل على ابنته زينب، فقال: اى بنيه، اكرمى مثواه ولا يخلصن إليك فإنك لا تحلين له. قال ابن إسحاق: وحدثني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَى السَّرِيَّةِ الَّذِينَ أَصَابُوا مَالَ أَبِي الْعَاصِ [فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ، وَقَدْ أَصَبْتُمْ لَهُ مَالًا، فَإِنْ تُحْسِنُوا تَرُدُّوا عَلَيْهِ الَّذِي لَهُ، فَإِنَّا نُحِبُّ ذلك، وان ابيتم ذلك فهو فيء الله الذى افاءه إليكم، وأنتم أَحَقُّ بِهِ،] قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلْ نَرُدُّهُ عَلَيْهِ، قَالَ: فَرَدُّوا عَلَيْهِ مَالَهُ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِي بِالْحَبْلِ، وَيَأْتِي الرَّجُلُ بِالشَّنَّةِ وَالإِدَاوَةِ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَأْتِي بِالشِّظَاظِ حَتَّى ردوا عليه ما له بِأَسْرِهِ، لا يَفْقِدُ مِنْهُ شَيْئًا ثُمَّ احْتُمِلَ إِلَى مَكَّةَ فَأَدَّى إِلَى كُلِّ ذِي مَالٍ من قريش ما له مِمَّنْ كَانَ أَبْضَعَ مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَلْ بَقِيَ لأَحَدٍ مِنْكُمْ عِنْدِي مال لم يأخذه؟ قالوا: لا، جزاك اللَّهُ خَيْرًا، فَقَدْ وَجَدْنَاكَ وَفِيًّا كَرِيمًا، قَالَ: فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وأن مُحَمَّدا عبده ورسوله، وما مَنَعَنِي مِنَ الإِسْلَامِ عِنْدَهُ إِلَّا تَخَوَّفُ أَنْ تَظُنُّوا أَنِّي إِنَّمَا أَرَدْتُ أَكْلَ أَمْوَالِكُمْ، فَلَمَّا أداها الله عز وجل إليكم وَفَرَغْتُ مِنْهَا أَسْلَمْتُ- ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ على رسول الله ص. قال ابن إسحاق: فَحَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابن عباس، عن ابن عباس قال: رد رسول الله ص زينب بالنكاح الاول لم يحدث

شيئا بعد ست سنين ثم ان أبا العاص رجع الى مكة بعد ما اسلم، فلم يشهد مع النبي ص مشهدا، ثم قدم المدينة بعد ذلك، وتوفى في ذي الحجه سنه اثنتى عشره في خلافه ابى بكر واوصى الى الزبير بن العوام. قال: وذكر هشام بن محمد ان معروف بن خربوذ المكى حدثه قال: خرج ابو العاص بن الربيع في بعض أسفاره الى الشام، فذكر امراته زينب ابنه رسول الله ص فأنشأ يقول: ذكرت زينب لما وركت ارما ... فقلت سقيا لشخص يسكن الحرما بنت الامين جزاها الله صالحه ... وكل بعل سيثنى بالذي علما قال: وعكرمه بن ابى جهل- واسم ابى جهل عمرو بْن هشام بْن المغيرة بْن عبد اللَّه ابن عمر بن مخزوم- ذكر محمد بن عمر ان أبا بكر بْن عبد الله بْن أبي سبرة حدثه عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي حَبِيبَةَ مولى الزبير عن عبد الله بن الزبير، قال: لما كان يوم فتح مكة هرب عكرمه بن ابى جهل الى اليمن، وخاف ان يقتله رسول الله ص، وكانت امراته أم حكيم ابنه الحارث بن هشام امراه لها عقل، وكانت قد اتبعت رسول الله ص، فجاءت الى رسول الله ص فقالت: ابن عمى عكرمه قد هرب منك الى اليمن، وخاف ان تقتله، فآمنه قال: قد آمنته بأمان الله، فمن لقيه فلا يعرض له، فخرجت في طلبه، فأدركته في ساحل من سواحل تهامه، وقد ركب البحر، فجعلت تليح اليه وتقول: يا بن عم، جئتك من اوصل الناس، وابر الناس، وخير الناس لا تهلك نفسك، وقد استامنت لك منه فامنك فقال: أنت فعلت ذلك؟ قالت: نعم، انا كلمته فامنك، فرجع معها، فلما دنا من مكة [قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: ياتيكم عكرمه بن ابى جهل مؤمنا مهاجرا، فلا تسبوا أباه، فان سب الميت يؤذى الحى، ولا يبلغ الميت] قال: فقدم عكرمه، فانتهى الى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته معه، فسبقته فاستأذنت على رسول الله ص، فدخلت فاخبر عمر رسول الله ص بقدوم

قال: وممن هلك سنه اربع عشره من الهجره

عكرمه فاستبشر، ووثب قائما على رجليه، وما على رسول الله ص رداء، فرحا بعكرمه، وقال: أدخليه، فدخل فقال: يا محمد، ان هذه أخبرتني انك آمنتنى، فقال رسول الله ص: فأنت آمن، قال عكرمه: فقلت أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريك له وانك عبد الله ورسوله، وقلت: أنت ابر الناس، واصدق الناس، واوفى الناس، اقول ذلك وانى لمطأطئ راسى استحياء منه ثم قلت: يا رسول الله استغفر لي كل عداوة عاديتكها، او مركب او ضعت فيه، اريد اظهار الشرك، فقال رسول الله ص: اللهم اغفر لعكرمه كل عداوة عادانيها، او مركب او ضع فيه، يريد ان يصد عن سبيلك، قلت: يا رسول الله، مرني بخير ما تعلم، فاعلمه قال: قل أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدا عبده ورسوله، وجاهد في سبيله ثم قال عكرمه: اما والله يا رسول الله، لا ادع نفقه كنت أنفقها في صد عن سبيل الله الا انفقت ضعفها في سبيل الله عز وجل ثم اجتهد في القتال حتى قتل شهيدا يوم اجنادين في خلافه ابى بكر، وقد كان رسول الله ص استعمله عام حجه على هوازن يصدقها، فتوفى رسول الله ص وعكرمه يومئذ بتباله. قال: وممن هلك سنه اربع عشره من الهجره نوفل بن الحارث بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مناف، وكان يكنى أبا الحارث بابنه الحارث، وكان نوفل- فيما قيل- اسن من اسلم من بنى هاشم، وكان اسن من عميه حمزه والعباس واسن من اخوته: ربيعه وابى سفيان وعبد شمس بنى الحارث، واسر نوفل بن الحارث ببدر. قال ابن سعد: أخبرنا على بن عيسى النوفلي عن ابيه، عن عمه إسحاق بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، قَالَ: لما اسر نوفل ابن الحارث ببدر، [قال له رسول الله ص: افد نفسك يا نوفل، قال: ما لي شيء افدى به يا رسول الله، قال: افد نفسك برماحك التي بجده،

قال: اشهد انك رسول الله، وفدى نفسه بها، وكانت الف رمح،] وآخى رسول الله ص بين نوفل والعباس بن عبد المطلب، وكانا قبل ذلك شريكين في الجاهلية متفاوضين في المال متحابين، وشهد نوفل مع رسول الله ص فتح مكة وحنينا والطائف، وثبت يوم حنين مع رسول الله ص، واعان رسول الله ص في غزوه حنين بثلاثة آلاف رمح، فقال له رسول الله ص: كأني انظر الى رماحك يا أبا الحارث تقصف اصلاب المشركين. وتوفى نوفل بن الحارث بعد ان استخلف عمر بن الخطاب بسنه وثلاثة اشهر فصلى عليه عمر، ثم مشى معه الى البقيع، حتى دفن هناك. وابو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، كان أخا رسول الله ص من الرضاعه ارضعته حليمه أياما وكان يألف رسول الله ص فلما بعث رسول الله ص عاداه وهجاه وهجا اصحابه، فمكث عشرين سنه مناصبا لرسول الله، لا يتخلف عن موضع تسير فيه قريش لقتال رسول الله ص فلما ذكر شخوص رسول الله ص الى مكة عام الفتح القى الله عز وجل في قلبه الاسلام، فتلقى رسول الله ص تلقيه قبل نزوله الأبواء، فاسلم هو وابنه جعفر، وخرج مع رسول الله ص، فشهد فتح مكة وحنينا. قال ابو سفيان: فلما لقينا العدو بحنين اقتحمت عن فرسي وبيدي السيف صلتا، والله يعلم انى اريد الموت دونه، وهو ينظر الى فقال العباس: يا رسول الله، هذا اخوك وابن عمك ابو سفيان بن الحارث، فارض عنه، قال: قد فعلت، فغفر الله عز وجل له عداوة عادانيها، ثم التفت الى فقال: أخي لعمري! فقبلت رجله في الركاب. قالوا: ومات ابو سفيان بن الحارث بالمدينة بعد أخيه نوفل بن الحارث باربعه اشهر الا ثلاث عشره ليله، ويقال: بل مات سنه عشرين وصلى عليه

قال: وممن قتل في سنه ست عشره

عمر بن الخطاب، ودفن في ركن دار عقيل بن ابى طالب بالبقيع، وكان هو الذى حفر قبر نفسه قبل ان يموت بثلاثة ايام. قال: وممن قتل في سنه ست عشره سعد بن عبيد بن النعمان بن قيس بن عمرو بن زيد بن اميه بن زيد، وهو الذى يقال له: سعد القارئ، ويكنى أبا زيد، وهو احد السته الذين روى عن انس بن مالك انهم جمعوا القرآن على عهد رسول الله ص، شهد بدرا واحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله ص، وقتل يوم القادسية شهيدا سنه ست عشره، وهو ابن اربع وستين سنه. وفيها كانت وفاه مارية أم ابراهيم بن رسول الله ص فصلى عليها عمر بن الخطاب، وقبرها بالبقيع. ذكر من قتل او مات منهم في سنه ثلاث وعشرين من الهجره قال: منهم عمر بْن الْخَطَّاب بْن نفيل بْن عبد العزى بن رياح بن عبد الله ابن قرط بْن رزاح بْن عدي بْن كعب، وكان يكنى أبا حفص. قال ابن سعد: أخبرنا يعقوب بْن إبراهيم بْن سعد، عن ابيه، عن صالح ابن كيسان، قال: قال ابن شهاب: بلغنا أن أهل الكتاب كانوا أول من قال لعمر: الفاروق، وكان المسلمون يأثرون ذلك من قولهم ولم يبلغنا ان رسول الله ص ذكر من ذلك شيئا. قال ابن عمر: حدثني أبو بكر بن إسماعيل بن محمد بْن سعد عن أبيه قال: طعن عمر يوم الأربعاء لأربع ليال بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، ودفن يوم الأحد صباح هلال المحرم سنه اربع وعشرين. قال: وممن توفى سنه اثنتين وثلاثين من الهجره الطفيل بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، أخو عبيده بن الحارث الذى بارز عتبة بن ربيعه يوم بدر، وشهد الطفيل بن الحارث بدرا وأحدا والمشاهد كلها مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ص، وتوفى سنه اثنتين وثلاثين وهو ابن سبعين سنه. والحصين بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، وهو أخو عبيده والطفيل ابنى الحارث، توفى في هذه السنه بعد أخيه الطفيل باشهر، وقد شهد الحصين بدرا وأحدا والمشاهد كلها مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ص. والعباس بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مناف عم رسول الله ص أمه نتيلة ابنه جناب بن كليب بن مالك بن عمرو بن عامر بن زيد مناه ابن عامر وهو الضحيان بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط بن هنب بن افصى بن دعمى بن جديله بن اسد بن ربيعه بن نزار بن معد بن عدنان. وكان العباس يكنى أبا الفضل، وكان الفضل اكبر ولده، وكان العباس- فيما قيل- اسن من رسول الله ص بثلاث سنين ولد رسول الله ص عام الفيل، وولد العباس رحمه الله قبل ذلك بثلاث سنين، وشهد العباس مع رسول الله ص فتح مكة وحنينا والطائف وتبوك، وثبت معه يوم حنين في اهل بيته حين انكشف الناس عنه. قال ابن عمر: حدثنا خالد بن القاسم البياضي، قال: أخبرني شعبه مولى ابن عباس، قال: كان العباس معتدل القناه، وكان يخبرنا عن عبد المطلب انه مات وهو اعدل قناه منه، وتوفى العباس يوم الجمعه لاربع عشره ليله خلت من رجب سنه ثنتين وثلاثين في خلافه عثمان بن عفان، وهو ابن ثمان وثمانين سنه، ودفن بالبقيع في مقبره بنى هاشم. وذكر ان الذى ولى غسل العباس حين مات على بن ابى طالب وعبد الله وعبيد الله وقثم بن العباس وروى عن محمد بن على انه كان يقول: مات العباس بن عبد المطلب سنه اربع وثلاثين، وصلى عليه عثمان ودفن بالبقيع.

ذكر من مات او قتل منهم في سنه ثلاث وثلاثين من الهجره

ذكر من مات او قتل منهم في سنه ثلاث وثلاثين من الهجره قال: منهم المقداد بن عمرو بن ثعلبه بن مالك بن ربيعه بن ثمامة بن مطرود ابن عمرو بن سعد بن زهير- وكان بعضهم يقول ابن سعد بن دهير- بن لؤي بن ثعلبه ابن مالك بن الشريد بن اهون بن فاس بن دريم بن القين بن اهود بن بهراء بن عمرو ابن الحاف بن قضاعه وكان يكنى أبا معبد. وكان حالف الأسود بن عبد يغوث الزهري في الجاهلية فتبناه، فكان يقال له: المقداد بن الأسود فلما نزل القرآن: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ: قيل له المقداد بن عمرو. وهاجر المقداد الى ارض الحبشه الهجره الثانيه في روايه ابن إسحاق وابن عمر، وشهد المقداد بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله ص وكان من الرماه المذكورين من اصحاب رسول الله ص. قَالَ ابن سعد: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْن يعقوب، عن عمته عن أمها كريمه ابنه المقداد، انها وصفت أباها لهم، فقالت: كان رجلا طوالا آدم ذا بطن كثير شعر الراس يصفر لحيته وهي حسنه، ليست بالعظيمة ولا بالخفيفة، اعين مقرون الحاجبين اقنى قالت: ومات المقداد بالجرف على ثلاثة اميال من المدينة، فحمل على رقاب الرجال حتى دفن بالمدينة، وصلى عليه عثمان بن عفان وذلك سنه ثلاث وثلاثين، وكان يوم مات ابن سبعين سنه او نحوها. قال ابن سعد: وأخبرنا محمد بن عبد الله الأسدي قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ، عن ابى فائد، ان المقداد بن الأسود شرب دهن الخروع فمات

قال: وممن قتل في سنه ست وثلاثين من الهجره

قال: وممن قتل في سنه ست وثلاثين من الهجره الزبير بن العوام بن خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قصى كان قديم الاسلام قيل كان رابعا او خامسا حين اسلم، واسلم- فيما ذكر هشام بن عروه عن ابيه، قال: - اسلم الزبير، وهو ابن ست عشره سنه، ولم يتخلف عن غزوه غزاها رسول الله ص، وقتل وهو ابن بضع وخمسين سنه قال: وهاجر الى ارض الحبشه الهجرتين معا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخى بينه وبين ابن مسعود، وكان- فيما ذكر- رجلا ليس بالطويل، ولا بالقصير، خفيف اللحية، اسمر اللون اشعر. حدثنى الحارث قال حدثنا عبد الله بن مسلمه بن قعنب قال: حدثنا سفيان ابن عيينه قال: اقتسم ميراث الزبير على اربعين الف الف وقالوا: خرج الزبير يوم الجمل، وذلك يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة من هذه السنه بعد الوقعه عَلَى فَرَسٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ ذُو الْخِمَارِ، منطلقا نحو المدينة، فقتل بوادي السباع، ودفن هنالك وذكر عن عروه انه قال: قتل ابى يوم الجمل، وقد زاد على الستين اربع سنين. وطلحه بن عبيد الله بن عثمان بن عَمْرو بن كعب بن سَعْدِ بْنِ تيم بن مره، وكان يكنى أبا محمد، وأمه الصعبه ابنه عبد الله الحضرمى قتل يوم الجمل، قتله مروان بن الحكم، وكان له ابن يقال له محمد، وهو الذى يدعى السجاد، وبه كان طلحه يكنى، وقتل مع ابيه طلحه يوم الجمل، وكان طلحه قديم الاسلام، ولم يشهد بدرا.

ذكر من مات او قتل منهم في سنه سبع وثلاثين من الهجره

ذكر من مات او قتل منهم في سنه سبع وثلاثين من الهجره منهم عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانه بن قيس بن الحصين بن الوذيم بن ثعلبه بن عوف بن حارثة بن عامر الاكبر بن يام بن عنس، وهو زيد ابن مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وبنو مالك بن أدد من مذحج. ذكر ان ياسر بن عامر ربى عمار بن ياسر واخويه الحارث ومالكا، قدموا من اليمن الى مكة، في طلب أخ لهم، فرجع الحارث ومالك الى اليمن، واقام ياسر بمكة، وحالف أبا حذيفة بْن المغيرة بْن عبد الله بْن عمر بن مخزوم وزوجه ابو حذيفة أمه له، يقال لها سميه بنت خباط، فولدت له عمارا فاعتقه ابو حذيفة، ولم يزل ياسر وعمار مع ابى حذيفة الى ان مات وجاء الله بالإسلام فاسلم ياسر وسميه وعمار واخوه عبد الله بن ياسر، وكان لياسر ابن اكبر من عمار وعبد الله يقال له حريث، فقتلته بنو الديل في الجاهلية، وخلف على سميه بعد ياسر الأزرق، وكان روميا غلاما للحارث بن كلده الثقفى، وهو ممن خرج يوم الطائف الى النبي ص مع عبيد اهل الطائف وفيهم ابو بكره، فاعتقهم رسول الله ص فولدت للأزرق سلمه بن الأزرق، فهو أخو عمار لامه، ثم ادعى ولد سلمه ان الارزق بن عمرو بن الحارث بن ابى شمر من غسان وانه حليف لبنى اميه وشرفوا بمكة، وتزوج الأزرق وولده في بنى اميه، كان لهم منهم اولاد وكان عمار يكنى أبا اليقظان، وهاجر عمار بن ياسر في قول جميع من ذكرت من اهل السير الى ارض الحبشه الهجره الثانيه. وذكر ابن عمر عن عبد الله بن جعفر ان رسول الله ص آخى بين عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان، قال عبد الله بن جعفر: ان لم يكن حذيفة شهد بدرا، فان اسلامه كان قديما، وقالوا جميعا: شهد عمار بن ياسر بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله ص قال ابن عمر:

حدثنى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابن عمر. قال: رايت عمار بن ياسر يوم اليمامه على صخره وقد اشرف، يصيح: يا معشر المسلمين، امن الجنه تفرون؟ انا عمار بن ياسر، هلم الى، وانا انظر الى اذنه قد قطعت فهى تذبذب وهو يقاتل أشد القتال. قال ابن عمر: وحدثنى عبد الله بن ابى عبيده عن ابيه، عن لؤلؤه مولاه أم الحكم بنت عمار بن ياسر، قالت: لما كان اليوم الذى قتل فيه عمار، والراية يحملها هاشم بن عتبة، وقد قتل اصحاب على ع ذلك اليوم حتى كانت العصر، ثم تقرب عمار من وراء هاشم يقدمه، وقد جنحت الشمس للغروب، ومع عمار ضيح من لبن ينتظر وجوب الشمس ان يفطر، فقال حين وجبت الشمس وشرب الضيح: سمعت رسول الله ص يقول: آخر زادك من الدنيا ضيح من لبن قال: ثم اقترب فقاتل حتى قتل وهو ابن اربع وتسعين سنه رحمه الله. قال ابن عمر: حدثنى عبد الله بن الحارث، عن ابيه، عن عماره بن خزيمة ابن ثابت، قال: شهد خزيمة بن ثابت الجمل وهو لا يسل سيفا، وشهد صفين وقال: انا لا أضل ابدا، حتى يقتل عمار فانظر من يقتله، [فانى سمعت رسول الله ص يقول: تقتله الفئة الباغيه،] قال: فلما قتل عمار قال خزيمة: قد بانت لي الضلالة، ثم اقترب فقاتل حتى قتل. وكان الذى قتل عمار بن ياسر ابو غاديه المزنى، طعنه برمح فسقط وكان يومئذ يقاتل في محفه فقتل يومئذ وهو ابن اربع وتسعين فلما وقع أكب عليه رجل آخر فاحتز راسه فاقبلا يختصمان فيه كلاهما يقول: انا قتلته، فقال عمرو ابن العاص: والله ان يختصمان الا في النار، فسمعها منه معاويه فلما انصرف الرجلان قال معاويه لعمرو: ما رايت مثل ما صنعت، قوم بذلوا انفسهم دوننا تقول لهما: انكما تختصمان في النار! فقال عمرو: هو والله ذاك، والله انك

لتعلمه ولوددت انى مت قبل هذا بعشرين سنه. قال ابن عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ ابن ابى عون قال: قتل عمار وهو ابن احدى وتسعين سنه، وكان اقدم في الميلاد من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان اقبل اليه ثلاثة نفر: عقبه بن عامر الجهنى وعمر بن الحارث الخولاني، وشريك بن سلمه المرادى، فانتهوا اليه جميعا وهو يقول: والله لو ضربتمونا حتى تبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا انا على حق وأنتم على باطل، فحملوا عليه جميعا فقتلوه. وزعم بعض الناس ان عقبه بن عامر هو الذى قتله، ويقال: بل الذى قتله عمر بن الحارث الخولاني. قَالَ أَبُو جَعْفَر: وأما هِشَام بن مُحَمَّد، فانه ذكر عن ابى مخنف، ان عمارا لم يزل بهاشم بن عتبة حتى حمل ومع هاشم اللواء، فنهض عمار في كتيبته، ونهض اليه ذو الكلاع في كتيبته، فاقتتلوا فقتلا جميعا، واستؤصلت الكتيبتان، وحمل على عمار حوى السكسكى وابو غاديه المزنى فقتلاه، فقيل لأبي الغاديه: كيف قتلته؟ قال: لما دلف إلينا في كتيبته ودلفنا اليه نادى: هل من مبارز؟ فبرز اليه رجل من السكاسك، فاضطربا بسيفيهما فقتل عمار السكسكى، ثم نادى: هل من مبارز؟ فبرز اليه رجل من حمير فاضطربا بسيفيهما، فقتل عمار الحميرى واثخنه الحميرى ونادى: من يبارز؟ فبرزت، فاختلفنا ضربتين، وقد كانت يده ضعفت فانتحى عليه بضربه اخرى، فسقط، فضربته بسيفي حتى برد قال: ونادى الناس: قتلت أبا اليقظان، قتلك الله! فقلت: اذهب إليك فو الله ما أبالي من كنت، وبالله ما اعرفه يومئذ، فقال له محمد بن المنتشر: يا أبا الغاديه خصمك يوم القيامه مازندر- يعنى ضخما-، قال: فضحك. قال ابن عمر: وحدثنا عبد الله بْن أبي عبيدة بْن محمد بن عمار عن ابيه عن لؤلؤه مولاه أم الحكم بنت عمار، انها وصفت لهم عمارا، فقالت: كان رجلا آدم

طوالا مضطربا، اشهل العينين، بعيد ما بين المنكبين، وكان لا يغير شيبه. قال ابن عمر: الذى اجمع عليه في عمار انه قتل رحمه الله مع على بن ابى طالب ع بصفين في صفر سنه سبع وثلاثين وهو ابن ثلاث وتسعين، ودفن هنالك بصفين. وعبد الله بن بديل بن ورقاء بن عبد العزى بن ربيعه بن جرى بن عامر بن مازن بن عدى بن عمرو بن ربيعه شهد مع النبي ص فتح مكة وحنينا وتبوك، وقتل يوم صفين مع امير المؤمنين على بن ابى طالب ع. وخزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبه بن ساعده بن عامر بن غيان بن عامر ابن خطمه بن جشم بن مالك بن الأوس، وهو ذو الشهادتين، يكنى أبا عماره. وكان لخزيمه اخوان، يقال لأحدهما: وحوح وللآخر عبد الله، وكانت رايه خطمه بيده في غزوه الفتح، وشهد خزيمة مع على بن ابى طالب ع صفين، وقتل يومئذ سنه سبع وثلاثين من الهجره. وسعد بن الحارث بن الصمة بن عمرو بن عتيك بن عمرو بن مبذول، وهو عامر بن مالك بن النجار، صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد مع على بن ابى طالب ع صفين، وقتل يومئذ وهو أخو ابى جهيم بن الحارث بن الصمة. وابو عمره، واسمه بشير بن عمرو بن محصن بن عمرو بن عتيك بن عمرو ابن مبذول، وهو ابو عبد الرحمن بن ابى عمره، الذى روى عن عثمان بن عفان، وقتل ابو عمره بصفين مع على بن ابى طالب ع. وهاشم بن عتبة بن ابى وقاص بْن أهيب بْن عبد مناف بْن زهرة اسلم بن هاشم بن عتبة يوم فتح مكة وهو المرقال، وكان اعور فقئت عينه يوم اليرموك، وهو ابن أخي سعد بن ابى وقاص شهد صفين مع على بن ابى طالب ع وكان يومئذ على الرجاله، وهو الذى يقول: أعور يبغي أهله محلا ... قَدْ عالج الحياة حَتَّى ملا. لا بد أن يفل او يفلا

ذكر من مات منهم او قتل سنه اربعين

وقتل يوم صفين. وابو فضالة الأنصاري، من اهل بدر، قتل مع على ع بصفين. وسهل بن حنيف بن واهب بن العكيم بن ثعلبه بن عمرو بن الحارث بن مجدعه ابن عمرو بن حنش بن عوف بن عمرو بن عوف، ويكنى أبا سعد، وقيل: يكنى أبا عبد الله، وجده عمرو بن الحارث، وهو الذى يقال له: بحزج. [وشهد سهل بدرا وأحدا، وثبت مع رسول الله ص يوم احد حين انكشف الناس عنه، وبايعه على الموت، وجعل ينضح يومئذ بالنبل، عن رسول الله ص، فقال رسول الله ص: نبلوا سهلا، فانه سهل] وشهد أيضا الخندق والمشاهد كلها مع رسول الله ص، وشهد سهل بن حنيف صفين مع على بن ابى طالب ع. قال ابن عمر: حدثنى عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن محمد بن ابى امامه ابن سهل عن ابيه، قال: مات سهل بن حنيف بالكوفه سنه ثمان وثلاثين وصلى عليه على بن ابى طالب ع. ذكر من مات منهم او قتل سنه اربعين فممن قتل منهم فيها امير المؤمنين على بن ابى طالب ع واسم أبي طالب عبد مناف بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مناف بن قصى، وكان يكنى أبا الحسن ضرب- فيما قيل- ليله الجمعه لسبع عشره خلت من شهر رمضان منها، ومات ليله الأحد لإحدى عشره بقيت منه منها، وقد مضت اخباره في كتابنا المسمى المذيل. وذكر عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فروه، انه قال: سالت أبا جعفر محمد ابن على ع قال: قلت: ما كانت صفه على ع؟ قَالَ: رَجُلٌ آدَمُ شَدِيدُ الأَدَمَةِ ثَقِيلُ الْعَيْنَيْنِ ذُو بَطْنٍ، أَصْلَعُ، هُوَ إِلَى الْقِصَرِ أَقْرَبُ.

ذكر من هلك منهم سنه خمسين

ذكر من هلك منهم سنه خمسين قال: منهم سعيد بن زيد بن عمرو بْن نفيل بْن عبد العزى بْن رياح بْن عبد الله ابن قرط بْن رزاح بْن عدي بْن كعب بن لؤي، وكان يكنى أبا الأعور، وكان أبوه زيد بن عمرو بن نفيل قد فارق دين قومه من قريش، وتوفى وقريش تبنى الكعبه، وذلك قبل ان يوحى الى رسول الله ص بخمس سنين، [فروى عن النبي ص انه قال: يبعث أمه وحده،] واسلم سعيد بن زيد قبل ان يدخل رسول الله ص دار الارقم، وقبل ان يدعو فيها، وشهد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله ص، ولم يشهد بدرا. وذكر ابن عمر ان عبد الملك بن زيد من ولد سعيد بن زيد، حدثه عن ابيه، قال: توفى سعيد بن زيد بالعقيق، فحمل على رقاب الرجال، فدفن بالمدينة ونزل في حفرته سعد وابن عمر وذلك سنه خمسين او احدى وخمسين وكان يوم مات ابن بضع وسبعين سنه، وكان رجلا طوالا آدم اشعر. والمغيره بن شعبه بن ابى عامر بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو ابن سعد بن عوف بن ثقيف، واسمه قسى بن منبه بن بكر بن هوازن بن عكرمه ابن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار، وكان يكنى أبا عبد الله، وكان يقال له: مغيره الرأي، كان داهيه، وقدم على النبي ص فاسلم واقام معه حتى اعتمر عمره الحديبية في ذي القعده سنه ست من الهجره. وذكر ابن عمر ان عبد الله بْن محمد بْن عمر بْن على حدثه عن ابيه، قال: فال على ع: لما القى المغيره بن شعبه خاتمه في قبر رسول الله ص، قلت: لا يتحدث الناس انك نزلت في قبر رسول الله، ولا تحدث أنت الناس ان خاتمك في قبره، فنزل على ع وقد راى موقعه، فتناوله، فدفعه اليه

قال ابن عمر: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ أبي مُوسَى الثقفي عَنْ أَبِيهِ، قال: مات المغيره بالكوفه في شعبان سنه خمسين في خلافه معاويه، وهو ابن سبعين سنه. وكان رجلا طوالا اعور، وقيل كان اصهب الشعر اكشف جعدا، يفرق راسه فروقا اربعه، اقلص الشفتين، مهتوما ضخم الهامه، عبل الذراعين، بعيد ما بين المنكبين. قال ابو جعفر: والحسن بن على بن ابى طالب ع، قال ابن عمر: حدثنى عبد الله بن جعفر، عن أم بكر بنت المسور، قالت: كان الحسن بن على ع سم مرارا، كل ذلك يفلت حتى كانت المره الآخرة التي مات فيها، فانه كان يجتلف كبده، فلما مات اقام نساء بنى هاشم النوح عليه شهرا. قال ابن عمر: وحدثنا حفص بن عمر عن ابى جعفر قال: مكث الناس يبكون على الحسن بن على ع سبعا ما تقوم الاسواق. قال ابن عمر: وحدثتنا عبيده بنت نابل عن عائشة بنت سعد، قالت: حد نساء بنى هاشم على الحسن بن على سنه قال: وحدثنا داود بن سنان، قال: سمعت ثعلبه بن ابى مالك، قال: شهدنا حسن بن على ع يوم مات، ودفناه بالبقيع، ولقد رايت البقيع ولو طرحت فيها ابره ما وقعت الا على راس انسان. وقال على بن محمد: حدثنى مسلمه بن محارب، قال: مات الحسن بن على ع سنه خمسين في ربيع الاول لخمس خلون منه. قال على بن محمد: ويقال: بل مات سنه احدى وخمسين وهو ابن ست واربعين سنه.

ذكر الخبر عمن مات او قتل منهم سنه ثنتين وخمسين

ذكر الخبر عمن مات او قتل منهم سنه ثنتين وخمسين منهم ابو أيوب، واسمه خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبه بن عبد بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار، وهو احد السبعين الذين بايعوا رسول الله ص ليله العقبه من الانصار في قول جميعهم، وآخى رسول الله ص بينه وبين مصعب بن عمير، وشهد بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها، مع رسول الله ص، وتوفى عام غزا يزيد بن معاويه القسطنطينية في خلافه ابيه معاويه، وقبره بأصل حصن القسطنطينية بأرض الروم فالروم- فيما ذكر- يتعاهدون قبره، ويرمونه ويستسقون به إذا قحطوا. ذكر الخبر عمن مات او قتل سنه اربع وخمسين منهم حكيم بن حزام بن خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قصى، ذكر ابن عمر ان المنذر بن عبد الله حدثه عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي حَبِيبَةَ مولى الزبير، قال: سمعت حكيم بن حزام يقول: ولدت قبل قدوم اصحاب الفيل بثلاث عشره سنه. وانا اعقل حين اراد عبد المطلب ان يذبح ابنه عبد الله حين وقع ندره، وذلك قبل مولد رسول الله ص بخمس سنين وشهد حكيم بن حزام مع ابيه الفجار، وقتل أبوه حزام بن خويلد في الفجار الآخر، وكان حكيم يكنى أبا خالد، وكان له من الولد عبد الله وخالد ويحيى وهشام، وأمهم زينب ابنه العوام بن خويلد ابن اسد بن عبد العزى بن قصى، ويقال: أم هشام بن حكيم مليكه ابنه مالك بن سعد من بنى الحارث بن فهر. وقد ادرك ولد حكيم بن حزام كلهم النبي ص يوم الفتح، وصحبوا رسول الله ص، وكان حكيم بن حزام- فيما ذكر- قد بلغ عشرين ومائه سنه

ومر به معاويه عام حج، فأرسل اليه بلقوح يشرب من لبنها، وذلك بعد ان ساله: اى الطعام يأكل؟ قال: اما مضغ فلا مضغ في، فأرسل اليه باللقوح، وارسل اليه بصله، فأبى ان يقبلها، وقال: لم آخذ بعد النبي ص شيئا، ودعانى ابو بكر وعمر الى حقي فأبيت ان آخذه. قال ابن عمر: وَحَدَّثَنِي ابن أبي الزناد عَنْ أَبِيهِ، قال: قيل لحكيم بن حزام: ما المال يا أبا خالد؟ قال: قله العيال. قال ابن عمر: وقدم حكيم بن حزام المدينة ونزلها وبنى بها دارا، ومات بالمدينة سنه اربع وخمسين في خلافه معاويه، وهو ابن مائه وعشرين سنه. ومخرمه بن نوفل بْن أهيب بْن عبد مناف بْن زهرة بن كلاب، وأمه رقيقه ابنه ابى صيفي بن هاشم بن عبد مناف، فولد مخرمه صفوان، وبه كان يكنى، وهو الاكبر من ولده- والمسور والصلت الاكبر وأم صفوان، وأمهم عاتكه ابنه عوف ابن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهره، اخت عبد الرحمن بن عوف وكانت من المهاجرات وأمها الشفاء ابنه عوف بن عبد بن الحارث بن زهره، وهي من المهاجرات أيضا والصلت الاصغر وصفوان الاصغر والعطاف الاكبر والعطاف الاصغر ومحمدا. واسلم مخرمه بن نوفل عند فتح مكة، وكان عالما بنسب قريش وأحاديثها، وكانت له معرفه بانصاب الحرم، فكان عمر يبعثه، وسعيد بن يربوع أبا هود وحويطب بن عبد العزى وازهر بن عبد عوف، فيجددون أنصاب الحرم، لعلمهم بها ثم ذهب بصر مخرمه بن نوفل في خلافه عثمان، وشهد مخرمه بن نوفل مع رسول الله ص يوم حنين، واعطاه من غنائم حنين خمسين بعيرا. قال ابن عمر: رايت عبد الله بن جعفر ينكر ان يكون أخذ مخرمه من ذلك شيئا، وقال: ما سمعت أحدا من اهلى يذكر ذلك، قال: ومات مخرمه بالمدينة سنه اربع وخمسين في خلافه معاويه، وكان يوم مات ابن مائه وخمس عشره سنه

قال: وحويطب بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عبد ود بن نصر بن مالك ابن حسل بن عامر بن لؤي. قال ابن عمر: حدثنى ابراهيم بن جعفر بن محمود بن محمد بن مسلمه الأشهلي عن ابيه، قال: كان حويطب بن عبد العزى العامري قد عاش عشرين ومائه سنه، ستين سنه في الجاهلية وستين في الاسلام فلما ولى مروان بن الحكم المدينة في عمله الاول، دخل عليه حويطب مع مشيخه جله حكيم بن حزام ومخرمه ابن نوفل، فتحدثوا عنده، وتفرقوا، فدخل عليه حويطب يوما بعد ذلك، فتحدث عنده، فقال مروان: ما سنك؟ فاخبره، فقال له مروان: تأخر اسلامك ايها الشيخ حتى سبقك الاحداث، فقال حويطب: الله المستعان، لقد هممت بالإسلام غير مره كل ذلك يعوقنى ابوك عنه وينهاني، ويقول: تضع شرفك، وتدع دين آبائك لدين محدث وتصير تابعا! قال: فاسكت والله مروان، وندم على ما كان قال له، ثم قال له حويطب: اما كان اخبرك عثمان ما لقى من ابيك حين اسلم، فازداد مروان غما، ثم قال حويطب: ما كان من قريش احد من كبرائها الذين يقوا على دين قومهم الى ان فتحت مكة، كان اكره لما هو عليه منى، ولكن المقادير ولقد شهدت بدرا مع المشركين، فرايت عبرا، رايت الملائكة، تقتل وتاسر بين السماء والارض، فقلت: هذا رجل ممنوع، ولم اذكر ما رايت فانهزمنا اجمعين الى مكة، فأقمنا بمكة وقريش تسلم رجلا رجلا، فلما كان يوم الحديبية حضرت، وشهدت الصلح، ومشيت فيه حتى تم، وكل ذلك اريد الاسلام ويأبى الله جل وعز الا ما يريد فلما كتبنا صلح الحديبية، كنت احد شهوده، وقلت: لا ترى قريش من محمد ص الا ما يسوءها، قد رضيت ان دافعته بالراح وَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لعمره القضية، وخرجت قريش عن مكة، كنت فيمن تخلف بمكة انا وسهيل بن عمرو، لان نخرج رسول الله ص إذا مضى الوقت، وهو ثلاث، فلما انقضت الثلاث، اقبلت انا وسهيل بن عمرو، فقلنا: قد مضى شرطك فاخرج من بلدنا، [فصاح: يا بلال لا تغب الشمس واحد من المسلمين بمكة ممن قدم معنا] . قال ابن عمر: وحدثنى ابراهيم بن جعفر بن محمود، عن ابيه قال: وحدثنى

أبو بكر بْن عبد الله بْن أبي سبرة، عن موسى بن عقبه، عن المنذر بن جهم قال: قال حويطب بن عبد العزى: لما دخل رسول الله ص مكة عام الفتح، خفت خوفا شديدا، فخرجت من بيتى، وفرقت عيالي، في مواضع يأمنون فيها ثم انتهيت الى حائط عوف، وكنت فيه، فإذا انا بابى ذر الغفاري، وكانت بيني وبينه خله- والخله ابدا نافعه- فلما رايته هربت منه، فقال: أبا محمد! قلت: لبيك، قال: مالك؟ قلت: الخوف، قال: لا خوف عليك، تعال أنت آمن بأمان الله جل وعز فرجعت اليه وسلمت عليه، فقال: اذهب الى منزلك، قلت: هل لي سبيل الى منزلي؟ والله ما أراني اصل الى بيتى حيا حتى القى فاقتل، او يدخل على منزلي فاقتل، وان عيالي لفي مواضع شتى، قال: فاجمع عيالك في موضع، وانا ابلغ معك منزلك، فبلغ معى وجعل ينادى على بابى: ان حويطبا آمن، فلا يهج، ثم انصرف ابو ذر الى رسول الله ص فاخبره، فقال: او ليس قد آمنا الناس كلهم الا من امرت بقتله، قال: فاطمأننت، ورددت عيالي الى مواضعهم، وعاد الى ابو ذر، فقال: يا أبا محمد، حتى متى والى متى؟ قد سبقت في المواطن كلها وفاتك خير كثير، وبقي خير كثير، فات رسول الله فاسلم تسلم، ورسول الله ابر الناس، واحلم الناس، واوصل الناس، شرفه شرفك، وعزه عزك قال: قلت فانا اخرج معك، فاتيه، فخرجت معه حتى اتيت رسول الله ص بالبطحاء، وعنده ابو بكر وعمر، فوقفت على راسه، وسالت أبا ذر: كيف يقال إذا سلم عليه؟ قال: قل السلام عليك ايها النبي ورحمه الله، فقتلها، فقال: وعليك السلام، احويطب؟ قال: قلت: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الحمد لله الذى هداك قال: وسر رسول الله ص بإسلامي، واستقرضنى مالا، فاقرضته اربعين الف درهم، وشهدت معه حنينا والطائف، وأعطاني من غنائم حنين مائه بعير. قال ابو جعفر: ثم قدم حويطب بعد ذلك المدينة، فنزلها وله بها دار بالبلاط عند اصحاب المصاحف. قال ابن عُمَرَ: حَدَّثَنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، قال: باع حويطب بن عبد العزى داره بمكة من معاويه بأربعين الف دينار، وقيل له: يا أبا

محمد، اربعين الف دينار! قال: وما اربعون الف دينار لرجل عنده خمسه من العيال! قال عبد الرحمن بن ابى الزناد: وهو والله يومئذ يوفر عليه القوت في كل شهر، ومات حويطب بن عبد العزى بالمدينة سنه اربع وخمسين في خلافه معاويه، وكان له يوم مات مائه وعشرون سنه ومنهم الارقم بن ابى الارقم بن اسد بْن عبد الله بْن عمر بْن مخزوم واسم ابى الارقم عبد مناف، وكان الارقم يكنى أبا عبد الله. وذكر ابن عمر ان محمد بن عمران بن هند بن عبد الله بن عثمان بن الارقم ابن ابى الارقم المخزومي، حدثه: أخبرني ابى عن يحيى بن عمران بن عثمان بن الارقم قال: أخبرني جدي عثمان بن الارقم، انه كان يقول: انا ابن سبع الاسلام، اسلم ابى سابع سبعه وكان داره على الصفا، وفي الدار التي كان النبي ص يكون فيها في أول الاسلام، وفيها دعا الناس الى الاسلام فاسلم فيها قوم كثير. وشهد الارقم بن ابى الارقم مع رسول الله ص بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها. قال ابن عمر: أخبرنا محمد بن عمران بن هند عن ابيه، قال: حضرت الارقم بن ابى الارقم الوفاة فاوصى ان يصلى عليه سعد، وكان مروان بن الحكم واليا لمعاوية على المدينة، وكان سعد في قصره بالعقيق، ومات الارقم، فاحتبس عليهم سعد، فقال مروان: ايحبس صاحب رسول الله ص لرجل غائب! واراد الصلاة عليه، فأبى عبيد الله بن الارقم ذلك على مروان، وقامت معه بنو مخزوم ووقع بينهم كلام، ثم جاء سعد فصلى عليه، وذلك سنه خمس وخمسين بالمدينة. وهلك الارقم وهو ابن بضع وثمانين سنه. قال: وابو محذوره، واسمه أوس بن معير بن لوذان بن ربيعه بن عويج بن سعد ابن جمح، وكان له أخ من ابيه وأمه، يقال له: انيس، قتل يوم بدر كافرا قال ابن سعد: سمعت من ينسب أبا محذوره، فيقول اسمه سمره بن عمير بن لوذان ابن وهب بن سعد بن جمح، وكان له أخ من ابيه وأمه، اسمه أوس، قال: فولد ابو محذوره عبد الملك وحديرا، وتوفى ابو محذوره بمكة سنه تسع وخمسين ولم يهاجر،

ولم يزل مقيما بمكة حتى مات. والحسين بن على بن ابى طالب ع ولد في ليال خلون من شعبان سنه اربع من الهجره، يكنى أبا عبد الله، وولد الحسين ع عليا الاكبر، قتل مع ابيه بالطف، وأمه آمنه بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود بن معتب، من ثقيف وأمها ابنه ابى سفيان بن حرب، وفيها يقول حسان بن ثابت في روايه محمد بن عمر: طافت بنا شمس النهار ومن راى ... من الناس شمسا بالعشاء تطوف ابو أمها اوفى قريش بذمه ... واعمامها اما سالت ثقيف قال ابو جعفر: وهذان البيتان ينسبان الى عمر بن ابى ربيعه، وانهما من شعره، وينشد: طافت بنا شمس عشاء ومن راى ... من الناس شمسا بالعشاء تطوف ابو أمها اوفى قريش بذمه ... واعمامها- اما نسبت- ثقيف وعليا الاصغر، وله العقب من ولد الحسين ع، واما على الاكبر فلا عقب له، وأم الاصغر أم ولد قال على بن محمد: كانت تدعى سلافه. قال ابو جعفر: ويقال ان اسمها جيداء- وكان فاضلا سيدا- وجعفرا لا بقية له وفاطمه وأمها أم إسحاق ابنه طلحه بن عبيد الله، وكانت قبله عند الحسن بن على فلما حضرته الوفاة اوصى حسينا ان يتزوجها فتزوجها حسين، فولدت له فاطمه، وعبد الله، قتل مع ابيه، وسكينه، وأمها الرباب ابنة امرئ القيس بن عدي بن أوس بن جابر بن كعب ابن عليم بن هبل بن كنانه بن بكر بن عوف بن عذره بن زيد اللات بن رفيده ابن ثور بن كلب. وفي الرباب وسكينه يقول الحسين بن على ع. لعمرك اننى لاحب دارا ... تضيفها سكينه والرباب أحبهما وابذل بعد مالي ... وليس للائمى فيها عتاب ولست لهم وان عتبوا مطيعا ... حياتي او يغيبنى التراب قال على بن محمد، عن حماد بن سلمه عن ابى المهزم، قال: كنا مع

ابى هريرة في جنازة، فلما رجعنا أعيا الحسين ع صعد، فجعل ابو هريرة ينفض التراب عن قدميه بثوبه، فقال له الحسين: أنت يا أبا هريرة تفعل هذا! قال: دعني منك، فلو يعلم الناس منك ما اعلم لحملوك على عواتقهم. قال ابو جعفر: وحدثت عن خالد بن خداش قال: لما قتل اهل فخ، لبث حماد نحوا من شهر لا يجلس، وكنت أراه محزونا ثم جلس بعد ذلك رقيقا تدمع عينه كثيرا شهرين او ثلاثة، وسمعته يقول: نحب ولد على حب الاسلام. وقال محمد بن عمر عن ابى معشر: قتل الحسين ع لعشر خلون من المحرم. قال الواقدى: وهذا الثبت. قال محمد بن عمر: وحدثنا عطاء بن مسلم، أخبره عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش قَالَ: أول رأس رفع على خشبة راس الحسين ع. وقال على بن محمد: حدثنى على بن مجاهد عن حنش بن الحارث عن شيخ من النخع، قال: قال الحجاج: من كان له بلاء فليقم، فقام قوم فذكروا، وقام سنان بن انس، فقال: انا قاتل الحسين ع، فقال بلاء حسن، ورجع الى منزله فاعتقل لسانه، وذهب عقله، فكان يأكل ويحدث مكانه.

قال: وممن هلك سنه اربع وستين

قال: وممن هلك سنه اربع وستين المسور بن مخرمة بن نوفل بْن أهيب بْن عبد مناف بْن زهرة بن كلاب، ويكنى أبا عبد الرحمن، وأمه عاتكه ابنه عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث، ابن زهره بن كلاب، وهي اخت عبد الرحمن بن عوف، وكانت من المهاجرات المبايعات، وقبض رسول الله ص والمسور بن مخرمه ابن ثمان سنين. وذكر ابن عُمَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ حَدَّثَهُ عَنِ أم بكر ابنه المسور بن مخرمه وابى عون قالا: أصاب المسور بن مخرمه حجر من المنجنيق، ضرب البيت، فانفلقت منه فلقه اصابت خد المسور وهو قائم يصلى، فمرض منها أياما، ثم هلك في اليوم الذى جاء فيه نعى يزيد بمكة، وابن الزبير يومئذ لا يتسمى بالخلافة، الأمر شورى. قال محمد: وحدثنى عبد الله بن جعفر، عن ابى عون وأم بكر ابنه المسور قالا: مات المسور في اليوم الذى جاء فيه نعى يزيد بن معاويه لهلال شهر ربيع الآخر، والمسور يومئذ ابن ثنتين وستين سنه. قال ابو جعفر: ولد المسور بعد الهجره بسنتين وتوفى لهلال شهر ربيع الآخر. سنه اربع وستين وكان يحيى بن معين- فيما حدثت عنه- يقول: مات المسور بن مخرمه سنه ثلاث وسبعين. قال ابو جعفر: وهذا غلط من القول. ذكر من هلك في سنه خمس وستين منهم سليمان بن صرد بن الجون بن ابى الجون، وهو عبد العزى بن منقذ بن ربيعه ابن أَصْرَمَ بْنِ ضُبَيْسِ بْنِ حَرَامِ بْنِ حُبْشِيَّةَ بن كعب بن عمرو بن ربيعه بن حارثة ابن عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن إمرئ القيس بن ثعلبه

ذكر من مات او قتل سنه ثمان وستين

ابن مازن بن الأزد، ويكنى أبا مطرف. اسلم وصحب النبي ص، كان اسمه يسار، فلما اسلم سماه رسول الله ص سليمان، وكانت له سنن عاليه وشرف في قومه، ونزل الكوفه حين نزلها المسلمون، وشهد مع على ع صفين، وكان ممن كتب الى الحسين بن على ع يسأله قدوم الكوفه، فلما قدمها ترك القتال معه، فلما قتل الحسين ع ندم هو والمسيب بن نجبه الفزارى وجميع من خذله فلم يقاتل معه، ثم قالوا: ما لنا توبه مما فعلنا الا ان نقتل أنفسنا في الطلب بدمه، فعسكروا بالنخيلة مستهل شهر ربيع الآخر سنه خمس وستين وولوا امرهم سليمان بن صرد، وخرجوا الى الشام في الطلب بدم الحسين ع فسموا التوابين، وكانوا اربعه آلاف، وقد ذكرنا خبرهم في كتابنا المسمى المذيل، فقتل سليمان بن صرد في هذه الوقعه، رماه يزيد بن الحصين بن نمير بسهم فقتله، وحمل راسه وراس المسيب ابن نجبه الى مروان بن الحكم ادهم بن محرز الباهلى، وو كان سليمان يوم قتل ابن ثلاث وتسعين سنه. ذكر من مات او قتل سنه ثمان وستين قال: ومنهم عبد الله بن العباس عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصى. أمه أم الفضل، وهي لبابه الكبرى ابنه الحارث بن حزن من بنى هلال بن عامر. قال على بن محمد: ولد عبد الله بن عباس عليا وهو سيد ولده، ولد سنه اربعين. ويقال: ولد عام الجمل سنه ست وثلاثين، وكان اجمل قرشي على الارض، واوسمه واكثره صلاه، وكان يدعى السجاد، وفي عقبه الخلافه، وعباسا وهو اكبر ولده- وبه كان يكنى- ومحمدا، وعبيد الله والفضل، ولبابه أمهم زرعه ابنه مشرح بن معديكرب بن وليعه، ومشرح احد الملوك الأربعة، ولا بقية للعباس وعبيد الله والفضل ومحمد بنى عبد الله بن عباس، واما لبابه ابنه عبد الله فإنها كانت تحت على بن عبد الله ابن جعفر بن ابى طالب رضى الله عنه، فولدت له، ولولدها أعقاب، وأسماء ابنه عبد الله كانت عند عبد الله بْن عبيد الله بْن العباس، فولدت له حسنا وحسينا، أمها أم ولد

قال ابن عمر: لا اختلاف عند اهل العلم عندنا ان ابن عباس ولد في الشعب وبنو هاشم مجصورون، قبل خروجهم منه بيسير، وذلك قبل الهجره بثلاث سنين، فتوفى رسول الله ص وابن عباس ابن ثلاث عشره سنه، الا تراه يقول في حديث مالك عَنِ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عنه: مررت في حجه الوداع على حمار انا والفضل، وقد راهقت يومئذ الاحتلام، والنبي ص يصلى. وذكر داود بن عمرو الضبي ان ابن ابى الزناد حدثه عن ابيه وعبد الله بن الفضل ابن عياش بن ابى ربيعه بن الحارث أخبرهما الثقه ان حسان بن ثابت، قال: انا معاشر الانصار طلبنا الى عمر او الى عثمان- يشك ابن ابى الزناد- فمشينا بعبد الله ابن عباس وبنفر معه من اصحاب رسول الله ص، فتكلم ابن عباس، وتكلموا، وذكروا الانصار ومناقبهم، فاعتل الوالي قال حسان: وكان امرا شديدا طلبناه قال: فما زال يراجعهم حتى قاموا وعذروه الا عبد الله بن عباس قال: لا والله، ما للأنصار من مترك، لقد نصروا وآووا، وذكر من فضلهم وقال: ان هذا لشاعر رسول الله ص والمنافح عنه، فلم يزل عبد الله يراجعه بكلام جوامع يسد عليه كل حجه فلم يجد بدا من ان قضى حاجتنا قال: فخرجنا وقد قضى الله عز وجل حاجتنا بكلامه، فمررت في المسجد بالنفر الذين كان معه، فلم يبلغوا ما بلغ، فقلت حيث يسمعون: انه كان اولاكم بها، قالوا: اجل فقلت لعبد الله: انها والله صبابه النبوه ووراثه احمد ص، كان احقكم بها قال حسان: فقلت وانا أشير الى عبد الله: إذا قال لم يترك مقالا لقائل ... بملتقطات لا ترى بينها فصلا كفى وشفى ما في الصدور فلم يدع ... لذى اربه في القول جدا ولا هزلا سموت الى العليا بغير مشقة ... فنلت ذراها لا دنيئا ولا وغلا وحدثنى خالد بن القاسم البياضي، عن شعبه قال: سمعت ابن عباس يقول: ولدت قبل الهجره بثلاث سنين، ونحن في الشعب، وتوفى رسول الله ص وانا ابن ثلاث عشره سنه، وتوفى ابن عباس سنه ثمان وستين وهو ابن احدى وسبعين سنه

ذكر من توفى او قتل منهم سنه اربع وسبعين

قال ابن عمر: وحدثنى محمد بن عقبه ومحمد بن رفاعة بن ثعلبه بن ابى مالك عن شعبه مولى ابن عباس، قال: مات عبد الله بن عباس بالطائف سنه ثمان وستين وهو بن اثنتين وسبعين سنه. وقال ابن عمر: حدثنى إسحاق بن يحيى، قال: حدثنا ابو سلمه الحضرمى قال: رايت قبر ابن عباس وابن الحنفيه قائم عليه، فامر به ان يسطح. وقال على بن محمد، عن حفص بن ميمون، عن ابيه، قال: توفى عبد الله ابن عباس بالطائف، فجاء طائر ابيض، فدخل بين النعش والسرير، فلما وضع في قبره سمعنا تاليا يتلو: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً. وذكر بعضهم عن على بن محمد انه قال: توفى عبد الله بن عباس وهو ابن اربع وسبعين سنه. ذكر من توفى او قتل منهم سنه اربع وسبعين منهم ابو سعيد الخدرى، واسمه سعد بن مالك بن سنان بن ثعلبه بن عبيد ابن الابجر، واسمه خدره بن عوف بن الحارث بن الخزرج وقد زعم بعضهم ان خدره هي أم الابجر، وأخو ابى سعيد لامه قتادة بن النعمان الظفري من اهل بدر. قال ابن عمر: حدثنى الضحاك بن عثمان عن محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز وابى صرمه عن ابى سعيد الخدرى قال: خرجت مع رسول الله ص في غزوه بنى المصطلق. قال ابن عمر: وهو يومئذ ابن خمس عشره سنه، قال: وشهد أيضا الخندق وما بعد ذلك من المشاهد. قال ابن عمر: وحدثنا سعيد بن ابى زيد عن ربيح بن عبد الرحمن بن ابى سعيد عن ابيه عن ابى سعيد، قال: عرضت يوم احد على النبي ص وانا ابن ثلاث عشره سنه، فجعل ابى يأخذ بيدي، فيقول: يا رسول الله، انه عبل

ذكر الخبر عمن هلك منهم سنه ثمان وسبعين

العظام، وان كان مؤدنا، قال: وجعل النبي ص يصعد في البصر ويصوبه ثم قال: رده فرده. قال ابن عمر: حدثنى عبد العزيز بن عقبه عن اياس بن سلمه بن الاكوع، قال: مات ابو سعيد الخدرى سنه اربع وسبعين . ذكر الخبر عمن هلك منهم سنه ثمان وسبعين منهم جابر بْن عبد الله بْن عمرو بْن حرام بن ثعلبه بن حرام بن كعب بن غنم ابن كعب بن سلمه بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج، وكان يكنى أبا عبد الله. شهد العقبه في السبعين من الانصار الذين بايعوا رسول الله ص عندها، وكان من اصغرهم يومئذ واراد شهود بدر، فخلفه أبوه على أخواته، وكن تسعا، وخلفه أيضا حين خرج الى احد، وشهد ما بعد ذلك من المشاهد. قال ابن عمر: حدثنا ابراهيم بن جعفر، عن ابيه، قال: سالت جابر بن عبد الله: كم غزا رسول الله ص؟ فقال: سبعا وعشرين غزوه، غزا بنفسه، وغزوت معه منها ست عشره غزوه، ولم اقدر ان اغزو حتى قتل ابى بأحد، كان يخلفني على أخواتي، وكن تسعا، فكان أول غزوه غزوتها معه حمراء الأسد الى آخر مغازيه. قال محمد بن عمر: وحدثنى خارجه بن الحارث، قال: مات جابر بن عبد الله سنه ثمان وسبعين، وهو ابن اربع وتسعين سنه، وكان قد ذهب بصره، قال: ورايت على سريره بردا، وصلى عليه ابان ابن عثمان وهو والى المدينة.

ذكر من مات او قتل سنه ثمانين

ذكر من مات او قتل سنه ثمانين منهم عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بن عبد المطلب، كان يكنى أبا جعفر، أمه أسماء بنت عميس، قال ابن عمر: مات عبد الله بن جعفر رضى الله عنه بالمدينة عام الجحاف- سيل كان ببطن مكة جحف بالحاج وذهب بالإبل وعليها الحمولة- فصلى عليه ابان بن عثمان، وكان واليا على المدينة من قبل عبد الملك بن مروان. قال: وكان له يوم توفى تسعون سنه. وقال على بن محمد: توفى عبد الله بن جعفر سنه اربع او خمس وثمانين سنه. وعمرو بن حريث بن عمرو بن عثمان بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، ويكنى أبا سعيد، وقبض النبي ص وهو ابن اثنتى عشره سنه. وقال ابو نعيم الفضل بن دكين مات عمرو بن حريث بالكوفه سنه خمس وثمانين في خلافه عبد الملك بن مروان. وعقيل بن ابى طالب بن عبد المطلب بن هاشم، وكان فيمن اسر يوم بدر، وكان لا مال له، ففداه العباس بن عبد المطلب، ذكر ابن سعد ان على بن عيسى النوفلي اخبره عن ابيه، عن عمه إسحاق بْن عبد الله عن عبد الله بْن الحارث، قال: فدى العباس نفسه وابن أخيه عقيلا بثمانين أوقية ذهب، ويقال بألف دينار. قال ابن سعد: وأخبرنا على بن عيسى، قال: حدثنا ابان بن عثمان عن معاويه ابن عمار الدهني، [قال: سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد ع يقول: قال رسول الله ص يوم بدر: انظروا من هاهنا من اهل بيتى من بنى هاشم. قال: فجاء على بن ابى طالب ع، فنظر الى العباس ونوفل وعقيل، ثم رجع، فناداه عقيل: يا بن أم على: اما والله لقد رايتنا، فجاء على الى رسول الله ص، فقال: يا رسول الله، رايت العباس ونوفلا وعقيلا، فجاء رسول الله ص حتى قام على راس عقيل، فقال: أبا يزيد، قتل ابو جهل. قال: إذا لا تنازع في تهامه، ان كنت أثخنت القوم والا فاركب اكتافهم]

قال ابو جعفر: وقيل: رجع عقيل الى مكة، فلم يزل بها، ثم خرج الى رسول الله ص مهاجرا في أول سنه ثمان، فشهد عزوه مؤتة ثم رجع، فعرض له مرض، فلم يسمع له بذكر في فتح مكة ولا الطائف ولا في حنين، وقيل: مات عقيل ابن ابى طالب بعد ما عمى في خلافه معاويه. وربيعه بن الحارث بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مناف، [وهو الذى قال النبي ص يوم فتح مكة: الا ان كل دم وماثره في الجاهلية فإنها تحت قدمي هاتين، وان أول دم اضعه دم ربيعه بن الحارث] وانما قال النبي ص: وان أول دم اضعه دم ربيعه بن الحارث وربيعه حي، لان ذلك كان دما لربيعه الطلب به في الجاهلية، وذلك ان ابنا لربيعه صغيرا، كان مسترضعا في بنى ليث بن بكر، وكان بين هذيل وبين ليث بن بكر حرب، فخرج ابن ربيعه ابن الحارث، وهو طفل يحبو امام البيوت، فرمته هذيل بحجر فاصابه الحجر، فرضخ راسه، فجاء الاسلام قبل ان يثار ربيعه بن الحارث بدم ابنه، فابطل النبي ص الطلب بذلك الدم، فلم يجعل لربيعه السبيل على قاتل ابنه، فكان ذلك معنى وضع النبي ص دمه، وهو ابطاله ان يكون له الطلب به، لأنه كان من ذحول الجاهلية وقد هدم الاسلام الطلب بها واما ابن ربيعه المقتول، فانه يختلف في اسمه، فاما ابن عمر فانه قال: اسمه آدم بن ربيعه، وقال بعضهم: كان اسمه تمام بن ربيعه. وقال بعضهم: كان اسمه اياس بن ربيعه، وقالوا جميعا: كان ربيعه بن الحارث اسن من عمه العباس بن عبد المطلب بسنين قالوا: ولم يحضر ربيعه بن الحارث بدرا مع المشركين كان غائبا بالشام، ثم قدم بعد ذلك على رسول الله ص مهاجرا ايام الخندق، وشهد مع رسول الله ص يوم حنين فيمن ثبت معه من اهل الخندق، وشهد مع رسول الله ص يوم حنين فيمن ثبت معه من اهل بيته واصحابه، وتوفى ربيعه بعد اخويه: نوفل وابى سفيان في خلافه عمر ابن الخطاب

وعبد الله بن الحارث بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مناف وكان اسمه عبد شمس، فسماه النبي ص حين اسلم عبد الله، خرج من مكة قبل الفتح مهاجرا الى رسول الله، ثم خرج مع رسول الله ص في بعض مغازيه فمات بالصفراء، فدفنه رسول الله ص في قميصه- يعنى قميص النبي ص- وقال له سعيد: أدركته السعادة. وجعفر بن أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بن هاشم، وكان جعفر ابن ابى سفيان ممن ثبت يوم حنين مع رسول الله ص من اصحابه، ولم يزل مع ابيه ملازما لرسول الله حتى قبض، وتوفى جعفر في وسط خلافه معاويه لعنه الله. والحارث بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بن هاشم كان رجلا على عهد رسول الله ص، صحب رسول الله عند اسلام ابيه، وولد ابنه عبد الله على عهد رسول الله ص، واتى به رسول الله فحنكه ودعا له. قال ابن سعد: أخبرنا على بن عيسى، عن ابيه، قال: انتقل الحارث بن نوفل الى البصره، واختط بها دارا، ونزلها في ولايه عبد الله بن عامر بن كريز، ومات بالبصرة في آخر خلافه عثمان. وعبد المطلب بْن رَبِيعَة بْن الْحَارِث بْن عبد المطلب بن هاشم، وقد روى عبد المطلب بن ربيعه عن رسول الله ص، وكان رجلا على عهد رسول الله، قال ابن عمر: وحكاه ابن سعد عن على بن عيسى النوفلي، ان عبد المطلب بن ربيعه لم يزل بالمدينة الى زمن عمر بن الخطاب، ثم تحول الى الشام، فنزلها وابتنى بها دارا، وهلك بدمشق في خلافه يزيد بن معاويه وعتبة بن ابى لهب، واسم ابى لهب عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم ابن عبد مناف، قال ابن سعد: أخبرنا على بن عيسى بن عبد الله النوفلي عن حمزه ابن عتبة بن ابراهيم اللهبي، قال: حدثنا ابراهيم بن عامر بن ابى سفيان بن معتب

وغيره من مشيختنا الهاشميين، عن ابن عباس، عَنْ أَبِيهِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: لما قدم رسول الله ص مكة في الفتح، قال لي: يا عباس، اين ابنا أخيك: عتبة ومعتب لا اراهما؟ قال: قلت: يا رسول الله تنحيا فيمن تنحى من مشركي قريش، فقال لي: اذهب فاتنى بهما، قال العباس: فركبت إليهما بعرنه فأتيتهما، فقلت: ان رسول الله يدعوكما، فركبا معى سريعين حتى قدما على النبي ص، فدعاهما الى الاسلام، فأسلما وبايعا ثم قام رسول الله ص، فاخذ بأيديهما، وانطلق بهما يمشى بينهما، حتى اتى بهما الملتزم- وهو ما بين باب الكعبه والحجر الأسود- فدعا ساعه ثم انصرف، والسرور يرى في وجهه قال العباس: فقلت له: سرك الله يا رسول الله، فانى ارى في وجهك السرور، [فقال النبي ص: نعم انى استوهبت ابنى عمى هذين ربى فوهبهما لي] . قال حمزه بن عتبة: فخرجا معه في فوره ذاك الى حنين، فشهدا غزوه حنين، وثبتا مع رسول الله يومئذ فيمن ثبت من اهل بيته واصحابه، وأصيبت عين معتب يومئذ، ولم يقم احد من بنى هاشم من الرجال بمكة، بعد ان فتحت غير عتبة ومعتب ابنى ابى لهب. واسامه بن زيد بن حارثة وهو حب رسول الله ص، ويكنى أبا محمد، وأمه أم ايمن، واسمها بركه حاضنه رسول الله ص ومولاته، وولد اسامه بمكة ونشا حتى ادرك لم يعرف الا الاسلام ولم يدن بغيره، وهاجر مع ابيه الى المدينة، وكان أبوه زيد في قول بعضهم أول الناس إسلاما، ولم يفارق رسول الله ص. قال ابن سعد: أخبرنا الفضل بن دكين، قال: حدثنا حنش، قال: سمعت ابى يقول: استعمل النبي ص اسامه بن زيد وهو ابن ثمان عشره سنه

قال ابن عمر: لم يبلغ اولاد اسامه من الرجال والنساء في كل دهر اكثر من عشرين إنسانا، قال: وقبض النبي ص واسامه ابن عشرين سنه، وكان قد سكن وادي القرى بعد النبي ص ثم نزل المدينة، فمات بالجرف في آخر خلافه معاويه. وابو رافع مولى رسول الله ص، واسمه اسلم، كان عبدا للعباس ابن عبد المطلب، فوهبه للنبي ص، فلما بشر النبي ص باسلام العباس اعتقه رسول الله ص، وهاجر ابو رافع الى المدينة بعد بدر، فأقام مع رسول الله ص، وشهد أحدا والخندق والمشاهد كلها، وزوجه رسول الله ص مولاته سلمى، وشهدت معه خيبر، وولدت لأبي رافع عبيد الله بن ابى رافع، وكان كاتبا لعلى بن ابى طالب ع. وسلمان الفارسي، وكان يكنى أبا عبد الله، وأول غزاه غزاها سلمان الخندق. وذكر عن جعفر بن سليمان عن هشام بن حسان عن الحسن قال: كان عطاء سلمان خمسه آلاف وكان على ثلاثين ألفا من الناس يحطب في عباءه، يفترش نصفها ويلبس نصفها، وكان إذا خرج عطاؤه امضاه، ويأكل من سفيف يده. قال ابن عمر: توفى سلمان الفارسي في خلافه عثمان بن عفان. والأسود بن نوفل بن خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قصى كان قديم الاسلام بمكة، وهاجر الى ارض الحبشه في المره الثانيه، وكان موسى بن عقبه يقول: هو نوفل بن خويلد الذى اسلم، وهاجر الى ارض الحبشه. مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ نوفل بن خويلد، ويكنى أبا الأسود، وهو الذى يقال له: يتيم عروه بن الزبير. وابو الروم عمير بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدار بن قصى، وأمه رومية، وهو أخو مصعب بن عمير لأبيه

قال ابن عمر: كان ابو الروم قديم الاسلام بمكة وهاجر الى ارض الحبشه في الهجره الثانيه وشهد أحدا. وجهم بن قيس بن شُرَحْبِيلَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عبد الدار بن قصى. كان قديم الاسلام، وهاجر الى ارض الحبشه في المره الثانيه في قول جميعهم، ومعه امراته حريمله بنت عبد الأسود بن خزيمة بن اقيش بن عامر بن بياضه الخزاعية، ومعه ابناه منها عمرو وخزيمة ابنا جهم، وتوفيت حريمله بأرض الحبشه. والوليد بْن الوليد بْن المغيرة بْن عبد الله بْن عمر بن مخزوم، قال ابن عمر: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عروه قال: وأخبرنا ابراهيم بن جعفر، عن ابيه قالا: خرج سلمه بن هشام وعياش بن ابى ربيعه والوليد بن الوليد مهاجرين الى رسول الله ص، فطلبهم ناس من قريش ليردوهم فلم يقدروا عليهم، فلما كانوا بظهر الحره انقطعت اصبع الوليد فدميت، فقال: هل أنت الا اصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت قال: وانقطع فؤاده، فمات بالمدينة، فبكته أم سلمه ابنه ابى اميه فقالت: يا عين فابكى للوليد ... بن الوليد بن المغيره مثل الوليد بن الوليد ... ابى الوليد كفى العشيره [فقال رسول الله ص: لا تقولي هكذا، يا أم سلمه، ولكن قولي: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ] . وابن أم مكتوم، واختلف في اسمه فاما اهل المدينة فيقولون: اسمه عبد الله، واما اهل العراق وهشام بن محمد، فيقولون: اسمه عمرو بن قيس بن زائده بن الأصم ابن رواحه بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي، ونسب الى أمه أم مكتوم، واسم أمه أم مكتوم عاتكه ابنه عبد الله بن عنكثه بن عامر بن مخزوم بن يقظه اسلم ابن أم مكتوم بمكة قديما، وكان ضرير البصر، وقدم المدينة مهاجرا، فاختلف في وقت قدومه إياها، فقال محمد بن عمر: قدمها بعد بدر بيسير، فنزل دار القراء، وهي دار مخرمه بن نوفل، وكان يؤذن للنبي ص بالمدينة مع بلال،

وكان رسول الله ص يستخلفه على المدينة، يصلى بالناس في عامه غزواته، وكان صاحب رايه المسلمين يوم القادسية، ثم رجع الى المدينة فمات بها. وابو ذر جندب بن جناده بن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار بن مليل بن ضمره ابن بكر بن عبد مناه بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ الياس بن مضر بن نزار. ذكر ابن عمر انه سمع موسى بن عبيده يخبر عن نعيم بن عبد الله المجمر عن ابيه، قال: اسم ابى ذر جندب بن جناده، وكذلك كان يقول محمد بن عمر وهشام ابن محمد، وغيرهما من اهل السير قال ابن عمر: وسمعت أبا معشر نجيحا يقول: اسم ابى ذر برير بن جندب، قال: وحدثنى أبو بكر بْن عبد الله بْن أبي سبرة، عن موسى بن عقبه، عن عطاء بن ابى مروان، عن ابيه، قال: قال ابو ذر: كنت في الاسلام خامسا قال ابو جعفر: ثم رجع ابو ذر حين اسلم الى بلاد قومه، فأقام بها حتى مضت بدر واحد والخندق، ثم قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة بعد ذلك. قال ابن سعد: أخبرنا عبد الله بن عمر وابو معمر المنقرى حدثنا عبد الوارث ابن سعيد عن الحسين المعلم عن ابى بريده، قال: لما قدم ابو موسى الأشعري لقى أبا ذر، فجعل ابو موسى يلزمه، وكان الأشعري رجلا خفيف اللحم قصيرا، وكان ابو ذر رجلا اسود كثير الشعر، فجعل الأشعري يلزمه، ويقول ابو ذر: إليك عنى، ويقول الأشعري: مرحبا يا أخي، ويدفعه ابو ذر، ويقول: لست بأخيك انما كنت اخاك قبل ان تستعمل، قال: ثم لقى أبا هريرة فالتزمه فقال: مرحبا يا أخي، فقال له ابو ذر: إليك عنى، هل كنت عملت لهؤلاء؟ قال نعم، قال: هل تطاولت في البنيان، او اتخذت زرعا او ماشيه؟ قال: لا قال: أنت أخي قال ابن سعد وأخبرنا الفضل بن دكين، قال: حدثنا صالح بن رستم ابو عامر، عن حميد بن هلال عن الأحنف بن قيس قال: رايت أبا ذر رجلا طويلا آدم ابيض الراس واللحية. قال ابو جعفر: وتوفى ابو ذر في خلافه عثمان بالربذة. بريده بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث بن الاعرج بن سعد بن رزاح

ابن عدى بن سهم بن مازن بن الحارث بن سلامان بن اسلم بن اقصى بن حارثة ابن عمرو بن عامر، وهو ماء السماء وكان بريده يكنى أبا عبد الله، واسلم حين مر بِهِ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم للهجره، وذكر ابن عمر ان هاشم بن عاصم الأسلمي حدثه عن ابيه، قال: لما هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة الى المدينة، فانتهى الى الغميم، أتاه بريده بن الحصيب، فدعاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الاسلام فاسلم هو ومن معه، وكانوا زهاء ثمانين بيتا، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء، فصلوا خلفه. قال: فحدثني هاشم بن عاصم الأسلمي، قال: حدثنى المنذر بن جهم، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قد علم ابن الحصيب ليلتئذ صدرا من سوره مريم، وقدم بريده بعد ان مضت بدر واحد عَلَى رَسُول اللَّهِ صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، فتعلم بقيتها، واقام مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان من ساكنى المدينة، وغزا معه مغازيه بعد ذلك، ولم يزل بريده مقيما بعد وفاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بالمدينة، حتى فتحت البصره ومصرت، فتحول إليها، واختط بها، ثم خرج منها غازيا الى خراسان، فمات بمرو، في ولايه يزيد بن معاويه وبقي بها ولده. ودحية بن خليفه بن فروه بن فضالة بن زيد بن إمرئ القيس بن الخزرج، وهو زيد مناه بن عامر بن بكر بن عامر الاكبر بن عوف بن بكر بن عوف بن عذره ابن زيد اللات بن رفيده بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن الحاف ابن قضاعه اسلم دحية قديما، ولم يشهد بدرا، وكان يشبه بجبرئيل ص، وشهد مع رسول الله ص دحية المشاهد بعد بدر، وبقي الى خلافه معاويه. وأوس بن قيظى بن عمرو بن زيد بن جشم بن حارثة، وابناه كباثه وعبد الله ابنا أوس، شهدا أحدا، وحضر معهما عرابه بن أوس بن قيظى يوم احد، فاستصغر فرد، وعرابه هو الذى قال الشماخ بن ضرار فيه: إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابه فاشرقى بدم الوتين

وعثمان بن حنيف بن واهب بن عكيم بن ثعلبه بن الحارث بن مجدعه بن عمرو ابن حنش بن عوف بن عمرو بن عوف، كان يكنى أبا عبد الله، وكان عمر بن الخطاب بعثه على مسح ارض العراق، وكان عامل على ع على البصره، حين بويع له، وتوفى في خلافه معاويه. وحسان بن ثابت بن المنذر بن حرام بن عمرو بن زيد مناه بن عدى بن عمرو ابن مالك بن النجار شاعر رسول الله، ويكنى أبا الوليد، وكان قديم الاسلام، ولم يشهد مع رسول الله مشهدا، وكان يجبن، وتوفى في خلافه معاويه وله عشرون ومائه سنه، عاش في الجاهلية ستين سنه وفي الاسلام ستين سنه. ونوفل بن معاويه بن صخر بن يعمر بن نفاثه بن عدى بن الديل بن بكر بن عبد مناه ابن كنانه وهم بيت بنى الديل، وكان معاويه ابو نوفل على بنى الديل يوم الفجار، وله يقول تابط شرا: فلا وأبيها ما نزلنا بعامر ... ولا عامر ولا النفاثى نوفل وابنه سلمى بن نوفل كان اجود العرب، وله يقول الشاعر الجعفري: نسود أقواما وليسوا بساده ... بل السيد المحمود سلمى بن نوفل وذكر محمد بن عمر ان أبا بكر بْن عبد الله بْن أبي سبرة حدثه عن جوثه بن عبيد الديلى، قال عمر نوفل بن معاويه الديلى في الجاهلية ستين سنه، وفي الاسلام ستين سنه قال: وكان شهد مع المشركين من قريش بدرا وواحدا والخندق، وكانت له نكاية وذكر، ثم اسلم بعد ذلك، وشهد مع رسول الله ص فتح مكة وحنينا والطائف، ونزل المدينة في بنى الديل، وقد روى نوفل بن معاويه عن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم وتوفى نوفل بالمدينة في خلافه يزيد بن معاويه، لعنهما الله. وعرابه بن أوس بن قيظى بن عمرو بن زيد بن جشم بن حارثة بن الحارث، شهد أبوه أوس بن قيظى واخواه عبد الله وكباثه ابنا أوس أحدا واستصغر عرابه فرد، وأجيز في الخندق. قال ابن عمر: حدثنا عمر بن عقبه، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، قَالَ: كان عرابه بن أوس يوم احد ابن اربع عشره سنه وخمسه اشهر، فرده رسول الله

صلى الله عليه وسلم، وابى ان يجيزه. قال محمد: وعرابه بن أوس هو الذى مدحه الشماخ بن ضرار، وكان قدم المدينة، فاوقر له راحلته تمرا، فقال: رَأَيْتُ عُرَابَةَ الأَوْسِيَّ يَنْمِي ... إِلَى الْخَيْرَاتِ مُنْقَطِعَ الْقَرِينِ إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عرابه باليمين وعبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، ولد عبيد الله محمدا- وبه كان يكنى والعباس، والعاليه، تزوجها على بن عبد الله بن العباس، فولدت له محمد بن على- وفي ولده الخلافه من بنى العباس- وعبد الرحمن وقثم- وهما اللذان قتلهما بسر ابن ابى ارطاه العامري باليمن- وكان عبيد الله بن العباس اصغر سنا من عبد الله ابن العباس بسنه، وقد سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وروى عنه، وبقي عبيد الله ابن العباس الى ايام يزيد بن معاويه، واستعمل على بن ابى طالب ع عبيد الله بن عباس على اليمن، وامره على الموسم، فحج بالناس سنه تسع وثلاثين، فاصطلح الناس تلك السنه عَلَى شيبة بن عُثْمَانَ بن أبي طَلْحَة، فحج بهم وكان عبيد الله بن العباس سيدا شجاعا سخيا، كان ينحر كل يوم جزورا، وكان على مقدمه الْحَسَن بن علي عَلَيْهِ السلام إِلَى مُعَاوِيَةَ، واخوه لأبيه وأمه قثم بن العباس، غزا خراسان وعليها سعيد بن عثمان، فقال: اضرب لك بألف سهم؟ فقال: لا بل اخمس ثم اعط الناس حقوقهم، ثم أعطني بعد ما شئت وكان ورعا فاضلا، وتوفى قثم بسمرقند. قال ابو جعفر: وقال على بن محمد: ولي قثم بن عباس لعلى مكة، واقام للناس الحج، وكان يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم. ومعبد بن العباس وكثير بن العباس، قال على بن محمد المدائني: أم كثير وتمام أم ولد رومية، يقال لها مسليه، ومات كثير بينبع بالذبحه، وتمام بن العباس، وكان من أشد اهل زمانه بطشا، وكان اصغر ولد ابيه. وعبد اللَّهِ بْن زمعة بْن الأَسْوَدِ بْن المطلب بْن أسد بن عبد العزى بن قصى،

وأمه قريبه الكبرى: ابنه أبي أمية بْن المغيرة بْن عبد الله بْن عمر بن مخزوم، وأمها عاتكه ابنه عبد المطلب بن هاشم. وعامر بن كريز بن رَبِيعَة بن حبيب بن عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ، وأمه البيضاء وهي أم حكيم ابنه عبد المطلب بن هاشم، اسلم عامر بن كريز يوم فتح مكة، وبقي الى خلافه عثمان بن عفان، وقدم على ابنه عبد الله بن عامر البصره، وهو واليها لعثمان بن عفان. وابو هاشم بْن عتبة بْن رَبِيعَة بْن عبد شمس بن عبد مناف، اسلم ابو هاشم فتح مكة، وخرج الى الشام فنزلها حتى مات. وقيس بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ. والصلت بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ بن قصى اسلم الصلت يوم فتح مكة. وجهيم بْنُ الصَّلْتِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ. وعبد الله بْن قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ اسلم يوم فتح مكة. وركانه بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصى، اسلم في الفتح، وقدم المدينة بعد ذلك، فنزلها الى ان مات بها في أول خلافه معاويه، واخوه لأبيه وأمه عجير بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب. وابو نبقه، واسمه عبد الله بن علقمه بن المطلب بن عبد مناف. والأسود بن ابى البختري، واسم ابى البختري العاص بن هاشم بن الحارث ابن اسد بن عبد العزى بن قصى، اسلم يوم الفتح، واما أبوه ابو البختري فقتل يوم بدر ببدر مشركا. وهبار بن الأسود بن المطلب بن الأسد بن عبد العزى بن قصى وكان هبار- فيما ذكر عنه- يقول: لما ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعا الى الله كنت فيمن عاداه ونصب له وآذاه. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث الى زينب ابنته من يقدم بها من مكة،

فعرض لها نفر من قريش فيهم هبار، فنخس بها، وقرع ظهرها بالرمح، وكانت حاملا فاسقطت فردت الى بيوت بنى عبد مناف وكان هبار بن الأسود عظيم الجرم في الاسلام، فاهدر دمه رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، [فَكَانَ كلما بعث سريه اوصاهم بهبار وقال: ان ظفرتم به فاجعلوه بين جذمتين من حطب، وحرقوه بالنار، ثم يقول: انما يعذب بالنار رب النار، ان ظفرتم به فاقطعوا يديه ورجليه، ثم اقتلوه] . قال ابو جعفر: وذكر محمد بن عمر ان واقد بن ابى ثابت حدثه عن يزيد بن رومان قال [قال الزبير بن العوام: ما رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث سريه قط الا قال: ان ظفرتم بهبار، فاقطعوا يديه ورجليه، ثم اضربوا عنقه،] فو الله لقد كنت اطلبه واسال عنه، والله يعلم لو ظفرت به قبل ان ياتى إلى رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ لقتلته، ثم طلع عَلَى رَسُول اللَّهِ صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وانا عنده جالس فجعل يعتذر الى رسول الله، ويقول: سب يا محمد من سبك، وآذ من آذاك، فقد كنت موضعا في سبك واذاك، وكنت مخذولا وقد نصرني الله عز وجل، وهداني الى الاسلام. قال الزبير: فجعلت انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وانه ليطأطئ راسه استحياء منه، مما يعتذر هبار، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: قد عفوت عنك، والاسلام يجب ما كان قبله، وكان اشنا من احد، فَبَلَغَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حلمه وما يحمل عليه من الأذى، فقال: يا هبار سب من سبك قال ابن عمر: وحدثنى هشام بن عمارة عن سعيد بن مُحَمَّد بن جبير بن مطعم، عن أبيه عن جده، قال: كنت جالسا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اصحابه في مسجده منصرفه من الجعرانة، فطلع هبار بن الأسود من باب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا نظر القوم اليه، قالوا: يا رسول الله، هبار بن الأسود، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قد رايته فاراد بعض القوم القيام اليه، فاشار اليه النبي صلى الله عليه وسلم ان اجلس، ووقف عليه هبار، فقال: يا رسول الله، السلام عليك، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد انك رسول الله، ولقد هربت منك في البلاد واردت اللحوق

بالاعاجم، ثم ذكرتك وعائدتك وفضلك وبرك وصفحك عمن جهل عليك، وكنا يا رسول الله اهل شرك فهدانا الله عز وجل بك، وتنقذنا من الهلكة، اصفح عن جهلي، وعما كان يبلغك عنى، فانى مقر بسوءتى معترف بذنبي، [فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قد عفوت عنك، وقد احسن الله بك حيث هداك للإسلام، والاسلام يجب ما قبله] . وهند بن ابى هاله، واسم ابى هاله النباش بن زراره بن وقدان بن حبيب بن سلامه ابن غوى بْنِ جِرْوَةَ بْن أُسَيِّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تميم، قدم ابو هاله مكة، واخواه عوف وانيس، فحالفوا بنى عبد الدار بن قصى بن كلاب، وأقاموا معهم بمكة، وتزوج ابو هاله خديجه ابنه خويلد، فولدت له هندا وهاله رجلين، فمات هاله وادرك هند الاسلام فاسلم، وكان الحسن بن على عليه السلام يحدث عنه يقول: حدثنى خالي هند ابن ابى هاله. وذكر عن معمر بن المثنى انه قال: مر هند بالبصرة مجتازا، فمات بها، فلم تقم يومئذ سوق ولا كلاء، وقالوا: أخو فاطمه أخو فاطمه صلوات الله عليها! والمهاجر بن أبي أمية بْن المغيرة بْن عبد الله بْن عمر بن مخزوم، أخو أم سلمه ابنه ابى اميه زوج النبي صلى الله عليه وسلم لأبيها وأمها، وكان اسم ابى اميه بن المغيره سهيل، وهو زاد الركب، وكان إذا سافر انفق على اصحابه واهل رفقته في سفرهم ذلك من عنده فسمى بذلك زاد الركب. قال ابن عمر: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْر بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي سبرة، عن المهاجر بن مسمار، قال: كان المهاجر بن اميه قد وجد عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لام سلمه: كلمى لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا يومه عندك، فادخلته في بيتها، فلما دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرعه الا مهاجرا آخذ بحقويه من خلفه، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالت: أم سلمه: ارض عنه رضى الله عنك،

فرضى عنه، وولاه صنعاء، فانطلق حتى اتى مكة، فبلغه ان العنسي قد خرج بصنعاء، فرجع الى المدينة، فلم يزل بها حتى توفى النبي صلى الله عليه وسلم، وولاه ابو بكر صنعاء، فمضى في ولايته، قال: فقلت لابن ابى سبره: فان روايتنا ان النبي صلى الله عليه وسلم بعثه عاملا، فتوفى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بصنعاء فقال: هكذا أخبرني مهاجر بن مسمار. وصفوان بن اميه بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص، كان يكنى أبا وهب. قال ابن عمر: حدثنا عبد الله بن يزيد الهذلي، عن ابى حصين، قال: استقرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفوان بن اميه بمكة خمسين ألفا، فاقرضه. قال محمد بن عمر: ولم يزل صفوان صحيح الاسلام، ولم يبلغنا انه غزا مع رسول الله ولا بعده، ولم يزل مقيما بمكة الى ان مات بها في أول خلافه معاويه. وَعَبْدَ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحِ بْنِ الحارث بن حبيب بن جذيمة بن مالك ابن حسل بن عامر بن لؤي اسلم قديما، وقد كان يكتب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، ثم ارتد عن الاسلام، ثم اسلم يوم فتح مكة، وقد مضى خبره في كتابنا المسمى المذيل من مختصر تاريخ الرسل والملوك. والأقرع بن حابس بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك ابن حنظلة بْن مالك بْن زَيْد مناة بْن تميم، وكان في وفد بنى تميم الذين قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاعطاه من غنائم حنين مائه من الإبل، وفيه قال عباس ابن مرداس ما قال

وصعصعة بن ناجيه بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم واسلم. ومن ولده الفرزدق الشاعر بن غالب بن صعصعة، ومن ولده أيضا عقال ابن شبه بن عقال بن صعصعة الخطيب. والزبرقان بن بدر بن إمرئ القيس بن خلف بن بهدله بن عوف بن كعب بن سعد ابن زيد مناه بن تميم، وكان اسم الزبرقان الحصين، وكان شاعرا جميلا، وكان يقال له قمر نجد، وكان في وفد تميم الذين وفدوا عَلَى رَسُول اللَّهِ صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبرقان بن بدر على صدقه قومه بنى سعد ابن زيد مناه بن تميم، وَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عليها وارتدت العرب، ومنعوا الصدقه وثبت الزبرقان على الاسلام، وأخذ الصدقه من قومه فأداها الى ابى بكر. ومالك بن نويره بن جمره بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن حنظله بن مالك ابن زيد مناه بن تميم وقال ابن عمر: حدثنى عتبة بن جبيرة عن حصين بن عبد الرحمن ابن عمرو بن سعد بن معاذ، قال: لما صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحج سنه عشر قدم المدينة فلما راى هلال المحرم سنه احدى عشره بعث المصدقين في العرب فبعث مالك بن نويره على صدقه بنى يربوع، وكان قد اسلم، وكان شاعرا، قال: وكان مالك بن نويره يسمى الجفول. ولبيد بن ربيعه بن مالك بن جعفر بن كلاب الشاعر. قال ابن عمر: حدثنا موسى بن شيبه بن عمرو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ابن خارجه بن عبد الله بن كعب، قال: قدم وفد بنى كلاب عَلَى رَسُول اللَّهِ صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم ثلاثة عشر رجلا، في سنه تسع، فيهم لبيد بن ربيعه، فنزلوا دار رمله

بنت الحدث، ثم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ، فسلموا عليه سلام الاسلام، وأسلموا ورجعوا الى بلاد قومهم. قال ابن سعد: أخبرنا نصر بن باب، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ الشعبى، قال: كتب عمر بن الخطاب الى المغيره بن شعبه وهو عامله على الكوفه، ان ادع من قبلك من الشعراء فاستنشدهم ما قالوا من الشعر في الجاهلية والاسلام، ثم اكتب بذلك الى، فدعاهم المغيره فقال للبيد: انشدنى ما قلت من الشعر في الجاهلية والاسلام، قال: ابدلنى الله عز وجل بذلك سوره البقره وسوره آل عمران وقال للأغلب العجلى انشدنى، قال: ارجزا تريد أم قصيدا ... لقد سالت هينا موجودا قال: فكتب بذلك المغيره الى عمر، فكتب ان انقص الاغلب خمسمائة من عطائه، وزدها في عطاء لبيد، فرحل اليه الاغلب، فقال: اتنقصني على ان أطعتك، قال: فكتب عمر الى المغيره ان زد على الاغلب الخمسمائة التي نقصت وأقرها زياده في عطاء لبيد بن ربيعه. وحبشي بن جناده بن نصر بن اسامه بن الحارث بن معيط بن عمرو بن جندل ابن مره بن صعصعة بن معاويه بن بكر بن هوازن، وبنو مره بن صعصعة هم بنو سلول، وسلول امراه وهي أم بنى مره، وهي سلول ابنه ذهل بن شيبان بن ثعلبه بها يعرفون وصحب حبشي بن جناده النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد مع على ع مشاهده. وابو امامه الباهلى واسمه صدى بن عجلان، من بنى سهم بن عمرو بن ثعلبه ابن غنم بن قتيبة بن معن بن مالك بن اعصر، وهو منبه بن سعد بن قيس بن عيلان. وزيد الخيل بن مهلهل بن زيد بن منهب بن عبد رضا بن المختلس بن ثوب ابن كنانه بن مالك بن نابل بن سودان، هو نبهان بن عمرو بن الغوث بن طيّئ بن أدد ابن زيد بن يشجب بن يعرب بن قحطان وأم طيّئ دله بنت ذي منجشان بن كله ابن ردمان بن حمير، ولدتها أمها على اكمه يقال لها مذحج، فسميت دله مذحج بتلك الأكمه، فولدها كلهم يقال لهم بنو مذحج، واسم طيّئ جلهمة وانما سمى طيئا في قول بعضهم، لأنه أول من طوى المناهل، وقال بعضهم: لأنه أول من طوى بئرا، ومات

زيد الخيل بعد منصرفه مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في موضع، يقال له فرده. قال هشام عن ابيه: كان يقال لبطن زيد الخيل الذى هو منه بنو المختلس، وكان لزيد من الولد مكنف بن زيد، وبه كان يكنى، وقد اسلم وصحب النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد قتال اهل الرده مع خالد بن الوليد، وكان له بلاء. وحريث بن زيد، وكان فارسا صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد قتال اهل الرده مع خالد بن الوليد وكان شاعرا. وعروه بن زيد شهد القادسية وقس الناطف ويوم مهران فابلى، وقال في ذلك شعرا وكان زيد الخيل شاعرا. وعدى بن حاتم الجواد بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن إمرئ القيس بن عدى بن اخزم بن ربيعه بن جرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث ابن طيّئ، وكان يكنى أبا ظريف. شهد عدى بن حاتم القادسية ويوم مهران وقس الناطف والنخيله، ومعه اللواء، وشهد الجمل مع امير المؤمنين على بن ابى طالب عليه السلام، وفقئت عينه يومئذ، وقتل ابنه وشهد صفين والنهروان مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، ومات في زمن المختار بالكوفه، وهو ابن مائه وعشرين سنه. وعمرو بن المسبح بن كعب بن طريف بن عصر بن غنم بن حارثة بن ثوب ابن معن بن عتود بن عنين بن سلامان بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيّئ، وكان ارمى العرب، وله يقول امرؤ القيس: رب رام من بنى ثعل ... مخرج كفيه من ستره وقال وبره بن الجحدر المعنى من بنى دغش: زعب الغراب وليته لم يزعب ... بالبين من سلمى وأم الحوشب ليت الغراب رمى حماطه قلبه ... عمرو باسهمه التي لم تلغب

وعاش عمرو بن المسبح خمسين ومائه سنه، ثم أدرك رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووفد اليه واسلم. والاشعث بن قيس، وهو الاشج بن معد يكرب بن معاويه بن جبله بن عدى ابن ربيعه بن معاويه الاكرمين بن الحارث بن معاويه بن الحارث بن معاويه بن ثور ابن مرتع بن كنده، وهو كندى، واسمه ثور بن عفير بن عدى بن الحارث بن مره ابن زيد بن يشجب بن عريب بن كهلان بن سبا بن يشجب بن يعرب ابن قحطان وكان اسم الاشعث معديكرب، وكان ابدا اشعث الراس، فسمى الاشعث، وكان يكنى أبا محمد، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في سبعين راكبا من كنده، ثم ارتد واسر، فبعث به الى ابى بكر، فتاب فلم يزل مقيما بالمدينة حتى ندب عمر بن الخطاب في خلافته الناس الى غزو العراق، فشخص مع سعد ابن ابى وقاص فشهد القادسية والمدائن وجلولاء ونهاوند، واختط بالكوفه حين اختطها المسلمون، وبنى بها دارا في كنده، ونزلها الى ان مات وشهد الاشعث تحكيم الحكمين، واراد على عليه السلام ان يحكم عبد الله بن العباس مع عمرو بن العاص، فأبى الاشعث بن قيس، وقال: لا يحكم فيها مضريان، حتى يكون أحدهما يمانيا، فحكم على عليه السلام أبا موسى الأشعري، وكان الاشعث احد شهود الكتاب. واخوه سيف بن قيس، وفد مع الاشعث بن قيس الى النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم، فأمره ان يؤذن لهم، فلم يزل يؤذن حتى مات. وابراهيم بن قيس أخوهما، وفد الى النبي صلى الله عليه وسلم، مع الاشعث فاسلم. والحارث بن سعيد بن قيس بن الحارث بن شيبان بن العاتك بن معاويه الاكرمين، وفد الى النبي صلى الله عليه وسلم. واماناه بن قيس بن الحارث بن شيبان بن العاتك بن معاويه الاكرمين، وفد الى النبي صلى الله عليه وسلم، واسلم، وقد كان عاش دهرا، وله يقول عوضه بن بدا الشاعر:

الا ليتنى عمرت يا أم خالد ... كعمر اماناه بن قيس بن شيبان لقد عاش حتى قيل ليس بميت ... وافنى فئاما من كهول وشبان حلت به من بعد جرش وحقبه ... دويهيه حلت بنصر بن دهمان فاضحى كان لم يغن في الناس ساعه ... رهين ضريح في سبائب كتان وكان مع اماناه في الوفد ابنه يزيد بن اماناه، واسلم، ثم ارتد فقتل يوم النجير مرتدا في روايه هشام بن محمد. ومعدان بن الأسود بن عبد الله بن الحارث الولادة بن عمرو بن معاويه بن الحارث الاكبر، وكان يقال لمعدان الجفشيش، وفد الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مع الاشعث بن قيس وهو الذى قال: يا رسول الله الست منا؟ فسكت مرتين ثم [قال في الثالثه: انا لا نَقْفُو أُمَّنَا وَلا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا، نحن بنو النضر بن كنانه] فقال الاشعث: فض الله فاك الا سكت! الجفشيش القائل في روايه كنده: أطعنا رسول الله إذا كان صادقا ... فيا عجبا ما بال ملك ابى بكر! ايورثها بكرا إذا كان بعده ... فتلك إذا والله قاصمه الظهر وهذا في روايه هشام بن محمد، واما محمد بن عمر، فانه كان يذكر ان هذين البيتين لحارثه بن سراقه بن معد يكرب الكندى، الذى منع زياد بن لبيد الصدقه، وانحاز فيمن ارتد. وقيس بن المكشوح، واسم المكشوح هبيرة بن عبد بغوث بن الغزيل بن سلمه ابن بدا بن عامر بن عوبثان بن زاهر بن مراد، وانما سمى أبوه المكشوح، واسم المكشوح هبيرة لأنه كشح بالنار، اى كوى على كشحه، وكان سيد مراد، وابنه قيس، وكان فارس مذحج وهو الذى احتز راس العنسي فيما قيل، فسمته مضر قيس غدر، فقال: لست غدر، ولكنى حتف مضر. وقال محمد بن عمر: حدثنى عبد الله بن عمرو بن زهير عن محمد بن عماره بن خزيمة

ابن ثابت، قال: قال عمرو بن معديكرب لقيس بن مكشوح المرادى: حين انتهى اليه أمر رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا قيس، أنت سيد قومك اليوم. وقد ذكر لنا أن رجلا من قريش، يقال لَهُ: محمد، قد خرج بالحجاز، يقول: انه نبي، فانطلق بنا إليه حَتَّى نعلم علمه، فإن كان نبيا كما يقول، فإنه لا يخفى علينا إذا لقيناه اتبعناه، وإن كان غير ذَلِكَ علمنا علمه وانه ان سبق اليه رجل من قومك سادنا وتراس علينا، وكناله اذنابا، فأبى عليه قيس وسفه رايه، فركب عمرو بن معديكرب في عشره من قومه، حتى اتى المدينة، فاسلم ثم انصرف الى بلاده. وصفوان بن عسال من بنى الربض بن زاهر بن عامر بن عوبثان بن زاهر بن مراد، وعداده في جمل اسلم، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم. وعمرو بن الحمق بن الكاهن بن حبيب بن عمرو بن القين بن رزاح بن عمرو ابن سعد بن عمرو بن كعب بن عمرو، بايع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حجة الوداع، وصحبه بعد ذلك، ثم كان احد الذين ساروا الى عثمان بن عفان، وشهد المشاهد بعد ذلك مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، ثم قتل في الجزيرة، قتله ابن أم الحكم قال ابن عمر عن عيسى بن عبد الرحمن عن الشعبى قال: أول راس حمل في الاسلام راس عمرو بن الحمق. وكرز بن علقمه بن هلال بن جريبه بن عبدنهم بن حليل بن حبشية بن سلول بن كعب ابن عمرو بن حارثة بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن إمرئ القيس ابن ثعلبه بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبا ابن يشجب بن يعرب بن قطحان اسلم كرز يوم فتح مكة، وكان قد عمر عمرا طويلا، وكان بعض اعلام الحرم قد عمى على الناس، فكتب مروان بن الحكم الى معاويه بذلك فكتب اليه: ان كان كرز بن علقمه حيا فمره، فليوقفكم عليه، ففعل فهو الذى وضع معالم الحرم في زمن معاويه، وهو على ذلك الى الساعة

والحيسمان بن اياس بن عبد الله بن ضبيعه بن عمرو بن مازن بن عدى بن عمرو، وكان شريفا في قومه، اسلم فحسن اسلامه. ومخنف بن سليم بن الحارث بن عوف بن ثعلبه بن عامر بن ذهل بن مازن ابن ذبيان بن ثعلبه بن الدول بن سعد مناه بن غامد بن عبد الله بن كعب بن الحارث ابن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد، اسلم مخنف، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بيت الأزد بالكوفه، وكان له اخوه ثلاثة، يقال لأحدهم: عبد شمس، قتل يوم النخيله، والصقعب قتل يوم الجمل، وعبد الله قتل يوم الجمل، وكان من ولد مخنف بن سليم ابو مخنف لوط بن يَحْيَى بن سَعِيد بن مخنف ابن سليم الذى يروى عنه ايام الناس. وفيروز بن الديلمى، ويكنى أبا عبد الله، وهو من أبناء فارس الذين بعثهم كسرى الى اليمن، فنفوا عنها الحبشه، وغلبوا عليها قال عبد المنعم: ثم انتسبوا الى بنى ضبة، وقالوا: أصابنا سباء في الجاهلية- قد غلط عبد المنعم فيما قال- وانما كان ذلك ان ضبة بن أد كان له بنون ثلاثة عدا احدهم على احد ولد ضبة فقتله، فاراد أبوه ان يقتله، فهرب فلحق بجبال الديلم، فولد له اولاد هنالك، واولاده الى اليوم يذكرون ان عندهم سرجه واثاثه وفيروز هو الذى قتل العنسي الأسود بن كعب الكذاب الذى تنبأ باليمن، [فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قتله الرجل الصالح فيروز بن الديلمى] وقد وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ وروى عنه وبعضهم يروى عنه، فيقول: حدثنى الديلمى الحميرى، وبعضهم يقول: عن الديلمى: وهو واحد، وهو فيروز الديلمى، وانما قيل له الحميرى لنزوله في حمير ومخالفته إياهم، ومات فيروز في خلافه عثمان

القول في من عاش بعد رسول الله ص وروى من الصحابة والتابعين

[القول في من عاش بعد رسول الله ص وروى من الصحابة والتابعين] ذكر أسماء من عاش بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اصحابه فروى عنه او نقل عنه علم ذكر أسماء من عاش بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بنى عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف. منهم الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَلَّبِ، عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ، وبنوه: الفضل، وعبد الله، وعبيد الله وكل هؤلاء أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ورووا عنه ونقل عنهم العلم، واكبر من ذكرت من ولد العباس واسنهم الفضل، وبه كان يكنى العباس، وهو اقدمهم موتا وتوفى بالشام في طاعون عمواس، قبل ابيه. ثم عبد الله وهو الذى اوسع الناس علما ومد له في العمر، فعاش الى ايام فتنه ابن الزبير وعبد الملك بن مروان، وقد مضى ذكرى تاريخ وفاته وغير ذلك من أموره، ثم عبيد الله، وكان اصغر الثلاثة من ولد العباس سنا، كان عبد الله اسن منه بسنه، وتوفى عبيد الله قبل عبد الله، كانت وفاه عبيد الله في ايام يزيد بن معاويه ووفاه عبد الله بعد ذلك بسنين. وكانت أم الفضل وعبد الله وعبيد الله وقثم واحده، أمهم جميعا أم الفضل، وهي لبابه الكبرى بنت الحارث بن حزن من بنى هلال بن عامر، وقد كان في ولد العباس لصلبه ممن نقل عنه العلم، ورويت عنه الآثار غير هؤلاء، ككثير وتمام ومعبد، غير انه لا يعلم لأحد منهم سوى من ذكرت سماع من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصح. ومنهم على وعقيل ابنا ابى طالب بن عبد المطلب، والحسن والحسين ابنا على ابن ابى طالب وعبد الله بن جعفر بن ابى طالب عليهم السلام، كل هؤلاء عاشوا

ذكر بعض ما روى الحارث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآثار

بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونقل منهم العلم ورويت عنهم الآثار، وقد مضى ذكرى تاريخ وفاتهم ومده آجالهم. ومنهم الحارث بن نوفل بن الحارث بن المطلب بن هاشم بن عبد مناف، من ولده عبد الله بن الحارث بن نوفل، الذى اصطلح عليه اهل البصره ايام الزبيريه والمروانية بببه لقب، أدرك رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وروى عنه. ذكر بعض ما روى الحارث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الآثار حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ الرَّمْلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مؤمل بن اسماعيل، قال: حدثنا سفيان عن عاصم بن عبيد الله عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عتبة عن عبد الله ابن الحارث بن نوفل عَنْ أَبِيهِ، إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذا سمع المؤذن يقول: اشهد ان لا اله الا الله، اشهد ان محمدا رسول الله، قال: كما يقول، وإذا قال: حي على الصلاة قَالَ لا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا قال: حي على الفلاح، قَالَ: لا حول ولا قوة إلا بالله. حدثنى هلال بن العلاء الرقى، قال: حدثنا حفص بن عمر ابو عمر الحوضى، قال: حدثنا همام، عن ليث عن علقمه بن مرثد عن عبد الله بن الحارث عن ابيه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علمهم الصلاة على الميت: اللهم اغفر لأحيائنا وأمواتنا، واصلح ذات بيننا، والف بين قلوبنا، اللهم هذا عبدك فلان بن فلان لا نعلم الا خيرا كنت اعلم به، فاغفر لنا وله فقلت وانا اصغر القوم: فان لم اعلم خيرا قال: لا تقل الا ما تعلم. ومنهم عبد المطلب بْن رَبِيعَة بْن الْحَارِث بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مناف. كان فيما ذكر اهل السير عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم رجلا وقد روى عن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احاديث، منها مَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ فضيل، عن يزيد بن ابى زياد، عن عبد الله بن الحارث، قال: حدثنى

ذكر موالي بنى هاشم الذين عاشوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورووا عنه ونقل عنهم العلم

عبد المطلب بْن رَبِيعَة بْن الْحَارِث بْن عبد المطلب، ان العباس دخل عَلَى رَسُول اللَّهِ صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مغضب، وانا عنده، فقال: ما اغضبك! فقال: يا رسول الله، ما لنا ولقريش! إذا تلاقوا تلاقوا بوجوه مستبشره، وإذا لقونا لقونا بغير ذلك، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى احمر وجهه، حتى استدر عرق بين عينيه- وكان إذا غضب استدر- فلما سرى عنه، [قال: والذى نفس محمد بيده، لا يدخل قلب امرئ من الايمان ابدا حتى يحبكم لله ولرسوله، ثم قال: ايها الناس من آذى العباس، فقد آذاني، انما عم الرجل صنو ابيه] . وربيعه بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، كان يكنى أبا اروى، وهو الذى [قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: الا ان كل دم وماثره كانت في الجاهلية فهو تحت قدمي، وان أول دم اضعه دم ربيعه بن الحارث،] وذلك انه كان قتل لربيعه ابن في الجاهلية فابطل الطلب به في الاسلام، ولم يجعل لربيعه التباعه، قتل قاتل ابنه وعاش ربيعه بعد النبي صلى الله عليه وسلم الى خلافه عمر، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان- فيما ذكر- اسن من عمه العباس ابن عبد المطلب بسنتين. ذكر بعض ما روى عنه من الاثر: حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عطاء، عن عبد الله بن ربيعه، عن ابيه عن رجل من قريش، قال: رايت النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وهو واقف بعرفات مع المشركين، ورايته في الاسلام واقفا موقفه ذلك، فعرفت ان الله عز وجل وقفه ذلك. ذكر موالي بنى هاشم الذين عاشوا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورووا عنه ونقل عنهم العلم منهم سلمان الفارسي يكنى أبا عبد الله، حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سعد قال: أخبرنا اسماعيل بن عبد الله بن زراره الجرمي، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، قال: حدثنا هشام بن حسان، عن الحسن قال: كان عطاء سلمان خمسه آلاف وكان على ثلاثين ألفا من الناس يحطب في عباءه يفترش نصفها

ويلبس نصفها وكان إذا خرج عطاؤه امضاه، ويأكل من سفيف يده. حدثنى اسماعيل بن موسى السدى، قال أخبرني شريك عن ابى ربيعه الأيادي، عن ابن بريده عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: [قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ان الله تعالى أمرني بحب اربعه، قيل: يا رسول الله من هم؟ سمهم لنا، فقال: على منهم يقول ذلك ثلاثا، وابو ذر والمقداد وسلمان، أمرني بحبهم، وأخبرني انه يحبهم] وتوفى سلمان بالمدائن في خلافه عثمان. ومنهم أَبُو رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، واسمه اسلم، كان مملوكا للعباس بن عبد المطلب فوهبه للنبي صلى الله عليه وسلم، فاعتقه النبي صلى الله عليه وسلم وزوجه مولاته سلمى، فولدت ابنه عبيد الله بن ابى رافع. ومنهم اسامه بن زيد الحب بن حارثة، كان يكنى أبا محمد، وأمه أم ايمن حاضنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومولاته، وقيل: ان اسامه كان يوم توفى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنه، فسكن بعد النبي صلى الله عليه وسلم وادي القرى، ثم رجع الى المدينة، فمات بالجرف في آخر خلافه معاويه. وثوبان مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يكنى أبا عبد الله، ممن انعم عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعتق، ولم يزل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حَتَّى قبض اللَّه رسوله صلى اللَّه عَلَيْهِ وسلم، فتحول الى الشام، ونزل حمص، وله بها دار صدقه، وقيل: انه من حكم بن سعد العشيره. ومنهم ضميره بن ابى ضميره، روى عن رسول الله ص ما حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عن حسين بن عبد الله بن ضميره، عن ابيه، عن جده ضميره، [أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بام ضميره وهي تبكى، فقال: ما يبكيك؟ اجائعه أنت اعاريه أنت؟ قالت: يا رسول الله، فرق بيني وبين ابنى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

ومن حلفاء بنى هاشم

عليه وسلم: لا يفرق بين والده وولدها، ثم ارسل الى الذى عنده ضميره، فدعاه فابتاعه منه ببكر] . وزيد ابو يَسَارٌ، مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، روى عن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما حدثت عن موسى بن اسماعيل، قال: حدثنا حفص بن عمر الشنى، قال: حدثنى ابى عمر بن مره عن بلال بن يسار بن زيد مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [سمعت ابى يحدث عن جدي، انه سمع النبي ص يقول: من قال: استغفر الله الذى لا اله الا هو هو الحى القيوم واتوب اليه غفر له وان كان فر من الزحف] . ومن حلفاء بنى هاشم ابو مرثد الغنوي، حدثنا محمد بن بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الله بن المبارك، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: حدثنى بسر بن عبيد الله، قال: سمعت أبا ادريس قال: سمعت واثله بن الاسقع، يقول: سمعت أبا مرثد الغنوي، يَقُولُ: [سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها] . وابنه مرثد بن ابى مرثد قتل يوم الرجيع، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ قَالَ: حَدَّثَنَا اسماعيل بن ابان، قال: حدثنى يحيى بن يعلى الأسلمي، وكان ثقه، عن على بن موسى، عن القاسم، عن مرثد بن ابى مرثد الغنوي، وكان بدريا، قَالَ: [قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ان سركم ان تقبل صلاتكم فليؤمكم خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم عز وجل] . وابن ابنه انيس بن مرثد بن ابى مرثد الغنوي، وكان يكنى أبا يزيد، وكان بينه وبين ابيه في السن احدى وعشرون سنه شهد انيس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة، وحنينا، وكان عين النبي صلى الله عليه وسلم باوطاس،

ذكر من روى عن النبي ص من بنى المطلب بن عبد مناف بن قصى

وكان ابو مرثد حليف حمزه بن عبد المطلب. حدثنى زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبَانٍ الْمِصْرِيُّ، قَالَ: حدثنا ابو صالح كاتب الليث، قال: حدثنى الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، قال: كتب الى خالد بن ابى عمران، ان الحكم بن مسعود النجرانى، حدثه ان انيس بن ابى مرثد الأنصاري حدثه، [أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ستكون فتنه صماء بكماء وعمياء، المضطجع فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَاعِدِ، وَالْقَاعِدُ خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي خَيْرٌ من الساعى ومن اتى فليمدد عنقه] هكذا حدثنى به زكرياء ابن يحيى، قال انيس بن ابى مرثد الأنصاري: وانما هو انيس بن مرثد بن ابى مرثد الغنوي من غنى بن يعصر بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر . ذكر من روى عن النبي ص من بنى المطلب بن عبد مناف بن قصى فمنهم ركانه بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصى، وهو من مسلمه الفتح، عاش بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم مات في أول خلافه معاويه. ومنهم قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ بن قصى. ومنهم جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، كان يكنى أبا محمد، وقيل: أبا على اسلم قبل الفتح، ونزل المدينة، ومات بها في خلافه معاويه، وكان أبوه مطعم بن عدى من اشراف قريش، وكان أجار رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين، فلما كان يوم بدر، واسر من اسر من قريش، قال: لو كان مطعم بن عدى حيا لوهبت له هؤلاء النتنى، ليده التي كانت له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله يقول حسان بن ثابت: فلو كان مجد يخلد اليوم واحدا ... من الناس انجى مجده اليوم مطعما اجرت رسول الله منهم فأصبحوا ... عبيدك ما لبى ملب واحرما وقد روى جبير عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثا كثيرا

ومن حلفاء بنى نوفل بن عبد مناف بن قصى

ومنهم عقبه بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عبد مناف بن قصى، روى عقبه عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا ابْنُ بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب عن عبد الله ابن ابى مليكه، عن عقبه بن الحارث، قال جيء بالنعيمان- او ابن النعيمان- شاربا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كان في البيت ان يضربوه، قال: فكنت انا فيمن ضربه، فضربناه بالنعال والجريد. ومن حلفاء بنى نوفل بن عبد مناف بن قصى عتبة بن غزوان بن جابر بن اهيب بن نسيب بن زيد بن مالك بن الحارث ابن عوف بن مازن بن مَنْصُور بن عِكْرِمَة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر. يكنى أبا عبد الله، وقيل: أبا غزوان قديم الاسلام ممن هاجر الى الحبشه الهجره الثانيه، وهو الذى مصر البصره واختطها، وبنى بها المسجد، روى عن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمما روى عنه ما حدثنا به محمد بن بشار قال: حدثنا صفوان ابن عِيسَى الزُّهْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عِيسَى أَبِو نَعَامَةَ الْعَدَوِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ عمير وشويسا أبا الرقاد، قالا: قال عتبة بن غزوان: لقد رأيتني وانى لسابع سبعه مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَنَا طَعَامٌ إِلا وَرَقُ السمرِ حَتَّى تَقَرَّحَتْ أَشْدَاقُنَا، وَالْتَقَطْتُ بُرْدَةً فَشَقَقْتُهَا بَيْنِي وَبَيْنَ سعد. ومن حلفائهم يعلى بن اميه بن ابى عبيده بن همام بن الحارث بن بكر ابن زيد بْن مالك بْن حنظلة بْن مالك بْن زيد مناه بن تميم وأمه منيه بنت جابر ابن اهيب بن نسيب بن زيد بن مالك بن الحارث بن عوف بن مازن بن منصور، هي عمه عتبة بن غزوان، وعتبة ويعلى بن اميه من حلفاء الحارث بن نوفل بن عبد مناف ابن قصى، واسلم يعلى بن اميه وأبوه اميه بن ابى واخوه سلمه بن اميه، واخته نفيسة بنت منيه، شهد يعلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا والطائف وتبوك، وروى هو واخوه سلمه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ذكر أسماء من نقل عنه العلم ممن صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاش بعده من بنى اسد بن عبد العزى بن قصى بن كلاب

ذكر أسماء من نقل عنه العلم ممن صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاش بعده من بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ بن كلاب منهم الزبير بن العوام بن خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قصى، أمه صفيه بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف عمه رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ يكنى أبا عبد الله كان رابع الاسلام او خامسه يوم اسلم فيما قيل، وهاجر الهجرتين الى ارض الحبشه، ولم يتخلف عن غزاه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الله بن مسعود، قتل بوادي السباع وهو ينصرف عن وقعه الجمل منطلقا به الى المدينة يوم الخميس لعشر ليال خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، ودفن هنالك وهو يومئذ ابن اربع وستين، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا كثيرا. وابنه عبد الله بن الزبير وأمه أسماء بنت ابى بكر، ولد في شوال في السنه الثانيه من الهجره، وقيل ان أمه أسماء هاجرت الى النبي صلى الله عليه وسلم وهي حامل به وكان يكنى أبا بكر وأبا خبيب. وحكيم بن حزام بن خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قصى وأمه أم حكيم بنت زهير بن الحارث بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ، حَدَّثَنِي الْحَارِثُ عَنِ ابْنِ سَعْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بن عمر قال: حدثنى المنذر بن عبد الله عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ أَبِي حَبِيبَةَ مولى الزبير، قال: سمعت حكيم بن حزام يقول: ولدت قبل قدوم اصحاب الفيل بثلاث عشره سنه، انا اعقل حين اراد عبد المطلب ان يذبح ابنه عبد الله حين وقع نذره، وذلك قبل مولد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخمس سنين، وكان يكنى أبا خالد. ومات بالمدينة في خلافه معاويه، وهو ابن مائه وعشرين سنه روى عن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو من مسلمه الفتح، وابناه خالد وهشام، أسلما معه يوم فتح مكة واسلم معهما يومئذ اخواهما عبد الله ويحيى ابنا حكيم بن حزام.

ذكر أسماء من روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من بنى عبد الدار بن قصى بن كلاب

ذكر أسماء من روى عن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بنى عبد الدار بن قصى بن كلاب منهم شيبه الحاجب بن عثمان، وهو الاوقص بن ابى طلحه، واسمه عبد الله ابن عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بن قصى، اسلم بحنين ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحارب هوازن، روى عن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومنهم عثمان بن طَلْحَة بن أبي طَلْحَة بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدار ابن قصى بن كلاب هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ في هدنة الحديبية في صفر سنه ثمان. ومنهم ابو السنابل بن بعكك بن الحارث بن السباق بن عبد الدار بن قصى ابن كلاب، وهو من مسلمه الفتح . ذكر أسماء من روى عن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بنى زهره بن كلاب أخي قصى بن كلاب منهم عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهره بن كلاب. ومنهم سعد بن ابى وقاص واسم ابى وقاص مالك بْن أهيب بْن عبد مناف بْن زهرة ابن كلاب بن مره، يكنى أبا إسحاق. ومنهم المسور بن مخرمة بن نوفل بْن أهيب بْن عبد مناف بْن زهرة بن كلاب، يكنى أبا عبد الرحمن، وهو ابن اخت عبد الرحمن بن عوف، قَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن ثماني سنين، وقد روى عن رسول الله احاديث، فمما روى عنه من ذلك ما حدثنى معمر البحرانى قال: حدثنا ابو عامر، قال: حدثنا عبد الله ابن جعفر بن المسور بن مخرمه، عن أم بكر بنت المسور عن المسور، قال: مر بي يهودي، وانا خلف النبي صلى الله عليه وسلم قائم، والنبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ،

فقال اليهودي: ارفع ثوبه عن ظهره، فذهبت ارفع ثوبه فنضح النبي صلى الله عليه وسلم في وجهى الماء. ومنهم نافع بن عتبة بن ابى وقاص بْن أهيب بْن عبد مناف بْن زهرة بن كلاب، وهو من مسلمه الفتح، اسلم يوم فتح مكة، وهو أخو هاشم بن عتبة المرقال، وروى نافع بن عتبة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ الْعَسْقَلانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا رواد بن الجراح، عن المسعودى عن عبد الملك بن عمير، عن جابر ابن سمره عن نافع بن عتبة، قَالَ: [قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تقاتلون جزيرة العرب، فيفتحها الله عز وجل، وتقاتلون الروم فيفتحهم الله، وتقاتلون فارس، فيفتحهم الله، وتقاتلون الدجال، فيفتحه الله عز وجل] . ومنهم عبد الرحمن بن ازهر بن عوف بن عبد بن الحارث بن زهره بن كلاب، شهد حنينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حدثنى يونس بن عبد الأعلى الصدفي، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني اسامه بن زيد الليثى، عن ابن شهاب، حدثه عن عبد الرحمن بن ازهر، قال: كأني انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ الان، وهو في الرحال يلتمس رحل خالد بن الوليد يوم حنين، فبينا هو كذلك، إذ اتى برجل قد شرب الخمر، [فقال الناس: اضربوه، فمنهم من ضربه بالنعال، ومنهم من ضربه بالعصا، ومنهم من ضربه بالمتيخه- يريد الجريدة الرطبه- ثم أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترابا من الارض فرمى به وجهه] . ومنهم عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث بْن أهيب بْن عبد مناف بْن زهرة بن كلاب. روى عن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمما روى عنه ما حدثنا به تميم بن المنتصر الواسطي، قال: أخبرنا يزيد- يعنى ابن هارون- قال أخبرنا محمد- يعنى ابن إِسْحَاقَ- عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث، [انه سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول: إذا وجد احدكم في بطنه شيئا، فحضرت الصلاة فليبدأ بالغائط]

ذكر من روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلفاء بنى زهره

ومنهم صفوان الزهري، حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ بشير، قال: حدثنا بشير بن سلمان، عن القاسم بن صفوان الزهري، عن ابيه، قال: [قال النبي ص: ابردوا بالظهر فان الحر من نور جهنم] . وعبد الله بن عدى بن حمراء الزهري، حدثنى عبد الله بن يوسف الجبيرى، قال: حدثنا احمد بن عبد الرحمن الحراني، قال: حدثنا حجاج بن ابى منيع، عن عبيد الله بن ابى زياد عن الزهري، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ان أبا عمرو بن عدى بن حمراء الزهري اخبره، [انه سمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم وهو واقف بالحزورة في سوق مكة، يقول: والله انك لخير الارض، او أحب ارض الله عز وجل الى، ولولا انى اخرجت منك ما خرجت] . ذكر من روى عن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حلفاء بنى زهره عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب بن شمخ بن فار بن مخزوم بن صاهله ابن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركه بن الياس بن مضر. ويكنى أبا عبد الرحمن وكان مسعود بن غافل ابو عبد الله حالف في الجاهلية عبد بن الحارث بن زهره. والمقداد بن عمرو بن ثعلبه بن مالك بن ربيعه، الذى يقال له المقداد بن الأسود. كان حالف الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهره بن كلاب في الجاهلية، فتبناه الأسود، وكان يدعى المقداد بن الأسود، حتى انزل الله تعالى نكره على نبيه صلى الله عليه وسلم ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فقيل له: المقداد بن عمرو. ومنهم خباب بن الأرت بن جندله بن سعد بن خزيمة بن كعب من بنى سعد ابن زيد مناه بن تميم، كان اصابه سبى، فبيع بمكة فاشترته أم انمار بنت ابن سباع الخزاعية، حلفاء عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهره، فاعتقته

ذكر أسماء من روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من بنى تيم بن مره

وقيل: بل أم خباب وأم سباع واحده، فانضم خباب بن الأرت الى آل سباع، وادعى حلف بنى زهره بهذا السبب، وقد روى خباب عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثا كثيرا. ومنهم شرحبيل بن حسنه- وحسنه أمه- وهي عدوليه، وابو شرحبيل عبد الله ابن المطاع بن عمرو بن كنده حليف لبنى زهره. ذكر أسماء من روى عن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بنى تيم بن مره منهم ابو بكر عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ، وَاسْمُهُ عُثْمَانُ بن عامر بن عمرو بن كعب ابن سعد بن تيم بن مره. ومن بنى مخزوم بن يقظه بن مره بن كعب خالد بْن الوليد بْن المغيرة بْن عبد الله بْن عمر بن مخزوم، وكان يكنى أبا سليمان وأمه عصماء، وهي لبابه الصغرى بنت الحارث بْن حزن بْن بجير بْن الهزم بن رويبة ابن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة، وهي اخت أم الفضل بنت الحارث أم بنى العباس بن عبد المطلب وكانت أم الفضل أيضا تسمى لبابه، فخالد بن الوليد ابن خاله عبد الله بن العباس، وابن اخت ميمونه بنت الحارث زوجه رسول الله ص، وروى خالد عن رسول الله ص احاديث. ومنهم عياش بن ابى ربيعه بْن المغيرة بْن عبد الله بْن عمر بن مخزوم، وهو أخو ابى جهل بن هشام لامه، أمهما جميعا أسماء بنت مخربه بن جندل بن ابير ابن نهشل بن دارم بن غنم، ممن هاجر الى ارض الحبشه مع زوجته أسماء بنت سلمه ابن مخربه، فولدت له بأرض الحبشه ابنه عبد الله بن عياش ثم رجع الى مكة حتى قبض رسول الله ثم رجع الى الشام، فجاهد ثم رجع الى مكة، واقام بها حتى مات بها وقد روى عن رسول الله ص، فمما روى عنه ما حدثنى به محمد بن سهل بن عسكر البخاري قال: حَدَّثَنَا عبد الرزاق، قَالَ: أخبرنا معمر عن أيوب عن نافع عن عياش بن ابى ربيعه، [قال سمعت النبي ص

يقول: تجيء ريح بين يدي الساعة فتقبض روح كل مؤمن] . ومنهم عبد الله بن أبي أمية بْن المغيرة بْن عبد الله بْن عمر بن مخزوم أمه عاتكه بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وهو أخو أم سلمه زوج النبي ص، شهد مع النبي ص فتح مكة، وحنينا والطائف، فرمى يوم الطائف بسهم، فاصابه فقتله- فيما يقول اهل السير- لا اختلاف بينهم في ذلك. ومنهم عمر بن أبي سلمة بْن عبد الأسد بْن هلال بْن عبد الله بْن عمر بْن مخزوم، ربيب رسول الله ص، وهو فيما ذكر- ابن تسع سنين، وشهد مع على ع الجمل، ثم استعمله على فارس وتوفى في خلافه عبد الملك بن مروان بالمدينة، روى عن رسول الله ص احاديث، وقد عاش اخوه سلمه ابن ابى سلمه بعد رسول الله ص الى خلافه عبد الملك بن مروان، الا انه لا تحفظ له عن رسول الله روايه، وكان اسن من أخيه عمر بن ابى سلمه، وهما جميعا ابنا أم سلمه زوج النبي ص، فاما أبوهما ابو سلمه فتوفى على عهد رسول الله، واسمه عبد الله بن عبد الأسد. ومنهم عمرو بن حريث بن عمرو بن عثمان بْن عبد الله بْن عمر بْن مخزوم. وكان يكنى أبا سعيد، قبض النبي ص- وهو فيما ذكر- ابن اثنتى عشره سنه، سكن الكوفه فمات بها سنه خمس وثمانين. وقد روى عن رسول الله ص احاديث، فمما روى عنه عن النبي ص، مَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ نمير ووكيع عن اسماعيل ابن ابى خالد عن الأصبغ مولى عمرو بن حريث عن عمرو بن حريث، انه قال: صليت مع رسول الله ص، فكان يقرا في صلاه الفجر، فكأني اسمع صوته: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ قال ابو كريب: قال وكيع: قرأ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. حدثنا عبد الحميد بن بيان القناد، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابن ابى خالد عن اصبغ- مولى لعمرو بن حريث- عن عمرو بن حريث، قال: صليت

مع رسول الله ص صلاه الفجر، فكأني اسمع صوته يقرا: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ، قال: فذهبت بي اليه أمي فدعا لي بالرزق. ومنهم اخوه سعيد بن حريث، وهو اسن من عمرو، ذكر انه شهد فتح مكة مع النبي ص، وهو ابن خمس عشره سنه، ثم نزل بالكوفه بعد النبي ص، مع أخيه عمرو، وقد روى عن رسول الله ص، فمما روى عنه عن رسول الله ص ما حدثنا به ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد، قال: حدثنا اسماعيل بن ابراهيم بن مهاجر عن عبد الملك ابن عمير عن عمرو بن حريث، عن أخيه سعيد بن حريث، قال: [سمعت رسول الله ص يقول: من باع دارا فلم يشتر مكانها دارا فانه مال قمن الا يبارك فيه له] . ومنهم عبد الله بن ابى ربيعه، واسم ابى ربيعه عمرو بن مخزوم، وهو أخو عياش ابن ابى ربيعه لأبيه وأمه، وابو عُمَر بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الشاعر، واسلم عبد الله ابن ابى ربيعه يوم فتح مكة، وكان اسمه بجير، فلما اسلم سماه رسول الله ص عبد الله، وقد روى عن النبي ص. حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ قَالَ: حَدَّثَنَا زكرياء بن عدى، قال: حدثنا حاتم، عن اسماعيل بن ابراهيم المخزومي، عن ابيه عن جده، [ان النبي ص: استسلف منه بضع عشر ألفا، فلما رجع من حنين دعا به، فقال: خذ مالك بارك الله لك في اهلك ومالك فإنما جزاء السلف الوفاء والحمد] . ومنهم عكرمه بن ابى جهل، واسم ابى جهل عمرو بْن هشام بْن المغيرة بْن عبد اللَّه ابن عمر بن مخزوم، اسلم بعد فتح مكة. حدثنى احمد بن عثمان بن حكيم الأودي، قال: حدثنا شريح بن سلمه، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، [ان عكرمه بن ابى جهل لما اتى النبي ص قال له: مرحبا بالراكب المسافر، او المهاجر، قال: فقلت: ما اقول يا رسول الله؟ قال: قل أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّكَ رسول الله، قال: فقلت: قال ثم قلت: ماذا اقول يا رسول الله

قال: تقول انى اشهدك يا رسول الله انى مهاجر، قال: فقلت: قال: فقال رسول الله ص ما أنت لتسألني اليوم شيئا أعطيه أحدا من الناس الا أعطيتكه قال: فقلت: ما انا لأسألك مالا انى لمن اكثر قريش مالا، ولكن اسالك ان تستغفر لي على قتال قاتلتك، وعلى نفقه أنفقتها لأصد بها عن سبيل الله عز وجل، لئن طالت بي حياه لاضعفن ذلك كله] . ومنهم السائب بن ابى السائب ابو عبد الله بن السائب، وهو في قول محمد ابن عمر الذى يذكر انه كان شريك رسول الله ص في الجاهلية، كذلك حدثنى الحارث عن بن سعد عنه، فاما هشام بن محمد بن الكلبى، فانه قال: كان شريك رسول الله ص في الجاهلية عبد الله بن السائب ابن ابى السائب، واما الوارد في الخبر فانه السائب. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ المقدام، عن إسرائيل عن ابراهيم ابن مهاجر، عن مجاهد عن السائب، [قال: جاء بي عثمان بن عفان وزهير بن اميه، فاستأذنا على رسول الله ص، فاثنيا على عنده، فقال رسول الله ص: انا اعلم به منكما، الم تكن شريكى في الجاهلية؟ قلت: نعم، بابى أنت وأمي، فنعم الشريك كنت لا تمارى ولا تبارى، فقال لي رسول الله ص: يا سائب انظر الأخلاق الحسنه التي كنت تصنعها في الجاهلية، فأصنعها في الاسلام، اقر الضيف، واحسن الى اليتيم، واكرم الجار] . والسائب بن ابى السائب وابنه عبد الله أسلما يوم فتح مكة، وكان عبد الله ابن السائب يكنى أبا عبد الرحمن، واما قيس بن السائب فانه ابن عم عبد الله ابن السائب، وهو قيس بن السائب بن عويمر بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وهو مولى مجاهد. كذلك، قال الواقدى: ان عبد الحميد بن عمران حدثه عن موسى بن ابى كثير عن مجاهد، قال: هذه الآية نزلت في مولاى قيس بن السائب وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ، فافطر واطعم لكل يوم مسكينا.

ومن حلفاء بنى مخزوم ممن عاش بعد رسول الله ص وروى عنه

ومن حلفاء بنى مخزوم ممن عاش بعد رسول الله ص وروى عنه عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانه بن مذحج كان ياسر- فيما ذكر- قدم مكة مع اخويه: الحارث ومالك من اليمن في طلب أخ لهم، فرجع الحارث ومالك الى اليمن، واقام ياسر بمكة، فحالف بها أبا حذيفة بْن المغيرة بْن عبد الله بْن عمر بن مخزوم، واسم ابى حذيفة بن المغيره مهشم- وقيل مهاشم- وكان من المستهزئين فزوجه ابو حذيفة أمه له يقال لها سميه بنت خباط، فولدت له عمارا فاعتقه ابو حذيفة، فلما جاء الاسلام اسلم ياسر وسميه وعمار، وشهد عمار مع رسول الله ص المشاهد كلها، وعاش بعد رسول الله ص وروى عنه، وقتل مع على ع بصفين. ومن بنى عدى بن كعب بن لؤي بن غالب ممن عاش بعد رسول الله ص وروى عنه عمر بْن الْخَطَّاب بْن نفيل بْن عبد العزى بْن رياح بْن عبد اللَّه بْن قرط بن رزاح ابن عدى بن كعب، وكان يكنى أبا حفص، وابنه عبد الله، وكان يكنى أبا عبد الرحمن. واخوه زيد بن الخطاب بن نفيل، وكان يكنى أبا عبد الرحمن وكان زيد اسن من أخيه عمر، واقدم إسلاما منه، وكانت معه رايه المسلمين يوم اليمامه، فلم يزل يتقدم بها- فيما ذكر- ويضارب بسيفه حتى قتل. وسعيد بن زيد بن عمرو بْن نفيل بْن عبد العزى بْن رياح بْن عبد اللَّه بْن قرط بْن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي، يكنى أبا الأعور، قديم الاسلام، اسلم قبل ان يدخل رسول الله ص دار الارقم، وقبل ان يدعو فيها، ولم يشهد بدرا، ولكنه شهد أحدا وما بعد احد من مشاهد رسول الله ص. وصفوان بن اميه بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح عاش بعد رسول الله ص، وروى عنه، وهو من مسلمه الفتح، حدثنى يوسف بن حماد المعنى، قال: حدثنا عثمان بن عبد الرحمن الجمحى، عن محمد بن الفضل بن العباس، قال:

ومن بنى عامر بن لؤي بن غالب

كانت فينا وليمة، فدخل علينا صفوان بن اميه فاتى بالطعام، فقال: انتهسوا اللحم، [فانى سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يقول: انتهسوا اللحم فانه أشهى، واهنى وامرى] . ومنهم ابو محذوره المؤذن أوس بن معير بن لوذان بن ربيعه بن سعد بن جمح، وقد قيل في اسمه ونسبه غير ذلك، قيل: ان اسمه سمره بن عمير بن لوذان بن وهب بن سعد ابن جمح، وانه كان له أخ من ابيه وأمه يقال له أوس، وعاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم حينا من الزمان، وروى عنه. حدثنى موسى بن سهل الرملي، قال: حدثنا محمد بن عمرو بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ محيريز، قال: حدثنى ابى عمرو بن عبد الرحمن عن ابيه عن جده عبد الله ابن محيريز، قال: رايت أبا محذوره صاحب رسول الله ص وله شعره، فقلت: يا عم الا تأخذ من شعرك؟ فقال: ما كنت لاخذ شعرا مسحه رسول الله ص، ودعا فيه بالبركة. ومن بنى عامر بن لؤي بن غالب ابن أم مكتوم مؤذن رسول الله ص، واختلف في اسمه فقالت: نسابه المدنيين اسمه عبد الله، وقالت نسابه العراقيين اسمه عمرو، وهم مجمعون على نسبه انه ابن قيس بن زَائِدَةَ بْنِ الأَصَمِّ بْنِ رَوَاحَةَ بْنِ حُجْرِ بن معيص بن عامر بن لؤي وقد قيل في زائده بن الأصم بن هرم بن رواحه: عاش بعد رسول الله وروى عنه. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الضريس، عن ابى سنان، عن عمرو ابن مره، عن ابى البختري، عن ابن أم مكتوم، [قال: قال رسول الله ص: لو تعلمون ما اعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا] . وعامر بن مسعود، روى عن رسول الله ص. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ الأَسَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ:

أخبرنا إسرائيل عن ابى إسحاق، عن شيخ من قريش، يقال له عامر بن مسعود، قال: [قال رسول الله ص: الصوم في الشتاء الغنيمه البارده، اما ليله فطويل واما نهاره فقصير] . ونوفل بن معاويه بن عمرو بن صخر بن يعمر بن نفاثه بن عدى بن الديلم، عاش بعد رسول الله ص، وروى عنه. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: حدثنا ابى فديك، قال: حدثنى ابن ابى ذئب، عن ابن شهاب، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عن نوفل بن معاويه الديلى، قال: [قال رسول الله ص: من فاتته الصلاة فكأنما وتر اهله وماله] . ومنهم سليمان بن اكيمه الليثى عن رسول الله ص حدثنا سعيد بن عمرو السكوني، قال: حدثنا الوليد بن سلمه الفلسطينى، قال: حدثنى يعقوب بن عبد الله بن سليمان بن اكميه الليثى، عن ابيه عن جده، قال: قلنا لرسول الله ص انا لنسمع الحديث لا نقدر على تاديته، كما سمعناه، [قال: إذا لم تحلوا حراما ولم تحرموا حلالا وأصبتم المعنى فلا باس] . ومنهم فضالة الليثى روى عن رسول الله ص. حدثنى الحسن بن قزعه الباهلى قال: حدثنا مسلمه بن علقمه، عن داود بن ابى هند، عن ابى حرب، عن عبد الله بن فضالة، عن ابيه، [قال: اتيت رسول الله ص فاسلمت، وعلمني مواقيت الصلاة، فقلت: يا رسول الله، ان هذه ساعات متواترات، وانا رجل ذو شغل فأخبرني بشيء جامع، قال: فما استطعت فلا تدعن العصرين، قلت: يا رسول الله، وما العصران؟ قال: صلاه قبل طلوع الشمس، وصلاه قبل غروبها] . وحدثنى إِسْحَاقُ بْنُ شَاهِينَ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ بن عبد الله عن داود عن ابى حرب عن عبد الله بن فضالة الليثى عن ابيه، [قال: علمني رسول الله ص، فكان فيما علمني ان قال: حافظ على الصلوات الخمس قال: قلت: ان هذه ساعات لي فيهن أشغال، فأمرني بأمر جامع، إذا انا فعلت أجزأ عنى قال:

حافظ على العصرين، قال: وما كانت من لغتنا؟ قال: قلت وما العصران، قال: صلاه قبل طلوع الشمس، وصلاه قبل غروبها] . وشداد بن اسامه بن عمرو، وهو الهاد بن عبد الله بن جابر بن بشر بن عتواره ابن عامر بن ليث وكانت عند شداد بن اسامه سلمى بنت عميس، اخت أسماء بنت عميس الخثعمية. روى شداد عن رسول الله ص: ما حدثت عن موسى بن اسماعيل، قال: حدثنا جرير بن حازم عن محمد بن عبد الله بن ابى يعقوب الضبي، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، عن ابيه، [قال: خرج علينا رسول الله ص في احدى أراه قال: - صلاتي العشى وهو حامل، احد ابنى ابنته الحسن او الحسين ع فتقدم، فوضعه عند قدمه اليمنى، وسجد رسول الله بين ظهراني صلاته سجده أطالها، قال: ابى: فرفعت راسى من بين الناس، فإذا رسول الله ص ساجد، وإذا الغلام على ظهره، فعدت فسجدت، فلما انصرف رسول الله ص قال الناس: يا رسول الله، لقد سجدت في صلاتك هذه سجده ما كنت تسجدها، أفشيء امرت به او كان يوحى إليك؟ قال كل ذلك لم يكن، ولكن ابنى هذا ارتحلني، فكرهت ان اعجله حتى يقضى حاجته] . ومنهم خفاف بن إيماء بن رحضه بن خربه بن خلاف بن حارثة بن غفار. روى خفاف عن رسول الله ص ما حدثنا به ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد، قال: حدثنا محمد بن عمرو، عن خالد بن عبد الله بن حرمله، عن الحارث بن خفاف بن إيماء بن رحضه، عن خفاف بن إيماء، [قال: ركع رسول الله ص، ثم رفع راسه فقال: غفار عفر الله لها، واسلم سالمها الله، اللهم العن رعلا وذكوان وعصيه، قال خفاف: فمن اجل ذلك لعنت الكفره] . ورافع بن عمرو أخو الحكم بن عمرو، روى عن رسول الله ص:

حدثنى عبد الرحمن بن الوليد الجرجانى قال: أخبرنا مسلم بن ابراهيم، قال: حدثنا سليمان بن المغيره، قال: حدثنا حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: [قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: ان من بعدي من امتى- او قال سيكون من امتى قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حلوقهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرميه ثم لا يعودون فيه، شرار الخلق والخليقة] قال سليمان: واكثر ظني انه قال: سيماهم التخالق قال عبد الله بن الصامت: فلقيت رافع ابن عمرو الغفاري أخا الحكم بن عمرو، فقلت ما حدثت سمعته من ابى ذر يقول: كذا وكذا، وذكرت هذا الحديث له، فقال: وما اعجبك من هذا؟ فانا سمعته من رسول الله ص. ومنهم نصر بن عبيده النصرى، روى عن رسول الله ص. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ الأَسَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ عن ابى إسحاق عن عبده بن حزن النصرى، قال: [تفاخر عند رسول الله ص اصحاب الإبل واصحاب الغنم، فقال اصحاب الإبل: ما أنتم يا رعاء الشاء! هل تحبون شيئا او تصيبونه ما هي الا شويهات، احدكم يرعاها، ثم يروحها، حتى اصمتوهم، فقال رسول الله ص: بعث داود ع وهو راعى غنم، وبعث موسى ع وهو راعى غنم، وبعثت انا وانا ارعى غنم اهلى باجياد، فغلبهم اصحاب الغنم] . ومنهم عم الفرزدق، روى عن رسول الله ص ما حدثت عن يزيد بن هارون، قال: أخبرنا جرير بن حازم، قال: حدثنا الحسن، عن صعصعة بن معاويه عم الفرزدق الشاعر- هكذا قال يزيد-[انه اتى النبي ص فقرا عليه فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، قال: حسبي لا اسمع غيرها] . ومنهم سليم بن جابر الهجيمي ابو جرى. حدثنى إسحاق بن ابراهيم الصواف، قال: حدثنا يوسف بن يعقوب السدوسي،

قال: حدثنا عبد الواحد بن واصل، عن ابى غفار عن ابى تميمه، عن ابى جرى، [قال: انتهيت الى رجل والناس حوله يصدرون عن رايه، ما قال لهم من شيء رضوا به، فقلت في نفسي: ان هذا لرجل، من هذا؟ قالوا: هذا رسول الله، قلت: عليك السلام يا رسول الله، عليك السلام يا رسول الله، قال: عليك السلام تحيه الميت، ولكن قل السلام عليك، قلت: السلام عليك يا رسول الله، أنت رسول الله؟ قال: نعم، انا رسول الله الذى إذا اصابك ضر فدعوته استجاب لك، وإذا اصابك عام سنه فدعوته استجاب لك، وإذا كنت في ارض- قال: او في ارض قفر- فضلت راحلتك فدعوته ردها عليك، قال: قلت: بابى وأمي يا رسول الله! اعهد الى عهدا، قال: لا تسبن أحدا، قال: فما سببت بعده حرا ولا عبدا ولا شاه ولا بعيرا، قال: ولا تزهدن في المعروف، وان تكلم اخاك وأنت منبسط اليه بوجهك، فان ذلك من المعروف، وارفع الازار الى نصف الساق، والا فالى الكعبين، وإياك واسبال الازار، فان ذلك من المخيله، وان الله لا يحب المخيله، وإذا عيرك رجل بأمر يعلمه فيك فلا تعيره بأمر تعلمه فيه فيكون وبال ذلك عليك] . ومنهم حرمله العنبري، روى عن رسول الله ص. حدثنا ابن الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ قال: حدثنا قره بن خالد، عن ضرغامه بن عليه بن حرمله العنبري، قال: حدثنى ابى عن ابيه، قال: انتهيت الى رسول الله ص في وفود من الحى، فصلى بنا صلاه الصبح، فجعلت انظر في وجوه القوم، ما اكاد ان اعرفهم- اى من الغلس. سلمان بن عامر الضبي روى عن رسول الله ص احاديث، منها ما حدثنى بشر بن دحية البصرى، قال: حدثنا حماد بن زيد، قال: حدثنا عاصم، عن حفصة بنت سيرين، عن الرباب، امراه من بنى ضبة، ان سلمان بن عامر الضبي رفعه [الى النبي ص، قال: إذا افطر احدكم فليفطر على تمر، فان لم يجد تمرا فليفطر على ماء، فان الماء طهور] . ومنهم عبد الله بن سرجس المزنى، روى عن رسول الله ص،

ومن بنى جعدة بن كعب بن ربيعه بن عامر بن صعصعة

حدثنا نصر بن علي الجهضمي، قال: حَدَّثَنَا نوح بن قيس قال: حدثنا عبد الله ابن عمران عن عاصم الأحول، عن عبد الله بن سرجس المزنى عن [رسول الله ص، انه قال: السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من اربعه وعشرين جزءا من النبوه] . ومنهم ميسره الفجر، وهو- فيما قيل- ابو بديل بن ميسره، روى عن رسول الله ص، حدثنا بن بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا منصور بن سعد عن بديل عن عبد الله بن شقيق عن ميسره الفجر، [قال: قلت: يا رسول الله، متى كتبت نبيا؟ قال: وآدم بين الروح والجسد.] . ومن بنى جعدة بْن كعب بْن ربيعة بْن عامر بْن صعصعة نابغه بنى جعدة الشاعر، واسمه قيس بن عبد الله بن عدس بن ربيعه بن جعدة، روى عن رسول الله ص. حدثنى عمر بن اسماعيل الهمدانى، قال: حدثنا يعلى بن الاشدق العقيلي، قال: سمعت النابغة، يقول: انشدت النبي صلى الله عليه وسلم شعرا فقلت: بلغنا السماء مجدنا وجدودنا ... وانا لنرجو فوق ذلك مظهرا ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمى صفوه ان يكدرا ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما اورد الأمر اصدرا [قال: فقال النبي ص: اجدت يا أبا ليلى- ثلاثا- لا يفض فوك الا اين المظهر يا أبا ليلى؟ قلت الجنه، قال: الجنه ان شاء الله] . ومنهم حميد بن ثور الهلالي الشاعر. ومن بنى نمير بن عامر بن صعصعة ابو زهير النميرى، روى عن رسول الله ص احاديث منها: ما حدثنى محمد بن عوف الطائي، قال: حدثنا محمد بن اسماعيل، قال: حدثنى

ضمضم عن شريح، قال: حدث ابو زهير النميرى ان [النبي ص قال: لا تقاتلوا الجراد فانه من جند الله الأعظم] . ومنهم يزيد بن عامر السوائى، كان مع المشركين يوم حنين، ثم اسلم، وروى عن رسول الله ص. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الأَدَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا معن- يعنى ابن عيسى- القزاز، عن سعيد بن السائب الطائفى، عن ابيه، عن يزيد بن عامر، قال: [لما كانت انكشافه المسلمين حين انكشفوا يوم حنين، ضرب النبي ص يده الى الارض، فاخذ منها قبضه من تراب فاقبل بها على المشركين، وهم متبعون المسلمين، فحثا بها في وجوههم، وقال: ارجعوا، شاهت الوجوه! قال: فانصرفنا ما يلقى منا احد أحدا الا وهو يمسح القدى عن عينيه] . وحبشي بن جناده بن نصر بن اسامه بن الحارث بن معيط بن عمرو بن جندل ابن مره بن صعصعة صحب النبي ص وروى عنه احاديث. حدثنى اسماعيل بن موسى السدى، قال: أخبرنا شريك عن ابى إسحاق عن حبشي ابن جناده السلولي، قال: [قال رسول الله ص: على منى وانا من على، لا يؤدى ديني الا انا او على] . وحدثنا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا حكام، عن عنبسة، عن ابى إسحاق عن حبشي ابن جناده السلولي، قال: [سمعت رسول الله ص يقول: على منى وانا منه لا يبلغ عنى الا انا او على،] قالها في حجه الوداع. ومنهم ابو مريم مالك بن ربيعه السلولي ابو بريد بن ابى مريم روى عن رسول الله ص احاديث. حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا جرير، عن عطاء عن بريد بن ابى مريم عن ابيه، قال: قام النبي ص فينا مقاما حدثنا بما هو كائن الى ان تقوم الساعة. ومنهم الهرماس بن زياد الباهلى، روى عن رسول الله ص احاديث منها: ما حَدَّثَنِي العباس بن أبي طالب، قال: حَدَّثَنَا عبد الله بن عمران الاصبهانى،

ذكر اسامى من روى عن رسول الله ص ممن آمن به واتبعه في حياته وعاش بعده من قبائل اليمن

قال: حدثنا يحيى بن ضريس الرازى، عن عكرمه بن عمار عن هرماس، [قال: كنت رديف ابى، فرايت النبي ص على بعير، يقول: لبيك بحجه وعمره معا] . ومنهم من تغلب جد حرب بن عبيد الله من قبل أمه، روى عن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا جرير عن عطاء عن حرب بن عبيد الله عن جده ابى أمه- رجل من بنى تغلب-[قال: أسلمنا فأتينا النبي ص، فقلت: ان قومى قد أسلموا، فعلمنا، قال: اذهب فعلمهم الصلاة والزكاة، فحدثني بزكاه الإبل والبقر والغنم والذهب والفضه، فادبرت فحفظت كل شيء علمنيه الا الزكاة، فرجعت اليه، فقلت: انى قد حفظت كل شيء الا الزكاة فأعادها على، فلما ادبرت نسيتها، فرجعت اليه، فقلت: قد حفظت كل شيء الا الزكاة، اعشرهم؟ قال: لا، انما العشور على اليهود والنصارى وليس على المسلمين عشور.] ذكر اسامى من روى عن رسول الله ص ممن آمن به واتبعه في حياته وعاش بعده من قبائل اليمن فمنهم- من ولد أوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن إمرئ القيس بن ثعلبه بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبا ابن يشجب بن يعرب بن قحطان والى قحطان جماع نسب اليمن، ثم يختلف في نسب قحطان النسابون فمنهم من ينسبه الى اسماعيل بن ابراهيم فيقول: هو قحطان بن الهميسع ابن تيمن بن نبت بن اسماعيل بن ابراهيم، كذلك كان هشام بن محمد ينسبه، ويذكر عن ابيه انه ادرك اهل النسب والعلم ينسبون قحطان كذلك ومنهم من يقول: هو قحطان بن فالغ بن عابر بن شالخ- قيل بالخاء والحاء- بن ارفخشد بن نوح صلوات الله عليه وعلى جميع الأنبياء وأم الأوس والخزرج- وهما ابنا حارثة- العنقاء

قيله بنت كاهل بن عذره بن سعد- وهو سعد بن هذيم، نسب الى هذيم، وهذيم عبد حبشي كان يسمى هذيما، لأنه حضن سعدا فغلب عليه فقيل سعد بن هذيم. وانما هو سعد بن زيد بن ليث بن سود بن اسلم بن الحاف بن قضاعه وكان سيدهم حتى مات- منصرف النبي ص عن بنى قريظة سعد بن معاذ، وقد مضى ذكرى اخباره. ومنهم خزيمة بن ثابت الفاكه بن ثعلبه بن ساعده بن عامر بن غيان بن عامر بن خطمه، روى عن رسول الله ص احاديث. حَدَّثَنِي العباس بن أبي طالب، قال: حَدَّثَنَا سعد بن عبد الحميد بن جعفر الأنصاري، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عمران بْن إبراهيم بْن محمد بْن طلحة ابن عبيد الله قال: حدثنى خزيمة بن محمد بن عماره بن خزيمة بْنُ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ خزيمة بن ثابت، [قال: قال رسول الله ص: اتقوا دعوه المظلوم فإنها تحمل على الغمام، لقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين] . ومنهم أخو خزيمة بن ثابت، روى عن رسول الله ص احاديث، منها ما حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، قَالَ: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عماره بن خزيمة بن ثابت، وخزيمة بن ثابت الذى جعل رسول الله ص شهادته شهاده رجلين قال عماره اخبره عمه- وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ان خزيمة بن ثابت راى في المنام انه سجد على جبهه رسول الله ص، فاتى خزيمة رسول الله، فحدثه، قال: فاضطجع رسول الله، ثم قال له: صدق رؤياك فسجد على جبهته. ومنهم عبد الله بن حنظله بن الراهب، روى عن رسول الله ص. حدثنى محمد بن اسماعيل السلمى، قال: حدثنا الحسن بن سوار ابو العلاء، قال: حدثنا عكرمه بن عمار عن ضمضم بن جوس، عن عبد الله بن حنظله بن الراهب، قال: رايت النبي ص يطوف بالبيت على ناقه لا صرب ولا طرد ولا إليك إليك

ومنهم ثم من بنى حارثة بن الحارث عويمر بن اشقر، روى عن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حدثنى العباس بن الوليد البيروتى، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حدثنى يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عباد بن تميم، عن عويمر بن اشقر الأنصاري، ثم المازنى، انه ذبح اضحيته قبل ان يصلى رسول الله، ثم انه ذهب الى رسول الله ص فاخبره، قال: فأمره رسول الله ص ان يعود لضحيته. وحدثنى يونس بن عبد الأعلى الصدفي، قال: أخبرني ابن وهب، قال: حدثنا عمرو بن الحارث ومالك بن انس ان يحيى بن سعيد الأنصاري حدثهما عن عباد بن تميم عن عويمر بن اشقر الأنصاري، انه ذبح ضحيته قبل ان يغدو يوم الاضحى، وانه ذكر ذلك لرسول الله ص فأمره رسول الله ان يعود بضحيه اخرى. وحدثنى ابن سنان القزاز، قال: حدثنا موسى، عن حماد عن يحيى بن سعيد عن عباد بن تميم، عن عويمر بن اشقر، انه ذبح قبل ان يصلى النبي ص، فأمره النبي ص ان يعيد. ومنهم مجمع بن جاريه، من بنى عمرو بن عوف، روى عن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احاديث. حدثنى الحسن بن عرفه، قال: حدثنا اسماعيل بن عياش الحمصى، عن عبد العزيز بن عبيد الله، عن يعقوب بن مجمع بن جاريه، عن ابيه، [ان رسول الله ص خرج في جنازة رجل من بنى عمرو بن عوف حتى انتهى الى المقبرة، فقال: السلام على اهل القبور، ثلاث مرات، من كان منكم من المؤمنين والمسلمين، أنتم لنا فرط ونحن لكم تبع، عافانا الله عز وجل وإياكم] . ومنهم حذيفة بن اليمان ابو عبد الله، اصله من عبس بن بغيض، وهو حليف لبنى عبد الاشهل، روى عن رسول الله ص حديثا كثيرا

ومنهم ابو أيوب خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبه بن عبد بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار، وهو تيم الله بن ثعلبه بن عمرو بن الخزرج، شهد العقبه مع السبعين من الانصار، وشهد بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله ص، وروى عن رسول الله حديثا كثيرا. ومنهم ثابت بن قيس بن شماس بن إمرئ القيس بن مالك الأغر بن ثعلبه بن كعب ابن الخزرج بن الحارث بن الخزرج، روى عن رسول الله ص احاديث. حدثنى يونس بن عبد الأعلى الصدفي، قال: أخبرنا ابن وهب قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن المكى، عن عمرو بن يحيى المازنى، عن يوسف بن مُحَمَّد بن ثَابِتِ بْنِ قيس بن شماس، عن ابيه عن جده [عن رسول الله ص انه دخل عليه فقال: اكشف الباس، رب الناس، عن قيس بن شماس، ثم أخذ ترابا من بطحان، فجعله في قدح فيه ماء فصبه عليه] . ومنهم ابو اليسر كعب بن عمرو، روى عن رسول الله ص. حدثنا حميد بن مسعده السامي، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن معاويه، عن حنظله بن قيس، عن ابى اليسر البدري، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [قال: من أحب ان يظله الله في ظله- واشار بيده- فلينظر معسرا او ليضع له] . ومنهم عبيد بن رفاعة الزرقي. حدثنى حوثره بن محمد المنقرى وسعيد بن الربيع الرازى، قالا حدثنا سفيان عن عمرو عن عروه بن عامر عن عبيد بن رفاعة الزرقي، قال: [قالت أسماء: يا رسول الله، ان بنى جعفر تصيبهم العين افنسترقى لهم؟ قال: نعم، فلو كان شيء يسبق القدر لسبقت العين] . ومنهم خلاد بن رفاعة بن رافع، روى عن رسول الله ص. حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ الزُّهْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عمى، عن شريك، عن عبد الله ابن عون عن على بن يحيى، عن خلاد بن رفاعة بن رافع- وكان بدريا- قال:

[جاء رجل الى النبي ص وهو جالس، فصلى قريبا منه، ثم انصرف، فوقف على نبى الله فسلم عليه فقال نبى الله ص: اعد صلاتك، فإنك لم تصل، فصلى نحوا مما صلى ثم انصرف فوقف على النبي ص فسلم، فقال له النبي ص: اعد صلاتك، فإنك لم تصل، فقال يا نبى الله، علمني، قال: إذا توجهت الى القبله فكبر ثم اقرا بما شاء الله ان تقرا، فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك، وامدد ظهرك، ومكن لركوعك، فإذا رفعت فاقم صلبك حتى ترجع العظام في مفاصلها، فإذا سجدت فمكن سجودك، فإذا رفعت، فاجلس على فخذك اليسرى، ثم افعل مثل ذلك في كل ركعة وسجده حتى تفرغ] . ومنهم زياد بن لبيد بن ثعلبه بن سنان، احد بنى بياضه بن عامر بن زريق روى عن رسول الله ص. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي عَنِ الاعمش، عن سالم بن ابى الجعد، عن زياد بن لبيد، [قال: ذكر رسول الله ص شيئا، فقال: وذاك عند أوان ذهاب العلم، قلنا: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا ابناءهم الى يوم القيامه؟ قال: ثكلتك أمك زياد! ان كنت لاراك من افقه رجل بالمدينة اوليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والانجيل ولا يعملون بشيء مما فيهما!] ومنهم ابو ابى ابراهيم الأنصاري. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا هشام الدستوائى، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي ابراهيم الأنصاري، عن ابيه انه سمع رسول الله ص يقول في الصلاة على الميت: اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وذكرنا وأنثانا، وصغيرنا وكبيرنا وحدثنيه ابن المثنى قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأوزاعي، ان يحيى حدثه عن ابى ابراهيم- رجل من بنى عبد الاشهل- حدثه ان أباه حدثه انه سمع رسول الله ص يصلى على جنازة، يقول: اللهم اغفر لأولنا وآخرنا وحينا وميتنا، وذكرنا وأنثانا،

ذكر بعض أسماء من عاش بعد رسول الله ص ممن آمن به واتبعه في حياته وروى عنه بعد وفاته في سائر قبائل اليمن

وصغيرنا وكبيرنا، وشاهدنا وغائبنا اللهم لا تحرمنا اجره ولا تضلنا بعده. قال يحيى: وحدثنى ابو سلمه، [عن النبي ص بمثله وزاد فيه ومن احييته فأحيه على الاسلام، ومن توفيته فتوفه على الايمان] . وعمير الأنصاري روى عن رسول الله ص. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابى سعيد بن سعيد التغلبى، او الثعلبى- شك الطبرى- عن سعيد بن عمير الأنصاري، عن ابيه وكان بدريا، [قال: قال النبي ص: من صلى على من امتى صلاه مخلصا بها من نفسه، صلى الله عليه بها عشر صلوات، ورفعه بها عشر درجات، وكتب له بها عشر حسنات، ومحا عنه بها عشر سيئات] . ذكر بعض أسماء من عاش بعد رسول الله ص ممن آمن به واتبعه في حياته وروى عنه بعد وفاته في سائر قبائل اليمن ثم من الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبا بن يشجب ابن يعرب بن قحطان ثم من خزاعة وهم بنون لكعب ومليح وعدى بنى عمرو بن ربيعه ابن حارثة بن عمر ومزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن إمرئ القيس ابن ثعلبه بن مازن. منهم الحصين بن عبيد بن خلف بن عبدنهم بن جريبه بن جهمه بن غاضره بن حبشية بن كعب بن عمرو، وهو ابو عمران بن حصين، روى عن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ المغيره، قال: حدثنا عمرو- يعنى بن ابى قيس- عن منصور، عن ربعي، عن عمران بن الحصين عن ابيه، [انه اتى النبي ص قبل ان يسلم، فقال: يا محمد، عبد المطلب كان خيرا لقومه منك، كان يطعمهم الكبد والسنام، وأنت تنحرهم، ثم قال: علمني، فقال: قل اللهم قنى شر نفسي واعزم لي على ارشد امرى، ثم أتاه وقد اسلم، فقال: ما اقول؟ قال قل: اللهم اغفر لي ما اسررت وما اعلنت، وما أخطأت وما عمدت، وما علمت وما جهلت]

ومنهم سليمان بن صرد بن الجون بن ابى الجون، وهو عبد العزى بن منقذ- وكان سليمان يكنى أبا مطرف وكان اسمه قبل ان يسلم يسار، فلما اسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سليمان- وشهد مع على بن ابى طالب ع الجمل وصفين، وقد قيل انه لم يشهد الجمل، فاما في شهوده معه صفين فلم يختلف فيه، وقتل بعين الورده بناحيه قرقيسياء قتله يزيد بن الحصين بن نمير، وهو يومئذ رئيس التوابين وصاحب امرهم، روى عن رسول الله ص احاديث. حدثنا نصر بن على الجهضمي، قال: حدثنا ابى عن شعبه عن عبد الأكرم- رجل من اهل الكوفه- عن ابيه، عن سليمان بن صرد، قال: أتانا رسول الله ص فمكثنا ليالي لا نقدر- او لا يقدر- على طعام. ومنهم حبيش بن خالد الأشعري بن خليف روى عن رسول الله ص. ما حدثنى ابو هشام محمد بن سليمان بن الحكم بن أيوب بن سليمان بن ثابت بن يسار الكعبي الربعي، قال: حدثنى عمى أيوب بن الحكم بن أيوب عن حزام بن هشام، عن ابيه هشام بن حبيش، عن جده حبيش بن خالد صاحب رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ إن رسول الله ص حين خرج من مكة خرج منها مهاجرا الى المدينة، هو وابو بكر ومولى ابى بكر عامر بن فهيره، ودليلهما الليثى عبد الله بن الأريقط فمروا على خيمتي أم معبد الخزاعية- وكانت برزه جلده، تحتى بفناء القبه ثم تسقى وتطعم- فسألوها لحما وتمرا ليشتروه منها، فلم يصيبوا من ذلك شيئا، وكان القوم مرملين- قال ابو هشام مشتين-، قال الطبرى وانما هو مسنتين- فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى شاه في كسر الخيمة، فقال: ما هذه الشاه يا أم معبد؟ قالت: شاه خلفها الجهد عن الغنم، قال: هل بها من لبن؟ قالت: هي اجهد من ذلك، قال: تاذنين لي ان أحلبها، قالت: نعم بابى وأمي، ان رايت بها حلبا فاحلبها- فدعا بها رسول الله فمسح بيده ضرعها، وسمى الله، ودعا لها في شاتها، فتفاجت عليه، ودرت واجترت ودعا بإناء يربض الرهط، فحلب فيه ثجا حتى علاه البهاء، ثم سقاها حتى

رويت، وسقى اصحابه حتى رووا، ثم شرب آخرهم، ثم أراضوا، ثم حلب فيه ثانيا بعد بدء حتى ملا الإناء، ثم غادره عندها وبايعها، وارتحلوا عنها، فقل ما لبثت حتى جاءها زوجها ابو معبد، يسوق اعنزا عجافا، تساوكن هزلا ضحى، مخهن قليل. فلما راى ابو معبد اللبن عجب، وقال: من اين لك هذا يا أم معبد؟ والشاه عازب حيال ولا حلوب في البيت، قالت: لا والله الا انه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا، قال: صفيه لي يا أم معبد، قالت: رايت رجلا ظاهر الوضاءة، ابلج الوجه، حسن الخلق، لم يعبه نحله ولم تزر به صعله هكذا قال: ابو هشام، وانما هو لم تعبه تجله، ولم تزر به صقله وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي اشفاره وطف- قال ابو هشام: عطف، وفي صوته صهل، قال الشيخ: وهو خطا وانما هو صحل بالحاء- وفي عنقه سطع وفي لحيته كثافة أزج اقرن ان صمت فعليه الوقار، وان تكلم سما وعلاه، البهاء، اجمل الناس وأبهاه من بعيد، واحسنه واحلاه من قريب، حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر، كان منطقه خرزات نظم يتحدر، ربعه لا ياس من طول، ولا تقتحمه

عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو انضر الثلاثة منظرا، واحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، ان قال نصتوا لقوله- قال الطبرى: وانما هو انصبتوا لقوله- وان امر تبادروا الى امره- محفود محشود لا عابس ولا مفند- قال ابو هشام: ولا معتد- وهو خطا قال ابو معبد هو والله صاحب قريش الذى ذكر لنا من امره ما ذكر بمكة، ولقد هممت ان اصحبه ان وجدت الى ذلك سبيلا، فاصبح صوت ببكة عاليا يسمعون الصوت، ولا يدرون من صاحبه، وَهُوَ يَقُولُ: جَزَى اللَّهُ رَبُّ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ ... رَفِيقَيْنِ قَالا خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ هُمَا نزلاها بالهدى واهتدت به ... فقد فاز من امسى رفيق محمد فيال قصى ما زوى الله عنكم ... به من فعال لا يجازى وسودد ليهنئ بنى كعب مقام فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد سلوا أختكم عن شاتها وانائها ... فإنكم ان تسألوا الشاه تشهد دعاها بشاه حائل فتحلبت ... عليه صريح ضره الشاه مزبد قال الطبرى: هكذا أنشدنيه ابو هشام وانما هو: فتحلبت له بصريح ضره الشاه مزبد فغادرها رهنا لديها لحالب ... يرددها في مصدر ثم مورد فلما سمع بذلك حسان بن ثابت شاعر رسول الله ص وسلم شبب يجاوب الهاتف وهو يقول: لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم ... وقدس من يسرى اليهم ويغتدى ترحل عن قوم فضلت عقولهم ... وحل على قوم بنور مجدد هداهم به بعد الضلالة ربهم ... وارشدهم، من يبتغ الحق يرشد وهل يستوى ضلال قوم تسفهوا ... عمى وهداه يهتدون بمهتد وقد نزلت منه على اهل يثرب ... ركاب هدى حلت عليهم باسعد نبى يرى مالا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مسجد

قال الطبرى والذى نرويه في كل مشهد: - وان قال في يوم مقاله غائب ... فتصديقها في اليوم او في ضحى الغد ليهن أبا بكر سعاده جده ... بصحبته من يسعد الله يسعد ليهن بنى كعب مقام فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد قال: فلحقه فاسلم. حدثنى ابراهيم القارئ ابو إسحاق الكوفى، قال: حدثنا بشر بن حسن ابو احمد السكرى، قال: حدثنا عبد الملك بن وهب المذحجى، عن الحر بن الصياح النخعى، عن ابى معبد الخزاعي ان رسول الله ص خرج ليله هاجر من مكة الى المدينة هو وابو بكر وعامر بن فهيره مولى ابى بكر، ودليلهم عبد الله بن اريقط الليثى، فمروا بخيمتى أم معبد الخزاعية- وكانت امراه برزه جلده تحتى وتجلس بفناء الخيمة ثم تطعم وتسقى- فسألوها تمرا ولحما ليشتروا فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك، وإذا القوم مرملون مسنتون فقالت: لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى، فنظر رسول الله ص الى شاه في كسر خيمتها فقال: ما هذه الشاه يا أم معبد؟ قالت شاه خلفها الجهد عن الغنم، قال: فهل بها من لبن؟ قالت: هي اجهد من ذلك، قال: افتأذنين ان أحلبها؟ قالت: نعم بابى وأمي، ان رايت بها حلبا، فاحلبها فدعا رسول الله ص بالشاه فمسح ضرعها، وذكر اسم الله عز وجل، فتفاجت ودرت، واجترت، فدعا بإناء لها يربضن الرهط، فحلب فيه ثجا حتى غلبه الثمال، فسقاها فشربت حتى رويت، وسقوا حتى رووا، وقال: ساقى القوم آخرهم، فشربوا جميعا عللا بعد نهل حتى أراضوا، ثم حلبوا فيه ثانيا عودا على بدء، فغادره عندها، فقلما لبثت ان جاء زوجها ابو معبد يسوق أعنزا حثلا عجافا، تساوك هزلا، مخهن قليل، لا نقى بهن، فلما راى اللبن عجب وقال: من اين هذا لكم والشاء عازبه ولا حلوبه في البيت؟ قالت: لا والله انه

مر بنا رجل مبارك، كان من حديثه كيت وكيت، قال: أراه والله صاحب قريش الذى ذكر لنا صفيه لي يا أم معبد، قالت: رايت رجلا ظاهر الوضاءة، متبلج الوجه، حسن الخلق لم تعبه تجله، ولم تزر به صعله، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي اشفاره وطف، وفي صوته صهل- قال: الطبرى وانما هو صحل- احور اكحل أزج اقرن، رجل في عنقه سطع، وفي لحيته كثافة- قال الطبرى: وانما هو كثاثة- إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، كان منطقه خرزات نظم يتحدرن، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هذر، اجهر الناس، واجمله من بعيد، واحلاه واحسنه من قريب، ربعه لا تشنؤه من طول ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو انضر الثلاثة منظرا، واحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، ان قال سمعوا لقوله، وان امر تبادروا الى امره، محفود محشود لا عابس ولا مفند قال: هذا والله صاحب قريش الذى ذكر لنا، ولو كنت وافقته لالتمست صحبته، ولافعلن ذلك ان وجدت اليه سبيلا، واصبح صوت بمكة عال يسمعونه ولا يدرون من يقوله بين السماء والارض، وَهُوَ يَقُولُ: جَزَى اللَّهُ رَبُّ النَّاسِ خَيْرَ جزائه ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد هما نزلا بالبر وارتحلا به ... فافلح من امسى رفيق محمد فيال قصى ما زوى الله عنكم ... به من فعال لا يجازى وسودد ليهنئ بنى كعب مقام فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد سلوا أختكم عن شاتها وانائها ... فإنكم ان تسألوا الشاه تشهد دعاها بشاه حائل فتحلبت له ... بصريح ضره الشاه مزبد قال الطبرى: هكذا أنشدنيه ابو هشام وانما هو: فتحلبت له بصريح ضره الشاه مزبد. فغادره رهنا لديها بحالب ... يدر لها في مصدر ثم مورد فاصبح الناس وقد فقدوا نبيهم ص، فأخذوا على خيمتي أم معبد حتى لحقوا النبي ص واجابه حسان، وهو يقول: لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم ... وقدس من يسرى اليه ويغتدى ترحل عن قوم فزالت عقولهم ... وحل على قوم بنور مجدد وهل يستوى ضلال قوم تسكعوا ... عمى وهداه يهتدون بمهتد نبى يرى مالا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مشهد وان قال في يوم مقاله غائب ... فتصديقها في ضحوه اليوم او غد

ليهن أبا بكر سعاده جده ... بصحبته من يسعد الله يسعد ويهن بَنِي كَعْبٍ مَكَانُ فَتَاتِهِمْ ... وَمَقْعَدُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَرْصَدِ ومنهم هنيده بن خالد الخزاعي. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ الأَسَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عن ابى إسحاق، عن هنيده بن خالد الخزاعي، قال: بينما رسول الله ص يقاتل، إذ أتاه رجل، فقال: يا رسول الله أعطني سيفا، فلأقاتل به، قال: لعلك ان تقوم في الكيول قال: فاعطاه سيفا فاخذ يرتجز وهو يقول: انى امرؤ بايعنى خليلى ونحن عند اسفل النخيل الا اخون الدَّهْرَ فِي الْكُيُولِ اضْرِبْ بِسَيْفِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ قال: فما زال يقاتل حتى عطفوا عليه فقتلوه. ومنهم نمير الخزاعي. حدثنى محمد بن خلف العسقلاني، ومحمد بن عوف الطائي من اهل حمص، قالا: حدثنا الفريابي قال: حدثنا عصام بن قدامه، قال: حدثنا مالك بن نمير الخزاعي، قال: حدثنى ابى انه راى رسول الله ص قاعدا في الصلاة، واضعا ذراعه على فخذه اليمنى رافعا اصبعه السبابة قد حناها شيئا وهو يدعو. ومنهم نافع بن عبد الحارث. حدثنا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حدثنا سفيان عن حبيب عن رجل عن نافع بن عبد الحارث، قال: [قال رسول الله ص: من سعاده المرء المسلم المسكن الواسع والجار الصالح والمركب الهنيء] . ومنهم عمرو بن شاس. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة عن ابن إسحاق، عن ابان ابن صالح قال: كنت مع عيسى بن الفضل بن معقل بن سنان الاشجعى، قال: حدثنى ابو برده بن نيار مكرز الأسلمي، عن خاله عمرو بن شاس، [أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ

ذكر أسماء من روى عن رسول الله ص من الأشعريين

عليه وسلم قال: من آذى عليا فقد آذاني] . ومنهم القعقاع بن ابى حدرد، روى عن رسول الله ص. حدثنى محمد بن ابراهيم المعروف بابن صدران، ويعقوب بن ابراهيم بن جبير الواسطي، قالا: حدثنا صفوان بن عبسى، قال: حدثنا عبد الله بن سعيد، عن ابيه، عن القعقاع بن ابى حدرد الأسلمي، [ان رسول الله ص كان يقول: تمعددوا واخشوشنوا وانتضلوا وامشوا حفاه] . ومنهم معاذ بن انس الجهنى، حدثنا ابو كريب، قال: حدثنا سعيد بن الوليد عن ابن مبارك، عن يحيى بن أيوب، عن عبد الله بن سليمان، عن اسماعيل بن يحيى المعافرى، اخبره عن سهل بن معاذ بن انس الجهنى، عن ابيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، [قال: من حمى مؤمنا من منافق يغتابه بعث الله عز وجل اليه ملكا يحمى لحمه يوم القيامه من نار جهنم، ومن قفى مؤمنا بشيء يريد شينه حبسه الله جل وعز على جسر جهنم حتى خرج مما قال] . ذكر أسماء من روى عن رسول الله ص من الأشعريين وهم بنو الأشعر واسمه نبت بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد ابن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. منهم ابو موسى عبد الله واخوه ابو برده. ومنهم ابو مالك الأشعري، حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى قَالَ: أَخْبَرَنَا ابن وهب، قال: أخبرني معاويه بن صالح عن حاتم بن كريب عن مالك بن ابى مريم، عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري، عن ابى مالك الأشعري عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انه [قال: ليشربن ناس من امتى الخمر يسمونها بغير اسمها ويضرب على رءوسهم المعازف، يخسف الله عز وجل بهم الارض، ويجعل منهم قردة وخنازير]

ذكر أسماء من روى عن رسول الله ص من حضر موت

ذكر أسماء من روى عن رسول الله ص من حضر موت منهم وائل بن حجر الحضرمى. ومنهم عبد الرحمن بن عائش الحضرمى. حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي قال: حدثنا ابن جابر، قال: وحدثنا الأوزاعي أيضا قال: حدثنى خالد بن اللجلاج قال: سمعت عبد الرحمن بن عائش الحضرمى، [يقول: صلى بنا رسول الله ص ذات غداه، فقال له قائل: ما رايتك اسفر وجها منك الغداة! قال: ومالي وقد تبدى لي ربى في احسن صوره، فقال: فيم يختصم الملا الأعلى يا محمد؟ قال: قلت أنت اعلم يا رب، فوضع يده بين كتفي، فوجدت بردها بين ثديي، فعلمت ما في السماء والارض، ثم تلا هذه الآية وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، قال: فيم يختصم الملا الأعلى يا محمد؟ قلت: في الكفارات رب؟ قال: وما هن؟ قلت: المشى على الاقدام الى الجمعات، والجلوس في المساجد خلاف الصلوات، وابلاغ الوضوء اماكنه في المكاره وقال: من يفعل ذلك يعش بخير ويمت بخير، ويكن من خطيئته كيوم ولدته أمه، ومن الدرجات اطعام الطعام، وبذل السلام، وان تقوم بالليل والناس نيام، سل تعطه قال: اللهم اننى اسالك الطيبات وترك المنكرات وحب المساكين وان تتوب على، وإذا اردت فتنه في قوم، فتوفني غير مفتون فتعلموهن، فو الذى نفسي بيده انهن لحق.] . ومن كنده غرفه بن الحارث الكندى. حدثت عن ابن مهدى عن ابن المبارك عن حرمله بن عمران، عن عبد الله ابن الحارث الأزدي، قال: سمعت غرفه بن الحارث الكندى قال: شهدت

ومن سائر الأزد ممن روى عن رسول الله ص

رسول الله ص في حجه الوداع، واتى بالبدن، فقال: ادعوا الى أبا حسن، فدعى فقال: خذ اسفل الحربه، وأخذ رسول الله ص بأعلاها، ثم طعنا بها البدن، فلما فرغ ركب بغلته، واردف عليا ع. ومنهم عبد الله بن نفيل. حدثنا عبد الرحمن بن الوليد، قال: حدثنا عمر بن سعيد الدمشقى، قال: حدثنا ابو بكر النهشلي، عن عبد الله بن سالم عن ابى سلمه سليمان بن ابى سليم، عن عبد الله بن نفيل الكندى، قال: [قال رسول الله ص: ثلاث قد فرغ الله عز وجل من القضاء فيهن، فلا تنتهكوا منهن شيئا، لا يبغين احدكم فان الله عز وجل يقول: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ، ولا يمكرن احدكم فان الله تبارك وتعالى يقول: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ولا ينكثن احدكم، فان الله تعالى يقول: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ.] وَمَنْ سائر الأزد ممن روى عن رسول الله ص منيب الأزدي. حدثنى موسى بن سهل، قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدِّمَشْقِيُّ، قال: حدثنا عتبة بن حماد، قال: حدثنا منيب بن مدرك الأزدي عن ابيه، عن جده [قال: رايت رسول الله ص في الجاهلية يقول للناس: قولوا لا اله الا الله تفلحوا، حتى انتصف النهار، فجاءت جاريه بعس من ماء، فغسل وجهه ثم قال: يا بنيه ابشرى ولا تحزنى، ولا تخشى على ابيك غلبه ولا ذلا فقلت: من هذه؟ فقالوا: زينب ابنته، وهي يومئذ وصيفه] . وحدثنى بهذا الحديث عبد الله بن محمد بن عمرو الغزى قال: حدثنا إسحاق

ومن همدان

ابن ابراهيم الرملي، قال: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن ابو أيوب الدمشقى، قال: حدثنا ابو خليد عتبة بن حماد الحكمي، قال: حدثنا منيب بن مدرك الأزدي، عن ابيه عن جده، [قال: رايت رسول الله ص في الجاهلية وهو يقول للناس: قولوا لا اله الا الله تفلحوا، فمنهم من تفل في وجهه، ومنهم من حثا عليه التراب، ومنهم من سبه حتى انتصف النهار، فجاءت جاريه بعس من ماء، فغسل وجهه، ثم قال: يا بنيه ابشرى، ثم ذكر سائر الحديث مثل حديث موسى بن سهل.] . ومن همدان وهو اسله بن مالك بن يزيد بن اسله بن ربيعه بن الخيار بن مالك بن زيد ابن كهلان بن سبا. عبد خير بن يزيد الخيوانى، ويكنى أبا عماره ادرك النبي ص، وذكر ان كتاب النبي ص ورد عليهم، وانه يذكر ذلك، وكان يعد من اصحاب على بن ابى طالب ع، شهد معه صفين: حدثنى محمد بن خالد، قال: حدثنا مسهر بن عبد الملك بن سلع، قال: حدثنا ابى، قال: قلت لعبد خير، يا أبا عماره، انك قد كبرت، فكم اتى عليك؟ قال: عشرون ومائه سنه، قلت: وهل تذكر من امر الجهال شيئا؟ قال: اذكر ان أمي طبخت لنا قدرا، فقلت؟ أطعمينا، فقالت: حتى يجيء أبوكم، فجاء ابى، فقال: ان كتاب رسول الله ص قد جاءنا ينهانا عن لحوم الميته، قال: فاذكر انها كانت لحم ميته، فأكفأناها. ومنهم سويد بن هبيرة من سكان البصره. حدثنى عبد الله بن إسحاق الناقد الواسطي والحسين بن على الصدائى، قالا: حدثنا روح، قال: حدثنا ابو نعامة العدوى، عن مسلم بن بديل، عن اياس بن زهير، عن سويد بن هبيرة، [قال: سمعت النبي ص يقول: خير مال المرء له مهره مأمورة او سكه مابوره] الى ههنا حديث الصدائى، وزاد الناقد في حديثه قال: السكة النخل، والمهرة المأمورة الكثيره الولد

ومنهم ابو ابى المنهال. حدثنى زريق بن السخت، قال: حدثنا شبابه بن سوار، قال: حدثنا سلم ابن ابى هلال عن عبد الملك بن ابى بشير، عن ابى المنهال، عن ابيه، قال: [قال رسول الله ص: أدوا ما تكون السنه ما بين سقوط النجم الى طلوعه] وعمير بن وهب خال رسول الله ص، روى عن رسول الله ص حدثنى محمد بن عبد الله الهلالي ابو مسعود المكتب، قال: حدثنا سعيد ابن سلام، قال: حدثنا هشام بن الغاز عن محمد بن ابان، عن عمير بن وهب خال رسول الله ص، قال: [اقبل عمير فلما رآه رسول الله ص بسط له رداءه، فقال اجلس، فقال: اعلى ردائك اجلس يا رسول الله؟! قال: اجلس فإنما الخال والد، فلما جلس قال: الا اعلمك كلمات، من اراد الله به خيرا علمه اياه ثم لم ينسه ذلك حتى يموت؟ قال: بلى يا رسول الله، قال قل: اللهم انى ضعيف فقوني في رضاك ضعفى، وخذ الى الخير بناصيتي، وبلغنى برحمتك ما أرجو من رحمتك، واجعل الاسلام منتهى رغبتي، واجعل الى ودا عند الناس وعهدا عندك] . وعبد الله بن هلال. حدثنى بشر بن آدم، قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، قَالَ: حَدَّثَنِي بشر بن عمران، قال: حدثنى مولاى عبد الله بن هلال قال: ذهب بي ابى الى النبي ص، فوضع يده على راسى، وبرك على قال: فرايته شيخا كبيرا، كثير الشعر، صائم النهار، قائم الليل، قال: فما انسى برديد رسول الله ص على يافوخى. ومنهم عم معاذ بن عبد الله بن خبيب. حدثنى مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، قال: حدثنا عبد الله بن ابى سلمان- شيخ من اهل المدينة- قال: حدثنا معاذ بن عبد الله بن خبيب، عن ابيه، عن عمه، قال: كنا في مجلس، فاطلع علينا رسول الله ص وعلى

راسه اثر ماء، فقلنا يا رسول الله، نراك طيب النفس، قال: اجل، ثم خاض الناس في ذكر الغنى، [فقال رسول الله ص: لا باس بالغنى لمن اتقى، والصحة لمن اتقى خير من الغنى، وطيب النفس من النعم] . ابو فاطمه روى عن رسول الله ص. حدثنى محمد بن عوف، قال: حدثنى محمد بن اسماعيل، قال: حدثنى ابى، قال: حدثنى ضمضم عن شريح بن عبيد، قال: كان كثير بن مره يحدث ان أبا فاطمه حدثهم [انه قال لرسول الله ص: يا رسول الله، حدثنى بعمل استقيم عليه، فقال: عليك بالهجره، فانه لا مثل لها، فقلت: يا رسول الله، حدثنى بعمل استقيم عليه، قال: عليك بالصيام، فانه لا مثل له، قال: فقلت: حدثنى يا رسول الله بعمل استقيم عليه، قال: عليك بالسجود لله عز وجل، فإنك لن تسجد من سجده الا رفعك الله عز وجل بها درجه، وحط عنك بها خطيئة] . ووهب بن حذيفة. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سعيد، قال: حدثنا خالد عن عمرو ابن يحيى، عن عمه واسع بن حبان، عن وهب بن حذيفة، [ان رسول الله ص قال: الرجل أحق بمجلسه، فان قام الى حاجه ثم رجع فهو أحق بمجلسه] . والحارث بن مالك. حدثنى سهل بن موسى الرازى، قال: حدثنا الحجاج بن مهاجر، عن أيوب ابن خوط، عن ليث، عن زيد بن رفيع، عن الحارث بن مالك، انه [قال: عند رسول الله ص: انى مؤمن حقا، فقال له رسول الله ص: انظر ما تقول، فان لكل قول حقيقة، قال: يا رسول الله، عزفت نفسي عن الدنيا، واطمانت، فاظمات نهاري، واسهرت ليلى، فكأني انظر الى عرش ربى عز وجل، والى اهل الجنه حين يتزاورون فيها، والى اهل النار حين يتعاوون فيها، فقال رسول الله ص: عزفت فالزم، عزفت فالزم ثم قال:

من سره ان ينظر الى عبد نور الله الايمان في قلبه، فلينظر الى الحارث بن مالك فقال الحارث ادع الله لي بالشهادة، فدعا له، فاستشهد] . وابو الحمراء، روى عن رسول الله ص. حدثنا عبد الأعلى بن واصل وسفيان بن وكيع، قالا: حدثنا ابو نعيم الفضل ابن دُكَيْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، قال: أخبرني ابو داود عن ابى الحمراء، قال: رابطت المدينة سبعه اشهر على عهد رسول الله ص، [فرايت رسول الله ص إذا طلع الفجر جاء الى باب على وفاطمه ع، فقال: الصلاة الصلاة إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً] . والهدار. حدثنى محمد بن عوف، قال: حدثنى ابى قال: حدثنى شقير مولى العباس، انه سمع الهدار صاحب رسول الله ص، يقول للعباس- وراى منه إسرافا في طعامه من خبز السميذ وغيره- ما رايت رسول الله ص شبع من خبز البر حتى قبضه الله عز وجل. زياد بن مطرف. حدثنى زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبَانٍ الْمِصْرِيُّ قَالَ: حدثنا احمد بن إشكاب، قال: حدثنا يحيى بن يعلى المحاربى، عن عمار بن رزيق الضبي، عن ابى إسحاق الهمدانى، عن زياد بن مطرف، قال: [سمعت رسول الله ص يقول: من أحب ان يحيا حياتي ويموت ميتتي ويدخل الجنه التي وعدني ربى قضبانا من قضبانها غرسها في جنه الخلد، فليتول على بن ابى طالب وذريته من بعده، فإنهم لن يخرجوهم من باب هدى، ولن يدخلوهم في باب ضلاله] . وجناده بن مالك. حدثنا ابو كريب ومحمد بن عمر بن الهياج الهمدانى، قالا: حدثنا يحيى

ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدَةُ بْنُ الأَسْوَدِ، عن القاسم بن الوليد عن مصعب ابن عبد الله الأزدي عن عبد الله بن جناده عن جناده بن مالك [عن رسول الله ص، قال: ثلاث من اخلاق اهل الجاهلية لا يدعهن اهل الاسلام ابدا: استسقاء بالكواكب، وطعن في النسبه، والنياحة على الميت] . وابو أذينة. حدثنى عبيد بن آدم بن ابى اياس، قال: حدثنى ابى، قال: حدثنا الليث ابن سعد، عن موسى بن على بن رباح، عن ابيه عن ابى أذينة، قال: [قال رسول الله ص: خير نسائكم الولود الودود المواتية المواسيه، إذا اتقين الله وشر نسائكم المتبرجات المختالات هن المنافقات لا تدخل الجنه منهن الا مثل الغراب الاعصم] . وابن نضيله. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: حدثنا أيوب بن سويد، قال: حدثنى الأوزاعي، عن ابى عبيد، قال: حدثنى القاسم بن مخيمره، عن ابن نضيله [قال: أصاب الناس في عهد رسول الله ص مجاعه، فقالوا: يا رسول الله سعر لنا، فقال: لا يسألني الله عن سنه احدثتها فيكم لم يأمرني بها، ولكن سلوا الله عز وجل من فضله] . وابو ابى المعلى: حدثنى الفضل بن سهل الاعرج، قال: حدثنا معلى بن منصور، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عبد الملك بن عمير، عن ابى المعلى عن ابيه، قال: [قام النبي ص عند المنبر، فقال: ان قدمي على ترعه من ترع الجنه] . ومره. حدثنا الحسن بن عرفه قال: حدثنا عمر بن عبد الرحمن عن محمد بن جحاده، عن محمد بن عجلان، عن ابنه مره، عن أبيها، [ان رسول الله ص قال:

كافل اليتيم له او لغيره إذا اتقى معى في الجنه هكذا- واشار بإصبعيه المسبحة والوسطى] . وعبيد الله بن محصن. حدثنا صالح بن مسمار، قال: حدثنا محمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا مروان عن عبد الرحمن بن ابى شميله الأنصاري، عن سلمه بن عبيد الله بن محصن، عن ابيه، [قال: قال رسول الله ص: من اصبح منكم آمنا في سربه معافى في بدنه، عنده طعام يومه، فكأنما حيزت له الدنيا] وعاصم بن حدره: حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ الْكَلاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يحيى ابن صالح، قال: حدثنا سعيد بن بشير، قال: حدثنا قتادة عن الحسن، قال: دخلنا على عاصم بن حدره، فقال: ما اكل النبي ص على خوان قط ولا مشى معه بوساده قط، وما كان له بواب قط. وابو مريم الفلسطينى. حدثنا محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا ابو مسهر، قال: حدثنى صدقه بن خالد، قال: حدثنا يزيد بن ابى مريم، قال: حدثنا القاسم بن مخيمره، عن رجل من اهل فلسطين يكنى أبا مريم، انه قدم على معاويه، فقال له معاويه: حدثنا حديثا سمعته من رسول الله ص، فقال: [سمعت رسول الله ص يقول: من ولاه الله عز وجل من امر المسلمين شيئا فاحتجب عن حاجتهم وخلتهم وفاقتهم، احتجب الله تعالى يوم القيامه عن حاجته وفاقته وخلته] . وراشد بن حبيش. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بكر، قال: حدثنا سعيد عن قتادة، عن مسلم بن يسار، عن ابى الاشعث الصنعانى، عن راشد بن حبيش [ان رسول الله ص عاد عباده بن الصامت في مرضه، فقال: اتعلمون من شهداء امتى؟ قال: فارم القوم، فقال عباده بن الصامت: ساندونى فساندوه، فقال: الصابر المحتسب، فقال النبي ص: ان شهداء امتى إذا لقليل القتل في سبيل الله

عز وجل شهاده، والطاعون شهاده، والغرق شهاده، والبطن شهاده، والنفساء يجررها ولدها بسرره الى الجنه وزاد ابو العوام، سادن بيت المقدس والحرق والسل] . وأوس بن شرحبيل، حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه، قال: حدثنا إسحاق ابن ابراهيم، قال: حدثنى عمرو بن الحارث، قال: حدثنى عبد الله بن سالم، عن الزبيدى، قال: حدثنا عياش بن مؤنس، ان أبا نمران الرحبي حدثه ان أوس ابن شرحبيل احد بنى المجمع، [حدثه انه سمع رسول الله ص يقول: من مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم انه ظالم، فقد خرج من الاسلام] . وعبد الرحمن بن خنبش. حدثنا عن عبيد الله بن عمر، قَالَ: حَدَّثَنَا جعفر بن سليمان الضبعي، قَالَ: حدثنا ابو التياح، قال: سال رجل عبد الرحمن بن خنبش- وكان شيخا كبيرا- فقال يا بن خنبش، كيف صنع رسول الله ص حين كادته الشياطين؟ قال: تحدرت عليه الشياطين من الجبال والأودية، يريدون رسول الله ص وفيهم شيطان معه شعله من نار، يريد ان يحرق بها رسول الله قال: فلما رآهم رسول الله ص فزع منهم، قال: وجاءه جبريل ع، فقال: يا محمد، قل ما اقول قل اعوذ بكلمات الله التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما خلق وبر او ذرا، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرا في الارض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر كل طارق الا طارقا يطرق بخير يا رحمن، قال: فطفئت نار الشياطين وهزمهم الله عز وجل. وابن جعدبه روى عن رسول الله ص. حدثنا العباس بن الوليد، قال: أخبرنا سعيد بن منصور عن يعقوب بن عبد الرحمن وعبد العزيز بن ابى حازم، عن ابى حازم، عن محمد بن كعب عن ابن جعدبه،

ذكر تاريخ النساء اللواتي اسلمن على عهد رسول الله ص ذكر من هلك منهن قبل الهجره:

قال: [قال رسول الله ص: ان الله عز وجل رضى لكم ثلاثا، وكره لكم ثلاثا، رضى لكم ان تعبدوا الله عز وجل ولا تشركوا به شيئا، وان تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وان تطيعوا من ولاه الله تعالى امركم وكره لكم قيلا وقال، وكثره السؤال، واضاعه المال] . وابو معتب بن عمرو. حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الحسن ابن دينار، عن عطاء بن ابى مروان الأسلمي عن ابيه، عن ابى معتب بن عمرو، [ان رسول الله ص قال لأصحابه حين اشرف على خيبر وانا فيهم: قفوا، ثم قال: اللهم رب السموات وما اظللن ورب الارضين وما اضللن، ورب الشياطين وما اضللن، ورب الرياح وما ذرين، انا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها، اقدموا باسم الله قال: وكان يقولها لكل قريه دخلها.] ذكر تاريخ النساء اللواتي اسلمن على عهد رسول الله ص ذكر من هلك منهن قبل الهجره: فمنهن خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ العزى بن قصى كانت تكنى أم هند، بابنه لها ولدتها من عَتِيقِ بْنِ عَابِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر بْن مخزوم، يقال لها: هند، وبابن لها ولدته من ابى هاله بن النباش بن زراره بن وقدان بن حبيب ابن سلامه بن غوى بْنِ جِرْوَةَ بْن أُسَيِّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تميم، يقال له هند. قال ابن عمر: حدثنى المنذر بن عبد الله الحزامي، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي حَبِيبَةَ مولى الزبير، قال: سمعت حكيم بن حزام يقول: توفيت خديجه عليها السلام بنت خويلد في شهر رمضان سنه عشر من النبوه، وهي يومئذ ابنه خمس وستين سنه، فخرجنا بها من منزلها حتى دفناها بالحجون، ونزل رسول الله ص في حفرتها، ولم تكن يومئذ سنه الجنازة الصلاة عليها قيل: ومتى ذلك يا أبا خالد؟ قال: قبل الهجره بسنوات ثلاث او نحوها، وبعد خروج بنى هاشم من الشعب

ذكر من هلك منهن في حياه رسول الله ص بعد الهجره

بيسير، وكانت أول امراه تزوجها رسول الله ص واولاده كلهم منها، غير ابراهيم بن مارية، وكانت تكنى أم هند بولدها من زوجها ابى هاله التميمى . ذكر من هلك منهن في حياه رسول الله ص بعد الهجره منهن من بنات رسول الله ص ابنته رقيه وأمها خديجه. وكان زوجها قبل ان يوحى اليه عتبة بن ابى لهب بن عبد المطلب، فلما بعث النبي ص وانزل الله عز وجل عليه: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ، قال له أبوه: راسى من راسك حرام ان لم تطلق ابنه محمد، ففارقها ولم يكن دخل بها، واسلمت حين اسلمت أمها خديجه، وبايعت رسول الله ص حين بايعه النساء، فتزوجها عثمان بن عفان، وهاجرت معه الى ارض الحبشه الهجرتين جميعا، واسقطت في الهجره الاولى من عثمان سقطا، ثم ولدت له بعد ذلك ابنا، فسماه عبد الله، وهاجرت الى المدينة بعد زوجها عثمان حين هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومرضت ورسول الله ص يتجهز الى بدر، فخلف رسول الله ص عثمان، فتوفيت ورسول الله ص ببدر في شهر رمضان، على راس سبعه عشر شهرا، من مهاجر رسول الله ص وقدم زيد ابن حارثة من بدر بشيرا، ودخل المدينة حين سوى التراب عليها. وزينب بنت رسول الله ص وأمها خديجه، وهي اكبر بنات رسول الله ص تزوجها ابن خالتها ابو العاص بن الربيع، قبل ان يبعث النبي ص، وأم ابى العاص هاله ابنه خويلد بن اسد خاله زينب ابنه رسول الله ص، ولدت زينب لأبي العاص عليا وامامه فتوفى على وهو صغير، وبقيت امامه فتزوجها امير المؤمنين على بن ابى طالب ع بعد وفاه فاطمه ابنه رسول الله ص، ذكر محمد بن عمر ان يحيى ابن عبد الله بن ابى قتادة حدثه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ محمد بن عمرو بن حزم، قال: توفيت زينب ابنه رسول الله ص في أول سنه ثمان من الهجره

ذكر من توفى من ازواجه على عهده ص

قال الطبرى: وكانت عله وفاتها فيما ذكر ان هبار بن الأسود كان فيما ذكر لما خرجت من مكة تريد المدينة واللحاق بأبيها لحقها، وهي في هودجها فدفعها فوقعت على صخره وهي حامل، فاسقطت واهراقت الدماء فلم يزل بها وجعها ذلك حتى ماتت منه. وأم كلثوم بنت رسول الله ص، وأمها خديجه كان زوجها قبل ان يبعث عتيبة بن ابى لهب ففارقها للسبب الذى ذكرت ان أخاه عتبة فارق أختها رقيه، وذلك قبل ان يدخل بها، وهاجرت الى المدينة مع عيال رسول الله ص، فلما توفيت رقيه بنت رسول الله ص زوجها رسول الله ص عثمان بن عفان، وذلك في شهر ربيع الاول من سنه ثلاث من الهجره، فلم تزل عنده حتى ماتت، ولم تلد له، وكانت وفاتها في شعبان سنه تسع من الهجره، وغسلها نساء من الانصار فيهن أُمُّ عَطِيَّةَ، وَنَزَلَ فِي حُفْرَتِهَا أَبُو طَلْحَةَ . ذكر من توفى من ازواجه على عهده ص منهن زينب ابنه خزيمة بْن الحارث بْن عبد الله بْن عمرو بن عبد مناف بن هلال ابن عامر بن صعصعة، وهي أم المساكين، كانت تسمى بذلك في الجاهلية فيما ذكر. وذكر محمد بن عمر ان محمد بن عبد الله حدثه عن الزهري، قال: كانت زينب ابنه خزيمة الهلالية تدعى أم المساكين، وكانت عند الطفيل بن الحارث ابن المطلب بن عبد مناف، فطلقها. قال ابن عمر: فحدثني عبد الله- يعنى ابن جعفر- عن عبد الواحد بن ابى عون، قال: فتزوجها عبيده بن الحارث، فقتل عنها يوم بدر شهيدا. قال ابن عمر: وحدثنا كثير بن زيد عن المطلب بْن عبد اللَّه بْن حنطب، قال: وحدثنا محمد بن قدامه عن ابيه، قالا: خطب رسول الله ص زينب ابنه خزيمة الهلالية أم المساكين، فجعلت امرها اليه، فتزوجها رسول الله

ص، واشهد ان أصدقها اثنى عشره أوقية ونشا وكان تزوجه إياها في شهر رمضان على راس احد وثلاثين شهرا من الهجره، فمكثت عنده ثمانية اشهر، وتوفيت في آخر شهر ربيع الآخر على راس تسعه وثلاثين شهرا، وصلى عليها رسول الله ص ودفنها بالبقيع قال ابن عمر: سالت عبد الله بن جعفر: من نزل في حفرتها؟ قال: اخوه لها ثلاثة، قلت له: كم كان سنها يوم ماتت؟ قال: ثلاثين سنه او نحو ذلك. ومنهن ريحانه بنت زيد بن عمرو بن خناقه بن سمعون بن زيد من بنى النضير، وكانت متزوجه رجلا من بنى قريظة، يقال له الحكم، فنسبها بعض الرواه الى بنى قريظة لذلك. وذكر مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ حَدَّثَهُ عَنِ يزيد بن الهاد عن ثعلبه ابن ابى مالك، قال: كانت ريحانه بنت زيد بن عمرو بن خنافه من بنى النضير، متزوجه فيهم رجلا، يقال له الحكم فلما وقع السباء على بنى قريظة سباها رسول الله ص، فأعتقها وتزوجها وماتت عنده قال محمد بن عمر: ولم تزل ريحانه عند رسول الله حتى ماتت مرجعه من حجه الوداع، فدفنها بالبقيع وكان تزويجه إياها في المحرم سنه ست من الهجره. ومليكه بنت كعب الليثى، ذكر ابن عمر ان عبد العزيز بن الجندعى، حدثه عن ابيه، عن عطاء بن يزيد الجندعى قال: تزوج رسول الله ص مليكه بنت كعب الليثى في شهر رمضان سنه ثمان ودخل بها، فماتت عنده. قال ابن عمر: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ مثل ذلك، قال ابن عمر: وأصحابنا ينكرون ذلك، ويقولون: لم يتزوج رسول الله ص كنانيه قط. قال ابن عمر: حدثنى ابو معشر، قال: تزوج رسول الله ص مليكه بنت كعب، وكانت تذكر بجمال بارع، فدخلت عليها عائشة فقالت اما تستحين ان تنكحى قاتل ابيك! فاستعاذت من رسول الله ص،

ذكر تاريخ من مات من بنات رسول الله ص وعماته وازواجه بعد وفاته

فطلقها، فجاء قومها الى النبي ص فقالوا: انها صغيره، وانه لا راى لها، وخدعت فارتجعها، فأبى رسول الله ص، واستأذنوا ان يزوجوها قريبا لها من بنى عذره، فاذن لهم، فتزوجها العذرى، وكان أبوها قتل يوم فتح مكة، قتله خالد بن الوليد بالخندمه. ومنهن سنا ابنه الصلت بْن حبيب بْن حارثة بْن هلال بن حرام بن سمال بن عوف السلمية، قال هشام بن محمد الكلبى: حدثنى رجل من رهط عبد الله بن خازم السلمى، ان رسول الله ص تزوج سنا بنت الصلت بن حبيب السلمية، فماتت قبل ان يصل إليها. وخوله ابنه الْهُذَيْلِ بْنِ هُبَيْرَةَ بْنِ قَبِيصَةَ بْنِ الْحَارِثِ بن حبيب بن حرقه بن ثعلبه ابن بكر بن حبيب بن عَمْرو بن غنم بن تغلب، وأمها ابنه خليفه بن فروه بن فضالة ابن زيد بن إمرئ القيس بن الخزرج الكلبى اخت دحية بن خليفه. قال هشام بن محمد: حدثنى الشرقى بن قطامى ان رسول الله ص تزوج خوله ابنه الهذيل، فهلكت في الطريق قبل ان تصل اليه، وكانت ربتها خالتها خرنق ابنه خليفه اخت دحية بن خليفه. ذكر تاريخ من مات من بنات رسول الله ص وعماته وازواجه بعد وفاته منهن فاطمه ابنه رسول الله ص، أمها خديجه بنت خويلد ع، ولدتها وقريش تبنى البيت، وذلك قبل ان نبئ رسول الله ص بخمس سنين. ذكر محمد بن عمر، ان أبا بكر بْن عبد الله بْن أبي سبرة حدثه عن يحيى ابن شبل، عن ابى جعفر، قال: دخل العباس بن عبد المطلب على على وفاطمه ع وهي تقول انا اسن منك، فقال العباس: اما أنت يا فاطمه فولدت وقريش تبنى الكعبه والنبي ص ابن خمس وثلاثين سنه، واما أنت يا على، فولدت قبل ذلك بسنوات

قال الطبرى: وتزوج على فاطمه ع في رجب بعد مقدم النبي ص المدينة بخمسه اشهر، وبنى بها مرجعه من بدر وفاطمه يوم بنى بها على ع ابنه ثماني عشره، كذلك ذكر محمد بن عمر عن عبد الله بن محمد بن عمر ابن على عن ابيه. واختلف في وقت وفاتها ع بعد اجماع الجميع على ان وفاتها كانت بعد وفاه رسول الله ص، فقال بعضهم: توفيت بعد النبي ص بسته اشهر. وقال ابن عمر: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنِ عائشة، قَالَ: وحدثنا ابن جريج عن الزهري عن عروه، ان فاطمه بنت النبي ص توفيت بعد النبي ص بسته اشهر- قال ابن عمر وهو الثبت عندنا- وتوفيت ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من شهر رمضان سنه احدى عشره، وهي بنت تسع وعشرين سنه او نحوها. قال ابن عمر: وحدثنى ابن جريج عن عمرو بْن دينار، عن أبي جعفر، قال: توفيت فاطمه بعد النبي ص بثلاثة اشهر. قال ابن عمر: وحدثنا عمر بن محمد بن عمر بن على، عن ابيه عن على ابن الحسين عن ابن عباس، قال: فاطمه أول من جعل لها النعش، عملت لها أسماء بنت عميس، وكانت قد رأته يصنع بأرض الحبشه. قال ابن عمر: وحدثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ عَبْدِ الله بْن ابى بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم عن عمره بنت عبد الرحمن، قالت: صلى العباس ابن عبد المطلب على فاطمه بنت رسول الله ص، ونزل في حفرتها، هو وعلى والفضل بن العباس. قال ابن عمر: وحدثنا عمر بن محمد بن عمر بن على، عن ابيه، عن على ابن الحسين ع، [قال: سالت ابن عباس: متى دفنتم فاطمه؟ قال: دفناها بليل بعد هداه، قلت: فمن صلى عليها؟ قال: على بن ابى طالب ع. ] . قال ابن عمر: وسالت عبد الرحمن بن ابى الموالي، قلت: ان الناس يقولون:

ان قبر فاطمه عند المسجد الذى يصلون اليه على جنائزهم بالبقيع، فقال: والله ما ذلك الا مسجد رقيه- يعنى امراه عمرته- وما دفنت فاطمه ع الا في زاوية دار عقيل مما يلى دار الجحشيين مستقبل خوخه بنى نبيه من بنى عبد الدار بالبقيع، وبين قبرها وبين الطريق سبعه اذرع. قال ابن عمر: وحدثنا عبد الله بن جعفر، قال: حدثنى عبد الله بن حسن، قال: وجدت المغيره بن عبد الرحمن واقفا ينتظرني بالبقيع نصف النهار، في حر شديد، فقلت: ما يقفك يا أبا هاشم؟ قال: انتظرتك، بلغنى ان فاطمه دفنت في هذا البيت في زاوية دار عقيل مما يلى دار الجحشيين، فأحب ان تبتاعه لي بما بلغ، ادفن فيه، فقال عبد الله: والله لأفعلنه، قال: فجهدنا بالعقيليين فأبوا على عبد الله بن حسن، قال عبد الله بن جعفر: وما رايت أحدا يشك ان قبرها في ذلك الموضع. حدثنى الحارث، قال: حدثنا محمد بن جعفر الوركانى، قال: حدثنا جرير ابن عبد الحميد، عن يزيد بن ابى زياد، عن عبد الله بن الحارث، قال: توفيت فاطمه بنت رسول الله ص بعده بثمانية اشهر، وكانت تذوب، فشكت الى أسماء نحول جسمها، وقالت: اتستطيعين ان تواريني بشيء؟ قالت: انى رايت الحبشه يعملون السرير للمرأة ويشدون النعش بقوائم السرير، فأمرتهم بذلك، قال الحارث: وقال المدائني: قال ابو زكرياء العجلاني: ان فاطمه ع عمل لها نعش قبل وفاتها فنظرت اليه فقالت: سترتمونى ستركم الله. وصفيه بنت عبد المطلب بن هاشم وأمها هاله بنت وهيب بن عبد مناف بن زهره ابن كلاب، وهي اخت حمزه بن عبد المطلب لأبيه ولامه، كان تزوجها في الجاهلية الحارث بن حرب بن أُمَيَّة بن عبد شمس، فولدت له صفيا، ثم خلف عليها العوام ابن خويلد بن اسد، فولدت له الزبير والسائب وعبد الكعبه، واسلمت صفيه. وبايعت رسول الله، وهاجرت الى المدينة، وتوفيت في خلافه عمر بن الخطاب، وقبرت بالبقيع بفناء دار المغيره بن شعبه. وقال على بن محمد: قتلت صفيه ابنه عبد المطلب رجلا مبارزه

ذكر تاريخ وفاه ازواج رسول الله ص اللاتي توفين بعده

ذكر تاريخ وفاه ازواج رسول الله ص اللاتي توفين بعده منهن سوده ابنه زمعه بن قَيْسِ بْنِ عُبْدُودِ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عامر ابن لؤي، وأمها الشموس ابنه قيس بن عمرو بْنِ زَيْدِ بْنِ لَبِيدِ بْنِ خِدَاشِ بْنِ عامر ابن غنم بن عدى بن النجار من الانصار، تزوجها السكران بن عمرو، وخرجا جميعا مهاجرين الى ارض الحبشه في الهجره الثانيه. قال ابن عمر: حدثنى مخرمه بن بكير، عن ابيه، قال: قدم السكران ابن عمرو مكة من ارض الحبشه، ومعه امراته سوده بنت زمعه، فتوفى عنها بمكة. فلما حلت ارسل إليها رسول الله ص فخطبها، فقالت: امرى إليك يا رسول الله، قال رسول الله ص: مرى رجلا من قومك يزوجك، فأمرت حَاطِبِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ ود فزوجها، فكانت أول امراه تزوجها رسول الله ص بعد خديجه. قال ابن عمر: وحدثنا محمد بن عبد الله بن مسلم، قال: سمعت ابى يقول: تزوج رسول الله ص سوده في رمضان سنه عشر من النبوه، بعد وفاه خديجه، وقبل ان يتزوج عائشة، فدخل بها مكة وهاجر الى المدينة، وتوفيت سوده ابنه زمعه في شوال سنه اربع وخمسين بالمدينة، في خلافه معاويه بن ابى سفيان. قال ابن عمر: وهذا الثبت عندنا قال هشام بن محمد، عن أبيه، عن أبي صالح عن ابن عباس، قال: كانت سوده بنت زمعه عند السكران بن عمرو أخي سهيل بن عمرو، فرات في المنام كان النبي ص اقبل يمشى حتى وطيء على عنقها، فاخبرت زوجها بذلك، فقال: وابيك لئن صدقت رؤياك لأموتن وليتزوجك محمد، فقالت: حجرا وسترا، قال هشام: والحجر تنفى عنها ذاك، ثم رات في المنام ليله اخرى ان قمرا انقض عليها من السماء وهي مضطجعه، فاخبرت زوجها، فقال: وابيك لا البث الا يسيرا حتى اموت، وتزوجيه من بعدي، فاشتكى السكران من يومه ذلك، فلم يلبث الا قليلا حتى مات، وتزوجها رسول الله ص. قال الحارث: حدثنا داود بن المحبر، قال: حدثنا عبد الحميد بن بهرام،

عن شهر، قال: حدثنى ابن عباس ان رسول الله ص خطب امراه من قومه، يقال لها سوده، وكانت مصبية، لها خمسه صبيه او سته من بعل لها مات، فقال لها رسول الله ص: ما يمنعك منى؟ قالت: يا نبى الله، ما يمنعني منك الا ان تكون أحب البريه الى، ولكن اكرمك ان تضغو هؤلاء الصبية عند راسك بكره وعشيه، فقال: هل يمنعك منى من شيء غير ذلك؟ قالت: لا والله، [فقال لها رسول الله ص: ان خير نساء ركبن اعجاز الإبل صالح نساء قريش، احناه على ولد في صغره، وارعاه على بعل في ذات يد] وعائشة بنت ابى بكر، وأمها أم رومان بنت عمير بن عامر من بنى دهمان ابن الحارث بْن غنم بْن مالك بْن كنانة، تزوجها رسول الله ص في شوال سنه عشر من النبوه قبل الهجره بثلاث سنين، وعرس بها في شوال على راس ثمانية اشهر من الهجره، وكانت يوم ابتنى بها ابنه تسع سنين. قال ابن عمر: حدثنا موسى بن محمد بن عبد الرحمن، عن ريطة، عن عمره عن عائشة، انها سئلت: متى بنى بك رسول الله؟ فقالت: لما هاجر رسول الله ص الى المدينة خلفنا وخلف بناته، فلما قدم المدينة بعث إلينا زيد بن حارثة، وبعث معه أبا رافع مولاه، وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم، أخذها رسول الله من ابى بكر، يشتريان بها ما يحتاجان اليه من الظهر، وبعث ابو بكر معهما عبد الله ابن اريقط الديلى ببعيرين او ثلاثة، وكتب الى عبد الله بن ابى بكر يأمره ان يحمل اهله أم رومان، وانا وأختي أسماء امراه الزبير، فخرجوا مصطحبين فلما انتهوا الى قديد، اشترى زيد بن حارثة بتلك الخمسمائة درهم ثلاثة أبعرة، ثم دخلوا مكة جميعا، وصادفوا طلحه بن عبيد الله يريد الهجره بال ابى بكر، فخرجنا جميعا، وخرج زيد ابن حارثة وابو رافع وفاطمه وأم كلثوم وسوده بنت زمعه، وحمل زيد أم ايمن واسامه ابن زيد، وخرج عبد الله بن ابى بكر بام رومان وأختيه، وخرج طلحه بن عبيد الله واصطحبا جميعا حتى إذا كنا بالبيض من تمنى نفر بعيري، وانا في محفه معى فيها أمي، فجعلت أمي تقول: وا بنتاه وا عروساه! حتى ادرك بعيرنا، وقد هبط من لفت،

فسلم ثم انا قدمنا المدينة، فنزلت مع عيال ابى بكر، ونزل الى رسول الله ص ورسول الله يومئذ يبنى المسجد، وأبياتنا حول المسجد، فانزل فيها اهله، ومكثنا أياما في منزل ابى بكر، ثم قال ابو بكر: يا رسول الله ما يمنعك ان تبنى باهلك؟ قال رسول الله: الصداق، فاعطاه ابو بكر الصداق اثنى عشر أوقية ونشا، فبعث رسول الله ص إلينا وبنى بي رسول الله ص في بيتى، هذا الذى انا فيه، وهو الذى توفى فيه رسول الله ص، وجعل رسول الله لنفسه بابا في المسجد، وجاه باب عائشة. وقال: وبنى رسول الله ص بسوده في احد تلك البيوت التي الى جنبي، فكان رسول الله ص يكون عندها، وتوفيت سنه ثمان وخمسين في شهر رمضان. ذكر من قال ذلك: ذكر ابن عمر، عن عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عَبْدِ الله بْن ابى بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم، قال: صلى ابو هريرة على عائشة في رمضان سنه ثمان وخمسين وتوفيت بعد الايتار. وقال محمد بن عمر: توفيت عائشة ليله الثلاثاء لسبع عشره مضت من رمضان سنه ثمان وخمسين، ودفنت من ليلتها بعد الوتر، وهي يومئذ ابنة ست وستين سنه. قال ابن عمر: وحدثنا ابن ابى سبره، عن موسى بن ميسره، عن سالم سبلان. قال: ماتت عائشة ليله سبع عشره من شهر رمضان، بعد الوتر، فأمرت ان تدفن من ليلتها فاجتمع الانصار وحضروا، فلم تر ليله اكثر ناسا منها، نزل اهل العوالي، فدفنت بالبقيع. قال ابن عمر: حدثنى ابن جريح، عن نافع، قال: شهدت أبا هريرة صلى على عائشة بالبقيع، وابن عمر في الناس لا ينكره، وكان مروان اعتمر تلك السنه فاستخلف أبا هريرة

وحفصة ابنه عمر بن الخطاب، وأمها زينب ابنه مطعون، اخت عثمان بن مظعون. وذكر ابن عمر أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، حَدَّثَهُ، عن ابيه عن جده، عن عمر قال: ولدت حفصة وقريش تبنى البيت قبل مبعث النبي ص بخمس سنين. قال: وحدثنى أبو بكر بْن عبد الله بْن أبي سبرة، عن حسين بن ابى حسين، قال: تزوج رسول الله ص حفصة في شعبان على راس ثلاثين شهرا، قبل احد، قال ابن عمر: توفيت حفصة في شعبان سنه خمس واربعين في خلافه معاويه، وهي يومئذ ابنه ستين سنه. قال ابن عمر: حدثنا معمر، عن الزهري، عن سالم عن ابيه، قال توفيت حفصة، فصلى عليها مروان بن الحكم، وهو يومئذ عامل المدينة. قال: وحدثنى على بن مسلم عن المقبري عن ابيه، قال: رايت مروان حمل بين عمودى سريرها من عند دار آل حزم الى دار المغيره بن شعبه، وحملها ابو هريرة من دار المغيره الى قبرها. قَالَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ عَنْ ابيه قال: نزل في قبر حفصة عبد الله وعاصم ابنا عمر وسالم وعبد الله وحمزه بنو عبد الله بن عمر. وأم سلمه، واسمها هند بنت ابى اميه، واسمه سهيل زاد الركب بن المغيره بن عبد الله ابن عمر بن مخزوم، وأمها عاتكه بنت عامر بن ربيعه بن مالك بن جذيمة بن علقمه جذل الطعان ابن فراس بن غنم بن مالك بن كنانه تزوجها ابو سلمه، واسمه عبد الله ابن عبد الأسد بن هلال، وهاجر بها الى ارض الحبشه في الهجرتين جميعا، فولدت له هناك زينب بنت ابى سلمه، وولدت له بعد ذلك سلمه، وعمر ودره بنى ابى سلمه. قال ابن عمر: حدثنا عمر بن عثمان عن عبد الملك بن عبيد عن سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع عن عمر بن ابى سلمه، قال خرج ابى الى احد، فرماه ابو اسامه الجشمى في عضده بسهم، فمكث شهرا يداوى جرحه، ثم برا الجرح، وبعث رسول الله ص ابى الى قطن في المحرم على راس خمسه وثلاثين شهرا، فغاب تسعا وعشرين ليله، ثم رجع فدخل المدينة لثمان خلون من صفر سنه اربع، والجرح

منتقض، فمات منها لثمان خلون من جمادى الآخرة سنه اربع من الهجره، فاعتدت أمي وحلت لعشر ليال بقين من شوال سنه اربع، وتزوجها رسول الله ص في ليال بقين من شوال سنه اربع، وتوفيت في ذي القعده سنه تسع وخمسين. قال ابن عمر: حدثنا كثير بن زيد عن المطلب بْن عبد اللَّه بْن حنطب، قال: دخلت ايم العرب على سيد المسلمين أول العشاء عروسا، وقامت من آخر الليل، تطحن- يعنى أم سلمه. قال ابن عمر: وحدثنا معمر عن الزهري عن هند ابنه الحارث الفراسية، قالت: قال رسول الله ص: ان لعائشة منى شعبه ما نزلها احد، فلما تزوج أم سلمه سئل رسول الله، فقيل: يا رسول الله ما فعلت الشعبه، فسكت رسول الله ص، فعلم ان أم سلمه قد نزلت عنده. وقال ابن عمر: ماتت أم سلمه رحمها الله في شوال سنه تسع وخمسين. قال ابن عمر: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ قال: صلى ابو هريرة على أم سلمه بالبقيع، وكان الوالي الوليد بن عتبة بن ابى سفيان، وكان ركب في حاجه الى الغابة، وامر أبا هريرة ان يصلى بالناس، فصلى عليها قال: انما ركب لأنها اوصت الا يصلى عليها الوالي، فكره ان يحضر ولا يصلى، فركب عمدا وامر أبا هريرة. حدثنى الحارث، قال: حدثنا ابن سعد في موضع آخر، قال: قال الواقدى: ماتت أم سلمه حين دخلت سنه تسع وخمسين في خلافه معاويه، وصلى عليها ابن أخيها عبد الله بن عبد الله بن أبي اميه. قال الحارث: وحدثنى محمد بن سهيل عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، قال: تزوج رسول الله ص بالمدينة قبل وقعه بدر في سنه ثنتين من التاريخ أم سلمه، واسمها هند ابنه أبي أمية بْن المغيرة بْن عبد الله بْن عمر بن مخزوم. وقال ابو معشر: زينب أول من مات من ازواج النبي ص، وأم سلمه آخر من مات منهن. وأم حبيبه واسمها رمله بنت ابى سفيان بن حرب، وأمها صفيه بنت ابى العاص

ابن اميه بن عبد شمس عمه عثمان بن عفان، تزوجها عبيد الله بن جحش بن رئاب حليف حرب بن اميه، فولدت له حبيبه، فكنيت بها، فتزوج حبيبه داود بن عروه ابن مسعود الثقفى، وكان عبيد الله بن جحش هاجر بام حبيبه معه الى ارض الحبشه في الهجره الثانيه، فتنصر وارتد عن الاسلام، وتوفى بأرض الحبشه، وثبتت أم حبيبه على دينها الاسلام وهجرتها، وكانت قد خرجت بابنتها حبيبه بنت عبيد الله معها في الهجره الى ارض الحبشه، ورجعت بها معها الى مكة وقال ابن عمر: حدثنا عبد الله بن جعفر عن عثمان بن محمد الاخنسى ان أم حبيبه بنت ابى سفيان ولدت حبيبه ابنتها من عبيد الله بن جحش بمكة قبل ان تهاجر الى ارض الحبشه، قال ابن عمر: فأخبرني أبو بكر بن إسماعيل بن محمد بن سعد عن ابيه: قال: خرجت من مكة وهي حامل بها، فولدتها بأرض الحبشه. قال ابن عمر: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ زُهَيْرٍ عن اسماعيل بن عمرو بن سعيد ابن العاص، قال: قالت أم حبيبه: رايت في النوم كان عبيد الله بن جحش زوجي باسوا صوره وأشوهها، ففزعت، فقلت: تغيرت والله حاله، فإذا هو يقول حين اصبح، يا أم حبيبه، انى نظرت في الدين فلم أر دينا خيرا من النصرانية، وكنت قد دنت بها، ثم فقلت في دين محمد ثم رجعت الى النصرانية، فقلت: والله ما خير لك، واخبرته بالرؤيا التي رايت له، فلم يحفل بها وأكب على الخمر حتى مات، فأرى في النوم كان أتاني آت يقول يا أم المؤمنين، ففزعت وأولتها ان رسول الله يتزوجني، قالت: فما هو الا ان انقضت عدتى، فما شعرت الا برسول النجاشى على بابى، يستأذن فإذا جاريه له يقال لها أبرهة، كانت تقوم على ثيابه ودهنه، فدخلت على فقالت: ان الملك يقول لك: ان رسول الله ص كتب الى ان أزوجكه، فقلت: بشرك الله بخير، وقالت: يقول لك الملك وكلى من يزوجك، فأرسلت الى خالد ابن سعيد بن العاص فوكلته واعطت أبرهة سوارين من فضه وخدمتين كانتا في رجليها، وخواتيم فضه كانت في أصابع رجليها سرورا بما بشرتها به فلما كان العشى امر النجاشى جعفر بن ابى طالب ومن هناك من المسلمين، فحضروا فخطب النجاشى فقال: الحمد لله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ

وان محمدا عبده ورسوله، وانه الذى بشر به عيسى بن مريم ع. اما بعد، فان رسول الله ص كتب الى ان ازوجه أم حبيبه بنت ابى سفيان فاجبت الى ما دعا اليه رسول الله ص وقد أصدقتها أربعمائة دينار ثم سكب الدنانير بين يدي القوم، فتكلم خالد بن سعيد، فقال: الحمد لله احمده واستعينه واستنصره، وأشهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عبده ورسوله، أرسله بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ*. اما بعد، فقد اجبت الى ما دعا اليه رسول الله ص، وزوجته أم حبيبه ابنه ابى سفيان، فبارك الله لرسوله، ودفع الدنانير الى خالد بن سعيد فقبضها، ثم أرادوا ان يقوموا، فقال: اجلسوا، فان سنه الأنبياء إذا تزوجوا ان يؤكل طعام على التزويج، فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا. قالت أم حبيبه: فلما وصل الى المال أرسلت الى أبرهة التي بشرتني، فقلت لها: انى كنت اعطيتك ما اعطيتك يومئذ ولا مال بيدي، فهذه خمسون مثقالا فخذيها، واستغنى بها، فأخرجت الى حقا فيه كل ما أعطيتها، فردته الى، وقالت: عزم على الملك الا أرزأك شيئا، وانا التي اقوم على ثيابه ودهنه، وقد اتبعت دين رسول الله ص، واسلمت لله، وَقَدْ أَمَرَ الْمَلِكُ نِسَاءَهُ أَنْ يَبْعَثْنَ إِلَيْكِ بكل ما عندهن من العطر، فلما كان الغد جاءتني بعود وورس وعنبر وزباد كثير، فقدمت بذلك كله على رسول الله ص، وكان يراه على وعندي فلا ينكر ثم قالت أبرهة: فحاجتي إليك ان تقرئى رسول الله منى السلام، وتعليمه انى قد اتبعت دينه، قالت: ثم لطفت بي، وكانت التي جهزتني، وكانت كلما دخلت على تقول: لا تنسى حاجتي إليك، قالت: فلما قدمنا على رسول الله ص اخبرته، كيف كانت الخطبه، وما فعلت بي أبرهة، فتبسم رسول الله ص واقراته منها، فقال: وعليها السلام ورحمه الله. قال ابن عمر، وحدثنا إسحاق بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن ابيه، قال: بعث رسول الله ص عمرو بن اميه الضمرى الى النجاشى يخطب عليه أم حبيبه بنت ابى سفيان، وكانت تحت عبيد الله بن جحش، فزوجها اياه وأصدقها النجاشى من عنده عن رسول الله ص أربعمائة دينار

قال ابن عمر: فحدثني مُحَمَّدُ بْنُ صالح، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، قَالَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ قالا: كان الذى زوجها وخطب اليه النجاشى خالد بن سعيد بن العاص وذلك سنه سبع من الهجره، وكان لها يوم قدم بها المدينة بضع وثلاثون سنه، وتوفيت سنه اربع واربعين في خلافه معاويه. وزينب بنت جحش بن رئاب اخت عبد الرحمن بن جحش، وأمها اميمه بنت عبد المطلب بن هاشم. قال ابن عمر: حدثنى عمر بن عثمان الجحشى، عن ابيه، قال: قدم النبي ص المدينة، وكانت زينب ابنه جحش ممن هاجر مع رسول الله ص، وكانت امراه جميله، فخطبها رسول الله ص على زيد ابن حارثة، فقالت: يا رسول الله لا ارضاه لنفسي، وانا ايم قريش، قال: فانى قد رضيت لك، فتزوجها زيد بن حارثة. قال ابن عمر: وحدثنى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ الأَسْلَمِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بن يحيى ابن حبان: قال: جاء رسول الله ص بيت زيد بن حارثة يطلبه، وَكَانَ زَيْدٌ إِنَّمَا يُقَالُ لَهُ: زَيْدُ بْنُ محمد، فربما فقده رسول الله السَّاعَةَ، فَيَقُولُ: أَيْنَ زَيْدٌ؟ فَجَاءَ مَنْزِلَهُ يَطْلُبُهُ فلم يجده، وتقوم اليه زينب، فتقول: هاهنا يا رسول الله فولى يهمهم بشيء لا يكاد يفهم منه الا سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ، سُبْحَانَ اللَّهِ مُصَرِّفِ الْقُلُوبِ، فَجَاءَ زَيْدٌ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَأَخْبَرَتْهُ امْرَأَتُهُ أَنَّ رسول الله ص أَتَى مَنْزِلَهُ، فَقَالَ زَيْدٌ: أَلا قُلْتِ لَهُ: يدخل! قالت: قد عرضت ذلك عليه وابى، قال: فسمعتيه يقول شيئا؟ قالت: سمعته حين ولى يكلم بكلام لا افهمه وسمعته يقول: سبحان الله العظيم، سبحان مصرف القلوب! قال: فخرج زيد حتى اتى رسول الله ص، فقال: يا رسول الله، انه بَلَغَنِي أَنَّكَ جِئْتَ مَنْزِلِي، فَهَلا دَخَلْتَ بِأَبِي أنت وأمي يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَعَلَّ زَيْنَبَ أَعْجَبَتْكَ فَأُفَارِقُهَا، فيقول رسول الله: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، فَمَا اسْتَطَاعَ زَيْدٌ إِلَيْهَا سبيلا بعد ذلك، وياتى رسول الله ص فيخبره، فيقول: امسك عليك زوجك، فيقول: يا رسول الله أفارقها، فيقول رسول الله: احبس عليك زوجك، ففارقها زيد واعتزلها وحلت قال: فبينا رسول الله ص يتحدث مع عائشة الى ان أخذت رسول الله ص غميه فسرى عنه وهو يبتسم وهو

يقول: من يذهب الى زينب يبشرها ان الله عز وجل زوجنيها من السماء، وتلا رسول الله ص: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ القصة كلها. قالت عائشة: وأخذني مَا قَرُبَ وَمَا بَعُدَ لِمَا يَبْلُغُنَا مِنْ جَمَالِهَا، وَأُخْرَى هِيَ أَعْظَمُ الأُمُورِ وَأَشْرَفُهَا مَا صنع لها، زوجها الله عز وجل من السماء وقلت: هي تَفْخَرُ عَلَيْنَا بِهَذَا. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَخَرَجَتْ سَلْمَى خادم رسول الله ص تشتد، فتحدثها بذلك، وأعطتها اوضاحا عليها. قال: وحدثنى عمر بن عثمان بن عبد الله الجحشى، عن ابيه قال: تزوج رسول الله ص زينب بنت جحش لهلال ذي القعده سنه خمس من الهجره. قال: وحدثنى عمر بن عثمان الجحشى عن ابيه، قال: ما تركت زينب ابنه جحش دينارا ولا درهما، كانت تصدق بكل ما قدرت عليه، وكانت تأوي المساكين، وتركت منزلها، فباعوه من الوليد بن عبد الملك حين هدم المسجد بخمسين الف درهم. قال: حدثنا عمر بن عثمان الجحشى عن ابراهيم بن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سئلت أم عكاشة بن محصن: كم بلغت زينب ابنه جحش يوم توفيت؟ فقالت: قدمنا المدينة للهجره، وهي بنت بضع وثلاثين، وتوفيت سنه عشرين. قال عمر بن عثمان: كان ابى يقول: توفيت زينب بنت جحش، وهي ابنه ثلاث وخمسين. قال الحارث: حضرت مجلس على بن عاصم، وهو يحدث الناس، فحدث عن داود بن ابى هند، عن عامر قال: كانت زينب تقول للنبي ص: انا اعظم نسائك عليك حقا، انا خيرهن منكحا، واكرمهن سترا، واقربهن رحما. ثم تقول: زوجنيك الرحمن من فوق عرشه، وكان جبريل ع هو السفير بذاك، وانا بنت عمتك، وليس لك من نسائك قريبه غيرى. وجويرية بنت الحارث بْن أبي ضرار بْن حبيب بن عائذ بن مالك بن جذيمة المصطلق، من خزاعة تزوجها مسافع بْن صفوان ذي الشفر بْن أبي سرح بن مالك ابن جذيمة فقتل يوم المريسيع. قال ابن عمر: حدثنا يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ ابيه عن محمد

ابن عبد الرحمن بن ثوبان، عن عائشة، قالت: أصاب رسول الله ص نساء من بنى المصطلق، فاخرج الخمس منه، ثم قسمه بين الناس، واعطى الفارس سهمين، والراجل سهما، فوقعت جويرية بنت الحارث بن ابى ضرار في سهم ثابت ابن قيس بن شماس الأنصاري، وكانت تحت ابن عم لها يقال له صفوان بن مالك ابن جذيمة ذي الشفر، فقتل عنها، وكاتبها ثابت بن قيس على نفسها على تسع اواق، وكانت امراه حلوه، لا يكاد يراها احد الا أخذت بنفسه، فبينا النبي ص عندي، إذ دخلت جويرية تسأله في كتابتها، فو الله ما هو الا ان رايتها، فكرهت دخولها على النبي ص، وعرفت ان سيرى فيها مثل الذى رايت، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الحارث سيد قومه، وقد أصابني من الأمر ما قد علمت، فوقعت في سهم ثابت بن قيس، فكاتبني على تسع اواق، فاعنى على فكاكي، فقال: او خير من ذلك؟ قالت: وما هو؟ قال: أؤدي عنك كِتَابَتَكِ وَأَتَزَّوَجُكِ، قَالَتْ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فقد فعلت وخرج الخبر الى الناس، فقالوا: اصهار رسول الله يسترقون، فاعتقوا ما كان في ايديهم من سبى بنى المصطلق، فبلغ عتقهم مائه اهل بيت بتزويجه إياها، فلا أَعْلَمُ امْرَأَةً كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا منها، وذلك منصرفه من غزوه المريسيع. قال ابن عمر: وحدثنى عبد الله بن ابى الأبيض مولى جويرية عن ابيه، قال: سبى رسول الله ص بنى المصطلق، فوقعت جويرية في السبى، فجاء أبوها فافتداها وانكحها رسول الله ص بعد. قال: وحدثنا إسحاق بن يحيى بن طلحه، عن الزهري، عن مالك بن أوس، عن عمر ان رسول الله ص ضرب على جويرية الحجاب، وكان يقسم لها كما يقسم لنسائه قال: وحدثنى عبد الله بن عبد الرحمن عن زيد بن ابى عتاب، عن محمد بن عمرو، عن عطاء،، عن زينب بنت ابى سلمه، عن جويرية ابنه الحارث، ان اسمها كانت بره، فغيره رسول الله ص، وسماها جويرية، وكان يكره ان يقال: خرج من عند بره. قال: وحدثنى عبد الله بن ابى الأبيض عن ابيه، قال: توفيت جويرية بنت

الحارث زوج النبي ص في شهر ربيع الاول سنه ست وخمسين في خلافه معاويه بن ابى سفيان، وصلى عليها مروان بن الحكم وهو يومئذ والى المدينة. قال: وأخبرني محمد بن يزيد، عن جدته- وكانت مولاه جويرية بنت الحارث عن جويرية: قالت: تزوجني رسول الله ص وانا ابنه عشرين سنه، قالت: وتوفيت جويرية سنه خمسين، وهي يومئذ ابنه خمس وستين سنه، وصلى عليها مروان بن الحكم. قال ابن عمر: وحدثنى حزام بن هشام عن ابيه، قال: قالت جويرية: رايت قبل قدوم النبي ص بثلاث ليال، كان القمر اقبل يسير من يثرب، حتى وقع في حجري فكرهت ان اخبر بها أحدا من الناس حتى قدم رسول الله ص، فلما سبينا رجوت الرؤيا، فلما اعتقنى وتزوجني، والله ما كلمته في قدومى، حتى كان المسلمون هم الذين أرسلوهم، وما شعرت الا بجاريه من بنات عمى تخبرني الخبر، فحمدت الله عز وجل. وصفيه بنت حيي بْن أخطب بْن سعية بْن عامر بن عبيد بن كعب بن ابى الخزرج ابن ابى حبيب بن النضير بن النحام بن تنحوم، من بنى إسرائيل، من سبط هارون بن عمران، وأمها بره بنت سموءل اخت رفاعة بن سموءل، من بنى قريظة أخو النضير وكانت صفيه تزوجها سلام بن مشكم القرظى، ثم فارقها، فتزوجها كنانه بن الربيع ابن ابى الحقيق النضري، فقتل عنها يوم خيبر. قال ابن عمر: حَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ رباح عن ابى هريرة، قال: لما دخل رسول الله ص بصفيه بات ابو أيوب على باب النبي ص، فلما اصبح فراى رسول الله ص كبر، ومع ابى أيوب السيف، فقال: يا رسول الله كانت جاريه حديثه عهد بعرس، وكنت قتلت أباها وأخاها وزوجها، فلم آمنها عليك فضحك رسول الله ص، وقال له خيرا. قال: وحدثنى محمد بن موسى، عن عماره بن المهاجر، عن آمنه ابنه ابى قيس الغفارية، قالت: انا احدى النساء اللاتي زففن صفيه إلى رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ، فسمعتها تقول: ما بلغت سبع عشره او جهدي ان بلغت سبع عشره سنه- ليله دخلت على رسول الله ص قال: وتوفيت صفيه سنه ثنتين

وخمسين في خلافه معاويه وقبرت بالبقيع. وميمونه بنت الحارث بن حزن الهلالي، وأمها هند بنت عوف بن زهير بن الحارث ابن حماطه بن جرش، كانت تزوجت مسعود بن عمرو بن عمير الثقفى في الجاهلية، ثم فارقها فخلف عليها ابو رَهْمِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ أَبِي قَيْسِ من بني مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، فتوفى عنها فتزوجها رسول الله ص، زوجها اياه العباس ابن عبد المطلب، وكان يلى امرها، وهي اخت أم ولده الفضل ابنه الحارث الهلالية لأبيها، وأمها، وتزوجها رسول الله ص وسلم بسرف على عشره اميال من مكة، وكانت آخر امراه تزوجها رسول الله ص، وذلك سنه سبع في عمره القضية قال ابن عمر: حدثنا ابن جريج عن ابى الزبير، عن عكرمه، ان ميمونه ابنه الحارث وهبت نفسها لرسول الله ص. قال: وحدثنى موسى بن محمد بن عبد الرحمن، عن ابيه عن عمره، قال: قيل لها: ان ميمونه وهبت نفسها لرسول الله ص، فقالت: تزوجها رسول الله ص على مهر خمسمائة درهم، وولى انكاح رسول الله إِيَّاهَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. قَالَ ابْنُ عمر: وتوفيت ميمونه سنه احدى وستين في خلافه يزيد بن معاويه، وهي آخر من مات من ازواج النبي ص، وكان لها يوم توفيت ثمانون او احدى وثمانون سنه، وكانت جلده. والكلابية، واختلف في اسمها، فقال بعضهم: هي فاطمه ابنه الضحاك بن سفيان الكلابى، وقال بعضهم: هي عمره بنت يزيد بن عبيده بن رواس بن كلاب ابن ربيعه بن عامر، وقال بعضهم: هي عاليه بنت ظبيان بن عمرو بن عوف بن كعب بن عبد بن ابى بكر بن كلاب وقال بعضهم: هي سنا ابنه سفيان بن عوف بن كعب بن عبد بن ابى بكر بن كلاب وقال بعضهم: لم يكن الا كلابيه واحده، غير انه اختلف في اسمها وقال بعضهم: بل كن جميعا، ولكن لكل واحده منهن قصه غير قصه صاحبتها

قال ابن عمر: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عروه، عن عائشة قالت: تزوج رسول الله ص الكلابية، فلما دخلت عليه فدنا منها، قالت انى اعوذ بالله منك، فقال رسول الله: لقد عذت بعظيم، الحق باهلك قال: وحدثنا عبد الله بن جعفر، عن عبد الواحد بن ابى عون، عن ابن مناح قال: استعاذت من رسول الله ص، وكانت قد ذهلت وذهب عقلها. وتقول إذا استأذنت على ازواج رسول الله: انا الشقيه، وتقول: انما خدعت قال: وحدثنا محمد بن عبد الله عن الزهري، قال: هي فاطمه بنت الضحاك بن سفيان، استعاذت منه، فطلقها، وكانت تلقط البعر، وتقول: انا الشقيه وتزوجها رسول الله ص في ذي القعده سنه ثمان من الهجره وتوفيت سنه ستين. قال: وحدثنا عبد الله بن سليمان عن عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قال: كان رسول الله ص قد دخل بها ولكنه لما خير نساءه اختارت قومها، ففارقها، فكانت تلقط البعر، وتقول: انا الشقيه. قال: وحدثنا عبد الله بن جعفر، عن موسى بن سعيد وابن ابى عون، قالا: انما طلقها رسول الله ص لبياض كان بها. قال: وحدثنا عبد الله بن جعفر وابن ابى سبره وعبد العزيز بن محمد عن ابن الهاد عن ثعلبه بن ابى مالك، عن حسين بن على ع، قال: تزوج رسول الله ص امراه من بنى عامر، فكان إذا خرج تطلعت الى اهل المسجد، فاخبر بذلك رسول الله ص ازواجه فقال: انكن تبغين عليها، فقلن: نحن نريكها، وهي تطلع، فقال رسول الله ص: نعم فارينه إياها وهي تطلع، ففارقها رسول الله ص. قال ابن عمر: فحدثت بهذا الحديث عبيد الله بن سعيد بن ابى هند فأخبرني عن ابيه قال: انما استعاذت منه، فاعاذها ولم يتزوج رسول الله ص من بنى عامر غيرها، ولم يتزوج من كنده غير الجونيه. قال ابن عمر: وحدثنا ابراهيم بن وثيمه عن ابى وجزة قال: تزوجها رسول الله ص في ذي القعده سنه ثمان منصرفه من الجعرانة

قال: وحدثنى ابو مصعب اسماعيل بن مصعب عن شيخ من رهطها انها توفيت سنه ستين. وأما هِشَام بن مُحَمَّد، فإنه ذكر أن العرزمي حدثه عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ في نساء رسول الله ص سنا بنت سفيان بن عوف بن كعب بن ابى بكر بن كلاب قال: قال ابن عمر: ان رسول الله ص بعث أبا سيد الساعدي يخطب عليه امراه من بنى عامر، يقال لها: عمره ابنه يزيد بن عبيد ابن رواس بن كلاب، فتزوجها، فبلغه ان بها بياضا فطلقها. قال هشام: وحدثنى رجل من بنى ابى بكر بن كلاب ان رسول الله ص تزوج العاليه بنت ظبيان بن عمرو بن عوف بن كعب بن عبد بن ابى بكر ابن كلاب، فمكثت عنده دهرا ثم طلقها. وأسماء ابنه النعمان بن ابى الجون الأسود بن الحارث بن شراحيل بن الجون بن آكل المرار الكندى. قال ابن عمر: حدثنا محمد بن يعقوب بن عتبة، عن عبد الواحد بن ابى عون الدوسي قال: قدم النعمان بن ابى الجون الكندى، وكان ينزل وبنو ابيه نجدا مما يلى الشربه فقدم على رسول الله ص مسلما، فقال: يا رسول الله، الا ازوجك اجمل ايم في العرب كانت تحت ابن عم لها، فتوفى عنها فتاهت، وقد رغبت فيك، وحطت إليك؟ فتزوجها رسول الله ص على اثنتى عشره أوقية ونش فقال: يا رسول الله لا تقصر بها في المهر، فقال رسول الله ص: ما اصدقت أحدا من نسائي فوق هذا، ولا اصدق أحدا من بناتي فوق هذا، فقال النعمان: ففيك الاسى، قال: فابعث يا رسول الله الى اهلك من يحملهم إليك، فانى خارج مع رسولك، فنرسل اهلك معه، فبعث رسول الله ص معه أبا اسيد الساعدي، فلما قدما عليها جلست في بيتها فأذنت له ان يدخل، فقال ابو اسيد: ان نساء رسول الله ص لا يراهن الرجال. قال ابو اسيد: وذلك بعد ان نزل الحجاب، فأرسلت اليه فيسرني لأمري، قال: حجاب بينك وبين من تكلمين من الرجال الا ذا محرم منك ففعلت، فقال

ابو اسيد: فاقمت ثلاثة ايام، ثم تحملت معى على جمل ظعينة في محفه، واقبلت بها حتى قدمت المدينة، فأنزلتها في بنى ساعده، فدخل عليها نساء الحى فرحين بها، وسهلن وخرجن من عندها فذكرن جمالها، فشاع بالمدينة قدومها. قال ابو اسيد الساعدي: ووجهت الى النبي ص، وهو في بنى عمرو بن عوف فاخبرته، ودخل عليها داخل من النساء، قد بين لها لما بلغهن من جمالها، وكانت من اجمل النساء، فقالت: انك من الملوك، فان كنت تريدين ان تحظى عند رسول الله ص فاستعيذى عنه، فإنك تحظين عنده، ويرغب فيك. قَالَ: وحدثني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ ابن ابى عون، قال: تزوج رسول الله ص الكندية في شهر ربيع الاول سنه سبع من الهجره. قال: وحدثنى عبد الرحمن بن أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ الوليد بن عبد الملك كتب اليه يسأله: هل تزوج رسول الله ص اخت الاشعث بن قيس؟ فسأله فقال: ما تزوجها رسول الله ص قط، ولا تزوج كنديه الا اخت بنى الجون، فملكها، فلما اتى بها وقدمت المدينة نظر إليها وطلقها ولم يبن بها. قال: وحدثنى معمر عن الزهري قال: لم يتزوج النبي ص كنديه الا اخت بنى الجون ولم يبن بها وفارقها. وذكر هشام بن محمد ان ابن الغسيل حدثه عن حمزه بن ابى اسيد الساعدي عن ابيه- وكان بدريا- قال: تزوج رسول الله ص أسماء ابنه النعمان الجونيه، وأرسلني، فجئت بها، فقالت حفصة لعائشة او عائشة لحفصة: اخضبيها أنت وانا امشطها، ففعلتا ثم قالت لها إحداهما: ان النبي يعجبه من المرأة إذا ادخلت عليه ان تقول: اعوذ بالله منك، فلما دخلت عليه واغلق الباب، وارخى الستر مد يده إليها، فقالت: اعوذ بالله منك فقال بكمه على وجهه فاستتر به، وقال: عذت معاذا ثلاث مرات قال ابو اسيد: ثم خرج على وقال: يا أبا اسيد ألحقها بأهلها، ومتعها برازقيتين- يعنى كرباسين- فكانت تقول: ادعوني الشقيه. قال هشام: وحدثنى زهير بن معاويه الجعفى انها ماتت كمدا. قال ابن عمر: فحدثني سلمان بن الحارث، عن عباس بن سهل، قال:

ذكر تاريخ من عرف وقت وفاته من النساء المهاجرات والانصار وغيرهن ممن ادرك رسول الله ص وآمن به واتبعه

سمعت أبا اسيد الساعدي يقول: لما طلعت بها على الصرم تصايحوا، وقالوا: انك لغير مباركه، ما دهاك؟ فقالت خدعت، فقيل لي كيت وكيت للذي قيل لها، فقال أهلها: لقد جعلتنا في العرب شهره، فنادت أبا اسيد، فقالت: قد كان ما كان، فالذي اصنع ما هو؟ قال: أقيمي في بيتك فاحتجبى الا من ذي محرم، ولا يطمع فيك طامع بعد رسول الله ص، فإنك من أمهات المؤمنين فاقامت لا يطمع فيها طامع، ولا يراها الا ذو محرم، حتى توفيت في خلافه عثمان ابن عفان عند أهلها بنجد. وذكر هشام بن محمد الكلبى، ان زهير بن معاويه الجعفى حدثه انها ماتت كمدا. قال الحارث: وحدثنى محمد بن سهيل، عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، قال: تزوج رسول الله ص من اليمن أسماء بنت النعمان بن الجون بن شراحيل بن النعمان، من كنده، فلما دخل عليها، فدعاها اليه، فقالت: تعال أنت، وأبت ان تجيء فطلقها. وقال آخرون: بل كانت اجمل النساء، فخاف نساؤه ان تغلبهن عليه، فقلن لها: انا نرى إذا دنا منك ان تقولي: اعوذ بالله منك، فلما دنا منها قالت: اعوذ بالرحمن منك ان كنت تقيا، [فقال: قد عذت بمعاذ، وان عائذ الله عز وجل اهل ان يجار، وقد أعاذك الله منى] فطلقها، وامر الساقط بن عمرو الأنصاري فجهزها، ثم سرحها الى أهلها، فكانت تسمى نفسها الشقيه . ذكر تاريخ من عرف وقت وفاته من النساء المهاجرات والانصار وغيرهن ممن ادرك رسول الله ص وآمن به واتبعه . منهن أم ايمن مولاه رسول الله ص وحاضنته واسمها بركه كان رسول الله ص ورثها خمسه اجمال وقطعه غنم- فيما ذكر- فاعتق رسول الله ص أم ايمن حين تزوج خديجه، فتزوجها عبيد بن زيد

من بنى الحارث بن الخزرج، فولدت له ايمن، وقتل يوم حنين شهيدا، وكان زيد بن حارثة لخديجة، فوهبته لرسول الله ص، فاعتقه رسول الله ص وزوجه أم ايمن بعد النبوه، فولدت له اسامه بن زيد. وذكر محمد بن عمر عن يحيى بن سعيد بن دينار عن شيخ من بنى سعد بن بكر، قال: [كان رسول الله ص يقول لام ايمن: يا أمه، وكان إذا نظر إليها قال: هذه بقية اهل بيتى] . قال ابن عمر: توفيت أم ايمن في أول خلافه عثمان بن عفان. قال ابن عمر: خاصم ابن ابى الفرات مولى اسامه بن زيد الحسن بن اسامه بن زيد، ونازعه فقال له ابن ابى الفرات في كلامه: يا بن بركه- يريد أم ايمن- فقال الحسن: اشهدوا، ورفعه الى أبي بكر بن مُحَمَّد بن عمرو بن حزم، وهو يومئذ قاضى المدينة او وال لعمر بن عبد العزيز، فقص عليه القصة، فقال ابو بكر لابن ابى الفرات: ما اردت الى قولك له: يا بن بركه؟ قال: سميتها باسمها، فقال انما اردت بهذا التصغير بها، وحالها من الاسلام حالها ورسول الله ص يقول لها: يا أمه ويا أم ايمن؟ لا أقالني عز وجل ان اقتلك، فضربه سبعين سوطا. واروى ابنه كريز بن حبيب بن عبد شمس، اسلمت وهاجرت الى المدينة، وماتت في خلافه عثمان. وأسماء بنت ابى بكر، أمها قتيله ابنه عبد العزى بن عبد أسعد بْن جابر بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لؤي، وهي اخت عبد الله بن ابى بكر لأبيه، وأمه اسلمت قديما بمكة، وبايعت رسول الله ص، تزوجها الزبير بن العوام، فولدت له عبد الله وعروه وعاصما والمهاجر وخديجه الكبرى وأم الحسن وعائشة بنى الزبير قال الحارث: حدثنا داود بن المحبر، قال: حدثنا حماد بن سلمه عن هشام بن عروه، عن أسماء ابنه ابى بكر، انها اتخذت خنجرا في زمن سعيد ابن العاص في الفتنة، فوضعته تحت مرفقتها، فقيل لها: ما تصنعين بهذا؟ قالت: ان دخل على لص بعجت بطنه وكانت عمياء، قالوا: ماتت أسماء بعد قتل ابنها عبد الله بن الزبير بليال، وكان قتله يوم الثلاثاء لسبع عشره ليله خلت من جمادى الاول سنه ثلاث وسبعين

ومارية سريه رسول الله ص، وأم ابنه ابراهيم ع، كان المقوقس صاحب الإسكندرية أهداها مع اخت لها يقال لها سيرين مع أشياء اخر الى رسول الله ص. وذكر ابن عمر ان يعقوب بن محمد بن ابى صعصعة حدثه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبي صعصعة، قال: بعث المقوقس صاحب الإسكندرية الى رسول الله ص سنه سبع من الهجره بماريه وأختها سيرين، والف مثقال من ذهب، وعشرين ثوبا لينا وبغلته دلدل، وحماره عفير- ويقال يعفور- ومعهم خصى يقال له مابور، شيخ كبير كان أخا مارية، وبعث به كله مع حاطب بن ابى بلتعه، فعرض حاطب على مارية الاسلام، ورغبها فيه، فاسلمت واسلمت أختها، واقام الخصى على دينه حتى اسلم في المدينة بعد في عهد رسول الله ص، وكان رسول الله ص معجبا بام ابراهيم، وكانت بيضاء جميله، فانزلها رسول الله ص بالعاليه في المال الذى يقال له اليوم مشربه أم ابراهيم، وكان رسول الله ص يختلف إليها هناك، وضرب عليها الحجاب، وكان يطؤها بملك اليمين، فلما حملت وضعت هناك وقبلتها سلمى مولاه رسول الله ص، فجاء ابو رافع زوج سلمى، فبشر رسول الله ص بابراهيم، فوهب له عبدا، وذلك في ذي الحجه من سنه ثمان، وتنافست الانصار في ابراهيم، وأحبوا ان يفرغوا مارية للنبي ص لما يعلمون من هواه فيها. قال ابن عمر: وكانت مارية من حفن من كوره أنصنا. قال: وحدثنا اسامه بن زيد الليثى عن المنذر بن عبيد عن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أمه، وكانت اخت مارية يقال لها سيرين، فوهبها النبي ص لحسان بن ثابت، فولدت عبد الرحمن. قالت: رايت رسول الله ص لما حضر ابراهيم، وانا اصيح وأختي ما ينهانا عن الصياح وغسله الفضل بن العباس، ورسول الله ص والعباس جالسان، ثم رايته على شفير القبر، ومعه العباس الى جنبه، ونزل في حفرته الفضل واسامه بن زيد، [وكسفت الشمس يومئذ، فقال الناس: كسفت لموت ابراهيم فقال رسول الله ص: لا تكسف لموت احد ولا لحياته،] وراى

ذكر أسماء من عاش بعد رسول الله ص من النساء المؤمنات فروت عنه ونقل عنها العلم ثم من بنى هاشم

[رسول الله ص فرجه في القبر، فامر بها تسد، فقيل للنبي ص، فقال: اما انها لا تضر ولا تنفع، ولكنها تقر عين الحى، وان العبد إذا عمل عملا أحب الله عز وجل ان يتقنه] . قال ابن عمر: وحدثنى موسى بن محمد بن عبد الرحمن عن ابيه، قال: كان ابو بكر ينفق على مارية، حتى توفى، ثم صار عمر ينفق عليها حتى توفيت في خلافته. قال ابن عمر: توفيت مارية أم ابراهيم بن رسول الله ص في المحرم سنه ست عشره من الهجره، فرئي عمر يحشر الناس لشهودها وصلى عليها عمر وقبرها بالبقيع. ذكر أسماء من عاش بعد رسول الله ص من النساء المؤمنات فروت عنه ونقل عنها العلم ثم من بنى هاشم . منهن فاطمه عليها السلام بنت رسول الله ص، عاشت بعد رسول الله وروى عنها عنه احاديث، منها ما حدثنا به عمران بن موسى، قال: حدثنا عبد الوارث قال: حدثنا ليث، عن عبد الله بن الحسن، عن أمه فاطمه، [عن جدته فاطمه الكبرى، عن النبي ص انه كان إذا دخل المسجد صلى على النبي ص، وقال: اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك] . حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا المطلب بن زياد، عن ليث عن عبد الله بن الحسن، عن فاطمه الصغرى، عن فاطمه الكبرى، [عن النبي ص على انه قال في دخول المسجد: باسم الله اللهم صل على محمد، وآله واغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج قال: باسم الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك] . وحدثنى يعقوب بن ابراهيم والفضل بن الصباح، قالا: حدثنا اسماعيل بن عليه، قال: أخبرنا ليث عن عبد الله بن حسن بن حسن، عن أمه فاطمه بنت الحسين، عن جدتها فاطمه ابنه رسول الله ص، قالت: [كان رسول الله ص

إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم، ثم قال: اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج صلى على محمد وسلم ثم قال: اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك] . وَحَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسَدُ، قال: حدثنا قيس بن الربيع عن عبد الله بن الحسن، عن فاطمه بنت الحسين، عن فاطمه الكبرى، قالت: [كان النبي ص إذا دخل المسجد، قال: اللهم صل على محمد وسلم، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج من المسجد قال: اللهم صل على محمد وسلم، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك] . ومنهن أم هانئ ابنه ابى طالب بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مناف، واسمها فاخته، وكان هشام بن الكلبى يقول: اسمها هند، وأمها فاطمه بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، ذكر ان رسول الله ص خطبها الى ابى طالب، قبل ان يوحى اليه، وخطبها معه هبيرة بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، فزوجها هبيرة فقال له النبي ص: يا عم زوجت هبيرة، وتركتني، قال: يا بن أخي، انا قد صاهرنا اليهم، والكريم يكافئ الكريم ثم اسلمت، ففرق الاسلام بينها وبين هبيرة، فخطبها رسول الله ص الى نفسها، فقالت: والله ان كنت لأحبك في الجاهلية، فكيف في الاسلام! ولكنى امراه مصبية، واكره ان يؤدوك [فقال رسول الله ص: خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، احناه على ولد في صغره، وارعاه على زوج في ذات يد،] عاشت بعد رسول الله ص، وروت عنه احاديث، منها ما حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عن إسرائيل عن السدى، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ، قَالَتْ: خطبنى رسول الله ص فاعتذرت اليه، فعذرنى، ثم انزل الله عز وجل: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ الى قوله اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ، قالت: فلم أحل له لم اهاجر معه، كنت من الطلقاء. ومنهن ضباعه ابنه الزبير بن عبد المطلب بن هاشم، زوج رسول الله ص

المقداد بن عمرو بن ثعلبه ضباعه بنت الزبير هذه، فولدت له عبد الله وكريمه، وقتل عبد الله يوم الجمل مع عائشة فمر به على ع قتيلا، فقال: بئس ابن الاخت روت عن رسول الله احاديث، حدثنا ابن بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، قال: حدثنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث، عن جدته أم الحكم، عن أختها ضباعه بنت الزبير، انها رفعت الى رسول الله ص لحما فنهس منه، ثم صلى ولم يتوضأ. وأم الحكم ابنه الزبير بن عبد المطلب بن هاشم تزوجها ربيعه بن الحارث بن عبد المطلب، فولدت له محمدا وعباسا وعبد شمس وعبد المطلب واميه، واروى الكبرى، روت أم الحكم عن رسول الله. حدثنا ابن بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابى عن قتادة، عن إسحاق بن عبد الله بن نوفل، عن أم الحكم ابنه الزبير، انها ناولت النبي ص كتفا من لحم، فأكل منها ثم صلى. وأم حكيم بنت عبد المطلب، وهي التي يقال لها البيضاء لم تدرك الاسلام، وهي أم عامر بن كريز، وهي جده عثمان بن عفان من قبل أمه، كان كريز بن ربيعه تزوج أم حكيم البيضاء، فولدت له عامرا، واروى، وطلحه، وأم طلحه، فتزوج اروى بنت كريز عفان بن أبي العاص بن أُمَيَّة بن عبد شمس بن عبد مناف، فولدت له عثمان بن عفان، ثم خلف عليها عقبه بن ابى معيط، فولدت له الوليد وخالدا وأم كلثوم بنى عقبه بن ابى معيط. وصفيه بنت عبد المطلب بن هاشم، وأمها هاله بنت وهيب بن عبد مناف بن زهره بن كلاب، وهي اخت حمزه بن عبد المطلب لامه كان تزوجها في الجاهلية الحارث بن حرب بن أُمَيَّة بن عبد شمس، فولدت له صفيا، ثم خلف عليها العوام ابن خويلد بن اسد، فولدت له الزبير والسائب، وعبد الكعبه، واسلمت وبايعت رسول الله ص وهاجرت الى المدينة، وعاشت بعده الى خلافه عمر بن الخطاب

ومن مواليهم

وامامه ابنه حمزه بن عبد المطلب بن هاشم، وأمها سلمى ابنه عميس بن معد بن تيم بن مالك بن قحافة بن خثعم اخت أسماء ابنه عميس، هكذا سماها هشام بن محمد وقال غيره: هي عماره ابنه حمزه. وقال هشام: عماره رجل وهو ابن حمزه، وبه كان يكنى، عاشت بعد النبي ص وروت عنه . ومن مواليهم أم ايمن مولاه رسول الله ص. حدثنى الحسين بن على الصدائى، قال: حدثنا شبابه، قال: حدثنى ابو مالك النخعى، عن عبد الملك بن حسين، عن الأسود بن قيس، عن فليح العنزي عن أم ايمن، قالت: [قام النبي ص من الليل الى فخاره في جانب البيت، فبال فيها، فقمت من الليل انا عطشى فشربت ما في الفخاره، وانا لا اشعر، فلما اصبح النبي ص قال: يا أم ايمن، قومى الى تلك الفخاره فاهريقى ما فيها، قلت: قد والله شربت ما فيها، قالت فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه، ثم قال اما انك: لا تيجعين بطنك بعده ابدا] وسلمى مولاه رسول الله عاشت بعد رسول الله ص وروت عنه احاديث. حدثنى على بن شعيب السمسار، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا فَائِدٌ مَوْلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ ابى رافع، عن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عن جدته سلمى ان النبي ص كان إذا كانت به القرحه او الشيء، جعل عليه الحناء. وميمونه بنت سعد مولاه رسول الله ص، روت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عن إسرائيل، عن زيد بن جبير،

ومن غرائب نساء العرب اللواتي عشن بعد رسول الله ص، فروين عنه وكن قد بايعنه، واسلمن في حياته

عن ابى يزيد الضبي، عن ميمونه بنت سعد، قالت: [سئل رسول الله ص عن ولد الزنا، فقال: نعلان اجاهد بهما أحب الى من ان اعتق ولد زنا] . واميمه مولاه رسول الله ص روت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بكير، عن يزيد بن سنان ابى فروه الرهاوى، قال: حدثنا ابو يحيى الكلاعى، عن جبير بن نفير، قال: [دخلت على اميمه مولاه رسول الله ص فقلت: حدثيني شيئا، سمعتيه من رسول الله ص، قالت: كنت يوما افرغ على يديه، وهو يتوضأ إذ دخل عليه رجل، فقال: يا رسول الله انى اريد الرجوع الى اهلى فأوصني بوصيه احفظها عنك قال: لا تشركن بالله شيئا، وان قطعت وحرقت بالنار، ولا تعصين والديك، وان امراك ان تخلى من اهلك ودنياك فتخل، ولا تتركن صلاه متعمدا، فمن تركها متعمدا برئت منه ذمه الله عز وجل وذمه رسوله، ولا تشربن الخمر فإنها راس كل خطيئة، ولا تزدادن في تخوم الارض، فإنك تأتي يوم القيامه على عنقك مقدار سبع ارضين، ولا تفرن يوم الزحف، فانه من فر يوم الزحف فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، وانفق على اهلك من طولك، ولا ترفع عصاك عنهم، واخفهم في الله عز وجل] . ومن غرائب نساء العرب اللواتي عشن بعد رسول الله ص، فروين عنه وكن قد بايعنه، واسلمن في حياته أم الفضل وهي لبابه الكبرى بنت الحارث بْن حزن بْن بجير بْن الهزم ابن رويبة ابن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة بن معاويه بن بكر بن هوازن بن مَنْصُور بن عِكْرِمَة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر وأمها هند، وهي خوله بنت عوف بن زهير بن الحارث بن حماطه بن جرش، وهم الى حمير وقيل ان أم الفضل أول امراه اسلمت بمكة بعد خديجه ابنه خويلد، وكان النبي ص- فيما ذكر- يزورها، ويقيل في بيتها

واخوات أم الفضل ميمونه زوج النبي ص، وهي أختها لأبيها وأمها ولبابه الصغرى، وهي العصماء بنت الحارث ابن حزن وهي أختها لأبيها وهزيله بنت الحارث بن حزن أختها أيضا لأبيها، وعزه أختها لأبيها وإخوتها، وأخواتها لأمها محمية بن جزء الزبيدى، وعون وأسماء وسلمى، بنو عميس بن معد بن الحارث من خثعم، فتزوج أم الفضل بنت الحارث العباس بن عبد المطلب، فولدت له الفضل وعبد الله وعبيد الله ومعبدا وقثم وعبد الرحمن وأم حبيب وقال عبد الله بن زيد الهلالي: ما ولدت بحتيه من فحل ... كسته من بطن أم الفضل اكرم بها من كهله وكهل. وقال ابن عمر: هاجرت أم الفضل بنت الحارث الى المدينة بعد اسلام العباس ابن عبد المطلب. ولبابه الصغرى، وهي العصماء بنت الحارث وأمها فاخته بنت عامر بن معتب بن مالك الثقفى، تزوجها الوليد بْن المغيرة بْن عبد الله بْن عمر بن مخزوم بمكة، فولدت له خالد بن الوليد، ثم اسلمت بعد الهجره، وبايعت رسول الله ص. وأسماء بنت عميس بن معد، وأمها هند، وهي خوله بنت عوف بن زهير بن جرش، قال الحارث: حدثنا خالد بن خداش قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب عن محمد، ان أسماء ولدت لجعفر محمدا، ولأبي بكر محمدا. وأختها لأبيها وأمها سلمى بنت عميس اسلمت قديما، وتزوجها حمزه بن عبد المطلب فولدت له ابنته عماره، وقتل حمزه بأحد فتايمت سلمى ابنه عميس، فتزوجها شداد بن الهاد الليثى، فولدت له عبد الله بن شداد، فهو أخو ابنه حمزه لأمها، وهو ابن خاله ولد العباس بن عبد المطلب، وابن خاله خالد بن الوليد بن المغيره، فاما أسماء بنت عميس فإنها عاشت بعد وفاه رسول الله ص حينا وروت عن رسول الله ص احاديث. وأم عبد الله بن مسعود، وهي أم عبد بنت عبدود بن سواء بن قريم بن صاهله بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر، وأمها

هند بنت عبد بن الحارث بن زهره بن كلاب اسلمت وبايعت رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ روت عن رسول الله ص ما حدثنى محمد بن معاويه الأنماطي قال: حدثنا عباد بن العوام عن ابان عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: حدثتني أمي انها باتت عندهم ليله فقام النبي ص فصلى، قالت: فرايته قنت في الوتر قبل الركوع وزينب بنت ابى معاويه الثقفيه امراه عبد الله بن مسعود، اسلمت وبايعت رسول الله ص وروت عنه احاديث. منها ما حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ موسى قال: ابن لهيعة، قال: حدثنا بكير، عن بسر بن سعيد، عن زينب امراه عبد الله قالت، [قال رسول الله ص: ايتكن جاءت المسجد فلا تقربن طيبا] . وأم سنان الأسلمية روت عن رسول الله ص. ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْن ابى يحيى حدثه عن ثبيته بنت حنظله الأسلمية، [عن أمها أم سنان الأسلمية، قالت: لما اراد رسول الله ص الخروج الى خيبر جئته، فقلت: يا رسول الله اخرج معك في وجهك هذا اخرز السقاء واداوى المرضى والجرحى، ان كانت جراح والا تكن، فانصر الرجل، فقال رسول الله ص: اخرجى على بركة الله تعالى، فان لك صواحب معك، فأذنت لهن من قومك ومن غيرهم فان شئت فمع قومك، وان شئت فمعناه قالت: معك، قال: فكونى مع أم سلمه زوجتي، قالت: فكنت معها] . وابنه ابى الحكم الغفارية، روت عن رسول الله ص. حدثنى محمد بشار ومحمد بن المثنى قال: حدثنا محمد بن ابى عون، عن محمد بن إسحاق، عن سليمان بن سحيم، عن أمه ابنه ابى الحكم الغفارية، قالت: [سمعت رسول الله ص يقول: ان الرجل ليدنو من الجنه، حتى ما يكون بينه وبينها قبة ذراع، فيتكلم بالكلمة فيتباعد منها ابعد من صنعاء]

وأم شريك روت عن رسول الله ص. حدثنا عمرو بن بيدق قال: حدثنا سفيان عن عبد الحميد بن جبير بن شيبه، عن سعيد بن المسيب، اخبرته أم شريك ان النبي ص امرها بقتل الاوزاغ. حدثني يونس، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ جريج، عن عبد الحميد بن جبير بن شيبه ان سعيد بن المسيب اخبره، قال: أخبرتني أم شريك احدى نساء عامر بن لؤي، انها استأمرت رسول الله ص في قتل الوزغان، فأمرها بقتلها. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بن موسى عن ابن جريج، عن عبد الحميد بن جبير بن شيبه، عن سعيد بن المسيب، عن أم شريك ان رسول الله ص امر بقتل الاوزاغ، وقال: كان ينفخ على ابراهيم عليه السلام. أم مرثد روت عن رسول الله ص. حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بن وهب بن ابى كريمه الحراني، عن محمد بن مسلمه، عن ابى عبد الرحيم بن العلاء، عن محمد بن عبد الله بن ابى صعصعة، عن ابيه عن أم خارجه بنت سعد بن الربيع، عن أم مرثد، [وكانت ممن بايعن رسول الله ص- قالت: خرجنا معه، فقال: أول من يشرف عليكم رجل من اهل الجنه، فأشرف على ع] . وأم الدرداء روت عن رسول الله ص احاديث، منها ما حدثنى سعد بن عبد الله بن الحكم، قال: حدثنا ابو زرعه قال: حدثنا ابو حيوه قال: أخبرنا ابو صخر، ان عيسى أبا موسى مولى لجعفر بن خارجه الأسدي، حدثه [ان أم الدرداء حدثته ان رسول الله ص لقيها يوما فقال لها: من اين جئت يا أم الدرداء؟ قالت: من الحمام، قال لها رسول الله

ص: ما من امراه تنزع ثيابها في غير بيتها الا هتكت ما بينها وبين الله عز وجل من ستر] . حدثنا الربيع، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابن لهيعة، قَالَ: حَدَّثَنَا زَبَّانُ بْنُ فَائِدٍ عَنْ سَهْلِ بن معاذ، عن ابيه، [انه سمع أم الدرداء تقول: خرجت من الحمام فلقيني رسول الله ص، فقال: من اين يا أم الدرداء؟ قلت: من الحمام، فقال: والذى نفسي بيده ما من امراه تضع ثيابها في غير بيت احدى أمهاتها الا وهي هاتكه كل ستر بينها وبين الرحمن عز وجل] . وأم المنذر بنت قيس بن عمرو بن عبيد بن عامر بن عدى بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ غنم بن النجار، وهي اخت سليط بن قيس، الذى شهد بدرا، وقتل يوم جسر ابى عبيد شهيدا لأبيه وأمه: بايعت رسول الله ص، وروت عنه. ما حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ حباب العكلي، قال: حدثنا فليح بن سليمان المدني قال: حدثنا أيوب بن عبد الرحمن الأنصاري، عن يعقوب بن ابى يعقوب، عن أم المنذر الأنصارية، وهي بعض خالات رسول الله ص قالت: [دخل على رسول الله ص وعلى ع معه، وعلى ناقه من مرضه، وعذق في البيت معلق فأكل منه رسول الله ص وهو قائم، فأكل منه على ع، فقال: انه لا يوافقك، فكف قالت: فصنعت سلقا وشعيرا لرسول الله ص فوضعته بين يديه، فقال: يا على كل من هذا فانه اوفق لك]

القول في تاريخ التابعين والخالفين والسلف الماضين من العلماء ونقله الآثار ذكر من هلك من التابعين سنه ثنتين وثلاثين

القول في تاريخ التابعين والخالفين والسلف الماضين من العلماء ونقله الآثار ذكر من هلك من التابعين سنه ثنتين وثلاثين منهم كعب الاحبار بن ماتع، يكنى أبا إسحاق، وهو من حمير من اهل ذي رعين، وكان من ساكنى حمص، وبها توفى سنه ثنتين وثلاثين في خلافه عثمان بن عفان وذكر العلائى عن ابن معين، انه قال: هو كعب بن ماتع بن ذي هجن الحميرى. حدثنا العباس قال: سمعت يحيى يقول: كعب الاحبار مات في خلافه عثمان سنه اربع وثلاثين قبل ان يقتل عثمان بعام. حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنى احمد بن موسى، عن داود، قال: حدثنى ابن عم كعب ان كعبا كان يتعلم سوره البقره ويعلمها اياه رجل من اصحاب النبي ص، حتى انتهى الى قوله: فان زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا ان الله غفور رحيم فقال كعب: ما اعرف هذا في شيء من كتب الله عز وجل، ان ينهى عن الذنب، ويعد عليه المغفره، فأبى الرجل ان يرجع عن ذلك، وابى كعب ان يتابعه حتى مر عليهما رجل من اصحاب النبي ص، فقالا له: هل تقرا سوره البقره؟ فقال: نعم، فقالا: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ، فقال الرجل: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فقال: نعم هكذا ينبغى ان يكون. ومنهم اويس بن الخليص القرني كذلك ذكر ضمره بن ربيعه عن عثمان بن عطاء الخراسانى، عن ابيه قال: سمعت من رجل من قومى- يعنى من قوم اويس- وانا احدث بحديثه، فقال: تدرى يا أبا عثمان اويس ابن من؟ قلت: لا قال. اويس بن الخليص واما يحيى بن سعيد القطان فانه قال: حدثنا يزيد بن عطاء عن علقمه بن مرثد، بانه قال: اويس بن انيس القرني واختلف في وقت مهلكه، فقال بعضهم: قتل مع على ع بصفين.

ذكر من هلك منهم سنه احدى وثمانين

روى محمد بن ابى منصور، قال: حدثنا الجمانى قال: حدثنا شريك، عن يزيد بن ابى زياد عن عبد الرحمن بن ابى ليلى، قال: [نادى منادى على ع يوم صفين الا اطلبوا اويسا القرني بين القتلى، فطلبوه فوجدوه فيهم، او كلاما هذا معناه] . ذكر من هلك منهم سنه احدى وثمانين منهم سويد بن غفله: ومحمد بن على بن ابى طالب الاكبر، وأمه الحنفيه خوله بنت جعفر بن قيس بن مسلمه بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدول بن حنيفة بن لجيم بن صعب بن على بن بكر بن وائل، وقيل: انها كانت من سبى اليمامه، فصارت منه الى على بن ابى طالب ع. وقال ابن عمر: حدثنا عبد الرحمن بن أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ فاطمه ابنه المنذر، عن أسماء ابنه ابى بكر قالت: رايت أم محمد بن الحنفيه سنديه سوداء، وكانت أمه لبنى حنيفه، ولم تكن منهم، وانما صالحهم خالد بن الوليد على الرقيق، ولم يصالحهم على انفسهم. وكان محمد بن الحنفيه يكنى أبا القاسم، وكان فاضلا دينا ذا علم جم وورع، وقد ذكرنا خبره مع ابن الزبير في ايام المختار بن ابى عبيد في كتابنا المسمى المذيل . وممن هلك في سنه ثلاث وثمانين ابو البختري الطائي مولى لبنى نبهان من طيّئ، واختلف في اسمه، فقال ابن المديني: هو سعيد بن ابى عمران، وقال يحيى بن معين: هو سعيد بن جبير، وجبير يكنى أبا عمران، وقال بعضهم: هو سعيد بن عمران، وكان من الشيعة. وعبد الله بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بن هاشم ولد على عهد النبي ص

وكان يشبه برسول الله ص وقال على بن محمد: توفى عبد الله ابن نوفل بن الحارث سنه اربع وثمانين. قال محمد بن عمر: حدثنى عبد العزيز بن محمد وابو بكر بْن عبد الله بْن أبي سبرة عن عثمان بن عمر عن ابى الغيث، قال: سمعت أبا هريرة لما ولى مروان بن الحكم المدينة لمعاوية بن ابى سفيان سنه ثنتين واربعين في الإمرة الاولى، استقضى عبد الله بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بالمدينة، فسمعت أبا هريرة يقول: هذا أول قاض رايته في الاسلام قال ابن سعد: وقال محمد بن عمر: واجمع أصحابنا على ان عبد الله بن نوفل بن الحارث أول من قضى بالمدينة لمروان بن الحكم، واهل بيته ينكرون ذلك، وان يكون ولى هو او احد من بنى هاشم القضاء بالمدينة قال: واهل بيته يقولون: توفى في خلافه معاويه، قال: ونحن نقول انه بقي بعد معاويه دهرا، وتوفى في سنه اربع وثمانين في خلافه عبد الملك بن مروان ومنهم سعيد بن وهب الهمدانى، من بنى يحمد بن موهب بن صادق بن يناع ابن دومان- وهم اليناعون من همدان- سمع من معاذ بن جبل باليمن، قبل ان يهاجر في حياه رسول الله ص وكان من ملازمى على بن ابى طالب عليه السلام، فكان يقال له القراد للزومه له، وكان من ساكنى الكوفه، وكان ممن لا يشك في صدقه وأمانته، على ما روى وحدث من خبر، وكانت وفاته في سنه ست وثمانين في خلافه عبد الملك قال الطبرى: قد مر اسمه فيمن توفى سنه ست وسبعين واعيد هاهنا للاختلاف في وقت وفاته. قال: ومنهم علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ع وأمه غزاله أم ولد، خلف عليها بعد حسين زبيد مولى الحسين فولدت له عبد الله بن زبيد، وهو أخو على بن الحسين، ولعلى بن حسين هذا العقب من ولد حسين وهو على الاصغر ابن حسين. واما على بن الحسين الاكبر، فقتل مع ابيه بنهر كربلاء، وليس له عقب

[وشهد على بن الحسين الاصغر مع ابيه، كربلاء وهو ابن ثلاث وعشرين سنه، وكان مريضا نائما على فراش، فلما قتل الحسين ع قال شمر بن الجوشن: اقتلوا هذا، فقال له رجل من اصحابه: سبحان الله انقتل فتى حدثا مريضا لم يقاتل! وجاء عمر بن سعد، فقال: لا تعرضوا لهؤلاء النسوة ولا لهذا المريض قال على: فلما ادخلت على ابن زياد، قال: ما اسمك؟ قلت: على بن حسين، قال: او لم يقتل الله عليا؟ قال: قلت: كان لي أخ اكبر منى يقال له على قتله الناس، قال: بل الله قتله، قلت: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها فامر بقتله فصاحت زينب بنت على: يا بن زياد، حسبك من دمائنا! اسالك بالله ان قتلته الا قتلتني معه! فتركه،] وكان على بن الحسين يكنى أبا الحسين ذكر على بن محمد عن سعيد بن خالد عن المقبري، قال: بعث المختار بن ابى عبيد الى على بن حسين بمائه الف، فكره ان يقبلها، وخاف ان يردها، فاحتبسها عنده، فلما قتل المختار كتب على بن الحسين ع الى عبد الملك بن مروان: ان المختار بعث الى بمائه الف، فكرهت ان أردها، وكرهت ان آخذها، وهي عندي، فابعث من يقبضها، فكتب اليه عبد الملك: يا بن عم! خذها فقد طيبتها لك قال على بن محمد عن يزيد بن عياض، قال: أصاب الزهري دما خطا، فخرج وترك اهله، وضرب فسطاطا، وقال: لا يظللنى سقف بيت فمر به على بن الحسين ع، فقال: يا بن شهاب، قنوطك أشد من ذنبك، فاتق الله واستغفره، وابعث الى اهله بالديه، وارجع الى اهلك، وكان الزهري يقول: على بن الحسين ع اعظم الناس على منه. وقال علي بن محمد، عن علي بن مجاهد عن هشام بن عروه، قال: كان على بن الحسين ع يخرج على راحلته الى مكة، ويرجع لا يقرعها. وقال ابن سعد: أخبرنا مالك بن اسماعيل، عن سهل بن شعيب النهمي- وكان نازلا فيهم يؤمهم عن ابيه، عن المنهال- يعنى ابن عمرو- قال: [دخلت على على بن الحسين ع، فقلت: كيف اصبحت اصلحك الله؟ قال: ما كنت ارى ان شيخا من اهل المصر مثلك لا يدرى كيف أصبحنا! فاما إذا لم تدر

او تعلم، فسأخبرك، أصبحنا في قومنا بمنزله بنى إسرائيل في آل فرعون، «إذ كانوا يذبحون ابناءهم ويستحيون نساءهم،» واصبح شيخنا وسيدنا يتقرب الى عدونا بشتمه او سبه على المنابر، واصبحت قريش تعد ان لها الفضل على العرب، لان محمدا منها لا تعد لها فضلا الا به واصبحت العرب مقره لهم بذلك، واصبحت العرب تعد ان لها فضلا على العجم، لان محمدا منها لا تعد لها فضلا الا به، واصبحت العجم مقره لهم بذلك، فلئن كانت العرب صدقت ان لها فضلا على العجم، وصدقت قريش ان لها الفضل على العرب، لان محمدا منها، ان لنا اهل البيت الفضل على قريش، لان محمدا منا، فأصبحوا يأخذون بحقنا، ولا يعرفون لنا حقا، فهكذا أصبحنا، إذ لم تعلم كيف أصبحنا، قال: فظننت انه اراد ان يسمع من في البيت] . وقال مُحَمَّد بن عمر: حدثني ابن أبي سبرة، عن سالم مولى ابى جعفر، قال: كان هشام بن اسماعيل يؤذى على بن الحسين واهل بيته يخطب بذلك على المنبر، وينال من على ع فلما ولى الوليد بن عبد الملك عزله، وامر به ان يوقف للناس. قال: وكان يقول لا والله ما كان احد من الناس أهم الى من على بن الحسين كنت اقول: رجل صالح يسمع قوله، فوقف للناس قال: فجمع على بن حسين ولده وحامته، ونهاهم عن التعرض له، قال: وغدا على بن حسين ع مارا لحاجه، فما عرض له، فناداه هشام بن إسماعيل: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته وقال محمد بن عمر: حدثني عبد الحكيم بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ قَالَ: مات على بن الحسين ع بالمدينة، ودفن بالبقيع سنه اربع وتسعين، ويقال لهذه السنه سنه الفقهاء، لكثرة من مات منهم فيها. قال: ابن سعد: أخبرنا عبد الرحمن بن يونس، عن سفيان عن جعفر بن محمد ع، قال: مات على بن الحسين، وهو ابن ثمان وخمسين سنه. قال: وهذا يدلك على ان على بن حسين كان مع ابيه، وهو ابن ثلاث او اربع وعشرين سنه، وليس قول من قال: انه كان صغيرا، ولم يكن انبت بشيء، ولكنه

كان يومئذ مريضا فلم يقاتل وكيف يكون يومئذ لم ينبت، وقد ولد له ابو جعفر محمد بن على ع: ولقى جابر بن عبد الله وروى عنه وانما مات جابر سنه ثمان وسبعين. وقال إسحاق بن ابى إسرائيل: حدثنا جرير عن شيبه ابن نعامة قال: كان على ابن حسين ع يبخل، فلما مات وجدوه، يقوت مائه اهل بيت بالمدينة في السر. ومنهم- في قول عمرو بن على- ابو عثمان النهدي واسمه عبد الرحمن بن مل بن عمرو ابن عدى بن وهب بن ربيعه بن سعد بن جذيمة ابن كعب بن رفاعة بن مالك بن نهد بن زيد بن ليث بن سود بن اسلم بن الحاف بن قضاعه، حدثنا العباس بن محمد، قال: حدثنا الفضل بن دكين، قال: حدثنا ابو طالب عبد السلام بن شداد، قال: رايت أبا عثمان شرطيا يجيء فيأخذ من صاحب الكماة الكماة. قال ابن سعد: أخبرنا ابو غسان مالك بن اسماعيل النهدي، قال: كان ابو عثمان النهدي من ساكنى الكوفه، وله بها دار في بنى نهد، فلما قتل الحسين ع تحول فنزل البصره، وقال: لا اسكن بلدا قتل فيه ابن ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وخالد بن معدان الكلاعى، قال ابن سعد: اجمعوا على ان خالد بن معدان توفى سنه ثلاث ومائه في خلافه يزيد بن عبد الملك. وقال عبد القدوس بن الحجاج، عن صفوان بن عمرو، قال: سمعت خالد بن معدان يقول: أدركت سبعين من اصحاب رسول الله ص. حدثنى الحارث عن الحجاج قال: حدثنى ابو جعفر الحدانى، عن محمد بن داود، قال: سمعت عيسى بن يونس، يقول: كان خالد بن معدان صاحب شرطه يزيد بن معاويه، وكان خالد غير متهم فيما روى، وحدث من خبر في الدين. وقيل: انه مات وهو صائم، وكان من ساكنى الشام وبها مات

ذكر من هلك منهم سنه خمس ومائه

ذكر من هلك منهم سنه خمس ومائه فمنهم عكرمه مولى عبد الله بْن عباس بْن عبد المطلب، يكنى أبا عبد الله، قال ابن سعد: أخبرنا عامر بن سعيد ابو جعفر قال: حدثنا هشام بن يوسف قاضى اهل صنعاء، عن محمد ابن راشد، قال: مات ابن عباس، وعكرمه عبد، فاشتراه خالد بن يزيد بن معاويه من على بن عبد الله بن العباس باربعه آلاف دينار، فبلغ ذلك عكرمه، فاتى عليا فقال: بعتني باربعه آلاف دينار؟ قال: نعم، قال: اما انه ما خير لك بعت علم ابيك باربعه آلاف دينار! فراح على الى خالد، فاستقاله فاقاله فاعتقه. وكان عكرمه لا يدفعه احد يعلمه عن التقدم في العلم بالفقه والقرآن وتاويله وكثره الرواية للآثار. حدثنى الصرار بن اسماعيل، قال: أخبرنا اسماعيل، قال: حدثنا ابراهيم ابن سعد عن ابيه، قال: كان سعيد بن المسيب يقول: لبرد مولاه: يا برد، لا تكذب على كما كذب عكرمه، على ابن عباس، كل حديث حدثكموه برد عنى مما تنكرون، وليس معه فيه غيره، فهو كذب. حَدَّثَنَا ابن حميد قَالَ: حَدَّثَنَا جرير، عن يزيد بن ابى زياد، قال: دخلت على على بن عبد الله بن عباس، وعكرمه مقيد على باب الحش، قال: قلت له ما لهذا كذا قال: انه يكذب على ابى. وقال يحيى بن معين: حدثنى من سمع حماد بن زيد، يقول: سمعت أيوب- وسئل عن عكرمه كيف هو- قال أيوب: لو لم يكن عندي ثقه لم اكتب عنه. وقال آخرون ممن لا يرى الاحتجاج- بخبر عكرمه: لم ننكر من امر عكرمه، روايته ما روى من الاخبار، وانما أنكرنا من امره مذهبه، وقالوا: انه كان يرى راى الصفريه من الخوارج، وذكر انه نحل ذلك الرأي الى ابن عباس، وكان ذلك كذبه على ابن عباس

وحدثت عن مصعب الزبيري قال: كان عكرمه يرى راى الخوارج، فطلبه بعض ولاه المدينة، فغيب عند داود بن الحصين، ومات عنده. وذكر عن يحيى بن معين انه قال: انما لم يذكر مالك بن انس عكرمه، لان عكرمه كان ينتحل راى الصفريه. وقد اختلفوا في وقت وفاه عكرمه، فقال بعضهم: توفى سنه خمس ومائه ذكر محمد بن عمر ان ابنه عكرمه حدثته ان عكرمه توفى سنه خمس ومائه وهو ابن ثمانين سنه. قال ابن عمر: وحدثنى خالد بن القاسم البياضي، قال: مات عكرمه وكثير عزه الشاعر في يوم واحد سنه خمس ومائه، فرأيتهما جميعا، صلى عليهما في موضع واحد بعد الظهر في موضع الجنائز، فقال الناس: مات اليوم افقه الناس واشعر الناس. قال: وقال غير خالد بن القاسم: وعجب الناس لاجتماعهما في الموت، واختلاف رأيهما، عكرمه يظن به انه يرى راى الخوارج، يكفر بالنظره، وكثير شيعى يؤمن بالرجعة. حدثنى يحيى بن عثمان بن صالح السهمي، قال: حدثنا ابن بكير، قال: حدثنا الدراوردى قال: توفى عكرمه وكثير عزه الشاعر بالمدينة في يوم واحد، فما حمل جنازتهما الا الزنج. وقال ابو نعيم: الفضل بن دكين: مات عكرمه في سنه سبع ومائه. وروى عن يحيى بن معين انه قال: مات عكرمه سنه خمس عشره ومائه. وكان عكرمه جوالا في البلاد قدم البصره فسمع منه أهلها، والكوفه فحمل عنه كثير ممن بها واليمن، فكتب عنه بها كثير من أهلها، والمغرب فسمع منه جماعه من اهله والمشرق، فكتب عنه به. حدثنى يحيى بن عثمان بن صالح، قَالَ: حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد المؤمن بن خالد الحنفي، قال: قدم علينا عكرمه خراسان، فقلت له: ما اقدمك الى بلادنا؟ قال: قدمت آخذ من دنانير ولاتكم ودراهمهم. واما ابو تميله، فانه روى عن عبد العزيز بن ابى رواد، قال: قلت لعكرمه: تركت

الحرمين، وجئت الى خراسان، قال: اسعى على بناتي: غير ان وفاته كانت بمدينه رسول الله ص. وذكر عن ابراهيم ابن خالد عن اميه بن شبل عن معمر، عن أيوب، قال: قدم علينا عكرمه، واجتمع الناس عليه حتى اصعدوه فوق ظهر بيت. وعامر بن شراحيل بن عبد الشعبى قال ابن سعد: هو من حمير وعداده في همدان فقال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن مره الشعبانى، قال: أخبرنا اشياخ من شعبان، منهم محمد بن ابى اميه، وكان عالما ان مطرا أصاب اليمن، فجعف السيل موضعا فأبدى عن أزج عليه باب من حجارة، فكسر الغلق، فدخل فإذا بهو عظيم فيه سرير من ذهب، وإذا عليه رجل، قال: شبرناه فإذا طوله اثنا عشر شبرا، وإذا عليه جباب من وشى منسوجه بالذهب، والى جنبه محجن من ذهب، على راسه ياقوته حمراء، وإذا رجل ابيض الراس واللحية، له ضفران، والى جنبه لوح مكتوب فيه بالحميريه: باسمك اللهم رب حمير، انا حسان بن عمرو والقيل إذ لا قيل الا الله، عشت بامل، ومت باجل، ايام وخزهيد، هلك فيه اثنا عشر الف قيل، وكنت آخرهم قيلا، واتيت جبل ذي شعبين ليجيرنى من الموت فاخفرنى، والى جنبه سيف مكتوب فيه بالحميريه، انا قبار، بي يدرك الثار. قال عبد الله بن محمد بن مره الشعبانى: هو حسان بن عمرو بن قيس بن معاويه ابن جشم بن عبد شمس بن وائل بن غوث بن قمن بْنِ عُرَيْبِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَيْمَنَ بْنِ حمير، وهو حسان ذو الشعبين، وهو جبل باليمن، نزله هو وولده، ودفن به، ونسب اليه هو وولده، فمن كان بالكوفه قيل لهم شعبيون، منهم عامر الشعبى، ومن كان بالشام قيل لهم شعبانيون، ومن كان باليمن قيل لهم: آل ذي شعبين، ومن كان منهم بمصر والمغرب قيل لهم: الاشعوب، وهم جميعا بنو حسان بن عمرو ذي شعبين فبنو على بن حسان ابن عمرو رهط عامر بن شراحيل بن عبد الشعبى، ودخلوا في احمور همدان باليمن فعدادهم فيه، والاحمور خارف والصائديون وآل ذي بارق والسبيع وآل ذي جدان وآل ذي رضوان وآل ذي لعوه وآل ذي مران، واعراب همدان عذر ويام

ونهم وشاكر وارحب وفي همدان من حمير قبائل كثيره منهم آل ذي حوال، وكان على مقدمه تبع منهم يعفر بن الصباح المتغلب على مخاليف صنعاء اليوم، وكان الشعبى يكنى أبا عمرو، وكان ضئيلا نحيفا، وكان فقيها عالما راويه الشعر والاخبار وايام الناس. ومنهم طاوس بن كيسان، وكان يكنى أبا عبد الرحمن وكان فقيها عالما عابدا ورعا فاضلا، حدثنا ابو كريب، قال: حدثنا يحيى، عن زهير، عن ليث عن طاوس، قال: أدركت سبعين شيخا من اصحاب رسول الله. وقال يحيى بن معين: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: قَالَ أَبِي: وما على خالد الحذاء لو صنع كما صنع طاوس! قال: وما صنع طاوس؟ قال: كان يجلس فان أتاه انسان بشيء قبله والا سكت قال يحيى: وانا اقول: كان طاوس على العشور، وكان خالد الحذاء على العشور. وذكر عن على بن المديني انه قال: يحيى بن سعيد، قال سفيان بن سعيد: كان طاوس يتشيع. وقال ابن عمر عن سيف بن سليمان قال: مات طاوس بمكة قبل الترويه بيوم، وكان هشام بن عبد الملك وهو خليفه قد حج تلك السنه سنه ست ومائه، فصلى على طاوس، وكان له يوم مات بضع وسبعون سنه. حدثنى الحارث، قال: حدثنا سريج بن يونس، قال: حدثنا يحيى بن سليمان، قال: بلغنى ان طاوسا قال لمجاهد: لو كان من قصرك في طولى، ومن طولى في قصرك جاء منا رجلان مستويان. وذكر عن زيد بن حباب، انه قال: قال ابراهيم بن نافع: هلك طاوس في سنه ست ومائه. وقال ابن عمر: كان طاوس مولى بحير بن ريسان الحميرى، وكان ينزل الجند. ومنهم الحسن بن ابى الحسن، واسم ابى الحسن يسار، يقال: انه من سبى ميسان، وقع الى المدينة، فاشترته الربيع بنت النضر عمه انس بن مالك. وقال على بن محمد: ابو الحسن بن ابى الحسن البصرى من سبى ميسان، وكانت

أم الحسن خادمه لام سلمه زوج النبي ص. وقال الأصمعي عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْد بن جدعان، وكان اعلم الناس بالحسن انه ولد وهو مملوك. وذكر عن يحيى بن معين انه قال: اسم أم الحسن بن ابى الحسن خيره. وقال على بن محمد عن سلمه بن عثمان عن بن عون قال: قال الحسن: قتل عثمان وانا ابن اربع عشره سنه وكان الحسن عالما فقيها فاضلا قارئا لا يشك في صدقه، فيما روى ونقل غيره انه كان كثير المراسيل كثير الرواية عن قوم مجاهيل، وعن صحف قد وقعت اليه لقوم أخذها منهم وعنهم حدثنى محمد بن هارون الحربى قال: حدثنا نعيم، قال: حدثنا سفيان عن مساور الوراق، قال: قلت للحسن البصرى: عمن تحدث هذه الأحاديث؟ قال: عن كتاب عندنا سمعته من رجل. وحدثنا عمرو بن على، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا وهيب عن أيوب، قال: لم يسمع الحسن من ابى هريرة. حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو قتيبة، قال: حدثنا شعبه، قال: قلت ليونس: اسمع الحسن من ابى هريرة؟ قال: لا ولا حرفا. وقال ابن سعد: قال يحيى بن سعيد القطان، في احاديث سمره التي يرويها الحسن عنه انها من كتاب، وقد نسبه قوم الى انه كان يقول بقول القدرية، وانكر ذلك على من نسبه اليه قوم. حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا جرير، عن مغيره، قال: اعلمهم بالديات والقضاء وايام الناس الشعبى، واعلمهم بالصلاة والزكاة والحلال والحرام ابراهيم النخعى، واعلمهم بالمناسك عطاء بن ابى رباح، واعلمهم بالتفسير سعيد بن جبير، واعلمهم بالتجارة والصرف ابن سيرين، والحسن البصرى سيدهم. وقال ابن سعد: أخبرنا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيد، قال: قال عمرو بن عبيد: ما كنا نأخذ علم الحسن الا عند الغضب. حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْن سهل، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيد عن خليد، ان رجلا سال الحسن عن مساله، فتكلم فيها فقال السائل: يا أبا سعيد ان العلماء يخالفونك، قال:

ثكلتك أمك! وهل رايت عالما؟ ذهب والله العلماء في كل بلد، فكان آخرهم موتا بالمدينة جابر بن عبد الله، وبمكة عبد الله بن عمر او عمرو- قال الطبرى وانا اشك وفي كتابي ابن عمر- وبالبصرة انس بن مالك، وبالكوفه عبد الله بن ابى اوفى، وبالشام ابو امامه. وقال على بن محمد عن ابى إسحاق عن الحسن قال: دخلت على الحجاج فقال: يا حسن، ما جراك على! ثم قعدت تفتي في مسجدنا؟ قلت: الميثاق الذى اخذه الله عز وجل على بنى آدم، قال: فما تقول في ابى تراب؟ يعنى على بن ابى طالب ع؟ قلت: وما عسى ان اقول الا ما قال الله عز وجل، قال: وما قال الله؟ قلت: قال الله عز وجل: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ، وكان على ع ممن هدى الله، فغضب ثم أكب ينكت الارض، وخرجت لم يعرض لي احد، فتواريت حتى مات، توارى تسع سنين. حدثنى الحارث، قال: حدثنا داود بن المحبر، قال: حدثنا الربيع بن صبيح، قال: سمعت الحسن يقول: ليس للفاسق المعلن بالفسق غيبه، ولا لأهل الأهواء والبدع غيبه، ولا للسلطان الجائر غيبه. حدثنى الحارث، قال: حدثنا العباس بن الفضل العبدى، قال: حدثنا ابن عيينه قال: أخبرنا ابو موسى، قال: لما خرج الحسن من عند الحجاج قال: خرجت من عند احيول قصير يطبطب، شعيرات له، اخرج الى بنانا له قصيره، قلما عرفت فبها الاعنه في سبيل الله عز وجل، اما والله انهم وان ركبوا البراذين وصعدوا المنابر، ان ذل المعاصي لفي أعناقهم، ابى الله تعالى الا ان يذل من عصاه، ما زال الله يريهم في انفسهم العبر، ويرى المؤمنين فيهم المعتبر، اللهم امته كما أمات سلتك. حدثنى الحارث، قال: حدثنا خالد بن خداش، قال: حدثنا عماره بن زاذان الصيدلاني قال: رايت على الحسن بردا عدنيا مصلبا، وقميصا شطويا ونعلا مثل حذو الفتيان

حدثنى الحارث، قال: حدثنى عَلِيّ بن مُحَمَّدٍ عن عَبْد اللَّهِ بن مسلم، قال: اتى الحسن بفالوذج، فقال لابنه سعيد: ادن يا بنى فأصب منه، قال: اخاف مغبته، فقال يا بنى، لباب القمح بلعاب النحل بخالص السمن ما غب هذا بسوء قط، او قال، ما غب هذا بشر قط. وقال يونس: أخبرنا موسى، قال: حدثنا سهل بن حصين بن مسلم الباهلى قال: بعثت الى عبد الله بن الحسن بن ابى الحسن: ابعث الى بكتب ابيك، فبعث الى انه لما ثقل قال: اجمعها لي، فجمعتها له، وما ندري ما يصنع بها، فأتيته بها، فقال للجارية: اسجري التنور، ثم امر بها فاحرقت غير صحيفه واحده، فبعث بها الى ثم لقيته بعد ذلك فأخبرني مشافهة بمثل الذى أخبرني الرسول عنه. وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ بن ربيعه عن ابن شوذب قال: مات الحسن سنه عشر ومائه ومات ابن سيرين بعده بمائه ليله. حَدَّثَنِي أبو السائب، قال: حَدَّثَنَا ابن إدريس، قال: سمعت شعبه يقول: هلك الحسن سنه عشر ومائه وكان بينه وبين ابن سيرين مائه يوم، والحسن قبل. وقال ابن سعد: قال معاذ بن معاذ كان الحسن اكبر من محمد بن سيرين بعشر سنين. وحدثنى على بن مسلم الطوسى قال: حدثنا سعيد بن عامر، قال: مات الحسن في سنه عشر ومائه وولد في احدى وعشرين، وصلى عليه رجل من اهل الشام، قال له النضر بن عمرو، وكان على الصلاة، وبلغ تسعا وثمانين. حدثنا ابن وكيع، قال: سمعت ابى يقول: سمعت حماد بن زيد يقول: قال أيوب: خاصمت الحسن في القدر حتى هددته بالسلطان. حدثنى ابو عثمان المقدمي قال: حدثنا الفروى قال: سمعت مالكا وهو يقول: ابن سيرين عندنا افضل من الحسن، فقلت له: يا أبا عبد الله، باى شيء؟ قال: ان الحسن زيغه القدرية. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ بشير، قال: حدثنا زكرياء بن سلام، قال: جاء رجل الى الحسن فقال: انه طلق امراته ثلاثا، فقال: انك عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، فقال الرجل: قضى الله ذلك على، فقال

ذكر من هلك منهم في سنه احدى عشره ومائه

الحسن: وكان فصيحا: ما قضى الله، اى ما امر الله عز وجل، وقرأ هذه الآية: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ. وحدثنى اسماعيل بن مسعود الجحدري قال: حدثنا المعتمر بن سليمان عن قره بن خالد عن ابى رباح بن عبيده، قال: اخوف ما اخاف على الحسن قوله في القدر: يفرق به بين الناس. ومنهم محمد بن سيرين، ويكنى أبا بكر مولى انس بن مالك، وكان به صمم فيما ذكر. قال ابن سعد: حدثنا خالد بن خداش قال: حدثنا حماد بن زيد، عن انس بن سيرين قال: ولد محمد بن سيرين لسنتين بقيتا من خلافه عثمان وولدت انا لسنه بقيت من خلافته. قال: وقال بكار بن محمد: ولد لمحمد بن سيرين ثلاثون ولدا من امراه واحده لم يبق منهم غير عبد الله بن محمد. ومنهم وهب بن منبه بن كامل بن سيج، وهو رجل من أبناء فارس الذين كان كسرى وجههم الى اليمن لحرب من كان بها من الحبشه، فاجلوهم عنها، وغلبوا على اليمن ومخاليفها وكان وهب يكنى أبا عبد الله، وكان رجلا قد قرأ كتب الأنبياء وعلم اخبار الأولين، وكان من ساكنى صنعاء هو واخوته. قال محمد بن عمر وعبد المنعم بن ادريس: مات وهب بن منبه بصنعاء سنه عشر ومائه في أول خلافه هشام بن عبد الملك بن مروان. وقال بعضهم: كانت وفاته في سنه اربع عشره ومائه . ذكر من هلك منهم في سنه احدى عشره ومائه منهم عطية بن سعد بن جناده العوفى، من جديله قيس، ويكنى أبا الحسن، قال ابن سعد: أخبرنا سعيد بن محمد بن الحسن بن عطية قال: جاء سعد بن جناده

ذكر من هلك منهم في سنه ثنتى عشره ومائه

الى على بن ابى طالب ع وهو بالكوفه، فقال: يا امير المؤمنين، انه ولد لي غلام فسمه، فقال: هذا عطية الله، فسمى عطية وكانت أمه رومية، وخرج عطية مع ابن الاشعث. هرب عطية الى فارس وكتب الحجاج إلى مُحَمَّد بن القاسم الثقفي: ان ادع عطية فان لعن على بن ابى طالب ع والا فاضربه أربعمائة سوط، واحلق راسه ولحيته، فدعاه واقراه كتاب الحجاج، وابى عطية ان يفعل، فضربه أربعمائة سوط وحلق راسه ولحيته فلما ولى قتيبة بن مسلم خراسان خرج اليه عطية، فلم يزل بخراسان حتى ولى عمر بن هبيرة العراق فكتب اليه عطية يسأله الاذن له في القدوم، فاذن له فقدم الكوفه فلم يزل بها الى ان توفى في سنه احدى عشره ومائه وكان كثير الحديث ثقه ان شاء الله ذكر من هلك منهم في سنه ثنتى عشره ومائه منهم عبد الرحمن بن ابى سعيد الخدرى، واسم ابى سعيد سعد بن مالك بن سنان، واختلف في كنيته، فقال محمد بن عمر: كنيته ابو محمد، وقال ابن عمر: توفى عبد الرحمن بن ابى سعيد بالمدينة سنه ثنتى عشره ومائه وهو ابن سبع وسبعين سنه. روى عن ابيه. وابو جعفر محمد بْن علي بْن حسين بْن علي بن ابى طالب ع وأمه أم عبد الله ابنه حسن بن على بن ابى طالب ع. قال ابن عمر: حدثنا عبد الرحمن بن عبد العزيز، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ حنيف، قال: رايت أبا جعفر يتكئ على طيلسان مطوى في المسجد. قال ابن عمر: ولم يزل ذلك من فعل الاشراف واهل المروءة عندنا الذين يلزمون المسجد، يتكئون على طيالسه مطوية سوى طيالستهم وأرديتهم التي عليهم أخبرنا عبد الرحمن بن يونس، عن سفيان بن عيينه، عن جعفر بن محمد، قال: سمعت محمد بن على يذاكر فاطمه ابنه حسين شيئا من صدقه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: هذه توفى لي ثمانيا وخمسين، ومات لها

قال ابن عمر: فاما في روايتنا فانه مات سنه سبع عشره ومائه وهو ابن ثلاث وسبعين سنه. وقال ابو نعيم فيما حدثنى محمد بن اسماعيل عنه: مات محمد بن على ابو جعفر سنه اربع عشره ومائه. وقال على بن محمد المدائني: توفى أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ ع سنه سبع عشره ومائه وهو ابن ثلاث وستين سنه. وقال يحيى بن معين: توفى أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ سنه ثمان عشره ومائه. وحدثنى محمد بن عبد الله الحضرمى قال: حدثنا سويد بن سعيد، قال: حدثنا مفضل بن عبد الله، عن ابان بن تغلب [عن ابى جعفر، قال: جاءني جابر بن عبد الله وانا في الكتاب، فقال لي اكشف لي عن بطنك، فكشفت له عن بطنى، فقبله ثم قال: ان رسول الله ص أمرني ان اقرئك السلام] . ومنهم الحكم بن عتيبة، واختلف في كنيته، فقيل: كنيته ابو محمد. وقال ابن سعد أخبرنا الفضل بن دكين، قال: حدثنا ابو إسرائيل ان الحكم بن عتيبة كان يكنى أبا عبد الله. واختلف في ولائه، فقال ابن سعد: كان مولى لكنده وقال على بن محمد: الحكم بن عتيبة كندى، قال: ويقال: اسدى مولى لهم، وكان الحكم بن عتيبة مقدما في العلم والفقه كثير الحديث. وقال عبد الرحمن بن صالح: حدثنا نوح بن دراج عن ابن ابى ليلى، قال: كنت عند الحكم، فجاءه داود الأودي فقال: ان الناس يزعمون انك تنال من ابى بكر وعمر، فقال: ما افعل، ولكنى ازعم ان عليا خير منهما. وحدثنى أبو السائب، قال: حَدَّثَنَا ابن إدريس، قال: سمعت شعبه يقول: هلك الحكم بن عتيبة سنه خمس عشره ومائه

وحدثنى محمد بن اسماعيل، قال: قال ابو نعيم الفضل بن دكين: مات الحكم بن عتيبة في سنه خمس عشره ومائه. وسعيد بن يسار ابو الحباب مولى الحسن بن على ع من ساكنى المدينة وبها كانت وفاته في سنه سبع عشره ومائه ومحمد بن كعب بن حيان بن سليم بن اسد القرظبى من حلفاء الأوس ويكنى أبا حمزه واختلف في وقت وفاته فقال ابو نعيم الفضل بن دكين- فيما ذكر: حدثنى به محمد بن اسماعيل عنه: مات سنه ثمان ومائه وكان عالما فاضلا غير مدفوع وكان كثير الرواية. وقتادة بن دعامه السدوسي ويكنى أبا الخطاب، وكان اعمى حافظا فطنا وذكر عن ابن معين انه قال: مات قتادة سنه سبع عشره. وعلى بْن عبد الله بْن عباس بْن عبد المطلب، وأمه زرعه بنت مشرح بن معديكرب بن وليعه بن شرحبيل بن معاويه بن حجر القرد بن الحارث الولادة بن عمرو بن معاويه بن الحارث بن معاويه بن ثور بن مرتع بن ثور، وهو كندى يكنى أبا محمد، ذكر انه ولد ليله قتل امير المؤمنين على بن ابى طالب ع في شهر رمضان سنه اربعين فسمى باسمه وكنى بكنيته أبا الحسن، فقال له عبد الملك بن مروان: لا والله ما احتمل لك الاسم والكنية جميعا، فغير أحدهما، فغير كنيته فصيرها أبا محمد وكان على بن عبد الله هذا اصغر ولد ابيه سنا وكان اجمل قرشي- فيما قيل- واوسمه واكثره صلاه، وكان يدعى السجاد لعبادته. واختلف في وقت وفاته، فقال محمد بن عمر: توفى على بن عبد الله بن العباس سنه ثمان عشره ومائه. ومنهم حماد بن ابى سليمان ويكنى أبا اسماعيل وهو مولى لإبراهيم بن ابى موسى الأشعري وكان ممن ارسل به معاويه الى ابى موسى الأشعري، وهو بدومه الجندل. وكان حماد مقدما في الفقه

حَدَّثَنِي أبو السائب، قال: حَدَّثَنَا ابن إدريس، قال: سمعت شعبه يقول: هلك حماد بن ابى سليمان سنه عشرين ومائه. ومنهم زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ع أمه أم ولد، وقد ذكرت مقتله في كتابنا المسمى المذيل. وقد حدثني الحارث، قال: حدثنا مُحَمَّد بن سعد، قال: أخبرنا مُحَمَّد بن عمر، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر قال: دخل زيد بن على ع على هشام بن عبد الملك، فرفع دينا كثيرا وحوائج، فلم يقض له هشام حاجه، وتجهمه واسمعه كلاما شديدا قال عبد الله بن جعفر فأخبرني سالم مولى هشام وحاجبه، ان زيد بن على خرج من عند هشام، وهو يأخذ شاربه بيده ويفتله، ويقول: ما أحب الحياه احد قط الأذل قال: ثم مضى، وكان وجهه الى الكوفه، فخرج بها ويوسف بن عمر الثقفى عامل لهشام بن عبد الملك على العراق، فوجه الى زيد بن على من يقاتله فاقتتلوا وتفرق عن زيد من خرج معه، ثم قتل وصلب قال سالم: فاخبرت هشاما بعد ذلك بما كان قال زيد ع يوم خرج من عنده، فقال: ثكلتك أمك! الا كنت أخبرتني بذلك قبل اليوم، وما كان يرضيه! انما كانت خمسمائة الف درهم، وكان ذلك اهون علينا مما صار اليه. قال محمد بن عمر: فلما ظهر ولد العباس عمد عبد الله بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس الى هشام بن عبد الملك فامر به فاخرج من قبره، وصلبه وقال: هذا بما فعل بزيد بن على ع، وقتل زيد ع يوم الاثنين لليلتين خلتا من صفر سنه عشرين ومائه، ويقال: سنه ثنتين وعشرين ومائه، وكان له فيما قيل اثنتان واربعون سنه وكان مسكنه بالمدينة وقتل بالكوفه. وسلمه بن كهيل الحضرمى، وكان من ساكنى الكوفه، وبها مات في آخر يوم من سنه احدى وعشرين ومائه وقال بعضهم: بل توفى سنه ثنتين وعشرين ومائه حين قتل زيد بن على ع

ومنهم مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عبد الله الاصغر بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهره بن كلاب بن مره، وأمه عائشة ابنه عبد الله الاكبر بن شهاب، ويكنى محمد بن مسلم أبا بكر، وكان محمد بن مسلم الزهري مقدما في العلم بمغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم واخبار قريش والانصار، راويه لاخبار رسول الله ص واصحابه. ومحمد بْن علي بْن عَبْد اللَّهِ بْن العباس بن عبد المطلب، وأمه العاليه ابنه عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، فولد محمد بن على عبد الله الاصغر، وهو ابو العباس القائم بالخلافة من ولد العباس وداود بن محمد وعبيد الله وريطة هلكت ولم تبرز، وأمهم ريطة ابنه عبيد الله بْن عبد الله بْن عبد المدان بن الديان من بنى الحارث بن كعب، وعبد الله الاكبر وهو ابو جعفر المنصور، ولى الخلافه بعد أخيه ابى العباس وأمه أم ولد. وابراهيم بن محمد وهو الامام الذى كان اهل دعوه بنى العباس يصيرون اليه ويصدرون عن رايه، وأمه أم ولد ويحيى بن محمد والعاليه بنت محمد وأمها أم الحكم بنت عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الحارث بْن عبد المطلب، وموسى بن محمد وأمه أم ولد، والعباس بن محمد وأمه أم ولد، واسماعيل ويعقوب، وهو ابو الاسباط، ولبابه بنت محمد، تزوجها جعفر بن سليمان بن على، هلكت عنده ولم تلد له، وهم لأمهات شتى. وذكر عن العباس بن محمد ان محمد بن على بن العباس توفى بالشراة من ارض الشام في خلافة الوليد بْن يزيد بْن عبد الملك بن مروان سنه خمس وعشرين ومائه وهو يومئذ ابن ستين سنه، وكان ابو هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفيه اوصى اليه ودفع اليه كتبه، فكان محمد بن على وصى ابى هاشم، وقال له ابو هاشم: ان هذا الأمر انما هو في ولدك، فكانت الشيعة الذين كانوا يأتون أبا هاشم ويختلفون اليه قد صاروا بعد ذلك الى محمد بن على. وثابت البناني بن اسلم، يكنى أبا محمد من ولد سعد بن لؤي بن غالب، وبنانه أمهم كذلك قال هشام عن ابيه، وقال على بن محمد: توفى ثابت البناني سنه سبع

وعشرين ومائه وكان ثابت من سكان البصره، وبها توفى وكان ثقه كثير الحديث. وعبد الله بن دينار مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب ويكنى أبا عبد الرحمن توفى سنه سبع وعشرين مائه، وكان من سكان المدينة وبها توفى وكان كثير الحديث ثقه ووهب بن كيسان ويكنى أبا نعيم مولى عبد الله بن الزبير بن العوام توفى سنه سبع وعشرين ومائه. وبكير بن عبد الله بن الاشج مولى المسور بن مخرمه الزهري، ويكنى أبا عبد الله توفى بالمدينة سنه سبع وعشرين ومائه. ومالك بن دينار يكنى أبا يحيى مولى لامرأة من بنى سامه بن لؤي ذكر عن ابن عائشة، قال: مالك بن دينار كان كابليا وكان عابدا حافظا قارئا للقرآن وكان يكتب المصاحف وجابر بن يزيد الجعفى وكان متشيعا وكان من ساكنى الكوفه، وبها كانت وفاته في سنه ثمان وعشرين ومائه. حدثنى سعيد بن عثمان التنوخي قال: حَدَّثَنَا إبراهيم بن مهدي المصيصي، قال: سمعت اسماعيل بن عليه قال: قال شعبه: اما جابر ومحمد بن إسحاق فصدوقان. حدثنى عبد الرحمن بن بشر النيسابورى قال: سمعت سفيان بن عيينه يقول: كان جابر الجعفى يؤمن بالرجعة وذكر عن يحيى بن معين انه قال مات جابر الجعفى سنه اثنتين وثلاثين ومائه. حدثنا العباس الدوري، قال: حدثنا ابو يحيى الحماني عبد الحميد بن بشمير عن ابى حنيفه النعمان بن ثابت قال: ما رايت أحدا اكذب من جابر الجعفى. قال العباس: وحدثنا يحيى بن يعلى المحاربى عن زائده قال: كان جابر الجعفى كذابا يؤمن بالرجعة

وعاصم بن ابى النجود الأسدي وهو عاصم بن بهدله مولى لبنى جذيمة بن مالك بن نصر بن قعين بن اسد، وكان يكنى أبا بكر كذلك، حدثنا عن ابى نعيم الفضل بن دكين، قال حدثنا ابو الأحوص- وكان مقرئ اهل الكوفه بعد يحيى بن وثاب، وكان ثقه، غير انه كان كثير الخطا، وكان من ساكنى الكوفه وبها كانت وفاته في سنه ثمان وعشرين ومائه. ابو إسحاق السبيعي، واسمه عمرو بن عبد الله بن احمد بن ذي يحمد بن السبيع بن سبع بن صعب بن معاويه بن كثير بن مالك بن جشم بن حاشد بن جشم بن خيوان بن نوف بن همدان، قال الأسود بن عامر: قال شريك: ولد ابو إسحاق السبيعي في سلطان عثمان- احسب شريكا- قال: لثلاث سنين، بقين منه وكان كثير الحديث صدوقا قارئا للقرآن. وقال ابو نعيم: بلغ ابو إسحاق ثمانيا- او تسعا- وتسعين سنه، ومات سنه ثمان وعشرين ومائه. وابو إسحاق الشيبانى واسمه سليمان بن ابى سليمان مولى لبنى شيبان وكان من ساكنى الكوفه، وبها توفى في قول محمد بن عمر في سنه تسع وعشرين ومائه. ومطر بن طهمان الوراق، وكان من اهل خراسان، وهو مولى علباء السلمى، وكان فيه ضعف في قول بعضهم، ويكنى مطر أبا رجاء، وذكر عن جعفر بن سليمان انه قال: مات مطر بن طهمان الوراق سنه خمس وعشرين ومائه. ويحيى بن ابى كثير الطائي، ويكنى أبا نصر، قال على بن المديني: سمعت يحيى بن سعيد قال: قال شعبه: حديث يحيى بن ابى كثير احسن من حديث الزهري وقال عبد الرزاق قال: معمر: اريد يحيى بن ابى كثير على البيعه لبعض بنى اميه فأبى، حتى ضرب وفعل به كما فعل بسعيد بن المسيب وكان يحيى بن ابى كثير كثير التدليس وقيل: مات يحيى بن ابى كثير سنه تسع وعشرين ومائه، كان من ساكنى اليمامه، وبها كانت وفاته. ومحمد بن المنكدر بن عبد الله بن الهدير بن عبد العزى بن عامر بن حارثة بن

سعد بن تيم بن مره، وأمه أم ولد، ويكنى أبا عبد الله ولد محمد بن المنكدر عمر وعبد الملك والمنكدر وعبد الله ويوسف وابراهيم وداود لام ولد، وحسبه بعضهم، فقال: محمد بن المنكدر بن عبد الله بن الهدير بن محرز بن عبد العزى وقيل مات محمد بن المنكدر بالمدينة وكان من ساكنيها في سنه مائه وثلاثين او احدى وثلاثين ومائه. وابو الحويرث، واسمه عبد الرحمن بن معاويه، روى عنه ابن عيينه قال يحيى: هو مدينى ثقه. وقال محمد بن بكار: حدثنا ابو معشر عن ابى الحويرث عبد الرحمن بن معاويه قال: انما كلم الله سبحانه موسى ع بقدر ما يطيق من كلامه، ولو يكلمه بكلامه كله لم يطقه، ومكث موسى اربعين ليله لا يراه احد الا مات من نور رب العالمين وكان ابو الحويرث من ساكنى المدينة وبها كانت وفاته في سنه ثلاثين ومائه ويزيد بن رومان مولى آل الزبير بن العوام، كان عالما بالمغازى مغازي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ ثقه، وكان من ساكنى المدينة، وبها كانت وفاته في سنه ثلاثين ومائه وشعيب بن الحبحاب من ساكنى البصره، وبها كانت وفاته في سنه ثلاثين ومائه وكان يكنى أبا صالح وهو من موالي بنى رافد، بطن من المعاول، والمعاول من الأزد. ومنصور بن المعتمر السلمى، ويكنى أبا عتاب وكان فاضلا ورعا دينا ثقه أمينا. القراءة، وكان يريد ان يترسل فلا يستطيع قال محمد بن عمر: مات منصور بن زاذان سنه تسع وعشرين ومائه وقال يحيى بن معين مات سنه سبع وعشرين ومائه. ومنصور بن المعتمر السلمى، ويكنى أبا عتاب وكان فاضلا ورعا دينا ثقه أمينا. حدثنا ابن حميد قال: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير، قال: صام منصور سنين وقامها حتى سقم. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، قال: كان منصور خلق الثياب، خلق الجلد، وكان في مرضه إذا شرب الماء يرى مجراه في صدره

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، قال: مات منصور، فرئي في النوم، فقيل له: يا أبا عتاب ما حالك؟ فقال: كدت ان القى الله عز وجل بعمل نبى. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير قال: اراد ابن هبيرة منصورا على القضاء فأبى، فحبسه شهرين، ثم خلى سبيله واجازه، فقبل منصور جائزته، وحج مع ابنه هو والقاسم. وحدثنى الحسين بن على الصدائى، قال: حدثنا خلف بن تميم قال: حدثنا زائده ان منصور بن المعتمر صام سنه فأقام ليلها وصام نهارها، وكان يبكى الليل، فتقول له أمه: يا بنى قتلت قتيلا فيقول انا اعلم بما صنعت بنفسي، فإذا اصبح كحل عينيه، ودهن راسه وبرق شفتيه بالدهن، وخرج الى الناس. قال: واراده يوسف بن عمر عامل الكوفه على القضاء فامتنع من ذلك منصور، فأرسل اليه فقيده، فقيل له: لو نثرت لحم هذا الشيخ ما جلس على عمل، قال: فاتى خصمان فجلسا، فتكلما فلم يجبهما، فأعفاه وخلى سبيله، وكان منصور من ساكنى الكوفه، وبها كانت وفاته في سنه ثنتين وثلاثين ومائه كان منصور من الشيعة. ومحمد بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عمرو بن حزم، أمه فاطمه بنت عماره بن عمرو ابن حزم ويكنى أبا عبد الملك، وكان قاضيا بالمدينة. قال ابن سعد: أخبرنا معن بن عيسى، قال: حدثنى سعيد بن مسلم، قال: رايت مُحَمَّد بْن أبي بكر بْن مُحَمَّد بْن عمرو بن حزم يقضى في المسجد. قال: وأخبرنا مطرف بن عبد الله اليسارى، عن مالك بن انس، قال: كان مُحَمَّد بْن أبي بكر بْن مُحَمَّد بْن عمرو بن حزم على القضاء بالمدينة، فكان إذا قضى بالقضاء مخالفا للحديث ورجع الى منزله قال له اخوه عبد الله بن ابى بكر- وكان رجلا صالحا: اى أخي قضيت اليوم في كذا وكذا بكذا وكذا فيقول له محمد: نعم اى أخي فيقول له عبد الله: فأين الحديث اى أخي، عز الحديث ان يقضى به، فيقول محمد ايهاه فأين العمل؟ يعنى ما اجمع عليه من العمل بالمدينة، والعمل المجتمع عندهم اقوى من الحديث

وقال محمد بن عمر: توفى مُحَمَّد بْن أبي بكر بْن مُحَمَّد بْن عمرو بن حزم سنه اثنين وثلاثين ومائه في أول دوله بنى العباس وهو ابن ثنتين وسبعين سنه. وصفوان بن سليم مولى حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، يكنى أبا عبد الله، وكان من العباد من ساكنى المدينة وبها كانت وفاته في سنه ثنتين وثلاثين ومائه وكان ان شاء الله ثقه. وعبد الله بن ابى نجيح، ويكنى أبا يسار وهو مولى لثقيف، وكان من ساكنى مكة وبها كانت وفاته، واختلف في وقت وفاته، فقال محمد بن عمر: مات بمكة سنه ثنتين وثلاثين ومائه، وقال عبد الرحمن بن يونس: أخبرنا سفيان قال: مات ابن ابى نجيح قبل الطاعون، وكان الطاعون سنه احدى وثلاثين ومائه. وذكر عن على بن المديني انه سمع يحيى بن سعيد يقول: كان ابن ابى نجيح معتزليا. قال يحيى: قال أيوب: اى رجل أفسدوا! وكان بن ابى نجيح مفتى اهل مكة بعد عمرو بن دينار. وربيعه بن ابى عبد الرحمن الذى يقال له ربيعه الرأي، واسم ابيه ابى عبد الرحمن فروخ، وكان ربيعه يكنى أبا عثمان، وهو مولى لال الهدير من بنى تميم بن مره، وكان ربيعه من ساكنى المدينة وبها كانت وفاته في سنه ست وثلاثين ومائه في آخر خلافه ابى العباس. وعبد الله بْن حسن بْن حسن بْن علي بن ابى طالب ع، وكنى أبا محمد، وكان من العباد، وكان ذا عارضه وهيبة ولسان وشرف، وكانت الخلفاء من بنى اميه تكرمه، وتعرف له شرفه ووفد على ابى العباس في دوله بنى العباس بالأنبار ذكر محمد بن عمر ان حفص بن عمر اخبره، قال: قدم عبد الله بن حسن على ابى العباس بالأنبار، فاكرمه وحباه وقربه وادناه وصنع به شيئا لم يصنعه بأحد، وكان سمر معه الليل، فسمر معه ليله الى نصف الليل وحادثه، فدعا ابو العباس بسفط جوهر، ففتحه فقال: هذا والله يا أبا محمد ما وصل الى من الجوهر الذى كان في أيدي بنى اميه، ثم قاسمه اياه، فاعطاه نصفه وبعث ابو العباس بالنصف الآخر الى

امراته أم سلمه، وقال: هذا عندك وديعة ثم تحدثا ساعه ونعس ابو العباس فخفق برأسه، وأنشأ عبد الله بن حسن يتمثل بهذه الأبيات: الم تر حوشبا امسى يبنى ... قصورا نفعها لبنى نتيلة يؤمل ان يعمر عمر نوح ... وامر الله يطرق كل ليله قال: وانتبه ابو العباس، ففهم ما قال، فقال: يا أبا محمد، تتمثل بمثل هذا الشعر عندي، وقد رايت صنيعي بك وان لم اذخرك شيئا! فقال: يا امير المؤمنين هفوة كانت، والله ما اردت بها سوءا، ولكنها ابيات حضرت، فتمثلت بها، فان راى امير المؤمنين ان يحتمل ما كان منى، فليفعل قال: قد فعلت، ثم رجع الى المدينة، فلما ولى ابو جعفر، وكان ابو العباس قد ساله عن ابنيه محمد وابراهيم، فقال: بالبادية حبب إليهما الخلوه، الح في طلبهما، فطلبا بالبادية، واغتم ابو جعفر بتغيبهما، فكتب الى رياح بن عثمان عامله على المدينة، أن يأخذ أباهما عبد الله بْن حسن واخوته، فأخذوا فقدم بهم الى الهاشمية فحبسوا بها فمات عبد الله بن الحسن في الحبس، وهو- يوم مات- ابن اثنتين وسبعين سنه وكانت وفاته في سنه خمس واربعين ومائه. حدثنى القاسم بن دينار القرشي، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي بكر ابن عياش، عن سليمان بن قرم، قال: قلت لعبد الله بن الحسن: افي قبلتنا كفار؟ قال: نعم، الرافضه. ومحمد بن السائب بن بشر بن عمرو بن الحارث بن عبد الحارث بن عبد العزى ابن إمرئ القيس بن عامر بن النعمان بن عامر بن عبدود بن عوف بن كنانه بن عوف بن عذره بن زيد اللات بن رفيده بن ثور بن كلب، ويكنى محمد بن السائب أبا النضر، وكان جده بشر بن عمرو، وبنوه السائب وعبيد وعبد الرحمن شهدوا الجمل وصفين مع امير المؤمنين على بن ابى طالب ع، وقتل السائب بن بشر مع مصعب بن الزبير، وله يقول ابن ورقاء النخعى: من مبلغ عني عبيدا بأنني ... علوت أخاه بالحسام المهند فإن كنت تبغي العلم عنه فإنه ... مقيم لدى الديرين غير موسد وعمدا علوت الرأس منه بصارم ... فاثكلته سفيان بعد محمد

وسفيان ومحمد ابنا السائب، وشهد محمد بن السائب الجماجم مع عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّدِ بْنِ الأشعث، وكان محمد بن السائب عالما بالتفسير والأنساب والأحاديث العرب، وتوفى بالكوفه وبها كان يسكن في سنه ست واربعين ومائه في خلافه ابى جعفر، ذكر ذلك كله ابن سعد عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ أَنَّهُ اخبره بذلك كله. وسليمان بن مهران الاعمش مولى بنى كاهل من الأسد، يكنى أبا محمد، كان ينزل في بنى عوف من بنى سعد، وكان يصلى في مسجد بنى حرام من بنى سعد، وكان مهران ابو الاعمش من طبرستان، وكان الاعمش من ساكنى الكوفه وبها كانت وفاته في سنه ثمان واربعين ومائه وهو ابن ثمان وثمانين سنه، وكان ولد يوم عاشوراء في المحرم سنه ستين يوم قتل الحسين بن على ع. وجعفر بْن محمد بْن علي بْن حسين بْن على بن ابى طالب ع وأمه أم فروه بنت القاسم بن محمد بن ابى بكر الصديق فولد جعفر بن محمد اسماعيل الاعرج وعبد الله وأم فروه أمهم فاطمه ابنه الحسين الأثرم بْن حسن بْن علي بْن أبي طالب وموسى ابن جعفر، حبسه هارون الرشيد في السجن ببغداد عند السندي، فمات في حبسه. وإسحاق ومحمدا وفاطمه، تزوجها محمد بْن إبراهيم بْن محمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس، فهلكت عنده، وأمهم أم ولد ويحيى بن جعفر والعباس وأسماء وفاطمه الصغرى وهم لأمهات شتى. قال محمد بن عمر: سمعت جعفر بن محمد يقول لغلامه معتب: اذهب الى مالك ابن انس فسله عن كذا وكذا ثم ائتنى فأخبرني قال محمد: وأخذ ابو جعفر المنصور معتبا هذا، فضربه الف سوط حتى مات، وكان جعفر بن محمد كثير الحديث ثقه، وكذلك كان يحيى بن معين يقول فيما ذكر عنه. وذكر عن القطان انه سئل فقيل له: مجالد بن سعيد أحب إليك أم جعفر؟

ذكر من هلك منهم سنه خمسين ومائه

ابن محمد؟ فقال: مجالد أحب الى من جعفر وكان جعفر من ساكنى المدينة وبها كانت وفاته في سنه ثمان واربعين ومائه في خلافه ابى جعفر في قول الواقدى والمدانى. وكان جعفر بن محمد يكنى أبا عبد الله، حدثنا العباس بن محمد قال: سمعت يحيى يقول: جعفر بن محمد ثقه . ذكر من هلك منهم سنه خمسين ومائه منهم ابو حنيفه النعمان بن ثابت مولى تيم اللَّه بن ثعلبة من بكر بن وائل قال ابو هشام الرفاعى: سمعت عمى كثير بن محمد يقول: سمعت رجلا من بنى قفل من خيار بنى تيم الله يقول لأبي حنيفه: ما أنت مولاى؟ فقال: انا والله لك اشرف منك لي. وذكر الوليد بن شجاع ان على بن الحسن بن شقيق حدثه، قال: كان عبد الله بن المبارك يقول: إذا اجتمع هذان على شيء، فذلك قولي- يعنى الثوري وأبا حنيفه قال سليمان بن ابى شيخ: وكان ابو سعيد الرانى يمارى اهل الكوفه ويفضل اهل المدينة، فهجاه رجل من اهل الكوفه، ولقبه شرشير، وقال: كليب في جهنم اسمه شرشير فقال: هذى مسائل لا شرشير يحسنها ... ان سيل عنها ولا اصحاب شرشير وليس يعرف هذا الدين نعلمه ... الا حنيفه كوفية الدور لا تسالن مدينيا وتكفره ... الا عن اليم والمثناه والزير وقال بعضهم: والمثنى او الزير. قال سليمان: قال ابو سعيد: فكتبت الى المدينة: قد هجيتم بكذا وكذا فأجيبوا، فأجابه رجل من اهل المدينة فقال: لقد عجبت لغاو ساقه قدر ... وكل امر إذا ما حم مقدور قال المدينة ارض لا يكون بها ... الا الغناء والا اليم والزير لقد كذبت لعمر الله ان بها ... قبر الرسول وخير الناس مقبور

قال سليمان: وحدثنى عمرو بن سليمان العطار، قال: كنت بالكوفه اجالس أبا حنيفه، فتزوج زفر، فحضره ابو حنيفه، فقال له: تكلم، فخطب فقال في خطبته: هذا زفر بن الهذيل، وهو امام من ائمه المسلمين، وعلم من اعلامهم في حسبه وشرفه وعلمه فقال بعض قومه: ما يسرنا ان غير ابى حنيفه خطب حين ذكر خصاله ومدحه، وكره ذلك بعض قومه وقالوا له: حضر بنو عمك واشراف قومك وتسال أبا حنيفه يخطب؟ فقال لو حضر ابى قدمت أبا حنيفه عليه: وزفر بن الهذيل عنبرى من بنى تميم. وقال ابراهيم بن بشار الرمادي: قال ابن عيينه: ما رايت أحدا اجرا على الله من ابى حنيفه أتاه رجل من اهل خراسان بمائه الف مساله، فقال له: انى اريد ان اسالك عنها، فقال: هاتها قال سفيان: فهل رايتم اجرا على الله عز وجل من هذا! حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه قال: حدثنى ابى قال: حدثنى على بن الحسين بن واقد، عن عمه الحكم بن واقد، قال: رايت أبا حنيفه يفتى من أول النهار الى ان تعالى النهار، فلما خف عنه الناس دنوت منه، فقلت: يا أبا حنيفه، لو ان أبا بكر وعمر في مجلسنا هذا ثم ورد عليهما ما ورد عليك من هذه المسائل المشكله لكفا عن بعض الجواب، ووقفا عنده، فنظر الى وقال: امحموم أنت! حدثنا احمد بن خالد الخلال، قال: سمعت الشافعى يقول: سئل مالك يوما عن البتى، فقال: كان رجلا مقاربا، وسئل عن ابن شبرمة فقال: كان رجلا، مقاربا، قيل: وابو حنيفه؟ قال لو جاء الى اساطينكم هذه وقايسكم لجعلها من خشب. ومحمد بن إسحاق بن يسار، مولى عبد الله بْن قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ بن قصى، ويكنى أبا عبد الله وقال محمد بن عمر: هو مولى قيس بن مخرمه، وكان جده يسار من سبى عين التمر، وهو أول سبى دخل المدينة من العراق. وقد روى عن ابيه إسحاق بن يسار وعن عميه موسى وعبد الرحمن ابنى يسار. وكان من اهل العلم بالمغازى مغازي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبايام العرب واخبارهم وانسابهم، راويه لاشعارهم، كثير الحديث غزير العلم طلابه له، مقدما في العلم بكل ذلك ثقه

حدثنى سعيد بن عثمان التنوخي قال: حَدَّثَنَا إبراهيم بن مهدي المصيصي قال: سمعت اسماعيل بن عليه قال: قال شعبه: اما محمد بن إسحاق وجابر الجعفى فصدوقان. قال ابن سعد: أخبرني ابن محمد بن إسحاق، قال: مات ابى ببغداد سنه خمسين ومائه، ودفن في مقابر الخيزران. ومسعر بن كدام بن ظهير الهلالي، من انفسهم، ويكنى أبا سلمه. حدثنا ابو السائب، قال: سمعت أبا نعيم يقول: سمعت مسعرا يقول: اخوالى أنت؟ قلت: انا رجل من بنى هلال، قال: ما لي أم أحب الى من الام التي اخوالى؟ قلت: انا رجل من بنى هلال، قال: ما لي أم أحب الى من الام التي منكم، قال: قلت يا امير المؤمنين تدرى ما قال الشاعر فينا وفيكم؟ قال لي: وما قال؟ قلت، قال: وشاركنا قريشا في تقاها ... وفي أنسابها شرك العنان بما ولدت نساء بنى هلال ... وما ولدت نساء بنى ابان قال: قلت يا امير المؤمنين، ان اهلى بعثونى اشترى بالدرهم شيئا، فردوه على، قال: بئسما صنع بك اهلك، خذ هذه العشرة آلاف فاقسمها. واختلف في وقت وفاته فقال ابن سعد قال محمد بن عبد الله الأسدي: توفى مسعر بالكوفه سنه اثنتين وخمسين ومائه في خلافه ابى جعفر وقال ابو نعيم الفضل بن دكين فيما حدثنى به محمد بن اسماعيل عنه: مات مسعر بن كدام سنه ست وخمسين ومائه. وحمزه بن حبيب الزيات، مولى بنى تيم الله كان من القراء المتقدمين في حفظ القرآن وهو قليل الحديث، ثقه، وكان من ساكنى الكوفه، وتوفى في سنه ست وخمسين ومائه. وحدثنى محمد بن منصور الطوسى، قال: حدثنا صالح بن حماد عن

شيخ قد سماه عن حمزه الزيات، قال: رايت النبي ص في النوم، فعرضت عليه عشرين حديثا فعرف منها حديثين. عبد الرحمن بن عمرو ويكنى أبا عمرو، وقيل له: الأوزاعي، وهو سيبانى بسكناه فيهم. وأما هِشَام بْن مُحَمَّد الكلبي، فإنه ذكر عن ابيه انه قال: الأوزاعي عبد الرحمن ابن عمرو، وهو من الأوزاع، وهم مالك ومرثد ابنا زيد بن شدد بن زرعه، وشدد زوج بلقيس صاحبه سليمان، وكان يسكن بيروت ساحل من سواحل الشام، وكان في زمانه احد مفتى تلك الناحية ومحدثيهم وذوى الفضل منهم، وتوفى الأوزاعي ببيروت سنه سبع وخمسين ومائه في آخر خلافه ابى جعفر وهو ابن سبعين سنه في قول محمد ابن عمر. وشعبه بن الحجاج بن ورد من الأزد مولى للاشاقر عتاقه، ويكنى أبا بسطام، وكان اكبر من الثوري بعشر سنين: حدثنى احمد بن الوليد، قال: حدثنا الربيع بن يحيى، قال: سمعت سفيان الثوري يقول: ما بقي على ظهر الارض مثل شعبه وحماد بن سلمه. قال الطبرى قال لي محمد بن إسحاق الصاغانى: سمعت أبا قطن قال: قال لي شعبه: ما شيء اخوف على ان يدخلني النار من الحديث، وكان شعبه من ساكنى البصره، وبها كانت وفاته في أول سنه ستين ومائه، وهو ابن خمس وسبعين سنه. وبحر بن كنيز السقاء الباهلى ويكنى أبا الفضل، وكان من ساكنى البصره، وبها كانت وفاته في سنه ستين ومائه في خلافه المهدى، وكان ممن لا يعتمد على روايته. والأسود بن شيبان من ساكنى البصره، وكان رجلا صالحا ثقه وبالبصرة كانت وفاته في سنه ستين ومائه في قول على بن محمد. وزائده بن قدامه الثقفى من انفسهم، ويكنى أبا الصلت، وكان منحرفا عن على ابن ابى طالب ع

ذكر من هلك منهم في سنه احدى وستين ومائه

ذكر من هلك منهم في سنه احدى وستين ومائه منهم سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله بن موهبه ابن ابى بن عبد الله بن منقذ بن نصر بن الحارث بن ثعلبه بن عامر بن ملكان بن ثور ابن عبد مناه بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر ويكنى أبا عبد الله، ولد فيما ذكر محمد بن عمر سنه سبع وتسعين وكان فقيها عالما عابدا ورعا ناسكا راويه للحديث، كثير الحديث، ثقه أمينا على ما روى وحدث عن رسول الله ص وغيره ممن اثر في الدين. حدثنى محمد بن خلف، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيُّ، قَالَ: حدثنا شعبه بن الحجاج، قال: حدثنا سفيان بن سعيد الثوري قال: حدثنى على ابن الاقمر عن ابى جحيفه، قال: [قال رسول الله ص: اما انا فلا آكل متكئا] . حدثنى محمد بن اسماعيل الضرارى قال: سمعت أبا نعيم يقول: سمعت سفيان يقول: ما من عمل شيء اخوف منه، ولقد مرضت فما ذكرت غيره، ولوددت انى نجوت منه كفافا- يعنى الحديث، سمعت عبد الله بن أحمد بن شبويه، قال: سمعت ابى يقول: حدثنا ابو عيسى الزاهد، قال: سمعت معدانا يقول: زاملت سفيان الثوري فلما خلفنا الكوفه بظهر، قال لي سفيان يا معدان ما تركت ورائي من أثق به، ولا اقدم امامى على من أثق به- يعنى الثقه في الدين. وذكر عن زيد بن حباب، قال: كان عمار بن رزيق الضبي وسليمان بن قرم الضبي وجعفر بن زياد الأحمر وسفيان الثوري، اربعه يطلبون الحديث، وكانوا يتشيعون فخرج سفيان الى البصره فلقى ابن عون وأيوب، فترك التشيع قال وكانت وفاته بالبصرة سنه احدى وستين ومائه في خلافه المهدى. والحسن بن صالح وصالح هو حي ويكنى حسن أبا عبد الله، وكان رجلا ناسكا فاضلا فقيها من رجل كان يميل الى محبه اهل بيت رسول الله ص، ويرى انكار المنكر بكل ما امكنه إنكاره، وكان كثير الحديث، ثقه، وكان فيما ذكر

زوج ابنته عيسى بن زيد بن علي بن الحسين، فامر المهدى بطلب عيسى والحسن وجد في طلبهما. قال ابن سعد سمعت الفضل بن دكين يقول: رايت الحسن بن صالح في الجمعه قد شهدها مع الناس، ثم اختفى يوم الأحد الى ان مات، ولم يقدر المهدى عليه ولا على عيسى بن زيد، وكان اختفاؤه مع عيسى بن زيد في موضع واحد سبع سنين، ومات عيسى قبل الحسن بن صالح بسته اشهر، وكان حسن بن حي من ساكنى الكوفه، وبها كانت وفاته سنه سبع وستين ومائه، وهو يومئذ ابن اثنتين- او ثلاث- وستين سنه. وذكر عن يحيى بن معين انه قال: ولد الحسن بن صالح بن حي سنه مائه. قال العباس: وسمعت يحيى يقول: الحسن بن صالح، هو حسن بن صالح ابن صالح بن مسلم بن حيان، والناس يقولون: ابن حي وانما هو ابن حيان وجعفر ابن زياد الأحمر، مولى مزاحم بن زفر من تيم الرباب من ساكنى الكوفه وبها كانت وفاته في سنه سبع وستين ومائه، وكان كثير الحديث شيعيا وعبيد الله بن الحسين بن الحصين ابن مالك بن مالك بن الخشخاش بن حباب بن الحارث بن خلف بن مجفر بن كعب ابن العنبر بن عمرو بن تميم، وكان من فقهاء اهل البصره وذوى الأدب منهم والعقل، ولى قضاء البصره بعد سوار بن عبد الله. قال على بن محمد: ولد عبيد الله بن الحسن سنه مائه، وقيل: سنه ست ومائه، وولى القضاء سنه سبع وخمسين ومائه ذكر ابن سعد ان احمد بن مخلد قال: سمع عبيد الله بن الحسن العنبري على منبر البصره يقول: اين الملوك التي عن حظها غفلت ... حتى سقاها بكاس الموت ساقيها أموالنا لذوي الميراث نجمعها ... ودورنا لخراب الدهر نبنيها وقال محمد بن عمر: مات عبيد الله بن الحسن العنبري في ذي القعده سنه ثمان وستين ومائه. وقال فضيل بن عبد الوهاب: حدثنا معاذ بن معاذ قال: دخلت على عبيد الله

ابن الحسن قاضى اهل البصره اعوده، فقلت: أراك اليوم بحمد الله صالحا، فقال: لا يغرنك عشاء سالم ... سوف ياتى بالمنيات السحر فلما كان السحر سمعت الواعية عليه وحسن بن زيد بن حسن بن على ابن ابى طالب ع، وكان الحسن بن زيد يكنى أبا محمد، وولد الحسن ابن زيد محمدا والقاسم وأم كلثوم بنت حسن، تزوجها ابو العباس امير المؤمنين، فولدت له غلامين هلكا صغيرين، وعليا وزيدا وابراهيم وعيسى واسماعيل وإسحاق الأعور وعبد الله وكان حسن بن زيد عابدا، فولاه ابو جعفر المدينة فوليها خمس سنين، ثم تعقبه فغضب عليه، وعزله، فاستصفى كل شيء له فباعه وحبسه، فكتب محمد المهدى وهو ولى عهد ابيه الى عبد الصمد بن على سرا! إياك إياك ولم يزل محبوسا حتى مات ابو جعفر، فاخرجه المهدى واقدمه عليه ورد عليه كل شيء ذهب له، ولم يزل معه حتى خرج المهدى يريد الحج في سنه ثمان وستين ومائه، ومعه حسن بن زيد، وكان الماء في الطريق قليلا، فخشي المهدى على من معه العطش، فرجع من الطريق ولم يحج تلك السنه، ومضى الحسن بن زيد يريد مكة، فاشتكى أياما ثم مات بالحاجر فدفن هناك سنه ثمان وستين ومائه ومالك بن انس بن ابى عامر بن عمرو بن الحارث ابن غيمان بن خثيل بن عمرو بن الحارث، وهو ذو اصبح من حمير، وعداده في تيم بن مره من قريش الى عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمى، وكان مالك يكنى أبا عبد الله، وكان مفتى اهل بلده في زمانه ومحدثهم. حدثنى العباس بن الوليد قال: حدثنى ابراهيم بن حماد الزهري المديني، قال سمعت مالكا يقول: قال لي المهدى: يا أبا عبد الله ضع كتابا احمل الامه عليه، قال يا امير المؤمنين، اما هذا الصقع- واشار الى المغرب وقد كفيتكه- واما الشام ففيهم الذى قد علمته- يعنى الأوزاعي- واما اهل العراق فهم اهل العراق. واما محمد بن عمر فانه ذكر هذه القصة عن مالك بخلاف ما حدثنى به العباس عن ابراهيم بن حماد، والذى ذكر محمد بن عمر من ذلك ما حدثنى به الحارث، عن ابن سعد عنه، قال: سمعت مالك بن انس يقول: لما حج ابو جعفر المنصور

دعانى فدخلت عليه، فحادثته، وسألني فاجبته، فقال: انى قد عزمت ان آمر بكتبك هذه التي قد وضعتها- يعنى الموطأ- فتنسخ نسخا ثم ابعث الى كل مصر من امصار المسلمين منها نسخه، وآمرهم ان يعملوا بما فيها لا يتعدونه الى غيره، ويدعوا ما سوى ذلك من هذا العلم المحدث، فانى رايت اصل العلم روايه اهل المدينة وعلمهم قال: فقلت يا امير المؤمنين لا تفعل هذا، فان الناس قد سبقت اليهم اقاويل، وسمعوا احاديث ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق اليهم، وعملوا به، ودانوا به من اختلاف الناس وغيرهم وان ردهم عما قد اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار اهل كل بلد لأنفسهم، فقال: لعمري لو طاوعتنى على ذلك لأمرت به. وقال ابن سعد: أخبرنا ابن ابى اويس، قال: اشتكى مالك بن انس أياما يسيره، فسالت بعض أهلنا عما قال عند الموت، قالوا: تشهد ثم قال: لله الأمر من قبل ومن بعد، وتوفى صبيحة اربع عشره من شهر ربيع الاول من سنه تسع وسبعين ومائه في خلافه هارون، فصلى عليه عبد الله بْن محمد بْن إبراهيم بْن محمد بْن على ابن عبد الله بن العباس، وهو ابن زينب ابنه سليمان بن على، وكان يعرف بامه يقال له: عبد الله بن زينب، وكان يومئذ واليا على المدينة، فصلى على مالك في موضع الجنائز، ودفن بالبقيع، وكان يوم مات ابن خمس وثمانين سنه: قال ابن سعد فذكرت ذلك لمصعب بن عبد الله الزبيري فقال: انا احفظ الناس لموت مالك مات في صفر سنه تسع وسبعين ومائه وعبد الله بن المبارك ويكنى أبا عبد الرحمن، وكان من طلبه العلم ورواته، وكان من الفقه والأدب والعلم بايام الناس والشعر بمكان، وكان مع ذلك زاهدا سخيا، وولد ابن المبارك في سنه ثماني عشره ومائه، وكان من سكان خراسان ومات بهيت منصرفا من غزو الروم سنه احدى وثمانين ومائه وله ثلاث وستون سنه سمعت عبد الله بن احمد ابن شبويه، قال: سمعت على بن الحسن يقول: سمعت ابن المبارك يقول: انا لنحكى كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع ان نحكى كلام الجهمية سمعت عبد الله بن احمد ابن شبويه يقول: سمعت على بن الحسن يقول: قلنا لعبد الله بن المبارك: كيف

تعرف ربنا؟ قال: فوق سبع سموات على العرش بائنا من خلقه بحد، ولا نقول كما قالت الجهمية: انه هاهنا- واشار بيده الى الارض ومحمد بن الحسن، ويكنى أبا عبد الله، وهو مولى لبنى شيبان، كان اصله من الجزيرة، وكان أبوه في جند الشام، فقدم واسطا فولد محمد بها سنه ثنتين وثلاثين ومائه، ونشا بالكوفه، وطلب الحديث، وسمع ثم جالس أبا حنيفه، وسمع منه فغلب عليه مذهبه، وعرف به، ثم قدم بغداد فنزلها، وسمع منه بها، ثم خرج الى الرقة وهارون الرشيد بها، فولاه قضاء الرقة، ثم عزله، فقدم بغداد، فلما خرج هارون الى الري الخرجه الاولى امره فخرج معه، فمات بالري في سنه تسع وثمانين ومائه وهو ابن ثمان وخمسين سنه ويوسف بن يعقوب بن ابراهيم القاضى، وكان قد سمع الحديث ونظر في الرأي، وولى قضاء بغداد الجانب الغربي منها في حياه ابيه، وصلى بالناس الجمعه في مدينه ابى جعفر بأمر هارون، فلم يزل قاضيا بها الى ان توفى في رجب سنه ثلاث وتسعين ومائه وسفيان بن عيينه بن ابى عمران، ويكنى أبا محمد مولى لبنى عبد الله بن رويبة، من بنى هلال بن عامر بن صعصعة، وكان أبوه عيينه من عمال خالد بن عبد الله القسرى، فلما عزل خالد عن العراق، وولى يوسف بن عمر الثقفى طلب عمال خالد فهربوا منه، فلحق عيينه بن ابى عمران بمكة فنزلها. وقال ابن سعد: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن عُمَرَ، قَالَ: أخبرني سفيان بن عيينه انه ولد سنه سبع ومائه، وطلب العلم قديما، وكان حافظا وعمر حتى مات ذوو اسنانه، وبقي بعدهم. قال سفيان: وذهبت الى اليمن سنه خمسين ومائه وسنه ثنتين وخمسين ومائه ومعمر حي، وذهب الثوري قبلي بعام. وقال ابن سعد: أخبرني الحسن بن عمران بن عيينه ابن أخي سفيان قال: حججت مع عمى سفيان آخر حجه حجها سنه سبع وتسعين ومائه، فلما كان بجمع وصلى استلقى على فراشه، ثم قال لي: قد وافيت هذا الموضع سبعين عاما اقول في كل عام: اللهم لا تجعله آخر العهد من هذا المكان، وانى قد استحييت من الله عز وجل من كثره ما اساله ذلك، فرجع فتوفى في السنه الداخله يوم السبت أول يوم من رجب سنه ثمان وتسعين ومائه، ودفن بالحجون، وتوفى وهو ابن احدى وتسعين سنه

واويس القرني، من مراد، وهو يحابر بن مالك من مذحج، وهو اويس بن عامر ابن جزء بن مالك بن عمرو بن سعد بن عصوان بن قرن بن ردمان بن ناجيه بن مراد، وهو يحابر بن مالك، وكان ورعا فاضلا، روى انه قتل يوم صفين. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ، قال: حدثنا هشام عن الحسن، قال: [قال رسول الله ص: ليدخلن الجنه بشفاعة رجل من امتى مثل ربيعه ومضر،] قال هشام: فأخبرني حوشب انه قال: هو اويس القرني وحضين بن المنذر الرقاشى، وكان يكنى أبا محمد، وكان يكنى في الحرب بابى ساسان، قال الحارث: حدثنى على ابن محمد، قال: حدثنى على بن مالك الجشمى قال: ذكروا الحضين بن المنذر عند الأحنف، فقالوا: ساد وما اتصلت لحيته، فقال الأحنف: السودد مع السواد قبل ان يشيب الرجل، وكان حضين بن المنذر يوم صفين صاحب لواء ربيعه، وأراه عنى عليا ع بقوله: لمن راية سوداء يخفق ظلها ... إذا قيل قدمها حضين تقدما وحدثنى مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، قَالَ: حدثنا على بن سويد ابن منجوف، قال: أتينا حضين بن المنذر أبا ساسان فقال: مرحبا بزائر لا يمل وسعد ابن الحارث بن الصمة بن عمرو بن عتيك بن عمرو بن مبذول، وهو عامر بن مالك ابن النجار، وقتل سعد بن الحارث بصفين مع امير المؤمنين على بن ابى طالب. والحارث الأعور بن عبد الله بن كعب بن اسد بن يخلد بن حوث، واسمه عبد الله بن سبع بن صعب بن معاويه بن كثير بن مالك بن جشم بن حاشد بن جشم ابن خيوان بن نوف بن همدان، وحوث هو أخو السبيع رهط ابى إسحاق السبيعي. وكان الحارث من مقدمي اصحاب امير المؤمنين على ع وعبد الله في الفقه والعلم بالفرائض والحساب. وحدثنى زكرياء بن يحيى، قال: حدثنا احمد بن يونس، عن زائده، عن الاعمش عن ابراهيم، قال: قال الحارث: تعلمت القرآن في سنه والوحى في ثلاث سنين. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ واضح، قال: حدثنا اسماعيل، عن مخلد عن ابى إسحاق، ان الحسن بن على ع كتب الى الحارث: انك

كنت تسمع من على ع شيئا لم اسمعه، فبعث اليه بوقر بعير. حدثنا أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ مجالد عن الشعبى، قال: تعلمت من الحارث الأعور الفرائض والحساب، وكان احسب الناس وزعم يحيى بن معين ان الحارث توفى في سنه خمس وستين، ولا خلاف بين الجميع من اهل الاخبار ان وفاه الحارث كانت ايام ولايه عبد الله بن يزيد الأنصاري الكوفه من قبل عبد الله بن الزبير. وعبد الله بن يزيد الذى صلى على الحارث في ايامه تلك بالكوفه، وكان الحارث من ساكنى الكوفه، وبها كانت وفاته، وكان من شيعه امير المؤمنين على ابن ابى طالب وعمرو بن سلمه بن عبد الله بن سلمه بن عميرة بن مقاتل ابن الحارث بن كعب بن علوي بن عليان بن ارحب بن دعام من همدان، كان شريفا، وهو الذى بعثه الحسن بن على ع مع محمد بن الاشعث بن قيس في الصلح بينه وبين معاويه، فاعجب معاويه ما راى من فصاحته وجسمه، فقال: امضرى أنت؟ قال: لا، ثم قال: انى لمن قوم بنى الله مجدهم ... على كل باد في الأنام وحاضر ابوتنا آباء صدق نمى بهم ... الى المجد آباء كرام العناصر وأماتنا اكرم بهن عجائزا ... ورثن العلا عن كابر بعد كابر جناهن كافور ومسك وعنبر ... وأنت ابن هند من جناه المغافر انا امرؤ من همدان، ثم احد ارحب. وابو عبد الرحمن السلمى، واسمه عبد الله بن حبيب، قال ابن سعد: قال حجاج بن محمد: قال شعبه: لم يسمع ابو عبد الرحمن من عثمان ولكن سمع من على ع وكان ابو عبد الرحمن من اصحاب على ع من ساكنى الكوفه، وبها كانت وفاته في ولايه بشر بن مروان العراق. حَدَّثَنَا ابن حميد قَالَ: حَدَّثَنَا جرير عن عطاء قال: قال رجل لأبي عبد الرحمن، أنشدك الله، متى ابغضت عليا ع اليس حين قسم قسما بالكوفه فلم يعطك ولا اهل بيتك؟ قال: اما إذ نشدتني الله فنعم. وكميل بن زياد بن نهيك بن هيثم بن سعد بن مالك بن الحارث بن صهبان بن

سعد بن مالك بن النخع من مذحج، شهد مع على ع صفين، وكان شريفا مطاعا في قومه، فلما قدم الحجاج الكوفه دعا به فقتله. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ عَنْ الاعمش، قال: قال الحجاج للعريان: يا عريان، ما فعل كميل؟ اليس قد خرج علينا في الجماجم؟ قال: فأجابه العريان، فذكر كلاما، قال: فمكث ثم جاء كميل يأخذ عطاءه، قال: فأخذه، فقال: أنت الذى فعلت بعثمان، وكلمه بشيء، قال كميل: لا تكثر على اللوم ولا تهل على الكثيب، وما ذاك! رجل لطمتى فاصبرنى فعفوت عنه، فأينا كان المسيء؟ قال: فامر به فضربت عنقه قال: وكان من اهل القادسية وعمر الاكبر بن على ابن ابى طالب ع بن عبد المطلب بن هاشم وأمه الصهباء، وهي أم حبيب ابنه بجير بن العبد بن عَلْقَمَة بن الْحَارِث بن عتبة بن سَعْدِ بْنِ زهير بن جشم بن بكر ابن حبيب بن عمرو بن غنم بن عثمان بن تغلب بن وائل، وكانت سبيه أصابها خالد ابن الوليد حين اغار على بنى تغلب بناحيه عين التمر. وعبيد الله بن على بن ابى طالب ع أمه لَيْلَى ابنة مسعود بن خَالِد بن مالك ابن ربعي بن سلمى بن جندل بن نهشل بن دارم، قتل بالمذار في الوقعه التي كانت بين اصحاب مصعب بن الزبير واصحاب المختار وهو في جيش مصعب وابو نضره، واسمه المنذر بن مالك بن قطعه من العوقه، وهم بطن من عبد القيس وقال على ابن محمد: خرج ابو نضره مع ابن الاشعث، وكان ابو نضره من شيعه على ع. ونوف البكالى، وهو نوف بن فضالة ابن امراه كعب ونوفل ابن مساحق بن عبد الله ابن مخرمه بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عُبْدُودِ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عامر بن لؤي. والاشتر، واسمه مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلمه بن ربيعه بن الحارث ابن جذيمة بن سعد بن مالك بن النخع من مذحج. حَدَّثَنِي إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيمَ بن حبيب بن الشهيد، قَالَ: سمعت أبا بكر بن عَيَّاش يقول: قَالَ عَلْقَمَة: قلت للأشتر: قَدْ كنت كارها لقتل عثمان، فما أخرجك بِالْبَصْرَةِ؟ قَالَ: إن هَؤُلاءِ بايعوه ثم نكثوه وكان ابن الزبير، وهو الذى هز عائشة على الخروج، وكنت ادعو الله عز وجل ان يلقينيه، ولقيني كفه لكفه، فما رضيت لشدة ساعدى. ان قمت في الركاب، فضربته ضربه فصرعته قال: قلت فهو القائل: اقتلوني

ومالكا قَالَ: لا مَا تركته، وفي نفسي مِنْهُ شَيْء، ذاك عبد الرَّحْمَن بن عتاب بن أسيد لقيني فاختلفنا ضربتين، فصرعني وصرعته، فجعل يقول: اقتلوني ومالكا، وَلا يعلمون من مالك، ولو يعلمون لقتلوني ثُمَّ قَالَ أَبُو بَكْر بن عياش: هذا كأنك شاهده. حَدَّثَنِي بِهِ الْمُغِيرَةُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ علقمه قال: قلت للأشتر. وشبث بن ربعي بن حضين بن عثيم بن ربيعه بن زَيْد بن رياح بن يربوع بن حنظله من بنى تميم وكان شبث يكنى أبا عبد القدوس، قال ابن سعد: أخبرنا الفضل بن دكين، قال: حدثنا حفص ابن غياث، قال: سمعت الاعمش قال: شهدت جنازة شبث، فأقاموا العبيد على حده والجوارى على حده، والنجف على حده، والنوق على حده، وذكر الاصناف، ورايتهم ينوحون عليه يلتدمون. حدثنى ابن عبد الأعلى قال: حدثنا المعتمر، عن ابيه، عن انس، قال: قال شبث: انا أول من حرر الحرورية فقال رجل: ما كان في هذا ما يتمدح به. والمسيب بن نجبه بن ربيعه بن رياح بن عوف بن هلال بن شمخ بن فزاره شهد القادسية، وشهد مع على ع مشاهده، وقتل يوم عين الورده مع التوابين الذين خرجوا وتابوا من خذلان الحسين عليه السلام، فبعث الحصين بن نمير يراس المسيب ابن نجبه مع ادهم بن محرز الباهلى الى عبيد الله بن زياد، فبعث به عبيد الله بن زياد الى مروان بن الحكم، فنصبه بدمشق وحجر بن عدى بن جبله بن عدى بن ربيعه ابن معاويه الاكرمين بن الحارث بن معاويه بن الحارث بن معاويه بن ثور بن مرتع ابن كنده وهو حجر الخير، وأبوه عدى الأدبر، طعن موليا فسمى الأدبر وكان حجر ابن عدى جاهليا اسلاميا وقد ذكر بعض رواه العلم انه وفد الى النبي ص مع أخيه هانئ بن عدى، وشهد القادسية، وهو الذى افتتح مرج عذراء، وكان في الفين وخمسمائة من العطاء، وكان من اصحاب على ع، شهد معه الجمل وصفين وصعصعة بن صوحان توفى بالكوفه في خلافه معاويه وعبد خير بن يزيد الخيوانى من همدان، ويكنى أبا عماره، شهد مع على ع صفين، وكان له اثر فيها

والأصبغ بن نباته بن الحارث بن عمرو بن فاتك بن عامر بن مجاشع بن دارم، وكان صاحب شرط على ع، وكان الأصبغ من شيعه على ع وحجار بن ابجر ابن جابر بن بجير بن عائذ بن شريط بن عمرو بن مالك بن ربيعه بن عجل، وكان شريفا ومسلم بن نذير السعدي من سعد بن زيد مناه بن تميم، وكان أيضا من الشيعة وابو عبد الله الجدلى واسمه عبده بن عبد بن عبد الله بن ابى يعمر بن حبيب ابن عائذ بن مالك بن وائله بن عمرو بن ناج بن يشكر بن عدوان، واسمه الحارث ابن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر- وسمى عدوان- لأنه عدا على أخيه فهم ابن عمرو فقتله، وأم عدوان وفهم جديله بنت مر بن ادبن طابخه اخت تميم بن مر فنسبوا إليها، وكان ابو عبد الله الجدلى عن شيعه على ع وقائد الثمانمائة الذين وجههم المختار الى محمد بن الحنفيه لمنعه من ابن الزبير حين اراد قتله وابو المتوكل الناجى واسمه على بن دواد وابو الصديق الناجى واسمه بكر بن عمرو ثقه وذر ابن عبد الله بن زراره بن معاويه بن عميرة بن منبه بن غالب بن وقش بن قاسم بن مرهبه، من همدان، وكان ذر من المقدمين في القصص، وكان من اهل الارجاء، وكان من القراء الذين خرجوا مع عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّدِ بْنِ الأشعث على الحجاج. قال ابن سعد: أخبرنا الفضل بن دكين، قال: حدثنا ابو إسرائيل عن الحكم، قال: سمعت ذرا في الجماجم يقول: هل هي الا برد حديده بيد كافر مفتون وطلحه ابن عبد الله بن خلف بن اسعد من بنى مليح بن عمرو بن ربيعه، من خزاعة، قتل أبوه عبد الله بن خلف يوم الجمل مع عائشة وطلحه هذا هو الذى يقال له طلحه الطلحات وكان اجود العرب في زمانه وأمه صفية ابنة الْحَارِث بن طَلْحَة بن أبي طلحه ابن عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بن قصى، وأم ابيه حمينه ابنه ابى طلحه ابن عبد العزى، وسمى طلحه الطلحات بولادة طلحه وابى طلحه اياه وسالم بن ابى حفصة وكان سالم يكنى أبا يونس وكان يتشيع تشيعا شديدا فلما كانت دوله بنى هاشم، حج داود بن على تلك السنه بالناس وهي سنه اثنين وثلاثين ومائه،، وحج سالم بن ابى حفصة تلك السنه، فدخل مكة وهو يلبى يقول: لبيك اللهم لبيك! مهلك بنى اميه لبيك، وكان رجلا مجهرا، فسمعه داود بن على فقال: من هذا؟ قالوا: سالم بن ابى حفصة، واخبره بامره ورايه، قال ابن سعد: أخبرنا على

ذكر من روى عنها العلم منهن ممن ادرك اصحاب رسول الله ص ثم من قريش

ابن عبد الله قال: حدثنا سفيان عن سالم بن ابى حفصة قال: كان الشعبى إذا رآنى قال: يا شرطه الله قعى وطيرى ... كما تطير حبه الشعير والخليل بن احمد صاحب العروض الفراهيدى، من العتيك، عن هشام بن محمد حَدَّثَنِي إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيمَ بن حبيب بن الشهيد، قال: حدثنى قريش بن انس قال: سمعت الخليل بن احمد صاحب النحو قال: إذا نسخ الكتاب ثلاث مرار تحول بالفارسيه قال ابو يعقوب: يعنى يكثر سقطه . ذكر من روى عنها العلم منهن ممن ادرك اصحاب رسول الله ص ثم من قريش منهن فاطمه بنت على بن ابى طالب ع روت عن أبيها احاديث منها مَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا الفضل بن دكين، قال: حدثنا ابن ابى نعم- يعنى الحكم بن عبد الرحمن بن ابى نعم- قال: حدثتني فاطمه بنت على، [قالت: قال ابى عن رسول الله ص: من اعتق نسمه مسلمه او مؤمنة وقى الله عز وجل بكل عضو منها عضوا منه من النار] . ومنهن أُمَّ كُلْثُومٍ ابْنَةَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ع. ومنهن فاطمة بنت الحسين بْن علي بْن أبي طالب روت عن أبيها وعن غيره احاديث. منها ما حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا صالح بن موسى الطلحي، عن عبد الله بن الحسن، عن أمه فاطمه بنت الحسين، عن أبيها عن على ع، [ان رسول الله ص كان إذا دخل المسجد قال: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج منه قال: اللهم افتح لي أبواب رزقك] . ومنهن أم كلثوم ابنه الزبير بن العوام. روى عنها ما حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، قال: حدثنا الأوزاعي عن أم كلثوم بنت أسماء بنت ابى بكر الصديق، عن عائشة زوج النبي ص

قالت: كان رسول الله ص في البيت، فجاء على بن ابى طالب ع، فدخل فلما راى رسول الله ص يصلى قام الى جانبه يصلى، قال: فجاءت عقرب حتى انتهت الى رسول الله ص ثم تركته واقبلت الى على فلما راى ذلك على ضربها بنعله فلم ير رسول الله ص بقتله إياها بأسا. ومنهن أم حميد بنت عبد الرحمن. روى عنها ما حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الأُمَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابى قال: حدثنا ابن جريح، قال: حدثنا عبد الملك بن عبد الرحمن، عن أمه أم حميد بنت عبد الرحمن، سالت عائشة عن الصلاة الوسطى، قالت: كنا نقرأ في الحرف الاول على عهد رسول الله ص: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وصلاه العصر وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ. حدثنى عباس بن محمد، قال: حدثنا حجاج، قال: أخبرني ابن جريج، قال: أخبرني عبد الملك بن عبد الرحمن عن أمه أم حميد بنت عبد الرحمن، انها سالت عائشة عن قوله تعالى: الصَّلاةِ الْوُسْطى فقالت: كنا نقرؤها على الحرف الاول على عهد رسول الله ص: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وصلاه العصر وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ. ومنهن آمنه روى عنها من ذلك. ما حدثنا الربيع قال حدثنا اسد، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بن زيد، عن آمنه انها سالت عائشة عن هذه الآية: إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ، ومَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ فقالت: ما سألني عنها احد منذ

يتلوه الأسماء والكنى من التاريخ

[سالت رسول الله ص، قال: يا عائشة هذه متابعه الله العبد بما يصيبه من الحمى والنكبه والشوكه حتى البضاعة يضعها في كفه يفقدها فيروع لها فيجدها في ضبنه، حتى ان المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير] . يتلوه الأسماء والكنى من التاريخ فمنهم ابو بكر، اختلف في اسمه، فالذي عليه معظم اهل العلم ان اسمه عبد الله بن ابى قحافة وقال بعضهم بل اسمه عتيق وابو قحافة، فلا اختلاف في اسمه انه عثمان ابن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مره. وابو عبيده واسمه عامر بن عبد الله بن الجراح. وابو الارقم واسمه عبد مناف بن اسد بن عبد الله المخزومي. وابو مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ حَلِيفَ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، اسمه كناز بن الحصين، وقيل كناز بن الحصين. وابو موسى الأشعري: اسمه عبد الله بن قيس حليف ابى أحيحة سعيد بن العاص. وابو محذوره المؤذن، اسمه أوس بن معير، وقيل: سمره بن عمير وقال ابن معين: هو سمره بن معين. وابو العاص بن الربيع ختن رسول الله ص على ابنته زينب اسمه مقسم. وابو ذر، ويختلف في اسمه فعامه اهل الأنساب يقولون: هو جندب بن جناده وقال ابو معشر: نجيح هو برير بن جندب. وابو امامه صدى بن عجلان الباهلى. وابو بكره نفيع بن مسروح، وقيل: اسمه مسروح. وابو ليلى بلال بن بليل بن أحيحة بن الجلاح

وابو برده بن نيار، اصله من قضاعه، وهو حليف لبنى حارثة من الأوس. وابو الدرداء عويمر بن زيد، من بنى الحارث بن الخزرج. وابو عمره بشير بن عمرو بن محصن ابو عبد الرحمن بن ابى عمره. وابو أيوب الأنصاري خالد بن زيد بن كليب. وابو قتادة، اختلف في اسمه، فقال ابن إسحاق: هو الحارث بن ربعي، وقال بعضهم: هو عمرو بن ربعي، وقال الواقدى: هو النعمان بن ربعي. وابو اليسر كعب بن عمرو. وابو هريرة قال هشام اسمه عمير بن عامر بن عبد ذي الشرى وقال الواقدى: هو عبد شمس، فسمى في الاسلام عبد الله: وقال آخرون: اسمه عبدنهم وقيل: سكين، وقيل عبد غنم. وابو اسيد الساعدي، مالك بن ربيعه. وابو حدرد الأسلمي سلامه بن عمير بن ابى سلامه وقال بعضهم عبد بن عمير. وابو سعيد الخدرى سعد بن مالك بن سنان. وابو برزه الأسلمي، قال هشام: هو نضله بن عبد الله، وقال بعضهم: هو نضله بن عبيد بن الحارث وقال الواقدى: هو عبد الله بن نضله. وابو زيد الأنصاري ثابت بن زيد بن قيس من بنى الحارث بن الخزرج، وهو احد السته الذين جمعوا القرآن. وابو وداعه الحارث بن ضبيره بن سعيد ابو المطلب بن ابى وداعه السهمي. وابو لينه عبد الله بن ابى كرب من بنى معاويه الاكرمين. وابو سبره يزيد بن مالك بن عبد الله بن جعفي، وهو جد خيثمة بن عبد الرحمن صاحب الاعمش. وابو الحمراء هلال بن الحارث. وابو جحيفه وهب السوائى. وابو جمعه حبيب بن سباع. وابو الأعور السلمى عمرو بن سفيان. وابو عياش الزرقي زيد بن الصامت

ذكر أسماء من شهر بالكنية من النساء اللاتي بايعن رسول الله ص وأدركنه

وابو مسعود الأنصاري عقبه بن عمرو. وابو لبابه رفاعة بن عبد المنذر. وابو حميد الساعدي عبد الرحمن بن سعد. وابو امامه الأنصاري اسعد بن زراره. وابو دجانة سماك بن خرشه. وابو الهيثم بن التيهان مالك بن التيهان. ذكر أسماء من شهر بالكنية من النساء اللاتي بايعن رسول الله ص وأدركنه منهن أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة، اسمها هند بنت سهيل بن المغيره زوجه رسول الله ص. وأم هانئ بنت ابى طالب بن عبد المطلب، اسمها فاخته في قول الرواه والمحدثين، واما هشام بن محمد الكلبى فانه كان يقول- فيما ذكر: اسمها هند. وأم حبيبه بنت ابى سفيان، اسمها رمله. وأم شريك واسمها غزيه بنت جابر بن حكيم. وأم ايمن، واسمها بركه مولاه رسول الله ص. وأم الفضل، وهي لبابه الكبرى بنت الحارث بن حزن، وهي زوجه العباس بن عبد المطلب. وأم معبد، واسمها عاتكه بنت خالد بن خليف من خزاعة، وهي التي روى عنها ان النبي ص مر بها فضافته ونعتته لزوجها. وأم الدرداء الكبرى خيره بنت ابى حدرد الأسلمي. وأم بشر بن البراء بن معرور خليده بنت قيس بن ثابت. أم الحكم بنت الزبير بن عبد المطلب بن هاشم. أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ

ذكر كنى ممن شهر باسمه دون كنيته، ممن عاش بعد رسول الله ص

ذكر كنى ممن شهر باسمه دون كنيته، ممن عاش بعد رسول الله ص امير المؤمنين على بن ابى طالب ع كان يكنى أبا الحسن بابنه الحسن ع. وطلحه بن عبيد الله يكنى أبا محمد بابنه محمد. والزبير بن العوام يكنى أبا عبد الله بابنه عبد الله. وسعد بن ابى وقاص يكنى أبا إسحاق بابنه إسحاق. وسعد بن زيد يكنى أبا الأعور. وعبد الله بن العباس يكنى أبا العباس بابنه العباس. وعبيد الله بن العباس اخوه وكان يكنى أبا محمد بابنه محمد. والفضل بن العباس يكنى أبا محمد بابنه محمد. والحسين بن على ع يكنى أبا عبد الله بابنه عبد الله وقتل عبد الله بن الحسين مع ابيه الحسين ع. وعبد الله بن جعفر بن ابى طالب يكنى بابنه جعفر الاكبر. وربيعه بن الحارث بن عبد المطلب، يكنى أبا اروى بابنته اروى. وعقيل بن ابى طالب يكنى أبا يزيد بابنه يزيد. وزيد الحب بن حارثة يكنى أبا اسامه بابنه اسامه. واسامه الحب بن زيد بن حارثة يكنى أبا محمد بابنه محمد. وعمار بن ياسر ابو اليقظان. وعبد الله بن مسعود يكنى أبا عبد الرحمن بابنه عبد الرحمن. والمقداد بن الأسود من بهراء، ويكنى أبا معبد. وخباب بن الأرت بن جندله من سعد بن زيد مناه بن تميم، يكنى أبا عبد الله بابنه عبد الله. وحاطب بن ابى بلتعه، من لخم وهو من حلفاء الزبير بن العوام، يكنى أبا محمد

في قول الواقدى وفي قول يحيى أبا يحيى. والارقم بن ابى الارقم من بنى مخزوم، يكنى أبا عبد الله واما ابو الارقم فان اسمه عبد مناف. وابى بن كعب، يكنى أبا المنذر. وعبد الله بن زيد بن عبد ربه، وهو الذى ارى الاذان، يكنى أبا محمد بابنه محمد. ورفاعة بن رافع بن مالك يكنى أبا معاذ بابنه معاذ. وسعد بن عباده بن دليم، يكنى أبا ثابت. وبريده بن الحصيب بن عبد الله، يكنى أبا عبد الله بابنه عبد الله، حدثنا العباس قال: سمعت يحيى يقول: بريده الأسلمي ابو سهل بلال بن رباح المؤذن، يكنى أبا عبد الله. ثابت بن الضحاك ابو زيد. عثمان بن حنيف، يكنى أبا عبد الله. حسان بن ثابت يكنى أبا الوليد. جابر بن عبد الله بن حرام، يكنى أبا عبد الله. كعب بن مالك الشاعر يكنى أبا عبد الله. جبير بن مطعم، يكنى أبا محمد بابنه محمد. عبد الرحمن بن ابى بكر، يكنى أبا عبد الله بابنه عبد الله. خالد بن الوليد بن المغيره، يكنى أبا سليمان بابنه سليمان. عمرو بن العاص يكنى أبا عبد الله بابنه عبد الله. واثله بن الاسقع، يكنى أبا قرصافه، وقيل: ان كنيته ابو الاسقع وان أبا قرصافه جندره بن خيشنه. معقل بن يسار، يكنى أبا عبد الله، وهو صاحب نهر معقل بالبصرة. قره بن اياس ابو معاويه. صفوان بن المعطل يكنى أبا عمرو. العرباض بن ساريه ابو نجيح

المغيره بن شعبه يكنى أبا عبد الله. عمران بن حصين يكنى أبا نجيد. سليمان بن صرد يكنى أبا مطرف، وكان اسمه يسار فلما اسلم سماه رسول الله ص سليمان. سلمه بن الاكوع يكنى أبا اياس بابنه اياس وقال يحيى، يكنى أبا مسلم. وعبد الله بن ابى اوفى، يكنى أبا معاويه. وعبد الله بن ابى حدرد يكنى أبا محمد. وعقبه بن عامر الجهنى يكنى أبا عمرو في قول الواقدى، حدثنا العباس عن يحيى قال: يكنى أبا حماد، وفي موضع آخر انه كان يكنى أبا اسد. زيد بن خالد الجهنى يكنى أبا طلحه. معبد بن خالد ابو روعه الجهنى. البراء بن عازب، يكنى أبا عماره. اسيد بن ظهير، يكنى أبا ثابت. ثابت بن وديعة، يكنى أبا سعد. وخزيمة بن ثابت يكنى أبا عماره. زيد بن ثابت يكنى أبا سعيد بابنه سعيد. وعمرو بن حزم يكنى أبا الضحاك. شداد بن أوس بن ثابت، يكنى أبا يعلى بابنه يعلى. معاذ بن الحارث من بنى النجار من الانصار، وهو الذى يقال له: القارئ. يكنى أبا الحارث. انس بن مالك، يكنى أبا حمزه. زيد بن ارقم يكنى أبا سعد في قول الواقدى وفي قول غيره: أبا انيسه. والنعمان بن بشير، يكنى أبا عبد الله بابنه عبد الله. وسعد بن عباده ابو ثابت في قول يحيى. وقيس بن سعد بن عباده، يكنى أبا عبد الملك. سهل بن سعد الساعدي يكنى أبا العباس بابنه العباس

عبد الله بن سلام يكنى أبا يوسف، وكان اسمه الحصين فلما اسلم سماه رسول الله ص عبد الله. وعبد الله بن الزبير بن العوام يكنى أبا بكر بابنه بكر، وقيل: يكنى أبا خبيب. المسور بن مخرمه، يكنى أبا عبد الرحمن بابنه عبد الرحمن. عمر بن ابى سلمه بن عبد الأسد يكنى أبا حفص. عمرو بن حريث يكنى أبا سعيد. حاطب بن ابى بلتعه يكنى أبا عبد الرحمن. محمد بن حاطب يكنى أبا ابراهيم. معاويه بن ابى سفيان يكنى أبا عبد الرحمن. الوليد بن عقبه بن ابى معيط يكنى أبا وهب. مخرمه بن نوفل ابو صفوان بابنه صفوان. قبيصة بن المخارق، يكنى أبا بشر. جابر بن سمره بن جناده يكنى أبا عبد الله. عدى بن حاتم الجواد الطائي يكنى أبا طريف. الاشعث بن قيس، يكنى أبا محمد بابنه محمد. تميم الداري وهو تميم بن أوس بن خارجه، يكنى أبا رقيه. وعمرو بن معد يكرب يكنى أبا ثور. وهانئ بن يزيد ابو شريح بن هانئ، يكنى أبا شريح، وكانت كنيته فيما ذكر في الجاهلية أبا الحكم، لأنه كان حكما بين قومه، فلما اسلم كناه النبي ص أبا شريح. جرير بن عبد الله البجلي، قال الواقدى: كنيته ابو عبد الله والذى عندنا ان كنيته ابو عمرو، وينشد من قبله. انا جرير كنيتي ابو عمرو ... اضرب بالسيف وسعد في القصر وفيروز الديلمى، يكنى أبا عبد الله بابنه عبد الله، وبعض الرواه يقول فيه: حدثنى الديلمى الحميرى، وانما قيل ذلك لنزوله في حمير، وهو من أبناء الفرس الذى وجههم كسرى الى اليمن لحرب الحبشه بها

ذكر أسماء من عرف من اصحاب رسول الله ص بمولاه او بأخيه او بلقبه او بجده دون ابيه الأدنى

وسفينه مولى أم سلمه، يكنى فيما حدثنا العباس عن يحيى أبا عبد الرحمن. وأهبان بن صيفي، كنيته في قوله ابو مسلم. والمقدام بن معد يكرب يكنى أبا كريمه. ويعلى بن مره، قال يحيى: يكنى أبا المرازم، فقال الواقدى: ابو المرازم كنيته يعلى بن اميه. ولبيد بن ربيعه الشاعر، يكنى أبا عقيل. وقرظه بن كعب، يكنى أبا عمرو. وحويطب بن عبد العزى بن ابى قيس، يكنى أبا محمد. ومالك بن الحويرث الليثى، يكنى أبا سليمان. وحذيفة بن اليمان، يكنى أبا عبد الله . ذكر أسماء من عرف من اصحاب رسول الله ص بمولاه او بأخيه او بلقبه او بجده دون ابيه الأدنى منهم سالم بن معقل الذى يقال له سالم مولى ابى حذيفة، فانه يعرف بمولى ابى حذيفة، وهو مولى لامرأة من الأوس، يقال لها: ثبيته بنت يعار كانت تحت ابى حذيفة بن عتبة، فاعتقت سالما سائبه، فوالى سالم أبا حذيفة فتبناه ابو حذيفة. والمقداد بن الأسود، هو المقداد بن عمرو بن بهراء بن عمرو بن الحاف بن قضاعه، ولكنه كان حالف الأسود بن عبد يغوث الزهري في الجاهلية فتبناه، وكان يقال له المقداد بن الأسود، فلما نزلت: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ الحق بابيه عمرو. وذو الشمالين، وقد يقال له ذو اليدين، لأنه كان- فيما ذكر- اضبط يعمل بيديه جميعا وان اسمه عمير بن عبد عمرو بن نضله بن عمرو بن غبشان، من خزاعة، وقتل يوم بدر شهيدا مع من قتل من المسلمين، واما الآخر منهما فان اسمه الخرباق، عاش بعد رسول الله ص زمانا وروى عن رسول الله احاديث

ذكر أسماء من شهر بالكنية من التابعين

وسهيل بن بيضاء، يعرف بالنسبه الى البيضاء، والبيضاء أمه، وهي دعد بنت جحدم بن عمرو، وانما هو سهيل بن وهب بن ربيعه بن هلال من بنى الحارث بن فهر، واخوه صفوان بن بيضاء. وحذيفة بن اليمان نسب الى جد ابى جده، وانما هو حذيفة بن حسيل بن جابر بن ربيعه بن عمرو بن جروه بن الحارث بن قطيعة بن عبس بن بغيض، وجروه بن الحارث هو اليمان الذى ولده حذيفة، وقيل لجروه اليمان لأنه كان أصاب في قومه دما، فهرب فلحق بالمدينة فحالف بنى عبد الاشهل، فسماه قومه اليمان لمحالفته اليمانيه. ويعلى بن سيابة، وسيابة أمه، وأبوه مره، وهو يعلى بن مره. ويعلى بن منيه، ومنيه أمه، وأبوه اميه وهو يعلى بن اميه. ونابغه بن جعدة الشاعر عرف بلقبه، واسمه قيس بن عبد الله بن عدس بن ربيعه ابن جعدة. والاشعث بن قيس بن معديكرب، والاشعث لقب عرف به، واسمه الذى هو اسمه معديكرب، ولكنه قيل له اشعث لأنه كان ابدا- فيما ذكر- اشعث الراس فلقب به. وتميم الداري، يعرف بالنسب الى الدار بن هانئ، وهم من لخم، وهو تميم ابن أوس بن خارجه الداري. والهلب بن يزيد الطائي، عرف بلقبه واسمه سلامه وهو ابو قبيصة بن، هلب، وانما قيل له هلب لأنه كان اقرع، فلما قدم على رسول الله ص فاسلم ذكر ان رسول الله ص مسح يده على راسه فنبت شعر راسه فسمى هلبا بهلب شعره . ذكر أسماء من شهر بالكنية من التابعين منهم ابو امامه بن سهيل بن حنيف، اسمه اسعد ذكر ان رسول الله ص هو الذى سماه بذلك وكناه بكنيته، وذلك ان أم ابى امامه حبيبه بنت ابى امامه اسعد بن زراره بن عدس نقيب بنى النجار، فلما ولدت حبيبه أبا امامه بن سهل سمى باسم أبيها، وكنى بكنيته.

وابو سعيد المقبري، وهو ابو سعيد بن ابى سعيد المقبري اسمه كيسان مولى لبنى جندع من بنى ليث بن بكر. وابو جعفر القارئ واسمه يزيد بن القعقاع مولى ابن عياش. وابو ميمونه مولى أم سلمه زوج النبي ص وكان قارئ اهل المدينة في زمانه وعليه قرأ نافع بن ابى نعيم. وابو صالح السمان وهو الزيات مولى غطفان، ويقال: جويرية امراه من قيس، وهو ابو سهيل، اسمه ذكوان. وابو صالح باذام مولى أم هانئ بنت ابى طالب وهو الذى روى عنه الكلبى واسماعيل بن ابى خالد. وابو صالح سميع روى عن ابن عباس. وابو صالح مولى السفاح اسمه عبيد روى عنه بسر بن سعيد. وابو صالح الحنفي اسمه عبد الرحمن بن قيس أخو طليق بن قيس الحنفي، وقال يحيى: اسمه ماهان. وابو صالح الغفاري. وابو صالح ميسره. وابو صالح الذى روى عنه اهل فلسطين، رديح. وابو صالح الذى روى عنه يحيى بن ابى كثير قيلوه. وابو صالح الذى روى عنه التيمى وخالد الحذاء ميزان. وابو صالح مولى عثمان بن عفان، اسمه بركان. وابو وائل، اسمه شقيق بن سلمه الأسدي. وابو عمرو الشيبانى، اسمه سعد بن اياس. وابو عبد الرحمن السلمى، اسمه عبد الله بن حبيب. وابو فاخته سعيد بن علاقة. وابو الشعثاء المحاربى، اسمه سليم بن الأسود. وابو عبد الله الجدلى، اسمه عبده بن عبد بن عبد الله. وابو برده بن ابى موسى، اسمه عامر بن عبد الله بن قيس

وابو عثمان النهدي، اسمه عبد الرحمن بن مل. وابو الأسود الديلى، اسمه ظالم بن عمرو. وابو العاليه الرياحي اسمه رفيع. وابو اميه مولى عمر بن الخطاب اسمه عبد الرحمن وهو جد مبارك بن فضالة ابن ابى اميه وابو رجاء العطاردى، اسمه عمران بن تيم، وقال بعضهم: عمران بن ملحان. وابو المتوكل الناجى، اسمه على بن دواد. وابو الصديق الناجى، اسمه بكر بن عمرو. وابو الزنباع اسمه صدقه بن صالح. وذكر عن العلائى عن يحيى بن معين انه قال: ابو أيوب العتكي، اسمه يحيى ابن المنذر. ابو العاليه البراء اسمه زياد بن فيروز. ابو عمران الجونى اسمه عبد الملك بن حبيب الأزدي. ابو مسلم الخولاني اسمه عبد الله بن ثوب ابو الزاهرية الحضرمى، اسمه حدير بن كريب وقيل: انه حميرى. ابو جعفر المدائني اسمه عبد الله بن المسور بن محمد بن جعفر بن ابى طالب. ابو حازم الذى روى عنه اسماعيل بن ابى خالد بن ابى خالد نبتل. ابو الحويرث عبد الرحمن بن معاويه. ابو حازم الاشجعى سلمان. ابو الشعثاء جابر بن زيد. ابو الشعثاء الذى يروى عنه حميد الطويل مولى عمر بن عبد العزيز فيروز. ابو جمره صاحب ابن عباس عمران بن عطاء. ابو جعفر البجلي الذى حدث عنه معتمر بن سليمان هو موسى بن المسيب. ابو بلج يحيى بن سليم، وقيل: يحيى بن ابى سليم، وقيل، يحيى بن ابى الأسود. ابو العذافر داود بن دينار. ذكر عن ابن المثنى انه قال: اسم ابى ليلى ابو عبد الرحمن بن ابى ليلى داود

ابو أيوب الذى حدث عنه قتادة، يحيى بن أيوب. ابو خبطه الذى روى عنه مالك بن مغول حكيم الحذاء. ابو سفيان صاحب جابر، طلحه بن نافع. ابو سفيان الذى حدث عنه ابو معاويه وحفص بن غياث، طريف السعدي. ابو حيان الاشجعى، اسمه منذر. ابو حذيفة سلمه بن صهيب، هو الذى يروى عنه على بن الاقمر. ابو بسطام الذى روى عنه الفزارى، يحيى بن عبد الرحمن التميمى. ابو مريم عبد الغفار بن القاسم. ابو المعلى العطار اسمه يحيى بن ميمون. ابو بكر الهذلي سلمى بن عبد الله بن سلمى. ابو بكار الحكم بن فروخ الغزال. ابو التياح يزيد بن حميد. ابو هلال الراسبى محمد بن سليم. ابو المعلى زيد بن مره. ابو حمزه السكرى محمد بن ميمون. ابو إسحاق الصائغ هو ابراهيم بن ميمون. ابو سنان الرازى سعيد بن سنان. ابو سلام الحنفي عبد الملك بن سلام المدائني. ابو الأزهر الشامي فروه بن المغيره. ابو حمزه الذى حدث عنه الاغمش سعد بن عبيده. ابو كثير الزبيدى عبد الله بن مالك. ابو هلال الطائي يحيى بن حيان. ابو خالد الوالبى هرمز. ابو معاويه البجلي عمار الدهني. ابو المعتمر يزيد بن طهمان. ابو الهياج الذى روى عنه الشعبى وسعيد بن جبير، عمرو بن مالك الأزدي

ذكر من انتهت إلينا كنيته ممن شهر بالاسم دون الكنية من التابعين

ابو مريم الأسدي الذى روى عنه اشعث بن ابى الشعثاء، اسمه عبد الله ابن زياد. ابو ادريس الذى يروى عن المسيب بن نجبه، اسمه سود. ابو الهيثم صاحب القصب، اسمه عمار ذكر من انتهت إلينا كنيته ممن شهر بالاسم دون الكنية من التابعين عبد الرحمن بن الحارث بن هشام كان يكنى أبا محمد. محمد بْن رَبِيعَة بْن الْحَارِث بْن عبد المطلب، يكنى أبا حمزه بابنه حمزه. عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الحارث بْن عبد المطلب، يكنى أبا محمد وهو الملقب ببه. مروان بن الحكم يكنى أبا عبد الملك محمد بن طلحه بن عبيد الله يكنى أبا سليمان بابنه سليمان. عبد الله بن عتبة بن مسعود، يكنى أبا عبد الرحمن. محمد بن الاشعث بن قيس، يكنى أبا القاسم. عماره بن خزيمة بن ثابت، يكنى أبا محمد. محمد بن ابى بن كعب، يكنى أبا معاذ. سعيد بن المسيب ابو محمد. المهلب بن ابى صفره، يكنى أبا سعيد. زراره بن اوفى الحرشي يكنى أبا حاجب. يزيد بن عبد الله بن الشخير، يكنى أبا العلاء. جاريه بن قدامه السعدي سعد تميم، يكنى أبا أيوب. الحسن بن ابى الحسن البصرى واسم ابى الحسن يسار، يكنى أبا سعيد. جابر بن زيد ابو الشعثاء الأزدي. عقبه بن عبد الغافر، يكنى أبا نهار الأزدي. قتادة بن دعامه السدوسي، يكنى أبا الخطاب

ثابت البناني، يكنى أبا محمد، وهو ثابت بن اسلم. كعب بن ماتع وهو كعب الاحبار، يكنى أبا إسحاق من حمير. عطاء بن يسار مولى ميمونه زوج النبي ص يكنى أبا محمد. قبيصة بن ذؤيب يكنى أبا إسحاق وقيل ابو سعيد. عروه بن الزبير يكنى أبا عبد الله. واخوه لأبيه وأمه المنذر بن الزبير يكنى أبا عثمان. مصعب بن الزبير يكنى أبا عبد الله. محمد بن جبير بن مطعم يكنى أبا سعيد. عبد الملك بن مروان يكنى أبا الوليد. عبد العزيز بن مروان يكنى أبا الأصبغ. اياس بن سلمه بن الاكوع يكنى أبا سلمه. رفاعة بن رافع بن خديج يكنى أبا خديج. عبد الرحمن بن ابى سعيد الخدرى قال الواقدى يكنى أبا محمد، وقال عبد الله ابن محمد بن عماره: يكنى أبا حفص. حمزه بن ابى اسيد الساعدي يكنى أبا مالك المنذر بن ابى اسيد الساعدي يكنى أبا سعيد. سعيد بن يسار ابو الحباب مولى الحسن بن على ع. سلمان الأغر ابو عبد الله. عكرمه مولى ابن عباس يكنى أبا عبد الله. شعبه مولى عبد الله بن عباس يكنى أبا عبد الله. مقسم مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ بْن الحارث بْن عبد المطلب، وينسب ولاؤه الى ابن عباس للزومه كان اياه، يكنى أبا القاسم. ونبهان مولى أم سلمه، يكنى أبا يحيى. وناعم بن اجيل مولى أم سلمه، يكنى أبا قدامه. وسويد بن غفله ابو اميه. وعبد الرحمن بن ابى ليلى، يكنى أبا عيسى

وزر بن حبيش يكنى أبا مريم. وشريح القاضى، وهو شريح بن الحارث بن قيس يكنى أبا اميه. والربيع بن خثيم ابو يزيد. وصله بن زفر العبدى ابو العلاء. وشبث بن ربعي، يكنى أبا عبد القدوس. وعبد خير بن يزيد الخيوانى، يكنى أبا عماره. وعطاء بن ابى رباح يكنى أبا محمد. ورجاء بن حيوه، يكنى أبا نصر. وميمون بن مهران، يكنى أبا أيوب. ومشرح بن عاهان ابو مصعب. ووهب بن منبه، يكنى أبا عبد الله. واخوه همام بن منبه يكنى أبا عتبة. ومعقل بن منبه أخوهما، يكنى أبا عقيل. وعلى بْن عَبْد اللَّهِ بْن العباس بْن عبد المطلب، يكنى أبا محمد بابنه محمد. والحسن بن محمد بن الحنفيه يكنى أبا محمد. ونافع مولى ابن عمر، يكنى أبا عبد الله. والضحاك بن مزاحم، يكنى أبا القاسم. ونوف البكالى نوف بن فضالة، يكنى أبا يزيد، وقيل: أبا الرشيد. وسعيد بن ابى عروبة، يكنى أبا النضر، واسم ابى عروبة مهران. واسماعيل بن ابراهيم بن عليه، يكنى أبا بشر. والمعتمر بن سليمان التيمى، يكنى أبا محمد. ومعاذ بن معاذ، يكنى أبا المثنى. وهوذة بن خليفه، يكنى أبا الاشهب. وعباد بن صهيب الكليبى يكنى أبا بكر. ومسدد بن مسرهد يكنى أبا الحسن. وعمرو بن مره ابو عبد الله

وعمرو بن دينار ابو محمد الأثرم مولى باذام، او باذان عامل كسرى على اليمن. وسليمان بن ارقم ابو معاذ. ويزيد بن ابى زياد يكنى أبا عبد الله. ابو إسحاق السبيعي في قول يحيى هو عمرو، وأبوه ابو عمرو. والمعرور بن سويد ابو اميه. وقيس بن ابى حازم ابو عبد الله. وسيار بن ابى سيار الذى روى عن قيس بن ابى حازم، يكنى أبا حمزه. وعبيد الله بن الاخنس يكنى أبا مالك. وحبيب بن ابى ثابت يكنى أبا يحيى. ويزيد بن كيسان ابو منير. وجبله بن سحيم ابو سويره. واسماعيل بن ابى خالد ابو عبد الله. ويزيد الفقير ابو عثمان. والوليد بن مسلم الذى حدث عنه خالد الحذاء ابو بشر وداود بن ابى هند ابو بكر. وجعفر بن ميمون ابو العوام. عاصم الجحدري ابو المجشر. واياس بن معاويه ابو واثله. وابو القموص زيد بن على. وعمرو بن شعيب، يكنى أبا ابراهيم. وعطاء بن السائب، يكنى أبا زيد. وهارون بن عنتره ابو عمرو. ومسعر ابو سلمه. والأسود بن قيس ابو قيس. وحفص بن غياث ابو عمر. وعمران بن عيينه ابو محمد

والنضر بن ابى مريم ابو لبيد كوفى وأبوه ابو مريم اسمه طهمان. وعبيد بن نضيله ابو معاويه. وداود بن ابى هند يكنى أبا بكر واسم ابيه ابى هند، دينار. وعاصم بن سليمان الأحول يكنى أبا عبد الرحمن مولى لبنى تميم. والنهاس بن قهم يكنى أبا الخطاب. وحيوه بن شريح يكنى أبا يزيد التجيبى. وثور بن يزيد يكنى أبا خالد. والليث بن سعد يكنى أبا الحارث. ورشدين بن سعد، يكنى أبا الحجاج. وعيسى بن يونس بن ابى إسحاق السبيعي، يكنى أبا عمرو. ومحمد بن يوسف الفريابي، يكنى أبا عبد الله. وآدم بن ابى اياس، يكنى أبا الحسن. وعبد المجيد بن عبد العزيز بن ابى رواد، يكنى أبا عبد الحميد. وسفيان بن عيينه يكنى أبا محمد. والفضيل بن عياض، يكنى أبا على. وعبد الله بْن جعفر بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، يكنى أبا جعفر. وحسين بن زيد بْن علي بْن حسين بْن علي بن ابى طالب، يكنى أبا عبد الله. وهلال بن خباب، يكنى أبا العلاء. والحسن بن قتيبة ابو على. وعباد بن المهلبى، يكنى أبا معاويه. وفرج بن فضالة، يكنى أبا فضالة. واسماعيل بن جعفر بن ابى كثير المدني، يكنى أبا ابراهيم. ومحمد بن الحسن صاحب ابى حنيفه، يكنى أبا عبد الله. وعلى بن الجعد يكنى أبا الحسن. وسريج بن النعمان صاحب اللؤلؤ، يكنى أبا الحسين. وبشر بن الحارث العابد، يكنى أبا نصر

ذكر كنى من شهر بالاسم من الخالفين دون الكنية

والهيثم بن خارجه، يكنى أبا احمد. ويحيى بن يوسف الزمى، يكنى أبا زكرياء. وخلف بن هشام يكنى أبا محمد. وسليمان بن مهران الاعمش، يكنى أبا محمد. واسماعيل بن ابى خالد، يكنى أبا عبد الله. ومجالد بن سعيد، يكنى أبا عثمان، وليث بن ابى سليم، يكنى أبا بكر . ذكر كنى من شهر بالاسم من الخالفين دون الكنية منهم عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، يكنى أبا حفص. حمزه بن عبد الله بن الزبير، يكنى أبا عماره بابنه عماره. عامر بن عبد الله بن الزبير، يكنى أبا الحارث. محمد بن كعب القرظى، يكنى أبا حمزه. يعقوب بن ابى سلمه مولى آل المنكدر من تيم بن مره يكنى أبا يوسف وهو الماجشون وبه سمى اخوه وولده الماجشون، واسم ابى سلمه ابيه دينار. ومحمد بن مسلم بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شهاب، يكنى أبا بكر. واخوه عبد الله بن مسلم، يكنى أبا محمد. ومحمد بن المنكدر، يكنى أبا عبد الله. واسماعيل بن عمرو بن سعيد بن العاص، يكنى أبا محمد. وعبد الله بن عروه بن الزبير بن العوام، يكنى أبا بكر. ويحيى بن عروه بن الزبير، يكنى أبا عروه. وهشام بن عروه بن الزبير، يكنى أبا المنذر. وعبد الله بْن حسن بْن حسن بْن علي بن ابى طالب ع، يكنى أبا محمد. وعبد الله بن محمد بن عقيل بن ابى طالب، يكنى أبا محمد. وعباية بن رفاعة بن رافع بن خديج، يكنى أبا رفاعة

وبكير بن عبد الله بن الاشج مولى المسور بن مخرمه، يكنى أبا عبد الله. واخوه يعقوب بن عبد الله بن الاشج، يكنى أبا يوسف. ووهب بن كيسان، يكنى أبا نعيم مولى عبد الله بن الزبير. وزيد بن اسلم يكنى أبا اسامه. واخوه خالد بن اسلم، يكنى أبا تور. وداود بن الحصين مولى عمرو بن عثمان بن عفان يكنى أبا سليمان. وربيعه بن ابى عبد الرحمن واسم ابيه ابى عبد الرحمن فروخ وكنيه ربيعه ابو عثمان. وصفوان بن سليم، يكنى أبا عبد الله. وصالح بن كيسان، يكنى أبا محمد. ومحمد بن ابى حرمله يكنى أبا عبد الله مولى لبنى عامر بن لؤي. ويحيى بن سعيد الأنصاري، يكنى أبا يزيد. وموسى بن عقبه يكنى أبا محمد. واسيد بن ابى اسيد مولى ابى قتادة الأنصاري، ويكنى أبا ابراهيم. وصالح بن محمد بن زائده الليثى من انفسهم، يكنى أبا واقد. وعبد الرحمن بن حرمله الأسلمي، يكنى أبا حرمله. وإسحاق بن عبد الله بن ابى فروه يكنى أبا سليمان وقيل ان أبا فروه هذا اسمه اسود بن عمرو، واخوه عبد الحكيم بْن عبد الله بْن أبي فروه يكنى أبا عبد الله. وعمرو بن ابى عمرو مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب المخزومي، يكنى أبا عثمان، واسم ابيه ابى عمرو ميسره. والمهاجر بن يزيد مولى ابى ذئب العامري، يكنى أبا عبد الله. وبكير بن مسمار يكنى أبا محمد. وعبد الله يزيد بن قنطش الهذلي يكنى أبا يزيد، روى عن انس بن مالك وابن المسيب

§1/1